3 - يترك البت في شأن هذه المصطلحات تطبيقها للحاكم للمسلم، أو من ينوب منابه عند غيابه من أهل الحل والعقد، لأنها أحكام منوطة بتقدير الإمام لمصلحة الإسلام والمسلمين.. كما يحسن أن تكون الاجتهادات فيها جماعية، وبعيدة عن الاجتهادات الفردية والآراء الشخصية.
4 - الحاجة قائمة إلى مصطلحات جديدة تستوعب حاجات المسلمين اليوم، وتنطلق من واقع حالهم، وتستند إلى الأصول الشرعية، وتستنير بالمصطلحات السابقة.. وذلك: كمصطلح ((دار الاسترداد)) وغيره، فالمسألة مسألة اجتهادية وليست بتوقيفية.
5 - لا يصح تعميم حكم الإقامة في بلاد الكافرين اليوم سلباً أو إيجاباً، ولابد من أن يراعى في الحكم فيها مختلف الأصناف المقيمة في تلك البلاد، فهناك الإقامة الواجبة والمطلوبة، وهناك الإقامة الممنوعة والمحرمة، وهناك الإقامة التي يمكن أن تدخل في دائرة الجواز والإباحة... والله أعلم
والحمدلله رب العالمين
ـــــــــــــــــــ
[1] الآيات (118 – 119) من سورة هود عليه السلام.
[2] الحديث رواه البخاري، رقمه (1356)، صحيح البخاري مع فتح الباري 3/219.
[3] الآية (107) من سورة الأنبياء.
[4] الآية/ 110 من سورة آل عمران.
[5] الآية/ 28 من سورة سبأ.
[6] الآية/ 107 من سورة الأنبياء.
[7] الآيات/ 7، 8، 9 من سورة الممتحنة.
[8] الآية/ 61 من سورة الأنفال.
[9] الآية/ 90 من سورة النحل.
[10] الآية/ 29 من سورة المائدة.
[11] الآية/ 29 من سورة الفتح.
[12] الآية/ 54 من سورة المائدة.
[13] الآية/ 4 من سورة الممتحنة.
[14] الحديث رواه الترمذي وغيره، ((سنن الترمذي)) رقم (2625) ط دار الفكر.
[15] انظر ((العلاقات الخارجية في دولة الخلافة)) للدكتور. عارف خليل أبو عيد (ص15، 16) نقلاً عن كتاب: ((منهج الإسلام في الحرب والسلم)) لعثمان ضيمرية ص36.
[16] ((المبسوط)) للسرخسي (10/2) ط، دار المعرفة، بيروت.(220/21)
[17] لا أرى ضرورة لما ذهب إليه بعضهم في تعريف الدولة الإسلامية، من اشتراط أن تكون الأغلبية العددية فيها للمسلمين – وإن كان ذلك غالباً – كما ذهب إليه الدكتور. عارف خليل في كتابه ((العلاقات الخارجية في دولة الخلافة، ص24، لأنه قد تخضع مجموعة كبيرة غير مسلمة لنظام الإسلام، وتصبح الدولة التي هم فيها مسلمة، بمجرد تطبيق نظام الإسلام فيها، كما حدث في بعض البلدان المفتوحة، قبل أن يدخل أهلها في الإسلام، والله أعلم، وفي هذا يقول الإمام الرافعي الشافعي: ((ليس من شرط دار الإسلام، أن يكون فيها مسلمون، بل يكفي كونها في يد الإمام وإسلامه)) انظر ((فتح العزيز)) (8/14).
[18] انظر ((المعجم الوسيط)) (1/302).
[19] الآية/ 145 من سورة الأعراف.
[20] الآية/ 27 من سورة الأحزاب.
[21] الآية/ 8 من سورة الممتحنة.
[22] ((سنن النسائي)) (87/ 144، 145) ط. دار الفكر.
[23] ((صحيح البخاري مع الفتح)) (7/264).
[24] الآية/ 81 من سورة القصص.
[25] الآية/ 91 من سورة الأعراف.
[26] ((صحيح البخاري مع الفتح)) (3/251).
[27] الحديث رواه البخاري ومسلم بلفظ مقارب: انظر ((صحيح البخاري مع الفتح)) رقم (3779، 3790، 3791، 6053) والفتح (7/115) و(10/471).
وانظر صحيح مسلم بشرح النووي (15/47) و(1/69 – 71).
[28] يشير إلى حديث ((ألا أخبركم بخير دور الأنصار...)) الذي ساق هذا الكلام في بيان غريبه.
[29] ((النهاية في غريب الحديث)) (2/139).
[30] ((الفقه الإسلامي وأدلته)) للدكتور الزحيلي (8/266، 267).
[31] ((المغني)) لابن قدامة (12/260) تحقيق الدكتورين: التركي والحلو.
[32] انظر ((ردّ المحتار على الدر المختار)) لابن عابدين (3/253)، و((المغني)): (12/283، 284).(220/22)
[33] الحديث يذكره علماء الحنفية في ((باب الربا)) وأورده ابن قدامة في ((المغني)) وضعف سنده والاستدلال به. وقال عنه المعلقان في الحاشية: ((قال الزيلعي: غريب، وأسند البيهقي في كتاب السير عن الشافعي قال: قال أبو سيف: إنما قال أبو حنيفة هذا، لأن بعض المشيخة حدْثه عن مكحول، عن رسول الله r أنه قال: لا ربا بين أهل الحرب، أظنه قال: ((وأهل الإسلام)) قال الشافعي: وهذا ليس بثابت ولا حجة فيه)) انتهى كلامه، نصب الراية (4/44) وانظر المغنى (6/99).
[34] ((بدائع الصنائع)) (5/4375).
[35] ((بدائع الصنائع)) (5/4375).
[36] انظر ((العلاقات الخارجية في دولة الخلافة)) ص52.
[37] انظر ((شرح السير الكبير)) للسرخسي (3/81).
[38] انظر ((السياسة الشرعية)) لعبدالوهاب خلاف ص71.
[39] انظر ((أحكام أهل الذمة)) لابن القيم (2/475، 476) تحقيق الدكتور. صبحي الصالح.
[40] ((الأحكام السلطانية)) للماوردي ص138.
[41] ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (28/241).
[42] ((حاشية البحيرمي على الخطيب)) (4/220) ط. دار الفكر.
[43] ((بدائع الصنائع)) (9/4374)، و((الفتاوى الهندية)) (2/232) و((رد المحتار على الدر المختار)) (3/253).
[44] ((رد المحتار على الدر المختار)) (3/253).
[45] ((أحكام الذميين والمستأمنين في دار الإسلام)) للدكتور عبدالكريم زيدان ص:20 – 21.
[46] ((رد المحتار)) (3/253).
[47] ((رد المحتار)) (3/253).
[48] هكذا جاءت في الأصل، ولعلها ((أهلها)) كما صححها هذا التصحيح الدكتور: عارف خليل دون إشارة إلى الأصل، في كتابه ((العلاقات الخارجية)) ص61.
[49] ((مجموع الفتاوى)) (28/241).(220/23)
[50] ذلك لاختلاف الربا في البنوك اليوم عن الربا السابق، فقد علل الفقهاء قول الإمام أبى حنيفة رحمه الله بإباحة أخذ الربا من الحربي في دار الحرب، بسبب إضعافه بذلك، وإضعاف المحارب مطلوب، أما البنوك الربوية اليوم، فتتقوى به، إذ تستفيد من الأموال المودعة عندها أكثر بكثير مما تعطيه عنها من فوائد، والحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً فليتنبه للكل.
[51] انظر ((العلاقات الدولية في الإسلام)) لأبي زهرة ص57.
[52] انظر ((العلاقات الخارجية في دولة الخلافة)) ص61.
[53] الآيات (97 و98 و99) من سورة النساء.
[54] الحديث رواه البخاري رقم (3077) من صحيح البخاري مع الفتح (6/189).
[55] الحديث رواه أبو داود في سننه، رقم (2645) في سنن أبي داود مع معالم السنن (ظ/104 و105)، وهو في سنن الترمذي قريباً من لفظه، انظر رقم (1654) من سنن الترمذي مع تحفة الأحوذي (5/230) تحقيق عبدالوهاب عبداللطيف.
[56] رواه أبو داود، قال المباركفوري: أخرجه أبو داود مرفوعاً: ((من جامع المشرك، وسكن معه فهو مثله))، وذكره الترمذي بنحوه، ولم يذكر سنده، تحفة الأحوذي (5/230).
[57] ((فتح الباري)) (6/190).
[58] ((معالم السنن)) (3/105).
[59] ((مجموع الفتاوى)) (28/240).
[60] ((رد المحتار على الدر المختار)) (3/253).
[61] ليس من بين الأصناف الثلاثة المسلمون من أهل تلك البلاد، والكلام خاص بالمسلمين الوافدين إليهم.
[62] الآية/ 15 من سورة الزمر.(220/24)
العنوان: الأطفالُ.. ملاحظةٌ دقيقةٌ.. وإعجابٌ عمليٌّ!!
رقم المقالة: 918
صاحب المقالة: إبراهيم الأزرق
-----------------------------------------
جَمعَ مجلسُ المنزل أفرادَ العائلة في ساعةِ ودٍ ووئام..
الأبُ: هل جاء أحدٌ اليوم؟
حنان: نعم يا أبي! جاء العمُّ عبدُ الجبار.
الأب: ومن الذي ضَيَّفَه؟
حنان: أخي الصغير عمّار.
الأب: جيد...
الأم: بهذه المناسبة؛ أين عمار؟
وما إن فرغتْ من تساؤلها حتى أقبل عمارٌ؛ طفلٌ لم يتعدَّ السابعةَ، يسير بثقةٍ، وكأنَّ شيئاً لم يكن...
دخل عمارٌ المجلسَ مُسَلِّماً، وعندها هبَّ كلُّ مَن فيه، وقد تلبَّستْ بهم حالةٌ غريبةٌ.. فمِن قائل:
- ما هذا!
- مَنِ الذي صنعَ بك هذا؟
- ماذا حدثَ لكَ!
- ...
لم يفهمْ عمّارٌ وجهاً لتلك الدهشةِ، وذلك الصياحِ!
قَطَّبَ تقطيبَ المُغْضَبِ الضَّجِرِ، ولسانُ حالِهِ يقول: ما وراءَكم؟
الأب: ما الذي جَرَحَكَ، وَمَن حَلَقَ رأسَك بهذه الطريقة؟!
وهنا بدأ عمارٌ يتفهَّمُ الأمرَ...
(إممم!!)... قال وقد علتْه ابتسامةٌ هادئةٌ، بعد أن أغلقَ عينيه مغتبِطاً ورفعَ أٌصبعَه مبيِّناً:
لم يَعْتَدِ عليَّ أحدٌ يا أبي! أنا الذي حلقتُ رأسي بهذه الطريقةِ، ألا أبدو جميلاً...؟
الأب بصوتِ المستشيطِ غضباً: مـ... ماذا؟!
وهنا فتحَ عمارٌ عينَه ليحبِسَ أنفاسَه ُمُتَوَجِّساً؛ فقد بدا له تَمَعُّرُ وجهِ أبيه جليّاً، وخُيّل إليه أنه يرى الدُّخَان يخرج من أنفِه من النَّفَسِ المحموم...
استجمعَ الطفلُ شجاعتَهُ، وتداركَ الأمرَ، فقال مردِفاً مُوضِحاً القضيةَ: أردتُ أن أكون مثلَ العمِّ عبدِ الجبار؛ فقد صنعَ ذلك هو أيضاً!
سكتَ الأبُ هنيهةً، وبدأَ يتحولُ غضبُه إلى أَسَفٍ.. ثم عَجَبٍ.. فَضَحِكٍ!
لقد حَبَا اللهُ العمَّ عبدَ الجبارِ بعضَ الصفاتِ التي جعلته محبوباً لدى بعض الأطفالِ، وكان منهم عمارٌ!(221/1)
فحاول طفلُنا أن يتقمَّصَ شخصيةَ العمِّ عبدِ الجبار، التي كان مما يميِّزُها صَلَعٌ امتد على معظمِ مَفرِقه.. لم يكن عمارٌ ليفهم أنه أمرٌ لا يَدَ للعمِّ عبدِ الجبارِ فيه!
فما كان منه بعدَ لقاءِ العمِّ عبد الجبار إلاّ أن دخلَ الحمامَ، على حين غفلةٍ من الأمِّ، ومعه آلة الحِلاقة، محاولاً أن يصنعَ صَلْعَةً جميلةً، كتلك التي صنعها العمُّ عبد الجبار!!
أخي القارئ الكريم! أجدُني مضطرّاً إلى التأكيد على أن ما ذكرتُه هنا حاصِلُ قصةٍ واقعيةٍ... ليس أُسُّها ضرباً من الخيال، بل هكذا صنعَ صغيرُنا، تقليداً لجارِنا العزيزِ؛ حلقَ رأسَه، لتكونَ له صلعةٌ كصلعته!
وغرضي من سردِ الخبرِ التنبيهُ إلى قضيتين؛ ينبغي أن نلتفتَ إليهما في تعامُلِنا مع الأبناءِ.. أما الأولى: فهي العنايةُ بدقةِ ملاحظتِهم، وسَعَةِ خيالهم، فلا تَحْسَبِ النَّظْرَةَ والهمسةَ والحركةَ تعزُبُ عنهم! ويغلط كثير من المربين والآباءُ يومَ يظنون أن ابنهم لا ينتبه إلى ما يقال. نعم! قد لا يُعلِّقُ الابنُ في ساعتِه، وقد يواصلُ لعبَهُ، وكأن شيئاً لم يكن؛ لكنّ هذا لا يعني أنَّ ما وقعَ غائبٌ عن مخيِّلتِه.
وأُذكِّر - بهذه المناسبة - أني وجدتُ ابنةَ بعضِ الفضلاء - ولها من العمر نحوُ سنتين - ترددُ وتقولُ:
الخِدْرَ خِدْرَ عُنَيزَةٍ!
فَعلتْني وصاحِبي الدهشةُ؛ إذ البيتُ من ماجِنِ شعرِ امرئِ القيسِ في معلَّقتِه!! يقول:
وَيَومَ دَخَلْتُ الخِدْرَ خِدْرَ عُنَيزَةٍ فقالتْ: لكَ الوَيْلاتُ إِنَّكَ مُرْجِلِي!
الأبيات..
وعندها قالَ أبوها مبيِّناً: كانتِ البنتُ بجواري، وكنت أحفظُ من المعلقةِ، وأرددُ بعضَ أبياتِها، فسمِعَتْ ذلك، وعَلِقَ بذاكرتِها!
وذاكرةُ الإنسانِ - على خلافِ الذواكر الحاسوبية - لا يتأتّى مسحُها؛ فانتبه!(221/2)
وعوداً إلى خبرِ عمارٍ والعمِّ عبد الجبار؛ فالقضيةُ الثانيةُ التي ينبغي التفطن إليها هي: دأبُ الأطفال على تقليدِ من يُعجَبون بهم، في كلِّ صغيرٍ وكبير، وهذا ما يحتم علينا أن نكون قدوات صالحةً لهم، فكلُّ ابنٍ ينظرُ إلى ذويه، وكلُّ فتاة بأبيها معجبةٌ، ويتأكد هذا في السنين الأولى، التي تتولدُ فيها مفاهيمُ أساسيةٌ لديهم.
فاحرص - أيها الأب - على أن تكون قدوةً صالحةً، وإياكَ إياكَ أن تربطَ ابنَكَ بِمُرَبٍّ أو قدوةٍ لديه خللٌ بَيِّنٌ في جانبٍ قد يكون مؤثِّراً، كالأخلاق والسلوك، حتى لا يصنَعَ ابنُك ما صنعه عمارٌ، فتُجرَح أخلاقُه جرحاً يصعب التئامُه.
حفظ الله لي ولكَ الذُّرِّية، وجعلنا وإياهم مباركين.(221/3)
العنوان: الأطفال والصدقة
رقم المقالة: 1683
صاحب المقالة: خاص: الألوكة
-----------------------------------------
الأطفال والصدقة (قصة للطفل)
يحاول الكاتب، الأستاذ محمد غنام، في القصة التالية أن يوصل إلى الطفل مَثلاً عليًّا، وخُلقاً إيمانيًّا سامياً يفعله الأتقياء الأخفياء.. وهو (إخفاء الصدقة)، لتكونَ دليلا على صِدق المُتَقَرِّب بها إلى اللّه، ولتبتعد بصاحبها عن الرياء والنفاق.
اقتداءً بقوله عليه السلام في حديث السبعة الذين يُظلهم الله في ظله يوم لا ظلَّ إلا ظله: "ورجُل تصدَّق بصدقةٍ فأخفاها؛ حتى لا تعلمَ شِمالُه ما تُنفِق يَمينُه".
وفي التربية الإسلامية، على المربي أن يلاحظ أن من المواطن التي يفضّل فيها الجَهرَ بالصدقة: إذا قصد أن يَقتدي به أبناؤه أو تلاميذه، ويتنافسوا في الخَير..
وعليه أن يبين لأبنائه وتلاميذه الفوائد الدنيوية والأخروية التي تعود على المتصدق بماله.. كمداواة الصدقة للأمراض، وأنها زيادة في الأعمار والحسنات، وأن الله يقبلها ويأخذها بيمينه فيربيها كما يربي الواحد منا مهرَهُ، وأن الصدقة لا تُنقص المالَ بل تزيده، وأنها أَولى للأقربينَ وأعظمُ أجراً، وأن لها أوقاتاً يعظم فيها الثواب عليها.
فلنقرأ :
مَن تصدَّق بصدقة فليُخفِهَا
دخَلا البيت بسرعة.. حازم ومُنْذِر..
صاح حازم: أمي.. أين أنتِ يا أمي؟
وصاح مُنْذِر: أمي.. أريدُ أن أقول لكِ شيئًا.
أَتَتِ الأمّ - مُسْرعة -:
ما بكما؟! .. ماذا حدث لكما؟!
قال حازم:
أمي.. سيُحِبُّني الله كثيرًا.
وقال مُنْذِر:
وأنا أيضًا يا أمي.
قالت الأم: اهْدَأا .. ما الحكاية؟!
قال حازم:
رأيتُ - قبل قليل - جارنا حمْدان في الشارع.. إنه فقيرٌ يا أمي، وأعمى أيضًا.. كان يريد أن يَعْبُرَ الشارع؛ ولكن كَثْرة السيارات، والعربات كانت تَمْنَعه.. وطبعًا ساعدته في العُبُور.
قال مُنْذِر مُقاطِعًا:(222/1)
وأنا ساعدتُه أيضًا يا أمي، وأعطيْتُه الرِّيالَ الذي كان معي؛ لأنه رجل فقير، وعنده أولادٌ كثيرون.
قال حازم: نعم يا أمي، ما قاله مُنْذِر صحيح، هو أعطاه رِيالاً، وأنا أعطيته ريالاً آخر كان معي.
ضَحِكَتِ الأمُّ وقالت: كِلاكما يستحقّ رضا الله، ومحبته يا وَلَديَّ؛ لكِنَّكُما أخطأتُمَا..
قال حازم ومنذر - بسرعة -: وكيف؟
قالتِ الأم:
كان عليكُما أن تُساعِدا الرجل دون أن تَذْكُرا لأحد أنكما ساعدتُمَاه؛ لأن من آداب الإسلام أن يُخْفِيَ الإنسانُ ما يعملُه من خير، ففي ذلك مَرْضاةُ الله، وثوابُه.
خجل الاثنان كثيرًا ..
وقرَّر كلٌّ منهما أن يَبْذُل الخير، ويَسْعَى إلى ما فيه مَصْلحة المسلمين، وأن يعمل ذلك في صَمْت وخَفَاء.(222/2)
العنوان: الأطماع الإسرائيلية في المياه العربية "استراتيجية وتاريخ"
رقم المقالة: 1971
صاحب المقالة: د. رمزي سلامة
-----------------------------------------
الأطماع الإسرائيلية في المياه العربية "استراتيجية وتاريخ"
أدرك القادة الصَّهَايِنَةُ منذ مائة عام - أي قبل قيام دولتهم في 1948م - الموقف المائِيَّ الحَرِج الَّذي يمكن أن يَجعل أَمْنَهُم مُهَدَّدًا، وخاصَّة مع الأهَمّيَّة القصوى التي تحتلهما الزراعة والاستيطان في الأيديولوجية الصِّهْيَوْنِيَّةِ، وكان الحلُّ في نظرهم هو ضرورة الاعتماد على الموارد المائية في البلدان المجاورة، وإذا كان هذا الأمر قد تحقَّق بقوة السلاح فيما بعد، فإنَّه في البداية كان عبارة عن مطالب يبعث بها الصهاينة إلى القوى البريطانية والأمريكية التي ستساعدهم على تأسيس دولتهم.
فقد وضعت الحركة الصِّهْيَوْنِيَّةُ منذ بازل (1898م) خريطتها لدولة إسرائيل على أساس التحكُّم في مجمل المصادر الطبيعية للمياه بالمنطقة؛ بل خططت لتغيير خريطتها الطبيعية في مجاريها ومصَبَّاتها لحسابها، ليس فقط بالنسبة لمجرى نهر الأردن الرئيسيِّ؛ بل وأيضًا لمنابعه وروافده العليا (الدان، بانياس، الحاصباني)، والوسطى (اليرموك)، وشملت خريطتها المائية الليطاني في لبنان؛ بل ونهر النيل في مصر، فأرض الميعاد لدى الإسرائيليين تمتد في خِطَطِهِمُ السّرّيَّةِ من النيل إلى الفرات.
وإسرائيل - التي لا تضع خِطَطَها على الورق - قد عمدت فورًا لتنفيذ استراتيجيتها المائية من أوَّل سنة بعد تأسيس دولتها مباشرة كما سنرى.(223/1)
- وحين فكر هرتزل مؤسس دولة إسرائيل في إنشاء الدولة عام 1897م ربط بين المياه وبقاء هذه الدولة؛ لذا فقد حاول الحصول على وعد من السلطان عبدالحميد الثاني بهجرة اليهود إلى فلسطين، ولمَّا فَشِلَ في ذلك، اتَّجهت أنظاره إلى سَيْناءَ، وتشكلت في عام 1902 لجنة من ثمانية أعضاء يهود اتَّجهت إلى العريش لدراسة المنطقة، وفي مارس 1903 أقرَّت صلاحية شمال سيناء لاستيطان اليهود، وآنذاك لم توافق مصر ولا الدولة العثمانية ولا بريطانيا على نقل الماء إلى سيناء من النيل.
- لقدِ استعان الصهاينة منذ مطلع القرن العشرين بمساندة إنجلترا والولايات المتحدة لتضمين حدود فلسطين منابع مائية لم تكن ضمن حدودها من قبل في مؤتمر فرساي بفرنسا (3 فبراير 1919م)، والذي يطلق عليه مؤتمر الصلح، تقاسم الحلفاء غنائم الحرب الأولى، كما نجح الصهاينة في اقتطاع جزء كبير من جنوب لبنان، وضَمِّهِ إلى فلسطينَ ليكون لها – أي إسرائيل – مصدرًا واحدًا على الأقل من مصادر مياه نهر الأردن الشمالية، وجزء كبير من الأراضي الواقعة على الضفة الشرقية في أعالي الأردن على امتداد الحدود الشرقية لبحيرة الحولة، وكل بحيرة طَبَرِيَّة، كل هذه المناطق ضمت إلى فلسطين؛ ليكون لإسرائيل السلطة المطلقة على نهر الأردن، كما امتدت آمال اليهود إلى تأمين منابع المياه الأخرى لنهر الأردن؛ كاليرموك والليطاني.
وقد أدلى هربرت صموئيل في مؤتمر الصلح بفرساي (وكان أول مُفَوَّض سامي بريطاني في فلسطين وهو صهيوني) بتصريح جاء فيه "أن جبل الشيخ هو مصدر المياه الحقيقي لفلسطين، ولا يمكن فصله عنها دون أن يترتَّب على ذلك القضاء على حياتها الاقتصادية، لذلك يجب أن يخضع كليًّا لنا، كما يجب التوصُّل إلى اتّفاق دولي لتأمين المياه في جنوب نَهْرِ اللّيطاني".(223/2)
وليس هذا الفِكر بِجَديد، فحين تَشكَّلت اللجنة الاستشارية لفلسطين بعد وعد بلفور عام 1917م لتعيين حدودها، وكانت غالبيَّة أعضاء اللجنة منَ الشخصيات الصهيونية الناشطة، قدَّمت هذه اللجنةُ اقتراحاتِها في 6 أكتوبر عام 1918م بأن تكون الحدود على الشكل التالي (استنادًا إلى ما أسمَوْه بالعوامل التاريخية والجغرافية والاقتصادية):
شمالاً: نهر الليطاني حتَّى بانياس بمقربة من منابع نهر الأردن.
شرقًا: غرب خط حديد الحجاز.
غربًا: البحر الأبيض المتوسط.
جنوبا: إلى نقطة بالقرب من العقبة.
أي أن تشمل فلسطين اليهودية (إسرائيل) كل فلسطين الموضوعة تحت الانتداب، ولبنان الجنوبي بما في ذلك مدينتي صور وصَيْدَا، ومنابع نَهْرِ الأردن، وجبل الشيخ، والجزء الجنوبي من الليطاني، ومرتفعات الجولان السورية بما في ذلك مدينة القنيطرة ونهر اليرموك، ووادي الأردن بكامله، والبحر الميت، والمرتفعات الشرقية حتَّىب مشارف عمان إلى خط يتجه جنوبًا بمحاذاة الخط الحديدي الحجازي، وحتى خليج العقبة، وتجريد الأردن من كل منفذ بحري.
- أمَّا سيناء فقد اكتفى المخطّط بِالحُصول على الجُزْءِ الممتَدّ فيها من العريش على البحر المتوسّط باتّجاه جنوبي مستقيم حتى خليج العقبة.
- ومن أراضي المملكة العربية السعودية شمل المخطط ضم الجزء الشمالي الغربي من الحجاز، والواقع إلى الغرب من خطي سكك حديد الحجاز حتى مدخل العقبة، وكذلك المنطقة الممتدة من المدينة المنورة (التي كان يقْطُنها اليهود قديمًا) إلى أقصى شمال الحجاز مع حُرّيَّة الوصول إلى البحر الأحمر، وفرصة إقامة مواني جديدة على خليج العقبة.(223/3)
- وفي 29 / 12 / 1919م كتب "حاييم وايزمان" أوَّل رئيس لدولة إسرائيل إلى لويد جورج رئيس وزراء بريطانيا رسالة بطلب جاء فيها: "إن مستقبل فلسطين الاقتصادي كله يعتمد على موارد مياهها للري والكهرباء، وتستمدّ موارد المياه بصفة رئيسية من منحدرات جبل حرمون (جبل الشيخ)، ومن نَهْرَيِ الأردن والليطاني، ونرى من الضروري أن يضم حد فلسطين الشمالي وادي الليطان.
وقد أعاد وايزمان نفس المطالب في العام التالي 1920م في رسالة إلى لورد كروزون وزير الخارجية البريطاني أكَّد فيها: "أنَّ الصَّهاينة لا يُطَالِبُونَ فَقَطْ بِتَقْسِيم فلسطين؛ ولكنَّهم يُرِيدون مدَّ حدود الوطن القومي؛ ليشمل جنوب لبنان".
وكَتَبَ لويد جورج إلى مُمَثِّلي فرنسا رسالةً يدَّعي فيها أنَّ المياهَ ضروريَّة لِوجود فلسطين، وأنَّ جميعَ اليهود متَّفقون على أنَّ منابِعَ جَبَلِ الشيخ (حرمون) ونَهْرِ الأردن ضروريَّة لِلبلاد، وأنَّ هذه المياه لا يستغِلّها أحدٌ في سوريا؛ ولِهذا فهو يطالب ممثلي فرنسا أن ينظروا بتجرُّد إلى مسألة تخطيط حدود فلسطين، وكان ردّ وزير الخارجية الفرنسي أنَّ مياه سوريا الجنوبية تستخدم لري أراضي شمال الأردن، وأنَّ ثلوج حرمون (جبل الشيخ) ثروة دمشق فلا يمكن حرمان سوريا منها، كما أنَّ مِياه نَهْرِ اللّيطاني تروي أخصب بقاع سوريا، وأضاف أن حدود فلسطين التَّاريخيَّة غير معروفة؛ ولكنه يرى أنَّ خطَّ عرض بحيرة طبرية يدلّ عموما على الحدود الفلسطينية.(223/4)
وإذا كان القادة الصهاينة لم يحصلوا من مؤتمر فرساي على الحدود التي طالبوا بها ورسموها؛ إلا أنهم نجحوا في اقْتِطاع بعض الأجزاء من جنوب لبنان، والضفة الشرقية في أعالي الأردن، وبحيرة طبرية بأكملها، وأجزاء من سوريا بحدودها الشمالية، وبحيرة الحولة لتضم إلى فلسطين ولتسيطر إسرائيل تمامًا على مياه حوض نَهْرِ الأردن، ومَع ذلك لم يقنع الصهاينة بذلك، واعتبروا هذه الحدود حدودًا مؤقتة، لأنَّها لم تحقق متطلبات الوطن القومي اليهودي الاقتصادية والاستراتيجية.
- وقد أخذ الصِّراع حول المياه بين إسرائيل والعرب شكل مشروعات ومشروعات مضادة، وظل الفارق بينهما – ولا يزال - أنَّه بينما كانت المشاريع العربية تقف عند حد الطرح على الورق، ثم لا يَتِمّ تنفيذها بسبب الخلافات العربية والعقبات الإسرائيلية، كانت المشروعات الإسرائيلية تجد طريقها وبسرعة إلى التنفيذ، مستحدثة في ذلك كل الأساليب المشروعة وغير المشروعة (انظر الفقرة التالية عن المشروعات المائية بالمنطقة).
- في عام 1967م نَشَبَتْ حربُ الأيَّام السّتَّة بعد الفخّ الذي رسم بعناية لاستدراج مصر وتعبئة الرَّأيِ العام العالمي ضدَّها، على اعتبار أنَّ مِصر عبدالناصر دولةٌ مُعْتَدِية أغلقتْ خليجَ العقبة أمام البواخر الإسرائيلية، وحشدت جُيوشَها في سيناء، وهددت بقذف إسرائيل الضعيفة الصغيرة (أقل من 2 مليون نسمة آنذاك) في مياه البحر المتوسط!(223/5)
وكانت إسرائيل قد مهَّدت لحرب يونيو 1967م بغارات استهدفت نهر الحاصباني؛ لمنع تحويل قسم من مياهه إلى مَجرَى نَهْرِ اللِّيطاني، كذلك ليس سرًّا أنَّ أحد الأهداف الرئيسية لحرب 1967م كان تدمير المنشآت العربية على المجرى الأعلى لنهر الأردن، وسدِّ خالد بن الوليد على نهر اليَرْمُوك، بعدما كان السوريون والأردنيون قد أنجزوا القِسْمَ الأوَّل منه، وفي هذا السياق يُجمِعُ المحلِّلُون على أنَّ احتلالَ إسرائيل لهضبة الجولان السورية؛ إنما كان لأسباب عسكرية لموقعها الاستراتيجي المطلِّ على إسرائيل وأيضًا لأسباب مائية ظهرت فيما بعد؛ كما سبق وذكرنا، كما أنَّ استيلاء إسرائيل على الجنوب اللُّبْناني في 1978م ثم 1982م، قد ضَمِنَ لها التحكُّمَ في مِياه نَهْرَيِ اللّيطاني والوزاني، وسهَّل لَها احتلالَ الضفة الغربية وغزة مصادر مائية جوفية، وقننت استخدامها على المواطنين العرب.
- بعد حرب 1967م كتب ليفي أشكول رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك "إن حرب التحرير حققت لإسرائيل مكاسب ضخمة بمساحات كبيرة من الأرض، ولكن خلال فترة قصيرة اتَّضح لنا أن سبب عدم تطوير الزراعة هو قلة المياه وليس قلة الأرض. إن مصادر المياه موجودة بشمال البلاد في حين أنَّ جنوب البلاد قاحلة، وبهذا الشكل خلق الله إسرائيل وعلينا الالتزام بالإصلاح والتطوير، إنَّ إسرائيل العطشى لا يمكن أن تقف مكتوفة الأيدي، وهي ترى مياه الليطاني تذهب هدرًا إلى البحر.
- مِمَّا سبقَ يتَّضح أنَّ المياه العربية كانتْ سندًا قويًّا في السياسة الصهيونية والإسرائيلية لتمسّكها باختيار فلسطين لتكون وطنًا قوميًّا لليهود منذ الحرب العالمية الأولى وحتَّى اليوم، حيثُ وضع زعماء الحركة الصهيونية العالمية قضية المياه نصب أعينهم عندما طالبوا بتأسيس دولة إسرائيلية سياسيًّا، واختاروا لها شعار (من النيل إلى الفرات أرضك يا إسرائيل).
المشروع المائي الإسرائيلي(223/6)
ذكرنا أنَّ الصِّراعَ الإسرائيليَّ - العربيَّ على المياه أخذ شكل المشروعات والمشروعات المضادَّة، وذكرنا أنَّ إسرائيل كانت دومًا الأسرع إلى التنفيذ وبالطرق المشروعة وغير المشروعة، ونضيف هنا أنَّ المشروع العربيَّ للمياه لم يتحقَّق أبدًا في منطقة حوض نهر الأردن؛ لأن إسرائيل - باستثناء بعض الإنشاءات البسيطة – كانَتْ تَحُولُ دون قيام أيّ مشروع عربي لا توافق هي عليه.
وقَدْ تَبَلْوَرَ المشروعُ المائِيّ الإسرائيلي في خطوطه العريضة في خمسة بنود، وكان نتاجًا لمشروعاتٍ واقتراحات ودراسات عديدة لا داعي لشرحها (مشروع أبي ديبرس 1938م، مشروع لادورميلك 1939م، مشروع هايز 1948م، مشروع ماكدونالد 1950م، مشروع بنجر 1952م، مشروع جونستون 1953م).
وباختصار يقوم المشروع المائي الإسرائيلي – الذي نشر كدراسة متكاملة عام 1990م، وبعد محاولات عديدة لطرْحِه وتطويره منذ عام 1974م – يقوم على الأركان الأربعة التالية:
1 - تزويد الضفة الغربية وقطاع غزة بالمياه من مصادر خارجية، ويطرح المشروع النيل أو اليرموك أو الليطاني أو جميعها؛ كمصدر رئيسي خارجي.
2 – نقل مياه النيل إلى شمال النقب؛ حيثُ يَزعُمُ المشروع أنَّ كمياتٍ ضئيلةً منَ المياه بالمقياس المصري (0.5 % من الاستهلاك) لا تشكل عنصرًا مهمًّا في الميزان المائي المصري. كما أن هناك مشروعًا مصريًّا حاليًّا لتزويد سيناء بالمياه يمكن مده.
3 – مشروعات مع لبنان تتضمن الاستغلال الكهربائي لنهر الحاصباني، ونقل الليطاني إلى إسرائيل واستغلاله كهربائيًّا.
4 – هيئة مائيَّة مُشتركة أردنيَّة - إسرائيلية للتنمية المشتركة، واقتسام موارد المياه.(223/7)
والمشروع كما نرى يحتوي – كالعادة – على تجاوزات ومزاعم في الشَّأن المائي، أبرزُها: أنَّ لدى مصرَ فائضًا مائيًّا يضيع في البحر المتوسط، ومعروف أن تصريف أي نهر يحول دون ارتداد المياه أو فيضانه، ويحول دون إحداث كوارث طبيعية، كما أنَّ ذلك التصريف يساعد على التخلّص منَ الأملاح الزائدة والمحافظة على التَّوازُن المِلحي؛ كما أنَّ المشروع الإسرائيلي يتجاهل كون مصر دولة من دول حوض النيل، ولا يحقّ لها الانفراد بالتصرّف في مياه النيل خارج نطاق الحوض، فقواعد القانون الدولي لا تَسمح لها بذلك؛ إلا إذا كانت إسرائيل ترغب في - وتسعى إلى – استعداء الدول الإفريقية الصديقة ضد مصر، وتهديد أمنها القومي.
وربما أن البند الوحيد الذي تحقق – برغم تجاوز الوجود السوري – هو البند الأخير والخاص بالمشروعات المائية الأردنية المشتركة[1].
ويثور السؤال الآن عن ماهية الموقف المائي الإسرائيلي وهل يعاني الفرد في إسرائيل من أزمة مياه تبرر هذا الصراع؟
الموقف المائي الإسرائيلي
تعتمد إسرائيل حاليًّا في أكثر من 55 % من استهلاكها من المياه على ما تَمَّ الاستيلاء عليه عقب حربي 1967م، 1982م من إجمالي الإيراد المائي لها في عام 1990م، والذي يقدر بـ (من 1.8 إلى 1.95 مليار متر مكعب سنويًّا) تستهلك منه حاليًّا 90 %.
- فهي تعتمد - منذ احتلالها للضفة الغربية وغزة - على سحب حوالي 550 مليون م3 سنويًّا من الأحواض الجوفية للضفة إلى جانب حوالي 50 مليون م3 سنويًّا يستهلكها 300 ألف مستوطن يعيشون على أكثر من 150 مستعمرة، شيدتها إسرائيل في الضفة الغربية. وبذلك تستهلك إسرائيل 87.6 % من جملة مياه الضفة القابلة للتجديد والبالغة 742 مليون م3.
- أمَّا قطاع غزة فإن المستوطنين الإسرائيليين الذين يبلغ عددهم (عام 1994م) أربعة آلاف مستوطن يستهلكون حوالي 35 مليون م3 سنويًّا؛ أي حوالي 58 % من جملة مياه قطاع غزة القابلة للتجدد والبالغة 60 مليون م3.(223/8)
- وبقيام إسرائيل بتحويل مجرى نهر الأردن وضخ مياهه إلى المناطق الغربية فيها، بلغت كمية المياه التي تتحصل عليها سنويًّا من هذا النهر حوالي 800 مليون م3 سنويًّا.
- وتحصل إسرائيل من نَهْرَيِ الليطاني (بعد احتلالها للجنوب اللبناني) على حوالي 400 مليون متر مكعب سنويًّا، كما تَحْصُل على حوالي 100 مليون م3 سنويًّا من مياه نهر اليرموك؛ (ولهذا السبب عارضتْ فِكرةَ بناء الأردن لسد خالد بن الوليد، ولم توافق إلا أخيرا جدًّا على بناء سدّ الوحدة على هذا النهر، بعد إبرام اتفاقية سلام شاملة مع الأردن)؛ وأخيرًا تحصُل إسرائيل على حوالي 35 مليون م3 من مياه هضبة الجولان بسوريا.
ويُمْكِنُ تَوْضِيحُ هذا الوضع المائِيّ الإسرائيلي في جدول يلخص جملة ما تحصل عليه من مياه من هذه المناطق التي تحتلّها (جدول رقم 3/4)، فإذا علِمْنا أنَّ الاستهلاك الكلي لإسرائيل يبلغ 1.955 مليار م3 سنويًّا، وأنَّ إجماليَّ ما كانَتْ تَحْصُل عليْهِ من داخل حدودها قبل 1967م، فسوف يتَّضح لنا أنَّ إسرائيل تَحْصُل على مياه من خارج حُدودِها (الشرعيَّة) تبلغ كميتها حوالي 1075 مليون م3 سنويًّا (بنسبة 55% من إجمالي إيراداتها المائية).
جدول رقم (3/4)
مصادر مياه إسرائيل في الوقت الحاضر
---
المصدر كمية المياه (بالمليون م3)
---
نهر الأردن 800
هضبة الجولان 35
نهر الليطاني 400
نهر اليرموك 85
الضفة الغربية 600
قطاع غزة 35
---
المجموع 1.955
---
المصدر : د. بسَّام النصر: "الصراع على مياه وأراضي مناطق الحكم الذاتي"؛ ص 537.
- وبحساب متوسط نصيب الفرد في إسرائيل من المياه (على أساس تعداد سكاني 5.5 مليون نسمة للعام 1998م) فسوف يكون حوالي 355 مترا مكعبا سنوًّيا، وهو كما نرى تحت خط الأمن المائي، الأمر الذي يفَسِّرُ سبب حدة الصراع الإسرائيلي على المياه في المنطقة.(223/9)
- ويقدر العجز المائي بحلول عام 2000 بحوالَيْ 850 مليون متر مكعب سنويًّا، وهو ما يشكل حوالي 45 % من استهلاكها الحالي؛ لمواجهة سُكَّانٍ يَتَزايَدُونَ بِمُعَدّل 2.2 % سنويًّا، وهُناك تقديرات تَصِلُ 10 % فِي السنوات الَّتِي يَزيدُ فيها مُعَدَّل التَّهجير اليهودي من الخارج إلى المستوطنات الإسرائيلية، ومعلومٌ أنَّ الإصلاح الزّراعي يستهلك وحده 75 % من إجمالي الاستهلاك الإسرائيلي للمياه.
- كُل هذه المعطيات المائية الجغرافية السياسية، تُمْلِي على إسرائيل – إن لم يَكُنْ لا خيار لها على الإطلاق – أن لا تفرّط في مورد مائي عربي واحد مِمَّا تستولي عليه الآن، وتعتبره أمرًا واقعًا، وحقًّا مكتسبًا (من وجهة نظرها).
أليس فيما سبق من تفاصيلَ للصورة المائية في المنطقة ما يكفي لتفسير كُلّ هذه المناورات التي تَمْنعُ بِنيامين نيتنياهو (رئيس الوزراء الإسرائيلي الحالي)، من تسليم الأراضي في سوريا ولبنان والضفة بدون الحصول على تنازُل عربِيّ صريح عن بعض حقوقهم في مياه المناطق المحتلة منذ 1967م؟
- إنَّ الحديث عن السلام هو حديث عن المياه قبل الأرض، ولا يمكن لإسرائيل أن تقبل باتفاق سلام لا يجعل مياه المنطقة مشاعًا بين دولها، وهي دعوة تتخذ من السلام ستارًا لها، ففي ضوء ميزان القوة المختل عربيًّا والمائل لصالح إسرائيل لن يعني السلام سوى أن تتحكَّم إسرائيل في المنطقة مائيًّا ثم اقتصاديًّا كما سبق وأن أحكمت قبضتها عليها عسكريًّا، إن إسرائيل تستطيع أن تتنازل عن جنوب لبنان وهضبة الجولان والضفة الغربية؛ لكنها لا تستطيع أن تفرط في لتر ماء واحد تحصل عليه من أي من هذه المصادر الثلاثة.
---
[1] ومن دهاليز السياسة خرج أخيرًا إلى الوجود من جديد مشروع سد الوحدة الأردني السوري، بموافقة إسرائيلية بالطبع؛ ليبدأ التنفيذ في هذا العام 1998م - بمشيئة الله - وذلك حسب ما أفادت به وكالات الأنباء في 17 / 5 / 1998م.(223/10)
العنوان: الأعاصير!
رقم المقالة: 980
صاحب المقالة: إبراهيم صالح العجلان
-----------------------------------------
الخطبة الأولى
أما بعد..
فاتقو الله -أيها المسلمون- حق التقوى، واعلموا أن تقوى الله الملكِ الرحمنِ هي العصمة من البلايا، والمَنَعة من الرزايا، {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق:2]، {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} [الطلاق:4].
معاشر المسلمين..
ويخرج المصطفى -صلى الله عليه وسلم- من بيته إلى المسجد مسرعاً، يجرُّ إزاره خلفه، قلقاً فزعاً، ويأمر المناديَ فينادي: الصلاةُ جامعة! الصلاة جامعة!
ما الذي أفزعه، صلى الله عليه وسلم؟ ما الأمر؟ ما الخبر؟
لقد حدث شيء غريب في هذا الكون؛ انكسفت الشمس! تغير شكلها، ذهب ضياؤها..
ويجتمع الصحابة -رضي الله عنهم- في المسجد، ويصطفون خلف نبيهم -صلى الله عليه وسلم- في صلاة خاشعة، أطال فيها القيام والركوع والسجود، حتى إذا قضى النبي -صلى الله عليه وسلم- صلاته التفت إلى أصحابه فقال: ((إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللهِ، لاَ يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ، وَلاَ لِحَيَاتِهِ! وَلَكِنَّهُمَا آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللهِ، يُخَوِّفُ اللهُ بِهَا عِبَادَهُ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ؛ فَادْعُوا اللهَ، وَكَبِّرُوا، وَصَلُّوا، وَتَصَدَّقُوا))، ثم قالَ: ((يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ، وَاللهِ مَا مِنْ أَحَدٍ أَغْيَرُ مِنَ اللهِ؛ أَنْ يَزْنِيَ عَبْدُهُ، أَوْ أَنْ تَزْنِيَ أَمَتُهُ. يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ، لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ؛ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلاً، وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيراً)).
عباد الله..(224/1)
هذه إحدى الظواهر الكونية التي وقعت في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- وهذا هو موقفه -عليه الصلاة والسلام- في التعامل معها، لم يتعامل معها تعاملاً جامداً، وتحليلاً مادياً؛ بل ربط ذلك بالخالق وتدبيره في هذا الكون، ثم حذَّر الناس -مع هذه التغيرات الكونية- من عصيان ربهم، وانتهاك محارمه.
وهكذا أهل الإيمان؛ ينبغي أن تكون نظرتهم تجاه هذه الظواهر الكونية تختلف عن غيرهم؛ لأن لهم إيمانًا يربطهم بالله تعالى، ولأن لهم عقيدة تخبرهم بما يجري في هذا الكون كلِِّه، بقدر الله، فلا يخرج شيء عن إرادته، ولا يجري شيء بدون مشيئته.
ومن الظواهر الكونية التي تستحق أن نقف معها وقفة تأمل وادِّكار، وعظة واعتبار: ظاهرةُ الريح والإعصار.
إخوة الإيمان..
الريح والإعصار رسلُ نذرٍ وإنذار، من الملك الجبار، وآية من آيات الواحد القهار، {وَمَا نُرْسِلُ بِالآياتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا} [الإسراء:59].
خوَّف العظيمُ الجليل عبادَه بالريح العاتية، وأنذرهم بالأعاصير القاصفة، قال تعالى: {أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا} [الإسراء: 68، 69].
ولعظمة الريح وعظم شأنها؛ أقسم بها ربها، فقال جل في علاه: {وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا، فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا، وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا} [المرسلات:1-3].
وجعلها الله -تعالى- برهانًا دالاً على ربوبيته وألوهيته، قال تعالى: {وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الجاثية:5].(224/2)
وحينما سأل نبي الله سليمان ربَّه ملكًا لا ينبغي لأحد من بعده؛ استجاب الله لطلبه، وسخَّر له الريح طائعة لأمره، قال تعالى: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ} [الأنبياء:81]، وقال سبحانه: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} [سبأ:12]، قال قتادة: (تَغْدُو مَسِيرَةَ شَهْرٍ إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ، وَتَرُوحُ مَسِيرَةَ شَهْرٍ إِلَى آخِرِ النَّهَارِ).
هذه الرياح جند طائع لله تعالى، {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ} [المدثر:31]، فإذا شاء الله صيرها رحمةً، فجعلها رخاءً ولقاحًا للسحاب، فكانت مبشِّراتٍ بين يدي رحمته، ونزول نعمته، {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ} [الروم:46]، وإذا شاء الله جعل هذه الرياح نِقمةً ونكالاً، فكانت صرصراً عاصفاً، وعذاباً عقيماً، قال -تعالى- عن قوم عاد؛ لما كفروا واستكبروا: {وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ، مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} [الذاريات:41-42].(224/3)
هذه الريح جعلها الله سلاماً لنصرة أوليائه، فحينما زُلزِلَ المؤمنون يومَ الخندق زِلزالاً شديداً، وزاغت الأبصار، وبلغتِ القلوبُ الحناجر؛ نصر اللهُ نبيَّه وأولياءَه، فأرسل على أعدائهم ريحاً عاتيةً؛ قلعت خيامَهم، وأطفأت نارهم، وكَفَأت قدورهم،، فارتحلوا بعد ذلك صاغرين متفرقين، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} [الأحزاب:9]، وفي هذا يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((نُصِرْتُ بِالصَّبَا، وَأُهْلِكَتْ عَادٌ بِالدَّبُورِ)) متفق عليه. و(الصَّبَا): هي الريح الشرقية، والدَّبُورُ: الريح الغربية.
إخوة الإيمان..
إن ظاهرة الأعاصير حدثٌ مَهيبٌ، ومنظر مَهولٌ، يُوجِل القلوب، ويدهش العقول، فحينما الناس في دنياهم غافلون، أو في لهوهم سادرون؛ إذ أذن الله لجند من جنوده أن يتحرك؛ أذن للهواء الساكن أن يضطربَ، ويهيج ويموج، ويثور ويزمجر، ثم يتوجه كالغضْبان إلى اليابسة، يجرّ معه الأمواج العالية، والسحب المفرقة، لا يقف أمامه شيء إلا ابتلعه، ولا شجر إلا اقتلعه، ولا شاخص إلا صرعه، ورماه في مكان سحيق، عروش مبعثرة، وبنايات متناثرة، وأشلاء ممزقة، وجثث متحلّلة، هنا وهناك.
يقف الناس مع لُجَّة الإعصار مكلومين مشدوهين نازحين، لا بيوت تنجيهم، ولا أبراج تؤويهم، {فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ، لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ} [الأنبياء:12-13].(224/4)
يحدث هذا الدمار كلُّه وذاك الخراب في لحظات سريعة خاطفة، فلا إله إلا الله! ما أعظم قدرة الجبار! مدن عامرة تدب في أرجائها الحياة لجمالها وصفاتها، وفي غمضة عين وانتباهتها يغيرها الله من حال إلى حال، فأضحت أوطاناً موحشة، ودياراً خاوية، وأطلالاً بالية، {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102].
ما أكثر العبر! وما أقل الاعتبار! فهذه الأعاصير -يومَ تعصف عاصفتها- كأنما تخاطب أهل الأرض، تخاطبهم بعظمة الخالق، وعجز المخلوق وضعفه، تخاطبهم بأن الأمر لله، من قبل ومن بعد، وأن المخلوق مهما طغى وبغى، ومهما أوتي من قوة وتقدم؛ فليس بمعجزِ اللهَ في الأرض، وليس له من دون الله من ولي ولا نصير.
لقد أصابت هذه الأعاصير دولاً عظمى، فما أغنت عنهم قوتهم من شيء لما جاء أمر ربك. نعم! نجحت البشرية في رصد هذه الأعاصير، وكشف وجهتها وسرعتها؛ لكنها عجزت، مع قوتها العسكرية، وأجهزتها العلمية، وترسانتها الحربية؛ عجزت عن مواجهة هذا الجندي الإلهي، أو تغيير وجهته، وتقليل خسائره، وصدق الله، ومن أصدق من الله قيلاً: {وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} [الرعد:11].
إخوة الإيمان..
ومن الحقائق الثابتة التي نطق بها القرآن: أن هذه المصائب العامة التي تنزل بالبلاد والعباد؛ إنما هي حصائد ذنوبهم، وجزاء ما كسبت أيديهم، {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم:41].(224/5)
ويقول الله بعد أن ذكر مصارع الأمم: {فَكُلاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [العنكبوت:40].
ويقول تعالى: {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} [القصص:59].
ولما كثرت المعاصي في هذا الزمن وتنوعت؛ كثرت بذلكم المصائب وتسارعت، ولا زلنا بين فترة وأخرى نسمع عن زلازل، وبراكين، وفيضانات، وأعاصير، وأوجاع، وأمراض..
عباد الله..
ومع هذا كله تأبى نفوسٌ أعرضت عن الله، وتعامت عن شريعته؛ أن تأخذ من هذه الأعاصير آية وعبرة ومدّكراً، فينسبون هذه الأعاصير إلى ظواهر طبيعية، وأسباب مادية، ويزعمون أنه لا علاقة لها بأفعال الناس ومعاصيهم، ولسان حالهم كما قال من سبقهم: {قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ} [الأعراف:95].
ويعظم الخطب حينما تكون هذه التحليلات المادية والنظرة العلمانية هي الصوت الأغلب للإعلام في ديار المسلمين؛ فتزرع الشكَّ في عقول الناس، وتغرّر بمفاهيمهم بهذه النظرة الخاطئة؛ فيضعف بذلك اتعاظ العباد، ويقل اعتبارُهم، يقول الله تعالى ذامّاً وموبخاً مَن لا يتّعظ بالآيات والمثلات: {فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:43].(224/6)
نعم! لهذه الأعاصير أسباب وظواهر علمية، ولكن هذا لا يعني التعلق بهذه الأسباب، ونسيان خالقها ومسببها، فإن الله -تعالى- إذا أراد شيئاً؛ أوجد سببه، ورتب عليه نتيجته، كما قال سبحانه: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء:16].
فهذه الأعاصير وغيرها من الكوارث هي من أقدار الله، لا تسيّر نفسها، وإنما تسير بأمر الله، ولشيء أراده الله.
إخوة الإيمان..
إن هذه الكوارث التي تنذر البشرية لَتؤكدُ لنا بجلاء ووضوح: أن حياة الإنسان رهن مشيئة الله، وأن الآجال محجوبة خلف ستار الغيب، وأن كل واحد منا -في أي لحظة- عُرضةٌ للقاء ربه، فلا يدري عبد متى تأتيه منيته، أو يحين حينه، {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان:34].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بهدي سيد المرسلين...
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده، لا شريك له، تعظيماً لشأنه، واشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد؛ فيا عباد الله، وكان للنبي -صلى الله عليه وسلم- مع هذه الرياح شأن آخر، وحال مغايرة؛ كان إذا رأى مقدّماتِها؛ تغيَّرَ وجهُه، وقلقت نفسه، وتبدّلت حاله، ولا غرو في ذلك؛ فهو -عليه الصلاة والسلام- أعلم الناس بربه، وأخبر الخلق بأسباب العقوبات والكوارث.(224/7)
تُصوِّرُ لنا أم المؤمنين عائشة حالَه بقولها: (كَانَ الرَّسُولُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا تَخَيَّلَتِ السَّمَاءُ؛ تَغَيَّرَ لَوْنُهُ، وَخَرَجَ وَدَخَلَ، وَأَقْبَلَ وَأَدْبَرَ، إِذَا أَمْطَرَتْ سُرِّيَ عَنْهُ، فَعَرَفْتُ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ، فَسَأَلْتُهُ، فَقَالَ: ((لَعَلَّهُ -يَا عَائِشَةُ- كَمَا قَالَ قَوْمُ عَادٍ: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الأحقاف:24])) ).
ومن الأحكام الشرعية مع الريح والأعاصير: أنه لا يجوز سَبُّها أو لعنها، قال صلى الله عليه وسلم: ((لاَ تَسُبُّوا الرِّيحَ؛ فَإِنَّهَا تَأْتِي بِالرَّحْمَةِ وَالْعَذَابِ، وَلَكِنْ، سَلُوا اللهَ خَيْرَهَا، وَتَعَوَّذُوا مِنْ شَرِّهَا)). رواه الإمام أحمد بسند حسن.
ومن الأحكام أيضاً: دعاءُ الله -تعالى- عند هبوبها، قالت عائشة رضي الله عنها: (كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا عَصَفَتِ الرِّيحُ؛ قَالَ: ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ خَيْرَهَا، وَخَيْرَ مَا فِيهَا، وَخَيْرَ مَا أُرْسِلَتْ بِهِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهَا، وَشَرِّ مَا فِيهَا، وَمِنْ شَرِّ مَا أُرْسِلَتْ بِهِ)) ). رواه مسلم في صحيحه.
إخوة الإيمان..
حري بنا -ونحن نرى نذر الجبار هنا وهناك- أن تستيقظ نفوسنا من غفلتها، وتلين قلوبنا من قسوتها، وتجري مدامعنا؛ تعظيماً وإجلالاً لله تعالى.
حري بنا -ونحن نرى هذه الفواجع- أن نتوب من خطايانا، ونصحح مسارنا، ونستغفر ربنا، وأن نذكّر أنفسنا ونذكّر الآخرين بعقوبة الجبار، وشدة بأسه، وغيرته على محارمه.
وقعت زلزلةٌ في زمن الخليفة الصالح العادل عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- فكتب إلى عماله بالأمصار يأمرهم بالتوبة، ويحضّهم على الضراعة لربهم، والاستغفار من ذنوبهم.(224/8)
عباد الله..
ومن أهم الأسباب التي تستدفع بها الأمةُ الكوارثَ عنها: إزالة رايات الفساد والإفساد المستعلنة، وإنكار المنكر، والأخذ على أيدي السفهاء، الذين يخرِقون سفينة مجتمعنا بمسامير الشهوات، أو بمطارق الشبهات. الأخذُ على أيديهم، ومنعُ فسادهم وإفسادِهم؛ حلقةٌ من حلقات الإصلاح، وصمام أمان من العقوبات الإلهية، {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود:117].
أما إذا علت المنكرات، وكثر سوقها، وصلُب عودها، ولم يوجد النكير؛ فإن العقوبة عامَّةٌ؛ سيهلك الأخيار بجريرة الفجار.
تسأل زينبُ بنت جحش رسولَ الله صلى الله عليه وسلم: (أَنَهْلِكُ، وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟! قَالَ: ((نَعَمْ! إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ)) ).
فاتقوا الله -أيها المسلمون- وانظروا إلى هذه الحوادث بعين البصر والبصيرة، والعقل والتعقل، لا بعين الشماتة، أو التزكية للنفس، فقد يصرف الله العقوبات عمن هو أفجر وأفسق إمهالاً ومكرًا بهم، {فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:99].
وَلَسْتَ تَأْمَنُ عِنْدَ الصَّحْوِ فَاجِئَةً مِنَ الْعَوَاصِفِ، فِيهَا الْخَوْفُ وَالْهَلَعُ
عباد الله..
صلوا بعد ذلك على الهادي البشير، والسراج المنير.(224/9)
العنوان: الاعتداء على المسجد الأقصى
رقم المقالة: 470
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
الحمد لله العلي الأعلى؛ أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وقضى بأن يكون موطن أكثر الأنبياء، نحمده على فضله وإنعامه، ونشكره على توفيقه وإحسانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ لا راد لأمره ولا معقب لحكمه وهو سريع الحساب، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ ختم الله تعالى به النبوة والرسالة، وأوجب على البشر تصديقه واتباعه، وقضى بأن يكون دينه ظاهرا إلى قيام الساعة، بطائفة مؤمنة لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله تعالى وهم على ذلك، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه؛ أقاموا الدين، ونصروا الشريعة، وصانوا المقدسات، وعظموا الحرمات، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله تعالى؛ فلقد كثرت ذنوبنا، وعظمت آثامنا؛ فكانت سبب ذلنا، وتسلط الأعداء علينا، واعتدائهم على مقدساتنا، وأذيتهم لإخواننا، فتوبوا إلى الله تعالى من ذنوبكم؛ كشفا لغمتكم، ونصرا لأمتكم، ورفعا لذلكم، وجلبا لنصر ربكم {يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم}.
أيها الناس: الحيدة عن منهج الله تعالى سبب للتخبط والضياع، وتعطيل شريعته عنوان الفشل والنزاع. والعرب أمة ما اجتمعت إلا في الإسلام، ولا يفرقها إلا تركه، ولا حلول لمشكلاتها إلا بشريعته. ولقد كان كافيا للأمة ما تجرعته خلال العقود الماضية من تجارب مخزية مرة، واستجلاب حلول مستوردة ما زادت المسلمين إلا ضعفا وذلا وتفرقا.(225/1)
وقضية المسجد الأقصى هي القضية الفاضحة التي فضحت عجز المسلمين في هذا العصر عن حلها، وأبانت عن ذلهم وهوانهم على أعدائهم؛ إذ ظلوا نصف قرن وزيادة ألعوبة بين الدول الكبرى، والمنظمات الأممية، يتقاذفون قضيتهم كما يتقاذف الصبيان كرتهم!! وفي هذه الأيام يضج العالم الإسلامي، وتحذر دوله ومنظماته من مساس اليهود بالمسجد الأقصى وقد بدأت جرافاتهم تعمل عملها في محيطه؛ إذ يشهد جسر باب المغاربة القريب من حائط البراق بالمسجد الأقصى المبارك عمليات هدم وتغيير، ويذكر أن الهدف الحقيقي من هذه العملية اليهودية هو بناء كنيس داخل الحائط الغربي للمسجد، بما يعني تحويل مسجد البراق إلى كنيس للمصليات اليهوديات.وليس هذا هو الاعتداء الأول على المسجد الأقصى؛ إذ سبقه اعتداءات كثيرة منذ الاحتلال هدفها النهائي: هدم مسجد المسلمين الذي أسس على التوحيد، وصلى فيه كل الأنبياء عليهم السلام، وتحويله إلى هيكل يهودي يبنى على الشعائر الشركية، والنبوءات الخرافية.
والدولة اليهودية الصهيونية ما زرعت في فلسطين إلا لأجل هذا الهدف الذي يلتقي عليه صهاينة اليهود مع صهاينة النصارى، وأذيبت في سبيله الخلافات التاريخية، والنزاعات الدينية بين الأمتين الضالتين: اليهود والنصارى.
إن الأرض المباركة في الشام التي بوركت بالمسجد الأقصى لها تاريخ طويل من النزاع حول هذه البقعة، تقاتلت لأجله جيوش، وفنيت في سبيله أمم، وتنازع عليه أمة الحق وأمم الباطل منذ فتحه إلى يومنا هذا، والملاحم الكبرى في آخر الزمان ستكون في الأرض المباركة وفي أكناف بيت المقدس.(225/2)
لقد كانت حادثة الإسراء والمعراج، وإمامة النبي صلى الله عليه وسلم بالأنبياء عليهم السلام في المسجد الأقصى إعلانا بأحقية المسلمين بهذه الأرض المباركة؛ لأن دينهم هو دين الأنبياء عليهم السلام، والأرض المباركة هي أرض الأنبياء، فكان أتباع الأنبياء عليهم السلام أحق بها من أعداء الأنبياء عليهم السلام، وأعداء الأنبياء هم اليهود والنصارى، وكل من لم يؤمن برسالة محمد صلى الله عليه وسلم؛ ذلك أن كل الأنبياء عليهم السلام قد أقروا له بالرسالة، وصلوا خلفه، وأُخذ عليهم الميثاق لو بعث وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرونه {وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين، فمن تولى بعد ذالك فأولئك هم الفاسقون}.
فوصف الله تعالى من تولى عن الإيمان برسالة محمد صلى الله عليه وسلم بالفسق، فهل يستحق أهل الفسق أن يبقوا في البلاد التي باركها الله تعالى؟!
ولأجل ذلك سعى المسلمون في السنوات الأولى من الخلافة لفتح بيت المقدس وتطهيره من رجس عبدة الصليب وشركهم، وسُيرت الجيوش للشام في عهد عمر رضي الله عنه، حتى سقطت في أيدي المسلمين، فسافر الخليفة من المدينة لاستلام مفاتيح الأرض المقدسة، ولم يُنِبْ عنه أحدا في هذه المهمة الجليلة؛ مما يدل على ميزة هذا الفتح عن غيره من الفتوح الإسلامية الكثيرة.(225/3)
لقد فتحت في عهد عمر رضي الله عنه سوريا وهي عاصمة هرقل عظيم الروم، وأكبر دولة في الأرض آنذاك، وما سار الخليفة إليها لاستلامها رغم أهميتها آنذاك، وفتحت المدائن عاصمة الفرس، التي شُهرت بالحضارة والعمران، وامتلأت بالأموال والخيرات، وما سار الخليفة إليها بل نقلت نفائسها وكنوزها إليه في المدينة، وفتحت بلاد كثيرة ما خرج إليها الخليفة، ولكنه خرج إلى الأرض المقدسة، وصلى فيها، وعاد بعد أن استلمها وأدخلها في حظيرة الإسلام.
ولما انتزع الصليبيون بيت المقدس في القرن الخامس ما هنئ المسلمون بعيش حتى أعادوها على يد صلاح الدين رحمه الله تعالى بعد ما يقارب تسعين سنة من احتلالها.
وظلت الأرض المقدسة مستقرا لكثير من العلماء التي جاوروا في أرضها، وموئلا للمسلمين يشدون رحالهم إليها لزيارة مسجدها، وإذ ذاك كانت أعين أهل الكتاب ترمقها، يريدون الانقضاض عليها، وسلبها والاستيطان فيها فسيروا الحملات الصليبية تلو الحملات لاحتلالها ولكنهم فشلوا.
وفي القرن الماضي بلغ ضعف المسلمين وتفرقهم مداه، في الوقت الذي تشكلت فيه المؤسسة الصهيونية الحديثة، وأخذت تطالب بعودة اليهود إلى الأرض المقدسة لإحياء النبوءات التوراتية المحرفة، وتآزرت في سبيل تحقيق هذا الهدف الخبيث الصهيونية النصرانية مع الصهيونية اليهودية، ورفع الخلاف الديني التاريخي بين اليهود النصارى إلى أجل غير مسمى لمواجهة المسلمين، وانتزاع الأرض المقدسة منهم، وتم لهم ذلك؛ إذ دخلت جحافل المستعمرين من صهاينة النصارى بلاد الشام، وأخضعت الأرض المقدسة لانتدابها، وأبى قائدهم إلا أن يُفصح عن الهدف الديني الصهيوني لهذا الاستعمار حين قال (الآن انتهت الحروب الصليبية). ووقف جنرال آخر على قبر صلاح الدين رحمه الله تعالى، وضرب الضريح بسيفه قائلاً: (أنا من أحفاد الصليبيين، فأين أحفادك يا صلاح الدين؟!).(225/4)
ودخلت الأمة النجسة الأرض الطاهرة المقدسة،والمسجد الأقصى لا يزال تحت حكم المسلمين، وأشعلت الحروب تلو الحروب على هذا المسجد المبارك حتى كانت النكسة التي هزمت فيها جيوش العرب فدخل المسجد الأقصى تحت حكم الصهاينة وسيطرتهم لأول مرة في تاريخ المسلمين، وفرح اليهود بذلك أشد الفرح، وهتفوا بثارات خيبر، ونادوا باستعادة يثرب، وأنشدوا نشيدا مزق أكباد أصحاب الغيرة والنخوة من المسلمين؛ إذ كانوا يرتجزون قائلين: (محمد مات وخلف بنات) يرددونها بالعربية والعبرية.
ولكن بقي المسلمون المقادسة محافظين على المسجد الأقصى رغم خضوعه لحكم اليهود وسلطانهم، يفدونه بأرواحهم، ويتناوبون على حراسته وحمايته، ويرممون ما تلف من أجزائه، ولا تزال أعين الصهاينة من اليهود والنصارى على هدم المسجد المبارك، وبناء هيكلهم مكانه، ولكنهم يجسون نبض المسلمين في ذلك، ويحاولون إماتة شعورهم تجاه المسجد المبارك، بأعمال الحفر والهدم لحريمه وشوارعه وجسوره، وتسليط متعصبتهم على الاعتداء بالحرق والهدم والتفجير لبعض أجزائه؛ رجاء أن يسقط من جراء ذلك.
وفي ما يسمى بالنكبة قبل أربع وخمسين سنة، وإبَّان إعلان اليهود عن قيام دولتهم في الأرض المباركة، وجعل القدس عاصمة لها؛ حاول الأنجاس هدم المسجد الأقصى فألقت عليه قواتهم خمسا وخمسين قنبلة ولكن الله تعالى سلم.
وفي ما يسمى بالنكسة قبل ما يقارب أربعين سنة قصف اليهود المسجد المبارك بمدافع الهاون ولكن الله تعالى حفظه.
وعقب ذلك بسنتين أقدم السائح اليهودي مايكل دينيس على إحراق منبر صلاح الدين وأجزاء كبيرة من المسجد، وتباطأ المحتلون في إخماد النيران، وأعاقوا جهود المقادسة المسلمين الذين هبوا لإخمادها فتضرر المسجد بذلك.(225/5)
أما مخططات نسف المسجد الأقصى فهي أكثر من أن تحصر، والمنظمات الصهيونية التي أنشئت لهدم المسجد وبناء الهيكل تزيد على عشرين منظمة، والمحاولات الفردية والجماعية العدوانية على المسجد باحتلاله أو حرقه أو تفجيره أو إرهاب المصلين فيه تعد بمئات المحاولات، وما عمليات الهدم في حريم المسجد وشوارعه إلا واحدة من تلك المحاولات الكثيرة، التي لم يملَّ اليهود من تكرارها، وهم مصرون على النجاح في واحدة منها.
وقصة هدم المسجد الأقصى المبارك في العقلية اليهودية ترتبط في هذا العصر بثالوث خطير يقنعهم يوما بعد يوم بالاقتراب كثيرا من مخططهم الإجرامي لتحقيق النبوءات التوراتية، وأول أركان هذا الثالوث يتمثل في تسلط قوى الاستكبار العالمي على المسلمين وبلدانهم، ودعمها المطلق للمشاريع الصهيونية، مع عجز الدول الإسلامية عن إيقاف ذلك، وإشغالها بنفسها عن مقدسات المسلمين ومساجدهم.
وثاني أركان هذا الثالوث يتمثل في انتشار المدارس والمعاهد الدينية اليهودية التي تنفخ نار الأحقاد في قلوب الشبيبة اليهود على المسلمين وقدسهم، وتقوي عزائمهم على بناء الهيكل مكان المسجد، وأنه لا قيمة لدولتهم بدون القدس، ولا قيمة للقدس بدون الهيكل، وتوجد معاهد ومدارس صهيونية تخرج الآلاف مختصة بالهيكل، وتتسمى به.
وثالث أركان الثالوث يتمثل في النبوءات التوراتية التي أحياها البرتستانت في العصر الحديث، وأزالوا بسببها العداء بين الأمتين اليهودية والنصرانية. ولإيمانهم المطلق بتلك الخرافات، وسعيهم الحثيث لتحقيقها وطنوا اليهود في الأرض المباركة؛ليكونوا وسيلة لنزول المخلص،ومن ثم إبادة المسلمين عن بكرة أبيهم في هرمجدون حسب معتقداتهم.(225/6)
لقد تحول اعتقاد اليهود في الهيكل من مجرد حلم يرون ضرورته لحكم الأرض كلها إلى عقيدة يعتقدون بموجبها أن كل بلاء يحيط باليهود في فلسطين وخارجها إنما كان بسبب تباطئهم في هدم المسجد وبناء الهيكل، وأنهم إن فعلوا ذلك زال عنهم ذلك البلاء من تفجير الفلسطينيين لهم، ومن إخلاء مستوطناتهم، وغير ذلك. وفي هذا المعنى يرى الحاخام مردخاي الياهو: أن بقاء جبل الهيكل تحت السيطرة الإسلامية يضعف وبشكل مستمر إمكانية (إسرائيل) في التعاطي والتعامل مع مشكلاتها والضغوط النازلة عليها ، سواء كانت هذه المشاكل أو الضغوط محلية أو خارجية.
وهذا التحول في القناعات عند أئمة اليهود يشكل أكبر خطر على المسجد الأقصى في تاريخه كله؛ إذ ما عادت المسألة متعلقة بنبوءات مستقبلية ينتظرونها، ويسعون خطوة خطوة لتحقيقها. بل أضحى هدم المسجد وبناء الهيكل سببا للقضاء على مشاكلهم، وبطؤهم في ذلك هو ما يسبب كل المشكلات لهم، ويسعى أئمتهم لإقناع عوامهم بعقيدتهم تلك.
حمى الله تعالى المسجد الأقصى والأرض المباركة، وسائر مساجد المسلمين ومقدساتهم من كيدهم ومكرهم، وردهم على أعقابهم خاسرين خائبين، إنه سميع قريب.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم...
الخطبة الثانية
الحمد لله وحده، نحمده ونشكره، ونستعين به ولا نكفره، ونخلع من يفجره، هو ربنا ومعبودنا عليه توكلنا وإليه أنبنا وإليه المصير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ تركنا على بيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واحذروا المعاصي فإنها سبب كل شر وبلاء وعذاب، وما نزل بلاء إلا بذنب وما رفع إلا بتوبة ؛ فتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون.(225/7)
أيها المسلمون: يطيب لكثير من الكتاب والمفكرين توصيف الصراع بين المسلمين وأعدائهم على أنه صراع أرض ومصالح دنيوية فحسب، ويتشنجون حين ينبري بعض المسلمين لبيان الخلفيات الدينية والتاريخية لهذا الصراع الطويل. إن كثيرا من هؤلاء الكتاب والمفكرين قد نبذوا دينهم وراءهم ظهريا، ويحللون الأحداث تحليلا ماديا بحتا، بل حتى التاريخ أسقطوا عليه تحليلاتهم المادية فأفسدوه وزوروه، ويظنون أن المفكرين والسياسيين من اليهود والنصارى قد نبذوا دينهم مثلهم، وأن معتقداتهم لا تُسَيِّرُ كثيرا من سياساتهم، ولا تُبنى عليها استراتيجياتهم، ونظرتهم القاصرة هي التي أوردت الأمة المهالك، وأوصلتها لهذا الذل العظيم، وضيعت أكثر قضاياها، فلا حفظوا للمسلمين دنياهم كما يعدون، ولا أبقوا لهم دينهم ومقدساتهم.
وكثيرا ما سمعناهم، وقرانا لهم يصيحون بالمسلمين زاعمين أن زعماء اليهود والنصارى علمانيون مثلهم، وأن النبوءات الدينية لا تمثل أي شيء عندهم، ولا ترسم سياساتهم.
ولتعلموا - أيها الإخوة - أن اليهود ما غُرسوا في فلسطين إلا لأهداف دينية توراتية اجتمع على الاعتقاد بها صهاينة النصارى الإنجيليون مع صهاينة اليهود التوراتيين، وإلا فإن المشكلة اليهودية لما تفاقمت في أوربا إبَّان الثورتين الصناعية والتجارية، وطالب كبار اليهود بدولة لهم اقْتُرِحَت عدةُ دول لم تكن فلسطين ضمنها، فاقْتُرِحَت موزمبيق ثم الكونغو، كما اقترحت الأرجنتين وقبرص وسيناء ثم أوغندا، ولكنَّ هذه الدول رُفِضت كموطن لليهود؛ لأن العقائد الأصولية البروتستانتية مع العقائد اليهودية التوراتية لا تلتقي فيها ، فاختيرت فلسطين لأنها مجمع عقائدهم، ومنتهى آمالهم.(225/8)
والعجيب - أيها الإخوة - أن هرتزل مؤسس الحركة الصهيونية المعاصرة الذي يجمع العلمانيون العرب على أنه علماني صرف، ولا يؤمن بالخرافات التوراتية ما دفعه لتأسيس حركته تلك إلا رؤيا دينية رآها في منامه، وقد سجل ذلك في يومياته، فهل هم أعلم به من نفسه، أم أنهم يخدرون المسلمين ويخدعونهم بإبعاد الدين عن ميدان المعركة.
يقول هرتزل في مذكراته عن رؤيا رآها: (ظهر لي المسيح على صورة رجل مسن في مظهر العظمة والوقار ، فطوقني بذراعيه ، وحملني بعيداً على أجنحة الريح ...والتقينا على إحدى تلك الغيوم القزحية بصورة موسى، فالتفتَ المسيح إلى موسى مخاطباً إياه: من أجل هذا الصبي كنت أصلي، إلا أنه قال لي: اذهب وأعلن لليهود بأنني سوف آتي عما قريب لأجترح المعجزات الكبيرة ، وأسدي الأعمال العظيمة لشعبي وللعالم ) .
ومن المعلوم أن عقيدة (المسيح المنتظر) محور يدور حوله المسلسل التاريخي اليهودي القديم والمعاصر، وهي عقيدة لا يستطيع أحد أن يدعي بأنها فكرة علمانية! وفي الصفحة الأولى من يومياته نجد هرتزل يتحدث عن (الأرض الموعودة) التي اتخذها عنواناً لرواية عقد العزم على كتابتها، وهي التي قرر بعد ذلك أن يترجمها إلى برنامج عملي. تمثل هذا البرنامج في قيام دولة اليهود في الأرض الإسلامية المباركة.
ثم توسعت هذه الدولة حتى ابتلعت القدس، ورزح المسجد الأقصى تحت حكمها، ولا يزال الصهاينة طامعين في توسيعها لتشمل كل الدول التي بين النيل والفرات، ولن يتحقق ذلك لهم إلا ببناء الهيكل على أنقاض المسجد المبارك.(225/9)
وإن وقع ذلك لا قدر الله فإنه عار وأي عار على المسلمين أن يعجزوا عن الدفاع عن مقدساتهم، ولو نجح الصهاينة فلن يوقفهم عن باقي أطماعهم أي شيء؛ فواجب على المسلمين إنْ أرادوا حفظ دينهم ودنياهم، وصيانة مقدساتهم وبلدانهم أن يسعوا بكل الطرق والوسائل لإفشال مخططات أهل الكتاب فيما يتعلق بالأرض المباركة؛ فهي للمسلمين أجمعين، وليست لأهل فلسطين وحدهم، وليعلموا أنهم إن تخلوا عن إخوانهم اليوم فستقف غدا جحافل المستعمرين على أطراف بلدانهم، ولن ينفعهم أن يقولوا حينذاك: أكلت يوم أكل الثور الأبيض.
ألا فاتقوا الله ربكم، وتوبوا من ذنوبكم، وانصروا إخوانكم، وحافظوا على مقدساتكم، واعلموا ما يحيك لكم أعداؤكم، وأكثروا من الدعاء والتضرع بين يدي الله تعالى بأن يرد باس الذين كفروا، والله أشد بأسا وأشد تنكيلا.
وصلوا وسلموا على نبيكم....(225/10)
العنوان: الاعتكاف وحلاوة الخلوة
رقم المقالة: 1189
صاحب المقالة: رياض بن محمد المسيميري
-----------------------------------------
الاعتكاف سُنَّة مؤكدة، وهدي نبوي فاضل، التزمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى مات - كما حدثتنا بذلك عائشة - رضي الله عنها -، واعتكف أزواجه من بعده، وأصل ذلك في صحيح مسلم وغيره.
كما اعتكف أصحابه معه وبعده، ودرج على ذلك العلماء والعبَّاد والزهَّاد وطلاَّب الآخرة.
والاعتكاف المسنون هو اعتكاف الروح والجسد إلى جوار الرب الكريم المنان، في خلوة مشروعة، تتخلص النفس من أوضار المتاع الفاني، واللذة العاجلة، وتبحر الروح في الملكوت الطاهر؛ طالبةً القرب من الحبيب مالك الملك، ملتمسة لنفحاته المباركات.
الاعتكاف المسنون هو الخلوة الصادقة مع الله تفكرًا في آلائه ومننه وفضائله، واعترافًا بربوبيته وإلهيته وعظمته، وإقرارًا بكل حقوقه، وثناءً عليه بكل جميل ومحمود.
الاعتكاف المسنون قيامٌ وذكر وقراءة قرآن، وإحياءٌ لساعات الليل بكل طيب وصالح من قول وعمل.
لقد أصاب الاعتكاف من بركات الصحوة، وأصاب الصحوة من بركات الاعتكاف؛ فأحيا الأخيارُ سُنَّةَ الاعتكاف، بعد أن عُطلت ونُسيت دهرًا طويلاً.
بيد أن هذا الاعتكاف كاد أن يَخرُج عن إطاره المشروع، وهدفه السامي لدى البعض، ومِن ثَمَّ قلَّت منافعه، وانحسرت فوائده، فمن ذلك:
1) الرياء والسمعة:
وكُلُّنا يعلم أن الرياء والسمعة مبطلان للعمل، وهو ضَرْب من الشِّرك الخفي، الذي حذر منه نبينا عليه السلام.
فكثيرًا ما يجاهر بعضُنا باعتكافه بلا مناسبة، وكان حق هذا العمل الصالح الاجتهادَ في إخفائه عمن لا يَعلم به على الأقل.
2) الإكثار من لغو الحديث:(226/1)
فقد يجتمع في المُعتكَف أشخاص كثيرون، وربما كان بعضهم يعرف بعضًا، فيجلس بعضهم إلى بعض يتجاذبون أطراف الأحاديث والمناقشات، وغيرها، يقطعون بها الوقت، وفي ذلك حرمان لكل واحد منهم من الخلوة بالنفس، والقرب من الرب، والتفرُّغ للعبادة، وكلها مقاصد كبرى للاعتكاف.
3) الانشغال بالهاتف الجوال:
وأعجب من الفِقْرة السابقة الاتصالاتُ الهاتفية عبْر الجوال، حيث يتَّصل المعتكِف بكل معارفه وأصدقائه، ويسألهم ويسألونه عن الصغير والكبير، والجليل والحقير من الأمور، ويتبادلون المزاح، والطُرَف والمُلَح، فأين هؤلاء من قول عائشة -كما في صحيح مسلم- أنها كانت تدخل البيت للحاجة، والمريض فيه، فلا تسأل عنه إلا وهي مارة؛ إذا كانت معتكِفة؟!
أحبتي القراء! هلموا إلى الاعتكاف بهيئته المسنونة، لا بوضعه المبدل؛ تكونوا من الفائزين، والله الموفق.(226/2)
العنوان: الإعجَازُ البَيَاني لِلقُرآن الكريم أركَانه وَمَظَاهره
رقم المقالة: 452
صاحب المقالة: د. حسين مطاوع الترتوري
-----------------------------------------
المقدمة:
الحمد لله رب العالمين الذي أنزل القرآن على رسوله الأمين بلسان عربي مبين، وبين فيه ما يحقق سعادة الناس في الدارين. وهو المعجزة الكبرى للرسول عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً، وبعد:
فإن موضوع علم أصول الفقه: الأدلة الكلية الموصلة إلى الفقه وأقسام هذه الأدلة ومراتبها وكيفية استثمار الأحكام الشرعية منها[1].
وأول هذه الأدلة الكلية وأهمها القرآن الكريم، وهو حجة على الناس وأحكامه واجبة الاتباع، وذلك لأنه من عند الله سبحانه.
والدليل على أن القرآن من عند الله لا من عند البشر إعجازه لهم أن يأتوا بمثل أقصر سورة منه.
ومن هنا كان مبحث إعجاز القرآن من أشرف المباحث وأجلها، وهو إلى جانب ذلك موضوع يشترك في بحثه علماء الأصول باعتبار أن القرآن أحد الأدلة الكلية بل هو أهمها كما قدمت. ويشترك في بحثه علماء اللغة لأن القرآن نزل بلسان العرب ولغتهم. قال تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ}[2]. فهم القادرون على اكتشاف رفعة أُسلوبه وتميزه على سائر كلام العرب وعلو شأنه وعظمته. وكذا فإن مبحث الإِعجاز يعتبر من مباحث علوم القرآن ويدخل من جانب آخر في مباحث العقيدة.
وقد استعنت بالله على الكتابة في إعجاز القرآن هذا البحث وسميته: الإِعجاز البياني للقرآن الكريم، أركانه ومظاهره.
وأما هدف هذه الدراسة فهو بيان أركان الإِعجاز البياني ووجوه هذا الإِعجاز ومظاهره، وإبطال القول بمذهب الصرفة الذي قال به النظام المعتزلي.
أولاً: أركان[3] الإِعجاز البياني للقرآن الكريم[4] وهي ثلاثة.(227/1)
الأول: التحدي: وهو طلب المبارزة والمنازلة والمعارضة[5].
بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم رسولاً إلى العرب وأعطاه آية وبرهاناً على صدقه، القرآن الكريم[6]. وقال لهم: إن هذا القرآن من عند الله. فلما كذبه العرب، تحداهم وكان ذلك على عدة مراحل:
تحداهم أن يأتوا بقرآن مثله، قال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لا يُؤْمِنُونَ فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُواْ صَادِقِينَ}[7]. ولكن أنى لهم أن يأتوا بمثله وهو كلام الله المنزه عن كل ما يشوب كلام البشر من نقص. لم يستجب العرب لهذا التحدي. وبعدها تحداهم الله أن يأتوا بعشر سور مثله مفتريات قال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}[8]. ولم يستجيبوا، فتحداهم أن يأتوا بسورة، فقال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}[9]. وقال تعالى: {وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَآءَكُم مِّن دُونِ اللهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ}[10].
ومع كل ما سبق من التحدي، فلم يأتوا بقرآن مثله ولا بعشر سور مثله ولا بسورة مثله أو من مثله، وعندها آمن من شاء الله له الهداية وكفر من أصر على عناده. وهذا الصنف الأخير بدلاً من أن يستجيب للتحدي مع يقينهم بالعجز لجأوا إلى أسلوب العاجز المكابر، فوصفهم الله بقوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لا تَسْمَعُواْ لِهَذَا الْقُرْءَانِ وَالْغَواْ فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ}[11].(227/2)
لذا سجل القرآن عجز الإنس والجن مهما أوتوا من قوة وبذلوا من جهد، فقال تعالى: {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْءَانِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً}[12].
الثاني: وجود المقتضي عند المتحدى لمواجهة التحدي.
أما وجود المقتضي فإن محمداً صلى الله عليه وسلم دعاهم إلى توحيد الله في ألوهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته. وهذا ما جعلهم يقفون في وجه دعوته، خاصة زعماء قريش لأنهم عرفوا أن دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم تقضي على امتيازاتهم القبلية ومواقعهم الإِجتماعية وتجعل الولاء والتوجه لله وحده. وهذا يفقدهم زعامتهم التي بنيت على اعتبارات جاهلية لم يقرها الإِسلام ونفاها وجعل الميزان الذي يوزن به الناس التقوى، فقال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ}[13].
وقد كان العرب يعبدون الأصنام لتقربهم إلى الله زلفى، فعاب عليهم القرآن فعلتهم هذه وسفه أحلامهم ؛ لأن العاقل السوي لا يعبد صنماً ينحته بيده أو يصنعه من تمر إذا جاع أكله، بل أكثر من ذلك فقد سجل القرآن أن كل من وقف في وجه الدعوة عناداً وكفراً أضل من الأنعام وكالدواب والكلاب. قال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ ءَاذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَآ أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ}[14]. وقال تعالى: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَآبِّ عِندَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}[15].(227/3)
وقال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِى ءَاتَيْنَاهُ ءَايَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}[16].
ومن هنا كانت حاجتهم ماسة وحرصهم شديداً على أن يأتوا ولو بسورة من مثله ليبطلوا حجة محمد صلى الله عليه وسلم بأن القرآن من عند الله ويثبتوا أن مسلكهم في العبادات وفي كل حياتهم صحيح، وأن ما وصفهم به القرآن بأنهم كالأنعام والدواب والكلاب وغير ذلك إنما هو باطل، لكن شيئاً من ذلك لم يحدث.
يقول الرافعي في وقفة له عند قوله تعالى: {وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مَمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا...} ((تأمل نظم الآية تجد عجباً، فقد بالغ في اهتياجهم واستفزازهم ليثبت أن القدرة فيهم على المعارضة كقدرة الميت على أعمال الحياة لن تكون ولن تقع، فقال لهم: ((ولن تفعلوا)). أي هذا منكم فوق القدرة وفوق الحيلة وفوق الاستعانة وفوق الزمن، ثم جعلهم وقوداً ثم قرنهم إلى الحجارة ثم سماهم كافرين، فلو أن فيهم قوة بعد ذلك لانفجرت ولكن الرماد غير النار))[17].
الثالث: انتفاء المانع عند المتحدي من قبول التحدي.
وذلك من ثلاثة وجوه[18].
الأول: من الناحية اللفظية.
الثاني: من الناحية المعنوية.
الثالث: من الناحية الزمنية.(227/4)
أما من الناحية اللفظية، فإن العرب كانوا أهل فصاحة وبيان يشهد لهم بذلك أشعارهم وخطبهم وأمثالهم ومقدرتهم على النقد وتمييز الغث من السمين. وكانوا قد برعوا في اللغة ووصلوا إلى مستوى رفيع. وقد وصفهم الرافعي بقوله: {كالعرب أصحاب الفطرة اللغوية والحسن البياني الذين صرفوا اللغة وشققوا أبنيتها وهذبوا حواشيها وجمعوا أطرافها واستنبطوا محاسنها"[19].
وقد كان العرب على مستوى رفيع من البلاغة والنقد والذوق البياني، خذ مثلاً على ذلك، أنه عرض على الخنساء[20] بيتان من الشعر لحسان بن ثابت[21] في سوق عكاظ وهي قوله:
لنا الجَفَناتُ الغُرُّ يَلْمَعْنَ بالضحى وأسيافُنا يَقْطُرْنَ مِنْ نَجْدَةٍ دماَ
ولدنا بني العنقاء وابني محرق فأكرم بنا خال وأكرم بنا ابنما
فقالت الخنساء: ((ضعفت افتخارك وأَنزرته في ثمانية مواضع. قال: وكيف. قالت: قلت ((لنا الجفنات)) والجفنات ما دون العشر، فقللت العدد، ولو قلت الجفان لكان أكثر. وقلت ((الغر)) والغرة الباقي في الجبهة، ولو قلت البيض لكان أكثر اتساعاً. وقلت ((يلمعن)) واللمع شيء يأتي بعد الشيء ولو قلت يشرقن لكان أكثر لأن الإِشراق أدوم من اللمعان. وقلت ((بالضحى)) ولو قلت بالعشية لكان أبلغ في المديح لأن الضيف بالليل أكثر طروقاً. وقلت ((أسيافنا)) والأسياف دون العشر. ولو قلت سيوفنا كان أكثر. وقلت ((يقطرن)) فدللت على قلة القتل، ولو قلت يجرين لكان أكثر لانصباب الدم، وقلت دما والدماء أكثر من الدم وفخرت بمن ولدت ولم تفتخر بمن ولدوك))[22].
وقوم حالهم كما وصفت لك لم يكن عندهم مانع من الإِتيان بمثل القرآن الذي نزل بلغتهم إلا العجز. وهذا دليل على أن القرآن ليس من كلام البشر بل هو كلام الله جلت قدرته.(227/5)
وأما من الناحية المعنوية فإن العرب كانوا على مستوى من رجاحة العقل والفطنة والذكاء بحيث يستطيعون الإِتيان بمثل القرآن لو كان من كلام البشر. وقصة الخنساء في نقد شعر حسان خير شاهد لما نقول، لكن أَنَّى لهم وهو كلام الله {تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}[23].
وأما من الناحية الزمنية فإن القرآن لم ينزل دفعة واحدة وإنما نزل منجماً في ثلاث وعشرين سنة وبقي التحدي قائماً. ولو نزل القرآن دفعة واحدة لاعتذروا بأن الوقت قصير ولطلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يمهلهم، لكن الوقت طويل ولم يكن لديهم مانع إلا شعورهم بالعجز.
ثانياً: مظاهر الإِعجاز البياني للقرآن الكريم
وهي سبعة:
الأول: الخصائص العامة للأسلوب القرآني.
الثاني: ضرب الأمثال في القرآن الكريم.
الثالث: الإِيجاز في القرآن الكريم.
الرابع: التكرار في القرآن الكريم.
الخامس: الكلمة القرآنية.
السادس: الجملة القرآنية.
السابع: الفاصلة القرآنية.
الأول: الخصائص العامة للأسلوب القرآني
1 - القرآن الكريم يجري على نسق غاية في البلاغة والفصاحة خارج عن المألوف من نظام جميع كلام العرب، فله أسلوب يختص به ويميزه عن سائر الكلام. فلا هو بالشعر ولا بالنثر. لكنك لو قرأت بعض آياته شعرت بالنسق العجيب بينها، وكذا بين الكلمات، وحتى بين الحروف فتجد تناسقاً عجيباً بين الرخو والشديد والمجهور والمهموس والانفتاح والإِطباق... الخ[24]، بحيث إذا قرأت القرآن شعرت بتأثير شديد في نفسك[25]. استمع إلى قوله تعالى: {يَآ أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللهِ شَدِيدٌ}[26].(227/6)
2 - يمتاز القرآن باتساق عباراته وبلاغتها وبديع نظمه على كثرة سوره وطولها وقصرها، من غير أن تختل هذه المزية فيه بخلاف كلام العرب، فإنك لا تجد لحكيم ولا لشاعر أو فصيح كلاماً بطول القرآن وعلو شأنه، بل قد يبدع أحدهم في بعض قوله ويخفق في آخر، بل قد يناقض نفسه، أما القرآن فهو كما وصفه الله: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيرًا}[27].
3 - الناظر في القرآن يجد فيه القصص والمواعظ والاحتجاج والحكم والأحكام والوعد والوعيد والتبشير والتخويف ومع ذلك فهو غاية في الفصاحة وبديع النظم بخلاف كلام البشر من نثر أو شعر، فقد يجيد أحد الشعراء في المدح دون الهجاء أو التأبين دون التقريظ أو الوصف دون الغزل، أو عكس ذلك، لكنك لا ترى شاعراً ولا ناثراً يجيد كل ما سبق من الأساليب بنفس القوة. ولذلك ضرب العرب المثل بامرئ القيس إذا ركب والنابغة إذا رهب وزهير إذا رغب[28].(227/7)
4 - إن معاني القرآن مصوغة بشكل محكم بديع تصلح لأن يخاطب بها الناس على اختلاف بيئاتهم وتفاوتهم في الثقافة والعلوم بحيث تؤدي الغرض الذي سيقت من أجله فيتأثر كل سامع لها ويفهم منها مقصدها على اختلاف ثقافة السامعين وعقولهم. استمع معي إلى قوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَآءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِرَاجًا وَقَمَرًا مُّنِيرًا}[29]، فالعرب في زمن الرسول عليه الصلاة والسلام فهموا من هذه الآية، على قلة علومهم، دليلاً على قدرة الله سبحانه وهو: أنه خَلَقَ الشمس والقمر يبعثان بالضياء إلى الأرض، وقد غاير الله سبحانه في التعبير بالنسبة لكل منهما تنويعاً للفظ، وهذا معنى صحيح تدل عليه الآية. وأما عالم اللغة فيفهم أن الآية سيقت للدلالة على قدرة الله وسمى الله الشمس سراجاً لأنها تجمع إلى النور الحرارة، وسمى القمر منيراً لأنه يبعث بضياء دون حرارة، وهذا المعنى صحيح تدل عليه الآية دلالة لغوية واضحة. وأما علماء الفلك في هذه الأيام، فقالوا: نعم الآية مسوقة للدلالة على قدرة الله، لكن الله سبحانه غاير بين وصف الشمس وبين وصف القمر، فسمى القمر منيراً لا مضيئاً لأنه جسم مظلم يعكس ما يسقط عليه من ضوء الشمس. وهذا صحيح لغة فإننا نقول غرفة منيرة إذا انعكس عليها الضوء من مصباح في وسطها. أما الشمس فإن الحرارة والضوء ينبعثان منها فناسب تسميتها سراجاً[30].
الثاني: ضرب الأمثال في القرآن الكريم
وقد اعتمد الأسلوب القرآني على ضرب الأمثال وجعله قاعدة أساسية في التعبير عن المعاني.
ومن أساليب ضرب الأمثال المتبعة في القرآن[31]:(227/8)
أ – إخراج المعاني الذهنية في صورة حسية تُرسم في المخيلة حية متحركة. خذ هذا المعنى الذهني المجرد وهو أن الكفار محرومون من دخول الجنة وأنهم غير مقبولين عند الله بتاتاً، وتأمل كيف عرضه الله في القرآن: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَآءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ}[32] هكذا في صورة حسية ترسم في الخيال صورة تفتح أبواب السماء وصورة ولوج الجمل في سم الخياط. وسواء أكان الجمل هو الحيوان المعروف أم الحبل الغليظ[33] فقد استقر في مخيلة السامع استحالة دخول الكافرين الجنة[34].
ومن أمثلة ذلك أيضاً أنك لو أردت أن تعرض لمعنى النفور الشديد من دعوة الإِيمان بصورته التجريدية تقول: إن القوم ينفرون أشد النفرة من دعوة الإِيمان. أما القرآن فقد عرض فيه الأمر بأسلوب تصويري حسي فقال تعالى: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ * كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ * فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةِ}[35]، فاشترك هنا مع الذهن حاسة البصر وملكة الخيال وانفعال السخرية من هؤلاء الذين يفرون من الحق كما تفر حمر الوحش من الأسد[36].
ب – تصوير الحالات النفسية والمعنوية في صورة حسية متخيلة، حية متحركة.(227/9)
فعندما أراد الله سبحانه أن يفضح ويعري أولئك الذين هيأ لهم سبيل الهداية لكنهم رفضوا فأصبحوا في شقاء بما علموا وما جهلوا فلا هم استراحوا بما هيأ الله لهم من سبيل الخير والرشاد ولا هم استراحوا بإعراضهم عن هذا الخير، فيصور القرآن حالتهم النفسية والمعنوية هذه في صورة حسية متحركة، قال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي ءَاتَيْنَاهُ ءَايَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}[37].
يقول سيد قطب: "إنه مشهد من المشاهد العجيبة، الجديدة كل الجدة على ذخيرة هذه اللغة من التصورات والتصويرات، إنسان يؤتيه الله آياته، ويخلع عليه من فضله، ويكسوه من علمه ويعطيه الفرصة كاملة للهدى والاتصال والارتفاع... ولكن ها هو ذا ينسلخ من هذا كله انسلاخاً، ينسلخ كأنما الآيات أديم له متلبس بلحمه، فهو ينسلخ من آيات الله، ويتجرد من الغطاء الواقي والدرع الحامي، وينحرف عن الهدى ليتبع الهوى ويهبط من الأفق المشرق فيلتصق بالطين المعتم فيصبح غرضاً للشيطان لا يقيه منه واق، ولا يحميه منه حام، فيتبعه ويلزمه ويستحوذ عليه.. ثم إذا نحن أولاء أمام مشهد مفزع بائس نكد... إذا نحن بهذا المخلوق لاصقاً بالأرض ملوثاً بالطين. ثم إذا هو مسخ في هيئة الكلب يلهث إن طورد ويلهث إن لم يطارد.. كل هذه المشاهد المتحركة تتتابع وتتوالى، والخيال شاخص يتبعها في انفعال وانبهار وتأثر"[38].(227/10)
ج – عرض القضايا المنطقية والجدلية في أسلوب ضرب الأمثال وذلك في معرض الاستدلال على عظمة الخالق وقدرته، فالقرآن يأتي بالدليل المقنع من واقع الناس وما يشاهدونه ويعايشونه، لكنه معروض في صورة مؤثرة ومن ذلك قوله تعالى: {وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَآءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ في الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}[39]. ومع أن هذا المشهد كما تلاحظ يتكرر في حياة الناس إلا أنه عرض بأسلوب تصويري وكأنها لوحة طبيعية رسمت عليها النخيل والأعناب المثمرة[40].
د – إعطاء الحركة لما من شأنه السكون وخلع الحياة على المواد الجامدة والظواهر الطبيعية والانفعالات الوجدانية فتصبح كأنها أشخاص بارزة لها عواطفها وخلجاتها الإنسانية. تأمل في قوله تعالى: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً}[41]، تجد التعبير بالاشتعال يجعل الخيال يتصور أن للشيب حركة في الرأس كحركة اشتعال النار في الهشيم مما يضفي على النص الحياة والجمال[42].
وأما خلع الحياة على المواد الجامدة فمثاله قوله تعالى {وَالصَّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ}[43]، فالصبح مشهد معروف متكرر للناس، لكنه في التعبير القرآني كأنه شخص حي يتنفس كما يتنفس الأحياء. وكذا قوله تعالى {وَالَّيْلِ إِذَا يَسْرِ}[44]. وقوله تعالى: {فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ}[45].(227/11)
وأما تصوير الانفعالات الوجدانية فهو في غاية الروعة، فالغضب والروع والبشرى انفعالات وجدانية تصبح في التعبير القرآني كأنها حية متحركة، فالغضب يسكت كما في قوله تعالى: {وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ}[46]. والروع يذهب ويزول، والبشرى تجيء كما في قوله تعالى: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَآءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ}[47].
إلى غير ذلك من أساليب التصوير المتبعة في التعبير القرآني[48]. وطريقة التصوير التي يتبعها القرآن الكريم في التعبير لها فائدة عظيمة في وصول المعاني إلى النفس بشتى الوسائل لأن المعاني إذا عرضت في صورتها التجريدية خاطبت الذهن فقط، أما إذا عرضت بالأسلوب التصويري فإنها تخاطب الذهن والحس والوجدان وتصل إلى النفس من منافذ شتى)) من الحواس بالتخييل، ومن الحس عن طريق الحواس، ومن الوجدان المنفعل بالأصداء والأضواء، ويكون الذهن منفذاً واحداً من منافذها الكثيرة إلى النفس لا منفذها المفرد الوحيد[49].
الثالث: الإِيجاز في القرآن الكريم
من خصائص الأسلوب القرآني الإِيجاز وهو التعبير عن المعاني الكثيرة بألفاظ قليلة تؤدي الغرض من غير إخلال بالمعنى.
والإِيجاز نوعان: إيجاز حذف وإيجاز قصر.
أما إيجاز الحذف فهو: إسقاط كلمة للاجتزاء عنها بدلالة غيرها من الحال أو فحوى الكلام[50].
ومن أمثلة إيجاز الحذف قوله تعالى: {وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ}[51] فإن الآية تشير إلى شيوع القول في أهل القرية، وأن القرية كلها تكلمت في ذلك، وقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ قُرْءَانًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى}، ففي هذه الآية إيجاز حذف وهو حذف الجواب كأنه قيل لكان هذا القرآن كذا وكذا... والحذف هنا أبلغ من الذكر لأن النَفْس تذهب كل مذهب في القصد من الجواب، ولو ذكر الجواب لقصر على الوجه الذي تضمنه البيان.(227/12)
وأما إيجاز القصر فهو: بُنْيَةُ الكلام على تقليل اللفظ وتكثير المعنى من غير حذف[52] وله أمثلة كثيرة في القرآن حتى أن الشيخ أبا زهرة رحمه الله قال بأن هذا النوع من الإِيجاز لا تكاد تخلو منه سورة أو جزء سورة[53]. ومن أمثلة إيجاز القصر:
قوله تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَآئِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَآءَهُمْ وَيَسْتَحْىِ نِسَآءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ}[54].
يقول الباقلاني: "هذه تشمل على ست كلمات، سناؤها وضياؤها على ما ترى، وسلاستها وماؤها على ما تشاهد، ورونقها على ما تعاين، وفصاحتها على ما تعرف.
وهي تشتمل على جملة وتفصيل وجامعة وتفسير: ذكر العلو في الأرض باستضعاف الخلق بذبح الولدان وسبي النساء، وإذا تحكم في هذين الأمرين، فما ظنك بما دونهما ؟ لأن النفوس لا تطمئن على هذا الظلم والقلوب لا تقر على هذا الجور. ثم ذكر الفاصلة التي أوغلت في التأكيد، وكفت في التظليم، وردت آخر الكلام على أوله وعطفت عجزه على صدره"[55].
ومن أمثلة إيجاز القصر، قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ}[56] وقد كان العرب يستحسنون بل يعجبون بحكمة قالوها ويعتبرونها قمة البلاغة لما فيها من إيجاز وهي قولهم ((القتل أنفى للقتل)).
وقوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} يفوق ما استحسنه العرب من أربعة أوجه[57]:
الأول: أن الآية أكثر فائدة، ففيها من المعاني والفوائد ما في قولهم (القتل أنفى للقتل) وزيادة المعاني الحسنة التالية:
أ – إبانة العدل بذكر كلمة القصاص وأن القتل ليس تشفياً من المقتول.
ب – الترغيب في القصاص بذكر الحياة وجعلها نتيجة له.
جـ - القصاص يشمل النفس والأعضاء بخلاف لفظ القتل، فإنه قاصر على النفس.(227/13)
ثم إن مفاد الآية مستقيم على إطلاقه لأن الإنسان إذا علم أن اعتداءه على الآخرين يوجب القصاص منه ارتدع عن قتلهم أو جرحهم فكان ذلك سبب حياته وحياة من أراد قتله. أما الحكمة فإن مفادها غير مستقيم على إطلاقه، فليس كل قتل أنفى للقتل كما تقول، بل إن القتل عدواناً أدعى للقتل وليس أنفى له.
الثاني: الآية أوجز عبارة، فإن قوله تعالى: {الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} تتكون من عشرة أحرف، أما قولهم ((القتل أنفى للقتل)) فيتكون من أربعة عشر حرفاً.
الثالث: الآية لا تكرار فيها بخلاف حكمة العرب ففيها تكرار لفظ القتل.
الرابع: الآية أحسن تأليفاً لملاءمة حروفها بعضها بعضاً، يقول الرماني[58]: "وأما الحسن بتأليف الحروف المتلائمة فهو مدرك بالحس وموجود في اللفظ، فإن الخروج من الفاء إلى اللام أعدل من الخروج من اللام إلى الهمزة، لبعد الهمزة عن اللام. وكذلك الخروج من الصاد إلى الحاء أعدل من الخروج من الألف إلى اللام"[59].
ومن أمثلة إيجاز القصر قوله تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ}[60] فإن الآية تشير إلى الصراع الدائم بين الخير والشر وبين الحق والباطل وبين الفضيلة والرذيلة. وأن سيطرة الشر والباطل والرذيلة يؤدي إلى فساد في الأرض ولا يزول هذا الفساد إلا بمقاومة الخير والحق والفضيلة له[61].
الرابع: التكرار في القرآن الكريم
وهو من أساليب الفصاحة في اللغة العربية لما ينطوي عليه من فوائد في الكلام. فإن كلام البلغاء لا يتكرر عبثاً وإنما لفوائد ومعان جديدة. ولما كان هذا حال كلام العرب، فكلام الله أولى بذلك فإنك لا ترى كلمة أو آية تكررت إلا لحكمة وفائدة.(227/14)
وقد استعمل التكرار في القرآن جرياً على عادة العرب في كلامهم، يقول الزَرْكشي[62]: "وقد غلط من أنكر كونه من أساليب الفصاحة، ظناً أنه لا فائدة له، وليس كذلك، بل هو من محاسنها لاسيما إذا تعلق بعضه ببعض، وذلك أن عادة العرب في خطاباتها إذا أبهمت بشيء إرادةً لتحقيقه وقرب وقوعه، أو قصدت الدعاء عليه، كررته توكيداً، وكأنها تقيم تكراره مقام المقسم عليه، أو الاجتهاد في الدعاء عليه، حيث تقصد الدعاء، وإنما نزل القرآن بلسانهم"[63].
وقبل أن أجمل أغراض وفوائد التكرار في القرآن الكريم أسوق للقارئ صوراً من التكرار في الشعر الجاهلي لبيان أنه من أساليب العرب المتبعة في الكلام.
مثال ذلك شعر المهلهل بن ربيعة بمناسبة حرب البسوس يصف الأيام التي كانت الدائرة فيها لبني تغلب على بكر[64]:
على أن ليس عدلاً من كليب إذَا رَجَفَ العِضَاةُ من الدَّبُور[65]
على أن ليس عَدْلاً من كُليب إذا طُرِدَ اليتيمُ عن الجَزوُرِ
على أن ليس عدلاً من كليب إذا ما ضِيمَ جيرانُ المُجيرِ
على أن ليس عدلاً من كليبِ إذا خِيفَ الَمخُوف من الثُّغُور
على أن ليس عدلاً من كليب غداةَ بَلابِل الأَمْرِ الكبير[66]
على أن ليس عدلاً من كليب إذا هبَّتْ رياحُ الزمهرير
على أن ليس عدلاً من كليب إذا وثب المثار على المثِير
على أن ليس عدلاً من كليب إذا برزت مُخَبَّأَةُ الُخدورِ
على أن ليس عدلاً من كليب إذا عَلنت نَجِيَّاتُ الأمور
ومن ذلك قصيدة الحارث بن عباد[67] بمناسبة حرب البسوس التي مطلعها:
كل شيء مصيره للزوال غير ربي وصالح الأعمال
ثم يقول في قصيدته:
قرِّبا مَرْبط النَّعامة مني لقحَت حرب وائل عن حِيَال[68]
قرِّبا مَرْبط النَّعامة مني ليس قولي يرادُ لكنْ فعَالِي
قرِّبا مَربط النَّعامة مني جَدَّ نَوْحُ النِّساء بالإِعوال
قرِّبا مَرْبط النعامة مني شابَ رأسي وأنكرتني الْعَوالي
قرِّبا مَرْبط النعامة مني لِلسُّرى والغُدُوِّ والآصال(227/15)
قرِّبا مربط النِّعامة مني طال ليلي على الليالي الطوال
قرِّبا مربط النعامة مني لاِعْتِناق الأبطال بالأبطال
قرِّبا مَرْبط النعامة مني واعدلا من مقَالَةِ الجُهَّال
قرِّبا مَرْبط النعامة مني ليس قلبي عن القِتال بسالِ
قرِّبا مَرْبط النعامة مني كلما هبَّ ريح ذَيْل الشمَّال
قرِّبا مَرْبط النعامة مني لبُجير[69] مُفَكِّكِ الأغلال
قرِّبا مَرْبط النعامة مني لكريم مُتَوَّجٍ بالجمال
قرِّبا مَرْبط النعامة مني لا نبيعُ الرجال بَيْعَ النِّعَال
قرِّبا مَرْبط النعامة مني لبجير فِداه عَمِّي وخالي
إلى غير ذلك مما ورد في أشعارهم من تكرار بعض الكلمات أو الجمل[70]. أما أهم فوائد التكرار في القرآن فهي[71]:
1 - تقرير المعنى وتوكيده، فإن الكلام إذا تكرر تقرر. وقد ظهر هذا الأمر في المواطن التالية:
أ – في الآيات المسوقة للوعيد والتهديد، كقوله تعالى: {كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ}[72]، وقوله تعالى: {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * ثُمَّ مَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ}[73].
ب – في الآيات المسوقة في مقام التعظيم والتهويل أو التعجب، كقوله تعالى: {الْقَارِعَةُ مَا الْقَارِعَةُ}[74]، وقوله تعالى: {الْحَآقَّةُ * مَا الْحَآقَّةُ}[75]، وقوله تعالى: {إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ}[76]، وقوله تعالى: {فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ}[77].
جـ - في الآيات المسوقة في التنبيه على ما ينفي التهمة حتى يتلقى الكلام بالقبول، كقوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِي ءَامَنَ يَاقَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ * يَاقَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الأَخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ}[78].(227/16)
د – في الآيات المسوقة في مقام الاتعاظ، كقوله تعالى: {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ}[79]، وقوله تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءَانَ لِلذِّكْرِ}[80].
هـ - في الآيات المسوقة في مقام إنعام الله على عباده وبيان قدرته كقوله تعالى: {أَفَرَءَيْتُم مَّا تُمْنُونَ} وقوله: {أَفَرَءَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ}، وقوله: {أَفَرَءَيْتُمُ الْمَآءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ}[81].
2 - إذا طال الكلام وخشي تناسي الأول أعيد ثانياً تجديداً لعهده، كقوله تعالى: {أَفَرَءَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ}[82]. وقوله تعالى في نفس السورة {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِمَا فُتِنُواْ ثُمَّ جَاهَدُواْ وَصَبَرُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ}[83]. وغيرها من الأمثلة كثير[84].
3 - بيان إعجاز القرآن للعرب فإن من عجز عن الإِتيان بالمعنى بصورة واحدة فإنه يعجز من باب أولى عن الإِتيان بالمعنى الواحد بصور وقوالب لفظية غاية في الفصاحة والبيان.
4 - إفادة معنى جديد فإن بعض الآيات تكررت في كتاب الله وفي كل مرة تكون متعلقة بما قبلها، كقوله تعالى: {فَبِأَىِّ ءَالآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} كررت هذه الآية في سورة الرحمن إحدى وثلاثين مرة، ثمان مرات عقيب آيات فيها تعداد عجائب خلق الله وبدائع صنعه ومبدأ الخلق ومعادهم فناسب ذكر الآلاء عقيب كل ذلك. ثم تلتها سبع آيات فيها ذكر النار وأهوال يوم القيامة، فحسن ذكر الآلاء عقيبها لأن في صرف المؤمن عن عذاب النار أكبر نعمة، وبعد هذه السبع ثمان آيات في وصف الجنتين وأهلهما ونعيمهم فيهما فحسن أن يذكر عقيبها نعم الله على المؤمنين أن وفقوا للعمل الصالح فاستحقوا الجنتين، ثم بعد ذلك ثمان آيات للجنتين اللتين دونهما، ومن استحقها بتوفيق الله ناسب ذكر نعمة الله عليه.
الخامس: الكلمة القرآنية(227/17)
ولا أعني بذلك الكلمة القرآنية المفردة، وإنما مكانة الكلمة في النظم القرآني المعجز لأن قيمة المفردات ليست ذاتية وإنما تعود قيمتها إلى مكانها من النظم المعجز الأخاذ، ومعلوم أن التحدي لم يحصل بالكلمة بل أقل ما حصل بسورة. ويظهر الإِعجاز اللغوي في الكلمة القرآنية من عدة وجوه:
الأول: الكلمة في القرآن مسوقة في موقعها المناسب لتؤدي المعنى المراد وتتلاءم من الناحية اللفظية والمعنوية مع ما قبلها وما بعدها خذ مثالاً لذلك قوله تعالى: {وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ * وَالَّيْلِ إِذَا يَسْرِ * هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِى حِجْرٍ}[85]، فلو استبدلت كلمة الفجر بكلمة الصبح أو كلمة الوتر بكلمة الفرد أو كلمة الحجر بكلمة العقل لاختل حسن نظم الكلمات.
وتأمل أيضاً كلمة يسر تجد أن الياء حُذفت منها للانسجام مع كلمة الفجر، عشر، الوتر، الحجر.
ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: {ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّآ * إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَآءً خَفِيًّا * قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُن بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيًّا}[86] فلو تقدمت كلمة مني على كلمة العظم لاختل النظم في الآيات ولأحسست بما يشبه الكسر في وزن الشعر[87].
الثاني: أن الكلمة القرآنية مسوقة في موقعها المناسب بحيث تعطي بمدلولها ما تلقيه من ظلال المعنى المراد بكماله وتمامه مع ما فيه من إيحاءات، ولو استبدلت بغيرها ما استفيد المعنى المراد. وقد تجد كلمة في القرآن الكريم تعبر عن معنى يعجز البشر عن التعبير عنه إلا بِعِدَّةِ كلمات.
خذ مثالاً لذلك، كلمة استقاموا في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُواْ...}[88]، فقد جمعت هذه الكلمة الإِتيان بالخير كله والبعد عن الشر كله[89].(227/18)
ومن أمثلة ذلك أننا لو أردنا بيان فوائد النار في حياة الناس نقول: إنها مما يحتاج إليها في الحضر والسفر وفي طهي الطعام عند الجوع ثم ننعم بدفئها في برد الشتاء القارص. كل هذه المعاني دلت عليها كلمة (المقوين) في قوله تعالى: {أَفَرَءَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * ءَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَآ أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ * نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِّلْمُقْوِينَ}[90].
إلى غير ذلك من الأمثلة الكثيرة في هذا الباب[91].
الثالث: إن هناك بعض الكلمات يظن القارئ أنها مترادفة، فإذا تأملت استعمالاتها في القرآن رأيت بعضها استعمل في موطن والبعض الآخر في موطن آخر، وفي كل موضع يبلغ التعبير القرآني ذروته في حسن الصياغة ودقة التعبير.
خذ مثالاً لذلك، كلمتي (هامدة)، (خاشعة) استعملت في القرآن للدلالة على الأرض قبل نزول المطر وخروج النبات منها. قال تعالى: {يَآ أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَآءُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُواْ أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَآءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْج بَهِيجٍ}[92].(227/19)
وقال تعالى: {وَمِنْ ءَايَاتِهِ الَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُواْ لِلهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ * فَإِنِ اسْتَكْبَرُواْ فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِالَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْئَمُونَ * وَمِنْ ءَايَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَآءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِى أَحْيَاهَا لَمُحْىِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[93] يقول سيد قطب: "وعند التأمل السريع في هذين السياقين يتبين وجه التناسق في (هامدة) و (خاشعة). إن الجو في السياق الأول جو بعث وإحياء وإخراج فمما يتسق معه تصوير الأرض بأنها ((هامدة)) ثم تهتز وتربو، وتنبت من كل زوج بهيج. وإن الجو في السياق الثاني هو جو عبادة وخشوع وسجود، يتسق معه تصوير الأرض بأنها ((خاشعة)) فإذا أَنزل عليها الماء اهتزت وربت..."[94].
ومن أمثلة ذلك التمام والكمال، فالفرق بينهما أن الإِتمام لإِزالة نقصان الأصل، والإِكمال لإِزالة نقصان العوارض بعد تمام الأصل، ولذلك كان استعمال كلمة (كاملة) أبلغ من استعمال كلمة (تامة) في قوله تعالى: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ}[95] ؛ لأن التمام علم من العدد وإنما جاءت كلمة (كاملة) لنفي احتمال نقص في الصفات[96].
ومن ذلك أيضاً القعود والجلوس، فالأول يستعمل لما فيه لبث بخلاف الثاني، ولهذا قال تعالى: {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ}[97]، إشارة إلى أنه لا زوال لذلك، وقال في آية أخرى: {يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُواْ فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُواْ يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ}[98] لأن مثل هذه الجلسات لا تحصل إلا في زمن يسير[99].
إلى غير ذلك من الأمثلة الكثيرة[100].
السادس: الجملة القرآنية(227/20)
ما سبق قوله في الكلمة القرآنية نقوله هنا، وهو أن المقصود مكانة الجملة في النظم القرآني المعجز لا الجملة المفردة ؛ لأن قيمة الجملة ليست ذاتية، وإنما تعود قيمتها إلى مكانها من النظم المعجز الأخاذ، لذلك أقل ما وقع به التحدي السورة لا الجملة.
ومظاهر الإِعجاز في الجملة القرآنية كثيرة منها:
الأول: أنها مسوقة في موقعها المناسب لتتلاءم مع ما قبلها وما بعدها، وتنبئ عن حسن نظم الكلمات وهي غاية في الإِحكام والترابط. ولهذا كان حفظ القرآن أيسر من حفظ سائر أنواع النثر. مثال ذلك قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَنذَرَهُم بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ}[101] فلو أخذنا كلمة (النُذُرْ) منفصلة عما قبلها في الآية لوجدنا ثقلاً في توالي الضمة على النون والذال معاً لكن الكلمة جاءت في القرآن متلائمة تماماً مع السياق يقول الرافعي: "تأمل مواضع القلقلة في دال (لقدْ) وفي الطاء من (بَطْشَتَنَا) وهذه الفتحات المتوالية فيما وراء الطاء إلى واو (تَمَارَوا)، مع الفصل بالمد، كأنها تثقيل لخفة التتابع في الفتحات إذا هي جرت على اللسان، ليكون ثقل الضمة عليه متسخَفاً بعد ولكون هذه الضمة قد أصابت موضعها كما تكون الأحماض في الأطعمة ثم ردد نظرك في الراء من (تماروا) فإنها ما جاءت إلا مساندة لراء (النذر) حتى إذا انتهى اللسان إلى هذه انتهى إليها من مثلها فلا تجفو عليه ولا تغلظ ولا تنبو فيه، ثم اعجب لهذه الغنة التي سبقت الطاء في نون (أنذرهم) وفي ميمها، وللغنة الأخرى التي سبقت الذال في (النذر) "[102].(227/21)
ومثال ذلك أيضاً قوله تعالى: {قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ لا يَمْلِكُونَ لأَنفُسِهِمْ نَفْعًا وَلا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُواْ لِلهِ شُرَكَآءَ خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ}[103].
اشتملت هذه الآية على تسع جمل متلائمة مع ما قبلها وما بعدها وهي في غاية الدقة والإِحكام.(227/22)
أما الجملة الأولى في تلك الآية فهي قوله تعالى: {قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} والآية التي قبلها تضمنت أن كل من في السماوات والأرض ساجد[104] لله فلزم الإِنكار على عبدة الأصنام والتوجه إليهم بهذه الجملة الآمرة بلفظ ((قل)). ولما كان عبدة الأصنام يقرون توحيد الربوبية[105] ناسب أن يأتي جواب الجملة الأولى على لسان محمد عليه الصلاة والسلام وهو قوله تعالى: {قُلِ اللهُ}. ولما بين الله سبحانه أنه الرب لكل المخلوقات ناسب أن يسألهم النبي: {قُلْ أَفَأتَّخَذْتُم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ لا يَمْلِكُونَ لأَنفُسِهِمْ نَفْعًا وَلا ضَرًّا}. ومن يعبد جمادات لا تنفع ولا تضر يكون كالأعمى الذي يعيش في الظلمات بخلاف من يهديه الله ولذلك ناسب أن يأتي بعد ذلك قوله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِى الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ}، ولما كان من البدهي أن الظلمة لا تساوي النور وأن العمى لا يساوي البصر فُهِمَ أيضاً أن الجاهل الذي يعبد جمادات لا تنفع ولا تضر لا يساوي العالم الموحد لله، لذا أكد الله سبحانه ما تقدم بالجملتين التاليتين {أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَآءَ خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}. وقد جاء قوله: {وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} متلائماً مع ما قبله لأن خالق كل شيء تلائمه وتثبت له صفة الوحدانية والقهر والقوة[106].
الثاني: أن الجملة القرآنية تدل على معنى واسع يعجز عنه الناس بعبارات كثيرة، ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ}[107] وقد سبق الحديث عن هذه الآية في مبحث الإِيجاز في القرآن.(227/23)
ومن أمثلة ذلك أيضاً قوله تعالى: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَآئِ ذِى الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَآءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْىِ}[108]. فقد جمعت هذه الآية كل خير ونهت عن كل شر حتى قال ابن مسعود رضي الله عنه: ((إن أجمع آية للخير والشر في سورة النحل: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ}[109] ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَآئِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَآءَهُمْ وَيَسْتَحْىِ نِسَآءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ}[110]. فهذه الآية احتوت على معانٍ كثيرة لو أردنا أن نصوغها بلغتنا مع الحفاظ على ما فيها من المعاني لاحتجنا إلى أضعاف كلماتها[111].
السابع: الفاصلة القرآنية
اختلف العلماء في تعريف الفاصلة القرآنية.
فقال الرماني: الفواصل حروف متشاكلة في المقاطع توجب حسن إفهام المعاني[112].
وقال ابن منظور[113]: الفواصل أواخر الآيات في كتاب الله[114].
وكذا قال الزركشي: الفاصلة كلمة آخر الآية كقافية الشعر وقرينة السجع[115].
ويرى بعض العلماء أن رؤوس الآيات والفواصل مترادفان[116] وهي نهايات الآيات كما قدمت. ويرى آخرون أن الفاصلة أعم، فهي الكلام المنفصل مما بعده. والكلام المنفصل قد يكون رأس آية وغير رأس آية وكذلك الفواصل يَكُنَّ رؤوس آي وغيرها. فكل رأس آية فاصلة ولا عكس[117].
ومن الفواصل ما هو آية كقوله تعالى: "الرَّحْمَنُ"[118]، {الْحَآقَّةُ}[119] ومنها ما هو بعض آية وهو الغالب كما سيأتي.
والفواصل بحسب حروف الروي نوعان:(227/24)
الأول: المتماثلة[120]: وهي التي تماثلت حروف رويتها سواء في الحرف الأخير كقوله تعالى: {مَآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ لِتَشْقَى * إِلا تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى * تَنزِيلاً مِّمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى * الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}[121] أو في الحرفين الأخيرين كقوله تعالى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الَّذِى أَنقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ}[122]. أو في الأحرف الثلاثة الأخيرة كقوله تعالى: {مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ وَإِنَّ لَكَ لأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ}[123]، أو في الأحرف الأربعة الأخيرة كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَآئِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ * وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَىِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ}[124].
وقد استقلت الفواصل المتماثلة بإحدى عشرة من سور المفصل[125] ومعظمها مكي[126].
ويسمي البعض الفواصل المتماثلة بالمتجانسة[127] أو ذات المناسبة التامة[128].
والأصوب عندي أن تسمى المتماثلة لأن التجانس كما هو معلوم عند علماء التجويد يكون بين حرفين اتحدا مخرجا واختلفا صفة. وكذا التماثل أولى من ذات المناسبة التامة لأن المصطلح يفضَّل أن يكون أقصر بشرط الدلالة على المعنى بتمامه وقد تحقق هنا بقولنا (التماثل).
الثاني: الفواصل المقاربة:
كالميم مع النون في قوله تعالى: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمَ الدِّينِ}[129] والدال مع الباء في قوله تعالى: {ق وَالْقُرْءَانِ الْمَجِيدِ * بَلْ عَجِبُواْ أَن جَآءَهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ}[130] والتقارب في الحروف يكون بين حرفين تقاربا مخرجاً وصفة كالذال والسين أو تقاربا صفة لا مخرجاً كالذال والجيم[131].(227/25)
ويلاحظ أن الفاصلة القرآنية تأتي مكملة للمعنى الذي قبلها ومناسبة له بحيث لو تغيرت اختل المعنى... يدرك هذا كل من عنده ذوق أدبي.
حَكَى الأصمعي[132] قال: ((كنت أقرأ: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَآءَ بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللهِ والله غفور رحيم وبجنبي أعرابي فقال: كلام من هذا ؟ فقلت: كلام الله. قال أعد فأعدت. فقال ليس هذا كلام الله. فانتبهت فقرأت {وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[133] فقال: أصبت هذا كلام الله. فقلت أتقرأ القرآن. قال: لا. فقلت: من أين علمت ؟ فقال: يا هذا عز فحكم فقطع، ولو غفر فرحم لما قطع))[134].
وقد يسأل سائل ما الحكمة في أن بعض الفواصل غريبة اللفظ مثل كلمة ضيزى في قوله تعالى: {تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى}[135]، فكلمة ضيزى بمعنى جائرة أو ظالمة، فلماذا عدل عن الكلمات المألوفة إلى الكلمة غير المألوفة.
والجواب على هذا السؤال من وجهين:
الأول: من جهة حسن النظم والتناسق فإن سورة النجم تنتهي فواصلها بالألف المقصورة فناسب أن تكون الفاصلة كلمة ضيزى لا كلمة جائرة أو ظالمة.
الثاني: إن نسبة البنات إلى الله ونسبة الأولاد إليهم أمر في أشد الغرابة فناسب أن يعبر عنه بلفظ غريب تنبيهاً على غرابة القسمة[136].
وقد تختلف الفاصلتان في موضعين والمُحَدَّث عنه واحد وذلك لنكتة لطيفة. ومن ذلك قوله تعالى: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوهَآ إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ}[137]، وقوله تعالى: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوهَآ إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ}[138].
ففي الآية الأولى يقول الحق جل وعلا للإِنسان إذا حصلت النعم الكثيرة فأنت آخذها وأنا معطيها فحصل لك عند أخذها وصفان: كونك ظلوماً وكونك كفاراً. وفي الآية الثانية يقول الحق سبحانه للإِنسان ولي عند إعطاء النعمة لك وصفان وهما أني: غفور رحيم، أُقابِل ظُلْمَك بغفراني وكفرك برحمتي.(227/26)
ثم سؤال آخر يطرحه المرء هنا: ما الحكمة في تخصيص آية النحل بوصف المنعم، وآية إبراهيم بوصف المنعم عليه ؟ والجواب أن سياق الآية في سورة إبراهيم في وصف الإِنسان وما جبل عليه. فناسب ذكر ذلك عقيب أوصافه. وأما آية النحل فسيقت في وصف الله تعالى وإثبات ألوهيته وتحقيق صفاته، فناسب ذكر وصفه سبحانه[139].
وختاماً، وبعد بيان مظاهر الإِعجاز البياني للقرآن الكريم يظهر بطلان القول بالصرفة.
وأول من قال بهذا الرأي النظام[140] المعتزلي. ومراده بالصرفة أن الله سبحانه صرف همم العرب في زمن الرسالة عن معارضة القرآن، والإِتيان بمثله. أي أن القرآن ليس معجزاً لفصاحة ألفاظه وبلاغته وحسن نظمه وإنما لصرف الله العرب عن الإِتيان بمثله. ولولا صرف الله العرب عن الإِتيان بمثل القرآن لأتوا بمثله، وهم أهل الفصاحة والبيان.
ويرى النظام أن وجه إعجاز القرآن يكمن في إخباره عن الغيوب[141] ولم يرتض المعتزلة قول النظام وأكثرهم على تكفيره[142].
وقول النظام بالصرفة يرجع إلى قاعدة الحسن والقبح العقليين عند المعتزلة، وملخصها: أن كل ما رآه العقل حسناً، فهو عند الله حسن ومطلوب الفعل، وكل ما رآه العقل قبيحاً فهو عند الله قبيح ومطلوب الترك. ومن وجهة نظر النظام العقل لا يحيل على العرب وهم أهل الفصاحة والبلاغة والبيان، أن يأتوا بمثل القرآن لولا أن الله صرف هممهم. فجعل النظام ما رآه العقل حكماً في هذه المسألة وهو الفصل فيها، مع أن مقولته منقوضة بعدة أدلة نقلية وعقلية منها[143]:
- قوله تعالى: {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْءَانِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا}[144].
فهذه الآية تدل على بطلان القول بالصرفة لأنه لو كان إعجاز القرآن يكمن في صرف العرب عن الإِتيان بمثله لما كان في اجتماع الإِنس والجن فائدة.(227/27)
- يلزم القول بالصرفة أن يكون العرب قد تراجعت حالها في البلاغة والبيان وحسن النظم، وأن يكون ما قالوه من شعر زمن الجاهلية أبلغ وأقوى من الشعر الذي قالوه بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، وحصول التحدي لهم، وليس الأمر كذلك.
لو حصل نقص في فصاحة العرب وبلاغتهم وحسن نظمهم للكلم، لكان هذا عذراً لهم ولقالوا لمحمد عليه الصلاة والسلام، لقد كان بإمكاننا أن نأتي بمثل القرآن في السابق، لكنك سحرتنا فَحُلْتَ بيننا وبين الإِتيان بمثل القرآن. لكن ذلك لم يحصل، مع حرصهم الشديد على وصف الرسول صلى الله عليه وسلم بأوصاف لا تليق. بل وصفوه بأنه ساحر في كثير من الأمور، لكنهم لم يصفوه بأنه سحرهم في المقدرة على النظم والفصاحة والبيان.
- يلزم القول بالصرفة أن يكون العرب بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم قد سلبوا الحكمة وضعفت أذهانهم وتفكيرهم، وليس الأمر كذلك.
- لو كان كلام العرب قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم من شعر أو نثر مثل نظم القرآن لما انبهروا بالقرآن الذي سمعوه من محمد صلى الله عليه وسلم، ولما كان له مزية على كلامهم. لكن واقعهم يشهد بخلاف ذلك، فهذا الوليد بن المغيرة يقول: ((والله إن لقوله لحلاوة، وإن أصله لعذق وإن فرعه لجنات))[145] وكذا عتبة بن ربيعة قال: ((.... والله ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة))[146]. وكذا يروى في قصة إسلام عمر، قوله عن القرآن: ((ما أحسن هذا الكلام وأكرمه))[147] وقوله: ((فلما سمعت القرآن رق له قلبي فبكيت ودخلني الإِسلام))[148]، إلى غير ذلك من القصص الكثيرة التي تدل دلالة قاطعة على أن أسلوب القرآن كان معجزاً ولم يكن العرب قد تعودوه أو سمعوا مثله[149]. وصل اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
حسين مطاوع الترتروي
مصادر ومراجع البحث(227/28)
- الأشعري، أبو الحسن علي بن إسماعيل: مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين، تحقيق: محمد محيي الدين عبدالحميد (مصر، مكتبة النهضة المصرية، ط1 سنة 1950م).
- الأصفهاني، أبو نعيم أحمد بن عبدالله: دلائل النبوة، خرج أحاديثه: عبدالبر عباس، حققه: محمد رواس قلعه جي (دمشق، دار ابن كثير، ط1، 1975م).
