ويؤسفُني أن أقولَ: إنَّ الحِقبَة الأخيرةَ من القرن الهجريِّ المنصرم شهدَت تنازلَ كثير من البلاد الإسلاميَّة عن التاريخ الهجري، وأضحت تلك البلادُ تؤرِّخ أحداثَها السياسيَّة والاجتماعيَّة ومعاملاتها الرسميَّة بالتأريخ الميلادي وهذا أمر مؤلمٌ ومؤسف.
إنَّ ذكرياتنا وأمجادَنا كلَّها مسجَّلة بالتاريخ الهجريِّ القمريِّ. وإنَّ كثيراً من أحكام ديننا مرتبطةٌ بالتقويم القمريِّ الذي هو الأساسُ في التاريخ الهجريِّ، كالصِّيام والحجِّ والزكاة وعِدَّة الوفاة وعِدَّة الطلاق وغير ذلك.
ولقد أكرم الله هذه المملكةَ فحافظت على هذا. وإنَّ من الواجب على أهل العلم والرأي التنبيهَ على ضرورة المحافظَة عليه والاعتزاز به. نقل السَّخاويُّ عن العِماد الأصبهانيِّ الشافعي قوله: [فليست أمَّةٌ أو دولة إلاَّ ولها تاريخٌ يرجعون إليه، ويُعوِّلون عليه، ينقُله خَلَفُها عن سَلَفِها، وحاضِرُها عن غابِرها، تُقيَّد به شَواردُ الأيام، وتُنصَب به مَعالمُ الأعلام، ولولا ذلك لانقَطَعَت الوُصَل، وجُهِلَت الدول... وإنَّ التاريخَ بالهجرة نسخَ كلَّ تاريخ متقدِّم][1].
وكلَّما كانت الأمَّةُ محافظةً على هُويَّتها كانت متميِّزة عن الأمم الأُخرى، وكانت أقدَرَ على أن تحيا وَفْقَ مبادئها ومُثُلها، وأن تنشرَ هذه المبادئَ والمُثُل.(/2)
وإنَّ هذا الأمرَ مهمٌّ جداً.. وأودُّ أن أذكرَ حادثة لا يمكن أن أنساها.. كانت من نحو خمسينَ سنةً، فقد دخلتُ فصلاً في مدرسة ثانويَّة في بلد عربي، فوجدتُ على السَّبُّورة التاريخَ الميلادي مكتوباً. فقلت للطلاَّب: هذا التاريخُ المكتوب على السَّبُّورة هو تاريخُ أوربا، ونحن لنا تاريخٌ خاصٌّ بنا وهو التاريخُ الهجريُّ، وطلبت منهم أن يكتبوه فوقَ التاريخ المكتوب، فلم يعرف أحدٌ منهم الشهرَ الذي نحن فيه ولا السنة. فقلتُ لهم: انظروا في أنفسكم وتأمَّلوا كم أنتم مضيِّعون لهُويَّتكم.. إنه لأمرٌ مؤسف، ثمَّ ذكرتُ لهم تاريخَ اليوم واسمَ الشهر والسنة.
إنّ كثيراً من الناس في بعض بلاد المسلمينَ لا يعرفون تاريخنا إلا إذا حلَّ رمضان أو جاء العيد.
إخواني وأخواتي
إننا نودِّع عاماً ونستقبل عاماً جديداً.. لقد كَبِرنا سنةً، ومضَت سنةٌ من أعمارنا ودنَونا من آجالنا التي كتب الله لنا.
أفلا يَجدُر بنا أن نقفَ وقفة تأمُّل ومحاسبة نُحاسب فيها أنفُسَنا، ونُراجع فيها رصيدَنا من الحسَنات، وما كَسَبت أيدينا من السيِّئات، كما نفعل في المشروعات الاقتصاديَّة.
هل أدَّينا ما علَينا من واجبات؟ وهل اتَّصَفنا بالصِّفات والمكارم التي يدعو إليها الإسلام؟ هل تخلَّينا عن كثير من النقائص والمخالفات الشرعيَّة؟
هل شعرنا بمسؤوليَّتنا نحو أُسَرنا من آباء وأمَّهات وأولاد وزوجات وإخوة وأخوات، ونحو من نُخالطُهم من طلاَّب وطالبات، وأصدقاءَ وصديقات، وأقاربَ وقريبات؟
إنَّ هذه المحاسبةَ الموضوعيَّة المنصِفة هي الخطوةُ المتقدِّمة في طريق الصَّلاح. فلنواجِه أنفسَنا بالحقيقة ولو كانت مُرَّة، ولنعلَم أننا الآنَ قادرون على تَلافي ما مَضى، ويُفيدنا النقد الذاتيُّ لننطلقَ في طريق الإصلاح والتَّقويم.(/3)
أما إذا بلغَت الروحُ الحُلقُومَ، أو قام الناسُ لربِّ العالمين، فلن تفيدَ التوبة ولا يتحقَّق رجاءُ العودة إلى الدنيا، قال الله تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَْبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ * وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ * وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَْمْثَالَ} [إبراهيم: 42 - 45].
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلاَ أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المنافقون: 9-11].
أيها الإخوة والأخوات
إنَّ الوقتَ هو رأسُ مال المسلم، فاحذَروا أن تضيِّعوه فتكونوا من المفلسين، والوقتُ يمضي ولا يتوقَّف، فإن لم تملأه بالخير أضَعتَ شيئاً ثميناً.
إنَّ حلولَ العام في هذه الأيام ليُذكِّرنا بالهجرة، وهي من أعظَم ذكرياتنا الخالدة المباركَة التي غيَّرت واقعاً سيِّئاً، وأنهت عُهوداً مظلمة، وبدأت عهداً مُشرقاً، وأقامت حضارةً وارِفَةَ الظِّلال.(/4)
كانت حادثةُ الهجرة في الثاني عشرَ من ربيع الأوَّل على أرجَح الأقوال. وفي السنة السادسةَ عشرةَ من الهجرة كتب سيِّدنا عمرُ بن الخطَّاب رضي الله عنه وأرضاه التاريخَ وهو أوَّل من كتبه. وتَذكُر كتب التاريخ[2] أنه طُرحت أمامه اقتراحاتٌ متعدِّدة:
- منها أن يؤرِّخوا بتاريخ الفُرس.
- ومنها أن يؤرِّخوا بتاريخ الرُّومان.
- ومنها أن يؤرِّخوا اعتباراً من مولد الرسول صلى الله عليه وسلم.
- ومنها أن يؤرِّخوا من مَبعَثه.
- ومنها أن يؤرِّخوا من وَفاته.
ولكنَّ أمير المؤمنين عمرَ العظيم استحسن أن يؤرِّخَ من هجرته لعِظَم شأن الهجرة، وكان ذلك، ووافقَه الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.
فلنَحرِص على الالتزام بالتأريخ الهجريِّ.
والحمدلله رب العالمين
---
[1] انظر (الإعلان بالتوبيخ لمن ذمَّ التاريخ) للسخاوي ص45.
[2] انظر (البداية والنهاية) لابن كثير 3/206-207 و7/74.(/5)
العنوان: التاريخ الهجري واستقلالية الأمة
رقم المقالة: 1951
صاحب المقالة: د. أحمد عبدالحميد عبدالحق
-----------------------------------------
أهل علينا قريبًا العامُ الهجري الجديد -الذي نسأل الله أن يكون عامَ خير على أمة الإسلام جميعا- ليذكرنا باستقلالية الأمة الإسلامية، تلك الاستقلاليةُ التي أراد الخليفةُ الثاني للمسلمين عمرُ بن الخطاب أن يؤكدها بإعلان التأريخ الهجري تأريخا خاصًّا بالمسلمين، وذلك في شهر ربيع الأول سنة ستَّ عشرةَ أو سبعَ عشرة للهجرة.
فقد جاء عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- جمعَ الناسَ (وكان لا يقضي أمرًا دون مشورتهم)، فأخبرهم عن رغبته في اتخاذ تأريخ خاص بالمسلمين، ثم سألهم فقال: من أي يوم نكتب التاريخ؟ فقال علي -رضي الله عنه- من يوم هاجر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وترك أرض الشرك، فرضي ذلك المسلمون[1].
وقيل: إن بعضهم قال: أرِّخْ لمبعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وقال بعضهم : لمهاجَرِ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال عمر: لا بل نؤرخ لمهاجر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فإن مهاجَره فرق بين الحق والباطل[2].
ولا يعني ذلك أن الأمة الإسلامية كانت مهادنة أو مذابة في الأمم الأخرى من قبل، كلا، بل بدأت استقلاليتُها قبل ذلك بكثير، فاستقلاليةُ الأمم لا تتم بين ليلة وضحاها، وإنما تحتاج سنين وسنين، تمامًا كالطفل الذي ينمو شيئًا فشيئًا حتى يبلغ أشده، وتلك سُنة لم يهملها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولم يخرق اللهُ له نواميسَها.
ولذلك وجدناه صلى الله عليه وسلم يبدؤها متدرجًا بالعزلة الشعورية في مكة، يوم أن أمره الله -سبحانه وتعالى- بهجر الأوثان والأصنام في قوله تعالى: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر: 5].(/1)
فهجر صلى الله عليه وسلم ومن معه الرجزَ بشتى أنواعه، من لهوٍ وفجورٍ وفاحشةٍ وسُكْرٍ وعُريٍ، وصاروا لا يشاركون المشركين في صغير ولا كبير من معاصي الجاهلية، وإن بقي التعارف والتبادل في أمر المعاش قائمًا، وبقيت صلةُ الأقارب والخُلان والإحسان من المسلمين إلى غيرهم دائمة، بل زادت وسمت بسمو أخلاق المؤمنين الجدد، فصار المسلمون شاماتٍ بين أفراد المجتمع الجاهلي، لا يُرى منهم سوى نبل الأخلاق مع غيرهم، وصفاء الود والحب والإيثار لأنفسهم.
وتبع ذلك استقلاليةٌ تامة في مجال العقيدة وتوحيد الله -سبحانه وتعالى-، ظهر هذا حين طمِع المشركون في أن يجاملهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الاحتفال بآلهتهم المزعومة، وأن يشاركهم فيما يقام حول أوثانهم وأصنامهم من لهو ولعب باسم العبادة، وقالوا: "يا محمد، هلم فلنعبد ما تعبد، وتعبد ما نعبد، فنشترك نحن وأنت في الأمر"[3] كما يريد البعض الآن أن يفعل تحت مسميات شتى؛ فرد الله -سبحانه وتعالى- عليهم بقوله جل شأنه: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون].
وأمر سبحانه المسلمين بتجنب أماكن لهوهم في قوله تعالى: {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} [الأنعام: 70]، وقوله سبحانه وتعالى: {وإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آَيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 68].(/2)
ثم تلاه الاستقلالُ في العبادات بأن خصَّص الله للمسلمين المساجدَ لأداء الصلوات، واتخاذ الأذان وسيلة لدعوة المؤمنين مميزة لهم عن النواقيس والأجراس التي تتخذها الأممُ الأخرى، يقول ابنُ إسحاق: فلما اطمأن رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- بالمدينة واجتمع إليه إخوانُه من المهاجرين، واجتمع أمرُ الأنصار، استحكم أمرُ الإسلام، فقامت الصلاة، وفُرضت الزكاة والصيام.. وقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين قدمها إنما يجتمع الناس إليه للصلاة لحين مواقيتها بغير دعوة، فهمّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يجعل بُوقًا كبوق يهود الذي يدعون به لصلاتهم ثم كرهه، فبينما هم على ذلك رأى عبدُ الله بن زيد النداء، فأتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، إنه طاف بي هذه الليلة طائفٌ، مر بى رجل عليه ثوبان أخضران يحمل ناقوسًا في يده، فقلتُ: يا عبد الله أتبيع هذا الناقوس؟ فقال: وما تصنع به؟ قال: قلت: ندعو به إلى الصلاة، قال: ألا أدلك على خير من ذلك؟ قلت: وما هو؟ قال: تقول: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله[4].
ثم جاء الأمرُ من الله سبحانه وتعالى بتحويل قبلة الصلاة من بيت المقدس إلى المسجد الحرام في قوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144](/3)
وتلا ذلك الاستقلالية في التشريعات التي تسير أمور الدولة الإسلامية، وقد جاء الأمرُ بذلك في كثير من الآيات القرآنية، منها قوله سبحانه وتعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ} [المائدة: 48-49]
وقد وضحت هذه الاستقلالية في التشريع تمام الوضوح في قوله تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [الجاثية: 18-20].(/4)
وإذا كانت استقلاليةُ الأمة قد اقتصرت في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على الأمور الشرعية، فإنها بدأت تتوسع لتشمل كلَّ أمور المعاش فيما بعد، وهذا التوسعُ لم يعنِ مقاطعةَ الأمم الأخرى، وعدم تبادل المنافع معها أبدًا، وكيف يكون ذلك، وقد جعل الله هذا التبادل من نعمِه على البشرية؛ فقال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13]، وإنما عُني به أن تكون للأمة شخصيتُها المميزة، وأن تسعى للاعتماد على نفسها، والتخلص من التبعية للأمم الأخرى، وألا يكون اقتصادُها مرتبطًا بغيره من الاقتصادات الأخرى، ينهار بانهياره، ولا يكون سبل تعليمها وتربيتها وتثقيفها نابعًا من تخطيط غيرها، وإنما من إبداع أفرادها، تمامًا كما تفعل سائرُ الدول القويةُ الآن وفي كل عصر..
وقد لمسنا هذا التوسعَ بأجلى صوره في تعريب الدواوين الذي قام به عبدُ الملك بن مروان والحجاجُ بن يوسف الثقفي، إذ كان ديوانُ الشام من قبل يُكتب باليونانية، وديوان فارس والعراق بالفارسية، وديوان مصر بالقبطية، ويهيمنُ على وظائفه غيرُ المسلمين، فأمر عبد الملك بنقلها جميعاً إلى العربية؛ مما أدى إلى تقليص نفوذ غير المسلمين من الأعاجم الذين يعملون بهذه الدواوين، وساعد على تسابق الناس في تعلم العربية، فلم ينتهِ القرنُ الأول الهجري حتى كانت اللغةُ العربية لغةَ التخاطب والتعامل والتدوين في شتى البلاد الخاضعة للدولة الإسلامية..
وكادت لغاتُ البلاد القديمة أن تُنسى بعد أن أقبل العجمُ على العربية، يحاولون إتقانَها ومنافسة العرب أنفسهم فيها، وليرقوا بذلك إلى المناصب العليا بالدولة، وكان ذلك إيذانا باستقلالية الأمة في لغتها وثقافتها أيضا.(/5)
كما جاء ضرب الدينار والدرهم الإسلاميين ليكونا شعارًا للدولة الإسلامية، وليتمما استقلالية الأمة في اقتصادها وعدم تبعيتها للأمم الأخرى في مجال الاقتصاد الذي هو عصب الحياة، وقد حدث ذلك بعد أن هدد الإمبراطورُ البيزنطي المسلمين باستخدام عبارات جارحة لمشاعرهم عليها، إذ كتب إلى عبد الملك بن مروان يلومه على كتابة "عبارة التوحيد" شعارًا على رأس الورِق الذي تنتجه الدولة الإسلامية، ويذهب لكثير من بلدان العالم، وطلب أن يحذف هذا الشعار وإلا كتب سبًّا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- على الدينار البيزنطي، فكان ردُّ عبد الملك على ذلك أن منعَ التعاملَ بالدينار البيزنطي، وسُحبت كل الدنانير البيزنطية (وقد كان الدينارُ البيزنطي وقتها لا يقل ثقلا عن الدولار واليورو الآن) من خزائن الدولة الإسلامية وأسواقها، فرُد كيدُ الإمبراطور في نحره، وعاد ذلك على بلادِه بالكساد الاقتصادي، وذلك في عام 76هـ (687م).
وامتدت الاستقلاليةُ لتشمل كلَّ احتياجات المجتمع؛ إذ صار المسلمون ينتجون كل ما يحتاجون إليه من مأكل ومشرب وملبس وأثاث وسائر مقتضيات المنزل، ولم يستوردوا سوى بعض السلع الترفيهية، وبأقل الأسعار، حتى كانت لفة الحرير الصيني تباع بثوب واحد من القطن المحلي كما ذكرت بعضُ كتب الرحالة.
ثم انتقلت الأمةُ الإسلامية مع بدء العصر العباسي من مرحلة الاستقلالية إلى مرحلة الهيمنة على الأمم الأخرى في شتى المجالات الاقتصادية والعلمية والحضارية، وذلك بعد أن اتسعت زراعتها وصناعتها وتجارتها، حتى قال أحدُ الرحالة الصينيين حين تجواله بها: "إن مملكة العرب لا يفوقُها بلدٌ آخرُ من البلدان الأجنبية في كثرة ما يُدخر بها من خيرات من البضائع المتنوعة"[5]..
وغزت منتجاتُهم أسواقَ الشرق والغرب، وصارت معاهدهم العلمية مقصدَ الجميع، ومؤلفاتُهم العلمية هي المعوَّل عليها في شتى العلوم التجريبية.(/6)
ولكن هيمنة الأمة الإسلامية لم تسلب الآخرين أوطانَهم ولا حريتَهم ولا أموالَهم، كما فعلت هيمنةُ الغرب وأمريكا بنا الآن، إذ تركت كلَّ البلاد التي هيمنت عليها خرابًا ودمارًا يصعب وصفُه، كلا، بل صارت هيمنةُ الأمة الإسلامية مصدرَ خير على كل أمة احتكت بها سلمًا أو حربًا.
يقول أحدُ علماء الغرب: "إن النباتات والأشجار الأفريقية والأسيوية في أوربا كالنخل والهندباء والخرشوف والسبانخ والباذنجان والطرخون والبصل والياسَمين ما عُرفت إلا عن طريق المسلمين" كما نقل الصليبيون في أثناء حروبهم قصبَ السكر إلى صقلية وإيطاليا، ثم إلى غيرها من الممالك بعد أن شاهدوه لأول مرة في بلاد الشام[6].
وقال العالم الشهير (مسيوى شارل بلان): "أرى -من غير مبالغة- أنه لم يكن لأمة من التأثير في أمةٍ مثل ما للعرب في أوربا، وذلك خلافا لما يسار عليه اليوم"[7].
وقال المستشرق (هندريك فان لون) في كتابه (قصة الجنس البشري): "وبعد دخول الصليبيين الشامَ أخذوا يقدرون الملابس الجميلة، والبيوت المريحة، والصحاف الجديدة، ومنتجات الشرق المحاط بالأسرار، فلما عادوا إلى أوطانهم الأولى طالبوا بإلحاح بأن يزودوا بمثله، وكان من أمر التاجر أن أضاف هذه السلع الجديدة إلى محتويات حقيبته التي كان يحملُها فوقَ ظهره.. وسرعان ما أدرك بعضُ التجار من ذوي الهمة أن هذه السلع التي كانوا دائما يستوردونها من أماكن بعيدة من الممكن صناعتُها في بلادهم"[8].
هذا في مجال الزراعة والصناعة، وأما في مجال التجارة والمعاملات المالية فقد كانت هيمنةُ الأمة الإسلامية سببًا في أن يعرف الناس نظام الحوالات المالية كما قال جرسهوب، وإنشاء الاتحادات التجارية، واستعمال الشيكات، وخطابات الاعتماد والإيصالات، كما قال كردنال، ونظام الملاحة البحرية وحقوقها كما قال سيدو[9].(/7)
وأما في مجال الحضارة فالحديث يطول لو استقصيناه، فليكن العام الهجري الجديد إذن حافزًا لنا لأن نعمل على استعادة الأمة لاستقلاليتها؛ ليكون ذلك طريقًا إلى الهيمنة على البشرية، واستعادة أستاذيتنا؛ فنسعد ويسعد العالم أجمع، وليبدأ ذلك بالاستقلالية في الاحتياجات الأساسية من مأكل ومشرب وملبس ومسكن، تلك الأشياء التي لم تكن تعجز أي أمة من الأمم السابقة عن توفيرها لنفسها مهما كانت درجتها في البداوة، فيكف أعجزتنا!!.
ــــــــــــــــــــــــــــ
[1] الكامل لابن الأثير: 1/3.
[2] تاريخ الطبري: 2/110، 111.
[3] السيرة النبوية لابن كثير: 2 55.
[4] السيرة النبوية لابن كثير: 2/334.
[5] الأحوال الاقتصادية في بلاد الشام: د. أحمد عبد الحميد.
[6] المرجع السابق.
[7] المرجع السابق.
[8] المرجع السابق.
[9] المرجع السابق.(/8)
العنوان: التاريخ يصنعه الأقوياء
رقم المقالة: 1883
صاحب المقالة: د. محمد داود
-----------------------------------------
المتأمِّل للتاريخ الإنسانيِّ يجد أن أعظم الأحداث وأكبر التحولات التي جرت فيه كانت من صُنع أناسٍ أقوياءَ، من مِينا إلى رَمْسِيسَ إلى الإسكندر إلى خالد بن الوليد إلى صلاح الدين الأيوبيّ وغيرهم من القادة العظماء.
هؤلاءِ الأقوياءُ همُ الذين دفعوا حركة التاريخ، واستطاعوا أن يُؤَثِّروا في حياة البشرية.
والقوة التي تَسَلَّح بها هؤلاء ليست مادِّيَّةً فقط؛ بل إن للقوة أسبابًا وصُورًا كثيرةً، وأول أسباب القوة:
العلم، ولولا العلم ما صُنعت الأسلحة ولا وُضعت الخِططُ العسكريةُ، ولا بُنيت القدرة الاقتصادية التي تمكِّن من المواجهة.
ثم الثَّرْوَةُ: فإن المال هو المحرِّك للمشروعات الكبرى، والمصدر الأساسيُّ للثروة هو العلم؛ حيث تتكاتف الجهود لاستخراج ما أَوْدَعَهُ الله في الدنيا من الخيرات، والاستفادة منها، والمال إذا وُضع في مَوْضِعه ووُظِّف تَوْظيفًا صحيحًا، كان سببًا من أسباب قُوَّة المجتمع ورِفْعَةِ الأُمَّة، وإذا وُظِّف تَوْظيفًا سَيِّئًا، كان سببًا من أسباب التَّدهْوُر والسقوط.(/1)
والاتّحاد من أعظم أسباب القوَّة، فالجهود الفرديَّةُ لا تَصنع حضارة ولا تَبني أُمَّة، وإنما يَصنعها الجُهْد الجماعيّ المنظَّم في وَحْدَةٍ واحدة، وقد لَفَتَ القرآنُ الكريم أنظارنا إلى قيمة الاتحاد، ومن ذلك قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103]. وتكرَّر التحذير من التشتُّت والتفرُّق والتنازع، من ذلك قوله تعالى: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46]. أي تَضْعُفوا وتذهب قُوَّتكم بسبب تنازعكم، وقد ضَرَبَ النبيُّ – صلى الله عليه وسلم - مَثَلاً بالِغَ الرَّوْعَةِ والإيحاء للمجتمَع المسلم المترابط المتَّحِد، فقال – صلى الله عليه وسلم -: ((المؤمن للمؤمن كالبُنْيان يَشُدُّ بعضُهُ بعضًا))، فالمجتمع بِنَاءٌ، وكل فَرْد بمثابة لَبِنَةٍ في هذا البناء، وتماسُكُ اللَّبِنَاتِ هو الذي يُقيم البناء ويعطيه قوته وصلابته.
ومن أسباب القوة: حُسْن التقدير والتخطيط واختيار الخطة المناسبة والمكان المناسب، ليكون للفعل تأثيرُهُ وقوته؛ فلكلِّ فعل زمانه ومكانه المناسِبان له، وقد يكون الفعل في ذاته صوابًا لكنه جاء في وقت غيرِ مناسبٍ أو في مكان غيرِ مناسبٍ فتنقلِب الآية وتكون النتيجة عكسيَّة.
ومن أهم أسباب القوة أيضًا: الثَّبات وعدم الانهيار أمامَ الشدائد والأَزَمات، وقد عَلَّمَنا النبيُّ – صلى الله عليه وسلم - ذلك بالفعل والقَوْل: بالفعل في وقفته الشجاعة في عزوة أُحُدٍ وقد فَرَّ الفُرْسان مِن حولِهِ؛ فكان أقربَ الناس إلى العَدُوِّ حتى أصيب وكُسِرَتْ سِنُّه وهُشِّمَتْ خَوْذَتُهُ – صلى الله عليه وسلم - وبالقول في حديثه الشريف: ((ليس الشديد بالصُّرْعَةِ، وإنما الذي يَملِك نَفْسَه عند الغَضَب)).(/2)
فالمسيطِر على المشاعر والانفعالات لَوْن منَ القوة المعنوية، يتفوَّق في تأثيره على القوَّة المادِّيَّة المحسوسة.
إننا في زمن القوة، حيث لا مكان للضعفاء، بل يمكننا القول: إن الضعيف في كل زمان ومكان لا موقع له، إلا على موائد التبعية، لا يملك أمر نفسه.
ومهما كانت قُوَّة الفِكْر الذي تؤمن به وتنتمي إليه، فلابد من قوةٍ أخرى تُمَكِّن لهذا الفِكْر، وقد جمع الله عز وجل كلَّ أسباب القوة في قولِهِ تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 60]. أي: كلّ ما تملكون من أسباب القوة والغَلَبَة.
وقد حَثَّ النبي – صلى الله عليه وسلم - على امتلاك القوة، فقال: ((المؤمن القويُّ خير وأَحَبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف)).
{إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ}(/3)
العنوان: التأسيس الفكري (1)
رقم المقالة: 914
صاحب المقالة: د. عبدالكريم بكار
-----------------------------------------
اقتضت حكمةُ الخالق - عز وجل - أن يجعل التقديمَ في هذه الحياة مرتَهَناً بالجهد الذي يبذلُه البشرُ على جميع الصُّعُدِ، وفي كل المجالات، ولهذا فإنَّ كثيراً من الإمكانات البشرية هي استعدادتٌ وقابلياتٌ، وحتى تتحول إلى أشياء ومعطيات ملموسة مثمرة؛ لا بد من قيام الناس بالكثير من العمل.
إن الله - سبحانه - وزَّعَ الإمكاناتِ العقليةَ على الأمم والشعوب بالتساوي، فليس هناك شعب أو عرق هو مجموعات من الأذكياء والنبهاء! كما ليس هناك أمة أو شعب هو مجموعة من الأغبياء والبُلَهاء!!!
إذن؛ لماذا نرى شعوباً تُسجِّل - في كل يوم - عشراتِ براءات الاختراع، وتعلن الكثيرَ من الحلول الإبداعية لمشكلات مستعصية؟
ولماذا - في المقابل - نرى شعوباً ليس لديها هاجسُ قلقٍ لتخلفها عن الإبداع والاختراع والتطوير التقني؟ كما أنه ليس لديها أي مؤسسات تهتم بالإبداع والمبدعين؟ كما أنه ليس في حوزتها أية منتجات قيّمة تحمل بصمات إبداعية عالية؟!
الجواب عن كل هذا يكمن في طريقة التربية في الأسر، وفي طريقة التعليم في المدارس والمعاهد والجامعات. فالتربية الجيدة تفتِّح وعيَ من يتلقَّاها من الأطفال - على اختلاف إمكاناتهم الذهنية - وتساعدهم في استثمارها على النحو الأمثل.
كما أن المدارس الجيدة تُكَمِّل ما بدأتْه الأسرة المهتمة، وتكشف عن المواهب والإمكانات المتفوقة، وتقدِّم الفرصَ تلو الفرص؛ لظهور المواهب في مبتكرات ومنتجات نافعة ذكية.
نحن - في العادة - نقسِّم العقل إلى قسمين: عقل أول، وعقل ثان، وإذا كان العقل الأول هو: إمكاناتٌ ذهنية مدهِشةٍ، موحَّدة على مستوى الأمم والشعوب، متفاوتة - طبعاً - على مستوى الأفراد؛ فإن العقل الثاني هو (الثقافة)، أي: مجموعةُ العقائد والأفكار والتقاليد والنظم والقيم السائدة في بيئة معينة.(/1)
والمدهش - فعلاً - أن الحَسْم في تجسيد الفوارق بين الأمم لا يأتي من مكونات العقل الأول، وإنما من مضامين العقل الثاني، ولنا أن ندرك ذلك جيداً من طبيعة الرسائل السماوية، حيث إن الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - لم يهتموا بتنمية الذاكرة أو الخيال أو القدرة على التحليل والتركيب.. لدى الأمم التي أُرسِلوا إليها، وإنما منحوها الأهدافَ الكليةَ والمناهجَ، وأكدوا ضرورةَ بعدِها عن الظنون والأهواء والأوهام؛ عند فهم الوجود، وعند الحكم على الأشخاص والأحداث..
ومما يؤسَف له حقّاً أن معظم المدارس في العالم الإسلامي؛ لا تهتم - على نحو جاد وواضح - بتأسيس عقول طلابها تأسيساً صحيحاً، ولا تهتم بتعليمهم المبادئ والمفاهيم التي تساعدهم في رؤية الأشياء على ما هي عليه، أو تساعدهم في التعامل الصحيح مع كل ما هو لهم!
نحن في هذه المقالة وما يليها من مقالات - بحول الله تعالى - سنركز على هذا، ونحاول أن نقدم بعض الأفكار والمفاهيم، التي تكوِّن العقلية الراشدة المتفتِّحة المعاصرة، عبر المفردات الآتية:
1- تثقيفُ (العقل) المعرفةَ بطبيعته، وما هو من شأنه، وما ليس من شأنه؛ حتى لا نعطِّلَه حيث ينبغي إعمالُه، وحتى لا نُعمِلَه حيث يجب تحييدُه، ويتطلب أيضاً الصيرورةَ إلى القطعيات والثوابت. وفي هذا الإطار يمكن القول: إن عمل (العقل) يشبه عمل (الأرض) فهي تتلقى البذور والماء والسماد والمبيدات، وبذلك تُخرِج لنا الغذاءَ الشهي الذي به قوام الحياة.
وحسب حال تلك البذورِ تكونُ الفاكهةُ، ويكون النباتُ، فإن كانت طيبةً، فإن لنا أن نتوقع نباتاً طيباً، وإن كانت فاسدةً أو ضعيفة، فإن لنا أن نتوقع شيئاً ضعيفاً، أو ألا نحصل على أي شيء.
وهكذا العقلُ، فإنه مثل الأرض، يتلقى المعارفَ والمعلومات، ويشتغل بها، ثم يخرج لنا الأفكارَ والمفاهيم التي تتناسب - طرداً - مع نوعية تلك المعلومات التي يتلقاها.(/2)
وكما أن أنواعاً من الأرض لا تنبتُ الكلأَ، وتضيع فيها المياه ُوالبذورُ سدىً؛ فإن من العقول ما يكون غبياً، فلا ينتفِع بالعلم، ولا يقوى على (عصره) واستخراج أي شيء منه!!
لكن - ولله الحمد والمنة - الأراضي والعقولُ المُنبِتة والعامِلة هي الكثرةُ الكاثرة، وهي - جميعاً - تظل قابلةً لنوع من المعالجة.
ومن هنا يمكن القول: إن التعليمَ الجيدَ والثقيفَ الثريَّ الصحيحَ هو حياة العقل، كما أنه يحدِّدُ مسارَه ونوعيةَ عمله. وقد صدق من قال: إن العقل من غير معرفة هباء! وقد آن الأوان للكف عن إجراء الموازنات بين فضائل العقل والعلم، حيث إننا إذا أردنا بالعقل (العقلَ الأول)؛ فإنه - من غير علم وتعلم وممارسة - لا يكادُ يكفي - اليومَ - إلا لتلبية بعض ضروريات الحياة، أما إذا أردنا به (الحكمةَ)؛ فهي مزيج من الذكاء والمعرفة والإرادة الصلبة.
أما العقل الثاني فهو عبارة عن معارفَ وعاداتٍ ونظمٍ مكتسبةٍ، أي إنها تدخل في نطاق المعرفة؛ إذا توسعنا في مدلولها، وتسامحنا بعض التسامح. وهذه الحقيقة جليةٌ في القرآن الكريم، فهو لا يتحدث عن العقل بوصفه جوهراً فرداً، أو بوصفه شيئاً ثابتاً، ولهذا فإنه لم يَرِد ذكرُه بكلمة (عقل)، أو (فكر)، أو (دماغ)؛ وإنما نجد تركيزاً واضحاً على إعمال العقل واستثماره، كما نجد نوعاً من الحث على تنميته، وهكذا نجد في القرآن الكريم: {يَعْقِلُونَ}، {يَفْقَهُونَ}، {يُبْصِرُونَ}، {يَتَفَكَّرُونَ}، {يَتَدَبَّرُونَ}.(/3)
إن العقلَ - مثل كل العضلات - ينمو ويكبُر باستخدامه وإعماله، ويضمر ويتراجع بإهماله وتهميشه. ونحن نعرف أن ممارسة التدبر والتفكر تعني خضَّ المعارف والمعطيات التي نمتلكها في الأمر الذي نفكر فيه، وفي هذا حثٌّ خَفِيٌّ لنا على زيادة حصيلتنا من تلك المعارف، كما أن فيه الإحالة على شيء يمكن أن نستزيد منه، في حين أن الإحالة على الإمكانات الذهنية تعني طلبَ معالجةِ شيءٍ لا يقبلُ إلا القليل من النمو.
العلم هو ماءُ العقل وهواؤه وضياؤه، وبدونه قد يسبب استخدامُ العقولِ من المشكلات أكثر بكثير مما يقدمه من الحلول، أو يفتحه من الآفاق!!
للحديث صلة...(/4)
العنوان: التأسيس الفكري (2)
رقم المقالة: 977
صاحب المقالة: د. عبدالكريم بكار
-----------------------------------------
لا يجادل أحدٌ في الإمكانات الهائلة التي زودّ الخالقُ - عزَّ وجل - بها أدمغةَ البشر، فهي ثروة كبيرة، لا يعرف معظمُ الناس كيف يستثمرونها، أو يديرونها، حتى إن بعض البحوث والدراسات تشير إلى أن ما استُخْدِمَ من إمكانات العقل البشري؛ لا يزيد عن 1%..
لكن -مع هذا كله- هناك حقيقةٌ جوهريةٌ، ينبغي ألا تغيب عن أذهاننا، وهي أن العقل البشري مفطور على العمل، بوصفه أداة في يد المبادئ الكبرى، وهذا ما يشير إليه المغزى الذي نستشفّه من قول الله تعالى:
{إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ} [1].
حيث إن الله -سبحانه- أرسلَ الرسلَ وأنزل الكتبَ؛ من أجل دَلالة الناس على طريق الرشاد، ومن أجل تمليكهم الغايات الكبرى والمبادئ العظمى، التي يحتاجون إليها في فهم الوجود، وفهم دورهم في هذا الوجود، وفي علاقتهم به..
ومن غير تلك المبادئ؛ فإن أذكى العقول، وأعظم العبقريات؛ تجد نفسها مرتبكة في فهم الحياة، وفي التحرك فيها.
هذا الكلام لا نقوله من باب الدعاية أو الترويج لضرورة الالتزام بالمنهج الرباني الأقوم، ولو أننا قلناه من أجل ذلك؛ فلا غضاضة علينا فيه، كما أننا لا نريد من ورائه الحطَّ من قيمة العقل والإزراء به؛ وإنما نريد توضيح العلاقة التي تربط العقل بالوحي.
لو رجعنا إلى التاريخ لوجدنا أن هناك مئات الألوف من العقول الذكية والجبارة، التي نظرت في غاية وجود الإنسان على هذه الأرض، وفي مصيره بعد الموت، كما نظرت في طبيعة الخير والشر، وفي الحقوق المدنية التي تترتب على اجتماع الإنسان بأخيه الإنسان، وكانت النتيجة مخيبة للآمال! أقوالٌ وآراءٌ وتشعيباتٌ لا تحصى، لكن يضرب بعضها بعضاً، وهي -جميعاً- تخبرك عن الاضطراب والضياع والحيرة...(/1)
إذا أردت أن تعرف صدق ما أقول؛ فانظر في كتب الفلاسفة، القديم منها والحديث، لترى العجب العجاب.
انظر -مثلاً- ما كُتب في مسألة الحرية الشخصية، وانظر ما كتب في علاقة العدل بالحرية، وفي مسائل الإدارة، ومدى مسؤولية المرء عن أفعاله، وعلاقة الغايات بالوسائل.. وستجد أن تلك العقول الكبيرة، التي بحثت في القضايا الكبرى؛ لم تستطع حسم أي نزاع، ولا الوصول إلى أي مفاهيم صلبة أو قاطعة، وقد انتهى الأمر ببعض الكتاب المعاصرين إلى اليأس من الوصول إلى اليقين، فجعل يزعم أن صحة العقل ليست الوصول إلى الحقائق، وإنما هدم المقولات الزائفة، ومحاولة إنتاج مفاهيم جديدة تلوكها ألسنة الجيل اللاحق!!
إن مما يدهشني ذلك التكامل الواضح بين الوحي والعقل، حيث إنك تجد أن ما لا يتغير بتغير الأزمنة والأمكنة؛ جاء في الشريعة السمحة مفصلاً غاية التفصيل، وهذا ما نجده على نحو جلي جداً في العقائد والعبادات، حيث لا يجد المسلم نفسه مضطراً إلى أداء فريضة الحج مرتين في العمر، أو إلى أداء صلاة المغرب ركعتين أو أربع ركعات...
إن التفصيل الدقيق الواسع في مسائل العبادات يعدُّ إعلاناً صريحاً بعدم الحاجة إلى تدخل العقل وإلى الاجتهاد؛ حيث لا دواعي تدعو إليه، ولهذا قالوا: إن العبادات تعبدية.
أما ما كان يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة؛ فقد جاء في الشريعة مجملاً، حيث تجد في أحيان كثيرة، سوى بعض المبادئ الكبرى والتوجيهات الهادية، وذلك مثل تنظيم الشأن السياسي والإداري للدولة، ومثل النظم التي تحتاجها الحياة اليومية والعلاقات الدولية...
وذلك الإجمال دعوةٌ صريحة للعقل؛ كي يمارس دوره، ويُظهر إبداعاته، في إطار التوجيهات العامة والخطوط العريضة.(/2)
وهذا الإجمال مظهر من مظاهر رحمة الله -تعالى- بعباده، ومظهر من مظاهر يسر الدين وسماحة الشريعة، وذلك لأن التفصيل في أمور تختلف، من عصر إلى عصر، ومن مكان إلى مكان؛ يوقع الناس في حرج عظيم، يدعوهم إلى التفلُّت، والخروج عن تعاليم الإسلام عامة!
إن العقل ظُلِم من جهتين:
الأولى: فئة عريضة من المثقفين، الذين يدَّعون العقلانية، والتنور، والموضوعية، واحترام العقل، والانفتاح على الثقافات...
إن تلك الفئة أو الشريحة حمَّلت العقل كل الأعباء، وأرادت منه أن ينوب عن الوحي، وأن يمنح الثوابت، ويبحث فيما وراء المادة.. فظهر عجزه، واضطربت طروحاته!
أما الجهة الثانية: فالمنتمون إليها مجموعات مختلفة، منهم الخُرافيُّون، الذين يعتقدون معتقدات بعيدة عن العقل والنقل والخبرة البشرية، وما تراكم من تجارب الأمم...
ومنهم عبيد المعلومات والمعطيات والأرقام والأخبار والمقولات الشائعة، الذين لا همَّ لهم سوى إغراق سامعيهم بفيض من الكلام المتناقض والملفَّق!
إنهم غير مستعدين لاستخدام عقولهم، والتأمل فيما يقولونه، وغير مستعدين للنظر في طبائع الأشياء، وسنن الله -تعالى- في الخلق، وما جرت به العادة...
إن أزمة علاقة كثير من الناس بعقولهم أنهم يريدون من تلك العقول أن تمنحهم نُقَطاً ثابتة، ومرجعيات صارمة، وما دَرَوْا أن العقل حين يفكر في أمر من الأمور، كالبطالة، أو الاستبداد، أو أي مشروع تجاري...؛ ينتج الأفكار والمقولات والمعايير، ويعيد -في الوقت ذاته- تنظيم طروحاته، ورؤاه، ومحطّاته، وانطباعاته، إنه بعبارة أخرى يظل في حالة من الاكتشاف المستمر لذاته، وهو بذلك كثيراً ما يسفِّه نفسه، وينقض غزله! فكيف يمكن الاعتماد عليه في بناء تصورات نهائية عن الحياة والأحياء؟!(/3)
إذا أردنا لعقولنا أن تعمل بكفاءة؛ فإن علينا أن نختار لها المجالات الملائمة لها، وأن نزودها بالمعارف والمعطيات الضرورية والمطلوبة لعملها، وإلا فإن لنا أن نتوقع أن تنتج العقول الذكية أفكاراً غبية، وهذا سيكون موضوعاً محزناً للقراءة!!
ــــــــــــــــــــــــ
[1] سورة فاطر: 24.(/4)
العنوان: التأسيس الفكري (3)
رقم المقالة: 1007
صاحب المقالة: د. عبدالكريم بكار
-----------------------------------------
لا نستطيع أن نمضي في تشييد بنية فكرية قوية؛ من غير فهم جيد للأمور التي تجعل اتفاق أهل العلم صعباً أو مستحيلاً, ومن غير فهم جيد لتأثير التكوين الثقافي في تعدد وجهات النظر، تجاه الكثير الكثير من القضايا المتنوعة, ولعلِّي أحاول ملامسة شيء من ذلك بالمفردات الآتية:
1 – ذكرتُ -في مقال سابق- أن عقولنا تعمل بواسطة أدوات معرفية, هي، على نحو عام: التعريفات، والمصطلحات، والأفكار، والمفاهيم، والمعلومات.
والمدهش في الأمر أن العقل لا يستطيع أن يستخدم هذه الأدوات دون أن يتأثر؛ وذلك لأن العقل ليس بنية متكاملة، كالجسد -مثلاً- وإنما هو مزيج معقد جداً من الإمكانات والمواهب والقدرات والمعتقدات والمفاهيم والملاحظات والقابليات والأوهام والانطباعات الهشة والرؤى الغائمة.
أي: إن العقل يظل غير واثق تماماً مما لديه, ويظل توَّاقاً إلى الكمال، وإلى المزيد من التبصر, ولهذا فإنه يستجيب في العادة للمعطيات الجديدة, ويتفاعل معها, وربما غيّر من طرحه بناء عليها, وقد حَدَثَ هذا فيما يفوت الحصر من الحوادث والحالات.
ويذكرون -في هذا السياق- أنه جرت مناظرة، بين الإمامين الكبيرين: الشافعي وأبي عبيد القاسم بن سلام، في تحديد معنى (القَرْء)؛ هل هو: أيامُ الحيض، أو هو أيام الطُّهر؟ وانتهت المناظرة دون أن يتزحزح أي منهما عن رأيه, وبعد مدة فوجئ الناس بتبادل هذين الإمامين للمواقع؛ حيث صار الشافعي يفتي بما كان يراه أبو عبيد, وصار أبو عبيد يفتي بما كان يراه الشافعي! وهذا منتهى الإنصاف، ومنتهى التجرد والموضوعية، ومنتهى الاحترام للأدلة والبراهين؛ من العالِمين الجليلين!(/1)
2 – من المهم أن ننظر إلى اختلاف الناس في آرائهم، وأفكارهم، ونظراتهم إلى الأشياء. إنه يشبه اختلاف وجوههم تماماً؛ كل إنسان سويٍّ له فم وأنف وعينان وجبين وحاجبان.. ومع هذا فلا تكاد ترى وجهاً يطابق وجهاً آخر مطابقة كاملة؛ وذلك بسبب اختلاف الملامح والألوان والتفاصيل الصغيرة..
وهكذا الناس؛ تتشابه آراؤهم, بل تتطابق حين يفكرون في مسائل وقضايا كبرى؛ هي أشبه بالأصول والثوابت الثقافية. فإذا فكروا في مسائل فرعية أو جزئية, وإذا تجادلوا في صلاحية أداة أو أسلوب أو هدف جزئي..؛ فمن من الطبيعي جدّاً أن يختلفوا اختلافاً واسعاً, بل إن من العسير عليهم آنذاك أن يتفقوا.
وسأضرب مثالاً واحداً لتوضيح هذا: هناك إجماع لدى كل الأمم على بر الوالدين واحترامهما, وهذا الإجماع على المبدأ؛ حيث لا نعرف أي ثقافة تقول: يستحب ضرب الوالدين! أو الغدر بهما! أو إهانتهما!..
لكن حين يأتي الناس لتوصيف معنى البر والاحترام؛ فسنجد اختلافاً واسعاً داخل الملّة الواحدة! فهناك من المسلمين -مثلاً- من ينظر إلى نفسه على أنه عاقٌ لوالدته التي تسكن في الحي الذي يسكن فيه؛ إذا لم يقم بزيارتها كل يوم أو يومين مرة. وقد يكون له أخ شقيقٌ يرى أنه سيكون بارّاً بأمه؛ إذا زارها في الأسبوع مرة.
فإذا ذهبنا إلى المجتمعات الغربية اختلفت الصورة كليّاً, حيث نجد هناك من يعد نفسه بارّاً جدّاً؛ إذا زار والدته التي تسكن في الحي نفسه الذي يسكن فيه مرة في الشهر أو الشهرين! وقد أوجدوا يوماً في السنة لتكريم الأم؛ بسبب ضعف التواصل بين الأبناء مع أمهاتهم طيلة العام!!
في هذا الإطار ينبغي أن نفهم قول الله جل وعلا:
{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ...}[1].
قال الحسن وعطاء ومقاتل في: {وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ}: أي: للاختلاف خلقهم.(/2)
وقال ابن عباس والضحاك وقتادة: ولرحمته خلقهم.
وقيل: المعنى: للرحمة والاختلاف خلقهم. ورجَّح هذا القول القرطبي[2].
والذي يبدو لي صواب هذا القول, فالناس كلهم يختلفون؛ لكن المرحومين منهم لا يختلفون في الأصول والكليات، فهم معتصمون بالوحي وقطعياته, أما غير المرحومين فهم يختلفون في القطعيات, وبذلك يصبح خلافهم وبالاً عليهم في الدنيا، وسبباً لعذابهم في الآخرة.
أما الخلاف في الجزئيات والكيفيات والأساليب؛ فقد خلق الله جميع عباده له, فهو سمة عامة لا يكاد ينجو منها أحد, واختلاف الصحابة -رضوان الله عليهم- في كثير من المسائل دليلٌ على هذا, وهم خير القرون وأفضلها.
والحمد لله رب العالمين
وللحديث بقية...
ــــــــــــــــــــ
[1] سورة هود: 118, 119.
[2] تفسير القرطبي 9: 115.(/3)
العنوان: التأسيس الفكري (4)
رقم المقالة: 1045
صاحب المقالة: د. عبدالكريم بكار
-----------------------------------------
تَقَبُّل الاختلاف
إذا كان اختلاف الناس سُنَّة من سُنَنِ الله تعالى في الخَلْق، وكان أكثر ما يَتَدَاوَلُه النَّاس من أفكارٍ وأحكامٍ ومفاهيمَ وانطباعاتٍ... قابلاً لأنْ يُرَى بعُيونٍ مُخْتَلِفَة، فهل هذا يعنِي أنَّ الحقيقةَ نسْبِيَّةٌ، وأنَّ لكلِّ قَوْلٍ يُقَال حظًّا مِنَ الصَّواب، ولهذا فإنَّ علينا أنْ نَقْبَلَه، ونَسْكُتَ عن مُجَادَلَة قائِلِه ؟(/1)
الجوابُ هو: أنَّ علينا أنْ نُدْرِكَ أنَّنا نعيشُ في عَصْر (ما بعد الحَدَاثَة)، وهذا العَصْر يُهَيْمِن عليه الفِكْر الفَلسفِيُّ الغَرْبِيُّ، وتدعمه مقالاتُ قادَةِ العَوْلَمَة الذين يَهْدِفُون إلى تَحْقِيق المزيدِ مِنَ الرِّبْحِ والمَكَاسِبِ، بقطْعِ النَّظَر عنِ الالْتِزَامِ بالحقيقَةِ أو مُرَاعاة اليَقِينِيَّات، أوِ الثَّوابِتِ العَقَدِيَّة، أوِ الثَّقافِيَّة، وإنَّ مَقُولة: (الزُّبُون دائمًا على حقٍّ) تُشَكِّل تلخيصًا مُكَثَّفًا جِدًّا لتلك المقولات. في عصر ما بعد الحداثة تَسْيِيل للفِكْرِ،وتَهْمِيشٌ لكلِّ ما يُصَنَّف على أنَّه مَرْجِعِىٌّ، أو كُلِّيٌّ، أو ثابِتٌ، أو إطارٌ عامٌّ، كلُّ شَيءٍ قابل للنَّقضِ والجَدَلِ، وبهذا فإنَّ مِنَ المُمْكِن أنْ يكون لكلِّ قَوْلٍ ومذْهَب ورَأْيٍ نصيبٌ من الصِّحَّة، وحظٌّ من القَبُول... ونحن نستطيع أنْ نقولَ ببساطَةٍ وثِقَةٍ: إنَّ هذا هو الوضْع الطَبِيعِيُّ للناس حين يَسْتدبِرون الوَحْي، ويُحمِّلُون أنْفُسهم أعباءَ تحديد اتجاهِهِم العام، وتحديد أهدافِهِم الكُبْرى من العَيْشِ في هذه الحياة. أمَّا نحن - أتْبَاع الرُّسل - فإنَّ في عقائدنا، وشرائعنا، وأدبيَّاتِنا ما يُساعِدُنا على بَلْوَرة مَوقفٍ راشِدٍ من الخلافاتِ التي تَنْشُب في كُلِّ مكان من الأرْضِ، وفى كُلِّ شَأْنٍ من الشُؤون، ولعلَّ من جُمْلة ذلك الآتي :-(/2)
أ- حين يكون الخلافُ في أمْرٍ شَرْعِيٍّ، أو طِبِّيٍّ، أو فَلَكِيٍّ، أو نَقْدِيٍّ، أو تاريخِيٍّ، فإنَّنا نحتَكِم إلى ما يقوله المُتَخَصِّصون البَارِعُون، ونَأخُذ أقْوَالهم مهما كانت دَرَجة أُسْتاذِيَّتِهم وإمامتِهِم على أنَّها اجتهادٌ مُعْتَبَر، ويستحقُّ الاهتمامَ، وسيكون في إمكاننا الاحتجاج والعمل به، والله -سبحانه وتعالى- حَثَّنا في غَيْر آيةٍ على سُؤالِ أهْلِ الاخْتِصاص، والاستفادة منهم حيث قال سُبْحَانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}[1]، وقال: {الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً}[2]، ومع هذا فإنَّ المنهجِيَّة تَقْضِي عدم إهمال أقوال أهل العلْم الأقلِّ خِبْرةً ودِرايةً؛ حيثُ إنَّ أيَّ اختلافٍ في أيِّ مسألَةٍ يحتاج إلى أنْ نَفْتَح أذهاننا عليه من أجْلِ فَحْصِ كلِّ الآراء الوارِدة، والحقيقة إنَّه يُمْكِن أنْ نُمَيِّز بين ثلاثة مُسْتَويات مِنَ الخِلاف:
1- ما عليه الجُمْهُور، وهو حَرِيٌّ بالاطمئنان إليه في كثيرٍ من الأحْيان، وإنْ كانَ بعضُ من لا يَرْغب في بَذْل الجُهْد لغَرْبلَة الأقْوَال وتَمْحيص الأدِلَّة - يتَّخِذُ من قَوْل الجُمْهور تُكَأَةً، وذَريعَةً لتَقَاعُسِه.(/3)
2- ما عليه المُحَقِّقونَ مِن أهل العِلْم، حيث وَجَدَ كثيرٌ مِنَ الباحثينَ أنَّ بعض الأقْوَال والآراء، لم يذهبْ إلَيْه السَّوادُ الأعْظَم مِنَ المُتَخَصِّصينَ؛ لكنَّه مدعوم بالحُجَج المنْطِقِيَّة، وبالأدِلَّة، والبراهينِ السَّاطِعَة. وهذا يَنْشَأ بسبب وُجود بعض العُقُول الكبيرة التي تَظْهر في تاريخ العُلُوم بين الفَيْنَة والفَيْنَة. وإذا كان معظمُ العامَّة يرتاحُون إلى قول الجُمْهُور، ويَجِدُون أنْفُسهم مُطْمَئنِّينَ له، فإنَّ خاصَّةَ أهلِ العلْمِ، ولاسيَّما المُجْتَهِدينَ مِنْهُم يُعطُون الكثير منَ الاهتمامِ لأقوالِ المُحَقِّقينَ، ومَنْزَع هذا الاهتمام واضحٌ معروفٌ، وهو أنَّ العِبْرَة الأساسيَّة في المُفَاضلَة بين الأقْوال، لا تعود إلى كثرةِ مَنْ يرى الرَّأْي، أو يذهب المذهب؛ وإنَّما إلى خِبْرة القائل، ودِرايتِه، وإلى تَمَاسُكِ طَرْحِه الأدلَّة والبَرَاهِين التي يَسُوقها ويُحَاجِج بها.
3- الأقوال الشَّاذَّة، حَيْثُ نجد في كلِّ علم من العُلُوم من يقول كلامًا، أو يَطْرَح حلاًّ لمُعْضِلَة، لا يرتضيه جُمْهُور المُتَخَصِّصينَ، وينظرون إليه على أنَّه بعيدٌ عن التَّحقيق. وهذا الصِّنْف مِن مظاهر الاختلاف يَحْتَاج إلى أن نَتَوَقَّى منه، فالأَخْذُ بالشُّذوذاتِ والغرائب من مناهِج الجُهَّال، وأهل الأهواء، والمُتَتَبِّعين للرُّخَصِ، والباحثين عن سبيلٍ للتَّحَلُّلِ منَ المسؤوليات. وقد قرأتُ مرَّة في تَرْجَمة أحد الأعلام: أنَّه كان يَرَى أنَّ كمال المُروءة يَقْتَضِي من المرء ألاَّ يُصَلِّيَ مع الجماعة، وذلك حتى لا يُخَالط العامَّة، ومَن دونهم وهذا نَموذج بَسيطٌ للاجتهادات غير المُسَدَّدة؛ بل المنْبُوذة من أهل الاختِصاص وغيرهم؛ لأنَّه يسْتَنِد إلى استحسان، أو إلى تَوَهُّم مصلَحَة، ولديْنا فَيْضٌ منَ الأدِلَّة على عَدَمِ اعتبارها.(/4)
ب- قد يكون الخلافُ على المُسْتوى السُّلُوكِيِّ التَّنْفِيذيِّ، وليس على مُسْتوى الرَّأي والتَّنظيرِ، وهذا كثيرًا ما يُعَبِّر عن التَّفَلُّتِ، أو الجَهْلِ، أو الكسل، أو الإهمال؛ لكنه مع هذا يُعْطِي انطباعًا بالتَّشَرْذُم، والانقسام. والتعامُلُ معه ليس بالعَسِير، وعلى سبيل المثال: فإذا وُجِدَ طبيبٌ في مُسْتَشْفَى لا يُدَخِّن وباقي زملائه يُدَخِّنون، أو وُجِدَ رجلٌ في قَرية يُقيم شَعيرة الصَّلاة وباقي أهل القَرية مُعْرِضُون عنها، ومُهْمِلُون لَها، فإنَّ ذلك الطبيب، وذلك المُصَلِّي يُشَكِّل الجَمَاعَة التي يَنْبغي أنْ يَؤوبَ إليها الأطبَّاء المُدخِّنُون، وأهل القرية المُفَرِّطون بأداء الصَّلاة؛ وذلك لأنَّ المسألة ليست مسألة اختلاف، وإنَّما مسألة انحراف من الكثْرَة، وقد وَرَد في هذا المعنى قَوْلُ عبد الله بن مسعود -رَضِي الله عنه-:
"الجماعة أن تكونَ على الحَقِّ، ولو كُنْتَ وحدَك"، أيْ: على الحقِّ القَطْعِيِّ الذي لا شُبْهَة فيه، حين يسود الجهل، وتنتشر التقاليد على حساب الفِقْهِ الصحيح؛ فإنَّ الناس يَسْتَوحِشُون من التَّفرد، والابتعاد عما عليه الأكثريَّة، ويأنَسُون للانسياقِ مع الكثْرَة الكاثرة، ولو كانوا على ضلالَةٍ.
وهذا ما عمل جميع الأنبياء - عليهم السلام - على تخليص الأمم منه.
وللحديث صلة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[1] الأنبياء 7.
[2] الفرقان 58.(/5)
العنوان: التأسيس الفكري (5)
رقم المقالة: 1137
صاحب المقالة: د. عبدالكريم بكار
-----------------------------------------
تَقَبُّل الاختلاف
لا أخاف أبدًا مِن اختلاف أهْل العِلْم المُحقِّقين أهلِ الوَرَع، والباحثين عَن الحق والحقيقة؛ لأن الأصول التي تَجمَعُهم، والخَلفِيَّات العِلمِيَّة المشترَكة التي ينطلقون منها تجعل اختلافَهم محصورًا، وقابِلاً للتفسير والنِّقاش. وهم يَعرِفون مِن خلال خبرتهم بأصول الاجتهاد، ومواردِ الأدلَّةِ، وطبيعة فَهْمِ الأشياء، أنهم لا يَنطِقون بأقوال وأحْكَام قَطعِيَّة، ورَحِمَ اللهُ الإمامَ الكبيرَ محمدَ بنَ إدريسَ الشافعيَّ حين قال: "مَذهبُنا صوابٌ يَحتَمل الخطأَ، ومَذهبُ غيرِنا خطأٌ يَحتَمل الصوابَ".
وهذا القولُ في المسائل الفقهية، أمَّا في المسائل الحضارية وكُلِّ ما يَتَّصِل بتفسير التاريخ والواقعِ وما يَتَعلَّق بالتخطيط للمستقبَل؛ فإنَّ الأمر أوسعُ من هذا بكثيرٍ؛ فقدْ يَختَلف اثنان مِن المُتخصصِينَ في أَمْرٍ، ويكونُ مع كُلِّ واحدٍ منهما شيءٌ مِن الحق، وقد يكونان على خَطأٍ، والصوابُ مع شخص ثالث، وقد يَختَلف بعضُ أهلِ العِلْم والتَّخصُّصِ في أَمْرٍ لمْ يَختَلفْ فيه مَن سَبَقَهم؛ ولهذا فإنَّ على أهل الفِكْر والدَّعوة والتاريخ وعُلماءِ الحضارة أنْ يَكُونُوا مُتسامِحِينَ مع الاجتهاداتِ التي تَصْدُر عَن بعضِهم، ما لمْ تُصادِمْ إجْماعًا أوْ نَصًّا قَطْعِيًّا في ثُبُوته ودَلالَتِه، وهذا في المسائل الحضارية قليلٌ جدًا، بل نادرٌ.
لاستيعاب هذه الفكرةِ: انظر إلى اختلاف فقهاءِ الإصلاحِ والنُّهُوض الحضارِيِّ حين يَتحَدَّثُون عَن أوْلَوِيات التغيِير، وأنَا هنا لا أتَحدَّث عَنِ المُصلِحِين الذِينَ يَنتَمُون إلى مِلَلٍ شَتَّى أو مَذاهبَ مُتباعدةٍ، وإنَّما أَتَحدَّثُ عَنِ المُصلِحِينَ الذِينَ يُفكِّرون ويَتحَرَّكون في إطار أهلِ السُّنَّة والجَمَاعَةِ.(/1)
إذا نَظرْتَ إلى اجتهاداتِهم في هذا الأمرِ؛ فَسَتَجِد أنَّ منهم مَن يَرَى أنَّ بداية الإصلاح يَجِب أنْ تَكُون مِن إصلاح العقيدة، وتَعلِيمِ الناسِ أصولَ التَّدَيُّن الصحيح، ومنهم مَن يَرَى أنَّ البداية تَكُون بإصلاح السِّياسة، ومنهم مَن يَنظُر للاقتِصاد على أنَّه مِحَوْرُ الحياة، وأنَّ النُّهُوض به سيُساعِد على النُّهُوض بكُلِّ جوانبِ الحياةِ.
ومِنَ المُصلِحِين مَن يَرَى أنَّ تَرْبية الناس على الفضائل والأخلاق الحَسَنة هي المُنطلَقُ الصحيح، أمَّا المُشتَغِلون بقضايا الفِكْر والتفكير فيَرَوْنَ أنَّ إصلاحَ الأدمِغَة يَجِب أنْ يَسبِق أيَّ إصلاحٍ، وهكذا...
لا شك أنَّ هذا خِلافٌ مَشرُوعٌ ولا شك في أنَّ لكُلِّ فَرِيق أدلتَه ومَنطِقَه، ولهذا فإنَّ مع كُلِّ واحدٍ منهم شيئًا مِن الحق، والذي يُرَجِّح وجهةَ نَظَرٍ على أُخرَى هو حَجمُ القُصُور والانحرافِ المَوْجود في مجال مُعَيَّنٍ وفي بلد معين، مع أنَّ أهلَ العِلْم وكُلَّ مَن أشرْنا إليهم قد يَختَلِفون أيضًا في تقدير الانحراف ووزنِ خُطُورته.
ومع كُلِّ ذلك، فإنَّ اختلافَ مَن يَتوافرُ لديهِمُ العِلْمُ والوَرَعُ يُشكِّل مَصدَرًا لِغِنَى الحياةِ الثقافية، ويُساعِد على تَوفير فضاءٍ للحركة، كمَا يُساعِد على رَفْع الحَرَج عَن كَثير مِنَ الناس.(/2)
إنَّ الشريعة التي جاء بها مُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم - هي خاتَمةُ الشرائع، وهذا يَعنِي أنَّ الناس سَيَجِدون فيها ما يُرشِدهم ويَهدِيهم إلى الطريق القويم، وما يُساعِدهم على إعمار الأرضِ، وتنميةِ الحياة مِن غيْر عَسْفٍ ولا حَرَجٍ، وسَتَجِد ما يُثير الإعجابَ والدَّهشةَ حين تُطالِع في الإحالة على الواقِع وتنزيلِ الأحْكام عليه - وهو ما سَمَّاه الأصولِيُّون بـ(تحقيق المَنَاط) -؛ حيث تَرَى ما تُوَفِّره الشريعةُ الغرَّاء لأهل العِلْم والاختصاص مِن دور حيويٍّ وجوهريٍّ في فَهْم الظروف، وتقدير المخاطر، ورؤية إمكانات النجاح، وما يَترَتب على كُلِّ ذلك مِن اجتهاداتٍ تُواكِب حركةَ المُجتمَع الإسلاميِّ وتحل مُشكِلاتِه. ويَتجَلَّى هذا واضحًا بشكلٍ كبيرٍ في المجال الدَّعوِيِّ والإصلاحيِّ، وعلى سبيل المِثَال: فإنَّ النَّهْيَ عَن مُنكَرٍ مِن المُنكَراتِ مَشروطٌ بألاَّ يُؤدِّيَ إلى وُقُوع مُنكَرٍ أكبرَ؛ فإذا كان النَّهْيُ عَن تَرْك صلاة الجَمَاعة، أو عَن شُرْب الخمر، أو لَعِبِ المَيْسر مثلًا سيُؤدِّي إلى إزهاق الأنْفُس؛ وَجَبَ على المُحتَسِب التَّوَقُّفُ والكَفُّ عَن ذلك النَّهْيِ، والذي يُقَدِّر حجمَ الضَّرَرِ أوِ المُنكَرِ المُتَوَقَّعِ هُمُ الدُّعاةُ والمُصلِحون أنفُسُهم.
مِثالٌ آخرُ: المُسلِمون في الغَرْب، الذِينَ يَعِيشون هناك بوَصفِهم أقلياتٍ دينيةً وعِرْقِيَّة، أولئك المُسلِمون مُطالَبون بأنْ يُقِيموا مِن حُكْم اللهِ في تلك البلادِ ما يَستطِيعونَه، ووَفْقَ الأدواتِ المُتاحة. وأيُّ نظرةٍ مُتفحِصة لِواقِعهم تَنتَهي إلى أنَّ استخدام العنف مِن قِبَلِهم مِن أجْل الوصول إلى السُّلطة، أو فَرْضِ بعضِ التشريعاتِ الإسلامية سوف يَكُون بَالِغَ الضَّرَرِ عليهم، وسوف يُسِيء إليهم وإلى الإسلام، كمَا أنَّه لَن يُحقِّقَ أيَّ شيءٍ ممَّا يُريدُون.(/3)
في المقابل هناك طريقٌ مفتوح أو شِبْهُ مفتوح، وهو طريقُ العمل السياسي والتكتل في اتحادات وجمعيات مختلفة، ومهما كانت هذه الطريقُ طويلةً، فإنها أفضلُ مِن طريق استخدام العنف والقُوَّة.
وقد يَتَطَلب نجاحُهم في الانتخابات أنْ يَنشَطُوا في الدَّعْوة إلى اللهِ، وتَجميعِ الناس وحشدِهم حول برامجِهم، وحين يَقومون بذلك يَكُونون قد فَعَلوا ما هو مطلوبٌ منهم في إعلاء كلمة الله، وبَسْطِ حُكْمِه هناك في دِيَار الغَرْب، وهكذا نَجِد أنَّ الشريعةَ الغرَّاء فَوَّضَتْ لأهلِ العِلْم وأهلِ الحَلِّ والعَقْدِ تقديرَ الظروف التي سَيَتَحركون فيها، ويَرتَبط بتلك الظروفِ واجبُ الوقتِ مِن الإصلاح والدعوة وفِعْلِ الخير.
وهنا نقطةٌ مهمةٌ تَستَحِقُّ التَّنْوِيهَ، وهي أنَّ الشريعةَ الغرَّاء حين تُعَلِّق شيئًا مِن التكليف في مجال الإصلاح والدعوة بفَهْم الدُّعاةِ والمُصلِحينَ للوَاقِع، وتقديرِهم لها؛ فإنها تُوَفِّر حَيِّزًا واسعًا للاجتهاد واختلاف الرأْي؛ لأنَّ الواقِعَ الذي نُحاولُ فَهْمَه ذا طبيعةٍ هُلامِيَّة وزِئبقية، ومهما ظنَنَّا أنَّنا مُحيطُون به ومُدرِكون لتفاصيله، فإنَّنَا سنَجِد أنَّه يَتَفَلَّتُ مِن أيدينا ويَنغَلِق فَهْمُه علينا، وانظر إلى اختلاف المُصلِحينَ في ترتيب الأَوْلَوِيَّات الإصلاحية، فَسَتَرَى أنَّ تَفَاوُتَ فَهْمِهم وتقييمِهم للواقِع يُعَدُّ السببَ الحاسِمَ في اختلافهم، وهذا يُشكِّل مُحرِّضًا للذهن على العمل، ويُوجِدُ نوعًا مِن السَّعَة في الحُكْم على الأشياء.
ولله الحمد والمِنَّة،،،
للحديث بقية.(/4)
العنوان: التأسيس الفكري (6)
رقم المقالة: 1179
صاحب المقالة: د. عبدالكريم بكار
-----------------------------------------
تَقَبُّل الاختلاف
لا نستطيع ونحن نتحدث عن الاختلاف أن نتجاوز دور اللغة في تباين الآراء والمذاهب وتصادُم وجهات النظر، والحقيقة أن علماءنا الأقدمين كانوا على وعي كبير بهذه المسألة، لكننا على مستوى الكتابات الفكرية لم نتابع في العصر الحديث جهود السابقين، ولم نضف إليها إضافات تستحق التنويه ولا سيما على صعيد الصحوة مع أن (اللغة) هي الواسطة الأساسية في تبادل الأفكار والآراء وتنميتها، والحقيقة أن اللغة ليست مجرد وسيلة للتفاهم، إنها كائن شديد التعقيد والتركيب، وهي في حالة مستمرة من النمو، ولهذا فإن سيطرة الناس عليها دائماً قاصرة ونسبية، وإن من المألوف جداً أن يقول الواحد منا أنا لا أجد العبارات المناسبة، أو لست متأكداً هل وضحت أفكاري بطريقة مناسبة، ومن المألوف أيضاً أن نستمع إلى من يتحدث في موضوع من الموضوعات ، ثم لا نعي ما يقول، أو نسيء فهمه، كما أن من المألوف أن نقرأ كتاباً في علم من العلوم، ثم لا نفهم منه إلا القليل والمشكلة لا تكمن في مدى سيطرة الناس على اللغة فحسب، وإنما تتجاوز ذلك إلى القصور الذاتي الذي لا يخلو من شيء منه أي نظام لغوي في العالم، وأحياناً أظن أن العقل لا يتعامل مع دلالات الألفاظ بالجدية الكافية أو الكاملة، أي إن الواحد منا يقول في نفسه حين يسمع بعض الناس يتحدث: هل يُعقل أن يعني فلان ما يقول؟ أن يقول : لا يعقل أن يعني فلان ما يقول؟ وهذا طبيعي في كثير من الحالات لأن في كل علم من العلوم وكل مجال من المجالات بدهيات ومعطيات وأساسيات تتحكم في فهم الناس لما يسمعونه، والمثال المشهور المتداول والذي يمكن أن يستشهد به في هذا الشأن قوله - صلى الله عليه وسلم – بعد انتهاء يوم الأحزاب (الخندق): "لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة، فأدرك بعضهم العصر في(/1)
الطريق، فقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتيهم، وقال بعضهم: بل نصلي، لم يرد منا ذلك. فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم، فلم يعنف واحداً منهم"[1].
إن ألفاظ الخطاب واضحة غاية الوضوح، فلماذا اختلف الصحابة - رضوان الله عليهم – في فهم مراد النبي - صلى الله عليه وسلم - مع أنهم عرب أقحاح؟ إن بعض الصحابة فهم من نهي النبي عن صلاة العصر إلا في بني قريظة أنه كناية عن الحث والاستعجال والإسراع إلى بني قريظة، وليس المراد ظاهر اللفظ، لأن هناك نهياً سابقًا وعاماً عن تأخير أي صلاة عن وقتها ولا سيما صلاة العصر حيث ورد أن من تركها كان كمن هلك أهله وماله. وقال بعضهم: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم – كان يعني ما يقول، وإن علينا ألا نصلي العصر إلا إذا بلغنا ديار بين قريظة، ولم يبالوا بخروج الوقت وذلك فهم ترجيع للنهي الثاني على النهي الأول، وهو ترك تأخير الصلاة عن وقتها.
ولم يعنف – عليه الصلاة والسلام – أي فريق من الفريقين لعلمه بوجود إمكانية للاجتهاد في فهم كلامه، وإمكانية بالتالي للاختلاف وقريب من هذا قول الله – تعالى – {استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله، والله لا يهدي القوم الفاسقين}[2] فقد ذكر بعض المفسرين أن لفظ (السبعين) غير مراد لأن العرب تعودت التعبير بسبعين عن الكثرة وعن بلوغ الشيء غايته ومنتهاه، فإذا قال أحد الناس: لا أكلم فلاناً سبعين سنة صار بمنزلة قوله: لا أكلمه أبداً.(/2)
ومثله في الدلالة على الكثرة والتناهي قول الله – تعالى – "ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعاً فاسلكوه"[3]. وقريب منه قوله - صلى الله عليه وسلم-: ((من صام يوماً في سبيل، باعد الله منه جهنم سبعين عاماً)) وفي رواية : "مئة عام" . وفي رواية ثالثة: ((جعل الله بينه وبين النار خندقاً كما بين السماء والأرض))[4]. ورأى عدد من المفسرين أن العدد مراد حيث روي أنه لما مرض عبد الله بن أبي بن سلول جاء ولده إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – وقال : إن أبي قد احتضر، وإني أحب أن تشهده، وتصلي عليه، فانطلق معه رسول الله حتى شهده، وألبسه قميصه، وصلى عليه، فقيل له: أتصلي عليه وهو منافق؟ قال: إن الله قال: إن تستغفر لهم – أي المنافقين – سبعين مرة ، ولأستغفرن له سبعين وسبعين وسبعين"[5] فالزيادة على السبعين تدل على أن الحصر فيها مقصود .
ما الذي يعنيه كل هذا؟ إن الذي يعنيه هو أنه ما دمنا نعتقد أن استخدامنا للغة لن يكون دائماً كاملاً أو حسب المطلوب، وما دمنا نعتقد أن النظام اللغوي بطبيعته يسمح بتعدد الفهم بسبب ما فيه من حقيقة ومجاز وتصريح وكناية وعبارة وإشارة .. فإن علينا أن نجعل من الحرص على التحديد والوضوح شيئاً ملازماً لكل تعبيراتنا، ويأتي في قمة ذلك وضوح التعريفات والمصطلحات، فلو قلت لأي شخص: إن فلاناً – على سبيل المثال – ملتزم، فسيفهم من ذلك أنه على نحو عام متدين، لكن حين نقول: من هو الملتزم؟ أو ما تعريف الالتزام؟ فسنلاحظ وجود غموض شديد في ذلك، وسنختلف كثيراً في تحديد ما يجرح الالتزام، ومالا يجرحه. ولهذا فإن سوء الفهم في حواراتنا وفي أشكال خطابنا، لا يعد حادثاً نادراً، حتى قال أحدهم: إن شرحت وجهة نظرك للناس عشرين مرة، وفهموها كما تريد فأنت محظوظ!
إن العوامل التي تؤدي إلى الاختلاف في الآراء أكثر من أن تحصى, وللحديث فيها فروع وتذييلات كثيرة؛ وحسبك من القلادة ما أحاط بالعنق.
ــــــــــــــــــــــــــ(/3)
[1] أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما.
[2] سورة التوبة: 80.
[3] سورة الحاقة 32.
[4] هذه الروايات كلها صحيحة وثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
[5] انظر تفسير ابن كثير 4/188 وتفسير القرطبي 8/218 ، 219..(/4)
العنوان: التأسيس الفكري (7)
رقم المقالة: 1449
صاحب المقالة: د. عبدالكريم بكار
-----------------------------------------
فَطَرَ اللهُ –عزَّ وجل– النفوسَ على حب الاطّلاع والاستقصاء، فنحنُ كلما اطلعنا على سِرٍ من الأسرار تطلّعنا إلى ما وراءه، في سياقِ فهمٍ لا ينقطع، والتقدمُ البشريُّ على صعيد التراكم المعرفي مَدِينٌ في الحقيقة لهذه الفطرة. ومن الملاحَظ أن فهمَنا للأشياء متوقفٌ على فهمنا للعلاقات التي تربط بينها، كما أنه متوقف -إلى حد بعيد- على فهم امتدادات المسائل والقضايا وأبعادها المختلفة، ولهذا فإن ما نحتاجُ إلى معرفته دائماً كبيرٌ وكثير التشعب.
مصطلح الحَفْر المعرفي مصطلح حديث نسبياً، وهو يعني تتبع الحقائق والبحث عن طبقاتها المكوِّنة لها، ومحاولة العثور على أجوبة للأسئلة الكثيرة التي نطرحُها في مختلف مجالات الحياة.
ولعلي ألامسُ هذه القضيةَ عبر المفردات الآتية:(/1)
1 – لم يكن للحفر المعرفي أي معنى لو كانت الأمورُ واضحةٌ أمامنا تمامَ الوضوح، فالتفكير مسألة شاقة جداً، ولا يلجأ إليه الإنسانُ إلا عند الضرورة، ومن المعروف أن ما متَّعنا الله –تعالى– به من حواس اللمس والشم والذوق والسمع والبصر هي النوافذ التي يطلُّ منها العقلُ على الوجود، وحين تغلق إحدى تلك النوافذ لسبب من الأسباب، فإن المرء يُحرم إدراكَ كل ما يمكن أن يتصل به من خلال تلك النافذة، فالذي يفقِد بصرَه يُحرم رؤيةَ كل ما يراه المبصرون، وحين يكون فقدُ البصر مبكراً جداً –في السنة الأولى من الحياة مثلاً– فإن الكفيف يكون عاجزاً عن تصور ما يحدِّثه الناسُ عنه من الألوان وغيرها. لكن المشكلة ليست مشكلة النوافذ المغلقة فحسب، فهناك أيضاً مشكلة النوافذ المفتوحة، فهناك أشياء كثيرة نؤمن بوجودها إيماناً قاطعاً، ولا نملك أي حاسة لإدراكها، كما هو الشأن في الملائكة والجانّ... وكما هو الشأن في الكهرباء والموجات اللاسلكية... إذن نحن نشعرُ دائماً بالعجز عن ملامسة كل ما نؤمن بوجوده، كما نعجز عن تكوين تصور واضح عنه، وهذا كله يدعونا إلى الاستمرار في البحث والتنقيب لعلنا نعثر على ما ينقع الغُلَّة، ويشفي الصدور. لكن من المهم هنا أن نقول: إن معظم الناس لا يجدون لديهم الطاقةَ الروحية لمتابعة البحث، وطرح الأسئلة، ومحاولة العثور على أجوبة جيدة لها، ولهذا فإن الناسَ كثيراً ما يستسلمون، ويعلنون عجزَهم وجهلهم، وفي بعض الأحيان يروُون ظمأهم إلى الوقوف على الحقيقة من خلال الخرافات التي يبتدعونها، ومن خلال الشائعات والادعاءات التي يتناقلونها، والتي لا تثبت في الغالب أمام أي تمحيص.(/2)
الإنسانُ يحب المعرفةَ، ويكره الغموضَ والفراغ، ولهذا فإنه يملأ الفجواتِ عن طريق إطلاق العنان لخياله كي يوافيه بما يمكن أن يكون جواباً يُقنع بعض الناس على الأقل. وهذا في الحقيقة من أكبر التحديات التي واجهها الناسُ على مدار التاريخ؛ لأن ملء الأدمغة بالعقائد والمعلومات المغلوطة والحقائق المشوَّهة والمكذوبة... يجعل الناسَ لا يشعرون بآلام الجهل، ومن ثم يقعدهم عن البحث عن العلم الصحيح وفهم الأمور على ما هي عليه، وكلما درج الناسُ في سُلَّم الحضارة اكتشفوا خطورة المعلومات المغشوشة والعقائد الزائفة، لكن يبدو لي أن الناس لن يصلوا في يوم من الأيام إلى النقاء العقدي الكامل، ولا إلى الرؤية الفكرية الواضحة والمكتملة؛ والله المستعان.(/3)
2 – الحقيقةُ الواحدةُ تتكون من طبقات، وكلما فقهنا كنه طبقة من طبقاتها واجهتنا متحديةً طبقةٌ جديدة تطرحُ علينا أسئلة جديدة تحتاج إلى بحث وإجابة جديدة، وعلى سبيل المثال يكون بين يديك كتاب، فترفعه، وتسأل: ما هذا الذي بيدي؟ ويكون الجواب: هذا كتاب. ما لون غلافه؟ يقال: أخضر. يفتح الكتاب، ما لون ورقه؟ أصفر. إلى هنا الأسئلة سهلة، والإجابات يسيرة، ووسيلة الإدراك هي النظر. فإذا سألت: في أي علم يتحدث هذا الكتاب؟ قال لك أحد الحاضرين: دعني أنظر فيه. ينظر فيه، ويقول هذا كتاب في الأدب، ونحن نلاحظ أن وسيلة الإدراك هنا ليست النظر فحسب، وإنما خبرة الذي أجاب، ومعرفته بعلم الأدب. ثم تسأل: عن أي عصر من عصور الأدب يتحدث مؤلف الكتاب؟ وهنا نلاحظ أن الجواب يتطلب من الذين ألقي عليهم السؤال نوعاً من المعرفة المسبقة بالكتاب، أو أن يقوم الذي يريد الإجابة بتفحص الكتاب وقراءة بعض صفحات منه، أو الاطلاع على الفهرس. وربما لا يصرح المؤلفُ بذكر العصر الذي يتحدث عن أدبه، وتكون خبرة من يحاول الإجابة محدودة بشعراء العصور الأدبية وبتقسيمات تلك العصور، فلا يعثر على الإجابة المناسبة. وتسأل بعدها: هل هذا الكتاب هو أفضل كتاب عالج العصر العباسي الأول –مثلاً-؟ وسنلاحظ هنا أن الجواب يتطلب معرفة بالكتب التي عالجت أدب ذلك العصر، والقدرة على إجراء المفاضلة بينها، كما يتطلب نوعاً من المعرفة برأي المتخصصين في ذلك الكتاب. ثم تسأل عن الأثر الذي تركه ذلك الكتابُ في طلاب الأدب، وفي المؤلفين الذين كتبوا بعد زمان مؤلفه، وهنا ستجد أن الجواب سيكون معقداً للغاية، وهو يتطلب معرفة واسعة ذات تخصصٍ عالٍ، ويتطلب نوعاً من فهم تاريخ الأدب، كما يتطلب شيئاً من الاجتهاد، فيكون الجوابُ ظنياً وموضعَ جدال. وهكذا سيكون في إمكاننا طرحُ المزيد من الأسئلة التي ربما لا نجد لها أي جواب يُعتمد عليه، بل يمكن أن نطرح سؤالاً لا يجيب عليه أحد، كأن نقول: كم(/4)
عدد الناس الذين قرأوا الكتاب؟ أو كم عدد الأفكار التي نالت الإعجاب، وحفظها القراءُ من ذلك الكتاب؟ إنّ في كل ظاهرة عناصرَ غيبيةً استأثر الله –تعالى– بعلمها، فلا يستطيعُ البشرُ الوقوف عليها أو معرفة كنهها، فنحن دائماً قادرون على طرح أسئلة معجزة ومفحمة لأعلم الناس وأعظمهم دراية.
للحديث صلة.(/5)
العنوان: التأسيسُ الفكري (8)
رقم المقالة: 1549
صاحب المقالة: د. عبدالكريم بكار
-----------------------------------------
الحَفْر المعرفي
حين يتفتح وعيُ الواحد منا على هذه الحياة يكونُ أشبهَ بمن يحاولُ معرفةَ ما بداخل صندوق مغلق، ويقضي بعد ذلك عُمُرَه وهو يحاولُ استيعاب ما في داخل ذلك الصندوق، ويكشفُ في آخر المطاف -وقبل أن يودع هذه الحياة- أنه لم يعرفْ إلا القليل، كما قال سبحانه: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} [الإسراء: 85]، كما أن كثيراً مما عرفه ليس موثوقاً بالقدر الكافي.
ومع كل هذا فليس أمامنا سوى خيار واحد؛ هو متابعةُ البحث والتنقيب عن الحقائق، ثم العمل على ربطها وتحليلها واستخلاص المفاهيم الكبرى والملاحظات الذكية من كل ما يصبح في حوزتنا.
من المهم دائماً أن يعرفَ الباحثون نقاطَ ضعفهم، وأن يعرفوا حدودَ اجتهاداتهم، وطبيعة الرؤى والآراء التي يتوصلون إليها، ومدى قربها من الحقائق المطلقة.
ولعلي أشير هنا إلى بعض ما يساعد على الوصول إلى الحقيقة عبر الحروف الصغيرة الآتية:
1 – مع التقدم العلمي الهائل الذي يشهدُه زمانُنا، ومع سهولة الوصول إلى المعلومات صرنا نشعرُ بشيئين بينهما نوع من التقاطع أو التناقض:
الأول: هو وفرة المعلومات إلى درجة الشعور بالعجز عن الاطلاع عليها، فإذا دخلت على الشبكة العنكبوتية (الإنترنت) وبحثت – مثلاً – عن مسؤوليات الداعية أو المثقف فإنك ستجد مئات المقالات التي تتحدث عن هذا الموضوع، مما يعني أنك ستحصل على كم كبير من المعطيات والأفكار والمفاهيم التي تساعدُك على فهم الموضوع، وهذا شيء إيجابي جداً، لأننا لو عدنا إلى الوراء ستين سنة، فربما لم نجد بلغتنا إلا مقالتين أو ثلاثاً!
الثاني: هو أننا -مع وفرة المعلومات- لا نشعر أننا بلغنا برد اليقين، أو الطمأنينة المعرفية، ولا نشعر أننا فعلاً عرفنا على وجه جيد مهماتِ الداعية ومسؤولياته! لماذا يحدث هذا؟(/1)
إن الكم الهائلَ من الأفكار والمعلومات والمقترحات لا يسيرُ في خط واحد، ولا ينطلقُ من مسلمات واحدة، فهذا باحثٌ يطالب الداعيةَ بأمور ومواقف، لا يطالبُه بها باحثٌ آخر، وتجد باحثاً ثالثاً يُخطّئ الدعاة إذا قاموا بما طالبهم به باحثون آخرون... وهكذا فكثرةُ الأفكار تزيد في حيرتنا، وتجعلُ كل ما نقوله كلامًا مكرورًا سبقنا إليه غيرُنا. هذا يعني أن الحقيقة لا تزداد مع الأيام تألقاً كما يفترضُ بعضُ الباحثين؛ لأن العلوم الإنسانية لا تتقدم كما تتقدم العلوم الطبيعية؛ فعلماءُ النفس مثلاً يصلون إلى إجابات جيدة لكثير من الأسئلة، ولكن تلك الإجابات نفسها تطرح تساؤلات جديدة، تحتاج الإجابة عنها إلى بحث جديد وهكذا... الذي لا يعرف هذه الإشكاليةَ يعتقدُ أن الباحثين اليوم عباقرةٌ ومبدعون، أو يعتقد أنهم أقرب إلى الغباء؛ لأنهم لم يحلوا أي مشكلة من المشكلات، إذن كل المعلومات المتوفرة لن تمنحنا اليقين، ولن تجعلنا نقبض على الحقائق، وإنما ستكون بمثابة الأنوار الكاشفة التي تضيء المكان، وعلينا أن نبصر ونفكر ونعتقد ونرجح، كما كان يفعل السابقون، لكن ربما كانت المساحات التي نراها أوسع من المساحات التي رأوها، وربما نكون قد تخلصنا من بعض الأوهام التي سيطرت عليهم بسبب ضعف تنظيم المعرفة في زمانهم، وبسبب ضآلة ما تراكم منها لديهم؛ لكن هذا لن يعصمَنا من أن نقع في أوهام جديدة، أو نقع في أوهام وقع فيها من سبقنا.(/2)
2 – شيءٌ مهم للغاية أن نحدّد المصطلحات، وأن نوضّح التعريفات، وذلك في كل المسائل التي نتحدث عنها، إذ إن الحفرَ المعرفي من غير ذلك قد يكون في بعض الأحيان جهدًا ضائعًا؛ لأننا لا نعرف بالضبط عن أي شيء نبحث. لو فرضنا أننا حاولنا كتابةَ عدد من البحوث عن العوامل التي تساعد الأمة على النهوض، أو تساعدُها على تحقيق النصر، فإن علينا أولاً أن نقول: ما تعريف النهضة؟ وما الذي نريده بكلمة النصر؟ شباب كثيرون يسألون: متى ستنتصر هذه الأمة؟ وأقول لهم: عن أي نصر تسألون؛ هل تسألون عن النصر العسكري والسياسي أو الصناعي؟ أو تسألون عن النصر في ميادين الزراعة أو التربية أو التعليم أو وحدة الأمة...؟؟
وحين ألقي هذه الأسئلةَ ألمح في وجوههم نوعاً من الحيرة والدهشة؛ إذ انتقلوا من تصور واحد للنصر يتمثل في تحرير فلسطين، أو طرد الأمريكان من أفغانستان إلى تصور معقد غاية التعقيد.
وألاحظُ أحياناً وكأن السائلَ قد تراجع عن سؤاله؛ لإدراكه أن الجواب عنه قد يحتاج إلى كتاب أو كتب.
مسألة التعريفات ذات أهمية بالغة؛ لأن التعريف يقدِّم في بعض الأحيان تلخيصاً لرؤى كبرى ومعقدة، وكلنا يعرف الجدل الذي أثاره مصطلح (تقدُّمي) ومصطلح (رَجْعي) والجدل الذي يدور اليوم حول مفهوم (المواطن الصالح) و(الإنسان الحر) و(الإنسان المعاصر)....(/3)
الناس يهرُبون عادةً من الحديث في التعريفات والمصطلحات وكل المفاهيم المحدَّدة؛ لأنهم يكشفون قصورَهم وعجزهم حيالَ بلورتها على النحو الصحيح، وأحياناً يفرّون لأن وضوحَها يُحمِّلهم مسؤوليات وتبعات أخلاقية وقانونية، لا يرغبون في تحملها، وهذا ما يفعله اليهودُ في فلسطين تجاه توصيف وجودهم في الأراضي الفلسطينية، وهذا ما تفعله أمريكا تجاه تعريف (الإرهاب) وتجاه توصيف الوضع القانوني والحقوقي للمعتقلين في (جوانتنامو)، ولهذا فإنك لا تلحظ أي تقدم في هذه المسائل. وقد كان علماؤنا السابقون على وعي شديد بهذه المسألة، لهذا فإنهم في كثير من أبواب الفقه وغيره كانوا يعرِّفون الشيء في اللغة والاصطلاح.
إن التعريفات والمصطلحات والمفاهيم هي بداية الانطلاق في أي بحث علمي جاد، ووضوحها هو أساس للتقدم نحو إدراك الحقائق ونحو بناء الأرضيات المشتركة بين المختلفين والمتنازعين، ولهذا فإنها حَرِيَّة بكل عناية واهتمام.
للحديث بقية.(/4)
العنوان: التأصيل الإسلامي لعلم النفس
رقم المقالة: 432
صاحب المقالة: د. عبدالله بن ناصر الصبيح
-----------------------------------------
مراجعة نقدية:
مضى زمن طويل على نشأة الدعوة إلى علم نفس إسلامي، فمنذ أن نشر محمد عثمان نجاتي كتابه عن الإدراك الحسي عند ابن سينا عام 1949م ثم نشر بعده عبدالكريم العثمان كتابه عن ((الدراسات النفسية عند المسلمين)) عام 1962م والدعوة إلى تأصيل علم النفس إسلامياً يتردد صداها في أروقة البحث العلمي. وفي السنوات الأخيرة زادت العناية بهذا الموضوع وتطورت الدعوة إلى حركة واسعة صار لها أدبياتها الخاصة بها، وأصبح التأصيل مقرراً يدرسه طلاب علم النفس في أكثر من جامعة، ونشأت جمعيات وروابط علمية ومؤسسات تعنى بالتأصيل[1]، وأقيم كذلك عدد من المؤتمرات العلمية[2] لهذه الغاية. أما البحوث والكتب التي نشرت فهي كثيرة ولاسيما بعد عام 1400هـ، إذ حجم ما نشر بعد هذا العام يفوق جميع ما نشر من قبل بأضعاف مضاعفة. وحسب دراسة نشرها محمد عبدالله الغامدي (1400هـ) بلغ ما نشر من بحوث ودراسات حول التربية الإسلامية قبل عام 1400هـ 525 بحثاً، كان منها 70 عنواناً عن علم النفس. وفي قائمة ببلوجرافية منتقاة لمحيي الدين عطية (1416هـ) عما نشر من بحوث وأطروحات ومقالات باللغة العربية عن تأصيل العلوم السلوكية (علم النفس وعلم الإنسان وعلم الاجتماع) في ست سنوات تقريباً فيما بين عامي (1400 – 1406هـ) فقط بلغت 302 عنواناً، منها 64 عنواناً خاصاً بعلم النفس.
هذه الحركة الواسعة تحتاج بين الفينة والأخرى إلى دراسة نقدية تقوم مسارها وترسم معالم مستقبلها. والدراسات النقدية المنشورة عنها (لا زالت) نادرة، ورغم البحث الدؤوب لم يستطع الباحث الحصول على دراسة نقدية حديثة لحركة التأصيل الإسلامي. ومن هنا جاءت هذه الدراسة لتسد ثغرة في مجال نقد حركة التأصيل.(/1)
إن حركة التأصيل الإسلامي لعلم النفس تشعبت مع تشعب فروع علم النفس، ومن العسير التناول النقدي الشامل لجميع جوانبها في بحث موجز كهذا، ولهذا سوف يقتصر هذا البحث على ما قدم في حركة التأصيل في خمس قضايا هي:
1 - مشكلة المصطلح وتطوره.
2 - نظرية المعرفة.
3 - نقد علم النفس الغربي.
4 - مفهوم النظرية في التأصيل الإسلامي لعلم النفس.
5 - شروط التأصيل الإسلامي لعلم النفس.
وهذه القضايا الخمس بمثابة المقدمات الضرورية لعملية التأصيل في علم النفس، وسلامة التصور فيها شرط لسلامة التأصيل ذاته.
مشكلة المصطلح وتطوره:
من أولى المعضلات التي يعاني منها المشتغلون بالتأصيل مسألة الاسم ودلالته، فعبر أكثر من نصف قرن تعددت المصطلحات التي استعملها الباحثون في التعبير عن إعادة صياغة علم النفس صياغة إسلامية كما تعددت أيضاً تصوراتهم حول هذه المهمة، وقد أحصى كمال مرسي (غ م) أربعة مصطلحات شاع استعمالها بين الباحثين وهي:
1 - علم النفس الإسلامي.
2 - أسلمة علم النفس أو إسلامية علم النفس.
3 - التأصيل الإسلامي لعلم النفس.
4 - التوجيه الإسلامي لعلم النفس.
وقد أضاف الباحث مصطلحاً خامساً استعمله بعض الباحثين وأصبح اسماً مكرراً في بعض الجامعات، وهذا المصطلح هو:
5 - التفسير الإسلامي للسلوك.
وهذا عرض لكل مصطلح على حدة، وبيان المقصود به كما يعني عند من يستعمله ثم مناقشة لهذا المفهوم وبيان موقف الباحثين الآخرين منه.
1 – علم النفس الإسلامي:(/2)
ليس واضحاً لدينا من أول من استعمل هذا المصطلح، ولكن فيما بين يدي الباحث من مراجع يجد أن أول من استعمله هو محمد عثمان نجاتي في تقديمه لكتابه ((الإدراك الحسي عند ابن سينا)) المنشور عام 1948م، ولا يجد الباحث تعريفاً واضحاً عنده لهذا المصطلح، ويبدو أنه يقصد به التراث النفسي الموجود في الحضارة الإسلامية، وإن صح هذا فدلالته عنده لا تتجاوز الدلالة التاريخية. أما أول من نجده حاول تعريف هذا المصطلح فهو أحمد فؤاد الأهواني في تقديمه لكتاب عبدالكريم العثمان (1981م) ((الدراسات النفسية عند المسلمين))، الذي صدرت طبعته الأولى عام 1962م، وحدده بأنه فرع علم النفس الذي يدرس السلوك الإسلامي، فهو إذن لا يعدو عنده عن أن يكون فرعاً من فروع علم النفس الديني. يقول الأهواني: "وما دمنا قد أفسحنا المجال لدراسة الظواهر الدينية نفسانياً، فلا غرابة أن نقول بوجود علم نفس إسلامي، كما نقول بوجود علم نفس بوذي أو نصراني، لاختلاف خصائص كل دين من هذه الأديان"(ص5).
وقد استعمل هذا المصطلح محمد رشاد خليل (1407م) في الدلالة على مفهوم مضاد تماماً للمفهوم الذي استعمله له الأهواني، فإذا كان علم النفس الإسلامي عند الأهواني أحد فروع علم النفس الديني فهو عند خليل ذو هوية مستقلة عن علم النفس الغربي، بل إن خليلاً يرفض التسليم بوجود علم نفس إذا لم يكن قائماً على أصول إسلامية، فعلم النفس القائم الآن ذو المنزع الغربي مرفوض عند محمد رشاد خليل ولا يستحق أن يطلق عليه هذا الاسم ((علم النفس)).(/3)
هذا عن المصطلح واستعمالاته، أما عن مواقف الباحثين منه فقد تباينت فمنهم من رفض المصطلح نفسه ومنهم من تحفظ على محتوى المصطلح أو دلالته. والمعنى الذي قصد إليه الأهواني مرفوض عند كثير من الباحثين ولاسيما بعد تطور مفهوم علم النفس الإسلامي، فلا أحد الآن من المعنيين بعلم النفس الإسلامي يقبل أن يكون ما يسعى إليه هو مجرد فرع لعلم النفس الديني هدفه دراسة السلوك الديني فقط، بل لا يرضى أن يكون فرعاً من فروع علم النفس الحديث لاختلاف المناهج والأهداف والتصورات المعرفية عند كل منهما. ويرى هؤلاء – كما سوف نرى في استعراض بقية المصطلحات – أن ما يسعون إليه يهدف إلى تصحيح علم النفس القائم فكيف يكون فرعاً له.
والبعض ينازع في صفة ((الإسلامي)) فلا يرى أن تضاف إلى علم النفس ويرى هؤلاء أن لا معنى لتخصيص هذا الفرع من فروع المعرفة بالإسلام، ويسألون في عجب قائلين: ترى هل معنى ذلك أن فروع المعرفة الأخرى التي لم توصف بالإسلامية كافرة؟(/4)
وإذا كان التحفظ على المعنى الذي ذكره الأهواني يحظى الآن بالقبول من المشتغلين بالتأصيل فإن التحفظ الذي ذكره من ينازع في وصف علم النفس بـ((الإسلامي)) لا زال موضع جدل بين الباحثين. ويرى الباحث أنه مع التسليم بوجاهة الاعتراض إلا أنه لا يرى مانعاً في الوقت الحاضر من استعمال مصطلح ((علم النفس الإسلامي)) علماً على ما تنتجه حركة التأصيل وعلى ما تسعى إليه. والمبرر لهذا ظرفي فقط، وإذا زال زال معه الحكم. حقيقة لا يوجد علم كافر وآخر مسلم، وإنما توجد نظريات صائبة وأخرى خاطئة، والأصل في العلم أن يكون صواباً متفقاً مع الشريعة، وإذا كان يعارضها فقد انتفت عنه صفة العلمية، وانحط إلى رتبة الجهل أو الضلال والهوى – أي إنه لم يعد علماً قط. ومن ثم فلا معنى لتمييز علم عن آخر بوسم الإسلامي؛ هذا هو الأصل، أو هو ما ينبغي أن يكونز ولكن الواقع بخلاف ذلك، حيث إننا نجد علماً بل علوماً مبنية على تصورات منحرفة معارضة للشريعة الإسلامي ومع ذلك لم يسلبها ذلك صفة العلمية عند الكثير بل إنها تدرس في بلاد المسلمين ودور علمهم بصيغها المنحرفة، وبما أن التصور البديل لا زال طفلاً يحبو والتصور الغالب هو التصور المنحرف فلابد من تمييز هذا الوليد الناشئ عن التصور السائد. وهذه التسمية ليس هدفها تمييز تصور عن آخر فحسب، وإنما لها وظيفة أخرى هي أنها إصبع اتهام مشهور على علم النفس الآخر، لا يزال يذكر بخطئه وينادي بالبديل عنه. لهذا لا يرى الباحث في الوقت الراهن مانعاً من استعمال مصطلح ((علم النفس الإسلامي)) عَلَمَاً على علم نفس جديد يبنى على أسس إسلامية. هذا فيما يتعلق بالمصطلح، أما فيما يتعلق بما يراه محمد رشاد خليل من رفض علم النفس الغربي جملة وتفصيلاً ونفي صفة العلمية عنه، فهذه مبالغة لا تثبت أمام النقد العلمي لأن علم النفس الغربي ليس خطأ صرفاً، وسوف يناقش الباحث المقبول والمردود من علم النفس فيما بعد ضمن الحديث عن نقد علم(/5)
النفس الغربي.
2 – أسلمة علم النفس:
في منتصف السبعينات الميلادية ألقى الشيخ جعفر إدريس محاضرة باللغة الإنجليزية في مؤتمر العلماء الاجتماعيين المسلمين دعا فيها إلى أسلمة العلوم، فكان من أوائل من استعمل هذا المصطلح. أما الذي نشره فهو المعهد العالمي للفكر الإسلامي مع شيء من التحوير، حيث أصبح المصطلح أسلمة المعرفة بدلاً من العلوم. وقد عقد المعهد عدداً من المؤتمرات واللقاءات والندوات تحت هذا الشعار، من أهمها المؤتمر المعقود في كراتشي بباكستان تحت عنوان إسلامية المعرفة عام 1402هـ. وقد لقي هذا المصطلح جدلاً عريضاً واعتراضات متعددة منها:
1 – أسلمة لغة خطأ؛ فأسلم يأتي متعدياً بمعنى فوض، تقول: اسلم أمره إلى الله أي سلّمه (الفيروزآبادي، ص. 1448). وبمعنى خذله، تقول: أسلمه للعدو أي خذله (الفيروزآبادي، ص. 1448). ويأتي ((أسلم)) لازماً ويكون بمعنى انقاد وصار مسلماً (الفيروزآبادي، 1413، ص. 1448)؛ وبمعنى أسلف، جاء في مختار الصحاح لمحمد بن أبي بكر الرازي ((أسلم في الطعام: أسلف فيه)) (ص311).
وأسلمة علم النفس بالمعنى الذي يستعملونه له لا يتفق مع أي من الفعلين. ومن يستعمل مصطلح ((أسلمة)) يقصد بها صياغة علم النفس صياغة إسلامية، وهذا لا يصح لغة لأنه يستعمل الفعل المتعدي بمعنى الفعل اللازم، وهو خطأ كما سبق. ولعل سبب هذا الخطأ هو الترجمة، فالأسلمة هي ترجمة للكلمة الإنجليزية Islamization. وهي على كل حال كلمة محدثة في اللغة الإنجليزية ومشتقة من كلمة إسلام العربية.(/6)
2 – والبعض يخطئ المصطلح حتى من الناحية المعنوية، فمقداد يالجن (1407هـ) في ورقته التي قدمها إلى ندوة التأصيل وكذلك قسم التربية في كلية العلوم الاجتماعية (1407هـ) في ورقته التي قدمها إلى الندوة نفسها يرى أن العلوم لا توصف بالإسلام لأن الإسلام يقتضي إرادة واختياراً من المسلم، والعلوم جامدة لا إرادة لها ولا اختياراً، ولهذا لا توصف بإسلام ولا كفر.
هذا من حيث الاستعمال اللفظي، أما من حيث دلالة المصطلح وما يقصد به فعرف إسماعيل الفاروقي (1986م) الأسلمة بأنها:
((إعادة صياغة المعرفة على أساس من علاقة الإسلام بها، أي إعادة تحديد وترتيب المعلومات، وإعادة النظر في استنتاجات هذه المعلومات وترابطها وإعادة تقويم النتائج، وإعادة تصور الأهداف، وأن يتم ذلك بطريقة تمكن من إغناء وحدة قضية الإسلام)) (ص54).
وتعريف إسلامية المعرفة عند المعهد لا يختلف عن تعريف الفاروقي، فهي عند المعهد جزء من عملية أكبر هي الأسلمة أو الإسلامية التي هي منهاج للحياة، وإسلامية المعرفة تحديداً عند المعهد هي ((جانب أساس وأولي في بنائها (الإسلامية) ويختص بالفكر والتصور والمحتوى الإنساني القيمي والفلسفي، وكيفية بنائه وتركيبه وعلاقاته في العقل والنفس والضمير)) (ص77).
وجعفر إدريس (1987م Idris) حدد مفهوم أسلمة العلوم بأنه بناؤها على أصول الإسلام الثابتة والتقيد بالأخلاق الإسلامية في البحث.
وهذه المعاني والتعريفات متداخلة ويؤازر بعضها بعضاً ولا غبار عليها.
3 – التأصيل الإسلامي لعلم النفس:(/7)
في عام 1407هـ عقدت ندوة تحت اسم التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية في مدينة الرياض في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، واعترض على المصطلح باعتبار أن تأصيل علم النفس هو البحث عن أصول شيء موجود، وهذا لا ينبغي، لأن الموجود من علم النفس يعارض الإسلام فلا يصلح بحث أصول له في الإسلام. ويرى المعترضون أنه حتى لو سلمنا أن لا بأس في البحث عن أصول إسلامية لعلم النفس فهذا لا يكفي، إذ لابد من إيجاد بدائل وتصورات جديدة في علم النفس متفقة مع الإسلام، ولهذا فهم يرفضون المصطلح. ورغم أن ندوة جامعة الإمام عقدت تحت عنوان التأصيل الإسلامي إلا أن هذا الاسم انتقد واقترح بديلاً له ((التوجيه الإسلامي لعلم النفس)). وكان لهذا الاقتراح أثره حيث أصبحت هذه المادة تقدم في الجامعة المذكورة تحت هذا الاسم. وهذه الملاحظات لم تمنع بعض الباحثين ممن شاركوا في الندوة كإبراهيم رجب (1412؛ 1416هـ) ومحمد عثمان نجاتي (1411هـ) وصالح الصنيع (1416هـ) من استعمال هذا المصطلح فيما نشروه من بحوث وكتب بعد ذلك.
والذي يبدو أن ما ذكر من ملاحظات على مصطلح التأصيل تحتاج إلى إعادة نظر؛ فالتأصيل معناه وضع أصل ولا يلزم منه أن يكون لما هو موجود فربما كان لما لم يوجد. وإذا صح هذا المعنى فلا وجه حينئذ للاعتراض السابق.
هذا عن المصطلح من الناحية اللغوية أما من الناحية الاصطلاحية فعرفه نجاتي (1411هـ) وإبراهيم رجب (1412هـ) بتعريفين متقاربين، وهذا تعريف نجاتي:
((نقصد بالتأصيل الإسلامي لعلم النفس إقامة هذا العلم على أساس التصور الإسلامي للإنسان، وعلى أساس مبادئ الإسلام وحقائق الشريعة الإسلامية، بحيث تصبح موضوعات هذا العلم وما يتضمنه من مفاهيم ونظريات متفقة مع مبادئ الإسلام أو على الأقل غير متعارضة معها)) (ص25 – 26).(/8)
أما أهداف التأصيل عنده فهي الكشف عن آيات الله تعالى وسننه في الإنسان ومعرفة المنهج الأمثل لحياته مما يحقق له السعادة في الدنيا والآخرة، ومعرفة أسباب انحراف الإنسان عن الحياة المثلى السوية (نجاتي، 1411هـ).
أما تعريف إبراهيم رجب (1412هـ) للتأصيل فهو:
((بلورة أبعاد التصور الإسلامي للإنسان والمجتمع والكون واستخدام هذا التصور كأساس معرفي تنطلق منه العلوم الاجتماعية ليكون موجهاً لنظرياتها ومفسراً لحقائقها ومشاهداتها التي ثبتت صحتها بالتجربة أو الدليل العلمي المحقق)) (ص51).
وفي بحث لاحق عرف إبراهيم رجب (1416هـ) التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية بأنه:
((عبارة عن عملية إعادة بناء العلوم الاجتماعية في ضوء التصور الإسلامي للإنسان والمجتمع والوجود، وذلك باستخدام منهج يتكامل فيه الوحي الصحيح مع الواقع المشاهد كمصدر للمعرفة، بحيث يستخدم ذلك التصور الإسلامي كإطار نظري لتفسير المشاهدات الجزئية المحققة والتعميمات الإمبريقية (الواقعية) وفي بناء النظريات في تلك العلوم بصفة عامة)) (ص41).
وعرفت لجنة التأصيل الإسلامي (1407هـ) في جامعة الإمام محمد بن سعود التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية بأنه:
((تأسيس تلك العلوم على ما يلائمها في الشريعة الإسلامية من أدلة نصية أو قواعد كلية أو الاجتهادات مبنية عليها، وبذلك تستمد العلوم الاجتماعية أسسها ومنطلقاتها من الشريعة ولا تتعارض في تحليلاتها ونتائجها مع الأحكام الشرعية، ولا يعني ذلك بطبيعة الحال أن تدخل العلوم الاجتماعية في إطار العلوم الشرعية وإنما المهم ألا تتعارض معها ولا تتعارض عملية التأصيل بهذا المفهوم العام مع أي تقدم علمي وتطور منهجي لا يناقض المنهج الإسلامي على أساس أن الإسلام دعا إلى العلم وحث عليه)).(/9)
وواضح من التعريفات السابقة أنه لا يوجد بينها كبير فرق وإن كان تعريف رجب الأخير أكثر دقة في التعبير عن المعنى المراد وخلواً من المترادفات. وواضح أن قول نجاتي ((بحيث تصبح موضوعات هذا العلم وما يتضمنه من مفاهيم ونظريات متفقة مع مبادئ الإسلام أو على الأقل غير متعارضة معها)) لا داعي له وهو تكرار لما سبق في تعريفه، وكذلك تعريف لجنة التأصيل فيه تكرار لا حاجة له، والجزء الأساس في التعريف هو قول اللجنة:
((تأسيس تلك العلوم على ما يلائمها في الشريعة الإسلامية من أدلة نصية أو قواعد كلية أو اجتهادات مبنية عليها))
وما ورد بعد ذلك في تعريف اللجنة هو إعادة لهذا المعنى ولكن بعبارات أخرى.
4 – التوجيه الإسلامي لعلم النفس:
اقترح هذا المصطلح فؤاد أبو حطب أولاً في ندوة علم النفس والإسلام التي عقدت في جامعة الملك سعود في الرياض عام 1398هـ، ولكن لم يتلق بالقبول يومئذ، ثم اقترحه في ندوة التأصيل الإسلامي لعلم النفس التي عقدت في جامعة الإمام محمد بن سعود عام 1407هـ في الرياض أيضاً، فقبل. كما طرح الفكرة نفسها تقريباً باحثون آخرون في أوراق قدموها إلى الندوة نفسها.(/10)
ومفهوم الوجهة عند فؤاد أبو حطب (1412هـ) مرادف للمصطلح الإنجليزي Paradigm، وهو مصطلح تعود أصوله إلى توماس كون أحد فلاسفة العلم المعاصرين. وكون في نظريته يرى أن التقدم العلمي لا يتطور من خلال التراكم ولكن من خلال نشأة ما يسميه بالأطر المعرفية التي تكون بديلاً للأطر المعرفية القديمة التي أصبحت في طور أزمة crisis. والإطار المعرفي عند كون سابق على العلم ويؤثر فيه ويوجهه. وهو يتكون من الالتزامات العقلية والاتجاهات الأيديولوجية لدى جماعة من العلماء الذين يتسمون بالتشابه المعرفي. وفؤاد أبو حطب يشتق من هذه العملية مصطلح التوجيه الإسلامي لعلم النفس. وإذا كان تصور كون في مجمله مقبولاً، إذ من المسلم به الآن أن العلم يستند إلى أطر معرفية ومسلمات، فإن ما بناه فؤاد أبو حطب على هذه المسلمة وهو اشتقاقه من هذا العمل اسماً للحركة العلمية كالوجهة أو التوجيه لا ينهض دليلاً كافياً لإلغاء المصطلحات الأخرى وحصر الصواب في هذا المصطلح. وقياساً على رأي أبو حطب ينبغي أن نقول التوجيه السلوكي لعلم النفس بدلاً من المدرسة السلوكية أو التوجيه الإنساني بدلاً من المدرسة الإنسانية أو التوجيه التحليلي بدلاً من مدرسة التحليل النفسي، وهذا لم يقع. نعم طبيعة العمل الذي تسعى إليه كل مدرسة من هذه المدارس هو إيجاد وجهة كما سبق، ولكن التسمية شيء آخر. وعلى هذا فلا يرى الباحث حصر التسمية في الوجهة أو التوجيه كما يرى ذلك فؤاد أبو حطب، كما لا يرى أن هذه التسمية أولى من غيرها.
هذا فيما يتعلق بالاسم أما فيما يتعلق بالمحتوى فإن معنى التوجيه لا يختلف عند أصحابه عن معنى التأصيل والأسلمة؛ فدلالة المصطلحات الثلاثة واحدة.
5 – التفسير الإسلامي للسلوك:(/11)
هذا اسم اقترحه البعض، وهو اسم لمقرر في بعض الجامعات السعودية، والمآخذ التي يمكن أن تؤخذ على مصطلح ((علم النفس الإسلامي)) وذكرت هناك في أثناء مناقشة المصطلح يمكن أن تقال هنا والجواب الذي ذكر هناك يمكن أن يذكر هنا. والفرق بين المصطلحين هو أن ((علم النفس الإسلامي)) يبدو أدق في التعبير عن حركة التأصيل من ((التفسير الإسلامي للسلوك))، كما أن المصطلح الأخير عام لا يخص علم النفس فقط، بل يمكن أن يكون التفسير النفسي الإسلامي أو الاجتماعي الإسلامي، وهذا قيد آخر لابد من إضافته إذا أريد استعمال هذا المصطلح في علم النفس.(/12)
والخلاصة هي أنه بالرغم من أنه لا زال بين الباحثين جدل حول اسم هذه الحركة، إلا أن ملامحها بدأت تتضح وتصبح موضع قبول عند كثير منهم. إن علم النفس الإسلامي ليس فرعاً من فروع علم النفس الديني، وموضوعه ليس فقط دراسة السلوك الديني عند المسلمين أو التراث النفسي في الحضارة الإسلامية، وليس مجرد تفسير الآيات والأحاديث التي لها علاقة بالنفس، ولا و أيضاً رفض كل ما هو موجود في علم النفس المعاصر. إن الواضح من التعاريف التي سلفت هو أن علم النفس الإسلامي أو التأصيل الإسلامي عملية لا تعني إلغاء علم النفس أو العلوم الاجتماعية، وإنما تعني إعادة بنائها وفقاً للتصور الإسلامي، كما تعني أيضاً التزام الخلق الإسلامي في البحث وفي مسار العلم فلا يوجه وجهة تخالف الشريعة أو تضر بالمجتمع بأي وجه من الوجوه. وهذا القيد لا يقل في أهميته عن القيد الأول، وإذا كان القيد الأول يعني بالأصول النظرية للعلم فإن هذا يعنى بتطبيقات العلم. هذا فيما يتعلق بالمحتوى أما فيما يتعلق بالاسم فأي اسم اتسعت له اللغة وكان معبراً عن أهداف حركة التأصيل الإسلامي لعلم النفس يجوز استعماله ولا مشاحة في الاصطلاح. وعلى هذا يرى الباحث أن مصطلحات علم النفس الإسلامي أو التأصيل الإسلامي أو التوجيه الإسلامي كلها مصطلحات جائزة ممكنة الاستعمال من ناحية اللغة ومن ناحية المعنى، ولا حرج في استعمال أي منها.(/13)
والتحدي الذي يواجه المعنيين بالتأصيل في المستقبل هو التحدي الذي يواجههم الآن، وهو زيادة العناية بتحديد مفهوم التأصيل في جانبيه النظري والعملي. إن تحديد الأسس العلمية التي يجب أن يبنى عليها التأصيل، والضوابط الأخلاقية التي تضبط مسار العلم فلا يخرج عن نفع الإنسان إلى ضده ركيزتان من ركائز التأصيل الإسلامي لعلم النفس بل العلوم الاجتماعية عامة. وحركة التأصيل الإسلامي لعلم النفس مدعوة إلى استكمال هذين الجانبين. وتقويم ما قدمته حركة التأصيل فيما يتعلق بالحديث عن نظرية المعرفة وشروط التأصيل وهذا ما سوف يتطرق له البحث فيما يأتي إن شاء الله تعالى.
نظرية المعرفة:
العلوم العامة ومنها العلوم الاجتماعية تخضع لأطر تحدد مجالات بحثها ومناهجها، ومنها تستمد المسلمات التي تستند إليها. وهذه الأطر هي من نوع المسلمات التي يتلقاها الباحثون عادة بالتسليم ولا يعرضون لها بنقاش، بل ربما لا يشعرون بهيمنتها عليهم وتحكمها في أنماط تفكيرهم. والمناسبات التي يقف فيها الباحثون متسائلين عن جدوى الإطار الذي يحكم مسيرتهم العلمية قليلة، ولا تكون عادة كما يرى كون (1970م، Kuhm) إلا في حال واحدة: عندما يعجز الإطار المعرفي عن تفسير بعض الظواهر التي يدرسها أو يعجز عن الإجابة على بعض الإشكالات العلمية التي تثور في أثناء البحث. ومع شعور عدد من دارسي التأصيل بقصور الأطر المعرفية التي تنطلق منها العلوم الاجتماعية في الغرب عن الوفاء بحاجاتهم وتحقيق أهدافهم في التأصيل، اتجهوا إلى زعزعة هذه الأطر والمسلمات والبحث في نظرية المعرفة نفسها وكان التصور الذي يقودهم إلى هذا البحث هو هل نظرية المعرفة التي تستند إليها العلوم الوافدة من الغرب تتفق مع المفهوم الإسلامي لنظرية المعرفة؟(/14)
من الذين بحثوا هذه القضية جعفر شيخ إدريس (1411هـ) في محاضرة ألقاها في مؤسسة الملك فيصل الخيرية عام 1407هـ، وانتهى إلى أن الإطار الذي تنطلق منه العلوم الإنسانية إطار إلحادي مادي يؤمن بالمادة ويحصر مناهجه في المحسوس فقط. وبحث القضية أيضاً إبراهيم رجب (1412؛ 1416هـ) وانتهى من خلال المنهج التاريخي الذي استعمله إلى أن المنهج السائد الآن يستند إلى ظروف الصراع المرير الذي نشأ في أوروبا بين الكنيسة والعلم، فبسبب هذا الصراع فقط استثنى الباحثون الدين من ميدان بحثهم وقصروا بحوثهم على العالم المادي المحسوس لاغير، ونسبوا ذلك إلى العلم، وسموا هذا العمل بحثاً علمياً وما توصلوا إليه حقائق علمية.
ويتفق مع هذين الباحثين عدد ممن كتب في نظرية المعرفة ك عبدالرحمن الزنيدي (1412هـ) في دراسته المقارنة عن مصادر المعرفة في الفكر الديني والفلسفي في ضوء الإسلام، وراجح الكردي (1412هـ) في دراسته عن نظرية المعرفة بين القرآن والفلسفة.
ومن التحديات التي تواجه الباحثين في التأصيل تحديد مسلمات الإطار الإسلامي وتوظيف هذه المسلمات في البحث العلمي توظيفاً يرفع التناقض من ذهن الباحث المسلم. ومحمد عثمان نجاتي (1411هـ) ممن حاول تحديد المسلمات التي يرى أنها تحكم الإطار المعرفي الإسلامي فذكر منها أركان الإيمان ما عدا الإيمان بالقضاء والقدر وذكر منها وحدة الحقيقة وطبيعة الإنسان الثنائية وأن الإنسان خُلق خيّراً ذا إرادة واختيار وأن القرآن والسنة مصدران أساسيان لمعلوماتنا اليقينية عن الإنسان[3].(/15)
والمسلمات التي هي موضع اتفاق عند عدد من الباحثين في التأصيل (1987م Idris، أبو حطب 1413هـ، تجاتي 1411هـ، الصنيع، 1416هـ) هي وحدة الحقيقة، فلا توجد حقيقة علمية وأخرى دينية؛ فإما أن تكون الحقيقة علمية أو لا تكون بغض النظر عن مصدرها، والمسلمة الأخرى هي أن الكتاب والسنة مصدر ثابت للحقائق العلمية. والتحدي الذي يواجه المشتغلين بالتأصيل هو الجمع بين ما جاء في القرآن وما ثبت عن طريق العلم، أو هو توظيف هاتين المسلمتين في البحث العلمي.
والقول بوحدة الحقيقة واعتبار الوحي مصدراً يقينياً لها يجعل عالم النفس أمام ثلاثة أسئلة ضخمة، هي:
1 - هل يتعارض اتخاذ الوحي مصدراً للحقيقة مع دعوى الموضوعية في علم النفس وبقية العلوم الاجتماعية.
2 - كيف يستطيع عالم النفس أو الباحث في العلوم الاجتماعية عامة دفع التعارض إن وجد بين ما ثبت عن طريق الوحي وما ثبت عن طريق هذه العلوم؟
3 - كيف يستطيع الباحث الربط بين المفاهيم النفسية الشرعية ومقابلاتها من المفاهيم التي جاءت عن طريق علم النفس أو غيره من العلوم الاجتماعية؟
وقد حاول المشتغلون بالتأصيل الإجابة على هذه التحديات الثلاثة بما يأتي:
فيما يتعلق بالسؤال الأول: فقد ناقشه عدد من الباحثين، منهم محمد امزيان (1412هـ)، الذي ناقش مفهومي الوضعية والمعيارية في البحث الاجتماعي، وبيّن الخلفية التاريخية والفلسفية لنشأة مفهوم الوضعية في الفكر الغربي؛ وكذلك جعفر شيخ إدريس (1408هـ) في مقال نشره في مجلة المسلم المعاصر ناقش فيه دعوى التعارض بين إسلامية العلوم وموضوعيتها. وقبل عرض ما توصل إليه الباحثون في هذه المسألة يجب تحديد المقصود بالموضوعية في العلوم الاجتماعية.(/16)
مصطلح الموضوعية في العلوم الاجتماعية بدأ مع كونت (امزيان، 1412هـ) حينما دعا إلى تقسيم المعارف إلى ذاتية معيارية ووضعية أو وصفية تقديرية، والأخيرة فقط هي التي تستحق الوصف بالعلمية عنده. والعلوم الاجتماعية توصف بأنها علوم موضوعية لأنها تهتم بما هو كائن لا بما ينبغي أن يكون، والمنهج الذي تنتهجه هو المنهج الوصفي التقديري، الذي يصف الظاهرة كما هي في الواقع. وحينما توصف بأنها موضوعية فلأنها ترفض الأحكام المسبقة سواء كان مصدرها الدين أو سواه. ولهذا يلح الباحثون في العلوم الاجتماعية على تجرد الباحث من كل فكرة سابقة تؤثر عليه في توجيه بحثه. وهذا المطلب أصبح الآن موضع نظر عند كثير من الباحثين الغربيين بعد التطور الذي حصل في الفيزياء، فنظرية هايزنبرج مبدأ عدم اليقين (Uncertainty Principle) ألقى ظلالاً من الشك حول الموضوعية الصارمة. وموجز هذا المبدأ كما شرحه هايزنبرج هو أنه يستحيل على الباحث تحديد موقع الإلكترون وسرعته في وقت واحد (محمود زيدان، 1982م). ولهذا فمحمد امزيان (1412هـ) وجعفر إدريس (1408هـ) كلاهما يقرران أن الباحث يستحيل عليه أن يخلي ذهنه تماماً من الاعتقادات والميول والأفكار السابقة، كما يقرران أيضاً أن الإطار المرجعي لهذه العلوم هو إطار إلحادي مادي معاد للدين. ويقرر جعفر أن أمامنا إذن إطارين فلسفيين يمكن أن توضع فيهما العلوم الاجتماعية: أحدهما هو الإطار الغربي وهو إطار إلحادي مادي كما سبق، وثانيهما هو الإطار الإسلامي المستند إلى الوحي، والباحث مجبر على أن يأخذ أحدهما. وإذا كان الأمر كذلك فما المقصود بالموضوعية؟ يقرر جعفر شيخ إدريس أن الموضوعية إذا كان المقصود بها هو أن يكون الباحث مستعداً لقبول ما دلت عليه المشاهدة وما كان نتيجة لازمة للتجربة أو لازماً عقلياً من لوازمها وأن يكون أميناً في نقل النتائج التي توصل إليها حتى لو خالف ذلك اعتقاداً سابقاً له، إذا كان هذا هو(/17)
المقصود بها فإن هذا لا يتعارض مع إسلامية العلوم واتخاذ الوحي مصدراً للمعرفة.
ويقرر جعفر شيخ إدريس (1408هـ) أن ما يعترف به الإطار الإلحادي من حقائق ليس شيئاً خاصاً به أو ناتجاً عنه وحده، وإنما هو أمر مشترك بينه وبين الإطار الإيماني لأنه ليس في الإطار الإيماني ما يمنع من إدراك أية حقيقة تدرك في حيز الإطار الإلحادي (ص16).
أما ميزة الإطار الإيماني كما يرى جعفر فهي أنه إطار العقل الكامل، أي إنه ((يساعد على إدراك حقائق ومؤثرات وتفسيرات أخرى لها نتائج نافعة في حياة الناس العلمية والعملية والنفسية لا مجال لها داخل الإطار الإلحادي)) (ص16).
خلاصة ما سبق أنه لا يوجد تعارض بين اتخاذ الوحي مصدراً للعلوم الاجتماعية وموضوعية هذه العلوم.
أما السؤال الثاني فعرض له جعفر شيخ إدريس (1987م، Idris) في بحث له، حيث ناقش العلاقة بين ما ثبت بالعقل وما ثبت بالنقل ومدى إمكانية تعارضهما، أو بعبارة أخرى مدى أمكانية التعارض بين القضية الدينية والقضية العلمية، وأفاد بأنه يمتنع وقوع تعارض بين حقيقتين دينية وعلمية أو بين ما ثبت بالوحي وما ثبت عن طريق العلم. والتعارض إذا وقع إما أن يكون سببه سوء فهم لهما جميعاً أو لإحداهما، أو يكون سببه أن ما يظن أنهما حقيقتان ليستا في الواقع حقيقتين، أو أن إحدى الحقيقتين ليست كذلك، أي إن ما يظن أنه حقيقة علمية ليست حقيقة علمية أو ما يظن أنه حقيقة دينية ليست كذلك. وإذا افترضنا وجود تعارض بين قضيتين علمية ودينية فالجمع بينهما لا يكون إلا بتأويل إحداهما كي تتفق مع الأخرى، ويورد جعفر شيخ إدريس رأياً لشيخ الإسلام ابن تيمية في هذا الصدد مؤداه تقديم الأرجح من القضيتين وتأويل الأضعف دلالة أو سنداً كي تتفق مع الأقوى.(/18)
وأما السؤال الثالث فالتحدي الذي يثيره تحد ضخم يصدم كل باحث في علم النفس ولا سيما المشتغلين بالتأصيل، فالباحث النفساني يجد فيما يظهر له مفاهيم في القرآن والسنة يرى أنها متفقة مع مفاهيم وردت في علم النفس فيفسر الأولى بالأخرى أو الأخرى بالأولى، ويرى أن عمله تأصيل. ومحاولات المشتغلين بالتأصيل في الإجابة على هذا السؤال لا تكاد تخرج عن واحدة من ثلاث: التأويل أو الإسقاط، والتوظيف والاشتقاق، والتفسير بالحقائق العلمية مع اصطحاب التصور الإسلامي.
1 – التأويل أو الإسقاط:
وهو أن يفسر الباحث نصوص الوحي من خلال مفاهيم ونظريات نفسية حتى وإن كانت غير متفقة معها، فيؤول نصوص الوحي كي تتفق مع المفاهيم النفسية الحديثة. والأمثلة على هذا كثيرة، وأكتفي بواحد منها، وهو تشبيه عدد من الباحثين النفسيين (أنظر: الطويل، 1977م، وأبو العزائم، 1398هـ، وإسماعيل، 1398هـ، والسمالوطي، 1400هـ، ومرسي، 1412هـ) أحوال النفس (المطمئنة والأمارة واللوامة) التي وردت في القرآن بأقسام النفس الثلاثة (الهو والأنا والأنا الأعلى) في نظرية التحليل النفسي عند فرويد (1960م).
إن هؤلاء الذين سلكوا منهج التأويل والإسقاط يعدون أحوال النفس السابقة أقساماً لها ثم يشبهون هذه الأقسام الثلاثة بأقسامها عند فرويد، فيشبهون الأمارة بالهو ويشبهون اللوامة بالأنا الأعلى. وهذا التشبيه منهم لا يتفق مع المفاهيم القرآنية، لأن الاطمئنان والأمر بالسوء واللوم على التقصير كلها أحوال لنفس واحدة، وهي أحوال تتعاقب ولا تتصارع، أما ((الهو)) و((الأنا)) و((الأنا الأعلى)) فهي عند فرويد كيانات ثلاثة تتصارع فيما بينها داخل جسد واحد. وممن نبه إلى الاختلاف بين المفاهيم القرآنية والمفاهيم الفرويدية فذكر أن الأولى أحوال للنفس بينما المفاهيم الفرويدية أقسام لها محمد عثمان نجاتي (1417هـ) ومحمد محروس الشناوي (1413هـ).(/19)
وربما بعض من سلك منهج التأويل والإسقاط سلم بأن المفاهيم القرآنية أحوال للنفس وليست أقساماً لها ومع ذلك فهو يؤول المفاهيم القرآنية بما يتفق مع نظرية فرويد فيشبه الحال بالحال – حال الصراع أو حال الاطمئنان في المفهوم القرآني بحال التوازن النفسي في نظرية فرويد. وهذا التشبيه لا يستقيم أيضاً لأن حال الاطمئنان في المفهوم القرآني تختلف عن حال التوازن في المفهوم الفرويدي، هي في المفهوم القرآني حالة خاصة من الاطمئنان قد تكون مصحوبة بحرمان أو عدم إشباع للغرائز سواء كانت جنسية –وهي عظيمة الأهمية عند فرويد – أو غير جنسية، بينما التوازن في المفهوم الفرويدي هو بين مطالب الهو الغريزي والأنا. وهناك فرق آخر بين المفهومين وهو أن منشأ حالة الاطمئنان في المفهوم القرآني هو التدين، والدين عند فرويد نوع من العصاب الجماعي، أما ظاهرة التوازن النفسي عند فرويد فلا علاقة لها بالتدين إطلاقاً إذ هي قائمة على إشباع الحاجات.
إن هؤلاء الباحثين الذين سلكوا منهج التأويل والإسقاط فأولوا الآيات القرآنية بما يتفق وما قرره فرويد في نظريته يظنون أنهم بذلك ينصرون الإسلام ويسجلون سبقاً للقرآن، وهذا في الحقيقة ليس فيه ثناء على القرآن أو الإسلام بقدر ما ثناء على فرويد وترويج لمدرسته من خلال تقديم مرتكز شرعي لها، وهذا لو كان صحيحاً لا غبار عليه، ولكن الأمر بخلاف ذلك. وبالإضافة إلى ما ينطوي عليه هذا المنهج من تفسير آيات القرآن ومفاهيمه على غير وجهها، فإن فداحته تظهر بارزة بينة إذا علمنا أن بعض النظريات التي يسقطها بعض الباحثين على النصوص الشرعية هي نظريات ثبت خطؤها وتخلى عنها الباحثون في الغرب، فمثلاً نظرية فرويد في أقسام النفس التي سبقت الإشارة إليها رفضها كثير من الباحثين في الغرب منذ أكثر من نصف قرن والاتجاهات المعاصرة في علم النفس بخلافها.
2 – التوظيف والاشتقاق:(/20)
وهو أن يحاول الباحث الجمع بين المفهوم الذي مصدره الوحي والمفهوم الذي مصدره علم النفس الحديث فيؤلف بينهما مشتقاً مفهوماً جديداً ثالثاً. وهذا لا غبار عليه بشرطين: أولهما أن لا يكون المفهوم الجديد معارضاً لحقيقة علمية سواء كانت شرعية أو غير شرعية، ذلك لأن الحقيقة واحدة كما سبق. أما معارضة نظرية نفسية فهذا مما يحتمل وهو أمر ممكن لأن النظرية غير الحقيقة وهي عرضة للقبول والرد، وثانيهما أن لا يحتوي على تناقض داخلي، فالتناقض الداخلي في النظريات والمفاهيم النفسية سبب في رفض النظرية، ودليل على فشلها.
والأمثلة على هذه الطريقة غزيرة، ويحضر الباحث الآن مثال واحد فقط، وهو ربط مالك بدري (1413هـ) بين ما ورد في القرآن من الحث على التفكر في خلق السماوات والأرض وبين مفهوم ((التأمل الارتقائي)) (Transcendental Meditation)، فمن خلال جمعه بين هذه المفهومين حدد أربع مراحل يمر بها التفكير عند المسلم، والمفهوم الذي انتهى إليه لا يتعارض مع حقيقة علمية سواء كانت شرعية أو نفسية، كما أنه يتسم بالاتساق الداخلي.
3 – التفسير بالحقائق العلمية مع اصطحاب التصور الإسلامي:(/21)
وهنا يصطحب الباحث التصور الإسلامي ويعده أصلاً يسير في ضوئه ويعتمد عليه ولا يحيد عنه، ويحاول شرح المفاهيم التي مصدرها الوحي بما ثبت علمياً من خلال التجريب وليس بالنظريات. مثال ذلك كمن يشرح أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بأمر الأطفال بالصلاة إذا بلغوا سبع سنين بما ثبت علمياً عن النمو الإدراكي عند الطفل. وفي بعض الأحيان قد لا يجد الباحث حقيقة تجريبية تؤيد المفهوم القرآني وفي هذه الحال عليه أن يعرض المفهوم كما هو من غير تبديل أو تحريف. ويجب عليه في جميع الأحوال استصحاب التصور الإسلامي للقضية التي يريد بحثها ووردت الآيات في سياقها. ولإيضاح هذه المسألة أعود إلى المثل الذي ذكرته عن بعض علماء النفس العرب في تشبيههم أحوال النفس في القرآن بأقسام النفس عند فرويد فأوضح كيف ينبغي فهمه.
إن الباحث في علم النفس يستطيع فهم الآيات فهماً سليماً إذا سلم من التأويل والإسقاط وحاول تأملها في ضوء المفاهيم القرآنية محافظاً على الدلالات اللغوية، ففي هذا المثال يستطيع الباحث في علم النفس فهم الآيات المتعلقة بأحوال النفس إذا استصحاب التصور الإسلامي للإيمان في أثناء تأمله للآيات. إن الإيمان في المفهوم القرآني يزيد وينقص. وهو إذا زاد بلغ حال النفس المطمئنة وإذا نقص انحط إلى درجة النفس الأمارة. وبهذا يعلم أن هذه الأوصاف (النفس المطمئنة واللوامة والأمارة) أوصاف لنفس واحدة وليست ثلاث أنفس، وهي بهذا أحوال تتعاقب على النفس الواحدة تبعاً لزيادة الإيمان ونقصه.
وعموماً هذه الخطوة ليست يسيرة أبداً على الباحثين لأنها تستلزم أمرين: الأول العلم الشرعي والثاني وجود ضوابط يدرك بها الباحث المقبول والمردود في علم النفس. وهذا يقتضي البحث في موقف حركة التأصيل من علم النفس الحديث.
نقد علم النفس الغربي:(/22)
المقصود بعلم النفس هنا ليس النقد التفصيلي لمسائله، ولكن المقصود به هو النقد العام لمسلمات علم النفس ومدارسه بهدف وضع معيار للمقبول والمرفوض منه.
من أول من قدم نقداً موضوعياً لعلم النفس الغربي هو محمد قطب (1408هـ) في كتابه ((الإنسان بين المادية والإسلام)) الذي صدرت طبعته الأولى عام 1952م. وانتقد في كتابه هذا فرويد والمنهج التجريبي السلوكي.
وممن نقد علم النفس عبدالناصر السباعي (1411هـ) الذي يرى أن ((انفصال علم النفس عن الفلسفة لا يعدو عن كونه وهماً فقط. وليس هناك في الفلسفة ما يسمح لنا بالقول بأن علم النفس انفصل عن الفلسفة في يوم من الأيام)) (ص15)، وانتهى إلى أن التصور الذي وضعه علماء النفس للإنسان لم يكن انطلاقاً من أبحاثهم ودراساتهم بل هو تصور ضمني نشؤوا على التعامل به داخل مجتمعهم، وهم في الحقيقة إنما يجرون أبحاثهم في ضوئه. كما يرى أن علم النفس ((ليس علماً يسعن في إنتاج معرفة موضوعية بالواقع الإنساني بقد ما يعمل على ترسيخ وتبرير تصور قائم حول الإنسان بإضفاء صيغة العلمية والموضوعية عليه)) (ص16).
وربما كان مالك بدري (أ1398، ب1398، 1416هـ، Badri ، 1976، 1978م) من أبرز من كتب في هذا المنحى، وله عدد من الدراسات المنشورة، منها دراسته المعنونة بـ((علماء النفس المسلمون في جحر الضب)) المنشورة عام 1976م باللغة الإنجليزية، وقد ترجمت إلى العربية ونشرت في مجلة المسلم المعاصر (1398هـ)، وفي هذا البحث انتقد مالك بدري علماء النفس المسلمين في تقليدهم لعلماء النفس الغربيين، كما انتقد مدرسة التحليل النفسي، ومنها دراسته الأخرى المنشورة باللغة الإنجليزية عام 1978م تحت عنوان The Dilemma of Muslem Psychologists ((أزمة علماء النفس المسلمين))، وفيه ركز نقده على فرويد والاتجاه التحليلي من وجهة نظر العلم التجريبي والطريقة العلمية.(/23)
أما رؤيته النقدية الشاملة لعلم النفس الغربي فقد عرضها في دراسته التي قدمها إلى المؤتمر العالمي الرابع الذي أقامه المعهد العالمي للفكر الإسلامي في الخرطوم في السودان عام 1407هـ. في هذه الورقة وضع مالك بدري (1416هـ) معياراً للمقبول والمرفوض من علم النفس وبنى معياره على أن علم النفس هو في الحقيقة علم تجريبي وفلسفة وفن، ويرى أننا نقبل ما كان منه ضمن العلم تجريبي ((بشكل عام ولكننا نرفض خلفيته الفلسفية وبعض أساليبه وممارساته التي تتنافى مع ديننا)) (ص1149) أما ما كان منه ضمن الفلسفة وهو ما نجده في النظريات العامة عن الإنسان وطبيعته فنرفضه و((لكننا لا نستنكف عن الاستفادة من بعض جوانبها المفيدة، فليس هناك شر محض في مثل هذه النظريات)) (ص1149) ((وأما علم النفس كفن أو حرفة دقيقة تحتاج إلى تدريب عملي وخبرة طويلة في الأداء كفنون العلاج النفسي وتطبيق اختبارات الذكاء والتدريس فإنه لا حرج عليها في تعلمها والإفادة منها إلا إذا ناقضت أساليبها ومقاصدها فكرنا الإسلامي)) (ص1149).
وقد وضع بدري (1416هـ) قاعدتين تحددان الموقف من علم النفس الغربي:
الأولى: ((كلما كانت المواد التي نأخذها من علم النفس الغربي أكثر اعتماداً على البحث التجريبي الميداني، فإنها تكون أكثر قبولاً واتساقاً مع الفكر الإسلامي. وفي المقابل كلما كانت المواد أكثر اعتماداً على النظريات (الأريكية) Armchair Theories ، فإنها تزداد بعداً عن التصورات الإسلامية...)) (ص1146).
الثانية: ((أنه كلما كانت المواد النفسية الحديثة تدرس جانباً محدوداً من السلوك كدراسة الإدراك الحسي أو زمن الرجع أو الذكاء أو تأثير العقاقير العلاجية على السلوك كانت أكثر قبولاً من الناحية الإسلامية، وفي المقابل كلما كانت هذه المواد تهتم بالسلوك الإنساني العام فإنها تزداد بعداً عن المظلة الإسلامية)) (ص1146).(/24)
هذا الإطار الذي حدد في ضوئه مالك بدري المقبول والمرفوض من علم النفس إطار جيد، ولكن لابد من ملاحظة أن التجارب المعملية هي استجابة لأطر نظرية ومسلمات فلسفية انطلق منها الباحث من حيث يشعر أو لا يشعر. خذ مثلاً التجارب المعملية للمدرسة السلوكية، هذه التجارب ربما تتوفر فيها جميع شروط البحث العلمي الجيد، ولكنها مع ذلك ليست متحررة من تأثير بعض المسلمات الفلسفية، من ذلك مثلاً حصر موضوع علم النفس في السلوك الظاهر فقط واعتبار ما سواه في حكم المعدوم، ومن ذلك القول بآلية السلوك أو آلية الإنسان. هاتان المسلمتان مع غيرهما جعلتا المدرسة السلوكية ترفض بحث جميع العمليات النفسية الداخلية بحجة أنها لا تقع ضمن مجال علم النفس لأنه لا يمكن ملاحظتها. والنتائج التي تأتي من مثل هذه التجارب حتى مع التسليم بصحتها ناقصة لا تعكس حقيقة السلوك البشري. والتجربة قد تتغير نتائجها تغيراً مذهلاً بمجرد إضافة جانب آخر في الشخصية لم يكن ملتفتاً إليه من قبل. خذ مثلاً تجارب التعليم الشرطي عند بافلوف وتجارب المحاولة والخطأ عند ثورندايك وانظر كيف تحولت إلى ما يعرف بالتعليم الفعال عند سكنر، ثم انظر كيف تغير الموقف تماماً بعد إضافة الجانب المعرفي على يد ألبرت باندورا، فوجد عندنا ما يعرف بالتعلم بالقدوة أو نظرية التعلم الاجتماعي Social Learning theory.
إن هذا الإطار الذي اقترحه مالك بدري ضروري لمسيرة التأصيل الإسلامي لعلم النفس، والمؤمل من المهتمين بحركة التأصيل تطوير هذا الإطار وتطبيقه على علم النفس الغربي بتأليف كتاب يحوي فقط الحقائق الثابتة المقطوع بها أو الراجحة غالبة الرجحان. إن مثل هذا الكتاب ضروري للمشتغل بالتأصيل وسوف يختصر عليه وقتاً طويلاً ويعفيه من مظنة بحث شاق في تحصيل الحقائق الثابتة في علم النفس بعيداً عن النظريات والافتراضات الظنية.
مفهوم النظرية الإسلامية في التأصيل الإسلامي لعلم النفس:(/25)
النظرية تكوين افتراضي ليس موجوداً في الطبيعة أو في المعلومات، يستطيع من خلاله الباحث تفسير بعض الظواهر المعينة أو عرض بعض الحوادث التي هو مهتم بها (1985م، Hall & Lindzey). هذا مفهوم النظرية في الدراسات الغربية الحديثة. وهي بهذا مفهوم متغير متطور نام قابل للرفض والقبول. ترى ماذا عن النظرية الإسلامية التي تستند فيما تستند إليه إلى الكتاب والسنة، هل هي متطورة متغيرة أو ثابتة؟ من أو من تحدث عن مفهوم النظرية الإسلامية محمد قطب (1394هـ) في كتاب ((دراسات في النفس الإنسانية))، ففي مقدمة هذا الكتاب شرح محمد قطب تصوره للنظرية الإسلامية وطبيعة العلاقة بين النظرية ونصوص الوحي فقال: "وهذا الكتاب مجرد محاولة في هذا السبيل، وهي مجرد محاولة.. أتحمل مسؤوليتها وحدي، فالإسلام ليس مقيداً بما أقول... وما أزعم أن هذه هي ((النظرية الإسلامية))... إنما أقول فقط إنها نظرية إسلامية... اجتهدت فيها بمقدار ما فتح الله علي من طاقة المعرفة... وهو وحده الموفق إلى الصواب"(ص7 – 8).(/26)
والقرآن عنده، رغم أنه مصدر النظرية إلا أنه ((ليس كتاب نظريات نفسية أو علمية أو فكرية، ولكنه يحوي التوجيهات الكاملة الكافية لإنشاء هذه النظريات... (ص8). إن الذي في القرآن معلومات عن النفس الإنسانية يمكن أن تستوحى في ((استخلاص نظرية شاملة عن النفس تعمل المشاهدة والتجربة في توضيحها ووضع تفصيلاتها كما تعمل في توضيح بقية الإشارات الكونية في القرآن)) (ص9). ويضرب محمد قطب على هذا مثلاً بقوله تعالى: {إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار..} ويعلق على هذه الآية بأن الله عز وجل ((لم يقل كيف يختلف النهار والليل، وكيف تجري الفلك في البحر... وترك للمشاهدة والتجربة أن يتحققا من سر هذه الآيات ويعرفا بقدر ما ييسر الله لهما حقيقة النواميس التي تعمل بها القدرة الإلهية في الكون)) (ص10). ويعقب على هذا المثل بأن الله سبحانه وتعالى ((وجه الإنسان إلى استجلاء أسرار النفس وذكر صفاتها وحالاتها ولكنه ترك للمشاهدة والتجربة أن يتحققا مما وراء ذلك من النظريات والتفصيلات. لذلك كانت المشاهدة والتجربة عماداً لي في البحث أتفهم عن طريق إشارات القرآن)) (ص10).
إذن النظرية الإسلامية التي يقدمها أي باحث ليس لها صفة القداسة أو العصمة من الخطأ وإنما هي مجرد اجتهاد في تفسير بعض الإشارات القرآنية، وربما كان هذا التفسير ناقصاً يحتاج إلى تكميل أو حتى خاطئاً فيرفض ويرد على صاحبه، والفرق الوحيد بين هذه النظرية الموسومة بـ((الإسلامية)) وغيرها من النظريات هو أنها تستند فيما تستند إليه إلى الكتاب والسنة، فالإطار الذي تنطلق منه إطار إسلامي والأصول التي بنيت عليها النظرية أصول إسلامية.(/27)
أما تحقيق الأصول في أرض الواقع فقد اتخذ مسارين: أحدهما البدء بالتطبيقات الجزئية من أجل الوصول إلى الإطار النظري الشامل، وهو ما يسميه إبراهيم رجب (1412هـ) بالتأصيل الجزئي، وذلك بتجزئة الموضوعات والقضايا والمجالات التي يتضمنها التخصص ثم بذل الجهود لتأصيل كل منها على حدة، ويرى أن خاتمة المطاف لهذا التأصيل هو بناء نظرية شاملة في التأصيل (رجب، 1412هـ)، وثانيهما هو بناء النظرية الكلية المعرفية أولاً أو ما يسميه بالتأصيل الشامل ثم يكون التطبيق على الجزئيات بعد ذلك والربط بين النظرية الكلية والعلم المراد تأصيله.
والباحثون تباينت مواقفهم من هاتين القضيتين، فمن الباحثين من اتجه نحو التأصيل من غير أصول فكرية ينطلق منها، ومنهم من بالغ في تحقيق الأصول واعترض على كل حركة تأصيل بحجة أن النظرية الشاملة مفقودة ولابد من بنائها والتحرر من النظرية الغربية أولاً، ثم يكون بعد ذلك التطبيق أو التأصيل العلمي. والذي يراه كاتب هذا البحث أن التأصيل من غير منطلقات فكرية ومسلمات إسلامية واضحة بعيد المنال، وليت شعري! من هذا شأنه في التأصيل أن يريد أن يؤصل ماذا؟ أما من يبالغ في تحقيق المسلمات والأطر الفكرية ويؤكد بناء النظرية الشاملة أولاً قبل أي خطوة فهو غير واقعي، لأن الأطر النظرية الكبيرة لا تتكون إلا بخطوات نظرية وعملية يأخذ بعضها برقاب بعض. نعم لا نستطيع البدء في التأصيل من غير إطار معرفي إسلامي، ولكننا نستطيع أن نبدأ في التأصيل من غير نظرية نفسية شاملة، بل إن النظرية الشاملة هي وليدة مثل هذه الخطوات العملية. وهذا السبيل مقدمة ضرورية للتأصيل الشامل، وهذه الدعوى تقوم على ثلاث مقدمات:
الأولى تتعلق بطبيعة المسلمات التي تكون الإطار المعرفي الإسلامي، والثانية تتعلق بطبيعة النظرية الإسلامية، والثالثة تتعلق بطبيعة نشأة النظرية في العلوم الاجتماعية.(/28)
أما فيما يتعلق بالمقدمة الأولى فإن مسلمات الإطار المعرفي الإسلامي نوعان، منها مسلمات مصدرها الوحي فقط، والمنهج في تحصيلها هو الاستنباط، ومسلمات أخرى مصدرها غير الوحي وهو العالم، ويدخل في ذلك التجربة والعقل، والسبيل في تحصيلها التجريب واختبار الفروض، وهذا لا يتحقق من غير دراسات جزئية نسعى من خلالها في التثبت من المسلمات. وربما ردت هذه المقدمة بأن المسلمة التي نحتاج إلى التثبت منها ليست في الحقيقة مسلمة لأن مسلمات الإطار العلمي أمر سابق على البحث العلمي نفسه، وهي التي توجه البحث العلمي وتحدد مجاله وأدواته، وهذا القول ليس على إطلاقه حيث ثبت من خلال التجريب أن بعض ما كنا نظنه في وقت من الأوقات مسلمات ليس مسلماً به.
وأما فيما يتعلق بالمقدمة الثانية فقد سلف في الحديث عن طبيعة النظرية الإسلامية أنها اجتهاد قابل للصواب والخطأ، وما يميز هذه النظرية عن سواها هو أنها اجتهاد مبني على أصول إسلامية فقط. إذن النظرية بعد أن توضع تقبل التعديل سواء بالإضافة أو الحذف كما أنها عرضة للرفض. ولهذا فلكي نصل إلى نظرية كاملة شاملة نحتاج إلى مشوار طويل من التجريب والبحث، وهذا لا يكون إلا بالبدء بجزئيات تتكامل فيما بعد مكونة النظرية الشاملة.
وأما المقدمة الثالثة فإن النظرية في العلوم الاجتماعية وكذلك العلوم الأخرى لا تكمل إلا بعد جهد ربما تجاوز عشرات السنين. النظرية السلوكية مثلاً كانت تصوراً ساذجاً على يد واطسون يصر على دراسة السلوك الظاهر فقط، ولكنها تطورت على يد سكنر ثم تطورت أكثر على يد باندورا الذي ربط بينها وبين الاتجاه المعرفي، وهذا النمو استغرق خمسين سنة تقريباً.
لهذا يرى الباحث أن ما يسمى بالتأصيل الجزئي مقدمة طبيعية للتأصيل الشامل بشرط تحديد الأطر الفكرية والمنهجية العامة التي ينطلق منها الباحث في بحثه، ويتمكن بعد ذلك من بناء نظرية نفسية شاملة.
شروط التأصيل الإسلامي:(/29)
كتب عدد من الباحثين عن شروط التأصيل الإسلامي للعلوم الإنسانية وعما ينبغي أن تيحلى به من يسعى للتأصيل، ومما ذكروه في ذلك التمكن من العلم الشرعي (نجاتي، 1411هـ، رجب، 1412هـ، Idris ، 1987م)، ومع ذلك لا نجد أحداً من الباحثين اعتنى بهذا الموضوع فبين الجوانب الشرعية التي ينبغي لدارسي علم النفس والعلوم الاجتماعية إتقانها كي يكون تأصيلهم ذا أساس متين.
وهذا الجانب المفقود يختلف عما قدمه نجاتي ( 1408، 1409، 1417هـ) في كتابه ((القرآن وعلم النفس)) و((الحديث النبوي وعلم النفس)). والذي عمله نجاتي يتلخص في أنه جمع الآيات والأحاديث المتعلقة ببعض أبواب علم النفس العام ثم علق عليها مستصحباً أحياناً بعض النظريات النفسية ومؤولاً بعض النصوص كي تتفق مع ما استصحبه من نظريات. وهذا الجهد العلمي من نجاتي في غاية الأهمية وهو جهد مشكور، كان ينبغي أن يتم في مرحلة مبكرة من التأصيل. وأهمية هذا العمل تكمن في أنه ييسر للباحث نوعاً من المقارنة بين المفاهيم النفسية كما وردت في علم النفس الحديث ومقابلتها في القرآن والسنة. ومع ذلك فعلى الرغم من أهمية هذه التجربة وضرورة تيسير نصوص القرآن والسنة المتعلقة بعلم النفس للدارسين فإننا لا زلنا بحاجة إلى باب آخر من أبواب العلم، وهو العناية بالأحكام الشرعية التي لها علاقة بعلم النفس. ويقترح الباحث لسد هذه الخلة أن تقسم العلوم الشرعية التي يعتني بها طالب علم النفس إلى قسمين: قسم عام يضبط المنهجية الشرعية عند الباحث وآخر خاص تنضبط به تفصيلات علم النفس وجزئياته. والقسم العام يدور حول معرفة أصول الفقه أو القواعد التي يتوصل بها الباحث إلى استنباط الأحكام الشرعية الفرعية عن أدلتها التفصيلية، ومما يدخل في ذلك معرفة مصادر التشريع ووجوه الاستدلال وقواعد الاستنباط ومقاصد الشريعة والقواعد العامة التي تضبط أحكامها، وأما الخاص فيدور حول معرفة الأحكام الشرعية المتعلقة بالقضايا(/30)
النفسية كل على حدة، مثل أحكام البلوغ والتكليف والمسؤولية الجنائية والمرض النفسي وأحكام التوبة، ومن ذلك أيضاً العلم بالمصطلحات الشرعية حسب ورودها في الشريعة فيدرك المعنى المراد من مثل الفطرة والقلب والعقل والحضانة فلا يحرف هذه المصطلحات مجاراة للاصطلاح الحادث في علم النفس.
الخاتمة:
هذه القضايا من التأصيل التي سبق عرضها في هذا البحث، لازالت مفرقة، ولا يوجد كتاب جامع – باستثناء كتاب إبراهيم رجب (1416هـ) – يضم شتاتها، كما أنها إلى الآن لم تدخل ضمن المقررات المدرسية في أقسام علم النفس في المرحلة الجامعية أو الدراسات العليا، وهذا باستثناء مقرر التوجيه الإسلامي لعلم النفس الذي يقدم في بعض الجامعات. والأولى أن تضمن هذه المسائل عن المنهجية كتب علم النفس العام وكتب مناهج البحث. والقصور في هذا الجانب – في الحقيقة – مؤشر على أن الحركة على الرغم من الجهود المبذولة لا زالت في مراحلها الأولى. والمعنيون بالتأصيل الإسلامي ينبغي لهم تدارك هذا النقص فيكتبوا مداخل وكتباً دراسية للمرحلة الجامعية وما بعدها تعنى بطبيعة التأصيل ومبادئه مع مسائل علم النفس العام، فيدرس الطلاب من ضمن ما يدرسون فصلاً عن المنهجية الغربية والنقد الموجه إليها كما يدرسون التصور الإسلامي لنظرية المعرفة وأسسها. ويدرسون أيضاً من ضمن ذلك العلاقة بين الوحي والعلم وطرق الجمع بين ما ثبت في القرآن والسنة ومعطيات علم النفس الحديث. إن دراسة هذه المسائل ضرورية لتحرير العقل المسلم من أسر التقليد وتأهيله للإبداع في علم النفس. إنه بسبب خلو كتب علم النفس من نظرية المعرفة الإسلامية على الرغم من عناية عدد من الباحثين بها لم تستقر بعد في المجال الإدراكي المعرفي لكثير من دراسي علم النفس فيستطيعون تقويم المعارف وتقديمها من خلالها.(/31)
كما يلاحظ أن الربط بين النصوص الشرعية من آيات وأحاديث ومعطيات علم النفس الحديث، لازال يعاني من تخلف ذريع، وغالبية الباحثين عاجزون عن الربط بين الجانبين. ومعالجة هذه المشكلة تكون باستكمال المعرفة الشرعية والقدرة على التمييز بين الحقيقة والفرضيات العلمية التي لم تثبت بعد. وهذا يجعلنا نؤكد على مسألتين: الأولى إيجاد منهج من العلم الشرعي يفي بحاجة دارسي علم النفس سواء من حيث الأحكام الفقهية أو من حيث ضوابط النظر في النصوص الشرعية. والثانية هي إيجاد كتب تفصل بين الحقيقة العلمية والتصورات الفلسفية والفرضيات التي لم تثبت بعد أو التي ثبت خطؤها، فلا ينساق الباحث المسلم خلف فرضية خاطئة فيفسر بها نصوص الشرع، أو يرفض حقيقة علمية ظناً منه أنها تتعارض مع الشريعة.
وأخيراً ما زالت ضوابط البحث العلمي النابعة من تصور إسلامي في بداياتها، ومهمة المشتغلين بالتأصيل الإسلامي تحرير هذه الضوابط وتيسيرها للباحثين في المستقبل القريب.
المراجع العربية:
أبو العزائم، جمال ماضي (1398هـ). القرآن وعلم النفس. (في) كلية التربية، ندوة علم النفس والإسلام 12 – 16/11/1398هـ. ج1. جامعة الرياض (سابقاً).
إدريس، جعفر شيخ (1411هـ). مناهج العلوم الإنسانية ومشكلاتها. ذكر في: مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية: محاضرات الموسم الثقافي لعامي 1406 – 1407هـ. الرياض: مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية. ص171 – 209.
إدريس، جعفر شيخ (1408هـ). إسلامية العلوم وموضوعيتها. مجلة المسلم المعاصر. 13، 50، ص5 – 19.
إسماعيل، زكي (1398هـ). علم النفس بين منهج العلم وموقف الإسلام. (في) كلية التربية، ندوة علم النفس والإسلام 12 – 16/11/1398هـ. ج14. جامعة الرياض (سابقاً).
امزيان، محمد محمد (1412هـ). منهج البحث الاجتماعي بين الوضعية والمعيارية. هيرندون: المعهد العالمي للفكر الإسلامي.(/32)
بدري، مالك (أ1398هـ). علماء النفس المسلمون في جحر الضب(1). مجلة المسلم المعاصر، 4،15، ص105 – 123.
بدري، مالك (ب 1398هـ). علماء النفس المسلمون في جحر الضب (2). مجلة المسلم المعاصر، 4، 16، ص97 – 113.
بدري، مالك (1413هـ). التفكر من المشاهدة إلى شهود: دراسة نفسية إسلامية. هيرندون: المعهد العالمي للفكر الإسلامي.
بدري، مالك (1416هـ). علم النفس الحديث من منظور إسلامي. (ذكر في): المعهد العالمي للفكر الإسلامي. المنهجية الإسلامية والعلوم السلوكية والتربوية: بحوث ومناقشات المؤتمر العالمي الرابع للفكر الإسلامي، ج2. المعهد العالمي للفكر الإسلامي. ص1101 – 1152.
أبو حطب، فؤاد (أ 1412هـ). نحو وجهة إسلامية لعلم النفس. مجلة المسلم المعاصر 16، 62، ص135 – 184.
أبو حطب، فؤاد (ب 1412هـ). نحو وجهة إسلامية لعلم النفس. مجلة المسلم المعاصر 16، 63، ص135 – 172.
أبو حطب، فؤاد (ج 1412هـ). نحو وجهة إسلامية لعلم النفس. مجلة المسلم المعاصر 16، 64، ص99 – 140.
أبو حطب، فؤاد (1413هـ). نحو وجهة إسلامية لعلم النفس. (ذكر في) أبحاث ندوة علم النفس. المعهد العالمي للفكر الإسلامي. 129 – 241.
حسين، محمد محمد (1397هـ). حصوننا مهددة من داخلها. بيروت: المكتب الإسلامي.
خليل، عماد الدين (1412هـ). إسلامية المعرفة. هرندون: المعهد العالمي للفكر الإسلامي.
خليل، محمد رشاد (1407). علم النفس الإسلامي العام والتربوي: دراسة مقارنة. الكويت: دار القلم.
الرازي، محمد بن أبي بكر (1390هـ). مختار الصحاح. الطائف مكتبة المؤيد.
رجب، إبراهيم (1412هـ). مداخل التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية. مجلة المسلم المعاصر، 16، 63، ص43 – 79.
رجب، إبراهيم (1416هـ). التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية: المفهوم – المنهج – المداخل – التطبيقات. الرياض: دار عالم الكتب.(/33)
الزنيدي، عبدالرحمن بن زيد (1412هـ). مصادر المعرفة في الفكر الديني الفلسفي: دراسة نقدية في ضوء الإسلام. هيرندون: المعهد العالمي للفكر الإسلامي.
زيدان، محمود (1982م). من نظريات العلم المعاصر إلى المواقف الفلسفية. بيروت: دار النهضة العربية.
السباعي، عبدالناصر (1411هـ). مشكلات علم النفس في ضوء التصور الغربي للإنسان دراسة تاريخية. مجلة المسلم المعاصر، 57، 145 – 161.
السمالوطي، نبيل محمد توفيق (1400هـ). بحوث في التوجيه الإسلامي للإرشاد والعلاج النفسي. القاهرة: مكتبة الأنجلو المصرية.
الصنيع، صالح بن إبراهيم (1416هـ). دراسات في التأصيل الإسلامي لعلم النفس. الرياض: دار عالم الكتب.
الطويل، عزت عبدالعظيم (1977م). دراسات نفسية وتأملات قرآنية. الإسكندرية: مكتبة نشر الثقافة.
العثمان، عبدالكريم (1981م). الدراسات النفسية عند المسلمين والغزالي بوجه خاص. ط2. القاهرة: مكتبة وهبة.
عطية، محيي الدين (1416هـ). أسلمة العلوم السلوكية: علم النفس، علم الإنسان، علم الاجتماع، قائمة ببلوجرافية منتقاة. (ذكر في): المعهد العالمي للفكر الإسلامي. المنهجية الإسلامية والعلوم السلوكية والتربوية: بحوث ومناقشات المؤتمر العالمي الرابع للفكر الإسلامي، ج2. المعهد العالمي للفكر الإسلامي. 1183 – 1226.
الغامدي، محمد عبدالله (1400هـ). قائمة بدراسات في مجال التربية الإسلامية: مجلة كلية التربية، (جامعة الملك عبدالعزيز) 5، 131 – 216.
الفاروقي، إسماعيل (1986م). إسلامية المعرفة. هيرندون: المعهد العالمي للفكر الإسلامي.
الفيروزآبادي، مجد الدين محمد (1413هـ). القاموس المحيط. تحقيق مكتب تحقيق التراث في مؤسسة الرسالة. بيروت: مؤسسة الرسالة.
قطب، محمد (1394هـ). دراسات في النفس الإنسانية. بيروت: دار الشروق.
قطب، محمد (1408هـ). الإنسان بين المادية والإسلام. ط9. القاهرة: دار الشروق.(/34)
قسم التربية بكلية العلوم الاجتماعية (1407هـ). محضر اجتماع لجنة التأصيل الإسلامي في العلوم الاجتماعية والإنسانية. (ذكر في): مركز البحوث: ندوة التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية من 5 إلى 6/6/1407هـ. أوراق العمل المقدمة للندوة، القسم الأول الرياض: جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية. عمادة البحث العلمي.
مرسي، سيد عبدالحميد (1412هـ). ونفس.. وما سواها. سلسلة دراسات نفسية إسلامية. القاهرة: مكتبة وهبة.
مرسي، كمال إبراهيم (غير منشور). محاضرات في مدخل التوجيه الإسلامي.
المعهد العالمي للفكر الإسلامي (1408هـ). الوجيز في إسلامية المعرفة. هيزندون: المعهد العالمي للفكر الإسلامي.
الكردي، راجح (1412هـ). نظرية المعرفة: هيرندون: المعهد العالمي للفكر الإسلامي.
مركز البحوث (1407هـ). ندوة التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية من 5 إلى 6/6/1407هـ. أوراق العمل المقدمة للندوة، القسم الأول. الرياض: جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، عمادة البحث العلمي.
نجاتي، محمد عثمان (1402هـ). القرآن وعلم النفس. بيروت: دار الشروق.
نجاتي، محمد عثمان (1408هـ). القرآن وعلم النفس. ط2. بيروت: دار الشروق.
نجاتي، محمد عثمان (1409هـ). الحديث النبوي وعلم النفس. بيروت: دار الشروق.
نجاتي، محمد عثمان (1411هـ). منهج التأصيل الإسلامي لعلم النفس. مجلة المسلم المعاصر، ع57، ص21 – 45.
نجاتي، محمد عثمان (1980م). الإدراك الحسي عند ابن سينا: بحث في علم النفس عند العرب. ط3. بيروت دار الشروق.
نجاتي، محمد عثمان (1417هـ). القرآن وعلم النفس. ط6. بيروت: دار الشروق.
يالجن، مقداد (1407هـ). مرئيات ومقترحات حول خطة تأصيل العلوم الاجتماعية. (ذكر في): مركز البحوث: ندوة التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية من 5 إلى 6/6/1407هـ. أوراق العمل المقدمة للندوة، القسم الأول الرياض: جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية. عمادة البحث العلمي.
المراجع الأجنبية:(/35)
– Badri, M. (1976). Muslim psychologists in the lizard's hole. In AMSS: From:
Muslim to Islamic: proceeding of the fourth annual convention of the Association of Muslim Social Scientists. V. 2 pp. 6 – 35
– Badri, M. (1978). Dilemma of muslim paychologists. London: M.W. H. Publishers.
– Freud, S. (1960). The Ego and the Id. New York: W. W. Norton & Company.
– Hall, C. & Lindzey, G. (1985).Introduction to theories of presonality. New York: John Wiley & Sons.
– Idris, Jaafar S, (1987). The Islamization of sciences: its philosopy and
methodology. The American Journal of Islamic Social Sciences, 4, 201 – 208.
- kuhn, T. S. (1970). The structore of scientefic revolutions (2nd ed). Chicago: Umiversity of Chicago Press.
ـــــــــــــــــــــــ
[1] من المؤسسات العلمية التي نشأت لهذا الغرض:
أ – ((جمعية علماء الاجتماعيات المسلمين)) أنشئت في أمريكا عام 1392هـ، واعتنت بتوجيه علم النفس توجيهاً إسلامياً وأقامت عدداً من المؤتمرات لهذا الغرض، ولها مؤتمر سنوي ودورية فصلية.
ب – ((الجمعية الإسلامية العالمية للصحة النفسية)) أنشئت في مطلع القرن الخامس عشر تقريباً في عام 1983م، ولهذه الجمعية نشرة شهرية بعنوان ((النفس المطمئنة))، كما أن لها مؤتمراً عاماً كل سنتين، وقد عقدت مؤتمرها الأول في لاهور بباكستان عام 1985م.
ج – المعهد العالمي للفكر الإسلامي أنشئ في أمريكا عام 1401هـ للعناية بأسلمة المعرفة والعلوم الإنسانية خاصة. ورفع المعهد شعار الأسلمة، وتحته عقد عدد من المؤتمرات واللقاءات والندوات، من أهمها المؤتمر المعقود في كراتشي، باكستان تحت عنوان إسلامية المعرفة عام 1402هـ (المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1408).(/36)
[2] من المؤتمرات التي عقدت لهذا الغرض بالإضافة إلى المؤتمرات السنوية التي تعقدها بعض الجمعيات السابق ذكرها في الهامش السابق:
أ – ندوة ((علم النفس والإسلام)) عقدتها كلية التربية بجامعة الملك سعود في مدينة الرياض عام 1398هـ.
ب – ندوة ((التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية)) أقامتها جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في الرياض عام 1407هـ.
ج – مؤتمر ((التوجيه الإسلامي للعلوم)) أقامته جامعة الأزهر بمصر مع رابطة الجامعات الإسلامية عام 1413هـ.
[3] لم يتضح للباحث لماذا استثنى نجاتي عقيدة القضاء والقدر من القائمة ولا سيما أنه أورد أركان الإيمان، ولعل إغفالها كان سهواً منه.(/37)
العنوان: التأمل والتفكر
رقم المقالة: 1543
صاحب المقالة:
-----------------------------------------
أولاً: القرآن:
{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة: 164].
{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمْ مَنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ * فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ * كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [يونس: 31 - 33].
{لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يوسف: 111].(/1)
{وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الرعد: 3 - 4].
{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ * يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ * وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 10 - 14].
{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44].(/2)
{وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 68 - 69].
{أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [النحل: 79].
{مَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ} [الأنبياء: 16].
{لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحج: 70].
{أَمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُون} [النمل: 64 - 65].
{وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [النمل: 75].
{أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [النمل: 86].(/3)
{وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ * وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ * وَمِنْ آَيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ * وَمِنْ آَيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الروم: 20 - 24].
{وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الروم: 27]
{أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} [سبأ: 9].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} [فاطر: 3].
{أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ} [يس: 31].(/4)
{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} [ص: 27].
{اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الجاثية: 12 - 13].
{لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر: 21].
لم أقف على أحاديث في هذا الباب
ثانيا : الشعر
قال الشاعر:-
اقْرَأِ التَّأْرِيخَ إِذْ فِيهِ الْعِبَرْ = ضَلَّ قَوْمٌ لَيْسَ يَدْرُونَ الْخَبَرْ
وَتَأَمَّلْ كَيْفَ أَفْنَى مُلْكَهُمْ = مَنْ عَلَى الْمُلْكِ تَوَلَّى وَقَهَرْ
وقال آخر:-
مَنْ لَمْ يَرَى هَذَا الْوُجُودَ بِقَلْبِهِ = خَسِرَ الْجَمَالَ وَلَمْ تَرَى عَيْنَاهُ
فَافْتَحْ كِتَابَ الْكَوْنِ تَقْرَأْ قِصَّةً = هَلْ فِي الْوُجُودِ حَقِيقَةٌ إِلاَّ هُو
وقال آخر:-
انْظُرْ لِتِلْكَ الشَّجَرَهْ = ذَاتِ الْغُصُونِ النَّضِرَهْ
كَيَفَ نَمَتْ مِنْ حَبَّةٍ = وَكَيْفَ صَارَتْ شَجَرَهْ
ابْحَثْ وَقُلْ مَنْ ذَا الَّذِي = يُخْرِجُ مِنْهَا الثَّمَرَهْ؟!
ذَاكَ هُوَ اللَّهُ الَّذِي = أَنْعُمُهُ مُنْهَمِرَهْ
ذُو حِكْمَةٍ بَالِغَةٍ = وَقُدْرَةٍ مُقْتَدِرَهْ
وَانْظُرْ إِلَى الشَّمْسِ الَّتِي = جَذْوَتُهَا مُسْتَعِرَهْ
فِيهَا ضِيَاءٌ وَبِهَا = حَرَارَةٌ مُنْتَشِرَهْ
ابْحَثْ وَقُلْ مَنْ ذَا الَّذِي = يُخْرِجُ مِنْهَا الشَّرَرَهْ؟!
ذَاكَ هُوَ اللَّهُ الَّذِي = أَنْعُمُهُ مُنْهَمِرَهْ(/5)
ذُو حِكْمَةٍ بَالِغَةٍ = وَقُدْرَةٍ مُقْتَدِرَهْ
*************
وقال آخر:
الشَّمْسُ وَالْبَدْرُ مِنْ آيَاتِ قُدْرَتِهِ = وَالْبَرُّ وَالْبَحْرُ فَيْضٌ مِنْ عَطَايَاهُ
الطَّيْرُ سَبَّحَهُ وَالْوَحْشُ مَجَّدَهُ = وَالْمَوْجُ كَبَّرَهُ وَالْحُوتُ نَاجَاهُ
وَالنَّمْلُ تَحْتَ الصُّخُورِ الصُّمِّ قَدَّسَهُ = وَالنَّحْلُ يَهْتِفُ حَمْدًا فِي خَلايَاهُ
وَالنَّاسُ يَعْصُونَهُ جَهْرًا فَيَسْتُرُهُمْ = وَالْعَبْدُ يَنْسَى وَرَبِّي لَيْسَ يَنْسَاهُ
***********
وقال آخر:-
أَيْنَ الأُلَى دَوَّخُوا الدُّنْيَا بِسَطْوَتِهِمْ؟! = وَذِكْرُهُمْ فِي الْوَرَى ظُلْمٌ وَطُغْيَانُ
هَلِ اتَّقَى الْمَوْتُ ذَا عِزٍّ لِعِزَّتِهِ = أَوْ هَلْ نَجَا مِنْهُ بِالسُّلْطَانِ إِنْسَانُ
لا وَالَّذِي خَلَقَ الأَكْوَانَ مِنْ عَدَمٍ = الْكُلُّ يَفْنَى فَلا إِنْسٌ وَلا جَانُ
وقال آخر:-
لِلَّهِ فِي الآفَاقِ آيَاتٌ لَعَـ = ـلَّ أَقَلَّهَا هُوَ مَا إِلَيْهِ هَدَاكَا
وَلَعَلَّ مَا فِي النَّفْسِ مِنْ آيَاتِهِ = عَجَبٌ عُجَابٌ لَوْ تَرَى عَيْنَاكَا
وَالْكَوْنُ مَشْحُونٌ بِأَسْرَارٍ إِذَا = حَاوَلْتَ تَفْسِيرًا لَهَا أَعْيَاكَا
وقال آخر:
قُلْ لِلطَّبِيبِ تَخَطَّفَتْهُ يَدُ الرَّدَى = يَاشَافِيَ الأَمْرَاض مَنْ أَرْدَاكَ؟
قُلْ لِلْمَرِيضِ نَجَا وَعُوفِيَ بَعْدَمَا = عَجَزَتْ فُنُونُ الطِّبِّ مَنْ عَافَاكَ؟
قُلْ لِلصَّحِيحِ يَمُوتُ لا مِنْ عِلَّةٍ = مَنْ بِالْمَنَايَا يَا صَحِيحُ دَهَاكَ؟
قُلْ لِلْبَصِيرِ وَكَانَ يَحْذَرُ حُفْرَةً = فَهَوَى بِهَا مَنْ ذَا الَّذِي أَهْوَاكَ؟
بَلْ سَائِلِ الأَعْمَى خَطَا بَيْنَ الزِّحَامِ = بِلا اصْطِدَامٍ مَنْ يَقُودُ خُطَاكَ؟
قُلْ لِلْجَنِينِ يَعِيشُ مَعْزُولاً بِلا = رَاعٍ ومَرْعًى مَا الَّذِي يَرْعَاكَ؟(/6)
قُلْ لِلْوَلِيدِ بَكَى وَأَجْهَشَ بِالْبُكَاءِ = لَدَى الْوِلادَةِ مَا الَّذِي أَبْكَاكَ؟
وَإِذَا تَرَى الثُّعْبَانَ يَنْفُثُ سُمَّهُ = فَاسْأَلْهُ مَنْ ذَا بِالسُّمُومِ حَشَاكَ؟
وَاسْأَلْهُ كَيْفَ تَعِيشُ يَا ثُعْبَانُ أَوْ = تَحْيَا وَهَذَا السُّمُّ يَمْلأُ فَاكَ؟
وَاسْأَلْ بُطُونَ النَّحْلِ كَيْفَ تَقَاطَرَتْ = شَهْدًا وَقُلْ لِلشَّهْدِ مَنْ حَلاَّكَ؟
بَلْ سَائِلِ اللَّبَنَ الْمُصَفَّى كَانَ بَيْنَ = دَمٍ وَفَرْثٍ مَا الَّذِي صَفَّاكَ؟!
وَإِذَا رَأَيْتَ الْحَيَّ يَخْرُجُ مِنْ حَنَا = يَا مَيِّتٍ فَاسْأَلْهُ مَنْ أَحْيَاكَ؟!!
قُلْ لِلْهَوَاءِ تَحُثُّهُ الأَيْدِي وَيَخْـ = ـفَى عَنْ عُيُونِ النَّاسِ مَنْ أَخْفَاكَ؟!
قُلْ لِلنَّبَاتِ يَجِفُّ بَعْدَ تَعَهُّدٍ = وَرِعَايَةٍ مَنْ بِالْجَفَافِ رَمَاكَ؟!!
وَإِذَا رَأَيْتَ النَّبْتَ فِي الصَّحَرَاءِ يَرْ = بُو وَحْدَهُ فَاسْأَلْهُ مَنْ أَرْبَاكَ؟!!
وَإِذَا رَأَيْتَ الْبَدْرَ يَسْرِي نَاشِرًا = أَنْوَارَهُ فَاسْأَلْهُ مَنْ أَسْرَاكَ؟!
وَاسْأَلْ شُعَاعَ الشَّمْسِ يَدْنُو وَهْيَ أَبْـ = ـعَدُ كُلِّ شَيءٍ مَا الَّذِي أَدْنَاكَ؟!
قُلْ لِلْمَرِيرِ مِنَ الثِّمَارِ مَنِ الَّذِي = بِالْمُرِّ مِنْ دُونِ الثِّمَارِ غَذَاكَ؟!
وَإِذَا رَأَيْتَ النَّخْلَ مَشْقُوقَ النَّوَى = فَاسْأَلْهُ مَنْ يَا نَخْلُ شَقَّ نَوَاكَ؟!
وَإِذَا رَأَيْتَ النَّارَ شَبَّ لَهِيبُهَا = فَاسْأَلْ لَهِيبَ النَّارِ مَنْ أَوْرَاكَ؟!
وَإِذَا تَرَى الْجَبَلَ الأَشَمَّ مُنَاطِحًا = قِمَمَ السَّحَابِ فَسَلْهُ مَنْ أَرْسَاكَ؟!
وَإِذَا تَرَى صَخْرًا تَفَجَّرَ بِالْمِيَاهِ = فَسَلْهُ مَنْ بِالْمَاءِ شَقَّ صَفَاكَ؟!
وَإِذَا رَأَيْتَ النَّهْرَ بِالْعَذْبِ الزُّلالِ = جَرَى فَسَلْهُ مَنِ الَّذِي أَجْرَاكَ؟!(/7)
وَإِذَا رَأَيْتَ الْبَحْرَ بِالْمِلْحِ الأُجَاجِ = طَغَى فَسَلْهُ مَنِ الَّذِي أَطْغَاكَ؟!
وَإِذَا رَأَيْتَ اللَّيْلَ يَغْشَى دَاجِيًا = فَاسْأَلْهُ مَنْ يَا لَيْلُ حَاكَ دُجَاكَ؟!
وَإِذَا رَأَيْتَ الصُّبْحَ يُسْفِرُ ضَاحِيًا = فَاسْأَلْهُ مَنْ يَا صُبْحُ صَاغَ ضُحَاكَ؟!
يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ مَهْلاً مَا الَّذِي = بِاللَّهِ جَلَّ جَلالُهُ أَغْرَاكَا؟
سَيُجِيبُ مَا فِي الْكَوْنِ مِنْ آيَاتِهِ = عَجَبٌ عُجَابٌ لَوْ تَرَى عَيْنَاكَا
ربِّي لَكَ الْحَمْدُ الْعَظِيمُ لِذَاتِكَ = حَمْدًا وَلَيْسَ لِوَاحِدٍ إِلاَّكَا
وقال آخر:-
وَتَزْعُمُ أَنَّكَ جِرْمٌ صَغِيرٌ = وَفِيكَ انْطَوَى الْعَالَمُ الأَكْبَرُ
وقال آخر:-
وَالْمَرْءُ مِثْلُ هِلالٍ عِنْدَ طَلْعَتِهِ = يَبْدُو ضَئِيلاً لَطِيفًا ثُمَّ يَتَّسِقُ
يَزْدَادُ حَتَّى إِذَا مَا تَمَّ أَعْقَبَهُ = كَرُّ الْجَدِيدَيْنِ نَقْصًا ثُمَّ يَنْمَحِقُ
كَانَ الشَّبَابُ رِدَاءً قَدْ بَهِجْتُ بِهِ = فَقَدْ تَطَايَرَ مِنْهُ لِلْبِلَى خِرَقُ
وَبَاتَ مُنْشَمِرًا يَحْدُو الْمَشِيبُ بِهِ = كَاللَّيْلِ يَنْهَضُ فِي أَعْجَازِهِ الأُفُقُ
عَجِبْتُ وَالدَّهْرُ لا تَفْنَى عَجَائِبُهُ = لِلرَّاكِنِينَ إِلَى الدُّنْيَا وَقَدْ صَدَقُوا
وطَالَما نُغِّصُوا بالفَجْعِ ضَاحِيَةً = وطَالَ بالفَجْعِ والتَّنْغِيصِ ما طُرِقُوا
دَارٌ تَغُرُّ بِهَا الآمَالُ مُهْلِكَةٌ = وَذُو التَّجَارِبِ فِيهَا خَائِفٌ فَرِقُ
يَا لَلرِّجَالِ لِمَخْدُوعٍ بِزُخْرُفِهَا = بَعْدَ الْبَيَانِ وَمَغْرُورٍ بِهَا يَثِقُ
أَقُولُ وَالنَّفْسُ تَدْعُونِي لِبَاطِلِهَا = أَيْنَ الْمُلُوكُ مُلُوكِ النَّاسِ وَالسُّوَقُ
أَيْنَ الَّذِينَ إِلَى لَذَّاتِهَا رَكَنُوا = قَدْ كَانَ فِيهَا لَهُمْ عَيْشٌ وَمُرْتَفَقُ
أَمْسَتْ مَسَاكِنُهُمْ قَفْرًا مُعَطَّلَةً = كَأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا قَبْلَهَا خُلِقُوا(/8)
يَا أَهْلَ لَذَّاتِ دَارٍ لا بَقَاءَ لَهَا = إِنَّ اغْتِرَارًا بِظِلٍّ زَايِلٍ حُمُقُ
وقال آخر:
الدَّهْرُ يَوْمَانِ ذَا أَمْنٌ وَذَا خَطَرُ = وَالْعَيْشُ عَيْشَانِ ذَا صَفْوٌ وَذَا كَدَرُ
أَمَا تَرَى الْبَحْرَ يَعْلُو فَوْقَهُ جِيَفٌ = وَتَسْتَقِرُّ بِأَقْصَى قَاعِهِ الدُّرَرُ
وَفِي السَّمَاءِ نُجُومٌ لا عِدَادَ لَهَا = وَلَيْسَ يَكْسِفُ إِلاَّ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ
وقال آخر:
فَلَمْ أَرَ كَالأَيَّامِ لِلْمَرْءِ وَاعِظًا = وَلا كَصُرُوفِ الدَّهْرِ لِلْمَرْءِ هَادِيَا
وقال آخر:-
قَدْ يَجْمَعُ الْمَالَ غَيْرُ آكِلِهِ = وَيَأْكُلُ الْمَالَ غَيْرُ مَنْ جَمَعَهْ
وقال آخر:-
لا تَرْقُدَنَّ لِعَيْنِكَ السَّهَرُ = وَانْظُرْ إِلَى مَا تَصْنَعُ الْعِبَرُ
انْظُرْ إِلَى عِبَرٍ مُصَرَّفَةٍ = مَا دَامَ يُمْكِنُ طَرْفَكَ النَّظَرُ
فَإِذَا جَهِلْتَ وَلَمْ تَجِدْ أَحَدًا = فَسَلِ الزَّمَانَ فَعِنْدَهُ الْخَبَرُ
فَإِذَا نَظَرْتَ تُرِيدُ مُعْتَبَرًا = فَانْظُرْ إِلَيْكَ فَفِيكَ مُعْتَبَرُ
أَنْتَ الَّذِي تَنْعَاهُ خِلْقَتُهُ = يَنْعَاهُ مِنْهُ الشَّعْرُ وَالْبَشَرُ
يَا مَنْ يُؤَمِّلُ أَنْتَ مُنْتَظِرٌ = أَمَلاً يَطُولُ وَلَسْتَ تَنْتَظِرُ
مَاذَا تَقُولُ وَأَنْتَ فِي غُصَصٍ = مَاذَا تَقُولُ وَذَوْقُكَ الْمَدَرُ
مَاذَا تَقُولُ وَقَدْ لَحِقْتَ بِمَا = يَجْرِي عَلَيْهِ الرِّيحُ وَالْمَطَرُ
كَمْ قَدْ عَفَتْ عَيْنٌ لَهَا أَثَرُ = دَرَسَتْ وَيَدْرُسُ بَعْدَهَا الأَثَرُ
وقال آخر:-
دَعِ الدُّورَ وَاطْلُبْ فَسِيحَ الْبَرَارِي = وَانْظُرْ إِلَى صَفحَاتِ الْجَمَالِ
عَلَى حَافَةِ الْمَاءِ دُونَ مَلالِ = تَأَمَّلْ تَرَقُّقَ مَاءٍ زُلالِ
وَحَدِّقْ إِلَى نَرْجِسٍ ذِي دَلالِ = وَقَبِّلْ عُيُونًا لَهُ كَاللآلِي
وقال آخر:-
أَمَا وَاللَّهِ لَوْ عَلِمَ الأَنَامُ = لِمَا خُلِقُوا لَمَا هَجَعُوا وَنَامُوا(/9)
لَقَدْ خُلِقُوا لِيَوْمٍ لَوْ رَأَتْهُ = عُيُونُ قُلُوبِهِمْ سَاحُوا وَهَامُوا
مَمَاتٌ ثُمَّ حَشْرٌ ثُمَّ نَشْرٌ = وَتَوْبِيخٌ وَأَهْوَالٌ عِظَامُ
لِيَوْمِ الْحَشْرِ قَدْ عَمِلَتْ أُنَاسٌ = فَصَلَّوْا مِنْ مَخَافَتِهِ وَصَامُوا
وَنَحْنُ إِذَا أُمِرْنَا أَوْ نُهِينَا = كَأَهْلِ الْكَهْفِ أَيْقَاظٌ نِيَامُ
وقال آخر:-
كَأَنَّكَ لَمْ تَسْمَعْ بِأَخْبَارِ مَنْ مَضَى = وَلَمْ تَرَ فِي الْبَاقِينَ مَا يَصْنَعُ الدَّهْرُ
فَإِنْ كُنْتَ لا تَدْرِي فَتِلْكَ دِيَارُهُمْ = مَحَاهَا مَجَالُ الرِّيحِ بَعْدَكَ وَالْقطْرُ
عَلَى ذَاكَ مَرُّوا أَجْمَعُونَ وَهَكَذَا = يَمُرُّونَ حَتَّى يَسْتَرِدَّهُمُ الْحَشْرُ
فَحَتَّامَ لا تَصْحُو وَقَدْ قَرُبَ الْمَدَى = وَحَتَّامَ لا يَنْجَابُ عَنْ قَلْبِكَ السُّكْرُ
بَلَى سَوْفَ تَصْحُو حِينَ يَنْكَشِفُ الْغَطَا = وَتَذْكُرُ قَوْلِي حِينَ لا يَنْفَعُ الذِّكْرُ
وقال عبد الوهاب عزام:-
لَسْتُ أَخْلُو لِغَفْلَةٍ وَسُكُونٍ = وَفِرارٍ مِنَ الْوَرَى وَارْتِيَاحِ
إِنَّمَا خُلْوَتِي لِفِكْرٍ وَذِكْرٍ = فَهْيَ زَادِي وَعُدَّتِي لِكِفَاحِي
وقال آخر:-
كُلُّ صَفْوٍ إِلَى كَدَرْ = كُلُّ أَمْنٍ إِلَى حَذَرْ
وَمَصِيرُ الشَّبَابِ لِلْـ = ـمَوْتِ فِيهِ أَوِ الكِبَرْ
أَيُّهَا الآمِلُ الَّذي = تَاهَ فِي لُجَّةِ الْغَرَرْ
أَيْنَ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا = دَرَسَ الشَّخْصُ وَالأَثَرْ
سَيَرُدُّ الْمُعَارَ مَنْ = عُمْرُهُ كُلُّهُ خَطَرْ
رَبِّ إِنِّي ذَخَرْتُ عِنْدَكَ **=
إِنَّنِي مُؤْمِنٌ بِمَا = بَيَّنَ الْوَحْيُ فِي السُّوَرْ
وَاعْتِرَافِي بِتَرْكِ نَفْـ = ـعِي وَإِيثَارِيَ الضَّرَرْ
رَبِّ فَاغْفِرْ لِيَ الْخَطِيـ = ـئَةَ يَا خَيْرَ مَنْ غَفَرْ
وقال آخر:-
هَلِ الدَّهْرُ إِلاَّ مَا عَرَفْنَا وَأَدْرَكْنَا = فَجَايِعُهُ تَبْقَى وَلَذَّاتُهُ تَفْنَى(/10)
إِذَا أَمْكَنَتْ فِيهِ مَسَرَّةُ سَاعَةٍ = تَوَلَّتْ كَمَرِّ الطَّرْفِ وَاسْتَخْلَفَتْ حُزْنَا
إِلَى تَبِعَاتٍ فِي المعَادِ وَمَوْقِفٍ = نَوَدُّ لَدَيْهِ أَنَّنَا لَمْ نَكُنْ كُنَّا
حَصَلْنَا عَلَى هَمٍّ وَإِثْمٍ وَحَسْرَةٍ = وَفَاتَ الَّذِي كُنَّا نَلَذُّ بِهِ عَنَّا
كَأَنَّ الَّذِي كُنَّا نُسَرُّ بِكَوْنِهِ = إِذَا حَقَّقَتْهُ النَّفْسُ لَفْظٌ بِلا مَعْنَى
وقال آخر:-
كَفَى زَاجِرًا لِلْمَرْءِ أَيَّامُ دَهْرِهِ = تَرُوحُ لَهُ بِالْوَاعِظَاتِ وَتَغْتَدِي
وقال آخر:-
نُزْهَةُ الْمُؤْمِنِ الْفِكَرْ = لَذَّةُ الْمُؤْمِنِ الْعِبَرْ
نَحْمَدُ اللَّهَ وَحْدَهُ = نَحْنُ كُلٌّ عَلَى خَطَرْ
رُبَّ لاهٍ وَعُمْرُهُ = قَدْ تَقَضَّى وَمَا شَعَرْ
رُبَّ عَيْشٍ قَدْ كَانَ = فَوْقَ الْمُنَى مُورِقُ الزَّهَرْ
فِي خَرِيرٍ مِنَ الْعُيونِ = وَظِلٍّ مِنَ الشَّجَرْ
وَسُرورٍ مِنَ النَّبَاتِ = وَطِيبٍ مِنَ الثَّمَرْ
غَيَّرَتْهُ وَأَهْلَهُ = سُرْعَةُ الدَّهْرِ بِالْغِيَرْ
نَحْمَدُ اللَّهَ وَحْدَهُ = إنَّ فِي ذَا لَمُعْتَبَرْ
إِنَّ فِي ذَا لَعِبْرَةً = لِلَبِيبٍ إِنِ اعْتَبَرْ
نُزْهَةُ الْمُؤْمِنِ الْفِكَرْ = لَذَّةُ الْمُؤْمِنِ الْعِبَرْ
نَحْمَدُ اللَّهَ وَحْدَهُ = نَحْنُ كُلٌّ عَلَى خَطَرْ
وقال آخر:-
سَلِ الْوَاحَةَ الْخَضْرَاءَ وَالْمَاءَ جَارِيَا= وَهَذِه الصَّحَارِي وَالْجِبَالَ الرَّوَاسِيَا
سَلِ الرَّوْضَ مُزْدَانًا سَلِ الزَّهْرَ وَالنَّدَى = سَلِ اللَّيْلَ وَالإِصْبَاحَ وَالطَّيْرَ شَادِيَا
وَسَلِ هَذِه الأَنْسَامَ وَالأَرْضَ وَالسَّمَا = وَسَلْ كُلَّ شَيْءٍ تَسْمَعُ الْحَمْدَ سَارِيَا
فَلَوْ جَمَّ هَذَا اللَّيْلُ وَامْتَدَّ سَرْمَدًا = فَمَنْ غَيْرُ رَبِّي يَرْجِعُ الصُّبْحَ ثَانِيَا؟!