- الآمدي، علي بن أبي علي بن محمد: الإِحكام في أصول الأحكام، تعليق: عبدالرزاق عفيفي (الرياض، مؤسسة النور، ط1، 1387هـ).
- الباقلاني، محمد بن الطيب بن محمد، إعجاز القرآن، تحقيق: السيد محمد صقر (القاهرة، دار المعارف ط3، 1963م). (والنشر، ط2 سنة 1963).
- بدوي، أحمد أحمد: من بلاغة القرآن (القاهرة، مكتبة نهضة مصر ط3، د. ت).
- البغدادي، عبدالقاهر بن طاهر: الفرق بين الفرق وبيان الفرقة الناجية منهم (بيروت، دار الآفاق الجديدة ط5 سنة 1982م).
- البوطي، محمد سعيد رمضان: من روائع القرآن تأملات علمية وأدبية في كتاب الله عز وجل (دمشق، مكتبة الفارابي، ط4 سنة 1975م).
- الجرجاني، عبدالقاهر بن عبدالرحمن: الرسالة الشافية – مطبوعة ضمن ثلاث رسائل في إعجاز القرآن – تحقيق: محمد خلف الله، محمد زغلول (القاهرة، دار المعارف، ط3، سنة 1976م).
- الحسناوي، محمد: الفاصلة القرآنية (حلب، دار الأصيل للطباعة والنشر، د. ت).
- الحكيم، السيد محمد: إعجاز القرآن (القاهرة، مطبعة دار التأليف، سنة 1978م).
- الخطابي، حمد بن محمد بن إبراهيم، بيان إعجاز القرآن – مطبوع ضمن ثلاث رسائل في إعجاز القرآن – تحقيق: محمد خلف الله، محمد زغلول (القاهرة، دار المعارف، ط3، سنة 1976م).
- خلاف، عبدالوهاب: علم أصول الفقه (القاهرة، مكتبة الدعوة الإِسلامية ط8، مصورة عن ط7 سنة 1956م).
- دبل، محمد بن سعد: النظم القرآني في سورة الرعد (بيروت، عالم الكتب، د. ت).
- الرافعي، مصطفى صادق: إعجاز القرآن (القاهرة، المكتبة التجارية الكبرى، ط8 سنة 1965م).(227/29)
- الرماني، علي بن عيسى: النكت في إعجاز القرآن – مطبوع ضمن ثلاث رسائل في إعجاز القرآن – تحقيق: محمد خلف الله، محمد زغلول (القاهرة، دار المعارف ط3، سنة 1976م).
- الزرقاني، محمد عبدالعظيم: مناهل العرفان في علوم القرآن (القاهرة، مطبعة عيسى البابي الحلبي، د. ت).
- الزركشي، بدر الدين محمد بن عبدالله: البرهان في علوم القرآن، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم (القاهرة، دار إحياء الكتب العربية، ط1 سنة 1957م).
- الزركلي، خير الدين: الأعلام، قاموس تراجم لأشهر الرجال والنساء والمستعربين والمستشرقين (بيروت، دار العلم للملايين، ط3، سنة 1969م).
- أبو زهرة، محمد: المعجزة الكبرى القرآن (القاهرة، دار الفكر العربي، د. ت).
- السيوطي، جلال الدين عبدالرحمن بن أبي بكر بن محمد الخضيري: الإِتقان في علوم القرآن (القاهرة، مطبعة مصطفى البابي الحلبي، ط3 سنة 1951م). السيوطي: معترك الأقران في إعجاز القرآن، تحقيق محمد علي البجاوي (مصر، دار الفكر العربي، د. ت).
- الفيروزأبادي، مجد الدين محمد بن يعقوب: القاموس المحيط (القاهرة، المطبعة الحسينية المصرية، ط2، 1344هـ).
- القرطبي، أبو عبدالله محمد بن أحمد الأنصاري: الجامع لأحكام القرآن (القاهرة، دار الكتاب العربي سنة 1387هـ).
- قطب، سيد: التصوير الفني في القرآن، (بيروت، القاهرة، دار الشروق، د. ت). قطب: في ظلال القرآن (بيروت، دار الشروق، ط10، سنة 1982م).
- ابن القيم، شمس الدين محمد بن أبي بكر: الفوائد المشوق إلى علوم القرآن (بيروت، دار الكتب العلمية، د. ت).
- الكرماني، محمود بن حمزة بن نصر: أسرار التكرار في القرآن الكريم، دراسة وتحقيق: عبدالقادر أحمد عطا (القاهرة، دار الاعتصام ط2 سنة 1976م).
- معبد، محمد أحمد: الملخص المفيد في علم التجويد، (المدينة المنورة مكتبة طيبة، ط1 سنة 1984م).(227/30)
- الملا، عمر الملا جويس، تطور دراسات إعجاز القرآن وأثرها في البلاغة العربية (بغداد، مطبعة الأمة سنة 1972م، ساعدت جامعة بغداد على نشره).
- ابن منظور، محمد بن مكرم بن علي: لسان العرب (بيروت، دار صادر سنة 1956م).
- المولى، محمد أحمد جاد ومعه علي محمد البجاوي ومحمد أبو الفضل إبراهيم: أيام العرب في الجاهلية (مصر، دار إحياء الكتب العربية، د. ت).
- ابن هشام، عبدالملك بن هشام الحميري: السيرة النبوية، تحقيق، مصطفى السقا، إبراهيم الأبياري، عبدالحفيظ شلبي (بيروت، دار إحياء التراث العربي، ط3 سنة 1971م).
- ابن يعيش، يعيش بن علي بن يعيش، شرح المفصل (بيروت، عالم الكتب، د. ت).
ــــــــــــــــــــــ
[1] علي بن أبي علي بن محمد الآمدي، الإحكام في أصول الأحكام، تعليق : عبدالرزاق عفيفي (ط1 سنة 1387هـ) .
[2] سورة الشعراء الآيات 193- 194- 195 .
[3] الركن لغة : جزء الشيء وجانبه القوي . وأما في الاصطلاح فهو : جزء الماهية الذي يتوقف عليه وعلى غيره وجود الماهية .
[4] وضعت قيد (القرآن الكريم) لأن التحدي ليس شرطاً للمعجزة ولا ركناً لها إلا في القرآن الكريم كما سبق ذكره .
[5] الفيروزأبادي، القاموس المحيط (بيروت، المؤسسة العربية) فصل الحاء، باب الواو والياء، مادة (حدا) .
[6] هناك معجزات للنبي صلى الله عليه وسلم غير القرآن الكريم كانشقاق القمر وحنين الجذع ونبع الماء وكلام الذراع المسمومة وتكثير الطعام القليل .
[7] سورة الطور الآيتان 33- 34 .
[8] سورة هود آية 13 .
[9] سورة يونس آية 38 .
[10] سورة البقرة الآيتان 23- 24 .
[11] سورة فصلت آية 26 .
[12] سورة الإِسراء آية 88 .
[13] سورة الحجرات آية 13 .
[14] سورة الأعراف آية 179 .
[15] سورة الأنفال آية 55 .
[16] سورة الأعراف الآيتان 175- 176 .
[17] الرافعي، إعجاز القرآن ص192 (هامش) .
[18] عبدالوهاب خلاف : علم أصول الفقه (مصر، مكتبة الدعوة الإِسلامية) ص26 .(227/31)
[19] الرافعي، إعجاز القرآن ص228، وانظر عبدالله بن قتيبة، تأويل مشكل القرآن، تحقيق : سيد أحمد صقر (القاهرة، دار إحياء الكتب العربية) ص10- 11 .
[20] الخنساء هي : تُماضر بنت عمرو بن الحارث بن الشديد ت سنة 24هـ، أدركت الإِسلام وأسلمت، من أشهر شواعر العرب، أجود شعرها رثاؤها لأخويها . صخر، معاوية . انظر الزركلي، الأعلام 2/69 .
[21] هو : حسان بن ثابت بن المنذر الخزرجي الأنصاري، أبو الوليد ت سنة 54هـ، شاعر النبي عليه الصلاة والسلام، عاش ستين سنة في الجاهلية ومثلها في الإِسلام . انظر الزركلي، الأعلام 2/188 .
[22] الرافعي، إعجاز القرآن ص255 (هامش) وانظر هذه القصة في ابن يعيش، شرح المفصل (بيروت، عالم الكتب) 5/10- 11 .
وقد نسبت بعض المصادر هذا النقد للنابغة الذبياني بدلاً من الخنساء . انظر العسكري، المصون في الأدب، تحقيق : عبدالسلام هارون (الكويت، سلسلة التراث العربي سنة 1960م) ص3 .
[23] سورة فصلت آية 42 .
[24] هذه صفات بعض الحروف، وكل حرف في لغة العرب يمتاز بخمس صفات متضادة على الأقل كالفاء، وبعضها يمتاز بست صفات، خمس متضادة وواحدة غير متضادة كالباء . وهناك حرف وحيد له سبع صفات، خمس متضادة وصفتان غير متضادتين وهو حرف الراء . ومجموع صفات الحروف كما اختاره ابن الجزَري سبع عشرة صفة . خمس لها ضد فتكون عشر صفات . وسبع لا ضد لها .
انظر الكلام مفصلاً في هذه المسألة في محمد معبد، الملخص المفيد في علم التجويد ص85- 95 .
[25] الباقلاني، إعجاز القرآن ص35، البوطي، من روائع القرآن ص132 سيد الحكيم، إعجاز القرآن ص72 .
[26] سورة الحج الآيتان 1- 2 . وسيأتي تفصيل ذلك عند حديثنا عن الكلمة القرآنية ص32- 34 .
[27] سورة النساء آية 82 . انظر الباقلاني، إعجاز القرآن ص36، ابن قتيبة، تأويل مشكل القرآن ص10- 11 .
[28] الباقلاني، إعجاز القرآن ص36- 37 .
[29] سورة الفرقان آية 61 .(227/32)
[30] البوطي، من روائع القرآن ص136- 138، سيد الحكيم، إعجاز القرآن ص80، عبدالعليم خضر، الظواهر الجغرافية بين العلم والقرآن (السعودية، الدار السعودية للنشر والتوزيع، ط1 سنة 1984م) ص201 .
[31] راجع سيد قطب، التصوير الفني في القرآن (بيروت، القاهرة دار الشروق) .
[32] سورة الأعراف آية 40 .
[33] الراجح أن المقصود بالجَمَل الحيوان المعروف، كذا قال ابن مسعود . وأما على قراءة ابن عباس بضم الجيم وفتح الميم وتشديدها فيكون الجمل هو حبل السفينة . انظر القرطبي، الجامع لأحكام القرآن (القاهرة، دار الكتاب العربي سنة 1387هـ) 7/206- 207 .
[34] سيد قطب، التصوير الفني في القرآن ص34 .
[35] سورة المدثر الآيات 49- 50 .
[36] سيد قطب، التصوير الفني في القرآن ص195 .
[37] سورة الأعراف الآيتان 175- 176 .
[38] سيد قطب، في ظلال القرآن 3/1396- 1397، التصوير الفني ص39 .
[39] سورة الرعد آية 4 .
[40] سيد قطب، التصوير الفني ص57 .
[41] سورة مريم آية 4 .
[42] سيد قطب، التصوير الفني ص66 .
[43] سورة التكوير آية 18 .
[44] سورة الفجر آية 4 .
[45] سورة الكهف آية 77 . انظر سيد قطب، التصوير الفني ص201- 202 .
[46] سورة الأعراف آية 154 .
[47] سورة هود آية 74 . انظر سيد قطب، التصوير الفني ص63 .
[48] وذلك كتصوير الحالات النفسية والمعنوية كأنها نموذج إنساني شاخص للعيان . وكالتصوير المشخص لمشاهد الحوادث الواقعية والأمثال المضروبة والقصص المروية . وكتصوير مشاهد القيامة والنعيم والعذاب وحال أهل الجنة وحال أهل النار تصويراً شاخصاً حياً . انظر سيد قطب، التصوير الفني ص41- 43، 44- 50، 50- 55، البوطي، من روائع القرآن ص197- 213 .
[49] سيد قطب، التصوير الفني ص194 .
[50] الرماني، النكت في إعجاز القرآن ص76 .
[51] سورة يوسف آية 82 .
[52] الرماني، النكت في إعجاز القرآن ص76 .
[53] أبو زهرة، المعجزة الكبرى القرآن ص293- 294 .(227/33)
[54] سورة القصص آية 4 .
[55] الباقلاني، إعجاز القرآن ص193- 194 .
[56] سورة البقرة آية 179 .
[57] الرماني، النكت في إعجاز القرآن ص77- 78، سيد الحكيم، إعجاز القرآن ص75 .
[58] الرماني هو : علي بن عيسى بن علي بن عبدالله، أبو الحسن ت384هـ معتزلي، مفسر من كبار النحاة، انظر الزركلي، الأعلام 5/134 .
[59] الرماني، النكت في إعجاز القرآن ص78 .
[60] سورة البقرة آية 251 .
[61] انظر مزيداً من الشواهد في : الباقلاني، إعجاز القرآن 192- 194، البوطي، من روائع القرآن 181- 183 .
[62] الزركشي هو : بدر الدين محمد بن عبدالله بن بهادر، ت سنة 794هـ فقيه أصولي، مفسر، شافعي، له تصانيف كثيرة . تركي الأصل مصري المولد والوفاة . انظر الزركلي، الأعلام 6/286 .
[63] الزركشي، البرهان في علوم القرآن . تحقيق : محمد أبو الفضل إبراهيم (القاهرة، دار إحياء الكتب العربية، ط1 سنة 1957) 3/9 .
[64] انظر شعر المهلهل هذا في : محمد أحمد جاد المولى وعلي محمد البجاوي ومحمد أبو الفضل إبراهيم، أيام العرب في الجاهلية (مصر، دار إحياء الكتب العربية) ص157- 158 .
والمهلهل هو : عدي بن ربيعة بن مرة بن هبيرة أخو وائل بن ربيعة الملقب بكليب وخال امرئ القيس . لقب مهلهلاً لأنه أول من هلهل نسج الشعر أي رققه . ت نحو 100 ق. هـ . انظر الزركلي، الأعلام 5/9 وحرب البسوس : وقعت بين بكر وتغلب بني وائل . وقد مكثت أربعين سنة . وقعت فيها هذه الأيام : يوم النُهى، يوم الذئاب، يوم واردات، يوم عنيزة، يوم القصيبات ويوم تحلاق اللمم، انظر محمد جاد المولى والبجاوي وأبو الفضل، أيام العرب في الجاهلية ص142 .
[65] رجف : تحرك . والعضاة : كل شجر له شوك .
[66] البلابل : الاضطراب .
[67] انظر هذه القصيدة في : محمد حمد جاد المولى والبجاوي وأبو الفضل، أيام العرب في الجاهلية ص161- 162 .(227/34)
والحارث بن عباد هو : الحارث بن عباد بن قيس بن ثعلبة البكري، أبو المنذر، شاعر جاهلي، حكيم . ت حوالي 50 ق. هـ . خاض غمار حرب البسوس بعد أن قَتَل المهلهل ابن أخيه بجيرا . انظر الزركلي، الأعلام 2/157- 158 .
[68] النعامة : فرس الحارث . والحيال : مصدر حالت الأنثى إذا لم تحمل . والمراد أن حرب وائل هاجت بعد سكون .
[69] بجير هذا ابن أخي الحارث بن عباد أرسله الحارث إلى المهلهل للإصلاح وإيقاف نار الحرب، إلا أن مهلهلاً قتله وقال له : (بُوءْ بِشِسْعِ نَعْلِ كُلَيْب) فلما بلغ الحارث الخبر ومقولة المهلهل، أنشد القصيدة .
[70] انظر الباقلاني، إعجاز القرآن ص106 : 107 .
[71] انظر الزركشي، البرهان في علوم القرآن 3/8- 24، وهو أهم مرجع في هذا الباب، محمود الكرماني، أسرار التكرار في القرآن الكريم، دراسة وتحقيق : عبدالقادر أحمد عطا (القاهرة، دار الاعتصام، ط2 سنة 1976م) ص198- 199، وغيرها من المواطن، الرافعي، إعجاز القرآن ص221- 222، البوطي، من روائع القرآن ص141- 142، سيد الحكيم، إعجاز القرآن ص69- 72 .
[72] سورة التكاثر الآيتان 3- 4 .
[73] سورة الإنفطار الآيتان 17- 18 .
[74] سورة القارعة الآيتان 1- 2 .
[75] سورة الحاقة الآيتان 1- 2 .
[76] سورة القدر الآيتان 1- 2 .
[77] سورة المدثر الآيتان 19- 20 .
[78] سورة غافر الآيتان 38- 39 .
[79] سورة القمر الآيات 16، 21، 30 .
[80] سورة القمر الآيات 17، 22، 32، 40 .
[81] هذه الآيات من سورة الواقعة وهي بالترتيب الآيات 58، 63، 68، 71 .
[82] سورة النحل آية 110 .
[83] سورة النحل آية 119 .
[84] الزركشي، البرهان في علوم القرآن 3/14- 15 .
[85] سورة الفجر الآيات 1- 5 .
[86] سورة مريم الآيات 2- 4 .
[87] سيد قطب، التصوير الفني ص88 .
[88] سورة فصلت آية 30، سورة الأحقاف آية 13 .
[89] سيد الحكيم، إعجاز القرآن ص76 .(227/35)
[90] سورة الواقعة الآيات 71- 73 . انظر البوطي، من روائع القرآن ص177، القرطبي، الجامع لأحكام القرآن 17/221- 222 .
[91] انظر سيد قطب، التصوير الفني ص76- 78 .
[92] سورة الحج آية 5 .
[93] سورة فصلت الآيات 37- 39 .
[94] سيد قطب، التصوير الفني ص97 .
[95] سورة الحج آية 196 .
[96] السيوطي، معترك الأقران في إعجاز القرآن، تحقيق : محمد علي البجاوي (مصر، دار الفكر العربي) 3/605 .
[97] سورة القمر آية 55 .
[98] سورة المجادلة آية 11 .
[99] السيوطي، معترك الأقران 3/605 .
[100] انظر الخطابي، بيان إعجاز القرآن ص29- 34، السيوطي، معترك الأقران 3/602- 606 .
[101] سورة القمر آية 36 .
[102] الرافعي، إعجاز القرآن ص258 .
[103] سورة الرعد آية 16 .
[104] قال تعالى في سورة الرعد آية 15 : {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالأَصَالِ} .
[105] توحيد الربوبية هو : توحيد الله بأفعاله، أي أنه وحده الخالق الرازق المعطي النافع الضار المتصرف في هذا الكون .
وأما توحيد الألوهية فهو : توحيد الله بأفعال العباد، أي أنه يجب على العباد إفراد الله سبحانه بكل عبادة .
[106] محمد بن سعد الدبل، النظم القرآني في سورة الرعد (عالم الكتب) ص110- 111 .
[107] سورة البقرة آية 179 .
[108] سورة النحل آية 90 .
[109] الحاكم، المستدرك، كتاب التفسير 2/356 . قال هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي .
[110] سورة القصص آية 4 .
[111] البوطي، من روائع القرآن ص182 .
[112] الرماني، النكت في إعجاز القرآن ص97 .
[113] ابن منظور هو : محمد بن مكرم بن علي، أبو الفضل ت سنة 711هـ . إمام لغوي، حجة صاحب لسان العرب .
[114] ابن منظور، لسان العرب، مادة (فصل) .
[115] الزركشي، البرهان في علوم القرآن 1/53 .(227/36)
[116] محمد الحسناوي، الفاصلة القرآنية (سوريا، دار الأصيل للطباعة والنشر) ص161 .
[117] وممن يرى هذا الرأي أبو عمرو الداني . ذكر ذلك الزركشي في البرهان 1/53- 54 .
[118] سورة الرحمن آية 1 .
[119] سورة الحاقة آية 1 .
[120] ممن سماها المتماثلة : الزركشي في البرهان 1/72، السيوطي في معترك الأقران 1/53، والحرفان المتماثلان عند علماء التجويد هما الحرفان اللذان اتحدا مخرجاً وصفة .
[121] سورة طه الآيات 2- 5 .
[122] سورة الشرح الآيات 1- 4 .
[123] سورة القلم الآيتان 2- 3 .
[124] سورة الأعراف الآيتان 201- 202 .
[125] أي السور القصار .
[126] محمد الحسناوي، الفاصلة القرآنية ص172 .
[127] ممن سماها بذلك الرماني في رسالته : النكت في إعجاز القرآن ص97 ..
[128] ممن سماها بذلك ابن القيم في كتابه : الفوائد المشوق إلى علوم القرآن (بيروت، دار الكتب العلمية) ص88- 89 .
[129] سورة الفاتحة الآيتان 3- 4 .
[130] سورة ق الآيتان 1- 2 .
[131] محمد معبد، الملخص المفيد في علم التجويد ص103 .
[132] الأصمعي هو : عبدالملك بن قريب بن علي بن أصمع الباهلي، أبو سعيد، راوية العرب وأحد أئمة العلم باللغة والشعر والبلدان، انظر الزركلي، الأعلام 4/307- 308 .
[133] سورة المائدة آية 38 .
[134] محمد الحسناوي، الفاصلة القرآنية ص27، وانظر القول مفصلاً في الزركشي، البرهان في علوم القرآن 1/60- 67 .
[135] سورة النجم آية 22 .
[136] أحمد بدوي، من بلاغة القرآن (القاهرة، مكتبة نهضة مصر، ط3) ص87 .
[137] سورة إبراهيم آية 34 .
[138] سورة النحل آية 18 .
[139] الزركشي، البرهان في علوم القرآن 1/86، السيوطي، معترك الأقران 1/44 . وهناك أمثلة أخرى في المرجعين المذكورين فراجعها .(227/37)
[140] انظر الأشعري، مقالات الإِسلاميين واختلاف المصلين، تحقيق : محمد محي الدين عبدالحميد (مصر، مكتبة النهضة المصرية، ط1 سنة 1950م) 1/271 ؛ الباقلاني، إعجاز القرآن، تحقيق : السيد أحمد صقر (القاهرة، دار المعارف، ط3، 1963م، الخطابي، بيان إعجاز القرآن ص22، السيوطي، الإِتقان 2/118 .
والنظام هو : أبو إسحاق إبراهيم بن سيار، خالط قوماً من ملحدة الفلاسفة كفره علماء أهل السنة وشيوخ المعتزلة لآرائه المنحرفة انظر عبدالقاهر البغدادي، الفرق بين الفرق وبيان الفرقة الناجية منهم (بيروت : دار الآفاق الجديدة، ط5، سنة 1982م)، ص113- 115 .
[141] الأشعري، مقالات الإِسلاميين 1/271 .
[142] البغدادي، الفرق بين الفرق (بيروت، دار الآفاق الجديدة) ص114- 115 .
[143] الباقلاني، إعجاز القرآن ص30، عبدالقاهر الجرجاني، الرسالة الشافية، تحقيق : محمد خلف الله، محمد زغلول (القاهرة، دار المعارف، ط3) ص146- 149، السيوطي، الإِتقان في علوم القرآن 2/118 .
[144] سورة الإِسراء آية 88 .
[145] ابن هشام، السيرة النبوية 1/289، أبو نعيم الأصفهاني، دلائل النبوة 1/302- 303 .
[146] ابن هشام، السيرة النبوية 1/314، أبو نعيم الأصفهاني، دلائل النبوة 1/300- 301، وانظر ص7 من هذا البحث .
[147] ابن هشام، السيرة النبوية 1/370 .
[148] المصدر نفسه 1/372 .
[149] انظر الفصل الذي عقده أبو نعيم في دلائل النبوة بعنوان : ذكر آخْذ القرآن ورؤية النبي صلى الله عليه وسلم بالقلوب حتى دخل كثير من العقلاء في الإِسلام في أول الملاقاة 1/298 وما بعدها .(227/38)
العنوان: الإعصار (س)
رقم المقالة: 969
صاحب المقالة: د. خالد الغيث
-----------------------------------------
... قبل عدة أيام زار منطقةَ الخليج العربي الإعصارُ [س]، قادماً من المحيط الهندي، مروراً ببحر العرب، وقد خلف الكثير من الوَفَيَات البشرية، والأضرار المادية، غير أن بعض وسائل الإعلام - كعادتها - قامت بشَغْل الناس عن [أسباب] هذه الآية العظيمة من آيات الله، وكأن الأمر ظاهرة طبيعية مادية بحتة، مع أن ما حصل هو بسبب ما كسبت أيدينا؛ من تقصير وغفلة.
قال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41].
هذا، وقد حفلت كتبُ التاريخ بذكر الكثير من الآيات والنذر الربانية، التي أجراها الله - سبحانه وتعالى - على الأمة المسلمة، أذكرها في هذا المقام من باب: {فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات: (55)] ومن ذلك ما حصل قبيل الغزو المغولي وفي أثناء الغزو المغولي - في القرن السابع الهجري- تنبيهاً للأمة بسبب غفلتها، وتلبسها بالمعاصي، وأمنها من عقوبة الله سبحانه وتعالى.
وفيما يلي ذكر لبعض تلك النذر:
1- ما وقع في سنة (سبع وتسعين وخمس مئة) من زلازلَ عظيمةٍ في الشام ومصر، وفي ذلك يقول المؤرِّخُ سِبطُ ابن الجوزي مبيناً علةَ ذلك: (وما ظلم الله عبادَه بإهلاك النسل والناسل، ولكنهم تعامَوْا عن الحق، وتمادَوْا في الباطل، وأضاعوا الصلوات، وعكفوا على الشهوات والشواغل، وارتكبوا الفجور، وشربوا الخمور، وأكلوا الربا، والرُِّشا، وأموال اليتامى).(228/1)
2- ما وقع في سنة (اثنتين وخمسين وست مئة) من خروج نار عظيمة بأرض عَدَن، وفي ذلك يقول المؤرخ ابن دقماق: (وفيها ظهرت نارٌ بأرض عدن في بعض جبالها، بحيث يطيرُ بها شَرار إلى البحر في الليل، ويصعد منها دُخَان بالنهار، فما شكُّوا أنها النار التي ذكرها النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها تظهر في آخر الزمان، فتاب الناس، وأقلعوا عما كانوا عليه من المظالم والمفاسد).
3- ما وقع في سنة (أربع وخمسين وست مئة) من خروج النار العظيمة بأرض الحجاز قُربَ المدينة النبوية، وفي ذلك يقول المؤرخ أبو شامة: (ووقتَ ما ظهرت دخل أهلُ المدينة إلى مسجد نبيهم - عليه الصلاة والسلام - مستغفرين تائبين إلى ربهم... وقد حصل بطريق هذه النار إقلاعٌ عن المعاصي، والتقرب إلى الله تعالى بالطاعات، وخرج أمير المدينة عن مظالم كثيرة).
وفي رسالة بعث بها قاضي المدينة إلى بعض أصحابه يخبره فيها عن خبر النار، أوردها المؤرخ أبو شامة، وفيما يلي مقتطفات منها: قال القاضي: (وأشفقنا منها، وخفنا خوفاً عظيماً، وطلعت إلى الأمير، وكلمته، وقلت له: قد أحاط بنا العذابُ، ارجِعْ إلى الله، فأعتَقَ كلَّ مماليكه، ورَدَّ على جماعة أموالَهم... وقال أيضاً: (وبالله يا أخي إن عيشتنا اليوم مكدرة، والمدينة قد تاب جميعُ أهلها، ولا بقي تسمع فيها رباب، ولا دف، ولا شرب).
4- وفي سنة (اثنتين وسبع مئة) وبعد أن نصر الله - سبحانه وتعالى - المسلمين في معركة (مرج الصفر) ضد المغول في الشام، قابل المسلمون ذلك النصرَ بالعودة إلى ما كانوا عليه من الذنوب والمعاصي، وأصناف من الفرح غير المشروع، عند عودة الجيش إلى القاهرة.
وفي ذلك يقول المقريزي: (وفيها كانت الزلزلة العظيمة؛ وذلك أنه حصل بالقاهرة ومصر في مدة نصب القلاع والزينة من الفساد في الحريم وشرب الخمور ما لا يُمكِنُ وصفُه، من خامس شهر رمضان إلى أن قلعت في أواخر شوال.(228/2)
فلما كان يوم الخميس ثالثَ عشرَ ذي الحجة عند صلاة الصبح اهتزت الأرضُ كلها، وسُمِع للحيطان قَعْقَعةٌ، وللسقوف أصواتٌ شديدة، وصار الماشي يميل، والراكب يسقط؛ حتى تخيل الناسُ أن السماء أطبقت على الأرض، فخرجوا في الطرقات رجالاً ونساءً، قد أعجلَهم الخوفُ والفزعُ عن ستر النساءِ وجوهَهن، واشتد الصراخُ، وعظم الضجيج والعويل، وتساقطت الدُّور، ووضع كثير من النساء الحوامل ما في بطونهن.
وبات الناس ليلة الجمعة بالجوامع والمساجد، يدعون الله إلى وقت صلاة الجمعة، فكان في ذلك لطفٌ من الله بعباده، فإنهم رجَعوا عن بعض ما كانوا عليه من اللهو والفساد أيام الزينة).
وعطفاً على ما تقدم، فإن الإعصار [س] جند من جند الله، وقدر من قدر الله، وقد يكون له إخوة في الطريق - لا قدَّر الله - مثل [ص] و[ع]، لكن بتجديدِنا العهدَ مع الله، ومحاسبة النفس بكل شفافيّة، نستطيع أن نجعل الإعصارَ [س] في ذاكرة التاريخ.
هذا، واللهَ أسأل أن أكون وإياكم ممن يتفكرُ في أسباب النُّذُر الربانية في كل زمان ومكان، حتى نكون ممن خاطبهم الله سبحانه وتعالى بقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق: 37].(228/3)
العنوان: الإعلامُ الأمريكي والغربي.. والاعترافُ بالهزيمة في العراق
رقم المقالة: 1567
صاحب المقالة: عمر حميدان
-----------------------------------------
كما يحدثُ في الحملات العسكرية الكثيرة التي حصلت في الكثير من دول العالم، أرسلت معظمُ وسائل الإعلام الأمريكية والعالمية مراسلين ومصورين وصحفيين إلى العراق، خلالَ وبعدَ عمليات احتلال العراق، كانوا إحدى العيون الناقلة للحدث والأنباء من الداخل، بتحيزٍ أمريكي واضح أحياناً، وبحيادية في أحيان أخرى، بحسب موقف الوسيلة الإعلامية من واشنطن والبيت الأبيض. فكما يوجد في أمريكا أحزابٌ وجماعات وأفراد يقفون إلى جانب حزب، فهناك آخرون يقفون ضده.
وفي كل مرحلة من مراحل احتلال العراق، وما تبعها من أحداث وفضائح وفظائع، وقف الإعلامُ مراقباً لما يحدث، لدرجةٍ جعلت منه تأريخاً شبهَ حقيقي لما حصل هناك.. يحتاج إلى الكثير من التأني في القراءة، ليرسُم ملامحَ الصورة هناك.
وإن جاز لنا أن نقص جزءًا من الواقع في العراق، وننقل الصورة التي يحاول هذا الإعلامُ رسمَها في هذا الوقت، فإننا سنطلع على مشهد يرسخ مبدأ "خسارة أمريكا" في العراق، عبر نقل الدعاوى المطالبة للأمريكيين بالخروج من العراق، هرباً من الخسائر المتزايدة في الأرواح، وعبر نقل حقيقة الخسائر الأمريكية هناك. وعبر نقل مواقف القادة الأمريكيين من داخل البيت الأبيض أو خارجه، الذين بدأوا حملةَ انتقادات واسعةً ضد بوش وأعضاءِ إدارته، وضد اللوبي الإسرائيلي داخل أميركا. لتكوين صورة أكثر دقة من تلك التي يحاول بعضُ السياسيين رسمها، كما فعل الجنرال ديفيد بتريوس، عندما أدلى بشهادته الهامة أمام الكونغرس الأمريكي، منتصف شهر سبتمبر الماضي.
المتاجرة بالأرواح:(229/1)
تطالعنا صحيفة (The Nation) الأمريكية، في مقالة لها بتاريخ 27 من سبتمبر، لتقدم صورة أخرى مغايرة للصورة التي عبر عنها الإعلامُ العالمي لحادثة شركة البلاك ووتر الأمريكية الأمنية في العراق، والتي أثارت سخطَ الكثير من العراقيين، مشيرةً إلى أن حاجة الأمريكيين لهذه الشركات كبيرة لدرجة تجعل من شبه المستحيل إبعادَها عن العراق؛ لأنها خط دفاع عن الأمريكيين أنفسهم، بحيث تحوّل العملُ العسكري هناك لمتاجرة بالأرواح، وتقول: "الحقيقة هي أن الولايات المتحدة لا يمكن أن تستمر في احتلال العراق من دون القوات الخاصة، وخصوصا البلاك ووتر. فاحتلالُ العراق هو الأكثر خصخصة في الحرب عبر التاريخ الأميركي".
وهذه (الخصخصة) تعني الاستعانة بالقطاع الخاص بدل الجيش في مواجهة المقاومة المسلحة التي أذلت الأمريكيين في عدة مواقف. وتدلل الصحيفة الأمريكية على صحة قولها بالقول: "هناك 630 شركة أمن في العراق، تضم 180 ألف عامل، يقدمون خدمات؛ ما بين الطبخ إلى حماية كبار الضباط في الجيش". أما الأموال التي تجنيها هذه الشركاتُ الخاصة دفاعاً عن جيش الاحتلال الأمريكي، فهي كبيرة جداً، إذ تؤكد الصحيفةُ أن هذه الشركات التي تضم "عشرات الآلاف من المرتزِقة من كل مكان في العالم، جنت أكثر من 4 مليارات دولار أمريكي، عبر العقود الحكومية، ومن ثم فإن لها مصلحةً في استمرار الحرب"!! إذ إن دخلَها يعتمد على استمرار احتلال العراق، واستمرار قتل المدنيين الأبرياء هناك.
كما تلفت الصحيفةُ النظر إلى أن الاعتماد على شركات الأمن الخاصة، يخلِّص الاحتلالَ من كشف عدد القتلى الحقيقيين داخل العراق، بالقول: "إنه من الصعب الحصولُ على إحصاء دقيق لوفيات قوات شركات الأمن الخاصة، وهذا ملائم لإخفاء التكلفة البشرية الحقيقية للحرب في العراق".(229/2)
ويبدو أن هناك صحوة متأخرة في الولايات المتحدة لمعرفة مصير الأموال الضخمة التي يقر الكونغرس دفعَها في العراق، ثمناً لمغامرة الرئيس الأمريكي جورج بوش، وتتابع صحيفة (The Nation) بالقول: "الكونغرس بدأ يسأل عن بداية النهاية لهذه الحرب، وعضو مجلس الشيوخ الديمقراطى جيم ويب وكلير اقترحت إنشاء لجنة تشريع على غرار اللجنة التي أنشأت بعد الحرب العالمية الثانية، للنظر في التبذير والغش الذي حصل في تلك الحرب". وتنقل عن وكلير قوله: "لدينا الآن الكثيرُ من المتعاقدين مع القوات الأمريكية في العراق، وهذه الحالة التي لم يسبق لها مثيل في تاريخنا محفوفة بالخروق القانونية، هناك مئات المليارات من الدولارات اعتمدت وأنفقت فى العراق وحده، وذلك أدى إلى هدر بلايين الدولارات، متضمنة الغش وسوء المعاملة".
كذبة شهادة بتريوس:
في حربٍ ربما لا تكون بأسباب كافية للغربيين أنفسهم، قد تنشأ مخاوفُ أكبر من المخاطر التي يراها الأمريكيون أمامهم في العراق؛ فالأمر هناك ليس فقط محاولة لترسيخ الاحتلال، وقمع المقاومة المسلحة، بل أصبح أمراً أكبر من ذلك، عبر محاربة ما أطلق عليه اسم "الإرهاب"، الذي يجد له متنفساً في العراق. في الوقت الذي تعد العراق وقوداً له، تشعل الكثير من العمليات المسلحة داخل أمريكا وحلفائها، انتقاماً.
صحيفة الـ(وول ستريت) الأمريكية، المختصة بالشؤون المالية والاقتصادية، كان لها وقفة خلال هذا الوقت مع الوضع المتأزم في العراق، إذ نشرت بتاريخ 28 من سبتمبر مقالة بقلم الكاتب (فريدريك دبليو كاجان)، قال فيها: "الكثير من السياسيين والمثقفين في واشنطن تجاهلوا عند أهم النقاط التي أدلى بها الجنرال ديفيد بتريوس أمام الكونغرس، والتي أشار فيها إلى أن هزيمة القاعدة في العراق تتطلب مزيجاً من القوى التقليدية والقوات الخاصة والقوات المحلية".(229/3)
ويتابع الصحفي الأمريكي إعلان مخاوفه من ارتباط الأوضاع بين العراق والهجمات المسلحة المحتملة على أمريكا وحلفائها بالقول: "هذا الإدراك لا يثير فقط تساؤلاتٍ حول الاستراتيجية الأمريكية في العراق، بل أيضاً حول مستقبل الحرب على الإرهاب".
وحول الموضوع نفسه -شهادة بتريوس- تفاجئ صحيفةُ (الإندبندنت) البريطانية قراءَها بالاستخفاف بالشهادة التي حاول فيها الجنرال الأمريكي تقديم صورة ملمعة ونظيفة للأوضاع هناك، عبر تقديم معلومات غير حقيقية قال فيها: "إن العنف في العراق انخفض بعد إرسال المزيد من القوات الأمريكية إلى العراق".
فعلى الصفحة الأولى، قسمت (الإندبندنت) صفحتها إلى قسمين، نشرت في القسم العلوي صورة الجنرال بتريوس وهو يدلي بشهادته أمام الكونغرس الأمريكي تحت عنوان "المشهد من واشنطن" مع عبارة تفيد بأن بتريوس أخبر الكونغرس بأن استراتيجية زيادة القوات المنتشرة في العراق تحقق أهدافها!
أما الجزء الأسفل من الصفحة فحمل عنوان "المشهد من بغداد"، وتحته صورةٌ لسيارات محترقة يحاولُ رجالُ الإطفاء إخمادَ النيران المندلعة فيها، وشخص ممدد على الأرض وقد تمزقت ثيابه. في إشارة إلى أن المشهد الحقيقي مخالفٌ لما يحاول الجنرال الأمريكي تصويره هناك.
ولا تكتفي الصحيفة بذلك، بل كتبت تقول: "إن العنف الطائفي حقيقة تتكرر بصورة يومية في بغداد، مع زيادة عدد الجنود الأمريكيين المتمركزين فيها".
كما أفردت الصحيفةُ الصفحاتِ الخمس الأُوَل منها للشأن العراقي وحده، مفسحةً مجالاً لتقارير خاصة عن الأوضاع داخل العراق وآثارها في الولايات المتحدة.
وترسيخاً لحقيقة الوضع في العراق -متمثلاً بالعاصمة بغداد- تنشر الصحيفةُ على صدر صفحتها الثالثة مقالاً يقول: "إن حصيلة القتلى التي تتزايد باستمرار في العراق، تهزأ بالتفاؤل الأمريكي".(229/4)
في صفحة الرأي تقول الصحيفة: "إنه لا يجب أن نندهش من قيام الجنرال بتريوس برسم صورة مشجعة للوضع في العراق؛ فقد كان تقريرُه منصبًا على جهوده شخصياً في وقف العنف، وعلى تقدير بتريوس للتوجه العسكري الذي قاده بنفسه، ولم يكن من المرجح أبداً أن يقول بأن زيادة القوات قد أخفقت ولم يكن البيت الأبيض ليقدم تقريراً عن الإخفاق في وقت يتزامن مع الذكرى السادسة لهجمات الحادي عشر من سبتمبر عام 2001".
أما صحيفة (التايمز) البريطانية، فقد نشرت رسماً كاريكاتيرياً معبراً يُظهر بوش وبتريوس وهما يركبان سيارة جيب عسكرية بدون عجلات في الصحراء، وتبدو حولَهما آثارُ الدمار والانفجارات، وترتفع أعمدة الدخان الأسود، ثم يدير بوش محرك السيارة ويصيح: هيه، إنها تعمل!.
انتقاد إسرائيل:
الملاحظُ خلال هذا الوقت أن الانتقادَ لم يتوقف عند حدود البيت الأبيض، أو حتى الجيش الأمريكي وقيادته، بل وصل إلى اللوبي اليهودي في أمريكا، الذي كان له دور حاسمٌ في إقناع جورج بوش بغزو العراق، كما تقول صحيفة (إيكونوميست) الأمريكية، والتي تابعت بالقول: "منذ صدور بروتوكولات حكماء صهيون خلال القرن التاسع عشر، عمل اليهودُ على تمرير خدع كبيرة للحروب لا داعي لها.. وهذا هو السبب الذي دعا اثنين من الأكاديميين الأميركيين -هما جون ميرشيمر وستيفن وآلت- إلى نشر مقالة في مارس 2006، تسببت في غضب كبير؛ إذ قالا: إن النشاطات المحرجة لإسرائيل ومؤيديها تسببت بغزو أمريكا للعراق.. وجورج بوش وديك تشيني ودونالد رامسفيلد الذين يعتقد الكثيرون أنهم يعملون لصالح أميركا، إلا أنهم في الواقع يعملون لصالح إسرائيل".
وأضاف المقال الذي نشر بتاريخ 27 من سبتمبر بالقول: "إن هذا يعني أن أبناء أمريكا يموتون في العراق لمصلحة إسرائيل"، مشيراً إلى ضرورة مناقشة ومعرفة مدى تأثير اللوبي الاسرائيلي على السياسة الخارجية الأميركية.(229/5)
وتتابع الصحيفة الاقتصادية بالقول: "إن القوى المؤيدة لإسرائيل لها تأثيرات على السياسة الأميركية في الشرق الأوسط، ولكنها تأثيرات سيئة على الأغلب، وهذا أمر لا جدال فيه".
ويمضي المقال الهام في استعراض الإشكالية التي تقع الولايات المتحدة فيها تحت تأثير اللوبي الإسرائيلي، بعد مدة طويلة من الدعم الأمريكي لليهود، مشيراً إلى أن "وجود إسرائيل أصبح بعيدا عن الخطر، وهي صارت غير مستضعفة، بل أصبحت قوية، وقد حرمت الفلسطينيين من إقامة دولة، وتعمل على التمييز ضد الأقلية العربية هناك، وبذلك فإن إسرائيل ليست مفيدة لأميركا، وسلوكها يتمتع بالفظاعة"، مؤكدة أنه لولا وجود اللوبي اليهودي، لما اجتاحت أمريكا العراق.
حوار مع هيرش:
الحوار الأهم الذي حصل خلال هذه المدة بالتحديد، هو الحوار الذي أجرته مجلة (شبيغل) الألمانية الشهيرة، مع الكاتب الصحفي الأمريكي الشهير (سيمور هيرش) بتاريخ 28 من سبتمبر، والذي تحدث فيه عن بعض الحقائق المتعلقة بالعراق.
ويكشف هيرش نقطة أساسية لها علاقة بالعراق، تتعلق بإمكانية ضرب إيران، إذ يرى هيرش أن ضرب إيران "لن يتم"، بحجة أنه "لا يوجد مسوِّغٌ منطقي لضرب إيران".
وهو هنا ربما يكشف عن أن السياسة الأمريكية في العراق، تشابه السياسة الإيرانية هناك، ومن ثم، فإن الأصدقاء لا مصلحة لهم في ضرب بعضهم، في وقت يحتاج فيها كل منهما إلى السيطرة على العراق.
وفي سؤالٍ للمجلة عن الإلحاح الظاهر للأمريكيين في ضرب إيران، يجيب هيرش بالقول: "هذا فقط ضغط من البيت الأبيض، وهو مجرد لعبة فقط".
وعن خطأ بوش في احتلال العراق، يقول هيرش: "بوش كان يعتقد أنه يريد نشر الديمقراطية في العراق، وتغيير خريطة الشرق الأوسط لإيجاد نموذج يحتذى به"، مشيراً إلى أن بوش يعتقد نفسه أنه يعمل كل ذلك بمساعدة من الله!! في إشارة إلى دور الدين النصراني، في احتلال العراق، وهو الأمر الذي كشف عنه بوش بُعَيد تفجيرات سبتمبر.(229/6)
ويشير الصحفي الأمريكي الذي فضح الكثير من السياسات الأمريكية في الشرق الأوسط، إلى أن الخطأ في غزو العراق، أكبرُ من الخطأ من غزو فيتنام. وهو امتدادٌ للانتقادات الكثيرة المتكررة، التي قارنت بين فيتنام والعراق، ويقول: "إن خطأ احتلال العراق كان أكبر من خطأ اجتياح فيتنام، فهناك كان خطأ تكتيكيًا، أما في العراق فإن الخطأ استراتيجي". ويضيف في ترسيخ فكرة خطأ احتلال العراق أصلاً بالإشارة إلى أن القيادة الأمريكية "لم ولن تتعلم على الإطلاق من أخطائها هناك، وسيكونون على استعداد للدخول في حرب جديدة غبية خلال عقدين".
قليلٌ من المتابعة للإعلام الأمريكي والغربي، يفضحُ بصورة جلية، الانقسامَ الحاصل أمريكياً حول احتلال العراق، وحجم الخطأ الذي بدأ الأمريكيون يعترفون به، وكله بسبب المقاومة العراقية المسلحة، التي راهنت منذ البداية على الدفاع عن العراق وثرواته وأرضه، واستطاعت تحويلَ انتصار الأمريكيين المزيف في العراق، إلى هزيمة نكراء، لم تأتِ من قِبَل الوسائل الإعلامية العربية أو العراقية المناصرة للمقاومة، بل من قبل الإعلام الأمريكي نفسه.(229/7)
العنوان: الإعلام بين الإفساد ونصر الإسلام
رقم المقالة: 1949
صاحب المقالة: الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ
-----------------------------------------
الإعلام بين الإفساد ونصر الإسلام
ملخص الخطبة:
1 - قوا أنفسكم وأهليكم نارًا.
2- كثرة وسائل الشر.
3- النهضة الإعلامية.
4- تنوع القنوات الفضائية في وسائلها وأهدافها.
5- دور الإعلام في توجيه المجتمع.
6- ضرورة التمييز بين القنوات الفضائية.
7- واجب الإعلام الإسلامي.
8- وصية رجال الإعلام بتقوى الله.
9- الحرب الإعلامية على الإسلام والمسلمين.
10- ترويج الإعلام الغربي لقضية إمامة المرأة في صلاة الجمعة.
ــــــــــــــــ
الخطبة الأولى
أمّا بعد: فيأيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، يقول الله - جلَّ جلاله -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6].
أخي المسلِم، في هذِه الآيةِ أمرٌ مِنَ الله لعبادِه المؤمِنين المستجيبِين لله ورسولِه السامِعين المطيعِين، آمَنَت قلوبهم، وصدَّق ذلك الأعمالُ بالجوارح، يوجِّه الله الخطابَ لأهل الإيمان قائلاً لهم: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا}، قوا أنفسكم النارَ، وقوا أهليكم النَّار. يتَساءَل السائل: كيف لي أن أقِيَ نفسي النار؟! وكيف لي أن أقِيَ أهلِي النار؟! نعم، وقايتُك لنفسك النار الأخذُ بالأسباب التي تبعِدك عنها، وتحول بينك وبينها بتوفيقٍ من الله، وكذلك أهلُك تقيهم النار بتحذيرِهم من الشرِّ ووسائله، والأسبابِ المقرِّبة له.(230/1)
أيّها المسلم، نقِي أنفسَنا النارَ، نقيها عذابَ الله، نقيها سخَطَ الله، نأخذ بكلِّ سببٍ يقينا عذابَ الله، ونبتعِد عن كلِّ سببٍ يوقعنا في عذابِ الله، نحصِّن أنفسَنا بوحيِ الله؛ ليسلَمَ لنا ديننا، ويبقَى لنا معتقدُنا السّليم، وتَسلَم أخلاقنا من الفسادِ والانحلال، ويسعدَ مجتمعُنا بأمنٍ فكريّ غير ملوَّث بآراء البِدَع والضّلالات والأفكارِ المناوئة للإسلام.
أيّها المسلم، نَفسُك أمانةٌ عندك، فأنت إمّا أن تسعَى في تزكيَتِها وتطهيرِها والسّموِّ بها إلى الكمالِ، وإمّا أن تسعى في إذلالِها وإهانَتِها، {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:9 - 10]، وفي الحديثِ عنه - صلى الله عليه وسلم - قال: ((كلُّ الناسِ يغدو، فبائعٌ نفسَه؛ فمعتِقُها أو موبقها))[1].
أيّها المسلمون، إنّ هناك وسائلَ للشَّرِّ قد تكاثرَت وتعدَّدت وتنوَّعَت الأساليب، وكلُّها تهدِف إلى هدفٍ واحد؛ زعزعةِ عقيدةِ المسلم قبل كلِّ شيء، إضعافِ الإيمان في قلبه، تشكيكه في ثوابتِ دينه، تَشكيكه في قِيَم إسلامِه وأخلاقه، البُعد به عن الفَضائلِ وتهوين الرذائل، والسَّعي في مَسخ الفِطَر والقِيَم والأخلاقِ الكريمة.
أيّها المسلم، إنَّ العالَمَ يشاهِد اليومَ نهضة إعلاميّة عظيمة، تمثَّلت في قنواتٍ فضائيّة متعدِّدة مختلِفة الاتِّجاهات، فما بين قنواتٍ أخذت على عاتِقِها حَربَ العقيدة، محارَبَة العقيدةِ السليمة والطَّعن فيها وتَشكِيك المسلم فيها، وما بين قنواتٍ فضائيّة أخذت على عاتقِها تدميرَ قِيَم الأمة وأخلاقها، وما بين قنواتٍ فضائيّة اتَّخذت مسارًا آخَر لتفكيك الأمّة والطعن في بعضها البعض، ومحاولَة إيجاد البغضاء بين الشعوبِ الإسلاميّة.(230/2)
أيّها المسلمون، للإعلامِ دورُه الفعّال في توجيه الفِكر ورَسمِ الطّريق للإنسانِ، لكن ليتَّقِ المسلم ربَّه، وليحصِّن نفسَه بشرع الله؛ ليكونَ ذلك حاجزًا بينَه وبين التأثُّر بهذا الإعلامِ الجائِر الباطِل، وما ذاك إلاّ بالإعراضِ عن كثيرٍ من قنواتِه، وأن يتأمَّلَ قبلَ أن يشاهِدَ وينظُر: ماذا تحمِله تلكم القنوات؟ ما هي أفكارُهم وآراؤهم؟ ومَن هم القائِمون عليها؟ وما أهدافُهم ممّا ينشرون ويعلِنون؟ فإن يكن ذا رأيٍ سديد وإيمانٍ صادق؛ اتَّقى الله في نفسِه وأعرَض عن كلِّ باطل، اللهمّ إلاّ أن يكونَ ذا قَلَم سيّال، وأسلوبٍ جذّاب يحاول أن يدحَضَ الباطلَ ويقيمَ الحجّة عليه، {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} [الأنبياء: 18]، فمن كانت هذه غايَته؛ شاهَد ليَنقُدَ وليوضحَ الخطأَ وليبيِّن الضلال؛ فتلك دعوةٌ إلى الله وإلى دينِه، لكن للأسفِ الشديد مجرّدُ المشاهدةِ للتّسلية، والانتقال من قناةٍ إلى أخرَى، وكم تحمِل تلكِ القنواتُ في طيّاتها من حربٍ على الإسلام، وحربٍ على القِيَم والفضائل، وتجسيدِ أسباب الشرِّ؛ للانحرافِ بالشباب المسلِم من رجالٍ ونساء عن مسيرتِه الصحيحة وإيقاعِه في الضلال.(230/3)
أيّها المسلم، لنَقِ أنفسَنا عذابَ الله، ليكن عندنا فرقٌ بين ما ينشَر ويعلَن، وتمييزٌ صادِق لنستبينَ ما هو الإعلام النافِع من الإعلام الضارّ، فما كلُّ إعلامٍ نافعًا، فكم من إعلامٍ هو حَرب على الإسلامِ وأهلِه، وكم مِن إعلامٍ حربٌ على الفضائل، وكم من إعلامٍ مروِّج للدِّعايات المضلِّلة، والأفكار المنحرِفة، والأخلاق السّافلة، فإن يكن لدَيك تمييز لهذا استَطعتَ بتوفيقٍ منَ الله أن تنجوَ من تأثير هذه القنواتِ الضّالّة، وتميِّزَ بين إعلامٍ صادق أُريد به خير، وبَين إعلامٍ هابِط أرادَ به أهلُه شرًّا، لنحصِّن أبناءَنا ذكورًا وإناثًا بوحيِ الله، ولنُحذِّرهم من الانخداعِ والاغترار بما يُنشَر في تلكم القنواتِ، ولنبيِّن لهم أخطارَها وأضرارَها ومفاسِدها، ونصوِّر حقيقةَ الأمر، فتلك قنواتٌ خرجَت عن السّيطرَة، لكن لا يحصِّن المسلمين إلا وَحيُ الله، والتّمسُّك بدينه، وتوضيح الحقِّ من الباطل؛ ليكونَ المسلم على بيِّنةٍ مِن أمره.
أيّها المسلم، تنوَّعَت أساليب الإعلام، فما بَين صُحُفٍ مقروءة، وما بين مرئيّة، وما بين مسموعَة، وما بين شبكاتِ الاتِّصالات الإنترنت وما يُجلَب في ساحاتها من بلاءٍ ومصيبة، من هتكٍ للأعراض، ورميٍ بالتُّهم وأكاذيبَ وأباطيل، كلُّ ذلك من وسائلِ الإعلام التي يجب على المسلِمِ التثبُّت فيما يرى وفيما يسمَع؛ ليكونَ على بصيرةٍ من أمره.(230/4)
أيّها المسلم، إنَّ واجب الإعلام الإسلاميّ أن يكونَ له تميُّزٌ خاصّ، وأن تكونَ برامجُه برامجَ هادِفة، ومُسلسَلاتُه مسلسلاتٍ هادِفة، تبني القِيَم والفضائلَ، وتوضح للأمّة الحقَّ، وتعالج مشاكِلَ الأمّة مِن قريب أو بعيدٍ بالعلاج الشرعيّ النافع، الذي يجعَل هذه الوسائلَ مِنبرَ توجيهٍ وإرشاد، ومَتى انحرف الإعلام عن مسارِه الصحيح، فإنَّ أضراره ومفاسدَه ومساوئَه تكون كثيرةً، فقد ولَج الإعلام كلَّ بيت، وأصبح بمقدورِ كلِّ إنسان أن يشاهِد ويرَى ما يُبَثّ من العالم يشاهِده، فهو في منزله يتحكَّم ويرَى، ويَرى وينتقِل من هذا إلى هذا، لكن إن تحصَّن بالوحي، وتمسَّك بالهُدى وصارَ عندَه فرقٌ بين الحقِّ والباطل، وبين الهدَى والضلال؛ لم تخدعه تلك الآراءُ، ولم يغترَّ ويُعجَب بتلك الأفكارِ والأطروحات السيِّئة.
أيّها المسلم، إني أناشِد رجالَ الصَحافة في بلادِنا؛ محرِّري الصّحُف والقائِمين عليها، فأقول لهم: تقوَى الله وصيّة الجميع، والحِرص على التأكُّد مِن كلِّ ما ينشَر، وفَحص كلِّ مقالٍ يُراد أن ينشَر، وكلّ أطروحة يريد شخصٌ أن يطرَحَها؛ لنكونَ على بصيرةٍ من أمرنا، فلا تخرج صحافتُنا إلاّ برأيٍ سديد، وفِكرٍ نيِّر، وخلُقٍ كريم؛ لتكونَ صحافتنا صحافةً حقّة، وليكون مَن يقرَأ وينظر يتدبّر ويستفيد، فمشاكِلُ المجتَمَع المسلِم كثيرة، فحَلّ مشاكِلِنا بالطّرُق السّليمة على هديٍ من كتابِ ربِّنا وسنّة نبيِّنا - صلى الله عليه وسلم - يحوِّل صحافتَنا إلى مِنبرِ خيرٍ وتوجيهٍ، ودَعوة للخَير وأخذٍ بأسباب الهِداية.(230/5)
لا يغرّنَا ما انجَرَفت فيه صُحُف غيرنا أو مَا سَلَك غيرنا، لا بدَّ لهذا البلَدِ المسلِم أن يتميَّز إعلامُه بما يخدم هذه العقيدةَ قبل كلِّ شيء، وبما يقوِّي الأخلاقَ، ويثبِّت الأمن، ويجمَع الكلمة، وتصبِح الأمّة تستفيد مِن إعلامها، فهو يوجِّهها في معتَقَدها، وأخلاقها، واقتصادِها، وثقافَتها، توجيهًا سليمًا مبنيًّا على أسُسٍ من كتابِ ربِّنا وسنة نبيِّنا صلى الله عليه وسلم.
إنَّ كلَّ من يريد أن يكتبَ، وكلَّ من يريد أن يحلِّل، وكلَّ من يريد أن يكون له سَبقًا في القول؛ فليتَّق الله، وليحاسِب نفسَه قبل أن يُحاسَبَ أمام الله، ليحاسِب نفسَه عما يقول، وليتذكَّر قولَ الله: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} [النور: 24 - 25].
إنّ أعداءَ الإسلام احتَوَوُا الإعلام العالميّ، وسخَّروه لخدمة أفكارِهم وآرائِهم، وسخَّروه للطّعن في الأمّةِ وثوابتها، سخَّروه لإبعادِ المجتمع المسلم عن دينِه، سخَّروه للقدحِ في ماضينَا المجيد وفي أعلامِ الهدى من هذه الأمة، سخَّروا إعلامَهم لأجل هذا، فهل إعلامُنا الإسلاميّ لديه القدرةُ على مناقشة تلك الأمور، وعلى قَرع الحُجّةِ بالحجة ودمغِ الباطل بالحقّ؟! {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} [الأنفال: 42].(230/6)
إنّ الإعلامَ الإسلاميّ متى أخذ على عاتقِه الدعوةَ إلى الإسلام وفضائله، وتبيين الهدى من الضلالِ، وصَارَ طابعه ومظهَره طابعًا ومظهرًا إسلاميًّا في كلِّ الأمور، ليكونَ أعلامنا إعلامًا متميِّزًا، وإعلامًا هادِفًا للخيرِ، وإعلامًا يتحسَّس مشاكلَ الأمّة ويعالجها العلاجَ السليم، فعند ذلك يتحوَّل الإعلام إلى خيرٍ بتوفيقٍ من الله، ولكن مع هذا كلِّه فعلى كلِّ مَن كان في أيِّ وسيلة من وسائلِ إعلامنا؛ مِن صحافةٍ وتلفازٍ وإذاعة، أن يتَّقوا الله فيما يقولون، وفيما يرسمون، وفيما يضَعون من برامج، لتكن تقوَى الله هدفَ الجميع في كلِّ الأحوال، وليتَّقِ الله من يكتُب في تلك الساحاتِ ومَن ينشُر ويقول، ليتَّقِ الله في نفسه، وليعلم أن اللهَ رقيب عليه وإن خَفِي أمره على النّاس.
إنّ الإعلامَ الإسلاميّ لا بدَّ في هذا العصر من أن يتميَّزَ تميّزًا صحيحًا؛ لأنّ الحملات المسعورةَ على الإسلامِ وأهله قد علا شأنُها واشتدَّ خطرُها، ولا يمكِن أن يُكافَحَ الباطلُ إلاّ بالحقِّ الصريح، ولا يمكِن أن نردَّ الباطل إلا بالحقّ، ولا يمكن أن ندحضَه إلاّ بالحجّة القطعيّة، ففي كتاب ربِّنا وسنّة نبيّنا ما يكفي لدمغِ هذا الباطلِ وردِّه.
إنَّ الإعلام الإسلاميّ إذا تميَّز بهذه الميزةِ الصادقة، وحسُنت النيّة، وقوِيَت العزيمة؛ فإنَّ الله يجعل لهذا الإعلامِ أثرَه الفعال في تبيين فضائِلِ الإسلام ومحاسِنِه، ودَحض كلِّ ما لبَّسه عليه الملبِّسون، وكلّ ما زوَّر المزوِّرون من أناسٍ طعَنوا في الإسلام وفضائِلِه، وتعاليمه وقِيَمه، وصوَّروه بالصّورة المشوّهَة، فعلى الإعلامِ الإسلاميّ أن يكونَ دائمًا داعيًا إلى الله، ومسخِّرًا كلَّ برامجه لما يسعِد الأمةَ في دينها ودنياها.(230/7)
وعلينَا أن نثقِّفَ أبناءنا وبناتِنا، وأن نوجِّهَهم لأيِّ قناةٍ فيها خير، ونحذِّرهم من تلكم القنواتِ الفضائيّة المنحرفة، ونبيِّن أوجُهَ انحرافها وبعدها عن الهدَى؛ ليسلَمَ شبابنا من الانخداع. هي بلا شكٍّ وضلَّلت الأمورَ وإعلام لا تستطيع إيقافَه ولا إيقافَ زَحفه، لكن التربية الطيِّبة والنصيحة الهادفة هي وسيلةٌ بتوفيقٍ من الله إلى تبصيرِ الأمّة؛ ليكونوا على عِلمٍ وثِقةٍ بإسلامهم، وحذرٍ مِن تلكم الوسائلِ الإعلاميّة العالمية التي تريد بنا الشرَّ والفساد، ويأبى الله ذلك والمؤمنون.
فلنتَّقِ الله في أنفسنا، ولنحذَر أسبابَ الشرّ، ولنحذَر مِن الانخداع بكثيرٍ مما يُذاع وينشَر ممّا هو مخالف للحقِّ والصواب.
أسأل الله لي ولكم التوفيقَ والهداية والعَونَ على كلِّ خير.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليلَ لي ولكم ولسائر المسلمين من كلِّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فيأيّها الناس، اتقوا الله – تعالى - حقَّ التقوى.(230/8)
عبادَ الله، قضيّةٌ في هذه الأيّام يروِّج لها الإعلامُ الخارجيّ بكلِّ مَا أوتي من إمكانِيّات، هذه القضيّةُ هِي قضيّة قَد تَنظر إليها - أيّها المسلِم - بأنها قَضيّةٌ ثانويّة أو هَامشيّة، ولكن بالحَقيقةِ إذا سَبَرتَ الوَضعَ وَجدت أنَّ هذه القضيّةَ جاءَت ضمنَ سِلسِلة العداءِ للإسلامِ وأهله، وخَلخَلة صفوفِ الأمّة، وإيجاد الفرقةِ بين أبنائها، وإحداثِ ما يقطَع صلةَ الأمّةِ حاضرَها بماضيها، يجعَلها متنكِّرةً لماضيها مخالِفَة له، هذه القضيّة التي هي جُزئيّة؛ ولكن لها مغزاها البعيد، مَا يُنشَر في هذه الأيّام من أنّ هناك فكرةً - وأظنّها قد يكون اليومَ أو الغد تَطبيقها - هي إمامَةُ امرأةٍ بمجموعةٍ مِن رجال ونساء.
هذه القضيّة روَّج لها الإعلام الخارجيّ، وأبدى وأعاد، وقابَل من قابل، وأخذَ آراء مَن أخذ آراءَه، وهي أنَّ هناك نيّة إلى أنّ امرأةً تقوم خطيبةً، تخطب في الرجالِ يومَ الجمعة، وتؤمُّهم للصّلاة، ويختلِط الرجال والنساء في مكانٍ واحد لا تفرّق بينهم؛ بل تجاوز الحدّ إلى أن قالوا: يوضَع النساء أمامَ الرجال، فيقدَّم النّساء ويؤَخَّر الرّجال، إلى غير ذلك ممّا أبدَوه مِن أفكارٍ سيّئة!!
هذه القضيّة قد يستدلّون لها بقول مَن قال مِن العلماء، ولكن مَن نظَر إلى الأمر نَظرَ الفحصِ والتدبُّر وجَد أنّ عالمنا الإسلاميَّ منذ عهدِ محمّد - صلى الله عليه وسلم - والقرون المتعاقِبَة بعدَه إلى اليوم ما عُلِم أنّ أحدًا من الأمّة أجاز لامرأةٍ أن تقومَ خطيبةً لتعِظ الناس أمامَ الرجال، وتكون إمامًا لهم، والنساءُ والرّجال يستمِعون لها، لم يُعهَد هذا في عصور الأمّةِ الماضية قريبِها وبعيدها.(230/9)
هذِه القضية ما أُتي بها إلاّ لإضعافِ الحياءِ مِن نِساء المسلِمات، وإِخراج المرأةِ المسلمة عن حيائِها، والزجِّ بها في ترَّهات الأمور، ما أتَوا بذلك لقصدِ خيرٍ، واللهِ ما أرادوا خيرًا، وإنما أرادوا سُوءًا وضَلالة. فليعلَم المسلم أنَّ الأمّةَ الإسلامية منذ قرنها الأوَّل إلى اليوم ولم يُعهَد أنَّ امرأة قامت خطيبةً بين الرجال، هذا أمر كان ممكِنًا لو أنّه أُريد، لكنّ الأمّةَ متَّفقة؛ بل مجمِعة على أنّ هذا غير واقعٍ فعلاً، فهو لم يقَع فعلاً أبدًا، وإن قال مِن العلماء مَن قال لقضيَّةٍ خاصّة ما، لكن هذا الذي أُثيرَ ودُعِي إليه أمرٌ منكَر خطير، لا أظنّ مسلمًا يؤمِن بالله واليومِ الآخر أن يقِرَّ هذا الخطأ، ويرضَى بهذا الباطل، إنّه باطل، وبطلانُه معلوم مِن اجتماع الأمة على خلافه، وعدم عملهم بشيءٍ من ذلك.
إنها قضيّةٌ يُراد بها تحطيمُ الحواجِز في نفسِ المرأة، يُراد منها القضاءُ على حيائِها وشامتها وكرامتها، يراد من ذلك أن يُتَّخذ بعضُ مَن يدَّعون الإسلامَ ليكونوا مِعوَل هدمٍ في الأمّة الإسلامية، فاتَّخذوا من هذه الأساليبِ الباطلة ما يظنّون أنهم سيخلَعون به حياءَ المرأة المسلمة، ويقضون على كلِّ خيرٍ في نفسها، ويأبى الله ذلك والمؤمنون.
والذين دافَعوا عن هذه القضيّة أو أقرّوها إنما ذلك دليلٌ على ضعفِ بصيرتهم، وقِلّةِ حيائهم وخوفِهم مِن الله، لو تبصَّروا في عواقب الأمورِ ونتائجِها؛ لعلِموا أنهم بهذا على غيرِ صَواب، وأنَّ بقاءَ الأمة على ما كان عليه ماضيها المجيدُ هو الخير والسعادةُ والنجاة في الدّنيا والآخرة.(230/10)
إنَّ أعداءَنا يحاولون إفسادَ بنات المسلمين، ما يدَّعونه من حقوقٍ للمرأة سياسيّة أو اجتماعيّة كلُّها دعواتٌ باطلة، وكلّها خضوع لأعداء الإسلام وما يملُونه على الأمّة من أفكار، {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة: 120]، {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء: 89]، فاتَّخذوا مِن المرأةِ قضيّةً لإلحاقِ الذلّ بالأمة، وإفسادِ دينها وأخلاقها، ولكنَّ الأمّةَ بتوفيقٍ من الله ستقِف سدًّا منيعًا أمامَ هذه التحدّيات الجائرة، والأساليب الباطلة؛ بتمسُّك الأمّةِ بدينها، وثباتها على مبدئها، وأن يعرِفَ المسلم كيف مَكرُ الأعداءِ بنا قديمًا وحديثًا، نسأل الله الثباتَ على الحقّ والاستقامةَ عليه، وأن لا يزيغَ قلوبَنا بعد إذ هَدانا.
اعلَموا - رحمكم الله - أنّ أحسنَ الحديث كِتاب الله، وخَيرَ الهدي هَدي محمّدٍ صلى الله عليه وسلم، وشرّ الأمورِ محدثاتها، وكلّ بِدعةٍ ضلالة، وعليكم بجماعَةِ المسلمين، فإنّ يدَ الله على الجماعةِ، ومن شذّ شذّ في النّار.
وصلّوا - رحمكم الله - على محمد بن عبدِالله كمَا أمركم بذلك ربّكم، قال – تعالى -: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولِك محمّد، وارضَ اللّهمّ عن خلفائه الراشدين.
ـــــــــــــــــــ
[1] رواه مسلم في الطهارة (223) عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه.(230/11)
العنوان: الإعلام وفشل الحضارة الغربية في إنقاذ الإنسان !
رقم المقالة: 221
صاحب المقالة: د. عدنان علي رضا النحوي
-----------------------------------------
يطلع الغرب علينا، وعلى رأسه أمريكا، ليدَّعوا أنهم الشعوب الأرقى والأعدل والأقوى! أخذهم الكبر والغرور فلم يعودوا يشعرون بالخطر الذي يهدِّدهم ويهدّد غيرهم، أو خدَّرتهم الثروات والرفاهية فلم يعودوا يشعرون بآلام الفقراء والمسحوقين في الأرض.
والعالم الإسلامي غارق في ضعفه وهوانه، يقف حائراً بين عجزه البيّن ومحاولاته الفاشلة، وتمزّقه وامتداد الفتن إليه.
ولكن الغرب ما زال يدوّي بإعلامه الواسع وضجيجه الطاغي يغذّي الفتن والفساد والظلم في الأرض.
لقد امتدَّ الإعلام الغربيّ بعامَّة والأمريكي بخاصَّة إلى مناطق متعددة في العالم، يحمل زخرف الحضارة الغربية مثل: الأغاني والرقص وأفلام الجنس وغيرها. امتدت مظاهر هذه الحضارة إلى التِّبت وإلى أعماق منطقة الأمازون وإلى قبائل الهنود الحمر. فهناك خمسمائة ( 500) قمر صناعي تبث برامج " الحداثة " على شرق روسيا وإلى إيران. والشباب المراهقون هنا وهناك انتزعتهم هذه البرامج من حياتهم السابقة ورمتهم في أجواء " الروك أند رول " وغيرها.
لقد أصبحت " والت ديزني " تغزو العالم بما فيها من تنوّع يجذب النفوس وبما يوفّره الإعلام الأمريكي من سبل الانتشار. وعلى نفس الأسس انتشر "ميكي ماوس" متفوقاً على رموز كثيرة بالشهرة والانتشار.(231/1)
"روبرت مردوخ Rupert Murdouch" يملك أقماراً صناعية يبث بها صوراً لحسناوات صينيّات وكوريات وهنديات وعربيات على منطقة واسعة من العالم العربي[1]. وهناك مؤسسات إعلامية عملاقة أخرى تتنافس كلها على بثّ ما يدغدغ الأحلام ويولد ما يسمى "Tittytainment" إثارة الأهواء وتفلّت الأحلام، منها: مؤسسة الألماني: "Bertlsman "، ومنافسه "Leokirch " و"Silvio Berlusconi "، وكذلك مغنّو الأوبرا: "Tenvee" و"خوسيه غاريراس: Jose` Carreras "، وبلاتشيدوا دومنغو، و"لوسيانو بافاروتي: Lciano Pavarotti" يعطون لكل بلد أغنيته وموسيقاه المحبَّبة له ولشبابه المراهق، لتخْلُبَ لُبَّهم وتُغْرقهم في أهوائهم وشهواتهم . يضاف إلى ذلك الدعاية الإعلامية الواسعة لمباريات كرة القدم وكرة السلة والرياضة بعامة .
لقد أصبح الإعلام طوفاناً يلهبُ الشهوات ويقتل العزائم، ويفسد الفطرة، ويميت النخوة ويقتل الوقت ويخدر النفوس .
هذا الطوفان الإعلامي الممتد على مساحة الكرة الأرضية من التبت إلى غابات الأمازون، ومن القطب الشمالي إلى القطب الجنوبي، لا شكَّ أنه أوجد نوعاً من الميول المنحرفة والطباع الفاسدة المتقاربة، كأنها تبني في الأرض عولمة خاصة بها، يمكن أن نسميها "عولمة الإفساد والتدمير"، وقد تُنْشئ بين أناس هنا وأناس هناك علاقات تقوم على المتع الرخيصة والفتن الكثيرة .
وليست الأفلام والصور وبضاعة الإعلام وحدها تنشر الفتن والفساد، فهنالك جوّالون وممثلون وسائحون يُسْهمون في ذلك النشاط، ومعهم الممثلات والسائحات، وأصبحت السياحة باباً من أبواب الفتنة والإفساد!(231/2)
ولقد نشأت مدن تحمل زخارف هذه الحضارة. ففي كوالامبور عاصمة ماليزيا قامت أعلى ناطحات سحاب في العالم. وقامت بكين وشنغهاي يعلو فيها البناء وتعلو الناطحات بدلاً من برلين كذلك، وحلَّت بانكوك محل ديترويت في صناعة السيارات، وأخذت اليابان تنتج سياراتها في تايلند، وأصبحت "تايبيه" وريثة وادي السيلكون، وأصبحت بومبي تنتج من الأفلام أضعاف ما تنتجه هوليود.
ومدينة مثل "شنغهاي" أصبحت تتطلّع لتكون المركز الاقتصادي الأول لتنافس طوكيو ونيويورك. فتقوم منافسة هوجاء وتثور عواصفها بحيث لا يبقى مكان للنائمين والخاملين. صراع عنيف وتنافس رهيب على مراكز دنيوية من تجارة وبناء وصناعة، لا تحمل معها رحمة على الضعفاء والمساكين، وكأن العالم أصبح سوقاً تجارية واحدة! فهل هذا لخير الإنسان؟! كلا! لأن هذه السوق يقف فيها كبار المجرمين في الأرض يدوسون كل خامل وضعيف يقترب من السوق ومفاسده وشروره. فهي عولمة محصورة بفريق من البشر، فلا مجال لنموّ مطّرد يضم البشرية كلها. إلا نموّ الفساد والفتن بأشكالها المختلفة المتجددة. إنها عولمة أهواء وأصحاب الأهواء.
وبناء "القرية الأولومبية العالمية: Global Olympic Village " اقتضى هدم منازل الفقراء المحشورة بين المباني الشامخة للشركات الكبرى. ولم تستطع الألعاب الأولومبية بكل ما فيها من متع أن تُخْفي زيف صداقة الشعوب، الصداقة الذي تُغَنِّيها قصائد وأغان متنوّعة.
إنَّ جميع المدن الشبيهة بأتلانتا بالتقنية العالية من ناحية، وبعدم الاهتمام بالمشاعر الإنسانية الحقيقية، أصبحت أشبه ما تكون قلاعاً للاقتصاد وقلاعاً للثراء الطاغي، يحيط بها موج من البشرية الفقيرة.
ربما كانت لا مبالاة الأثرياء في أحضان الثراء الفاحش لا مبالاة مخجلة، ولكنها تحوّلت مع الاستمرار والمداومة إلى كبر وغرور، ووهم لا بدَّ أن ينجلي مع الأيام على سنن لله ثابتة في الحياة الدنيا.(231/3)
إنك تجد أن (358) إنساناً مليارديراً فقط في العالم يمتلكون ثروة 2.5 مليار من سكان المعمورة. ومع تحول اللامبالاة من خجل إلى كبر وغرور، أخذت المساعدات التي تقدمها الدول الصناعية إلى الدول النامية تنخفض شيئاً فشيئاً .
مساعدات ألمانيا انخفضت من (0.34) إلى (0.31)، ومديونات الدول النامية ارتفعت منذ سنة 1996م إلى 1.94 ألف مليار دولار، أي ضعف ما كانت عليه قبل سنوات[2].
هذه صورة مأساوية من العولمة، فبهذه العولمة يزداد ثراء المجرمين ويزداد فقر المعوزين . فأصبح الناس يلتفتون إلى مخرج لا يجدونه إلا في حروب بين الدول، فتلك تَصُبُّ ثمرتها في جيوب كبار المجرمين. ولكنهم يفتنون في داخل بلدهم لتقوم حروب أهلية، كما حدث في جنوب أفريقيا، فبعد انتهاء سياسة التمييز العنصري بعام واحد قتل سبعة عشر ألفاً في سياق الصراع الداخلي العنصري[3].
أما القارة الأفريقية فقد غزتها عولمة الفقر والمرض. كبرى مدنها: "أبيدجان، ولاغوس، وفريتاون"، والكاميرون، وسيراليون، حيث يختفي الأمن فيها مساءً. وينتشر في أفريقيا "الإيدز" و10% من سكان عاصمة ساحل العاج مصابون بالإيدز - مرض نقص المناعة -. إن أفريقيا تُبيّنُ لنا خريطتها وأوضاعها السياسية أكبر الأمثلة على أكاذيب وبطلان العولمة مما يشعل في معظم مناطقها حروباً فتاكة، كما حدث في رواندا وبورندي، ودول أخرى معرّضة للحروب أيضاً، مثل زائير ومالاوي وغيرهما. ويمثّل سكان أفريقيا أفقر سكان الدنيا ومع ذلك تشهد أعلى نسبة لزيادة السكان. ومناطق أخرى من العالم تشكو من ندرة المياه وخاصة في بعض بلدان العالم الإسلامي. إلا أنَّ هذا الجزء من العالم، جزء العالم الإسلامي، سيجد من إسلامه قوة توفّر عطفاً على المقهورين والمظلومين، فيصبح الإسلام أكثر جاذبية . فالإسلام دين مستعدٌّ للمنازلة والجهاد.(231/4)
صموئيل هنتجتون كتب مقالاً أولاً ثمَّ أصدر كتاباً بعد ذلك حول "صراع الحضارات"، ويقول في ذلك إنَّ المستقبل سيتحدد من خلال صراع الحضارات . ولكننا نقول إنَّ المستقبل يحدِّده الله سبحانه وتعالى من خلال سنن ربَّانيَّة ثابتة، أغفل الناس قلوبهم عنها وأغمضوا أعينهم[4].
ولا يقتصر الأمر على أفريقيا وأحوالها السيئة، فانظر إلى الهند يموج فيها أكثر من مليار إنسان، وتنمو المدن دون تخطيط واع، مما يفسد البيئة بالدخان من وسائل النقل، مما يولد أمراضاً في الأطفال كالتهاب القصبات. ويموت كلَّ سنة 2200 إنسان في حوادث المرور. وبومباي مثل واضح، فمع الأثرياء يعيش فقراء مسحوقون، وعلى البلدية أن تجمع يومياً ألفي طن من القمامة، والمدينة بحاجة إلى مائة ألف بيت خلاء، وتحار البلدية كيف تدير شؤون المدينة، خاصة وأنها لا تستطيع أن توفر أكثر من ثلثي الماء الضروري. ولذلك ينزح إلى المدن الكبيرة أولئك الذين يجدون فرصة عمل. ولكن فقراء المدن الكبيرة في وضع أسوأ من الفقراء النازحين، فإن وجد النازحون فرصة عمل، فالمقيمون لا يجدون[5].
أحد الوزراء المسؤولين في أوروبا أشار على رئيس وزراء الصين أن يلتزموا بحقوق الإنسان. فأجابه: هل أنتم في أوروبا قادرون على إيواء ( 10-15 ) مليون صيني سنوياً تؤمنون لهم المسكن والطعام؟!
كثير من المسؤولين والمفكرين تحدَّثوا عن مأساة العالم المعاصر، ولكن هل أسهم هؤلاء في معالجة مشكلات الفقر والمرض والجوع؟!
لقد أصبح من الواضح أن حضارة الغرب كلها، حضارة أوروبا أو حضارة أمريكا أو غيرها فشلت فشلاً تاماً في بناء حياة نظيفة آمنة للإنسان على الأرض . لقد عمَّ الخوف والهلع الناس من لهيب الحروب التي أشعلت داخلياً أو خارجياً، وظلت مآسي الإنسان تزداد وتزداد، وجميع الوعود التي أطلقها مسؤولون في أمريكا أو أوروبا لم يتحقق منها شيء.(231/5)
وأصبح الواقع المزري كأنه يقول: من يستطيع إنقاذ نفسه فلينقذها. إنَّ الرأسمالية ونموّها المرعب، والديمقراطية وإعلامها المدوّي، لم تحقق للإنسان أمناً أو راحةً أو معالجة الفقر والمرض!
أصبحت حقيقة التطور الذي استغلَّ كلَّ التقدّم العلمي تدهوراً اقتصادياً وتدميراً للبيئة، وانحطاطاً للثقافة. إن 20% من سكان العالم يملكون أكثر من 84% من الناتج الإجمالي للعالم، وأكثر من 84% من التجارة العالمية الدولية، وازدادت الفجوة بين الأغنياء والفقراء، وفشلت المساعدات الاقتصادية للتنمية التي كانت تعد بالعدل والإنصاف، وكأنَّ العالم وقع بين فكّين: فك العولمة وفك التفكك والتمزق. قوتان متعاكستان[6]!
أما بالنسبة للموارد الطبيعية فما زالت النسبة القليلة من الناس تستأثر بالنسبة العالية من الموارد. فموارد الطبيعة خلقها الله ولم يصنعها الإنسان، فهي للناس كافة، للإنسان. أما وعود بعض الدول بتخفيض التلوّث البيئي الناتج عن ثاني أكسيد الكربون في الدول الصناعية، لم يتحقق منه شيء، ومضت الدول الصناعية في سياستها الرأسمالية لتزيد من التلوث غير آبهة بمقررات مؤتمر الأمم المتحدة للبيئة في ريودي جانيرو سنة 1992م .
وبعث الله من عنده ابتلاءً ونذيراً للناس حتى يتفكّروا ويرجعوا عن غيّهم وفتنتهم، فكان طوفان "تسونامي"، وطوفان "جاوة"، وطوفان سواحل أمريكا، وكذلك الزلازل والبراكين، وما زال هذا مستمراً، وما زال بعض الناس يعزون كلَّ ذلك للطبيعة! ما هي الطبيعة؟! كيف تفكر وكيف تعمل؟! نسوا أن الله خالق كل شيء، وخالق الطبيعة! وكلُّ شيء بأمره وقضائه وقدره على حكمة بالغة!(231/6)
كتَّابٌ كثيرون استعرضوا هذه المآسي، ومؤسساتٌ أيضاً استعرضت ذلك، مثل: معهد واشنطون للثروات الطبيعية العالمية، مؤتمر قادة الدول السبع الأقوى اقتصادياً، "مؤسسة "سميث سونيا: Smith Sonia " في واشنطن، فكانت ترى أن الجهود المبذولة ستبدو نتائجها نجاحاً أو فشلاً في التسعينيات، وهذه الجهود وسقوط جدار برلين، كلّ هذا كان يعطي أملاً بأن يُفيق المجرمون ليصرفوا جهودهم على حلِّ مشكلات المعمورة . ولكن لم تحل المشكلات، لسبب رئيس هو أنَّ المشكلة الكبرى هي في الأنفس، في أنفس الظالمين، وفي أنفس المظلومين التابعين المستسلمين . فالعدوّ الحقيقي هو أنفسنا .
والكارثة الأخرى التي تهدد العالم هي: القمح! فالصين لأول مرة تستورد القمح! فإذا جاعت الصين من سيطعمها؟!
انخفض مخزون احتياطي القمح والذرة والأرز وسائر الحبوب سنة 1995م، وفي سنة 1996م أصبح المخزون المتوافر يكفي مدة ( 49) يوماً . أين الخلل؟! فالله سبحانه وتعالى خلق الأرض وخلق فيها ما تحتاجه البشرية إلى أن تقوم الساعة:
{قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} [ فصلت: 9-10 ](231/7)
فالله سبحانه وتعالى قد جعل في الأرض أقواتاً للبشرية كلها وبارك فيها، فلِمَ تكون مجاعة أو فقراء أو انخفاض في مخزون القمح؟! إنه الإنسان نفسه يظلم نفسه، وهذه صورة من ظلم الإنسان للإنسان. إنه ابتلاء وتمحيص للرأسماليين والديمقراطيين والقادة والأثرياء الغارقين في ثرائهم، لا يسمعون أنَّات الجوعى ولا صراخ المرضى، ولا يرون المآسي في الأرض، سُدَّتْ أبصارهم وأسماعهم. فاليابان وكوريا الجنوبية وتايوان حولت 40% من الأراضي الزراعية المخصصة لزراعة الحبوب إلى مصانع. وارتفعت أسعار الحبوب عالمياً. الصين تستورد سنة 2000م 37 مليون طن قمح، مع أن مجموع صادرات العالم من الحبوب ( 200) مليون طن[7].
ونتيجة للفقر والبطالة والحروب اشتدت هجرة الكثيرين من أوطانهم إلى بلاد يحلمون أن يجدوا فيها العسل. قبل قرن هاجر من إنكلترا ( 18) مليون مهاجر مما يعادل سبعة أضعاف سكان لندن آنذاك. واليوم تزداد أزمة الفقر مما يدفع إلى هجرة جديدة! ولكن إلى أين؟! أين توجد أحلام العسل؟! والهجرة اشتدت من الجزائر والمغرب وتونس . وأوروبا تحاول منع الهجرة، ولكنها لا تستطيع ذلك. لأن ملايين الفقراء حشودٌ تقتحم منافذ للهجرة أو تحاول أن تشق لها منافذ!
يضاف إلى ذلك كله امتداد الجريمة بمختلف أنواعها في الأرض: السرقة والقتل، الفواحش، المخدرات، وامتداد الظلم، وفقدان الأمن، وامتداد العدوان ونهب الشعوب! لقد ظهر الفساد في الأرض واشتد خطره!
البشرية اليوم تعيش في خطر حقيقي يهدّدها، وتكاد تقف مشلولة أمام ذلك، لم يشلَّ قواها إلا أهواؤها، فعميت الأبصار وسدَّت الأسماع، وكأنه لم يعد أحد يفكر في الإنقاذ! غرق الجميع!
إلا صيحة واحدة تدوّي من معظم أنحاء الأرض: الله أكبر! الله أكبر! لتوقظ ولتنذر! فهل من مجيب؟! فهل من مجيب!
ــــــــــــــــــــ
[1] انظر: فخ العولمة ، ص ( 47 ) .
[2] المصدر السابق: ص ( 60-61) .
[3] المصدر السابق، ص: ( 63 ) .(231/8)
[4] المصدر السابق، ص: ( 64-65).
[5] المصدر السابق، ص: (66).
[6] المصدر السابق: ص ( 68-79 ).
[7] المصدر السابق، ص: (81-84 ).(231/9)
العنوان: الإغراق في المدح.. وفي الذمّ!
رقم المقالة: 1751
صاحب المقالة: مصطفى لطفي المنفلوطي
-----------------------------------------
مصطفى لطفي المَنْفَلُوطي ( 1876 - 1924م )..
أديب مصري بارع.. كتب النثر والشعر وترجم واقتبس بعض الروايات الغربية الشهيرة، بأسلوب أدبي واستخدام رائع للغة العربية. ويُعتبر كتاباه (النظرات والعبرات) مِن أبلغ ما كُتب بالعربية في العصر الحديث.
كتب المنفلوطي للمجتمع وانطلق منه.. وهو من الأدباء الذين كان لطريقتهم الإنشائية أثر في الجيل الحاضر..
ومن أهم كتبه ورواياته: النظرات، والعبرات، والفضيلة (مترجمة)، والشاعر (مترجمة)، ومختارات المنفلوطي، وماجدولين، وفي سبيل التاج.. يرحمه الله.
انتقينا لكم من كتابه (النظرات) هذا المقال الأدبي:
الإغراق
بين الإغراق في المدح، والإغراق في الذم تموت الحقيقة موتًا لا حياة لها من بعده إلى يوم يبعثون.
يسمع السامع أن زيدًا ملَكٌ كريم، ثم يسمع أنه شيطان رجيم، فيخرج منه صفر اليدين، لا يعلم أين مكانه من هذين الطرفين.
يقولون: إن المشعوذين إذا أرادوا أن يسحروا أعين الناس علَّقوا في سقف من السقوف قطعة من المغناطيس، ووضعوا مقابلها في الأرض قطعة أخرى، ثم يتركون في الفضاء قطعاً من الحديد لا تزال تضطرب بين هذين الجاذبين.
هكذا تضطرب الحقيقة في أيدي المغرقين اضطراب الحديد في أيدي المشعوذين.
الحقيقة بين الكاذب والكاذب، كالحبل بين الجاذب والجاذب، كلاهما ينتهي به الأمر إلى الانقطاع.
لو علم الذي ينصب نفسه للموازنة بين الأشخاص أنه جالس على كرسي القضاء، وأن الناس سيسألونه عما قال، كما يسألون القاضي عمَّا حكم؛ ما طاش سهمُه في حكمه، ولا ركب متنَ الغلوّ في تقديره.
كما أنه يجب على القاضي أن يقدر لكل جريمة ما يناسبها من العقوبة، كذلك يجب على الكاتب أن يضع كل شخص في المنزلة التي وضعته فطرته فيها، وأن لا يعلو به فوق قدره، ولا ينزل به دون منزلته.(232/1)
ليس بين كتّاب هذا العصر من لم يقرأ في التاريخ القديم متناقضات الحكم على الأشخاص، وليس بينهم مَنْ لم يتمَنَّ أن يكون في موضع أولئك المؤرخين المتطرفين، حتى لا يغلو غلوَّهم، ولا يتطرف تطرفهم في أحكامهم.
أيها الكتَّاب المحزونون، لا يحزُنْكم ما كان، فقد قُضي ذلك الزمان بخيره وشره، ولا سبيل إلى رجوعه ، ولئن فاتكم أن تكونوا مؤرخي العصر الماضي، فلن يفوتكم أن تكونوا مؤرخي العصر الحاضر، وكما أنَّ للماضي مستقبلاً وهو حاضركم هذا، فسيكون لهذا الحاضر مستقبل آت يحاسبكم فيه الرجال على إغراقكم في أحكامكم، كما تحاسبون اليوم رجال الماضي على غلوِّهم في أحكامهم، وتطرفهم في آرائهم.
إنَّ من المتناقض بين أقوالكم وأعمالكم أن تنقموا من المؤخرين المتقدمين ما أنتم فاعلون اليوم، وتأخذوا عليهم ما أنتم به آخذون.
كل كاتب عندكم أكْتَبُ الكتَّاب، وكل شاعر أشعر الشعراء، وكل مؤلف أعلم العلماء، وكل خطيب رئيس الأمة؛ وكل فقيه إمام الدين، فأين الفاضل والمفضول؟ وأين الرئيس والمرؤوس، وكيفَ يكون زيدٌ اليوم أفضل من عمرٍو، ويكون عمرٌو غدًا أفضل منه، وأين ملكة التمييز التي وهَبَكُم اللَّه إيَّاها لتُمَيِّزوا بها بين درجات الناس ومنازلهم؟ وهل بلغ التفاوت بينكم في عقولكم وأذواقكم أن يكون الرجل الواحد في نظر بعضكم خير الناس، وفي نظر البعض الآخر شر الناس؟!
إني حبست الآن قلمي عن الكتابة؛ لأتجرد من نفسي ساعة من الزمان. فتخيلت كأني رجل من رجال العصور الآتية، وأني ذهبت إلى دار من دور الكتب القديمة؛ لأراجع تاريخ أحد عظماء عصركم هذا، فقرأت ما كتبتموه عنه في كتبكم وجرائدكم، فرأيته تارة عظيمًا، وأخرى حقيرًا، ومرة شريفًا، ومرة وضعيًا، ورأيته عالمًَا وجاهلاً، وذكيًّا وغبيًّا، وعاقلاً وممرورًا[1]، في آن واحد فخرجت أَضَلَّ مما دخلت، لا أعرف من تاريخ الرجل أكثر من أنه رجل، أي أنه ذكر بالغ من بني آدم!(232/2)
أيها القوم: إنكم لا تستطيعون أن تكونوا رجالاً عادلين في أحكامكم وآرائكم، إلا إذا أصلحتم نفوسكم أولاً، وتعلمتم كيف تستطيعون أن تتجردوا من أهوائكم وأغراضكم قبل أن تتناولوا أقلامكم.
أيها القوم: إن عجزتم عن أن تكونوا عادلين، فكونوا راحمين؛ فارحموا أنفسكم، وأعفوها من الدخول في مآزق أنتم عاجزون عنها، وارحمونا فقد ضاقت صدورنا بهذه المتناقضات وسئمت نفوسنا تلك المبالغات.
ـــــــــــــــــــــــــ
[1] الممرور: المصاب بخبل في عقله.(232/3)
العنوان: الإفادة من عبر الماضي.. مقومات نجاح الدعاة
رقم المقالة: 2024
صاحب المقالة: محمد يوسف الجاهوش
-----------------------------------------
لكي يضمن الداعيةُ نجاحاً وتفوقاً في الدعوة، لابد أن يكون ملمًّا بوسائل التربية والتوجيه، والعوامل المؤثرة في نفوس المخاطبين وقلوبهم.
إذ إن المعرفة تجعله يحيا واقعَ الناس ومعاناتَهم، فيبصر -عن قرب- همومَهم واهتماماتِهم، ويستطيع تقدير تصرفاتهم ورغباتهم، وتوجيهها -من ثمة- الوجهةَ السليمة الصحيحة، كما يفعل الطبيب الحاذق، إذ يحرص على الإحاطة بأبعاد الداء وأسبابه، وكل ما يتعلق به، فإذا ما تم له ذلك كان وصفُ العلاج يسيراً، وتأثيره أكيداً.
ولقد كان لسلفنا الصالح -رضي الله عنهم- القِدْحُ المعلَّى، والنصيب الأوفر في فقه النفوس، وتشخيص عللها وأمراضها، ووصف العلاج الناجع لها، مهما تعددت وتنوعت، يعرف ذلك من عايش سيرتهم، وأدرك كيف تعاملوا مع الحياة، وماذا قدموا لأهلها.
ومن الشواهد على ذلك: ما يحكيه لنا علم من أعلام السابقين الأولين، سابع سبعة من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، إنه عتبة بن غزوان -رضي الله عنه-.
روى الإمام مسلم في صحيحه: أن عتبة بن غزوان خطب الناس، فكان مما قال: أما بعد، فإن الدنيا قد آذنت بصَُرْم، وقد ولّت حَذَّاء[1]، ولم يبق منها إلا صُبابة كصبابة الإناء يتصابُّها صاحبُها، وإنكم منتقلون منها إلى دار لا زوال لها، فانتقلوا بخير ما بحضرتكم، فإنه ذُكِرَ لنا أن الحجر يلقى من شفير جهنم فيهوي فيها سبعين خريفاً، ما يدرك لها قعراً!
والله لتُمْلأنَّه! أفعجبتم؟ والله لقد ذكر لنا أن ما بين مصراعي الجنة مسيرة أربعين عاماً، وليأتين عليه يوم كظيظ من الزحام.(233/1)
ولقد رأيتُني وأنا سابعُ سبعة مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ما لنا طعام إلا ورق الشجر، حتى قَرِحَت أشداقُنا منه. وإني التقطت بردة فشققتُها بيني وبين سعد بن مالك فاتَّزر بنصفها، واتزرتُ بنصفها، فما منا أحد اليوم حيّاً إلا أصبح أمير مصر من الأمصار، وإني أعوذ بالله أن أكون في نفسي عظيماً، وعند الله صغيراً، وإنها لم تكن نبوة قط إلا تناسخت، حتى يكون عاقبتها مُلكاً، وستبلون، وستُجربون الأمراءَ بعدنا)[2].
إنه لتوجيه حكيم من مُرَبٍّ نبيه، أدرك -بسلامة حسه وصفاء قلبه- واقعَ الناس، وأن النفوس تطمح إلى المزيد من زهرة الحياة الدنيا، وأن الرغبات تنجذب نحوها، والناس يبنون قصوراً شاهقات من الآمال في اقتنائها، والتمتع بها، ويرسُمون مستقبل حياتهم على ضوء ما يؤملون، هذه حقيقة يدركها من يعايش الناس ويخالطهم.
وإنه لداء قديم حديث، لا يفلت منه إلا من رحم الله (وقليل ما هم)، ولا علاج لهذا الداء إلا بتقرير حقيقته، وتقريبها إلى الأفهام، حتى لكأنها رأي عين، وسمع أذن.
ولقد أجاد الصحابي الجليل عتبة بن غزوان -رضي الله عنه- وأفاد عندما بين لنا أن الدنيا قد دنت شمسُها من المغيب، وآذن نجمُها بالأفول، وما يُرَى من زينتها إنما هو متاع قليل، وإنه لأقل وأحقر من أن تصرف في تحصيله الأوقات، فضلاً عن إفناء الأعمار.
ثم هب أن باغي الدنيا نال منها مناه، فماذا عساه يصنع، وهي دار زوال، لا بقاء فيها ولا استقرار!
إنه لعجز بذوي الهمم العالية: أن يكون غاية همهم متاعاً زائلاً، ونعيماً متحولاَ.
الآخرة هي دار القرار:
لا يماري عاقل أن الدنيا إلى زوال، وأن الآخرة هي دار القرار، إنها حقيقة إيمانية، عقدية، أثبتها الوحي، وبينها الرسل، وجلاها القرآن أوضح جلاء وأتمه: {إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآَخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} [غافر: 39].(233/2)
وانطلاقاً من هذه الحقيقة الإيمانية يستطيعُ الداعيةُ توجيهَ القلوب إلى معالي الأمور وتبصير الناس بأخطار إعراضهم عن هذه الحقيقة أو نسيانها، وما يجره انشغالُهم عنها من خسارة يجدون غِبَّها {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا} [آل عمران: 30].
فالعاقل يحرص أن يتزود خيرَ زاد وأفضلَه، ليَقْدَم منزلَه الجديد هادئَ النفس مطمئنَّ البال، وليس مِنْ زادٍ يعدلُ التقوى أو يضاهيها {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة: 197].
الترغيب والترهيب:
إن أسلوب الترغيب والترهيب من الأساليب التربوية المؤثرة في تهذيب النفوس، وصقل القلوب، وترسيخ معالم الإيمان، وحسبنا: أنه أسلوب القرآن الكريم في بناء الشخصية الإيمانية، وصياغتها الصياغة الربانية.
ومن يتلو القرآن يجدُ بين دفتيه مصداقَ ما نقول، فقد جاءت الآيات تترى تحذر من العقاب وسوء الحساب، وتبين عاقبة الإعراض عن منهج الله -عز وجل-.
كما يجد آيات الترغيب في الخير والبر، والتشويق إلى الطاعة والإيمان، وبيان عقبى المؤمنين، وما أعد الله تعالى لهم من الكرامة {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ} [الرعد: 35].
وغير هذا كثير، وكثير جداً.
فالمربي الناجح يحرص على الإفادة من هذا المنهج الرباني ولا يحيد عنه، وقد رأينا كيف أن الصحابي الجليل عتبة بن غزوان -رضي الله عنه- سلك مسلك القرآن، وبيَّن لجمهوره من صفة النار ما تنخلعُ منه القلوب، وتقشعرُّ من هوله الجلود (لقد ذكر لنا أن الحجر يلقى من شفير جهنم، فيهوي فيها سبعين خريفًا لا يدرك لها قعرًا).(233/3)
وذكر من صفة الجنة ما يحدو الأرواح إلى بلاد الأفراح، ويجعل أهلَ الإيمان يحثون الخطى، مستبشرين بنعمة الله وفضله، طامعين في جزيل ثوابه وأجره.
عبرة الماضي:
إن إفادة الإنسان العبرَ من ماضيه يدل على فطنته وحصافته، وهو علامة على توفيق الله –تعالى- له، لا سيما من أكرمه الله –تعالى- بالهداية بعد ضلال، أو أسبغ عليه النعمة بعد فاقة وحرمان، فما أحراه بشكر النعمة، وأداء ما وجب من حقوقها، واتخاذها مطية للخير، بعيداً عن الأشر والبطر.
ولطالما أكثر الصحابة -رضي الله عنهم- من ذكر ما كانوا عليه في الجاهلية، وما آلت إليه أمورهم بعد أن منّ الله –تعالى- عليهم بالإيمان (ولقد رأيتني سابع سبعة مع رسول الله، ما لنا طعام إلا ورق الشجر، حتى قرحت أشداقنا منه).
هذا ما يقوله عتبة بن غزوان، وهو قائد جيش، وأمير ولاية من أخصب بقاع الدولة الإسلامية -آنذاك- وأكثرها ثراء.
لم تمنعه النعمةُ من التحدث عن الماضي، ذاكراً لنعم الله -تعالى-، موبخاً لنفسه، كي تطامن، فلا تزهو بما هي فيه، ولا تتعاظم، فإن العظيم من علت منزلته، وعظمت مكانته عند خالقه، وما سوى ذلك فمظاهر جوفاء، لا يبالي الله –تعالى- بأصحابها أنى هلكوا.
تبدل الأحوال:
إن سنة التغيير ماضية -في حياة الأفراد والأمم- إلى يوم القيامة {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} [الحج: 40].
فمن رام دوام الحال فقد رام محالاً، وأمل ما لا يدرك (فإنها لم تكن نبوة قط إلا تناسخت حتى تكون عاقبتها ملكاً).
فمن ابتُلِي فليصبر، ومن جرت رياحُه بما يشتهي فليغتنم صفو الحياة، وليحسن اقتناص الفرص فيما يبيض وجهه، ويثقل ميزانه، وليكن من مفاجآتها على حذر، فإن الريح عادتها السكون، ومما وجد مكتوباً بالذهب في ذخائر ذي القرنين:
إذا هبَت رياحك فاغتنمها فإن الريح عادتها السكون(233/4)
ولا تغفل عن الإحسان فيها فما تدري السكون متى يكون
ــــــــــــــــــــــــــــ
[1] حذاء: مسرعة.
[2] صحيح مسلم، رقم 2967، في الزهد.(233/5)
العنوان: الأقصى في خطر.. ماذا ينتظر المسلمون؟!!
رقم المقالة: 465
صاحب المقالة: أحمد أبو زيد
-----------------------------------------
* اليهود فقدوا أي أثر لهيكلهم المزعوم، ومع ذلك يصرون على بناء كنيس لهم في الحرم القدسي؛ فماذا فعل من يملكون الأثر؟! وأي أثر؟! إنه المسجد الأقصى المبارك؛ أولى القبلتين، ومسرى رسول الله، صلى الله عليه وسلم.
* هجوم يُنفِّذُه المتطرفون بطائرة بدون طيار محملة بالمتفجرات، أو ينفذه طيار انتحاري، يفجر طائرته في باحة الحرم القدسي.
* فلم سنمائي صهيوني عام 2001م، يطرح إمكانية تفجير المسجد الأقصى، وقام ببطولته "آسي دايان"، ابن الجنرال الإسرائيلي "موشيه دايان"، الذي خاض حربي 1948م و1967م على الأمة العربية.
* 13 منظمة صهيونية تنحدر في غالبيتها من منظمات يهودية متطرفة، وَضَعَت نصب أعينها الاستيلاء على الحرم القدسي؛ تمهيداً لتحويله إلى كنيس يهودي، وإقامة الهيكل الثالث مكانه.
* * *
إن الاعتداءات الصهيونية الجديدة على المسجد الأقصى، التي بدأت منذ عدة أيام، ومازالت مستمرة، وأشعلت بركان الغضب والاحتجاج، على مستوى فلسطين والعالم الإسلامي - تدل دلالة واضحة على أن الصهاينة قد عقدوا العزم على هدم المسجد الأقصى، عن طريق الحفريات والأنفاق تحت جدرانه، إلى جانب هدم ما حوله من أسوار وحوائط.(234/1)
وقد انطلقت هذه الجريمة الصهيونية الجديدة في حق الأقصى، يوم الثلاثاء، 18 من المحرم، 1428هـ/ 6 من شباط (فبراير)، 2007م، عندما بدأت سلطات الاحتلال تنفيذ قرارها بهدم تلة المغاربة، الملاصقة للمسجد الأقصى، والاعتداء على الممتلكات الإسلامية، في إطار مخطط إسرائيلي؛ لطمس معالم المسجد الأقصى، واحتشد جنود الاحتلال منذ صباح هذا اليوم حول المسجد، ونصبوا حواجز، في محيطه وعند باب المغاربة، وأغلقوا الأبواب الرئيسة فيه؛ لمنع الفلسطينيين من الدخول إليه، كما منعت قوات الاحتلال المراسلين الأجانب من الدخول إلى باحات الحرم القدسي، ومنعتهم من التغطية الإعلامية لعملية الهدم في حائط البراق، واعتدت بالضرب على عدد منهم؛ سعوا لتغطية عملية الهدم إعلامياً.
وقاموا – بالفعل - بهدم سور خشبي وغرفتين قرب حائط البراق، ومازالت قوات الاحتلال تواصل أعمال الهدم، التي تنفذها قرب حائط البراق، المتاخم للمسجد الأقصى المبارك؛ في محاولة لطمس هوية المسجد وتهويده.
وقد ندد "الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين" - في بيان له - بالأعمال الإسرائيلية، وحذر من أن المسجد الأقصى سيكون الشرارةَ التي تشعل النار في العالم الإسلامي كله؛ غضباً لأولى القبلتين، ودعا البيان علماء الأمة، ودعاتها، ومفكريها، ومثقفيها، إلى القيام بواجبهم في تنبيه الأمة وتحذيرها منالخطر المُحْدِق، الذي يحيط بالمسجد الأقصى.
وحذرت "كتائبُ شهداء الأقصى" - في بيان لها - الحكومةَ الإسرائيلية من المساس بالمقدسات، ومن مسلسلات فرض الأمر الواقع على الأرض الفلسطينية ومدينة القدس، مؤكدةً الاستمرار في المقاومة والدفاع عن المسجد الأقصى.(234/2)
وقال البيان: "إن أي مساس بالمسجد الأقصى المبارك يعني مساساً بكل مسلم، وهذا يعني أن ردنا حان تنفيذه، بقصف المستوطنات الإسرائيلية المحاذية لقطاع غزة، وطالبت الهيئات والمنظمات الإنسانية والدولية - ولاسيما اليونسكو - بالتدخل الفوري؛ لمنع تدمير التراث الحضاري في مدينة القدس، فالتدخل واجب مفروض عليها، أسوة بواجبها في شتى أنحاء الأرض".
وحذر الشيخ تيسير رجب التميمي - كبير قضاة فلسطين - من خطورة ما يدبَّر اليوم تجاه المسجد الأقصى؛ وقال: "إن إسرائيل بدأت بهدم مدخل مسجد البراق، بعد أن هدمت تلة المغاربة، والجسر المؤدي إلى المسجد الأقصى، وهي ماضية في طريقها لهدم المسجد الأقصى، وإقامة هيكلها المزعوم مكانه".
وأضاف - في مؤتمر صحفي عقده في مدينة رام الله -: "إن حكومة إسرائيل ماضية في هدم الطريق التاريخي المؤدي إلى باب المغاربة؛ مما يهدد الحائط الغربي للمسجد الأقصى المبارك بالهدم، بعد أن منعت المواطنين من الوصول إلى المسجد، وأغلقت مداخل البلدة القديمة".
وقال: "إن عمليات الهدم التي بدأت، والحفريات التي تُنَفَّذُ منذ سنوات - تندَرِج في إطار مخطط إسرائيلي؛ لهدم السور الغربي والمسجد الأقصى، وبناء الهيكل المزعوم مكانه".
وأوضح التميمي أن إسرائيل ترتكب جريمة تطهير عرقي بحق المقدسيين، وبيوتهم، وأحيائهم الإسلامية، وتواصل إغلاق القدس بجدار الفصل العنصري؛ بهدف تحويلها إلى مدينة يهودية خالصة، كما تواصل التغلغل في الحي الإسلامي، وبناء الكنس، والتجمعات اليهودية هناك.
المؤامرة قديمة:(234/3)
وإذا نظرنا إلى المؤامرة الصهيونية على الأقصى، والمقدسات الإسلامية في فلسطين والقدس، نجد أنه منذ دخل اليهود القدس الشرقية واحتلوها عام 1967م، وهم يتشبثون بالحائط الغربي للمسجد الأقصى، وهو حائط البراق، ويسمونه زوراً وبهتاناً "حائط المبكى"، مُدَّعين أن هذا السور من بقايا الهيكل اليهودي، الذي هُدم قبل الميلاد، ويبحثون عن أي أثر له منذ الستينيات، من خلال حفرياتهم بالقدس القديمة؛ ولم يعثروا - حتى الآن - على ذلك الأثر، وهم يحلمون بالعثور عليه؛ حتى يثبتوا للعالم: أنه كان لهم هيكل في هذه البقعة المباركة.
ومع أنهم فقدوا الأثر؛ ما زالوا مصرين على بناء كنيس لهم تحت المسجد الأقصى، وسماه البعض "هيكلاً"؛ فقد خرج علينا مفتي القدس منذ مدة بهذا النبأ الفاجع، مؤكداً أن سلطات الاحتلال الإسرائيلي قامت - خلسة - ببناء هذا الكنيس اليهودي تحت الحرم القدسي الشريف، وأن ذلك البناء تم تحت غطاء قيام دائرة الآثار الإسرائيلية بفحص المكان، والتنقيب عن أثريات ما يسمى "هيكل سليمان" المزعوم.
وقال المفتي: "إن الإسرائيليين استغلوا البوابات الكبيرة، التي أقيمت في الجهة الغربية من المسجد الأقصى عام 1996م، التي توصلهم إلى النفق القديم، وقاموا بأعمال حفريات، ووسعوا خلالها النفق، ومن ثَمَّ شرعوا في بناء الكنيس، وأدخلوا مواد البناء والآليات بطريقة سرية، من خلال هذه البوابات والنفق.
فماذا فعل من يملكون الأثر؟! وأي أثر؟! إنه المسجد الأقصى المبارك، أولى القبلتين، ومسرى رسول الله .– صلى الله عليه وسلم ـ ماذا فعل المسلمون لحماية أقصاهم من الهدم البطيء، الذي تمارسه إسرائيل منذ حرب 67 لمحوه من الوجود؟!(234/4)
الصهاينة لا يملكون أثراً في القدس، وليس هناك دليلٌ واحدٌ على وجود أثر من قبلُ، ومع ذلك يبنون كنيساً لهم، وأين هذا الكنيس؟ ليته في مكان بعيد عن الأقصى، ولكنه تحت أسواره ومبانيه؛ لكي يثبتوا للعالم كله أنهم يملكون أرض الأقصى وما تحتها، وأن مسجد المسلمين زائل - لا محالة - بفعل أي هزَّةٍ أرضية، ويومها لن يجد المسلمون شيئاً من أقصاهم، حتى حائطاً واحداً ؛ يبكون على أطلاله، ويصبح "حائط مبكى" لنا، نقف أمامه، ونبكي على ذنبنا الكبير: التفريط في الأقصى، وتركه يتعرض لجريمة الهدم والتخريب على أيدي اليهود، إخوان القردة والخنازير.
ربما يقول قائل: إن هذا اليوم لن يأتي، وهأنذا أقول: إنه في ظل هذا الضعف والتخاذل العربي والإسلامي - سوف يحدث هذا، وربما أشد منه، ما دمنا تركنا اليهود يعيثون في أرضنا ومقدساتنا فساداً وتخريباً، ولم يجدوا رادعاً إسلامياً قوياً يكسر شوكتهم، ويردهم إلى صوابهم، ويخلص المقدسات الإسلامية من شرهم ودنسهم.
إن المسجد الأقصى أصبح في وضع جد خطير، وإذا لم يتحرك العالم الإسلامي تحركاً عاجلاً؛ لدرء هذا الخطر، فسوف نستيقظ جميعاً في يوم من الأيام على فاجعة انهدام المسجد؛ بفعل هذه الحفريات، والمباني التي أقيمت تحته.
سلسلة من الاعتداءات:
ولو تتبعنا الأحداث التي مرت بالمسجد الأقصى منذ عام 1967م، وحتى اليوم - لوجدنا أن السلطات الإسرائيلية كانت تبارك وتؤيد كل المحاولات التي جرت لحرق المسجد، ونسفه، وتفجيره، وهي تبلغ العشرات، بل إن حاخام الجيش الإسرائيلي "شلومو جورن" حرَّض أحد جنرالات حرب يونيه 1967م على نسف المسجد الأقصى وقبة الصخرة أثناء الحرب، ولكن عناية الله بالمسجد حالت دون ذلك.(234/5)
وعندما فشلت محاولات الحرق، والنسف، والتفجير، بدأت الحفريات في الحرم القدسي تحت سمع وبصر الحكومة الإسرائيلية، وبإشراف وزارة الأديان؛ لكي يتهدم الأقصى ببطء، ويُفَاجَأ العالم الإسلامي بانهياره؛ نتيجة خلخلة أساساته، وتفريغ التربة من تحتها، ولا تُكَلِّفُ إسرائيلُ نفسَها استخدام الجرافات ومعاول الهدم، التي تثير العالم كله ضدها، وتُثَبِّتُ جريمة الهدم عليها.
جدية المتطرفين في هدم الأقصى:
في العام قبل الماضي، جاءت التصريحات التي أدلى بها وزير الأمن الداخلي الإسرائيلي "تساحي هانجي" للتلفاز الإسرائيلي، بخصوص المسجد الأقصى، وجدية المتطرفين اليهود في السعي للاعتداء عليه وهدمه، وهي تصريحات خطيرة للغاية؛ فقد قال الوزير الصهيوني: "إن تهديدات المتطرفين اليهود تخطت مرحلة الأفكار إلى الإعداد، ووضع خطط الهجوم على الأقصى".
فماذا تعني هذه التصريحات الخطيرة؟! أتعد جَساً لنبض العرب والمسلمين تجاه الأقصى، وما يحدث له على أيدي المتطرفين اليهود، أم إن إسرائيل تريد إحكام سيطرتها على الحرم القدسي، كما حدث من قبل للحرم الإبراهيمي في الخليل؛ وتتذرع - في ذلك - بزعم حماية الأقصى من المتطرفين؟ هذا هو ما أكده قادة فلسطين وعلماؤها، الذين يرون أن الهدف من وراء هذه التحذيرات هو إحكامُ السيطرة الإسرائيلية على المسجد الأقصى المبارك؛ بحجة حمايته من المتطرفين.(234/6)
والملاحظ أن الصحافة اليهودية - بين الحين والآخر - تحاول جس نبض العرب والمسلمين تجاه المسجد الأقصى؛ بنشرها تفاصيل عن خطط المتطرفين الصهاينة، الذين يسعون لهدم المسجد؛ فقد نشرت صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية منذ مدة أن الجماعات اليهودية المتطرفة تخطط لتفجير المسجد الأقصى باستخدام صواريخ موجهة عن بعد، وذكرت نفس الصحيفة أخيراً أن جهازي: الشرطة والأمن الداخلي (شين بيت) يخشيان من هجوم يُنفِّذه المتطرفون بـ"طائرة بدون طيار" محملة بالمتفجرات، أو ينفذه طيار انتحاري، يفجر طائرته في باحة الحرم القدسي -وفيه جموع المصلين - الذي يضم المسجد الأقصى وقبة الصخرة.
وهذه الأخبار المتعلقة بالأقصى أصبحت مكررة في الصحف الإسرائيلية، وأصبح طبيعياً أن يقرأها العرب والمسلمون، وأن يسمعوا عن الاقتحامات الصهيونية المتوالية للحرم القدسي الشريف، دون أن يحركوا ساكناً، وكأن الأقصى، أولى القبلتين،ومسرى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لا يعنيهم من قريب أو بعيد.
التمهيد الصهيوني لهدم الأقصى:
من المعروف أن التمهيد الصهيوني لهدم الأقصىيجري منذ سنوات، على كل مستويات المجتمع اليهودي، بل على مستوى الإعلام الدولي، ووصل الأمر منذ أربعة أعوام إلى إنتاج فلم سنمائي صهيوني يطرح إمكانية تفجير المسجد الأقصى، وهو فلم: "الاتفاق" الذي قام ببطولته "آسي دايان"، ابن الجنرال الإسرائيلي "موشيه دايان"، الذي خاض حربي 1948 و1967 ضد الأمة العربية.
ويطرح الفيلم عدداً من التساؤلات حول: أي مستقبل ينتظر المسجد الأقصى، وقبة الصخرة، وباقي القدس؟ وماذا لو تمكن أحد المتطرفين - تحت جنح الظلام، وفي غفلة - من تفجيرهما؟ ماذا سيفعل العرب والمسلمون؟(234/7)
ولم يجد الفيلم إجابةعن السؤال الأخير؛ لأن العرب والمسلمين أنفسهم لا يعلمون - حتى الآن - ماذا سيفعلون إذا هدم الأقصى، بعد أن عجزوا عن حمايته، وهو قائم أسير، يستصرخهم صباحَ مساءَ؛ لإنقاذه من الأسر الذي وقع فيه منذ عام 1967م، وتطهير ساحته من الدنس، والرجس اليهودي؟
ولا غرابة أن يصل المتطرفون اليهود إلى هدفهم، ويهدموا الأقصى؛ في ظل غفلة المسلمين، وضعفهم، وتفرقهم، وعجزهم؛ فالصهاينة يربطون الحل النهائي لقضية القدس الشريف ببناء هيكل يهودي في ساحات الأقصى الداخلية.
وما يحدث اليوم يدل على أن المخاطر التي تحيط بالمسجد الأقصى تتزايد يوماً بعد يوم، خاصة مع إصرار إسرائيل على هدمه، وإقامة هيكل سليمان على أنقاضه، أو - على الأقل - تقسيمه بين المسلمين واليهود، على غرار ما حدث في الحرم الإبراهيمي.
فالحفريات الصهيونية تحت الأقصى وحول أسواره، التي بدأنا نرى آثارها الخطيرة، ممثلة في الانهيارات المتتالية للطرق والأسوار - تعد من أخطر الاعتداءات التي تهدد المسجد، وتعمل على ضرب أساساته؛ بدعوى البحث عن آثار هيكل سليمان.
التجهيز لبناء الهيكل:
ولقد جهز اليهود أنفسهم لبناء هيكل سليمان الثالث، على أنقاض المسجد الأقصى، فوضعوا مُجسَّماً للهيكل، وجهزوا أحجار البناء ومعداته، وجمعوا التبرعات المطلوبة لذلك، وأنشؤوا المعاهد الدينية؛ لإعداد الكهنة الذين سيقومون على خدمة الهيكل، وأقاموا المدارس الدينية التي تخرج أجيالاً يهودية، تتفاعل مع الهيكل، وتستخدمه، وهناك العشرات من المنظمات والهيئات اليهودية المتطرفة، التي تتبنى "قضية الهيكل"، وتسعى لوضعها في حيز التنفيذ.(234/8)
فقد أصدر أحد مراكز الأبحاث الفلسطينية تقريراً، يحصر 13 منظمة يهودية، تنحدر في غالبيتها من منظمات يهودية متطرفة، وضعت نصب أعينها الاستيلاء على الحرم؛ تمهيداً لتحويله إلى كنيس يهودي، وإقامة الهيكل الثالث مكانه، بذريعة أن مسجدَي: الأقصى وقبة الصخرة أقيما في موقع الهيكل السابق.
وتتوزع هذه المجموعات على اثنتي عشرة فرقة ومدرسة دينية، تستوطن جميعهاقلب البلدة القديمة، وغالبيتها اتخذت مقار لها في مبانٍ ملاصقة للحرم القدسي، ومطلة على ساحاته.
وتتمثل المجموعات اليهودية الطامعة في الحرم القدسي الشريف، والساعية لهدم الأقصى في الفرق والمنظمات التالية:
1- أمناء جبل الهيكل (نئمني - هبايت): وهؤلاء تحركهم دوافع قومية محضة، وليس اعتبارات دينية فقط، ويريد أتباعُ هذه المجموعة، التي يترأسها "غرشون سلمون" إقامةَ الهيكل الثالث، والمحكمة العليا، وطوابين الجيش الإسرائيلي، داخل الحرم القدسي الشريف.
2- معهد الهيكل (مخون همقداش): يتزعمها الحاخام "إرئيل"، الذي تزعم المدرسة الدينية في مستوطنة يميت في سيناء، قبل الانسحاب الإسرائيلي منها، وشاركه في ذلك "موشيه نايمان"، الرجل الثاني في حركة "كاخ" العنصرية، التي أسسها في حينه الحاخام العنصري "مئير كاهانا"، ويهتم هذا المعهد بصناعة وعرض أواني الهيكل، وإجراء البحوث الأكاديمية حول أمور تتعلق بإقامة الهيكل، كما يعكف هذا المعهد - منذ سنوات - على إنجاب بقرة حمراء إسرائيلية المنشأ؛ كي يتم استخدام رمادها، كما كان في الماضي؛ لتطهير اليهود، وصناعة الشموع المقدسة، ويؤيد أتباع هذا التوجه إزالة المساجد الإسلامية من الحرم الشريف.
3- مدرسة توراة الهيكل "كولال توراة هبايت": وهي مجموعة منافسة لمخون همقداش، ذات ميول دينية مفرطة في تطرفها، وتهتم حاليًا بصناعة وعرض "أواني الهيكل"، وما يزال نشاطها نظريًا حتى الآن.(234/9)
4- المدرسة الدينية "يشيفات عطيرت كوهنيم": مهمتها إعداد وتأهيل الحاخامات، الذين سيعملون داخل الهيكل عند إقامته، يتزعمها الحاخام شلومو إفينار، وهو منحدر من مجموعة ترفض دخول الحرم القدسي الشريف في المرحلة الحالية، قبل قدوم المسيح الْمُخَلِّصِ؛ ولذلك تهتم - حاليًا - بشراء الأراضي والبيوت، والاستيلاء على المباني العربية في البلدة القديمة، بشتى الطرق والأساليب، خاصة في الحي الإسلامي، ومن ثَمَّ تقوم بتسجيل ملكيتها بأسماء يهودية.
5- مدرسة الكهنة لتعليم المقدسات اليهودية "كولال هكوهنيم لليمود هكودشيم": يتزعمها الحاخام "رسوفسكي"، تتخذ من قلب الحي الإسلامي مقرًا لها، وذلك في كنيس يحمل اسم: "كنيس مناحيم حيون"، وطابعها ديني متطرف.
6- حركة إقامة الهيكل "هتنوعا هلكينون همقداش": من أبرز نشطائها الحاخام "يوئيل لرنر" الذي يتزعم حركة "ماتي همخون لماعن توراة يسرائيل"، أي: "المعهد من أجل توراة إسرائيل"، ودار النشر "سنهدرين"، ويصدر كتيباً يحمل اسم "تكديم"، وهدفه النهائي إقامة الهيكل داخل الحرم الشريف، ويتركز نشاط هذه الحركة في هذه المرحلة على تنظيم الرحلات اليهودية داخل المدن القديمة والحرم القدسي، وذلك بالتنسيق مع الشرطة.
7- رحلات جبل البيت م.ض "سيوري هار هبايت باعم": وهي شركة فرعية، تابعة لحركة إقامة الهيكل، وقد بدأت تنشط بدايةَ عام تسعين، وهي تهتم بترتيب رحلات تعليمية موجهة في داخل الحرم وفي محيطه، خاصة لليهود المتدينين من خارج إسرائيل.(234/10)
8- المجموعات الدينية المتزمتة "هكفوتسوت هحرديوت"، وغالبية حاخاماتها يحظرون على أتباعهم دخول الحرم القدسي الشريف؛ وذلك لقدسية الأماكن، وعدم توفر أمكنة التطهير، مثل رماد البقرات الحمراوات، وللشكوك حول الموقع الدقيق للهيكل، وكان أحد أتباع هذه المجموعات اقتحم الحرم قبل أربع سنوات خلال عيد العرش اليهودي، وأجرى "طقوس الطهارة" في داخله دون أن تمنعه الشرطة الإسرائيلية.
9- جمعية جبل البيت "إغودات هارهبايت": حركة صغيرة يتزعمها "دافيد البويم"، وهو مشهور في مجال النسيج، وصناعة ملابس الكهنة، ويشاركه في ذلك المحامي "شبتاي زخاريا".
10- جمعية آل جبل الله "أغودات ال -هار ادوناي": تأسست في عام 1971م، وتضم في داخلها نشطاء المدرسة الدينية "وكاز هراب عطيرت كوهنيم"، والمدارس الدينية "بني عقيبا هسيوري حيون"، ومن بين قدامى مؤسسيها قادة في حركة "غوش أيمونيم" من أمثال "مناحم بن يسار"، والحاخام "يوءيل بن نون"، و"يسرائيل مداد".
11- جماعة الهيكل "مساد همقدا": شركة مشتركة لشخص يهودي، يدعى "ستانلي غولدفوت"، عضو سابق من أعضاء عصابة "إليحي"، يقطن في الحي الألماني في القدس الغربية، ومجموعة من المسيحيين الأجانب، الذين يطلقون على أنفسهم: "المسيحيين الصهيونيين"، ويؤمن هؤلاء بأن اليهود سيعترفون بالنبي عيسى عندما يُشيَّد الهيكل الثالث، ومن وجهة نظرهم فإن نجاح الصهيونية في بناء الدولة اليهودية هو إثبات أن المسيح النصراني يستعد للعودة، وتقدم هذه المجموعات أموالاً طائلة للجماعات اليهودية، التي تهتم بأمر الهيكل في إسرائيل.(234/11)
12- نشطاء مستقلون بارزون: وهم حاخامات تبوَّؤوا مناصب عليا، من أمثال الحاخام "شلومو غورون" (توفي) و"إلياهو ولئور" و"كورون"، وكل منهم يجمع حوله سلسلة من النشاطات، وكان قد سبق للحاخام غورون أن نشر بحثاً وتشريعاً يهوديّاً، فَنَّد فيه مواقف الحاخامات الذين يحظرون على أتباعهم دخول منطقة الحرم، وعمل الحاخام "غورن" في سنواته الأخيرة في مدرسة "هايدار المدينة" المتاخمة للحرم القدسي، ويؤيد زميلُه الحاخام "موردخاي" في المجلس الأعلى للحاخامات إقامةَ كنيس يهودي داخل الحرم القدسي فوراً، ويحظى موقفه بتأييد الحاخام "دوف ليثور"، وهو من كبار حاخامات مستوطنة "كريات أربع"، وترأس مدرستها الدينية، ويرى الحاخام "زلمان كورن": أن الهيكل الثاني كان من الناحية الشرقية، وليست الغربية لمسجد قبة الصخرة، والتي كان فيها قدس الأقداس، وهذا الوضع - في نظره - يتيح لليهود دخول المناطق الجنوبية والشمالية، دون أن تكون هناك موانع دينية.
13- مقر النشاط من أجل جبل البيت "مطية هيعوله لعنيان هار هبايت": وهي محاولة فشلت - قبل عامين - في توحيد جميع المجموعات السابقة في إطار واحد.
وقالت الدراسة: "إن خطورة هذه المجموعات، وما تحمله من أفكار متطرفة هي أنها غطاء أيديولوجي وتنظيمي لجميع اليهود، الذين يخططون؛ لنسف الحرم وتدميره؛ حيث يعترف الخبراء الإسرائيليون بأنه ليس المقصود بهم أنهم أناس متوحشون فقط؛ وإنما هناك آخرون يخططون لهدم المساجد الإسلامية داخل الحرم القدسي الشريف.
وهناك العديد من الحركات الأخرى التي تهتم بشراء الأراضي والاستيلاء عليها، ومضايقة المسلمين في القدس، وإقامة المؤتمرات والمهرجانات؛ للإعداد لإقامة الهيكل المزعوم.
وتتعامل الحكومة اليهودية مع تلك الجماعات، والحركات، والمؤسسات بتسامح، يصل إلى حد إعطاء الضوء الأخضر للكثير من الممارسات والاعتداءات.(234/12)
وتتميز هذه المنظمات والحركات بالتنسيق فيما بينها، والتكامل في أنشطتها، هذا إضافة إلى الابتكارات والتجديد لأساليب العمل، مع عدم الزحزحة عن الثوابت التي تعمل من أجلها، ولم تتوقف في يوم من الأيام، منذ احتلال القدس إلى يومنا هذا.
ومن هنا يتضح أن مخطط الاعتداء على الأقصى يسير في اتجاه تصاعدي، من حيث الخطورة والكثرة، والأطراف المشتركة في المؤامرة تزداد مع الأيام تنوعاً، وتفرعاً، وتخصصاً، مع الإصرار على الوصول إلى الهدف، ويؤيد ذلك الموقف الرسمي للحكومة الإسرائيلية المحتلة، التي تتخذ من الجماعات والمنظمات اليهودية، المتآمرة على الأقصى - ستاراً، تختبئ وراءه؛ حتى إذا وقع المحذور، قالوا: "إنها الجماعات المتطرفة"، "إنه الإرهاب الذي نرفضه" ولا مانع - عند ذلك - من القبض على شخص أو أكثر، أمام الناس ووضعهم كأبطال قوميين وراء القضبان؛ فالدولة الصهيونية تفضِّل أن تتم المؤامرة على الأقصى، والمقدسات الإسلامية؛ نتيجة (أحداث مؤسفة)، أو من جماعات (غير مسؤولة)، أو أفراد (مجانين)، أو بأي وسيلة أخرى تبدو طبيعية، كزلزال أو غيره، المهم ألا تكون هي في الصورة.
وهذا الكنيس الذي بنوه منذ مدة تحت الأقصى، ربما يكون هو النواة الأولى لهيكلهم الكبير، الذي سوف يستكملون مبانيه فوق الأرض، بعد أن ينجحوا في إزالة الأقصى كاملاً من الحرم القدسي المبارك، وهذا هدف سيكون سهلاً أمامهم، إذا ظللنا - نحن المسلمين - على ما نحن عليه، من الغفلة، والضعف، والهوان، نشغل أنفسنا بتوافه الأمور، ولا نهتم بعظائمها:
مَنْ يَهُنْ يَسْهُلِ الْهَوَانُ عَلَيْهِ مَا لِجُرْحٍ بِمَيِّتٍ إِيْلاَمُ
فهل يدرك المسلمون هذه الأخطار الجسيمة، التي يتعرض لها أقصاهم المبارك، ومسرى رسولهم الكريم، ويعملوا جاهدين على إنقاذه من أيدي الصهاينة المغتصبين قبل فوات الأوان؟!(234/13)
العنوان: الأقليات الإسلامية ظروفها وآمالها وآلامها
رقم المقالة: 938
صاحب المقالة: سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز
-----------------------------------------
الحمدلله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد الصادق الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:
فإن الله جلت قدرته قد بعث الأنبياء والمرسلين للدعوة إلى توحيده، وإخلاص العبادة له سبحانه، وإيضاح شرعه الذي شرعه لعباده، وخلق الثقلين لذلك، كما قال سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِْنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}[1]. وقال الله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}[2].
وأخبر سبحانه وبحمده أنه لا يعذب قوماً إلا بعد إرسال البشير والنذير قال تعالى: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[3]. وقال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً}[4].
ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم الذي بعثه الله على فترة من الرسل جاء بعد أن ملئت الأرض جوراً وظلماً. وبعد أن تغلبت معصية الله في أرضه على طاعته، فأرسله الله للعالمين الإنس والجن، وللعجم والعرب بشيراً ونذيراً ومبلغاً لشرع الله، فوضح ودعا، وأرسل الكتب لرؤساء الأمصار بالدعوة لما جاء به، لتقوم الحجة على من عاند وخالف، قال الله تعالى {قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَْرْضِ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُْمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}[5].(235/1)
وقد جعل الله شريعته خاتمة الشرائع، ورسالته خاتمة الرسالات، لأن فيها الكمال والشمول لما يصلح الناس وأحوال معيشتهم ومعادهم، ولم يترك صلى الله عليه وسلم خيراً إلا دعا الناس إليه، أو شراً إلا وحذرهم منه، كما قال صلى الله عليه وسلم: ((تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها ولا يزيغ عنها إلا هالك)). وكما في قوله صلى الله عليه وسلم: ((ما بعث الله من نبي إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينذرهم شر ما يعلمه لهم)). خرجه مسلم في صحيحه.
وقوله صلى الله عليه وسلم: ((تركت فيكم أمرين لن تضلوا أبداً ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنَّتي)).. ففي كتاب الله أمر بالدعوة إلى دين الله دين الحق الذي لا يقبل سبحانه من البشر سواه، قال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِْسْلاَمُ}[6]. وقال سبحانه: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِْسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآْخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}[7].
وفي سنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم حث على الدعوة. وتوضيح لما يجب أن يؤديه المسلم نحو دين الله بتوضيحه لسائر البشر فهو أمانة ملقاة على عواتق أهل العلم ولا تبرأ ذممهم إلا بذلك نحو إخوانهم المسلمين بالتوضيح والنصح، قال صلى الله عليه وسلم: ((المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً – وشبك بين أصابعه)). رواه البخاري ومسلم، وقال صلى الله عليه وسلم: ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)). متفق عليه.(235/2)
فالمسلمون في أي مكان وزمان واجب عليهم التناصح فيما بينهم، والتعاون على البر والتقوى، والتواصي بالحق والصبر عليه، قال تعالى: {وَالْعَصْرِ، إِنَّ الإْنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}[8]. وقال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِّرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِْثْمِ وَالْعُدْوَانِ}[9].
وقال عليه الصلاة والسلام: ((الدين النصيحة الدين النصيحة الدين النصيحة قالوا لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتبه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)).
فالواجب على المسلم الإمتثال لأوامر الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، والنصح لله ولعباده لأن في ذلك السعادة كلها في الدنيا والآخرة، والعزة للمسلمين لا تكون إلا بذلك حيث يعلي سبحانه كلمتهم وينصرهم على أعدائهم مهما كثروا وتعاونوا.
ولقد سمعنا وقرأنا الأخبار عن كثير من إخواننا المسلمين في المجتمعات التي غالبية سكانها من غير المسلمين، وما يحصل عليهم من التسلط والتضييق في إقامة شعائر دينهم لإبعادهم عنه، إما بالإكراه أو بطرق أخرى. فنسأل الله لهم ولجميع المسلمين الثبات على الإسلام والعافية من مكائد الأعداء.
ولا شك أنهم على ثغرة من ثغور الإسلام، ويحتاجون والحالة هذه إلى كل مساعدة وعون سواء من الناحية السياسية وهذا خاص بالحكومات الإسلامية من العرب وغيرهم التي لديها غيرة على الإسلام، ولها علاقات مع تلك الدول، بإرسال المندوبين وبعث الرسائل والتأكيد على ممثلياتها وما إلى ذلك من الوسائل والأساليب التي تعين إخوانهم في تلك الأقليات، وترفع معنوياتهم، وتشعر من يتسلط عليهم بأن لهم إخواناً في العقيدة يهتمون بأمرهم ويتابعون أخبارهم ويغارون عليهم.(235/3)
وسوف يرتفع الضيم والظلم عن المسلمين – إن شاء الله – عندما تشعر تلك الدول وغيرها أن وراء هذه القلة المسلمة دول تتألم لآلامهم، وتهتم بشؤونهم، فتنصاع لمطالبهم، وترفع يدها عن ظلمهم، ولاسيما أن غالب تلك الدول بحاجة إلى البلاد الإسلامية في الشؤون الإقتصادية وغيرها.
والقلة المسلمة في كل مكان لا شك أنهم في أمس الحاجة إلى المساعدة المادية والمعنوية، لإقامة المساجد وبناء المدارس، ونحو ذلك مما يعينهم في عملهم الإسلامي، وواجب على كل مسلم أن يعينهم بقدر طاقته مع إرسال الدعاة لهم، لتعليمهم العقيدة الصحيحة، واللغة العربية والعلوم الإسلامية، لأن الكثير منهم في جهل كبير بأمور دينهم.
وبهذه المناسبة نحب أن نشير إلى أن للرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد – بحمد الله – جهوداً في مختلف البلاد الإسلامية والبلاد التي فيها أقليات، وتشاركها في ذلك رابطة العالم الإسلامي، وبعض الدول والمؤسسات الأخرى، أسأل الله أن ينفع بهذه الجهود وأن يجعلها خالصة لوجهه الكريم، وأن يوفق القائمين على ذلك لما يحب ويرضى.(235/4)
فقد قامت الرئاسة بمواصلة نشر رسالة الإسلام في ربوع إفريقيا وأوروبا، وأجزاء من أمريكا وآسيا واستراليا، لإيصال كلمة الحق إلى الناس عبر المحاضرات والدروس والكتب واللقاءات والإتصالات بشتى الطبقات، وبأنواع الثقافات، ومن خلال المساجد والمدارس والجمعيات والمؤسسات الإسلامية التي تدعمها وتساهم في تأسيسها وبنائها، بواسطة دعاتها المنبثّين في سائر أرجاء الأرض، فالرئاسة توجه نشاطاتها فيما يقرب من خمسين بلداً في إفريقيا وحدها ولها أكثر من ألف داعية هناك، يبلغون كلمة الإسلام، ويدعون إلى دين الله في المساجد والمجتمعات والمناسبات المتعددة ويقومون بالتدريس والوعظ وإرشاد الناس بالحسنى إلى صراط الله المستقيم، وإلى العقيدة الصحيحة التي بلغها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لأمته، وسار على نهجها الصفوة الأولى من هذه الأمة.
وقد نفع الله بجهود هؤلاء الدعاة وأخبار عالمهم ظاهرة بحمد الله، حيث أسلم على أيديهم من أراد الله هدايته.
أما في أمريكا وأوروبا واستراليا فقد قامت الرئاسة ضمن جهود أخرى بإرسال العديد من الوفود، وذلك لمعايشة هذه الأقليات المسلمة وتقصي الحقائق عن أوضاع المسلمين، وتقويم أعمالهم، ومعرفة ما يستجد بشأنهم وإيجاد الحلول لما يعترضهم من مشكلات، وبيان ما ينقصهم في علمهم الإسلامي.
وقد تمخض عن ذلك إرسال الكثير من الدعاة والمدرسين إلى البلدان المحتاجة التي يوجد فيها أقليات مسلمة، ودعم الجمعيات والمراكز في بناء منشآتها مادياً ومعنوياً مع تزويدهم بأمهات الكتب والمراجع العلمية، والنصح والإرشاد لهم، لعل الله ينفع بذلك.(235/5)
وعلى سبيل المثال يوجد لهذه الرئاسة دعاة في بريطانيا عددهم (23) داعية، وفي فرنسا (15) داعية، وفي البرتغال داعية، وفي الدنمارك داعيان، وفي ألمانية الغربية (5) دعاة، وفي اليونان (4) دعاة، وفي إيطاليا داعية، وفي بلجيكا (5) دعاة، وفي تركيا (8) دعاة، وفي جزر الكناري داعية، وفي جزر المارتينك داعية، وفي سويسرا داعية، وفي قبرص (3) دعاة، وفي هولندا داعية، وفي النمسا داعية، وفي الولايات المتحدة الأميريكية (31) داعية، وفي كندا (7) دعاة، وفي البرازيل (9) دعاة، وفي الأرجنتين داعية، وفي البحر الكاريبي داعية، وفي ترينيداد (3) دعاة، وفي سورينام داعيان، وفي غويانا داعيان، وفي جزر فيجي داعيان، وفي استراليا (5) دعاة، وفي نيوزلندا داعية واحد..
أما في آسيا فتقوم الرئاسة بتوفير عدد لا بأس به من الدعاة في البلدان التي يوجد بها أقليات إسلامية لنشر الدعوة الإسلامية بينهم المبنية على أساس من العقيدة الصحيحة حسبما أخذها السلف الصالح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وفهمها أصحابه رضوان الله عليهم.
كما وضعت مكاتب ومشرفين لمتابعة أعمال الدعاة، وتوزيعهم حسب حاجة تلك البلدان وبحث ما فيه مصلحة لدعم الجمعيات الإسلامية المعروفة بسلامة الإتجاه بعد التأكد من حاجتهم بالكتب الإسلامية والكتابة إلى المؤسسات التعليمية لتزويدهم بالمقررات المدرسية كما تقوم بالمساهمة في إكمال مشروعاتهم التي تعود على المسلمين هناك بالنفع في دينهم ودنياهم كالمساهمة في بناء المساجد وترميمها وتزويدها بالمصاحف، وتوثيق المؤسسات الإسلامية للإطمئنان على سلامة القائمين على العمل وصدقهم، وذلك بإعطائهم توصيات خاصة لمحبي الخير لمساعدتهم في عملهم الخيري، وإرسال الوفود من الرئاسة لتفقد أحوال الأقليات ومعرفة إحتياجاتهم الضرورية.(235/6)
وللرئاسة عدد من الدعاة في بلدان أخرى بقارة آسيا يوجد بها أقليات إسلامية كالهند التي يوجد بها (9) دعاة، والفلبين (6) دعاة، وتيلاند (37) داعية، ونيبال (15) داعية، وسريلانكا (14) داعية، واليابان (5) دعاة، وكوريا داعية، وسنغافورة داعيان. وكل ما ذكرت من عمل الرئاسة ودعمها للجمعيات الإسلامية والمراكز الإسلامية وإرسال الدعاة وغير ذلك من أعمال إسلامية كله إنما يتم بفضل الله سبحانه ثم بفضل حكومتنا الرشيدة وعلى رأسها خادم الحرمين الشريفين الملك فهد حفظه الله من كل سوء ونصر به الحق وفسح في أجله على خير عمل...
وبهذه المناسبة التي تعقدها ندوة الشباب العالمية لبحث أوضاع الأقليات الإسلامية في العالم، أوصي إخواني الدعاة جميعاً بتقوى الله سبحانه وتعالى والعمل بإخلاص في تبليغ هذا الدين مستحضرين ما جاء في كتاب الله سبحانه وتعالى الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، في فضل الدعوة وآداب الدعاة، حيث قال سبحانه: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}[10]. {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}[11]. وقال سبحانه: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}[12].
وما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة التي منها قوله صلى الله عليه وسلم: ((من دل على خير فله مثل أجر فاعله)). وقوله صلى الله عليه وسلم لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه لما بعثه إلى خيبر: ((فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم)).(235/7)
ووصيتي لإخواني المسلمين في الأقليات الإسلامية وفي كل مكان أن يتقوا الله وأن يتفقهوا في دينهم ويسألوا أهل العلم عما أشكل عليهم، وأن يحرصوا على تعلم اللغة العربية ليستعينوا بها على فهم كتاب الله عزوجل وسنَّة نبيه صلى الله عليه وسلم، وأول ذلك الإهتمام بكتاب الله فهماً وعملاً، كما جاء في الحديث الصحيح: ((خيركم من تعلم القرآن وعلمه)). ثم قراءة كتب الحديث الموثوقة المعتبرة، وغيرها من كتب الفقه والعقيدة المعتمدة عند أهل السنَّة والجماعة. وأن يتلقوا كل ذلك على أيدي علماء معروفين بالصلاح والتقوى وحسن العقيدة والعلم الصحيح.
وعلى الإخوة العلماء في المجتمعات ذات الأقلية المسلمة أن ينشطوا في مجال الدعوة إلى الله بين إخوانهم وغيرهم، ولهم الأجر والثواب من الله سبحانه وتعالى.
وهذا العمل من أجل الأعمال وأعظمها كما تقدم في قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}[13].
ثم بعد ذلك يجب عليهم تبليغ هذا الدين إلى من حولهم من الأمم الأخرى، لأن دين الإسلام للناس كافة قال تعالى: {قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا}.
وهذه المجتمعات بأشد الحاجة إلى هذا الدين، والداعي إلى الله يحصل له الأجر العظيم إذا كان سبباً في هداية هؤلاء وإرشادهم لما خفي عليهم من أمور دين الإسلام كما تقدم في قول النبي صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب: ((فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم)).(235/8)
فبهذه الدعوة يدخل في دين الله، دين الإسلام إن شاء الله أفواج ويقل عدد الكفار فتصبح الغلبة إن شاء الله تعالى للمسلمين، وإن لم يتمكن المسلم في تلك البلاد من الدعوة فعليه أن يلتزم بدينه وأن يتخلق بالأخلاق والآداب الإسلامية لأنها دعوة بالفعل، ولأنها محببة لذوي العقول الصحيحة فيتأثر الناس غالباً بهذه الصفات الحميدة. ولقد دخل الإسلام إلى بعض دول شرق آسيا بأخلاق التجار من الأمانة والصدق في المعاملة.
ومتى عجز المسلم عن إظهار دينه في بلد إقامته، بحيث لا يأمن على دينه وعرضه وماله، فإنه يجب عليه الهجرة إلى بلاد آمنة يستطيع أن يؤدي شعائر دينه بأمن وراحة بال، عملاً بالآيات والأحاديث الواردة في ذلك.
ولا يفوتني أن أشكر القائمين على هذه الندوة جهودهم الطيبة في خدمة الإسلام والمسلمين..
نسأل الله لنا ولهم ولجميع المشاركين في هذا المؤتمر التوفيق والسداد وصلاح النية والعمل إنه جواد كريم وصلى الله على نبينا وسيدنا محمد بن عبدالله وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.
ـــــــــــــــــــــــــ
[1] سورة الذاريات، الآية [56].
[2] سورة النحل، من الآية [36].
[3] سورة المائدة، الآية [19].
[4] سورة الإسراء، من الآية [15].
[5] سورة الأعراف، الآية [158].
[6] سورة آل عمران، من الآية [16].
[7] سورة آل عمران، الآية [85].
[8] سورة فصلت، الآية [33].
[9] سورة يوسف، الآية [108].
[10] سورة فصلت، الآية [33].
[11] سورة يوسف، الآية [108].
[12] سورة النحل، الآية [125].
[13] سورة فصلت، الآية [33].(235/9)
العنوان: الألباني محدِّث العصر وناصر السنَّة
رقم المقالة: 687
صاحب المقالة: أحمد بن محمود الداهن
-----------------------------------------
لمحات من حياته
اسمه ونسبه:
هو الشيَّخ المحدِّث محمد ناصر الدِّين بن نوح نجاتي بن آدم، والملقِّب بالألباني نسبة إلى بلده ألبانيا، والمكنَّى بأبي عبد الرحمن أكبر أبنائه.
ولادته:
كانت ولادته عام 1332 هـ الموافق 1914 م، في مدينة (أشقودرة) عاصمة ألبانيا في ذلك الوقت.
نشأته:
نشأ العلَّامة الألباني في بيت فقير ولكنه بيت دين وعلم، فقد تخرَّج والده في معاهد إسطنبول الشَّرعية، وعاد إلى بلاده لخدمة الدِّين وتعليم النَّاس حتى غدا مرجعاً يتوافد عليه طلَّاب العلم للأخذ عنه. حتى هاجر فراراً بدينه من حكم الطَّاغية (أحمد زوغو)، ولجأ إلى دمشق التي كان قد زارها في أثناء رحلته للحجِّ في ذهابه وإيابه.
دراسته وأهم شيوخه:
لما وصل الشَّيخ الألباني مع والده إلى دمشق، كان على مشارف التَّاسعة من العمر، فأدخله والده في مدرسة (جمعيَّة الإسعاف الخيري) حتى أتمَّ المرحلة الابتدائيَّة فيها بتفوُّق.
ولما لم تَرُق لوالده المدارس النظاميَّة من النَّاحية الدينيَّة، أخرج ابنه الصغير منها، ولم يدعه يكمل دراسته، ووضع له برنامجاً علميّاً مركَّزاً، سعى من ورائه لتعليمه القرآن الكريم، و التجويد، و النَّحو و الصرف، وفقه المذهب الحنفي، فختم الألباني على والده القرآن الكريم برواية حفص عن عاصم، وقرأ عليه بعض كتب الصَّرف، وكتاب مختصر القدوري في الفقه الحنفي.
وممَّن درس عليهم الشيخ الألباني في صغره، صديق والده الشيخ محمد سعيد البرهاني، فقرأ عليه كتاب (مراقي الفلاح) في الفقه الحنفي، وكتاب (شذور الذهب) في النحو، و بعض كتب البلاغة المعاصرة.(236/1)
وكان يحضر دروس العلَّامة الشيخ محمد بهجة البيطار مع بعض أساتذة مجمع اللغة العربية بدمشق، منهم الأستاذ عز الدين التنوخي رحمه الله تعالى، إذ كانوا يقرؤون (الحماسة) لأبي تمام.
طلبه للحديث:
بعد أن تلقَّى الشيخ رحمه الله تعالى العلم عن هؤلاء العلماء الأفاضل، أكرمه الله تعالى بالتوجُّه لطلب علم الحديث رواية ودراية، وقد حدَّث هو عن ذلك قائلاً :"إن نعم الله علي كثيرة لا أحصي لها عدداً، ولعلَّ من أهمها اثنتين: هجرة والدي إلى الشَّام، ثم تعليمه إياي مهنة تصليح السَّاعات.
أما الأولى: فقد يسرت لي تعلُّم العربية، ولو ظللت في ألبانيا لما تعلَّمت منها حرفاً، ولا سبيل إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم إلا عن طريق العربية.
وأما الثانية: فقد قيضت لي فراغاً من الوقت، أملؤه بطلب العلم، وأتاحت لي فرصة التردُّد على المكتبة الظاهريَّة وغيرها ساعات من كل يوم".
وقد بدأ الشيخ رحمه الله تعالى طلب علم الحديث وهو في العشرين من عمره، بعد أن تأثَّر بأبحاث مجلة (المنار) التي كان يُصدرها الشيخ (محمد رشيد رضا) رحمه الله تعالى.
وأتم نَسخ كتاب (المغني عن حمل الأسفار في الأسفار) للحافظ العراقي ورتَّبه ونسَّقه، وهو من أوائل الأعمال الحديثية التي قام بها، فكان هذا العمل فاتحة خير له، فقد ازداد إقبالاً على علم الحديث، مع إنكار والده رحمه الله عليه الاشتغال بهذا العلم. وقد أجازه مؤرخ حلب ومحدثِّها الشيخ (محمد راغب الطبَّاخ) رحمه الله بمرويَّاته.
وكان مما أعانه على تحصيل العلم، قربه من المكتبة الظاهرية، التي كان دائم التردُّد عليها، بالإضافة إلى بعض المكتبات التجارية الخاصة، حيث كان يستعير منها الكتب، مثل: مكتبة سليم القصيباتي رحمه الله، والمكتبة العربية لأحمد عبيد رحمه الله.
وكان آخر كتاب عمل فيه الشيخ هو كتاب (تهذيب كتاب صحيح الجامع الصغير والاستدراك عليه)، وذلك بعد أن أقعده المرض عن الحركة.(236/2)
وقد تأثر الشيخ رحمه الله تعالى بمنهج شيخ الإسلام ابن تيميَّة وتلميذه ابن القيِّم، والشيخ محمد بن عبد الوهَّاب رحمهم الله تعالى، ومع هذا فقد خالفهم في كثير من المسائل وفقاً لما ترجَّح لديه من أدلَّة، ولم تمنعه محبَّته لهم وتقديره لعلمهم من أن يجهرَ بمخالفته لهم وتخطئة أقوالهم ، وهذا دليل على استقلال شخصيَّته العلمية.
دعوته إلى السُنَّة وأثرها في العالم الإسلامي:
كان العلامة الشيخ الألباني رحمه الله تعالى ممن سار على المنهج الذي سار عليه السلفُ الصالح في التزام الكتاب والسنَّة، في دعوتهم المباركة إلى الله تعالى. فحين ظهر له بالحجَّة والبرهان أن كثيراً من الأشياء التي كان يعدُّها من الدِّين وكان عليها مشايخه، تخالف الكتاب والسنة، أقلع عنها ولزم السنَّة وناقش فيها مشايخه مبتدئاً بأقرب الناس إليه، والده ،ومما قاله هو عن هذه المرحلة: "فلم أزل على خطِّ والدي في هذا الاتِّجاه حتى هداني الله إلى السنَّة فأقلعتُ عن الكثير مما كنت تلقَّيته عنه، مما كان يحسبه قربةً وعبادة".
ثم انتقل إلى دعوة مشايخه، وكانت مسألة التَّوحيد هي المسألة الكبيرة التي تفاصل فيها الشيخُ مع مشايخه، ومعظم مشايخ بلده، وقد أولى الشيخ رحمه الله تعالى مسألة التَّوحيد اهتماماً كبيراً وأعطاها من وقته كثيراً، وبذل في تبيينها جهداً عظيماً، دعوة وشرحاً، وتعليقاً وتأليفاً، وتحقيقاً ومناقشة.
وقد كتب الرحالةُ عبد الله الخميس في كتابه (شهر في دمشق):(236/3)
"وهكذا وجدتُ السَّلفيةَ في دمشق بين صفوف الجامعة وفي حلقات العلماء، يحملها شباب مثقف مستنير يدرس الطبَّ والحقوق والآداب.. قال لي شابٌّ منهم: ألا تحضر درسنا اليوم؟ فقلت: يشرِّفني ذلك! فذهبت مع الشابِّ لأجد فضيلة الشيخ الألباني وحوله ما يزيد على الأربعين طالباً، من شباب دمشق المثقَّف، وإذا الدَّرس جارٍ في باب: (حمايةُ المصطفى صلى الله عليه وسلم جنابَ التوحيد وسدُّه طرقَ الشرك) من كتاب (التَّوحيد) وشرحه (فتح المجيد) للمجدِّد الإمام محمد بن عبد الوهَّاب وحفيده -رحمهما الله- فعجبت أشدَّ العجب لهذه المصادفة الغريبة، وأنصتُّ لكلام الشيخ، وإذا بي أسمع التحقيقَ والتدقيق والإفاضة في علم التوحيد، وقوَّة التضلُّع فيه، وإذا بي أسمع مناقشةَ الطلاب الهادئة الرزينة، واستشكالاتهم العميقة..
وبدؤوا في درس الحديث من كتاب (الروضة النَّدية) وهنا سمعت علماً جمّاً وفقهاً وأصولاً وتحقيقاً.. ولم أزل طيلة مقامي بدمشق محافظاً على درس الشَّيخ.. وقد لمستُ بنفسي لهم تأثيراً كبيراً على كثير من الأوساط ذات التأثير بالرَّأي العام، مما يبشِّر بمستقبل جدُّ كبير لهذه الدَّعوة المباركة".
جولاته ورحلاته الدَّعوية:
كان للشِّيخ رحمه الله رحلاتٌ شهرية منظَّمة بدأت أسبوعاً من كلِّ شهر ثم استقرَّت على نحو ثلاثة أيام، كان يجوب بها المحافظات السُّورية، وكان لها الأثر الطَّيب في الدَّعوة إلى الله وإلى التَّوحيد ونبذ الشرك والخرافة، مع ما صاحبها من معارضة من أهل الأهواء.(236/4)
يقول هو رحمه الله: "كان من آثار هذا الإقبال الطَّيب الذي لقيته هذه الدَّعوة أن رتَّبنا برنامجاً لزيارة بعض مناطق البلاد مابين حلب واللَّاذقية إلى دمشق، وعل الرغم من قصر الأوقات التي خُصِّصت لكل من المدن، فقد صادفت هذه الرحلات نجاحاً ملموساً، إذ جمعت العديدَ من الراغبين في علوم الحديث على ندوات شبه دورية، يقرأ فيها من كتب السُّنة، وتتوارد الأسئلة، ويثور النقاش المفيد، إلا أن هذا التجوال قد ضاعف من نقمة الآخرين، فضاعفوا من سعيهم لدى المسؤولين، فإذا نحن تلقاء مشكلات يتصلُ بعضها برقاب بعض".
وكان من نتائج هذه الجهود المضادَّة إبعاد الشَّيخ إلى الحسكة –مدينة في الشَّمال الشَّرقي من سوريا-، ثم سجنه في سجن القلعة بدمشق، بالإضافة إلى تحذير طلاب العلم وعوامِّ النَّاس من الاستماع إليه ومجالسته والدعوة إلى هجرته ومقاطعته. وكان رحمه الله يعقِّب على هذه الأحداث بقوله: "لقد كان لهذا كله آثارٌ عكسيَّة لما أرادوا، إذ ضاعفتُ من تصميمي على العمل في خدمة الدَّعوة حتى يقضيَ الله بأمره".
ثم كان من فضل الله عليه وعلى الناس أن ذاع صيتُه في أرجاء المعمورة، وانتشرت كتبه في الأقطار، يقتنيها العلماء وطلاب العلم.
دروسه وحلقاته العلميَّة:
كانت مجالس الشيخ عامرةً بالفوائد، غزيرةَ النفع في سائر العلوم، وقد قُرئ على الشيخ كتبٌ كثيرة في دمشق، إذ كان يعقد درسين كلَّ أسبوع يحضرهما طلبة العلم، من تلك الكتب: (زاد المعاد) لابن القيِّم، و(نخبة الفكر) لابن حجر، و(فتح المجيد) لعبد الرحمن بن الحسن بن محمد بن عبد الوهَّاب، و(الروضة النَّدية شرح الدرر البهيَّة) لصدِّيق حسن خان، و(أصول الفقه) لعبد الوهَّاب خلاف، و(الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث) لأحمد شاكر، و(منهج الإسلام في الحكم ) لمحمد أسد، و( فقه السُّنة) لسيِّد سابق، و(رياض الصالحين) للنَّووي، و(الإلمام في أحاديث الأحكام) لابن دقيق العيد.(236/5)
وقد كان يلقي الدروس والمحاضرات في داره، ودور تلاميذه وأصدقائه من مثل الأستاذ الشيخ عبدالرحمن الباني، والطبيب الألمعي أحمد حمدي الخياط.
وظائفه وجهوده العلميَّة:
عمل الشيخ مدة طويلة في المكتب الإسلامي للشيخ زهير الشاويش، مع كل من العلماء المشايخ: شعيب الأرناؤوط، وعبدالقادر الأرناؤوط، ومحمد بن لطفي الصباغ، وعبدالقادر الحتاوي..وغيرهم، وقد أفاد من هذا العمل أيما فائدة، إذ كان كثيرٌ من نتاجه العلميِّ في التحقيق والتأليف والتخريج والتعليق من ثمار هذا المكتب الذي نفع الله به المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.
ودرَّس الشيخ بالجامعة الإسلامية في المدينة المنوَّرة عند تأسيسها عام 1381هـ مدة عامين، ثم عاد إلى مكانه المخصَّص له في المكتبة الظاهرية، وأكبَّ على الدِّراسة والتَّأليف.
وقد اختارته كلية الشَّريعة في جامعة دمشق ليقوم بتخريج أحاديث البيوع الخاصَّة بموسوعة الفقه الإسلامي، التي عزمت الجامعة على إصدارها عام 1955 م.
كما اختير عضواً في لجنة الحديث، التي شُكِّلت في عهد الوحدة بين مصر و سوريا، للإشراف على نشر كتب السنَّة و تحقيقها.
وطلبت إليه الجامعة السلفيَّة في بنارس في الهند أن يتولى مشيخة الحديث، فاعتذر عن ذلك لصعوبة اصطحاب الأهل و الأولاد بسبب الحرب بين الهند و باكستان آنذاك.
واختير عضواً للمجلس الأعلى للجامعة الإسلاميَّة بالمدينة المنوَّرة من عام 1395 هـ إلى 1398 هـ.
وقد لبَّى الشيخ دعوة من اتحاد الطلبة المسلمين في إسبانيا، وألقى محاضرة مهمَّة طُبعت فيما بعد بعنوان: (الحديث حجَّة بنفسه في العقائد و الأحكام).
كما انتُدب من سماحة الشَّيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله رئيس إدارة البحوث العلمية و الإفتاء بالسعوديَّة، للدعوة في مصر و المغرب وبريطانيا للدعوة إلى التوحيد والاعتصام بالكتاب والسنة والمنهج الإسلامي الحق.(236/6)
كما دُعي إلى عدَّة مؤتمرات، حضر بعضَها واعتذر عن كثير بسبب أشغاله العلمية الكثيرة.
وزار الكويت و الإمارات و ألقى فيهما محاضرات عديدة، وزار أيضا عدداً من دول أوروبا، واجتمع فيها بالجاليات الإسلامية و الطلبة المسلمين، وألقى دروساً علميَّة مفيدة.
وفي عام 1419هـ = 1999م، مُنح الشيخ جائزةَ الملك فيصل العالمية للدِّراسات الإسلامية، وذلك تقديراً لجهوده القيِّمة في خدمة الحديث النَّبوي تخريجاً و تحقيقاً ودراسة.
مكانته العلميَّة وثناء العلماء عليه:
قال العلَّامة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشَّيخ -رحمه الله تعالى- في حقِّ الألباني: "و هو صاحب سنَّة، و نصرة للحقِّ، و مصادمة لأهل الباطل".
وقال العلَّامة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى: "الشَّيخ الألباني معروفٌ أنه من أهل السنَّة والجماعة، ومن أنصار السنَّة، ومن دعاة السنَّة، ومن المجاهدين في سبيل حفظ السنَّة". وقال: "لا أعلم تحت قُبة الفلك في هذا العصر أعلمَ من الشَّيخ ناصر الدين الألباني في علم الحديث".
وقال العلَّامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى: "فالذي عرفتُه عن الشَّيخ من خلال اجتماعي به وهو قليل، أنه حريص جداً على العمل بالسنَّة، ومحاربة البدعة، سواء كان في العقيدة أم في العمل.. أما من خلال قراءتي لمؤلفاته فقد عرفت عنه ذلك، وأنه ذو علم جمٍّ في الحديث، رواية ودراية، وأن الله تعالى قد نفع فيما كتبه كثيراً من الناس من حيث العلم، ومن حيث المنهاج، و الاتجاه إلى علم الحديث، و هذه ثمرةٌ كبيرة للمسلمين و لله الحمد.. أما من حيثُ التحقيقاتُ العلمية الحديثية فناهيك به".
وقال الشَّيخ زيد بن عبد العزيز الفيَّاض رحمه الله تعالى: "الشَّيخ محمد ناصر الدين الألباني من الأعلام البارزين في هذا العصر".
ووصفه الشَّيخ العلَّامة المحدِّث حمَّاد بن محمَّد الأنصاري رحمه الله تعالى بأنه: "ذو اطِّلاع واسع في علم الحديث".(236/7)
وقال العلَّامة حمود بن عبد الله التويجري رحمه الله تعالى: "الألباني الآن عَلَمٌ على السنَّة، والطَّعن فيه إعانة على الطَّعن في السنَّة".
وقال فضيلة الشَّيخ عبد المحسن العبَّاد البدر المدرِّس في المسجد النَّبوي: "والألباني عالم جليل خدم السنَّة، وعقيدته طيِّبة، والطَّعن فيه لا يجوز". وقال أيضاً: "فإنه بحقٍّ من العلماء الأفذاذ الذين كانوا في هذا العصر والذين لهم جهود في خدمة سنَّة المصطفى صلى الله عليه وسلم".
وقال فيه الشيخ المحقِّق محبُّ الدِّين الخطيب رحمه الله تعالى: "من دعاة السنَّة، الذين وقفوا حياتهم على العمل لإحيائها".
وقال فيه الشَّيخ العلَّامة الأديب علي الطَّنطاوي رحمه الله تعالى: "الشيخ ناصر أعلم مني بعلوم الحديث، وأنا أحترمه لجدِّه ونشاطه وكثرة تصانيفه، وأنا أرجع إلى الشيخ ناصر في مسائل الحديث ولا أستنكف أن أسأله عنها، معترفاً بفضله، وأنكر عليه إذا تفقَّه فخالف ما عليه الجمهور؛ لأنه ليس بفقيه".
وقال فيه الشيخ الدكتور محمد بن لطفي الصبَّاغ حفظه الله: "أعظم محدِّث في هذا العصر.. وقف حياته على خدمة السنَّة المطهرة تعليماً وتأليفا وتخريجاً و تحقيقاً..".
وقال فيه العلامة الداعية محمد الغزالي رحمه الله تعالى: "الأستاذ المحدث العلامة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني.. وللرجل من رسوخ قدمه في السنة ما يعطيه هذا الحق..".
ووصفه كلٌّ من العلامة الشيخ د. يوسف القرضاوي، والشيخ الفقيه د. عبدالكريم زيدان: "بمحدث الشام ومحدث العصر".
تلاميذه:(236/8)
تخرَّج على يديه وعلى كتبه، وتأثَّر بمنهجه جمٌّ غفيرٌ من طلبة العلم، منهم على سبيل المثال: الشيخ محمد نسيب الرِّفاعي رحمه الله تعالى، والشيخ محمد زهير الشَّاويش (الذي آزر الشيخ وكان له الفضل الكبير في نشر علمه)، والشيخ عبدالرحمن الباني، والشيخ د. محمد بن لطفي الصباغ، ود. محمد هيثم الخياط، والشيخ عبدالرحمن النحلاوي رحمه الله، والشيخ محمد إبراهيم شقرة، والشيخ محمد عيد العبَّاسي، والشيخ علي الخشَّان، والشيخ عدنان عرعور، والشيخ علي حسن الحلبي، والشيخ سليم الهلالي، والشيخ مقبل الوادعي رحمه الله، والأستاذ محمد مهدي الإستانبولي رحمه الله، والشيخ أبو إسحاق الحويني، والشيخ عبد الرحمن عبد الخالق، والدكتور عمر سليمان الأشقر، وآخرون.
ملامح دعوته:
يمكن إجمال ملامح دعوة الشيخ فيما يلي:
1- الرجوع إلى الكتاب والسنَّة الصحيحة، وفهمهما على نهج السَّلف.
2- تعريف المسلمين بدينهم الحق، ودعوتهم إلى العمل بتعاليمه وأحكامه ،والتحلِّي بفضائله وآدابه.
3- الدَّعوة إلى توحيد الله عز وجل، وبيان عقيدة السَّلف، وتحذير المسلمين من الشِّرك ومن البدع ومن الأحاديث المنكرة والموضوعة.
4- تقريب السنَّة بين يدي الأمة في صحيح ليُعمل به، وضعيف وموضوع ليُجتنب، مع العمل على إحياء بعض السنن المهجورة في كثير من البلاد، ودعوته إلى بيان مكانة السنَّة في الإسلام، وعموم الاحتجاج بالحديث النبوي في العقائد والأحكام.
5- إحياء التفكير الإسلامي الحر في حدود قواعد الإسلام، وإزالة الجمود الفكري الذي ران على عقول الكثير من المسلمين، وتحذيره من العصبيات للجماعات، والتحزب على ضوئها والولاء والبراء فيها.
6- السعي إلى استئناف حياة إسلامية، وإنشاء مجتمع إسلامي، وتطبيق حكم الله في الأرض.
وفاته:(236/9)
توفي العلامة الألباني قبيل غروب يوم السبت الثاني و العشرين من جُمادى الآخرة 1420هـ، الموافق الثاني من تشرين أول 1999م، عن عمر يناهز الثمانين عاماً، في مدينة عمَّان، العاصمة الأردنية ، وصُلِّي عليه بعد صلاة العشاء ودُفن في مقبرة قديمة في حيِّ هملان. إنا لله وإنا إليه راجعون.
تعريف بمؤلفاته:
ترك الشيخ رحمه الله كثيراً من المؤلَّفات والكتب المحقَّقة أربت على المئتين، وقد تميَّزت كتبُه بالتَّحقيق العلمي، والإحاطة بالأسانيد والشَّواهد، وتتبُّع أقوال المحدِّثين، وكان جُلُّ اعتماده على المخطوطات بالمكتبة الظاهرية.
كما خلَّف عدداً كبيراً من الأشرطة المسجَّلة، من كلامه ودروسه، يُعمَل على نشرها على شكل فتاوى موضوعية.
أما أهم كتبه فهي:
1 - آداب الزفاف في السُّنَّة المطهَّرة.
2 - إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السَّبيل.
3 - أحكام الجنائز.
4 - تحذير السَّاجد من اتِّخاذ القبور مساجد.
5 - التوسُّل أحكامه وأنواعه.
6 - حِجَّة النَّبي صلى الله عليه وسلم كما رواها عنه جابر رضي الله عنه.
7 - جلباب المرأة المسلمة.
8 - الذبُّ الأحمد عن مسند الإمام أحمد.
9 - سلسلة الأحاديث الضَّعيفة وشيء من فقها وفوائدها.
10 - سلسلة الأحاديث الضَّعيفة والموضوعة وأثرها السيِّئ في الأمة.
11 - صحيح الترغيب والترهيب.
12 - ضعيف الترغيب والترهيب.
13 - صحيح الجامع الصغير وزياداته.
14 - ضعيف الجامع الصغير وزياداته.
15 - صحيح السُّنن الأربعة وضعيفها.
16 - صفة صلاة النَّبي صلى الله عليه وسلم.
17 - غاية المرام في تخريج الحلال والحرام.
18 - فهرس مخطوطات الظاهرية في علم الحديث.
19 - قيام رمضان.
20 - مختصر صحيح البخاري.
وترك غير قليل من الكتب والرسائل مخطوطة.
المرجع:(236/10)
كتاب (محمد ناصر الدِّين الألباني، محدِّث العصر وناصر السُّنَّة)، تأليف : إبراهيم محمَّد العلي، وهو الكتاب رقم (13) في سلسلة: (علماء ومفكرون معاصرون، لمحات من حياتهم وتعريف بمؤلفاتهم) التي تصدرها دار القلم بدمشق، الطبعة الثانية، 1424هـ - 2003م.(236/11)
العنوان: الالتزام .. بذور الإنجاز
رقم المقالة: 1982
صاحب المقالة: د. إبراهيم الفقي
-----------------------------------------
الالتزام.. بذور الإنجاز
"يفشل الناس أحيانًا، وليس ذلك بسبب نقص القدرات؛ ولكن بسبب نقص في الالتزام"..
زيج زيجلار
كان هناك طفلٌ في العاشرة من عمره، فَقَدَ ساقه اليسرى في حادث سيارة، وأصبح كل أفراد العائلة في حالة حزن على ما حدث له، وكان أصدقاؤه ومُدَرِّسوه في المدرسة يعاملونه بطريقة مختلِفة لأنه معوَّق، فقرر الطفل تَرْكَ المدرسة، وإكمال دراسته بالمنزل، وكان الطفل مولعًا بالسباحة، وفي أحد الأيام عندما كان يسير على ضفة النيل بالقاهرة، لاحَظَ أنَّ هناك مجموعةً منَ المعوَّقِينَ يتدرَّبون على السباحة في نادٍ خاصٍّ لهذه اللُّعبة، وبالحديث معهم اتَّضح أنهم يشتركون في مسابقات سباحةٍ لِلمُعَوَّقين، وبدون تردُّد انضمَّ لهذا الفريق، وبدأ معهم في التدريب، وفي عام 1978 حصل على الميدالية الذهبية، وأصبح من أبطال مصر للسباحة، وعاد تحمُّسُه المتأجِّج للعودة إلى المدرسة، وحصل على درجات ممتازة، وبدأ أيضًا في ممارسة رياضات أخرى للمعوَّقين، وفي عام 1980 اشترك في الأولمبيات الخاصة بالمعوقين، وكان مندهشًا لمستوى المهارات الَّتي وصل إليها المتسابِقون الآخرون، وفي عام 1981 حدثَتْ نقطة تحوُّل في حياة هذا الشابِّ، فقد قَرَّرَ أن يَعْبُرَ بحر المانش "القنال الإنجليزي"، ونصحه مَنْ حوله بعدم القيام بهذه الخطوة؛ لأنَّ درجة الحرارة كانتْ 3 درجات فقط، وهناك تيَّار قويٌّ في هذه المنطقة مِمَّا يُشَكِّل خُطورةً كبيرةً عليْهِ، وقال له النُّقَّاد: إنَّ المسافة لعبور القنال تتعدى الـ 30 كيلو مترًا، وأنَّ كثيرًا منَ الأبطال الذين كانوا في أتمِّ صحَّة، قد فشلوا في عُبور هذه المسافة، وقيل له أيضًا: إنه مازال صغيرَ السنِّ، ووزنه أقل من 60 كيلو جرامًا، وإنَّه معوَّق، وإنَّهم لا يعتقدون أن في(237/1)
استطاعته عبور المانش، وإن هذا مستحيل.
ولكنَّ الشابَّ لم يَعْبَأْ برأيهم؛ بل عاهَدَ نفسَهُ على أن يَنْجَحَ في محاولته للعبور، وفي يومٍ من الأيَّام عُرِضَ عليه أن يَشترك في سباقٍ لعبور القنال الإنجليزي "المانش"؛ بشرط أن يتحمَّل هو جميع المصاريف، وبدون تردُّدٍ وافق على الفور، وفي عام 1982 بدأ في فترة تدريب لمدَّة 6 أشهُرٍ، ثم دخل تجربة التأهُّل للسباق، وكانت أدنى سرعة مطلوبة هي 3.5 كيلو مترًا/ ساعة، ورغم أن سرعة الشاب كانت فقط ثلاثة كيلو مترات في الساعة؛ إلا أنه أقنع اللجنة المسؤولة بقَبوله للاشتراك.
وأخيرًا سافر إلى إنجلترا، وبدأ في التدريب المكثَّف لمدَّة أربع ساعات يوميًّا، وكان كل شيء على ما يرام حتَّى قبل السباق بيومين، فقد أحَسَّ بألم شديد في أُذُنِهِ، واكتشف الطبيب أنَّ هُناك كِيسًا دُهْنِيًّا ملتهبًا في أُذنِهِ، ولا يستطيع الاشتراك في السباق، وطلبَ الشَّابُّ منَ الطبيب أن يستأصل الكيس الدُّهْنِيَّ، وفعلاً تم إزالتُهُ بعملية جراحية، وطلب الطبيب من الشابِّ أن يلتزم بالراحة لمدَّة أسبوع على الأقلِّ، مِمَّا يعنِي أنه لن يشترك في السباق، وشعر الشاب بأن حُلم حياته على وشك الانهيار، ونصحه من حوله بأنْ يَلْتَزِمَ بنصائح الطبيب، وأن ينتظر حتى السباق التالي؛ ولكنَّ الشابَّ قرَّر بإصرار أن يشترك في السباق مهما كانت النتيجة، وقامت اللجنة المشرفة على السباق بتعيين حَكَمٍ خاصٍّ؛ لمراقبة حالة الشاب خلال السباق.(237/2)
وبدأ الشاب عام 1982 رحلة مصيره على شاطئ دوفر في إنجلترا، وبعد 12 ساعة و39 دقيقة وصل للشاطئ الفرنسي، وبإنجازه لهذا النجاح - رغم الحالة الشرسة للمياه، والمتاعب الكثيرة التي واجهته - كان هو أسرعَ من أيِّ سبَّاح آخَرَ؛ حتى الذين في أعلى لياقة وتمام الصحة والجسم، وأصبح بذلك أوَّل شخص معوَّق يعبر المانش، وبعد أن فاز بهذا السباق قال: "أنا الآن أتساوَى مع أيِّ سبَّاح آخَرَ؛ بل أيِّ شخص آخَرَ، وأستطيع أن أقوم بأيِّ عمل يقوم به أيُّ شخص آخَرُ، وفي استطاعتي أن أُنجِزَهُ حتى بطريقة أفضل".
إذا أمعنا النظر في قصة هذا الشاب فإننا نجد أن اعتقاده القويَّ، ورغبته، وتعهده، كانوا أقوى من العوائق والموانع والتعليقات السلبية التي واجهته، وإنه بذلك قد أعطى الأمل للملايين من الأشخاص المعوَّقِينَ، وأكَّدَ لهم أنه في استطاعتهم أيضًا أن يحققوا أهدافهم، هذا الشاب هو خالد حسَّان البطل المصري الذي ساعدته قوة التزامه على أن يحقق حلم حياته.
عندما كان والت ديزني يخطط لإنشاء مركز إيبكوت واجهَهُ صعوباتٌ لتمويل المشروع لدرجة أنَّ 300 بنكٍ قاموا برفض المشروع إلى أن قَبِلَ أحدُ البُنُوك أن يُمَوِّل هذا المشروعَ، وأصبح مركز إيبكوت حقيقة واقعة بعد أن كان مجرد حُلمٍ، وذلك بسبب الالتزام القوي لوالت ديزني.
وأيضًا نجِدُ أنَّ توماس إديسون قد فشل أكثر من 10000 مرة قبل أن يصل لاختراع المصباح الكهربائي، وقد حاوَلَ الجميعُ أن يُهَبِّطُوا من عزيمته، وقالوا له: إنه فاشل كبير، ومن الأفضل أن يصرف النظر عن هذا الموضوع، وكان ردُّهُ دائمًا أنه لم يفشل؛ بل إنه اكتشف 9999 طريقة غير ناجحة لاختراع المصباح الكهربائي، وأنه لم ييأس لأن كل خُطَّة يقوم بإلغائها هي عبارة عن خُطوة للأمام، وإنه بقوة الالتزام استطاع أن يحقق حلمه الذي يستفيد العالم كله منه في وقتنا هذا.(237/3)
وهناك أيضًا قصة كولونيل ساندرز مؤسّس شركات دجاج كنتاكي، الذي كان قد أحيل إلى المعاش في سن 63 سنة، ولم يكن يملكُ الكثيرَ منَ المال، واستلم أوَّل شيك من معاش الحكومة بِمَبلغ 93 دولارًا؛ ولكنَّه رَفَضَ أن يعيشَ على أيَّة مُساعدة اجتماعية، وكان لديه طريقة خاصة لإعداد الدجاج، وكان يحبُّها كثيرٌ من الناس المحيطين به، وحاول بيع هذه الطريقة لبعض ملاك المطاعم مقابل نسبةٍ منَ الربح؛ ولكنَّه رُفِضَ من 1007 مطعم إلى أن قبل أحد المطاعم أن يجرِّب هذه الطريقة، وأصبحتْ هذه هي البداية لنجاح كبير لكولونيل ساندرز، وأصبحتْ مطاعمُ كنتاكي منتشرةً في أرجاء العالم، وكان ذلك نتيجة لتعهُّده والتزامه اللَّذَينِ كانا أقوى من أي فشل.
هناك شاب فَقَد وظيفته وأرسل بالبريد أكثر من ألفي طلب لوظائف حول العالم؛ ولكنَّهم قوبلوا جميعهم بالرفض؛ ولكنَّه لم ييأس ثم أرسل ألفي طلب آخرِين بالبريد، ومرَّة أخرى رُفض طلبه من جميع الشركات، وأخيرًا جاءه عرض للعمل في مصلحة البريد!! وقيل له يومها إنَّ طريقَتَهُ في الالتزام هي الطريقة الَّتي من الممكن أن تكون سبب نجاحه في العمل في المصلحة.
سُئِلَ مندوب تأمين ناجح في عمله، ويصل دخلُه إلى أكثر من 600.000 دولار سنويًّا من موظف جديدٍ عنده "متى تفقد الأمل في عميل من الممكن أن يشتري منك بوليصة التأمين؛ ولكنه من النوع الصعب الاقتناع، ويرفض جميع المحاولات؟" وكان رد المندوب المخضرم "هذا يعتمد على من منَّا سيُتَوفَّى قبل الآخر!!".(237/4)
من الممكن أن تكون درجة حماسك عالية جدًّا، وتكون طاقتك كبيرة، وتكون لديك المعلومات الوفيرة، ويكون هدفك محددًا وواضحًا، ويكون حلمك به مستمرًّا ليلاً ونهارًا، وتضع حلمك هذا موضع التنفيذ، وأيضًا تتوقع الإيجابيات لتحقيق هذا الحلم؛ ولكن إذا لم يكن عندك القدر الكافي من الالتزام لمواجهة العقبات والموانع، فإنك ستفشل؛ فإن كثيرًا من الوظائف يتم فِقْدَانها، وكثيرًا من الشركات تغلِق أبوابها، وكثيرًا من العلاقات الزوجية تهدَم؛ وذلك كله بسبب عدم وجود الالتزام.
قال راي كروك الرئيس السابق لسلسلة مطاعم ماكدونالد "استمر دائمًا، لا يوجد في العالم شيء يمكنه أن يحل محل الإصرار، والموهبة وحدها لا تكفي، فهناك كمٌّ كبير من الفاشلين من ذوي المواهب، والذكاء وحده لا يكفي فكثير من الأذكياء لم يجنوا من وراء ذكائهم، والتعليم وحده لا يكفي، فالعالم مليءٌ بالمتعلمين عديمي الجدوى، ولكن الإصرار والتصميم قادران على كل شيء.
كل العظماء الناجحين كان عندهم أسبابٌ كثيرة للتراجُع، وواجهوا عقبات كثيرة، وهبوطًا في العزيمة، وحتَّى حالات من الإفلاس؛ ولكنهم لم يستسلموا، ولم يتركوا أحلامهم، وكانوا مقتنعين بأنَّ تجربةً واحدة لا تكفي، فكرَّسوا حياتَهُم لأحلامهم، قال ويليام شكسبير "جاهد لآخر نَفَسٍ في حياتك".
فما هو الالتزام؟
الالتزام هو: القوَّة الَّتي تدفَعُنا لنستمرّ حتى بالرغم من الظروف الصعبة، وهو القوة الدافعة التي تقودنا لإنجاز أعمالٍ عظيمة.
الالتزام هو الدافع الذي يجعل كل الأمهات يُصِرُّون على تعليم أطفالهنَّ المشي.
وهو تعهد قوي لتغيير الأشياء العادية؛ لتصبح أشياءَ ممتازةً.
وهو الشيء الذي يجعلك تسير مسافات طويلة حتَّى تَحْتَ هُطُولِ الأمطار.
وهو الذي يُخرِج من داخلك جميع القُدُرات الكامنة، ويجعَلُها تحتَ تصرُّفك.
وبقوة الالتزام فإنَّك لن تتراجع، وكُلَّما خضت تجربة ستتفتح لديك الفُرَصَ الأكثر والأكبر للنجاح.(237/5)
قال دكتور روبرت شولر في كتابه "قوة الأفكار": "ابذُل قصارى جُهدك وابدأ صغيرًا؛ ولكن فَكِّرْ على مستوًى كبير، عليك باجتياز العواقب، واستثمرْ كلَّ ما عندك، وكن دائمًا مستعدًّا للتصرُّفِ، وتوقَّعِ العقبات؛ ولكن لا تسمحْ لها بمنعك من التقدُّم".
عندما كنت أُمارِس لعبة تنس الطاولة، لم أَكُنْ أكسب كل شوط في المباريات؛ ولكنِّي كنت أكسب المباراة.
أعظمُ لاعِبِي كرة السلَّة يُسَجِّلون 50 % فقط من رمياتهم، وأحسن فرق كرة القدم تظلُّ تجري وتواظب على التمرين على أمل أن يحققوا هدفًا أو هدفينِ في المباراة نفسها.
سئلت في مقابلة تليفزيونية في لويزيانا في أمريكا "متى يُمكن أن تعتبر شخصًا ما قد فشل؟" وكان ردي: "عندما يكون عنده حلمٌ قوي، ودرس الكثير من العلوم، وأنفق الكثير من المال والوقت والجهد؛ لتحسين مهاراته، ووضع حُلمه موضع التنفيذ؛ ولكنه توقَّف عن المحاولات لسبب ما".
هناك مثلٌ قديم يقول "النَّاجحون لا يَتراجَعُونَ، والمُتَراجِعُونَ لا ينجحون"، فإنك لن تفشل إلا إذا توقَّفْتَ عنِ المحاولة، فمِفْتاح النَّجاح ببساطة هو "لا تيأس".
والآن إليك هذا السؤال: كم منَ المرَّات كان لديْكَ أحلامٌ، وتخلَّيْتَ عنها بِسَبَبِ الظروف؟ ألَم يحن الوقت لتطلق سراح القوى الكامنة المحبوسة داخلك؟! ألم يحن الوقت أن تعيش أحلامك؟!
أَلْزِمْ نفسَك لتحقيق أحلامك، أَعْطِها كُلَّ ما تملك مهما قال مَن حولك من أصدقاء أو أقارب، وقم بتوجيه طاقَتِك لتحقيق أهدافك، وعلى الطريق لِلنَّجاح ستُقابِلُ الكثير من التحديات، فَعَلَيْكَ بِمُواجَهَتِها جميعًا؛ تَجَاهَلْهَا وَلا تُعْطِها أيَّ اعْتِبَار، وتغلَّبْ عَلَيْهَا، واستمِرَّ، وتذكَّر دائمًا أنَّ الإصرار يقضي على المقاومة ... ...
والآن إليك هذه الوصفة للوصول إلى درجة الالتزام القوي:
1 – عاهد نفسك أن تكون شخصًا أفضل ضمن أفراد العائلة:(237/6)
- دَوِّن 3 أشياء يمكنك بها أن تحسن علاقتك بأفراد عائلتك، وعاهد نفسك على أن تقوم بتكرارها يوميًّا.
- قم بضم من تحبهم، وقربهم إليك، وعبر عن حبك لهم.
- ادْعُهم على العشاء، أو حتى نزهة في إحدى الحدائق، أو حتى في الهواء الطلق.
- ساعد في أعمال البيت، حتى بغسيل (المواعين)، أو تجهيز الفراش.
- أظهر لكل فرد في العائلة أنك تخاف عليه بالفعل، وأنك ملتزم.
- إذا قمت بكل هذه النقط ستجعل كل من حولك سعداء، وأنت نفسك ستكون أسعد من أي وقت مضى.
2 – التزم تجاه عملك:
- دوّن على الأقل 3 أشياء يمكنك عن طريقها تحسين مستوى عملك، وعاهد نفسك على أن تلتزم بأدائها.
- ابتعد عن اللغو والأحاديث السلبية عن أي شخص.
- كن دائمًا متواجدًا، ومستعدًّا لمساعدة الآخرين.
- نظف مكتبكَ دائمًا، واجعله منظمًا.
- اذهب لعملك مبكرًا، وكن آخر شخصٍ يترك العمل.
- أَظْهِرْ لِلجميع أنَّك تهتمّ بِهِم، وأنَّك تَهْتَمّ بِعَمَلِك.
3 – ألزم نفسك أن تكون مجاملاً:
- اكتب قائمة بتواريخ ميلاد أفراد عائلتك، أصدقائك وزملائك في العمل، وابعث لهم بكروت تذكارية، أو اتصل بهم تليفونيًّا بهذه المناسبة، أو قم بدعوتهم على العشاء.
- ألزم نفسك بأن تقوم بعمل أشياء، ولو بسيطة لإسعاد من حولك.
4 – ألزم نفسك بتحقيق أهدافك:
- ركز على النتائج وليس على النشاط ذاته أو النكسات.
- ألزم نفسك أن تكون بصحة جيدة، وتناول طعامًا صحيًّا، واشرب الكثير من الماء، وقم بأداء التمرينات الرياضية يوميًّا، وعليك بالمداومة لزيارة الطبيب في أوقات متقاربة، وحافظ على وزنك المثالي، وابتعد عن أي عادة سيئة.
5 – ألزم نفسك أن تكون أفضل في كل شيء تقوم بعمله:
- احضر محاضرتين في السنة على الأقل.
- واظب على القراءة لمدة 20 دقيقة على الأقل يوميًّا.
- واظب على أن تكونَ دائمًا في محيط الأشخاص الإيجابيين، والناجحين.
6 – ألزم نفسك بمساعدة الغير:
- مدّ يد المساعدة دائمًا.(237/7)
- قم بالتصدق على الفقراء.
- قم بإعطاء ما يفيض عن حاجتك إلى الأشخاص المحتاجين لها فعلاً.
- ألزِمْ نفسَك بعبادة الله، وقم بتأدية صلواتك، واطلب من الله المساعدة، وستكون من أسعد ما يمكن.
وتذكر دائمًا:
عش كل لحظة كأنَّها آخر لحظة في حياتك، عِش بالإيمان، عِش بالأمل، عِش بالحب، عِش بالكفاح، وقَدِّرْ قيمة الحياة.(237/8)
العنوان: الالتزام شكل ومضمون
رقم المقالة: 538
صاحب المقالة: خباب بن مروان الحمد
-----------------------------------------
بعض المستقيمين والملتزمين بالإسلام تحكمهم الرؤية الظاهريَّة المباشرة؛ فيرون الالتزام بالدين قاصراً على بعض المظاهر الطيبة والجيدة، ويرون - وقد يكون ذلك شعوراً لا نطقاً - أنَّ الرجل إذا استكملها فقد استكمل الالتزام!.
إنَّ ديننا الإسلامي وضَّح مفهوم الالتزام والاستقامة على الدين؛ حتَّى لا يكون الالتزام التزاماً أجوف، أو تديناً مغشوشاً؛ فالالتزام مفهوم واسع وشامل، إنَّه لا يقصر الالتزام على مجرد إطلاق اللحية - وهو واجب - ولا يقصر الدين على تحريم إسبال الثياب، وهو محرَّم.
نعم؛ إنَّ من الالتزام إطلاق اللحية، وعدم إسبال الثياب للرجال، وتغطية جميع جسم المرأة؛ ووجهها من باب أولى - كما هو قول جمع من الفقهاء - والامتناع عن الدخان وتحريمه... بيد أنَّ تعليق الالتزام والاستقامة على الدين بهذه المظاهر فقط، وجعلها علامة فارقة بين الملتزمين وغيرهم - هو خطأ جسيم.
لا ريب أنَّ هناك من يوافق على هذا الرأي، غير أنَّه في مجال التطبيق الواقعي تكون نظراته وأفكاره مختلفة عن قناعاته الفكريَّة، ممَّا يسبِّب تنافراً بين الفكر والتطبيق، وفصاماً بين العلم وواقع العمل!.
كم من أناس اغترُّوا بمظهر شخص ما، فأطلقوا عليه حكماً عاماً بالالتزام! وحين تعاشره تجد أنَّ الالتزام كان في الظاهر فقط، وأنه بحاجة إلى أن يرقِّي التزامه، وينقله من التزام المظاهر والظواهر - وهو أمر محمود - إلى التزام الجوهر والضمير.
وعليه؛ فمن الأهميَّة بمكان أن يكون مستوى تفكيرنا وحكمنا على الأشخاص والناس حكماً دقيقاً لا حكماً ظاهرياً، كما أنَّه من المهم أن نوسِّع دائرة الالتزام، ولا نضيِّقها على بعض الهيئات التي لا أخالف في أنَّها واجبة؛ ولكنِّي أخالف في قصرها على الالتزام الظاهري فقط.(238/1)
وهناك أمورٌ قد يتهاون بها الملتزمون، مع تعظيمهم لبعض الأخطاء والآثام الظاهرة التي قد لا تصل للدرجة الكبيرة، بيد أنَّ هناك تساهلاً في كبائر مجمع عليها: كالغيبة، والكذب، والنميمة، وأكل حقوق الناس، وظلم العمَّال ومَطلهم حقوقهم - التي قد يتهاون بها بعض الملتزمين - فهي كبائر فظيعة، وفواحش شنيعة، لم يخالف في وصفها بأنَّها كبائر أحدٌ من العلماء.
لقد قال الله - سبحانه وتعالى -: {وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ} [الأنعام: 120]، والآية هنا تقضي بأهميَّة التخلُّق بخلق الإسلام، والابتعاد عن الإثم ظاهراً وباطناً، لأنَّنا قد نعتني بترك الإثم الظاهر لاطِّلاع الناس عليه، ونقع فيما هو أشد منه من الإثم الباطن.
ولقد نبَّه رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - على خطورة الانخداع بالمظاهر؛ فعن سهل بن سعد الساعدي - رضي الله عنه - قال: مرَّ رجلٌ على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال لرجل عنده جالسٌ: ((ما رأيك في هذا؟)). فقال: رجلٌ من أشراف الناس؛ هذا والله حريٌّ إن خطب أن يُنكح، وإن شفع أن يشفَّع. فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم مرَّ رجلٌ آخر؛ فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما رأيك في هذا؟)). فقال: يا رسول الله، هذا رجلٌ من فقراء المسلمين؛ هذا حريٌّ إن خطب ألا ينكح، وإن شفع ألا يُشفَّع، وإن قال ألا يُسمع لقوله. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((هذا خيرٌ من ملء الأرض مثل هذا))؛ (رواه البخاري برقم: 6447).
وبيَّن - صلَّى الله عليه وسلَّم - أن الله - عزَّ وجلَّ - لا ينظر إلى الصور والأجسام، ولكن ينظر إلى القلوب والأعمال، فقال - عليه الصلاة والسلام -: ((إن الله لا ينظر إلى أجسامكم، ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم))؛ (أخرجه مسلم).(238/2)
نعم؛ لا شك أنَّ الحكم على الناس يكون بالظاهر، والله يتولَّى السرائر، كما نطق بذلك فقهاء الإسلام، ونصَّ عليه جمعٌ من العلماء؛ كابن تيمية، والشاطبي، والنووي، وغيرهم؛ بل حكى الإمام ابن حجر الإجماع على ذلك، فقال: "وكلُّهم أجمعوا على أنَّ أحكام الدنيا تجري على الظاهر، والله يتولَّى السرائر"؛ (فتح الباري:12/273).
ولكن؛ هل المراد بقاعدة (الحكم على الناس بالظاهر) أن يقوم الإنسان بالحكم من أوَّل نظرة؟! لا؛ فذلك لا يليق بأصحاب العقول الفطنة، ومن المعلوم أنَّه: ما كلُّ بيضاء شحمة، ولا كلُّ سوداء تمرة.
ولو كانت نظرتنا بهذا الشكل؛ لكان الخوارج الضُّلاَّل أولى الناس بأن يكونوا من أهل التُّقى والزهد والصلاح؛ فقد وصف - عليه الصلاة والسلام – عبادتهم بقوله: ((تحقرون صلاتكم إلى صلاتهم، وقراءتكم إلى قراءتهم))؛ (رواه البخاري: 6532-6534).
والأمر هنا واضح؛ بأنَّ النظرة السطحيَّة لا ينبغي أن يؤخذ بها مباشرةً وعلى الإطلاق؛ فقد تستهوينا عبادة رجل، بيد أنَّه في مجال المعاملة مع إخوانه المسلمين قد يظلم، وقد يكذب ويغش، ويحلف اليمين الغَموس!.
لقد اشتُهر عن العبقري الصحابي الجليل عمر بن الخطَّاب - رضي الله عنه - أنَّه حين جاء شاهدٌ يشهد عنده، قال له عمر: ائتِ بمن يعرِّفك. فجاء برجل، فقال له: هل تزكِّيه؟ هل عرفته؟. قال: نعم. فقال عمر: وكيف عرفته؟ هل جاورته المجاورة التي تعرف بها مدخله ومخرجه؟ قال: لا. قال عمر: هل عاملته بالدينار والدرهم اللذين تعرف بهما أمانة الرجال؟ قال: لا. فقال: هل سافرت معه السفر الذي يكشف عن أخلاق الرجال؟ قال: لا. فقال عمر بن الخطَّاب: فلعلَّك رأيته في المسجد راكعاً ساجداً، فجئت تزكِّيه؟! قال: نعم يا أمير المؤمنين. فقال له عمر بن الخطاب: اذهب؛ فأنت لا تعرفه، ويا رجل ائتني برجل يعرفك، فهذا لا يعرفك[1].(238/3)
ومن هنا نعلم علم اليقين خطورة الحذر من التزكية الظاهرة، والنظرة السطحيَّة العابرة، التي نزكِّي بها فلاناً وعلاَّناً، من خلال نظرات عامَّة. وما الأخبار التي تأتينا أو نسمع بها من حالات الخصام الزوجي أو الطلاق من أناس كانت المرأة أو الرجل يحسب كلُّ أحد منهم الآخر أنَّه - أو أنَّها - من أهل الخير والبرِّ والصلاح لمظهرهم الحسن؛ بيد أنَّها حين تعاملت معه - أو حين تعامل الرجل معها - انكشفت حقائق ما كان مستوراً، وبدت مكنونات قلبيهما تظهر وتبدو، إلى أن حصل الشقاق والخلاف.
أخرج البخاري - رحمه الله - في "صحيحه": أنَّ رجلاً اسمه عبدالله، وكان يلقب حماراً، وكان يُضحِك الرسول - صلى الله عليه وسلم - وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد جلده في الشراب؛ فأُتِيَ به يوماً فجُلد، فقال رجلٌ من القوم: اللهم العنه؛ ما أكثر ما يؤتى به!. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تلعنوه؛ فوالله ما علمت إلاَّ أنه يحب الله ورسوله))؛ (أخرجه البخاري من حديث عمر بن الخطَّاب - رضي الله عنه – برقم 6398).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - معلقاً على هذا: "... فنهى عن لعنه مع إصراره على الشرب؛ لكونه يحب الله ورسوله، مع أنَّه - صلى الله عليه وسلم - لعن في الخمر عشرة: لعن الخمر، وعاصرها، ومعتصرها، وشاربها، وساقيها، وحاملها، والمحمولة إليه، وبائعها، ومبتاعها، وآكل ثمنها. ولكنَّ لعن المطلق لا يستلزم لعن المعيَّن الذي قام به ما يمنع لحوق اللعنة به، وكذلك التكفير المطلق والوعيد المطلق؛ ولهذا كان الوعيد المطلق في الكتاب والسنة مشروطاً بثبوت شروط، وانتفاء موانع"؛ (الفتاوى: 10/329-330).(238/4)
كم من إنسان حين تراه تقول: الخير يقطر من لسانه وجانبيه؛ فإذا عاشرته وعاملته عرفت أنَّه ليس كما رأيت - وللأسف - وصدق رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - حين قال عن زمن تختلف فيه مقاييس الناس في المدح والذم: ((حتَّى يقال للرجل: ما أجلده، ما أظرفه، ما أعقله، وما في قلبه مثقال حبَّة من خردل من إيمان))؛ (أخرجه البخاري برقم: 7086؛ ومسلم برقم 143).
لقد كان علماؤنا - رحمهم الله - لا تخدعهم المظاهر كثيراً؛ فقد تكون المظاهر مع رونقها خواءً، وقد قيل: لا يخدعنَّك منظر الروضة الغنَّاء، إذا كان بعدها جهنم الحمراء!
ولقد كانوا يعرفون أنَّ الانطباع الأول غالباً لا يكون صحيحاً، والصواب: هو عدم الاستعجال في الحكم على الأشخاص، أو الإعجاب بهم لمجرد نظرة عابرة، وقد خاطب الله - عزَّ وجلَّ - رسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - بقوله: {فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة:55].
بل حذَّر الله - عزَّ وجل - رسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - من الانبهار حين يرى المنافقين، قائلاً له: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} [المنافقون: 4]، فحذَّره - سبحانه وتعالى - من الإعجاب بهؤلاء المنافقين وبأجسامهم وحلو كلامهم ومنطقهم.
إنَّ من المهم أن تكون لنا نظرة متَّزنة في الحكم على الأشخاص، والإعجاب بهم حين الرؤية الأولى المباشرة، بل لابدَّ من عَرْكِ هؤلاء بالمعاملة؛ لتكوَّن الرؤية الصحيحة المنبعثة عن المعاشرة والمعاملة والمُخالقة.(238/5)
إنَّ من أعظم السلبيات - للأسف - التي نراها ظاهرة للعِيان في بعض المجتمعات الملتزمة اهتمامَ كثير منهم بإصلاح الظاهر، وخصوصاً لمن يدخل حديثاً في سلك الالتزام، وينتظم في سلك الصالحين، مع أنَّ هذا الرجل بحاجة ماسَّة إلى إصلاح الباطن أولاً - مع أهميَّة إصلاح الظاهر ولا شك - ولكنَّ المنهج التربوي الصحيح يقضي بأهميَّة القيام بإصلاح القلب والباطن. ومن المؤكَّد حتماً أنَّه في حال إصلاح القلب سينعكس ذلك إيجابياً على ظاهر الشخص؛ فيتأكَّد إذاً أهميَّة الاهتمام بالجوهر قبل المظهر.
ومن المهم أن نعلم أنَّ المعاصي الباطنة أشد وأكبر ضرراً من المعاصي الظاهرة؛ فمعاصي القلوب قد تكون أشدَّ ضرراً من معاصي الجوارح، مع أن القرآن دعا لإصلاحهما معاً، وترك ظاهر الإثم وباطنه؛ حيث قال: {وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ} [الأنعام: 120]. قال ابن الأنباري - رحمه الله -: "المعنى: ذروا الإثم من جميع جهاته". وقال ابن كثير: "عن مجاهد قال: معصيته في السر والعلانية، وفي رواية عنه قال: هو ما ينوي مما هو عامل. وقال قتادة {وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ} أي: قليله وكثيره، سره وعلانيته".
وأخيراً: إليكم قصَّة تعكس ما تقدَّم من موضوعنا، وتعطي ملمحاً مهمّاً في النظرة إلى الأشخاص؛ فقد ذكر فضيلة الشيخ عبد الرحمن الدوسري - رحمه الله - في محاضرة له تحت عنوان: (تصحيح الإيمان)، الداعية المفكر سيد قطب رحمه الله تعالى، وحين فرغ من المحاضرة، انبرى أحد السائلين معترضاً على الشيخ الدوسري في استشهاده بكلام سيد قطب، لأنه حليق لا لحية له!(238/6)
فأجابه الشيخ الدوسري قائلاً له: "أنت تعالج الجرح والرأس مقطوع، فإذا كان سيد قطب - رحمه الله - بلا شعر في لحيته؛ فهو صاحب إحساس وشعور، وإيمان ويقين، وعزة وكرامة، وغيرة على الإسلام والمسلمين؛ قدَّم روحه فداءً لدينه، واستشهد في سبيل الله طلباً لمرضاته، وطمعاً في جنته، وقال قولته المشهورة حين ساوموه ليرجع عن موقفه: "لماذا أسترحم؟ إن سُجِنتُ بحق، فأنا أرضى حُكم الحق، وإن سُجِنتُ بباطل؛ فأنا أكبر من أن أسترحم الباطل، إن إصبع السبابة الذي يشهد لله بالوحدانية في الصلاة ليرفض أن يكتب حرفاً يقرُّ فيه حكمَ طاغية".
ثمَّ قال الشيخ الدوسري: هذا هو سيد قطب، فأين أصحاب الشَّعْر بلا شعور من مواقف الرجال؟! وصدق - رحمه الله -: "فكم من إنسان ملتحٍ ليس له من خدمة الإسلام نصيب! وكم من إنسان ظاهره عدم الالتزام، وله دور كبير في خدمة دين الله ونصرته، ورفع رايته.
فاللهم اجعلنا من الملتزمين بدينهم ظاهراً وباطناً، وممن يجتنب ظاهر الإثم وباطنه، واستعملنا في طاعتك، ولا تردَّنا خائبين، ولا عن بابك محرومين... آمين"!.
ــــــــــــــــــــــــ
[1] أخرجه الخطيب البغدادي في "الكفاية"، وقال ابن كثير: رواه البغوي بإسناد حسن، وذكر ابن حجر أنَّ هذا الأثر صحَّحه أبو علي بن السكن، في حين ضعَّف الأثر العقيلي في "الضعفاء"، وقد خرَّج الشيخ الألباني طريقاً لهذا الأثر في (إرواء الغليل: 8/260)، ومال إلى تصحيحه.(238/7)
العنوان: الالتزام في الأدب
رقم المقالة: 1030
صاحب المقالة: د. وليد قصّاب
-----------------------------------------
لستُ أدري لماذا تَنْفُِرُ الاتِّجاهات الأدبيةُ الحديثة - في أغلبها - مِنَ الالتزام؟!
ولستُ أدري لماذا لم يَعُدْ يُتحدَّث عن دور الأدب ووظيفته، وصار الحديثُ كلُّه يتَّجه إلى بيان طبيعته ولا سيما اللُّغوية منها؟!
هل انقطعتْ صِلَةُ الأدب بالحياة والمجتمع، ولم يَعُدْ – كما يُرَادُ له – أكثرَ من بناءٍ لُغويٍّ متميِّزٍ؟
وما على المتلقِّي في هذه الحالة – أيّاً كان – سوى البحث عن هذا البناء والاشتغال به، وإلاَّ عُدَّ متلقِّياً متخلِّفاً, يتعاملُ مع الأدب بمعطياتٍ قديمةٍ باليةٍ.
إنَّ واقعَ الحال يَشْهَدُ أنَّ الأمر ينبغي أن يكونَ على النَّقيض من ذلك؛ فالالتزامُ اليومَ مَطْلَبٌ حضاريٌّ؛ لأنه يَعني تواصلَ الإنسان مع العصر، وعَيْشَهُ فيه.
وهذا عصرُ الأفكار، و(الأَيْدِيُولُوجِيَّات)، والمذاهب الفلسفية والسياسية والاجتماعية، ولا يمكن أن يعيش الإنسانُ مشاهِداً ذلك كلَّه من غير أن يكون له موقِفٌ.
يقول الناقد الفرنسي (ماكس أوبريث): "ظهر مصطلحُ (أدب الالتزام)، أو (أدب المواقف) نتيجةً لتأثير (الأَيْدِيُولُوجِيَّات) الحديثة في الأدب، التي تَظهَرُ – بالرُّغم من تعدُّدِها وتبايُنِها – في شيءٍ واحد، وهو أنها تُبرِز المتغيِّراتِ الاجتماعيةَ السياسية لعصرنا. ومن أجل ذلك؛ فإنَّ هذه (الأَيْدِيُولُوجِيَّاتِ) تُجْبِرُ كلَّ امرئٍ منَّا أن يُعِيد فحصَ موقِفِهِ نقديّاً من العالم، ومسؤوليَّتِهِ نحو الآخَرِين"[1].
وإذا كان هذا من شأن أيِّ إنسانٍ متحضِّرٍ يَحْترِمُ عقلَه؛ فما بالُكَ إن كان هذا الإنسانُ مفكِّراً أو أديباً؟!(239/1)
إنَّ وقوفَه على الحياد، أو موقفَ عدمِ المبالاة، أوِ انسحابَه إلى عوالِمَ ذاتيَّةٍ أو خياليَّةٍ لَعارٌ ما بعده عارٌ، وهو في حقِّ المسلم أكثرُ عاراً؛ فقد جعله الله مستخلَفاً في الأرض، وشاهداً على النَّاس.
إنَّ على الأديب - وهو رائدٌ لا يكذِب أهلَه - أن يَنْظُرَ فيما حوله، وأن يحدِّدَ موقِفَهُ بجلاءٍ ووضوحٍ؛ ليعرفَ أين يضع قَدَمَهُ، وفي أيِّ جهةٍ يسيرُ.
إنَّ الالتزامَ بهذا المفهومِ هو حيويةٌ وإيجابيةٌ، إنه يَعني في هذا الواقع المتحرِّك بسرعةٍ أنَّنا طرَفٌ فيه أو جزءٌ منه، نُساعدُ في صُنْعه، وفي تحمُّل مسؤوليَّة ما يجري على سطحه، بدلاً من أن ننظر إليه مشدوهين حيارَى، أو نجريَ وراء الآخَرِين مثلَ قطيع الأغنام.
وإنَّ الالتزامَ يجعلُ الأدبَ نشاطاً جادّاً فعَّالاً، ذا تأثيرٍ في مسار الحياة، وفي حركتها - وذلك يُكْسِبُه المصداقيَّة والقيمة، ولو أخذنا برأي أصحاب (الفن للفن)، وبرأي بعض المدارس الحَدَاثِيَّة المعاصرة، التي تنحو منحى (الفنِّ للفنِّ) على صُوَرٍ مختلفةٍ؛ لسَقَطَتْ منزلةُ الأدب؛ لأنه سيتحوَّلُ عندئذٍ إلى حُلىً لفظيَّةٍ، وزخارفَ كلاميَّةٍ، لا غرضَ لها أبعد من ذلك.
إنَّ الالتزام يجعل الأدب غَيْرِيّاً، مرتبطاً بالآخر، منشغلاً به، ينبِضُ بهمومه وإحساساته، ويعيش أفراحَهُ وأتراحَهُ، بدلاً من انغلاقه على ذاته، واجْتِرَارِهِ مشاعرَ فرديةً، أو هُيَامِه في أودية الخيال المسرِِف المُجَنّح.
إنَّ الالتزام يتماشى مع سُنَّة الله في الكون؛ ومن ذلك الكلمة؛ فهي أمانةٌ ومسؤوليةٌ؛ بل هي أعظمُ مِنَّةٍ امْتَنَّ الله بها على الإنسان؛ {الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن:1-4].(239/2)
ولابدَّ للأدب الذي مادَّتُه الكلمةُ أن يكونَ – ككلِّ ما خلق اللهُ – ذا هدفٍ؛ إنَّه ابنُ الحياة، وعليه خدمتُها؛ وذلك بمعالجة مشكلاتها، أو محاولةِ تجميلِها، أو تقديمِ تفسيرٍ لها، أو الكشفِ عن أسرارِها، أو إيضاحِ الغَرَضِ منها، أو بيانِ الحقِّ والباطلِ فيها، وهو بذلك كلِّه يُعينُ الإنسان على العَيْش فيها، ويكون له هادياً في طريقها اللاحب البعيد.
كان (وردز ورث) يقول: "كلُّ شاعرٍ عظيمٍ معلِّمٌ. وأُحبُّ أن يَعُدَّني النَّاسُ معلِّماً، أو لا شيءَ"[2].
الالتزامُ وليدُ الحرِّية:
والالتزامُ وليدُ الحرِّية، وهو لا ينمو إلا في أحضانها، ولا يترعرعُ ويَفْرَعُ إلا في تُرْبتها الخصيبة.
إن الالتزام لا يكون قَسْراً أو إكراهاً، وإلا فهو "إلزامٌ" لا "التزامٌ"، وشتَّانَ ما بينهما.
الالتزامُ ابنُ الاختيار، والإلزامُ ابنُ الإجبار. الأوَّلُ ثمرةٌ من ثمرات الوعي والإدراك واليقظة والمسؤولية، والثاني من ثمرات التَّغييب والإملاء والتَّسيير، وشتَّانَ ما بينهما.
إنَّ كلَّ أديب "مُلتزِم" هو أديبٌ حرٌّ شريفٌ، وإنَّ كلَّ أديب "مُلْزَم" هو أديبٌ "مُسَيَّس" مستعْبَد، مَبِيعٌ أو مُشْترًى، وشتَّان ما بينهما.
قد تختلف مع أديبٍ يلتزم فِكراً غيرَ فِكرِكَ، أو يدعو إلى رؤيةٍ غيرِ رؤيتِكَ، ولكنَّكَ لا تَملِك إلا أن تَحتَرِمه؛ لأنه مُخلِصٌ لِمَبْدَئِهِ الذي يدعو إليه. تُجِلُّ فيه هذا الإخلاصَ لأنه يَعْتَقِدُ أنَّه الحقُّ، ولكنَّه ما إنْ يتذبذب ويتملَّق، ما إنْ يُحابي ويُداجي، حتى يَسقُط من عينِكَ، وإن كان يرمي بسهمِكَ، ويَنطِقُ باعتقادِكَ؛ لأنَّ حرارة الصِّدق خَبَتْ فيما يقول، والصِّدقُ عمودُ كلِّ كلامٍ مؤثِّرٍ مُقْنِعٍ.
إنَّ الأديبَ الملتزِمَ كالطائر السَّابح المُنطلِق، لا قَيْد يُمْسِكُه، ولا غل يلتفُّ حول يديه، أو جناحيه، أو عُنُقِه؛ إنَّه يمضي في هذا الفضاء الرَّحْب الفسيح، شادياً للحرية والبهاء والجمال..(239/3)
ولكنَّ الأديبَ المُلْزَم هو كالطائر الحبيس، لا يشفعُ له في سَجْنه جمالُ قَفَصِه، أو أعمدةُ الذَّهب التي صُنع منها هذا القفصُ، أو نفاسةُ الأَسْوِرَة التي وُضِعت في مِعْصَمِه؛ إذ حَسْبُه عاراً أنَّه سجينٌ، لا يحلِّقُ إلا في هذا القفص الذي أُريدَ له أن يحلِّقَ فيه.
الالتزام إذاً ليس قَيْداً كما يدَّعي أعداؤه؛ بل هو الحريةُ عينُها، ولكنَّها الحريةُ الواعية المسؤولة، الحريةُ التي تَحمِلُ رسالةً تُريدُ إبلاغَها، وليست الحريةَ الزَّائفةَ المنطلقةَ على غير هدى.
يقول (توفيق الحكيم): "الالتزامُ المُثمِر للفنَّان - في رأيي – هو الالتزام الذي ينبع من طبيعته، وهنا لا يتعارض الالتزام مع الحرية؛ بل هنا ينبع الالتزام نفسه من الحرية. لذلك لم أَقُل لأديبٍ أو فنَّانٍ: الْتَزِمْ؛ بل قُلتُ وأقولُ: كُنْ حُرّاً.."[3].
ويقول (الحكيمُ) في موطن الدِّفاع عن الحريَّة التي هي حارسةُ الالتزام وهي مصدرُهُ الحقيقي: "إنَّ الأديب يجبُ أن يكون حرّاً؛ لأنَّه إذا باع رأيَهُ، أو قيَّد وِجدانَهُ، ذهبتْ عنه في الحال صفةُ الأديب؛ فالحريَّة هي يَنبوع الفن، وبغير الحريَّة لا يكون أدبٌ ولا فنٌّ..
يجبُ أن يكون الالتزامُ جزءاً من كِيَان الأديب، ويجب أن يلتِزمَ وهو لا يشعرُ أنَّه ملتزِمٌ، مَثَلُهُ مَثَلُ حَمامِ زاجلٍ ينقُلُ رسالةً وهو حُرٌّ طائرٌ، لا يَشْعُرُ بقَيْدٍ في ساقه، ولا بِغُلٍّ في جناحه.."[4].
ـــــــــــــــــــــــــــ
[1] ضمن كتاب: في النقد والأدب، ترجمة عبد الحميد شيحة، القاهرة (ص112).
[2] انظر: فن الشعر، لإحسان عباس (ص 17).
[3] أدب الحياة؛ لتوفيق الحكيم.
[4] أدب الحياة؛ لتوفق الحكيم.(239/4)
العنوان: الأَلُوكَةُ الخَالِدَة
رقم المقالة: 1816
صاحب المقالة: أحمد حمودة
-----------------------------------------
يَنْتَكِئُ الجُرحُ القديمُ، ويَرْزَحُ القلب تحت همِّه المُضْنِي كلَّما شاهَدَ الهُوة تتَّسع، والقطيعةَ تَحْتَدُّ بين الأوائل والأواخر، لقد تَرَكَ لنا الأجداد تُراثًا بلغَنَا منه شيءٌ ليس بالقليل، فيه تمثيلٌ كافٍ لعلوم القوم وفِكْرهم، وتاريخهم، وحضارتهم، وفُنونهم، وصنائعهم، وسائر شؤون معاشهم.
هذا ما بقي لنا من إرث الجدِّ القديم بعدَ أن نازعَنا فيه كلُّ قاصٍ ودانٍ، وهو حظٌّ عظيم إنْ أَحْسَنَّا تَقبُّلَهُ والانتفاعَ به، وليس هذا موضِعَ القطيعةِ، ومحلَّ الاغتراب؛ بل ما نَعنِيه ونُومِئُ إليه هو اغتراب الرُّوح، وقطيعة الحِسّ والشعور.
إنَّ أكثرَ مُثَقَّفِينا - ومُثَقَّفُونا قليلٌ - يَقْرَؤُون للأجداد أو يَقْرَؤون عنهم، لكنَّ أحدًا لا يَقْرَأ رُوح الأجدادِ، أو يَحْيَا بحياتهم، ويَتَنَفَّسُ بأَنْفاسِهِمْ.
إنَّنا نَقْرَأ تُراث آبائنا قراءةً عَجِلَةً.. آليةً.. مُسطَّحَةً، تَلْمَسُ أَعْيُنُنا الزائغةَ فيها أطرافَ الكلام؛ فلا تَنْفُذُ إلى رُوحه، ولا يَنْفُذُ إلى أرواحها.
فَبَيْنَنَا وبين آثارِهم من جفاف الطَّبْعِ، وبَلادة الحِسِّ سَدٌّ مَنيع، وحجاب حاجز.
تَرَكَ لنا القوم كَنْزًا كبيرًا.. لم يَدْفِنُوهُ، ولم يَسْحَرُوهُ، أو يَرْصدوا له من الجِنِّ رَصَدًا. كَنْز مباح مفتوح؛ لكنه أَشْبَهُ شيءٍ بالمغلق الممنوع، إذ لا يراه ويَفْطِنُ لمكانه إلا مَن تَجَشَّم مَيْدانه، وألقى عليه جِرَانَه، فأخلصَ النَّظَرَ، وأَحْسَنَ الوِرْد والصَّدَرَ، وإلا فلن يُبْصِرَهُ ولو حَشَا عَيْنَيْهِ كُحْلاً، ولن يَعْقِلَهُ ولو حَكَّ بِيَافُوخِه السماء.(240/1)
لقد تَرَكَ لنا القومُ أَلُوكَةً تَشرح الأنساب، وتَصِلُ الأسباب، لو أَحْسَنَّا قراءتها، واستِكْنَاه شَفْرَتِها العَصِيَّة إلا على المخلَصِينَ، إنها أَلُوكَة تَحمل لنا ما لم تَحمله الكُتُب الماتِعَة، أو تَحْوِه الأسفارُ الطِّوَالُ.. تحمل لنا أرواح الآباء وأنفاسَهم وحياتهم.. تَحمل عواطِفَهم، وأمشاجَ مشاعِرِهم.. تَحمل زمانهم ومكانهم.. تحمل كل ذلك لتَضَعَهُ بين أيدينا كلَّهُ، فتَسْري به في وِجْدَاناتنا سَرَيانَ الشِّفَاءِ في الجسد العليل، وتتخلل به أرواحنا تَخَلُّل الحياة في الأرض المَوَات.
إنها الأَلُوكَة التي حَمَلَها إلينا إبداعُ العرب القديمُ قِدَمَ الرُّوح العربية.. الباقي بقاءها.
إنها ذلك الرُّوح المُبْهَم الغامض، والجميل كذلك.. ذلك الرُّوح الحميمُ الذي يُشْبِهُ السِّحْرَ.. يُشْبِهُ الأثير.. يُشبه ضحِكاتِ الأطفال، وحِكْمَةَ الكبار.. يُشْبه الحياة.
لقد قلتُ: إنَّ المثقَّفينَ يقرؤون للأوائل، وعن الأوائل؛ لكن أحدًا لن يَلْمَسَ جَذْوة النسَب العربيّ الأصيل دون قراءة أَلُوكَتِه الخالدة.. ذلك الميثاق المُؤكِّد على صدق النسب، واتصال السبب، وتَوَحُّد الرُّوح، ذلك التَّوحُّد الذي يُحِسُّهُ العاشِق حين يُفْضِي إليه المُنَخَّل بزَهْوِهِ:
وَأُحِبُّهَا وَتُحِبُّنِي = وَيُحِبُّ نَاقَتَهَا بَعِيرِي
أو يَهْجِسُ عَنْتَرَةُ:
وَلَقَدْ ذَكَرْتُكِ وَالرِّمَاحُ نَوَاهِلٌ مِنِّي وَبِيضُ الهِنْدِ تَقْطِرُ مِنْ دَمِي
ذلك التوحُّد الذي يَشعر به الثاكِل الباكي في نَجْوَى أبي ذُؤَيْبٍ:
أَمِنَ الْمَنُونِ وَرَيْبِهَا تَتَوَجَّعُ! وَالدَّهْرُ لَيْسَ بِمُعْتِبٍ مَنْ يَجْزَعُ
ذلك التوحُّد الذي يَبْجَح به مَنْ يَسْمَعُ ابنَ كُلْثوم:
إِذَا بَلَغَ الْفِطَامَ لَنَا رَضِيعٌ تَخِرُّ لَهُ الْجَبَابِرُ سَاجِدِينَا
ويَطْرَبُ له من يُشْجِيهِ بَشَّارٌ:(240/2)
لِخَدِّكَ مِنْ كَفَّيْكَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ إِلَى أَنْ تَرَى ضَوْءَ الصَّبَاحِ وِسَادُ
تَبِيتُ تُرَاعِي اللَّيْلَ تَرْجُو نَفَادَهُ وَلَيْسَ لِلَيْلِ العَاشِقِينَ نَفَادُ
ويَهْتَز مَن يُنْشِده المُتَنَبِّيِ:
أَزَالَتْ بِكَ الأَيَّامُ عَتْبِي كَأَنَّمَا بَنُوهَا لَهَا ذَنْبٌ وَأَنْتَ لَهَا عُذْرُ
ويَسْتَأْسِرُ معه لبذَخِ الفَرَزْدَقِ:
وَمَا حَمَلَتْ أُمُّ امْرِئٍ فِي ضُلُوعِهَا أَعَقَّ مِنَ الْجَانِي عَلَيْهَا هِجَائِيَا
ثم يُصْغِي لحكمة الدهر من أبي العلاء:
تَعَبٌ كُلُّهَا الْحَيَاةُ فَمَا أَعْ جَبُ إِلاَّ مِنْ رَاغِبٍ فِي ازْدِيَادِ
إنها تلك الأَلُوكَةُ التي يُحِسُّ رُوحها مَن يُظْلَم من وَجْهَيْن، فَيَضِجُّ مع الصوت الأول: "أحَشفًا وسُوءَ كِيلَة": ومَنْ يَبْذُلُ النُّصْحَ فلا يُجاب، إلا بعدَ الفَوْتِ فيُعَنِّفُ مَنْ "يَدَاهُ أَوْكَتَا وَفُوهُ نَفَخَ"، ومَن تُنْكَر تَجْرِبَتُه فتعْصِمُه "أتُعَلِّمُنِي بِضَبٍّ أنا حَرَشْتُهُ"، وتَغْمِطُهُ العَشِيرَةُ فيتذكَّر: "إذا عزَّ أخوك فهُنْ".
تلكَ هي الأَلُوكَةُ الخالدة التي تَجَاوَزَتْ إلينا عشراتِ القرون، وتخطَّت آلافَ الطَّفَرات والاختراعات؛ لتَتَمَثَّل لنا بكلِّ طريق، ولتشُدَّ على أيدينا في كل أزمة، ولِتُذَكِّرَنا دائمًا بالنَّسَب القديم، والرُّوح التي تَسْرِي في أعماقنا، والإصرار الدَّؤوب الذي حَمَلَتْهُ ملامحُ جَدٍّ قديم - وَسَمُوه بالمَلِكِ الضِّلِّيلِ - وهو يتجاوز التاريخ إلى المَجْد الكبير قبلَ سِتَّةَ عَشَرَ قَرْنًا.. وحيدًا مُثابرًا يُؤَسِّي نَفْسَهُ بأَلُوكَةٍ أُخْرَى تقول:
..... لا تَبْكِ عَيْنُكَ إِنَّمَا نُحَاوِلُ مُلْكًا أَوْ نَمُوتَ فَنُعْذَرَا
ويبقى الشعر:
وَتَسْرِي فِي عُرُوقِ الشِّعْرِ مِنْ أَفْوَاهِنَا رَحِمُ
حَنِينٌ مِنْ صَمِيمِ الْقَلْبِ يَحْدُو شَوْقَهُ كَلِمُ(240/3)
رَسُولٌ يَمْسَحُ الآلامَ عَنْ عَيْنِي وَيَبْتَسِمُ
فَمَا قَتَلُوكَ.. مَا صَلَبُوكَ.. فَلْيَنْهَضْ بِكَ الْقَلَمُ(240/4)
العنوان: الأم الصديقة.. هل ذهبت مع الريح؟!
رقم المقالة: 1704
صاحب المقالة: تحقيق: مجاهد مليجي وماجدة أبو المجد
-----------------------------------------
الخبراء:
• الأم التي تبوح بأسرار بنتها - ولو لزوجها - غير واعية وغير مدركة لقيمة الصداقة.
• الأم في البيت رادار له 6 أعين، تستشعر الخطر على الأولاد عامَّةً والبنات خاصة.
• ليس للبنات "خصوصية" وما يخفى إلا العلاقات المشبوهة أو المخدرات.
• بناتنا يواجهن ضغوطًا كثيرة ويجب ألا تكون الأم أحد هذه الضغوط.
البنات:
• دعاء: هناك أزمة ثقة بين الأمهات وبين البنات، وبعض الأمهات عصبيات وغائبات.
• سهيلة: يجب أن يكون للبنت خصوصية، لكن لا تخجل منها إذا علمها أحد.
• لينا: أمي عصبية لذا اتخذت من أبي خزينة لأسراري.
• مها: نبوح بأسرارنا لصديقاتنا لأنهن لا يقلن: هذا عيب أو حرام أو خطأ.
• • • • •
العلاقة بين الأمهات وبناتهن ومدى حفاظ الأم على أسرار ابنتها أصبحت موضوعًا للجدل، بعض الفتيات يرين أن هناك أمهات لا يصلحن للقيام بدور الصديقة، وأخريات يرين أن الأمهات أصبحن غير مهتمات بمسألة الصداقة مع بناتهن، وفئة ثالثة ترى أن الخالة أو الصديقة أقرب من الأم، وقد يقوم الأب بهذا الدور بطريقة أفضل.
فهل هناك أزْمَةُ ثِقةٍ بَيْنَ البَنَاتِ وأُمَّهاتِهِنَّ؟ ومن يردم تلك الفجوة بينهما؟
الفتيات يتحدثن:
تقول مها - جامعية -: لم تعد الأم اليوم خزينة أسرار ابنتها كما كانت في السابق، إلا في حالات نادرة جدًّا؛ لأن بنات اليوم يُفَضِّلْنَ أن يبُحن بأسرارهن لصديقاتِهن، اللائي يسايرنَهُنَّ في التفكير، واللائي لا يقلن: هذا عيب أو حرام أو خطأ.
على المستوى الشخصي لا أخفي أسراري عن أمي، فأنا بالنسبة لها كتاب مفتوح، ولا يمكن أن أخفي عنها شيئًا من أسراري، حتى أَدَقّ خصوصياتي أبوح لها بها.(241/1)
هذه الصراحة لا تجعلني أتعدَّى على حقوق زميلاتي وصديقاتي وأفشي أسرارهن لأمي؛ فهذه خطوطٌ حمراءُ لا أسمح لنفسي بتخطّيها،كما لا أسمح لأمي بالاقتراب منها.
أرفض أن تبوح أمي لأبي بأسراري إلا في أضيق الحدود، وفيما يخص حياتي المستقبلية فقط؛ حيث يكون من الطبيعي أن يتدخَّل الأب, كما أنه من المخجل بالنسبة لي أن أشعر بأن أبي علم من أسراري الخاصة شيئًا عن طريق والدتي وقد يمنعني ذلك من مصارحتها بعد ذلك.
صندوق مغلق:
وعلى العكس من مها، تؤكد أسماء عبد الرؤوف - طالبة بالمرحلة الثانوية - أنها كتومة جدًّا جدًّا، وإن خزانة أسرارها مغلقة باستمرار، ولا تسمح لأحد بفتحها نهائيًّا حتى أقرب الناس إليها، سواء كانت أمها أو أختها أو صديقاتها, فهي صندوق مغلق على نفسه، كما أنها ترى أن حفاظ الإنسان على أسراره أفضل له من أن يشاركه أحد فيها، وتقول: إنها قد وصلت لهذه القناعة بعد تجارب كثيرة؛ حيث كانت تعتبر خالَتَها سرَّها الوحيد، وتحكي لها عن أسرارها ومشاكلها، لكن في أضيق الحدود عندما تجد نفسها تحتاج إلى مشورة أحد، فكانت خالتها هي الإنسان القريب لها جدًّا.
أما دعاء - جامعية - فتؤكد أنَّ هناك أزمة ثِقَةٍ بَيْنَ الأُمَّهاتِ وبناتِهنَّ واضحةً جدًّا؛ فالبنات من وجهة نظرها لا يتخذن من الأم صديقة، بل يتخذن من صديقاتهن خزينة لأسرارهنَّ؛ لأنَّ بعض الأمهات يُقَيِّمْن تصرفات بناتهن ويحاصرْنَهن، مما يجعلهن يلجأن إلى الصديقات، الأمر الذي قد يدفعهن إلى الوقوع في ارتكاب تصرفات خاطئة، ويكون غياب الأم من حياة ابنتها أول الطريق إلى الضياع.
أبي خزينة أسراري:(241/2)
لأنَّ أمَّها عصبيَّةٌ وقلقة وغير هادئة؛ فإن لينا - طالبة ثانوي - تتَّخِذُ من أبيها خزينة لأسرارها,وترى أنَّ البناتِ اللاَّئي يُخْفِين أسرارهن عن الأسرة يفعلن ذلك لأنها تتضمن علاقاتٍ غيرَ مشروعة، أو علاقاتٍ عاطفية، إذا علم الأهل بها فلن يُرَحِّبوا, وترى أن صداقة الأبناء للآباء تبدأ منذ الصغر؛ لأنها لو بدأت بعد المراهقة فإنها لا تُجْدي، لذلك تجد البنات في الأهل الصديق الصدوق النافع، سواء كان الأب أو الأم، فإنه أفضل مئات المرات من تكوين علاقة صداقة مع غيرهم، سواء أصدقاء العمل أو الدراسة أو حتى الجيران.
وتقول فاطمة - طالبة ثانوي -: إنَّ عمل أمها أدَّى إلى قطيعة بينهما، لكنها لم تفتقد عنصر الصداقة مع أفراد البيت؛حيثُ هِيَ قريبة جدًّا من أختها الصغرى - عام واحد - وبحكم السن هما قريبتان جدًّا من بعضهما.
أما رقية - جامعية -فتقول: عودتنا أمي على الصراحة مهما كانت الأمور، ومهما كانت العواقب, وهذا دفعني لأن أصارحها بكل كبيرة وصغيرة، تافهة أو ذات قيمة.
وتقول سهيلة - جامعية -: إنَّ أباها وأمها عوداها هي وإخوتها على الصراحة، وفن الحكي، فكانت الأم تسمع لهم وهم أطفال عمَّا حدث لهم ومعهم ومنهم خلال اليوم الدراسي، لدرجة إصرارهم على عدم تغيير ملابس المدرسة إلا بعد تفريغ خزائنهم المليئة بالقصص وعلاقات الزملاء، فبات هذا طبعهم أولادًا وبناتًا، وبعد أن صاروا كبارًا بالجامعة ظلَّ هذا طبعًا أصيلاً فيهم, لكنَّها مع ذلك ترى أنه يجب أن يكون للبنت خصوصية بعيدًا عن أمها، وهذه الخصوصية لا تخجل منها إذا علمها أحد، وتؤمن سهيلة ببيت من الشعر يقول:
إِذَا ضَاقَ صَدْرُ المَرْءِ عَن سِرِّ نَفْسِهِ فَصَدْرُ الَّذِي يُسْتَوْدَعُ السِّرَّ أَضْيَقُ
لأن من لا يستطيع أن يحفظ سره فلن يطلب من أحد أن يحافظ له عليه؛ لذلك فالأم هي أفضل من يحافظ على سر أبنائها؛ لأنها تخاف عليهم وعلى حالهم.
رأي الأمهات:(241/3)
انتقلنا لاستخلاص تجارب وآراء الكبار فتقول كريمة فرغلي - أم وجدة -: أمَّهات زمان كُنَّ مختلفات عن أمهات اليوم كثيرًا؛ نظرًا لاختلاف الظروف والأحوال بوجه عام؛ فالأم قديمًا لم تكن تبوح لابنتها ولم تكن ابنتها تبوح لها نوعًا من الحياء والخجل، وكنت - وأنا بنت - ومثيلاتي من الفتيات كنَّا نعاني نوعًا من القطيعة بيننا وبين أمهاتنا لأسباب ثقافية واجتماعية وتربوية، وكذلك عدم التواصل ووجود حاجز نفسي واجتماعي بيننا وبين أمهاتنا، أما الآن فالوضع اختلف كثيرًا واتجه نحو الأفضل، فأصبحت الأم تشعر بنوع من القرب بينها وبين ابنتها وكذلك البنت.
وأوضحت أنَّ عدم بوح البنت لأمها اليوم لا يعني أن تتركها وشأنها وتثق فيها ثقة عمياء؛ بل لابد أن تُفَتِّش وراءها، فبعض العلماء أباحوا للآباء والأمهات مُراقَبَةَ أبنائهم، وفتح حقائبهم الشخصيَّة خِلسة، ليس لاكتشاف أنَّ ابنتهم أوِ ابْنَهم على علاقة عاطفية فحسب، بل لانتشار التعاطي بين الشباب ولاكتشاف ذلك مبكرًا.
نصيحتي للأم أن يكون لديها 6 عيون وليس عينان لتحمي أولادها من المخاطر، ولابد أن تراقبهم باستمرار دون أن يعرفوا ذلك، وأن تتقرَّب وتتودَّد إليهم، وتشعرهم بالأمان والثقة في أنفسهم وفيها، ويجب أن تتحرر الأم من مقولة: "خصوصية البنات"؛ لأنَّ البناتِ في سنّ المراهقة ليس لهنَّ خصوصية؛ فيجب على الأسرة أن تعرف عن أولادها كل شيء وكل صغيرة وكبيرة.
الأم الصديقة:(241/4)
الأستاذة عواطف العبيد - مسؤولة لجنة الناشئة باللجنة النسائية للندوة العالمية للشباب الإسلامي - تؤكد هذا الكلام؛ فتقول: العلاقة بين الأم وابنتها اختلفت كثيرًا عن زمان؛ حيث كانت أغلب الأمهات غير متعلمات، ولهن اهتمامات محدودة؛ مما صنع فجوة بينهُنَّ وبين بناتِهن، وقد كانت البنت تواجه الكثير في المدرسة مع معلماتها ومع زميلاتها والأم لا تدري، أما الآن فالأم أصبحتْ أكثر تعليمًا وأكثر وَعْيًا، وأكثرَ قراءةً ودرايةً بما يدور في عالم الفتيات، فالتعليم ووسائل الإعلام اليوم كشفتِ المستور وفتحت المغلق، فتعلمت الأم كيف تتقرَّبُ منِ ابنتها، وأصبحتْ أكثرَ حِرْصًا على مصادقتها حتى لا تبحث عن الصداقة بعيدًا، حيث المشاكل والأخطار.
وإنْ كان هُناكَ بَعْضُ الأُمَّهات اللاَّتي انْشَغَلْنَبِتَحصيل العلم والعمل عن تربية بناتهن ومصادقتهن - فإنَّ عِلْمَهُنَّ لم يُفِدْهُنَّ في شيء، والأفضل أن يُحسِنَّ رعاية بناتهنَّ ويتذكرن ((كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)).
ولكن على الرغم من التقارب الحاصل بين الأم وابنتها حاليًا؛ إلا أنه ما زالت أسرار البنت تذهب إلى الصديقة؛ حيث يبقى عامل السن هو الأهم في نظر البنت، فهي تريد من يفهمها ويوافقها لا من يُقَومها ويوجهها، كما أنها تخشى اللوم والعتاب والتوبيخ، لكن الأم يمكنها مصادقة ابنتها من خلال التقرُّب منها والمصارحة معها، والاستماع أوَّلاً ثم إقناعها بالحل الأمثل الذي ينبع من داخلها وباقتناعها، فهي التي تُقَرِّرُه بنفسها عن طريق مناقشتها واستخراج الحَلّ من فمها.
وترى الأستاذة عواطف أنَّ الأُمَّ الصديقةَ لابُدَّ أن تتَّصف بعدة صفات من أهمها: أن تكون قدوة حسنة لابنتها في الخلق والسلوك وضبط النفس، وفي الالتزام بالعبادات والمعاملات؛ فالقُدوةُ الحسنة أمام الابنة هي خير الوسائل لإيجاد تربية مُتَوازِنَةٍ لِلفتيات.(241/5)
كما ينبغي أن تكون لدى الأم القدرة على اختزال الزمن، فلابد أن تفكر بطريقة ابنتها وتحترم زمنها وتطلعاتها وطموحاتها وأفكارها وأسرارها.
وعلى الأمّ ألا تكون رفيقةَ سُوء لابنتها؛ فلا تَسْمَحْ لها بأشياء غير شرعية أو أخلاقية من باب الصداقة ولا تسمح لها بالخطأ وتخفي عنها، فمن شأن ذلك أن يؤذي البنت؛ لذا من المهم أن تضع الأم قواعدَ شرعية وأخلاقية للمصاحبة والصداقة بينها وبين ابنتها، وأن تتصف بالرحمة والرفق واللين في توازن، فأفضل السبل أن تكون الأم صديقة لابنتها، وتحيا معها حياة فيها ملاطفة ومعايشة وحب دون إفراط ولا تفريط، فلا قسوة تُرْهِبُ الابنة من الحديث مع أمها، ولا تدليل زائد يميع الابنة ويفسدها.
وأخيرًا أُوصي كل أم أن تستمع وتحسن الإنصات لابنتها وترحمها؛ فبناتنا يعشن زمانًا غير زماننا، ويواجِهْنَ ضغوطًا كثيرة ولا يجب أن نكون أحد هذه الضغوط التي ترهقهن.
الدراما سبب:
يرجع الدكتور حاتم آدم - استشاري الصّحَّة النفسية - ظاهرة اختفاء الأم الصديقة في الكثير من الأسر إلى دور الإعلام السلبي، والدّراما التي تستهجن محاولة تدخل الأم في خصوصية بناتها، وتعتبره سلوكًا مرفوضًا من جانب البنات أنفسهن, والتركيز على ضرورة وجود صديق لكل بنت، وإلا كانت رجعيَّة ومتخلِّفة؛ فـ"البوي فرند" في إعلامنا مظهر من المظاهر التي يجب ألا تتخلَّى عنه البنات، بالإضافة إلى ضرورة إخفاء هذه العلاقة عن الأهل واعتبار أن البنت التي ليس لها "بوي فرند" بنت متخلفة، ولا يجب أن تسير مع الشلة، لدرجة بات معها الفساد منتشرًا في الأعمار الصغيرة منذ بداية المرحلة المتوسطة إن لم يكن قبلها بقليل.(241/6)
وأضاف: إنَّ للتَّربية دورًا خطيرًا في السَّماح للبنات والأولاد بتبادُل أرقام الهواتف والعناوين البريدية، وتبادُل الأحاديث في المساء ولأوقات متأخّرة عبر الهاتف والنت، مما أدَّى إلى اعتياد البنات على الجُرأة، وإخفاء ذلك على الأهل الذين يبذلون جهدًا كبيرًا طوال اليوم في كسب الرزق، وينشغلون عن مراقبة أو متابعة أولادهم.
واعتبر الدكتور حاتم أن جرأة البنات، وعدم تورُّعِهن، وعدم خشيتهن لله، وانفتاح العلاقة بينهن وبين الأولاد حالَ غياب الأهل عن هذه العلاقة تُعَدّ مُقَدّمات لِلزِّنا؛ لأنَّ البناتِ اللاَّئي يَسِرْن بطريقة سليمة ليس فيها ما يَشينُهن فإننا نجد أسرارهن مع أمهاتهن أو آبائهن، ولا يكون هناك خوفٌ من فضح مستور أو كشف أسرار، أمَّا ما يخفى فكثير ما يكون سلبيًا كالعلاقات المشبوهة والمخدرات.
وأوضح الدكتور آدم أنَّ من الأخطاء الشائعة عدمَ البوح للأمهات لأنهن من أجيال أقدم من أجيال بناتهن، وهذا علميًّا ونفسيًّا غير صحيح؛ لأنَّ نفس تغيّرات المجتمع تسري على الاثنين - الأم والبنت - فالأم مرت بكل ما تمر به البنت، كما أن اعتبار وجود فجوة بين الأجيال هي التي تحول بين التواصل بين البنات والأمهات، والركون إلى ذلك أمر خطير ومبالغ فيه أيضًا؛ لأنه لا يعني أن نترك ديننا حتى نصبح متحضّرين أو متمدّنين.
ويعتبر د. حاتم أن البنت الآمنة التي بينها وبين أمها علاقة صداقة مفتوحة ليس بها أي حدود أو حواجز فعلاقتهما "أوبن دور" أما ما بينها وبين أبيها فقد تحدّه بعض الخصوصيَّات الخاصَّة بطبيعة الخصائص الفسيولوجية للبنات.
إنَّ الأُمَّ التي تسمح لنفسها أن تبوح بأسرار ابنتها - حتى ولو كان للبنت أمٌّ غير واعية وغير مدركة لقيمة الصداقة بينها وبين ابنتها - فهي بذلك تفقد ابنتها الثقة فيها، وتكتب بيدها آخر سطور علاقة الصداقة بينهما.
فراسة الأمومة:(241/7)
الدكتورة آمنة نصير - عميدة كلية الدراسات الإسلامية - ترى أن طبيعة البنات منذ الأزَل أن يكون لهن أسرار مشروعة، وأن يَحْفظنَها عن أعين الناس، ولم يكن هذا يمنع إنشاء علاقة صداقة بين الأم وبناتها، أمَّا الآن فقد انشغلتِ الأُمُّ والزوجة بأمور كثيرة جدًّا ونتج عن هذا أن أصبح إشرافها على تربية الأولاد في ذيل قائمة الاهتمامات.
ودعت د. آمنة الأمهات في بلادنا العربية والإسلامية أن تعود إلى فطرتها الأولى التي أفسدتها بالانشغال بالصديقات والذهاب للنوادي والأسواق، وغيرها من الأمور التي أبعدتها عن بيتها وأولادها ففقدت "فراسة الأمومة"، ولم تعُدْ كالرادار الذي يستشعر الخطر الذي سيلحق بالأولاد بصفة عامة والبنات خاصَّة.
إذا كانت الأم قد فسدت فطرتها وتنازلت عن دورها، فماذا عسى البنات أن يفعلن غير اللجوء للصديقات، والبوح لهن بأسرارهن ومشكلاتهن التعليمية والعاطفية والمعيشية وغيرها، ويتعرَّضن للوقوع في المصائب والأخطاء بسبب غياب الأم؟
وتوصِي الدكتورة آمنة الأُمَّهات بتجنُّب كَثْرَةِ اللَّوْمِ والعِتاب وإظهار العيوب للابنة فتقول: على الأُمّ مراعاةُ الحِكْمة في توجيه الابْنة، والتنويع هو مسلك الناجحين، وتحيُّن الأوقات المناسبة بما يحتاجه الموقف والظروف والحالة النفسية للابنة الحبيبة.
والأُمّ الصديقة تكون سببًا في صلاح ابْنَتِها، بالدعاء لها لا عليها كما فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - فدعا للأطفال؛ فبارك الله في مستقبلهم بالعمل والمال والولد؛ فعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: ((ضمَّني النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى صدره وقال: اللهم علمه الحكمة))؛ أخرجه البخاري, وبفضل دعوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصبح ابنُ عبَّاس في كِبَرِه حبر الأمة، وترجمان القرآن.(241/8)
فالدعاء للابنة أمامها يكون سببًا للتواصل والقرب بينها وبين الأم، إلى جانب الراحة النفسية بشعورها أنَّ أمَّها تحبُّها، وتدعو لها وهذا له أثر رائع تلمسه الأم والابنة.
لكل أم:
كم من الوقت خصَّصْتِ لرعاية ابنتِكِ ومصاحبتها والاستماع إليها وتوجيهها؟
عندما تهتمين بابنتك وتستمعين لها قبل أن يسمع لها غيرك ستفهمين ما يشغلها وتدركين حاجاتها, فهي في أمسّ الحاجة إلى من يفتح لها صدره ويصغي إليها ويحاورها ويناقشها باحترام، ويعطيها الفرصة للتحدث والتعبير عما تشعر به، وهي أحوج ما تكون إلى اهتمامك ومحبتك، والتعاطف يعطيها الإحساس بالأمن والطمأنينة والسعادة.
تذكري أن مرحلة المراهقة من أصعب مراحل النمو على النشء، وأشدِّها تأثيرًا على حياتِه مُستقبلاً، وأكثرها عناءً وجهدًا بالنسبة للمُرَبّين والآباء والأمهات، وفيها تجتمع على المراهق عوامل متعددة مثل التغيرات في الجسم والغدد والطول والوزن والإحساس بالبلوغ، وأيضًا التكليف الرباني لها.
فلا تكوني من العوامل التي تجتمع على ابنتك المراهقة بعدم تفهُّمك لها فالمصاحبة توجيه ومرافقة ومحبة، المصاحبة تزيل الحواجز وتقرّب بين الأمهات وبناتهن، فلا يشعرن بأي حرج من أن يستشرن أمهاتهن فيما يعرض لهن من أمور.
المصاحبة تكشف للأهل قدراتِ الأبناء الحقيقية ودرجة نُضْجِهم العقلي والنفسي، وتقي أبناءنا من الأمراض النفسيَّة والمشكلات الانحرافية، ومن هنا تحقق لهم الصحة النفسية والتوازن الأخلاقي.(241/9)
العنوان: الإمام البخاري وكتابه "الصحيح"
رقم المقالة: 1400
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَنْ يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]، {يَا أَيُّهَا النَّاس اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70-71].
أما بعد:
فإن التاريخ حفظ رجالاً من أهل الإسلام، لا يمكن زوالُ ذكرِهم إلا بزوال الإسلام، ولن يزول الإسلام إلى قيام الساعة. إنهم حمَلَة هذا الدِّين وناقلوه إلى الناس، عبر هذه القرون الطوال.
هذا أحدهم: كان نحيف الجسم، وليس بالطويل ولا القصير[1]، من علماء القرن الثالث الهجري، ذاق اليُتْم كما هي سُنَّة أكثر العظماء، وعاش في كَنَف والدته[2]. وكانت الكتاتيب بوابة بروزه وشهرته وإمامته.
سيرته من أعجب العجب في ذكائه وحفظه وفقهه، في عبادته وزهده وورعه، ذلكم هو أمير المؤمنين في الحديث؛ أبو عبدالله محمد بن إسماعيل الجُعْفي مولاهم البخاري، - رحمه الله تعالى - ورضيَ عنه.(242/1)
أُلهم حفظ الحديث وهو في الكُتَّاب وعمره عشر سنوات، وكان يصحِّح للشيخ خطأه في الإسناد وهو ابنُ إحدى عشرة سنة، وحفظ كتب العلماء الكبار وهو ابن ست عشرة سنة، ثم حجَّ مع والدته وجاور بمكة لطلب الحديث.
بدأ تصنيف بعض كتبه وهو ابن ثمان عشرة سنة[3]، والكتب التي كتبها وهو في هذه السنِّ المبكِّرة يقوم على دراستها عشرات من كبار الدارسين في هذا العصر لنَيْل درجات علمية عالية، وما يفونها حقَّها، أليس هذا عجبًا؟! ثم انظروا إلى اهتمامات أبناء الحادية عشرة والسادسة عشرة وأبناء العشرين!!
وأعجب من ذلك: أنه كان يصاحب أقرانه إلى المشايخ لأخذ الحديث، وهم يكتبون وهو لا يكتب، ويأمرونه بالكتابة فلا يكتب، فلما ألحُّوا عليه؛ قرأ عليهم ما كتبوه عن ظهر قلب، فزاد على خمسة عشر ألف حديث! ثم قال لهم: "أترون أني أختلف هَدْرًا وأضيِّع أيامي"؟![4].
لقد كان أهلُ المعرفة من البصريين يَعْدُون خلفه في طلب الحديث وهو شابٌّ، حتى يغلبوه على نفسه، ويُجلِسوه في بعض الطريق؛ فيجتمع عليه ألوفٌ، أكثرهم ممَّن يُكْتَبُ عنه، وكان شابًّا لم يخرج شَعْرُ وجهه بعد[5]!
قدم بغداد، وقد كان أئمة الحديث فيها يسمعون عن قوَّة حفظه؛ فأرادوا امتحانه، فعمدوا إلى عشرة من حفَّاظهم، مع كلِّ واحدٍ عشرةُ أحاديث قلَّبوا أسانيدها وخلَّطوها، فأخذوا يلقونها على البخاري حديثًا حديثًا، وهو يقول: لا أعرف هذا الحديث؛ حتى أنهوا المائة حديث، ثم أعاد عليهم المائة حديث بخطئهم، ثم أعادها مرة أخرى مصحَّحة؛ فأقرُّوا له بالحفظ، وأذعنوا له بالفضل[6]. قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله تعالى -: "هنا يُخْضَعُ للبخاري، فما العجب من ردِّه الخطأ إلى الصواب، فإنه كان حافظًا؛ بل العجب من حفظه للخطأ على ترتيب ما ألقوه عليه من مرَّةٍ واحدةٍ"[7].(242/2)
قال أبو بكر الكَلْواذاني: "ما رأيتُ مثل محمد بن إسماعيل؛ كان يأخذ الكتاب من العلم فيطلع عليه اطِّلاعَةً، فيحفظ عامَّة أطراف الأحاديث من مرَّة واحدة))[8].
انضمَّ إلى هذا الحفظ العجيب اهتمامٌ بالغ بالحديث يشغله عن النوم كثيرًا؛ قال محمد بن يوسف: "كنتُ مع البخاري بمنزله ذات ليلة، فأحصيتُ عليه أنه قام وأسرج؛ يستذكر أشياء يعلِّقها في ليلةٍ ثماني عشرة مرة"![9].
وكان ثمرةُ هذا الحرص وتلك الحافظة رصيدًا كثيرًا من الأحاديث، بلغ أكثر من ستمائة ألف حديث، بين مقبول ومردود، يختزنها البخاري في ذاكرته، بأسانيدها وفوائدها وعللها.
ولقد رآه غير واحد في المنام يمشي خلف النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - كلما رفع النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم – قدمه؛ وضع أبو عبدالله قدمه في ذلك الموضع؛ وتلك كرامةٌ في التأسِّي والاقتفاء[10]. بل إن البخاري رأى النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - في المنام؛ قال يصف تلك الرؤيا: "وكأنني واقفٌ بين يَدَيْه، وبيدي مروحة أذبُّ بها عنه، فسألتُ بعض المعبِّرين؛ فقال لي: أنت تذبُّ عنه الكذب؛ فهو الذي حملني على إخراج الجامع الصحيح"[11].
وقال: "كنا عند إسحاق بن رَاهَوَيْه، فقال: لو جمعتم كتابًا مختصرًا لصحيح سنَّة رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم! قال: فوقع ذلك في قلبي؛ فأخذتُ في جمع الجامع الصحيح"[12].
كانت رؤياه وقولُ شيخه حافزًا على جَمْعِه "الصحيح"، الذي لا يوجد على وجه الأرض كتابٌ أصحُّ منه إلا كتابُ الله تعالى. وما كان ذلك إلا توفيقًا من الله تعالى، وكَرَمًا منه لهذا الإمام العظيم، ثم تحرِّي هذا الإمام ودقَّته، وكثرة استخارته؛ حتى خرج كتابه على أحسن وجه. يقول - رحمه الله تعالى -: "ما وضعتُ في كتاب "الصحيح" حديثًا إلاَّ اغتسلت قبل ذلك وصليتُ ركعتين"![13]. ويقول: "صنَّفْتُ "الجامع" من ستمائة ألف حديث، في ست عشرة سنة، وجعلته حُجَّةٌ فيما بيني وبين الله"[14].(242/3)
ابتدأ تصنيفه وترتيبه وتبويبه في المسجد الحرام[15]، وحوَّل تراجمه في الرَّوضة الشريفة في مسجد رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وكان يصلِّي لكلِّ ترجمةٍ ركعتَيْن[16]، ويدلُّ هذا على تعظيمه لحديث رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - لأنه كان يرى أن الاشتغال بالحديث من أعظم ما يقرِّب إلى الله تعالى، حتى كأنَّ المشتغِل بالحديث مُجالس لرسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وصَحْبه الكرام.
قال تلميذه الفِرَبْرِيُّ: "أملى يومًا عليَّ حديثًا كثيرًا، فخاف مَلالي؛ فقال: طِبْ نفسًا؛ فإن أهل الملاهي في ملاهيهم، وأهل الصناعات في صناعتهم، والتجار في تجاراتهم، وأنت مع النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأصحابه"[17].
بعلمه وعمله، واتِّباعه للسُّنة وإخلاصه - بلغ صِيتُه آلافاق، وأثنى عليه العلماء؛ حتى قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله تعالى -: "ولو فتحتُ بابَ ثناء الأئمة عليه، ممَّن تأخَّر عن عصره؛ لفني القِرْطاس، ونفدت الأنفاس؛ فذاك بحرٌ لا ساحل له"[18].
ونقل عن قتيبة بن سعيد قوله: "جالستُ الفقهاءَ والزهَّاد والعبَّاد، فما رأيتُ منذ عقلتُ مثلَ محمدٍ بن إسماعيل، وهو في زمانه كعمر في الصحابة"[19]، وقال: "لو كان محمد في الصحابة لكان آية"[20].
وبلغ من محبَّتهم للبخاري ما قاله يحيى بنُ جعفرٍ البِيكَنْدِي: "لو قدرتُ أن أزيد في عمر محمد بن إسماعيل من عمري لفعلت؛ فإن موتي يكون موت رجلٍ واحدٍ، وموته ذهابُ العلم"[21].
ومع علمه وحفظه كان آيةً في العبادة، لم يشغله الحديث عن القرآن؛ إذ كان يختم في كل يوم من رمضان ختمة[22]، ويصلي في آخر الليل ثلاث عشرة ركعة[23].
وكان فيه خشوعٌ عجيبٌ؛ قام يصلِّي يومًا، فلسعه زنبورٌ سبع عشرة مرة، حتى تورَّم جسدُه، ولم يقطع صلاته حتى أتمها! فقالوا له في ذلك؛ فقال: "كنتُ في سورةٍ، فأحببت أن أُتِمَّها"[24].(242/4)
وكان فيه من الورع والتقوى ما يدعو للدهشة والإعجاب، ويكفي في ذلك قوله: "إني لأرجو أن ألقى الله ولا يحاسبني أنِّي اغتبتُ أحدًا"[25].
ومن دقيق محاسبته لنفسه في ذلك، أنه قال يومًا لأبي معشر الضرير: "اجعلني في حلٍّ يا أبا معشر. فقال: من أيِّ شيءٍ؟ قال: رويتُ يومًا حديثًا، فنظرت إليكَ وقد أعجبتَ به، وأنت تحرِّك رأسَك ويدَك؛ فتبسَّمتُ من ذلك. قال: أنت في حلٍّ، رحمك الله يا أبا عبدالله"[26].
وبلغ من شدَّة وَرَعِه، أن ابنه أرسل إليه بضاعةً، فطلبها بعض التجار بربح خمسة آلاف درهم؛ فقال: "انصرفوا الليلة؛ فجاءه من الغد تجارٌ آخَرون، وطلبوها بربح عشرة آلاف؛ فقال: إني نويتُ أن أبيعها للذين أتوا البارحة، ولا أحبُّ أن أغيِّر نيَّتي"[27].
وقد ورث من أبيه مالاً جليلاً، وكان يدفعه إلى بعض مَنْ يتاجر به مضاربةً، وكان منهم من أخذ خمسة وعشرين ألفًا ولم يُرْجِعْ إليه شيئًا؛ فقيل للبخاري: "استعنْ بكتاب الوالي عليه؛ حتى يُعيد إليك مالَكَ. فقال رحمه الله: إن أخذتُ منهم كتابًا طمعوا، ولن أبيع ديني بدنياي". ثم صالح غريمه على أن يعطيه كلَّ شهرٍ عشرة دراهم، وذهب ذلك المال كله[28].
وأرسل إليه أحد الولاة أن يأتيه بكتابَيْه: "الصحيح" و"التاريخ"؛ حتى يسمعهما منه؛ فقال لرسول الوالي: "أنا لا أذلُّ العلم، ولا أحمله إلى أبواب الناس؛ فإن كانت لكَ إلى شيءٍ منه حاجة؛ فاحضر في مسجدي أو في داري ..."[29].
فصار ذلك سببَ وَحْشَةٍ بينه وبين الوالي، مع سعي الوشاة بينهما؛ فنفاه عن البلد، فدعا عليهم - وكان مُجابَ الدَّعوة - وقال: "اللهم أَرِهِمْ ما قصدوني به في أنفسهم وأولادهم وأهاليهم". قال الرُّواة: "فما مضى على دعوته شهرٌ؛ حتى صار عاقبة الوالي إلى العزل والذُّل، ثم الحبس، ومَنْ سعى فيه ابتُلِيَ في أهله، حتى رأى فيهم ما يجلُّ عن الوصف، وآخَر ابتُلِيَ في أولاده بالبلايا"[30].(242/5)
توفِّي - رحمه الله تعالى - ليلة عيد الفطر، سنة ستٍّ وخمسين ومائتين، وعمره اثنتين وستين سنة[31]. وبوفاته - رحمه الله تعالى - طويت صفحةٌ من صفحات العلماء العاملين؛ لكن ضوءها لم يخفت؛ بل ظل يضيء الطريق للسائرين، غُرَّةً في جبين تاريخ المسلمين ورجاله الأفذاذ. ولو لم يكن من ضوئها إلا كتابُه "الصحيح"؛ لأضاء ما بين الخافقَيْن، وكان شاهدًا له إلى يوم الدين.
قال الطواويسي: "رأيتُ النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - في النوم، ومعه جماعة من أصحابه، وهو واقفٌ في موضع؛ فسلمت عليه، فردَّ عليَّ السلام، فقلتُ: ما وقوفكَ يا رسول الله؟ قال: أنتظر محمد بن إسماعيل البخاري. فلما كان بعد أيام؛ بلغني موته؛ فنظرتُ فإذا قد مات في الساعة التي رأيتُ النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - فيها"[32].
رحمه الله تعالى رحمةً واسعةً، ورضيَ عنه، وجمعنا به في دار كرامته، ونفعنا بما نقول ونسمع، وأقول ماتسمعون، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله، حمدًا طيبًا كثيرًا مباركًا فيه، كما يحبُّ ربنا ويرضى، أحمده وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه، ومَنِ اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله تعالى - عباد الله - فبالتقوى يُنال العلم والعمل: {وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 282].
أيها المؤمنون:
سيرة الإمام البخاري تتحدث عن دروسها، فهي من الوضوح بما لا مزيد عليه؛ ولكن اللاَّفت للنَّظر: أنَّ هذا الإمام الذي خدم السنة والإسلام لم تكن معرفةُ أجداده بالإسلام إلا قريبًا من ولادته؛ إذ إنَّ جدَّ أبيه المغيرة كان فارسيًّا على دين قومه[33]، عرف الإسلام فأسلم، فكان من عقِبِه هذا الإمام الكبير!!(242/6)
ومَنْ دخل الإسلام عن قناعة ليس كمن ورثه أبًا عن جدٍّ، كما هو حال كثير من المسلمين، الذين لا يعرفون من الإسلام إلا أنهم ورثوه عن الآباء والأجداد. أمَّا تناديهم؛ فعلى القومية والوطنية التي فرَّقوا بها بين المسلمين.
هذا البخاريُّ الذي عَرَفَته جميع الآفاق، وكتابُه أصحُّ كتابٍ بعد كتاب الله تعالى، ليس عربيًّا؛ بل أعجميُّ الأصل والبلد؛ فالعبرة ليست بعروبة النشأة واللِّسان؛ ولكنها بالدين الصحيح قولاً وعملاً، وليس ميراثًا وتسمِّيًا.
ووصول البخاري إلى هذه المنزلة من العلم والعمل، والحفظ والفقه، والورع والعبادة، والزهد والقوَّة، مع شهرةٍ واسعة، وقَبُول في الأرض، يطرح سؤالاً مهمًّا: ما الذي بلغ به هذه المنزلة؟!
إن الذي أوصله إلى ذلك المكان الرفيع - مع ما ذُكِرَ من شمائله - صلاحَ أبويه، فأمُّه كانت كثيرة العبادة والدعاء، وقد أكرمها الله وابنها بكرامةٍ عجيبة؛ ذلك أن ابنها محمدًا ذهبت عيناه في صغره، فرأت والدته الخليلَ ابراهيمَ في المنام؛ فقال لها: "يا هذه، قد ردَّ الله على ابنكِ بصَره بكثرة دعائكِ. فأصبح وقد رَدَّ الله عليه بصره"[34]. وأما أبوه؛ فمعدودٌ في العلماء الوَرِعين.
فصلاح الأبوَيْن له أثره على الذُّرِّيَّة، وهو سبب الصلاح والتوفيق، وقد حفظ الله مال اليتيمَيْن بصلاح أبيهما: {وَأَمَّا الجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي المَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [الكهف: 82].(242/7)
والدَّرس المهمُّ في سيرة هذا الإمام: التورُّع عن الشبهات، والبُعْد عن الحرام. ووالدُ البخاري كان أيضًا متورِّعًا عن الحرام. وجميع ما خلَّفه لأهله كان مالاً حلالاً، لا شبهة فيه ولا حرام؛ فقد قال عند موته: "لا أعلم من مالي درهمًا من حرام، ولا درهمًا من شبهة"[35]. فكان بناءُ جسد ابنه من خالص الحلال؛ فاستحقَّ أن يكون إمامًا.
يا ترى لو أن جسد ابنه بني منَ السُّحْت والحرام، أيكون أمير المؤمنين في الحديث، ويوفَّق لتصنيف "الجامع الصحيح"؟! لا أظنُّ ذلك؛ لأن كل جسدٍ نَبَتَ من حرام؛ فالنار أوْلَى به، ولا يكون التَّوفيق والتَّسديد إلاَّ لأولياء الله تعالى، وأولياء الله لا يواقعون الشبهات، ولا يتخوَّضون في الحرام.
إن الآباء يفرحون بصلاح أبنائهم ورفعتهم ومجدهم؛ لكنَّ كثيرًا منهم لا يتحرَّى في كَسْبه، ولا يتورَّع عن الشبهات والحرام؛ فيتغذَّى أولادهم على الحرام، ولا تكون الإمامة في الدين لجسدٍ نَبَتَ من حرام.
أيها الإخوة:
لو تأملنا في أعداد البشر الذين يترحَّمون على البخاري، ويستغفرون له منذ القرن الثالث الهجري وإلى اليوم؛ بل وإلى آخر الزمان - لعرفنا فضله ومنزلته. مدارس المسلمين وجامعاتهم، ودورُ الحديث وأربطةُ العلماء، ودروسُ طلاَّب العلم على مرِّ الزمان، يدرسون صحيح البخاري، وفي كل درسٍ يقولون: قال البخاريُّ - رحمه الله تعالى - بل آلات المطابع، وأصابع الرَّاقمات، وأزرار الحاسوبات، وأقلام المشتغِلين بالعلم تكتبُ: قال البخاري - رحمه الله تعالى -!!
إنه فضلٌ عظيمٌ، ومَنْقَبَةٌ كبرى، لا يمكن إحصاء مَنْ يقولها ويكتبها عبر التاريخ الطويل؛ ناهيكم عن أجر حفظ السُّنة، والاشتغال بالعلم، وفناء العمر في التعليم. كلُّ ذلك ناله هذا الإمام المبجَّل، رحمه الله تعالى رحمةً واسعةً.(242/8)
وهذا يحفِّز العلماء إلى الإخلاص، ويدعو طلاب العلم إلى الجدِّ في الطَّلب؛ حتى ينالوا بعضًا من هذا الفضل: {ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ} [الحديد: 21].
ألا وصلُّوا وسلِّموا على نبيِّكم، كما أمركم بذلك ربُّكم.
---
[1] تاريخ بغداد (2/6) ووفيات الأعيان (4/190).
[2] انظر: تاريخ الإسلام للذهبي (18/239).
[3] انظر: تاريخ بغداد (2/7) وطبقات الشافعية الكبرى للسبكي (2/216).
[4] تاريخ بغداد (2/14) وطبقات الحنابلة (1/276).
[5] تهذيب الأسماء واللغات (1/70) وطبقات الشافعية الكبرى (2/217) وطبقات الحنابلة (1/277).
[6] باختصار من وفيات الأعيان (4/190) وتهذيب الكمال (3/1171).
[7] مقدمة فتح الباري لابن حجر (511).
[8] سير أعلام النبلاء (12/416) ومقدمة فتح الباري (511).
[9] تهذيب الكمال (3/1170) وطبقات الشافعية الكبرى (2/220) ونحوه في تاريخ بغداد (2/13) وتهذيب الأسماء واللغات (1/75) وسير أعلام النبلاء (12/404).