وقال آخر:-
وَحَدّثَتْكَ اللَّيَالِي أَنَّ شِيمَتَهَا = تَفْرِيقُ مَا جَمَّعَتْهُ فَاسْمَعِ الْخَبَرَا(/11)
وَكُنْ عَلَى حَذَرٍ مِنْهَا فَقَدْ نَصَحَتْ = وَانْظُرْ إِلَيْهَا تَرَ الآيَاتِ وَالْعِبَرَا
فَهَلْ رَأَيْتَ جَدِيدًا لَمْ يَعُدْ خَلِقًا = وَهَلْ سَمِعْتَ بِصَفْوٍ لَمْ يَعُدْ كَدَرَا
وقال آخر:-
سَلِ الأَيَّامَ مَا فَعَلَتْ بِكِسْرَى = وَقَيْصَرَ والقُصُورَ وَسَاكِنيهَا
أَمَا اسْتَدْعَتْهُمُ لِلْمَوْتِ طُرًّا = فَلَمْ تَدَعِ الْحَلِيمَ وَلا السَّفِيهَا
دَنَتْ نَحْوَ الدَّنِيِّ بِسَهْمِ خَطْبٍ = فَأَصْمَتْهُ وَوَاجَهَتِ الْوَجِيهَا
أَمَا لَوْ بِيعَتِ الدُّنْيَا بِفَلْسٍ = أَنِفَتْ لِعَاقِلٍ أَنْ يَشْتَرِيهَا(/12)
العنوان: التحالف الاستراتيجي بين الولايات المتحدة وإسرائيل ووجهات النظر الإسرائيلية تجاهه
رقم المقالة: 276
صاحب المقالة: عبدالحفيظ محارب
-----------------------------------------
قبل التطرق إلى إتفاق التحالف الإستراتيجي بين الولايات المتحدة وإسرائيل ووجهات النظر الإسرائيلية تجاهه، ومن أجل وضع الإتفاق في سياقه التاريخي، كان لابد من إطلالة قصيرة وسريعة على العلاقات التحالفية التي أقامتها الحركة الصهيونية ومن ثم إسرائيل مع أطراف أجنبية. ويمكن تقسيم هذه الأطراف إلى ثلاثة، إثنان منها على وشك الغروب، والآخر لا يزال قائماً وإن اقتصر على دولة واحدة.
1 - الظاهرة اللاسامية الأوروبية.
2 - الظاهرة الإستعمارية الأوروبية بشقيها: الفاشي والإستعماري التقليدي.
3 - الامبريالية الأميركية.
ومن أجل مقتضيات البحث سيقتصر الحديث على الظاهرتين الثانية والثالثة. ولكن لا ينبغي أن يغيب عن البال أن الحركة الصهيونية، التي كان ظهورها بمثابة رد على الحركة اللاسامية، قد استفادت بشكل كبير من الواقع اللاسامي في عدد من البلدان الأوروبية. ولا نبتعد عن الحقيقة إذا قلنا أن الواقع اللاسامي كان بمثابة الحليف الطبيعي للحركة الصهيونية خلال الربع الأخير من القرن التاسع عشر وحتى إنتهاء الحرب العالمية الثانية حيث أخذ بالزوال بفعل زواج الأفكار الليبرالية والإنسانية، وأن الحركة الصهيونية تعاني، في الوقت الحاضر، من واقع تحسن أوضاع اليهود في العالم، أي من واقع غياب هذا العامل.
التحالفات الصهيونية – الإستعمارية التي سبقت الإتفاق:(/1)
يعتبر الإتفاق الإستراتيجي بين الولايات المتحدة وإسرائيل، فضلاً عن كونه خطوة جريئة تقوم بها دولة بالتحالف مع دولة أخرى هي في حالة حرب مع مجموعة دول تمتلك ثروات طبيعية ضخمة وأراض محتلة، يعتبر تتويجاً للعلاقات بين المشروع الصهيوني والامبريالية الأميركية، والحلقة الأخيرة في سلسلة التحالفات مع القوى الاستعمارية.
لقد بذلت الحركة الصهيونية، منذ نشوئها، جهوداً حثيثة لإقامة تحالف مع أي طرف يدعم مشروعها ويسانده. وبحكم طبيعة هذا المشروع والتقائه مع المصالح الإستعمارية كان توجهها للتحالف مع الجهات الإستعمارية ذات المصالح في المشرق العربي بالذات. وقد أحرزت نجاحات في هذا المضمار، حتى قيام الكيان الإسرائيلي في العام 1948م، من أهمها:
1 – توطيد العلاقة مع بريطانيا العظمى، أكبر دولة استعمارية في ذلك الحين. فقد تمكنت الحركة، بحكم التقاء مصالحها مع المصالح البريطانية الاستعمارية، من الحصول على وعد من وزير الخارجية بريطانيا بمنح ((وطن قومي)) لليهود في فلسطين. ووجد هذا التحالف تعبيرات عنه في تسهيل الهجرة اليهودية إلى فلسطين، ومنح الوكالة اليهودية مكانة دولة داخل الدولة، ووقوفها في الأعوام 1936 – 1939م إلى جانب المشروع الصهيوني بشكل حاد، على أثر تضافر وتطابق المصالح، بتحالفها مع منظمة الهاغاناه الصهيونية، وما ترتب عن ذلك من تعزيز لقوتها العسكرية، حيث تم إنشاء سرايا جديدة تابعة لها وتدريب عناصرها وتزويدها بالأسلحة لمواجهة الثورة الفلسطينية، وارتقاء هذا التحالف في العام 1941م بتشكيل قوات خاصة (البلماح) تابعة للهاغاناه، تتلقى التدريب والدعم المالي من القوات البريطانية، إلى جانب دورها في دعم ورعاية المجندين اليهود في الجيش البريطاني ومنحهم تشكيلاً خاصاً في العام 1944م أطلق عليه اسم ((الفرقة اليهودية المقاتلة)).(/2)
2 – بداية التحالف مع الولايات المتحدة: إلى جانب رغبتها في توطيد العلاقة مع السلطة البريطانية الإستعمارية القائمة في فلسطين، حرصت الحركة الصهيونية، مع بداية توجه الولايات المتحدة لغرس نفوذها في الشرق الأوسط، على نقل مركز ثقلها إلى الوافد الجديد، من خلال حسابات دقيقة لقوة الدول الاستعمارية المتنافسة على بسط نفوذها في المنطقة، وحجم الحركة الصهيونية ونفوذها في كل منها. فقد أدركت الحركة الصهيونية القوة النامية للولايات المتحدة وطموحاتها الاستعمارية الرامية للحلول محل النفوذين البريطاني والفرنسي في المنطقة، خاصة عقب خروجها من الحرب العالمية الثانية كأكبر قوة عالمية على الصعيدين الإقتصادي والعسكري، وما نجم عن ذلك من دخول بريطانيا، التي خرجت من الحرب بإقتصاد مدمر، لأول مرة في تاريخها، ضمن التبعية الإقتصادية للولايات المتحدة. فعمدت إلى نقل مركز ثقل نشاطها من لندن إلى واشنطن مستغلة وجود تجمع يهودي كبير ونشط، للضغط على متخذي القرار في البيت الأبيض، ليس فقط بهدف ملاءمة الأطماع الأميركية الشرق – أوسطية مع المخططات الصهيونية وإنما أيضاً للضغط، عن طريق واشنطن، على بريطانيا التي دخلت في طور التبعية الإقتصادية للولايات المتحدة، بهدف احتواء التعارضات السياسية معها، ودفعها لإنتهاج سياسة موالية أكثر للمشروع الصهيوني.(/3)
وقد كان من نتيجة نقل مركز ثقل النشاط الصهيوني إلى واشنطن، والذي عبّر عنه مؤتمر بلتيمور عام 1942م، أن أخذت العلاقات الأميركية الصهيونية تزداد توثقاً خلال الأربعينيات. ومن أبرز معالم هذا التوثق، تعاطف الحزبين الرئيسيين: الجمهوري والديمقراطي، وكذلك الرؤساء روزفلت وترومان مع أهداف الحركة الصهيونية، والموقف الأميركي المطالب بتهجير مئة ألف يهودي من معسكرات اللاجئين في أوروبا إلى فلسطين فوراً، والتعاطف البارز مع الأهداف الصهيونية للأعضاء الأميركيين في اللجنة الملكية التي زارت فلسطين في ربيع 1946م.
3 – التحالف مع الفاشية الإيطالية والنازية الألمانية: إدراكاً منها للعلاقة الجدلية القائمة بين متطلبات تحقيق مشروعها وبين تطلعات أية دولة، وبغض النظر عن نظام حكمها السياسي، لاستعمار الشرق الأوسط أو إحدى مناطقه، سعت الحركة الصهيونية لإرساء علاقات تحالفية مع إيطاليا الفاشية وكذلك مع ألمانيا النازية. وليس من المستبعد أن يكون وزير خارجية اسرائيل يتسحاق شمير، الرجل الثاني في الوفد الإسرائيلي في مفاوضات الإتفاق الاستراتيجي مع الولايات المتحدة، قد راوده طيف ((إتفاق استراتيجي)) آخر كان قد صاغه مع زميله ابراهام شتيرن في عام 1941م لعرضه على زعيم ألمانيا النازية.(/4)
ففي أوائل العشرينيات نشطت الحركة الصهيونية لإقامة علاقة مع الحزب الفاشي الإيطالي، وقدم جابوتنسكي، في 16 تموز (يوليو) 1922م، مذكرة بإسمها إلى زعيم الحزب موسوليني، أكدت فيها على مسألة تماثل المصالح بين المشروع الصهيوني والنفوذ الإيطالي في الشرق العربي، ذلك أن المصالح الإيطالية، وفق ما جاء في المذكرة ((تتلاءم مع أهداف المشروع الصهيوني في فلسطين، بينما الحركة القومية العربية هي بمثابة عكاز هش، مآلها التعرض للدول الأوروبية))[1]. ومما يسترعي الإنتباه أن الرسميين الإسرائيليين ساروا على منوال روحية هذه المذكرة في انتقاداتهم الراهنة لسياسة الولايات المتحدة تجاه حلفائها في منطقة الشرق الأوسط. إذ يجمع هؤلاء على ضرورة عدم وضع اهتمام خاص على التحالف مع السعودية ومصر بحجة عدم استقرار نظامي الحكم فيهما، ليطالبوا بتركيز الإهتمام على إسرائيل، وإحلالها في المرتبة الرئيسية في التحالف، باعتبارها صمام الأمان للمصالح الأميركية في المنطقة.
وقد قطعت العلاقات الفاشية الصهيونية شوطاً بعيداً في الثلاثينيات، عبّر عن نفسه بعقد اتفاق سري عام 1934م بين موسوليني ووايزمان، تعهد فيه الأول ((بدعم مطامح الصهيونية في البلاد باستثناء القدس، وتسهيل مرور المهاجرين اليهود عن طريق الموانئ الإيطالية، بينما تعهد الثاني ((بالمساعدة في تطوير الصناعة الكيمياوية في إيطاليا لتحريرها من الإرتباط بالعلماء الألمان والمنتجات الألمانية))[2]. وكذلك بعقد إتفاق أخطر مع الجناح التصحيحي في الحركة الصهيونية بزعامة جابوتنسكي، إذ تمكن هذا الجناح من التوصل إلى إتفاق عسكري مع الدوتشي تم بموجبه تأهيل أعداد من عناصر حركة بيتار* في مدرسة بحرية أقيمت في إحدى ضواحي روما، وتخرج منها ما بين 1934 – 1938م قرابة مئتين من أعضاء الحركة، برتب مختلفة في القيادة البحرية[3].(/5)
وفيما يتعلق بالعلاقات مع ألمانيا النازية، فقد كان للتيارين الصهيونيين محاولات لتوطيد العلاقة مع النظام النازي، وليس سراً استبشار عدد من الزعماء الصهاينة في مرحلة مبكرة من ظهور النازية بهذه الحركة، اعتقاداً منهم بالتماثل المصلحي الصهيوني – النازي حول مسألة تنظيف أوروبا من اليهود دون أن يخطر ببالهم هول المجازر البشعة التي ستتمخض عن السياسة العنصرية النازية في الأربعينيات. وقد توصل التيار العمالي الصهيوني، انسجاماً مع هوس هتلر، للتخلص من اليهود وسعي الحركة الصهيونية الحثيث لتهجير يهود أوروبا إلى فلسطين، إلى إتفاق يعرف باسم الـ((هعفراه)) (النقل). بيد أن الأخطر من ذلك محاولة فريق من الجناح التصحيحي بزعامة ابراهام شتيرن ويتسحاق شمير وزير الخارجية الحالي، القيام بمحاولات عدة للتوصل إلى تحالف عسكري مع النظام النازي. ومن أهم هذه المحاولات، تلك التي جرت عام 1941م حين اجتمع موفد من قبل هذا الفريق، يدعى نفتالي بأحد كبار الضباط النازيين في السفارة الألمانية في بيروت، قدم خلاله الطرف الصهيوني مذكرة تحت عنوان ((الخطوط الأساسية لاقتراح التنظيم العسكري القومي في فلسطين (ها إرغون هتسفائي هليئومي) حول حل القضية اليهودية في أوروبا وحول الإشتراك الفعلي للتنظيم العسكري القومي في الحرب إلى جانب ألمانيا)) شرحت، بشيء من المبالغة، قدرة التنظيم على تجنيد أعداد كبيرة من يهود أوروبا إلى جانب القوات النازية، مع التأكيد على القدرة القتالية للتنظيم داخل فلسطين ((أما القدرة القتالية للتنظيم العسكري القومي، فلم يعترها، جزماً، أي شلل أو ضعف ملحوظ نتيجة العنف الشديد الموجه من قبل الإدارة البريطانية والعرب أو حتى من قبل الاشتراكيين اليهود))[4].(/6)
ومن الجدير بالذكر أن بيغن تفوّه، أثناء جولته الأخيرة في الولايات المتحدة، بكلمات شبيهة، في روحيتها، بالمذكرة الآنفة الذكر حين هوّل في محاضرة له من قدرة الجيش الإسرائيلي وخبرته القتالية، ودوره في التشكيل الإستراتيجي الأميركي، إذ قال إن ((بوسع إسرائيل تجنيد 700.000 جندي. يوجد لدينا جيش ممتاز. يسألونني دائماً إذا كان هذا هو أفضل جيش في العالم. وأجيب أنه ليس الأفضل، ولكنني لا أعرف من هو أفضل منه. ولكن عندما يسألونني إذا كان سلاحنا الجوي هو الأفضل في العالم، فإنني أوافق على ذلك، لكونه يمتلك خبرة قتالية أكثر من سلاحي الجو في الدولتين الأعظم))[5].
كان من نتيجة تحالف الحركة الصهيونية مع الظاهرة الإستعمارية الأوروبية بمختلف أشكالها، والنشاط الذاتي لهذه الحركة، وضعف حركة التحرر في العالم العربي، إن أخذ المشروع الصهيوني بالتطور في فلسطين والتجسد على شكل دولة في عام 1948م.(/7)
وعلى الرغم من إعلان الدولة الوليدة عن إنتهاجها طريق الحياد في ((وثيقة الإستقلال))، فقد بقي هذا الإعلان بمثابة حبر على ورق. فقد سعى المسؤولون الإسرائيليون، وعلى رأسهم بن غوريون، لدمج الدولة الجديدة في التشكيل العسكري الغربي. وكانت مشاركته في الحرب الكورية التي أخذت شكل معونات للقوات الأميركية بمثابة مؤشر على توجهاته. بيد أن رغبته اصطدمت بتمنع من جانب دول حلف الأطلسي خشية من تأثر مصالحها في الوطن العربي. وإزاء هذا الرفض، دخلت إسرائيل في تحالفات منفردة مع بريطانيا وفرنسا خلال الخمسينيات، مستغلة واقع إرتفاع حرارة الصراع بينهما وبين حركة التحرر العربي، وكان من نتيجة هذا إشتراك إسرائيل في العدوان الثلاثي على مصر عام 1956م، وفتحها أجواءها عام 1958م للطائرات البريطانية لتسهيل عملية هبوطها في الأردن لحمايته من إحتمال امتداد إنتفاضة ثورة 14 تموز في العراق. وفي الوقت نفسه حرصت على توطيد علاقاتها مع ألمانيا الغربية إلى أقصى حد ممكن.
ومع انحسار ظلال النفوذين البريطاني والفرنسي عن المنطقة في أوائل الستينيات، بهت التحالف، وانتقل إلى الولايات المتحدة وريثة هذين النفوذين.(/8)
كانت محطة التحالف الرئيسية الأولى في عهد الرئيس الأميركي جون كينيدي، عندما اتخذ عام 1962م قراراً بالموافقة على تزويد إسرائيل بصواريخ هوك المضادة للطائرات. ولم يكن اتخاذ هذا القرار سهلاً، فقد أتى بعد مداولات استغرقت أكثر من عام تناولت تبعاته السلبية على المصالح الأميركية في الوطن العربي، في ظل نمو حركة التحرر العربي في تلك الفترة. وحتى بعد الإعلان عنه، وجد الرئيس الأميركي نفسه مضطراً لتبادل الرسائل مع الرئيس عبدالناصر، مقترحاً عليه استعداده لإلغاء الصفقة مع إسرائيل شرط وقف سباق التسلح في المنطقة[6]. وقد وجد في رفض عبدالناصر لإقتراحه ما شجعه لتنفيذ عقد الصفقة التي دشنت بداية التعاون الجدي بين الولايات المتحدة وإسرائيل على الصعيد الأمني، حيث بدأت حلقات حصول إسرائيل على أحدث الأسلحة الأميركية تزداد وتتسع ويزداد معها توثق العلاقات الأميركية الإسرائيلية. ففي عهد الرئيس الأميركي جونسون إزداد التعاون، وبدا واضحاً من خلال المعونات العسكرية إلى اسرائيل في حرب 1967م، واتسع في عهدي الرئيسين نيكسون وفورد، وكان من أبرز تعبيراته تأهب إسرائيل والولايات المتحدة للتدخل في الأردن أثناء معارك أيلول (سبتمبر) 1970م بين المقاومة الفلسطينية والنظام الأردني، وإقامة جسر جوي بين الولايات المتحدة وإسرائيل خلال حرب تشرين الأول (أكتوبر) 1973م، إلى جانب استنفار وحدات عسكرية أميركية استعداداً للتدخل، والتوصل عام 1975م في ظل اتفاق فصل القوات الثاني إلى عقد ((مذكرة تفاهم)) سرية بين الولايات المتحدة واسرائيل تعهدت فيها الأولى، حسبما نشر، بعدم الإعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية والتنسيق بين الدولتين في حال تعرض أمن اسرائيل أو استقلالها للخطر من قبل دولة عظمى، هذا فضلاً عن مواصلة إمداد اسرائيل بأحدث المعدات العسكرية. وقد بقيت العلاقات الأميركية الإسرائيلية محافظة على استمرارية توطدها في عهدي الرئيسين كارتر(/9)
وريغان إلى أن توجت في عهد الأخير بالإعلان عن الإتفاق الإستراتيجي.
كخلاصة لما سبق يمكن القول أن الحركة الصهيونية، ومن ثم إسرائيل، سعت من أجل تحقيق مشروعها والحفاظ عليه، إلى إرساء علاقات تحالفية مع أي طرف تتناقض مصالحه جذرياً مع تطلعات الشعوب العربية. ومن هنا جاءت تحالفاتها مع الظاهرة الإستعمارية الأوروبية بشقيها الفاشي والإستعماري التقليدي، وكذلك مع تلك الأنظمة التي تكن عداء لحركة التحرر العربي مثل نظام الشاه في إيران والامبراطور في إثيوبيا. ومع أفول الظاهرة الإستعمارية الأوروبية، وإنهيار نظامي الشاه والامبراطور، لم يبق أمام إسرائيل سوى عنوان واحد: الولايات المتحدة الأميركية بصفتها أكبر قوة إمبريالية تمكنت من إحتلال الدور الذي كانت تقوم به دول الإستعمار التقليدي في المنطقة.
ومن الملفت للنظر أن مجموع حلقات التحالف الصهيوني الأجنبي قد أحيطت، بشكل أو بآخر، بنوع من السرية باستثناء التحالف الأخير الذي عمد طرفاه إلى الإعلان عنه بصوت عال.
وإذا كان الإتفاق يعتبر بمثابة الحلقة الأخيرة في سلسلة التحالفات الصهيونية مع الأوساط الغربية، فإنه قد جاء في سياق تطورات شرق – أوسطية، كان من نتائجها تعميق النفوذ الأميركي في المنطقة. ومن أبرز معالم هذه التطورات:
1 – انتقال مصر، التي شكلت تاريخياً مركز الثقل في الوطن العربي، بشكل دراماتيكي، إلى دائرة النفوذ الأميركي. ووجد هذا التطور الخطير تعبيرات عنه في زيارة السادات لإسرائيل عام 1977م وعقد إتفاقية كامب ديفيد عام 1978م، وتصريحات السادات المتكررة حول استعداده لمنح التسهيلات للقوات الأميركية في الأراضي المصرية، لكي يكون بوسعها التدخل في أي قطر عربي أو إسلامي أو إفريقي في حال تعرضه لما أسماه بالخطر الشيوعي. وأخيراً، في المناورات العسكرية المشتركة بين القوات الأميركية والمصرية.(/10)
2 – تعاظم ارتباط الدول الغربية بالبترول العربي، الأمر الذي تطلب تعميق الهيمنة الأميركية في السعودية ودول الخليج.
وكان من نتيجة حدوث هذه التطورات، أن وجدت الولايات المتحدة نفسها، للمرة الأولى، تضم في دائرة نفوذها، في آن واحد، كلاً من مصر التي تحتضن أكبر تجمع عربي، والسعودية وتوابعها في الخليج التي تحتضن في المقابل ثروات هائلة، إلى جانب إسرائيل كحليف ثابت، مما تطلب منها توجهاً جديداً، اتسم بتركيز اهتماماتها الشرق – أوسطية على مصر وبخاصة في عهد كارتر، وعلى مصر والسعودية معاً في عهد ريغان دون إغفال متطلبات إسرائيل. وقد نجم عن هذا التوجه تخوفات بين أوساط إسرائيلية من إمكانية تدني مكانة إسرائيل في الإستراتيجية الأميركية، واحتلال مصر أو السعودية مكان الصدارة. وتردّدت هذه التخوفات أكثر من مرة على لسان عدد من المسؤولين الإسرائيليين وعلى رأسهم رئيس الإستخبارات العسكرية يهوشوع ساغي الذي أعرب عن تذمره من تعاظم النفوذ الأميركي في مصر خشية أن يكون ذلك لغير صالح إسرائيل، وليطالب من ثم الولايات المتحدة بتركيز رهانها على إسرائيل لكي تصبح بمثابة ((رافعة ضخمة لمصالحها في المنطقة))[7]. وقد دفع ذلك الولايات المتحدة، على أثر ((حوار إستراتيجي)) استمر لفترة طويلة بينها وبين إسرائيل، إلى عقد تحالف إستراتيجي بينهما، يتلاءم مع السياسة الأميركية وتوجهاتها ويضمن لإسرائيل، كرافعة ضخمة للمصالح الأميركية، إحتلال مكانة خاصة في الإستراتيجية الأميركية.
الإعلان عن الإتفاق:(/11)
عشية وصول بيغن إلى واشنطن في السادس من أيلول (سبتمبر) الماضي على رأس وفد يضم وزير الخارجية يتسحاق شمير ووزير الدفاع اريئيل شارون ووزير الداخلية يوسف بورغ، إلى جانب عدد من المسؤولين العسكريين، ردّد الرئيس الأميركي ريغان المصطلح الذي ما فتئ يتردد على لسان بيغن منذ تربعه على سدة الحكم، والقائل إن إسرائيل بمثابة ((كنز إستراتيجي)) للولايات المتحدة، في حين أصدرت وزارة الخارجية الأميركية بياناً رسمياً اعتبرت فيه إسرائيل، للمرة الأولى، بمثابة ((حليف إستراتيجي للولايات المتحدة))[8].
وفي المقابل أكد المسؤولون الإسرائيليون، وبخاصة بيغن وشارون، على أهمية إسرائيل إستراتيجياً للعالم الغربي في صراعه مع الإتحاد السوفياتي. ووسط هذه التصريحات كانت العلاقات الأميركية الإسرائيلية تشهد اهتزازات متتالية نتيجة التعارض في المواقف المعلنة تجاه عدد من القضايا، ومن بينها: قصف المفاعل الذري العراقي. وقصف الأحياء السكنية في بيروت، ومشروع الأمير فهد، والأهم من ذلك كله صفقة الأواكس مع السعودية.
وكان يبدو للكثير من المعلقين الإسرائيليين أن فرص نجاح المفاوضات ضعيفة، بيد أن اندفاعة الرئيس الأميركي في توجهه لخلق جبهة شرق أوسطية في وجه الإتحاد السوفياتي، وحماس بيغن لاحتلال مكانة الصدارة في هذه الجبهة، قد حالا دون إيلاء إهتمام كبير للتعارضات في المواقف، ودفعا الطرفين إلى التركيز على موضوع التحالف. وقد توصل الطرفان إلى إتفاق مبدئي حول التحالف الذي عرف بأسماء متعددة، مثل إتفاق ((التعاون الإستراتيجي)) و((التفاهم الإستراتيجي)) و((الدفاع الإستراتيجي)) أو ((مذكرة التفاهم الإستراتيجي)) على أن يجري في وقت لاحق، وبواسطة وزيري الحربية في كلا البلدين، إعداد صياغته النهائية ليصار إلى المصادقة عليه رسمياً*.
ويعتمد الإتفاق، وفق المقترحات الإسرائيلية في المفاوضات، على الأمور التالية[9]:
1 - تبادل المعلومات الإستخبارية.(/12)
2 - القيام بتدريبات مشتركة لسلاح البحرية الإسرائيلية والأسطول السادس، مع إمكانية إجراء مناورات برية مشتركة داخل إسرائيل.
3 - تخزين وصيانة أسلحة أميركية متقدمة، بما في ذلك دبابات، في مستودعات طوارئ داخل إسرائيل، بهدف تمكين القوات الأميركية من التدخل سريعاً في حال تعرض المصالح الأميركية، في البلدان العربية النفطية، للخطر.
4 - تقديم الخدمات للطائرات الأميركية في المطارين اللذين تشيدهما الولايات المتحدة في النقب.
5 - إقامة مستشفى ميداني داخل إسرائيل، لخدمة القوات الأميركية في حالة الطوارئ.
6 - فتح الموانئ الإسرائيلية أمام سفن الأسطول السادس الأميركي وتقديم الخدمات لها.
7 - دعم الصناعة العسكرية الإسرائيلية باعتبارها شريكاً في الجهد الإستراتيجي. وفي هذا الإطار تلتزم الولايات المتحدة بشراء أعتدة أمنية من إسرائيل، ومنح الصناعة الجوية حق إنتاج أجهزة لطائرات ((ف16))، وإصلاح طائرات ومعدات أميركية في الورش الإسرائيلية.
8 - إلتزام سلاح الجو الإسرائيلي بتقديم غطاء جوي لطائرات النقل الأميركية في المنطقة وفي البحر الأبيض المتوسط.
إلى جانب مقترحات الإتفاق هذه، والتي وافق الجانب الأميركي على معظمها، قدم الجانب الإسرائيلي طلباً برفع حجم المعونات الأميركية الإقتصادية والعسكرية لإسرائيل إلى ثلاثة مليارات دولار سنوياً.(/13)
لقد رأى بيغن في هذا الإتفاق ((إنجازاً غير عادي)) يضع المنطقة على أبواب ((عصر جديد)) اعتقاداً منه بأنه جاء كتتويج للعلاقات الأميركية الإسرائيلية ((ووضع الأسس لتحالف عسكري إستراتيجي بين الدولتين))[10]. في حين أوضح شارون أن هذا التحالف يرتكز على دمج إسرائيل، كحليفة للولايات المتحدة، في تشكيل عسكري لردع الإتحاد السوفياتي عن تهديد الشرق الأوسط وأفريقيا، ويمنحها القوة لكي يكون بوسعها ((الصمود بشكل أقوى في وجه التوسع السوفياتي وإستراتيجيته العدوانية التي تشكل أكبر خطر يواجه إسرائيل))، وطالب بضرورة إنتهاج إسرائيل، على ضوء هذا الإتفاق، سياسة أكثر حزماً تجاه الإتحاد السوفياتي، عن طريق إنتزاع المبادرة منه، وخلق المشاكل أمامه ((أي يتوجب)) حسب قوله ((نقل المشاكل إلى الطرف الثاني. وهذا يعني أنه لا يجوز إنتظار قيام الإتحاد السوفياتي باحتلال منطقة، ليجيء الرد عليه بعد وقوع الحدث، بل يقتضي الأمر منع عدوانه قبل حدوثه، عن طريق وضع القوات اللازمة بالقرب من المكان، وخلق الشروط والأدوات الضرورية لنقل القوات بالسرعة والنجاعة المطلوبين، من مكان إلى آخر))[11].
وجهات نظر المعلقين الإسرائيليين:(/14)
يمكن تقسيم تحليلات المعلقين في وسائل الإعلام الإسرائيلية إلى فئتين، الأولى: وهي صادرة عن صحف المعارضة، والأخرى عن الصحف المستقلة. وقد أجمعت تحليلات الصحف المستقلة على تركيز الإنتقاد على جوانب متعددة من الإتفاق، في حين تميزت تحليلات الفئة الأولى بحدة النقد. فقد اعتبر دانيئيل بلوخ، المعلق السياسي في صحيفة دافار الهستدروتية، الإتفاق بمثابة إنهاء لما تبقى من استقلالية إسرائيل ((لقد باعوا بقية إستقلال إسرائيل وحرية عملها، مقابل ثمن بخس، ومشكوك فيه، للتنسيق الإستراتيجي الذي لا تعرف الولايات المتحدة كيف تنضجه، ولا تعرف إسرائيل كيف تهضمه)) ليصل من ذلك إلى أن الهدف الأميركي من الإتفاق هو، تمرير صفقة الأواكس والحد من حرية عمل إسرائيل. وهزئ من قيمة الغطاء الجوي الذي تبدي إسرائيل استعدادها لتقديمه للطائرات الأميركية واصفاً إياها بـ((الذبابة التي تمنح الفيل غطاءً جوياً))[12].
أما زميله أهارون ميغد، فقد انتقد بشكل لاذع، المصطلح الذي يتردد بكثرة، لدرجة الإسفاف، على لسان بيغن والقائل إن إسرائيل بمثابة ((كنز إستراتيجي للولايات المتحدة)) بقوله: "لا أعرف إنساناً يتحلى بإحترام ذاتي، يعلن أنه يريد أن يكون بمثابة كنز لإنسان آخر، ويتوسل أمام الأقوى منه قائلاً: إنني تحت رعاية عطفك، اجعلني كنزاً لك! وعندما يرفض هذا طلبه ويتهرب منه، يمسك بتلابيب ثيابه متوسلاً: ألا تعي أنه من المجدي لك أن أكون لك بمثابة كنز ولكن هنا، تقوم بهذا الدور الدولة بكاملها، وتوشك أن تسقط على ركبتيها وهي تردد: من فضلك... إنني على استعداد لتقبيل التراب، لكي أصبح كنزاً لك...".(/15)
ويشن من ثم حملة على قادة الليكود لدمجهم إسرائيل في الخط الأمامي للإستراتيجية الأميركية في مواجهة الإتحاد السوفياتي بقوله: "إن رئيس الحكومة يظهر في عاصمة الولايات المتحدة ليس كزعيم لإسرائيل فقط، بل كزعيم للعالم الغربي كله! إنه يقف على رأس جيوش العالم لحمايته من التهديد الشيوعي! فهو على دراية أكثر منهم بالمخاطر التي تنتظرهم! وهو المستعد لحمايتهم حتى عندما لا يطلبون منه ذلك!".
ويتساءل في نهاية مقاله ((هل حقاً نحن معنيون ونرغب في أن نصبح بمثابة الخط الأمامي في حرب يأجوج ومأجوج؟ هل نقف على عتبة عصر جديد لإسرائيل، عصر الدولة التابعة))[13].
أما زميله تيدي برويس فقد اعتبر الإتفاق، إذا لم يكن خديعة كبرى حسب رأيه، بمثابة مرحلة جديدة هامة في تاريخ العلاقات الأميركية الإسرائيلية بغض النظر عن سلبياته أو إيجابياته وعالجه من خلال التعارض بين المصالح الإسرائيلية والأميركية والمتمثل في مسألة تحديد العدو، فاسرائيل ترى في العرب العدو الرئيسي، بينما ترد الولايات المتحدة أن عدوها الرئيسي هو الإتحاد السوفياتي، لذا فإن الإتفاق وضع إسرائيل أمام عدو جديد إعتقاداً منه بأنه ((ستقام في إطار هذا الإتفاق قواعد عسكرية أميركية في إسرائيل – حتى ولو أطلق عليها اسم مستودعات الطوارئ وقاعدة لوجستية وما شابه ذلك من التعابير الغامضة – كما وأن الجيش الإسرائيلي لن يقصر عمله بعد الآن على خدمة المصالح الإسرائيلية فقط، بل سيندمج في التشكيل العالمي الذي قد تتشابه متطلباته، ولكنها لا تتماثل، مع متطلبات إسرائيل. إن الخصم الذي يخشاه الأميركيون هو الإتحاد السوفياتي، في حين أن العدو الذي تتخوف منه إسرائيل هو العرب. بمعنى آخر، ليس هنالك تماثل أو تماس في المصالح... بل تشابه في المصالح))[14].(/16)
ولم تختلف نظرة أليكس فايشمان المعلق السياسي لصحيفة عل همشمار عن المنحى العام لوجهتي نظر زميليه، فهو يرى في الإتفاق – وحتى بدون التوقيع عليه – دخول العلاقات الأميركية الإسرائيلية في مرحلة جديدة، تقتضي من إسرائيل دفع ثمن مزدوج، الأول، تقييد حرية عمل إسرائيل عسكرياً ضد العرب، أخذاً بعين الإعتبار المصالح الأميركية، والثاني، تحول إسرائيل إلى حلقة، في الجبهة الخلفية الأميركية، موجهة ضد الإتحاد السوفياتي[15].
وفيما يتعلق بتحليلات أصحاب الفئة الثانية، فقد اتسمت، بحكم عدم انتمائها للمعارضة العمالية، بتهجم أخف على زعامة الليكود، ومن بين هؤلاء شفايتسر، المعلق السياسي في صحيفة هآرتس، الذي يرى أن خطورة الإتفاق تكمن في إضافة عدو جديد – الإتحاد السوفياتي – إلى الجبهة المعادية لإسرائيل[16]. أما زميله يرمياهو يوفال، فإنه لا يعارض التعاون الإستراتيجي بحد ذاته، باعتباره كان قائماً من قبل، وإنما يعارض جوانب معينة منه تضع الجيش الإسرائيلي، حسب اعتقاده، ((في خدمة المصالح العالمية للولايات المتحدة، التي لا تلتقي مع المصالح الإسرائيلية الصرفة)). وهذا من شأنه إلحاق الضرر بمكانة إسرائيل، لا سيما وأن ((صورتها المرتسمة اليوم في أذهان الشعوب الأوروبية، صورة الدولة التي تسعى لتكريس إحتلالها، وتقوم بقمع الفلسطينيين)). وبعد أن يشكك في الفوائد العائدة على إسرائيل من الإتفاق، يؤكد على أن الإتفاقات قابلة للتغيير مع الظروف المستجدة، ويتساءل ((أين فيتنام الجنوبية؟ وماذا حصل في تايوان؟ ولماذا ترتعد أوصال بانكوك)) ليصل إلى القول: "من الأفضل لإسرائيل أن تظهر في الولايات المتحدة كمجسدة لرغبات اليهود العادلة في تحقيق الإستقلال الوطني إنطلاقاً من الإعتراف بحقوق الطرف الآخر، والإستعداد للتوصل إلى حد وسط تاريخي، من أن تبدو كتايوان أخرى من نسل يعقوب..."[17].
وجهات نظر شخصيات عسكرية ومحللين عسكريين:(/17)
لا تخرج وجهات نظر المعلقين العسكريين وعدد من الشخصيات العسكرية خارج الحكم، عن الإطار العام لوجهات نظر المعلقين الإسرائيليين في الصحف الإسرائيلية، والخيط الجامع لوجهات نظر هؤلاء يتمثل في الخطورة الكامنة من دمج إسرائيل في تحالف موجه بالأساس ضد الإتحاد السوفياتي، والدعوة إلى إبقاء إسرائيل متحالفة مع الولايات المتحدة على قاعدة المصالح الصهيونية الصرفة. فقد اعتبر المعلق العسكري يعقوب كروز، في مقال له، أن الإتفاق موجه في أساسه ضد الإتحاد السوفياتي ((فهذه هي المرة الأولى منذ قيام الدولة، التي تسعى فيها إسرائيل بشكل علني لتصبح شريكة في الترتيبات ذات الطابع العسكري المتعلقة بالتوجهات الممكنة لموسكو في الشرق الأوسط)) وأعرب عن خشيته من أن يؤدي ذلك إلى تصليب موقف الإتحاد السوفياتي ضد إسرائيل، ليخرج من ذلك بالقول: "أن خطر هذه المبادرة الصارخة للتعاون الإستراتيجي الأميركي، الذي قد يكون مصيره كمصير الجبل الذي تمخض فولد فأراً، أكثر من فائدتها"[18].
في حين يؤكد مردخاي غور الرئيس السابق لأركان الجيش الإسرائيلي أن من شأن الإتفاق تقييد يد إسرائيل والحد من حرية العمل ضد أعدائها، وزجها أمام خصم جبار. ولكنه لا يرى عيباً في عقد إتفاق إستراتيجي مع الولايات المتحدة أو الدول الغربية، باعتباره مطلباً إسرائيلياً ثابتاً ولكن شرط إقتصاره على خدمة المصالح الصهيونية المحضة[19].(/18)
ولم يخرج موشيه ديان، في مقال له كتبه قبيل وفاته، عن دائرة التفكير هذه، فقد انتقد التشديد على التعاون الإستراتيجي دون معارضة له. بيد أنه يتساءل عن العدو الذي يجمع الدولتين في تحالف ضده، منتقداً تمرير صفقة الأواكس مع السعودية من خلال هذا الإتفاق، إذ قال: "... إن المناورات البرية والجوية والبحرية المشتركة مخصصة بالتأكيد لضمان عمل عسكري مشترك. ولكن أين يتم تنفيذ هذه العمليات العسكرية؟ في الدفاع عن إسرائيل أو عن السعودية؟ وهل نحن مشتركون في معاهدة مع الأميركيين للدفاع عن الخليج الفارسي؟ صحيح أن السيد بيغن يعلن بأننا حلفاء للولايات المتحدة. ولكن أين هو هذا الحلف؟ أهو في الإطار الذي من خلاله يبيع الأميركيون الأواكس للسعودية، ويخططون معها لتعاون عسكري واسع النطاق"[20].(/19)
أما الجنرال أهارون ياريف الذي شغل مناصب أمنية عالية في عهد التجمع العمالي، فقد ركز حديثه على التحذير من مغبة التورط في صدام مباشر مع الإتحاد السوفياتي، ولكنه أجاز إمكانية المشاركة مع الأميركيين في حماية الأقطار العربية الموالية للغرب من خطر ((غزو)) أقطار عربية وطنية ضدها، إذ أنه ((من الممكن)) حسب رأيه ((تقديم غطاء جوي أثناء استخدام قوات أميركية في شبه الجزيرة العربية في حال حدوث غزو يمني للسعودية مثلاً، ولكن يتوجب الإمتناع عن مواجهة مباشرة مع سلاح الجو السوفياتي...))[21]. أما الجنرال متتياهو بيلد فيطل على الإتفاق من منظور مختلف تماماً عن زملائه، فهو يرى أن الدافع لإقدام إسرائيل على التعاون الإستراتيجي يكمن في سعيها لتكريس إحتلالها للأراضي العربية بموافقة ضمنية من جانب الولايات المتحدة. ((فمن الواضح)) حسب قوله ((أن إسرائيل معنية بجر الولايات المتحدة إلى التعاون الإستراتيجي، ليتاح لها الإحتفاظ بالمناطق، مقابل الدعم الإستراتيجي الذي تقدمه للولايات المتحدة)). كما ويعتقد بأن الإتفاق يشكل إرباكاً للولايات المتحدة التي تأتي موافقتها على المشروع ((... كضريبة تدفعها لأسباب سياسة، لا علاقة لها بالحاجات الإستراتيجية الحقيقية للولايات المتحدة)). ويرى أن الولايات المتحدة ليست بحاجة إلى غطاء جوي، كما وأنها في غنى عن الموانئ الإسرائيلية لإستخدامها كموانئ لها في البحر المتوسط، وليست بحاجة لمستودعات تخزين أو أعمال صيانة، إذ من المريح لها، سياسياً، إختيار مصر أو السعودية لأعمال كهذه. أما في حال إختيار إسرائيل كمخزن للأسلحة الأميركية فإنها ستواجه كثيراً من التعقيدات، إذ ((سيتضح أن أية مخازن موجودة في إسرائيل لن تكون قابلة للإستخدام، ذلك أن أياً من الدول العربية التي ستهب القوات الأميركية لمساعدتها، لن توافق على استخدام هذه القوات منشآت داخل إسرائيل)). وفيما يتعلق بالمواجهة مع السوفيات، يرى(/20)
الكاتب أن ليس بمقدور إسرائيل تقديم شيء يذكر في حال إندلاع الحرب بين العملاقين، ويخرج، من ذلك كله، بالقول أن المصلحة الإسرائيلية تكمن في دفع الشرق الأوسط باتجاه التحييد وليس التمحور، وحل الصراع العربي الإسرائيلي من خلال التفاوض مع الفلسطينيين[22].
موقف المعارضة العمالية:
نظراً لتركيبة التيار العمالي وتعدد وجهات النظر داخله، فقد تراوحت ردود الفعل على الإتفاق بين الشجب لجوانب منه، والتحفظ، والتأييد المتحفظ. وتقسم ردود الفعل هذه إلى فئتين، الأولى، الصادرة عن حزب مبام شريك حزب العمل في التجمع العمالي، والأخرى الصادرة عن حزب العمل نفسه.
وبشكل عام استندت مواقف المعارضة العمالية على النقاط التالية:
1 - عدم جواز إندماج إسرائيل في جبهة عسكرية ضد دولة كبرى.
2 - أن التحالف قائم مع الولايات المتحدة الأميركية، وليس هنالك حاجة لإعلانه على الملأ، تمشياً مع النهج العمالي التقليدي المتسم بالتركيز على الجانب العملي لتحقيق الأهداف الصهيونية.
3 - ضرورة بناء التحالف على أرضية المصالح الصهيونية الصرفة، التي تتشابه أو تتماثل مع مصالح الحليف.
4 - الحرص بقدر الإمكان على عدم تقييد التحالف لإستقلالية إسرائيل في تعاطيها مع عدوها الرئيسي.
وإنطلاقاً من هذه القواعد العامة، عالج الحزبان المؤتلفان موضوع التحالف الإستراتيجي، فقد عقد حزب مبام مؤتمراً شجب فيه السكرتير العام للحزب فيكتور شمطوف مجمل زيارة بيغن لواشنطن، وأرضية الإتفاق المبنية على عداء الإتحاد السوفياتي. واتخذ المؤتمر مقررات من أهمها[23].
1 - يعتبر الحزب الإتفاق العسكري الإستراتيجي بين الولايات المتحدة وإسرائيل، الهادف ((لردع العدوان السوفياتي ضد جهات في الشرق الأوسط)) أنه يشكل خطوة خطيرة للغاية، وسابقة خطيرة في السياسة الإسرائيلية.(/21)
2 - يرى الحزب أن المصلحة الصهيونية واليهودية تكمن في الإمتناع عن مواجهة عسكرية مع أية دولة كبرى، وفي وضع إسرائيل خارج دائرة الصراع الأميركي السوفياتي.
3 - ضرورة إدارة المعركة ضد العداء السوفياتي لإسرائيل والصهيونية، في المجالات السياسية والدبلوماسية والإعلامية.
لم يتمكن حزب العمل، خلافاً لشريكه في التجمع العمالي، من التوصل إلى مقررات بالنسبة للإتفاق، فقد ظهرت إنقسامات في الرأس بين زعامة الحزب تجاه مسألة التركيز على إيجابيات الإتفاقات وسلبياته. ففي حين ركز ابا ايبن، في إجتماع عقده مركز الحزب لتداول الإتفاق[24]، على الجانب الإيجابي، لجهة دعم الجهد العسكري الإسرائيلي ورفع القدرات العسكرية الإسرائيلية، مع الإشارة إلى معارضته لإتفاقية الأواكس، وتأكيده على أن إسرائيل لن تكون بالضرورة دمية بيد الولايات المتحدة، ومطالبته الحزب ((بالنظر إيجابياً إلى استعداد الولايات المتحدة لتطوير العلاقات مع إسرائيل في مجال الأمن))، ركز زعيم الحزب شمعون بيرس حديثه على الجوانب السلبية التي تتمثل، حسب رأيه، في خروج إسرائيل في تحالفها مع الولايات المتحدة عن أرضية المصالح الصهيونية البحتة. وسخر من ادعاء بيغن بأن جميع الرؤساء الإسرائيليين، وعلى رأسهم دافيد بن غوريون، كانوا يحلمون باتفاق كهذا، مؤكداً على أن التحالف قائم بين إسرائيل والولايات المتحدة. وادّعى أن الإتفاق الإستراتيجي يفتقر إلى مشاريع حقيقية اعتقاداً منه بأن المشاريع التي يتضمنها هي مجرد مشاريع إسرائيلية ((وإنني أشك فيما إذا كان الطرف الآخر يسعى إليها)). أما يتسحاق رابين[25] فقد شدد على ((المخاطر الكبيرة)) التي ينطوي عليها الإتفاق بالنسبة لإسرائيل على المدى البعيد، محدداً هذه المخاطر بعاملين:(/22)
1 - التأكيد على أن السعودية هي حجر الزاوية للسياسة الأميركية في الشرق الأوسط على حساب كل من إسرائيل ومصر، فذلك من شأنه إحداث إنحراف لمسار كامب ديفيد بتأثير من حجر الزاوية هذا المعارض لهذه الإتفاقية.
2 - استعداد إسرائيل للتعاون ضد الإتحاد السوفياتي.
من الواضح أن حملة حزب العمل المتعلقة بالإتفاق الإستراتيجي، لا تمس جوهر التحالف بين الولايات المتحدة وإسرائيل وإنما تمس جوانب معينة من الإتفاق. ويتبين ذلك بوضوح من خلال تأكيد بيرس في مقابلة له، على ((أن هنالك تعاوناً استراتيجياً بين إسرائيل والولايات المتحدة جرى حتى الآن على المستوى العملي، بصمت. فإذا أمكن تعميق التعاون فأهلاً وسهلاً. لكن من يحتاج إلى الكلام، المتسم بالغطرسة الصادر عن رئيس الحكومة ووزير الدفاع، عن حلف استراتيجي يحتضن العالم، بدءاً من أفغانستان، وإنتهاءً بالإتحاد السوفياتي؟..))[26].(/23)
ولعل في الحوار الذي جرى بين عضوي الكنيست إيهود ألمرت (الليكود) وموشي حاريف (التجمع العمالي) ما يكفي للإشارة إلى الفارق بين نهجي الحزبين في النظرة إلى الإتفاق بشكل خاص، وتجاه العلاقات التحالفية الصهيونية الأجنبية بشكل عام، وكذلك إلى رغبة التيار العمالي في الحصول على ما يريده، من الولايات المتحدة دون الظهور علناً في الصف الأمامي معها. فقد أبدى ممثل ((التجمع)) استعداداً لدمج إسرائيل في التشكيل الإستراتيجي الأميركي شرط أن لا تقف إسرائيل فيه الخط الأول. ورد عليه ممثل ((الليكود)) بأن لكل خط ثمنه ((من لديه الإستعداد لأن يكون في الخط الثاني أو الثالث للإستراتيجية الأميركية، فإنه يقود نفسه، بالضرورة، ليصبح في المرتبة الثانية أو الثالثة من حيث القيمة بالنسبة للأميركيين. وهذا يتنافى مع القلق الذي يعترينا إزاء النتائج التي قد تنجم عن التوجه الأميركي نحو وضع السعودية ومصر في المرتبة الأولى. وإزاء ذلك يتوجب علينا أن نقرر، فالذي يكون في الخط الثاني أو الثالث، يحكم على نفسه بالركود أيضاً في مرتبة الأهمية الثانية أو الثالثة لدى الأميركيين. ولست واثقاً بأن موشي حاريف يبغي ذلك))[27].
ومن الجدير بالذكر أن زعامة الليكود لم تقف مكتوفة اليدين إزاء الإنتقادات الواسعة التي عبرت عن تخوفات أوساط كبيرة من جوانب معينة في الإتفاق.
ويمكن إجمال ردها بالنقاط التالية:
1 - إن الإتفاق يعزز من قدرات إسرائيل العسكرية والإقتصادية.
2 - إن صفقة الأواكس مع السعودية ليست لها علاقة بالإتفاق، وأن الحكومة متمسكة بموقفها الرافض لهذه الصفقة، وليس من المستبعد، كما أكّد ذلك أكثر من مسؤول إسرائيلي، قيام سلاح الجو الإسرائيلي بإسقاط أية طائرة أواكس في حال قيامها من داخل الأراضي السعودية بمهام التجسس على إسرائيل.(/24)
3 - وفيما يتعلق بالإدعاء بأن الإتفاق يحد من حرية إسرائيل في صراعها مع الوطن العربي، أكد المسؤولون الإسرائيليون، أنه على الرغم من إلتزام أي من الفريقين، بموجب الإتفاق، بالأخذ بعين الإعتبار مصالح الحليف الآخر، قبل الإقدام على خطوة ما، فإن إسرائيل لن تجد نفسها مكبلة اليدين تماماً، ((لن نتردد في المستقبل عن قصف فرن ذري إذا ما أقيم في أراض عربية)) كما جاء على لسان وزير الدفاع اريئيل شارون ((.. ولكن بعد أن نفهم الشريك، في الوقت المناسب، خطورة الوضع التي تلزمنا بالعمل))[28].
4 - وفيما يتعلق بالتهم القائلة أن الإتفاق لا يخدم الأهداف الصهيونية الصرفة، أكد المسؤولون الإسرائيليون على أنه ينبع أساساً من خدمة الأهداف الصهيونية. وإزاء صعوبة التمييز بين المصالح الصهيونية والمصالح الإمبريالية الأميركية وترابطهما وحيال الحملات التي تتهم زعامة الليكود بوضع الجيش الإسرائيلي في خدمة مغامرات لجهات أجنبية، وجد شارون نفسه مضطراً للقول أنه سبق لزعامة العمل أن زجت الجيش الإسرائيلي في مغامرة السويس عام 1956م خدمة للمصالح الفرنسية البريطانية.
خلاصة:
لقد جاء إعلان التحالف الإستراتيجي بين الولايات المتحدة وإسرائيل كتتويج لتطور العلاقات بينهما، وكتعبير عن الإلتقاء في المصالح والأهداف، في سياق حدوث تطورات وتبدلات خطيرة جرت في الوطن العربي في السبعينيات، تمثلت في خروج مصر من الصف العربي على أثر إتفاقية كامب ديفيد ودخولها ضمن دائرة النفوذ الأميركي، وفي تعميق الهيمنة الأميركية في السعودية وتوابعها في الخليج العربي على أثر تعاظم إرتباط العالم الغربي بالبترول العربي.
وأخذت دائرة النفوذ الأميركية هذه تلقى عناية فائقة عقب إنحسار النفوذ الأميركي في كل من إيران وأثيوبيا المحيطتين بالجزيرة العربية التي تشكل ((رصيداً استراتيجياً)) فعلياً للولايات المتحدة.(/25)
وكان من نتيجة هذا السياق، وإنسجاماً معه، ومن أجل الحفاظ على مصالحها في المنطقة أن طورت الولايات المتحدة استراتيجية لها تعمل على تعزيز المحورين السعودي والمصري لحماية دائرة نفوذها من رياح التغيير. وخلال بلورة هذه الإستراتيجية، جرت ((حوارات استراتيجية)) بين الولايات المتحدة وإسرائيل استغرقت أعواماً، لدمج إسرائيل في الإستراتيجية الجديدة، ولتحتل مكانة مرموقة فيها باعتبارها الحليف الأمين والثابت للمصالح الأميركية. وكانت العقبة الأساسية في هذا التحالف تكمن في كيفية إعلانه دون إحراج الحلفاء العرب. ووجد الطرفان حلاً لهذا الإشكال يتمثل في بناء التحالف واستناده على أرضية العداء للإتحاد السوفياتي وحماية الشرق الأوسط – الوطن العربي – من ((شر خطره))، انسجاماً مع الموقفين المصري والسعودي. وبذلك تمكن الطرفان من الإعلان عن الإتفاق الذي يعزز من قدرات إسرائيل عسكرياً، ويجعلها بمثابة ترسانة وقاعدة – بناء على إتفاق – لصالح قواتها والقوات الأميركية معاً، معدة أساساً للعمل ضد أية إنتفاضة وطنية قد تحدث في الدول العربية الرجعية لإسترجاع الثروات البترولية من يد النهب الأميركية، وليس بالضرورة ضد الإتحاد السوفياتي.
إن خطورة هذا الإتفاق، من وجهة النظر العربية، لا تكمن في رفع قدرات العدو الإسرائيلي عسكرياً وإقتصادياً إلى تلك الدرجة التي تضمن استمرار تفوقها على العرب وتكريس إحتلالها للأراضي العربية المحتلة، فحسب، وإنما أيضاً في واقع إقدام الولايات المتحدة على الإعلان عن تحالفها عسكرياً مع دولة هي في حالة حرب مع وطن عربي يعاني من إحتلالها لأجزاء من أراضيه في الوقت الذي تعمق فيه القوى العربية الرجعية من تحالفها مع الولايات المتحدة، وتتخذ فيه القوى العربية الوطنية مواقف تقتصر على الشجب، وكأن التحالف المعلن بين الولايات المتحدة وإسرائيل لم يكشف، حتى الآن، واقع كون الولايات المتحدة حليفاً حقيقياً لإسرائيل.(/26)
ــــــــــــــــــــ
[1] دافيد نبف، معرخوت ها إرجون هتسفائي هليئومي (تاريخ المنظمة العسكرية القومية)، (تل أبيب: كلاوزنر، 1965م) الجزء الثالث، ص171.
[2] المصدر نفسه، ص171.
* منظمة للشبيبة تابعة للحزب التصحيحي بزعامة جابوتنسكي، ومن ثم لحركة حيروت بزعامة بيغن. وكان لها دور كبير في رَفْد منظمة ((إتسل)) بالعناصر الشابة المقاتلة.
[3] سيفر تولدوت هاهاغاناه (كتاب تاريخ الهاغاناه، رئيسا التحرير: بن تسيون دينور ويهودا سلونسكي (تل أبيب: معرخوت وعام عوفيد، 1972م)، المجلد الرابع، ص995.
[4] النص الكامل للوثيقة المقدمة من فريق شتيرن إلى الحكم النازي في ألمانيا:
الخطوط الأساسية لإقتراح التنظيم العسكري القومي في فلسطين (هأرغون هتسفائي هليئومي) حول حل القضية اليهودية في أوروبا وحول الإشتراك الفعلي للتنظيم العسكري القومي في الحرب إلى جانب ألمانيا.
لقد ورد مراراً، في تصريحات زعماء الإشتراكية القومية في ألمانيا وكتاباتهم، أن تنظيماً جديداً لأوروبا، يقتضي اتباع طريقة جذرية في حل القضية اليهودية، وهي الإجلاء (تنظيف أوروبا من اليهود).
إن إجلاء الجماهير اليهودية في أوروبا هو شرط مسبق لإنهاء القضية اليهودية. ولكن الحل الممكن والوحيد والنهائي هو توطين هذه الجماهير في وطن الشعب اليهودي، في فلسطين، والذي يتم من خلال إنشاء الدولة اليهودية في حدودها التاريخية.
إن حل القضية اليهودية، على هذا المنوال، وتحرير الشعب اليهودي بشكل نهائي ودائم، هو هدف كل من النشاط السياسي والنضال الطويل لحركة التحرير الإسرائيلية للتنظيم العسكري القومي في فلسطين (هأرغون هتسفائي هليئومي).
إن التنظيم العسكري القومي، والمعروف من قبل حكومة الرابخ ودوائرها المؤيدة للنشاط الصهيوني ولخطط الهجرة الصهيونية، يرى:(/27)
1 – إمكانية تحقيق وحدة مصالح بين الإتجاه نحو نظام جديد في أوروبا حسب المفهوم الألماني، وبين التطلعات القومية الصادقة للشعب اليهودي.
2 – إمكانية تحقيق تعاون بين ألمانيا الجديدة وبين شخصية عبرية متجددة ذات صفة قومية وأصيلة العنصر.
3 – مع إنشاء الدولة اليهودية التاريخية، على أسس قومية وتوتاليتارية، سيكون بإمكانها إقامة علاقات تعاقدية مع الريخ الألماني بهدف الدفاع عن موقع القوى المستقبلي لألمانيا في الشرق الأدنى وتقويته.
يتولى مكتب وارسو بالأساس مهام التنظيم العسكري وإعداد الشباب القومي الصهيوني. ولهذا المكتب علاقات وثيقة مع الجماهير اليهودية التي تتابع، وعلى الأخص الموجودة منها في بولونيا نضال التنظيم العسكري القومي في فلسطين بحماس كبير، وتقدم له كل عون. كما وتصدر في وارسو صحيفتان ((Die Tat )) ((Jerosalima Waelijona )) تخصان التنظيم العسكري القومي.
أقام مكتب وارسو علاقة وثيقة مع الحكومة البولونية السابقة والأوساط العسكرية هناك التي تولي أهداف التنظيم العسكري القومي تفهماً واهتماماً كبيرين. فلقد جرى إرسال مجموعات محددة من أعضاء التنظيم العسكري القومي في فلسطين إلى بولونيا، أخضع أفرادها في الثكنات لتدريب عسكري إضافي على يد ضابط بولوني.
إن المباحثات التي جرت بين التنظيم العسكري القومي والحكومة البولونية في وارسو، بهدف تنشيط دعمها وتمديده، توقفت مع اندلاع الحرب. ويمكن الإطلاع على ذلك وبسهولة من خلال وثائق الحكومة البولونية السابقة.
إن التنظيم العسكري القومي بأيديولوجيته وهيكليته لأقرب إلى الحركات التوتاليتارية في أوروبا.
وأما القدرة القتالية للتنظيم العسكري القومي فلم يعترها، جزماً، أي شلل أو ضعف ملحوظ نتيجة العنف الشديد الموجه ضد التنظيم من قبل الإدارة البريطانية والعرب أو حتى من قبل الاشتراكيين اليهود)).(/28)
المصدر: عبدالحفيظ محارب هاغاناه، اتسل، ليحيى – العلاقات بين التنظيمات الصهيونية المسلحة 1937 – 1948م (بيروت: مركز الأبحاث، 1981م)، ص423 – 452.
[5] دافار، 15/9/1981م.
[6] للتوسع في موضوع تبادل الرسائل بين كنيدي وعبدالناصر أنظر: معاريف، 28/11/1980م.
[7] دافار، 1/10/1980م.
[8] هآرتس، 26/8/1981م.
* في الثلاثين من تشرين الثاني (نوفمبر) 1981م تم التوقيع، في واشنطن، من قبل وزيري الحربية في كلا البلدين، على الصياغة النهائية للإتفاق الإستراتيجي الذي حمل إسم ((مذكرة التفاهم)). ويهدف الإتفاق الإستراتيجي، حسب البيان المشترك الصادر عقب التوقيع على الإتفاق، إلى ((تمكين البلدين من التعاون، ومن أن يقدم كل منهما المساعدة العسكرية للآخر، لمواجهة التهديدات لأمن المنطقة بأكملها من قبل الإتحاد السوفياتي والقوى الخارجية التي يسيطر عليها والتي أدخلها إلى المنطقة، مع الإشارة إلى أن ((التعاون الإستراتيجي ليس موجهاً ضد أية دولة أو مجموعة دول في الشرق الأوسط)).
وذكر أيضاً أن الإتفاق تضمن عدداً من النقاط من بينها:
1 – إجراء مناورات بحرية وجوية مشتركة في القطاع الشرقي من البحر المتوسط.
2 – تضع إسرائيل تحت تصرف الولايات المتحدة عدداً من التسهيلات في مجال صيانة العتاد فضلاً عن بعض مرافقها في حالة وجوب تدخل وحدات أميركية للدفاع عن المنطقة ضد هجوم من الخارج.
3 – التعاون في مجالات البحوث العسكرية وصناعة الأسلحة.
وفي الثاني من كانون الأول (ديسمبر) 1981م حظي الإتفاق بموافقة الكنيست عليه، على أثر طرح المعارضة العمالية، إلى جانب كتل صغيرة، حجب الثقة عن الحكومة لموافقتها على الإتفاق. فقد هزم الكنيست مشاريع حجب الثقة بأغلبية 57 صوتاً مقابل 53 صوتاً، في حين امتنع عن التصويت عضوان، وغاب عن الجلسة ثمانية أعضاء.(/29)
ومن الجدير بالذكر أن أريئيل شارون أكد وجود بنود سرية في الإتفاق، وذلك برده على إنتقادات المعارضة التي أشارت إلى تضمن الإتفاق لبنود سرية، ((هذه الإتفاقية لم تصنع لتنشر في الصحف... هل يستطيع أي كان أن يتصور إمكانية عرض تفاصيل مثل هذا الإتفاق بشكل علني؟ هل هناك مثل في العالم حول إتفاقية مفتوحة تشير بوضوح إلى عدد الدبابات والعتاد والتعاون الأمني وغيرها لأي طرف؟، (أنظر صحيفة ((السفير)) في 1/12/1980م و3/12/1981م.
[9] انظر: صحيفتي دافار ومعاريف 13/9/1981م.
[10] معاريف 10/9/1981م.
[11] – يديعوت أحرونوت، 15/9/1981م.
– هآرتس، 15/9/1981م.
[12] دافار، 14/9/1981م.
[13] دافار، 14/9/1981م.
[14] دافار، 7/9/1981م.
[15] على همشمار، 20/1/1981م.
[16] هآرتس، 17/9/1981م.
[17] هآرتس، 24/9/1981م.
[18] دافار، 17/9/1981م.
[19] ملحق يديعوت آحرونوت، 18/9/1981م.
[20] ملحق يديعوت آحرونوت، 18/9/1981م.
[21] دافار، 20/9/1981م.
[22] هآرتس، 20/9/1981م.
[23] على همشمار، 21/9/1981م.
[24] رصد إذاعة إسرائيل، العدد 2446، 17/9/81، ص9. دافار، 18/9/1981م.
[25] للتوسع انظر مقالي رابين في بديعوت احرونوت، 11/9/1981م و28/9/1981م.
[26] ملحق معاريف، 25/9/1981م.
[27] رصد إذاعة إسرائيل، العدد 2465، 16/10/1981م، ص3 – 7.
[28] يديعوت آحرونوت، 15/9/1981م.(/30)
العنوان: التحدي الثقافي في عصر المعلومات
رقم المقالة: 1785
صاحب المقالة: جمال عبدالناصر
-----------------------------------------
في هذا العصر - عصر تكنولوجيا المعلومات والاتصالات - حلَّت بمجتمعنا تغيرات هائلة بسبب التطور الذي حدث في عصرنا الحاضر في تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، والذي له آثار جمَّة على ثقافة وأخلاقيات مجتمعنا المسلم، سواء بالإيجاب أو بالسلب، فلا يستطيع أحدٌ أن يُغفِل الإمكانات الرائعة التي تقدِّمها لنا تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، وخاصةً بعد اتحاد الحواسب الآلية والاتصالات، واندماجهما في خدمة (الإنترنت)- وغيرها من وسائل الاتصالات، وأيضًا لا نستطيع أن نتجاهل الآثار السلبية التي ترتَّبت على هذا الانفتاح المعلوماتي والإمكانات التكنولوجية، خاصةً أنَّ مَنْ يمتلكون ويحتكرون هذه الإمكانات يختلفون معنا عقائديًّا وفكريًّا، فما يُعَدُّ عندهم مباحًا وعاديًّا - نجد له ضوابط أخرى في ديننا الحنيف، وكذلك ثقافة المتلقِّي، وعدم توفر الوعي الكافي للقيام بالانتقائية المعلوماتية؛ لأخذ ما ينفع وترك ما يضر.
ومن هنا؛ فقد سبَّب ذلك كله آثارًا في المجتمع الإسلامي بكل مستوياته، سواءٌ على مستوى الفرد أو الأسرة.
إنَّ المتغيرات الحاصلة في الوقت الراهن على الصعيد العالمي بسبب تعاظم قوة وسرعة ومكانة الثورة التكنولوجية والمعلوماتية والاتصالية، وما قد نتج عنها من آثار ومؤثرات عديدة على بِنْيَة وعمق سلوك الإنسان في أي مكان كان في ظل الانكماش المكاني.
إن هذه المتغيرات تدعونا إلى النظر والتمعُّن في مسألة هامة وحيوية؛ هي مسألة الثقافة المتدفِّقة عبر وسائل الاتصال الحديثة، الثقافة باعتبارها النتاج البشري المتنامي و(الديناميكي) والمتغير باستمرار.
وتبدو أهمية دراسة هذه الثقافة الوافدة التي أثَّرت - سواء بالسَّلب أو بالإيجاب - على أخلاقيات وثقافة مجتمعنا المسلم.
(الإنترنت) تواصلٌ معرفيُّ:(/1)
وينبغي أن نتذكَّر دائمًا أن (الإنترنت) هي وسيلة للاتصال، إذ يُمكنك عن طريقها إرسال الرسائل، ومحاورة الآخَرين، وعرض أفكارك وآرائك، والاطلاع على أفكار الآخرين وآرائهم، فهي وسيلة للتفاعل والتعامل بين الأشخاص والمؤسسات والهيئات المختلفة.
لابد أن نحاول فَهْم أبعاد وتأثيرات هذه الأداة التي أصبحت متاحةً جدًّا أمامنا، وأصبح الكثيرون يستخدمونها، وأصبحت هي الملاذ الوحيد للبعض.
ثقافة عصر (الإنترنت):
لقد صار لزامًا علينا أن نتعلَّم "ثقافة عصر (الإنترنت)" بالمعنى الواسع للمعرفة؛ إذ إن (الإنترنت) ستظل عنصرًا مغريًا وجذَّابًا، وإنها تلتهم وقتًا هائلاً دون عائد يوازي هذا الوقت الذي ينفقه الإنسان فيها ما لم يكن محدد الهدف، ومؤقَّت المدى.
إن غياب المعرفة أوِ الثَّقافة الواسعة يجعل من (الدردشة) التي تجري في معظم الغرف الإلكترونية العربية عبارة عن لغو فارغ أو معاكسات، أو شتائم متبادلة، ولا يكون تبادل الحديث نافعًا إلا إذا كانت لدى أطرافه من المعرفة أقدار كافية؛ بحيث يكون النقاش مفيدًا. وأعتقد أنَّ بيْنَنا وبيْنَ هذا شوطًا كبيرًا؛ لأنَّ أغلبنا لم يتزوَّد بالثقافة أو المعرفة؛ فليست تلك الأمور متاحةً في مناهِج التعليم النظامي، وليستْ هِي المادَّة المتوافرة في أغلب برامج الإعلام، ولم تعد القراءة في عصرنا الحاضر - للأسف الشديد - مصدرًا معتبرًا لدى كثير من شبابنا في الحصول على المعلومات وتداول الأفكار.
ثقافة الأسرة.. تجديدٌ وتنشيط:(/2)
لابدَّ من إعادة النظر في الاهتمام بعناصر الأسرة المسلمة (الأب - الأم) ومدى حاجتنا إليهما في هذا العصر؛ فالأسرة أوَّلاً هي الدائرة الأولى من دوائر التنشئة الاجتماعية، وهي التي تغرس لدى الطفل المعاييرَ التي يحكُمُ من خلالها على ما يتلقَّاه فيما بعد من سائر المؤسسات في المجتمع، فهو حينما يغدو إلى المدرسة ينْظُر إلى أُستاذِه نظرةً من خلال ما تلقَّاه في البيت من تربية، وهو يختار زُملاءه في المدرسة من خلال ما نشأته عليه أسرته، ويقيِّم ما يسمع وما يرى من مواقفَ تقابله في الحياة، من خلال ما غرسته لديه الأسرة، وهنا يكمن دور الأسرة وأهميتها وخطرها في الميدان التربوي.
دور الأب
للأب دورٌ مهمٌّ جدًّا في رعاية أولاده؛ لأنَّ كلَّ وليِّ أمرٍ مسؤولٌ أمام الله - عزَّ وجلَّ - يوم القيامة عن رعيته، وفي ذلك يقول ربُّنا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم: 6]، ويقول الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - في الحديث المتَّفق عليه: ((كلكم راعٍ ومسؤولٌ عن رعيَّته، فالرجل راعٍ ومسؤولٌ عن رعيَّته، والمرأة راعيةٌ في بيت زوجها ومسؤولةٌ عن رعيَّتها)) الحديث.
وقوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أيضًا في الحديث المتَّفق عليه: ((ما من عبد يسترعيه الله رعيةً، يموت يوم يموت وهو غاشٌّ لرعيَّته - إلاَّ حرَّم الله عليه الجنة)).
والنصوص والآيات كثيرةٌ في هذا المقام؛ فمن هنا يتوجَّب على الأب أن يهتمَّ بالرعاية الثقافية والأخلاقية لأولاده، وخاصةً في عصر التحدِّي المعلوماتي.
دور الأم:(/3)
إنَّ مرحلة الطفولة المبكِّرة مهمة لتنشئة الطفل، ودور الأم فيها أكبر من غيرها، فهي في مرحلة الرضاعة أكثر مَنْ يتعامل مع الطفل، ولحكمة عظيمة يريدها الله - سبحانه وتعالى - يكون طعام الرضيع في هذه المرحلة من ثدي أمه، وليس الأمر فقط تأثيرًا طبيًّا أو صحيًّا، وإنما لها آثار نفسية؛ أهمها إشعار الطفل بالحنان والقرب الذي يحتاج إليه، ولهذا يوصي الأطباء الأمَّ أن تحرص على إرضاع الطفل، وأن تحرص على أن تعتني به وتقترب منه لو لم ترضعه.
لا لثقافة الخادمات والمربِّيات:
لابدَّ أن ندرك فداحة الخطر الذي ترتكبه كثيرٌ من النساء حين تترك طفلها في هذه المرحلة للمربِّية والخادمة؛ فهي التي تقوم بتنظيفه وتهيئة اللباس له وإعداد طعامه، وحين يستعمل الرضاعة الصناعية؛ فهي التي تهيّئُها له، وهذا يُفقِد الطفل قدرًا من الرعاية النفسية هو بأمسِّ الحاجة إليه.
وإذا ابتُليت الأسرة بالخادمة - والأصل الاستغناء عنها - فينبغي أن تحرص في المراحل الأولية على أن تباشر هي رعاية الطفل، وتترك للخادمة إعداد الطعام في المنزل أو تنظيفه أو غير ذلك من الأعمال، فلن يجد الطفل الحنان والرعاية من الخادمة كما يجدها من الأم، وهذا له دورٌ كبيرٌ في نفسية الطفل واتجاهاتِه في المستقبل، وبخاصة أنَّ كثيرًا من الخادمات والمربِّيات في العالم الإسلامي لسْنَ من المسلمات، وحتى المسلمات غالبهنَّ من غير المتديِّنات؛ بل وغير مثقفات إطلاقًا، وهذا لا يخفَى أثره.(/4)
فالمقصود: أنَّ الأُمَّ في هذه المرحلة تتعامَلُ مع الطفل أكثر مما يتعامل معه الأب، وفي هذه المرحلة سوف يكتسب العديد من العادات والمعايير، ويكتسب الخُلُق والسلوك الذي يصعب تغييره في المستقبل، وهنا تكمن خطورة دور الأم؛ فهي البوابة على هذه المرحلة الخطرة من حياة الطفل فيما بعد، حتى إِنَّ بعض الناس يكون مستقيمًا صالِحًا متديِّنًا، لكنه لم ينشأ من الصغر على المعايير المُنضبطة في السلوك والأخلاق، فتجد منه نوعًا من سوء الخلق وعدم الانضباط السلوكي، والسبب أنه لم يتربَّ على ذلك من صغره؛ ومن هنا فعلى الأم أن تُطَوّر نَفْسَهَا معلوماتيًّا، وتثقِّف نفسها جيدًا من أجل تربية نشءٍ يستطيع مواكبة ومواجهة تحديات عصر المعلومات.
الأكثر من هذا: أن بعض الباحثين الغربيين قد ذهب إلى أن الأم عليها أن تجلس في بيتها - بعد أن تحصِّل هذا الكمّ من المعلومات والثقافة - وذلك من أجل إعداد طفلها ثقافيًّا لمواكبة تحديات عصر المعلومات.
المنظومة التعليمية:
لابد من تطوير عناصر المنظومة التعليمية كي تواكب العصر الذي نعيش فيه، وتدرك أبعاد التحدي الثقافي الذي يواجهنا، كي نستطيع أن نتقبَّل تلك الثقافة الوافدة تقبُّلاً إيجابيًّا لا سلبيًّا؛ فنأخذ ما يفيدنا ونترك ما لا يفيد، وتتوفر عندنا مَلَكَة الانتقاء الثقافي والنقد البنَّاء.
المتعلِّم:(/5)
لقد صار المتعلِّم في ظل تعليم الأعداد الغفيرة مجرَّد ظاهرة إحصائية، فليس هناك من الوسائل والوقت لرعاية مواهبه وتنمية قدراته الشخصية، ولا أمل في أن تغيِّر التربية العربية فلسفتها الراسخة بين يوم وليلة، وسيمضي وقتٌ طويل قبل أن تنبت الثقافة العميقة والمتَّسعة في تربتنا التربوية المتصحِّرة؛ لذا فإن التوجُّه على محوريَّة المتعلِّم، لابد أن تتوزَّع مسؤولية تنفيذه بين المنزل والمدرسة والتلميذ نفسه، وعلى علماء علم النفس التربوي لدينا أن يدلوا بدلوهم في حلِّ هذه المعضِلة، من حيث تنميةُ نزعة الاعتماد على الذات، وتخليص عقول تلاميذنا مما خلفته آفة التلقِّي السلبي.
المعلِّم:
معظم معلِّمينا ما زالوا عازفين عن المشاركة الإيجابية في توجيه مسار العملية التربوية، ونادرًا ما يدعون إلى المشاركة في القرارات الخاصة بالتعليم، وموقف معلِّمينا من استخدام تكنولوجيا المعلومات في مجال التعليم ما زال مشوبًا بالغموض، البعض يرى فيها منافسًا خطيرًا، والبعض الآخَر غير موقِن بفاعليتها، إما بسبب الثقافة التربوية السائدة، وإما لنقص التدريب، وإما لعدم توافر المعدَّات والبرامج.
وقد أصبح تعلُّم الكمبيوتر في معظم مدارسنا مقصورًا على القائمين بتدريس مادته. لقد ترسَّخت لدى معظم المعلمين العرب عادة التدريس بالتَّلقين، وعدم توسيع مصادر المادة التعليمية، ويحتاج علاج ذلك إلى تضافُر جهود التأهيل، وتصميم المناهج وأساليب التقويم والامتحانات.
ولا يمكن للمعلِّم العربي أن يُتقِن مهمة التعليم باستخدام تكنولوجيا المعلومات إلا إذا أُدمجتْ هذه التكنولوجيا في جميع المناهج في كليات التربية من السنة الأولى، إنَّ المعلم العربي يجب أن يتعلَّم هو نفسه استخدام تكنولوجيا المعلومات، قبل أن نطالبه بالتدريس مستخدمًا إياها.
تطوير منهجيات وخطط التعليم:(/6)
من المتعذّر استيراد منهجيَّات التعليم لشدَّة ارتباطها، سواء بالبيئة التعليمية أو بقدرات المعلم القائم بتطبيقها؛ لذا فنحن في أمسِّ الحاجة إلى دفع البحوث التربوية لتناول أثر تكنولوجيا التعليم و(الإنترنت) على منهجيات التعليم، وكيفية تطويعها للثقافة السائدة، وللبيئة التربوية المتوافرة، ولقدرات المعلِّم وقدرات مَنْ نقوم بتعليمهم، ومن الخطورة بمكان تطبيق المنهجيات الجديدة - ومعظمها مستحدَث - دون تجريب واختيار دقيق، ومرة أخرى، يمكن لتكنولوجيا المعلومات أن تَلْعَبَ دَوْرًا في هذا المضمار؛ حيث نوفِّر بيئة اختيار فعَّالة لتجريب المناهج الجديدة، مع سرعة الحصول على النتائج.
تطوير دور الإعلام ومحاولة تخليصه من التَّبعية للغرب:
يعيش إعلامنا العربي والإسلامي صدمة إعلامية على مختلف المستويات السياسية والتنظيمية والفنية، فليس بالأقمار الصناعية والقنوات الفضائية وأحدث المطابع الصحافية وحدها يحيا الاتصال في عصر المعلومات.
لقد فقد إعلامنا العربي محوره، وأضحى مكبَّلاً بقيود ارتباطه الوثيق بالسلطة، تائهًا بين التبعية الفنية والتنافُس السلبي على سوق إعلامية إعلانية محدودة، شاعرًا بالحرج بين شتَّى الفضائيات والقنوات؛ فكان نتيجة ذلك أن أصبح إعلامنا رهن الإعلان من جانب، ودليل الدعم الحكومي من جانب آخَر.
إنَّ إعلامنا العربي والإسلامي يواجه عصر التكتُّلات الإعلامية مشتَّتًا عازفًا عن المشاركة في الموارد، يعاني من ضمور الإنتاج وشح الإبداع، حتى كاد - وهو المرسِل بطبيعته - أن يصبح هو نفسه مستقبِلاً للإعلام المستورد ليعيد بثه إلى جماهيره، ولقد أوشكت وكالات الأنباء لدينا - نحن العرب والمسلمين - أن تصبح وكالات تابعة للوكالات الأربع الكبرى في العالم (رويتر- وكالة الأنباء الفرنسية - آسيشتد برس - يونايتد برس)، حتى فيما يخصُّ أخبارنا المحلية للأسف الشديد!!(/7)
لقد ارتضينا أن نوكل إلى غيرنا نقلَ صورة العالم من حولنا، بل صُنْعَ صورتنا عن ذاتنا أيضًا.
يشكو إعلامنا من تناقُضٍ جَوْهري، بعد أن تخلى عن مهمته التنموية الأساسية ليسوده طابع الترفيه والإعلان على حساب المهامِّ الأخرى، ويقصد بها مهام التعليم، والتوعية الثقافية، وإعادة إحياءِ الإرادة الجماعيَّة للمشاركة في العمل الاجتماعي. ومن قبيل الإنصاف، فإنَّ إعلامَنا - شأنُه في ذلك شأنُ معظم نُظُم الإعلام في دول العالم الثالث - يعمل تحت ضغوط سياسية واقتصادية تنأَى به عن غاياته التنموية البعيدة المدى، ويَكْمُن التحدِّي - حاليًّا - في أن التوجهات الإعلامية الراهنة تعمل على زيادة هذه الضغوط؛ مما يتطلَّب سياسة إعلامية أكثر صمودًا ومرونةً وابتكارًا.
أبعاد التحدِّي الإعلامي:
1- غياب الفلسفة الاجتماعية التي تُبنى عليها الفلسفة التربوية الواقعية المتماسكة، ولا يخفَى على أحد أنَّ ساحتنا الثقافية مشتَّتة، وأن معظم مثقَّفينا قد غابت عن وعيهم جوانب عدَّة من إشكالية التربية، التي تزداد تعقيدًا وتشعُّبًا يومًا بعد يوم.
2- الأسلوب المتَّبع في ملء الفراغ التربوي بالاستعارة من الغرب؛ حيث نأخذ الفكرة ونقيضها، دون أن يكون لخصوصيتنا دور كبير! ولم نقف منها موقفًا نقديًّا، ولم نقرأ الشروط الاجتماعية التي احتضنت ولادتها.
إننا نستورد نظمًا تربويةً منزوعةً من سياقها الاجتماعي، وإن جاز هذا في الماضي فهو يتناقض جوهريًّا مع توجه التربية الحديثة نحو زيادة تفاعلها مع بيئتها الاجتماعية.(/8)
3- ندرة جهود التنظير التربوي وطغيان الإحصائيات عليها؛ فقد طغى المنهج على حساب المحتوَى، واستهوتْنا الإحصائيات وجداول الأرقام والمؤشِّرات وعلاقات الارتباط، وغاب عنا اختلاف طبيعة التربية عن تلك العلوم الطبيعية؛ فلا يكفي في قضايا تناول التربية الوقوف عند حدود التحليل الكمِّي، خاصَّةً في بلدان مثل بلداننا العربية، التي تمتلئ بأمور عدَّة يتعذَّر قياسُها أو إخضاعُها للتحليل الإحصائي الدقيق، على الأقلّ في ظلِّ الظروف الراهنة.
4- الخَلْط بين الغايات والمقاصد والإجراءات، والوقوف عند حدود العموميات والمبادئ العامَّة التي لا خلافَ عليها، وليطَّلع مَنْ يرتاب فيما نزعمه على وثائق سياساتنا التربوية، ونتائج مؤتمراتنا وندواتنا حول تطوير نُظُم تعليمنا وتأهيل معلمينا، نَحْنُ - بلا شَكّ - أحوجُ من غيرنا إلى مناهل ومنطَلقات جديدة، نُقيم عليها فلسفتنا التربوية في عصر المعلومات، ولا يمكن لنا التصدِّي لما يتعرَّض له جدل الأصالة والمعاصرة الدائر على ساحتنا التربوية دون أن نردَّه إلى جذوره التاريخية، استيضاحًا لمصادر نشأته، وما يمكن أن يؤول إليه هذا الجدل.
أهم المراجع:
• شريف درويش. اللبان- تكنولوجيا الاتصال - القاهرة: الدار المصرية اللبنانية.
• د. نبيل علي. - الثقافة العربية وعصر المعلومات - سلسلة عالم المعرف - الكويت، 2000م.
• د. نبيل على. العرب وعصر المعلومات - سلسلة عالم المعرف - الكويت، 1994م.
• د. عبد الفتاح مراد. - موسوعة مصطلحات الكمبيوتر والإنترنت، إنجليزى - عربى. القاهرة – 2000م.
• د. حسن عماد مكاوي. - تكنولوجيا الاتصال الحديثة في عصر المعلومات - القاهرة: الدار المصرية اللبنانية، 2000م.(/9)
العنوان: التحذير من إضاعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
رقم المقالة: 758
صاحب المقالة: سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
-----------------------------------------
الحمد لله الذي جعل أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - خير أمة أخرجت للناس وفضلها على غيرها بما قامت به من واجبات عظيمة وصبر في البأساء والضراء وحين البأس، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير أحكم كل شيء شرعه وأتقن كل شيء صنعه وجعل لكل شيء سبباً وهو الحكيم الخبير، وأشهد أن محمداًً عبده ورسوله الذي جاهد في الله حق جهاده وصبر وصابر حتى فاز بالنصر المبين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين مثلوا الدين وقاموا به وحققوا ما أمروا به على الوجه القويم وسلم تسليماً.
عباد الله: لقد فخرت هذه الأمة وحق لها أن تفخر بما شهد الله لها به وفضلها على غيرها حيث يقول: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110] فمن حقق هذه الأمور الثلاثة: الإيمان بالله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كان من هذه الأمة التي فضلت على الناس، ومن لم يحققها خرج من هذا الوصف الجليل بقدر ما فاته من التحقيق.
عباد الله: إنكم لن تكونوا خير أمة أخرجت للناس حتى تأمروا بالمعروف وتنهوا عن المنكر، والمعروف كل ما أمر الله به ورسوله، والمنكر كل ما نهى الله عنه ورسوله.(/1)
أيها الناس: لقد مرضت القلوب وكاد المرض يقضي على بعضها بالموت حتى نزعت الغيرة الدينية من كثير منها، فأصبحت لا ترى المعروف معروفاً ولا المنكر منكراً، أصبح الإنسان من هؤلاء لا يتمعر وجهه ولا يتغير من انتهاك حرمات الله وكأنه إذا حدث عن انتهاكها يحدث عن أمر عادي لا يؤبه له، وهذا والله هو الداء العضال الذي هو أعظم من فقد النفوس والأولاد والأموال. يا أمة محمد يا خير أمة أخرجت للناس، اتقوا ربكم وأمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر وتعاونوا على الحق، ولا تأخذكم في الله لومة لائم ولا يخوفكم الشيطان ولا يوهن عزائمكم، فإنكم والله إن صدقتم العزيمة وأخلصتم النية واتبعتم الحكمة في تقويم عباد الله وإصلاحهم فكل شيء يقوم ضدكم سيضمحل ويزول، فالباطل لن تثبت قدماه أمام الحق {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ}. أيها المسلمون، إن الذي ينقصنا كثيراً هو عدم التعاون في هذه الأمور، فتجد أهل الخير متفرقين متباعدين لا ينصر بعضهم بعضا ولا يقوم بعضهم مع بعض إلا أن يشاء الله، وغاية الواحد منهم أن يتألم في نفسه أو يملأ المجالس قولا بلا فائدة. ولو أننا اجتمعنا ونظرنا إلى مجتمعنا وما فيه من أمراض وفساد ثم بحثنا منشأ تلك الأمراض وذلك الفساد وقضينا عليه بالطرق الحكيمة إن تمكنا من ذلك بأنفسنا، وإلا اتصلنا بالمسؤولين للتعاون معهم بالقضاء عليه لحصل بذلك خير كثير واندرأ شر كثير. أما إذا تخاذلنا وكان الواحد منا أكبر ما يهمه نفسه ولا يبالي بالناس صلحوا أم فسدوا ولا يسعى لإصلاحهم فإن ذلك ينذر بالعقوبة العاجلة والآجلة. فاحذروا أيها المسلمون عقاب الله وسطوته، احذروا أن تسلب منكم النعم وتحل بكم النقم، تذكروا عظمة الله وقهره تذكروا قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} اسمعوا قوله تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ(/2)
كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ * تَرَى كثيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ} [المائدة:78-80] ولقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((والذي نفس محمد بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد السفيه ولتأطرنه على الحق أطراً أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض ثم يلعنكم كما لعنهم)) وصعد ذات يوم المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ((يا أيها الناس اتقوا ربكم، إن الله عز وجل يقول لكم مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر قبل أن تدعوني فلا أجيبكم وتستنصروني فلا أنصركم وتسألوني فلا أعطيكم)) اللهم إنا نسألك أن تبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك ويذل فيه أهل معصيتك ويؤمر فيه بالمعروف وينهى عن المنكر، اللهم إنا نسألك أن تصلح ولاتنا وأمتنا وأن تجعلهم متعاونين في الحق متسمين بالألفة والمحبة والخير والرشد والنفع يا رب العالمين اللهم صل وسلم على محمد وآله وصحبه وأتباعهم إلى يوم الدين.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم... إلخ.(/3)
العنوان: التحذير من إطلاق اللسان
رقم المقالة: 768
صاحب المقالة: سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
-----------------------------------------
الحمد لله الذي خلق الإنسان ويعلم ما توسوس به نفسه وهو أقرب إليه من حبل الوريد {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ}{مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء شهيد، وأشهد أن محمداًً عبده ورسوله أشرف العبيد صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم المزيد وسلم تسليماً.
أما بعد أيها الناس: اتقوا الله تعالى واعلموا أنه ما من أحد منكم إلا وقد وكل الله به ملكين أحدهما عن اليمين والثاني عن الشمال، أحدهما مأمور بكتب الحسنات والثاني مأمور بكتب السيئات، فما تلفظون من قول ولا تعملون من عمل إلا كتب عليكم وأحصي عليكم إحصاء لا يغادر صغيرة ولا كبيرة، سواء تلفظتم بذلك جهراً وسراً وسواء فعلتم الفعل خفية أو علانية فكل ذلك يكتب عليكم ويحصى ثم تنبئون بما عملتم يوم القيامة ويعطى كل إنسان كتابه فيقال: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً} فطوبى لعبد ملأ كتابه بالخير والأعمال الصالحات وبؤس لمن سود كتابه بالشر والأعمال السيئات.(/1)
أيها الناس: كلنا نؤمن بذلك إن شاء الله نؤمن بأن ما عملنا من قول أو فعل فإنه مكتوب محصى سواء كان صغيراً أم كبيراً، ولكن الكثير منا يعملون العمل جزافاً كأنه غير مكتوب عليهم يطلقون الكلام القبيح من غير مبالاة يلعنون من لا يستحق اللعن، تجد الواحد منهم يلعن أخاه المسلم وربما لعن أخاه لأبيه وأمه وربما لعن ولده أو أمه أو أباه، وهذا غاية ما يكون من الجهل والحماقة فقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن اللعانين لا يكونون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة)) وفي الحديث عنه أنه قال: ((إن العبد إذا لعن شيئاً صعدت اللعنة إلى السماء فتغلق أبواب السماء دونها ثم تهبط إلى الأرض فتغلق أبوابها دونها ثم تأخذ يميناً وشمالاً فإن لم تجد مساغاً رجعت إلى الذي لعن فإن كان أهلاً وإلا رجعت إلى قائلها)) وتجد الواحد من الناس يسب أخاه عند المخاصمة سباً قبيحاً قد يكون متصفاً به وقد يكون غير متصف به، وفي الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((المستبان ما قالا فعلى البادئ ما لم يعتد المظلوم)) يعني أن إثم المتسابين يكون على من ابتدأ السب أولاً إلا أن يعتدي المظلوم، وتجد بعض الناس يتكلم بأخيه بما يكره وهو غير حاضر فيسبه في غيبته وهذه هي الغيبة التي شاعت عند كثير من الناس وتهاونوا بها مع أنها من كبائر الذنوب وقد شبه الله من يغتاب الرجل بمن يأكل لحمه ميتاً وفي الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم فإنه من يتبع عوراتهم يتبع الله عورته ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته)) وفي حديث آخر: ((يفضحه ولو في جوف رحله)) أيها الناس: ما أكثر هؤلاء اليوم ما أكثر من يتتبعون عورات الناس ويتطلبون زلاتهم فإذا رأوا زلة من أحد فرحوا بها ونشروها وإذا رأوا استقامة ومفخرة كتموها وحملوها على غير محملها وهؤلاء هم الذين عناهم(/2)
الرسول - صلى الله عليه وسلم - بقوله: ((يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم)) فاتقوا الله أيها المسلمون وحاسبوا أنفسكم على ما تقولون وما تفعلون فانكم عن ذلك مسؤولون وعليه محاسبون: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {كَلاَ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ}. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.. الخ.(/3)
العنوان: التحذير من البدع والمحدثات
رقم المقالة: 1175
صاحب المقالة: الشيخ ناصر بن محمد بن مشري الغامدي
-----------------------------------------
الحمد لله الذي أرسل رسله بالبينات؛ ليخرجوا الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، القائل في محكم التنزيل: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ العِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ الله فَإِنَّ الله سَرِيعُ الحِسَابِ}؛ [آل عمران: 19]. {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ}؛ [آل عمران: 85]. وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله ومصطفاه وخليله، شرح الله صدره، ووضع عنه وزره، ورفع في العالمين ذكره، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمره، تركنا على المحجة البيضاء؛ ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا أهل الأهواء، أتم الله به النعمة، وأكمل به الشريعة، وختم به النبوة، فما التحق بالرفيق الأعلى حتى أنار الله به القلوب، ووضح به السبيل، وهدى به النفوس، حتى قال عنه أبو ذر - رضي الله عنه -: "توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما طائر يقلب جناحيه في السماء إلا وذكر لنا منه علماً".
فالخير ما جاء به، والدين ما شرعه، والحق ما التزمه، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين؛ جزاء ما جاهدوا ونصروا ودافعوا، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله - تبارك وتعالى - في السر والعلن، والتمسك بهديه وشرعه، والوقوف عند حدوده وأوامره ونواهيه، {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ الله فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى القُلُوبِ}؛ [الحج: 32].
عباد الله:(/1)
الإسلام دين كامل، وعقيدة صافية، وشريعة وافية، تولى الإله الحكيم - سبحانه وتعالى - رسم أسسها ووضع قواعدها، وأمر بالتمسك بالعروة الوثقى، ولزوم سنه النبي المثلى، والتحذير من كل بدعة وهوى.
ولا خيار للمسلم في هذه الحياة، لاسيما مع كثرة الفتن، وغلبة الاختلاف والهوى، وشيوع مظاهر المخالفة للكتاب والسنة إلا أن يسير في حياته ملتزماً بكتاب الله وسنه نبيه الكريم - صلى الله عليه وسلم - مقتدياً برسول الله، وبصحابته، والقرون الثلاثة الأولى المفضلة، المشهود لهم بالخيرية على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فالدين اتباع لا ابتداع، والشرع تمسك وانقياد لا تفرق واختلاف؛ فإن الكتاب والسنة لم يتركا في سبيل الهداية قولاً لقائل، ولا مجالاً لمشرع يشرع في دين الله ما لم يأذن به الله.
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما تركت شيئاً يقربكم إلى الله إلا وقد أمرتكم به، وما تركت شيئاً يبعدكم عن الله إلا وقد نهيتكم عنه))؛ رواه الطبراني بإسناد صحيح. {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً}؛ [النساء: 115].
قال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: "خط رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطاً ثم قال: ((هذا سبيل الله)). ثم خط خطوطاً عن يمينه وشماله، وقال: ((هذه السبل المتفرقة على كل سبيل شيطان يدعو إليه)). ثم قرأ قول الله - تعالى -: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}؛ [الأنعام: 153]. رواه النسائي واحمد.
عباد الله:(/2)
إن طريق النجاة هو التمسك بكتاب الله - تعالى - وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - ولا يتم ذلك إلا بالبعد عن البدع والخرافات التي ابتدعها المبتدعة، وأحدثها المحدثون، وروجها المبطلون؛ من دعاة النحل المختلفة، والطرق المتشعبة التي ليست من الإسلام في شيء، وإنما تتسمى باسمه وتدعي السير على نهجه وهي من أبعد الناس عنه.
ولقد ذم الله - تعالى - تلك الطرق المنحرفة الكثيرة التي جعلت المسلمين شيعاً وأحزاباً، وشتتت شملهم، وجعلتهم لقمة سائغة لأعدائهم، لا لقلة العدد والعدة، وإنما لتمزق الشمل وتفرق الكلمة التي جعلتهم غثاءً كغثاء السيل.
ومما لا شك فيه - عباد الله - أن البدع أعظم فساداً للدين، وأشد تقويضاً لبنيانه، وأكثر تفريقاً لشمل الأمة.
والبدعة في أصلها: مأخوذة من البَدْع؛ وهو: الاختراع على غير مثال سابق، ثم أطلقت وصارت علَماً على كل ما أحدثه الناس في الدين من محدَثات ليست منه.
والبدع في الدين بكل صورها وأنواعها محرمة؛ لما فيها من الضلالة والبعد عن الحق والصواب، ومخالفة سنة الحبيب المصطفى - صلى الله عليه وسلم - القائل: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)) و ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد))؛ أي: ((مردود عليه))؛ رواه البخاري ومسلم.
قال عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه -: "سن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخلفاؤه من بعده سنناً الأخذ بها تصديق لكتاب الله، واستعمال لطاعة الله، وقوة على دين الله، ليس لأحد تغيير فيها، ولا النظر في رأي يخالفها، من اقتدى بها فهو مهتد، ومن خالفها واتبع غير سبيل المؤمنين ولاه الله ما تولى، وأصلاه جهنم وساءت مصيراً.(/3)
والبدع - أيها المسلمون - تتفاوت درجاتها ما بين بدع مكفِّرة مخرجة من الملة، وبدع قادحة في التوحيد؛ تنافي كماله المطلق، وبدٍع مفسِّقة، وبدع هي إلى المعصية أقرب؛ فدعاء الموتى وسؤالهم، والتشفع بهم، والتوسل إليهم، وسؤال الشياطين وغيرهم فيما لا يقدر عليه إلا الله - تعالى - من صور البدع المكفرة، التي هي من وسائل الشرك، وقد تخرج صاحبها من الملة - والعياذ بالله تعالى.
والدعاء عند القبور، والصلاة عندها، والبناء عليها، وإحياء الموالد للموتى، كلها صور للبدع القادحة في التوحيد، وتنافي كماله.
وما وقعت فيه الفرق المبتدعة من تأويل صفات الله - عزَّ وجل - عن وجهها الصحيح، والقول بأن الإيمان مجرد اعتقاد دون عمل، والقول في القدر ونحو ذلك هو من البدع المفسِّقة التي لا تخرج من الملة.
أما الغلو في العبادة، والزيادة عليها، والتكلف فيها فهو من المعاصي التي نهى الله - تعالى - عنها، وشر الأمور محدثاتها.
والبدع - عباد الله - مبعدة عن الله، مقربة من الشيطان، مفرقة لصفوف المسلمين، محبِطَة للأعمال، وما رؤي الشيطان أفرح ولا أغبط منه بصاحب البدعة؛ لأن المبتدع يرى أنه على صواب وأن غيره على خطأ. وإنما كانت البدع مردودة على من عملها؛ لأن إحداث مثل هذه البدع يفهم منه أن الله - سبحانه وتعالى - لم يكمل الدين لهذه الأمة، وأن الرسول المصطفى - صلى الله عليه وسلم - لم يبلغ عن ربه ما ينبغي للأمة أن تعمل به مما يقربها إلى الله، وهل بعد ذلك من اعتراض على الله - تعالى - وعلى شرعه وعلى رسوله، واستدراك عليهما، واتهام لرسوله الأمين - صلى الله عليه وسلم - بالكتمان والخيانة في تبليغ الرسالة؟!(/4)
وحاشاه - صلوات الله وسلامه عليه - عن ذلك، وهو الموصوف على لسان ربه الذي أرسله واختاره لتبليغ رسالته بقوله - جل شأنه -: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤوفٌ رَّحِيمٌ}؛ [التوبة: 128].
أيها المسلمون:
ليس هناك إلا طريقان؛ طريق الهدى، وطريق الهوى، فالله - عزَّ وجل - يقول لرسوله - صلى الله عليه وسلم -: ((فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ الله إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ}؛ [القصص: 50].
فمن اتبع هواه، وعبد الله بمستحسَنات العقول والأهواء، وخالف ما جاء به الرسول الأمين فهو معانِد للشرع، مشاقٌّ لله ولرسوله؛ لأنه يستدرك على الشريعة النقائص، ويزعم أنها غير تامة، وأنه ببدعته تلك يكملها.
والمبتدعة بذلك قد أضاعوا السنن والأحكام، وراحوا يتهافتون على البدع والمحدَثات؛ ولو عقلوا لكفاهم ما شرعه الله ووضحه رسوله - صلى الله عليه وسلم - ولكن لا حيلة في هداية من أراد الله غوايته؛ فمن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.
أخرج الإمام أحمد والبزار من حديث غضيف بن الحارث مرفوعاً: ((ما أحدث قوم بدعة إلا رفع مثلها من السنة، وما من أمة ابتدعت بعد نبيها في دينها بدعة إلا أضاعت مثلها من السنة)).
والمبتدعة من أكسل الناس عن الطاعة، وأكثرهم بغضاً للسنة، وبعداً عن الملة، وإنما نشاطهم كله في إحياء البدع، والبحث عن الأحاديث الموضوعة والضعيفة، والقصص المخترعة، والمنامات الملفقة المكذوبة التي تؤيد ما ذهبوا إليه من بدع ومستحسنات، فإذا ذُكِّروا بالكتاب والسنة أعرضوا عنهما، وأولوهما على غير المراد منهما وعلى غير معناهما الصحيح.(/5)
ولقد "جاء رجل إلى الإمام مالك بن أنس - رحمه الله - فقال: من أين أحرم بالحج؟ قال: من الميقات الذي وقت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأحرم منه. فقال الرجل: فإن أحرمت من أبعد من ذلك؟ فقال الإمام مالك: لا أرى ذلك. فقال الرجل: وما تكره من ذلك؟ قال: أكره عليك الفتنة. قال الرجل: وأي فتنة في ازدياد الخير؟! فقال مالك: إن الله - تعالى - يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}؛ [النور: 63]. وأي فتنة أعظم من أنك خصصت نفسك بفضل لم يختص به رسول الله - صلى الله عليه وسلم؟!"
وقد ذكر الله - تعالى - حال أهل البدع، وبين أنهم يعملون، ولكن وجوههم يوم القيامة خاشعة، عاملة ناصبة تصلى ناراً حامية؛ لأنهم أتعبوا أنفسهم بالأعمال البدعية فكانت عاقبتهم النار؛ لأن عملهم على غير الدين القويم، وكل عمل خلا عن شرطي المتابعة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - والإخلاص لله - تعالى - فهو مردود على صاحبه.
قال العلامة ابن كثير - رحمه الله - عند قول الحق - سبحانه وتعالى -: {وَجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً}؛ [الغاشية: 2 -4]. قال: "هذه عامة في كل من عبد الله على غير طريق الحق يحسب أنه مصيب فيها وأن عمله مقبول، وهو مخطئ، وعمله مردود".
وقال الحسن البصري - رحمه الله -: "لا يقبل الله لصاحب بدعة صوماً ولا صلاةً ولا حجاً ولا عمرةً حتى يدع بدعته".
وقال محمد بن مسلم - رحمه الله: "من وقر صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام".
فاتقوا الله - تعالى - أيها المسلمون، تمسكوا بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وعضوا عليها بالنواجد، واحذروا البدع والمحدثات، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، أقول قولي هذا وأستغفر الله - تعالى - فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية(/6)
الحمد الله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد فيا أيها الناس:
اتقوا الله - تعالى - واشكروه وأطيعوه وراقبوه، واعلموا أنكم ملاقوه.
عباد الله:
روى البخاري ومسلم من حديث أبي بكرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خطب في حجة الوداع فقال: ((إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهراً، منها أربعة حرم: ثلاثة متواليات؛ ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب مضر؛ الذي بين جمادى وشعبان)).
ولقد سميت هذه الأشهر الأربعة بالحرم؛ لعظم حرمتها، وحرمة الذنب فيها؛ وتيسيراً على الناس الذين يريدون الحج والعمرة؛ ليأمنوا على أموالهم ودمائهم.
أيها المسلمون:
ونحن في هذه الأيام في شهر رجب الذي تعود الجهلة, والمبتدعة, وأهل الأهواء والآراء على تخصيصه بأنواع من العبادات، وهذا من أخطر البدع وأشدها ضرراً على المسلمين؛ فشهر رجب كغيره من الشهور لا مَزِيّة له عليها ولا فضل، وهؤلاء المبتدعة يزعمون أن له فضائل وكرامات، فيخصونه بقيام بعض لياليه، أو صيام بعض أيامه، أو الذبح فيه تقربا لله - تعالى على حد زعمهم - وهو في الحقيقة مجاراةٌ لعقولهم، واتباعٌ لأهل الأهواء والبدع الذين اتخذوهم أرباباً من دون الله - تعالى - يشرعون لهم الشرائع، ويسنون لهم السنن والفضائل, ويزعمون كذلك أن عمرة فيه أفضل من عمرة فيما سواه، إضافة إلى تخصيص ليلة السابع والعشرين منه باحتفالات وعبادات متنوعة, بزعم أنها ليلة الإسراء والمعراج، وقد نفى أهل العلم ذلك وأنكروه.
ومما أُحدث في هذا الشهر من البدع: تعظيم أول خميس فيه، وقيام أول ليلة جمعة فيه؛ وهي ما يسمونه بصلاة الرغائب، وهذه كلها بدع وضلالات ما أنزل الله بها من سلطان.
عباد الله:(/7)
وإن من الأحكام المتعلقة بشهر رجب المحرم: تحريم القتال فيه بين المسلمين، والاعتداء على الآمنين، وترويع الغافلين؛ فعن جابر - رضي الله عنه - قال: "لم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يغزو في الشهر الحرام إلا أن يغزا فيغزو، فإذا حضره أقام حتى ينسلخ"؛ رواه أحمد.
ومن الأحكام كذلك: تحريم الذبائح التي كان الجاهليون يذبحونها لهذا الشهر؛ وهي: الفرع والعتيرة؛ أول نتاج الإبل والغنم، كان أهل الجاهلية يذبحونه في هذا الشهر لآلهتهم، يتبرعون لها بذلك، وهي التي تسمى: الرجبية. قال المصطفى - صلى الله عليه وسلم -: ((لا فرع، ولا عتيرة))؛ متفقٌ عليه.
ومما يشبه ذلك: اتخاذ شهر رجب عيداً وموسماً، فقد نهى ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - عن ذلك، وعدَّه من البدع التي يجب الحذر منها.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "واتخاذ شهر رجب موسماً للعبادة بحيث يفرد بالصوم مكروه عند الإمام أحمد وغيره، كما روي ذلك عن عمر بن الخطاب وأبي بكرة وجمع غفير من الصحابة والتابعين. أما تعظيم أول خميس فيه، وقيام أول ليلة جمعة فهو بدعة محدَثة إنما أُحدثت في الإسلام بعد المئة الرابعة؛ لحديث موضوع باتفاق العلماء"، إلى أن قال: "والصواب الذي عليه المحققون من أهل العلم: النهي عن إفراد هذا اليوم بالصوم، وعن هذه الليلة المحدَثة، وعن كل ما فيه تعظيم لهذا اليوم أو هذا الشهر، وإنما الذي ورد: أن هذا من الأشهر الحرم التي يحرم القتال فيها".
وقال الحافظ ابن رجب - عليه رحمة الله -: "لم يرد في فضل شهر رجب، ولا في صيام شيء معين منه، ولا في قيام ليلة مخصوصة منه حديثٌ صحيح يصلح للحجة.(/8)
ثم اعلموا - عباد الله - أن ما ذهب إليه بعض الناس من تقسيم البدع إلى: بدعة حسنة، وبدعة سيئة طريقة غير مرضية، لا دليل عليها من كتاب أو سنة، ولم يكن ذلك من عادة السف؛ بل كانوا ينظرون إلى البدع جميعاً على أنها ضلالة يجب البعد عنها، والحذر من الوقوع فيها.
فاتقوا الله - تعالى - أيها الناس، واحذروا من البدع التي يروِّج لها أصحاب الضلالة، وأدعياء الجهالة في هذا الشهر وغيره، واعبدوا الله - تعالى - على وَفق شرعه، وعلى سنة نبيه الكريم - صلى الله عليه وسلم - وعلى منهج سلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين - رضي الله عنهم وأرضاهم.
ثم صلوا وسلموا - رحمكم الله - على المبعوث رحمة للعالمين محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.(/9)
العنوان: التحذير من الفتن
رقم المقالة: 1586
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70-71].
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله - تعالى - وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها الناس: كلما ابتعد الناسُ عن زمن النبوة زاد ابتعادهم عن الحق، ومسارعتهم في الباطل. وسببُ ذلك: الهوى والجهل، فزمان النبي - صلى الله عليه وسلم - وزمان خلفائه الراشدين المهديين - عليهم رضوان الله تعالى - هو زمان العلم والهدى، والنور والتقى، والتجرد من الهوى. وبانقضاء ذلك الزمن الفاضل ظهرت البدع والأهواء، وانتشرت الجهالاتُ والضلالات، وهي في ازدياد منذ ذلك الحين إلى يومنا هذا، وستظل كذلك إلى ما شاء الله - تعالى - تبعًا لفساد الزمان الذي أخبر عنه النبي - صلى الله عليه وسلم.(/1)
قال الزبير بن عدي - رحمه الله تعالى -: "أتينا أنس بن مالك فشكونا إليه ما يلقون من الحجاج، فقال: اصبروا؛ فإنه لا يأتي عليكم زمان إلا والذي بعده شرٌّ منه حتى تلقوا ربكم، سمعته من نبيكم صلى الله عليه وسلم"؛ رواه البخاري[1].
والأزمان التي يكون متأخرها أكثر شرًّا من متقدمها كما جاء في الحديث، ليس المقصود بذلك الشرّ قلة الأرزاق والأموال، وإنما هو ذهاب العلم، وكثرة الجهل، واستحكام الهوى، ويستتبع ذلك كثرة الفتن والمحن، والإثم والضلال؛ كما جاء مصرحًا به عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: "لا يأتي عليكم يومٌ إلا وهو شر من اليوم الذي كان قبله، حتى تقوم الساعة، لست أعني رخاءً من العيش يصيبه، ولا مالاً يفيده، ولكن لا يأتي عليكم يوم إلا وهو أقل علمًا من اليوم الذي مضى قبله، فإذا ذهب العلماء استوى الناس؛ فلا يأمرون بالمعروف، ولا ينهون عن المنكر، فعند ذلك يهلكون"[2].
من أجل ذلك كان الخير كل الخير في أول هذه الأمة، في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - حيث العلم والهدى، ثم في عهد صحابته - رضي الله عنهم - وفي القرون المفضلة التي زكاها النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان الشر والفتن والافتراق في أخريات هذه الأمة.(/2)
وكل فتنة تأتي تُنسي الناس ما قبلها من الفتن حتى يعتاد الناس عليها، فتخلفها فتنة أعظم، وهكذا إلى حين نزول المسيح ابن مريم - عليه السلام - كما قال عبدالله بن عمرو - رضي الله عنهما -: "كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر، فنزلنا منزلاً، فمنا من يصلح خباءه، ومنا من ينتضل، ومنا من هو في جَشَرِه. إذ نادى منادي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الصلاةَ جامعةً، فاجتمعنا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم –" فقال: ((إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقًّا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينذرهم شرَّ ما يعلمه لهم، وإن أمتكم هذه جعل عافيتها في أولها، وسيصيب آخرها بلاء وأمور تنكرونها، وتجيء فتنة فيُرَقِّقُ بعضها بعضًا، وتجيءُ الفتنة فيقول المؤمن: هذه مهلكتي، ثم تنكشف، وتجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه هذه، فمن أحب أن يُزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأتِ إلى الناس الذي يُحب أن يؤتى إليه، ومن بايع إمامًا فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه، فليطعه إن استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر)). فدنوت منه فقلت له: "أنشدك الله، آنت سمعت هذا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم –"؟ فأهوى إلى أذنيه وقلبه بيديه، وقال: "سمعته أذناي ووعاه قلبي"؛ رواه مسلم[3].(/3)
لقد نصح النبي - صلى الله عليه وسلم - لأمته أعظم النصح، وذكر لها ما يكون من الشر والفتنة، وبيّن لها العمل تجاه تلك الفتن؛ فأرشدها إلى وَحْدة الكلمة، واجتماع الشمل، وحذرها من الفرقة، أو شق عصا الطاعة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: "والاجتماع والائتلاف من أعظم الأمور التي أوجبها الله ورسوله، قال الله - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 102-103] إلى قوله: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 105].
وهذا الأصل العظيم: وهو الاعتصام بحبل الله جميعًا، وأن لا يُتفرق هو من أعظم أصول الإسلام، ومما عظمت وصية الله به في كتابه، ومما عظم ذمه لمن تركه من أهل الكتاب وغيرهم، ومما عظمت به وصية النبي - صلى الله عليه وسلم - في مواطن عامة وخاصة مثل قوله: ((عليكم بالجماعة؛ فإن يد الله مع الجماعة))[4]. وقوله: ((من رأى من أميره شيئًا يكرهه فليصبر عليه؛ فإنه من فارق الجماعة قيد شبر، فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه))[5]. وقوله: ((ألا أنبئكم بأفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر))؟ قالوا: "بلى يا رسول الله"! قال: ((صلاحُ ذات البين؛ فإن فساد ذات البين هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين))[6]... إلى أن قال - رحمه الله -: وباب الفساد الذي وقع في هذه الأمة بل وفي غيرها؛ هو التفرق والاختلاف". اهـ كلامه[7].(/4)
ابتدأت الفتن تطل برأسها على هذه الأمة بمقتل عمر - رضي الله عنه - الذي كان بابًا مغلقًا دون الفتن، فانكسر الباب بقتله، فلا يغلق إلى آخر الزمان؛ كما جاء التصريح بذلك في حديث حذيفة رضي الله عنه[8].
وفي أخريات خلافة عثمان - رضي الله عنه - خرج الخارجون عليه، وثار الثائرون على سياسته وخلافته من دهماء الأعراب، ورعاع الناس، يقودهم في تلك الفتنة دعاة شر وضلال، فهب جمع من الصحابة لحمايته؛ ولكنه فدى الأمة بدمه، وأمر المنتصرين له بإغماد سيوفهم، ولزوم بيوتهم؛ حتى لا تكون فتنة، فقتله الخارجون عليه وهو يقرأ القرآن!! ومن يومها وقع السيف في هذه الأمة، وعظمت الفرقة، واشتد الخلاف، والتبس الحق بالباطل، فاعتزل أكثر الصحابة - رضي الله عنهم - الفتن المتلاحقة؛ كما قال محمد بن سيرين - رحمه الله تعالى -: "هاجت الفتنة وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشرة آلاف، فما حضرها منهم مائة، بل لم يبلغوا ثلاثين"[9]. وقال الشعبي - رحمه الله تعالى -: "لم يشهد الجمل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - غير علي وعمار وطلحة والزبير فإن جاوزوا بخامس فأنا كذاب"[10].
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: "ولم تحدث في خلافة عثمان بدعة ظاهرة، فلما قُتل وتفرَّق الناس حدثت بدعتان متقابلتان: بدعةُ الخوارج المكفرين لعلي، وبدعةُ الرافضة المدعين لإمامته وعصمته أو نبوته أو إلاهيته، ثم لما كان في آخر عصر الصحابة في إمارة ابن الزبير وعبدالملك حدثت بدعة المرجئة والقدرية، ثم لما كان في أول عصر التابعين في أواخر الخلافة الأموية حدثت بدعة الجهمية المعطلة، والمشبهة الممثلة، ولم يكن على عهد الصحابة شيء من ذلك" ا هـ كلامه[11].(/5)
إن الملاحظ - أيها الإخوة - أن الناس إذا أحدثوا بدعة من البدع أحدث آخرون بدعة أخرى تقابلها وتعارضها، فيقع كثير من الناس في حيرة بين البدعتين إلا من هداه الله - تعالى - بالعلم النافع؛ فجانب البدعتين، وأعرض عن خطأ الطائفتين.
ظهرت في الإسلام بدعة الخوارج الذين يكفرون أهل المعاصي، ويستحلون دماءهم، فقابلها المرجئة ببدعتهم الضالة، التي تنفي الكفر عمن يستحقه، وتدخل في الإيمان من ليس من أهله.
ولما قال أقوام بالجبر عارضهم آخرون بالقدر. ولما قال أقوام ببدعة التمثيل والتشبيه في صفات الرب - تبارك وتعالى - قابلهم آخرون ببدعة النفي والتعطيل، فعطلوا الرب - تبارك وتعالى - من صفاته اللائقة به!
ولما أخذ أناس بنصوص الوعيد والترهيب، وقصروا الناس على الأخذ بها، جاء آخرون فدعوا الناس إلى نصوص الوعد والترغيب، وقصروهم على ذلك؛ ردًّا على أهل الوعيد والترهيب.
فلا تظهر بدعة إلا قوبلت بأخرى في الطرف الآخر، ولا يُفْرِط أقوام إلا ويقابلهم آخرون بالتفريط، وهكذا احتار جمهور الأمة في كثير من الأعصار والأمصار بين دعاة الغلو ودعاة التقصير، وضاع الحق في دوامة الإفراط والتفريط، ولم يسلم من ذلك إلا أهل الحق من أتباع السلف الصالح، الذين ثبتوا على الأمر الأول، وأخذوا بوسطية الإسلام البعيدة عن الإفراط أو التفريط، والغلو أو التقصير.
أسأل الله - تعالى - أن يهدينا صراطه المستقيم، وأن يثبتنا على الحق المبين، وأن يتوفانا على الإسلام والسنة، غير مبدلين ولا مغيرين، إنه سميع مجيب.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
الخطبة الثانية(/6)
الحمد لله حمدًا طيبًا كثيرًا مباركًا فيه كما أمر، والشكر له على نعمه العظيمة، وآلائه الجسيمة؛ فقد تأذن بالزيادة لمن شكر.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ شهادة نرجو بها النجاة في حال الخوف والخطر، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله؛ إرغامًا لمن جحد به وكفر، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه السادة الغرر، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم العرض الأكبر.
أما بعد: فاتقوا الله ـ عباد الله ـ وأطيعوه، واحذروا الذنوب والمعاصي، والأهواء والبدع؛ فإنها أبوابُ الشرِّ والفتن.
أيها المسلمون: الأمن نعمةٌ لا يعرف قدرها إلا من فقدها، وهو ركنٌ من أركان النعيم في الجنة؛ كما قال الله – سبحانه -: {يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آَمِنِينَ} [الدُخان: 55]، وفي الآية الأخرى: {لَا يَحْزُنُهُمُ الفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ المَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [الأنبياء: 103].
إن الأمن ليس طعامًا يجاوزه مَن لا يشتهيه إلى ما يشتهيه، وليس لباسًا ينزعه العبد ليستبدل به غيره؛ فإنه إن انتُزع فلا لباس يخلفه إلا لباس الخوف والجوع، نسأل الله العافية والسلامة.
وإذا رُفع الأمن، وحل الخوف؛ تولّدت الفتن، وتشعبت الآراء، وعظم الافتراق، وأعجب كل ذي رأي برأيه، حتى تكون البدعة وضدها في البيت الواحد، ويعادي الأخ أخاه، ويقاتله بسبب قناعة كل واحد منهما بفكر يعارض فكر الآخر؛ كما ابتلي بذلك التابعي المحدث الجليل سالم بن أبي الجعد - رحمه الله تعالى - إذ كان له ستة بنين: "فاثنان شيعيان، واثنان مرجئان، واثنان خارجيان، فكان أبوهم يقول: قد خالف الله بينكم"[12].(/7)
وإذا ما وقع الافتراق، واشتعلت الفتن؛ اندرس الدين، وتعطلت الحدود، واختلط الأمر، وانتهكت الأعراض، وانتهبت الأموال، وسفكت الدماء؛ حتى يُقتل الرجل لا يدري فيمَ قُتل، ولا يدري قاتله فيمَ قتله، حينها يمر الرجل بقبر الرجل فيقول: "يا ليتني مكانه" كما صح ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم[13].
قال عثمان بن حيان - رحمه الله تعالى - وكان واليًا على المدينة للوليد بن عبدالملك - رحمه الله -: "أيها الناس، والله ما رأينا شعارًا قط مثل الأمن، ولا رأينا حِلْسًا قط شرًّا من الخوف، فالزموا الطاعة؛ فإن عندي يا أهل المدينة خبرة من الخلاف، والله ما أنتم بأصحاب قتال، فكونوا من أحلاس بيوتكم، وعضوا على النواجذ...فإن الأمر إنما يُنقض شيئًا شيئًا حتى تكون الفتنة، وإن الفتنة من البلاء، والفتن تذهب بالدين وبالمال والولد"اهـ[14].
إن أعظم سبب للأمن هو إقامة دين الله - تعالى - والتزام أمره، وصيانة شريعته عن عبث العابثين، وانتحال المبطلين. وفتن الخروج على الولاة، وتكفير المسلمين لا تعالج ببدع المرجئة والمخذلين، فالبدعة تعالج بالسنة، ولا تعالج ببدعة أخرى حتى لا يضيع الحق بين البدعتين.
لقد سمعنا صهاينة أهل الكتاب وهم يعتدون على ديننا وقرآننا، ويتهمون مناهجنا ونبينا محمدًا - صلى الله عليه وسلم - بالتطرف والإرهاب فلم نعجب من ذلك؛ لأنهم أعداؤنا، ولكننا رأينا أقوامًا من بني جلدتنا، ينطقون بعربيتنا، يرددون ما يردده الصهاينة بعد وضعه في قوالب أخرى من الهجوم على حلقات تعليم القرآن، وهيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنابر الجمعة، وكراسي التعليم والدعوة!!
لقد رأيناهم في أحوال الفتن والأزمات يحاولون زرع الفرقة، ويشعلون نار الفتنة، في انتهازية قبيحة، واستغلال بغيض؛ لتحقيق مآرب شخصية، والوصول إلى أهداف مشبوهة.(/8)
واعجبًا من أقوام يزعمون أن حلقات تعليم القرآن تُفرِّخ التطرف والإرهاب، وهم يعلمون أنها لا تُدرِّس إلا القرآن! فلماذا لا يهاجمون القرآن مباشرة كما يفعل أساتذتهم الصهاينة، ألأنَّهم يعلمون أن الأمة لا ترتضي ذلك؟!
يا للغرابة من أشخاص يعقدون الندوات والمحاضرات، في الإذاعات والفضائيات، ويدبجون المقالات والافتتاحيات في الصحف والمجلات، يزعمون أن مناهجنا هي السبب الرئيس للتطرف والإرهاب، وهم يعلمون أن مناهجنا ليس فيها شيء خارج عن الكتاب والسنة، فلماذا لا يقولون: إن الكتاب والسنة هما منبع التطرف والإرهاب كما يقول صهاينة الغرب؟!
يا ويلهم من جبار منتقم يغار على حرماته، كيف يجترئون على ذلك، وهم يشاهدون دولاً قسرت شعوبها على المناهج الإلحادية، ودرّست تلاميذها المناهج القومية والشيوعية، وضحايا التطرف والإرهاب فيها جاوزت عشرات الآلاف!!
ثم أين درس هؤلاء الكتَّاب والمفكرون، هل درسوا في القمر أو استجلبت له مناهج من المريخ؟! إنهم درسوا في مدارسنا، وتربوا على مناهجنا، فإن كانت مناهجنا هي سبب التطرف والإرهاب فهل هم من الإرهابيين المتطرفين؟ وما الذي يخرجهم عن ذلك؟!
لقد كان بعض هؤلاء الكتاب من الغلاة المتنطعين في الدين، فتحولوا إلى غلاة علمانيين، وآخرون منهم كانوا من غلاة الماركسيين والقوميين والبعثيين، فتحولوا إلى غلاة ليبراليين، وصاروا أكثر ليبرالية وإمبريالية من أهلها الأصليين، فهم لا يعيشون إلا على الغلو والإفراط، ولا يعرفون الوسطية المحمودة.(/9)
ومع أنهم أعداد قليلة، ولا يمثلون إلا أنفسهم؛ فإنهم يستفزون جمهور الأمة بأطروحاتهم الخاطئة، ويريدون جرّ الناس كلهم إلى غلوهم وتنطعهم، ويأبون إلا قسرهم على منهجهم وسلوكهم في إرهاب فكري ضيق؛ وهذا من أعظم ما يسبب الاختلاف والفرقة، ويؤجج نار الصراعات والثارات، ويفتح باب الفتن والمحن. فعلى كل صاحب قلم ولسان أن يتقي الله - تعالى - في أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - ولا يكون عونًا لأعدائها عليها، ولا يشعل نار فتنة لا يرجى إطفاؤها؛ فإن من أشعل فتنة أحرقته نارها، وكان عليه وزرها ووزر من سقط فيها.
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يديم علينا نعمة الإيمان والأمن والاستقرار، وأن يحفظنا من كيد الفجار، ومكر الكفار، وأن يوفق ولاتنا لما فيه صلاح العباد والبلاد.
اللهم من أراد ديننا وقرآننا وأمننا بسوء فأحبط كيده، وأبطل مكره، واكفنا شره، وخذه أخذ عزيز مقتدر، إنك على كل شيء قدير.
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد. وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
---
[1] أخرجه أحمد (3/132)، والبخاري في الفتن باب لا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه (7068). والترمذي في الفتن باب (35) (4037)، وأبو يعلى (4037)، وابن حبان (5952).
[2] عزاه الحافظ في الفتح ليعقوب بن شيبة (13/24)، وانظر: "تحفة الأحوذي" (6/374).
وقد ذكر الحافظ استشكال هذا الإطلاق، مع أن بعض الأزمنة تكون في الشر دون التي قبلها؛ كما في زمن عمر بن عبدالعزيز - رحمه الله - وقد كان عقب الحجاج بزمن يسير، وذكر أجوبة لهذا الإشكال، منها هذا الأثر عن ابن مسعود وقال: "وهو أولى بالاتباع" كما ذكر أجوبة أخرى هي:
1 ـ جواب الحسن البصري - رحمه الله تعالى - حينما سئل عن وجود عمر بن عبدالعزيز بعد الحجاج فقال: "لابد للناس من تنفيس".(/10)
2 ـ أن المراد بالتفضيل تفضيل مجموع العصر على مجموع العصر؛ فإن عصر الحجاج كان فيه كثير من الصحابة في الأحياء، وفي عصر عمر بن عبدالعزيز انقرضوا، والزمان الذي فيه الصحابة خير من الزمان الذي بعده.
3 ـ أن المراد بالأزمنة المذكورة أزمنة الصحابة بناء على أنهم المخاطبون بذلك فيختص بهم، فأما من بعدهم فلم يقصد بالخبر المذكور، وذكر الحافظ هذا الجواب ردًّا على استشكال زمن عيسى - عليه السلام - إذ زمن النبي المعصوم لا شر فيه؛ بل هو خير.
4 ـ احتمال أن يكون المراد بالأزمنة ما قبل وجود العلامات العظام كالدجال وما بعده، ويكون المراد بالأزمنة المتفاضلة في الشر من زمن الحجاج فما بعده إلى زمن الدجال، وأما زمن عيسى - عليه السلام - فله حكم مستأنف.
5 ـ قال الحافظ: ثم وجدت عن ابن مسعود ما يصلح أن يفسر به الحديث وهو ما أخرجه الدارمي بسند حسن عن عبدالله قال: "لا يأتي عليكم عام إلا وهو شر من الذي قبله، أما إني لست أعني عامًا". ا هـ من الفتح (13/24) وقول عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - في سنن الدارمي (188).
[3] أخرجه أحمد (2/161)، ومسلم في الإمارة باب وجوب الوفاء ببيعة الخلفاء الأول فالأول (1844)، وابن ماجه في الفتن باب ما يكون من الفتن (3956) وقوله في الحديث: "ومنا من هو في جَشَرِه" معناه: في دوابه يعتني بها.(/11)
[4] هذا اللفظ لم أعثر عليه من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - وإنما وجدته من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - موقوفًا عليه، ذكره المزي في "تهذيب الكمال" في ترجمة عمرو بن ميمون الأودي (22/261، برقم: 4458)، وجاء عن عمر - رضي الله عنه - في خطبته في الجابية بلفظ: ((فمن أراد منكم بحبحة الجنة فليلزم الجماعة؛ فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد))؛ أخرجه أحمد (1/18)، والترمذي في الفتن باب ما جاء في لزوم الجماعة وقال: حسن صحيح غريب من هذا الوجه (2165)، وصححه ابن حبان (7254)، والحاكم وقال: على شرط الشيخين ووافقه الذهبي (1/113)، وجاء هذا الحديث مصرحًا برفعه عند ابن أبي عاصم في السنة (88) وقال الترمذي بعد ذكره: "وقد روي هذا الحديث من غير وجه عن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم –" وجاء مرفوعًا من حديث زكريا بن سلام عن أبيه عن رجل قال: انتهيت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يقول: ((أيها الناس عليكم بالجماعة وإياكم والفرقة... ثلاث مرات)) أخرجه أحمد (5/370).
[5] أخرجه من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - البخاري في الفتن باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((سترون بعدي أمورًا تنكرونها)) (7054).
[6] أخرجه من حديث أبي الدرداء - رضي الله عنه - أحمد (6/444)، وأبو داود في الأدب باب إصلاح ذات البين (4919)، والترمذي في صفة القيامة والرقاق والورع باب سوء ذات البين، وصححه (2509)، والبغوي في "شرح السنة" (3538)، وصححه ابن حبان (5092)، وله شاهد من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عند الترمذي (2509).
[7] مجموع الفتاوى (22/ 358 ـ 360) مع كثير من الاختصار.
[8] أخرجه أحمد (5/386)، ومسلم في الإيمان باب بيان أن الإسلام بدأ غريبًا وسيعود غريبًا، وأنه يأرز بين المسجدين (144).(/12)
[9] أخرجه الخلال في "السنة" (1/446) وعبدالله بن الإمام أحمد في "العلل" و"معرفة الرجال" (3/182)، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في "منهاج السنة النبوية" بعد أن ذكره: "وهذا الإسناد من أصح إسناد على وجه الأرض" (6/236).
[10] أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (7/538) برقم: (37782)، وعبدالله بن الإمام أحمد في "العلل" (3/45).
[11] "منهاج السنة النبوية" (6/231).
[12] "سير أعلام النبلاء" (5/109).
[13] وذلك في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عند مالك (1/241)، وأحمد (2/236)، والبخاري في الفتن باب لا تقوم الساعة حتى يغبط أهل القبور (7115)، ومسلم في الفتن باب لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيتمنى أن يكون مكان الميت من البلاء (4/2231) برقم: (157).
[14] باختصار من تاريخ الطبري (4/23).(/13)
العنوان: التحذير من الوصية لبعض الورثة
رقم المقالة: 751
صاحب المقالة: سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
-----------------------------------------
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداًً عبده ورسوله أفضل من بشر وأنذر وأمر وزجر صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً.
أما بعد، فإن الله تعالى بعث محمداًً - صلى الله عليه وسلم - هاديا ومبشرا ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، فقام بأعباء الرسالة خير قيام ونصح عباد الله أبلغ نصيحة، وكان مما يعظ به الناس كلام الله فكان يقرأ في المناسبات ما يناسب الوقت، ((وكان - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في فجر يوم الجمعة بعد الفاتحة في الركعة الأولى آلم تنزيل السجدة كاملة، وفي الركعة الثانية هل أتى على الإنسان كاملة))، وكان يديم ذلك، وذلك لما تضمنته هاتان السورتان من ذكر مبدأ الخلق ومنتهاه ومبدأ خلق الإنسان وسعيه ونهايته وجزائه، وأن الناس خلقوا من أصل واحد ثم انقسموا قسمين شاكرا وكفورا ومؤمنا وفاسقا {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لاَ يَسْتَوُونَ * أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلاً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:18،19] وقد بسط الله شيئاً من نعيم هذه الجنات في سورة هل أتى على الإنسان {وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} [السجدة:20].(/1)
أما صلاة الجمعة فكان يقرأ فيها بعد الفاتحة أحياناً بسورة الجمعة في الركعة الأولى وسورة المنافقين في الركعة الثانية، وأحيانا يقرأ في الأولى {سبح اسم ربك الأعلى} وفي الثانية {هل أتاك حديث الغاشية} لما في ذلك من المناسبة والتذكير والوعظ.
أيها المسلمون، إن مما جاء في كتاب الله تعالى وفي سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفيما أجمع عليه علماء المسلمين أنه لا وصية لوارث، وأن من أوصى لبعض ورثته دون الآخرين فقد عصى الله ورسوله وتعدى حدود الله وظلم نفسه وظلم ورثته حيث اقتطع من حق بعضهم لبعض، ومن أوصى بوقف شيء من ماله على بعض ورثته حيث اقتطع من حق بعضهم لبعض ومن أوصى بوقف شيء من ماله على بعض ورثته دون بعض فقد أوصى لوارث، حيث خص بعض ورثته باستغلال ما أوقفه عليهم دون الآخرين. وإذا كان لا يجوز أن يوصي لبعض ورثته باستغلال العقار سنة أو بسكنى الدار شهراً فكيف يجوز له أن يوصي بوقفه عليه واستغلاله دائماً؟ هذا شيء لا يمكن أبداً ولا تأتي به شريعة حكيمة عادلة ولا عقل سليم، فمن أوصى بوقف ثلثه على أولاده أو ذريته دون غيرهم من بقية الورثة فإن هذه وصية جائرة يجب عليه إبطالها والرجوع عنها وإن كان قد كتبها وأشهد عليها. يا سبحان الله، ماذا يستفيده من هذا التخصيص؟ قد يكون هذا التخصيص مع كونه معصية لله تعالى مصدر تعب ومشقة على الذرية أنفسهم، ولو كان المال الموقف حراً لهم أو بعيداً عنهم لكان أريح لهم وأسلم لذمتهم وذمة الموقف، يا سبحان الله، كيف يوصي الإنسان بعد موته ومفارقته الدنيا بمعصية الله ورسوله؟ وما أدري ماذا يواجه به ربه بعد موته إذا سأله عن ماله فيما أنفقه؟ نعم إن الجواب أن يقول أوصيت بوقفه أو وقف ثلثه على بعض الورثة، وهذا هو التعدي لحدود الله وعدم الرضا بفرائض الله وتقسيمه. فاتقوا الله أيها المؤمنون وارجعوا إلى الحق ما دمتم في زمن الإمهال قبل أن تتحسروا على ما فات منكم فيما صرفتم من المال.(/2)
أيها الناس، قد يظن بعضكم إني أنهى عن الوقف بكل حال، ولكن ليس الأمر كذلك، وإنما أنهى عن وقف يتضمن الحيف والوصية لبعض الورثة دون بعض، أما الوقف العادل الذي يبتغي به وجه الله فلا أنهى عنه ولا غيري ينهى عنه اللهم إلا أن يكون مفضياً حتماً أو غالباً لمفاسد أكبر من مصالحه، ولكن إذا جعل الإنسان وقفه على المساجد أو على مكاتب علم أو الفقراء أو المصالح العمومية أو الأقربين عموماً أو تصدق بشيء من ماله في حياته في أمر يجري له بعد موته، فكل هذا إن شاء الله خير ومصلحة وبر. أيها الناس، أصدقوا العزيمة وتغلبوا على أنفسكم بتصحيح وصاياكم وتطبيقها على شرع الله ورسوله ولا تتصرفوا فيها تصرفاً يكون وبالاً عليكم وأنتم ولله الحمد في سعة من ذلك. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:182].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم... إلخ.(/3)
العنوان: التحذير من بدع رجب (1)
رقم المقالة: 1583
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70-71].
أما بعد: فإنَّ المسلمين يمتازون عن غيرهم من أهل الأرض بوضوح عقيدتهم، وصحة دينهم؛ فالعباداتُ في الإسلام مضبوطة، ومصادرُ التلقي محفوظة. يتلقى الإسلامَ جيلٌ عن جيل، بأسانيدَ موصولة، ومعاييرَ في القبول والرد دقيقة. فالإسلام هو الإسلام عبر القرون؛ لم تنخرم منه عبادة، ولم تسقط من شعائره شعيرة، ولم تطرأ عليه زيادة، على رغم الضعف الذي دارت أمة الإسلام في فلكه فتراتٍ من حياتها، لكن الله - تعالى - قد تأذن بحفظه {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9].(/1)
لذا كان من المناهي العظيمة، والمحاذير الكبيرة، الابتداعُ في الدين، والزيادةُ على المشروع من العبادة. والحاملُ على الابتداع والزيادة الجهلُ أو الهوى. وهذا ما خافه الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - على أمته فقال: ((إن مما أخشى عليكم بعدي بطونكم وفروجكم ومضلات الأهواء))؛ أخرجه أحمد والطبراني[1]. وكان من دعائه - صلى الله عليه وسلم –((اللهم جنبني منكرات الأخلاق والأهواء والأدواء))؛ أخرجه الترمذي وابن أبي عاصم[2].
ويُذكِّر أصحابه أهمية الاتباع، وخطر الابتداع فيقول في حديثه: ((أما بعد فإن خير الحديث كتابُ الله، وخيرَ الهدي هديُ محمد، وشر الأمور محدثاتُها، وكلُّ بدعة ضلالة))؛ أخرجه مسلم من حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنهما[3].
وقبل وفاته - صلى الله عليه وسلم - أوصى بالاتباع، وشدّد في ذلك – والمرء قبل وفاته لا يوصي إلا بما هو مهم عنده – ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنصحُ الخلق للخلق، أخرج الترمذي وأبو داود واللفظ له من حديث عبدالرحمن بن عمرو السلميِّ وحُجْر بن حُجْرٍ قالا: "أتينا العرباض بن سارية - رضي الله عنه - وهو ممن نزل فيه {وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} [التوبة: 92] فسلمنا وقلنا: أتيناك زائرين وعائدين ومقتبسين. فقال العرباض: "صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم، ثم أقبل علينا بوجهه، فوعظنا موعظةً بليغة، ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقال رجل: "يا رسول الله، كأن هذه موعظة مودع، فماذا تعهدُ إلينا"؟ قال: ((أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإنْ عبدًا حبشيًّا فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها وعضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كلَّ محدثةٍ بدعة، وكلَّ بدعةٍ ضلالة»[4].(/2)
ما كان هذا التحذيرُ والتشديدُ منه - صلى الله عليه وسلم - على هذا الأمر إلا تعظيمًا لجناب الله - تعالى - إذ هو وحده - تعالى وتقدس - المشرِّعُ، والبشر له عبيد، والابتداعُ فيه تعدٍّ على هذا الحق الإلهي، فكيف يأمر الله - تعالى - عباده بعبادته على وجه يريده، فتظهَرُ أمةٌ منهم تتنكبُ الصراط، وتشاقُّ الله - تعالى - في ربوبيته، وتنازعهُ في طريقة عبادته، فتشرع من الدين ما لم يأذن به؟! كيف يكون ذلك لهم ويلهم؟! والرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو معصوم يؤمر بالاتباع ويقال له: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللهُ وَلِيُّ المُتَّقِينَ} [الجاثية: 18-19]!! قال الحسن البصري: "على شريعة من الأمر: على السنة"[5].
وبالاتباع تُنالُ محبةُ الله - تعالى - ومحبةُ رسولهِ - صلى الله عليه وسلم - لأن المتبِعَ معظِّمٌ للكتاب والسنة {يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ} [البقرة: 121] قال عطاء - رحمه الله تعالى -: "يتبعونه حق اتباعه، ويعملون به حق عمله"[6] وقال ابن جريج - رحمه الله تعالى -: "كان قوم يزعمون أنهم يحبون الله يقولون: إنا نحب ربنا؛ فأمرهم الله أن يتبعوا محمدًا - صلى الله عليه وسلم - وجعل اتَّباعَ محمدٍ عَلَمًا لحبه"[7].(/3)
وإذا اختلف المسلمون في أمر من أمورهم وجب عليهم الرجوع إلى كتاب ربهم - تبارك وتعالى - وسنة نبيهم - صلى الله عليه وسلم - والوقوفُ عندهما، والعملُ بهما؛ فذلك طريق النجاة، وإلا كان الزيغُ والضلال والهلاك: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء: 59] قال ميمون بن مِهْران في الردّ إلى الرسول: "ما دام حيًّا فإذا قبض فإلى سنته"[8].
تلك هي الطريقُ الصحيحة، وما عداها من السبل والأهواء فضلال في ضلال. ويقيِّم العبدُ نفسه، ويتبين سبيله بين الهدى والضلال بالنظر في مدى عمله بالكتاب، وتمسكه بالسنة بفهم سلف الأمة، قال ابن سيرين: "كانوا يرونه على الطريق ما دام على الأثر"[9].
أيها الإخوة المؤمنون: كلما بعد الناس عن زمن النبوة؛ تشعبت بهم السبل، وفرقتهم الأهواء، تُحَسَّنُ عندهم البدعة، وتسري فيهم الخرافة، ويُضلهم الشيطان؛ فتعمى أبصارهم وبصائرهم عن الحق، وتَصَمُّ آذانهم عن سماع هدي الكتاب والسنة، فلا يصل إلى قلوبهم، ولا تعيه عقولُهم؛ لأن الشيطان قد أحكم قفلها، وحجبتها البدع بغشاوتها وشبهها. قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: "ما يأتي على الناس عام إلا أحدثوا فيه بدعة، وأماتوا سنة؛ حتى تحيا البدع، وتموت السنن"[10]، وقال حسان بن عطية: "ما ابتدع قوم بدعة في دينهم إلا نزع الله من سنتهم مثلها، ولا يعيدها إليهم إلى يوم القيامة"[11].(/4)
فهل تستحقُّ أمة نصر الله وقد كثرت فيها البدع، وقلّ فيها الاتباع، وتشعبت بها الأهواء؟! إن ذلك مما يحجب نصر الله، ويستوجب غضبه ونقمته وعذابه؛ ولو كانت نيات المبتدعين حسنة – وما هم كذلك إلا الجهالُ منهم – فإن ابتداعهم وبال على الأمة، ومهما كثرت أعمالهم في البدعة فهي هباءٌ لا يبارك الله - تعالى - فيها في الدنيا، ولا تقبلُ في الآخرة. قال أيوبُ السختياني - رحمه الله تعالى -: "ما ازداد صاحب بدعة اجتهادًا إلا زاد من الله بعدًا"[12]؛ لذا كان التقرب إلى الله - تعالى - بالقليل من السنة خير من التقرب إليه بالكثير من البدعة، قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: "الاقتصاد في السنة خير من الاجتهاد في البدعة"[13].
وجهلُ الأمة، وبعدُها عن مصادر التلقي الصحيحة؛ جعل كثيرًا من أفرادها يتيهون في الأهواء الضالة، والمبادئ المنحرفة، ومكّن ذلك لعدوها أن يشق صفها، وأن يبث المنافقين بين أفرادها. فلا يزالُ عدو المسلمين من جراء ذلك يتحكمُ في رقابهم، ويستولي على أراضيهم، وينهب ثرواتهم، وكثير من أبناء الأمة يحتفلون بالإسراء والمعراج، يظنون أن المسرى لا يزالُ بأيديهم، وما علموا أنه قد انتهب منهم! أما يستحيون من الله؟! كيف يضيعون الأقصى؟ ثم يحتفلون بالإسراء! فرطوا ثم ابتدعوا، كيف يُنصرون؟! فإلى الله نشكو ضعف قوتنا، وقلة حيلتنا، وهواننا على الناس!
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الكَافِرِينَ} {آل عمران: 31-32]. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
الخطبة الثانية(/5)
الحمد لله حمدًا طيبًا كثيرًا مباركًا فيه، كما يحب ربنا ويرضى، أحمده وأشكره وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله - تعالى - ولا تبتدعوا فقد كفيتم {فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الأعراف: 35].
أيها الإخوة المؤمنون: يطيب لكثير من الضلال والمبتدعين الاحتفاء بشهر رجب، وإقامةُ ضروبٍ من الاحتفالات، وأنواعٍ من العبادات لم يأذن بها الشرع. جرّهم إلى ذلك اعتقادُهم أن الإسراء كان في رجب، ولو كان الإسراء فيه لما جاز لهم أن يقيموا احتفالات أو يؤدوا عبادات لم تشرع في الكتاب ولا في السنة، فكيف إذا لم يثبت أن حادثة الإسراء والمعراج كانت في رجب كما أبانه المحققون من أهل العلم؟! قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - عن تحديد ليلة الإسراء والمعراج: "لم يقم دليل معلوم لا على شهرها، ولا على عشرها، ولا على عينها؛ بل النقول في ذلك منقطعة مختلفة، ليس فيها ما يقطع به"[14]. ونقل الحافظ ابن حجر - رحمه الله - عن ابن دحية قوله: "وذكر بعض القصاص أن الإسراء كان في رجب. قال: وذلك كذب"[15].
ومن قبيح البدع في رجب ما يسمى بصلاة الرغائب في ليلة أول جمعة من رجب، قال النووي - رحمه الله تعالى - عنها: "وهي بدعةٌ قبيحةٌ منكرةٌ أشد إنكار، مشتملةٌ على منكراتٍ؛ فيتعين تركُها والإعراضُ عنها، وإنكارُها على فاعلها"[16].
كذلك من بدع رجب تخصيصُه بالصيام، قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: "وأما صيام رجب بخصوصه فأحاديثه كلها ضعيفة؛ بل موضوعة لا يعتمد أهل العلم على شيء منها"[17]. وقال ابن رجب - رحمه الله تعالى -: "وأما الصيام، فلم يصح في فضل صوم رجب بخصوصه شيء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أصحابه"[18].(/6)
وكل هذه المحدثات وغيرها في رجب إنما أحدثها أصحابها لاعتقادهم أن لرجب مزية على سائر الشهور، والأمر ليس كذلك. قال ابن حجر - رحمه الله تعالى -: "وأما الأحاديث الواردة في فضل رجب، أو في فضل صيام شيء منه صريحة فهي على قسمين: ضعيفة وموضوعة"[19]. وقال أيضًا: "لم يرد في فضل رجب، ولا في صيامه، ولا في صيام شيء منه معين، ولا في قيام ليلة مخصوصة فيه حديث صحيح يصلح للحجة..." اهـ[20].
أيها الإخوة: ليس غريبًا أن يشجع أعداء الإسلام مثل تلك الاحتفالات البدعية، ولا من العجب في شيء أن يقيمها ويحضرها العلمانيون والملاحدة مع أنهم لا دين لهم أصلاً؛ لأنهم يريدون هدم الإسلام، وتضليل العامة، وتحصيل بعض الشهوات والملذات. والابتداعُ في الدين من أعظم وسائل هدم الإسلام، وتبديل السنة.
نسأل الله - تعالى - أن يعافينا من الابتداع، وأن يرزقنا الاتباع، وأن يهدي المسلمين صراطه المستقيم إنه سميع مجيب.
ألا وصلوا وسلموا على خير خلق الله.
---
[1] أخرجه أحمد (4/430) وابن أبي عاصم (1/12) والطبراني في الصغير (511) من حديث أبي برزة الأسلمي - رضي الله عنه - وصححه الألباني في تخريجه لكتاب "السنة" لابن أبي عاصم.
[2] هذا اللفظ لابن أبي عاصم (1/12)، وأخرجه الترمذي في الدعوات باب في دعاء أم سلمة (5385) وقال: هذا حديث حسن غريب، والطبراني في "الكبير" (19/19)، وصححه ابن حبان كما في "موارد الظمآن" (2422) والحاكم (1/532)، وعزاه الألباني في تخريجه للسنة لأصحاب السنن، ولم أقف عليه بهذا اللفظ إلا عند الترمذي.
[3] أخرجه مسلم في الجمعة باب تخفيف الصلاة والخطبة (867) والنسائي في الجمعة باب كيف الخطبة (3/188) وابن ماجه في المقدمة باب اجتناب البدع والجدل (45).
[4] أخرجه أبو داود في السنة باب لزوم السنة واللفظ له (4607)، والترمذي في العلم باب ما جاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدعة (2676) (2678)، وأحمد (4/126).(/7)
[5] "شرح اعتقاد أهل السنة" لأبي القاسم اللالكائي (66).
[6] شرح اللالكائي (67).
[7] تفسير الطبري (3/232).
[8] تفسير الطبري (5/15) و"الإبانة" لابن بطة (1/9) وشرح اللالكائي (1/80).
[9] سنن الدارمي (143) و"الشريعة" للآجري (1/18).
[10] أخرجه الطبراني في الكبير (10/262) برقم (10610) وقال الهيثمي: رجاله موثوقون (1/188) وأخرجه ابن وضاح في "البدع والنهي عنها" (38) وابن بطة (1/177) برقم (11) واللالكائي (125).
[11] "حلية الأولياء" (60/73).
[12] "حلية الأولياء" (3/9).
[13] أخرجه الحاكم وقال: صحيح على شرطهما ووافقه الذهبي (1/103)، والدارمي (223).
[14] نقله عنه تلميذه ابن القيم في "زاد المعاد" (1/75).
[15] "تبين العجب فيما ورد في فضل رجب" لابن حجر (6).
[16] فتاوى النووي (57).
[17] مجموع الفتاوى (25/290).
[18] "لطائف المعارف" (228).
[19] "تبين العجب فيما ورد في فضل رجب" (6).
[20] "تبين العجب فيما ورد في فضل رجب" (8).(/8)
العنوان: التحذير من بدع رجب (2)
رقم المقالة: 1584
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70-71].
أما بعد: فإن الشهور والأيام تتفاضل كما يتفاضل الناس؛ فرمضان أفضل الشهور، وعشر ذي الحجة أفضل عشر، ويوم الجمعة أفضل الأيام، وليلة القدر أفضل الليالي، وثلث الليل الآخر أفضل أجزاء الليل، وساعة الإجابة يوم الجمعة أفضل ساعة فيه، وعشية عرفة أفضل جزء منه.
والميزان في تفاضل الشهور والأيام والليالي والساعات شرع الله - تعالى - فليس من حق أحد أن يجعل لبعض الشهور والأيام، والليالي والساعات مزية على غيرها إلا الله - تعالى - والمبلّغ عنه رسوله - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن الله - تعالى - هو الذي خلق الأزمان وفضل بعضها على بعض، كما خلق البشر ورفع بعضهم فوق بعض درجات.(/1)
ولقد كان لأهل الجاهلية مواسم يعظمونها، وعبادات يؤدونها فيها؛ فجاء الإسلام فأبطل ابتداعهم، وقصد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مخالفتهم في شعائرهم.
ومن الأزمنة التي عظمها أهل الجاهلية شهر رجب؛ حتى سمي رجبًا لأنه كان يُرَجَّب، أي: يُعظَّم، كما قال أهل اللغة[1]، وأكثر القبائل تعظيمًا له مضر؛ حتى نسب إليها فقيل: رجب مضر. وبلغ من تعظيمهم له: أنهم كانوا يتحرَّون فيه الدعاء على من ظلمهم[2].
ولأهل الجاهلية في هذا الشهر عتيرة يذبحونها؛ أعلن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلغاءها فقال: ((لا فرع ولا عتيرة))[3]. وفي رواية: ((لا عتيرة في الإسلام))[4]. قال أبو عبيد: "العتيرة هي الرجبية: ذبيحة كانوا يذبحونها في الجاهلية في رجب، يتقربون بها لأصنامهم"[5] وقال الحسن - رحمه الله تعالى -: "ليس في الإسلام عتيرة؛ إنما كانت العتيرة في الجاهلية، كان أحدهم يصوم رجب ويعتر فيه"[6].
وكثير من جهال المسلمين ومبتدعَتِهم تبعوا أهل الجاهلية في ذلك فتعبدوا لله - تعالى - بالذبح في رجب؛ فخالفوا أمره، وشابهوا أهل الضلال والجاهلية، وبعضهم قد لا يذبحون فيه لكنهم يحتفلون به، ويجعلونه عيدًا. قال الحافظ ابن رجب - رحمه الله تعالى -: "ويشبه الذبح في رجب اتخاذه موسمًا وعيدًا كأكل الحلوى ونحوها"[7].
ولما طال الأمد بالمسلمين، وابتعد زمنهم عن زمن الرسالة، تبع طائفة منهم أهل الجاهلية في تعظيم رجب؛ بل زادوا فيه عبادات ما كان يفعلها أهل الجاهلية! دفعهم إلى ذلك أوهام خاطئة، وجهل مستحكم، تحت قيادة شيوخ ضالين، وأصحاب عمائم منحرفين، يتأكلون بالبدعة، ويرتزقون بإضلال العامة. يدخلون عليهم باسم العبادة، ويتسللون إلى قلوبهم لإفسادها بالبدعة تحت شعار محبَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأداء حقه؛ فاخترعوا لذلك كذبةً قبيحة حينما أوهموا العامَّة أن حادثة الإسراء والمعراج كانت في رجب، فهم يعظمونه احتفاءً بهذه الذكرى!!(/2)
وشريعة الله تأبى تعظيمَ زمنٍ لم يعظّمه الله - تعالى - وتمنع أداء عبادات لم يشرعها، والتاريخ يظهر كذب هؤلاء الضُلال المضلين؛ إذ الخلاف بين المؤرخين في ليلة الإسراء كبير جدًّا، ولم يثبت أنها كانت في رجب[8] حتى قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - عن ليلة الإسراء: "لم يقم دليلٌ معلوم لا على شهرها ولا على عشرها ولا على عينها؛ بل النقول في ذلك منقطعة مختلفة، ليس فيها ما يقطع به"[9].
ولمزيد من الغواية والإضلال فإنَّ أئمة المبتدعة – من أجل إقناع العامَّة بضلالهم – اخترعوا عبادات متنوّعة في هذا الشهر، وفي الليلة التي يزعمون أنها ليلة الإسراء تحت شعار محبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما يزعمون، وكذبوا - والله - في زعمهم – إلا المقلد الجاهل – إذ لو أحبوه لاتَّبعوا سنته، ولما اتهموا شريعته بالنقصان، حتى يكملوها بابتداعهم!
إن هؤلاء الضُّلال يفتتحون أول ليلة جمعة من رجب بصلاة منكرة في نيتها وهيأتها، يسمونها صلاة الرغائب. اخترعها أئمتهم بعد القرن الرابع الهجري[10] أي: بعد زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصحابته الكرام، والتابعين لهم بإحسان. قال ابن رجب - رحمه الله تعالى -: "فأمَّا الصلاة فلم يصح في شهر رجب صلاة مخصوصة تختص به، والأحاديث المروية في فضل صلاة الرغائب في أوَّل ليلة جمعة من شهر رجب كذب وباطل لا تصح، وهذه الصلاة بدعة عند جمهور العلماء"[11].
ثم عمد هؤلاء المبتدعة إلى أيام في رجب مخصوصة فأفتوا بفضيلة صيامها، وقد ثبت عن عمر - رضي الله عنه -: أنه كان يضرب أكُفَّ الرجال في صوم رجب؛ حتى يضعوها في الطعام ويقول: "ما رجب؟ إن رجبًا كان يعظمه أهل الجاهلية، فلما كان الإسلام ترك"[12] وعن أبي بكرة - رضي الله عنه - أنه رأى أهله يتهيئون لصيام رجب فقال لهم: "أجعلتم رجبًا كرمضان، وألقى السلال، وكسر الكيزان"[13].(/3)
وقصد بعض الجهلة رجبًا بالصدقة، وبعضهم لا يخرج زكاة ماله إلا فيه؛ تحريًا للفضل. والصدقة مشروعة في كل وقت، والزكاة تجب إذا حال الحول، وليس لرجب مزية على غيره من الشهور حتى يقصد بالصدقة، أو تضبط الزكاة به. وفعل ذلك على وجه مقصود يدخل العبد في ظلمات البدع.
وطوائف كثيرة من المسلمين يخصون رجبًا بعمرة، وبعضهم يستدل لذلك بأن من السلف من اعتمروا في رجب، والحق أن العمرة مشروعة في كل وقت من غير تخصيص، ولم ينقل عن أحد من السلف أنه كان يخص رجبًا بعمرة، من اعتمر منهم فيه صادفت عمرته رجبًا لا على وجه القصد والتخصيص، فالعمرة فيه وفي غيره مشروعة؛ لكن تخصيصه بها غير مشروع، كما يفعله كثير من المسلمين؛ حتى اشتهرت بينهم بالعمرة الرجبية.
وكثير من أهل النيات الطيبة، والمقاصد الحسنة يُلَبِّس عليهم علماء السوء، وأئمة الضلال بإيراد أحاديث ضعيفة وموضوعة في فضل رجب؛ بقصد جرهم إلى ممارسة هذه الشعائر والعبادات البدعية، وترسيخ ذلك في أفهامهم حتى تناقلوه أبًا عن جد. قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله تعالى -:"لم يرد في فضل شهر رجب، ولا في صيامه، ولا في صيام شيء منه معين، ولا في قيام ليلة مخصوصة فيه حديث صحيح يصلح للحجة، وقد سبقني إلى الجزم بذلك الإمام أبو إسماعيل الهروي الحافظ"[14]. وقال أيضًا: "وأما الأحاديث الواردة في فضل رجب، أو فضل صيامه، أو صيام شيء منه صريحة فهي على قسمين: ضعيفة وموضوعة"[15].
وبهذا يتبين ضلال من ضل في هذا الباب حتى ميّزوا رجبًا عن غيره من الشهور، وخصوا ليلة الإسراء المكذوبة باحتفالات وأذكار بدعية، وصلوات على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متكلفة ومسجوعة بعضها شرك، وبعضها غلو، وسائرها بدعة وضلال. وكل ذلك تعبير كاذب عن محبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - إذ محبته في اتباع أمره، واجتناب نهيه، والوقوف عند سنته.(/4)
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الكَافِرِينَ} [آل عمران: 31-32]. نفعني الله وإياكم بهدي القرآن العظيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا طيبًا كثيرًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، أحمده وأشكره وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله – عباد الله – واتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ} [الحشر: 7].
أيها المؤمنون: البدعة أشد فتكًا بقلب العبد من المعصية، وهي أعظم خطرًا على دينه؛ ذلك أن المعصية مع خطورتها وقبحها قد تدفع إليها غريزة من الغرائز، والبدعة ليست كذلك.
وأخطر ما في البدعة أنها مشاقة لله - تعالى - في شرعه، واتهام للنبي - صلى الله عليه وسلم - بعدم البيان؛ لذا كان المتلبّس بها بعيدًا عن التوبة إلا مَنْ وفَّقه الله - تعالى - قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله حَجَبَ التوبة عن صاحب كل بدعة"؛ أخرجه الطبراني[16]، وقال سفيان الثوري - رحمه الله تعالى -: "البدعة أحب إلى إبليس من المعصية؛ المعصية يتاب منها، والبدعة لا يتاب منها"[17].(/5)
ولخطورة البدعة على قلب العبد فإن السلف كانوا يحذرون من مجالسة أهل البدع والأهواء؛ حتى لا تتشرب القلوب ببدعتهم، قال الفضيل بن عياض - رحمه الله تعالى -: "من جلس إلى صاحب بدعة فاحذروه"[18]. وقال أيضا: "إذا رأيت مبتدعًا في طريق فخذ في طريق آخر"[19]. فكيف لو رأى الفضيل أنواع البدع والضلال، والزندقة والإلحاد، تغزو بيوت الموحدين عبر الفضائيات المأفونة، والصحافة المأجورة؛ إذ تتولى قنوات منحرفة نقل تلك الاحتفالات البدعية بالصوت والصورة الحية، مباشرة من أماكن إقامتها في شتى البقاع.
وتشوه صورة الإسلام لدى العالم كله، لتُعرَض على العالم في صور أولئك الدراويش يتراقصون ويتمايلون ويتصايحون. نساؤهم ورجالهم في اختلاط، وعقولهم في اختلال، ولعل منهم من لم يسجد لله - تعالى - سجدة؛ بل لعلَّ منهم يهودًا ونصارى وملاحدة جمعهم رباط الوطنية الجاهلية؛ للاحتفال بليلة الإسراء!!
إنه في حقيقة الأمر احتفال بهدم الإسلام، وتشويه لشريعته الغراء، ولعل اليهود يرقبون تلك الاحتفالات فرحين مبتهجين، ولمَ لا يبتهجون وقد استولوا على الأقصى، وأصحاب الأقصى منشغلون عنه بالاحتفالات بالإسراء، ثم بعد ذلك يزعم فريق من أصحاب الفضائيات أن فضائياتهم مسخرة لخدمة الإسلام، وهم يهدمون الإسلام ويفسدون العقول، ويدمرون الفطر السوية.
فاتقوا الله ربكم، واحفظوا أنفسكم وأهليكم وأولادكم من البدع وأنواع الضلال، التي تغزو البيوت الآمنة عبر الفضاء، حصنوا أنفسكم وأولادكم بالسنة والتوحيد، والسير على نهج السلف الصالح؛ حتى تلقوا نبيكم - صلى الله عليه وسلم - على الحوض ولم تبدلوا ولم تغيروا؛ فتشربوا من حوضه في وقت يُرَدُّ عن حوضه كل من بدل سنته، وانحرف عن طريقته.
ألا وصلوا وسلموا على نبيكم محمد كما أمركم بذلك ربكم.
---
[1] قاله أبو عمرو وغيره، وانظر: القاموس (113) واللسان (5/139).
[2] "لطائف المعارف" لابن رجب (233).(/6)
[3]أخرجه البخاري في العقيقة باب الفرع (5473) وفي باب العتيرة (5474) ومسلم في الأضاحي باب الفرع والعتيرة (1976).
[4] هذه الرواية أخرجها الإمام أحمد في المسند (2/229) وصححها الشيخ أحمد شاكر في شرحه على المسند (7135).
[5] "فتح الباري" لابن حجر (9/512).
[6] "لطائف المعارف" (227).
[7] المصدر السابق (227).
[8] الخلاف في تعيين ليلة الإسراء كبير جدًّا ومن الأقوال في ذلك:
أ ) أنها ليلة (27) من ربيع الآخر قاله أبو إسحاق الحربي كما في شرح النووي على مسلم (2/209) ورجحه ابن المنير كما في الفتح (7/242).
ب) أنها ليلة (27) من ربيع الأول نقله ابن رجب عن أبي إسحاق الحربي وهذا اضطراب.
وهذان الرأيان على أن الإسراء كان قبل الهجرة بسنة كما قاله ابن سعد وجزم به النووي، ونقل الإجماع عليه ابن حزم، وحكاية الإجماع مردودة؛ لأن فيه خلافًا كثيرًا. انظر: "فتح الباري" (7/242).
جـ) يرى الزهري أن الإسراء بعد البعثة بخمس سنين كما في شرح النووي على مسلم (2/209).
د ) أنه قبل الهجرة بسنة ونصف كما هو مفهوم من كلام ابن قتيبة في "المعارف" (150).
هـ) أنه قبل الهجرة بثلاث سنوات حكاه ابن الأثير "فتح الباري" (7/243).
و ) أنه قبل الهجرة بخمس سنوات حكاه القاضي عياض، وتبعه القرطبي والنووي عن الزهري، ورجحه عياض، الفتح (7/243).
ز) أنه في ليلة (27) رجب، وأكثر اعتقاد الناس فيه مع أنه لا دليل عليه، وإذا كان الخلاف قائمًا في تحديد السنة التي وقع فيها الإسراء فكيف بتحديد الشهر، وقد اختلفوا فيه اختلافًا كثيرًا فقيل: 1- ربيع الآخر 2- رجب 3- رمضان 4- شوال! ثم كيف بتحديد اليوم!! فذلك متعذر.
[9] نقله عنه تلميذه ابن القيم في "زاد المعاد" (1/75).
[10] "لطائف المعارف" (228).
[11] المصدر السابق (228).(/7)
[12] أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (2/345) رقم (9758) وصححه شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (25/291) وهذا اللفظ للطبراني في الأوسط كما في "مجمع الزوائد" (3/197) وصححه الألباني في "الإرواء" (957).
[13] هذا الأثر ذكره ابن قدامة في "المغني" عن أبي بكرة نفيع بن الحارث (4/429) وابن رجب في اللطائف (230) وذكره شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى وتصحف فيه إلى أبي بكر (25/291).
[14] انظر: "تبيين العجب بما ورد في فضل رجب" (23).
[15] المصدر السابق (33).
[16] أخرجه الطبراني في "الأوسط" (4202) وابن أبي عاصم في "السنة" (37) وعزاه الهيثمي للطبراني في "الأوسط" وقال: ورجاله رجال الصحيح غير هارون بن موسى الفروي وهو ثقة (10/128) وحسنه المنذري في "الترغيب" (1/86) ثم الألباني في "السلسلة الصحيحة" (1620).
[17] "تلبيس إبليس" لابن الجوزي (13).
[18] المصدر السابق (14).
[19] المصدر السابق (14).(/8)
العنوان: التحذير من بعض الألبسة
رقم المقالة: 701
صاحب المقالة: سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
-----------------------------------------
الحمد لله الذي جعل الرجال قوامين على النساء بما فضلهم عليهن في الخلقة، والعقل، والذكاء، وأوجب عليهم أن يؤدوا إلى النساء حقوقهن، ويقوموا بواجبهن، ويراعوا ما عليهم نحوهن من المسؤلية الكبرى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أحكم الحاكمين، وأرحم الرحماء، وأشهد أن محمداًً عبده ورسوله الذي أنزل الله عليه: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى}. صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن يهديهم اهتدى، وسلم تسليماً.
أما بعد أيها الناس: اتقوا الله تعالى و {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}[التحريم:6]. واتقوا الله في النساء، أدوا حقوقهن، قوموا بواجبهن، أدبوهن تأديباً شرعياً يكفل لهن مصالح الدنيا والآخرة وجهوهن إلى سلوك ما كان عليه السلف الصالح من لزوم الشيمة والحياء، فإن الحياء شعبة من الإيمان، ومن لم يستح، فليصنع ما شاء.(/1)
أيها الرجال: لقد جعلكم الله قوامين على النساء، فقوموا بهذه الوظيفة، دبروا شؤونهن، وأدبوهن، ولا يكن أحدكم بين أهله كالمفقود لا يأمرهم بالخير والرشاد، ولا ينهاهم عن الشر والفساد، فإن ذلك مفسدة من وجهين أحدهما إهدار كرامته، وإبطال رجولته بين أهله، والثاني إضاعة ما أوجب الله عليه من القيام عليهم، فإن الله تعالى لم يجعله قواماً على النساء، إلا سيسأله عن هذه المسؤولية التي حمله إياها. أيها الناس: لو أن راعي غنم أهملها، ولم يسلك بها مواضع الخصب ألستم تعدونه مفرطا؟ ولو أن راعي غنم سلك بها أودية مهلكة، ورعاها في مراعي ضارة ألستم تعدونه ظالماً معتديا؟ إذن فلماذا يرضى أحدكم يا رجال أن يرى أهله مقصرين فيما وجب عليهم، أو منهمكين فيما حرم الله عليهم، ثم لا يأمرهم بالواجب، ولا ينهاهم عن المحرم مع أنه هو راعيهم الذي استرعاه عليهم نبيه - صلى الله عليه وسلم - وهو القائم عليهم بما فضله الله به عليهم؟ أيها الناس: أيها الرعاة على أهليهم: إن في عوائلنا مشاكل عديدة يؤسفنا أن توجد فيهم، ثم لا نجد تعاونا جديا لحلها، وإنما هو كلام في المجالس، وتلوم، وتضجر لا عمل معه حتى نفس المتلومين المتضجرين تجدهم ينظرون إلى أهلهم واقعين في شيء من هذه المشاكل والله أعلم بما كانوا عاملين هل حاولوا حلها، أو كانوا عنها معرضين؟ وإن من المشاكل لدينا، وأعظمها خطراً ما وقع فيه بعض النساء من الخروج إلى الأسواق ومكان البيع والشراء متطيبات متبرجات يخرجن أيدياً محلاة بالذهب، ويلبسن ثياباً قصيرة تنكشف بأدنى سبب، وربما وقفن على صاحب الدكان، وضحكن معه، وهذا أعظم الفتن والشر، وليس هذا أيها المسلمون واقعاً في نساء كبيرات السن فقط من شواب لا يبلغن العشرين من العمر، وهذا أمر عجيب لقد كانت الشواب عندنا منذ زمن قريب لا يحدثن أنفسهن بالخروج إلى الأسواق أبداً، وإذا احتجن إلى الخروج لم يخرجن إلا في أطراف النهار في غاية من التحفظ(/2)
والتستر، ثم انقلبت الحال إلى ما ترى بهذه السرعة كأنما نقفز إلى التبرج والسفور قفزاً، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله. أيها المسلمون: لقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((صنفان من أهل النار لم أرهما بعد قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات، عاريات، مائلات، مميلات، رؤوسهن كأسنمة البخث المائلة، لا يدخلن الجنة، ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا)). هذه صفات نساء أهل النار كاسيات عاريات أي: عليهن كسوة لا تفيد، ولا تستر، إما لقصرها، أو خفتها، أو ضيقها، مائلات مميلات، مائلات عن الحق، وعن الصراط المستقيم، مميلات لغيرهن، وذلك بسبب ما يفعلنه من الملابس والهيئات الفاتنة التي ضلت بها نفسها، وأضلت غيرها. أيها المسلمون: أيها المؤمنون بالله ورسوله: أيها المصدقون بما أخبر به محمد - صلى الله عليه وسلم - أيها القابلون لنصيحته لقد أخبركم الناصح الأمين بصفة لباس أهل النار من النساء لأجل أن تحذروا من هذا اللباس، وتمنعوا منه نساءكم، فهل تجدون أحداً من المخلوقين أنصح لكم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ هل تجدون هدياً أكمل من هديه؟ هل تجدون طريقاً لإصلاح المجتمع ومحاربة ما يهدم دينه وشرفه أتم من طريقه وأحسن؟ كلا والله لا تجدون ذلك أبداً، وإن كل مؤمن بالله ورسوله ليعلم أنه لا أحد أتم نصحاً، ولا أكمل هدياً، ولا أحسن طريقاً من محمد - صلى الله عليه وسلم - ولكن الغفلة والتقليد الأعمى أوجبا أن نقع فيما وقعنا فيه.(/3)
أيها الناس: إن هذه الألبسة القصيرة التي تلبسها بناتكم، فتقرونهن عليها، وربما ألبستموهن إياها أنتم ليست والله خيراً، بل هي شر لهن تذهب الحياء عنهن، وتجلب إليهن الفتنة، وتوجب هجر اللباس الشرعي الساتر لباس الحشمة، والحياء، والسلف الصالح إننا نشاهد بنات في الثامنة من العمر، أو أكثر عليهن شلحة أو كرته تبلغ نصف الفخذ فقط، وعليها سروايل لا أفخاذ له إنك لترى القريب القريب من السوأة خصوصاً، إذا كانت الشلحة مقمطة من فوق، فإنها ترتفع أطرافها من أسفل، فيبين من العورة. يا إخواني ما الفائدة من هذا اللباس للمجتمع هل فيه تهذيب لأخلاقه، أو تتميم لإيمانه، أو إصلاح لعمله، أو تقدم ورقي لشأنه، أو صحة لبدن لابسه كلا، ولكن فيه المفاسد وزوال الحياء، واعتياد هذا اللباس عند الكبر كما هو مشاهد، فإن هذا اللباس لم يقتصر شره على الصغار جداً من البنات، بل سرى إلى شابات في سن الزواج كما تراه أحياناً إذا كشفت الريح عباءتها.(/4)
أيها المسلمون: إن الواجب الديني والخلقي يحتم علينا القضاء على هذه الألبسة، والتناهي عنها، وأن تحفظ نساءنا عن التبرج، وأن نكون قوامين عليهن كما جعلنا الله كذلك نقوم عليهن، ونلزمهن بما يجب، ونمنعهن مما يحرم، وإذا أمكن أن تأتي إليهن بما يحتجن من السوق أتينا به فإن لم يمكن، فلتأت به أعقلهن، وأبعدهن من الفتنة. إن الواجب علينا أن نتناصح، ونتعاون ينصح القريب قريبه، والجار جاره، فإن لم نفعل هلكنا جميعاً، ووصل الشر إلى من لا يريده. أيها المسلمون: إن هذه الألبسة لا تنكر؛ لأنها غريبة وجديدة من نوعها، فليس كل جديد ينكر إلا إذا تبين ضرره ومخالفته لما يجب السير عليه، ولقد شاهدتم بأنفسكم، وسمعتم من غيركم ما يترتب عليها من أضرار، فلذلك أنكرناها، وحذرنا عنها أسأل الله تعالى أن يعيننا جميعاً على الخير، وأن يمنعنا من الشر، وأن يرزقنا العافية في الدنيا والآخرة، وأن يجعلنا ممن قال فيهم: {فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الأَلْبَابِ} [الزمر:17،18]. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.(/5)
العنوان: التحذير من ظلم العمال
رقم المقالة: 1881
صاحب المقالة: الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ
-----------------------------------------
التحذير من ظلم العمال
ملخص الخطبة:
1- الوفاء بالعهد من أخلاق المؤمن.
2- الحكمة من تفاوُت النَّاس في هذه الدنيا.
3- وجوب الالتزام بالعقد.
4- إرشادات نبوية للعمال وأرباب العمل.
5- صور من ظلم العمال.
6- فضل الصدق والأمانة.
7- ذم الغدر والخيانة.
8- حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم.
9- الحث على دعوة العمال إلى دين الله تعالى.
10- نصيحة لأصحاب المنتديات.
• • • • •
الخطبة الأولى
أمّا بعد: فيأيّها الناس، اتّقوا الله – تعالى - حقَّ التّقوى.
عبادَ الله، إنّ مِن خُلُق المؤمن وفاءَه بالعهودِ والتِزامَه بالعقود، {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} [المؤمنون: 8]، فهو إذا وعَد أوفَى، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1]. هَكذا خلُق المؤمن، صِدقٌ في تعاملِه، فلا كذِبَ ولا غِشَّ، ولا خيانة ولا غَدر، ولكن التزامٌ بما التزَم به ووفاءٌ بهذا كلِّه؛ طاعةً لله وعبادةً يتقرَّب بها إلى الله.
أيّها المسلم، وإنَّ المؤمنَ ليلزَم العدلَ في أقوالِه وأفعالِه، فبالعدلِ تُحفَظ الحقوق وتطمئِنّ النفوس، والظلمُ محرَّم على العباد، حرّمَه الله على نفسه، وجعَله بين عباده حرامًا، في الحديث القدسيّ: ((يا عبادي، إني حرَّمتُ الظلمَ على نفسي، وجعلته بينكم محرّمًا، فلا تظالموا)). [1] إذًا فالمؤمِن لا يظلم أحدًا بجحدِ حقِّه، أو خيانة في وعدِه وعدم وفاء بما بينه وبينه منَ العقد؛ بل هو ملتزمٌ بالوفاء طاعةً لله، وإظهارًا لمحاسن هذا الدين، الذي جاء بما يحقِّق للبشرية السعادة في الدنيا والآخرة.(/1)
أيّها المسلم، مِن حكمةِ ربِّنا - جلّ وعلا - أن جعَل هذا الخَلقَ متفاوتين في أخلاقهم وأرزاقِهم وقُدُراتهم، وبهذا يعمُر الكون، فسبحانَ الحكيم العليم! فلو أنَّ الناس كلَّهم أغنياء لما انتفع بعضُهم ببَعض، ولو كانوا فقراءَ لما نفَع بعضُهم بعضًا، ولكن لله حكمَة في التّفاوت بين عبادِه، وأعظم التفاوتِ وأكبرُه هو ما بينَهم من تفاوتٍ في دينهم وتقواهم لربِّهم.
أيّها المسلم، إنَّ الله يَقول: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف: 32]، ففي الخَلقِ الأغنياءُ، وفيهم الفُقراء، وفيهم العالم، وفيهم الجاهِل، وفيهم القادِر ببدنه والعَاجز، وفيهم القادِر بفِكره والعاجِز ببَدَنه، وسبحانَ مَنْ له الحكمةُ في هذا التفاوتِ والتَّباين.
أيّها المُسْلِم، ومِمَّا ينبغِي أن يهتمَّ به المسلم ويراعيَه أن يكونَ ملتزِمًا بالعَقد الذي بينَه وبين مَن استَأجرَه مِن عُمَّال، فيلتزِم بالعقد الذي بينه وبينهم، ويعطيهم حقوقَهم كاملةً كما اتَّفق بينه وبينهم، يعطيهم الحقوقَ كاملةً التي جرى الاتفاق بينه وبين العامل [عليها]، فيعطيه أجرَه كاملاً موفَّرًا من غير نقصٍ وإخلال. هذا هو واجب المسلم؛ لأنَّ العقدَ الذي بينك وبينه كما يلزِمُه القيام بالعمَل، فإنه يلزمك أيضًا أداءَ الحقّ الواجب له، فهو يلزِمُه تنفيذَ العقدِ الذي أبرمتَ بينك وبينه، يجِب أن يلتَزِمه ويقومَ بالواجب، وفي ضمن ذلك أن تلتزِمَ أنت بما التزَمتَ به بينَكَ وبينه مِن أجرةٍ شهريّة يجب أن تعطيَها كاملةً موفَّرة غير منقوصة، وإن انتقصتَ شيئًا منها فقد ظلمتَ وأكلتَ مالاً بغيرِ حقّ، هذه شريعة الإسلام.(/2)
فالواجبُ على الجميع التعاونُ على الخير، والتّساعد على الخير، وأن لا يظلِمَ أحدٌ أحدًا، فكما أنّ العامِلَ يَحرُم عليه ظلمُ من استأجره وعدمُ القيام بالواجِب، فأيضًا صاحِب العمَل يحرم عليه أن يظلمَ العاملَ ويبخسَه حقَّه، ويقتطعَ مِن راتبِه بلا حقٍّ، فإنَّ هذا ظلم له، وكذا يحرُم عليه أيضًا أن يقتطعَ شيئًا من حقِّه، فهو يحرُم عليه تأخيرُ الوفاءِ بلا عذرٍ شرعيّ، فمَطل الغنيِّ ظلمٌ يحلّ عرضَه وعقوبته.
أيُّها المسلم، في شريعةِ مُحمَّد - صلى الله عليه وسلم - إرشادُ الجميع إلى الخير، وَحَثُّهم على التعاون على الخير، فمحمّد - صلى الله عليه وسلم - يرسم لأمّتِه الطريق السويَّ الذي يجب أن يسيرَ عليه العُمّال وأربابُ العمَل؛ لكي يؤدِّيَ كلٌّ ما وجب عليه بطيبِ نفس.
فأوّلاً: يحثّنا نبيُّنا - صلى الله عليه وسلم - على الوفاءِ بحقوق العاملِ فيقول - صلى الله عليه وسلم -: ((أَعطوا العامِلَ أجرَه قبلَ أن يجفَّ عرقُه)) [2]، بِمَعْنَى أن تُبادِرَ في إيفاء حقّه، وأن لا تؤخِّرَ الوفاءَ بلا عذر؛ بل يجِبُ المبادرة بالوفاءِ، فهو حقٌّ له لا يجوز أن تؤخِّره ظلمًا وعدوانًا.