[10] تاريخ بغداد (2/10) وطبقات الشافعية الكبرى (2/221) ومقدمة فتح الباري (514).
[11] مقدمة فتح الباري وقال الحافظ: وروينا بالإسناد الثابت فذكره (9).
[12] تاريخ بغداد (2/9) وطبقات الشافعية الكبرى (2/221) وسير أعلام النبلاء (12/401).
[13] طبقات الحنابلة (1/274) وتاريخ بغداد (2/9) ووفيات الأعيان (4/190).
[14] مقدمة فتح الباري (513) وتاريخ بغداد (2/14) وطبقات الحنابلة (1/276) ووفيات الأعيان (4/190) قال الذهبي: رويت من وجهين ثابتين عنه، انظر: تاريخ الإسلام (18/249).
[15] مقدمة فتح الباري (513).
[16] مقدمة فتح الباري (514).
[17] سير أعلام النبلاء (12/445).
[18] مقدمة فتح الباري (510).
[19] سير أعلام النبلاء (12/431).
[20] مقدمة فتح الباري (506).
[21] تاريخ بغداد (2/24) وتهذيب الكمال (3/1172) وتاريخ الإسلام (18/254).(242/9)
[22] تاريخ بغداد (2/12) وتهذيب الكمال (3/1170).
[23] طبقات الشافعية الكبرى (2/220) وسير أعلام النبلاء (441).
[24] تاريخ بغداد (2/12) وتهذيب الكمال (3/1170) وطبقات الشافعية الكبرى (2/223).
[25] طبقات الحنابلة (1/276) وسير أعلام النبلاء (12/439) ومقدمة فتح الباري (505).
[26] سير أعلام النبلاء (12/444).
[27] تاريخ بغداد (2/11) وطبقات الشافعية الكبرى (2/227) وسير أعلام النبلاء (12/447) ومقدمة فتح الباري (504).
[28] بتصرف واختصار من طبقات الشافعية الكبرى (2/227) وسير أعلام النبلاء (12/446) وتاريخ الإسلام (18/461).
[29] بتصرف واختصار من طبقات الشافعية الكبرى (2/227) وانظر: مقدمة فتح الباري (503) وسير أعلام النبلاء (12/446).
[30] بتصرف واختصار من تاريخ بغداد (2/32) وطبقات الشافعية الكبرى (2/233) وسير أعلام النبلاء (12/465) ومقدمة فتح الباري (518).
[31] مقدمة فتح الباري (518) وانظر: وفيات الأعيان (4/190) وتاريخ بغداد (2/34) وسير أعلام النبلاء (12/468).
[32] تاريخ بغداد (2/34) وتهذيب الكمال (3/1172) وطبقات الشافعية الكبرى (232) وسير أعلام النبلاء (12/468) ومقدمة فتح الباري (518).
[33] تاريخ الإسلام (18/242) ومقدمة فتح الباري (501).
[34] شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة باب كرامات الأولياء لأبي القاسم اللالكائي (9/290) وأخرجه الخطيب بإسناد آخر (2/207) وتاريخ الإسلام (18/243) وطبقات الحنابلة (1/274).
[35] تاريخ الإسلام (18/239).(242/10)
العنوان: الأمانة العلمية والمؤلَّفات العربية
رقم المقالة: 286
صاحب المقالة: د. كمال دسوقي
-----------------------------------------
1 - فضائح السرقات ودعاوي التأديب والقضاء: من بين ما لا تخلو منه صحيفة يومية أو أسبوعية – بل كتُب بأكملها أحياناً – من النشر بعناوين صارخة عن (الفساد الجامعي) عموماً وأعمدة (فساد الأستاذ) الجامعي خصوصاً، سوف لا نعرض إلا لما يتعلق بالسرقات العلمية للمؤلفات والكتب الدراسية ولما يتصل بتزييف بحوث رسائل الماجستير والدكتوراه للتعيين والترقية وقضية الأمانة العلمية للأستاذ الذي يقتدي به تلاميذه وهم يسيرون على نهجه في تلقي العلم واثرائه بالبحث وتلقينه للأجيال. فالمجتمع العلمي والأدبي والفني يضج بما يتوالى النشر العلني عنه من فضائح (سرقات) المؤلفات والمصنفات والأعمال التي تزخر ساحات المحاكم بالدعاوي القضائية ضد تزييفها وانتحالها أو السطو عليها تحت اسم (الاقتباس) – بما قالت عنه مجلة ((المصور)) تحت عنوان: (لصوص بدرجة دكتوراه) إنه ليس سبعين قضية فقط كما نشر في إحدى الصحف بل ثلاث مئة أو أربع مئة وما أثار على صفحات ((الأهرام)) طرح قضية (الأمانة العلمية لأستاذ الجامعة: من يحميها: الصحافة، أم الجامعة، أم القراء) – وذلك (للبحث عن مخرج بتفكير عالٍ مسموع من الجميع)؛ حيث يقال أن المجتمع الذي يفرز هذا النمط من الأساتذة الجامعيين دون أن يحاسبهم أحد على ما اقترفوا في حق الله والعلم والوطن (والأبناء الطالعين من رحم الحاضر لفضاءات المستقبل) هو مجتمع في حالة جريمة، وأن السكوت على هذا النوع الفاضح من الجرائم تمكين للفوضى في المجتمع، ومحوٌ لحقوق ضحايا مدعي الفكر والبحث العلمي الذين ابتليت بهم الجامعة أخيراً، واتساع رقعة الفساد وامتداد أصابعه الخبيثة إلى مواقع كنا نعدها أمنع من أن يُتسلل إليها ويُعبث بها... وتكون مطالبة الأساتذة الغيورين قبل غيرهم أن لا تأخذ الجامعة رأفة(243/1)
بحالات غش أساتذتها هذه وهي تحرم الطالب من الدراسة عامين إذا غش في الامتحان – فكيف بالأستاذ؟ إنه لابد أن تضرب الجامعة بيد من حديد على كل من تسول له نفسه ذلك، حتى تعود للجامعة كرامتها وقدوتها للمجتمع.
وتحت عنوان فاضح بجريدة ((الوفد)) (في تاريخ 13/10/1994م) هو: بقع سوداء في ثوب الحرم الجامعي: وقائع عديدة تسيء لسمعة الجامعة وتشوه مكانة أساتذتها – أستاذ يشتري المتعة برسالة ماجستير، وآخر يبيع النجاح في الامتحان بمئة جنيه – نجد خبر مدرس مادة الصحة النفسية بكلية تربية جامعة... الذي حصل من كل طالب عند بدء الدراسة على خمسة عشر جنيهاً لحجز كتاب لم يظهر ولم يوزع وأعلن الطلاب بعد أداء الامتحان أنهم رسبوا جميعاً، وأن على من يريد النجاح إحضار مئة جنيه والتوجه إلى مسكنه للتعرف على ورقة إجابته... حيث دلت تحريات مباحث الأموال العامة على سوء سمعة وسلوك (الأستاذ) المتهم سابقاً في قضية شروع في قتل أحد الأشخاص ببلدته، وأنه اعتاد في الجامعة منذ حصل على الدكتوراه وعُيَّن مدرساً قبل أربع سنوات على تقاضي مبالغ كبيرة وهدايا ذهبية من الطلاب نظير نجاحهم، وأنه هذا العام هدد من لا يستطيع دفع المئة جنيه بالرسوب في مادته، فهو يقبل ساعات يد وأجهزة كهربائية من الذين لا يستطيعون إحضار المبلغ المطلوب.(243/2)
حتى في ((أخبار الحوادث)) التي تصدر عن دار ((أخبار اليوم)) (8/7/94) تنشر بعناوين ضخمة: فضيحة الطالبة والأستاذ بالصوت والصورة أسرار سقوط عميد كلية... والقبض عليه، حدَّد لطالبة الدراسات العليا الموضوعات التي ستكتبها وأبلغها بالدرجات التي أعطاها لها (ولا تستحقها) في مادة (الإحصاء) التي كانت تخاف الرسوب فيها فحصلت على 68 من 70 درجة وسجل عليه ردها وهو يهنئها: حلال عليك الأربعة آلاف جنيه التي أخذتها مقابل ذلك. والخبر كالأسطورة تبدأ بمفاجأة إبلاغ رئيس الجامعة بالقبض على المتهم غداة اشتراكه في حفل رئيس جامعة آخر بحصول ابنته على درجة الدكتوراه، وتنتقل لظروف كون العميد المتهم أصغر عميد بالجامعات لحصوله على الدكتوراه خلال عامين فقط أثناء خدمته برعاية الشباب بوزارة التعليم العالي، وتجديد العمادة له لفترة ثالثة على غير ما يتوقع الجميع. ومع هذا فلا دخل لذلك في صدفة اكتشاف علاقته بطالبة الدراسات العليا المصرية زوجة الثري العربي التي تشترك مع تجار مجوهرات في تهريب الذهب والماس، ولا في سوء حظه أن عمليات مراقبتها لمدة أربعة أشهر سجلت تردده عليها وحصوله على هداياها ورشاواها النفيسة مقابل تسريب الامتحان لها وضمان نجاحها. وأخيراً تأتي مفارقة اضطهاد وتحطيم نفس العميد لمعيدة بنفس الكلية لأنها رفضت الرضوخ لطلباته غير المشروعة مع إنها كانت الأولى على دفعتها عام تخرجها، وامتناعه عن تنفيذ حكم المحكمة العليا الملزم بتسجيلها للماجستير رغم دفع تعويض الخمسة آلاف جنيه المحكوم لها به، لكن الإصرار على عدم تسجيلها بكليته رغم استئناف مقاضاتها للعميد ورئيس الجامعة متضامنين بتعويض أكبر... مما كانت قد انفردت بالنشر عنه من قبل ((أخبار الحوادث)) أيضاً.(243/3)
وفي مجلة ((عالم الكتاب)) التي تصدرها الهيئة المصرية العامة (عدد 35/1992م ص ص36 – 43) في باب: تساؤلات محاكمات للمدَّعي الببليوغرافي، بعنوان مثير: (بعد كل هذه السرقات، هل يبقى في هيئة الكتاب؟!) سكرتير تحرير المجلة السابق الذي طرد منها في صيف 1990م إثر عقوبات إدارية بالخصم من مرتبه وحرمانه من المكافأة، وتوجيه اللوم الشديد إليه... في عريضة الدعوى التي تقدم بها الدكتور يوسف زيدان التي اختتمها بقوله: (إنه لا يكفي تقديمة للمدعي الببليوغرافي بل للمدعي العام لتكون محاكمة قانونية لاببليوغرافية على سرقاته الفكرية (التي تفوق جرماً السرقات المادية) للرسالة الألواحية المنسوبة خطأ لابن سينا – وقد حققها ونشرها بدار الكتاب بطرابلس ليبيا الدكتور محمد سويسي (1990م) بخطئها في نسبتها للشيخ الرئيس الذي وقع فيه المحقق لاعتماده على المخطوطة الوحيدة المشتراه من بائع كتب بباريس 1954م وأثبت المدعي (د.زيدان – في مقال له بالعدد 34/1992م من مجلة عالم الكتاب) هذا الخطأ وطالب الناشر والمحقق الليبييَّن بالتنويه في طبعة قادمة إلى أن الرسالة ليست لابن سينا (مهما ترك اسم ابن سينا على الغلاف لتحل بركاته من أجل توزيع أفضل – بقدر ما أن وضع اسم الشيخ الرئيس على غلاف النسخة المشتراة من باريس خطأ أو عمداً كان بقصد رفع سعرها، والاشارة إلى أن المؤلف الأصلي للرسالة الألواحية المحفوظة نسختها الأصلية بمكتبة المتحف العراقي ببغداد (في 206 صفحات وعنوانها ((رسالة الألواح في الطب)) ) هو أبو سعيد بن إبراهيم المتطبب الهروي.(243/4)
وكما يقابل مقدم الدعوى صورَتَي غلاف كتاب الناشر الليبي لتحقيق الدكتور سويسي وغلاف الكتاب المسروق الذي نشرته ((دار الجيل)) ببيروت معنوناً بأنه للشيخ الرئيس ابن سينا، قائلاً: (إن السارق لم يترك كلمة في الرسالة الألواحية إلا سرقها بالكامل – حتى أخطاء المحقق نقلها السارق كما هي دون أن يكلف نفسه حتى باسقاط الأخطاء والعبارات غير المفهومة) ويرى داعياً لقراءة الكتاب بعناية قبل سرقته، إذ كان على عجل لأن أمامه العديد من الكتب الأخرى الجاهزة للسطو عليها – ومنها الرسالة التي جاءت الدكتور زيدان من إحدى المؤسسات الصحفية الكبرى بطلب رأيه في سرقة أحد كتابين بعنوان واحد هو: ((الجمل في النحو)) للجرجاني المتوفى سنة 471هـ – الأول باسم محققه الدكتور عبدالحليم عبدالباسط المرصفي (نشر دار الهنا للطباعة)، والثاني باسم السارق على أنه شرح ودراسة وتحقيق (نشر دار الكتب العلمية ببيروت لبنان) – حيث ردَّ على المؤسسة بأن السرقة ظاهرة للعيان ولا تحتاج إلى رأي، فأفادوه بأن المحقق الأصلي حين نظر إلى النسخة المسروقة من كتابه وعليها اسم السارق أصيب بشلل نصفي ومات بعد أيام. كل هذا والسارق يهز كتفيه ويبتسم ويتمادى في السطو على الكتب بعد صدورها بعدة أشهر فقط ونشرها غالباً في دور نشر لبنانية – كأنما هذه المطبوعات في بيروت لا تصل إلى القاهرة، أو أن أحداً لن يقارن بين الطبعات وأنه – سوف ينجو بسرقته.(243/5)
ويتزامن مع النشر الفاضح عن حالات السرقات الفردية لفكر وإبداع الآخرين في بحوثهم وتآليفهم للكسب المادي السريع دون جهد وعلى حساب الغير... النشرُ مجدداً عن قضية تزوير الكتب المصرية في بيروت، سرقة وتزوير الكتاب المصري في لبنان – منذ أعيدت إلى الحدود السورية اللبنانية أثناء إندلاع الحرب بين شطري اليمن سيارتا شحن محمَّلتان بالكتب المصرية المزورة، وقبل ذلك، منذ أرشد عن مخزون كبير من الكتب المصرية المزورة في بيروت وضبطه ناشرون لبنانيون أفاضل عز عليهم أن تسيء إلى شرف المهنة قلة من أدعياء النشر وتثرى على حساب الناشرين المصريين. الأمر الذي دعا إلى المطالبة بتعجيل عقد مؤتمر تدعو إليه وزارة الثقافة المصرية كجهة رسمية بالدولة التي يُضار أبناؤها من هذا التزوير وتحضُره الاتحادات الإقليمية للناشرين في البلاد العربية إلى جانب الناشرين المصريين وغيرهم من المهتمين بقضايا التأليف والنشر والطباعة والتوزيع.(243/6)
وكان قد استشرى وباء سرطان تزوير الكتاب المصري الذي سبَّب للثقافة المصرية خسائر فادحة (مادية وأدبية) منذ أصبح الكتاب المصري نهباً مُباحاً أو ملكاً مشاعاً للصوص والمزورين، فضاعت حقوق المؤلفين والناشرين التي لم تعد تمثل شيئاً في نظر هذه (المافيا) التي دأبت على السطو والتزوير للتجارة والكسب غير المشروع. وقال الخانجي – أكبر متضرر في عملية التزوير هذه: إن التزوير يأخذ أكثر من شكل: فهناك الطبع بالتصوير مع الإكتفاء بحذف اسم الناشر الأصلي، وهناك حذف اسم المحقق (في كتب التراث خصوصاً) والناشر كليهما مع حذف بعض التعليقات وكتابة ديباجة مغايرة للتمويه – مع عبارة تقول: طبعة جديدة محققة، أشرف على تحقيقها لجنة من علماء الدار. وكذلك الحال في الكتب المؤلفة. وبينما وصل الأمر بالقارئ المصري أن يطلب دون حرج الطبعة البيروتية المزورة لأنها أجود طباعة وأقل سعراً؛ فالمؤلف المصري الذي يسعى للمطالبة بحقوقه المادية المنهوبة يسلقونه في تبجحٍ بألسنة حداد ويواجهونه بالاستنكار كأنما قد جاء ليستجدي ما ليس حقاً أو يطلب السؤال من اللص الذي سرقه. وبينما أرسل اتحاد الناشرين المصريين إلى بيروت وفداً برئاسة رئيسه محمد عبدالمنعم مراد التقى مع عدد من المسؤولين اللبنانيين بهدف الإتفاق على طريقة تتم بها استعادة حقوقهم عما تم تزويره ووقف التزوير مستقبلاً – ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً (ونقيبة الناشرين اللبنانيين تهاجمهم وتتهمهم بأنهم (المصريين) هم الذين يزورون، وتدعي أن التزوير الذي يتم في بيروت إنما هو لحساب ناشرين مصريين وباتفاق معهم)، وبينما أعضاء الوفد من الناشرين المصريين – لإيجاد حل جذري للموضوع وحسمه نهائياً بكافة السبل – ولو بالقانون الدولي والإنتربول – رافضين المساومات والحلول الجزئية من الجانب اللبناني التي أصبحت مهزلة متكررة – يطالبون بميثاق عربي يوقعه وزراء الثقافة لبحث قضية الكتاب ككل، وذلك في نطاق جامعة(243/7)
الدول العربية (كامل عكاشة، دار المعارف)، أو أن تشترك الدول العربية معاً في وضع قوانين حاسمة لحماية حقوق المؤلف والناشر (محمد الخانجي) أو أن تطالب الدول العربية بضرورة التوقيع على المعاهدة العربية التي أقرتها المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم عام 1993م (إبراهيم المعلم)...
بينما هذا وذاك يتفاعلان على جانبي الساحة، نشرت ((الوفد)) (1/11/1994م) أغرب فتوى يتلقاها بالفاكس ناشر مصري (محمد رشاد) في رسالة هي عبارة عن فتوى تسأل عن جواز طبع كتاب بدون إذن صاحبه مع وجود عبارة (كافة الحقوق محفوظة)، وجواب المرسل على لسان المفتي: (باسمه تعالى، لا دليل على عدم الجواز، والله أعلم)، وفتوى أخرى نشرتها مجلة ((منار الهدى)) تجيب على سؤال: ما حكم ما يكتب على بعض الكتب (حقوق الطبع محفوظة) بأنه (على زمن الصحابة والتابعين ومن بعدهم عُرف بين المسلمين أنه إذا ألف أحد كتاباً نافعاً لا ضرر منه يجوز لمن وقع في يده أن ينسخه ويوزعه – حتى كان هناك مكان للناسخين بأجرة، ويعرفون بالوراقين. هذا ما جرى عليه المسلمون سلفاً وخلفاً. فلا يغير الحكم الشرعي كتابة بعض الناس هذه الكلمة المخالفة للشرع مهما كثروا معنى هذا أن تزوير الكتب جائز شرعاً، وأن ملكية الباحثين والمؤلفين لبنات أفكارهم وثمرات قرائحهم مشاع مستباح للنهب والسطو والكسب غير المشروع على حساب افتقار العلماء وعوزهم إلى ما يسد رمقهم أو يشترون به مصادر علمهم ومعرفتهم.(243/8)
2 – كشف الحِيَل الدفاعية، واثبات نَسَب الابداع: هكذا في جو محموم من التنطع والتبجح حيناً والاستكانة والاستخذاء حيناً آخر – على الصعيدين الفردي والقومي – ينتهي الأمر كما هي الحال في كل قضايا حياتنا اليوم إلى استصدار الفتوى الشرعية بالحرام والحلال من المأجورين والجهَّال. ويتداعى النشر عن قضايا السرقات الأدبية والفنية والبحوث العلمية والرسائل الجامعية، كما تحتدم مهاترات وقضايا الاتهام والتبرئة أو الحفظ (بين سارق يظل متمسكاً بالجلوس على مقعد الشهرة ومسروق يحلم بالوصول إلى هذا المقعد)، أو أساتذة يجمعون شتات الفصول من شتى المراجع دون جهد أو انتقاء ثم ينسبونها لأنفسهم لقاء حفنة جنيهات يكتوى بها طالب علم وباحث فقير ومحتاج (محمد حربي ((الأهرام)) 2/10، 24/10/1994م)... يتداعى النشر وتحتدم المهاترات لتمتد إلى الخارج كقضية (اثبات نسب الابداع) ( ((الوطن العربي)) 21/10/94) – حيث يتحدث النقاد عن الأسس التي تسهل عمل الناقد في محاولة اثبات أو دحض الاتهامات التي طالت تقريباً كل الرموز الأدبية.(243/9)
فبعد عرض لما تشهده دهاليز المحاكم من دعاوي قضائية ضد ناشرة رواية ((هوس البحر)) بهيئة الكتاب من كاتبة مغمورة بالسويس كان قد سبق تقديمها الرواية للهيئة ولم تنشر وأيَّد النقاد صحة الاتهام، وبعد ثبوت أن قصة ((يابنفسج)) المنشورة بمجلة (إبداع) ليست إلا صورة بالكربون وترجمة حرفية لقصة ((الرواية الضائعة)) الانجليزية المترجمة للعربية والمنشورة بالملحق الأدبي لجريدة (المدينة) السعودية.. بل وفي الشعر اتهام كبار الشعراء بالسطو على مقاطع من قصائد شعراء انجليز ويونانيين ونسبتها لأنفسهم دون إشارة للمصدر الأصلي، والروايات وتحويلها إلى مسرحيات – ولو بوقائع تاريخية حقيقية لنفي شبهة عملية السطو أو السرقة فلم تمنع من رفع دعاوي قضائية، أو إلى مسلسلات تلفزيونية وأفلام سينمائية (كالإرهابي لعادل إمام بين لينين الرملي ومحمد سلماوي) وكشف المستور بين القصصي أحمد الشيخ والسيناريست وحيد حامد) وأفلام البريء بطولة أحمد زكي والارهاب والكباب والمنسي بطولة عادل إمام (بين وحيد حامد والسيد نجم)... مما تحصد فيه شهرة السيناريست خصوصاً إذا كان أسامة أنور عكاشة هذه الاتهامات لتقتلعها من جذورها ويبوء المضرور بالحسرة والخسران.(243/10)
هذا ولوضع أسس نقدية أدبية تسهِّل على الناقد أثبات نسب الابداع لصاحبه – يقول الدكتور جابر عصفور إن هناك طريقتين: الأولى تتمثل في المرويات والأخبار والشهادات التي يقولها المعاصرون عن المبدع، والثانية عبر الدراسات البحثية – مثل تحديد الخصائص الأسلوبية حيث لكل مبدع أسلوبه الخاص – التي تشبه (البصمة) ويصعب أن تتكرر في مبدع آخر. فبذا تم توثيق بعض عبقريات أحمد شوقي وابداعات فكر لويس عوض. ولقد أمكن بتقدم التكنولوجيا في العصر الحديث استخدام الكمبيوتر في عمل جداول بالخصائص المميزة للمبدع ثم التعرف بالعمليات الإحصائية على ما إذا كان العمل الأدبي هو لهذا المبدع أم لا – فبهذا تم توثيق أعمال (بل إثبات وجود) هو ميروس وشكسبير. لكن ماذا لو أن التأليف يكون بالتلفيق بين تناولات مؤلفين سابقين عديدين لمختلف فصول مادة الكتاب – حيث في كتابة كل فصل يبدو التماثل في المدخل للموضوع، وتسلسل الأفكار، وألفاظ العبارات... من الوضوح بما لا يهتدي معه حتى زملاء التخصص إلى المرجع المنقول عنه – خصوصاً إذا عمد الناقل للتمويه بمراجع عدة ليس بينها بالذات المرجع المنقول عنه – أو تعمد الإشارة لكتابات سابقة له هو (في رسالته العلمية أو مقال له أو بحث) من حين لآخر للإيهام بأن التأليف بكامله هو من بنات أفكاره وثمار قريحته – مع أن هذا أغبى أنواع التزييف، لأنه لا يعيب المؤلف أن ينسب للآخرين ما هو لهم حتى يتميز هو بما هو خاص به – إذ لا ينتظر من مؤلف ما في أحد العلوم أن تكون له دراسة متعمقة لكل أبواب وفصول موضوعات هذا العلم لم يسبقه إليها غيره في القديم والحديث ولو بلغة أجنبية في الخارج؟(243/11)
إن الأستاذ الجامعي المتهم (بسرقة) 173 صفحة كاملة بهوامشها من كتاب أستاذ سابق له كان لا يزال على قيد الحياة وهو مقدم الشكوى في حقه لجامعته... ليتذرع حينئذ بالاقتباس ومشروعية حق الاقتباس (ولو فصول بأكملها وعشرات الصفحات دون تغيير كلمة واحدة) في التأليف والبحث العلمي ما دام يشير إلى مواطن الإقتباس ولو في قائمة المراجع بنهاية الكتاب إن لم ترد الإشارة في هوامش النص ويحتج بأن المصدر المنقول عنه مقتبس بدوره من آخرين سبقوه، وربما تبرأ من كون الكتاب المنسوب إليه والجاري معه التحقيق في سرقته هو لا يعرف عنه شيئاً. فليس له رقم إيداع في دار الكتب، ومن ثم فلا قضية هناك ويحفظ التحقيق لأن الكتاب المسروق يعد حينئذ مذكرة للتدريس يتعدل محتواها وتتغير تسميتها من عام لآخر – خصوصاً إذا أكد أنه لم يقرر تدريسها على الطلاب. وهكذا يخلو الكتاب المنتحل لأغراض تجارية عاجلة من ملكة التأليف بمنهج علمي أو موقف فكري أو رؤية ذاتية للموضوعات والقضايا الخاصة بالعلم حين يؤلف فيه نص دراسي وافٍ يحيط بكل جوانب المادة العلمية ويتميز على السابقين في المضمار. وعدم الحصول على رقم ايداع بدار الكتب للمذكرات الجامعية التي توزع داخل جدران الجامعة – حيث لا وقت للاجتهاد أو جمع مادة علمية خاصة بالأستاذ أو حتى عرض ونقد المؤلفات السابقة كتمهيد لآراء الأستاذ ومواقفه الفكرية الجديدة – فضلاً عن تغيير اسم المذكرة وترتيب فصولها والحذف والإضافة لكل عام جديد... كل هذا يعفي من المسؤولية الجنائية عن حق الغير. ولا عبرة بتحذير المؤلف الأصلي: حقوق الطبع والنشر محفوظة لأن التوزيع يتم داخل أسوار الجامعة خلال ثلاثة شهور الفصل الدراسي، أما عبارة: (كل نسخة غير مختومة تُعَد مسروقة ويعاقب حاملها قانوناً) فهي التي يحرص البعض على التمسك بها حيث يُدعَى الطلاب إلى مكاتبهم لختم نسخة كل منهم للتأكد من تمام توزيع عدد النسخ المطبوعة بقدر عدد الطلاب(243/12)
بالدفعة الجديدة. وأخيراً فربما دافع الأستاذ المتهم بعدم الأمانة بأن المسألة ليست مسألة تزييف كتاب أو سرقة أفكار، ولا مسألة صحافة وجامعة وقراء؛ بل الجري وراء الشياطين الحاقدين الذي لا يهمهم إلا الفرجة على مطاحنة الأخ لأخيه حتى الإطاحة به.
لذا – ففي تحليل واقعي رصين للكاتب المستنير أحمد عبدالمعطي حجازي (الأهرام 25/5/94) بعنوان (لابد أن ننقذ الجامعة) باعتبارها عقل النهضة وقلبها ويدَها الصَّنَاع: إذا سلمت الجامعة سلمت النهضة وسلمت مصر، وإذا مرضت الجامعة مرضت النهضة ومرضت مصر – أشار الكاتب إلى أن لصوص الفكر لا يسرقون التفسير واللغة والفلسفة فحسب (في الأمثلة المشهورة التي ذكرها) بل يسرقون الاقتصاد والطب والهندسة والرياضيات أيضاً... برسائل يتبين بعد التعيين بها في درجة مدرس أنها مسروقة من ألِفها إلى يائها، وبحوث يثبت بعد الترقية بها لأستاذ مساعد أنها مسروقة من مجلات أجنبية، بل برسائل يُشك في أن (الطالبة كتبتها أو أن الممتحنين قرأوها). وما ينشر عن سرقة الأبحاث وتجاوز شروط التعيين والترقية وبيع الشهادات... أقل بكثير مما تتداوله الأوساط الجامعية والأحاديث المغلقة. والوباء يستشري في جامعات العاصمة فما بالنا بالجامعات الإقليمية – لا ينجو من الإصابة به الأساتذة ورؤساء الأقسام والعمداء ورؤساء الجامعات، فماذا ننتظر من المدرسين والمعيدين والطلاب.(243/13)
وفي تشخيصه للأسباب التي هيأت المناخ لاستشراء الوباء وسقوط الجسد الجامعي فريسة تدمير خلاياه التي قاومت بشجاعة (لأنها كانت سليمة، وروح النهضة متَّقدة، وآمال المجتمع عريضة) محاولات تربُّص الرجعية والسلطة كلتيهما بالجامعة في إبعاد طه حسين عن كلية الآداب عامي 1926 – 1932م – في المرة الأولى بسبب الزوابع التي أثيرت ضد كتابه ((في الشعر الجاهلي))، والثانية لرفضه لقد عاد عميداً للكلية أن يمنح الدكتوراه الفخرية لبعض السياسيين – ومنهم إسماعيل صدقي، وما كان من نقله لديوان الوزارة، واستقالة لطفي السيد حين لم يفلح في إقناع الوزير حلمي عيسى بالعدول عن قرار النقل، ثم عودة كليهما عميداً للكلية ومديراً للجامعة في وزارة توفيق نسيم – وكل ذلك بفضل نزاهة القضاء المصري المستنير. ولم تفلح الاغراءات الحكومية والحملات البوليسية إِلاَّ بعد عام 1954م حين تعرض اثنان واربعون من الأساتذة – في أول مذبحة تعرضت لها الجامعة – إلى الفصل بسبب التوقيع على وثيقة دفاع عن الديمقراطية، فسَادَ الذعر كل صاحب رأي حر ولو لم تكن له علاقة بالسياسة، فأصبح اثبات الولاء للحكومة شرط البقاء في الجامعة – بل القفز منها إلى الوزارة. واستمرت الحال كذلك: الجامعة بلا حصانة، وفي خدمة السلطة – حتى مذبحة سبتمبر/ أيلول 1981م التي فصل فيها الرئيس السادات حوالي 60 أستاذاً من الجامعة وتم نقلهم إلى وظائف مكتبية.(243/14)
على أن ثالثة الأثافي، في تشخيص أسباب (الفساد الجامعي وفساد الأستاذ) في تحليل الكاتب: التوسع في إنشاء الجامعات الإقليمية لقبول كل الحاصلين على الثانوية العامة بأسبقية مجموع الدرجات التي حصلوا عليها بالحفظ والاستظهار والدروس الخصوصية) بصرف النظر عن الاستعداد للتعليم العالي أصلاً أو القدرات التي تؤهلهم للدراسة بالكلية التي قبلوا بها، ودون اعتبار لاستعداد الكليات (بتوافر الأساتذة، وطاقة المدرجات والمعامل والمكتبات) التي تستقبل سنوياً الآلاف؛ أو احتياج سوق العمل من التخصصات التي توزع عليها القوى العاملة الخريجين بالمئات بعد انتظار وتعطل عشر سنوات... لينتهي الأمر بالجامعة إلى أن تصبح مدارس تفريخ حملة شهادات، هدف الطلاب فيها الحصول على الشهادة الموصلة لأي وظيفة، والأستاذ الحصول على عائد توزيع كتابه المقرر الذي يحرص على شرائه الطلاب للنجاح في الامتحان... كلاهما بأقل جهد ودون عناء: الطالب في مكابدة التحصيل والاستذكار والاطلاع على مراجع أخرى وقراءات خاصة في موضوع الكتاب (المقرر)، والأستاذ في جدية التأليف وانتظام المحاضرات ومواصلة المناقشات ومتابعة التقييم والإرشاد حتى عدالة تصحيح الامتحان ونزاهة تبني المعيدين والمساعدين.(243/15)
بذا يَصدُق ما قاله أستاذ فلسفة قديم في التعليق على حادث حصول باحث متأخر على الدكتوراه 1992م من جامعة الاسكندرية برسالة ماجستير مسروقة من باحث متقدم سنة 1980م (الذي نشرته تحت عنوان ضخم مجلة ((أخبار الأدب)) بتاريخ 25/9/1994م) وتعيينه مدرساً للفلسفة الإسلامية والتصوف بآداب جامعة إقليمية، حيث أكد أساتذة التخصص دعوى الباحث المتقدم بالسطو على رسالته فقد تم بالفعل نقل معظم مقدمة رسالة المدَّعي بنص الكلمات والحروف، وكذلك خمس صفحات تفسيره الخاص للاسراء والمعراج بما في ذلك الهوامش المتعلقة بنفس الصفحات دون أية إشارة لمرجعها الأصلي. ثم إن نتائج بحث المتأخر هي نفس نتائج بحث المتقدم – ممَّا يؤيد قول المضرور إن الباحث المتأخر لم يكن له في رسالته للدكتوراه من الاسكندرية بحث خاص به – لا من حيث المقدمة أو الأهداف ولا من حيث النتائج. فالبحث لم يعد له بهذه الطريقة هدف أو مضمون أو نتائج، لأنها كلها منقولة من رسالته هو للماجستير بكلية آداب القاهرة 1980م في موضوع (حال الفناء في التصوف الإسلامي)...(243/16)
... يصدُق ما قاله بحق أستاذ الفلسفة الكبير بجامعة عين شمس على هذا الحادث المؤسف: إن خريجي هذه الأيام هم نتاج صادق لمجموعة من المذكرات الجامعية كتبت على عجل، وقام بوضعها وتدريسها مجموعة من الأساتذة والمدرسين. والمتفحص لهذه المذكرات التي تخرجت عليها أجيال كثيرة من الباحثين في الجامعات المصرية يجدها في حقيقة الأمر صورة مزرية من البحث والكتابة وأصول البحث العلمي ومنهجيته. وماذا يملك طلاب الدراسات العليا من زاد سوى ما نشأوا عليه من مذكرات منقولة دون ذكر في معظم الأحيان للمراجع المستقاة منها في العربية ذاتها – فضلاً عن مصادر العلم والفلسفة باللغات الأجنبية التي استطاع بها الرواد الآباء أن ينقلوا الثقافات العلمية والفلسفية في جميع عصورها وبكل لغاتها إلى جيل الأساتذة الحاليين الذين لا يجيدون لغة أجنبية وينقلون عن السابقين والمعاصرين مذكرات مجهولة المصدر ينسبها الطلاب إليهم ويتخذونها مراجع حتى للدراسات العليا؟ إن فاقد الشيء لا يعطيه، والطلاب والمشرفون على رسائلهم ما بين الاستسهال وعدم التدقيق والتأني في البحث والدرس يشجعون أحدهم الآخر على التسرع والسطو والانتحال.
3 – لجنة دائمة للرقابة على المؤلفات، والجزاء التأديبي للإقتباس.(243/17)
وحين يتساءل ضحايا السرقات العلمية والغيورون على سمعة الجامعة ومستقبل الأجيال أخيراً عن: مَن يملك سلطة الحد من الظاهرة الخطيرة أو يحكم إصدار الكتب الجامعية؟ ترد إلى الذهن أول الأمر اللجان العلمية الدائمة التي تفحص إنتاج أعضاء هيئة التدريس الجامعي للترقية درجة بعد أخرى ثم تلقي لهم الحبل على الغارب – حيث يتنفس هؤلاء الصعداء ويتحررون من عرض انتاجهم العلمي تآليف وبحوثاً على آبائهم في العلم إن كانوا سينتجون أو شفيت صدورهم من كراهية هؤلاء الآباء الذين بيدهم الحكم على أدائهم العلمي – سواء المتشددون من الحكام والمقربين (محافظة على المستوى) والمجاملون (إتقاء كراهيتهم وتعقد نفوسهم وربما افترائهم عليهم بالغرض والهوى) فهاهم سيزاملونهم في عضوية اللجان ليرقوا أبناءهم ويحلوا محلهم في الأستاذية واشراف ومناقشة الرسائل وحضور الندوات والمؤتمرات بحكم مناصبهم كعمداء ورؤساء أقسام وأعضاء مجالس.. وإن لم يستغنوا عن أستاذهم فهم الذين سيعطونه فضلة خيرهم، فمن الخير له ولهم أن يبقى أستاذاً غير متفرغ حتى لا يشارك بفعالية في أعمال التدريس والامتحان – وكما يقول لبيب السباعي ( ((الأهرام)) 9/5/94) بعنوان: (ولا حتى يحاضر لطلابه): إن شغل الأستاذ بعد سن الستين لما يُعرف بوظيفة الأستاذ غير المتفرغ أثبت على مدى السنوات السابقة فشله، فالأستاذ ما إن يقترب من سن الستين حتى يستعد الورثة لتسلم التركة بدءاً من المكتب الذي يجلس إليه وحتى الكتاب الذي يُدرِّسه. ويصل الأمر في معظم الأحيان أن يجد هذا الأستاذ غير المتفرغ نفسه غريباً داخل الكلية التي أمضى بها سنوات عمره، أو على الأقل يجد نفسه غير مرغوب فيه.(243/18)
لا سلطان إذن للجان العلمية الدائمة على من ترقى أستاذاً وتخلص من تدريس كتب أساتذته التي تعلم عليها ليكون له هو كتابه الخاص الذي يحصل على عائده من توزيعه – وهذا حقه. أكثر من هذا، فاللجان العلمية – حتى في الدراسات النظرية وخصوصاً بالكليات العملية تشترط للترقية بحوثاً ميدانية ذات جدوى في التخصص – بعضها منشور والبعض مقبول للنشر بمجلات علمية ذات هيئة تحكيم أغلبها من أعضاء اللجنة العلمية وإن يكن بمجلة كلية أخرى مناظرة لكلية المتقدم للترقية – الذي يتحمل نفقات النشر التي يُنفَق على التحرير (أو الإشتراك بالمؤتمر العلمي) من حصيلتها، ومنها يتحصل مقدم البحث على خطاب القبول للنشر لما لَم ينشَر بعد وعلى مستلات من بحثة لتقديمها للترقية، كما يتسابق على استيفاء عدد المطلوب نشره بالفعل إلى حد استصدار أعداد كاملة أغلبها لباحث واحد حان موعد تقديمه للترقية. وتتحرج اللجان من جانبها عن الحكم بعدم الصلاحية لبحوث سبق التحكيم بصلاحيتها للنشر. وهكذا تصبح الترقية بالبحوث في أحسن الظروف ولأحسن المستحقين بمشاركتهم في الانتاج العلمي مسألة أولوية استحقاق بالمواعيد، أو الرد (لمزيد من البحث) لتدارك التأخير في حالة الرفض لأول وثاني مرة. المهم أنه خلال انشغال عضو هيئة التدريس في زهرة شبابه العلمي ببحوث الترقية لا يتسع وقته للتأليف في مادة التخصص – باستكمال مذكرات تدريسه وتنقيحها عاماً بعد آخر لتصبح كاتباً دراسياً جامعاً يستغني به عن تدريس كتب الأقدمين، أو لا يضطر حين يطالب بحقه في تدريس فرع تخصصه بالقسم دون منازع أن ينقل على عجل أو (يقتبس) بالنقل عن الآخرين. وهكذا فإن تركيز اللجان الدائمة على البحوث للترقية، وعدم إعطاء التأليف أو الترجمة مهما حسنا تقديراً أكثر من (جهد علمي مشكور) هو الذي يضرّ بتدرج عضو هيئة التدريس في إعداد كتابه الدراسي الذي يحمل فكره وتأليفه.(243/19)
ثم حين يتساءل أحد المتضررين بمرارة من السطو على مخطوطة كتابه والكتاب وصاحبه موجودان على قيد الحياة، ثم تقرير تدريس الكتاب المنقول على الطلاب.. يتساءل عن السبيل لاسترداد حقه قبل اللجوء إلى القضاء ورفع قضية التعويض بالحق (المدني) أو التظلم للجان الدائمة للترقية التي لا سلطان لها على عضو هيئة التدريس بعد حصوله على الأستاذية مهما رفضت ترقيته لأستاذ مساعد كأستاذ مرة ومرات، أو تنبهت لجنة الفحص للسرقة في بعض أعماله لكنها انتهت آخر الأمر إلى ترقيته كما يحدث في معظم الأحوال... حين يتساءل هذا المضرور بمرارة: أليس من حق (بل واجب) مجالس الكليات ومجالس الجامعات المعنيَّة أن تتخذ إجراءً صارماً – لا لإنصاف المضارين فقط، بل لردع العابثين المنحرفين، صوناً لكرامة الجامعة، وحفاظاً على جلالها وسمعتها؟ يجيب هو نفسه قائلاً: أحسَب أن الإجابة عن هذا السؤال هي في يد رؤساء هذه المجالس وفي يد أعضاء المجلس الأعلى للجامعات وأنه فيما بين اليأس المسيطر (أن ينتظر رداً من أحد لأن أحداً لا يهمه أن يكون الأستاذ الجامعي سارقاً للعلم مختلساً لحقوق وابداع الآخرين) ولغة الأمل والتفاؤل؛ يطمع في أن يرد عليه عميد الكلية أو رئيس الجامعة المنسوب إليها الأستاذ المتهم عن تساؤلاته من الذي يحكم عملية إصدار الكتب الجامعية؟ وما هو موقف الجامعة وقد عرفت بما جرى؟ وما هو دور اللجان التأديبية في هذه الحالات؟(243/20)
إن أحداً لن يرد على تساؤلات هذا الأستاذ كما توقع، ولا على تساؤل آخر بالبنط العريض بـ((أخبار الأدب)) (عدد 56 في 7 يوليو 1994م) عن حادث مماثل: بعد هذا الكتاب؟ الذي نشره أستاذ مساعد فلسفة طنطا يتهم فيه أستاذ ورئيس قسم فلسفة الاسكندرية بالتزييف في كل أعماله العلمية التي يدرسها ككتب ومذكرات للطلاب): هل يستمر هذا الأستاذ رئيساً لقسم الفلسفة بجامعة الاسكندرية كما أن أحداً لن يستجيب لما نشر في عدد سابق بنفس المجلة بعنوان – الكتاب الجامعي أزمة كل عام: أستاذ يطالب بالمساءلة الجنائية لمن يبالغ في سعر الكتاب – وإن يكن في هذا المقال بحق التركيزُ على مسؤولية مجلس القسم عن التجارة بدل العلم: في ارتفاع سعر الكتاب المقرر، وتأخر تسليمه، وعدم ملاءمته للطلاب (حيث هو غالباً بحث الماجستير أو الدكتوراه وبحوث ترقية الأستاذ التي لا يمكن أن تغطي المقرر الكامل كموضوعات جزئية منه). هنا بالفعل مفتاح الحل. فالقسم العلمي بالجامعة هو الذي يوزع المقررات الدراسية على أعضائه، ويحدد الكتاب المقرر، وعليه تعرض بحوث التعيينات والترقيات قبل أن يرفعها مجلس الكلية إلى مجلس الجامعة... فهو الأكثر معرفة وإحاطة بالتخصصات الدقيقة لأعضائه والمقرر الذي أحدهم هو الأصلح لتدريسه... والعادة أن لا يحتدم نزاع حول أحقية أحد أعضاء القسم الأدبية على تدريس مقرر له فيه مؤلف أو مؤلفات ومن حقه استرداد تكاليف طباعتها، كما يتم بالتراضي حلول أستاذ محل آخر إذا أعير ثم استرداد مادته حين يعود أو يُعطَى أحدهما مقرراً بديلاً يمكنه التأليف فيه. كما قد يعتمد القسم كتاب واحد أو أكثر من الأعضاء كتأليف مشترك وتوزع الحصيلة على الجميع بنسبة درجات عضوية التدريس.(243/21)
لكن الأغلب أن يكون التنازع حول حق المؤلف بين أساتذة في كليات مختلفة تخصصُهم واحد، وعلى فترات زمنية متباعدة بعض الشيء خلالها تقاعَد أو توفى أو أُعير إلى الخارج صاحبُ التأليف الأصلي. هنا لا يستطيع القسم العلمي أو رئيس الجامعة المدعَى على أحد أعضاء التدريس فيه بالانتحال أو السرقة أن يوقع العقوبة التأديبية إلا بعد تحقيق محايد ونزيه – بالنظر إلى فداحة العقوبات التي يقترحها مثلاً أستاذ هندسة الاسكندرية د.أحمد عبدالله حسام الدين ( ((الأهرام)) 31/10/94) كحل رادع تلك المأساة: ثانياً: يعاقب بالفصل من عمله من تثبت إدانته في نقل معلومات علمية ولو نقلها بتصرف أو نسخ أجزاء من عمل الآخرين دون الإشارة للمصدر أو بغير إذن المؤلف حيث تطبق قوانين حقوق التأليف بكل صرامة وجد، لأن هذه سرقة، والسرقة جريمة مخلة بالشرف، وجزاؤها الفصل التأديبي.
ثالثاً: حين يثبت للجان فحص الإنتاج العلمي أن الأعمال المقدمة منقولة أو مقتبسة وليست إضافة علمية للباحث، توصي اللجنة بعدم ترقيته نهائياً، بل لا يسمح له بالتقدم مرة أخرى – لكيلا يكون قدوة لتلاميذه في الغش والتدليس.
رابعاً: يعاقب بالسجن من يقوم بالسرقة العلمية – لكونها أخطر على المجتمع من السرقة المادية (التي قد يكون لمرتكبها العذر لضغوط معيشية أو ضائقة مالية) ولا عذر لأستاذ الجامعة في إرتكاب جريمة سرقة العلم.(243/22)
خامساً: تبلغ الجهات العلمية والعالمية ودور النشر بأن هذا الأستاذ غشاش، فلا تنشر له أبحاث بالمجلات العلمية والدوريات المحترمة في الخارج، بل يوضع على قائمة المهددين بفضح ابتزازهم لأعمال الغير، وأولاً وقبل كل شيء: ضرورة تشكيل لجان في كل مادة علمية لتأليف الكتب (أو لكل كتاب جديد) بحيث لا ينشر كتاب إلا بعد أن تجيزه لجنة متخصصة – على غرار النظام المعمول به في جميع دول العالم وكثير من الدول العربية مثل الكويت – حيث اللجنة المشكلة من الخبراء والمعنيين تجيز ما تراه إسهاماً علمياً في هذا المجال، ولا تجيز المنقول أو الذي ليس به جديد أو له فائدة علمية، وأعضاء اللجنة أساتذة مشهود لهم بالعلم والحيدة والنزاهة قد مر عليهم في درجة الأستاذية عشرة أعوام.(243/23)
المعوَّل عليه إذن في مواجهة هذا الخطر المحدث بفعالية التعليم العالي – الذي يقرنه وزير التعليم دائماً برفع مرتبات أعضاء هيئة التدريس كلما أعلن رفضه نظام الكتب الجامعية الذي يعتمد على المذكرات كمقررات (الوفد 2/11/1994م) – قاعدة الهرم الأكاديمي وهو مجلس القسم، وقمته التي هي المجلس الأعلى للجامعات – باعتبار أن مجلس الكلية ومجلس الجامعة ممثلين بالعميد والرئيس يصادقان على اقتراحات وترشيحات القسم المختص لرفعها كل منهما إلى الذي يعلوه. وقد رأينا أن ما يتوافر لمجلس القسم من صلاحيات معرفة كل عضو بتخصص بقية زملائه الدقيق وتعمقه واجتهاداته في عرض وبحث وتطوير موضوعات بعينها من هذا التخصص (الأمر الذي استحدث في النظم التربوية نظام التدريس بالفريق team teaching للمادة الواحدة بنجاح منقطع النظير) فهو وإن نجح في توزيع المقرر الدراسي المقترن بكتاب شامل لكل موضوعات المقرر هو لأحد مدرسي المادة أو أكثر أو حتى باسم هيئة التدريس مجتمعين مع تقاسم العائد المادي منه... لا يمنع التنافس الخفي بين التقدير الذاتي وصورة الآخر(ين) على أحقية كل منهم في التميز أو السبق في الترقية على قدر جهده وأدائه وتفوقه التي يشاركه فيها الأقل أصالة وتميزاً في اجتناء الثمار – مما يجعلهم يقبلون طواعية وبرضى نفس مفارقات ترقية الأحدث قبل الأقدم، ولولا أن الترقيات في الجامعة لا تتم بمجرد الأقدمية كما في الوظائف العامة الأخرى (حتى لا يركن الأساتذة إلى الدعة وتخمد جذوة البحث المؤدي إلى تطوير وتقدم العلم، وأن الطلاب أنفسهم خير حكم على جدية وأمانة أستاذ دون آخر في البذل والعطاء... لما أمكن تعاون أعضاء مجلس القسم الظاهر في الرضا بوضع كل منهم الأدبي (ما دام ينال نصيبه المادي في استيفاء النصاب وفي المحاضرات الإضافية وحصيلة المذكرة التدريسية...)، ولما أمكن تقبل الترتيب غير الرسمي في التدرج الهرمي حتى رئاسة القسم. فهناك تفاهم ضمني على(243/24)
أسبقيات التقدم للترقية وخلافة رئاسة القسم وتقاسم الأعمال الإدارية والأنشطة الطلابية والمجاملات الاجتماعية الشخصية والأسرية... التي لا تنفي الحرص على تقرير الذات ومسايرة اعتبارات الصالح العام والخاص. ويتوقف الأمر دائماً على براعة القيادات الجامعية من رئيس القسم حتى رئيس الجامعة في امتصاص الخلافات وحسم المنازعات وخلق الترضيات والتسويات... على كل مستوى قبل أن تصل إلى الذي فوقه أو يعمد البعض إلى تخطي الرئاسات والشكوى لجهة خارجية.(243/25)
لكن ماذا إذا اشتعل الصراع حول أحقية أحد الأعضاء في تدريس كتابه الخاص وحده دون شريك في عائده المادي – خصوصاً لطلبة دفعة كبيرة العدد – بينما زملاؤه ينظرون إليه في إزدراء أنانيته وتعاليه، وخصوصاً أيضاً إذا كان قد تربع طويلاً على العرش أو ليست به حاجة لمزيد من الكسب والثراء على حساب افتقارهم وحاجتهم هم أيضاً لتكوين أنفسهم مادياً، فراحوا ينبشون قبره ويُسفِّهون علمه... ولم تفلح قيادات القسم أو الكلية أو الجامعة في رده إلى حظيرة الزملاء قبل أن يتمادوا في تحطيمه بالطعن في سلوكه وأخلاقياته الشخصية بالنشر الصحفي أو لدى لجان الترقية في بحوثه التي ترقى بها للأستاذية – إلى حد رفع قضايا التزييف والانتحال لما يؤلف أو يدرس أمام القضاء، واستعداء أساتذة في جامعات أخرى لهم مؤلفات في نفس التخصص؟ هنا – لا غنى عن سلطة رقابية على المؤلفات بالمجلس الأعلى للجامعات الذي تتبعه اللجان العلمية الدائمة للترقيات يحيل عليها رئيس الجامعة المتهم أحد أعضاء هيئة التدريس بها الكتاب المطعون عليه (أو المضرور صاحب الحق الأدبي) للتقرير عن التزييف أو الانتحال الذي يستوجب العقوبة التأديبية. فاللجان الدائمة للترقيات بوضعها الحالي الذي يقصر مهمتها على ترقية المدرسين إلى أساتذة مساعدين، وهؤلاء إلى أساتذة في لجنتين كثيراً ما يجمع البعضُ بين عضويتهما مع ما يستجد من أعضاء استوفوا ثلاث وخمس سنوات (رفعت إلى خمس وسبع سنوات) حصول على الأستاذية – لإتاحة الفرصة لشباب الأساتذة أن يأخذوا دورهم في ترقية مساعديهم (ضماناً لولائهم وتسلسل أقدمياتهم) ثم تكملة الخمسة والعشرين عضواً بكل لجنتي تخصص بخمسة أساتذة متفرغين وغير متفرغين بالاختيار... قد عدلت في التشكيل قبل الحالي لتستبعد قدامى الأساتذة الذين مضى على أستاذيتهم أكثر من عشر سنوات (بل عشرين وثلاثين سنة) – حيث لا دور لهم في قيادة شباب هيئة التدريس (بقدر ما للأساتذة رؤساء الأقسام(243/26)
وعمداء الكليات أعضاء اللجان) نحو الاستفادة بولاء هؤلاء في انضباط الإدارة وحسن سير العمل الذي أصبح يرجح كفة الأبوة العلمية. وكثيراً ما لم تستوف اللجان عدد الأعضاء الخمسة والعشرين مع وجود عجز في شباب الأساتذة ووفرة في الشيوخ الذين لا زالوا على قيد الحياة في قمة مجدهم العلمي.
والآن – فإن قدامى السن من الأساتذة هؤلاء، الذين تقاعدوا عن تولي المراكز الإدارية بالقسم أو الوكالة أو العمادة أكثر من عشر سنوات، (وكان قد اقترح قبل الثمانينات أن يكونوا أساتذة ممتازين أو أساتذة بحث – بدرجة نائب رئيس محكمة عليا – تعويضاً لمن لم يصل منهم إلى هذه المناصب قبل بلوغ السن، وتشجيعاً للأساتذة على عدم التسابق إلى هذه المراكز – لولا ثورة نوادي هيئة التدريس حينئذ على تسمية (ممتاز) مهما أخلوا الجو لهم)... هؤلاء الأساتذة المخضرمون بما بقي لهم من شيوخة وتجرد هم الذين ينبغي أن تخصص لهم الخمسة المقاعد فوق العشرين (وما لا يستكمل بالشباب حتى العشرين) الأقدم فالأقدم في كل لجنة علمية، ليختار من بينهم رئيس الجامعة الذي لديه شكوى أحد أعضاء هيئة التدريس بجامعته في حق زميل له (بدل أن يشكل لجنة محلية أو داخلية تكون أميل إلى التستر والتغطية وإهدار حق المضرور لصالح السلام والاستقرار داخل الجامعة – كما يحدث أغلب الأحيان)، ويحيل التحقيق الأكاديمي في موضوع الشكوى الذي يقرر له عنه هؤلاء الحكماء الحكام إلى مجلس التأديب الذي يقضي بأحد الجزاءات التأديبية المنصوص عليها في المادة 110 من قانوني تنظيم الجامعات رقم 49 لسنة 1972م وتعديلاته – التي تتدرج من التنبيه واللوم حتى العزل من الوظيفة مع الاحتفاظ بالمعاش أو المكافأة، أو العزل مع الحرمان منهما في حدود الربع. فحين يثبت التقرير العلمي واقعة السرقة أو التزييف أو الانتحال (فكل فعل يزري بشرف عضو هيئة التدريس أو من شأنه أن يمس نزاهته أو فيه مخالفة لنص المادة 103 (في شأن الدروس(243/27)
الخصوصية مثلاً) يكون جزاؤه العزل.
والمعايير التي سوف تستهدى بها السلطة الرقابية على المؤلفات هذه داخل اللجان العلمية الدائمة بالمجلس الأعلى في إثبات جريمة (التقليد) كاعتداء على حق المؤلف المادي والأدبي – وبالتالي حماية حقوق المؤلف الأصلي... موجودة بالقانون المصري رقم 354 لسنة 1954م وتعديلاته، وقبل ذلك بمشروع قانون الجامعة العربية لحماية حق المؤلف (1947م) وتعديلاته – إن يكن في الترجمة من لغة أجنبية إلى العربية قبل مضي خمس سنوات من تاريخ أول نشر للمصنف الأصلي، وما لم يكن صاحبه قد حفظ لنفسه حق التأليف خمسين سنة بعد وفاته – مما يمكن اعماله في المؤلفات العربية أيضاً – حيث تجري التفرقة بين ما إذا كان النقل عن المؤلفات الأخرى اجتزاء citation بالنص الحرفي لبعض ما ورد في المصنف المنقول عنه، أو جمع وتبويب مختارات من عدة كتب بجهد تأليفي أو تصنيفي شخصي compilation، أو اقتباس الفكرة دون النص التعبيري عنها – وكلها ليست جريمة تقليد ولا تستوجب حق الحماية – ما دام الناقل يشير دائماً وبأمانة علمية وفي كل موضع (مهما تكررت الإشارة بتكرر الإجتزاءات) للمصدر المنقول عنه واسم مؤلفه، وما دام الاجتزاء ليس نقلاً كاملاً وبتوسع، ولو بحجة التعليق على النص. فمعيار القلة والكثرة في الاجتزاء – الذي يسمونه الاقتباس – أن لا يغني الكتاب المنقول عن الكتاب الأصل وينافسه، أي أن لا يغني الكتاب الجديد وقارئه عن الرجوع للمصدر المنقول عنه فيكون اعتداء على الحق الأدبي والمادي للغير يستوجب التعويض علماً بأن القضاء الفرنسي المأخوذ عنه هذه التشريعات سمح في هذه الأحكام تشجيعاً للأغراض العلمية والتعلمية والثقافية الفرانكفونية ولا يصل إلى درجة التشدد التي وصل إليها الأمريكيون مؤخراً للحد من السرقات العلمية والأدبية والفنية لا للمؤلفات المطبوعة وحدها بل لأَشْرطة التسجيل المسموعة والمرئية بالتلفاز والفيديو والحاسبات(243/28)
الإلكترونية وقنوات الارسال والاستقبال الفضائية.(243/29)
العنوان: الأمر بالمعروف واجب على الجميع
رقم المقالة: 759
صاحب المقالة: سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
-----------------------------------------
الحمد لله القوي المجيد المدبر لخلقه كما يشاء وهو الفعال لما يريد أحكم ما خلق وشرع فهو الحكيم الرشيد وصبر على أذى أعدائه وما ربك بغافل عن أعمال العبيد فهو الحليم بمن يبارزه بالعصيان ولكن إذا أخذه لم يفلته {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ}، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الولي الحميد، وأشهد أن محمداًً عبده ورسوله أشد الناس غيرة في دين الله فما انتقم لنفسه قط ولكن إذا انتهكت محارم الله فناهيك بغضبه فعل أولي الرشاد والتسديد، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين لا تأخذهم في الله لومة لائم، فنعم الأقوياء في دين الله ونعم العبيد، وعلى التابعين لهم بالإحسان والتسديد وسلم تسليماً.(244/1)
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (بسم الله الرحمن الرحيم) {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:1،2] ، {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يوماً لاَ يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شيئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [لقمان:33]، {وَاتَّقُوا يوماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} [البقرة:281]، {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]. أما بعد، أيها الناس: اتقوا الله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال:25].
عباد الله: لا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور. عباد الله: لا تغرنكم هذه الأموال وكثرتها ولا يغرنكم رغد العيش ونضارة الدنيا وزهرتها.
عباد الله: لا يغرنكم ما أنعم الله به عليكم من العافية والأمان ولا يغرنكم إمهاله لكم مع التقصير في الواجب والعصيان. إخواني: إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب علينا جميعاً قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان)) فمن قدر منا أن يغير المنكر بيده وجب ذلك عليه، ومن قدر منا أن يغيره بلسانه دون يده وجب ذلك عليه.(244/2)
عباد الله من رأى منكم منكراً فعجز عن تغييره فليبلغه إلى المسؤولين، فإذا بلغه إليهم برئت ذمته، وإلا فسوف يعاقبه الله على ذلك يوم الدين. لن يمنعكم من عذاب الله أن تقولوا أن في البلد نواباً ولا علينا من أحد لأن إبلاغ أولي الأمر بأصحاب المنكر أمر لا يعذر بتركه أحد منكم، إذا تساعدتم على قيام هذا الدين فزتم في الدنيا والآخرة. والله إن المتكلم بكلمة الله تعالى لمرموق بالأبصار ولمحترم وموقر ومعتبر كلامه أيما اعتبار، لكن ذلك قد لا يتم لأول مرة فقد يجد في أول مرة نكبات ومعارضات واحتقار، لكن إذا صبر وثابر فسوف تكون العاقبة للحق، وللباطل وأهله الزوال والبوار. أما كان المشركون يستهزئون بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ويسخرون به ويغرون به سفهاءهم، أما وضعوا عليه احتقاراً وهو ساجد لربه سلا الجزور، ومع ذلك فقد صبر وباع نفسه لله حتى أظهره الله عليهم ولله عاقبة الأمور. إخواني: إن الحق مر على النفوس وشديد ولكن عقباه السرور والحلاوة والعيش الرغيد. إخواني: إنه ليجب على المسؤولين أكثر مما يجب على غيرهم، إن عليهم أن يتركوا الدعة والسكون والهوان وأن يجتمعوا جميعاً على الحق وإصلاح الأمور والنهوض بأمتهم في الأمور الدينية والدنيوية وإزالة الشر والطغيان، فإن ترك الفساد يفشو ويزيد سبب لهلاك الأمة وفساد المجتمع والدمار والتنكيد.(244/3)
إخواني: إذا لم يقم المسؤولون بإصلاح الأمور فمن الذي يقوم؟ وإذا لم يتكاتفوا على إصلاح ما يحصل من فساد فمن ذا الذي لإصلاحه يروم؟ وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن من كان قبلكم كانوا إذا عمل فيهم العامل بالخطيئة جاءه الناهي تعذيراً فقال: يا هذا اتق الله، فإذا كان من الغد جالسه وواكله وشاربه كأنه لم يره على خطيئة بالأمس، فلما رأى الله ذلك منهم ضرب بقلوب بعضهم على بعض ثم لعنهم على لسان نبيهم داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون، والذي نفس محمد بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد السفيه ولتأطرنه على الحق أطراً أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض ثم يلعنكم كما لعنهم)). ولما فتح المسلمون - رضي الله عنهم - إحدى الجزائر فرق أهلها فبكى بعضهم إلى بعض، فرأى جبير بن نفير أبا الدرداء وحده يبكي فقال له: ما يبكيك في يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله؟ فقال: ويحك ما أهون الخلق على الله عز وجل إذا هم أضاعوا أمره، بينما هي أمة قاهرة ظاهرة لهم الملك تركوا أمر الله فصاروا إلى ما ترى. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} [الإسراء:16]. اللهم أصلح قلوبنا وجميع شؤوننا. اللهم اجمع كلمتنا على الحق وقوم ولاة أمورنا. اللهم اهد ضلالنا وأرشد غواتنا وأصلح مستقبلنا يا منان يا بديع السماوات والأرض يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام. اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(244/4)
العنوان: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ الفريضة الغائبة
رقم المقالة: 1344
صاحب المقالة: نعيمة عبد الفتاح ناصف
-----------------------------------------
الأمرُ بالمعروف والنهيُ عن المنكر؛ الفريضةُ الغائبة في المجتمع الإسلامي
قضيةُ الأمرِ بالمعروف والنهيِ عن المنكر وتغييرِه في المجتمع من القضايا الهامة في الفقه والشريعة الإسلامية، فقد وضع الإسلامُ للمجتمع الإنساني تشريعًا كاملا في جميع نواحي حياته المادية والروحية، وأراد لهذا المجتمع أن ينموَ في ظل هذا التشريع الإلهي، فاهتم بوضع القواعد التي تكفلُ التقدمَ المستمر والدائم للأفراد والجماعات مع تغير البيئات والظروف، وتجدد المصالح والأعراف والعادات.
وقد جعل الإسلامُ هذه القواعدَ من أصوله، التي ينبغي أن يقوم عليها المجتمعُ، وأن يراعيها ولا يهمل الأخذ بها، ومن أهم هذه القواعد: أن يتوفر في المجتمع دائمًا من يقومون على إصلاح أموره في شؤون الدنيا والدين عن طريق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والعمل على تغييره بالطرق والضوابط التي حددها الاسلام.
فالأمرُ بالمعروف والنهيُ عن المنكر هو القطبُ الأعظم في الدين، وهو المهمة الأساسية التي بعث الله بها النبيين والمرسلين. ومنهج تغيير المنكر في الإسلام يندرج تحت هذه الفريضة الكبرى، التي فرضها الله -سبحانه- على الأمة الإسلامية وعلى ما سبقها من الأمم، وجعلها شرطَ الخيرية لهذه الأمة على سائر الأمم؛ فقال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110].(245/1)
فمِن صُوَر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: تغييرُ المنكر في المجتمع بالمراتب التي حددها الرسولُ –صلى الله علية وسلم– في قوله: "من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعفُ الإيمان"، رواه مسلم عن أبي سعيد الخدرى.
والعملُ على تغيير المنكر واجبٌ في الإسلام، والواجبُ إذا أهمله الإنسانُ أو تركه آخذَه الله سبحانه على ذلك، وقد استحق بنو إسرائيل اللعنةَ من الله سبحانه على لسان أنبيائهم، وضرب الله قلوب بعضهم ببعض، وسلط عليهم من لا يرحمهم، لتركهم هذا الواجب، ولانتشار المنكرات بينهم، دون أن تجد من يُغيّرها أو ينهى عنها؛ قال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة: 78–79].
وكان تركُهم لهذا الواجب سببًا لهلاكهم؛ قال تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف: 165].
كما أن تغيير المنكر هو صمام الأمان للمجتمع، وقوام نجاته من الفتن والمنكرات وعوامل الهدم والتخريب، وقد بين ذلك الرسول –صلى الله عليه وسلم– في الحديث الذي رواه البخاري والترمذي عن النعمان بن بشير مرفوعا :"مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فصار بعضُهم أسفلَها وبعضُهم أعلاها، فكان الذين في أسفلها إذا أرادوا أن يستقوا من الماء مرُّوا على من فوقهم، فقالوا: لو أننا خرقنا في نصيبنا خرقا ولا نؤذي من فوقنا، فلو تركوهم وما أرادوا هلكوا وهلكوا جميعا ولو ضربوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا".(245/2)
إن التغافل عن المنكر في المجتمع الإسلامي، هو بمنزلة من يخرق السفينة لكي تغرق بجميع من فيها، ومن هنا وجب الأخذُ على يدي فاعل المنكر، ومنعه وتغيير منكره.
فالإسلام لا يقبل أبدًا موقف الانعزاليين، الذين يقدرون على تغيير المنكر ولا يسعون لتغييره، مردّدين قولَه تعالى: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105]، أو مرددين الكلمة الدارجة على الألسنة "وأنا مالي"، وهي عنوان التسيب الذي لو استمرأناه لتعطلت حركة الحياة، وضعف الأمل في الإصلاح {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11].
إن أسوأَ ما يصيبُ المجتمعاتِ –كما يقول الدكتور يوسف القرضاوي– أن يخرس الطغيانُ والخوفُ فيها الألسنةَ، فلا تعلن كلمة حق، ولا تجهر بدعوة ولا نصيحة ولا أمر ولا نهي، وبذلك تنهدم منابرُ الإصلاح وتختفي معاني القوة وتذوي شجرة الخير ويجترئ الشر ودعاته على الظهور والانتشار، فيتفوق سوق الفساد، وترجح بضاعة إبليس وجنوده، من غير أن تجد مقاومة ولا مقاطعة، وحينئذ يستوجب المجتمع لعنة الله وعذابه، فيصب البلاء والنكبات على المقترفين للمنكر والساكتين عليه؛ قال تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال: 25].
وقال رسول الله –صلى الله علية وسلم–: "إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده"، رواه أبو داود والترمذي والنسائي، وقال في حديث آخر: "إذا رأيت أمتي تهاب أن تقول للظالم يا ظالم فقد تُوُدِّع منهم"، رواه أحمد عن ابن عمرو.(245/3)
وأسوأ من ذلك أن يموت الضمير الاجتماعي للأمة، أو يمرض على الأقل، بعد طول الإلف للمنكر والسكوت عليه، فيفقد المجتمعُ حسَّه الديني والأخلاقي، الذي يعرف به المعروف من المنكر، ويفقد العقل البصير الذي يميز به الخبيث من الطيب والحلال من الحرام والرشد من الغي، وعند ذلك تختل موازين المجتمع، وتضطرب مقاييسه فيرى السنة بدعة والبدعة سنة، أو يرى ما نحسه ونلمسه في عصرنا عند كثير من أبناء المسلمين من اعتبار التدين رجعية، والاستقامة تزمتًا، والاحتشام جمودًا، والفجور فنًا، والإلحاد تحررًا، والانحلال تقدمًا، والانتفاع بتراث السلف تخلفًا في التفكير، إلى آخر ما نعلم وما لا نعلم، وبعبارة موجزه: يصبح المعروف منكرًا والمنكر معروفًا.
وأسوأ من هذا وذاك أن يخفت صوت الحق، وتتعالى صيحات الباطل تتجاوب بها الأرجاء، داعية إلى الفساد، آمرة بالمنكر، ناهية عن المعروف، صيحات الذين وصفهم الحديث الشريف بأنهم "دعاة على أبواب جهنم؛ من أجابهم إليها قذفوه فيها"، رواه البخاري ومسلم عن حذيفة بن اليمان.
• مهمة الرسل والأنبياء:
فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذن رسالةٌ عظيمة ووظيفة سامية، ارتبطت بأشرف خلق الله على الأرض، وهم الرسلُ والأنبياء منذ آدم عليه السلام وحتى نبينا محمد –صلى الله عليه وسلم- خاتم الأنبياء والمرسلين.(245/4)
وهو وسيلة هامة من وسائل إصلاح المجتمعات وتقويم الانحراف، فعندما خلق الله آدم –عليه السلام– وأنزله إلى الأرض وضع له تشريعًا ومنهجًا يسير عليه في حياته، وهو تشريع يضمن له الفلاحَ والنجاح في الدنيا والآخرة، ما دام متمسكا به وسائرا على نهجة هو و ذريته من بعده، ولكن الله -سبحانه وتعالى- علم بقدرته وحكمته أن الإنسان لن يستمر سائرًا على هذا المنهج، بل سينحرف عنه ويحيد، ومن هنا جاءت مهمة الرسل الذين بعثهم الله سبحانه لدعوة الناس إلى المنهج الالهي، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، وتقويم ما حدث في الأرض من انحراف واعوجاج، فقد كان المولى -سبحانه وتعالى- يرسل في كل أمة ضلت وانحرفت عن منهجة رسولاً من البشر، يذكرُهم بطريق التوحيد ويدعوهم إليه، فقد أرسل موسى إلى فرعون الذي علا في الأرض، وتطاول على خالقه، وادعى الألوهية، وعاث في بني إسرائيل الفساد يذبحُ أبناءَهم ويستحيي نساءَهم ويسومُهم سوء العذاب، وأرسل نوحًا إلى قومه الذين ضلوا وأشركوا بالله، وعبدوا تماثيل لا تنفع ولا تضر، وأرسل لوطًا إلى قومه الذين انحرفوا، وشاعت فيهم جريمةٌ من أبشع الجرائم وهي اللواط، وأرسل هودًا إلى قومه عاد، وصالحًا إلى قومه ثمود، ومحمدًا -صلى الله عليه وسلم- إلى العرب الذين عبدوا الأصنام والتماثيل.
وكانت الوظيفة الأساسية لكل نبي ورسول هي: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهل هناك معروف أكبر من الإيمان بالله سبحانه وتوحيده ومنكر أكبر من الشرك بالله سبحانه وعبادة غيره؟
وقد لاقى الرسلُ والأنبياء في سبيل هذه الوظيفة كلَّ صنوف العنت والاضطهاد والتعذيب، فصبروا وتحملوا وجاهدوا في سبيل رسالتهم، حتى بلّغوها كاملة إلى العالمين.
• خيرية الأمة الإسلامية:(245/5)
ولكن إذا كانت رسالاتُ السماء قد انتهت بالإسلام، وهو الرسالة العالمية التي لا تخص أمة دون غيرها فمن يقوم بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بين الناس إذا انحرفوا عن المنهج؟
إن هذا التساؤل يشير إلى المكانة التي اتخذتها الأمةُ الإسلامية بين الأمم، وهي مكانةٌ عظيمة لا تدانيها مكانةٌ؛ إذ شرفها الله سبحانه بحمل فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجعلها سببا لخيريتها على سائر الأمم؛ فقال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110].
وقال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104].
فالأمة المحمدية خير أمة أخرجت للناس، ما دامت تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وسوف تظل خير الأمم وأعلاها ما دام أبناؤها قائمين على هذا الواجب، أما إذا تخلت عنه، فسوف تسقط عنها هذه الخيرية، وتصبح أمة ضعيفة ذليلة لا قيمة لها ولا وزن، ومن هنا وجدنا التوجيهات القرآنية التي تحض الأمة الإسلامية على هذا الواجب؛ قال تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [الحج: 41].
وقال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [التوبة: 71]، وقال تعالى: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآَمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة: 112].(245/6)
وقال تعالى: {يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ} [آل عمران: 114].
وقال تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199].
وقال تعالى على لسان لقمان: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [لقمان: 17].
• عواقب ترك الفريضة:
ويحذرُ القرآنُ الكريم من التخلي عن هذا الواجب، ويبينُ لنا عواقبَ تركه في قوله تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة: 78-79].
وقد جعل الرسول –صلى الله عليه وسلم – الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من حق الطريق على المسلم؛ فعن أبي سعيد الخدري –رضي الله عنه– أن النبي –صلى الله عليه وسلم– قال "إياكم والجلوسَ في الطرقات" فقالوا: يا رسول الله ما لنا من مجالسنا بُدّ نتحدث فيها، فقال: "فإذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقَّه"، قالوا: وما حقُّ الطريق يا رسول الله؟، قال: "غض البصر، وكفُّ الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر" متفق عليه.(245/7)
وبين رسول الله –صلى الله عليه وسلم– ما حدث لبني إسرائيل حين تخلوا عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقال في الحديث الذي رواه أبو داود والترمذي عن ابن مسعود: "إن أول ما دخل النقصُ على بني إسرائيل أنه كان الرجل يلقى الرجل، فيقول: يا هذا اتق الله ودع ما تصنع؛ فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد وهو على حاله، فلا يمنعُه ذلك من أن يكون جليسَه وأكِيلَه وشَرِيبَه، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوبَ بعضهم ببعض ولعنهم".
وقال صلى الله عليه وسلم في حديث آخر: "لما وقع بنو إسرائيل في المعاصي نهاهم علماؤهم فلم ينتهوا، فجالسوهم في مجالسهم، وواكلوهم وشاربوهم، فضرب الله قلوب بعضهم ببعض ولعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون".
ويوجه النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- تحذيرَه المباشر إلى الأمة الإسلامية من التخلي عن واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيقول في الحديث الذي رواه الترمذي عن حذيفة بن اليمان: "والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابًا منه، ثم تدعونه فلا يستجاب لكم".
وروى الترمذي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه".
ولن ينجو من هذا العقاب إلا الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، قال تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف: 165].(245/8)
وروى أبو داود وابن ماجه والترمذي عن أبي ثعلبة الخشني أنه قيل له: كيف تقول في هذه الآية {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105] فقال: أما والله لقد سألت عنها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "بل ائتمروا بالمعروف، وانتهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحا مطاعا، وهوى متبعا، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك نفسك ودع عنك أمر العوام".
• التكافل الأدبي بين المسلمين:
فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى جانب الصلاة والزكاة أهم ما تقوم به دولة الإسلام، بعد أن يمكن الله لها وينصرها على عدوها، بل هي لا تستحق نصر الله إلا بهذا؛ قال تعالى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج: 40-41].
هذه هي فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، التي غابت اليوم عن مجتمعات المسلمين، إلا ما رحم الله، إنها علم على وجوب التكافل الأدبي بين المسلمين، كما أن الزكاة علم على وجوب التكافل المادي بينهم.
وهذه الفريضة هي بمنزلة الحراسة للرأي العام، فرضها الله على مجموع الأمة، على اختلاف أصنافها، وجعلها فرضا من فروض الكفاية، فإذا أدى المجتمع هذا الواجب بقيام جماعة فيه من أهل السلطان أو من أهل العلم أو حتى من عامة الناس بأداء هذا الواجب صار المجتمع قائما به، وإذا لم يقم ذلك في المجتمع صار كله آثما بإهماله هذا الواجب.
فشأن مجتمع المؤمنين هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ قال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة: 71].(245/9)
أما مجتمع المنافقين الذين جعلهم القرآن الكريم في الدرك الأسفل من النار، فقد حددت معالمه الآية الكريمة {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [التوبة: 67].
وهذه الخصال مناقضة تمام المناقضة لمجتمع المؤمنين، ومن أروع الأحاديث التي وضحت هذا التنزيل في دركات الشر والمعصية ما رواه أبو أمامة مرفوعا: "كيف أنتم إذا طغى نساؤكم، وفسق شبابكم، وتركتم جهادكم؟"، قالوا: وإن ذلك لكائن يا رسول الله؟ قال: "نعم والذي نفسي بيده وأشد منه سيكون"، قالوا: وما أشد منه يا رسول الله؟ قال: "كيف أنتم إذا لم تأمروا بمعروف ولم تنهوا عن منكر؟"، قالوا: وكائن ذلك يا رسول الله؟ قال: "نعم والذي نفسي بيده وأشد منه سيكون"، قالوا: وما أشد منه يا رسول الله؟ قال: "كيف أنتم إذا رأيتم المعروف منكرا والمنكر معروفا؟"، قالوا: وكائن ذلك يا رسول الله؟، قال: "نعم والذي نفسي بيده وأشد منه سيكون"، قالوا: وما أشد منه يا رسول الله؟ قال: "كيف أنتم إذا أمرتم بالمنكر ونهيتم عن المعروف؟"، قالوا: وكائن ذلك يا رسول الله؟ قال: "نعم والذي نفسي بيده وأشد منه سيكون؛ يقول الله تعالى: بي حلفت لأتيحن لهم فتنة يصير الحكيم فيها حيران".
ويبدو –كما يقول الدكتور يوسف القرضاوي– أن الكثير مما حذر منه هذا الحديث قد وقع حتى غدا المعروف منكرا والمنكر معروفا، وأصبحت الدعوة إلى الإسلام وشريعته وكأنها جريمة، وأمسى الداعي إلى الإسلام "أصوليا" مكانه قفص الاتهام.(245/10)
إن هذا الحديث النبوي الشريف وما سبقه من أحاديث وآيات قرآنية حول واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، تبين أهمية هذه الفريضة الكبرى، ودورها في استقامة المجتمع ونجاته، وقيامه برسالته على وجه الأرض، فكل بني آدم –كما يقول ابن تيمية– لا تتم مصلحتهم لا في الدنيا ولا في الآخرة إلا بالاجتماع والتعاون والتناصر، فالتعاون على جلب منافعهم والتناصر لدفع مضارهم.. ولهذا يقال: الإنسان مدني بالطبع، فإذا اجتمعوا فلابد لهم من أمور يفعلونها يجتلبون بها المصلحة وأمور يجتنبونها لما فيها من المفسدة، ويكونون مطيعين للآمر بتلك المقاصد والناهي عن تلك المفاسد، فجميع بني آدم لا بد لهم من طائفة آمر وناه.
ثم يقول ابن تيمية: "وكل بشر على وجه الأرض لا بد له من أمر ونهي، ولا بد أن يأمر وينهى، حتى لو أنه وحده لكان يأمر نفسه وينهاها إما بمعروف أو بمنكر"، ويقول ابن العربي المالكي: "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أصل في الدين، وعمد من عمدة المسلمين وخلافة رب العالمين، والمقصود الأكبر من بعث النبيين، وهو فرض على جميع الناس مثنى وفرادى بشرط القدرة عليه".
• المراجع:
1. الحسبة في الإسلام - ابن تيمية - رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد - المملكة العربية السعودية.
2. ملامح المجتمع الإسلامي الذي ننشده - د. يوسف القرضاوي - مكتبة وهبة - الطبعة الأولى - القاهرة 1993.
3. أصول المجتمع الإسلامي - د. جمال الدين محمود - سلسله دراسات في الإسلام - وزارة الأوقاف المصرية - العدد 252 - محرم 1404هـ.
4. تفسير ابن كثير - الإمام إسماعيل بن كثير - مكتبة دار التراث القاهرة.
5. رياض الصالحين - الإمام النووي - مؤسسة الرسالة - بيروت 1984م.
6. الكنز الثمن في أحاديث سيد المرسلين - دار الفرقان.(245/11)
العنوان: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
رقم المقالة: 1362
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70- 71].
أمَّا بَعْدُ: فإنَّ أَصْدَقَ الحديثِ كلام الله – تعالى -، وَخَيْرَ الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم -، وشر الأمور محدثاتها، وكل مُحْدَثَة بِدْعَة، وكل بدعة ضَلالة، وكل ضلالة في النار.(246/1)
أيها الإخوة المؤمنون: جعل الله الدنيا دار بلاء يبتلي فيها عباده، أبان لهم فيها الطريق إليه، وحذرهم من سبيل الشياطين، وخلق الجنة لمن أطاعه، والنار لمن عصاه. ولأن الناسَ كلهم يريدون الجنة ولا يريدون النار، جعل الطريق إلى الجنة فيها من البلاء والمكاره ما لا يجاوزها إلا مؤمن. وملأ طريق النار بالشهوات حتى يتمحص الصادق الذي يخافها فيصبر عن الشهوات، قال - عليه الصلاة والسلام -: ((حجبت النار بالشهوات وحجبت الجنة بالمكاره))؛ أخرجه الشيخان من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -[1]. ولن يترك الشيطانُ بني آدم على الهداية؛ بل يسعى جهده في إغوائهم. ومن بني آدم مَنْ تضعفُ إرادته، وتَهِنُ عزيمته، وتُلهِبُه شهوتُه فيسير في طريق الشيطان، مما يوجب على أفراد الأمة رده إلى الطريق الصحيحة.
من هذا الباب كانتْ مَشْرُوعيَّة الأَمْرِ بِالمَعْرُوفِ والنهي عن المنكر، وصار فرضًا على الكفاية، ويتعين في بعض الحالات. ومن العلماء من يرى أن فروض الكفاية أعلى من فروض الأعيان؛ لأنَّ فيها القيامَ عن الأمة في أداء هذا الفرض، وإسقاطَ الإثم عن أفرادها.
يقول إمام الحرمين أبو المعالي الجويني: "والذي أراه أن القيامَ بفرض الكفاية أفضل من فرض العين؛ لأنه لو ترك المتعين اختص هو بالإثم، ولو فعله اختص بسقوط الفرض. وفرض الكفاية لو تُرِكَ أَثِم الجميع، ولو فَعَله سقط الحرج عن الجميع، ففاعلُه ساعٍ في صيانة الأُمَّة عنِ الإثم ولا يُشَكُّ في رُجْحَانِ مَنْ حَلَّ مَحَلَّ المسلمين أجمعين في القيام بِمُهِمٍّ من مهمات الدين"، ا.هـ[2].(246/2)
فشأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عظيم، وهو من صفات المؤمنين، كما أن عكسه من صفات المنافقين: {المُنَافِقُونَ وَالمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ المُنَافِقِينَ هُمُ الفَاسِقُونَ} [التوبة: 67]، وفي آية أخرى: {وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ[التوبة: 71]، قال القُرْطُبِيّ: "فجعل الله - تعالى - الأمر بالمعروف والنهيَ عن المنكر فرقًا بين المؤمنين والمنافقين فدلَّ على أنَّ أخصَّ أوصافِ المؤمنين الأمر بالمعروف والنهيُ عن المنكر" ا. هـ[3].
وأخبر - تعالى - أن الخيرية في هذه الأمة إنما كانت بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع الإيمان بالله – تعالى -: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِالله} [آل عمران: 110].
أيُّها الإخوة: إنَّ المعصية إذا ظهرت في الناس كان أثرها عظيمًا في إفساد القلوب، ومحق البركات، وحلول العقوبات. ولا ينجو من ذلك كلِّه إلا الآمرون بالمعروف، الناهون عن المنكر. حتى إن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر ينجو من الفتنة حينما يقع الناس فيها؛ لما في قلبه من الصلاح وإنكار المنكر، فَيَتَأَبَّى قلبه على الفتنة أن تداخله فتفسده. وبالضد يكون من أهَملَ الأمر بالمعروف والنهيَ عن المنكر، تموجُ به الفتن، وتتقاذفه الأهواء؛ لما في قلبه من الفساد.
وما أفسد قلبَه إلا أنه لم ينكر المعصية حتى ألفها فتمكنت منه الفتنة؛ ذلك أن المعاصيَ سبيلُ الفتن؛ بل هي من الفتن نفسها.(246/3)
خرَّج الإمام مُسْلِم في صحيحه من حديث حُذَيْفَة بن اليمان - رضي الله عنهما - قال: "كنا عند عمر فقال: أيكم سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذكر الفتن؟ فقال قوم: نحن سمعناه، فقال: "لَعَلَّكُمْ تَعْنُونَ فتنة الرجل في أهله وجاره؟" قالوا: أجل، قال: تلك يُكَفِّرُها الصلاة والصيام والصدقة. ولكن أيكم سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يذكر التي تموج موج البحر؟ قال حذيفة: فأسكت القومُ، فقلت: أنا، قال: أنت لله أبوك، قال حذيفة: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((تُعرض الفتنُ على القلوب؛ كالحصير عودًا عودًا، فأيُّ قلب أُشربها نكت فيه نكتةٌ سوداء، وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير على قلبين: أبيض مثل الصَّفا، فلا تضرُه فتنة مادامت السموات والأرض، والآخر: أسود مُرْبَادًّا ، كالكوز مجخيًا، لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا، إلا ما أشرب من هواه))... الحديث[4]، فذكر في وصف صاحب القلب الأسود المرباد أنه لايعرف معروفًا، ولا ينكر منكرًا.
والإنكار بالقلب واجب على المؤمن بكل حال؛ لكن ما الحيلة إذا كان القلب يهوى المعصية، ويحب أن تشيع بين الناس؟ وذلك هو القلب الذي سُلِب الإيمان، قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة - رحمه الله تعالى -: "والاهتداءُ إنما يتم بأداء الواجب، فإذا قام المسلم بما يجب عليه من الأمر بالمعروف والنهْيِ عن المنكر كما قام بغيره من الواجبات لم يضره ضلالُ الضال، وذلك يكون تارة بالقلب، وتارة باللسان، وتارة باليد. فأمَّا القلب فيجب بكل حال؛ إذ لا ضرر في فعله، ومن لم يفعله فليس هو بمؤمن؛ كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((وذلك أضعف أو أدنى الإيمان))[5]، وقال: ((وليس وراء ذلك من الإيمان حبةُ خردل))[6].(246/4)
هذا أثرُ تركِ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ودورُه في إفساد قلب المرء، فكيف إذا كان المرء يأمر بالمنكر وينهي عن المعروف؛ بل يُنْكِرُ على الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر؟ كيف سيكون قلبُه؟
إن المصيبة - أيها الإخوة - أن المعصية تعمل بين الناس، وتشتهر فإذا أنكرها مؤمن منهم زَلَقُوهُ بأبصارهم، وسَلَقُوه بألسنتهم، واتَّهموه بالتَّطفُّل والتدخل فيما لا يعنيه. سبحان الله، هل أصبح إنكارُ المنكر لا يعني المؤمن وهو ركن من أركان دينه؟ فهل فسدت قلوب الناس بمواقعتها للمعاصي؟ وصارَ بَيْنَ المعاصي وبين القلوب ألفة ومودة، حتى يُنكرَ على مَنْ أَنْكَرَهَا؟ فنعوذ بالله من تلك الحال!!
سئل ابن مسعود - رضي الله عنه -: "من ميتُ الأحياء؟ قال: "الذي لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً"[7]، وإنما وصفه بالميت؛ لأن قلبه مات، فانظروا - رحمكم الله - كيف يفعل تركُ الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر بالقلوب.
ويكفي الآمرَ بالمعروف والناهِيَ عَنِ المُنْكَرِ شَرَفًا أنَّهُ حِينَما يُنْكِرُ مَعْصِيَةً؛ فكأنه لم يحضرها، فلقد أخرج أبوداود بسند حسن عن عُرس بن عميرة الكندي - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا عُمِلت الخطيئة في الأرض كان من شهدها وكرهها)) - وفي رواية –: ((فأنكرها كمن غاب عنها، ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها))[8].
فاتقوا الله ربكم، ومروا بالمعروف، وانهَوْا عن المنكر، ولا تغتروا بكثرة الهالكين والمواقعين للمعاصي، والمجاهرين بها، فكلٌّ سيلقى ما عمل. نسأل الله - تعالى - أن يحفظنا من المُنْكَرات، وأن لا يعذبنا بسبب ذنوبنا إنه سميع مجيب، وأقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية(246/5)
الحمد لله حمدًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، أحمده وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله - صلى الله وسلم وبارك عليه - وعلى آله وأصحابه ومن سار على نهجهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله - تعالى - وأطيعوه؛ فتقوى الله - تعالى - سبب للأمن والسعادة {فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الأعراف: 35].
أيها الإخوة المؤمنون: كما أن الرِّضَى بالمعصية يفسد القلب حتى ولو لم يكن العبدُ مواقعًا لتلك المعصية؛ فإن للرِّضَى بالمعاصي، والمُجَاهَرَة بها، وظهور المنكرات أثرًا مدمرًا على مُسْتَوَى الجَمَاعَة والأمة.
فأمةٌ لا تأمر بالمعروف ولا تنهى عن المنكر لا تستحق الأمن والرزق، وتكون حَرِيَّة بالعذاب والهلاك. إذا كان كل فرد من أفرادها يرى صاحبَ المنكر فلا يقول له: يا هذا، اتق الله ولا تَعْصِه وأنت في أرضه. وإنما يقول: هذا لا يعنيني، وضررُه على نفسه. وما علم أن الضرر يشمل الجميع.
روى قيس ابن أبي حازم - رضي الله عنه - قال: "قال أبو بكر بعد أن حمد الله وأثنى عليه: "يا أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية تضعونها على غير موضعها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105]، وإنما سَمِعْنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إنَّ النَّاس إذا رَأَوُا الظالم فَلَمْ يَأْخُذُوا على يَدَيْهِ، أَوْشَكَ أنْ يَعُمَّهُمُ الله بعقاب))، وإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((ما من قوم يُعمل فيهم بالمعاصي ثم يقدرون على أن يغَيّروا، ولا يغيرون إلا يوشكُ أن يعمَهم الله بعقاب))؛ أخرجه أبوداود والترمذي[9].(246/6)
وهذا العقاب يكون للناس كلهم، بعلمائهم ووعاظهم وصلحائهم وفجَّارهم ولا ينجو منه إلا الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف: 165] قال ابْنُ النَّحَّاسِ: "فَبَيَّنَ - سُبْحانَهُ - أنَّ النَّاجِيَ هو النَّاهِيَ عن السوء دون الواقع فيه والمداهن"[10].
أيها الإخوة: يُخْطِئُ الكثِيرونَ حِينَما يَظُنُّونَ أنَّ الأَمْرَ بِالمَعْرُوفِ والنَّهْيَ عَنِ المُنْكَرِ هُوَ مُهِمَّةُ العلماء والصلحاء ورجال الحسبة، وأنه لا يجب على غيرهم.
وهذا ظَنٌّ خاطِئٌ؛ لأن هذا الركن من الدين سبب لحفظ الأمن وحصول الرزق، وحفظ الأمن مسؤولية الجميع. قال الرافعي والنووي وغيرهما: "لا يختص الأمر والنهي بأصحاب الولايات والمراتب؛ بل ذلك ثابت لآحاد الناس من المسلمين، وواجب عليهم" ا. هـ[11].
وَيَرى البعض أنه لا يأمر بمعروف، ولا ينهى عن منكر إلا من كان مستقيمًا كامل الاستقامة. وهذه رؤية غير صحيحة؛ بل حتى العُصَاة يجب عليهم الأمر بالمعروف والنهي عن المُنْكَرِ ولو كانوا يرتكبون الكبائر من الذنوب. وقد نقل ابن عطية عن أهل العلم: "أنه ليس من شُرُوطِ الناهي أن يكون سليمًا عن معصية بل ينهى العصاة بعضهم بعضًا"[12]. وقال الأصوليون: "فرض على الذين يتعاطون الكؤوس - أي كؤوس الخمر - أن ينهى بعضهم بعضًا، لأن قوله تعالى: {كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ} [المائدة: 79] يقتضي اشتراكهم في الفعل وذمّهم على ترك التناهي"[13]. وإذا كان المرء مرتكبًا لمعصية ولم ينه عنها كان واقعًا في إثمين: العصيان، وعدم الإنكار.(246/7)
فاتقوا الله ربكم، وخذوا على أيدي السفهاء منكم، ومروا بالمعروف وتَنَاهَوْا عن المنكر، وليكن الرفق في ذلك صفتكم؛ لأن صاحب المعصية مريض يحتاج إلى علاج، فيعالج برفق؛ ولذلك قال العلماء: "ليكن أمرك بالمعروف بمعروف، ونهيك عن المنكر غير منكر"[14] إلا المجاهرين بالمعاصي، المُصِرِّين عليها، الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا. فهؤلاء لا رفق معهم؛ لأنهم يريدون هلاك الناس وفسادهم. نسأل الله تعالى أن يفضحهم ويخزيهم، ويكفي البلاد والعباد شرهم، إنه سميع مجيب، وصلوا وسلموا على نبيكم محمد؛ كما أمركم بذلك ربكم.
---
[1] أخرجه البخاري في كتاب الرِّقَاق باب حجبت النار بالشهوات (6487)، ومسلم في الجنة وصفة نعيمها وأهلها باب صفة الجنة (2823).
[2] "تنبيه الغافلين عن أعمال الجاهلين وتحذير السالكين من أعمال الهالكين" لابن النحاس (21).
[3] الجامع لأحكام القرآن (4/47).
[4] أخرجه مسلم في الإيمان؛ باب بيان أن الإسلام بدأ غريبًا وسيعود غريبًا (114).
[5] ماذكره شيخ الإسلام جزء من حديث أبي سعيد الخدري: ((مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَراً...))، وقد أخرجه مسلم في الإيمان باب كون النهي عن المنكر من الإيمان (49)، والترمذي في الفتن باب ما جاء في تغيير المنكر باليد (2173)، والنسائي في الإيمان باب تفاضل أهل الإيمان (8/111)، وأبوداود في صلاة العيدين باب الخطبة يوم العيد (4340)، وابن ماجه في الفتن باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (4013).
[6] وهذا أيضًا جزء من حديث ابن مسعود الذي أخرجه مسلم في كتاب الإيمان باب كون النهي عن المنكر من الإيمان (50)، ومطلعه: ((ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي...))، وكلام شيخ الإسلام هذا انظره في: "الاستقامة" (2/212).
[7] "الاستقامة" لشيخ الإسلام ابن تيمية (2/197).
[8] أخرجه أبوداود في الملاحم باب الأمر والنهي (4345)" وحسنه الألباني في "مشكاة المصابيح" ( 3/5141).(246/8)
[9] أخرجه أبوداود في الملاحم باب الأمر والنهي (4338)، والترمذي في تفسير سورة المائدة (3059)، وابن ماجه في الفتن باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، (4005) وجوّد إسناده الحافظ ابن حجر في "تهذيب التهذيب" (1/267)
[10] "تنبيه الغافلين عن أعمال الجاهلين" (12).
[11] المصدر السابق (24).
[12] المصدر السابق (24).
[13] المصدر السابق (24).
[14] "الاستقامة" لابن تيمية (2/200)، وانظر مكارم الأخلاق المجموع من كتب شيخ الإسلام لعبدالله بدران، ومحمد الحاجي (57).(246/9)
العنوان: الأمريكيون يتساءلون: "لماذا يكرهنا أعداؤنا وأصدقاؤنا؟!"
رقم المقالة: 1848
صاحب المقالة:
-----------------------------------------
تتنامى يوميًّا مشاعر الاستياء ضد الأمريكيّين، ومطالبة أمريكا بإعادة النظر في القوانين التي تتعلَّق بحجز المشتبَه في تورّطهم بالإرهاب، في الوقت الذي تتزايد فيه مطالب الأمريكيين بِسحب قوَّاتِهم من العراق وتركه لأهله، فقد كتب نيال فيرغوسون في صحيفة "لوس أنجلوس تايمز" تحت عنوان: "لماذا يكرهنا أعداؤنا وأصدقاؤنا؟!"، يتحدث فيه عن تنامي المشاعر المناهضة لأمريكا لا في أماكن كالشرق الأوسط وحسب؛ بل في الدول الأوروبية التي طالما كانت تسجّل ولاءها لأمريكا.
واستهلَّ مقاله بالقول: ليتني أحصل على دولار، كلما يوجه لي هذا السؤال: لماذا يكرهوننا؟ ودولار آخر على كل جواب أسمعه مثل: بسبب سياستنا الخارجية، أو بسبب تطرفهم، أو بسبب غطرستنا، مشيرًا إلى أن الأمريكيين يكرهون أن لا يعرفوا لماذا يكرهون؟
ومضى يقول: إن عبارة الحلفاء غير الودودين المتناقضة ليست مقصورة على الشرق الأوسط، مستشهدًا بإعلان رئيس الوزراء البريطاني توني بلير سحب جزء من قواته من العراق، وكذلك الأزمة الإيطالية التي نشبت في الآونة الأخيرة بسبب الخلاف حول بقاء القوات الإيطالية في العراق، ومحاكمة الأمريكيين الذين اختطفوا الإمام أبا عمر المصري.
وتابع: إن مناهضة الأمريكيين ليست شيئًا جديدًا في السياسات الأوروبية؛ ولكن الجديد هو امتدادها إلى الدوائر الانتخابية الموالية لأمريكا.
وضرب الكاتب مثالاً قائلاً: إن 83 % من البريطانيين أيدوا أمريكا في سياساتها، بحسب استطلاع للرأي أجري عام 1999 ولكن استطلاع 2006 أشار إلى أن هذه النسبة انخفضت إلى 56 % فقط، وتحول مناصرتهم ألمانيا بنسبة 75 %، واليابان بنسبة 69 %.(247/1)
وتحت عنوان: "خطوة كندا لاستعادة الحقوق" رحبت صحيفة "نيويورك تايمز" في افتتاحيتها بقرار المحكمة العليا الكندية، الذي أبطل قانونًا استخدمته الحكومة في حجز المشتبَه في تورطهم بالإرهاب من دون تحديد المدة، وهو القانون الذي تم تمريره عام 1978؛ ولكن الحكومة وظفته حينئذٍ لحجز وترحيل الجواسيس الأجانب فقط.
ولكن بعد 2001 – تقول الصحيفة – بدأت الحكومة الكندية بتطبيقه لتوقيف المشتبه فيهم؛ بدعوى أنه الأداة المهمة في الحفاظ على أمن كندا.
ودعت الصحيفة صناع القانون في واشنطن إلى الاحتذاء بالتوجهات الكندية، والعودة إلى قاعدة الحقوق الإنسانية والحقوق المدنية، وطالبت الكونغرس بإبطال أو إعادة كتابة القوانين التي أسيء استخدامها باسم الأمن القومي، بَدءًا بقانون المحاكم لعام 2006.
وقالت صحيفة "واشنطن بوست": إن أغلبية الأمريكيين – وسط إعداد الكونغرس لتجديد النقاش حول سياسات الرئيس الأمريكي جورج بوش في العراق – يؤيدون الآن تحديد موعد نهائي لسحب القوات الأمريكية من العراق، ويدعمون وضع شروط جديدة على الجيش، يُحدَّد بموجبها عدد الموظفين الذين يعملون هناك.
ووفقًا لاستطلاع للرأي أجرته الصحيفة بالتعاون مع هيئة (إي بي سي) للأخبار، فإن اثنين من بين كل ثلاثة من الأمريكيين سجلوا اعتراضهم على خطة بوش إرسال 21 ألف جندي إلى العراق، وقال 56 % منهم إنهم يعارضون بقوة.
ووجد الاستطلاع أن 53 % من الأمريكيين فضلوا تحديد موعد نهائي لسحب القوات الأمريكية من العراق، منهم 24 % قالوا: إنهم يؤيدون عودة القوات في غضون ستة أشهر، و21 % دعوا إلى اكتمال الانسحاب في غضون عام.
ونوهت "واشنطن بوست" إلى أنها المرة الأولى التي يكشف فيها استطلاع عن رغبة أغلبية الأمريكيين بسحب القوات، بصرف النظر عن تدهور الأوضاع المدنية في العراق.(247/2)
العنوان: الأمومة
رقم المقالة: 423
صاحب المقالة: بدر بن محمد عيد الحسين
-----------------------------------------
لكم تساءلت عن ماهيَّة أحاسيس الأم، وعن سِرِّ جوهر قلبها الرَّفيع، وعن دفء شمسها التي لاتغيب، وروعة أيكها الزَّاهي الذي لا يذبل، وصِدق مشاعرها التي لا تفتُر ولا تَمَل إذ تُفيضُ الحُبَّ من جنباتها ومن باطنها كعين ماءٍ ثَجَّاجة وكمشكاةِ نورٍ وهَّاجة. ولكنني لم أحصل على مُبتغاي، لأنَّ المادَّة التي أبحث عنها تَجِلُّ عن الوصف، وتسمو عن الرؤية، فَهيَ بِنظري عُصارة المبادئ والقيم والمثل مجتمعة، وخلاصة رحيق الزُّهور، ورِقَّةُ تغريد العصافير وشدو البلابل . أراها في البخور الذي يحترق لِيَنشر الطيب، وفي الشمعة التي تذوب لِتبدد الظلام، وفي الجسد الذي يتألَّم لِيَهَبَ السَّعادة للآخرين وفي السَّحابة التي تُمزِّق نفسها وتُبدِّدُ عِهنَها لتروي الأقاحي العطشى. إنها البدر المكتمل الذي تفتَلِذُ الليالي والأيام من كبده القطعة تلو القطعة حتى إذا ما تلاشى عادَ لِيَنسُجَ خيوطَ نوره من جديد لِينير دروب المسافرين في أحضان الدفء والمدلجين في رحاب الفضيلة .
إنَّ الأمومةَ عطاءٌ مع العناء وسخاءٌ مع الابتلاء وتضحية مع الرجاء . الأمومة فيها بَصمة من النَّبوة تتجسَّد في الرِّضا الداخلي عن الولد العاق، وفيها أثرٌ عظيم من آثار رحمة الخالق عزَّ وجل في حُنُوِّها على وليدها، تلكم الصورة النبيلة التي تمثِّل أنقى صُور التَّضحية وأعلى مراتب الحب.وإذا ما اكْتَنَهْتَ باطنَ الأمومة التي يَلِجُّ بها الشوق إلى الحنان والبنوة لوجدت أن ثغرها يَفترُّ عن الأنوار افترار الرحيق عن الزَّهر الذي كأنما يَنْفَحُ من الجنَّة، وافترار النَّدى عن نسيم الصَّبا الذي يُفعِمُ كل ماحوله عِطراً، ولوجدت أنَّها سَيلٌ عاشقٌ يعتلي صهوة الأرض فَيقَبِّلَ التراب وأكمام الزَّهر وخدود الثَّمر وأغصان الأشجار.(248/1)
الأمومة ألوانٌ جميلة متعددة تفوق عدد تلك التي في الرياض والخمائل فهي كالشاعر الذي يَتَنقَّل بين أفنان اللغة تنقَّل العصفور مابين الورود فَيَقطِفُ من هنا زهرة ومن هناك يتأمَّل صورة ويستوحي فكرة.فللأمومة في كل يوم طعم جديد ولون جذاب مختلف فَهي ماءُ نهرٍ جارٍ ونبعُ ماء لا يُكرر ولا يسترجع القطرات التي يَهَبُها للأرض العطشى.
الأمومة أصلٌ والأبوة صورة عنها لأن الأمومة مهامسةٌ للمحبوب وملامسَةٌ له إذ تَختَلطُ الأم وتمتَزج مع جنينها مخالطة الشذا للورد فَتدخل في نِقْي عظامه وفي بؤبؤ عينيه وتسكن شغافَ قلبه وتحوكُ أنسجةَ جلده وكريات دمه بقدرة الله ومشيئته.هذا في العالم الجوَّاني، أما إذا ما انفصلت العروة وانسَلَّ السنا من حضن الشمس والضياء من وجه القمر وتفتَّق الزهر عن الغصن وانبجس الماء من الرابية وتفجَّر الينبوع من الخميلة فَإنَّ ربيع الحُبُّ سَيُنشِدُ أنشودة العشق ويملأ أديمَ البشارة بأنواع الزهر أبيضه وأصفره وأحمره.فالأبوَّة أشبه بمن يقرأ مقالةً عن الرَّبيع بينما الأمومة هي الربيع ذاته والأبوة أشبه بمن يقرأ قصيدة عاشقٍ مُدنَف ولهان ولكن الأمومة هي نقاط القصيدة وحروفها ورويها وقافيتها وهي أيضاً بحرها وشاطئها.
الأب يَفرحُ بِقدوم المولود فَرَح المزارع بموسم الحصاد وفَرَح التَّاجِر بِربح الصفقة ولكنَّ الأم تَفرحُ بمولودها فَرَح الحبيب بِلقاء محبوبه وفَرَح الأرض بعناقِ الغيث وتسعَد سعادةَ البلبل الذي فُتِح له باب القفص وراح يُرفرف فوق أرجاء البساتين والروابي.إنَّ شميم مولودها يفوق أطيب العبير، إنَّها رَجْعُ عَرف الجَنَّة ونقاءُ ماء الكوثر.(248/2)
الأمومةُ عِقدُ الفرح والأمن الذي ينتظم قلوب الأبناء والمدرسة الأولى التي ينهلون من معينها معاني العطاء والحب والمودة والتضحية والإيثار فهي معلم لا يَكلُِّ ولا يمَلُّ ففي النَّهار تروي الظمأى وترضع الجوعى وتُصلح المتخاصمين وتجبرَ خاطر المُحزنين ولا يشغلها ذلك عن طاعة ربِّها وتسبيحه ولا تنسى مع ذلك أن تهذِب الزهور والنباتات البيتية التي في المنزل.وإذا ما جنَّ الليل وحَطَّ الكرى على الأهداب البريئة بدأ درسٌ جديد يتمثل بتعديل الرؤوس التي غادرت الوسائد وتغطيةِ الجسوم التي هربت من ثقل الأغطية وإرواء طمأ الأكباد العطشى التي غلبها النوم عن شرب الماء.
الأمومة هي الطريق إلى لجنَّة والقيامُ بواجب الأم وبِرِّها على الوجه الأكمل فضيلةٌ عظيمة لا يدركها إلا ذوو القلوب العامرة بالإيمان والعقول التي تشَّربت ماء الحنان والأنفس التي انسكبت في أرواحها كؤوس الأفهام والأمان.البِرُّ بالأم عبادةٌ وزلفى إلى الخالق ومرجٌ أخضر يبدأ من ابتسامة الأم وينتهي عند سدرة المنتهى.(248/3)
العنوان: الأمير العباسي الفقير
رقم المقالة: 1143
صاحب المقالة: الشيخ عائض بن عبدالله القرني
-----------------------------------------
إنَّ الحمد لله، نحمدهُ ونستعينهُ ونستغفرهُ، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا وسيِّئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومن يضللْ فلا هاديَ له، وأشهد أنْ لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء: 1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب: 70-71].
أما بعد:
فإن أصدقَ الحديثِ كتابُ الله، وأحسنَ الهديِ هديُ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ محدثةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعة ضلالةٌ، وكلَّ ضلالةٍ في النار.
يَا عَامِراً لِخَرَابِ الدَّارِ مُجْتَهِداً بِاللهِ هَلْ لِخَرَابِ الدَّارِ عُمْرَانُ
وَيَا حَرِيصاً عَلَى الأَمْوَالِ يَجْمَعُهَا أَبْصِرْ فَإِنَّ سُرُورَ الْمَالِ أَحْزَانُ
مَنْ يَتَّقِ اللهَ يُحْمَدْ فِي عَوَاقِبهِ وَيَكْفِهِ شَرَّ مَنْ عَزُّوا وَمَنْ هَانُوا
فَالْزِمْ يَدَيْكَ بِحَبْلِ اللهِ مُعْتَصِماً فَإِنَّهُ الرُّكْنُ إِنْ خَانَتْكَ أَرْكَانُ(249/1)
{مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [هود: 15-16].
{مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً * وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً * كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُوراً * انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً} [الإسراء: 18-21].
أيها الناس:
ما الدنيا؟ ما ذهبها؟ ما فضتها؟ ما قصورها؟ ما مناصبها؟ كل هذا لا يساوي شيئاً.
لعبٌ ولهو، تفاخر وتكاثر، زهو ورياء، إعجاب وغرور، أما الحقيقة الثابتة، أما القضية المهمة، فهي الإيمان والعمل الصالح.
خرج علي بن المأمون، ابن الخليفة العباسي المأمون، إلى شرفة من شرفات القصر ذات يوم، ينظر إلى سوق بغداد، ينظر من البروج العاجية، طعامه شهيٌ، ومركبه وطيّ، وعيشه هني، يلبس أفخر الثياب، ويأكل ما لذَّ وطاب، ما جاع يوماً في حياته، وما ظمئ أبداً، وما مست الشمس جبهته.
فأخذ ينظر من القصر إلى الناس في السوق، هذا يذهب، وهذا يأتي، هذا يبيع، وهذا يشتري.
ولفت نظر الأمير رجل من الناس، يعمل حمّالاً بالأجرة، وكان يظهر عليه الصلاح والنسك، حباله على كتفيه، والحمل على ظهره، ينقل الحمولة من دكان إلى دكان، ومن مكان إلى مكان.(249/2)
فأخذ الأمير يتابع حركاته في السوق، فكان هذا الحمَّال إذا انتصف الضحى، ترك السوق، وخرج إلى ضفاف دجلة، فتوضأ وصلى ركعتين، ورفع يديه إلى الحي القيوم.
سبحان مَنْ يَعْفُو وَنَهْفُوا دَائِماً وَلَمْ يَزَلْ مَهْمَا هَفَا الْعَبْدُ عَفَا
يُعْطِي الَّذِي يُخْطِي وَلا يَمْنَعُهُ جَلالُهُ عَنِ الْعَطَا لِذِي الْخَطَا
سبحان من اتصل به الفقراء والمساكين، سبحان من التجأ إليه الضعفاء والمظلومون، سبحان من عرفه الفقراء، وحُجب عنه كثير من الأغنياء والوجهاء.
عرفه الذي في الخيمة، وعلى الرصيف بيده كسرة الخبز، ولم يعرفه الذي في القصر الشاهق، والمنصب العالي، والمنزلة الرفيعة.
أخذ الأمير ينظر إلى هذا الرجل، فكان إذا صلى الضحى، عاد إلى عمله، فعمل حتى قبيل الظهر، ثم اشترى خبزة جافة بدرهم، فيأخذها إلى نهر دجلة، فيأتي إلى النهر، فيبلّ كسرة الخبز بالماء، ويأكلها، ثم يشرب من الماء، ويحمد الله - عزَّ وجلَّ - ثم يتوضأ لصلاة الظهر، فإذا صلى، جلس فدعا الله - عزَّ وجلَّ - وابتهل وبكى، وناجى الحي القيوم، ثم ينام ساعة، وبعد النوم ينزل إلى السوق، فيعمل ويجتهد، ثم يشتري خبزاً ويذهب إلى بيته.
وفي اليوم الثاني يعود إلى نفس العمل، وهكذا في اليوم الثالث والرابع، إلى أيام كثيرة.
فتعجب الأمير من ذاك الرجل، وأصرّ على أن يعرف قصته، فأرسل جنديّاً من جنوده إليه؛ ليستدعيه إلى القصر، فذهب الجندي، واستدعى الحمَّال، فقال الحمَّال: ما لي وملوك بني العباس، ليس بيني وبين الخلفاء صلة، ليست لي قضية ولا مشكلة، ولا مهمة، إن أشكل عليّ شيء رفعته إلى الحي القيوم، إن جعت أشبعني الله، وإن ظمئت سقاني الله، ما عندي دار، ولا عقار، ولا أرض، فقال الجندي: أَمْرُ الأمير، لابد أن تحضر اليوم في قصر أمير المؤمنين. فظن المسكين أن الأمير سوف يحاسبه أو يحاكمه، فقال: حسبنا الله ونعم الوكيل!!(249/3)
وهذه الكلمة سلاح الفقراء والمساكين، سلاح المظلومين والمضطهدين، بها تتكسر رؤوس الطغاة، وتتحطم عروش الجبابرة، وتسحق قلاع الظالمين.
قالها إبراهيم عليه السلام، لما أتوا به، ووضعوه في النار المحرقة، فجعلها الله عليه برداً وسلاماً.
وقالها موسى عليه السلام، لما طارده فرعون وجنوده، والبحر أمامه، والموت وراءه، فأخرج سلاحه وقال: حسبنا الله ونعم الوكيل، فنجاه الله.
وقالها محمد - صلى الله عليه وسلم - في بدر، وأحد، والأحزاب، وتبوك، والمسلمون في قلة، وضعف، وفقر، فقال: حسبنا الله ونعم الوكيل، فنصره الله، وهداه الله.
ذهب خالد بن الوليد إلى اليرموك، فرأى جيوش الروم كالجبال، والمسلمون فئة قليلة، فقال أحد الصحابة لخالد - رضي الله عنه -: اليوم نلتجئ إلى جبال أجا وسلمى. فدمعت عينا خالد، وقال: بل إلى الله الملتجأ، حسبنا الله ونعم الوكيل ... فانتصر.
ورأى سعدٌ فارس في الكفر والعماية والجهالة، فقال: حسبنا الله ونعم الوكيل، فداس رؤوسهم بقدميه.
وقالها صلاح الدين فانتصر المسلمون، وداسوا أهل الصليب بأقدامهم.
وقالها المجاهدون الأفغان، لما أتت روسيا بقواتها، وطائراتها، ودباباتها، وصواريخها، فخرج المسلمون الأفغان بأسلحتهم القليلة، متوضئين، متوكلين على الله.
قال لهم الناس: التجؤوا إلى القوى العالمية، قالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل.
قالوا لهم: اذهبوا إلى العواصم الدولية، قالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل.
قالوا لهم: الحل في واشنطن ونيويورك، قالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل.
{فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران: 174].
نصرهم الله - عزَّ وجلَّ - وخذل عدوهم، وأزال دولة الشيوعية من على خريطة الوجود!!
دخل الفقير على ابن المأمون الأمير، فسلم عليه.
قال الأمير: أما تعرفني.
قال الحمَّال: ما أتيتك، وما رأيتك حتى أعرفك!!(249/4)
قال الأمير: أنا ابن الخليفة.
قال الحمَّال: يقولون ذلك!!
قال الأمير: ماذا تعمل؟
قال الحمَّال: أعمل مع عباد الله، في بلاد الله!!
قال الأمير: قد رأيتك أياماً، ورأيت ما أنت فيه من مشقة وعناء، وإني أريد أن أخفف عنك.
قال الحمَّال: وكيف ذلك؟
قال الأمير: ائتِ بأهلك، واسكن معي القصر، آكلاً، شارباً، مستريحاً، لا همّ، لا غمّ، لا حزن.
قال الحمَّال: يا ابن الخليفة، لا همّ على من لم يذنب، ولا غمّ على من لم يعصِ، ولا حَزَن على من لم يسئ!! أما من أمسى في غضب الله، وأصبح في معصية الله، فهو في الغم والهم والحزن.
فقال له الأمير: وهل عندك أهل؟
قال الحمَّال: أمي عجوز، وأختي عمياء، آتي بإفطارهما قبل الغروب، فهما تصومان كل يوم، فنفطر جميعاً ثم ننام بعد العشاء.
قال الأمير: فمتى تستيقظ؟
قال الحمَّال: إذا نزل الحي القيوم إلى سماء الدنيا، في الثلث الأخير من الليل!!
قال الأمير: وهل عليك دين؟
قال الحمَّال: ذنوب سلفت بيني وبين الحيّ القيوم.
قال الأمير: ألا تريد أن تسكن معي القصر؟
قال الحمَّال: لا والله.
قال الأمير: ولم؟
قال الحمَّال: أخاف أن يقسو قلبي، وأن يضيع ديني.
قال الأمير: أتفضِّل أن تكون حمالاً جائعاً عارياً، ولا تكون معي في القصر؟!
قال الحمَّال: إي والله!!
ثم تركه الحمَّال وانصرف، فأخذ الأمير يتأمل، وينظر إليه وهو مشدوه، فقد أعطاه درساً عمليّاً في الإيمان والتوكل على الله، أملى عليه دروساً في التوحيد والعبودية، ألقى عليه كلمات نفذت إلى قلبه، فأخذ يتابعه بطرفه، حتى اختفى عنه.
وفي ذات ليلة، استفاق الأمير من غفلته، وأفاق من غيبوبته وصحا من نومه، وعلم أنه كان في سبات عميق، ونوم طويل، وأن الوقت قد حان للتوبة والتشمير.
تَنَبَّهُوا يَا رُقُودُ إِلَى مَتَى الْجُمُودُ
فَهَذِهِ الدَّارُ تَبْلَى وَمَا عَلَيْهَا يَبِيدُ
الْخَيْرُ فِيهَا قَلِيلٌ وَالشَّرُّ فِيهَا عَتِيدُ(249/5)
وَالْعُمْرُ يَنْقُصُ فِيهَا وَسَيِّئاتٌ تزيدُ
فَاسْتَكْثِرِ الزَّادَ فِيهَا إِنَّ الطَّرِيقَ بَعِيدُ
فاستيقظ الأمير وسط الليل، وقال لخدامه: إني ذاهب إلى مكان بعيد، فإذا أتى بعد ثلاثة أيام، فأخبروا والدي أني ذهبت، فسوف ألتقي أنا وإياه يوم العرض الأكبر.
إن كان قد عزّ في الدنيا اللقاءُ ففي مواقفِ الحشرِ نلقاكم ويكفينا
خرج الأمير في ظلام الليل، خلع ثيابه الفاخرة، ولبس لباس الفقير، ذهب واختفى، ولم يعلم أحد أين ذهب.
يقول أهل التاريخ: ركب إلى واسط، وغيّر هيئته، وصار مسكيناً من المساكين، وعمل أجيراً مع تاجرٍ من تجار الآجر، يعمل في صنع الطوب والطين والبناء.
أصبح ابن الخليفة صوَّاماً، قواماً، ذاكراً لله - تبارك وتعالى - له أوراد في الصباح والمساء، يحفظ القرآن، يصوم في شدة الهجير، يقوم الليل، يتَّصل بالحي القيوم، ليس عنده من المال إلا ما يكفيه يوماً واحداً. ذهب همه وغمه وكربه وحزنه، ذهب عنه العجب والكبر والخيلاء والغرور.
{أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 122].
ثم جاءت سكرة الموت بالحق، أتته الوفاة على هذه الحال، فأخبر التاجر أنه ابن الخليفة المأمون، وأوصاه إذا مات، أن يغسله، ويكفنه، ويدفنه، ثم أعطاه خاتمه ليسلمه إلى المأمون بعد وفاته.
ومات الأمير، فغسله الرجل، وكفنه، وصلى عليه، ودفنه، ثم ذهب بالخاتم إلى المأمون، فلما رأى المأمون الخاتم شهق وبكى حتى ارتفع صوته، ثم سأل التاجر عنه: وماذا كان يفعل؟ فأخبره التاجر أنه كان عابداً، ناسكاً، أواباً، ذاكراً لله تعالى، ثم أخبره بموته، فضجّ الخليفة والوزراء، وارتفعت أصواتهم بالبكاء والنحيب، وأيقنوا أن الأمير قد عرف طريق السعادة، وطريق النجاة يوم القيامة.(249/6)
لكنهم ما مشوا معه في الطريق، وما أنابوا إلى الله كما أناب؛ {فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء} [الأنعام: 125].
أيها الناس، عباد الله:
هذه قصة من قصص التائبين ذكرها أهل التأريخ في كتبهم، وأثبتوها، وحفظوها، ونقلت إلينا، لنعتبر بها، ولنتعظ بغيرنا.
{لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى} [يوسف: 111]، فهل من متدبر، وهل من عاقل يعلم أن السعادة في التذلل لله، في السجود لله، في تلاوة كتاب الله، في ذكر الله، في الالتجاء إلى الله، فوالله ليست السعادة في الدور، ولا في القصور، ولا في الأموال، ولا في الحدائق، وإنما السعادة الحقيقية في طاعة الله الواحد الأحد.
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة، فُيصبغ في النار صَبغةً[1]، ثم يقال: يا ابن آدم هل رأيت خيراً قطُّ؟ هل مرّ بك نعيمٌ قطُّ؟ فيقول: لا والله يا رب!! ويؤتى بأشدّ الناس بؤساً في الدنيا من أهل الجنة، فُيصبَغ صَبغةً في الجنة، فيقال له: يا ابن آدم، هل رأيت بؤساً قطُّ؟ هل مرَّ بك شدة قط؟ فيقول: لا والله يا رب! ما مرّ بي بؤسٌ قطُّ، ولا رأيتُ شدة قطُّ))[2].
فكم من نعيم للمساكين عند الله، وكم من سعادة للعارفين بالله، وكم من شقاوة لمن جعل الدنيا همّه، وقدَّم المعاصي والشهوات على طاعة ربه، فسوف يبكي ويندم، ولات حين مندم؛ {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام: 94].(249/7)
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم، ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو التواب الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وإمام المتقين، وقدوة الناس أجمعين، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فصور اللجوء إلى الله، وصور التمسكن لله، وصور عبودية الله، كثيرة جدّاً، عاشها الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
فدعوة الأنبياء تعيش مع الفقراء، وتحب المساكين، فهي انتصار للضعفاء، وترسيخ لمبدأ المساواة، وهذا المبدأ أرساه الإسلام بلا منازع.
(جليبيب) أحد المساكين من الصحابة الكرام، ليست له أسرة معروفة، ليس عنده مال، ولا منصب، ولا شيء.
يذهب إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - في ثيابه الممزقة، بطنه جائع، ووجهه شاحب، وأعضاؤه هزيلة، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((يا جليبيب، ألا تتزوج؟)) قال: يا رسول الله، غفر الله لك، ومن يزوجني؟ ثم يلقاه النبي - صلى الله عليه وسلم - ثانية، فيقول له: ((يا جليبيب، ألا تتزوج؟)) فيقول: يا رسول الله، ومن يزوجني، لا مال ولا جمال. لأن كثيراً من الناس، لا يزوج إلا على الدراهم والدنانير، لا يزوج الرجل إلا إذا رأى عنده ممتلكات، وشاحنات، وسيارات، وقصور، فيبيع ابنته من ذاك الرجل، كما تباع الناقة، أو السيارة في سوق المزاودة، لا ينظر إلى دينه، ولا إلى صلاته، ولا إلى صدقه، ولا إلى أمانته، لا ينظر إلا إلى ماله، وداره، وعقاره.
وقد يكون هذا الرجل فاجراً سكيراً، قد يكون لعيناً طريداً بعيداً، ولكن أنساه ذلك كله مال هذا الرجل، ومنصب هذا الرجل، وسيارة هذا الرجل، وقصر هذا الرجل، فيبيع ابنته، ويقطع رحمها، فيخسر بذلك الدنيا والآخرة.(249/8)
ويلقى النبي - صلى الله عليه وسلم - جليبيباً مرة ثالثة، فيقول: ((يا جليبيب، ألا تتزوج؟)) فيقول: يا رسول الله ومن يزوجني، لا مال ولا جمال، فيقول - صلى الله عليه وسلم - له: ((اذهب إلى ذلك البيت من الأنصار، وقل لهم: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبلغكم السلام، ويقول: زوجوني ابنتكم)). هذا مرسومٌ من كلام محمد عليه الصلاة والسلام، فذهب جليبيب، فطرق الباب، قال أهل البيت: مَنْ؟ قال: جليبيب، قالوا: ما لنا ولك يا جليبيب، فخرج صاحب البيت قال: ماذا تريد؟ قال: الرسول - صلى الله عليه وسلم - يبلغكم السلام، فارتج البيت فرحاً، ثم قال: ويأمركم أن تزوجوني ابنتكم.
فقال الرجل: أشاور أمها، فشاورها فقالت: لا لعمر الله، لا نزوجه، فسمعت البنت العابدة الناصحة الصالحة، فقالت: أتردَّان على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمره، ادفعوني إليه؛ فإنه لن يضيعني، فانطلق أبوها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره فقال: ((شأنك بها))، فزوجها جليبيباً[3].
فأنشأ النبي - صلى الله عليه وسلم - بيتاً، أساسه على الإيمان والتقوى؛ {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىَ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [التوبة: 109].
أفمن أدخل ابنته بيتاً مسلماً، تالياً لكتاب الله، مستقيماً على أوامر الله، معظماً لحدود الله، خيرٌ، أمّن أدخل ابنته بيتاً فيه التبرج والغناء، فيه الفحش والضلال واللعنة؟!!
وعاشت هذه المرأة في سعادة حقيقية، ليست كالسعادة الوهمية التي يتمناها البعض، أو يحلم بها البعض.(249/9)
وفي إحدى الغزوات، وقد أفاء الله على نبيه فيها، فقال لأصحابه: ((هل تفقدون من أحد؟)) قالوا: نعم؛ فلاناً، وفلاناً، وفلاناً. ثم قال: ((هل تفقدون من أحد؟)). قالوا: نعم؛ فلاناً، وفلاناً، وفلاناً. ثم قال: ((هل تفقدون من أحد؟)) قالوا: لا، قالوا: ((لكني أفقد جليبيباً، فاطلبوه))؛ فطُلب في القتلى، فوجوده إلى جنب سبعة قد قتلهم، ثم قتلوه، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فوقف عليه، فقال: ((قتل سبعة ثم قتلوه، هذا مني وأنا منه، هذا مني وأنا منه)). فوضعه على ساعديه، ليس له إلا ساعدا النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: فحُفر له، ووضع في قبره[4].
وفي المسند أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا لزوجته، فقال: ((اللهم صبَّ عليها الخير صبّاً، ولا تجعل عيشها كدّاً كدّاً)). قال ثابت: فما كان في الأنصار أيم أنفق منها[5]!!
هذا هو جليبيب الصحابي الفقير، يقول له النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أنت مني وأنا منك!!)).
نسبٌ كأن عليه من شمس الضحى نوراً ومن فلق الصباح عمودا
فهنيئاً لك يا جليبيب، وهنيئاً للمخلصين، وهنيئاً للصادقين، السائرين إلى الله - عزَّ وجلَّ.
تَرَدَّى ثَيابَ الْمَوْتِ حُمْراً فَمَا أَتَى لَهَا اللَّيلُ إِلا وهي من سُنْدُسً خُضْرُ
هنيئاً لمن قتل في سبيل الله، ولمن باع نفسه وروحه بجنة عرضها السماوات والأرض، وقبحاً للمتخلفين عن ركب النجاة، وحسرةً على الضائعين الضالِّين.
فيا من أخذ بأيدي الصالحين، خذ بأيدينا إليك، ونوِّر قلوبنا بطاعتك، وعمِّر بيوتنا بذكرك، واغرس في قلوبنا لا إله إلا الله، لتؤتي أكلها كل حين بإذنك يا واحد يا أحد.
عباد الله:
وصلوا وسلموا – رحمكم الله – على مَنْ أمركم الله بالصلاة والسلام عليه؛ حيث قال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب: 56].(249/10)
* ويقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من صلى عليّ صلاة؛ صلى الله عليه بها عشراً))[6].
فاللهم صلِّ وسلم وبارك على نبيك وحبيبك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
---
[1] أي يغمس غمسة.
[2] أخرجه مسلم (4/2162). رقم: (2807).
[3] أخرجه بمعناه الإمام أحمد (4/422، 425)، قال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/370، 371): رجاله رجال الصحيح.
[4] أخرجه مسلم (4/1918-1919). رقم: (2472).
[5] أخرجه أحمد (4/422، 425) قال الهيثمي في المجمع (9/371): رجاله رجال الصحيح.
[6] أخرجه مسلم (1/288) رقم: (384).(249/11)
العنوان: الإنابة في الحج
رقم المقالة: 1736
صاحب المقالة: عبدالله بن فهد الواكد
-----------------------------------------
الإنابة في الحج
فقه الحج والعمرة
حائل، جامع الواكد
محامد وأدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية.
ملخص الخطبة
1- فضل الحج.
2- مشروعية الاستنابة في الحج الفرض.
3- حكم الاستنابة في حج التطوع.
4- أحوال الناس مع الحج.
5- حكم أخذ المال في الحج عن الغير.
6- من أحكام الوكالة بالحج.
7- مفهوم خاطئ.
الخطبة الأولى
أما بعد: فاتقوا الله القائل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102].
عباد الله، إن الحجَّ من أفضل العبادات التي شرعها الله عز وجل، وهو الركن الخامس من أركان الإسلام، فرضه الله - عز وجل - على عباده، ولكنه - سبحانه وتعالى - جعله مقرونًا بالاستطاعة، قال – تعالى -: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران: 97].
صح عن النبي أنه قال: ((العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة))، وقال - عليه الصلاة والسلام -: ((من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه)). يعود نقيًّا من الذنوب، خاليًا من الآثام، فأين أولو الألباب والأفهام؟!(250/1)
إن الحج - عباد الله - عبادة بدنية، يطلب من العبد فعلها بنفسه إن استطاع ذلك، وإن لم يستطع فقد جاءت السنة بجواز الاستنابة فيه، وذلك في الفريضة، وفي حال اليأس من فعلها، وذلك لما ورد في البخاري من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - أن امرأة قالت: "يا رسول الله، إن فريضة الله على عباده في الحج أدركتْ أبي شيخًا كبيرًا، لا يَثْبُت على الراحلة، أفأحج عنه؟"، قال: ((نعم))، وذلك في حجة الوداع. وفي حديث آخر أن امرأة قالت: "يا رسول الله، إن أمي نذرت أن تحج، ولم تحج حتى ماتت، أفأحج عنها؟"، قال: ((نعم، اقضوا حق الله، فالله أحق بالوفاء)).(250/2)
ذلكم - يا عباد الله - أنه لا فرق في الشريعة بين ما كان أصلاً فيها، وما أوجبه الإنسان على نفسه بنذر أو نحوه، وهذان الحديثان يدوران حول حجة الفريضة في الأصل، وحجة النذر وهو ما أوجبه العبد على نفسه بنذره، وهنا لا بأس بالإنابة في الحج، وأما حج التطوع، وهو الزائد عن الفريضة، فجدير بمن كان قادرًا على الحج بنفسه أن يحج، ولا يصح له أن يوكِّل مَن يحج عنه؛ لأن شرط الاستطاعة متحقق عنده، ولقد تساهل كثير من الناس في التوكيل في حج التطوع، وخصوصًا في زماننا هذا، حتى صارت هذه الأيام موسمًا لتعاطي الحِجَج، فإن مَن يستطيع الحج تطوعًا عليه أن يحج بنفسه، ولا يَحرِم نفسَه من أجر تعب العبادة، واستشعار الطاعة والذكر والدعاء، والمنافع التي لا تعد ولا تحصى، ويكفيه من ذلك، إذا لم يرفث ولم يفسق، أن يرجع كيوم ولدته أمه، وهذا لا يمكن إدراكه بالتوكيل؛ إنما بالنفس، وقد منع الإمام أحمد - رحمه الله - في إحدى روايتين عنه من توكيل القادر شخصًا آخر يحج عنه تطوُّعًا، ولا يصلح التساهل في ذلك أيها المسلمون، فإما أن يحج تطوعًا بنفسه، أو يبذل المال الذي يريد الحجَّ به لمن لم يحج، فيكون قد أعان مَن لم يحج، ووفر لهم شرط الاستطاعة، ويكون له مثل ما لهم من الأجر والثواب، دون أن ينقص ذلك من أجورهم شيئًا.
ولقد رأيت الناس - أيها الأحبة - تفاوتوا في هذه المسألة تفاوتًا عجيبًا، واختلفوا اختلافًا غريبًا، وسلكوا في ذلك فجاج الإفراط والتفريط، فتجد منهم من هو كثير المال، صحيح البدن، ومضى به الكبر حتى بلغ منه مبلغًا عِتيًّا، ومع ذلك لم يحجَّ! حجة الفريضة لم يحجَّها، أليست هذه مشكلة ومصيبة ومعضلة؟! ولقد قال النبي : ((تعجلوا الحج، فإن أحدكم لا يدري ما يَعرِض له)).(250/3)
عباد الله، إن من كانت هذه حاله فهو على خطر عظيم إن لم يتدارك نفسه، فمن كانت هذه حاله فدعائي له بالتوفيق، ورجائي إليه أن ينوي الحج من هذا المكان، فالنية هي الانطلاقة، وبعدها ييسر الله - سبحانه - كل أمر، وإذا عاد إلى بيته وأهله أن يعلن ذلك، ويقول لهم: سأحج هذا العام بإذن الله، وذلك ليستقر الأمر على واقع وعزيمة، لا على سكوت وتسويف وهزيمة، وذلك ليسأله أهله كل يوم عن إنجازاته في هذا السبيل، ويكونوا عونًا له في ذلك، أما السكوت فهو مصيدة الشيطان، وملجأ التسويف.
إخوة الإسلام، وفي مقابل ذلك تمامًا شخص يحج كل سنة ويذهب كل عام، ولم يحسب ولم يحتسب لمشقة الناس والازدحام، وضيق المشاعر أيَّ حساب واحتساب، نحن لا نقول: في حجه شيء؛ لأن الحج من أفضل الأعمال، ولكن الاحتساب في التوسيع على المسلمين مادام أنه حَجَّ حجةَ الفريضة، وحج تطوعًا مرة أو مرتين، وهنا يكون توسيعه على المسلمين من ناحيتين: الأولى: أنه أفسح المكان لغيره، قال – تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ} [المجادلة: 11]، فإن كان هذا في حق آداب المجالس عمومًا، فمن باب أولى أن يكون في آداب الأماكن المزدحمة، التي يترتب عليها أداء الفرائض، والناحية الثانية: أنه وسَّع على المسلمين بدفع ذلك المال الذي يزمع الحج به إلى مَن يحج به فريضته، أو إلى الفقراء واليتامى والمساكين، سيما وأنهم بأمسِّ الحاجة في تلك الأيام، أيام عشر ذي الحجة، إلى المال، وكما قال - عليه الصلاة والسلام -: ((ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من عشر ذي الحجة))، قالوا: "ولا الجهاد في سبيل الله؟!"، قال: ((ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله ولم يرجع من ذلك بشيء)). إن القربات المتعدي نفعها للآخرين خير من القربات اللازمة، وذلك في غير الفرائض.(250/4)
الحج - أيها المسلمون - عبادة، ركن من أركان الإسلام، لا يصرف ذلك إلى أمر دنيويٍّ ولا تكسُّبٍ مادي؛ لأن هناك مَن يأخذون هذه الحجج، ويبحثون عمَّن ينيبهم، وذلك كله من أجل المال فقط، فهذا حرام عليهم؛ لأن الحج ليس سلعة، وليس عملاً دنيويًّا، كبناء بيت أو إقامة جدار يقصد به التكسب والتجارة؛ بل إن من هؤلاء من يكاسِر على الحجة ويتشكَّى من قلة المال المدفوع، حتى صارت العبادة حرفة وصنعة، ولا حول ولا قوة إلا بالله! وقد حفظ الإمام مالك - رحمه الله - عن عطاء بن أبي رباح أنه قال: "لا يشترط على النسك من جهة المال"، وقد صرح الحنابلة - رحمهم الله - بأن تأجير الرجلِ الرجلَ ليحجَّ عنه غيرُ صحيح، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "مَن حج ليأخذ المال، فليس له في الآخرة من خلاق" اهـ، لكنه إذا أخذ الحجة ومقصوده نفع أخيه، وذلك بالحج عنه، وليحصل له الدعاء والذكر والمنافع الأخرى في موسم الحج، وكانت نيته سليمة؛ فلا بأس في ذلك، والمال الذي يدفعه المستنيب صاحب الحجة يكون كله للوكيل؛ إلا أن يشترط عليه صاحب الحجة أن يَردَّ له ما بقي من المال، وتكون العمرة والحج لصاحب الحجة؛ لثبوت ذلك في أعراف الناس، إلا أن يشترط الوكيل أن تكون العمرة له ويقبل الموكل ذلك، ولا يجوز للوكيل أن ينيب غيره إلا برضا صاحب الحجة، وما زاد عن الحجة المتفق عليها؛ من دعاء وطواف، وصلاة وتطوع خارج النسك؛ فهو للوكيل، وعلى الوكيل أن يقول عند الإهلال بالنسك عند الإحرام: لبيك عمرة متمتعًا بها إلى الحج عن فلان بن فلان، لمن كانت له الحجة، وعند الحج: لبيك حجًّا عن فلان بن فلان، وإن نسي اسمه نوى ذلك بقلبه. وينبغي للوكيل أن يتقي الله، وأن يجتهد في إكمال النسك الموكلة إليه، وأن يتحرَّى الإخلاص في أداء تلك الأمانة.(250/5)
وفقني الله وإياكم لما يحب ويرضى، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العلي العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
إخوة الإسلام، اشتهر عند كثير من الناس - وخصوصًا في مجتمعاتنا - أن يكون من حق الوالدة أو الوالد على أولاده إذا مات أن يحجوا عنه، وهو قد أدى الفريضة، وربما حجَّ تطوعًا أكثر من مرة، وهذا العمل ليس عليه دليل، إنما هو اجتهاد في غير محله، ولو دفعت هذه الأموال لمن لم يحجَّ ليحج، وينوي بذلك الأجر لوالده أو والدته؛ لأدرك فضائل شتى وأجورًا كثيرة، ولو دفع ذلك المال لأولي القربى الضعفة واليتامى والمساكين، ونوى أجر ذلك لوالديه لكان في ذلك خير كثير، وبِرٌّ عظيم. فسبحان الله! لكأن سبل الخير وأبوابه أوصدت؛ إلا من خلال هذا الباب! فما أكثرَ الفقراءَ والمساكين الذين توسِّع عليهم قيمةُ هذه الحجة شهرَ ذي الحجة كاملاً، بأضحيته وملابس العيد، ومستلزمات فرحته، ودواعي الكفاف بقدومه! فنسأل الله أن يوفق المسلمين لما يحبه ويرضاه.
هذا، وصلوا وسلموا على من أمركم ربكم بالصلاة والسلام عليه، قال – تعالى -: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56].(250/6)
العنوان: الأناة: التأنِّي من الله والعجلة من الشيطان
رقم المقالة: 1048
صاحب المقالة: د. محمد بن لطفي الصباغ
-----------------------------------------
عن أنس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ((التأنِّي من الله والعجلةُ من الشيطان))؛ رواه أبو يعلي (7/4256)
والأناةُ والتأنِّي بمعنى. والأناة خُلُقٌ يحبه الله - تبارك وتعالى - ويتصف به العقلاءُ الموفَّقون، فلا يقدمون على أمر إلا بعد دراسة وتحقق، ولا يتلفَّظون بكلام إلا بعد تروٍّ ونظر، فيوفَّقون غالباً إلى الصواب، فيَسْعَدون ويُسْعِدون.
وقديما قالت العرب: "دعوا الأمر يَغِبَّ"، كما جاء في كلمة عبدالله بن وهب الراسبي الأزدي لما عزم الخوارج على بيعته فقال: "يا قوم استبيتوا الرأي"؛ أي: دعوا رأيكم تأتي عليه ليلة، ثم تعقبوه. وقال: "إياكم والرأيَ الفطيرَ، والكلامَ القضيب، دعوا الرأي يَغِبُّ، فإن غُبوبه يكشف للمرء عن فَصِّه.. وليس الرأي بالارتجال، ولا الحزم بالاقتضاب".
قال المرصفي: "والرأي الفطير: مستعار من قولهم" فطرتُ العجينَ أفطره فطراً إذا أعجلته عن إدراكه؛ فهو فطير ضد الخمير. والقضيب في الأصل: الناقة التي تُركَب ولم تُرَضْ، استعارة للكلام من غير تهيئة ولا إعداد. وغبَّ: بمعنى: بات[1]".
والأناة مطلوبة في كل شيء، وهي مطلوبة فيمن يُعِدُّ كلاماً جميلاً سواء كان خُطبة أو قصيدة، وهذا يقتضي من المُعِدِّ أن ينفق وقتاً طويلاً ينظر فيما أعد ويكرر النظر فيه. وقد كان هناك نفر من الشعراء يفعلون هذا، ويبالغون فيه، وعُرِفوا في أدبنا العربي بـ(عبيد الشعر)، كان الشاعر منهم ينظِم القصيدة وينظر فيها، ويعيد النظر فيها سَنَة كاملة قبل أن يَعرِضها على الناس وسُميتْ هذه القصائد بـ(الحوليات)[2].(251/1)
والأناة مطلوبة في العلماء وذوي الرأي والوجاهة إذا تكلموا أو كتبوا، فمنَ المفروض فيهم أن يتأنَّى الواحدُ منهم في الإجابة إذ سئل عن حكم شرعيٍّ ، أو حادثة تاريخية، أو موقف من المواقف.. فلا يتسرع؛ بل يُعْنى بفَهم السؤال أولاً، وهل هو بريء، ثم يرجع إلى الكتب والمصادر العلمية حتى إذا استوثق من وقوفه على جلية الأمر نظر مرة أخرى في الجواب، وسأل نفسه: هل من المصلحة أن أُجيب أم من المصلحة أن أُعرِض عن ذلك؟ وإذا ترجَّح لديه أن المصلحة أن يُجيب نظر في الأسلوب الذي ينبغي أن يكون عليه الجواب.
إن ذلك يستغرق وقتاً ليس باليسير.. وهو بذلك ينجو من المسؤولية أمام الله، وينجو من الحَرَج أمام الناس.
والأناة مطلوبة من الطالب الذي يدخل قاعة الامتحان ويُعطى ورقةَ الامتحان.. إن عليه أن يتأنَّى، وينظر فيها بتأملِ واعٍ، ويفهم الأسئلة، ثم يشرَع بالإجابة، ولا يَعجَل. ذلك أن واضعي الأسئلة يقدِّرون الوقت الذي تحتاج إليه الإجابة.. فعلى الطالب أن يتأنَّى ويستوفي حقَّه كاملاً.. ولا يستعجل.. ويعيد نظره في الإجابة.. إن هذا التأني يضمن له السداد في الرأي والنجاح في الامتحان.
والأناة مطلوبة من الفتى الذي يريد الزواج، ومطلوبة من أهل الفتاة المخطوبة، ومنها أيضاً؛ فلا يجوز أن يتسرَّع أيٌّ منهما في إبرام الأمر؛ بل على كل من الطرفين السؤالُ والبحث، والاستشارة، والاستخارة، والتثبت من صلاحية هذا الاختيار.
فإذا تأنَّي كلٌّ منهما ودَرَس الوضع بتعمُّق، وبنى على ذلك القرار بالسلب أو بالإيجاب كان ذلك - إن شاء الله - محققاً للسعادة والنجاح في بناء الأسرة الفاضلة.
أما إذا كان تسرُّعٌ في هذا الأمر واستعجالٌ كان احتمالُ الإخفاق في ذلك وارداً.. إن التأني محمودة نتائجُه في هذا الموضوع، وفي غيره من الموضوعات.. وتكاليف الزواج أضحتْ في هذه الأيام مُرهِقةً.(251/2)
والأناة مطلوبة من الزوجين بعد الزواج؛ ذلك لأن الخلاف أمر متوقَّع، فإذا حدث فليعالَجْ بالأناة، والصبر، والحوار، ومراجعةِ كلِّ من الزوجين نفسَه، ومراجعةِ موقفه، وليَستَرْضِ كلٌّ صاحبه، وخيرُهما الذي يبدأ بالسلام، ولا نَخَفْ من الخلاف فهو أمر طبيعي بحكم الفطرة التي فطر الله الناس عليها، وهو موجود بين الأب وابنه، وبين الأخ وأخيه، وبين الشريك وشريكه، وبين الإمام وتلامذته، وبين الصديق وصديقه، وبين الزوج وزوجه؛ قال تعالى: {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود 118 -119]، إن الخطير والمخيف هو تصعيد الخلاف.
نَعَم؛ لا ينبغي أن يستبدَّ الغضب بواحد من الزوجين فيَعمَد إلى هدم الحياة الزوجية لمجرد حدوث الخلاف، أو لأي سبب آخر، والقوي هو من يملك نفسه عند الغضب.
وقد يَعْمَد الرجل المتسرِّع وهو في سَوْرة الغضب إلى إيقاع الطلاق دون تبصُّر لعواقب الأمر، فيندم، ويسارع إلى العلماء والفقهاء يطلب إليهم أن يجدوا له حَلا، ويدرك - بعد فوات الأوان - أنه بهذا التسرع خرَّب بيته، ودمَّر حياته، وكان في غِنًى عن ذلك لو أنه تأنَّى وصبر.
والشرع المطهَّر حدد كيفية الطلاق ووقتَه، وجعل إيقاعه في وقت معين محرَّماً، وهذا يقتضي التريُّثَ، والتفكيرَ في عواقب الطلاق وفي آثاره عليه وعلى أولاده خلال المدة التي يحظر فيها الطلاق.
والأناة مطلوبة من الإنسان في تعامله مع الآخرين، فقد يسمع كلمة مسيئة له، أو شتيمة تُوجَّه إليه، فلا يتسرَّعِ العاقلُ في الرد على المسيء، ولا يستسلم للانفعال؛ بل يقف ويفكر في الموقف السليم الذي ينبغي أن يقفه، فقد يكون الإعراض عن هذا المسيء أفضل، وقد يكون الرد عليه بحكمة أفضل. إن عليه أن يتأنى ولا يعجل.(251/3)
هذا والمنتصر غالباً في الخصومات والمجادلات هو المتأني، والخاسر هو المتسرِّع، وهذا واقع ملموس.
من أجل ذلك وجدنا في كتاب الله ذمَّ العجلة؛ فمن ذلك قوله تعالى: {خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ} [الأنبياء: 37]
يبدو أن الكفرة كانوا يستعجلون الآيات، وهذا قد ورد في أكثرَ من موضع من كتاب الله، فذكر ربُّنا أن الإنسان مخلوق من عجل، وهدَّدهم سبحانه بأنه سيريهم آياتِه المعجزات التي سيرونها، وهي تدلُّ على صدق النبي - صلى الله عليه وسلم - وما جعل الله له من العاقبة المحمودة، وقد يراد بالآيات نِقماتٌ الله في الدنيا والآخرة. وعلى كل حال فهو ينهاهم عن الاستعجال.
ومن ذلك قوله تعالى: {وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً} [الإسراء: 11].
ويدعو الإنسان على نفسه بالشرِّ إذا ما أصابته مصيبةٌ من فقر أو مرض.. يدعو على نفسه بالشر كما كان يدعو لها بالخير؛ وذلك لأن الإنسان بفطرته عجول: {وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً}؛ فعليه أن يغالب ذلك، ويتصف بالأناة.
ومن أجل ذلك ورد في الحديث الصحيح أن الله - تبارك وتعالى - يُحِبُّ الأناة؛ فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأشجِّ عبد القيس: ((إن فيك خَصْلَتين يُحِبُّهما الله: الحِلْمُ والأناةُ))؛ رواه مسلمٌ برقم (17)، والتِّرْمِذِيُّ برقم (2011)، ورواه أبو داود عن زارع - وكان في وفد عبد القيس - برقم (5225).
ومن أجل ذلك كانت التُّؤَدَة - وهي الأناة - جزءاً من النبوة، كما جاء في حديث عبد الله بن سَرْجِس المزني رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((السَّمتُ الحسن والتؤدة والاقتصاد جزء من أربعة وعشرين جزءاً من النبوة))؛ رواه الترمذي برقم (2010).(251/4)
وعن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه،قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الأناة من الله والعجلة من الشيطان))؛ رواه الترمذي برقم (2012).
ويتبيَّن لنا أن الأناة ثمرةٌ لتوفُّر صفات كريمة في الإنسان، ومن أهمها: الحلم والصبر، وقد كان سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سيدَ الحلماء، وسيد الصابرين.
عن أنس - رضي الله عنه - قال: "كنتُ أمشي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعليه بُرد نجرانيٌّ غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي، فجذبه بردائه جذبة شديدة، فنظرتُ إلى صفحة عنق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد أثَّرتْ بها حاشيةُ الرداء من شدة جذبته، ثم قال: يا محمد مُرْ لي من مال الله الذي عندك؛ فالتفتَ إليه، فضحك، ثم أمر له بعطاء"؛ رواه البخاري برقم (3149) ومسلم (1057).
وفي هذا الحديث بيانُ حِلْمه - صلى الله عليه وسلم - وصبره على الأذى، والتجاوز عن جفاء هذا الأعرابي، وفيه بيانٌ لخُلُقه العظيم من الصفح والدفع بالتي هي أحسن.
قال القاضي عياض في كتابه "الشفا في حقوق المصطفى": "وروي عن عمر - رضي الله عنه - أنه قال في بعض كلامه: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لقد دعا نوح على قومه فقال: {رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً}، ولو دعوتَ علينا بمثلها لهلكنا من عن آخرنا، فلقد وُطِيء ظهرُكَ، وأُدْمِيَ وجهُكَ، وكُسِرتْ رباعيتُكَ، فأبَيْتَ أن تقول إلا خيراً، فقلت: ((اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون))".
قال القاضي: "انظر ما في هذا القول من جماع الفضل، ودرجات الإحسان، وحسن الخلق، وكرم النفس، وغاية الصبر والحلم؛ إذ لم يقتصر - صلى الله عليه وسلم - على السكوت عنهم حتى عفا عنهم، ثم أشفق عليهم ورحمهم ودعا وشفع لهم؛ فقال: ((اغفر)) ثم أظهر سبب الشفقة والرحمة بقوله: ((لقومي)) ثم اعتذر عنهم بجهلهم؛ فقال: ((فإنهم لا يعلمون))"[3].(251/5)
وبسبب العجلة يُحرَم المرء من استجابة الدعاء، وهذا يدل على فضل التأني:
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : ((يُستجاب لأحدكم ما لم يَعْجَل يقول: دعوتُ فلم يستجب لي))؛ رواه البخاري برقم (6340) ومسلم رقم (2735) وأبو داود (1484) وغيرهم.
والأناة المطلوبة ينبغي أن تكون في الحدود المقبولة، وإلا انقلبت إلى ضدها؛ فليس من الأناة المحمودة أن يبطئ المرءُ في أمر تحققتْ له مصلحته وللمسلمين، ولا في أداء واجب افترضه الله عليه حتى يفوت وقته.
حدث لأحد العلماء المعاصرين أن حضر مؤتمراً هاماً، فوجد داعياً لأن يتقدم باقتراح فيه مصلحةٌ للمسلمين، فجلس يُعِدُّه ويعيد النظر فيما يكتب ويردد النظر فيه حتى انقضى المؤتمر ولم ينته من كتابة الاقتراح، ففات بذلك خير كثير.
وبعد،، فإن الخوف من الله، ورجاء الحصول على ثوابه، وحسن الظن بالناس وتفسير تصرفاتهم التفسير الحسن.. كل ذلك وأمثاله يعين المسلم على التحلِّي بالرفق بأنواعه التي ذكرناها، وعلى التحلي بالأناة. وبالله التوفيق، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
ــــــــــــــــــــــــــــ
[1] رغبة الآمل من كتاب الكامل " 7/77.
[2] انظر كتابنا (( فن الوصف في مدرسة عبير الشعر)).
[3] الشفا 1/73.(251/6)
العنوان: (الإنترنت) بين الأزواج تواصل أم تفاصل!
رقم المقالة: 507
صاحب المقالة: محمد جمال عرفة
-----------------------------------------
بحكم عملي في تلقي بعض الاستشارات الاجتماعية من أزواج وزوجات يشكون فيها صعوبة التواصل بين الأزواج وجفاف الحياة الزوجية أحياناً، استوقفتني رسالة غريبة تقول صاحبتها: إن العلاقة بينها وبين زوجها شبه مقطوعة منذ عدة سنوات لأسباب عديدة، وأنهما لا يتبادلان الحديث تقريباً، مع أنهما يعيشان تحت سقف واحد، وفي الحالات الضرورية للحديث في شؤون ابنهما أو شؤون المنزل تتحدث معه عبر "الماسنجر" على الحاسوب، أو تبعث له برسالة إلكترونية، ويرد عليها هو بدوره عبر الشابكة (الإنترنت).
والطريف أن حمَّى استخدام الشابكة - حتى بين الأزواج - قضت تماماً على التواصل الطبيعي الجميل بين الأزواج، وانتشرت منذ عهد قريب بصورة كبيرة بين الأزواج العرب، وأصبحت عادة بديلة للتواصل، ربما تخفف حالة الفصام بينهما نسبياً، وربما تخفف من حدة الاندفاع باتجاه الطلاق؛ حتى إنها دفعت أحد رسامي "الكاريكاتير" لرسم "كاريكاتير" عن حمَّى (الإنترنت) التي اجتاحتنا، يصور خلالها زوجاً يسأل زوجته عن طعام العشاء عبر (الإنترنت)؛ مع أنهما يعيشان تحت سقف واحد.
والأكثر غرابة أن وكالة (رويتر) نشرت تقريراً الأسبوع الماضي يؤكد أن هذه الظاهرة منتشرة أيضاً انتشاراً أكبر في العالم الغربي، حتى إن محررة الوكالة (سارة ليدويز) تروي حكاية واقعية عن زوجين جلسا متجاورين في أحد مقاهي نيويورك، يحتسيان مشروباً، ويتناولان الطعام، ولا ينبسان ببنت شفة، وبدلاً من أن يتجاذبا أطراف الحديث بينهما، تبادلا الآراء في حاسوب محمول بشأن الألحان التي يسمعانها معاً عبر جهاز "آي بود" مشترك!.(252/1)
بل إن الزوجة (آماندا بالمر) تسوِّغ للوكالة ما فعله الزوجان بقولها: "مع إدراكنا أن التواصل عبر الكتابة بالحاسوب أكثر راحة؛ فقد كان لقاؤنا دون كلام، تبادلنا سماعات الأذن والكتابة بالحاسوب، وطلبنا مشروبات ومزيداً من الطعام، وظن صاحب المطعم أننا مجانين"!.
(الإنترنت) والخرس الزوجي!
ومع أنه كان متوقعاًً أن تلك الحالات هي حالات فردية؛ فقد كشفت العديد من المشكلات الزوجية أن هذه الحالة أصبحت وبائيَّة، خصوصاً مع تزايد انتشار ثورة الاتصالات، التي جعلت من التعبير عن المشاعر والحب عبر الشابكة أكثر متعة، وخاصة للأشخاص الخجولين، ووفرت في الوقت نفسه متنفساً لهؤلاء الذين أصابهم مرض "الخرس الزوجي"، أو الذين يعانون حالات انفصال عائلية مع أنهم يعيشون تحت سقف واحد؛ بحيث يمكنهم التواصل من خلاله بدون تدخل طرف ثالث بطريقة قد تحرج الطرفين.
فقد أصبحت الشابكة وسيلة المخاطبة بين الزوجين لتسيير شؤون حياتهما في الكثير من الأسر العربية مع أن المسافة بين حجرة الزوج وحجرة الزوجة- المنفصلين ضمناً- لا تتجاوز بضعة أمتار، بسبب ما يسمونه بـ"السكتة الزوجية"، التي ألقت بظلالها على حياتهم الأسرية، والتي يضطران (قهراً لا اختياراً) لاستئنافها لأسباب كثيرة، ربما لصعوبة توفير شقة أخرى للزوج أو الزوجة، أو لرعاية الأبناء، أو الخشية من انهيار الشكل الاجتماعي للأسرة والوجاهة الاجتماعية.
يدمر العلاقات الزوجية!
ومع تطور تقنيات الشابكة (الإنترنت) بظهور مصوِّرات (كاميرات) الفيديو المتصلة بالإنترنت وأجهزة "الآي بود" لتشغيل الملفَّات الموسيقية، والرسائل الفورية، و"الواي فاي"، والمدونات؛ فقد بدأت تظهر مخاطر أكبر للإنترنت على الحياة الزوجية، وأصبح يصنَّف على أنه من أخطر عوامل تدمير العلاقات الزوجية.(252/2)
وهناك أمثلة عديدة على ذلك بدأت تنتشر، وحالات فعلية موجودة للتواصل عبر الإنترنت، سواء أكان الزوجان على علاقة طيبة أو منفصلان عملياً، ولكنها كلها تصب في خانة "اللاطبيعي" في العلاقة الزوجية.
تقول زوجة في إحدى المدوَّنات "البلوجر" الخاصة بها: "من الصعب إرسال أشياء مثل الصور والأصوات ووصلات مواقع الإنترنت من خلال الكلام المباشر، ولذلك تبدو أهمية الإنترنت في القدرة على التوصيل الجيد للكلام والمشاعر بدقة، حتى إنها تكتب عن علاقتها الجديدة مع زوجها في أبواب مدونتها، وغالباً ما تقول فيها أموراً لا تستطيع أن تقولها له بطريقة مباشرة".
وتقول أخرى: إن الأمر وصل إلى حد أنه من الممكن أن يطلب أي طرف من الآخر إخراج القمامة خارج المنزل عبر الإنترنت، وهما على مسافة أمتار قليلة، أو أن يطلب أحدهما من الآخر إعداد الطعام، أو توصيل الأبناء للمدرسة، أو الاستعداد لمناسبة ما، أو تبادل المشاعر الجياشة، أو حتى تباين وجهات النظر في الخلافات.
بل إن هناك زوجة تذكر أنها متزوجة منذ 12 عاماً، وأنها وزوجها يتواصلان في أحيان كثيرة من خلال المدونات، دون أن يتبادلا حتى مشاعرهما وجهاً لوجه.
والأكثر غرابة أن زوجة تقول: إنها وزوجها لا يتناقشان إطلاقاً ولا يلتقيان، ولكل منهما حياته الخاصة، ولكن مع دخول (الإنترنت) حياتهما أصبح هو الوسيط بينهما في رعاية شؤون البيت؛ فإنها تضطر عن طريقه إلى مخاطبة زوجها لترك مصاريف المدرسة للأولاد، أو إبلاغه بأمر هام يتعلق بمصاريف المنزل، أو حضور أصدقاء، أو حتى مناقشة شؤون الأبناء وتدرجهم في المدارس عبر الإنترنت، وكأنهما غريبان.(252/3)
وتقول هذه الزوجة: إن هذا قد يكون وسيلة غريبة وغير طبيعية للتواصل، ولكنه - في حالتها الانفصالية هذه مع زوجها - مفيدة لهما لأن أياً منهما لن يكون مضطراً في هذه الحالة إلى لقاء الآخر أو الدخول في مناقشات عقيمة، ووزن كلامهما قبل كتابته وإرساله، بعكس الحوار المباشر؛ الذي يكون في هذه الحالة ساخناً وعنيفاً وربما لا يؤدي إلى نتائج.
ولهذا يقال: إن (الإنترنت) نعمة للأزواج المنفصلين عملياً والمتزوجين نظرياً، ثم إنه نعمة للأشخاص الذين يغلب عليهم الخجل عند الكلام بطريقة مباشرة، فضلاً عن أنه يوفر وسيلة عظيمة لحل الخلافات بشأن الحقائق، في حين أنه أمر مستهجن فيما يخص العلاقات الجيدة بين الأزواج؛ لأنه يعمق هذا الانفصال بينهما، وينفرهما من بعض، ويرسخ حالة من الفصام الضمني بينهما.
سبب المشاكل الزوجية!
وتشكو العديد من الزوجات من أن أزواجهن يتخذون الحاسوب زوجة أخرى، يجلسون أمامه أكثر مما يجلسون مع زوجاتهم، حتى إن البعض منهن يُطلقنَ عليه اسم: "الضَّرَّة" أو الزوجة الثانية، في حين تشكو أخريات أنه يبتعد بالرجل - والمرأة أحياناً - عن الاهتمام بشؤون الأبناء ورعايتهم، حتى إن أماً من السويد يهمل زوجها أبناءه بسبب قراءة الصحف دعت إلى إعادة تصميم موائد الطعام كي تستوعب الحواسيب؛ "لأنه أمر يدعو - ويا للأسف - إلى ألا يرى ابن أباه على المائدة، متجاهلاً إياه وكل الآخرين عند قراءته الأخبار" حسب قولها.
وتقول مؤسسة "ريليت"- وهي أكبر جهاز استشاري في العلاقات الأسرية في بريطانيا-: إن واحداً تقريباً من بين كل عشرة أزواج، ممن يسعون إلى الاستعانة بها، يشيرون إلى مشكلة ما متعلقة بالحاسوب، ثم إن هذا الاتجاه في تزايد، وتوضح (دينيس نولز) إحدى مستشارات المؤسسة أن أصحاب الشكوى من النساء يقُلن: إن الوقت الذي يُهدر أمام الحاسوب طويل جداً ويسبب مشكلات كثيرة.
مشكلة حقيقية:(252/4)
يبدو أن هناك مشكلة حقيقية تعيشها الزوجات تتصل باستخدام الأزواج للشابكة (الإنترنت) بطريقة تنطوي على تجاهل الزوجة، والعكس في حالة ارتباط الزوجة بعمل يتصل بالحاسوب يؤدي إلى إهمالها شؤون البيت والزوج، وهو ما يؤدي إلى مشكلات زوجية فعلية، ويعوق وسيلة الاتصال الطبيعية بين الأزواج؛ بحيث يصبح التعامل مستقبلاً بين الطرفين مقتصراً على جهاز الحاسوب، وهو أمر يعمِّق فكرة "الخرس الزوجي" ويؤكد خطورتها.
والحل باختصار يتمثل في أن يدرك الزوجان في عالمنا العربي والإسلامي خطورة هذا الجهاز الإلكتروني، وضرره المدمر للعلاقات الزوجية والأسرية، ولابد أن يتعاملا معه على هذا الأساس، بحيث لا يتعدى استخدامه دوره الفعلي في العمل أو التصفح لأوقات محددة.(252/5)
العنوان: الانتفاضة على العلمانية وظهور الأصوليات الدينية
رقم المقالة: 559
صاحب المقالة: د. محمد عامر
-----------------------------------------
مدخل:
إن الانفصام بين الدين والحياة بلغ مدى ربما لم يتوقعه أو يرده الذين دعوا إليه في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، هذا الانقطاع والقطعية بين العقل والقلب لم يؤد إلا للدمار النفسي والاجتماعي. ولذلك بدأت قطاعات كبيرة من البشرية في العودة إلى الدين – أي دين- إلى الإيمان بقوة غيبية، يعودون إلى الدين ولو كان دينا ملفقا غير صحيح، ففي الغرب وفي أمريكا بالذات نجد عودة إلى البروتستانتية، وفي أمريكا الجنوبية عودة إلى الكاثوليكية، وفي الصين والهند عودة إلى البوذية، وهذا مؤشر على أن التدين والإيمان بالغيب نظرة أصيلة في الإنسان، وأن ما حاوله الملحدون والمستهزئون بالأديان من الابتعاد عن قوة مؤثرة في حياة الإنسان، وأن الإنسان يقوم وحده؛ كل هذا لم يمنع من بحث الإنسان عن شيء يفقده، لقد رجع الملايين من المسلمين إلى دينهم في مناطق المسلمين التي احتلها الروس زمنا طويلا، وذاق أهلها المر والعلقم من هذا الاحتلال، وتنفس المسلمون في أوربا الشرقية الصعداء، وبدأت رحلة العودة. وهناك مناطق في البلاد العربية لم يصلها دعاة ولا علماء وتفاجأ الدولة بالسباب المتدين بالمئات والألوف. كيف وقع هذا؟
إنها العودة إلى الدين بعد هذا الجفاء والجفاء، بعد رحلة الضنك والعذاب[1].(253/1)
إن الفترة التي أعقبت سقوط الشيوعية شهدت أحداثا عالمية مهمة مثل "حرب الخليج –الحرب في البوسنة والهرسك- الحرب التي نشبت داخل جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق التكتلات الاقتصادية الجديدة"، وهذه الأحداث أكدت أن أسباب الخلافات هي أكثر عمقا من المصالح السياسية أو الاقتصادية[2] التي كان يعتقد أنها السبب في نشر تلك الأحداث، كما أكدت للمفكرين السياسيين الغربيين أن إقامة "النظام العالمي الجديد"[3] على القيم والمبادئ الغربية، سوف يقابل برفض كبير من الشعوب الأخرى[4] التي تعتز وتحافظ على مقاومات حضاراتها الخاصة، وهذا قد سبب صدمة لدى هؤلاء المفكرين، جعلهم يعيدون طرح مسألة "تصادم الحضارات" كحقيقة سوف تبرز كثيرا في المستقبل القريب[5].
إن المصدر الأساسي للصراع في العالم الجديد لن يكون أيدلوجياً أو اقتصادياً وإنما صراعاً حضارياً، "سوف تحدث الصراعات الرئيسية في السياسة العالمية بين المجموعات والدول من حضارات مختلفة،[6] وإن الخطوة المتصادة بين الحضارات سوف تكون خطوة المعارك في المستقبل .."[7].
أشهر الحضارات العالمية:
إن الهوية الحضارية سوف تحظى بأهمية متزايدة في المستقبل وإن العودة إلى الجذور سوف تكون هي الهم المستقبل للشعوب ولذا يرى "صامويل هنجتون"[8]:
أن أشهر الحضارات التي "سوف يتشكل العالم عن طريق التفاعل بينها؛ سبع أو ثمان حضارات عالمية هي: الغربية، الكنفوشوسية، اليبانية، الإسلامية، الهندية، الأرثوذكسية السلافية، الأمريكية الجنوبية، وربما الإفريقية، وإن أهم صراعات المستقبل سوف تحدث على طول الخطوط التي تفصل بين هذه الحضارات"[9].
أسباب الصراع والعودة إلى الجذور:
يرى هنجتون أن أسباب الصراع والعودة إلى الجذور ما يلي:(253/2)
الأول: أن الاختلافات بين الحضارات هي اختلافات جوهرية[10]، وذلك لاختلاف التاريخ، واللغة، والثقافة، والتراث، وأهم من ذلك لاختلاف الدين، وأن الناس مختلفة الحضارات، يملكون نظرات مختلفة للعلاقة بين الإنسان والله وبين الفرد والجماعة[11]، وبين المواطن والدولة، وبين الأطفال والآباء، وبين الزوج والزوجة، ويملكون نظرات مختلفة حول الحقوق والواجبات، والحرية والمسئولية [12] والمساواة والطبقية [13] وهذه الاختلافات هي نتائج قرون من الزمن وهي اختلافات أصيلة إلى حد بعيد أكثر من الاخلافات بين الإيدلوجيات والأنظمة السياسية.
الثاني: أصبح العالم الآن مكاناً صغيراً، والتفاعلات بين الناس من مختلف الحضارات تزداد يوماً بعد يوم، وهذه التفاعلات تكثف الوعي الحضاري والمعرفة بالفروق بين الحضارات، والأمور المشتركة داخل كل حضارة، وقد ولدت الهجرة من شمال أفريقيا إلى فرنسا: الشعور بالعداء لدى الفرنسيين، وفي نفس الوقت زادت من قبول الهجرة إلى فرنسا من البولنديين الكاثوليك، وكان رد الفعل لدى الأمريكيين أكثر سلبية للاستثمار الياباني، مقارنة بالاستثمار الكبير من أوربا وكندا.
الثالث: لقد أثر التطور الاقتصادي، والتغيير الاجتماعي، في كثير من الدول إلى إضعاف أن تكون الدولة الواحدة هي مصدر الهوية؛ ولهذا تحركت كثير من الديانات العالمية لسد الفراغ، وجاء هذا في شكل حركات تدعى الآن بـ "الأصولية"، ويشكل الشباب المتعلم في الجامعات والفنيين من الطبقات الوسطى والمهنيين ورجال الأعمال الأشخاص النشطين في الحركات الأصولية [14]، وكما قال "جورج ويجل": "إن رفض علمانية العالم هي واحدة من أكبر الحقائق الاجتماعية التي تسيطر على الحياة في السنوات العشرين الأخيرة من القرن العشرين"[15].(253/3)
الرابع: إن نماء الوعي الحضاري قد ازداد بسبب الدور المزدوج للغرب، فمن جهة تعتبر الغرب حاليا في القمة من ناحية القوة العسكرية، [16]ومن جهة أخرى فإن ظاهرة العودة إلى الجذور تحدث بشكل أكبر في المجتمعات غير الغربية، "إن غرباء في القمة من ناحية القوة يواجه عالما غير غربي يملك الرغبة والإرادة والإمكانات لتشكيل العالم بطرق غير غربية[17].."، لقد كانت النخب في المجتمعات غير الغربية تتكون من الأشخاص الذين تعلموا في جامعات الغرب، وتشربوا المواقف والقيم الغربية، وفي نفس الوقت كان العامة يحتفظون بعمق الثقافات المحلية أما الآن فقد انعكست العلاقة حيث أصبحت النخب تتشكل من الأشخاص الذين رفضوا التأثر بالثقافة الغربية، وفي الوقت نفسه بدأت الثقافة الرغبية وخاصة الأمريكية تصبح مشهورة على مستوى الجمهور العريض في تلك الشعوب.
الخامس: إن خصائص الحضارات واختلافاتها هي أقل تحولاً وتقلباً كما أنها لا تقبل الحلول الوسط والتسويات بسهولة، بعكس خصائص الاقتصاد والسياسية: فمثلاً في الاتحاد السوفيتي السابق يمكن أن يصبح الشيوعي "ديمقراطياً"، والغني فقيراً، والفقير غنياً، ولكن الروسي لا يمكن أن يصبح أستونياً، والأذاري لا يمكن أن يصبح أرمينياً، ففي الصراعات الأيديلوجية والطبقية يكون السؤال الرئيس هو: "مع أي الجهات تقف؟"، أما في الصراعات الحضارية فيصبح السؤال هو [18]: "من أنت؟". "وكما نعلم من البوسنة إلى القوقاز، إلى السودان: فإن الإجابة الخاطئة على هذا السؤال قد تعنى رصاصة في الرأس".(253/4)
السادسة: إن "أقلمة" الاقتصاد تزداد يوما بعد يوم، فالكتل الاقتصادية الإقليمية سوف تزداد على ما يبدو في المستقل، وإن "أقلمة" الاقتصاد سوف تنجح فقط عندما تمتد جذورها في حضارة واحدة، إن المجموعة الأوربية تكون سعيدة وهي تعمل ضمن قاعدة ثقافية متجانسة من ناحية اللغة والدين النصراني الغربي، وإن نجاح منطقة التجارة الحرة في أمريكا الشمالية سوف تعتمد على التقارب بين الثقافة الأمريكية الكندية وبين الثقافة المكسيكية، أما اليبان فإنها تواجه صعوبات في إيجاد كيان اقتصادي في شرك آسيا لأن اليابان تتكون من وحدة حضارية فريدة[19].
ولعل من أبرز الكتاب الذين أبدوا اهتماما في هذا الموضوع الكاتب "جيل كيبل" منذ كتابة الأول "النبي والفرعون" إلى كتابه الأخير "يوم الله" عن الحركات الأصولية والمعاصرة في الديانات الثلاث [20] يذكر "كيبل" أسباب العودة إلى الدين في الديانات الثلاثة: الإسلام[21] والنصرانية بشقيها: الكاثوليكية، والبروتستانتية، والديانة اليهودية، ويعيد سبب هذه الأصوليات إلى فشل المشروع التحديثي العلماني"[22].
"إذ هذه الحادثة لم تؤد إلى إنكار أو تحطيم كل الحضارات الأخرى فحسب، بل أدت أيضاً إلى إفقار الحضارة الغربية ذاتها حين تركت بعد المجتمع يصاب بالضمور باسم فرديتها[23]، وتركت بعد الإنسان المتعالي يضمر باسم وضعيتها.. وهذا التصور للعلمانية قد أدى إلى هزيمة الغرب أخلاقيا"[24].
ثم يلاحظ "كبيل" وجود تشابه في بعض هه التوجهات عند المتدينين، ويرى أن أهم ملامح هذا التشابه: أن هذه الحركات الدينية هي على العموم حركات تعارض الخطاب الغالب في الدين الرسمي وتخرج عليه تسرع إلى تجريمه.. وتأخذ هذه الحركات بكافة على المجتمع تفتته، وفوضاه وبعده عن الجادة وافتقاره لمشروع متكامل يؤمن به وينتسب إليه.. وتعتبر أن حداثة ينتجها عقل بدون الله هي حداثة لم تستطع في النهاية أن تولد قيماً[25].(253/5)
وتملك هذه الحركات قدرة خاصة على الإشارة إلى اختلالات المجتمع[26].
وفي الديانات الثلاثة هناك مجموعات لا تحاول الاستيلاء على السلطة، ولا تفكر بها، وتكتفي بجانب التقوى كمجموعة الهبة اللدنية في الكاثوليكية والبروتستانتية، وجماعة اللوبافيتش اليهودية، وجماعة التبليغ عند المسلمين فهذه جماعات تدعو إلى التقوى والتجربة الدينية الشخصية ولا تهتم بأبعد من ذلك[27].
يقابل ذلك التيارات التي تحمل برنامجا بديلا كالحركة الإنجيلية والأصولية والأمريكية التي كان أول رجالها المعمداني جيمي كارتر، والذي جاءت به الكنيسة إلى الحكم ليكفر عن خطيئة ووترجيت. ثم تلاه ريغان، الذي هاجم نظرية داروين المدمرة للأخلاق، وهاجم نظام التعليم العلماني، وطالب بتدريس وجهة النظر الكنسية في قصة الخلق بديلا، وزعم بأن الله اختار أمريكا واختار مكانها البعيد لتكون مكانا للإيمان والحرية يهفو إليه من يحب الإيمان والحرية، وقال أمام جمعية الإنجيليين القومية إنه سيجعل من عام 1983 م عام الكتاب المقدس[28].
ثم تلاه بوش على نفس القاعدة المتطرفة دينيا وله تاريخه المعروف في هذا[29]، وليلة سقوط بوش في الانتخابات صرح أحد أنصاره بخطر قيام حرب أهلية بسبب فوز الديمقراطيين، حرب بين المتدينين المحافظين ومخالفيهم[30]. ومع هذا التصريح مبالغة ولكنها إشارة ذات معنى. ويعرض أمثلة من إيطاليا وغيرها عن الحركات الدينية السياسية في العالم الكاثوليكي ولكنه يقف طويلا عند حركة "التضامن" البولندية وأثرها في إسقاط الحكم الشيوعي في بولندا، وأثر البابا يوحنا في هذه القضية مشهور، وأيضا تلك الحركات الدينية التي كانت تعمل في روسيا وأوربا الشرقية، وساعدت على نهاية روسيا[31].
ويقول روبن رايت:(253/6)
وفي المجتمعات التي تناضل في محاولاتها تخليص نفسها من الإفلاس، أو من الأنظمة التي تنقصها الكفاءة، أو البحث عن بدائل قابلة للبقاء فإن الدين يوفر المثل، والهوية، والشرعية، كما يتيح البنية التحتية أثناء عملية البحث، ويتم ذلك بدرجات مختلفة في كل أنحاء العالم، وعلى سبيل المثال فإن البوذيين في شرق آسيا،والكاثوليك في شرق أوربا وأمريكا اللاتينية والفلبين، والسيخ والهندوس في الهند، وحتى اليهود في إسرائيل، كل هؤلاء تحولا إلى دياناتهم حتى يتمكنوا من تحديد أهدافهم، ولتعبئة قواهم[32].
الأصولية:
لا شك أن هذه الكلمة أو هذا المصطلح غربي[33] ظهر في الصحافة الغربية قبل غيرها "فكيبل" يحدثنا عن جذور هذا المصطلح فيقول: "يؤرخ للظهور العمومي لمصطلح سلفية أصولية على وجه العموم بسنوات العشرين، وقد ظهر على أثر نشر سلسلة من 12 مجلداً انطلاقاً من عام 1910 في الولايات المتحدة تحت عنوان الأصول، تضم تسعين مقالة، حررها مختلف اللاهوتيين البروتستانت المعارضين لكل تسوية أو حل وسط مع الحداثة المخيمة، وقد نشرت هذه السلسلة التي مولها شقيقان كلاهما من رجال الأعمال ووزعا منها ثلاثة ملايين نسخة مجانا[34].
ولكن شهرة هذا المصطلح برزت واشتهرت في المصطلحات الأمريكية –كما يشير كيبل- في قضية "سكوبس" فقد كان جان ت. سكوبس أستاذ علم حياة شابا يعمل في ثانوية حكومية في ولاية تينيسي، واستخدم في التدريس كتابا يرجع ويميل إلى تطورية الأجناس. وهو أمر كان ينتهك قوانين الولاية التي كانت تحظر تعليم كل نظرية تنكر رواية الخلق الإلهي للإنسان، وقدم الأستاذ إلى المحكمة عام 1925 م. لكن قضيته أصبحت قضية عالم الثقافة الأصولية الأمريكية[35].(253/7)
واشتد الصراع فيما بين أنصار الداروينية أو أهل الحداثة أو التحرر وبين البروتستانت الذين يرون عصمة الكتاب المقدس، وانقسم المجتمع الأمريكي في فترة ما بين الحربين العالميتين إلى معسكرين متناحرين: قسم محارب للدين، وآخر محارب للحداثة. [36] كان التحديثيون في الشمال الصناعي، وكان المتدينون في الجنوب الزراعي، وكانت الجولات الأولى سجال كسب فيها المتدينون وحرموا الخمور ابتداء من عام 1919 م إلى عام 1933 م، ثم خسروا في مراحل بعد ذلك، إلى أن جاء كارتر وريغان "الذي نادى في زمنه بأن تكون مبادئ الكتاب المقدس شريعة المجتمع" ثم بوش صاحب النظرية الدينية في الاهتمام بالعائلة والفرد وإصلاحه وخلاصة من الخطيئة الأولى[37].
الرؤية المستقبلية للصراح الحضاري:
يرى هنجتون أن المستقبل للصراع الحضاري يبرز من خلال النقاط التالية:
أولا: الصراعات العسكرية التي استمرت عدة قرون بين الحضارة الغربية والحضارة الإسلامية[38] سوف تستمر في المستقبل، وربما تكون أكثر قساوة وإن العلاقات بين الحضارتين سوف تتعقد أكثر بسبب التركيبة السكانية. إن الازدياد الهائل في نمو السكان في الدول العربية وخاصة في الشمال الأفريقي، أدى إلى زيادة الهجرة إلى أوربا الغربية، مما أدى إلى زيادة العنف والعنصرية في إيطاليا وفرنسا وألمانيا ضد المهاجرين العرب والأتراك، وتواجه حدود الإسلام الأخرى حروبا طاحنة: ففي الجنوب هناك الحروب بين المسلمين والنصارى في جنوب السودان والقرن الإفريقي ونيجيريا، وفي الشمال هناك الصراع بين المسلمين والأرثوذكس[39] ويتمثل في الحرب بين الصرب والمسلمين، والعنف المتزايد بين أرمينيا وأذربيجان، والحروب الأخرى التي تهدد مصالح روسيا في القوقاز وآسيا الوسطى، وفي الشرق هناك النزاع بين باكستان والهند وبين المسلمين والبوذيين في بورما، وبين المسلمين والكاثوليك في الفلبين، "إن الإسلام يملك حدودا دموية.."[40].(253/8)
ثانيا: سوف يحصل في المستقبل نوع من التضامن داخل الحضارات وذلك حين تدخل بعض الجماعات أو الدول في حروب مع جماعات من حضارات مختلفة، مما يعنى طلب الدعم من الأعضاء الآخرين في الحضارة، ولقد حل التشابه الحضاري محل التوازن التقليدي والتحالف بين الأيديلوجيات السياسية كقاعدة أساسية للتعاون والتحالف، ومن الأمثلة على ذلك: الحروب في البلقان، حيث قدمت المجموعة الأوربية مساعدات عاجلة واعترفت بكرواتيا وسلوفينيا الكاثوليكية، كما أن روسيا تقوم بدعم الأرثوذكس الصرب، ويحاول المسلمون الحصول على الدعم من الدول الإسلامية، ومن الأمثلة أيضاً ما يحدث من حروب كثيرة بين المسلمين والنصارى في أماكن مختلة من الاتحاد السوفيتي السابق، وبعض الحروب بين النصارى الغربيين وبين النصارى الأرثوذكس في جمهوريات البلطيق، إلا أننا لا نجد أن هناك صراعات بين الروس والأوركرانيين لأنهم ينتمون إلى حضارة واحدة.
ثالثا: يعيش الغرب حاليا في القمة من ناحية القوة العسكرية والاقتصادية مقارنة بالحضارات الأخرى، والغرب يسيطر على المؤسسات السياسية والأمنية الدولية، ومع اليابان بالنسبة للمؤسسات الاقتصادية الدولية ولهذا فإن الكفاح من أجل الحصول على مصادر القوة العسكرية والاقتصادية والمؤسساتية هو واحد من مصادر الصراع بين الغرب[41] وبقية الحضارات كما أن الاختلافات في الثقافة وفي القيم الأساسية تكون المصدر الثاني للصراع، ولذلك فإن محاولة الغرب لاستخدام قوته للعمل الدعائي للأفكار الغربية سوف تقابل برد فعل ضد "إمبريالية حقوق الإنسان"[42]، وسيزيد هذا العمل من التثبت بالقيم المحلية، ويمكن ملاحظة ذلك في الدعم الذي تتلقاه الحركات "الأصولية الدينية" من الأجيال الشابة[43] في الثقافات غير الغربية.(253/9)
رابعاً: سوف تظهر في المستقبل بعض الدول التي لديها مقدار من التجانس الثقافي، ولكنها منقسمة حول ما إذا كان مجتمعها ينتسب إلى هذه الحضارة أم تلك، ويمكن تسمية هذه الدول بـ "الدول الممزقة"، والتي يتمنى زعماؤها الإنضمام إلى الدول الغربية، ولكن التاريخ والثقافة والتراث في تلك الدول ليس غربيا، وأوضح الأمثلة على ذلك تركيا التي حاول "أتاتورك" أن يجعلها دولة غربية علمانية حديثة، وقد انضمت إلى دول حلف "الناتو" وتقدمت إلى عضوية المجموعة الأوربية ولكن الشعوب الأوربية رفضت أن تقبلها دولة غربية، وبالتالي رفض انضمامها للمجموعة الأوربية.
خامساً: إن العقبات أمام الدول غير الغربية للالتحاق بالغرب تختلف بدرجة كبيرة؛ إذ إنها أقل بالنسبة لدول شرق أوربا وأمريكا اللاتينية، وهي عقبات كبيرة للدول الأرثوذكسية في الاتحاد السوفيتي السابق، وهي عقبات أعظم أمام المجتمعات الإسلامية، والكنفوشوسية، والهندية والبوذية، وتلك المجتمعات تحاول تطوير قدراتها العسكرية والسياسية والاقتصادية بعيدا عن النموذج الغربي، ولكن عن طريق التطوير الداخلي، والتعاون مع مجتمعات أخرى غير غربية، وإن أقرب شكل لهذا التعاون هو الاتصال "الإسلامي/ الكنفوشيوسي"، الذي بدأ يتشكل لتحدي القوة والقيم والمصالح الغربية[44].
وبدون استثناء فإن الدول الغربية وروسيا تخفض الآن من الآن من قوتها العسكرية، ولكن الصين وكوريا الشمالية والعديد من دول منطقة الشرق الأوسط قد زادت من قدراتها العسكرية بدرجة كبيرة.(253/10)
إن الصراع بين الغرب وتحالف "الإسلامية/ الكنفوشوسية"[45] سوف يركز بدرجة كبيرة على الأسلحة النووية، والكيميائية، والبيلوجية والصواريخ ذات المدى الطويل والأسلحة المتطورة الأخرى، وكذلك القدرات في مجال الاستخبارات والوسائل الالكترونية الأخرى، وفي هذا الشكل الجديد من التنافس لسباق التسلح نجد أن جهة واحدة تطور أسلحتها والأخرى تحاول الحد والتخفيض وليس إحراز التوازن في إمكاناتها العسكرية[46].
مظاهر الانتفاضة على العلمانية:
بعد الحديث عن أسباب الانتفاضة والتعريف بمصطلح الأصولية وتوضيح مستقبل صراع الحضارات يمكن الحديث الآن عن مظاهر هذه الانتفاضة في الدين اليهودي والنصراني وبعض الديانات الوثنية:-
اليهودية:
لقد تأثر العديد من المفكرين اليهود بالنزعة القومية العنصرية التوسعية التي سادت أوروبا في القرن التاسع عشر، مثل هيرش كاليشر "1795 – 1874م" في كتابه البحث عن صهيون، وموشي هس "1812 – 1875 م" في كتابه روما والقدس، وليوبينسكر "1821- 1891م" في كتابه التحرير الذاتي.
ثم بدأت الصهونية[47] تتغلغل وتنتشر أكثر بين اليهود منذ عام 1881م عندما اضطرت أعداد ضخمة منهم إلى النزوح عن روسيا على إثر المجازر التي تعرضوا لها بعد اغتيال القيصر الروسي ألكسندر الثاني، وإلى قيام جمعيات أحبار صهيون التي طرحت مسألة استيطان اليهود لفلسطين وغزوها عن طريق الهجرة كاحتمال عملي، كما درست إحياء اللغة العبرية لتصبح لغة غالبية اليهود عوضا عن اليديشية، وقد تمكنت حركة البيلو من إيصال عشرين مستعمراً يهودياً عام 1882م كانوا طلائع الهجرة الأولى إلى فلسطين؛ وأوجدوا عدة مستعمرات صهيونية شكلت المراكز الأساسية للاستعمار الزراعي الصهيوني في المراحل اللاحقة.(253/11)
إلا أن أحد أعضاء جمعيات أحباء صهيون البارزين وهو آحاد هاعام ذهب إلى إعادة النظر في فكرة إقامة المستعمرات، وأخذ يركز على ضرورة الحفاظ على القيم الروحية اليهودية، وأكد بأن طريق وقف الانحلال الروحي اليهودي –في نظره- هو إقامة مركز روحي لليهودية في فلسطين يعيد لليهود حيويتهم ووحدتهم ويؤدي في النتيجة إلى تحقيق الحلم القومي اليهودي، وسميت صهيونيته بالصهيونية الروحية.
وبادر أنصار آحاد هاعام لأجل هذا الغرض إلى تشكيل جمعية بني موسى، وتتلمذ على يده عدد من المثقفين اليهود.
وفي العقد الأخير من القرن التاسع عشر: اعتنق صحفي يهودي من فيينا هو تيودور هرتزل الفكرة الصهيونية على أثر موجة من العداء لليهود في أوروبا، وقام بتأليف كتاب حول المسألة اليهودية شرح فيه تصوره ووجهة نظره لحل المسألة اليهودية بعنوان الدولة اليهودية في عام 1895م.
وبعد عامين من هذا التاريخ تمكن هرتزل من عقد المؤتمر الصهيوني الأول بحضور "204" من المندوبين اليهود يمثلون جمعيات صهيونية متناثرة في أرجاء مختلفة من العالم، وتمخض هذا المؤتمر عن تحيد أهدفا الحركة الصهيونية فيما عرف ببرنامج "بال"، وإنشاء الأداة التنظيمية لتنفيذ هذا البرنامج،وهي المنظمة الصهيونية العالمية، وقد حدد المؤتمر هدف الصهيونية على أنه خلق وطن لليهود في فلسطين بواسطة الهجرة وربط يهود العالم بهذا البرنامج.
وتعتبر صهيونية هرتزل صهيونية سياسية لأنها حولت المشكلة اليهودية إلى مشكلة سياسية وأوجدت حركة منظمة محددة الأهداف والوسائل.(253/12)
أما الصهيونية الدينية فقد اتخذت شكلاً تنظيمياً عام 1902م بقيام حركة مزراحي تحت شعار أرض إسرائيل لشعب إسرائيل حسب شريعة توراة إسرائيل، وتحت شعار آخر التوراة والعمل، ويرى هؤلاء أن اليهود أمة متميزة عن غيرها، لأن الله - في زعمهم - هو الذي أسسها بنفسه، [48] وأن وحدة الوجود اليهودي تتمثل بالتحام اليهود والتوراة وفلسطين، ذلك الالتحام الذي فجر عبقرية اليهود، ولحركة مزراحي هذه فروع في كل العالم، ويتبعها الحزب الديني القومي والعديد من مزارع الكيبروتز والموشاف والكثير من المدارس التلمودية[49].
وظهرت تيارات صهيونية أخرى مثل الصهيونية التنقيحية، ومن روادها: جابو تنسكي الذي عرف هو وأتباعه بالتشديد على أهمية بناء قوة عسكرية صهيونية كبيرة لغزو فلسطين وبناء الدولة اليهودية بالقوة، ويمثل حزب "حيروت" اليميني بقيادة بيغن وشارون التنقيحي داخل إسرائيل.
ومن هذه التيارات: الصهيونية العملية التي كانت تطالب بالاعتماد على الجهود الذاتية اليهودية والمباشرة ببناء الوطن القومي لليهود.وكان وغيزمان وابن غوريون أهم دعاة هذا الأسلوب.
ومنها: الصهيونية العمومية التي تستند إلى المطالب بالمصلحة القومية بصرف النظر عن الانتماء الطبقي، وقد نشط أصحاب هذا الاتجاه في تجميع المال لتثبيت جهود الاستيطان اليهودي في فلسطين.
ومنها كذلك: صهيونية الدياسبورا "الشتات" التي تتبنى الصهيونية الثقافية فيما يتعلق بالنظرة إلى إسرائيل على أساس أنها مركز اليهودية الثقافي أو الروحي.
ومن هذه المدارس أيضاً: الصهيونية العمالية، أو الاشتراكية، ولعل أهم تيارات هذه المدرسة هي مدرسة جوردون التي ركزت على فكرة اقتحام فلسطين، وركزت أيضا على العمل باعتباره وسيلة من وسائل التخلص من عقد المنفي وصهر القومية اليهودية الجديدة.(253/13)
وجدير بالإشارة إلى أن العقيدة الصهيونية وأبعادها الدينية والتاريخية تشكل الخلفية النظرية وقاعدة الارتكاز اليهودي في إسرائيل[50]، بدءاً من الناحية التشريعية، كقانون العودة "1950م" الذي يقضي بحق كل يهودي في الجنسية الإسرائيلية، مرورا بالقانون: إن فلسطين هي موطن يهود العالم باعتبار الأقدمية والاستمرارية التاريخية لمدة ألفي سنة، وإن يهود اليوم يشكلون على هذا النحو قومية تمتد إلى آلاف السنين من التاريخ[51].
أبرز مظاهر الانتفاضة الدينية:
هناك العديد من المظاهر التي توضح عودة اليهود إلى دينهم والتمسك الحرفي بتعاليمه ومن أبرزها ما يلي:
1- الهجرة إلى فلسطين:
في عام 1835: كانت الطائفة اليهودية في فلسطين تقدر بحوالي عشرة آلاف شخص "وفقا لتقديرات نيفل".
وفي سنة 1897: استطاع هرتزل أن يجمع غالبية القوى والحركات اليهودية في مؤتمر "بال" بسويسرا، وتم على أثر هذا المؤتمر وضع مخطط عملي، وحددت الخطوط العريضة التي يتعين على كل المشاركين في هذا المؤتمر العمل على تنفيذها وبدقة، من أجل الوصول إلى إقامة الدولة اليهودية. وقد كان هدف الوكالة اليهودية الأساسي حينذاك: العم على إنشاء "الوطن القومي اليهودي" في فلسطين، وتنظيم الهجرة إليها[52].
في أواخر القرن التاسع عشر كان هناك أقر من "50000" يهودي في فلسطين، وفي الفترة ما بين عامي: 1920و 1932 وفد إلى فلسطين حوالي 118300 يهوديا، في عامي 1948 إلى 1950م أنشأت المخابرات الإسرائيلية أول جسر جوي بين عدن وتل أبيب، تم بواسطته نقل حوالي 600000 يهودي يمني إلى إسرائيل.
في خطاب "بن غوريون" 31/8/1948م، وفي حفل استقباله لمجموعة من اليهود الأمريكيين، حيث قال: "رغم أننا حققنا حلمنا بإقامة دولة يهودية، فإننا مازلنا في بدء العملية، وليس في إسرائيل اليوم سوى 900000 يهودي، في حين تتواجد أغلبية الشعب اليهودي خارج إسرائيل، يجب أن نجلب جميع اليهود إلى إسرائيل".(253/14)
ما بين عام 1950م وعام 1956 تم نقل حوالي 100000 يهودي عراقي عبر جسر جوي تم فتحه خصيصاً بين بغداد وتل أبيب.
في عام 1956: وبناء على موافقة ملك المغرب على هجرة يهود بلاده، تم نقل 67000 يهودي مغربي إلى إسرائيل.
لقد انتبه زعماء الصهيونية لتلك المشكلة، فراحوا يطلقون الصيحات والتصريحات، مطالبين إخوانهم المشتتين بالعودة إلى وطنهم "أرض الميعاد" ؛ لمؤازرة إخوانهم هناك، والعمل معهم من أجل الوصول إلى ما "وعدوا به".. ففي صريح لبن غوريون، نشرته مجلة نيويورك تايمز في 2 شباط 1959، قال: "وإن انتصار إسرائيل النهائي سيتحقق عن طريق الهجرة المكثفة، وإن بقاء إسرائيل يعتمد فقط على توافر عامل هام هو: الهجرة الواسعة إلى إسرائيل".
لقد ساعد في دفع عمليات الهجرة هذه أيضا قانون العودة الذي صدر في 15 يوليو 1950، والذي أضفى على عمليات الهجرة الصفة الدينية، وذلك عندما سمى الهجرة إلى إسرائيل "العودة إلى بلادهم"، وعندما أطلق في مادته الثانية على موجة الهجرة لفظ "عليا" ؛ أي: الحج والصعود إلى أرض الميعاد، ويعطي هذا القانون الحق لكل يهوي في أن يهاجر إلى إسرائيل، ولأغراض هذا القانون اعتبر يهوديا كل شخص أمه يهودية أو اعتنقت الدين اليهودي، أو حتى لو تحول هو إلى اليهودية، بشرط أن يكون تحوله هذا بموافقة حاخام من الأصوليين.
وفي سبتمبر عام 1987، سمحت إيران بهجرة حوالي 30000 يهودي إيراني بدأ عن طريق تركيا، براً ثم جواً أو بحراً من تركيا إلى "إسرائيل".
هجرة يهود أثيوبيا "الفلاشا":
لقد بدأت العملية ليل 26 من أيار عام 1991 حيث تمكنت "إسرائيل" من نقل حوالي 14500 يهودي أثيوبي من أديس أبابا إلى تل أبيب وفي يوم 20/11/1984 وصلت الدفعة الأولى من المهاجرين اليهود قامت خلالها الطائرات بثمانٍ وعشرين رحلة نقلت فيها حوالي عشرة آلاف يهودي أثيوبي إلى "إسرائيل".
كما تم نقل بقية يهود الفلاشا ما بين عام 1989 – 1991م[53].(253/15)
2- إنشاء الأحزاب الدينية:
إن ما يزلم بيانه والتنبيه عليه في هذا المقام هو مدى صدق الصهاينة مع مبادئهم وحدبهم عليها واستماتتهم في الدفاع عنها بكل السبل، ويكفي أن نعرف أنهم أتاحوا المجال للأحزاب "الدينية الصهيونية" لتعمل في وضح النهار حتى صار لها دورها المؤثر في وصول أحد الحزبين للحكم، ولهذه الأحزاب جهودها المؤثرة في المجتمع الصهيوني مما جعل الصهاينة.
يحترمون دينهم ومبادئهم ولاسيما في المواقف الدولية ولعنا نتذكر رفض الوفد الصهيوني الاجتماع بعد حرب رمضان في خيمة "الكيلو 101" "يوم السبت"[54].
ويرى كيبل:
أن من الحركات اليهودية السياسية المهمة حركة غوش أمونيم التي تأسست عام 1974م إثر استعادة مصر لأجزاء من سيناء، وهذه الحركة مع حركات وأحزاب دينية صغيرة لعبت دورا مهما في تشكيل الحكومات اليهودية، وكانت هذه الأحزاب الدينية موازنا مهما بين المتنافسين، كل منهم يسعى لرضاها وينفذ برنامجها حتى يكسب أصواتها، مما أهلها لتأثير ديني في المجتمع اليهودي أكبر من حجمها الواقعي[55].
3- التضحية في سبيل الوطن الديني:
جولدا مائير "رئيسة وزراء إسرائيل 1969 – 1973م" إحدى النساء اللواتي ساهمن مساهمة قوية في قيام دولة إسرائيل، قال عنها ابن غوريون أول رئيس للوزراء– عندما عادت من أمريكا محملة بخمسين مليون دولار بعد حملة تبرعات واسعة-: سيقال عند كتاب التاريخ: إن امرأة يهودية أحضرت المال، وهي التي صنعت الدولة [ص 171 من مذكراتها]، بل قال عنها ثانية: إنها الرجل الوحيد في الدولة! [ص 97 من مذكراتها][56].(253/16)
أخبرت اليهود في جميع أنحاء أمريكا أن الدولة الإسرائيلية لن تدوم بالتصفيق ولا بالدموع ولا بالخطابات أو التصريحات، إنما يجب توفر عنصر الوقت لبنائها، قلت في عشرات المقابلات: لن نستطيع الاستمرار دون مساعدتكم؛ فيجب أن تشاركونا بمسؤولياتكم في تحمل الصعاب والمشاكل والمشقات والأفراح، صمموا على المساعدة وأعطوني قراركم! لقد أجابوا بقلوبهم وأرواحهم بأنهم سيضحون بكل شيء في سبيل إنقاذ الوطن!!
لقد شعرت أن الرد الوحيد على قتل اليهود في أوكرايا هو أرض فلسطين، يجب أن يكون لليهود أرض خاصة بهم، وعليَّ أن أساعد في تحقيق هذا، لا بالخطب والتبرعات، بل بالحياة والعمل هناك معهم في أرض فلسطين [ص 54][57].
لقد كانت مسألة العمل في حركة العمل الصهيوني تجبرني للإخلاص لها ونسيان همومي كلها، وأعتقد أن هذا الوضع لم يتغير طيلة مجرى حياتي في الستة عقود التالية [ص 56][58].
4- الدعم الخارجي من أمريكا وأوربا:
ويستعمل زعماء تلك الكنائس سلطانهم الروحي في جمع الأموال وإقامة الإمبراطوريات الإعلامية والتعليمية الضخمة من أجل الوصول إلى أكبر عدد ممكن من الجمهور، ولحشد الرأي العام العالمي –وليس المحلي فقط- لتأييد إسرائيل، بالإضافة إلى ذلك فقد استفادوا من قوانين تمويل الانتخابات المرنة جداً، ليفرضوا أنفسهم وعقائدهم على البرامج السياسية للمرشحين بالمال تارة، وبإثارة الناخبين عن طريق وسائل التأثير المختلفة كالرسائل والنشرات، بل والتهديد بغضب الرب تارة أخرى، حتى غدى الأصوليون النصارى من أبرز المجموعات السياسية في العقود الأخيرة وبالذات الثمانينات، بل إن الإحصاءات الرسمية لمركز البحث للرأي العام في أمريكا لسنة 1988م تشير إلى أن 34% أي ثلث الشعب الأمريكي ينتمي إلى مجموعات ذات صلة بالكنيسة وأنشطتها[59].(253/17)
وبترجمة هذه الدلائل إلى واقع ملموس: نجد أن سبعاً من أصل أكبر عشر لجان عمل سياسي "لوبي" نشطة في جمع المال تعمل بدوافع عقائدية، وسوف يستمر هذا النمط حتى يدرك الشعب مكاسب تلك اللجان[60]، فإذا كانت هذه هي دوافع اللجان السياسية والتي على رأسها الدعم المطلق لإسرائيل: فإننا نوقن أن العقيدة المهيمنة على السياسة الأمريكية الخارجية فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية هي الأصولية النصرانية[61].
5- إنشاء المنظمات التي تدعم التوجهات الأصولية:
لعل من أبرز الشخصيات التي تولت كبر الدعوة إلى دعم ومساندة إسرائيل القس جيري فولويل زعيم الأغلبية الأخلاقية ورئيس جامعة الحرية التي يدرس بها حوالي سبعة آلاف طالب اللاهوت من وجهة النظر اليهودية مكرساً بذلك عقيدة المهاجرين الأوائل ومؤسسي الجمهورية، [62] كما يشرف على جماعة سياسية نشطة تضم حوالي ستة ملايين عضو، وله برنامج مشهور يذاع أسبوعياً من خلال تسعمائة محطة إذاعية ومرئية[63]، بالإضافة إلى ذلك الانتشار الشعبي: فإن مجموعته تصدر تقريرا شهريا باسمها يرسل إلى الرئيس وأعضاء الكونجرس وحكام الولايات وكبار الصحفيين ووكالات الأنباء والمحطات، ولقد ساهمت المنظمة في ترجيح كفة مرشحين كثر، من أشهرهم:
السناتور الجمهوري جيسي هلمز "وهو متعصب حاقد شغل منصب رئيس لجنة الشؤون الخارجية بمجلس الشيوخ". ولقد بلغ مجمل ما أنفقته المنظمة على الدعاية والانتخابات في حملة سنة 1984م مائة مليون دولار متفوقة بذلك على المرشحين الرئاسيين المجتمعين، ونظراً لما يتمتع به من نفوذ وشهرة؛ فقد استعان به رئيس وزراء إسرائيل الهالك بيجن لحشد الرأي العام لمصلحة بلاده بعد ضربها المفاعل النووي العراقي. والذي حمل فولويل على كل هذا: هو ما صرح به من أن مصلحة أمريكا تقتضي دعم إسرائيل لأنها تمثل رغبة الرب!، وهذا يعنى فتح المستودعات العسكرية الأمريكية وبنوك المعلومات والمال لها[64].
6- بناء المستوطنات:(253/18)
يقول "خليل التفكجي" مدير دائرة الخرائط في "جمعية الدراسات العربية" في القدس: لقد سيطروا على 34% من مساحة القدس، وحولوا 40% من أراضيها مناطق خضراء يمنع البناء عليها، وصادروا 5% من مساحة أراضيها لشق الطرق، وأخرجوا 7% من مساحة أراضيها من التنظيم، فيما يقيم المقدسيون الآن على 10% فقط من مساحة القدس، لم يبق الآن سوى 4% من المساحة كلها[65].
النصرانية:
أما النصرانية فإن مظاهر الانتفاضة على العلمانية بارزة وواضحة لأدنى تأمل ولعل من أبرز مظاهر العودة ما يلي:
1- التوسع في طبع الإنجيل ونشره:
كتبت مجلة "وورلد مونيتور" الشهرية –الصادرة عن مؤسسة "كريستيان ساينس مونيتور" في عددها لشهر ديسمبر عام 1990م وتحت عنوان "عقود الإنجيل" - تقول:
"إن أعجب زيادة في توزيع الإنجيل حصلت في فترة قريبة هي تلك التي تمت في الاتحاد السوفييتي، ففي خلال عامين –بالتحديد من يوم أن كتب "هارفي كوكس" مقالته في عدد مجلتنا الأول في يناير عام 1988م والتي كانت حول ندوة الأناجيل في روسيا - تم توزيع ملايين النسخ مجانا على الناس هناك. وإذا ما أخذنا في الاعتبار التوزيعات التي قامت بها مؤسسة "جمعيات الإنجيل المتحدة" في الفترة التي تلتها، نجد أنه في مقابل 22000 نسخة وزعتها المؤسسة عام 1980م تم توزيع 227775 في عام 1989م، و 596200 نسخة حتى منتصف عام "1990م". وهذه المؤسسة هي عبارة عن ائتلاف بين "110" جمعية في إطار لغاية واحدة هي: "إيصال الكتاب المقدس لكل إنسان على الأرض".
وتضيف المجلسة "... وعدد نسخ الإنجيل التي تمت طباعتها من يوم أن اكتشف الإنسان الطباعة الآلية يزيد على "3" مليارات نسخة"![66].
2- بروز الخطاب الديني في الحملات الانتخابية[67]:(253/19)
عندما ألقى جورج بوش خطابه الانتخابي الشهير في مدينة هيوستن الأمريكية ركز على نقطة جوهرية تمثل برنامجه العريض للسنوات الأربعة المقبلة "في حالة انتخابه".. كانت هذه النقطة الرئيسية تدعو إلى الحفاظ على القيم الأخلاقية التي تكفل بقاء أمريكا قوية ورائدة في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، لقد قضى الأمريكيون على عدوهم الشيوعي، وبدأت معالم نظام عالمي جديد تبرز وتزداد وضوحا.. وعلى المنتصر أن يركز على تقوية الجانب العقائدي/ الأخلاقي ليضمن البقاء في القمة، وحصر الرئيس الأمريكي هذه المبادئ في العقيدة "اليهودية/ المسيحية".. وليؤكد على هذا المفهوم هاجم منافسيه[68] الديمقراطيين الذين نسوا الله في حملتهم الانتخابية[69].
مراسل مجلة الإيكونمست:(253/20)
لخص وضع الحزب الجمهوري في هذه اللحظة بالقول: إنه حزب الله الأمريكي وأضاف: ألين كويست مثال لموجة الدينية السياسية القادمة، إنه من زعماء الحزب في ولاية "مانيسوتا"، في حياته الخاصة وهو متدين ولديه عشرة أطفال!، ويصرح باستمرار: أن على أمريكا أن تتطهر من الشواذ وأن تشن الحرب على مؤسساتهم، وأن المرأة ليست مهيأة لقيادة الأمة... وهذه الدعوة تلقي قبولا وترحيبا، هذه الظاهرة لم تعد محصورة في الجنوب الأمريكي المتدين تاريخيا، إنها بدأت تطفح حتى في المدن المشهورة بالتحرر الشديد.. لقد أصبح للمتدينين قصب السبق في أماكن لم يتصور أن يصلوا إليها كـ"نيويورك" و"كاليفورنيا"، وفي هاتين المنطقتين أصبح الآباء المتدينون هم القوة الأولى في مجالس المدارس المحلية، وبالرغم من الكر المتبادل بين المدارس الحكومية العامة والتيار الدين فقد استطاع التيار الديني أن يسيطر على 15% من مجموع المجالس في الولايات كلها والتي يبلغ مقدارها 2250 مدرسة.. يقول الشريط التلفزيوني: حتى في "هوليود" عاصمة السينما بدأ الزحف الديني يدق أبوابها، واصبحت عاصمة الفن الأمريكي تشعر أنها محاصرة من جهتين الأولى خارجية والثانية داخلية، لقد بدأ زعماء التيار اليميني مثل نيوت جينجريتش يهزأون بالقيم المنحطة التي تشيعها صناعة السينما الرديئة، وقبل سنتين استهدف نائب الرئيس الأمريكي دان كويل هذه الماكينة الإعلامية خلال الحملة الانتخابية ووصفها بالانحطاط، لقد قوبل كويل بعاصفة من الاحتجاج آنذاك، أما اليوم –وفي ظل الشعور بالضياع والحيرة والرغبة في التدين- فإن الملحوظات نفسها ستلقي الترحيب بدل الهجوم، ويضيف التقرير المرئي: كانت أمريكا تلمس بيديها إفراز الثقافة المتحررة من كل قيد[70]...
3- بروز الخطاب الديني في أعلى المستويات:(253/21)
والرئيس ريغان لم ينطلق من فراغ بل كان يعتمد أصلا على تعاليم الإنجيل عندما قال: إن الاتحاد السوفيتي إمبراطورية الشر وإن "تعاليم الإنجيل وأقوال المسيح تتطلب منا أن نقاوم الشر بكل ما أوتينا من قوة"[71].
وربما رجع المرء إلى الوراء قليلا حين انتعش اليمين الديني في الثمانينات ولاسيما أيام حكم الرئيس ريجان حيث كانت العقيدة السياسية الداخلية والخارجية مصبوغة بلون ديني قوي وبظهور جماعات الأصولية الإنجيلية كبات روبتسون وجيمي فارويل وجيمي بيكر وجيمي سويجارت.. لقد شن الليبراليون حملة مضادة لقص أظافر الحركات الإنجيلية وتشويه سمعتها لاسيما وأن قادة الإنجيليين كانوا منغمسين في ممارسات تتناقض مع مبادئهم ورسالتهم.. أما الموجه الحالية: فإن قاعدتها تتألف من القطاع المتدين المتوسط دخله وتتشكل من أولئك المترددين على الكنائس المتعددة، وفي حين تحظى موجة الأصولية الحالية بوجوه بعض القادة المتشددين كـ روبرتسون وفارويل فإنها تظل بعيدة عن السيطرة الكاملة لرجال الدين حيث تظهر زعامات سياسية متدينة تحمل رسالة الإنجيل وتمارسها بأسلوب سياسي ماكر –كما يفعل نيوت جينجريتش-.
لقد أفردت مجلة النيوزويك تحقيق غلافها قبل رصد ظاهرة العودة إلى الدين بوصفها قوة وحيدة قادرة على حماية الكائن الإنساني من التمزق، وركزت على العودة إلى الكنيسة أو الكنيس [72]
4- تحول الرؤساء إلى دعاة للنصرانية[73]:
فالتنصير أو ما يسمى تدليسا التبشير هو الهدف الرئيس الذي أنشأ من أجله مركز كارتر في أتلانتا بولاية جورجيا. هذا المركز الذي لاقت أعماله نجاحا ودعما كبيراً من جمعيات التنصير العالمية، تكون ابتداء من قسم واحد يعمل من أجل السلام في العالم!، يتفرع اليوم إلى أقسام عديدة؛ أهمها مركز كارتر للديمقراطية "CCD "، وشبكة كارتر الدولية للتفاوض "CINN "[74].
5- إنشاء الجامعات والمحاطات الدينية:
ويشير إلى ذلك كيبل بقوله:(253/22)
"والجامعات الدينية المتخصصة تفتتح، وبرامج التلفزيون والإذاعة تتزايد، وفي عام 1985 كان للكنيسة 18 ألف مدرسة تضم مليونين ونصف مليون طالب[75]. وتعلن الكنيسة عن مشاريع سنوية، تطالب في كل سنة بإنقاذ مليون روح لصالح الكتاب المقدس - أي دفع هذا الرقم إلى حظيرة الكنيسة -.
ويضيف كيبل:
بأن ما تملكه الكنيسة الإنجيلية الأمريكية من أجل نجاح مشروع الدعوة الدينية في أمريكا أعظم بما لا يقاس من وسائل الآخرين - المسلمين والكاثوليك واليهود - لأنها تمتد من أقنية التلفزيون إلى الجامعات"[76].
ويبدو أن القس روبرتسون متفائل جدا بمستقبل دعوته وأنشطته حيث يقول في كتابه الأخير "الألفية الجديدة" بأن الصراع بين الإيمان والعلمانية في أمريكا سوف ينتهي في هذا العقد "أي الأخير من القرن العشرين" بالنصر للأول[77]، وقد كان يحدث المشاهدين على الكتابة للرئيس والنواب كي يشجعوا إسرائيل في غزوها لجنوب لبنان حسب ما تراه ضروريا، وقد رافق نائب الرئيس ريجان في رحلته إلى السودان لإبرام صفقة ترحيل يهود الفلاشا[78].
6- ظهور الصلاة في المدارس:
أمريكا اختارت الإنجيل.. أمريكا أثبتت للعالم مرة أخرى أنها أكبر قوة متدينة في الغرب؛ هذه هي خاتمة برنامج وثائقي أنتجته إحدى أكبر محطات البث التلفزيوني في الولايات المتحدة، وكان متزامنا مع تغطية صحفية واسعة النطاق عن الصحوة الدينية التي تجتاح أمريكا من المحيط الأطلسي حتى المحيط الهادي كالموجة الهادرة.(253/23)
البعض يحب أن يفسر هذه الظاهرة العامة بمنظار المجهر السياسي فيتحدث بإسهاب عن نتائج الكونجرس الأخيرة ومكاسب المتدينين وممثليهم، ويسرف في التحليل ويبالغ في إبراز الأرقام والتركيز على شخصيات اليمين الديني الجامحة.. لا بأس من هذا، لكن الظاهرة الدينية في الولايات المتحدة تتعدى البعد السياسي لتشمل العنصر الأخلاقي والعقدي بصورة صارخة، ولعل الظاهرة السياسية أحد إفرازات هذه الصحوة الدينية.. هكذا تحدث كليم ميلر الباحث الأمريكي، ويضيف: يكفي أن ندلل على عمق تأثير الموجة الدينية أن الكونجرس الجديد وزعامته الجمهورية "المتنطعة" قد جعلت من قضية الصلاة في المدارس والأماكن العامة قضيتها الأولى– كما يصرح نيوت جينجريتش زعيم الأغلبية الجمهورية[79]...
7- الإحساس بالفشل من تصدير النصرانية:
رغم الجهود الكبيرة التي يبذلها النصارى خارج بلادهم إلا أنهم يحسون بالفشل الكبير الذي منيت به مجهوداتهم خصوصاً في تلك المناطق التي ترجع أصولها إلى اعتناق الديانة الإسلامية وتعتبر إفريقيا إحدى مناطق الصراع العقائدي[80] في القرن الشعرين، فقد شهدت هذه القارة خلال هذا القرن صراعاً عقائدياً مريراً لم تشهده في سابق تاريخها، ويدور هذا الصراع بين الإسلام الذي يحرص على ترسيخ دعائمه في ربوع القارة، والنصرانية التي تسعى للتغلغل فيها على حساب الإسلام.
وهذا الفشل جعلهم يركزون على المناطق التي ترجع أصولها إلى النصرانية أو الوثنية.
8- توالي إقامة المؤتمرات المعنية بتصدير النصرانية:(253/24)
هناك العديد من المؤتمرات الكنسية العالمية مثل مؤتمر بازل بسويسرا عام 1897م على الرغم من اشتهاره بأنه مؤتمر يهودي بحت، ثم مؤتمر القدس عام 1906م، ثم مؤتمر الصعيد بالقاهرة عام 1911م، وهكذا حتى نصل إلى مؤتمر لوزان عام 1974م، ثم مؤتمر كلورادو عام 1978م، ثم مؤتمر إيطاليا الحاشد عام 1984م، ثم مؤتمر مسيحي الشرق في باريس عام 1985م، ثم مؤتمر قبرص عام 1994م[81].
9- القيام بالدراسات المبنية على الرية الحضارية الدينية:
هناك العديد من الدراسات التي بنيت على رؤسة حضارية للغرب إما تمجده وتمجد قيمه وترى أنها سوف تسود العالم، مثل نهاية التاريخ، وإما دراسات توضح القيم الحضارية للغرب مقارنة بغيره والرؤية المستقبلية والتوصيات الواجب اتخاذها ممن يملكون القرار ولعل توصيات هنجتون أبرز دليل على ذلك[82].
10- العنصرية ضد المسلمين والخوف منهم:
يلمس المتابعون للأحداث كثيراً من مظاهر العنصرية حيال المسلمين تتمثل فيما يلي:
1- ما تنشره الصحف اليمينية من تحقير للأجانب وتخويف وإثارة للرعب من المسلمين الذين يصورون زوراً بأنهم إرهابيون ومعادون للديمقراطية.
2- التخويف من تزايد المسلمين الذين ستؤدي زيادتهم في زعمهم إلى أسلمة أوروبا عبر تزايد هجراتهم، يقول "لوبان": إننا لا نريد أن نعيش في المستقبل الذي نرى فيه الفرنسي يشحذ على أبواب المساجد الفرنسية يوم الجمعة.
3- إصدار قوانين تحد الهجرة! ويقصد بها في المقام الأول المسلمون بالإضافة إلى ظهور القيود التي تعوق الإقامة هناك.
4- الغلظة التي يعامل بها الوافدون في المطارات والموانئ والتي بلغت إلى حد إقامة سجون خاصة للوافدين.(253/25)
5- المضايقة للملتزمين من المسلمين عند ظهور السمات الإسلامية عليهم، ولا يغيب عن البال معاناة الطفلتين المسلمتين وطردهما من المدرسة حينما لبستا اللباس المحتشم حتى وصلت مسألتهما إلى المحاكم الفرنسية، بينما لا يتخذ نفس الإجراء ضد "الراهبات" اللاتي يلبس نفس اللباس تقريبا[83].
6- تعريض المهاجرين المسلمين للقتل والاغتيال بصورة بربرية لا يمكن بحال من الأحوال قبولها لتنافيها مع أبسط القوانين السائدة، ومها إلقاء أحد العمال من القطار وهو يسير بسرعة قد حولت قصته إلى فيلم سينمائي أظهر همجية هذا التصرف[84].
7- طرد العمال المسلمين من المصانع والاستغناء عنهم واستبدالهم بعمال وافدين من أوربا الشرقية[85].
8- الحيلولة دون قيام دولة إسلامية أو لنقل ذات غالبية يمكنها أن تتخذ قراراً يساهم في صنع القرار الإسلامي الدولي خاصة وأن بوادر الصحوة الإسلامية في العالم أخذت تظهر بين مسلمي الأقليات[86] في مناطق أوربا الشرقية. هذا الأمر حذر منه القادة الأوربيون: فميتران يقول عندما زار مطار سراييفوا "لن أسمح بقيام دولة أصولية إسلامية في أوربا"، والرئيس الكرواتي تودجمان يقول "أحذر أوربا والعالم من طموحات الأصولية الإسلامية في البوسنة"[87].
9- إحياء المناسبات المعادية للمسلمين:(253/26)
اختارت الدول الأوربية الواقعة على سواحل البحر الأبيض المتوسط يوم 27 نوفمبر من عام 1995م، لكي يكون موعدا لانعقاد مؤتمر موسع في برشلونه بأسبانيا يضم 15 دولة أوربية و12 دولة متوسطية من بينهما 8 دول عربية إضافة إلى تركيا وقبرص ومالطة و... ودولة العدو الصهيوني، فهل جاء هذا الموعد –في زمانه ومكانه محض مصادفة؟! كلا.. إن هذا الموعد يوافق بالتمام والكمال ذكرى مرور 900 عام على بدء الحروب الصليبية، ففي مثل ذلك اليوم من ذلك الشهر في عام 1095 للميلاد، أطلق بابا النصارى "أوربان الثاني" دعوته لبدء الحملات الصليبية على البلدان الإسلامية الواقعة شرق البحر الأبيض المتوسط بغرض الاستيلاء على بيت المقدس[88].
11- الكنيسة المرئية:
يخلص صاحب كتاب البعد الديني في السياسة الأمريكية إلى عدة نتائج من أبرزها:
1- إن الكنيسة الأمريكية نظام شمولي في أغراضه وأنشطته وعلاقاته حيث تمزج الدين بالتعليم وبالخدمات الاجتماعية وبالطب والسياسة والفن والحرب والسلام ولا يفلت من شبكها شيء يتعلق بالإنسان.
2- إن الصحوة المسيحية الأصولية تجسدت في تيار جماهيري له مؤسسات متعددة الأغراض والإمكانات المالية ليس من السهل مقاومته وتستطيع تعبئة عدة ملايين للانخراط في العملية السياسية الانتخابية.
3- إن المسيحية الأصولية جسدت حركتها في مؤسسات إعلامية ومنظمات وجماعات وتحالفات متعددة خارج أمريكا، وتعاونت مع إسرائيل في تأسيس منظمة أصولية في القدس وقد أسست الكنيسة المرئية التي تستخدم برامجها الاستعراضية لجميع أموال التبرعات، ولا تكتفي بالدروس الدينية بل تهتم بكل المسائل الاجتماعية والسياسية والعسكرية والترفيهية وتهتم باكتساب القوة والنفوذ السياسيين أكثر من اهتمامها بالدين وتقدم رؤيتها السياسية لقضية الصراع العربي الصهيوني من خلال رؤيتها التوراتية[89].
12- نشوة الانتصار:(253/27)
بعد أن سقطت الأيديلوجية الشيوعية، ظن الكثيرون أن آخر القلاع التي تقف في مواجهة الحضارة الغربية بكل قيمتها وأنظمتها قد سقطت، وتوقعوا أن القيم الغربية لن تجد عوائق جديدة تحول دون انتشارها ودون تداعي الشعوب والأمم عليها، فبعيد الأحداث "الدرامية" التي كانت تسجل سقوط الشيوعية ظهرت كتابات وطروحات عديدة مثل "طروحات فوكاياما"، تؤكد على أن الحضارة الغربية سوف تكتسح العالم لتسجل في زعمه "نهاية التاريخ".
ولكن هذا التفاؤل، وهذه الأفكار اتضحت سذاجتها بعد مرور وقت قصير، حين تبين أن هناك عوائق وعوامل أكثر تجذرا وثباتا من الأفكار الأيديلوجية أو الصراعات الاقتصادية والسياسية، بل لقد اتضح أن نهاية الحرب الباردة قد أبرزت هذه العوامل وساعدتها على التجذر والرسوخ، وبعد أن سقط وهم القوتين العظميين، ووهم الجبهة الشرقية والجبهة الغربية، ووهم عدم الانحياز، وهذه العوامل أو العوئاق التي نشير إليها، هي خصائص الحضارات، ومقوماتها الداخلية، ومن أهمها: الدين، واللغة، والتاريخ وهذا يجعل من الصعوبة القضاء عليها، بل إنها تقوى عندما تشعر الشعوب أن حضارتها التي تنتسب إليها تتعرض لخطر خارجي كبير[90].
إن هذه النشوة بالانتصار هي التي جعلت مفكر سياسي غربي يقوم بتوضيح جملة من الحقائق بوضوح تام وبعبارات سهلة، والتي طالما غيبت في دهاليز العبارات السياسية الفضفاضة والمقالات الأيديلوجية الموجهة لخدمة مصالح الطبقات ذات النفوذ في السياسة الغربية، ومن هذه الحقائق التي وردت في رداسة "هنجتون" ما يلي:
أ- إن الدين هو أهم العوامل التي تميز بين الحضارات، وهو العامل الأهم في صراعات المستقبل.(253/28)
ب- إن القرارات التي تصدر عن مجلس الأمن وعن صندوق النقد الدولي، إنما تعكس مصالح الغرب، وهي تخرج إلى العالم على أساس أنها تعبر عن رغبات "المجتمع الدولي"، كما أن مصطلح "المجتمع الدولي" هو الوجه الآخر لمصطلح "العالم الحر" ويستخدم لإعطاء الشرعية العالمية للقرارات التي تعكس رغبات ومصالح الولايات المتحدة والدول الغربية الأخرى.
ج- مصطلح "الحضارات العالمية" هو فكرة غربية بحته، هدفها إبراز أن القيم الغربية هي قيم عالمية يجب على كل الشعوب الأخذ بها والحقيقة أن أحد الباحثين قد توصل بعد مراجعة أكثر من 100 بحث مقارن للقيم في العالم، إلى نتيجة أن "القيم التي تعتبر أكثر أهمية في الغرب هي أقل أهمية في العالم أجمع".
د- الحكومات الديمقراطية الحديثة كان منشؤها في الغرب، وأنها إذا وجدت في غير المجتمعات الغربية فهي قد نتجت عن الاستعمار والفرض بالقوة من جانب الغرب.
هـ- الهدف الأساسي من عملية التحكم في التسلح في فترة ما بعد الحرب الباردة: هو منع الدول غير الغربية من تطوير القدرات العسكرية التي قد تهدد مصالح الغرب[91].
الهندوسية والبوذية[92]:
أما الهندوسية والبوذية فإن أبرز مظاهر العودة إلى الدين والجذور التاريخية والتعصب للمعتقدات الدينية ما يلي:
1- هدم المساجد والمعالم الإسلامية:
لا يزال المسلمون في الهند يتعرضون بين الحين والآخر لموجات من التعصب الديني الهندوسي والبوذي، وتقع المذابح والوحشية التي تدل على الحقد الدفين الذي تكنه صدور هؤلاء على المسلمين والذين يسعون إلى تغيير المعامل الإسلامية، وترد الأنباء بوقوع مثل هذه المذابح التي يروح ضحيتها الآلاف من المسلمين ومن ذلك:
أ – هدم المسجد البابري[93]:
ب – تغيير الأسماء:
وذلك أنهم يجبرون المسلمين على تغيير أسمائهم الإسلامية إمعاناً في طمس الهوية الإسلامية.
2 – إقامة المعابد الهندوكية:(253/29)
وهذه المعابد تقام على أنقاض المساجد كما حصل في المسجد البابري من إقامة المعبد الهندوسي وغير ذلك من المعابد.
3 – إبادة المسلمين وتشريدهم:
اتبعت الهند استراتيجية قريبة من استراتيجية اليهود والروس ومحاكم التفتيش في الأندلس في التعامل مع المسلمين، وأرسلت القيادة الهندية خبراء كباراً لإسبانيا لدراسة السياسة التي اتبعها حكامها السابقون ضد المسلمين أيام محاكم التفتيش. وأيضاً الأساليب الروسية "القصيرة والبلاشفة" في مقاومة المسلمين، وبعد هذا خرجت الهند بضرورة محاربة التعليم الإسلامي، وطمس هوية كشمير المسلمة وغيرها ونشر التعليم العلماني وتشجيع الحركات العلمانية على حساب الحركات الإسلامية خاصة بعد ظهور الحركات الجهادية التي يتردد بأن للجهاد الأفغاني دوراً فيها[94].
4- تحول الصراع القائم بين الهنود إلى صراح ديني:
في وقت تشتد فيه مجابهة المسلمين الأصوليين في وادي كشمير –بشكل ينذر بالسوء- للقوات الهندوسية المعززة، أخذ عشرات الآلاف من الهندوس المستوطنين هناك بترك منازلهم وقراهم والابتعاد عن مسرح الانتفاضة التي يقودها المسلمون "الانفصاليون"، وتضيف هجرة الهندوس هذه بعدا جديدا للصراع هناك الذي يكتسب هذه المرة طابعا دينيا لم يعرف من قبل[95].
5- حل الأحزاب الإسلامية:
بعد هدم المسجد البابري مباشرة قامت الحكومة الهندية بحل حزبين إسلاميين هما: الجماعة الإسلامية في الهند ومنظمة الخدمة الإسلامية[96].
6- تكوين الأحزاب الدينية المتعصبة:
لا شك أن الأحزاب الدينية المتعصبة هي التي تقف وراء أعمال العنف والإبادة ضد المسلمين ولذلك "بعد هدم المسجد البابري مباشرة قامت الحكومة الهندية بحظر ثلاثة أحزاب هندوسية متطرفة هي منظمة الخدمة الهندوسية، والمنظمة الهندوسية العالمية، وجيش باجرانغ على أساس أنها أحزاب متطرفة ساهمت أو سببت هدم المسجد والتحريض على حملة العنف التي عمت البلاد بعد ذلك"[97].
7- إلغاء التسهيلات:(253/30)
لما أسلم عدد من سكان ميناكشي بورم أخذت الصحف الهندية بشن حملة واسعة ضدهم وقالوا لهم إن الحكومة سوف تسحب جميع التسهيلات، وعقد الهندوس مؤتمرا تجمع فيه أكثر من مائة ألف من أنحاء الهند[98].
أهم المراجع
1- الإسلام في الغرب/ روجيه جارودي / دار الهادي بيروت ط الأولى 1411هـ.
2- الإسلام في مرآة الفكر الغربي/ د- محمود حمدي زقزوق/ دار الفكر العربي القاهرة ط الرابعة 1414 هـ.
3- الإسلام كبديل /د- مراد هوفمان / مكتبة العبيكان الرياض ط الثالثة 1421هـ.
4- الإسلام لعصرنا/ د- جعفر شيخ إدريس / أضواء البيان – الرياض ط الأولى 1422هـ.
5- الإسلام والحضارة الغربية/ د- محمد محمد حسين / مؤسسة الرسالة – بيروت ط الخامسة 1402 هـ.
6- الإسلام والغرب/ د- يحي العريض / مؤسسة الإيمان – بيروت ط الأولى 1419هـ.
7- الأصولية الإنجيلية نشأتها وغاياتها وطرق مقاومتها/ صالح بين عبد الله الهذلول/ دار المسلم – الرياض ط الأولى 1416 هـ.
8- أضواء على السياسية الأمريكية في الشرق الأوسط / أحمد منصور/ دار ابن حزام ط الأولى 1415هـ.
9- أضواء على ثقافة المسلم المعاصر / د- مصطفى حلمي / دار الدعوة –الإسكندرية_ ط الأولى 1419هـ.
10- تحديات القرن الحادي والعشرين / ادجار موران / الهيئة المصرية العامة للكتاب – ط الأولى 2000م.
11- تذكير النفس بحديث القدس –واقدساه- /د- سيد حسين العفاني/ مكتبة دار البيان الحديثة ط الأولى 1421هـ.
12- تسامح الغرب مع المسلمين في العصر الحاضر/ عبد اللطيف بن إبراهيم بن عبد اللطيف الحسين/ دار ابن الجوزي- الدمام ط الأولى 1419 هـ.
13- التغريب والمأزق الحضاري/ د- سليمان الخطيب/ دار هجر –أبها/ ط الأولى 1415 هـ.
14- جنايات بني إسرائيل على الدين والمجتمع/ محمد ندا/ دار اللواء-الرياض ط الأولى 1404هـ.(253/31)
15- حقيقة العلمانية والصراع بين الإسلاميين والعلمانيين / محمد إبراهيم مبروك/ دار التوزيع والنشر –القاهرة- ط الأولى 2000م.
16- الدبلوماسية الأمريكية/ جورج .ف.كنان/ دار دمشق- ط الثانية 1989م.
17- دراسة في الأديان –اليهودية والنصرانية/ د-سعود بن عبد العزيز الخلف/ مكتبة أضواء السلف-الرياض ط الثالثة 1420هـ.
18- دراسات في اليهودية والمسيحية وأديان الهند الكبرى/ د- محمد ضياء الرحمن الأعظمي- مكتبة الرشد ط الأولى 1422هـ.
19- الصراع بين التيارين الديني والعلماني في الفكر العربي الحديث/ د- محمد كامل ضاهر/ دار البيروني بيروت ط الأولى 1414هـ.
20- الصندوق القومي اليهودي/ وولتر لين-أوري ديفر/ مؤسسة الدراسات الفلسطينية ط الأولي 1990م بيروت.
21- الصهيونية المسيحية/ محمد السماك / دار النفائس بيروت ط الثالثة 1421هـ.
22- العلمانيون والإسلام/ محمد قطب/ دار الشروق بيروت – ط الأولى 1415هـ.
23- على أبواب القدس/ د- عنان على رضا النحوي/ دار النحوي – الرياض ط الثالثة 1422هـ.
24- الفكر الإسلامي في مواجهة الغزو الثقافي في العصر الحديث/ د- مصطفى حلمي/ دار الدعوة الإسكندرية ط الأولى 1418هـ.
25- الفكر العربي وصراع الأضداد/ د- محمد جابر الأنصاري/ المؤسسة العربية للدراسات والنشر – بيروت ط الثانية 1999م.
26- فلسفة العلوم/ د- بدوي عبد الفتاح محمد / دار قباء – القاهرة ط الأولى 2001م.
27- قانون الاضطهاد الديني الأمريكي – قضايا وملاحظات/ د- عبد الله بن عبد العزيز اليحي/ ط الأولى الناشر عصر الرؤيا 1422هـ.
28- كسر طوق الحصار عن الإسلام/ أنور الجندي/ دار الاعتصام – القاهرة 1998م.
29- مائة عام من الحرب/ ف. ويليام إينغدال/ دار طلاس –دمشق 1996م.
30- محاضرات في النصرانية /الإمام محمد أبو زهرة/ دار الفكر العربي القاهرة ط الثالثة بدون تاريخ.(253/32)
31- مجلة البيان/ مجلة إسلامية شهرية جامعة/ المنتدى الإسلامي/ أعداد مختلفة مثبتة في حواشي البحث.
32- مخاطر الوجود اليهودي على الأمة الإسلامية/ د- محمد عثمان شبير/ دار النفائس ط الأولى 1412هـ.
33- المد الإسلامي الباهر/ مصطفى فوزي فوال/ دار القبلة- جدة ط الأولى 1412هـ.
34- المسلمون في اليابان/ د- عبد الله بن عبد العزيز اليحي الناشر عصر الرؤيا ط الأولى 1422هـ.
35- مشروع أخلاقي عالمي – دور الديانات في السلام العالمي/ هانس كينغ/ دار صادر بيروت ط الأولى 1998م.
36- معالم التاريخ الأمريكي الحديث/ د- إسماعيل أحمد ياغي/ مكتبة العبيكان الرياض ط الأولى 1421هـ.
37- معركة الوجود بين القرآن والتلمود/ د- عبد الستار فتح الله سعيد/ مكتبة المنار الأردن - الزرقا ط الثانية 1402هـ.
38- مقومات السلم وقضايا العصر بين النظرية والتطبيق/ د- على بين عبد الرحمن الطيار مركز النشر الدولي - الرياض ط الأولى 1419هـ.
39- من كابول إلى نيويورك- مقالات عن صراع الغسلام والغرب/ وليد نويهض/ دار ابن حزم بيروت ط الأولى 1422هـ.
40- نظرة الغرب إلى حاضر الإسلام ومستقبله/ د- عماد الدين خليل/ دار النفائس بيروت ط الأولى 1420هـ.
41- نقد الفلسفة الغربية/ د- عادل ضاهر/ دار الشروق - عمان ط الأولى 1990م.
42- الهندوس والسيخ/ محمد بن إبراهيم الشيباني - مكتبة ابن تيمية - الكويت ط الثالثة 1408هـ.
ـــــــــــــــــــــــ
[1] انظر الفكر الإسلامي في مواجهة الغزو الثقافي في العصر الحديث/ د- مصطفى حلمي ص 132- 203.
[2] انظر مشروع اخلاقي عالمي –دور الديانات في السلام العالمي / هانس كينغ ص 21 - 82.
[3] انظر مائة عام من الحرب "السياسية النفظية الأمريكية- الإنجليزية والنظام العالمي الجديد"/ ف. ويليام إينغدال- ترجمة محمود فلاحة 177- 307.
[4] انظر الإسلام والغرب/ د يحي العريضي 11-94.(253/33)
[5] انظر قراءة نقدية لمفهوم تصادم الحضارات د أحمد محمد العيسي البيان عدد 71 رجب 1414 ص89.
[6] انظر تحديات القرن الحادي والعشرين ادجار موران 665 - 907.
[7] انظر قراءة نقدية لمفهوم تصادم الحضارات /د- أحمد محمد العيسي البيان عدد 71 رجب 1414 ص 89.
[8] وهو أستاذ علم الحكومة ومدير معهد "أولين" للدراسات الاستراتيجية بجامعة "هارفرد" في الولايات المتحدة، وقد نشرت أفكاره حول "تصادم الحضارات" في العديد من الصحف والمجلات الغربية، وكان مقاله الرئيس قد نشر في مجلة "الشؤون" المتخصصة في الشؤون السياسية والدراسات الاستراتيجية في عددها "صيف 1993".
[9] انظر قراءة نقدية لمفهوم تصادم الحضارات /د أحمد محمد العيسي البيان عدد 71 رجب 1414 ص 89.
[10] انظر نقد الفلسفة الغربية/ د- عادل ضاهر 231- 469.
[11] انظر حقيقة العلمانية/ محمد إبراهيم مبروك /ج1 ص 43 - 106.
[12] انظر أضواء على ثقافة المسلم المعاصر / مصطفى حلمي 10 - 41.
[13] انظر الإسلام والحضارة الغربية / د – محمد محمد حسين 171 - 193.
[14] - انظر العلمانيون والإسلام/ محمد قطب 91 - 100.
[15] انظر الصراع بين التيارين الديني والعلماني / د – محمد كمال ظاهر / فصل "الأصولوليون المعاصرون أو الثورة المضادة" 371 - 453.
[16] انظر الإسلام لعصرنا / د - جعفر شيخ إدريس 7- 127.
[17] انظر تسامح الغرب مع المسلمين في العصر الحاضر / عبد اللطيف بن إبراهيم الحسين / الباب الثاني مجالات التسامح في الغرب ونقدها وآثارها على المسلمين 245 - 287.
[18] انظر الإسلام في مرآة الفكر الغربي / د – محمود حمدي زقزوق ص 115 - 192.
[19] انظر قراءة نقدية لمفهوم تصادم الحضارات / د – أحمد محمد العيسي البيان عدد 71 رجب 1414 ص89.
[20] يوم الله / جيل كيبل/ ترجمة نصير مروة دار قرطبة، قبرص 1992.
[21] انظر التغريب والمأزق الحضاري / د – سليمان الخطيب ص 101 - 187.
[22] يوم الله ص 11.(253/34)
[23] انظر فلسفة العلوم / د – بدوي عبد الفتاح محمد ص 217 - 277.
[24] جارودي، الأصولية، ص 23.
[25] يوم الله، ص 12.
[26] يوم الله، ص 13.
[27] جارودي، الأصولية، ص 13.
[28] يوم الله ص 132- 133.
[29] انظر كتاب god in the white house الإله في البيت الأبيض، تحدث عنه بتفصيل كتاب Under God, Relegion and American Politics تحت الإله والدين والسياسة الأمريكية. وكتاب النبؤة والسياسة وكتاب البعد الديني في السياسية الأمريكية تجاه الصراع العربي الصهيوني لـ د. يوسف حسن وله أيضاً كتاب أوراق واشنطن.
[30] انظر قانون الاضطهاد الديني الأمريكي / د – عبد الله عبد العزيز اليحي ص 21 – 109.
[31] انظر كسر طوق الحصار عن الإسلام / أنور الجندي ص 199 – 266.
[32] انظر رؤية جديدة للدين الإسلامي للكاتب "روبين رايت" في مجلة "لوس أنجلوس" الصادرة في 6 أبريل 1993. بواسطة البيان عدد 68 ربيع الآخر 1414 هـ ص 95.
[33] يلاحظ أن ما يسمى الأصولية اليوم في خضم الزخم الإعلامي الكبير الذي أعطي لها على كل المستويات لاسيما من قبل المعادين للإسلام قد استخدمت أبشع استخدام لمحاربة الإسلام ذاته، وإظهار المتمسكين به بأنهم هم المتطرفون والإرهابيون، وهم الخطر القائم ضد العالم كله!(253/35)
ونحن بادئ ذي بدء نؤكد على أن مصطلح الأصولية بالفهم الذي يعيشه الغرب، ويروجه أذنابه بوسائل إعلامهم في كثير من البلاد العربية والمهجر، إنما هو معنى طارئ على مجتمعنا الإسلامي، لأنه يعني في الأساس مفهوماً غريباً يصور الصحوة البروستانتية النصرانية، ويعنى أيضاً الالتزام الصارم بالعقيدة الأرثوذكسية المعارضة للاتجاهات التحررية، لكن الغربيين الذين يعيشون هاجس الخطر الدائم المناوئ لهم الذي صوروه سابقا في دراساتهم وأبحاثهم وأدبياتهم متمثلا في "الشيوعية"، قد حولوا ذلك الهاجس إلى الإسلام بالتحذير منه ومن الصحوة الإسلامية التي انتشرت في طول بلاد الإسلام وعرضها ورميها بكل نقيصة، والمتابع لطروحاتهم يلمس فيها جعلهم الإسلام ومعتنقيه العدو الجديد للحضارة الغربية ومن أمثلة ذلك:
1- محاضرة المستشرق اليهودي الأمريكي "برنارد لويس" بعنوان "الأصولية الإسلامية" التي كانت محل عناية الإعلام الغربي وتعليقه؛ لأنه صب فيها جام حقده على الإسلام ودعاته.
2- أما صاحب "انتهزوا الفرصة" فهو يقول في هلع ورعب مفتعلين بعد سقوط الشيوعية: أصبحت الأصولية الإسلامية هي العدو الأول.
3- أما الصهيوني العجوز "كسينجر" فهو في أحدث المقابلات معه يقول: إن ما يشغله حتى العشر سنوات القادمة الأصولية والهجرة الجماعية. انظر البيان عدد 74 شوال 1414 هـ ص4
[34] انظر يوم الله، ص 118.
[35] انظر يوم الله، ص 118 – 119، وانظر الأصولية الإنجيلية ص 30 - 35.
[36] انظر محاضرات في النصرانية/ الإمام محمد أبو زهرة ص 153 - 173.
[37] انظر معالم التاريخ الأمريكية الحديث / د- اسماعيل ياغي ص 173 - 209.
[38] انظر نظرة الغرب إلى حاضر الإسلام ومستقبله / د - عماد الدين خليل ص 51 - 105.
[39] انظر الإسلام في الغرب روجيه جارودي / ص 48 و 175 -329 .
[40] انظر المد الإسلامي الباهر / مصطفى فوزي غزال ص 146 -215.(253/36)
[41] انظر الدبولماسية الأمريكية/ جورج . ف . كنان ص 159 - 199.
[42] انظر الإسلام كبديل / د – مراد هوفمان ص 115 - 239.
[43] انظر الفكر العربي وصراع الأضداد /د – محمد جابر الأنصاري 61 - 235.
[44] انظر من كابول إلى نيويورك / وليد نوهض ص 87 - 132
[45] ومما يؤكد العداء للإسلام وحدة في الغرب والشرق هو التجاهل لتطرف الأصوليات غير الإسلامية مع ما تقوم به من إرهاب ودمار ومآسي وتهديد لدول بعينها وإنما للسلام العالمي، ومع ذلك تدس الرؤوس في الرمال، ويتناسى كل ذلك.
فهناك الأصولية اليهودية التي يتاح لها الحرية في العمل السياسي وربما لا تقوم حكومة صهيونية إلا بدعم منهم كما هو الحال مع "جماعة كاخ" مثلا التي مازالت تطالب بقتل وطرح الفلسطينيين، ومازالت تلك فلسفتهم كما سطرها زعيمهم الهالك "كاهانا" في كتابه "شوكة في عيونكم"، ويعني بالشوكة الشعب الفلسطيني. ومع ذلك لا يوجه لهم أي نقد لا لشيء إلا لأنهم غير مسلمين!
وهناك الأصوليات النصرانية التي كثرت الدراسات العلمية الموضحة لاتجاهاتها ومنها: "النبوءة والسياسة" لجرس هالسل، و"الأصولية الانجيلية" للأستاذ محمد السماك.
ولا يغيب عن البال المذابح الدامية التي أقامها متطرفو النصارى في جويانا وفي أمريكا التي لم تنل "واحدا في المئة" من الحرب الإعلامية ضد المسلمين.
وهناك التطرف الهندوسي والتطرف البوذي اللذان لا تسلط الأضواء عليهما ولا يحاربان، لا لشيء إلا لأنهما لا ينتسبان إلى الإسلام، أما تطرف "جيرينوفسكي" وتهديده لأوربا بالحرب "النووية" فهو محل متابعة الإعلام الغربي، ولم يطالب حتى بمحاكمته، أو الضغط على روسيا لكبح جماحه.
انظر البيان عدد 74 شوال 1414 هـ ص4.
[46] انظر قراءة نقدية لمفهوم تصادم الحضارات / د – أحمد محمد العيسي البيان عدد 71 رجب 1414 ص 89.
[47] انظر دراسات في الأديان اليهودية والنصرانية / د – سعود بن عبد العزيز الخلف ص 106 – 110.(253/37)
[48] انظر معركة الوجود بين القرآن والتلمود / د – عبد الستار فتح الله سعيد ص 162 – 217.
[49] انظر على أبواب القدس / د – عدنان على رضا النحوي ص 85 – 173.
[50] انظر جنايات بني إسرائيل على الدين والمجتمع / محمد ندا ص 207 – 338.
[51] انظر الصهيونية واليهودية / د- محمد آمحزون البيان عدد 87 ذو القعدة 1415 هـ ص 77.
[52] انظر مخاطر الوجود اليهودي على الأمة الإسلامية / د – محمد عثمان شبير ص 62 – 69.
[53] انظر هجرة اليهود إلى فلسطين / مازن عبد الله/ البيان عدد 41 محرم 1412 هـ ص 85/ وبالمناسبة فإن اتفاقية السلام أعطت الحق للمستوردين وحرمت أصحاب الأرض حقهم فإن عدد الفلسطينيين الآن "7700000 نسمة"، منهم حوالي مليون "12%" في إسرائيل، و 2255000 نسمة "29%" في الضفة وغزة، ويبقى 4500000 فلسطيني في الشتات يمثلون أكثر من ثلثي الشعب، بينما يبلغ عدد السكان اليهودي في إسرائيل الآن 4500000 نسمة، كان عددهم عند احتلالهم فلسطين 605900، منهم 250000 يحملون الجنسية الفلسطينية، والباقون أغراب، وبالزيادة الطبيعية أصبح عدد يهود 1948م في العام الماضي "1995م" 1682000، وهذا يعنى أن 2800000 يهودي استجلبوا من الخارج، لإحلالهم محل 4500000 فلسطيني طردوا من ديارهم، بمعنى أن اتفاقية السلام أسبغت الشرعية على حقوق 2800000 مستورد، وحرمت حقوق 4500000 فلسطيني من العودة لوطنه.
انظر ماذا يبقى من فلسطين/ حسن أحمد قطامش / البيان عدد 107 رجب 1417 هـ.
[54] انظر البيان عدد 65 محرم 1414 هـ ص 95.
[55] انظر كيبل يوم الله 60 – 90 جاروي، الأصولية 55- 60.
[56] نظرات في مذكرات المرأة الصهيونية الرجل/ أحمد الصويان / البيان عدد 88 ذو الحجة 1415 هـ ص107.
[57] انظر نظرات في مذكرات المرأة الصهيونية الرجل/ أحمد الصويان البيان عدد 88 ذو الحجة 1415 هـ ص107.(253/38)
[58] انظر نظرات في مذكرات المرأة الصهيونية الرجل/ أحمد الصويان البيان عدد 88 ذو الحجة 1415 هـ ص107.
[59] انظر أضواء على السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط / أحمد منصور ص 11 – 83.
[60] انظر الصندوق القومي اليهودي ص 176 – 274.
[61] انظر المنظمات الإنجيلية وصناعة السياسة الأمريكية/ ياسر قاري البيان عدد 90 صفر 1416 هـ ص 78.
[62] انظر الصهيونية المسيحية/ محمد السماك ص 33 – 149.
[63] انظر تذكير النفس بحديث القدس /د – سيد حسين العفاني 1/511 – 558.
[64] انظر المنظمات الإنجيلية وصناعه السياسة الأمريكية/ ياسر قاري البيان عدد 90 صفر 1416 هـ ص 78.(253/39)
[65] كان عدد سكان القدس العربية "170" ألفا، إلا أن الاضطهاد الذي مارسته إسرائيل ضدها أجبر نحو "70" ألفاً منهم على ترك المدينة للإقامة في القرى الفلسطينية المجاورة، وتقول "توفا إلينسون" "الناطقة باسم وزارة الداخلية الإسرائيلية": إن ثلاثة آلاف فلسطيني من القدس الشرقية حصلوا على الجنسية الإسرائيلية عام 1994م، أي أكثر من ضعف العدد في العام 1993م، ومنذ نحو سنتين لجأت مؤسسات الحكومة "الإسرائيلية" إلى سحب حق المواطنة "الهوية الشخصية" من الفلسطينيات المقيمات مع أزواجهن خارج القدس، وذلك بهدف تقليل عدد المسلمين في القدس، ودفعهم إلى الحصول على الجنسية "الإسرائيلية"، وخلف الكواليس: بدأت مؤسسة التأمين الوطنين "الإسرائيلية" "الضمان الاجتماعي" تشجيع السكان على الحصول على الجنسية "الإسرائيلية"؛ للحصول على امتيازات أفضل، فيما طالبت مؤسسات "إسرائيلية"؛ عديدة موظفيها العرب بالحصول على الجنسية "الإسرائيلية" مقابل الاستمرار في العمل لديها، إن المشكلة أكبر من أي تصور؛ إذ إن عدد الذين يفقدون حقهم في أن يكونوا مواطنين في مدينة القدس يتراوح ما بين 50 ، 60 ألف فلسطيني، فعدد سكان مدينة القدس حاليا "567" ألف نسمة، الفلسطنيون منهم "170" ألف، منهم تسعة آلاف حصلوا على الجنسية "الإسرائيلية"، فالهدف واضح من تحويل الكثافة السكانية لصالح اليهود، حتى إذا جاء التفاوض حول القدس، فالأغلبية يومها "لا قدر الله" "إسرائيلية"، فلا مجال وقتها للحديث عن سلطة فلسطينية على أغلبية "إسرائيلية".
ماذا يبقى من فلسطين/ حسن أحمد قطامش / البيان عدد 108 شعبان 1417هـ.
[66] انظر نسخة من الإنجيل لكل إنسان/ حسن الليدي البيان عدد 35 جمادي الآخر 1411 هـ ص 86.(253/40)
[67] ليس من قبيل المفاجأة أن يعلن المرشحون الرئاسيون الثلاثة في سنة 1980م عن أنفسهم بأنهم إنجيليون أصوليون، وأن لدى كل واحد منهم من الرصيد الإيماني ما يثبت حقيقة ادعائه.. والحقيقة التي يعرفها الجميع الآن هي: أن ظاهرة الأصوليين السياسيين لم تتوقف عند تلك الحقبة الزمنية، بل استمرت حتى انتخابات سنة 1992م، ولا يعنى فشل مرشح اليمين الأصولي والرئيس السابق انتهاء فاعلية الأصوليين السياسية؛ إذ إننا نفاجأ. وبعد عامين من تلك الهزيمة. بعودة قوية للأصوليين، وذلك عقب اكتساح الحزب الجمهوري لمقاعد مجلس الكونجرس والنتائج المباشرة التي تمخضت عن ذلك كالبرنامج السياسي الذي طرحه الجمهوريون تحت مسمى "العقد مع أمريكا" وما تحويه من نفس أصولي عميق، وإثارة لمسألة نقل السفارة الأمريكية إلى القدس قبل نهاية الألف الثانية!
واستطاع الأصوليون التغلغل إلى مناصب كبيرة أخرى كالمحكمة العليا. التي لا تناقش قراراتها.، ولعل في ترصحات بعض قضائها ما يؤكد التناغم بينهم وين مبادئ الأصوليين؛ فعلى سبيل المثال نجد أن القاضية "ساندرا أو كونر" التي رشحها الرئيس "ريجان" لهذا المنصب تعلن على الملأ: أن أمريكا دولة نصرانية، على الرغم من كونها تشغل منصبا رسميا حساسا يجيز لها إعادة تفسير الدستور الذي ينفي هذه المزاعم، ولقد وافقها في ذلك رئيس المحكمة القاضي "وليام رينكوست" مؤكدا أن الجدار الفاصل بين الدين والدولة هو بمثابة استعارة "لغوية" نتجت عن سوء الفهم، ويجب طرحها جانبا. إذ ليس هناك ما يمنع دستوريا من تأثير الدين على الحكومة.(253/41)
وهذه العاطفة ليست مقصورة على القسس والمتعصبين النصارى، بل تتعدى إلى النخبة المثقفة التي تبكي على خبو وهج الدين من الحياة العامة؛ فالصحفي المشهور "وليام بكلي الثاني" يرفض العلمانية تماما، ويدعو إلى التمسك بالعقيدة النصرانية لحفظ كيان الدولة الأمريكية، أما الصحفي الكبير "جورج ول" فإنه يهاجم "جان جالك روسو "متهما إياه بتخريب الثقافة الغربية، وينتقد الرأسمالية لكونها سببا مباشرا في تغيير البنية الاجتماعية، وبالتالي: إضعاف الدين والأخلاق، ويتمنى يوم أن تحل الكنائس الإنجيلية مكان ناطحات السحاب في مركز المدينة.
انظر المنظمة الاصولية وصناديق الاقتراح/ ياسر قاري البيان / عدد 93 جمادى الأولى 1416 هـ ص78.
[68] ولعل السبب الرئيس في فشل حملة المرشح الرئاسي مايكل دوكاكس سنة 1988م هو غياب "كلمة الرب" من قاموسه السياسي ظنا منه أنها لا تتصل بالانتخابات.
انظر المنظمات الإنجيلية وصناعة السياسة الأمريكية/ ياسر قاري/ البيان عدد 90 صفر 1416 هـ ص 78.
[69] انظر البيان عدد 58 جمادي الآخر 1413 هـ ص 78.
[70] انظر البيان عدد 86 شوال 1415 هـ ص 93.
[71] Speech to Nationals of Evangelical, Orlendo, Florida, Regan Papers, Wachington, 1984, pp363 – 364
بواسطة البيان عدد 46.
[72] انظر البيان عدد 86 شوال 1415 هـ ص 93.
[73] عندما تنتهي فترة رئيس أمريكي في الحكم، فإنه وأنصاره يبحثون عن مشروع يخلد ذكراه ويقدم به نفعا للأمة من بعده، وقد اكتسبت أغلب مشاريع الزعماء السابقين شهرة كبيرة، وخدمت المجتمع، وقد اتخذت في غالبها طابع المؤسسة الثقافية والعلمية مثل: مركز هوفر، ومركز كيندي، ومكتبة ريجان، ومركز روزفلت، وجامعة إيزنهاور.. وأمثالها.(253/42)
أما كرتر، الرئيس الذي جاء به إلى الرئاسة التوابون! "المولودون من جديد" في المسيحية، فقد أنشأ مع زوجته روزالين مركز كارتر في مدينة أطلنطا، وبدعم من كنيسته، وهذا المركز أظهر للناس اهتمامه بالقضايا الإنسانية والسياسية، والبحث عن السلام في العالم.
ويرى كارتر أن علمه "منصراً" هو عمل أرقى من الرئاسة، وهو الذي يليق به وبقدراته، يعمل ذلك في رواندا، وبورندي، وكينيا، وهاييتي، واليابان وغينيا، وغانا، وزيمبابوي، ويقابل السكان في نيجيريا يقدم لهم النصرانية، وينصبونه زعيماً للقبيلة، ويعطونه الراية، وأرضاً يبنى عليها قصره، ويبني لهم الكنائس، ويوزع الإنجيل والذرة!.
ومما هو جدير بالملاحظة: أن هذا المركز التنصيري استطاع إقناع الحكومة الأمريكية والبنك الدولية ومؤسسات عالمية ومما هو أخرى أن يتم تنفيذ مساعداتهم لإفريقيا عبر ذلك المركز وبالاشتراك معه، بحيث أصبح عدد من المشاريع الدولية يدار من قبل الكنائس مباشرة، تحت أسماء ومؤسسات عالمية، ومما أكسب هذه المشروعات نجاحها أن كارتر يشرف مباشرة على العديد منها، وإلى جانب هذا: فإنه مستمر في مواعظ الأحد في الكنيسة، وسوف تصدر مواعظه مطبوعة في كتاب، كما أنها توزع مسجلة بصوته، ولعل القارئ لا ينسى أنه هو الذي أقام الصلاة في الكنيسة في يوم الأحد الذي سبق توقيع اتفاقية السلام الأولى في واشنطن، وهو صاحب كتاب "دم إبراهيم" الذي كتبه بعد توقيع السادات للصلح، و"دم إبراهيم" يقصد به دم العرب واليهود أبناء إبراهيم كما هو مشهور عندهم في الكنيسة.
انظر كارتر من الرئاسة إلى التنصير/ محمد حامد الأحمري / البيان عدد 101 محرم 1417هـ.
[74] انظر البيان عدد 48 شعبان 1412 هـ.(253/43)
[75] تشير الإحصاءات إلى أن حوالي 40% من الأمريكيين يحضرون إلى الكنيسة أسبوعيا مقابل 14% و12% في كل من بريطانيا وفرنسا، وأن قرابة 70% يؤمنون بالرب واليوم الآخر والبعث، كذلك: فإن المعاهد الكنسية قد زاد عدد طلابها من 18 ألف في سنة 1954م إلى حوالي مليونين سنة 1980م، وزاد عدد المحطات الإذاعية الدينية من 49 محطة إلى 1400 محطة للفترة نفسها، وقد بلغ الإنفاق الإعلاني للكنيسة 32 مليون دولار، بينما وصلتها تبرعات تجاوزت الستين مليار دولار لسنة 1982م.
انظر –المنظمات الإنجيلية وصناعة السياسة الأمريكية/ ياسر قاري / البيان عدد 90 صفر 1416 هـ ص 78.
[76] انظر يوم الله ص 145.
[77] ومن أهم المجموعات السياسية المؤثرة في العلاقات الخارجية: هي مؤسسة التراث التي أنشأت سنة 1973م للتأثير على الرأي العام والسمح للفكر اليميني بالانتشار والسيطرة على السياسة العامة للدولة، وبفضل دعمها للمرشح الرئاسي سنة 1980م تمكن "36" من أعضائها من تبوؤ مناصب قيادية، واختير رئيسها ديفيد فولينز ليرأس اللجنة الاستشارية لتقويم الدبلوماسية الأمريكية، وتجاوز دعم المنظمة المحيط الأطلسي ليشمل إنجلترا ودول غرب أوروبا، والتعاون مع مئتي مؤسسة ومنظمة ومركز أبحاث ومؤسسات إعلامية لتطوير برنامج عمل دولي لليمين تحت مسمى الاتحاد الديمقراطي العالمي الذي يضم رؤساء أحزاب سياسية محافظة من ثلاثين دولة، ولقد ردت رئيسة وزراء بريطانيا السابقة الجميل للمؤسسة لدعمها لها بأن عينت أحد أعضائها مستشارا سياسيا لحكومتها، وهو الذي وضع البرنامج الانتخابي لحزب المحافظين في الوقت الذي تزود المؤسسة جميع مساعدي أعضاء الكونجرس وحوالي أربعة آلاف صحفي بملخص لجميع الدراسات الصادرة عنها.
انظر- المنظمات الإنجيلية وصناعة السياسة الأمريكية/ ياسر قاري البيان عدد 90 صفر 1416 هـ ص78.(253/44)
[78] انظر المنظمات الإنجيلية وصناعة السياسة الأمريكية / ياسر قاري /البيان عدد 90 صفر 1416 هـ ص78.
[79] انظر البيان عدد 86 شوال 1415 هـ ص 93.
[80] وتوجد عوامل عدة وراء هذا الصراع العقائدي الذي تشهده الساحة الإفريقية، تتلخص فيما يلي:
1- الاتصالات المتبادلة بين شعوب القارة الإفريقية والشعوب الأخرى.
2- تنازع الدول الاستعمارية في مصالحها داخل القارة الإفريقية.
3- إفلاس الكنيسة أمام الحضارة الغربية.
4- تزايد الوعي الإسلامي لدى مسلمي القارة الإفريقية.
5- انظر البيان عدد 81 جمادى الأولى 1415 هـ ص80.
[81] انظر مؤتمر الشبيبة في بارس / أبو إسلام أحمد عبد الله / البيان عدد 119 رجب 1418هـ.
[82] ومن هذه التوصيات:
1) على الغرب أن يسعى إلى تعاون أوثق واتحاد بين الدول داخل الحضارة الغربية وخاصة بين دول أوربا ودول أمريكا الشمالية.
2) ضرورة السعي لدمج شرق أوربا وأمريكا الجنوبية اللاتينية في المجتمع الغربي، لأن هذه الدول تملك ثقافة قريبة من ثقافة الغرب.
3) السعي للدعوة والحفاظ على علاقات تعاونية أوثق مع روسيا واليابان.
4) منع تطور الصراعات المحلية داخل الحضارة الغربية إلى صراعات كبيرة.
5) الحد من توسع القوة العسكرية للدول الإسلامية والكنفوشوسية.
6) التوسع في تخفيض القوة العسكرية الغربية والحفاظ على التفوق العسكري في شرق وجنوب غرب آسيا.
7) استغلال الاختلافات والصراعات بين الدول الإسلامية والكنفوشوسية.
8) دعم الجماعات في الحضارات الأخرى التي تتعاطف مع القيم والمصارح الغربية.
9) تقوية المؤسسات الدولية التي تعكس وتمنح الشرعية للمصالح والقيم الغربية للدعوة لمشاركة دول غير غريبة في هذه المؤسسات.
هذه التوصيات على المدى القصير:(253/45)
أما على المدى الطويل فإن الدول التي تنتمي إلى حضارات غير غريبة سوف تستمر في المحاولة للحصول على الثورة والتقنية والمهارات والأجهزة والأسلحة حتى تكون دولاً حديثة، وسوف تحاول أيضا أن توفق بين التحديث والثقافات والقيم والمحلية، ولهذا فإن قوتها العسكرية والاقتصادية مقارنة بالغرب سوف تزداد، ولذلك على الغرب أن يكيف هذه الحضارات التي سوف تصبح قوتها قريبة من قوة الغرب، ولكن قيمتها ومصالحها تختلف بدرجة كبيرة عن الغرب، وهذا يتطلب من الغرب أن يحافظ على قوته العسكرية والاقتصادية الضرورية لحماية مصالحه، ويتطلب أيضا أن يطور الغرب فهمه العميق للافتراضات الدينية والفلسفية التي تقف عليها تلك الحضارات وينبغي معرفة الطرق التي يرى بها الناس في تلك الحضارات مصالحهم الذاتية.
انظر قراءة نقدية لمفهوم تصادم الحضارات /د- أحمد محمد العيسي البيان عدد 71 رجب 1414 ص 89.(253/46)
[83] دفعت هاتان الصدمتان الشديدتان "آنتوني هارتلي" رئيس تحرير المجلات الفرنسية إلى تدقيق النظر في أوضاع المسلمين في أوربا وتوجه رسالة تحذيرية للحكومات الغربية صريحة أحيانا، وضمنية أحيانا أخرى، مما سماه بالتوسع والبعث الإسلامي في أوربا والأخطار الناجمة عن وجود الأعداد المتزايدة من المهاجرين المسلمين في الدول الأوربية. وجد "هارتلي" أن عدد المسلمين في بريطانيا يقدر بمليون ونصف، وفي فرنسا من 2.5 – 3 ملايين، وفي ألمانيا هناك ما لا يقل عن 1.9 مليون مسلم، غالبيتهم من الأتراك بالإضافة إلى مائة وثلاثين ألف عربي، ومائة ألف من مسلمي البوسنة. وفي إيطاليا ما يقرب من 1.7 مليون يدخل معظمهم إليها بتأشيرة سياحية ثم يبقون هناك. وفي بلجيكا مائتي ألف مهاجر من تركيا وشمال إفريقية، أما في هولنده فهناك 285 ألف مسلم من المغرب وتركيا وسورينام. وجد "هارتلي" أنه على الرغم من أن غالبية العمالة المسلمة في بريطانيا عمالة غير ماهرة فإن نسبة عالية من هذه العمالة تشغل وظائف مهنية. ووجد "هارتلي" أيضاً أن في فرنسا وحدها ما يقارب من ألف مسجد وزاوية صلاة تقام فيها شعائر الإسلام، وستمائة في بريطانيا يتلقى فيها الأطفال المسلمون تعاليم القرآن وتعتبر مراكز تجمعات للمسلمين. وصلة المسلمين. بوطنهم الأم لم تنقطع، وما يحدث في هذا الوطن من حركات إسلامية وبعث إسلامي يتردد صداه بين هؤلاء المهاجرين إلى العالم الأوربي.
انظر رسالة عدائية ضد المسلمين في أوربا/ د – أحمد إبراهيم خضر / البيان عدد 63 /ص 36.(253/47)
[84] أزعجت هذه الحقائق "هارتلي" لكن الذي أفزعه هو أن هؤلاء المهاجرين قد نجحوا في إدخال المعتقات والأعراف الإسلامية إلى المجتمعات الصناعية الغربية، وخشي أن تتخلي هذه المجتماعت عن قيمها وأعرافها، وأن تخضع للقيم والمعايير الإسلامية، لهذا فقد نظر إلى: واقعة الفتيات المسلمات الثلاث على أنها سابقة خطيرة تنذر بإمكان حدوث ذلك؛ لهذا وجه "هارتلي" رسالته التحذيرية –المحشوة بالعداء للإسلام والمسلمين- إلى الحكومات الغربية متضمنة ما يلي:
أولا: محاولة إقناع الحكومات الغربية بأن المهاجرين المسلمين قد يتسببون في مشاكل مستقبلية بين الدول الأوربية واستدل في محاولته هذه باحتجاج فرنسا على بون بسبب تشجيع الألمان لهجرة العمالة التركية الزائدة.