ثانيًا: أرشَدَ - صلَّى الله عليه وسلم - صاحبَ العَمَل كيف يتعامل معَ العامل، فيقول - صلى الله عليه وسلم -: ((إخوانُكم خَوَلُكم، جعَلهم الله تحت أيديكم، ومن كان أخوه تحت يدِه فليطعِمه مما يأكُل، وليُلبِسه مما يلبَس، ولا تكلِّفوهم ما لا يطيقون، وإن كلَّفتموهم فأعينوهم)) [3]. فانظروا إلى هذا الأدبِ العظيم والتعامل الجمِّ، ((إخوانُكم خوَلُكم، جعلهم الله تحت أيديكم))، نعم هم تحت يدِك لفقرِهم وحاجَتِهم، فأطعموهم مِمَّا تأكلون، وألبِسوهم مما تلبسون، ولا تكلّفوهم ما يغلِب عليهم، فإن كلَّفتموهم ما يغلِب عليهم فأعينوهم.(/3)
وثالثًا: رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أرشَدَ إلى التعامُل بالحقِّ، وحُسن الخلُق، وعدَم الأذى، فأبو مسعودٍ - رضي الله عنه - ضرب غلامًا له، قال: فما شَعرتُ إلاّ ورجل من خلفي يقول: ((أبا مسعود، للهُ أقدَر عليك من قدرَتِك عليه))، قال: فالتفتُّ فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: "يا رسول الله، هو حرٌّ لوجه الله"، قال: ((لو لم تفعل هذا للَفحَتْك النار يوم القيامة)) [4]، هذا في العبد المملوك فكيف بغيره؟!
ورابعًا: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: ((للخادِم كسوتُه ونفقتُه، ولا يكلَّف ما لا يطيق)). هذا هو الواجِب على المسلم؛ أن يكونَ صادقًا في تعامله، بعيدًا عن الغِشّ والخيانة.
أيّها المسلم، إنّ هناك أخطاءً عديدةً تقَع بين العامل وربِّ العمل، أساسها الظلمُ من الجميع، فأحيانًا يظلِم صاحبُ العمَل عمّالَه، وظلمه يكون في أمور:
فمِنها محاولَةُ بخسِ الحقوق، ويكتُب عَقدًا بينه وبينه، ثم إذا حضَر العامل حاولَ التخلّصَ من هذا العقدِ ليجعله أقلَّ مرتَّبًا مما اتُّفِق عليه من قبل، فيضطرّ هذا المسكينُ الذي بذَل قصارى جهدِه ليصلِ إلى أن ينتفِع بشيء من المال تحت هذا الضّغط السيِّئ، فربَّما وقَّع على عقد ثانٍ وهو مرغَم عليه من غير اختيار، وهذا من الظلم العظيم.
وثانيًا: أنَّ من أخطاء أرباب العمل أحيانًا أنهم يظلِمون العامل، فربما أجَّروه على غيرهم وأعطوه لمن ينتَفِع به مقابلَ شيءٍ يأخذه صاحبُ العمل، وذلك مقتَطَعٌ مِن راتِب العامل، فيكون العامِل مثلاً أجرتُه في الشّهر ألف ريال، فربما أجَّرَه بألف وخمسمائة؛ ليأخذَ هذه الخمسمائة التي يأخذُها ذلك العامل، وكأنَّ هذا العاملَ عبد من عبيده يتحكَّم فيه كيف يشاء! وهذا مِن الظلم والعُدوان.(/4)
ومِن أخطاءِ أولئك إتيانهم بعمّالٍ وتسريحُهم في الشوارعِ يعمَلون ما يشاؤونَ تحت مؤسَّساتٍ وهميّة، وأمور وهميّة لا حقيقةَ لها، فيدخِلهم باسم مؤسَّسة وهميّة، فيدعهم في الطرقاتِ يعملون ما يشاؤون وهو يمتصّ من دَخلهم ومن عَرقِ جبينهم أحيانًا كلَّ شهرٍ، أو عندما يحتاجُون إلى السفر، وهم يعمَلون ما يشاؤون، وربَّما ضرّوا أنفسَهم أو أضرّوا بغيرهم تحت مظلّةِ صاحب هذه المؤسّسة الوهميّة، التي ألحقت الضّررَ بالأمّةِ في حاضِرِها ومستقبلها.
ومِن أخطاءِ أولئك أيضًا المماطَلةُ في الحقوقِ، وعدَمُ الوفاء بها، وتأخيرُها شهورًا عديدة، حتى رُبَّما ملَّ العاملُ وسئِم ووافق على اقتطاعِ جزءٍ منه مقابِلَ إعطاء بقيّة الحقوق، وهذا منَ الظلمِ والعدوان، وأكْل أموال الناس بالباطل.
ومِنْ أخطائهم أيضًا أن يكونَ في العقود بعضُ المميِّزات لذلك العامل، لكن ترى ربَّ العمل يحاوِل التخلّصَ من هذه كلِّها بأيّ حيلةٍ يَحتالها، فيقف هذا العامل ضعيفَ القدرة قليلَ التصرّف، لا يستطيع الدّفاعَ عن نفسه؛ لأنَّ [صاحبَ العمل] ظالم لا يخاف الله ولا يرجوه.
فالواجِبُ على الجميع تقوى الله، وإنَّ التعامل بالصّدق والأمانة دليلٌ على قوّة الإيمان، والخيانة والغِشّ والتلاعبُ بالعقودِ دليل على ضَعف الإيمان، وقِلّة الحياء والخوف من الله.(/5)
أيّها المسلم، اسمَع - وفَّقك الله - ثوابَ الأمانة والصّدقِ في التّعامل، أخبرنا - صلى الله عليه وسلم - عن الثلاثةِ الذين آواهم المبيتُ إلى الغار، فانطبقت عليهم الصَخرة، فأصبحوا لا يستطيعون الخروجَ من هذا الغار، فقال كلٌّ منهم: كلٌّ يتوسَّل إلى الله بصالح عمله، فقام الثَّالث فقال: ((اللّهمَّ إني استأجرتُ أجراءَ، فأعطيتُهم حقوقَهم إلا واحدًا ترَكَ الذي له وذهَب، فثمَّرتُه له حتى كان منه إبلٌ وبَقَر وغنم وزرع، فجاءني بعد حين وقال: يا هذا، أعطني حقّي، فقلتُ له: كلّ ما ترى من إبلٍ وبقر وغنم وزرعٍ، فهو لك، قال: أتستهزئ بي؟! قلت: لا، كلُّ ذلك لك، قال: فأخَذَه كلَّه ولم يدَع لي منه شيئًا، اللّهمّ إن كُنْتُ فَعَلْتُ ذلك ابتغاءَ وَجْهِك فافرُج عنّا ما نحن فيه، فانفَرَجت الصخرةُ شيئًا)) [5]. فانظُرْ إلى هذه الأمانةِ، وهذا الصدق، وهذا التَّعامُل الخالِص، ذهب ذلك العامِل وترك حقَّه لأمرٍ ما، وهذا الأمينُ ثَمَّره له ونمَّاه له، وأعطاه كلَّه ولم يطلب منه شيئًا، تركَه ابتغاءَ مرضاةِ الله وتقرّبًا إلى الله، فصار عملاً صالحًا نفعَه في تلك المضائق.
أيّها المسلم، إنَّ بخسَ العامل حقَّه من كبائر الذنوب، يقول - صلى الله عليه وسلم -: ((قال الله: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثمّ غدَر، ورجلٌ باع حرًّا وأكل ثمنَه، ورجلٌ استأجَر أجيرًا فاستوفَى منه ولم يعطِه أُجرته)) [6]، هؤلاء خصمُهم الله يومَ القيامة، فلا يغرّنّك قوّتُك وقوّة لسانك وحجَجِك، وضعفُ هذا العمل وقِلّة حيلته، لا يغرّنّك هذا، راقِبِ الله وخَفِ الله، الَّذي أغْنَاك وأعطاك قادِرٌ أن يسلبَ نعمتَه منك، فتعود فقيرًا كما كان هذا العامل فقيرًا.(/6)
أيّها المسلم، إنَّ الاتّفاقَ بين المسلمين يجِب أن ينفَّذَ بكلِّ بنوده، انظر إلى موسَى - عليه السلام - لَمّا طلب منه صاحِبُ مَديَن أن يزَوِّجَه إحدى ابنتَيه على أن يجعلَ المهرَ أن يقوم موسَى - عليه السلام - برعايةِ الغنَم ثماني سنين أو عشرًا، {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ * قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} [القصص: 27 - 28]، فالأجرَةُ المحدَّدة ثماني سنوات، وصاحبُ مَديَن أرادها عشرًا، فاتّفقَا على الثّمان، وموسَى وعد بالثِّنتَين إن تمكَّن، ولكنه أكمَل المدَّةَ، عليه من الله وعلى نبينا أفضلُ الصلاة وأتمّ التسليم.
أيّها المسلم، إنّ حُسنَ الأخلاق دليلٌ على قوّة الإيمان، وإنَّ محمدًا - صلى الله عليه وسلم - كان أحسنَ الخَلْق خُلُقًا، وكان أحسنَ الخَلق تعاملاً، قال أنس بن مالك: "قَدِم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة، فأخذني أبو طلحةَ - زوجُ أمّه - وقال: يا رسول الله، هذا أنَس رجلٌ لبيب لِيَكن خادمًا لك، قال: خدَمتُه حَضرًا وسفرًا، فما قال لي لشيءٍ فعلتُه: لمَ فعلتَه؟ ولا لشيءٍ لم أفعَله: لمَ لَم تفعله؟" [7]، قال: "فوالله، ما مسَّت يدي خزًّا ولا حريرًا أنعم مِن يدِ رَسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا شَمَمتُ مسكًا ولا عطرًا قطُّ أطيب مِن ريح عَرَق النبيّ- صلى الله عليه وسلم –" [8]، فصلوات الله وسلامه عليه أبدًا دائمًا إلى يوم الدين.(/7)
فعلى المسلِمِ أن يتّقيَ الله في تعامُلِه مع الآخرين، وأن يكونَ الصّدق والأمانة خُلُقَنا وشعارًا لنا؛ لأنّا نحن - المسلمين - يجِب أن نمثِّلَ ديننا في أقوالنا وأعمالنا.
أيّها المسلم، أيّها المؤمن، هؤلاء العمّال الذين أَتَونا مِن أقطار الدنيا قد يكون عندَ بَعضِهم جهلٌ أو مخالَفة أو سوءُ فهم، فلِماذا لا يَستغِلّ المسلم هذه الفرصةَ ويدعو إلى الله ويوضح الحق؟ فلعلّ أولئك أن يرجِعوا بخيرٍ مما جاؤوا، ولعلّهم أن يتزوَّدوا عِلمًا وعملاً، فمن دعا إلى هدًى كان له مِن الأجرِ مِثلُ أجور مَن تَبِعه، مِن غيرِ أن ينقصَ ذلك منه شيئًا. فاستغلَّ وجودَ هؤلاء؛ علِّم الجاهل وبصِّره وعلِّمه، وأيقِظه من غَفلَتِه، اهدِه لأداء الواجِبات، وأوضح الواجبات والفرائضَ، وبيِّن له المحرَّمات، وأدِّبه بالأدبِ الإسلاميّ، ولتكُن قدوةً له، يراك تصلّي، ويراك تفعَل الخيرَ، ويسمع منك الكلماتِ الطيبة، ويرى تربيةَ أولادك وتربيةَ بناتك وزوجاتِك على الأخلاق الكريمة، فيستفيد منك خُلقًا جمًّا وعملاً طيّبًا، أمّا أن يراك على خلافِ الحقِّ، وعلى خلافِ الهدى؛ فإنّه يسيء الظنَّ بك وبأمّتك.
فلنكن - إخواني - دعاةً إلى الخير بأقوالِنا وأعمالِنا وقدوَتِنا الصالحة، أسألُ الله لي ولكم التوفيق والسدادَ والعونَ على كلّ خير، إنّه على كلّ شيء قدير.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33].
بارَك الله لي ولكم في القرآنِ العَظيم، ونفَعني وإيّاكم بما فيهِ منَ الآياتِ والذّكر الحكيم، أقول قولي هذَا، وأستغفِر الله العظيمَ الجليل لي ولكم ولسائِر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية(/8)
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحِبّ ربنا ويرضَى، وأشهَد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ لَه، وأشهَد أنّ محمَّدًا عبده ورَسوله، صلّى الله عليه وعلَى آله وصَحبه، وسلّم تَسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدين.
أمّا بعد: فيأيّها النّاس، اتَّقوا الله – تعالى - حقَّ التقوى.
عبادَ الله، خلُق المؤمنين في سرِّهم وفي علانيّتهم فيما يتناجَونَ به، وفيما يظهِرونه ويعلِنونه - خلُقُهم التعاوُنُ على البرِّ والتقوى، قال - تعالى -: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [المائدة: 2]. المؤمِن حقًّا يغار على دينِه، ثمّ يغار على أمّتِه ومجتمعه. المؤمِن حقًّا لا يرضى أن يكونَ داعيًا للضّلال، ولا ناشرًا للخطأ، ولا سانًّا في الأمّة سنّة سوء، ((مَنْ سَنَّ فِي الإِسْلاَمِ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ، وَمَنْ سَنَّ فِي الإِسْلاَمِ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ)) [9].
أيّها المسلم، إنّ المؤمنَ يتناجَى بالخيرِ ويظهِر الخير، والله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [المجادلة: 9].(/9)
إنّ منتدياتِنا ومجتمعاتِنا يجب أن تتحَلَّى بالأخلاقِ الكريمة والصّفات الحميدة، وأن تحترِمَ ثوابتَ الأمة وقِيَمَها وأخلاقها، وأن لا تنطلقَ بلا زِمامٍ ولا خِطام لتنشُر رَذيلة، أو تعالج قضَايَا الأمّة على خِلاف كتاب الله وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم. إنَّ قضايا المجتمعِ المسلم لا يحلُّها إلاّ كتابُ ربِّنا وسُنَّة نبيِّنا، {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} [الأعراف: 3].
فيأيّها المسلم، ويا مَن يقوم على أيِّ منتَدى من منتَدَيات الأمّة، تَقوَى الله وصِيّةُ الجميع، والحِرص على المحافظةِ على الخلُق والقِيَم والفضائل، وأن لا تكونَ منتدياتُنا منطلَقًا لتحلُّلٍ من القِيَم والأخلاق، ولا لدعوةٍ إلى الرذيلةِ والفساد، ولكِن لنتّقِ الله في أنفسِنا، فالله سائلٌ كلَّ فرد عمّا تولَّى، والله محاسِبٌ كلاًّ منّا على ما عمِل، فليتَّقِ المسلم ربَّه، وليراقِبِ الله قبلَ كل شيء، فإنّ المؤمن إذا انطَلَقت أعمالُه مِن إيمان صادقٍ، من إيمانٍ خالِص، من قلبٍ مليء بالإيمان واليقين؛ كانت التصرّفاتُ تصرّفاتٍ صالحة، ولكن المصيبة إذا ابتُلِي قلبه بالمرض، وظنَّ أنَّ التجَرّدَ من الفضائلِ والقِيَم عنوانُ الرّقيِّ والتقدّم، وعنوان كذا وكذا، فانطلَق بلا مبالاةٍ وبلا خَجَل، في أنديةٍ قد تكون أحيانًا منتدًى لشرٍّ وبلاء.(/10)
فليتّقِ المسلمون ربَّهم، وليراقبوا الله في أحوالهم كلِّها، وليعلموا أن الله مطَّلع على السرائرِ والضمائر، {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر: 19] لا يخفى عليه شيءٌ من أحوالِ عِباده، وسيجازِيهم ويحاسبهم على كمال عِلمه بهم. فليتّقِ العباد ربَّهم، وليراقبوا ربَّهم، ولتكن أمورُهم منطلِقة من محافظةٍ على هذا الدين، وعلى قِيَمِه وفضائله، وعلى أخلاقِه الكريمة وصفاته الحميدة، التي بعَث الله بها محمّدًا عبدَه ورسولَه، بعثَه بالهُدَى ودين الحقّ، بعثه بما يسعِد البشريّةَ في دنياها وآخرتها، فلا خيرَ إلا دلَّنا عليه وبيَّنه لنا، ولا شرَّ إلا بيَّنه لنا وحذَّرنا منه، صلوات الله وسلامة عليه، فأيّ منتدًى وأيّ مجتمع لا تحكُمُه شريعة الله، ولا ينطلِق من منطلَقِ الإسلامِ الصحيح؛ فإنّه يُخشَى على أهله من زيغِ القلب والعياذ بالله، فنسألُ الله للجميعِ الثّباتَ على الحقّ، والاستقامةَ على الهدى، إنّه على كلِّ شيءٍ قدير.
واعلَموا - رحمكم الله - أنّ أحسَنَ الحديثِ كتابُ الله، وخير الهديِ هَدي محمَّد صلى الله عليه وسلم، وشرّ الأمورِ محدثاتها، وكلَّ بدعةٍ ضلالة، وعَليكم بجماعةِ المسلِمين، فإنّ يدَ الله على الجماعة، ومَن شذَّ شذَّ في النّار.
وَصَلّوا - رحمكم الله - علَى عبد الله ورسوله محمّد - صلى الله عليه وسلم - كَما أمَركم بذلك ربّكم، قال – تعالى -: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56].
اللَّهمَّ صلِّ وسلِّم وبارِك عَلَى عبدِك ورَسولِك محمّد، وارضَ اللَّهمّ عن خلَفائه الراشدين.
ــــــــــــــــــــــــــ
[1] أخرجه مسلم في البر (2577) عن أبي ذر رضي الله عنه.(/11)
[2] أخرجه ابن ماجه في كتاب الأحكام، باب: أجر الأجراء (2443)، والقضاعي في "مسند الشهاب" (744) من طريق عبدالرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن ابن عمر رضي الله عنهما، وهذا سند ضعيف من أجل عبدالرحمن بن زيد؛ لكن للمتن شواهد من حديث أبي هريرة وجابر وأنس - رضي الله عنهم - لا يخلو كل منها من ضعف، قال المنذري في "الترغيب" (3/58): "وبالجملة فهذا المتن مع غرابته يكتسب بكثرة طرقه قوة، والله أعلم"، وقد صححه الألباني في "الإرواء" (1498)، وانظر: "نصب الراية" (4/129).
[3] أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب: المعاصي من أمر الجاهلية (30)، ومسلم في كتاب الأيمان، باب: إطعام المملوك... (1661) عن أبي ذر رضي الله عنه.
[4] أخرجه مسلم في كتاب الأيمان (1659).
[5] حديث الثلاثة الذين أطبقت عليهم الصخرة في الغار، فتوسلوا إلى الله بصالح أعمالهم - أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء (3465)، ومسلم في الذكر (2743) عن ابن عمر رضي الله عنهما.
[6] أخرجه البخاري في كتاب الإجارة، باب: إثم من منع أجر الأجير (2270) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[7] أخرجه البخاري في كتاب الوصايا (2768)، ومسلم في كتاب الفضائل (2309) نحوه.
[8] أخرجه مسلم في كتاب الفضائل (2330) بمعناه.
[9] أخرجه مسلم في كتاب الزكاة (1017) عن جرير بن عبدالله رضي الله عنه.(/12)
العنوان: التحذير من فتنة الاختلاط
رقم المقالة: 1874
صاحب المقالة: الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ
-----------------------------------------
التحذير من فتنة الاختلاط
ملخص الخطبة:
1- عناية الإسلام بتأسيس المجتمع المسلم العفيف.
2- أحكام الإسلام صالحة لكل زمان ومكان.
3- دعوة أذناب الغرب إلى الاختلاط.
4- تحذير الإسلام من الاختلاط والتبرج.
5- مفاسد الاختلاط.
6- العفاف في مجتمع الصحابة.
7- العزة بدين الله.
ــــــــــــــــــــــ
الخطبة الأولى
أمّا بعد: فيأيّها الناس، اتقوا الله – تعالى - حقَّ التقوى.
عبادَ الله، في كتابِ ربِّنا وسنّةِ نبيِّنا - صلى الله عليه وسلم - دعوةُ المجتمعِ المسلِم إلى الأخلاقِ الفاضلة والقِيَم الكريمة، وإنَّ المجتمعَ المسلمَ عندما يقوم على أسُسٍ مِنَ الأخلاق والفَضائِلِ يكون ذلكَ المجتمعُ مجتمعًا سَعيدًا، ومجتَمعًا محافِظًا على أخلاقِ دينِهِ وقيَمِه، وإنَّ المؤمن حقًّا ليعتقِد كمالَ هذا الدين، وأنَّ محمّدًا - صلى الله عليه وسلم - بُعِثَ بالهدَى ودينِ الحقّ، أكمَلَ اللهُ به الدينَ، وأتمَّ به النعمةَ، ورضِيَ به لنا دينًا، وإنَّ المؤمنَ ليعتقِد حقًّا كمالَ هذه الشريعةِ، وأنَّ هذه الشريعةَ، التي عاش بها النبيّ مع أصحابه، وعاش بها الصحابةُ مع نبيِّهم - هي الشريعة الصالحةُ لكلِّ القرون، لكلِّ الأجيالِ منذ بعَثَ الله عبده ورسولَه محمّدًا - صلى الله عليه وسلم - إلى أن يرِثَ الله الأرض ومَن عليها وهو خيرُ الوارثين، ولن يصلِحَ آخرَ هذه الأمة إلاّ ما أصلَحَ أوَّلَها، وإنَّ المؤمنَ ليقبَل أوامرَ الله التي جاءَ بها الكتاب والسنّةُ فيمتَثِلها، ويقبَل النواهيَ التي نُهِيَ عنها فيجتنبها، ويَدين لله بتحريمِ المحرَّمات والتِزام الواجباتِ، هكذا المؤمِن حقًّا.(/1)
أيّها المسلم، أيّها المؤمن، إنَّ اختِلاطَ الجنسين - الرّجال والنّساء - في ميادينِ الحياةِ المختلِفة، سواء كانت منها المؤسَّساتُ الماليّة أو العلميّة أو اختلاف ميادينِ العمل المختَلِفة، إنَّ اختلاط الجنسين بعضهما مع بَعض منكرٌ جاءَت شريعتُنا بتحريمه، وبلاءٌ جاءت شريعتُنا بالتحذير منه، ومصابٌ أصاب الأمّةَ المحمديّة فصار بابًا واسِعًا لهدمِ القِيَم والأخلاق والفضائل. إنَّ اختلاطَ الجنسَين - الرجال والنساء - على رأسِ الأولَويَّات التي يدعو لها دعاةُ التغريبِ مِنَ المنافقين من هذهِ الأمّة المسلمة؛ لأنَّ هذه الدّعوة إلى الاختلاط دعوةٌ لسلخِ الأمة من دينها وأخلاقِها وبُعدِها عن مبادئ دينها. إنَّ الأمّةَ يجب أن تعتقدَ أنَّ العزّةَ الحقيقيّة إنما هي باتِّباع هذا الدّين، ليس عيبًا على الأمّة أن تتمسَّكَ بدينها، ليس عيبًا عليها أن تحافِظَ على أخلاقِها، ليس عيبًا عليها أن تجعَلَ مجتَمَعَها مجتمعًا أخلاقيًّا كريمًا، ليس ذا عيبًا عليها؛ بل هذا مصدر عزِّها وكرامتها. إنَّ أولئك الذين يدعون إلى اختلاطِ الجنسَين، وتحطيم الحواجِزِ الفارقة بينهما كما يزعمون؛ إنها محادَّةٌ للهِ ورسوله، وسبَبٌ للذّلِّ في الدّنيا والآخرة، {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ} [المجادلة: 20].(/2)
أمّةَ الإسلام، دين الإسلام جاء ليقيمَ مجتمعًا طاهرًا نظيفًا، مجتمعًا طاهرًا عَفيفًا، لا يتأثَّر بالفواحِشِ، ولا يروج فيه سوقُ الخَنَا، ولا يُعَطَّل فيه الأمرُ بالمعروف والنهيُ عن المنكر، جاء ليقيمَ المجتمع المسلمَ على أُسُس من القِيَم والأخلاق والفضائل، دعا إلى الحياءِ، وجعل الحياءَ من أخلاق المؤمنين، الحياءُ شعبةٌ من شُعَب الإيمان، والحياءُ مطلوبٌ من الجميع وإن كان في جانِب النساء أشدّ، فهذا الإسلام ينهى المرأة عن التبرّجِ والسفور: {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} [الأحزاب: 33]، ينهاها عن أن تخضَعَ بالقول: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب: 32]، يأمرها بغضِّ البصر وتحصينِ الفرج، وينهاها عن إبداء زينَتِها إلاّ ما ظهر منها، ولمن أباح الله له النّظرَ إليها كما بيَّن الله ذلك في كتابه العزيز. وهذه سنّةُ محمّد - صلى الله عليه وسلم - تدلّ على أمور، فمنها:
أولاً: أمرُ المؤمن بغضِّ البصر، يقول الله: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور: 30]، ويقول النبيّ لعليّ - رضي الله عنه -: ((لا تُتبِعِ النظرةَ النظرةَ، فإنّ لك الأولى، وليست لك الثانية))[1]، وها هو يمنَع المؤمنَ مِن أن يدخلَ على امرأةٍ ليست من محارِمِه، فينهى عن دخولِ الرّجل على من ليسَت مَحرَمًا له، ولما قيل له في الحمو قريبِ الزّوج قال: ((الحموُ الموت))[2]، وها هو ينهاهَا عن السّفَرِ بلا محرَمٍ؛[3] محافظةً على كرامَتِها وفضائلها.(/3)
أيّها المسلم، أيّها المؤمن، إنّ الدعوةَ لاختلاط الجنسَين هو بلاء ومصيبةٌ عظيمة، وهو فَتح لأبواب الشرِّ على مصرَاعَيه. وإنَّ الدعاةَ للاختلاط لو ناقشتَ بعضَهم لا يرضاه لابْنتِه، ولا لأخته، ولا لأمّه، ولكن يتفوَّه بهذه الكلماتِ البذيئةِ تقليدًا واتِّباعًا لغيره. إنّ أولئك يريدون أن يحوِّلوا المجتمعاتِ المسلمة إلى مجتمعات تابعةٍ لغيرِها لا تتقيَّد بخلقٍ ولا بفضيلة، ولكن تكون تابعةً لغيرها، ينفِّذ الأعداء فيها مُرادَهم، ويُملون عليهم ما يريدون أن يفعَلوه. إنَّ الله أعزَّ الأمةَ بالإسلام كما قال عمرُ - رضي الله عنه -: "نحن أمّة أعزَّنا الله بالإسلام، ومتى ابتَغَينا العزّةَ من غير الإسلام أذلَّنا الله"[4].
إنَّ الله - جلّ وعلا - حرَّم على المرأةِ المسلمة أن تخالطَ غيرَ محارِمِها؛ محافظةً على كرامَتِها. إنَّ الذين خلَطوا الجنسَين - المرأةَ بغيرها - يَشْكُون من ويلاتِ ذلك الاختلاطِ، وآثاره السيّئة القبيحة عليهم جميعًا. إنّ بها انتشَرَتِ المنكرات، وبها فشا الزّنا وكثُر اللّقطاء، وبها عمَّت الجرائِم وضعُف الإنتاج، وصار عليهم مِنَ البلاء ما الله به عليم. فما حرَّمَ الله ورسوله شيئًا إلاّ وضررُه واضح، ضرَرُه ظاهِر، ولا منفعةَ فيه مطلَقًا. إنَّ أولئك الزّاعِمين أنَّ الاختلاطَ لا يؤثِّر، وأنّ التربيَة تحمي الإنسانَ من الانزلاق، كلُّ هذه مكابَرات، وكلّ هذه مغالَطات. فالواجِب على المسلمين جميعًا تقوَى الله، وأن يعلَموا أنّ العزّةَ والرّفعة إنما هو باتباعِ شريعة الله، وأنَّ الذلَّ والهوان بالتّخلِّي عن مبادِئِ الإسلام وتعاليمِه.(/4)
ليس عيبًا على الأمّةِ أن تحافظَ على شرفِها وكرامَتِها، ليس عيبًا عليها تمسُّكها بدينها، ليس عيبًا عليها ثباتُها على أخلاق إسلامِها، مهما قال الأعداء ومهما تفوّهوا، فهم لن يَرضَوا عنّا إلاّ بمفارقةِ هذا الدين والعياذ بالله، {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة: 120]، {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء: 89].
أمّةَ الإسلام، الدّعوةُ إلى الاختلاط دعوةُ إجرام، ودعوةُ نفاق، ودعوة ضَلالٍ، ودعوة بُعدٍ عن الهدى، لا تصدُرُ من قلبٍ فيه إيمان بالله واليومِ الآخر، فمَن في قلبه الإيمانُ الصّادق يعلم أن الدعوةَ إلى الاختلاط دعوةٌ ضالّة مضلَّة، ومَن سعى فيها أو حبّذها فليراجِع نفسَه، وليَتُبْ إلى الله من أخطائهِ، وليعلَم أنّه تفوَّه بأمرٍ أسخَطَ اللهَ - جلّ وعلا - عليه. فليتَّقِ المسلمون ربَّهم، وليحافظوا على قِيَمهم وفضائلهم.
نبيُّنا - صلى الله عليه وسلم - يقول في الصّلاة: ((خيرُ صفوف الرجال أوّلُها، وشرُّها آخرها، وخيرُ صفوفِ النّساء آخرُها، وشرُّها أوّلها))[5] حثًّا للمرأةِ على البُعد عنِ الرجال. وكان النساءُ في عهدِ النبيّ يشهدن الصلوات، تقول عائشة: يشهَد نساءٌ مع النبيّ الصلاة، يرجِعنَ في غايةٍ مِنَ التحفُّظ، لا يعرِفُهنّ أحدٌ مِن حسنِ سِترهنّ وعفافِهن، متلفِّعاتٍ بمروطهِنّ، لا يُعرَفنَ من الغَلَس[6]. إنّه في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت المجتمعاتُ مجتمعاتٍ نظيفةً ومجتمعاتٍ طيّبة، ومع هذا حُذِّروا من كلِّ وسيلة توقِع في الشرّ والفساد.(/5)
فلنتَّق الله في أنفسنا، ولنحافِظ على ديننا. وعلى من ينادي بالاختلاط أو يدعو إليه أو يحبّذه أن يعلمَ أنه على طريقٍ خاطئ ومنهج سيّئ، فليتُب إلى الله، وليستغفِرِ الله ممّا زلَّ بهِ اللسان والقلَم، وليحاسِب نفسَه؛ فإنَّ الله سائلٌ كلَّ قائل عن قوله، {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18].
إنَّ الله - جلّ وعلا - فاوتَ بين الرجال والنساء، ولكلٍّ خصوصيّاتُه وقُدُراته، فمتى خلطْنا الأوراقَ، ومتى حاولنا عبثًا أن نصيِّرَ الجنسين جنسًا واحدًا، ومتى تغاضَينَا عن النتائجِ السيِّئة؛ فإنَّ هذا دليل على سوءِ الفهم، وقلّةِ اليقين.
أسأل الله للجميع الثباتَ على الحقِّ والاستقامة عليه، وأن يرزقَنا جميعًا الفقهَ في دين الله والتمسّكَ بشريعته، والثباتَ على ذلك إلى أن نلقاه، إنه على كلِّ شيء قدير.
بارَكَ الله لي ولَكم في القرآنِ العَظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآياتِ والذّكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفِر الله العظيمَ الجليلَ لي ولكم ولسائِرِ المسلمين من كلّ ذَنب، فاستغفروه وتوبوا إلَيه، إنّه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فيأيّها الناس، اتقوا الله – تعالى - حقَّ التّقوى.
عباد الله، إنّ التمسّكَ بشريعة الإسلام سبَبٌ لعِزِّ الأمّة ورِفعتها، وسبب لرُعب أعدائها مِنها، فتمسُّك الأمّة بهذا الدين يجعل لها المكانةَ العالية والرفعةَ والسّؤدَد، ويلقي الله الرعبَ في قلوب أعدائها إن هِي تمسَّكَت بهذا الدين حقَّ التمسّك.(/6)
إنَّ ما أصاب العالمَ الإسلاميَّ من نقصٍ كان أوّله السماح للنّساء بالاختلاطِ في ميادينِ الأعمال، فهذا سبَبٌ عظيم فتح أبوابَ الشرِّ على مصراعَيه، ولذا يقول النبيّ : ((ما تركتُ [في] أمتي فتنةً هي أضرّ من فتنةِ [النساء على الرجال])) [7]، ويقول: ((اتَّقوا الدنيا واتقوا النساء؛ فإنّ هلاكَ بني إسرائيل كان في النساء)) [8].
هذه القضيّةُ هي التي فتحَت أبوابَ الشرِّ على مصراعَيه، وتداعت الشرورُ والمصائب على الأمّة لما استخفّوا بمحارمِ الله وتساهلوا في ذلك، وفُقِدت الغَيرة من القلوب على محارمِ الله، فعند ذلك وقَعَ المسلمون في شرورٍ عظيمة ومصائبَ وبلايا؛ نتيجةً لهذا التّساهُل، ونتيجةً لهذا التهاوُن، وطاعةً لمن ينادي: "إنّ المرأةَ شقيقة الرجل، دعوها والرجلَ يقفان صفًّا واحدًا، دعوها تعمل ويَعمل على جانبٍ واحد"، فلا حياءَ ولا سمتَ ولا مروءة، إنّه الشرّ بعَينه حينما يختلط الجنسان في الأماكن، تذهَب الغَيرة من القلوب، وتخفّ قيمةُ المحرَّمات في قلوبِ الناس، وتلك مصيبةٌ عُظمى، نسأل الله أن يعافيَ المسلمين من هذا الداءِ العضال، وأن يمنَّ عليهم بالاستقامةِ عَلى الهدَى.
فالحقيقةُ أنَّ مصائبَ العالم الإسلاميّ سببُها بُعدُهم عن دينهم، ولهذا تسلَّط عليهم الأعداءُ من كلِّ جانب بأسباب بُعدهم عن دينهم، فإنَّ تمسُّكَ الأمة بدينها هو السّبَب في عزَّتها وقوّتها ورَهبةِ أعدائها منها، فنسأل الله أن يوفِّقَ المسلمين جميعًا للفِقه في دين الله، وأن يعيدَهم للطّريق المستقيم، وأن يرزقَنا جميعًا الثباتَ على الحقّ والاستقامة عليه، وأن يهديَ ضالَّ المسلمين ويثبِّتَ مطيعَهم ويحفَظ الجميع بالإسلام، إنّه على كلّ شيء قدير.(/7)
واعلَموا - رحمكم الله - أنّ أحسنَ الحديث كتابُ الله، وخيرَ الهدي هدي محمّد صلى الله عليه وسلم، وشرّ الأمورِ محدثاتها، وكلّ بدعةٍ ضلالة، وعليكم بجماعةِ المسلمين، فإنّ يدَ الله على الجماعةِ، ومَن شذّ شذّ في النّار.
وصلّوا - رحمكم الله - على عبدِ الله ورسولِه محمّد - صلى الله عليه وسلم - كما أمركم بذلك ربّكم، قال – تعالى -: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56].
اللَّهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدِك ورسولك محمّد، وارضَ اللَّهمَّ عن خلَفائِهِ الرَّاشدين الأئِمَّة المهديِّين.
ــــــــــــــــــــــــــ
[1] أخرجه أحمد (5/353)، وأبو داود في النكاح (2149)، والترمذي في الأدب (2777) من حديث بريدة رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من حديث شريك"، وصححه الحاكم (2788)، وحسنه الألباني في "غاية المرام" (183).
[2] أخرجه البخاري في كتاب النكاح (4831)، ومسلم في كتاب السلام (4037) عن عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه.
[3] كما في حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - عند البخاري في كتاب الحج (1729)، ومسلم في كتاب الحج (2391).
[4] أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" (7/10، 93)، وهناد في "الزهد" (817) بنحوه، وصححه الحاكم (207، 208)، وهو في "صحيح الترغيب" (2893).
[5] أخرجه مسلم في كتاب الصلاة (440) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[6] أخرجه البخاري في كتاب المواقيت (544)، ومسلم في كتاب المساجد (1020، 1021، 1022) بمعناه.
[7] أخرجه البخاري في النكاح (4706)، ومسلم في الذكر (4923) من حديث أسامة بن زيد - رضي الله عنهما - بنحوه.
[8] أخرجه مسلم في الذكر (4925) من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - بلفظ: ((فإن أول فتنة بني إسرائيل)).(/8)
العنوان: التحرش الجنسي.. من المسؤول؟
رقم المقالة: 686
صاحب المقالة: سناء موسى
-----------------------------------------
التحرش الجنسي نوع من الإرهاب يمارس ضد المرأة ويؤثر سلباً على جسدها ونفسيتها ومعنوياتها, ويكون التحرش إما لفظياً وذلك بإسماع المرأة كلمات بذيئة أو يكون عن طريق لمس جسد المرأة عنوة أو تحت التهديد أو أحياناً يكون بإزعاج المرأة بالاتصالات الهاتفية.
وظاهرة التحرش قديمة حديثة، حيث عانت معظم المجتمعات هذه الظاهرة؛ فمنذ القدم حتى يومنا الحاضر كنا نسمع ونقرأ عنها تحدث في مجتمعات مختلفة عنا بعاداتها وتقاليدها إلا أنها كانت بعيدة عن مجتمعنا حتى وقت قريب، والآن من يُصدِّق أن هذه الظاهرة تحدث في مجتمعاتنا العربية والإسلامية؟! فقد بين استطلاع أجرته جريدة أردنية على طالبات الجامعة في الأردن أن 57% من الطالبات يتعرضن للتحرش من قبل أساتذتهن للحصول على درجات عالية، وشهدت مصر في ثاني أيام عيد الفطر المبارك حادث مروع من التحرش الجماعي بالفتيات وبالنساء من مختلف الأعمار في إحدى شوارع العاصمة.
وبرغم انتشار هذه الظاهرة بصورة كبيرة إلا أنه لا توجد إحصاءات أكيدة بهذا الشأن، وذلك لأن أعداد اللاتي تعرضن للتحرش واعترفن بذلك قليلة جداً، مقارنة بمن كتمن الموضوع وفضَّلْنَ إبقاء الأمر سرياً جداً. حيث أوردت إحصائية سورية أن 2% فقط من المتحرشات بهن يقدمن الشكوى للجهات المعنية، فالجميع يحاول إسدال الستار عليها سواءٌ المجتمع أم المرأة نفسها، خوفاً من إلحاق العار بها أو بعائلتها وتحسباً من إلقاء اللوم عليها واتهامها بما ليس لها يد فيه. حتى أصبح الصمت والكتمان ثقافة والخجل طبعاً لا يمكن تجاوزه، برغم أن ثوابت حضارتنا العربية والإسلامية وثقافتنا تنادي بأنه لا حماية ولا تستر على جريمة المتحرش بالفتاة وذلك من شأنه أن يردع الفاسد عن ارتكاب الأخطاء ويوقفه عن تكرار آثامه.
التحرش بالأقارب:(/1)
وتتعدد صور التحرش وأنواعه وتبقى أصعبها وأكثرها تأثيراً ذلك الذي يمارسه المتحرش مع محارمه، أو ما يسمى بتحرش الأقارب، حيث تروي فتاة في الثانية عشرة من عمرها أنها تعرضت للتحرش مرتين في عمرها على يد أخيها، وبقيت آثار هذا التحرش في حياتها لا تفارق مخيلتها وبرغم زواجها وبنائها لأسرتها تتعهد الفتاة أمام الله أنها ستحافظ على كيانها وتمنع وقوع مثل هذه الوقيعة بين أفرادها، وهذا زوجٌ رؤوف يعاني آثار حادثة تحرش كانت قد حصلت لزوجته أيام كانت طفلة في السابعة من عمرها وتعرضت لتحرش كبير من قبل ابن جيرانهم، فبقيت تعاني آثاره حتى بعد زواجها، وتعيش علاقة زوجية متوترة.
والتحرش يمكن أن يحدث للمرأة في الأسواق والمستشفيات والأماكن العامة والأخطر من هذا كله عندما يحصل لها في بيتها ومع أقرب محارمها وبرغم ذلك لا يمكنها الإفصاح عما يحصل لها، إذ تعتقد بأنها إذا اشتكت ستعاني- من جراء الشكوى- أضعاف ما تعانيه من التحرش، فتفضل التستر على ما حصل لها وأحياناً تخضع لمن يتحرش بها خوفاً من اتهام الآخرين لها، ولكي تظهر بمظهر مثالي أمام الآخرين، حيث تضع بعض المجتمعات كامل المسؤولية على عاتق المرأة وتبرئ الرجل، بحجة أن المرأة لو لم تغر الرجل لما تحرش بها.
أسباب المشكلة:(/2)
وفي الوقت الذي لا نُبرِّئ كل النساء من التسبب في التحرش بسلوكيات تبدو شاذة عن أصول المجتمع وتقاليده وقيمه، فمنهن من تتبرج وتتعطر وتخرج من منزلها بسبب وبدون سبب، فتُعرِّض نفسها للتحرش إن كان ذلك عن قصد أو غير قصد، لكنها تدعو بذلك النفوس الضعيفة للتحرش بها, إلا أنه علينا أن نعرف أن هناك أمثلة كثيرة تعرضت فيها المرأة المحتشمة للتحرش، وذلك لأننا محاطون بعدد لا يستهان به من الشباب الطائش المهمل لدينه ودنياه والمتناسي قواعد ومبادئ ديننا الحنيف، والذي ترك كل ما هو مهم في حياته واتجه صوب مصادر الفساد والإفساد، ليتابع القنوات الماجنة والأغاني الهابطة مرافقاً أصدقاء السوء متسكعاً هنا وهناك.
العلماء ينصحون:
ينصح علماء الدين والفقه جميع الأهل بإعادة النظر في تربية أبنائهم ذكوراً وإناثاً واتباع القواعد الإسلامية في هذا الصدد، وبناء الثقة بأنفسهم، وتعليمهم الحلال والحرام، والأخلاق والقيم ، وكيف يحافظون على حياتهم من كل ما قد يشوبها، أو يعكر صفوها، ومن الضرورة أن تكون العلاقة بين الأهل والأبناء متينة تشعرهم بالأمان، وأن يتعلم الأبناء مصارحة الأهل بكل ما قد يسيء إليهم، وبذلك نحمي أبناءنا من الوقوع في هذه التجربة المريعة، والتي ربما تؤثر في مسيرة حياتهم, فالعيادات والمستشفيات النفسية تعج اليوم بالكثيرين ممن عجزوا عن تجاوز آثار التحرش.
الإسلام يحفظ حرمة الآخر:(/3)
الأديان السماوية بصورة عامة والدين الإسلامي بصورة خاصة، علمت الإنسان احترام أخيه الإنسان وعلمته أن للآخر حرمة يجب ألا يتعداها، حرمة الحياة، وحرمة المال، وحرمة العرض والكرامة، والإنسان يجب أن يتلقى هذه المبادئ منذ طفولته، والقرآن الكريم يوجه الأهل إلى أن الطفل قبل أن يبلغ الحلم عليه أن يستأذن فلا يدخل على والديه في أوقات ثلاث: وهي قبل الفجر ووقت الظهيرة وبعد العشاء، وبهذه التعاليم اليسيرة يتعلم الطفل أن للآخر حرمة عليه ألا يتعداها سواء أكان هذا الآخر والديه أم أخوته أم جيرانه أم أصحابه، وهذه التعاليم تطبق على الجميع دون استثناء، وهكذا أحفظُ حرمة الناس ويحفظون حرمتي وبذلك نعيش حياة آمنة، وإن بقي بعض الشواذ فسيكونون في نطاق ضيق جداً وسيجدون أمامهم صعوبات كثيرة، وعلينا أن نتذكر أن الدين الإسلامي يحارب الفحشاء بكل صورها وأشكالها، ووضع لها العقوبات التي تؤمن لكل فرد كرامته وإنسانيته، وليتولى كل منا تربية أولاده تربية صحيحة اعتماداً على توصيات الدين الإسلامي وبمساعدة بعض علماء الدين الأفاضل ومساعدة المدرسة والإعلام المرئي والمكتوب وحتى بعض المراكز الثقافية، كي نملأ وقت أطفالنا بكل ما هو مفيد وقيم، وبذلك يكون كل فرد محافظاً على كرامة الآخرين واثقاً من نفسه ومن إمكاناته، ولا يسمح لأي إنسان أن يتعدى عليه، مهما كان نوع هذا التعدي صغيراً أو كبيراً.(/4)
العنوان: التحفة الوفية بمعاني حروف العربية
رقم المقالة: 304
صاحب المقالة: د. صالح بن حسين العائد
-----------------------------------------
التحفة الوفية بمعاني حروف العربية
لأبي إسحاق برهان الدين إبراهيم بن محمد بن إبراهيم الصفاقسيّ (697هـ - 742هـ)
(دراسة وتحقيقاً)
مقدمة:
الحمد لله الميسِّر كلَّ عسيرٍ، والصلاة والسلام على البشير النذير نبيّنا وحبيبنا محمدٍّ، وعلى آله وأصحابه والتابعين له بإحسانٍ إلى يوم الدين. أمّا بعد:
فَمَنْ يسّرَ الله له أن يزور بعض المكتبات الغربيّة التي تُعْنى بجمع المخطوطات العربيّة يدرك عظمة هذا الدين وسموق شأو لغته العربيّة، حيث سخّر الله تعالى لحفظهما من وسائل الحفظ ما يدعو إلى العَجَبِ والإعجاب؛ حتّى سخّر المولى عزّ وجلّ لذلك أعداء هذا الدين، فجعل جلّ جلاله في البلايا والمحن منحاً عظمى لا يدرك شأوها كثيرٌ من النّاس عند نزولها، فحين استولت الدول الغربيّة على بلاد المسلمين، وَرَكَنَ المسلمون إلى الجهل، ورقدوا في السبات العميق، لم يدّخرِ المحتلّون وسعاً في جمع تراث المسلمين، وإنْ شئتَ فقلْ: (في نهبه) إمّا بالقوّة، وإمّا بالإغراء، فكان أنِ اكتظّتْ بالمخطوطات العربيّة رفوفُ مكتباتهم في: لننغراد، وجوتا، وبرلين، وباريس وشيكاغو، وتوسان، وصوفيا، ومكتبات: والمتحف البريطاني، وتشستربيتي، والأوسكوريال، والإمبريزونا، وبرنستون، والكونجرس الأمريكيّ، وغيرها.(/1)
وحين دَلَفَتْ رِجْلايَ أبوابَ مكتبة جامعة برنستون في ولاية نيوجرسي، وهي ثاني أشهر المكتبات الأمريكيّة بعد مكتبة الكونجرس الشهيرة، حينذاك لم يكن يخطر ببالي أنّها بتلك الضخامة التي وجدتها عليها؛ ففيها أكثر من ستين ألف مخطوطة عربيّة، وفيها من وسائل حفظ المخطوطات وخدمة الباحثين وسرعة تلبية طلباتهم مالا يخطر على بال باحثٍ عربيّ مثلي قد عانى معاناةً طويلةً من إيصاد أبواب المكتبات بوجهه في عالمه العربيّ، وفي البلد المسلم (تركيا). وبعد اعتكافي أيّاماً في تلك المكتبة العريقة خرجتُ منها بسعادة وحزنٍ سببهما ما ألمحتُ إليه آنفاً، وظفرتُ بمجموعة مصورات لنوادر المخطوطات العربيّة فيها، وكانت إحداها مخطوطة كتاب (التحفة الوفيّة بمعاني حروف العربيّة) للصفاقسيّ، فحين اطّلعتُ عليها وجدتها قليلة الورقات غزيرة الفوائد والمعلومات، فلم أتقاعس عن طلب تصويرها عازماً على المبادرة إلى تحقيقها ونشرها.
وظللتُ سنواتٍ أنقّبُ في فهارس المخطوطات سعياً وراء الظفر بنسخة أخرى للكتاب تكون عوناً لي بعد الله تعالى على تحقيقه، ولكنّي كنتُ لا أعودُ بعد كلِّ سياحةٍ في الفهارس مشرّقاً كُنْتُ أو مغرّباً إلا بخفّي حنينٍ، وبمعلومات لا تقدّر بثمنٍ يزخر بها حاسوبي الشخصيّ عن أماكن وجود نوادر المخطوطات وأرقامها ووصفها، وبعد يأسي من العثور على نسخة أخرى قمت بتحقيق هذا الكتاب.
وقد سلكتُ في التحقيق منهجاً مطوّراً عن مناهج شيوخ التحقيق في عالمنا العربيّ، وقد أوضحتُ معالمه في موضعه، لكنّي هنا أؤكّد على أنّي قد ابتعدتُ فيه عن حشو الكتاب بالتعليقات التفصيليّة التي تجعل من الكتيّب كتاباً ضخماً، وهذا – في رأيي – منهجٌ غيرُ سليم بدأ بترسيخه بعض المشتغلين في التحقيق، ففهمو أنّ التحقيق لابدّ أن يكون شرحاً للكتاب المحقّق، فأخرجوه عن مراد مؤلّفه.(/2)
ولم يخلُ عملي من صعوبات واجهته؛ وكان من أبرزها العمل على التأكد من صواب النصّ المحقّق؛ لأنّ الاعتماد على نسخة واحدة ليست نسخة المؤلّف تجعل الوصول إلى النصّ الصحيح عسير المنال، لكن حسبي أنّي بذلتُ كلّ ما في الوسع والطاقة، وما التوفيق إلا من عند الله العزيز الحكيم.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفع بعملي هذا المشتغلين بالعلم، وأن يجعله خالصاً لوجهه الكريم، والحمد لله أولاً وآخراً.
الفصل الأوّل: الصفاقسيّ
المؤلِّف:
نسبه: هو أبو إسحاق برهان الدين إبراهيم بن أبي عبدالله شمس الدين محمّد بن أبي القاسم إبراهيم القيسيّ الصفاقسيّ المالكيّ[1].
مولده: وُلِدَ في سنة 697هـ[2] ونقل ابن حجر عن الذهبيّ أن الصفاقسيّ ذكر له أنّه وُلِدَ في حدود سنة 698هـ[3].
شيوخه:
1 - أبو عليّ ناصر الدين[4] منصور بن أحمد بن عبدالحقّ الزواويّ المشداليّ، المتوفّى سنة 731هـ[5].
2 - أبو فارس عبدالعزيز بن أبي القاسم بن حسن الربعيّ التونسيّ، المعروف بـ(الدروال)[6]، المتوفّى سنة 733هـ[7].
3 - أبو بكر بن محمّد بن أحمد بن عنتر[8]، السلميّ، المتوفّى سنة 737هـ[9].
4 - أبو بكر محمدّ بن الرضيّ[10]، الصالحيّ القطّان، المتوفّى سنة 738هـ[11].
5 - أبو المعالي جلال الدين محمّد بن عبدالرحمن بن عمر القزوينيّ[12]، المتوفّى سنة 739هـ[13].
6 - أم عبدالله زينب بنت الكمال[14]، أحمد بن عبدالرحيم المقدسيّة، المتوفّاة سنة 740هـ[15].
7 - أبو الحجّاج جمال الدين بن يوسف بن عبدالرحمن بن يوسف المزّي[16]، المتوفّى سنة 742هـ[17].
8 - أبو حيّان[18]، أثير الدين محمّد بن يوسف بن عليّ النحويّ، المتوفّى سنة 745هـ[19].
رحلاته:(/3)
يبدو أنّ برهان الدين قد وُلِدَ في صفاقس بتونس، وبذلك نُسِبَ إليها، وقد رحل إلى بجاية في الجزائر، فسمع فيها من شيخها ناصر الدين الزواويّ، ثمّ قصد الحجّ، ومرّ بالقاهرة، فأخذ فيها عن أبي حيّان النحويّ، ثمّ قدم هو وأخوه شمس الدين محمّد دمشق سنة 738هـ، فسمع بها كثيراً من زينب بنت الكمال، وأبي بكر ابن عنتر، وأبي بكر بن الرضيّ، والمزّيّ، وغيرهم[20].
مؤلفاته:
يذكر المترجمون للصفاقسيّ أنه قد ألّفَ عدداً من الكتب، لكنّهم لم يذكروا أسماءها كلّها، بل اكتفوا بالإشارة إلى كتبه الآتية:
1 - إسماع المؤذّنين خلف الإمام[21]: ولم أعثر عليه في فهارس المخطوطات.
2 - التحفة الوفيّة بمعاني حروف العربيّة: وسيأتي تفصيل الحديث عنه قريباً إن شاء الله تعالى.
3 - الروض الأريج في مسألة الصهريج: ولم أعثر على إشارة إلى نسخٍ منه في فهارس المخطوطات، لكن نقل صاحب كتاب (نيل الابتهاج بتطريز الديباج)[22]، عن الخطيب ابن مرزوق الجدّ قوله عن شيخه الصفاقسيّ: ((... وقرأتُ عليه بعض تآليفه في نوازل لفروعٍ سئل عنها، منها:
الروض الأريج في مسألة الصهريج، سئل عن أرضٍ ابتيعت، فوُجدَ فيها صهريجٌ مغطّى، هل يكون كواحد الأحجار أم لا؟ وأبدع فيها، وخالَف فيها كثيراً من المالكيّة، وعمل على مذهبه فيها)).
4 - شرحٌ على مختصر الفروع لابن الحاجب: قال الصفدي[23]: ((وله كتابٌ شرح فيه كتاب ابن الحاجب – رحمه الله تعالى – في الفروع ناقصاً)).
ونقل صاحب كتاب (نيل الابتهاج بتطريز الديباج)[24] عن الخطيب ابن مرزوق الجدّ قوله عن شيخه الصفاقسيّ: ((... وقرأتُ عليه أكثر تقييده على ابن الحاجب، وتركته ولم يكمله)). ويبدو أنّ الكتاب مفقود حتّى الآن.
5 - المجيد في إعراب القرآن المجيد: وهو من أجلّ كتب الأعاريب، وأكثرها فائدة، جرّده من البحر المحيط للإمام العالم العلامة أثير الدين أبي حيّان، ومن إعراب أبي البقاء، وغير ذلك[25].(/4)
ونقل صاحب كتاب (نيل الابتهاج بتطريز الديباج)[26] عن الشيخ أبي زيد عبدالرحمن بن محمّد الثعالبيّ المتوفّى سنة 876هـ[27] قوله: ((قال الشيخ أبو عبدالله بن غازي[28] في كتابه (المطلب العلي في محادثة الإمام القلي)[29]: ولقد كان شيخنا شيخ الجماعة الإمام الأستاذ أبو عبدالله الكبير يثني كثيراً على فهم الصفاقسيّ، ويراه مصيباً في أكثر تعقّباته وانتقاداته لأبي حيّان، وقد كان له أخٌ نبيلٌ شاركه في تصنيف كتابه (المجيد) المذكور كما نبّه عليه صاحب (المغني)[30]...))، وذكر ابن فرحون[31] أنّ أخاه الذي شاركه في تأليف هذا الكتاب هو شمس الدين محمّد بن محمّد المتوفّى سنة 744هـ[32].
وقد طُبِعَ الجزءُ الأوّلُ من هذا الكتاب بتحقيق موسى محمّد زنين في طرابلس بليبيا.
وفاته: توفي برهان الدين في الثامن عشر من ذي القعدة سنة 742هـ[33]، وقيل: إنّه توفي في ذي الحجّة من سنة 743هـ[34]، وكانت وفاته بالمنستير في تونس[35].
الفصل الثاني: كتاب (التحفة الوفيّة بمعاني حروف العربيّة)
نسبة الكتاب:
لم أقف على مَنْ عَدَّ من مؤلّفات الصفاقسيّ هذا الكتاب، لكن الذين ترجموا له لم يذكروا كلّ كتبه، بل قال بعضهم: ((... وله مصنّفاتٌ مفيدةٌ، منها: إعراب القرآن، وشرح ابن الحاجب في الفقه، وغير ذلك...))[36]، وهذا القول يُشْعِرُ بعدم حصر مؤلّفاته، وبأنّ له غير هذين الكتابين.
وقد ذكر ناسخ مخطوطة هذا الكتاب اسم مؤلّفه الصفاقسيّ في نهايتها كاملاً، بل نقل ترجمته من كتاب (الدرر الكامنة)، وهذا يبعد الشكّ في نسبة الكتاب إليه.
منهج المؤلِّف في الكتاب:
يعدّ كتاب (التحفة الوفيّة بمعاني حروف العربيّة) من الكتب الموجزة، ككثيرٍ من كتب الحروف، لكنّ المؤلِّف – رحمه الله – سلك في ترتيبه مسلكاً علميّاً جيّداً؛ إذْ جعله على بابين اثنين:
الباب الأول: في تقسيم الحروف بحسب الإعمال والإهمال.
والباب الثاني: في تقسيمها بحسب ألقابها.(/5)
وقد قسم الباب الأول منها قسمين أيضاً:
جعل القسم الأوّل منه في (الحروف المعملة).
وجعل القسم الثاني منه في (الحروف المهملة).
وقد ذكر في القسم الأوّلّ أنواع الحروف المعملة مقسّمة بحسب عملها، فاستقصى في النوع الأول من هذا القسم (الحروف الجارّة)، وذكر معانيها واستعمالاتها[37]، ثمّ ثنّى بـ(الحروف الناصبة)، وذكر شروط عملها، وأقوال العلماء فيها[38]، ثمّ ثلّثَ بـ(الحروف الجوازم)، وذكر نوعيها: ما يجزم فعلاً واحداً، ثمّ ما يجزم فعلين[39]، وبعد ذلك أتى على النوع الرابع من أنواع الحروف العاملة، وهي (الحروف الناصبة الرافعة)، أي: الحروف النواسخ العاملة عمل (إنَّ)، والعاملة عمل (كان)[40]، أمّا النوع الأخير من أنواع الحروف العاملة، وهو (الحرف الجار الرافع) فقد اكتفى بالإشارة إليه ابتداءً عند التقسيم[41]، ثمّ عرضاً حين تحدّث عن (لعلّ)[42].
وأمّا القسم الثاني من الباب الأوّل، وهو في الحروف المهملة، فأغفل المؤلّف الحديث عنه، ولست أعلم لذلك سبباً إلا إذا كان قد استغنى عن ذلك بإيرادها في الباب الثاني مع أخواتها الحروف العاملة، والله أعلم.
أمّا الباب الثاني، وهو في تقسيم الحروف بحسب ألقابها، فقد ذكر خمسين نوعاً من أنواعها[43]، وأكثر ما ذكره فيه إعادة لما سبق أن ذكره في الباب الأوّل.
والملاحظ على منهج المؤلف في كتابه هذا الاقتصار على ذكر الحرف ومثالٍ أو شاهدٍ له، والابتعاد عن التفصيل في المسائل النحويّة، بل كانت السمة البارزة فيه هي الاختصار، وهي سمة كثير من كتب الحروف سوى كتاب المراديّ المعروف بـ(الجنى الداني في حروف المعاني)، وكتاب ابن هشام الموسوم بـ(مغني اللبيب عن كتب الأعاريب).
مصادر الكتاب:(/6)
حين قرأتُ المخطوطة لم يكن يخامرني شكٌّ في أنّ هذا الكتاب هو اختصارٌ لكتاب المراديّ (الجنى الداني)، لكنّي بعد سبري غور الكتابين بدا لي أنّ الصفاقسيّ والمراديّ كأنّهما كانا عالةً على كتب شيخهما العظيم أبيّ حيّان أثير الدين محمّد بن يوسف بن عليّ النحويّ الأندلسيّ المتوفّى سنة 745هـ، رحمه الله، وقد استطعتُ بعد رجوعي إلى كتابه (النكت الحسان في شرح غاية الإحسان) قطع الشكّ باليقين، حيث أيقنتُ بأنّ الصفاقسيّ قد استفاد منه، وهو يكتب الباب الثاني من كتابه هذا (تقسيم الحروف بحسب ألقابها)، بل إنّ وصولي إلى هذه الحقيقة قد حلَّ لي بعض الإشكالات التي كنت قد واجهتها بسبب الاعتماد على نسخة فريدة في تحقيق هذا الكتاب.
أمّا الباب الأوّل منه فلم أقف على مصدرٍ رئيسٍ أجزم بأنّ المؤلّف قد اعتمد عليه فيه، لكنّه بلا ريبٍ استعان فيه بكتاب شيخه أبي حيّان (ارتشاف الضرب من لسان العرب)، وبكتاب (شرح التسهيل) وكلاهما لابن مالك، رحمه الله.
أمّا عن المصادر غير الرئيسة للكتاب فأقول: خلا الكتاب من ذكر أسماء الكتب، لكنّه اكتفى بذكر أسماء بعض العلماء ممّا قد يشعر برجوعه إلى كتبهم، وكان اسم سيبويه أكثر أسماء العلماء ذكراً، حيث ورد ثلاث عشرة مرّة[44]، ثم المبرّد[45] والأخفش[46] حيث ذكر المؤلّف اسم كلّ واحدٍ منهما ست مراتٍ، ثمّ أبي عليّ الفارسيّ الذي تكرّر اسمه أربع مرّات[47]، يليه الفراء الذي ذُكرَ ثلاث مرّات[48]، وبعده الخليل[49]، ويونس[50]، والكسائيّ[51]، وابن أبي الربيع[52]، وابن الطراوة[53] حيث نقل عن كلّ واحد منهما رأيين فقط، أمّا الذين وردت أسماؤهم في الكتاب مرّة واحدة فهم: الأصمعيّ[54]، والسيرافيّ[55]، وابن كيسان[56]، وابن عصفور[57]، وابن مالك[58]، ولا يعني ذكر أسماء هؤلاء أنّ المؤلّف قد أخذ من كتبهم مباشرة، بل ربّما كانت آراؤهم قد وصلته عبر مصادر أخرى، والله أعلم.
شواهد الكتاب:(/7)
هذا الكتاب مع كونه صغير الحجم هو كثير الشواهد، وتبرز الشواهد القرآنيّة فيه أكثر من غيرها، حيث بلغتِ الآيات التي استشهد بها المؤلّف – رحمه الله – اثنتين وثمانين آية، ولا غرو في ذلك؛ فهو ذو عناية واضحة بالقرآن الكريم، وقد سبقت الإشارة إلى أنّه ألّف كتاباً سمّاه (المجيد في إعراب القرآن المجيد)، ويلحظ دارسُ هذا الكتاب أنّ المؤلّف كان يستعيض عن التمثيل بالشواهد، ولا يأتي بها للاستدلال على قاعدة بعينها، وقد كرّر المؤلّف الاستشهاد بثلاث آيات في موضعين.
يلي الآيات في كثرة الاستشهاد الشواهد الشعريّة حيث بلغتْ خمسة وأربعين شاهداً، ولم يتّبع المؤلّف – رحمه الله تعالى – في الاستشهاد بالشعر طريقةً واحدة، فبينما تراه يذكر البيت كاملاً في اثنين وثلاثين شاهداً[59]، تجده يكتفي بصدره في شاهدين[60]، وبعجزه في أربعة شواهد[61]، وبكلماتٍ منه في سبعة أخرى[62]؛ لأنّ مبتغاه بيانُ موضعِ الشاهد، وربما كان هذا أيضاً هو السبب الذي لم يجعل المؤلّف حريصاً على عزو الأبيات إلى قائليها إلا نادراً حيث اكتفى بنسبة ثلاثة شواهد إلى أصحابها، وترك ما سواها إما جهلاً بهم أو عمداً، لعدم الحاجة إلى عزوها.
وتأتي أقوال العرب في المرتبة الثالثة من حيث كثرة الاستشهاد، حيث استشهد بأربعة أقوال فقط[63]. وفي المنزلة الأخيرة يأتي الاستشهاد بأحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم حيث لم تزد على ثلاثة أحاديث[64]، وهذا الشأن يأتي امتداداً لموقف أهل النحو من الاستشهاد بالحديث النبويّ.
التحقيق:
مخطوطة الكتاب:
حفظت لنا عناية الله نسخةً واحدةً من كتاب (التحفة الوفيّة بمعاني حروف العربيّة) في مكتبة (جامعة برنستون) في الولايات المتّحدة الأمريكيّة، وهي نسخة فريدة نفيسة من هذا الكتاب محفوظة فيها تحت رقم (H a 283).(/8)
وتقع المخطوطة في (13 صفحة)، وفي كلّ صفحة (28 سطراً)، ولا تحمل النسخة اسم ناسخها، ولا تاريخ النسخ، لكنّ الخطّ يشبه خطوط نسّاخ القرن الثامن الهجريّ، والنسخة مقابلة على الأصل الذي نُقِلَتْ منه، مصحّحة، وقد أثبتَ الناسخ تصويباتٍ في هوامشها وحواشيها، وعليها حواشٍ منقولة من كتاب المراديّ الموسوم بـ(الجنى الداني في حروف المعاني)، وقد خُتِمَتْ النسخة بترجمة للمؤلّف الصفاقسيّ منقولة من (الدرر الكامنة).
منهجي في التحقيق:
1 - حاولتُ الوصول إلى النصّ الصحيح، وما وجدته في المخطوطة خطأ بلا شبهة غيّرته، وأشرتُ إلى ما بالمخطوطة في الهوامش.
2 - وضعتُ عنوانات تميّز الحروف والمواضيع، وجعلتها بين قوسين معكوفتين، هكذا [ ].
3 - ضبطتُ بالشكل ما يحتاج من الشواهد الشعريّة والنثريّة إلى ضبط.
4 - خرّجتُ آراء العلماء وأقوالهم من كتبهم، أو من المصادر الأخرى المتقدّمة.
5 - ذكرت أرقام الآيات وأسماء سورها.
6 - خرّجت الأحاديث وأقوال العرب.
7 - خرّجت الشواهد الشعريّة من دواوين شعرائها، واكتفيت بالدواوين وعدد قليل من كتب شروح الشواهد، وإذا لم أعرف القائل أحلتُ على أقدم مصادر الشاهد.
8 - أكملتُ مالم يكمله المؤلف من الأبيات.
9 - ترجمت للأعلام ترجمات موجزة بذكر أسمائهم وسنوات وفياتهم ومصادر قليلة لترجماتهم.
والله الموفق.
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلّى الله على خير خلقه محمّد وآله وصحبه وسلّم.
الحمدُ لله الذي جَعَلَ معرفةَ العربيّةِ طريقاً لِفَهْمِ كتابِهِ، وسُلّماً لاستخراجِ معنى الكلام، وتمييزِ خطئه من صوابه، نحمده على آلائه، ونسأله المزيدَ من نعمائه، ونصلّي على سيّدنا ونبيّنا محمّدٍ، وعلى آله وأصحابه، صلاةً متّصلةً بيوم لقائه.
وبعد: فهذه تحفةٌ وفيةٌ بمعاني حروف العربيّة كتبتُها لبعض خُلَّصِ الأصحابِ، وفّقنا الله وإيّاه للصواب، قاصداً بها وجهَ اللهِ العظيمِ، ونَيْلَ ثوابِهِ العميمِ، وقد جعلتها[65] على بابين:(/9)
[الباب] الأول: في تقسيم الحروف بحسب الإعمال والإهمال وهي قسمان:
مُعْمَلٌ: وهو ما أثّرَ في ما دَخَلَ عليه رفعاً، أو نصباً، أو جرّاً، أو جزماً[66].
ومُهْمَلٌ: وهو[67] مالم يؤثّر في ما دَخَلَ عليه شيئاً.
[الحروف المعملة]
فالمُعْمَلُ خمسةُ أنواعٍ:
جارٌّ فقط، أو ناصبٌ فقط، أو جازمٌ فقط، أو ناصبٌ ورافعٌ، أو جارٌّ ورافعٌ، وهو (لعلّ) خاصّةً، على لغة بني عُقَيْلٍ[68].
[الحروف الجارّة]
فالجارُّ: ما أوْصَلَ معنى فعلٍ أو شبهه إلى ما دَخَلَ عليه.
وترتقي إلى سبعة وعشرين حرفاً، وفي بعضها خلافٌ.
[مِنْ]
فمنها (مِنْ): تكون زائدةً، وغير زائدة.
فغير الزائدة:
لابتداء الغاية[69]، كقوله تعالى: {من المسجد الحرام}[70]، ويصلح معها (إلى).
وللتبعيض، ويصلح موضعها (بعض)، كقوله تعالى: {ومن الناس}[71]، ونحو: زيدٌ أفضلُ من عمرٍو[72]، وقيل في مثله: لابتداء الغاية[73].
ولبيان الجنس، ويصلح موضعها (الذي هو)، كقوله تعالى: {فاجتنبوا الرجس من الأوثان}[74]، وأنكره بَعْضُهُمْ[75].
وللمجاوزة، بمعنى (عَنْ)[76]، كقوله تعالى: {أطعمهم من جُوعٍ}[77]، ونَسَبَهُ بعضُهُمْ لسيبويه[78]، وبعضُهُمْ للكوفيّين[79].
وزادَ بعض المتأخرين للغاية، نحو: أخذتُ من الصندوق[80].
وللانتهاء، نحو: قرّبتُ منه، كأنّك [قلتَ]: تقرّبتُ إليه.
وللتعليل، كقوله تعالى: {في آذانهم من الصواعق}[81].
وللفصل، كقوله تعالى: {يعلمُ المفسدَ من المصلح}[82].
ولموافقة (على)[83]، كقوله تعالى: {ونصرناه من القوم}[84].
وللبدل، كقوله تعالى: {ولجعلنا منكم}[85].
ولموافقة (في)[86]، كقوله تعالى: {ماذا خَلَقُوا من الأرضِ}[87].
ولموافقة الباء[88]، كقوله تعالى: {ينظرون من طرفٍ خفيٍّ}[89].
وهذا أليقُ بمذهب الكوفيّين[90]؛ لأنّ أصلَهم جوازُ بدلِ الحرفِ من الحروفِ في الحقيقة، وأصل البصريّين حملُ ما جاء من هذا على تضمين الفعل معنى فعلٍ آخر يتعدّى بذلك الحرف[91].(/10)
والزائدة: الموضوعة للعموم لتأكيد استغراقه، وهي الداخلة على الألفاظ الموضوعة للعموم، نحو: [ما جاء من رجلٍ، و][92] ما قام من أحدٍ، وفيه نظرٌ[93].
وقيل: لنصوصيّة العموم في الأوّل، ومجرّد التوكيد في الثاني[94]، وقيل: لتأكيد الاستغراق فيهما[95]، وقيل: لبيان الجنس في الأوّل[96].
وشرطها: عدم الإيجاب، وتنكير ما دخلت عليه، خلافاً للكوفيّين في الأوّل[97]، وللأخفش[98] فيهما، وعدم الإيجاب: أن يكون الكلام نفياً أو نهياً أو استفهاماً.
فَتُزَادُ مع الفاعل، والمفعول، ومع المبتدأ في غير المنهيّ، كقوله تعالى: {مالكم من إلهٍ غيرُهُ}[99]. {ما جاءنا من بشيرٍ}[100]، {ما ترى في خلق الرحمن من تفاوتٍ}[101]، {هل من خالقٍ غيرُ الله}[102]، {هل ترى من فطور}[103]، ونحوه: هل جاءك من رجلٍ، [و] لا يقم من أحدٍ، ولا يضرب من أحدٍ. وفي زيادتها في الشرط خلافٌ[104].
و(مِنْ) تجيء للقَسَمِ، ولا تدخل إلا على الرّبِّ، نحو: مُِنْ ربّي لأفعلنّ – بكسر الميم، وضمّها –[105]، وتجي لموافقة (رُبَّ)، قاله السيرافيّ[106]، وأنشد:
1- وإنّا لَمِنْ ما نَضْرِبُ الكبشَ ضربةً على رأسه تُلْقِي اللسانَ مِن الفمِ[107].
[إلى]
ومنها (إلى):
وفي دخول ما بعدها فيما قبلها أقوالٌ[108]، ثالثها: إنْ كان من جنس الأوّل دَخَلَ، وإلا فلا، وهذا الخلاف عند عدم القرينة، والصحيح أنّه لا يدخل، وهو قول أكثر المحقّقين؛ لأنّ الأكثر مع القرينة لا يدخل.
ومعناها: انتهاء الغاية، كقوله تعالى: {إلى المسجد الأقصى}[109].
وزاد الكوفيّون[110] المعيّة، كقوله تعالى: {إلى أموالكم}[111]، وتأوّله البصريّون على التضمين[112] وزاد بعضهم[113] للتبيين، كقوله تعالى: {السجنُ أحبُّ إليّ}[114].
ولموافقة اللام، كقوله تعالى: {والأمرُ إليكِ}[115].
ولموافقة (في)، كقول النابغة[116]: [2أ]
2- فلا تَتْرُكَنِّي بالوعيدِ كأنّني إلى النّاسِ مَطْلِيٌّ به القارُ أجربُ[117](/11)
ولموافقة (مِنْ)[118]، نحو:
3- أيُسْقَى فلا يَرْوَى إليِّ ابنُ أحمرا[119]
و(عِنْدَ)، كقول أبي كبير الهذليّ[120]:
4- أم لا سبيلَ إلى الشبابِ وذِكْرِهِ أشهى إليَّ من الرحيقِ السلسلِ[121]
وكلُّه عند البصريّين متأوّل على التضمين[122]
وتزاد عند الفرّاء[123]، ومنه قراءة: {تَهْوَى إليهم}[124]، بفتح الواو[125].
[في]
ومنها (في):
للظرفيّة حقيقةً، [نحو]: زيدٌ في المسجد، أو مجازاً، كقوله تعالى: {ولكم في القصاص حياةٌ}[126].
وَزِيدَ للمصاحبة[127]، كقوله تعالى: {اُدْخُلُوا في أممٍ}[128].
وللتعليل، كقوله تعالى: {لَمسّكم فيما أخذتم}[129]، و{لُمتُنّني فيه}[130].
وللمقايسة، كقوله تعالى: {فما متاعُ الحياةِ الدنيا في الآخرةِ إلا قليلٌ}[131].
ولموافقة (على)[132]، كقوله تعالى: {في جُذوعِ النَّخْلِ}[133].
ولموافقة الباء، أي باء الاستعانة كقوله تعالى: {يَذْرؤُكُم فيه}[134]، أي: يُكَثِّرُكُمْ به.
ولموافقة (إلى)، كقوله تعالى: {فَرَدُّوا أيديَهم في أفواههم}[135].
ولموافقةِ (مِنْ)، كقوله:
5- ثلاثينَ شهراً في ثلاثةِ أحوالِ[136]
وكلُّهُ عند البصريّين مُتَأوّلٌ[137].
[الباء]
ومنها (الباء): وتكون زائدةً، وغير زائدةٍ.
فغيرُ الزائدة:
للإلصاق، وهو أصلها، ولا يفارقها، ولم يذكر سيبويه[138] غَيْرَهُ.
وللاستعانة، نحو: كتبتُ بالقلم.
وللمصاحبة: خرجَ زيدٌ بثيابه، ويكنّى عنها أيضاً بباء الحال[139].
وللسّببِ، كقوله تعالى: {فَبِظُلْمٍ}[140].
وللقسمِ، نحو: باللهِ.
وللظرفيّة، نحو: زيدٌ بالبصرة.
وللتعدية، نحو: ذهبتُ بزيد، ومعناها معنى الهمزة[141] خلافاً للمبّرد[142].
وزاد بعضهم[143] للبدل، كقوله:
6- فَلَيْتَ لي بِهِمُ قَوْماً[144].
وللمقابلة، نحو: اشتريتُ الفرسَ بألفٍ.
ولموافقة (عن)[145]، كقوله تعالى: {فاسألْ به خبيراً}[146].
و(على)، كقوله: {مَنْ إن تأمنه بقنطارٍ}[147].(/12)
و(مِن) التبعيضيّة، وذكره الفارسيّ[148] والأصمعيّ[149]، وشاهده:
7- شَرِبْنَ بماءِ البحرِ ثمّ ترفّعتْ متى لُجَجٍ خُضْرٍ لهنَّ نئيجُ[150]
والزائدة: لازمة، في فاعل فعل التعجّب، نحو: أحسنْ بزيدٍ.
وغير لازمة: بقياسٍ في خبر (ما)، و(ليس)، وفاعل (كفى)، ومفعوله، نحو:
8- فكفى بنا فضلاً[151]، و(حسبك) مبتدأ، نحو: بحسبك زيدٌ.
وبغير قياسٍ فيما عدا ذلك، كقوله:
9-......................... فإنّك ممّا أحْدَثَتْ بالمجرَّبِ[152]
وظاهرُ كلامِ ابن مالك[153]، أنّها تنقاس أيضاً في النواسخ المنفيّة، نحو:
10-.................... لم أكنْ بأعْجَلِهِمْ[154]....................[155]
وأطلق ابن أبي الربيع[156] في زيادتها في الفاعل، والمفعول، والمبتدأ، والخبر.
[اللام]
ومنها (اللام):
للمُلْكِ حقيقةً، كقوله تعالى: {ولله ملك السموات والأرض}[157]، ومجازاً نحو: كُنْ لي أكنْ لك.
وللتمليك، نحو: وهب لك ديناراً.
وشبهه، كقوله تعالى: {جعل لكم من أنفسكم أزواجاً}[158].
وللاختصاص، كقوله تعالى: {يعملون له ما يشاء}[159].
وللاستحقاق [نحو]: المِعْجَرُ[160] للجارية.
وللقَسَمِ، ويلزمها فيه التَّعَجُّبُ، نحو:
11- للهِ يبقى على الأيّامِ ذو حَيَدٍ[161].
وللتعجّب، نحو:
12- ولله عينا مَنْ رأى مِنْ تَفَرُّقٍ[162].
وللنّسَبِ[163]، نحو: لزيد عمٌ هو [لعمرٍو خالٌ][164].
وللتعليل، كقوله: {لِيَحْكُمَ بينَ الناسِ}[165].
وللتبليغ، نحو: قلتُ له، وفسّرتُ له، وأذِنتُ له.
وللتبيين، وهي واقعةٌ بعد أسماء الأفعال والمصادر، نحو: سقياً[166] لزيدٍ، وكقوله تعالى: {هَيْتَ لك}[167].
وللصيرورة، كقوله تعالى: {ليكون لهم عدوّاً وحزناً}[168].
وللانتهاء، كقوله تعالى: {كلٌّ يجري لأجلٍ مسمّى}[169]. [2ب]
وللاستعلاء، كقوله تعالى: {يخرون للأذقان}[170].
ولموافقة (في) الظرفيّة، كقوله تعالى: {ونضع الموازينَ القسطَ ليوم القيامة}[171].(/13)
و(عِنْدَ) نحو: كتبتُهُ لِخَمْسٍ خَلَوْنَ.
و(بَعْدَ)، كقوله تعالى: {لِدُلوكِ الشّمسِ}[172].
أو (مع)، نحو:
13- فلمّا تفرّقنا كأنّي ومالكاً لطولِ اجتماعٍ لم نَبِتْ ليلةً معا[173]
و(مِنْ)، نحو قول جرير[174]:
14- لنا الفضلُ في الدنيا وأنفُكَ راغمٌ ونحن لكم يومَ القيامةِ أفضلُ[175]
وتُزادُ مع معمول مقدّم على فعله لعمله، كقوله تعالى: {للرؤيا تعبرون}[176].
وقد تُزادُ مع التأخير، كقوله تعالى: {رَدِفَ لكم}[177].
وتُزادُ مع معمول ما أشبَهَ الفعلَ مُقدَّماً ومؤخَّراً، كقوله تعالى: {مُصدِّقاً لما معكم}[178].
ولا تُزادُ إلا مع معمولِ عاملٍ متعدٍ إلى واحدٍ. وتُزادُ بين المضاف والمضاف إليه، نحو: لا أبا لك، ذَكَرَهُ ابنُ عصفور[179].
ولم يذكرْ سيبويه[180]، ولا الفارسيُّ زيادتَها، وذكَرَها[181] المبرّدُ[182].
[عن]
ومنها (عَنْ): وتكون اسماً ظرفاً إذا دخل عليها حرف جرّ، نحو: جلس من عن يمينه، وإذا تعدّى فعل المخاطب إلى ضميره المتّصل، نحو:
15- دَعْ عنكَ نَهْباً[183].
وما عدا هذين فهي فيه حروفٌ.
ومعناها المجاوزة، نحو: رميتُ عنه.
وزِيدَ في معناها البدل[184]، كقوله تعالى: {يوماً لا تجزي[185] نفسٌ عن نفسٍ شيئاً}[186].
وللاستعلاء: {وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك}[187].
وللبعديّة، كقوله تعالى: {لتركبنّ طبقاً عن طبق}[188].
وللظرفيّة، كقوله:
16- وآسِ سَراةَ القومِ حيثُ[189] لقيتَهم ولا تكُ عن حَمْلِ الرِّباعةِ وانِيا[190].
أي: في حَمْلِ.
[على]
ومنها (على): وتكون اسماً إذا دخل عليها حرفُ جرٍّ، نحو:
17- غَدَتْ مِنْ عليه[191].
وإذا تعدّتْ فعلَ المخاطب إلى ضميره المتّصل، نحو:
18- هَوِّنْ عليكَ[192].
وتكون فعلاً إذا رفعتِ الفاعلَ، نحو قوله تعالى: {إنّ فرعون علا في الأرض}[193].
وفيما عداهما حرفٌ، وقيل[194]: إنّها اسمٌ إذا انجرَّ متعلّقُها مطلقاً، قال بعضهم[195]: وهو مذهبُ سيبويه[196].(/14)
معناها الاستعلاءُ حقيقةً، كقوله تعالى: {كلّ مَنْ عليها فانٍ}[197] ومجازاً: {فضّلنا بعضَهم على بعضٍ}[198].
وزاد بعضهم[199] لموافقة (عن)، نحو: بَعُدَ عليَّ.
والباء، كقوله تعالى: {حقيقٌ علي أنْ لا أقولَ}[200].
و(في)، كقوله تعالى: {على مُلْكِ سليمان}[201].
و(مِنْ)[202]، كقوله تعالى: {إلا على أزواجهم}[203].
وللمصاحبة، كقوله تعالى: {وآتى المالَ على حُبِّهِ[204]}[205].
وللتعليل، كقوله تعالى: {على ما هداكم}[206].
وتُزَادُ عند بعضهِمْ[207]، نحو قوله:
19- أبى اللهُ إلا أنَّ سرحةَ مالكٍ على كلِّ أفنانِ العِضاهِ تروقُ[208]
[الكاف]
ومنها (الكاف): للتشبيه، وزِيدَ للتعليل[209]، كقوله تعالى: {كما هداكم}[210] ولموافقة (على)[211]، نحو قول بعض العرب[212]: كيف أصبحتَ ؟ فقال: [3أ] كخيرٍ[213]، حكاه الفراء[214].
وتزاد إنْ أُمِنَ اللبس، كقوله تعالى: {ليس كمثله شيء}[215].
ولا تجرّ إلا الظاهر في السَّعة، ومذهب سيبويه[216] أنّها حرفٌ إلا في الضرورة[217]، كقوله:
20- أتنتهونَ ولن ينهى ذوي شَطَطٍ كالطعنِ يَذْهَبُ فيه الزيتُ والفُتُلُ[218]
وأبو الحسن الأخفش[219] يجوّز أن تكون اسماً في فصيح الكلام.
وإن كانت حرفاً فقيل: لا تتعلّق بشيء[220]، كالحروف الزائدة، نحو: ما زيدٌ بقائمٍ، وكـ(لعلّ)، و(لولا) إذا جرّ بهما، وقيل: كغير ما ذُكِرَ من الحروف[221].
وإذا لحقتها (ما) فقيل[222]: تكفُّها عن عملها، وقيل[223]: لا تكفّ، وتقدّر مع ما بعدها مصدريّةٌ مجرورةً بها، وهو الصحيحُ.
[حتى]
ومنها (حتّى): ومعناها الغاية، وتجرّ الظاهر دون المضمر إلا في الشعر، نحو:
21- فلا واللهِ لا يُلْفَى أناسٌ فتًى حتّاك يابن أبي يزيدِ[224]
وزعم بعضهم[225] أنّه غيرُ مخصوصٍ بالشِّعْرِ.(/15)
والاسم المجرور بها إمّا صريحٌ، كقوله تعالى: {حتّى مطلعِ الفجرِ}[226]، وإمّا مؤوّل بـ(أن) لازماً إضمارها، كقوله تعالى: {حتّى يتبيّنَ لكم}[227]، وشرطها في جرّ الاسم الصريح بها أن يكون ما بعدها جزءاً ممّا قبلها، نحو: ضربتُ القومَ حتّى زيدٍ، أو كجزءٍ نحو:
22- ألقى الصحيفةَ كي يُخفّفَ رَحْلَهُ والزادَ حتّى نَعْلَهُ ألقاها[228]
لأنّه في معنى: ألقى ما يثقله حتّى نعله.
[رب]
ومنها (رُبَّ) على الصحيح[229] خلافاً للكسائيّ[230] وابن الطراوة[231] في أنّها اسمٌ.
ومعناها التقليل[232]، وقيل: التكثير مطلقاً[233]، وقيل:
في أماكن المباهاة والافتخار[234]، وقيل: لا تدلّ على تقليلٍ ولا تكثيرٍ وضعاً[235]، وإنما يفهم من السياق[236].
وَتَجُرُّ النكرةَ، نحو: رُبّ رجلٍ أكرمته، والمضافَ إلى ضميرٍ مجرورٍ عائدٍ إلى مجرورها، نحو: ربّ رجلٍ وأخيه، والضميرَ مفرداً مذكّراً مطلقاً مفسّراً بنكرةٍ منصوبةٍ على التمييز، نحو: ربّه رجلاً، ورجلين، ورجالاً، وامرأةً، وامرأتين، ونساءً.
وأجاز الكوفيّون مطابقة التمييز للضمير[237].
وتجرُّ مضمرةً بعد فاء الشرط، كقوله:
23- فإن أهلِكْ فذِي حَنقٍ لَظاهُ تَكادُ عليَّ تَلْتَهِبُ الْتِهابا[238]
وفي الجرّ بها بعد (بل) نحو:
24- بل بلدٍ ذي [صُعُدٍ و][239] أوصابْ[240]
وبعد الواو والفاء خلافٌ[241].
و(ربّ) عندهم كالحرف الزائد، فيحكم على موضع مجرورها بالرفع على الابتداء إن كان الفعل الذي بعدها رافعاً ضميرَهُ، نحو: ربّ رجلٍ قام، أو سَببَيَّهُ نحو: ربّ رجلٍ أكرمَ أخوه عمراً، وبالنصب إن اقتضاه الفعل الذي بعدها مفعولاً، ولم يأخذه، نحو: رُبّ رجلٍ أكرمتُ.
وبالوجهين / إن كان مشغولاً بضمير مجرورها أو سببيّه نصباً، نحو: [3ب] ربّ رجل أكرمتُهُ وأكرمتُ أخاه، ويجوز العطف على مجرورها لفظاً وموضعها.
[خلا وعدا وحاشا]
ومنها (خلا)، و(عدا)، و(حاشا) في باب الاستثناء، ومعناها معنى (إلا).(/16)
وتكون أيضاً (خلا)[242] و(عدا) فعلاً إذا انتصب ما بعدهما، نحو: قام القوم خلا زيداً، وعدا زيداً.
و(حاشا) عند سيبويه[243] لا تكون إلا حرفاً جارّاً، وسَمِعَ غيرُه[244] النصبَ بها، فتكون فعلاً[245]: (اللهمَّ اغْفِرْ لي ولمن يسمع حاشا الشيطانَ وأبا الأصبع)[246].
[مذ، ومنذ]
ومنها (مُذْ)، و(مُنْذُ): والمشهور أنّهما حرفان إذا انجرّ ما بعدهما، واسمان إذا ارتفع، وقيل: اسمان مطلقاً، وقيل: حرفان مطلقاً[247].
ومعناهما ابتداءُ الغايةِ إن كان ما بعدهما غيرَ معدودٍ، [و] كان حالاً، نحو: ما رأيته مذ اليومُ، أي: أوّلُ انقطاعِ الرؤيةِ.
والغايةُ إن كان معدوداً، نحو: ما رأيته مذ يومان، أو ماضياً غيرَ معدودٍ، نحو: ما رأيته مذ يومُ الجمعةِ، أي: أمَدُ انقطاعِ رؤيتي له يومان، أو يومُ الجمعةِ إلى الآن.
وعامّة العرب على الجرّ بهما إنْ كان [ما بعدهما][248] حالاً، نحو: مذ الساعة.
وإن كان ماضياً، والكلمة (مذ)، فالرفعُ، وَقلَّ[249] الجرُّ، أو (منذ) فالجرّ، وَقَلَّ الرفعُ. وإن انجرَّ ما بعدهما[250] بما قبلهما، وكان الكلامُ جملةً واحدةً.
وإذا ارتفع فالصحيح أنّه خبرٌ عن (مذ) و(منذ)[251]، ومعناهما: أمدٌ، أو أوّلُ[252]، وقيل: هو مبتدأ، و(مذ) و(منذ) خبران[253].
وقال الكسائيّ: إنّه فاعلٌ بفعلٍ مضمرٍ[254]، وقال بعض الكوفيّين: إنّه خبرُ مبتدأ مضمرٍ[255].
[الواو]
ومنها (الواوُ): وتجرُّ في القَسَمِ الظاهرَ دون المضمرِ، ونائبة عن (رُبّ) على خلافٍ فيها[256].
[الفاء]
ومنها (الفاءُ)، وتجر نائبةً عن (رُبّ)، نحو
25- فَمِثْلِكِ حُبْلَى[257].
على خلافٍ فيها[258].
[التاء]
ومنها (التاءُ)، وتجرُّ في القَسَمِ خاصّةً، نحو: تاللهِ، وسُمِعَ: تَرَبِّ الكعبةِ[259].
[الميم]
ومنها (مُ) مضمومةً ومكسورةً[260]، وتجرُّ في القَسَمِ الاسمَ المعظّمَ خاصّةً، نحو:
مُ اللهِ، وزعم بعضهم[261] أنّها اسمٌ بَقِيّةُ (أيْمُن).
[من](/17)
ومنها (مِن) – مثلّثةَ الميمِ[262] –، وتجرُّ في باب القَسَمِ الرَّبَّ[263]، نحو: مُنْ ربّي، وقَلَّ دخولُها على اسم اللهِ[264].
[الهاء والهمزة]
ومنها (الهاءُ، والهمزةُ) لاستفهامٍ أو قطعٍ، نحو: هالله، وألله[265]، ولا تجرُّ إلا في القَسَمِ اسمَ اللهِ فقط، وقيل: الجرّ بحرفٍ مقدّرٍ بعدها[266].
[لولا]
ومنها (لولا) إذا اتّصلَ بها ضميرٌ صورتُهُ صورةُ المجرورِ على مذهب سيبويه[267]، نحو: لولاي، ومنه:
26- وَكَمْ مَوْطِنٍ لولاي طِحْتَ كما هَوى بأجرامِهِ مِنْ قُلةِ النِّيقِ مُنْهَوِي[268]
ومذهب الأخفش[269] والمبرّد[270] أنّها لا تجرّ؛ لأنّ الأخفش تأوّل ما وَرَدَ من ذلك / على أنّه من وَضْعِ الضميرِ المجرورِ موضعَ المرفوعِ، كقولهم: ما أنا [4أ] كأنتَ، ولا أنت كأنا، والمبرّد أنكره[271].
[لعل]
ومنها (لَعَلّ) في لغة عُقَيْلٍ[272] – مفتوحةَ اللام ومكسورتَها – نحو قوله:
27- فقلتُ: ادعُ أخرى وارفعِ الصوتَ تارةً لَعَلَّ أبي المغوار منك قريبُ[273]
وقوله:
28- لَعَلَّ اللهِ فضّلكم علينا بشيءٍ أنّ أمَّكُمُ شَرِيمُ[274]
وقيل[275]: هي غيرُ جارّةٍ، والمجرورُ بعدها بحرفٍ مقدّرٍ، واسمها ضميرُ شأنٍ محذوفٌ، أي: لَعَلَّهُ لأبي المغوار، وقيل[276]: المكسورةُ جارّةٌ دون المفتوحة.
[كي]
ومنها (كي)، وتجرّ (ما) في الاستفهام، نحو: كَيْمَهْ، أي: لِمَهْ؟، والاسم المأوّل بالمصدر فقط، نحو: جئت كي أقرأ، إذا أضمرت بعدها (أنْ)[277].
[متى]
ومنها (متى)، وسُمِعَ الجرُّ بها في لغة هُذَيْلٍ[278]، ومنه:
7- شرِبْنَ بماءِ البحرِ ثمَّ تَرَفَّعَتْ متى لُجَجٍ خُضرٍ لَهُنَّ نَئِيجُ[279]
أي: مِنْ لُجَجٍ.
[بَلْه]
ومنها (بَلْهَ) إذا جرّتْ، قاله أبو الحسن[280]، نحو:
29- بَلْهَ الأكُفِّ كأنّها لم تُخْلَقِ[281]
[مَعْ]
ومنها (مَعْ) إذا سكنتْ عينُها[282]، والصحيح أنّها ليست بحرفٍ كالمحرّكة العين[283].
النوع الثاني: الناصب فقط[284].
وهو أربعة:(/18)
(أنِ) المصدريّة، و(إذَنْ)، و(لَنْ)، و(كَيْ) في لغة من يقول:
لِكَيْ؛ فإنّها[285] تعمل ظاهرةً ومضمرةً في مواضع مخصوصة، وباقي أخواتها لا يعمل إلا ظاهراً.
وإضمارُها واجبٌ وجائزٌ.
فالواجب بعد ثلاثةٍ من حروف الجرّ، وهي: (كَيْ) الجارّة، ولام الجحود، و(حتّى).
وثلاثةٍ من حروف العطف، وهي: الفاء، والواو، في الأجوبة، و(أو) بمعنى (إلا).
فأمّا (كَيْ) فنحو: جئت كَيْ أقرأ، على لغة مَنْ يقول: كَيْمَهْ[286].
ولا يتعيّنُ إضمارُها بعد (كَيْ)؛ لاحتمال أن تكون (كَيْ) الناصبةَ بنفسها.
وأمّا لام الجحود فنحو: {ما كان الله ليذر}[287].
وشرطها أن تكون بعد كونٍ منفيِّ ماضٍ إمّا لفظاً ومعنًى[288]، نحو: ما كان، أو معنًى فقط، نحو: لم يكن[289]، وإلا كانت لام (كَيْ).
وهي عند الكوفيّين ناصبةٌ بنفسها، وزِيدتْ لتأكيد النفي، وعند البصريّين النصب بـ(أنِ) المضمرة بعدها[290]، وهي منويّةٌ للبعديّة، والخبرُ محذوفٌ، أي: ما كان الله مريداً لأن يذر.
وأمّا (حتّى) فللغاية، كقوله تعالى: {وزلزلوا حتّى يقول}[291].
وللتعليل [نحو]: أسلمتُ حتّى[292] أدخلَ الجنّةَ.
وليستْ ناصبةً بنفسها خلافاً لبعضهم[293]، ويجب نصبُ ما بعدها إنْ كانَ ما قبلها غيرَ مُوجَبٍ، نحو: ما سرتُ حتْى تطلعَ الشمسُ، خلافاً للأخفش[294] في جواز الرفع، أو موجباً غيرَ سببيٍّ[295] نحو: سرتُ [حتّى تطلعَ الشمسُ][296]، أو هي مع ما بعدها في موضعِ خبرٍ، نحو: كان سيري حتّى أدخلَ البلدَ[297]، فإنْ لم يكنْ في موضع خبرٍ جاز الرفعُ والنصبُ سواءً تطاولَ الفعلُ قبلها، نحو: سرتُ حتى أدخلَ، أو قَصُرَ، نحو: وَثَبْتُ / حتّى آخذَ بيدكَ، خلافاً للفرّاء[298] في وجوب الرفع في الثاني. [4ب]
ومهما كَثُرَ السببُ رَجَحَ الرّفْعُ، نحو: كَثُرَ ما سِرْتُ حتّى أدخلُ، ومهما قَلّ رَجَحَ النّصبُ، نحو: قلّما سرت حتّى أدخلَ[299].(/19)
فأمّا (الواو) و(الفاء) ففي جواب أمرٍ، سواء كان بصيغة فعلٍ أو مصدرٍ، نحو: اضربْ زيداً، أو: ضرباً زيداً، فتغضبَهُ، فإن كان اسمَ فعلٍ بمعنى الأمر فـ[ثلاثة مذاهب][300]:
ثالثها: إن كان مشتقْاً، كنزالِ، جاز النصب بعد الفاء، وإلا لم يجز، كـ: صه[301].
وفي جواب النهي[302]، كقوله تعالى: {لا تفتروا على الله كذباً فَيُسْحِتكم}[303].
أو الاستفهامِ، كقوله تعالى: {فهل لنا من شفعاءَ فيشفعوا لنا}[304].
أو التمنّي، كقوله تعالى: {يا ليتنا نردُّ ولا نكذِّبَ}[305].
أو الترجّي، كقوله تعالى: {لعلي أبلغُ الأسبابَ أسبابَ السمواتِ فأطّلعَ}[306].
أو التحضيض، نحو: هلا نزلتَ عندنا فنكرمَك، والعَرْضِ، نحو: ألا تنزل عندنا فنكرمَك.
أو الدعاءِ، نحو: غفر الله لزيد فيرحمَهُ[307]، وقيل: لا نَصْبَ بعده[308].
أو بعد فعلِ شكٍّ، نحو: حسبتُهُ يشتمني فأثِبَ عليه[309]، وفيه خلافٌ[310].
أو فِعْلِ شَرْطٍ، نحو:
30- ومَنْ لا يقدّمْ رِجْلَهُ مطمئنَّةً فَيُثْبِتَها في مستوى الأرض تَزْلَقِ[311]
ومن الجائز تقدّمُ لام (كَيْ) إذا لم تتصل[312] بها (لا)، نحو: جئتُ لأقرأ، فإن شئت: لأن.
فإنِ اتّصلتْ بها (لا) وَجَبَ إظهارُ (أن)، نحو: لئلا.
وبعد عاطِف فعلٍ على اسمٍ ملفوظٍ به، نحو: يعجبني قيامُ زيدٍ، ويخرجَ عمرٌو.
وما عداه هذه المواضع لا تعمل إلا مظهرةً إلا ما سُمِعَ، نحو: (تسمعَ بالمعيديّ خيرٌ من أن تراه)[313]، أي أنْ تسمعَ.
[لن]
وأما (لَنْ) فلنفي (سيفعل)، وهي بسيطةٌ وفاقاً لسيبويه[314]، لا مركبةٌ خلافاً للخليل[315].
ويجوز تقديمُ منصوب منصوبها عليها إذا لم يكن تمييزاً، نحو: زيداً لن أضربَ، ولا يجوز: عرقاً لن يتصبّبَ زيدٌ؛ لأنّه تمييزٌ، وحُكِيَ عن الأخفش[316] منعُ تقديمِ منصوبِ منصوبها عليها مطلقاً.
وحُكِيَ أيضاً الجزمُ بها[317]، وأنشدَ ابنُ الطراوةِ[318] عليه:
31- لن يَخِبِ الآن مِنْ رجائك مَنْ حرّك من دون بابك الحَلَقَهْ[319](/20)
[إذن]
وأما (إذَنْ) فجوابٌ وجزاءٌ، نحو: أزورك، فتقول: إذنْ أُحْسِنَ إليك، وقد تأتي جواباً فقط، نحو: أجيئك، فتقول: إذنْ أظنُّك صادقاً، وهي ناصبة بنفسها لا بـ (أنْ) مضمرة بعدها على الصحيح[320]. وشَرْطُها أنْ تكونَ مُصَدَّرَةً، والفعلُ بعدها مستقبلٌ، فإنْ كان حالاً لم تعملْ، نحو: إذن أكرمُك الآن، وإنْ لم تَصَدَّرْ، تأخرتْ نحو: أكرمك إذن، أو توسّطتْ، وما / قبلها مفتقرٌ إلى ما بعدها [5أ] كمبتدأ وخبر، نحو: أنا إذن أكرمُك، أو شرطٍ وجوابِه، نحو: إن تأتني إذن أكرمُك، أو قَسَمٍ وجوابِهِ، نحو: والله إذن أُحسنُ إليك، لم تعملْ أيضاً خلافاً التوسّط، وحُكِيَ[321] أنّ بعض العرب لا ينصب بها مطلقاً.
[كي]
وأمّا (كَيْ) فإن دخل عليها حرف الجرّ، نحو: (لكيّ) تعيّن أن تكون ناصبةً بنفسها خلافاً للكوفيّين[322]، وإنْ لم يدخل احتمل أن يكون مقدَّراً، فتكونَ ناصبةً بنفسها، أو لا، فيكونَ النصب بـ (أن) المضمرة بعدها.
النوع الثالث: الجوازم[323]
وهي على قسمين: جازمٍ لفعلٍ واحدٍ، وجازمٍ لفعلين.
والجازم لفعلٍ واحدٍ:
(لَمْ): وقد جاءتْ غيرَ جازمةٍ في الشِّعْرِ[324]، كقوله:
32- لولا فوارسُ من نُعْمٍ وأسرتُهُمْ يومَ الصُّلَيْفاءِ لم يُوفُونَ بالجارِ[325]
لنفي ماضٍ منقطعٍ.
و(لما): لنفي ماضٍ متّصلٍ بزمن الحال.
و(اللام): لأمرٍ، أو دعاءٍ.
و(لا): لنهيٍ، أو دعاءٍ.
والجازم لفعلين:
(إنْ)، و(إذما): على مذهب سيبويه[326]، خلافاً للمبرّد في أنّها ظرفُ زمانٍ أضيفَ إليها (ما)[327]. ولا تجزم إلا مع (ما) على المشهور[328].
وقد جزموا بـ (لو) في الشعر، وشاهده:
33- لو يشأ طارَ به ذو مَيْعَةٍ لاحِقُ الآطالِ نهدٌ ذو خُصَلْ[329]
وقوله:
34- لو تَعُذْ حينَ فَرَّ قَوْمُكَ بي كُنْتَ من الأمْنِ في أعَزِّ مَكانِ[330]
ويتضمّن معنى (إنْ) أسماءٌ، فَتَجْزِمُ، وجملٌ.
فالأسماء على قسمين: ظروف، وغير ظروف.(/21)
فغير الظروف: (ما)، و(مهما)، و(أيّ)، إذا لم تضف إلى زمان ولا مكان.
وأمّا (كيف) فلا تجزم عند سيبويه[331]، وأجازه الكوفيون[332]، واستكرهه الخليل[333].
والظرفُ زمانيّ، وهو: (متى)، و(أيّان)، و(أيّ)، و(حين)، و(إذا)، ولا يُجْزَمُ بها إلا في الشعر[334] خلافاً للكوفيّين في جوازه عندهم مطلقاً.
والمكانيّ: (أنّى)، و(أيّ)، و(حيثما)، و(أيّ مكان).
والجُمَلُ: الأمر، والنهي، والاستفهام، والتمنّي، والتحضيض، والعَرْضُ، والدعاء، فقيل: ضُمِّنَتْ معنى الشَّرْطِ، فَجَزَمَتْ[335]، وقيل[336]: جُمْلَةُ الشَّرْطِ مقدّرةٌ، والفعل مجزومٌ بها، وهذه لم تَجْزِمْ، فإذا قلتَ: قُمْ أكرمْك، فتقديره: إنْ تقْم أكرمْك.
النوع الرابع: الذي يعمل نصباً ورفعاً، وهو صنفان:
أحدهما: الذي ينصب المبتدأ، ويرفع الخبر، وهو:
(إنّ) و(أنّ): ومعناهما التأكيد.
و(ليت): ومعناها التمنّي في المُمْكِنِ وغيرِهِ.
و(لعلّ): ومعناها الترجي في المُمْكِنِ المحبوبِ، والإشفاقُ من المكروهِ، وَزِيدَ في معناها التعليلُ[337]، كقوله تعالى: {قولاً ليّناً لعلّه يتذكّر}[338]، والاستفهامُ، كقوله صلى الله عليه وسلم لبعض الأنصار: ((لعلّنا أعجلناك))[339].
و(كأنّ): ومعناها التشبيه، وقيل: التحقيق[340]، كقوله:
35- وأصبحَ بطنُ مكّةَ مُقْشَعِراً كأنَّ الأرضَ ليسَ بها هِشامُ[341]
وهي مُرَكَّبَةٌ من كاف التشبيه و(إنّ)، ثمّ صارا كحرف واحدٍ، فلا تتعلّق [5ب] الكافُ بشيءٍ[342]، ولا ما بعدها في موضعِ جرٍّ بها خلافاً لزاعمه[343].
و(لكنّ) ومعناها الاستدراك، وهي بسيطةٌ، لا مُركَّبَةٌ، خلافاً لزاعمه[344].
الصنف الثاني: الذي يرفع المبتدأ، وينصب الخبر، وهو:
(ما)، و(لا)، و(لات)، و(إنْ)، و(ليس) عند من يقول بحرفيتها[345].
[ما]
فـ (ما) عند الحجازيّين لا التميميّين[346] بشروط ثلاثة:(/22)
[أن][347] يتأخرَ خبرُها عن اسمِها، نحو: ما زيدٌ قائماً، فإنْ تقدّمَ لم تعملْ خلافاً للفرّاء[348].
وأنْ لا يُفْصَلَ بينها وبين اسمِها بـ (إنْ)، نحو: ما إنْ زيدٌ قائمٌ.
وأجاز الكوفيّون عملها وإن فُصِلَ[349].
وأنْ لا يكونَ خبرُها مُوْجَباً، نحو: ما زيدٌ إلا قائمٌ، ولم يَعْتَبِرْهُ يونس[350].
وأعْمَلَها الكوفيّون إذا كان الثاني مُنزَّلاً منزلةَ الأوّلِ، نحو: ما زيدٌ إلا زهيراً شعراً[351].
[لا]
وأمّا (لا) فشرطُها أيضاً تنكيرُ معمولِها، نحو: لا رجلٌ قائماً، وقيل: لا يُشْتَرَطُ[352]، وشاهده:
36- وحَلَّتْ سوادَ القلبِ لا أنا باغياً سِواها ولا في حبِّها مُتراخيا[353]
ونفي الخبرُ، وعَمَلُها عَمَلَ (ليس) قليلٌ، بخلاف (إنْ)، حتّى أنكره بعضهم[354]، وقال بعضهم[355]: تعمل عمل (ليس) في رفع الاسم خاصّةً، لا في نصب الخبر؛ لضعفها[356]، ودليل عملها[357] فيهما قوله:
37- تعزَّ فلا شيءٌ على الأرضِ باقياً ولا وَزَرٌ مما قضى اللهُ واقياً[358]
[لات]
وأمّا (لات) فتاؤها زائدةٌ، كـ (ثُمّتَ) و(رُبّتَ)، وقال ابن أبي الربيع[359]: ((إنّ أصلَها (لَيس)، فَقُلبتْ ياؤها ألفاً، وأُبْدِلَتْ سينُها تاءً)).
ويقوّي هذا قولُ سيبويه: إنّ اسمَها مضمرٌ فيها[360]، ولا يُضْمَرُ إلا في الأفعال.
وتختصّ بالحينِ أو مرادفِهِ، كقوله تعالى: {ولاتَ حينَ مناصٍ}[361]، وكقول رجلٍ من طيئٍ[362]:
38- نَدِمَ البُغاةُ ولاتَ ساعةَ مَنْدَمٍ والبغيُ مَرْتَعُ مُبْتَغِيهِ وَخِيمُ[363]
وغلب إضمارُ اسمها وإظهارُ خبرها، وقد يرفعون بها الاسم، ويحذفون الخبر، ومنه قراءة: {ولات حينُ مناصٍ} برفعه[364].
[إنْ]
وأمّا (إنِ) النافية فأكثر البصريّين أنّها لا تعمل عمل (إنّ)[365]، وَيُنْشَدُ على إعمالها:
39- إنْ هو مستولياً على أحدٍ إلا على أضعفِ المجانينِ[366]
الباب الثاني: في تقسيم الحروف بحسب ألقابها[367].
وتنتهي إلى خمسين، فمنها:
العطف، وحروفه:(/23)
(الواو): للجمع المطلق[368]، لا للترتيب، خلافاً لبعض الكوفيّين[369].
و(الفاء) للتعقيب، وقيل: تأتي لمطلق الجمع كالواو[370]، وقيل بذلك [6أ] في الأماكن[371]، نحو: نزل المطر بمكان كذا فكذا، وقيل: إنّها تأتي بمعنى (حتّى)[372]، كقوله تعالى: {فهم فيه شركاء}[373].
وقيل: إنّها تأتي زائدة[374]، وقد يصحبها معنى السبب، نحو: زنى ماعزٌ – رضي الله عنه[375] – فَرُجِمَ.
و(ثمّ): للمهلة، وقيل: تأتي لمطلق الجمع كالواو[376].
و(حتّى): لمطلق الجمع، كالواو، وقيل: للترتيب[377].
وشرطها: أن يكون ما بعدها جزءاً ممّا قبلها، نحو: قَدِمَ الحاجُّ حتّى المشاةُ، أو ملابِسَهُ، نحو: خرج الصيّادون حتّى كلابُهم.
وهذه الأربعةُ تشتركُ في الإعراب والمعنى.
و(أو) للشكِّ: نحو: جاء زيدٌ أو عمرٌو.
وللإبهامِ، كقوله تعالى: {أتاها أمرنا ليلاً أو نهاراً}[378].
أو للتفصيلِ[379]، كقوله تعالى: {وقالوا كونوا هوداً أو نصارى}[380].
أو للتخييرِ، نحو: خُذْ من مالي ديناراً أو درهماً.
أو للإباحةِ، نحو: جالِسِ الحسن[381] أو ابن سيرين[382].
ويجمع هذه أنّها لأحد الشيئين أو الأشياء.
وَزِيدَ (بمعنى الواو)[383]، كقول امرئ القيس[384]:
40- فَظَلَّ طُهاةُ اللحمِ مِنْ بَيْنِ مُنْضِجٍ صَفِيفَ شِواءٍ أو قَدِيرٍ مُعَجِّلِ[385]
وبمعنى (بل)، نحو:
41- بَدَتْ مِثْلَ قَرْنِ الشمسِ في رونقِ الضحى
وصورتِها أو أنتِ في العينِ أملحُ[386]
و(إمّا) المسبوقة بمثلها على مذهب الأكثر[387]، ومذهب أبي عليٍّ[388] وابنِ كيسانّ[389] أنّها ليستْ بعاطفةٍ، والعطفُ بالواو قبلها.
وتجيء لشكٍّ، أو إبهامٍ، أو تخييرٍ.
والأفصحُ كسرُ همزتِها، وجاء فتحها[390]، والأفصحُ أن تُستعمَلَ أيضاً مكرّرةً[391].
والفرق بينها وبين (أوْ) أنّ الكلام معها أوّلاً مبنيٌّ على الشكّ، بخلاف (أوْ)[392].
وهي و (أوْ) يشتركان في الإعراب، لا في المعنى، وقيل: وفي المعنى[393].(/24)
و(أم) المتصلة: وَشَرْطُها أن تتقدّمَ همزةُ استفهامٍ، ويليها مفردٌ، أو مقدّرٌ به، نحو: أزيدٌ عندك أم عمرو؟، و: أقام زيدٌ أم قعد؟ وإلا كانتْ منقطعةً.
ومعنى المتّصلةِ: أيّهما عندك ؟ وجوابُها يعتبر أحدهما.
ومعنى [المنقطعة][394]: (بَلْ) والهمزةُ معاً، وقيل: معنى (بَلْ)[395].
و(بَلْ): لإثبات الحُكْمِ للثاني دون الأوّل، نحو: قام زيدٌ بن عمروٌ، والنفيُ كالإيجابِ، نحو: ما قام زيدٌ بل عمروٌ، أي: قام، وذهب المبرّدُ[396] إلى أنّه يجوزُ أنْ يكونَ تقديرُهُ: بل ما قام.
و(لكنْ): ومعناها الاستدراكُ.
وَشَرْطُها: أن يتقدّمها نفيٌ، أو نهيٌ، نحو: ما قام زيدٌ لكنْ عمرٌو، ولا تضربْ زيداً لكنْ عَمْراً. ومذهبُ يونسَ[397] أنّها غيرُ عاطفةٍ، ويؤوّل ما بعدها على تقدير فعلٍ.
و(لا) لإخراجٍ من حُكْمِ الأوّلِ.
وَشَرْطُها أنْ يتقدّمَها إيجابٌ، أو أمرٌ، نحو: قام زيدٌ لا عمرٌو، واضربْ زيداً لا عَمْراً.
وفي العطفِ بها بعد الماضي خلاف[398]، وفي الصحيحِ جوازُهُ؛ لورودِهِ، نحو:
42- كأنَّ دِثاراً حَلَّقَتْ / بِلَبُونِهِ [6ب] عُقابُ تَنُوفَى لا عُقابُ القَواعِلِ[399]
وهذه الأربعةُ تشترك في الإعراب دون المعنى، وشرطُ العطفِ بها وقوعُ المفردِ بعدها.
وزاد الكوفيّون[400] في حروفه (ليس)، كقوله:
43- لَهَفي عليك لِلَهْفَةٍ من خائفٍ يبغي جوارك حين ليس مُجيرُ[401]
و(كيف)، و(أين)، [و] (هلا)[402]، كقولهم: ما أكلتُ لحماً، فكيف شحماً؟، وما يعجبني لحمٌ، فكيف شحمٌ ؟، جاء زيدٌ، فأين عمرٌو؟[403]، وهو عند أصحابنا متأوّل[404].
وزاد بعضهم[405] (أي) التفسيريّة الواقع بعدها مفردٌ، نحو: جاءني الضرغام، أي: الأسد.
ومنها النداء:
وحُرُوفُهُ: عند البصريّين[406] خمسةٌ: (يا)، و(أيا)، و(هيا)، و(أي)، وهي للبعيد مسافةً أو حكماً، والهمزة للقريب فقط، و(وا) للمندوب خاصّةً.(/25)
وذهب المبرّدُ إلى أنّ (يا) و(هيا) للبعيد، والهمزة للقريب، و(أي) للمتوسط، و(يا) للجميع. وزاد الكوفيّون[407] في نداءِ البعيد (آ)[408] و(آي)[409].
ومنها التحضيض:
وَحُرُوفُهُ أربعة[410]: (ألا)، و(هلا)، و(لولا)، و(لوما).
ولا يليها إلا الفعلُ أو معمولُهُ، نحو: هلا ضَربتَ زيداً، وهلا زيداً ضربتَ.
ومنها التنبيه:
وَحُرُوفُهُ[411]: (ألا)، و(أيا)، و(ها)، و(يا).
ومنها الردع: وحرفُهُ: (كلا)[412]، وقيل: إنّها بمعنى:
حقاً[413]، وقيل: بمعنى (سوف)[414]، وقيل: بمعنى (نَعَمْ)[415]، وقيل: تكون ردّاً لكلام قبلها، فيجوزُ الوقفُ عليها، وما بعدها استئنافٌ، ولصلة الكلام فهي بمنزلة (أي)[416]، وقيل: تكون ردّاً للكلام الأوّل، وبمعنى (ألا) الاستفتاحيّة[417].
ومنها التنفيس:
وَحُرُوفُهُ[418]: (سَوْف)، و(سَوْ)، و(سَفَ)، و(سَيْ)[419]: هذه مُقْتَطَعَةٌ من (سَوْفَ).
وأما السين فالأظهرُ أنّها غير مُقْتطَعَةٍ منها[420]، وكلّها تخلّصُ المضارعَ للاستقبال. و(سوف) أكثر تنفيساً من السين[421].
ومنها الجواب:
وَحُرُوفُهُ[422]: (نَعَمْ)، و(بلى)، و(أجَلْ)، و(إنّ) – بمعنى (نَعَمْ)[423] –، و(إيْ)، و(جَيْرِ)، وقيل: هي اسم[424].
ومنها الاستفهام:
وَحُرُوفُهُ[425]: الهمزة، و(هل)، و(أم) المتصلة.
وأمّا المنفصلة فمعناها الإضراب والاستفهام معاً، والإضراب إمّا إبطالٌ لما سَبَقَ، أو تركٌ له وأخْذٌ في غيره[426].
ومنها التَّوقُّعُ:
وحرفاه: (قد)، و(لعلّ).
وقيل في (قد)[427]: إنْ دخل على المضارع لفظاً ومعنّى فتوقّعٌ، وإنْ دخل على الماضي لفظاً ومعنًى، أو معنًى، فتحقيقٌ، نحو: قد قام زيدٌ، و {قد يعلمُ ما أنتم عليه}[428]، وقيل[429]: تقليلٌ مع الاستقبال، وتقريبٌ مع الماضي.
ومنها التعريف:
وحرفاه: (الْ)، وقيل: اللام وحدها[430]، ومرادِفُها، وهو / (أم)، كقوله [7أ] عليه الصلاة والسلام: (ليس من امبرِّ امصيامُ في امسفرِ)[431].
ومنها الاستثناء:(/26)
وَحُرُوفُهُ: (إلا)، و(حاشا) عند سيبويه[432]، و(خلا) و(عدا) إذا خُفِضَ ما بعدهما.
ومنها الفصل[433].
وصورتُهُ صورةُ ضميرٍ مرفوعٍ منفصلٍ، كـ: أنا، وأنت، وهو، وفروعها، وقيل: إنّه اسمٌ، ولا موضعَ له من الإعراب[434]، وقيل: له موضعٌ، ويتبعُ ما قبله[435]، وقيل: ما بعده[436].
ومنها التفسير:
وحرفاه[437]: (أنْ)، و(أيْ)، وَشَرْطُ إثباتِها بعد جملةٍ مُضمّنةٍ معنى القول، نحو: ناديتُهُ أنْ اضربْ زيداً، و(أي) تأتي تفسيراً للجملة وللمفرد، ويوافق ما بعدها لما قبلها في الإعراب، نحو: جاء الضرغامُ، أي: الأسدُ، ومن ثمّ قيل: إنّها حرفُ عطفٍ[438].
ومنها التفصيل:
وَحُرُوفُهُ: (إمّا)، و(أو) العاطفتان في أحد محاملهما[439]، كقوله تعالى: {كونوا هوداً أو نصارى}[440]، و(أمّا) الشرطيّة، نحو: أمّا زيدٌ فقائمٌ، وأمّا عمرٌو فجالسٌ، وليس لازماً لها[441].
ومنها المعيّة:
وَحُرُوفُهُ: (الواو) في باب المفعول معه، و(إلى) بمعنى (مع) على قول[442]، كقوله تعالى: {إلى المرافق}[443]، و(معْ) الساكنة العين على القول بحرفيّتها[444].
ومنها النفي:
وَحُرُوفُهُ: (ما)، و(لا)، و(لات)، و(إنْ)، و(لم)، و(لمّا)، و(لن)، و(ليس) على أنّها حرف[445].
ومنها النهي: وَحَرْفُهُ: (لا).
ومنها الأمر:
وحرفه: لامٌ مكسورةٌ داخلةٌ على المضارع جازمةٌ له، وبعض العرب يفتحها[446]، وإذا تقدّمها واوٌ، أو فاءٌ، أو (ثمّ)[447] جازَ تسكينُها، كقوله تعالى: {ثمّ لْيقضوا}[448]، {فَلْينظر}[449]، {ولْيطوّفوا}[450].
ومنها الشرط:
وَحُرُوفُهُ: (إنْ)، و(إذما)[451]، و(أمّا)، وزاد بعضهم (لو)[452]، و(لولا)[453].
ومنها الزيادة:(/27)
وحروفها: (إنْ)، و(أنْ)، [و(لا)][454]، و(ما)، و(مِنْ)، والباء، واللام، نحو: ما إنْ زيدٌ قائمٌ، وكقوله عزَّ وجلَّ: {فلمّا أنْ جاءَ البشيرُ}[455]، {ما مَنَعَكَ أنْ لا تَسْجُدَ}[456]، {فَبِمَا نَقْضِهم}[457]، {مالكُمْ مِنْ إلهٍ غَيْرُهُ}[458]، {وما ربُّك بِغافِلٍ}[459]، {إلا أنّهم ليأكلون}[460] بفتح أنّ[461].
ومنها التأنيث: وَحُرُوفُهُ: التاء، والألف المقصورة، أو الممدودة.
ومنها التأكيد: وَحُرُوفُهُ: (إنّ)، و(أنّ)، واللام، والنون شديدةً وخفيفةً، كقوله تعالى: {ليسجننّ وليكوننْ}[462].
ومنها الندبة: وَحَرْفُهُ الألف، نحو: وازيداه، والهاء التي تلحقه للوقف.
ومنها الخطاب: وحرفاه: الكاف في نحو: ذلك، وفي النَّجَاكَ[463]، وفي نحو: أرأيتَكَ، أبْصِرْكَ زيداً، وفروعها، والثاني: أنت.
ومنها التعجب: وحرفاه: لام الجرّ، نحو: يا لَلْعَجَبِ، ويلزمها في القَسَمِ[464]، والنافية، ولا يلزمها.
ومنها التشبيه: وحرفاه: الكاف، و(كأنّ)، مركّبةً منها ومن (إنّ)[465].
ومنها التمنّي: وَحَرْفُهُ (ليت). / [7ب]
ومنها الترجّي: وَحَرْفُهُ (لعلّ).
ومنها الاستدراك: وَحَرْفُهُ (لكنّ).
ومنها الغاية: وحرفاه: (حتّى)، و(إلى).
ومنها التقليل: وَحَرْفُهُ (رُبّ).
ومنها الابتداء: وَحُرُوفُهُ: (إنّ) وأخواتها إذا كفّت بـ(ما)، و(هل)، و(بل)، و(لكنْ)، و(حتّى) إذا وقعتْ بعدها جملةٌ، نحو: إنّما زيدٌ قائمٌ، وهل زيدٌ قائمٌ، وما زيدٌ لكنْ عمرٌو قائمٌ، وأكلتُ السمكةَ حتّى رأسُها مأكولٌ، وما قام زيدٌ، بل عمرٌو قائمٌ.
ومنها العِوَضُ: وَحَرْفُهُ (ما)، في نحو:
44- أبا خُراشةَ أمّا أنت ذا نفرٍ فإنّ قوميَ لم تأكلْهُمُ الضَّبُعُ[466]
أي: لأنْ كنتَ، فَحُذِفَتْ (كان)، وعُوِّضَتْ (ما)، ولذا لم يُجْمَعْ بينهما، وانفصل[467] الضميرُ، وصارتْ (ما) رافعةً له، ناصبةً للخبر، بحقِّ العوضيّة.
ومنها التحقيق: وَحرْفُهُ[468] (قد) مع الماضي.(/28)
ومنها الإضراب: وحرفاه: (بل)، و(أم) المنفصلة لكن مع الهمزة، وقيل: تقدّر بـ(بل) وحدها[469].
ومنها الدعاء: وَحَرْفُهُ (لا)، نحو: لا عَذَّبَ اللهُ زيداً، وزاد بعضُهُمْ (لَنْ)[470]، نحو: لن يرحمَ اللهُ زيداً.
ومنها كفٌ وتهيئةٌ:
وَحَرْفُهُ (ما)، وتلحق (إنَّ) وأخواتها، فإن جاءتْ بعدها جملةٌ اسميّةٌ فكافّةٌ، أي: مانعةٌ لها من العمل، وإن كانتْ فعليّةً فمهيِّئةٌ، وكذا (رُبَّ)، والكافُ على خلافٍ فيها[471].
ومنها التسوية:
وَحَرْفُهُ الهمزة، نحو: ما عليّ أقمتَ أم قعدتَ، ولا أدري أقامَ زيدٌ أم قعدَ، ولا يجيء الفعل بعدها إلا ماضياً.
ومنها التعدية: وحرفاه: الهمزة، والباء، نحو: أقَمْتُ زيداً، ومررتُ به.
ومنها التعليل:
وحَرُوُفُهُ: اللام، نحو: {ليحكمَ}[472]، و(مِنْ)، نحو: قمتُ من أجلِ عمرٍو، والباء، كقوله تعالى: {فبظلمٍ}[473]، و(كي)، نحو: جئت كي أكرمَك، و(حتّى)، نحو: وَثَبْتُ حتّى آخذَ بيده، و(في)، كما روي أنّ امرأة دخلتِ النارَ[474] في هرّةٍ[475]، أي: بسبب هِرّة.
ومنها المصدر:
وَحُرُوفُهُ: (أنْ)، و(أنّ)، و(كي) في أحد قسميها، و(ما) على أنّها حرفٌ[476]، و(الذي)، و(لو)، وفي مصدريّتها خلافٌ[477].
ومنها التقرير، وَحَرْفُهُ الهمزة، كقوله تعالى: {ألم نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ}[478].
ومنها التوبيخ: وَحَرْفُهُ (هلا)، نحو: هلا صليتَ.
ومنها الإيجاب:
وحرفاه: (إلا) بعد نفيٍ، أو نهيٍ، أو استفهامٍ، و(لمّا)، نحو: ما قامَ إلا زيدٌ، وهل يضربُ إلا زيدٌ؟ ولا يضربُ إلا زيدٌ، وكقوله تعالى: {إنْ كلُّ نَفْسٍ لمّا عَلَيها حافظ}[479].
ومنها العَرْضُ: وحرفُهُ (ألا)، نحو: ألا تنزلُ عندنا.
ومنها وجوب لوجوب:
وَحَرْفُهُ (لمّا) الجازمةُ وغيرُ المرادفة لـ(إلا)[480]، نحو: عمرٌو[481] لمّا قامَ زيدٌ قامَ زيدٌ، وذهب الفارسيُّ إلى أنّها ظرفٌ[482].
ومنها امتناع لامتناع:(/29)
وَحَرْفُهُ (لَوْ)، وعبارةُ سيبويه[483] فيها: حرفٌ لما كان سيقعُ[484] لوقوعِ غيرِهِ، وهو المطّردُ فيها[485].
ومنها امتناع لوجود: وحرفُهُ (لولا) غيرُ التحضيضيّة، نحو: لولا زيدٌ لأكرمتُك، ويلزمُ على عبارةِ سيبويهِ في (لو) أنْ تكونَ (لولا) حرفاً لما كان سيقعُ[486] لانتفاءِ ما قبله[487].
ومنها الإنكار:
وَحَرْفُهُ: ألِفٌ، أو واوٌ، أو ياءٌ مُرْدَفَةٌ بهاءِ سكتٍ، نحو: عَمْراه، لمن قال: رأيت عَمْراً، و: عَمْرُوه، لمن قال: [جاء عَمرٌو، و: عَمْرِيه، لمن قال][488] مررتُ بعمرٍو[489]، و: أزيدُ ِنيه[490]، لمن قال: [زيد][491].
[ومنها التذكّر:
وَحَرْفُهُ: ألِفٌ، أو واوٌ، أو ياءٌ، من جنس حركة ما تقف عليه، نحو: قالا][492]، ويقولو، [ومن العامي][493]، فإنْ كان آخرُهُ ساكناً، وهو حرفُ مدٍّ ولينٍ أُشْبِعَ مَدُّهُ، نحو: القاضي، وإلا كُسِرَ، وأُلْحِقَ الحرفَ، نحو: زيدِي، وقَدِي[494]، والله أعلم.
تمت معاني حروف العربيّة للشيخ الإمام العالم العلامة أبي إسحاق برهان الدين إبراهيم بن الشيخ الإمام أبي عبدالله شمس الدين محمّد بن إبراهيم النحويّ الصفاقسيّ القيسيّ المالكيّ [صاحب إعراب القرآن] – رحمه الله تعالى وسائر المسلمين أجمعين.
ثبت المصادر والمراجع:
- ائتلاف النصرة في اختلاف نحاة الكوفة والبصرة / لعبداللطيف بن أبي بكر الشَّرجيّ الزّبيديّ، تحقيق: د/ طارق الجنابي، ط1، سنة 1407هـ، عالم الكتب، بيروت.
- ابن الطراوة النحويّ للدكتور / عيّاد بن عيد الثبيتيّ، ط1، سنة 1403هـ، من مطبوعات نادي الطّائف الأدبيّ.
- أبو الحسن بن كيسان وآراؤه في النحو واللّغة / لعلي مزهر الياسريّ، من منشورات وزارة الثقافة والفنون بالعراق، سنة 1979م، دار الحريّة للطبّاعة، بغداد.(/30)
- أخبار النحويّين البصريّين / لأبي سعيد الحسن بن عبدالله السيرافيّ، ت368هـ، تحقيق: طه محمّد الزينيّ، ومحمّد عبدالمنعم خفاجيّ، ط1، سنة 1374هـ/ 1955م، مطبعة مصطفى البابيّ الحلبيّ، مصر.
- اختيارات ابن مالك النحويّة دراسةً وتقويماً / لمحمّد بن عليّ بن أحمد الحازميّ، سنة 1407هـ، رسالة ماجستير، كليّة اللغة العربيّة، جامعة الإمام محمّد بن سعود الإسلاميّة، الرياض.
- أدب الكاتب / لأبي محمّد عبدالله بن مسلم بن قتيبة الدينوريّ، ت276هـ، تحقيق: محمّد الداليّ، ط1، سنة 1402هـ، مؤسسة الرسالة، بيروت.
- ارتشاف الضَّرب من لسان العرب / لأبي حيّان محمّد بن يوسف النحويّ، ت754هـ، تحقيق: د/ مصطفى أحمد النمّاس، ط1، سنة 1404هـ/ 1409هـ، مطبعة المدنيّ، مصر.
- الأزهيّة في علم الحروف / لعليّ بن محمّد الهروي، ت415هـ، تحقيق: عبدالمعين الملوحيّ، دار المعارف للطباعة، دمشق، سنة 1402هـ.
- أسرار العربيّة / لأبي البركات عبدالرحمن بن محمّد الأنباري، ت577هـ، تحقيق: محمّد بهجة البيطار، من مطبوعات مجمع اللغة العربية بدمشق، سنة 1957م.
- الاشتقاق / لأبي بكر محمّد بن الحسن بن دريد، ت321هـ، تحقيق: عبدالسلام محمّد هارون، نشر مكتبة الخانجيّ بمصر.
- الإصابة في تمييز الصحابة / لأبي الفضل أحمد بن عليّ بن حجر العسقلانيّ، ت852هـ، تحقيق: د/ طه محمّد الزينيّ، ط1، مكتبة الكلّيّات الأزهريّة، مصر.
- الأصمعيّات / لأبي سعيد عبدالملك بن قريب الأصمعيّ، ت216هـ، تحقيق: أحمد محمّد شاكر، وعبدالسلام هارون، ط5، دار المعارف، مصر.
- الأصول في النحو / لمحمّد بن سهل النحوي المعروف بأبي بكر بن السّرّاج، تحقيق: عبدالحسين الفتليّ، ط1، سنة 1405هـ/ 1985م، مؤسسة الرسالة، بيروت.
- الأضداد / لمحمد بن القاسم الأنباري، 328هـ، تحقيق: محمّد أبو الفضل إبراهيم، مطبعة حكومة الكويت، سنة 1960م.(/31)
- إعراب القرآن / لأبي جعفر أحمد بن محمّد بن إسماعيل النّحّاس، ت338هـ، تحقيق: زهير غازي زاهد، مطبعة العاني، بغداد، سنة 1397هـ/ 1977م، من منشورات ديوان الأوقاف بالعراق.
- الأغاني / لأبي الفرج علي بن الحسين الأصفهانيّ، ت356هـ، دار صعب، بيروت.
- الإقناع في العروض وتخريج القوافي / للصاحب أبي قاسم إسماعيل بن عبّاد، ت385هـ، تحقيق: محمّد حسن آل ياسين، ط1، سنة 1379هـ، مطبعة المعارف، بغداد.
- أمالي ابن الشجري / لأبي السعادات هبة الله بن عليّ الحسنيّ العلويّ، ت542هـ، تحقيق: د/ محمود محمّد الطناحيّ، ط1، سنة 1413هـ/ 1992م، مطبعة المدنيّ. مصر.
- أمالي السهيليّ / لأبي القاسم عبدالرحمن بن عبدالله السهيليّ، ت581هـ، تحقيق: د/ محمّد إبراهيم البنّا، ط1، سنة 1390هـ، مطبعة السعادة، مصر.
- أمثال العرب / للمفضّل بن محمّد الضبّيّ، ت178هـ، تحقيق: د/ إحسان عبّاس، ط2، سنة 1403هـ، دار الرائد العربيّ، بيروت.
- إنباه الرواة على أنباه النحاة / لأبي الحسن علي بن يوسف القفطيّ، ت624هـ، تحقيق: محمّد أبو الفضل إبراهيم، مطابع الهيئة المصريّة العامّة للكتاب، سنة 1401هـ.
- الإنصاف في مسائل الخلاف / لأبي البركات عبدالرحمن بن محمّد الأنباريّ، ت577هـ، تحقيق: محمّد محيي الدين عبدالحميد، ط3، سنة 1953م، مطبعة حجازيّ، القاهرة.
- الأنوار ومحاسن الأشعار / لأبي الحسن عليّ بن محمّد بن المطهّر العدويّ المعروف بـ(الشمشاطيّ)، المتوفّى في القرن الرابع الهجريّ، تحقيق: د/ السيّد محمّد يوسف، مطبعة حكومة الكويت، الكويت، سنة 1397هـ.
- إيضاح الشعر / لأبي عليّ الحسن بن أحمد الفارسيّ، ت377هـ، تحقيق د/ حسن هنداويّ، ط1، سنة 1407هـ، دار القلم، دمشق.
- الإيضاح العضديّ / لأبي عليّ الحسن بن أحمد الفارسيّ، ت377هـ، تحقيق د/ حسن الشاذليّ فرهود، ط2، سنة 1408هـ، دار العلوم، الرياض.(/32)
- الإيضاح في شرح المفصّل / لأبي عمرو عثمان بن عمر بن الحاجب، ت646هـ، تحقيق: د/ موسى بنّاي العليليّ، سنة 1982م، مطبعة العاني، بغداد.
- البحر المحيط / لأبي حيّان محمّد بن يوسف الأندلسيّ النحويّ، ت754هـ، عناية عرفان العشّا حسونة، سنة 1412هـ، دار الفكر، بيروت.
- البرهان في علوم القرآن / لبدر الدين محمّد بن عبدالله الزركشيّ، ت794هـ، تحقيق: محمّد أبو الفضل إبراهيم، ط2، دار المعرفة، بيروت.
- البسيط في شرح جمل الزجّاجيّ / لعبيدالله بن أحمد بن عبيدالله الإشبيليّ، المعروف بـ(ابن أبي الربيع)، ت688هـ، تحقيق: د/ عيّاد بن عيد الثبيتيّ، ط1، سنة 1407هـ، دار الغرب الإسلاميّ بيروت.
- بغية الملتمس في تاريخ رجال أهل الأندلس / لأبي جعفر أحمد بن يحيى الضبّيّ، ت599هـ، دار الكتاب العربيّ، القاهرة، سنة 1967م.
- بغية الوعاة في طبقات اللغويّين والنحاة / لجلال الدين عبدالرحمن بن الكمال السيوطيّ، ت911هـ، تحقيق: أحمد زكي، دار الكتب المصريّة، القاهرة، سنة 1342هـ/ 1924م.
- البيان في غريب إعراب القرآن / لأبي البركات كمال الدين عبدالرحمن بن محمّد الأنباريّ، ت577هـ، الهيئة المصريّة العامّة للكتاب، سنة 1400هـ.
- تأويل مشكل القرآن / لأبي محمّد عبدالله بن مسلم بن قتيبة الدينوريّ، ت276هـ، نشر السيّد أحمد صقر، ط2، سنة 1973م، دار التراث، القاهرة.
- تاريخ بغداد / لأبي بكر أحمد بن علي الخطيب البغداديّ، ت463هـ، دار الكتاب العربيّ، بيروت.
- تاريخ العلماء النحويّين / لأبي المحاسن المفضّل بن محمّد التنوخيّ المعرّيّ، ت442هـ، تحقيق: د/ عبدالفتّاح الحلو، مطابع دار الهلال، الرياض، سنة 1401هـ.
- التبيان في إعراب القرآن / لأبي البقاء عبدالله بن الحسين العكبريّ، ت616هـ، تحقيق: عليّ محمّد البجاويّ، مطبعة عيسى البابيّ الحلبيّ، مصر.(/33)
- تخليص الشواهد وتلخيص الفوائد / لأبي محمّد جمال الدين عبدالله بن يوسف ابن هشام الأنصاريّ، ت671هـ، تحقيق: د/ عبّاس مصطفى الصالحيّ، ط1، 1406هـ، دار الكتاب العربيّ، بيروت.
- تذكرة النحاة / لأبي حيّان محمّد بن يوسف الأندلسيّ النحويّ، ت754هـ، تحقيق: د/ عفيف عبدالرحمن، ط1، سنة 1406هـ، مؤسسة الرسالة، بيروت.
- تسهيل الفوائد وتكميل المقاصد / لأبي عبدالله محمّد بن عبدالله بن مالك الطائيّ، ت672هـ، تحقيق: محمّد كامل بركات، سنة 1387هـ، دار الكتاب العربيّ، القاهرة.
- التصريح بمضمون التوضيح / لخالد بن عبدالله الأزهريّ، ت905هـ، دار الفكر، بيروت.
- تمثال الأمثال / لأبي المحاسن محمّد عليّ العبدريّ الشيبيّ، ت837هـ، تحقيق د/ أسعد ذبيان، ط1، سنة 1402هـ، دار المسيرة، بيروت.
- التمهيد في تنزيل الفروع على الأصول / لجمال الدين عبدالرحيم بن الحسن الإسنويّ، ت772هـ، ط1، سنة 1353هـ، المطبعة الماجديّة بمصر.
- تهذيب اللغة / لأبي منصور محمّد بن أحمد الأزهريّ، ت370هـ، تحقيق عبدالسلام هارون، الدار المصريّة، القاهرة، سنة 1964م/ 1976م.
- توضيح المقاصد والمسالك بشرح ألفيّة ابن مالك / لحسن بن قاسم المراديّ، ت749هـ، تحقيق: الدكتور / عبدالرحمن عليّ سليمان، ط2، مكتبة الكلّيّات الأزهريّة.
- التوطئة في النحو / لأبي عليّ عمر بن محمّد الشلوبين، تحقيق يوسف أحمد المطوّع، 1973م، دار التراث العربيّ، القاهرة.
- جامع الأصول في أحاديث الرسول / لأبي السعادات المبارك بن محمّد بن الأثير الجزريّ، 606هـ، تحقيق عبدالقادر الأرناؤوط، سنة 1389هـ، مكتبة الملاح.
- الجُمَلُ في النحو / لأبي القاسم عبدالرحمن بن إسحاق الزجّاجيّ، ت340هـ، تحقيق: د/ علي توفيق الحمد، ط1، سنة 1404هـ، مؤسّسة الرسالة، بيروت.(/34)
- جمهرة الأمثال / لأبي هلال الحسن بن عبدالله العسكريّ، ت بعد 395هـ، تحقيق: محمّد أبو الفضل إبراهيم، وعبدالمجيد قطامش، 1384هـ، المؤسّسة العربيّة، الحديثة، القاهرة.
- الجمهرة في اللغة / لأبي بكر محمّد بن الحسن الأزديّ، المعروف بـ((ابن دريد))، ت321هـ، مؤسسة الحلبيّ، القاهرة.
- الجنى الداني في حروف المعاني / لحسن بن قاسم المراديّ، ت749هـ، تحقيق: الدكتور/ طه محسن، ط1، مطابع دار الكتب، الموصل.
- جواهر الأدب في معرفة كلام العرب / لعلاء الدين الإربليّ، تحقيق: د/ حامد أحمد نيل، سنة 1404هـ، مطبعة السعادة، القاهرة.
- حاشية الصبّان على شرح الأشمونيّ على ألفيّة ابن مالك / لمحمّد بن عليّ الصبان، ت1206هـ، مطبعة عيسى البابي الحلبيّ بمصر.
- الحجّة للقرّاء السبعة / لأبي عليّ الحسن بن أحمد الفارسيّ، ت377هـ، تحقيق: بدر الدين قهوجيّ، وبشير جويجاتيّ، ط1، سنة 1404هـ، دار المأمون للتراث، دمشق.
- حذف من نسب قريش / لأبي فيد مؤرّج بن عمرو السدوسيّ، ت195هـ، تحقيق د/ صلاح الدين المنجّد، ط2، 1976م، دار الكتاب الجديد، بيروت.
- حروف المعاني / لأبي القاسم عبدالرحمن بن إسحاق الزجّاجيّ، ت340هـ، تحقيق د/ علي توفيق الحمد، ط1، سنة 1404هـ، مؤسّسة الرسالة، بيروت.
- الحماسة / لأبي تمام حبيب بن أوس الطائيّ، ت231هـ، تحقيق: د/ عبدالله بن عبدالرحيم العسيلان، نشر: جامعة الإمام محمّد بن سعود الإسلامية، دار الهلال، الرياض، سنة 1401هـ.
- الحماسة / لأبي السعادات هبة الله بن عليّ الشجريّ، ت542هـ، مجلس دائرة المعارف العثمانيّة، حيدر أباد الدكن، سنة 1345هـ.
- الحماسة البصريّة / لعليّ بن أبي الفرج بن الحسن البصريّ، ت نحو 658هـ، تحقيق: مختار الدين أحمد، ط3، سنة 1403هـ، عالم الكتب، بيروت.(/35)
- خزانة الأدب ولبّ لباب لسان العرب / لعبدالقادر بن عمر البغداديّ، ت 1093هـ، تحقيق: عبدالسلام هارون، ط2، سنة 1402هـ/ 1981م، مكتبة الخانجي، القاهرة.
- الخصائص / لأبي الفتح عثمان بن جنّي النحويّ، ت392هـ، تحقيق: محمّد عليّ النجّار، ط2، دار الهدى للطباعة والنشر، بيروت.
- درّة الحجال في أسماء الرجال / لأبي العبّاس أحمد بن محمّد المكناسيّ الشهير بابن القاضي، ت1025هـ، تحقيق: د/ محمّد الأحمدي أبو النور، دار التراث، القاهرة.
- الدرر الكامنة في أعيان المئة الثامنة / لأبي الفضل أحمد بن عليّ بن حجر العسقلانيّ، ت852هـ، تحقيق: محمّد سيّد جاد الحقّ، ط2، سنة 1385هـ، دار الكتب الحديثة، القاهرة.
- الدرر اللوامع على همع الهوامع / لأحمد بن الأمين الشنقيطيّ، ط2، سنة 1393هـ، دار المعرفة. بيروت.
- الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب / لأبي إسحاق إبراهيم بن عليّ بن فرحون، ت799هـ، تحقيق: د/ محمّد الأحمديّ أبو النور، دار التراث للطبع والنشر، القاهرة.
- ديوان الأعشى الكبير / تحقيق: د/ محمّد محمّد حسين، سنة 1950م، مكتبة الآداب، القاهرة.
- ديوان الأفوه الأوديّ، ضمن [الطرائف الأدبيّة] / لعبدالعزيز الميمنيّ، دار الكتب العلميّة، بيروت.
- ديوان امرئ القيس / تحقيق: محمّد أبو الفضل إبراهيم، ط3، دار المعارف بمصر.
- ديوان جرير / شرح محمّد بن حبيب، تحقيق: نعمان محمّد أمين طه، دار المعارف. مصر.
- ديوان حُمَيْدِ بن ثور الهلالي / تحقيق: عبدالعزيز الميمنيّ، الدار القوميّة للطباعة، القاهرة.
- ديوان ذي الرمّة / تحقيق: د/ عبدالقدوس أبو صالح، ط3، سنة 1414هـ/ 1993م، مؤسسة الرسالة، بيروت.
- ديوان رؤبة بن العجّاج / تصحيح: وليم بن الورد البروسي، ط2، سنة 1400هـ، دار الآفاق الجديدة، بيروت.
- ديوان العبّاس بن مرداس السلميّ / جمع وتحقيق: د/ يحيى الجبوريّ، ط1، سنة 1412هـ/ 1991م، مؤسسة الرسالة، بيروت.(/36)
- ديوان العجاج / تحقيق: عبدالحفيظ السطلي، المطبعة التعاونية، دمشق، سنة 1971م.
- ديوان علقمة الفحل / شرح: السيّد أحمد صقر، المكتبة المحموديّة التجاريّة، القاهرة، سنة 1353هـ.
- ديوان كعب بن مالك الأنصاريّ / تحقيق: سامي العاني، 1966م، مطبعة المعارف، بغداد.
- ديوان المتلمّس / نشر: حسن كامل الصيرفيّ، سنة 1970م، معهد المخطوطات العربيّة، القاهرة.
- ديوان النابغة الذبيانيّ / تحقيق: محمّد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف، مصر.
- ديوان الهذليّين / نشر الدار القوميّة للطباعة والنشر، القاهرة، سنة 1384هـ.
- ذيل الأمالي والنوادر / لآبي عليّ إسماعيل بن القاسم القاليّ، ت356هـ، دار الفكر، بيروت.
- الذيل والتكملة لكتابي الموصول والصلة / لأبي عبدالله محمّد بن محمّد المراكشيّ، ت476هـ، تحقيق: إحسان عبّاس، ومحمّد بن شريفة، سنة 1964م، دار الثقافة، بيروت.
- رصف المباني في شرح حروف المعاني / لأحمد بن عبدالنور المالقيّ، ت702هـ، ط2، سنة 1985م، دار العلم، دمشق.
- الروض الأنُفُ في شرح السيرة النبويّة / لأبي القاسم عبدالرحمن بن عبدالله السهيليّ، ت581هـ، تحقيق: عبدالرحمن الوكيل، سنة 1387هـ، دار الكتب الحديثة، القاهرة.
- سرّ صناعة الإعراب / لأبي الفتح عثمان بن جنّي، ت392هـ، تحقيق: أ. د/ حسن هنداويّ، ط1، سنة 1405هـ، دار القلم، دمشق.
- سير أعلام النبلاء / لأبي عبدالله محمّد بن أحمد الذهبيّ، ت748هـ، تحقيق: شعيب الأرناؤوط، ط2، سنة 1402هـ، مؤسسة الرسالة، بيروت.
- شجرة النور الزكيّة في طبقات المالكيّة / لمحمّد بن محمّد بن مخلوف، دار الكتاب العربيّ، بيروت، مصوّرة عن طبعة مصر سنة 1349هـ.
- شرح أبيات مغني اللبيب / لعبدالقادر بن عمر البغداديّ، ت1093هـ، تحقيق: عبدالعزيز رباح، وأحمد يوسف الدقّاق، ط1، سنة 1393هـ، مطبعة زيد بن ثابت، دمشق.(/37)
- شرح أشعار الهذليّين / لأبي سعيد الحسن بن الحسين السكّريّ، تحقيق: عبدالستّار أحمد فرّاج، مطبعة المدني – القاهرة.
- شرح الأشمونيّ على الألفية / لنور الدين علي بن محمد الأشمونيّ، ت918هـ، تحقيق / محمد محيي الدين عبدالحميد، دار الكتاب العربيّ، بيروت.
- شرح الألفيّة / لبهاء الدين عبدالله بن عبدالرحمن بن عقيل العقيليّ، ت769هـ، تحقيق: عبدالحميد السيّد محمّد عبدالحميد، دار الجيل، بيروت.
- شرح ألفيّة ابن مالك / لأبي عبدالله بدر الدين محمّد بن محمّد بن مالك، ت686هـ، تحقيق: محمّد محيي الدين عبدالحميد، ط15، سنة 1386هـ، دار الاتحاد العربيّ للطباعة، مصر.
- شرح ألفيّة ابن معطي / لأبي الفضل عبدالعزيز بن جمعة بن القوّاس الموصليّ، ت696هـ، تحقيق: د/ علي موسى الشومليّ، ط1، سنة 1405هـ، مطابع الفرزدق، الرياض.
- شرح التسهيل / لجمال الدين محمّد بن عبدالله بن مالك الطائيّ، ت672هـ، تحقيق: د/ عبدالرحمن السيّد، و د/ محمّد بدوي المختون، ط1، سنة 1410هـ، هجر للطباعة، القاهرة.
- شرح جُمَلِ الزّجّاجيّ / لعليّ بن مؤمن بن عصفور الإشبيليّ، ت669هـ، تحقيق د/ صاحب أبو جناح، سنة 1400هـ، مطابع مؤسسة دار الكتب، جامعة الموصل.
- شرح ديوان جرير / لمحمّد إسماعيل الصاوي، دار الأندلس، بيروت.
- شرح ديوان الحماسة / لأبي زكريّا يحيى بن عليّ التبريزيّ، ت502هـ، عالم الكتب، بيروت.
- شرح شعر زهير بن أبي سلمى / لأبي العبّاس أحمد بن يحيى ثعلب، ت291هـ، تحقيق: د/ فخر الدين قباوة، ط1، سنة 1402هـ، دار الآفاق الجديدة، بيروت.
- شرح شواهد المغني / لجلال الدين عبدالرحمن السيوطيّ، ت911هـ، دار مكتبة الحياة، بيروت.
- شرح القصائد التسع المشهورات / لأبي جعفر أحمد بن محمّد بن النحّاس، ت338هـ، تحقيق: أحمد خطّاب، سنة 1393هـ، دار الحرّيّة، بغداد.(/38)
- شرح القصائد السبع الطوال الجاهليّات / لأبي بكر محمّد بن القاسم الأنباريّ، ت328هـ، تحقيق: عبدالسلام هارون، ط4، سنة 1400هـ، دار المعارف، مصر.
- شرح الكافية الشافية / لأبي عبدالله محمّد بن عبدالله بن مالك الطائيّ، ت672هـ، تحقيق: د/ عبدالمنعم أحمد هريديّ، ط1، سنة 1402هـ، دار المأمون للتراث، دمشق، من منشورات مركز البحث العلميّ في جامعة أمّ القرى بمكّة المكرّمة.
- شرح الكافية في النحو / لرضيّ الدين محمّد بن الحسين الإستراباذيّ، ط2، 1399هـ، دار الكتب العلميّة، بيروت.
- شرح الكتاب / لأبي سعيد الحسن بن عبدالله السيرافيّ، ت368هـ، [مخطوط] مصوّرة في جامعة الإمام محمّد بن سعود الإسلاميّة محفوظة برقم (8863ف).
- شرح كلا وبلى ونَعمْ والوقف على كلِّ واحدةٍ منهنّ في كتاب الله عزّ وجلّ / لأبي محمّد مكيّ بن أبي طالب القيسيّ، ت437هـ، تحقيق: د/ أحمد حسن فرحات، ط1، سنة 1398هـ، دار المأمون للتراث، دمشق.
- شرح المفصّل / لموفّق الدين يعيش بن عليّ بن يعيش النحويّ، ت643هـ، عالم الكتب، بيروت.
- شرح النوويّ على صحيح مسلم / لأبي زكريّا يحيى بن شرف النوويّ، ت676هـ، دار الفكر، بيروت، سنة 1401هـ.
- شعر أبي حيّة النميري / جمع وتحقيق يحيى الجبوريّ، سنة 1975م، وزارة الثقافة والإرشاد القوميّ، دمشق.
- شعر الحارث بن خالد المخزوميّ / جمع: د/ يحيى الجبوريّ، ط2، سنة 1403هـ، دار القلم، الكويت.
- شعر عمرو بن أحمر الباهليّ / جمع وتحقيق حسين عطوان، سنة 1970م، مجمع اللغة العربيّة، دمشق.
- شعر مالك ومتمّم ابنّي نويرة / تحقيق: ابتسام مرهون الصفّار، سنة 1968م، مطبعة الإرشاد، بغداد.
- شعر النابغة الجعديّ / ط1، من منشورات المكتب الإسلاميّ.
- شعر يزيد بن الحكم (ضمن: شعراء أمويّون).
- شعراء أمويّون / للدكتور نوري القيسيّ، مطبوعات المجمع العلميّ العراقيّ، بغداد، سنة 1402هـ.(/39)
- الشعر والشعراء / لأبي محمّد عبدالله بن مسلم بن قتيبة الدينوريّ، ت276هـ، تحقيق: أحمد محمّد شاكر، ط3، سنة 1977م، دار التراث العربي.
- الصاحبيّ / لأبي الحسين أحمد بن فارس بن زكريّا، ت395هـ، تحقيق: السيّد أحمد صقر، مطبعة عيسى البابيّ الحلبيّ، القاهرة.
- صبح الأعشى / لأبي العبّاس أحمد بن عليّ القلقشنديّ، ت821هـ، مصوّرة عن الطبعة الأميريّة، نشر المؤسسة المصريّة العامّة للتأليف والترجمة والطباعة والنشر.
- الصحاح: تاج اللغة وصحاح العربيّة / لإسماعيل بن حماد الجوهري، ت393هـ، تحقيق: أحمد بن عبدالغفور عطار، ط2، سنة 1399هـ، دار العلم للملايين، بيروت.
- صحيح البخاريّ / لأبي عبدالله محمّد بن إسماعيل البخاريّ، ت256هـ، ط2، سنة 1402هـ، عالم الكتب، بيروت.
- صلة الصلة / لأبي جعفر أحمد بن إبراهيم بن الزبير، ت708هـ، تصحيح وتعليق: أ. ليفي بروفنسال، سنة 1937م، المطبعة الاقتصاديّة، الرباط.
- ضرائر الشعر / لأبي الحسن عليّ بن مؤمن الإشبيليّ، المعروف بـ(ابن عصفور)، ت669هـ، تحقيق: السيّد إبراهيم محمّد، ط1، سنة 1980م، دار الأندلس للطباعة والنشر، بيروت.
- ضرورة الشعر / لأبي سعيد الحسن بن عبدالله السيرافيّ، ت386هـ، تحقيق: د/ رمضان عبدالتوّاب، سنة 1405هـ، دار النهضة العربيّة للطباعة والنشر، بيروت.
- الضوء اللامع لأهل القرن التاسع / لأبي الخير محمّد بن عبدالرحمن السخاويّ، ت902هـ، دار مكتبة الحياة، بيروت.
- طبقات الشافعيّة الكبرى / لعبدالوهّاب بن عليّ السبكيّ، ت771هـ، تحقيق: د/ محمود محمّد الطناحيّ، وعبدالفتّاح الحلو، ط1، سنة 1383هـ، مطبعة عيسى البابيّ الحلبيّ.
- العين / لأبي عبدالرحمن الخليل بن أحمد الفراهيديّ، ت175هـ، تحقيق: د/ مهدي المخزوميّ، د/ إبراهيم السامرّائيّ، سنة 1406هـ/ 1985م، دار الحريّة، بغداد.(/40)
- الغرّة في شرح اللمع / لأبي محمّد سعيد بن المبارك بن الدهّان، ت569هـ، [مخطوط] مصوّرة عن نسخة (قليج علي) ذات الرقم 930، إستانبول، تركيا.
- الغرّة المخفيّة في شرح الدرّة الألفيّة / لأبي عبدالله أحمد بن الحسين الإربليّ الموصليّ، ت639هـ، تحقيق: حامد محمّد العبدليّ، ط1، مطبعة العاني، بغداد.
- غريب الحديث / لأبي عبيد القاسم بن سلام الهرويّ، ت223هـ، تحقيق: محمّد عظيم الدين، سنة 1979م، دار الكتاب العربيّ، بيروت.
- الفاخر / لأبي طالب المفضّل بن سلمة بن عاصم، ت291هـ، تحقيق: عبدالعليم الطحاويّ، سنة 1974م، الهيئة المصريّة العامّة للكتاب، القاهرة.
- فصل المقال في شرح كتاب الأمثال / لأبي عبيد عبدالله بن عبدالعزيز البكريّ، ت487هـ، تحقيق: د/ إحسان عبّاس، و د/ عبدالمجيد عابدين، ط3، سنة 1403هـ، مؤسّسة الرسالة، بيروت.
- فوات الوفيات والذيل عليهما / لمحمّد بن شاكر الكتبيّ، ت674هـ، تحقيق: د/ إحسان عبّاس، دار صادر، بيروت.
- القاموس المحيط / لمجد الدين محمّد بن يعقوب الفيروزآباديّ، ت817هـ، تحقيق مكتب تحقيق التراث في مؤسّسة الرسالة، ط3، سنة 1413هـ، مؤسسة الرسالة، بيروت.
- الكامل / لأبي العبّاس محمّد بن يزيد المبرّد، ت285هـ، تحقيق: محمّد أحمد الدالي، ط1، سنة 1406هـ/ 1986م، مؤسسة الرسالة، بيروت.
- الكتاب / لأبي بشر عمرو بن عثمان بن قنبر المعروف بسيبويه، ت180هـ، المطبعة الكبرى الأميرية ببولاق، سنة 1316هـ.
- الكتاب / لأبي بشر عمرو بن عثمان بن قنبر المعروف بسيبويه، ت180هـ، تحقيق: عبدالسلام هارون، سنة 1977م، الهيئة المصريّة العامّة للكتاب.
- كتاب الأمثال / لأبي عبيد القاسم بن سلام، ت223هـ، تحقيق: د/ عبدالمجيد قطامش، دار المأمون للتراث، دمشق.
- الكشّاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل / لأبي القاسم محمود بن عمر الزمخشريّ، ت538هـ، دار المعرفة، بيروت.(/41)
- الكوكب الدرّيّ فيما يتخرّج على الأصول النحويّة من الفروع الفقهيّة / لجمال الدين عبدالرحيم بن الحسن الإسنويّ، ت772هـ، تحقيق: د/ محمّد حسن عوّاد، ط1، سنة 1405هـ، دار عمّار للنشر والتوزيع، عمّان، الأردن.
- اللامات / لأبي القاسم عبدالرحمن بن إسحاق الزّجّاجيّ، ت337هـ، تحقيق: د/ مازن المبارك، سنة 1389هـ، مجمع اللغة العربيّة، دمشق.
- لسان العرب / لأبي الفضل محمَّد بن مكرم بن منظور، ت711هـ، القاهرة، المطبعة الكبرى الميريَّة، سنة 1300- 1307هـ.
- اللمع في العربيّة / لأبي الفتح عثمان بن جنّي النحويّ، ت392هـ، تحقيق: د/ فائز فارس، دار الكتب الثقافيّة، الكويت.
- مجاز القرآن / لأبي عبيدة معمر بن المثنّى التميميّ، ت201هـ، تعليق: د/ فؤاد سيزكين، نشر مكتبة الخانجيّ بمصر.
- مجالس ثعلب / لأبي العبّاس أحمد بن يحيى ثعلب، ت291هـ، تحقيق: عبد السلام هارون، دار المعارف بمصر.
- مجمع الأمثال / لأبي الفضل أحمد بن محمّد الميدانيّ، ت518هـ، تحقيق: محمّد محيي الدين عبدالحميد، سنة 1374هـ، مطبعة السنّة المحمّديّة، القاهرة.
- مجمع البيان في تفسير القرآن / لأبي عليّ الفضل بن الحسن الطبرسيّ، ت548هـ، دار مكتبة الحياة، بيروت، سنة 1380هـ.
- المحتسب في تبين شواذ القراءات / لأبي الفتح عثمان بن جنّي، ت392هـ، تحقيق: علي النّجديّ ناصف، وعبدالفتّاح شلبيّ، سنة 1389هـ، المجلس الأعلى للشؤون الإسلاميّة.
- المُحْكَم والمحيط الأعظم / لأبي الحسن عليّ بن إسماعيل الأندلسيّ، المعروف بـ((ابن سيده)) ت458هـ، تحقيق: مصطفى السقّا وزملائه، مكتبة مصطفى البابيّ الحلبيّ، القاهرة، سنة 1378هـ.
- مختارات شعراء العرب / لهبة الله بن عليّ الشجريّ، ت542هـ، تحقيق: عليّ محمّد البجاويّ، دار نهضة مصر، القاهرة.
- مراتب النحويّين / لأبي الطيّب عبدالواحد بن عليّ اللغويّ، ت351هـ، تحقيق: محمّد أبو الفضل إبراهيم، ط2، دار نهضة مصر، القاهرة.(/42)
- المسائل البصريّات / لأبي عليّ الحسن بن أحمد الفارسيّ، ت377هـ، تحقيق د/ محمّد الشاطر أحمد محمّد أحمد، ط1، سنة 1405هـ.
- المسائل الحلبيّات / لأبي عليّ الحسن بن أحمد الفارسيّ، ت377هـ، تحقيق د/ حسن هنداويّ، ط1، سنة 1407هـ، دار العلم، دمشق.
- المسائل العضديّات / لأبي عليّ الحسن بن أحمد الفارسيّ، ت377هـ، تحقيق: د/ علي جابر المنصوريّ، ط1، سنة 1406هـ، عالم الكتب، بيروت.
- المسائل المشكلة، المعروفة بالبغداديّات / لأبي عليّ الحسن بن أحمد الفارسيّ، ت377هـ، تحقيق صلاح الدين عبدالله السنكاويّ، منشورات وزارة الأوقاف العراقيّة، مطبعة العاني، بغداد.
- المسائل المنثورة / لأبي عليّ الحسن بن أحمد الفارسيّ، ت377هـ، تحقيق مصطفى الحدريّ، مطبوعات مجمع اللغة العربيّة، دمشق.
- المسائل والأجوبة في الحديث واللغة / لأبي محمّد عبدالله بن مسلم بن قتيبة الدينوريّ، ت276هـ مكتبة القدسيّ، القاهرة، سنة 1349هـ.
- المستقصى في أمثال العرب / لأبي القاسم محمود بن عمر الزمخشريّ، ت538هـ، ط2، سنة 1397هـ، دار الكتب العلميّة، بيروت.
- معاني الحروف / المنسوب لأبي الحسن عليّ بن عيسى الرمّانيّ[495]، ت384هـ، تحقيق: د/ عبدالفتّاح إسماعيل شلبيّ، دار نهضة مصر. القاهرة.
- معاني القرآن / لأبي الحسن سعيد بن مسعدة الأخفش، ت215هـ، تحقيق: د/ هدى محمود قرّاعة، ط1، سنة 1411هـ، مطبعة المدني، القاهرة.
- معاني القرآن / لأبي زكريّا يحيى بن زياد الفرّاء، ت207هـ، ط2، سنة 1980م، عالم الكتب، بيروت.
- معاني القرآن وإعرابه / لأبي إسحاق إبراهيم بن السريّ بن سهل الزّجّاج، ت311هـ، تحقيق د/ عبدالجليل عبده شلبيّ، ط1، سنة 1408هـ، عالم الكتب، بيروت.
- معجم قبائل العرب القديمة والحديثة / لعمر رضا كحّالة، ط3، سنة 1402هـ، مؤسسة الرسالة، بيروت.
- معجم المؤلّفين / لعمر رضا كحّالة، دار إحياء التراث العربيّ، بيروت.(/43)
- مغني اللبيب عن كتب الأعاريب / لجمال الدين عبدالله بن يوسف بن هشام الأنصاريّ، ت761هـ، تحقيق: د/ مازن المبارك، ومحمّد عليّ حمد الله، ط5، سنة 1979م، دار الفكر، بيروت.
- المفصّل في علم العربيّة / لأبي القاسم محمود بن عمر الزمخشريّ، ت538هـ، دار الجيل، بيروت.
- المفضّليّات / للمفضّل بن محمّد الضبّيّ، ت178هـ، تحقيق: أحمد محمّد شاكر، وعبدالسلام هارون، ط6، دار المعارف، مصر.
- المقاصد النحويّة في شرح شواهد شروح الألفيّة / لأبي محمّد محمود بن أحمد العينيّ، ت855هـ، بهامش خزانة الأدب، طبعة بولاق.
- المقتضب / لأبي العبّاس محمّد بن يزيد المبرّد، ت285هـ، تحقيق: د/ محمّد عبدالخالق عضيمة رحمه الله، عالم الكتب، بيروت.
- المقدّمة الجزوليّة في النحو / لأبي موسى عيسى بن عبدالعزيز الجزوليّ، ت607هـ، تحقيق د/ شعبان عبدالوهّاب محمّد، ط1، سنة 1408هـ، أمّ القرى للطبع والنشر والتوزيع، القاهرة.
- الملخّص في ضبط قوانين العربيّة / لأبي الحسين عبيدالله بن أحمد بن أبي الربيع الإشبيليّ، ت688هـ، تحقيق د/ علي بن سلطان الحكميّ، ط1، سنة 1405هـ.
- منهج السالك في الكلام على ألفيّة ابن مالك / لأبي حيّان محمّد بن يوسف النحويّ، ت754هـ، تحقيق: سدني جليزر، سنة 1947م، نيوهافن.
- النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة / لأبي المحاسن جمال الدين يوسف بن عبدالله بن تغري بردي، ت874هـ، مطابع كوستا توماس، القاهرة.
- النكت الحسان في شرح غاية الإحسان / لأبي حيّان محمّد بن يوسف الأندلسيّ النحويّ، ت754هـ، ط1، سنة 1405هـ، مؤسسة الرسالة، بيروت.
- النوادر في اللغة / لأبي زيد سعيد بن أوس الأنصاريّ، ت215هـ، تحقيق: د/ محمّد عبدالقادر أحمد، ط1، سنة 1401هـ، دار الشروق، بيروت.
- نيل الابتهاج بتطريز الديباج / لأبي العبّاس أحمد بن أحمد بن أحمد بن عمر التنبكتيّ، ت1036هـ، ط1، سنة 1351هـ، مصر (بهامش كتاب الديباج المذهب في معرفة أعيان المذهب).(/44)
- هديّة العارفين أسماء المؤلّفين وآثار المصنّفين / لإسماعيل باشا البغداديّ، ط: سنة 1955م، مكتبة المثنّى، بيروت.
- هشام بن معاوية الضرير / لتركي بن سهو العتيبيّ، رسالة ماجستير، سنة 1405هـ. كليّة اللغة العربيّة، جامعة الإمام محمّد بن سعود الإسلاميّة، الرياض.
- همع الهوامع، شرح جمع الجوامع / لجلال الدين عبدالرحمن بن أبي بكر السيوطيّ، ت911هـ، تحقيق: د/ عبدالعال سالم مكرم، سنة 1400هـ/ 1980م، دار البحوث العلميّة، الكويت.
- الوافي بالوفيات / لصلاح الدين خليل بن أيبك الصفديّ، ت764هـ، باعتناء س. ديدرنغ، ط2، سنة 1394هـ، فرانز شتايز فيسبادن.
- وفيات الأعيان وأنباء الزمان / لأبي العبّاس أحمدْ بن محمّد بن خلّكان، ت681هـ، تحقيق: د/ إحسان عبّاس، دار صادر، بيروت.
---
[1] الدرر الكامنة في أعيان المئة الثامنة 1/57، الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب، لابن فرحون المالكيّ: 1/279- 280، شجرة النور الزكيّة 209.
[2] الدرر الكامنة في أعيان المئة الثامنة 1/57، شجرة النور الزكيّة 209.
[3] الدرر الكامنة 1/57.
[4] ذكره ابن حجر في كتابه: الدرر الكامنة في أعيان المئة الثامنة 1/57.
[5] ترجمته في: درّة الحجال في أسماء الرجال 3/9.
[6] ذكره ابن فرحون في: الديباج المذهب في أعيان المذهب 1/280.
[7] ترجمته في: درّة الحجال 3/117- 118.
[8] ذكره ابن حجر في: الدرر الكامنة 1/57.
[9] ترجمته في: الدرر الكامنة 1/487.
[10] ذكره ابن حجر في: الدرر الكامنة 1/57.
[11] ترجمته في: الدرر الكامنة 1/459.
[12] ذكره ابن مرزوق في: نيل الابتهاج بتطريز الديباج 39.
[13] ترجمته في: الدرر الكامنة 4/3- 6.
[14] ذكرها ابن حجر في: الدرر الكامنة 1/57.
[15] ترجمتها في: الدرر الكامنة 2/117.
[16] ذكره ابن حجر في: الدرر الكامنة 1/57.
[17] ترجمته في: الدرر الكامنة 4/457- 461.
[18] ذكره ابن حجر في: الدرر الكامنة 1/57.(/45)
[19] ترجمته في: الدرر الكامنة 4/302.
[20] الدرر الكامنة 1/57.
[21] نيل الابتهاج بتطريز الديباج: 40.
[22] ص 40.
[23] الوافي بالوفيات: 6/138.
[24] ص 40.
[25] الديباج المذهب: 1/279.
[26] ص 40.
[27] ترجمته في: الضوء اللامع: 4/152.
[28] هو: محمّد بن أحمد بن محمّد بن محمد بن عليّ بن غازي العثمانيّ المكناسيّ الفاسيّ، المتوفّى سنة 919هـ. انظر: (معجم المؤلّفين 9/16).
[29] هديّة العارفين 2/226.
[30] ص 504.
[31] الديباج المذهب 1/279.
[32] ترجمه في: الوافي بالوفيات: 1/270.
[33] الدرر الكامنة في أعيان المئة الثامنة 1/57، بغية الوعاة 1/425، نيل الابتهاج بتطريز الديباج 40.
[34] النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة 10/98.
[35] شجرة النور الزكيّة 209.
[36] النجوم الزاهرة 10/98.
[37] انظر: النصّ المحقّق: ص26- 55.
[38] انظر: النصّ المحقّق: ص55- 62.
[39] انظر: النصّ المحقّق: ص62- 65.
[40] انظر: النصّ المحقّق: ص65- 70.
[41] انظر: النصّ المحقّق: ص25.
[42] انظر: النصّ المحقّق: ص53.
[43] انظر: النصّ المحقّق: ص70- 87.
[44] انظر: النصّ المحقّق: ص27، 34، 40، 42، 49، 52، 60، 63، 64، 68، 69، 79، 86، 87.
[45] انظر: النصّ المحقّق: ص34، 40، 53، 63، 74، 76.
[46] انظر: النصّ المحقّق: ص29، 45، 53، 55، 57، 60.
[47] انظر: النصّ المحقّق: ص35، 40، 72، 86.
[48] انظر: النصّ المحقّق: ص23، 44، 57.
[49] انظر: النصّ المحقّق: ص60، 64.
[50] انظر: النصّ المحقّق: ص67، 74.
[51] انظر: النصّ المحقّق: ص46، 50.
[52] انظر: النصّ المحقّق: ص36، 68.
[53] انظر: النصّ المحقّق: ص46، 61.
[54] انظر: النصّ المحقّق: ص35.
[55] انظر: النصّ المحقّق: ص30.
[56] انظر: النصّ المحقّق: ص73.
[57] انظر: النصّ المحقّق: ص40.
[58] انظر: النصّ المحقّق: ص36.(/46)
[59] انظر: النصّ المحقّق: ص30، 31، 32، 35، 39، 41، 43، 44، 45، 46، 47، 48، 52، 53، 54، 59، 61، 62، 63، 64، 66، 67، 68، 69، 70، 72، 74، 75، 83.
[60] انظر: النصّ المحقّق: ص37.
[61] انظر: النصّ المحقّق: ص32، 33، 36، 55.
[62] انظر: النصّ المحقّق: ص35، 36، 40، 42، 51.
[63] انظر: النصّ المحقّق: ص44، 49، 51، 60.
[64] انظر: النصّ المحقّق: ص65، 79، 85.
[65] غير واضحة في المخطوطة.
[66] الجنى الداني 92.
[67] في المخطوطة: وهي.
[68] عُقَيْلٌ: بَطْنٌ من عامر بن صعصعة، وأبوهم: عُقَيلُ بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة، كانت مساكنهم في البحرين، ثمَ هاجروا إلى العراق.
انظر: الاشتقاق لابن دريد 182، صبح الأعشى 1/341، معجم قبائل العرب القديمة والحديثة 2/801.
[69] أي: لابتداء الغاية في المكان، أمّا دلالتها على ابتداء الغاية في الزمان فمسألة خلافيّة، منعها البصريّون، وأجازها الكوفيّون، واِختار رأيهم ابن مالك.
انظر: الإنصاف في مسائل الخلاف 1/270- 276، أسرار العربيّة 272، الجنى الداني 314- 315، مغني اللبيب 419- 420، ائتلاف النصرة في اختلاف نحاة الكوفة والبصرة 142 – 144، اختيارات ابن مالك النحويّة 115 – 121.
[70] الإسراء 1.
[71] البقرة 8، 165، 204، 207، الحجّ 3، 8، 11، العنكبوت 10، لقمان 6، 20، فاطر 28.
[72] يفهم من كلام سيبويه دلالتها على التبعيض في هذا المثال حيث قال في (الكتاب 2/307): ((إنّما أراد أن يفضلّه على بعضٍ، ولا يعمّ)).
[73] في هامش المخطوطة: ((كأنّه قال: جاوز زيدُ عمراً في الفضل أو الانحطاط.
قلتُ: اخْتُلِفَ في (مِن) المصاحبة لأفعل التفضيل، قال المبردَ والأخفش الصغير وجماعة: (مِنْ) لابتداء الغاية، ولا تفيد معنى التبعيض، وصحّحه ابن عصفور، وذهب سيبويه إلى أنّها لابتداء الغاية، ولا تخلو من التبعيض، وذهب ابن ولاد إلى أنّها لا تكون بعده لابتداء الغاية.(/47)
انظر: الإرتشاف 2/441 – 442، الجنى الداني للمراديّ 216- 317.
وأقول: وافق الأخفشُ الصغيرُ المبرّدَ في رأيه، وأنكر ابن ولاد كونها لابتداء الغاية بعد (أفعل التفضيل)، وذهب ابن مالك إلى أنّها للمجاوزة، واختار ذلك ابن هشام.
انظر: المقتضب 1/44، شرح التسهيل 3/134، المغني 423، ارتشاف الضرب 2/441 – 442.
[74] الحجّ 30.
[75] في (الجنى الداني 315): ((وأنكره أكثر المغاربة، وقالوا: هي في قوله: (من الأوثان) لابتداء الغاية وانتهائها: لأن الرجس ليس هو ذاتها، فـ(مِنْ) في الآية كـ(مِنْ) في نحو: أخذته من التابوت)).
[76] تأويل مشكل القرآن: 578.
[77] قريش 4.
[78] انظر: البرهان في علوم القرآن للزركشيّ: 4/420.
وسيبويه: هو إمام النحاة عمرو بن عثمان بن قنبر، أبو بشر، المتوفّى سنة 180هـ على القول الأصحّ. ترجمته في: تاريخ العلماء النحويّين 90، إنباه الرواة على أنباه النحاة 2/346.
[79] معاني الحروف المنسوب للرمّانيّ: 98.
[80] ذكر ذلك المراديّ في (الجنى الداني 318)، وفي (المغني 425) نسبه ابن هشام لسيبويه، وانظر: الكتاب 2/308، والارتشاف 2/442.
[81] البقرة 19.
[82] البقرة 220. وهذا رأي ابن مالك (شرح التسهيل 3/127، والمغني 425) ويرى أبو حيّان أنّ الفعل (يعلم) ضمنَ معنى فعل آخر، فالتقدير: والله يميز بعلمه المفسد من المصلح. انظر: البحر المحيط 2/414.
[83] تأويل مشكل القرآن: 577.
[84] الأنبياء 77، وجعلها في الآية للاستعلاء هو قول أبي عبيدة. انظر: البسيط للواحديّ 5/227، البحر المحيط 7/454. ونُسِبَ إلى الأخفش تأويلها على تضمين الفعل معنى فعلٍ آخر، فقدّرها بـ(منعناه بالنصر من القوم)، وما في كتابه (معاني القرآن 1/50، 141) يخالفه، حيث جعل (من) بمعنى (على). انظر: شرح التسهيل 2/136- 137، الارتشاف 2/442، الجنى الداني 318، التصريح بمضمون التوضيح 2/10.
[85] الزخرف 60.
[86] تأويل مشكل القرآن: 576.(/48)
[87] فاطر 40. ذكر ذلك أبو حيّان في (البحر المحيط 1/66)، وهو منقولُ عن الكوفيّين. انظر: شرح التسهيل 3/137، الارتشاف 2/443، الجنى الداني 319، المغني 424.
[88] تأويل مشكل القرآن: 576.
[89] الشورى 45.
[90] إنابة بعض حروف الجرّ عن بعض هو مذهب الكوفيّين وأبي عبيدة والأخفش وابن قتيبة والمبرّد وأكثر النحاة المتأخرين.
انظر: معاني القرآن للفراء 1/63، مجاز القرآن لأبي عبيدة 1/324، معاني القرآن للأخفش 1/46، تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة 567، المقتضب 2/318، شرح القصائد السبع الطوال 35، الخصائص 2/306، التوطئة للشلوبين 345، شرح الجمل لابن عصفور 1/493، الارتشاف 2/427، الجنى الداني 104، المغني 104.
[91] انظر: معاني القرآن وإعرابه 1/416، الإنصاف 2/481، الارتشاف 2/435، الجنى الداني 108، المغني 142، ائتلاف النصرة في اختلاف نحاة الكوفة والبصرة 141.
[92] زيادة يقتضيها الكلام بعده، وانظر: الجنى الداني 320، المغني 425.
[93] أي: في اشتراط كون النكرة عامّة نظرٌ، قال المرادي في (الجنى الداني 322): ((لأنّها قد تزاد مع النكرة التي ليست من ألفاظ العموم... والظاهر أنّ مراده أن تكون النكرة مراداً بها العموم: فإنّ (مِنْ) لا تزاد مع نكرة يراد بها نفي واحدٍ من الجنس)).
[94] الأولّ: ما جاء من رجل، والثاني: ما قام من أحد.
[95] هذا قول سيبويه (الكتاب 2/307)، وانظر: الارتشاف 2/445- 446.
[96] الجنى الداني 320.
[97] شرح الجمل لابن عصفور 1/485، شرح الكافية للرضيّ 2/319، رصف المباني 391، الارتشاف 2/444، الجنى الداني 221، المغني 428.
[98] وهو مذهب الكسائيّ وهشام بن معاوية الضرير أيضاً.
انظر: معاني القرآن للأخفش 1/98، المسائل البصريّات 1/247، شرح التسهيل 3/139، الارتشاف 2/444، الجنى الداني 321، المغني 428.(/49)
والأخفش هو: سعيد بن مسعدة المجاشعيّ، المتوفىّ سنة 215هـ. ترجمته في: تاريخ العلماء النحويّين 85، بغية الوعاة 1/590.
[99] الأعراف 59، 65، 73، 85، هود 50، 61، 84، المؤمنون 23، 32.
[100] المائدة 19.
[101] الملك 3.
[102] فاطر 3.
[103] الملك 3.
[104] أجاز ذلك الفارسيّ. انظر: المغني 425، 435.
[105] الجنى الداني 319.
[106] شرح الكتاب 4/43 ب، ووافقه الأعلم وابن طاهر وابن خروف. (الارتشاف 2/443)، وانظر: المقتضب 4/174، وأمالي السهيليّ 52- 53. والسيرافيّ هو: الحسن بن عبدالله بن المرزبان، أبو سعيد السيرافيّ، المتوفىّ سنة 368هـ. ترجمته في: تاريخ بغداد 7/341، إنباه الرواة 1/313.
[107] بيت من البحر الطويل لأبي حيّة الهيثم بن الربيع النميريّ، (شعره: 144).
وهو في: الكتاب 1/477، ومغني اللبيب 344، وشرح أبياته 5/263، وخزانة الأدب 10/214- 220.
[108] انظر: رصف المباني 166- 167، التمهيد في تنزيل الفروع على الأصول للإسنويّ 59، الكوكب الدرّيّ له 320، الارتشاف 2/450، الجنى الداني 373، المغني 104.
[109] الإسراء 1.
[110] تأويل مشكل القرآن 571، معاني القرآن للفراء 1/218، شرح التسهيل 3/141، الارتشاف 2/450، الجنى الداني 373، المغني 104.
[111] النساء 4.
[112] كثيرٌ من البصريّين وافقوا الكوفيّين في رأيهم، ومن لم يوافق تأوّل ما ورد على التضمين.
انظر: الجنى الداني 373- 374.
[113] هو ابن مالك في (شرح التسهيل 3/142)، وانظر: الارتشاف 2/451، الجنى الداني 374.
[114] يوسف 33.
[115] النمل 33.
[116] هو: زياد بن معاوية بن ضباب الذبيانيّ، شاعرٌ جاهليّ.
ترجمته في: الشعر والشعراء 1/157، والأغاني 9/161- 177.
[117] بيت من البحر الطويل من قصيدة له يعتذر فيها إلى النعمان بن المنذر ويمدحه. والبيت في: ديوانه 73، المغني 105، شرح أبياته 2/125، الخزانة 9/465.(/50)
[118] هذا رأي الكوفيّين وابن قتيبة، وتبعهم ابن مالك. انظر: شرح التسهيل 3/143، الارتشاف 2/450.
[119] عجز بيت من البحر الطويل لعمرو بن أحمر الباهليّ، وصدره:
تقول وقد عاليتُ بالكُورِ فوقها:
والبيت في: شعر عمرو بن أحمر 84، شرح التسهيل 3/143، الارتشاف 105، والمغني 105، شرح أبياته 2/129.
[120] هو: عامر بن الحليس الهذليّ، صحابيّ جليلٌ.
ترجمته في: الإصابة في تمييز الصحابة 7/162، الشعر والشعراء 2/670.
[121] بيت من البحر الكامل له. (ديوان الهذليّين 2/89).
وانظر: شرح أشعار الهذليّين 3/1069، أدب الكاتب 540، المغني 105، شرح أبياته 2/136.
[122] الجنى الداني 376.
[123] معاني القرآن 2/78، وانظر: الجنى الداني 376، المغني 105. والفراء هو: يحيى بن زياد بن عبدالله الديلميّ، أبو زكريّا الفراء، المتوفّى سنة 207هـ. ترجمته في: تاريخ العلماء النحويّين 187، إنباه الرواة 4/1- 17.
[124] إبراهيم 37.
[125] هي قراءة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب – رضي الله عنه – وزيد بن عليّ، ومحمّد بن عليّ، وجعفر بن محمّد ومجاهد. انظر: معاني القرآن للفراء 2/78، المحتسب 1/364، الكشّاف 2/380، المجمع للطبرسيّ 6/317، البحر المحيط 6/448.
[126] البقرة 179.
[127] زاده الكوفيّون وابن قتيبة وابن مالك.
انظر: أدب الكاتب 343، شرح التسهيل 3/155، والارتشاف 2/446.
[128] الأعراف 38.
[129] الأنفال 103.
[130] يوسف 32.
[131] التوبة 38.
[132] تأويل مشكل القرآن 567.
[133] طه 71.
[134] الشورى 11.
[135] إبراهيم 9.
[136] عجز بيت من البحر الطويل، لامرئ القيس، صدره:
وهلْ يَعِمَنْ مَنْ كانَ أَحْدثُ عَهْدِهِ.
انظر: ديوانه 27، المغني 225، شرح أبياته 4/77.
[137] الكتاب 2/308، معاني الحروف المنسوب للرمّانيّ 96، الجنى الداني 268.
[138] الكتاب 2/304، وانظر: الجنى الداني 102، المغني 137.(/51)
[139] معاني الحروف المنسوب للرمّانيّ 36، البيان في غريب إعراب القرآن 1/77، التبيان في إعراب القرآن 1/62، البحر المحيط 1/230، الجنى الداني 104.
[140] النساء 160.
[141] هذا مذهب الجمهور. انظر: الجنى الداني 103.
[142] رأيه في: الجنى الداني 103، والمغني 138، وتابعه السهيليّ في (الروض الأنف 3/413- 414).
والمبرّد: هو محمّد بن يزيد الثماليّ الأزديّ أبو العبّاس، المتوفّى سنة 386هـ.
ترجمته في: تاريخ العلماء النحويّين 53- 65، إنباه الرواة 3/241- 253.
[143] الجنى الداني 104، المغني 141.
[144] جزء من بيت من البحر البسيط من قصيدة لقريط بن أنيف العنبريّ، وتكملته:
.................... إذا ركبوا شدّوا الإغارة فرساناً وركبانا
والبيت في: الحماسة لأبي تمام 1/58، الجنى الداني 105، المغني 141، خزانة الأدب 6/253.
[145] تأويل مشكل القرآن 568.
[146] الفرقان 59.
[147] آل عمران 75.
[148] ذكر المراديّ في كتابه (الجنى الداني 106) أنّ رأي الفارسيّ في كتابه (التذكرة)، وأقول: من التذكرة نسخةٌ في إيران، لم أستطع الاطلاع عليها.
والفارسيّ: هو الحسن بن أحمد بن عبدالغفّار، أبو عليّ، المتوفّى سنة 377هـ.
ترجمته في: تاريخ العلماء النحويّين 26، إنباه الرواة 1/273.
[149] رأيه في: جواهر الأدب في معرفة كلام العرب: 42، الارتشاف: 2/427، همع الهوامع: 2/21، وقد تبعه ابن قتيبة في (تأويل مشكل القرآن: 575).
والأصمعيّ هو: عبدالملك بن قريب بن عليّ الباهليّ، أبو سعيد، المتوفّى سنة 216هـ. ترجمته في: تاريخ العلماء النحويّين 218- 224، إنباه الرواة 2/197- 205.
[150] بيت من البحر الطويل لأبي ذؤيب خويلد بن خالد الهذليّ، ورواية ديوان (الهذليّين 1/51:
تروّتْ بماء البحر ثمَ تنصَبتْ
على حبشيّاتٍ لهنّ نئيجُ
والبيت في: شرح أشعار الهذليّين 1/129، شرح أبيات المغني 2/309، خزانة الأدب 7/97.(/52)
[151] انظر من بيت من البحر الكامل لكعب بن مالك الأنصاري رضي الله عنه، وتمامه:
على مَنْ غيرنا خُبُّ النبيّ محمدٍ إيْانا
انظر: ديوانه 289، شرح أبيات سيبويه 1/535، الخزانة 6/120.
[152] عجز بيت من البحر الطويل لامرئ القيس، صدره:
فإنْ تنأ عنها حِقبةً لا تلاقها
انظر: ديوانه 42، همع الهوامع 1/88، الدرر اللوامع 1/66، التصريح 1/202.
[153] قال في التسهيل 57: ((وقد تزاد بعد نفي فعل ناسخ للابتداء))، وانظر: شرح التسهيل 1/382، شرح الكافية الشافية 1/424. وابن مالكٍ هو: محمّد بن عبدالله بن مالكٍ الطائيّ، أبو عبدالله جمال الدين، المتوفّى سنة 672هـ. وترجمته في: طبقات الشافعيّة الكبرى 5/28، الوافي بالوفيات 3/359.
[154] في نسخة التحقيق: (بأعجام) وهذا تحريف.
[155] جزء من بيت من البحر الطويل للشنفري من لاميّته المعروفة بـ(لاميّة العرب)، والبيت بتمامه:
وإنْ مدّتِ الأيدي إلى الزاد لم أكن بأعجلهم إذ أجشعُ الناس أعجلُ
والبيت في: ذيل الأمالي والنوادر لأبي عليّ القالي 203، مختارات ابن الشجري 1/19، المغني 728، شرح أبياته 7/189.
[156] البسيط في شرح جمل الزجّاجيّ: 2/855- 856.
وابن أبي الربيع هو: عبيدالله بن أحمد بن عبيدالله القرشيّ الإشبيليّ السبتيّ، الْمتوفَى سنة 688هـ. ترجمته في: الذيل والتكملة: 6/105، صلة الصلة: 83، بغية الوعاة: 2/125.
وفي المخطوطة: (وجزاء سيئة سيئةٌ مثلها)، وهي آية الشورى 40، ولا شاهد فيها.
[157] آل عمران 189، المائدة 17، 18، النور 42، الجاثية 27، الفتح 14.
[158] النحل 72، الشورى 11.
[159] سبأ 13.
[160] المعْجَرُ: ثوبٌ تلفّه المرأةُ على استدارة رأسها، ثمّ تجلببُ فوقه بجلبابها. (اللسان 4/544).
[161] صدر بيت من البحر البسيط لأميّة بن أبي عائذ، وعجزه:
بمُشْمَخرٍّ به الظَّيَانُ والآسُ.
انظر: الكتاب 2/144، شرح أبيات المغني 4/297، الخزانة 10/95.(/53)
[162] صدر بيت من البحر الطويل، لم أعرف قائله، وعجزه:
أشتّ وأنأى من فراقِ المُحَصَّبِ.
والبيت في: شرح التسهيل 3/146، اللسان 1/319.
[163] في النسخة: (السبب)، والتصحيح من (الجنى الداني 144).
[164] تكملة من (الجنى الداني 144).
[165] البقرة 213.
[166] في النسخة: (سقينا).
[167] يوسف 23.
[168] القصص 8.
[169] الرعد 2، فاطر 13، الزمر 5.
[170] الإسراء 107.
[171] الأنبياء 47.
[172] الإسراء 78.
[173] بيت من البحر الطويل لمتمّم بن نويرة يرثي فيه أخاه مالكاً. (شعرها: 112).
[174] هو: جرير بن عطيّة بن حذيفة الخطفي بن بدر الكلبيّ اليربوعي، المتوفّى سنة 110هـ.
ترجمته في: الشعر والشعراء 1/464، وفيات الأعيان 1/321.
[175] بيتٌ من البحر الطويل له، من قصيدة يهجو بها الأخطل. (شرح ديوان جرير 457).
[176] يوسف 43.
[177] النمل 72.
[178] البقرة 41، النساء 47.
[179] شرح جمل الزجّاجي 2/515.
وابن عصفور هو: عليّ بن مؤمن بن محمّد بن عليّ، أبو الحسن النحويّ الحضرميّ الإشبيليّ، المتوفّى سنة 669هـ.
ترجمته في: صلة الصلة لابن الزبير 142، فوات الوفيات 3/109.
[180] بل ذكرها سيبويه (الكتاب 1/345- 346)، ومثّل لها بقولهم: (لا أبا لك)، واستشهد عليها بقول النابغة الذبيانيّ:
قالتْ بنو عامرٍ: خالُوا بني أسدٍ يا بؤسَ للجهلِ ضرّاراً لأقوامِ
[181] في نسخة التحقيق: (ذكره).
[182] الكامل 3/1140.
[183] جزء من بيت من البحر الطويل لامرئ القيس، والبيت بكماله:
دعْ عنك نهباً صِيحَ في حجراته ولكنْ حديثاً ما حديثُ الرواحلِ
انظر: ديوانه 94، المغني 200، شرح أبياته 3/315.
[184] زاده مَنْ سوى البصريّين. انظر: المغني 196، الجنى الداني 261.
[185] في نسخة التحقيق: (يوم لا يجزي)، وليس في القرآن آية ولا قراءةٌ بهذا النصّ.
[186] البقرة 48، 123.(/54)
[187] هود 53. لم أجد مَنْ جعلها للاستعلاء غير المؤلف – رحمه الله –: فغيره يجعلها للتعليل، والذي يبدو لي أنّ في الكلام سقطاً؛ فأصله هكذا: (وللاستعلاء، كقوله:
لاهٍ ابن عمّكَ لا أفضلتَ في حسبٍ عنّي ولا أنت ديّاني فتخزوني
وللاستعانة، كقولك: رميتُ عن القوس، وللتعليل، كقوله تعالى: {وما نحن.....} إلخ. انظر: المغني 197، الجنى الداني 263.
[188] الانشقاق 19.
[189] في نسخة التحقيق: (حين).
[190] بيت من البحر الطويل للأعشى (ديوانه 379)، وروايته فيه: (وآس سراة الحيّ حيث...).
والبيت في: جواهر الأدب في معرفة كلام العرب 195، الجنى الداني 263، المغني 197، شرح أبياته 2/298.
[191] من بيتٍ من البحر الطويل لمزاحم بن الحارث العقيليّ، والبيت بكماله:
غدتْ من عليه بعدما تمّ ظِمْؤها تَصِلُّ وعنْ قيضٍ بزيزاء مَجْهَلِ
انظر: شرح أبيات المغني 3/265.
[192] من بيت من البحر المتقارب لبشر بن منقذ المعروف بالأعور الشنّيّ، والبيت بكماله:
هوّنْ عليكَ فإنّ الأمور بكفِّ الإله مقاديرها
انظر: الحماسة البصريّة 2/2، الكتاب 1/31، شرح أبيات المغني 2/269.
[193] القصص 4.
[194] قائلوه هم: أبو الحسين بن الطراوة، ومحمّد بن أحمد بن طاهر، وابن خروف، وأبو الحجّاج يوسف بن معزوز القيسيّ، وأبو عليّ عمر بن عبدالمجيد الرُّنديّ، وأبو عليّ الشلوبين في أحد قوليه.
انظر: الإرتشاف 2/451، منهج السالك في الكلام على ألفيّة ابن مالك 231، النكت الحسان في شرح غاية الإحسان 109- 110، الجنى الداني 442.
[195] هم المذكورون في الحاشية السابقة، انظر مصادرها.
[196] قال في (الكتاب 2/310) عن (على): ((وهو اسمٌ، ولا يكون إلا ظرفاً...)).
[197] الرحمن 26.
[198] البقرة 253.
[199] هذا محلّ اتفاقٍ بين النحويّين. انظر: رصف المباني 434، شرح التسهيل 2/163، الارتشاف 2/453، الجنى الداني 445، المغني 191.
[200] الأعراف 105.
[201] البقرة 102.(/55)
[202] تأويل مشكل القرآن 573.
[203] المؤمنون 6، المعارج 30.
[204] في المخطوطة: (وآتى المال على حبّه مسكيناً)، وليس في القرآن آية هكذا.
[205] البقرة 177.
[206] البقرة 185، الحجّ 37.
[207] ابن مالك في (شرح التسهيل 2/165)، أما سيبويه فمنع زيادتها (الكتاب 1/17). وانظر: الجنى الداني 447.
[208] بيتٌ من البحر الطويل لحميد بن ثور في (ديوانه: 41).
وانظر: ضرائر الشعر لابن عصفور 66، المغني 192، شرح أبياته 3/247.
[209] نُقِلَ عن الأخفش، وذكره ابن برهان وابن مالك وأبو حيّان.
انظر: شرح التسهيل 2/173، الارتشاف 2/438، البحر المحيط 2/299، الجنى الداني 135- 136.
[210] البقرة 198.
[211] زاده ابن مالك في (التسهيل 147)، وانظر: شرحه له 3/170، الجنى الداني 136.
[212] يُعزى هذا القول إلى العجّاج بن رؤبة. انظر: رصف المباني 276، الجنى الداني 136.
[213] سرّ صناعة الإعراب 1/320، شرح التسهيل 3/170، المغني 235.
[214] معاني القرآن 1/466.
[215] الشورى 11.
[216] الكتاب 1/13، 203.
[217] ضرورة الشعر للسيرافيّ 160، المقتضب 4/140، الأصول في النحو 1/438.
[218] بيتُ من البحر البسيط للأعشى، وروايته في (ديوانه 113): هل تنتهون... ولا ينهى.
[219] انظر: شرح الجمل لابن عصفور 1/477، جواهر الأدب 144، النكت الحسان 111، الجنى الداني 132، المغني 239، وقد وافق الأخفش في وقوعها اسماً جَمْعٌ من العلماء، منهم: الفارسيّ (الإيضاح العضديّ 260)، وابن جنّي (سرّ الصناعة 1/282)، والزمخشريّ (الكشّاف 4/313- 314)، الجزوليّ (المقدّمة الجزوليّة في النحو 123)، وابن يعيش (شرح المفصّل 8/43)، والأنباريّ (أسرار العربيّة 257- 258).
ولكنّ الأخفش في كتابه (معاني القرآن 2/303، يرى أنّها زائدة.
[220] هذا رأي الأخفش والفارسيّ وابن عصفور، انظر: البحر المحيط 1/423، منهج السالك 253، الجنى الداني 137.(/56)
[221] أي: إنّها كسائر حروف الجرّ في تعلّقها بالفعل أو ما في معناه. (الجنى الداني 137).
[222] شرح التسهيل 3/171.
[223] الارتشاف 2/439.
[224] بيت من البحر الوافر لم أعثر على قائله. ويروى: يابن أبي زيادِ.
والبيت في كثير من كتب النحو منها: رصف المباني 261، المساعد 2/273، ضرائر الشعر 309، النكت الحسان 112، الخزانة 9/474.
[225] الكوفيّون والمبرّد. انظر: إيضاح المفصّل 2/45، شرح المفصّل لابن يعيش 8/326، جواهر الأدب 499، النكت
[226] القدر 5.
[227] البقرة 187.
[228] بيتٌ من البحر الكامل لأبي مروان النحويّ، وينسب إلى المتلمّس الضبعيّ، وهو في (ديوانه 327).
انظر: الكتاب 1/50، شرح أبياته لابن السيرافيّ 1/411، الخزانة 3/21.
[229] هذا رأي البصريّين. انظر: الكتاب 1/420، 2/161، الأصول 1/334، شرح المفصّل لابن يعيش 8/26، التسهيل 147، الإنصاف 2/832، الجنى الداني 417.
[230] ينسب هذا الرأي إلى الكوفيّين، والكسائيُّ من زعمائهم، وإلى الأخفش.
انظر: الإنصاف 2/832، شرح التسهيل 3/174- 175، جواهر الأدب 452، الجنى الداني 417، المغني 179.
والكسائيّ هو: علي بن حمزة بن عبدالله الأسديّ الكوفيّ، أبو حمزة الكسائيّ، المتوفّى سنة 189هـ. ترجمته في: تاريخ العلماء النحويّين 190، إنباه الرواة 2/256.
[231] الارتشاف 2/455، ابن الطراوة النحويّ 142، وابن الطراوة هو: سليمان بن محمّد السبئيّ المالقيّ، أبو الحسين، ابن الطراوة، المتوفّى سنة 528هـ. ترجمته في: بغية الملتمس في تاريخ أهل الأندلس 290، بغية الوعاة 1/602.
[232] هذا مذهب أكثر النحويّين. انظر: المقتضب 4/138، المسائل والأجوبة 234، شرح التسهيل 2/175، المساعد 2/285، الارتشاف 2/455، الجنى الداني 417.
[233] رأي الخليل (العين 8/258)، وابن درستويه (الارتشاف 2/455، الجنى الداني 418).(/57)
[234] هذا رأي ابن السيد البطليوسيّ (المسائل والأجوبة 247)، والأعلم الشنتمريّ (الهمع 4/175).
[235] هذا اختيار أبي حيّان (الارتشاف 2/445).
[236] في نسخة التحقيق: (السابق). وهذا تصحيف.
[237] الأصول لابن السرّاج 1/338، أمالي ابن الشجريّ 3/47، شرح الكافية للرضيّ 2/329، النكت الحسان 112، الجنى الداني 425.
[238] بيت من البحر الوافر لربيعة بن مقروم الضبّيّ.
انظر: حماسة أبي تمّام 1/284، أمالي ابن الشجريّ 217، النكت الحسان 113، المغني 218، الخزانة 10/26، شرح أبيات المغني 4/34.
[239] ساقطة من نسخة التحقيق.
[240] بيتٌ من مشطور الرجز لرؤبة بن العجّاج (ديوانه 6)، وروايته: (وأصبابْ)، ولم أجد من رواه كرواية المؤلّف، ولكنْ رويتْ قافيتُهُ: (وآكامْ).
انظر: اللسان (صبب) 1/517، النكت الحسان 113، المغني 182، شرح الأشمونيّ 3/299، حاشية الصبّان على شرح الأشمونيّ 2/232، الخزانة 10/32، شرح أبيات المغني 3/189.
[241] يري المبرّد أنّ الفاء والواو همّا الجارّان، ويرى غيره أنّ الجارّ هو (رُبَّ) المحذوفة.
انظر: المقتضب 2/346- 347، شرح التسهيل 3/189، المساعد 2/297، المغني 213، الجنى الداني 129- 130.
[242] في المخطوطة: (خلاف). وهذا تصحيف.
[243] الكتاب 1/377، 395، الإنصاف 1/278.
[244] في المخطوطة: (غير). والمقصود بمن سمع النصب هم: أبو زيد الأنصاريّ. والفرّاء، والأخفش، وأبو عمرو الشيبانيّ، وابن خروف. انظر: الجنى الداني 513.
[245] أي: تكون حرفَ جرٍّ، وفعلاً، وهذا مذهب الجرميّ والمبرّد والزجّاج والأخفش. (الجنى الداني 513، المغني 165، ويرى الكسائيّ والمازنيّ والفرّاء أنّها فعلٌ لا غيرُ، (جواهر الأدب 524).
[246] حكاه أبو عثمان المازنيّ عن أبي زيد الأنصاريّ عن أحد الأعراب. انظر: الأصول 1/228، المحتسب 1/342، شرح الألفيّة لابن عقيل 2/239.(/58)
ويروى أيضاً: (الأصبغ) بالغين. انظر: رصف المباني 255، شرح المفصّل لابن يعيش 2/85، شرح التسهيل 2/306، شرح الألفيّة لابن الناظم 310، شرح الكافية 1/244، النكت الحسان 104، الجنى الداني 513، المغني 165، التصريح 1/365.
[247] الجنى الداني 309، 464.
[248] زيادة من (النكت الحسان 114، والجنى الداني 464).
[249] في نسخة (التحقيق: (وقيل)، والتصحيح من (النكت الحسان 114).
[250] في نسخة التحقيق: (معلقا)، والتصحيح من (النكت الحسان 114).
[251] هذا رأي المبرّد وابن السرّاج والفارسيّ وسائر البصريّين كما في (الإنصاف 1/382). وانظر: المسائل المنثورة للفارسيّ 174، مغني اللبيب 442.
[252] النكت الحسان 114.
[253] هذا رأي الأخفش والزجّاج والزجّاجيّ. انظر: النكت الحسان 114، مغني اللبيب 442.
[254] هذا مذهب الكوفيّين، واختاره ابن مضاء والسهيليّ وابن مالك. انظر: الارتشاف 2/243، النكت الحسان 114، الإنصاف 1/382.
[255] هذا رأي الفرّاء. انظر: الإنصاف 1/382.
[256] انظر ص48.
[257] جزء من صدر بيت من البحر الطويل لامرئ القيس من معلّقته، وتمامه:
.......... قد طرقتُ ومرْضِعاً فألهيتُها عن ذي تمائمَ مُغيَلِ
(ديوان امرئ القيس 12).
[258] انظر: ص48.
[259] حكاه الأخفش. انظر: المفصّل 133، شرح الكافية للرضيّ2/334، رصف المباني 247، الجنى الداني 117، المغني 157.
[260] ذكر ابن مالك – رحمه الله تعالى – أنّها تكون مفتوحةً أيضاً، وأنّها مُثَلَّثَةُ النونِ أيضاً. انظر: تسهيل الفوائد 151، وشرحه 3/203.
[261] هو سيبويه، (الكتاب 2/309)، وانظر: شرح التسهيل 3/203.
[262] تسهيل الفوائد 151.
[263] تسهيل الفوائد 144.
[264] فقولهم: (مُنُ اللهِ) شاذٌّ.
انظر: تسهيل الفوائد 144، شرحه 3/140، الجنى الداني 324.
[265] في نسخة التحقيق زيادة: (وتالله).
[266] اختاره ابن مالك. انظر: شرح التسهيل 3/200، الجنى الداني 99.
[267] الكتاب 1/388.(/59)
[268] بيتٌ من البحر الطويل ليزيد بن الحكم بن أبي العاص الثقفيّ. (شعره: 276).
وانظر: الخزانة 5/336، شرح أبيات المغني 5/181.
[269] تعليقات الأخفش على الكتاب 2/375 (تحقيق عبدالسلام هارون)، شرح الكتاب للسيرافيّ 3/151ب – 152أ.
[270] المقتضب 3/73، الكامل 3/1277، الإنصاف 2/687.
[271] الكامل 3/1277.
[272] انظر: رصف المباني 436، الارتشاف 2/469، الجنى الداني 530، المغني 377.
[273] بيتٌ من البحر الطويل لكعب بن سعد الغنويّ. انظر: الأصمعيّات 96، نوادر أبي زيد 218، الخزانة 10/426، وفي الأصمعيّات: (لعلّ أبا المغوار)، ولم أجد من رواه: (وارفع الصوت تارةً) إلا المؤلّف رحمه الله، أمّا الرواية المشهورة فهي (جهرةً) أو (دعوةً).
[274] بيتُ من البحر الوافر لم أعثر على قائله، والبيت في كثير من كتب النحو، منها: رصف المباني 436، الجنى الداني 531، الخزانة 10/422.
[275] رصف المباني 436، جواهر الأدب للإربليّ 491.
[276] الجنى الداني 531.
[277] أسقط المؤلّف – رحمه الله – جرها لـ(ما) المصدريّة. انظر: الجنى الداني 276.
[278] شرح أشعار الهذليّين 1/129، الصاحبيّ 175، الجنى الداني 468.
وهذيل: قبيلة كبيرة من العدنانيّة، وهم بنو هذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر. (معجم قبائل العرب 3/1213).
[279] سبق تخريجه (ص35).
[280] هو الأخفش، والرأي معزوٌّ إليه في: شرح ألفيّة ابن معطٍ لابن القوّاس 2/1021، شرح المفصّل لابن يعيش 4/49، الجنى الداني 405.
[281] عجز بيت من البحر الكامل لكعب بن مالك الأنصاريّ رضي الله عنه، صدره: فترى الجماجم ضاحياً هاماتها. (ديوانه 245)، ويروى: تذر الجماجم. انظر: تذكرة النحاة لأبي حيّان 500، المغني 156، الجنى الداني 404، الخزانة 6/211.
[282] سكون العين لغة ربيعة وغنم وتميم. انظر: المحكم لابن سيده: 1/55، تسهيل الفوائد 98، المساعد لابن عقيل 1/536، الارتشاف 2/267، المغني 439، الجنى الداني 311.(/60)
[283] هذا رأي سيبويه (الكتاب 2/45)، وانظر: الجنى الداني 311، المغني 439.
وخالفه أبو العباس المبرّد وأبو جعفر النحّاس، فجعلاها حرفاً. انظر: (شرح القصائد التسع المشهورات للنحّاس 1/118).
[284] المصدر الرئيس للمؤلّف في هذا النوع هو كتاب أبي حيّان الأندلسّي (النكت الحسان في شرح غاية الإحسان).
[285] في المخطوطة: (فإنه).
[286] الكتاب 1/408، النكت الحسان في شرح غاية الإحسان لأبي حيّان 145.
[287] آل عمران 179.
[288] في المخطوطة: (أو معنىً).
[289] في المخطوطة: (ما لم يكن).
[290] انظر: الإنصاف 2/593، النكت الحسان 146، الجنى الداني 156.
[291] البقرة 214.
[292] في نسخة التحقيق: (كي).
[293] هم الكوفيّون. انظر: الإنصاف 2/597، ائتلاف النصرة 130.
[294] شرح الجمل لابن عصفور 2/165، النكت الحسان 147، الجنى الداني 508.
[295] في نسخة التحقيق: (غير منفيّ)، وهذا تصحيف، انظر: النكت الحسان 147.
[296] زيادة يقتضيها السياق.
[297] خلاصة قول المؤلف – رحمه الله – أنه يجب نصب الفعل المضارع بعد (حتّى) في ثلاثة مواضع:
الأوّل: إذا كان ما قبلها غير موج. الثاني: إذا كان ما قبلها موجباً غير سبب. الثالث: إذا كان ما قبلها سبباً، و(حتّى) وما بعدها في موضع خبر. انظر: التفصيل في: النكت الحسان 147.
[298] شرح الجمل 2/167.
[299] شرح الجمل 2/165.
[300] تكملة من: النكت الحسان لأبي حيّان 148.
[301] يريد المؤلّف – رحمه الله – أنّ اسم فعل الأمر إن كان مشتقّاً فجوابه إذا اقترن بالفاء السببيّة يصحّ نصبه، فيكون ثالثاً بعد فعل الأمر، والمصدر النائب عنه، مثل: نزالِ فأكرمَك، وإذا كان اسم فعل الأمر غير مشتقٌّ لم يصحّ النصب، مثل: صهْ فنسمعُ الحديث. انظر: شرح الجمل لابن عصفور 2/149- 150.
[302] في المخطوطة: (التمنّي).
[303] طه 61.
[304] الأعراف 53.
[305] الأنعام 27.
[306] غافر 36 و37.(/61)
[307] النصب في هذا المثال أجازه الكسائيّ والفرّاء، أمّا غيرهما فمنعه؛ لأنّ الطلبَ هنا غيرُ محضٍ؛ فهو قد جاء بصورة الخبر. انظر: الأصول في النحو 2/186، شرح التسهيل 4/42، توضيح المقاصد والمسالك 4/217.
[308] هذا مذهب الجمهور؛ لأنّهم يشترطون في الطلب أن يكون محضاً. انظر: المصادر السابقة.
[309] في المخطوطة: (فأسبّ)، والتصحيح من: (الكتاب 1/422، والتعليقة على كتاب سيبويه 2/154، والمسائل المنثورة 145، والنكت الحسان 148).
[310] انظر: شرح الكتاب للسيرافيّ 3/213 ب.
[311] بيتٌ من البحر البسيط من قصيدة لزهير بن أبي سلمى (ديوانه 178).
[312] في نسخة التحقيق: (يفضل).
[313] مَثَلٌ أوّل من قاله المنذر بن ماء السماء، والمعيديّ هو تصغير مَعَدِّيّ، والمراد به شقّة بن ضمرة بن جابر النهشليّ. والمثل في: كتاب الأمثال للقاسم بن سلام 97، الأمثال للضبّيّ 55، جمهرة الأمثال للعسكريّ 1/266 الفاخر 65، فصل المقال 135، المستقصى في الأمثال 1/370، مجمع الأمثال 1/129، تمثال الأمثال 1/395.
[314] الكتاب 1/407.
[315] المصدر السابق، ورصف المباني 355، والنكت الحسان 143، والجنى الداني 284. والخليل هو: الخليل بن أحمد بن عمرو الفراهيديّ الأزديّ، المتوفى سنة 170هـ.
ترجمته في: مراتب النحويين 54- 72، إنباه الرواة 1/341- 347.
[316] ذكر أبو حيّان في كتابه (النكت الحسان 143) أنّ ابن فضّال حكاه في كتابه (العوامل والهوامل)، وهذه الحكاية في كتاب (معاني الحروف المنسوب للرمّانيّ 100)، وهذا يقطع بصحّة أنّ هذا الكتاب المنسوب للرمّانيّ إنما هو كتاب (العوامل والهوامل) لعليّ بن فضّال المجاشعيّ.
وانظر هذه الحكاية في: الارتشاف 2/392، المغني 274.
والمقصود بالأخفش هنا علي بن سليمان، وهو الأخفش الصغير، المتوفى سنة 315هـ. ترجمته في: تاريخ العلماء النحويّين 45- 46، إنباه الرواة 2/276- 278.(/62)
[317] حكاه اللحيانيّ في نوادره. انظر: الارتشاف 2/390، المغني 375.
[318] انظر: شرح أبيات المغني 5/161.
[319] بيت من البحر المنسرح لأعرابيّ يمدح الحسين بن علي بن أبي طالب – رضي الله عنهما –. والبيت في: النكت الحسان 143، البحر المحيط 1/166، المغني 375، شرح أبياته 5/161، همع الهوامع 2/4، الدرر اللوامع 2/4. ومن الجزم بـ (لن) قول الكنديّ:
فلن أكْفُرْ بلاءَ بني عديَّ وعفوَهمُ على حَدَثِ الخَطُوبِ
انظر: كتاب الأنوار ومحاسن الأشعار: 233.
[320] مذهب الخليل أنّها ليستْ ناصبةً بنفسها، وأنّ (أنْ) بعدها مقدّرة، وإليه ذهب الزجّاج والفارسيّ. انظر: الكتاب 1/412، رصف المباني 156، الارتشاف 2/395، الجنى الداني 357.
[321] هي لُغَيَّةُ حكاها عيسى بن عمر وسيبويه. انظر: الكتاب 1/412، رصف المباني 153، النكت الحسان 144، الجنى الداني 356.
[322] شرح الجمل لابن عصفور 2/141.
[323] المصدر الرئيس للمؤلف في هذا النوع هو كتاب أبي حيّان الأندلسيّ (النكت الحسان في شرح غاية الإحسان).
[324] جَعْلُهُ ضرورةً شعريّةً رأيُ كثيرٍ من العلماء، منهم ابن جنّي في (الخصائص 1/388)، وجعله ابن مالك لغةً. (شرح التسهيل 1/28).
[325] بيتٌ من البحر البسيط لم أعثر على قائله.
والبيت في: ضرائر الشعر لابن عصفور 310، الجنى الداني 280، الخزانة 9/3، شرح أبيات المغني 5/131.
[326] الكتاب 1/432.
[327] كذا في كثير من المصادر، ومنها: شرح الكافية للرضيّ 2/254، النكت الحسان 150، الجنى الداني 214، المغني 120. لكنَّ ما في المقتضب للمبرّد (2/46) نصٌّ على أنّها حرفٌ. والصحيح أنّ القول باسميّتها هو رأي ابن السرّاج والفارسيّ. انظر: الأصول 2/159، الإيضاح العضديّ 332.
[328] هذا مذهب الجمهور، وأجاز الفرّاء الجزم بها دون (ما). انظر: الارتشاف 2/563، الجنى الداني 214.(/63)
[329] بيت من بحر الرمل لعلقمة الفعل (ديوانه 134)، ونسبه أبو تمّام لامرأة من بني الحارث (الحماسة 1/552).
والبيت في: الخزانة 11/298، شرح أبيات المغني 5/105.
[330] بيتٌ من البحر الخفيف، لم أعرف قائله، ولم أجد البيت في ما بين يديّ من مراجع.
[331] الكتاب 1/433.
[332] الإنصاف 2/643، الارتشاف 2/551، همع الهوامع 2/58، ووافقهم قطرب. انظر: شرح الجمل لابن عصفور 2/195.
[333] الكتاب 1/433.
[334] الكتاب 1/68، 434، التسهيل 92، الارتشاف 2/549- 550، المغني 127.
ومن الجزم بها قول النمر بن تولب – رضي الله عنه -:
فإذا تُصِبْكَ خصاصةٌ فارجُ الغنى وإلى الذي يُعْطِي الرغائبَ فارغبِ
وقول عبد قيس بن خفّاف البرجميّ:
استغنِ ما أغناك ربُّكَ بالغنى وإذا تصبْك خصاصةُ فتجمّلِ
انظر: الجنى الداني 360، المفضّليّات 385.
[335] هذا قول الخليل، وسيبويه، والسيرافيّ، والفارسي، واختاره ابن خروف، وابن عصفور. انظر: الكتاب 1/449، شرح السيرافيّ 3/248أ، الإيضاح العضديّ 333، المساعد على تسهيل الفوائد 3/96- 97، شرح الجمل لابن عصفور 2/192، التصريح بمضمون التوضيح 2/241.
[336] هذا قول الأكثرين من المتأخرين. انظر: المساعد 3/97.
[337] زاده الكسائيّ (الجنى الداني 527)، والأخفش (معاني القرآن له 2/407)، وقطرب (أمالي ابن الشجريّ 1/77)، والفرّاء (البحر المحيط 6/245). والفارسيّ (جواهر الأدب 235)، والهرويّ (الأزهيّة في علم الحروف 218).
[338] طه 44.
[339] روى البخاريُّ – عليه رحمةُ اللهِ – في (صحيحه 1/93) عن أبي سعيد الخدريّ – رضي الله عنه – أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل إلى رجلٍ من الأنصار، فجاء ورأسه يقطر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لعلّنا أعجلناك))، فقال: نعمْ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا اُعْجِلْتَ أو قُحِطْتَ فعليكَ الوضوءُ)).(/64)
[340] قاله الكوفيّون والزجّاجيّ. انظر: الجنى الداني 519، المغني 253، الهمع 1/133.
[341] بيتٌ من البحر الوافر ينسبُ للحارث بن خالد المخزوميّ (شعره: 125). والصحيح أنّه للحارث بن أميّة بن عبد شمس الصغري، من قصيدة يرثي بها هشام بن المغيرة. انظر: الكامل 2/671، حذف من نسب قريش لمؤرّج السدوسيّ 67، الاشتقاق لابن دريد 101، مغني اللبيب 253، شرح أبيات المغني 1/169.
[342] الارتشاف 2/129.
[343] الزاعم هو ابن جنّي في (سرّ صناعة الإعراب 1/304- 305)، وردّ عليه المراديّ في (الجنى الداني 518).
[344] زعم الكوفيّون أنّها مركّبة. انظر: الإنصاف 1/214، الارتشاف 2/128، الجنى الداني 556، المغني 384.
[345] القول بحرفيّتها مذهب الفرّاء، وسائر الكوفيّين والفارسيّ وابن شُقير، ويعزى إلى ابن السرّاج، وما في كتابه (الأصول 1/82) يخالفه. انظر: المسائل الحلبيّات 219، اللامات للزجّاجيّ 34، الارتشاف 1/72، الجنى الداني 459، المغني 387.
[346] الكتاب 1/28.
[347] زيادة يقتضيها السياق.
[348] الارتشاف 2/103.
[349] النكت الحسان 74، الجنى الداني 328.
[350] روي ذلك عن يونس بغير طريق سيبويه. انظر: تسهيل الفوائد 57، وشرحه للمؤلف 1/373، النكت الحسان 74، الجنى الداني 327.
ويونس هو: ابن حبيب الضبّيّ البصريّ المتوفّى سنة 182.
ترجمته في: أخبار النحويّين البصريّين 33- 38، إنباه الرواة 4/68- 72.
[351] النكت الحسان 74.
[352] هذا رأي ابن جنّي وابن الشجريّ.
انظر: أمالي ابن الشجريّ 1/431- 422، النكت الحسان 76، الجنى الداني 302، المغني 316.
[353] بيت من البحر الطويل للنابغة الجعدي رضي الله عنه. (شعره: 171) وانظر: شرح التسهيل 1/325، البحر المحيط 2/282، النكت الحسان 76، الخزانة 3/337، شرح أبيات المغني 4/378.(/65)
[354] نُسِبَ المنع إلى المبرّد والأخفش، والذي في كتاب المبرّد (المقتضب 4/382) جوازه. انظر: الجنى الداني 301، والصحيح أنّ منكره هو أبو الحسن الأبّذيّ. انظر: النكت الحسان لأبي حيّان 75.
[355] حكاه ابن ولاد عن الزجّاج. انظر: الجنى الداني 301.
[356] في المخطوطة: (لضعفهما).
[357] في المخطوطة: (عملهما).
[358] بيت من البحر الطويل، لم أعرف قائله. والبيت في: المغني 315، شرح أبياته 4/377.
[359] الملخّص في ضبط قوانين العربيّة 273.
[360] الكتاب 1/28.
[361] سورة (ص) 3.
[362] طيئ: قبيلة عظيمة من كهلان من القحطانيّة، وهي تنتسب إلى طيئ بن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان. انظر: معجم قبائل العرب 2/689- 692.
[363] بيتٌ من البحر الكامل، مختلفٌ في نسبته، فقيل: إنّه لمحمّد بن عيسى بن طلحة التميميّ، وقيل: إنّه للمهلهل بن مالك الكناني، وقيل غير ذلك، ولا أرجّح الأوّل: لأنّي أظنّ أنّه ألبس على من قال هذا بيت محمّد بن عيسى الذي ورد في (معجم الشعراء 414) وهو قوله:
لا تعجلْ على أحدٍ بظلمٍ فإنّ الظلمَ مَرْتَعُهُ وخيمُ
والبيت المستشهد به في: شرح الألفيّة لابن عقيل 1/320، المساعد 1/283، جواهر الأدب 308، المقاصد النحويّة 2/146، خزانة الأدب 4/175.
[364] رفع (حين) قراءة قرأ بها أبو السمال وعيسى بن عمر.
انظر: الكتاب 1/28، معاني القرآن للأخفش 2/453، الأصول في النحو 1/112، إعراب القرآن للنّحّاس 2/781، الكشّاف 2/359، البحر المحيط 9/136- 137.
[365] أجاز إعمالها سيبويه، والكسائيّ، والمبرّد، وابن السرّاج، والفارسيّ، وابن جنّي، وأكثر الكوفيّين، ومنعه الفرّاء، وجمهور البصريّين.
انظر: الكتاب 1/475، 2/305، المقتضب 2/362، الأصول في النحو 1/235- 236، المحتسب 1/270، الارتشاف 2/109، النكت الحسان 78، الجنى الداني 229.
[366] بيت من البحر المنسرح لم أعثر على قائله.(/66)
والبيت في: الأزهية 46، رصف المباني 190، تلخيص الشواهد 306، الجنى الداني 230، الخزانة 4/166.
[367] المصدر الرئيس للمؤلف في هذا الباب هو كتاب أبي حيّان الأندلسيّ (النكت الحسان في شرح غاية الإحسان).
[368] الكتاب 2/304، المقتضب 1/10، الإيضاح العضديّ 285.
[369] عُزِي هذا الرأي لثعلب والفرّاء وهشام بن معاوية، وما في (مجالس ثعلب 2/386) وفي (معاني القرآن للفرّاء 1/396) يخالفه. انظر: الارتشاف 2/633، الجنى الداني 188- 190، المغني 464.
[370] قاله الفرّاء وسائر الكوفيّين. انظر: معاني القرآن 1/371، رصف المباني 440، الارتشاف 2/636، الجنى الداني 121، المغني 214.
[371] هذا رأي الجرميّ. انظر: الارتشاف 2/636، الجنى الداني 122، المغني 214.
[372] الجنى الداني 131.
[373] الأنعام 139.
[374] قاله الأخفش. انظر: معاني القرآن له 124- 125، إيضاح الشعر 361، المسائل البغداديّات 309، الحجّة للفارسيّ 1/43، سر الصناعة 1/260.
[375] هو: ماعز بن مالك الأسلميّ – رضي الله عنه –، صحابيّ، ترجمته في: الإصابة في تمييز الصحابة 9/31.
[376] هذا قول الفرّاء وقطرب. انظر: معاني القرآن 1/396، شرح الكتاب للسيرافيّ 2/152أ، الارتشاف 2/638، الجنى الداني 406، المغني 160.
[377] هذا رأي الزمخشريّ. (المفصّل 404).
[378] يونس 24.
[379] في نسخة التحقيق: (للفصل).
[380] البقرة 135.
[381] هو الحسن بن يسار البصريّ، التابعيّ، المتوفّى سنة 110هـ.
ترجمته في: وفيات الأعيان 2/69- 73، سير أعلام النبلاء 4/563- 588.
[382] هو أبو بكر محمّد بن سيرين البصريّ الأنصاريّ التابعيّ، المتوفّى سنة 110هـ.
ترجمته في: وفيات الأعيان 4/181- 183، سير أعلام النبلاء 4/606- 622.(/67)
[383] هذا قول الكوفيّين ما عدا ابن الأنباريّ؛ فقد منعه في كتابه (الأضداد 243)، وهو قول الأخفش (معاني القرآن 1/34)، والجرميّ (المسائل المنثورة للفارسيّ 42)، وقطرب (الخصائص 2/270)، ومن البصريّين أجازه أبو عبيدة (مجاز القرآن 2/148)، والمبرّد (المقتضب 1/301)، وابن قتيبة (تأويل مشكل القرآن 544)، ووافقهم ابن مالك (شرح التسهيل 3/364).
انظر: معاني القرآن للفرّاء 3/220، الإنصاف 2/478، الارتشاف 2/641، الجنى الداني 247، المغني 88.
[384] هو امرؤ القيس بن حجر بن عمرو الكنديّ، شاعرٌ جاهليٌّ وهو أحد شعراء المعلّقات. ترجمته في: الشعر والشعراء 1/105، الأغاني 8/62- 77.
[385] بيت من البحر الطويل من معلّقته. (ديوانه 22).
[386] في نسخة التحقيق: (وصورتها في العين أو أنت أملحُ). وهذا بيتٌ من البحر الطويل لذي الرمّة. (ملحقات ديوانه 3/1857).
والبيت في: معاني القرآن للفرّاء 1/72، المحتسب 1/99، الخصائص 2/458، خزانة الأدب 11/65.
[387] الكتاب 1/221، المقتضب 1/10- 11، الأصول في النحو 2/56، جمل الزجّاجيّ 17، اللمع 149، التسهيل 174، شرحه 3/342، الجنى الداني 487، المغني 84.
[388] أي: الفارسيّ، ورأيه في: (الإيضاح العضديّ 297).
[389] التسهيل 174، شرحه 3/343، شرح الكافية الشافية 2/1226، الجنى الداني 487، المغني 84، أبو الحسن بن كيسان وآراؤه في النحو واللغة 178.
وابن كيسان هو: محمّد بن أحمد بن كيسان، المتوفّى سنة 320هـ. ترجمته في: تاريخ العلماء النحويّين 51، إنباه الرواة 3/57.
[390] الفتح لغة قيس وتميم وأسد. انظر: التسهيل 176، شرحه 3/366، الارتشاف 2/641، الجنى الداني 491.
[391] يجوز الاستغناء بـ (أو) عن تكرارها. انظر: معاني القرآن للفراء 1/389- 390، أمالي ابن الشجريّ 3/126- 127، شرح الكافية للرضي 2/345- 346، شرح التسهيل 3/366، الأزهيّة 140، الارتشاف 2/641، الجنى الداني 489.(/68)
[392] بينهما فروقٌ أُخَرُ. انظر: الجنى الداني 489، الأشباه والنظائر 4/102.
[393] نقله الإمام أحمد بن يحيى ثعلب. (الارتشاف 2/641).
[394] ساقطة من نسخة التحقيق.
[395] هذا قول الكسائيّ وهشام بن معاوية. انظر: معاني القرآن للفرّاء 1/72، المسائل العضديّات 161، الصاحبيّ 168، الأزهيّة 130، المساعد لابن عقيل 2/456، الارتشاف 2/654، الجنى الداني 225، المغني 63، البرهان في علوم القرآن 4/180- 181، هشام بن معاوية الضرير، حياته، آراؤه، منهجه 306.
[396] انظر: شرح التسهيل 3/368، الارتشاف 2/643- 644، الجنى الداني 254، المغني 152.
[397] انظر: شرح الكافية للرضيّ 2/379، التسهيل 174، جواهر الأدب 504، الجنى الداني 534، المغني 386.
[398] منعه الزجّاجيّ في (حروف المعاني 31). وانظر: الصاحبيّ 165، رصف المباني 330، الارتشاف 2/645، الجنى الداني 303، المغني 318.
[399] بيتٌ من البحر الطويل لامرئ القيس (ديوانه 94).
دثار: هو راعي إبل الشاعر، وتنوفى والقواعل: جبلان من جبال طيئ، قرب حائل. انظر: معجم البلدان 2/50، 4/411.
[400] انظر: التسهيل 174، شرحه 3/346، الارتشاف 2/630، الجنى الداني 462، وعزاه ابن عصفور إلى البغداديّين (شرح الجمل 1/225).
[401] بيت من البحر الكامل للشمردل بن عبدالله الليثيّ (الحماسة البصريّة 1/230)، وفي (حماسة أبي تمّام 1/470) منسوبٌ للتيميّ، وهو عبدالله بن أيّوب، ويروي: (حين لات مجيرُ)، والبيت في رثاء منصور بن زياد. انظر: شرح الحماسة للتبريزيّ 3/5، ضرائر الشعر 182، المغني 825، شرح شواهده 2/927، شرح أبياته 7/316.
[402] هذه الثلاث ممّا زاده الكوفيّون أيضاً. وجعل يونس العطف بـ (كيف) خطأ. (الكتاب 1/219). وانظر: شرح الكتاب للسيرافيّ 2/154ب، شرح جمل الزجّاجيّ لابن عصفور: 1/225، الارتشاف 2/632، شرح أبيات المغني 4/273.(/69)
[403] لم يمثّل المؤلّف – رحمه الله – للعطف بـ (هلا)، ومثاله: جاء زيدٌ، فهلا عمرو. (شرح الجمل 1/225).
[404] بتقدير فعلٍ، فكأنّك قلت: فكيف آكل شحماً، و: فكيف يعجبني شحمٌ؟، و: فأين يكون عمرو؟ (شرح الجمل 1/226).
[405] هم ابن السكاك الخوارزميّ وأبو جعفر أحمد بن صابر وابن مسعود الفرّغانيّ. انظر: شرح التسهيل 3/347، شرح جمل الزجّاجيّ 1/225، الارتشاف 2/631، الجنى الداني 251.
[406] الكتاب 1/325، المقتضب 4/233، الأصول 1/329.
[407] شرح التسهيل 3/386.
[408] حكاها الأخفش والكوفيّون. انظر: شرح التسهيل 3/386، المساعد لابن عقيل 2/482، جواهر الأدب 221، الجنى الداني 249.
[409] حكاها الكسائيّ. (الجنى الداني 250).
[410] النكت الحسان في شرح غاية الإحسان لأبي حيّان 287.
[411] المصدر السابق.
[412] هذا مذهب الخليل وسيبويه والأخفش والمبرّد وابن قتيبة وعامّة البصريّين.
انظر: الكتاب 2/212، النكت الحسان في شرح غاية الإحسان 287، الجنى الداني 525، المغني 249.
[413] قائله الكسائيّ، وتلميذه نصير بن يوسف الرازيّ، ومحمّد بن أحمد بن واصل البغداديّ، وابن الأنباريّ. انظر: تهذيب اللغة 10/363، شرح كلا وبلى ونعم 24، الجنى الداني 525، المغني 250.
[414] نُسِبَ هذا القول إلى الفرّاء، ومحمّد بن سعدان، وأبي عبدالرحمن اليزيديّ.
انظر: النكت الحسان في شرح غاية الإحسان 287- 288، همع الهوامع 2/75.
[415] هذا قول النضر بن شميل البصريّ. انظر: النكت الحسان في شرح غاية الإحسان 288، الجنى الداني 525، المغني 250.
[416] هذا قول عبدالله بن محمّد الباهليّ. انظر: النكت الحسان في شرح غاية الإحسان 288، الجنى الداني 525- 526.(/70)
[417] هذا قول أبي حاتم السجستانيّ، ووافقه الزجّاج وغيره، كذا في: النكت الحسان في شرح غاية الإحسان 288، والجنى الداني 525، وما في كتاب الزجّاج (معاني القرآن وإعرابه) يوافق البصريّين في جعلها للردع والتنبيه، انظر: 3/345، 4/22، 85، 254، 5/221. وانظر: شرح كلا وبلى ونعم 25.
[418] النكت الحسان في شرح غاية الإحسان 288.
[419] الإنصاف 2/646، الارتشاف 2/7، الجنى الداني 431، المغني 185.
[420] هذا قول البصريّين. وجعلها الكوفيّون مقتطعةً من (سوف). انظر: رصف المباني 460، الإنصاف 2/646.
[421] هذا مذهب البصريّين. انظر: الإنصاف 2/647، الجنى الداني 431.
[422] النكت الحسان في شرح غاية الإحسان 288.
[423] ذكر ذلك سيبويه والأخفش الصغير والمبرّد والكسائيّ وغيرهم، وأنكر ذلك أبو عبيد. انظر: الكتاب 1/474، معاني القرآن وإعرابه 3/363، إعراب القرآن للنحّاس 3/44، الصحاح 5/2074، غريب الحديث لأبي عبيد 2/271- 272، الجنى الداني 383.
[424] قاله المالقيّ في (رصف المباني 253).
[425] النكت الحسان في شرح غاية الإحسان 289.
[426] المصدر السابق.
[427] النكت الحسان في شرح غاية الإحسان 289، الجنى الداني 270.
[428] النور 64.
[429] قاله ابن الخبّاز في (الغرّة المخفيّة في شرح الدرّة الألفيّة 1/78- 80).
[430] هذا رأي ابن جنّي (سرّ الصناعة 1/332- 333). وانظر: اللامات للزجّاجي 17. ويرى الخليل وسيبويه أنّهما جميعاً للتعريف. (الكتاب 1/63، 2/272).
[431] حديثٌ رواه الإمام أحمد في (المسند 5/434) عن كعب بن عاصم الأشعريّ – رضي الله عنه –، وانظر: جامع الأصول 6/396.
[432] الكتاب 1/377.
[433] هذه تسمية البصريّين، أمّا تسمية الكوفيّين له فهي (عماد) أو (دعامة). انظر: الكتاب 1/394، 395، 397، معاني القرآن للفراء 1/51، 52، 409.
[434] هذا قول البصريّين. انظر: الإنصاف 2/706، التسهيل 29، شرحه 1/169، الجنى الداني 345.(/71)
[435] هذا رأي الفرّاء. انظر: الارتشاف 1/492، الجنى الداني 345.
[436] هذا رأي الكسائيّ. انظر: المصدرين السابقين.
[437] النكت الحسان في شرح غاية الإحسان 291.
[438] النظر: (ص: 75).
[439] انظر: (ص: 71، 73).
[440] البقرة: 135.
[441] النكت الحسان في شرح غاية الإحسان 291.
[442] انظر: (ص: 31).
[443] المائدة: 6.
[444] قاله أبو جعفر النحّاس، وزعم أنّ الإجماع منعقدٌ عليه. انظر: إعراب القرآن له: 1/140، شرح القصائد التسع المشهورات 118، شرح التسهيل 2/241- 242، الجنى الداني 311، المغني 439.
[445] انظر: (ص: 66).
[446] هي لغة بني سليم. انظر: معاني القرآن للفراء 1/285، تسهيل الفوائد 235، الجنى الداني 154، المغني 394.
[447] ذكر الزجّاجيّ أنّ البصريّين لا يجيزون إسكان اللام مع (ثمّ). انظر: اللامات 93، الجنى الداني 154.
[448] الحجّ 29.
[449] الكهف 19، الحجّ 15، عبس 24، الطارق 5.
[450] الحجّ 29.
[451] في المخطوطة: (إذا)، والتصويب من (النكت الحسان في شرح غاية الإحسان 292).
[452] ذكره كثيرٌ من النحويّين. (الجنى الداني 295).
[453] النكت الحسان في شرح غاية الإحسان 292.
[454] زيادة يقتضيها السياق. وانظر: النكت الحسان في شرح غاية الإحسان 292.
[455] يوسف 96.
[456] الأعراف 12.
[457] النساء 155، المائدة 13.
[458] الأعراف 59، 65، 73، 85، هود 50، 61، 84، المؤمنون 23، 32.
[459] الأنعام 132، هود 123، النمل 93.
[460] الفرقان 20.
[461] قراءة سعيد بن جبير. انظر: التبيان في إعراب القرآن 2/983، البحر المحيط 8/94، شرح الكافية للرضيّ 2/356، المغني 307.
[462] يوسف 32.
[463] في القاموس المحيط 1723: (النجاءكَ، النجاءكَ، ويُقصران، أي: أسْرِعْ، أسْرِعْ). وانظر: الجنى الداني 141.
[464] أي: يلزم اللامَ معنى التعجّب في القسم، انظر: (الجنى الداني 144).(/72)
[465] هذا مذهب الخليل وسيبويه (الكتاب 1/298، 474، 2/67)، والأخفش، والفرّاء (الارتشاف 2/128، الجنى الداني 518)، وابن جنّي (الخصائص 1/317، سرّ الصناعة 1/304)، وجمهور البصريّين. (المغني 252)، واختار المالقيّ وأبو حيّان أنّها بسيطةٌ. انظر: رصف المباني 284- 285، الارتشاف 2/128.
[466] بيتٌ من البحر البسيط للعبّاس بن مرداس السلميّ – رضي الله عنه – (ديوانه 106).
وأبو خراشة هو خفّاف بن عمير بن الحارث السلميّ – رضي الله عنه – المعرف بـ(خفّاف بن ندبة). والبيت في: الكتاب 1/148، الخزانة 4/13، شرح أبيات المغني 1/173.
[467] في نسخة التحقيق: (والفصل).
[468] في نسخة التحقيق: (وحروفه).
[469] انظر: (ص: 73).
[470] زادها ابن السرّاج في كتابه (الأصول 2/171).
[471] انظر (ص: 45).
[472] انظر: (ص: 45).
[473] النساء 160.
[474] في المخطوطة: (الدار).
[475] حديث ورد في صحيح مسلم (شرح النوويّ 16، 172) برواية: (دخلت امرأةٌ النّار من جرّاء هرّة...)، لكنّ هذه الرواية مشهورة في كتب النحو فقط، انظر: النكت الحسان في شرح غاية الإحسان 297.
[476] هذا قول سيبويه (الكتاب 1/367) والمبرّد (المقتضب 3/200)، والفارسيّ (البغداديّات 271)، وجمهور البصريّين (الارتشاف 1/519)، وخالفهم الأخفش في كتابه المعاياة (شرح أبيات المغني 5/245)، وابن السرّاج (الأصول 1/161) وبعض الكوفيّين (رصف المباني 315).
[477] أنظر ذلك الجمهور، وقال بمصدريّتها الفرّاء، والفارسيّ في تذكرته، والتبريزيّ، والعكبريّ، وابن مالك. انظر: معاني القرآن للفرّاء 1/175، التبيان في إعراب القرآن: 1/96، التسهيل 38، شرحه 1/229، الجنى الداني 297، المغني 350.
[478] الشرح 1.
[479] الطارق 4.
[480] في نسخة التحقيق: (للا)، والصواب ما أثبتّه انظر: النكت الحسان في شرح غاية الإحسان 298، الجنى الداني: 537.
[481] في نسخة التحقيق (زيد).(/73)
[482] سبق الفارسيَّ إلى هذا القول ابن السرّاج، وتابعهما ابن جنّي. انظر: إيضاح الشعر 83، النكت الحسان في شرح غاية الإحسان 298، الجنى الداني 538، المغني 369.
[483] الكتاب: 2/307.
[484] في المخطوطة: (يمتنع)، وهذا تصحيفٌ بلاشكّ.
[485] النكت الحسان في شرح غاية الإحسان 299.
[486] في نسخة التحقيق: (يمتنع).
[487] النكت الحسان في شرح غاية الإحسان 299.
[488] زيادة يقتضيها الكلام.
[489] الجنى الداني 198، 201، 205.
[490] الكتاب 1/406، النكت الحسان في شرح غاية الإحسان 289.
[491] زيادة يحتاجها السياق.
[492] زيادة يقتضيها السياق. وانظر: النكت الحسان: 289.
[493] كسابقه.
[494] في نسخة التحقيق: (زيدُني، وقدُني) والصواب ما أثبتّه، وانظر: النكت الحسان: 289.
[495] الصحيح أنّ الكتاب هو (العوامل والهوامل) للمجاشعيّ.(/74)
العنوان: التدخينُ.. ذلك الوباءُ العالميّ المدمر
رقم المقالة: 1386
صاحب المقالة: أحمد أبو زيد
-----------------------------------------
• 24 مليونا ماتوا بسبب التدخين خلال العقدين الماضيين.. ووفاة شخص كل عشر ثوان في العالم بسبب (السيجارة).
• أكثر من مليار مدخن في العالم.. منهم 800 مليون في الدول النامية.. وثلاثة ملايين شخص يموتون سنويا على مستوى العالم بسبب أمراض مرتبطة بالتدخين.
• هيئة الصحة العالمية: التدخين أشد خطرًا على صحة الإنسان من أمراض السل والجذام والطاعون والجدري مجتمعة.
• ما تنتجه شركاتُ التبغ من السجائر يوميًّا يكفي لإبادة الجنس البشري كله لو أخذت كميةُ النيكوتين التي تحويها بالوريد أو عن طريق الفم.
• مبيعاتُ التدخين تتناقص في أوربا وأمريكا، وتتزايد فى العالم العربي والإسلامي.
• عددُ وَفَيات التدخين سوف يزيد عن عدد الوفيات من مرضى الإيدز خلال ثلاثين عاما.
• • • •
الأخطارُ المتعددة لظاهرة التدخين، والتي تكشف عنها البحوث والدراسات العلمية كل يوم، جعلت العالم يتيقظ لخطورة هذه الظاهرة، وما يترتب عليها من خسائرَ جسيمةٍ في الأرواح والأموال واقتصاد الشعوب، وتعالت أصواتُ العقلاء في العالم مطالبةً بضرورة التصدي للتدخين ومكافحته بكل السبل والوسائل الممكنة، وبدأت الهيئات والمنظمات الدولية المهتمة بالصحة والاقتصاد تصدر تحذيراتها المتكررة لخطورة التدخين، وضرورة الإقلاع عنه ومكافحته، لما يستنزفه من مواردَ بشريةٍ واقتصادية.(/1)
فالتدخين يعد أخطر وباء عالمي عرفته البشريةُ، ومنذ عشرات السنين لم يكتسح العالمَ وباءٌ استطاع أن يقضي على ملايين الأنفس كل عام كالتدخين، وقد أعلنت هيئةُ الصحة العالمية منذ ربع قرن أن التدخين أشد خطرًا على صحة الإنسان من أمراض السل والجذام والطاعون والجدري مجتمعة، وأن ما تنتجه شركات التبغ من السجائر يوميا يكفي لإبادة الجنس البشري كله لو أخذت كمية النيكوتين التي تحويها بالوريد أو عن طريق الفم. وأكدت إحصائياتها الحديثة أن 24 مليونا ماتوا بسبب التدخين خلال العقدين الماضيين.
• مليار مدخن:
وعن عدد المدخنين في العالم أوضحت دراسةٌ هامة أجرتها إحدى الجامعات الأمريكية حول التدخين أن العالم يضم 1.1 مليار مدخن، منهم 800 مليون مدخن في الدول النامية، وأن نحو ثلاثة ملايين شخص يموتون سنويا على مستوى العالم بسبب أمراض مرتبطة بالتدخين؛ مثل أمراض سرطان الرئة وأمراض القلب، أي بمقدار شخص واحد كل 10 ثوانٍ، وهذه الأرقام عرضة للارتفاع أكثر من ثلاث مرات خلال جيل واحد، حتى إنه من المتوقع أن يرتفع عددُ الوفيات في العالم بسبب التدخين إلى عشرة ملايين شخص عام 2025م، وأن 70% من الوفيات ستسجل في بلدان العالم الثالث التي أصبحت هدفا لشركات التبغ؛ ومن ثم تحاول التركيز عليها لتنمية مصالحها في ترويج السموم، وهذا ما يجعلنا نؤكد أن التدخين ما هو إلا انتحار بطيء، يمارسه المدخن في حق نفسه ما دام قد أصرّ على ممارسة هذه العادة المرذولة.
وأكدت إحصائيات البنك الدولي أن المدخن يخسر ما يقرب من 22 عاما في المتوسط من عمره الافتراضي بسبب التدخين، وحذرت من أن عدد وفيات التدخين سوف يزيد عن عدد الوفيات من مرضى الإيدز خلال ثلاثين عاما.
• دعوة عالمية للإقلاع:(/2)
ونتيجة لهذه الأرقام المخيفة بدأت الدعوة العالمية للإقلاع عن التدخين، وبدأت بعض دول العالم تتخذ إجراءات حاسمة في هذا الصدد، ففي منتصف الثمانينيات كانت الدعاية الحكومية تنصح المدخنين بالتحول إلى السجائر منخفضة القطران، إذا لم يتمكنوا من الإقلاع نهائيا عن التدخين، ولكن الصورة تغيرت الآن وأصبحت الحملات الدعائية الحكومية تحث الناس على الامتناع نهائيا عن التدخين.
وقامت دول المجموعة الأوروبية بإصدار تشريعات جديدة خاصة بصناعة وتسويق التبغ، وتنص هذه التشريعات على ضرورة وضع التحذيرات الصحية بشكل أكثر وضوحا على منتجات التبغ، وأن ينخفض الحد الأقصى لمحتوى القطران من 12 (مللي غرام) إلى 10 لكل (سيجارة)، ولكن دول المجموعة الأوروبية لن تجبر الدول الأعضاء على تطبيق تلك التشريعات، وسوف يترك لكل دولة حرية تطبيقها بالطريقة التي تراها.
وفى بريطانيا بدأت وزارة الصحة بأخرة حملةً للتوعية بمخاطر التدخين تصل تكلفتها إلى مائة مليون جنيه إسترليني، وهي أضخم إجراء إعلامي لتوعية المواطنين بمضار التدخين، وهي حملة مدعومة بجملة من الإعلانات التلفزيونية ذات الصلة، وخط هاتفيّ مجاني لتقديم المعلومات والمساعدة للأشخاص الراغبين في الانقطاع عن التدخين، وكذا موقع على شبكة الإنترنت. وتهدف هذه الحملة إلى التحكم في مسبب أكثر الأمراض فتكًا في بريطانيا وهي: السرطان وأمراض القلب والسكتة الدماغية. وتسعى لندن إلى خفض نسبة المدخنين في بريطانيا من 28 % حاليا إلى ما لا يزيد عن 24 % قبل عام 2010.
ومن المعروف أن التدخين يؤدي إلى وفاة 46 ألف شخص من مرضى السرطان في المملكة المتحدة سنويا، أي ما يعادل 30% من ضحايا السرطان في البلاد، وهو مسؤول أيضا عن أربعين ألف حالة وفاة بالنوبات القلبية سنويا، أي نسبة 25% من المتوفين بهذا الداء، كما يسبب نسبة 83 % من الوفيات بداء السل وتضخم الرئة وربع حالات الوفاة بالسكتة الدماغية.(/3)
وفى كندا لم يبق أمام خبراء الصحة خيار آخر لإقناع المدخنين بالإقلاع عن التدخين سوى أسلوب الصدمة، ففي أعنف حملة تشن عالميا طلبت الحكومة الكندية من شركات التبغ أن تضع على علب السجائر صورا لأعضاء بشرية تالفة من جراء التدخين، على أن تكون الصور فوتوغرافية وواقعية لرئات بشرية مصابة بالسرطان وصور قلوب وأدمغة لأشخاص مصابين بمرض القلب أو الجلطة الدماغية، وستشغل هذه الصور حوالي 50 % من سطح علبة السجائر.
ومن المعروف أن التدخين ممنوع منعا باتا في كندا، وبالأخص في الأماكن العامة مثل البنايات الحكومية وكذلك في البارات والمطاعم في بعض المناطق الكندية.
• التدخين في العالم الإسلامي:
وفي الوقت الذي انخفض فيه التدخين في أوروبا وأمريكا بشكل ملحوظ، نجده يزداد في العالم العربي والإسلامي، فمنذ سنوات نقص حجم مبيعات التدخين في العالم من 5.95 تريليون دولار إلى 5.61 تريليون دولار، في حين ارتفعت أرقام المبيعات في الدول العربية، وهذا ما يؤكده الدكتور حمدي السيد نقيب الأطباء المصريين، إذ يقول: إن نقص المبيعات في التدخين وقع في أوروبا وأمريكا فقط، لكن الدول العربية ما زال التدخين فيها في زيادة مستمرة، وبين أن في كل ثانيتين يموت شخص بسبب التدخين. ويؤكد أن عدد المدخنين في مصر بلغ 9 ملايين مدخن، معظمهم من الشباب، و16 % منهم أعمارهم بين 12 ـ 16 سنة.
وعن الأمراض التي تسببها (السيجارة) والشيشة، يقول الدكتور حمدي السيد: الشيشة أكثر ضررًا من (السيجارة)؛ فالشيشة تسبب السل والسرطان وأمراض شرايين القلب، وأيضا تعمل على نقص في الرجولة لدى الرجال، وأيضا تتلف الأسنان والرئتين وتؤثر في نسبة الذكاء، وأيضا السجائر لها الأضرار نفسها، وتؤثر في الخصوبة لدى المرأة والرجل.(/4)
وأشار إلى أن 74 ألف طفل دون العاشرة يدخنون في مصر. وأن العالم العربي مستهدف من قبل الشركات العالمية للتبغ، إذ تزيد فيه نسبة المبيعات في حين تقل في العالم الأوروبي والأمريكي، وطالب بزيادة حملات التوعية لبيان أضرار التدخين، وأنه لا بد من وجود القدوة، فالرجل إذا دخن، قد يدخن ابنُه تقليدا له، ومع الأسف الشديد انتشرت في العالم العربي ظاهرة تدخين النساء للسجائر والشيشة داخل البيوت وخارجها، وهذه مصيبة حلت بأخلاق الأمة الإسلامية.
ولا شك أن مصر تعد من الدول العربية التي تكثر فيها ظاهرة التدخين، فتقرير المكتب الإقليمي لمنظمة الصحة العالمية لمنطقة شرق البحر المتوسط يؤكد أن استهلاك المصريين للتدخين وصل مع مطلع القرن الجديد إلى 85 مليار (سيجارة) سنويا، وأن معدل إنفاقهم اليومي في الثمانينيات كان مليونا ونصف مليون جنيه، أي ما يقارب 600 مليون جنيه في العام الواحد، ولا شك أن معدل الإنفاق هذا قد ازداد في العقدين الآخرين، هذا إلى جانب ما تنفقه الدولة على المواطنين في علاج الأمراض التي يتسبب فيها التدخين.
• الإسلام وظاهرة التدخين:
وحول موقف الإسلام من ظاهرة التدخين أفتى سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله- بتحريم التدخين ومنع الدخان وشربه والاتجار فيه، وقال: إن الدخان محرم لكونه خبيثا ومشتملا على أضرار كثيرة، وقد أباح الله لعباده الطيبات من الطعام والشراب. وأشار في فتواه إلى أن الدخان ليس من الطيبات بل هو من الخبائث، ولا يجوز بيعه أو شربه أو الاتجار فيه.
وقال الدكتور (نصر فريد واصل) مفتي مصر الأسبق: إن التدخين حرام بكل المقاييس الشرعية؛ لما فيه من الإضرار بالمدخن ومن حوله، بل إن حرمته أشد من حرمة الخمر؛ لأن الخمر تضر بصاحبها فقط، أما التدخين فإنه يضر بالمدخن ومن حوله دون أن يدري، وهذا ثابت علميا.(/5)
وأشار الدكتور واصل إلى أنه إذا كان حديث رسول الله يلعن شارب الخمر وبائعها وحاملها وعاصرها ومعتصرها والمحمولة إليه، فإن هذا اللعن يشمل المدخنين أيضا؛ لما في التدخين من أضرار بليغة. وأضاف أنه إذا كان التدخين محرمًا شرعًا، فإن التاجر والصانع والبائع والمشتري يكون عملهم من باب المحرم قطعا، وما يحصل عليه هؤلاء من أرباح أو أموال من وراء عملهم فهو كسب حرام ولا يصح التصدق به أو إنفاقه في أي عمل من أعمال البر؛ لأن الله طيب لا يقبل إلا طيبا.
وشدّد واصل على أن التدخين حرام وكل ما يتصل به حرام والإعلانات بمختلف أنواعها في جميع وسائل الإعلام عنه من باب المحرم شرعا؛ لأنه إعانة على معصية والإعانة على المعصية تكون معصية.
وأكد أن المعلم الذي يدخن أمام طلابه قدوةٌ سيئة، وقد ارتكب منكرا وزورا يستحق العقاب عليه في الدنيا والآخرة؛ لأنه يبث في تلاميذه وطلابه مبادئ هدامة لا يقرها شرعٌ ولا يرضى عنها دين، مشيرًا إلى إن المعلم هو القدوة لأبنائه وتلاميذه، فيجب عليه أن يكون قدوة حسنة لكل المحيطين به ومثلا صالحا للناس.
وأضاف أن كل ضار محرم ومنهي عنه بإجماع علماء الشريعة الإسلامية، وقد ثبت من خلال البحث والواقع أن التبغ أشد ضررًا على الإنسان من الخمر والمسكرات التي هي محرمة في الإسلام، مشيرا إلى أن تجارة التبغ حرام والإعلان عنه حرام والترويج له حرام وكل ما يتعلق به فهو من باب المحرم شرعا.
• خطر يهدد الأمة:
وأكد الدكتور أحمد عمر هاشم -الرئيس السابق لجامعة الأزهر- أن حرمة التدخين واضحة ولا جدال ولا اجتهاد فيها، فالتدخين حرام بنص الآيات الكريمة والحديث الشريف؛ فالحق سبحانه وتعالى يقول: {ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث} [الأعراف: 157] والتدخين من الخبائث، وهو خطر يهدد هذه الأمة اقتصاديا واجتماعيا وأخلاقيا.(/6)
وقال: إن أمتنا مستهدفة اقتصاديا وعسكريا وصحيا، وفي شبابها زهرةِ أبنائها، الذين يسقطون صرعى هذا الإدمان الخبيث الذي يأتي نتيجة هذه السموم. من أجل ذلك كانت الجامعات في العالم الإسلامي -التي هي قلاع العلم والمعرفة- أولى بأن تدرأ عن شبابنا هذا الخطر، وواجبنا وواجب الشباب أن يكونوا جنودًا لدرء هذا الخطر، وأن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر.
وأضاف أن التدخين يسبب كثيرا من الأمراض أهمها الأمراض السرطانية للرئة وأمراض القلب ويلوث البيئة، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لا ضرر ولا ضرار)، ففي التدخين إضرار بالنفس والمال والصحة والاقتصاد، ومن هنا تأتي حرمته.(/7)
العنوان: الترابط في القرآن الكريم (سورة البقرة)
رقم المقالة: 466
صاحب المقالة: علا الجمال
-----------------------------------------
تبدأ السورة بـ: "بسم الله الرحمن الرحيم"؛ والبسملة أمان من الله - تعالى – للإنسان؛ فالله - الرحمن - هو الذي أنزل القرآن؛ قال تعالى: {الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن:1-4] - رحمةً بنا.
وتدور السورة كلها عن أول آية؛ فذلك الكتاب لاشك فيه؛ كل ما فيه حق، وهو هدى للمتقين، من هم المتقون؟ سوف يأتي وصفهم في السورة على التفصيل، بناء على ما فعله غير المسلمين - من اليهود والمشركين - نفهم ما ينبغي أن يفعله المتقون، وسنجد صفاتاً وأفعالاً كثيرة فعلها اليهود؛ يذمها الله، ونحن نفعلها الآن بطريقة عادية جداً، لذلك؛يجب الحذر من الإتيان بأفعال مَنْ لعنهم الله وغضب عليهم؛ ولقد قال الله – تعالى - لليهود: {وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة:45], وقال للمؤمنين في نفس السورة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:153], وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُوا ْوَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة:104], وكان اليهود من شمائلهم قول: "سمعنا وعصينا", قال الله - عز وجل -: {أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ} [البقرة:108].(/1)
وذكر الله صفات المتقين في الجزء الثاني من السورة؛ وأوضحت أن الإيمان ليس الصلاة قِبَلَ المشرق والمغرب فقط؛ وإنما هو العمل بطاعة الله؛ {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة:177], ونلاحظ تكرار قول الله – تعالى -: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ},و{لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ},و{وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ},و{وَلْيَتَّقِ اللهَ},و{الَّذِيْنَ اتَّقَوْا},و{حَقَّاً عَلَىَ الْمُتَّقِيْنَ},و{مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِيْنَ}, وجاءت لفظة "اتقوا" عشر مرات.(/2)
ومن أسس الإسلام: الشهادتان, وإقامة الصلاة, وإيتاء الزكاة, والحج, والصيام؛ ونجد السورة تؤكد هذه الأركان وما يتعلق بها؛ فإقامة شعائر الدين, تتطلب الأمان داخل البيت المسلم؛ لذلك جاء ذكر أحكام الطلاق وما يتعلق به؛ فالبيت القائم على المنازعات والصراعات, لن تُقَام فيه الصلاة كما ينبغي؛ وإذا أقيمت, فستكون حركات مجردة؛ لأن القلب مشغول, ولن تؤتي ثمارها من ازدياد الطاعة؛ بل ربما بعد الصلاة - مباشرة - يعصى الله؛ فالرجل الكاذب الخائن الذي يستفز امرأته, لا يتوقع من امرأته الطاعة الكاملة لله, وكذلك المرأة التي تؤذى زوجها؛ لن يسلم من الوقوع في الذنوب؛ وأقل ذنب "الغيبة" - وهي كبيرة من الكبائر - لذلك: ذكر الله - عز وجل - الحث على الصلاة وسط آيات الطلاق؛ والصلاة ليست حركات تُؤَدَّى؛ وإنما هي تجديد العهد بين العبد وربه؛ بحمده, والاستعانة به, وبعبادته وحده، والصراعات في البيت, تؤثر على جوهر وثمرة الصلاة؛ لأن من لم تَنْهه صلاته عن الفحشاء والمنكر؛ فليست بصلاة، والذي يصلى يناجى الله؛ أي: هو يؤمن بوجوده؛ إذن: فليتق الله ويطيعه؛ وسوف يجعل الله له مخرجا؛ فمن الرجال من يعامل زوجته معاملة سيئة, ولا يطلقها, وإذا سألته عن السبب يقول: حتى لا يتشرَّد الأبناء، وبعض الرجال لا يهتم بسلوك زوجته لنفس السبب, ولا يعلم أن من يُضَيِّق رحمة الله, تضيق عليه؛ كأصحاب البقرة، فالإنسان الذي يتقى الله, لا يتركه الله أبداً؛ فكم من زوجة أب أرحم من الأم على أبنائها. *ونجد أن الحج يستلزم الأمان الخارجي للزوم السفر؛ لذلك: ذُكِرَ القتال بعد الحج، وجاء ذكر الإنفاق للزومه في الحج والقتال, وأيضاً للتكافل بين المسلمين, وذُكِرت آية الدين والقصاص كي يأمن المسلم في مجتمعه؛ والأمان يساعد على إقامة شعائر الدين؛ ولقد ذكر الله سيدنا إبراهيم, وكيف أصبح إماماً؛ فلقد ابتلاه الله بكلمات؛ وهى أوامر أَمَرَهُ الله بها, فعمل بها, فجعله إماماً(/3)
- بطاعته لله - كما قال الله - تعالى -: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24], ثم تأتي آخر السورة لتجمل صفات المتقين؛ التي نفهم مما فعله اليهود أن الله يحذرنا من مسلكهم؛ فذكر الله أن المؤمنين آمنوا بالله وملائكته وكتبه, ولم يفرقوا بين أحد من رسله -كما فعل اليهود والنصارى - وقالوا سمعنا وأطعنا - بعكس اليهود – بذلك: نلمس ترابط السورة.
وعنوان السورة وثيق الصلة بها؛ فالبقرة تدل على عناد بنى إسرائيل, وكثرة غِيِّهِم, وتطاولهم على أنبيائهم, وعدم توقير ربهم؛ فلقد كانوا يسألون موسى بقولهم: {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ}[البقرة:68], والمؤمنون يقولون: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:285]؛ فشتان بين الفريقين؛ وكانت النتيجة أن لعنهم الله؛ على الرغم من إنعامه – عز وجل - عليهم قبل ذلك، وتفضيلهم على العالمين.
ربما تكون قصة البقرة رسالة لها مغزاها: إننا إذا عصينا الله ولم نتبع أوامره, سيصبح أمرنا عسيراً؛ وفي آخر سورة البقرة يقول الله – عزَّ وجل -: {أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة:286]؛ فالمؤمن أطاع الله؛ وبذلك استحق الولاية لله, أو هو اتخذ الله مولى له فأطاعه؛ فيطلب من مولاه النصرة على القوم الكافرين، وليس الكافر هو المخالف للدين فقط, ولكنه - أيضاً - كل من يُنْكِر شريعة الله ويحاربها ويصد عنها - ولو سَمَّي نفسه مسلماً.
كيف ينصرني الله - بوصفي من المؤمنين - على القوم الكافرين؟ هل بجلوسي في البيت وطاعتي لله سينصرني الله على الكافرين؟! سنجد الإجابة بالتفصيل في سورة "آل عمران".(/4)
وتستوقفنا بعض المعاني في السورة – سورة البقرة – مثل: "نور الله"، و"نور المنافقين والكافرين"؛ حيث ضرب الله مثلاً للضالين؛ بمن جاء بنار يستوقد بها؛ والنار عند العرب قديماً تعنى الكثير؛ فهي للإنارة, وللتدفئة, ولإعداد الطعام, ولإبعاد الحيوانات المؤذية... وخلافه، والذي يستبدل نور الله بضلالات الدنيا؛ كمن أتى بنار للاستفادة بها؛ فلما أضاءت ما حوله, انطفأت النار؛ بأي سبب - من مطر أو نفاد الحطب - فالله قادر على الذهاب بها بأي سبب، فماذا سيفعلون؟! وهذا مثل لمن يستبدل بهدى الله ضلالات الغرب, ويربى أبناءه - مثلاً - على قيم أهل الغرب؛ وهو يظن أن ذلك سينفعه؛ مثل النار التي استوقدها, ثم تمر الأيام؛ فينقلب أولاده عليه, ويطردونه من البيت؛ لأنهم تربوا على قيم الغرب؛ التي تحسب كل شيء بالأرقام, ولا يعلمون أنهم إذا أنفقوا على والدهم, سيبارك لهم الله وسيرزقهم من حيث لا يحتسبون, ومثل هذه القيم الدينية؛ ونحن نرى في حياتنا الدنيا مثل هذه النماذج؛ وعندما تنطفئ النار, لا يهتدي طريقاً - لقد قُضِىَ الأمر - ويبكي على ما فات, أو كالخائف من الصواعق والرعد, وهو ينسى المتحكم في هذه الأشياء؛ فأولى له أن يخاف منه ويتقيه، وإذا بَرِقَ البَرْق, مشى فيه؛ فهو يُخْدَعُ بأي بريق، ونور البرق ليس بباقٍ ولا دائم؛ أما نور الله, فهو الذي لا يُطْفَأ؛ لأنه في قلب المؤمن؛ متأكد من أن تعاليمه هي الحق - وإن طال العمر، وإن طال البلاء - أما من يستبدل بنور الله بريق الضلالات, فلن يستطيع العودة حين يذهب هذا البريق الخادع, ولن يجد غير نتيجة أعماله.
القصص في سورة البقرة:(/5)
ونلاحظ أن القصص التي جاءت في سورة البقرة, تخدم نفس المعنى، وهو الطاعة؛ فقصة خلق آدم، وتعليمه، وتحذيره من الشجرة، ثم قبول الله توبته تعلمنا: إنه يجب علينا الطاعة؛ لأن الله هو الذي خلقنا, وإن عصينا, يجب علينا التوبة؛ لأن الله هو الحكم والمتصرف فينا؛ فأين المهرب وأين المفر؟! و ذكر الله: إنه خلق للإنسان ما في الأرض جميعاً - قبل أن يخلقه - لكي يَعْمُر الأرض, ويستكشف ما في باطنها, وخلقه ليكون سيداً، وليس ضعيفاً يرضى بالقليل، وفى نفس الوقت مطيعاً لله مُطَبِّقاً لحكمه وشرعه؛ وكأنَّ الله يستنكر علينا المعصية - وهو تعالى قد خلق لنا كل شيء يكفينا - فلِمَ التهافُت على الحرام وفى الحلال غِنَى وسعة؟! وجاءت قصة "النمرود" مع إبراهيم الخليل – عليه السلام - لتؤكد أن الأولى بالطاعة هو من بيده الأمر والتغيير فقط؛ ونجد عاقبة الطاعة النصر والتمكين؛ كما في قصة "طالوت"؛ وليس معنى الطاعة لله ألا نبحث في الكون, ولا نسعى للمعرفة؛ فسيدنا "إبراهيم" طلب من الله أن يريه كيف يحيي الموتى؛ حباً في المعرفة وليس شكاً، واضطراب القلب هنا كان قلقاً للمعرفة؛ فالله - سبحانه وتعالى - لم يُنْكِر على "إبراهيم" ذلك القلق للمعرفة؛ وهذا رد على المتشددين؛ الذين يُنْكِرُونَ على المسلم الاهتمام بهوايةٍ ما ليس فيها إثم.
علاج العناد والكبر:(/6)
يقول تعالى: {وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ}[البقرة:45], ولقد فسر الصبر بالصيام - كما جاء في كتب التفسير - وهذا يدل على رحمة الله بنا؛ أنه أرشدنا للعلاج من مرض النفوس الذي لا يعلمه الطب الحديث إلا بالعقاقير المهدئة؛ التي تُخَرِّب النفوس - فيما بعد - وتعد علاجاً مؤقتاً, وهروباً بالنوم المتواصل؛ فنصحهم الله بأن يستعينوا بالصلاة والصيام؛ لتغيير الكِبْر الذي في قلوبهم؛ وهذه الآية جاءت في سياق الحديث عن اليهود, ثم جاءت - مرة أخرى - عامة للمؤمنين؛ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:153]؛ لذلك: كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - إذا حَزَبَهُ أمر, صلى؛ فالصلاة راحة للمؤمن حَقَّ الإيمان، وبعض الناس - إذا هاجمته الهموم - يصلي ويكثر من الصلاة؛ حتى يفرج الله همه, ومن يتوجه إلى الله في الشدائد, ينجو من المرض النفسي المنتشر بين أهل الباطل، وكثرة الصيام والصلاة تطهر النفس وتزكيها وتجعلها تُقْبِلُ على الحق - وهذه الطاعات ثقيلة على غير المؤمنين - وكثرة الصيام والصلاة تقوى البصيرة؛ فيرى الإنسان بنور الله, ولا يتهافت على ما يضره, وتنجي من الهم؛ فكثير من أصحاب المعاصي - وإن لم يكن كلهم - يقولون: "لا أستطيع أن أَكُفَّ عن التدخين" - مثلاً أو أي معصية أخرى - ولو جرب هذا العاصي الصيام لفترة طويلة؛ سوف يقلع عن المعصية؛ لأن الصيام يقوى الإرادة, وينبه العقل, ويهدئ النفس, وينزل عليها السكينة, ويقوى البصيرة, ويكفر الذنوب؛ وربما بسبب ذنوبه, لا يستطيع ترك هذه المعاصي؛ لقول أحد الصالحين: "إن الذنب يفعله المرء لذنب سبق - عقاباً له - والطاعة تعقبها طاعة - مكافأة له"؛ ولا أعنى الصيام يوماً أو يومين, وإنما بِقَدْرِ الذنب؛ فإذا كان الإنسان حقوداً معانداً أو غافلاً أو عاصياً,(/7)
لا يستطيع الإقلاع عن المعصية؛ فليصم حتى يشعر بالتغيير؛ فإذا تغير, فليعلم أن الله تَقَبَّلَ منه؛ لأن الله لا يغير ما بقومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم.
الإسلام دين الإقناع:
أمرنا الله - تعالى - بأشياء كثيرة, ولكنه - تعالى - من رحمته, وضح لنا السبب مصحوباً بالأمثلة؛ فمثلاً: أمرنا بالقتال؛ لأنه قد يكون خيراً لنا ونحن لا نعلم؛ فالكافرون إذا تمكنوا من المسلمين, يعذبونهم, ويغتصبون نساءهم, ويدمرون حضارتهم, ويبدلون دينهم؛ الدليل على ذلك: ما حدث في الأندلس, وما يحدث الآن، وبَيَّنَ أيضاً: إنه لولا قتال المفسدين, لفسدت الأرض، وبَيَّنَ الله مَنْزِلَةَ الشهداءِ؛ وأنهم أحياء, وبَيَّنَ في قصة الذين خرجوا من ديارهم حذر الموت, كيف أماتهم الله؟ فالموت هو مآل الإنسان, ولكن الفرق في سبب الموت؛ هل هو في سبيل الله؛ فتنال الشرف الأسمى والجزاء الأوفر، أم هو موت الخائن أم موت الجبان....إلخ؟ كذلك: بَيَّنَ لنا كيف يُنَمِّى الله الصدقة ويبارك فيها, ويمحق الربا - مع أن العقل الإنساني يخشى الإنفاق, ويجد الربح كل الربح في الربا - ثم يضرب الله مثلاً لرجل غني؛ أصابه الكِبر, واحترق ثَمَرَهُ بإعصار؛ فمن يحميه وينصره من الله؟!
فالله قادر على أن يهلك الثروة - مهما بلغت - أما الصدقات, فهي عنده لا تضيع؛ بل تزيد وتتضاعف, ويأمن صاحبها من الفقر؛ لأنه وثق بالله وصَدَّقَهُ.(/8)
وفى سورة البقرة جاءت آية الكرسي - أعظم آية في القرآن - تزلزل النفوس المؤمنة, وتحثها على الطاعة؛ غير خائفة من مخلوق وغير خائفة من فوات رزق, أو فوات ثواب طاعة؛ فالإنسان نفعي بطبعه, يبحث عن منفعته؛ فلو لم يكن الله سميعاً بصيراً, فلن أُخْرِج الصدقة ولن أَتْعَب في سبيله؛ لكنه - تعالى - يعلم السر وأخفى, ولا تأخذه سنة ولا نوم؛ لن يظلمني؛ بل ستَتَضاعَف حسناتي؛ لأنه - تعالى - أرحم الراحمين الكريم العليم بخلقه؛ فهذه الآية العظيمة, ربطت ما سبق بما هو آت؛ فالأحكام السابقة كثيرة, ولكن الله هو الإله الواحد لا شريك له؛ فَلِمَ لا نطيعه؟! وسنثاب على هذه الطاعة, وستستقيم حياتنا بتطبيقها؛ لأنه معنا, يرانا ويؤيدنا؛ فمن يحفظ السموات والأرض, قادر على كل شيء، وعلى الرغم من قوته غير المتناهية يقول الله - تعالى – بعدها: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة:256]، ثم يحببنا في الطاعة؛ بأنه: {وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} [البقرة:257]؛ فهل الكافر له نور؟ نعم: نور الفطرة؛ فكل إنسان يولد على الفطرة, وأبواه يعلمانه دينهما، أو ربما يرى الكافر شعاعاً من نور, ثم يأتي شيطان من شياطين الإنس ويشجعه على الابتعاد عن البحث في الدين, وعن النظر في حكمة الخلق، وربما يأتي من عناده؛ كما جاءت في قصة "النمرود" بعد هذه الآية؛ عندما سأله "إبراهيم" بأن: يأتي بالشمس من المغرب, فبهت, ولكنه لم يتراجع, ولم يؤمن كِبْراً؛ على الرغم من أنه بُهِتَ وكُبِتَ ولم يستطع الرد؛ مما يدل على عجزه، بذلك: تتجلى لنا عظمة الله - تعالى - ومدى جهل الإنسان ونقصه؛ فالإنسان عندما يصبح مالكاً لشركة أو مصنع يقول: "أنا المالك؛ ومن حقي أن أطرد أي عامل بدون إبداء الأسباب" أما الله - تعالى - فهو المالك القادر,(/9)
وعلى الرغم من ذلك يبدى لنا أسباب غضبه, وأسباب نجاتنا.(/10)
العنوان: الترابط في القرآن الكريم وفائدته في الحياة
رقم المقالة: 211
صاحب المقالة: علا الجمال
-----------------------------------------
دائما نسمع بعض المسلمين يقولون الدنيا تحتاج إلى الصبر، والمسلم له الآخرة فقط أما الكافر فله الدنيا، وكأن الحزن قرين المسلمين فقط، ثم قرأت القرآن؛ فوجدت الله يمن على المسلمين بإرسال الرسول ليعلمنا ما فيه صلاحنا، ويمن علينا بأنه - تعالى- أرسل إلينا القرآن فيه هدى وشفاء ورحمة وذكرى للمؤمنين.
أمرنا الله تعالى بتدبر كلامه، ولو كانت التفسيرات وحدها تغني لما أمرنا بالتدبر والتفكر، وكلما تدبرنا القرآن أحسسنا بجماله وحكمته وعظمته، بعكس الكتب البشرية التي ربما تتغير أفكارها بتغير الأحوال والظروف، أما القرآن فهو ثابت في حكمته متجدد في عطائه لا يستفيد من نوره إلا أولو الألباب؛ لأن المسلم الذي يقرؤه بلا تدبر لا يقف عند الآيات التي تصف الكفار، ويقول في نفسه لست منهم، وفي نفس الوقت يفعل أفعالهم بحذافيرها ويتكلم كلامهم كما جاء في القرآن تماماً.
وبقراءة القرآن قراءة عادية تبدو الآيات غير مترابطة، تنتقل من موضوع إلى آخر، وحاول بعض الباحثين مثل الشهيد سيد قطب في الظلال ربط الآيات بعضها ببعض ولكنه كما ذكر في سورة البقرة أنه يجمعها محور واحد مزدوج يترابط الخطان الرئيسان فيه ترابطاً شديداً، وقال عن سورة آل عمران إنها تصور حياة الجماعة المسلمة من بعد غزوة بدر إلى ما بعد غزوة أحد بأحداثها.
ولقد حاولت أن أربط كل سورة في القرآن برابط واحد بعيداً عن الازدواج، ولم أربطها بالزمن؛ لأن القرآن وإن نزل متفرقاً بحسب الأحداث كي يتعلم الناس وحتى يكون أثبت في النفوس بالتطبيق العملي، فهو في الأصل مرشد وهادٍ لكل العصور فما يعنيني هو المعنى والحدث نفسه وليس الزمن، فإن وُفِّقت فالفضل لله تعالى وحده، وحاولت أيضاً الربط بين كل سورة والسورة التي تليها.
سورة الفاتحة(/1)
{بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (3) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ (7)}
من الطريف أن أي إنسان يؤمن بوجود الله يمكنه قراءة فاتحة الكتاب بلا أدنى حرج، لأنها لا تتعرض لأي ملة؛ فصاحب أي ملة يرى أن أهل الملة الأخرى مغضوب عليهم وضالون، الفاتحة هي ميثاق بين العبد وربه ليس فيها عذاب و لا عقاب وإنما كلها رحمة وترغيب وحب الله للبشر، فالمؤمن بالله يعبده ويتوكل عليه، ويطلب منه العون؛ لأنه ربه وهو أولى به، وبدأت بـ"بسم الله الرحمن الرحيم" وهي تريح البال وتهدئ الأعصاب وليس كما يقول بعض الغربيين إن إله المسلمين قاسٍ يتوعدهم بالعذاب، فرحمة الله سبقت عذابه ورحمته وسعت كل شيء المؤمن والكافر، ومن رحمته إرسال الرسل وقد يسأل سائل ويقول: ليته لم يرسل الرسل ولعشنا نفعل ما نشاء، وهذا لا يجدي لأن الله خلق الكون كله بنظام، سواء أبينا أو رضينا، وإذا لم يخبرنا بالنظام الذي اختاره لنا واخترنا نظاماً آخر لخربت حياتنا ونفوسنا ولفسدت الأرض؛ لأن صلاحها مرتبط بصلاحنا، ولأنه تعالى لم يخلقنا عبثاً، ولكن خلقنا للخلود وهذه الدار موصلة للحياة الأخرى، فالحمد لله أنه تعالى وهبنا الحياة للخلود ودلنا على طريق الفلاح الذي من سلكه سعد في الدارين، فالحمد لله هي مفتاح الوصول إلى الله، فالحمد لله على نعمة الربوبية، وعلى نعمة أنه لا شريك له في حكمه وليس هناك وسيط بيننا وبينه، فيكفي الإنسان أن يرفع يديه إلى السماء بإخلاص، ويقول يا رب فيسمعه، وهذه نعمة كبرى ليس بعدها نعمة، ونحمده لأنه رب العالمين وليس رب الملوك فقط أو طبقة دون طبقة وإنما ربنا كلنا، وينتقم من وزير لصالح فقير حقير في عين الناس، ومن(/2)
رحمة الله أنه لم يجعل أحد العباد يحكم على أحد إلا لحكمة؛ لأننا نقول في الدعاء: "ربنا لا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك و لا يرحمنا"، ومن رحمته أنه جعل أمر الإنسان بيده فيعمل الإنسان ويتقي الله ولا يطيع فيه أحداً، والله يضمن له النجاة. ومن رحمته أنه يعلم ما تخفي الصدور ويحاسبنا على ذلك، ومن رحمته أيضاً أنه دلنا على ما يرضيه ويكفر عنا ذنوبنا، مثل الصوم والصلاة والإنفاق على الفقراء ووعدنا بالخلف، والصدقة أمان من الأمراض والفقر، والجاهلون من الناس يقولون: ماذا سنقول غير الحمد لله؟ وكأنه يقولها مناً على الله وتفضلاً عليه، لكن المتأمل في حال الناس يرى أن من الواجب على الإنسان حمد الله على الحقيقة من أعماق قلبه، فصاحب المصيبة لا يدري أنه يستحق بذنوبه ما هو أشد منها ثم خففها الله برحمته، فلذلك نحمد الله.
ومن رحمة الله أنه يثيبنا على صبرنا على المصائب برغم استحقاقنا لها ويعوضنا خيراً بعدها، ولذلك يجب على أصحاب المصائب: الاستغفار، ومساعدة المحتاج، والدعاء حتى يكشف الله الهم، ومن رحمته أيضاً أنه تعالى أمهلنا لمراجعة النفس وأعطانا القدرة على تغيير النفس للأفضل، فجعل لنا إرادة وعقلاً ورزقنا الحواس لنتعرفه ونتقرب منه ونستخدمها في طاعته ومنفعتنا.
ومن رحمته أيضاً أنه جعل الملك له يوم القيامة ولم يجعله لإنسان، فربما يظلم الوالد ولده ويظن فيه ما ليس فيه؛ أما الله فهو يعلم السر وأخفى مما يطمئن العباد حتى لو أذنبوا لأن الله هو خالقهم ويعلم مواطن ضعفهم، وليس معنى هذا أن يعصي العبد الله متكلاً على عفوه، ولكن المسلم المؤمن لا يعصي الله متعمداً؛ إنما ناسياً أو جاهلاً، وإذا ذَكر الله أو ذُكِّر به تاب وأناب واستغفر وكفر عن ذنبه بكل الوسائل من صيام وصدقة وبر، ويأمل في عفو الله لعلمه به، أما الإنسان إذا حكم فهو يحكم بهواه ولمصلحته.(/3)
ثم تأتي الآية بعد ذلك "إياك نعبد": مترتبة على ما سبق، فمادام الله سبحانه هو الرحمن الرحيم وهو رب العالمين ومالك يوم الدين، إذن فاعبده وحده واستعن به في كل أمورك، ولا تعبد سواه ولا تتوكل على غيره، وربما تسأل: وكيف أستعين بالله؟ فتاتي الإجابة بعدها مباشرة بالدعاء "اهدنا الصراط المستقيم"، وهى إجابة عملية كما علم الله آدم الكلام ثم حذره من الشجرة ثم علمه كيف يتوب.
فهناك فرق كبير بين من يصلي ويصوم خوفاً من عقاب الله، ومن يصلي ويصوم وهو يحب الله ويستمتع بأداء هذه العبادات، وهذا هو الهدى الذي لا يهدي إليه إلا الله، فأنا أنفذ تعاليم الله خوفاً من عقابه، وأدعو الله أن يحببها إليَّ ويهديني إلى الرشد فلا أرى أي خير في المعصية، فلذلك الدعاء مطلوب في كل وقت؛ لأن القلوب بيد الله، ومن الناس من يقول: وهل الدعاء يحل المشكلات؟ والجواب: نعم، فالدعاء مفتاح السعادة والراحة، إذا دعوت بإخلاص، وبدون الدعاء تكون الحياة شاقة.
وبعض الناس يقولون: نحن لسنا أنبياء حتى يستجيب الله لنا، والله تعالى لم يخص الأنبياء باستجابة الدعاء، وهذا من رحمته، ووعد الله بنجاته للمؤمنين الصادقين الخاشعين، وكل إنسان في استطاعته أن يكون منهم وذلك بمجاهدة النفس والاستعانة بالله بكثرة الدعاء، والله يجيب دعوة المضطرين من العباد، وإذا لم تُستجَب الدعوة في حينها فذلك لحكمة، والله سميع عليم قال: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: من الآية60]، وقال تعالى: {وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ}[إبراهيم: من الآية34]، حقاً نحن مكلفون بالسعي ولكن النتائج كلها بفضل الله. وفي المشاكل التي يعجز الإنسان عن حلها وبعد الأخذ بالأسباب الدنيوية يدعو الله ويتوكل عليه، ثم عليه بالصبر حتى يقضي الله أمره وسيكون خيراً، ولنا الأسوة في رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دبر للهجرة وخطط لها، ثم دعا الله تعالى بأن يكلل سعيه بالنجاح.(/4)
وربما يسأل سائل: ولماذا لا يعطينا الله بدون سؤال؟ والله تعالى لو أعطى كل شيء بدون سؤال لما عرف الإنسانُ الله، والله يحب أن يعرفه عبدُه فيشكره ويتوكل عليه ويطلب منه، ولو أعطى الله الإنسان بدون سؤال لبغى في الأرض، ولنسب كل شيء لنفسه، فمثلاً الرجل الذي ينجب بعد سنوات من المعاناة تجده أشد تواضعاً لله، أما الذي ينجب بلا أدنى معاناة ينسب الفضل لنفسه. قالت لي امرأة مرة بكل فخر: لماذا يتزوج زوجي علىَّ؟ لقد أنجبت له الولد والبنت، ونسبت الفضل لقدرتها.
وفي العمل أيضاً ربما ينسى صاحب العمل فضل الله عليه وينسب ما لديه لذكائه وعلاقاته حتى يوضع في موقف لا ينفعه فيه إلا الله، لذلك علينا دائماً الإكثار من الدعاء، والدعاء تثاب عليه لأنك تعترف فيه بعبوديتك لله وبعجزك وقدرته.
ربما تجد رجلاً مستقيم الخلق صاحب مبادئ، ولكنه لا يصلي ولا يصوم، فهل هذا الذي تعنيه الآية؟ فنجد الإجابة في آية أخرى لأن القرآن يفسر بعضه بعضاً، قال تعالى:{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيماً} [النساء: 69-70]، وقال تعالى: {قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة:23]، فهذا هو النعيم الحقيقي؛ عدم الخوف من العباد والتوكل على الله، والإحساس بالأمان في معيته، والاهتداء بهدي الأنبياء من تواضع وعدم التهافت على ملذات الدنيا.(/5)
وبعض الناس يتخذون التقلب في نعيم الدنيا علامة على رضا الله عليهم، والله يرزق المؤمن والكافر، لذلك يؤكد الله تعالى أنه يعني نعيم غير المغضوب عليهم ولا الضالين، فالصراط المطلوب هو صراط الذين يرضون الله تعالى في أفعالهم وعقيدتهم، فربما تجد مسلماً ضالاً وربما تجد مسلماً مغضوباً عليه ومذموماً أيضاً عند الله، وما أكثر المسلمين بالاسم فقط، وهذا الوصف على البيان حتى لا نسلك مسلكهم، ولا يغرنا نعيمهم.
والصراط المستقيم هو صراط الله وهو صراط الصالحين الموصل إلى الجنة، ولكننا إذا لم نعلم صفات المغضوب عليهم والضالين ربما نفعل مثلهم بجهل، ونحن نظن أننا صالحون مؤمنون، ورحمة الله تأبى إلا أن يخبرنا ويحذرنا، فما صفات هؤلاء المغضوب عليهم والضالين؟ سيأتي ذلك على التفصيل في سورة البقرة.(/6)
العنوان: التربية الإسلامية سلاحنا الأول في مواجهة مخاطر الإنترنت
رقم المقالة: 1568
صاحب المقالة: حوار: جمال سالم
-----------------------------------------
المستشار محمد الألفي -نائب رئيس جمعية مكافحة جرائم الإنترنت-:
التربيةُ الإسلامية سلاحُنا الأولُ في مواجهة مخاطرِ الإنترنت.
• القصورُ القانوني في مواجهة دعاة الإباحية وأعداء الدين شجَّعهم على التآمر علينا.
• كل الجرائم التقليدية يمكن ارتكابُها بطريقة أدق وأخطر عبرَ الإنترنت.
• مع الأسف، مشاركةُ بعض الدول العربية في المواقع الإباحية تفوق بعض الدول الأوروبية.
• استقرارُ الأسرة في خطر؛ إذا لم تتوفر لديها الحصانةُ ضد دعاة الفسق.
• • • • •
أكَّد المستشارُ محمد الألفي -نائبُ رئيس جمعية مكافحة جرائم الإنترنت- أن التربية الإسلامية هي السلاح الأول لنا في مواجهة مخاطر الإنترنت التي تتزايد.
وأوضح أن استقرار الأسرة المسلمة في خطر، في ظل إدمان بعض الأزواج والزوجات والأبناء للمواقع الإباحية، وحذر من خطورة القصور القانوني الحالي في القوانين العربية؛ مما شجع دعاة الإباحية وأعداء الدين؛ وخاصة بعد أن وصل عدد المشتركين في المواقع الإباحية في بعض الدول العربية إلى ما يفوق بعض الدول الغربية، وهذا مؤشر خطر لا بد من السعي لعلاجه بكل الوسائل القانونية والتربوية.
وأشار إلى أن كل الجرائم التقليدية يمكن ارتكابُها عبر الإنترنت وبطريقة أخطر؛ ولهذا لا بد أن تتطور القوانينُ للمواجهة، وإلا فقُلْ على مجتمعنا السلام في أخلاقه.
فروقٌ قانونية
الجرائم الأخلاقية التي تُرتكَب عبر الإنترنت كثيرة جدا، وكثير منها يهدف إلى تدمير الأسرة المسلمة ونشر الفاحشة في الذين آمنوا، فما الفروق القانونية بين الممارسات المختلفة في تعريف الجرائم الأخلاقية؟(/1)
يقصد بالجرائم الأخلاقية جميعُ الأفعال والسلوكيات التي يُعْتدَى بها على الأخلاق عامة، وما يتصل بالأفعال الفاضحة، والتعرض للإناث بطريقة تخدش الحياء، والإعلان عن البغاء، وممارسة الفجور، وجميع الممارسات التي من شأنها تلويث البيئة الأخلاقية.
وهناك فروق بين تلك الجرائم من الناحية القانونية؛ إذ يعرِّف القانون البغاءَ: بأنه مباشرة الإناث أو الذكور لأفعال الفحش؛ بقصد إرضاء شهواتهم، أو شهوات الغير مباشرة وبغير تمييز، أما الدعارة: فهي إباحةُ المرأةِ نفسَها لارتكاب الفحشاء مع الناس بدون تمييز مقابلَ أجر، أما الفجور: فهو فعل الرجل الذي يتصل بالرجال؛ لمجرد إرضاء شهواتهم ما دام ذلك قد وقع بغير تمييز؛ سواء كان ذلك مقابل أجر أو لا.
وهناك الفسق وهو أكثر اتساعاً من مفهوم البغاء؛ لأنه جميع الأعمال المخلة بالآداب، والتي لا ترقي إلى مرتبة أفعال الفحش، سواء وقعت من رجل أو امرأة، أو التحريض على ذلك.
ويجرّم القانون أيضاً حيازةَ أو عرضَ الصور والمطبوعات، المنافية للآداب، ويجرِّم التعرض للأنثى بطريقة تخدش حياءها؛ سواء كان ذلك التعرض بصورة مباشرة، أو حتى بالاتصال بها تليفونياً، أو عن طريق الإنترنت.
تطوُّر الجريمة
تعد الجرائم الأخلاقية عبر الإنترنت من الجرائم المستحدثة ويصعب السيطرة عليها، فكيف يمكن ملاحقتها أو تجريمها من الناحية القانونية؟(/2)
منذ بداية الإنترنت في وزارة الدفاع الأمريكية، ثم المؤسسات القومية للعلوم الأمريكية؛ التي كانت المالكَ الوحيد للشبكة، تطورت الشبكة؛ حتى اختفى مفهوم التمليك؛ ليحل محله ما يمكن بتسميته مجتمع الإنترنت؛ وخاصة بعد ولادة العديد من الشبكات الإقليمية ذات الصيغة التجارية، التي يمكن الاستفادة من خدماتها مقابل اشتراك؛ وهذا ما جعل مهمةَ رجال الأمن أكثر صعوبة؛ فمثلاً: في عام 1985، كان هناك أقل من ألفي حاسب مرتبط بالشبكة، وقد وصل إلى خمسة ملايين حاسب في عام 1998، وتجاوز ستة ملايين في عام 1997؛ يتم ذلك من خلال استخدام أكثر من 300 ألف خادم شبكات "SERVER"، ويمكن القول بأن هذا العدد يزداد شهرياً عن 12 مليون؛ أي انضمام 46 مستخدم للشبكة في كل دقيقة.
وحسب آخر الإحصائيات؛ فإن عدد المستخدمين للإنترنت في عام 2005 بلغ حوالي 250 مليون مستخدم، بل إن هناك من يؤكدون أن حجم الإقبال على شبكة الإنترنت يتضاعف تقريباً كل مائة يوم.
أهدافٌ خبيثة
هناك تنافُس بين الشركات التي تُروِّج للأعمال الإباحية، فما أهدافها من وجهة نظركم؟
لها أهداف كثيرة تسعى لتحقيقها، أولها بلا شك الكسب المادي؛ إذ يقدمون الكثير من المواد الإباحية مقابل أموال طائلة من المشتركين؛ الذين نجد – مع الأسف الشديد - نسبة ليست يسيرة منهم تنتمي للعالم العربي؛ لدرجة أن عدد المشتركين في بعض الدول العربية يفوق عدد المشتركين في بعض الدول الأوروبية، وهذا مؤشر خطير على قيمنا، وتسعى هذه الشركات الإباحية بكل عوامل الإغراء؛ لدرجة أن إحدى هذه الشركات أعلنت أنه يزور صفحاتها في الأسبوع الواحد حوالي خمسة ملايين.(/3)
وقد عرض الباحثون بجامعة "كارينجي ميلون" إحصائية غريبة يؤكدون فيها أن 83.5% من الصور المتداولة في مجموعات الأخبار هي صور إباحية، وأن الكثير من الصفحات التي يُدخل عليها، تبدأ أولاً بالفضول، ثم يتطور إلى متابعة، ثم إلى إدمان؛ مما يؤدي إلى عواقب وخيمة على العلاقات الزوجية في الولايات المتحدة خاصة، والغرب عامة، وهم من مدمني مشاهدة المواقع الإباحية.
وتأكيداً على أن الإباحية على الإنترنت غرضها تجاري في المقام الأول؛ فإن الإحصائيات تؤكد أن مشتريات المواد الإباحية على الإنترنت تمثل حوالي 12% من التجارة الإلكترونية، وأن ما ينفق عليها أكثر من 5 مليارات دولار؛ وهذا ما دفع وزارة العدل الأمريكية إلى إصدار تقرير قالت فيه: "لم يسبق في وقت من تاريخ وسائل الأعلام بأمريكا أن تفشى مثل هذا العدد الهائل من مواد الدعارة التي يرتادها الأطفال في غياب القيود، وإن عدد المراهقين يمثلون 63% ممن يرتادون هذه المواقع ولا يدري أولياء أمورهم الكثير عن ممارستهم".
وهناك هدف آخر للشركات التي تروج للإباحية؛ هو تدمير الفضيلة والدين عامة؛ إذ تجعل الإنسان عبداً للغريزة الحيوانية، وتبعده عن ربه ما استطاعت إلى ذلك سبيلا؛ ومن ثَمَّ فهي تدمر أحد أسلحة المقاومة لأََتْبَاعِ الديانات وخاصة المسلمين.
الأطفالُ والمراهقون
ما خطورة دخول الأطفال والمراهقين على هذه المواقع؟ وكيف يراقب الوالدان تصرفات أولادهما للوقاية من الدخول على هذه المواقع الهدامة؟
مع الأسف الشديد؛ فإن المتغيرات الحديثة كلها سحبت البساط نسبياً من الأسرة التي لم تعد قادرة على التحكم في أولادها تماماً، أو تؤثر فيهم كما كان الأمر سابقاً، لهذا فإن التوعية، والتنشئة الدينية الصحيحة، والتحذير من المخاطر؛ التي تلحق بالفرد والمجتمع، هي المفتاح الوحيد لمواجهة هذه الحملة الشرسة، حتى لا نقع في المحظور؛ لأنه كما يقولون: "الممنوع مرغوب".(/4)
وأرى أن الأسرة ما زالت تملك مفاتيحَ التربية لحماية أبنائها وبناتها من أصدقاء السوء أو ثقافة الشوارع التي فيها كثير من المخالفات الشرعية، لهذا فإنه إذا كان منع بث هذه المواقع أمراً صعباً الآن، ومستحيلاً مستقبلاً، فإن الوقاية خير من العلاج، ووضع كلمات سر لمنع ظهور هذه المواقع والصور على الجهاز أمر ممكن، إلا أن المشكلة تظل في ظل ثقافة الإعلام، الذي يروج للعري والإغراء، وهو ما يجعل الشباب والأطفال؛ الذين نشؤوا على أساس الدين، يعانون من الصراع النفسي؛ لما يرونه في كل مكان متاحا بكل سهولة، وما تربوا عليه من قيم تقدس الفضائل وتدعو إلى الالتزام الديني، لهذا لا بد أن تكون العقيدة والقيم راسخة في نفوس الأطفال والشباب، وأن يكون الوالدين قدوة للأبناء.
دُعاةُ الفاحشة
لم يكتف دعاة الفاحشة بتدمير الشباب بالصور الإباحية؛ وإنما اتخذوا وسائلَ شيطانية أخرى لنشر سمومهم.. فما أهمها؟
استفادة العصاباتُ الإجرامية من الإنترنت في تنفيذ جرائمها؛ ومنها الترويج للمخدرات بأنواعها، والتنَصُّت، والاحتيال على المصارف، واعتراض بطاقات الائتمان وسرقتها واستخدامها غير المشروع، والابتزاز، والسطو، والتزوير، والتزييف، وسرقة أرقام الهواتف، والوصول إلى المعلومات الأمنية الحساسة وسرقتها وبيعها، وغسيل الأموال، وكشف الأسرار العسكرية والتجارية وغيرها. وقد قال أحد المتخصصين: إن كل الجرائم التقليدية يمكن الآن استخدامُها عبر الإنترنت، وبكيفية أفضل وأدق، وأكثر تأثيراً؛ لهذا لا يمكن حماية شبابنا منها.
التصدي للشياطين
ظهرت على مواقع الإنترنت مواقعُ معادية للإسلام؛ تعمل على تقويض أركانه وزعزعة العقيدة في نفوس المسلمين، فكيف يمكنُ التصدي لهذا الاستخدام الخطير؟
أصبحت الإنترنت إحدى وسائل التبشير، والحرب على الإسلام؛ وذلك عن طريقين:
- العداء المباشر من أتباع الديانات الأخرى، ومن الملحدين أعداء الدين.(/5)
- وفي الوقت نفسه يمكن أن يكون أداة للمتطرفين والغلاة الذين يروجون لأفكار معادية لوسطية الإسلام وسماحته، ومحاولة إثارة الفتنة، بل وتضليل المسلمين، والعلماء المعتدلين؛ لهذا فإن الإنترنت استخدمها أعداء الإسلام المباشرون أو من يسيؤون فهمه، وحولوه إلى دين مُنزَوٍ؛ يرفض الآخرين، وكلا الفريقين يسيء للإسلام، ويشوه صورته.
قصورٌ قانوني
من خلال خبرتكم القانونية، قمتم برصد جوانب من القصور في التشريعات العربية في مقاومة الظواهر، والجرائم المستخدمة عبر الإنترنت؛ وخاصة ما يتعلق بالإباحية بكل أنواعها.. فما أهم مواطن القصور القانوني حتى يمكن معالجتها؟
يمكن تلخيص هذه الجوانب التي فيها قصور قانوني في النقاط التالية:
1) عدم كفاية النصوص التشريعية، سواء ما ورد منها في قوانين العقوبات وغيرها؛ إذ نجد التجريمَ لمظاهر الجرائم المنافية للآداب عبر الإنترنت، إما غيرَ موجود أصلاً، أو غيرَ كاف إطلاقاً؛ وذلك يعطي الجناة فرصة أكبر في تنفيذ جرائمهم دون خشية الملاحقة القانونية.
2) تَجَاوُز هذه الظاهرة حدود السلبيات الأخلاقية الناجمة عن انفلات السيطرة على مشاهدة ما يبث على الإنترنت، إلى الإعلان عن جرائم الفجور والدعارة وغيرها من الأفعال الإجرامية؛ مما يساعد في زيادة الجرائم بكل أنواعها وخاصة الأخلاقية، وغالبية جرائم الإنترنت ينال الجناة فيها البراءة؛ إذ لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص صريح، أما تطبيق قوانين أخرى بالقياس؛ فإنه يطعن عليها.
3) افتقار هذه الجرائم إلى الدليل المادي فيما يتعلق بعرض الأمور الفاضحة؛ ومن ثم يصعب ضبطها ومحاسبة القائمين عليها.
4) صعوبة الضبط؛ إذ يمكن تغيير ما نُشر عبر شبكة الإنترنت إذا شعر الجناة باقتراب رجال الشرطة والقانون من ضبطهم.
5) الحاجة إلى دعم مادي لتمويل عمليات متابعة ورصد مزاولي هذه النشاطات الإجرامية المتعلقة بالآداب العامة.(/6)
لهذا، أطالب بسرعة صياغة قوانين خاصة بملاحقة الجناة الجدد، وسد الثغرات القانونية الحالية؛ التي يستفيد منها دعاة الإباحية والجرائم بكل أنواعها.
المواجهة التشريعية
هل تعاني الدول المتقدمة قصوراً قانونياً في مواجهة جرائم الإنترنت، سواء في الجرائم الأخلاقية أو غيرها؟
عملت الكثير من الدول على التصدي لهذا الاستخدام السيئ للإنترنت، لهذا نجد السويد أول دولة تسن تشريعات خاصة بجرائم الحاسب الآلي والإنترنت، ثم جاءت بعدها الولايات المتحدة؛ إذ أصدرت قوانين في خمسة فروع هى :
1- جرائم الحاسب الآلي الداخلية.
2- جرائم الاستخدام غير المشروع عن بعد.
3- جرائم التلاعب بالحاسب الآلي.
4- دعم التعاملات الإجرامية والتصدي لها.
5- سرقة البرامج الجاهزة والمكونات المادية للحاسب.
ثم سنت بريطانيا، وكندا، وفرنسا تشريعات متكاملة تتصدى لكل جرائم الإنترنت، وتقديم مرتكب هذه الجرائم للعدالة.
التشهير بالشرفاء
في ظل غياب الأخلاق أو الوازع الديني، يفاجأ الشرفاء بالتشهير بهم عبر الإنترنت، هذا بخلاف التشهير بالمشاهير وابتزازهم، فكيف يتم هذا؟(/7)
للأسف الشديد يمكن لعديمي الأخلاق أن يسيؤوا إلى الشرفاء؛ بأخذ صورة لهم حتى ولو كانت منشورة في صحيفة، أو صورة شخصية، وتركب بدقة متناهية على جسد يمارس الرذيلة مثلاً، حتى إن المشاهد لا يلحظ عملية التركيب التي تمت؛ لهذا يجد الرجال أو النساء أنفسهم في ورطة؛ إذ يمارسون الرذيلة دون أن يكون لهم ذنب في هذا؛ وبهذا يشهر بهم، وتزداد الجريمة إذا نُشر رقم التليفون الخاص بالرجل أو المرأة، وأنه مستعد لممارسة الرذيلة مع أي إنسان، ولهذا نجد الزوج أو الزوجة الشريفة في ورطة؛ لأنه يجد من يطلب منه أو منها ممارسة الرذيلة بناءً على الإعلان المنشور على الإنترنت، ومنشور به رقم التليفون، أو البريد الإلكتروني، وكم من الشرفاء من الجنسين وقع فريسة الابتزاز والتشهير بدون ذنب؛ كنوع من المكيدة أو حتى الإيذاء لمجرد الإيذاء لعدم وجود عداوة مسبقة.(/8)
العنوان: التربية عن طريق التوجيه والإرشاد
رقم المقالة: 930
صاحب المقالة: محمد سالم بن على جابر
-----------------------------------------
الإنسان دائماً بحاجة إلى التوجيه والإرشاد والنُّصح، وتذكيره بما قد يَغفُلُ عنه، والمربي المُحِبُّ المخلِص هو الذي يوجِّه براعمَه -دائماً- وجهةَ الخير والحق، ويجنِّبهم -جاهداً- مزالقَ الخطر ومكامن الخطأ؛ بالنصيحة الذكية المؤثرة الهادئة الهادفة، والكلمة الطيبة.
إنَّ لِنُصْحِ المربي أثراً كبيراً في تصحيح بعض الأخطاء التي قد يقع فيها الطفل؛ من إساءة الأدب، أو عدم التحلي بالأخلاق الفاضلة، أو فعل حركات غيرِ لائقة[1]؛ ولهذا فرض الإسلام طريقَة التوجيه والإرشاد والتذكير طريقةً تربوية؛ يستغلها المربي مع من يربيه، والمعلم مع من يعلمه، والمسلم مع أخيه؛ ابتغاءً للخير، ونفوراً عن الشر؛ فقال تعالى: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1-3]، وقال تعالى: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} [البلد:17]، وقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((الدِّينُ النَّصِيحَةُ))[2].
واستخدامُ أسلوبِ التوجيه والإرشاد في التربية لا يجعله وَقْفاً على المربي، بل للتلميذ دورُه ورأيُه، ولِوَلِيِّ الأمر دورُه ورأيُه، ويكون للمجتمع كلِّه سُلطةُ التوجيه التربوي، فلا (ديكتاتوريةَ) لفرد، وإنما التربية جِمَاع اهتماماتِ القيادة والتلاميذ، أو أُولي الأمر والمجتمع؛ ولذا جعله الإسلام مبدأً حيويّاً من مبادئ التربية[3].(/1)
وطريقة التوجيه والإرشاد المباشر من أقرب الطُّرُق إلى مخاطبة عقل الطفل، وتبيين الحقائق له، وترتيب المعلومات الفكرية؛ ليحفظها مع فهمها؛ وهو ما يجعل الطفل أشدّ قَبولاً، وأكثر استعداداً للتلقي، أما اللفُّ والدوران فليس لهما في التعامل مع الطفل نصيبٌ، وهكذا علمَنا رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- أن نخاطبَ الطفلَ -في كثير من المناسبات- خطاباً مباشراً، بصراحةٍ ووضوح[4].
وقد مضى كثير من الأحاديث التي رأينا رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يستخدم فيها هذا الأسلوب في تربية الطفل، ومن ذلك -أيضاً- ما رُوِي عن أنس -رضي الله عنه- قال:
(قالَ لِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((يَا بُنَيَّ، إِذَا قَدِرْتَ أَنْ تُصْبِحَ وَتُمْسِي وَلَيْسَ فِي قَلْبِكَ غِشٌّ لأحَدٍ، فَافْعَلْ)).
ثُمَّ قَالَ لِي: ((يَا بُنَيَّ، وَذَلِكَ مِنْ سُنَّتِي، وَمَنْ أَحْيَا سُنَّتِي فَقَدْ أَحَبَّني، وَمَنْ أَحَبَّنِي كَانَ مَعِي فِي الجَنَّةِ)) )[5].
فالرسولُ -صلى الله عليه وسلم- يعرِض توجيهاتِه ونصائِحَه للطفل، بأسلوب سهل مباشر، يتناسب مع قدرة الطفل على الفهم وتقبُّل الخطاب، معتمداً على كلمات مختصرة مفيدة، لا طول فيها ولا إملال، وهو ما ينسجم مع طبيعة الطفل الفكرية.(/2)
وأسلوب التوجيه والإرشاد في التربية يحتاج من المربي إلى شيء من الحرص؛ لكيلا تتحول توجيهاته وإرشاداته إلى فضائحَ وهتكٍ للستر!! فإنَّ مَن نَصَحَ أخاه سِرّاً فقد زانه، ومن نصحه جهراً فقد فضحه وشانه، وإن كان لا بد من الجهر بالتوجيه والنصيحة، فليكن ذلك بالإيماء والإشارة التي تكشف عن النصيحة المطلوبة محفوفةً بالستر، بعيداً عن الفضائح، وهو أسلوب حكيم اتَّبَعَهُ النبي -صلى الله عليه وسلم- حيث كان من هديه -صلى الله عليه وسلم- أنه إذا رأى شيئاً من أصحابه أو بَلَغَهُ عنهم شيء، وأراد أن يدلَّهم وسائرَ أصحابِه على الحق فيه؛ فإنه لا يُصرِّحُ بأسمائهم ولكنه يُلَمِّحُ؛ فيسترُهم، ويحصلُ مقصودُه -صلى الله عليه وسلم- من النصح، فيقولُ صلى الله عليه وسلم: ((مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَقُولُونَ كَذَا وَكَذَا؟!))[6].
كما في قصة (الثلاثةِ الَّذِينَ أَتَوْا بُيُوتَ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَسَأَلُوا عَنْ عِبَادَتِهِ، فَكَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا؛ فَقَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فَأُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَداً. وَقَالَ الآخَرُ: وَأَنَا أَصُومُ فَلاَ أُفْطِرُ. وَقَالَ الآخَرُ: وَأَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلاَ أَتَزَوَّجُ أَبَداً..؛ فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَا بَالُ أَقْوَامٍ قَالُوا: كَذَا وَكَذَا؟!)) ثُمَّ قَالَ: ((وَلَكِنِّي أُصَلِّي وَأَنَامُ، وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنَ سُنَّتِي؛ فَلَيْسَ مِنِّي)) )[7].(/3)
وعن أبي حُمَيْد الساعدي قال: (اسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَجُلاً مِنَ الأَزْدِ -يُقَالُ له: ابنُ اللُّتْبِيَّة- عَلَى الصَّدَقَةِ، فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ: هَذَا لَكُمْ، وَهَذا أُهْدِيَ لِي!! فَقالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((فَهَلاَّ جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ - أَوْ: بَيْتِ أَمِّهِ- فَيَنْظُرُ: أيُهْدَى لَهُ أَمْ لاَ؟ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لاَ يَأْخُذُ أَحَدٌ مِنْكُمْ شَيْئاً؛ إِلاِّ جَاءَ بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى رَقَبَتِهِ؛ إِنْ كَانَ بَعِيراً لَهُ رُغَاءٌ، أَوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ، أَوْ شَاةً تَيْعَرُ))!! ثُمَّ رَفَعَ بِيَدِهِ حَتَّى رَأَيْنَا عُفْرَة إِبْطَيْهِ[8]: ((اللَّهُمَّ، هَلْ بَلَّغْتُ! اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ!)). ثلاثاً)[9].
وهو في هذا يُرَبِّي أُمَّتَه بتوجيههم وإرشادهم إلى ما يُقَوِّم سُلُوكَهُم، ويهذِّب أخلاقهم.
ـــــــــــــــــــــــ
[1] قبسات من التأديب التربوي عند المسلمين؛ عطا الله بن قسيم الحايك، دار هجر للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 1422هـ، 2001م، ص:57.
[2] أخرجه مسلم (1/75) كتاب الإيمان، باب: بيان أن الدين النصيحة (95/55)، والنسائي في السنن (7/157)، وأحمد في المسند (2/297)، والدارمي في السنن (2/311)، وأبو عوانة (1/37)، والطحاوي في مشكل الآثار (2/188)، والحميدي (837)، والخطيب في التاريخ (14/207)، وابن حجر في المطالب العالية (1979) و(3284)، وذكره السيوطي في الدر المنثور (3/267).
[3] المؤتمر العالمي الرابع للسيرة والسنة النبوية؛ والمؤتمر العاشر لمجمع البحوث الإسلامية، الأزهر الشريف 18-24 صفر سنة 1406هـ، 1-7 نوفمبر سنة 1985م، ص:253.(/4)
[4] منهج التربية النبوية للطفل؛ مع نماذج تطبيقية من حياة السلف الصالح وأقوال العلماء العاملين، محمد نور بن عبد الحفيظ سويد، دار ابن كثير، دمشق، بيروت، الطبعة الأولى، 1419هـ-1998م، ص:116.
[5] ينظر: منهج التربية النبوية للطفل، المرجع السابق، ص:117. وهذا طرف من حديث طويل عن أنس قد تقدم تخريجه.
[6] أخرجه أبو داود (2/665) كتاب الأدب، باب: في حسن العشرة (4788) من طريق عبد الحميد الحماني: ثنا الأعمش عن مسلم عن مسروق عن عائشة به، وفي إسناده عبد الحميد الحماني، وهو صدوق يخطئ، والأعمش مدلس. التقريب (ت: 3795، 2630).
[7] أخرجه البخاري (10/130) كتاب النكاح، باب: الترغيب في النكاح (5063)، ومسلم (2/1020) كتاب النكاح، باب: استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه ووجد مُؤَنَه (1400)، والنسائي (6/60) كتاب النكاح، باب: النهي عن التبتُّل، رقم (3217).
[8] أي: بَيَاضَهَما. انظر: طِلْبَةَ الطِّلْبَة، عمر بن محمد أبو حفص النسفي، مكتبة المثنى، بغداد، ص:5.
[9] التربية على منهج أهل السنة والجماعة، جمع وترتيب: أحمد فريد، الدار السلفية للنشر والتوزيع، الإسكندرية، ص (234، 235)، والحديث أخرجه البخاري (2/468)، كتاب الجمعة، باب: مَن قال في الخطبة بعد الثناء: أما بعد (25، 1500، 2597، 6636، 6979، 7174، 7197).(/5)
العنوان: التربية عن طريق السلوك العملي
رقم المقالة: 870
صاحب المقالة: محمد سالم بن على جابر
-----------------------------------------
من أساليب التربية وطُرُقِهَا التي رَبَّى الإسلامُ والسنة النبوية بها المسلمين - التربية بالعمل، ويتجلَّى ذلك بصورة رائعة في فرائض الإسلام، وما تبعثه في المرء من قوة الإرادة، وتزكية النفس، والحرص على النظام والتوازن، وما تشيعه بين الناس من مساواة وتكامل وتضامن، وما تعكسه على المجتمع من تَمَاسُك وتكافُل، وعلى البيئة من جمالٍ وبهاء وصفاء.
فالصلاة رياضة جسمية، يُشْتَرَطُ فيها النظافة، التي تتحقق بالطهارة من الحَدَث الأكبر والأصغر، وطهارة الثياب والمكان؛ وبهذا يحافظ المُصَلِّي على نظافته الشخصية، وعلى نظافة وجمال المكان الذي هو فيه، والبيئة التي تضمه، وهذه هي (التَّربية الصِّحيَّة)، ثم إنه يتابع الحركات؛ قياماً، وركوعاً، وجلوساً، وسجوداً، فتلك (تربية جِسمِيَّةٌ وبدنيةٌ)، ثم إنه يقرأ القرآن الكريم؛ فَيَتَدَبَّره، ويَتَفَكَّر فيه، وتلك (تربية عقلية وفكرية)، ثم إنه يُسَبِّح الله - تعالى - ويمجده وينزهه، ويتوجه إليه وحده بالعبادة، وتلك (تربية إيمانية وعقائدية)، ثم إنه يدعو الله تعالى، وتطيب نفسه بالتوسل والتضرع إليه، وتلك (تربية روحية)[1].
والزكاة عبادة مالية يفرضها الله - تعالى - على الأغنياء من المسلمين؛ فَيُطَهِّر بذلك نفوسَهُم من الشُحِّ والبُخْلِ، ويُنَقِّي طباعهم من الأَثَرة، ويغرس في أخلاقهم الجود والإيثار والمواساة.(/1)
وهذه الزكاة التي تؤخذ من الأغنياء تُصْرَف إلى فقراءِ المسلمين ومساكينهم؛ فتُزيل ما في نفوسهم من حقد أو حسد للأغنياء، فتطيب بذلك نفُوسُهُم، وتَصْفُو طَبَائِعُهُم، وتَتَرَقَّى أخلاقُهُم، ويشيع التآلف والتحابُّ بين المسلمين، أغنيائِهم وفقرائِهم، في مجتمعٍ متكافلٍ متوازنٍ، لا تتكدس فيه الثروات في أيدي البعض، ويبقى البعض فقيراً مُعْدَماً؛ وهو ما عبر عنه الحق - سبحانه - بقوله: {كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الحشر:7].
وفي الصيام تربية لإرادة الفرد، وهو منهج فذّ في الإسلام في تربية الإرادة؛ حيث يدربها في ظلال الحظر، تدريباً ربانيّاً على أن تفعل أو لا تفعل، فتتحمَّلُ المَشَاقَّ، راضيةً مرضيةً، مراقِبةً لربها، مأمورةً بأوامِرِهِ، بلا سلطان لأي إنسان. وهذه سِمَةٌ لا توجد في أية مِلَّةٍ، ولا في أية نِحْلةٍ.
فليس هناك رقيبٌ أو رئيسُ عَمَلٍ يمسك سَوطاً يُلْهِبُ به ظهر الإنسان ليعمل، إنما هناك الرقيب الأعلى؛ الذي يعلم ما يَلِجُ في الأرض وما يخرج منها، وما ينزل من السماء وما يعرج فيها.
فالأثر التربوي للصيام يتلخص في تربية الروح وتربية الخُلُق، حيث يتعودُ الإنسان ضبطَ نفسه ومجاهدة شهواته؛ وبذلك تتقوى الإرادة فيه، وهي (تربية اجتماعية)؛ إذ يجعل الفردَ يفكر في حاجة الفقير والمحتاج، وفيه شعور بالمساواة والإخاء، وفيه (تربية جسدية)؛ إذ يروض الجسم، ويقويه، ويجعله قادراً على تَحَمُّلِ المَشَاقِّ، فضلاً عن الجوع والعطش[2].
ثم يأتي الحج ليكمل تلك المنظومة التربويَّة الإسلامية بطريق العمل، وبالرغم من أنه مفروض مرة واحدة في العمر؛ فإن أثره في النفوس والأرواح يدوم طويلاً؛ ولذلك قلما تجد امرأً أدى فريضة الحج، إلا وتراوده نفسه بمعاودة أدائه مرات ومرات، بل إنَّ شَغَفَ من أدى تلك الفريضة بإعادتها وتكرارها مرات أخرى أشدُّ - في كثير من الأحيان - من شغف من لم يتيسر له أداؤها.(/2)
فالحاجُّ يترك مالَهُ وأهلَهُ ووطنَهُ في أيام الحج، التي يتجَرَّد فيها من كل مُغْرِيات الدنيا، ويُقبِلُ بروحه وقلبه على خالقه سبحانه، فيشعر بالحياة الطيبة في كَنَفِ الله تعالى؛ فتتهذب مشاعره، ويترقى وجدانه، فما أعظمَها من تربية وجدانية ورُوحية!
ثم إنه يتجرد من ملابسه وجاهه وسلطانه؛ ليقف جنباً إلى جنب بملابس الإحرام إلى جوار غيره من المسلمين؛ فيزداد الاتحاد بينهم، ويشعر الجميع بأن الذي يربط بينهم جميعاً هو رباط الإيمان بالله تعالى، وحبله المتين الذي من تمسك به نجا، ومن تركه ضلَّ وغوى؛ قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} [آل عمران:103].
ـــــــــــــــــــــــــ
[1] ينظر: تربية الناشئة في ضوء السيرة، للشيخ عبد الله بن إبراهيم الأنصاري، ص (244).
[2] ينظر: المؤتمر الرابع، ص (246).(/3)
العنوان: التربية عن طريق القدوة الصالحة
رقم المقالة: 903
صاحب المقالة: محمد بن سالم بن علي جابر
-----------------------------------------
إن المناهجَ والنظرياتِ التربويةَ في حاجةٍ دائمةٍ إلى من يُطَبِّقُهَا ويعملُ بها، وبدون ذلك تظلُّ تلك المناهجُ والنظرياتُ حِبراً على ورق، لا تتحقق جدواها ما لم تتحول تلك المناهجُ إلى سلوكٍ عَمَلِيٍّ يسير عليه الأفرادُ في تَصَرُّفَاتِهِم وَمَشَاعِرِهم وأفكارِهم[1].
ولذا كان المنهجُ الإلهيُّ - في إصلاحِ البشريَّةِ وهدايتِها إلى طريقِ الحقِ - مُعتمِداً على وجودِ القُدْوَةِ التي تحوِّل تعاليمَ ومبادئَ الشريعةِ إلى سلوكٍ عمليٍّ، وحقيقةٍ واقعةٍ أمام البشر جميعاً؛ فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو القدوةَ التي تترجم المنهج الإسلامي إلى حقيقة وواقع، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21]، ولما سُئِلَت أم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها - عن خُلُقِهِ - صلى الله عليه وسلم - قالت: ((كان خُلُقُهُ القُرآنَ!))[2].
مواقفُ من السيرة النبوية تبيِّنُ أهميةَ القُدوة وأثرَها:
ولقد تجلَّى تأثيرُ القُدوة في صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجَدوَاها الكبيرة - التي لا تتوافر لمجرد الدعوة النظرية - في كثير من المواقف التي كان لها ظروفُها الخاصَّة؛ حيث لا يُجدِي فيها مجردُ الأمر والكلام النظري، بل لا بد فيها من التطبيق العملي؛ ليتعمق أثرُها في النفوس، ومن ذلك ما يلي:
1- الزواجُ من امرأةِ الابنِ بالتَّبَنِّي:(/1)
كانت عادةُ التَّبَنِّي مُتَأَصِّلَةً بين العرب قبل الإسلام، وكانوا يعاملون الابن بالتبني معاملةَ الابن من الصُّلبِ؛ فيحرِّمون الزواجَ من امرأتِهِ، ويُعظِّمون هذا الأمر جدّاً، فلما جاء الإسلام وَحَرَّم التَّبَنِّي، وأراد اقتلاعَ آثار الجاهلية من نفوس المسلمين؛ لم يكتفِ - في ذلك - بالدعوة النظرية لتحريم التبني وهدم آثاره؛ بل دَعَمَ تلك الدعوةَ النظرية بالتطبيق العملي؛ فأُمِر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالتزوج من زينبَ بنتِ جحش - رضوان الله عليها - التي كانت زوجةً لزيدِ بن حارثة، الذي تَبَنَّاه الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - وكان يُدْعَى زيدَ بنَ محمد؛ قال تعالى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَي لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً} [الأحزاب:37].
وهكذا أجرى الله - عز وجل - إبطالَ الآثار الجاهليةِ للتبنِّي "على يد النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ومولاهُ زيدِ بن حارثة، وابنةِ عمته زينب بنت جحش؛ ليكون درساً عمليّاً قويّاً، في تحقيق ما أمر الله - تعالى - به، وتنفيذه؛ مهما كانت الرَّغبةُ والهوى، ومهما كانت الآثارُ والنتائجُ.
وهذا شأن المؤمن دائماً مع اللهِ - تعالى - وأوامرِهِ؛ يسمعُ ويطيعُ، ويلبي ويستجيبُ، رَغِبَتْ نفسه في ذلك أم لم تَرْغَبْ، وافقَ المجتمع - مِن حولِه - أم لم يوافِق، رضي الناس عن فعله أم كرهوا!! فالأمر أولاً وأخيراً لله رب العالمين"[3].
2- النَّحْرُ والحَلْقُ للتحلُّلِ من عُمْرَةِ الحُدَيِبِيَةِ:(/2)
لما صدَّ المشركون الرسولَ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابَه عن البيت الحرام، حين أرادوا العمرة عام الحديبية، وبعد إبرام الصلح مع قريش؛ كان وقع ذلك عظيماً على صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما أمرهم - عليه السلام - بنحر ما معهم من الهَدْي ليُحِلُّوا من إحرامهم؛ لم يستجب أحد من الصحابة لهذا الأمر، مع شدةِ حرصهم على طاعتِه، صلى الله عليه وسلم.
وهنا يتجلى الأثرُ العظيم للقُدوة؛ إذ أشارت أمُّ سَلَمَةَ - رضوان الله عليها - على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقوم هو أولاً فينحرَ بُدْنَهُ ويحلقَ شعرَه؛ لأن صحابته سيقتدون به عند ذلك لا محالة، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "فخرج، فلم يكلم أحداً منهم حتى فعل ذلك، نَحَرَ بُدْنَهُ، ودعا حالقَه فحلقه، فلما رأى الناس ذلك قاموا فَنَحَروا، وجعل بعضهم يحلق بعضاً، حتى كاد بعضهم يقتل بعضاً غمّاً!"[4].
ففي هذه القصة دلالة ظاهرة على التفاوت الكبير بين تأثير القول وتأثير الفعل؛ ففي حين لم يتغلب القولُ على هموم الصحابة وتألُّمِهم مما حدث؛ فلم ينصاعوا للأمر؛ نجدهم بادروا إلى التنفيذ؛ اقتداءً بالرسول - صلى الله عليه وسلم - حين تحوَّل أمرُهُ القَولي إلى تطبيقٍ عمليٍّ؛ حتى كاد يقتل بعضهم بعضاً. ولهذا يدعو الإسلام إلى دعم القول بالعمل، ومطابقة الأفعال للأقوال، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ *كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ} [الصف:2, 3].
ويطول بنا الأمر جدّاً؛ لو حاولنا استقصاء المواقف التي كان فيها الرسول - صلى الله عليه وسلم - قدوةً لأصحابه، وإنما يمكن القول - إجمالاً - بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان قدوة لأصحابه في كل شيء، وفي جميع المجالات..(/3)
ففي الغزوات يتقدمُ الصَّحابةَ، أو يوجِّههم من مركز القيادة، وكان في غزوة الخندق يربطُ الحجر على بطنه! ويحفر الخندق مع الصحابة، ويرتجز مثل ما يرتجزون؛ فكان مثالاً للمُرَبِّي القدوة، يتبعه الناس، ويعجبون بشجاعته وصبره، صلى الله عليه وسلم.
وكان قدوةً في حياته الزوجية، والصبرِ على أهله، وحُسن توجيهِهِنَّ، فقال صلى الله عليه وسلم: ((خَيْرُكُم خَيْرُكُم لأهْلِهِ، وَأَنا خَيْرُكُم لأَهْلِي))[5].
وكان قدوةً في حياته الأبوية، وفي حُسن معاملته للصِّغار، ولأصحابه، ولجيرانه، وكان يسعى في قضاء حوائجِ المسلمين، وكان أوفى الناس بالوعد، وأشدَّهم ائتماناً على الودائع، وأكثرَهم ورعاً وحذراً من أكل مال الصدقة، أو الاقتراب مما استرعاه الله من أموال المسلمين.
وكان أفضلَ داعيةٍ إلى الله - سبحانه - يصبرُ على الشدائدِ الناجمةِ عن كيد أعداء الله وأعداء الفضيلة وتواطئهم، وكان حازماً لا يفقد حزمَه في أشدِّ المواقفِ هولاً وهَلَعاً وجَزَعاً؛ لأن ملجأَهُ إلى الله -سبحانه - يستَلْهِمُ منه القوةَ والصبر، وموقفُهُ من ثقيفٍ في الطائفِ - عندما ذهب لدعوتهم - خير دليل على ذلك[6].
تأثيرُ القدوةِ الصالحةِ في الأطفال:
لا يَسْهُلُ على الطفلِ إدراكُ المعاني المجردة؛ لذا فهو لا يقتنعُ بتعاليمِ المربي وأوامره بمجرد سماعها، بل يحتاج مع ذلك إلى المثالِ الواقعيِّ المشاهَدِ، الذي يدعمُ تلك التعاليمَ في نفسِهِ، ويجعله يُقْبِلُ عَلَيها ويَتَقَبَّلُها ويعملُ بها.(/4)
وهذا أمرٌ لم يَغْفُل عنه السَّلَفُ الصَّالِحُ، بل تَنَبَّهُوا له، وأَرْشَدُوا إليه المربين، فها هو عمرُو بن عتبةَ يُرشِد مُعلِّمَ ولدِه قائلاً: "لِيَكُنْ أولَّ إصلاحُكَ لِبَنِيَّ إصلاحُك لنفسِك؛ فإن عيونَهم معقودةٌ بعينك، فالحَسَنُ عندهم ما صَنَعْتَ، والقبيحُ عندهم ما تركتَ!"[7]؛ وهذا يؤكدُ أنه لا سبيل إلى التربيةِ السليمةِ إلا بوجود قُدوةٍ صالحةٍ تغدو نموذجاً عمليّاً للامتثال للأوامر، والاستجابة لها، والانزجار عن النواهي، والامتناع عنها[8].
وقد كان شبابُ الإسلام وناشئوه في عصر النُّبوَّةِ يحرِصون على الاقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتقليدِهِ ومحاكاتِهِ في جميع أمورِهِ؛ في وُضُوئِهِ، وصلاتِهِ، وقراءَتِهِ للقرآن، وقيامِهِ، وجلوسِهِ، وكرمِهِ، وجهادِهِ، وزهدِهِ، وصلابتِهِ في الحق، وأمانتِهِ، ووفائِهِ، وصبرِهِ... إلخ[9].
ومما يروى من ذلك: ما أخرجه البخاريُّ عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال:
((بِتُّ عند خالتي ميمونةَ ليلةً، فقامَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فلما كان في بعض الليل، قام رسول الله فتوضَّأ من شَنٍّ معلَّقٍ[10] وُضوءاً خفيفاً، ثم قام يصلي، فقمتُ فتوضَّأتُ نحواً مما توضأَ، ثم جئتُ فقمتُ عن يساره، فحوَّلني فجعلني عن يمينِه، ثم صلى ما شاء الله...)) الحديث[11].
وأولُ المطالَبين بالقدوةِ الحسنةِ هما الوالدانِ؛ لأنَّ الطفلَ الناشئَ يراقبُ سلوكَهما وكلامَهما، ويتساءل عن سبب ذلك، فإن كان خيراً فخير.. فهذا عبدُ الله بن أبي بَكْرَةَ يراقبُ - وهو طفلٌ - أدعيةَ والدِهِ، ويسألُه عن ذلك، ويجيبُه والدُه عن دليلِ فِعْلِه هذا:(/5)
فعن عبدِ الله بن أبي بَكْرَةَ - رحمه الله - قال: (قلتُ لأبي: يا أبتِ، أسمعُك تقول كلَّ غَدَاةٍ : "اللهمَّ عافني في سمعي، اللهم عافني في بصري، لا إله إلا أنت"، تكرِّرُها ثلاثاً حين تصبحُ، وثلاثاً حين تمسي؟! فقال: يا بني، إني سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يدعو بهن، فأنا أحب أن أَسْتَنَّ بِسُنَّتِهِ)[12].
فالوالدان مطالبان بتطبيق أوامرِ الله - تعالى - وسنةِ رسوله - صلى الله عليه وسلم - سلوكاً وعملاً، والاستزادةِ من ذلك ما وَسِعَهم ذلك؛ لأنَّ أطفالَهم في مراقبةٍ مستمرَّةٍ لهم، صباحَ مساءَ، وفي كل آنٍ، "فقدرةُ الطفل على الالتقاطِ الواعي وغيرِ الواعي كبيرةٌ جدّاً، أكبرُ مما نظنُّ عادةً، ونحن نراه كائناً صغيراً لا يدرِك ولا يَعي"[13].
فوائدُ القدوةِ الصالحةِ في تربيةِ النشءِ:
تؤتي القدوةُ الصالحةُ فوائدَ تربويةً عظيمةً في تنشئةِ الصغارِ، نذكر منها:
• تحقيقُ الانضباطِ النفسيِّ، والتوازنِ السلوكيِّ للطفلِ.
• وجودُ المَثَلِ أو النموذجِ المُرْتَقَبِ في جانبٍ من الكمال (الخُلُقِي، والديني، والثقافي، والسياسي)؛ حيث يثيرُ في النفسِ قَدْراً كبيراً من الاستحسان والإعجاب والتقدير والمحبة.
• مستوياتُ الفهمِ للكلامِ عند الناس تتفاوتُ، لكنَّ الجميعَ يتساوى عند النظر بالعين؛ فالمعاني تصل دون شرح!
• القدوةُ - ولا سيما من الوالدين - تُعْطِي الأولادَ قَنَاعةً؛ بأنَّ ما عليه النموذجُ القدوةُ هو الأمثلُ الأفضلُ الذي ينبغي أن يُحتذَى.
الأطفالُ ينظرون إلى آبائهم وأمهاتهم نظراتٍ دقيقةً فاحصةً، ويتأثَّرون بسلوكهم دون أن يدركوا! ورُبَّ عملٍ - لا يُلْقِي له الأبُ أو الأمُّ بالاً - يكونُ عند الابنِ عظيماً![14].
ــــــــــــــــــــــ
[1] التربية على منهج أهل السنة والجماعة، جمع وترتيب: أحمد فريد، الدار السلفية للنشر والتوزيع، الإسكندرية، ص (251).(/6)
[2] أخرجه مسلم (1/512-513) في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب: جامع صلاة الليل (139/746)، والبخاري في الأدب المفرد رقم (308)، والنسائي في الكبرى (6/412) كتاب التفسير، باب: تفسير سورة المؤمنون، وأحمد (6/91)، (6/112) من طريق آخر عن عائشة.
[3] دراسات في التفسير، د. محمد نبيل غنايم، دار الهداية، الطبعة الثالثة، 1415، 1995م، ص (112).
[4] الرحيق المختوم؛ صفي الرحمن المباركفوري، دار الكتب العلمية، ص (314). وهذا طرف من حديث صلح الحديبية الطويل، أخرجه البخاري (5/675، 679) كتاب الشروط، باب: الشروط في الجهاد (2731، 2732)، وأبو داود (2/93، 94) كتاب الجهاد، باب: في صلح العدو (2765).
[5] أخرجه الترمذي (6/188) كتاب المناقب، باب: فضل أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبو داود (2/692) كتاب الأدب، باب: في النهي عن سب الموتى (4899)، وابن حبان (3018، 4177)، والطبراني في الأوسط (6/187) رقم (6145)، والدارمي (2/159)، وأبو نعيم في الحلية (7/138)، والبيهقي (7/468). وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه. وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (285).
[6] أصول التربية الإسلامية وأساليبها في البيت والمدرسة والمجتمع، عبد الرحمن النحلاوي، دار الفكر، دمشق، الطبعة الثالثة، 1425هـ - 2004م، ص (206).
[7] أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق (38/271).
[8] مسؤولية الأب المسلم في تربية الولد في مرحلة الطفولة، عدنان حسن باحارث، دار المجتمع للنشر والتوزيع، ص (68)، التربية على منهج أهل السنة والجماعة، ص (255).
[9] تربية (النَّاشِئة) في ضوء السيرة؛ الشيخ عبد الله بن إبراهيم الأنصاري، ضمن كتاب المؤتمر العالمي للسيرة والسنة النبوية، والمؤتمر العاشر لمجمع البحوث الإسلامية، ص (252).
[10] شَنٍّ مُعَلَّقٍ: أي: السِّقَاء البالي. انظر: المنتقى شرح الموطأ (1/217).(/7)
[11] أخرجه البخاري (2/225) كتاب الأذان، باب: إذا لم يَنوِ الإمامُ أن يَؤُمَّ (699)، ومسلم (1/532) كتاب صلاة المسافرين، باب: الدعاء في صلاة الليل وقيامه (192/763).
[12] أخرجه البخاري في الأدب المفرد (701)، وأبو داود (2/745) كتاب الأدب، باب: ما يقول إذا أصبح (5090)، والنسائي في عمل اليوم والليلة، رقم (22، 572، 651)، وأحمد (5/42)، وحسنه الألباني في صحيح الأدب المفرد له ص (260).
[13] منهج التربية النبوية للطفل، مع نماذج تطبيقية من حياة السلف الصالح وأقوال العلماء العاملين، محمد نور بن عبد الحفيظ سويد، دار ابن كثير، دمشق، بيروت، الطبعة الأولى، 1419هـ - 1998م، ص (90، 91).
[14] تربية الطفل في الإسلام: النظرية والتطبيق، د. محمد عبد السلام العجمي وآخرون، مكتبة الرشد، المملكة العربية السعودية، الرياض، الطبعة الأولى، 1425هـ - 2004م، ص (95).(/8)
العنوان: التربيةُ عن طريق اللَّعِب المُبَاح
رقم المقالة: 1034
صاحب المقالة: محمد سالم بن على جابر
-----------------------------------------
يؤكد علماءُ التربية حديثاً أهمية اللَّعب للطفل، فيَعُدُّ ((جان بياجيه)) اللعبَ مظهراً من مظاهر النمو العقلي للطفل؛ بحيث يُعَبِّر تطورُ ألعابه عن درجة نضجه العقلي والوجداني[1]، ويرى آخرون أن اللعب نشاطٌ إيجابيٌ للطفل؛ "يجدد القوى، ويقوم مقام الاسترخاء اللازم للعضلات"[2].
وتقول الدكتورة سهير كامل أحمد: "إن اللعب حتى مرحلة الطفولة المبكرة هو طريقة الطفل الخاصَّة للانفتاح على العالم المحيط به، وإن الطفل يعبر في أثناء اللعب عن إحساساته الكامنة حيالَ الأفراد المحيطين به؛ وتكشفُ لُعَبُ الأطفال عن حياتهم الوجدانية التخيُّليَّةِ، وعن مدى تأثرهم بعملية التطبيع الاجتماعي التي يَخَضعون لها"[3].
وتقول الدكتورة آمنة أرشد بنجر: "إن أسلوب اللعب هو استغلال واستنفاد لطاقة الجسم الحركية، كما أنه مصدر المتعة النفسية للطفل؛ لأنه يمنح الطفل السرور والمرح والحرية، ويعده «فروبل» النشاط الروحي النقي للإنسان، فهو يشتمل على كل منابع الخير"[4].
وترى الدكتورة وفاء محمد كمال عبد الخالق أن النشاط اللعبي محدِّد لنموِّ شخصيةِ طفلِ ما قبل المدرسة، وبغير هذا النشاط لا يمكنُ لهذه الشخصية أن تنتقل إلى المرحلة اللاحقة لها؛ ومن ثَمَّ لا يمكن أن تزوَّد شخصيتُه بالخصائص اللازمة لشخصيةِ طفلِ المدرسةِ الابتدائية إلا إذا قام النشاطُ اللعبي بدوره كنشاطٍ مُهَيْمِن على المرحلة السابقة[5].(/1)
وهذه الأهمية التربوية للعب لم تغب عن أذهان علماء التربية الإسلامية من السلف، بل قد عرَف السلف –رحمهم الله– أهميةَ اللعب للطفل، وأرشدوا الآباء والمربين إلى ضرورة السماح للأطفال بقسط من اللعب؛ فها هو ذا الغزالي يقول: "ينبغي أن يُؤْذَن للصبي بعد الانصراف من الكُتَّاب أن يلعب لعباً جميلاً يستروحُ فيه من تَعَبِ المكتَبِ؛ بحيث لا يتعب في اللعب؛ فإنَّ مَنْعَ الصبي من اللعب، وإرهاقَه بالتعلم دائماً، يُميت قَلبَهُ، ويُبطِل ذَكَاءَهُ، وينغص عليه العيشَ حتى يطلب الحيلة في الخلاص من الكُتَّاب رأساً". وما أشار إليه الغزالي بالكُتَّاب هو ما يساوي المدرسة في عصرنا[6].
وقد سبقت السنة النبوية جميعَ هذه الآراء المنبهة على أهمية اللعب للطفل، إذ تضافرت النصوصُ التي تدل دلالة واضحة على اهتمام النبي -صلى الله عليه وسلم- بإعطاء الأطفال حقَّهم من اللعب؛ فعن أبي أيوب الأنصاري –رضي الله عنه– أنه قال: دخلت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والحسنُ والحسينُ –رضي الله عنهما– يلعبان بين يديه أو في حِجْره، فقلت: يا رسول الله، أتحبهما؟ فقال: ((وكيف لا أحبهما وهما رَيْحَانَتَىَّ من الدُّنْيَا أشمهما؟!))[7].
وعن جابر –رضي الله عنه– قال: دخلت على النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يمشي على أربعة وعلى ظهره الحسن والحسين -رضي الله عنهما- وهو يقول: ((نعم الجَمَل جملُكما، وَنِعْمَ الْعِدْلانِ أنتما!))[8].
وعن عمر بن الخطاب –رضي الله عنه– قال: رأيت الحسن والحسين -رضي الله عنهما- على عاتِقَيِ النبي -صلى الله عليه وسلم- فقلت: نِعمَ الفَرَسُ تحتكما! فقال -صلى الله عليه وسلم-: ((ونعم الفارسان هما!))[9].(/2)
وعن البَرَاء بن عَازِب -رضي الله عنه- قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم -يصلي، فجاء الحسن والحسين، أو أحدهما -رضي الله عنهما- فركب على ظهره، فكان إذا رفع رأسه قال بيده، فأمسكه، أو أمسكهما، وقال: ((نعم الْمَطِيَّةُ مَطِيَّتُكُمَا!)) وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((ونعم الرَّاكِبان هما، وأبوهما خير منهما))[10].
ففي الأحاديث السابقة خير شاهد على تقديره -صلى الله عليه وسلم- لحق الطفل في اللعب، إلى الحد الذي جعله يلاعب الأطفال بنفسه -صلى الله عليه وسلم-، ولا يكتفي بذلك، بل كان يقرن ذلك بمدح الطفل والثناء عليه؛ ليزيد من نشاطه النفسي في اللعب؛ فيستمر بلا كلل أو تعب، ويتابع لعبه بحب وشغف؛ وبذلك يكون اللعب غذاء جسميا ونفسيا في آن واحد[11].
وكما كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يلاعب الأطفال بنفسه، كان يشجعهم أيضاً على اللعب معاً، فعن يَعْلَى بن مُرَّة -رضي الله عنه- قال: "كنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فدُعِينا إلى طعام، فإذا الحسين يلعب في الطريق، فأسرع النبي -صلى الله عليه وسلم- أمام القوم ثم بسط يديه فجعل حسين يمر مرة هاهنا ومرة هاهنا، حتى أخذه فجعل إحدى يديه في ذقنه والأخرى بين رأسه وأذنيه ثم اعتنقه وقبله، ثم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((حُسينُ مني وأنا منه، أحبَّ الله من أَحَبَّهُ، الحسن والحسين سِبْطَانِ من الأَسْبَاطِ))[12].
ولم يقتصر الإذن باللعب في الإسلام على البنين، فقد أجيز للبنات اللعب، شريطة أن يكون مناسباً للفتاة، وأن يكون مناسباً لعمرها، وألا يؤدي إلى إرهاقها كالرياضة الشاقة، وأن يرتقي اللعب بأخلاقها وصحتها.(/3)
روى أبو داود بإسناد صحيح عن عائشة –رضي الله عنها– قالت: ((قَدِمَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من غزوة تبوك أو حُنَيْن وفي سَهْوَتِهَا سِتْرٌ، فَهَبَّت ريحٌ فكشفت ناحية السِّتْرِ عن بنات لعائشة –أي: لُعَب– فقال: ما هذا يا عائشة؟ قالت: بناتي. ورأى بينهن فرساً له جناحان من رِقَاعٍ، فقال: ما هذا الذي أرى وَسْطَهُنَّ؟ قالت: فَرَسٌ، قال: وما الذي عليه؟ قالت: جناحان، قال: فرسٌ له جناحان؟! قالت: أما سمعت أن لسليمان خَيلاً لها أجنحة؟! قالت: فضَحِكَ حتى رأيت نَوَاجِذَهُ))[13].
وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: ((تزوجني النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- وأنا بنتُ ستِّ سنين، فقدمنا المدينة فنزلنا في بني الحارث بن الخزرج، فَوُعِكْتُ؛ فَتَمَزَّقَ شَعَرِي؛ فوفَى جُمَيْمَةً، فأتتني أمي أم رومان –وإني لفي أرجوحة ومعي صواحبُ لي– فصَرَخَتْ بي فأتيتُها، لا أدري ما تريد بي، فأخذت بيدي حتى أوقفتني على باب الدار، وإني لأَنْهَجُ حتى سكن بعض نفسي، ثم أَخَذَتْ شيئاً من ماء فَمَسَحَت به وجهي ورأسي، ثم أدخلتني الدار، فإذا نسوة من الأنصار في البيت، فقلن: على الخير والبركة، وعلى خير طائر، فَأَسْلَمَتْنِي إليهن، فأصلحن من شأني، فلم يَرُعْنِي إلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ضُحًى، فَأَسْلَمَتْنِي إليه، وأنا يومئذ بنتُ تسعِ سنين))[14].
ففي إقراره -صلى الله عليه وسلم- لِلَعب عائشة ولُعبها التي كانت تلعب بها، ما يوضح تأكيدَ الإسلام أهميةَ اللعب للطفل، وجواز شراء اللُّعَب له؛ فعلى الآباء والمربين أن يراعوا ذلك، فيعطوا لصغارهم الفرصة للعب والترويح عن أنفسهم، ولكن مع توجيههم إلى أنواع اللعب الملائمة لهم؛ بحيث يمكن من خلالها تحقيقُ الفوائد المرجوة من اللعب، التي من أهمها:
• إزالة التوتُّر النفسي والجسمي عند الطفل.
• إدخال المتعة والتنوع في حياة الطفل.(/4)
• استكشاف الطفل لنفسه وللعالم المحيط به، وفي ذلك تعلُّم الطفل لأشياء جديدة.
• تعلم الطفل حلَّ مشكلاته الخاصة.
• تعبير الطفل من خلال اللعب عن حاجاته ورغباته التعبيرَ الكافي في حياته الواقعية.
• تمرين الطفل وتدريب عضلاته عن طريق ألعاب الحركة.
• الرغبة في التعلم؛ لأن اللعب نشاط مشوق لا إكراه فيه.
• استخدام الطفل جميعَ حواسه، وذلك يزيد قدرته على التركيز؛ ومن ثَمَّ زيادة الفهم.
• عمل اللعب على تطبيع الطفل اجتماعيّاً؛ لتقويم الخلق لديه والتضامن مع رفاقه، خاصة في اللعب الجماعي.
• القضاء على المَلل؛ إذ يوفِّر اللعب فرصة القضاء على (الروتين) اليومي لأحداث الحياة[15].
وعلى الوالدَيْن أن يشتريا للطفل من اللُّعَب ما يناسب عمره وقدرته، ويضعاها بين يديه وفي متناوله؛ وذلك ليبدأ تشغيل عقله وحواسه شيئاً فشيئاً.
وحتى تكون اللُّعبةُ مفيدةً وجيدة للطفل؛ لا بد للوالدين أن يطرحا على أنفسهما التساؤلات التالية حين شراء الألعاب لأطفالهم:
• هل هذه اللعبة من النوع الذي يستثير نشاطاً جسديّاً صحيّاً مفيداً للطفل؟
• أهي من النوع الذي يرضي الحاجة للاستكشاف، والتحكم في الأشياء؟
• أهي من النوع الذي يتيح التفكيك والتركيب؟
• أهي من النوع الذي يشجع تقليد سلوك الكبار وطرائق تفكيرهم؟
فإذا كانت الإجابة بـ(نعم) كانت اللعبة مناسبة ومفيدة تربويّاً، وإلا فلا[16].
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] ينظر: نمو الشخصية (نظرية وتطبيق)؛ د. وفاء محمد كمال عبد الخالق، سنة 1999م، ص (93). سيكولوجية نمو الطفل؛ د. سهير كامل أحمد، مركز الإسكندرية للكتاب سنة 1999م، ص (81).
[2] ينظر: نمو الشخصية: نظرية وتطبيق؛ مرجع سابق، ص (93).
[3] ينظر: سيكولوجية نمو الطفل؛ مرجع سابق، ص (81).
[4] ينظر: أصول تربية الطفل المسلم: الواقع والمستقبل، د. آمنة أرشد بنجر، دار الزهراء للنشر والتوزيع، الرياض، الطبعة الأولى، 1421هـ/2000م، ص (176).(/5)
[5] ينظر: نمو الشخصية: نظرية وتطبيق؛ مرجع سابق، ص (95).
[6] ينظر: المؤتمر الرابع للسنة النبوية؛ ص (824).
[7] أخرجه الطبراني في الكبير (4/155) رقم (3990) من طريق الحسن بن عنبسة: ثنا علي بن هاشم عن محمد بن عبيد الله بن علي عن عبد الله بن عبد الرحمن الحزمي عن أبيه عن جده عن أبي أيوب الأنصاري به. وقال الهيثمي في المجمع (9/184): فيه الحسن بن عنبسة وهو ضعيف. قلت: وفيه أيضاً محمد بن عبيد الله بن علي بن أبي رافع، قال البخاري: منكر الحديث، وقال ابن معين: ليس بشيء، وقال ابن حبان: منكر الحديث جدّاً ذاهب، وقال الذهبي في الميزان (6/246): ضعفوه. فالحديث إسناده ضعيف جدّاً.
[8] ينظر: تربية الطفل في الإسلام: النظرية والتطبيق؛ د. محمد عبد السلام العجمي، وآخرون، مكتبة الرشد، المملكة العربية السعودية، الرياض، الطبعة الأولى، 1425هـ/2004م، ص (88). والحديث أخرجه الطبراني في الكبير (3/46) رقم (2661) من طريق مسروح أبي شهاب عن سفيان الثوري عن أبي الزبير عن جابر به، وبهذا الإسناد أخرجه العقيلي في الضعفاء (4/247)، وابن حبان في المجروحين (3/19) في ترجمة مسروح أبي شهاب، قال ابن حبان: شيخ يروي عن الثوري ما لا يتابع عليه، لا يجوز الاحتجاج بخبره لمخالفته الأثبات في كل ما يروي.
وقال أبو حاتم: يحتاج إلى التوبة من حديث باطل رواه عن الثوري، يعني هذا الحديث. الميزان (6/406).
وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/185): فيه مسروح أبو شهاب، وهو ضعيف.
[9] أخرجه البزار (293- البحر الزخار) من طريق الحسن بن عنبسة عن علي بن هاشم بن البريد عن محمد بن عبيد الله بن أبي رافع عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر... فذكره. قلت: إسناده ضعيف؛ لضعف الحسن بن عنبسة ومحمد بن عبيد الله بن أبي رافع كما تقدم. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/185): رواه أبو يعلى في الكبير ورجاله رجال الصحيح، ورواه البزار بإسناد ضعيف.(/6)
[10] ينظر: منهج التربية النبوية للطفل، مع نماذج تطبيقية من حياة السلف الصالح وأقوال العلماء العاملين؛ محمد نور بن عبد الحفيظ سويد، دار ابن كثير، دمشق، بيروت، الطبعة الأولى، 1419هـ-1998م، ص (346). والحديث أخرجه الطبراني في الكبير (3/65)، وفي الأوسط (3987)، وقال الهيثمي في المجمع (9/185): إسناده حسن.
[11] ينظر: منهج التربية النبوية للطفل، مع نماذج تطبيقية من حياة السلف الصالح وأقوال العلماء العاملين؛ مرجع سابق، ص (346، 347).
[12] أخرجه ابن ماجه (1/152) في المقدمة، باب: فضل الحسن والحسين (144)، والترمذي (6/118) كتاب المناقب، باب: مناقب أبي محمد الحسن بن علي والحسين بن علي رضي الله عنهما (3775)، وأحمد (4/172)، وابن حبان (6971)، والطبراني في الكبير (3/21)، رقم (2587)، والحاكم (3/177)، من طريق سعيد بن أبي راشد عن يعلى بن مرة به.
وقال الترمذي: حديث حسن. وصححه الحاكم ووافقه الذهبي. قلت: في إسناده سعيد بن أبي راشد، وهو مقبول عند المتابعة، وإلا فلين، وقد توبع تابعه راشد بن سعد عن يعلى بن مرة به؛ أخرجه البخاري في الأدب المفرد (364)، والطبراني في الكبير (3/20) رقم (2586)، ويعقوب بن سفيان في المعرفة والتاريخ (1/308-309)، من طريق عبد الله بن صالح عن معاوية بن صالح عن راشد بن سعد عن يعلى بن مرة. قلت: وهي متابعة ضعيفة؛ ففي الطريق إلى راشد بن سعد، عبد الله بن صالح، وهو كثير الغلط وكانت فيه غفلة. التقريب (ت: 3409). والحديث حسنه الألباني في الصحيحة (1227).
[13] أخرجه أبو داود (2/701) كتاب الأدب، باب: في اللعب بالبنات (4932)، والبيهقي (10/219) وإسناده صحيح.
[14] ينظر: تربية الطفل في الإسلام، مرجع سابق، ص (89). والحديث أخرجه البخاري (7/627، 628) كتاب مناقب الأنصار، باب: تزويج النبي –صلى الله عليه وسلم- عائشة (3894)، ومسلم (2/1038) كتاب النكاح، باب: تزويج الأب البكر الصغيرة (69/1422).(/7)
[15] ينظر: أصول تربية الطفل المسلم: الواقع والمستقبل؛ مرجع سابق ص (176، 177).
[16] ينظر: منهج التربية النبوية للطفل، مع نماذج تطبيقية من حياة السلف الصالح وأقوال العلماء العاملين؛ ص (106).(/8)
العنوان: التربيةُ عن طريق جماعاتِ الأصدقاء
رقم المقالة: 1173
صاحب المقالة: محمد بن سالم بن علي جابر
-----------------------------------------
لِجماعات الأصدقاء والرفاق دورٌ كبير في حياة الفرد في مختلف مراحلِ عمره، ففي مرحلة الطفولة يُقْبِلُ الطفلُ بشَغَفٍ على مُشَاطَرة الأطفال الآخرين لعبَهم، والتعاون معهم، حتى أطلق البعض على مرحلة الطفولة مرحلةَ الاجتماعية الطبيعية؛ إذ يُحب الأطفالُ اللعبَ مع بعضهم بطريقة جماعية، ويتعاونون في نشاطاتهم المختلفة[1]، وقد وُجِدَ أن الطفل يحصل على أفضل النتائج من خلال مشاطرة الآخرين لعبهم والتعاون معهم[2].
وفي مرحلة المراهقة يرتبطُ المراهقُ ارتباطاً وثيقاً بمجموعة النُّظَرَاء (الشِّلَّة)، فيسعى إليها سعياً أكيداً، ويكافحُ في سبيل تثبيت مكانته بها، ويتبنَّى قِيَمَها ومعاييرَها ومُثُلَها السلوكية، ويتجه إليها -قبل غيرها من المجموعات الأخرى– بوجدانه وعاطفته وولائه؛ ذلك أن المراهق يشعر في وسط إخوانه بالمشابهة والمجانسة وبوحدة الأهداف والمشاعر، كما يشعر في الوقت نفسه بالهوة الواسعة التي تَفصِل بينه وبين الكبار في كثير من الأحيان[3].
كما تمارسُ جماعاتُ الأصدقاء والرِّفاق دورَها وأثرها في حياة الفرد فيما بعد مرحلة المراهقة من مراحل الحياة، وهنا تجدُرُ الإشارةُ إلى أن أماكن العمل -سواء أكانت رسميَّة أم تَطَوُّعيَّة- تُعَدُّ من جماعات الرفاق، إلا أنه يغلِب عليها الطابع الرسمي في العادة، وهي مؤسسات اجتماعية ذات تأثيرٍ مُهمٍ على تربية الإنسان بعامة؛ نظراً لما يترتب على وجوده فيها من احتكاك بالآخرين، إضافة إلى أنه يقضي فيها جزءاً ليس باليسير من وقته الذي يكتسبُ خلالَه الكثيرَ من المهارات والعادات والطباع والخبرات المختلفة.(/1)
والمعنى: أن جماعات الرِّفاق توجد وتمارس نشاطاتها المختلفة في المكان الذي يجتمع فيه أفرادُها، إذ تجمعهم –في الغالب– الاهتماماتُ المشتركة والنشاطات المرغوب فيها؛ كالنشاطات الرياضية، أو الترويحية، أو الثقافية، أو الاجتماعية، أو الوظيفية، أو التطوعية، ونحوها.
كما أنَّ لكل جماعة من جماعات الرفاق ثقافةً خاصة بهم، وهذه الثقافة تُعَدُّ فرعية ومتناسبة مع مستوياتهم العقلية والعمرية، وخبراتهم الشخصية، وحاجاتهم المختلفة، إلا أنها تختلف من جماعة إلى أخرى، تبعاً للمستويات الثقافية والتعليمية والعمرية، والأوساط الاجتماعية المتباينة[4].
وذلك الدور الكبير الذي تؤديه جماعاتُ الرِّفاق والأصدقاء في المراحل المختلفة من حياة الإنسان، يُلقِي الضوءَ على جانبٍ من جوانب التميُّز في التربية الإسلامية، التي عُنيت بجماعات الرفاق والأصدقاء؛ لأنها وسيلة مهمة من وسائل التربية؛ إذ حرَص رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على أن يَنشأ الطفلُ بين الأطفال بعيداً عن العُزْلَةِ والانطواء؛ فقد مر -صلى الله عليه وسلم- بصبيان يلعبون فَسَلَّم عليهم، فعن أنس قال: ((انتهى إلينا رسول الله وأنا غلام مع الغلمان، فسلم علينا ...))[5].
وفي هذا تنبيه منه -صلى الله عليه وسلم- على السماح للطفل بالاتصال بالأطفال الآخرين، وخصوصاً في زمن الطفولة الأولى التي تترك آثاراً دائمة في شخصيته؛ لذا فالأطفال الذين يُعزَلون عن جماعاتهم الإنسانية لسبب أو لآخر، لا يستطيعون أن يكوِّنوا شخصياتٍ إنسانية؛ إذ إن هذا التكوين لا بد له من أشخاص آخرين يتفاعلون معهم[6].(/2)
ولكن لكي يؤتي هذا الاختلاطُ ثمارَه التربوية المرغوب فيها؛ فلا بد أن يُحسِن المُرَبُّون اختيارَ الصُّحْبَة التي يختلط بها الطفل، وكذلك لا بد أن يحسن الفردُ في كل مرحلة من مراحل حياته اختيارَ صحبته ورفاقه، وهو ما نبه عليه الحق -سبحانه وتعالى- بقوله: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَاناً خَلِيلاً} [الفرقان: 27، 28]، ويقول سبحانه: {الْأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 67].
كما نبه النبي -صلى الله عليه وسلم- على أهمية اختيار الصاحب والرفيق، فقال -صلى الله عليه وسلم-: ((المرءُ على دين خليله؛ فلينظرْ أَحَدُكُم من يُخَالِل))[7].
ويقول أيضا: ((مَثَلُ الْجَلِيسِ الصالح والجليس السَّوء كحامل المسك وَنَافِخِ الْكِيرِ؛ فحاملُ المسك إما أن يُحْذِيَكَ، وإما أن تَبْتَاعَ منه، وإما أن تجد منه ريحاً طيِّبة، وَنَافِخُ الْكِيرِ إما أن يُحرِق ثيابَك، وإما أن تجد منه ريحاً خبيثة))[8].
وفيما رواه ابن عساكر: ((إيَّاكَ وَقَرِينَ السُّوء؛ فإنك به تُعْرَف))[9].
وكذلك أدرك السلفُ الصالح دورَ الرفاق والأصدقاء وتأثيرَهم في الفرد؛ فيقول الإمام علي –كرم الله وجهه-: "إياك ومخالطةَ السَّفِلة؛ فإن السَّفِلة لا تؤدي إلى خير"[10].
ويقول أيضا: "الأصدقاء نفس واحدة في جُسُومٍ متفرقة"[11].
وينصح ابنُ سينا في تربية الصغير أن يكون معه في مكتبه "صِبْيةٌ حَسَنَةٌ آدابُهم، مَرْضِيَّةٌ عاداتُهم؛ لأن الصبيَّ عن الصبيِّ أَلْقَن، وهو عنه آخذ، وبه آنس"[12].(/3)
وعلى الآباء والمربين أن يبادروا بتوجيه الصغار إلى أهمية الصحبة الصالحة، وأن يُرَغِّبوهُم في مرافقة ذوي الأخلاق الحسنة، وأن يُنَفِّرُوهُم من رُفقَةِ ذَوِي النُّفوس الخبيثة والأخلاق الذميمة منذ الصِّغَر، ولا يهملوا ذلك إلى مراحلَ تالية؛ لأنه مع تَقَدُّم العمر بالطفل يَكره تدخلَ الآباء في اختيار رفاقه وأصدقائِهِ، ويَرْغَبُ في أن ينفرد هو باختياره؛ ولا سيما في مرحلة المراهقة، إذ يختار المُرَاهِق من يريد من أصدقائه بنفسه، ويرفضُ أيَّ تَدَخُّل من والديه في ذلك الموضوع، بخلاف الطفل، الذي لا يمانعُ مطلقاً في أن يختار له الوالدان بعضَ الأصدقاء، ومعنى ذلك أن موقف الطفل من والديه في اختيار الأصدقاء إنما هو موقفٌ سلبيٌّ[13].
فيجب على الآباء والمربين استغلالُ هذا الموقف السلبي من جهة الطفل، بتعويده اختيارَ الصديق الصالح؛ فإنه إن اعتاد ذلك في صغره شب عليه ثم استمر كذلك في باقي مراحل حياته.
وأما المراهقُ فإن دوره في اختيار الأصدقاء دورٌ إيجابيٌّ؛ ومن ثم فكثيراً ما يظهر على وجه المراهق مظاهرُ عدم الرضا عن الأسلوب الذي تتبعه الأسرة في التوجيه أو الأمر بعدم مصادقة شخص أو أشخاص معروفين بالسلوك الشاذ؛ فهو يرفض التَّدَخُّل بالأسلوب المباشر، على الرغم من قناعته بصحة وسلامة رأي الأسرة؛ لأنه يعُدُّ هذا التدخل إضعافا لشخصيته، وهذا يتطلب من المربين إذا أرادوا التدخل في اختيار أصدقاء المراهق أن يكون تدخلُهم بأسلوب غير مباشر، بأن يناقش الأب مثلاً مع ابنه قضايا الأخلاق والعلاقات الاجتماعية مناقشةً موضوعية، وأن يتحدث خلالَها عن الصفات التي يجبُ أن تتوافر في الأصدقاء، ويعطي فرصة للمراهق في الحديث الحر عن الصفات المُثْلَى للصديق[14].(/4)
ولا شك أن هذا المراهق إذا كان قد تَعَوَّد منذ الصغر اختيارَ الصديق الصالح، ونشأ على البعد عن أصدقاء السوء؛ فإن هذا سيسهل كثيراً على الأب مهمةَ توجيهه إلى ما يريد بالطريق غير المباشر.
ــــــــــــــــــــــــــ
[1] ينظر: الطفولة والمراهقة؛ ج.أ. هادفيلد، ترجمة: أحمد شوكت، وعدنان خالد، دار الكتب، جامعة الموصل، (ص42).
[2] ينظر: الطفل في الشريعة الإسلامية ومنهج التربية النبوية؛ سهام مهدي جبار، سلسلة الكتاب التربوي الإسلامي، إشراف: د. محمد منير سعد الدين، المكتبة العصرية، صيدا، بيروت، الطبعة الأولى 1417هـ/1997م، (ص507).
[3] ينظر: تربية المراهق بين الإسلام وعلم النفس؛ محمد السيد محمد الزعبلاوي، مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت، ط 4، 1419هـ/1998م، (ص175).
[4] ينظر: مقدمة في التربية الإسلامية؛ د. صالح بن علي أبو عراد، الدار الصولتية للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 1424هـ/2003م، (ص111).
[5] أخرجه أبو داود (5205) باب فِى السَّلاَمِ عَلَى الصِّبْيَانِ، وابن ماجه (562) باب الْحِيَاضِ، وصححه الألباني.
[6] ينظر: الطفل في الشريعة الإسلامية؛ مرجع سابق (ص508).
[7] أخرجه أبو داود (4833)، والترمذي (4/559) كتاب الزهد (2378)، وأحمد في المسند (2/303)، والحاكم في المستدرك (4/171) كتاب البر، باب: المرء على دين خليله وقال: صحيح إن شاء الله تعالى، ووافقه الذهبي.
[8] ينظر: الطفل في الشريعة الإسلامية؛ مرجع سابق، (ص509). والحديث أخرجه البخاري (9/577) كتاب الذبائح، باب: المسك (5534)، ومسلم (4/2026) كتاب البر والصلة، باب: استحباب مجالسة الصالحين (146/2628).
[9] أخرجه ابن عساكر من حديث أنس بن مالك كما في كشف الخفاء (1/319)، وقال الألباني في السلسلة الضعيفة (847): موضوع.
[10] ينظر: الأخلاق عند الإمام الصادق؛ محمد أمين زين الدين، منظمة الإعلام الإسلامي، قسم العلاقات الدولية، بيروت، سنة 1403هـ/1983م، (ص113).(/5)
[11] ينظر: ميزان الحكمة؛ محمد الري شهري، الدار الإسلامية للطباعة والنشر، بيروت، سنة 1405هـ/1985م، (5/296).
[12] ينظر: مقالات فلسفية لمشاهير العرب، مسلمين ونصارى؛ لويس شيخو وآخرون، دار العرب بستاني، القاهرة، الطبعة الثالثة، سنة 1985، (ص13)، الطفل في الشريعة الإسلامية، مرجع سابق، (ص509).
[13] ينظر: تربية المراهق بين الإسلام وعلم النفس؛ مرجع سابق، (ص186).
[14] ينظر: السابق، (ص187).(/6)
العنوان: التربية.. قواعد وأصول
رقم المقالة: 794
صاحب المقالة: د . منيرة العيد
-----------------------------------------
التربية.. قواعد وأصول أجمع المربون على أهمية التربية، فهي الضمان الوحيد للتصدي للتيارات المناهضة لما تؤمن به الأمة من مبادئ وقيم، في عصرٍ تقاربت فيه المسافات وتعددت فيه وسائل الاتصالات.
إن إدراك المربي للهدف من التربية يساعده في تحديد الوسائل والطرق والأساليب التي يسير عليها في تربيته للناشئين ولنفسه وللآخرين، والهدف الأسمى من التربية هو: تنمية قدرات الفرد وإطلاق إمكانياته، وتقوية شخصيته إلى أقصى حد تسمح به استعداداته.
وفي ضوء هذا الهدف تنبثق الأهداف الفرعية الموصلة إليه:
1) تعريف الفرد بخالقه، وبناء العلاقة بينهما على أساس: ربانية الخالق وعبودية المخلوق، وإعداد الفرد للحياة الآخرة، وذلك من واقع الكتاب والسنة والسيرة النبوية وسير السلف الصالح.
2) تطوير وتهذيب سلوك الفرد، وتنمية أفكاره، وتغيير اتجاهاته؛ بحيث تنسجم مع الاتجاهات الإسلامية، والسعي لتحقيق السمو النفسي، لكي نقيم مجتمعاً قوياً ومترابطاً.
3) تدريب الفرد على مواجهة متطلبات الحياة المادية، وكسب الرزق الحلال والتأكيد على ذلك.
4) توجيه المسلمين لحمل الرسالة الإسلامية إلى العالم.
5) غرس الإيمان بوحدة الإنسانية، والمساواة بين البشر، والتفاضل إنما هو بالتقوى، بالإضافة إلى تقوية روح الجماعة.
6) تحقيق النمو المتكامل المتوازن لجميع جوانب شخصية الفرد؛ فالإنسان: جسم وروح وقلب وعقل وعواطف وجوارح.
الأسرة في الإسلام ودورها التربوي(/1)
الأسرة هي اللبنة الأولى في تكون المجتمع البشري؛ بصلاحها واستقامتها وتراحمها يصلح المجتمع ويستقيم ويتراحم، وبفسادها يفسد المجتمع وتتهاوى أواصره، فمن خلال الأسرة يستلهم الطفل انفعالاته الأولى في: الحب والكره والغضب والحلم والتعاون والأنانية. فهي جسر العبور بالطفل إلى العالم الأوسع، حيث إنها تعلمه الاحترام والتقدير وتحمل المسؤولية، وتعده للتكامل وتُشبع عنده الحاجة إلى الاستقرار العقلي والعاطفي.
ومعظم مشاعر الطفل تتمركز حول الأم والأب؛ بحيث تميل إلى أن تصبح اتجاهاته وتوقعاته الاجتماعية نسخةً من اتجاهاتهما وتوقعاتهما، ويحدث هذا التعلم قبل أن يكون للطفل إدراكٌ واعٍ بنفسه وبالآخرين.
إن علاقة الطفل بوالديه ترسم مستقبلاً طبيعة تكوينه النفسي، وسمات شخصيته، وطبيعة علاقته بالآخرين، فقد بينت العديد من الدراسات أن الأطفال الذين يرون أنه بالإمكان العيش مع الناس، والتعاون معهم، والتضحية من أجلهم، كانت علاقاتهم إيجابية مع والديهم، في حين أولئك الأطفال الذين يعتقدون أن العلاقات الاجتماعية عبارة عن قانون الغاب، كانت علاقاتهم سيئة مع والديهم، كما وُجِدَ أن السلوك المضطرب للوالدين ينعكس بالمِثْل على الأبناء؛ فالأطفال الذين تعرَّضوا لصرامة مفرطة في البيت أظهروا ميلاً للعدوانية أكثر من سواهم، في حين وُجِد أن الأطفال الذين يعتقدون أن الطبيعة البشرية خيِّرة بالأساس قد أقاموا علاقات إيجابية مع الوالدين، أكثر من أولئك الذين يرون الناس أشراراً بطبيعتهم.
وكما أن للوالدين حقاً على أولادهم؛ فإن للأولاد حقاً على والديهم، فالله عز وجل كما أمرنا ببر الوالدين، أمرنا أيضاً بالإحسان إلى الأبناء.(/2)
قال المناوي: لأن يؤدِّب الوالد ولده، ويُنشئه على أخلاق الصالحين، ويصونه عن مخالطة المفسدين، ويُعلِّمه القرآن والأدب، ويُسمعه السنن وأقاويل السلف، ويعلمه من أحكام الدين مالا غنى عنه- خيرٌ له من أن يتصدق بصاع؛ لأنه إذا أدَّبه صارت أفعاله مع صدقاته الجارية تدوم بدوام الولد، وصدقة الصاع ينقطع ثوابها.
وعلى الرغم من عظم مسؤولية الأبناء؛ إلا أن الكثير منا قد فرَّط بها واستهان بأمرها، ولم يرعها حق رعايتها، فأضاعوا أبناءهم، وأهملوا تربيتهم، فهم لا يسألون عنهم، وإذا رأوا منهم تمرداً أو انحرافاً بدؤوا يتذمرون ويشكون من ذلك، وما علموا أنهم السبب الأول في ذلك التمرد والانحراف، متناسين أن الأدب غذاء النفوس وتربيتها للآخرة. فرسالة الوالدين رسالة عظيمة لو أحسَنَا تأديتها لفازا بخير الدارين بإذنه تعالى.
قال - صلى الله عليه وسلم -: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له).
هذا وقد يحسب بعض الناس أن جهل الوالدين بأصول التربية الصحيحة سبب سوء سياستهما ومعاملتهما لأطفالهما، غير أن الدراسات الحديثة بيَّنت أن النضج الانفعالي للوالدين من أهم العوامل في تنشئة الطفل، فالثقافة والعلم بشروط التربية السليمة لا تنفع الوالدين إن لم يكن لديهما قدرٌ كافٍ من النضج الانفعالي الذي يعينهما على تحمُّل أعباء التربية، وتكاليف تبعاتها، وما تتطلبه من تضحية وإنكار للذات، مع حزم وحب يعطي ولا يأخذ، فماذا تنفع الثقافة ومعرفة أصول التربية مع انفعالٍ حاد وشراسة في الطبع؟
إن الأم الحانية والأب المتزن- وما يتسمان به من متابعة لأبنائهما بالعقل الواعي والمعاملة الطيبة- يصنعان ما لا يصنعه كبار علماء التربية، حتى لو لم يعرفا تفاصيل التربية.(/3)
ولقد دلت تجارب العلماء على ما للتربية في الأسرة من أثر عميق خطير- يتضاءل دونه أثر أية منظمة اجتماعية أخرى- في تعيين الشخصيات وتشكيلها، خاصة في مرحلة الطفولة المبكرة وذلك لعدة أسباب منها:
1) أن الطفل في هذه المرحلة لا يكون خاضعاً لتأثير جماعة أخرى غير أسرته.
2) أنه في هذه المرحلة سهل التأثر وسهل التشكيل، شديد القابلية للإيحاء والتعلم، قليل الخبرة، عاجزٌ، ضعيف الإرادة، قليل الحيلة.