ثانيا: محاولة إقناع الحكومات الغربية بأن مطالب المسلمين كثيرةومتعددة ويصعب الوفاء بها وأنها تسير ضد إيقاع وحركة الإنتاج الصناعي الحديث وضد نمط الحياة الغربية.
ثالثا: تحذير الحكومات الغربية من الآثار البعيدة المدى للدورة المتنامي الذي يمكن أن يلعه المسلمون في الحياة السياسية الغربية خاصة بعد حصولهم على جنسيات البلاد الأوربية، وحق التصويت في الانتخابات المحلية والعامة.
رابعا: تحذير الحكومات الغربية من تزايد نفوذ الحكومات الإسلامية عليها استنادا إلى وجود الأقليات الإسلامية فيها، ومن تسرب الحركات الإسلامية إلى أوربا بسبب جو الحرية السائد في الغرب.
خامسا: تنبيه الحكومات الغربية إلى أنها مهما استجابت لمطالب المسلمين فإنها سيظلون منفصلين متميزين غير منسجمين مع المجتمع الأوربي، ولكن يكون ولاؤهم لهذا المجتمع مطلقا.(253/48)
سادسا: تحذير الحكومات الأوربية من خطورة الرضوخ لمطالب المسلمين، وخاصة ما يتعلق منها بوضع المرأة، واعتبار ذلك تهديدا لقيم المجتمع الغربي وبدرا للتعصب فيه مع التنديد الضمني المتكرر بموقف الوزير الفرنسي من الفتيات المسلمات الثلاث المشار إليهن، واستغلال تلك الواقعة لإظهار صعوبة تعامل هذه الحكومات مع المسلمين الملتزمين بعقيدتهم.
سابعا: تحذير الحكومات الغربية من الدور الذي تلعبه المساجد في أوربا، ومن تنامي هذا الدور وتأثيره على الحياة السياسية في الغرب، ولفت انتباه هذه الحكومات إلى خطورة الخطب الدينية التي تلقي في هذه المساجد، والدعوة إلى ضرورة فرض الرقابة عليها.
انظر رسالة عدائية ضد المسلمين في أوربا/ د – أحمد إبراهيم خضر البيان عدد 63 / ص36.
[85] انظر البيان عدد 58 جمادى الآخرة 1413 هـ ص 92.
[86] يقول أحد المفكرين الفرنسيين ويدعي "فرانسوا بورجا": إن هذه الحركات الإسلامية تسبب لنا الجنون لأنها تؤذينا في الصميم.
لقد أجبرونا على أن ندرك الحقيقة التي تقول: إننا لا نملك احتكار النظام الرمزي، إننا لسنا الوحيدين الذي يمكن أن يتعاملوا مع الأمور الكونية فهل صار ميزان القوى يتغير في هذا المجال؟ نهم –وهل هذا التغير في صالحنا؟ والإجابة طبعا: "لا" ويضيف "فرنسوا بورجا" إلى ذلك قوله لكن إذا كنا نفقد احتكارنا لهذه الأمور فهل يتعين علينا أن نواجه ذلك بالتدخل في العمليات التي تتم في محيطنا ومن حولنا، إننا بذلك نربي عداوات أكثر.
انظر رؤية جديدة للدين الإسلامي للكتاب "روبن رايت" في مجلة "لوس أنجلوس" الصادرة في 6 أبريل 1993م.
بواسطة البيان عدد 68 ربيع الآخر 1414 هـ ص95.
[87] انظر البيان عدد 61 رمضان 1413هـ.(253/49)
في 9 ، 10 يونيو عام 1994م مؤتمر مشابه، وكان هذه المرة في مدينة اسطنبول التركية، التي كانت عاصمة للخلافة الإسلامية، وشارك في المؤتمر أربعون وزيرا للخارجية والدفاع بالدول الغربية في اجتماعيين منفصلين، ضمن الأول مجلس وزراء حلف الأطلسي، وضم الثاني مجلس تعاون شمال الأطلسي، الذي يضم كافة الدول الأوربية الشرقية، والغربة، وشاركت فيه روسيا أيضا، وكان محور الاجتماع يدور حلو وضع خطة لمواجهة الخطر القادم الذي يمكن أن يواجه العالم بعد انتهاء الحرب الباردة، وتكررت جلسات الاجتماع بين الوزراء أعضاء المؤتمر، ثم كلف أمين عام الحلف "سابقا" ويلي كلاوس" بشكل رسمي بإعداد ورقة عمل للحلف تتضمن كيفية مواجهة المد الإسلامي أو "الأصولية الإسلامية".
وخلص "ويلي كلاوس" "فيما يبدو" إلى أن "الأصولية" هي أكبر خطر يواجه الحضارة الغربية، حتى إنه قال لمجلة "زيتونج" الألمانية الصادرة في 2 فبراير 1994م: "إن الأصولية خطيرة كما كانت الشيوعية، ونرجوكم ألا تقللوا من شأن هذا الخطر" وأضاف: "إن حلف الأطلسي هو أكثر من تحالف عسكري، فقد أخذ على نفسه أن يدافع عن المبادئ الأساسية للحضارة الغربية"! وقال في حديث آخر نشرته مجلة "الإيندبندنت" البريطانية: "إن الخطر الأصولي الإسلامي هو من أهم التحديات التي تواجه الغرب بعد تفكك الاتحاد السوفيتي والكتلة الشرقية" وقال: "من واجبنا أن نتعاون مع الدول التي تواجه ذلك النوع من الصعوبات".
انظر الحروب الصليبية بعد 900 عام هل انتهت/ عبد العزيز كامل انظر البيان عدد 97 رمضان 1416 هـ ص80.
[88] منذ سنوات قليلة خلت، اختار الأوروبيون ذكرى أخرى لا تخلو من الدلالات التاريخية، ليعقدوا فيها. إسبانيا أيضا. مؤتمر مدريد، وكان في ذكرى مرور خمسئة عام على سقوط الأندلس! ومعلوم أن هذا المؤتمر قد دشنت فيه المرحلة الحاسمة لإسقاط المزيد من شقيقات الأندلس.(253/50)
انظر الحروب الصليبية بعد 900 عام هل انتهت/ عبد العزيز كامل انظر البيان عدد 97 رمضان 1416 هـ ص80.
[89] انظر البعد الديني في السياسة الأمريكية/ تأليف د- يوسف الحسن/ عرض أحمد عبد العزيز أبو عامر/ البيان عدد 43 ربيع الأول 1412 هـ ص111
[90] انظر قراءة نقدية لمفهوم تصادم الحضارات /د- أحمد محمد العيسي البيان عدد 71 رجب 1414 ص 89
[91] انظر قراءة نقدية لمفهوم تصادم الحضارات /د- أحمد محمد العيسي البيان عدد 71 رجب 1414 ص 89
[92] تنتشر الديانات الهندوسية في الهند وغيرها كما تنتشر الديانة البوذية في الهند واليابان والصين وغيرها
انظر دراسات في اليهودية والمسيحية وأديان الهند /د- محمد الأعظمي. وانظر الهنوس والسيخ محمد الشباني. وانظر المسلمون في اليابان- عبد الله اليحي.
[93] المسجد البابري:
لعل رحلة في تاريخ المسجد –الضحية- توضح أهمية المسجد وصراع المسلمين واستماتتهم في الدفاع عنه؛ لأنها لم تكن معركة لمنع هدم حيطان وحجارة المبنى ولكنها محاولة للإبقاء على الوجود الإسلامي في الهند الذي يتهدد يوما بعد يوم من قبل المتعصبين الهندوس:
- 1528 – 1529 بني المسجد على أيدي مير باقي من سلالة البابري. لم يأت ذكر لمولد "إله" في موقع المسجد في أي من المراجع أو الوثائق حتى العام 1875م حيث بدأت فتنة الإنكليز الجديدة في الهند.
- 1934م هاجم الهندوس المسجد وهدموا إحدى قبابه ومدخله الرئيس.
- 1949م أدخل الهندوس أصناما "للإله رام" وأعلنوا استعادة المكان من المسلمين وبدؤوا يشاركونهم في استخدام المسجد.
- 1991م صادرت الحكومة الهندية 2077 هكتار من الوقف المحيط بالمسجد "7 من أكتوبر".
- 1991"25 من أكتوبر" أصدرت المحكمة قرارا بعدم البناء على الأرض المتنازع عليها والمحيطة بالمسجد.
- 1992م "19 من مايو" البدء بحفريات حول المسجد كأساس لبناء حائط المعبد.
- 1992م "13 من يونيو" قرار المحكمة بوقف الحفريات.(253/51)
أما اللحظات الأخيرة من عمر المسجد فهي كالتالي:
- 1992م "23 من يوليو" توصل إلى اتفاق مع رجل الدين الهندوس "لحل المشكلة سلمياً".
- 1992م "23 من نوفمبر" وصول 15000 جندي لحماية المسجد.
- 1992م "2 ديسمبر" 100000 من المتطرفين يحشدون جهودهم في أيوديا.
- 1992م "3من ديسمبر" وصول "القطط السوداء" –وهم نواة الجيش الهندي- لحماية المسجد.
- 1992م "6 من ديسمبر" تدمير المسجد تدميرا كاملا. -1992م "6من ديسمبر" الوعد بإعادة بناء المسجد.
- 1992م "12 من ديسمبر" مشروع حكومي يقترح بناء المسجد، ومعبد في نفس المكان!.
- 1993م "مارس وأبريل": بناء المعبد الهندوسي وإغلاق ملف المسجد.
انظر البيان عدد 63 ذو القعدة 1413 هـ ص 58
[94] انظر الصراع الحضاري في كشمير/ أحمد موفق زيدان/ البيان عدد 43 ربيع الأول 1412 الأول هـ ص 89
إن طبيعة انتهاك حقوق الإنسان ضد "مسلمي الروهنجا" الأقلية لا يوجد له مثيل في العالم، وباعتبار السلطة في بورما تعتنق ديانة أخرى مختلفة عن ديانة "الروهنجا" وبدافع سياسي محسوب جيداً: فإنهم يعرضون "الروهنجا" لصنوف من التعذيب غير الإنساني، دعنا نلخص انتهاكات حقوق الإنسان بواسطة النظام البورمي من كافة النواحي:
1- حق الحياة: ليس هناك أمان لحياة "الروهنجا" المسلمين في "أركان"؛ حيث يقتل المواطن "الروهنجا" في أي وقت، وبشكل اعتباطي إما بواسطة العسكريين البورميين، أو المليشيات، أو عملاء آخرين منفذين للقانون دون محاكمته، يقتل المئات من المسلمين كل عام دون اللجوء للقانون.
2- حقوق الملكية: الأراضي، وسدود الروبيان، والماشية، والمشآت التجارية المملوكة للمسلمين صودرت بصورة غير قانونية، وتم اقتلاع جذور مستوطنات المسلمين، وإنشاء قرى جديدة للبوذيين من قبل النظام الحاكم.(253/52)
3- حقوق حماية الشرف: ليس هناك أمن لحماية شرف المسلمين في "أراكان"، ولا يهم مدى مكانة ووضع المسلم وتأثير تعليمه وشخصيته وتدينه... إلخ، فإن شرفه وكرامته تحت رحمة السلطات البورمية، حيث يضرب الأفراد بأساليب وحشية، وينقلون في جماعات إلى مواقع عمل السخرة، وتحرق لحي علماء الدين وتنهك أعراضهم.
4- حقوق الخصوصية: في أي وقت. سواء في وضح النهار، أو في ساعات الليل. تداهم القوات البورمية مساكن المسلمين بنوايا سيئة، من سرقة، وعدم مراعاة لشرف وحرمات النساء، واقتياد أصحاب المنزل للاستجواب.
5- حقوق حماية الحريات الشخصية: يتعرض الآلاف من "الروهنجا" للاعتقال الاعتباطي كل عام بدون إبداء أي سبب أو تهم رسمية، وهناك أشخاص تم اعتقالهم منذ عشرات السنوات مضت دون محاكمات، وما زالوا في السجون حتى الآن.
6- حق الاحتجاج ضد الظلم: لا توجد محكمة يمكن لشخص ما الاحتجاج أمامها ضد الظلم وانتهاك العدالة، وإن عملاء تنفيذ القانون موجهون بصفة خاصة لممارسة التفرقة العنصرية وظلم المسلمين، إن المسلم المظلوم عندما يقدم شكوى في مخفر الشرطة يتعرض هناك للضرب المبرح لتجرئه على اتخاذ مثل هذه الخطوة، وقد تسند إليه أي تهمة زورا وبهتانا.
7- حق حرية التعبير: يمنع مسلمو "الروهنجا" في "أركان" تماما من التجمع أو التعبير عن رأيهم، كما لا يسمح لهم بالنشر، ولا يمكنهم التعبير عن أوضاعهم لوسائل الأخبار العالمية، فضلاً عن أنها ممنوعة تماماً من دخول "أراكان".
8- حق ممارسة الدين: يحرم "الروهنجا" المسلمون من ممارسة أبسط واجبات دينهم؛ حيث يمنعون أداء فريضة الحج، ويحظر عليهم ذبح الأضاحي، كما يحظر إلقاء المواعظ الدينية، كما أن العاملين بالحكومة يكرهون على الانحناء لعلم الدولة، وهو ما يناقض الدين، وإذا لم يذعن أحد منهم لهذا الإجراء: يفصل من العمل فوراً.(253/53)
9- الحقوق أمام العدالة: جرائم مثل الاغتيال والسرقة ترتكب بكل حرية في حق المسلمين دون مثول مرتكبيها أمام القضاء، وسياسية النظام الرسمية تنص بعدم منح "الروهنجا" الحقوق أمام القضاء.
10- حق توفير الضروريات الأساسية للعيش: يحرم مسلمو الروهنجا بـ "أراكان" عمدا من توفير الضروريات الاساسية من أجل الحياة، مثل: الغذاء، واللباس، والرعاية الصحية، والتعليم.. الخ، حيث يتعرضون لتفرقة عنصرية خطيرة.
انظر صور انتهاكات حقوق الإنسان في بورما/ الأستاذ محمد علي/ البيان عدد 93 جمادي الأولى 1416 ص66
[95] التايمز 14/4/1990م.
[96] انظر البيان عدد 63 ذو القعدة 1413 هـ ص 85.
[97] انظر البيان عدد 63 ذو القعدة 1413 هـ ص 85.
[98] انظر دراسات في اليهودية والمسيحية وأديان الهند الكبرى 575 – 582 وانظر فيما يتعلق بما تتعرض له الأقليات الإسلامية في عدد من دول العالم كتاب /مقومات السلم وقضايا العصر بين النظرية والتطبيق /د علي بن عبد الرحمن الطيار.(253/54)
العنوان: الانتفاع في حسن الاستماع
رقم المقالة: 1666
صاحب المقالة: الشيخ صالح بن عبدالله بن حميد
-----------------------------------------
ملخص الخطبة
حلول مواسم الخيرات.
ضرورة المراجعات الداخلية.
مفتاح النجاح.
حقيقة الاستماع الحسن وفضله.
حسن الاستماع في الكتاب والسنة وآثار السلف.
فضل الإنصات.
مشكلة عدم الإنصات وسوء الاستماع.
صوارف الاستماع الحسن.
الخطبة الأولى
أما بعد: فأوصيكم - أيها الناس جميعًا - ونفسي بتقوى الله عزّ وجل، فاتقوا الله رحمكم الله، {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة: 197]، واتقوا ربَّكم يا أولى الألباب.
فهذه مواسمُ الخيرات، والبِقاعُ الطاهرات المقدَّسات، يتفيَّؤُها الزائر والحاجُّ والعاكِفُ والبَاد في بيتِ الله الحرامِ، والمشاعرِ العظام، ومسجدِ رسولِه عليه الصلاة والسلام، وأيَّامُ الحج أيَّام ذِكر وقُرُبات، نجائِب تحمل الأحباب، صابرات على الإيجاب والإتعاب، تأخذ الزائرِين إلى ربِّ الأرباب، قد ادُّخِرت لهم الأجورُ والبشائر، مؤمِّلين من ربهم بالأجرِ الوافر، رَحِم فيهم شَعَث الشَّعث ووعثاء المسافِر، {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} [الحج: 27].
عبادَ الله، حجَّاجَ بيت الله، يشعر المسلمون أنَّ دينَهم يتعرَّض لهجمةٍ شرسة، تحدَّثوا عن هذا الهجوم، وتداوَلوه في ندواتهم وكتاباتِهم ولقاءاتهم ووسائِلِ إعلامهم، والحديث ليس حديثَ تشفٍّ، ولا المقام مقامَ تلاوُم، ولا بإلقاء التبعَةِ على الأعداء والخصوم، وإن كان هذا له مصداقيته وموقعه بالقدر الذي يَبني ويَدفَع إلى العمل لا إلى الإحباطِ والتحسُّر.(254/1)
غير أنه قد يكون من المناسب أن ينظرَ المسلمون إلى أحوالِهم في أنفسِهم في واقعيَّة وإيجابية بإذن الله، ممّا يدفع إلى العمل والبناءِ؛ لتسير القافلة وتدَعَ الأصواتَ النَّشاز، ولقد قيل: إذا رأيتَ النّاسَ يرمونك بالحجارةِ مِن خلفك، فما ذلك إلاَّ لأنك في المقدِّمَة.
غيرَ أن ممّا يجِب أن يتقرَّرَ أنَّ الأمةَ لا تستطيع إعزازَ دينِها، ولا نصرةَ إسلامها إلاَّ إذا أعزَّت نفسَها، وانتصرت على أهوائِها ورغباتها، {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد: 11].
معاشرَ الإخوةِ والأحبة، وهذه وقفةٌ مع أحَدِ عوامل بناءِ الأمة، يوقِفُها على طبيعتها، ويدلُّها على عيوبها، ويعينُ على تشخيصِ بَعض أدوائِها، ويُبرِز لها مصادِرَ قُوَّتها؛ بل تستطيعُ من خلاله - بإذنِ الله - أن تَفحصَ نفسَها، وتُقوِّمَ مسيرتها. إنها وَقفةٌ مع وَسيلةٍ مِن أعظمِ وسائل شهودِ المنافع، ومن أعظم وسائل تجنُّب الجدال المذموم، والموسمُ موسمُ حجٍّ وتجمُّع، والعصرُ عصرُ إعلامٍ وانفتَاح وحِوار. ذلكم - عبادَ الله - هو فِقه الإنصاتِ، وحُسن الاستماع.
أيَّها الإخوة المسلمون، بِناءُ العلاقات مِفتاحُ النجَاح، وحُسن الإنصاتِ وأدَبُ الاستماع مِن أعظَمِ ما يَبني العلاقاتِ ويرسُم طريقَ النجاح. كم هو جميل أن يفهَمَ الرَّاغبُ في الحقِّ والجادُّ في البناء وجمعِ الكلمة أنَّ الحُجَّةَ وحدها ليسَت كافيةً لإيصال الحق وإقناع الناس؛ بل لا بدَّ أن ينضَمَّ إلى ذلك حُسنُ الخُلق واللِّينُ والقدوة الحسنة، فالعقلُ والمنطِق بمفرَدِه شيء جافٌّ جافٍ وإن كان حقًّا، {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159].(254/2)
ومِن أحسن هذه الأخلاق التي تُرطِّب جَفَافَ الحقِّ وقَسوةَ المنطق - الاستماعُ الفعال والإنصاتُ الثاقب. الإنصاتُ الحَسن والاستماع المؤدَّب، احترامٌ وتقدير، وامتِصاص لانفعالات الغضب، وتجنُّب لمواطِنِ الخَطأ، وسبيلٌ مستقيم لاتِّخاذِ القَرار السَّديد والرَّأي الرشيد. حُسنُ الاستِماع يُرسِّخ الثِّقَةَ في النَّفسِ، ويَردُم الجَفوَة، ويسُدُّ الهوَّة، ويخفِّف وَطأةَ الخِلاف، ويفتح المجالَ واسعًا للتفاهم والحوار البنَّاء. المرءُ لا يصافِح الناسَ وكفُّه مقبوضةٌ، فكذلك لا يفهم الناسَ ولا يفهمونه وأذُنُه مغلَقَة مقفولة. ليس أسهلَ مجهودًا ولا أَفعَل تأثيرًا في تملُّكِ القلوب مِنَ الإنصات.
تأمَّلوا - رحمكم الله - كتابَ ربكم وما جاء فيه بشأن الاستماع والإنصاتِ، لقد ذَكَر – سبحانه - السمعَ والبصر في تِسعةَ عَشر موضعًا، وقدَّم السمعَ في سبعةَ عَشر موضعًا؛ ممَّا ينبِّه على مكانِ السمع وقدْرِه، وعظيم أثره، وكبيرِ نَفعه وفائدته، فالإنسانُ تبدأ معارِفُه بالسمع، وبه يفقَه التشريع، ويكون أهلَ التكليف والامتثال، يقول - عزَّ شأنه -: {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ} [الأنعام: 36]، قال أهل العلم: عبَّر بالسمع؛ لأنَّه طريق العلم بالحقِّ والآياتِ والبراهين، والسماعُ والإنصات انتِباه وفَهمٌ واستجابة.(254/3)
وقِفوا - رحمكم الله - عند هذه الآيات الكريمات، يقول - عزَّ شأنه -: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنْ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأحقاف: 29 - 30]، قال قتادة: "ما أَسرَعَ ما عَقل القومُ!"، ذلكم هو السماعُ الفعَّال؛ سماعُ عِلمٍ وفقهٍ وتدبُّر وفَهمٍ وتعقُّل وانصياع.
مَعاشر المسلمين، أنتم أمَّةُ الاستماع، فقد خاطَبَكم ربُّكم بقوله: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 204]، الاستماع والإنصاتُ هو الوسيلة المثلى للتدبُّر من أجل الفهم والعمل. أنتم أمَّة الاستماع، فاحذروا قوله – سبحانه -: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} [الأنفال: 21]، قال أهل العلم: ما الفائدة أن يقول المرء: سمِعنا وأطعنا ولم تظهر عليه آثارُ الطاعةِ والإيمان؟! فلا خيرَ في السمع ولا في الاستماع إذا لم يظهَر أثرُ ذلك بالقبول والامتِثال وابتغاء الحق، وصدق الحقُّ - تبارك وتعالى -: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} [يونس: 67].
أمّا في سنة رسول الله فقد رَوَى الطبرانيُّ بإسناد صحيحٍ عن عمرو بن العاص قال: "كان رسولُ الله يُقبِل بوجهِه وحديثِه على شرِّ القوم يتألَّفُهم، وكان يُقبِل بوجهِه وحديثِه عليَّ حتى ظننتُ أني خيرُ القوم". وإنَّ لكم في رسولِ الله لأسوةً حسنة.
أمّا أصحاب رسول الله فقد كانوا يستَمِعون وينصِتون إلى حبيبِهم محمدٍ، وكأنَّ على رؤوسهم الطير من فَرط التقدير والأدب والمهابَة، والرغبة في الحقِّ، وحُسن الإنصات وأدب الاستماع.(254/4)
معاشرَ الأحبة، المنصِتُ يحبِس لسَانَه ويرسِل أذُنيه، يَعرِفُه الجالِسون والمتحَدِّثون بحضورِه وهدوئِه، وترقُّبِه وحُسن متابعتِه، وأَدَبه وتقديرِه لمحدِّثه، يحمل روحَ المساواةِ والبُعد عن الاستعلاء والفوقية، وتجنُّب الجَزم بالانفرادِ بالحقِّ، والقَطع بمعرفةِ الصواب. ما أجملَ الأذُنَ المصغِيَة ذات الهدوء والوَقَار، وهي تحتضِن امرَأً يكادُ يتميَّز مِنَ الغيظِ والغضب، ويضيقُ بالحزن ذَرعًا! يقول أبو الدرداء : "لا خيرَ في الحياة إلاَّ لأحد رجلين: منصتٍ واعٍ، أو متكلِّمٍ عالم"، ويقول بعضُ الحكماءِ: "إذا جالستَ العالمَ فأنصتَ، وإذا جالستَ الجاهل فأنصِتَ، ففي إنصاتِك للعالم زيادةُ علم، وفي إنصاتك للجاهل زيادة حِلم"، ويقول أبو حامِدٍ الغزالي - رحمه الله - مبيِّنًا خصالَ المنصِت وصفاتِه: "أن يكون مُصغِيًا إلى ما يقول القائل، حاضِرَ القلب، قليلَ الالتفات إلى الجوانِب، مُتَحِرِّزًا عن النظرِ إلى وجوهِ المستمِعين وما يظهَر عليهم من أحوال وأوضاع، مشتَغِلاً بنفسِه، متحفِّظًا عن حركةٍ تشوِّش على أصحابِه، سَاكِن الظاهِرِ، هادِئ الأطراف، متحفِّظًا من التنحنُح والتثاؤب".
معاشر المسلمين، كم حُلَّت المشكلاتُ بحسن الاستماع، فلا تقاطِع واسمَع حتى ينتهِيَ محدِّثُك، استَمِع إلى صاحبِك لتفهَمَ، لا لتَلتَقِطَ عَثراتِه، وتتبَّعَ زلاَّتِه، لا تسمع وأنت لا تَرغَب الفهمَ، لا تشتغِل بإعداد الردِّ أثناءَ الاستماع، ولا تستعجل الإجابَةَ، إنك إن فعلتَ ذلك فإنَّك لا تردُّ إلاَّ على نفسِك، ولا تحرِم إلا نفسَك، إياك أن تستمعَ لتتصيَّدَ الأخطاءَ؛ فهذا خذلانٌ وعَمى وحِرمان من الحقِّ، وضَرَرٌ عَلَى النَّفسِ والقَلب والدين، لا تفسِّر كلامَ محدِّثك بوجهَةِ نظرِك، وانظر إلى الأمورِ بمنظورِه لا بمنظورِك، وسوف تجِد أنك سريعُ الفهم، منشَرِح الصدر، غيرُ قَلِق ولا مُتَحفِّز.(254/5)
تأمَّلوا هذه الكلمةَ العظيمة، ذات الفِقه النَّفيس النَّفسيِّ العميق من الإمام ابن حَزم - رحمه الله - حيث يقول: "من أراد الإنصاتَ فليتوهَّم نفسَه مكانَ خَصمه؛ فإنه يلوح له وجهُ تعسُّفِه". لا تحمِل أحكامًا مسبقة، ولا قرارات مُقَولَبَة؛ بل كن مستَمِعًا جيِّدَ الإنصات لكل ما يقال ويُلقى.
أيها المتحدِّث، اعلم وتأكَّد أنَّ هناك أناسًا كثيرين لدَيهِم مِنَ الفطنة والفَهم والعِلم والبداهة - أكثرُ مما عندك، وما يفوقُ تقديرَك، وحين تستَمِع فلا تتصنَّع المتابَعَة؛ فجَليسُك ذكِيٌّ نبِيه، فاحترِمه واحترِم نفسَك وأدَبَك، فاستمِع - بارك الله فيك - استماعَ يَقَظةٍ وفَهمٍ وابتغاء للحَق.
يا أصحابَ الحق، أيها الدعاةُ إلى الله، يا رجالَ الحِسبة، يا أهلَ الرأي والفكر، إنَّ أفضلَ طريقٍ لإقناعِ الآخرين، وأيسَر سبيلٍ إلى الوصول إلى الحق، هو فِقه حسن الاستماع وأدب الإنصاتِ.
وبعدُ عبادَ الله، فانظرُوا - حفظكم الله - حينما يكون المرءُ في ضيقٍ أو ضائقة، فإنَّه لا يجد الفرَحَ ولا الفَرَجَ إلاَّ عند من يحسِن الإنصاتَ إليه، والاستماعَ إلى شكواه؛ يواسيه ويسليه ويتولاَّه، يحِبُّ الناس المنصتَ؛ لأنَّه مغناطيس تنجذِب إليه القلوب، ويَلجَأ إليه الناس، يفرَّج همومَها وأحزانها. إنَّ الاستماعَ الجيَّد والإنصاتَ العَميق، هو سِرُّ نجاح كثيرين في علاقاتهم وأعمالهم، وإذا صَلح الاستماع صَلحَت الحياة واستقامَت.(254/6)
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ * إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال: 20 - 23].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم وبهدي محمد، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائِر المسلمين من كلِّ ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله بيدِه مفاتيحُ الفرَج، شَرَع الشرائعَ وأحكم الأحكامَ وما جعل علينا في الدِّين من حرج، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحده لا شريكَ له، قامت على وحدانيته البراهين والحجَج، وأشهَد أن سيدنا ونبيَّنا محمدًا عبد الله ورسوله، هو المفَدَّى بالقلوب والمُهَج، صلَّى الله وسلَّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، ساروا على أقوم طريق وأعدَل منهج، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.(254/7)
أما بعد: أيها المسلِمون، فمِن أَكبر مشكلاتِ الناس عدَمُ إحسان الإنصات وإحسان الاستماع، فكم من أمر أُسِيء فهمُه بسببِ التعجُّل وعدم إحسان الإنصات، والتسرُّع في الردِّ وكَثرة المقاطعة. لو رَأَيتم في بعضِ الآباء والمعلِّمين والمربِّين والمتحاوِرين وأمثالهم، لرأيتم أنَّ هَمَّ أحدِهم أن يكونَ ابنه أو تلميذُه أو محاوِرُه مستَسلِمًا مُنقادًا، ليس عليه إلا الانصياع لما يقوله، والاقتناع بما يطرح. عدَمُ حُسن الاستماع يؤدِّي لِسوء الفَهم، وسوءُ الفَهم يؤدي إلى ضياع الأوقات والجهودِ والأموال والعلاقات و..., عدَمُ إحسان الاستماع يؤزِّم العلاقات بين الآباء والأمهات، والأبناء والبَنات والأزواج، والمعلمين والطلاب، والمسؤولين ومرؤوسيهم، والعامل وربِّ العَمل، كلُّ ذلك لأنهم لا يحسِنون الاستِماع، ومن ثَمَّ لا يَفهَم بعضهم بعضًا، ولا يعطي لصاحبِه حقَّ الفهم وحقَّ الاستقلال بالرأي، فكلٌّ يريد الحديثَ وفرضَ الرأي؛ بل فرضَ الاستماع غير المفيد، والأشدُّ من ذلك والأنكى حينما يتَّبع المرء هواه ويضلُّ على علم، وحينئذٍ يُختم على سمعِه وقلبِه، ولقد قال الله - عز وجل -: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [الجاثية: 23].
ونعى الله - عز وجل - على الذين عطَّلوا أسماعهم، فكانوا كالأنعام؛ بل هم أضلُّ: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان: 44].
إنَّ من الصوارِفِ عنِ الاستماعِ النَّفَّاعِ الاستهزاءَ والاستخفافَ، وعَدم الاكتراث والسخرية، وعدم التركيز والاضطراب النفسي، ومقاطعة المتحدث ومسابقتَه في التنبُّؤ بما يقول، وإظهار الملَل وعدم التحمل.(254/8)
ألا فاتقوا الله رحمكم الله، واحذَروا الإنصاتَ المنحاز ممَّن يستَمع، وقد استبطَن حُكمًا مسبَقًا، أو تصنيفًا حاجزًا للأشخاصِ أو المعلوماتِ.
هذا، وصلوا وسلِّموا على الرحمة المسداة، والنعمة المهداة نبيِّكم محمد رسول الله، فقد أمركم بذلك المولى - جل في علاه - فقال - عزَّ قائلاً عليمًا -: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على عبدِك ورسولك محمد.(254/9)
العنوان: الانتكاسة التربوية
رقم المقالة: 1963
صاحب المقالة: معاذ بن خالد المسلَّم
-----------------------------------------
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
أحبابي..
عندما ننظر إلى عصرنا وما آل إليه من تطور تقني وفكري.. إلخ
ندرك أن الأجيال القادمة.. قد تكون عرضة للتلف إذا لم نحافظ على عقولها..
وإذا لم نحرص على نشر الثقافة التربوية.. اللازمة لهذا العصر وتحديداً في هذا الوقت.. ستكون هناك ما يسمى "نكسة تربوية".
عندما ننظر إلى زمن آبائنا وأجدادنا.. ونتمعن في أساليب التربية التي تربوا عليها ونشأوا على أثرها.. نعلم أن الوقت والزمن وعوامل البيئة والثقافة.. إلخ قد تغيرت عما سبق..
لا أريد أن أتوسع في كلامي.. لكن مقصودي أن أرسل رسائل إلى مشرفي حلقات التحفيظ، وإلى من له صلة بهم.. بأن نعيد حساباتنا..
قد يكون في بعض الحلقات.. أناسٌ تطوعوا للتدريس، وهم كثر وفقهم الله.. وهذا شيٌ يفرح القلب..
لكن كثيراً ما يغفل مشرفو الحلقات.. عن جانب مهم غير جانب صلاح المعلم.. وهو الجانب التربوي وأساليب التعامل من الطلاب..
لنكن واقعيين.. هناك مشكلة كثرت في الآونة الأخيرة.. وهي مشكلة "تسرب الدارسين من حلقات تحفيظ القرآن الكريم".
هل نتوقع أن التقصير من الطالب، أو من أهله، أو من ملهيات الوقت..؟
لقد وقعت هذه المشكلة.. عندما اهتم مشرفو الحلقات بجانب واحد وتركوا بقية الجوانب.. وأقصد الجانب التربوي بالخصوص.. وقعت مشكلة تسرب الدارسين..
لماذا..؟
الجواب هو: غفلتنا عن التربية وأساليب التعامل..
ولا أقصد فقط المعلم.. بل وحتى الإداري وكل من له أثر في صروح الحلقات الشامخة..
لابد وأن ننتبه لنقطه مهمة جداً..
أحبابي... نحن نبني عقولاً.. نبني أجيالاً.. نبني المستقبل.. بكامله..
فعن طريق التعامل يحصل كل شي.. إذا أردت أن أكسب شخصاً فهناك عوامل تساعد على ذلك، إن أردت أن أبني فكراً.. فبالتعامل أبنيه..(255/1)
قد يقول البعض: إن الوقت قد فات...!!
وأقول: لا.. لقد تبقى الكثير.. إذا كنا سنجمد ولا نتحرك ستكون هناك النكسه التي أشرت إليها من قبل..
هناك حلول كثيرة؛ أدرج لكم بعضاً منها:
- وضع مكتبة في كل إدارات الحلقات.. تضم كتباً من شتى المجالات.. (دينيه - إدارية - تطويرية - تربوية - ثقافية...).
- إقامة الدورات، وتكون دورات إجبارية لمن يريد أن يلتحق بسلك التدريس.. ويكون بعد عدة اختبارات غير مباشرة.. عن طريق طلابه.. كيف..؟ ننظر مثلا إذا شاغب طالب.. ماذا يكون فعله تجاه هذه المشاغبة..؟ هل يذهب به إلى الحل الأخير وهي الإدارة، أو يستطيع كسب قلوب طلابه وتحريكها تحريكاً تربوياً..؟
"تستطيع أن تحرك نفوس من أمامك كما لو كنت تلعب الشطرنج؛ فتعاملك هو محرك اللعبة" (معاذ المسلّم).
- هناك حلول كثيرة.. وأحب أن يكون الموضوع تفاعليا..
أُنبه أيضاً.. على مسألةٍ الإداريين هل كلُ من عمل في إدارة الحلقات له معرفةٌ بجوانب الإدارة وهي لازمة خصوصاً في هذا الوقت.. الذي نعاني فيه (أزماتِ إدارية وقيادية)
.. في ختام هذا الموضوع أرجو من الله أن لا يكون موضوعي ثقيلا عليكم، وأن يفيدكم وأن نتعلم من أخطائنا.. فإن كان من خطأ فمني ومن الشيطان، والله ورسوله بريئان..
والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وأفضل المرسلين...(255/2)
العنوان: الإِنسان المبتلى
رقم المقالة: 1297
صاحب المقالة: الشيخ عائض بن عبدالله القرني
-----------------------------------------
إنَّ الحمد لله، نحمدهُ ونستعينهُ ونستغفرهُ، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا وسيِّئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومن يضللْ فلا هاديَ له، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70-71].
أما بعد:
فإن أصدقَ الحديثِ كتابُ الله، وأحسنَ الهديِ هديُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ محدثةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعة ضلالةٌ، وكلَّ ضلالةٍ في النار.
* عباد الله، أيها المسلمون:
{هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا * إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [الإنسان: 1-2].
قضية الإنسان في القرآن قضية كبرى، الله – عز وجل – يلاحق حياة الإنسان قبل أن تحمل به أمه، وقبل أن يكون نطفة، وقبل أن تضعه أمه على الأرض، ناشئًا وصبيًا، ثم طفلاً، ثم شابًّا قويًّا، ثم رجلاً، ثم كهلاً، ثم ينتقل إلى الله.(/1)
{إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى} [الأعراف: 172] هذا هو الميثاق الغليظ أخذه الله على الناس وهم في أصلاب أبيهم آدم فدلَّهم على التوحيد. من هو ربكم؟ من هو إلهكم؟ من القادر الذي يخلقكم؟ من الذي يستحق العبادة؟ ثم تحملك أمك في بطنها تسعة أشهر فإذا الله – عز وجل – يرعاك ويحفظك، ويجري لك الطعام والشراب وأنت في بطن أمك، ثم إذا وضعتك أمك، أجرى لك في ثديها لبنًا دفيئًا في الشتاء، باردًا في الصيف، وألقى في فطرة أمك وأبيك حبًّا لك، فلا يناما حتى تنام، ولا يستريحا حتى تستريح.
وأول ما يولد الإنسان يكون باكيًا، ولم نسمع في تاريخ الإنسان أن ذكرًا أو أنثى ولد وهو ساكت إلا عيسى ابن مريم عليه السلام، فما بكى، أما نحن جميعًا فقد بكينا يوم أتت بنا أمهاتنا، قال بعض الفلاسفة: بكى الإنسان؛ لأنه خرج من السعة إلى الضيق، وقال آخر: بكى الإنسان من هول الابتلاء ومن عِظم المشقة التي سوف يجدها من الضيق والغمّ والهمّ والحزن: وقال آخر: بكى الإنسان؛ لأنه سوف يرى التكاليف أمام عينيه: {وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا} [النحل: 78] أبكم أصم أعمى لا يأكل ولا يشرب ولا ينطق فتولاه الله: {وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78].
وَلَدَتْكَ أُمُّكَ يَا ابْنَ آدَم بَاكِيًا وَالنَّاسُ حَوْلَكَ يَضْحَكُونَ سُرُورًا
فَاعْمَل لِنَفْسِكَ أَنْ تَكُونَ إِذَا بَكُوا فِي يَومِ مَوتِكَ ضَاحِكًا مَسْرُورًا(/2)
يقول عليه الصلاة والسلام في "الصحيح": ((كلُّ مولودٍ يولد على الفطرة))[1]، فطرة الله ما هي الفطرة؟ أيولد مغنيًا مطبلاً؟ أيولد ماجنًا ممثلاً؟ أيولد مسرحيًا معربدًا؟ أيولد كرويًّا لاهيًا؟ أيولد في يده الكأس في الليالي الحمراء؟ لا، إنما يولد على لا إله إلا الله، يقع رأسه وهو متجه بفطرته إلى الله: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم: 30]، ولكن من الذين بدلوا خلق الله وفطرة الله؟ إنهم العملاء، إنهم الخونة، إنهم أعداء الإسلام، بدلوا الإنسان من إنسان إلى كلب، ومن مؤمن تقيٍّ إلى خنزير، ومن عبد صالح إلى بهيمة {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان: 44]، {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا} [الأعراف: 179] كقلوب الحيوانات تمامًا يحفظون ويقرؤون ويدرسون كل شيء إلا الدين، ويفهمون كل شيء إلا الإسلام، ويعرفون كل شيء إلا القرآن والسُّنَّة، {وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: 179] ويقع الإنسان، ويتناوله الإسلام منذ اللحظة الأولى، فَيُسَنّ أن يؤذَّن في أذن المولود اليمنى كما أذن النبي صلى الله عليه وسلم في أذن الحسن أول ما أتت به فاطمة البتول الزهراء – رضي الله عنها – أذَّن عليه الصلاة والسلام في أذنه لماذا؟ لينشأ على التوحيد والإيمان، أخذ أذنه الضعيفة الرقيقة فاقترب منه عليه الصلاة والسلام، وقال: الله أكبر الله أكبر، حتى أكمل الأذان؛ ليقع الأذان في قلبه، لينشأ عبدًا مصليًا صائمًا عابدًا ذاكرًا خيِّرًا، لكن لما أتت التربية المعكوسة، وولد الابن على الموسيقى(/3)
الإيطالية، لا يعرف إلا المجلة الخليعة، والسهرة الماجنة، ينشأ ويشب وهو يحفظ من الأغنيات العشرات، ولا يحفظ من الآيات البيِّنات شيئًا؛ ولذلك يقول الله للإنسان: {يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} [الانفطار: 6].
من الذي خدعك بهذه الطغمة الفاجرة والجلساء السوء، الذين حرفوك عن منهج الله؟ من زين لك أن تحيد عن صراط الله المستقيم، وأن تتبع سبل المغضوب عليهم والضالين؟
{يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ} [الانفطار: 6-8].
لكنه يوم شب وقوي وكبر كاهله نسي القرآن، وأصبح معربدًا لا يعرف ربًّا ولا رسولاً ولا كتابًا.
أتى العاص بن وائل السهمي إلى رسول الله - عليه الصلاة والسلام - والعاصي هذا كما يدل عليه اسمه عاصٍ لله، فاجر رعديد، عدو للإسلام، ليله خمر، ونهاره سُكْر، عربدة وإلحاد وزندقة، وانحراف وعداوة أكيدة لـ: لا إله إلا الله، ولرسول الله صلى الله عليه وسلم، أتى بعظمٍ قديم، وجعله في يده وفتَّته وقال: يا محمد أتزعم أن ربك يعيد هذه العظم مرة ثانية؟ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام، أتى يقول للناس: إن هناك حسابًا، وإن هناك عقابًا، وإن هناك يومًا آخر، وإن هناك مصيرًا محتومًا نقف كلنا أمام الله فيه.
فقال: أتزعم أن ربَّك يعيد هذا العظم، ثم فتته الفاجر ونفخه في وجه الرسول عليه الصلاة والسلام.(/4)
قال عليه الصلاة والسلام: ((نعم؛ يبعث الله هذا؛ يميتك ثم يحييك ثم يدخلك نار جهنم))[2] وفي الجواب زيادة ((ويدخلك النار)) لأنه عدو لله، واسمع إلى رد الله على هذا المجرم: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً} [يس: 78]، ولم يسمه؛ لأنه تافه حقير، بعض الناس حقير ولو كان عظيمًا في عيون الناس، فكلُّ من انحرف عن منهج الله، فهو حقير ذليل صغير، {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس: 78-79] إنك أيها المجرم لو نظرت إلى خلقك وأنت نطفة، ثم نزلت ثم صرت طفلاً، ثم شابًّا، ثم كبرت، ثم أصبحت كهلاً، لأيقنت أن الله هو الخالق، هذه مراحل الإِنسان، ومن صور اعتناء الإسلام بالطفل منذ ولادته، أنه حثَّ على حسن اختيار اسمه حتى لا يصير الطفل أضحوكة بين أصحابه وزملائه، وكذلك فإنا نُدعى يوم القيامة بأسمائنا وأسماء آبائنا .. اسمٌ جميل، عبدالله، عبدالرحمن، أحمد، محمد، ليست الأسماء الدخيلة التي حولت أجيالنا إلى جيل رخيص لا يحترم نفسه ولا دينه ولا قيمه ولا تاريخه ولا ثقافته، جيل مهزوم مهزوز، إلا ما رحم ربك، ينشأ ويأكل ويشرب في بلادنا وأرضنا، ثم يحمل أشد العداوة للإِسلام والمسلمين، يحمل اسمًا غربيًّا، أتى اسمه من لندن وباريس ولم يأت من بلاد الإسلام من بلاد المصطفى عليه الصلاة والسلام:
من بلادي يُطْلَبُ الفَهْمُ ولا يُطْلَبُ العِلْمُ من الغربيِّ الغبيِّ
وبها مَهْبِطُ وحي الله بل أرسل الله بها خيرَ نبيِّ
ويصل الطفل إلى السابعة فيقول عليه الصلاة والسلام: ((مروا أبناءَكم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر وفرقوا بينهم في المضاجع))[3].(/5)
ويصل إلى الأربعين، فإذا الله – عزَّ وجلَّ – يقول: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ} [الأحقاف: 15]، الأربعون تمام العقل، وتمام القوة، وتمام الإِرادة والعزيمة، الأربعون رقيّ الفهم، ونضوج في الإِدراك والمعرفة.
يقول بعض العلماء: إذا بلغ ابنك الأربعين ولم يهتد فاغسل يديك منه؛ لأن الله يقول: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي} [الأحقاف: 15] لكن بعد أن يصل الأربعين ثم لا يهتد، ثم لا يتعرف على بيوت الله، ولم يسجد لله، ولم يكن عبدًا لله ولم يخلص لله، فاعلم أنه هالك إلا أن يتداركه الله عز وجل برحمته.
ويصل القرآن مع الإنسان فإذا شيبه قد أنذره، قال ابن عباس وهو يقرأ قوله سبحانه وتعالى: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ} [فاطر: 37] قال النذير هو الشيب. من شاب رأسه، أو شابت لحيته، ثم لم يكن له رادع ولم يكن له منذرٌ وواعظ، فاعلم أنه رجل مخذول أصابه خذلان. يقول الإمام أحمد إمام أهل السنة لما رأى الشيب في لحيته في المرآة: والله ما وصفت الشيب إلا كشيء كان في الشباب والله ما وصفت الشباب إلا كشيء كان في يدي ثم سقط.
يقول أبو العتاهية:
بَكَيْتُ على الشَّباب بدمع عيني فلم يُغْنِ البكاءُ ولا النَّحيبُ
ألا ليت الشَّباب يعود يومًا فأخبره بما فعل المَشِيبُ
أتدرون ماذا فعل المشيب؟ الآن الذين هم منا في السبعين والثمانين كَلَّت أبصارهم، وضعفت أسماعهم، واحدودبت ظهورهم، وملوا الحياة، لا نوم ولا هدوء ولا لذة للطعام، إلا من رحم الله – عزَّ وجلَّ.(/6)
{وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ} [يس: 68]، ومن نعمره في الحياة نعيده فيصبح عقله كعقل الطفل، وإدراكه كإدراك الطفل، وفهمه كفهم الطفل. يقول أحد الشعراء:
إذا الرجالُ وَلَدَتْ أوْلادُهَا وأَخَذَتْ أسْقَامُهَا تَعْتَادُها
وكَثُرَتْ من مَرَضٍ عُوَّادُها فهي زروعٌ قد دَنَا حَصَادُهَا
إذا الرجال وَلَدَتْ أولادُها: إذا أتى لأولادك أولاد وأصبحت جدًّا فانتظر الموت، وانتظر لقاء الله.
قال سفيان الثوري: "من بلغ الستين فليشتر كفنًا".
نام قيس بن عاصم عنده عشرة أبناء، وكان أغنى العرب، لكن كل شيء له دواء إلا الهرم، وكل شيء له علاج إلا كبر السن، كان عنده عشرة من الأبناء وهو سيد قبيلة بني تميم، وعنده من الذهب والفضة والإِبل والبقر والغنم ما الله به عليم، لكن ما كان ينام الليل كان عمره ثمانين، إذا أتى لينام أتاه السعال والزفرات والهم والغم فيقول له أبناؤه: أزعجتنا ما تركتنا ننام، فنظم قصيدة يقول:
قالوا أنِينُكَ طول الليل يُزْعِجُنَا فما الذي تشتكي قلتُ: الثَّمانينَ
أشتكي الثمانين، وأبكي من الثمانين سنة! لكن ما هو حسن الختام، وما هو التاج الذي يمكن أن يتوج به الإنسان في حياته؟ إنه العمل الصالح.
{وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام: 94]، ويأتي الإسلام فيقول للإنسان: إذا أتتك سكرات الموت فاحرص على أن تموت على لا إله إلا الله؛ يقول عليه الصلاة والسلام: ((من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة))[4]؛ حديث صحيح.(/7)
لكن كيف؟ لا يثبت على لا إله إلا الله إلا المؤمن، ولا يقولها في سكرات الموت إلا مؤمن. {يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم: 27].
ذكر الذهبي- المحدث الكبير - أن أبا زرعة المحدث – رحمه الله – حضرته سكرات الموت فأغمي عليه فأراد تلاميذه أن يذكِّروه بـ: لا إله إلا الله وهو مغمى عليه، ولكن استَحَيوْا أن يقولوا له قل: لا إله إلا الله؛ لأنه شيخ إمام المسلمين أبو زرعة قالوا: نتذكر سند حديث: لا إله إلا الله فإذا ذكّرناه السند سوف يتذكر المتن؛ لأنه محدث، ولكنهم هم من هول المصيبة وهول الكارثة نسوا السند فقال أحدهم: حدثنا فلان عن فلان ثم سكت، وقال الثاني: حدَّثنا فلان عن فلان عن فلان ثم انقطع، فقال أبو زرعة: حدَّثنا فلان عن فلان حتى أتم السند عن معاذ – رضي الله عنه – عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة))[5] ثم مات – رحمه الله.
وأما ابن القيم فيحكي عن العابثين الماجنين السفهاء المغنين وهم في سكرات الموت فيقول: "قيل لسفيه معربد وهو في سكرات الموت: قل لا إله إلا الله، قال: أين الطريق إلى حمام منجاب؟! قال فمات عليها"؛ لأنه عاش عليها ومن شب على شيء شاب عليه ومات عليه:
{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69].
وقيل لأحدهم وهو في سكرات الموت: قل لا إله إلا الله، فأخذ يردد ما كان يستمع إليه في الدنيا من الأغاني فيقول: هل رأى الحبُّ سكارى مثلنا!!
{يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم: 27].(/8)
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه؛ إنه هو التواب الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين، وقدوة الناس أجمعين، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
في بعض المقررات الدراسية كلمةٌ هي من الإلحاد، كلمة زندقة، والإسلام منها بريء، وهي تصادم العقيدة مصادمة كاملة، مطلقة عامة، وهي قولهم في عبارتهم التي يحفظونها ويدرسونها: ((المادة لا تُستحدث ولا تفنى))، ويشرحون عليها قانونًا في الكيمياء ويؤصلونه على هذا المبدأ، وهذه تعارض عقيدة أهل السنة؛ بل أهل الإسلام قاطبة بما فيهم المبتدعة - المادة لا تُستحدث ولا تفنى – ومعنى لا تستحدث أنها قديمة، وأنه لم يخلقها أحد – تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرًا - {أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف: 54]، {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96]، {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ} [القصص: 88]، {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 26-27].
ومقصودهم من هذا أن الإِنسان إذا مات فقد انتهى، قالوا: أرحام تدفع وأرض تبلع، وقالوا: إذا انتهى الإِنسان عفى عليه النسيان، ولكن الله يقول: لا، والقرآن يقول: لا، ومحمد عليه الصلاة والسلام يقول: لا.
{يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا} [طه: 102]، {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام: 94]، {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة: 18]، {قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا} [يس: 52].
إنها الحياة الآخرة، وإنها الحقيقة الكبرى التي ينكرها أهل الإِلحاد والزندقة.(/9)
* يقول سبحانه وهو يسأل الناس يوم القيامة، خاصة الغافلين: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ} [المؤمنون: 112] كم مكثتم، كم لكم من فترة، يا أهل الثمانين ويا أهل المئة.
بعض الصحف المحلية تلقي مقابلة مع بعض الناس قالوا: بلغ مئة وأربعين سنة، لكن تعال وابحث عن المحصول من مئة وأربعين سنة، لا شيء، يسألونه ماذا يفطر في الصباح، وما هي وجبة الغذاء، وماذا يجيد من العرضات الشعبية، والمسامرات والقصائد النبطية، ولكن لا آية، ولا حديث، ولا نافلة، ولا صيام، ولا ذكر، ولا قيام ليل، ولا صلة رحم، كل هذه ما تعرض في الأسئلة، ولا يسألونه ما هو أثره على مجتمعه وأسرته، أو على نفسه، ولا يسألونه ما هي آماله عن اليوم الآخر وما هي تطلعاته، إنما هي هذه الأسئلة.
فيقول لسان الحال: ليت هذا العمر الطويل لشيخ الإسلام ابن تيمية أو للإمام أحمد، {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْض عَدَدَ سِنِينَ} [المؤمنون: 112] والله يدري والله يعلم كم لبثوا.(/10)
{قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلْ الْعَادِّينَ} [المؤمنون: 113]، يقولون لبثنا يومًا واحدًا في الحياة فأدركهم الورع وخافوا أن يكذبوا، فقالوا: بعض يوم، نصف يوم، ليس يومًا كاملاً {فَاسْأَلْ الْعَادِّينَ} [المؤمنون: 113] يقولون لله: اسأل الملائكة والكتبة، نحن لا ندري. قال الغزالي: من دهش الموقف ما دروا كم لبثوا، لا إله إلا الله إذا بلغ بك الحال يوم القيامة أنك لا تعرف عمرك فيا له من يوم ما أشده وما أهوله، فقال سبحانه: {قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلا قَلِيلاً لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون: 114]، والإنسان جحود يقول عليه الصلاة والسلام: ((نسي آدم فنسيت ذريته وجحد آدم فجحدت ذريته))[6] والسبب أن آدم عليه السلام نَثَر الله ذريته أمامه كُلنا نُثِرنا أمام آدم كصورة الذرّ، فرأى داود ابنه، عليه السلام وهو يزهو أمام هذا الذر، قال: يا ربي مَنْ هذا؟ قال ابنك داود قال: كم عمره؟ قال: ستون سنة، قال: يا رب زده من عمري أربعين سنة، فزاده الله.
{يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد: 39]، فلما حضرت آدم الوفاة عجل الله وفاته قبل أربعين قال: يا ربي، بقي من عمري أربعون سنة، قال: أولم تعطها ابنك داود؟ فقال صلى الله عليه وسلم: ((فجحد آدم فجحدت ذريته، ونسي آدم فنسيت ذريته، وخطئ آدم فخطئت ذريته))[7].
{قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلا قَلِيلاً لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون: 114-116].
ولكن أمام نسيان الإنسان وجحود الإنسان يخرج الله له كتابًا منذ أتت به أمه إلى أن يموت.(/11)
{اقْرَأْ كَتَابَكَ} [الإسراء: 14]، ولا يقرؤه غيره، الأمي والمتعلم، والجامعي والتاجر، والفلاح وراعي الغنم، كلهم يقرؤون.
{اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء: 14]، فيقرأ الإنسان يوم كذا فعلت كذا وكذا، ويوم كذا قلت كذا وكذا، فيطوي الإنسان كتابه، ويقول: {يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: 49].
* أيها الناس:
من هذه الخطبة نأخذ دروسًا:
أولها: إن الإسلام معك وأنت في بطن أمك حتى تدخل الجنة أو تدخل النار والعياذ بالله من النار.
الأمر الثاني: أنك لست متروكًا هملاً ولا سدىً؛ بل معك وحي من الله، لا تسير خطوة، ولا تنام، ولا تستيقظ، ولا تأكل، ولا تشرب، ولا تتحدَّث، إلا والوحي معك.
{قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 162].
الأمر الثالث: أن الذي لا يضبط حركاته وسكناته مهتديًا بالوحي فهو سفيه؛ لأنه أعرض عن الرسالة الخالدة، والتمس العز في غير هدي محمد صلى الله عليه وسلم قال تعالى: {وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [البقرة: 130-132].
الأمر الرابع: أننا لسنا في حاجة لأي مبدأ، أو أي قانون أو أي رسالة أو أطروحة غير رسالة محمد عليه الصلاة والسلام.
فيا أيها المسلمون:(/12)
فلنعد إلى القرآن والسنة، ولنستهد بهدي الله الذي أرسل به محمدًا عليه الصلاة والسلام، فإن كل قلب ملعون إلا قلب أشرقت عليه شمس الرسالة، وكل أرض مغضوب عليها إلا أرض هيمن عليها هذا الدين، ومن اعتقد أنه سوف يهتدي بهدي غير هدي الله الذي أرسل به محمدًا عليه الصلاة والسلام، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.
أيها الناس صلوا وسلموا على رسول الهداية وعلى معلم البشرية، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
عباد الله:
{إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56].
---
[1] أخرجه البخاري (2/104) كتاب الجنائز، باب (93)، ومسلم (4/2047) كتاب القدر رقم (22، 23).
[2] أخرجه الحاكم في ((المستدرك)) (2/429) وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
[3] أخرجه أبو داود (1/133) كتاب الصلاة، رقم (495)، وأحمد (2/180، 187) وحسنه الألباني – رحمه الله – كما في ((صحيح الجامع)) رقم (5868).
[4] أخرجه أبو داود (3/190) كتاب الجنائز رقم (3116) والحاكم (1/351) وقال: صحيح الإِسناد ووافقه الذهبي، قال الألباني: وهو كما قالا، ورجاله كلهم ثقات غير صالح بن أبي عريب، وقد روى عنه جماعة من الثقات ووثقه ابن حبان وقال ابن منده: هو مصري مشهور. انظر تعليقه على المشكاة (1/509).
[5] أخرجه أبو داود وصححه الألباني كما في صحيح الجامع رقم (6479). وهو الحديث السابق نفسه فانظر تخريجه.
[6] أخرجه الترمذي (5/249) كتاب التفسير، رقم (3076)، وقال: حسن صحيح، وأحمد (1/299، 371).
[7] انظر: تخريج الحديث السابق.(/13)
العنوان: الإنسان والمال، رأي في تجارة الأسهم
رقم المقالة: 190
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
الحمد لله ؛ يعطي ويمنع ، ويبسط ويقبض ، ويرفع ويخفض ، لا راد لأمره ، ولا معقب لحكمه ، وهو على كل شيء قدير، نحمده على ما أعطى ، ونشكره على ما أولى ( وما بكم من نعمة فمن الله ) وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ؛ له الحكم والتدبير في خلقه ، وله الحكمة البالغة في قضائه وقدره، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ؛ عرض عليه ربه الدنيا فرضي بالكفاف ، وخيَّره بين النبوة مع الملك ، وبين العبودية مع النبوة ؛ فاختار أن يكون عبدا رسولا ، على أن يكون ملكا رسولا ، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ؛ آمنوا به ، وهاجروا معه ، وقاتلوا دونه ، وبذلوا في الإسلام كل ما يملكون؛ إرضاء لربهم ، وتصديقا لإيمانهم ، ونصرة لدينهم ، فمنهم من قضى ولم ينل من الدنيا شيئا ، ومنهم من أدرك شيئا من حظها ، فخاف أن تكون طيباته قد عجلت له، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد : فأوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله عز وجل في العسر واليسر ، والرخاء والشدة ؛ ففي التقوى تفريج لكرب الدنيا الآخرة ( ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه ).
أيها الناس: خلق الله تعالى الأرض وما عليها ، وأفاض على العباد من أرزاق السماء وبركات الأرض ما يكون عونا لهم في حياتهم الدنيا ، وأمرهم بعبادته وحده لا شريك له.( هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ) ( وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه ).(/1)
والمال هو من جملة ما سخره الله تعالى للبشر ، وبه يتبايعون ويتعاملون ، وبه يُقَدِّرون قيمة ما يتبادلون ، والمال شهوة من الشهوات ، وقد رُكِّب في بني آدم محبة الشهوات ( زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ) وفي الآية الأخرى ( وتحبون المال حبا جما ) وهو من زينة الدنيا التي يحب البشر نماءها وزيادتها ، ولا يشبعون منها مهما كانت كثرتها ( المال والبنون زينة الحياة الدنيا ) وروى ابن عباس رضي الله عنهما فقال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول:( لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى ثالثا ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب ) رواه الشيخان
وليس إمداد الله تعالى عبده بالمال دليل رضى ومحبة ، بل قد يكون ابتلاء أو استدراجا أو عذابا ؛ كما قال سبحانه في حق الكافرين ( أيحسبون أن ما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون ) وقال سبحانه في حق أبي لهب ( ما أغنى عنه ماله وما كسب ) وفي المنافقين ( ولا تعجبك أموالهم وأولادهم إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون ).
وكثير من الناس يظنون أن من رضى الله تعالى إغداق النعم على العباد ، وأن من عدم الرضى قلة المال ؛ ولذا جاء في القرآن الزجر عن هذا الفهم الخاطئ ( فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن ، وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن، كلا ) أي ليس الأمر كما تظنون.
ولما تفاخر أغنياء الكفار بكثرة أموالهم وأولادهم على فقراء المؤمنين ( وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين ) كان الجواب عليهم ( وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحا ) ولذلك يقال لهم يوم القيامة ( ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون).(/2)
إذا تقررت هذه الأصول العظيمة عند المؤمن ، وفهمها حق الفهم ، وأيقن أن المال مال الله تعالى ، يقسمه بين عباده كيف شاء ؛ فإنه لا يجزع لفوات شيء منه ، ولا تتطلع نفسه إلى ما ليس له ، ويرضى بما قدر عليه فيه.
ومجالات تنمية الأموال في هذا العصر قد تنوعت ، وتعددت وسائلها ، وقذفت النظم الرأسمالية بمئات الصور في إدارة الاقتصاد وتنمية الأموال ، تنتظم في سلك الحرية المطلقة من أية قيود دينية أو أخلاقية تحول بين الرأسماليين وبين الأرباح الكبيرة ؛ فاتسعت دائرة الربا والغش والنجش والغرر والاحتكار ، وصار الأقوياء أكثر قدرة على اصطياد الضعفاء وإغرائهم ، ثم سحقهم وإنهائهم . ويكفي تصريحٌ أو تلميحٌ أو إشارةٌ من أحد كبار المرابين ليحدث على أثره ارتباك كبير في أسواق المال والأعمال ، يأتي على السواد الأعظم من الناس
وسوق الأسهم هي من الأسواق الحديثة التي أفرزها النظام الرأسمالي ، وأقبل على الاتجار بها كثير من الناس ؛ فتقلّبوا في أرباحها وخسارتها ، وذاقوا حلاوتها كما طعموا مرارتها ، وجربوا فيها الثراء السريع ، كما جربوا الخسارة الكبيرة ، وكثرت فيها أقوال الفقهاء والمفتين ؛ فأحلها قوم وحرمها آخرون ، وتوقف فيها قوم وفصل القول فيها آخرون وكثير من معاملتها يخالطها شيء من الربا أو الاحتكار أو النجش ، ومن يدخل سوقها من عامة الناس يدخلونها على غرر وعدم علم ، إِنْ هُم إلا مقلدون لغيرهم ، متبعون للأثرياء منهم.
وما الأسهم إلا من البلاء الرأسمالي الذي أغرق العالم كله بأنواع المعاملات المحرمة والمختلَطة والمتشابهة التي تحار فيها العقول ، ويختلف فيها المجتهدون(/3)
ومهما كثر الاختلاف حولها ، وقال الناس فيها ما قالوا ؛ فإن مما لا خلاف فيه أن من تورع عنها استبرأ لدينه ، ولم يخاطر بماله.ومن تاجر فيها بفتوى عالم معتبر فلا ينكر عليه في ذلك، ولكن عليه الحذر من الفتنة بها ؛ إذ هي باب من فتنة المال عظيم ، ومجال من مجالات الكسب والخسارة سريع ، يصبح صاحبها على حال ، ويمسي على حال أخرى ، فإن ربح فرح وشكر ، وإن خسر سخط وضجر ، لا يرحم سوقها في ضعيف ضعفه ، ولا يمهله حتى ينظر في أمره ، من دخلها فماله ليس له حتى يخرجه منها رابحا أو خاسرا ، فإن خرج رابحا لا يلبث فرحه إلا قليلا فترتفع مرة أخرى فيحزن لفوات الربح الجديد ، وإن خسر تربص لعلها تعود كما كانت ، فتزداد خسارة إلى خسارتها حتى لا يجد من يشتريها منه ، فلا تمتع بأرباحها لما ربحت ، ولا سلم من خسارتها إذ خسرت ، كأن الواحد في سوقها يمد حبلا مطاطا يزداد طوله مع استمراره في شدِّه ، وهو يعلم أنه منقطع لا محالة لكنه لا يدري متى ينقطع ، فلا سلم له حبله ، ولا توقف هو عن مَدِّه!! وليس للواحد فيها أمد يعلم أنه ينتهي إليه ، بل تغريه وتغريه حتى يتملكه الطمع ، ويستبد به الجشع ، فيصبح رقيقها ، تملكه ولو كان هو مالكها ، ومن أَسَرَته فلا هنئ بنوم، ولا التذَّ بطعام ، فهو منشغل البال ، دائم التفكير ، مضيع الحقوق، وكم من صلاة ضيعت لأجلها! وكم من حقوق للأهل والعيال أهدرت في سبيلها! وفي طريقها الطويل تهلك أنفس قبل أن تبلغ غايتها منها ، ومن كانت هذه حاله معها فسلامته منها خير لنفسه ودينه وأهله.
ومن أبى إلا اقتحامها فعليه أن يستعين بالله تعالى عليها ، ويستخيره فيها ، ويتحرى أقربها إلى الحلال ، وأكثرها سلامة من الإثم ، ولو كان ربحها أقل من غيرها ، فقليل الحلال خير من كثير الحرام.(/4)
وعليه ألا يخاطر بماله كله فيها ، فضلا عن أن يحمل نفسه ما لا تطيق بقرض أو رهن أو نحوه ، ومن الطمع المذموم أن يرهن شيئا تتعلق منافعه بغيره ، كداره التي يسكنها أهله وولده فإنه إن خسر شُرِّدُوا منها ، وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد نهى أن يوصي الرجل بشطر ماله في أعمال البر؛ خشية أن يضيع الورثة بعد موته ، فكيف بمن يعمل على إضاعتهم وهو حي فيجني عليهم بسبب طمعه وجشعه؟!
ولا يجوز له أن يتاجر فيما فيه مخاطرة بأموال لا يملكها وهو وصي عليها ، كأموال اليتامى والأرامل والقاصرين ونحوهم ، وسلامته من أموال غيره مهما كانوا قريبين منه خير له من أن يخاطر بها ، فإنْ ربحوا عزوا الربح إلى السوق ، وإن خسروا نسبوا الخسارة إليه ، ولا سيما إذا شارطهم على بعض أرباحها.وكم من ضغائن وقعت ، وقرابة قطعت بسبب ذلك! والناس في أغلبهم محبون ما دام يربحون ، فإن خسروا أموالهم تأثروا وأبغضوا.
فإن سلم من ذلك كله ، وتاجر ببعض ماله فيها ، فلا يجعلها أكبر همه ، ولا يصرف عليها جُلَّ وقته ، بل يعطيها ما تستحق من الوقت والجهد والمتابعة بلا إفراط ولا تفريط ، محافظا على الحقوق التي عليه لربه ولنفسه ووالديه وأسرته وقرابته ، مُوطِّنا نفسه على الربح والخسارة ؛ فلا الربح يستخفه ، ولا الخسارة تجزعه ، وعليه ألا يصغي إلى الشائعات ، أو يكون مصدرا من مصادرها ، أو يسعى في بثها ونشرها.(/5)
ومن رأى من نفسه ضعفا شديدا تجاه المال ، وأحس أن المال بدأ يتسرب من يده إلى قلبه ، وعلامة ذلك: إضاعة الحقوق والواجبات لصالح الأسهم والشاشات ، فعليه أن ينجو بنفسه قبل أن يَرِّقَّ دينه ، أو تعتل صحته . ورقة دينه تسهل عليه تجاوز الحلال إلى الحرام ، بتسويغات يقنع بها نفسه ، وتأويلات يلتف بها على أحكام دينه. ومن استحوذ المال على قلبه اعتلت صحته بسبب اضطراب أسواق الأسهم والمال ، فكل خسارة توجد فيه علة ، وكل ربح يحدث فيه خفة ؛ حتى يفقد نشاطه وصحته ، ولربما فقدته أسرته في قارعة من قارعات الأسهم.فلا استمتع بماله ، ولا سلم من تبعته وإثمه . وكل امرئ أبصرُ بنفسه ، وأدرى بكوامن قلبه ، ومن بَلى نفسه واختبرها ، وأيقن بضعفها أمام المال ، وتبين له أنها نزاعة إلى الطمع ، ولا تتحمل الصدمات الفجائية في سوق الأسهم ، ولاسيما من كان مريضا بأمراض مزمنة تتأثر بالهمِّ والحزن فحرام عليه ثم حرام أن يهلك نفسه ويوبقها من أجل المال ، وليسلك من التجارة مسلكا آخر ؛ فذلك أتقى لربه ، وأنقى لدينه ، وأحفظ لنفسه.والغنى غنى النفس ، والفقر فقرها ؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:( ليس الغنى عن كثرة العرض ولكن الغنى غنى النفس ) رواه البخاري
أسأل الله تعالى أن يغنينا بحلاله عن حرامه ، وبطاعته عن معصيته ، وبفضله عمن سواه ، وأن يجعل غنانا في قلوبنا، إنه سميع مجيب.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم ،فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا وأنفقوا خيرا لأنفسكم ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون) بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
الخطبة الثانية(/6)
الحمد لله ؛ الخلقُ خلقُه ، والملك ملكه ، وإليه يرجع الأمر كله ، نعمه على عباده تترا ، وخيره وإحسانه إليهم لا يعد ولا يحصى ؛ أحمده حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ويرضى ، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه ، واشكروه ولا تكفروه ؛ فكم من نعمة أنزلها ! وكم من نقمة دفعها ! وكم من ضراء كشفها ! لا تضيق بالعبد حال إلا أعقبه الله تعالى بعدها فرجا، وأوجد له منها مخرجا ( فإن مع العسر يسرا، إن مع العسر يسرا ).
أيها الناس : المال عزيز على النفوس ، يرتفع بزيادته أقوام ، ويسفل بخسارته آخرون ، وهو سبب الجاه ، كما أن الجاه سببه ؛ ولذا كان فقده شديد الوطأة على النفس ، ولكن العاقل من يتمالك نفسه ، ويقلل آثار خسارته ، فإن خسر ماله فلا يخسر دينه بجزعه ، ولا يخسر أجره على مصابه بقلة صبره ، بل الواجب عليه أن يصبر ويحتسب ، وأن يوطن نفسه على الصبر عند الصدمة الأولى ، كما أمر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم.
فإن قابل مصيبته على خسارته بالرضى عن الله تعالى ، فذلك أعلى المنازل ، وأشرف المقامات ، روى أبو عمرو الكندي فقال:( أغارت الروم على جواميس لبشير الطبري نحوا من أربع مئة جاموس فركبت معه أنا وابن له ، فلقينا عبيده الذين كانت معهم الجواميس معهم عصيهم ، فقالوا: يا مولانا ذهبت الجواميس ، فقال: وأنتم أيضا اذهبوا معها فأنتم أحرار لوجه الله تعالى ، فقال له ابنه: يا أبت أفقرتنا! قال: اسكت إن ربي اختبرني فأردت أن أزيده )
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن ما يصيب المؤمن خير له في كل الأحوال فقال عليه الصلاة والسلام:( عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له )رواه مسلم(/7)
وعليه ألا يعَلِّق قلبه بالمخلوقين من خبراء السوق والمال ، ومديري البنوك والشركات ، بل يهرع إلى الله تعالى بالدعاء والاسترجاع ، ويسأله التثبيت والتعويض ؛ كما روت أم سلمة رضي الله عنها فقالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمره الله تعالى : إنا لله وإنا إليه راجعون ، اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيرا منها إلا أخلف الله تعالى له خيرا منها)رواه مسلم
وعليه أن يحذر أشد الحذر من قوادح التوحيد كالجزع والتسخط ، وكثرة اللوم وفتح باب ( لو ) فيقول : لو أطعت فلانا فبعت ، أو لو عصيت فلانا فلم أبع لكان كذا وكذا، وحينئذ يفتح على نفسه عمل الشيطان . وليوقن أن كل ذلك بقضاء الله تعالى وقدره ، ولا يدري ما الخير له ، فقد يطلب الربح وهو شر له ، وقد يكون في خسارته حفظ دينه أو نفسه وهو لا يدري ، فيسخط على ربه وهو يحفظه ، روى قتادة ابن النعمان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :(إذا أحب الله عبدا حماه الدنيا كما يظل أحدكم يحمي سقيمه الماء ) رواه الترمذي وصححه ابن حبان والحاكم.
وعليه أن يحمد الله تعالى أنَّ مصيبته كانت في ماله أو في جزء منه ، ولم تكن في دينه أو نفسه أو ولده ، ولو قُدِّر على ولده مرض لا يعافى منه إلا ببذل ماله كله وزيادة ، لبذل ماله واقترض ، أفإنْ سلَّم الله تعالى ولده ، وقدَّر عليه مصيبته في ماله جزع وتسخط ، وقد كان يبذله لعافية ولده؟!
ثم لينظر إلى حاله قبل أن يملك ما ملك ، من الذي رزقه وأعطاه ووفقه وقد كان لا يملك من قبل شيئا؟! فلا يخدع نفسه ويخدعه شيطانه بأنه ورثه كابرا عن كابر ، أو أعطيه على علم عنده ؛ ففي الناس من هم أمكن منه عملا ، وأكثر سعيا ، وأوفر عقلا ، ولكن الله تعالى أعطاه وحرمهم ، أفإنْ أخذ الله تعالى بعض ما أعطاه ، وأبقى له من النعم ما لا يعد ولا يحصى يغضب ولا يرضى؟!(/8)
وعليه أن يحذر من أن ينفس عن غضبه فيمن لا حول له ولا قوة، ولا ذنب له في خسارته ، من والد وولد ، وزوجة ورعية. فضعاف الرجال من لا يثبتون في الأزمات ، ولا يواجهون المشاكلات ، فلربما عقَّ الواحد منهم والده ووالدته، أو طلق زوجته ، أو آذى ولده ، أو عاقب من هم تحت إدارته ، بسبب خسارته ، وهذا ظلم عظيم ، وعقوق كبير ، فما ذنب هؤلاء في تصرفاته السيئة ، ومخاطرته بأمواله؟!
وليعلم أن العوض من الله تعالى فليطلبه منه ، ورزق الله تعالى يطلب بطاعته ، واجتناب معصيته . فإن تبدلت حاله ، وعادت خسارته أرباحا فليتذكر حاله من قبل ، ويقارنها مع حاله بعد عافيته من خسارته ؛ ليعرف قدر نعمة الله تعالى عليه ، فينسب الفضل إليه ، لا لأحد من خلقه مهما علت منزلته ؛ فإن الأمر لله تعالى من قبل ومن بعد ، وعسى أن يكون ما مضى من خسارته موعظة له حتى لا يأخذه العجب والبطر ، وكفران النعمة ، ومن أبواب الشكر: الإكثار من الصدقة ؛ فإنها تنمي المال وتباركه ، وما نقصت صدقة من مال ، بل تزده بل تزده. وصلوا وسلموا على نبيكم....(/9)
العنوان: الإنصات الجيد.. المهارة المنسية
رقم المقالة: 890
صاحب المقالة: د. ياسر بكار
-----------------------------------------
هل تذكر تلك اللحظات؟ حين كان كلَّ ما تتمناه أن تجد شخصاً يستمع إليك؟.. ينصت لشكواك، أو حجتك في موقف ما؟ وربما حاولت أن تجد أي مستمع ولم تفلح؟!..
ينشغل كثير من الناس هذه الأيام بحثاً عن مهارات لكسب الآخرين والتأثير عليهم، ويتعلمون في سبيل ذلك تقنيات معقدة، ولكن، كثيراً ما تفوتهم واحدة من أكثر المهارات أهمية وسهولة، يمكن للجميع ممارستها في أي زمان أو مكان؛ إنها مهارة الإنصات الجيد!
إننا - للأسف - نعيش في عالم أناني؛ يهتم كل فرد فيه بما يخصه؛ دون أن يلتفت إلى حاجات من حوله، أو يتعاطف معهم! إن أفضل ما تهديه إلى صديق متألم، أو أخ قَلِقٍ: أن تستمع إليه بتعاطف وتفهم وصبر.
لقد كانت هذه المهارة المميزة من مزايا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ روي في الأثر: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان لا يأخذ أحدٌ بيده الشريفة، فينزع يدَه؛ حتى يكون الرجلُ هو الذي يرسلُه، ولم تكن تُرى ركبتُه خارجة عن ركبة جليسه، ولم يكن أحد يكلمه إلا أقبل عليه بوجهه، ثم لم يصرفه عنه حتى يفرغ من كلامه). بأبي أنت وأمي يا رسول الله!
يقرر العرب أن الإنصات أعلى درجةً من الاستماع؛ ذلك أن الإنصات يعني الاستماع بصمت، أي: بصرف كل الحواس وتفريغها للاستماع إلى المتحدث. وعلى كلٍ سنستخدم كلا المصطلحين - في هذا المقال - لنفس الغرض.
الاستماع الجيد هو بداية التواصل الفعّال الناجح مع الآخرين، والمدهش أن الذين يتقنون هذه المهارة قلائلُ جداً، وعندما تتقن هذه المهارة؛ ستجد من حب الناس لك، واستمتاعهم بالجلوس معك؛ ما يمنحك ثقةً كبيرة بنفسك.
فما رأيك أن نتشارك معاً في الأفكار التالية، من أجل تنمية مهارة الإنصات البارع؟!(/1)
أولاً: الإنصات الجيد؛ وهو الاستماع، مع القدرة على قراءة ما خلف الكلمات، وفهمِ موقفِ المتحدث، ولغةِ الجسمِ التي يُبْديها، وتَقَمُّصِ اللهجةِ العاطفية التي ترسمها كلماتُه. أي؛ كما يصفه البعض: أن تضع نفسك في "حذائه"! وترى العالم بعينيه! بعيداً عن قيمك ورؤيتك أنت، ودون إطلاق أحكام عليه.
تخيل أن شخصاً ذكر أمامك وفاة أمه.. وتحدث عنها، وعن فضائلها، وفاضت عيناه من الحزن في بكاء حار.. المستمع العادي يُقدِّر الحزنَ الذي يعيشه هذا الشخص، أما المستمع البارع فيفهم الحزن البالغ الذي يعيشه المتحدثُ، ويقدر مدى الحب الذي يكنه المتحدث لأمه وكم يفتقدها. لعل هذا المثال يوضح الفرق بين الاستماع إلى الكلمات ظاهرياً، والاستماع لما تحمله من معانٍ عاطفية.
ثانياً: استمع إلى ما يقوله محدِّثُك، بدل مجرد السماع إليه، هناك عدد من الأشياء التي يمكن أن تستمع إليها، مثل قيم المتحدث، ومشاعره.. أقبل عليه ببصرك، وسمعك، وكامل جسدك.
- حدد ما الذي كان المتحدث يتحدث عنه؟ هل هو حقائقُ؟ أم انطباعات؟ أم مشاعر شخصية؟ ابذُل اهتماماً أكبر لأولئك الذين يُظهِرُون مشاعرَهم وأحاسيسهم في حديثهم إليك.
ثالثاً: لا تقاطع الآخرين، أو تكمل كلامهم! إن الناس يشعرون بالضيق ممن لا يستمع إلى حديثهم.
رابعاً: تفاعل مع مشاعر المتحدث قبل تطمينه بالحقائق؛ وهذا كثيراً ما يحدث مع الأباء الذين يتسرعون الاستجابة لمخاوف ابنهم حين يقول مثلاً: "هناك شيء مخيف تحت السرير!"، حيث يقولون: "لا تخف!! ليس هناك ما يخيف، أنت في أمان!". بينما قليل منهم من يبدي تعاطفاً مع مشاعره: "لا بد أنك قضيت ليلة مرعبة!".
خامساً: الاستماع بصمت قد يكون هو كل ما يحتاجه المتحدث إليك. أشعره أنك تتفهم مشاعره، بلغة الجسم، وأنت صامت، مثل: تعابير الوجه، والإيماء بالرأس. لا تقل: إنني أتفهم مشاعرك.. قاوم رغبتك في المشاركة بالحديث، والكلام لمجرد الكلام، قال أحدهم:(/2)
"يمكنك أن تبيع الثلج إلى سكان (الإسكيمو)؛ إذا أصخت إليهم بسمعك، وفهمت ما يريدون أن يقولوه!"
سادساً: ادعم استماعك بأصوات قليلة، مثل التأوه، أو تلك التي تدل على الاستغراب. هذا يضفي على استماعك نكهةً خاصة.
سابعاً: ركز على ما يقوله المتحدث، بدل أن تُزَوِّرَ الإجابة عما قاله. ركز على المتحدث نفسه، تماماً كما ينصح مدربو لعبة كرة "التنس": (ركز على الكرة)! في الواقع هذا سيضفي على مهارة الاستماع عندك صفة العفوية المحببة.
ثامناً: استمع ضعف ما تتحدث به. تذكر المقولة القديمة: "إننا نمتلك لساناً وأذنين!" لذا أعط الفرصة لمن يجالسك للحديث. تذكر أن كل شخص لديه ما يستحق أن تستمع إليه، وما قد يثري عقلك وتفكيرك.
تاسعاً: استثر جليسك لكي يتحدث عن نفسه، وما يهمه. وجه له أسئلة مفتوحة: "كيف يمكن أن نفعل ذلك؟"، "ما رأيك بـ..؟"، "ما تقول في هذه المسألة؟"
يحب الناس من يقدر مشاعرهم؛ "ماذا لو..؟"، "بم تنصح لفعل ذلك..؟"
يحب الناس أن يُطلب منهم النصيحة؛ "ما الطريقة التي تفضلها أنت لفعل..؟" لاحظ لهجة الاحترام والتقدير.
واحذر أن تلقي أسئلة تضعهم في موقف دفاعي: "لماذا..؟"
لو استطعت فعل ذلك فستمتلك أداة رائعة لكسب قلوب الناس.
وتذكر دوماً: أن كونك مستمعاً بارعاً يُكسِبُك من الأصدقاء وحبِّ الآخرين ما لا تكسبه وأنت متحدثٌ بارعٌ.
- عندما تجيب من يحدثُك في شأن مهم؛ اقتصد في الإجابة؛ لأن الإجابة المطنَبة تُفقِدُ المتحدثَ صبرَه، وتشعره أن الحديث خرج عما يهمه هو.
- تذكر أن حضور قلبك واستماعك لمحدثك أهم وأبلغ من إجابتك له. والاحترام ومحاولة فهم عالم الشخص الآخر أهم من الرد العبقري.(/3)
عاشراً: يوصيك الكتّاب باتباع طريقة جميلة؛ فينصحونك بالتدرب على أخذ نَفَس عندما ينهي المتحدث كلامه، قبل أن تشرع أنت في كلامك. بهذه الطريقة سوف تعطي المتحدث الفرصة الكاملة حتى ينتهي من حديثه، وستبتعد عن مقاطعته، وهذا يدل على احترامك إياه، وسيقربك إليه.
أخيراً: (احذر من الاستماع الانتقائي).. أي أن تسمع ما تريد سماعه أنت! أو ما تتوقع أن يقوله المتحدث!! لذا استمع بتأنٍ لما يريد الآخرُ أن يوصله إليك.
لو استطعنا تجنب هذه المحاذير؛ فسنتجنبُ الكثيرَ من الخلافات التي تحدث بين الأقران والأزواج؛ بسبب سوء فهم ما لم يسمعوه أصلاً!
هذه لمحات سريعة، ستساعدك - بإذن الله تعالى - في تطوير هذه المهارة السهلة، التي ستعطيك نتائج باهرة، في تحسين علاقاتك بالناس، وزيادة احترامهم وتقديرهم لك. ابدأ اليوم باستخدامها، وستدهشك النتائج!!(/4)
العنوان: الانضباط .. أساس التحكم في النفس
رقم المقالة: 2004
صاحب المقالة: د. إبراهيم الفقي
-----------------------------------------
الانضباط ..
أساس التحكم في النفس
"متى تفتح عقل الإنسان بفكرة جديدة فلن يعود أبدًا إلى آفاقه الأصلية".
أوليفييه وينديل هولمس
يعتبر دكتور سيونج يوانج باركر رئيس مجلس إدارة شركة كيونو، ومؤسس شركة طيران أسيانا واحدًا من أكثر الأشخاص الناجحين في كوريا، وقد بدأ والده الطريق؛ كسائق لإحدى سيارات الأجرة، وقرَّر أن يتوسَّع فقام بشراء السيارة التي يعمل عليها، ثم قام بشراء سيارة أخرى. وعندما بدأ في تنفيذ أحلامه لتوسّعات أكبر، وبناء ثروة ضخمة، قامت الحكومة بمصادرة كل ما يملكه، وكان ذلك أثناء الحرب الكورية، ثُمَّ توفّي الرجل بعد ذلك بفترة قصيرة، ورأى دكتور باركر ما حدث لوالده فقرَّر أن يشتري سيَّارة، ويقوم هو نفسه بالعمل عليها كسائق.(/1)
ثم قام بشراء سيَّارة ثانية، وخصَّصها لأحد أفراد العائلة للعمل عليها، وظلَّ على هذا المِنْوَال في استِثْمار أرباحه إلى أن كوَّن إمبراطورية اقتصادية، ثُمَّ قرَّر أن يبدأ في مغامرة جديدة فاشترى سيارة أتوبيس حتى يمكنه مساعدة عدد أكبر من الناس بطريقة أسرع، وازدهر عمله حتى قام ببناء إمبراطورية أخرى من خلال قافلة الأتوبيسات التي يَمْلكها، وظلَّ ينتقل ويتقدَّمُ مِنْ نَجاح إلى نجاحٍ أكبر؛ حتى توسَّع بِدُخوله إلى مجال الطيران، وكوَّن شركة أسيانا إير لينز، وتكبَّد في البداية خسائِرَ ضَخْمةً، ونصحه النَّاس بأن يتركَ هذا المجال؛ خشية أن يَخْسَرَ كُلَّ شيء، ولكنَّهُ تَجاهَلَ هذه النَّصائح واستمرَّ في مشروعه، وبعد عقباتٍ وَنكساتٍ كثيرةٍ، وخسارات ماليَّة ضخْمة، حَوّل الوضع، وأصبحت شركة أسيانا من الشركات الرابحة التي تدر عائدًا يتعدَّى الـ 20 مليون دولار سنويًّا. وفي مقابلة مع محطة الأخبار التليفزيونية الشهيرة "سي إن إن" سُئِلَ باركر عن سِرّ نجاحه فكان رده "الأمانة والانضباط، فقد عودت نفسي على الانضباط لأحصل على ما أريد، وأن أخصّص وقتًا للعمل، ووقتًا للعائِلة، ووقتًا لصِحَّتِي، وأنا أستمتع جدًّا بعملي، وأهدف في كل ما أفعله إلى الامتياز".
هذا مثالٌ لرجل بدأ من لا شيء، وأصبح من كبار الأثرياء؛ بسبب تكريس حياته للوصول إلى أهدافه، وأيضًا بسبب أمانته وانضباطه.(/2)
حدث مرَّةً أن طلب أحد الأشخاص مساعدتي حتَّى يتمكن من إنقاص وزنه، وقال إن حياته أصبحت غاية في الارتباك بعدما زاد وزنه إلى تلك الدرجة، وقد جَرّب كل الطرق المطروحة للتخسيس ولكن بدون فائدة، وعندما سألته عما يحتاجه للوصول إلى الوزن المثالي كان رده "أنا لا أعرف وهذا هو السبب لأني موجود هنا الآن"، فسألته: "إذا كان جسمك رشيقًا فما الذي تفعله حتَّى تحافظ على هذه الرشاقة؟"، فقال: "في هذه الحالة كنت أمارس التمارين الرياضية ثلاثَ مرَّات أسبوعيًّا على الأقلّ، بالإضافة إلى تناول الطعام الصحي، ومصاحبة الأشخاص الأصحَّاء؛ وربما كنت ألتقي مع الأشخاص ذوي اللياقة العالية؛ حتى أقوم بعمل ما يقومون به"، وكان السؤال الطبيعي من ناحيتي هو "ولماذا لا تقوم بعمل ذلك؟"، ولكنَّه لم يقم بالرد، هذا الرَّجُل عنده خطة استراتيجية ممتازة لتقليل وزنه، وفي إمكانه أن يكون رشيقًا، ويكون شعوره بالتالي أفضل مما كان عليه، وتكون حياته أسعد؛ ولكنه لم ينفذ هذه الخطة، ولذلك حضر عندي حتى أوجهه إلى خطة سحرية!!(/3)
وإذا قمنا بتحليل موقف هذا الشخص، نجد أنه لم تكن تنقصه أي إمكانيات، فلم يكن المال عقبة في تحقيق حلمه؛ بدليل أنه أنْفَقَ الكثير على الأدوية، والطرق المطروحة في السوق في ذلك الوقت، بالإضافة إلى أنه كان لديه الوقت الكافي لتنفيذ خطته، فما الذي كان ينقصه بالتحديد؟ الرد على ذلك هو أنَّه لم يكن لديه الانضباط، الذي يجعله يتصرَّفُ التصرُّف السليم لتحقيق هدفه؛ لذلك كان تركيزي في خُطْوَات علاجِه على الانضباط، وساعدته على تنفيذ خطته الاستراتيجية وتحقيقها في خطوات صغيرة، اعتمدت أساسًا على الاستمرارية في التنفيذ والانضباط، وساعدتُه على تنميه صورته الذاتية الإيجابية، مما أوصله في النهاية إلى تحقيق هدفه، وقد نجح في إنقاص وزنه بأكثر من 80 رطلاً، ويمارس التمارين الرياضية بانتظام مرتين على الأقل في الأسبوع، وأصبحت حياته أكثر سعادة عما كانت عليه.
في إحدى محاضراتي عن سيادة الذات، قلت للمشتركين: إنهم كانوا منضبطين طوال حياتهم، فسألني البعض باندهاش: "وكيف توصَّلت إلى ذلك؟!"، فسألت أحدهم: "هل أنت مدخن؟"، قال: "نعم"، فسألته: "منذ متى؟ وكم سيجارة تدخنها في اليوم؟، فقال: "أدخن منذ عشر سنوات، وأستهلك علبة في اليوم"، فقلت: "ألم أقل لك إنك منضبط، فإنك تدخن علبة سجائر يوميًّا بانتظام لمدة عشر سنوات"، ثم سألت شخصًا آخر: "هل تشاهد التليفزيون بانتظام؟"، فقال: "نعم كل يوم تقريبًا"، فسألته: "منذ متى وأنت تداوم على ذلك؟"، فقال: "من حوالي 12 سنة"، نستخلص من ذلك أنَّه شخص منضبط لمشاهدة التليفزيون.(/4)
هذانِ المثالان يوضّحان مدى الالتزام، فالأوَّل ملتزم بأن يقضي على نفسه، والثاني ملتزم بأن يُضَيّع وقته!! فنَحْنُ دائمًا منْضَبِطُون؛ ولكنَّ الكثيرين يَستخدمون الانضباط في تكوين عادات سلبيَّة مثل: التدخين؛ والأكل بشراهة؛ وإدمان الخمور والمخدرات، ومشاهدة التليفزيون بكثرة، وعدم ممارسة الرياضة؛ بينما نجدُ الأشخاص الناجحين يستعملون قوة الانضباط الشخصي في تحسين مستوى حياتِهم؛ ليعيشوا حياةً أسعد؛ ولتحسين دخولهم، والارتفاع بمستوى صحتهم، والحياة بطريقة متكاملة، فبدونِ الانْضِبَاط لن يكون لَدَيْنَا أيُّ طاقة لتحقيق أي هدف.
وبالانضباط الذَّاتِيّ سيمكنك المداومة على التمرينات الرياضية، والمحافظة بالتالي على اللياقة البدنيَّة، وستتحكَّم في عواطفك تحت أي ظروف، وبالانضباط يمكنك الاستيقاظ مُبَكّرًا، والابتعاد عن العادات السيئة؛ كالتدخين؛ أو شرب الخمر؛ أو الشراهة في الأكل؛ حتى لو كانت تلك العادات السيئة تتملك منك منذ زمنٍ طويل، وسيساعدك الانضباط الذاتي على تغيير البرمجة التي تحدّ من تصرفاتك إلى البرمجة الإيجابية، التي تساعدك على توجيه طاقاتك تجاه النجاح، هذه هي قوة الانضباط الذاتي.
من السهل طبعًا أن تقوم بإضاعة الوقت في الأشياء غير المجدية، أو ألا تقوم بعمل أي شيء بالمرة، ورُبَّما يكون من الأسهل على الشخص أن يداوم على التدخين بدلاً من الانتظام في التمارين الرياضية، فالعادات السيئة تعطيك المتعة؛ ولكن لمدى قصير؛ بينما هي نفسها التي تعطيك الألم والمعاناة على المدى الطويل.(/5)
في إحدى المرَّات قابلت سيدة في العشرينات من عمرها في أحد النوادي الرياضية، وكانت في لياقة بدنية ممتازة، وكانتْ عندما تقوم بتأدية التمارين الرياضية تؤديها بجدية، وكأن ذلك هو أهم شيء في حياتها، فسألتها عن الوقت الذي يلزمنا حتى نكون في لياقة بدنية عالية؛ كتلك التي هي عليها؟، فردَّت بابتسامة وقالت: "لتكون على مثل هذا المستوى من اللياقة، وحتى تحافظ على ذلك يلزمك العمر كله"، وأضافتْ: إنَّها عندما كانت تبلغ من العمر ست سنوات كانت مجالاً لسخرية زميلاتها في المدرسة؛ حيث إنها كانت بدينة جدًّا، ثم قررت أن تضع حدًّا لهذا الألم الذي كانت تشعر به، ومنذ تلك اللحظة داومت على مزاولة التمرينات الرياضية لمدة ساعة يوميًّا على الأقل، وأنهت حديثَها معي بأن قالت: "أنا عندي جسم واحد، وحياة واحدة، أعيشها فإذا لم أهتمَّ بنفسي فمن الذي سيهتم بي".
هذه السيدة الشابَّة اكتشفتْ أسرارَ النَّجاح، وبسبب اجتهادِها وتكريس وقْتِها للتَّمرينات الرياضيَّة، وبسبب انضباطِها الذَّاتِيّ كانت تتمتَّع بذلك الجسم الرشيق، والحياة الصحيَّة السليمة، وجعلتِ العادات الحسنة جزءًا من حياتِها بدلاً من العادات السيئة.
هل تعرف أحدًا من الأشخاص قرَّر أن يُمارس التمرينات الرياضية، واشترك فعلاً في النوادي المتخَصّصة في ذلك، ثم ذهب مرَّة أو مرَّتين، ثم توقف عن مداومة الذهاب إلى النوادي؟
هل تعرف بعض الأشخاص الذين أبدَوْا رغبة في تعلم إحدى اللغات الجديدة، وقاموا بتسجيل أنفسهم، ودفع الرسوم المطلوبة للدَّورة الدراسية، وقاموا بشراء الكتب، وانتظموا في الحضور في الأسابيع الأولى، ثم بدؤُوا في التسيُّب، وعدم الالتزام، والكسل عن الحضور بانتظام، وأخيرًا قاموا بترك الدراسة بأكملها؟ كم منَّا قام بشراء الكتب التي لم يقْرَأْها ولو مرة؟ كم منا قام بشراء شرائط تسجيلية ولم يقم بسماعها على الإطلاق؟(/6)
شيء جميل أن يكون عندك الرغبة في النجاح وتحسين حياتك، وأيضًا من الواجب أن تتصرف وتلتزم وتكون مرنًا، ولكن إذا لم يكن عندك الانضباط أن تقوم بالمداومة على ذلك يوميًّا، وبنفس الحماس، فإنك قطعًا ستفشل. ففي رياضة الكاراتيه مثلاً قابلت كثيرًا من الأشخاص الذين يقومون بتسجيل أنفسهم بهدف الانتظام في التدريب؛ للوصول إلى درجة عالية من الصحة، وبلوغ القدرة على حماية أنفسهم، فيبدؤون في التدريبات، ويتعلمون الخطوات والحركات الأولية البسيطة، ثم يتركون الدورة التدريبية كلها، والقليلون منهم فقط هم الذين يكملون المشوار، ويحصلون على الحزام الأسود، والسبب في ذلك الانضباط الذاتي من عدمه.
وقال جورج برنارد شو: "اهتمّ بأن تحصل على ما تحبه، وإلا ستكون مجبرًا على أن تحب ما تحصل عليه".
لو بحثْتَ في القاموس عن كلمة الانضباط الذاتي، فستجد أنها تعني التحكم في الذات، فالانضباط الذاتي هو الصفة الوحيدة التي تجعل الشخص العادي يقوم بعمل أشياء فوق العادة، وهو الاستمرار في التصرف، وهو القوة التي تصل بك إلى حياة أفضل. قال دكتور روبرت شولر: "لا تجعل أبدًا أي مشكلة تصبح عذرًا، كن منضبطًا لكي تحل المشكلة".
كنت في مرَّة أقوم بإلقاء محاضرة عن البرمجة اللغوية العصبية في هاواي، وأثناء إقامتي هناك كنت أزاول رياضة الجري في الصباح، ولفت نظري أنَّ إحدى السيدات كانت تقوم بالتمرين على الجري، وهي تدفع أمامها عربةً صغيرة خاصَّة بالأطفال، فكونها أمًّا ترعى طفلاً صغيرًا لم يمنعها ذلك من ممارسة الرياضة.(/7)
عندما كان الأمريكيّ رون سكانلان طفلاً صغيرًا كان مولعًا بالرياضة، وفي عام 1956 أصيب في حادث سيارة، وقام الأطبَّاء بإنقاذ حياته بمعجزة؛ ولكنه أصيب بالشلل التام من الوسط حتى قدميه، وكان في البداية يكرَهُ كرسي المعوَّقين الذي يجلس عليه، وظلَّ يلعن حظَّه السيّئَ، واستمرَّ على هذه الحالة؛ ولكنَّه توقَّف عن هذا الإحساس بعد فترة، وقال في نفسه: "لو أنَّ هذا هو الوضع الذي سأبقَى عليه بقية عمري، فمن المفروض أن أتمتع بحياتي على ما هي عليه لأقصى درجة ممكنة"، ثُمَّ حاول الاشتراك في عِدَّة نوادٍ لِمُمارسة رياضة الكاراتيه؛ ولكنَّه رُفِضَ بسبب حالته الجسمانية، وأخيرًا وافق بيل ليسلي مدرب "الكونغ فو" على أن يقوم بتدريبه، وكان رون دائمًا أوَّل من يحضر إلى التدريب، وآخر من يغادر الصالة، وداوم على التدريبات وتقدم في هذه اللعبة؛ حتى حصل على الحزام الأسود، وكان قويًّا جدًّا، ويستعمل يديه والكرسي الخاص به لِهزيمة أي منافس، وعِندما بلغ عمره 37 سنة، وصل لأعلى المستويات وأصبح هو نفسه معلِّمًا، وعنده مدرسته الخاصة لتعليم الكونغ فو التي تستوعب حوالي 200 شخصٍ، وفي مقابلة تليفزيونيَّة سئل رون عن الطريقة التي استطاع بها أن يتغلب على نقطة الضعف عنده، فقال: "عندما يكون عندك هدف، وتركز كل طاقتك من أجل بلوغ هذا الهدف، وتضع كل إمكانياتك موضع التنفيذ، وتكون مُنضبطًا، فلا بد أن تنجح وتحقق هذا الهدف".
قال الكاتب الأمريكي جيم رون: "إذا كان هناك عامل ضروريٌّ للسعي الناجح في سبيل السعادة والرخاء، فهذا العامل هو الانضباط الذاتي، فهو الذي يحتوي على مفاتيح أحلامك، وهو الجسر الذي يربِطُ بين أفكارك وإنجازاتك، وهو أساس كل نجاح، وعدم وجوده يقودك إلى الفشل". وقال هانيبال: "إذا لم نجد طريق النجاح فعلينا أن نبتكره".(/8)
فالانضباط الذاتي هو المفتاح الذي بواسطته ستصل إلى طريق النجاح، وهو الذي يساعدك على تغيير العادات والأفكار السلبية، وتَنْمِية الأفعال والأفكار الإيجابية؛ لتحل محلها. والانضباط الذاتي هو الذي سيجعلُك دائمًا متحمّسًا من بداية الطريق إلى نهايته، فابتداءً من اليوم ابدأْ في بِناء عَضَلاتِ انْضِباطِكَ الذَّاتِي؛ لأنها هي العضلات الوحيدة التي من الممكن أن تساعدك على أن تتصرف باستمرار، وتضمن لك أعلى مستوى من النجاح، وابتداءً من اليوم اجعل الانضباط الذاتي هو إحدى عاداتك، واسمح لنفسك أن تصبح قويًّا، وحرّر نفسك من أي عادات سلبية، وداوم على المثابرة في الانضباط الذاتي الإيجابي.
وقد قال المليونير تشارلز جيفينس: "المثابرة تقضي على المقاومة".
والآن إليك هذه الوصفة للوصول إلى الانضباط:
1 – دوّن عشرة أشياء تريد أن تقوم بعملها؛ ولكنك لا تداوم على ذلك.
2 – قم بترتيبهم حسب الأولوية.
3 – قم بقراءة هذه الأشياء بصوت مرتفع مع إضافة عبارة: "أنا أستطيع"، فمثلاً إذا كان في أول القائمة: "أنظم مكتبي يوميًّا"، اقرأها على أنها: "أنا أستطيع أن أنظم مكتبي يوميًّا"، أو إذا كان في أول القائمة: "أقوم بعمل تمارين رياضية يوميًّا"، اقرأها على أنها: "أنا أستطيع عمل تمارين رياضية يوميًّا".
4 – الآن أغمض عينيك وتخيل نفسك وأنت تحقق هدفك، ثم افتح عينيك.
5 – قم بعمل الواجبات المفروضة عليك الآن، ولا تقم بعمل أي شيء آخر حتى تؤدي هذه الواجبات، قم بعمل ذلك الآن.
6 – عندما تحدد أي موعد يجب عليك الالتزام بهذا الوقت، ولا تتأخر حتى ولو لدقيقة واحدة.
ابدأ بالتدريج في بناء عضلة الانضباط الذاتي، وستجد نفسك مُتَّجهًا لحياة مليئة بالسعادة والصحة والنجاح، وقد قال أحد المعلمين: "إذا أردت أن تكون طبيبًا فقم بدراسة الطب، وإذا أردت أن تكون مهندسًا فقم بدراسة الهندسة، وإذا أردت أن تكون ناجحًا فقم بدراسة النجاح".(/9)
النجاح بين يديك، أنت تملك القوة لكي تكون، أو تعمل، أو تمتلك كل ما تتمناه.
انظر للماضي على أنه كنزٌ من الخبرات، استعملها بحكمة، وانظر إلى المستقبل على أنه الأمل في السعادة حيثُ إنَّ "ما الأمس إلا حلم، وما الغد إلا رؤية؛ ولكنَّ اليوم الذي تعيشه كما يجب يجعل الأمس حلمًا من السعادة، والغد رؤية من الأمل".
وتذكَّر دائمًا:
عِش كل لحظة كأنها آخر لحظة في حياتكَ، عِش بالإيمان، عِش بالأمل، عِش بالحب، عِش بالكفاح، وقدر قيمة الحياة.(/10)
العنوان: الإنكار في مسائل الخلاف
رقم المقالة: 441
صاحب المقالة: د. عبدالله بن عبدالمحسن الطريقي
-----------------------------------------
الحمد لله الذي جعل الدين شرعةً ومنهاجاً، وأصلي وأسلم على محمد وآله وصحبه، وبعد:
فإن الخلاف أمر حتمي في حياة الأمة، إما لاختلاف الملل والنحل أو لاختلاف الأُسس التي تُستنبط في ضوئها الأحكام، أو لتفاوت المدارك العلمية في استظهار الحق ومعرفته.
لذا هل كل خلاف معتبر من الناحية الشرعية؟ وهل يستوجب الإنكار على القائل به؟.
ولإيضاح ذلك قمت بإعداد هذه الدراسة التي أسميتها ((الإنكار في مسائل الخلاف))، وهي تتكون من مقدمة وبابين:
أما المقدمة: ففي أن الخلاف أمر طبيعي في حياة المسلمين وبيان الحكمة من خفاء الحكم.
أما الباب الأول: ففي حقيقة الخلاف، وفيه خمسة فصول:
الفصل الأول: في معنى الخلاف.
الفصل الثاني: في الفرق بين الخلاف والمخالفة.
الفصل الثالث: في أسباب الخلاف وبعض الأمثلة لذلك.
الفصل الرابع: في كلام الأئمة في ترك قولهم اتباعاً للحق.
الفصل الخامس: مخالفة التلاميذ لأئمتهم اتباعاً للحق.
أما الباب الثاني: ففي حكم الإنكار في المسائل الخلافية، وفيه ستة فصول:
الفصل الأول: في الإنكار على أهل الأهواء والبدع، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: في الإنكار على أهل البدع.
المطلب الثاني: في الإنكار على من يخالف لهوىً في نفسه أو إرضاء لغيره.
الفصل الثاني: في الإنكار على من يأخذ بالقول المرجوح أو الضعيف.
الفصل الثالث: في الإنكار على من يأخذ بأخف القولين.
الفصل الرابع: في الإنكار على المجتهدين أو على مقلديهم في الفروع، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: في الإنكار على من اجتهد أو قلد وخالف نصاً أو إجماعاً أو قاعدة شرعية.
المطلب الثاني: في الإنكار على من اجتهد أو قلد وأخذ بقول لم يخالف به دليلاً أو قاعدة شرعية.(/1)
الفصل الخامس: في موقف المحتسب من حمل الناس على وجه من أوجه الخلاف وفيه مطلبان:
المطلب الأول: في حمل المحتسب الناس على وجه ضعيف وإلزام الناس به.
المطلب الثاني: في موقف المحتسب من حمل الناس على وجه مشتهر من أوجه الخلاف.
الفصل السادس: في النتائج المترتبة على مخالفة المنهج الصحيح في الإنكار.
مقدمة في أن الخلاف أمر طبيعي في حياة المسلمين وبيان الحكمة من خفاء الحكم:
الخلاف بين العلماء ظاهرة طبيعية اقتضتها دلالة الأدلة الشرعية؛ لأن أكثر النصوص ظنية في دلالتها، أو في ثبوت بعضها، أو في عدم اعتبار دلالة البعض الآخر منها، أو لخفاء الدليل على بعض العلماء دون البعض الآخر.
والخلاف فيه مجال للإبداع في معرفة كيفية استنباط الأحكام الشرعية، وفيه تدريب على مواجهة ما يجدّ من مشكلات الحياة المختلفة، أو ما يتغير من أحكام بُنِيَت على عُرف أو مصلحة شرعية، فكلما تغير العُرف أو انتفت المصلحة، أو جدَّت مصلحة شرعية أخرى مغايرة للمصلحة الأولى استلزم تغيير الحكم تبعاً لذلك.
والعلماء يتفاوتون بتقدير تلك المصالح، ومدى إدراكهم للحاجة المقتضية لذلك مما لا يخالف نصاً أو إجماعاً أو قاعدة شرعية.
والاختلاف الناشئ عن الاستنباط الشرعي جاءت نتائجه رحمة بالأمة وتوسعة عليها، وإلا لما أقره صلى الله عليه وسلم للجيش الذي ذهب لبني قريظة، والخلاف وجد في الأحكام الشرعية. مع أن الحق تبارك وتعالى قد وعد بحفظ هذا الدين ولا مخلف لوعده سبحانه.
قال المناوي: "اختلافهم توسعة على الناس بجعل المذاهب كشرائع متعددة، بعث النبي صلى الله عليه وسلم بكلها لئلا تضيق بهم الأمور؛ من إضافة الحق الذي فرضه الله تعالى على المجتهدين دون غيرهم، ولم يكلفوا ما لا طاقة لهم به توسعة في شريعتهم السمحة، فاختلاف المذاهب نعمة كبيرة، وفضيلة جسيمة، خُصَّتْ بها هذه الأمة"[1].(/2)
والتوسعة ليست على المجتهد عند استنباطه للحكم ؛ لأنه مكلف باتباع الحق لا التيسير على نفسه.
وما ورد من النهي عن الاختلاف بقوله تعالى: "وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ"[2]، وقوله تعالى: "وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا"[3].
فالمفسرون ذكروا أن الخلاف المنهي عنه هو الاختلاف على الرسل، فلو خالف إمام رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن قوله مردود عليه.
قال الذهبي: "وبين الأئمة اختلاف كبير في الفروع وبعض الأصول، وللقليل منهم غلطات وزلقات، ومفردات منكرة، وإنما أُمرنا باتباع أكثرهم صواباً، ونجزم بأن غرضهم ليس إلا اتباع الكتاب والسنة، وكل ما خالفوا فيه لقياس أو تأويل. وإذا رأيت فقيهاً خالف حديثاً أو رد حديثاً أو حرَّف معناه فلا تبادر لتغليطه، فقد قال علي لمن قال له: أتظن أن طلحة والزبير كانا على باطل؟ يا هذا: إنه ملبوس عليك، إن الحق لا يُعرف بالرجال، اعرف الحق تعرف أهله.
وما زال الاختلاف بين الأئمة واقعاً في الفروع وبعض الأصول مع اتفاق الكل على تعظيم البارئ جل جلاله، وأنه ليس كمثله شيء، وأن ما شرعه رسوله حق، وأن كتابهم واحد، ونبيهم واحد، وقبلتهم واحدة، وإنما وضعت المناظرة لكشف الحق، وإفادة العالم الأذكى لمن دونه وتنبيه الأغفل الأضعف"[4].
عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر"[5].
يقول الشافعي: "وقد حكم الحاكمان في أمر واحد برد وقبول، وهذا اختلاف ولكن كل قد فعل ما عليه"[6].
قال القرطبي: "وأما حكم مسائل الاجتهاد فإن الاختلاف فيها بسبب استخراج الفرائض ودقائق معاني الشرع، وما زال الصحابة يختلفون في أحكام الحوادث وهم مع ذلك متآلفون"[7].(/3)
وقال أحمد بن حفص السعدي – شيخ ابن عدي –: "سمعت أحمد بن حنبل يقول: لم يعبر الجسر إلى خراسان مثل إسحاق بن راهويه، وإن كان يخالفنا في أشياء، فإن الناس لم يزل يخالف بعضهم بعضاً"[8].
وكان أبو حنيفة رضي الله عنه يكثر من قول: "اللهم من ضاق بنا صدره فإن قلوبنا قد اتسعت له، ويقول: من جاء بأحسن من قولنا فهو أولى بالصواب"[9].
فالإمام أحمد وأبو حنيفة وغيرهم لم تضق صدورهم بمعارضة مخالفيهم أو جعل ذلك سبباً في التقليل من شأنهم، بل أشادوا بهم واتسعت صدورهم لخلافهم، لحُسن مقاصدهم ومقاصد من خالفهم.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية عن مشروعية التكبير والتهليل: "فشرع تكريره كما شرع تكرير تكبير الأذان وهو في كل مرة مشفوع وكل المأثور حسن. ومن الناس من يثلثه أول مرة ويشفعه ثاني مرة وطائفة من الناس تعمل بهذا.
وقاعدتنا في هذا الباب أصح القواعد، أن جميع صفات العبادات من الأقوال والأفعال إذا كانت مأثورة أثراً يصح التمسك به لم يكره شيء من ذلك، بل يُشرع ذلك كله كما قلنا في أنواع صلاة الخوف، وفي نوعي الأذان الترجيع وتركه، ونوعي الإقامة شفعها وإفرادها، وكما قلنا في أنواع التشهدات، وأنواع الاستفتاحات، وأنواع الاستعاذات، وأنواع القراءات، وأنواع تكبيرات العيد الزوائد... قال: وإنما يكون هذا تارة، وهذا تارة"[10].
الحكمة من خفاء الحكم:(/4)
قال الله تعالى: "لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ"[11] فما يوجد في الأسواق من الطعام والثياب قد يكون في نفس الأمر مغصوباً، فإذا لم يعلم الإنسان بذلك كان كله حلالاً لا إثم عليه فيه بحال، بخلاف ما إذا علم، فخفاء العلم بما يوجب الشدة قد يكون رحمة، كما أن خفاء العلم بما يوجب الرخصة قد يكون عقوبة، كما أن رفع الشك قد يكون رحمة وقد يكون عقوبة، والرخصة رحمة، وقد يكون مكروه النفس أنفع كما في الجهاد. قال تعالى: "وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌ لَكُمْ"[12] )[13].
ومن ثم فإن في استنباط الحكم الخفي وفي استظهاره فوائد عظيمة منها: أن صلاحية أحكام الشريعة لكل زمان ومكان، وشمول أحكامها لما يستجد من متطلبات المسائل الحادثة حق، وأن المستنبط للأحكام هم حملة هذا العلم من العلماء وفق ضوابط معينة حددت لهم في عصور الإسلام المفضلة.
الباب الأول في حقيقة الخلاف
وفيه خمسة فصول:
الفصل الأول: في معنى الخلاف:
الخلاف: المضادة، وقد خالفه مخالفةً وخلافاً، وفي المثل: إنما أنت خلاف الضبع الراكب، أي تخالف خلاف الضبع؛ لأن الضبع إذا رأت الراكب هربت منه.
ويقال: خلف فلان بعقبى إذا فارقه على أمر فصنع شيئاً آخر[14].
وتخالف القوم واختلفوا إذا ذهب كل واحد إلى خلاف ما ذهب إليه الآخر وهو ضد الاتفاق[15].
(والاختلاف والمخالفة: أن يأخذ كل واحد طريقاً غير طريق الآخر في حاله أو قوله.
والخلاف أعم من الضد؛ لأن كل ضدين مختلفان وليس كل مختلفين ضدين.
ولما كان الاختلاف بين الناس في القول قد يقتضي التنازع استعير ذلك للمنازعة والمجادلة، قال تعالى: "فَاخْتَلَفَ الأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ"[16] )[17].
قال المناوي: "الاختلاف: افتعال من الخلف وهو ما يقع من افتراق بعد اجتماع في أمر من الأمور"[18].
الفصل الثاني: في الفرق بين الخلاف والمخالفة:(/5)
(أصل المادة واحد وهو خلف. والخلاف كما سبق المضادة والتخاليف الألوان المختلفة. وخالفه إلى الشيء: عصاه إليه أو قصده بعد ما نهاه عنه.
قال تعالى: "وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ" )[19].
إذن هما كلمتان تستعمل كل منهما في محل الأخرى، غير أن المتتبع يجد أن كلمة خالف تستعمل في حالة العصيان الواقع عن قصد كمن يخالف الأوامر، قال تعالى: "فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ"[20]، ولم يقل سبحانه يختلفون في أمره، أما كلمة اختلف فتكون في حالة المغايرة في الفهم الواقع من تفاوت وجهات النظر، وعليه قوله تعالى: "وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ"[21]، ولم يقل سبحانه خالفوا فيه.
ومنه قوله تعالى: "فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ"[22]، فجعله عز وجل اختلافاً لا مخالفة.
وقوله تعالى: "وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلأُِبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ"[23]، ولم يقل سبحانه تخالفون فيه.
وابن نوح عليه السلام خالف نوحاً لما قال له فيما يحكيه تعالى عنه إذ قال لابنه: "يابُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلاَ تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42) قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ"[24]، فكان مخالفاً.
أما سليمان وداود عليهما السلام في قضية الحرث، فكان ما بينهما اختلافاً وليس مخالفة، قال تعالى: "فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا"[25].
ومن نتيجة هذا الفرق بين الخلاف والمخالفة نجزم بما لا يدع مجالاً للشك بأن الأئمة في مناهجهم العلمية وأساليب عرضهم لن يخالفوا نصاً من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم اقتداء منهم بسيرة الخلفاء الراشدين والصحابة أجمعين.(/6)
وهم بهذا لم يختلفوا ليخالف بعضهم بعضاً، أو يخطِّئ بعضهم بعضاً، إنما اختلفوا في سبيل الوصول إلى الحق وتحقيق مقاصد الشرع بما يتوصلون إليه من فهم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وخاصة في مواطن الاحتمال ومسائل الاجتهاد والاستدلال[26].
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "وليعلم أنه ليس لأحد من الأئمة المقبولين عند الأمة – قبولاً عاماً – يتعمد مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء من سنته، دقيق أو جليل، فإنهم متفقون اتفاقاً يقيناً على وجوب اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم"[27].
الفصل الثالث: أسباب الخلاف وبعض الأمثلة لذلك:
أوضحنا آنفاً ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية بأن الأئمة المقبولين عند الأمة لا يمكن لهم مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء من سننه، ولكن إذا وجد لواحد منهم قول قد جاء حديث صحيح بخلافه فلابد له من عُذر في تركه.
وذكر رحمه الله أن الأعذار ثلاثة أصناف:
أحدها: عدم اعتقاده أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله.
الثاني: عدم اعتقاده إيراد تلك المسألة بذلك القول.
الثالث: اعتقاده أن ذلك الحكم منسوخ.
وفرّع رحمه الله هذه الأسباب إلى أسباب عدة:
السبب الأول: أن لا يكون الحديث قد بلغه، ومن لم يبلغه الحديث لم يكلف أن يكون عالماً بموجبه، بل اكتفى بظاهر آية أو حديث آخر أو بموجب قياس، أو موجب استصحاب.
ومن الأمثلة على ذلك خفاء الحكم على أبي بكر في ميراث الجدة[28]، وعلى عمر رضي الله عنه في سُنة الاستئذان[29]، وخفاء الحكم إذا نزل الطاعون ببلد[30].(/7)
ولا يقولن قائل: الأحاديث قد دونت وجُمعت، فخفاؤها والحال هذه بعيد؛ لأن هذه الدواوين المشهورة في السنن إنما جُمعت بعد انقراض الأئمة المتبوعين، ومع هذا فلا يجوز أن يدَّعى انحصار حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في دواوين معينة، ثم لو فُرض انحصار حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فليس كل ما في الكتب يعلمه العالم، ولا يكاد ذلك يحصل لأحد، بل قد يكون عند الرجل الدواوين الكثيرة وهو لا يحيط بما فيها، بل الذين كانوا قبل جمع هذه الدواوين أعلم بالسنة من المتأخرين بكثير؛ لأن كثيراً مما بلغهم وصح عندهم قد لا يبلغنا إلا عن مجهول، أو بإسناد منقطع، أو لا يبلغنا بالكلية، فكانت دواوينهم صدورهم التي تحوي أضعاف ما في الدواوين، وهذا أمر لايشك فيه من علم القضية.
السبب الثاني: أن يكون الحديث قد بلغه لكنه لم يثبت عنده؛ إما لأن محدثه أو محدث محدثه أو غيره من رجال الإسناد مجهولون عنده، أو متهمون أو سيئوا الحفظ، وإما لأنه لم يبلغه مسنداً بل منقطعاً.
وقد يروى عند غيره بإسناد ثقات متصل مع معرفة المجهول عنده، أو قد يكون رواه غير أولئك المجروحين عنده، وقد يكون لفظ الحديث غير مضبوط عنده وعند غيره مضبوطاً.
والخلاصة: أن الأحاديث قد تبلغ كثيراً من العلماء من طرق ضعيفة وقد بلغت غيرهم من طرق صحيحة غير تلك الطرق فتكون حجة من هذا الوجه.
السبب الثالث: اعتقاد ضعف الحديث باجتهاد قد خالفه فيه غيره مع قطع النظر عن طريق آخر، سواء كان الصواب معه أو مع غيره أو معهما عند من يقول: كل مجتهد مصيب؛ وذلك لما يلي:
1 - أن يعتقد أحدهما ضعف المحدث والآخر يوثقه؛ لأن معرفة الرجال علم واسع، ثم إنه قد يكون الصواب مع من يعتقد ضعفه، لاطلاعه على سبب جارح، وقد يكون الصواب مع الآخر لمعرفة أن ذلك السبب غير جارح، وهذا النوع بابه واسع ورد فيه الاختلاف بين العلماء مثل سائر العلوم.(/8)
2 - أن لا يعتقد أن المحدث سمع الحديث ممن حدث عنه وغيره يعتقد أنه سمعه.
3 - أن يكون للمحدث حالان: حال استقامة، وحال اضطراب، مثل أن يختلط أو تحترق كتبه فأحاديثه في الحال الأولى صحيحة وفي الحال الثانية ضعيفة، فلا يدرى ذلك الحديث من أي النوعين؟ وقد علم غيره أنه مما حدث به في حال الاستقامة.
4 - أن يكون المحدث قد نسي ذلك الحديث فلم يذكره فيما بعد، أو أنكر أن يكون حدَّثه، معتقداً أن هذا علة توجب ترك الحديث، ويرى غيره أن هذا مما يصح الاستدلال به.
5 - أن كثيراً من الحجازيين يرون عدم الاحتجاج بحديث أي عراقي أو شامي إن لم يكن له أصل بالحجاز ؛ لأن أهل الحجاز ضبطوا السنة فلم يشذ عنهم منها شيء، وأن أحاديث العراقيين قد وقع فيها اضطراب أوجب التوقف فيها.
السبب الرابع: اشتراطه في خبر الواحد العدل الحافظ شروطاً يخالفه فيها غيره، مثل اشتراط بعضهم عرض الحديث على الكتاب والسنة، واشترط بعضهم أن يكون المحدث فقيهاً إذا خالف في الحكم قواعد القياس، واشترط بعضهم انتشار الحديث وظهوره إذا كان فيما تعم به البلوى.
السبب الخامس: أن يكون الحديث قد بلغه وثبت عنده لكن نسيه، وهذا يرد في الكتاب والسنة، ومثل هذا ما فعله عمر حينما أمر الناس بتحديد المهور فردت عليه امرأة بقوله تعالى: "وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا"[31] فرجع عمر إلى قولها، لنسيانه للآية[32].
السبب السادس: عدم معرفته بدلالة الحديث: إما لكون اللفظ الذي في الحديث غريباً عنده مثل لفظ: إغلاق في حديث عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا طلاق ولا عتاق في إغلاق"[33] )[34].
فعلماء الغريب فسروه: بالإكراه، وقيل: الجنون، وقيل: الغضب، وقيل: التضييق.
فبعض العلماء قال: لايصح طلاق المكره. وقال بعضهم: بوقوعه، والاختلاف في ذلك لاحتمال اللفظ أكثر من معنى[35].(/9)
وإما لكون معناه في لغته وعرفه غير معناه في لغة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يحمله على ما يفهمه في لغته، بناء على أن الأصل بقاء اللغة.
ولقد سمع بعضهم آثاراً في الرخصة في النبيذ[36]، فظنوه بعض أنواع المسكر؛ لأنه لغتهم، وإنما هو ما ينبذ لتحلية الماء قبل أن يشتد، فإنه جاء مفسراً في أحاديث كثيرة صحيحة[37].
وإما لكون اللفظ مشتركاً أو مجملاً أو متردداً بين حقيقة ومجاز فيحمله على الأقرب عنده وإن كان المراد هو الآخر[38]، كلفظ القرء يطلق عند العرب ويراد به الحيض، ويطلق ويراد به الطهر ولا ترجيح لأحدهما على الآخر[39].
وإما لكون الدلالة من النص خفية، فإن جهات دلالات الأقوال متسعة جداً، يتفاوت الناس في إدراكها، وفهم وجوه الكلام، ثم قد يعرفها الرجل من حيث العموم ولا يتفطن؛ لكون هذا المعنى داخلاً في ذلك العام، ثم قد يتفطن له ثم ينساه، ثم إن الرجل قد يغلط فيفهم من الكلام ما لا تحتمله اللغة العربية.
السبب السابع: اعتقاده أن الأدلة في الحديث يصح الاستدلال بها لمعارضة تلك الدلالة للأصول المعتبرة عنده سواء كانت في نفس الأمر صواباً أو خطأ، مثل أن يعتقد أن العام المخصوص ليس بحجة، وأن المفهوم ليس بحجة، أو أن الأمر المجرد لا يقتضي الوجوب أو لا يقتضي الفور، أو أن المعرف باللام لا عموم له.
السبب الثامن: اعتقاده أن تلك الدلالة قد عارضها ما دل على أنها ليست مرادة مثل معارضته العام بالخاص، أو المطلق بمقيد، أو الأمر المطلق بما ينفي الوجوب، أو الحقيقة بما يدل على المجاز.
وهذا باب واسع فإن تعارض دلالات الأقوال وترجيح بعضها على بعض بحر خضم.
السبب التاسع: اعتقاده أن الحديث معارض بما يدل على ضعفه، أو نسخه، أو تأويله إن كان قابلاً للتأويل بما يصلح أن يكون معارضاً بالاتفاق.(/10)
وبعض العلماء يرى تمسكه بالقول؛ لعدم علمه بالمخالف مع أن ظاهر الأدلة يقتضي خلافه، لكن لا يمكن للعالم أن يبتدئ قولاً لم يعلم به قائلاً مع علمه أن الناس قد قالوا خلافه، مثل أن يقول لا أعلم أحداً أجاز شهادة العبد، وقبولها محفوظ عن علي وأنس وشريح وغيرهم، وبقولهم: لا أعلم أحداً أوجب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة وإيجابها محفوظ عن أبي جعفر الباقر.
السبب العاشر: معارضته بما يدل على ضعفه، أو نسخه، أو تأويله، مما لا يعتقده غيره، أو أن جنسه معارض وقد لا يكون في الحقيقة معارضاً راجحاً كمعارضة كثير من الكوفيين الحديث الصحيح بظاهر القرآن واعتقادهم أن ظاهر القرآن من العموم ونحوه مقدم على نص الحديث، لهذا ردوا حديث الشاهد واليمين[40]، وإن كان غيرهم يعلم أن ليس في ظاهر القرآن ما يمنع الحكم بشاهد ويمين.
ومن ذلك دفع الخبر الذي فيه تخصيص لعموم الكتاب، أو تقييد لمطلقه، أو فيه زيادة عليه، وكمعارضة طائفة من المدنيين الحديث الصحيح بعمل أهل المدينة على اعتبار أن إجماعهم حجة مقدمة على الخبر، كمخالفة أحاديث خيار المجلس بناء على هذا الأصل[41].
قال أحمد بن حنبل: "بلغ ابن أبي ذئب أن مالكاً لم يأخذ بحديث: "البيعان بالخيار مالم يتفرقا"[42], فقال: "يُستتاب فإن تاب وإلا ضُربت عنقه" ".
ثم قال أحمد: "هو أورع وأقول بالحق من مالك".(/11)
قال الذهبي: "لو كان ورعاً كما ينبغي لما قال هذا الكلام القبيح في حق إمام عظيم، فمالك لم يعمل بظاهر الحديث؛ لأنه رآه منسوخاً. وقيل: عمل به وحمل قوله: "حتى يتفرقا" على التلفظ بالإيجاب والقبول، فمالك في هذا الحديث، وفي كل حديث، له أجر ولابد، فإن أصاب، ازداد أجراً آخر، وإنما يرى السيف على من أخطأ في اجتهاده الحرورية[43]، وبكل حال فكلام الأقران بعضهم في بعض لا يُعَوّل على كثير منه، فلا نقصت جلالة مالك بقول ابن أبي ذئب فيه ولا ضعف العلماء ابن أبي ذئب بمقالته هذه، بل هما عالما المدينة في زمانهما – رضي الله عنهما – ولم يسندها الإمام أحمد فلعلها لم تصح"[44].
يقول ابن تيمية: "وفي كثير من الأحاديث يجوز أن يكون للعالم حجة في ترك العمل بالحديث لم نطلع نحن عليها، فإن مدارك العلم واسعة، ولم نطلع نحن على جميع ما في بواطن العلماء، والعالم قد يبدي حجته وقد لا يبديها، وإذا أبداها فقد تبلغنا وقد لا تبلغ، وإذا بلغتنا فقد ندرك موضع احتجاجه وقد لا ندركه، سواء كانت الحجة صواباً في نفس الأمر أم لا، لكن نحن وإن جوزنا هذا فلا يجوز لنا أن نعدل عن قول ظهرت حجته بحديث صحيح وافقه طائفة من أهل العلم، إلى قول آخر قاله عالم يجوز أن يكون معه ما يدفع به هذه الحجة وإن كان أعلم، إذ تطرق الخطأ إلى آراء العلماء أكثر من تطرقه إلى الأدلة الشرعية، فإن الأدلة الشرعية حجة الله على جميع عباده بخلاف رأي العالم.
والدليل الشرعي يمتنع عن أن يكون خطأ إذا لم يعارضه دليل آخر، ورأي العالم ليس كذلك، ولو كان العمل بهذا التجويز جائزاً لما بقي في أيدينا شيء من الأدلة التي يجوز فيها مثل هذا، لكن الغرض أنه في نفسه قد يكون معذوراً في تركه له، ونحن معذورون في تركنا لهذا الترك[45].(/12)
وفي ضوء ما تقرر من أسباب الخلاف فإن العلماء معذورون في تفاوت استنباطهم للأحكام فلكل إمام عذره فإن اجتهد فأصاب فله أجران وإن اجتهد فأخطأ فله أجر، وفضل الله واسع، ومن استحق الأجر فلا يصح التشنيع عليه وتجهيله، فحسبه إخلاص قصده وحسن سريرته.
الفصل الرابع: في كلام الأئمة في ترك قولهم اتباعاً للحق:
الصحابة بعضهم لبعض أكفاء في موارد النزاع، وإذا تنازعوا في شيء ردوا ما تنازعوا فيه إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وإن كان بعضهم قد يكون أعلم في مواضع أُخر.
وقد ترك الناس قول عمر وابن مسعود في مسألة تيمم الجنب وأخذوا بقول من هو دونهما كأبي موسى الأشعري وغيره لما احتج بالكتاب والسنة[46].
وتركوا قول عمر في دية الأصابع، وأخذوا بقول معاوية لما كان معه من السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "هذه وهذه سواء"[47].
وقد كان بعض الناس يُناظر ابن عباس في المتعة[48]، فقال له: قال أبو بكر وعمر، فقال ابن عباس: يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء: أقول قال الرسول صلى الله عليه وسلم، وتقولون قال أبو بكر وعمر؟
وكذلك ابن عمر لما سألوه عنها فأمر بها فعارضوه بقول عمر، فبين لهم أن عمر لم يرد ما يقولونه فألحّوا عليه، فقال لهم: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن يتَّبع أم أمر عمر؟ مع علم الناس أن أبا بكر وعمر أعلم ممن هو فوق ابن عمر وابن عباس[49].
والأئمة كذلك أكفاء في موارد النزاع، وإذا تنازعوا في شيء ردوا ما تنازعوا فيه إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
قال أبو حنيفة: "هذا رأيي وهذا أحسن ما رأيت فمن جاء برأيٍ خير منه قبلناه"[50].
روى الخطيب البغدادي بمسنده عن الحسن بن زياد اللؤلؤي قال: سمعت أبا حنيفة يقول: "قولنا هذا رأي وهو أحسن ما قدرنا عليه، فمن جاء بأحسن من قولنا فهو أولى بالصواب منا"[51].
ومالك يقول: "إنما أنا بشر أُصيب وأخطئ، فاعرضوا قولي على الكتاب والسنة"[52].(/13)
وقد اشتهر عنه أنه كان لا يتعجل بالفتيا.
سأل رجل مالكاً عن مسألة – وذكر أنه أرسل فيه من مسيرة ستة أشهر من المغرب – فقال له: أخبر الذي أرسلك أنه لا علم لي بها، قال: ومن يعلمها؟ قال: من علمه الله.