3) ثبت أن السنوات الأولى من حياة الطفل فترة خطيرة في تكوين شخصيته، وتتلخص هذه الخطورة في أن ما يُغرس في أثنائها من عادات واتجاهات وعواطف ومعتقدات يصعب أو يُستعصى تغييره أو استئصاله فيما بعد، ومن ثم يبقى أثراً ملازماً للفرد خلال سنوات عمره المقبلة.
4) إن الطفل يولد نقياً من كل الشوائب، فقد قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: (ما من مولود إلا ويولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه). ولو تُرك الطفل على هذه الفطرة من غير تأثير لما كان إلا مسلماً، ولكن الحجب والقدوة السيئة قد تحول دونها.
لذا فواجب الأبوين المسلمين رعاية فطرة الأبناء، والاجتهاد في تحسين تربيتهم، ولا يكفل للوالدين النجاة يوم الحساب إلا أن يبذلا ما في وسعيهما لصلاح رعيتهما، فقد أمرنا المولى عز وجل قائلاً:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6].
وقال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور:21].(/4)
ومن هنا نؤكد على الوالدين وكل المربين أن يتقوا الله في هذه الأمانة، فهم يوم القيامة عنها مسؤولون، وقد عرف أعداؤنا أهمية الأسرة، فحرصوا على تمزيق أواصرها، وسلكوا من أجل ذلك كل السبل: فتارة بالدعوة إلى الإباحية وتفكيك روابط الأسرة، وأخرى بدعوى المرأة إلى التخلي عن واجباتها الأسرية، وثالثة بإحلال المؤسسات التربوية الجماعية محل الأسرة.(/5)
العنوان: التشاؤم بصفر
رقم المقالة: 1573
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70-71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله - تعالى - وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها الناس: من نعمةِ الله - تعالى - على عبده، وتوفيقه له أن يرزقه العلم بما يحتاج إلى العلم به، ويدله على الطريق الموصلة إلى رضوانه، ويوفقه لسلوكها. وكم من البشر من ضلوا عنها! وكم منهم من عرفوها فجانبوها! كم منهم من يموت على الكفر: يموت وثنيًّا يعبد حجرًا أو قبرًا، أو ملحِدًا يعبد هواهُ وشيطانه، أو يهوديًّا أو نصرانيًّا، أو مبتدعًا ضالاً.(/1)
ونعمة الهداية إلى الطريق الحق نعمة لا تعدلها نعمة، امتن الله بها على عباده المؤمنين فقال – سبحانه -: {لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى المُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [آل عمران: 164].
وطرق الضلال كثيرة، وسبلُه عديدة؛ ولكن طريق الحق واحدة {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153]، وهي الطريق التي نسأل الله - عزّ وجل - في كل صلاة نصليها أن يهدينا إليها، ويثبتنا عليها {اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6].
أيها الإخوة: ومن الضلال الذي يعيشه كثير من البشر: التطير، وهو التشاؤم، وسُمي تطيرًا؛ لأن العرب في جاهليتهم إذا خرج أحدهم لحاجة يريدها، قصد عش طائر فهيجه؛ فإن طار من جهة اليمين مضى في الأمر، وإن طار من جهة الشمال تشاءم منه، ورجع عمّا أراد.
قال البيهقي - رحمه الله تعالى -: "كان التطيرُ في الجاهلية في العرب إزعاجَ الطير عند إرادة الخروج للحاجة، وهكذا كانوا يتطيرون بصوت الغراب، وبمرور الظباء، فسموا الكل تطيرًا؛ لأن أصله الأول"[1].(/2)
ولم يكن التشاؤم حادثًا عند العرب في جاهليتهم؛ بل كان موجودًا في الأمم التي سبقتهم، فقوم صالحٍ - عليه السلام - تشاءموا منه وقالوا: {اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ} [النمل: 47]، وأصحاب القرية تشاءموا بالمرسلين إليهم {قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [يس: 18]، وآل فرعون تشاءموا بموسى ومن آمن معه كما أخبر الله - تعالى - عنهم بقوله: {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ} [الأعراف: 131]، وكفارُ مكة كانوا يتشاءمون من دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - وينسبون إليها ما يصيبهم من شر كما قال الله عنهم {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ} [النساء: 78]، وعن ابن عباس والسدي أنهم يقولون هذا تشاؤمًا بدينه[2].
والمنافقون في هذا العصر يتشاءمون من أهل العلم والخير والصلاح، وينسبون كل مصائب الأمة إليهم؛ بل إن أكثرهم والعياذ بالله يتشاءمون من دين الإسلام، كمن يرفض شريعة الإسلام، ويزعم أنها سببُ تأخر المسلمين وتخلفهم عن اللحاقِ بالغرب، وما أكثرهم في هذا الزمن! وهم أتباع المشركين من قبل، يجمعهم العداءُ للديانة والرسالات.
وكثيرٌ ممن انخرم توحيدُهم أو ذهب بالكلية يتشاءمون من ساعاتٍ أو أيامٍ أو شهور أو أصوات أو طيور أو حيوانات أو رؤية أقوام أو أرقام أو نحو ذلك.. فكثير من الضُلاَّل النصارى الغربيين يتشاءمون من رقم ثلاثة عشر، وحذفته بعض شركاتِ الطيران من ترقيم المقاعد، كما حذفوه من ترقيم المصاعد والأدوار في البنايات الكبرى[3].(/3)
وبعضهم يتشاءم من رقم تسعة عشر، وآخرون يتباركون به! وكثير من الرافضة يكرهون التكلم بلفظ العشرة، أو فعل شيء يكون فيه عشرة، حتى البناءُ لا يبنون على عشرة أعمدة؛ لكونهم يبغضون خيار الصحابةِ وهم العشرةُ المشهود لهم بالجنة[4].
وكثير من الناس يتشاءمون من نعيق البوم والغراب، أو رؤية الأعور والأعرج والعليل والمعتوه، وبعضهم يتشاءم من يوم الأربعاء أو ساعة معينة منه[5]، والتشاؤم بشهر صفر موجود عند بعض الناس، وهو قديم؛ ولذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر))؛ أخرجه الشيخان[6].
فقد فُسِّرَ صفرُ بداءٍ يأخذ البطن، وقيل: إنهم كانوا في جاهليتهم يتشاءمون من شهر صفر. كما ذكر ذلك محمد بن راشد المكحولي - رحمه الله تعالى - وأنهم يقولون: "إنه شهر مشؤوم" فأبطل النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك وقال: ((لا صفر))[7].
قال ابن رجب - رحمه الله تعالى -: "ولعل هذا القول أشبه الأقوال، وكثير من الجهال يتشاءم بصفر، وربما ينهى عن السفر فيه، والتشاؤم بصفر هو من جنس الطيرة المنهي عنها، وكذلك التشاؤم بيوم من الأيام كيوم الأربعاء"[8].
وما ذكره الحافظ ابن رجب - رحمه الله تعالى - يقع فيه بعض الناس؛ فيمتنعون عن السفر في صفر، أو الزواج فيه، أو الخِطبة، أو إجراء العقد. وبعضُ التجار لا يمضي فيه صفقة؛ تشاؤمًا به. وهذا كله من الطيرةِ المنهي عنها، وهو قادح في التوحيد.
وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ليس منّا من تطير أو تُطيِّر له، أو تكهن أو تُكهن له، أو سحر أو سحر له، ومن أتى كاهنًا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم))؛ أخرجه البزار[9].
وذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الطيرة من الجبت فقال: ((العِيَافَةُ والطِّيَرَةُ والطَّرْقُ من الجبت))؛ أخرجه أحمد أبو داود[10].(/4)
والجبت: هو السحر، ووجه دخول الطيرة في السحر أن المتطير يعتمد في معرفة المغيبات على أمرٍ خفي، فهو كالساحر الذي يعتمد في قلب حقائق الأشياء على أمر خفي.
وروى ابن مسعود - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((الطيرة شرك))؛ أخرجه أبو داود[11].
وعلاجُ الطيرة: التوكلُ على الله - تعالى - والمضيُّ فيما عزم عليه، والبعدُ عن وساوس الشيطان، وعدم الاستسلام لخطراته، واليقينُ بأن الأمور بيد الله – سبحانه - وأن القدر مكتوب لا تردُّه الطيرة، وقد ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - كفارتها لمن وجد في نفسه شيئًا فقال - عليه الصلاة والسلام -: ((من ردته الطيرة من حاجة فقد أشرك)). قالوا: "فما كفارة ذلك"؟ قال: ((أن تقول: اللهم لا خير إلا خيرك، ولا طير إلا طيرك، ولا إله غيرك))؛ أخرجه أحمد[12]، وذكرت الطيرة عنده - عليه الصلاة والسلام - فقال: ((أحسنها الفأل، ولا ترد مسلمًا؛ فإذا رأى أحدكم ما يكره فليقل: اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك))؛ رواه أبو داود[13].
وليس من العلاج الصحيح مداواة البدعةِ ببدعةٍ أخرى، كما يفعله بعض الناس ردًّا على التشاؤم بشهر صفر؛ فإذا أخبر عن شيء حصل في شهر صفر، قال: حدث في صفر الخير، أو أرَّخ تاريخًا قال: انتهى في صفر الخير، ونحو ذلك؛ فإن شهر صفر لا يوصفُ لا بالخير ولا بالشر فهو ظرف لما يقع فيه، وليس له تأثير فيما يقع فيه سواء كان خيرًا أم شرًّا؛ ولهذا أنكر بعض السلف على من إذا سمع البومة تنعق قال: خيرًا إن شاء الله، فلا يقال: خير ولا شر، بل هي تنعق كبقية الطيور[14].
وقد اعتاد كثير من الناس على استعمال كلمة: خير يا طير، وأغلب من يستعملها لا يقصد بها الطيرة المنهي عنها شرعًا؛ لكن المسلم ينبغي له أن ينزه لسانه عن الألفاظ التي فيها شبهة.(/5)
قال الحافظ ابن رجب: "وأما تخصيص الشؤم بزمان دون زمان كشهر صفر أو نحوه، فغير صحيح، وإنما الزمان خلق الله - تعالى - وفيه تقع أعمال بني آدم: فكل زمان شغله المؤمن بطاعة الله فهو زمان مبارك عليه، وكل زمان شغله العبد بمعصية الله - تعالى - فهو مشؤوم عليه، فالشؤم في الحقيقة هو معصية الله تعالى"[15].
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ} [النمل: 47].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا طيبًا كثيرًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، أحمده وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله - تعالى - وأطيعوه، واحذروا غضبه فلا تعصوه، {وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [البقرة: 203].
أيها المسلمون: الفألُ ضد الطيرة؛ ولذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتفاءل ولا يتطير كما قال - عليه الصلاة والسلام -: ((لا عدوى ولا طيرة، ويعجبني الفأل الصالح، والكلمة الحسنة))؛ أخرجه البخاري، وفي رواية لمسلم: ((الكلمة الحسنة، الكلمة الطيبة))[16]. فالكلمة الطيِّبة تُعْجِبُه - صلى الله عليه وسلم - لما فيها من إدخال السرور على النفس والانبساط والمضيّ قُدُمًا لما يسعى إليه الإنسان، وليس هذا من الطيرةِ؛ بل هذا مما يشجعُ الإنسان؛ لأنها لا تؤثرُ عليه؛ بل تزيده طمأنينة وإقدامًا وإقبالاً[17].(/6)
قال ابن الأثير - رحِمَهُ الله تعالى -: "الفأل فيما يرجى وقوعه من الخير، ويحسنُ ظاهرُه ويسر. والطيرةُ لا تكون إلا فيما يسوء، وإنما أحب النبي - صلى الله عليه وسلم - الفأل؛ لأن الناس إذا أمّلوا فائدة من الله، ورجوا عائدته عند كل سبب ضعيف أو قوي فهم على خير، وإن لم يدركوا ما أمّلوا فقد أصابوا في الرجاء من الله وطلب ما عنده، وفي الرجاء لهم خير معجل. ألا ترى أنهم إذا قطعوا أملهم ورجاءهم من الله كان ذلك من الشر، فأما الطيرة فإن فيها سوء الظن، وقطع الرجاء، وتوقُّع البلاء، وقنوط النفس من الخير، وذلك مذموم بين العقلاء، منهي عنه من جهة الشرع"[18].
ومما ينبغي أن يعلم: أن الطيرة لا تضر إلا المتطيّر، والشؤم لا يضر إلا المتشائم، قال النبي - عليه الصلاة والسلام -: ((لا طيرة والطيرة على من تطيَّر))[19].
وذلك أن شؤمه سيقعده عن العمل، ويصيبه بالإحباط واليأس، وإذا تخلف مرغوب يطلبه عزاه إلى ما تشاءم منه، وهكذا يظل أسير الأوهام والشكوك والظنون الفاسدة، ثم يجد الدجالون من الكهان والعرافين والمنجمين وقراء الكف والفنجان مدخلاً عليه؛ لأنه ضعيف، ولربما استعان بهم في معرفة نتيجة أمر يريده؛ فيقع في الشرك، ولا ينفعه هؤلاء الدجالون، بل يسلبون أمواله كما يفسدون توحيده، ولن يجني إلا ما كتب الله - تعالى – له.
فاتقوا الله ربكم، واحذروا الشرك ومداخله، فإن العبد قد يقع في الذنوب فيغفر الله - تعالى - له؛ لكن الشرك لا يغفره الله - تعالى - ومن مات عليه فهو على خطر عظيم..
وصلوا وسلموا على نبينا محمد كما أمركم بذلك ربكم.
---
[1] "فتح الباري" لابن حجر (10/213).
[2] انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام (14/251).
[3] انظر: مجلة البيان عدد (150) ص (7).
[4] "منهاج السنة النبوية" لشيخ الإسلام ابن تيمية (1/10).
[5] انظر: "لطائف المعارف" لابن رجب (148).(/7)
[6] أخرجه البخاري في الطب باب لا هامة (5757)، ومسلم في السلام باب لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر (2220) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[7] انظر: "معارج القبول" (1/336 ـ 337).
[8] "لطائف المعارف" (148).
[9] أخرجه البزار (4/399) والطبراني في الكبير (18/162)، والدولابي في "الكنى والأسماء" (2/166) من حديث عمران بن حصين - رضي الله عنه - قال المنذري في "الترغيب": إسناده جيد (4/33)، وقال الهيثمي: رواه البزار ورجاله رجال الصحيح خلا إسحاق بن الربيع وهو ثقة. انظر: "مجمع الزوائد" (5/117) وله شاهد من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - أخرجه البزار (4/399)، والطبراني في الأوسط (4262)، وحسنه المنذري في "الترغيب والترهيب" (4/33)، وله شاهد من حديث علي - رضي الله عنه - عند أبي نعيم في الحلية (4/195).
[10] أخرجه أحمد (3/477) وعبدالرزاق في مصنفه (1902)، وأبو داود في الطب باب في الخط وزجر الطير (3907)، والبغوي في "شرح السنة" (3256)، والبيهقي في السنن الكبرى (8/139)، والطبراني في الكبير (18/368 ـ 369)، وصححه ابن حبان (6131) من حديث قبيصة بن المخارق رضي الله عنه.
[11] أخرجه أحمد (1/389)، وأبو داود في الطب باب في الطيرة (3910)، والترمذي في السير باب ما جاء في الطيرة (1614)، وابن ماجه في الطب باب من كان يعجبه الفأل ويكره الطيرة (3538)، وصححه الحاكم (1/17 ـ 18)، وابن حبان (6122).
[12] أخرجه أحمد (2/220) وابن السني في عمل اليوم والليلة (293)، وصححه الشيخ أحمد شاكر في شرحه على المسند (7045).
[13] أخرجه أبو داود في الطب باب في الطيرة (3919)، والبيهقي في الكبرى (8/139)، وصححه النووي في "رياض الصالحين" (1677).
[14] انظر: "القول المفيد على كتاب التوحيد" للشيخ ابن عثيمين (2/85).
[15] "لطائف المعارف" (151).(/8)
[16] أخرجه البخاري في الطب باب الفأل (5756)، ومسلم في السلام باب الطيرة والفأل وما يكون فيه من الشؤم (2224).
[17] "القول المفيد على كتاب التوحيد" (2/88).
[18] "جامع الأصول" (7/631).
[19] أخرجه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" (4/314) وصححه ابن حبان (1623).
قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (4/81): "وإنما تضر الطيرة من تطير؛ لأنه أضر نفسه، فأما المتوكل على الله فلا".(/9)
العنوان: التشبه بالكفار وحكم أعيادهم
رقم المقالة: 1577
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70-71].
أيها الإخوة المؤمنون: عندما تضعفُ أمةٌ من الأمم، يكثر تفرقها واختلافها، وتعظم أدواؤها، ويتنوعُ انحرافها حتى يأتي على الأصول من دينها وعقيدتها فيزعزعها، كما يأتي على المتفق عليه من أخلاقها فيغيره بأخلاقٍ ليست لها، فالضعف يقود إلى التقليد. والأمةُ القاهرةُ تتبعها الأمة المقهورة، وأفرادُ المجتمع المغلوب مولعون بتقليد أفراد المجتمع الغالب ومحاكاتهم في شعائرهم وعاداتهم. ذلك أن النفس أبدًا تعتقد الكمال فيمن غلبها وانقادت إليه، وتلك سنةٌ كونية تظهر لمن قرأ التاريخ، وتأمل أحوال الشعوب.(/1)
أيها الإخوة: وقدر الله - تعالى - على هذه الأمة أنها تحيد عن صراط ربها المستقيم فترات من حياتها، وتسلُك صراط الضالين، ويتبعُ أبناؤها أعداءهم في كل جليل وحقير، وكبير وصغير إلا من رحم الله، وقليل ما هم. وهذا القدر الكوني أخبر عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: ((لتتبعن سَنَن من قبلكم شبرًا بشبر وذراعًا بذراع حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه)). قلنا: "يا رسول الله، اليهود والنصارى"؟ قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((فمن))؟؛ متفق عليه من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه[1].
وفي حديث آخر عن أبي واقدٍ الليثي: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما خرج إلى خيبر مرّ بشجرة للمشركين يقال لها: ذاتُ أنواط يعلقون عليها أسلحتهم فقالوا: يا رسول الله، اجعل لنا ذاتَ أنواط كما لهم ذاتُ أنواط". فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((سبحان الله! هذا كما قال قوم موسى: اجعل لنا إلهًا كما لهم آلهة، والذي نفسي بيده لتركبن سُنة من كان قبلكم))؛ أخرجه أحمد والترمذي وقال: حسن صحيح[2]، قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: "أنتم أشبه الأمم ببني إسرائيل سمتًا وهديًا، تتبعون عملهم حذو القذة بالقذة، غير أني لا أدري أتعبدون العجل أم لا"[3]؟!(/2)
وبالرغم من أن ما وقعت فيه الأمة، وما ستقع فيه من التشبه بالأمم الأخرى، إنما هو قدرٌ من أقدار الله وقضائه الذي لا يرد، فإن هذا لا يعني أن المسلم يستسلم لهذا القدر؛ بل إنه مطالبٌ بفعل الأسباب الواقية؛ فإن الله - تعالى - حذرنا من سبيل الكافرين، وأمرنا بالاستمساك بالعروة الوثقى، وبالإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما أن وقوع فئة من المسلمين أو حتى أكثرهم - لا قدر الله ذلك - في التشبه بالكافرين فإن هذا لا يعني أن الأمة هلكت كلُّها[4]؛ لأن النصوص تثبت أنه: لا تزال طائفة من أمته ظاهرةً على الحق حتى تقوم الساعة[5]. وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أن الله لا يزال يغرس في هذا الدين غرسًا يستعملهم في طاعته))[6].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فعلم بخبره الصدق أنه في أمته قومٌ مستمسكون بهديه الذي هو دين الإسلام محضًا، وقومٌ منحرفون إلى شعبة من شعب اليهود، أو إلى شعبة من شعب النصارى، وإن كان الرجل لا يكفر بكل انحراف؛ بل وقد لا يفسق أيضًا؛ بل قد يكون الانحراف كفرًا، وقد يكون فسقًا، وقد يكون معصية، وقد يكون خطأ. وهذا الانحراف أمر تتقاضاه الطباع ويزينه الشيطان؛ فلذلك أُمر العبد بدوام دعاء الله – سبحانه - بالهداية إلى الاستقامة التي لا يهودية فيها ولا نصرانية أصلاً"[7] اهـ.
أيها الإخوة: جاءت شريعة الإسلام بالنهي القاطع عن التشبه بالكافرين في أي شيء: في العبادات والمعاملات، والأخلاق والعادات، واللباس والهيئات. ونصوص الشرع في ذلك أكثر من أن تحصر. فمخالفة المشركين، والبراءةُ منهم أصل من أصول الدين، الإخلال به إخلال بالدين؛ لذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقصد مخالفتهم دائمًا وأبدًا.(/3)
لما قدم المدينة مهاجرًا، ورأى اليهود يصومون عاشوراء، أمر المسلمين بصيام يوم قبله أو بعده مخالفة لهم[8]؛ بل حتى تحول القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة هو مخالفة لهم في قبلتهم {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [البقرة: 150]. قال جمع من السلف: "معناه: لئلا يحتج اليهودُ عليكم بالموافقة في القبلة فيقولون: قد وافقونا في قبلتنا فيوشك أن يوافقونا في ديننا، فقطع الله بمخالفتهم في القبلة هذه الحجة"[9].
ومن الدقائق في هذا المجال: ما استنبطه العلماء من أن صيامَ المسلمين وإفطارهم وأعيادَهم إنما مبناها على رؤية الهلال، وذلك مخالف لما عليه الكفار؛ إذ يثبتون ذلك بالحساب[10]، وجاءت السنة بتعجيل الفطور وتأخير السحور مخالفة لهم[11]، وجاء النهي عن الجلوس كما يجلسون، ورد عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أنه رأى رجلاً يتكئ على يده اليسرى وهو قاعد في الصلاة فقال له: "لا تجلس هكذا، فإن هكذا يجلس الذين يعذبون" وفي رواية "تلك صلاةُ المغضوب عليهم"؛ أخرجه أبو داود[12].
وجاء الخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن: ((من تشبه بقوم فهو منهم))؛ أخرجه أبو داود[13]، قال شيخ الإسلام: "وهذا الحديثُ أقل أحواله أن يقتضي تحريم التشبه بهم، وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبه بهم كما في قوله: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51]"[14] اهـ.
ومن اطلع على نصوص النهي عن التشبه بالكافرين اشتد عجبه من كثرتها في الكتاب والسنة، ومن التشديد في ذلك، فلماذا كل هذا؟!(/4)
إن السبب في ذلك أن موافقتهم في العوائد تقود إلى موافقتهم في الشعائر، والتساهل في عدم مخالفتهم في الصغائر يؤدي إلى متابعتهم في الكبائر؛ حتى ينسلخ المسلمُ من دينه وهو لا يشعر، خاصة مع الإعجاب بهم وبمنجزاتهم وحضارتهم. قال شيخ الإسلام: "إن المشاركة في الهدي الظاهر تورث تناسبًا وتشاكلاً بين المتشابهين، يقود إلى موافقة ما في الأخلاق والأعمال وهذا أمر محسوس، فإن اللابس لثياب أهل العلم مثلاً يجد في نفسه نوع انضمامٍ إليهم، واللابسُ لثياب الجند المقاتلة يجد في نفسه نوع تخلق بأخلاقهم، ويصير طبعه مقتضيًا لذلك". اهـ[15].
وقال أيضًا: "لو اجتمع رجلان في سفر أو بلد غريب، وكانت بينهما مشابهة في العمامة أو الثياب أو الشعر أو المركوب ونحو ذلك لكان بينهما من الائتلاف أكثر مما بين غيرهما، وكذلك تجد أرباب الصناعات الدنيوية، يألف بعضهم بعضًا، ما لا يألفون غيرهم حتى إن ذلك يكون مع المعاداة والمحاربة.. فإذا كانت المشابهة في أمور دنيوية تورث المحبة والموالاة فكيف بالمشابهة في أمور دينية؟! فإن إفضاءها إلى نوع من الموالاة أكثرُ وأشد، والمحبة والموالاة لهم تنافي الإيمان"[16] اهـ.
أسأل الله - تعالى - أن يهدينا صراطه المستقيم، وأن يعصمنا من التشبه بالكافرين، وأن يهدي ضال المسلمين إنه سميع مجيب، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا طيبًا كثيرًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه، ومن سار على أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين.(/5)
أما بعد: فاتقوا الله - تعالى - واستمسكوا بدينكم ولو كثر المنحرفون، وقوي الضالون، وضعف المتقون، فلا يحق إلا الحق، ولا يبقى إلا الصحيح.
أيها الإخوة المؤمنون: من نعمة الله - تعالى - على بلادنا عدمُ ظهور الاحتفالات بأعياد الكفار فيها، نحمد الله - تعالى - أن وقانا، ونسأله أن يحفظنا ما بقينا؛ لكن تلك الأعياد يصلنا خبرها ووقائعها وطقوسها على التفصيل عبر الصحف والفضائيات، وهذا من البلاء الذي فجرته تقنيات هذا العصر.
ويظهر في تلك الاحتفالات شعائر من الكفر والبدعة، ومشاهد من الفسوق والانحلال، وأنواع من الشبهات والشهوات، يشاهدها أولادُ المسلمين وجهالُهم فلربما تأثروا بذلك، ولا سيما أن ما ينقل فيه من الإثارة ومداعبة الغرائز والشهوات ما يحرك إعجابَ ضعاف العقل والدين.
وكان من الأثر القبيح لذلك أن يتبادل بعض المسلمين التهاني بأعياد الكفار على مرأى ومسمع من الناس! ويزداد الأمر قبحًا حينما يشذ بعض المسلمين فيشدون رحالهم إلى ديار الذين كفروا ابتهاجًا بعيدهم؛ حتى ينالوا شيئًا من اللذائذ والشهوات، التي تطفح بها أعيادهم.
وكل ذلك خطره على الدين والعقيدة ظاهر، فيه من المنكرات والبدعة مافيه، وقد يصل بصاحبه إلى الكفر والنفاق.(/6)
وقد مدح الله - تعالى - المؤمنين بعدم شهودهم أعياد الكفار التي هي من الزور {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} [الفرقان: 72]. قال جماعة من المفسرين: "هو أعياد المشركين"[17]، وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "إياكم ورطانةَ الأعاجم، وأن تدخلوا على المشركين يوم عيدهم في كنائسهم؛ فإن السخطة تنزل عليهم"[18]. وقال أيضًا: "اجتنبوا أعداء الله في عيدهم"[19]، وقال عبدالله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما -: "من بنى بأرض المشركين، وصنع نيروزهم ومهرجانهم، وتشبه بهم حتى يموت؛ حشر معهم يوم القيامة"[20]. وقال أبو الحسن الآمدي: "لا يجوز شهود أعياد النصارى واليهود، نص عليه أحمد في رواية مهنا"[21].
والذين يحضرونها من المسلمين، ويتمتعون بما فيها من الشهوات؛ فذلك عاقبته ندامة وخسران، قال شيخ الإسلام: "وأما أعياد المشركين فجمعت الشبهة والشهوة، وهي باطل؛ إذ لا منفعة فيها في الدين، وما فيها من اللذة العاجلة فعاقبتها إلى ألم، فصارت زورًا وحضروها وشهودها، وإذا كان الله قد مدح ترك شهودها الذي هو مجرد الحضور برؤية أو سماع، فكيف بالموافقة بما يزيد على ذلك من العمل الذي هو عملُ الزور لا مجرد شهوده"[22]؟!
وقال أيضًا: "إن الأعياد من جملة الشرع والمناهج والمناسك التي قال الله – سبحانه -: {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ} [الحج: 67] كالقبلة والصلاة والصيام فلا فرق بين مشاركتهم في العيد، وبين مشاركتهم في سائر المناهج. فإن الموافقة في جميع العيد موافقةٌ في الكفر، والموافقة في بعض فروعه موافقة في بعض شعب الكفر؛ بل الأعياد هي من أخص ما تتميز به الشرائع ومِنْ أظهرِ ما لها من الشعائر، فالموافقة فيها موافقة في أخص شرائع الكفر وأظهرِ شعائره. ولاريب أن الموافقة في هذا قد تنتهي إلى الكفر في الجملة بشروطه"[23] اهـ.(/7)
بل إن مجرد الركوب مع الكفار الذين يذهبون لحضور أعيادهم، يخشى على صاحبه أن يمسه العذاب معهم. سُئل ابن القاسم المالكي عن الركوب في السفن، التي تركب فيها النصارى إلى أعيادهم فكره ذلك؛ مخافة نزول السخطة عليهم بشركهم الذي اجتمعوا عليه[24].
إذا تقرر هذا - أيها الإخوة - فإن التهنئة بأعياد الكفار لا تجوز سواء هنأ به المسلمين أم هنأ به الكفار. قال العلامة ابن القيم - رحمه الله تعالى -: "وأما التهنئة بشعائر الكفر المختصة به فحرام بالاتفاق؛ مثل أن يهنئهم بأعيادهم وصومهم فيقول: عيد مبارك عليك، أو تهنأ بهذا العيد ونحوه، فهذا إن سلم قائله من الكفر فهو من المحرمات، وهو بمنزلة أن تهنئه بسجوده للصليب، بل ذلك أعظم إثمًا عند الله، وأشد مقتًا من التهنئة بشرب الخمر، وقتل النفس، وارتكاب الفرج المحرم ونحوه، وكثير ممن لا قدر للدين عنده يقع في ذلك ولا يدري قبح ما فعل، فمن هنأ عبدًا بمعصية أو بدعة أو كفر فقد تعرض لمقت الله وسخطه" اهـ[25].
فالمسألة خطيرة ولو وقع فيها الكثير من المسلمين، ولا يقلل خطورتها كثرة الواقعين فيها. وهذا من البلاء الذي ابتلي به المسلمون في زمن الانحطاط والتبعية والتقليد الأعمى، الذي يقود إلى دار السعير.
نسأل الله - تعالى - أن يحفظنا من البدعة والشرك، وأن يعصمنا من الكفر والضلال، وأن يحسن عواقبنا في الأمور كلها، وأن يجيرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، ثم صلوا وسلموا على محمد بن عبدالله كما أمركم بذلك ربكم.
---
[1] أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء باب ما ذكر عن بني إسرائيل (3456)، ومسلم في العلم باب اتباع سنن اليهود والنصارى (2669) وأحمد (3/84).
[2] أخرجه أحمد (5/218) والترمذي في الفتن؛ باب ما جاء لتركبن سنن من كان قبلكم (2180) وصححه الألباني في "صحيح الترمذي" (1771) وفي "المشكاة" (5369).
[3] "اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم" لابن تيمية (1/110).(/8)
[4] "مقدمة اقتضاء الصراط المستقيم" د. ناصر العقل (1/34).
[5] كما في حديث المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - عند البخاري في المناقب (3640) ومسلم في الإمارة باب قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تزال طائفة...)) (1921) وفيه عن ثوبان وسمرة وجابر ومعاوية رضي الله عنهم.
[6] أخرجه ابن ماجه في المقدمة باب اتباع سنة رسول الله (1/5) برقم (8) عن أبي عنبة الخولاني، وأخرجه بنحوه أحمد (4/200)، وحسنه الألباني في "صحيح ابن ماجه" (80)، وذكره في الصحيحه (2442).
[7] "اقتضاء الصراط المستقيم" (1/71).
[8] أحاديث صيام عاشوراء انظرها في "جامع الأصول" (6/313) وحديث صيام يوم قبله أخرجه مسلم في الصيام باب أي يوم يصام في عاشوراء (1133) وأبو داود في الصيام باب ما روي أن عاشوراء اليوم التاسع (2445) عن ابن عباس - رضي الله عنهما - وأحمد ونص فيه على مخالفة اليهود قال: ((وخالفوا فيه اليهود وصوموا قبله يومًا أو بعده يومًا)). انظر: المسند (1/241).
[9] قاله مجاهد وعطاء والضحاك والربيع بن أنس وقتادة والسدي كما ذكره ابن كثير عن ابن أبي حاتم. انظر: تفسير ابن كثير (1/290) الآية (150) من سورة البقرة، و"اقتضاء الصراط المستقيم" (1/88).
[10] ذكر معناه شيخ الإسلام في "اقتضاء الصراط المستقيم" (1/255).
[11] في تأخير السحور حديث أبي عبدالرحمن الصنابحي مرسلاً عند الإمام أحمد في المسند (4/349) وابن أبي حاتم في المراسيل (121) وفي تعجيل الفطور مخالفة لهم حديث أبي هريرة عند أبي داود في الصيام باب ما يستحب من تعجيل الفطر (2353) وابن ماجه في الصوم باب ماجاء في تعجيل الإفطار (1698) والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم (1/431) وكذلك حديث عمرو بن العاص في مخالفتهم في أكلة السحر ((فصل ما بين صيامنا...)) عند مسلم في الصيام باب فضل السحور (1096).(/9)
[12] أخرجه أبو داود في الصلاة باب كراهة الاعتماد على اليد في الصلاة (993) (994) وحسن الألباني الرواية الأولى في صحيح أبي داود، وصحح الرواية الثانية (876).
[13] أخرجه أحمد (2/50) وأبو داود في اللباس باب لبس الشهرة (4031) وجوّد إسناده شيخ الإسلام في "مجموع الفتاوى" (25/331) وفي "اقتضاء الصراط المستقيم" (1/241)، وذكر له الحافظ ابن حجر شاهدًا مرسلاً بسند حسن كما في "الفتح" (6/98) وحسنه السيوطي في "الجامع الصغير" (8593)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (6025).
[14] "اقتضاء الصراط المستقيم" (1/241).
[15] "اقتضاء الصراط المستقيم" (1/80).
[16] "اقتضاء الصراط المستقيم" (1/489).
[17] ممن قاله: أبو العالية وطاوس وابن سيرين والضحاك والربيع بن أنس وغيرهم، انظر: "تفسير ابن كثير" (3/525).
[18] أخرجه عبدالرزاق (1608) والبيهقي في "الكبرى" (9/234)، وصححه شيخ الإسلام ابن تيمية في "اقتضاء الصراط المستقيم" (1/457).
[19] أخرجه البيهقي في "الكبرى" (9/234).
[20] أخرجه البيهقي في "الكبرى" (9/234) وصححه ابن تيمية في "اقتضاء الصراط المستقيم" (1/457).
[21] "اقتضاء الصراط المستقيم" (1/460).
[22] "اقتضاء الصراط المستقيم" (1/430).
[23] "اقتضاء الصراط المستقيم" (1/470).
[24] "اقتضاء الصراط المستقيم" (2/526).
[25] "أحكام أهل الذمة" (1/441-442).(/10)
العنوان: التشريح علومه وأحكامه
رقم المقالة: 1768
صاحب المقالة: د. محمد علي البار
-----------------------------------------
التشريح علومه وأحكامه
• التشريح علومه وأحكامه.
• المَوْقِف الفِقْهي من تشريح جُثَث الموتى.
• أغراض علم التشريح عند المسلمين.
• إسهامات الحضارة الإسلامية في علم التشريح.
• مساهمات الفقهاء في علوم الطب.
• مساهمات الأطباء في علوم اللغة والدين.
• علم التشريح المقارن.
• • • • •
التشريح علومه وأحكامه
إن تشريح جُثث الموتى أمر قد عَرفَتْه البشرية منذ أزمان مُتطاوِلة؛ فقد عَرَفه المصريون القدماءُ عندما كانوا يُشَرِّحون جُثَث مَوْتاهم، ويُزيلون الأمعاء؛ ليقوموا بتحنيط تلك الجُثَث، وبذلك استطاعَتِ المُومْياوَات المصرية البقاءَ لعادِيات الزمن.
وقام اليونان - وخاصة أبقراط وجالينوس - بتشريح جُثَث الموتى من البشر؛ كما قارنوا ذلك بمعلوماتهم عن الحيوانات.
ويَدَّعي الغربيون أن المسلمين لم يَعرفوا التشريح، ولم يُمارسوه؛ بسبب ما يَفرضه الإسلام من احترام الجُثث؛ كما ورد في الحديث الصحيح: ((كَسْر عظام الميت كَكَسْره حيًّا))[1]، ولا شك أن الإسلام قد احترم الإنسان حيًّا وميتًا، وجعل له كرامة ينبغي المُحَافظة عليها في جميع الأحوال؛ قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} [الإسراء: 70]، وقد وقف رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - عندما مرَّت به جِنازة يهوديّ، فقال أحد الصحابة مُتعجّبًا: "إنها جنازة يهوديّ!!". فقال الرسول الكريم - عليه أفضل الصلاة والسلام -: ((أليست نَفْسًا؟))[2] وقد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن التمثيل ولو بكلب عقور، فكيف بالإنسان؟!(/1)
وبرغم أن الإسلام قدِ احترم الإنسان حيًّا وميّتًا؛ منَ التمثيل بالجُثَّة أوِ العَبَث بها، فإنَّ تعلُّم الطب يعتبر من الأهداف النبيلة التي تَخْدم الإنسان، وما لا يتم الواجب إلا به يصبح واجبًا، وسنذكر هذه النقطة فيما بعدُ بما تستحقُّه منَ التفصيل، وأقوال الفُقَهاء فيها.
والخلاصة: أنَّ عُلماءَ الطّبِّ من المسلمين، اتَّجَهُوا إلى علم التشريح في الإنسان والحيوان ومَارَسُوه؛ ليتعلَّمُوا الطّبَّ. والإمام الشافعي يقول: "العِلْم عِلْمَان: علم الأديان، وعلم الأبدان". ولا يقوم عِلْم الأبدان إلا بتعلُّم التشريح، ووظائف الأعضاء.
ويقول القاضي الطبيب الفيلسوف الفقيه المالكي أبو الوليد محمَّد بن رشد: "مَنِ اشتغل بالتشريح ازداد إيمانًا بالله".
وسنذْكُر في هذا البحث بعض الأدلة التي تُوَضِّح أن المسلمين قد مارسوا التشريح، وأنهم أسهموا فيه بإسْهَامَات جَمَّة، وأن جهودهم فيه قد أتاحت للبشرية التقدُّم في علم التشريح، وعلوم الطب الأخرى.
وليس صحيحًا أن الأطباء المسلمين كانوا لا يُمَارسُون التشريح؛ بسبب خوفهم من مَحَاكم التفتيش، ومِن بَطْش الفُقهاء كما يدعي "بول غليونجي" حيث يقول: "إني أُرَجِّح أن ابن النفيس قام بصفات تشريحه في الحيوان، إن لم يجرها في جثث آدمية، وكان عليه إجراؤها في جَوٍّ من السرية التامَّة، كما فعل زملاؤه في الغرب في عصر النهضة؛ فإنما فَعَل هذا الإسكات رجالُ الدين؛ كما فعل بعده "جاليليو"، و"كبلر"، و"كوبرنيكس"؛ خوفًا من محاكم التفتيش"[3]:(/2)
ولا شَكّ أنَّ كلام "بول غليونجي" مُتناقِض، ومضطرب، ومناقض للحقيقة، فهو يدعي تارة أنه لم يُشَرِّح إلا الحيوانات، ثم يَدَّعي أنَّه مَارَس التشريح سرًّا؛ خوفًا من رجال الدين!! وإذا كان لم يُشَرِّح إلا الحيوانات، فلماذا السرية؟ ثم ادَّعى أن هناك محاكمَ تفتيش، وقتلاً، وسَحْلاً للعُلماء؛ كما حدث في أوروبا "لجاليليو"، و"كبلر"، و"كوبرنيكس".. وهو كذب وافتراء.
فابْنُ النفيس فقيه شافعي، وابن رشد فقيه مالكي؛ وكل الأطباء المُسلمين كانت لهم ثقافة دينية واسعة وكان بعضُهم - كما سيأتي - من أساطين الطب والفِقْه، أو علوم الحديث.
ولم يكن هناك فِصَام نَكِد بين علوم الدين وعلوم الدنيا، ولم يحدث قط أن عُذِّب عالم من علماء المسلمين؛ من أجل بحوثه الطبية، أو الفلكية، أو الكيميائية، أو الفيزيائية.. إلخ؛ بل وجدوا التكريم، والتشجيع من الخُلَفاء، والعامَّة.
المَوْقِف الفِقْهي من تشريح جُثَث الموتى.
لم يبحث الفُقهاء الأقْدَمُون بحثًا مُفَصَّلاً في موضوع تشريح الجثث، سوى ما جاء في شق بطن الحامل الميت؛ لإخراج جنينها إذا ترجَّح حياة الولد في بطنها:
قال ابن عابدين في "حاشيته"[4]: "حامل ماتت وولدها حي يضطرب، يُشَقُّ بطنها من الأيسر ويخرج ولدها، ولو مات الولد في بطنها وهي حيَّة، وخِيف على الأم قطع (الولد)، وأخرج؛ بخلاف ما لو كان حيًّا"؛ أي: إذا كان حيًّا، فلا يجوز تقطيعه.
وقال النووي في "المجموع"[5]: "إذا ماتَتِ امرأة وفي جَوْفها جنينٌ حي يُشَقُّ جَوْفها؛ لأن استبقاءه بإتلاف جزء من الميت، فأشبه ما إذا اضطرَّ إلى أكل جزء من الميت"، ويشترط لذلك أن ترجى حياة الولد بأن يكون له ستة أشهر فأكثر.(/3)
وجاء في كتاب "مغني المحتاج" للخطيب الشربيني[6]، وهو شرح "منهاج الطالبين" للنووي. أنه "لو دُفِنَتِ امرأة وفي بطنها جنينٌ حيٌّ، تُرْجَى حياته بأن يكون له ستة أشهر فأكثر، نُبِشَ قبرُها، وشُقَّ جَوْفها، وأُخرج؛ تداركًا لِلواجب؛ لأنه يجب شق جَوْفها قبل الدفن".
وفي المذهب الحنبلي جاء في "تصحيح الفروع"[7]: "أنه إذا ماتتِ امرأة حامل شُقَّ جَوْفها"، وجاء في "المغني" لابن قُدامة [8]: "يحتمل أن يُشَقّ بطن الأم (الميتة) إن غلب على الظن أن الجنين يَحْيَا".
وذَكَرَ ابْنُ حَزْم في "المحلَّى"[9] أن "لو ماتت حاملٌ، والجنين قد تجاوز سِتَّة أشهر وكان يتحرك، فإنَّ بَطْنَها يُشَقّ، ويخرج منها الطفل، ومَنْ تركه عَمْدًا حتى يموت، فهو قاتل نفس".
وكذلك أباح الفُقهاء الأَقْدَمُون شَقَّ بطن الميت لو بلع مال غيره في أثناء حياته، واختلفوا في التفاصيل؛ فبعضهم لم يجز شق بطنه إذا كان للميت مال، أو إذا كان المال عائدًا له، وبعضهم أجاز ذلك، لأن من حق صاحب المال (جَوْهَرَة مثلاً) أن يُطالِبَ بعَيْن المال، وإن بَلَع الميت (قبل وفاته) مالاً له، فإن المال يصبح بعد وفاته مال الورثة، ومن حقّهم أَخْذ مالهم؛ لذا أجاز بعض الفقهاء الشقُّ (يدعى أحيانًا: البَقْرُ)، ولم يعتبروا ذلك مُثْلَةً.
وقد كتب الأطباء، وكثير منهم فقهاء؛ مثل: القاضي أبي الوليد محمد بن رشد، وابن النفيس كُتُبًا في التشريح؛ ولكنَّ أول مَنْ كَتَب مِنَ الفُقهاء في علم التشريح، وجواز استخدامه: هو شيخ الأزهر العلاَّمة أحمد بن عبدالمنعم الدمنهوري - المتوفى سنة 1192 هـ - الذي صنَّفَ رسالة أسماها: "القول الصريح في علم التشريح"، وشرحها في كتابه "منتهى التشريح بخلاصة القول الصريح في علم التشريح"[10].(/4)
وتولى مشيخة الأزهر بعد ذلك الشيخ/ حسن بن محمد العطَّار (1766 – 1834)، وكان مُتفنِّنًا في العلوم الحِكْمِيَّة، إلى جانب تَضَلُّعِهِ في علوم الدين، وله رسائل عدة في الطب والتشريح، وعندما تم تأسيس كلية الطب عام 1827م في القاهرة في أبي زعبل، وتولى زمامها الطبيب الفرنسي كلوت بك، وكان شيخ الأزهر حسن العطار يُفَنِّدُ للطلبة أهمية التشريح وجواز استخدامه؛ لأنه يُؤَدِّي إلى علم الطب، وعلم الطب أحد فروض الكفاية التي اهتم بها الإسلام اهتمامًا شديدًا، واستطاع هذا العلاَّمة أن يقنع طلبة الأزهر الذين كانوا نواة كلية الطب آنذاك بأهمية علم التشريح، وجواز تعلّمه، عندما رأى ثورتهم على كلوت بك، وهو يُشَرِّح الجثث[11]، وفي القرن العشرين أصدر الشيخ/ عبدالمجيد سليم مُفْتِي الديار المصرية فتوى برقم 639 في شعبان 1356 هـ (31 أكتوبر 1937م)[12]، بإباحة التشريح بناءً على أنَّ قواعدَ الدّين الإسلاميّ مبنية على المَصَالح الراجحة، وتحمُّل الضَّرر الأخف لجلب مصلحة يكون تفويتها أشدَّ من هذا الضرر، وقد تمثَّلَت الفتوى في النقاط التالية:-
الأولى: في تشريح جُثَّة القتيل؛ لإثبات التُّهْمَة على القاتل، أو لإثبات براءته.
الثانية: في حالة تشريح جُثَّة المتوفَّى بالسم؛ لمعرفة سبب الوفاة، ونوع السم.
الثالثة: تشريح الجثة؛ لتعليم الطب، ومعرفة الأمراض، والمصلحة في ذلك أعمّ وأشْمَل.
وصدرت بعد ذلك فتوى الشيخ/ حسنين مخلوف عام 1951م، وأكَّد فيها: جواز تشريح الجثث للأغراض السابقة (مفتي الديار المصرية في تلك الفترة).
وتَتَالَتِ الفتاوَى من مختلف أصقاع العالم الإسلامي، وكان من آخرها بحث اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالمملكة العربية السعودية، حول موضوع تشريح جثث الموتى في 21/7/1396 هـ[13]، وقرار هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية (الدورة التاسعة) رقم 47 وتاريخ 20/8/1396 هـ[14].(/5)
وقَرار المَجْمَع الفقهي لرابطة العالم الإسلام، الدورة العاشرة (24 – 28 صفر 1408 هـ /17 – 21 أكتوبر 1987م) بشأن تشريح جُثَث الموتى[15].
وقد أباحَتْ هذه الفتاوى، وكثيرٌ غَيرُها التشريحَ لأحد الأغراض التالية:
(أ) التحقيق في دَعْوَى جنائيَّة؛ لمعرفة أسباب الموت، أو الجريمة المرتكبة، وذلك عندما يُشكل على القاضي معرفة أسباب الوفاة، ويتبيَّن أنَّ التشريح هو السبيل لمعرفة هذه الأسباب.
(ب) التَّحقُّق من الأمراض التي تستدعي التشريح؛ ليتَّخذ على ضَوْئه الاحتياطات الواقية، والعلاجات المناسبة لتلك الأمراض.
(ج) تعليم الطب وتعلّمه؛ كما هو الحال في كليات الطب.
وقَدِ اسْتَخْدَمَ الأطبّاء والفقهاء المسلمون علم التشريح في الأغراض التالية:-
1- تعلُّم التشريح لمعرفة الأعضاء وصفاتها وارتباطاتها؛ أي: لغرض تعلم الطب، وكان علم التشريح مُرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بعلم وظائف الأعضاء (الفسيولوجيا)، ولم يكونا قد انْفَصَلا بعدُ إلى عِلْمَيْنِ مستقلّينِ. لذا كانت أهمية علم التشريح مُضاعَفَة.
2 – غرض معرفة الأمراض، وأنواعها، وتأثيراتها المختلفة في البدن، وهو ما يعرف اليوم باسم Autopsy or Necropsy .
3 - معرفة سبب الوفاة، أو الإصابة في حوادث القتل، أو التسمّم، أوِ الإصابات مما يعرف اليوم باسم الطب الشرعي (القانوني) Forenisc Medicine .
4 - تعلُّمُ التَّشريح وتعليمُه؛ من أجْلِ الدَّعوة إلى الله وتعميق الإيمان.
وفيما يلي تفصيل لهذه النقاط الأربع.
أغراض علم التشريح عند المسلمين:
1 – تعلُّم التشريح لمعرفة الأعضاء وصفاتها، وارتباطاتها Anatomy .
وهو مُرْتَبِط بِعِلْم وظائف الأعضاء ارْتِباطًا وثيقًا، ولا بُدّ أن يتعلم طالب الطب تشريح الجُثَث؛ للتعرف على الجسم الإنساني.(/6)
يقول أبو بكر محمد بن زكريا الرازي المتوفى سنة 322 هـ صاحب "الحاوي" و"المنصوري": "أول ما يُسْأَل عنه الطالب: التشريح، ومنافع الأعضاء، وهل عنده عِلْم بالقياس، وحسن فهمٍ ودرايةٍ في معرفة كُتُب القدماء، فإن لم يَكُنْ عِنده علمٌ فليس بك حاجة إلى امتحانه في المرضى"[16].
ويقول: "يحتاج في استدراك علل الأعضاء الباطنة إلى العلم بجوهرها أولاً، بأن تكون قد شوهدت بالتشريح"[17].
ويقول أبو القاسم خلف بن العباس الزهراوي في كتابه الفريد: "التصريف لمن عجز عن التأليف": "وينبغي لصاحبها - أي الجراحة - أن يَرْتَاضَ قبل ذلك في علم التشريح، حتى يقف على منافع الأعصاب، والعضلات، وعددها، ومخارجها، والعروق، والقوابص، والسواكن، ومواضع مخارجها؛ لأنه من لم يكن عالمًا بما ذكَرْنا من التشريح، لم يخلُ أن يقع في خطأ يقتل الناس به؛ كما شاهدتُ كثيرًا ممن تصور هذا العلم وادَّعاه، بغير علم ولا دراية، وذلك أني رأيتُ طبيبًا جاهلاً قد شقَّ على ورم ختوري في عنق امرأة، فأصاب بعض شريانات العُنُق فنزف دم المرأة حتى سقطت ميتة"[18].
وكان من ضِمْن الشروط الَّتي يَضَعُها المحتسِب - وهو الذي يعطي الترخيص بمزاولة مهنة الطب وغيرها من المهن - أن يعرف مَنْ يريد مُمارسة الطب علم التشريح، ووظائف الأعضاء.. وقد ذكر الشيرازي في كتابه "نهاية الرتبة في طب الحسبة": "أن الطبيب هو العارف بتركيب البدن ومزاج الأعضاء"، وأوجب المحتسب على الفصَّادين والحجَّامِين ألا يتصدى للفَصْد إلا من اشتهرت معرفته بتشريح الأعضاء، والعروق، والعَضَل، والشرايين، وأحاط بمعرفة تركيبها، وكيفيتها؛ لِئَلاَّ يقع المِبْضَع في عِرْق غير مقصود، أو في عضلة، أو شريان، فيؤدي إلى زمانة العضو، وهلاك المَفْصُود.
وطلب المحتسب من الكحال - طبيب العيون - أن يكون عارفًا بتشريح طبقات العين السبعة، وعدد رطوباتها الثلاث.(/7)
2 – معرفة الأمراض، وأنواعها، وتأثيراتها المختلفة في البدن Autopsy Necropsy .
وقد عرفه الأطباء المسلمون كذلك.
يقول علاء الدين أبو الحسن علي بن الحزم القرشي المشهور بابن النفيس (607 - 687هـ) "إنَّ العُروقَ الصغيرة في الجِلْد يَعْسُرُ في الأحياء (ملاحظتها) لتألُّمِهم، وكذلك في المَوْتَى الذين ماتوا من أمراض تقلِّل الدم؛ كالإسهال، والدق، وأنَّه يَسْهُل فِيمَنْ ماتَ بالخَنْقِ؛ لأنَّ الخَنْقَ يُحَرّكُ الرُّوح والدَّمَ إلى الخارج فتنتفخ العروق، على أنَّ هذا التَّشْرِيحَ ينبَغِي أن يَعْقُبَ الموت مباشرة لتجنب تجمد الدم".
وهذا الوَصْف أيضًا يدخل ضمن الغَرَض التالي من أغراض التشريح، وهو معرفة سبب الوفاة في القضايا الجنائية، وهو ما يعرف بالطب الشرعي.
وذكر أبو القاسم الزهراوي في كتاب "التصريف لمن عجز عن التأليف": "وضرورة تشريح الأجسام بعد الموت؛ لمعرفة سبب الوفاة؛ للانتفاع بهذه النتائج في الأحوال المماثلة"[19].
ويقول أبو بكر الرَّازِيّ: "يحتاج في استدراك علل الأعضاء الباطنة إلى العلم بجوهرها أولاً بأن تكون قد شُوهِدَتْ بالتشريح" (كتاب الحاوي في الطب).
3 – معرفة سبب الوفاة أو الإصابة في حوادث القَتْل، أو التسمم، أو الإصابات مما يدخل تحت باب ما يعرف اليوم باسم "الطب الشرعي" Forensic Medicine ، وما نقلناه عن ابن النفيس في الفقرة السابقة يمثل ذلك.
كما أن الفُقَهاء اهتموا بهذا الفرع من فروع علم التشريح اهتمامًا شديدًا.
وعلى سبيل المثال ذكر الفقهاء: شِجاج الرأس والوجه (لا يسمى شَجًّا في غير الرأس والوَجْه) وفصَّلوا فيه تفصيلاً عجيبًا يدُلّ على مَعْرِفة واسعةٍ بالتَّشريح.
جاء في "مُغْنِي المحتاج" التقسيم التالي للشِّجاج[20]:-
حارِصَة: وهي ما شقَّ الجلد قليلاً؛ كالخدش، وتُسَمَّى أيضًا القاشِرة.
دامية: وهي التي تُدْمِيه؛ أي الشقّ، غير سيلان دم.
دامعة: وهي التي يَسيل منها الدم.(/8)
باضعة: وهي التي تقطع اللحم الذي بعد الجلد شقًّا خفيفًا.
مُتلاحِمَة: وهي التي تَغُوص في اللحم، ولكنها تلتَحِمُ غالبًا.
سِمْحَاق: وهي التي تبلغ سِمْحَاقَ العظم Periostium .
مُوضِحَة: وهي التي تُوضِحُ، وتكشف العظم بحيث يُقرَع بالمِرْوَد.
هاشِمَة : وهي التي تَهْشِمُ، وتَكْسِرُ الرأس.
مُنَقِّلَة:وهي التي تُنَقِّل العظم من مكان لآخر.
مَأْمُومَة: وتسمى آمَّة: وهي التي تبلغ خريطة الدِّماغ المحيطة به، وهي أمُّ الرأس دون أن تَخْرِقَها Dura mater .
دَامِغَة: وهي التي تَخْرِقُ أمَّ الدماغ وتصل إلى الدِّماغ، وهي في الغالب مُذَفِّفَة، وتَقضي على المصاب.
وقد استدلّ بعض الفُقهاء على نتائج الأحكام الشرعية، التي وصلوا إليها بما جاء في التشريح، ومن ذلك ما ذكره الإمام الْقَرَافِيُّ في كتابه "الفروق"[21]، من أنَّ الأَعْوَر الذي ذهبت إحدى عينيه، إذا اعتدى شخص على عَيْنِه الباقية له دِيَة كاملة (وهي دية العينينِ)، ويستشهد على ذلك بعلم التشريح للاستدلال على صِحَّة ما ذهب إليه، من أن العين الذاهبة يرجع ضوؤها للباقية؛ لأن مجراهما في النور واحد؛ كما يشهد به علم التشريح (حَسَبَ قوله).
وقد ذكر أبو الوليد محمد بن أحمد بن رُشْد في كتابه "بداية المجتهد ونهاية المقتصد"[22] قريبًا من هذا القول "وقالوا: إنَّ فَقْءَ عين الأعور يستوجب الدية كاملة، وعُمْدَة مَنْ قال بهذا القول أن عين الأَعْوَر بمنزلة العينينِ، فمَنْ فقأها فكأنه أصاب اثنتينِ".
وذكر الإمام النووي في "المجموع" أنَّ القاضيَ أبا الطيِّب قد شقَّ ذَكَرَ الرَّجُلِ فوجد أنَّ مَجرى البول غير مَجرى المَنِيِّ، وعليه فإن المَنِيَّ طاهر[23]، وبرغم أنَّ هذا الكلام غير صحيح إلا أنه يوضح مدى استخدام التشريح من الفقهاء أنفسِهِم؛ لإثبات قضايا فقهية وتشريعية.(/9)
4 – تعلُّم التشريح؛ من أجل الدعوة إلى الله وزيادة الإيمان: قال القاضي الطبيب الفيلسوف أبو الوليد محمد بن رشد: "منِ اشتغل بالتشريح ازداد إيمانًا بالله". وقال الإمام الشافعي - رحمه الله -: "العلم علمان: علم الأديان، وعلم الأبدان"[24]، وعلم الأبدان لا شك يشتمل على علم التشريح، وعلم وظائف الأعضاء.
وقد اهتم القرآن الكريم والسنة المطهرة بتوضيح مراحل خلق الإنسان وتطور خلقه من نطفة إلى مضغة مخلَّقَة وغير مُخَلَّقَة، وإلى العظام التي تتكون من المُضْغَة فيكسوها اللحم ثم يُنشِئُها الله خَلْقًا آخر؛ قال تعالى: { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} [المؤمنون: 12- 16].
وتعرَّض القرآن الكريم والسنة المطهرة لِلَفْتِ الانتباه إلى قدرة الله - سبحانه وتعالى - في خلق الإنسان، وتكوين جسمه، ووظائف أعضائه وحواسه، واستخدام ذلك كله لإثبات البعث والمعاد؛ ولتثبيت الإيمان بالله وباليوم الآخر[25].
وقدِ اهتمَّ عُلماءُ الإِسلام منذ عهود طويلة بهذه الحقائق، واستخدموا علم التشريح، ووظائف الأعضاء؛ لتدعيم الإيمان وتقويته حتى اشتُهِرَ قول القائل: "مَنْ عرف نفسه فقد عرف ربَّه"[26]. كيف لا؟ والمولى سبحانه وتعالى قد أمر بذلك قال تعالى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21].(/10)
ومن أبرز العلماء الذين استخدموا علم التشريح في الدعوة إلى الله الإمام الغزالي وخاصة في كتابه: "الحكمة في مخلوقات الله"[27] الذي جعل فيه فصولاً عن التشريح وحكمة الأعضاء.
وكذلك فعل الإمام ابن القَيِّم، الذي استخدم معلوماته الواسعة في التشريح في كثير من كُتُبه مثل: "التبيان في أقسام القرآن"، و"مفتاح دار السعادة" و"طريق الهجرتين" و"تحفة المودود في أحكام المولود".
واستطاع الفخر الرازيّ الأصوليّ المفسِّر الفقيه الشافعيّ أن يستخدم معلوماته الواسعة في الطب، وفي التَّشريح، ووظائف الأعضاء على وَجْه الخُصوص؛ لإثبات قُدْرة الله وحكمته في كتابه الواسع: "التفسير الكبير" (تفسير القرآن العظيم)، وفي كتابه "المباحث الشرقية".
وقد استخدم القاضي الطبيب الفيلسوف أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد، معلوماته الواسعة في التشريح بالذات في الغرض ذاته في كتابه "الكليات"، وفي كتابه "بداية المجتهد ونهاية المقتصد"، والأول: من أهم المراجع الطبية في القرون الوسطى، والثاني: من أهل المراجع الفقهية إلى يومنا، وقد استخدم ابن الطفيل الأندلسي (المتوفى سنة 1185م) علم هذا التشريح في قصته حي بن يقظان الذي شرح الظبية؛ لإثبات قُدْرة الله - سبحانه وتعالى - وبث في هذه القصة فلسفته وآراءَهُ الخاصَّة التي تختلف عن بعض آراء الفقهاء، ورجال الشريعة.
وقد عارَضَ هذه القِصَّة بِقِصَّة مماثلة أبو العلاء علي بن الحزم القرشي المشهور بابن النفيس (607 - 687 هـ / 1210 - 1288)، وابن النفيس مكتشف الدورة الدموية الصغرى؛ كما هو معروف وهو - بالإضافة إلى كونه طبيبًا ماهرًا حاذقًا – أحدُ علماء الشافعية، وعدَّه الإمام السُّبْكي في طبقات الشافعية.(/11)
وسمى ابن النفيس رسالته هذه "الرسالة الكاملية"، وتعرف أيضًا باسم بطل القصة "فاضل بن ناطق"، وغرض الرسالة بيانُ ما بين الشريعة والحكمة (الفلسفة) من اتصال، وقد حاول ابن النفيس أن يثبت على لسان بطل قِصَّته: أنَّ العقل البشري قادِرٌ في تأمُّله المنطقيّ البَحْت على الوصول إلى الإيمان بالله، وضرورة إرسال الرسل، وإثبات اليوم الآخر، وقد استخدم ابن النفيس معلوماته الواسعة في علم التشريح، ووظائف الأعضاء؛ للوصول إلى غرضه ذلك.
إسهامات الحضارة الإسلامية في علم التشريح:
أسهمتِ الحضارة الإسلامية في مختلف فروع الطِّبِّ، وحظيَ التشريح بقسم وافِر منها، ولم يسهم في ذلك الأطباء المسلمون فحسب؛ ولكن كما هو متوقَّع، أسهم أيضًا أهل الذمة في تلك الحضارة.
ومن المعلوم أن أطباء الملوك والخلفاء كانوا في كثير من الأحيان من النصارى، أو الصابئة، أو اليهود؛ فعلى سبيل المثال: كان أبو الحكم الدمشقي النصراني طبيبًا خاصًّا لمُعاوية بن أبي سفيان، ثم لسلسلة خلفاء بني أمية، حتى عهد الوليد بن عبدالملك، وتولَّتْ عائلة (بختيشوع) النصرانية هذا المنصب لدى الدولة العباسية، منذ عهد المنصور العباسي حتى عهد المأمون، وكذلك اشتهرت عائلة ماسويه الذي كان منهم "يُوحنَّا بن ماسويه" رئيس بيت الحكمة، وأحد أطباء المأمون العبَّاسي.
واشتهر كذلك حنين بن إسحاق النصراني، وابنه إسحاق، وابن أخته حبيش، وتولَّوْا مناصبَ باذخةً، وكان ابن القف النصراني أحد الأطباء المشهورين، وكذلك كان موسى بن ميمون (أبو عمران) اليهودي الذي اشتهر في الغرب باسم ميمونيدس، الذي تولى منصب الطبيب الخاص للناصر صلاح الدين الأيوبي، وفيما يلي بعض الأمثلة من هذه الإسهامات في علم التشريح.
من إسهامات أبي بكر الرازي (251 – 311 هـ) في التشريح:(/12)
هو أحدُ أعلام الطب في الإسلام؛ بل في التاريخ البشري، وُلِد بالري (بالقرب من طهران) من أصل فارسي، ونبغ في الطّبّ، والكيمياء، والفلسفة، ومن إسهاماته في علم التشريح أنَّه كان أوَّل مَنْ وصف الفرع الحنجري الراجع للعصب الصاعد (N. Recurrent Larngel ) وقد وصف الأعصاب المغذّية لأصابع اليد بِدِقَّة، حيث قال في كتابه "الحاوي": "رجل سقط من دابته فذهب حسُّ الخنصر والبنصر، ونصف الوسطى من يديه، فلما علمتُ أنه سقط على آخر فقار في الرقبة، علمتُ أنه مخرج العصب الذي بعده الفقرة السابعة أصابها في أول مخرجها؛ لأني كنت أعلم من التشريح أنَّ الجزء الأسفل من أجزاء العصبة الأخيرة النابت من العنق، يصير إلى الإصبعين الخنصر والبنصر، ويتفرَّق في الجلد المحيط بهما، وفي النصف من جلد الوسطى".
ويصف الرازيُّ تشريح الرَّحِمِ[28] فيقول: "الرحم موضوع فيما بين المثانة والمِعاء المستقيم إلا أنه يفضل على المثانة إلى ناحية فوقُ... وهو مربوط برباطات سلسلية... وله بطنان ينتهيان إلى فم واحد وزائدتان، تسميان قرني الرحم، وخلف هاتين الزائدتين بيضتا المرأة، وهما أصغر من التي للرجل وأشد تفرطحًا، وينصبُّ منهما مَني (أي إفراز البيضات) إلى تجويف الرحم".
من إسهامات ابن سينا (الشيخ الرئيس الحسين بن عبدالله بن سينا) (370 – 428 هـ)[29] في التشريح:
يعتبر ابن سينا أشهر أطبَّاء المسلمين، وظل كتابه الموسوعيّ الطبيّ "القانون" المرجعَ الأول لتدريس الطب في العالم الإسلامي وفي أوربا لعدة قرون، وقد وزع ابن سينا ما كتبه عن التشريح في مختلف فصول كتابه، ثم جمعها مفردة ابن النفيس، وشرح ما فيه، وهو كتاب نفيس جدًّا، وسماه "شرح كتاب التَّشريح من قانون ابن سينا".
وقد تحدث ابن سينا بتفصيل وافٍ عن العظام والمفاصل والعضلات[30].
وتحدث عنها عظمًا عظمًا، كما تحدث عن كل مفصل، وكل عضلة من عضلات الجسم، وتحدث عن تشريح الأعصاب، وجعل ذلك في ستة فصول.(/13)
تحدث عن تشريح العصب الدِّماغيّ ومسالكه، وعصب نخاع العنق، وعصب فِقار الصدر، وعصب فِقار القَطَن، وتشريح العَصَب العَجُزِي والعُصْعُصِيّ بدقة عجيبة، وهو لا يختلف عما يدرس اليوم في كليَّات الطب.
ثم تحدث عن الشرايين في خمسة فصول، وتحدث عن الأوردة في خمسة فصول أخرى، وفي ذلك كان قريبًا مما يدرس اليوم في كليات الطب، مع وجود بعض الأخطاء البسيطة.
وتحدَّث ابن سينا عن تشريح القلب عند حديثه عن القلب وأمراضه، وتشريح الرئتين عند حديثه عن الرئتين وأمراضها، وعن الكُلَى والكبد والطِّحال والمثانة... إلخ عند حديثه عن أمراض هذه الأعضاء في مواضعها.
وما كتبه ابْنُ سينا في التشريح مُفَرَّقًا يُشَكِّل ثروة كبيرة، وفيها بعض الأخطاء العلمية، ومع ذلك تُعْتَبَرُ مَفْخَرَةً بالنسبة لعصره وزمانِه، ولولا أنَّنا التَزَمْنا بِالاخْتِصار لَنَقَلْنا عِدَّة نُقول، توضّح تضلّعه في علم التشريح ووظائف الأعضاء، التي كانت معروفة في زمنه، وإسهاماته وملاحظاته الدقيقة فيها.
إسهامات ابن النفيس (علاء الدين أبو الحسن علي بن الحزم القرشي) (607 – 687هـ).
يُعتبر ابْنُ النفيس بحقٍّ مكتشِفَ الدورة الدموية الصغرى قبل ويليام هارفي بعدة قرون، ولا يزال أهل الغرب يحاولون طمس فضله على الطب، والتشريح بصفة خاصة.
وقد قام ابن النفيس بتشريح القلب تشريحًا دقيقًا، وردَّ على ابن سينا وجالينوس وغيرِهِم من أساطين الطب، وقد ردَّ على مَنْ قال: "إنَّ في القلب ثلاثةَ بطون"، وقال: "هذا الكلام لا يصح؛ فإنَّ القلب له بطنان فقط، والتشريح يكذّب ما قالوه".
وكان ابن النفيس أول من وصف الشرايين التاجية (الإكليلية) المغذية للقلب، وانتقد في ذلك ابن سينا الذي ظن أن القلب يتغذَّى من الدم الموجود في تجويفه مباشرة، قال ابن النفيس في "شرح تشريح القانون": "وقوله (أي ابن سينا) والذي في البطين الأيمن يغذي القلب، لا يصح فغذاؤه من العروق المارة في جسمه".(/14)
ووصف ابن النفيس الدورة الدموية الصغرى بدقة، حيث قال: "إذا لَطُفَ الدم في التجويف الأيمن (من القلب) فلا بد من نُفُوذه إلى التجويف الأيسر، حيث تولد الروح[31] وليس بين التجويفين منفذ، فإن جِرْم القلب هناك سميك، وليس فيه منفذ ظاهر كما ظن جماعة (يقصد ابن سينا)، ولا غير ظاهر يصلح لنفوذ الدم كما ظنَّ جالينوس، فإنَّ مسامَّ القلب هناك مستحصنة، وجِرْمَهُ غليظ، فلا بد وأن يكون هذا الدم إذا لَطُفَ نفذ في الوريد الشرياني (يسمى الآن الشريان الرئوي) إلى الرئة، لينبث في جِرْمِها، ويخالط الهواء، ويتصفَّى ما فيه (أي يخرج ثاني أوكسيد الكربون، ويتلقَّى الأوكسجين)، وينفذ إلى الشريان الوريدي (تسمى الآن الأوردة الرئوية، وهي أربعة تصب في الأذين الأيسر)؛ ليوصله إلى التجويف الأيسر من القلب".
إسهامات علي بن العباس المجوسي[32] (القرن الرابع الهجري):
صاحب كتاب "الكامل في الصناعة الطبية"، والذي اشتُهِرَ باسم الملوكي.
كان أوَّل مَنْ أشارَ إلى الدَّورَةِ الدَّمَوِيَّة في الأوْعِية الشعرية، حيث قال: "إنَّ العروق غير الضوارب فيها منافذ إلى الضوارب، والدليل على ذلك أن العِرْق الضارب إذا انقطع استفرغ منه الدم من العروق غير الضوارب"[33].
إسهامات ابن القف (أبو الفرج بن موفق الدين يعقوب بن إسحاق) النصراني (من الكرك في الأردن):
له كتاب "العمدة في صناعة الجراحة"، ووصف فيه منافذ القلب الأربعة، وعدد أغشية القلب، ووصف الشعيرات الدموية، وقال إنها شبيهة بأنسجة العنكبوت.
إسهامات عبداللطيف البغدادي المتوفى سنة 629 هـ:(/15)
كان البغدادي أحد أعلام الطب واللغة والحديث، وكان أوَّل من اكتشف أن الفَكَّ الأسفلَ مكوَّن من عظم واحد؛ وليس عظمين بينهما درز كما زعم جالينوس ومن جاء بعده، وقد فَحَصَ البغدادي أكثر من عشرة آلاف جثة أخرجت من تل بالقاهرة وذلك سنة 597 هـ فلم يجد في عظم الفك درزًا قط. وقد ذكر ذلك في كتابه "الإفادة والاعتبار في الأمور المشاهدة بأرض مصر".
مثال من كتاب "الكليات" في الطب لابن رشد.
(فصل تشريح العين ووظيفتها)
"ليس الإبصار بشيء يَخرج من العين - على ما يرى ذلك جالينوس - بلِ العين تقبل الألوان بالأجسام المشفة التي فيها، على الجهة التي تقبلها المرآة، إذا انطبعت الألوان فيها أدركتها القوة الباصرة".
ويقول: "العين مركَّبة من سبع طبقات، وثلاث رطوبات، فأولها مما يلي القحف طبقة غِشائية تنشأ من الغشاء الغليظ من أغشية الدِّماغ، وتسمى الصُّلْبة، ثم يليها إلى خارج طبقة أخرى غشائية تنشأ من الغشاء الرقيق من أغشية الدماغ، وتسمى هذه الطبقة المَشِيمة، ثم يلي هذه طبقةٌ شبيهةٌ بِالشَّبكة تنشأ من نفس العصبة الخارج من الدماغ، ثم في وسط هذه الطبقة جسم لين تسمى الرطوبة الزجاجية، وفي وسط هذا الجسم جسم كري، إلا أن فيه أدنى تفرطح شبيه بالجليد في صفائه، وتسمى هذه الرطوبة الجليدية (تسمى الآن العدسة)".
وهو وصف دقيق كلَّ الدِّقَّة، مع معرفةٍ تامَّة بكيفية تكون هذه الطبقات في الجنين، وأنها مرتبطة بالدماغ وأغشيته.
إسهامات ابن الهيثم المتوفى سنة 430 هـ رائد علم البصريات:(/16)
يعتبر الحسن بن الهيثم أوَّلَ مَن نبَّه إلى خطأ جالينوس، الذي كان يظن أن الإبصار نتيجة مادة شُعاعية تخرج من العين، وأوضح ابن الهيثم أن العين تنعكس فيها المرئيات بسبب وجود الأجسام المشفة، وهي القرنية والرطوبة الجليدية (العدسة)، وأن هذه المرئيات تنطبع على الشبكية، ثم تنتقل إلى الدماغ بواسطة العَصَب البصري، ويصف ذلك فيقول: "إن المرئيات تنتقل إلى الدماغ بواسطة عَصَب البصر، وإن حِدَّة النظر بين الباصرتين عائدٌ إلى تماثل الصور على الشبكتين"، وهو كلام دقيق ونَفِيس في علم فسيوليجيا الإبصار، ثم ينتقل إلى ذكر الوصف التَّشريحي لعصب الإبصار، وهو وصف رائع ودقيق، حيث يقول: "تنشأ في قرني الدماغ عَصَبَتان، ثم تتَّجِهُ كُلّ واحدةٍ منها نحو الأخرى، فتلتقيان في وسط مقدم الدماغ، بعدئذٍ تعودان فتَفْتَرِقان، وتذهبُ كُلّ عَصَبَة إلى المحجر الخاص بها، وفي المحجر ثقب تدخل منه العصبة، ثم تنتشر وتتَّسع حتى تصبح كالقمع، وتتَّصل حينئذٍ بالشحمة البيضاء".
إسهامات الفخر الرازيّ (محمد بن عمر القرشي المتوفى 606 هـ) الفقيه المفسر الأصولي المتكلم[34]:
يتحدث الفخر الرازيّ عن البصر والإبصار في كتابه الفذّ "المباحث المَشْرِقِيَّة"[35]؛ فيقول: "البصر هو قوة مرتبة في العصبة المجوَّفة، تدرك صورة ما ينطبع (ينعكس) في الرطوبة الجليدية (العدسة) من الأجسام ذوات اللون المتأدّية في الأجسام الشفافة بالفعل إلى سطوح الأجسام الصقيلة..."
ثم يذكر أقوال جالينوس وغيره، ويعلّق عليها قائلاً: "والقول الصحيح هو أنَّ الإبصارَ إنَّما يحصُل بانْطِباع أشباح المرئيات (Images ) بتوسط الهواء المُشِفّ في الرطوبة الجليدية (العدسة)، ومنها ينتقل إلى عصب الإبصار".
وهو كلام دقيق ورائع في فسيوليجيا الإبصار، وهو مطابق تقريبًا لما نعرفه اليوم.
مساهمات الفقهاء في علوم الطب:(/17)
والعجيب حقًّا أن الفقيه والأصوليّ والمتكلم، كان كثيرًا ما يكون متبحّرًا في علوم الطبّ، ومنها علم التشريح ووظائف الأعضاء، وكان الإمام الشافعيّ مُلِمًّا إلمامًا جيّدًا بالعلوم الطبية، وكذلك كان الإمام عليٌّ الرضا، ووالده موسى الكاظم، وجده جعفر الصادق، واشتهر الإمام محمد المازري الفقيه المالكي بالطّبِّ كما اشتهر بالفقه، وكذلك كان القاضي الفيلسوف الطبيب أبو الوليد محمد بن رشد صاحب كتاب "الكُلّيَّات" في الطب، وكتاب "بداية المجتهد ونهاية المقتصد"، وكلاهما من المراجع؛ أحدهما في الطب، والآخر في الفقه.
واشتهر أبو يحيى هاني بن الحسن اللَّخمي الغرناطي المتوفى سنة 614 هـ بتبحُّره في أصول الفقه، كما اشتُهر بتبحُّره في الطبّ، والإمام السنوسيّ الفقيه المحدّث الفَرَضِيّ[36] له شرح على أرجوزة ابن سينا في الطب، وله شرح على صحيح البخاري.
وكان أحمد بن محمد الذهبيّ المتوفى سنة 601 هـ (وهو غير الحافظ أبي عبدالله محمد بن أحمد الذهبي المتوفى سنة 748 هـ) عالمًا بصناعة الطب مع تَبْرِيزِهِ في الفقه، والقراءات، والنحو، والحديث.
مساهمات الأطباء في علوم اللغة والدين:
وكان الأطباء المشهورون على دِراية واسعة بعلوم الحديث، والفقه، واللغة؛ فقد كان الموفَّق عبداللطيف البغداديّ من علماء الحديث واللغة البارزين، وكان مع ذلك من أعلام الطب.
وكان أبو بكر بن مَرْوانَ بن زهر طبيبًا شاعرًا، يحفظ صحيح البخاري بأسانيده، وكذلك ابن النفيس من أعلام الطب، وهو أيضًا من المشاركين في الفقه؛ حتى عَدَّهُ السبكيّ في "طبقات الشافعية".
وكان الكحَّال بن طَرْخَانَ مبرِّزًا في طُبِّ العيون، وكان متبحِّرًا في اللغة، مُجِيدًا لعلم الحديث.(/18)
وكان كثير من شُيوخ الأزهر من المتبحّرين في علومهم الدينية واللغوية، مع تبحُّر في علوم الطبِّ، نذكر منهم العلامة شيخ الأزهر أحمد بن عبدالمنعم الدمنهوريّ المتوفى سنة 1192 هـ صاحب كتاب "القول الصريح في علم التشريح"، والعلامة شيخ الأزهر حسن بن محمد العطار المتوفى سنة 1834 م، وله رسائل عدَّة في الطب وعلم التشريح.
ولولا ضِيق المجال لتَوَسَّعْنَا في إيراد الشواهد والأدلة على أن المسلمين قد ساهموا إسهاماتٍ واسعةً في علم التشريح والفسيوليجا، وأن الأطباء والفقهاء كانوا متفقين متعاضِدِينَ، ولم يكونوا في حرب شعواء؛ كما يدَّعي بعض الغربيين وأتباعهم من أمثال الدكتور بول غليونجي؛ بل كان الأطباء على اطِّلاع على علوم الدين، وكان الفقهاء والمحدثون على اطلاع على علوم الطب.
وكانت علوم الطب في كثير من الأحيان تدرس في المساجد الكبيرة (بما في ذلك علم التشريح)، وكان ابن رشد الطبيب الفيلسوف الفقيه يدرس الطب والفقه في جامع قُرْطُبَةَ، كما كان عبداللطيف البغداديّ يدرس شتى العلوم من حديث، وفقه، وطب في الجامع الأزهر.
وتذكر وثيقة وقف حسام الدين لاجين تخصيص أموال وأوقاف لتدريس الطب في جامع أحمد ابن طولون بالقاهرة.
واتَّسع في عهد السلاجقة، ثم عهد الأتراك العثمانيين إقامة مُجَمَّعات ضخمة، تحوي الجامع الكبير، والمدرسة، والمستشفى، ولا يَزال الكثيرُ منها باقيًا في تركيا إلى يومنا هذا، وقد كانت تُوقَفُ لها الأوقافُ الضخمة، ويتعلم الطلبة الطّبَّ، كما يتعلمون الفقه، والعلوم الدينيةَ واللغويةَ، ثم تأتي سنواتُ الدّراسات العملية في المستشفى تحت إشراف كبار الأطباء.(/19)
وكان لا بد أن يَسكن الطلبة قريبًا من المستشفى، والمدرسة، والمسجد الجامع في سكن أُعدَّ لهم خِصِّيصَى لذلك، كما كان كثيرٌ من أساتذتهم يَسكنون قريبًا منهم، ومن الطريف حقًّا أن نجد أن المثقَّف العامّ كان عليه أن يُلِمَّ بعلوم الطّبِّ، وخاصَّةً التشريح وعلم وظائف الأعضاء مثلما عليه أن يُلِمَّ بأحكام الفقه، وعلوم الحديث، والتفسير، واللغة، والنحو، والشعر.
وقد وردتْ قصَّة ظريفة ضِمن قِصص "ألف ليلة وليلة"، جاء فيها أنَّ هارون الرشيد اشترى جارية موهوبة بثمن باهظ، بعد أن امتحنها علماءُ البلاط في مختلف فروع المعرفة المشهورة في عصره، وبدأ امتحانها بالأدب والشعر والبلاغة والنحو، ثُمَّ امتحنها أهل الفقه والحديث والتفسير، وهي تُجِيبُ عن ذلك كله إجاباتٍ دقيقة بارعة، ثم امتحنها علماء الفلك والهيئة فكانتْ إجاباتُها موفَّقة، ثم امتحنها أحدُ الأطبَّاء في علم التشريح ووظائف الأعضاء، وعلم الصِحَّة والغذاء وكيفية تشخيص الداء، وهي في ذلك كله تُجِيبُهم إجابات مقنعة، ثم سألتهم فأَحْرجَتْهُم بالأسئلة العويصة، التي حاروا لها جوابًا[37] [38].
علم التشريح المقارن:
اهتم المسلمون منذ فترة مبكرة من تاريخهم بالتشريح المقارن، وقد وضع محمد على المستنير - المشهور باسم قُطْرُب، وهو من أئمة اللغة والنحو، والمتوفى سنة 206 هـ / 821 - كتابًا في التشريح المقارَن بعنوان "ما خالف فيه الإنسان البهيمة".
وقد قام ابنُ الطفيل بتشريح الظَّبْيَة، ووصف ذلك مفصَّلاً في كتابه "حَيُّ بنُ يَقْظَانَ"، وطلب يوحنا بن مَاسَوَيْهِ من المعتصم العباسي أن يكتب إلى واليه في بلاد النوبة في مصر، أن يرسل مجموعة من القِردة لتشريحها، وكان الأطباء يكثرون من تشريح القردة؛ لقربها من الإنسان ومشابهتها له إلى حد كبير في تركيب جسمه.(/20)
وشرَّح الطبيبُ أحمد بن أبي الأشعث (المتوفى سنة 360هـ / 970م) سَبُعًا في حضرة الأمير الغَضَنْفَر، وقد اسْتَصْغَرَ بَعْضُ الحاضرين مَعِدَتَهُ، فصبَّ فيها من الماء ما بلغ أربعين رطلاً[39].
واعتنى أهل اللغة وأهل الطب بتشريح الخيل، ومفردات أسماء كُلِّ جزء منها، حتَّى إنَّ الأصمعيَّ أحضر فرسًا إلى مجلس هارون الرشيد وسمَّى أجزاءها من الأذن حتى الخاصرة[40].
وقدِ اهتمَّ المسلمون على مدى القرون بأمراض حيواناتهم، وخاصَّةً الخيل، والجِمال، والأنعام، ولذا تعرَّفوا على تشريحها، وقارنوها ببعضها، وفي بعض الأحيان قارنوها بالإنسان.
---
[1] أخرجه أبو داود، وابن ماجه، والبيهقي، وأخرجه أحمد في مسنده.
[2] أخرجه البخاري في صحيحه؛ كتاب الجنائز 2/107، وأخرجه أحمد في مسنده.
[3] بول غليونجي "سلب الغرب؛ فضل ابن النفيس عليه"؛ المؤتمر الثاني للطب الإسلامي، الكويت ج2، ص78.
[4] ابن عابدين: "رد المختار على الدر المختار" ج1 ص 628.
[5] الإمام النووي: "المجموع شرح المهذب" ج5 ص 300.
[6] الخطيب الشربيني: "مغني المحتاج في شرح ألفاظ المنهاج" ج1 ص 207.
[7] سليمان المقدسي: "تصحيح الفروع" ج1 ص 691.
[8] ابن قدامة الحنبلي: "المغني" ج2 ص 551.
[9] ابن حزم: "المحلى" دار الفكر؛ تحقيق الشيخ/ أحمد شاكر. ج2 ص 166، المسألة رقم 607.
[10] أحمد بن عبدالمنعم الدمنهوري: علامة مُتفنن طبيب، تولى مشيخة الأزهر له كُتُب مُتعددة في الفقه، والطب، وعلم المساحة، وعلم الهيئة.. وله كتاب "القول الأقرب في علاج لسع العَقْرَب" بالإضافة إلى ما ذكرناه.
مولده سنة 1689م، ووفاته 1778م (الموافق 1192هـ) انظر الدكتور/ فؤاد الحفناوي: "الطب في الأزهر قديمًا وحديثًا". المؤتمر الثاني للطب الإسلامي. الكويت ج2 ص 811 – 818، والدكتور/ محمد عيسى الصالحية: "التشريح بين اللغة والطب" المؤتمر الثاني للطب الإسلامي ج2، 183 - 194.(/21)
[11] د / محمد الحفناوي: "الطب في الأزهر قديمًا وحديثًا". المؤتمر الثاني للطب الإسلامي، الكويت 1982 ج2 ص 811 – 818.
[12] الفتاوى الإسلامية: دار الإفتاء المصرية، جـ 4 ص 1331.
[13] د/ محمد علي البار: "علم التشريح عند المسلمين". الدار السعودية جدة 1989م. ص 69 - 76.
[14] المصدر السابق ص 78.
[15] كتاب: "قرارات المجمع الفقهي لرابطة العالم الإسلامي". مكة المكرمة.
[16] ابن النديم: "الفِهْرِسْت" ص 290.
[17] د/ محمود الحاج قاسم: "الطب عند العرب والمسلمين، تاريخ ومساهمات" الدار السعودية 1987م، ص99 – 103.
[18] نقلاً عن الدُّكتور/ يحيى حَقِّي في كتابه "تاريخ الطب العربي" ص 28 – 29.
[19] محمود الحاج قاسم: "الطب عند العرب والمسلمين". الدار السعودية جدة 1987 م ص 99 ـ 103.
[20] محمد الخطيب الشربيني: "مغني المحتاج"، دار الفكر بيروت، ج4 (كتاب الجراح) ص 25 – 26.
[21] "أنوار البروق في أنواء الفروق". عالم الكتب. بيروت ج4 ص 191.
[22] "بداية المجتهد ونهاية المقتصد" ص 305.
[23] "المجموع شرح المهذب". تحقيق/ محمد نجيب المطيعي، ج2 ص 508.
[24] ذكره الذهبي في "الطب النبوي" - ونَبَّه إلى أنه من كلام الشافعي، وذكر كذلك السيوطي في مقدمة كتابه. "المنهج السوي والمنهل الردي في الطب النبوي". وذكره العجلوني في "كشف الخفاء ومُزِيل الإلباس"، وقال: إنه موضوع، ولا يصح رفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وإنه من كلام الشافعي".
[25] انظر كتاب: "خلق الإنسان بين الطب والقرآن"، وكتاب "الوجيز في علم الأجنة القرآني" للدكتور/محمد علي البار، وكلاهما من إصدارات الدار السعودية. جدة.
[26] هو من قول يحيى بن معاذ الرازي وليس بحديث. وفي كتاب "أدب الدنيا والدين" للماوردي عن عائشة. سئل النبي - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ أعرف الناس بربه؟" قال: ((أعرفهم بنفسه)) انظر: "كشف الخفاء" للعجلوني ج2. 343.(/22)
[27] الإمام الغزالي. "الحكمة في مخلوقات الله". دار إحياء العلوم بيروت. 1984 م تحقيق الشيخ/ محمد رضا قباني ص 55، 86.
[28] كتاب المنصوري ص 76 و 77.
[29] "القانون" ج1، ص19 – 72.
[30] ولد الشيخ الرئيس أبو علي الحسين بن سينا في إحدى قرى بخارى (في جمهورية أوزبكستان في الاتحاد السوفيتي حاليًّا) من أصل فارسي، وأبوه من بلخ في شمال أفغنستان، وأمه من أهل بخارى. تولى الوزارة وثار عليه الجند. كان من نوادر الزمان في النبوغ والذكاء، ويعتبر بحق أعظم أطباء المسلمين، واشتهر أيضًا بالفلسفة، وله فيها عدة كتب منها: كتاب "الشفاء"، وأشهر كتبه كتاب "القانون في الطب"، وله شعر رقيق. توفي بهمدان (في إيران اليوم) سنة 428 هـ.
[31] انظر مبحث الروح في كتاب "موت القلب أو موت الدماغ" للدكتور محمد على البار، الدار السعودية، جدة، 1986، وفيه شرح لما يقصده الأطباء السابقون عن كلمة الروح الحيواني، التي يشيرون بها إلى الأوكسجين.
[32] علي بن العباس المجوسي من أشهر أطباء القرن الرابع الهجري، ولد بالأهواز، واعتنق الإسلام، وعاش في حاشية بني بويه، وألف لعضد الدولة البويهي كتابه المشهور "الملكي" في 20 جزءًا.
[33] العرق الضارب هو الشريان، والعرق غير الضارب هو الوريد.
[34] الأصولي أي المتضلع في علم أصول الفقه، والمتكلم العالم بعلم الكلام، وهو علم أوجده المسلمون للرد على الفلاسفة والدهريين وغيرهم لإثبات العقائد باستخدام المنطق وشيء من الفلسفة، بالإضافة إلى كتب العقائد والقرآن والسنة.
[35] ج2. 287.
[36] المحدث أي العالم بعلم الحديث النبوي، والفرضي: أي العالم بعلم المواريث (الفرائض).
[37] د. نظير أحمد: المؤتمر الثاني للطب الإسلامي 1982 م. الكويت. ج2 ص 898 – 907.
[38] بروفيسور براوك (أ.ج) الطب العربي Arabian Medicine 1962. ص 31 و 32.
[39] ابن أبي أصيبعة: "عيون الأنباء في طبقات الأطباء". 252.(/23)
[40] كتاب "تاريخ بغداد" ج13 ص 255، 266.(/24)
العنوان: التصريحات المسيئة والسكوت على الإهانة!
رقم المقالة: 1784
صاحب المقالة:
-----------------------------------------
بيان أصدره المركز الثقافي الاجتماعي بهولندا:
التصريحات المسيئة والسكوت على الإهانة!
لا يخفى ما تتعرض له الأقلية المسلمة في هولندا عقب هجمات 11 سبتمبر وما تلاها من أحداث "إسبانيا وبريطانيا" من مضايقات وتحرشات إعلامية مستفزة، أدت إلى حادث اغتيال "تيوفان خوج" مخرج فيلم "الخضوع" المسيء للإسلام على يد شاب مغربي. تفاقم الوضع الأمني بعدها، وسجل أكثر من مائتي حادثة ضد المسلمين، تنوعت بين الشتم في الطريق العام، والاعتداء على المحجبات، إلى إحراق المساجد والمدارس والمؤسسات الإسلامية.(/1)
وقد عبَّر أغلب المسلمين عن رفضهم التام للعنف، وأدانوا الإرهاب الذي يقوض السلم والاستقرار، وأكدوا سلوك نهج الحوار البناء بين جميع الشرائع والمعتقدات؛ لإرساء مبادئ السلام والتعايش السلمي في مجتمعنا، إلا أن ذلك لم يشفع لهم. واستمرت الحملة الممنهجة على الإسلام والمسلمين، فلا يخلو الإعلام الهولندي يوميًّا من مقالات وتقارير تسيء للإسلام وتحقر من شأن أهله، وآخرها التصريحات المسيئة التي نشرت الأسبوع الماضي في صحيفة "دي بريس" للبرلماني الهولندي "جريت فيلدرز" رئيس حزب "الحرية"، الذي حصل في الانتخابات التشريعية الأخيرة على 9 مقاعد من جملة 150 مقعدًا في البرلمان الهولندي، وقد وجه تصريحاته للمسلمين وقال بالحرف: "القرآن يحتوي على أشياء مروعة، لذلك على المسلمين أن يمزقوا نصف أوراق القرآن، وذلك إذا أرادوا أن يعيشوا في هولندا"، وأضاف: "إن الإسلام يشكل أكبر خطر وتهديد على البلاد، ويضع الساسة والأحزاب في مشاكل كبيرة، ولو كان الرسول محمد حيًّا ويعيش في هولندا لدفعته إلى أن يرحل بجلده وريشه عن هذه البلاد". ومعروف أن هذا الحزب السياسي يسعى إلى إغلاق حدود البلاد أمام المهاجرين المسلمين، ويطالب بعدم فتح أية مساجد أو مدارس إسلامية جديدة في هولندا.
إن هذه التصريحات تصب الزيت على النار لدى الشباب المسلم الذي يتعرض للتجريح والإهانة، وإنها تؤجج لدى بعض الشباب مشاعر الغضب، والذي نخشاه هو أن يكون الغضب سببًا في سلوك نهج الغلو والتطرف، فينجرّ بعض المتهورين إلى مثل ما حدث مع المخرج الهولندي "تيوفان خوج" في سنة 2004.(/2)
إن سكوت المسؤولين الهولنديين، عن هذه الإهانات، وغض الطرف عن حقوق أكثر من مليون مسلم، يشكلون قرابة 10 % من السكان، يمثل تحيزًا واضحًا ضدهم، وتجاهلاً لمشاعر كل المسلمين الذين يطعن في عقيدتهم، وتمسّ كرامة نبيهم، وهو ما يناقض مبادئ التسامح والاحترام بين المجتمعات والحضارات، وفي هذا المقام فإنَّ المركز الثقافي الاجتماعي بهولندا:
1 – يدين الانتهاكات والتصريحات المسيئة؛ لما فيها من تطاول وإهانة لشريحة كبيرة من المجتمع الهولندي، ولأكثر من مليار مسلم في العالم.
2 – نشيد بموقف سفيري المملكة العربية السعودية وجمهورية مصر العربية، اللَّذَيْنِ نددا بهذه التصريحات، وعبَّرا لدى السلطات الهولندية عن رفضهما لها.
3 – وباسم الأخوة، ومن منطلق حق المسلم على المسلم في التآزر والتعاون، فإننا نهيب بحكومات الدول العربية والإسلامية، ودبلوماسييها وسفرائها، والأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي، وشيخ الأزهر، والأمين العام لجامعة الدول العربية، وكل المؤسسات والهيئات والجمعيات الإسلامية، الحقوقية والثقافية، الحكوميَّة منها والأهلية، العربية منها والأوروبية - أن تعبِّر عن استنكارها لهذا التعدي الصارخ، باتخاذ خطوات عملية صريحة وحازمة، ترتقي إلى مستوى حجم الإساءة، وتقي شباب الأقلية المسلمة في هولندا من أن ينزلق إلى ما لا تحمد عقباه.
وذلك بمطالبة "فيلدرز" بسحب تصريحاته العنصرية المسيئة، وأن يعتذر للمسلمين عما بدَر منه، وبمطالبة الحكومة الهولندية عبر سفارتها بأن تضع حدًّا نهائيًّا لمثل هذه التصريحات المستفزة، والمسيئة إلى المقدسات وأن تردع المتعصبين، والحاقدين المُروِّجِين لصدام الحضارات.
المصدر: مجلة المستقبل الإسلامي العدد 191 ص9.(/3)
العنوان: التصوير في الشعر العربي
رقم المقالة: 1988
صاحب المقالة: فخري أبو السعود
-----------------------------------------
التصوير في الشعر العربي
الوصف من أهم أغراض الشِّعر وأخصِّ فُنونِهِ، وكُلَّما كَثُرَ في شِعر لغةٍ وآثارِ شاعرٍ، دَلَّ على رُقِيِّهِما الفنيِّ؛ إذ إنَّ مناظر الطبيعة خاصَّة، وروائعَ المشاهدات عامَّة من أشد العوامل تأثيرًا في النفس الشاعرة وتحريكًا لعاطفتها، وبَعْثًا لها إلى القول، والوصف في الشعر العربي غزير يتناول شتَّى الموضوعات، ويبلغ في يد كبار شُعراء العربيَّة غاية الإجادة، فكثيرًا ما تخلَّص شعراؤنا من قيود المدح والرثاء، والنسيب الاستهلاليِّ - مهما كان تَقَيُّدُهم بهذه الأغلال الثقيلة التي كَبَّلَتِ الشِّعرَ العربيَّ - وعَرَجُوا على وصف أثر من آثار الطبيعة أو المدنية، فأبدعوا وأرضَوُا الفنَّ أضعافَ ما أرضَوْهُ بمبالغات المدح والرثاء، والنسيب المُدَّعَى.
ولكنَّ الذي أريد الإشارة إليه في هذه الكلمة، أن اعتماد الوصف في الشعر العربي كان دائمًا على المعنى دون اللفظ، على التشبيه والاستعارة والمجاز دون جَرْسِ الألفاظ، وتتابُع التراكيب ووَقْعِ الأوزان والقوافي، بينما الشعر الوصفيُّ الغربي اعتمد على هذه الأشياء الأخيرة اعتمادًا كبيرًا، فبلغ الغاية في المطابقة بين المعنى واللفظ مطابقةً تملأ الوصف حياة وجلاء، وتوفَّرَ بعضُ الشعراء على هذا الضرب منَ التَّصوير، ومنهم ملتون وتنيسون، ولا سيما الثاني الذي بلغ في القدرة على تذليل اللفظ للمعنى، واستخدامه في تصوير ما يشاء حدًّا منقطع النظير، وأضحتْ آثار أولئك الشعراء مهبط وحيٍ لكبار المصورين، يستلهمون ما حوت من روائعِ الأوصاف، ومحكَمات الصُّوَر، ويسجِّلون ذلك على لَوْحاتهم.(/1)
إذا كان في المنظر المراد تصويرُهُ حركةٌ؛ كجَرَيانِ نهر، أو عَدْوِ جَوَادٍ استخدم الشاعر الغربي بحرًا من بحور الشِّعر يلائم تلك الحركة ويحكيها، وإذا كان به صوت أو أصوات مختلطة؛ كهدير أمواج البحر، أو قصف المدافع في الحرب، اختار منَ الألفاظ تلك التي تحتوي على حروفٍ خَشِنَةٍ قَوِيَّة، وإذا كان يصف منظرًا ساكنًا وادعًا لم يذكر ذلك في القصيدة ذِكْرًا، وإنَّما استَعْمَل الألفاظ ذات الحروف اللَّيِّنَة؛ كالسِّين مثلاً، وهناك عدا هذا وذاك ضروب شتَّى منَ المُلاءمة بين الصيغة والمعنى، يَفْتَنُّ فيها الشاعر الوَصَّاف ما شاء له اقتدارُهُ؛ ككثرة العطف، وتكرار الحروف، والكلمات والتراكيب، والأبيات الكاملة.
ولقد وقع شيء من ذلك في بعض أشعار الوصف العربيِّ؛ ولكنه كان إلهامًا محضًا أوِ اتفاقًا عارضًا، ساقت الشاعرَ إليه المصادفَةُ السعيدة أوِ السَّلِيقَةُ المجيدة، دون أن يتعمَّدَهُ أو يتكلَّفَ في صَوْغِهِ عَنَاءً، ويقرؤه القارئ العربي فيستطيبه ويعزو موقِعَهُ من نفسه إلى مجرد معانيه، وحُسْنِ تشبيهاته، ويَجْمُل ذكرُ شيء من هذا للتمثيل والبيان:
ففي مُعَلَّقَتِهِ يصف امرؤُ القَيْس اللَّيلَ في بيته المشهور:
فَقُلْتُ لَهُ لَمَّا تَمَطَّى بِصُلْبِهِ وَأَرْدَفَ أَعْجَازًا وَنَاءَ بِكَلْكَلِ
وفضلاً عن جَوْدة المعنى، وحُسن التشبيه في هذا البيت، يزيد الوزنُ والتركيبُ الوَصْفَ المرادَ ظهورًا؛ فالبحر الطويل ذو الحركة الوَئِيدَة، وتكرارُ العطف بالواو يمثلان بُطْءَ مَسِيرِ الليل، ولَجَاجَهُ في الإقامة، وتمادِيَهُ في الطُّول خيرَ تمثيل، وفي بيته الآخَرِ حيث يصف جواده بقوله:
مِكَرٍّ مِفَرٍّ مُقْبِلٍ مُدْبِرٍ مَعًا كَجُلْمُودِ صَخْرٍ حَطَّهُ السَّيْلُ مِنْ عَلِ(/2)
نرى تتابُعَ الصفات بلا فاصل في الشطر الأول، واستعمالَ الألفاظ الضخمة الخَشِنَة في الشطر الثاني يمَثِّلان تَوَثُّب الجواد، وسرعةَ انطلاقه وارتداده، ومفاجآتِ حركاته تمثيلاً جيِّدًا بصرف النظر عن تشبيهه بانحطاط الصخر من شاهق.
وفي قول المتنَبِّي:
أَتَوْكَ يَجُرُّونَ الحَدِيدَ كَأَنَّمَا سَرَوْا بِجِيَادٍ مَا لَهُنَّ قَوَائِمُ
خَمِيسٌ بِشَرْقِ الأَرْضِ وَالغَرْبِ زَحْفُهُ وَفِي أُذُنِ الجَوْزَاءِ مِنْهُ زَمَازِمُ
نرى وصفًا رائعًا لجيش كثيف وَئِيدِ الزحف لكثافته، وليس في البيتين معنى كبير، وليس فيهما سوى مبالغة غير معقولة؛ ولكنه البحر الطويل يمثل هذه الحركة البطيئة أتمَّ تمثيل، هذا فضلاً عن فخامة الألفاظ التي تَخَيَّرَها الشاعر، ونرى البحر الطويل يؤدي مثل هذا الغرض، ويرسُمُ صورةً أخرى رائعة في قول جَمِيلٍ:
وَلَمَّا قَضَيْنَا مِنْ مِنًى كُلَّ حَاجَةٍ وَمَسَّحَ بِالأَرْكَانِ مَنْ هُوَ مَاسِحُ
أَخَذْنَا بِأَطْرَافِ الأَحَادِيثِ بَيْنَنَا وَسَالَتْ بِأَعْنَاقِ المَطِيِّ الأَبَاطِحُ
فهنا حركة الإبل البطيئة واضحة ماثلة، وقد كان جميلٌ ملهمًا، حيث ذَكَرَ كلمة أعناق في البيت الثاني، فإنها وَحْدَهَا تَرْسُمُ الصورة التي أراد؛ فإنَّ ذكر الجزء الأهمِّ منَ الصورة كثيرًا ما يبعث إلى المُخَيِّلَة باقيَ الأجزاء، ويُبْرِزُ الصورة جَلِيَّةً كاملة، ويترك البحرُ الطويل مِثْلَ هذا الأثر أيضًا في قول البارُودِيِّ الذي أشار إليه الدكتور صبري في كتابه عن الشاعر:
وَنَبَّهَنَا وَقْعُ النَّدَى فِي خَمِيلَةٍ
فإذا قُرِئ هذا الشطر بِتَأَنٍّ وجدنا الوزن يُمثِّل تساقُط قطرات الندى متتابعةً، أما الحركة السريعة فيمثلها البحر الكامل، ومن ذلك قول المتنَبِّي:
أَقْبَلْتَ تَبْسِمُ وَالجِيَادُ عَوَابِسٌ يَخْبَبْنَ بِالحَلَقِ المُضَاعَفِ وَالقَنَا(/3)
عَقَدَتْ سَنابِكُهَا عَلَيْهَا عِثْيَرًا لَوْ تَبْتَغِي عَنَقًا عَلَيْهِ لأَمْكَنَا
ففي البيت الثاني نرى مبالغةً أخرى من مبالغات المتنَبِّي، وهي وحدها لا تكاد تؤدي معنى، ولكن البحر الذي صِيغَتْ فيه القصيدة يؤدي خَبَبَ[1] الجياد خيرَ أداء، حتى لَيكادُ يريك تَوَثُّبَ الفرسان فوق ظهورها، ولو حاول الشاعر وصف الخَبَبِ في البحر الطويل لما استقامت صورته.
ولِتكرار الألفاظ أو التعبيرات أحيانًا أثرٌ بليغٌ في إبراز الصُّوَرِ، وبَعْثِ الأَخْيِلَةِ؛ ففي قول ابن هانئٍ الأندلسيِّ:
وَفَوَارِسٌ لاَ الهَضْبُ يَوْمَ مَغَارِهَا هَضْبٌ وَلاَ الوَعْرُ الحَزُونُ حَزُونُ
يوحي تكرارُ كَلِمَتَيْ هضب[2]، وحزون[3] إلى المُخَيِّلَة تتابُعَ الهضاب والرُّبَى أثناء عَدْوِ الفرس، فكأنَّه يعرض أمام العين شريطًا سينمائيًّا متحرِّكًا، أَضِفْ إلى ذلك صَوْغَ البيت في البحر الكامل، واختيار الكلمات الفخمة، وفي قول الأستاذ المازنيِّ:
لَغَطُ اليَمِّ إِذَا اليَمُّ طَمَا وَالْتَقَتْ فِيهِ هِضَابٌ بِهِضَابْ
ترى صورة رائعة لجَيَشانِ اليَمِّ، ولا يرجع هذا إلى معنى البيت وحده، ولكن إلى وزنه وألفاظه كذلك؛ فبحر الرَّمَلِ يُمَثِّلُ الحركة المتضاربة أَدَقَّ تمثيل، وتكرارُ كلمتي اليَمِّ وهِضَاب يوحي إلى المُخَيِّلَة تتابُع اللَّجَجِ، وتكرارُ حرف الهاء ثلاث مرات في الشطر الثاني يَزيد الحركة تصويرًا وبروزًا.(/4)
كان ذلك في الغالب كما ذكرتُ محضَ اتفاق أو إلهام، ولم يقم في العربية فردٌ أو مدرسة تتوفَّرُ على هذا الضرب منَ النظم والتصوير؛ وإنَّما حين اتَّجه نظر الشعراء إلى اللفظ صادَفَ ذلك عصرَ انحلال الأدب؛ فلم يُسَخِّروا اللفظ لإبراز المعنى؛ بل صرفوا كلَّ همهم إلى اللفظ دون المعنى، ووُلِعُوا بالألاعيب اللفظيَّة التي سمَّوْهَا محسناتٍ، وأَوْغَلُوا هذه الغُثاثاتِ على أَجَلِّ فنون الشِّعر خَطَرًا؛ كالرثاء والنَّسِيبِ، فأَسِفَتْ وانعدم فيها الحِسُّ والشعور، فرأينا شاعرًا ينسب فيقول:
نَاظِرَاهُ فِيمَا جَنَى نَاظِرَاهُ أَوْ دَعَانِي أَمُتْ بِمَا أَوْدَعَانِي
وآخَر يتوجَّع فيقول:
لِي مُهْجَةٌ فِي النَّازِعَاتِ وَعَبْرَةٌ فِي المُرْسَلاَتِ وَفِكْرَةٌ فِي هَلْ أَتَى
وثالث يمدح فيقول:
وَإِنْ أَقَرَّ عَلَى رَقٍّ أَنَامِلَهُ أَقَرَّ بِالرِّقِّ كُتَّابُ الأَنَامِ لَهُ
وليس في كلِّ هذا تعبيرٌ عن شعور أو أداءُ غَرَضٍ، وما هو إلا عَبَثٌ بالألفاظ، واقتناصٌ للجناس والطِّباق والسَّجْعِ والتورية، وإنما أكثَرْتُ من هذه الأمثلة الغَثَّةِ؛ لأُوَضِّحَ كمْ كان الشِّعر العربي يربح لو أنَّ المجهوداتِ التِي صُرِفَتْ في مثل هذا التحايُل العقيمِ وُجِّهَتْ إلى تسخير اللفظ لِلمعنَى، والاستعانة بِهما معًا على إبراز الوصف المقصود؛ كما يصنع شعراء الغرب.(/5)
وليس في طبيعة اللغة العربية قُصورٌ يَحول بينها وبين مُجَارَاةِ اللغاتِ الأُخرى في هذا الباب، بل لها من الميزات ما يقدِّمها على غيرها، فهي كثيرة البُحور التي يؤدِّي كلُّ منها غَرَضًا مختلِفًا، غزيرةُ الألفاظ الوَعْرَة الضخمة، والرقيقة اللَّطيفة التي توحي بخُشُونَتِها أو رِقَّتِها مختلِفِ الصفات، غَنِيَّةٌ بالحروف السَّلسة اللَّيِّنَة، والحروف الخَشِنَة الجافية التي تطاوِع الناظمَ القدير، ليس يُعْوِزُ العربيةَ شيءٌ من ذلك؛ وإنما يُعْوِزها الجرأةُ منَ الناظِمِينَ بها، والعَزْمُ والجَلَدُ.
---
[1] خبب الجياد: هو عدوها السريع، وفي "المعجم الوسيط": خب الفرس أي نقل أيامنه وأياسره جميعًا في العدو.
[2] هضب: جمع هضبة.
[3] حزون: جمع حَزْن (بفتح فسكون)، وهو ما غلظ من الأرض.(/6)
العنوان: التعاون بين الدعاة مبادئه وثمراته
رقم المقالة: 380
صاحب المقالة: د. صالح بن عبدالله بن حميد
-----------------------------------------
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد: فهذا بحث في التعاون في الدعوة وبين الدعاة، شاملاً تعاونهم فيما بينهم وتعاونهم مع غيرهم. يحاول أن يرسم أسس هذا التعاون ومبادئه وأغراضه وثمراته.
أرجو أن يكون فيه ما يحقق البغية والمنفعة، وأن يجعل الله بفضله كل أعمالنا وأقوالنا وعلومنا خالصةً لوجهه الكريم، وموصلة إلى جناته جنات النعيم، إنه هو البر الرحيم.
تعريف:
التعاون في اللغة من العون، والعون هو الظهير على الأمر، ويجمع على أعوان. وتقول العرب: إذا جاءت السنة جاء معها أعوانها، ويعنون السنة الجدب وبالأعوان الجراد والذئاب والأمراض. والرجل المعوان من كان كثير العون وحسن المعونة.
وسُمِّيَ الإناء ماعوناً لما فيه من عون الجار والمحتاج، كما جاء في التنزيل: {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ}[1].
ومن مرادفات اللفظة المفيدة في هذا البحث: الوزير والردء. ومنه قوله تعالى في حق موسى عليه السلام إذ سأل ربه: {وَاجْعَل لِّى وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي، هَارُونَ أَخِي، اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي، وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي}[2]، وقوله سبحانه في ذات الموضوع في مقام آخر: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ}[3][4].
والشاهد من الآيات الكريمات مفردات: الوزير والأزر والردء.
أما الوزير فمشتق من الأزر وهو الظهر لأن الظهر مجمع الحركة في الجسم وقوام استقامته، وسُمِّيَ الإزار إزاراً لأنه يُشَدُّ به الظهر، ومنه يُفهم التعبير القرآني: {اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي}[5] فهو مشدود بحزم وحزام وقوة، ومنه قول الشاعر:
شددت به أزري وأيقنت أنه أخو الفقر من ضاقت عليه مذاهبه(/1)
وأصل الكلمة الأبعد أن الوَزَر الجبل المنيع، وكل معقل وزر. وفي التنزيل العزيز: {كَلاَّ لاَ وَزَرَ}[6] أي لا عاصم من أمر الله.
وسُمِّيَ الوزير وزيراً لأنه يحمل عن الخليفة والملك ثقله ويعينه برأيه ويتحمل ما أسند إليه من تدبير الملك والمسؤولية[7].
أما الردء فمأخوذ من أردأه أي: أعانه. قال صاحب اللسان: فلان ردء لفلان أي ينصره ويشد ظهره، فالردء هو العون والناصر[8].
التعاون ضرورة إنسانية:
خلق الله الإنسان مدنياً بطبعه، فركبه على صورة لا تستقيم حياته، ولا يدوم بقاؤه، إلا بمعاونة غيره له من بني جنسه. فقد سخر الله الناس بعضهم لبعض في الغذاء والكساء والتصنيع والحماية بما لا يستطيع أحد منهم أن يستقل بنفسه البتة. ويظهر ذلك جلياً حين يُقارن الإنسان بالحيوان. فالحيوان لا يحتاج إلى معاونة أحد في تحصيل أسباب بقائه ومعايشه، فعنده من سهولة تحصيل الغذاء والقوة في الحماية ما لا يحتاج معه إلى أحد، بينما الإنسان بقوته الذاتية الفردية لا يستطيع مقاومة كثير من الحيوانات لاسيما الكبيرة منها والمفترسة، فهو عاجز عن المدافعة ما لم يكن معه جمع من جنسه أو آلات قد صنعها بنفسه أو بغيره تقاوم شراسة الحيوان. بل إن قدرته المنفردة لا تفي بتوفير احتياجاته ولا تستقل بتصنيع آلاته، فهو بحاجة إلى معاونة إخوانه ليحصل على قوت ويحتمي من حر ويتقي من قر ويدفع العدو والصائل.(/2)
إذن فالإجتماع والتعاون والتضامن ضروري لنوع الإنسان؛ لتتحقق الحياة على وجهها، ويهنأ له العيش، ويتمكن من القيام بمهمة الاستخلاف وعمارة الأرض بمقتضى قوله سبحانه وتعالى: {هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا}[9]، وقوله سبحانه: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فُوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً}[10]، وقوله سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا ءَاتَاكُمْ}[11][12].
ولا مانع من الإشارة في هذا المقام إلى ما قد وضع الله في بعض مخلوقاته من غير بني آدم مما يشير إلى تعاون قد فطرت عليه، فقد أعطى ربنا كل شيء خلقه ثم هدى. مخلوقات جعل الله في فطرتها نوع تعاون إما لتأمين غذائها أو الدفاع عن نفسها وجماعتها، ويظهر ذلك في جنسي النمل والنحل.
فقد شوهد أن النمل إذا عثر على عسل في وعاء، ولم يتمكن من الوصول إليه مباشرة؛ لوجود ماء أو سائل يحول بينه وبين هذا العسل، فإنه يتعاون بطريقة فدائية انتحارية، فتتقدم فرق بعد أخرى فتلتصق بالسائل وتموت، وتتقدم غيرها مثلها حتى تتكون قنطرة من جثث النمل الميت يعبر عليها الأحياء الباقون؛ فيدخلون الوعاء ويصلون إلى العسل ويبلغون مأربهم. هذا في حال اليسر والغذاء.(/3)
أما في حال العسر والتعرض للمخاطر فإن مجاميع النمل إذا تعرضت لتيار مائي داهم – مثلاً – فإن بعضها يمسك ببعض، ثم تكوِّن كتلة كروية متماسكة تتحمل اندفاع التيار، ثم تعمل حركتين في آن واحد؛ إحداهما: تتحرك فيها الأرجل كالمجاديف في اتجاه واحد نحو أقرب شاطئ، والثانية: حركة دائرية من أعلى إلى أسفل ليتم تقاسم التنفس بين الجميع، فإذا ما تنفس من في الأعلى حصل انقلاب ليرتفع من في جهة القاع؛ فيأخذ حظه من النفس، وهكذا في حركة دائرية حتى يبلغوا شاطئ الأمان.
فسبحان الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى. وسبحان من وهب الإنسان العقل المفكر ليتأسى ويعتبر ويكتشف ويرقى بفكره – بعد هداية الله وتوفيقه – ليكون خيراً من الأنعام.
أما النحل فنظامه في تكوين مملكته وإنتاج عسله وترتيب الأعمال بين أفراد خليته فعجب عجاب في التعاون والتناوب ولله في خلقه شؤون[13].
فضل التعاون:
هذه طائفة من النصوص مختارة في فضل التعاون وعظم الأجر والنفع لمن أخذ به، وهي في ذات الوقت تعتبر أصلاً في الباب ودليلاً له. على أنه سيأتي في ثنايا البحث ما يزيد الأمر وضوحاً في الفضل والتأصيل.
1 - قول الله تعالى: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ}[14].
2 - قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي، وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي، وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي، يَفْقَهُواْ قَوْلِي، وَاجْعَل لِّى وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي، هَارُونَ أَخِي، اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي، وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي، كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً، وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً، إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيراً}[15].(/4)
3 - قوله تعالى: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ، قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِئَايَاتِنَا أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الغَالِبُونَ}[16].
ولقد كان لأهل العلم رحمهم الله وقفات جميلة عند هذه الآيات سوف تتبين عند الحديث عن ميدان التعاون والحديث عن غايته. ولقد قرروا فيما قرروا أن التعاون ركن من أركان الهداية الإجتماعية، فالله سبحانه يوجب على الناس إيجاباً دينياً أن يعين بعضهم بعضاً في كل عمل من أعمال البر التي تنفع الناس أفراداً وأقواماً في دينهم ودنياهم وكل عمل من أعمال التقوى التي يدفعون بها المفاسد والمضار عن أنفسهم[17].
أما أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنها:
1 - حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من ولاء الله عز وجل من أمر المسلمين شيئاً فأراد به خيراً جعل له وزير صدق فإن نسي ذكره وإن ذكر أعانه))[18].
2 - عن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً ثم شبك بين أصابعه))[19].
3 - عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى))[20].(/5)
وأمثال هذه الأحاديث المتآثرة عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم مما فيه الحث على الخير والدلالة عليه والحث على قضاء الحوائج، وبخاصة إذا أدرك المتأمل أن الحاجة في نصوص الشرع ذات مفهوم واسع مما هو مدلول عليه في عموم قوله صلى الله عليه وسلم: ((والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه))[21]، وقوله عليه الصلاة والسلام: ((أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس وأحب الأعمال إلى الله تعالى سرور يدخله على مسلم أو يكشف عنه كربة أو يقضي عنه ديناً أو يطرد عنه جوعاً ولأن أمشي مع أخ في حاجة أحب إليّ من أن أعتكف في هذا المسجد – يعني مسجد المدينة – شهراً... ومن مشى مع أخيه في حاجة حتى يتهيأ له أثبت الله قدمه يوم تزول الأقدام))[22].
وهذه رواية ابن عمر رضي الله عنهما. وعند الطبراني في الأوسط والحاكم وقال صحيح الإسناد من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من مشى في حاجة أخيه كان خيراً من اعتكاف عشر سنين))[23].
ويتأكد هذا المعنى بالنظر في نصوص النهي عن خذلان المسلم وإسلامه للأعداء والنوائب، على حد قوله سبحانه: {وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}[24].
وعليه فإن من اجتهد في كف الأذى والعدوان عن أخيه فقد قام بصورة كبرى من صور التعاون. ولئن قال العربي الجاهلي: ((انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً)) فلقد جاء في التفسير الإسلامي المحمدي لهذه المقولة لما لها من وقع عظيم على نفوس الإخوان والعشيرة، فتساءل الصحابة وكيف ننصره ظالماً؟ قال: ((تكفه عن الظلم))[25]. فالمسلم أخو المسلم يكف عليه ضيعته ويحوطه من ورائه[26].
ومن هنا كان النكير الشديد على التعاون على الإثم والظلم وبطر الحق. وفي مثل هذا جاءت أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم منها:(/6)
– ما أخرجه البخاري في تاريخه والطبراني والبيهقي في (شُعب الإيمان) عن أوس بن شرحبيل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من مشى مع ظالم ليعينه وهم يعلم أنه ظالم فقد خرج من الإسلام))[27].
– وعند الطبراني في الأوسط والحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من أعان ظالماً بباطل ليدحض به حقاً فقد برئ من ذمة الله وذمة رسوله))[28].
– وأخرج البيهقي من طريق فسيلة أنها سمعت أباها واثلة بن الأسقع رضي الله عنه يقول: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمن العصبية أن يحب الرجل قومه؟ قال: ((لا، ولكن من العصبية أن يعين الرجل قومه على الظلم))[29].
والظلم في الدعوة الذي يلزم التكاتف والتعاون على رفعه يتمثل في ميادين كثيرة: من غلبة الهوى والتعصب والمراء وقلة الإخلاص والخلاف القائد إلى التنازع. كما أن منه خذلان الداعية من أن يقوم بتبليغ أمر الله ودعوة الإسلام أو إيذائه بغير حق. وهذا وأمثاله سوف يشار إلى كثير منه في صفات كل من رجل الدعوة والمعين فيها، مما يؤثر في بناء التعاون واستمراره وتحقيق ثماره.
التعاون وغاية الدعوة:
من أجل تبين ذلك في أوضح صورة يحسن الوقوف المتأمل عند هذا الدعاء القرآني النبوي من نبي الله ووجيهه موسى عليه السلام: {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي، وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي، وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي، يَفْقَهُواْ قَوْلِي} إلى قوله: {كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً، وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً، إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيراً}[30].
هنا ثلاث وقفات:(/7)
الوقفة الأولى: عند قوله سبحانه: {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي} أن موسى عليه السلام علم من أمر الله له بالذهاب إلى فرعون أنه كلف أمراً عظيماً وخطباً جسيماً يحتاج معه إلى احتمال ما لا يحتمله إلا ذو جأش رابط، وصدر فسيح، فاستوهب ربه تعالى أن يشرح صدره؛ فيجعله حليماً حمولاً، يستقبل ما عسى أن يرد عليه في طريق التبليغ والدعوة من مُرِّ الحق والشدائد ما يذهب معه صبر الصابر بجميل الصبر وحسن الثبات. يشرح صدره فلا يضجر ولا يقلق مما يقتضي بحسب الطبيعة البشرية الضجر والقلق.
مع ما يتجلى في هذا الطلب من إظهار كمال الافتقار إليه عز وجل والإعراض عن الحول والأنانية بالكلية. إن شرح الصدر نور من الله وسكينة وروح منه سبحانه[31].
ولذا فإن الصدر إذا ضاق لم يصاحبه لهداية الخلق ودعوتهم، وعسى الخلق أن يقبلوا الحق مع اللين وسعة الصدر وانشراحه عليهم[32].
والصدر إذا انشرح والقلب إذا انفتح لم يضق بسفاهة المعاندين ولجاجة الجاهلين، ومن ثم فلا يخاف شوكة ولا يهاب من كثرة ولا يراع من صولة[33].
الوقفة الثانية: قوله تعالى: {ويَسِّرْ لِي أَمْرِي} دعاء لتسهيل الأمر وتيسيره لتقوم الدعوة على وجهها بتوفر آلاتها ووجود المعين عليها. ولا شك أن التيسير والتسهيل لا يكون إلا بتوفيق الأسباب ورفع الموانع[34].
الوقفة الثالثة: قوله تعالى: {كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً، وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً} إذا تحقق شرح الصدر وتيسير الأمر ووجد الوزير والنصير فذلك مظنة تكثير الدعوة وأهلها وأنصارها، ومن مظاهر ذلك ومن غاياته كذلك كثرة التسبيح والمسبحين والذكر والذاكرين.(/8)
ذلك أن الدعوة تشتمل على التعريف بالله وصفاته وتنزيهه وتقديسه وتسبيحه، وهي حث للعباد على القرب من مولاهم لإدخالهم في حظيرة الإيمان والتقوى، وحين يتحقق ذلك يكثر ذكر الله بإبلاغ أمره ونهيه، ألا ترى إلى خطاب الله لنبيه موسى عليه السلام في الآية قبيل ذلك: {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي}[35]، ثم خطابه وأخيه فيما بعد وهما يقومان بمهمة الدعوة: {اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلاَ تَنِيَا فِي ذِكْرِي}[36]. أي: لا تضعفا في تبليغ الرسالة. إذن فتعليلهما بالتسبيح والذكر الكثيرين يعني تحقيق الدعوة نجاحها[37].
أما الإمام أبو السعود في تفسيره فينظر إلى ذلك من زاوية أخرى، حين يقرر أن التسبيح والذكر في الآية ليس مراداً بهما ما يكون بالقلب أو في الخلوات، فهذا لا يتفاوت حاله عند التعدد والإنفراد، بل المراد ما يكون منهما في تضاعيف أداء الرسالة ودعوة المردة والعتاة إلى الحق، وذلك مما لا ريب في اختلاف حاله في حالتي التعدد والإنفراد فإن كلاًّ منهما يصدر عنه بتأييد الآخر من إظهار الحق ما لا يكاد يصدر عنه مثله في حال الإنفراد[38].
وفي الختام يقول موسى عليه السلام مخاطباً ربه: {إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيراً} أي: إنك أنت العالم بأحوالنا وبأن التعاضد مما يصلحنا[39].
ولما بسط موسى عليه السلام حاجته، وكشف عن ضعفه، طالباً العون والتيسير، متوسلاً بالإتصال والذكر الكثير، جاء الجواب من العلي الأعلى: {قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى}.
أقسام الناس في التعاون:
يقسم الماوردي – رحمه الله – الناس بإعتبار ما يقدمونه من معاونة وما يحققونه من معاني الأخوة والتعاون إلى أقسام أربعة:
الأول: من يعين ويستعين.
الثاني: من لا يعين ولا يستعين.
الثالث: من يستعين ولا يعين.
الرابع: من يعين ولا يستعين.(/9)
ثم قال: فأما المعين والمستعين فهو معاوض منصف، يؤدي ما عليه ويستوفي ما له، فهو كالمقرض يسعف عند الحاجة ويسترد عند الإستغناء، وهو مشكور في معونته ومعذور في استعانته، فهذا أعدل الإخوان.
وأما من لا يعين ولا يستعين فهو متروك، قد منع خيره وقمع شره، فهو لا صديق يرجى ولا عدو يخشى، وإذا كان الأمر كذلك فهو كالصورة الممثلة، يروقك حسنها ويخونك نفعها، فلا هو مذموم لقمع شره ولا هو مشكور لمنع خيره، وإن كان باللوم أجدر.
وأما من يستعين ولا يعين فهو لئيم كَلٌّ ومعان مستذل، قد قطع عنه الرغبة وبسط فيه الرهبة، فلا خيره يرجى ولا شره يؤمن، وحسبك مهانة من رجل مستثقل عند إقلاله، ويستقل عند استقلاله، فليس لمثله في الإخاء حظ، ولا في الوداد نصيب.
وأما من يعين ولا يستعين فهو كريم الطبع، مشكور الصنع، وقد حاز فضيلتي الابتداء والإكتفاء، فلا يرى ثقيلاً في نائبة، ولا يقعد عن نهضة في معونة، فهذا أشرف الإخوان نفساً، وأكرمهم طبعاً، فينبغي لمن أوجد له الزمان مثله – وقل أن يكون له مثل لأنه البر الكريم والدر اليتيم – أن يثني عليه خنصره ويعض عليه بناجذه، ويكون به أشد ضناً منه بنفائس أمواله، وسنى ذخائره؛ لأن نفع الإخوان عام، ونفع المال خاص، ومن كان أعم نفعاً فهو بالإدخار أحق، ثم لا ينبغي أن يزهد فيه لخلق أو خلقين ينكرهما منه إذا رُضيَ سائر أخلاقه، وحُمدَ أكثر شيمه؛ لأن اليسير معفو والكمال معوز[40].
تعليق:(/10)
هذا تقسيم من الماوردي رحمه الله أشبه بالحصر العقلي. وهو تقسيم جميل لتصوير النفوس وأحوال الناس والشخوص. ولكن واقع الناس، وما قضت به سنة الله في هذه الحياة، من بناء الدنيا واستقامة المعاش على المشاركة والمعاونة واتخاذ الناس بعضهم بعضاً سخرياً، كما سبق في مقدمة البحث يشوش على ما قرره الماوردي، فلا يتصور في الوقع من أحد – فيما نحن بصدده – أن يحقق مبتغاه إلا بتعاضد أطراف من الناس. هذا جانب. ومن جانب آخر، فإن البذل من طرف واحد – على نحو ما ذكر الماوردي – لا يسمى إلا إحساناً ومنة ونعمة، وهذا ليس من باب التعاون في شيء إلا من حيث الأثر والفائدة للمُحسَن إليه والمُنْعَم عليه.
كما أن من يستعين ولا يعين قد رضي لنفسه أن يكون عالة على غيره، وجعل حياته مبنية على السؤال والطلب والتطلع إلى ما في أيدي الناس.
وأما من لا يعين ولا يستعين فتصور وجوده في بني الإنسان بعيد، على نحو ما سبق في المقدمة من تقرير أن التعاون ضرورة إنسانية. فالإنسان لا يستغني عن أخيه الإنسان، كما قضى الله عز وجل في سننه.
ميادين التعاون:
الأصل في هذا قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالعُدْوَانِ}. وعليه فسوف يكون الحديث في هذه الفقرة عن مفهومي البر والتقوى، ثم استعراض تفصيلي لجملة من مجالات التعاون حسب ما تعنيه شريعة الإسلام من شمول وكمال.
وينبغي أن يفهم أن هذا التفصيل لا يخرجنا عن المقصود في الحديث عن الدعوة والدعاة، فكل هذه الميادين مفتوحة فسيحة أمام الدعاة؛ بل هم أحق بها وأهلها، كما سوف يتبين إن شاء الله.
البر والتقوى:
البر والتقوى كلمتان جامعتان تجمعان خصال الخير بالكلية، بل تفسر إحداهما الأخرى.
فالبر هو الكمال المطلوب من الشيء والمنافع التي فيه والخير الذي يتضمنه[41].(/11)
والتقوى في حقيقتها العمل بطاعة الله إيماناً واحتساباً، أمراً ونهياً. يقول طلق بن حبيب: إذا وقعت الفتنة فأطفئوها بالتقوى. قال: وما التقوى؟ قال: أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله.
ويعلق على ذلك ابن القيم رحمه الله فيقول: "وهذا من أجمع المعاني، فإن كل عمل لابد له من مبدأ وغاية، فلا يكون العمل طاعة وقربة حتى يكون مصدره عن الإيمان؛ فيكون الباعث عليه الإيمان المحض، لا العادة والهوى، ولا طلب المحمدة والجاه، ولا غير ذلك؛ بل لابد أن يكون مبدؤه محض الإيمان، وغايته ثواب الله وابتغاء مرضاته، وهو الاحتساب"[42].
ولعل داود لحظ هذا المعنى حين قال في وصيته: "اصحب أهل التقوى، فإنهم أيسر أهل الدنيا عليك مؤونة، وأكثرهم لك معونة"[43].
ويكفي لطالب العلم والدعوة برهاناً ودلالة وإيجازاً هذه الآية العظيمة التي جمعت بين البر والتقوى، وعرَّفت أحدهما بالآخر، ودلت على المفردات والأصول لهاتين الكلمتين العظيمتين، إنها قوله تعالى: {لَّيْسَ البِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ وَلَكِنَّ البِرَّ مَنْ ءَامَنَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآَخِرِ وَالمَلاَئِكَةِ وَالكِتَابِ وَالنَّبِيِّين وَءَاتَى المَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي القُرْبَى والْيَتَامَى وَالمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَءَاتَى الزَّكَاةَ وَالمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي البَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ البَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ}[44].(/12)
فالبر كما ترى شمل الدين كله، بعقائده وأحكامه، وأصوله وفروعه، وسلوكياته وعباداته، حقائق وشرائع، وقلوباً وجوارح. فمن حقق ذلك على وجهه فهو الصادق المتقي. ولكنه لا يتحقق على وجه إلا بالتعاون؛ ذلك أن التعاون عليهما – البر والتقوى – يكسب محبة تحصيلهما، ومن ثم يصير تحصيلهما رغبة للجميع. وفي التعاون تيسير العمل، وتحقيق المصالح وتوفيرها، وإظهار الاتحاد والتناصر، حتى يصبح ذلك خلقاً للأمة[45].
استعراض تفصيلي لميادين التعاون:
لقد أقام الإسلام التعاون بين المسلمين على أساس محكم ومدَّ له في كل ناحية من نواحي الحياة بسبب. فالتمثيل القرآني لأهل الإيمان أنهم كالبنيان المرصوص، وفي التمثيل النبوي كالجسد الواحد. فأمور الإسلام ومطلوباته لا تتحقق على وجهها إلا بالتعاون. ودين الله بنيان شامخ لا يقوم ولا يثبت إلا حين تتراص لبناته وتتضامن مبانيه لتسد كل لبنة ثغرتها.
وإذا كان الله سبحانه قد خلق الخلق لعبادته وطاعته فإن هذه العبادات والطاعات أنواع: قلبية عقلية كالإيمان، وبدنية كالصلاة، ومالية كالزكاة، ومركبة من البدن والمال كالحج والجهاد.
وكل هذه العبادات بأنواعها لا تقام ولا تشاد إلا بوسائلها: من صحة الفكر، وسلامة البدن، وسعة ذات اليد. ولهذه الوسائل وسائل: من التفقه في الدين، والإحسان في الأعمال؛ من زراعة وصناعة وحرف، وإتقان في العلوم والمعارف؛ من الطب والحساب والهندسة والمعامل والمختبرات. ومن المقطوع به – كما سبق – أن الإنسان بمفرده بل حتى الرهط من الناس والجماعة المحدودة من القوم لا تستطيع بهذه الوسائل الإنفراد بتحقيق هذه المقاصد. ومنه يتبين حاجة الناس إلى الإجتماع والتآزر، فذلك ما تقتضيه الفطرة، ويتطلبه الدين، وتنتظم به الشؤون، وتستقيم به العلوم.
وهذا بعض البسط لصور من التعاون في أحكام الإسلام وآدابه، وإذا استجلاها رجل الدعوة عرف ضرورة التعاون وحاجته إليه في ميدانه ومجاله.(/13)
فالصوات الخمس جماعة وجمعة، وصلاة العيدين وآدابهما، والحج بشعائره، وعقد النكاح بوليمته وآدابه، وعقيقة المولود، وإجابة الدعوة حتى للصائم، كلها مناشط عبادية اجتماعية تعاونية، ولا تكون صورتها الشرعية إلا كذلك.
وينضم إلى اجتماع الأعياد اجتماع الشدائد والكرب في صلوات الاستسقاء والكسوف والجنازة.
إنه انتظام عجيب بين أهل الإسلام في مواطن السرور والحزن، ناهيك بصورة الأخوة، ومبدأ الشورى، وحقوق المسلمين فيما بينهم؛ في القربى والجوار والضيف وابن السبيل واليتامى والمساكين، مع ما يحيط بذلك من سياج الآداب الإجتماعية؛ من إفشاء السلام، وفسح المجالس، ودمح الزلة، مما بسطه قانون الأخلاق في الإسلام، مما سيأتي إشارة منه في الصفات الشخصية المؤثرة في التعاون.
أما أنواع المعاملات والتعاملات فذلك جلي في عقود المضاربة والعارية والهبة والمهاداة وفرض الدية على العاقلة.
وثمة صور من المعاونات في كف الظلم، ونصرة المظلوم، ودفع الصائل بسلاح أو مال. بل هل يقوم الجهاد، وتقام الحدود، وتستوفى الحقوق، ويقوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا بالتعاون والتآزر[46].
وهناك التعاون بالرأي، بما يدل على الحق، ويخرج من الحيرة، وينقذ من المأزق والهلكة، في النصيحة والمشاورة، وقد يكون تعاوناً بالجاه؛ من الشفاعة لذي الحاجة عند من يملك قضاءها[47].
ومن هنا قال القرطبي رحمه الله: "فواجب على الناس التعاون، فالعالم يعين بعلمه، والغني بماله، والشجاع بشجاعته في سبيل الله، وأن يكون المسلمون متظاهرين كاليد الواحدة، فالمؤمنون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم"[48].
فإذا وضع المسلمون أيديهم على هذه الأسباب الوثيقة، يتقدمهم أولو الأمر والعلماء والدعاة بلغوا المكانة المحفوفة بالعزة المشار إليها بقوله سبحانه: {وَلِلَّهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}[49].
الصفات الشخصية وأثرها في تحقيق التعاون:(/14)
لا يتصور الحديث عن التعاون في ميدان الدعوة بدون التركيز في الحديث عن علاقة رجل الدعوة بغيره من الناس وطبيعة هذه العلاقة.
يجب أن يعي رجل الدعوة، وهو وارث النبوة، والآمر بالمعروف، والناهي عن المنكر، والموجه والمربي، يجب أن يعي أن تكون علاقته بالناس – كل الناس – وثيقة عميقة دقيقة. علاقة يحكمها الحب لهم، والحرص على إرشادهم وتوجيههم، وبذل النصح معهم، ورسم سبل الهداية لهم، والغيرة عليهم.
وإذا كان الأمر كذلك فإن من تمام الوعي للمسؤولية وحب التعاون والمعاونة أن يدرك أن الناس فئات وطبقات؛ فيتعامل مع كل فئة حسب طبيعتها ووظيفتها، والناس ينقسمون إلى عامة وغير عامة. فالعامة هم من ليسوا في موقع السلطة والمسؤولية، من الأهل والأقارب والجيران وأهل الحي والقرية والبلدة وألوان المعارف والارتباطات والصداقات. وغير العامة كل ذي مسؤولية مخاطب حسب مسؤوليته – صغيرة كانت أو كبيرة – من ولاة الأمر والمربين والعلماء والمعلمين وأصحاب الوظائف العامة والخاصة والمواقع الاجتماعية المؤثرة.
وإذا كان الأمر كذلك فعلى رجل الدعوة قبل أن ينتظر معاونة الناس واستجابتهم أن ينظر في نفسه وأخلاقه ومؤهلاته.
وهذا استعراض لأهم الصفات التي يؤثر تحقيقها واستجلاؤها في التعاون تحقيقاً واستمراراً.
عقد الأخوَّة الإيمانية:
إن من أهم صفات رجل الدعوة استشعار عقد الأخوَّة في الله، الأخوَّة الحقة، أخوة من أجل نصرة دين الله، إنه العقد الذي يشعر فيه المسلم بعامة ورجل الدعوة بخاصة أنه ليس وحيداً ولا فرداً.(/15)
وعليه فإن من أولى واجبات الداعية تجنب ما يعكر هذا الصفو، من هنات وهزات تورث نفرة القلوب ووحشة النفوس، يتجنب في هذا الباب كثرة العتاب والمراء والجدل، وبخاصة إذا شابه رائحة استعلاء وحب تميز وظهور. والتعريض في العتاب مقدم على التصريح مع حفظ الغيبة والثبات على الوفاء وترك الكلف بعيداً عن الأنانية وضيق الأفق والتعلق بصغائر الأمور والإنشغال بها.
وللسلف رحمهم الله في هذا أقوال محفوظة وعبارات مسبوكة تنتصب دلائل ومنائر على ما نحن بصدده.
يقول الحسن رحمه الله: "المؤمن مرآة أخيه إن رأى فيه ما لا يعجبه سدده وقومه وحاطه وحفظه في السر والعلانية، فثقوا بالأصحاب والإخوان والمجالس"[50].
يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ((ثلاث يصفين لك ود أخيك: أن تسلم عليه إذا لقيته، وتوسع له في المجلس، وتدعوه بأحب الأسماء إليه. وكفى بالمرء عيباً أن يجد على الناس فيما يأتي أو يبدو لهم منه ما يخفى عليه من نفسه وأن يؤذيه في المجلس بما لا يعنيه))[51].
ومن أقوال بعض الحكماء: ((من جاد لك بمودته فقد جعلك عديل نفسه، فأول حقوقه اعتقاد مودته، ثم إيناسه والانبساط إليه في غير محرَّم، ثم نصحه في السر والعلانية، ثم تخفيف الأثقال عنه، ثم معاونته فيما ينوبه من حادثة أو يناله من نكبة، فإن مراقبته في الظاهر نفاق، وتركه في الشدة لؤم))[52].
ويقول عطاء بن أبي رباح رحمه الله: "تفقدوا إخوانكم بعد ثلاث، فإن كانوا مرضى فعودوهم، أو مشاغيل فأعينوهم، أو نسوا فذكروهم"[53].
ويقول أبو جعفر بن صهبان رحمه الله: "كان يقال: أول المودة طلاقة الوجه، والثانية: المودة، والثالثة: قضاء حوائج الناس"[54].
وهي كما ترى إشارات عابرة لما ينبغي أن يكون عليه رجل الدعوة من مبادرات ومحاسبة للنفس قبل محاسبة الآخرين أو انتظار عونهم.
بل مهما تأملت وتعمقت فلن تجد في عقد الأخوة وصدق المودة كما صار بين موسى وأخيه في ميدان الدعوة والنبوة.(/16)
أورد ابن أبي حاتم بسنده عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها وعن أبيها: أنها خرجت فيما كانت تعتمر فنزلت ببعض الأعراب فسمعت رجلاً يقول: أي أخ كان في الدنيا أنفع لأخيه؟ قالوا: لا ندري. قال: أنا والله أدري. قالت عائشة رضي الله عنها: فقلت في نفسي في حلفه لا يستثني: إنه يعلم أي أخ كان في الدنيا أنفع لأخيه. قال الأعرابي: موسى حين سأل لأخيه النبوة. فقلت صدق والله.
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: "ومن هذا قال الله تعالى في الثناء على موسى عليه السلام: {وَكَانَ عِندَ اللهِ وَجِيهاً}"[55].
وقال بعض السلف: ليس لأحد أعظم منة على أخيه من موسى عليه السلام على أخيه هارون عليهما السلام فإنه شفع فيه حتى جعله الله نبياً ورسولاً إلى فرعون وملئه، ولهذا قال ربه في حقه: {وَكَانَ عِندَ اللهِ وَجِيهاً}، وقال في مقام آخر: {وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا}[56].
الإخلاص:
الحديث عن الإخلاص كثير وواسع، وكتب العلماء رحمهم الله المتقدمين منهم والمتأخرين قد ملئت وشحنت بذكر فضله وعظم أثره والحث عليه ومراقبة النفس فيه.
وخلاصة القول فيه أن الحديث عنه كثير، والدعوة إليه بين الناس عامتهم وعلمائهم ودعاتهم كثيرة ومستمرة، ولكن العمل والتطبيق عزيز وعزيز جداً.
والذي ينصبُّ فيه الحديث هنا أثر الإخلاص في تحقيق التعاون، وعليه فليعلم رجل الدعوة أنه إن كان يضيق ذرعاً بمساعدة إخوانه ومبادراتهم ومناصحتهم وتوجيههم وفتح الميادين الواسعة أمامهم إن كان يضيق بذلك فليتَّهم نفسه وليراجع إخلاصه.
إن عليه – إن كان مخلصاً – أن يبادر بفسح المجال للكفء الأمين بالإسهام في ميادين الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.(/17)
ويكفي نبراساً وقدوة تضرع موسى عليه السلام إلى ربه في أخيه هارون عليه السلام: {وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي}[57]، مع أن مقام النبوة عظيم قد لا يخطر في البال أن ذلك مما تمكن المشاركة فيه، ولكن موسى أحب لأخيه ما أحب لنفسه.
ولعل فيما مضى من إشارة في الكلام على عقد الأخوة يكمل بيان مراد ما نحن بصدده ويزيد إيضاحه.
إن رجل الدعوة المخلص سوف يكون مسروراً ممتناً إذا ما ظفر بمسلم ذي مقدرة وكفاءة وأمانة يسهم معه في ميدانه ويعينه في شأنه.
أيها الدعاة: إن هناك علاقة بينة بل تنازع جلي بين بذل التعاون والرغبات الشخصية. فالصدق في التعاون وبذله يستلزم تنازلاً عن الرغبات الشخصية والأهواء الذاتية.
ومن قام بالتعاون على وجهه، ووفى أعباءه ومتطلباته، إنما يغلب هواه، ويتجرد في إخلاصه؛ بل إنما يقدم المصالح العليا، والحاجات الكبرى، على المصالح الخاصة.
ومنه يدرك الناظر أثر التعاون الحقيقي في بناء الوحدة وكبح شر التشرذم، ومن هنا تتجلى التراجحات بين التعاون والمنافع الذاتية. إنها قضية أساسية يجب أن تحتل مكاناً أرفع لدى الدعاة والمفكرين في ميادين الدعوة.
كيف يتم التعاون وفي المنتسبين إلى الدعوة أنماط إذا خولفوا في الرأي انقلب الحال عندهم؛ فصاروا كالوحوش الكواسر. أي إخلاص عند هؤلاء وقد تطور الحال عندهم إلى حقد وانتقام وثأر، ومن ثم يعمدون إلى التشهير بالمخالف، ثم يرقى الحال إلى نبذ التعاون، والوقوف مع العدو انتقاماً وتشفياً.
ومنه يتبين أن الإخلاص الصادق كفيل بإذهاب التحاسد والتنافس غير الشريف.
وإذا ما اجتمع المخلصون حصل لهم بفضل إخلاص وصدق استقامتهم الإستبصار بأمرهم، فهم أصحاب وجهة واحدة، غير ذات أغراض متباينة، متوجهون جميعاً نحو تحقيق هدفهم الموحد، بخلاف أهل الأغراض والأهواء، فمطالبهم متباينة، والتخاذل بينهم متحقق، فهم متنافسون متنابذون، وشركاء متشاكسون.
البعد عن التعصب والحزبية:(/18)
ليس أضر على الدعوة بعامة والتعاون بين الدعاة بخاصة من الحزبية المنغلقة والمذهبية الضيقة، بل لايكدر صفو الأخوة الإيمانية، ولا يضعف الرابطة الإسلامية أعظم من التحزب المقيت والتعنصر البغيض.
كيف يرجى التعاون؟ بل كيف تبنى الروابط؟ والوجه الطليق والإبتسامة الرقيقة والتحية الحارة حكر على الحزب والجماعة والطائفة، أما غيرهم فنصيبه العبوس والوجه الكاشح أو اللقاء البارد والإبتسامة الباهتة.
كيف تمد جسور التعاون وأخطاء الأصحاب يهون من شأنها، ويغض الطرف عنها، وتدخل في دائرة الاجتهاد المأجور. أما غيرهم فيبسط اللسان في التشهير به، ويرفع الصوت في تكبير أخطائه. أخطاء الجماعة وأغلاطها يستجلب لها المسوغات، ويستغفر لأصحابها، فهي عندهم لا تخدش في أصل المنهج، ولا تعيق المسيرة. أما غيرهم فأخطاؤهم غير مسوغة ولا مبررة؟!
بل كيف يرجى التقارب – فضلاً عن التعاون – إذا كان المنتمي عندهم محصوراً ومحاصراً، فلا يقرأ إلا كتب الجماعة، ولا يتتلمذ أو يتلقى إلا عن شيوخ الحزب والمذهب؟!
إذن كيف يبنى التعاون من هذا التلميذ، ضيق الأفق، مذبذب الشخصية، لا ينظر إلا من زاوية واحدة، ولا يدور إلا في فكر منغلق.
ما الذي يدفع إلى مثل هذا؟ هل هو حب التعاون؟ أم حب التجمع واستكثار الأتباع.
إن الطريق الأصوب والهدي الأقوم بإذن الله أن يفتح الباب واسعاً أمام الدعاة، وبخاصة المبتدئون منهم؛ ليجلسوا إلى العلماء، ويستفيدوا من كل ذي خبرة؛ فيتربون على الأدب وحسن السمت، يتلقون من علماء ربانيين، فقهاء عاملين، لا يقصدون إلى استكثار الأتباع، ولا منافسة ذوي الرئاسات، أو مزاحمة أصحاب الزعامات، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
فقه الاختلاط:(/19)
من أهم أسباب تحقيق التعاون إحسان الإختلاط بالناس؛ لكسب مودتهم، وتوثيق الروابط بهم، بل إنهم مادته وميدانه. اختلاط يخبر به أحوال الناس، ويميز طبقاتهم، من أجل حسن التعامل معهم، ومعالجة أخطائهم، وتقدير ظروفهم، من غير تجريح أو تقريع. اختلاط ينبئ عن اهتمام بهم، ومراعاة لمشاعرهم وأحاسيسهم، أدب في الخطاب والنداء، ودعوة بأحب الأسماء، مصحوباً بتبسم وتخير للكلمات الطيبات، طلب الدعاء بظهر الغيب، حسن المنظر والهيئة، المبادرة بتقديم المعونة، الإيجابية في المشاركات، والوفاء بالإلتزامات، حفظ الأسرار، والتواضع والحلم والأناة، والبعد عن التكلف، وتجنب التصرفات المزرية.
صفات المعين:
لا تختلف الصفات المطلوبة في المعين عن الصفات المطلوبة في المحتاج إلى الإعانة، من حيث الإيمان والصلاح والتقوى والإخلاص وحسن الأدب والخلق، غير أن ثمة بعض الصفات تتطلبها طبيعة الإعانة والمبادرة بها في مسالك الدعوة ومنعرجاتها. من أبرز ذلك:
1 – التصديق والموافقة:
لقد قال موسى عليه السلام في مناشدته ربه مبيناً نوع الحاجة إلى أخيه: {رِدْءاً يُصَدِّقُنِي}[58].
أما الردء فهو المعين والوزير والظهير، وهو مقصود البحث كله.
أما قوله: {رِدْءاً يُصَدِّقُنِي}، فليس المقصود منه أن يقول هارون عليه السلام: هو صادق بمجرد لسانه، لأن ذلك يستوي فيه الفصيح وذو الفهاهة[59]، وإنما يكون مصدقاً بما عرف عن هذا الردء والمعين من العقل والرزانة وقوة الحجة والبيان، فيحصل ببيانه وقوة موقفه الخضوع والإنقياد والتسليم ورد الخصوم المجادلين. فالمصدق يبسط بلسانه ويفصح ببيانه ويجادل أهل الباطل، ولهذا قال موسى عليه السلام في ذات السياق في مسوغات الترشيح: {هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً}[60][61].(/20)
ويزيد المقصود وضوحاً استحضار موقف الصديق أبي بكر رضي الله عنه في حادثة الإسراء، حين أصبح النبي صلى الله عليه وسلم تلك الليلة يخبر قريشاً بالحادثة، فكذبه أكثر الناس وارتدت طائفة بعد إسلامها، ولما جاء أبو بكر رضي الله عنه وبادرته قريش بعجبها واستنكارها بادرها بالمواجهة الصارمة العاقلة الصادقة: إني لأصدقه في خبر السماء بكرة وعشية أفلا أصدقه في بيت المقدس[62].
يقابل موقف الصديق هذا الموقف المعاكس، حين يبتلى رجل الدعوة برفيق مكذب مخذل يسعى في تحويل المحاسن إلى مساوئ، وصورة ذلك جلية في خبر أبي سفيان قبل أن يسلم، حين لقى قيصر، قال أبو سفيان: فجهدت أن أحقر أمر النبي صلى الله عليه وسلم وأصغره. والله ما منعني من أن أقول عليه قولاً أسقطه من عينه إلا أني أكره أن أكذب عنده يأخذها علي ولا يصدقني في شيء، قال حتى ذكرت قوله ليلة أسري به، قال: فقلت أيها الملك: ألا أخبرك خبراً تعرف أنه قد كذب؟! قال: وما هو؟ قال: فقلت: إنه يزعم لنا أنه خرج من أرضنا أرض الحرم في ليلة فجاء مسجدكم هذا مسجد إيلياء، ورجع إلينا تلك الليلة قبل الصباح... إلخ القصة[63].
القرابة:
استنبط بعض أهل العلم من تصريح موسى في اختيار أخيه هارون عليهما السلام أن القريب مظنة النصح، بل خص من الأهل الأخ؛ لأنه أقوى في المناصحة، والمستشار حين يجمع العقل والعلم والفصاحة وكمال الآلة ثم يكون أخاً مخلصاً محل ثقة المستنصح فحينئذ تبلغ الوظيفة ذروتها وتصل الثقة نهايتها.
ونظرة إلى أخرى لحظها بعض أهل العلم في القرابة قالوا: لأن هذا اختصاص وحظوة، والقريب أحق بالبر وأولى بالإدناء.
ثمار التعاون:(/21)
ليس الغرض هنا بسط الحديث عن آثار التعاون وثماره، فذاك أمر جلي بيِّن، بل إنه – كما سبق – ضرورة من ضرورات الإنسان، فلا تقوم حياة الإنسان على وجهها إلا بالتعاون؛ لأن الإنسان بمفرده لا يستطيع القيام بشأنه كله وتحقيق مآربه جميعها ولكننا نشير في هذه الفقرة إلى ثمار خاصة تتعلق بالدعوة وأهلها ومن أهم ذلك:
التناوب في العمل وتقاسم الحمل:
في التعاون الصحيح يكون التفرغ الأكثر لأداء رسالة الدعوة ونشرها، وتوزيع أعباء الحياة ومشاغلها. فالمتعاونان يمكن أن يوزعا الوقت بينهما ليقوم كل واحد بالضروري في حياته، ومن ثم تتوفر الأوقات لعمل الدعوة والإصلاح.
ومن خبر التعاون هذا قصة عمر رضي الله عنه والتي أوردها البخاري رحمه الله في صحيحه وغيره، حيث قال عمر رضي الله عنه: ((كنت أنا وجار لي من الأنصار من بني أمية بن زيد – وهي من عوالي المدينة – وكنا نتناوب النزول على رسول الله صلى الله عليه وسلم ينزل يوماً وأنزل يوماً، فإذا نزلت جئته بخبر ذلك اليوم من الوحي وغيره وإذا نزل فعل مثل ذلك...)) إلخ القصة في خبر هجر النبي صلى الله عليه وسلم نساءه..
وقد بوب لذلك البخاري رحمه الله بقوله: ((باب التناوب في العلم)).
قال الحافظ في الفتح: "إن الطالب لا يغفل عن النظر في أمر معاشه، ليستعين على طلب العلم وغيره، مع أخذه بالحزم في السؤال عما يفوته يوم غيبته، لما علم من حال عمر أنه كان يتعانى التجارة إذ ذاك"[64].
الحماية:(/22)
قد يتعرض الداعية لعوائق بل لأنواع من الأذى؛ فيتخذ من إخوانه وأعوانه ما يعينه على تخفيف الأذى ويرفع العدوان. ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على القبائل يدعوهم إلى أن يمعنوه ويحموه؛ ليبلغ دعوة الله، ويبين للناس ما نزل إليهم. وكان مما يقول: ((يا بني فلان، إني رسول الله إليكم، يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، وأن تخلعوا ما تعبدون من دونه من هذه الأنداد، وأن تؤمنوا بي وتصدقوا وتمنعوا، حتى أبين عن الله ما بعثني))[65].
وفي بيعة العقبة الكبرى قال عليه الصلاة والسلام: ((أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون عنه نساءكم وأبناءكم))[66].
خاتمة:
وبعد.. فلعل في هذا البحث الموجز ما أوضح العناصر، وبين الأركان، على أن ثمة عنصراً متمماً يحسن العناية به وبسطه وإيضاحه في مقام غير هذا المقام، ذلكم هو ما ينبغي من عموم الناس والعامة، من تأييد كل قائم لله بدينه، محتسب له في الدعوة والنصح والتوجيه والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعدم خذلانه وإسلامه في هذه المواقف، بل المضايق في بعض الأحيان. فهذا باب من أبواب التعاون، ولون من ألوانه، يجب العناية به وبسط القول فيه؛ لأهميته وعظم المسؤولية فيه. فإذا كان من حق المسلم على أخيه ألا يخذله ولا يسلمه، فكيف بمن ظهر فضله وأمتاز عمله، ممن يحب الخير للناس ويود صلاحهم، فهذا أحق وأولى بالعناية والرعاية والتأييد والإعانة. والله ولي التوفيق.
ـــــــــــــــــــــ
[1] سورة الماعون، الآية 7.
[2] سورة طه، الآيات 29 – 32.
[3] سورة القصص، الآية 34.
[4] وسوف يكون للبحث وقفات عند هاتين الآيتين الكريمتين ودقة فقههما في موضوع البحث إن شاء الله.
[5] سورة طه، الآية 31.
[6] سورة القيامة، الآية 11.
[7] لسان العرب ج(5) ص(282، 283)، ج(12) ص(298)، تفسير الماوردي ج(3) ص(13، 14).
[8] لسان العرب ج(1) ص(84، 85).
[9] سورة هود، الآية 61.(/23)
[10] سورة الزخرف، الآية 32.
[11] سورة الأنعام، الآية 165.
[12] راجع في هذا المعنى: (مقدمة ابن خلدون) ص(41 – 43).
[13] يراجع للمزيد مفتاح دار السعادة ج(1) ص(242 – 249)، تفسير القاسمي 10/129.
[14] سورة المائدة، الآية 2.
[15] سورة طه، الآيات 25 – 35.
[16] سورة القصص، الآيتان 34، 35.
[17] تفسير المنار ج(6) ص(131).
[18] أخرجه أحمد (المسند) 6/70، والنسائي 3/381، وأبو داود 2932، وهو صحيح الإسناد. انظر: صحيح النسائي للألباني 8/159.
[19] متفق عليه البخاري مع الفتح 10/6026، مسلم 2585.
[20] متفق عليه البخاري مع الفتح 10/6011، مسلم 2586.
[21] أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه 2699.
[22] أخرجه الطبراني في الكبير وصححه الألباني حيث أورده من أسانيد بعضها ضعيف وبعضها حسن. انظر الصحيحة 2/608، 609.
[23] المنذري في الترغيب والترهيب 3/391.
[24] سورة المائدة، الآية 2.
[25] صحيح مسلم 4/1998.
[26] جزء من حديث متفق عليه البخاري مع الفتح 13/7147، مسلم 1652.
[27] الدر المنثور ج(3) ص(12)، والترغيب والترهيب ج(3) ص(199) وقال حديث غريب، والفتح الكبير ج(3) ص(241).
[28] الدر المنثور ج(3) ص(12)، والترغيب والترهيب ج(3) ص(199) وعزاه أيضاً إلى الأصبهاني، والفتح الكبير ج(3) ص(164).
[29] سنن أبي داود ج(4) ص(331) أخرجه بمعناه وسكت عنه. ولفظه: ما العصبية؟ قال: أن تعين قومك على الظلم. وانظر سنن ابن ماجه ج(2) ص(1303)، وسنن البيهقي ج(10) ص(234).
[30] سورة طه، الآيات 25 – 35.
[31] تفسير أبي السعود ج(3) ص(624)، روح المعاني ج(16) ص(181، 182).
[32] تفسير ابن سعدي ج(5) ص(153).
[33] تنوير الأذهان ج(2) ص(428).
[34] تفسير أبي السعود ج(3) ص(624).
[35] سورة طه، الآية 14.
[36] سورة طه، الآية 42.
[37] التحرير والتنوير ج(16) ص(213، 314).
[38] تفسير أبي السعود ج(3) ص(626).
[39] تفسير الزمخشري ج(2) ص(536).(/24)
[40] أدب الدنيا والدين ص(211 – 213).
[41] بدائع التفسير ج(2) ص(93، 94) بتصرف.
[42] بدائع التفسير ج(2) ص(96).
[43] انظر الإخوان لابن أبي الدنيا (124).
[44] سورة البقرة، الآية 177.
[45] التحرير والتنوير ج(6) ص(87، 88).
[46] تفسير القاسمي ج(6) ص(25).
[47] رسائل الإصلاح ج(1) ص(155، 156، 171) بتصرف.
[48] تفسير القرطبي ج(6) ص(47).
[49] سورة المنافقون، الآية 8.
[50] الإخوان لابن أبي الدنيا ص(131).
[51] الجامع لأبي زيد القيرواني ص(199).
[52] أدب الدنيا والدين، ص(216).
[53] إحياء علوم الدين، 2/176.
[54] الإخوان لابن أبي الدنيا، 194.
[55] سورة الأحزاب، الآية 69.
[56] سورة مريم، الآية 53.
[57] سورة طه، الآية 32.
[58] سورة القصص، الآية 34.
[59] ذو الفهاهة: العيي في الكلام، ثقيل اللسان فيه. المعجم الوسيط ج(2) ص(704).
[60] سورة القصص، الآية 34.
[61] محاسن التأويل ج(8) ص(105).
[62] القصة في الصحيحين وراجع ابن كثير ج(3) ص(24).
[63] المرجع السابق.
[64] البخاري مع الفتح ج(1) ص(223، 224).. والجار هو عتبان بن مالك الأنصاري الخزرجي رضي الله عنه.
[65] ابن هشام ج(2) ص(31، 32)، البداية والنهاية لابن كثير ج(3) ص(138 – 141).
[66] المرجع السابق.(/25)
العنوان: التعبئة الاجتماعية في القرآن الكريم
رقم المقالة: 381
صاحب المقالة: عمر الدسوقي
-----------------------------------------
تهدف الانسانية منذ فجر التاريخ إلى إيجاد مجتمع سعيد. ليعيش فيه الناس إخواناً متحابين، يعاون بعضهم بعضاً في السراء والضراء، ما دام الانسان لا يستطيع أن يعيش وحده، ولابد له من مجتمع يحتضنه ويتعاون وإياه على تذليل سبل الحياة، وما دام الإنسان قد ولد وفي فطرته مجموعة من الغرائز الجامحة، والتي لو أطلق لها العنان مثلما كانت أيام أن كان يعيش في عصور ما قبل التاريخ حين كان جل همه أن يعيش وأن يحافظ على حياته، وحين كان يترقب في كل ثنية خطراً وفي كل حركة شراً، وكان يأوى إلى الكهوف والغابات ويعتمد على حواسه وغرائزه في الدفاع عن نفسه وتحصيل قوته.
وجاء الأنبياء تباعاً يهدون الجماعات الانسانية إلى الخير، وكيف ينظمون الحياة التي يحيونها، وقامت الحكومات وشرعت القوانين لتهذيب الغرائز الانسانية، والحد من شهواتها، وتنظيم المعاملات بين الأفراد بعضهم وبعض ولا تزال الانسانية على الرغم من مظاهر الحضارة الخلابة، وتذليل الانسان لقوى الطبيعة وتسخيرها لنفعه وخدمته وعلى الرغم من سمو عقله وغزارة ثقافته تتخبط في التشريع الصالح الذي لو أخذ به الناس لعاشوا في سعادة ورضى.
ونحن المسلمين قد نزل علينا كتاب كريم من رب العالمين الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وترك في أيدينا ثروة روحية جليلة تكرم في الإنسان معنى الإنسانية، وترفع في عينه قيم الفضائل الجميلة وتوثق بين الناس رابطة من الأخوة الصادقة، وتقيم ميزان العدالة الاجتماعية بين الطبقات على أساس من الرضا والتعاون وتضع لأصول المشكلات حلولاً ترتكز على الحق لا على الهوى.(/1)
ولو أننا رجعنا إلى هدى القرآن وشرعه الحكيم، وصرنا مسلمين حقاً إيماناً وعملاً نعتقد اعتقاداً جازماً أن هذا التشريع القرآني لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأنه غير ما شرع البشر وما يشرعون تتحكم فيهم أهواؤهم، وتضل عقولهم – وهي لا شك عرضة لأن تضل ما داموا بشراً – وأنهم يخطئون ويصيبون وإلا لما كثرت التشريعات وعدلت القوانين ولا تزال ولن تزال تعدل ما دام البشر هم القوامين عليها. إذا آمنا هذا الإيمان، وطبقناه تطبيقاً صحيحاً كاملاً كما فعل المسلمون الأول أيام محمد عليه السلام وصحبه الراشدين لوصلنا إلى المجتمع السعيد الذي تنشده الانسانية.
ولا يروعنكم هذا القول، وأن المدينة الحديثة وتعقيدات الحياة تتطلب شيئاً آخر، فالقرآن الكريم قد وضع المبادئ العامة، والأسس الكاملة، وما علينا إلا أن ننظر في حكمة تشريعه وروح حكمته، ونقيس ما لا نعلم على ما نعلم.
والمجتمع يتكون من أفراد، ثم من أسر، ثم من طبقات مضطرة بحكم الحياة أن يعيش بعضها مع بعض، ولم يترك القرآن واحدة من هذه السلسلة لم يضع لها القواعد والأصول التي تكفل سعادة المجتمع ورفاهته.
وقد تناول القرآن الكريم الفرد من ناحيتين، ناحية شخصه هو، وهي الصفات الفردية التي يجب أن يتحلى بها ليعود نفعها عليه وحده كأن يعتصم الانسان بالصبر عند المحن والشدائد في قوله تعالى: {واستعينوا بالصبر والصلاة وانها لكبيرة إلا على الخاشعين} وقوله تعالى: {ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين} وكالاعتدال في الانفاق فلا بخل ولا إسراف كقوله تعالى: {ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوماً محسورا} وكقوله: {والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما}.(/2)
على أن معظم الصفات الفردية التي أمر بها القرآن إن كانت جميلة ونهى عنها إن كانت ذميمة تعود في مجملها على المجتمع، لأن الشخص الذي يتحلى بمكارم الأخلاق يألفه الناس ويتأسون به، ويحبونه ويعاونونه، وهو من جهته لكمال خلقه الفردي يسعى إلى خيرهم، لأن سجيته مفطورة على الخير.
ولكن الذي يهمنا في بحثنا هذا هو علاقة الفرد بالمجتمع، علاقته أولاً بأسرته، زوجه وأبويه وأولاده وخدمه، ولا شك أن الأسرة القوية المتحابة التي تسود بينها الرحمة والعناية تفضي إلى مجتمع سليم، فالأسرة نواة المجتمع استمع إلى قوله تعالى ينظم العلاقة بين الزوجين {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة، إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون} حيث جعل الله من آياته هذا الإئتلاف بين الرجل والمرأة لبقاء النوع الإنساني وتكوين الأسرة، وجعل الزوجة من الجنس البشري كالرجل ولكنه لم يقل من جنسكم وقال من أنفسكم كأن الزوجة جزء من نفسه يعزها اعزاز نفسه ويحرص عليها حرصه على نفسه ثم قال: لتسكنوا إليها وفي السكن المأوى والطمأنينة والراحة والأمن، وجعل أساس العلاقة بينهما المودة والرحمة بخلاف سائر الحيوان حيث العلاقة بين الذكر والأنثى هي العلاقة الجنسية وفي هذا ارتفاع بالانسان عن نطاق الغريزة وسمو العلاقة الزوجية وبدون المودة والرحمة لا ينتظم حال الاسرة وبالمودة والرحمة بين الزوجين يتم التآلف والمحبة ويبقى النوع الانساني.(/3)
وإذا حدث نفور لأمر ما بين الزوجين {فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} فلا شحناء ولا بغضاء ولا إيذاء. ولست أريد هنا أن أخوض في التشريعات العديدة التي تتعلق بالزوجين وحقوق كل منهما وما يترتب على ذلك من نفقة وطلاق غيره، لأن ذلك يخرج عن نطاق بحثنا، حيث نقرر المبادئ العامة التي تكفل سعادة المجتمع، وإن كان لا يفوتني أن أنوه بأن التشريع الإسلامي الخاص بالزواج له حكمة بالغة تهيئ للاسرة السعادة وأن هؤلاء الذين ينادون بتغييره جرياً وراء التقاليد الغربية لم يفهموه حق فهمه ولم يدركوا ما وراءه من مزايا، وما في المجتمع الغربي على اختلاف اقطاره من تحلل وفساد.
ولنستمع إلى قوله تعالى في العلاقة بين المرء وأبويه حيث قال: {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا، إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريما، واخفض لهما جناح الذل من الرحمة، وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا ربكم أعلم بما في نفوسكم ان تكونوا صالحين فإنه كان للأوابين غفورا}.
فقضى الله وأمر أمراً نافذاً متطوعاً به بأن نعبده وحده دون سواه، وجعل من هذا القضاء المقرون بعبادته الإحسان للوالدين، الإحسان بالقول والإحسان بالعمل. وبذلك يسود الأسرة جو الصفاء والمحبة. ومفروض جبلة وفطرة أن الوالدين يحبان ولدهما ويرعيانه ويتحملان في سبيله كل عذاب وألم رضية بذلك نفساهما وعن هذه المحبة الفطرية قال البدوي قديماً:
وإنما أولادنا بيننا أكبادنا تمشي على الأرض(/4)
ولذلك لم يكن الوالدان في حاجة إلى النصح بحسن معاملة الأبناء والبر بهم، أما الولد فسرعان ما يشب ويكوّن أسرة وقد ينسى في ظل أسرته الجديدة ما عليه من تبعات حيال هؤلاء الذين كانوا السبب في وجوده في هذه الحياة والذين تعبوا من أجله حتى صار قوياً مستقلاً بنفسه، ولذلك كان في حاجة إلى النصح بل الأمر من الله العلي الكريم بالبر بهما والإحسان إليهما، وقد يكونان في كنفه ورعايته وقد بلغ بهما الكبر حداً أعجزهما عن الكسب وقد يتضايق الابن منهما بعد أن صارا عاجزين وهما اللذان انفقا شبابهما وقوتهما في توفير الهناءة له فنهى الله أن يصدر عنه يشعرهما بأنه متضايق منهما برم بحياتهما حتى كلمة (أف) علامة التضجر لا يجوز له أن يتفوه بها، فما بالك بسواها، وكذلك لا ينهرهما ويزجرهما ويرفع صوته أمامهما ولو أتيا ما يوجب ذلك احتراماً لشيخوختهما ورحمة بهما، بل يقول لهما قولاً كريماً فيه سماحة نفس وتقدير لمعروفها وأياديهما عليه، وفيه مودة وبشاشة تسري عنهما وتدخل البشر على قلبيهما العجوزين ولم يكتف الله سبحانه بهذا بل أوجب على المرء أن يتخذ خطوة إيجابية نحوهما، وعبر بذلك التعبير البياني السامي، وهو أن يخفض لهما جناح الذل، أي يتذلل لهما ويتواضع، فلا يعتد بشبابه وبماله ولا يمن عليهما بالانفاق فكل ما يقدمه لهما ليس شيئاً بجانب نعمة الحياة عليه، وبجانب ما قاما به في تنشئته عن محبة ورضى. ثم أمره بأن يدعو لهما بالرحمة في الحياة الدنيا والآخرة، رحمة مثل رحمتهما به وتربيتهما له وإرشادهما له في صغره رحمة تجعل شيخوختهما تمضي في يسر حتى يقضي الله فيهما أمره. ثم وجه الله تهديداً للأبناء بأنه أعلم بما في نفوسهم وما يشعرون به إزاء والديهم. وكأنه يحذرهم من أن يضمروا لهما كراهة أو استثقالاً، وإذا كانت نيتهما صالحة وبرهما يصدر عن محبة لهما واعزاز فإن الله يغفر لهم ما فرط منهم عند حرج الصدر من أذية أو تقصير وفي هذا ما فيه من(/5)
تشديد الأمر بالإحسان لهما والقيام بشئونهما في طواعية وذلة وخضوع.
ولا شك أن الابن سيكون أباً يوماً ما. وسيطلب من ابن أن يعامله مثل هذه المعاملة، وبذلك تظل هذه التقاليد الكريمة مرعية، وآداب الأبوة معمولاً بها، ورباط الاسرة قوياً عماده المحبة والرحمة والبر والمعاونة.
أما علاقة الفرد بالمجتمع فلا أستطيع مهما بالغت في الايجاز أن آتي على كل ما قدمه القرآن الكريم لنا من تعاليم وتشريع ويحسن هنا أن اذكر نماذج من هذه التعاليم القويمة: هناك مثلاً تعاليم يقصد بها تهذيب الخلق والدماثة، ومراعاة إحساس غيرنا من الناس حتى لا يتأذوا منا يقصد منها التربية الخلقية الاجتماعية الرفيعة من ذلك مثلاً رد التحية في قوله تعالى: {وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها}، وقدم طبعاً أن يكون الرد أحسن من التحية، فالذي تقدم بالتحية متفضل وعلينا أن نراعي تفضله فنرد تحيته بأحسن منها، وفي هذا تربية للذوق الاجتماعي، واحكام لصلات المودة بين الناس، وأقل ما يجب أن نرد التحية بمثلها.
ومن ذلك الاستئذان عند دخول بيوت غيرنا من الناس، ثم تحية من فيها، وإذا لم نجد بها أحداً فلا نقتحمها وندخلها بغير إذن، وإذا طلبوا منا أن نرجع لأن الوقت غير مناسب، أو كانوا على غير استعداد لاستقبالنا فما علينا إلا أن نرجع. ولنستمع إلى قوله: {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا، وتسلموا على أهلها، ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون، فإن لم تجدوا فيها أحداً فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم، وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم والله بما تعملون عليم}.(/6)
وما ترمي إليه هذه الآية الكريمة من مراعاة لحرمات البيوت، وأوقات الراحة وتنظيم الزيارات غنى عن أن أخوض فيه ولم يكتف القرآن الكريم بهذا بل شرع من قوانين اللياقة والذوق الاجتماعي أنه إذا قيل لنا تفسحوا في المجالس فلنوسع لغيرنا ولا نستأثر بالمكان كله ونضع سوانا في حرج {يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا يفسح الله لكم}.
وليس من اللياقة والأدب الإسلامي الكريم تتكبر على الناس ونصعر لهم خدنا، أو نمشي الخيلاء ونتيه عليهم، أو نكلمهم بصوت مرتفع فيه أمارات السيطرة والغطرسة فكل ذلك مما يبغضهم فينا ويسئ إلى ما بيننا من علاقات، استمعوا إلى قوله تعالى مخاطباً نبيه: {ولا تصعر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحاً إن الله لا يحب كل مختال فخور، واقصد في مشيك واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير} ، وبحسب هذا الذي يرفع صوته كبراً أن يشبه بالحمار في صوته المنكر. وأيّد الله سبحانه هذه التعاليم في قوله {وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما} فهؤلاء الذين يمشون على الأرض بتواضع ورفق ولين من غير خيلاء وكبرياء وصفهم الله سبحانه بأنهم عباده ونسبهم إليه فهم عباد الرحمن، وهم الذين يعرضون عن كلام السفهاء فلا يقابلونهم بالمثل، بل يردون عليهم رداً فيه سلامة من أذاهم وفيه ترفع عن السفه.
ولا أريد أن استرسل في ذكر هذه التعاليم الحميدة التي يتصف بها المجتمع الراقي المهذب وتجعل العلاقة بين الناس يسودها الأدب الجم ومراعاة الاحاسيس والمشاعر. ولأنتقل إلى بعض التعاليم التي يجب أن تسود العلاقات الانسانية في المعاملات والتي جعلت المجتمع الإسلامي الأول خير مجتمع رأته الإنسانية في تاريخها الطويل.(/7)
من ذلك البر بالفقراء والمساكين والعمل على تهيئة الحياة التي تكفل لهم العيش الكريم، وقد جعل الإسلام الزكاة فريضة من الفرائض كالصلاة والصوم، وحارب الخليفة أبو بكر من أجلها العرب الذين امتنعوا عن أدائها. ومشكلة الفقر والغنى من أهم المشكلات التي اهتم بها الإسلام وقد صار للفقير حق معلوم بعد أن كان في الجاهلية أريحية وجوداً {والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم}، ليكون المجتمع مستنداً إلى دعامة قوية من التشريع، فلا يترك لنخوة الأفراد إن شاءوا أعطوا وإن شاءوا منعوا، ولكن إلى الحق الذي فرضه الله تعالى، والآيات التي يحث فيها الله سبحانه على الإنفاق والجود والبر بالفقراء والمساكين كثيرة جداً وتدل على أن التشريع الإسلامي يهدف إلى حل هذه المشكلة التي توجد الفروق بين الطبقات وتوجد الخلل في المجتمع، فإن الفقر يتسبب في كثير من المشكلات الاجتماعية كالسرقة والقتل والنهب وإغتصاب الأموال والتزوير والخداع إلى آخر هذا الثبت من الصفات الاجتماعية الذميمة. من هذه الآيات الكريمة قوله تعالى: {ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب، ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر، والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربي واليتامي والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب}، وأوصى بل أمر بالعطف على من يستحق العطف من الضعفاء وأوجب الإحسان إليهم فقال تعالى: {واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت ايمانكم إن الله لا يحب من كان مختالاً فخورا}، وليس الاحسان بالكلمة الطيبة فحسب ولكن بإسكات سعار البطن الجائعة ونداء المعدة الخاوية وكسوة العاري ومداواة المريض. ونلاحظ الاهتمام بالجار وحقه أيا كان هذا الجار حتى لا يدخله الحسد من النعمة التي يتقلب فيها جاره وهو يبيت على الطوى وأولاده(/8)
يتضاعفون من المسغبة والفاقة وجعل الله سبحانه الحسنة بعشر أمثالها، ونفر من البخل وهدد البخلاء بعذاب أليم {والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم، يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون}، ولا شك أن المجتمع السعيد هو الذي يتعاون أفراده فيما بينهم على الخير ويأخذ فيه القوي بيد الضعيف والغني بيد الفقير. ومن أجل إيجاد المجتمع السعيد حرم الله الربا، لأن فيها تعجيزاً للفقراء وسيطرة عليهم من أصحاب الأموال واذلالهم، وتوسيع الهوة بين الطبقات حين يغرق الفقراء في الدين ويقوى على حسابهم ذوو اليسار. وفي ذلك يقول القرآن الكريم: {يمحق الله الربا ويربي الصدقات}.(/9)
والمجتمع السعيد هو الذي يتماسك أفراده فيما بينهم ويتعاونون على حد قوله تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان}، وأن يكون بعضهم أولياء بعض يتناصرون ويتناصحون في السراء والضراء، هذا المجتمع هو الذي وصفه الله سبحانه بقوله: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله اولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم}، والأمر بالمعروف علم إيجابي لتقدم المجتمع والنهي عن المنكر حتى لا يشيع الفساد في المجتمع. ولم يترد المجتمع الاسلامي في مهواة الضعف إلا حين أحجم أفراده عن التعاون على الخير وغلبت عليهم الفردية والاثرة وصار كل يعمل لنفسه غير مبال في سبيل غاياته بضحايا نهمه وجشعه وأثرته، ومن ثم تفكك المجتمع وانحلت عراه، وزاد الأمر سوءاً الإحجام عن إسداء النصح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ففي هذا تخل عن التبعة وعدم مبالاة بما يدور حولنا. والمجتمع الذي يصل أفراده إلى هذا الحد من الاستهتار به والانصراف كل إلى خاصة شئونه مجتمع متحلل متدهور لأرجاء فيه إلا إذا أدى أفراده ما عليهم كمواطنين صالحين يعتقدون أن الوطن لهم جميعاً وليس لأي فرد على حدة.(/10)
والمواطن الصالح في المجتمع السعيد الذي يحرص عليه الكتاب الكريم هو الذي لا يمالئ العدو ولا يتخذه ولياً ولا تكون بينه وبينه مودة فإن في ذلك خيانة لمبدأه ووطنه وعقيدته وقومه: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة}، فهنا نهي قاطع عن اتخاذ الأعداء نصراء ومعاونين لأنهم كما وصفهم الله سبحانه في آية أخرى: {لا يألونكم خبالاً، ودوا ما عنتم، قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر}، وأن ما يقوم به الخونة اليوم وعملاء الاستعمار وصنائعه لمما يؤذي المجتمع العربي في كيانه ويفرق بين أبنائه ويمكن للاعداء في بلادنا وقد وصفهم الله بأنهم ظالمون {ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون}، ووصفهم بأنهم ضلوا سواء السبيل {ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل}.
ومن مزايا المجتمع المثالي السعيد أن تسود الثقة بين أفراده في معاملاتهم ووعودهم، وأن يتصف أفراده بالأمانة فلا يخونون ولا يغدرون وفي ذلك يقول الله سبحانه: {والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون} ويقول: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها}، وإذا اتصف أفراد المجتمع بالأمانة ساد الحياة والمحبة. أما الوفاء بالوعد فهو دليل الرجولة لأنه مبني على الشجاعة وعدم الأثرة والتضحية، يخرج الانسان من الوحشية إلى الحضارة فلا تعود القوة الغاشمة هي القانون والواجب، ولا تعود المصلحة الخاصة هي القائد الذي يوجه أعمال الانسان في حياته وبه تسود الحياة الثقة والطمأنينة والايمان: الثقة في الكلمة تعطى، وفي التوقيع يكتب، وفي المعاهدات تمهر. وفي الوفاء بالوعد يقول الله سبحانه: {والموفون بعهدهم إذا عاهدوا، والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون}، ولقد كانت هذه الصفة الجليلة سمة المسلمين في جميع البلاد التي فتحوها وعاهدوا أهلها حتى ضرب بهم المثل في الوفاء وحسن المعاملة، ولذلك دانت لهم الدنيا العريضة.(/11)
هذه لمحة خاطفة من هدي القرآن في التعبئة الاجتماعية، ونماذج محدودة قصد بها ضرب المثل على الغاية التي يهدف إليها القرآن الكريم وهي غاية شرعها رب العالمين لخلق المجتمع السعيد الذي ترنوا إليه الإنسانية ولا تعرف كيف تصل إليه.
وإن الحديث ليطول في هذا البحث حتى ليصير سفراً ضخماً حافلاً.(/12)
العنوان: التعجب بين البصريين والكوفيين
رقم المقالة: 378
صاحب المقالة: د. محيي الدين توفيق إبراهيم
-----------------------------------------
عرف ابن عصفور (ت669) التعجب، بأنه استعظام زيادة في وصف الفاعل خفي سببها، وخرج بها المتعجب منه عن نظائره[1]، وعرفه بدر الدين بن مالك وهو ابن ناظم الألفية، بأنه استعظام فعل فاعل ظاهر المزية فيه[2]. وأورد ابن حمدون على تعريف ابن عصفور، أنه غير جامع لأنه لا يشمل {كيف تكفرون بالله}[3] ولا نحو قوله صلى الله عليه وسلم: ((سبحان الله المؤمن لا ينجس)) مما التعجب فيه من أصل الوصف لا الزيادة فقط لأن التعجب في الأول من أصل الكفر، وفي الثاني من ظن أبي هريرة أن المؤمن ينجس، ولا يشمل نحو ما أخصره من اختصر المبني للمفعول، لأن التعجب فيه من وصف المفعول لا من وصف الفاعل، وهو وإن كان شاذاً فلابد من شمول التعريف له، وبأن فيه دوراً لأخذ المتعجب منه في حد التعجب، فيتوقف التعجب على المتعجب منه، والمتعجب اسم مفعول مشتق من التعجب ومعرفة المشتق منه الذي هو التعجب سابقة على معرفة المشتق وهو المتعجب منه فجاء الدور، لأن هذا التعريف إنما هو للتعجب لغة لا إصطلاحاً، والتعجب اصطلاحاً هو اللفظ المتعجب به، وكلام النحاة إنما هو في الألفاظ لا في المعنى[4].
ولعل تعريف الرضي الاسترابادى للتعجب أقرب إلى حقيقته وأوضح، يقول: "التعجب انفعال يعرض للنفس عند الشعور بأمر يخفى سببه، ولهذا قيل إذا ظهر السبب بطل التعجب"[5][6].
وللتعجب في اللغة العربية أساليب كثيرة أغلبها سماعي منها قوله تعالى: {كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم} وقول الرسول عليه الصلاة والسلام: "سبحان الله إن المؤمن لا ينجس))، وقولهم لله أنت، وقول الشاعر:
واها لليلى ثم واها واها هي المنى لو أننا نلناها[7]
وقول الآخر[8]:
بانت لتحزننا عفاره يا جارتا ما أنت جاره
وقول الآخر انشده أبو علي[9]:(/1)
يا هي مالي قلقت محاوري وصار أشباه الفغا ضرائري[10]
وقول حميد الأرقط:
ألا هيما مما لقيت وهيما وويحاً لمن لم يدر ما هن ويحما[11]
ولله دره فارساً، ويالك من رجل، وكاليوم رجلاً، وويلمه رجلاً، وناهيك به[12]، وقاتله الله من شاعر، ولا شل عشره، ولا شل عشره[13]، وأبرحت ربا[14]، وحسبك بزيد رجلاً، وكفى به عالما[15].
وقد يستفاد من الاستفهام معنى التعجب نحو: (مالي لا أرى الهدهد)[16].
على أن النحاة يعنون بصيغتين هما صيغة ما أفعله وأفعل به لاطرادهما[17].