وسأله رجل عن مسألة استودعه إياها أهل المغرب، فقال: ما أدري ما ابتلينا بهذه المسألة ببلدنا، ولا سمعنا أحداً من أشياخنا تكلم فيها، ولكن تعود. فلما كان من الغد جاء وقد حمل ثقله على بغله يقوده، فقال: مسألتي؟ فقال: ما أدري ما هي، فقال الرجل: يا أبا عبدالله، تركت خلفي من يقول: ليس على وجه الأرض أعلم منك، فقال مالك غير مستوحش: إذا رجعت فأخبرهم أني لا أُحسن.
وسأله آخر فلم يجبه، فقال له: يا أبا عبدالله أجبني: فقال: ويحك تريد أن تجعلني حجة بينك وبين الله فأحتاج أنا أولاً أن أنظر كيف خلاصي ثم أخلصك.
وسُئل من العراق عن أربعين مسألة فما أجاب منها إلا في خمس[53].
والشافعي يقول: "إذا صح الحديث فاضربوا بقولي الحائط، وإذا رأيت الحجة موضوعة على الطريق فهي قولي"[54].
وروي عنه أنه قال: "إذا وجدتم في كتابي خلاف سُنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوا قولي"[55].
وقال: "إذا صح الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وقلت أنا قولاً فأنا راجع عن قولي وقائل بذلك الحديث".
وقال: "إذا رويت حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم أذهب إليه فاعلموا أن عقلي قد ذهب"[56].
وقال: "أما أن نخالف حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثابتاً عنه فأرجو أن لا يؤخذ ذلك علينا إن شاء الله"[57].
والإمام أحمد كان يقول: "لا تقلدوني ولا تقلدوا مالكاً ولا الشافعي ولا الثوري، وتعلموا كما تعلمنا".
وقال: "لا تقلد دينك الرجال فإنهم لن يسلموا من أن يغلطوا".
وقال: "من قلة فقه الرجل أن يقلد دينه الرجال"[58].
وقال: "وأن يجعل قول كل أحد وفعله أبداً تبعاً لكتاب الله وسُنة رسوله"[59].(/14)
قال أبو داود: "قلت لأحمد: الأوزاعي هو أتبع من مالك؟ قال: لا تقلد دينك أحداً من هؤلاء، ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم فخذ به، ثم التابعي بعد، الرجل فيه مُخير"[60].
وعن الحكم بن عتيبة قال: "ليس أحد من خلق الله إلا يؤخذ من قوله ويترك إلا النبي صلى الله عليه وسلم".
وروى عن مجاهد مثله[61].
يقول ابن تيمية: "وليس لأحد أن يخرج عن شيء مما شرعه الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو الشرع الذي يجب على ولاة الأمر إلزام الناس به، ويجب على المجاهدين الجهاد عليه، ويجب على كل واحد اتباعه ونصره"[62].
(ولا يجب على عالم أن يُقلد عالماً من علماء المسلمين أو أن يقلد حاكماً لا في قليل ولا في كثير إذا كان قد عرف ما أمر الله به ورسوله، بل لا يجب على آحاد العامة تقليد الحاكم في شيء، بل له أن يستفتي من يجوز له استفتاؤه وإن لم يكن حاكماً، ومتى ترك العالم ما عَلِمَه من كتاب الله وسُنة رسوله واتبع حكم الحاكم المخالف لحكم الله ورسوله كان مرتداً كافراً يستحق العقوبة في الدنيا والآخرة)[63].
يقول ابن القيم: "... وعلى هذا فله أن يستفتي من شاء من أتباع الأئمة الأربعة وغيرهم، ولا يجب عليه ولا على المفتي أن يتقيد بأحد من الأئمة الأربعة بإجماع الأمة، كما لا يجب على العالم أن يتقيد بحديث أهل بلده، أو غيره من البلاد، بل إذا صح الحديث وجب عليه العمل به حجازياً كان، أو عراقياً، أو شامياً، أو مصرياً، أو يمنياً"[64].
أما انتقال الإنسان من قول إلى قول لأجل ما تبين له من الحق فهو محمود فيه، بخلاف إصراره على قول لا حجة معه عليه وترك القول الذي وضحت حجته[65].
هؤلاء هم أعلام الأمة بعد علماء القرن الأول، رأوا الحق فيما ظهر لهم فاتبعوه وقالوا به، ولاحتمال كون الحق مع غيرهم لم يلزموا الناس بأخذ أقوالهم، ولم يجعلوا قولهم حجة، بل الحجة في اتباع الدليل الصحيح الموجب لترك أقوالهم إن خالفته.(/15)
لقد زهدوا في أقوالهم للحق، واتسعت صدورهم لقبوله ورغبوا في خلاص أنفسهم من آثار الفتوى قبل أن يفتوا الناس بما لم يعلموا صحته أو لم يظهر لهم الحق فيه.
الفصل الخامس: مخالفة التلاميذ لأئمتهم اتباعاً للحق:
حينما يُقلَّد هؤلاء الأئمة إنما يقلدون اتباعاً للحق، وحينما يظهر خلافه فسرعان ما نجد تلامذتهم يتبعون الحق.
وأُورد مثالاً لذلك: المناظرة التي جرت بين الإمام مالك بن أنس مع أبي يوسف صاحب أبي حنيفة لما سأله عن الصاع والمُد، فأمر مالك أهل المدينة بإحضار صيعانهم، وذكروا له أن إسنادها عن أسلافهم، فقال مالك لأبي يوسف: أترى هؤلاء يكذبون؟ قال: لا والله ما يكذبون، قال مالك: فأنا حررت هذه الصيعان فوجدتها خمسة أرطال وثلثاً بأرطالكم يا أهل العراق، فقال أبو يوسف: رجعت إلى قولك يا أبا عبدالله، ولو رأى صاحبي ما رأيت لرجع كما رجعت.
وسأله عن الخضراوات، فقال: هذه مباقيل أهل المدينة[66] لم يؤخذ منها صدقة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أبي بكر ولا عمر رضي الله عنهما، يعني وهي تنبت فيها الخضراوات.
وسأله عن الأحباس فقال: هذا حبس فلان وهذا حبس فلان يذكر لبيان الصحابة، فقال أبو يوسف: في كل منهما قد رجعت يا أبا عبدالله، ولو رأى صاحبي ما رأيت لرجع كما رجعت.
وأبو يوسف ومحمد وافقا بقية الفقهاء، في أنه ليس في الخضراوات صدقة؛ كمذهب مالك، والشافعي، وأحمد، وفي أنه ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة كمذهب هؤلاء، وأن الوقف عنده لازم كمذهب هؤلاء[67]. وقد اشتهر عن الإمام زفر مخالفة أئمة المذهب الحنفي في بعض المسائل[68].
وأصحاب الإمام الشافعي خالفوه في مسألة التثويب، واشتراط التحليل من الإحرام بعذر المرض وغيرها.
وممن حُكي عنه أنه أفتى بالحديث وخالف الشافعي: أبو يعقوب البويطي، وأبو القاسم الداركي.(/16)
نص عليه أبو الحسن الكيا الطبري في كتابه: ((أصول الفقه))، وممن أُثر عنهم اتباع الحديث ومخالفة المذهب أبو بكر البيهقي وآخرون، وكان جماعة من متقدمي الشافعية إذا رأوا مسألة فيها حديث ومذهب الشافعي خلافه عملوا بالحديث، وأفتوا به قائلين: مذهب الشافعي ما وافق الحديث[69].
لقد تعلم هؤلاء التلاميذ في مدارس العلماء الكبار وعلم الله قصد سرائرهم، وصدق توجههم، فجُعِلَ لهم القبول.
لقد تعلم التلاميذ على يديهم وأخذوا منهم العلم الحق الذي يقصدون به وجه الله، ولقد كانوا قدوة صالحة في كيفية اتباع الحق أينما كان، وإن خالفوا في ذلك إمامهم، حتى قالوا: ولو رأى صاحبي ما رأيت لرجع كما رجعت عملاً واتباعاً للسنة.
الباب الثاني: في حكم الإنكار في المسائل الخلافية
وفيه ستة فصول:
الفصل الأول: في الإنكار على أهل الأهواء والبدع:
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: في الإنكار على أهل البدع:
البدعة في اللغة: مأخوذة من بدع الشيء يبدعه بدعاً وابتدعه: أي أنشأه وبدأه، وفي كسر الباء تعني: الحدث وما ابتدع من الدين بعد الإكمال[70].
والبدعة بدعتان: بدعة هدى، وبدعة ضلال، فما كان في خلاف ما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم فهو في حيز الذم والإنكار، وما كان واقعاً تحت عموم ما ندب الله إليه وحَضَّ عليه الله أو رسوله صلى الله عليه وسلم في حيز المدح، وما لم يكن له مثال موجود كنوع من الجود والسخاء وفعل المعروف فهو من الأفعال المحمودة، ولا يجوز أن يكون ذلك في خلاف ما ورد الشرع به ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد جعل له في ذلك ثواباً فقال: "من سَنّ سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها" وقال في ضده: "ومن سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها"[71]، وذلك إذا كان في خلاف ما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم[72].
وقال العلماء: البدعة خمسة أقسام: واجبة، ومندوبة، ومحرمة، ومكروهة، ومباحة.(/17)
فمن الواجبة: نظم أدلة المتكلمين للرد على الملاحدة والمبتدعة، والاشتغال بكتب النحو، وحفظ غريب الكتاب والسنة.
والبدعة المندوبة: تشمل تصنيف كتب العلم وبناء المدارس والربط في سبيل الله، وغير ذلك من الإحسان الذي لم يعهد في الصدر الأول.
والبدعة المحرمة: ما ذهب إليه القدرية والجبرية والمرجئة والمجسمة، والتوسل إلى الله بالأموات وطلب الدعاء منهم، وكذا اتخاذ القبور مساجد والصلاة إليها، وإيقاد السُرج والمصابيح عليها، ونذر الذبائح لها، وإنارتها، والطواف بها، واستلامها.
أما البدعة المكروهة: فكزخرفة المساجد، وتزويق المصاحف، والمصافحة باليد بعد السلام من الصلاة ونحو ذلك.
أما البدعة المباحة: فهي التوسع في اللذيذ من المآكل والمشارب والملابس والمساكن[73].
وما نحن بصدده هنا فهي البدع المحرمة سواء ما كان منها يؤدي إلى الكفر كدعاء غير الله من الأنبياء والصالحين والاستغاثة بهم وطلب تفريج الكربات وقضاء الحاجات منهم، وهذه أعظم بدعة كِيد بها للإسلام وأهله، أو ما يخشى على صاحبها من الوقوع في الكفر كالتوسل إلى الله بجاه الأولياء والصالحين والتبرك بهم.(/18)
وكذلك البدع الأخرى التي لا تتنافى مع التوحيد لكنها من المحرمات، كالاجتماع على التكبير والتهليل والتسبيح ونحو ذلك، وكأن يخترع أذكاراً وأدعية وعبادات وصلوات وصياماً، واتخاذ السبحة أثناء التسبيح لغير حاجة، والاحتفال بليلة النصف من شعبان، وليلة المولد النبوي، وغير ذلك مما لم يَرد في ثبوت التعبد فيه أي دليل شرعي معتبر الدلالة، فقد ورد من حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "... وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة"[74]، ففي هذا الحديث دلالة على أن البدع المخالفة للشرع من الضلالات التي يجب اجتنابها، إذ لايصح إحداث عبادة في الدين لم يشرعها الله تعالى ولم يأمر بها رسوله صلى الله عليه وسلم أو يفعلها مما هو شرع لأمته، ومن أحدث خلاف ما عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين تأسوا بسنته فهو رد على صاحبه، فعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من عَمِلَ عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد"[75].
قال أهل العربية: الرد هنا بمعنى المردود. ومعناه فهو باطل غير معتد به.
وهذا الحديث قاعدة عظيمة من قواعد الإسلام، وهو من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم فإنه صريح في رد كل البدع والمخترعات.
قال النووي: هذا الحديث مما ينبغي حفظه واستعماله في إبطال المنكرات وإشاعة الاستدلال به[76].
وقال الطرقي: هذا الحديث يصلح أن يسمى نصف أدلة الشرع؛ لأن الدليل يتركب من مقدمتين، والمطلوب بالدليل إما إثبات الحكم، أو نفيه، وهذا الحديث مقدمة كبرى في إثبات كل حكم شرعي أو نفيه؛ لأن منطوقه مقدمة كلية في كل دليل ناف لحكم، مثل أن يقال في الوضوء بماء نجس: هذا ليس من أمر الشرع وكل ما كان كذلك فهو مردود، فهذا العمل مردود.
فالمقدمة الثانية ثابتة بهذا الحديث، وإنما يقع النزاع في الأولى.(/19)
ومفهومه أن من عمل عملاً عليه أمر الشرع فهو صحيح، مثل أن يقال في الوضوء بالنية: هذا عليه أمر الشرع، وكل ما كان عليه أمر الشرع فهو صحيح.
فالمقدمة الثانية ثابتة بهذا الحديث، والأولى فيها النزاع، فلو اتفق أن يوجد حديث يكون مقدمة أولى في إثبات كل حكم شرعي ونفيه لاستقل الحديثان بجميع أدلة الشرع، ولكن هذا الثاني لا يوجد، فإذن حديث: "من عمل عملاً" نصف أدلة الشرع والله أعلم[77].
وفي ضوء ما سبق فإن الإنكار على المبتدعة يعد من الأمور المشروعة سواء أكانت البدعة في الأصول أم في الفروع ما دامت مخالفة لما ورد في الشرع ولم يكن عليها عمل صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قرر علماء الأمة وجوب الإنكار على المبتدعة في دين الله.
يقول السبكي: ولاشك في أن الاختلاف في الأصول ضلال وسبب كل فساد كما أشار القرآن إليه[78].
ومن خالف في الأصول من غير أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يعتد بمخالفته[79]، وينبغي الإنكار عليه، كمن يعتقد أن رتبة الولاية أعظم من رتبة النبوة.
وصرح الغزالي بأن قتل مدعي ذلك أحب إليه من قتل مائة كافر ؛ لأن ضرر هذا في الدين أعظم[80].
وقال محمد بن إسماعيل الجعفي البخاري: نظرت في كلام اليهود والنصارى والمجوس، فما رأيت قوماً أضل في كفرهم من الجهمية، وإني لأستجهل من لا يكفرهم إلاَّ من لا يعرف كفرهم.
وقال: ما أبالي صليت خلف الجهمي والرافضي، أم صليت خلف اليهود والنصارى، وروي عن جماعة من السلف تكفير من قال بخلق القرآن؛ منهم مالك، وابن عيينة وابن المبارك، والليث بن سعد.
وناظر الشافعي حفص الفرد، وكان الشافعي رضي الله عنه يسميه حفص المنفرد، فقال حفص: القرآن مخلوق، فقال الشافعي: كفرت بالله العظيم.
وأجاز الشافعي شهادة أهل البدع، والصلاة خلفهم مع الكراهية على الإطلاق، فهذا القول منه دليل على أنه إن أطلق على بعضهم اسم الكفر في موضع أراد به كفراً دون كفر.(/20)
ومنهم من حمل قول من قال بالتكفير من السلف على مبتدع يأتي في بدعته ما يخرج به عن الإسلام، وكان أبو سليمان الخطابي لا يكفر أهل الأهواء الذين تأولوا فأخطؤوا.
وقال الشيخ الإمام: وهذا الهجران، والتبري، والمعاداة، في أهل البدع المخالفين في الأصول[81].
ونص الإمام أحمد رحمه الله على المنع من النظر في كتب أهل الكلام والبدع المضلة وقراءتها وروايتها.
وقال: أبو عبدالله في أهل الكلام: "لا تجالسهم ولا تكلم أحداً منهم".
وقال: لا أحب لأحد أن يجالسهم، ولا يخالطهم، ولا يأنس بهم.
قال الشافعي: حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد، ويحملوا على الإبل، ويطاف بهم في القبائل والعشائر، وينادى عليهم هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام[82].
روى أبو المظفر السمعاني في كتابه ((الانتصار لأهل الحديث))[83] عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس من أمتي أهل البدع"[84].
قال ابن خويز منداد: أهل الأهواء عند مالك وسائر أصجابنا هم أهل الكلام، فكل متكلم هو من أهل الأهواء والبدع أشعرياً كان أو غير أشعري، ولا تُقبل له شهادة في الإسلام أبداً، ويُهجر ويؤدب على بدعته فإن تمادى عليها أُستتيب منها[85].
صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه هجر كعب بن مالك وصاحبيه رضي الله عنهم[86]، لما تخلفوا عن غزوة تبوك، وظهرت معصيتهم، وأمر صلى الله عليه وسلم بهجرهم حتى أمرهم باعتزال أزواجهم من غير طلاق خمسين ليلة، إلى أن نزلت توبتهم من السماء.
وكذلك أمر عمر رضي الله عنه المسلمين بهجر صبيغ بن عسل التميمي لما رآه من الذين يتبعون ما تشابه من الكتاب إلى أن مضى عليه حول، وتبين صدقه في التوبة، فأذن عمر للناس بمجالسته[87].(/21)
فبهذا ونحوه رأى المسلمون أن يهجروا من ظهرت عليه علامات الزيغ من المظهرين للبدع، الداعين إليها، والمظهرين للكبائر، فأما من كان مستتراً بمعصية أو مسراً لبدعة غير مكفرة، فإن هذا لا يهجر، إنما يهجر الداعي إلى البدعة، إذ الهجر نوع من العقوبة، وإنما يعاقب من أظهر المعصية قولاً أو عملاً، وأما من أظهر لنا خيراً فإنا نقبل علانيته ونكل سريرته إلى الله تعالى، فإن غايته أن يكون بمنزلة المنافقين الذين كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل علانيتهم ويكل سرائرهم إلى الله.
لهذا كان الإمام أحمد ومن كان قبله وبعده من الأئمة كمالك وغيره لا يقبلون رواية الداعي إلى بدعة، ولا يجالسونه بخلاف الساكت[88].
هذا وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن افتراق هذه الأمة، وظهور أهل الأهواء والبدع فيهم، وحكم النجاة لمن اتبع سنته وسنة أصحابه رضي الله عنهم، فعلى المرء المسلم إذا رأى رجلاً يتعاطى شيئاً من الأهواء والبدع معتقداً، أو يتهاون بشيء من السنن أن يهجره، ويتبرأ منه، ويتركه حياً وميتاً، فلا يُسلم عليه إذا لقيه، ولا يجيبه إذا ابتدأ إلى أن يترك بدعته، ويراجع الحق.
والنهي عن الهجران فوق الثلاث فيما يقع بين الرجلين من التقصير في حقوق الصحبة والعشرة دون ما كان ذلك في حق الدين فإن هجرة أهل الأهواء والبدع دائمة إلى أن يتوبوا، بدليل هجر النبي صلى الله عليه وسلم الثلاثة الذين تخلفوا حتى تابوا[89] لما خاف عليهم من النفاق.
قال ابن عمر في أهل القدر: أخبرهم أني بريء منهم، وأنهم مني براء[90].
وفي ضوء ما سبق فإن الإنكار على أهل البدع يكون واجباً على من قدر عليه.
المطلب الثاني: في الإنكار على من يخالف لهوى في نفسه أو إرضاء لغيره:(/22)
الخلاف الناشئ عن هوى مضل ليرضي غيره، أو ليُحمد من الناس، وينال الغلبة على أقرانه عند الحكام، أو الظهور بمظهر العالم المستوعب للحياة ومشكلاتها عند وسائل الإعلام لا عن تحري قصد الشارع والالتفات إلى الأمر والنهي، أو التخيير فهو خلاف باطل إطلاقاً؛ لأن العمل لابد له من حامل يحمل عليه، وداع يدعو إليه، فإذا لم يكن لتلبية الشارع مدخل فليس إلا مقتضى الهوى والشهوة، وما كان كذلك فهو باطل إطلاقاً.
روى الإمام مالك في الموطأ[91] عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: إنك في زمان كثير فقهاؤه، قليل قراؤه، تُحْفَظ فيه حدود القرآن، وتُضيّع حروفه، قليل من يسأل، كثير من يعطي، يُطيلون فيه الصلاة، ويُقصرون فيه الخطبة، يبدؤون أعمالهم قبل أهوائهم، وسيأتي على الناس زمان قليل فقهاؤه، كثير قراؤه، تُحفظ فيه حروف القرآن، وتُضيّع حدوده، كثير من يسأل، قليل من يعطي، يُطيلون فيه الخطبة، ويُقصرون الصلاة، يبدؤون فيه أهواءهم قبل أعمالهم[92].
حكى الخطابي في مسألة شراب البتع[93] عن بعض الناس أنه قال: إن الناس لما اختلفوا في الأشربة وأجمعوا على تحريم العنب واختلفوا فيما سواه حرمنا ما اجتمعوا على تحريمه وأبحنا ما سواه.
وقال: وهذا خطأ فاحش، وقد أمر الله المتنازعين أن يردوا ما تنازعوا فيه إلى الله ورسوله.
وقال: ولو لزم ما ذهب إليه هذا القائل للزم مثله في الربا والصرف ونكاح المتعة؛ لأن الأمة قد اختلفت فيها.
قال: وليس الاختلاف حجة، وبيان السنة حجة على المختلفين من الأولين والآخرين.
قال الشاطبي: والقائل بهذا راجع إلى أن يتبع ما يشتهيه، أو يجعل القول الموافق حجة له ويدرأ بها عن نفسه، فهو قد أخذ القول وسيلة إلى اتباع هواه، لا وسيلة إلى تقواه، وذلك أبعد له من أن يكون ممتثلاً لأمر الشارع، وأقرب إلى أن يكون ممن اتخذ إلهه هواه.(/23)
ومن هذا جعل بعض الناس الاختلاف رحمة للتوسع في الأقوال وعدم التحجر على رأي واحد... وربما صرح صاحب هذا القول بالتشنيع على من لازم القول المشهور أو الموافق للدليل، أو الراجح عند أهل النظر والذي عليه أكثر المسلمين. ويقول له: لقد حجرت واسعاً، وملت بالناس إلى الحرج، وما في الدين من حرج، وما أشبه ذلك. وهذا القول خطأ كله وجهل بما وضعت له الشريعة[94].
والخلاف على هذا النحو يؤدي إلى الفرقة والتقاطع والعداوة والبغضاء لاختلاف الأهواء وعدم اتفاقها.
وإذا صار الهوى بعض مقدمات الدليل لم ينتج إلا ما فيه اتباع للهوى وفي ذلك مخالفة للشرع، ومخالفة الشرع ليست من الشرع في شيء. فاتباع الهوى من حيث يظن أنه اتباع للشرع ضلال في الشرع. ولذلك سميت البدع ضلالات.
وجاء أن كل بدعة ضلالة؛ لأن صاحبها مخطئ من حيث توهم أنه مصيب، ودخول الأهواء في الأعمال خفي، فأقوال أهل الأهواء غير معتد بها في الخلاف المقرر في الشرع. وما ذكر منها في كتب الفقهاء إنما للرد عليها وبيان فسادها مثلما فعلوا مع أقوال اليهود والنصارى[95].
ولا يجوز للمفتي أن يتساهل في الفتوى، ومن عُرِفَ بذلك لم يَجز أن يُستفتى. وكذلك الحاكم ولا فرق بين المفتي والحاكم إلاَّ أن المفتي مُخبر، والحاكم ملزم، والتساهل قد يكون بأن لا يتثبت ويسرع بالفتوى أو الحكم قبل استيفاء حقها من النظر والفكر، وربما يحمله على ذلك توهمه أن الإسراع براعة، والإبطاء عجز ومنقصة، وذلك جهل، فَلأَن يبطئ ولا يُخطئ أجمل به من أن يعجل فيُضل ويَضل.
وقد يكون تساهله وانحلاله بأن تحمله الأغراض الفاسدة على تتبع الحيل المحظورة أو المكروهة. والتمسك بالشبه طلباً للترخص على من يروم نفعه أو التغليظ على من يريد ضره.
قال ابن الصلاح: ومن فعل ذلك فقد هان عليه دينه[96].(/24)
وقال القرافي: لا ينبغي للمفتي إذا كان في المسألة قولان أحدهما فيه تشدد والآخر فيه تخفيف أن يفتي العامة بالتشديد والخواص من ولاة الأمور بالتخفيف، وذلك قريب من الفسوق والخيانة في الدين والتلاعب بالمسلمين، وذلك دليل فراغ القلب من تعظيم الله تعالى وإجلاله وتقواه وعمارته باللعب وحب الرياسة والتقرب إلى الخلق دون الخالق[97].
ويشمل الذم من ينتقل من قول إلى قول لمجرد عادة أو اتباع هوى[98].
ولا ينبغي أن يُلتفت إلى قول من يقول بالتخيير بين الأقوال، فهي مقالة ضعيفة لا يُعتد بها[99]؛ لأن السماح الجاري بالحنيفية السمحة مقيد بما هو جارٍ على أصولها، وليس تتبع الرخص ولا اختيار الأقوال بالتشهي بثابت من أصولها.
إن تتبع الرخص ميل مع أهواء النفوس، والشرع جاء بالنهي عن اتباع الهوى[100]، قال تعالى: "فَلاَ تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا"[101]، وقال سبحانه وتعالى: "فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ"[102]، وقال تعالى: "وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ"[103]. إلى غير ذلك من الآيات الذامة لاتباع الهوى[104].
قال سليمان التيمي: إن أخذت برخصة كل عالم اجتمع فيك الشر كله[105].
وقال الأوزاعي: من أخذ بنوادر العلماء خرج عن الإسلام[106].
وذكر ابن عبدالبر إجماع العلماء على عدم حِلّ تتبع الرخص، ويفسق المتتبع عند الإمام أحمد[107].
واتباع الدليلين من غير ترجيح أدى إلى أن صار كثير من مقلدة الفقهاء يفتي قريبه أو صديقه بما لا يفتي به غيره من الأقوال، اتباعاً لغرضه وشهوته، أو لغرض ذلك القريب وذلك الصديق[108].(/25)
وقد نص الإمام أحمد رحمه الله على أنه ليس لأحد أن يعتقد الشيء واجباً وحراماً ثم يعتقده غير واجب ولا حرام بمجرد هواه، كأن يكون طالباً لشفعة الجوار فيعتقد أنها حق له ثم إذا طلبت منه شفعة الجوار اعتقد أنها ليست ثابتة، أو مثل من يعتقد إذا كان أخاً مع جد أن الإخوة تقاسم الجد، فإذا صار جداً مع أخ اعتقد أن الجد لا يقاسم الإخوة.
وإذا كان له عدو يفعل بعض الأمور المختلف فيها، كشرب النبيذ المختلف فيه[109]، ولعب الشطرنج، وحضور السماع، رأى هجره والإنكار عليه. أما إذا فعل ذلك صديقه فيرى أن ذلك من مسائل الاجتهاد التي لا تُنكر.
ومن اعتقد حل الشيء، وحرمته، ووجوبه، وسقوطه، بحسب هواه. فهو مذموم مجروح خارج عن العدالة[110].
وليس للمقلد أن يتخير في الخلاف، كما إذا اختلف المجتهدون على قولين فيختار أتبعهما لهواه؛ لأنه لو جاز تحكيم التشهي والمصالح الشخصية في مثل هذا لجاز للحاكم، وهو باطل بالإجماع[111].
والعلماء عليهم رحمة الله يرون أن اتباع الهوى في الحكم والفُتيا حرامٌ بالإجماع[112].
وفي ضوء ما تقرر فإن من خالف الكتاب المستبين والسنة المستفيضة، أو ما أجمع عليه سلف الأمة خلافاً لا يُعذر فيه فإنه يُعامل بما يُعامل به أهل البدع[113] ؛ من وجُوب الإنكار عليهم، وهجرهم، وتأديبهم بما يكفل زجرهم، وتبصيرهم بسوء ما يقولون به أو يفعلون.
الفصل الثاني: في الإنكار على من يأخذ بالقول المرجوح أو الضعيف:
وما ضعف فيه الخلاف لا يحل أن يُقال به في الأحكام الشرعية ولا يحل للمقلد أن يعمل به.
وقد ذم شيخ الإسلام ابن تيمية المنحرفين عن منهج الأئمة، وذكر من انحرافهم أن يكون عن الإمام في المسألة اختلاف فيتمسكوا بالقول المرجوح أو أنهم يحملون قولاً له ليوافق شُبهتهم[114].
ومثل لذلك بتنازع العلماء في ولد الزنا هل يُعتق بالملك؟ على قولين للعلماء في مذهب أبي حنيفة وأحمد...(/26)
ومثل هذه المسألة الضعيفة ليس لأحد أن يحكيها عن إمام من أئمة المسلمين: لا على وجه القدح فيه، ولا على وجه المتابعة له فيها، فإن ذلك ضرب من الطعن في الأئمة واتباع الأقوال الضعيفة، وبمثل ذلك صار وزير التتر يلقي الفتنة بين مذاهب أهل السنة حتى يدعوهم إلى الخروج عن السنة والجماعة، ويُوقعهم في مذاهب الرافضة وأهل الإلحاد[115].
والأخذ بالقول الضعيف في بعض المسائل يؤدي إلى ارتكاب محظور فمثلاً ربا النقد الخلاف فيه ضعيف، وهو ذريعة إلى ربا النَّساء المتفق على تحريمه، وكنكاح المتعة فإنه ذريعة إلى الزنا. وذكر عن إسحاق بن شاقلا أنه ذكر أن المتعة هي الزنا صراحة.
وعن ابن بطة قال: لا يفسخ نكاح حكم به قاض إن كان قد تأول فيه تأويلاً، إلاَّ أن يكون قضى لرجل بعقد متعة، أو طلّق ثلاثاً في لفظ واحد وحكم بالمراجعة من غير زوج، فحكمه مردود وعلى فاعله العقوبة والنكال.
والمنصوص عن أحمد الإنكار على اللاعب بالشطرنج.
وتأوله القاضي على من لعب بها بغير اجتهاد أو تقليد سائغ، وفيه نظر فإن النصوص عنه أنه لم يحد شارب النبيذ المختلف فيه، وإقامة الحد أبلغ مراتب الإنكار مع أنه لا يفسق عنده بذلك، فدل على أنه ينكر كلّ مختلف فيه ضعف الخلاف فيه لدلالة السنة على تحريمه، ولا يخرج فاعله المتأول من العدالة بذلك.
وكذلك نص أحمد على الإنكار على من لا يُتم صلاته ولا يُقيم صلبه من الركوع والسجود مع وجود الاختلاف في وجوب ذلك[116].
وفي ضوء ما سبق فإن من أخذ بقول ضعيف في أي مسألة من المسائل المتعلقة بالأحكام الشرعية فإنه يجب الإنكار عليه بالطريقة التي تُناسب حال الفعل وما تؤدي إلى تحقيق الغرض من الإنكار.
الفصل الثالث: في الإنكار على من يأخذ بأخف القولين:
الأخذ بأخف القولين مسألة أصولية. وللعلماء فيها قولان: قيل يأخذ بأثقلهما وقيل بأخفهما.(/27)
واستدل من قال بالأخذ بالأخف. بالنص والمعقول؛ أما النص فقوله تعالى: "يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ"[117]، وقوله تعالى: "وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ"[118]، وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا ضرار"[119]، وقوله صلى الله عليه وسلم: "بُعثت بالحنيفية السهلة السمحة"[120]. وكل ذلك ينافي الشرع الثقيل.
أما المعقول فإن الله تعالى كريم غني، والعبد محتاج فقير، وإذا وقع التعارض بين هذين الجانبين: كان التحامل على جانب الكريم الغني أولى منه على جانب المحتاج الفقير[121].
وأجاب الشاطبي عن ذلك: أن السماح الوارد في الحنيفية السمحة جاء مقيداً بما هو جارٍ على أصولها، وليس تتبع الرخص ولا اختيار الأقوال بالتشهي بثابت من أصولها[122].
والقول بهذا مؤداه إلى إيجاب إسقاط التكليف جملة فإن التكاليف كلها شاقة ثقيلة، ولذلك سُميت تكليفاً من الكلفة وهي المشقة، فإذا كانت المشقة حيث لحقت في التكليف تقتضي الرفع بهذه الدلائل لزم ذلك في الطهارات والصلوات والزكوات والحج والجهاد وغير ذلك ولا يقف عند حد إلاَّ إذا لم يبق على العبد تكليف وهذا محال[123].
قلت: الأصل وجود دلالة للقولين، ومن ثم فاتباع أحدهما اتباع للدليل، فإن ترجح أحدهما وجب الأخذ به، وإن تساوى الأمران في الدلالة فكما يقول ابن القيم:
"يُعمل عند اختلاف الطريقين أو الطبيبين أو المشيرين[124]، فإن كان مقلداً اتبع أفقههما وأورعهما".(/28)
أما المجتهد فيقول القرافي: "إذا تعارضت الأدلة عند المجتهد أو تساوت وعجز عن الترجيح، هل يتساقطان، أو يختار واحداً منهم يفتي به؟ قولان للعلماء: فعلى القول الأول بأنه يختار أحدهما يفتي به له أن يختار أحدهما يحكم به مع أنه ليس أرجح عنده بطريق الأولى؛ لأن الفُتيا شرع عام على المكلفين إلى قيام الساعة والحكم يختص بالوقائع الجزئية فإذا جاز الاختيار في الشرائع العامة فأولى أن يجوز في الأمور الجزئية الخاصة، وهذا مقتضى الفقه والقواعد، وعلى هذا يتصور الحكم بالراجح وغير الراجح وليس اتباعاً للهوى، بل ذلك بعد بذل الجهد والعجز عن الترجيح وحصول التساوي، وأما الفُتيا والحكم بما هو مرجوح فخلاف الإجماع"[125].
ومن ثم فإن الاختيار الحاصل لا لكون أحدهما أخف إنما لتساوي الأدلة وعدم إمكانية ترجيح أحدهما على الآخر. ومن أخذ بذلك فلا إنكار عليه.
وأما من اختار الأخف لهواه أو إرضاء لغيره فيُنكر عليه بخلاف من اختاره لمصالح شرعية معتبرة.
الفصل الرابع: في الإنكار على المجتهدين أو على مقلديهم في الفروع.
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: في الإنكار على من اجتهد – أو قلد – وخالف نصاً، أو إجماعاً، أو قاعدةً شرعية:
يجب الإنكار على من خالف ما هو مقطوع به في الشريعة[126]، أو أطلق الحكم فيما ليس بمطلق أو عَمّمَ فيما هو خاص[127]، أو أن يكون ظاهره الخلاف وليس في الحقيقة كذلك[128]، أو أن يقول الإمام قولاً ثم يرجع عنه في قول ثان بناء على تغير الاجتهاد والرجوع عما أفتى به إلى خلافه، فمثل هذا لايصح أن يُعتد به خلافاً في المسألة؛ لأن رجوع الإمام عن القول الأول إلى القول الثاني إطراح منه للأول ونسخ له بالثاني[129].
ويقول ابن تيمية: "نعم من خالف الكتاب المستبين، والسنة المستفيضة، أو ما أجمع عليه سلف الأمة خلافاً لا يُعذر فيه فهذا يُعامل بما يعامل به أهل البدع"[130].(/29)
وقال ابن رجب: والمنكر الذي يجب عليه إنكاره ما كان مجمعاً عليه[131].
وقال ابن القيم: فإذا كان القول يُخالف سنة أو إجماعاً شائعاً وجب إنكاره اتفاقاً[132].
قال الشنقيطي: واعلم أنه لا يُحكم على الأمر بأنه منكر إلاَّ إذا قام على ذلك دليل من كتاب الله تعالى أو سنة نبيه صلى الله عليه وسلم أو إجماع المسلمين[133].
يقول الشاطبي: إن زلة العالم لايصح اعتمادها من جهة ولا الأخذ بها تقليداً له؛ وذلك لأنها موضوعة على المخالفة للشرع ولذلك عُدت زلة، فلو كانت مُعتداً بها لما جُعلت لها هذه الرتبة، ولا نُسب إلى صاحبها الزلل فيها، كما لا ينبغي أن يُنسب صاحبها إلى التقصير، ولا أن يُشنَّع عليه بها ولا يُنتقص من أجلها، أو يُعتقد فيه الإقدام على المخالفة بحتاً[134]، فإن هذا كله خلاف ما تقتضيه رتبته في الدين[135].
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إني لأخاف على أمتي من بعدي من أعمال ثلاثة". قالوا: وما هي يا رسول الله؟ قال: "أخاف عليهم من زلة العالم، ومن حكم جائر، ومن هوى متبع"[136].
وعن عمر: ثلاث يهدمن الدين: زلة العالم، وجدال المنافق بالقرآن، وأئمة مضلون.
وعن أبي الدرداء: مما أخشى عليكم زلة العالم، أو جدال المنافق بالقرآن، والقرآن حق وعلى القرآن منار كمنار الطريق.
وكان معاذ بن جبل يقول في خطبته كثيراً: إياكم وزيغة الحكيم، فإن الشيطان قد يتكلم على لسان الحكيم بكلمة الضلالة. وقد يقول المنافق الحق فتلقوا الحق عمن جاء به، فإن على الحق نوراً. قالوا: كيف زيغة الحكيم؟ قال: هي كلمة تروعكم وتنكرونها وتقولون ما هذه؟ فأحذروا زيغته ولا تصدنكم عنه، فإنه يوشك أن يفي، وأن يراجع الحق.
وقال ابن عباس: ويل للأتباع من عثرات العالم. قيل: كيف ذلك؟ قال: يقول العالم شيئاً برأيه، ثم يجد من هو أعلم برسول الله صلى الله عليه وسلم منه فيترك قوله ثم يمضي الأتباع[137].(/30)
ويلحق بذلك من التزم مذهباً وخالفه بلا دليل ولا تقليد سائغ.
حكي عن الشيخ تقي الدين: أن من التزم مذهباً معيناً وخالف ذلك من غير عذر شرعي يبيح له ما فعله فإنه يكون متبعاً لهواه عاملاً بغير اجتهاد ولا تقليد فاعلاً للمحرم بغير عذر شرعي وهذا منكر[138].
قلت: وفي ضوء ما سبق فإن ما خالف – ولو باجتهاد أو تقليد – نصاً أو إجماعاً أو قاعدةً شرعية فإنه يجب الإنكار عليه لمخالفته ما هو حق بغير مسوغ شرعي على أن يسبق الإنكار تبيان الخطأ بالأدلة الشرعية التي يجب قبولها.
يقول ابن تيمية: "وليس لأحد أن يحكم على علم بإجماع المسلمين، بل يبين أنه قد أخطأ، فإن بين له بالأدلة الشرعية التي يجب قبولها أنه قد أخطأ وظهر خطؤه للناس ولم يرجع، بل أصر على إظهار ما يخالف الكتاب والسنة والدعاء إلى ذلك وجب أن يُمنع من ذلك ويُعاقب إن لم يمتنع، أما إذا لم يبين له ذلك بالأدلة الشرعية لم تجز عقوبته باتفاق المسلمين، ولا منعه من ذلك القول ولا الحكم عليه بأنه لا يقوله إذا كان يقول: إن هذا هو الذي دل عليه الكتاب والسنة، كما قاله فلان وفلان من علماء المسلمين، فهذا إذا اجتهد فأخطأ لم يُحكم عليه إلا بالكتاب والسنة، والمنازع له يتكلم بلا علم"[139].
المطلب الثاني: في الإنكار على من اجتهد أو قلد وأخذ بقول لم يخالف به دليلاً أو قاعدة شرعية:(/31)
سبق إيضاح أن الإنكار واجب على أهل الأهواء والبدع، وأنه ينبغي الإنكار على من أخذ بقول مرجوح أو ضعيف، على أن يتم الإنكار بالطريقة التي تحقق الغرض، وأن لا إنكار على من اختار أحد قولين تساوت الأدلة عند المجتهد في تقرير حكمهما، وأن الإنكار واجب على من خالف نصاً أو قاعدة شرعية. أما عدا تلك الحالات فما الحكم في الإنكار على القائل بأحد قولي مسألة خلافية، وقوله له اعتبار في الدلالة لكنه مرجوح في نظر المُنِكر راجح في نظر المُنْكَر عليه، لهذا لابد من الأخذ في الاعتبار أهمية احترام العلماء وإنزالهم منازلهم اللائقة بهم، وأن لا يجعل من المخالفة سبباً في أذيتهم أو انتقاصهم، بل الواجب الحث على إكرامهم وتعظيم حرماتهم. قال الله تعالى: "ومَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ"[140]، وقال تعالى: "وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ"[141]، وقال تعالى: "وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ"[142]، وقال تعالى: "وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (58)"[143]، وثبت في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله عز وجل قال: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب"[144]، وروى الخطيب البغدادي عن الشافعي وأبي حنيفة رضي الله عنهما قالا: (إن لم يكن الفقهاء أولياء الله فليس لله ولي) وفي كلام الشافعي: (الفقهاء العاملون)[145].
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: (من آذى فقيهاً فقد آذى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن آذى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد آذى الله عز وجل).(/32)
وقال الإمام الحافظ أبو القاسم ابن عساكر رحمه الله: اعلم يا أخي وفقني الله وإياك لمرضاته، وجعلنا ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته، أن لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في هتك أسرار منتقصهم معلومة، وأن من أطلق لسانه في العلماء بالثلب، بلاه الله قبل موته بموت القلب، "فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ"[146] )[147].
ومن ثم فإن ما ورد من أقوالهم القائمة على دلالة شرعية معتبرة يجب احترامها واحترام القائل بها دون انتقاصه أو التقليل من شأنه. ومَنْ هذا شأنه هل ينكر عليه؟.
للعلماء في ذلك ثلاثة أقوال:
القول الأول: أنه لا ينكر عليه، وهو قول جمهور العلماء.
القول الثاني: أنه ينكر على المقلد دون المجتهد.
القول الثالث: أنه ينكر على كل من أخذ بقول مخالف.
ولإيضاح تلك الأقوال أُورد فيما يلي نصوص العلماء في ذلك:
نص أصحاب القول الأول القائل بعدم الإنكار عليه:
(يقول النووي: أما المختلف فيه فلا إنكار فيه؛ لأن على أحد المذهبين كل مجتهد مصيب، وهذا هو المختار عند كثير من المحققين أو أكثرهم[148].
وروي أن أبا جعفر المنصور وهو بمكة قال لمالك: اجعل العلم يا أبا عبدالله علماً واحداً. قال: فقلت له: (يا أمير المؤمنين إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تفرقوا في البلاد فأفتى كل في مصره بما رآه)[149].
وقال عمر بن عبدالعزيز: ما يسرني أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا؛ لأنهم إذا اجتمعوا على قول فخالفهم رجل كان ضالاً، وإذا اختلفوا فأخذ رجل بقول هذا ورجل بقول هذا كان في الأمر سعة.
وكذلك قال غير مالك من الأئمة: ليس للفقيه أن يحمل الناس على مذهبه.(/33)
ولهذا قال العلماء المصنفون في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أصحاب الشافعي وغيره: إن مثل هذه المسائل الاجتهادية لا تنكر باليد، وليس لأحد أن يلزم الناس باتباعه فيها، ولكن يتكلم فيها بالحجج العلمية، فمن تبين له صحة أحد القولين تبعه، ومن قلد أهل القول الآخر فلا إنكار عليه[150].
يقول سفيان الثوري: إذا رأيت الرجل يعمل العمل الذي قد اختلف فيه وأنت ترى غيره فلا تنهه[151].
وقال: ما اختلف فيه الفقهاء فلا أنهى أحداً من إخواني أن يأخذ به[152].
قال ابن رجب الحنبلي: فأما المختلف فيه فمن أصحابنا من قال: لا يجب إنكاره على من فعله مجتهداً أو مقلداً لمجتهد تقليداً سائغاً[153].
وقال مهنا: سمعت أحمد يقول: من أراد أن يشرب هذا النبيذ يتبع فيه شرب من شربه فليشربه لوحده[154].
سئل ابن تيمية عمن يُقلد بعض العلماء في مسائل الاجتهاد فهل يُنكر عليه أم يهجر، وكذلك من يعمل بأحد القولين؟
فأجاب: الحمد لله. مسائل الاجتهاد من عمل فيها بقول بعض العلماء لم يُنكر عليه ولم يُهجر، ومن عمل بأحد القولين لم يُنكر عليه، وإذا كان في المسألة قولان، فإن كان الإنسان يظهر له رجحان أحد القولين عمل به، وإلا قلد بعض العلماء الذين يُعتمد عليهم في بيان أرجح القولين[155].(/34)
وقد يقول كثير من علماء المسلمين أهل العلم والدين من الصحابة والتابعين وسائر أئمة المسلمين، كالأئمة الأربعة وغيرهم أقوالاً باجتهادهم فهذه يسوغ القول بها، ولا يجب على كل مسلم أن يلتزم إلاَّ قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا شرع دخل فيه التأويل والاجتهاد، وقد يكون في نفس الأمر موافقاً للشرع المنزل فيكون لصاحبه أجران، وقد لا يكون موافقاً له، لكن لا يُكلف الله نفساً إلاَّ وسعها، فإذا اتقى العبد الله ما استطاع آجره الله على ذلك وغفر له خطأه، وما كان هكذا لم يكن لأحد أن يذمه، ولا أن يعيبه، ولا يعاقبه، ولكن إذا عرف الحق بخلاف قوله لم يجز ترك الحق الذي بعث الله به رسوله لقول أحد من الخلق، وذلك هو الشرع المنزل من عند الله وهو الكتاب والسنة[156].
نصوص أصحاب القول الثاني القائل بأنه ينكر على المقلد دون المجتهد:
وعن أحمد رواية ثالثة: لا ينكر على المجتهد، بل على المقلد.
قال إسحاق بن إبراهيم عن الإمام أحمد أنه سئل عن الصلاة في جلود الثعالب؟ قال: إذا كان متأولاً أرجو أن لا يكون به بأس، وإن كان جاهلاً ينهى ويقال له: إن النبي صلى الله عليه وسلم قد نهى عنها[157].
نص أصحاب القول الثالث القائل بأنه ينكر على من أخذ بقول مخالف:
وفي رواية الميموني في الرجل يمر بالقوم وهم يلعبون بالشطرنج ينهاهم ويعظهم.
وقال أبو داود: سمعت أحمد سئل عن رجل مر بقوم يلعبون بالشطرنج فنهاهم فلم ينتهوا، فأخذ الشطرنج فرمى به، فقال: قد أحسن، وقال في رواية أبي طالب في من يمر بالقوم يلعبون الشطرنج يقلبها عليهم إلاَّ أن يغطوها ويستروها.
وصلى أحمد يوماً إلى جنب رجل لا يتم ركوعه ولا سجوده فقال: يا هذا أقم صلبك، وأحسن صلاتك.
وقال المروذي: قلت لأبي عبدالله دخلت على رجل وكان أبو عبدالله بعث بي إليه بشيء فأتى بمكحلة رأسها مفضض فقطعتها، فأعجبه ذلك وتبسم، وأنكر على صاحبها.(/35)
وجاء في الأحكام السلطانية لأبي يعلى: المجاهرة بإظهار النبيذ كالخمر، وليس في إراقته غُرم[158].
وذكر ابن الجوزي أنه ينكر على من يسيء في صلاته بترك الطمأنينة في الركوع والسجود مع أنها من مسائل الخلاف.
وقال الشيخ عبدالقادر: يجب أن يأمره ويعظه[159].
وذكر أيضاً المنكرات في غمس اليد والأواني النجسة في المياه القليلة قال: فإن فعل ذلك مالكي لم ينكر عليه، بل يتلطف به ويقول له: يمكنك أن لا تؤذيني بتفويت الطهارة عليّ[160].
وجاء: وله كسر آلة اللهو وصور الخيال ودف الصنوج وشق وعاء الخمر وكسر دنه إن تعذر الإنكار بدون. وقيل مطلقاً[161].
الأدلة:
استدلال أصحاب القول الثالث بما يلي:
لم أجد لهؤلاء دليلاً، وقد حمل القاضي وابن عقيل من الحنابلة رواية الميموني على أن الفاعل ليس من أهل الاجتهاد ولا هو مقلد لمن يرى ذلك[162].
وما ورد من إنكار الإمام أحمد على من استعمل رأس المكحلة المفضض فقد يكون باعتبار أن الرجل ممن يعتقد تحريم جميع أواني الفضة والذهب وأنه متهاون باستعمال المكحلة.
ويقال مثل هذا في الشطرنج ونحوه من الأمور المختلف فيها بين العلماء[163].
أدلة القول الثاني القائل بأنه ينكر على المقلد دون المجتهد:
لم أجد لهؤلاء دليلاً، ولعل تفريقهم بين المتأول والجاهل باعتبار أن المتأول تأول وفق اعتبار شرعي، أما الجاهل فلا يحل له العمل بما عنده ومن ثم فينكر عليه وإن كان مقلداً تقليداً سائغاً فلا ينكر عليه[164].
أدلة أصحاب القول الأول القائل بعدم الإنكار على المجتهد:
استدلوا بما يلي:(/36)
1 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هلم أكتب لكم كتاباً لا تضلون بعده". فقال عمر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد غلب عليه الوجع وعندكم القرآن وحسبنا كتاب الله، فاختلف أهل البيت فاختصموا، فمنهم من يقول: قربوا يكتب لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاباً لن تضلوا بعده، ومنهم من يقول ما قال عمر، فلما أكثروا اللغو والاختلاف عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قوموا"[165].
ففي تركه صلى الله عليه وسلم الإنكار على عمر دليل على استصوابه[166]. مما يسوغ معه تعدد آراء المجتهدين، كما في هذا الحديث على اعتقاد أن ما صدر منه صلى الله عليه وسلم من غير قصد جازم[167].
2 - عن ابن عمر رضي الله عنهما. قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب: "لا يصلين أحدكم العصر إلاَّ في بني قريظة"[168]، فأدرك بعضهم العصر في الطريق. فقال بعضهم: لا نصلي العصر حتى نأتيها، وقال بعضهم: بل نصلي لم يُرد منا ذلك، فَذُكِرَ ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يعنف واحداً منهم[169].
فعدم تعنيفه صلى الله عليه وسلم على اجتهادهم دلالة على عدم الإنكار عند الاختلاف السائغ في الشرع.(/37)
3 - إن من أصول أهل السنة والجماعة أن من تولى بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم كالخلفاء الراشدين وغيرهم لا يجب أن ينفرد واحد منهم بعلم لا يعلمه غيره، بل علم الدين الذي سنه الرسول صلى الله عليه وسلم يشترك المسلمون في معرفته. ولهذا كان الخلفاء يسألون الصحابة في بعض الأمور. هل عندكم علم عن النبي صلى الله عليه وسلم كسؤال أبي بكر عن ميراث الجدة ووجد العلم عند محمد بن مسلمة[170]، وكذلك عمر لما سأل عن الجنين إذا قُتِلَ فأخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى فيه بغُرة عبد أو أَمة[171]، وقوله: امرأة أصابت ورجل أخطأ[172]، وكان في مسائل النزاع يرى رأياً، ويرى علي بن أبي طالب رأياً، ويرى عبدالله بن مسعود رأياً، ويرى زيد بن ثابت رأياً فلم يلزم أحداً أن يأخذ بقوله، وقال للرجل: لو كنت أردك إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لفعلت، ولكني أردك إلى رأيي والرأي مشترك فلم ينقض ما قال علي وزيد[173]، بل كل منهم يفتي بقوله وعمر رضي الله عنه إمام الأمة كلها، وأعلمهم وأدينهم، وأفضلهم[174].
4 - إن اجتهاد العلماء في الأحكام كاجتهاد المستدلين على جهة الكعبة فإذا صلى أربعة أنفس كل واحد منهم بطائفة إلى أربع جهات لاعتقادهم أن القبلة هناك فإن صلاة الأربعة صحيحة والذي صلى إلى جهة الكعبة واحد وهو المصيب الذي له أجران[175]. مما يدل على أنه لا ينكر على أي منهم.
الترجيح:
مما سبق يظهر لي أن الراجح في ذلك هو عدم الإنكار على المخالف في مسائل الخلاف وفق ما ذُكِرَ.
قال أحمد في رواية المروذي: لا ينبغي للفقيه أن يحمل الناس على مذهبه ولا يشدد عليهم.
وقال ابن مفلح: ولا إنكار فيما يسوغ فيه خلاف من الفروع على من اجتهد فيه أو قلد مجتهداً فيه، مثل شرب يسير النبيذ والتزوج بغير ولي، وبأكل متروك التسمية[176].(/38)
قال الشنقيطي: وأما إن كان من مسائل الاجتهاد فيما لا نص فيه فلا يحكم على أحد من المجتهدين بأنه مرتكب منكراً فالمصيب منهم مأجور بإصابته والمخطئ منهم معذور[177].
ولكن يندب الخروج من الخلاف بالإنكار باللسان على جهة النصيحة، وأن يكون برفق[178]، وهذا هو مقتضى ما أشار إليه شيخ الإسلام ابن تيمية من الكلام فيه بالحجج العلمية فمن تبين له صحة أحد القولين تبعه[179]، والصحابة رضي الله عنهم كانوا يتناظرون في المسألة الواحدة مناظرة مشاورة ومناصحة، وربما اختلف قولهم في المسألة العلمية والعملية مع بقاء الألفة والعصمة وأخوة الدين، ولا يقصدون إلاَّ الخير ولم يبدع بعضهم بعضاً[180].
الفصل الخامس: في موقف المحتسب من حمل الناس على وحه من أوجه الخلاف:
المراد بالمحتسب هنا هو الإمام والأمور المتعلقة بالإمام متعلقة بنوابه. فأمر الحاكم الذي هو نائب الإمام فيه كأمر الإمام، وما جاز للإمام التصرف فيه جاز لنائبه فيما أنابه فيه[181].
وهذا الفصل فيه مطلبان:
المطلب الأول: في حمل المحتسب الناس على وجه ضعيف وإلزام الناس به.
سبق أن أوضحت وجوب الإنكار على من أخذ بقول ضعيف أو مرجوح[182].. لكن هل للإمام أن يُلزم الناس بهذا القول؟
في بداية الإجابة على ذلك ينبغي أن نعلم أن أمر الإمام ونائبه يُعد في منزلة الحكم، والحكم قضاء، والقاضي ليس له أن يقضي إلاَّ بالشرع الوارد في الكتاب والسنة، ولا يستلزم القضاء أن يكون شرعاً، لأن القاضي العادل يُصيب تارة ويخطئ أخرى، ولو حكم الحاكم لشخص بخلاف الحق في الباطن لم يجز له أخذه ولو كان الحاكم سيد الأولين والآخرين، كما في الصحيحين عن أم سلمة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنكم تختصمون إليّ، ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض فأقضي له بنحو مما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئاً فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار"[183] )[184].(/39)
والحق تبارك وتعالى فرض على الولاة اتباع الشرع الذي هو الكتاب والسنة، ومقتضى هذا أن يتحرى في اتباع الحق، ومن ثم فلا يحل له أن يحكم بأن السفر إلى غير المساجد الثلاثة مشروع مستحب يثاب فاعله، وأن من قال: أنه لا يستحب، يؤذى ويعاقب، أو يحبس، والحكم بمثل هذا باطل بإجماع المسلمين، ولا يحل لمن عرف دين الإسلام أن يتبع هذا القول، ولا لولي الأمر أن ينفذه[185]، وكذا الأمر إن اختار المحتسب قولاً ضعيفاً مرجوحاً لا يُعتد به لم يجز للناس طاعته وإن أيده بذلك بعض العلماء.
فقد رأى الشيخ عبدالله القلقيلي[186]: إن ولي الأمر إذا أخذ بقول ضعيف لزم الناس الأخذ به على وجه الحتم.
وقد رد عليه سماحة الشيخ/ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز مد الله في عمره فقال: وأما قول المفتي: وإذا قررت الدولة ذلك يكون العمل به لازماً.. فهذا في غاية السقوط، بل هو ظاهر البطلان؛ لأن الحكومة إنما تطاع بالمعروف لا فيما يضر الأمة، ويخالف الشرع المطهر.
يؤيد هذا قوله تعالى: "وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ"[187].
فمع أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يأمر إلا بالمعروف، إلاَّ أن الله تعالى أراد إعلام الأمة وارشادها إلى أن طاعة ولاة الأمور إنما تكون في المعروف[188].
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث علي رضي الله عنه أنه قال: "إنما الطاعة في المعروف"[189].
وفي رواية لمسلم[190]، وأحمد[191]: أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لا طاعة في معصية الله، إنما الطاعة في المعروف".
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "السمع والطاعة حق ما لم يؤمر بمعصية فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة"[192].
والأخذ بقول ضعيف مع وجود ما هو أقوى منه معصية لله تعالى.(/40)
جاء عن ابن فرحون المالكي، وابن عابدين الحنفي: أن الحكم والفُتيا بما هو مرجوح خلاف الإجماع[193]، وما كان خلاف الإجماع فهو باطل لا يحل الأخذ به ولا إلزام الناس به؛ بل الأولى إنكاره.
قال أبو يعلى: وأما ما اختلف الفقهاء في حظره وإباحته فلا مدخل في إنكاره إلاَّ أن يكون مما ضعف فيه الخلاف وكان ذريعة إلى محظور متفق عليه، كربا النقد فالخلاف فيه ضعيف وهو ذريعة إلى ربا النَّساء المتفق على تحريمه، وكنكاح المتعة، ربما صار ذريعة إلى استباحة الزنا، فيدخل في إنكاره كحكم ولايته[194].
وقال الماوردي: وفي معنى المعاملات إن لم تكن منها عقود المناكح المحرمة ينكرها إن اتفق العلماء على حظرها، ولا يتعرض لإنكارها إن اختلف الفقهاء فيها إلا أن يكون مما ضعف الخلاف فيه[195].
ومن ثم فلا يحل للمحتسب أن يحمل الناس على قول ظهر ضعفه.
المطلب الثاني: في موقف المحتسب من حمل الناس على وجه مشتهر من أوجه الخلاف:
للعلماء في ذلك قولان:
القول الأول: ليس للمحتسب أن يحمل الناس على وجه مشتهر من أوجه الخلاف.
القول الثاني: له أن يحمل الناس على وجه مشتهر من أوجه الخلاف.
وفيما يلي أعرض أقوال العلماء في ذلك.
أقوال أصحاب القول الأول:
قال الماوردي: فأما المتعلق بحقوق الله عز وجل... وإن كانوا عددا اُخْتُلِفَ في انعقاد الجمعة بهم.. الحالة الثالثة أن يرى القوم انعقاد الجمعة بهم ولا يراه المحتسب فلا يجوز له أن يعارضهم فيها.. ولا يجوز أن ينهاهم عنها ويمنعهم مما يرونه فرضاً عليهم[196].
وقال: ولكن لو كانت الجماعات في بلد قد اتفق أهله على تأخير صلواتهم إلى آخره، والمحتسب يرى فضل تعجيلها فهل له أن يأمرهم بالتعجيل؟ على وجهين.
وقال: فأما الأذان والقنوت في الصلوات إذا خالف فيه رأي المحتسب فلا اعتراض له فيه بأمر ولا نهي.(/41)
ونص أيضاً في مثل ذلك على الاقتصار على مسح أقل الرأس أو العفو على قدر الدرهم من النجاسات فلا اعتراض له في شيء من ذلك بأمر ولا نهي[197].
وقال الشاطبي: ولا ينقض حكم الحاكم لمصلحة الفصل في الخصومات وإن أدى إلى الحكم بما ليس بمشروع ولو كان حكمه خطأ، إلا إذا خالف إجماعاً أو نصاً أو قاعدة شرعية[198].
قال الماوردي: واختلف الفقهاء من أصحاب الشافعي هل يجوز له أن يحمل الناس فيما ينكره من الأمور التي اختلف الفقهاء فيها على رأيه واجتهاده أم لا؟
على وجهين.. والوجه الثاني ليس له أن يحمل الناس على رأيه واجتهاده ولا أن يقودهم إلى مذهبه لتسويغ الاجتهاد للكافة وفيما اختلف فيه[199].
قال النووي: والأصح أنه لا يغيره.. ولم يزل الخلاف في الفروع بين الصحابة والتابعين فمن بعدهم رضي الله عنهم أجمعين. وكذلك قالوا: ليس للمفتي ولا للقاضي أن يعترض على من خالفه إذا لم يخالف نصاً أو إجماعاً أو قياساً جلياً[200].
يقول ابن تيمية: "... لا يقلْ أحد إنه يجب على صاحب مذهب أن يتبع مذهب غيره لكونه حاكماً، فإن هذا ينقلب فقد يصير الآخر حاكماً فيحكم بأن قوله هو الصواب، فهذا لا يمكن أن يكون كل واحد من القولين المتضادين يلزم جميع المسلمين اتباعه"[201].
وقال: وأما من يقول: إن الذي قلته هو قولي أو قول طائفة من العلماء المسلمين، وقد قلته اجتهاداً أو تقليداً، فهذا باتفاق المسلمين لا تجوز عقوبته ولو كان قد أخطأ خطأً مخالفاً للكتاب والسنة، ولو عوقب هذا لعوقب جميع المسلمين، فإنه ما منهم من أحد إلا وله أقوال اجتهد فيها أو قلد فيها وهو مخطئ فيها، فلو عاقب الله المخطئ لعاقب جميع الخلق والله تعالى يقول: "لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا"[202]، ويقول سبحانه: "رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِيْنَا أَوْ أَخْطَأْنَا"[203] )[204].(/42)
ويقول: فكيف يسوغ لولاة الأمر أن يمكنوا طوائف المسلمين من اعتداء بعضهم على بعض وحكم بعضهم على بعض بقوله ومذهبه، هذا مما يوجب تغير الدول وانتقاضها، فإنه لا صلاح للعباد على مثل هذا[205].
وسُئل عمن ولي أمر المسلمين ومذهبه لا يجوز شركة الأبدان فهل يجوز له منع الناس؟.
فأجاب: ليس له منع الناس من مثل ذلك ولا من نظائره مما يسوغ فيه الاجتهاد، وليس معه بالمنع نص من كتاب ولا سنة، ولا إجماع، ولا هو في معنى ذلك[206].
وقال: ولا يجب على عالم من علماء المسلمين أن يقلد حاكماً لا في قليل ولا في كثير إذا كان قد عرف ما أمر الله به رسوله، بل لا يجب على آحاد العامة تقليد الحاكم في شيء، بل له أن يستفتي من يجوز له استفتاؤه وإن لم يكن حاكماً[207].
قال أبو يعلى: وأما ما اختلف الفقهاء في حظره وإباحته فلا مدخل في إنكاره إلا أن يكون مما ضعف الخلاف فيه[208].
أقوال أصحاب القول الثاني القائل بأن للمحتسب أن يحمل الناس على وجه مشتهر من أوجه الخلاف:
قال الماوردي: واختلف الفقهاء من أصحاب الشافعي هل يجوز له أن يحمل الناس فيما ينكره من الأمور التي اختلف الفقهاء فيها على رأيه واجتهاده أم لا؟
على وجهين: أحدهما: وهو قول أبي سعيد الاصطخري أن يحمل ذلك على رأيه واجتهاده[209].
حكي أن أبا سعيد الاصطخري من أصحاب الشافعي تقلد حسبة بغداد في أيام المقتدر فأزال سوق الدادي ومنع منها، وقال: لا يصلح إلاَّ للنبيذ المحرم وأقر سوق اللعب ولم يمنع منها.
وأما المجاهرة بإظهار النبيذ؛ فعند أبي حنيفة: أنه من الأموال التي يقر المسلمين عليها فيمتنع من إراقته ومن التأديب على إظهاره، وعند الشافعي: أنه ليس بمال كالخمر وليس في إراقته غرم، فيعتبر والي الحسبة بشواهد الحال فيه، فينهى فيه عن المجاهرة ويزجر عليها إن كان لمعاقرة، ولا يريقه عليه إلا أن يأمره بإراقته حاكم من أهل الاجتهاد[210].(/43)
قال مهنا: سمعت الإمام أحمد يقول: من أراد أن يشرب هذا النبيذ يتبع فيه شرب من شربه فليشربه وحده[211]. أي لا يجاهر بشربه.
وأما المجاهرة بإظهار الملاهي المحرمة فعلى المحتسب أن يفصله حتى تصير خشباً لتزول عن حكم الملاهي ويؤدب على المجاهرة بها ولا يكسرها إن كان خشبها يصلح لغير الملاهي[212].
فأما المتعلق بحقوق الله عز وجل فضربان: أحدهما: يلزم الأمر به في الجماعة دون الانفراد كترك الجمعة في وطن مسكون.. أو أن يرى المحتسب انعقاد الجمعة بعدد لا يراه القوم، فهذا مما في استمرار تركه تعطيل الجمعة مع تطاول الزمان وبعده وكثرة العدد وزيادته، فهل للمحتسب أن يأمرهم بإقامتها اعتباراً بهذا المعنى أم لا؟.
على وجهين لأصحاب الشافعي رضي الله عنه: أحدهما: وهو مقتضى قول أبي سعيد الاصطخري أنه يجوز أن يأمرهم بإقامتها اعتباراً بالمصلحة لئلا ينشأ الصغير على تركها فيظن أنها تسقط مع زيادة العدد كما تسقط بنقصانه.
فقد راعى زياد مثل هذا في صلاة الناس في جامعي البصرة والكوفة، فإنهم كانوا إذا صلوا في صحنه فرفعوا من السجود مسحوا جباههم من التراب، فأمر بإلقاء الحصى في صحن المسجد الجامع، وقال: لست آمن أن يطول الزمان فيظن الصغير إذا نشأ أن مسح الجبهة من أثر السجود سُنة في الصلاة[213].
قال ابن القيم: ومن ذلك: أن ولي الأمر يجب عليه أن يمنع من اختلاط الرجال بالنساء في الأسواق والفرح، ومجامع الرجال[214].
وقال مالك: أرى أن يتقدم إلى الصناع في قعود النساء إليهم، ولا تُترك الشابة تجلس إلى الصناع، وأما المتجالة والخادم الدون، ومن لا يتهم على القعود عنده، فلا بأس بذلك، وهو كله صواب[215].
وفي مواهب الجليل: ولا يمنعن من الخروج والمشي في حوائجهن ولو كن معتدات، وإلى المسجد، وإنما يمنعن من التبرج والتكشف والتطيب للخروج والتزين، بل يخرجن وهن منتقبات، ولا يخفقن في المشي في الطرقات، بل يلصقن بالجدران[216].(/44)
يقول ابن القيم: فالإمام مسؤول عن ذلك، والفتنة به عظيمة، قال صلى الله عليه وسلم: "ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء"[217].
ويجب عليه منع النساء من الخروج متزينات متجملات، ومنعهن من الثياب التي يكن بها كاسيات عاريات، كالثياب الضيقة والرقاق ومنعهن من حديث الرجال في الطرقات، ومنع الرجال من ذلك.
وإن رأى ولي الأمر أن يُفسد على المرأة – إذا تجملت وتزينت وخرجت – ثيابها بحبر ونحوه فقد رخص في ذلك بعض الفقهاء وأصاب. وهذا من أدنى عقوبتهن المالية.
وله أن يحبس المرأة إذا أكثرت الخروج من منزلها ولاسيما إذا خرجت متجملة، بل إقرار النساء على ذلك إعانة لهن على الإثم والمعصية، والله سائل ولي الأمر عن ذلك، وقد منع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه النساء من المشي في طريق الرجال، والاختلاط بهم في الطريق، فعلى ولي الأمر أن يقتدي به في ذلك.
وقال الخلال في جامعه: أخبرني محمد بن يحيى الكحال: أنه قال لأبي عبدالله: أرى الرجل السوء مع المرأة؟ قال: صِح به.
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن المرأة إذا تطيبت وخرجت من بيتها فهي زانية[218].
وتمنع المرأة إذا أصابت بخوراً أن تشهد عشاء الآخر في المسجد، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "المرأة إذا خرجت استشرفها الشيطان"[219].
ولاريب أن تمكين النساء من اختلاطهن بالرجال أصل كل بلية وشر، وهو من أعظم أسباب نزول العقوبات العامة، كما أنه من أسباب فساد أمور العامة والخاصة، واختلاط الرجال بالنساء سبب لكثرة الفواحش والزنا، وهو من أسباب الموت العام والطواعين المتصلة.
فمن أعظم أسباب الموت العام كثرة الزنا، بسبب تمكين النساء من اختلاطهن بالرجال، والمشي بينهم متبرجات متجملات ولو علم أولياء الأمر ما في ذلك من فساد الدنيا – والرعية – قبل الدين لكانوا أشد شيء منعاً لذلك[220].(/45)
وإن دعا الإمام العامة إلى شيء وأشكل عليهم لزمهم سؤال العلماء فإن أفتوا بوجوبه قاموا به، وإن أخبروا بتحريمه امتنعوا عنه، وإن قالوا هو مختلف فيه، وقال الإمام يجب، لزمهم طاعته كما تجب طاعته في الحكم[221].
الترجيح:
فيما مضى من عرض أقوال العلماء في موقف المحتسب من حمل الناس على وجه مشتهر من أوجه الخلاف، فإنه يظهر لي أنه لا يحل للمحتسب أن يلزم الناس بقول يراه ولا يراه غيره من العلماء أو من يقلدهم إلاَّ إن كانت مآلات الأخذ بالقول أو الفعل المخالف تؤدي إلى مفاسد محظورة أو إماتة سُنة معلومة، أو معصية يتحقق بها إثم.
والنظر في مآلات الأفعال من مقاصد الشرع، سواء أكانت الأفعال موافقة أم مخالفة.
وفي نظري أن المحتسب المنكر في مسائل الخلاف لابد أن يكون مجتهداً ولو في المسألة المختلف فيها حتى يتمكن من معرفة الخلاف أو لا، ثم الحكم على الأفعال الصادرة من المكلفين وما تؤول إليه، ومن ثم يُقرر الإقدام أو الإحجام.
أما الإقدام دون نظر في ذلك فقد يؤدي إلى مفسدة تساوي ما طلبه أو تزيد عليه، سواء أكانت المفسدة عاجلة أم آجلة، وقد يكون الإحجام عن الاحتساب في ذلك سبب كل بلية[222].(/46)
لهذا فإن إنكار المحتسب – المجتهد – في مسائل الخلاف أمر يحتاج معه إلى علم وذكاء وفطنة ومعرفة حال الفعل وحال الفاعل، والزمان، والمكان، ومدى انتشار الفعل وندرته، والطريقة المناسبة لإنكاره، والطريق الأنسب لتقبل الناس للإنكار. فهو بهذا أشبه بالطبيب يتلمس العلة ويتخذ من الوسائل اللازمة لمعرفتها ثم يصف الدواء اللازم لها، ولا ينبغي لأي محتسب – غير مجتهد – أن يقرر ما يشاء عند مخالفة الناس لما يراه، ولهم فيما يفعلون حجة، والحكم قد يخفى عليه، والحق تبارك وتعالى لم يرض بحَكم واحد بين الزوجين، إذا خيف الشقاق بينهما فإنه لا يعلم أيهما الظالم وليس بينهما بينة، بل أمر بحكمين، غير متهمين، حكم من أهل الرجل وحكم من أهل المرأة، كما قال تعالى: "وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاَحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا"[223].
ففي هذه الآية لما اشتبه الحق لم يجعل الله الحكم لواحد وهو في قضية معينة بين زوجين، ولو حكم حاكم واحد بين زوجين في أمر ظاهر لم ينفذ حكمه باتفاق المسلمين، فكيف بأمور الدين والعبادات التي يشترك فيها جميع المسلمين، وقد اشتبهت على كثير من الناس.
وولي الأمر إن لم يعرف ما جاء بالكتاب والسنة ولم يمكنه أن يعلم، ترك المسلمين على ما هم عليه، كل يعبد الله حسب اجتهاده، وليس له أن يلزم أحداً بقبول قول غيره وإن كان حاكماً[224].
وعمر بن الخطاب رضي الله عنه قال للرجل: (لو كنت أردك إلى كتاب الله أو إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لفعلت، ولكني أردك إلى رأيي والرأي مشترك فلم ينقض ما قال علي وزيد)[225].
أما الإنكار على الأفعال التي تؤول إلى مفاسد أو مآثم فقد فعله صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك ما يلي:(/47)
1 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم أُتي برجل قد شرب الخمر فجلده بجريدتين نحو أربعين، قال: وفعله أبو بكر، فلما كان عمر استشار الناس فقال عبدالرحمن بن عوف: أخف الحدود ثمانون، فأمر به عمر[226].
ولمسلم عن علي في قصة الوليد بن عقبة أن عثمان أمر علياً بجلد الوليد بن عقبة في الخمر، فقال لعبدالله بن جعفر: اجلده، فجلده فلما بلغ أربعين قال: أمسك جلد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين، وجلد أبو بكر أربعين وجلد عمر ثمانين، وكل سُنة وهذا أحب إليّ[227].
2 - روى طاووس عن ابن عباس قال: كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر بن الخطاب: إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم[228].
وفي رواية عن طاووس أن أبا الصهباء قال لابن عباس: هات من هناتك، ألم يكن طلاق الثلاث على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر واحدة، قال: قد كان ذلك، فلما كان في عهد عمر تتابع الناس في الطلاق فأجازه عليهم[229].
يقول ابن تيمية: فلما كان زمن عمر حدث من بعضهم ذنوب أوجبت اجتهاد الإمام في نوع من التشديد عليهم؛ كمنعهم من متعة الحج، وكإيقاع الثلاث إذا قالوها بكلمة، وكتغليظ العقوبة في الخمر[230].
وخلاصة ما مضى: فإنه لا يحل للمحتسب الإنكار على قول في مسألة خلافية مشتهرة وحمل الناس على غيره إلا إن كان الأخذ بالقول أو الفعل المخالف يؤول إلى مفسدة محظورة، أو إماتة سنة معلومة، أو معصية يتحقق بها إثم. والله أعلم.
الفصل السادس: في النتائج المترتبة على مخالفة المنهج الصحيح في الإنكار:(/48)
التزم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالطاعة المطلقة لله بقولهم: (سمعنا وأطعنا) وكان يطيع بعضهم بعضاً، فها هو عمر ينقاد لأبي عبيدة ما لا ينقاد لغيره، وخفي عليهم بعض مسائل الفرائض وغيرها حتى تنازعوا فيها وهم مؤتلفون، كل منهم يقر الآخر على اجتهاده.
فلما كان في آخر خلافة عثمان زاد التغير والتوسع في الدنيا، وحدثت أنواع من الأعمال لم تكن على عهد عمر فحصل من بعض القلوب التنافر حتى قُتِلَ عثمان فصاروا في فتنة عظيمة، قال تعالى: "وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَآصَّةً"[231]، فالفتنة إذا جاءت عمت الظالم والساكت عن نهي هذا الظالم وصار ذلك سبباً لمنعهم كثير من الطيبات، وصاروا يختصمون في متعة الحج ونحوها مما لم تكن فيه خصومة على عهد عمر، فطائفة تمنع المتعة مطلقاً كابن الزبير، وطائفة تمنع الفسخ كبني أمية وأكثر الناس، وصاروا يعاقبون من تمتع، وطائفة أخرى توجب المتعة، وكل منهم لا يقصد مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل خفي عليهم الحكم، وكان ذلك سبب ما حدث من الذنوب[232].(/49)
قال ابن العربي: فلما رفع الميزان... أخذ الله القلوب عن الألفة ونشر جناحاً من التقاطع، حتى سوى جناحين بقتل عثمان، فطار في الآفاق واتصل الهرج إلى يوم المساق، وصارت الخلائق عزين في كل واد من العصبية يهيمون، فمنهم بكرية، وعمرية، وعثمانية، وعلوية، وعباسية، كل تزعم أن الحق معها وفي صاحبها، والباقي ظلوم غشوم، مقتر من الخير عديم. وليس ذلك بمذهب، ولا فيه مقالة، إنما هو حماقات وجهالات، أو دسائس للضلالات، حتى تضمحل الشريعة، وتهزأ الملحدة من الله، ويلهو بهم الشيطان ويلعب، وقد سار بهم في غير مسار، ولا مذهب[233]، ومن النتائج المترتبة على هذا المنهج الوقوع في الإثم وحرمان الناس من العلماء سواء عن طريق استعداء السلطة عليهم بتصيد زلاتهم، أو تحريف أقوالهم أو تأويلها لينال الحاكم منهم، أو من طريق التقليل من شأنهم ومن علمهم الذي يحملونه.
وهذا المنهج يوجد الهجران والقطيعة بين العلماء، بل وبين الناس بعضهم مع بعض؛ لأنهم متبعون لهذا أو ذاك.
وأمة الإسلام بحاجة إلى تآلف العلماء ونصرتهم للحق؛ لأن هذا العصر عصر غربة للإسلام، لقلة العلم، والعلماء بالسنة والكتاب، ولغلبة الجهل، وكثرة الشرور، والمعاصي، وأنواع الكفر، والضلال، والإلحاد، وعصر هذا شأنه فإن الأمة بحاجة إلى تكثير سواد العلماء لا قلتهم، وبحاجة إلى أن لا نُعين الشيطان عليهم كما روي ذلك عن سلمان الفارسي[234].
يقول ابن تيمية: وإذا ألزم ولاة الأمر الناس على ما لم يعرفوا حكمه ولم يمكنهم معرفته فإن البأس سيقع بينهم، وهذا من أعظم أسباب تغير الدول كما قد جرى مثل هذا مرة بعد مرة في زماننا وغير زماننا[235]، ويقول: فكيف يسوغ لولاة الأمر أن يمكنوا طوائف المسلمين من اعتداء بعضهم على بعض، وحكم بعضهم على بعض بقوله ومذهبه. هذا مما يوجب تغير الدول وانتقاضها فإنه لا صلاح للعباد على مثل هذا[236].(/50)
ومن نتائج الجهل بالإنكار الصحيح تشكيك الناس بالدين الصحيح والهرج فيما لا علم لهم به، فيكثر المُفتون بغير علم، ويكثر المُنكرون عن جهل، فيتحول الناس إلى فعل العادات الجارية لا العبادات المشروعة، ويحصل بذلك غلبة الجهل وقلة الدين.
نسأل الله العفو والعافية، والحمد لله رب العالمين.
ــــــــــــــــــــــــ
[1] فيض القدير ج1 ص209، وانظر شرح السنة للبغوي 1/229، 230.
[2] سورة آل عمران، الآية 105.
[3] سورة آل عمران، الآية 103.
[4] فيض القدير، ج1 ص210.
[5] أخرجه البخاري في كتاب الاعتصام باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ، فتح الباري ج13 ص318، وأخرجه مسلم في كتاب الأقضية باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ، صحيح مسلم بشرح النووي ج12 ص13.
[6] الرسالة للإمام الشافعي، مسألة رقم 1407 ص494.
[7] الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي ج4 ص194.
[8] انظر سير أعلام النبلاء، ج11 ص370.
[9] انظر تاريخ بغداد، ج13 ص352.
[10] مجموع فتاوى ابن تيمية، ج24، ص242.
[11] سورة المائدة، الآية 101.
[12] سورة البقرة، الآية 216.
[13] مجموع فتاوى ابن تيمية، ج14 ص159.
[14] لسان العرب، مادة خلف.
[15] المصباح المنير، مادة خلف.
[16] سورة مريم، الآية 7.
[17] المفردات في غريب القرآن، مادة خلف. وبصائر ذوي التمييز، مادة خلف ج2 ص562.
[18] فيض القدير، ج1 ص209.
[19] لسان العرب، مادة خلف.
[20] سورة النور، الآية 63.
[21] سورة النحل، الآية 64.
[22] سورة البقرة، الآية 213.
[23] سورة الزخرف، الآية 63.
[24] سورة هود، الآيتان 42، 43.
[25] سورة الأنبياء، الآية 79.
[26] انظر موقف الأمة من اختلاف الأئمة، للشيخ عطية سالم ص16.
[27] مجموع فتاوى ابن تيمية، ج20 ص232.
[28] أخرجه الترمذي وصححه من حديث قبيصة بن ذؤيب، الجامع الصحيح 4/420، وابن ماجه في سننه 2/909، ومالك في الموطأ ص346.(/51)
[29] أخرجه البخاري من حديث أبي سعيد الخدري، فتح الباري 11/26، ومسلم، وصحيح مسلم بشرح النووي 14/130، وأبو داود، عون المعبود 14/84، وأحمد في مسنده 3/6.
[30] أخرجه البخاري من حديث عبدالله بن عباس رضي الله عنهما، فتح الباري 10/179.
[31] سورة النساء، الآية 20.
[32] الحديث أخرجه سعيد بن منصور في سننه ج1 ص195، وعبدالرزاق في مصنفه، ج6 ص18.
[33] أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه، نيل الأوطار ج6 ص264.
[34] انظر مجموع فتاوى ابن تيمية، ج20 ص332 فما بعدها بتصرف.
[35] انظر المنهاج في ترتيب الحجاج ص95، ونيل الأوطار 6/265.
[36] انظر الأحاديث الواردة في ذلك في نيل الأوطار 8/212.
[37] انظر المرجع السابق 8/215، 211.
[38] مجموع فتاوى ابن تيمية 20/244.
[39] انظر بداية المجتهد 2/89، وانظر لسان العرب، مادة قرأ.
[40] انظر الأحاديث الواردة في ذلك في نيل الأوطار 8/318.
[41] انظر مجموع فتاوى ابن تيمية، ج20 ص245 فما بعدها بتصرف، وانظر فتح الباري ج4 ص330.
[42] انظر الأحاديث الواردة في ذلك في نيل الأوطار ج5 ص208.
[43] الحرورية: هم الخوارج ونسبتهم إلى حرورة وهو موضع بظاهر الكوفة وبه كان أول اجتماعهم حين خالفوا علياً رضي الله عنه وخرجوا عليه.
[44] انظر سير أعلام النبلاء ج7 ص142، والقصة واردة في طبقات الحنابلة ج1 ص251، وتاريخ بغداد 2/302.
[45] مجموع فتاوى ابن تيمية، 20/250.
[46] من حديث أخرجه البخاري، فتح الباري ج1 ص456، 443.
[47] القول عن عمر أخرجه ابن أبي شيبة من رواية سعيد بن المسيب والحديث عن الرسول r عند البخاري، فتح الباري ج12 ص225، 226.
[48] أي متعة الحج.
[49] مجموع فتاوى ابن تيمية، ج20 ص215.
[50] مجموع فتاوى ابن تيمية، ج20 ص211.
[51] انظر تاريخ بغداد، ج13 ص352.
[52] مجموع فتاوى ابن تيمية، ج20 ص211.
[53] انظر الموافقات للشاطبي، ج4 ص286- 288، وترتيب المدارك ج1 ص145 فما بعدها.(/52)
[54] مجموع فتاوى ابن تيمية، ج20 ص211، والمجموع، ج1 ص108، وإعلام الموقعين 4/233.
[55] المجموع، ج1 ص108، وإعلام الموقعين ج4 ص233.
[56] انظر إعلام الموقعين، ج4 ص233.
[57] انظر الرسالة، مسألة رقم 598 ص219.
[58] مجموع فتاوى ابن تيمية، ج20 ص211، 212، 226، وإعلام الموقعين ج2 ص201.
[59] الرسالة، مسألة رقم 539 ص198.
[60] إعلام الموقعين، ج2 ص200.
[61] جامع بيان العلم وفضله، ص359.
[62] مجموع فتاوى ابن تيمية، ج35 ص372.
[63] مجموع فتاوى ابن تيمية، ج35 ص372.
[64] إعلام الموقعين، ج4 ص263.
[65] مجموع فتاوى ابن تيمية، ج20 ص213، 214.
[66] أي مزارع أهل المدينة التي تنبت البقل، انظر لسان العرب، مادة بقل.
[67] مجموع فتاوى ابن تيمية، ج20 ص306، وانظر ترتيب المدارك، 1/224.
[68] انظر الإمام زفر بن الهذيل، للدكتور عبدالستار حامد، ص339 طبع سنة 1402هـ ببغداد.
[69] المجموع للنووي، ج1 ص108.
[70] انظر لسان العرب، مادة بدع.
[71] الحديث أخرجه مسلم من حديث جرير بن عبدالله في كتاب العلم باب من سن سنة حسنة أو سيئة، صحيح مسلم بشرح النووي ج16 ص226، وأخرجه ابن ماجه في المقدمة باب من سن سُنة حسنة أو سيئة، سنن ابن ماجه ج1 ص74، وأخرجه أحمد في مسنده ج4 ص361، 362.
[72] النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير، مادة بدع.
[73] انظر تهذيب الأسماء واللغات، ج3 ص22، طبع دار الكتب العلمية، وصحيح مسلم بشرح النووي، ج6 ص154، والسنن والمبتدعات، لمحمد الشقيري ص16 الناشر مكتبة الجمهورية العربية المتحدة.
[74] أخرجه مسلم في كتاب الجمعة باب خطبته r في الجمعة، صحيح مسلم بشرح النووي ج6 ص153، وأخرجه أبو داود في كتاب السنة باب في لزوم السنة، عون المعبود ج12 ص360.
[75] أخرجه مسلم في كتاب الأقضية باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور، صحيح مسلم بشرح النووي ج12 ص16، وأخرجه أحمد في مسنده ج6 ص256.
[76] صحيح مسلم بشرح النووي، ج12 ص16.(/53)
[77] انظر فتح الباري شرح صحيح البخاري، ج5 ص303.
[78] انظر فيض القدير، ج1 ص209.
[79] انظر بعض المسائل التي اختلف عليها بعض الصحابة في الأصول، مجموع فتاوى ابن تيمية، ج24، ص172.
[80] انظر مجموع فتاوى ابن تيمية، ج4 ص172، 173.
[81] شرح السنة للبغوي، ج1 ص227- 230.
[82] انظر الآداب الشرعية، لابن مفلح ج1 ص199، 200.
[83] الكتاب مخطوط في طهران ولم يُطبع بعد.
[84] انظر الآداب الشرعية، لابن مفلح ج1 ص201.
[85] انظر جامع بيان العلم وفضله، ص366.
[86] أخرجه البخاري عن كعب بن مالك، فتح الباري ج8 ص113، والبغوي في شرح السنة 1/224.
[87] أخرجه الدارمي عن نافع، سنن الدارمي ج11 ص55.
[88] انظر مجموع فتاوى ابن تيمية، ج24 ص174، 175.
[89] انظر شرح السنة للبغوي، ج1 ص224.
[90] انظر شرح السنة للبغوي، ج1 ص227، 228.
[91] انفرد به الإمام مالك، ورواه في جامع الصلاة رقم 418 عن يحيى بن سعيد وهو منقطع.
[92] انظر الموافقات، ج2 ص173.
[93] ورد حديث في البتع عند البخاري ومسلم، انظر جامع العلوم والحكم، ص366.
[94] الموافقات، ج4 ص141، 142.
[95] الموافقات، ج4 ص222.
[96] تبصرة الحكام، ج1 ص52.
[97] انظر تبصرة الحكام، ج1 ص52.
[98] انظر مجموع فتاوى ابن تيمية، ج20 ص214.
[99] تبصرة الحكام، ج1 ص48.
[100] انظر الموافقات، ج4 ص145.
[101] سورة النساء، الآية 135.
[102] سورة ص، الآية 26.
[103] سورة الكهف، الآية 28.
[104] انظر: سورة الأعراف، الآية 176، وسورة طه، الآية 16، وسورة الفرقان، الآية 43، وسورة القصص، الآية 50، وسورة الجاثية، الآيتان 18 و23، وسورة المائدة، الآيتان 49 و77، وسورة الأنعام الآيتان 56 و150، وسورة البقرة، الآية 120 و145. إلى غير ذلك من الآيات الدالة على ذلك وهي كثيرة في القرآن.
[105] انظر الأحكام في أصول الأحكام، لابن حزم، ج6 ص317، وجامع بيان العلم وفضله، ص360.
[106] انظر سير أعلام النبلاء، ج7 ص125.(/54)
[107] انظر جامع بيان العلم وفضله، ص360، والإنصاف، ج11 ص196.
[108] انظر الموافقات، ج4 ص135.
[109] النبيذ المختلف فيه هو: ما حدثت فيه الحموضة من نقيع التمر أو الزبيب أو غيره وصار شرب الكثير منه يسكر، فجمهور الأئمة أن له حكم الخمر يحرم شرب قليله وكثيره لإسكاره، وجمهور الحنفية لا يحرم إلا شرب القدر المسكر منه/ هامش الآداب الشرعية، ج1 ص163.
[110] انظر الآداب الشرعية، لابن مفلح، ج1 ص163.
[111] انظر الموافقات، ج4 ص133.
[112] انظر تبصرة الحكام، ج1 ص53.
[113] مجموع فتاوى ابن تيمية، ج20 ص214.
[114] مجموع فتاوى ابن تيمية، ج20 ص185.
[115] مجموع فتاوى ابن تيمية، ج32 ص137.
[116] انظر جامع العلوم والحكم، ص284.
[117] سورة البقرة، الآية 185.
[118] سورة الحج، الآية 78.
[119] أخرجه مالك مرسلاً/ شرح الزرقاني 4/3، وأحمد/ الفتح الرباني 15/110، وابن ماجه عن عبادة بن الصامت، وفي الزوائد إسناد رجاله ثقات إلا أنه منقطع/ سنن ابن ماجه 2/874.
[120] أخرجه الخطيب البغدادي في تاريخه، ج7 ص209.
[121] انظر المحصول في علم أصول الفقه، ج2 ق3 ص214.
[122] انظر الموافقات، ج4 ص145.
[123] انظر الموافقات، ج4 ص149.
[124] انظر إعلام الموقعين، ج4 ص264.
[125] انظر تبصرة الحكام، ج1 ص53.
[126] انظر الموافقات للشاطبي، ج4 ص214.
[127] المرجع السابق، ج1 ص80.
[128] نفس المرجع، ج4 ص214.
[129] نفس المرجع، ج4 ص217.
[130] مجموع فتاوى ابن تيمية، 4/172.
[131] انظر جامع العلوم والحكم، ص284، انظر شرح النووي على صحيح مسلم، ج2 ص23.
[132] إعلام الموقعين، 3/288.
[133] انظر أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، ج2 ص174.
[134] حتى لا يعان عليه الشيطان قال سلمان الفارسي: كيف أنني عند ثلاث: زلة عالم، وجدال منافق بالقرآن، ودنيا تقطع أعناقكم.(/55)
فأما زلة العالم فإن اهتدى فلا تقلدوه دينكم تقولون نصنع مثل ما يصنع فلان وننتهي عما ينتهي عنه فلان، وإن أخطأ فلا تقطعوا إياسكم منه فتعينوا عليه الشيطان. الموافقات، ج4 ص169.
[135] الموافقات، ج4 ص170.
[136] رواه البزار، والطبراني عن طريق كثير بن عبدالله وهو واه، وقد حسنها الترمذي في مواضع فأنكر عليه، واحتج بها ابن خزيمة في صحيحه هامش الموافقات 4/169.
[137] الموافقات للشاطبي، ج4 ص168، 169.
[138] انظر الآداب الشرعية، ج1 ص163.
[139] مجموع فتاوى ابن تيمية، ج35 ص382.
[140] سورة الحج، الآية 32.
[141] سورة الحج، الآية 30.
[142] سورة الحجر، الآية 88.
[143] سورة الأحزاب، الآية 88.
[144] أخرجه في كتاب الرقاق باب التواضع/ صحيح البخاري 7/190، وأخرج أحمد نحوه في مسنده ج6 ص256.
[145] المراد بالفقيه هنا: هو الزاهد في الدنيا، الراغب في الآخرة، البصير بدينه، والمداوم على عبادة ربه، الورع الكاف عن أعراض المسلمين/ كشاف الاصطلاحات والفنون، مادة علم الفقه، ج1 ص36، وسير أعلام النبلاء ج4 ص576.
[146] سورة النور، الآية 63.
[147] انظر المجموع ج1 ص46.
[148] انظر شرح النووي على صحيح مسلم، ج2 ص23.
[149] انظر ترتيب المدارك، ج1 ص192.
[150] مجموع فتاوى ابن تيمية، ج30 ص79، 80.
[151] انظر حلية الأولياء، ج6 ص368، والفقيه والمتفقه، ج2 ص69.
[152] انظر الفقيه والمتفقه، ج2 ص69.
[153] انظر جامع العلوم والحكم، ص284.
[154] انظر الآداب الشرعية، ج1 ص166.
[155] مجموع فتاوى ابن تيمية، ج20 ص207.
[156] فتاوى ابن تيمية، ج35، ص366، 367.
[157] انظر الآداب الشرعية لابن مفلح، ج1، ص167.
[158] المرجع السابق، ج1 ص167.
[159] مسألة الإنكار على من لم يطمئن في صلاته؛ لأنه فعل ما ضعف فيه الخلاف لثبوت الأحاديث الواردة في الطمأنينة في الصلاة.
[160] الآداب الشرعية، ج1 ص168.
[161] نفس المرجع السابق، ج1 ص195.
[162] نفس المرجع، ج1 ص167.(/56)
[163] انظر هامش المرجع السابق.
[164] انظر الآداب الشرعية، ج1 ص164.
[165] أخرجه مسلم/ صحيح مسلم بشرح النووي، ج11 ص95.
[166] صحيح مسلم بشرح النووي، ج11 ص91.
[167] صحيح مسلم بشرح النووي، ج11 ص92.
[168] أخرجه البخاري في صحيحه 5/48، وأخرجه مسلم / صحيح مسلم بشرح النووي، ج12 ص97.
[169] انظر مجموع فتاوى ابن تيمية، ج24 ص173.
[170] سبق تخريجه في الفصل الثالث. السبب الأول.
[171] أخرجه البخاري في صحيحه/ فتح الباري 12/247، ومسلم/ صحيح مسلم بشرح النووي، 11/179.
[172] سبق تخريجه في الفصل الثالث. السبب الخامس.
[173] أورده ابن عبدالبر في جامع بيان العلم وفضله باب اجتهاد الرأي على الأصول ص318، وابن القيم في إعلام الموقعين ج1 ص65.
[174] انظر مجموع فتاوى ابن تيمية، ج20 ص234، 238، ج35 ص384، 385.
[175] انظر مجموع فتاوى ابن تيمية، ج20 ص224.
[176] انظر الآداب الشرعية، ج1 ص166.
[177] انظر أضواء البيان، ج2 ص274.
[178] انظر الآداب الشرعية، ج1 ص170.
[179] مجموع فتاوى ابن تيمية، ج30 ص79، 80.
[180] مجموع فتاوى ابن تيمية، ج24 ص172.
[181] مجموع فتاوى ابن تيمية، ج30 ص407.
[182] انظر الفصل الثاني من هذا البحث.
[183] أخرجه البخاري في كتاب الشهادات باب من أقام البينة بعد اليمين/ صحيح البخاري ج3 ص162، وأخرجه مسلم في كتاب الأقضية باب أن حكم الحاكم لا يغير الباطن، صحيح مسلم بشرح النووي، ج2 ص4.
[184] مجموع فتاوى ابن تيمية، ج35 ص376.
[185] مجموع فتاوى ابن تيمية، ج35 ص378.
[186] مفتي الأردن آنذاك.
[187] سورة الممتحنة، الآية 12.
[188] انظر مجلة الحج، مجلد 19 عدد 2 في 16 شعبان 1384هـ ص76.
[189] أخرجه البخاري/ فتح الباري 13/122، ومسلم/ صحيح مسلم بشرح النووي، ج12 ص227.
[190] صحيح مسلم بشرح النووي، ج12 ص257.
[191] انظر الفتح الرباني، ج14 ص45.(/57)
[192] أخرجه البخاري/ فتح الباري، 6/115، و13/121، وأخرجه مسلم/ صحيح مسلم بشرح النووي، 12/226.
[193] انظر تبصرة الحكام، ج1 ص53، وانظر حاشية ابن عابدين، ج5 ص408.
[194] انظر الأحكام السلطانية، لأبي يعلى ص297.
[195] انظر الأحكام للماوردي، ص253.
[196] انظر الأحكام السلطانية، ص243.
[197] الأحكام السلطانية، ص245.
[198] انظر الموافقات، ج1 ص237.
[199] انظر الأحكام السلطانية، ص241.
[200] صحيح مسلم بشرح النووي، ج2 ص24.
[201] مجموع فتاوى ابن تيمية، ج35 ص379، 380.
[202] سورة البقرة، الآية 286.
[203] سورة البقرة، الآية 286.
[204] مجموع فتاوى ابن تيمية، ج35 ص378.
[205] مجموع فتاوى ابن تيمية، ج35 ص380.
[206] مجموع فتاوى ابن تيمية، ج20 ص79.
[207] مجموع فتاوى ابن تيمية، ج35 ص372.
[208] الأحكام السلطانية، ص297.
[209] الأحكام السلطانية، ص241.
[210] الأحكام السلطانية، ص251.
[211] انظر الآداب الشرعية، ج1 ص166.
[212] الأحكام السلطانية، ص251.
[213] الأحكام السلطانية، ص243، 244.
[214] انظر الطرق الحكمية، ص280.
[215] انظر مواهب الجليل، ج3 ص405.
[216] مواهب الجليل، ج3 ص405.
[217] أخرجه الترمذي عن سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، قال: أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح/ الجامع الصحيح، ج5 ص103.
[218] أخرج نحوه الترمذي عن أبي موسى قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح/ الجامع الصحيح، ج5 ص106.
[219] أخرجه الترمذي عن عبدالله بن مسعود قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب/ الجامع الصحيح، ج3 ص476، قال الهيثمي: رجاله موثقون/ فيض القدير، ج6 ص267.
[220] انظر الطرق الحكمية، ص280، 281.
[221] انظر الآداب الشرعية، ج1 ص62.
[222] انظر الموافقات، ج4 ص194 بتصرف.
[223] سورة النساء، الآية 35.
[224] مجموع فتاوى ابن تيمية، ج35 ص386.
[225] انظر الحديث رقم 3 من أدلة أصحاب القول الأول من المطلب الثاني الفصل الرابع.(/58)
[226] متفق عليه/ انظر سبل السلام شرح بلوغ المرام، ج4 ص36.
[227] انظر سبل السلام، ج4 ص39.
[228] أخرجه أحمد ومسلم/ نيل الأوطار، ج6 ص258.
[229] أخرجها مسلم/ نيل الأوطار ج6 ص258.
[230] مجموع فتاوى ابن تيمية، ج14 ص158.
[231] سورة الأنفال، الآية 25.
[232] مجموع فتاوى ابن تيمية، ج14 ص157.
[233] انظر العواصم من القواصم، ص246.
[234] انظر الموافقات للشاطبي، ج4 ص169.
[235] مجموع فتاوى ابن تيمية، ج35 ص388.
[236] مجموع فتاوى ابن تيمية، ج35 ص380.(/59)
العنوان: الإنكار (معناه، أصل مشروعيته، شروطه، طرائقه)
رقم المقالة: 387
صاحب المقالة: د. عبدالله بن عبدالمحسن بن منصور الطريقي
-----------------------------------------
الحمد لله الذي خلق فأبدع، وأنعم فأكرم، وأصلي وأسلم على محمد وآله وصحبه وسلم، وبعد:
فإن من لطف الله وكرمه على هذه الأمة أن أوضح لها طريق الهداية وبين معالم الغواية، لكن القلوب قد تمرض فتتيه عن الحياة المستقيمة، فشرع لها من العلاج ما يناسب حالها.
وتختلف وسائل العلاج باختلاف أنواع الأمراض التي تصاب بها ؛ فمنها ما تكفيها الإشارة عن صريح العبارة، ومنها ما تحتاج لنظرة عين عاتبة، أو مشفقة، ومنها ما تحتاج لبيان وإيضاح، وجدال ومناقشة، ومنهم من لا يصلحه إلا السوط، أو السجن، وإن كانت فئة أخرى لا يستراح منها إلا بالسيف، وكل هذا لا يكون إلا وفق ضوابط شرعية حددت منذ أن أتم الله هذا الدين، ومن هذه الأمور ما اختص بفعله ولاة الأمر، ومنها ما هو على عامة الناس أو خاصتهم.
والإنكار من الأمور اللازمة لصلاح المجتمعات التي لا تخلو من وجود طفيليات يعقن سيره ويفسدن حاله، فالمبادرة إلى ذلك مهمة لصلاحه وفلاحه.
ولعلي فيما كتبت أن أوضح بعض جوانبه، وأبين بعض غوامضه والبحث يتكون من أربعة فصول:
الفصل الأول: في معنى الإنكار.
الفصل الثاني: في أصل مشروعيته.
الفصل الثالث: في شروط الإنكار.
الفصل الرابع: في طرائق الإنكار.
وأسأل الله تعالى أن يهدينا لأطيب القول وأن ينفعنا به. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
الفصل الأول: في معنى الإنكار
المنكر في الأمر: خلاف المعروف، وكل ما قبحه الشرع وحرمه وكرهه، فهو منكر، والتنكر: التغير، والنكير: اسم الإنكار الذي معناه التغير.
والنكير والإنكار: تغير المنكر[1].
وأصل الإنكار أن يرد القلب مالا يتصوره وذلك ضرب من الجهل.(/1)
وقد يستعمل ذلك فيما ينكر باللسان، وسبب الإنكار باللسان الإنكار بالقلب، ولكن ربما ينكر اللسان الشيء وصورته في القلب حاضرة ويكون في ذلك كاذباً، وعلى هذا قوله تعالى: {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا}[2].
والمنكر: كل فعل تحكم العقول الصحيحة بقبحه، أو تتوقف عن استقباحه العقول فتحكم الشريعة بقبحه، وإلى هذا القصد في قوله تعالى: {الأَمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ}[3].
والنكير: الإنكار قال تعالى: {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ}[4] أي: إنكاري.
والإنكار تغيير المنكر[5].
قال القرطبي: (المنكر ما أنكره الشرع بالنهي عنه، وهو يعم جميع المعاصي والرذائل والدناءات على اختلاف أنواعها)[6].
الفصل الثاني: في أصل مشروعيته
إنكار المنكرات المخالفة للشرع من الأمور الواجبة على من قدر على إنكارها يدل عليه ما يلي:
1 - قال الله تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ}[7].
2 - قال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ}[8].
ففي هاتين الآيتين دلالة على مشروعية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؛ لثناء الله تعالى على من اتصف بذلك، والثناء دلالة على طلب الفعل ممن قدر عليه.(/2)
3 - قال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ * كَانُواْ لا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ}[9] ففي هاتين الآيتين وصف لفئة من بني إسرائيل كانت تعمل المعاصي، وتتعدى، ومع هذا كانوا لا يتناهون عن المنكر الذي يفعلونه، فحق عليهم اللعن والذم لذلك الفعل، وهما يستلزمان طلب الترك، لفعل أمر محظور شرعاً، وما كان محظوراً وجب تركه والإنكار على فاعله، مما يدل على وجوب إنكار المنكر.
4 - قال الله تعالى فيما يحكيه سبحانه عن لقمان: {يَابُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَآ أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ}[10].
قال القرطبي: (يقتضي حضاً على تغيير المنكر، وإن نالك ضرر فهو إشعار بأن المغيِّر يؤذي أحياناً، وهذا القدر على جهة الندب والقوة في ذات الله)[11].
5 - قال تعالى: {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابِ بَئِيسِ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ * فَلَمَّا عَتَوْا عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ}[12].(/3)
روى أشهب عن مالك قال: زعم ابن رومان أنهم كانوا يأخذ الرجل منهم خيطاً ويضع فيه وهقة[13] يلقيها في ذنب الحوت، وفي الطرف الآخر من الخيط وتد ويتركه كذلك إلى الأحد، ثم تطرّق الناس حين رأوا من صنع لا يُبْتَلَى، حتى كثر صيد الحوت ومُشِيَ به في الأسواق، وأعلن الفسقة بصيده، فقامت فرقة فنهت وجاهرت بالنهي واعتزلت. ويقال: إن الناهين قالوا: لا نساكنكم فقسموا القرية بجدار، فأصبح الناهون ذات يوم في مجالسهم ولم يخرج من المعتدين أحد، فقالوا: إن للناس لشأنا، فَعَلَوْا على الجدار فنظروا فإذا هم قردة[14].
ومن هذا نعلم أن الناهين عن المنكر نجوا من العذاب بنص القرآن، أما الظلمة والعتاة فقرر النص القرآني لهم سوء العاقبة والمآل، مما يدل على وجوب إنكار المنكر وعدم التهاون فيه.
6 - عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان))[15]، ففي هذا الحديث دلالة على وجوب إنكار المنكر بحسب القدرة عليه. قال ابن مسعود: (هلك من لم يعرف بقلبه المعروف والمنكر)، يشير إلى أن معرفة المعروف والمنكر بالقلب فرض لا يسقط عن أحد فمن لم يعرفه هلك.
وعن العرس بن عميرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فكرهها كمن غاب عنها، ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها))[16] ؛ لأن الرضا بالخطايا من أقبح المحرمات[17].(/4)
7 - عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض)) ثم قال: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} إلى قوله: {فَاسِقُونَ}[18]، ثم قال: ((كلا والله، لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يدي الظالم، ولتأطرنه[19] على الحق أطرا، ولتقصرنه على الحق قصرا))[20]، وفي رواية: ((أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض، ثم ليلعنكم كما لعنهم))[21].
ففي هذا الحديث دلالة على وجوب رد الناس إلى الحق وإلزامهم إياه، وحبسهم عليه، ومخالفة ذلك تؤول إلى ضرب القلوب بعضها على بعض، واستحقاق اللعن، وهذا بسبب ارتكاب المعاصي، مما يدل على أن عدم إنكار المنكر معصية، وفعل المعصية حرام.
8 - عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((والذي نفسي بيده لتأمُرنَّ بالمعروف ولتنهونَّ عن المنكر أو ليوشكنَّ أن يبعث عليكم عقاباً منه ثم تدعونه فلا يستجاب لكم))[22]، ففي هذا الحديث اقترن لفظ الأمر والنهي بلام الأمر الدالة على طلب الفعل، مما يدل على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفيه أن من لم يفعل ذلك ليوشك أن ينزل به العقاب ومن ثم لا يستجاب له دعاء، ولا خلاص من ذلك إلا بالإنكار على العصاة، وما يؤول إلى الواجب فهو واجب، مما يدل على وجوب الإنكار.(/5)
9 - عن إسماعيل عن قيس قال: قال أبو بكر بعد أن حمد الله وأثنى عليه: يا أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية وتضعونها على غير مواضعها {عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ}[23]، قال: وإنا سمعنا النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب)).
وقال عمرو عن هشيم: وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي ثم يقدرون على أن يغيروا ثم لا يغيروا، إلا يوشك أن يعمهم الله منه بعقاب))[24]. ففي هذا الحديث وعيد على من لم يغير المنكر، والوعيد لا يكون إلا على ترك واجب، وترك الواجب حرام، مما يدل على وجوب تغيير المنكر.
10 - عن عدي بن عميرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الله عز وجل لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروه فلا ينكروه، فإذا فعلوا ذلك عذب الله العامة والخاصة))[25].
ولأبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا خفيت الخطيئة لم تضر إلا صاحبها وإذا ظهرت فلم تغير ضرت العامة))[26].
وفي رواية لأم سلمة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إذا ظهرت المعاصي في أمتي عمهم الله بعذاب من عنده))، فقلت: يارسول الله، أما فيهم الصالحون؟ قال: ((بلى))، قلت: فكيف يصنع بأولئك؟) قال: ((يصيبهم ما أصاب الناس ثم يصيرون إلى مغفرة من الله ورضوان))[27].(/6)
ففي هذه النصوص دلالة على أن المعاصي إذا ظهرت وشاعت ولم تنكر، عم ضررها عامة الناس وخاصتهم، وهذا أمر مشاهد في عصرنا الحاضر، فشيوع الزنا في بعض المجتمعات أدت أضراره إلى إصابة غير الزناة حيث انتقلت أمراضه إليهم عن طريق نقل الدم أو وسائل النقل الأخرى، وقد تكون العقوبة غير ذلك مما يشاء الله من الأمراض، فعن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: أقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((يا معشر المهاجرين خمس إذا ابتليتم بهن، وأعوذ بالله أن تدركوهن، لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا...))[28].
ففي هذا دلالة على وجود علاقة قوية بين ظهور الفاحشة وإعلانها وبين الطاعون والأوجاع التي لم تكن فيمن مضى، وما مرض نقص المناعة المعروف بالإيدز إلا دليلاً على تلك العقوبات المذكورة.
11 - عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إذا رأيت أمتي تهاب الظالم أن تقول له أنت الظالم فقد تودع منهم))[29]. ففي هذا دلالة على أن ترك إنكار المنكرات مهابة من الناس من أسباب حلول العقوبة مما يدل على وجوب إنكار المنكر.(/7)
12 - قال ابن عطية: (الإجماع منعقد على أن النهي عن المنكر فرض لمن أطاقه، وأمن الضرر على نفسه وعلى المسلمين، فإن خاف فينكر بقلبه ويهجر ذا المنكر ولا يخالطه)[30]. وقال النووي: (وأما قوله: ((فليغيره)) فهو أمر إيجاب بإجماع الأمة، وقد تطابق على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الكتاب والسنة وإجماع الأمة، وهو أيضاً من النصيحة التي هي الدين، ولم يخالف في ذلك إلا بعض الرافضة، ولا يعتد بخلافهم، كما قال الإمام أبو المعالي إمام الحرمين: لا يكترث بخلافهم في هذا، فقد أجمع المسلمون عليه قبل أن ينبغ هؤلاء، ووجوبه بالشرع لا بالعقل خلافاً للمعتزلة، وأما قول الله عز وجل: {عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ}[31] فليس مخالفاً لما ذكرناه ؛ لأن المذهب الصحيح عند المحققين في معنى الآية: أنكم إذا فعلتم ما كلفتم به فلا يضركم تقصير غيركم، مثل قوله تعالى: {أَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}[32] وإذا كان كذلك فمما كلف به الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا فعله ولم يمتثل المخاطب فلا عتب بعد ذلك على الفاعل ؛ لكونه أدى ما عليه فإنما عليه الأمر والنهي لا القبول والله أعلم.(/8)
ثم إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية إذا قام به بعض الناس سقط الحرج عن الباقين، وإذا تركه الجميع أثم كل من تمكن منه بلا عذر ولا خوف، ثم إنه قد يتعين كما إذا كان في موضع لا يعلم به إلا هو، أو لا يتمكن من إزالته إلا هو، وكمن يرى زوجته أو ولده أو غلامه على منكر أو تقصير في المعروف. قال العلماء رضي الله عنهم: لا يسقط عن المكلف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؛ لكونه لا يفيد في ظنه، بل يجب عليه فعله فإن الذكرى تنفع المؤمنين... قال العلماء: ولا يشترط في الآمر والناهي أن يكون كامل الحال ممتثلاً ما يأمر به مجتنباً ما ينهى عنه، بل عليه الأمر وإن كان مخلاً بما يأمر به، والنهي وإن كان متلبساً بما ينهى عنه، فإنه يجب عليه شيئان: أن يأمر نفسه وينهاها، ويأمر غيره وينهاه فإذا أخل بأحدهما كيف يباح له الإخلال بالآخر)[33].
(وقال حذّاق أهل العلم: وليس من شرط الناهي أن يكون سليماً عن معصية بل ينهى العصاة بعضهم بعضاً). وقال بعض الأصوليين: فرض على الذين يتعاطون الكؤوس أن ينهى بعضهم بعضاً بدليل قوله تعالى: {كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ}[34]. فهذا يقتضي اشتراكهم في الفعل وذمهم على ترك التناهي)[35].
قال العلماء: (ولا يختص الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأصحاب الولايات بل ذلك جائز لآحاد المسلمين). قال إمام الحرمين: والدليل عليه إجماع المسلمين فإن غير الولاة في الصدر الأول والعصر الذي يليه كانوا يأمرون الولاة بالمعروف وينهونهم عن المنكر مع تقرير المسلمين إياهم وترك توبيخهم على التشاغل بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من غير ولاية)[36].(/9)
وفي ضوء ما تقرر فإن إزالة المنكرات لهي من أوجب الواجبات، وأصل الضرورات لصلاح المجتمعات، عندما تشطط عن طريق الهداية، ويختار بعض أفرادها طريق الغواية. فإن تركت المنكرات ولم تنكر فستعث به كما يعث السوس في الصوف والثياب والطعام، وستنخر في الأمة وتضعف حالها، حتى تكون هزيلة رديئة، لا يتحرك لها قوام، ولا ترتفع منها أعناق، بل سترضى من الأمر بالدون، ومن المتع بالرديء حتى تكون لينة رخوة لا يحمى لها جانب، ولا تصد يد ضارب، تستنجد من الغريب فك الأسر، وحماية الأهل، وأمن الديار، وطرد الأغراب، بل محتاجة منه إلى لقمة هانئة، أو شربة سائغة. لكنها إن أنكرت فقوتها مانعة، وحالها متعافية.
الفصل الثالث: في شروط الإنكار
لا ينبغي لمن يريد الإنكار أن ينكر على مخالفة إلا إذا تحققت به الشروط الآتية:
الشرط الأول: أن يكون فقيها فيما يأمر به، فقيها فيما ينهى عنه[37] فما اختص بعلمه العلماء من دقائق الأفعال والأقوال وما يتعلق بالاجتهاد لم يكن للعوام مدخل فيه، ولا لهم إنكاره بل ذلك للعلماء[38] ؛ لأن الجاهل قد يأمر بما ليس بمعروف وينهى عما ليس بمنكر.
قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُواْ إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي}[39] ففي هذه الآية دلالة على أن الداعي إلى الله لابد من أن يكون على بصيرة: وهي الدليل الواضح الذي لا لبس في الحق معه[40].
والعالم بما يأمر به أو ينهى عنه: هو المتمكن من التفريق بين أنواع المخالفات ودرجة الإنكار اللازم لحال المخالفة ؛ لأن من الأفعال ما هو خفي في الحكم. يقول الشوكاني: (على أن طرف الفخذ قد يتسامح بكشفه في مواطن الحرب ومواقف الخصام)[41].
وعند الحنفية، حكم العورة في الركبة أخف منه في الفخذ، فلو رأى غيره مكشوف الركبة ينكر عليه برفق، ولا ينازعه إن لج، وفي الفخذ بعنف ولا يضربه إن لج، وفي السَّوءة يؤدبه على ذلك إن لج[42].(/10)
وعند المالكية: إن الفخذ عورة مخففة يجوز كشفها مع الخواص ولا يجوز مع غيرهم[43].
قلت: ومثل هذه الأمور لا يدركها إلا فقيه بما يأمر به، أو ينهى عنه.
الشرط الثاني: التحقق من وجود المنكر ومعرفة مكانه.
ويتحقق ذلك عن طريق الرؤية أو العلم به بتحقق وجوده، فمن سمع صوت غناء محرم أو آلات الملاهي وعلم المكان الذي هي فيه فإنه ينكره ؛ لأنه قد تحقق وجود المنكر، وعلم موضعه، فهو كمن رآه.
نص على ذلك الإمام أحمد وقال: (أما إذا لم يعلم مكانه فلا شيء. أما التفتيش عما استراب به فلا يحل)، وكذا تسور الجدران على من علم اجتماعهم على منكر، روي ذلك عن بعض الأئمة مثل سفيان الثوري، وهو داخل في التجسس المنهي عنه[44]. واستثنى أبو يعلى المنكر الذي به انتهاك حرمة يفوت استدراكها كالزنا والقتل، فله التجسس، والإقدام، والكشف، والبحث إن أخبره ثقة، حذراً من فوات مالا يستدرك من انتهاك المحارم، وإن كان دون ذلك في الرتبة لم يجز التجسس عليه ولا الكشف عنه[45].
قال إمام الحرمين: (وليس للآمر بالمعروف البحث والتنقير والتجسس واقتحام الدور بالظنون، بل إن عثر على منكرٍ، غيَّرَهُ جُهْده)[46].
ويجب التثبت من المخالفة المقتضية للإنكار ؛ لأن الأصل حسن الظن بالناس. قال عمر رضي الله عنه[47]: (ولا تظنن بكلمة خرجت من أخيك المؤمن إلا خيراً، وأن تجد لها في الخير محملاً)[48]. وذلك باعتبار أن المخالفة خارجة عن أصل الفطرة الصحيحة، ولأن الأصل حسن الظن بهم لا اتهامهم مالم يقم دليل على الاتهام.
قال تعالى: {يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اجْتَنِبُواْ كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُواْ}[49]، ففي هذه الآية نهي عن الظن السيء الذي لا يرتقي إلى درجة الصدق إنما هو أوهام وشكوك.(/11)
يقول ابن كثير: (يقول الله تعالى ناهياً عباده المؤمنين عن كثير من الظن، وهو التهمة والتخون للأهل، والأقارب، والناس في غير محله ؛ لأن بعض ذلك يكون إثماً محضاً فليجتنب منه احتياطاً)[50].
روى الطبراني بإسناده عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا ظننتم فلا تحققوا))[51] أي: لا تجعلوا ما قام عندكم من الظن محققاً في نفوسكم، محكمين للظن.
ومعنى هذا أن يظل الناس أبرياء، مصونة حقوقهم وحرياتهم واعتبارهم محفوظة كراماتهم حتى يتبين بوضوح أنهم ارتكبوا ما يؤاخذون عليه.
وجاء النهي عن التجسس ؛ لأنه جزء من الظن، وقد يكون حركة ابتدائية لكشف العورات والاطلاع على السوءات والناس لا يؤاخذون إلا بما يظهر منهم من مخالفات وجرائم[52].
والحق تبارك وتعالى يقول: {يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِن جَآءَكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُواْ أَن تُصِيبُواْ قَوْمَاً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُواْ عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}[53].
ففي هذه الآية تأكيد على وضوح مصدر التلقي والابتعاد عن مصادر الأنباء التي تحدث تشويشاً في صفاء المعلومات وخللاً في وسائل نقلها وفي النتائج المترتبة عليها[54].
الشرط الثالث: أن يحصل بالإنكار المعروف الذي يحبه الله ورسوله. فإذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه وأبغض إلى الله ورسوله فإنه لا يسوغ إنكاره، وإن كان الله يبغضه ويمقت أهله. وهذا كالإنكار على الملوك والولاة بالخروج عليهم فإنه أساس كل شر وفتنة إلى آخر الدهر.
وقد استأذن الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتال الأمراء الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها وقالوا: أفلا نقاتلهم ؟ فقال: ((لا، ما أقاموا الصلاة))[55].(/12)
يقول ابن القيم: (ومن تأمل ما جرى على الإسلام في الفتن الكبار والصغار رآها من إضاعة هذا الأصل وعدم الصبر على منكر، فَطُلِب إزالته فتولد منه ما هو أكبر منه، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى بمكة أكبر المنكرات ولا يستطيع تغييرها، بل لما فتح الله مكة وصارت دار إسلام عزم على تغيير البيت ورده على قواعد إبراهيم ومنعه من ذلك – مع قدرته عليه – خشية وقوع ما هو أعظم منه من عدم احتمال قريش لذلك ؛ لقرب عهدهم بالإسلام، وكونهم حديثي عهد بكفر[56]، ولهذا لم يأذن في الإنكار على الأمراء باليد لما يترتب عليه وقوع ما هو أعظم منه)[57].
قال الشنقيطي: (ويشترط في وجوبه مظنة النفع به، فإن جزم بعدم الفائدة فيه لم يجب، كما يدل عليه ظاهر قوله تعالى: {فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى}[58]، وقوله صلى الله عليه وسلم عن أبي ثعلبة الخشني: ((بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحاً مطاعاً، وهوى متبعاً، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه ؛ فعليك بخاصة نفسك ودع عنك أمر العوام فإن من ورائكم أياماً الصابر فيها كالقابض على الجمر للعامل فيهن أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عملكم)) وفي لفظ: قيل يا رسول الله أجر خمسين رجل منا أو منهم ؟ قال: ((بل أجر خمسين منكم))[59]. فهذه الصفات في الحديث: الشح المطاع، والهوى المتبع.. إلخ، مظنة لعدم نفع الأمر بالمعروف، فدل الحديث على أنه إن عدمت فائدته سقط وجوبه[60].
وعلى المُنْكِر أن ينظر للمصالح المترتبة على إنكاره، فإذا كان المنكر الذي يريد إنكاره سيخلفه شر منه فيحرم عليه الإنكار.(/13)
فإذا رأيت أهل الفجور والفسوق يلعبون بالشطرنج كان إنكارك عليهم من عدم الفقه والبصيرة إلا إذا نقلتهم منه إلى ما هو أحب إلى الله ورسوله كالرمي والسباق المشروع، وإذا رأيت الفساق قد اجتمعوا على لهو أو سماع مكاء وتصدية فإن نقلتهم عنه إلى طاعة الله فهو المراد، وإلا كان تركهم على ذلك خيراً من أن تفرغهم لما هو أعظم من ذلك ؛ لأن ما هم فيه شاغل لهم عن ذلك. روي عن شيخ الإسلام ابن تيمية أنه مر مع بعض أصحابه في زمن التتار بقوم منهم يشربون الخمر، فأنكر عليهم من كان معه، فأنكر عليه وقال له: (إنما حرم الله الخمر ؛ لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهؤلاء يصدهم الخمر عن قتل النفوس، وسبي الذرية وأخذ الأموال فدعهم)[61].
قال في مراقي السعود:
وارتكب الأخف من ضُرَّيْنِ وخيِّرَنْ لدى استوى هذين
والعلماء أجمعوا على ارتكاب أخف الضررين[62].
لهذا يجب على المنكر أن يراعي ارتكاب أخف الضررين عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجماع ذلك داخل في القاعدة العامة فيما إذا تعارضت المصالح والمفاسد، والحسنات والسيئات، أو تزاحمت فإنه يجب ترجيح الراجح منها ؛ لأن الأمر والنهي، وإن كان متضمناً تحصيل مصلحة، ودفع مفسدة إلا أنه ينبغي أن ينظر إلى المعارض له.
فإن كان الذي يفوت من المصالح أو يحصل من المفاسد أكثر، لم يكن مأموراً به، بل يكون محرماً إذا كانت مفسدته أكثر من مصلحته.(/14)
والمعتبر في تقدير مقادير المصالح والمفاسد هو ميزان الشريعة. فإن كان المعروف أكثر أمر به، وإن استلزم وجود ما هو دونه من المنكر، ومن ثم فلا ينه عن هذا المنكر حتى لا يفوت المعروف الأعظم منه، بل يكون النهي حينئذ من باب الصد عن سبيل الله، والسعي في زوال طاعته وطاعة رسوله، وزوال فعل الحسنات، أما إن كان المعروف أقل والمنكر أغلب، نُهي عنه، وإن استلزم فوات ما هو دونه من المعروف، وإن خالفَ وأمر بهذا المعروف المستلزم لوجود ما هو زائد عليه من المنكر كان آمراً بمنكر وساعياً في معصية الله ورسوله[63].
حكى القاضي أبو يعلى روايتين عن أحمد في وجوب إنكار المنكر على من يعلم أنه لا يقبل منه، وصح القبول بوجه وهذا قول أكثر العلماء[64].(/15)
وهو من المعذرة التي أخبر الله تعالى فيها عن الذين أنكروا على المعتدين في السبت أنهم قالوا لمن قال لهم: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}[65][66]. لكن ورد ما يستدل به على سقوط الأمر والنهي عند عدم القبول والانتفاع به، فعن أبي ثعلبة الخشني أنه قيل له: كيف تقول في هذه الآية: {عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ}[67] ؟ قال: سألتَ عنها خبيرا، أما والله لقد سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((بل ائتمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحاً مطاعاً، وهوى متبعاً، ودنياً مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بنفسك ودع عنك أمر العوام))[68][69]. والمذهب الصحيح عند المحققين في معنى الآية: أنكم إذا فعلتم ما كلفتم به فلا يضركم تقصير غيركم، وإذا كان كذلك فمما كلف به المرء هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا فعل المرء ذلك ولم يمتثل المخاطب فلا عتب بعد ذلك على الفاعل ؛ لكونه أدى ما عليه، فإنما عليه الأمر والنهي لا القبول، وهذا يدل على الوجوب فإن الذكرى تنفع المؤمنين[70]. قال ابن رجب: (وهذا كله يحمل على أن من عجز عن الأمر بالمعروف أو خاف الضرر سقط عنه)[71].
الشرط الرابع: الرفق في الإنكار.
مما ينبغي للمنكر أن يتصف به الرفق في إنكاره، حيث يتحقق بالرفق مالا يتحقق بالعنف، والرفق أقرب إلى حصول المطلوب، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه))[72]، وفي رواية عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق مالا يعطي على العنف ومالا يعطي على ما سواه))[73][74].(/16)
ففي هذا ثناء على من اتصف بالرفق والثناء لا يكون إلا على فعل أمر مطلوب، وفيه تصريح بذم العنف، والذم لا يكون إلا على فعل منهي عنه مما يدل على اشتراط الرفق أثناء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وكان أصحاب عبدالله بن مسعود رضي الله عنه إذا مروا بقوم يرون منهم ما يكرهون يقولون: (مهلاً رحمكم الله).
قال سفيان الثوري: (لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر إلا من كان فيه ثلاث خصال: رفيق بما يأمر، رفيق بما ينهى، عدل بما يأمر، عدل بما ينهى، عالم بما يأمر، عالم بما ينهى).
قال أحمد: (الناس يحتاجون إلى مداراة ورفق في الأمر بالمعروف بلا غلظة إلا رجلاً مبايناً معلناً بالفسق والردى، فيجب عليه نهيه وإعلانه ؛ لأنه يقال ليس لفاسق حرمة فهذا لا حرمة له)، وقال: (يأمر بالرفق والخضوع فإن أسمعوه ما يكره لا يغضب فيكون يريد أن ينتصر لنفسه)[75].
قال الهيثم بن جميل: (قلت لمالك بن أنس: يا أبا عبدالله الرجل يكون عالماً بالسنة أيجادل عنها ؟ قال: لا، ولكن يخبر بالسنة فإن قبلت وإلا سكت)[76]. قال الشنقيطي: (فإن كانت دعوته إلى الله بقسوة وعنف فإنها تضر أكثر مما تنفع فلا ينبغي أن يسند الأمر بالمعروف إسناداً مطلقاً، إلا لمن جمع بين العلم والحكمة والصبر على أذى الناس ؛ لأن الأمر بالمعروف وظيفة الرسل وأتباعهم، وهو مستلزم للأذى من الناس ؛ لأنهم مجبولون بالطبع على معاداة من يتعرض لهم في أهوائهم الفاسدة، وأغراضهم الباطلة، ولذا قال العبد الصالح لقمان الحكيم لولده: {وَاصْبِرْ عَلَى مَآ أَصَابَكَ}[77] )[78].
يقول الحق تبارك وتعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ}[79].(/17)
فهذه الآية تضمنت النهي عن الفظاظة وهي الشراسة، والخشونة في المعاشرة، وهي القسوة والغلظة، وهما من الأفعال المنفرة للناس لا يصبرون على معاشرة صاحبها وإن كثرت فضائله، ورجيت فواضله، بل يتفرقون ويذهبون من حوله ومن ثم تفوت هدايتهم ولا تبلغ قلوبهم الدعوة.
واللين في المخاطبة والصبر والتجلد وعدم التشدد في العتب والتوبيخ يوصل إلى الاهتداء في كتاب الله[80].
وإن شعر المُنْكَر عليه بغلظة في القول أو زجر في الحديث فقد يتأثر وينفعل ؛ لأن النفس البشرية لها كبرياؤها وعنادها وقد لا تنقاد إلا بالرفق حتى لا تشعر بالهزيمة، وهذا الأسلوب يجعل لرأي القائم بالإنكار قوته وعلوه فتلين له الكبرياء هيبة واحتراماً وثقة، فالجدل بالحسنى يطامن هذه الكبرياء الحساسة ويشعر المُنْكَر عليه أن ذاته مصونة، وقيمته كريمة وأن لا قصد من الإنكار إلا كشف الحقيقة والاهتداء إليها، وليس القصد إثبات الذات، أو نصرة الرأي، وهزيمة الرأي الآخر[81].
قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}[82]، وقول الدعاة في الدعوة إلى الله من أحسن الأقوال، يقول سبحانه: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَآ إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}[83] والرفق حبب رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه، روي عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا))[84].
ففي هذا دلالة على ترك التشديد على المخالف والبدء معه بالملاطفة والتدرج في بيان المخالفة، وما ينبغي له عمله إزاء ذلك[85].(/18)
الشرط الخامس: معرفة البيئة الاجتماعية والعادات والتقاليد المتوارثة. ولكي يحقق الإنكار ثمرته ينبغي للقائم بالإنكار أن يراعي البيئة والعادات سواء من حيث معرفة مقدار الالتزام بأحكام الإسلام، أو معرفة نوع المخاطب وما يناسبه من أنواع الخطاب، وهل المخالفة شائعة بين الناس، أو بين فئة أو فئات معينة، وهل يجاهر بها أو لا يجاهر، وهل فعل المنكر باستمرار أو في أوقات معينة، وهكذا ؟
إن من مقتضى معرفة ذلك حسن التصرف في التعامل مع المنكر عليه حيث يجب إنزال الناس منازلهم، فنصيحة الأمي غير نصيحة المتعلم، والحاكم غير نصيحة المحكوم، والمعاند غير خالي الذهن، وما يلزم ذكره للمجاهر يختلف عن غير المجاهر، ومن يتكرر منه الفعل غير من فعل المنكر مرة واحدة أو مرات محدودة.
والتعامل مع المرتكبين للمنكرات الشائعة بين الناس يختلف عن التعامل مع مخالف ارتكب مخالفة غير شائعة. يقول ابن تيمية: (ولابد من العلم بحال المأمور والمنهي)[86]. فإن العلم بحاله يجعلك تستكشف كافة أفعاله والخبير بالشيء يسهل عليه فهمه، ويتمكن من كشف أمره، وإصلاح حاله فهو إذن بها خبير، وبإدراك شأنها بصير، وهو فيما يقدره من إنكار يكون به حكيماً.
الفصل الرابع: في طرائق الإنكار
القائم بالإنكار أشبه ما يكون بالطبيب يختار من العلاج ما يناسب حال المريض فيصف من الدواء ما كان أقل ضرراً وأكثر نفعاً. وكما لا ينبغي للطبيب أن يختار من الأدوية ما يضر الجسم وإن كانت تساعد على الشفاء مع وجود دواء يحصل به الشفاء وهو لا يضر، فكذا الذي يقوم بإنكار المنكر لا يحل له أن يستعمل يده إن كان ما دونه في الرتبة يحقق ذلك، ولا ينهر إذا كان اللين أجدى وهكذا.
ولهذا فإن طرائق الإنكار هي:
أولاً: النصيحة.(/19)
الإنكار بالحكمة، وحسن الأسلوب، واللطافة مع إيضاح الحق هو ما تقتضيه أصول الدعوة إلى سبيل الله، قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ}[87].
وذكر النووي: أن المختلف فيه لا إنكار فيه... لكن إن ندبه على جهة النصيحة إلى الخروج من الخلاف فهو حسن محبوب مندوب إلى فعله برفق، فإن العلماء متفقون على الحث على الخروج من الخلاف إذا لم يلزم منه إخلال بسنة أو وقوع في خلاف آخر)[88].
قال الشافعي: (من وعظ أخاه سراً فقد نصحه وزانه، ومن وعظه علانية فقد فضحه وشانه)[89].
والقائم بالإنكار ينبغي أن يراعي حال المنصوحين وظروفهم، وتوقع الأوقات المناسبة لقبولهم النصيحة ؛ لتسري إلى القلوب برفق، وتتعمق إلى المشاعر بلطف لتجد مكاناً تستقر فيه.
ومن دواعي القبول ألا يسعى القائم بالإنكار إلى إظهار أخطاء المنصوح ؛ لأنها قد تقع منه عن جهل، أو حسن نية وهذا يقتضي عدم التحامل على المخالف، أو ترذيله، أو تقبيحه.