ويقع الخلاف على ما ترويه كتب الخلاف في صيغة ما أفعله. فذكروا أن البصريين يذهبون إلى أنه فعل جامد، وأن فهي فاعلاً مستتراً، وأن المتعجب منه منصوب على أنه مفعول به لهذا الفعل، فإذا قلنا ما أجمل السماء، فإن معناه شيء عظيم أجمل السماء، أي جعلها جميلة، وواضح ما في هذا من تكلف وإبعاد بهذا الأسلوب الانفعالي عن غايته وبلاغته. وطبيعي أن الذي دفعهم إلى مثل هذا التأويل كغيره من التأويلات، سيطرة نظرية العامل والمعمول عليهم، وعدم استطاعتهم أن يفهموا أن هناك اسماً يمكن أن يقع في الجملة العربية لا يخضع لعمل عامل فلابد أن يكون لكل مرفوع رافع، ولكل منصوب ناصب، ولكل مجرور جار. وهذا أيضاً هو الذي جعلهم يحارون في توجيه معنى (ما) التعجبية فذهب جمهورهم إلى أنها نكرة تامة بمعنى (شيء) في محل رفع مبتدأ، وأن الجملة بعده المؤلفة من (أفعل التعجب والضمير المستتر فيه والمتعجب منه) في محل رفع خبر، وذهب الأخفش (ت207هـ) إلى أنها اسم موصول مبتدأ والجملة بعده صلته والخبر محذوف والتقدير الذي أجمل السماء شيء عظيم، وذهب بعضهم إلى أنها اسم إستفهام مبتدأ والجملة بعده خبر عنه، والتقدير أي شيء أجمل السماء. وذهب بعضهم إلى أنها نكرة موصوفة، والجملة التي بعدها صفة لها والخبر محذوف، والتقدير شيء أجمل السماء عظيم[18].
أفعل التعجب عند الكوفيين:(/2)
نسب ابن الأنباري إلى الكوفيين القول باسمية أفعل التعجب، ونص على أن الكسائي منهم ذهب في هذا مذهب البصريين الذين يقولون بفعليتها[19].
واحتج الكوفيون فيما يذكر ابن الأنباري على أسميته بجموده، وعدم تصرفه تصرف الأفعال، وأنه يصغر والتصغير من خصائص الأسماء، واستشهدوا بقول الشاعر[20]:
ياما أميلح غزلاناً شدن لنا من هاؤليائكن الضال[21] والسمر
ورفضوا قول البصريين بأنه إنما صغر لجموده، فأضبه الإسم من هذه الناحية، قالوا إن هذا ينتقض بليس وعسى وصيغة أفعل به في التعجب، فهذه جميعها جامدة، ومع ذلك لا يجوز تصغيرها ولو كان الجمود يبيح التصغير لجاز تصغيرها. واحتجوا أيضاً بصحة عينه وعدم إنقلابها ألفاً في نحو: (هذا أقوم منك وأبيع منك) ولو كان فعلاً لوجب أن تعل عينه وتقلب ألفاً كما قلبت من الفعل في نحو قام وباع وأقام وأباع. وردوا على البصريين في تقديرهم لمعنى ما أعظم الله ونحوه بأن تقديره شيء أعظم الله. وقالوا إن هذا يعني أن الله عظيم بفعل فاعل وهذا غير صحيح[22].
ومن الواضح أن ابن الأنباري قد لخص مسألته هذه عن استاذه ابن الشجرى فلم نجد لها ذكراً عند غيره، حتى السيرافي الذي أولع بذكر المسائل التي اختلف عليها الكوفيون والبصريون لم يذكرها، بل اكتفى بإيراد مذهب سيبويه في عله تصغيره وهو جموده الذي رده الكوفيون كما ذكرنا آنفاً[23].(/3)
أما ابن الشجري فقد خصص لهذه المسألة المجلس التاسع والخمسين[24]، وقد لخصها ابن الأنباري عنه، فكل ما أورده من حجج البصريين والكوفيين، والرد على الكوفيين ذكره ابن الشجرى إلا في احتجاج الكوفيين اعتراضهم على القول بأن (ما أعظم الله) تقديره شيء أعظم الله. وكل الشواهد من القرآن الكريم والشعر مذكوره في أمالي ابن الشجرى، ولم يزد ابن الأنباري على أن اختصر كلام ابن الشجرى وحذف بعض عباراته وحور بعضها الآخر وغالباً ما ينقل كلامه نصاً، على أن ابن الأنباري ذكر حجج الكوفيين على حدة وذكر حجج البصريين واعتراضات الكوفيين عليها وجواب البصريين على الاعتراضات على حدة أيضاً، وأورد في رده على الكوفيين ردود البصريين عليها. أما ابن الشجرى فقد أورد بعض حجج البصريين ثم رد الكوفيين عليها، وبعض حجج الكوفيين ثم رد البصريين عليها وكرر ذلك إلى آخر المجلس.
وأغلب الظن أن هذه الآراء التي نسبها ابن الشجرى إلى الكوفيين عامة ونقلها عنه ابن الأنباري ليست من قول الكوفيين المتقدمين، ولا تعد مذهباً كوفياً يعول عليه، ولعلها نقلت عن بعضهم وخاصة المتأخرين منهم.
وليس في المسألة التي ننشرها لأبي بكر الأنباري أي قول، أو أية حجة مما نسب إليهم، ومذهبه كما يبدو قريب من مذهب البصريين، فهو يتفق معهم في أن (ما) التعجبية مبتدأ مرفوع بما في أحسن. أما قوله بأن عبدالله منصوب على التعجب فلا أظنه يريد إلا أنه منصوب على المفعولية، فلا يعرف عن الكوفيين أنهم عدوا من المنصوبات المتعجب منه.
رأي المحدثين:
وينظر المحدثون إلى أن أسلوب التعجب القياسي في صيغتيه (ما أفعله)، و(أفعل به) على أنه من الأساليب التي كان لها استعمال خاص، ثم جمد بعد ذلك. ومن غير المجدي تطبيق التحليل الأعرابي للجملة الإسنادية على هذا النوع من الأساليب.(/4)
ويرى الدكتور مهدي المخزومي أن (ما) في صيغة (ما أفعله) كانت في الأصل هي (ما) التي يكنى بها عن غير العاقل المستعملة في الاستفهام، ثم ضاع الاستفهام منها باستعمالها مع (أفعل) متلازمتين في التعجب[25].
وهذا الرأي في حقيقته لا يبعد كثيراً عن رأي الكوفيين في معنى (ما). فهم يذهبون إلى أن قولهم (ما أحسن زيداً معناه أي شيء أحسن زيداً)[26].
ورأى المخزومي في أن بناء (أفعل) في التعجب ((هو بناء الأفعال، ولكنه باستعماله في التعجب جمد، وفقد دلالة الفعل[27]))، وهو رأي يقارب رأي البصريين كما عرفنا سابقاً، إذ يذهبون إلى أنه فعل خلافاً للكوفيين الذين يذهبون إلى أنه اسم. فهو يذهب في توجيهه لـ(ما) التعجبية مذهب الكوفيين، وفي نظرته إلى (أفعل) التعجب مذهب البصريين، غير أنه يزيد على المذهبين بأن الصيغة في مجمله قد جمدت، فلم يعد يلحظ فيها الاستفهام أو الفعلية.
ولعل تحليل الدكتور إبراهيم السامرائي لجملتي التعجب أقرب إلى علم اللغة الحديث، وأبعد عن التكلف الذي وقع فيه النحاة القدامى، ومن تبعهم من المحدثين. فهو يرى أن انشغالهم بالاعراب هو الذي دفعهم إلى تفسير (ما) التعجبية تلك التفسيرات المعروفة والمذكورة في كتب النحو، (وكان أصلح للعربية والنحو العربي أن يقتصر في هذا التركيب على القول بأن ذلك أسلوب التعجب الذي يتألف من (ما) التعجبية متلوة بـ(فعل) على أفعل أو بـ(أشد ونحوها) متلوة بالمصدر في حالات أخرى سطرها النحاة فيما كتبوا. وأن هذا (الفعل) من الأفعال الخاصة غير المتصرفة التي جاء بناؤها لتكون مادة صالحة للإعراب عن التعجب[28]..(/5)
وهو يذهب مذهب المخزومي في الإقرار بفعلية (أفعل) في (ما أفعله) و(أفعل) في (أفعل به)، (فهما من المواد الفعلية التي بنيت على هذه الصورة المخصوصة ففارقت التصرف وابتعدت عن قبول علامات الأفعال، وذلك لإنصرافها عن عناصر الفعلية وهي الدلالة على الحدث، وترشحها لزمان ما لتؤدي أسلوب التعجب[29].
كتاب مسألة من التعجب
يحتفظ معهد المخطوطات بجامعة الدول العربية بنسخة مصورة على ميكروفيلم من كتاب مسألة من التعجب لأبي بكر الأنباري برقم 149 نحو، وهي نسخة مصورة عن نسخة مكتبة كوبريلي برقم 1393 – 6. وتقع المخطوطة في ثلاث ورقات من الحجم الصغير، كتبت سنة 936 تقريباً، أولها بعد البسملة ((رب يسر يا كريم. مسألة من التعجب من إلقاء أبي بكر محمد بن الأنباري)). وفي آخر المخطوطة كتب بخط مغاير ما يلي:
((الحمد لله انهيته قراءة على عين الأعيان ونادرة الزمان جاعل المعاني كالعيان ومبرزها بالفعل بعد الإمكان أبي الحسن علي بن موسى البحري المالكي امتع الله بحياته، وذلك في السابع والعشرين من شعبان المكرم سنة 936 كتبه سليم ابن عبدالرحمن المغربي الحربي حامداً ومصلياً ومسلماً)).
بسم الله الرحمن الرحيم
مسألة من التعجب من إلقاء أبي بكر محمد بن الأنباري[30]
نقول ما أحسن عبدالله (ما) رفع رفعتها بما في أحسن[31]، ونصبت عبدالله على التعجب وتقول في الذم ما أحسن عبدالله ((فما)) لا موضع لها لأنها جحد[32] ورفعت عبدالله بفعله وفعله ما أحسن. وتقول في الاستفهام ما أحسن عبدالله؟ ((فما)) رفع بأحسن وأحسن بها[33]. والتأويل أي شيء فيه حسن أعيناه أو أنفه.(/6)
وتقول إذا رددته إلى نفسك في التعجب ما أحسنني فما رفع بما في أحسنني والنون والياء موضعهما نصب على التعجب. وتقول في الذم إذا رددته إلى نفسك ما أحسنت فما جحد لا موضع لها والتاء مرفوعة بفعلها، وفعلها ما أحسنت. وتقول في الاستفهام ما أحسني؟ فما رفع بأحسن وأحسن بها والياء في موضع خفض بإضافة أحسن إليها. فإن قلت أباك ما أحسن وأحسن بها والياء في موضع خفض بإضافة أحسن إليها. فإن قلت أباك ما أحسن أو ما أباك أحسن كان محالاً لأنه[34] ما نصب على التعجب لا يقدم على التعجب لأنه لم يعمل فيه فعل متصرف فيتصرف بتصرفه. وكان الكسائي يجيز أبوك ما أحسن. قال لما لم أصل إلى نصب الأب اضمرت له هاء تعود عليه فرفعته بها، والتقدير أبوك ما أحسنه. وقال الفراء لا أجيز الأب لأنه ليس هاهنا دليل يدل على الهاء ولا أضمر الهاء[35] إلا مع ستة أشياء مع كل ومن وما وأي ونعم وبئس وتقول عبدالله ما أحسنه ترفع عبدالله بما عاد عليه من الهاء وترفع ((ما)) بما في أحسن، والهاء موضعها نصب على التعجب. وتقول عبدالله ما أحسن جاريته من قول الكسائي. قال لما لم أصل إلى نصب الأول اضمرت له هاء فرفعته، والفراء يحيلها[36]، قال: ليس ها هنا دليل على الهاء، وتقول في الاستفهام عبدالله ما أحسنه؟ ترفع عبدالله بأحسن وأحسن بعبد الله، وما إستفهام والهاء موضعها خفض بإضافة أحسن إليها. فإن قلت عبدالله ما أحسن كان محالاً وأنت تضمر الهاء لأن المخفوض لا يضمر ولأن المضاف والمضاف إليه كالشيء الواحد فلا يفرق بينهما فلا تضمر المخفوض وتظهر الخافض.(/7)
وتقول عبدالله ما أحسن ترفع عبدالله بما في أحسن وما جحد لا موضع لها. وإذا قلت ما أحسن عبدالله فأردت أن تسقط ما وتتعجب قلت أحسن بعبدالله وإذا أردت أن تأمر من هذا قلت يا زيد أحسن بعبدالله رجلاً، وإذا ثنيت قلت يا زيد أن أحسن بعبدي الله رجلين، ويا زيدون أحسن بعبيد الله رجالاً، وتنصب رجالاً على التفسير[37] وأحسن لا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث لأنه اسم جنس، وأحسن ليس بأمر للمخاطب وإنما معنى أحسن به ما أحسنه، قال الله تبارك وتعالى: {أسمع بهم وأبصر}[38] معناه والله أعلم ما أسمعهم وأبصرهم، وتقول كان عبدالله قائماً فإذا تعجبت منه قلت ما أكون[39] عبدالله قائماً فما مرفوعة بما في أكون واسم كان يضمر فيها وعبدالله منصوب على التعجب وقائماً خبر كان، فإن خرجت ما وتعجبت قلت أكون بعبدالله قائماً، وأكون بعبدي الله قائمين وأكون بعبيد الله قياماً، وأحسن بعبدالله رجلاً.
قال الفراء لما لم أصرح برفع الإسم أدخلت الباء لتدل على المطلوب ما هو وتأويله عبدالله حسن فلما لم تصل إلى رفع عبدالله جئت بالباء لتدل على المطلوب ما هو. وإذا قلت ظننت عبدالله قائماً فأردت أن تتعجب بما قلت ما أظنني لعبدالله قائماً فإن قال أسقط ما وتعجب قلت أظنن بي لعبدالله قائماً.
مصادر البحث ومراجعه
1 - الاشموني: مطبعة مصطفى البابي الحلبي – مصر 1939م.
2 - ابن الأنباري: أبو البركات – الإنصاف في مسائل الخلاف – مطبعة الاستقامة، القاهرة 1945م.
3 - الأنباري – أبو بكر – شرح القصائد السبع الطوال – القاهرة – دار المعارف 1963م.
4 - بدر الدين بن مالك: شرح ابن الناظم – مطبعة القديس جاورجويس – بيروت 1312هـ.
5 - ابن حمدون: حاشية ابن حمدون على شرح المكودي.
6 - الرضي الاسترابادي: شرح الكافية – المطبعة العامرة المحمية – 1275هـ.
7 - السامرائي – الدكتور إبراهيم – الفعل زمانه وابنتيه – مطبعة العاني – بغداد 1966م.(/8)
8 - السيرافي: شرح الكتاب – مخطوطة – جامعة القاهرة.
9 - السيوطي: بغية الوعاة – مطبعة عيسى البابي الحلبي – مصر 1964م.
10 - ابن الشجرى: امالي ابن الشجرى، دائرة المعارف العثمانية – حيدر آباد الدكن 1349هـ.
11 - ابن عصفور المقرب مطبعة العاني – بغداد 1971م.
12 - ابن عقيل – شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك – مطبعة السعادة – مصر 1964م.
13 - الفراء: معاني القرآن – مطبعة دار الكتب 1955م.
14 - محيي الدين توفيق – دكتور – ابن الأنباري في كتابه الإنصاف – مخطوط.
15 - محيي الدين توفيق – دكتور – ابن السكيت اللغوي – مطبعة الجاحظ – بغداد 1969م.
16 - المخزومي – الدكتور مهدى – في النحو العربي – قواعد وتطبيق – القاهرة 1966م.
17 - ابن هشام – أوضح المسالك – دار إحياء التراث العربي – بيروت 1966م.
ـــــــــــــــــــ
[1] المقرب 1/71، وانظر حاشية ابن حمدون على شرح المكودي ص237.
[2] شرح ابن الناظم ص176، وانظر شرح الأشموني 4/165.
[3] آية 28 من سورة البقرة.
[4] حاشية ابن حمدون ص238.
[5] هكذا في الأصل، ولعل الأصح ((بطل العجب)).
[6] شرح الكافية 2/307، ونسب الصبان 3/16 هذا التعريف إلى الدماميني خطأ.
[7] هذه رواية ابن الناظم، وفي شرح الأشموني 4/165 (واها لسلمى) ويبدو أن هذا البيت ملفق من عدة أبيات لأبي النجم العجلي، رواه صاحب اللسان في مادة (ويه) وهي:
واها لريا ثم واها واها
ياليت عيناها لنا وفاها
بثمن نرضي به أباها
فاضت دموع العين من جراها
هي المنى لو أن نلناها
[8] هو الأعشى ميمون بن قيس.
[9] نسب ابن الناظم إنشاد هذا البيت لأبي علي، ونسبه ابن منظور اللسان مادة (هيا) إلى أبي عبيد.
[10] اللسان 20/252.
[11] اللسان 20/253.
[12] في اللسان مادة (نهى) وقولهم ناهيك بفلان معناه كافيك، من قولهم قد نهى الرجل من اللحم وأنهى إذا أكتفى منه وشبع 20/221.
[13] اللسان مادة (شلل)، لا شل عشرك أي أصابعك.(/9)
[14] هذه العبارة من بيت للأعشى وهو:
أقول لها حين جد الرحيل
أبرحت ربا وأبرحت جارا
قال ابن منظور في اللسان مادة (برح) أي (اعجبت وبالغت) وقيل معنى هذا البيت ((أبرحت)) أكرمت أي صادفت كريماً وأبرحه بمعنى أكرمه وعظمه: وقال أبو عمرو برحي له ومرحى له إذا تعجبت منه وانشد بيت الأعشى وفسره فقال معناه أعظمت رباً وقال آخرون أعجبت ريا ويقال أكرمت من رب.
[15] أنظر هذه الأساليب: إبن الناظم 176، إبن عقيل 1/668، إبن هشام في أوضح المسالك شرح الكافية 2/307، شرح الأشموني، حاشية إبن حمدون 237 – 238.
[16] حاشية الصبان 3/17، والآية 20 من سورة النمل.
[17] يضيف إبن عصفور صيغة فعل بضم العين إلى صيغتي التعجب كقولهم ضرب زيد أي ما أضربه وضرب يزيد أي أضرب به. ينظر الممرب 1/74 – 78 والنحاة يعدون هذا من أساليب المدح أو الذم.
[18] شرح ابن عقيل 2/150.
[19] الانصاف مسألة 15.
[20] النحاة الذين استشهدوا بهذا البيت لم يسموا قائله ونسبه الباخرزى (دمية القصر طبعة حلب) إلى بدوي إسمه كامل الثقفي وفي طبعة القاهرة من الدمية 1/66 إسمه كامل المنتفقي، ونسبه العيني إلى العرجي. انظر هامش 4/167 من شرح الأشموني، وانظر حاشية الصبان 3/18.
[21] الضال هو السمار البري، اللسان مادة (ضيل) 13/422، والسمر ضرب من العضاه وقيل من الشجر صغار الورق قصار الشوك، اللسان (مادة سمر) 6/45.
[22] انظر احتجاج الكوفيين في المسألة نفسها ص81.
[23] انظر السيرافي، شرح الكتاب 6/169 (مخطوط).
[24] الأمالي 2/129 – 146.
[25] المخزومي: في النحو العربي قواعد وتطبيق ص215.
[26] أنظر شرح الأشموني 4/176.
[27] المخزومي: في النحو العربي قواعد وتطبيق ص215.
[28] الدكتور إبراهيم السامرائي – الفعل زمانه وأبنتيه ص73.
[29] المصدر السابق ص73.(/10)
[30] أبو بكر محمد بن القاسم بن محمد بن بشار بن الأنباري. كان من أعلم الناس بالنحو والأدب وأكثرهم حفظاً. سمع من ثعلب وخلق، وكان صدوقاً فاضلاً ديناً خيراً من أهل السنة وكان مشهوراً بحفظه، وقد أخذ عنه جماعة منهم الدارقطني. توفي في بغداد سنة 328. انظر ترجمته في البغية 1/212.
[31] يريد الضمير المستتر في أحسن، والرافع بالضمير العائد الذكر من أقوال الكوفيين.
[32] الجحد: النفي وهو من مصطلحات الكوفيين، انظر معاني القرآن للفراء 1/8.
[33] الكوفيون يقولون بأن المبتدأ والخبر يرفع أحدهما الآخر. انظر الإنصاف مسألة 5. وانظر بحثنا ابن الأنباري في كتابه الإنصاف (مخطوط) ص219. وانظر أيضاً شرح القصائد السبع الطوال لأبي بكر الأنباري نفسه ص317.
[34] هكذا في الأصل ولعل الصحيح أن تحذف الهاء.
[35] الإضمار بمعنى الخوف من مصطلحات الكوفيين.
[36] أي يعدها من المستحيل.
[37] التفسير: التمييز وهو أيضاً من مصطلحات الكوفيين. انظر كتابنا ابن السكيت اللغوي ص32.
[38] سورة مريم: آية 38.
[39] أجاز الكوفيون اشتقاق أفعل التعجب من الفعل الناقص، ومنعه البصريون. أنظر شرح ابن عقيل 2/154.(/11)
العنوان: التعدد.. وجهة نظر أخرى (1)
رقم المقالة: 1933
صاحب المقالة: خاص: الألوكة
-----------------------------------------
التعدُّد من سنن الله في الكون والخلق؛ ولهذا التعدد حكمته، ولكن كلمة التعدد اليوم أصبحت ترتبط بتعدد الزوجات وكأنه لا يوجد تعدد إلا في الزوجات، تلك المسألة التي تُستَغَلُّ كثغرة تتمطى منها سهام النَّيلِ من الدِّينِ، بالرغم من أن التعدد ليس بدعة في التشريع الإسلامي إذ إنه كان معروفًا قبل الإسلام.
فاليهودية كانت تبيح التعدد دون قيد ولا حَدٍّ، وأنبياء الله من بني إسرائيل كانوا يعدِّدُون ولا ينكر اليهود ما سجله التاريخ وما جاء في العهد القديم و(التلمود) من أن تعدد الزوجات كان مباحًا في شريعة موسى مطلقًا من كل قيد أو حَدٍّ مع إباحة اتخاذ السراري دون تحديد لعدد أيضًا.
وفي النصرانية جاء الإنجيل مكملاً للتوراة وليس ناقضًا لها ولم يَرِدْ في النصرانية نصٌ صريحٌ يحرم تعدد الزوجات.
وكذلك الأمر عند العرب حيث كان التعدد مشاعًا ومعروفًا قبل الإسلام، ولكنه كان غيرَ محدد، والدليل على ذلك ما جاء في الحديث: أسْلَمَ غيلان بن سلمة الثقفي وتحته عشر نسوة في الجاهلية وأسلمن معه فأمره النبي أن يختار أربعًا منهن.
التعدد نظام حضاري:(/1)
ليس صحيحًا ما يقال عن التعدد أنه نظام بدائي لم ينتشر في التاريخ إلا بين الشعوب البدائية فقد أثبت علماء التاريخ والآثار أنَّ نظام تعدُّد الزوجات لم يبدُ في صورةٍ واضحةٍ إلا في الشعوب المتقدِّمة في الحضارة، على حين أنَّه قليل الانتشار في الشعوب البدائيَّة المتأخِّرة، كما قرَّر ذلك ورَصَدَهُ علماء الاجتماع ومؤرِّخو الحضارات، وعلى رأسهم "وستر مارك"، و"هيلير"، و"جنربرج". فقد لوحظ أنَّ نظام وحدة الزوجة كان النظام السائد في أكثر الشعوب تأخُّرًا وبدائيَّة، وهي الشعوب التي تعيش على الصيد أو جمع الثمار التي تجود بها الطبيعة، وفي الشعوب التي تتزحزح تزحزحًا كبيرًا، في حين أنَّ نظام تعدُّد الزوجات لم يبدُ في صورةٍ واضحةٍ إلا في الشعوب التي قطعت مرحلةً كبيرةً في الحضارة، وهي الشعوب التي تجاوزت مرحلة الصيد البدائيِّ إلى مرحلة استئناس الأنعام وتربيتها ورعيها واستغلالها، والشعوب التي تجاوزت جمع الثمار والزراعة البدائيَّة إلى مرحلة الزراعة المتقدِّمة.
وقد جاء على لسان عدد من المؤرخين والمفكرين الأجانب اعترافات بأهمية نظام التعدد وأنه يوفي حاجة فطرية للرجل، يقول المؤرخ الفرنسي الكبير (غوستاف لوبون): إن تعدد الزوجات على مثل ما شرعه الإسلام من أفضل الأنظمة وأنهضها بأدب الأمة التي تذهب إليه وتعتصم به، أوثقها للأسرة عقدًا وأقواها لآصرتها أزرًا، وسبيله أن تكون المرأة المسلمة أسعد حالاً وأوجه شأنًا وأحق باحترام الرجل من أختها الغربية. وأضاف: لست أدري على أي قاعدة يبني الأوروبيون حكمهم بانحطاط ذلك النظام - نظام تعدد الزوجات - عن نظام التفرد عند الأوربييين المشوب بالكذب والنفاق على حين أرى هناك أسبابًا تحملني على إيثار نظام التعدد على ما سواه، وقال (لوبون) إنَّ القوانين الأوروبية سوف تجيز التعدد.
رؤية موضوعية:(/2)
قبل أن نتحدث عن التعدد علينا دراسته دراسة علمية وفقهية تتواكب مع مكانته المنصوص عليها في الدين احترامًا لشرع الله وتفنيدًا لادعاءات مغرضة ترمي إلى بَعثَرَةِ كلِّ ما هو إسلامي وطرحه جانبًا، من هنا فإن معالجة الحكمة في التعدد وضبط العدل المرمي إليه في الآيات الكريمة التي تناولت إباحة التعدد هو المنظار الرصين الذي على كل مسلم النظر من خلاله إلى قضايا التشريع لتوضع في مكانها ضمن خانة الفكر الإسلامي وما يوفّره من موروث عقدي يتَّفق مع قوَّة إيمان المسلم بكمال دينه ومعالجته لكل قضايا البشرية قديمًا وحديثًا، وهنا سنجيب عن سؤال الحكمة: هل يمكن للتعدُّد أن يكون حلاًّ لمشاكل يواجهها: الفرد (الزوجة والزوج)، أو الأسرة عامة، أو المجتمع، أو الأمة بأكملها.. وفق حيزه دون تضخيم أو تنقيص؟؟
التعدد حلاًّ لمشكلات دينية:
- القضاء على الخليلات / الأخدان.
- أن يكون الزوج كثير الأسفار بحكم عمله وبحاجة إلى ما يحصن به نفسه في أرض الفتنة.
- القضاء على الأنكحة المحرمة والسرية منها.
- إعلان النسل الذي هو قصد التشريع الإسلامي.
- القضاء على الشذوذ الجنسي.
التعدد حلاً لمشكلات نفسية:
- الحاجة إلى أخرى بالنسبة إلى الرجل لأن المرأة الأولى لم تستطع أن توفر له الغطاء النفسي والفكري والمودة المقصودة من الزواج.
- عدم وجود محيط أسري متوازن يَتَربَّى فيه الأولاد بسبب قسوة الأم أو تعذر الحياة بين الطرفين.
- أن تتفرغ الزوجة الأولى لتربية عدد محدود من الأطفال لا تستطيع الزيادة عليه والزوج يود تكثير الذرية.
- ضعف المرأة عن القيام بأعباء الحياة الجنسية القوية للرجل.
- أن تكون الزوجة الأولى غير متفرغة لشؤون البيت فتكون الزوجة الثانية مصدر الاستقرار في المنزل.
- أن تكون الزوجة الثانية أرملة بحاجة إلى من يعيلها أو مطلقة تطمح إلى حياة جديدة.(/3)
- إذا اشتدت كراهية الزوج للزوجة فإنه بدلاً من أن يطلقها، يُبقِي عليها ويتزوج بأخرى خصوصًا إذا كانت ذات عيال.
التعدُّد حلاًّ لمشكلات اجتماعية:
- توفير حياة اجتماعيَّة مستقرَّة لمن تحتاج إلى ذلك من الأرامل والمطلقات.
- علاج العنوسة وارتفاع سن الزواج.
- ازدياد عدد الأسر القليلة العدد تبعًا للتاريخ الوراثي للعائلة.
التعدد حلاًّ لمشكلات طبية:
- العقم عند الزوجة الأولى.
- إصابة المرأة بمرضٍ ما يعيقها عن استكمال واجباتها الزوجية والأسرية.
- فترة الإخصاب عند الرجل أطول منها عند المرأة والتي تمتد إلى السبعين في حين أن المرأة تفقد هذه القدرة عند الخمسين من عمرها غالبًا.
التعدد حلاً لمشكلات طبيعية:
تشير البحوث والدراسات إلى أنَّ عدد النساء عمومًا أكثر من عدد الرجال بسبب:-
- الحروب.
- الإحصاءات تؤكد ارتفاع نسبة المواليد الإناث - في كل الشعوب - عن المواليد الذكور بمعدل4 إلى 1.
- معدلات الوفاة للجنسين بصورة طبيعية تزيد فيها أعداد الذكور عن الإناث.
- متوسط أعمار النساء أطول من متوسط أعمار الرجال تبعًا للحياة الشاقة التي يحياها الرجل باعتباره اللبنة الأساس في بناء الأمم ومواكبة تطورات الحياة.
التعدد حلاً لمشكلات اقتصادية:
- توفير المورد المادّيّ المستقر والعفيف للمرأة التي هي بحاجة إلى ذلك.
- حاجة البلاد العربية والإسلامية إلى الأيدي العاملة وهذا ما يغنيها عن استقدام عمالة أجنبية غير مسلمة وغريبة عن هوية المجتمع المحلي.
- افتقار الدول الكبرى إلى الزيادة السكانية كما نرى في الدول الأوروبية وهذا ما أدى إلى استقطابها للمهاجرين من كل صوب.(/4)
العنوان: التعريب في العصرين الأموي والعباسي
رقم المقالة: 393
صاحب المقالة: د. توفيق سلطان البوزبكي
-----------------------------------------
لقد أثرت حركة الفتح الإسلامي للعراق وفارس والشام ومصر تأثيراً كبيراً في حياة المجتمع الإسلامي لأن التوسع الإسلامي بمظاهره العسكرية والبشرية والفكرية أحدث توسعاً ثقافياً وحركة علمية كبرى نابعة من الإسلام وهدفها الدعوة إلى العقيدة الإسلامية فاقبل سكان البلاد المفتوحة على تعلم العربية وآدابها وعلى دراسة المصادر الإسلامية القرآن، الحديث، الفقه، فبرز فيهم الكثير من العلماء الذين أصبح لهم أثر في الثقافة العربية ونشر الحركة الفكرية نلمح أسماء كثير منهم في كتب التاريخ والتراجم والطبقات[1]. كما أن ظهور الفرق الإسلامية ومذاهبها كان لها أثر أيضاً في توسع الثقافة في البلاد المفتوحة حيث التقت الثقافة العربية بالثقافات الفارسية واليونانية والهندية ولكل منها صفاتها وميزانها ثم لم تلبث أن اندمجت وانصهرت في بودقة عربية إسلامية مكونة الحضارة العربية الإسلامية.
(أثر الثقافات الأجنبية ومدارسها في التعريب):(/1)
لقد أقبل سكان البلاد المفتوحة على تعلم اللغة العربية ودراسة آدابها – كما أشرنا قبلاً – وأخذوا يصوغون أفكارهم وعلومهم وآدابهم بما ينسجم والدين الإسلامي والتقاليد العربية فأصبحت اللغة السياسية والثقافية السائدة هي العربية لذلك فإن الشعوب (غير العربية) فقدت ذاتيتها اللغوية[2] بمرور الزمن للتقرب من الفاتحين وقد أدى إنتشارها إلى شعور شعوب هذه البلدان بالإنسجام والتجانس رغم إختلاف قومياتهم وحتى أديانهم. فوحدت اللغة العربية إنتماءهم وشعورهم وأهدافهم وكان لها أثر في إقبال الكثير من غير المسلمين على الدخول في الإسلام[3]. ولم يكن إقبال الشعوب غير العربية على تعلم العربية وترك لغتها الأصلية بسبب الإكراه أو الإجبار وإنما كما يقول المستشرق بارتولد[4]: "إن غلبة الغربية كان بالإختيار لا بسلطان الحكومة وإن تسامح العرب أدى إلى إنتشار العربية فدرس حنين بن إسحق الخليل بن أحمد الفراهيدي وسيبويه حتى أصبح حجة في العربية"[5].(/2)
وبعد أن قطع الموالي وأهل الذمة مرحلة كبيرة في تعلم العربية وآدابها أخذوا ينقلون إليها علومهم فاستطاعوا بذلك إضافة علومهم وأفكارهم إلى ذخيرة العرب المسلمين فتكونت من مزيج تلك الحضارات حضارة مطبوعة بالطابع العربي والأسلوب الإسلامي وأخذت تنمو وتزدهر منذ العصور الإسلامية الأولى (الراشدي والأموي) وآتت ثمارها في العصر العباسي حيث أصبحت بغداد حاضرة العالم الإسلامي. يتهافت عليها رجال العلم والثقافة والأدب والإقتصاد والمال لما أصبحت تتمتع به من مركز سياسي وإقتصادي وثقافي فنبغت أعداد كبيرة من العلماء والفلاسفة والأدباء والشعراء ينحدرون من عناصر ذمية وغير عربية ومن أخصهم النصارى والفرس والصابئة وأهم ما برزوا فيه الترجمة من اليونانية والفارسية والهندية والسريانية وأقلهم تأثيراً في الحضارة وتأثراً بها اليهود، يقول المستشرق ديورانت[6]: "ولم يكن لليهود القابلية الفكرية والعلمية على الإبداع الفكري فحتى التصوف اليهودي تأثر بالزرادشتيه وبالأفلاطونيه الحديثة بإستبدال الفيض الإلهي بعملية الخلق وتأثروا بالكتب المسيحية والمتصوفة الهنود والمصريين".
ويؤكد ذلك ما جاء في دائرة المعارف اليهودية[7]: أن الفلسفة العبرية جاءت عن طريق كتبهم المقدسة وعن طريق تأثرهم بالفلاسفة العرب.
وقد استفاد اليهود من العلوم العربية التي كانت سائدة في البلاد الإسلامية فترجموا بعضاً من المؤلفات العربية إلى العبرية واتقن بعضهم اللغة العربية وآدابها واهتموا بقواعد النحو ومن أولئك مروان بن موسى اليهودي البصري الذي اشتغل بالأدب وضبط النحو ولكنه لم يؤلف فيه[8]:
ويبدو أن بروز هؤلاء اليهود في بعض الميادين العلمية يعود إلى إتصالهم بالحضارة العربية الإسلامية فاستقوا من مناهلها علومهم المختلفة.(/3)
أما النصارى في العراق فقد نعموا بعد الفتح الإسلامي بالحرية الدينية ولما كان أغلبهم عرباً فقد إلتفوا حول المسلمين للروابط القومية واللغوية التي تربطهم بإخوانهم العرب فأقبلوا على العناية باللغة العربية وآدابها فأخذوا ينقلون من السريانية إلى العربية لأن اللغة العربية أوسع من السريانية بدليل أن فيها أسماء كثيرة لم تكن موجودة عند السريانيين ولا عند غيرهم بخلاف إسم واحد فقط[9]. وأن قبائل الغساسنة في الشام منذ خضوعهم لكنيسة رومة وهم يستخدمون اللغة العربية في طقوسهم الدينية[10].
وقد برز الصابئة بالفلك والتنجيم واعتبروه عنصراً مهماً من العناصر التي يعتمد عليها دينهم ومستقبلهم فهم يعتقدون أن كل كوكب يحكم في يوم من الأيام ويتحكم ملائكة معينون بالأيام ومن هنا تكون لهم صفات فلكية[11].
ويعزون إهتمام الصابئة بدراسة الفلك والتنجيم إلى إعتقادهم التنبوءات وبأثر النجوم على مستقبل الإنسان أيضاً وقد عملوا الطلسمات والسحر والكهانه والتنجيم والتقويم والخواتيم[12].
ولما اتصل الصابئة بالخلافة العباسية صار لهم شأن كبير في نقل هذه العلوم إلى العربية ولعل إزدهار الحضارة وتطور العلوم في العصرين الأموي والعباسي يعود إلى رغبة العرب المسلمين في الإطلاع على ما عند الأمم الأخرى من علوم ومعارف حتى قال المستشرق سيديو[13] عنهم: "كان العرب وحدهم حاملين لواء الحضارة في القرون الوسطى وقد حرروا بربرية أوربا وسار العرب إلى منافع فلسفة اليونان ولم يقفوا عند حد ما اكتسبوه من كنوز المعرفة بل وسعوه وفتحوا أبواباً جديدة في مختلف العلوم وإذا ما بحثنا في الوجه الذي ايقظ الحضارة في المشرق وجدنا حب العرب للعلم وشوقهم إلى تعجيل رقيه بأنفسهم، ولعل تشوق العرب للإطلاع على علوم وثقافات الأمم الأخرى وإهتمامهم البالغ بالعلم دفعهم إلى الإبقاء على المؤسسات العلمية التي كانت لأهل الذمة في البلاد المفتوحة".(/4)
ولعل ما ذكره ديورانت[14] يؤيد ذلك: كان بنو أمية حكماء إذ تركوا المدارس الكبرى المسيحية أو الصابئية أو الفارسية قائمة خاصة في حران ونصيبين وجنديسابور وغيرها ولم يمسوها بأذى وقد حفظت هذه المدارس أمهات الكتب الفلسفية والعلمية معظمها ترجمها إلى العربية على أيدي النساطرة المسيحيين وقد بقيت هذه المدارس تؤدي عملها في العصور الإسلامية وزاد إتصالها بالمسلمين في العصر العباسي.
ولابد من الإشارة إلى دور هذه المدارس في نشر الثقافة.
* فمدرسة حران:
وحران مدينة تقع في الجزيرة شمال العراق بين الرها ورأس العين وهي مدينة قديمة عاصرت الرومان واليونان والنصرانية والإسلام سكانها من العرب والسريان والأرمن والمقدونيين وقد تأثرت حران بالثقافة المقدونية لدرجة أن الآلهة المعبودة في حران كانت أسماء بعضها يونانية[15]. وأصبحت حران منبعاً من منابع الثقافة اليونانية في العهد الإسلامي واتصلت مدرستهم بالخلفاء العباسيين وكان لها شأن كبير في نشر الثقافة اليونانية وفي ترجمة كثير من الكتب عن اليونانية[16].(/5)
وقد برز نخبة من أساتذتها وخريجيها لعبوا دوراً كبيراً في تعريب علوم اليونان في الفلك والرياضيات والطب منهم أبو عبدالله البتاني وهو أحد المشهورين برصد الكواكب والمتقدمين في علم الهندسة وهيئة الأفلاك وحساب النجوم وله كرب في الزيج والبروج وغيرها[17]. ويعتبر ثابت بن قرة (ت281هـ) أعظم من عرف في مدرسة حران كان يجيد اليونانية والسريانية والعبرية ترجم في المنطق والرياضيات والتنجيم والطب ونقح كتاب إقليدس الذي عربه حنين بن إسحق رحل إلى بغداد وأقام فيها ومن أولاده وأحفاده إبراهيم بن ثابت وأبو الحسن ثابت وإسحق أبو الفرج وكل هؤلاء نبغوا في الرياضيات والفلك[18]. واشتهر ابنه سنان بالطب وكان عالماً بالظواهر الجوية[19]. وكان حفيده بن سنان عالماً بالحكمة والهندسة وله ثلاثة كتب في علم النجوم وله مقالة فيها إحدى وأربعون مسألة هندسية[20]، واشتهر هلال بن إبراهيم بالطب كما اشتهر إبراهيم بن هلال بالأدب وقد رثاه الشريف الرضي[21]. لمنزلته في الأدب.
* أما مدرسة نصيبين:
ونصيبين مدينة تقع بين أعالي بلاد ما بين النهرين ودمشق حصنها الرومان تحصيناً قوياً وأصبحت مركز كرسي الأسقفية لوجود الأنصاري فيها وأسس مطران نصيبين مدرسة تحاكي مدرسة الإسكندرية في الفلسفة وكانت الغاية منها نشر اللاهوت الإغريقي بين المسيحيين الذين يتكلمون السريانية[22]. ومزج النصرانية بالأفلاطونية وأغلقت مدرسة نصيبين فانتقلت إلى الرها. وهكذا إنتقل فكرة مزج النصرانية بالفلسفة في أنحاء الشرق[23]. وساعد بذلك على نشر كتب الفلسفة اليونانية التي ترجمها النصارى النساطرة.
* وأما مدرسة جنديسابور:(/6)
جنديسابور: مدينة تقع في خوزستان أسسها سابور الأول وإليه تنسب وأسكنها الأسرى الذين أسرهم من جيش الروم وخاصة الذين كانوا على جانب كبير من الثقافة والخبرة الفنية وكان يؤمل استخدامهم مهندسين ومعماريين وأطباء وسمح لهم باستعمال لغتهم وإتباع ديانتهم كما سمح لهم ببناء الكنائس فتمتعوا بالحرية أكثر مما كان يسمح لهم تحت حكم الإمبراطورية الرومانية[24] وأسس فيها كسرى انوشروان مدرسة للطب كما أنشأ فيها بيمارستان وأول من علم بها الطب من اليونان والهنود فالتقت في هذه المدرسة الثقافة اليونانية والهندية والفارسية[25] وقد واصلت هذه المدرسة نشاطها العلمي بعد الفتح الإسلامي وزاد إتصالها بالمسلمين في العصر العباسي واشتهر من أساتذتها وطلابها في العصر العباسي جرجيس بن بختيشوع (ت771م) وهو من أطباء وأقدم ممثل لطبقة الأطباء الذائعي الشهرة من أسرته ومنهم حفيده جبريل بن بختيشوع (ت800م) ويحيى بن البطريق الذي اختصه المنصور للقيام بالترجمة وكذلك زكريا بن يحيى بن البطريق. وممن اشتهر في الترجمة والتأليف في الطب أبو زكريا يوحنا بن ماسويه (ت857م)[26] فكان لهم حينئذ شأن كبير في الحركة العلمية في العصر العباسي وبفضل هذه المدرسة.(/7)
وكانت هذه المدارس لا تقوم فقط بمهمة تعليم مختلف صنوف العلم المعروفة وإنما قامت بدور التعريب والتأليف وتعتبر الفترة الواقعة بين ظهور الفرق المسيحية وبين الفتح الإسلامي للعراق غنية بالترجمة من اليونانية إلى السريانية وذلك لأن الفرق المسيحية استخدمت الفلسفة اليونانية لتأييد معتقداتها وكانت الترجمة منصبة على اللاهوت والدراسات الدينية وبعد الفتح ابتدأت الترجمة من اليونانية إلى العربية وذلك منذ العصر الأموي. وشجع الأمويون حركة الترجمة إلى العربية وأول كتاب طبي ترجم إليها كان في خلافة مروان بن الحكم 64هـ وهو كناش[27] هرون القس بن اعين وقد إحتوى على ثلاثين مقالة نقلها من الآرامية إلى العربية ماسرجويه الطبيب البصري وزاد عليها مقالتين[28].
* دوافع حركة التعريب:
إن حركة التعريب قديمة ترجع جذورها إلى عصر الراشدين ولكن هذه الحركة نشطت في عهد عبدالملك بن مروان وابنه الوليد حين جعلا اللغة العربية اللغة الرسمية في دواوين الدولة ومراسلاتها فما لبثت أن إكتسحت لغات الشعوب المفتوحة من فارسية ورومية وقبطية وبربرية ويونانية وسريانية وعبرية وأصبحت وحدها شائعة في دار الإسلام لأنها لغة الفاتح ولغة الدين.(/8)
إن إقبال أهل الذمة بأعداد كبيرة على الدخول في الإسلام ساعد كثيراً على إنتشار اللغة العربية بينهم لإتقان القرآن وفرائض الإسلام واقتضت الحاجة بالنسبة لهؤلاء إلى تنقيط الحروف العربية وإلى إيجاد قواعد اللغة العربية وهو ما اصطلح على تسميته فيما بعد بعلم النحو[29] ولعل من أقوى الشواهد على المكانة التي أصبحت للغة العربية في الحياة الفكرية إهتمام المثقفين آنذاك بفقهها وتاريخها والإهتمام بفقه اللغة قوى الصلة بالقرآن فكان من الضرورة الماسة أن يفهم العدد الغفير من الداخلين بالعربية التي هي لغة التعبد الإسلامي، وقد دعت الحاجة إلى تمهيد السبل أمام هؤلاء الأعاجم إلى إمتلاك ناصية الدقائق المعنوية في العربية والتضلع في متنها الزاخر بالمفردات وهذا هو السبب الذي جعل معجم الخليل بن أحمد الفراهيدي البصري أساساً لنشأة فقه اللغة العربية وتطوره ثم إن سيبويه الفارسي أحد تلاميذ الخليل قام بخدمة جليلة عندما وضع علم النحو في صورة نظامية جرت عليها الأجيال المقبلة وكان ينافس سيبويه في هذا العلم الكسائي الكوفي[30]. ولذا كان على سكان البلاد المفتوحة أن يتعلموا العربية وأن يقرأوا ويكتبوا بها ليستفيدوا منها لدينهم ودنياهم حتى اضطروا أن يتعلموا النحو لإصلاح لغتهم[31]. وأقبلوا على تعلمها فعلاً ونقلوا إليها علومهم وحتى كتبهم المقدسة كالتوراة والإنجيل والزبور[32] وذلك لإظهار تراثهم الحضاري والثقافي للفاتحين ونتيجة لشعورهم برغبة المسلمين للإطلاع على ما عند الأمم الأخرى من علوم ومعارف كما أن إقبال البعض من أهل البلاد المفتوحة على ذلك تحقيقاً لمكاسب مادية ومعنوية[33].(/9)
ويبدو أن إقبال المسلمين على تشجيع حركة التعريب يعود أيضاً إلى ظهور الفرق الإسلامية وبروز فكرة الإعتزال والقول في القضاء والقدر وإحتدام الجدال بين هذه الفرق الإسلامية ثم إتساع نطاق الجدال الديني بين المسلمين وأهل الذمة ولا سيما النصارى واليهود وقد وجد المسلمون أن هؤلاء يقارعونهم الحجج للدفاع عن آرائهم ومعتقداتهم بالمنطق والفلسفة فأقبل المعتزلة على دراسة كتب الفلسفة اليونانية المعربة للإستفادة منها في الدفاع عن الإسلام تجاه أقرانه من الذميين[34].
وقد لعبت الفتوحات الإسلامية والفكر الإسلامي دوراً كبيراً في عملية التعريب حيث أقبل العرب تحت شعار المساواة بين مختلف الشعوب على التزوج بالأجنبيات من البلاد المفتوحة هذا الإقبال الشديد كان له أثره في إقبالهم على تعلم العربية وإتقانها. وتبع ذلك نشاط تجارة الرقيق وأخذ النخاسون يقيمون المدارس لتعليم الجواري الفارسيات والروميات والتركيات اللغة العربية وفنون الغناء واستخدام آلات الطرب ولم يلبث الخلفاء أن أنشأوا في جميع المدن المهمة مراكز وجمعوا حولهم كل عالم قادر على ترجمة علوم اليونان وكتبهم ولا سيما كتب أرسطو وجالينيوس وغيرهم ونقلها من السريانية إلى العربية. ولم يدم إكتفاء العرب بما نقل إلى لغتهم طويلاً فقد تعلم عدد غير قليل منهم اللغة اليونانية ليستقوا منها مباشرة ثم تعلمو اللغة القشتالية في إسبانيا كما يشهد بذلك ما في مكتبة الأسكوريال من المعجمات العربية اليونانية والعربية اللاتينية والعربية الإسبانية التي ألفها علماء من المسلمين[35]. وأصبحت مهنة الترجمة حرفة فصارت عملاً وراثياً يتولى عليه من الأسرة الواحد تلو الآخر[36].(/10)
وقد بدأت أولى المحاولات للتعريب في العهود الإسلامية بـ(تعريب النقود) وذلك منذ عهد الخليفة عمر بن الخطاب فقد ضرب الدراهم على نقش الكسروية وجعل نقش بعضها (الحمدلله) ونقش بعضها الآخر (محمد رسول الله) أو (لا إله إلا الله وحده) وتبت معيارها وأوزانها. وضرب عثمان بن عفان دراهم عربية بنقش (الله أكبر)[37] أما علي بن أبي طالب فقد شغلته الفتنة عن ضرب عملة جديدة، ولما تولى معاوية بن أبي سفيان الخلافة كتب إلى زياد بن أبيه والي العراق ليضرب عملة جديدة غير عملة عمر ينقش عليها إسمه[38]. ولما أعلن عبدالله بن الزبير نفسه خليفة في الحجاز ضرب دراهم ونقش على أحد وجهي الدرهم (محمد رسول الله) وعلى الوجه الآخر (أمر الله بالوفا والعدل)[39] وضرب أخوه مصعب سنة 70هـ دراهم في العراق أعطاها للناس في العطاء[40]. نقش على أحد وجهي الدرهم (بركه) وعلى الوجه الآخر كلمة: (الله)[41].
ولم يكن في الأمصار الإسلامية في بداية العهد الأموي سكة عربية إسلامية معترف بها قبل مجيئ عبدالملك بن مروان بل كان لأمراء الولايات دور سك خاصة يسكون فيها العملة حسب إحتياجاتهم ولهذا كانت قيم النقد غير مستقرة الأمر الذي شجع على التزييف والتلاعب[42].(/11)
وإن ما فعله عبدالملك والحجاج من تعريب للنقود إنما جاء مبنياً على ما صنعه عمر بن الخطاب حين نظر إلى الدراهم الفارسية التي اختلفت أوزانها عشرة قراريط، أو اثني عشر قيراطاً، أو عشرين قيراطاً فجمع ذلك فبلغ اثنين وأربعين فأخذ ثلثه أو (معدله) فكان أربعة عشر قيراطاً فجعله الوزن الشرعي[43]. الذي حدده عمر كاملاً غير منقوص[44]. وروى البلاذري[45] أن سعيد بن المسيب سأل: عن أول من ضرب الدنانير المنقوشة؟ فأجاب: عبدالملك بن مروان عام الجماعة سنة 74هـ وأن ضرب الدراهم بدأ في سنة 75هـ ثم أمر بتعميمه في جميع النواحي سنة 76هـ. وقال ابن الأثير[46]: "أنه لما صارت الخلافة إلى ملوك بني أمية وقد أغفلوا أمر المعاملة بما تشاغلوا به عن أمور نفوسهم تفاحش الغش في التجارة وصارت تنسب إلى الروم سكة ليست من ضرب الفرس فيما ابتدع الناس من دنانير كسرى وقيصر فعني عبدالملك بتمييز المغشوش من الدنانير والدراهم فضرب في دمشق".
ويرى البعض من المؤرخين أن هناك صلة من سوء العلاقات بين دولتي الإسلام والروم وبين تفكير المسلمين في وضع عملة مستقلة لهم[47] ويعلل هذا الإجراء بسبب أن الحرب أدت إلى إنقطاع التجارة وقلة النقد مما دعا عبدالملك إلى الشروع في إصدار عملة خاصة ليحقق للدولة إستقلالها الإقتصادي فأنشأ دار للضرب.(/12)
وقيل: أن الحرب اقترنت بمسألة خطيرة وأدت من سوء العلاقات لمساسها بالدين والمصلحة الإقتصادية وهي مسألة (القراطيس) (ورق الكتابة) التي ذكرتها المصادر العربية وخلاصة هذه المسألة كما ذكر البلاذري[48] أن القراطيس كانت تؤخذ من مصر إلى بلاد الروم التي تضرب فيها الدنانير وكانت الأقباط تكتب في رؤوس الطوامير (الصحف) عبارات تنسب الربوبية إلى المسيح كما ترسم في صدرها الصليب فأمر عبدالملك أن يكتب في مكانها آية {قل هو الله أحد} وغيرها من ذكر الله فكره ذلك ملك الروم واشتد عليه، وكتب إلى الخليفة: (إنكم أحدثتم في قراطيسكم كتاباً نكرهه فإن تركتموه، وإلا آتاكم في الدنانير من ذكر نبيكم ما تكرهونه) قال: فكبر ذلك في صدر عبدالملك لأنه كره أن يدع سنة حسنة. سنها إزاء هذا التهديد فاستشار من حوله فأشار عليه خالد بن يزيد بن معاوية بأن يحرم دنانيرهم ويمنع التعامل بها ويضرب للناس سككاً ويمنع أن يدخل بلاد الروم شيئ من القراطيس (فمكثت حيناً لا تحمل إليهم). فانقطعت التجارة التي كان بها يتم التبادل بالأوراق والدنانير ويبدو أن السبب المباشر الذي دفع عبدالملك إلى تعريب النقود يعود إلى توقف التجارة وإنقطاع النقد ورغبة في تحقيق الإستقلال الإقتصادي للدولة فأنشأ داراً للضرب[49] كما أشرنا سابقاً وضرب دنانير ذهبية عرفت بالدمشقية[50].
ويعلل أمير علي[51] الإجراء بقوله: "إن الدولة الإسلامية التي مضى عليها أكثر من نصف قرن منذ أيام الفتح الأولى لا يمكنها أن تظل معتمدة في نشاطها الإقتصادي المتزايد على النقد الأجنبي كما أن العملة الفارسية كانت مغشوشة ومضطربة لفساد الوضع في الدولة الفارسية".(/13)
ويؤيد ذلك ما رواه الماوردي[52] بقوله: "وقد كان الفرس عند فساد أمورهم فسدت نقودهم فجاء الإسلام ونقودهم من العين والورق والفضة والذهب غير خالصة إلا أنها كانت تقوم في المعاملات مقام الخالصة إلى أن ضربت الدراهم الإسلامية فتميز المغشوش من الخالص".
ورغم أن العملة البيزنطية والفارسية كانت متداولة بجانب العملة المحلية إلا أن إتساع أطراف الدولة العربية وتقدم التجارة أدى إلى وضع نظام ثابت للنقد[53] مما دفع عبدالملك بن مروان إلى ضرب سكة إسلامية جديدة وأصبحت النقود عربية صرفة[54]. وبعث بها إلى الحجاج بن يوسف الثقفي والي العراق حتى إذا فرغ من ضرب الدراهم بعث بالسكة إلى سائر الأمصار لتضرب الدراهم بها وكان قد ضرب في دمشق دنانير من الذهب سنة 73هـ بعد أن كانت كلها حتى ذلك التاريخ رومية[55] وبعد أن فرغ عبدالملك من ضرب الدنانير والدراهم كتب إلى عماله بالأمصار يأمرهم بأن يقسروا الناس على التعامل بالسكة الجديدة وأن يتهددوا بالقتل كل من تعامل بغيرها من العملة القديمة وأن يجمعوا له النقود القديمة المتداولة حتى يحولها إلى سكة إسلامية[56].
وفي عهده أيضاً بدأ بتعريب الدواوين ولا سيما تلك التي وجدت في البلاد المفتوحة أما الدواوين الأولى (الجند وبيت المال) فقد كانت باللغة العربية منذ نشأتها في عهد الخليفة عمر بن الخطاب[57] أما التي وجدت في البلاد المفتوحة فقد أبقاها العرب على حالها وهي المختصة بالجباية وحساباتها فظلت على ما كانت عليه، ففي العراق وسائر بلاد الشرق كانت بالفارسية وفي الشام كانت بالرومية[58] (اليونانية) وفي مصر بالقبطية[59]. ويبدو أن دوافع تعريب الدواوين المالية كان يقصد منه ضبط أعمالها والإشراف عليها منعاً من الغش والتزوير[60]. (وأدى هذا الإجراء (التعريب) إلى إيجاد طبقة جديدة من الكتاب وإلى نهضة لغوية أدبية رائعة)[61].(/14)
بدأ عبدالملك بعمله الجليل هذا بتعريب دواوين الشام وأمر كاتبه على الرسائل سليمان بن سعد الخشني أن يحول الديوان من الرومية إلى العربية[62] وكان ذلك سنة 81هـ. وقد طلب من عبدالملك أن يجعل له خراج الأردن في مقابل العمل والذي بلغ يومئذ 180 ألف دينار[63].
أما دواوين العراق فقد عربت أيام ولاية الحجاج بن يوسف على العراق فقد عهد إلى صالح بن عبدالرحمن بنقل الديوان من الفارسية إلى العربية وقد كان صالح يحذق الفارسية والعربية معاً وجعل له أجلاً لذلك فأتم صالح مهمته بنجاح وقيل: إن (مرادنشاه) ابن (زازان فروخ) كاتب الحجاج بذل له مائة ألف درهم على أن يظهر العجز عن هذا العمل ويمسك عنه فأبى فدعا عليه إذ أنه قطع أصل الفارسية[64].
وقد عربت الدواوين المصرية في ولاية عبدالله بن عبدالملك في خلافة الوليد سنة 87هـ وصرف (انشناس) عن الديوان وجعل عليه ابن يربوع الفزارى من أهل حمص[65] غير أن الدواوين المالية في خراسان لم تعرب وبقيت بالفارسية وكان أكثر كتابها من المجوس حتى كتب يوسف بن عمر في سنة 124هـ إلى نصر بن سيار عامله على خراسان يأمر بنقله إلى العربية ولا يستعان فيه من الكتاب بغير المسلمين وقام بعملية التعريب هناك إسحاق بن طليق الكاتب – من بني نهشل – وقد كان مع نصر بن سيار فأصبح خاصاً به[66].(/15)
أما تعريب العلوم فقد بدأت المحاولات الأولى فيه خلال العصر الأموي وكانت على الأغلب جهود فردية وعلى نطاق ضيق واقتصرت على العلوم العملية كالطب والفلك والعلوم العقلية (كالمنطق والفلسفة والهندسة) كما عربت بعض الألفاظ اليونانية واطلقوا عليها كلماتها الأصلية مثل البرجد (وهو كساء غليظ مخطط) وأسماء أشياء عرفها العرب بعد إتصالهم بالروم كالزبرجد والزمرد والياقوت ومقاييس وأوزان رومانية كالقيراط والأوقية وأسماء طبية أو نباتية كالقولنج والبرقوق أو كلمات نصرانية كالجاثليق والبطريق وغيرهم[67]. وقد توسعت حركة التعريب خلال القرن الأول الهجري بتأثير المسيحيين ورغبة بعض الأمويين فإن خالد بن يزيد الأول (ت85هـ) كان عالماً وأديباً ومن أول المحبين لعلوم اليونان فأمر بترجمة الكتب في علم الهيئة والطب والكيمياء حتى روى أنه وجد الحجر الفلسفي الذي يصنع به الذهب الإصطناعي[68].
وترى هونكة[69] إن لفشل الأمير الأموي خالد بن يزيد وإكراهه على التنازل عن العرش أثر كبير في نفسه دفعه إلى حقل جديد مجاله العلوم وأبحاثها.
ويرى بعض المؤرخين[70]: أن تنحية خالد بن يزيد عن الخلافة وغلبه مروان بن الحكم عليها كانت صدمة قوية للأمير خالد فتحول إلى ملهى يلهو به ويناسب ارستقراطيته فكان ذلك هو (الصنعة) رأى انه إذا استطاع أن يحول المعادن إلى ذهب استطاع أن يحول الناس إليه أو على أقل تقدير سيكون له من المنزلة ما يحسده عليها الخلفاء.
وهذا الرأي ينسجم مع ما أشار إليه ابن النديم[71] من قول خالد: ما أطلبه بذلك إلا أن أغنى أصحابي وإخواني، إن طمعت في الخلافة فاختزلت دوني فلم أجد منها عوضاً إلا أن أبلغ آخر هذه الصناعة فلا أحوج أحداً – عرفني يوماً أو عرفته – إلى أن يقف بباب سلطان رغبة أو رهبة.(/16)
وشجع عمر بن عبدالعزيز تعريب كتب الطب فأمر بنشر كتاب الطب الشرعي الذي نقله إلى العربية متطبب البصرة مارسرجونة في عهد الخليفة مروان بن الحكم وقد وجده في خزائن الكتب بالشام[72].
وأشهر من قام بدور التعريب في العصر الأموي يعقوب الرهاوي الذي ترجم كثيراً من كتب الإلاهيات اليونانية إلى العربية[73]. واضطلع السريانيون بنشر الفلسفة اليونانية في العراق وما حوله وأخذوا ينقلون الكتب اليونانية إلى لغتهم السريانية وهي إحدى اللغات الآرامية – التي انتشرت فيما بين النهرين والبلاد المجاورة لها – وكان من أهم مراكزها الرها ونصيبين وظلت هذه المدن مراكز للثقافة اليونانية إلى ما بعد الفتح الإسلامي تدرس فيها الرياضيات والفلك والفلسفة على المذهب الأفلاطوني وهم الذين تسموا – بعد ذلك – في عصر المأمون وبعده بالصابئيين وكان منهم كثير من المؤلفين وممن تولوا الترجمة إلى العربية بعد ذلك. وخدم السريانيون العلم والفلسفة بما ترجموا من كتب الفلسفة اليونانية التي أصبحت الأساسُ الذي اعتمد عليه العرب والمسلمون وكان لهم الفضل الكبير في نقل الفلسفة والعلوم إلى العربية في العصر العباسي[74].
إن العرب مع كثرة ما نقلوه عن اليونان لم يتعرضوا لشيء من كتبهم التاريخية أو الأدبية أو الشعر مع أنهم نقلوا من تاريخ الفرس وأخبار ملوكهم ولكنهم لم ينقلوا تاريخ هيرودتس ولا جغرافية استرابون ولا الياذة هوميروس ولا اوديسته ويرى بعضهم أن أكثر ما بعث المسلمين على النقل رغبتهم في الفلسفة والطب والنجوم والمنطق ويرى غيرهم أن الراحلين من اليونان أيام الإضطهاد إلى حران لم يكونوا أدباء ولا مؤرخين وإنما كانوا فلاسفة أطباء[75].(/17)
ويرى بعض المؤرخين[76] أن وراء عملية التعريب قوى ظاهرة وخفية تحركها نوايا خيرة تريد خدمة العلم والعمل على نشره أو سيئة تريد أن تشيد بماضي الفرس وتراثهم وتعمل على الحط من تراث العرب مضمرة السؤ للمسلمين. ويبدو أن للإزدهار الحضاري ونشاط الحركة العلمية والثقافية دوراً كبيراً في نشاط حركة التعريب فقد أخذ المثقفون الفرس يعربون تراث آبائهم في التنجيم والهندسة والجغرافية وخاصة ممن يجيدون اللسانين الفارسي والعربي ويبدو أنهم قلة بالمقارنة بمن نقل عن اليونانية والسريانية ومرده إلى العلاقة السياسية ومجرى التيار الحضاري.
وقد أقبل كثير من الفرس على حذق اللغة العربية والتثقف بآدابها فقد عجب الجاحظ بموسى بن سيار الأسواري – أحد القصاص – فقال ومن أعاجيب الدنيا كانت فصاحته بالفارسية في وزن فصاحته بالعربية وكان يجلس في مجلسه المشهور فيقعد العرب عن يمينه والفرس عن يساره فيقرأ الآية في كتاب الله ويفسرها للعرب بالعربية ثم يحول وجهه إلى الفرس فيفسرها لهم بالفارسية[77]. ويقول عنهم أحمد أمين أن هؤلاء الفرس الذين تعربوا وهؤلاء العرب الذين أخذوا بقسط من الثقافة الفارسية ملأوا الدنيا في العصر العباسي علماً وحكمة وشعراً ونثراً لسيادة اللغة العربية فكان نتاج العقول الفارسية الراجحة إنما هو باللغة العربية لا الفارسية[78].(/18)
وقد عقد ابن النديم[79] في كتابه الفهرست فصلاً بأسماء النقلة من الفارسية إلى العربية ذكر منهم عبدالله بن المقفع وآل نوبخت وموسى ويوسف ابني خالد ومحمد بن الجهم البرمكي وزادويه بن شاهويه الأصفهاني ومحمد بن بهرام بن مطيار الأصفهاني وبهرام بن مردان شاه وعمر بن الفرخان الطبري وإسحق بن يزيد الذي نقل إلى العربية كتاب سيرة الفرس المعروف باختيار ناما والبلاذري أحمد بن يحيى بن جابر المؤرخ المشهور وقد ترجم عهد أردشير شعراً ولم يعن المترجمون بترجمة وتعريب كتب تاريخ الفرس فقط بل عربوا الكتب الدينية ككتاب زرادشت المسمى (الافستا) وما عليه من شروح، كما ترجموا في الأدب عن الفرس كتاب كليلة ودمنة واليتيمة والأدب الكبير والصغير وكتاب (هزار افسانة) ومعناه ألف خرافة وكتاب موبذ موبذان وكتاب أردشير في التدبير وتوقيعات كسرى وكتاب أدب الحرب[80].
وأن ما ترجم عن العبرية لا يتعدى الإهتمامات الدينية اليهودية من ذلك ترجمة التوراة إلى العربية التي قام بها سعدياً الفيومي المصري في عام 330هـ وهو أقدم من نقله إلى العربية ووضع عليها الشروح والتفاسير وذلك لسيادة اللغة العربية على ما يبدو وأن ما نقل عن الهندية كتب الطب والنجوم والرياضيات والحساب وبعض كتب السحر[81].
وأهم ما عرب من كتب الهند كتاب عرف بـ(السند هند) لمؤلفه (براهما جوبتا) في حركات النجوم وأمر المنصور بترجمته إلى العربية وبأن يؤلف كتاب على نهجه وعهد بهذا العمل إلى محمد بن إبراهيم الفزاري الذي ألف على نهجه كتاب يعرفه الفلكيون باسم (السند هند الكبير) وقاد هذا الكتاب إلى أبحاث كثيرة في الفلك ومنه أيضاً عرف العرب نظام الأرقام والأعداد الهندية[82].(/19)
ولقد بدأت حركة تعريب واسعة النطاق في النواحي العلمية والثقافية في العصر العباسي الأول منذ خلافة المنصور الذي كان شغوفاً بالطب والهندسة ويعتقد بالنجوم وهو أول من راسل ملك الروم يطلب منه كتب الحكمة فبعث إليه كتاب اقليدس وبعض كتب الطبيعيات[83] وجمع حوله العلماء وشجعهم على ترجمة العلوم من اللغات الأخرى وقد عرب كل من جورجيس بن جبرائيل الطبيب وعبدالله بن المقفع كتب المنطق لأرسطو طاليس واعتنى يوحنا بن ماسويه وسلام الأبرش وباسيل المطران بكتب الطب[84]. وفي عهده قام إبراهيم الفزاري بتعريب كتاب الفلك الهندي الموسوم بـ(السند هند)[85].
كما استهل أبو يوسف يعقوب الكندي (فيلسوف العرب) وأحد العقول الكبرى في تاريخ العالم آنذاك نشاطه الفكري الذي لم يقتصر على تعريف مواطنيه بالفلسفة الأرسطو طاليسية والأفلاطونية عن طريق الترجمة فحسب بل تعدا ذلك إلى توسيع آفاقهم العقلية بما أخرج من دراسات في التاريخ الطبيعي وعلم الظواهر الجوية مكتوبة بروح تلك الفلسفة[86].
وقد زادت عناية الرشيد واهتمامه بتعريب الكتب فأمر بترجمة جميع ما وقع في حوزتهم من الكتب اليونانية كما وسع ديوان الترجمة الذي كان قد أنشأه المنصور لنقل العلوم إلى العربية وزاد عدد موظفيها فأسند تعريب الكتب إلى الطبيب يوحنا بن ماسؤيه وعين له كتاباً حذاقاً يشتغلون بين يديه ويساعدونه في عمله[87]. وكان الفضل بن نوبخت المكنى بأبي سهل الفارسي ينقل كتب حكماء الفرس التي جمعت من خراسان وفارس إلى العربية[88]. ومثله علان الفارسي الذي كان يعمل في خزانة الحكمة ويترجم للرشيد وللبرامكة.(/20)
ولما تولى المأمون الخلافة اهتم بتعريب علوم الأوائل واقتدى بسياسة والده الرشيد في إهتمامه بالعلوم وأخذ يضمن شروط الصلح مع ملوك الروم إرسال كتب الحكمة فكان أحد شروط الصلح بينه وبين ميخائيل الثالث أن ينزل للمأمون عن إحدى المكتبات الشهيرة في القسطنطينية وكان من بين ذخائرها الثمينة كتاب بطليموس في الفلك فأمر المأمون بتعريبه وسماه المجسطي[89]. كما أنشأ بيت الحكمة وهو مجمع علمي ومرصد فلكي ومكتبة يقيم فيه طائفة من المترجمين من أهل الذمة وتجري عليهم الأرزاق من بيت المال. وأرسل المأمون بعد ذلك بعثة علمية لشراء كتب الحكمة من بلاد الروم مكونة من الحجاج بن مطر وابن البطريق وسلم صاحب دار الحكمة فأخذوا مما إختاروه عدداً كبيراً وحملوه إلى بغداد فأمرهم المأمون بتعريبها فاجتمع عنده في دار الحكمة مجموعة كبيرة من كتب الفلسفة والمنطق والموسيقى والفلك وغيرها[90] إلى جانب كنوز العلوم الإسلامية[91]. وما أضافه الرشيد والمأمون من كتب العلم في لغات مختلفة وما جمعه يحيى بن خالد من كتب الهند[92].
وبلغت حركة التعريب أشدها في عهده إذ حرص على نقل ما يتفق مع العقلية العربية الجديدة من التراث الهيليني والشرقي إلى العربية، فقد بلغ التمازج الثقافي بين الثقافة العربية الإسلامية الجديدة وعلوم الأولين درجة كبيرة من التقدم. ويرى البعض من المؤرخين[93] أن إزدهار التعريب لا يعطي للمأمون أكثر من كونه رمزاً للعصر وليس بالمحرك ولا الباعث له إذ لم يبق المأمون في بغداد أكثر من عشر سنوات بين 204 – 214 وكان تشجيعه للعلماء في جانب كبير منه عملاً سياسياً أكثر مما هو علمي وكان ما فعله المأمون في هذا المجال أنه وسع دائرة الترجمة الموجودة في البلاط العباسي فجعل من مهمة (خزانة الحكمة) وأصحابها تعريب الكتب الفلسفية أيضاً.(/21)
ويرى البعض من المؤرخين[94] أن المأمون قد تأثر بالإعتزال عن طريق أستاذه ومؤدبه يحيى بن المبارك الذي كان قد اتصل به منذ صباه في أيام الرشيد بالإضافة إلى أنه كان محوطاً بشيوخ الإعتزال أمثال ثمامة بن أشرس ويحيى بن أكثم. أو أنه أراد من إتخاذ الإعتزال مذهباً رسمياً للدولة أن يظفر بتكوين دولة موحده سياسياً بإمتزاج الأحزاب وتوحيد القوى لإستتاب الأمن فكان يريد أن يتخذ من مذهبه الديني مذهباً وسطاً إلا أنه لم يظفر بعنايته لا من الوجهة السياسية بإنتهاء حياة الرضا بالموت مسموماً ولا من الوجهة الدينية التي لم ترض عنها المذاهب الإسلامية الأخرى.
وفي عهده ترجمت كتب اليونان الكبرى مثل كتب أفلاطون وأرسطو في الفلسفة وابقراط وجالينوس في الطب واقليدس وأرخميدس وبطليموس وغير ذلك[95].
إن عصر التعريب الحقيقي إنما قادته جماهير المتعلمين والمترجمين عبر عهد المأمون في عهد المعتصم والواثق والمتوكل واستمر التعريب في عنفوانه وكثافته حتى أواسط القرن الثالث الهجري وأن المد التعريبي لم ينقطع وقد استمر حتى أواسط القرن الرابع الهجري.
لقد إزدهرت حركة التعريب والترجمة على أيدي أهل الذمة الذين عكفوا على ترجمة وتعريب أمهات الكتب السريانية واليونانية والفهلوية والسنسكريتية وكان ذلك بتأثير الخلفاء العباسيين إلا أنهم لم يكونوا وحدهم يهتمون بالترجمة والنقل إلى العربية بل نافسهم الوزراء والأمراء والأغنياء وأهل العلم وأخذوا ينفقون الأموال الطائلة عليها[96]. قال ابن المصطفى[97]: "إن البرامكة شجعوا تعريب صحف الأعاجم حتى قيل: أن البرامكة كانت تعطي المعرب زنة الكتاب المعرب ذهباً".(/22)
وبالغ الفتح بن خاقان وزير المتوكل في إنفاق الأموال على الترجمة والتأليف ولم يكن محمد بن عبدالملك الزيات أقل منه سخاء في هذا وممن اشتهر بتشجيع حركة التعريب والتأليف من الأغنياء محمد وأحمد والحسن أبناء موسى بن شاكر المنجم الذين أنفقوا الأموال الضخمة في الحصول على كتب الرياضيات وترجمتها وكانت آثارهم قيمة في الهندسة والموسيقى والنجوم وقد أنفذوا حنين بن إسحاق إلى بلاد الروم فجاؤهم بطرائف الكتب وفرائد المصنفات[98].
وممن عرب لهم الكتب بالإضافة إلى حنين بن إسحق عيسى بن الحسن وثابت بن فرة وكانوا يرزقوهم في الشهر نحو خمسمائة دينار[99].
ولو رجعنا إلى المصادر التاريخية التي تناولت تدوين أسماء النقلة لوجدنا أسماء جمهرة كبيرة منهم أضحوا يشكلون طبقة بارزة وواضحة في المجتمع العباسي يذكر ابن أبي أصيبعة أنه كان في بلاط الخلافة العباسية منهم ستة وخمسون رجلاً من أهل المذاهب.
واضطر النقلة إلى إستخدام الكثير من المصطلحات والصيغ الأعجمية اليونانية والسريانية والفارسية والهندية على صبغتها الأجنبية على الرغم من أن التراجمة باللغة العربية ابتكروا معظم الألفاظ والمصطلحات من العربية فإن أعجزهم ذلك استعاروا الكلمات الأجنبية نفسها[100].
ومن آثار مشاركة الفرس في العصر العباسي في الإدارة والدواوين والقيادة والإمارة والإختلاط والتمازج بين العرب والفرس خاصة إن تسربت إلى اللغة العربية بعض الألفاظ الفارسية وذلك لأن العرب المسلمين بعد الفتح الإسلامي وجدوا بعض أسماء الأدوات والحاجات وأنواع المأكولات والملابس لا يوجد لها مقابل في العربية فاضطروا إلى تعريبها أو أخذها كما هي بلغتها الأجنبية بما يتفق واللسان العربي[101] وساعد هذا الإختلاط أيضاً على نقل بعض تراث الفرس الحضاري في الأدب والتاريخ والقصة كما قام ممن يجيد منهم اليونانية والهندية بترجمة كثير من أسماء الأدوات والألفاظ اليونانية والهندية إلى العربية[102].(/23)
ونختتم بحثنا هذا بالقول أن نشاط حركة التعريب كان بدافع، رسمي وشعبي وكان للإسلام أثر كبير في نجاح عملية تعريب الأمم التي انتشر الإسلام فيها كما لعبت الحركات السياسية والفكرية والإزدهار الثقافي والحضاري ورغبة بعض خلفاء المسلمين دوراً بارزاً ومهماً في توسع هذه الحركة وإنتشارها بين أغلب الشعوب التي خضعت لدار الإسلام.
مصادر ومراجع البحث
ابن أبي أصيبعة، موفق الدين أبي العباس أحمد بن القاسم بن خليفة بن يونس السعدي الخزرجي 66هـ/ 1270م.
1.(عيون الأنباء في طبقات الأطباء).
بيروت، دار الفكر، 1956م.
ابن الأثير، أبي الحسن علي بن المكرم بن محمد بن عبدالكريم بن عبدالواحد الشيباني المعروف بابن الأثير الجزري والمكنى بعز الدين ت630هـ/1232م.
2.(الكامل في التاريخ).
طبعة بولاق 1290هـ، مصر.
ابن خلدون، عبدالرحمن المغربي ت808هـ/1405م.
3.(المقدمة).
مطبعة مصطفى محمد – القاهرة.
ابن شيت، إيليا مطران نصيبين
4.(كتاب المجالس السبعة) (مخطوط).
وهو رسالة الوزير المغربي العباسي للمطران إيليا من مقتنيات الأستاذ سعيد الديوهجي – الموصل.
ابن الطقطقي، فخر الدين محمد بن علي بن طباطبا 709هـ/1309م.
5.(الفخري في الآداب السلطانية).
مطبعة محمد علي صبيح – القاهرة.
ابن القفطي، جمال الدين ابن الحسن علي بن يوسف 646هـ/1248م.
6.(تاريخ الحكماء) ويسمى (مختصر الزورني)
من كتاب (أخبار العلماء بأخبار الحكماء) طبع ليبزك 1320هـ.
ابن النديم، ابن النديم ت 383هـ/993م
7.(الفهرست).
سلسلة روائع التراث العربي/ مكتبة خياط/ بيروت.
البلاذري، أحمد بن يحيى بن جابر ت279هـ/892م.
8.(فتوح البلدان).
نشر صلاح الدين المنجد
مطبعة الموسوعات 1901م القاهرة.
الجاحظ، أبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ البصري ت255هـ/868م.
9.(البيان والتبيين).
نشر مكتبة المثنى، بغداد.
الجهشياري، محمد بن عيدوس ت331هـ
10.(الوزراء والكتاب).
مطبعة البابي الحلبي، مصر 1938م.(/24)
خليفة، مصطفى بن عبدالله الشهير بحاجي خليفة ت1067هـ/1656م.
11.(كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون).
دار المعارف التركية 1941م.
الدميري، كمال الدين ت808هـ
12.(حياة الحيوان الكبرى).
المطبعة الأميرية، القاهرة 1274هـ.
الشهرستاني، أبي الفتح محمد بن عبدالكريم بن أبي بكر أحمد (ت548هـ = 1153م).
13.(الملل والنحل)
تحقيق محمد سيد كيلاني، نشر مصطفى الياس الحلبي/ مصر 1961م.
الماوردي، أبي الحسن علي بن محمد بن حبيب المصري البغدادي، ت450هـ/1058م.
14.(الأحكام السلطانية والولايات الدينية)
مطبعة الوطن 1298هـ/ القاهرة.
المقريزي، تقي الدين أحمد بن علي ت845هـ/ 1441م.
15.(المواعظ والإعتبار بذكر الخطط والآثار).
مطبعة بولاق/ مصر
16.(شذور العقود في ذكر النقود) نشر جيرارد 1797م.
أمين، أحمد
17.(فجر الإسلام)
مطبعة لجنة التأليف 1935م، ط3، القاهرة
18.(ضحى الإسلام)
نشر دار الكتاب العربي، ط3، بيروت.
أوليرى، دي لاسي
19.(إنتقال علوم الإغريق إلى العرب)
مطبعة الرابطة بغداد 1958م
بروكلمان، كارل
20.(تاريخ الشعوب الإسلامية)، ط3.
دار العلم للملايين – بيروت 1961م.
بارتولد. ف
21.(تاريخ الحضارة الإسلامية)
ترجمة حمزة طاهر، ط3، طبع دار المعارف بمصر
الخربوطلي، علي حسني
22.(تاريخ العراق في ظل الحكم الأموي)
دار المعارف بمصر 1959م
دراوور، الليدي
23.(الصابئة المندائيون)
ترجمة نعيم بدوي وغضبان رومي، مطبعة الإرشاد – بغداد 1969م.
ديموميين، موريس غود فروا
24.(النظم الإسلامية)
ترجمة صالح الشماع ورفيقه.
مطبعة الزهراء – بغداد 1952م.
ديورانت، ول
25.(قصة الحضارة).
طبع الإدارة الثقافية بجامعة الدول العربية.
رفاعي، أحمد زيد
26.(عصر المأمون)
مطبعة دار الكتب المصرية 1928م
الريس، محمد ضياء الدين
27.(الخراج والنظم المالية للدولة الإسلامية)
زيدان، جرجي
28.(تاريخ التمدن الإسلامي)
طبع دار الهلال القاهرة.
سيديو، ل.أ(/25)
29.(تاريخ العرب العام) ترجمة عادل زعيتر
نشر البابي الحلبي/ مصر 1948م.
شاكر، مصطفى
30.(التعريب في الإسلام)
مقالة بمجلة البيان الكويتية التي تصدرها رابطة الأدباء، العدد 111 حزيران 1975م.
علي، سيد أمير
31.(مختصر تاريخ العرب والتمدن الإسلامي)
ترجمة رياض رأفت.
مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر 1938م/ القاهرة.
غنيمة، يوسف رزق الله
32.(نزهة المشتاق في تاريخ يهود العراق)
مطبعة الفرات – بغداد 1924م.
لوبون، غوستاف
33.(حضارة العرب)
ترجمة عادل زعيتر
مطبعة عيسى البابي الحلبي.
ماجد، عبدالمنعم
34.(الحضارة الإسلامية في القرون الوسطى)
هونكه، زيغريد
35.(شمس العرب تسطع على الغرب)
المكتبة التجارية بيروت.
اليوزبكي، توفيق سلطان
36.(تاريخ أهل الذمة في العراق)
رسالة دكتوراه غير منشورة.
37. Gaitein, Jews and Arabs, New York, 1955.
38. The Jewish Encyclopedia, I,P.16 U.S.A. 1951.
39. The Encyclopedia of Islam (art Nahw).
40. E. Gibbon, The Decline and fall the Roman Empire (London 1911) vol 5. p.388.
---
[1] أنظر: ابن النديم الفهرست، البلاذري فتوح البلدان، ابن سعد الطبقات.
[2] انظر:
Ency of Islam (art Nahw) T3.P. 894-895.
[3] أنظر: ديموبين: النظم الإسلامية ص11.
[4] أنظر: بارتولد: الحضارة الإسلامية ص30.
[5] ابن أبي أصيبعة: عيون الأنباء جـ1، ص185 – 189.
[6] أنظر ديورانت: قصة الحضارة جـ14، ص136.
[7] أنظر:
The Jewish Encyclopedia, I.P.16.
[8] أنظر جرجي زيدان: تاريخ آداب اللغة العربية جـ2 ص114، غنيمة: نزهة المشتاق في تاريخ يهود العراق، ص167.
[9] ايليا: المجالس السبعة (مخطوط) ورقة 28.
[10] توماس أرنولد: الدعوة إلى الإسلام ص70.
[11] دراوور: الصابئة المندائيون ص133، 135.
[12] الشهرستاني: الملل والنحل، جـ2، ص50.
[13] أنظر سيديو: تاريخ العرب العام ص383، ص385.
[14] أنظر ديورانت قصة الحضارة، جـ13، ص177.(/26)
[15] أحمد أمين ضحى الإسلام، جـ1، ص256.
[16] سيدة كاشف الوليد بن عبدالملك، ص226.
[17] ابن القفطي أخبار الحكماء، ص280، ص281، دائرة المعارف الإسلامية (مادة صابئة)، جـ1، ص91.
[18] ابن خلكان وفيات الأعيان، جـ1، ص124 – 125، ابن النديم الفهرست، ص312.
[19] ابن النديم الفهرست، ص302.
[20] ابن القفطي أنباء الحكماء، ص57 – 58.
[21] ابن القفطي أنباء الحكماء، ص75 – 76.
[22] أوليري إنتقال علوم الإغريق إلى العرب، ص66 – 67.
[23] أحمد أمين ضحى الإسلام، جـ1، ص160.
[24] أوليري إنتقال علوم الإغريق، ص21.
[25] هونكه شمس العرب تسطع، ص181.
[26] اليوزبكني تاريخ أهل الذمة في العراق، ص184 – 185.
[27] كناش جمعها كناشات أوراق تجعل كالدفتر يقيد فيها الفرائد والشوارد، (الزبيدي تاج العروس، جـ4، ص347، مصر سنة 1948م).
[28] ابن القفطي أخبار العلماء، ص80.
[29] ابن خلدون المقدمة 454 – 455.
Ency of Islam (art Nahw) T3.P. 894-895.
[30] كارل بروكلمان تاريخ الشعوب الإسلامية، ص26 – 27.
[31] أحمد أمين فجر الإسلام، ص175.
[32] عبدالمنعم ماجد الحضارة الإسلامية في القرون الوسطى ص157.
[33] اليوزبكي: تاريخ أهل الذمة في العراق، ص382.
[34] اليوزبكي: تاريخ أهل الذمة في العراق، ص383.
[35] غوستاف لوبون حضارة العرب، ص433 – 434.
[36] المقريزي كتاب النقود، ص32.
[37] المصدر السابق والصحيفة.
[38] البلاذري فتوح البلدان، ص473.
[39] المصدر السابق والصحيفة.
[40] المقريزي، ص33.
[41] الماوردي الأحكام السلطانية، ص148.
[42] الخربوطلي تاريخ العراق في ظل الحكم الأموي، ص424.
[43] البلاذري فتوح البلدان، ص471.
[44] المقريزي كتاب النقود، ص31 – 33.
[45] البلاذري فتوح البلدان، ص471.
[46] ابن الأثير الكامل، جـ4، ص174، بولاق 1290هـ.
[47] الريس الخراج والنظم المالية للدولة الإسلامية، ص221، الاتليدي إعلان الناس، ص274.(/27)
E Gibbon The Decline and fall the Roman Empire Vol 5.p.388.
[48] البلاذري فتوح، ص449.
[49] جرجي زيدان تاريخ التمدن الإسلامي، جـ1، ص98.
[50] البلاذري فتوح البلدان م ص472.
[51] أمير علي: مختصر تاريخ العرب والتمدن الإسلامي، ص164.
[52] الماوردي الأحكام السلطانية، ص148.
[53] سيد أمير علي مختصر تاريخ العرب، ص165.
[54] ابن الأثير الكامل، جـ4، ص173.
[55] البلاذري فتوح البلدان ص472 – 473.
[56] الدميري حياة الحيوان، حـ1، ص76.
[57] الجهشياري الوزراء والكتاب، ص38.
[58] الماوردي الأحكام السلطانية، ص192.
[59] المقريزي الخطط، جـ1، ص98.
[60] أمير علي مختصر تاريخ العرب، ص166.
[61] الريس الخراج والنظم المالية، ص227.
[62] البلاذري فتوح البلدان، ص201، الجهشياري الوزراء، ص40.
[63] البلاذري فتوح، ص201.
[64] البلاذري فتوح البلدان، ص308 – 309.
[65] المقريزي الخطط، جـ1، ص98.
[66] الجهشياري الوزراء، ص67.
[67] أحمد أمين ضحى الإسلام، جـ1، ص281.
[68] بارتولد تاريخ الحضارة الإسلامية، ص69.
[69] هونكة شمس العرب تسطع، ص378.
[70] أحمد أمين ضحى الإسلام، جـ1، ص270.
[71] ابن النديم الفهرست، ص354.
[72] ابن أبي أصيبعة عيون الأنباء، جـ1، ص163.
[73] أحمد أمين فجر الإسلام، ص162.
[74] أحمد أمين فجر الإسلام، ص159.
[75] أنظر رفاعي عصر المأمون، ص163، حاشية (1).
[76] أحمد أمين فجر الإسلام، ص263.
[77] الجاحظ البيان والتبيين، جـ1، ص139.
[78]
[79] ابن النديم الفهرست، ص224 وما بعدها.
[80] أحمد أمين ضحى الإسلام، جـ1، ص179.
[81] شاكر مصطفى التعريب في الإسلام، ص52.
[82] زيغريد هونكة: شمس العرب تسطع على الغرب، ص73، 74.
[83] حاجي خليفة كشف الظنون، جـ1، ص671.
[84] أنظر: رفاعي عصر المأمون، جـ1، ص379.
[85] بروكلمان، ص40.
[86] بروكلمان تاريخ الشعوب الإسلامية، ص40.(/28)
[87] ابن القفطي أخبار الحكماء، ص249، ابن أبي أصيبعة، جـ1، ص175، خليفة كشف الظنون، جـ1، ص680.
[88] ابن النديم الفهرست، ص247.
[89] المجسطي: ومعناه الترتيب الكبير في علم الفلك وكان المرجع المهم في الفلك عند المسلمين وعند الأوربيين في القرون الوسطى (جواد علي تاريخ العرب قبل الإسلام، جـ1، ص680).
[90] ابن النديم الفهرست، ص339.
[91] بروكلمان، ص39.
[92] محمد فوزي الفتيل التربية عند العرب مظاهرها وإتجاهاتها، ص1، الدار المصرية للتأليف والترجمة 1966م.
[93] شاكر مصطفى التعريب في الإسلام، ص47 – 48.
[94] رفاعي عصر المأمون، ص367، ص372.
[95] عبدالمنعم ماجد تاريخ الحضارة الإسلامية، ص147، ص150.
[96] اليوزبكي تاريخ أهل الذمة في العراق، ص382.
[97] ابن الطقطقي الفخري في الآداب السلطانية، ص235.
[98] انظر ابن النديم الفهرست، ص340.
[99] رفاعي عصر المأمون، جـ1، ص377.
[100] شاكر مصطفى التعريب في الإسلام، ص54.
[101] أنظر أحمد أمين ضحى الإسلام، جـ1، ص174.
[102] اليوزبكي تاريخ أهل الذمة، ص400.(/29)
العنوان: التعليم في عهد السلف
رقم المقالة: 904
صاحب المقالة: محمد عيد العباسي
-----------------------------------------
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:
فقد أكرم الله خير عباده محمداً - صلى الله عليه وسلم - بالنبوة، وبعثه إلى الناس كافة معلماً ومربياً، وبشيراً ونذيراً، وأنزل على قلبه كتابه الحكيم، وأوحى إليه سنته الغراء، وأنعم عليه وعلى أمته بهذا الإسلام العظيم الذي هداها به إلى الصراط المستقيم، وأخرجها من الظلمات إلى النور، فأبصرت بعد العمى، واجتمعت بعد الفرقة، وعزت بعد الذلة، ففتحت الدنيا، وسادت الأمم، ونشرت الحق والخير والهدى والعدل في العالمين.
وقد هيأ الله - تعالى - لنبيه أصحاباً كراماً مخلصين أتقياء أنقياء، آمنوا به واستجابوا لدعوته، وتلقوا عنه، وتتلمذوا عليه، فعلموا وعملوا وعلموا وتربوا، فكانوا وتابعوهم وأتباعهم بحق خير أمة أخرجت الناس، كما شهد لهم بذلك القرآن.
ثم خلف من بعدهم خلوف، غيروا وبدلوا، وآثروا الدنيا على الآخرة، وتعلقوا بزينة الدنيا وشهواتها، وتركوا ما أمروا به، ووقعوا فيما نهو عنه، فضعفوا وتأخروا وهانوا وذلوا، وتخلى الله عنهم، فسلط عليهم أعداءهم، وغير حالهم من القوة إلى الضعف، ومن الوَحدة إلى الفرقة ومن العزة إلى الذلة، ومن السيادة على الأمم إلى أن صاروا نهباً لأحقر الأمم وعبيداً لها، {جَزَاء وِفَاقاً }؛ [النبأ: 26]. {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللّهُ وَلَكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}؛ [آل عمران: 117].
وإذا أردنا أن يعود إلينا عزنا السالف ومجدنا التليد، فلا سبيل لنا إلا العودة لما كان عليه سلفنا الصالح وذلك بالرجوع إلى ديننا الحنيف، فنتفقه فيه، ونعمل به، ونتمسك بأهدابه، ونعلمه أبناءنا، ونجعله نبراس حياتنا، ومنهاج سلوكنا، وصدق الله القائل: {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ}؛ [الرعد: 11].(/1)
وهذا لا يتحقق إلا بأن نعتمد المنهج القرآن والنبوي في العلم والتعلم والتعليم، الذي عمل به سلفنا الصالح، فنتبناه ونطبقه، وبيان هذا المنهج لا يتسع له المقام، فأكتفي عملاً بالحكمة القائلة، ما لا يدرك كله لا يترك جله، والإشارة إلى أهم معالمه وهي:
أولاً: جعل مصدر علمنا ومرجعه وأساسه كتاب الله - تعالى - وسنة رسوله:
لأنهما المصدران الموثوقان المعصومان من كل خطأ ونقص وعيب، لأنهما من الله العليم الخبير الحكيم – سبحانه - فنترك كل ما خالفهما، ونعرف لهما فضلهما وحقهما، ونعتني بها وندرسها، ونستخرج منهما أغلى الكنوز، وأثمن الفوائد.
ثانياً: فهم الكتاب والسنة على ضوء فهم السلف الصالح: من أهل القرون الثلاثة الفاضلة الأولى من الصحابة والتابعين وتابعيهم الذين أثنى عليهم القرآن، وأعطر الثناء، وزكاهم النبي - عليه الصلاة والسلام - أطيب التزكية فيقدم فهمهم على كل فهم، ويرد ما خالفه وعارضه، وفي ذلك عصمة من النزاع والشقاق بسبب التأويل المنحرف، والفهم الخاطئ؛ لأنهم أقرب الناس عهداً بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وأقومهم سبيلا، وأرشدهم طريقاً، وأفصحهم لغة.
ثالثاً: إخلاص العلم لله تبارك وتعالى: وجعله غاية سعينا ونهاية قصدنا:
فنبتغي بعلمنا وتعليمنا وجه الله - تعالى - ونؤثر بها الدار الآخرة، وحينذاك يبارك الله في علمنا ويزكيه، وينفع المتعلمين ويؤثر فيهم، ويدخل قلوبهم بغير استئذان، والقلوب بيد الله، يفتحها لكلام المخلصين الصالحين الصادقين.
رابعاً: البدء بترسيخ الإيمان في النفوس قبل تعلم الأحكام:(/2)
وذلك بتعريف المتعلمين بربهم تبارك وتعالى، بأسمائه وصفاته وأفعاله ووجوب إجلاله وتعظيمه، والخوف منه، ورجائه، ومحبته ببيان كمالاته ورحمته ومحبته وعلمه وحكمته وبيان الغاية التي خلقنا الله - تعالى - من أجلها، والحكمة من تقليبنا في الأحوال المختلفة، والمصير الذي سنصير إليه والتذكير بالموت والآخرة وأهوال القيامة وصفة الجنة والنار
على أمره، وقد رأينا ذلك في حياة الصحابة الكرام - رضي الله تعالى عنهم - الذين كانوا إذا نزل عليهم أي حكم يتلقونه بالقبول والاستسلام, ويسارعون إلى تطبيقه وتنفيذه قائلين سمعنا و أطعنا, ولذلك لم يكونوا يستكثرون من تعلم الآيات والأحاديث، لأنهم كانوا يبدؤون بفهمها ثم العمل بها، فتعلموا العلم والعمل جميعاً.
وهذه هي الطريقة الحكيمة التي اتبعها القرآن الكريم في تربية وتعليم الجيل الأول المثالي، وتوضح ذلك أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - فتقول: "إنما نزل أول ما نزل من القرآن سورة من المفصل، فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء لا تشربوا الخمر. لقالوا: لا ندع الخمر أبداً. ولو نزل: لا تزنوا. لقالوا: لا ندع الزنا أبداً. لقد نزل بمكة على محمد - صلى الله عليه وسلم - وإني لجارية ألعب {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ}؛ [القمر: 46]. وما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده"؛ رواه البخاري (6/101).
خامساً: إجلاله العلم واحترامه وعدُّه عبادة يُتقَرب بها إلى الله:
والنتيجة الطبيعية لهذا تعظيم العلماء والمعلمين واحترامهم، والتأدب معهم لأنهم ورثة الأنبياء كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - وخفض الصوت لديهم، وعدم التقدم عليهم، وإلانة القول لهم، وحسن مخاطبتهم فبذلك ينشرحون لبذل العلم لطلابهم وإفادتهم.(/3)
سادساً: اعتماد المنهج العلمي القائم على الدليل والحجة والبينة والقناعة، ونبذ التقليد والظن والوهم في التعليم, ولعل هذا أهم ما جاء به الإسلام، فقد دعا الناس إلى التفكير والعلم وطلب الدليل فبكَّت المشركين وذم الكتاب الذين اتبعوا الظن والوهم والخرافة, وبنوا عليها عقائدهم وأفكارهم، فقال: {إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً }؛ [النجم: 28]. وطالبهم بالدليل على ما يقولون فقال: {قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ }؛ [البقرة: 111].
وقد أخذ السلف بهذا التوجيه الرباني الكريم، فاقرأ معي ما رواه الإمام مسلم في "صحيحه" عن حصين بن عبد الرحمن قال: "كنت عند سعيد بن جبير، فقال: أيكم رأى الكوكب الذي انقض البارحة؟ قلت: أنا, أما إني لم أكن في صلاة، ولكني لدغت[1]، قال: فماذا صنعت؟ قلت: استرقيت. قال: فما حملك على ذلك؟ قلت: حديث حدثناه الشعبي، فقال: وما حدثكم الشعبي؟ قلت: حدثنا عن بريدة بن الحصيب الأسلمي أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا رقية إلا من عين أو حُمَة)) [2]. فقال: قد أحسن من انتهى إلى ما سمع. فأنت ترى أن سعيد بن جبير العالم التابعي الجليل يسأل صاحبه وتلميذه عن الدليل على ما فعله، ولما أورده له أثنى عليه, وبذلك يبين أنه لا يؤخذ قول أو حكم من غير دليل وبينة، ولا شك أن رأس البينة في الدين كتاب الله وسنة رسوله – صلى الله عليه وسلم.
سابعاً: جعل الهدف الأكبر من التربية والتعليم تكوين الشخصية المسلمة المستسلمة لأمر الله - تعالى -:(/4)
هذه الشخصية التي تقر لله – تعالى - بالألوهية، وتسلك مسلك العبودية لله، فتوحده حق التوحيد وتلتزم بأمره وتتجنب نهيه، وتقوم بواجب الخلافة في الأرض، وتعتني بالدين والدنيا، وتعمل للدنيا والآخرة مسترشدة بقوله – تعالى -: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ }؛ [القصص: 77]. {هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ}؛ [هود: 61]. ولذلك وجدنا الحضارة الإسلامية تؤاخي بين العلم والدين فتتقدم في العلوم الكونية والدنيوية.
كما تتقدم فيه العلوم الشرعية والدينية، وتبلغ بهما الذروة، وتنتج خير حضارة بشرية، سخَّرت نواميس الطبيعة وخيراتها، لما ينفع الناس ويسعدهم، لا كما صنعت حضارة الغرب قديماً وتصنع حديثاً، فتسبب للبشرية الشقاء والخوف والتعاسة والدمار.
ثامناً: ربط الحقائق العلمية بالحقائق الإيمانية، وغرس العقيدة الصحيحة وترسيخها في نفوس المتعلمين من خلال التعليم:
وهذه طريقة القرآن في بناء العقيدة، حيث يعرض آيات الله في الكون والأنفس والآفاق, ويدعو الناس إلى التأمل والتفكير، والوصول بذلك إلى الإيمان بالله – سبحانه - وبقدرته وصفاته، خلافاً للمنهج العلماني الذي يعرض الحقائق العلمية مجردة من التوجيه, ويفصل بين العلم والدين فيكون التعليم سطحياً ظاهرياً لا يؤثر في السلوك, ولا ينشِّئ الإنسان الصالح، كما قال – تعالى - في وصف علم الكافرين:{يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُون}؛ [الروم: 7].
تاسعاً: أن يكون المعلم قدوة حسنة للمتعلم:(/5)
و هذا أصل أصيل في التربية، أن تكون التربية والتعليم بطريق القدوة، وقد أمر بذلك الإسلام، وحذر تحذيراً شديداً من أن يخالف فعل المرء - خاصة العالِم - قوله،ونفَّر منه تنفيراً شديداً، فضرب للواقع في ذلك أقبح الأمثال، وشبهه بالحمار والكلب، قال الله عز وجل: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا}؛ [الجمعة: 5]. وقال: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ}؛ [الأعراف: 175].
عاشراً: الرفق بالمتعلم والترحيب به وتشجيعه:
وقد وردت النصوص الكثيرة في الأمر بذلك, وعدِّه سبباً للنجاح والفلاح، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه))؛ رواه أحمد ومسلم وأبو داود.
وقال: ((إن الله يحب الرفق في الأمر كله))؛ رواه أحمد والشيخان وغيرهم, وقبل ذلك قول الله تبارك وتعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَن}؛ [النحل: 125].كما أوصى النبي - صلوات الله عليه وسلامه – المعلمين بطلاب العلم فقال: ((إذا جاءكم طالب العلم فقولوا: مرحبا بوصية رسول الله)). ولذلك كان المعلمون والعلماء يخاطبون المتعلمين بأطيب الكلام, ويتواضعون لهم, ويحبونهم ويحسنون معاملتهم.
وكان المتعلمون يحبون المعلمين, ويأنسون بهم, ويحترموهم ويجلونهم, ويحسنون الاستفادة منهم، فكان من ذلك أعظم الفوائد, وأعظم النجاح.
ومن الرفق بالمتعلم سلك المعلمون سبيل تسهيل المعلومات للمتعلم, والتدرج فيها من السهل إلى الصعب ومن اليسير إلى المركب, وهكذا.
حادي عشر: تنويع الأساليب لتشويق المتعلم وجذب انتباهه وتركيز فكره لمتابعة الدرس:(/6)
فمن ذلك استعمال أسلوب الاستفهام والحوار, وأسلوب القصص والأحداث, وأسلوب ضرب الأمثال، واستعمال الوسائل التعليمية المتيسرة، والأمثلة على ذلك في كلام الله - تعالى - وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم - وكلام السلف كثيرة وطيبة.
هذه لمحة مختصرة جداً عن أهم ملامح هذا المنهج الإسلامي الفريد في التربية والتعليم, الذي خرج أفضل جيل ظهر على وجه الأرض. فهلَّا جعلناه نصب أعيننا ووعيناه وحرصنا على تطبيقه خلال قيامنا بهذه الوظيفة الخطيرة؛ وظيفة صنع الأجيال، لنعيد صياغة مستقبل أمتنا على نور وهدى من الله.
أرجو ذلك، وبالله التوفيق.
ــــــــــــــــــــــــ
[1] هذا مثال على ورع سلفنا الصالح, فقد خشي حصين أن يظن أستاذه أنه كان مستيقظاَ؛ لأنه كان يصلي مع أنه لم يصل حذرا من الوقوع تحت الوعيد الوارد في قوله – تعالى -: {لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }؛ [آل عمران: 188].
[2] حمة العقرب: لدغته.أ(/7)
العنوان: التغيير في حياة الأمم وعوامل الثبَات والاهتزَاز
رقم المقالة: 430
صاحب المقالة: د. أحمَد محمّد العَسّال
-----------------------------------------
معنى التغيير:
قال الراغب الأصفهاني في مفرداته: التغيير يقال على وجهين: أحدهما لتغيير صورة الشيء دون ذاته، يقال: غيرت داري إذا بنيتها بناء غير الذي كان. والثاني لتبديله بغيره نحو: غيرت غلامي ودابتي إذا أبدلتهما بغيرهما نحو قول الله عز وجل: {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم}[1].
وقال في اللسان: (وتغيّر الشيء عن حاله: تحول، وغيّره حوله وبدله كأنه جعله غير ما كان وفي التنزيل العزيز {ذلك بأن الله لم يك مغيّرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم}[2] قال ثعلب: معناه حتى يبدلوا ما أمرهم الله.
والغير الاسم من التغير، وأنشد عن اللحياني قوله:
إذ أنا مغلوب قليل الغير قال: ولا يقال إلا غيّرت
وذهب اللحياني إلى أن الغير ليس بمصدر، إذ ليس له فعل ثلاثي غير مزيد، وغيّر عليه الأمر: حوله. وتغايرت الأشياء اختلفت. والمغيّر الذي يغير على بعير أداته ليخفف عنه ويريحه...
وَغِيَرُ الدهر: أحواله المتغيرة: وورد في حديث الاستسقاء ((من يكفر بالله يلق الغير)) أي تغير الحال وانتقالها من الصلاح إلى الفساد[3].
والمتأمل فيما أورده الراغب واللسان يجد الكلمة تأتي لثلاثة معان:(/1)
أحدها: تغيير صورة الشيء دون ذاته، وثانيها: تبديله بغيره وهو معنى تحويله وجعله غير ما كان، وثالثها: التخفيف وإصلاح شأن الشيء كما يخفف صاحب البعير عن بعيره من رحله ويصلح من شأنه، وبحثنا سيكون في التغيير بمعنى التبديل، والذي وردت الآيتان القرآنيتان فيه، والذي استشهد كل من اللسان والمفردات بهما في توضيح المراد من التبديل، ذلك أننا نريد أن نكتشف عوامل الاهتزاز والضعف التي تودي ببنيان الأمة وتوهنها وتجعلها مستحقة لعقوبة الله ونقمته، ونريد أيضاً أن نكتشف عوامل القوة والثبات التي تورث الأمة العزة والقوة والطمأنينة والأمن وتجعلها مستحقة لخلافة الله في الأرض على نحو ما وعد الله أسلافنا ووعدنا في قوله المحكم: {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون}[4].
لقد قص الله علينا في محكم كتابه قصص أنبيائه ورسله وما حدث لهم مع أممهم وأقوامهم ليبين لنا سننه ونواميسه، وليكون هذا القصص لنا عبرة نتعلم منها، ودروساً نعيها ونستفيد منها لما يحدث في حياتنا وينزل بنا، قال الله تعالى: {لقد كان في قصصهم عبرة لأولى الألباب، ما كان حديثاً يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم مؤمنين}[5].(/2)
وجعل أيضاً في حركة الزمن وتدافع الأمم وصراعاتها ومداولة النصر والهزيمة بينها عبرة تؤخذ، وامتحاناً وابتلاء يعرف به الصادقون من غيرهم، وتعرف به سنن الخير والصلاح وسنن النصر والتمكين، وأسباب الهزيمة والفشل، يقول الله تعالى في نهاية قصة سيدنا داود وما حدث له من نصر على جالوت: {ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبراً وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين. فهزموهم بإذن الله وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين}[6].
ويقول الله تعالى في غزوة أحد وما حدث من نصر في البداية ثم هزيمة سببها المتعجلون بجمع الغنائم وتركهم أماكنهم: {إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين}[7]، {ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم وقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين}[8].
بين السنن الكونية والسنن الاجتماعية:
لقد خلق الله عز وجل هذا الكون بالحق وجعله محكم الصنع منضبط القوانين لا ترى فيه خللاً ولا اضطراباً، يقول سبحانه: {الذي خلق سبع سموات طباقا ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئاً وهو حسير}[9] ويقول: {إنا كل شيء خلقناه بقدر}[10].
وهكذا فإنه ما من شيء في بنيان الكون وتركيب العالم والحياة... يخضع للصدفة من أصغر شيء فيه يغور في الطوايا التي لا تراها العيون: نيوترونات، وبروتونات، والكترونات، وجينات، وكرومسومات، وحتى السدم والمجموعات الشمسية الهائلة والمجرات المنتشرة عبر مساحات لايحيط بها خيال الإنسان!!(/3)
كل شيء يجد نفسه ضمن إرادة الله وعلمه وتدبيره للخلق والصيرورة والمصير إنها القدرة الإلهية التي تحكم سنن الكون والحياة فلا تند ولا تطغى[11]، يقول الله تعالى: {وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم المظلمون والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون}[12] إلى غير ذلك من الآيات الكريمة التي تتحدث عن الإبداع والانضباط والتي اكتشف العلم شيئاً منها فعاد مقراً بالعجز مسلماً بالقدرة المهيمنة الشاملة...، وإذا كان الأمر هكذا بالنسبة للكون وسننه ونظامه بهذا الوضوح والدقة، فهل هو كذلك بالنسبة لسنن الله في الحياة الاجتماعية؟ نعم: فإن السنن الكونية وسنن الله في الحياة البشرية متعانقتان مطردتان لا تتخلفان ولا تتوقفان، والقرآن يكرر هذه الحقيقة بالنسبة للحياة البشرية حين تقول: {قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين}[13]. ويقول في آية أخرى: {سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا}[14].(/4)
ويؤكد هذه الحقيقة ويبينها في أعقاب كل جزاء يحل بقوم نتيجة ما قدمت أيديهم، يقول في قريش وما حل بهم يوم بدر: {ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلاَّم للعبيد} ويردف ذلك بأنه سنة عامة إذ يقول: {كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كفروا بآيات الله فأخذهم الله بذنوبهم إن الله قوي شديد العقاب ذلك بأن الله لم يك مغيراً نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأن الله سميع عليم}[15] والسنن نوعان: سنن صالحة هادية إلى الحق وإلى طريق مستقيم، يبين ذلك قول الله تعالى: {يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليكم حكيم. والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيما}[16] والنوع الآخر سنن فاسدة مدمرة تقود إلى الباطل وإلى طريق البوار وذلك على نحو ما أشار القرآن في قوله سبحانه: {ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار}[17] وقوله – صلى الله عليه وسلم: {ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء}[18]. قال في اللسان: يريد من عملها ليقتدي به فيها، وكل من ابتدأ أمراً عمل به قوم بعده قيل: هو الذي سنه[19].
والآن وبعد أن وضح لنا معنى التغيير، ودور السنن بقسميها نريد أن نعرف مكان الفطرة البشرية من هذه السنن، وكيف يحدث التغيير فيها، وما العوامل المؤثرة في هذا التغيير إن خيراً فخير وإن شراً فشر.
الفطرة والسنن:(/5)
خلق الله عز وجل الفطرة البشرية وأودع فيها حب الخير والاستجابة للحق والرغبة فيه، وجعلها ودينه القيم الذي شرعه لعباده شيئاً واحداً، يقول سبحانه: {فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون}[20]. وانظر إلى تعبير القرآن {فطر الناس عليها} أي جميعهم، ثم قوله سبحانه {لا تبديل لخلق الله} أي لا تغيير ولا اختلاف ثم قوله في نهاية الآية: {ذلك الدين القيم}.
ويؤكد ذلك ويقرره قول النبي – صلى الله عليه وسلم – في الحديث الصحيح الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه: ((كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء؟)) ثم يقول أبو هريرة: (اقرأو إن شئتم {فطرة الله التي فطر الناس عليها}، الآية).
وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: (ويقول تعالى: {إني خلقت عبادي حنفاء، فاجتالتهم الشياطين وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا}.
إن أصل سنن الخير والفلاح مصدرها من عند الله عز وجل قله سبحانه المثل الأعلى والأسماء الحسنى والصفات العلا، وهو يحب معالي الأمور ويكره سفسافها؛ لذلك كان الإيمان به مصدر الخير كله وكان الإشراك به ظلماً عظيماً للفطرة وانتكاساً لها ومخالفاً لطبيعتها وللموثق الذي أخذ عليها في عالم الذر، يقول الله تعالى: {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين}[21].(/6)
ومن هنا إذا دعيت هذه الفطرة إلى الإيمان بالله والقيام بشرائع البر والحق والعدل استجابت، ووجدت في ذلك سعادتها وأمنها وامتدادها، وحققت بذلك سنن الخير والصلاح في حياتها وحياة مجتمعها. أما إذا التوى زمامها وأضلها أولياؤها عن جادة الحق والإيمان بالله، وغُذِّيت بمناهج وعقائد بعيدة عن هداية الله... انفرط عقدها، وانحلت عروتها فصارت مستعدة لقبول سنن الفساد والضلال ومصداق ذلك ما حدث في الجاهلية قبل الإسلام، ثم ما أحدثه الإسلام في العرب والنقلة التي نقلهم إليها ثم ما نراه اليوم في جاهلية القرن المعاصر، أما العرب والنقلة التي نقلهم إليها ثم ما نراه اليوم في جاهلية القرن المعاصر، أما العرب في الجاهلية فقد تخبطوا في عقائدهم وأخلاقهم وعباداتهم وسياساتهم: عبدوا الأصنام وجعلوها واسطة بينهم وبين الله، وفي عباداتهم طافوا بالبيت عراة وهامت كل قبيلة حول صنم تعظمه وتقدسه، وفي أخلاقهم استحلوا الخمر والزنا، ووأدوا بناتهم وظلموا نساءهم، وفي سياساتهم تعصبوا لقبائلهم وأغار بعضهم على بعض لأتفه الأسباب وأقل الأمور وهذا دليل الاضطراب والانحلال والضلال...
أما ما أحدثه الإسلام في نفوس العرب من هداية واستقامة فحدث ولا حرج من استقامة في العقيدة وفي العبادة وفي الأخلاق وفي المعاملات... وهذا ما سأعود عليه عما قريب إن شاء الله.
أما جاهلية الغرب الحديث فانظر إلى تحلل الأخلاق واضطراب الموازين والوقوف مع الظالمين من اليهود ضد المظلومين من مسلمي فلسطين، وما تطالعك به حالة الزنوج في أمريكا... وجنوب أفريقيا فضلاً عما تعج به مجتمعاتهم من منكرات تحمل في طياتها حتفهم وزوال أمرهم.
ثبات السنن والقيم في الإسلام واضطرابها عند غيره:(/7)
وإذا كانت الفطرة البشرية قد فطرت على حب الإيمان بالله والاستقامة على شرائعة؛ فإن دور الإسلام أن يجنب هذه الفطرة مزالق الانحراف ويبعدها عن عوامل الزيغ والضلال؛ ذلك أن الله عز وجل جعل هذه الحياة امتحاناً لعباده واختباراً لحسن تصرفهم وعملهم، يقول سبحانه وتعالى: {إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا}[22]، {تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير، الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا}[23].
وكان من هذا الامتحان ما خلقه الله في الإنسان من دوافع جبلية تتطلب الإشباع وتدفع إلى تعمير هذه الحياة وتنميتها بالعمل الصالح والسلوك المستقيم، ولكن هذه الدوافع لما فيها من ثورة الشهوة وقوتها كانت سبيل الشيطان إلى نفس الإنسان وحياته لتتم بذلك حقيقة الامتحان وأسلوبه في هذه الحياة، وبذلك يتصارع في الإنسان قوة الخير الذي فطره الله عليه، والدوافع التي يستغلها الشيطان وتكون ميدانه ومحل إغراءاته وغواياته على نحو ما بين القرآن في وصف الشيطان إذ يقول على لسانه: لعنه الله {وقال لأتخذن من عبادك نصيباً مفروضا. ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ولآمرنهم فليغيرن خلق الله ومن يتخذ الشيطان ولياً من دون الله فقد خسر خسراناً مبينا، يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا}[24].
ومن هنا كانت مهمة الإسلام تزكية الفطرة وتسليحها بشرائع الحق وتكليفها بواجبات الخير والهدى لتنضبط في سيرها وتستقيم في حياتها فلا يميل بها هوى جامح أو شهوة منحرفة عن طريق الحق: وبذلك لا يجد الشيطان إليها سبيلاً وصدق الله إذ يقول: {ونفس وما سواها، فألهمها فجورها وتقواها، قد أفلح من زكاها، وقد خاب من دساها}[25]، ويقول في مهمة نبيه الكريم: {هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم، يتلو عليهم آياته، ويزكيهم، ويعلمهم الكتاب، والحكمة، وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين}[26].(/8)
هذه التزكية التي جاء بها الإسلام جاءت شاملة لحياة الفرد، والجماعة: لم تترك جانباً من جوانب الحياة ولا أمراً من أمورها إلا بينته ووضحته، وإنك لتجد مصداق ذلك في النظام الحق الذي وضعه العليم الخبير وجاء به الوحي؛ فلا غرو حينئذ أن تكون رسالة الإسلام هي رسالة الحق الكامل التام، يقول الله تعالى لنبيه الكريم: {قل يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنا عليكم بوكيل}[27].
إن هذا الهدى الذي جاءت به هذه الرسالة بثه الله في خلقه ليعمل في الفطرة البشرية كما تعمل النواميس الكونية سواء بسواء، فكما أن الماء ينزل من السماء فيحيى الله به الأرض بعد موتها فكذلك النفوس البشرية إذا اهتدت بالوحي وقامت بالتكاليف حيت وترعرعت. يقول الله تعالى: {أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون}[28]، وفي الحديث الصحيح: ((مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا منها، وسقوا وزرعوا. وأصاب طائفة منها أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به))[29].(/9)
هذه التزكية التي تحيا بها النفوس وتصلح بها الجماعات هي قوانين الله في خلقه ونواميسه لصلاح عباده يقول الله تعالى: {وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون}[30] قال ابن كثير في معنى الآية: (ثم أخبر تعالى أنه لم يهلك قرية إلا وهي ظالمة لنفسها، ولم يأت قرية مصلحة بأسه وعذابه قط حتى يكونوا هم الظالمين كما قال تعالى: {وما ظلمناهم ولكن أظلموا أنفسهم}[31] وقال: {وما ربك بظلام للعبيد}[32]، ويمشي في سياق الآية التي قدمناها آنفاً ويؤكدها قوله سبحانه: {وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا وكنا نحن الوارثين، وما كان ربك ليهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولاً يتلوا عليه آياتنا وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون}[33].
وسنن الله عز وجل تعمل عليها في نفوس عباده ومجتمعاتهم وتؤتى ثمرها لمن عمل بها ووفاها حقها والتزم بها حتى ولو كان غير مؤمن، ولكنها في الكافر تقف عند حد هذه الحياة الدنيا ولا تتجاوزها. قال تعالى: {من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون}[34].(/10)
ولكن الفرق بين عمل السنن في المجتمع المؤمن وعملها في المجتمع المنحرف: أنها في المجتمع المؤمن مستقرة وثابتة ومطردة وخالدة، إذ هي مرتبطة بمعايير أخلاقية وبقيم معنوية تتجاوز هذه الحياة إلى الدار الآخرة وما أعد الله فيها للمحسنين من ثواب مقيم وأجر جزيل وهذا من شأنه يربط الأمة كلها بمثل ثابتة لا تختلف باختلاف الناس ولا البيئات وصدق الله: {ومن يعتصم بالله فقد هدى إلى صراط مستقيم}[35]، {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء}[36] أما في المجتمع غير المسلم فهي غير مستقرة وغير ثابتة ومتغيرة؛ لأنها مرتبطة بالقيم المادية، ومن شأن القيم المادية التغيير وعدم الثبات؛ إذ أساسها المنفعة والمتعة، لذلك تكون الأخلاق فيها نسبية والقيم مهتزة وتصبح القاعدة: (الغاية تبرر الوسيلة) وها أنت ترى كيف أحل اليهود لأنفسهم أموال غيرهم بغير حق، وكيف عم طوفان الوسائل الدنيئة الحياة الاقتصادية – من رشوة وتجارة بالرقيق الأبيض وإفساد للذمم – حياة الناس اليوم لدرجة أن الدول تنادى الآن لعمل ميثاق دولي يحاسب الشركات ويأخذ على يد المفسدين ولكن هيهات؛ فقد اتسع الخرق على الراقع وعمت البلوى ولابد للأمر من علاج جذري، وصدق الله تعالى: {والذي خبث لا يخرج إلا نكدا كذلك نصرف الآيات لقوم يشكرون}[37].(/11)
إن المجتمع المسلم تضبطه قاعدتا التكاليف والأخلاق: فالتكاليف تذكره دائماً بالله وأن الغاية من الحياة هي عبادة الله عز وجل، وبذلك تصبح أنشطة الحياة وسائل لهذه الغاية؛ ومن شأن هذه التكاليف أن تثمر الأخلاق الطيبة الكريمة، ويأتي قانون الشريعة فيدعم هاتين القاعدتين الهائلتين في حياة الناس ويظلهم بالمظلة الواقية من الانحراف أو الفسق، ويضبط العلاقات بينهم على أساس حقوق الله وحقوق الناس، وعلى أساس قاعدة الحلال والحرام. وصدق الله: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون}[38] ويقول الرسول الكريم: ((سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله.. ومنهم إمام عادل))[39]. ويقول – صلى الله عليه وسلم –: ((أيها الناس إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد))[40].
وإذا كان المجال يقتضي أن يوضح الأمر بمثال فلنأخذ قضية البيع والشراء في الإسلام وكيف تنضبط بالمعايير الخلقية السليمة، ويدخل فيها وازع الإيمان وابتغاء رحمة الله ورجاء ثوابه، وكيف تتدخل الشريعة لتحسم الأمر عند الانحراف وتجاوز الأخلاق الطيبة... يقول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم}[41] ويقول – صلى الله عليه وسلم –: ((البيعان بالخيار ما لم يتفرقا فإن صدقا وبيّنا بورك لهما وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما))[42].(/12)
وبناء على نص القرآن الكريم والحديث الصحيح فقد أصبح محرماً استعمال أي وسيلة باطلة للحصول على المال، ووجب أن تكون الوسائل كلها صالحة ومستقيمة؛ فإذا حدث وكتم البائع شيئاً من صفات المبيع أو دلس بأن ظهر المبيع على غير وجهه، فعلاوة على أن الله عز وجل ينزع بركته من هذا البيع ويستلزم ذلك اكتشاف كذب البائع وعدم صدقه، وفي هذا نزع للثقة فيه وعدم احترامه في المجتمع المسلم؛ فإن الشريعة ترد البيع وتعيد إلى البائع سلعته جزاء كذبه أو كتمانه أو تلزمه بثمن المثل، وإذا كان المشتري استفاد شيئاً رد قيمته، يوضح ذلك الحديث المصراة[43]. يقول صلى الله عليه وسلم: ((لا تصروا الإبل والغنم فمن ابتاعها بعد فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها إن شاء أمسك، وإن شاء ردها وصاعا من تمر))[44]. وهذا ما يطلق عليه الفقهاء بخيار التدليس، ومثله خيار الغبن وذلك بأن يكتشف المشترى أن البائع غبنه في ثمن السلعة وأعطاه إياها بأكثر من ثمن المثل.
أسباب الاهتزاز والضعف:
وإذا كان الأمر كما ذكرت في ثبات السنن الصالحة واطرادها وأنها أشد ما تكون في المجتمع المسلم، وأنها مهتزة وغير مطردة في المجتمع غير المسلم؛ فلماذا قل نصيبنا من نتائجها الطيبة في مجتمعاتنا الإسلامية المعاصرة؛ بل نرى على النقيض من ذلك اهتزاز في الرؤية للغاية من الحياة، واضطراباً في السلوك، وضعفاً عاماً مكن اليهود من اغتصاب فلسطين، وجعل التيارات الغريبة الوافدة تتقسم إلى الأمة وتحاول التسلط عليها وتوجيهها؟!!
إن إدراك أسباب هذا الواقع المر لا يخطئه صاحب البصيرة النافذة، ولا ذو التفكير المستقيم؛ فكما أسلفنا، إن حظ أي مجتمع من النجاح أو الفشل أو التقدم أو الهبوط إنما يكون مقدار عمله بهذه السنن مجتمعة أو تركه لها، والواقع الذي نشهده أن حصيلتنا من العمل بسنن الله ووفائنا لها حصيلة ضعيفة؛ لذلك كان حالنا كما نرى. وصدق الله: {وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون}[45].(/13)
ومن هنا لابد من معرفة الأسباب الكلية والعوامل الرئيسية التي سببت ذلك الاهتزاز الهائل في النفوس والأخلاق وتلك الحالة المرضية والخطيرة لندرك الطريق إلى العلاج ومن ثم النهوض والإصلاح... ويمكن إرجاع الأسباب إلى ثلاثة عوامل رئيسية:
1 - ضعف الأمة داخلياً وفقدانها الثقة بنفسها.
2 - عجز القيادة في الأمة وعدم قدرتها على ملء الفراغ وانفصالها نفسياً وفكرياً وعملياً عن أهداف الأمة العامة.
3 - تطلع هذه القيادة في كثر مجتمعاتنا لملء هذا الفراغ عن طريق استعارة نماذج الحضارة الغربية في النهوض والإصلاح وفرضها هذه النماذج بالحديث والنار على الأمة.
إن هذه العوامل الثلاثة متداخلة ومتشابكة وكل منها يساعد الآخر ولا يمكن فصلها عن بعضها الآخر. إلا أن السبب الرئيسي يبدأ من ضعف الأمة داخلياً وعدم قدرتها على مكافحة أسباب العجز والضعف، ومن ثم تصبح عندها القابلية لتقبل أمراض التخلف والضعف كالجسم العليل الذي تضعف فيه المقاومة فيصبح مرتعاً للجراثيم والميكروبات.
وضعف الأمة داخلياً، لا يأتي فجأة ولا يحصل بغتة، وإنما هو نتيجة مراحل طويلة وأجيال متعاقبة أهملت فيه الأمة تجديد نفسها، فركنت إلى النوم واستسلمت للأحلام، وعاشت على الذكريات ورضيت بترديدها فأصبحت خارج الأحداث معزولة عن معركة الحياة، فلم تواكب التطورات في الوسائل ولم تواجه التحديات، فضعف فكرها، وسادها الخمود، وعم التقليد، وانتشرت الأمية، وانشغل الناس بالجزئيات. وافتقدوا الوعي بواقعهم والمشكلات التي تواجههم، واستفحل أمر الشهوات والأهواء، ففشا الظلم وظهرت النفعية والانتهازية وأخلاق النفاق، فانحلت رابطة الأمة وانعدم الروح العام الذي يربط بين أبنائها، وأصبح كل إنسان مشغولاً بنفسه عن أمته... وتأخرت الدولة وأجهزتها، وأصبحت غير قادرة على النهوض والعطاء والتجديد... وبدأ الفراغ الداخلي يعمل عمله في التطلع إلى الأمم الأقوى.(/14)
وجاءت الموجة الأوروبية الاستعمارية المتربصة بتفوقها وقدرتها ونهمها وجشعها فأغارت على هذه المجتمعات لتستغل هذه الأمراض المنتشرة وتخترق الحواجز النفسية وتبدأ في اصطناع قادة جدد لهذه الشعوب، وتستغل ما فيهم من ضعف... وتلوح لهم بالسلطان والدولة، وذلك كما حدث للشريف حسين في مكة. وكيف استعمله الإنجليز ولوحوا له بالخلافة العربية ليضربوا به جيش الخلافة العثمانية في ظهره، ويستعملوا البدو عن طريق لورانس في تحطيم خط حديد الحجاز شريان الحياة وأعظم مشروع آنذاك؟؟!
فانظر إلى المستوى الهابط من الجهل والأنانية وفقدان الوعي كيف أوصل الناس إلى التعاون مع العدو اللدود ودعوته إلى احتلال الأرض، واقتسام الأوطان على نحو ما تم بعد وبدأت به مأساتنا الحديثة التي لا زلنا نعيشها فكان الشريف حسين بحق كالمستجير من الرمضاء بالنار.
في هذا الجو المسموم بدأت الأفكار الأوروبية تأخذ طريقها وذلك مثل التشكيك في قدرة الدين على نهوض بالأمة، وأن الدين لا يتناسب مع عصر التنوير... وأن الدين من بقايا العصور الوسطى، وأنه مناقض للعلم، وأنه لابد من الأخذ بالمنهج الأوروبي في الحياة والسياسة والأخلاق وفصل الدين عن السياسة. وأن الرابطة الإسلامية صارت عديمة الجدوى، قليلة النفع، ولابد من التحول إلى الرابطة الوطنية والقومية والأخذ بالقوانين الغربية، وترك الشريعة والتخلص منها أو تقليصها وجعلها في الدائرة الشخصية البحتة.(/15)
وزاد الطين بلة القدرة الاجتماعية والسيادة السياسية للمستعمرين الأوروبيين واعتمادهم في إذابة مجتمعاتنا واحتوائها على بعض أبناء البعثات التي تعلمت على أيديهم والتي أرسلت إليهم من تركيا ومصر والشام وعلى الأقليات الموجودة في أيديهم والتي أرسلت إليهم من تركيا ومصر والشام وعلى الأقليات الموجودة في مجتمعاتنا، فقد عمل فريق من هؤلاء المبعوثين حينما عادوا على حمل رسالة التغريب يعاونهم في ذلك الأقليات، ويمنحهم القوة والنفوذ تمكن الدول المستعمرة من بلادنا آنذاك.
وبدأ تغيير بنية الحكم واتجاه الثقافة والولاء من الإسلام بشموله وقوته إلى الحضارة الغربية وقيمتها. وحدث الزلزال الكبير بالإجهاز على تركة الرجل المريض (الخلافة العثمانية) كما كانوا يقولون، وتولى تلميذ مخلص من تلامذة الغرب ألا وهو مصطفى كمال أتاتورك حمل رسالة التغريب ليحمل فأسه ويحاول أن يقوض البناء من أساسه في تركيا – حاضرة الخلافة والمدافعة عن الإسلام والعالم العربي قرابة أربعة قرون والواقفة أمام أطماع اليهود في النصف الأول من القرن العشرين.. الخ – لقد أجهز أتاتورك على الخلافة ونادى بالطورانية[46] محل الإسلام، وأراد أن يجتث الثقافة الإسلامية فحرّم العربية وأجبر الناس على قراءة القرآن بالتركية. وحوّل كتابة اللغة التركية من الحروف العربية إلى الحروف اللاتينية، ليعزل الجيل الجديد عن تراثه وثقافته، واستورد القوانين الغربية، وفرض السفور ووصل في عدائه أن ألغى قانون الأسرة وجعله قانوناً علمانياً وفرض اللباس الأوروبي... وحرّم الطربوش والعمامة، كل ذلك بالحديد والنار.(/16)
بهذه التجربة المرة في مجتمعاتنا المعاصرة تمزق ولاء الأمة وتشتت فكرها، وتحطمت نفسيتها وتوقفت مسيرتها، فقد عاشت هذه الأمة بالإسلام، والإسلام بطبيعته رسالة حياة حضارة، وهو في قيمه ونظرته ووجوده في واقع الأمة الإسلامية والمجتمعات الإسلامية يخالف مفهوم الدين عند الغربيين، فإذا كان الدين عند الغربيين قد حرّف وبدل وصار مفهومه (أعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله) بمعنى الفصل بين الدين والحياة...؛ فإن الإسلام هو توجيه الحياة كلها بمختلف أنشطتها وجعل غايتها ووجهتها لله عزّ وجل.
يقول الله تعالى على لسان رسوله: {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين}[47] ولهذا كانت شريعة الإسلام هي دستور الحياة الفردية والاجتماعية بحيث لا يخرج أي أمر عن نطاقها ونظرتها. يقول الله تعالى على لسان رسوله: {ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون}[48] ويقول: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله، ولا تتبع أهواءهم، واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك، فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم، وإن كثيراً من الناس لفاسقون، أفحكم الجاهلية يبغون، ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون}[49].(/17)
ومن هنا فدعاة التغريب واللادينية في مجتمعاتنا إنما يحاربون الفطرة الخيرة في الأمة التي جاء الإسلام فقواها ونماها وأعطاها امتدادها؛ ولذلك فرغم المحاولات المريرة التي حاولها هؤلاء الدعاة ومن أبرز أمثلتهم (أتاتورك)، فإن شعباً كالشعب التركي رفض كل المحاولات التي حاولت ردته وتغيير وجهته وسلوكه، وحالما حانت الفرصة عبر عن إسلامه وتدينه ويكفي مثلاً على ذلك شبابه ووفوده إلى بيت الله الحرام بعد انقطاع أكثر من خمس وعشرين عاماً، لكن النتيجة أن هذا الصراع الذي قام به أتاتورك وطغمته دفع ضريبته هذا الشعب عزلة وتأخرا وتمزقا وضياعاً. وعلى ذلك فقس باقي المجتمعات التي رزحت تحت أنظمة من هذا النوع.
والمشكلة الأساسية أن دعاة التغريب واللادينية – سواء كانوا يتبعون الفلك الغربي الأوروبي، أو يتبعون الفلك الشيوعي الاشتراكي – هم مقلدون تائهون يرددون كلام سادتهم وأوليائهم، ويلفقون ويزورون في دعاويهم وآرائهم، فلا قدرة عندهم على قول كلمة الحق، ولا شجاعة عندهم في النزول على حكم الأمة؛ وكل عملهم في الأمة هو عمل الغواة والسحرة، فما أضخم شعاراتهم، وما أكثر ضجيجهم... وما أسوأ أخلاقهم، افتقدت الأمة فيهم القدوة الصالحة، وانتشر بهم الكذب والفجور والتحلل، وعم بهم الإرهاب والتنكيل، وغاض العدل والإنصاف، وفقدت الطمأنينة وضاعت الثقة، فأصبحوا كابوساً ثقيلاً وليلاً طويلاً، فما أبعد التحضر عن سلوكهم وأعمالهم ولا حول ولا قوة إلا بالله.(/18)
هذه هي أسباب الضعف والاهتزاز بشكل مجمل وبإشارات تغنى عن عبارات، ولا خلاص منها إلا بعملية تغيير جذرية تقوم بها نفوس قوية تأخذ بسنن الله وتمضي على بركة الله، تزيل الخرائب وتعيد بناء الأمة من جديد في فكرها وعملها وسلوكها، وتواكب هذا العصر بكل ما فيه من وسائل ومبتكرات، وتستطيع حينذاك أن تغلب تيار الفساد وتنهي أمره، وتلم شعث الأمة وتمكنها من أن تستأنف مسيرتها من جديد فيتحقق لها ما وعدها الله به من عز ونصر وتمكين.
{يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم}[50]
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالم.
المراجع
– القرآن الكريم.
– تفسير ابن كثير للحافظ عماد الدين اسماعيل الخطيب بن كثير الشافعي – دار الأندلس للطباعة والنشر – بيروت – الطبعة الأولى 1385هـ/1966م.
– تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن لأبي عبدالله محمد أحمد الأنصاري القرطبي – دار الكتاب العربي للطباعة والنشر – القاهرة 1387هـ/1967م.
– فتح الباري – للإمام أحمد بن علي بن حجر العسقلاني – المطبعة السلفية ومكتبتها بالقاهرة 1380هـ.
– صحيح مسلم.
– سبل السلام – الإمام محمد إسماعيل الكحلاني الصنعاني المعروف بالأمير – طباعة ونشر مكتبة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر – الطبعة الرابعة 1379هـ/1960م.
– المفردات في غريب القرآن للراغب الأصفهاني – المكتبة المرتضوية – طهران – بين الحرمين.
– لسان العرب – للعلامة أبي الفضل جمال الدين محمد مكرم بن منظور الأفريقي المصري – دار بيروت للطباعة والنشر – 1956م/1375هـ.
– فتاوي شيخ الإسلام ابن تيمية – اعداد محمد بن عبدالرحمن بن قاسم – الطبعة الأولى – مطبعة الحكومة – مكة.
– تاريخ الشعوب الإسلامية لبروكلمان – ترجمة نبيه أمين فارس ، ومنير البعلبكي – الطبعة الرابعة – دار العلم للملايين/ بيروت/ تشرين الثاني 1965م.
– حتى يغيروا ما بأنفسهم – جودت سعيد – الطبعة الثانية – 1395هـ/1975م.(/19)
– وجهة العالم الإسلامي – مالك بن نبى.
– رياض الصالحين – محي الدين أبي زكريا يحي شرف الدين النووي الشافعي – طباعة دار الشعب – القاهرة.
المجلات:
- العربي – إشارات قرآنية للدكتور عماد الدين خليل العدد 247 – رجب 1399هـ/1979م.
ــــــــــــــــــــــــ
[1] المفردات في غريب القرآن لأبي القاسم الحسين بن محمد المعروف بالراغب الأصفهاني المتوفى (502هـ) نشر المكتبة المرتضوية، طهران ص368، والآية سورة الرعد/11.
[2] سورة الأنفال/53.
[3] لسان العرب للإمام العلامة أبي الفضل جمال الدين محمد بن مكرم بن منظور الأفريقي طبعة بيروت 1955/1375 جـ5/40.
[4] سورة النور/55.
[5] سورة يوسف/111.
[6] سورة البقرة/250 – 251.
[7] سورة آل عمران/140.
[8] سورة آل عمران/152.
[9] سورة الملك/3 – 4.
[10] سورة القمر/49.
[11] إشارات قرآنية للدكتور عماد الدين خليل، مجلة العربي العدد، 247 – رجب 1399/ يونية 79 ص14.
[12] سورة يس: 37 – 40.
[13] سورة آل عمران/137.
[14] سورة الأحزاب/62.
[15] سورة الأنفال/51 – 53.
[16] سورة النساء/26 – 27.
[17] سورة إبراهيم/28.
[18] رواه مسلم.
[19] لسان العرب/13/225.
[20] سورة الروم، الآية 30.
[21] سورة الأعراف/172.
[22] سورة الكهف/7.
[23] سورة الملك/1 – 2.
[24] سورة النساء/118 – 120.
[25] سورة الشمس/7 – 10.
[26] سورة الجمعة/2.
[27] سورة يونس/108.
[28] سورة الأنعام/122.
[29] متفق عليه، رياض الصالحين طباعة دار الشعب بالقاهرة، ص394.
[30] سورة هود/117.
[31] سورة هود/101.
[32] تفسير ابن كثير، ط. دار الأندلس ببيروت جـ. 3/586.
[33] سورة القصص/58 – 59.
[34] سورة هود/15 –16.
[35] سورة آل عمران/101.
[36] سورة إبراهيم/27.
[37] سورة الأعراف 58.
[38] سورة النحل/90.
[39] رواه البخاري.
[40] متفق عليه.
[41] سورة النساء/29.
[42] رواه البخاري.(/20)
[43] أصل التصرية: حبس الماء، يقال: صريت الماء إذا حبسته. وقال الشافعي: هي ربط أخلاف الناقة والشاة وترك حلبها حتى يجتمع لبنها ويكثر فيظن المشترى أن ذلك عادتها، سبل السلام 3/26.
[44] متفق عليه.
[45] سورة النحل، 118.
[46] الطورانية: نسبة إلى سلالة طوران شاه التي جاءت منها قبائل الأتراك ما قبل الإسلام.
[47] سورة الأنعام 162 – 163.
[48] سورة الجاثية 18.
[49] سورة المائدة 49 – 50.
[50] سورة محمد الآية 7.(/21)
العنوان: التفسير بالأثر والرأي وأشهر كتب التفسير فيهما
رقم المقالة: 403
صاحب المقالة: د. عبدالله بن إبراهيم بن عبدالله الوهيبي
-----------------------------------------
1 - من مواليد الإحساء عام 1364هـ.
2 - حاصل على الماجستير 1394هـ، والدكتوراه 1399هـ، من جامعة الأزهر في التفسير وعلومه.
3 - أستاذ مساعد بكلية أصول الدين، جامعة الإِمام محمد بن سعود الإِسلامية وعضو بمركز البحث العلمي بالجامعة.
4 - من مؤلفاته:
- العز بن عبدالسلام: حياته وآثاره ومنهجه في التفسير (مطبوع).
- تحقيق تفسير العز بن عبدالسلام (مخطوط).
- أسباب النزول (مخطوط).
التفسير بالأثر والرأي
يشتمل هذا الموضوع على بيان معنى التفسير لغة واصطلاحاً والفرق بينه وبين التأويل، واهتمام الصحابة والتابعين بالتفسير، وتاريخ تدوينه، وأقسامه، ونبذة موجزة عن أشهر كتب التفسير بالأثر والرأي.
* معنى التفسير لغة واصطلاحاً:
* التفسير في اللغة: هو الإيضاح والتبيين، ومنه قوله تعالى: {ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا}. [الفرقان: 22].
وهو مأخوذ من الفسر أي: الإِبانة والكشف، قال في القاموس: الفسر: الإِبانة وكشف المغطى كالتفسير، والفعل كضرب ونصر. والتفسير في الاصطلاح عرفه الزركشي بأنه: علم يعرف به فهم كتاب الله المنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وبيان معانيه واستخراج أحكامه وحكمه. واستمداد ذلك من علم اللغة والنحو والتصريف وعلم البيان وأصول الفقه والقراءات ويحتاج لمعرفة أسباب النزول والناسخ والمنسوخ[1].
معنى التأويل لغة:
التأويل في اللغة مأخوذ من الأول وهو الرجوع قال في القاموس: آل إليه أولاً ومآلاً رجع وعنه ارتد وأول الكلام تأويلاً وتأوله دبره وقدره وفسَّره[2].(/1)
* قال الراغب الأصفهاني: التأويل من الأول أي الرجوع إلى الأصل ومنه الموئل للموضع الذي يرجع إليه وذلك هو رد الشيء إلى الغاية المرادة منه علماً كان أو فعلاً، ففي العلم نحو قوله تعالى: {هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله}[3]. [الأعراف: 52].
التأويل في الاصطلاح والفرق بينه وبين التفسير:
والتأويل في الاصطلاح مختلف فيه، فيرى بعض العلماء أن التأويل بمعنى التفسير، وعلى هذا جرى الطبري في تفسيره فتجده يقول: (تأويل قوله تعالى... أو يقول اختلف أهل التأويل) يريد بذلك أهل التفسير ويرى بعض العلماء أن التأويل مخالف للتفسير، فالتأويل يتعلق بحقيقة ما يؤول إليه الكلام علماً أو عملاً كما سبق في كلام الراغب والتفسير يتعلق بالألفاظ وبمفرداتها وقيل التفسير القطع بأن مراد الله تعالى كذا والتأويل ترجيح أحد المحتملات بدون قطع... وقيل التفسير ما يتعلق بالرواية والتأويل ما يتعلق بالدراية[4] ولذا اختلف السلف في الوقف على قوله تعالى: {هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا}. [آل عمران: 7]. فمن قال: إن التأويل بمعنى التفسير وقف على قوله: (والراسخون في العلم) أي أن الراسخين في العلم يعلمون تأويل المتشابه ببيان معناه لغة وشرح ألفاظه، ومن قال: إن التأويل بمعنى حقيقة ما يؤول إليه الكلام وقف على قوله (إلا الله) بمعنى أنه لا يعرف حقيقة ما يؤول إليه المتشابه إلا الله تعالى.
التأويل في اصطلاح علماء الكلام:(/2)
هو صرف اللفظ عن المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح لدليل. وهذا الاصطلاح استخدمه علماء الكلام في صرف آيات الصفات عن ظاهرها ومعانيها الراجحة إلى معان مرجوحة كما قالوا في قوله تعالى: {وجاء ربك والملك صفا صفا}. [الفجر: 22]. المراد به جاء أمر ربك لأنهم لو أثبتوا المعنى الظاهر وهو المجيء لترتب على هذا خلو المكان والحدوث والله منزه عن ذلك فصرفوا الكلام عن معناه الراجح إلى معناه المرجوح لتنزيه الله تعالى وهذا الدليل غير مسلم لهم عند أهل السنة والجماعة فهم يثبتون المجيء على ظاهره من غير تكييف ولا تمثيل على حد قوله تعالى: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير}. [الشورى: 11]. وهو الصواب لأن الذين تأولوا آيات الصفات خشية من الوقوع في التشبيه قد وقعوا فيما فروا منه ؛ لأنهم تصوروا أن الله كالمخلوق يلزم من مجيئه الخلو والحدوث، فشبهوا الله به ثم تأولوا صفات الله فوقعوا في التعطيل، فلو أنهم تصوروا أن الله بخلاف المخلوق في ذاته للزم على هذا أنه مخالف له في صفاته فوجب إثبات الصفات له على ما يليق بجلاله.
والراجح أن التفسير يتعلق بشرح ألفاظ القرآن وبيان معانيها من جهة اللغة، والتأويل يتعلق باستنباط الحكم والأحكام من الآيات وترجيح أحد المحتملات، هذا إذا أردنا التفريق بين التفسير والتأويل وإلا فيصح إطلاق أحدهما على الآخر فبينهما عموم وخصوص من وجه كالإِيمان والإِسلام فإذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا فإذا استعملنا كلمة التفسير مفردة فتعم التأويل، وكذلك إذا استعملنا كلمة التأويل مفردة فتعم التفسير وإذا جمعنا بين الكلمتين فقلنا التفسير والتأويل فينصرف التفسير إلى شرح ألفاظ القرآن وبيان معانيها وينصرف التأويل إلى استنباط الحكم والأحكام وترجيح المحتملات كما سبق بيانه والله أعلم.
اهتمام الصحابة والتابعين بالتفسير:(/3)
اهتم الصحابة رضوان الله عليهم بحفظ القرآن، وتدبر معانيه وفهم مراد الله، والعمل بما جاء فيه، فكان من اهتمامهم بالقرآن أنهم إذا حفظوا مجموعة من الآيات لا يتجاوزونها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، قال أبو عبدالرحمن السلمي: (حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن كعثمان بن عفان وابن مسعود وغيرهما أنهم كانوا إذا حفظوا من الرسول صلى الله عليه وسلم عشر آيات لا يتجاوزونها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، قال فحفظنا القرآن والعلم والعمل جميعاً).
وروى عن ابن عمر أنه أقام على حفظ سورة البقرة ثماني سنين وهذا دليل على تدبره لها وفهمه لمعانيها وتطبيق ذلك. وروى عن أنس بن مالك أنه قال: (كان الرجل منا إذا حفظ البقرة وآل عمران جل في أعيننا) أي عظم قدره[5].
وكذلك كان التابعون يحرصون على حفظ القرآن وتدبر معانيه فهذا مجاهد يقول عرضت المصحف على ابن عباس ثلاث مرات أوقفه عند كل آية وأسأله عنها.
* وقال الشعبي رحل مسروق إلى البصرة في تفسير آية فقيل له إن الذي يفسرها رحل إلى الشام فتجهز ورحل إليه حتى علم تفسيرها[6]. فتفسير القرآن من أشرف العلوم وأفضلها ؛ لأن العلم يشرف بشرف المعلوم، وعلم التفسير يتعلق بكلام الله وهو خير الكلام قال تعالى: {يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً}. [البقرة: 270]. فالحكمة فهم القرآن وتفسيره كما قال المفسرون. وقال الرسول صلى الله عليه وسلم((خيركم من تعلم القرآن وعلمه))[7].
المفسرون من الصحابة والتابعين:(/4)
وقد اشتهر بالتفسير من الصحابة رضي الله عنهم الخلفاء الأربعة، وابن مسعود، وابن عباس، وأبي بن كعب، وأبو موسى الأشعري، وزيد بن ثابت، وعبدالله بن الزبير، وأكثر من روى عنهم من الخلفاء علي بن أبي طالب لأن الخلافة لم تشغله أول الأمر، ولبقائه مدة طويلة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكلما طال الزمان بالناس احتاجوا إلى التفسير نظراً لما يجد عندهم من قضايا لم تكن موجودة ولاختلاطهم بالأعاجم، وبعدهم عن عهد العروبة الأول، لذا يشكل عليهم القرآن كثيراً فيحتاجون إلى التفسير لذا تجد ما روي عن ابن عباس أكثر مما روي عن علي رضي الله عنهما بخلاف الثلاثة السابقين فقد اشتغلوا بالخلافة أولاً، وكانت مدة بقائهم، بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم قصيرة، خصوصاً أبا بكر الصديق رضي الله عنه فإنه لم يلبث بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا سنتين وأشهراً لذا لم يرو عنه في التفسير إلا نزر يسير أما علي رضي الله عنه فقد روى عنه كثير، وكان يقول: (سلوني فوالله لا تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم، وسلوني عن كتاب الله، فوالله ما من آية إلا وأنا أعلم أبليل نزلت أم بنهار أم في سهل أم في جبل).
وكان يقول: (والله ما نزلت آية إلا وقد علمت فيم أنزلت، وأين أنزلت، إن ربي وهب لي قلباً عقولاً ولساناً سؤولاً.)[8] وكذا روى عن ابن مسعود كثير، وكان يقول: (والذي لا إله غيره ما نزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيمن نزلت، وأين نزلت، ولو أعلم مكان أحد أعلم بكتاب الله مني تناله المطايا لأتيته)[9] فما روى عنهم من تسم على العلم بكتاب الله أية آية دليل على مدى اهتمامهم بهذا الكتاب العظيم، وتدبرهم له آية آية، وتتبعهم لنزوله، وفهم مقاصده ومراميه والعمل به.(/5)
لذا نجد ابن عباس رضي الله عنه لما فاته الأخذ عن الرسول صلى الله عليه وسلم لصغر سنه حيث توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثلاث عشرة سنة تقريباً، نجده يلازم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويجد في الطلب ويتحمل في ذلك المشاق والمتاعب، فقد روى عنه أنه كان يجلس في القائلة عند باب أحدهم والرياح تؤذيه والشمس تشتد عليه، ومع هذا يتحمل في سبيل تعلم كتاب الله، وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فبجهوده التي بذلها في طلب العلم، وبركة دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم حيث قال: ((اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل)) فتح الله عليه في فهم القرآن، وتدبره فكان حكماً في تفسيره ومن يؤتى لحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً.
واشتهر من التابعين مجاهد وقد قيل: (إذا جاءك التفسير من مجاهد فحسبك) وممن اشتهر من التابعين أيضاً سعيد بن جبير، وعكرمة – مولى ابن عباس – وقتادة، والضحاك، وعطاء بن أبي رباح، وزيد بن أسلم وغيرهم كثير.
تاريخ تدوين التفسير:
مر تدوين تفسير القرآن بالمراحل الآتية:
* المرحلة الأولى:
أن التفسير كان يعتمد على الرواية والنقل فالصحابة يروون عن الرسول صلى الله عليه وسلم ويروى بعضهم عن بعض.
* المرحلة الثانية:
أن التفسير دون ضمن كتب الحديث فالمحدوثون الذين تخصصوا في رواية أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم وجمعها كالبخاري ومسلم وأصحاب السنن أفردوا باباً للتفسير في كتبهم جمعوا فيه ما روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم أو الصحابة أو التابعين في تفسير القرآن فتجد ضمن صحيح البخاري ومسلم باب التفسير وكذلك كتب السنن.
* المرحلة الثالثة:
أن التفسير دون مستقلاً في كتب خاصة به جمع فيها مؤلفوها ما روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين مرتباً حسب ترتيب المصحف فيذكرون أولاً ما روي في تفسير سورة الفاتحة ثم البقرة ثم آل عمران وهكذا إلى آخر سورة الناس.(/6)
تم ذلك على أيدي طائفة من العلماء منهم ابن ماجه (ت273هـ.) وابن جرير الطبري (ت310هـ.) وأبو بكر بن المنذر النيسابوري (ت318هـ.) وابن أبي حاتم (ت327هـ.) وأبو الشيخ بن أبي حِبَّان (ت369هـ.) والحاكم (ت405هـ.) وأبو بكر بن مردويه (ت410هـ.) وغيرهم من أئمة هذا الشأن وكل هذه التفاسير مروية بالإِسناد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى الصحابة والتابعين وتابع التابعين، وليس فيها شيء غير التفسير المأثور اللهم إلا ابن جرير الطبري فإنه ذكر الأقوال ثم وجهها ورجح بعضها على بعض، وزاد على ذلك الإِعراب إن دعت إليه حاجة واستنبط الأحكام التي تؤخذ من الآيات القرآنية[10].
* المرحلة الرابعة:
في هذه المرحلة دون التفسير مجرداً عن الإِسناد واختلط الصحيح بالضعيف ودخلت الإِسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير والذين جاؤوا بعد ذلك نقلوا هذه الأقوال على أنها صحيحة.
تلون التفسير بثقافة المفسرين:
ثم كثر التأليف في التفسير بالرأي والاجتهاد فخرجت تفاسير تلونت بلون ثقافة مؤلفيها فالعالم بالنحو حشا تفسيره بقواعد النحو وخلافياته كما فعل أبو حيان في تفسيره (البحر المحيط) وصاحب العلوم العقلية والفلسفية حشا تفسيره بأقوال الفلاسفة ونظرياتهم وفندها ورد عليها كما فعل الفخر الرازي في تفسيره (مفاتيح الغيب) وصاحب الفقه حشا تفسيره بذكر مسائل الفقه وفروعه وأدلة المذاهب كما فعل القرطبي في تفسيره (الجامع لأحكام القرآن) وصاحب القصص والأساطير حشا تفسيره بذكر قصص الأنبياء مع قومهم واستطرد في ذلك كما فعل الثعلبي في تفسيره (الكشف والبيان عن تفسير القرآن) وهكذا تلون التفسير بعلم من ألف فيه.
التفسير الموضوعي:(/7)
وبجانب تلك التفاسير ظهرت كتب عنيت بدراسة جانب من جوانب القرآن، فأفردته بالبحث والدراسة وتوسعت فيه وتحدثت عن جزئياته، سميت فيما بعد (بالتفسير الموضوعي) ففي مقدمة المؤلفين في هذا النوع من الدراسة (قتادة بن دعامة الدوسي) (ت118هـ.) روى أنه أول من ألف في (الناسخ والمنسوخ) كما ألف أبو عبيدة معمر بن المثنى (ت210هـ.) في مجاز القرآن وكتابه طبع في القاهرة سنة 1954م. وألف أبو عبيد القاسم بن سلام (ت244هـ.) في (الناسخ والمنسوخ) أيضاً وكذا أبو داود السجستاني صاحب السنة (ت275هـ.) وألف أبو علي ابن المديني شيخ البخاري (ت234هـ.) كتابه في (أسباب النزول) وهو أول من ألف في أسباب النزول في القرآن الكريم ولكن كتابه لم يصل إلينا[11].
كما ألف أبو الفرج ابن الجوزي (ت597هـ.) كتابه (أسباب نزول القرآن) وألف الواحدي (ت468هـ.) كتابه (أسباب النزول) وهو مطبوع ومتداول، وألف الراغب الأصبهاني (ت502هـ.) كتابه (المفردات في غريب القرآن) وأفرد الجصاص الفقيه الحنفي (ت370هـ.) كتاباً خاصاً (بأحكام القرآن) تناول فيه تفسير آيات الأحكام وكذلك فعل ابن العربي المالكي (ت543هـ.) والكيَّا الهرَّاس الشافعي (ت504هـ.).
أقسام التفسير:
ينقسم التفسير إلى قسمين:
1 – التفسير بالمأثور:
ويشمل تفسير القرآن بالقرآن ؛ لأن ما أجمل وأطلق في مكان بين وقيد في مكان آخر، والتفسير المروي عن الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين.(/8)
* مثال تفسير القرآن بالقرآن، قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم}. [المائدة: 1]. فقوله تعالى: {إلا ما يتلى عليكم} فسر بالآية رقم 3 من السورة وهي قوله تعالى: {حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالأزلام ذلك فسق} الآية ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: {إن الإِنسان خلق هلوعا}. [المعارج: 19]. فسر بالآيات التي بعده {إذا مسه الشر جزوعاً، وإذا مسه الخير منوعا إلا المصلين} ومثال المروي عن الرسول صلى الله عليه وسلم {غير المغضوب عليهم ولا الضالين} فسر الرسول صلى الله عليه وسلم المغضوب عليهم: باليهود، والضالين: بالنصارى رواه الترمذي عن عدي بن حاتم رضي الله عنه[12]. ومن ذلك ما روى عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: لما نزلت {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم}. [الأنعام: 82]. شق ذلك على المسلمين، وقالوا أيُّنا لا يظلم نفسه ؟ فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليس ذلك إنما هو الشرك، ألم تسمعوا قول لقمان لابنه: {يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم}. [لقمان: 13]. رواه البخاري ومسلم والترمذي[13].
2 – التفسير بالرأي:
وهو الذي يعتمد فيه المفسر على الاستنتاج العقلي للأحكام والحكم من الآيات، وترجيح المحتملات ويجوز التفسير بالرأي لمن كان عالماً باللغة العربية والنحو والصرف والبلاغة وناسخ القرآن ومنسوخه وأسباب النزول والسنة صحيحها وضعيفها وأصول الفقه، وأن يكون موهوباً، والموهبة لا تأتي إلا بالتقوى فكلما كان الإِنسان أكثر تقوى وخشية لله فتح الله عليه وعلمه مالم يعلم، وبارك في علمه قال تعالى: {واتقوا الله ويعلمكم الله}. [البقرة: 282].(/9)
فالمطلع على كتب العلماء السابقين يجد نفسه أمام موسوعات علمية في التفسير والحديث والتوحيد والفقه والأصول، فإذا ما قرأ فيها وجد فيها الغزارة العلمية والاستنتاج الدقيق والاستقصاء والترجيح بين الأدلة والرد على المخالفين ودفع الشبه وغير ذلك من المباحث، فيتساءل كيف جمعوا هذه المعلومات وكيف اتسعت أعمارهم لتأليف هذه الموسوعات، ولا يجد جواباً على ذلك إلا أنهم أخلصوا النية في طلب العلم، واتقوا الله، ففتح الله عليهم وبارك في وقتهم وعلمهم.
* ويحرم التفسير بالرأي لمن لا تتوفر فيه الشروط السابقة قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار)) رواه الترمذي، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((من قال في كتاب الله عز وجل برأيه فأصاب فقد أخطأ)) رواه أبو داود والترمذي عن جندب بن عبدالله رضي الله عنه[14] والمعنى أن من فسر القرآن برأيه المجرد دون الرجوع إلى لغة العرب وأساليبها في البيان والرجوع إلى المروي عن الرسول والصحابة، ومعرفة الناسخ والمنسوخ فقد أخطأ الطريق الذي يتوصل به إلى تفسير كتاب الله وإن أصاب في رأيه لمراد الله لأنه أتى الأمر من غير بابه حيث فسر كتاب الله بما لا يعلمه، ولذا نجد الصحابة رضوان الله عليهم والتابعين تكلموا في القرآن بما يعلمون، وتحرجوا عن الكلام في القرآن بما لا علم لهم به، روى عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال: (أي أرض تقلني وأي سماء تظلني إذا قلت في كتاب الله مالا أعلمه) وروى عن أنس أن عمر بن الخطاب قرأ على المنبر: {وفاكهة وأبا} فقال: هذه الفاكهة عرفناها فما الأب؟ ثم رجع إلى نفسه وقال: إن هذا لهو التكلف يا عمر[15] وهذا محمول على أنه إنما أراد استكشاف علم كيفية الأب وإلا فكونه نبتاً من الأرض ظاهر لا يجهل لقوله تعالى: {فأنبتنا فيها حباً وعنباً وقضباً وزيتوناً ونخلاً وحدائق غلباً وفاكهة وأبا}. [عبس: 27- 31].(/10)
أشهر كتب التفسير بالأثر والرأي:
هذا المبحث يحتوي على نبذة موجزة عن أشهر كتب التفسير بالأثر والرأي تتناول التعريف بمؤلفيها وبيان طريقتهم في التفسير، وما تمتاز به هذه التفاسير وما يلاحظ عليها. وقد قسمنا هذه التفاسير إلى تفاسير بالأثر وتفاسير بالرأي ولا يعني ذلك خلو تفاسير الأثر عن الرأي وخلو تفاسير الرأي عن الأثر فكل تفسير يجمع بين الرأي والأثر ولكن تقسيمنا مبني على الغالب فما يغلب عليه الأثر جعلناه من تفاسير الأثر، وما يغلب عليه الراي جعلناه من تفاسير الرأي.
أ – أشهر كتب التفسير بالأثر:
1 – جامع البيان عن تأويل آي القرآن لابن جرير الطبري
* التعريف بمؤلف هذا التفسير:
هو الإِمام الحافظ المفسر المحدث الفقيه المؤرخ شيخ المفسرين والمؤرخين، أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، ولد بآمل من بلاد طبرستان سنة 224هـ، وتوفي ببغداد سنة 310هـ، وكان عالماً بالقراءات بصيراً بالمعاني، عالماً بالسنة، متفانياً في العلم، ذكر عنه أنه مكث أربعين سنة يكتب كل يوم أربعين ورقة وكان من الأئمة المجتهدين، وقد ألف في علوم كثيرة فأبدع فيها ومن مؤلفاته:
1 - تاريخ الأمم والملوك، مطبوع وهو من أهم مصادر التاريخ.
2 - اختلاف الفقهاء، مطبوع.
3 - كتاب التبصر في أحوال الدين.
4 - تفسيره (جامع البيان عن تأويل آي القرآن).
* التعريف بتفسيره وطريقته فيه:
تفسير الطبري من أجل التفاسير بالمأثور وأعظمها قدراً ذكر فيه ما روى في التفسير عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين وأتباعهم، وكانت التفاسير قبل ابن جرير لا يذكر فيها إلا الروايات الصرفة، حتى جاء ابن جرير فزاد توجيه الأقوال، وترجيح بعضها على بعض، وذكر الأعاريب والاستنباطات والاستشهاد بأشعار العرب على معاني الألفاظ.(/11)
وطريقته في التفسير أنه يلخص الأقوال التي قيلت في تفسير الآية ثم يذكر بعد كل قول الروايات التي رويت فيه عن الرسول صلى الله عليه وسلم أو الصحابة أو التابعين، ثم يروى الروايات التي قيلت في القول الثاني ثم الثالث وهكذا حتى يستكمل الأقوال والروايات، ثم يرجح ما يراه ويستدل عليه ويرد الأقوال المخالفة.
وكان الطبري في نيته أن يكون تفسيره أوسع مما كان ولكنه اختصره استجابة لرغبة طلابه، فابن السبكي يذكر في طبقاته الكبرى أن أبا جعفر قال لأصحابه: أتنشطون لتفسير القرآن ؟
قالوا: كم يكون قدره ؟ فقال ثلاثون ألف ورقة.
فقالوا: هذا ربما تفنى الأعمار قبل تمامه. فاختصره في نحو ثلاثة آلاف ورقة، ثم قال قبل ذلك في تاريخه. ويقع تفسير ابن جرير في ثلاثين جزءاً من الحجم الكبير، وكان هذا الكتاب من عهد قريب يكاد يكون مفقوداً لا وجود له، ثم قدر الله له الظهور والتداول، فكان مفاجأة سارة للأوساط العلمية في الشرق والغرب أن وجدت في حيازة أمير حائل الأمير حمود بن عبيد عبدالرشيد نسخة مخطوطة كاملة من هذا الكتاب طبع عليها الكتاب من زمن قريب فأصبحت في يدنا دائرة معارف غنية في التفسير المأثور، وقد حظي هذا التفسير بالقبول والثناء في الأوساط العلمية قديماً وحديثاً، قال النووي: أجمعت الأمة على أنه لم يصنف مثل تفسير الطبري. وقال أبو حامد الأسفراييني: لو سافر رجل إلى الصين حتى يحصل على كتاب تفسير محمد بن جرير لم يكن ذلك كثيراً. وقال شيخ الإِسلام ابن تيمية: وأما التفاسير التي في أيدي الناس فأصحها تفسير ابن جرير الطبري فإنه يذكر مقالات السلف بالأسانيد الثابتة وليس فيه بدعة ولا ينقل عن المتهمين كمقاتل بن بكير والكلبي.(/12)
هذا وكتب (نولدكه) في سنة 1860م. بعد اطلاعه على بعض فقرات من هذا الكتاب: لو كان بيدنا هذا الكتاب لاستغنينا به عن كل التفاسير المتأخرة ومع الأسف فقد كان يظهر أنه مفقود تماماً، وكان مثل تاريخه الكبير مرجعاً لا يغيض معينه أخذ عنه المتأخرون معارفهم.
وقد التزم ابن جرير في تفسيره ذكر الروايات بأسانيدها إلا أنه في الأعم الأغلب لا يتعقب الأسانيد بتصحيح ولا تضعيف لأنه كان يرى كما هو مقرر في أصول الحديث، أن من أسند لك فقد حملك البحث عن رجال السند ومعرفة مبلغهم من العدالة والجرح، فهو بعمله هذا قد خرج من العهدة، ومع ذلك فابن جرير يقف أحياناً من السند موقف الناقد البصير فيعدل من يعدل من رجال الإِسناد ويجرح من يجرح منهم ويرد الرواية التي لا يثق بصحتها ويصرح برأيه فيها بما يناسبها.
ثم إننا نجد ابن جرير يأتي في تفسيره بأخبار إسرائيلية يرويها بإسناده إلى كعب الأحبار ووهب بن منبه وابن جريج والسدي وغيرهم، ونراه ينقل عن محمد بن إسحاق كثيراً مما رواه عن مسلمة النصارى.
وهكذا يكثر ابن جرير من رواية الإِسرائيليات، ولعل هذا راجع إلى ما تأثر به من الروايات التاريخية التي عالجها في بحوثه التاريخية الواسعة.
فعلى الباحث في تفسيره أن يتابع هذه الروايات بالنظر الشامل والنقد الفاحص، وقد يسر لنا ابن جرير الأمر في ذلك حيث إنه ذكر الإِسناد وبذلك يكون قد خرج من العهدة.
وعلينا نحن أن ننظر في السند ونتفقد الروايات[16] وقد استفاد المفسرون الذين جاءوا بعد الطبري من تفسيره فاعتمدوا عليه في نقل كثير من التفسير المأثور واستناروا بآرائه واجتهاداته وترجيحاته.
ويوجد لهذا التفسير طبعتان طبعة الحلبي كاملة في ثلاثين جزءاً ولكنها غير محققة وطبعة دار المعارف بتحقيق أحمد شاكر وأخيه محمود شاكر ولكنها ناقصة حيث بدأت من مقدمة التفسير إلى تفسير الآية (27) من سورة إبراهيم في ستة عشر مجلداً.(/13)
2 – الكشف والبيان عن تفسير القرآن للثعلبي.
هو أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي النيسابوري المقرئ المفسر كان حافظاً واعظاً رأساً في التفسير والعربية متين الديانة حدث عن أبي طاهر بن خزيمة وعنه أخذ أبو الحسن الواحدي التفسير وأثنى عليه، وكان كثير الحديث كثير الشيوخ ولكن هناك من العلماء من يرى أنه لا يوثق به ولا يصح نقله توفي سنة 427هـ. ومن مؤلفاته:
1 - كتاب العرائس في قصص الأنبياء عليهم السلام، مطبوع.
2 - من ربيع المذكرين.
3 - تفسيره: الكشف والبيان عن تفسير القرآن[17].
* التعريف بتفسيره وطريقته فيه:
وطريقته في التفسير أنه يفسر القرآن بما جاء عن السلف مع اختصاره للأسانيد اكتفاء بذكرها في مقدمة الكتاب، كما أنه يعرض للمسائل النحوية ويخوض فيها بتوسع ظاهر، ويعرض لشرح الكلمات اللغوية وبيان أصولها ويستشهد على ما يقول بالشعر العربي ويتوسع في الكلام عن المسائل الفقهية عندما يتناول آية من آيات الأحكام فتراه يذكر الأحكام والخلافات والأدلة ويعرض للمسألة من جميع نواحيها إلى درجة تخرجه عما يراد من الآية. ويلاحظ عليه أنه يكثر من ذكر الإِسرائيليات بدون تعقيب مع ذكره لقصص إسرائيلية في منتهى الغرابة.(/14)
ويظهر من ذلك أن الثعلبي كان مولعاً بالأخبار والقصص إلى درجة كبيرة بدليل أنه ألف كتاباً يشتمل على قصص الأنبياء وإن أردت أمثلة على ذلك: فارجع إليه عند تفسير قوله تعالى: {إذ أوى الفتية إلى الكهف}. [الكهف: 10]. وقوله تعالى: {إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض}. [الكهف: 94]. ثم ارجع إليه عند تفسير قوله تعالى من سورة مريم: {فأتت به قومها تحمله}. [مريم: 27]. كذلك نجده قد وقع فيما وقع فيه كثير من المفسرين من الاغترار بالأحاديث الموضوعة في فضائل السور سورة سورة فروى في نهاية كل سورة حديثاً في فضلها منسوباً إلى أبي بن كعب كما اغتر بكثير من الأحاديث الموضوعة على ألسنة الشيعة فشوه بها كتابه دون أن يشير إلى وضعها واختلاقها ومن هذا ما يدل على أن الثعلبي لم يكن له باع في معرفة صحيح الأخبار من سقيمها.
* قال شيخ الإِسلام ابن تيمية في مقدمته في أصول التفسير:
والثعلبي هو في نفسه كان فيه خير ودين وكان حاطب ليل ينقل ما وجد في كتب التفسير من صحيح وضعيف وموضوع.
* وقال الكتاني: في الرسالة المستطرفة عند الكلام عن الواحدي المفسر لم يكن له ولا لشيخه الثعلبي الكبير بضاعة في الحديث، بل في تفسيرهما وخصوصاً الثعلبي، أحاديث موضوعة وقصص باطلة[18].
3 – معالم التنزيل للبغوي.
* التعريف بمؤلف هذا التفسير:
هو أبو محمد الحسين بن مسعود بن محمد المعروف بالفراء البغوي الفقيه الشافعي المحدث المفسر الملقب بمحي السنة وركن الدين، كان تقياً ورعاً زاهداً إذا ألقى الدرس لا يلقيه إلا على طهارة ولد سنة 436هـ. وتوفي سنة 516هـ. بمروالروذ.
كان البغوي إماماً في التفسير والحديث والفقه وله مؤلفات في هذه العلوم فمن مؤلفاته:
1 - شرح السنة، مطبوع.
2 - مصابيح السنة، مطبوع.
3 - الجمع بين الصحيحين في الحديث.
4 - التهذيب في الفقه، مخطوط.
5 - تفسيره: معالم التنزيل، مطبوع[19].
تفسيره وطريقته فيه:(/15)
تفسير البغوي مختصر من تفسير الثعلبي، لكنه صان تفسيره عن الأحاديث الموضوعة والإِسرائيليات المبتدعة.
وطريقته أنه يفسر الآية بلفظ سهل موجز وينقل ما جاء عن السلف في تفسيرها وذلك بدون ذكر الإِسناد فيقول قال ابن عباس، أو قال مجاهد وهكذا اكتفاء بذكر إسناده إلى كل من روى عنهم في مقدمة تفسيره، وقد يذكر الإسناد في أثناء التفسير إذا روى بإسناد آخر لم يذكره في المقدمة ويمتاز بأنه يتعرض للقرآن بدون إسراف، ويتحاشى الاستطراد في الإِعراب ونكت البلاغة وغير ذلك من العلوم التي أولع بها المفسرون ويلاحظ عليه أنه يذكر روايات عن السلف في تفسير الآية ولا يرجح، وينقل عن الضعفاء كالكلبي، ويذكر بعض الإِسرائيليات بدون تعقيب. قال حاجي خليفة في كتابه كشف الظنون عن تفسير البغوي: هو كتاب متوسط نقل فيه عن مفسري الصحابة والتابعين ومن بعدهم، واختصره الشيخ تاج الدين أبو نصر عبدالوهاب بن محمد الحسين المتوفى سنة 875هـ[20].
* وقد سئل شيخ الإِسلام ابن تيمية عن أقرب التفاسير للكتاب والسنة ؟ الزمخشري ؟ أم القرطبي ؟ أم البغوي ؟ أم غير هؤلاء ؟ فقال في فتاواه. وأما التفاسير الثلاثة المسئول عنها فأسلمها من البدعة والأحاديث الضعيفة البغوي، لكنه مختصر من تفسير الثعلبي وحذف منه الأحاديث الموضوعة والبدع التي فيه، وحذف أشياء غير ذلك[21]. اهـ.
4 – تفسير القرآن العظيم لابن كثير.
* التعريف بمؤلف هذا التفسير:
هو الإِمام الجليل الحافظ عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير الفقيه الشافعي، لازم المزي، وقرأ عليه تهذيب الكمال وصاهره على ابنته وأخذ عن ابن تيمية وفتن بحبه وامتحن بسببه ولد في قرية من أعمال بصرى الشام سنة 701هـ. وتوفي سنة 774هـ.
كان ابن كثير على مبلغ عظيم من العلم وقد شهد له العلماء بسعة علمه وغزارة مادته خصوصاً في التفسير والحديث والتاريخ ومن مؤلفاته:
1 - البداية والنهاية في التاريخ، مطبوع.(/16)
2 - شرح صحيح البخاري، ولم يكمله.
3 - طبقات الشافعية.
4 - جامع المسانيد، مخطوط في ثمانية مجلدات.
5 - تفسير القرآن العظيم، مطبوع[22].
* التعريف بتفسيره وطريقته فيه:
تفسير ابن كثير من أشهر ما دون في التفسير بالمأثور، ويعتبر الكتاب الثاني بعد كتاب ابن جرير الطبري، اعتنى فيه مؤلفه بالرواية عن مفسري السلف. وقد قدم له بمقدمة طويلة هامة تعرض فيها لكثير من الأمور التي لها تعلق واتصال بالقرآن وتفسيره، ولكن أغلب هذه المقدمة مأخوذ بنصه من كلام شيخه ابن تيمية الذي ذكره في كتابه أصول التفسير.
وطريقته في تفسيره أنه يفسر الآية بأسلوب سهل واضح، ويذكر وجوه القراءات بدون إسراف، ويشير إلى الإِعراب إن كان له تعلق بتفسير الآية ثم يفسر الآية بآية أخرى إن أمكن، ويسرد في ذلك الآيات التي تناسبها، وهذا من قبيل تفسير القرآن بالقرآن، وقد اشتهر ابن كثير بذلك، ثم يذكر الأحاديث المرفوعة المتعلقة بتفسير الآية وما روى عن الصحابة والتابعين في ذلك ويعني بتصحيح الأسانيد أو تضعيفها مع بيان سبب الضعف، وترجيح بعض الأقوال على بعض مع توجيه ذلك.
وكثيراً ما نجده ينقل من تفسير ابن جرير الطبري وابن أبي حاتم وعبدالرزاق وابن عطية والفخر الرازي وغيرهم ممن تقدمه وقد يتعقب أقوالهم. ومما يمتاز به تفسيره أنه ينبه على ما في تفسير المأثور من منكرات الإِسرائيليات ويحذر منها على وجه الإِجمال تارة، وعلى وجه التعيين لبعض منكراتها تارة أخرى، مع نقد أسانيدها ومتونها، ويذكر مناقشات الفقهاء وآرائهم وأدلتهم عندما يشرح آية من آيات الأحكام من غير إسراف ولا استطراد.
وبالجملة فإن هذا التفسير من خير كتب التفسير بالمأثور وقد شهد له بعض العلماء فقال السيوطي في ذيل تذكرة الحفاظ والزرقاني في شرح المواهب: إنه لم يؤلف على نمط مثله[23].
5 – الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي.
* التعريف بمؤلف هذا التفسير:(/17)
هو الحافظ جلال الدين أبو الفضل عبدالرحمن بن أبي بكر بن محمد السيوطي الشافعي المسند المحقق صاحب المؤلفات الفائقة النافعة، حفظ القرآن وهو ابن ثماني سنين، وحفظ كثيراً من المتون، وأخذ عن شيوخ كثيرين عدَّهم الداودي فبلغ بهم واحداً وخمسين كما عد مؤلفاته فبلغ بها ما يزيد على خمسمائة مؤلف ولد سنة 849هـ. وتوفي سنة 911هـ. بالقاهرة ومن مؤلفاته:
1 - الجامع الصغير في الحديث، مطبوع.
2 - حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة، مطبوع.
3 - همع الهوامع في النحو، مطبوع.
4 - الإِتقان في علوم القرآن، مطبوع.
5 - الدر المنثور في التفسير بالمأثور، مطبوع[24].
* التعريف بتفسيره وطريقته فيه:
عرف السيوطي تفسيره في مقدمته فقال: فلما ألفت كتاب ترجمان القرآن وهو التفسير المسند عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم وتم بحمد الله في مجلدات فكان ما أوردته فيه من الآثار بأسانيد الكتب المخرج منها واردات، رأيت قصور أكثر الهمم عن تحصيله ورغبتهم في الاقتصار على متون الأحاديث دون الإِسناد وتطويله فلخصت منه هذا المختصر مقتصراً فيه على متن الأثر مصدراً بالعزو والتخريج إلى كل كتاب معتبر وسميته: بالدر المنثور في التفسير بالمأثور[25].
فالسيوطي يسرد فيه الروايات عن السلف في التفسير بدون أن يعقب عليها فلا يعدل ولا يجرح ولا يضعف ولا يصحح إلا في حالات نادرة وقد أخذ هذه الروايات من البخاري ومسلم والنسائي والترمذي وأحمد وأبي داود وابن جرير وابن أبي حاتم وعبد بن حميد وابن أبي الدنيا وغيرهم.
ونلاحظ أن تفسير السيوطي هو الوحيد الذي اقتصر على التفسير بالمأثور من بين التفاسير السابقة التي تحدثنا عنها، فلم يخلط بالروايات التي نقلها شيئاً من عمل الرأي كما فعل غيره.
ب – أشهر كتب التفسير بالرأي
1 – مفاتيح الغيب للفخر الرازي.
* التعريف بمؤلف هذا التفسير:(/18)
هو محمد بن عمر بن الحسين بن الحسن فخر الدين الرازي أبو عبدالله القرشي التميمي من ذرية أبي بكر الصديق رضي الله عنه المفسر الفقيه المتكلم إمام وقته في العلوم العقلية، ولد في رمضان سنة 544هـ. طلب العلم على والده ضياء الدين عمر، وأتقن علوماً كثيرة وبرز فيها، وتخرج عليه طلاب كثيرون حكي أنه إذا ركب يمشي حوله نحو ثلاثمائة تلميذ فقهاء وغيرهم وصنف في فنون كثيرة وقيل إنه ندم على دخوله في علم الكلام، روي عنه أنه قال: لقد اختبرت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فلم أجدها تروي غليلاً ولا تشفي عليلاً، ورأيت أصح الطرق طريقة القرآن. توفي بهراة سنة 606هـ. وخلف مصنفات كثيرة منها:
1 - كتاب المحصول في أصول الفقه، مطبوع.
2 - كتاب شرح أسماء الله الحسنى، مطبوع.
3 - كتاب من اعجاز القرآن.
4 - كتاب المطالب العالية في ثلاث مجلدات ولم يتمه وهو من آخر تصانيفه.
5 - تفسيره: مفاتيح الغيب[26].
* التعريف بتفسيره وطريقته فيه:
تفسير الفخر الرازي: ((مفاتيح الغيب)) من التفاسير المطولة ويقع في اثنين وثلاثين جزءاً في طبعة دار المصحف وهذا التفسير لم يتمه الفخر الرازي ذكر حاجي خليفة في: كشف الظنون، أنه وصل فيه إلى تفسير سورة الأنبياء ثم أتمه نجم الدين أحمد بن محمد القمولي المتوفي سنة 727هـ. وقاضي القضاة شهاب الدين بن خليل الخوي أكمل ما نقص منه أيضاً توفي سنة 639هـ. وذكر ابن حجر العسقلاني في كتابه: الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة، أن الذي أكمله نجم الدين القمولي. فلعل الشيخين اشتركا في تكملته بوجه من الوجوه أو أن كل واحد منهما ألف تكملة له[27]، ومسألة تكملة تفسير الفخر الرازي والموضع الذي انتهى إليه الفخر الرازي في تفسيره مسألة فيها خلاف قديم بين العلماء ولم تحقق إلى الآن.(/19)
وطريقة الفخر الرازي في تفسيره أنه يعنى بذكر مناسبة السور بعضها لبعض، ومناسبة الآيات بعضها لبعض فيذكر أكثر من مناسبة، ويلاحظ على بعض هذه المناسبات أنها بعيدة أو فيها تكلف، كما أنه يعنى بذكر أسباب النزول، فيذكر للآية الواحدة سبباً أو أكثر من سبب حسب ما روي فيها، ويذكر وجوه القراءات ووجوه الإِعراب، ويعنى باللغة، فتجد له مباحث لغوية قصيرة لتحقيق بعض اللغويات، ويشير إلى القواعد الأصولية، وبتوسع في المباحثات الفقهية، فيعنى كثيراً بمذهب الشافعي وتحقيقه وترجيح آرائه والرد على مخالفيها، كما أنه في مسألة آيات الصفات يجريها على طريقة الأشعري في مذهبه، ويرد على أقوال المعتزلة في مسألة الصفات وغيرها، ويفند أقوالهم وكذلك يعنى بذكر آراء الفلاسفة ونظرياتهم في الكون ويفندها وقد استطرد في المباحث الفلسفية والكلامية فطغت على تفسيره فهو مرجع في هذا الباب إلا أنه يؤخذ عليه أنه يورد شبه الجاحدين والمخالفين يوردها ويحققها ويتوسع في تحقيقها أكثر من أصحابها ثم يرد عليها رداً ضعيفاً لأنه قد استنفذ طاقته في التوسع في تحقيقها حتى قال عنه بعض المغاربة: يورد الشبه نقداً ويحللها نسيئة فنلاحظ من هذا الاستعراض السريع لطريقة الفخر الرازي في تفسيره أنه جمع في تفسيره علوماً كثيرة، واستطرد في بعضها مما جعله يخرج عن التفسير، ولذا قال بعض العلماء فيه كل شيء إلا التفسير، وهذا القول وإن كان فيه مبالغة إلا أنه يشعر باستطرادات الفخر الرازي في تقرير بعض قضايا التفسير[28].
2 – الجامع لأحكام القرآن للقرطبي.
* التعريف بمؤلف هذا التفسير:(/20)
هو الإِمام أبو عبدالله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح بإسكان الراء والحاء المهملة الأنصاري الخزرجي القرطبي كان من العباد الصالحين والعلماء العارفين الزاهدين في الدنيا وكان متواضعاً وكانت أوقاته كلها معمورة بالتوجه إلى الله بالعبادة تارة وبالتصنيف تارة أخرى، حتى أخرج للناس كتباً انتفعوا بها توفي سنة 671هـ. بمنية بني خصيب بصعيد مصر، ومن مصنفاته:
1 - كتاب شرح أسماء الله الحسنى.
2 - كتاب التذكار في أفضل الأذكار، مطبوع.
3 - كتاب التذكرة في أمور الآخرة، مطبوع.
4 - تفسيره: الجامع لأحكام القرآن[29].
* التعريف بتفسيره وطريقته فيه:
قال في مقدمة تفسيره يبين السبب الذي دفعه إلى تأليفه فالطريقة التي سار عليها فقال: وبعد فلما كان كتاب الله هو الكفيل بجميع علوم الشرع الذي استقل بالسنة والفرض، ونزل به أمين السماء إلى أمين الأرض رأيت أن أشتغل به مدى عمري واستفرغ فيه منتي[30] بأن أكتب فيه تعليقاً وجيزاً يتضمن نكتاً من التفسير واللغات والإِعراب والقراءات والرد على أهل الزيغ والضلالات، وأحاديث كثيرة شاهدة لما نذكره من الأحكام ونزول الآيات جامعاً بين معانيهما ومبيناً ما أشكل منهما بأقاويل السلف، ومن تبعهم من الخلف... وشرطي في هذا الكتاب إضافة الأقوال إلى قائليها والأحاديث إلى مصنفيها فإنه يقال من بركة العلم أن يضاف القول إلى قائله، وكثيراً ما يجيء الحديث في كتب الفقه والتفسير مبهماً لا يعرف من أخرجه إلا من اطلع على كتب الحديث، فيبقى من لا خبرة له بذلك حائراً لا يعرف الصحيح من السقيم، ومعرفة ذلك علم جسيم فلا يقبل منه الاحتجاج به ولا الاستدلال حتى يضيفه إلى من خرجه من الأئمة الأعلام، والثقات المشاهير من علماء الإِسلام ونحن نشير إلى جمل من ذلك في هذا الكتاب، والله الموفق للصواب.(/21)
وأضرب عن كثير من قصص المفسرين، وأخبار المؤرخين، إلا ما لابد منه ولا غنى عنه للتبيين واعتضت من ذلك تبيين آي الأحكام، بمسائل تسفر عن معناها، وترشد الطالب إلى مقتضاها فضمنت كل آية تتضمن حكماً أو حكمين فما زاد مسائل نبين فيها ما تحتوي عليه من أسباب النزول والتفسير الغريب، والحكمة، فإن لم تتضمن حكماً ذكرت ما فيها من التفسير والتأويل.
وهكذا إلى آخر الكتاب، وسميته بالجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان[31]. فنلاحظ من هذه المقدمة الطريقة التي سار عليها القرطبي في تفسيره حيث إنه يذكر آية أو مجموعة من الآيات متصلة في المعنى، فيجعل تفسيره لهذه الآيات في جملة مسائل تكون مسألتين، وقد تصل إلى أربعين مسألة فأكثر، يذكر في كل مسألة حكماً من أحكام الآية أو سبباً من أسباب النزول أو تفسيراً لغريب الآية أو صلة لها أو يذكر فروعاً فقهية تتصل بالآية من بعيد أو من قريب، ويستدل على ذلك بالأحاديث ويخرج هذه الأحاديث، كما يستدل بأقاويل السلف وينسبها إلى قائلها. كما أنه لا يستطرد في ذكر القصص والتواريخ، وقد وفى بما وعد في مقدمة تفسيره إلا أنه استطرد في ذكر الفروع الفقهية والتفصيلات الدقيقة في مذاهب أئمة الفقه التي لا تتصل بالآية إلا من بعيد حتى إن القارئ فيه أحياناً يجد نفسه أمام ثروة كبيرة من الأقوال الفقهية تخرجه عن تفسير الآيات القرآنية ومن المراجع التي اعتمد عليها القرطبي في تفسيره ابن جرير الطبري وابن عطية وابن العربي والكِيَّا الهراس وأبو بكر الجصاص ومما يمتاز به القرطبي في تفسيره أنه لا يتعصب لمذهبه المالكي فتجده في بعض المسائل يسوق رأي الإِمام مالك ثم يرجح غيره مما دل عليه الدليل، ومن أمثلة ذلك تفسيره لقوله تعالى في الآية 43 من سورة البقرة: {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين} نجده عند المسألة السادسة عشرة من مسائل هذه الآية يعرض لإِمامة الصغير ويذكر أقوال من(/22)
يجيزها ومن يمنعها، ويذكر أن من المانعين لها الإِمام مالك والثوري وأصحاب الرأي، ولكنا نجده يخالف إمامه فيقول بجواز إمامة الصغير لما ظهر له من الدليل على جوازها وهو ما ثبت في صحيح البخاري من حديث عمرو بن سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((فإذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكم وليؤمكم أكثركم قرآناً)) قال عمرو بن سلمة فنظر قومي فلم يكن أحد أكثر مني قرآنا لما كنت أتلقى من الركبان فقدموني بين أيديهم وأنا ابن ست أو سبع سنين اهـ. باختصار[32] ومن أمثلة ذلك تفسيره للآية [172 من سورة البقرة] {فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه} نجده يعقد المسألة الثانية والثلاثين من مسائل هذه الآية في اختلاف العلماء فيمن كان في سفره معصية كقطع طريق فاضطر إلى الأكل من المحرمات فيذكر أن مالكاً حذّر ذلك عليه وكذلك الشافعي في أحد قوليه ثم يعقب القرطبي على هذا كله فيقول: (قلت الصحيح خلاف هذا فإن إتلاف المرء نفسه في سفر المعصية أشد معصية مما هو فيه) قال الله تعالى: {ولا تقتلوا أنفسكم} [النساء: 29]. وهذا عام ولعله يتوب في ثاني الحال فتمحو التوبة عنه ما كان...[33]
وقد لاحظت في بعض المسائل الفقهية التي يذكرها القرطبي تشابهاً مع المسائل التي يذكرها ابن قدامة في المغني فلعل القرطبي استفاد من كتاب المغني لابن قدامة في نقل بعض المسائل الفقهية لأن ابن قدامة سابق في الوفاة للقرطبي، فابن قدامة متوفى سنة 620هـ. والقرطبي متوفى سنة 671هـ. وهذه المسألة تحتاج إلى تحقيق.
3 – إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود.
* التعريف بمؤلف هذا التفسير:(/23)
هو محمد بن محمد بن مصطفى العمادي أبو السعود من علماء الترك المستعربين، مفسر شاعر، ولد بقرب استنبول، سنة 898هـ. ودرس ودرّس في بلاد متعددة وتولى القضاء في بروسة فاستنبول فالروم ايلى، وأضيف إليه الإِفتاء سنة 952هـ. كان حاضر الذهن سريع البديهة، وحكي عنه أنه يكتب الإِفتاء على نسق سؤال المستفتي، فإن كان سؤاله بالشعر أفتاه بالشعر بوزن شعره وإن كان السؤال بالفارسية أفتاه بها، وكذا إن كان بالتركية أو بالعربية، وقد أشغلته المناصب التي تولاها عن التأليف، فلذا لم يترك لنا إلا مؤلفات قليلة، وكان مهيباً، حظياً عند السلطان توفي سنة 982هـ. ودفن بجوار أبي أيوب الأنصاري باستنبول. ومن مؤلفاته:
1 - تحفة الطلاب.
2 - رسالة المسح على الخفين.
3 - قصة هاروت وماروت.
4 - تفسيره: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم[34].
* التعريف بتفسيره وطريقته فيه:
ذكر أبو السعود في مقدمة تفسيره أنه بعد ما قرأ الكشاف للزمخشري وأنوار التنزيل للبيضاوي رأى أن يؤلف تفسيراً يجمع فيه فوائد هذين التفسيرين ويضيف إليه ما تحصل عليه من فوائد من التفاسير الأخرى، فألف هذا التفسير الذي جلّى فيه بلاغة القرآن وإعجازه وأبرزها في أحسن صورة وهذا مما امتاز به هذا التفسير، يضاف إلى ذلك ذكره للفوائد الدقيقة والحكم البديعة التي دلت عليها الآية والنكت البلاغية النادرة كما أنه يشير إلى القراءات ووجوه الإِعراب ويبين معنى الآية على حسب ذلك دون إطالة، ويعرض للمسائل الفقهية المستفادة من الآية ويشير إلى آراء أئمة المذاهب من غير استطراد ويعنى بذكر أقوال الحنفية ويرجحها كثيراً.(/24)
ولم يستطرد في ذكر الأخبار الإِسرائيلية وإن ذكرها فإنه يصدرها بلفظ روى أو قيل إشارة إلى ضعفها كما أنه يعنى بذكر المناسبات بين الآيات، هذا ويلاحظ عليه ذكره للأحاديث الموضوعة في فضائل السور، حيث ذكر في نهاية كل سورة ما روى فيها من تلك الأحاديث، ويلاحظ عليه صعوبة عبارته في بعض المواضع ودقة إشارته واختصاره للعبارة، بشكل يجعلها غامضة على القارئ العادي فلا يدركها إلا القارئ المتخصص، وقد نال هذا التفسير شهرة واسعة بين العلماء فقد اهتموا به وتدارسوه واقتبسوا منه.
4 – فتح القدير للشوكاني.
* التعريف بمؤلف هذا التفسير:
هو محمد بن علي بن محمد بن عبدالله الشوكاني الإِمام العلامة الفقيه المحدث المجتهد، ولد بهجرة شوكان عام 1173هـ. في ذي القعدة، وتربى في صنعاء، وقد حفظ القرآن وقرأه وختمه على الفقيه حسن بن عبدالله الهبل، وجد في حفظ متون كتب الفقه والحديث واللغة، واطلع على كتب التواريخ، تفقه – رحمه الله – على مذهب الزيدية وبرع فيه وألف وأفتى، ثم خلع ربقة التقليد وتحلى بمنصب الاجتهاد، وألف رسالة سماها: القول المفيد في أدلة الاجتهاد والتقليد وتحامل عليه من أجلها جماعة من العلماء وأرسل إليه أهل جهته سهام اللوم والنقد وثارت من أجل ذلك فتنة في صنعاء اليمن بين من هو مقلد ومن هو مجتهد، وعقيدة الشوكاني عقيدة السلف من حمل صفات الله الواردة في الكتاب والسنة على ظاهرها من غير تأويل ولا تشبيه، وقد ألف رسالة في ذلك سماها: التحف بمذهب السلف، وتوفي الشوكاني – رحمه الله – سنة 1250هـ. وقد خلف الشوكاني مجموعة من المؤلفات منها:
1 - نيل الأوطار ((شرح منتقى الأخبار))، مطبوع.
2 - إرشاد الفحول إلى علم الأصول، مطبوع.
3 - السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار، طبع بعضه.
4 - إرشاد الثقات إلى اتفاق الشرائع على التوحيد والمعاد والنبوات (رد به على موسى بن ميمون اليهودي)[35].
5 - تفسيره: فتح القدير.(/25)
* التعريف بتفسيره وطريقته فيه:
يعتبر تفسيره أصلاً من أصول التفسير ومرجعاً مفيداً للباحثين، وقد جمع في تفسيره من الرواية عن السلف والدراية بالاستنباط ومناقشة الآراء والترجيح وقد اعتمد في تفسيره على أبي جعفر النحاس وابن عطية الدمشقي وابن عطية الأندلسي والقرطبي والزمخشري وابن جرير الطبري وابن كثير والسيوطي، وقد استفاد كثيراً من تفسير السيوطي (الدر المنثور في التفسير بالمأثور) وطريقة الشوكاني في تفسيره أنه يذكر ما في تفسير الآية من جهة اللغة والبلاغة ويشير إلى الإِعراب إن كان له أثر في المعنى، ويذكر القراءات في الآية، ويناقش الآراء التي ينقلها، ويرجح في بعض الحالات، ويستنتج من الآيات الأحكام الفقهية، ويناقش بعض المسائل الفقهية ويبدي فيها رأيه ثم بعد ذلك يسرد ما روي في تفسير الآية من التفسير المأثور معتمداً في ذلك على تفسير الدر المنثور وقد يضيف إلى ذلك إضافات استفادها من كتب أخرى، كما نبه على ذلك في مقدمة تفسيره.(/26)
وقد لاحظ عليه الدكتور الذهبي أنه ينقل بعض الروايات الموضوعة في تفسيره ولا ينبه عليها، وضرب مثلاً لذلك بتفسيره للآية (55) من سورة المائدة وهي قوله تعالى: {إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون} ذكر أنها نزلت في علي رضي الله عنه حينما تصدق بخاتمه وهو في الصلاة وذكر الشوكاني أنه لا يصح الاستدلال بها، ولم ينبه على أنها موضوعة وقد نبه على ذلك ابن تيمية في مقدمة التفسير وقال: إن هذه القصة موضوعة باتفاق العلماء، كما استدل الذهبي بتفسير الشوكاني للآية (67) من سورة المائدة وهو قوله تعالى: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك} فذكر روايات عن السلف في تفسير هذه الآيات منها ما رواه ابن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر عن أبي سعيد الخدري قال: إن هذه الآية نزلت على رسول الله يوم ((غدير خمة))[36] في علي ابن أبي طالب. وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال: كنا نقرأ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك إن عليا مولى المؤمنين وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس) قال الذهبي إنه مرّ على هاتين الروايتين أيضاً بدون أن يتعقبهما بشيء أصلاً[37].(/27)
قلت الشوكاني معذور في هذا لأنه جرى على المنهج الذي رسمه وقد بينه في مقدمة تفسيره، ونقطف منه هذا النص الذي يهم الموضوع وهو قول الشوكاني: (وقد أذكر الحديث معزواً إلى راويه من غير بيان حال الإِسناد لأني أجده في الأصول التي نقلت عنها كذلك كما يقع في تفسير ابن جرير والقرطبي وابن كثير والسيوطي وغيرهم. ويبعد كل البعد أن يعلموا في الحديث ضعفاً ولا يبينونه، ولا ينبغي أن يقال فيما أطلقوه إنهم علموا بثبوته، فإن من الجائز أن ينقلوه من دون كشف عن حال الإِسناد، بل هذا هو الذي يغلب به الظن، لأنهم لو كشفوا عنه فثبت عندهم صحته لم يتركوا بيان ذلك، كما يقع منهم كثيراً التصريح بالصحة أو الحسن، فمن وجد الأصول التي يروون عنها ويعزون ما في تفاسيرهم إليها فلينظر في أسانيدها موفقاً إن شاء الله)[38].
وقد لاحظ عليه الدكتور الذهبي ذمه للتقليد، وأنه كان شديد العبارة على مقلدي أئمة المذاهب فيرميهم بأنهم تاركون لكتاب الله معرضون عن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد قسا إلى حد كبير على المقلدين حيث يطبق ما ورد من الآيات في حق الكفرة على مقلدي الأئمة وأتباعهم، فمثلاً عندما تعرض لقوله تعالى في الآية (28) من سورة الأعراف: {وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله مالا تعلمون} قال ما نصه: (... وإن في هذه الآية الشريفة لأعظم زاجر وأبلغ واعظ للمقلدة الذين يتبعون آباءهم في المذاهب المخالفة للحق، فإن ذلك من الاقتداء بأهل الكفر لا بأهل الحق فإنهم قائلون: {إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون} [الزخرف: 23]. والقائلون: {وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها} [الأعراف: 28].(/28)
والمقلد لولا اغتراره بكونه وجد أباه على ذلك المذهب مع إعتقاده بأنه الذي أمر الله به وأنه الحق، لم يبق عليه وهذه الخصلة هي التي بقى بها اليهودي على اليهودية والنصراني على النصرانية والمبتدع على بدعته. فما أبقاهم على هذه الضلالات إلا كونهم وجدوا آباءهم في اليهودية أو النصرانية أو البدعة، وأحسنوا الظن بهم بأن ما هم عليه هو الحق الذي أمر الله به ولم ينظروا لأنفسهم ولا طلبوا الحق كما يجب ولا بحثوا عن دين الله كما ينبغي، وهذا هو التقليد البحت والقصور الخالص...[39].
ويمتاز تفسير الشوكاني بأنه يناقش آراء المعتزلة ويرد عليهم وقد عدّ الذهبي تفسير الشوكاني من تفاسير الزيدية والواقع أنه ليس كذلك فالمتتبع لتفسير الشوكاني لا يجد الشوكاني يتبنى فيه رأياً للزيدية، فعقيدته سلفية، وهو يرد آراء المعتزلة فلو كان زيدياً لوافقهم ؛ لأن الزيدية يوافقون المعتزلة في أقوالهم في تأويل الصفات، ومسألة العدل، وغير ذلك من المسائل التي اختلف فيها أهل السنة والمعتزلة، وكذلك أيضاً في آرائه الفقهية لا يتبنى آراء الزيدية، وإنما يذكرها كما يذكر آراء غيرهم، ويعني بذكر آرائهم لمعرفته بها ؛ لأنه تفقه في الأصل على مذهب زيد، ثم ترقى في العلم حتى بلغ مرتبة الاجتهاد.
ومما جعله يعنى بآراء الزيدية أنه يمني ويعاهد طائفة الزيدية في بلاده فكان عليه أن يذكر آراءهم ويناقشهم.
5 – روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني للألوسي.
* التعريف بمؤلف هذا التفسير:(/29)
هو أبو الثناء شهاب الدين السيد محمود أفندي الآلوسي، ولد سنة 1217هـ. في جانب الكرخ من بغداد، كان – رحمه الله – شيخ العلماء في العراق، جمع كثيراً من العلوم حتى أصبح علامة في المنقول والمعقول، فبرز في التفسير والحديث والأصول والفروع، أخذ العلم عن فحول العلماء، منهم والده، والشيخ خالد النقشبندي، والشيخ علي السويدي. وقد اشتغل بالتدريس والتأليف وهو ابن ثلاث عشرة سنة، وتخرج عليه جماعة من العلماء، وكان ذا حافظة عجيبة، وكثيراً ما كان يقول: ما استودعت ذهني شيئاً فخانني، ولا دعوت فكري لمعضلة إلا وأجابني، وقد قلد إفتاء الحنفية، وولي الأوقاف بالمدرسة المرجانية وكانت مشروطة لأعلم أهل البلد، وكان – رحمه الله – عالماً باختلاف المذاهب مطلعاً على الملل والنحل، سلفيَّ الاعتقاد، شافعيَّ المذهب، إلا أنه في كثير من المسائل يقلد الإِمام أبا حنيفة رضي الله عنه وكان في آخر أمره يميل للاجتهاد، توفي في 25 ذي القعدة سنة 1270هـ. ودفن بالكرخ، وقد خلف مؤلفات نافعة منها:
1 - شرح السلم في المنطق.
2 - الأجوبة العراقية على الأسئلة اللاهورية.
3 - درة الغواص في أوهام الخواص.
4 - تفسيره: روح المعاني.
* التعريف بتفسيره وطريقته فيه:(/30)
ذكر في مقدمة تفسيره أنه شرع في تأليفه في شعبان سنة 1252هـ. وانتهى من تأليفه سنة 1267هـ. وذكر أنه كان في نهاره يشتغل بالتدريس والإِفتاء وفي أول ليله يجتمع بالعلماء ويتناقش معهم في المسائل العلمية، وفي آخر ليله يكتب في التفسير، ثم بعد ذلك يدفع ما كتبه إلى كتاب استأجرهم لهذه المهمة، فيبيضون ما كتبه في ليلته في عشر ساعات، فهذا يدل على كثرة كتابته وسرعة بديهته، والمطلع على تفسيره يجد نفسه أمام موسوعة تفسيرية كبيرة، حوت أقوالاً في التفسير كثيرة للسلف والخلف كما أنه رجع إلى تفاسير كثيرة في كتابة تفسيره منها تفسير أبي السعود وإذا نقل عنه قال: قال شيخ الإِسلام، وتفسير البيضاوي وإذا نقل عنه قال: قال القاضي، وتفسير الفخر الرازي وإذا نقل عنه قال: قال الإِمام، كما نقل عن تفسير ابن عطية وأبي حيان والزمخشري وابن كثير وغير ذلك من التفاسير، فقد نقل في تفسيره خلاصة هذه التفاسير، ولا يقتصر على النقل فقط، فنجده ينصب نفسه حكماً بين هذه التفاسير ويناقشها ويرجح ما يراه صحيحاً ويضعف ما يراه ضعيفاً، فكان يناقش المعتزلة في آرائهم ويرد عليها كما في تفسير قوله تعالى: {وطبع الله على قلوبهم} [التوبة: 93]. وقوله: {الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون} [البقرة: 15]. ويناقش الشيعة ويرد عليهم في طعنهم على الصحابة كما في قوله تعالى: {وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها وتركوك قائماً} [الجمعة: 11]. كما نجده يستطرد في ذكر المسائل النحوية متأثراً بأبي حيان في تفسيره في ذلك. ويعنى بذكر القراءات المتواترة وغيرها وذكر المناسبات بين الآيات وبين السور، وذكر أسباب النزول، ويستطرد في ذكر مسائل الفقه عند تفسير آيات الأحكام، فيذكر أقوال الفقهاء وأدلتهم مع الترجيح وغالباً ما يرجح مذهب أبي حنيفة ولا يتعصب له، فتجده أحياناً يرجح مذهب الشافعي إذا اقتنع بأدلته، كما أنه يناقش الإِسرائيليات ويفندها، ومن ذلك تفنيده لقصة(/31)
عوج ابن عنق، وقصة سفينة نوح[40].
ويلاحظ على الألوسي اهتمامه بالتفسير الإِشاري على طريقة الصوفية فإذا انتهى من التفسير الظاهر تكلم عن التفسير الباطن فينقل فيه كلام الصوفية في التفسير كالجنيد وابن عطاء وأبي العباس المرسي، فينقل عنهم نقولاً في تفسير باطن الآية وهي بعيدة عن التفسير، ومن أمثلة ذلك تفسيره لقوله تعالى: {إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين} [آل عمران: 33].
قال الألوسي: وما يتعلق بالباطن من أصول الدين فهو ولده كأولاد المشايخ والولد سر أبيه ويمكن أن يقال: آدم وهو الروح في أول مقامات ظهورها، ونوح هو هي مقامها الثاني من مقامات التنزل وإبراهيم هو القلب الذي ألقاه نمرود النفس في نيران الفتن ورماه فيها بمنجنيق الشهوات وآله القوى الروحانية، وعمران هو العقل الإِمام في بيت المقدس البدن وآله التابعون له في ذلك البيت المقتدون به كل ذلك ذرية بعضها من بعض لوحدة المورد واتفاق المشرب: {إذ قالت امرأة عمران ربي إني نذرت لك ما في بطني محرراً} [آل عمران: 35]. عن رق النفس مخلصاً في عبادتك عن الميل إلى السوى: {فتقبلها ربها بقبول حسن} قال الواسطي: محفوظ عن إدراك الخلق: {وأنبتها نباتاً حسناً} حيث سقاها من مياه القدرة، وأثمرها شجرة النبوة وكفلها زكرياء لطهارة سره وشبيه الشيء منجذب إليه {كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا} هو ما علمت، ويجوز أن يراد الرزق الروحاني من المعارف والحقائق والعلوم والحكم الفائضة عليها من عند الله تعالى إذ الاختصاص بالعندية يدل على كونه أشرف من الأرزاق البدنية[41] فهذا التفسير بعيد جداً عن ظاهر الآيات ولا علاقة له البتة بالآية ؛ لأن الآية ورد فيها اصطفاء الله لآم ونوح وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين فهؤلاء أشخاص فكيف يرمز لهم بالمعاني كالروح أو العقل أو القلب، فهذه الرموز لا علاقة لها بالآية ولا دليل عليها من السنة أو كلام السلف(/32)
أو لغة العرب، فهذه التفسيرات وأمثالها باطلة لا يصح تفسير كتاب الله بها، فالسير على هذا المنهج في التفسير تحريف لآيات الله، وإبطال لمعانيها فكان الأولى بالألوسي أن ينزه تفسيره عن مثل هذا كما لا يفوتني أن أبين أن الألوسي ينقل عن الصوفية تفسيرات قد تكون قريبة من معنى الآية أو لها وجه صحيح، وهذا كثير في مواضع متعددة من تفسيره لا يحتاج إلى تمثيل.
فهرس المراجع
1 - الإِتقان في علوم القرآن للسيوطي (ت911هـ.) طبع مصطفى الحلبي بمصر – ط: 3 – 1370هـ. – 1951م.
2 - الأعلام للزركلي (ت1396هـ.) – ثمانية أجزاء – دار العلم للملايين – بيروت – ط: 5 – 1980م.
3 - البرهان في علوم القرآن للزركشي (ت794هـ.) – أربعة أجزاء – طبع عيسى الحلبي بمصر – ط: 2 – 1391هـ. – 1972م.
4 - تفسير ابن كثير (ت774هـ.) – 4 أجزاء – طبع عيسى الحلبي بمصر.
5 - تفسير أبي السعود (ت982هـ.): إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم – طبع عبدالرحمن محمد بمصر – 9 أجزاء.
6 - تفسير الألوسي (ت1270هـ.): روح المعاني – المطبعة الميزية – بمصر ط: 2 – 30 جزء -.
7 - تفسير البغوي (ت516هـ.): معالم التنزيل – مطبوع بهامش تفسير الخازن – طبع مصطفى الحلبي بمصر ط: 2 – 1375هـ.
8 - تفسير الثعالبي (ت876هـ.): الجواهر الحسان في تفسير القرآن: 4 أجزاء – الناشر: مؤسسة الأعلمي، بيروت.
9 - تفسير السيوطي (ت911هـ.): الدر المنثور في التفسير بالمأثور – 6 أجزاء – الناشر: محمد مين دمج – بيروت.
10 - تفسير الشوكاني (ت1250هـ.): فتح القدير – 5 أجزاء – طبع مصطفى الحلبي – بمصر.
11 - تفسير الطبري (ت310هـ.): جامع البيان عن تأويل آي القرآن – تحقيق أحمد شاكر وأخيه محمود – طبعة دار المعارف بمصر – وهي ناقصة. وطبعة مصطفى الحلبي الثالثة – 1383هـ. – وهي كاملة في 30 جزءاً.
12 - تفسير الفخر الرازي (ت606هـ.): مفاتيح الغيب – 32 جزءًا – طبع عبدالرحمن محمد بالقاهرة.(/33)
13 - تفسير القرطبي (ت671هـ.): الجامع لأحكام القرآن – 20 جزءاً – طبعة دار الكتب المصرية – 1387هـ.
14 - التفسير والمفسرون لأستاذنا المرحوم د. محمد حسين الذهبي (ت1397هـ.) – 3 أجزاء – مطابع دار الكتاب العربي بمصر ط: 1 – 1381هـ.
15 - جامع الأصول في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم لابن الأثير الجزري (ت606هـ.) تحقيق عبدالقادر الأرناؤوط – 11 مجلداً – طبع بيروت سنة 1389هـ.
16 - الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة لابن حجر العسقلاني (ت852هـ.) – 4 أجزاء – دار الجيل – بيروت -.
17 - ذخائر المواريث في الدلالة على مواضع الحديث: لعبدالغني النابلسي سنة 1143هـ. – 4 أجزاء – الناشر: ناصر خسرو – طهران.
18 - صحيح البخاري (ت256هـ.) بشرح – فتح الباري – لابن حجر العسقلاني (ت852هـ.) المطبعة السلفية بمصر – 13 مجلداً -.
19 - طبقات المفسرين للداودي (ت945هـ.) بتحقيق علي محمد عمر - جزءان – مطبعة الاستقلال الكبرى بمصر – ط: 1 – 1392هـ.
20 - فتاوى شيخ الإِسلام ابن تيمية (ت728هـ.) – 37 مجلداً – مصور عن الطبعة الأولى سنة 1398هـ.
21 - القاموس المحيط: للفيروز أبادي (ت817هـ.) – 4 أجزاء – المطبعة الحسينية بمصر.
22 - مذكرات في علوم القرآن لأستاذنا فضيلة الدكتور أحمد السيد الكومي، د. القاسم – مطبعة دار الجيل بالقاهرة – ط: 1 سنة 1391هـ.
23 - معجم البلدان لياقوت الحموي (ت626هـ.) – 5 مجلدات – دار صادر بيروت سنة 1376هـ.
24 - المفردات في غريب القرآن للراغب الأصبهاني (ت502هـ.) الناشر: مكتبة الأنجلو المصرية – المطبعة الفنية الحديثة.
25 - مقدمة في أصول التفسير لشيخ الإِسلام ابن تيمية (ت728هـ.) – المطبعة السلفية بالقاهرة – ط: 2 سنة 1385هـ.
ـــــــــــــــــــــــ
[1] راجع كتاب: البرهان في علوم القرآن ج: 1/13.
[2] راجع القاموس في مادة آل ج: 3.
[3] راجع كتابه: المفردات في غريب القرآن ص: 38.
[4] راجع تفسير الألوسي (1/5).(/34)
[5] راجع تفسير ابن كثير (1/3).
[6] راجع تفسير الثعالبي (1/11).
[7] رواه عثمان بن عفان رضي الله عنه، وأخرجه عنه البخاري في صحيحه: كتاب فضائل القرآن، باب 21 – راجع فتح الباري 9/74، وأخرجه عنه أبو داود في سننه: كتاب الصلاة، والترمذي في سننه: كتاب فضائل القرآن، وابن ماجه في سننه: كتاب السنة.
[8] الإِتقان للسيوطي (2/187).
[9] الإِتقان للسيوطي (2/187).
[10] التفسير والمفسرون للذهبي (1/141).
[11] مذكرات في علوم القرآن د. الكومي، د. القاسم (17/18).
[12] راجع جامع الأصول لابن الأثير (2/7).
[13] المصدر السابق (2/134).
[14] المصدر السابق (/3).
[15] راجع تفسير ابن كثير (1/5).
[16] راجع التفسير والمفسرون د. محمد حسين الذهبي (1/207).
[17] راجع طبقات المفسرين للداودي (1/65).
[18] راجع التفسير والمفسرون د. الذهبي (1/233).
[19] راجع طبقات المفسرين (1/157) والأعلام للزركلي (2/259).
[20] راجع التفسير والمفسرون د. الذهبي (1/235).
[21] راجع مجموع فتاوى شيخ الإِسلام ابن تيمية (13/386).
[22] راجع الدرر الكامنة لابن حجر العسقلاني (1/373) وطبقات المفسرين للداودي (1/110) والأعلام للزركلي (1/320).
[23] راجع التفسير والمفسرون للذهبي (1/247).
[24] الأعلام للزركلي (3/301) والتفسير والمفسرون (1/253).
[25] راجع الدر المنثور للسيوطي (1/2).
[26] راجع طبقات المفسرين للداودي (2/213).
[27] التفسير والمفسرون (1/293).
[28] راجع المصدر السابق (1/296).
[29] راجع طبقات المفسرين للداودي (2/65) والأعلام للزركلي (5/322).
[30] المنة: بالضم القوة.
[31] راجع تفسير القرطبي (1/2- 3).
[32] راجع تفسير القرطبي (1/353).
[33] المصدر السابق (2/232) قد ذكر المرحوم د. الذهبي أمثلة أخرى على ذلك راجع كتابه التفسير والمفسرون (3/127).
[34] الأعلام للزركلي (7/59).
[35] راجع ترجمته في مقدمة تفسيره (1/ مقدمة).(/35)
[36] خمة: اسم مكان بين مكة والمدينة عند الجحفة لا يفارقه ماء المطر أبداً وكان الناس يأتونه في الجاهلية والإِسلام في الدهر الأول يتنزهون فيه راجع معجم البلدان لياقوت الحموي 2/389.
[37] التفسير والمفسرون (2/288).
[38] تفسير الشوكاني (1/13).
[39] المصدر السابق (2/295).
[40] المصدر السابق (1/360).
[41] الألوسي (3/143).(/36)
العنوان: التفسير بمكتشفات العلم التجريبي بين المؤيدين والمعارضين
رقم المقالة: 437
صاحب المقالة: د. محمد عبدالرحمن الشايع
-----------------------------------------
تفسير القرآن الكريم بمكتشفات العلم التجريبي أو ما اشتهر به التفسير العلمي موضوع هام شغل بال كثير من القراء والدارسين واختلفت فيه آراء العلماء والباحثين، وكثر فيه التأليف بين مؤيدين ومعارضين. وقبل استعراض هذه الآراء يحسن إلقاء نظرة على نشأته وتعريفه.
نشأته:
من الصعوبة بمكان تحديد نشوء الأفكار والمذاهب فهي غالباً ما تحتاج إلى زمن تختمر فيه الفكرة وتجتمع لها الأدلة ويكثر المؤيدون ثم يشتهر أحدهم بإظهارها وإبرازها وليس بالضرورة أن يكون هو صاحبها وأن تكون هي من بنات أفكاره، لكن يكون هو الذي التقطها حين أعجب بها فذكرها ونشرها ودافع عنها، فنسبت إليه ونقلت عنه.
ومنزع هذا النوع من التفسير للقرآن الكريم قديم، ويشتهر عند الدارسين أن الإمام الغزالي المتوفى سنة (505هـ) من أوائل المتكلمين في هذا النوع والمستوفين للكلام فيه إلى عهده حيث بسط القول في هذا الموضوع في كتابه إحياء علوم الدين، وكتابه الآخر: جواهر القرآن.
فعقد في أولهما باباً في ((فهم القرآن وتفسيره بالرأي من غير نقل)) نقل فيه بعض الآثار والأقوال التي استظهر منها ما يريده من أن في القرآن إشارة إلى مجامع العلوم كلها وأن ((كل ما أشكل فهمه على النظار واختلف فيه الخلائق في النظريات والمعقولات ففي القرآن إليه رموز ودلالات عليه يختص أهل الفهم بِدَرْكها))[1].
وفيه ينقل عن بعض العلماء قوله: ((إن القرآن يحوي سبعة وسبعين ألف علم ومائتي علم إذ كل كلمة علم ثم يتضاعف إذ لكل كلمة ظاهرٌ، وباطنٌ وحدٌ ومطّلع)).
وهذا القول المجمل والاحصاء العددي – بعيداً عن صحته من عدمها – دليل على تقدم هذا المنزع وأنه أسبق من الغزالي.(/1)
وينقل عن بعض العلماء الآخرين قولهم: ((لكل آية ستون آلف فهم وما بقي من فهمها أكثر)).
بل يذهب إلى أبعد من ذلك حين يرفع هذا المسلك إلى الصحابة فينسب للإِمام علي – رضي الله عنه – بأنه قال: ((لو شئت لأوقرت سبعين بعيراً من تفسير فاتحة الكتاب))[2].
فكم نسب للإمام علي من قول؟! وما منعه – رضي الله عنه – أن يفعل؟!!.
ويزيد الإمام الغزالي هذه الفكرة تفصيلاً وبياناً في كتابه جواهر القرآن فيعقد فيه فصلاً يبين فيه كيفية انشعاب العلوم من القرآن ويقسم علوم القرآن إلى قسمين:
الأول: علم الصدف والقشر وجعل من مشتملاته علم اللغة، وعلم النحو، وعلم القراءات وعلم مخارج الحروف وعلم التفسير الظاهر.
الثاني: علم اللباب وجعل من مشتملاته علم قصص الأولين، وعلم الكلام وعلم الفقه وعلم أصول الفقه والعلم بالله واليوم الآخر والعلم بالصراط المستقيم وطريق السلوك[3].
ويتوسع الغزالي في كلامه بعد ذلك فيعقد فصلاً يبين فيه الشعاب سائر العلوم الأخرى من القرآن الكريم وتفرعها عنه فيذكر علم الطب والنجوم وتشريح أعضاء الحيوان وعلم السحر.. وغير ذلك. ثم يختم هذا التفصيل بإجمال يحيط بما ترك فيقول: "ووراء ما عددته علوم أخرى يعلم تراجمها ولا يخلو العالم عمن يعرفها ولا حاجة إلى ذكرها..".
ثم قال فأطنب في تأييد هذا المسلك والمذهب.
وما ذكره من عبارات ونقول يوحي لنا بوجود صلة بين هذا المنزع في التفسير وبين التفسير الإشاري القديم.
ثم يتأيد هذا المنهج بالفخر الرازي (ت606هـ) بما ذكره من استطرادات في تفسيره حتى قيل عنه نقداً لهذا المسلك: فيه كل شيء إلا التفسير.
وجاء بعد ذلك بدر الدين الزركشي (ت794هـ) فنصره في كتابه البرهان في علوم القرآن بما أورده من نقول وما عقده من فصول حيث عقد فصلاً بعنوان: ((في القرآن علم الأولين والآخرين))[4].(/2)
ثم جاء الإِمام جلال الدين السيوطي فقرر ذلك وتوسع فيه في كتابه الاتقان في علوم القرآن، وكتابه الآخر: الاكليل في استنباط التنزيل. وساق للاستدلال على ذلك بعض الآيات والآثار. ونقل نصاً عن أبي الفضل المرسي يؤيد به ما ذهب إليه من احتواء القرآن على سائر العلوم[5].
فنخلص مما سبق إيجازه بأوجز منه وهو أن منشأ هذا المسلك قديم وأن تحديد البدء عسير غير يسير.
تعريفه:
عرفنا فيما سبق قِدَم جذور وأصول هذا النوع من التفسير وأنه تحيّزَ وتميّز في هذا العصر بشكل أكثر وأظهر.
وقد التمس بعض الباحثين تعريفاً لهذا النوع، ومعلوم أن التعريف ينبغي أن يكون جامعاً مانعاً يعرف منه ما يدخل فيه وما يخرج عنه.
وممن التمس لهذا النوع تعريفاً الأستاذ أمين الخولي حيث قال عنه بأنه: ((التفسير الذي يحكّم الاصطلاحات العلمية في عبارة القرآن ويجتهد في استخراج مختلف العلوم والآراء الفلسفية منها))[6].
وقد نقل هذا التعريف الشيخ محمد حسين الذهبي في كتابه التفسير والمفسرون[7]. واختصره آخرون. وتأثر به غيرهم. فقد عرفه الشيخ محمد الصباغ بـ((أنه تحكيم مصطلحات العلوم في فهم الآية، والربط بين الآيات الكريمة ومكتشفات العلوم التجريبية والفلكية والفلسفية[8].
والتعريف لهذا النوع من التفسير يتأثر بموقف المعرف له منه تأييداً أو تفنيداً. فالخولي والذهبي من المنكرين لهذا النوع فكان هذا التعريف متأثراً بهذا الموقف.
ومن هنا تتوجه له بعض الانتقادات منها: قصوره، وقسوة لفظة (التحكّم) في التعريف. كأن كل تفسير علمي كذلك مع ما توحي به من أن الآية المراد تفسيرها لها معنى آخر غير المعنى العلمي المراد منها أن تدل عليه[9].(/3)
وعرفه الدارس عبدالله الأهدل في رسالته: التفسير العلمي دراسة وتقويم – بعد انتقاده للتعريف السابق – بأنه: (تفسير الآيات الكونية الواردة في القرآن على ضوء معطيات العلم الحديث بغض النظر عن صوابه وخطئه ((ليشمل التفسير الصحيح والتفسير الخاطئ)) )[10].
وقوله: ((بغض النظر عن صوابه وخطئه)) لا ينبغي أن تكون من التعريف لأن عموم ما قبلها يشملها.
وقد عرض الدكتور فهد الرومي لهذه التعاريف وتعرض لها بالنقد في كتابه: اتجاهات التفسير في القرن الرابع عشر الهجري. وخرج بتعريف آخر فقال: "والذي يظهر لي – والله أعلم – أن التعريف الأقرب إلى أن يكون جامعاً مانعاً أن يقال: المراد بالتفسير العلمي: هو اجتهاد المفسر في كشف الصلة بين آيات القرآن الكريم الكونية ومكتشفات العلم التجريبي على وجه يظهر به إعجاز للقرآن يدل على مصدره وصلاحيته لكل زمان ومكان".
– ثم شرح عبارات تعريفه بقوله:
ولا شك أن وصفه بـ((اجتهاد المفسر)) يدخل فيه التفسير العلمي المقبول والمرفوض لأن المجتهد قد يخطئ وقد يصيب. وقولنا ((الربط)) ليشمل ما هو تفسير وما هو من قبيله كالاستئناس بالآية في قضية من قضاياه ونحو ذلك.
وقولنا ((العلم التجريبي)) يخرج بقية العلوم الكلامية والفلسفية ونحوها، وقولنا ((على وجه)) لبيان ثمرته. وقولنا ((يدل على مصدره)) نقصد به أنه إذا ما ثبت هذا التوافق بين نصوص القرآن الكريم وحقائق العلوم ولم يقع أي تعارض بين نص قرآني وحقيقة علمية مهما كانت جدتها وحداثتها فإنه لا يمكن أن يقول مثل هذه النصوص بشر قبل اكتشافها بقرون ولابد من أن يكون المتكلم بها هو موجد هذه الحقائق ومكونها وهو الله سبحانه وتعالى. وقولنا ((وصلاحيته لكل زمان ومكان)) نقصد به أنه صالح لكل عصر لا تأتي عليه الأيام ولا الحدثان بما يبطل شيئاً منه فهو صالح لكل عصر وأوان.
هذا ما ظهر لي الآن من المعنى المراد به. (والله أعلم).أ.هـ[11].(/4)
ولا يخلو هذا التعريف الذي ذكره الدكتور الفاضل فهد الرومي من وجهة نظر ففيه طول، وفي وصف الآيات القرآنية بالكونية تضييق لمجاله. كما أن لفظة ((الربط)) الواردة في شرح التعريف لم ترد في عبارات التعريف نفسه ولعل المراد لفظة ((الصلة)).
ولعل التعريف الأيسر والأخصر والذي ينبغي أن يكون عليه الحال. أن يقال عنه بأنه (تفسير القرآن الكريم بحقائق العلم التجريبي).
لكن ربما أراد المعرفون الآخرون له تعريفه على ما هو عليه لا تعريفه بما ينبغي أن يكون عليه.
مذاهب الناس في هذا النوع من التفسير:
تنوعت مذاهب العلماء والدارسين في هذا النوع من التفسير واختلفت مواقفهم منه بين مؤيدين ومعارضين على وجه الاطلاق أو التقييد حتى أنه ليكاد يكون لكل واحد رأيه الخاص به بما يضيفه من شروط ويذكره من قيود.
وقد قسمت الدكتورة هند شلبي مواقف العلماء تجاه هذا الموضوع إلى أربعة أصناف:
1 - المعارضون مطلقاً مع عدم التحيز إلى العلم.
2 - المعارضون مطلقاً مع التحيز إلى العلم.
3 - المؤيدون مطلقاً.
4 - المؤيدون المحترزون[12].
وبعيداً عن كثرة التشعيب والتقسيم سوف أعرض لآراء العلماء مقسماً لها إلى نوعين: المعارضين لهذا التوجه، والمؤيدين له:–
1 – المعارضون:
المعارضون لهذا التوجه في التفسير كثيرون قدماء ومحدثين منهم:
1 - أبو حيان الأندلسي (ت745هـ) في البحر المحيط.
2 - أبو إسحاق: إبراهيم بن موسى الشاطبي (ت790هـ) في الموافقات.
3 - محمود شلتوت في: تفسير القرآن الكريم، ومجلة الرسالة.
4 - أمين الخولي. في: التفسير نشأته، تدرجه، تطوره، وفي دائرة المعارف الإسلامية.
5 - محمد حسين الذهبي. في: التفسير والمفسرون.
6 - محمد عزة دروزة. في: التفسير الحديث.
7 - شوقي ضيف. في: تفسير سورة الرحمن وسور قصار.
8 - محمد رشيد رضا[13]. في: تفسير المنار.
9 - عباس محمود العقاد. في: الفلسفة القرآنية.(/5)
10 - عائشة عبدالرحمن (بنت الشاطئ). في: القرآن وقضايا الانسان.
11 - محمد كامل حسين. في: الذكر الحكيم.
12 - صبحي الصالح. في: معالم الشريعة الإسلامية.
13 - أحمد محمد جمال. في كتابه: على مائدة القرآن مع المفسرين والكتاب.
14 - عبدالمجيد المحتسب. في: اتجاهات التفسير في العصر الراهن.
15 - أحمد الشرباصي. في: قصة التفسير.
16 - إسماعيل مظهر. في: عدة مقالات له في جريدة الأخبار[14].
17 - سيد قطب. في: ظلال القرآن[15].
وهؤلاء المعارضون تختلف عباراتهم في قسوة انتقادها لهذا التوجه بين متشدد ومعتدل. ويجمعها كلها الرفض له. والاعتراض عليه وعدم القبول به.
فقد عد أبو حيان – في معرض نقده الفخر الرازي – توسع العلماء في مباحث العلوم الأخرى عند تفسير القرآن الكريم، فضولاً في العلم. وقسى فجعله: ((من التخليط والتخبيط في أقصى الدرجة))[16].
وأعلن أمين الخولي معارضته لهذا التوجه في رسالته الصغيرة عن التفسير بمبحث عَنْوَنَه بـ((إنكار التفسير العلمي)) نبه فيه على قدم هذا الاتجاه، وقدم معارضته والاعتراض عليه.
ومثله فعل الشيخ محمد حسين الذهبي[17].
وعد الأستاذ عباس محمود العقاد مؤيدي هذا الصنف من التفسير: ((من الصديق الجاهل لأنهم يسيئون من حيث يقدرون الاحسان ويحملون على عقيدة إسلامية وزر أنفسهم وهم لا يشعرون))[18].
وقالت الدكتورة/ عائشة عبدالرحمن بأن هذا المسلك ضحك على العقول ببدع من التأويلات تقدم للناس من القرآن كل علوم الدنيا وعصريات التكنولوجيا[19].(/6)
ويقول د. شوقي نصيف: "وقد تلت الشيخ الإمام [محمد عبده] تفاسير كثيرة منها ما اهتدى بهديه ومنها ما خاض في مباحث علمية كنت ولا أزال أراها تجنح عن الجادة إذ القرآن فوق كل علم. ومن الخطأ أن يتخذ ذريعة لإثبات نظريات علمية في الطبيعة والعلوم الكونية والفلكية وهو لم ينزل لبيان قواعد العلوم ولا لتفسير ظواهر الكون وما ذكر فيه من خلق السماوات والأرض والأفلاك والكواكب إنما يراد به بيان حكمة الله وأن للوجود خالقاً أعلى يدبره وينظم قوانينه ولا ريب في أن القرآن يدعو أتباعه دعوة عامة إلى العلم والتعلم للعلوم الرياضية والطبيعية والكونية. ولكن هذا شيء والتحول بالقرآن إلى كتاب تستنبط من النظريات العلمية شيء آخر لا يتصل برسالته ولا بدعوته. إنه دين لهداية البشرية يزخر بما لا يحصى من قيم روحية واجتماعية وإنسانية وحسب المفسر أن يعنى ببيان ما فيه من هذه القيم ومن أصول الدين الحنيف وتعاليمه التي أضاءت المشارق والمغارب أضواء غامرة"[20].
وقد وصف محمد كامل حسين هذا النوع من التفسير بأنه ((بدعة حمقاء)) بل جعل هذا الوصف وسما لفصل هو ((التفسير العلمي بدعة حمقاء)) وقال عنه مرة أخرى بأنه ((التفسير الحرباوي)) إشارة إلى تغيره بتغير العلوم كما تغير الحرباء جلدها.
بل قسى وبالغ فجعله دليلاً على ضعف إيمان الذاهبين إليه والقائلين به حين قال: "... والذين يفسرون الآيات الكونية تفسيراً علمياً يدلون بذلك على ضعف إيمانهم ولو كانوا مؤمنين حقاً ما كانت بهم حاجة إلى شيء من ذلك يقوي به إيمانهم فليس مقصوداً بالآيات الكريمة غير الوعظ والتفسير الحق الذي هو يقر بها من أذهاننا تقريباً يؤدي إلى الموعظة والعبرة وكل تعمق في تصويرها واقعياً هو بدعة حمقاء"[21].
أدلة المعارضين وأسباب المعارضة:
يقدم المعارضون بعض الاستدلالات، ويوردون بعض التخوفات والاعتراضات لمنع هذا النوع من التفسير، يمكن جمع أظهرها وأشهرها بالآتي:(/7)
أولاً: إن للتفسير شروطاً وقيوداً وضوابط يسير عليها قررها العلماء ينبغي لمن يتصدى لتفسير القرآن الكريم أن يكون قد عرفها وأحاط بها ليأتي الأمور من أبوابها. فلا يكون القرآن الكريم حمى مباحاً لكل من حصّل علماً وحفظا شيئاً فنسي أنه قد غابت عنه أشياء.
ومن شروط ذلك التمكن من العربية فتفسر ألفاظ القرآن الكريم بما تدل عليه لغة العرب، دون تزيّد في تحميل الألفاظ ما لا تحتمله فيستنبط منها ما لا تدل عليه ولا ترشد إليه فللألفاظ معانيها المحددة ودلالاتها الخاصة التي وضعت لها وهذا يمنع التوسع العجيب في فهم ألفاظ القرآن وجعلها تدل على معانٍ وإطلاقات لم تعرف لها ولم تستعمل فيها. أو إن كانت الألفاظ قد استعملت في شيء منها فباصطلاح حادث في الملة بعد نزول القرآن بأجيال[22].
ثم إن هذا التفصيل العلمي المستقى من العلوم في عهودها المتأخرة هل هو من مدلولات ألفاظ الآيات أو لا؟.
إن كان من مدلولات ألفاظ الآيات فكيف لم يفهمه العرب الخُلصّ الذين نزل عليهم وبلغتهم. وإن كانوا فهموه فلماذا لم تقم نهضتهم العلمية التجريبية على هذه الآيات الشارحة والمفصلة لهذه الحقائق والنظريات العلمية المفهمة لدقائها.
وإن كانت لم تفهم منها ولم تدل عليها ولم يدركها أصحاب اللغة الخلص في زمن نزولها – كما هو واقع الحال – فكيف تكون هي معاني القرآن المرادة له والمقصودة منه؟! وكيف يصح تفسيره بها.
وأين بلاغة القرآن حينئذ والبلاغة كما يقولون هي مطابقة الكلام لمقتضى الحال[23].
والقرآن الكريم قد نزل بلسان العرب على قوم يفهمونه وأمر الله نبيه – صلى الله عليه وسلم – بشرحه تبيانه والنظريات الحديثة لم تكن معلومة ولا مكشوفة ولا يصح لمسلم مهما حسنت نيته أن يدعي أن النبي – صلى الله عليه وسلم – لم يكن يعرف جميع ما تضمنته آيات القرآن[24].
وليس فيما ورد عن النبي – صلى الله عليه وسلم – ولا فيما ورد عن أصحابه ما يؤيد هذا الاتجاه أو يدل عليه[25].(/8)
ثانياً: أن القرآن الكريم إنما هو كتاب هداية للبشرية كما قال جل وعلا:
{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ}. [الاسراء: 9].
وليس بكتاب تفصيل لنظريات العلوم ودقائق الفنون وأنواع المعارف من فلك وطب وهندسة وخلافها وأن تطلّب تفصيل ذلك في القرآن الكريم إنما هو سوء فهم لطبيعة هذا القرآن ووظيفته.
((فلا حاجة بالقرآن الكريم إلى مثل هذا الادعاء لأنه كتاب عقيدة يخاطب الضمير وخير ما يطلب من كتاب العقيدة في مجال العلم أن يحث على التفكير ولا يتضمن حكماً من الأحكام يشل حركة العقل أو يحول بينه وبين الاستزادة من العلوم ما استطاع حيثما استطاع. وكل ذلك مكفول للمسلم في كتابه كما لم يكفل قط في كتاب من كتب الأديان[26].
ثالثاً: إن هذا اللون من التفسير يعرِّض القرآن للدوران مع أنواع المعارف ونظريات العلوم وهي أمور لا يقر للكثير منها قرار فقد يهدم العلم في الغد ما يراه اليوم من المسلمات فالعلوم الانسانية تتجدد مع الزمن على ما هو مقتضى سنة التقدم.
((فلا تزال بين ناقص يتم، وغامض يتضح، وموزع يتجمع، وخطأ يقترب من الصواب، وتخمين يترقى إلى اليقين. ولا يندر في القواعد العلمية أن تتقوض بعد رسوخ، أو تتزعزع بعد ثبوت.. ويستأنف الباحثون تجاربهم فيها بعد أن حسبوها من الحقائق المفروغ منها عدة قرون))[27].
فلو طبقنا القرآن على هذه المسائل العلمية المتقلبة لعرضناه للتقلب معها وتحمل تبعات الخطأ فيها، وأوقفنا القرآن وأنفسنا مواقف الحرج[28].
رابعاً: إن هذا المسلك ينطوي على معانٍ عدة لا تليق بجلال القرآن الكريم وكماله أستأذنك في أن أنقلها لك بعبارة سيد قطب الأدبية الندية. وإن كان في بعض ما ذكره تكرار لما سبق تقريره.(/9)
أولى تلك الأمور فيما قال: "هي الهزيمة الداخلية التي تخيل لبعض الناس أن العلم هو المهيمن والقرآن تابع ومن هنا يحاولون تثبيت القرآن بالعلم. أو الاستدلال له من العلم. على حين أن القرآن كتاب كامل في موضوعه ونهائي في حقائقه. والعلم ما يزال في موضوعه ينقض اليوم ما أثبته بالأمس. وكل ما يصل إليه غير نهائي ولا مطلق لأنه مقيد بوسط الإنسان وعقله وأدواته وكلها ليس من طبيعتها أن تعطي حقيقة واحدة نهائية مطلقة.
والثانية: سوء فهم طبيعة القرآن ووظيفته. وهي أنه حقيقة نهائية مطلقة تعالج بناء الإنسان..
والثالثة: هي التأويل المستمر – مع التمحل والتكلف لنصوص القرآن كي نحملها ونلهث بها وراء الفروض والنظريات التي لا تثبت ولا تستقر وكل يوم يجد فيها جديد"[29].
ويبين الشيخ محمود شلتوت جوانب الخطأ في هذا الاتجاه فيقول: "هذه النظرية للقرآن خاطئة من غير شك لأن الله لم ينزل القرآن ليكون كتاباً يتحدث فيه إلى الناس عن نظريات العلوم، ودقائق الفنون وأنواع المعارف وهي خاطئة من غير شك لأنها تحمل أصحابها والمغرمين بها على تأويل القرآن تأويلاً متكلفاً يتنافى مع الإعجاز ولا يسيغه الذوق السليم.
وهي خاطئة، لأنها تعرض القرآن للدوران مع مسائل العلوم في كل زمان ومكان والعلوم لا تعرف الثبات ولا القرار الأخير. فقد يصح اليوم في نظر العلم ما يصبح غداً من الخرافات.."[30].
خامساً: إن في هذا المسلك خطأ منهجياً لأن حقائق القرآن الكريم قطعية نهائية بخلاف ما يصل إليه الإنسان من حقائق فإنها غير قطعية ولا نهائية ففيها النقص والخطأ، فلا يصح تعليق تلك بهذه تعليق تطابق وتصديق[31].
سادساً: إن إدخال التفسيرات العلمية على الإشارات القرآنية وبالصورة التي جرى عليها بعض الكتاب والعلماء لابد أن يفضي عما قريب أو بعيد إلى صراع بين الدين والعلم[32].(/10)
يضاف لما سبق الرد على المجيزين لهذا المنهج والمؤيدين له في تمسكهم بظواهر بعض النصوص كقوله تعالى: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَئٍْ} [الأنعام/38].
وقوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَئٍْ} [النحل/89].
ومثل فواتح السور الواردة في القرآن الكريم فهي مما لم يعهده العرب.
فقد أجاب عن هذه الاستدلالات الشاطبي في الموافقات بقوله: ((فأما الآيات فالمراد بها عند المفسرين ما يتعلق بحال التكليف والتعبد أو المراد بالكتاب في قوله {مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَئٍْ} اللوح المحفوظ ولم يذكروا فيها ما يقتضي تضمنه لجميع العلوم النقلية والعقلية.
ثم قال: وأما فواتح السور فقد تكلم الناس فيها بما يقتضي أن للعرب بها عهداً كعدد الجُمّل[33]. الذي تعرّفوه من أهل الكتاب حسبما ذكره أصحاب السير.
أو هي من المتشابهات التي لا يعلم تأويلها إلا الله تعالى. وغير ذلك.
وأما تفسيره بما لا عهد به فلا يكون ولا يدعيه أحد ممن تقدم فلا دليل فيها على ما ادعوا.
ثم قال: فليس بجائز أن يضاف إلى القرآن ما لا يقتضيه كما أنه لا يصح أن ينكر منه ما يقتضيه ويجب الاقتصار في الاستعانة على فهمه على كل ما يضاف علمه إلى العرب خاصة فيه يوصل إلى علم ما أودع من الأحكام الشرعية فمن طلبه بغير ما هو أداة له ضل عن فهمه وتقوّل على الله ورسوله فيه. والله أعلم وبه التوفيق)).
بهذه العبارات ينقض الشاطبي تلك الاستدلالات ويوجهها مبيناً رأيه فيها.
تلخيص:
يمكن أن نلخص تلك الأدلة والأسباب بما يلي:
1 - التقيد بفهم معاني الألفاظ بدلالة اللغة وحدود استعمالها وقت نزول القرآن وعدم التوسع في ذلك. ولذا لم يرد هذا النوع من التفسير عن السلف.
2 - أن توسيع دلالة الألفاظ إلى أوسع مما يعرفه العرب قديماً يؤدي إلى عدم بلاغة القرآن لعدم مراعاة مقتضى الحال حينئذ.
3 - أن مهمة القرآن الكريم دينية اعتقادية وليست علمية.(/11)
4 - أن هذا المسلك عما قريب أو بعيد سوف يؤدي إلى الصراع بين الدين والعلم.
5 - ما يؤدي إليه هذ المسلك من التأويل المتكلف الذي لا يسيغه الذوق السليم ويتنافى مع إعجاز القرآن.
6 - أن في هذا المسلك تعريضاً للقرآن الكريم لكثرة التأويلات وتغيرها بتغير العلوم وتطورها نظراً لعدم استقرار المسائل العلمية.
7 - أن التفسير العلمي بدعة حمقاء ودفاع فاسد عن القرآن الكريم من كل وجه.
8 - أن هذا النوع من التفسير يعارض اليسر الذي ينبغي أن تتصف به الشريعة الإسلامية[34].
9 - عدم فهم الآيات والآثار التي قد يفهم منها هذا المنحى على وجهها الصحيح.
المؤيدون للتفسير بمكتشفات العلم التجريبي ومؤلفاتهم:
حظي هذا النوع من التفسير بمعناه الواسع بمؤيدين له ومدافعين عنه ومكثرين منه. قدماء ومحدثين وسأجمل القائلين بهذا بوجه عام دون تحديد دقيق لرأي كل واحد منهم إذ يجمعهم التوجه وان اختلفت درجتهم فيه وذلك تجنباً للإِطالة المملة وتشعيب الأقوال تكثراً. فمنهم:
1 - الإمام الغزالي في: إحياء علوم الدين، وجواهر القرآن.
2 - الفخر الرازي (ت606هـ) في: تفسيره مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير.
3 - بدر الدين الزركشي (ت794هـ) في: البرهان في علوم القرآن.
4 - جلال الدين السيوطي (ت911هـ) في: الاتقان في علوم القرآن والإكليل في استنباط التنزيل.
5 - ابن أبي الفضل المرسي فيما نقله عنه السيوطي في الاتقان.
6 - البيضاوي (ت691هـ) في: تفسير أنوار التنزيل وأسرار التأويل.
7 - نظام الدين النيسابوري (ت728هـ) في: غرائب القرآن ورغائب الفرقان[35].
8 - محمود شكري الألوسي (ت1270هـ) في: روح المعاني[36] وكتابه الآخر: ما دل عليه القرآن مما يعضد الهيئة الجديدة القوية البرهان.
9 - طنطاوي جوهر (ت1358هـ) في: الجواهر في تفسير القرآن الكريم، والقرآن والعلوم العصرية.(/12)
10 - محمد أحمد الاسكندراني في ((كشف الأسرار النورانية القرآنية فيما يتعلق بالأجرام السماوية والأرضية والحيوانات والنباتات والجواهر المعدنية))[37]. و((تبيان الأسرار الربانية في النباتات والمعادن والخواص الحيوانية))[38].
11 - عبدالله باشا فكري. في رسالته في مقارنة بعض مباحث البيئة بالوارد في النصوص الشرعية[39].
12 - إبراهيم فصيح – الشهير بحيدري زاده البغدادي. في رسالته في تطبيق الهيئة الجديدة الآثار على بعض الآيات الشريفة وبعض الأخبار.
13 - أحمد مختار باشا الغازي[40].
14 - محمد توفيق صدقي. في محاضراته في سنن الكائنات.
15 - عبدالرحمن الكوكبي. في: طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد.
16 - محمد فريد وجدي. في: الإسلام دين الهداية والإصلاح.
17 - مصطفى صادق الرافعي. في: إعجاز القرآن والبلاغة النبوية.
18 - جمال الدين القاسمي. في: محاسن التأويل.
19 - محمد عبده. في: تفسير جزء عم. وتفسير المنار.
20 - عبدالحميد بن باديس. في: مجالس التذكير من كلام الحكم الخبير.
21 - د. عبدالعزيز إسماعيل. في: الإسلام والطب الحديث.
22 - عبدالرزاق نوفل. في: القرآن والعلم الحديث. وغيره من مؤلفاته.
23 - محمد أحمد الغمراوي. في: الإسلام في عصر العلم.
24 - حنفي أحمد. في: التفسير العلمي للآيات الكونية في القرآن.
25 - محمود أبو الفيض المنوفي. في: القرآن والعلوم الحديثة.
26 - الشيخ محمد متولي الشعراوي. في: معجزة القرآن.
27 - د. محمد عبدالله دراز. في: مدخل إلى القرآن الكريم.
28 - جمال الدين عيّاد. في: بحوث في تفسير القرآن، وقدرة الله مظاهرها من العلم الحديث.
29 - د. مصطفى مسلم في: مباحث في إعجاز القرآن.
30 - عبدالعزيز بن خلف آل خلف في: دليل المستفيد في كل مستحدث جديد.
31 - د. منصور حسب النبي. في: الكون والإعجاز العلمي للقرآن.
32 - د. البشير التركي في: لله العلم.(/13)
33 - محمد عبدالحليم أبو زيد في: مجلة الأزهر (المجلد 18/1560).
34 - د. عبدالله شحاته في: تفسير الآيات الكونية.
35 - أحمد جبالية في: القرآن وعلم الفلك.
36 - د. محمود ناظم نسيمي في: مع الطب في القرآن الكريم.
37 - محمد وفاء الأميري في: آيات الله.
38 - د. عبدالعليم عبدالرحمن خضر في: الظواهر الجغرافية بين العلم والقرآن، و: المنهج الإيماني للدراسات الكونية، وهندسة النظام الكوني في القرآن.
39 - الشيخ محمد الطاهر بن عاشور في: التحرير والتنوير.
40 - د. عبدالغني عبود في: الإسلام والكون.
41 - الشيخ حسن البنا. في: مقدمة في التفسير مع تفسير الفاتحة وأوائل سورة البقرة.
42 - د. فهد بن عبدالرحمن الرومي. في: اتجاهات التفسير في القرن الرابع عشر الهجري.
43 - الشيخ عبدالقاهر داود العاني في: دراسات في علوم القرآن.
44 - محمد صادق عرجون. في: نحو منهج لتفسير القرآن.
45 - محمد أبو زهرة. في: المعجزة الكبرى، القرآن.
46 - د. محمد سعيد رمضان البوطي. في: مقال في مجلة العربي عدد/ 246 عام 1399هـ.
47 - عبدالله بن عبدالله الأهدل. في: التفسير العلمي للقرآن الكريم. دراسة وتقويم[41].
48 - هند شلبي. في: التفسير العلمي للقرآن بين النظريات والتطبيق.
49 - نعمت صدقي. في: معجزة القرآن.
ومنهم الشيخ عبدالمجيد الزنداني في مؤلفاته محاضراته والدكتور محمد علي البار في أبحاثه ودراساته.
فهذا استعراض بإيجاز لعدد كثير من القائلين بالتفسير العلمي يظهر منه انتشار هذا القول وشيوعه على امتداد في الزمان واتساع في المكان فهم مختلفو الديار متعددو المذاهب والمشارب متنوعو التخصصات والثقافات.
واكتفيت بتحديد مؤلفاتهم التي تحمل أفكارهم على وجه الدقة والتفصيل تجنباً للإطالة بنقل عباراتهم المحدّدة لآرائهم والتي قد تكون بالصفحات[42].
على أنه يتعين التنبيه إلى أنهم ليسوا على درجة واحدة في قبولهم للتفسير العلمي فمنهم من يؤيده بإطلاق واندفاع.(/14)
ومنهم من له شروط وقيود فيقبله بحدود ويقصره على الحقائق العلمية اليقينية القطعية دون النظريات الافتراضية. فالمتوسطون في الرأي والمتحفظون في الحكم هم أقرب إلى أن يعدوا من المؤيدين منهم إلى المعارضين لأنهم في المحصلة النهائية يقبلونه بضوابط وشرائط.
أسباب قبول هذا التفسير:
تختلف أدلة ومسببات قبول تفسير القرآن الكريم بمكتشفات العلم التجريبي – أو ما اشتهر بالتفسير العلمي – عند القائلين به وسأحاول في هذه الأسطر عرض أشهر وأظهر ما تبين لي منها.
والآيات والآثار التي سأوردها هي من استدلالات المتقدمين. والتعليلات من آراء المتأخرين. فمن ذلك:
1 – الاستدلال بظاهر عموم بعض الآيات كقوله تعالى:
{مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَئٍْ} [سورة الأنعام/38].
وقوله: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانَاً لِّكُلِّ شَئٍْ} [النحل/89]. فيفسرون الكتاب بالقرآن، ويحملون الآية على ظاهر عمومها وقد ساق الفخر الرازي بعض الاستدلالات للرد على منتقديه في الاكثار من علم البيئة والنجوم بما يصلح أن يكون من أدلة المؤيدين لهذا النوع من التفسير منها:
(1) قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَنظُرُواْ إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَالَهَا مِن فُرُوجٍ} [سورة ق/6] حيث حث على التأمل في بنائها وتزيينها.
(2) قوله تعالى: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} [سورة غافر/57].
إذ بين أن عجائب الخلق في أجرام السماوات والأرض أكثر وأعظم وأكمل مما في أبدان الناس.
(3) قوله تعالى: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران/191].
فقد مدح المتفكرين في خلق السماوات والأرض ولو كان ذلك ممنوعاً منه لما فعل[43].(/15)
(4) قوله تعالى: {سَنُرِيهِمْ ءَايَاتِنَا فِي الأَفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت: 52].
فقوله سنريهم يدل على الاستقبال ومنع هذا النوع من التفسير يؤدي إلى قصر الاعجاز القرآني على عصر النبوة فقط. وهذا يعني أن يستقبل القرآن القرون الأخرى دون إعجاز أو عطاء. وهذا ممنوع[44].
2 – الاستدلال بعموم بعض الأحاديث والآثار من ذلك:
(أ) ما أخرجه الترمذي وغيره أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: ((ستكون فتن)). قيل: وما المخرج منها؟ قال: ((كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم))[45]... الحديث.
(ب) ما أخرجه أبو الشيخ عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ((إن الله لو أغفل شيئاً لأغفل الذرة والخردلة والبعوضة))[46].
(جـ) ما أخرجه سعيد بن منصور عن ابن مسعود أنه قال: (من أراد العلم فعليه بالقرآن. فإن فيه خبر الأولين والآخرين)[47].
3 – أن الله سبحانه وتعالى: ملأ كتابه من الاستدلال على العلم والقدرة والحكمة بأحوال السماوات والأرض وتعاقب الليل والنهار وكيفية أحوال الضياء والظلام وأحوال الشمس والقمر والنجوم وذكر هذه الأمور في أكثر السور وكررها وأعادها مرة بعد أخرى. فلو لم يكن البحث عنها والتأمل في أحوالهم جائزاً لما ملأ الله كتابه منها[48].
4 – إن العلم الحديث ضروري لفهم بعض معاني القرآن الكريم، وليس هناك ما يمنع من أن يكون فهم بعض الآيات فهماً دقيقاً متوقفاً على تقدم بعض العلوم. يقول مصطفى صادق الرافعي في إعجاز القرآن: "إن في هذه العلوم الحديثة على اختلافها لعوناً على تفسير بعض معاني القرآن والكشف عن حقائقه"[49].(/16)
فتكون الحقيقة العلمية من مرجحات المعنى في الآية القرآنية[50]. فإذا احتملت الآية أكثر من معنى يتعين أن يؤخذ بما يرجحه العلم وتؤكده حقائقه ولا مسوغ البتة في تنكب ذلك وتجنبه وهذا يعني أن الجهل بحقائق العلوم مدعاة إلى الخطأ في التفسير.
يؤيد هذا التميز الذي نستقل به المفردة القرآنية وتنفرد به عن غيرها في سعة معناها ودقة التعبير بها وتخير لفظها مما يستحيل معه أن تؤدي أي كلمة أخرى قريبة منها أو رديفة لها كامل معناها بإيحاءاته وظلاله ودقائق معانيه ومن هنا نجد أن غالب القائلين بوجود الترادف في اللغة يمنعونه في القرآن الكريم.
5 – تحقق فوائد كثيرة ومنافع كبيرة من هذا النوع من التفسير مثل:
(أ) إدراك وجوه جديدة للإعجاز في القرآن الكريم بإثبات التوافق والتطابق بين حقائق القرآن الكريم القطعية النهائية وحقائق العلم القطعية اليقينية.
(ب) استمالة غير المسلمين إلى الإسلام وإقناعهم به، وتعرّفهم عليه من هذا الطريق ببيان إعجاز القرآن العلمي لهم وإقامة الحجة عليهم بذلك.
(جـ) ما في هذا المسلك من الحث على الالتفات لأسرار هذا الكون والانتفاع بها بما ينفع الناس.
(د) امتلاء النفوس إيماناً بعظمة الله جل وعلا وقدرته وعظيم سلطانه بعد الوقوف على بعض أسرارها هذا الكون التي كشفها العلم وأشار إليها القرآن الكريم.
(هـ) إظهار التوافق التام بين دين الإسلام وحقائق العلم ودفع المزاعم الباطلة الجاهلة القائلة بأن هناك عداوة وصراعاً بين العلم والدين. فهذا الكون خلق الله. وهذا القرآن كلام الله[51].
أضف إلى كل هذا عدم الاقتناع بأسباب المنع من هذا التوجه في التفسير التي سبق ذكرها.
نماذج من التفسير بمكتشفات العلم التجريبي:
الأمثلة في هذا السياق كثيرة وسأختار منها ما هو قصير يسير تجنباً للإطالة في المقال أو التعقيد في المثال. فمنها:(/17)
أولاً: يقول الله جل وعلا: {لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَلاَ أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَامَةِ، أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ، بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ} [القيامه/ 1–4].
فقد أنكر الكفار بعثهم بعد موتهم واستغربوه واستبعدوه وقالوا: {أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ، أَوَءَابَاؤُنَا الأَوَّلُونَ} وقالوا: {هَذَا شَئٌ عَجِيبٌ، أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ} [ق/2–3].
فقد روي أن عدي بن ربيعة أتى النبي – صلى الله عليه وسلم – فقال حدثني عن يوم القيامة متى يكون؟ وكيف يكون أمرها وحالها؟ فأخبره النبي – صلى الله عليه وسلم – بذلك. فقال: لو عاينت ذلك اليوم لم أصدقك يا محمد ولم أؤمن أَوَ يجمع الله هذه العظام؟! فأنزل الله تعالى: {أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ..}[52]..
وفي رواية أخرى أنها نزلت في أبي جهل.
وقد لفت تخصيص البنان بذكر القدرة على إعادة خلقه رغم صغره، انتباه المفسرين، وحظي باهتمامهم.
فقد أقسم الله في هذه الآيات بيوم القيامة وبالنفس السليمة الصافية الباقية على نقاء فطرتها حيث تلوم صاحبها على معصيته وتقصيره في جنب الله وتفريطه في طاعته.
أقسم بالله بهما على أمر عظيم وشأن خطير على ركن من أركان الإيمان. وهو بعث الإنسان يوم القيامة ليس هذا فحسب بل هو قادر على أن يعيد تسوية بنانه سبحانه وتعالى.
ومن هنا طفق المفسرون يلتمسون سر تخصيص البنان بالذكر. وهو جزء صغير من تكوين الإنسان.
فذكروا تعليلات لطيفة وجيهة لهذا الأمر وأنه خص بذلك لبديع صنعه دقيق خلقه. ولما فيه من أعصاب وعروق وأظافر رغم صغر حجمه.(/18)
وقد ساهم العلم الحديث بما توصل إليه من سر البصمة في القرن التاسع عشر الميلادي في كشف بعض جوانب الحقيقة حيث إن كل إنسان على هذه الأرض يتميز ويتفرد ببصمة خاصة به لا تتطابق مع أي شخص آخر في العالم حتى في التوائم العائدة إلى بيضة واحدة.
وذلك أن البصمة تتكون من خطوط بارزة في بشرة الجلد تجاورها منخفضات وتعلو الخطوط البارزة فتحات المسام العرقية تتمادى هذه الخطوط وتتلوى، وتتفرع عنها تغصنات وفروع لتأخذ في النهاية وفي كل شخص شكلاً متميزاً[53].
ولهذا السبب فقد اعتمدت هذه الطريقة لتمييز الأشخاص واكتشاف المجرمين واللصوص[54].
وتتجلى عظمة الخالق جل وعلا في تميز أشكال البصمة مع ضيق المساحة المتاحة، وتكاثر ألوف الملايين من البشر.
يقول صاحبا كتاب: مع الطب في القرآن الكريم: ((فقد يكون هذا هو السر الذي خصص الله تبارك وتعالى من أجله البنان)).
قلت: لا ينبغي أن يحصر سر ذلك البنان بما تمت معرفته فقد تكشف الأيام عن المزيد وإنما هو بعض أسرار الله في خلقه وليس في الآية ما يدل على الحصر.
بل إن هناك توجهات جديدة لمعرفة العلاقة بين الخطوط الموجودة في كف الإنسان والحالات المرضية من جسمية ونفسية وذلك للعلاقة القوية الموجودة بين المخ والجهاز العصبي والحواس من جهة وبين سطح الجلد من جهة أخرى[55].
ثانياً: قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِئَايَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً} [النساء/56].
تتحدث الآية الكريمة عن قدرة الله العظيمة وعن أحداث يوم القيامة الجسيمة فالله جل وعلا الذي بعث الإنسان وهو رميم فأحياه بعد ممات وجمع أعضاءه بعد شتات قادر على تبديل جلده المحترق بجلد جديد وليس شيء على الله بعزيز. إنما إشارة الإعجاز في الآية تكمن في تعليل هذا التبديل وأنه {لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ}.(/19)
فالآية ظاهرة الدلالة في أن علة التغيير والتبديل للجلود ليذوقوا المزيد من العذاب الأليم. فدل ذلك على أن أكثر أعضاء الجسم غني بمستقبلات الألم هو الجلد. كما أن الحروق هي أشد المنبهات الألمية.
وهذا ما عرفه العلم الحديث وقرره. ذلكم أن الجلد غني بالألياف العصبية التي تقوم باستقبال ونقل جميع أنواع الحس. لذا فإنه عندما يحقن الإنسان بإبرة فإنه يشعر بذروة الألم عندما تجتاز الإبرة الجلد. ومتى تجاوزت الجلد خف الألم[56].
فظهر من الآية الكريمة أن تجديد الجلود ليستمر ويدوم الشعور بالألم دون انقطاع ويذوقوا العذاب الأليم. أعاذنا الله من عذابه.
ثالثاً: يقول الله جل وعلا: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِى مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ، ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِى سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِّلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل/68–69].
في داخل مملكة النحل الكثير من عجائب الخلق، وبدائع الصنع ودقائق التنظيم أظهرت ذلك الدراسات المستفيضة والرصد الواعي للنحل في مملكتها فتعرفت الدراسات على أنواعها ومهمات كل نوع منها وروعة التنظيم فيها واختيار الشكل السداسي لبناء بيوتها دون غيره من أنواع الأشكال الهندسية الكثيرة لأنه الشكل الهندسي الوحيد التي لا تبقى معه أية فراغات أو زوايا مهملة.
ويتوج ذلك ما يخرج من بطون النحل من عسل مصطفى منقى يحصل به الشفاء لكثير من أدواء المرضى. فقد قررت الآية الكريمة هذه النتيجة الهامة السّارة:
{يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتِلَفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِّلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}.(/20)
قررت الآية ذلك وتركت التفصيلات لجهد الإنسان المحوط بعناية الله وهدايته. ليكتشف أساليب العلاج به، وأنواع ما يشفيه من مرض، وأثر ألوان العسل الناتج عن نوع غذائه في ذلك.
وقد اتجهت الكثير من الدراسات للتعرف على مكونات العسل ومزاياه فاكتشفوا شيئاً وبقيت أشياء. فوجدوا أنه منبع للمواد السكرية الطبيعية، وأنه يحتوي على مجموعة من الفيتامينات، والبروتينات والأملاح المعدنية.
ووجدوا أن فيه مواد مضادة لنمو الجراثيم. وأنه مادة شديدة التعقيد يحتوي على مواد مختلفة لم تجتمع في أي مادة أخرى فأصبح العسل علاجاً لكثير من الأمراض كأمراض الروماتيزم، ومرض التراخوما ولعلاج أمراض القلب والذبحة الصدرية، وللمصابين بقرح المعدة والاثنى عشر. حين يؤخذ قبل وجبات الطعام بنحو ساعة مذاباً في كوب ماء دافئ ومفيد في علاج الزكام وواق لنخر الأسنان، ومعجل بالتئام الجروح وغيرها كثير ليس هذا مجال الإطالة بذكرها ولا بيان كيفية إستعمالها. بل إن فوائده الطبية لا تقتصر على العسل بل وتشمل السم وحبيبات اللقاح[57].
ويكفي أن القرآن الكريم قرر هذه الحقيقة ثم ربطها بما ينبغي أن تهدي إليه وتدل عليه من قدرة الخالق جل وعلا وبديع صنعه الذي خلق فسوى، والذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى. إنها آية تدل من فكر وتدبر. وكم في كون الله من آياته.
ففي كل شيء له آية.. تدل على أنه واحد.
لكنها لا تدل إلا من يتفكر. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الرعد: 3].
رابعاً: قال الله تعالى: {فَمَن يُرِدِ اللهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام/125].(/21)
ذكر علماؤنا المتقدمون أقوالاً عدة في معنى الآية نقل ابن كثير جملة منها فقال: ((وقال ابن مبارك فعن ابن جريج: ضيقاً حرجاً بلا إله إلا الله. حتى لا تستطيع أن تدخل قلبه كأنما يصعد في السماء من شدة ذلك عليه. وقال سعيد بن جبير: يجعل صدره ضيقاً حرجاً قال: لا يجد فيه مسلكاً إلا صعد. وقال السدي: (كأنما يصعد في السماء) من ضيق صدره. وقال عطاء الخراساني: (كأنما يصعد في السماء مثله كمثل الذي لا يستطيع أن يصعد إلى السماء). وقال الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس: ((كأنما يصعد في السماء)) يقول: (فكما لا يستطيع ابن آدم أن يبلغ السماء فكذلك لا يستطيع أن يدخل التوحيد والإيمان قلبه حتى يدخله الله في قلبه)[58].
هذه بعض الأقوال في الآية تنتهي إلى صعوبة – أو استحالة – دخول الإيمان في النفوس كصعوبة الصعود إلى السماء. وربما أن بعضهم كان يرى هذا التعبير ضرباً من الخيال، أو تفنناً في المجاز – عند القائلين به – لا تراد حقيقته. بينما هو الآن نبوءة تحققت. وحقيقة تجلت.
وفي الآية من وجوه البلاغة وأسرار البيان ما تنشرح معه النفس في أولها وتنقبض في آخرها تأثراً بإيحاء وظلال ألفاظها.
وقد كشف العلم الحديث أن الصعود والارتفاع في الجو لمسافات عالية يسبب ضيقاً في التنفس وشعوراً بالاختناق يزداد بازدياد الارتفاع حتى ينتهي إلى درجة صعبة جداً وحرجة تنتهي به إلى الموت.
وقالوا إن ذلك عائد لأمور:
منها انخفاض نسبة الأكسجين في الارتفاعات العالية حتى تنعدم نهائياً. وانخفاض الضغط الجوي حيث يؤدي ذلك إلى معدل نقص مرور الهواء عبر الأسناخ الرئوية إلى الدم. كما يؤدي إلى تمدد غازات المعدة والأمعاء فيضغط ذلك على الرئتين ويعيق تمددها وذلك يؤدي إلى ضيق وصعوبة التنفس. مع برودة الجو، وانعدام الوزن[59].(/22)
هذه بعض الأمثلة تخيرتها قصيرة تجنباً للكثرة والإطالة. وقد قدر بعض الباحثين آيات القرآن الكريم التي تحدثت عن الأنفس والأكوان بما يزيد عن (900) آية[60]. منثورة في سور القرآن الكريم.
ضوابط للتفسير بمكتشفات العلم التجريبي:
من خلال الآراء والمذاهب في قبول تفسير القرآن الكريم بمكتشفات العلم التجريبي أو رفضه تكونت لدى عدد من الباحثين ضوابط وشرائط لابد من مراعاتها والالتفات إليها والعناية بها عند التعرض لتفسير بعض الآيات القرآنية من وجهة النظر العلمية التجريبية. من أظهر وأشهر هذه الضوابط.
أولاً: تفهم مهمة القرآن الأساسية:
فالقرآن الكريم كتاب هداية للبشرية يهديها إلى باريها ويبين لها الصراط المستقيم الذي يجب أن تسير عليه لتسعد في دنياها وأخراها.
{إِنَّ هَذَا الْقُرءَانَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً} [الاسراء/9].
فقد جاء القرآن الكريم ليبين للناس مهمتهم التي خلقوا لأجلها وكلفوا بها في هذه الحياة وهي عبادة الله جل وعلا وحده: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ، مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ، إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو القُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات/ 56–58].
وقد سلك القرآن الكريم كل المسالك والسبل من فطرية وعقلية ليبين لهم هذا الحق ويحملهم عليه ويدعوهم إليه. فذكّر الإنسان أصله. ودعاه إلى التفكر في نفسه {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ}.(/23)
ونبهه إلى ما حوله في هذه الأرض التي تقله والسماء التي تظله. فبسط له الأرض ويسرها وأودع فيها وعليها ما ينفع الإنسان ويدل على قدرة الخالق وعظمته ورحمته. إلى غير ذلك من خلق الله وعظيم آياته التي تدل عليه وتدعو إليه. فيتعين أن تبقى الدراسات القرآنية المتعلقة بالآيات الكونية في حدود هذا الغرض ومحققة له. لأن استغلال هذه الموجودات والاستفادة المادية منها فقط دون الاهتداء بها إنما هو منهج جاهل، جاحد، ضال. لأن هذه الآيات الموجودة، وهذه العظمة القائمة، والدقة المتناهية في هذا الخلق بأرضه وسمائه، ببحاره ومجراته، بحيوانه ونباته، بانسانه وكل أجزائه إنما هي شواهدٌ قواطع، وبراهين سواطع على وجود الله جل وعلا وقدرته وعظمته وأنه لا إله الواحد الأحد الفرد الصمد الذي يجب أن تصرف العبادة له وحده.
فالإنسان الذي يشهد ويشاهد كل هذه المخلوقات والمشاهد ثم لا يهتدي إنما هو أضل من حمار أهله. وتأمل قوله تعالى وكفى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ ءَاذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامُ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف/179].
ثانياً: الاعتدال في التناول دون إفراط أو تفريط:(/24)
بعد أن تقرر القرآن الكريم كتاب هداية وأن فيه الكثير من الآيات البينات التي تَذْكر الكون وتذكِّر الانسان بما فيه من دقائق وحقائق عليه أن يلتفت إليها ويستفيد منها ويستدل بها. ولا يصح إهمالها أو الإعراض عنها. بل ينبغي أن تتناول في هذا النطاق دون إغراق في بحث خصائصها ودقائقها لأن هذا المسلم يحوّل التفاسير إلى كتب اختصاص لهذه العلوم. ويحول دون تأثير القرآن في النفوس وإنارته للقلوب. وهدايته للعقول. وهو الهدف الأساسي له ولعل مسلك الإفراط في التناول وعدم الاعتدال فيه. وحشو التفاسير بتلك التفاصيل التي فيها ما يصح وما لا يصح كان أحد أسباب رفض هذا النوع من التفسير.
وكما ننتقد حشو التفاسير بالاسرائيليات، والاستطرادات النحوية، والعقدية وخلافها. فهذا من ذاك.
فالقرآن الكريم إنما يشير إلى مجمل الحقيقة دون تفسير وتفصيل. وفي هذه الإشارة عظيم الدلالة على أن هذا القرآن تنزيل من حكيم حميد. وليس من عند بشر. إذ لو كان من عند غير الله لوجد الناس فيه اختلافاً كثيراً وكبيراً.
ثالثاً: الاقتصار على الحقائق:
ينبغي الاقتصار في تفسير آيات القرآن الكريم على الحقائق العلمية القطعية اليقينية. دون النظريات والفرضيات العلمية لأن النظريات قابلة للتغير والتبدل. فربطها بالآيات وتفسير الآيات بها. ثم تغير التفسير بتغير النظرية يوقع في بعض النفوس ظلالاً من الشك والريب. وما أغنانا عن ذلك.
رابعاً: اليقين باستحالة التعارض الصريح بين حقائق القرآن الكريم والحقائق العلمية:
ينبغي أن يكون في عقيدة ويقين كل مسلم استحالة التعارض والتصادم بين صريح دلالة آية قرآنية، وحقيقة علمية فظيعة يقينية على الرغم من تقدم العلوم وكثرة حقائقها وقواعدها على امتداد الزمان واختلاف المكان وهذا الأمر من المسلمات البدهيات في عقيدة المسلم. وهذا من أظهر وأبهر وجوه الاعجاز العلمي في القرآن الكريم.(/25)
ومرد ذلك انسجام العقائد في الإسلام لأن الحقائق القرآنية، والحقائق العلمية تخرج من مشكاة واحدة، وتصدر من مصدر واحد، فهذا الكون خلق الله، وهذا القرآن كلام الله.
ولن يخبر الله في كتابه بخلاف حقائق خلقه فهو خالقها بهيئاتها وحقائقها ودقائقها لا يعزب عن علمه منها شيء: {أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}؟! [الملك/14].
{قَلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً} [الفرقان/6]. وما قد يلوث في بعض الأذهان من توهم بوجود تناقض وتعارض إنما هو سوء فهم لإحدى الحقيقتين القرآنية أو العلمية، لأن التعارض والتصادم بينهما مستحيل قطعاً. فقد تكون الآية غير صريحة في دلالتها فالوهم في سوء الفهم، أو أن تكون المسألة نظرية علمية لا حقيقة علمية.
خامساً: الاستفادة من مزايا التعبير القرآني الكريم:
يمتاز الأسلوب القرآني الكريم بمزايا باهرة قاهرة من أظهرها مرونة أسلوبه، وخصوصية كلماته، وسعة دلالة مفرداته، ودقة عباراته، ودقة العبارة لا تعني ضيق الدلالة، ولهذا كان القرآن الكريم حمّال وجوه. تتسع الآيات لوجوه من التأويل تكون معه آياته أوسع من أن تحصر في دلالة ضيقة ولا ينبغي أن يساء هذا الفهم لتحمل الآيات ما لا تحتمل ويستخرج منها ما لا تدل عليه.
إذ أنها سعة داخل دلالة الكلمات واستعمالاتها اللغوية الصحيحة وهذه الميزة تؤدي إلى عدم حصر دلالة الآية على حقيقة علمية واحدة فإذا ما اتسعت دلالة الكلمة القرآنية لغوياً، وأيدت حقيقة علمية إحدى هذه الدلالات فإنه يؤخذ بها لكن ينبغي ألا يكون على سبيل الحصر والقصر عليها، ويحكم ببطلان ما عداها من الدلالات الأخرى للمفردة القرآنية فليس ببعيد أن تكون الحقيقة العلمية المكتشفة إحدى دلالات الآية القرآنية لا كل دلالتها فلا نتحجر في دلالة الآية واسعاً.(/26)
فقد علل المتقدمون تخصيص ذكر البنان في قوله تعالى: {بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ} بتعليل صحيح سليم. وكشف العلم التجريبي المتأخر عن خاصية لِلْبنان كانت مجهولة فتكشف شيء من سر تخصيصه بالذكر وقد تكشف قوادم الأيام ما لا يعرف الآن. وهكذا باقي الآيات[61].
فسبحان الذي خلق فسوى. والذي قدر فهدى.
رأيٌ في الموضوع:
لا شك في أعجز القرآن الكريم من كل الوجوه. وهناك تفريق بين الاعجاز العلمي في القرآن الكريم، وما اشتهر بالتفسير العلمي للقرآن فالأول متفق عليه لا إنكار له لأنه لن يكون هناك تعارض بين حقيقة قرآنية وحقيقة علمية قطعية لأنهما من مشكاة واحدة، فالكون خلق الله. والقرآن كلام الله.
لكن وقع الخلاف في الثاني وهو التفسير العلمي للقرآن وذلك بأن نأتي بمسائل العلم التجريبي فنفسر بها دلالة الآيات كما سبق بيانه.
والملاحظ أن مسلمي هذا العصر يسترخون في الدرس والبحث. ويستلقون على آرائكهم فإذا ما ظهرت مسألة علمية وخرجت من الفرضية النظرية لتدخل حيز الحقائق العلمية سارع بعضهم للقول بأننا نعرفها قبل ذلك وأن القرآن الكريم أشار إليها. وقد تكون هذه الاشارة القرآنية إليها قريبة أو بعيدة.
والمسلك الأمثل والأنفع أن تكون للمسلمين مراكز أبحاث ودراسات تنكب على الموضوعات بعمق وأناة وأن تكون إشارات القرآن العلمية – وكذلك صريح وصحيح السنة النبوية – هي طليعة ما يدرس ويبحث.
وهذا المسلك والمنهج يجعلنا نظفر بالنتيجة سلفاً في بعض الحالات وتبقى معرفة الأسرار والتفصيلات. والتي ينبغي أن تكون هي محل الدراسة والبحث.
وبضرب المثال يتضح المقال.
1 – في قوله تعالى: {بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ} دلالة على تميز البنان بشيء أو أشياء ولهذا خص بالذكر، هذه هي نتيجة ويبقى التساؤل عن هذه الميزة. فقد عرفنا شيئاً وباستمرار البحث قد نعرف أشياء.(/27)
2 – قال جل وعلا عن النحل وما يخرج منه من عسل: {...يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِّلنَّاسِ..}.
فالآية صريحة في تقرير حقيقة أن في العسل شفاء للناس. فكان المفروض في المسلمين أن تنصب دراساتهم، وينكب الباحثون منهم في معرفة أسرار وتفصيل ذلك، وينكب الباحثون منهم في معرفة أسرار وتفصيل ذلك، وبأيديهم النتيجة المقطوع بها. فتنصرف الدراسات والأبحاث لمعرفة أي أنواع الأمراض التي يشفيها العسل، وأسلوب التناول والاستعمال وأثر غذاء النحل واختلاف ألوانه في الشفاء إلى غير ذلك من المسائل والتفصيلات المتعلقة بهذا. وهكذا في آيات كثيرة أخرى.
وفي الحديث الصحيح: ((الكمأة من المن. وماؤها شفاء للعين))[62].
فهذا الحديث صحيح في سنده. صريح في دلالته. مقطوع بنتيجته لكن هل أجرت مراكز أبحاثنا ما يكفي من الدراسات للتعرف على خصائص هذا الماء ولأي الأدواء يكون فيه الشفاء؟
فلماذا يتأخر المسلمون عن مثل هذه الدراسات حتى إذا ظهرت في غرب أو شرق سارعنا إلى القول بأن هذا عندنا مذكور في كتاب ربنا وسنة نبينا. فأين كنّا؟.
د. محمد بن عبدالرحمن الشايع
((مراجع البحث))
1 - الاتقان في علوم القرآن لجلال الدين السيوطي. تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1974م.
الأعلام لخير الدين الزركلي. الطبعة الثالثة.
2 - الاكليل في استنباط التنزيل، جلال الدين السيوطي.
3 - اتجاهات التفسير في القرن الرابع عشر الهجري، الدكتور/ فهد بن عبدالرحمن الرومي. الطبعة الأولى (1407هـ – 1986م).
4 - اتجاهات التفسير في العصر الراهن، د. عبدالمجيد المحتسب. ط3، عام 1402هـ، نشر مكتبة النهضة الإسلامية، عمان.
5 - إحياء علوم الدين، أبي حامد الغزالي طبع مصطفى الحلبي.
6 - أسباب النزول للواحدي، تحقيق: السيد أحمد صقر. ط2 عام 1404هـ – 1984م.
7 - إعجاز القرآن، مصطفى صادق الرافعي، ط8.(/28)
8 - البحر المحيط، للإمام أبي عبدالله محمد بن يوسف أبي حيان الأندلسي، نشر مكتبة ومطابع النصر الحديثة بالرياض.
9 - تاج العروس، لمحمد بن مرتضى الزبيدي، ط1، بالمطبعة الخيرية بمصر (130هـ).
10 - تفسير القرآن الكريم، الشيخ محمود شلتوت، دار القلم القاهرة.
11 - التفسير: نشأته، تدرجه، تطوره، أمين الخولي، ط1، عام 1982م، دار الكتاب اللبناني، بيروت.
12 - التفسير العلمي للقرآن الكريم. دراسة وتقويماً، عبدالله الأهدل – رسالة ماجستير، مطبوعة على الآلة الكاتبة – كلية أصول الدين بالرياض.
13 - التفسير العلمي للقرآن الكريم بين النظريات والتطبيق، د. هند شلبي، تونس 1406هـ – 1985م.
14 - التفسير الحديث، محمد عزة دروزة، القاهرة، دار إحياء الكتب العربية.
15 - التفسير والمفسرون د. محمد حسين الذهبي، ط2، عام 1396هـ – 1976م.
16 - التفسير الكبير، فخر الدين الرازي، ط2.
17 - تفسير القرآن العظيم، الإمام ابن كثير، طبع عيسى البابي الحلبي.
18 - جواهر القرآن، أبي حامد الغزالي.
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي. دار إحياء التراث العربي. بيروت. لبنان.
19 - الجامع لأحكام القرآن للقرطبي. دار إحياء التراث العربي. بيروت. لبنان.
زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي ط1.
20 - دائرة المعارف الإسلامية، طبعة دار الشعب مصر.
سنن الترمذي. ط2.
21 - زاد السير في علم التفسير لابن الجوزي ط(1).
22 - سورة الرحمن وسور قصار، د. شوقي ضيف.
23 - سنن الترمذي ط(2).
24 - الفكر الديني في مواجهة العصر، د. عفت محمد الشرقاوي، ط2، عام 1979م، دار العودة، بيروت.
كتاب العظمة لأبي الشيخ الأصفهاني. ط1، دار العاصمة. الرياض.
25 - الفلسفة القرآنية، عباس محمود العقاد، دار نهضة مصر.
لمحات في علوم القرآن واتجاهات التفسير. محمد الصباغ. المكتب الإسلامي.
26 - في ظلال القرآن، سيد قطب، ط12، 1406هـ – 1986م، دار العلم بجدة.(/29)
ميزان الاعتدال. للذهبي. دار المعرفة. بيروت.
27 - القرآن وقضايا الإنسان، د. عائشة عبدالرحمن، ط3، 1978م، دار العلم للملايين، بيروت.
28 - كتاب العظمة لأبي الشيخ الأصفهاني. ط(1) دار العاصمة. الرياض.
29 - كشاف اصطلاحات الفنون، محمد بن علي الفاروقي التهانوي.
30 - لمحات في علوم القرآن واتجاهات التفسير. محمد الصباغ. المكتب الإسلامي.
31 - مباحث في إعجاز القرآن، د. مصطفى مسلم، ط1، عام 1408هـ، بدار المنار جدة.
32 - معجم المؤلفين. لعمر رضا كحالة. دار إحياء التراث العربي. بيروت.
33 - ميزان الاعتدال. للذهبي دار المعرفة. بيروت.
34 - معالم الشريعة الإسلامية، د. صبحي الصالح، ط2، بيروت، دار العلم للملايين.
35 - مناهل العرفان في علوم القرآن، الشيخ محمد عبدالعظيم الزرقاني.
36 - مع الطب في القرآن الكريم، د. عبدالحميد دياب، أحمد قرقوز، ط8، عام 1402هـ، مؤسسة علوم القرآن، دمشق.
37 - المنهج الإيماني للدراسات الكونية في القرآن الكريم، د. عبدالعليم عبدالرحمن خضر، ط1، 1404هـ – 1984م، الدار السعودية، جدة.
38 - جريدة الشرق الأوسط، عدد (133493).
ــــــــــــــــــــــــ
[1] إحياء علوم الدين لأبي حامد الغزالي (1/290).
[2] المصدر السابق.
[3] جواهر القرآن ص(21)، وانظر التفسير والمفسرون للذهبي 2/475.
[4] انظر: البرهان في علوم القرآن للزركشي (2/181).
[5] انظر الاتقان في علوم القرآن للسيوطي (4/30).
[6] التفسير، نشأته، تدرجه، تطوره: أمين الخولي ص(49)، دائرة المعارف الإسلامية (9/420).
[7] انظر التفسير والمفسرون (3/140).
[8] انظر: لمحات في علوم القرآن واتجاهات التفسير، محمد الصباغ ص(203).
[9] انظر: اتجاهات التفسير في القرن الرابع عشر الهجري، د. فهد الرومي 2/548، ورسالة التفسير العلمي للقرآن الكريم، دراسة وتقويم عبدالله الأهدل.
[10] التفسير العلمي للقرآن الكريم، دراسة وتقويم عبدالله الأهدل ص(15).(/30)
[11] اتجاهات التفسير في القرن الرابع عشر الهجري للدكتور فهد الرومي 2/549.
[12] انظر: التفسير العلمي للقرآن الكريم بين النظريات والتطبيق د. هند شلبي ص(16).
[13] عده الدكتور فهد الرومي في كتابه القيم اتجاهات التفسير في القرن الرابع عشر 2/567 من المؤيدين لهذا التوجه في التفسير.
وعدّه الدكتور عبدالمجيد المحتسب في كتابه اتجاهات التفسير في العصر الراهن ص(302) من المنكرين لذلك. ويتأمل ما ساقه كل منهما من نصوص استشهد بها على مراده يظهر أن الشيخ رشيد رضا وإن كان تلميذاً للشيخ محمد عبده أنه أقرب إلى الإنكار منه إلى التأييد ومن عبارة الدكتور فهد أن رشيد رضا يجعل هذا نوعاً من أنواع إعجاز القرآن. وقد سبق وأن فرق لنا الدكتور فهد بين التفسير العلمي والإعجاز العلمي للقرآن وأن الثاني مسلم به دون نكير. بخلاف الأول.
ثم إن الشيخ رشيد رضا قد نعى على المتوسعين في مباحث الأعراب وقواعد النحو ونكت المعاني وجدل المتكلمين وتخريجات الأصوليين واستنباطات الفقهاء المقلدين وتأويلات المتصوفين بحيث حجب هذا التوسع أثر القرآن وصد عن قصده.
وانتقد الفخر الرازي في مسلكه ثم قال: ((وقلده بعض المعاصرين بإيراد مثل ذلك من علوم هذا العصر وفنونه الكثيرة الواسعة فهو يذكر فيما يسميه تفسير الآية فصولاً طويلة بمناسبة كلمة مفردة كالسماء والأرض من علوم الفلك والنبات والحيوان تصد قارئها عما أنزل الله لأجله القرآن، نعم إن أكثر ما ذكر من وسائل فهم القرآن: فنون العربية لابد منها واصطلاحات الأصول وقواعده الخاصة بالقرآن ضرورية كقواعد النحو والمعاني وكذلك معرفة الكون وسنن الله تعالى فيه كل ذلك يعين على فهم القرآن. تفسير المنار 1/7، ط4.
[14] جريدة الأخبار في 17/11/1961م وانظر: الفكر الديني في مواجهة العصر د. عفت محمد الشرقاوي ص(425).
وانظر:–
1 – اتجاهات التفسير في القرن الرابع عشر الهجري د. فهد الرومي 2/578 – 600.(/31)
2 – اتجاهات التفسير في العصر الراهن د. عبدالمجيد المحتسب ص(295).
[15] أفاض سيد قطب – رحمه الله – في الحديث عن هذا. فقد وصف حقائق القرآن الكريم بأنها نهائية ووصف ما يصل إليه الإنسان ببحثه وحده بأنها حقائق غير نهائية ولا قطعية وجعل تعليق الحقائق القرآنية النهائية بحقائق غير نهائية ولا قطعية خاصة تعليق تطابق وتصديق خطأ منهجي هذا إذا كانت حقائق. وأما إذا كانت فرضيات ونظريات فإضافة إلى خطئها المنهجي فإنها تنطوي وتوحي بمعانٍ غير مقبولة فهي توحي:–
1 – الهزيمة الداخلية التي تخيل لبعض الناس أن العلم هو المهيمن والقرآن تابع.
2 – سوء فهم طبيعة القرآن ووظيفته.
3 – التأويل المستمر مع التعجل والتكلف لنصوص القرآن كي تحمل ويلهث بها وراء الفروض والنظريات المتعددة والمتغيرة.
لكنه مع هذا الرأي أبد الانتفاع بالكشوف العلمية في توسيع مدلول الآيات القرآنية وتعميقها.
[16] البحر المحيط 1/341.
[17] التفسير والمفسرون (3/140).
[18] الفلسفة القرآنية ص(16).
[19] القرآن وقضايا الإنسان د. عائشة عبدالرحمن ص(426).
[20] سورة الرحمن وسور قصار د. شوقي ضيف ص(10).
[21] الذكر الحكيم، محمد كامل حسين ص(59). واتجاهات التفسير في القرن الرابع عشر، د. فهد الرومي (2/588).
[22] التفسير: نشأته، تدرجه، تطوره، أمين الخولي ص(60).
[23] التفسير: نشأته، تدرجه، تطوره، أمين الخولي ص(60).
[24] التفسير الحديث، محمد عزة دروزة 2/7.
[25] اتجاهات التفسير في العصر الراهن د. عبدالمجيد المحتسب ص(317).
[26] الفلسفة القرآنية، عباس محمود العقاد ص(15).
[27] المصدر السابق.
[28] تفسير القرآن الكريم، الشيخ محمد شلتوت ص(11).
وانظر: التفسير الحديث، محمد عزة دروزة 2/7. ومعالم الشريعة الإسلامية د. صبحي الصالح ص(291).
[29] في ظلال القرآن، سيد قطب 1/176.
[30] تفسير القرآن الكريم، الشيخ محمود شلتوت ص(1).
[31] في ظلال القرآن، سيد قطب 1/176.(/32)
[32] الفكر الديني في مواجهة العصر، د. عفت الشرقاوي ص(426) في مقام عرضه لرأي إسماعيل مظهر عن جريدة الأخبار بتاريخ 17/11/1961م.
[33] يضم الجيم وتشديد الميم، وهو اسم حساب مخصوص مبناه على كلمات أبجد هوّز حطي كلمن سعفص قرشت ثخذ ضظغ. كل حرف منها يدل على رقم فالحروف من الألف إلى الطائ للآحاد ومن الياء إلى الصاد للعشرات ومن القاف إلى الظاء للمئات وحرف الغين آخرها يمثل ألف (1000). وهو قول مردود ورد فيه حديث ضعيف من رواية الكلبي. قال ابن كثير من زعم ذلك فقد ادعى ما ليس له وطار في غير مطاره.
انظر: تفسير ابن كثير 1/38، وتاج العروس مادة جمل 7/364، وكشاف اصطلاحات الفنون للتهانوي 2/11.
[34] انظر: التفسير العلمي للقرآن الكريم، دراسة وتقويم عبدالله الأهدل، رسالة ماجستير – كلية أصول ص(194).
والتفسير العلمي للقرآن الكريم بين النظريات والتطبيق د. هند شلبي ص(63 – 69).
[35] تّأثُّراً بالفحر الرازي حيث ينقل عنه.
[36] لما ينقله عن الفخر الرازي. وما يذكره من التفسير الاشاري ومنزعه علمي قديم.
[37] كتاب يقع في ثلاثة أجزاء بمجلد واحد طبع بالمطبعة الوهيبة بمصر سنة 1297هـ انظر: التفسير. نشأته، تدرجه، تطوره لأمين الخولي ص(52) والتفسير والمفسرون للذهبي 2/497.
الأعلام للزركلي 6/246، معجم المؤلفين لعمر رضا كحالة 8/233.
[38] طبع في سوريا سنة 1300هـ عن: التفسير، نشأته، تدرجه، تطوره لأمين الخولي ص(52).
[39] مطبوعة في القاهرة سنة 1351هـ.
[40] كان صدراً أعظم للدولة العثمانية، له بحث في الآيات الكونية في القرآن.
انظر: اتجاهات التفسير في العصر الراهن د. عبدالمجيد المحتسب، ص(264). معجم المؤلفين لعمر رضا كحالة 2/173.
[41] رسالة ماجستير في كلية أصول الدين بالرياض.
[42] فتنظر تلك المؤلفات. أو تراجع بعض النقول عن بعضهم في:
1 – التفسير والمفسرون للذهبي 2/474 وما بعدها.(/33)
2 – اتجاهات التفسير في العصر الراهن د. عبدالمجيد المحتسب ص(247) وما بعدها.
3 – اتجاهات التفسير في القرن الرابع عشر الهجري للدكتور فهد بن عبدالرحمن الرومي 2/550 وما بعدها.
4 – التفسير العلمي للقرآن الكريم بين النظريات والتطبيق د. هند شلبي.
[43] التفسير الكبير للفخر الرازي 14/121.
[44] انظر المنهج الإيماني للدراسات الكونية في القرآن الكريم د. عبدالعليم عبدالرحمن خضر، ص(244) – بتصرف –.
[45] أخرجه الترمذي في سننه، كتاب فضائل القرآن، باب ما جاء في فضل القرآن (5/172). وقال عنه: ((هذا حديث لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وإسناده مجهول وفي الحارث مقال)).
[46] أخرجه أبو الشيخ الأصفهاني في ((كتاب العظمة)) (2/534) وفي سنده أبو أمية بن يعلى ضعفه غير واحد. انظر ميزان الاعتدال (1/254).
[47] انظر الاتقان للسيوطي 4/28، الاكليل للسيوطي أيضاً ص(2)، التفسير والمفسرون للذهبي 2/477.
وقد ساق السيوطي في الاتقان الكثير من الروايات والأقوال التي تُرجِع أنواع العلوم إلى القرآن الكريم. وفي كثير منها الكثير من البعد والتكلف.
[48] التفسير الكبير للفخر الرازي 14/121.
[49] إعجاز القرآن، مصطفى صادق الرافعي ص(143).
[50] انظر التفسير العلمي للقرآن الكريم بين النظريات والتطبيق د. هند شلبي، ص(58).
[51] راجع:
1 – مناهل العرفان في علوم القرآن للشيخ عبدالعظيم الزرقاني 1/568.
2 – اتجاهات التفسير في القرن الرابع عشر د. فهد الرومي 2/602.
[52] انظر أسباب النزول للواحدي بتحقيق السيد أحمد صقر ص(477). والبحر المحيط 8/385. وذكره القرطبي (19/63) بغير سند. كما ذكره ابن الجوزي مختصراً (8/417).
[53] انظر: مع الطب في القرآن الكريم د. عبدالحميد دياب، د. أحمد فرقوز ص(23).(/34)
[54] وقد تطور الوضع إلى ما يعرف بالبصمة الوراثية وهي أحدث أسلوب لمعرفة الجناة وقد توصل إليها عام 1984م وهي تشمل بصمة البنان أو نقطة دم، وجذرة شعر.. وكل ما يتعلق بالوراثة. وقالوا إنه يمكن التعرف من خلال البصمة الوراثية على صاحب منديل متروك في مكان الحادث منذ سنين. جريدة الشرق الأوسط، عدد 133493.
[55] انظر: التفسير العلمي للقرآن الكريم بين النظرية والتطبيق، د. شلبي ص(139).
[56] مع الطب في القرآن الكريم، ص(30).
[57] انظر: مع الطب في القرآن الكريم ص(182).
[58] تفسير ابن كثير 2/189.
[59] مع الطب في القرآن ص(21).
[60] انظر القرآن والعلوم، للدكتور جمال الدين الفندي، وكتاب ((مباحث في إعجاز القرآن)) د. مصطفى مسلم ص(150).
[61] انظر: مباحث في إعجاز القرآن لدكتور مصطفى مسلم (152 – 156).
[62] أخرجه الترمذي في سننه، كتاب الطب، باب ما جاء في الكمأة والعجوة (4/401) وقال عنه: هذا حديث حسن صحيح.(/35)
العنوان: التَّفْسِير بَيْنَ الموضوع والذَّات
رقم المقالة: 1069
صاحب المقالة: د. وليد قصّاب
-----------------------------------------
يقوم التفسير الحيَوِيُّ الناجح للنُّصُوص على مُعَادَلَةِ التَّوَازُنِ بين الذات والموضوع؛ ذلك أَنَّ كُلّاً منهما مشروع ومسموح به في تفسير النص واستقباله ما دام لا يطغى على الآخر، أو يستبعده، أو يَسْتَبِدُّ هُوَ وحده بهذا النشاط المعرفي الهامّ.
والذات معناها إحساس المفسِّر بالمعاني، وشعورُهُ تِجاهها، وما تركته في نفسه من أثر، أو أَوْحَتْ إليه من أَفْكَارٍ وَمَشَاعِرَ، وما استطاع أن ينفُذَ إليه منها مما لا يَسْتَطِيعُ أن يَنْفُذَ إليه غَيْرُهُ.
وهذه الذاتُ حاضرةٌ عند التَّعامُلِ مع النصوص عادةً، وقد يمكن أن نُعَبِّرَ عنها -بِلُغَةِ النقد الأدبي الحديث- بِأُسْلُوب التَّلَقِّي أو أُسْلُوب قِرَاءَةِ النص واستقباله.
والموضوع هو لُغَةُ النَّصِّ، وأسلوب تشكُّلِهِ اللَّفْظِيّ على هذا النحو أو ذاك من الصيغ والتراكيب.
إن للألفاظ -في العادة- دِلالاتِهَا، وينبغي أن يكون استقبال الذات لها من طريق هذه الدِّلالات، لا بالخُرُوج عليها، أو تجاهُلِهَا، أو تحميلِهَا -بِحُجَّةِ حَقِّ هذه الذَّاتِ في مُمَارَسَةِ حَيَوِيَّتِهَا- فوق ما تحتَمِلُهُ من المعاني والدِّلالات.(/1)
لقد أسرف التفكيك الحديث -وهو يُرِيدُ إِبْرَازَ هذه الذات، والتأكيد على حضورها- في تَضْخِيم دَوْرِهَا، والاعتداد بها، حتى كادت تكونُ هي كُلَّ شيء، اسْتَعْلَتْ على الموضوع، بل صار هذا الموضوعُ تابعاً لها، يمشي في ظِلِّهَا، ويخضع لسُلْطَانِها؛ فنشأ عن هذه المبالَغَةِ والغلوِّ في تقدير دورها عدمُ الاعتداد بالعَلاقة بين الدالِّ والمدلول، أي بين اللفظ وما يعبر عنه، بل بَلَغَ الغُلُوُّ حدَّ التشكيك في هذه العلاقة أصلاً، وبذلك تَميَّع الموضوع؛ أي النص، وفَقَدَ مِصْدَاقِيَّتَهُ، ولم يَعُدْ أيُّ نص قادراً على أن يقول شيئاً مُحَدَّداً، أصبح كل شيء فيه -كما يقول (تيري إيغلتون): ((مُنْزاحاً ومُتَقَلْقِلاً دوماً، شبه حاضر وشبه غائب.. ولم يَعُدْ في أية قطعة لُغوية يُعْرَفُ عما تتحدث.. لأن ما تقولُهُ عن مثل هذه الأشياءِ لن يكون أَكْثَرَ من نتاج عابر للدالِّ، ولن يُؤْخَذَ بالتالي على أنه حقيقي أو جِدِّي بأي معنًى من المعاني ...))[1]، وأُسْنِد التفسير إلى الذات وحْدَها، وَأُعْطِيَتْ حَقَّ أن تتحكم في الموضوع، وأن تُقَوِّلَهُ ما تريد؛ أصبح السُّلْطَانُ لها، وَتَقَهْقَرَ النص أمامَها، حتى لم يبق له حضور إلا من طريقها، بل زُعِمَ أنها هي التي تُوَلِّدُهُ!
ولا شك أن هذا الغلوَّ في تقدير دور الذات اتجاه خطير في التفسير، وقد قاد إلى كثير من المَزَالِقِ والانحرافات التي ليس المجال الآن مجالَ ذِكْرِها.(/2)
وقد يكون من قبيل هذا الاختلال وعدم التوازن بين الذات والموضوع، وتغليب الأولى وطُغيانِهَا: ما نعرفه في تراثنا من شَطَحَاتِ بَعْضِ الصُّوفية في تفسير القرآن الكريم؛ حَيْثُ طَغَتْ عِنْدَهُم الذات على الموضوع، وجَاوَزَتْ حدودها المقبولة، فخرج المُفَسِّرُ عِنْدَئِذٍ إلى الخيال الجارف، والشطْح البعيد، والغلو الذي لا يعتمد على قواعِدَ ثابتةٍ، أو يَفِيء إلى أصولٍ معتَمَدَةٍ مقرَّرة، احتكم إلى حَدْسِهِ الذاتي؛ فقرأ النصَّ به..
إن من حق الذات -كما قلنا- أن تستَغْرِقَ في التأمُّلِ والنَّظَرِ، وفي الذَّوْقِ والإحساس، وفي الشعور بالنص، والتَّمَاهِي فيه، ولكن على ألا يصل هذا الاسْتِغْرَاقُ إلى نسيان طبيعة النَّصِّ، أو تجاهُلِ دلالات ألفاظه وعباراته، أوِ الاِدعاء -مَثلاً- أنَّ لها ظاهراً وباطناً، حاضراً وغائباً، وأنَّ الاستغراق الذاتيَّ هو الذي ينفُذُ منَ الظاهر إلى الباطن، ومنَ الحاضر إلى الغائب، ومنَ الشاهد إلى المحْتَجِبِ المستور.
إن هذا كُلَّهُ هو من الحدْسِ الذي لا دليل عليه، وقد قاد ذلك الباطِنِيِّينَ إلى الضلال والانحراف، وإلى تفسيرات -قديمة وحديثة- للقرآن الكريم ما أنزَلَ اللهُ بها من سُلْطَان.
إن القرآن الكريم نَزَلَ بِلُغَةِ العرب، وعلى طَرَائِقِهِمْ وأساليبهم في التعبير والأداء، وإنَّ أيَّ استغراق للذات في تأَمُّلِ هذا الكتابِ العظيم، لا ينبغي -بأيَّةِ حال من الأحوال- أن يَتَجَاوَزَ هذه القاعدةَ، بل ينبغي أن ينضَبِطَ بها، ويَتَحَرَّكَ في إطارها.
وإِذَا تَجَاوَزَ المفسِّرُ هذه القاعدةَ، فأطلق لِذَاتِهِ العِنَانَ، وسوَّدَهَا على الموضوع، وعلى ما تدل عليه ألفاظُهُ وعباراتُهُ؛ فَقَدَتِ اللُّغَةُ وظيفَتَهَا، وخضعت لذاتِ المفَسِّرِ، أيْ لِحَدْسِهِ وإحساسه، وهذا كله غيرُ علميٍّ، ولا منهجيٍّ، ولا مُنْضَبِطٍ أصلاً.(/3)
وما ربْطُ علماءِ التفسير ذاتَ المفسِّر بمجموعة من العلوم المعروفَةِ إلا من قبيل ضبط هذه الذات حتى لا تَجْمَحَ وتشتَطَّ.
لقد اشْتَرَطَ المفسِّرُون -حرصاً على النص القرآني، وحياطةً له من أن تَقْتَحِمَهُ الشطحات الذاتية، والتصوُّرَات الشخصية، والخَيَالُ الجامِحُ النَّافِرُ- في المفَسِّرِ معرفةَ مجموعةٍ من العلوم والمعارف، ولم يُجِيزوا له أن يقتحم ساحة التفسير أو التأويل من غير أن يُلِمَّ بِهَا، ويتَعَمَّقَ معرفَتَهَا ودَرْسَهَا؛ من ذلك معرفة علوم العربية؛ من نحو، وصرف، وبلاغة، وغريب، ومعرفةِ القراءات، وأصولِ الدين، وأصولِ الفقه، ومعرفةِ الحديث، ثُمَّ معرفةِ علومٍ هامة تَتَّصِلُ بالنص القرآنيِّ نَفْسِهِ؛ لأنها تضعه في إطاره الصحيح وَفي ظُروف نزوله، وهذه العلومُ هي معرفة أسباب النزول، والناسخ والمنسوخ، والمكيّ والمدنيّ، وما شاكَلَ ذلك.
وهكذا تنْضَبِطُ ذاتُ المفسِّرِ، ويقومُ التوازُنُ المطلوبُ بينها وبين الموضوع، فيكون التفسير عندئذ منهجيّاً وحيويّاً؛ هُوَ منهجيٌّ لأنه يستند إلى قوانينِ اللغة وضوابِطِهَا، وحيويٌّ لأنه يعطي الذات المفسِّرَةَ حقَّهَا في التأمُّلِ والاجتهاد والنفاذ..
ــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] انظر كتابه ((نظرية الأدب)) ترجمة ثائر ديب ((دمشق: 1995م) ص 247.(/4)
العنوان: التقليد يذهب بأصالة الأمة
رقم المقالة: 493
صاحب المقالة: د. محمد بن لطفي الصباغ
-----------------------------------------
إخوتي وأخواتي
أبنائي وبناتي
قرأت في مطلع الشباب كتاباً قيِّماً ألَّفه مفكر إسلاميٌّ هداه الله إلى الإسلام، وهو الأستاذ محمد أسد رحمه الله، وعنوان هذا الكتاب: ((الإسلام على مُفترَق الطرق)) وفيه فصلٌ رائع عن ضرر تقليد المسلمين للغرب.
وقد قال في هذا الفصل:
[إنَّ تقليد المسلمين سواء كان فرديّاً أم جَماعيّاً لطريقة الحياة الغربيَّة لهو بلا ريب أعظمُ الأخطار التي تستهدف الحضارة الإسلاميَّة. ذلك المرض – ومن الصعب أن نسمِّيَه بغير هذا الاسم – يرجع إلى ما قبل بضعة عُقود، ويتصل بقُنوط المسلمين الذين رأوا القوَّة الماديَّة، والتقدُّم في الغرب، ثمَّ وازنوا بينهما وبين الحالة المؤسفة في بيئتهم الخاصَّة. ولقد كان من جهل المسلمين لتعاليم الإسلام.... أن نشأت الفكرةُ القائلة: إنَّ المسلمين لا يستطيعون أن يُسايروا الرقيَّ الذي نراه في سائر أنحاء العالم ما لم يتقبَّلوا القواعدَ الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة التي قبلها الغرب].
ثم قال: [إنَّ السطحيِّين من الناس فقط لَيستطيعون أن يعتقدوا أنَّه من الممكن تقليد مدنيَّة ما في مَظاهرها الخارجيَّة من غير أن يتأثَّروا في الوقت نفسه بروحها. إنَّ المدنيَّة ليست شكلاً أجوف فقط، ولكنَّها نشاط حيٌّ، وفي اللحظة التي نبدأ فيها بتقبُّل شكلها تأخذ مجاريها الأساسيَّة ومؤثِّراتها الفعَّالة تعمل فينا، ثمَّ تخلع على اتجاهنا العقليِّ كلِّه شكلاً معيَّناً، ولكن ببطء ومن غير أن نلحظَ ذلك. ولقد قدَّر الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الاختيارَ حقَّ قدره حينما قال: ((مَنْ تشبَّه بقومٍ فهو منهم))[1] وهذا الحديث المشهور ليس إيماءة أدبيَّة فحسب، بل هو تعبيرٌ إيجابيٌّ يدلُّ على أن لا مفرَّ من أن يصطبغَ المسلمون بالمدنيَّة التي يقلِّدونها].(/1)
ثم قال: [وليس ثمَّة خطأ أكبرُ من أن تفترض أنَّ اللباس مثلاً شيء خارجيٌّ بحت، وأن لا خوف منه على (حياة الإنسان) العقليَّة والروحيَّة. إنَّه على وجه العموم نتيجةُ تطوُّر طويل الأمد لذَوق شعب ما في ناحيةٍ معيَّنة، وزيُّ هذا اللباس يتَّفق مع الإدراك البديعي لذلك الشَّعب ومع مُيوله].
ثم قال: [وكيما يستطيعَ المسلم إحياء الإسلام يجب أن يعيشَ عاليَ الرأس، يجب عليه أن يتحقَّق أنه متميِّز، وأنَّه يختلف عن سائر الناس، وأن يكون عظيم الفخر لأنَّه كذلك].
أقول: وهذا كلامٌ صحيح وعميق. لقد ضرب هذا المفكِّر مثلاً باللباس.. وهناك أمثلةٌ كثيرة في تقليد الآخرين وقع بعضُ المسلمين فيها. ومن ذلك تخلِّي كثير من المسلمين عن طِراز السَّكَن الإسلامي إلى طِراز أجنبيٍّ، وهذا ما سنفصِّل القول فيه في هذه الكلمة. ومن ذلك تقليدُ بعضهم الآخرين باتِّخاذ يوم معيَّن عيداً لمعنىً من المعاني، كعيد الحبِّ الذي يكون عند الكفَّار في: الرابعَ عشرَ من شُباط (فبراير).
إنَّ الاحتفال بهذا اليوم أمرٌ محظور شرعاً؛ لأنَّه تقليد للكفَّار وتشبُّه بهم، ولأنَّ الحبَّ منه ما هو حرام، ومنه ما هو حلال، فإذا كان حراماً كحبِّ امرأة أجنبيَّة فهذا لا يجوز أصلاً.
وإذا كان حلالاً كحبِّ الله ورسوله والوالدين والزوجة والأولاد – ولكلِّ نوع من أنواع الحب هذه طعمٌ خاص – فهذا لا يكون الاحتفالُ به وتذكُّره في يوم من أيام السنة، بل ينبغي أن يتذكَّره المرء دائماً.
نعم.. لا يجوز أن نقلِّد الآخرين في هذا وأشباهه لما رواه أبو سعيد الخُدري رضي الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال:
((لتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَن كان قَبلَكُم شِبراً بشِبر، وذِراعاً بذِراع حتَّى لو دَخَلوا جُحرَ ضَبٍّ لاتَّبَعتُموهُم)) قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: ((فمَن؟))[2].(/2)
وقوله (شِبراً بشِبر، وذِراعاً بذِراع) هذا تمثيلٌ للاقتداء بهم في كلِّ شيء ممَّا نهى عنه الشَّرع. وأودُّ أن أتحدَّث اليوم عن السَّكَن الإسلاميِّ الجميل الرائع الذي تخلَّى كثير منَّا عنه، إلى الطِّراز الغربيِّ في البناء الذي يُشبه صناديق من الإسمنت المسلَّح، باردة في الشتاء حارَّة في الصيف. إن أغلق ساكنوها نوافذَها كانوا في ظلام دامس وغمٍّ، وإن فتحوها كانوا مكشوفينَ كأنهم جالسون في الطريق.
لقد كنَّا نعيش في بيوت توافَرت لها الشروط الصحِّيَّة، وعناصر الجمال العُمراني، وأسباب الراحة والمتعة والسَّكَن النفسي، وتتَّفق مع أخلاقنا وقيمنا. كان البيت جنَّة وارفةَ الظِّلال، فيها الماء الجاري دائماً في بُحيرة يدعونها (البَحرَة)، وكان ماؤها المستمرُّ في الجَرَيان صافياً بارداً، حتَّى إنَّ الناس إذا أرادوا أكلَ البِطِّيخ في الصيف وضعوا البِطِّيخة فيها، فما تلبثُ حتى تصبح باردةً كأنما كانت في ثلاجة، وفيها الشجرُ المثمر من البرتقال والليمون بنوعيه الحامِض والحلو، والنارنج والكبَّاد والعِنَب بأنواعه من الزَّيني والبلدي والحُلواني والأحمر الدُّوماني والأسوَد وغير ذلك، وفيها الورد والفلُّ والياسَمين بأنواعه العديدة، فإذا دخل المرءُ البيت وبلغ ساحةَ الدار السماويَّة سمع زقزقة العصافير والأطيار، وشمَّ العطر والروائح الزكيَّة، واستمتع برؤية الخُضرَة والظِّل الظَّليل، وداعب وجهَه الهواءُ العليل، ووجد السَّتر التامَّ فهو في هذه الجنَّة محفوظٌ بحفظ الله لا يرى أحداً من الجيران، ولا يراه أحدٌ منهم، وتغشاه الشمسُ الجميلة بدفئها وحرارتها.
وتحيط بهذه الساحة الغُرفُ التي تُطلُّ نوافذُها على الساحة، فيتجدَّد الهواء فيها، وتدخُلُها الشمس، ويملأ جوَّها الضياء، ولا يُزعج ساكنَها صوتٌ خارجيٌّ ولا ضجَّة.(/3)
وإذا دخلت المرأةُ الدار وجاوزت المدخلَ استطاعت أن تلقيَ حِجابَها، وأن تتجوَّل في جَنَبات الدار وغُرفه، وهي آمنةٌ من كلِّ المزعِجات، فلا تخشى النظَرات الآثمَة والتطلُّعات الفضوليَّة ولا مراقبة الآخرين.
وللضُّيوف مكان مُنعزل خاصٌّ، وهو ما يُسمُّونه البَرَّاني، يقيم فيه الضَّيف فلا يسمع صوتاً من الداخل، ولا يَحجز حرِّيةَ أهل البيت.
أما ساكنو هذه البيوت فكانوا يتمتَّعون بأنواع المُتَع التي يُتيحُها لهم هذا الطِّراز من البناء، فساحةُ الدار التي تُدعى في دمشقَ (أرض الدِّيار) تُغسل كلَّ يوم بالماء قُبيل الغروب، وتُفرَش أرضُها في الصيف بالسَّجَّاد والبُسُط. والفُرُش والنمارق استعداداً للسَّهرة التي يجتمع فيها أفراد الأسرة جميعاً. فإذا صلَّى أهلُ الدار المغربَ أخذوا مجالسَهم فيها، يسمعون غناء الطُّيور وخريرَ الماء. ويتناولون فيها طعامَ العشاء، ويأنسُ بعضهم ببعض مُتَّكئين مُتقابلين، وتُدار عليهم كؤوس الشاي، فينسى الجالسون فيها تعبهُم ويبقون في هذا الأنس الممتدِّ حتى يغزوَهم النُّعاس.
هكذا كانت بيوتُنا، ثم غزَتنا – وا أسفاه – آفَةُ التقليد الأعمى، فتركنا ذلك اللونَ من طِراز البناء، وأخذنا الطريقة الوافدةَ في المباني.
وكان الناسُ في بادئ الأمر زاهدينَ بهذه المباني.. ودارت الأيام، وتغيَّرت الأحوال، وصار الناس يستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير، لقلَّة خدمة الشقَّة إذا قيست بخدمة الدار، ولسيطرة الناحية المادية، كان ذلك عاملاً من عوامل نشر هذا اللون من الطِّراز المعماري، وما زال هذا الطِّراز الوافدُ ينافس الطِّرازَ العربيَّ الحبيب القديم ويحاول إزاحتَه من الوجود.
هذا وقد سمعت من مهندسٍ من كبار المهندسين المعماريِّين أن فريقاً من المهندسين في أوربَّا وأمريكا شرعوا يُبرزون معايبَ هذا الطِّراز من البناء ويَدعون إلى إبداع طِراز جديد.(/4)
من أجل ذلك فإنني أرجو أن يقومَ لقاء علميٌّ يلتقي فيه المهندسون المسلمون الملتزمون يناقشون فيه هذا الموضوع، ويطالبون زملاءهم القادرين بتقديم مُقترحات لابتكار طِراز جديد في البناء يتلاءم مع ديننا وعاداتنا الإسلاميَّة، وتتوافرُ فيه الشُّروط الصحيَّة، وتُراعى فيه الأمور الاقتصاديَّة.. ثم يكون بعد ذلك لقاءٌ آخرُ لمناقشة المقتَرحات الواردة.
ومما يُعين على اقتراح طِراز جديد للسَّكَن أن تُدرَس أنماط العمران التي قامت في بلادنا الإسلاميَّة المتعدِّدة، وتُدرس مراحل تطوُّرها.
أقول: لعلَّ هذا اللقاءَ العلميَّ المأمول يصل إلى نتيجةٍ ينتظرها الناس والأجيال المقبلة.
والفكرةُ تكون في بادئ الأمر كلمةً أو خاطرة، تجول في الذِّهن أو تتردَّد على أطراف اللسان، ثم تنضَج وتتحوَّل إلى مَقولة يقتنع الناسُ بصلاحيَّتها، ثم تتحوَّل إلى حقيقة وواقع.
إن علينا أن نتحرَّر من عادة التقليد، وأن نُحذِّر من وُلوج جُحر الضبِّ؛ لأن ذاك يقتلُ فينا الإبداعَ والابتكار ويقضي على الموهبة، وهذا لا يليقُ بالأمَّة التي قال الله فيها: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}.
إنَّ علينا أن نحافظَ على هُويَّتنا، وأن ننمِّي عناصرَ الأصالة في أولادنا: بنين وبنات. والله وليُّ التوفيق.
ــــــــــــــــــــــ
[1] رواه أبو داود عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما في كتاب اللباس برقم 4031، ورواه أحمد في المسند 2/50 و92.
[2] رواه البخاري برقم 3456 و7320، ومسلم برقم 2669، وابن ماجه برقم 3994، وأحمد 2/327.(/5)
العنوان: التقويم الهجري
رقم المقالة: 372
صاحب المقالة: محمد حسام الدين الخطيب
-----------------------------------------
المسلمُ يَبدأُ تأْريخُهْ
مِنْ أوَّلِ عامٍ هِجريَّهْ
مِنْ هِجرَةِ سَيِّدِ أُمَّتِنا
لِيشيدَ حياةً دينيَّهْ
فأنا تَقويمي هِجريٌّ
وشُهورُ حَياتي قَمَريَّهْ
أما التقويمُ الميلادي
وشُهورُ العامِ الشمْسيَّهْ
فالغَربُ يسيرُ بِمُوجِبِها
ودَعاوى الغَربِ صَليبيَّهْ(/1)
العنوان: التكاليف الخفية
رقم المقالة: 549
صاحب المقالة: جيم أبو رزق [مترجم]
-----------------------------------------
الكاتب: جيم أبو رزق.
ترجمة: موقع الألوكة.
الثمن الخفي لرحلات أعضاء الكونجرس إلى إسرائيل، تلك التي وصفت بأنها رحلات (تعليمية)، وهي الرحلات التي تعطي مروِّجي الدعاية في إسرائيل الفرصة لإطلاع أعضاء الكونجرس على تصورهم الشخصي للأحداث.
تحرَّك الديمقراطيون في الكونجرس بسرعة وبطريقة تستوجب الثناء، وذلك لتعزيز قواعد الأخلاق، في حين توقف الإصلاح الحقيقي - جزئياً - بسبب جهود اللوبي الداعم لإسرائيل في المحافظة على أحد أهم وظائفه الحيوية؛ وهو إرسال أعضاء الكونجرس في رحلات (تعليمية) مجانية إلى إسرائيل.
يقوم اللوبي المؤيد لإسرائيل بمعظم أنشطته في الخفاء، دون الجهر بها، ولكنَّ كل عضو في الكونجرس - بل وكل مرشح لعضوية الكونجرس - يأتي وهو يعلم أن ثمة دور في خدمة إسرائيل قد رُسم له مقدماً.
فبإمكان أي مرشح الحصول على المال اللازم لإدارة حملته الانتخابية بسهولة ويسر من أنصار إسرائيل، شريطة أن يقطع المرشح على نفسه وعوداً كتابية، بأنه سوف يصوِّت مؤيداً لصالح القضايا الهامة لإسرائيل.
ويمثل الخوفُ الدافعَ الرئيس للتأييد المهول من أعضاء الكونجرس لإسرائيل، كخوفهم من أن يقوم ذلك اللوبي المناصر لإسرائيل بسحب حملة المساهمة من أيٍّ منهم، أو إعطاء تلك الأموال لخصومهم.
وبحكم خبرتي في عضوية مجلس الشيوخ الأمريكي في سبعينيات القرن الماضي؛ فقد رأيتُ مدى محاولة اللوبي إذلال وإحراج أولئك الأعضاء الذين لا يسيرون وفق الخطة الموضوعة.(/1)
وتعمل الجماعات المناصرة لإسرائيل بقوة لتأكيد أن الإصلاحات الجديدة ستسمح لهم بالاستمرار في استضافة بعض أعضاء الكونجرس في إسرائيل، وطبقاً لما ذكرته جريدة (Jewish Daily Forward): أظهرت تقارير الكونجرس أن إسرائيل على رأس قائمة المحطات الأجنبية للرحلات الخاصة للأعضاء؛ حيث إن ما يقرب من 10% من الرحلات الخارجية لأعضاء الكونجرس ما بين عامي 2000 و 2005 كانت متجهةً إلى إسرائيل، وتحملت مؤسسة التعليم الإسرائيلي الأمريكي تكلفة معظم هذه الرحلات، وهذه المنظمة شقيقةٌ للجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية، التي تمثل أكبر تكتُّلٍ مناصر لإسرائيل.
وتقتضي القواعد الجديدة أن كل الرحلات لابد أن توافق عليها لجنة الأخلاق، وذكر (ريباني فرانك) ممثل ولاية مساتشوتس: أن هذه الخطوة سوف تضمن استمرار الرحلات إلى إسرائيل.
هذا وقد ذكر رون كمبيس، من وكالة (Jewish Telegraphic) أن هناك إجماعاً في الآراء بين الجماعات اليهودية على أن "الدستور الجديد لن يكون ملائماً، ولكنه لن يعيق إعاقة كبيرة الرحلات إلى إسرائيل، التي تعدُّ عنصراً هاماً من عناصر دعم الكونجرس لإسرائيل".
وكثيراً ما كان يُدافَع عن هذه الرحلات بوصفها رحلات (تعليمية)، ولكنها في الحقيقة - كما علمت من زملائي في البيت الأبيض، ومجلس الشيوخ الأمريكي، ممن سبق لهم الاشتراك في هذه الرحلات - تقدم الفرصة السانحة لمروِّجي الدعاية في إسرائيل؛ لإطلاع أعضاء الكونجرس على الجانب الذي يخصهم من القضية، دون ذكر وجهات النظر الأخرى، فحكاية إسرائيل عن كيفية قيام الدولة، وتسويغ إسرائيل السياسات الوحشية التي تنتهجها، تطمس الحقائق المهمة المتعلقة باحتلالها للأراضي الفلسطينية.(/2)
يجني اللوبي المناصر لإسرائيل من هذه الرحلات دعمَ الكونجرس للرغبات الإسرائيلية، فإسرائيل تعتمد – ومنذ سنوات عديدة - على بلايين الدولارات من أموال دافعي الضرائب الأمريكية، وبذلك فإن توقف هذا التمويل الأمريكي (الحكومي) سيُضعف الاحتلال الإسرائيلي.
وقد يتساءل البعض عن ماهية السياسات التي قد يدعمها الكونجرس، وتكون في صالح إسرائيل، ولكن السؤال الأهم: لماذا يظل الفلسطينيون غائبين؟ ولماذا يحاولون التقليل من شأن هذه الزيارات؟ ولماذا لا يدركون أهمية أن يتوجه المزيد من أعضاء الكونجرس لزيارة الأراضي الفلسطينية؟
لقد بعثت أمريكا بقواتها إلى أوروبا؛ لوقف قتل المدنيين في يوغوسلافيا السابقة، أما حينما تعلق الأمر بالانتهاكات الشرسة لحقوق الإنسان، التي ترتكبها إسرائيل؛ فإن الولايات المتحدة الأمريكية كانت تمدها بالمال وتحميها من النقد؛ فالكونجرس – وباستمرار - يمرِّر التشريعات التي تشيد بإسرائيل وتمجدها، حتى مع هذه الأعمال والممارسات التي تبعث على الأسى، كما يقدم لها –دائماً- الغطاء السياسي، في الوقت الذي تؤكد فيه استطلاعات الرأي أن معظم الأمريكيين يطالبون إدارة بوش بانتهاج طريق معتدل في العمل على إحلال السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين.
وعليك أن تراعي أيضاً: أن اللوبي الإسرائيلي يحيد بالسياسة الخارجية الأمريكية إلى سياسة الكيل بمكيالين، فيما يتعلق بالقضايا النووية، فالولايات المتحدة تُشهر أسلحتها في وجه إيران بسبب طموحاتها النووية؛ في حين تلتزم الصمت تجاه ترسانة الأسلحة النووية الإسرائيلية.
وقد لا يكون أعضاء الكونجرس على وعي بأن تقويض دعمهم الآلي لإسرائيل يصبُّ في مصلحة أمريكا، وعلى أقل تقدير؛ فإن سياسة الولايات المتحدة تجاه إسرائيل قد تكلفها خسارة حلفاء مهمِّين في الشرق الأوسط وأجزاء أخرى من العالم الإسلامي.(/3)
وإذا كان الكونجرس جادّاً فيما يخصُّ الإصلاح الأخلاقي؛ فعليه ألا يحمي اللوبي الإسرائيلي من عواقب ذلك، كما ينبغي له تنظيم ميزانية دائمة التمويل من أموال دافعي الضرائب للأعضاء، وذلك للقيام برحلات خارجية لتقصِّي الحقائق، ويجب أن تكون هذه الرحلات معتمدة من رؤساء اللجان، وهو ما سيكون خطوة أولى نحو سياسة خارجية تخدم أمريكا حقّاً.(/4)
العنوان: التكبير في أيام التشريق
رقم المقالة: 1814
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
الحمد لله الكبير المتعال؛ دلَّ خلقُه على عظمته وكبريائه، وبرهن عطاؤه وإمهالُه على حلمه وعفوه ورحمته {ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ البَاطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ العَلِيُّ الكَبِيرُ} [الحج:62] نحمده حمد الشاكرين، ونستغفره استغفار المذنبين، ونسأله من فضله العظيم؛ فهو الجواد الكريم، الغني عن العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، رب السموات السبع ورب الأرض ورب العرش العظيم، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله؛ خير من صلى وصام وحج وذكر الله تعالى، أخبرت عنه زوجه عائشة رضي الله عنها فقالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يَذْكُرُ اللَّهَ على كُلِ أَحْيَانِهِ) صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وعظموا حرماته، والتزموا شريعته، ولا تتعدوا حدوده {وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ} [البقرة:198].
أيها الناس: عظمة المخلوق دليل على عظمة الخالق سبحانه، ومن نظر إلى الأرض وما عليها رأى من عجائب المخلوقات ما لا يعده العادون، ولا يحصيه المحصون، وما في السماء عجائب نعلم قليلا منها ويخفى علينا أكثرها، وكل ذلك من الأدلة على عظمة الخالق سبحانه، فاستحق سبحانه أن يعظم ويكبر، ويفرد بالعظمة والكبرياء {عَالِمُ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الكَبِيرُ المُتَعَالِ} [الرعد:9].(/1)
ولذا كان تكبير الله تعالى من أعظم أنواع الذكر وأجلها، وأُمِرَ به النبي صلى الله عليه وسلم في أول خطابات القرآن إليه بعد أن بعثه الله تعالى رسولا، واقترن الأمر به مع الأمر بالنذارة، وهذا مشعر بشرف مهمته، وثقل رسالته، وفيه تقوية لقلب النبي عليه الصلاة والسلام في مقابلة صدود المشركين ومعارضتهم وأذاهم {يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} [المدَّثر:1-3].
ولعظيم شأن التكبير فإن الله تعالى شرعه في أشرف المواضع وأعلاها كالصلاة والصيام والحج والأعياد والجهاد وغيرها.
فالصلاة ينادى لها بالتكبير؛ إشعارا بأن الإقبال عليها إقبال على الله تعالى، وهو سبحانه أكبر وأجل مما يشتغل به المسلم من أمور الدنيا مهما كان، فوجب عليه أن يترك كل شغل ويقبل على الكبير المتعال.
وكذلك الصلاة تقام بالتكبير، وتفتتح بالتكبير، وينتقل المسلم بين أركانها بالتكبير، ومن حافظ على الصلوات الخمس فإنه يكرر التكبير فيها أربعا وتسعين مرة، هذا عدا السنن الرواتب، وصلاة الضحى والوتر والنفل المطلق، ومتابعة المؤذن، والتكبير عقب الصلاة ثلاثا وثلاثين مرة مع التحميد والتسبيح، وتكبيره إن رأى ما يُعْجِبه أو يَعْجَب منه، وتكبيره إن علا مرتفعا، وتكبيره في أذكاره المطلقه...
ولو قيل إن أكثر جملة يرددها المسلم في حياته كلها هي التكبير لما كان ذلك بعيدا.
وما شرع التكبير في فريضة عظيمة تتكرر في اليوم والليلة خمس مرات إلا لعظيم منزلة التكبير عند الله تعالى.
وبعد أداء فريضة الصيام شُرع للمسلم التكبير ليلة العيد إلى صلاة العيد {وَلِتُكْمِلُوا العِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة:185].(/2)
والحج من أعظم الشعائر وأظهرها؛ فشرع فيه التكبير في مواضع عدة، مثل التكبير في الطواف عند استلام الحجر الأسود أو الإشارة إليه، والتكبير على الصفا وعلى المروة، والتكبير مع رمي الجمار، والتكبير في أيام التشريق {وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرة:203]. فالأيام المعدودات هي أيام التشريق، وأشهر الذكر فيها هو التكبير المطلق في كل وقت، والمقيد عقب الصلوات.
والهدايا والأضاحي من الشعائر العظيمة، والمناسك الكبيرة التي يتقرب بها المسلمون لربهم، وشرع التكبير عند تقريبها لله تعالى، فلا تذبح ولا تنحر إلا بذكر اسمه عز وجل وتكبيره عليها {لَنْ يَنَالَ اللهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ المُحْسِنِينَ} [الحج:37].
والجهاد في سبيل الله تعالى ذروة سنام الإسلام، وهو أفضل الأعمال عند الله تعالى، فشرع فيه التكبير ولا سيما عند ملاقاة العدو، وله تأثير عجيب في ثبات القلوب وقوتها وجسارتها، وإقدام الجند وحماستهم وتضحيتهم. وله تأثير أعجب في زعزعة الأعداء، وبعثرة جموعهم، وإلقاء الرعب في قلوبهم، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن مدينة تفتتح في آخر الزمان بلا قتال، وإنما بالتهليل والتكبير فقال عليه الصلاة والسلام (فإذا جاؤوها نَزَلُوا فلم يُقَاتِلُوا بِسِلَاحٍ ولم يَرْمُوا بِسَهْمٍ قالوا لَا إِلَهَ إلا الله وَاللَّهُ أَكْبَرُ فَيَسْقُطُ أَحَدُ جَانِبَيْهَا ثُمَّ يَقُولُوا الثَّانِيَةَ لَا إِلَهَ إلا الله وَاللَّهُ أَكْبَرُ فَيَسْقُطُ جَانِبُهَا الْآخَرُ ثُمَّ يَقُولُوا الثَّالِثَةَ لَا إِلَهَ إلا الله وَاللَّهُ أَكْبَرُ فَيُفَرَّجُ لهم فَيَدْخُلُوهَا فَيَغْنَمُوا) رواه مسلم(/3)
وقد أمر الله تعالى بتكبيره بعد أن أمر بحمده، ونفا الشريك والولد والولي عنه سبحانه وتعالى {وَقُلِ الحَمْدُ لله الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي المُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} [الإسراء:111] فملك الملوك الكبير المتعال لا يحتاج إلى شريك أو ولي، ولا يفتقر إلى صاحبة أو ولد، وإنما يحتاج إلى ذلك الضعفاء المفتقرون إلى غيرهم، فناسب أن يكبر الله تعالى بعد أن نفا عن ذاته المقدسة الحاجة إلى أحد.
قال القرطبي رحمه الله تعالى: قوله عز وجل (وكبره تكبيرا) أي: عظمه عظمة تامة، ويقال: أبلغ لفظة للعرب في معنى التعظيم والإجلال (الله أكبر) أي: صِفْهُ بأنه أكبر من كل شيء.ثم نقل القرطبي عن عمر رضي الله عنه قوله: قول العبد (الله أكبر) خير من الدنيا وما فيها.
وفي هذا الأمر الرباني بتكبيره سبحانه وتعالى تنبيه على أن العبد وإن بالغ في التنزيه والتمجيد، واجتهد في الطاعة والتحميد ينبغي أن يعترف بالقصور في ذلك، وأن يعلم أن شأن الله تعالى أكبر وأجل وأعظم مما يظنه البشر، وأن الصالحين من البشر مهما تعبدوا لله تعالى فلن يفوه حقه، ولن يكافئوا نعمه.
وبهذا تتبيّن مكانةُ التكبير، وجلالةُ قدره، وعِظمُ شأنه، ومقامه من الدين، فليس التكبيرُ كلمةً لا معنى لها، أو لفظةً لا مضمون فيها، بل هي كلمةٌ عظيمة تتضمّن معانٍ جليلة، ومقاصد كبيرة.
ومما يبين عظمة التكبير، وجلالة قدره أنّ الدِّينَ كلَّه يُعدُّ تفصيلاً لكلمة (الله أكبر) فالمسلم يقوم بالطاعات جميعها ويجتنب المحرمات كلّها؛ تكبيراً لله تعالى، وتعظيماً لشأنه عز وجل، وقياماً بحقِّه سبحانه.(/4)
إن التكبير هو تعظيم الربّ تبارك وتعالى وإجلاله، واعتقاد أنّه لا شيء أكبرُ ولا أعظمُ منه، فيصغر دون جلاله كلُّ كبير، ويتضاءل أمام جلاله كل جليل؛ فهو الذي خضعت له الرقاب، ولانت له الشداد، ودانت له الخلائق، وذلَّت له الجبابرة، وعنت له الوجوه، وقهر كلَّ شيء، وتواضعت لجلاله وكبريائه وعظمته وعلوّه وقدرته الموجودات، واستكانت بين يديه وتحت حكمه وقهره كل المخلوقات.
والتكبير ليس معناه أن الله تعالى كبير فحسب، وإنما يُراد به أن يكون الله تعالى عند العبد أكبر من كلِّ شيء، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم رضي الله عنه وهو يدعوه إلى الإسلام: (يا عَدِىُّ بن حَاتِمٍ ما أَفَرَّكَ أَنْ يُقَالَ لاَ إِلَهَ إلا الله فَهَلْ من إِلَهٍ إلا الله؟ ما أَفَرَّكَ أَنْ يُقَالَ الله أَكْبَرُ فَهَلْ شيءٌ هو أَكْبَرُ مِنَ الله عز وجل، قال عدي: فأسلمت فَرَأَيْتُ وَجْهَهُ اسْتَبْشَرَ) رواه أحمد.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: وفي قوله (الله أكبر) إثبات عظمته؛ فإنّ الكبرياء تتضمّن العظمة، ولكن الكبرياء أكمل؛ ولهذا جاءت الألفاظ المشروعة في الصلاة والأذان بقول: (الله أكبر) فإنّ ذلك أكمل من قول (الله أعظم) كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه قال: (يقول الله تعالى: الكبرياء ردائي والعظمة إزاري، فمن نازعني واحداً منهما عذّبته) فجعل العظمة كالإزار، والكبرياء كالرداء، ومعلوم أنّ الرداء أشرف، فلمّا كان التكبيرُ أبلغَ من التعظيم صرّح بلفظه، وتضمّن ذلك التعظيم.اهـ
الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله والله أكبر، الله أكبر ولله الحمد، الله أكبر كبيرا، الله أكبر كبيرا، الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلا.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم....
الخطبة الثانية(/5)
الحمد لله، نحمده حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما أمر، ونشكره على نعمه وآلائه فقد تأذن بالزيادة لمن شكر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إرغاما لمن جحده وكفر، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الشافع المشفَع في المحشر، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه السادة الغرر، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم العرض الأكبر.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وانتهوا عن حدوده، وعظموا شعائره {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ الله فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى القُلُوبِ} [الحج:32].
أيها المسلمون: تكبير الله تعالى فضيلةٌ فُضلت بها هذه الأمة على سائر الأمم، وميزة تميزت بها، ووصفٌ وصفت به في الكتب المتقدمة؛ كما نقل أصحاب السير ودلائل النبوة عن زبور داود عليه السلام في وصف أمة محمد عليه الصلاة والسلام أنهم (يسبِّحون الله تعالى على مضاجعهم ويكبِّرونه سبحانه بأصوات مرتفعة).
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: وهذه الصفات إنما تنطبق على صفات محمد صلى الله عليه وسلم وأمته؛ فهم يكبرون الله بأصوات مرتفعة؛ في أذانهم للصلوات الخمس، وهذا التكبير يملأ الدنيا من شرقها إلى غربها.
وكان النصارى في وقت ابن تيمية رحمه الله تعالى يسمون عيد المسلمين: (عيد الله الأكبر؛ لظهور التكبير فيه) فهم يوافقون المسلمين على تسميته بالعيد الأكبر أو عيد الله الأكبر.
قال ابن تيمية: وليس هذا لأحد من الأمم -لا أهل الكتاب ولا غيرهم- غير المسلمين، وإنما كان موسى يجمع بني إسرائيل بالبوق، والنصارى شعارهم الناقوس.
أيها الإخوة: لقد بان بما سبق ما للتكبير من فضيلة عظيمة، وأن الله تعالى قد أنعم به على هذه الأمة المباركة، فلا يحسن بالمسلمين أن يفرطوا فيه، أو يُشْغلوا عنه وهو نعمة من الله تعالى هُدوا إليها، ويتأكد ذلك في المواسم العظيمة كالأعياد.(/6)
وأيام التشريق من الأعياد، بل هي متصلة بالعيد الكبير عيد النحر، وقد جاء في حديث عُقْبَةَ بن عَامِرٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يَوْمُ عَرَفَةَ وَيَوْمُ النَّحْرِ وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ عِيدُنَا أَهْلَ الْإِسْلَامِ وَهِيَ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ) رواه أبو داود.
وقد أمر الله تعالى بذكره في هذه الأيام المباركة، وأخبر النبي عليه الصلاة والسلام أنها أيام ينبغي أن يكثر فيها من ذكر الله تعالى؛ كما في حديث نُبَيْشَةَ الْهُذَلِيِّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أَيَّامُ التَّشْرِيقِ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَذِكْرٍ لله تعالى) رواه مسلم.
ومن أعظم الذكر: التكبير في هذه الأيام العظيمة، التي خُصَتْ بالتكبير المطلق في سائر الأوقات، وبالتكبير المقيد بأدبار الصلوات.
فاحرصوا رحمكم الله تعالى على التكبير وذكر الله تعالى فيما بقي منها، واشكروا سبحانه على آلائه ونعمه، واجتنبوا المنكرات؛ فإنها جالبة النقم، رافعة النعم.
وصلوا وسلموا على نبيكم...(/7)
العنوان: التلفاز وآثاره السلبية على سلوك الأطفال
رقم المقالة: 548
صاحب المقالة: نعيمة عبد الفتاح ناصف
-----------------------------------------
* الإفراط في مشاهدة التلفاز يشتت الانتباه في المدارس ويضعف التحصيل التعليمي.
* يحرم الطفل من الإقبال على الأنشطة الحيوية التي تساعد على نموه معرفيًّا ووجدانيًّا.
* الإعلانات تحمل قيمًا سلبية مثل: الشراهة والتبذير والتفاخر والمباهاة والعنف الذي يظهر من خلال إعلانات الأفلام، والتركيز على جذب الجنس الآخر.
* ترشيد مشاهدة الأطفال للتلفاز، بحيث تكون البرامج المشاهدة من النوعية المناسبة لهم، والتي تنمي عقولهم ومعارفهم وتفتح مواهبهم.
* تجنب التعامل مع التلفاز كجليس أطفال، بل يجب أن يشارك الأهل أطفالهم في مشاهدة البرامج ومناقشتهم فيها.
* تشجيع الأطفال على القيام بنشاطات متنوعة تنمي قدراتهم العقلية والوجدانية كبديل لمشاهدة التلفاز.
* * *
أثبتت الدراسات العلمية أن التعرض الزائد للعنف التلفازي أحد الأسباب المهمة وراء تفشي السلوك العدواني والجريمة والعنف لدى الأطفال والشباب، وأن الإفراط في المشاهدة يعوق التحصيل التعليمي، ويضعف القدرات المعرفية والمهارات العلمية لدى الطفل.
- ففي الولايات المتحدة الأمريكية أكدت دراسات حديثة أن الطفل الأمريكي قبل انتهاء مرحلة دراسته الابتدائية يكون قد شاهد حوالي 8000 "ثمانية آلاف" جريمة قتل على شاشة التلفاز، وإذا عرفنا أثر ذلك العنف على نفسية الشباب أدركنا خطورة ما تعرضه الشاشة الصغيرة.
وكما يقول رئيس "الرابطة الأمريكية النفسية للشباب والعنف" "د. ليونارد ريرون": " لقد أصبح واضحاً للمجتمع وبدون أدنى شك أن التعرض الزائد للعنف التلفازي هو أحد الأسباب المهمة وراء تفشي السلوك العدواني والجريمة والعنف".
آثار سلبية:(/1)
- وحول الآثار السلبية للإفراط في مشاهدة التلفاز بالنسبة للأطفال يؤكد الدكتور. نادر فرجاني مدير مركز "المشكاة" للبحث بالقاهرة ما دلت عليه الدراسات من أن مشاهدة الأطفال للتلفاز فترات طويلة، خاصة قبل النوم مباشرة، تزعج نومهم، إذ يميلون لمقاومة النوم ابتداء، ويصعب عليهم النعاس، ويستيقظون أثناء النوم بمعدلات أعلى من العادي، الأمر الذي ينعكس سلبيًّا على صحتهم بوجه عام وعلى تطور قدراتهم العقلية والوجدانية بوجه خاص. ويقلل نمط النوم القلق بوجه خاص من الانتباه في المدارس ويضعف التحصيل التعليمي، وقد يؤدي إلى الانزعاج المرضي أو الاكتئاب.
وتشير الدراسات إلى أن الإفراط في مشاهدة التلفاز يؤدي إلى قصر زمن الانتباه لدى الأطفال، ويقلل من قدرتهم على التعليم الذاتي، فأكثرية برامج التلفاز، بما في ذلك تلك المسلية للأطفال كالرسوم المتحركة، ليست تعليمية بالمعنى الواسع، أي لا تنمي قدرات التعليم الذاتي لدى الأطفال، وحتى بالنسبة للبرامج ذات الصفة التعليمية، فإن غالبيتها تقدم كل الحلول جاهزة أي تتصف بما يسمى التعليم السلبي، ويعوق الإفراط في المشاهدة، من ثَمَّ، التحصيل التعليمي، ويضعف من بناء القدرات المعرفية والمهارات.
- ويرتبط الإفراط في مشاهدة التلفاز، خاصة إلى حد تناول الطعام أثناءها، ببدانة الأطفال، وهي سمة غير مرغوبة صحيًّا، وتتفاقم هذه المشكلة بسبب إقبال الأطفال أثناء مشاهدة التلفاز على أنواع الطعام والشراب المصنعة غير الصحية، والتي يعلن عنها كثيرًا من خلال الإعلان التلفازي؛ فتنشأ بذلك حلقة شريرة بين الإفراط في المشاهدة والإفراط في تناول صنوف الطعام والشراب هذه. ويرتبط التعود على أنواع الطعام والشراب هذه مع الإفراط في مشاهدة التلفاز بقلة الحركة بسبب الجلوس أو الاسترخاء أمام الجهاز السحري.(/2)
كما يمكن أن يتحول الإفراط في مشاهدة التلفاز في سني العمر الأولى إلى نوع من الإدمان الذي يصعب الإقلاع عنه في مراحل العمر التي يستطيع فيها الإقبال على أنشطة حيوية تساعد على نمو الطفل معرفيًّا ووجدانيًّا، مثل الدراسة والنشاطات الاجتماعية.
التلفاز والعنف:
- والأخطر من كل هذا – كما يؤكد الدكتور نادر فرجاني - هو تعرض الأطفال لاستشراء صنوف السلوك الاجتماعي السلبية، وعلى رأسها العنف، في برامج التلفاز، خاصة تلك المستوردة، هو أخطر مضار المشاهدة الزائدة على الحد المفيد. فالمعروف أن التعرض الزائد للعنف يضرُّ بالتطور العاطفي للأطفال، ولا يقتصر هذا الأثر السيئ لمشاهدة العنف على البرامج، وإنما يمتد إلى المشاهد العنيفة الخاصة بالحوادث والحروب والكوارث الطبيعية التي تتخلل نشرات الأخبار.
ويشكل التعرض الزائد للعنف كذلك استجابة المخ للبيئة الطبيعية والإنسانية المحيطة به في اتجاهات التعود على السلوك العنيف وتوقعه، مما يغذي التوتر النفسي والاضطراب الوجداني للأطفال، ولا يقف الأمر عند هذه الحدود، بل يتعداها إلى التعود على العنف، بل وتسهيل اقترافه.
ويزيد من قوة هذه الاتجاهات ميل الأطفال الصغار لتصديق ما يرونه على الشاشة الصغيرة دون التفرقة بين الحقيقة والخيال أو التمثيل، فمن يقتل في برنامج تلفزيوني مثلاً لابد وأنه يموت فعلاً في نظر الطفل، والدم المراق في البرامج يملي كل معاني وآلام الجروح الحقيقية ونزفها.
- وكشفت دراسة علمية أخرى أجريت على 1195 إعلانًا بالتلفاز المصري أن 100% من الإعلانات الموجهة للشباب من الجنسين تحتوي على الإثارة سواء في الشكل أو المضمون
وبالنسبة للأطفال أوضحت الدراسة أن إعلانات بودرة الأطفال يتم فيها استخدام الطفل بشكل سيئ، حيث تمنع قوانين الإعلان في دولة مثل الولايات المتحدة الأمريكية ظهور الأطفال (عرايا) على شاشة التلفاز أيا كانت أعمارهم.(/3)
وأثبتت نتائج هذه الدراسة - التي أعدتها الباحثة "جيهان البيطار" بقسم العلاقات العامة بكلية الإعلام - جامعة القاهرة لنيل درجة الماجستير، وجاءت تحت عنوان " أخلاقيات الإعلان ومدى تطبيقها في واقع الممارسة الإعلانية في مصر" - أن 68% من إجمالي الإعلانات التي خضعت للدراسة تحمل قيمًا سلبية للمشاهد، وهذه القيم هي: الشراهة، والتبذير، ثم التفاخر، والمباهاة، والعنف الذي يظهر من خلال إعلانات الأفلام، والتركيز على جذب الجنس الآخر. وتتمثل هذه القيمة السلبية في إعلانات السجائر والعطور، حيث يتم استخدام المرأة في إعلانات سلع الذكور فقط، والعكس صحيح مما يعطى الإيحاء للمشاهد بأن شراءه لهذه السلعة له تأثير على الجنس الآخر، هذا بالإضافة إلى استخدام الملابس غير اللائقة والصوت المثير في العديد من الإعلانات.
الإعلانات وطمع الأطفال:
- وهناك دراسات مشابهة حول تأثير الإعلانات التلفازية على قيم وسلوكيات الأطفال، أجريت مؤخرا في عدد من الدول الأوربية، فقد أكدت دراسة علمية حديثة أجراها باحثون في جامعة "هيرتفوردشاير" في بريطانيا- أن الأطفال دون السابعة الذين يشاهدون الكثير من إعلانات التلفاز يكتسبون عادات سلوكية ذميمة مثل الطمع والإلحاح في طلب السلع المعلن عنها في التلفاز بصورة متكررة، قد تزيد خمس مرات عن أولئك الذين يشاهدون عددا أقل من هذه الإعلانات.
ووجد الباحثون أن الأطفال الذين شاهدوا إعلانات التلفاز التجارية بكثافة مفرطة طالبوا بألعاب وهدايا في أعياد الميلاد أكثر من الأطفال الذين شاهدوا الإعلانات لفترة أقل، وطلب الطفل من الفئة الأولى ما بين خمسة أو ستة هدايا، بينما أولئك من الفئة الثانية طلبوا هدية واحدة فقط.(/4)
كما وجدوا أن أطفال الفئة الأولى الذين تعرضوا لحملة دعائية مكثفة طالبوا بألعاب معروفة بالاسم، من ماركات محددة احتلت أعلى المراكز بقائمة "أكثر المنتجات إعلانا" في فترة الدراسة. أما الألعاب الأخرى المعلن عنها، ولكن لم يتم فرضها على الصغار في الإعلانات بشكل مكثف، فقد قلّ الطلب عليها.
وأشار الباحثون إلى أنهم أحصوا 127 إعلانا عن ألعاب وأطعمة للأطفال في ثلاث ساعات من صباح يوم السبت، بإحدى قنوات التلفاز البريطاني، ووجدوا أن متوسط مشاهدة الطفل للتلفاز يبلغ ساعتين ونصف الساعة يوميا، وأن 63 بالمائة من الأطفال يملكون أجهزة تلفاز خاصة بهم وحدهم.
وبمقارنة سلوكيات الأطفال البريطانيين وأقرانهم من الأطفال في السويد، أظهرت الدراسة أن الأطفال السويديين قد طالبوا آباءهم بألعاب أقل من الأطفال البريطانيين في نفس الفترة الزمنية؛ حيث لا يسمح القانون بالسويد بالإعلان عن أي سلعة للأطفال تحت سن 12 عاما.
وأكدت الدكتورة "كارين بين"، التي عرضت هذه النتائج في مؤتمر عُقد بمدينة جلاسكو، على أن فرض القيود على الإعلانات قد يقلل من الضغوط على الآباء، ويقلل من طمع وإلحاح الأبناء في طلب المنتجات والسلع التي يعلن عنها في التلفاز. وقالت: "إن التعرض المتزايد للإعلانات التجارية له تأثير سلبي مؤكد؛ حيث جعل الأطفال يطالبون بألعاب من أي نوع، بإلحاح أكثر من المعتاد".
ولعل نتائج هذه الدراسات هي التي دفعت الاتحاد الأوروبي الى التوجه نحو حظر بث الإعلانات التجارية في برامج الأطفال نظراً لما تجره من انعكاسات سلبية عليهم.
الاعتدال في المشاهدة:(/5)
- وهذه الدراسات والأبحاث التي أجريت في هذا الشأن، ليس معناها عزل الأطفال عن التلفاز كلية، بحيث لا يتعرضون لمشاهدة أي من برامجه، ولكنها فقط تدق ناقوس الخطر تجاه الإفراط الزائد في المشاهدة، وتعرض الأطفال لنوعيات معينة من البرامج والأفلام، كالتي تصور العنف وتحض عليه، أو تلك التي تنمي الاتجاه الاستهلاكي لدى الأطفال، أو تؤثر سلبا على الأخلاق والقيم التي ينادي بها ديننا الحنيف، وكذلك تعرض الطفل لمشاهدة التلفاز في أوقات معينة، كالمشاهدة أثناء تناول الطعام، والذي يزيد من شراهة الطفل ويؤثر على عاداته الغذائية، وقد يكون سببا في إصابة الطفل بالبدانة.
ومن هنا فإننا نؤكد على ضرورة ترشيد مشاهدة الأطفال للتلفاز، بحيث تكون البرامج المشاهدة من النوعية المناسبة لهم، والتي تخدم تنمية عقولهم وتفتح مواهبهم، وتنمي معارفهم، فهناك بلا شك برامج كثيرة ومتنوعة تقدم المعلومة المفيدة والترفيه المعتدل والثقافة البناءة للأطفال، ولكن الأمر يحتاج الى توعية الطفل وتوجيهه تجاه هذه النوعيات من البرامج.
كما يجب ألا تزيد مشاهدة الأطفال الذين تزيد أعمارهم عن عامين للتلفاز عن ساعتين في اليوم، ولا يشاهد التلفاز مطلقا من نقصت أعمارهم عن عامين، وأن يتم تعليم الطفل العادات السليمة للمشاهدة، ومنها تجنب المشاهدة أثناء تناول الطعام.
وألا يكون التلفاز هو الوسيلة الترفيهية الوحيدة للأطفال، ولكن يجب تشجيع الأطفال على ممارسة الأنشطة داخل البيت وخارجه، مثل إقامة الرحلات، واستخدام الألعاب، وممارسة الرياضة، والهوايات، والقراءة والأعمال الروتينية، ويمكن تحديد أمسيات لممارسة أنشطة خاصة بالأسرة. وأن يكون الآباء قدوة حسنة للطفل بقضاء وقت فراغهم في القراءة، وممارسة الرياضة، والحديث مع الآخرين، أو في أي أنشطة أخرى بدلاً من مشاهدة التلفاز.(/6)
وأن يقوم الآباء والأمهات بتوعية الأطفال تجاه الحملات الإعلانية الخاصة بسلع الأطفال، بحيث يتبنى الطفل عادات غذائية صحية، وأن يصبح مستهلكًا ذكيًّا وذلك بأن يدرك مساوئ تلك المنتجات.
وهناك مجموعة من القواعد المقترحة في هذا الصدد، منها ما يلي:
1 - تجنيب المداومة على مشاهدة التلفاز والجلوس إليه طويلا، بل يجب أن يشارك الأهل أطفالهم في مشاهدة البرامج ومناقشتها معهم عند الحاجة؛ لتعضيد الجوانب المفيدة في البرامج ومعاونة الأطفال على تجاوز جوانبها الضارة دون أن تترك بصمات سلبية على المخ أو الوجدان، وتزداد أهمية هذه المشاركة في حالة الأطفال الأصغر من عشر سنوات الذين قد يصعب عليهم – في براءتهم – التفرقة بين الحقيقة والخيال في البرامج ؛ ومن ثَمَّ يزيد احتمال تضررهم عقليًّا أو وجدانيًّا من المضامين غير المناسبة للأطفال. وتساعد المشاركة في المشاهدة على أن يبلور الأطفال توجهاً نقديًّا رشيداً تجاه التلفاز ووسائل الإعلام الأخرى.
2 - تشجيع الأطفال على القيام بنشاطات متنوعة تنمي قدراتهم العقلية والوجدانية كبديل لمشاهدة التلفاز، خاصة بمشاركة الأهل لهم فيها.
3 – أن يقوم الآباء والأمهات بقضاء أوقات كافية مع أطفالهم، واختيار ما يناسبهم، ويوافقهم من البرامج التلفازية، مع محاولة توجيههم للبرامج التعليمية وتجنب البرامج المحتوية على مضامين غير مناسبة، وتلك التي يتضارب توقيتها مع نشاطات الحياة العادية (مثل الواجبات والدراسة)، وإذا تعذر هذا التوافق، فيجب أن يجد الأهل وسيلة تمنع الأطفال من تشغيل جهاز التلفاز دون رضاهم.
4 - تحديد وقت مشاهدة التلفاز بما لا يتعدى ساعتين في اليوم لجميع أفراد الأسرة، ومساعدة الأطفال، عن طريق ضرب المثال، على أن يطوروا معايير إيجابية لانتقاء البرامج التي يشاهدونها.
5 - تجنب جميع أفراد الأسرة تناول الطعام، أو الوجبات الخفيفة، أمام التلفاز.(/7)
العنوان: الداعية أناهيد السميري: التميز طريق الفلاح والتميع طريق الخيبة
رقم المقالة: 114
صاحب المقالة: حوار : أحلام علي
-----------------------------------------
لقد ربى النبي صلى الله عليه وسلم فئة من أصحابه ألا يسألوا الناس شيئاً فكان إذا وقع شيء من أحدهم وهو على الناقة ينزل ويأخذه بنفسه, رباهم صلى الله عليه وسلم على التميز.. فمنهم من مات شهيداً فكان متميزاً في موته.. ومنهم من كانت الفتوحات وانتشار نور الإسلام في شتى بقاع الأرض على يديه , وقادوا العالم بعد ذلك.. و منهم من جمع بين الحسنيين..
فلكل باحثة عن التميز ! رافضة للتميع ! هل لك أن تكوني من الأوائل ؟!
نحن لا ندعو إلى تميز الخدمات.. ولا إلى السلع والمبيعات !
إننا ندعو تلك النفس التي عرفها ابن عباس فقال "إن لكل إنسان نفسان..أحداهما نفس العقل التي يكون بها التمييز والأخرى نفس الروح التي تكون بها الحياة"..
في حوارنا مع الباحثة التربوية والداعية الإسلامية السعودية الأستاذة: "أناهيد السميري" نعرف كيف السبيل إلى التميز ؟! وما الهدف من أن يكون الفرد متميزا ؟!
- بداية.. من هو الفرد الذي ينبغي أن ندعوه للتميز؟
الدعوة للتميز موجهة إلى ذلك الفرد الذي انفرد عن غيره بصفاته..انفرد عن غيره بأحواله.. انفرد عن غيره بنظرته للأمور..نحن ندعوه للتميز في طريقة حكمه على الأمور وفي معالجة المواقف.. و لتسأل كل منا نفسها: بماذا أتميز؟
حاولي أن تجيبي الآن !!, في أحيان كثيرة لا يعرف الإنسان نفسه و لا بماذا يتميز, فالناظر لعالم البشر اليوم يجد أخلاطاً متباينة و اتجاهات مختلفة وأنماطا متفاوتة.
لكنهم كلهم يشتركون في أنهم واقعون في التميع برغم أنهم قد يكونوا باحثون عن التميز!.(/1)
فالفرد إما: (أعمى): لا يعرف نفسه و لا نقطة تميزه و يعرفه الآخرون. أو (غير معروف): لا يعرف نفسه و لا نقطة تميزه و لا يعرفه الآخرون. أو (واضح): يعرف نفسه و نقطة تميزه و يعرفه الآخرون. أو (مختبئ): يعرف نفسه و نقطة تميزه و لا يعرفه الآخرون.
- و ما هو الهدف من هذا التميز ؟
إن أسوأ مخطط مسخر لحرب الإسلام و أسوأ مؤامرة على الأمة الإسلامية تبناها النظام العالمي الجديد في إطار نظرية الخلط بين الحق و الباطل - والصالح و الطالح - و السني و البدعي هي ( العولمة)..
و التميز رد على: أنكى مكيدة لتذويب الدين في نفوس المؤمنين و تحويل جماعة المسلمين إلى سائمة تسام و قطيع مهزوز اعتقاده.. غارق في شهواته.. لا يعرف معروفا و لا ينكر منكراً.. فالتميز طريق الفلاح و التميع طريق الخيبة..
قال تعالى: {و نفس و ما سواها فألهمها فجورها و تقواها. قد أفلح من زكاها و قد خاب من دساها}.
- ما طريق الوصول إلى التميز المأمول ؟
إن أهل الطب لم يصلوا إلى التقدم في طبهم إلا عندما عرفوا تركيبة جسم الإنسان، كذلك طالبة التميز لن تصل إلى تميزها إلا إذا تعرفت على طبيعة تكوينها و تركيب هذا التكوين {و في أنفسكم أفلا تبصرون}..فعندما يعرف الإنسان نفسه يعرف نقطة تميزه, و كلنا يعرف أن الإنسان: جسد وروح و عقل.. و العقل هو مفتاح تميز الإنسان..
و طريقة التميز تعتمد على طريقة تغذية العقل و التي بدورها تتحدد من خلال الإجابة على أسئلة ثلاث: من أين أتيت؟, إلى أين المصير؟, و ماذا يجب علي أن أفعل؟!
فإذا تيقن من الإجابة فهذا تميَّز في استخدام طاقاته..
و إذا احتار في الإجابة فهذا تميَّع في استخدام طاقاته..
- ما الفرق بين شخصية المتميَّز و المتميع ؟
الفارق يتضح من خلال فكر كل منهما فأقول: المميَّز (واثق) و يعلم: أن الله خالقه {و إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشراً من طين} (ص: 71).
يوقن: أنه راجع إلى ربه {إن إلى ربك الرجعى} (العلق: 8 ).(/2)
إما إلى جنة {فأما من ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية}, و إما إلى نار {و أما من خفت موازينه فأمه هاوية و ما أدراك ما هي نار حامية} (القارعة: 6-7).
يقبل: المنهج و يأخذه من مصادره (القرآن و السنة ).
يعمل: وفق المنهج في مسار واضح و نظام منضبط شامل منذ ولادته و حتى وفاته.
أما المتميع ((متردد)) لا يدري: هل الطبيعة خلقته أو أن الصدفة أوجدته أو ربما هو نتاج تطور؟
يشك: أن الموت فناء نهائي أو ربما تناسخ الأرواح.
ينتقل: محتار من منهج إلى منهج.
يتخبط: في مسار غير واضح و نظام غير ثابت أو غير شامل.
وعلى كل حال الفرد مزود بطاقات قابلة للاستثمار والإنتاج فهو على سبيل المثال يملك طاقة التعلم - يملك إرادة ضابطة - يملك القدرة على الإنتاج و الابتكار - يملك القدرة على الارتفاع , فلو سقط لا ينتهي ! بل يبدأ من جديد ! , و حاجاته نقاط ضعفه.
- هل لطريقة إشباع الحاجات العضوية و النفسية من تميَّز؟!
نعم! و لكن أولاً ما هي هذه الحاجات؟!
إن للإنسان حاجات متعددة و ضعها بعض علماء النفس بشكل هرمي و اعتبروا أن الإنسان إذا ما أشبع رغباته و احتياجاته الدنيا( العضوية) فإنه يرتقي إلى احتياجاته العليا..
وقاعدة الهرم تشمل: الاحتياجات الجسدية ( الأكل – الشرب – النوم – قضاء الحاجة) , فإذا تحققت شعر الإنسان بالأمان و الذي بدوره يترتب عليه الحب و التآلف الاجتماعي.. و إذا تحقق ذلك كان الاحترام و التقدير و الذي من خلاله يصل الإنسان إلى قمة الهرم و هي تحقيق الذات..
ولطريقة إشباع الحاجات تميز.. حيث أن حاجات الإنسان تتميز عن حاجات الحيوان
فالإنسان: - قادر على تأجيل إشباع حاجاته فيختار لحظة الإشباع.
يفرق بين المصادر و لا يقبل أي مصدر للإشباع.
حاجاته لها مبدأ و لا منتهى لها فلا يوقفها إلا العقل.
والحيوان:
- لا يسكن حتى يشبع حاجاته و لا يستطيع تأجيلها.
- يشبعها من أي مصدر و بأي طريقة.
- حاجاته لها مبدأ و منتهى فإذا شبع توقف.(/3)
والتميز يكون من خلال طريقة الإشباع لدى كل من شخص المتميز و المتميع:
بالنسبة للمتميز:
الحاجات الجسدية: ((ثلث لطعامه و ثلث لشرابه و ثلث لنفسه)).. {كلوا و اشربوا و لا تسرفوا} (الأعراف: 31).
يقوم الليل طالباً رضا مولاه {ومن الليل فاسجد له و سبحه ليلاً طويلاً} (الإنسان: 26).
الأمان: يتعلق بالله طالباً للأمان.. {الذين آمنوا و لم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن و هم مهتدون} (الأنعام: 82).
الحالة الاجتماعية: بالولاء و البراء على أساس عقيدة أصلية و مبادئ ثابتة.. (يد الله مع الجماعة) سنن الترمذي.
الحاجة للاحترام و التقدير: بالتقوى..حيث أنها المقياس الوحيد للتقدير و الاحترام {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} (الحجرات: 13).
تحقيق الذات: يعلم أن الدنيا دار ممر و ليست دار مستقر فيحقق نفسه بالعمل الصالح لينعم في دار المستقر {أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر وأنثى بعضكم من بعض}.
وبالنسبة للمتميع: - يأكل و يشرب حتى حد الشبع ثم يبحث عن مخرج.
ينام ملء جفنيه {يتمتعون و يأكلون كما تأكل الأنعام} (محمد:12).
الأمان: يتعلق بمن لا يستحق التعلق به – يعظم من لا يستحق التعظيم- و في الأزمات تظهر الحقائق الهشة للمتعلقات {ومن أضل ممن يدعوا من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة}.
الحالة الاجتماعية: تتقلب المبادئ لديه فتتغير الانتماءات {مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء و لا إلى هؤلاء} (النساء:143).
الحاجة للاحترام و التقدير: تختلف المقاييس فربما يحترم الشخص لماله أو جاهه فإذا سلب المال أو ضاع الجاه احتقر ((تعس عبد الدرهم..تعس عبد الدينار)).
تحقيق الذات: يلهث وراء الدنيا معتقداً أنها دار مستقر ظاناً أنه محقق لذاته فلا يجد إلا سرابا {والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً} (النور 39).
- ما هي نصيحتك لمن تريد أن تقف على عتبة التميز ؟
أن تتبع المسار أولاً من خلال:(/4)
* معرفة الطريق: نتعلم عن الله عز و جل والنبي صلى الله عليه و سلم دين الإسلام {فاعلم أنه لا إله إلا الله} (محمد: 19).
* كمَّلي نفسك: فاعملي بإخلاص و دون زيادة (لا تبتدعي) و دون نقصان (لا تعصي).. {يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون} (الصف: 2).
* ادع غيرك: فادع إلى الدين بالحكمة و الموعظة الحسنة.. {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة و جادلهم بالتي هي أحسن} (النحل: 12).
* خذي بيدهم معك إلى طريق التميز: فاصبري على الأذى في دعوتهم و تذكري الأنبياء والمرسلين وعلماء هذه الأمة المميزين {فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل}.
وبعد أن وقفتِ على عتبة التميز فابدئي الآن.. بخطوات ثابتة و اعلمي أن الله ميزك على غيرك من المخلوقات بحاجات وطاقات.. فاستثمري طاقاتك {وجعل لكم السمع و الأبصار والأفئدة..} (النحل:78) , و اضبطي حاجاتك {زين للناس حب الشهوات من النساء و البنين والقناطير المقنطرة من الذهب و الفضة..} (آل عمران:14)..
وبهذا تتميزين في تصرفاتك و انفعالاتك..فالطاقات و الحاجات نقاط ابتلاء , فعلى قدر طاقتك تكلف {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها} (البقرة 268), و على قدر الطاقات نبتلى.. ُسئل رسول الله صلى الله عليه و سلم: أي الناس أشد بلاء ؟ فقال: ((الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل..يبتلى العبد على حسب دينه)) رواه ابن حبان.(/5)
العنوان: التمييز بين الأبناء .. لماذا؟
رقم المقالة: 504
صاحب المقالة: خاص: الألوكة
-----------------------------------------
الآباء: أخطاء الابن هي الدافع لتمييز إخوته عليه
الأبناء: ظلمونا وتركونا معقدين نفسياً
د.محمد عبد الرحمن حمودة: أنصح كل أب يرتكب هذه الجريمة بالعلاج النفسي
د.أحمد المجذوب: لا تزرعوا الكراهية والحقد في نفوس الأبناء
د.عبلة الكحلاوي: سلوك يرفضه الإسلام تماماً والأدلة كثيرة
* * *
(منذ جئت إلى هذه الدنيا وأنا أجد نفسي شخصاً غير مرغوب فيه داخل المنزل، و على النقيض من إخوتي عشت ساعات النهار والليل حبيساً بين جدران حجرتي، لا أحد يشعر بتعاستي الشديدة كلما وقفت أمام والدي وهو يصفني بالكآبة والانطواء برغم أنه يدلل أخي الأكبر وأختي الصغرى، أهرب بعدها إلى وسادتي صديقتي الوحيدة التي تشهد دموعي من دون أن تتكلم وتعلم أنني أنتظر اليوم الذي أغادر فيه هذا المنزل الكئيب إلى آخر...)
هذه الكلمات البريئة جاءت على لسان الطفل الصغير الذي هرب من منزل أسرته إلى حيث لا يدري، وعندما عثرت أسرته عليه - بواسطة الشرطة - يجلس منطوياً في أحد الحدائق العامة علل فعلته بهذه الكلمات التي تعبر عن تمييز والديه لإخوته في حين يعاملانه أسوأ معاملة.
مأساة هذا الطفل ليست حالة فردية، لكن كثيراً من الشباب والشابات كانوا ضحايا ذويهم وكل ذنبهم أن لهم شخصية مختلفة.
كرهت أخي:
** شذا.ع. طالبة بالثانوي تروى: كان والداي يميزان بيني وبين شقيقي الذي يكبرني بعام واحد، ويريان أنني أقل منه ذكاء ولهذا أصبحت وحيدة منطوية، مشاعري تجاه أخي تغيرت فبعد أن كنت أعده سنداً لي في الدنيا أصبحت أشعر أنه سبب تعاستي.(/1)
هذا التمييز أثر في نفسيتي كثيراً فأهملت دراستي لأنتقم من أسرتي، ومن نفسي، وبعد الفشل الدراسي أيقنت أن الحال سيبقى على ما هو عليه مهما فعلت، فأنا بالنسبة إليهم لا شيء فأغلقت صدري على أحزاني، ورضيت بنصيبي من هذا الدنيا.
** عبد العزيز يحكى قصة أحد أصدقائه فيقول: عرف صديقي طريق المخدرات بسبب إيثار والديه لإخوته دونه برغم أنه الأكبر فيهم، وإذا أخطأ أحدهم فإنه يتحمل مسؤولية هذا الخطأ، وإذا انكسر شيء في البيت تتوجه إليه أصابع الاتهام حتى وإن لم يكن موجوداً في تلك اللحظة، لهذا كله بدأ صديقي يهرب من البيت، ولم يعد يطيق الجلوس فيه ولو لحظات، حتى إخوته ابتعد عنهم، وبينما هو على هذا الحال تلقفته ثلة من أصدقاء السوء وأخذوه معهم في دروب المخدرات والحرام، وهو الآن يعالج في إحدى المصحات النفسية لعلاج الإدمان.
** مها العنزي تتحدث بحرقة شديدة: منذ ولدت وبدأت أشعر بالحيلة من حولي لاحظت أن أمي تميز أختي عني لأنها أجمل مني، وكثيراً ما كنت أشعر أنها تخجل أن تصطحبني معها إلى أي مكان في حين أنها كانت تجلس بالساعات لتغري أختي بالذهاب معها في زياراتها أو حفلات العرس، حينئذ تمنيت أن يكون نصيبي في الزواج أفضل من نصيب أختي، وأن يكون من أتزوجه أوسم من زوج أختي وأكثر منه ثراء، وتحت تأثير هذه الرغبة القوية تعرفت على شاب عن طريق النت رأيت فيه كل ماتمنيته من مواصفات، وربطتني به علاقة حب استمرت خمس سنوات كان خلالها يتحجج لي بأسباب واهية لتأجيل التقدم لأهلي لخطبتي وبعدها فوجئت بزواجه من إحدى قريباته،كرهت وقتها ما فعلته بي أمي فهي التي جعلتني أفكر بهذه الطريقة العمياء؛ فالرجل الوسيم الذي حلمت به زوجاً لي اختار فتاة أخرى لا تحادث الشباب، أما أنا فلم يتبق لي إلا السمعة السيئة.(/2)
** أما فهد. فيقول: أجلس اليوم عاجزاً عن إتقان أي عمل أو حتى إتمام دراستي؛ فقد أرادني أبي أن أكون طبيباً متفوقاً مثل أختي التي أنهت دراستها في كلية الطب، لكن إمكاناتي العقلية لم تؤهلني للتفوق والنجاح، ولهذا أصبحت اليوم شخصاً انطوائياً حاقداً على كل شيء أولهم أختي التي تُذَكِّرني كلما رأيتها بأنني شخص فاشل.
الآباء يعترفون ويسوغون أفعالهم:
** عبد القادر السويلم لديه خمسة أولاد يعترف أنه يميز أصغر أبنائه على بقية إخوته، ويرى أن هذا رغماً عنه؛ فهو لا يستطيع أن يتخلص من إحساسه بأن هذا الطفل لن يحظى منه بالحنان والرعاية التي تمتع بها إخوته الأكبر منه.
ويضيف: في بعض الأحيان أشعر أنني قد أفسدته بتدليلي، لكن هناك شيئاً بداخلي يدفعني إلى ذلك دون أن أقصد، وأتمنى أن يتفهم أولادي الدافع إلى هذه التصرفات.
** فوزية عبد الرحمن هي الأخرى تعترف أنها تميز بين أبنائها، لكنها تبرر ذلك قائلة: أنا سيدة مسنة أحتاج إلى من يرعاني، وعندي ولد وبنت تزوجا بعد أن ذهبت صحتي في تربيتهما، وبعد أن داهمتني الأمراض وأصبحت في حاجه إليهما وجدت ابنتي وزوجها يسهران بجواري ليالي متواصلة أثناء مرضي، ولا يمر يوم إلا وهما عندي يقضيان لوازمي، أما ابني الذي لا يبعد منزله عني سوى شارع واحد، فقد تمر أسابيع دون أن يسأل عن أمه التي حملت به وسهرت على راحته الليالي والسنين، لهذا كان من الطبيعي أن أخص ابنتي بشيء من ثروتي مكافأة لها على برِّها بي.
** أما أحمد عبد المجيد فيؤكد أنه برغم وجود فروق جوهرية بين أبنائه في الطباع والشخصية ودرجة البرِّ به، لم يميز بينهم في يوم من الأيام، ويقول ما دامت ميزت أمي بيني وبين أخي وفضلته علي برغم أنني أكثر منه اجتهاداً وأدباً في معاملة أهلي وأقاربي، ولأنني ذقت مرارة الظلم قررت ألا أرتكب هذا الخطأ مع أولادي مهما كانت الفروق بينهم.
* مرضى نفسيون:(/3)
الدكتور محمد عبد الرحمن حمودة - أستاذ الطب النفسي- يؤكد أن بعض الآباء يرتكبون خطأ عظيماً عندما يقارنون بين أبنائهم، ويقولون: إن فلاناً فاشل، وفلاناً متفوق؛ لأن عليهم في هذه الحالة أن يتحملوا المسؤولية كاملة عن أي فجوة يشعر الأبناء بوجودها بينهم.
ويقول: أعتقد أن هذا النوع من الآباء يعاني اضطراباً اجتماعياً وعاطفياً كبيراً، وهو يحتاج إلى جلسات طويلة من العلاج النفسي، وأرى أن الدوافع النفسية وراء تمييز بعض الأسر بين أبنائها كثيرة، ولكن تفضيل الذكور على الإناث يأتي على رأس القائمة؛ فمجتمعاتنا الشرقية بما تحمله من موروث ثقافي تدفع البعض إلى اضطهاد الفتاة، واعتبارها في منزلة أدنى من الشاب، وتلك ظاهرة غير صحية فالمرأة نصف المجتمع وأصبحت اليوم طالبة في أعلى المراحل الدراسية ومدرِّسة وطبيبة ومهندسة..إلخ.(/4)
ويأتي في المرتبة الثانية من أسباب تمييز الآباء بين الأبناء، بروز أحد الأبناء، أو تفوقه؛ ففي هذه الحالة يتشجع الابن المتعثر على مواصلة رحلة الفشل، وينبه الدكتور حمودة إلى ضرورة المساواة الدقيقة بين الأبناء في الطعام، وتوزيع الكلام، وتوزيع الانتباه والاهتمام، حتى في توزيع النظرات، والضحك، والمداعبات، ويجب أن يحرص الأب على تحقيق هذه العدالة حتى في الهدايا والعطايا، وهناك جانب مهم جداً وهو المساواة في الإصغاء والاستماع، فالأبناء يتفاوتون في الجرأة والخجل، وليس كل واحد منهم يبادر بالحديث، ويستأثر بأُذُنِ والديه وإصغائها، ولعلاج هذه المشكلة يرى الدكتور حمودة أنه لابد للوالدين من قراءة نفسية الأبناء محاولة لفهم دواخلهم، ومعرفة احتياجاتهم، وردود أفعالهم، وهو ما يتطلب جهداً ودراية خاصة لترجمة مشاعر المحبة إلى سلوكيات وتصرفات في حالة عدم القدرة على ذلك، ويجب إعطاء الأبناء حقهم في التعبير عن مشاعرهم، وحاجاتهم، والاستماع إليهم جميعاً، ويجب عدم إبداء اهتمام كبير بالطفل الصغير بصورة لافتة للنظر، خاصة أمام أخيه الذي يكبُره مباشرة كي لا يفسر ذلك بأنه نوع من التمييز بينه وبين أخيه، ومن الضروري أيضاً عدم ذكر السلبيات في الطفل وتجريحه أمام إخوته عندما يخطئ، بل مناقشة ذلك معه على انفراد.
دافع لأكثر الجرائم:
يتفق معه الدكتور أحمد المجذوب - أستاذ علم الاجتماع - ويؤكد أن كل أب وأم يميزان بين أبنائهما هما شخصان جاهلان؛ لأن التمييز بين الأبناء ينتقص من مشاعر البنوة، ويرى أن هذا التمييز غالباً ما يكون الدافع إلى معظم الجرائم الأسرية التي زادت حدتها خلال السنوات الماضية، وأصبحت تمثل زهاء 60% من الجرائم التي ترتكب داخل المجتمع، وذلك لأن الأبناء تنشأ بينهم عداوة؛ فالابن غير المرغوب فيه يذهب إلى أن إخوته هم السبب فيما يلاقيه من حرمان واضطهاد، فيكون على استعداد للانتقام منهم عندما تتاح له الفرصة.(/5)
ويشير الدكتور المجذوب إلى أنه ينبغي على وسائل الإعلام أن تنبه على خطورة هذا التمييز، وأن تحاربه، وأن توضح كيف يؤثر سلباً في العلاقات الأسرية، والعلاقات الاجتماعية؛ فالابن الذي يعيش تحت ضغط التمييز من أبويه يكون عرضة للانحراف السلوكي والنفسي والاجتماعي، وينصح المجذوب الآباء بأن يأخذوا في اعتبارهم الفروق الفردية بين أبنائهم فهذا الأذكى، وتلك حباها الله الجمال، وذاك تميز بخفَّة الظل، ولاشك في أن تسليط الضوء على النقاط الإيجابية في شخصيات الأبناء المختلفة سيضمن تنميتها بصورة صحيحة، أما إذا تصرفنا مع الابن بطريقة تجعله مقتنعاً بأنه إنسان لا فائدة منه، فسيعيش على هامش الحياة وسنكون مسؤولين عما يتولد لديه من إحساس بالنقص.
مخالفة شرعية:
وعن حكم الإسلام في التمييز بين الأبناء تقول الدكتورة عبلة الكحلاوي - أستاذة الشريعة الإسلامية -: إن كل الآيات التي تتحدث عن العدل في القرآن الكريم تنطبق على الأب الذي لا يعدل بين أبنائه، وفى السنَّة النبويَّة الشريفة أن الرسول- صلى الله عليه وسلم- إذ هو يحدث أصحابه جاء صبي حتى انتهى إلى أبيه فمسح رأسه وأقعده على فخذه اليمنى، قال: فلبث قليلاً فجاءت ابنةٌ له حتى انتهت إليه فمسح رأسها وأقعدها على الأرض فقال- عليه الصلاة والسلام- : فهلا على فخذك الأخرى، فحملها على فخذه الأخرى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : الآن عدلت)).
وتضيف الدكتورة عبلة: إن التمييز بين الأولاد والتفريق بينهم في أمور الحياة سبب للعقوق، وسبب لكراهية بعضهم بعضاً، ودافع للعداوة بين الأخوة، وعامل مهم من عوامل الشعور بالنقص.
وظاهرة التفريق بين الأولاد من أخطر الظواهر النفسية التي تؤدي إلى تعقيد الابن، وانحرافه، وتحوله إلى حياة الرذيلة والشقاء والإجرام، لذلك نحذر الآباء والأمهات من الدفع بأبنائهم إلى مستشفيات الصحة النفسية وهناك تشتد الآلام ويتولد الحقد والحسد والكراهية.(/6)
العنوان: التنبيه على بعض أمور يعتقدها العوام وهي مخالفة للشرع
رقم المقالة: 726
صاحب المقالة: سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
-----------------------------------------
الحمد لله الذي بين لعباده الحق وأقام الدليل وهداهم بمحمد - صلى الله عليه وسلم - إلى أكمل هدى وأهدى سبيل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة نرجو بها النجاة من العذاب الأليم والفوز بدار النعيم المقيم، وأشهد أن محمداًً عبده ورسوله الذي وضح للأمة ما تحتاج إليه وينفعها من أمور الدنيا والدين حتى تركهم على المحجة البيضاء لا يزيغ عنها إلا هالك معتد أثيم صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً.
أما بعد أيها الناس: اتقوا الله تعالى وتفقهوا بأحكام دينكم لتعبدوا الله على بصيرة، فإن مثل من يعبد الله على علم ومن يعبده على جهل كمثل من يمشي على طريق مضيئة وطريق مظلمة، الأول عارف مواقع قدمه متيقن السلامة والثاني جاهل خائف من العطب والضلالة.
أيها الناس: لقد اشتهر عند بعض العوام أن من لم يتمم له (أي: يعق عنه) فإنه لا حج له، وهذا خطأ فلا علاقة بين التميمة والحج، فالحج يصح فرضاً ونفلاً سواء تمم عن الإنسان أم لا.
واشتهر عند بعض الناس أن من أحرم في ثياب فإنه لا يجوز أن يغيرها وهذا غير صحيح، فإنه لا بأس أن يغير المحرم ثيابه التي أحرم بها سواء كان رجلاً أو امرأة، فيجوز للرجل أن يلبس رداء أو إزاراً غير اللذين أحرم بهما، ويجوز للمرأة أن تلبس ثوباً أو مقطعاً غير الذي أحرمت به.(/1)
واشتهر عند بعض الناس أيضاًً أن المحرم لا يجوز له قطع الشجر الحي من حين أن يحرم وليس كذلك، فإن الشجر إذا كان خارج أميال الحرم جاز قطعه للمحرم وغيره، وإذا كان داخل أميال الحرم حرم قطعه على المحرم وغيره، وعلى هذا فيجوز في عرفة قطع الأشجار الحية للمحرمين وغيرهم ولا يجوز ذلك في منى ومزدلفة لأن عرفة خارج الأميال ومزدلفة ومنى داخل الأميال.
أيها الناس: إن بعض العوام يظن أن من لا يقبل الحجر ولا يستلمه ينقص حجه، وهذا غير صحيح فإن استلام الحجر وتقبيله سنة في حال السعة إذا لم يكن هناك زحام، أما إذا كان هناك زحام فإن السنة والأفضل في حق الإنسان أن لا يزاحم لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمر بن الخطاب: ((يا عمر إنك رجل قوي لا تزاحم على الحجر فتؤذي الضعيف، إن وجدت خلوة فاستلمه وإلا فاستقبله وهلل وكبر)) وكان ابن عباس - رضي الله عنهما - يكره المزاحمة ويقول لا يؤذي ولا يؤذي، وعلى هذا فطواف الإنسان الذي لا يزاحم عند الضيق أفضل وأكمل من طواف الذي يزاحم فيؤذي ويؤذي، وإن بعض الناس يشكل عليه الطواف من وراء المقام، وإني أقول لكم إنه لا إشكال في ذلك فإنه يجوز الطواف ولو من وراء المقام، وقد نص أهل العلم - رحمهم الله - على أن جميع المسجد الحرام محل للطواف حتى لو طاف في الحصباء أو في الرواق جاز له ذلك، غير أن الدنو من البيت أفضل إذا لم يكن فيه أذية عليك أو على غيرك.
أيها الناس لقد رأينا كثيراً من الحجاج يتزاحمون خلف المقام أيهم يكون أقرب إليه، وربما يظنون أن ركعتي الطواف لا تنفع إلا إذا كان الإنسان قريباً منه، وهذا غير صحيح فالقرب من المقام ليس بشرط في إجزاء الركعتين بل تجزئ الركعتان ولو كنت بعيدا، ولكن اجعل المقام بينك وبين الكعبة، ولو كنت في الحصباء أو في رواق المسجد إذا كان هناك زحام فالأمر ولله الحمد واسع.(/2)
أيها الناس: ربما تقام الصلاة والإنسان يطوف أو يسعى، فإذا حصل ذلك فصل مع المسلمين، فإذا فرغت من الصلاة فكمل من الموضع الذي قطعت الطواف أو السعي فيه ولا حرج عليك.
وربما يتعب الإنسان عقب الطواف ويجب أن يؤخر السعي إلى وقت آخر إما إلى آخر النهار أو إلى الليل أو نحو ذلك فهذا جائز لا بأس به، بل ربما يتعب في نفس السعي ويحب أن يجلس للاستراحة ثم يكمل سعيه أو يكمله على عربة ونحوها وهذا أيضاًً جائز لا بأس به، ما جعل الله عليكم في الدين من حرج ولله الحمد.
أيها الناس: كثيراً ما يسأل عن الحائض والنفساء ما تصنع في إحرامها؟ والجواب على ذلك ما قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - لعائشة: ((افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت)) وعلى هذا فتفعل مثل ما يفعل الناس سواء بسواء إلا أنها لا تطوف حتى تطهر، والسعي تابع للطواف، فإذا أحرمت بالعمرة وهي حائض أو حاضت بعد إحرامها فإن طهرت قبل الطلوع قضت عمرتها وحلت ثم أحرمت بالحج مع الناس، وإن جاء الطلوع وهي لم تطهر نوت الحج فأدخلته على العمرة وصارت قارنة ويكفيها طواف واحد وسعي واحد لحجها وعمرتها. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاَكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الحج:78].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.. إلخ.(/3)
العنوان: التنصيرُ عبرَ الإذاعاتِ والمراسلات
رقم المقالة: 1843
صاحب المقالة: أحمد أبو زيد
-----------------------------------------
[الكاتب خاض التجرِبة بنفسه وتلقى إحدى رسائلهم]
التنصيرُ عبرَ الإذاعاتِ والمراسلات
نواصلُ مع القارئ سلسلةَ المقالات والدراسات التي بدأناها حول المخطط التنصيري في العالم وخططه وأساليبه لحرب الإسلام، ونقف هنا مع بعض الوسائل التي يعتمدون عليها في نشر دعوتهم، وهي الإذاعاتُ التنصيرية، والمراسلات البريدية، التي تنتشر على مستوى العالم انتشارَ النار في الهشيم.
فمع التطور الكبير الذي شهده العصرُ الحديث في العلم والتكنولوجيا، ومع ظهور وسائل الإعلام الحديثة من إذاعة وتلفزيون وأقمار صناعية وفضائيات وإنترنت، كان من الطبيعي أن يحرص المخططُ التنصيري العالمي على استغلال هذه الوسائل فى نشر أفكاره، ومحاربة الاسلام، وكانت الإذاعاتُ التنصيرية في مقدمة تلك الوسائل، فقد أكدت المؤتمراتُ التنصيرية كافةً ضرورةَ إنشاء الإذاعات في كل مكان، وإنشاء معاهدَ لإعداد الإذاعيين، وإقامة مؤسسات لإنتاج المواد الإذاعية، وتزويدها بجميع الإمكانات.
• هيئات ومنظمات إذاعية:
وتجسيدًا لهذا الاهتمام بالإذاعة كوسيلة تنصيرية، أنشأت عشراتُ الهيئات والمنظمات الإذاعية المسيحية في أنحاء متفرقة من العالم المحطاتِ الإذاعيةَ، وخططت لها، وتبادلت الخبرات والبرامج والاستشارات والخبراء، وعقدت المؤتمرات، وأقامت الدورات التأهيلية والتدريبية للذين يعملون في هذه المحطات، وأجرت البحوث والدراسات على جماهير المستمعين للكشف عن مدى تأثير هذه المحطات وفاعليتها، فضلا عن تقويم خططها وبرامجها.
ولعل أنشط هذه المؤسسات والهيئات والمنظمات -على سبيل المثال وليس على سبيل الحصر- المؤسسات التالية:(/1)
1- الرابطة الكاثوليكية للراديو والتلفزيون: ومقرها سويسرا، وهي الرابطة التى تضم مئة محطة إذاعية كاثوليكية، وينصب نشاطُها على خدمة التنصير، وعقد المؤتمرات، وتبادل الخبرات والمعلومات في هذا المجال، فضلا عن التعاون المنظم مع الروابط والهيئات والمنظمات الإذاعية التنصيرية، وإجراء البحوث والدراسات وتقديم التوصيات اللازمة.
2- الرابطة العالمية للإذاعة المسيحية: وكانت هي البديل الذي حل محل اللجنة التى أنشأها مجلسُ الكنائس العالمي عام 1961م، وتعمل هذه الرابطة -التي تتخذ من جنيف مقرًا لها- على خدمة الإذاعات الدينية في تطوير برامجها ورفع مستواها، ومن ثم فهي تُولي البحثَ والدراسات في هذا المجال أهميةً فائقة، كما تقدم منحًا للكنائس والمنظمات المسيحية والأفراد للتدريب على استخدام الإذاعة في مجال التنصير وإعداد المتخصصين عقائديًا وفنيًا.
3- الاتحاد العالمي للاتصالات المسيحية، الذي أنشئ عام 1968م في لندن، ويمنح حق العضوية للأفراد والكنائس ووكالات الاتصال والهيئات المسيحية المختلفة العاملة في مجال الاتصال، إلى جانب تزويد محطات الإذاعة التنصيرية بالخبرات والاستشارات الفنية وإعداد الفنيين والمتخصصين المدربين.
4- الرابطة الدولية للإذاعيين المسيحيين: وهي رابطة خاصة بالإذاعيين العاملين في مجال الإذاعات التنصيرية في الولايات المتحدة الأمريكية، وقد أنشئت بناءً على توصية من المؤتمر العالمي للراديو التنصيري. وتبذل الرابطة جهدًا واضحًا في متابعة محطات الراديو العاملة في مجال التنصير، وإصدار النشرات التي توزع مجانًا عن هذه المحطات وبرامجها ونشاطاتها، فضلا عن إجراء البحوث والدراسات لتعرُّف مدى تأثير هذه المحطات على جمهور المستمعين والمشاهدين.(/2)
5- جمعية التنصير العالمية بالراديو: وهي جمعية بروتستانتية، مقرها "نيوجرسي" بالولايات المتحدة الأمريكية، وتتولى الإشراف وإدارة عدد من المحطات التنصيرية الدولية، تأتي في مقدمتها إذاعة "حول العالم" الناطقة بالعربية من مونت كارلو.
6- الهيئة التنصيرية العالمية في "هونج كونج": وهي الهيئة التى تقود مسئولية الإشراف وإدارة عدد من الإذاعات الموجهة إلى دول جنوب شرق أسيا، وإن كانت تولي عناية فائقة للمحطات الموجهة إلى إندونيسيا على نحو خاص.
7- الاتحاد الفليني للإذاعيين الكاثوليك: ومقره"تايلند"، ويتولى الإشراف على عدد من المحطات التنصيرية، ويقدم لها المعلومات وخدمات التدريب والتخطيط.
ولا جرم ليست هذه هي كل المؤسسات والهيئات الإذاعية التنصيرية في العالم، فقد بلغ عددُها عام 1980م أكثرَ من خمس وثلاثين هيئة ومؤسسة إذاعية دولية، يمتلك بعضُها محطات كاملة، ويستأجر بعضُها الآن ساعات للبث من محطات دينية أو تجارية أخرى. وقد بلغ عدد المحطات التى تملكها أو تستأجرها الطائفةُ المعمدانية وحدها أكثر من مئة محطة تنصيرية في أكثر من ثمانين بلدًا.
• تاريخ الإذاعات التنصيرية:(/3)
والحقيقة أن تاريخ هذه المحطات الإذاعية التنصيرية يعود إلى بداية العشرينيات من القرن الماضي (1920م)، وفي الولايات المتحدة الأمريكية على وجه الخصوص، إذ اتجهت بعضُ المحطات الأمريكية للعمل في مجال "التنصير" وأصبحت جزءًا رئيسًا من برامجه وامتدادًا له، فاستخدمت هذه المحطات للتوجه بتعاليم المسيحية وأفكارها إلى أولئك الذين لم يعتنقوا المسيحية، أو الذين لم يعتنقوا دينًا أو عقيدة على الإطلاق، ومن هنا بدأت فكرةُ المحطات الدينية الدولية، ونشأت أولى محطات من هذا النوع، وهي محطة "نداء المسيح" أو "صوت يسوع المبارك"، وبدأت المحطةُ إرسالَها من إكوادور في 25 من ديسمبر عام 1931م، في حين بدأ راديو الفاتيكان إرساله في شهر فبراير من العام نفسه، ومن مدينة الفاتيكان نفسها، وهو يسعى إلى خدمة المسيحيين الكاثوليك أينما كانوا. أما محطة "صوت المسيح" فقد كانت معنية بالوصول إلى الذين اعتنقوا المسيحيةَ أو لم يعتنقوها على حد سواء.
وفي عام 1948م ظهرت محطة ثالثة أنشأتها إحدى منظمات التنصير الأمريكية في "مانيلا"، وعرفت باسم "اتحاد إذاعات الشرق الأقصى"، وسرعان ما امتد إرسالُها ليغطي مناطق واسعة من بقية القارة الآسيوية.
وقد شهد العقدان التاليان توسعًا هائلا في إقامة المحطات الإذاعية الدولية للتنصير في قارتي أسيا وإفريقيا، وبدعم خاص من قبل منظمات وهيئات ومؤسسات التنصير الأمريكية بالذات.
ففي عام 1954م، بدأت إذاعة "awla"، ومعناها: "بالحب الأبدي نكسب إفريقيا"، ويعد ذلك الاسمُ الشعارَ والهدفَ الذي حددته المحطة دليلاً لعملها منذ بدأت إرسالها من منروفيا عاصمة ليبيريا، وقد بدأت البث باللغة العربية عام 1957م. وبلغ عدد اللغات التي تذيع بها هذه المحطة برامجَها ما يقرب من خمسين لغة حتى الآن.(/4)
وفى عام 1954م أيضا بدأت محطة طنجة إرسالها من مدينة طنجة بالمغرب، وهي المحطة التي استمرت وواصلت إرسالَها من مكان آخر فيما بعد عام 1960م تحت اسم "إذاعة حول العالم" من "موناكو"- مونت كارلو.
وفي عام 1956م، بدأت محطة "جماعة الراديو" إرسالَها من جنوب كوريا.
وفي عام 1963م بدأت محطة "راديو كورداك" إرسالها من بورندي، وهي محطة تنطق باسم المذهب البروتستانتي، وفي العام نفسه أيضًا بدأت من إثيوبيا إذاعة "راديو صوت الإنجيل"، وهي المحطة التى أغلقتها الحكومة الإثيوبية عام 1975م.
وفي عام 1969م بدأت محطة إذاعة "فيرتياس"، وهي محطة دولية كاثوليكية قرب مانيلا، يديرها الاتحادُ الفليني للإذاعيين الكاثوليك بالتشاور مع الكنيسة الكاثوليكية الألمانية الغربية، وهي محطة موجهة إلى مناطق آسيوية فقط.
وفي عام 1973م، بدأت محطة "ويفر" إرسالها من ولاية فلوريدا، وهي تبث برامجها باللغة العربية على مدى ثلاث ساعات ونصف أسبوعيا، مع أنها غير مسموعة في البلاد العربية لبعدها الشديد عن العالم العربي.
وإلى جانب هذه المحطات يمكن القولُ بأنَّ هناك مئاتِ المحطات التنصيرية المعروفة ومئاتٍ أخرى ما زالت مجهولة، وقد يكون مفيدًا أن ندرج فيما يلي بعضَ أسماء هذه المحطات "المعروفه"- على سبيل المثال لا الحصر – وهي:(/5)
إذاعة راديو الفاتيكان- إذاعة حول العالم "موناكو"- إذاعة صوت الغفران "جزيرة سيشل"- إذاعة صوت الشبيبة – إذاعة المحبة والوفاء – إذاعة المركز المعمدان- إذاعة مقدم الحق – إذاعة مركز النهضة – إذاعة صوت الإصلاح – إذاعة نور على نور "مرسيليا" – إذاعة المدرسة الإنجيلية "مرسيليا" – إذاعة صوت كلمة الحياة "أسبانيا" – إذاعة نداء الرجاء – إذاعة دار الهداية "سويسرا" – إذاعة ميجانوسا "إندونيسيا"- إذاعة أدفنت "إندونيسيا" – إذاعة بكما "إندونيسيا" – الإذاعة الإنجيلية "إندونيسيا" – إذاعة زيون "إندونيسيا" – إذاعة تي "إندونيسيا" – إذاعة تليستار "زائير" – إذاعة صوت الإنجيل "إثيوبيا" – إذاعة صوت الحق "لبنان".
• 14 محطة عربية:
ومع عدم وجود إحصاء دقيق لعدد المحطات الدينية التنصيرية في العالم، إلا أن أهم ما يلفِت النظر في هذا الصدد أن هناك أربعَ عشرةَ محطة تنصيرية تبث إرسالَها باللغة العربية، على مدى 1500 ساعة أسبوعيا، تبث أربعة من قبرص، وأربعة أخرى من موناكو، وتبث واحدة من روما، وثلاثة أخرى من جزيرة سيشل. وقد لوحظ من خلال رصد هذه المحطات ومتابعتها خلال السنوات الماضية أنها تستبدل أسماءها وتغيرها بين حين إلى آخر.(/6)
كما جرى ضم بعضها إلى بعض في إطار محطة واحدة تنطق باسم واحد، وتمثل كل محطة من المحطات المنضمة برنامجًا يحمل اسمها في إطار المحطة العامة، ونجد مثالا واضحًا لذلك في الإذاعة الناطقة باسم "صوت الغفران" التي كانت تنطق باسم "صوت الإنجيل" في البداية، ثم غيرت اسمها إلى "صوت الحق" ثم "صوت الغفران"، وهذه المحطة أصبحت تضم ثلاث محطات هي: صوت الغفران- نداء الرجاء- ساعة الإصلاح. وهي ثلاثة برامج يقدم كل منها تحت الاسم نفسه في وقت معين لكل منها، وفي مساحة زمنية متصلة تحت الاسم الرئيس "إذاعة صوت الغفران". وهنا تجدر الإشارة إلى أن كلا من ساعة الإصلاح ونداء الرجاء وصوت الغفران منظمات تنصيرية أصلا، وليست محطات إذاعية فقط.
وهذه المحطات الثلاث المندمجة، ومعها محطة راديو الفاتيكان، ومحطة حول العالم من مونت كارلو، تعد أهم المحطات التنصيرية الموجهة إلى العالم العربي شرقه وغربه.
وقد واكب ذلك الانتشارَ الواسع للمحطات الإذاعية التنصيرية ظهورُ الكثير من مراكز إنتاج البرامج، حتى أصبح بإمكان محطة ما أن تنتج الكثير من البرامج بمختلف اللغات وأن تذيعها من محطات خاصة بها، أو أن تستأجر وقتًا من محطات تجارية أو دينية أخرى لتذيع من خلالها برامجها المختلفة، ناطقة باللغات التي تريدها.(/7)
والحقيقة أن مخططات التنصير تلاحق كل تقدم تكنولوجي يحدث في مجال الاتصال الجماهيري، وتحاول استغلال كل ما يجد من هذه الوسائل، وآخرها الأقمار الصناعية والبث التلفزيوني المباشر وشبكة الإنترنت، فقد وافقت الفاتيكان منذ سنوات على مشروع ضخم، تقدم به الأب الكاثوليكي "جوساي"، يتمثل في بناء محطة تلفزيونية كبيرة للبث منها إلى جميع أنحاء العالم، للتبشير بتعاليم الإنجيل عن طريق ثلاثة أقمار صناعية. وقد سمي هذا المشروع بمشروع "لومين2000"، والذي يعد الأولَ من نوعه، من جهة الحجم واتساع مساحة البث، وإمكان السيطرة إعلاميا على جميع قارات العالم، وخصوصًا قارتي أفريقيا وآسيا حيث يوجد معظم المسلمين.
وهذا المشروع التنصيري الخطير الذي موله مليونير هولندي، يهدف بالدرجة الأولى إلى تحقيق أهداف مجلس الكنائس العالمي في تنصير المسلمين، أو على الأقل زعزعة عقائدهم عن طريق البث الثقافي التلفزيوني اليومي المستمر بلغات متعددة للتبشير بتعاليم المسيح تحت اسم "التنوير والتعاون ومحاربة الجهل"، وكلها مسميات للتمويه على القيادات السياسية والحكام المسلمين.
ولقد عقد في هولندا أخيرًا اجتماع عالمي للتنصير، رأسه المنصر جراهام بللي، وحضره 8194 منصر من أكثر من مئة دولة، وبلغت نفقاته 21مليون دولار، وقد أعلن رئيسه أنه يستعد من الآن ويخطط لحملة صليبية عالمية لنشر المسيحية، تستخدم فيها الأقمار الصناعية وأحدث وسائل الاتصال والمعدات الإعلامية.
• التنصير عبر المراسلة:(/8)
وتعد المراسلات البريدية وسيلةً أخرى من الوسائل التي تعتمد عليها هيئاتُ التنصير ومنظماته، وتمارسها الإذاعاتُ التنصيرية أيضًا، إذ تقوم بإرسال الخطابات والنشرات والكتب إلى الكثير من المسلمين، خاصة الشباب منهم، تحت دعاوى التعارف والمحبة، وفي داخل هذه الخطابات والنشرات والكتب تبث سمومَها، فهناك حوالي 150 ألف مغربي ترسل لهم الدروس التنصيرية عبر البريد من أوربا ومن مركز التنصير الخاص بالعالم العربي (A.W.M)، وهذه الوسيلة تركز على المجتمعات ذات الأغلبية المسلمة، خاصة في العالم العربي حيث يصعب الوصول إليها مباشرة عن طريق الإرساليات والبعثات، وتساعد الإذاعات التنصيرية مساعدة كبيرة على استغلال هذه الوسيلة، من خلال الربط بين مراكز التنصير وبين المستمعين، وبث العناوين التي تمكّن المستمع من مراسلتها وطلب الكتب والنشرات التي يرغب فيها.
• الكاتب وإذاعة حول العالم:
وفي بعض البرامج التنصيرية يعلن مقدم البرنامج عن كتاب معين، ويؤكد استعداد الإذاعة لإرساله إلى كل من يطلبه من المستمعين، ويقدم العنوان الذي تكون المراسلة عليه، وهو عنوان الإذاعة، أو مركز من مراكز التنصير.
ولقد خُضتُ هذه التجربة بنفسي مع "إذاعة حول العالم"، وهي إحدى الإذاعات التنصيرية الموجهة للعالم العربي، ففي برنامج "نهر الحياة" أعلن القس الذي يقدمه عن كتاب "ما معني المسيح ابن الله"، وأنه سوف يرسله لمن يرغبُ في قراءته من المستمعين، فأرسلت بالفعل خطابًا أطلبُ فيه الكتاب على العنوان الذي أذاعه في البرنامج.
وبعد مدة ليست طويلة جاءني الكتابُ ومرفق معه رسالة تقول:
"الأخ والصديق/ أحمد أبو زيد
سلام الله يكون معك دائمًا(/9)
شكرًا لرسالتك ولحسن استماعك ومتابعتك للبرنامج، ومرفق نسخة من كتاب "ما معني المسيح ابن الله" نرجو أن يكون ذا فائدة ونفع لكم، كما نرجو إفادتنا بوصوله، وأحيي فيك الرغبة في العلم والمعرفة، ونحن على استعداد للرد على أي سؤال أو استفسار.. والله يبارككم ويزيدكم علما ومعرفة به".
إذاعة حول العالم – برنامج نهر الحياة
ص ب 52 رمسيس الجديدة
القاهرة"
وواضح من الرسالة أنها من القاهرة، أما الكتاب فلا يخفى على أحد ما يتضمنُه من تحريف في العقيدة وافتراء على عيسى بن مريم عبد الله ورسوله، فعنوانُ الكتاب يدل على ما فيه.
والحقيقة أنني اكتفيتُ بهذه الرسالة ولم أرد عليهم بوصولها، فلست في حاجة إلى معرفة المسيح بن مريم بالصورة التي يضعونه فيها، ولكن أردتُ أن أقف على بعض أساليبهم في تنصير المسلمين ومحاولة تشكيكهم في عقيدتهم الصحيحة، فهؤلاء لا يستهدفون إلا تخريبَ العقائد، وضرب الأديان، ونشر الكفر والإلحاد باسم رسالة المسيح.
والحق أن تتبع هذه الإذاعات ومراسلتها يستهوي الكثيرين من الشباب العربي المسلم، الذين لا يعون أهدافَها الحقيقية وما ترمي إليه، ولذلك يقعُ كثيرٌ منهم في شراكها؛ إذ تتمادى في جذب انتباههم، وربطهم بها، ومدهم بكل ما يطلبونه وما لا يطلبونه من كتب ونشرات تحمل السم في الدسم، ومن هؤلاء الشباب من يصحو على حقيقة هذه الإذاعات، ومنهم من ينساق ورائها وينتهي به الأمر إلى الفتنة في دينه.
• رسالة وكتاب تنصيري:
ففي عدد صفر 1414هـ نشرت مجلة "التوحيد" الصادرة عن جماعة أنصار السنة المحمدية بالقاهرة رسالة بعث بها المواطن: محمد أحمد دنيا من فارسكو – دمياط – جاء فيها:
"لما عهدته عن مجلتكم بل مجلتنا –جميع المسلمين– نشر كلمة الحق دون تراجع من أي شيء يهدد الإسلام والمسلمين، لذا تجرأت على أن أبعث إليكم بهذه الرسالة لكي نوعي الناس بخطرها قبل فوات الأوان:(/10)
منذ سنة تقريبًا اتجه مؤشر الراديو إلى موجة الإذاعة الفرنسية العربية، وكان بها برنامج تنصيري يدعو إلى ديانة المسيح والإيمان به، وكانوا يعلنون عن كتاب اسمه "ثلاث شموع أساسية" في التبشير، فأردت أن أعرف ما به من كلام، فبعثت إليهم لإرسالة إلي، فبعثوا إليّ به مع بعض من الكلمات الجميلة المتألقة عن ديانة المسيح، وعندما قرأتُه علمت ما به من تخاريف وهزالات وقارنته بما جاء في كتاب "مناظرة بين الإسلام والنصرانية" لجماعة من العلماء، فعلمتُ ما به من تحريف، وخفت أن أرسل إليهم الرد كما طلبوا خوف الفتنة على نفسي، فأنا ضعيف الإيمان، واقتصرت على ذلك، ومنذ مدة ليست بالطويلة جاءني خطابٌ مسجل من فرنسا، ففتحت هذا الخطاب لأقرأ ما فيه فإذا أنا أجد فيه هذه الرسالة التي أرسلتها مع تلك الرسالة إليكم، فعلمت أنهم يسعون جاهدين بما لديهم من مال وغيره لنشر رسالتهم بدليل أنهم تذكروني بعد مضي سنة، لذا أرجو من سيادتكم التنويه والكتابة عن دعوة التنصير في هذا العصر في موضوع يوعي الناس ويجعلهم متمسكين بدينهم، ولقد ارتعد جسدي عندما قرأت هذه الفقرة: صديقي: نحن نرحب بأي سؤال يتعلق بحياتك الحاضرة أو أبديتك.
إنهم يغرونني لكي أضعف أمامهم، فأدعو الله أن يثبتني بالإيمان، ويختم أعمالنا بالصالحات، وأن يوفقكم لما فيه صالح الإسلام والمسلمين، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
إمضاء: محمد أحمد دنيا – دمياط – فارسكور – شارع البوستة".
وفيما يلي نص الرسالة التي بعثوا بها إليه من فرنسا، كما نشرتها مجلة التوحيد:(/11)
"الصديق العزيز/ محمد دنيا.. كان قد وصلنا منك يا صديقي العزيز خطاب في الماضي، تطلب فيه بعض الكتب التي كنا قد أعلنا عنها في برنامج "خبز الحياة"، حيث قمنا بالرد الفوري على خطابك، وأرسلنا الكتاب المطلوب، وسألناك إذا كان لديك أي سؤال عن هذا الكتاب، أو أي سؤال آخر نكون مسرورين بالرد عليه، كما يرشدنا الله عز وجل، لكن للأسف لم يصلنا منك أي رد أو دليل يطمئننا عن وصول الكتاب، ونظرًا لأن بعض الجوابات تفقد في البريد، ولما كانت صداقتُك لنا مهمة، لهذا نرسل لك هذا الجواب مصلين أن يجدك في أتم الصحة وآملين أن يصلنا منك ما يطمئننا عن أحوالك.
وإذا كنت قد انقطعت عن الاستماع لإذاعتنا لأي سبب، فنحن نرحب بك مرة ثانية، وندعوك للاستماع لبرنامج "خبز الحياة" والبرامج الأخرى على إذاعة حول العالم مساء كل يوم من الساعة العاشرة والدقيقة 40 إلى الساعة الثانية عشر بعد منتصف الليل بتوقيت القاهرة.
إن الاهتمام بأبديتك يا صديقي هو أمر مهم جدًا، إن الكتاب المقدس يقول: "وضع للناس أن يموتوا مرة ثم بعد ذلك الدينونة"، كذلك يقول: "إن نهاية كل شيء قد اقتربت".
وكلنا نتفق أن العالم بما فيه من شرور وحروب وقتل لا يمكن أن يستمر طويلا.
نعم يا صديقي قد تكون النهاية أقرب كثيرًا مما نظن، فهل أنت مستعد لمواجهة الأبدية والوقوف أمام الله لتعطي حسابًا عن أعمالك؟!
يا صديقي: اعلم أنه ليس لك وسيلة للنجاة من العقاب والغضب الآتي إلا اللجوء إلى دم المسيح، إذ قد دفع الرب يسوع الأجرة ومات عني وعنك ليحمل خطايا العالم، ليتك تلجأ إليه الآن طالبا الرحمة والغفران.
أما إذا كنت مطمئنًا من جهة أبديتك، لكن العالم ومشاكله قد ثقل عليك والهموم أضنتك فتذكر يا أخي أن يسوع قال:
"ها أنا آتي سريعًا"، نعم قريب وقريب جدًا سيأتي الفادي وسنكون معه كل حين ولا يكون حزن ولا بكاء فيما بعد.(/12)
صديقي: نحن نرحب بأي سؤال يتعلق بحياتك الحاضرة أو أبديتك. اكتب لنا على العنوان الذي في أعلى الصفحة (نرجو كتابة العنوان باللغة الأجنبية) وسنكون سعداء بكتابة الرد الفوري عليك.
نحن في انتظار أن نسمع منك.. وإله السلام يحفظ أفكارك في ذلك الذي مات من أجلك"
صديقك/ سامي من برنامج "خبز الحياة"
20/5/1993م"
ويتضحُ من خلال هذه الرسالة حرصُ الإذاعات التنصيرية ومن يقفون وراءها على الارتباط الوثيق بمن يراسلونهم من الشباب ومطالبتهم بأن يستمروا في المراسلة والاستماع إلى برامجهم دون انقطاع.
ولقد بثوا في رسالتهم من فرنسا إلى المواطن محمد دنيا الكثير من أفكارهم التنصيرية وسمومهم التي يسعون لنشرها في مواجهة عقيدة الإسلام.
فهم يغرونه بأن صداقته لهم مهمة، ودليل ذلك أنهم تذكروه بعد سنة كاملة، وأرسلوا إليه خطابا يسألون فيه عن صحته وأحواله، ويطالبونه بالاستماع إلى إذاعتهم إذا كان قد انقطع عنها، ويحاولون إقناعه باللجوء إلى المسيح وطلب الرحمة والمغفرة منه، لأن في ذلك وسيلةً للنجاة من العقاب والغضب الآتي، وأن المسيح قادم لخلاص العالم من آلامه وأحزانه، ويلحون عليه في نهاية الرسالة بضرورة أن يبعث إليهم بأسئلته التي تتعلق بحياته الحاضرة أو أبديته، وأن يكتب إليهم وسوف يردون عليه على الفور وهم سعداء.
ونواصل مع القارئ حديثنا عن جوانب أخرى من المخطط العالمي للتنصير ووسائله وأساليبه لحرب الإسلام في مقالات أخرى قادمة بإذن الله.
• المراجع:
- الإذاعات التنصيرية المواجهة إلى المسلمين العرب- د. كرم شلبي- مكتبة التراث الإسلامي - الطبعة الأولى - القاهرة 1991م
- الزحف إلى مكة- د. عبد الودود شلبي- دار الزهراء للإعلام العربي - الطابعة الأولى - القاهرة 1989م.
- مجلة التوحيد - جماعة أنصار السنة المحمدية – القاهرة، صفر 1414هـ.
- مجلة الرابطة – العدد 290 – رابطة العالم الاسلامي، مكة المكرمة، رمضان 1409هـ.(/13)
العنوان: التنصيرُ في بلد الأزهر.. ومخططُ الإساءة للإسلام
رقم المقالة: 1412
صاحب المقالة: أحمد أبو زيد
-----------------------------------------
التنصيرُ في بلد الأزهر.. ومخططُ الإساءة للإسلام وازدرائه
محمد البورسعيدي وزوجتُه نموذجًا
ما زلنا نواصلُ حديثَنا مع القارئ حول التنصير وخططه وأساليبه في العالم الإسلامي، ونقفُ في هذا المقال مع التنصير في معقل من معاقل الإسلام، وهي مصر بلد الأزهر، التي تمتد الجهود التنصيرية فيها لعشرات بل مئات السنين.
فقضية (محمد حجازي البورسعيدي) الذي تنصّر هو وزوجته على أيدي جماعات التنصير في مصر، بعد أن أغروهما بالمال والثروة والسكن والوظيفة المرموقة والسفر للخارج، تعد مثالا صارخا للحرب المعلنة على الإسلام في الداخل والخارج، والنية المبيتة من منظمات التنصير في مصر للإساءة إلى الإسلام وازدرائه.
وبداية لا بد أن نؤكد أن هذا الشاب المرتد عن الإسلام، والذي أغراه المنصرون بمتاع الدنيا الزائل، لا يساوي عند الله جناح بعوضة، بعد أن ضل وأضل، ومَثَلُه عند الله سبحانه -كما وصفه القرآن- كمثل الكلب؛ قال تعالي: {واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون} [الأعراف: 175-176].
وهذا الشاب الضال المرتد التارك لدينه المفارق لجماعة المسلمين، لو أن ردته عن الإسلام كانت بينه وبين نفسه، لانتهى الأمرُ، فعددُ المسلمين في العالم يزيد عن مليار و200 مليون مسلم، ولا يضير الإسلامَ أن يفارقَه مليون ضال أغوتهم شياطين الجن والإنس.(/1)
ولكن القضية أن هذا القزم البورسعيدي المرتد قد جاهر بردته، وأعلنها على الملأ، لتصبح قضية رأي عام، وتتبارى الصحف والمجلات في نشر تفاصيلها، ويستغلها ضعافُ النفوس من مردة الإنس -أولئك النفر من العلمانيين والماركسيين والشيوعيين والمنصّرين- في الهمز واللمز والإساءة للإسلام، فقد خرج علينا قس مصري يزعم أن الملايين من الشباب في مصر يريدون أن يرتدوا عن الإسلام ويعتنقوا المسيحية، ويسلكوا مسلك محمد حجازي، ولكنهم يخافون من حد الردة المسلط على رقابهم!!(/2)
وواصل هذا القس ويدعى "الأب يوتا" افتراءاته على الإسلام بقوله: "لقد شن المسلمون حملة مسعورة لتشويه صورة محمد المسيحي، والحقيقة.. فالمسلمون معذورون في ذلك؛ لأنهم شعروا بالرعب من أن يجاهر مسلم بأنه اعتنق المسيحية، ويرفع دعوى أمام المحاكم، في حين إن الإسلام كان دائمًا مرعبًا لأي شخص يفكر في ترك الإسلام وفي كل مكان وزمان، فالقتل هو الرد على ترك المسلم للإسلام (والشرع يأمر بقتل المرتد عن الإسلام)، وما حدث أيام خليفة نبي الإسلام أبي بكر من قتل ما يزيد على 20 ألفا في يوم واحد من الذين ارتدوا، أوقف انهيارَ الإسلام، وجعل الرعبَ داخل كل مسلم، وبقي الإسلام مبنيًا على الخوف من القتل، لا على الاقتناع به، وهذا سبب بقاء الإسلام إلى اليوم. ومن ثم (فإن مجاهرة محمد المسيحي باعتناقة المسيحية، ورفع قضية، وبهذه الجرأة، قد يشجِّعُ ويقوّي قلوبَ كثير من المسلمين الخائفين لترك الإسلام، ومن ثم ينهار الإسلام)، وهذه النقطة بالذات تذكر المسلمين بانهيار الشيوعية برغم الحكم بالحديد والنار، وأعتقد أنه في يوم من الأيام سينهار الإسلامُ بطريقة قريبة الشبه من انهيار الشيوعية، بعد زوال الخوف من قلوب المسلمين، وهذا هو السبب الرئيس لانزعاج المسلمين من قضية محمد المسيحي وتدخل جميع المسئولين المسلمين في البلد، وعلى أعلى المستويات، وخاصة الأجهزة الأمنية لإنهاء هذه القضية، بعد التحقق من أن الأكاذيب التي رددها الإعلام لتشويه صورة محمد أتت بنتيجة عكسية"!!
وهكذا استغل المسيحيون في مصر قضية محمد حجازي وأخذوا يهرفون بما لا يعرفون عن الإسلام دين الله الحق.
• مَن محمد حجازي؟
فمَنْ (محمد حجازي) إذن ذاك الذي أقاموا له جنازة حارة، وجعلوا رِدته قضية رأي عام، لكي يشعلوا بها نار الفتنة الطائفية في مصر، وهو كما ذكرت نكرة، ولا يساوي عند الله جناح بعوضة؟(/3)
من محمد حجازي الذي تسعى بعض المنظمات المسيحية في مصر إلى (تدويل) قضيته، لكي يجعلوا منه بطلا، وهو أهون عند الله من الكلب اللاهث؛ لأنه انسلخ من الحق ونور الهداية والإسلام بعد إذ جاءه؟
هو شاب ضائع من بين ملايين الشباب الضائعين في مصر الذين يلهثون وراء المال والثراء والشهرة والظهور في وسائل الإعلام، حتى لو كان ثمن ذلك أن يترك دينة ويتنصر أو يصبح شيوعيا أو ماركسيا أو ملحدا لا دين له؟
أليس هذا هو طريق الشهرة الذي سلكه (سلمان رشدي) و(نصر أبو زيد) و(صبحي منصور) و(نوال السعداوي) ومن على شاكلتهم من عملاء الغرب والصهيونية؟
فمحمد حجازي هذا من مواليد محافظة بورسعيد، حصل على بكالوريوس معهد الخدمة الاجتماعية، وانضم لتيارات اشتراكية، ودخل المعتقل باتهامات سياسية.
وتقول بعض المصادر إنه تنصر وهو في العام الدراسي الثاني بالمعهد. وسبق القبض عليه عام 2002 بسبب تأليفه كتابًا ينتقد فيه الدولة والأديان وبعض الرموز الخاصة بها. وهو عضو حركة (كفاية) ببورسعيد. وقد ترك بورسعيد بعد اكتشاف أمر تحوله إلى المسيحية خوفاً من تهديدات عائلته وعائلة زوجته ونظرات المحيطين به.
أما السبب الحقيقي في تحوله إلى المسيحية، فهو سبب لا علاقة له بالأديان على الإطلاق، ولكنه أراد تغيير دينه فقط ودخول المسيحية، حتى يتعرض للاضطهاد في مصر ثم يسافر إلى الولايات المتحدة بمساعدة أقباط المهجر كلاجئ سياسي، وتفتح له أبواب الشهرة والمال والثراء، شأنه شأن معظم من يهاجرون إلى أمريكا ودول الغرب، ممن يعادون الإسلام ويحاربونه، والأمثلة أمامنا كثير لهؤلاء، بداية من (رشاد خليفة) و(صبحي منصور) و(نصر أبو زيد) و(نوال السعداوي).(/4)
وهذا ما تؤكده شهادة (محمد فوزي) أحد زملاء محمد حجازي في الدراسة، إذ أكد أنه كان يحلم بالشهرة والتشبه بسلمان رشدي، وكان يتحرش بالشرطة حتي يتم القبض عليه ثم يدعي الاضطهاد، وقال: إن حجازي اشترك في 4 أحزاب معارضة في وقت واحد بهدف تحقيق الشهرة التي يريدها.
• تورط منظمات مسيحية:
وبعيدا عن الخوض في تفاصيل قضية حجازي هذا الذي رفع دعوى قضائية أمام محكمة القضاء الإداري المصرية، يختصم فيها مع وزير الداخلية المصري بصفته الرئيس الأعلى لمصلحة الأحوال المدنية؛ لأنه رفض إلغاء كلمة "مسلم" من خانة الديانة فى بطاقة الهوية الخاصة به واستبدالها بكلمة "مسيحي".
فإن الذي يهمنا هنا هو تورط بعض المنظمات المسيحية في مصر في تنصير هذا الشاب وغيره من الشباب، فقد قررت نيابة أمن الدولة العليا في 10 من أغسطس حبس (عادل فوزي) ممثل "منظمة مسيحيي الشرق الأوسط" و(بيتر عزت) مصور موقع "الأقباط المتحدون" على شبكة الإنترنت، لمدة 15 يوماً على ذمة التحقيقات. وتضمنت لائحة الاتهامات الموجهة إلى كل منهما: ازدراء الدين الإسلامي، وإثارة الفتنة الطائفية، والعمل على تنصير المسلمين، ونشر مواد على شبكة الإنترنت من شأنها إلحاق الضرر بالأمن، ونشر نسخة محرفة من القرآن الكريم.
وجاء في التحقيقات أن المتهم الأول نشر على موقع "منظمة مسيحيي الشرق الأوسط" مواد تشكك في صحة العقيدة الإسلامية وتسخر منها، وتدعو إلى إلغاء خطبة الجمعة بزعم أنها سبب الفتن الطائفية التي تشهدها مصر، كما نشر مواد أخرى مشابهة على مواقع الدردشة التي تناقش العقيدتين الإسلامية والمسيحية، ويعمل المتهمان على ترويج أفكارهما بين المسلمين عن طريق النشر.
وتقدم محمد فوزي النجار، أحد أصدقاء حجازي، ببلاغ إلى مكتب النائب العام عن وجود شبكة تنصيرية تعمل بين القاهرة وبورسعيد واليونان، تغري الشباب بالمال والجنسية اليونانية.(/5)
وكشف عن أنه ذهب مع محمد حجازي للغداء في منزل شخص يدعى "بيتر" بحي المطرية بالقاهرة، وأن بيتر وجه انتقادات حادة للإسلام، مستشهداً بفتوى إرضاع الكبير، وأن مضيفهما اصطحبهما إلى مكان قريب يدعى "بيت آيل"، حيث التقيا كاهناً أبلغهما أن الشيطان يتلبس جسديهما، وأنه يستطيع إخراجه، وبعد ذلك قال لهما الكاهن: إذا كنتما خائفين من توابع تحولكما للمسيحية فسوف نحميكما ونرسلكما إلى اليونان لتحصلا على الجنسية اليونانية.
وكشف أسامة الهيتمي (أمين شباب حزب العمل) أن حجازي كان وثيق الصلة بجورج إسحاق المنسق العام السابق لـ((كفاية)) ودفع له إسحاق أجرة المأذون حينما ترك منزله، وجاء إلى القاهرة للزواج من زميلته.
وقال: إن حجازي قضى ليلة واحدة عنده في المنزل، وبعدها لم يره إلا في نقابة الصحفيين، بعد حوالي 5 أشهر، وكانت هيئته قد تغيرت هو وزوجته، وبدا عليهما مظاهرُ النعيم والثراء إلى حد ما، وفسر الهيتمي ذلك بالأخبار التي قرأها بعد ذلك في الصحف عن دخول حجازي المسيحية وتركه الإسلام.
ومن ناحية أخرى اتهمت أسرة محمد حجازي المتنصر، المحامي ممدوح نخلة (مدير مركز الكلمة لحقوق الإنسان) باستغلال ضعف أحوال ابنهم المادية وإغرائه بالأموال، مقابل اعتناقه الدين المسيحي.
وقامت الأسرة بتحريك دعاوى قضائية ضد المحامي القبطي، واتهمته باستغلال الظروف المعيشية الصعبة للأسرة، وإغراء شاب فقير معروف عنه التدين وحب الإسلام بغرض تنصيره، وأن المحامي القبطي حاول التغرير بالشاب لاعتناق المسيحية، ووعده بالحصول على "جرين كارد" والإقامة في أمريكا كلاجئ سياسي، كما قررت الأسرة في الوقت نفسه تحريك دعوى قضائية ضد ابنها للحجر عليه بتهمة السفه وعدم القدرة على تحمل المسؤولية مع عرضه على طبيب نفسى لعلاجه، وهي دعوى لاقت تعاطفا كبيرا من أهل مدينة بورسعيد شمال القاهرة محل ميلاد الشاب المرتد.
• التنصير في مصر:(/6)
وهكذا يعمل المنصّرون في مصر، ويستغلون ظروف الشباب المسلم، وما يعانونه من فقر وبطالة، ويقدّمون لهم الإغراءات المادية، ويُمَنُّونهم بالشهرة والمال والثراء، في مقابل ترك الإسلام واعتناق المسيحية.
وجهودُ التنصير في مصر ليست وليدةَ اليوم، بل تعود لأكثر من مئة سنة، يوم اختارت منظمات التنصير العالمية القس زويمر زعيمًا للمنصرين في الشرق الأوسط، والذي كان يعمل في إرساليات الخليج العربي الأمريكية، ثم أصبح رئيسَ الإرسالية التنصيرية في البحرين.
فمع بداية القرن التاسع عشر، انطلقت إرساليات التنصير الأجنبية في قرى ونجوع مصر تحت مظلة (الامتيازات الأجنبية)، وأدّى حكامُ القرن التاسع عشر في مصر دورًا غريبًا في تمكين الأجانب والمحتلين والمنصّرين من البلاد، وتركوا لهم حرية العمل على إفساد العقائد والتغلغل بين أفراد الشعب.
وهذه الإرساليات التنصيرية تعد امتدادًا لحلقات الحروب الصليبية، ولكن بطرق سلمية، فبعد أن أخفقت الحملات الصليبية في مهمتها، أخذت القوى المسيحية الغربية، تعمل على تحويل العالم الإسلامي إلى المسيحية، أو القضاء على الإسلام فيه باعتباره قوة أساسية، وذلك عن طريق إرساليات التنصير، التي تقوم بمحاولات صليبية لإخراج المسلمين عن الإسلام، وإخضاع العالم الإسلامي كله للغرب وللثقافة الغربية والنفوذ المسيحي.
وبدأت حركة التنصير تظهر أعمالها في مصر، عقب الحملة الفرنسية مباشرة، عندما امتد نطاق نشاطها من جزيرة مالطة عام 1815م إلى الحبشة وفلسطين وولايات دولة الخلافة الإسلامية، التي كانت تضم في ذلك الحين 35 مليون مسلم.(/7)
وفي عهد محمد على بدأ إنشاء المؤسسات التعليمية التنصيرية الأجنبية في مصر، وذلك عام 1840م، واتسع نشاط هذه الإرساليات التنصيرية في عهد الخديوي إسماعيل، الذي شجع هذه الإرساليات إرضاءً للدول الأوربية، التي كانت تمده بالقروض التي طلبها، وركزت الإرساليات في هذا الوقت على التعليم، وذلك بإنشاء المدارس والمعاهد المسيحية، التي انتشرت بكثرة في الأقاليم المصرية، ثم على الخدمات الطبية عن طريق إنشاء كتائب طبية للتنصير.
وهكذا وطّدت الإرساليات وجودَها في مصر، وأخذت الحركة التنصيرية تمارس نشاطها من خلال بعض المراكز العلمية الأجنبية، وتحت سمع وبصر الحكومة، وفي حماية الاحتلال البريطاني، الذي سيطرت قواتُه على مقاليد الأمور في مصر منذ عام 1882م وحتى عام 1952م.
ومع بداية الاحتلال عادت الإرسالية الإنجليزية لممارسة نشاطها في مصر، التي أغلقت أبوابها رسميا عام 1862م، وعادت الإرسالية الأمريكية، وجاءت إرسالية مصر البريطانية العمومية عام 1898م، فأسست "الجمعية العامة لتبشير مصر" عام 1899م، وبدأ كرومر في معاونة الإرساليات التنصيرية الأجنبية، وظهرت الصحافة التنصيرية.
• مؤتمر القاهرة التنصيري 1906م:
ولأن المجال كان متسعا لنشاط المنصرين في مصر وللإرساليات التنصيرية الأمريكية وغيرها، التي تمتعت بنظام الامتيازات الأجنبية، انعقد في القاهرة مؤتمرٌ تنصيري، في 4 من إبريل عام 1906م بمنزل زعيم الثورة العرابية "أحمد عرابي"، وفكرة هذا المؤتمر تعود للمنصّر الأمريكي زويمر، الذي ابتكر فكرة عقد مؤتمر عام بالقاهرة، لجمعية إرساليات التنصير العالمية، للتفكير في بحث (مسألة نشر الإنجيل بين المسلمين).(/8)
وقد بلغ عدد مندوبي إرساليات التنصير التي حضرت المؤتمر 62 مندوبا، وكانت جلسات المؤتمر سرية، وتناول هذا المؤتمرُ -الذي استمر خمسة أيام ورأسَه القس زويمر- وسائلَ تنصير المسلمين، وتم وضعها في كتاب خاص، بعنوان "وسائل العمل التبشيري بين المسلمين"، وكتب على غلافه الخارجي "نشرة خاصة"؛ ليكون مقصورًا على فئة من المنصرين، لما يحويه من مؤامرة خطيرة ضد الإسلام والمسلمين، لا في مصر وحدها، ولكن في جميع أنحاء العالم الإسلامي، وهذا الكتاب من إعداد المنصّر الأمريكي القس فليمنح.
وتعرض المؤتمر للأزهر، ونعى أن باب التعليم فيه مفتوح للجميع، خصوصا وأن أوقاف الأزهر الكثيرة تساعد على التعليم فيه مجانا، وطالب سكرتير المؤتمر في مواجهة ذلك بإنشاء معهد مسيحي في القاهرة يكون في مواجهة الأزهر. وقد قيل: إن أساس إنشاء الجامعة الأمريكية في مصر كان تنفيذا لتلك التوصية.
ثم عرض المؤتمر لخريطة تنصير العالم الإسلامي في هذا العصر، وقدم القس زويمر رئيس المؤتمر، بمعاونة بعض زملائه كتابًا بعنوان: "العالم الإسلامي اليوم"، أشار فيه إلى صلابة عقيدة المسلمين وقال: "لم يسبق وجودُ عقيدة مبنية على التوحيد، أعظم من عقيدة الدين الإسلامي، الذي اقتحم قارتي آسيا وأفريقيا، وبث في مئتي مليون من البشر عقائدَه وشرائعَه وتقاليده، وأحكم عروة ارتباطهم باللغة العربية".
وقدم زويمر بعض النصائح للحاضرين في هذا المؤتمر من بينها:
أ- وجوب إقناع المسلمين أن النصارى ليسوا أعداءهم.
ب- يجب تنصير المسلمين بواسطة رسول من أنفسهم ومن بين صفوفهم؛ لأن الشجرة يجب أن يقطعها أحدُ أعضائها.
وأخيرا بشَّر المنصرين ألا يقنطوا، إذ من المحقق أن المسلمين قد نما في قلوبهم الميل الشديد إلى علوم الأوروبيين وإلى تحرير النساء.(/9)
وها هي ذي نتيجة مؤتمر القاهرة التنصيري، وما تقوم به إرساليات التنصير، فمصر اليوم -وهي أكبر دولة إسلامية في الشرق الأوسط من حيث عدد سكانها- توجد بها الجامعة الأمريكية وجامعة سنجور الفرنسية التي افتتحت منذ سنوات بالإسكندرية، كما يوجد بها مئات المدارس المسيحية التي تؤدي دورًا تنصيريًا خفيًا.
وقد تم الحصول على وثيقة منذ سنوات تكشف لأول مرة عن جمعية تسمى "جمعية الصعيد المسيحية" تدير عدة مدارس ومؤسسات مختلفة في مصر بتشجيع من السفارة الأمريكية، وظهرت إلى عالم الوجود مؤسساتٌ ثقافية ومكتبات تعرض الكتب التنصيرية بأبخس الأثمان، كما بدأت الكنائس البروتستانتية تمارس دورًا خطيرا في الحركة التنصيرية وفي مقدمتها كنيسة قصر الدوبارة القريبة جدًا من مبني السفارة الأمريكية في جاردن سيتي بالقاهرة.
وقد تضمن كتاب "العالم الإسلامي اليوم"، الذي وضعه زويمر في أثناء الاحتلال البريطاني لمصر، فصلا عن ملخّص أعمال المنصّرين البروتستانت في مصر والوسائل التي يتذرعون بها والنتيجة التي توصلوا إليها. ففي مدارس المنصرين في القطر المصري –كما ذكر الكتاب– 3000 طالب مسلم، وخمس هؤلاء من البنات المسلمات. وكانت نتيجة هذه المجهودات، أن تنصر مئة وخمسون مسلما مصريا، وأهم ما وقع من ذلك كان عام 1903 و1904م، فقد تنصر في الأولي 14 شخصا وفي الثانية 12 شخصا.
• معاهد تنصيرية:
وأهم معاهد التنصير في مصر، هو المعهد الذي أسسته جمعيةُ اتحاد مبشري أمريكا الشمالية سنة 1854م، وفي سنة 1882م تأسس في مصر معهدٌ علمي للتنصير تابعٌ لجمعية تنصير الكنيسة، وله أربعة أفرع: الأول قسم طبي، والثاني مدرسة للصبيان، والثالث للبنات، والرابع لنشر الإنجيل، وينشر مبشِّرو هذا المعهد مجلة أسبوعية، ولهم مكتبة خاصة بهم.(/10)
وبعد المعهدين السابق ذكرهما، تأتي "جمعية تبشير شمال إفريقيا"، وهذه الجمعية أسست معهدًا في مصر سنة 1892م، وأهم وظائفها تنصير المسلمين، ولها ثلاثة وكلاء في الإسكندرية واثنان في شبين الكوم، وأعمال هذا المعهد مقصورة على فتح المدارس لتعليم الإنجيل بوجه خاص، وأن يزور المبشراتُ منازل المسلمين ويجتمعن بنسائهم، وأن يوزعن المؤلفات والكتب التنصيرية على المسلمين، وأن يلقين محاضرات دينية لدرس الإنجيل في أيام الأسبوع.
وفي سنة 1898م تأسست "الجمعية العامة لتبشير مصر"، وغايتها تنصير المسلمين أيضا، ولها معاهد في الدلتا والسويس، وتدير مدارس للصبيان والبنات، وتبث فيهم مبادئ النصرانية، ولها خزائن كتب تحوي كتبا عربية ذات علاقة بالإسلام، ولها أيضا مجلة شهرية منتشرة جدا وخاصة بين المسلمين.
وأقل إرساليات التنصير أهمية في القطر المصري الإرسالية الهولندية التي توطنت في قليوب، وفي مدارسها المتعددة تلاميذُ من كل المذاهب، وهي تنشر الإنجيل في القرى بواسطة بائعي الكتب، ومن أعمالها: أنها أنشأت ملجأ للأيتام، وجهودُها موزعة بين الأولاد المسلمين والنصارى على السواء.
• وثيقة سرية:
وأمامنا وثيقة سرية عن نشاط المسيحيين في مصر، وهي عبارة عن تقرير لاجتماع سري عقده البابا شنودة مع القساوسة والأثرياء بالكنيسة المرقسية بالإسكندرية في 5 مارس 1973م، وسجلته الأجهزة الخاصة.
وقد بدأ البابا شنودة كلمته أمام الاجتماع بأن بشر الحاضرين بأن كل شيء يسير على ما يرام حسب الخطة الموضوعة والتخطيط المرسوم لكل جانب من جوانب العمل على حدة في إطار الهدف الموحد.
وتحدث في عدة موضوعات تشمل عدة نشاطات هي كما يلي:
1- عدد شعب الكنيسة:
صرح بأن مصادرهم في إدارة التعبئة والإحصاء أبلغتهم أن عدد المسيحيين في مصر أصبح ما يقارب ثمانية ملايين نسمة (يلاحظ أن ذلك عام 1973م).(/11)
والتخطيط العام الذي تم الاتفاق عليه بالإجماع، والذي صدرت بشأنه التعليمات، وضع على أساس بلوغ شعب الكنيسة إلى نصف الشعب المصري، حتى يتساوى عدد شعب الكنيسة مع عدد المسلمين لأول مرة، والمدة المحددة في التخطيط للوصول إلى هذا العدد هي بين 12-15 سنة من الآن.
ولذلك فإن الكنيسة تحرّم تحديد النسل أو تنظيمه، وتعد كل من يفعل ذلك خارجا عن تعليمات الكنيسة، ومطرودا من رحمة الرب، وقاتلا لشعب الكنيسة ومضيعا لمجدة، وذلك باستثناء الحالات التي يقرر فيها أطباء الكنيسة خطر الحمل والولادة على حياة المرأة، وقد اتخذت الكنيسة من الخطوات لتحقيق هذه الخطة بالنسبة لزيادة عدد المسيحيين ما يلي:
أ- تحريم تحديد النسل وتنظيمه بين شعب الكنيسة.
ب- تشجيع تحديد النسل وتنظيمه بين المسلمين، خاصة وأن أكثر من 65% من الأطباء وبعض الخدمات الصحية تتبع شعب الكنيسة.
ج- تشجيع الإكثار من النسل بين شعب الكنيسة، بوضع الحوافز والمساعدات المادية والمعنوية للأسر الفقيرة من شعبنا.
د- التنبيه على العاملين بالخدمات الصحية على المستوى الحكومي وغير الحكومي بمضاعفة الخدمات الصحية بين شعبنا المسيحي، وبذل العناية والجهد الوافرين، وذلك من شأنه تقليل نسبة الوفيات بين شعبنا المسيحي على أن يكون تصرفهم غير ذلك مع المسلمين.
هـ- تشجيع الزواج بالسن المبكر بتخفيض تكاليفه، وذلك بتخفيض رسوم فتح الكنائس، ورسوم الإكليل بالكنائس الكائنة بالأحياء الشعبية.(/12)
و- تحرم الكنيسة تحريما باتا على أصحاب العمارات والمساكن تأجير أي مسكن أو شقة أو محل تجاري للمسلمين، ويعد من يفعل ذلك من الآن مطرودا من رحمة الرب ورعاية الكنيسة، كما يجب العمل بشتى الوسائل على إخراج المسلمين الذين يسكنون العمارات والبيوت المملوكة لشعب الكنيسة، وهذه السياسة الإسكانية إذا استطعنا تنفيذها بقدر الامكان فإن من شأنها تشجيع الزواج بين الشباب المسيحي، وتصعيبه وتضييقه بقدر الإمكان على المسلمين، والغرض من هذه القرارات هو انخفاض معدل الزيادة بين المسلمين، وارتفاع هذا المعدل بين الشعب المسيحي.
2- اقتصاد شعب الكنيسة:
وعن اقتصاد المسيحيين في مصر قال البابا شنودة: إن المال يأتينا مما نطلب، وأكثر مما نطلب، من ثلاثة مصادر هي: أمريكا والحبشة والفاتيكان، ولكن يجب أن يكون الاعتماد الأول في تخطيطنا الاقتصادي على مالنا الخاص الذي نجمعه من الداخل وبالتعاون والزيادة من فعل الخير بين أفراد الشعب المسيحي.(/13)
كذلك يجب الاهتمام بشراء الأراضي وإعطاء القروض والمساعدات لمن يقومون بذلك لمساعدتهم على البناء، وقد أثبتت الإحصاءات الرسمية أن أكثر من 60% من تجارة مصر الداخلية بأيدي المسيحيين، ويجب العمل على زيادة هذه النسبة، وتخطيطها في المستقبل يركز على إفقار المسلمين، ونزع الثروة من أيديهم بالقدر الذي يؤدي إلى إثراء شعبنا. لذلك يلزم المداومة على تذكير شعب الكنيسة والتنبيه عليهم مشددا من حين لآخر لمقاطعة المسلمين اقتصاديا والنهي عن التعامل معهم تماما إلا في حالات الضرورة، وذلك يعني مقاطعة المسلمين ممن هم في سلك المحاماة والمحاسبين والمدرسين والأطباء والصيادلة، وكذلك مقاطعة العيادات والمستشفيات التي يملكونها والمحلات التجارية والجمعيات الاستهلاكية ما أمكن، وما دام يمكن التعامل مع شعب الكنيسة لسد حاجتهم، وكذلك مقاطعة صناع المسلمين وحرفييهم والتعامل مع الصناع والحرفيين المسيحيين، ولو كلف ذلك الفرد الجهد والمشقة.
3- الجانب التعليمي:
وأما التعليم فقال البابا شنودة: يجب الاهتمام بالسياسة التعليمية حاليا في الكنائس مع مضاعفة الجهد، خاصة وأن بعض المساجد بدأت تقوم بمهمات تعليمية كالتي تقوم بها كنائسُنا، وذلك سيجعل مضاعفة الجهود المبذولة أمرًا حتميا حتى تستمر النسبة التي نحصل عليها من مقاعد الجامعات وخاصة الكليات العملية. ولقد وصلت نسبة الوظائف الخطيرة العامة كالطب والهندسة والصيدلة إلى أكثر من 60% من الشعب المسيحي.
4- التبشير:(/14)
وعن التبشير الذي تقوم به الكنائس في مصر قال شنودة: يجب مضاعفة الجهود التبشيرية الحالية، والخطة التنصيرية التي وضعت بنيت على أساس أن الهدف الذي اتفق عليه من التبشير في المرحلة القادمة هو التركيز على التبشير بين الفئات والجماعات أكثر من التبشير بين الأفراد، وذلك لزحزحة أكبر عدد من المسلمين عن دينهم، وألا يكون من الضروري دخولهم في المسيحية، ويكون التركيز في بعض الحالات على زعزعة الدين في نفوس المسلمين وتشكيك الجموع الفقيرة في كتابهم وفي صدق نبيهم. على أن يراعى في تنفيذ هذا المخطط أن يتم بطريقة "لبقة ذكية" حتى لا يكون ذلك سببا في إثارة حفيظة المسلمين ويقظتهم؛ لأن هذه اليقظة من شأنها أن تفسد علينا مخططاتنا المدروسة وتؤثر في نتائجها وثمارها وتضيع جهودنا هباء.
لذلك فقد أصدرت التعليمات بهذا الخصوص، وستنشر في جميع الكنائس لكي يتصرف الجميع من شعبنا مع المسلمين بطريقة ودية لا تثير غضبهم. كما تم التنبيه على رعاة الكنائس والآباء والقساوسة لمشاركة المسلمين احتفالاتهم الدينية وتهنئتهم بأعيادهم وإظهار المودة والمحبة لهم، وعلى شعب الكنيسة في المصالح والوزارات والمؤسسات وكل أماكن الاحتكاك بإظهار هذه الروح لمن يخالطونهم من المسلمين.
ثم قال البابا شنودة: "إننا يجب أن ننتهز ما هم فيه "يقصد المسلمين" من نكسة ومحنة؛ لأن ذلك في صالحنا، ولن نستطيع إحراز أية مكاسب أو أي تقدم إذا انتهت المشكلة مع إسرائيل سواء بالسلم أو الحرب".
وقد أصر البابا على أن يتقدم رسميا إلى الحكومة المصرية بالمطالب التي عددها في الآتي:
1- أن يصبح مركز البابا الرسمي في البروتوكول السياسي للدولة بعد رئيس الجمهورية وقبل رئيس الوزراء.
2- أن يخصص لهم ثمانية وزارات في الوزارة.
3- أن يحدد لهم ربع القيادات العليا في الجيش والبوليس.(/15)
4- أن يحدد لهم ربع القيادات المدنية كرؤساء مجالس المؤسسات والشركات والمحافظين ووكلاء الوزارات والمديرين ورؤساء مجالس المدن.
5- أن يؤخذ رأي البابا عند شغل هذه النسبة في الوزارات والمراكز العسكرية والمدنية الرئيسية، وسيكون له حق ترشيح بعض العناصر والتعديل.
6- أن يسمح لهم بإقامة إذاعة خاصة بهم من تمويلهم الخاص.
7- أن يسمح بإقامة جامعة خاصة بهم. وقد وضعت الكنيسة بالفعل تخطيطَ هذه الجامعة، وهي تضم معاهدَ للاهوت والكليات العملية والنظرية.
وهكذا يفكر المسيحيون في مصر، ويخططون منذ ما يقرب من 35 عاما، ولعل مطالبهم هذه قد تحقق منها الكثيرُ، على المستوى السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وها هي ذي جهودهم التنصيرية واضحة، ويبذلون في سبيلها الغالي والرخيص، لكي يحاربوا الإسلام من خلال أبنائه الذين يغرونهم بالمال والشهرة والثراء.
وللحديث عن مخطط التنصير بقية في المقالات القادمة إن شاء الله.
• المراجع:
1- الجذور التاريخية لإرساليات التنصير الأجنبية في مصر – الدكتور خالد محمد نعيم – دار المختار الإسلامي – القاهرة 1988م.
2- أساليب الغزو الفكري للعالم الإسلامي – الدكتور علي جريشة ومحمد شريف الزيبق – دار الاعتصام – الطبعة الأولى – القاهرة.
3- ما يجب أن يعرفه المسلم من حقائق عن التبشير والنصرانية – محمد السليمان الجبهان – الرياض 1976م.
4- الزحف إلى مكة – الدكتور عبد الودود شلبي – دار الزهراء للإعلام العربي – الطبعة الأولى – القاهرة 1989م.
5- الغارة على العالم الإسلامي – أ.ل شاتليه.
6- حبس عادل وبيتر المتهمين بتنصير ((حجازي)) 15 يوماً - جريدة المصري اليوم - 11/8/2007م.
7- موقع منظمة أقباط الولايات المتحدة - 6/8/2007م.(/16)
العنوان: التنقيح - نصّ عالمي صيني
رقم المقالة: 1580
صاحب المقالة: مترجم عن الصينية
-----------------------------------------
التنقيح
"نص عالمي"
بأسلوب يميل إلى السهولة، قام الدكتور عابد إسماعيل بترجمة كتاب لطيف، بعنوان "فن الكتابة، تعاليم الشعراء الصينيين"؛ ليكون نافذة لنا على أدب نجهله، وغوصًا في أسرار الكتابة وأنواعها.. ولنقرأ –بتمعن- هذا المقطع القصير البليغ الذي يتحدث عن فائدة وطريقة تنقيح الكتابة:
التنقيح
"نصّ نقدي أدبي، مكتوبٌ بالصينية شِعراً، لـ: لو - جي"
يمكن للجملة أن تناقض ما سبقها،
أو تنتهك ما يليها.
أحيانًا تكون الفكرة جيّدة؛ غير أن الكلمات تخونها،
ويمكن للكلمات الجيدة أن تكون بلا معنى.
في حالات كهذه، من الحكمة أن تفرق بين الجملتين،
بما أنهما يضران ببعضهما إذا وُضِعَتَا معًا.
مسألة حسَّاسة أنْ تُقَرّر: أيُّ فِكرةٍ أو كلمة هي الأنسب!
اختلافٌ يكاد يكون أوْهَى من زغب السنبلة.
زِنْ كلّ كلمة وفق ميزان؛
استخدمْ خَيْطًا حاسبًا حين تَقُصُّ وتقطع.(/1)
العنوان: التوازن والإنجاز في حياة الشيخ بكر أبو زيد
رقم المقالة: 2032
صاحب المقالة: عبدالعزيز الحمد
-----------------------------------------
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله
أما بعد:
ففي يوم الثلاثاء، السابع والعشرين من شهر الله المحرم لعام 1429هـ فقدت الأمةُ الإسلامية علماً من أعلامها ومجاهدًا من مجاهديها بقلمه وكتبه، ولقد شهدت جنازتَه جموعٌ غفيرة، نسأل الله أن يخلف الأمة خيرًا.
وإن المتأمل لسيرة العلامة المتفنن الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد ليجد فيها مثالاً حيًّا للتوازن والإنجاز، وهذه الصفة من الأهمية بمكان خاصة في هذا الزمان، فمع صورٍ شاهدة لهذا:
- ففي مجال الحياة العامة: نجد الشيخ ممن تزوج وأنجب وأثمر أبناء صالحين؛ نسأل الله تعالى ذلك.
- كما أن الشيخ ممن تدرّج في السلك التعليمي حتى حصل درجة العالمية العالية (الدكتوراه)، ويُذكر أن من نصائح الشيخ ألا يبدأ طالب العلم بالنشر إلا بعد هذه الدرجة، والشيخ تخرج عام 1387/1388هـ في كلية الشريعة بالرياض (منتسبًا)، وكان ترتيبه الأول، وكان في عام 1384هـ قد انتقل إلى المدينة المنورة، فعمل أميناً للمكتبة العامة بالجامعة الإسلامية.(/1)
- وفي مجال العمل الإداري: فإن الشيخ منذ سلوكه المجالَ الوظيفي ما زال يتنقل من منصب إلى آخر؛ فعمل أميناً للمكتبة العامة بالجامعة الإسلامية عام 1384هـ، ثم اختير للقضاء بعد تخرجه في الجامعة عام 1387/1388هـ، ودرّس في المسجد النبوي قرابة عشر سنوات، ثم صار إمامًا وخطيبًا في المسجد النبوي، ثم اختير وكيلاً لوزارة العدل، ثم اختير عضوًا في اللجنة الدائمة للإفتاء، ثم عمل رئيسًا لمجمع الفقه الإسلامي الدولي بجدة المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي؛ مع عضويته في المجمع الفقهي برابطة العالم الإسلامي، مع مشاركاته في عدد من اللجان والمؤتمرات داخل وخارج المملكة، ودرس في المعهد العالي للقضاء وفي الدراسات العليا في كلية الشريعة بالرياض - كل هذا مع إنتاج الشيخ المتميز والمحرر في عطاءاته كافة.
- وفي مجال التأليف خاصة: نجد أن للشيخ مشاركةً في مجالات عدة -تحقيقاً كان أو تأليفا- فله مشاركة في العقيدة والحديث والفقه وخاصة النوازل، والدعوة والفكر واللغة والسلوك والأدب والتاريخ والأنساب والمعارف العامة، وما زالت بعضُ كتب الشيخ مخطوطةً لم تطبع حتى الآن، كل هذا مع إبداع علمي يمتاز بالاستقراء والتقصي، فلم يطغَ فنٌّ على آخر، فله في كل بستان زهرة.
- ومن الأشياء التي تميز بها الشيخ: رعايته للعمل العلمي الجماعي من خلال إصدار آثار شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، والشنقيطي.
- مشاريع العمر عند الشيخ بكر أبو زيد: ومع هذا العطاء المتدفق والمتنوع، إلا أن للشيخ مشاريعَ بذل نفسه ووفّر جهده وحياته لها؛ ومما أمكن الوقوف عليه -مما نص الشيخ عليه- مشروع: (التأصيل لأصول التخريج وقواعد الجرح والتعديل)، طبع منه الجزء الأول ، فقد قال عنه: "أما بعد: فهذا كتاب أُراه من (مشاريع العُمر) سميته: (التأصيل لأصول التخريج وقواعد الجرح والتعديل)" ا.هـ. [التأصيل، ص7].(/2)
نسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يرفع درجة الشيخ في المهديين، ويعلي ذكره في الغابرين وأن يخلف الأمة خيراً، إنه سميع مجيب.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(/3)
العنوان: التَّوْحيد أولاً (لو كانوا يعلمون)
رقم المقالة: 1989
صاحب المقالة: الشيخ سعود الشريم
-----------------------------------------
التَّوْحيد أولاً (لو كانوا يعلمون)
ملخَّص الخطبة:
1- إبراهيم يبني البيت العتيق لحماية جناب التَّوْحيد.
2- بعثة الرَّسول – صلَّى الله عليه وسلَّم - لتطهير البيت من الشِّرك والوثنيَّة.
3- عبادةُ الحجِّ مدرسةٌ في غَرْس التَّوْحيد.
4- التَّوْحيد دعوةُ جميع الأنبياء.
5- معنى كلمة التَّوْحيد.
6- ضعف التَّوْحيد ضعفٌ لأمَّة الإسلام.
7- من صور الشِّرك: سؤال الموتى وعبادتهم وتعليقاتهم، ومعرفة الغَيْب عن طريق الأبراج.
8- النصوص تدعو إلى التحرُّر من الشِّرْك.
-------------------------
الخطبة الأولى
أما بعد:
فأوصيكم أيُّها النَّاس ونفسي بتقوى الله - عزَّ وجلَّ - فتقوى الله تعالى هي وصيته للأوَّلين والآخِرين: {وَللَّهِ مَا فِي السَّمَاواتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللَّهَ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ للَّهِ مَا فِي السَّمَاواتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا} [النساء: 131].
أيُّها النَّاس:(/1)
من أجل التَّوْحيد بني بيت الله العتيق، الذي رفع قواعده إبراهيم خليل الرَّحمن وابنه إسماعيل - عليهما السَّلام - وما برح هذا البيت العتيق يطاول الزَّمان وهو شامخ البنيان، في مَنَعَةٍ من الله وأمان، تتعاقب الأجيال على حجَّه، ويتنافس المسلمون في بلوغ رحابه، ففي جواره التَّوْحيد، وفي رحابه الأمن والخير والبركة: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْراهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج: 26]، {وَإِذْ قَالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأصْنَامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاس فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [إبراهيم: 35-36].
لقد أُرْسِلَ المصطفى بنورٍ ساطعٍ وضياءٍ لامعٍ، أضاء به الطَّريق وأوضح به السَّبيل، طهَّر الله به جزيرةَ العرب من رجس الوثنيَّة، وهَيْمَنَة الأصنام، وكان كبير الأصنام هُبَل بأعلى مكة، وحوله ثلاثمائة وستون صنمًا، كلُّها من الحجارة، فطعن فيها المصطفى - صلوات الله وسلامه عليه - بيده الشَّريفة حين دخوله الكعبة يوم الفتح، وهو يردِّد قول الله تعالى: {وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء:81][1]. وبعض المسلمين كان يردِّد: يا عُزَّى كفرانكِ لا غفرانكِ، إني رأيتُ الله قد أهانَكِ!!
وفي الحج - أيُّها المسلمون - معانٍ كبيرة من معاني التَّوْحيد، تمثَّلت في منع المشركين من دخول المسجد الحرام: {يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28].(/2)
وبَعَثَ المصطفى سنةَ تسعٍ مَنْ ينادي: ((ألاَّ يطوف بالبيت عريانٌ، وألاَّ يحجَّ بعد العام مشركٌ))؛ متَّفقٌ عليه[2].
وتمثَّل التَّوْحيد في الحجِّ في رفع الأصوات بالتَّلبية ونفي الشَّريك عن الله: ((لبَّيْكَ اللَّهمَّ لبَّيْكَ، لبَّيْكَ لا شريك لكَ لبَّيْكَ، إنَّ الحمد والنِّعمة لكَ والمُلْك، لا شريكَ لكَ)). وبهذه التَّلبية قضى المصطفى على تلبية أهل الشِّرك التي كانوا يردِّدونها إبَّان حجِّهم، ويقولون: ((لبَّيْكَ لا شريك لك، إلاَّ شريكًا هو لك، تملكه وما ملك)). تعالى الله عمَّا يقولون علوًّا كبيرًا.
لقد تمثَّل التَّوْحيد في الحجِّ في ركعَتَي الطَّواف،حين يقرأ المسلم في أولاهما بـ: {قُلْ يا أيُّها الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1]. وفي الأخرى بـ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1][3].
كما تمثَّل التَّوْحيد في الحجِّ – أيضًا - في خير الدعاء، وهو دعاء يوم عرفة، حينما قال عليه الصَّلاة والسَّلام -: ((خير الدُّعاء دعاءُ يوم عرفة، وخير ما قلتُ أنا والنبيُّون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له المُلْك وله الحمد وهو على كل شيءٍ قدير))؛ رواه التِّرمذيُّ[4].
وتمثل التَّوْحيد في الحجِّ فيما شرعه الله من ذِكْرِه وحده يوم العيد وأيام التَّشريق: {وَاذْكُرُواْ اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُوداتٍ} [البقرة: 203]، {فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} [البقرة: 200].
أيُّها النَّاس:(/3)
إنَّ التَّوْحيد الخالص هو لباب الرِّسالات السَّماوية كلِّها، وهو عمود الإسلام وشعاره الذي لا ينفكُّ عنه، وهو الحقيقة التي ينبغي أن نَغارَ عليها ونصونها من كلِّ شائبةٍ، وهي الدعوة التي دعا إليها جميع الأنبياء والمرسلين من نوحٍ إلى محمَّد – عليهم صلوات الله وسلامه -: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36].
والطَّاغوت هو: كلُّ ما تجاوز به العبد حدَّه من معبودٍ أو متبوعٍ أو مُطاعٍ؛ فطاغوت كلِّ قومٍ مَنْ يتحاكمون إليه من دون الله ورسوله، أو يعبدونه من دون الله، أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه ليس من طاعة الله، أو يتبعونه على غير بصيرةٍ من الله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ} [النساء: 60]، {وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} [البقرة: 257]، {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} [النساء: 51].
عباد الله:
على كلمة التَّوْحيد الجليلة بنى المصطفى - عليه الصَّلاة والسَّلام - أمَّته، وأقام دعوته وشيَّد صرحها، وأنشأ جيلاً يوحِّد الواحد الأحد، ويبرأ من كلِّ الشُركاء المزعومين، فكلمة التَّوْحيد (لا إله إلا الله) هي الحادي الذي لا يُمَلُّ نداؤه، ولا يتلاشى صداه، وعندما يردِّدها الموحِّد فهو يقصد أمرَيْن عظيمَيْن:
أوَّلهما: إحقاق الحقِّ وإبطال الباطل؛ لأنَّ معنى الكلمة: لا معبود بحقٍّ إلا الله؛ فكلُّ ما خلا الله فهو باطلٌ، وما هو إلا وهمُ عقولٍ مختلَّةٍ، أو خداع حواسٍّ معتلَّةٍ.(/4)
وثانيهما: ضبط السُّلوك البشريُّ داخل نطاق هذا التَّوْحيد الخالص المنبثِق من كلمة التَّوْحيد، المشروطة بسبعة شروط متمثِّلة في العلم بمعناها، وهو أنه: لا معبود بحقٍّ إلاَّ الله، ومتمثِّلة كذلك في اليقين المنافي للشكِّ، والإخلاص المنافي للشِّرْك، والصِّدق المنافي للكذب، والقبول المنافي للرَّدّ، والانقياد المنافي للتَّرْك، والمحبَّة المنافية للبغض، وباجتماع ذلك تتوحَّد العبادة بكلِّ صورها؛ بحيث لا تكون إلا لله، فلا استنصارَ إلا بالله، ولا توكُّلَ إلا على الله، و لا رغبةَ ولا رهبةَ ولا خوفَ ولا رجاء إلاَّ بالله ومِنَ الله، ومن ثَمَّ يشعر الموحِّد من أعماق قلبه أنَّ ما دون الله هباءٌ، فلا تروعه سطوةُ ساطٍ، ولا تخدعه ثروة غنيٍّ، ويستحيل عنده أن يُغْلَبَ اللهُ على أمره، أو أن يُقْطَعَ شيءٌ دونه، فالتعلُّق بغير الله عجزٌ، والتطلُّع إلى سواه ضلالٌ لاحقٌ: {وَللَّهِ غَيْبُ السَّمَاواتِ وَالأرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأمْرُ كُلُّهُ} [هود: 123].
ومن هنا يظهر الفرق شاسعًا بين الموحِّد وبين المشرك، فالموحِّد عَرَفَ خالقه فعبده حقَّ عبادته، والمشرك مكفوف البصيرة، تائهٌ عن وليِّ نعمته، نعوذ بالله من الضَّلال بعد الهدى.
أيُّها النَّاس:(/5)
التَّوْحيد في القديم وفي الحديث أوَّلَه النَّاس بتعدُّد الآلهة - وهي المعبودات - وتعدُّد الآلهة خرافةٌ هزيلةٌ لفظها الإسلام بقوَّة، ونبذها نبذ المسافر فضلةَ الأَكْل، وتتبَّع أوهام النَّاس فيها وَهْمًا وَهْمًا، فكشف الظُّلمة ودحض الشبهة، ولا عجب؛ فالتَّوْحيد الخالص شعار الإسلام الأوَّل في ميدان الاعتقاد والعمل، به عُرِفَ، ومن أجله حُورِبَ، وعليه دار جدلٌ طويلٌ بين أهل الحقِّ وأهل الباطل: {إِنَّ إلهكُمْ لَوَاحِدٌ * رَّبُّ السَّمَاواتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ} [الصافات: 4-5]، {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} [المؤمنون: 91].
إنَّ التَّوْحيد الخالص هو أفضل طلبة، وأعظم رغبة، وأشرف نِسبة، وأسمى رُتبة، هو وسيلة كلِّ نجاحٍ، وشفيع كلِّ فلاحٍ، يُصيِّر الحقير شريفًا، والوضيع غِطْرِيفًا، يطوِّل القصير، ويقدِّم الأخير، ويعلِّي النَّازل، ويُشْهِر الخامل، ما شيَّد مُلْكٌ عتيدٌ إلا على دعائمه، ولا زال إلا على طواسمه، ما عزَّتْ دولةٌ إلاَّ بانتشاره، ولا زالت إلاَّ باندثاره.
وإنَّ معظم الشُّرور والنَّكبات التي أصابت أمَّة الإسلام، وأشد البلايا التي حلَّت بها - كانت بسبب ضعف التَّوْحيد في النفوس، وما تسلَّط مَنْ تسلَّط من الأعداء، وتَعَجْرَفَ مَنْ تَعَجْرَفَ، وغار مَنْ غار على حياض المسلمين، واستأصل شأفتهم، واستباح حرماتهم، وأيَّم نساءهم، ويتَّم أطفالهم - إلاَّ بسبب ضعف التَّوْحيد، وما هجم التَّتار على ديار الإسلام وفعلوا بهم ما فعلوا، إلا بفقد التَّوْحيد؛ بل لقد بلغ ضعف التَّوْحيد في النفوس مبلغًا عظيمًا إبَّان الهجوم التَّتَريِّ لبلاد الإسلام، حتى لقد قال بعض المسلمين من الهَلَع والجزع:
يَا خَائِفِينَ مِنَ التَّتَر(/6)
لُوذُوا بِقَبْرِ أَبِي عُمَرْ!
عُوذُوا بِقَبْرِ أَبِي عُمَرْ
يُنْجِيكُمُ مِنَ الضَّرَرْ!
{كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا} [الكهف: 5].
أيُّها النَّاس:
يعيش المسلمون في زمان هرمٌ خيرُه، شباب شرُّه، نائمٌ رشاده، صاحٍ فساده، قليلٌ مُنْصِفُه، كثيرٌ مُتَعَسِّفُه، أَفَلَتْ فيه شمس التَّوْحيد ونجمه، ودجا فيه ظلام الشِّرك وظُلَمُه؛ فتقدَّم متأخِّرُه، وتأخَّر متقدِّمُه، تلاعبت بأهله الأهواء، ومزَّقَت جماعتهم النِّحل والآراء، ركب كلٌّ منهم هواه وكافح، فصادموا المنقول، وخالفوا المعقول، فاخر ضُلاَّلُهم بما يبرزون من الضَّلاَل، ويبدعون من الزّيغ، وصار الشُّجاع العاقل هو المُجاهِر بالغرائب والمصائب، والأديب الملهَم هو الدَّاعي إلى البدع المضلَّة، فعَظُمَ الوَيْل، واتَّسَعَ الخَرْق، واغْتَلَمَ الدَّاء، وأَعْوَزَ الدَّواء.
هم قومٌ أزياؤهم أزياء الأُناسي، وصورهم صور العقلاء، ونفوسهم نفوس العجماوات، وأخلاقهم أخلاق الطَّيْر، يتهافتون على الغفلة، تهافُت الفَرَاش على النِّبراس، ويَأْرِزُونَ إلى النَّقيصة أُرُوزَ الدُّود إلى المَيْتَة، مع قَرْمٍ وجَعْمٍ، واحتدامٍ وضرْمٍ، بهؤلاء وأمثالهم، ولدت أمُّ الغباء، وعقمت أمُّ الذَّكاء: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مّنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: 179].(/7)
لقد ابتُلِيَ كثيرٌ من النَّاس بالجهل بالتَّوْحيد؛ فانحازوا إلى أصحاب القبور، والتجؤوا إليهم، وتضرعوا أمام أعتابهم، فقبَّلوها وتمسَّحوا بها، واستغاثوا بأهلها في الشَّدائد والكروب؛ بل لقد كثر مروِّجوها والدَّاعون إليها من قبوريِّين ومخرِّفين، الذين يخترعون حكايات سَمِجَة عن القبور وأصحابها، وكرامات مختلَقَة لا تمتُّ إلى الصحَّة بنصيب، والذين ينشدون القصائدَ الطَّافحة بالاستغاثات والنداءات، التي لا تصلح إلا لفاطر الأرض والسماوات؛ بل لقد طاف بعض النَّاس بالقبور كما يُطاف بالكعبة المعظَّمة، وأوقفوا الأموال الطَّائلة على تلك الأضرحة، حتى إنَّه لتجتمع في خزائن بعض المقبورين أموالٌ تُعَدُّ بالملايين، ولقد أحسن القائل:
أَحْيَاؤُنَا لا يُكْرَمُونَ بِدِرْهَمٍ وَبِأَلْفِ أَلْفٍ يُكْرَمُ الأَمْوَاتُ
لقد قصَّر أناسٌ مع التَّوْحيد؛ فتقاذفتهم الأهواء، واستولت عليهم الفِتَن والأدواء، فمن مفتونٍ بالتَّمائم والحُرُوز، يعلِّقها عليه وعلى عياله، بدعوى أنها تدفع الشرَّ، وتذهب بالعَيْن، وتجلب الخير، والله تعالى يقول: {وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ} [الأنعام: 17].
وقد رأى النبيُّ – صلَّى الله عليه وسلَّم - رجلاً في يده حَلْقَةٌ من صفر، فقال: ((ما هذا؟)). قال: من الواهنة. فقال: ((انْزعها؛ فإنها لا تزيدُكَ إلا وهنًا؛ فإنَّكَ لو متَّ وهي عليكَ ما أفلحتَ أبدًا)). رواه أحمد بسندٍ لا بأس به[5].
ولأحمد – أيضًا - عن النبيِّ – صلَّى الله عليه وسلَّم - أنَّه قال: ((مَنْ تعلَّق تميمةً؛ فلا أتمَّ الله له))[6]، وفي روايةٍ: ((من تعلَّق تميمةً فقد أشركَ))[7].(/8)
وإنَّ من المسلمين من قد افتتن بالمشعوِذين والدَّجاجلة الأفَّاكين، الذين يأكلون أموال النَّاس بالباطل بدعوى أنَّهم يكاشفونهم بأمور الغَيْب، فيما يسمَّى مجالس تحضير الأرواح أو قراءة الكف والفنجان، ليكاشفوا النَّاس - على حدِّ زعمهم - عمَّا سيحدث في العالم خلال يومٍ جديد، أو أسبوع سيُطِلّ، أو شهرٍ أوشك حلوله، أو عام مرتقبٍ: {قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاواتِ والأرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النمل: 65]. قال رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مَنْ أتى عرَّافًا أو كاهنًا فصَدَّقَه بما يقول؛ فقد كفر بما أنزل على محمَّدٍ – صلَّى الله عليه وسلَّم -))؛ رواه الأربعة والحاكم[8].
وإنَّ من النَّاس - يا عباد الله - مَنْ هو مفتونٌ بمستقبل الأبراج، فيمضي عاصِبَ العينَيْن فاقدَ البصيرة خلف قرَّاء الأبراج، الذين يدَّعون أنَّ السَّعادة كامنةٌ في أصحاب برج الجَدْي، والغنى مستقرٌّ في أصحاب برج العقرب، أما أصحاب برج الجوزاء فيا لتعاسة الحظِّ وخيبةَ الأمل ... إلى غير ذلك من سيل الأوهام الجارف، والخزعبلات المقيتة: {أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُم بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} [الطور: 38]، أَمْ عِندَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُواْ هُمُ الْمَكِيدُونَ * أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الطور: 41-43].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ...
الخطبة الثَّانية
الحمد لله، حمدًا كثيرًا طيِّبًا مباركًا فيه، كما يحبُّ ربُّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمَّدًا عبده ورسوله، وعلى آله وصحبه ومَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدِّين.
أمَّا بعد:(/9)
فاتَّقوا الله معشر المسلمين، واعلموا أنَّ التَّوْحيد هو حقُّ الله على العبيد، وهو إفراد الله بالعبادة، والعبادة: اسمٌ جامعٌ لكلِّ ما يحبُّه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظَّاهرة والباطنة.
والتَّوْحيد هو دين الرُّسل، من أوَّلهم - وهو نوحٌ عليه السلام - إلى آخِرهم وخاتمهم - وهو محمد صلَّى الله عليه وسلَّم - فمَنْ أنكره أو قصَّر في معرفته فهو مزوِّرٌ كبير، ومبطِلٌ جريءٌ.
فيا وَيْحَ مَنْ تعلَّق بغير الله أو عبد معه غيره ورضيَ به ممَّا هو ترابٌ فوق ترابٍ، يا وَيْحَهُ ... ماذا دهاه؟!
إنَّ أسلافه الأماجد لم يقنعوا بهذا العالم كلِّه مطلبًا وغايةً، حتى عقدوا من أسيافهم وصالح أعمالهم درجاتٍ يمتطون بها ثَبَجَ الهواء، ويشقُّون بها حواجز المادة الجافَّة؛ ليتَّصلوا بخالقهم ورازقهم. فما هذا التعلُّق والرِّضا بالتُّراب؟!
لقد كان المشرك الدَّنِس يتلقى لا إله إلا الله فتتمشَّى فيه، فتعقِّم جسمه ونفسه، وتطهِّرها من معاني الشهوة والفسوق، فيروح ويغدو كأنَّه مَلَكٌ في أثواب إنسان، فما للمتعلِّق بغير الله ومساءلة الأطلال الفانية؟ {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاس كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 122].
لقد كان الموحِّد يتلو قول الله: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ} [الزمر: 36]؛ فيحمل سيفه المُثْلَّم، ورمحه المحطَّم، فيُسايف الأبطال المغاوير، فيُقذف في غمرات الجهاد، يُطعَن ويُضرَب، وصدره يعي هذه الآية، فما للمتعلِّق بغير الله وخشية التُّراب؟!(/10)
لقد كان الموحِّد يقرأ قول الله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 18]؛ فتَحُول هذه الآية بينه وبين الخَلْق جميعًا، وتسدُّ عليه طريق أَلَمِه، ولا يكشف لغير الله عن موضع علَّته، ولا تُسمَع منه أذنٌ مخلوقةٌ قَوْلَةَ: (آه)، حتى بايعهم المصطفى على ألاَّ يسألوا النَّاس شيئًا كما في "صحيح مسلم"، فما لهذا المتعلِّق بغير الله ودعوة الأموات والشكوى إلى الرَّميم والعظام النَّخِرَة؟!
وَيْحَ مَنْ تعلَّق بغير الله أو رجا غيره! شرب المؤمنون صفوًا، وشرب هو كدرًا، ودعوا هم ربًّا واحدًا، ودعا هو ألف ربٍّ: {أَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [يوسف: 39].
رفع المؤمنون أبصارهم إلى ربِّ السَّماء، ونكس هو طرفه إلى الثَّرى، وأين الثَّرى من السَّماء؟! وأين عابد الأموات من عابد الحيِّ الذي لا يموت: {هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ للَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} [الزمر: 29]؟!
هذا وصلُّوا - رحمكم الله - على خير البريَّة وأفضل البشريَّة.
ــــــــــــــــــــــــ
[1] أخرجه البخاري ح (2478)، ومسلم ح (1780).
[2] أخرجه البخاري ح (369)، ومسلم ح (1347).
[3] صحيحٌ، أخرجه الترمذي ح (431)، وقال: حديث غريب. وابن ماجه ح (1166) عن ابن مسعود أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ بهاتين السورتين في السنَّة التي بعد المغرب.
[4] حسنٌ، سنن الترمذي ح (3585).
[5] مسند أحمد (4/445).
[6] مسند أحمد (4/154) وفي إسناده: خالد بن عبيد المعافري. ذكر ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (1/342) أنه لم يرو عنه سوى حَيْوَةَ بن شُرَيْح؛ فهو مجهول. انظر: السلسلة الضعيفة (1266).
[7] صحيح، مسند أحمد (4/156).(/11)
[8] صحيحٌ، سنن أبي داود (3904)، سنن الترمذي ح (135)، وأخرجه النسائي في السنن الكبرى ح (9017)، وابن ماجه ح (639) والحاكم (1/8) وقال: صحيح على شرطهما. ووافقه الذهبي.(/12)
العنوان: التوفيق بين منهج علماء الحديث
وأرباب البيان في الرواية
رقم المقالة: 947
صاحب المقالة: د. حيدر عيدروس علي
-----------------------------------------
الرواية بين التجريد، والخيال
دراسة توفيقية بين منهج علماء الحديث، وأرباب البيان
امرأة في وادي الجن (قصة واقعية قصيرة جدا):
اضطُرَّت لزيارة أهلها لأمر هام بلَغَها، فتهيأت، وركبت، ثم ولَّت وجهها شطرَ ديار العشيرة، حتى إذا لفَّها الليلُ، وأيقنت أن قد ضلَّت، ضربت خباءَها على رَهْوٍ بين أشجار الأراك، في وادٍ لا أنيسَ به، بعد أن عجَزت عن الاهتداء بالنجم إلى حيث تريد.
وما كادت جفونُها تلتقي حتى ناداها من تحتها قائلٌ: ((لقد آذيتِني يا بنت قسيوي، فأنا حاملٌ منذ تسعة، وقد كُرِبَت النِّسْعة[1])). فلم ترتعب بنت قسيوي برغم أنها أدركت - وفي الوهلة الأولى - أن محدثها من الجن، فقامت وتركت ذلك الموضع إلى موضع آخر. وغيرَ بعيد وضعت متاعَها مرة أخرى، وفرشت وتهيأت للنوم، ولم تكد عيناها تغمضان حتى سمعت الكلمات نفسها من تحتها أيضا. فانتقلت مرة أخرى لمكان قريب.
ثم تكررت الكلمات في سمعها للمرة الثالثة، وعندها أقسمت بنت قسيوي بلعنة أبيها إن هي قامت من مكانها مرة أخرى قبل أن يبزغ الفجر، لتعلم أين هي من ديار العشيرة.
(انتهت)
الدراسة التوفيقية للقصة:(/1)
تلك قصةٌ سمعتها في الصغر من والدتي - رحمها الله - وهي قصة واقعية حدثت في منطقتنا[2]، قصَّتها عليَّ أمي الحبيبة بالعامية المحلية التي يضرب كثير من مفرداتها في عمق الكلام العربي الفصيح، بل يوجد في كثير من مفرداتها أيضاً ما هو من غريب الفصيح، الذي قد يُضطَرُّ بعضُ القراء للاستعانة بالمعاجم الرئيسة لمعرفة معناه، مثل جملة: ((وقد كربتُ النِّسْعة))، التي نطقتها أمي كأنها تقول: ((وقد شربتُ اللبن))، مما لا يجهله ناطقٌ بالعربية. بل لن أجازف إن قلتُ: إن كثيراً من المفردات العامية عندنا يدل تركيبها على أنها من غريب الفصيح، ولكن لم تسعفنا المعاجم بذكره، وسأدلِّل في هذا السياق، وأبرهن على قولي هذا في أكثرَ من موضع إن شاء الله.
وقد كان من مدعاة تفكيري في تدوين هذه القصة أن أستخدمها في تنمية مدارك النشء، وربطهم بتلك المفردات الموغلة في الفصاحة، والتي صار جيلُ اليوم لا يعرفُ منها إلا النزرَ اليسير، حتى إذا ما ألفوا التعاملَ مع اللغة العربية الفصحى، حملهم هذا الإلفُ على محبة أفصح الفصيح؛ القرآن العظيم، والحديث النبوي الصحيح، فيقودهم ذلك للتفقه في الدين الحنيف.
وقد صعب عليَّ جداً أن اعتمد في سردها منهج أرباب البيان من أهل العربية، ممن يركبون الخيال في صوغ وإنشاء القصص، لأن إطلاق العنان للقلم في مسارات الخيال لا تضمن معه السلامة من الكذب، خاصة وأن الخيال فرس جموح، وبحر طموح. ففضلت أن أنقل القصة كما سمعتها دون تزيُّدٍ، متبعاً في ذلك منهج علماء الحديث النبوي الشريف ممن يذهبون لقبول الرواية بالمعنى، مع الصرامة في التزام الدقة والصدق في النقل، مستخدماً الكلمات الفصيحة التي ذكرتها أمي، معرباً لبعض كلامها العامي الآخر، غير زائد في المضمون.(/2)
ويؤيد مذهبي هذا ما دونه الشيخ علي الطنطاوي - رحمه الله - في مذكراته، إذ قال: ((ولي كتاب اسمه "قصصٌ من التاريخ" آخذُ فيه أسطُراً معدودةً، أو حادثةً محدودةً, فأُعمل فيها خيالي، وأجيل فيها قلمي، حتى أجعل منها قصة.
بدأت بهذا العمل من سنة 1930م، من حين كنت أشتغل في جريدة "فتى العرب"، والقصص الأولى منشورة في كتابٍ لي نفِد من دهرٍ طويلٍ كان اسمه "الهيثميات".
من هذه القصص ما ذكره المؤرخون من أن امرأة من دمشق رأت انقسامَ المسلمين، وتقاعسَهم عن قتال الصليبيين، وأرادت المشاركة في الجهاد، فعمِلت ما تقدر عليه؛ قصَّت ضفائرَها، وبعثت بها إلى سِبط ابن الجوزي (أي ابن ابنته) خطيب الجامع الأموي في دمشق؛ ليكون منها قيدٌ لفرسٍ من خيول المجاهدين.
ويقول المؤرِّخون: إنه خطب خطبةً عظيمة ألهبت الدماء في العروق، وأسالت الدموع من العيون، وأثارت الحماسة، وأيقظت الهِمَم، فلما كتبتُ القصة على طريقتي، ألَّفتُ أنا خطبةً قلتُ: إنها التي ألقاها على الناس.
وحَسِبَ الناسُ أن هذه هي الخطبة الحقيقية، حتى إن خطيب المسجد الحرام الرجل الصالح الشيخ عبد الله خياط نقل فقرات منها في خطبة الجمعة على أنها خطبةُ سِبط ابن الجوزي)).اهـ.
ثم أورد الشيخ الطنطاوي عقب هذه مباشرة قصة أخرى قال فيها: ((وكتبتُ مرةً قصصاً متخيلةً، عن أعرابي صحبنا في رحلة الحجاز، منها: ((أعرابي في الحمَّام))، ((أعرابي في سينما))، ((أعرابي ونقد الشعر))، وكلُها في كتابي ((صورٌ وخواطر))، قلت في الأخيرة منها: إن قبيلة على حدود اليمن اسمها السوالم لا تزال تنطق الفصحى، لم يدخل ألسنتها اللحن، ولا بلغتها العُجمة، وكان ذلك خيالاً مني، فأخذ ذلك الأستاذ وحيد جباوي، فوضعه في بحثٍ له عن الفصحى وعن اللحن، ونشر خلاصة منه في مجلة مجمع اللغة العربية[3])).اهـ.(/3)
والشيخ علي الطنطاوي من المعروفين بالورع والتقوى، والدعوة إلى الله على بصيرة، ولا شك أنه قد فعل ذلك في بدايات عمره بسلامة صدر، ولو كان يعلم أن قَصَصَه سيُفهم منه أنه قَصَصٌ واقعيٌ لما أقدم على ذلك. إذ أن ذلك سيحسب عليه، ولو أنه استقبل من أمره ما استدبر لما وقع في مثل هذا، لأنه أمرٌ له خُطُورتُه عند أهلِ العلم بالحديث وغيرِهم ممن يتوخون الصدق في القول والنقل، وهذا ما علمه الشيخ بعد أن تقدمت سنه، ولعل ما ورد في كتاب الذكريات اعتذار منه عن هذا التصرف.
على أنني وجدت في المنهج التحليلي للفقهاء من أهل الحديث، ما يمكن استخدامه في تحليل النص الأدبي، وهو كابحٌ قوي لجموح الخيال، وانسياقه وراء السَّرَاب، ومخرجٌ جيدٌ لأرباب البيان، ليُعْمِلوا فكرهم دون أن يقعوا في مزالق الكذب. وقد سلكت هذا المسلك لأضع القارئ الكريم أمام صور مختلفة يمكن أن تكون إحداها مطابقةً لواقعِ الحياة الإنسانية، في عصر من العصور القريبة الماضية. لألفت نظر القارئ الكريم للفرق بين منهج المحدثين، وحرصهم البالغ على تحرى الصدق في نقل الرواية، وسعة أفق الفقهاء منهم ومقدرتهم على التحليل من ناحية، وبين منهج القُصَّاص من أهل البيان والأدب العربي، الذين قد تنخرم عند كثير منهم قاعدةُ الالتزام بالصدق، وتحري الدقة، من ناحية أخرى.
فبدأت أول ما بدأت - إمعاناً في التحقق من واقعية هذه القصة بعد وفاة أمي - رحمها الله - بسؤال إحدى خالاتي - أطال الله عمرها في طاعته - عن بطلة القصة، فأكَّدت لي أنها معروفة، وذكرت بأن لنا بها صلةً، وأنها من جيل جداتِها، ولم تكن أمي قد ذكرتْ من القصة إلا ما ذكرتُ. ولم تكترث للتفاصيل الدقيقة لسير المرأة، وأسباب سفرها، وأين كانت تقْطُن، وهل كانت وقتذاك شابة في النساء، أو هي بَرْزة مُتَجالَّة[4]، أو أنها كانت عجوزاً طحنتها رحى السنين، وهل كان لها زوج، وولد؟(/4)
وكذلك لم تكترث أمي لوصف هيئتها، ووصف دابتها، والطريق التي سلكت، وما سبب سفرها، وضلالها، ومتى وصلت لأهلها، وكيف كانت حفاوتهم بها؟ وفوق كل ذلك لم تهتم حتى بذكر اسمها، فلعلها لم تكن تعرفه، أو ربما لأنها اشتهرت بنسبتها إلى أبيها، فاختفى بذلك اسمُها، ولعل أمي لم يَعْنِها من هذه القصة إلا شجاعةُ تلك المرأة، إذْ قصَدت أن ترسخ هذه الفضيلةُ في ذهني منذ الصغر، خاصة وأنها قد وُجِدت في امرأة لا يُتوقع أن تصل لهذا المستوى من رباطة الجأش، فعساها كانت تأمُل أن ينال ابنُها من الشجاعة نصيباً.
وقد أثارت هذه القصةُ عجبي منذ ذلك الوقت وحتى كتابة هذه السطور، ولم يدر بخَلَدي يومئذ - وأنا صبي لا أعرف من شؤون التربية والتعليم والأدب ما يعرفه الكبار - أن مادتها يمكن أن تكون سبباً من أسباب النفع العلمي والتربوي، ولم تكن تهمني - آنذاك - تلك التفاصيلُ التي قد يحتاجها الرواة ذوو الأهداف، من الملتزمين بضوابط النقل والرواية.
فلما أدركتُ هذا قادني ذلك إلى الركون لتحليتها، وتزيينها بالبيان العذب، على منهج أرباب البيان، حتى كدت أتقوَّل رجماً بالغيب، فأضيف في المضمون ما يخالف المروي، فأتخيل من أي النساء كانت بنت قسيوي، فأقول: إنها كانت امرأة متجالة، وإن لها من البنين والبنات كذا، وكذا.
ثم أحاول أن أرسُم الهيئة التي خرجت بها من ديارها، وكيف كانت ترتدي الثوب، ومن تحته القرقاب[5]، ومدى توافق هيئتها مع ما أمر الله به نساء المؤمنين من إدناء الجلابيب، وضرب الخُمر على الجيوب، وهل كانت تلبس من الزينة الخفية الحجول الفضية، أو العاجية، أو أنها جمعت بينها، وزادت على ذلك أسوِرةً ذهبية، وكأني بها تشبه مَن قال فيها الأعشى:
تَسْمَع للحَلْيِ وَسْواساً إِذا انْصَرَفَتْ = كما استعان بريحٍ عِشْرِقٌ زَجِلُ(/5)
أو أنها لا تملك من الزينة الخفية شيئاً؟ أو أن انشغالها بما أتاها من خبر أهلها شغلها حتى عن الزينة الظاهرة، فخرجت في مِبْذلٍ رث[6].
وقد أذكر من أي أنواع المراكب امتطت في رحلتها، فأقول: إنها اتخذت حماراً، أو أتانا، أو ما سوى ذلك مما هو في مبلغ علم الناس من المراكب الأرضية في ذلك الزمان، فيسيل المداد في وصف تلك الدابة، وما يمكن أن تكون فعلته بطلةُ القصة، أو أحدٌ من أولادها، أو أحفادها، أو أقربائها من تهيئتها بالسرج، والبرذعة، والمخلاة، وما تحويه من عُلْقة للدابة، وبالشَّنَّة وما تحمله من ماء الشرب، ثم أذهب إلى أن زوجها كان ميتاً، أو مريضاً، أو مسافراً، أو مشغولاً، أو أنها من المطلقات، وأن أولادها في شغلٍ بأنعامهم يسرحون، أو أنهم في حائشهم[7] يكدحون، مما جعلها تستصحبُ حفيدها الصغير، وتردفه من خلفها، وتضع له وقاية، أو تقاسمه البرذعة، لئلا يتأذى من ظهرٍ عَرِيٍّ، ثم أُمعنُ في التحزين، أو التشويق بذكر السبب الذي دعاها للسير إلى عشيرتها؛ استمالةً لألباب القراء. ولن يفوتني أن أذكر أين صلَّت تلك المرأةُ صلاتَيِ الظهر والعصر؟ ثم هل بدأت سيرها بعد الظهر أم قبله؟
ثم أميل لذكر ما تتصف به تلك الدابة من جد في السير، فأذكر أنها كادت تباري الرياح المرسلة، أو أنها تمشي الْهُوَيْنا من ضعفٍ أو هزالٍ أو عيبٍ فيها، وما يتخلل سيرَها من محاولاتها لالتهام ما نبت على وجه الأرض من النجم الساجد، أو من أغصان الشجر الهاجد، وما تفعله معها البطلة عندئذ؟
وبعد ذلك أعرِّج على التفَكُّر في فقه تلك المرأة والتزامها بالأوامر الشرعية، فأذهب إلى أنها جمعت بين المغرب والعشاء، وربما أذهب إلى أنها قد استعاذت بالله وكلماته التامات من كل شيطانٍ وهامة، ومن كل عين لامَّة، عندما آذن النهار بالإدبار، وأقبل الليل يُرخي سُدولَه على الرُّبا، فكان سبباً قوياً في تحصينها من الجن.(/6)
وقد يسرح قلمي في ذكر تلك الليلة ووصفها، فأذكر أين كان منزل القمر فيها؟ فهل هو بدرُ تمٍّ خَبَتْ في ضيائه أنجمُ الدُّجى، أو أنه عاد كالعرجون القديم، ففرحت بانزوائه زُهرُ النجوم؟ أو أن ضياءه قد حجبته جبالُ البَرَد المتراكبة، التي أَنَّتْ من حِملٍ ثقيلٍ غالبته الرياحُ، فساقته - بأمر ربها - إلى تلك الأصقاع لتحييها بعد موتها، فغازلت في ثِقَلِها يباباً عذراء، فهشت وبشت وضحكت من حبات المطر، وظنت أن السماء قد بكت شوقاً إليها، وحنيناً لأيامٍ كانتا فيها رتقاً قبل أن يفتقهما الله عز وجل، فاهتزت تلك البكر، ورَبَتْ، وتزينت، وتعطرت برائحة الأراك الذاكية، فرحاً وحبوراً بوصل وابلٍ صيبٍ، جعله اللهُ من أقوى أسباب الحياة؟ فلعل بنت قسيوي كانت قد احتاطت لذلك، فأحضرت معها فروةً تقيها البلل والبَرْد، وتزودت طعاما لاحتمال البَيَات في القَوَى[8]، أو أنها لم تحتط لذلك، ليقينها بمعرفة الدروب، فنامت على الطَوَى، وعانت من الشدة بأساً.
ولن يفوتني كذلك أن أذكر من أي قرية بدأت سيرها، وأيَّ قرية تريدُ، فأجتهد في تخمين اسم القريتين، وتقدير المسافة بينهما، وذكر ما بينهما من قرى وادعة وبنيان مشيد، وهل بلغت حد الرخصة بقصر الصلاة، فيلزم عند ذلك القولُ بأنها قد خالفت أوامرَ الشرع بسبب سفرها من غير محرم، أو أن المسافة مع طولها لم تبلغ الحد الذي يلزم معه استصحابُ محرم يلازمها في سفرها ذلك.(/7)
ولن يضيق الخيالُ عن القول بأنها ترجَّلت عن دابتها وصَعِدت قوزاً[9] كان بجانب الدرب، عسى أن تأنس على البعد ناراً، أو وبيصاً من كوةٍ أو بابٍ، أو جذوةً تبادلها الجيرانُ والأصحاب، أو تسمع أصواتَ الكلاب، فتهتدي إلى حيث تريد، فلما لم تر ولم تسمع من ذلك شيئاً - برغم إمعانِها النظرَ، وإرعائِها السمعَ - يئست من بلاغ منشود، واتخذت في رَهْوٍ بين أشجار الأراك نُزُلا، فناشدتها الجنيةُ أن تتحرك لكونها قد جلست عليها وهي حامل في الشهر التاسع، وقد ربَطت على بطنها الحزامَ عوناً على حملها الثقيل، وتقول الجنية كل ذلك زُوراً وتلفيقاً من أجل ترويع بنت قسيوي التي استعاذت بالله العلي العظيم، ولم تستعذ بسيد الجن في ذلك الوادي كما كان يفعلُ أهلُ الجاهلية، ولعل الفكر يذهب إلى أن المتحدث كان من ذكور الجن، فقَلَّد صوت حبلى قاربت المخاض.
ولن يفوتني أن أقف عند قسمها بلعنة أبيها إن هي استجابت لطلب الجنِّيَّة في المرة الثالثة، لأستكشف مبلغ علمها بحدود الشرع، ومدى إدراكها لما وقعت فيه من مخالفة تحاسب عليها يوم تفرُ من أخيها وأمها وأبيها؟ أم إنها تتكئ على دليلٍ تعسَّف المحتجُّ به فلواه عن مقصده؛ لأنه لا يصلح للاحتجاج، ولا تقوم به حجة على جواز القسم بغير الله، أم إنها لا شأن لها بكل ذلك، وأن قولها هذا تقليدٌ لما اعتاده الناس، ولم ينكره أهل العلم فيهم؟(/8)
كما سأعرض لصلاة الصبح، وهل أدتها بوضوء، أو أنها تيممت صعيداً طيباً؟ أو أنها لم تأبه بهذه الصلاة العظيمة، وما فيها من الفوائد الجسيمة، إذ لا علم لها بأحكام الصلاة، والسفر، ولا بالاستعاذة، والقسم، وهل يصلح أن أتبين - بكونها على أي من تلك الأحوال - الواقعَ التعليمي في مجتمعات المسلمين في الماضي القريب، وما سبقه من قرونٍ خلت، وما عَلاقة ذلك كله بما نعانيه في عهدنا الحاضر، الذي ورث أهلُ العلمِ فيه عبئاً ثقيلاً، وكثيباً مَهِيلاً من التراكمات المظلمة، فامتد هذا الضعفُ فينا ليكون أحد أهم أسباب ما تعانيه الأمةُ اليوم من وهْنٍ وبُعد عن الصراطِ المستقيم، وهل إلى نهوضٍ من سبيل؟ أم أننا أصبحنا في عهد يقول العاقل فيه: علَيَّ بخاصة نفسي، فقد رأيتُهم يتبعون الأهواء، ويطيعون الشُّح، ويعجبون بآرائهم، فما لي عليهم من سلطان، وما دَرَى هذا القائلُ أن مثله مثل راكبِ سفينةٍ جمعت بين عقلاءَ في أعلاها، وسفهاءَ في أسفلها، فلو سكت العقلاءُ عن جهل السفهاءِ وعن قولهم: ((لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا)) لهلكوا جميعاً، ولو أخذوا بأيديهم فأرشدوهم للصواب لنجوا، ونجوا جميعاً.
ولعلي أسبح في بحر الخيال لأذهب إلى أن بنت قسيوي قد عانت الأمرَّين من الأرق في تلك الليلة، فاجترَّت من الذكريات أتراحاً وأفراحاً، فظلت حزينةً تارةً، ومسرورةً تارةً أخرى، فتمثلت لها الدنيا بأسرها في تلك الليلة، وذلك في الجمع بين النقيضين - لو أنها كانت في العَالِمِين - وقد أتخيلُها باتت في سُباتٍ عميق تخطت به عالم الرؤى والأحلام؛ في برزخٍ بين الحركة والسكون، في ذلك المكان الموحش، حتى تبين لها الخيط الأبيضُ من الخيط الأسود من الفجر، ثم لبثت في مكانها حتى أسفر صبحُها، ولاح لناظريها قُرصُ الشمس، فرأت ديار الأهل والعشيرة في الأفق البعيد، كأنياب الكلاب.(/9)
وقد أنساقُ مع الخيال لعقد موازنة بين ذلك الواقع، وبين واقعنا الحالي الذي أمكن أن تُقطع فيه الفيافي، وتعبر فيه البحار في سُوَيْعات، وأن تنجز فيه عظائم الأمور بالكلام عبر أجهزة الاتصال الأثيري التي تجاوزت توقعات الشيخ فرح ولد تكتوك البَطْحاني[10] الذي قال، أو تُقُوِّل عليه: ((سيكون السفرُ في آخر الزمان بالبيوت، والكلامُ بالخيوط)) في إشارة إلى السيارات، والقطارات، وإلى مراكب جو السماء المروحية، والنفاثة، وذات المحركات المتعددة، التي يرخي راكبها جفونه من عل ليرى السحاب من تحته، كما أن الخيوط تشير إلى الاتصال عبر الهاتف السلكي، إلا أن واقع التطور المادي في عصرنا الحاضر قد تخطى الكلام المنسوب إلى الشيح فرح بلا شك، فقد ظهرت الهواتف اللاسلكية التي أتت بعد طَفَرات متتالية في عالم الاتصال الذي ارتقى من الارتباط السلكي إلى النُّقلة المدهشة عبر الوسائط الضوئية، بحكم التطور العجيب في عالم الإلكترون، الذي صار لا يخطو اليوم خطوة في رحاب الكشف التقني إلا ويخطو في قابلٍ قريبٍ عشرَ خطواتٍ مثلها أو أكثر، وما على بنت قسيوي إن كانت حاضرة في زماننا هذا إلا أن تضرب على مفاتيح أرقام الهاتف المحمول - الذي انفك ارتباطه بالأسلاك - ليعلم أهلُها بما هي فيه، ولعلها تشك - لو عاشت في زماننا هذا - في صحة نسبة القول المتقدم آنفاً إلى الشيخ فرح، وتدرك أن كثيراً مما نُسب إليه من أقوال لا تصح عنه، ولعلها تصل بهذا المستوى من الإدراك لمرحلة الوعي والنقد، وتتوصل بذلك إلى سلامة في التوجه والاتباع، وقوة في الدين واليقين، وتدرك أن العمل على تمييز الكذب من الصدق في الرواية والقصة والأقوال كافة مطلبٌ مهمٌ جداً.(/10)
وقد يجمح بي الخيالُ لوصف قرية العشيرة، وروعة جمالها بتناغم تلك الأصوات العذبة التي تصدر عن تمازج أصوات الطُّلى، والسُّخْلان، وصغار العجول، وتجاوب أمهاتها عند فصلها والتفريق بينها وبين صغارها في الغدو والآصال، من يُعارٍ، وثُغاءٍ، وخُوارٍ، وذكر ما يجده الناس في ذلك الجمال حين يريحون وحين يسرحون، فيحملني ذلك على التجاوب مع أبياتٍ من الشعر الرصين قالها الشاعر السوداني عبد الله محمد عمر البنا - رحمه الله - في وصف البادية:
رعى الرحمنُ أهلَكِ ما أقاموا وما رَحَلوا وحيَّاكِ الغمامُ
ولا زالت عِهادُ المُزْنِ تهْمِي عليكِ وحولُها هَطِلٌ سِجَامُ
رياضُ اللهِ بسّطَها فكانتْ دليلَ وجودِه وله الدَّوامُ
تأنَّقَ زهرُها فيها نِثاراً تألفَ من جواهِرِه نِظامُ
تناثرتِ الظباءُ على ثراها وراتِعُها مع الإنسِ السَّوامُ
إذا ضجَّ البِهامُ بها عشاءً أجابَ من الطُّلى فيها بُغامُ
وإن غنتْ جواريها ابتهاجاً شدا بجوانبِ الأيكِ الحمامُ
وكلُ خريدةٍ في الحي ليلى لها قيسٌ يؤرقُه الْهُيامُ
حلالٌ وصلُه عفٌّ هواه حرامٌ أنْ يُدَنِسَهُ حرامُ
رفاقُ الضّيفِ أنى حلَّ هبوا لهم للضَّيفِ ضَمٌّ والتزامُ
إذا نحروا العِشَارَ مُعطَّلاتٍ فلا مَنٌّ بذاكَ ولا كلامُ(/11)
ومن يذُقْ هذا الجمال فلا بد أن يسخر مما نشاهده اليوم من تطور حضاري مزعوم؛ يراد به اغتيالُ الفضيلة، وإشاعةُ الرذيلة في فلذات أكبادنا عبر تجاوبهم مع أنغامٍ خليعةٍ، وصورٍ فاضحةٍ، يكاد يدهش من خلاعتها لاَقِيسُ بنُ إبليس، فيذاكر مع أبيه سير الخطة القَرْنِية لإغواء بني آدم، وما وصل إليه الناسُ من فسادٍ في هذا الزمن، فيبادلُه أبوه الدهشةَ والعجب، حتى يخيل إليهما من ذلك العُهر الذي بلغ الدرَْك الأسفل من الخلاعة والفساد، أنه فوق ما كانا يطمحان إليه، مهما أجلبا على الناس بالخيل والرَّجِل، ومهما توثقت المشاركة لهم في الأموال والأولاد، فأضحى إبليسُ مسروراً من نباهة جنوده، وأعوانه؛ من الإنس الذين بزوا رفاقهم من الجِنَّة أجمعين، وتقَرُّ عينُه فرحاً بما حصل، فيعمل على تثبيت هذه الغواية وإحكامها حتى لا ينفلت من وقع منهم في الشباك، ثم بعد الاطمئنان على التثبيت يصدر أوامره بتنفيذ الخطة القرنية القادمة لعصر ما بعد العولمة.(/12)
ولن يفوتني أن أرسُم مشهد استقبال بنت قسيوي في ديار العشيرة، وما وجدته من حفاوة وتَرْحاب، فأصورها وقد أرخت الثوب على جبهتها، واتخذت منه بُلاًّمة[11] أسفل عيونها حتى لا يُرى من وجهها سوى العينين، وهو ما كانت تفعله أمهاتُنا وجداتُنا في حال خروجهن، وتمسكت به الفضليات من نساء هذا العصر، أم إنها سفرت عن وجهها كما تفعل كثيرٌ من نساء هذا الزمان، اللائي يجهل أغلبهن كيف تُتخذ البُلَّامة، ولا يعرفها منهن إلا القليل القليل. وهل اكتفت بنت قسيوي بإلقاء التحية والسلام عن بعد على غير محارمها، بعد أن صافحت من صافحت، والتزمت من المحارم من تشاء، أم إنها لم تفرق بين محرم وغيره فيما فعلت من مصافحة والتزام، وتعبير عن شوق وحنان بريء لا يخالطه سوء قصد، بحكم ما اعتاده الناس في لقاءاتهم الأُسرية ببراءة لا تخفى على ذي لبٍّ، وهل تكون هذه البراءة معبراً للظن بتسامح الشرع في ذلك، أو أن الشرع يطلب من الناس خلافَ ذلك. وما أدري إن كانت بنت قسيوي ممن يعلم ذلك، أو أنها كانت تتعامل بتلك العفوية التي رسَخت في أذهان الناس - من العامة وكثير من العلماء على حد سواء - حتى أضحى كثيرٌ من العقلاء يظن أن الشرع لم يضيق على الناس في أمر المصافحة بين الرجال والنساء، وأن من يأمرون بالتخلي عنها، والقول بحرمتها إنما يفعلون ذلك من دافع الغُلُو والتشَدُّد.(/13)
وما أدري إن كان يعلم الحذاق من طلبة العلم - في ديارنا - أن ابن أبي زيد القيرواني - في كتاب الرسالة[12]، وأبا عمر ابن عبد البر - في التمهيد[13]، وفي الاستذكار[14]، وأبا بكر ابن العربي - في أحكام القرآن[15]، والشيخ عليش - في منح الجليل في شرح مختصر خليل[16]؛ وجميعهم من كبار علماء مذهب الإمام مالك - قرروا حرمة المصافحة بين الرجال والنساء، بعد أن تعبوا - رحمة الله عليهم - في الغوص في معاني التوجيه الشرعي في هذا الصدد، وقد علمت في أهلي تمسكهم بمذهب الإمام مالك بن أنس - رضي الله عنه - ، فإن كانوا معذورين بعدم مدارسة كتابي الحافظ ابن عبد البر، وكتاب الإمام أبي بكر ابن العربي، بحكم أنها من الكتب قليلة التداول، فلن يُعذروا بعدم معرفة رسالة القيرواني، وما جرى عليها من شروح كثيرة، ولن يعذروا كذلك بعدم معرفة مختصر خليل وشروحه المتعددة، والتي من أميزها عندهم شرح الشيخ عليش المصري؛ لأنهم كانوا لا يعترفون بأن العالم قد جمع، وجود، وحذق، إلا بعد أن يختم رسالة ابن أبي زيد القيرواني، ومختصر خليل على شيخ ماهر مجود، وما أدري ما السبب في تساهلهم في كثير من المسائل، إذ لا أجد مسوغاً لما هم فيه إلا أنهم أصبحوا يتعاملون مع أمور دينهم بحكم العادة السائرة، والعاطفة البريئة، التي لا ترفع الأحكام الشرعية كما هو معلوم؟ بل فوق كل ذلك أصبحوا يرمون بالغُلُو والتشَدُّد كلَّ من يأمرهم بالصرامة والحزم في التزام أوامر الشرع، وإن كان الآمِرُ ممن تابَعَ الإمام مالكَ بنَ أنس رحمه الله.
وأعجب من بعض من اتصف بحمل العلم الشرعي في عصرنا هذا ممن يهاجم المتمسك بالقول بعدم جواز مصافحة النساء، فيتهمه بعدم الانضباط، ويهزأ بمثل هذا التمسك بحجة أن من يجد لذة في المصافحة إنما هو من محترفي الرذيلة، وما أظن الحيف يلزمني إن قلتُ: إننا في عهد أصبحت فيه أرفف الكتب من متاع البيوت وزينتها!(/14)
وإن أعجب من المعاصرين فلن ينقضي عجبي من السابقين حينما أطالع سيرة الشيخ حمد بن محمد بن علي المشيخي - المشهور بحمد ولد أم مريوم، في طبقات ود ضيف الله - الذي أطلق عليه أهل عصره: ((حمد المشاقق))[17]، لا لشيء إلا لأنه أقنع شيخه ((الشيخ محمد أرباب العقائد[18])) بأن ينقل هذا العلم من دوائر الحلقات العلمية، إلى واقع الناس الْمُعاش، في أمورٍ كثيرة يفعلها الناس على خلاف توجيهات الشرع، منها المصافحة بين الرجال والنساء، والصلاة على جنائز الفسقة، والمجاهرين بالمعاصي، فأخذ الشيخ ((أرباب العقائد)) بنصيحة تلميذه الشيخ حمد، ورأى الناسُ في ذلك خروجاً على المألوف، فناشدوا الشيخ ترك العمل بما أمره به تلميذه ((حمد المشاقق))!!! هكذا نعته أهلُ زمانه في أواخر القرن الحادي عشر الهجري، أو بداية الثاني عشر.(/15)
وفوق ذلك فإن الشيخ حمد كان قد درس على الشيخ محمد أرباب العقائد؛ وهو شيخ أتقن علم الكلام، وبرع فيه حتى لقبوه ((أرباب العقائد))، فماذا يمكن أن يحدث مع الشيخ حمد لو طالَب شيخه بالنزوع عن التوسع في علم الكلام، والتزام منهج الإمام مالك بن أنس في مسائل العقائد؛ ليوافق حال أبي يزيد البسطامي[19] عندما قال: ((عملتُ في المجاهدة ثلاثين سنة، فما وجدت شيئاً أشدَّ علي من العلم ومتابعته، ولولا اختلاف العلماء لتعبتُ، واختلاف العلماء رحمة، إلا في تجريد التوحيد[20]))، لا شك أن أبا يزيد - وإن لم يُعرف عنه الالتزام بمذهب مالك - كان أكثرَ متابعة للإمام مالك بن أنس، وسلفِ الأمة الصالح في منهج العقيدة، من كثير من المنتسبين لمذهب إمام دار الهجرة النبوية، وهو منهج أوصد البابَ أمام المتوسعين في علم الكلام، وما أدري إن كان الشيخ محمد أرباب العقائد سيوافق تلميذَه على التوقف عن تدريس علم الكلام الذي اشتهر به وبز به أقرانه، ويعتمد في منهجه تدريسَ الفقه، وتقريره، على ضوء نصوصِ القرآن الكريم، والحديث الصحيح، متخلياً عما اشتهر به من رياسة في العقائد، أو أنه كان يقر العامة على إطلاق ذلك اللقب على العلامة البارع الشيخ حمد ولد أم مريوم رحمة الله على الجميع؟
وماذا يا تُرى كانت ستفعل بنت قسيوي لو أنها عاشت في هذا الزمان، وأبصرت مكتبةً حافلةً، على أرففٍ من الخشب النادر الثمين، في بيت أحد طلاب العلم، من تلك المكتبات الفخمة الضخمة، فلعلها تحذو حذو الشيخ حمد ولد أم مريوم، فتطالب باقتضاء العلم العمل.(/16)
ويا ليت شعري ماذا يقول سلمان الفارسي - رضي الله عنه - لو عاش في هذا الزمان، ورأى الحيطان محجوبة بالأرفف الأنيقة المليئة بأضابير الكتب المرصوصة، بعد أن كان قد رفض دخول بيت عروسه الكِنْدية، في ليلة الزفاف، لما رأى الستور على الحيطان، فقال قوله المشهور: ((ما أدري أمحموم بيتكم؟ أم تحولت الكعبة في كِنْدة؟ والله لا أدخله حتى تُهتك أستاره، فلما هتكوها فلم يبق منها شيء دخل رضي الله عنه))[21].
ولن يقدِر طلبةُ العلم على سلوك هذا الدرب الوعر، الذي لم يقدر على السير فيه إلا أصحابُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولا على العيش الخشن الذي لم يحتمله إلا أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، مهما بلغ بهم من زهد تنادوا إلى تعلمه وتطبيقه، ولكن بوسعهم أن يقرؤوا هذه الكتب ليقفوا على ما تداوله العلماء من شرح لتوجيهات قدوتنا - صلى الله عليه وسلم - ، وما انتهجه الصحابةُ في متابعته –عليه الصلاة والسلام - ، من مناهجَ أضحت في زماننا هذا كأساطير الأولين، بدلاً من جعل هذه الكتب زينة على حيطان المنازل، ويسعُنا وإياهم جميعا من الأمر ما قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - : ((ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم، فإنما أهلَكَ الذين من قبلكم كثرةُ مسائلهم، واختلافُهم على أنبيائهم))[22]. فرضي الله عنك يا سلمان، لقد أتعبت من جاء بعدك، حتى عجَز أركان الزهد في العهود الأولى عن مجاراتك، مع ما لهم من صرامة في الأخذ بالزهد؛ لأنك كنت تسمع خطاب الحبيب - صلى الله عليه وسلم - فتلتزم أمرَه، وتقف عند نهيه تماما لا تزيد ولا تنقص، وفي ذلك راجعتَ أخاك أبا الدرداء لما أتعب نفسه، فأهمل حقها، ونسي حق أهله في سبيل الاجتهاد في طاعة الله عز وجل، فعاد - بعد نصحك - ليعطي كل ذي حق حقه[23].(/17)
بعض ذلك قد يختاره القلم بهذا الأسلوب، أو بأسلوب أرقى منه وأحلى، لتخرج القصة عذبة المعنى، متماسكة المبنى، بحجة رفع مدارك النشء للمستوى المتقدم من فهم اللغة، وتذوق حلاوتها. وبحجة ربط السياق القصصي بتنمية معارف القراء بالأحكام والآداب الشرعية، وكذلك بحجة أن تكون الرواية بالقدر المناسب في المضمون والهدف، وتلك هي حجج يتشبث بها أرباب البيان والفصاحة من الإسلاميين. ولا شك أنهم يدركون أن من أهم الأهداف التربوية عند المسلمين؛ التناسب بين الغاية - وهي: الوصول إلى الفهم السليم للنصوص الشرعية، من القرآن الكريم، والسنة الصحيحة المطهرة، وما فيهما من أوامر، ونواهٍ، وأحكام، وآداب، وقصص؛ مما تحيا به القلوبُ والألباب، فترتفع لإدراك الحكم والغايات من مقاصد الشرع الكبرى - ، وبين وسائل تحقيق هذه الغاية، وهي: المناهج المنضبطة، التي لا ينخرم فيها الحق بالمرة، فهل يأخذ بذلك ملاك البيان؟! يا ليتهم يفعلون.
والله الموفق...
ــــــــــــــــــــــــــ
[1] النسعة بكسر النون، وسكون السين المهملة، وبعدها عين مهملة، وهي سير ينسج عريضا يشد به صدر الدابة، لسان العرب (8/352 - نسع). وكربُ النسعة تضييقها، وانظر لسان العرب (1/713 – كرب)، وفي ذلك كناية عن الاستعانة بها على ثقل الحمل.
[2] تقع في الشمال من ولاية النيل الأبيض، وفي الشمال الغربي لولاية الجزيرة، وفي الجنوب من ولاية الخرطوم، في جمهورية السودان.
[3] من كتاب ((الذكريات)) الجزء الثالث صفحة 314 - 315، للشيخ علي الطنطاوي، دارة المنارة للنشر والتوزيع، جدة، الطبعة الثانية 1409هـ/1989م.
[4] البرزة المتجالة: هي المرأة الكبيرة المسنة التي تجلس للقوم فتحدثهم ويتحدثون عنها، لسان العرب (5/310 - برز، و11/116 – جلل).(/18)
[5] القرقاب: ثوب داخلي تتزر به المرأة، من فوق سرتها إلى كعبيها ثم تضيف إليه ثوبا فضفاضا من رأسها إلى كعبيها أيضا، وقد كانت جداتنا يلبسنه، وهو معروف حتى عهد أمهاتنا، والذي ينظر في المعاجم في مادة قرقب يجد ما يدل على أنه من غريب الفصيح، ولكن مع ذلك لم يذكر بهذا اللفظ، وإنما ذكر الثوب القرقبي.
[6] المِبْذل: بكسر الميم وسكون الموحدة، هو الثوب الذي ترتديه المرأة، ولا تهتم به، ولا تصونه، لسان العرب (11/50 - بذل).
[7] الحائش: مجتمع الشجر (لسان العرب 6/291 – حوش)، ومنه اشتق أهلنا لفظ الحَوَّاشة بفتح الحاء المهملة، وتشديد الواو، وهي المزرعة.
[8] القوى: بفتح القاف والواو معا، وبالقصر، ويمد أيضا، وهو المكان القفر، والْمُقْوِي: الذي لا زاد معه، ومن ذلك يفهم قول الله تعالى: {نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِّلْمُقْوِينَ} [الواقعة: 73] (لسان العرب 15/210 - 211 / قوي)، وحينما يقول أهلنا: بات فلان القوى، إنما يعنون بذلك أنه نام من غير عشاء، وقد أطلقوا هذا اللفظ على قرية من قرانا قبل أن تستعمر تلك المنطقة، وتصبح مأهولة، وتصبح ضمن مشروع الجزيرة الزراعي، وهي الآن في القسم الشمالي الغربي من المشروع.
[9] القوز: هو العالي من الرمل، النهاية لابن الأثير (4/121 - قوز).
[10] أحد من عرفوا بالزهد والحكمة والنصح، عاش في القرنين الحادي عشر والثاني عشر، وتلقى العلم على الشيخ محمد (أرباب العقائد)، وكانت له معرفة جيدة باللغة العربية، ونسبت إليه أقوال وحكم كثيرة، الله أعلم بصحة نسبة بعضها إليه، وانظر (طبقات ود ضيف الله ص 146).(/19)
[11] البُلاَّمة: بضم الموحدة، وتشديد اللام، هي طرف من ثوب المرأة السودانية تغطي به أنفها، وشفتيها، وينزل ليصل إلى سترة الصدر، وهي تدني بعض ثوبها من على رأسها، فينزل حتى حاجبيها، وبذلك لا يرى منها سوى العينين. وهذه الكلمة ندَّت عن المعاجم، والذي يطالع في مادة (بلم) في المعاجم لا يصعب عليه أن يجزم بأن البلامة عربية فصيحة عزبت عن علم أهل المعاجم.
[12] انظر كفاية الطالب لأبي الحسن، وحاشية العدوي عليها، في شرح رسالة ابن أبي زيد القيرواني (2/619).
[13] انظر التمهيد لأبي عمر يوسف ابن عبد البر القرطبي (12/243 - 245).
[14] انظر الاستذكار لأبي عمر يوسف ابن عبد البر القرطبي (8/545، و547).
[15] انظر أحكام القرآن، لأبي بكر محمد بن عبد الله ابن العربي المالكي (4/234).
[16] انظر منح الجليل على مختصر خليل للشيخ محمد عليش المالكي (1/222 - 223).
[17] هو: الشيخ حمد بن محمد بن علي المشيخي، المشهور بحمد ولد أم مريوم من قبيلة المسلمية، التي ينتهي نسبها إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وقد اشتهر بنسبته إلى أمه: أم مريوم، وهي محسية مشرفية من جزيرة توتي في ملتقى النيلين الأبيض والأزرق، وأغلب ساكنيها من قبيلة المحس، ولنزوح أبيه من مضارب قبيلة المسلمية إلى جزيرة توتي، اشتهر بهذه النسبة، كما هي عادة أهل الأم في الغالب الأعم، أن يعبروا عن الحنان والمحبة لابن البنت، ولد الشيخ حمد في عام خمسة وخمسين بعد المائة العاشرة، وتوفي في سنة اثنتين وأربعين بعد المائة الحادية عشرة من الهجرة، وانظر طبقات ود ضيف (ص65 - 69).
[18] هو الشيخ محمد بن علي الملقب بأرباب العقائد، لبراعته في علم العقائد، وأرباب جمع رب، وله لقب آخر، هو: الخشن، وقد حدثت له الخشونة بسبب كثرة الوضوء، وتوفي في سنة اثنتين بعد المائة الحادية عشرة من الهجرة. (طبقات ود ضيف الله ص31).(/20)
[19] أبو يزيد البسطامي: هو طيفور بن عيسي الزاهد المعروف، (ت261هـ)، ميزان الاعتدال للذهبي (4380)، وهذا الكلام من روائع أقواله، وقد نسبت إليه أقوال كثيرة، منها ما لا يصح عنه، فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ((وقد جمع أبو الفضل الفلكي كتابا من كلام أبي يزيد البسطامي، سماه: (النور من كلام طيفور)، فيه شيء كثير لا ريب أنه كذب على أبي يزيد البسطامي، وفيه أشياء من غلط أبي يزيد رحمة الله عليه، وفيه أشياء حسنة من كلام أبى يزيد، وكل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - )) (مجموع الفتاوى 13/257).
[20] حلية الأولياء لأبي نعيم الحافظ (10/36).
[21] أخرجه عبد الرزاق في المصنف (6/192 رقم 10463)، بإسناد غير متصل.
[22] متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه؛ أخرجه البخاري (7288)، ومسلم (1337)، واللفظ له.
[23] انظر قصة الصحابيين الأخوين في صحيح البخاري (6139).(/21)
العنوان: التوفيق
رقم المقالة: 1388
صاحب المقالة: د. أمين بن عبدالله الشقاوي
-----------------------------------------
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله – صلى الله عليه وسلم - وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن مُحَمدًا عبده ورسوله وبعد:
فإن توفيق الله - عز وجل - لا غِنَى للعبد عنه، لا في الدنيا ولا في الآخرة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [النور: 21].
فَمَنْ وَفَّقَهُ الله لتزكية نَفْسِه فَقَدْ أفلح وفاز، قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى} [الأعلى: 14] وأعلى مراتب توفيق الله لعَبْدِهِ أن يحبب إليه الإيمان والطاعة، ويُكَرِّهَ إليه الكفر والمعصية، وهي المرتبة التي نالها أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وامتن الله بها عليهم في قوله تعالى:
{وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} [الحجرات: 7].
قال ابن القيم - رحمه الله -: "يخاطب اللهُ - جل وعلا - عباده المُؤْمِنِين، فيقول: لولا توفيقي لَكُمْ لما أَذْعَنَتْ نُفُوسُكمْ لِلإيمان، فلم يكن الإيمان بمشورتكم وتوفيق أنفسكم، ولكني حببته إليكم وزينته في قلوبكم، وكرَّهت إليكم ضده الكفر والفسوق"[1].
والتوفيق من الأمور التي لا تُطْلَبُ إلا من الله، إذ لا يقدر عليه إلا هو، فمن طلبه من غيره فهو محروم.(/1)
قال تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ} [القصص: 56].
وهذه الهداية المذكورة في الآية هي التي يُسَمِّيها العلماء هداية التوفيق، قال شعيب - عليه السَّلام -: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88].
قال ابنُ القيّم - رحمه الله -: "أجمع العارفون بالله أنَّ التوفيق هو أن لا يَكِلَكَ الله إلى نفسك، وأن الخذلان هو أن يُخْلِيَ بينك وبين نفسك"[2].
وبهذا جاء التوجيه النبوي الكريم، فَعَنْ أبي بكرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((دَعَوَاتُ الْمَكْرُوبِ اللَّهُمَّ رَحْمَتَكَ أَرْجُو فَلا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ وَأَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ))[3].
ومما يغلط فيه كثير من الناس ظنهم أنَّ مَنْ رُزِقَ مالاً، أو منصبًا، أو جاهًا، أو غير ذلك من الأمور الدنيوية، أنه قد وفق، والأمر ليس كما ظنّوا، فإنَّ الدنيا يعطيها الله مَنْ يُحِبّ وَمَنْ لا يُحِبّ، وقد ذكر الله هذا عن ذلك الإنسان، وأخبر أن الأمر ليس كما ظن.
قال تعالى: {فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ * كَلَّا} [الفجر: 15-17].
والصواب أن الموفَّقَ هو الذي إذا أُعْطِيَ منصبًا، أو جاهًا، استعمله في مرضاة ربِّه، ونصرة دينه، ونفع إخوانه، وإن رزق مالاً أخذه من حلِّه وصرفه في طاعة ربّه، فإن من حكمة الله تعالى أنْ يَبْتَلِيَ عِبادَهُ، فالموفق منهم هو الذي إذا أعطي شكر، والمخذول هو الذي إذا أُعْطِيَ طَغَى وَكَفَرَ، قال تعالى: {كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى} [العلق: 6، 7].(/2)
وقال الله عن نبيِّهِ سليمان: {هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} [النمل: 40].
وتوفيق الله لعباده يكون على أحوال كثيرة، فمنها أن يعرض الخير على أناس فيردونه حتى ييسر الله له من أراد به الخير من عباده، وقد مكث النبي - صلى الله عليه وسلم - أكثر من عشر سنين يعرض نفسه على القبائل لينصروه، فلم يستجيبوا له حتى وفَّق الله الأنصار لذلك، فنالوا الشرف العظيم في الدنيا والآخرة.
ومنها أن يوفق الله العبد في آخر حياته لعمل صالح يموت عليه فيختم الله به أعماله.
فعن أنس - رضي الله عنه - قال: "كان غلام يهودي يخدم النبي - صلى الله عليه وسلم - فمرض، فأتاه النبي - صلى الله عليه وسلم - يعوده، فقعد عند رأسه"، فقال له: ((أَسْلِمْ))، فنظر إلى أبيه وهو عنده، فقال له: "أَطِعْ أبا القاسم - صلى الله عليه وسلم –"، فأسلمَ. وخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يقول: ((الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْقَذَهُ بِي مِنَ النَّارِ)) وفي رواية: "فلما مات"، قال: ((صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ))[4].
ومنها أن يوفق الله العبد لعمل قليلٍ أجرُه عند الله كثيرٌ، فعن البراء بن عازب - رضي الله عنه - قال: "أتى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - رجلٌ مقنع بالحديد"، فقال: "يا رسول الله، أقاتل أو أسلم؟" قال: ((أَسْلِمْ ثُمَّ قَاتِلْ)) فأسلم ثم قاتل فقُتل، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((عَمِلَ قَلِيلاً وَأُجِرَ كَثِيرًا))[5].
فمن اتقى الله تعالى وملأ الإخلاص قلبه، وعلم الله منه صدق نيته، وأكثر من دعائه، فقد أخذ بمجامع الأسباب الموصلة إلى التوفيق، والله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
ـــــــــــــــــــــــــــــ(/3)
[1] "مدارج السالكين" (1/447).
[2] "مدارج السالكين" (1/445).
[3] سنن أبي داود (4/324) رقم (5090). وصححه الألباني في "صحيح الجامع الصغير" برقم (3388).
[4] صحيح البخاري (1/416) رقم (1356)، وأحمد (3/260) والرواية له.
[5] صحيح البخاري (2/308) برقم (2808) ، وصحيح مسلم (3/1509) رقم (1900) .(/4)
العنوان: التوكل على الله تعالى
رقم المقالة: 1570
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70 - 71].
أما بعد: فإن أحسن الحديث كلام الله - تعالى - وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها الناس: إذا اشتدت المحن، وعظمت المصائب، وزادت الفتنة في الدين؛ تزعزعت القلوب، واهتزت القناعات، وكثر المتساقطون في الباطل، وقلّ الثُبَّت على الحق.(/1)
وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن فتنٍ تَزيغُ فيها القلوب، وتحارُ العقول، يصبحُ فيها الرجل مؤمنًا ويمسي كافرًا، ويمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا، يبيع دينه بعَرَض من الدنيا قليل[1]. لربما باع دينه بسلامة نفسه مما يتوهَّمه خطرًا، أو باعه ببقاء ماله أو جاهه أو ولده، وكل ذلك من عَرَض الدنيا القليل، ولربما باعه بما هو أقل من ذلك ثمنًا، أو باعه بلا ثمن، فخسر الآخرة ولا ربح من الدنيا شيئًا، نسأل الله العافية.
ومن أهم ما يجب على المسلم العناية به في أحوال المحن: سلامة قلبه من الفتن، وثباته على الحق المبين؛ وذلك لا يكون إلا بولاء العبد لله - تعالى - ولدينه، ولأوليائه المؤمنين، لا يحابي في ذلك قويًّا لقوته؛ لعلمه أن الله - تعالى - أقوى، فكان الولاء له وحده أوجب. ولا يجامل قريبًا لقرابته أو صديقًا لصداقته؛ لأنهم لن ينجوه من عذاب الله - تعالى - شيئًا.
لا يقبل المساومة على دينه، ولا يتنازلُ عن شيء من شريعة ربه مهما كلف الأمر، وإذا جاء من ينازعُه في ذلك جاهده بقلبه ولسانه ويده؛ حتى يدفع شره، ويُزيل خطره، مستعينًا بالله - تعالى - متوكلاً عليه.
ما أحوج الأمة المسلمة، وهي تشهد تسلط القوى الجبارة على المسلمين إلى مزيد من الثبات على الحق، والتمسكِ بأهداب الدين القويم، والعمل بأحكام الشريعة في الشؤون كلها، صغيرها وكبيرها، والاجتماع على الكتاب والسنة قولاً وعملاً، والاعتصام بالله وحده، والتوكل عليه، فهذا هو المخرج الوحيد من هذه الأزمة الخانقة، وفيه النجاة للأفراد والجماعات في الدنيا والآخرة.
إن التوكّل على الله - تعالى - والاعتصام به وحده كان هو الملجأ الذي لجأ إليه المرسلون - عليهم السلام - من بطْشِ الجبابِرة والمستكبرين وأَنْعِمْ به من ملجأ؛ فالله - تعالى - نعم المولى ونعم النصير.(/2)
هذا نوح - عليه السَّلام - لما كذبه قومه وآذَوْا أتباعه يخاطبهم معلنًا توكُّلَه على الله - تعالى - فيقول: {يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآَيَاتِ اللهِ فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ} [يونس: 71].
وهكذا فعل قوم هودٍ - عليه السلام - به فآذوه، واتهموه بالجنون، فتبرأ منهم ومن شركهم، وأعلن توكله على الله - تعالى - {قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود: 54- 56].
وقال شعيب ومن آمن معه للمكذبين من قومهم: {وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الفَاتِحِينَ} [الأعراف: 89].
ولما طغى فرعون على موسى ومن آمن معه من بني إسرائيل، أمرهم موسى - عليه السلام - بالتوكل على الله - تعالى - ليكونوا قادرين على مواجهة هذا الطغيان العظيم، والصبر على العذاب المهين {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ * فَقَالُوا عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ القَوْمِ الكَافِرِينَ} [يونس: 84- 86].(/3)
وظل موسى - عليه السلام - - وهو من أولي العزم من الرسل - حتى اللحظة الأخيرة واثقًا بوعد ربه، متوكلاً عليه، مفوضًا أمره إليه. طارده فرعون وجنده حتى حصرهم البحر فكان أمامهم، وعدوهم من ورائهم؛ فأيقن أتباع موسى بالهلاك، والوقوع في أيدي فرعون وجنده، إلا أن يقين موسى بربه - تبارك وتعالى - كان أقوى، وتوكله عليه كان أعظم {فَلَمَّا تَرَاءَى الجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} {الشعراء: 61 - 62].
ثباتٌ عجيب، ويقين متين بالله - تعالى - في اللحظة الحاسمة، التي تضطرب فيها القلوب، وتضعف النفوس، وتخور العزائم؛ فكان حبل الله - تعالى - إلى موسى والمؤمنين معه أقرب من فرعون وجنده، ومدده إليهم أسرع، وكانت المعجزة العجيبة، {فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ البَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ العَظِيمِ * وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآَخَرِينَ * وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآَخَرِينَ} [الشعراء: 63 - 66]. إنها قدرة القادر القاهر - سبحانه وتعالى - الذي أهلك الظالمين، وأنجى موسى ومن معه من المؤمنين {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء: 67 - 68].
والخليلان إبراهيم ومحمد - عليهما الصلاة والسلام - لاذا بحمى الله - تعالى - وتوكلا عليه في أحرج الساعات، قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: "حسبنا الله ونعم الوكيل، قالها إبراهيم - عليه السَّلام - حين ألقي في النار، وقالها محمد - صلى الله عليه وسلم - حين قالوا: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ} [آل عمران: 173]"؛ رواه البخاري[2].(/4)
ويعقوب - عليه السلام - لما فقد ولده، وأخذ منه الآخر وهو مشفق عليه عزا ذلك إلى قَدَر الله - تعالى - وحكمه وحكمته، وأعلن توكله على الله فقال: {إِنِ الحُكْمُ إِلَّا للهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُتَوَكِّلُونَ} [يوسف: 67].
ومن صور توكُّل النبي - صلى الله عليه وسلم - ويقينِه بالله - تعالى -: أنه غزا غزاة، ونزل تحت شجرة فعلق بها سيفه، قال جابر: "فنمنا نومة فإذا رسول الله يدعونا، فجئناه، فإذا عنده أعرابي جالس، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن هذا اخترط سيفي وأنا نائم، فاستيقظت وهو في يده صَلْتًا فقال لي: من يمنعك مني؟ قلت: الله)) وفي رواية لمسلم: ((فقال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أتخافني؟ قال: لا. قال: من يمنعك مني؟! قال: الله يمنعني منك))؛ رواه الشيخان[3]. قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله تعالى -: "وكأن الأعرابي لما شاهد ذلك الثبات العظيم، وعرف أنه حيل بينه وبينه تحقُّق صِدقه، وعلم أنه لا يصل إليه فألقى السلاح، وأمكن من نفسه"[4]. جاء في رواية ابن إسحاق: "قال الأعرابي: من يمنعك مني"؟ قال: ((الله)). فدفع جبريل في صدره فوقع السيف من يدهِ فأخذه النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: ((من يمنعك أنت مني))؟ قال: "لا أحد" قال: ((قم فاذهب لشأنك)). فلما ولى قال: "أنت خيرٌ مني، ثم أسلم بعد"[5].
ومن توكله - عليه الصَّلاة والسَّلام -: أنه لما دخل الغار ومعه أبو بكر ليلة الهجرة، والمشركون يتبعونهم قال أبو بكر - رضي الله عنه - من شدة خوفه على النبي - صلى الله عليه وسلم - من أن يُدركَه المشركون: "لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا". فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما؟!)) رواه الشيخان[6].(/5)
توكَّل على الله - تعالى - في مواجهة المنافقين ودسائسهم وأراجيفهم، {فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلًا} [النساء: 81].
وتوكَّل على الله - تعالى - في مواجهة الكافرين، ومقابلة كثرة أعدادهم، وتنوع عتادهم، وشدة بأسهم بالثبات على الحق، والصبر في المعركة، والعلم بأنَّ النصر من عند الله - تعالى - واليقين بأن المؤمن لا يخسر في معاركه مع المنافقين والكافرين شيئًا، وهو فائز فيها على كل حال، فإما نصر وإما شهادة، {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ * قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ} {التوبة: 51-52].
إنها كفة راجحة لأهل الإيمان على أهل الكفر والنفاق، يثقون بالله - تعالى - ويسألونه الفَرَجَ في مِحَنِهم، واليُسر في عسرهم، والخلاص من كربهم، والثبات على دينهم، والنصر على أعدائهم، ومن كان الله - تعالى - معه فلن يُهزَم مهما كانت الأحوال والظروف {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ} [آل عمران: 160].(/6)
ولما كانت وقعة اليرموك، ورأى المسلمون كثرة العدو وقلتهم؛ كتبوا إلى عمر - رضي الله عنه - يطلبون المدد قائلين: "إنه قد جاش إلينا الموت···" فكتب إليهم عمر - رضي الله عنه -: "إنه قد جاءني كتابُكم تستمِدونني، وإني أدلكم على مَن هو أعزُّ نصرًا، وأحضر جندًا: الله - عزَّ وجلَّ - فاستنصِروه، فإنَّ محمدًا - صلى الله عليه وسلم - قد نُصر يوم بدر في أقلَّ من عدتكم، فإذا جاءكم كتابي هذا فقاتِلوهم ولا تُراجعوني" قال عياضٌ الأشعري: "فقاتلناهم فهزمناهم، وقتلناهم أربع فراسخ، وأصبنا أموالاً"؛ رواه الإمام أحمد وابن حبان[7].
هكذا كان المسلمون في سالف عهدهم، متوكلين على الله - تعالى - معتصمين به، قد فوَّضوا أمرهم إليه، مع جدهم واجتهادهم في جهاد أعدائهم؛ فحقَّق الله - تعالى - على أيديهم من النصر والفتوح في ثمانين سنة ما عجز عن تحقيقه الرومان في ثمانمائة سنة، وكان لهم من العز والرفعة ما يعرفه القاصي والداني، أسأل الله - تعالى - أن يعيد للأمة عزها وأمجادها، وأن يدفع عنها شر أعدائها إنه سميع مجيب.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا * رَبُّ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً * وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلاً * وَذَرْنِي وَالمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً} [المزمل: 8 - 11].
بارك الله لي ولكم في القرآن.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا طيبًا كثيرًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، أحمده وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلَّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.(/7)
أما بعد: فاتقوا الله - عباد الله - وتوكلوا عليه، وفوضوا الأمر إليه، فالله - تعالى - كافٍ من توكل عليه {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطَّلاق: 3].
أيها الناس: التوكل على الله - تعالى - سبب من أسباب إزالة الخوف، وطمأنينة القلب، وسكون النفس في أحوال الفتن والمحن، وهو سبب لِلثبات على الدين، والصدع بالحق؛ ذلك أن المتوكّل على الله - تعالى - يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأن الناس لوِ اجتمعوا على أن ينفعوه بشيء لم ينفعوه إلا بشيء قد كتبه الله له، وإن اجتمعوا على أن يضروه بشيء لم يضروه إلا بشيء قد كتبه الله عليه، كما صح ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم[8]. قال ابن القيم - رحمه الله تعالى -: "التوكل من أقوى الأسباب التي يدفع بها العبد ما لا يطيق من أذى الخلق وظلمهم وعدوانهم"[9].
إن التوكل على الله - تعالى - دليلٌ على صحة الإيمان، وقوة اليقين، وخلو القلب إلا من الله - تعالى - كما قال الإمام أحمد - رحمه الله تعالى -: "صدق المتوكل على الله - عزَّ وجلَّ - أن يتوكل على الله، ولا يكون في قلبه أحد من الآدميين يطمع أن يجيئه بشيء"[10]. وقال سعيد بن جبير - رحمه الله -: "التوكل على الله جماع الإيمان"[11].(/8)
إن معانيَ التوحيد، والعبودية لله - تعالى - بالقلب واللسان والجوارح، والسنن الربانية في البشر؛ كالنصر والتمكين للمؤمنين، وسوء عاقبة الظالمين لا يدرك كثير من الناس حقيقتها ومعانيها، ولا تتجذر في قلوبهم إلا عند المواجهات الكبرى بين أهل الإيمان وأهل الكفر والنفاق، والسلاح الأقوى الذي يتسلح به المؤمنون ولا يملكه غيرهم مع إعداد العدة اللازمة هو التوكل على الله - تعالى - كما قالت الرسل لأقوامهم {وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آَذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُتَوَكِّلُونَ} [إبراهيم: 12].
وتوكلهم على الله - تعالى - يقتضي عدم رُكونِهم إلى الذين ظلموا، أو إرضائهم بالتنازل عن شيء من دينهم، مهما كان ضغط أهل الباطل وشدة أذاهم للمؤمنين، والأمة المسلمة في هذا العصر بأفرادها وجماعاتها ودولها، في أمَسّ الحاجة إلى فَهْم هذه المعاني العظيمة، وعَدَمِ التفريط في الأصول لتحقيق ما يُظَنُّ أنه مكاسب، وهو خسارة في واقع الأمر!!(/9)
إنَّ المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها يواجهون عدوًّا شرسًا، وأعداءً آخرين متربصين، ومنافقين قد أعلنوا نفاقهم صراحة، وبدأوا بخلخلة المجتمعات المسلمة من داخلها، مطالبين المسلمين بالتخلي عن دينهم، واطّراحِ شريعةِ ربهم، ظنًّا منهم أن الكفر منتصر لا محالة، وأن الإسلام الحق سيقضى عليه؛ ليستبدل بإسلام آخر يحاولون إقناع الأمة به يصدق عليه أن يسمى: (إسلامًا ليبراليًّا)، ليس فيه أمر بمعروف، ولا نهي عن منكر، ولا جهاد في سبيل الله - تعالى - ولا واجبات تفرض، ولا محرماتٌ ينهى عنها!! لقد غرتهم قوة الكافرين، وشدة تسلّطهم على المسلمين، وما يستطيعونه من إشعال حروب إلكترونية، وما يملكونه من قوة نووية، وهذا هو ظنُّ الجاهلين الذين قال الله - تعالى - فيهم: {يَظُنُّونَ بِالله غَيْرَ الحَقِّ ظَنَّ الجَاهِلِيَّةِ} [آل عمران: 154]، وهو ظنهم هلاك الإسلام وأهله؛ كما قال - تعالى - في الآية الأخرى: {بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا} [الفتح: 12].
ولكن الله - تعالى - بحكمته ورحمتِه مُبقٍ لهم ما يسوؤهم ببقاء الإسلام وأهله، وعجز الكافرين عن القضاء عليه بالكلية، فلا تزال طائفة من هذه الأمة على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمرُ الله - تعالى - وهم على ذلك، كما صح ذلك عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم[12].(/10)
وحال منافقي هذا العصر هو حال سالفيهم في عصر النبوة؛ فإنهم لما رأوا الأحزاب قد تحزبت، ويهود قد نقضت عهدها، أظهروا نفاقهم، وخذَّلوا في المسلمين وأرجفوا وقالوا: {مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} [الأحزاب: 12]، بخلاف الطائفة المؤمنة فإنهم لما رأوا تجمع الجموع عليهم قالوا: {هَذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب: 22]، ونحن نقول في هذا العصر الذي تكالب فيه الكفر مع النفاق على أهل الحق والإيمان كما قال أسلافنا: هذا ما وعدنا الله ورسوله، وصدق الله ورسوله، ونسأل الله أن يزيدنا إيمانا وتسليمًا، وثباتًا ويقينًا.
فأبشروا - يا عباد الله - وأمِّلوا، وأحسنوا الظن بربكم، واستسلموا له، وأخلصوا له الدين، وتوكلوا عليه، واعتصموا به، وفوضوا الأمر إليه؛ فإنه مالك الملك، والمتصرف في الخلق، {للهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ العَزِيزُ الرَّحِيمُ * وَعْدَ اللهِ لَا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الرُّوم: 4 - 6].
ألا وصلوا وسلموا على نبيكم كما أمركم بذلك ربكم.
---
[1] أخرجه مسلم في الإيمان باب الحث على المبادرة بالأعمال قبل تظاهر الفتن (118)، والترمذي في الفتن باب ما جاء ((ستكون فتن كقطع الليل المظلم)) وأحمد (2/304)، وأبو يعلى (6515)، والطبراني في الأوسط (2774)، والبغوي في شرح السنة (4223)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] أخرجه البخاري في التفسير باب {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} [آل عمران: 173] (4563)، والبيهقي في السنن الكبرى (6/154)، ووهم الحاكم فاستدركه في المستدرك (2/326).(/11)
[3] أخرجه البخاري في المغازي باب غزوة ذات الرقاع (4135)، ومسلم في صلاة المسافرين باب صلاة الخوف (843).
[4] "فتح الباري" (7/492).
[5] "فتح الباري" (7/492)، وانظر: سيرة ابن هشام (3/157).
[6] أخرجه البخاري في فضائل أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - باب مناقب المهاجرين وفضلهم (3653)، ومسلم في فضائل الصحابة باب من فضائل أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - (2381).
[7] أخرجه أحمد (1/49)، وصححه ابن حبان (4766)، والشيخ أحمد شاكر في شرحه على المسند (344).
[8] جاء ذلك في حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - عند أحمد (1/293)، والترمذي في صفة القيامة باب حديث حنظلة (2516)، وأبي يعلى (2556)، والطبراني في الكبير (12/184)، برقم: (12988 ـ 12989). وابن السني في عمل اليوم والليلة (425)، وقال الترمذي: حسن صحيح، وقال الحافظ ابن رجب في "جامع العلوم والحكم" حديث (19): طريق حنش التي أخرجها الترمذي حسنة جيدة، وصححه الشيخ أحمد شاكر في شرحه على المسند (2669).
[9] "التفسير القيم" (578).
[10] "الآداب الشرعية" لابن مفلح (3/270).
[11] "حلية الأولياء" (4/274)، و(10/70)، و"الزهد" لهناد (534).
[12] جاء ذلك في حديث جابر - رضي الله عنه - عند مسلم في الإيمان باب نزول عيسى ابن مريم حاكمًا بشريعة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - (156)، وحديث عبدالله بن عمرو - رضي الله عنهما - عند مسلم أيضًا في الإمارة باب قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين...)) (1924).(/12)
العنوان: الثَّعْلَبُ وَالدِّيك
رقم المقالة: 131
صاحب المقالة: أحمد شوقي
-----------------------------------------
برز الثعلبُ يومًا في شعار الواعِظينا
فمشى في الأَرضِ يَهدي ويَسُبُّ الماكرينا
ويقولُ: الحمدُ للـ ـه إله العالمينا
يا عِباد الله، تُوبُوا فهْوَ كهفُ التائِبينا
وازهَدُوا في الطَّير؛ إِنّ الـ عيْشَ عيشُ الزاهِدينا
واطلبوا الدِّيك يؤذنْ لصلاةِ الصُّبحِ فينا
فأَتى الديكَ رسولٌ من إِمام الناسِكينا
عَرَضَ الأَمْرَ عليه وهُوَ يرجو أَن يَلينا
فأَجاب الديكُ: عُذرًا يا أَضلَّ المُهتدينا!
بلِّغِ الثعلبَ عني عن جدودي الصالحينا
عن ذوي التِّيجان ممن دَخل البَطْنَ اللعينا
أَنهم قالوا وخيرُ القولِ قولُ العارفينا:
((مُخطئٌ مَن ظنّ يومًا أَنّ للثعلبِ دِينا))(/1)
العنوان: الثقافة الإسلامية تخصص علمي
رقم المقالة: 926
صاحب المقالة: أ.د. محمد بن يحيى بن حسن النجيمي
-----------------------------------------
الثقافة الإسلامية تخصص علمي
من تخصصات العلوم الإسلامية وتخصص دقيق في الدراسات العليا
مقدمة:
شهد العالم الإسلامي في الربع الثالث من القرن العشرين يقظة إسلامية، فقد استطاعت معظم أقطار العالم الإسلامي أن تتحرر من الاحتلال الأجنبي وتنعم بحياة الاستقلال، وبدأت خيرات البلاد الإسلامية وكنوزها تعود إلى أهلها شيئًا فشيئًا، وظهرت هنا وهناك دعوات إلى إقامة المجتمع الإسلامي الذي يعتمد نظام الإسلام في شؤون الحياة كلها، وقامت نهضة علمية واقتصادية وصناعية حققت كثيرًا من أحلام المصلحين وآمالهم.
غير أن الصورة المضيئة لم تكن كاملة، فقد شهد هذا العالم كوراث ونكبات، وتعرض لانقسامات ومظاهر من الانحراف والبعد عن الطريق القويم تفوق ما مر عليه طيلة قرون طويلة[1].
كل هذا يجعل أمرًا محتمًا أن يعرض الإسلام على حقيقته عرضًا شاملاً واضحًا بحيث تبدو جميع معامله متناسبة الأجزاء، مع بيان حكمة تعاليم الإسلام وتفوق مبادئه على جميع الأديان والمذاهب والأنظمة الأخرى.
إن مادة الثقافة الإسلامية تحرص على إعطاء الطالب صورة شاملة عن الإسلام قبل أن يدخل في التفصيلات، فهي لا تبحث في التوحيد أو الفقه أو التفسير أو غيرها من العلوم الإسلامية كعلوم قائمة بذاتها ولكنها تستفيد من هذه العلوم جميعًا للتعرف على حقيقة الإسلام، وروح الثقافة والحضارة الإسلامية وطبيعة هذا الدين المتميز الذي يجمع بين رغبات الروح والجسد.
قال الله تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآْخِرَةَ وَلاَ تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ}[2][3].(/1)
ومن هنا نشأت فكرة أن الثقافة الإسلامية تخصص علمي من تخصصات العلوم الإسلامية، وتخصص دقيق في الدراسات العليا، وذلك لأن تخريج معلمين متخصصين في تدريس الثقافة في المراحل الأولى والمراحل الجامعية يتطلب متخصصين في هذا الفن ومن هنا نشأت أقسام للثقافة الإسلامية في أكثر جامعاتنا وأقسام للدراسات العليا لهذا الفن الجديد.
وقد تلقت كلية الملك فهد الأمنية دعوة كريمة من جامعة الملك فيصل لحضور هذه الندوة المباركة واخترت أن أكتب في المحور الأول وهو "الثقافة الإسلامية تخصص علمي من تخصصات العلوم الإسلامية وتخصص دقيق في الدراسات العليا".
ويتناول الموضوعات التالية:
1- نشأة علم الثقافة الإسلامية وتميزه عن التخصصات الإسلامية الأخرى.
2- الاختلاف في تعريف الثقافة الإسلامية والتعريف المعتمد تدريسه.
3- منهج البحث لعلم الثقافة الإسلامية.
4- مصادر علم الثقافة الإسلامية.
5- قضايا علم الثقافة الإسلامية وأثرها في الحياة المعاصرة.
6- الصورة المعاصرة لتأصيل علم الثقافة الإسلامية كتخصص في برامج الدراسات العليا.
وفي الختام أسأل الله أن يلهمنا الرشد والصواب وأن يرزقنا صدق النية وحسن العمل.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
أولاً: نشأة علم الثقافة الإسلامية وتميزه عن التخصصات الإسلامية الأخرى:(/2)
إن علم الثقافة الإسلامية بمفهومه الشامل المتضمن دراسة الكليات الإسلامية وأًوله في الوجود كله قد نشأت أولاً من منهج الكتاب والسنة في عرض رسالة الإسلام بجوانبها المتعددة في وحدة متكاملة، كقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[4]، وقوله: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}[5]، وقوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[6]، وقوله: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ}[7].
فهذه الآيات القرآنية جمعت في نسق واحد توجيهات تشريعية عملية وعقدية، وأخلاقية، وتربوية، هي جميعًا من صميم علم الثقافة الإسلامية، ثم نشأت ثانيًا من منهج صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين فهموا رسالة الإسلام وأهدافه فهمًا عميقًا شاملاً يدل عليه الرسائل المتبادلة بين الخلفاء الراشدين وعمالهم وولاتهم في شموليتها لكل جوانب الإسلام. وسار أئمة العلم على هذا المنهج بعد الصحابة، وكانوا علماء بالإسلام كله لا ببعض أجزائه[8].
وفي العصر الحاضر حينما سهل الاتصال بين الناس وتيسرت وسائل المعرفة جهدت التيارات الهدامة في نشر مبادئها فأصبح من السهل على الإنسان أن يأخذ تصورًا كاملاً عن مذهب ما من تلك المذاهب من خلال كتاب واحد يجمع أصوله في كل النظم[9].(/3)
فاتجه بعض العلماء والمفكرين غيرة على دين الله وتقديمًا للبديل الصحيح المتمثل بالإسلام إلى الدراسة الشمولية للإسلام من خلال بيان النظم الإسلامية أو النظام الإسلامي في مجال التربية والصحة والأسرة والسياسة والاقتصاد ونحوها من الموضوعات.
كما يقوم على دراسة الشبهات التي أثارها بعض المفكرين اللبراليين والمستشرقين، فيما يتعلق بالمرأة وعملها، والرق، والوحي، والنبوة، والزواج، والتاريخ المزيف عن المسلمين أو الإسلام. ودراسة الاستشراق وبيان ما فيه من المفاسد والمصالح.
ويقوم أيضًا على دراسة التيارات الفكرية الحديثة كالعلمانية والوجودية والرأسمالية والماسونية والصهيونية وغيرها من المذاهب والفرق الضالة. وبيان أخطائها وأخطارها[10].
ثانيًا: الاختلاف في تعريف الثقافة الإسلامية والتعريف المعتمد تدريسه في المرحلة الجامعية:
نظراً لكون كلمة الثقافة ذات أبعاد كبيرة ودلالات واسعة يضيق عن استيعابها النطاق اللغوي لأصل الكلمة، ونظرًا لكون هذه الكلمة من الألفاظ المعنوية التي يصعب على الباحث تحديدها؛ شأنها في ذلك شأن لفظ: التربية والمدنية وغيرهما من المصطلحات التي تجري على الألسن دون وضوح مدلولاتها في أذهان مستعمليها. ونظرًا لكون علماء العربية والإسلام لم يستعلموا كلمة الثقافة بالمعنى الواسع ولم يقيموا علمًا مستقلاً يسمى بالثقافة، وإنما جاء التعبير بهذه الكلمة وليد الأبحاث والدراسات الحديثة. نظرًا لهذا كله فإنه لم يوجد حتى الآن تعريف محدد متفق عليه لمصطلح الثقافة الإسلامية وإنما هي اجتهادات من بعض العلماء والمفكرين الإسلاميين، ومن هنا تعددت التعريفات لهذا المصطلح.
فثمة اتجاه يجعل (حياة الأمة الإسلامية) أساسًا يدور عليه التعريف، وبهذا تكون الثقافة الإسلامية مرادفة للدراسات الإسلامية أو العلوم الإسلامية.(/4)
وثمة اتجاه يرى أن الثقافة الإسلامية علم جديد، له موضوعاته الخاصة التي تميزه عن غيره من العلوم الإسلامية كالحديث أو التفسير أو الفقه.
ونظرًا لهذه الاتجاهات تعددت التعريفات بحسب التصورات على النحو التالي:
1- التعريف العام للثقافة الإسلامية (معرفة مقومات الأمة الإسلامية العامة، بتفاعلاتها في الماضي والحاضر، من دين ولغة وتاريخ وحضارة، وقيم وأهداف مشتركة بصورة واعية هادفة).
ويقوم هذا التعريف على دراسة حياة الأمة الإسلامية من جميع جوانبها على أساس أن لكل أمة ثقافتها التي هي عنوان عبقريتها وثمرة اجتهادها.
2- التعريف الخاص للثقافة الإسلامية (معرفة مقومات الدين الإسلامي، بتفاعلاتها في الماضي والحاضر، والمصادر التي استقيت منها هذه المعوقات، بصورة نقية مركزة).
ويعني هذا التعريف دراسة العلوم الإسلامية الصرفة بجوانبها المتعددة مستمدة من القرآن الكريم والسنة النبوية وما أضافه علماء العقيدة والتفسير والحديث والفقه والسيرة من ثمرات الفكر الجاد والاجتهاد الأمين.
التعريف المميز للثقافة الإسلامية:
معرفة التحديات المعاصرة، المتعلقة بمقومات الأمة الإسلامية ومقومات الدين الإسلامية صورة مقنعة موجهة.
ويقوم هذا التعريف على دراسة العلوم العصرية الجديدة التي أخذت تتطلب من المسلمين استخلاص الكائنات الفكرية من شتات التراث الإسلامي، وتقديمها في بحوث مستقلة متكاملة، لمواجهة التحديات العلمية الغربية في مجالات التربية والصحة والعلم والأسرة والسياسة والاقتصاد وغيرها من الموضوعات.
كما يقوم على دراسة الشبهات فيما يتعلق بالمرأة وعملها، والرق، والوحي، والنبوة... الخ.
ويقوم أيضًا على دراسة التيارات الفكرية المعاصرة كالعلمانية والوجودية والماسونية والرأسمالية وغيرها من المذاهب والفرق الضالة.(/5)
وعلى هذا المعنى تكون الثقافة الإسلامية علمًا مستقلاً مميزًا عن غيره من العلوم الإسلامية الأخرى، كالتفسير والحديث والفقه، وهو علم جديد له موضوعاته الخاصة وأسلوبها الخاص وكتابه الخصوصيون، جاء ميلاده وظهوره على إثر التحديات المعاصرة للإسلام والمسلمين[11].
وتستطيع الثقافة الإسلامية بهذا المعنى أن تلعب دور التوجيه السياسي والاقتصادي والاجتماعي والتربوي والصحي والعلمي والديني، لبناء القومية الإسلامية على غرار مقررات الثقافة القومية عند الأمم الأخرى.
وهذا هو التعريف المعتمد تدريسه في المرحلة الجامعية في جامعاتنا من وجهة نظري، وهذا واضح في كتاب مدخل إلى علم الثقافة الإسلامية للدكتور عبدالرحمن الزنيدي ص(2-3)، حيث قال في تعريف الثقافة الإسلامية بأنها: (علم كليات الإسلام في نظم الحياة كلها بترابطها) وهو أستاذ الثقافة الإسلامية في كلية الشريعة بالرياض - جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
وكذلك واضح في مقدمات الثقافة الإسلامية للدكتور مفرح بن سليمان الجوس الأستاذ المساعد بقسم الثقافة الإسلامية بكلية الشريعة جامعة الإمام ص:29، حيث قال معلقًا على تعريف الزنيدي السالف الذكر، ولعل هذا التعريف الأخير هو أفضل تلك التعريفات وأقربها إلى الصواب لاشتماله على موضوعات الثقافة الإسلامية الرئيس، ولأنه تعريف كلي وليس تعريفًا جزئيًا.
ووضح في كتاب دراسات في الثقافة الإسلامية تعريف الدكتور محمد عبدالسلام محمد وآخرين) ص:13.
كما أن هذا الاتجاه معمول به في كثير إن لم يكن في كل الجامعات في العالم الإسلامي. أما الثقافة الإسلامية التي تدرس في وزارة التربية والتعليم فهي تتولى مهام الثقافة الإسلامية بمعناها العام من خلال مناهجها العامة - وهناك بعض الجامعات والمعاهد العليا تمزج بين التعريفين الثاني والثالث-.
ثالثًا: منهج البحث في علم الثقافة الإسلامية:
من أبرز القواعد المنهجية لعلم الثقافة الإسلامية ما يلي:(/6)
1- الكلية: فالثقافة الإسلامية تبحث في الإسلام بصفته كلاً مترابطًا ووحدة متكاملة وتؤكد التداخل بين نظمه من أجل أن يعطي هذا العلم آخذه تصورًا متكاملاً عن الإسلام في جوانبه المختلفة العقدية والعبادية والجانب التعليمي والخلقي والعائلي والاقتصادي والسياسي ومفاهيمه العامة كالحرية والتسامح
وغيرهما[12].
2 - المقارنة: وهي من دعائم هذا المنهج لأن هذا العصر هو عصر الصراع بين المذاهب والأفكار لاسيما بين الإسلام والثقافة الغربية بفرعيها الديمقراطي والاشتراكي الاجتماعي، والمنهج المقارن يركز على تيارات الفكر المعاصر وقضاياه إلا أنه لا يغفل بحال من الأحوال التيارات والمذاهب الفكرية الغابرة المتجددة
3 - التأصيل: فمع أن علم الثقافة الإسلامية علم مقارنة إلا أن منهج هذه المقارنة تابع لمنهج التأصيل، والتأصيل بهذا المقام بحث النظم الإسلامية من خلال الكتاب والسنة ومنهج السلف الصالح ومنهم علماء الإسلام المعتبرون.
4 - النقد: علم الثقافة الإسلامية ليس علم مقارنة وتأصيل فحسب بل هو علم نقد في الوقت نفسه فهو ينقد بموضوعية علمية المذاهب المعاصرة الاشتراكية والتطويرية والرأسمالية أو حتى تلك التي تحارب الإسلام ونظمه كالاستشراق والتنصير[13].
رابعًا: مصادر علم الثقافة الإسلامية:
مصادر الثقافة الإسلامية تنقسم إلى قسمين أصلية وفرعية:
1- المصادر الأصلية:
أ ) القرآن الكريم: فالقرآن هو المصدر الأول للثقافة الإسلامية فيه خبر من قبلنا ونبأ من بعدنا وفضل ما بيننا، وهو سجل الكون الإلهي ونظام الحياة العالمية، وقد اشتمل على أحكام ثابتة كالعقيدة والأخلاق والآداب وجميع ما نص عليه بنصوص قطعية الثبوت والدلالة وأخرى متغيرة لكن كلها قواعد وأصول كلية وصدق الله إذ يقول: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ}[14] وقوله: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ}[15].(/7)
ب ) السنة المطهرة وهي المصدر الثاني للتشريع وهي التي جاءت مفسرة وموضحة ومؤكدة ومفصلة ومخصصة لمجمل وعلوم القرآن الكريم.
2- المصادر الفرعية فكثيرة منها الإجماع والقياس والاستحسان والمصلحة المرسلة وغيرها بشرط ألا تخالف نصً في كتاب أو سنة أو أصلا مجمع عليه من علماء الأمة الإسلامية وتشمل أيضًا التراث الإسلامي وكل ما ورثناه عن السلف الصالح من علوم ومعارف وأفكار واجتهادات في شتى المجالات المختلفة وتشمل أيضًا الخبرات الإنسانية النافعة مع أن الإسلام يؤكد على الاستقلال والتميز لكنه يكره العزلة عن الناس والحياة والمسلم كائن اجتماعي وإنساني وعلى هذا فالخبرات الإنسانية النافعة خليق بأن تكون مصدرًا إضافيًا للثقافة الإسلامية، على أن تكون من أمور الدنيا التي لا تتعارض مع نصوص القرآن والسنة والقواعد والكليات المتفق عليها في الشريعة الإسلامية لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((أنتم أعلم بشؤون دنياكم)) أخرجه مسلم[16](16).
خامسًا: قضايا علم الثقافة الإسلامية وأثرها في الحياة المعاصرة:
أهم القضايا التي تبحثها الثقافة الإسلامية هي:
أولاً: نظم الدين الإسلامي ومن أهمها ما يلي:
1- نظام العقيدة.
2- نظام العبادة.
3- نظام الدعوة والاحتساب.
4- النظام التعليمي.
5- النظام الخلقي.
6- النظام العائلي.
7- النظام الاقتصادي.
8- النظام السياسي.
وهذه النظم يبحثها علم الثقافة من حيث مصدرها، وأسسها، وخصائصها وأهدافها وآثارها ومسائلها الكبرى وأما التفصيلات فشأن المتخصصين في هذه النظم.
ثانيًا: المفاهيم المتعلقة بالنظام الإسلامي ومنهجه:
مثل: الحرية، والتسامح الديني، والعلم، والتجديد في مجال الدين، وحقوق الإنسان المدنية وغيرها فهذه المفاهيم يسعى علم الثقافة إلى تأصيلها على أساس من المنهجية الإسلامية المعتمدة على الكتاب والسنة ومنهج السلف الصالح، ودفع المفاهيم الخاطئة فيما يتعلق بالموضوعات السالفة الذكر.(/8)