والقائم بالإنكار يستحسن له أن يعرف بنفسه ويظهر منزلته التي تؤهله للنصح، فيوسف عليه السلام قبل أن ينصح صاحبيه في السجن أخبر عن نفسه ؛ لأنهما يجهلان حاله، قال سبحانه حكاية عنه: {قَالَ لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلا نَبَأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَهُم بِالآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ * وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ ءَابَآءِى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَآ أَن نُّشْرِكَ بِاللهِ مِن شَيْءٍ ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ}[90].
بعد هذا التعريف قام بنصحهما قبل أن يقضي حاجتهما، وهكذا يكون القائم بالإنكار مدركاً لواجبه أثناء أداء حياته اليومية حتى وإن كان داخل السجن[91].(/20)
ومما يستحسن فعله قبل البدء بالنصح إشعار المنكر عليه بأن ما فعله من منكر لا يخرجه عن المسلمين، وأن هذا نوع تقصير وكلنا مقصرون، لكن منا المكثر، ومنا المقل، ومنا المتوسط، وأن الجميع جند للإسلام يدافعون عن حماه، ويذودون عن حوزته، سواء من كان منهم يسبل لثيابه، أو يقصر لها، أو يرسل لحيته، أو يحلقها أو يخفف منها، وأن الكل أمة واحدة، غير أن هذا الإخلال بالواجب عند المخالف يحتاج لمراجعة ليتحقق الكمال الواجب في هذه الأمة، وأننا كأمة يجب أن نلتقي في دوحة واحدة لا يُختَلَف عليها فالكل يحب الخير وأهله، سواء من كان منكراً للمخالفات أو مرتكباً لها.
وعند البدء في الحديث معه يستحسن تكنيته ليصغي إليه ؛ لأن لهذا أثره في الاستجابة.
روى البيهقي بسنده[92] في قصة ذهاب عتبة بن ربيعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكان سيداً حليماً في قومه وفيه: فقام عتبة حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا ابن أخي إنك منا حيث قد علمت... حتى أعرض عليك أموراً تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها، قال: فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا أبا الوليد أسمِع))... حتى إذا فرغ عتبة قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((أفرغت يا أبا الوليد)) قال: نعم، قال: ((اسمع مني))، قال: أفعل، فتلا عليه من أول سورة فصلت إلى السجدة فسجدها ثم قال: ((سمعت يا أبا الوليد))، قال: سمعت، قال: ((فأنت وذاك))، ثم قام عتبة إلى أصحابه فقال بعضهم لبعض: نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به)[93].
والنبي صلى الله عليه وسلم لقي أسقف نجران فقال: ((يا أبا الحارث أسلم)). وعن يحيى بن أبي كثير، قال الفرافصة – وهو نصراني – لعمر: (يا أمير المؤمنين إنكم تأكلون ذبيحة لا نأكلها، قال: وما ذاك يا أبا حسان، فذكر الحديث)[94].(/21)
قال ابن هانئ: (رأيت أبا عبدالله كنَّى نصرانياً طبيباً فقال: يا أبا إسحاق)[95]. وإذا كان هذا مع غير المسلمين فإن المخالف من المسلمين أولى بهذا الاحترام وأحظى بالتقدير.
ومن مظاهر الاحترام البشاشة والطلاقة في الوجه أثناء الإنكار ؛ لأن مثل هذا يُهَدِّئ المُنْكَر عليه ويريح نفسه، فيحس بمحبة القائم بالإنكار له، وأنه بمنزلة المحبوب من أخ وصديق.
عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق))[96].
ففي هذا دلالة على أن طلاقة الوجه من المعروف الذي يثاب عليه الإنسان لأخيه الإنسان، والأجر سيضاعف إن حقق هذا لفعل تجنيب إنسان فعل مخالفة ارتكبها.
والنصح كان هو نهج الأئمة الكبار فيما بينهم، وفيما يلي أورد رسالة الإمام مالك إلى الليث بن سعد، وجواب الليث له لنعرف أدب العلماء عند المناصحة:
من مالك بن أنس إلى الليث بن سعد: (سلام الله عليك. فإني أحمد الله إليك الذي لا إله إلا هو أما بعد:(/22)
عصمنا الله وإياك بطاعته في السر والعلانية، وعافانا وإياك من كل مكروه، اعلم، رحمك الله، أنه بلغني أنك تفتي الناس بأشياء مخالفة لما عليه جماعة الناس عندنا، وببلدنا الذي نحن فيه، وأنت في إمامتك وفضلك ومنزلتك من أهل بلدك، وحاجة من قبلك إليك، واعتمادهم على ما جاءهم منك، حقيق بأن تخاف على نفسك، وتتبع ما ترجو النجاة باتباعه، فإن الله تعالى يقول في كتابه العزيز: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}[97] وقال تعالى: {فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أَوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ}[98].
فإنما الناس تبع لأهل المدينة، إليها كانت الهجرة، وبها نزل القرآن، وأحل الحلال، وحرم الحرام، إذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم، يحضرون الوحي والتنزيل، ويأمرهم فيطيعونه، ويسن لهم فيتبعونه، حتى توفاه الله، واختار له ما عنده صلوات الله عليه ورحمته وبركاته. ثم قام من بعده أتبع الناس له من أمته، ممن ولي الأمر من بعده، فما نزل بهم مما علموا أنفذوه، وما لم يكن عندهم فيه علم سألوا عنه، ثم أخذوا بأقوى ما وجدوا في ذلك في اجتهادهم، وحداثة عهدهم، وإن خالفهم، مخالف أو قال امرؤ: غيره أقوى منه وأولى، ترك قوله وعمل بغيره.(/23)
ثم كان التابعون من بعدهم يسلكون تلك السبيل، ويتبعون تلك السنن، فإذا كان الأمر بالمدينة ظاهراً معمولاً به، لم أر لأحد خلافه للذي في أيديهم من تلك الوراثة التي لا يجوز لأحد انتحالها ولا ادعاؤها، ولو ذهب أهل الأمصار يقولون: هذا العمل ببلدنا، وهذا الذي مضى عليه من مضى منا، لم يكونوا من ذلك على ثقة، ولم يكن لهم من ذلك الذي جاز لهم. فانظر رحمك الله فيما كتبت إليك فيه لنفسك، واعلم أني أرجو أن لا يكون دعاني إلى ما كتبت به إليك إلا النصيحة لله تعالى وحده، والنظر لك، والظن بك، فأنزل كتابي منك منزلته، فإنك إن فعلت تعلم أني لم آلك نصحاً، وفقنا الله وإياك لطاعته، وطاعة رسوله في كل أمر، وعلى كل حال، والسلام عليكم ورحمة الله).
وكتب يوم الأحد لتسع مضين من صفر[99].
وأجاب الليث بما يلي:
(سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد: عافانا الله وإياك، وأحسن لنا العاقبة في الدنيا والآخرة. قد بلغني كتابك تذكر فيه من صلاح حالكم الذي يسرني، فأدام الله ذلك لكم، وأتمه بالعون على شكره والزيادة من إحسانه، وذكرت نظرك في الكتب التي بعثت بها إليك، وإقامتك إياها، وختمك عليها بخاتمك، وقد أتتنا فجزاك الله عما قدمت منها خيراً، فإنها كتب انتهت إلينا عنك، فأحببت أن أبلغ حقيقتها بنظرك فيها.
وذكرت أنه قد أنشطك ما كتبت إليك فيه من تقويم ما أتاني عنك إلى ابتدائي بالنصيحة، ورجوت أن يكون لها عندي موضع، وأنه لم يمنعك من ذلك فيما خلا إلا أن يكون رأيك فينا جميلاً إلا لأني لم أذاكرك مثل هذا، وأنه بلغك أني أفتي بأشياء مخالفة لما عليه جماعة الناس عندكم، وأني يحق علي الخوف على نفسي، لاعتماد من قبلي على ما أفتيتهم به، وأن الناس تبع لأهل المدينة التي إليها كانت الهجرة وبها نزل القرآن.(/24)
وقد أصبتَ بالذي كتبتَ به من ذلك إن شاء الله تعالى، ووقع مني بالموقع الذي تحب، وما أجد أحداً ينسب إليه العلم أكْرَهَ لشواذ الفتيا، ولا أشد تفضيلاً لعلماء أهل المدينة الذين مَضَوا، ولا آخَذَ لفتياهم فيما اتفقوا عليه مني والحمد لله رب العالمين لا شريك له.
وأما ما ذكرْتَ من مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة ونزول القرآن بها عليه بين ظهري أصحابه، وما علمهم الله منه، وأن الناس صاروا به تبعاً لهم فيه فكما ذكرت.
وأما ما ذكرت من قول الله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}[100] فإن كثيراً من أولئك السابقين الأولين خرجوا إلى الجهاد في سبيل الله ابتغاء مرضاة الله، فجندوا الأجناد، واجتمع إليهم الناس، فأظهروا بين ظهرانيهم كتاب الله وسنة نبيه، ولم يكتموهم شيئاً علموه، وكان في كل جند منهم طائفة يعلمون كتاب الله وسنة نبيه ويجتهدون برأيهم فيما لم يفسره لهم القرآن والسنة، وتقدمهم عليه أبو بكر وعمر وعثمان الذين اختارهم المسلمون لأنفسهم، ولم يكن أولئك الثلاثة مضيعين لأجناد المسلمين ولا غافلين عنهم، بل كانوا يكتبون في الأمر اليسير لإقامة الدين والحذر من الاختلاف بكتاب الله وسنة نبيه، فلم يتركوا أمراً فسره القرآن أو عمل به النبي صلى الله عليه وسلم أو ائتمروا فيه بعده إلا علَّموهُموهُ، فإذا جاء أمر عمل فيه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بمصر والشام والعراق على عهد أبي بكر وعمر وعثمان، ولم يزالوا عليه حتى قبضوا لم يأمروهم بغيره.(/25)
فلا نراه يجوز لأجناد المسلمين أن يُحْدِثوا اليوم أمراً لم يعمل به سلفهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين لهم، مع أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اختلفوا بعد في الفتيا في أشياء كثيرة، ولولا أني قد عرفت أن قد علمتها كتبت بها إليك.
ثم اختلف التابعون في أشياء بعد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سعيد بن المسيب ونظراؤه، أشد الاختلاف.
ثم اختلف الذين كانوا بعدهم، فحضرتهم بالمدينة وغيرها، ورأسهم يومئذ ابن شهاب، وربيعة بن أبي عبدالرحمن، وكان من خلاف ربيعة لبعض ما قد مضى ما قد عرفت وحضرت، وسمعتُ قولَكَ فيه، وقول ذوي الرأي من أهل المدينة: يحيى بن سعيد، وعبيدالله بن عمر، وكثير بن فرقد، وغير كثير ممن هو أسَنُّ منه حتى اضطرك ما كرهْتَ من ذلك إلى فراق مجلسه.
وذاكرْتُك أنت وعبدالعزيز بن عبدالله بعض ما نعيب على ربيعة من ذلك، فكنتما من الموافقين فيما أنكرت، تكرهان منه ما أكرهه، ومع ذلك بحمد الله عند ربيعة خير كثير، وعقل أصيل، ولسان بليغ، وفضل مستبين، وطريقة حسنة في الإسلام، ومودة لإخوانه عامة، ولنا خاصة، رحمه الله وغفر له وجزاه بأحسن من عمله.
وكان يكون من ابن شهاب اختلاف كثير إذا لقيناه، وإذا كاتبه بعضنا فربما كتب إليه في الشيء الواحد – على فضل رأيه وعلمه – بثلاثة أنواع ينقض بعضها بعضاً، ولا يشعر بالذي مضى من رأيه في ذلك، فهذا الذي يدعوني إلى ترك ما أنكرت تركي إياه.(/26)
وقد عرفت أيضاً عيب إنكاري إياه أن يجمع أحد من أجناد المسلمين بين الصلاتين ليلة المطر، ومطر الشام أكثر من مطر المدينة بما لا يعلمه إلا الله لم يجمع منهم إمام قط في ليلة مطر، وفيهم أبو عبيدة بن الجراح، وخالد بن الوليد، ويزيد بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص، ومعاذ بن جبل، وقد بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أعلمكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل))، وقال: ((يأتي معاذ يوم القيامة بين يدي العلماء برتوة))[101] وشرحبيل ابن حسنة، وأبو الدرداء، وبلال بن رباح.
وكان أبو ذر بمصر، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص، وبحمص سبعون من أهل بدر، وبأجناد المسلمين كلها، وبالعراق ابن مسعود، وحذيفة بن اليمان، وعمران بن حصين، ونزلها أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب – كرم الله وجهه في الجنة – سنين، وكان معه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يجمعوا بين المغرب والعشاء قط.
ومن ذلك القضاء بشهادة شاهد ويمين صاحب الحق، وقد عرفت أنه لم يزل يُقضى بالمدينة به، ولم يقض به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشام وبحمص ولا بمصر ولا بالعراق، ولم يكتب به إليهم الخلفاء الراشدون: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي.
ثم ولي عمر بن عبدالعزيز، وكان كما قد علمت في إحياء السنن، والجِدَّ في إقامة الدين، والإصابة في الرأي، والعلم بما مضى من أمر الناس، فكتب إليه رُزيق بن الحكم: إنك كنت تقضي بالمدينة بشهادة الشاهد الواحد، ويمين صاحب الحق، فكتب إليه عمر بن عبدالعزيز: إنا كنا نقضي بذلك بالمدينة، فوجدنا أهل الشام على غير ذلك ؛ فلا نقضي إلا بشهادة رجلين عدلين، أو رجل وامرأتين، ولم يجمع بين العشاء والمغرب قط ليلة المطر، والمطر يسكب عليه في منزله الذي كان فيه بخناصرة ساكناً.(/27)
ومن ذلك أن أهل المدينة يقضون في صَدُقَات النساء أنها متى شاءت أن تتكلم في مؤخر صداقها تكلمت فدفع إليها، وقد وافق أهل العراق أهل المدينة على ذلك وأهل الشام وأهل مصر، ولم يقض أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - ولا مَنْ بعدهم – لامرأة بصداقها المؤخر، إلا أن يفرق بينهما موت، أو طلاق فتقوم على حقها.
ومن ذلك قولهم في الإيلاء: إنه لا يكون عليه طلاق حتى يوقف، وإن مرت أربعة الأشهر، وقد حدثني نافع عن عبدالله بن عمر – وهو الذي كان يروى عنه ذلك التوقيف بعد الأشهر – أنه كان يقول في الإيلاء الذي ذكر الله في كتابه: لا يحل للمُولي إذا بلغ الأجل إلا أن يفيء كما أمر الله، أو يعزم الطلاق، وأنتم تقولون: إن لبث بعد أربعة الأشهر التي سمى الله في كتابه ولم يوقف، لم يكن عليه طلاق.
وقد بلغنا أن عثمان بن عفان، وزيد بن ثابت، وقبيصة بن ذؤيب، وأبا سلمة بن عبدالرحمن بن عوف، قالوا في الإيلاء: إذا مضت أربعة الأشهر فهي تطليقة بائنة. وقال سعيد بن المسيب، وأبو بكر بن عبدالرحمن ابن الحارث بن هشام، وابن شهاب: إذا مضت أربعة الأشهر فهي تطليقة، وله الرجعة في العدة.
ومن ذلك أن زيد بن ثابت كان يقول: إذا ملَّك الرجل امرأته فاختارت زوجها فهي تطليقة، وإن طلقت نفسها ثلاثاً فهي تطليقة، وقضى بذلك عبدالملك بن مروان، وكان ربيعة بن عبدالرحمن يقوله، وقد كاد الناس يجتمعون على أنها إن اختارت زوجها لم يكن فيه طلاق، وإن اختارت نفسها واحدة أو اثنتين كانت له عليها الرجعة، وإن طلقت نفسها ثلاثاً بانت منه ولم تحل له حتى تنكح زوجاً غيره فيدخل بها ثم يموت أو يطلقها، إلا أن يرد عليها في مجلسه فيقول: إنما ملكتك واحدة، فيستحلف ويُخلَّى بينه وبين امرأته.
ومن ذلك أن عبدالله بن مسعود كان يقول: أيما رجل تزوج أمَة، ثم اشتراها زوجها، فاشتراؤه إياها ثلاث تطليقات، وكان ربيعة يقول ذلك، وإن تزوجت المرأة الحرة عبداً فاشترته فمثل ذلك.(/28)
وقد بُلِّغْنا عنكم شيئاً في الفتيا مستكرهاً، وقد كنت كتبت إليك في بعضها فلم تجبني في كتابي، فتخوفت أن تكون استثقلت ذلك، فتركت الكتاب إليك في شيء مما أنكره، وفيما أوردت فيه على رأيك، وذلك أنه بلغني أنك مرت زُفَر بن عاصم الهلالي – حين أراد أن يستسقي – أن يقدم الصلاة قبل الخطبة، فأعظمتُ ذلك ؛ لأن الخطبة والاستسقاء كهيئة يوم الجمعة إلا أن الإمام إذا دنا من فراغه من الخطبة فدعا حوَّل رداءه ثم نزل فصلى.
وقد استسقى عمر بن عبدالعزيز، وأبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم وغيرهما، فكلهم يقدم الخطبة والدعء قبل الصلاة، فاستهتر الناس كلهم فعل زُفَر بن عاصم من ذلك واستنكروه.
ومن ذلك أنه بلغني أنك تقول في الخليطين في المال: أنه لا تجب عليهما الصدقة حتى يكون لكل واحد منهما ما تجب فيه الصدقة، وفي كتاب عمر بن الخطاب أنه يجب عليهما الصدقة ويترادان بالسوية، وقد كان ذلك يُعمل به في ولاية عمر بن عبدالعزيز قبلكم وغيره، والذي حدثنا به يحيى بن سعيد ولم يكن بدون أفاضل العلماء في زمانه، فرحمه الله، وغفر له، وجعل الجنة مصيره.
ومن ذلك أنه بلغني أنك تقول: إذا أفلس الرجل وقد باعه رجل سلعة فتقاضى طائفة من ثمنها أو أنفق المشتري طائفة منها، أنه يأخذ ما وجد من متاعه، وكان الناس على أن البائع إذا تقاضى من ثمنها شيئاً، أو أنفق المشتري منها شيئاً فليست بعينها.
ومن ذلك أنك تذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعط الزبير بن العوام إلا لفرس واحد، والناس كلهم يحدثون أنه أعطاه أربعة أسهم لفرسين ومنعه الفرس الثالث، والأمة كلهم على هذا الحديث: أهل الشام، وأهل مصر، وأهل العراق، وأهل إفريقية، لا يختلف فيه اثنان ؛ فلم يكن ينبغي لك – وإن كنت سمعته من رجل مرضي – أن تخالف الأمة أجمعين.(/29)
وقد تركت أشياء كثيرة من أشباه هذا، وأنا أحب توفيق الله إياك وطول بقائك ؛ لما أرجو للناس في ذلك من المنفعة، وما أخاف من الضَّيعة إذا ذهب مثلك، مع استئناسي بمكانك، وإن نأت الدار ؛ فهذه منزلتك عندي ورأيي فيك فاستيقنه، ولا تترك الكتاب إليَّ بخبرك وحالك وحال ولدك وأهلك وحاجةً إن كانت لك أو لأحد يُوصَلُ بك، فإني أسَرُّ بذلك، كتبت إليك ونحن صالحون معافون والحمد لله، نسأل الله أن يرزقنا وإياكم شكر ما أولانا وتمام ما أنعم به علينا. والسلام عليكم ورحمة الله[102].
ففي هاتين الرسالتين الأدب الجم في حسن التخاطب، وفيهما دراية ورعاية لفقه التعامل مع المخالف.
وهاتان الرسالتان تمثلان بحق لوناً رفيعاً من أدب التخاطب والتحاور بالحجج العلمية دون تعريض أو تجريح بعضهما ببعض أو بالآخرين.
انظر إلى قول الليث بن سعد في ربيعة شيخ الإمام مالك: (وذاكرت أنت وعبدالعزيز بن عبدالله بعض ما نعيب على ربيعة من ذلك[103]، فكنتما من الموافقين فيما أنكرت، تكرهان منه ما أكرهه، ومع ذلك بحمد الله عند ربيعة خير كثير، وعقل أصيل، ولسان بليغ، وفضل مستبين، وطريقة حسنة في الإسلام، ومودة لإخوانه عامة ولنا خاصة، رحمه الله وغفر له وجزاه بأحسن من عمله).
فأين هذا من الإنكار في عصرنا الحاضر على العلماء الذين خالفوا منكريهم وقد يكون الحق معهم، أو أنهم لم يعارضوا بقولهم دليلاً ولا إجماعاً ولا قاعدة شرعية.
وأين هذا مما يشتهر في عصرنا هذا في سرعة تجهيل الآخرين بغير وجه حق مما لا تقتضيه أصول الدعوة مع عامة الناس فضلاً عن العلماء.
ثانياً: التأديب:
الأصل فيه ما روي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه[104] عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان))[105].(/30)
قال القاضي عياض رحمه الله: (هذا الحديث أصل في صفة التغيير، فحق المغير أن يغيره بكل وجه أمكنه زواله به قولاً كان أو فعلاً، فيكسر آلات الباطل ويريق المسكر بنفسه، أو يأمر من يفعله، وينزع الغصوب ويردها إلى أصحابها بنفسه، أو بأمره إذا أمكنه، ويرفق في التغيير جهده بالجاهل، وبذي العزة الظالم المخوف شره إذ ذلك أدعى إلى قبول قوله. كما يستحب أن يكون متولي ذلك من أهل الصلاح والفضل لهذا المعنى، ويغلظ على المتمادي في غيه، والمسرف في بطالته إذا أمن أن يؤثر إغلاظه منكراً أشد مما غيره ؛ لكون جانبه محمياً عن سطوة الظالم، فإن غلب على ظنه أن تغييره بيده يسبب منكراً أشد منه: من قتله أو قتل غيره بسبب كف يده اقتصر على القول باللسان، والوعظ، والتخويف، فإن خاف أن يسبب قوله مثل ذلك غير بقلبه وكان في سعة)[106].
قال ابن مفلح: (وأعلاه باليد، ثم باللسان، ثم بالقلب).
قال المروذي: (قلت لأبي عبدالله: كيف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؟ قال: باليد، واللسان، وبالقلب وهو أضعف. قلت: كيف باليد ؟ قال: يفرق بينهم، ورأيت أبا عبدالله مر على صبيان الكتاب يقتتلون ففرق بينهم، وقال في رواية صالح: (التغيير باليد ليس بالسيف والسلاح).
قال القاضي: (وظاهر هذا يقتضي جواز الإنكار باليد إذا لم يفض إلى القتل والقتال)[107] قال أبو داود: (سمعت أحمد سئل عن رجل مر بقوم يلعبون بالشطرنج فنهاهم فلم ينتهوا فأخذ الشطرنج فرمى به. فقال قد أحسن). وقال في رواية أبي طالب فيمن يمر بالقوم يلعبون بالشطرنج: (يقلبها عليهم إلا أن يغطوها أو يستروها)[108].(/31)
ولا ينكر بسيف إلا ذو سلطان. وقال ابن الجوزي: (يضرب باليد والرجل وغير ذلك مما ليس فيه إشهار سلاح أو سيف يجوز للآحاد بشرط الضرورة، والاقتصار على قدر الحاجة، فإن احتاج إلى أعوان يشهرون السلاح ؛ لكونه لا يقدر على الإنكار بنفسه، فالصحيح أن ذلك يحتاج إلى إذن الإمام ؛ لأنه يؤدي إلى الفتن وهيجان الفساد)[109].
قال القرطبي: (ثم إن الأمر بالمعروف لا يليق بكل أحد، وإنما يقوم به السلطان إذا كانت إقامة الحدود إليه، والتعزير إلى رأيه، والحبس والإطلاق له، والنفي والتغريب، فينصب في كل بلدة رجلاً صالحاً قوياً عالماً أميناً ويأمره بذلك)[110]. وقال: (قال العلماء: الأمر بالمعروف باليد على الأمراء، وباللسان على العلماء، وبالقلب على الضعفاء يعني عوام الناس. فالمنكر إذا أمكنت إزالته باللسان للناهي فليفعله، وإن لم يمكنه إلا بالعقوبة أو القتل فليفعل، فإن زال بدون القتل لم يجز القتل)[111].
قلت: الذي أراه والله أعلم أنه لا يحل لآحاد الناس إزالة المنكرات باليد، بل إن ذلك من اختصاص ولاة الأمر على أن يقوم ولي الأمر بأمر الحسبة سواء بنفسه أو بمن ينيبه من جهات تعتني بهذا الأمر.
ولهذا لا يحل للمسلم أن يتطاول على الناس بيده وولي الأمر قائم بذلك لو رفع الأمر إليه أو علمه.
ولا ينبغي الإسراع في رفع الأمر إلى السلطان ؛ لأن الأمر قد يحتاج إلى الستر في البداية، روي عن هزال رضي الله عنه أن ماعز بن مالك كان في حجره قال: فلما فجر قال له: إئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم له: ((ويلك يا هزال، أما لو كنت سترته بثوبك لكان خيراً مما صنعت به))[112]، فالخيرية لا تكون إلا في أمر مطلوب مما يدل على طلب الستر إلا أن يجاهر المرء بالزنا أو تصل الحال إلى إشاعته والتهتك به[113].(/32)
وكره الإمام أحمد الرفع إلى السلطان ورغب في الوعظ[114] وقال: أمَّا السلطان فما أرى ذلك[115]... لكن إن لم يرتدع إلا بالسلطان وجب رفعه.
والنهي عن إزالة المنكرات باليد لآحاد الناس ؛ لأنها تحدث من الفتن أكثر مما يرجى من تلك الإزالة، والرفع إلى السلطان إن عجز عن الوعظ مُبَرِّيء به ذمته ومن ثم تعلق الإثم بالوالي ولزمه إزالته.
لكن إذا تعلق المنكر بنصرة مظلوم يؤذى في ماله، أو بدنه، أو عرضه ونحو ذلك مما يفوت التأخير حق النصرة وجبت المبادرة في الإنكار، ونصرة المظلوم إن قدر على ذلك، وإن لم يقدر بنفسه سعى لإخبار الناس أو الأجناد.
أما إذا كانت المنكرات شائعة في مجتمع من المجتمعات ولدى ولاة الأمر تقصير في هذا الجانب، أو عدم مبالاة في ذلك، فإن كان الإنكار باليد لا يحقق إزالتها، بل سيحدث فتنة وهرجاً فما عليه إلا السعي بالنصيحة والحجج العلمية ببيان تحريمها وآثارها على الفرد والمجتمع ويحث الناس على تركها وهجرها، والوسائل لتحقيق ذلك كثيرة ومنها: اللقاءات الفردية أو المراسلة أو الندوات أو من خلال المقالات أو المطبوعات أو الأشرطة أو الهاتف، وإذا كانت الإزالة مرجوة وستحقق الغرض دون إثارة فتنة أو فساد وقتل فلا بأس بإزالتها، وإن حصل للقائم بذلك شيء من الأذى بنفسه، حكي عن ابن العربي أن من رجا زواله وخاف على نفسه من تغييره الضرب أو القتل جاز له عند أكثر العلماء الاقتحام عند هذا الخطر وإن لم يرج زواله فأي فائدة عنده.
قال: (والذي عندي أن النية إذا خلصت فليقتحم كيفما كان ولا يبالي. يدل عليه قوله تعالى: {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَآ أَصَابَكَ}[116] ففي هذه الآية إشارة إلى الأذية)[117].(/33)
قال القرطبي في تفسير هذه الآية: (يقتضي حضاً على تغيير المنكر وإن نالك ضرر، فهو إشعار بأن المغيِّر يؤذى أحياناً، وهذا القدر على جهة الندب والقوة في ذات الله، وأما على اللزوم فلا)[118].
وعن حذيفة مرفوعاً: ((لا ينبغي لمسلم أن يذل نفسه))، قيل: كيف يذل نفسه ؟ قال: ((يتعرض من البلاء لما لا يطيق))[119]، وقيل: إن زاد وجب الكف، وإن تساويا سقط الإنكار.
قال ابن الجوزي: (فأما السب والشتم فليس بعذر في السكوت ؛ لأن الآمر بالمعروف يلقى ذلك في الغالب).
قال الشيخ تقي الدين: (الصبر على أذى الخلق عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إن لم يستعمل لزم أحد أمرين إما تعطيل الأمر والنهي وإما حصول فتنة ومفسدة أعظم من مفسدة ترك الأمر والنهي أو مثلها أو قريب منها وكلاهما معصية وفساد)[120].
ــــــــــــــــــــــــ
[1] لسان العرب مادة نكر.
[2] سورة النحل، من الآية 83.
[3] سورة التوبة، من الآية 112.
[4] سورة الحج، من الآية 44.
[5] بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز، بصيرة في نكر 5/120.
[6] انظر الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، ج10 ص167.
[7] سورة آل عمران، من الآية 110.
[8] سورة التوبة، من الآية 71.
[9] سورة المائدة، الآيتان 78، 79.
[10] سورة لقمان، الآية 17.
[11] انظر الجامع لأحكام القرآن، ج14 ص68.
[12] سورة الأعراف، الآيتان 165، 166.
[13] الوهق بالتحريك: حبل تشد به الإبل والخيل لئلا تند، لسان العرب مادة وهق.
[14] انظر الجامع لأحكام القرآن، ج1 ص440.
[15] أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، صحيح مسلم بشرح النووي، ج2 ص22، والترمذي في الجامع الصحيح، 4/469، والنسائي في سننه بشرح السيوطي، 8/111، وأخرجه أحمد في مسنده، ج3 ص20، 49.(/34)
[16] أخرجه أبو داود في كتاب الملاحم باب الأمر والنهي، عون المعبود، ج11 ص500، وأخرجه الطبراني في المعجم الكبير، حديث رقم 345، ج17 ص139، وإسناده حسن.
[17] انظر جامع العلوم والحكم، ص281، 282.
[18] سورة المائدة، الآيات 78- 81.
[19] أصل الأطر العطف والتثني ومعناه: رده إلى الحق، عون المعبود 11/488.
[20] أخرجه أبو داود في كتاب الملاحم باب الأمر والنهي، عون المعبود، ج11 ص488، وأخرجه الترمذي في كتاب تفسير القرآن، باب سورة المائدة، وقال: (حسن غريب)، وذكر أن بعضهم رواه عن أبي عبيدة مرسلاً، الجامع الصحيح، ج5 ص252 قال المنذري: (وأبو عبيدة لم يسمع من أبيه فهو منقطع)، عون المعبود، ج11 ص488، وأخرجه ابن ماجه في كتاب الفتن باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، سنن ابن ماجه، ج2 ص1327، قال الهيثمي: (رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح)، مجمع الزوائد، ج7 ص269.
[21] لأبي داود، عون المعبود، ج11/488.
[22] أخرجه أحمد في مسنده ج5 ص388، والترمذي في كتاب الفتن باب ما جاء في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال أبو عيسى: (هذا حديث حسن) الجامع الصحيح ج4 ص468.
[23] سورة المائدة، من الآية 105.
[24] أخرجه أبو داود في كتاب الملاحم باب الأمر والنهي، قال المنذري: (وأخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه بنحوه)، عون المعبود، ج11 ص489.
[25] أخرجه أحمد من طريقين، وأخرجه الطبراني وفيه رجل لم يسم وبقية رجال أحد الإسنادين ثقات، وأخرج نحوه الطبراني عن العرس بن عميرة ورجاله ثقات، مجمع الزوائد، ج7 ص267- 268.
[26] أخرجه الطبراني في الأوسط وفيه مروان بن سالم الفقاري وهو متروك، مجمع الزوائد، ج7 ص267.
[27] أخرجه أحمد بإسنادين رجال أحدهما رجال الصحيح، مجمع الزوائد 7/268.
[28] أخرجه ابن ماجه في كتاب الفتن باب العقوبات، سنن ابن ماجه، ج2 ص1332.(/35)
[29] أخرجه أحمد، والبزار، والطبراني، وأحد أسانيد البزار رجاله رجال الصحيح، وكذلك إسناد أحمد إلا أنه وقع في الأصل غلط، مجمع الزوائد، ج7 ص270.
[30] الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، ج6 ص253.
[31] سورة المائدة، من الآية 105.
[32] سورة النجم، الآية 38.
[33] انظر شرح النووي على صحيح مسلم، ج2 ص22، 23.
[34] سورة المائدة، من الآية 79.
[35] الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، ج6 ص253.
[36] انظر صحيح مسلم بشرح النووي، ج2 ص23.
[37] انظر الحسبة لابن تيمية، ص135.
[38] انظر الموافقات للشاطبي، ج4 ص214، وجامع العلوم والحكم، ص281، وأضواء البيان، ج2 ص173.
[39] سورة يوسف، من الآية 108.
[40] انظر أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، ج2 ص173.
[41] انظر نيل الأوطار، ج2 ص70.
[42] انظر المبسوط، ج10 ص147، وحاشية ابن عابدين، ج1 ص409.
[43] انظر حاشية العدوي، ج2 ص420.
[44] انظر جامع العلوم والحكم، ص284، والأحكام السلطانية للماوردي، ص253.
[45] انظر شرح النووي على صحيح مسلم، ج2 ص26.
[46] انظر شرح النووي على صحيح مسلم، ج2 ص26.
[47] ذكره ابن كثير في تفسيره، ج4 ص212.
[48] انظر الفرق بين النصيحة والتعيير.
[49] سورة الحجرات، من الآية 12.
[50] انظر تفسير القرآن العظيم، ج4 ص212.
[51] أخرجه الديلمي، وهو ضعيف لكن له شواهد، انظر فيض القدير شرح الجامع الصغير، ج1 ص400، وانظر الفتح الكبير للسيوطي، ج1 ص131.
[52] انظر تفسير القرآن العظيم، ج4 ص212، وفي ظلال القرآن، ج7 ص533، 534.
[53] سورة الحجرات، من الآية 6.
[54] في ظلال القرآن، ج7 من 526، 527.
[55] الحديث أخرجه مسلم عن عوف بن مالك، صحيح مسلم بشرح النووي 12/244.
[56] نص الحديث أخرجه البخاري عن عائشة رضي الله عنها في كتاب الحج باب فضل مكة وبنيانها، صحيح البخاري، ج2 ص156، وأخرجه مسلم في كتاب الحج باب نقض الكعبة وبنائها، صحيح مسلم بشرح النووي، ج9 ص88.(/36)
[57] انظر كتاب الإمارة باب وجوب الإنكار على الأمراء فيما يخالف الشرع، صحيح مسلم بشرح النووي، ج12 ص243.
[58] سورة الأعلى، الآية 9.
[59] أخرجه أبو داود في كتاب الملاحم باب الأمر والنهي، عون المعبود ج11 ص494، وابن ماجه في كتاب الفتن باب قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم.."، سنن ابن ماجه، ج2 ص1330، والترمذي في كتاب تفسير القرآن سورة المائدة، وقال: (حديث حسن غريب)، الجامع الصحيح، ج5 ص257.
[60] أضواء البيان، ج2 ص175.
[61] إعلام الموقعين، ج3 ص5.
[62] أضواء البيان، ج2 ص175.
[63] انظر الحسبة لابن تيمية، ص122، 123.
[64] انظر جامع العلوم والحكم، ص283.
[65] سورة الأعراف، من الآية 164.
[66] انظر جامع العلوم والحكم، ص283.
[67] سورة المائدة، من الآية 105.
[68] سبق تخريجه في الشرط الثالث، ص200 حاشية 3.
[69] انظر جامع العلوم والحكم، ص283.
[70] انظر شرح النووي على صحيح مسلم، ج2 ص22، 23.
[71] انظر جامع العلوم والحكم، ص283.
[72] أخرجه مسلم في كتاب البر باب فضل الرفق، صحيح مسلم بشرح النووي 16/146.
[73] لمسلم، المرجع السابق.
[74] انظر شرح النووي على صحيح مسلم، ج2 ص24، 133.
[75] انظر جامع العلوم والحكم، ص285، وانظر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للخلال، ص46، 47.
[76] انظر جامع بيان العلم وفضله، ص363.
[77] سورة لقمان، من الآية 17.
[78] انظر أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، ج2 ص174.
[79] سورة آل عمران، من الآية 159.
[80] تفسير المنار، ج4 ص198، 199.
[81] انظر في ظلال القرآن، ج5 ص292.
[82] سورة النحل، من الآية 125.
[83] سورة فصلت، الآية 33.
[84] أخرجه البخاري في كتاب العلم، باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولهم بالموعظة والعلم كي لا ينفروا، فتح الباري، ج1 ص163.
[85] انظر فتح الباري، ج1 ص163.
[86] انظر الحسبة لابن تيمية، ص133.
[87] سورة النحل، من الآية 125.(/37)
[88] انظر الآداب الشرعية لابن مفلح، ج1 ص191.
[89] انظر المجموع، ج1 ص31، وصحيح مسلم بشرح النووي، ج2 ص24.
[90] سورة يوسف، الآيتان 37، 38.
[91] انظر كيف تمكن الشيخ أحمد بن عبدالواحد الفاروقي السرهندي المولود سنة 971هـ من تحويل حاكم وحكومة الهند إلى الإسلام وهو داخل السجن، انظر الإسلام بين العلماء والحكام ص209.
[92] انظر دلائل النبوة للبيهقي، ج2 ص204، الطبعة الأولى سنة 1405هـ.
[93] البداية والنهاية، ج3 ص61.
[94] انظر مسائل الإمام أحمد، ج2 ص180.
[95] انظر مسائل الإمام أحمد، ج2 ص180.
[96] أخرجه مسلم في كتاب البر والآداب، باب استحباب طلاقة الوجه عند اللقاء، صحيح مسلم بشرح النووي، ج16 ص177.
[97] سورة التوبة، الآية 100.
[98] سورة الزمر، الآيتان 17، 18.
[99] انظر ترتيب المدارك، ج1 ص64.
[100] سورة التوبة، الآية 100.
[101] الرتوة: الخطوة.
[102] إعلام الموقعين، ج3 ص83- 88.
[103] لأنه صار يأخذ بمنهج مدرسة أهل الرأي في بعض المسائل.
[104] سبق تخريجه في الفصل الثاني في أصل مشروعيته، رقم 6.
[105] انظر جامع العلوم والحكم، ص280.
[106] انظر شرح النووي على صحيح مسلم، ج2 ص25.
[107] الآداب الشرعية، ج1 ص161، 162.
[108] الآداب الشرعية، ج1 ص167.
[109] الآداب الشرعية، ج1 ص174.
[110] الجامع لأحكام القرآن، ج4 ص47.
[111] المرجع السابق ج4 ص49.
[112] أخرجه أحمد في مسنده، ج5 ص217.
[113] انظر شرح فتح القدير، ج8 ص463، وبلغة السالك ج2 ص358.
[114] انظر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ص36، 53، 54.
[115] المرجع السابق، ص53.
[116] سورة لقمان، من الآية 17.
[117] الجامع لأحكام القرآن، ج4 ص48.
[118] الجامع لأحكام القرآن، ج14 ص68.(/38)
[119] أخرجه أحمد في مسنده، ج5 ص405، وابن ماجه في كتاب الفتن، باب قول الله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم" سنن ابن ماجه، ج2 ص1331، حديث رقم 4016، والترمذي في كتاب الفتن، باب 67 حديث رقم 2254 وقال: (حسن غريب)، الجامع الصحيح ج4 ص522.
[120] الآداب الشرعية، ج1 ص156.(/39)
العنوان: الانهيارُ الاجتماعي يعصف بالمجتمع الغربي
رقم المقالة: 1668
صاحب المقالة: أحمد أبو زيد
-----------------------------------------
الانهيارُ الاجتماعي يعصف بالمجتمع الغربي
تحوَّلَ إلى مجتمعٍ شبهِ لقيط بعد الانهيار الكبير للأخلاق والقيم!
• العَلاقاتُ المحرمة تفتك بالمجتمع الغربي، وتقوِّض الأسرةَ البنيةَ الاجتماعية الرئيسة للارتباط بين الرجل والمرأة.
• مؤسسة الزواج في فرنسا بدأت في الزوال بعد أن أصبحت العلاقاتُ غيرُ الشرعية هي النمط السائد.
• 300 ألف مولود سنوياً في فرنسا بلا أب شرعي، و40% من الولادات خارج إطار الزواج.
• ثلث الأطفال بالولايات المتحدة ينشأون خارج مؤسسة الزواج، و10 % من حالات الزواج في هولندا تكون بين الشواذ.
• توزيع حبوب الإجهاض في المدارس الفرنسية لتسهيل الرذيلة على المراهقات.
• • • •
منذ مدة تناقلت وكالةُ الأنباء خبر قيام 30 عذراء أمريكية بمهمة في بريطانيا لنصح المراهقات بأنَّ السبيل الوحيد لتحقيق الأمان في حياتهن هو المحافظة على العفة، وقد كوَّن هؤلاء العذارى منظمةً تدعو للإيمان والطهارة والعفة، تحمل اسم "الخاتم الفضي"، في محاولة لإقناع نظيراتهن البريطانيات بالحفاظ على عذريتهن، ووضع خاتم فضي في إصبعهن لتأكيد تمسكهن بعفتهن حتى الزواج!.
وهذه المنظمة، التي شاركت الحكومة الأمريكية في تمويلها، قامت بجولة شملت سبعَ مدن في بريطانيا وأسكتلندا وأيرلندا، وكان تمويلُ الرحلة من جانب متبرعين ورعاةٍ لها في بريطانيا. ومن المعروف أن بريطانيا تشهد أعلى معدَّل للحمل بين المراهقات في غرب أوربا، إذ انتشرت الأمراضُ التي تنتقل عن طريق الممارسة الإباحية، ويولد طفل من كل عشرة مواليد لأم مراهقة.(/1)
والسؤال المطروح هو: هل يمكن أن تنجح هذه المبادراتُ في إقناع جماهير الشباب والشابات في المجتمع الغربي والأمريكي بضرورة الحفاظ على العفة حتى الزواج في وسط يحثّ كلُّ شيء فيه على التحلل الأخلاقي بصورة أو بأخرى؟
إن المجتمع الغربي والأمريكي اليوم يغرق في بحر من الرزيلة بكل صورها، فالتقارير التي ترِدُ من المجتمع الغربي تكشف تردِّي أوضاع المرأة والأسرة في المجتمعات الغربية، وأن الأسرة في الغرب تسير من التفكك الذي تعانيه منذ سنوات إلى الزوال المحقق. فلم تعد الأسرةُ في المجتمع الغربي هي الخليةَ الأساسية للحياة الاجتماعية والمدرسة الأولى للتنشئة الاجتماعية والتربية الأخلاقية للأطفال، كما أن المرأة الغربية لم تعد دائماً هي الأم، بعد أن خضع المجتمع الغربي لرجة اجتماعية وأخلاقية ونفسية رهيبة حولته إلى مجتمع مهلهل فارغ من الروابط الإنسانية والدفء والألفة، واجتاحته سمومُ المادية والإباحية والقلق النفسي والضياع الاجتماعي، فالفلسفاتُ المادية، ومفاهيمُ الحرية المفتوحة على مصاريعها، وافتقاد الضوابط الأخلاقية والإنسانية، زلزلت العلاقاتِ بين المرأة والرجل، وأدخلت معاييرَ فلسفيةً وأخلاقية جديدة لدى الفرد في رؤيته لنفسه وللجنس الآخر.
ففي دولة مثل فرنسا أكَّد التقريرُ السنوي الأخير -الذي أعده "المعهد الوطني الفرنسي للأبحاث الديموغرافية"، وقدم إلى البرلمان الفرنسي- الأوضاعَ المتردية التي آلت إليها مؤسسةُ الزواج في فرنسا، وكيف أنها لم تعد إطاراً للعلاقات بين الجنسين، بل أصبحت العلاقاتُ غير الشرعية هي النمطَ السائد بين المرأة والرجل، فمن بين كل عشرة أشخاص متزوجين يوجد تسعة منهم خارج الإطار الشرعي للزواج، نتيجة تساكن إرادي بغير عقد كنسي أو مدني أو عرفي، ومن مجموع العلاقات الزوجية التي تكونت في التسعينيات هناك نسبة 30% حالات ارتباط خارج إطار الزواج، أي ما يعادل حالة من كل خمس حالات.(/2)
وأكد التقرير أنه من بين 450 ألف علاقة غير شرعية تقام كل سنة هناك فقط 150 إلى 200 ألف طلب تقدم للحصول على عقد مدني، وهذه الأرقام ليست نهائية ولكنها مرشحة للتزايد مع انتشار موجة التحرر والتحلل الجنسي والإباحية.
• الرباط الحر:
ويذكر التقرير -استناداً إلى إحصاء قام به في الشهور الأخيرة- أن مجموع النساء اللواتي لا يتجاوز سنهن 26 سنة، والرجال الذين لا يتجاوز سنهم 28 سنة يسكنون تحت سقف واحد بلا رباط شرعي أو قانوني، يتجاوز عددُهم عددَ المتزوجين من السن نفسه بكثير.
وانتشر ما يسميه التقرير بـ"العقد الحر" أو "الرباط الحر" الذي أصبح (موضة) شائعة في فرنسا، وقد نتج عن هذه الموجة الغربية التي غزت المجتمعَ الفرنسي ظهورُ أمهات بلا أزواج، إذ يسجل التقرير أن أكثر من نصف مجموع الأمهات الفرنسيات، أي ما يعادل 53%، يضعن أولَ مولود لهن خارج مؤسسة الزواج، نتيجة علاقة غير شرعية، وتصل نسبةُ الولادات خارج الزواج إلى 40% من مجموع الولادات المسجلة في فرنسا، وتمثل هذه النسبة 300 ألف مولود سنوياً، كلهم بلا أب شرعي، وربعُ هؤلاء ينتهي بهم الأمرُ إلى فِقدان الأب مدى الحياة، ونسبة المواليد غير الشرعيين في تزايد مطرد؛ ففي عام 1967م، كانت في حدود 6%، ووصلت إلى 20% عام 1985م، لتتجاوز 40% عام 1997م، وربما هي اليوم تفوق هذه النسبة بكثير.
ويشير التقرير إلى أن ظاهرة الحمل في صفوف الفتيات المراهقات البالغات ما بين عشر سنوات إلى 14 سنة في ارتفاع، مع أنها سجلت انخفاضاً بنسبة 6% موازنة بالسنوات الماضية، إذ سجل أدنى رقم له وهو 9481 ولادة لدى هذه الفئة من الفتيات. ويرجع التقرير هذا الانخفاض إلى تعميم وسائل منع الحمل في أوساط التلميذات، وفتح الصيدليات في المدارس لهذه الغاية، وتوظيف ممرضات لإرشاد التلميذات والتلاميذ وتوعيتهم بكيفية استعمال هذه الوسائل.
• توزيع حبوب الإجهاض:(/3)
وتسهيلا للرذيلة في المجتمعات الغربية ومعالجة الآثار التي تترتب عليها بدأت الجهاتُ الرسمية في دول أوربا بإتاحة حبوب الإجهاض أمام المراهقات، فقد أعلنت الوزيرةُ الفرنسية المكلفة بشؤون التعليم المدرسي أخيرًا أنه سيسمح للممرّضين والأطباء العاملين في المدارس الفرنسية بتوزيع حبوب الإجهاض على المراهقات. وقالت: "المراهقات في فرنسا يعانين من إحباط كبير، لا سيما بسبب الحمل المبكر؛ إذ تسجل أكثر من 10 آلاف حالة بينها 6700 تنتهي بالإجهاض الاختياري، وأريد معالجة هذا الوضع الملح".
وتستخدم الحبة المسببة للإجهاض (آر يو 486) - التي ابتكرت في 1980م، وتباع تحت اسم "ميفيجين" - 380 ألف امرأة في فرنسا سنويًا من أصل 500 ألف امرأة.
وتعد بريطانيا والسويد هما الدولتين الوحيدتين اللتين تسمحان ببيعها في أوربا قبل أن تنضم إليهما أخيرًا ألمانيا والنمسا وبلجيكا والدانمارك وإسبانيا وفنلندا واليونان وهولندا.
ويعد توسيع سوق بيع الحبة -التي يبلغ سعرها 65 دولارًا- انتصارًا لمبتكريها الفرنسيين على المجموعات المناهضة للإجهاض في أوربا والولايات المتحدة، في حين ينتظر أن تسمح دول أخرى؛ مثل سويسرا والنرويج وجنوب إفريقيا وإسرائيل وتايوان وروسيا ببيعها قريبًا. كما تستخدم الحبة مليونا امرأة سنويًا في الصين، إذ تنتج منذ خمس سنوات على الأقل بلا ترخيص.
• مجتمع شبه لقيط:
وهكذا تحول المجتمعُ الغربي إلى مجتمع شبه لقيط، ونشأ ما يمكن أن يطلق عليه الطفلُ الوحيد والأم الوحيدة، بلا أب ولا زوج ولا سقف عائلي، نتيجةَ العَلاقات المحرمة التي تفتِك به، وتقويض الأسرة البنية الاجتماعية الرئيسة للارتباط بين الذكر والأنثى، واحتضان الأبناء والاستمرار في الحياة.(/4)
وبطبيعة الحال، ليست فرنسا إلا نموذجاً واحداً للبلدان الغربية والأوربية الأخرى التي ربما لن تكون أحسن حالاً منها، بل إن فرنسا تبقى مع كل هذه الأرقام المهولة والمخيفة أحسن حالاً من البلدان الإسكندنافية مثل السويد وفنلندا والنرويج التي وصل التحرر الجنسي والإباحية فيها إلى ذروته، وأصبح سوقاً رائجة، أما الولايات المتحدة فإنها تبقى في طليعة هذا الانحطاط.
• تقنين الشذوذ:
ولم تتوقف موجةُ الإباحية في المجتمع الغربي عند العلاقات المحرمة بين الرجل والمرأة، بل انتشر الشذوذُ هناك بكل صوره وأشكاله، ووصل الحد إلى تقنين هذا الشذوذ، وجعله تحت سمع وبصر القانون، فزواجُ الشواذ بدأ يأخذ طابعًا قانونيًا في عدد من الدول الغربية مثل هولندا التي أقر برلمانُها أخيرًا تشريعًا يسمح بزواج الشواذ، ويعترف بحقهم في كل ما يتصل بالزواج الحقيقي!
وقد شهدت العاصمةُ الهولندية "أمستردام" في المدة الأخيرة أولَ زواج رسمي بين الشواذ في العالم، وسط حضور وزراء الحكومة والمواطنين الهولنديين، بالإضافة إلى إذاعة الزواج على الهواء مباشرة. وكذلك تزويج ستة رجال من بعضهم، وكذا تزويج سيدة من أخرى، وذلك في أعقاب صدور قانون يبيح الزواج بين الأشخاص من الجنس نفسه في هولندا، وطبقًا لهذا القانون الجديد فإن الحكومة الهولندية تعطي للزواج الشاذ حقوق ومسئوليات الزواج التقليدي نفسها، وتتمثل في حق الحصول على المعونات الاجتماعية، والانخفاض الضريبي، وحق التبني، وضرورة التوجه للمحاكم من أجل التطليق.
ويتوقع المسئولون في أمستردام أن يرتفع عددُ زواجات الشواذ إلى ما يربو على 10 آلاف زواج بين الشواذ سنويًا، وهو ما يمثل 10 بالمئة من متوسط حالات الزواج الطبيعية!!.(/5)
وكانت هذه السلسلة من زواجات الشواذ قد بدأت في الدانمارك عام 1989 م، لتكون أول دولة تعترف بهذ النوع من الزواجات، كما سمحت النرويج والسويد للشواذ بتسجيل علاقاتهم تسجيلا رسميا، أما ألمانيا فقد أصدرت قانونًا جديدًا في شهر ديسمبر 2000م يسمح باعتراف نوعيّ بالزواج الشاذ، ولا يسمح بالتبني، ولا الحصول على الانخفاض الضريبي، كما يسمح بإتمام هذه الزواجات لغير المواطنين الألمان.
وفي كندا عدل البرلمان الكندي 68 قانونًا اتحاديًا ليمحو معظم الاختلافات القانونية بين الازواج الأسوياء والأزواج من الشواذ جنسيًا لكنه لم يسمح بتغيير تعريف الزواج. ومنحت الحكومةُ الكندية في فبراير من عام 2000 للشواذ جنسيًا المقيمين معًا الحقوق نفسها التي تعطيها للطبيعيين المقيمين معًا دون السماح بزواج رسمي.
وتسمح بريطانيا بالشذوذ الجنسي بشرط أن يكون بين رجلين على الأكثر، وأن تكون سنهما من 18 فما فوق، أما إذا صغرت السن أو زاد العدد فهنا تكون الجريمةُ، وهو ما يعترض عليه الشواذ الذين يمثلون قوة ضاغطة على الحكومة.
وتعد ولاية "فرمونت" الأمريكية هي أول ولاية أمريكية تعطي للشواذ جنسيًا حقَّ الإمضاء على قسيمة شبيهة بقسيمة الزواج، تعطيهم حقوق وواجبات الزواج التقليدي نفسها وذلك في أبريل الماضي.
وقد قام الاتحادُ الأوربي بإباحة الشذوذ الجماعي، فمنذ سنتين أقرت المحكمةُ الأوربية قوانين جديدةً لا تجرم الشذوذَ الجنسي ما دام برضا جميع الأطراف، وقد عد ذلك شواذُّ أوربا وبريطانيا على وجه الخصوص نصرًا كبيرا لهم.(/6)
وبدأ المجتمعُ الغربي -إلى جانب مباركة زواج الشواذ- بالبحث عن سبل تسهيل حياة هؤلاء الشواذ وإمكانية ولادتهم!، فقد تعرض عالم الكيمياء الحيوية البريطاني الدكتور "كالم مكلر" لفكرة إمكانية تخليق جنين من أبوين شاذين باستخدام تكنولوجيا الاستنساخ، وذلك من خلال تفريغ بويضة من نواتها واستبدالها بنواة الحيوان المنوي لأحد الأبوين، ثم القيام بتلقيح صناعي للبويضة بحيوان منوي من الأب الآخر، ويتم زرع البويضة الملقحة في رحم امرأة متبرعة حتى استكمال مدة الحمل. واستبعد الطبيبُ البريطاني إمكانية فعل ذلك بالتكنولوجيا الحالية، إلا أنه قال: إن التطور التكنولوجي السريع قد يستطيع أن يتغلب على مشكلة غياب النواة الأنثوية اللازمة لاستكمال خطوات حيوية ضرورية من أجل تكوين الجنين!.
• الانهيار العظيم للأخلاق:(/7)
ولقد اعترف "فوكوياما" الأمريكي ذو الأصل الياباني في كتابه الجديد "الانهيار العظيم"، أن الخمسين سنة الأخيرة من القرن الماضي شهدت انهياراً عظيماً للعلاقات والأخلاق الاجتماعية والروابط الأسرية بالدول المتقدمة، وقال: إن هذه الحضارة -بما فيها من ثورة تكنولوجية، وانتقال المجتمع من عصر الصناعة إلى عصر المعلومات والأقمار الصناعية، والإنترنت، والبريد الإلكتروني، والفاكس، وغيرها- هي السبب الذي أزال الحدودَ الثقافية والحضارية بين المجتمعات المستقرة منذ زمن طويل، وذلك أدى إلى بداية ظاهرة الانهيار العظيم التي اتسمت بتدهور خطير في الظروف الاجتماعية في معظم الدول الصناعية، فازدادت معدلاتُ الجريمة، وتسارع انهيارُ العلاقات والروابط بين أفراد الأسرة المؤسسة الاجتماعية المستقرة منذ مئات السنين، وكذلك معدلات الخصوبة في معظم الدول الأوربية حتى باتت تنذر بانقراض هذه الشعوب مع تراجع معدلات الزواج، وقلة المواليد إلى حد أن ثلث الأطفال بالولايات المتحدة ينشأون خارج مؤسسة الزواج، في حين تبلغ هذه النسبة 50% في الدول الإسكندنافية.
• عولمة الإباحية والشذوذ:
ولا غرابة على مجتمع تعصف به الرذيلةُ من كل جانب وتسودُ فيه الإباحيةُ بكل صورها أن يجد في داخله من يسعى لتقنين الرذائل والسعي لنشرها على مستوى العالم، وهذا ما حدث في مؤتمر المرأة ببكين عام 1995م، ثم في مؤتمر الأمم المتحدة للمرأة عام 2000م في نيويورك، ففي هذا المؤتمر الأخير رفضت الدولُ العربية والإسلامية قرابة 40 فقرة في البيان الختامي للمؤتمر تخالف الشرائعَ السماوية، وتركز على ما يسمى "حقوق الشواذ"، وحقوق السيدات في الإجهاض، وإقامة علاقات جنسية حرة، وهو ما يعني إباحة الإجهاض والبغاء والشذوذ الجنسي وتشجيع الإباحية.(/8)
وقد تصاعدت حدةُ الخلافات بين أنصار الحرية الجنسية للمرأة والرافضين لهذه الأفكار التي يترتب عليها أخطارٌ اجتماعية كبيرة في المؤتمر، واتهمت منظمات وجمعيات تؤيد الحريات الجنسية كلاً من الفاتيكان وبعض الدول الإسلامية بعرقلة مفاوضات الأمم المتحدة بشأن ما أسموه "حقوق النساء"، في حين قال خصومُ هذه الحريات الجنسية ومعارضو الإجهاض: إن الغرب يحاول فرض "استعمار جنسي" على بقية العالم.
فالغرب يسعى اليوم -ومن خلال الهيئات الدولية- إلى نشر الإباحية والشذوذ على المستوى العالمي، وقد دعت بعضُ الدول الغربية الأممَ المتحدة إلى تقنين العلاقات الزوجية غير الشرعية وحماية حقوق الشواذ، وقدمت مقترحاتٍ طالبت فيها صندوقَ الأمم المتحدة للمعاشات بإجراء دراسة للأنماط الاجتماعية والعلاقات الزوجية الجديدة، ومن بينها الزواج بين ذوي الجنس الواحد؛ بهدف تغيير القواعد وتقنين العلاقات بين الشواذ، ومنحهم الحقوق والامتيازات نفسها في الصندوق.
وتأتي هذه المحاولاتُ في إطار سعي الدول الغربية الحثيث منذ المؤتمر العالمي الرابع للمرأة في بكين عام 1995م لفرض عدد من المفاهيم والعادات والتقاليد، التي تخالف الشرائع السماوية والأعراف والقيم السائدة في مجتمعات الدول الإسلامية، من خلال الإصرار على الاعتراف بالتوجهات الجنسية المختلفة وتقنينها، وحماية العلاقات الزوجية غير الشرعية أو القائمة على الشذوذ الجنسي بموجب القوانين الوطنية.(/9)
وقد اتهمت الدولُ الغربية الدولَ المعارضة لتلك التوجهات -وعلى رأسها الدول الإسلامية- بانتهاك حقوق الإنسان، وبعدم احترام المساواة والحريات الشخصية (!)، وهو الأمر الذي رفضته الدولُ الإسلامية مؤكدةً ضرورة عدم السماح بتفشي مظاهر الانحلال الغربي الذي يتسبب في كثير من المآسي، وعلى رأسها مرض الإيدز داخل المجتمعات المؤمنة والمتمسكة بدينها وتقاليدها، وضرورة استخدام كل السبل المتاحة للتصدي لمحاولات بعض الدول الغربية فرض قيمها وتقاليدها وعاداتها المتعلقة بالمرأة، والعلاقات الجنسية والزوجية غير الشرعية على كل المجتمعات بغير تمييز، ومعارضة المقترحات الغربية التي تسعى إلى الاعتراف وإعطاء الشرعية إلى العلاقات الشاذة على الصعيد الدولي.
هذا إلى جانب حشد القوى الإسلامية والكاثوليكية المتمسكة بأحكام الدين والقيم لتوحيد المواقف، في إطار مواجهة الدول الغربية التي اعترفت بالأنماط الاجتماعية الجديدة الشاذة كالنرويج وكندا وهولندا وألمانيا، وتسعى لإعطاء الشرعية لهذه العلاقات الشاذة على المستوى العالمي.
• المراجع:
- دعوة إلى العفة في أمريكا!! – لها أون لاين – 28/05/2004م.
- الثورة الإباحية - مجلة الفرقان - العدد 126 السنة الثانية عشرة - رجب 1412 هـ أكتوبر 2000م.
- هجمة صهيونية عبر الإنترنت - حسني عبد المعز عبد الحافظ - الجندي المسلم - العدد 99 - ربيع الأول 1421هـ.
- الانهيار العظيم للأخلاق الاجتماعية - مجلة المجتمع - العدد 1399 - السنة 31 - 5 صفر 1421هـ - 9 مايو 2000م.
- المرأة عام 2000م والتآمر العالمي عليها - موقع رابطة العالم الإسلامي على الإنترنت - 13 نوفمبر 2000م.
- حوار حول الإباحية في الإنترنت - سلطان الخثلان - الجندي المسلم - العدد 102 - ذو الحجة 1421هـ مارس 2001م.(/10)
العنوان: الآنية والأوعية المستخدمة في العهد النبوي (دراسة مستمدة من كتب الحديث الشريف)
رقم المقالة: 419
صاحب المقالة: د. محمد بن فارس الجميل
-----------------------------------------
المقدمة:
إن الغرض من هذه الدراسة هو إلقاء الضوء على الآنية والأوعية المستخدمة في عهد النبي – صلى الله عليه وسلم – وذلك من أجل رسم صورة واضحة لجانب من جوانب الحياة الاجتماعية في ذلك الحين. والمرجع في ذلك كتب الحديث التسعة الواردة في المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي الشريف، وذلك أيسر لحصر مادتها وبحثها. والمقصود بالكتب التسعة هي:
الموطأ: للإمام مالك (ت:179)، المسند: للإمام أحمد بن حنبل (ت:241هـ) سنن الدارمي (ت:255هـ)، صحيح البخاري: للإمام البخاري (ت:256هـ)، صحيح مسلم: للإمام مسلم (ت:261هـ)، سنن ابن ماجة: لابن ماجة، (ت:275هـ)، سنن أبي داود (ت:175هـ)، سنن الترمذي، للترمذي (ت:279هـ)، سنن النسائي: للنسائي (ت:303هـ).
وتعود أهمية هذه الدراسة إلى اعتمادها على هذه الكتب المشهورة في الحديث النبوي الشريف، والتي حسب علمي لم يسبق أن استخدمت لدراسة هذا الموضوع من قبل. ومما لا شك فيه أن تلك المصادر الأساسية في السنة النبوية تُعدُّ المرآة التي تعكس الكثير من جوانب الحياة في العصر النبوي. ولعل من ضمن تلك الجوانب ما كان يستخدمه المجتمع آنذاك في طعامه وشرابه من آنية وأوعية، وذلك متمثل بالطبع في بيوت النبي – صلى الله عليه وسلم – وبيوت صحابته (رضوان الله عليهم).
والمأمول من هذه الدراسة أن تقدم صورة واضحة عن تلك المقتنيات المستعملة في ذلك الحين، وتحبيب بقدر الإمكان عن بعض التساؤلات المتعلقة بها، مثل: مم كانت تتألف تلك المقتنيات؟ وما مادة صناعتها؟ وما مصادرها؟.(/1)
وقد يلاحظ المرء أن معظم مواد الواقعة في نطاق هذه الدراسة، هي نماذج مأخوذه من بيوت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وليس في ذلك ما يدعو للغرابة، حيث إن مصادر الدراسة منصبة في أساسها على حياة النبي – صلى الله عليه وسلم – وسنته الطاهرة، فهي المثال الأعلى الذي يجب أن يحتذى، لقوله تعالى {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (21/ الأحزاب).
لهذا فلا عجب أن كانت حياة الرسول – صلى الله عليه وسلم – هي القطب الذي تدور حوله حياة المجتمع المسلم في ذلك الحين من عبادة ومطعم ومشرب وملبس وما يرافق ذلك من أدوات الاستخدام اليومي.
وسيلاحظ المرء كذلك شيء من التشابه في الحديث عن بعض الآنية والأوعية فيظنه حديث مكرور لا جديد فيه، منها الحديث عن: الطبق والقناع أو الزبيل والعرق وغير ذلك، وهذا الاستنتاج صحيح إلى حد ما، ولكن الذي أدى إلى ذلك هو إيراد كتب الحديث أكثر من مسمى لشيء ربما يكون واحداً. لذلك كان لا مناص من الحديث عن ذلك الشيء تحت مسماه الآخر.
أما بالنسبة للتعريف بالآنية والأوعية التي سنتطرق إليها هنا، فسيكون المرجع فيه إلى معاجم اللغة المشهورة. حيث سيقدم التعريف اللغوي بكل مادة على حدة، ثم يكون الحديث عنها في ضوء ما قدمته المصادر من معلومات.
وحتى يكون التعرف على وظائف تلك المقتنيات ميسوراً، فإنه يمكن تصنيفها إلى فئات حسب أوجه استخدامها:
الفئة الأولى: آنية الطعام، الفئة الثانية: آنية الشراب، الفئة الثالثة: آنية وأوعية السوائل، الفئة الرابعة: أوعية ذات استخدامات شتى. الفئة الخامسة: وحدات الكيل.(/2)
لكن قبل مباشرة الحديث يجدر بنا الإشارة إلى بعض المعلومات التي تعترض سبيل الدارس لمثل هذا الموضوع، وذلك على الأقل فيما يتعلق بالمسميات والمصطلحات ذات العلاقة المباشرة بمادة الدراسة. حيث إن معظم معاجم اللغة لا تسعف كثيراً في تذليل مثل تلك الصعوبات (!) وهاك مثلاً على ذلك تعريف الوعاء والإناء.
فقد جاء عند الأزهري (ت:370هـ) في تهذيب اللغة، في تعريفه للإِناء قوله ((واحد الإِناء، مثل رداء وأردية)) (15/555)).
أما الوعاء، فقال عنه ((.. وأوعى الشيء في الوعاء يوعيه إيعاء – بالألف فهو موعى. قال: والوعاء يقال له الإعاء)). (2/159 – 260).
أما الجوهري (ت:398)، فقد قال في الصحاح عن الإناء ((الإناء، معروف، وجمعه آنية..)) (6/2274)، أما الوعاء: ((فهو واحد أوعية، يقال: أوعيت الزاد أو المتاع إذا جعلته في الوعاء...)) (6/2525).
وابن منظور (ت:711هـ)، في اللسان، يعرف الإناء بقوله: ((الإناء ممدود: واحد الآنية، معروف مثل رداء وأردية، وجمعه آنية.. والإناء الذي يرتفق به، وهو مشتق من ذلك لأنه بلغ أن يعتمل بما يعاني به من طبخ أو خزر أو تجارة...)) (14/48).
والوعاء، يعرفه ابن منظور بأنه: ((الوعاء والإعاء على البدل والوعاء، كل ذلك ظرف الشيء، والجمع أوعية...)) (15/397).
وإذا سألنا عن كنه الظرف؟ وما الفرق بينه وبين الوعاء (؟!) وجدنا ابن منظور مرة أخرى، يعرف الظرف بقوله:
((ظرف الشيء: وعاؤه، والجمع ظروف، ومنه ظروف الأزمنة والأمكنة... والظرف وعاء كل شيء حتى إن الإبريق ظرف لما فيه)) (9/229). وهكذا فالظرف هو الوعاء والوعاء هو الظرف (؟!).
وأخيراً فإن الفيروز آبادي (ت:817هـ)، يقول عن الإناء في القاموس المحيط، الإناء كسحاب، وبالكسر معروف جمع آنية وأوان)) (ص1731).(/3)
مما سبق يتبين بجلاء بأن المعاجم اللغوية في بعض الأحيان لا تقدم ما يشفي فيما يتعلق بمسميات بعض الأشياء حيث إنها تفتقر إلى تقديم المسميات الدقيقة لها وذكر الفروق فيما بينها إن وجدت.
وهذه المعاجم الأربعة التي قدمنا أمثلة منها لكلمتي إناء ووعاء، لم تذكر لنا الفرق بين المسلمين، فهل الإِناء هو الوعاء؟.
وإذا كان الأمر كذلك فهل يمكن أن نقول عن القربة مثلاً أنها إناء الماء كما نقول عن القدح أنه إناء اللبن؟! وأيهما أصح: القول بأن القربة وعاء الماء أم إناء الماء؟ يبدو أن الأمر لا يخلو من صعوبة، وهذه الصعوبة منشؤها يعود إلى عدم التفريق الدقيق عند بعض مؤلفي المعاجم بين بعض المسميات كالتي ذكرنا طرفاً منها.
ولعل ما يدفع الباحث إلى الظن بأن هناك فرق بين الإناء والوعاء هو ما يلاحظ عند الثعالبي (ت:430هـ) في كتابة فقه اللغة وسر العربية، حيث إنه في كثير من الأحيان يفرق بين الإناء والوعاء من حيث الاستعمال، فمثلاً على ذلك أنه خصص فصلاً بعنوان: فصل في تقسيم أوعية المائعات (ص:240 – 241)، وذكر في ذلك الفصل السقاء والقربة والوطب والعكة والنحى وغيرها. ثم خصص فصلاً آخر للحديث عن الأواني بعنوان: فصل في أجناس الأقداح وما يناسبها من أواني الشراب (ص:241)، وساق أمثلة على ذلك: كالقدح والعس والعلبة والمركن وغيرها.
ومرة أخرى فقد خصص الثعالبي فصلاً بعنوان: فصل في ترتيب أوعية الماء التي يسافر بها: فذكر منها الركوة والمطهرة والإداوة والمزادة والسطيحة والراوية. (ص:241)، ومن اللافت للنظر أن جميع تلك الأوعية التي مر عليها في هذا الفصل هي أوعية مصنوعة من الجلد.(/4)
وبناء على ما تقدم فإن القارئ سيلاحظ في هذا البحث أن هناك محاولة تفريق بين ما هو إناء وما هو وعاء. وفي واقع الأمر فإنه ليس لدينا في هذا التفريق قاعدة يمكن الرجوع إليها في هذا التحديد ولكنه الاجتهاد، الذي هو عرضة للخطأ والصواب. فإن كان صواباً فبتوفيق من الله وفضل وإن كان خطأ فمن نفسي وما أبرئها.
وسنبدأ الآن دراستنا بالفئة الأولى وهي الخاصة بآنية الطعام.
الفئة الأولى:
آنية الطعام:
ويمكن تقسيم آنية الطعام إلى ثلاثة أنواع. حسب استخدامها. النوع الأول: ما يطبخ فيها الطعام، النوع الثاني: ما يقدم فيه الطعام أما النوع الثالث: فهو نوع من الآنية تقدم أو تحفظ فيه الأطعمة الباردة أو الجافة مثل: التمور أو الفواكه.
النوع الأول: آنية الطبخ:
(أ) البرمة: هي القدر. وحسب تعريف آخر هي قدر من حجارة. والجمع بُرَمٌ وبِرامٌ ويظهر أن البرمة تصنع من حجارة خاصة منتشرة بالحجاز واليمن. ولعل من هذه الإشارة الأخيرة تفيد أن أهم أماكن صناعة هذا النوع من أواني الطهي هو الحجاز واليمن. ولدينا إشارة وردت عن النابغة الذبياني تفيد بأن نخلة من الأماكن المشهورة بتجارة البرم وأن تجارتها من الأنشطة النسوية حيث يقول:
والبائعات بشطي نخلة البرما
وكانت البرمة من أواني الطهي المستعملة على عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وكانت مستخدمة في بيوته وبيوت أهل المدينة عامة، وقد ورد عن أم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها – قولها: ((... فدخل عليَّ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – والبرمة على النار. فدعا بطعام. فأتى بخبز وأدم البيت. فقال: ((ألم أر برمة على النار فيها لحم؟)).. الحديث.(/5)
يبدو أن البرمة كانت من أكثر أواني الطهي شيوعاً في ذلك العصر، فقد روت عائشة – رضي الله عنها – أنها كانت إذا مات الميت من أهلها، فاجتمع لذلك النساء، ثم تفرقن إلا أهلها وخاصتها، أمرت ببرمة من تلبينة – فطبخت، ثم صنع ثريد فصبت التلبينة عليها وفي مناسبة أخرى يحدثنا الصحابي الجليل أنس بن مالك – رضي الله عنه – أن والدته أم سليم – رضي الله عنها – أهدت إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حيسة في برمة.
وأخيراً فقد جاء عن أم المؤمنين أم سلمة – رضي الله عنها – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان في بيتها فأتته ابنته فاطمة – رضي الله عنها – ببرمة فيها خزيرة فدخلت بها عليه.
وهكذا يتبين مما سبق أن البرمة نوع من آنية الطهي وأنها تصنع من حجارة خاصة قد لا تتوافر إلا في اليمن والحجاز وقد تشتهر بعض الأماكن في الحجاز بصناعتها والاتجار فيها مثل نخلة.
ب – القدر: ((القدر، مؤنثة عند جميع العرب بلا هاء، وإذا حُقِّرت قيل لها: قديرة وقدير بالهاء وغير الهاء)).
ليس من شك في أن القدر من آنية الطبيخ ولكن معاجم اللغة لا تسعف الباحث في تقديم صورة واضحة عن تلك الآنية فهي لا تتطرق إلى شكلها ولا إلى مادة صناعتها ولا أين تصنع. فالمعاجم تأتي على ذكرها باختصار شديد وكأنها شيء معروف والمعروف عادة لا يعرف.
على كل حال، وردت الإشارة إلى القدر في مناسبات كثيرة يصعب حصرها في هذا المقام، منها ما روي عن ابن عباس – رضي الله عنهما – أنه قال: نحر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في الحج مائة بدنة... وأخذ من كل بدنة بضعة فجمعت في قدر فأكل منها وحسا من مرقها. وعن ابن عباس أيضاً أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – انتشل من قدر عظماً فصلى ولم يتوضأ. ومرة أخرى يحدثنا ابن عباس قائلاً: كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – تأتيه الجارية بالكتف من القدر فيأكل منها.(/6)
وروي عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أنه في يوم خيبر سنة 7هـ أمر بلحوم حمر الناس (الأهلية) وهي في القدور فأكفئت.
وأخيراً يصف لنا علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – ما تعانيه زوجته فاطمة بنت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من مشقة الخدمة قائلاً... فجرت بالرحى حتى أثرت بيدها، واستقت بالقربة حتى أثرت في نحرها، وقمت البيت حتى اغبرت ثيابها، وأوقدت القدر حتى دكنت ثيابها وأصابها في ذلك ضر.
إن الإشارة إلى القدر في كتب الحديث كثيرة جداً حتى يخيل إلى المرء بأن القدر ليس شيئاً مخصوصاً بعينه بل يكاد يكون كل ما يطبخ فيه فهو قدر.
المرجل:
((المرجل: القدر من الحجارة والنحاس.. وقيل هو قدر النحاس خاصة. وقيل هي كل ما طبخ فيها من قدر وغيرها.
وحسب تعريف آخر فإن المرجل قدر من نحاس. وهكذا من هذه التعريفات يتبين أن المرجل قدر يصنع من مادة الحجارة أو النحاس وإن كان الغالب حسب ما تقدم أنه يصنع من النحاس خاصة. وما دام يصنع من النحاس فلابد أن يكون ثمنه مرتفعاً. والمعلومات المتوافرة لا تشير لا إلى ثمنه ولا إلى مكان صناعته ولا حجمه!
وقد جاءت الإشارة إلى المرجل في مصادر هذه الدراسة نادرة جداً. فقد روي عن الرسول – صلى الله عليه وسلم – قوله: ((إن أهون أهل النار عذاباً من له نعلان وشراكان من نار يغلي منهما دماغه كما يغلي المرجل)).
وجاء عن أم المؤمنين عائشة – رضي الله عنه – أنها قالت:
ودخل عليَّ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – والمرجل يفور بلحم. فقال: ((من أين لك هذا؟)).
إن الإشارة إلى المرجل في حديث عائشة تبين أنه كان موجوداً في بيت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ومن المؤكد أنه كان موجوداً في بعض بيوت أهل المدينة. ولكن يبدو أنه لم يكن واسع الانتشار ربما لندرته، خاصة إن كان يصنع من النحاس.
النوع الثاني: ما يقدم فيه الطعام:
الجام:(/7)
((الجام: إناء من فضة، عربي صحيح،.. ابن الاعرابي: الجام، الفاثور من اللجين ويجمع على أجوم)).
ليس فيما تقدم ما يفيد عن صفة الجام سوى أنه إناء من فضة، وأن تسميته عربية صحيحه. فليس بواضح هنا هل الجام من آنية الطعام أو الشراب. أو من آنية الاستعمالات الأخرى.
كما أن الإشارة إليه في مصادر هذه الدراسة جاءت مرة واحدة بروايتين متشابهتين. فجاء عند البخاري ما نصه:
((عن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال: خرج رجل من بني سهم مع تميم الداري وعدي بن بداء، فمات السهمي بأرض ليس بها مسلم، فلما قدموا بتركته فقدوا جاماً من فضة مخوصاً من ذهب، فأحلفهما رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ثم وجد الجام بمكة)).
وفي رواية أخرى ((فقدوا جام فضة مخوصاً بالذهب)).
نظراً لأن الجام من فضة أنه محلى أيضاً بشيء من الذهب فقد جاء ثمنه كبيراً، حيث ورد في أحد المصادر أن ثمن ذلك الجام ألف درهم.
مهما يكن الأمر فإن الذي لا شك فيه أن الجام أو هذا الإناء الفضي لم يكن من مقتنيات بيوت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كما وأنه من المستبعد أن يكون من مقتنيات أصحابه، حيث أننا نعرف موقف الدين والرسول – صلى الله عليه وسلم – من آنية الذهب والفضة.
والذي لا جدال فيه هو أن ((الجام)) إناء نادر وعزيز الثمن.
الجفنة:
((الجفنة معروفة، أعظم ما يكون القصاع، والجمع جفان)) الإشارة إلى الجفنة، في ما توافر لدينا من مصادر هذه الدراسة كثيرة جداً، لكن هذه المصادر مثلها مثل معاجم اللغة لا تفصح كثيراً عن ماهية الجفنة، وإن كان واحداً منها يذكر أن الجفنة من القصاع وهي أكبرها ويضيف المصدر نفسه قائلاً: ((وقصاع العرب من خشب)) فهذه الإشارة الأخيرة توحي بأن الجفنة ربما صنعت من الخشب.(/8)
وقد روى عن الصحابي عكراش بن ذؤيب أنه قال: أتى النبي – صلى الله عليه وسلم – بجفنة كثيرة الزبد والودك فأقبلنا نأكل منها وفي مناسبة مشابهة يروي ابن عباس أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أتي بجفنة أو قال: قصعة من ثريد، فقال: كلوا من حافاتها ويظهر من رواية للصحابي جابر بن عبدالله – رضي الله عنه – أن بعض الجفان قد تكون كبيرة جداً لدرجة أنها تكفي الركب! فهو يقول: فقال: (أي رسول الله – صلى الله عليه وسلم –):
((يا جابر ناد بجفنة)) فقلت: يا جفنة الركب! فأتيت بها تحمل فوضعتها بين يديه. فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بيده في الجفنة هكذا والجفنة ربما استخدمت لأكثر من غرض فليست موقوفة على الطعام فقط، روى عن ابن عباس – رضي الله عنهما – أنه قال:
قامت امرأة من نساء النبي – صلى الله عليه وسلم – فاغتسلت في جفنة من جنابة، فقام النبي – صلى الله عليه وسلم – إلى فضلها يستحم.
وهكذا مما تقدم يتبين أن الجفنة من الأواني المستخدمة في بيت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وبيوت أصحابه، وأنه ربما استخدمت لأغراض شتى، وأنه منها الصغير والكبير.
سكرجة:
سُكُرّجَةً... هي بضم السين والكاف والراء والتشديد، إناء صغير يؤكل فيه الشيء القليل من الأدم، وهي فارسية. وأكثر ما يوضع فيها الكواميخ ونحوها.
من التعريف السابق يظهر أن السكرجة من آنية الطعام، ويظهر كذلك أنها من الآنية الثمينة. وقد جاء في الحديث عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – أنه قال: ما أكل النبي – صلى الله عليه وسلم – على خوان ولا في سكرجة. قال: فعلام كانوا يأكلون؟ قال: على السفر.
ويظهر أن السكرجة ذات أحجام مختلفة فكما أنها تستخدم آنية الطعام تستخدم ذات الأحجام الصغيرة منها في مكاييل الأطباء وأوزانهم.(/9)
كما تقدم يبدو أن السكرجة لم تكن من الآنية الشائعة الاستعمال، وإن كانت معروفة على عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ولعل عدم استعمالها في بيوته يعود إلى ارتفاع ثمنها والرسول (عليه الصلاة والسلام) من أبعد الناس عن الكلف بالدنيا وبهرجها، وليس من المستبعد أن السكرجة من الآنية القادمة من بلاد فارس.
الصحفة:
((الصحفة: كالقصعة، وقال ابن سيده، شبه قصعة سلنطيحة، عريضة، وهي تشبع الخمسة ونحوهم والجمع صحاف)).
وجاءت الإشارة إلى الصحفة في القرآن الكريم بصيغة الجمع، فقال تعالى:
{يُطَافُ عَلَيْهِم بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ} (43/ الزخرف).
ولابد أن الصحفة تأتي على أحجام مختلفة، فقيل إنها تشبع الخمسة كما سبق. وقيل أيضاً أنها تشبع الواحد.
وجاءت الإشارة إلى الصحفة في المصادر الحديثية مرات عدة، سنكتفي بالبعض منها:
من ذلك ما جاء عن أم المؤمنين أم سلمة – رضي الله عنها –: أنها أتت بطعام في صحفة لها إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأصحابه، فجاءت عائشة مئتزرة بكساء ومعها فهر، ففلقت به الصحفة. فجمع النبي – صلى الله عليه وسلم – بين فلقتي الصحفة ويقول: ((كلوا غارت أمكم))... والمقصود بالفهر هنا، حجر ملء الكف.
وفي رواية عن أم هانئ بنت أبي طالب تقول فيها: دخلت إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – يوم الفتح وهو في قبة له، فوجدته قد اغتسل بماء صحفة فيها أثر العجين.
وكان عند الخليفة عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – تسع صحاف فلا تكون فاكهة ولا طريفة إلا جعل منها في تلك الصحاف فبعث بها إلى أزواج النبي – صلى الله عليه وسلم –.
وأخيراً فإن الذي يمكن استنتاجه مما تقدم بأن الصحفة تتخذ من الخشب وأنها ذات استخدامات كثيرة، فهي مرة للطعام ومرة لعجن العجين ومرة للغسل والوضوء ونحو ذلك.(/10)
وهذه الاستخدامات الكثيرة للإناء الواحد ربما تعكس حقيقة مهمة وهي قلة الآنية المتداولة في البيت الواحد في ذلك الحين، أما لزهد في الدنيا ومتاعها أو ربما لقلة ذات اليد.
والذي لا خلاف فيه أن الصحفة كانت من الآنية المتداولة في بيوت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وبيوت صحابته الكرام.
القصعة:
((القصعة: الفخمة تشبع العشرة، والجمع قصاع وقصع)) وفي تعريف آخر ((القصعة)) هي الصحفة والجمع قصعات.
ومن إحدى الروايات يظهر أن القصعة تصنع من الخشب والقصعة معروفة على زمن النبي – صلى الله عليه وسلم – وزمن صحابته الكرام.
وقد روى أنس بن مالك – رضي الله عنه – قائلاً:
كنت غلاماً أمشي مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فدخل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – على غلام له خياط فأتاه بقصعة فيها طعام وعليه دباء وفي مناسبة أخرى يقول أنس – رضي الله عنه – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – استعار قصعة فضاعت فضمنها لهم.
وهذه الرواية تدل على أن بيت النبي – صلى الله عليه وسلم – ربما لم يكن مشتملاً على كل احتياجاته ولعل من أهم احتياجاته القصعة، وإن كان المرء لا يعرف أكانت استعارة القصعة في حضر أم سفر.
وفي رواية عن أنس أيضاً يقول فيها:
أهدت بعض أزواج النبي – صلى الله عليه وسلم – إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – طعاماً في قصعة. فضربت عائشة القصعة بيدها فألقت ما فيها – فقال النبي – صلى الله عليه وسلم – ((طعام بطعام وإناء بإناء)).
وتقدم لنا أم هانئ بنت أبي طالب – رضي الله عنها – استخداماً آخر للقصعة فتقول:
أن النبي – صلى الله عليه وسلم – اغتسل وميمونة في إناء واحد، في قصعة، فيها أثر العجين فالقصعة هنا تستخدم لأغراض مختلفة مثل الغسل وعجن العجين بالإضافة إلى كونها من آنية الطعام.
ويبدو أن بعض القصاع كبيرة جداً لدرجة أن يحملها أربعة رجال. ففي رواية لعبدالله بن بسر يقول فيها:(/11)
كان للنبي – صلى الله عليه وسلم – قصعة يقال لها الغراء يحملها أربعة رجال.
وفي بعض الأحيان يختلط اسم القصعة مع الصحفة، ففي رواية عن أنس – رضي الله عنه – قال فيها:
أهدي بعض أزواج النبي – صلى الله عليه وسلم – قصعة فيها ثريد وهو في بيت بعض أزواجه فضربت القصعة فانكسرت فجعل النبي – صلى الله عليه وسلم – يأخذ الثريد فيرده في الصحفة، وهو يقول: كلوا غارت أمكم. ثم انتظر حتى جاءت بقصعة صحيحة فأخذها فأعطاها صاحبة القصعة المكسورة.
وفي رواية أنس الأخيرة الأمر ليس بواضح فهل كان ذلك الإناء قصعة أم صحفة.. فالرواية تخلط بين الأمرين.
والذي يستنتجه الباحث من الروايات السابقة هو أن الصحفة والجفنة والقصعة ربما كانت تصنع من أصل واحد وهو الخشب، وأنها متقاربة الشكل ولكنها تختلف في الحجم، ولهذا جاءت التسمية مختلفة لاختلاف الأحجام لا اختلاف الجوهر.
ولعل ما ذهبنا إليه في هذا الاستنتاج يؤيده ما جاء عند الثعالبي في ترتيب القصاع فهو يقول:
الصحفة: تشبع الرجل، والقصعة تشبع السبعة إلى العشرة، والجفنة وهي أكبرها وعنى أكبرها ربما يعني الإِناء الذي يشبع ما فوق العشرة.
النوع الثالث: ما تقدم فيه بعض الثمار:
الطباق:
((الطبق غطاء كل شيء... والطبق الذي يؤكل عليه أو فيه والجمع أطباق)).
الذي يهمنا هنا هو التعريف الأخير للطبق أي الشيء الذي يؤكل عليه أو فيه. ففي رواية عن أحد أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال فيها:
كنا جلوساً عند رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يوماً فجاء رجل بطبق عليه تمر. فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ((ما هذا؟ أصدقة أم هدية؟)).
وقال أنس – رضي الله عنه –:
كن أزواج النبي – صلى الله عليه وسلم – يتهادين الجراد على الأطباق.
والطبق مثله مثل بقية الآنية كالصحفة والجفنة والقصعة، قد يستخدم لأغراض شتى غير الطعام، ففي رواية عن علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – قوله:(/12)
أمرني النبي – صلى الله عليه وسلم – أن آتيه بطبق يكتب فيه ما لا تضل أمته بعده.
وربما استخدم الطبق مكان الدف فقد جاء عن السائب بن يزيد قوله: أن امرأة جاءت إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال: ((يا عائشة أتعرفين هذه؟)) قالت: لا، يا نبي الله. فقال: ((هذه قينة بنى فلان. تحبين أن تغنيك؟)) قالت: نعم. فأعطاها طبقاً فغنتها.
والذي يفهم مما تقدم أن الطبق هو الذي يؤكل فيه أو عليه الطعام، وخاصة بعض الأطعمة الجافة كالتمر أو الجراد ونحوه.
وربما استخدم الطبق في حالات خاصة للكتابة أو كأداة مصاحبة للغناء (الدف)، ومن المحتمل أن الطبق يتخذ من سعف النخل كما سيتضح ذلك عند الحديث عن القناع. أما الطبق الذي استخدم مصاحباً للغناء فقد يكون مصنوعاً من المعدن حتى يكون له صوتاً ظاهراً.
القناع:
القِنْعُ والقِناعُ: الطبق من عسب النخل يوضع فيه الطعام، والجمع أقْناعٌ وأقْنِعةٌ.. قال: القنع والقناع الطبق الذي يؤكل عليه الطعام، وقال غيره ويجعل فيه الفاكهة. وقيل: القناع طبق الرطب خاصة، وقيل: القنع الطبق الذي تؤكل فيه الفاكهة وغيرها.
وفي تعريف آخر، ((القناع، الطبق من عسب النخل وكذلك القنع)).
وهكذا يتضح أن القنع أو القناع يختلف عن الصحفة والجفنة والقصعة.. فالأواني الثلاثة الأخيرة تصنع من الخشب، وفي غالب الأحوال تستخدم في تقديم الطعام الحار بالإضافة إلى بعض الاستخدامات الأخرى أما الطبق فهو كما يظهر في التعريف السابق يصنع في الغالب من عسب النخل، ويستخدم في تقديم التمر أو الفاكهة وما في حكمها.. أي يستخدم في تقديم الطعام البارد.
وقد وردت الإشارة إلى القنع في مصادر هذه الدراسة كثيراً. سنكتفي بذكر البعض منها. قال الصحابي الجليل جابر بن عبدالله – رضي الله عليه –:
خرج رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأنا معه فدخل على امرأة من الأنصار، فذبحت له شاة فأكل، أتته بقناع من ركب فأكل منه.(/13)
وفي رواية عن أنس – رضي الله عنه – أن والدته أم سليم، بعثته إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بقناع عليه رطب. وعن الربيع بنت معوذ قالت: أتيت النبي – صلى الله عليه وسلم – بقناع فيه رطب وأجر زغب، فوضع في يدي شيئاً. وقال لقيط بن أبي صبرة: كنت وافد بني المنتفق، أو في وفد بني المنتفق، إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم –، قال: فلما قدمنا على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فلم نصادفه في منزله، وصادفنا عائشة أم المؤمنين، قال: فأمرت لنا بخريزة فصنعت لها، قال: وأتينا بقناع.. والقناع الطبق فيه تمر. ثم جاء رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال: ((أصبتم شيئاً أو أمر لكم بشيء)).
مما سبق يتضح أن القناع طبق يصنع من عسب النخل كان موجوداً بكثرة في عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأنه يستخدم في تقديم الخضار والفواكه والتمور وما في حكمها، فهو من الآنية التي تستخدم لأنواع خاصة من الأطعمة.
الفئة الثانية:
آنية الشراب:
المقصود بآنية الشراب هنا، الأواني التي تستخدم في تناول الأشربة أو في شربها كالماء أو ما في حكمه، وبطبيعة الأمر فإن هذه الآنية تتخذ من مواد شتى وتأتي على أحجام وأشكال مختلفة. وسنتعرف هنا على ما يقع في حصر هذه الدراسة.
الإبريق:
الإِبريق: إناء وجمعه أباريق، فارسي معرب. وقال كراع: هو الكوز. وقال أبو حنيفة: مرة هو الكوز، وقال مرة: هو مثل الكوز.
وجاء في مصدر آخر أن ((الإبريق)) فارسي معرب. وترجمته في الفارسية أحد شيئين: إما أن يكون طريق الماء أو صب الماء على هينة، وقد تكلمت به العرب قديماً:
ودعا بالصبوح يوماً فجاءت قينة في يمينها إبرايق
وفي مصدر حديث جاءت الإِشارة إلى الإِبريق، أنه إناء من خزف، أو معدن له عروة وفم، وهو معرب.
وقد أشار القرآن الكريم إلى الأبريق بصيغة الجمع في قوله تعالى:
{يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ، بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ} (18/ الواقعة).(/14)
أما في السنة المطهرة فلم ترد الإشارة إلى الإِبريق على أنه من مقتنيات بيوت النبي – صلى الله عليه وسلم – إلا أن بعض الأحاديث أشارت إليه على أنه من متاع الجنة ونعيمها.
ففي رواية عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: ((قدر حوضي كما بين أيلة وصنعاء من اليمن وإن فيه من الأباريق كعدد نجوم السماء)).
وفي رواية عن أنس – رضي الله عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال في صفة الحوض: ((ترى فيه أباريق الذهب والفضة كعدد نجوم السماء)).
إن عدم العثور على الإِبريق من ضمن مقتنيات الفترة التي تتناولها الدراسة لا يعني عدم وجوده، وعدم معرفة القوم له في ذلك الحين وإلا فكيف يشير إليه القرآن الكريم ويشير إليه الرسول – صلى الله عليه وسلم – في أحاديثه وهو ليس بمعروف ولا مألوف لدى القوم.
التور:
((التَّوْرُ: من الأواني. مذكر، قيل هو عربي، وقيل: دخيل)). ويتفق ابن منظور مع غيره من أصحاب اللغة على أن ((التور إناء معروف تذكره العرب، تشرب فيه)). وليس من المستبعد أن أصل التور عربي حيث أن الثعالبي لم يشر إليه ضمن الأواني الفارسية.
وتشير معاجم اللغة التي أمكن الرجوع إليها هنا إلى النور على أنه إناء للشرب، بينما الإشارات التي وردت عنه في كتب الحديث على كثرتها لا تذكر أنه من آنية الشراب، بل من الآنية التي يحمل فيها المال أو يوضع فيها الطعام وما شابه ذلك. وها هنا طائفة من استعمالات التور:(/15)
جاء عن أم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها – أنها قالت: كنت أغتسل أنا ورسول الله – صلى الله عليه وسلم – في تور من شبه. وعن عبدالله بن زيد – رضي الله عنه – قال: جاءنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فأخرجنا له ماء في تور من صفر فتوضأ. وفي رواية لجابر بن عبدالله – رضي الله عنهما – قال: كان ينبذ لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – في تور من حجارة ويروي الصحابي أبو هريرة – رضي الله عنه – قائلاً: كان النبي – صلى الله عليه وسلم – إذا أتى الخلاء أتيته بماء في تور أو ركوة فاستنجى.
وحين دعا الصحابي أبو السيد الساعدي – رضي الله عنه –، النبي – صلى الله عليه وسلم – إلى وليمة عرسه على أم أسيد – يذكر أن زوجته أم أسيد – بلت تمرات في تور من حجارة من الليل فلما فرغ النبي – صلى الله عليه وسلم – من الطعام أماثته له فسقته، تتحفه بذلك.
ويروي لنا أنس بن مالك – رضي الله عنه –، أنه حين تزوج النبي – صلى الله عليه وسلم – ببعض أزواجه، صنعت أم سُليم – والدة أنس – حيساً فجعلته في تور. فقالت: يا أنس اذهب بهذا إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم –.
وهناك رواية عائشة – رضي الله عنها –، قد تساعدنا على تصور حجم التور، حيث تقول: لقد رأيتني أغتسل أنا ورسول الله – صلى الله عليه وسلم – من هذا – فإذا تور موضوع مثل الصاع أو دونه – فنشرع فيه جميعاً.
مما سبق يتبين أن التور كان من الآنية المتداولة في عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم –، وأنه كان يستعمل في أغراض شتى قد يكون الشرب من بينها، فهو أحياناً يستخدم في شؤون الطهارة، كالوضوء والغسل، كما يستخدم في تحضير النبيذ، وفي النادر يجعل فيه الطعام.
ومن الإِشارة السابقة يتضح كذلك أن التور يصنع من مواد شتى مثل الحجارة والنحاس (الصغر والشبه)، وأنه ذو أحجام منهما ما يكون على قدر الصاع تقريباً.
الركوة:(/16)
((الرَّكوةُ شبه تور من أدم. والركوة: إناء من جلد يُشربُ فيه الماء والجمع ركوات بالتحريك...)) والركوة تعتبر من أصغر أوعية الماء التي يحملها المسافر.
ومن التعريف السابق للركوة، يظهر أنها إناء مستقيم الجوانب حيث شبهت بالتور، والتور كما سلف يصنع من مواد صلبة كالحجارة والنحاس، ولا يستبعد كذلك أن الركوة من صناعات مدينة الرسول – صلى الله عليه وسلم – حيث إنها تتخذ من الجلد ومن غير المستبعد كذلك أنها رخيصة الثمن.
وجاءت الإشارة إلى الركوة في الحديث النبوي الشريف أكثر من مرة، فقد رُوي عن عائشة – رضي الله عنها – قولها: كان بين يدي رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ركوة أو علبة فيها ماء.. يدخل يده في الماء فيمسح بها وجهه.
وفي رواية عن أبي هريرة – رضي الله عنه – يقول فيها: كان النبي – صلى الله عليه وسلم – إذا أتى الخلاء أتيته بماء في تور أو ركوة فاستنجى.
ويقدم الصحابي جابر بن عبدالله – رضي الله عنهما – رواية حول الركوة حيث قال: عطش الناس يوم الحديبية والنبي – صلى الله عليه وسلم – بين يديه ركوة فتوضأ.
وحين أراد علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – أن يعلم الناس كيفية وضوء رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: يا قنبر ائتني بالركوة والطست، ثم قال له: صب. فصب عليه.
يستفاد مما تقدم أن الركوة من جلد وأنها صغيرة الحجم، وأنها تستخدم للوضوء في غالب الأحيان أكثر من استخدامها إناء للشرب، وهذا على الأقل ما توحي به بعض الروايات المتقدمة.
العس:
((العُس، القدح الضخم.. وهو إلى الطول، يروي الثلاثة والأربعة والعدة.. والجمع عساس وعسة)).
والعس، من جنس الأقداح ومن حيث الترتيب هو أكبرها ويصنع من الخشب. وربما كان يصنع في المدينة كما يصنع في غيرها حيث إن مادة صناعته الخشب. وكان العس من الآنية المتداولة على عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم –.(/17)
ففي رواية عن أسماء بنت يزيد بن السكن.. قالت: إني قينت عائشة لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – ثم جئته فدعوته، فجاء فجلس إلى جنبها فأتى بعس لبن فشرب ثم ناولها النبي – صلى الله عليه وسلم –.
وفي رواية أخرى أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((يا عائشة أسقينا))، فجاءت بعس من لبن فشربنا... وفي رواية عن ابن عباس – رضي الله عنهما –: أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – خرج من المدينة في رمضان حين فتح مكة فصام حتى أتى عسفان ثم دعا بعس من شراب أو إناء فشرب.
وفي رواية أن رجلاً قال لعمر بن الخطاب – رضي الله عنه – إني رأيت الهلال، هلال شوال. فقال عمر: يا أيها الناس أفطروا. ثم قام إلى عسى فيه ماء فتوضأ....
وفي رواية أخرى عن ابن عباس – رضي الله عنهما –: فأُتي النبي – صلى الله عليه وسلم – ومعه أصحابه من المهاجرين والأنصار بعساس فيها النبيذ.
يتضح مما سبق أن العس قدح ضخم، بل هو أكبر الأقداح، ويروى الأربعة فما فوقهم، ويصنع من الخشب. ويستخدم لمختلف الأشربة، كاللبن والماء والنبيذ كما يستخدم آنية للوضوء.
الغمر:
((قدح صغير يتصافن به القوم في السفر إذا لم يكن معهم من الماء إلا يسير)).
وقيل الغمر: ((القعب الصغير، والغمر بضم الغين وفتح الميم القدح الصغير))، والغمر: ((هو القدح الذي لا يبلغ الري)) بل القعب، أصغر الأقداح.
جاءت الإشارة إلى الغمر في مصادر هذه الدراسة في مناسبات قليلة، منها ما رُوي عن علي بن أبي طالب – رضي الله عنه –، قال: جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم – بني عبدالمطلب فيهم رهط كلهم يأكل الجذعة ويشرب الفرق. قال: فصنع لهم مداً من طعام فأكلوا حتى شبعوا، قال: وبقى الطعام كأنه لم يمس، ثم دعاء بغمر فشربوا حتى رووا وبقي الشراب كأنه لم يمس.
وقال أبو قتادة:(/18)
وانتهينا إلى الناس حين امتد النهار وحمى كل شيء وهم يقولون يا رسول الله! هلكنا. عطشنا. فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ((لا هلك عليكم)) ثم قال: ((أطلقوا لي غمري)) ودعا بالميضأة. فجعل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يصب وأبو قتادة يسقيهم.
مما تقدم يظهر أن الغمر من الأمتعة الشخصية اللازمة للمسافر وأن وظيفته تكاد تكون مقصورة على تناول الماء وما في حكمه. ويظهر كذلك أن الغمر صغير الحجم إلى حد أنه لا يروي الإِنسان. وقد يصنع الغمر من الخشب. انظر: القعب.
القدح:
((القَدَحُ، من الآنية بالتحريك: واحد الأقداح التي للشرب، معروف، قال أبو عبيد: يَروي الرجلين، وقيل هو اسم يجمع صغارها وكبارها، والجمع أقداح)).
وقيل: القدح، ما يَروي الاثنين والثلاثة.
جاءت الإشارة إلى القدح في المصادر التي بين أيدينا بكثرة ملحوظة سنكتفي بإيراد بعض منها. من تلك الإشارات ما روي عن ابن عباس – رضي الله عنهما – أنه قال: كان لرسول الله – صلى الله عليه وسلم –، قدح قوارير يشرب فيه. والمقصود بالقوارير هنا الزجاج. وجاء في أحد المصادر أن القدح يتخذ من زجاج. وكأنه يقول، إذا لم يكن من زجاج فليس بقدح.
وجاء في رواية عن أميمة بنت رفيقة ما ينافي ما سبقت الإشارة إليه كون القدح يتخذ من الزجاج، فقالت: كان للنبي – صلى الله عليه وسلم – قدح من عيدان. يبول فيه، ويضعه تحت السرير. وفي رواية أخرى يبول فيه بالليل.
وفي رواية عن عاصم الأحوال قال: رأين قدح النبي – صلى الله عليه وسلم – عند أنس بن مالك، وكان قد انصدع فسلسله بفضة، قال: وهو قدح جيد عريض من نضار. وقال ابن سيرين: إنه كان فيه حلقة من حديد.
ويقدم لنا الصحابي جابر بن عبدالله – رضي الله عنهما – رواية يقول فيها: كنا مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم –، فاستسقى. فقال رجل: يا رسول الله! ألا نسقيك نبيذاً؟ فقال: ((بلى))، قال: فخرج الرجل يسعى فجاء يقدح فيه نبيذ.(/19)
وقالت عائشة – رضي الله عنها –: رأيت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهو يموت، وعنده قدح فيه ماء فيدخل يده في القدح، ثم يمسح وجهه في الماء.
وفي رواية أخرى تقول فيها عائشة – رضي الله عنها –: كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يغتسل في القدح. وهو الفرق، وكنت أغتسل أنا وهو في الإناء الواحد.
وفي رواية أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – دعا بإناء فأتي بقدح رحراح – والرحراح: واسع الفم قريب القعر – فيه شيء من ماء فوضع أصابعه فيه.
يظهر مما تقدم أن القدح في الأساس من آنية الشرب، فيشرب فيه الماء والنبيذ واللبن وغير ذلك. وقد تدعو الحاجة إلى استخدامه وعاء البول. كما أن بعض أدوات الكيل كالفرق مثلاً قد يطلق عليها مجازاً مسمى القدح.
وقد يتخذ القدح من الزجاج (القوارير) كما يتخذ من الخشب الجيد النوع مثل النضار أو من جذوع النخل مثل قدح العيدان. والقدح يصنع من مواد شتى وليس بالضرورة من الزجاج وحده كما يزعم أحد المصادر.
القعب:
((القَعْبُ)): القدح الضخم، الغليظ، الجافي، وقيل: قدح من خشب مقعر، وقيل: هو قدح إلى الصغر، يشبه به الحافر، وهو يروي الرجل)). وجمعه أقعُبُ وقِعابٌ.
جاء الحديث عن القعب في مصادر هذه الدراسة قليلاً، فقد ورد عن أبي بكر الصديق – رضي الله عنه – وهو يتحدث عن الهجرة قوله: فإذا أنا براعي غنم.. قلت: أفي غنمك لبن؟ قال: نعم قلت: أفتجلب لي؟ قال: نعم... فحلب لي في قعب معه كثبة من لبن.
ويحدثنا أنس بن مالك – رضي الله عنه – أن رجلاً من الأنصار أتى النبي – صلى الله عليه وسلم – يسأله، فقال له. أما في بيتك شيء؟ قال: بلى، حلس نلبس بعضه ونبسط بعضه، وقعب نشرب فيه من الماء، ائتني بهما.
وتقول أم الفضل بنت الحارث:
شك ناس من أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في صيام يوم عرفة ونحن بها مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فأرسلت إليه بقعب فيه لبن وهو بعرفة فشربه.(/20)
ويحدثنا عبدالله بن عباس – رضي الله عنهما – قائلاً:
دخل علي عليّ بيتي فدعا بوضوء فجئنا بقعب يأخذ المد. أو قريبه حتى وضع بين يديه. فقال: يا ابن عباس ألا أتوضأ لك وضوء رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قلت: بلى.
الروايات السابقة تظهر بوضوح أن القعب من الآنية الصغيرة التي تتخذ للشرب وقد تتخذ لغير ذلك. ويصنع القعب من الخشب ويكون مقعر الشكل ويَروي الرجل الواحد.
الكأس:
((والكأس: الإِناء إذا كان فيه خمر، فهو كأس، ويقع الكأس لكل إناء مع شرابه)).
الكأس: مؤنثة.. قال الشاعر:
من لم يمت عبطة يمت هرما للموت كأس والمرء ذائقها
والكأس: الزجاجة ما دام فيها شراب. وقال أبو حاتم: الكأس الشراب بعينه. وحسب مصدر آخر فإنه لا يقال كأس، إلا إذا كان فيها شراب، وإلا فهي زجاجة.
وجاءت الإشارة إلى الكأس في القرآن الكريم في أكثر من مناسبة وبصيغة الإِفراد.
فقال تعالى:
{بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ} (18/ الواقعة).
وقال: {إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً} (5/ الإِنسان).
وقال: {وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً} (17/ الإِنسان).
وقال تعالى: {يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْساً لاَّ لَغْوٌ فِيهَا وَلاَ تَأْثِيمٌ} (23/ الطور).
وقال: {وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً، وَكَأْساً دِهَاقاً} (34/ النبأ).
أما بالنسبة لمصادر السنة النبوية فكانت الإِشارة إلى الكأس فيها نادرة جداً، فقد رُوي عن عثمان بن عفان – رضي الله عنه – قوله: إن الخمر أم الخبائث ودلل على ذلك بقصة طويلة جاءت فيها الإشارة إلى الكأس على النحو التالي:
((... فقالت: إني والله ما دعوتك للشهادة ولكن دعوتك لتقع علي أو تشرب من هذه الخمرة كأساً...
يتبين من التعريفات السابقة للكأس أنه غير متفق على تعريف بعينه. فهل المقصود بالكأس وعاء زجاجي يتخذ للشراب أم أن الكأس هو الشراب بعينه؟(/21)
أما في القرآن الكريم فإن الآيات السابقة تبين أن الكأس إناء من آنية شراب الجنة. ويظهر مما سبق كذلك أن الكأس مرتبط بالشراب أو الخمر، لهذا فلا غرابة أن ندرت الإِشارة إليه في الأحاديث النبوية الشريفة.
والكأس بصفته إناء لشرب الخمرة معروفة لدى العرب قبل الإسلام. ولعله قد أسدل على الكأس وما يصاحبها من شراب ستار النسيان نظراً لتحريم الخمر، بعد أن دخل الناس في دين الله أفواجاً.
الكوب:
((الكوب، الكوز المستدير الرأس الذي لا أذن له))، وقال الشاعر:
متكئاً تصفق أبوابه يسعى عليه العبد بالكوب
وفي تعريف آخر، فإن الكوب هو: ((الكوز الذي لا عروة له والجمع أكواب)).
جاءت الإشارة إلى الكوب في القرآن الكريم بصيغة الجمع وفي أكثر من آية، قال تعالى: {يُطَافُ عَلَيْهِم بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ} (71/ الزخرف).
و{يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ، بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ} (18/ الواقعة).
و{وَيُطَافُ عَلَيْهِم بِآنَيةٍ مِّن فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ} (15/ الإِنسان).
و{فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ وَأَكْوَابٌ مَّوْضُوعَةٌ} (14/ الغاشية).
وهكذا من الآيات السابقة يظهر بوضوح أن الكوب من آنية الجنة.
وليس لدينا هنا ما يدل على أن الكوب كان مستعملاً في بيوت رسول الله – صلى الله عليه وسلم –، وإن كان من غير المستبعد استعماله في بيوت أهل المدينة، فلو أنه لم يكن معروفاً لدى أهل المدينة وغيرهم لما جاءت الإِشارة إليه في القرآن والسنة على أنه من بين آنية الجنة.
وقد جاءت الإشارة إليه في الحديث النبوي نادرة، وبصيغة الجمع وذلك فيما يتعلق بوصف حوض النبي – صلى الله عليه وسلم –، فقد جاء عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قوله: ((إن حوضي ما بين عدن إلى أيلة. أشد بياضاً من اللبن، وأحلى من العسل، أكاويبه كعدد نجوم السماء)).
الذي يفهم من هذا الحديث أن الكوب من آنية الشراب لاقترانه بالحوض وصفته.(/22)
والذي يستفاد من صفة الكوب أنه إناء لا مقبض له (لا أذن ولا عروة له).
الكوز:
((... كابَ يكُوبُ إذا شرب بالكوبِ، وهو الكوز بلا عروة، فإذا كان بعروة فهو كوز.. وجمع الكوز: كيزان. وحسب ما جاء في مصدر حديث فإن الكوز بالضم، إناء من فخار له عروة وبلبل، وهو أصغر من الإِبريق، دخيل)). ولا يستبعد أن يكون فارسي الأصل، حيث إن الثعالبي قد أشار إليه من ضمن المسميات الفارسية.
ويظهر مما تقدم أن الفرق بين الكوز والكوب هو العروة فإن كان بعروة فهو كوز وإلا فهو كوب وهذا فرق طفيف.
أما الإِشارة إلى الكوز فيما بين أيدينا من مصادر فقد جاءت قليلة ولا تخلو من غموض أيضاً، ومن ذلك ما ورد عن درة بنت أبي لهب، قالت: كنت عند عائشة، فدخل النبي – صلى الله عليه وسلم –، فقال: ((ائتوني بوضوء))، فسألت، فابتدرت أنا وعائشة الكوز، فبدرتها فأخذته أنا فتوضأ.
وجاء عن عائشة – رضي الله عنها – أنها قالت: بال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –، فقام عمر خلفه بكوز من ماء، فقال: ((ما هذا يا عمر؟)).
وأشار النبي – صلى الله عليه وسلم – إلى الكوز في حديثه عن فعل الفتن في القلوب بقوله:
((... وأي قلب أنكرها، نكت فيه نكتة بيضاء... والآخر أسود مرباداً، كالكوز مجخياً، لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً)). والمجخي، المقلوب أو المنكوس. ورُوي أن علياً – رضي الله عنه – أتى بكوز من ماء وهو في الرحبة، فأخذ كفاً من ماء فتمضمض.
وهكذا فالإشارة للكوز هنا جاءت قليلة، والمعلومات عنه أقل. فما يدري ما هيئته، وما سعته، وإن كان من المعلوم أن البعض من الكيزان قد يتخذ من الفخار.
وإذا كان الأمر كذلك فقد يكون من الآنية الرخيصة، الشائعة الاستعمال، التي ربما تكون من صناعات المدينة وفي متناول الكثير من الناس.
الفئة الثالثة:
آنية وأوعية السوائل:(/23)
المقصود بآنية وأوعية السائل هنا الآنية والأوعية التي تحفظ فيها السوائل أو تنقل بها على اختلاف أنواع تلك السوائل واختلاف أنواع الآنية والأوعية. وسيكون الحديث عنها هنا مرتباً حسب الترتيب الهجائي بغض النظر عن أهمية هذا الوعاء أو ذاك:
أبزن:
((الأبزن: حوض من نحاس يستنقع فيه الرجل، وهو معرب)). وفي تعريف آخر ((الأبزن، مثلثة الأول، حوض يغتسل فيه، وقد يتخذ من نحاس، معرب: أ ب ز ن، وأهل مكة يقولون ((بازان، للأبزن الذي يأتي إليه ماء العين عند الصفا يريدون أ ب ز ن (أي أبزن) لأنه شبه حوض)).
في الواقع أن الإِشارة إلى الأبزن نادرة جداً، وقد وردت عند البخاري في رواية عن أنس – رضي الله عنه – أنه قال:
إن لي أبزن أتقحم فيه وأنا صائم. ومعنى أتقحم فيه أي أدخل فيه لتحصل لي البرودة.
والذي يخلص إليه الباحث هو أن الأبزن أو حوض الاستحمام كان معروفاً على عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وإن لم يكن واسع الانتشار وأنه ربما صنع من النحاس. ولا يستبعد أنه من تأثيرات بلاد فارس والدليل على ذلك التسمية.
الإِداوة:
((الإِدَاوةُ: المطهرة.. والإِدارة للماء وجمعها أداوى. وقيل إنما تكون إداوة إذا كانت من جلدين قوبل أحدهما بالآخر. والإِداوة بالكسر إناء صغير من جلد يتخذ للماء)).
وفي تعريف آخر أنه لا يقال لها إداوة إلا إذا كانت من أديم واحد. وأنها من أوعية الماء التي يتخذها المسافر.
فلا خلاف هنا على أن الإِداوة إناء صغير من الجلد يتخذ للماء. لكن يبدو أن الاختلاف هو فيما إذا كانت الإِداوة تصنع من جلدين أم من جلد واحد؟ وهذا الخلاف ليس مهماً بالنسبة لهذه الدراسة حيث إن المهم هنا هو معرفة أن الإِداوة إناء يصنع من الجلد وأنه يكون في غالب الأحوال صغير الحجم وأنه من الأوعلية التي يتخذها المسافر.
هناك روايات كثيرة تتعلق بالإِداوة سنكتفي بالإِشارة إلى بعض منها هنا: فقد جاء عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – أنه قال:(/24)
كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يدخل في الخلاء فأحمل أنا غلام نحوي إداوة من ماء وعنزة فيستنجي بالماء.
وجاء عن المغيرة بن شعبة – رضي الله عنه – قوله: خرج النبي – صلى الله عليه وسلم – لبعض حاجته. فلما رجع تلقيته بالإِداوة. فصببت عليه، فغسل يديه.
وفي حديث الهجرة يقول أبو بكر – رضي الله عنه –.. فحلب لي، في قعب معه كثبة من لبن. قال: ومعي إداوة أرتوي فيها لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – يشرب منها ويتوضأ.
وفي رواية أخرى عن المغيرة بن شعبة – رضي الله عنه – قال:
كنا مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في ركبه ومعي إداوة، فخرج لحاجته، ثم أقبل فتلقيته بالإِداوة فأفرغت عليه، فغسل كفيه ووجهه.
وهكذا يتبين من الروايات المختلفة أن الإِداوة تستخدم في غالب الأحيان للوضوء وما في حكمه وأن الإِشارة إليها تأتي في غالب الأحوال مقترنة بالسفر.
الباطية:
((البَاطِيةُ: إناء قيل معرب، وهو الناجود، قال الشاعر:
قربوا عودا وباطية فبذا أدركت حاجتيه
... والباطية من الزجاج عظيمة تملأ من الشراب وتوضع بين الشَّرْب يغرفون منها ويشربون...)). والباطية: كلمة فارسية، إناء واسع الأعلى ضيق الأسفل.
لم ترد الإشارة إلى الباطية في مصادر هذه الدراسة سوى مرة واحدة حيث رُوي عن عثمان بن عفان – رضي الله عنه – أنه قال: ((اجتنبوا الخمر فإنها أم الخبائث، إنه كان رجل ممن خلا قبلكم تعبد فعلقته امرأة غوية فأرسلت إليه جاريتها فقالت له إنا ندعوكم للشهادة فانطلق مع جاريتها فطفقت كلما دخل بابا أغلقته دونه حتى أفضى إلى امرأة وضيئة عندها غلام وباطية خمر.
مما سبق يتضح بأن الباطية إناء من آنية الخمر يتخذ من الزجاج وأنه واسع الأعلى ضيق الأسفل ويحتمل أن أصله كان فارسياً.(/25)
ولا غرابة في أن مصادر هذه الدراسة لم تشر إلى الباطية سوى مرة واحدة ربما لأنها من آنية الخمر. والإسلام قد أسدل ستاراً كثيفاً على عادات الماضي وقيمه التي لا تتفق مع دين الإسلام وتعاليمه وأسلوبه الجديد في الحياة ونظرته إلى الطعام والشراب.
الجرة:
((الجرة: إناء من خزف الفخار وجمعها جر وجرار. والخزف هنا هو ما عمل من الطين وشوى بالنار فصار فخاراً. وحيث أن صناعته تعتمد على الطين بالدرجة الأولى فلا يستبعد أن تكون صناعة الجر من الصناعات الرائجة بالمدينة في ذلك الحين.
فقد رُوي عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – قوله: أهدى الأكيدر لرسول الله – صلى الله عليه وسلم جرة من مَنْ. فلما انصرف رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من الصلاة مر على القوم فجعل يعطي كل رجل منهم قطعة. وجاء عن الصحابي صحار العبدي – رضي الله عنه –، قوله: استأذنت النبي – صلى الله عليه وسلم – أن يأذن لي في جرة أنتبذ فيها فرخص لي فيها.
جاءت هذه الرخصة لصحار العبدي في اتخاذ جرة النبيذ بعد نهي من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – للناس عن نبيذ الجر (الجرار).
وكما أن الجرة تتخذ للمن والنبيذ فهي تتخذ كذلك للخمرة، فقد قال أنس – رضي الله عنه –:
كنت أسقي أبا عبيدة بن الجراح وأبا طلحة الأنصاري وأبي بن كعب شراباً من فضيخ. وتمر، قال: فجاءهم آت فقال: إن الخمر قد حرمت. فقال أبو طلحة: يا أنس قم إلى هذه الجرار فاكسرها. قال: فقمت إلى مهراس لنا فضربتها بأسفله حتى تكسرت.
وقال جابر بن عبدالله (رضي الله عنهما): لما كان يوم فتح مكة أهراق رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الخمر وكسر جراره ونهى عن بيعه وبيع الأصنام.(/26)
وقد تستخدم الجرة كذلك وعاء لحفظ السمن. فقد جاء عن جابر بن عبدالله – رضي الله عنهما – أنه سئل عن الفأرة تموت في الطعام أو الشراب، أطعمه؟ قال: لا. زجر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عن ذلك كنا نضع السمن في الجرار فقال: إذا ماتت الفأرة فيه فلا تطعموه.
وقد يطلق أحياناً على الجرة اسم الحنتمة والجمع حنتم. وأصل الحنتمة الخضرة.. والخضرة قريبة من السواد.
ووردت إشارات كثيرة إلى الحنتم والحنتمة والحث على عدم استعماله في النبيذ. جاء عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قوله:
نهى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أن ينبذ.. والحنتمه. وعن أم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها –: أن وفد عبد القيس قدموا على النبي – صلى الله عليه وسلم – فسألوه عن النبيذ؟ فنهاهم عن أن ينتبذوا في الدباء... والحنتمة.
وفي رواية أخرى أنه حين جاء وفد عبد القيس إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أمرهم بأشياء ونهاهم عن أشياء منها ما ينبذ في الحنتمة.
من العرض السابق يظهر أن الجرة والحنتمة كانت من أوعية السوائل على عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقد تتخذ للنبيذ والخمر والسمن ولا يستبعد أنها كانت تتخذ للماء حيث كانت من الأوعية الشائعة في ذلك الحين وربما كانت أوعية رخيصة الثمن لأنها كانت تتخذ من الطين.
الحلاب:
الحِلَبُ بالكسر، والحِلابُ: الإناء الذي يجلب فيه اللبن، قال الشاعر:
صاح! هل ريت، أو سمعت براع رد في الضرع ما قر في الخلاب؟
الحلاب إناء لحلب اللبن ويبدو أنه ليس بكبير، حيث إنه إناء يسع قدر حلبة الناقة. وكان الحلاب معروفاً وشائع الاستعمال على عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم –. جاء عن أم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إذا اغتسل من الجنابة دعا بشيء نحو الحلاب فأخذ بكفه فبدأ بشق رأسه الأيمن.
والإناء الذي يستخدم في الغسل من الجنابة هنا ليس بالضرورة هو الحلاب ولكنه شبيه به.(/27)
وروت لنا أم المؤمنين ميمونة – رضي الله عنها – أن الناس شكوا في صيام النبي – صلى الله عليه وسلم – يوم عرفة، فأرسلت إليه بحلاب، وهو واقف في الموقف فشرب منه والناس ينظرون. وفي رواية أخرى أنها أرسلت إليه بحلاب اللبن.
فالروايات السابقة توضح لنا أن الحلاب من أوعية السوائل خاصة اللبن، ويمكن استخدامه لغير ذلك. وأنه من الأوعية المعروفة على عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم –.
الحنتمة:
انظر الجرة.
الدباء:
((الدُّباء: القرع، واحدها دُباءةٌ، كانوا ينتبذون فيها فتسرع الشدة في الشراب)).
جاءت الإِشارة في كتب السنة كثيراً إلى الدباء كوعاء وطعام. وسنكتفي هنا ببعض ما جاء عن الدباء كوعاء، حيث كان الدباء في عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يستخدم أحياناً في تحضير النبيذ. فقد جاء عن عائشة – رضي الله عنها –، أن وفد عبد القيس، وفدوا على النبي – صلى الله عليه وسلم – فسألوا عن النبيذ، فنهاهم أن ينبذوا في الدباء.
وفي رواية أخرى أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال لوفد عبد القيس: ((... وأنهاكم عما ينتبذ في الدباء...)).
وفي رواية عن ابن عباس – رضي الله عنهما – أنه قال: نهى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عن الدباء... أي أن ينتبذ بها.
وقد جاءت الإِشارة إلى الدباء بصيغة التأنيث والإفراد، حيث جاء عن أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه – قوله: أتى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – برجل نشوان. فقال: إني لم أشرب خمراً إنما شربتُ زبيباً وتمراً في دباءة.
والدباء هي أيضاً القرع، فقد جاء عن ابن عمر – رضي الله عنهما – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – نهى أن ينتبذ في المزفت والقرع.
وفي رواية أخرى أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – نهى عن القرع والمزفت أن ينتبذ فيها.(/28)
من الروايات المتقدمة يتضح بأن الدباء والقرع اسمان لشيء واحد. وأن الدباء أو القرع بالإضافة إلى كونهما خضاراً تؤكل فقد تستخدم أوعية لحفظ السوائل وربما لغير ذلك من أوجه الاستعمال.
ومن نصوص الأحاديث السابقة يظهر بجلاء أن الدباء كانت تفضل في تحضير شراب النبيذ نظراً لخلوها من المسام ((فتسرع الشدة في الشراب)). لهذا السبب جاءت الأحاديث النبوية في النهي اتخاذ الدباء أو القرع أوعية لتحضير النبيذ.
والذي لا شك فيه أن شيوع الدباء أو القرع لحفظ السوائل يعود إلى سهولة الحصول عليها ورخص ثمنها.
الدلو:
((الدَّلو: معروفة واحدة الدِّلاء يُستقى بها، تذكر وتؤنث)). و((الدَّلو إذا كان فيها ماء فهي ذَنُوبٌ، وقيل: الذَّنوبُ: الدلو التي يكون الماء دون ملئها، أو قريب منه، وقيل: هي الدلو الملأى... ولا يقال لها وهي فارغة ذنوب، وقيل: هي الدلو)).
على كل حال، جاءت الإشارة في مصادر الحديث إلى الدلو وإلى الذَنوب وكأنهما اسمان لشيء واحد.
فقد روى جابر بن عبدالله – رضي الله عنهما – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: ((كل معروف صدقة، ومن المعروف أن تلقى أخاك بوجه طلق، وأن تفرغ من دلوك في إنائه)).
وفي رواية لأنس – رضي الله عنه – أنه قال: جاء أعرابي إلى النبي – صلى الله عليه وسلم –، فلما قام بال في ناحية المسجد، قال: فصاح به أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم –، فكفهم عنه ثم دعا بدلو من ماء فصبه على بوله.
وفي رواية أخرى لأنس – رضي الله عنه – قال فيها: جاء أعرابي، فبال في طائفة المسجد، فزجره الناس، فنهاهم النبي – صلى الله عليه وسلم – فلما قضى بوله أمر النبي – صلى الله عليه وسلم – بذنوب من ماء فأهريق عليه.
وجاء عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: ((من يشتري بئر رومةفيكون دلوه فيها كدلاء المسلمين)) فاشتراها عثمان بن عفان – رضي الله عنه –.(/29)
كما جاء في رواية عن البراء بن عازب – رضي الله عنه – قوله: أنهم كانوا مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يوم الحديبية ألفا وأربعمائة أو أكثر، فنزلوا على بئر فنزحوها، فأتوا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فأتى البئر وقعد على شفيرها، ثم قال:
((ائتوني بدلو من مائها)) فأتي به....
من كل ما تقدم يظهر لنا بوضوح أن الدلو كانت متداولة في عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم –، وأنها ربما عرفت كذلك باسم الذَنوب وقد جاءت الإشارة إليها في السنة النبوية في كلا المعنيين.
الدن:
ينقل الأزهري عن الليث في تعريفه للدن قوله: ((الدَّنُ ما عَظُمَ من الرواقيد. والجميع الدِّنان، وهو كهيئة الجب (الحب؟)، إلا أنه طويل مستوى الصنعة، في أسفله كهيئة قونس البيضة)).
ويضيف ابن منظور إلى التعريف السابق قوله وقيل: ((الدن أصغر من الحب، له عسعس فلا يقعد إلا أن يحفر له. قال ابن دريد: الدن عربي صحيح...)).
التعريفات السابقة ليس فيها ما يفصح جلياً عن كنه الدن، فهو يشبه بأشياء أخرى كالرواقيد والحب، كما وأنه يقارن ببعض الآنية من حيث الحجم وليس فيما تقدم من صفات ما يفيد عن أوجه استخدام الدن ولا مم يتخذ وإن كان قد وردت إشارة عند الأزهري ربما تفيد بأن الدن يصنع من الفخار.
أما الإِشارة إلى الدن في مصادر هذه الدراسة فقد جاءت قليلة جداً ولا تخلو من غموض، فقد جاء عند الترمذي ما نصه:
عن أنس عن أبي طلحة، أنه قال: يا نبي الله؟ إني اشتريت خمراً لأيتام في حجرى. قال: ((أهرق الخمر واكسر الدنان)).
أما البخاري في صحيحه فقد وضع باباً بعنوان:(/30)
((باب هل تكسر الدنان التي فيها الخمر...)). وهو على كل حال، لم يأت على الأحاديث التي تناولت الدن. والذي يمكن استنتاجه مما تقدم هو أن الدن ربما يكون من آنية الخمر خاصة. فالرسول – صلى الله عليه وسلم – يشير على السائل بأن يكسر دنان الخمر، والبخاري في صحيحه ينص على أن الدنان من أوعية الخمر كما أن ما تقدم من إشارات تفيد بأن الدن آنية قابلة للكسر.
الراوية:
((... الوعاء الذي يكون فيه الماء إنما هي المزادة، سميت: راوية، لمكان البعير الذي يحملها)). وفي ترتيب أوعية الماء التي يسافر بها جاء ذكر الراوية على أنها أكبر الأوعية وأنها تحمل على الإِبل.
وهذا الخلط بين مفهوم الراوية والمزادة يوضحه ما جاء في أحد المصادر فالراوية والمزادة بمعنى واحد. قالوا سميت راوية لأنها تروي صاحبها ومن معه. والمزادة لأنه يتزود فيها الماء في السفر وغيره: وقيل لأنه يزاد فيها جلد لتتسع.
والإشارة إلى الراوية في مصادر هذه الدراسة ليست بالكثيرة، بل تكاد تكون رواية واحدة جاءت بطرق مختلفة.
فقد جاء عن ابن عباس – رضي الله عنه – قوله: إن رجلاً أهدى لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – راوية خمر. فقال له رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ((هل علمت أن الله قد حرمها)) قال: لا. وفي رواية أخرى عن ابن عباس أكثر توضيحاً تقول: أهدى رجل من ثقيف أو دوس لرسول الله – صلى الله عليه وسلم –، راوية من خمر في حجة الوداع، فقال له النبي – صلى الله عليه وسلم – ((أما علمت يا أبا فلان أن الله قد حرمها)).
وفي رواية ثالثة ربما عن نفس الحادثة تكون الراوية هي المزادة! فقد جاء عن ابن عباس أيضاً(!) قوله: أهدى رجل لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – راوية خمر. فقال له رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: ((أما علمت أن الله حرمها؟)) قال: لا.(/31)
فساره رجل إلى جنبه. فقال له – صلى الله عليه وسلم –: ((بما ساررته؟)) فقال: أمرته أن يبيعها. فقال له رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: ((إن الذي حرم شربها حرم بيعها)).
ففتح الرجل المزادتين. حتى ذهب ما فيهما.
وفي رواية أخرى ففتح المزادة حتى ذهب ما فيها.
إن الروايات التي سبقت تكاد تجمع على أن الراوية من أوعية الخمر، لكن لعل هذا محض صدفة وإلا فالمعروف أن الراوية حسب تعريفها اللغوي من أوعية الماء. وهي تتخذ من الجلد ويعتمد عليها كثيراً في نقل أو حفظ الماء وأنها كانت شائعة الاستعمال على عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم –.
الزِقّ:
((السقاء، وجمع القلة أزْقَاقُ والكثير زِقَاقٌ.. والزق من الأهب، كل وعاء اتخذ للشراب ونحوه. وقيل: لا يسمى زقاً حتى يسلخ من قبل عنقه، وتزقيقه سلخه من قبل رأسه على خلاف ما يسلخ الناس اليوم)). وجاء عند الثعالبي، أن الزق يتخذ للخمر والخل. وفي مصدر آخر أنه يتخذ للعسل كذلك.
على كل حال، يظهر أن الزق وعاء من جلد يتخذ في الغالب للشراب (الخمر). لم نعثر في هذه الدراسة إلا على القليل من الروايات التي ورد فيها ذكر للزق، ومن ذلك:
رواية لابن عمر – رضي الله عنهما – قال: فأتى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – المربد فإذا بأزقاق على المربد فيها خمر. قال ابن عمر: فدعاني رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بالمُدية، قال: وما عرفت المُدية إلا يومئذ فأمر بالزقاق فشقت. ثم قال: ((لعنت الخمر وشاربها..)).
وفي رواية أخرى لابن عمر، لا يستبعد أن تكون هي الرواية الأولى ولكن أكثر تفصيلاً قال فيها:(/32)
أمرني رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أن آتيه بمدية وهي الشفرة، فأتيته بها فأرسل بها فأهرقت ثم أعطانيها وقال: ((أغد علي بها)) ففعلت، فخرج بأصحابه إلى أسواق المدينة وفيها زقاق خمر جلبت من الشام فأخذ المُدية فشق ما كان من تلك الزقاق بحضرته.. وأمرني أن آتي الأسواق كلها فلا أجد فيها زِقٌ خمر إلا شققته.
كما تبين من التعريف اللغوي ومن الروايات المتعلقة بالزق أن الزق وعاء من جلد وأنه تحفظ وتنقل فيه الخمر. لكن يظهر أن الأمر ليس هكذا على الدوام فالزق قد يكون وعاء للعسل فقد جاء في رواية أخرى لابن عمر قال فيها:
قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ((في العسل، في كل عشرة أزِقِّ زِقّ)).
وهكذا فربما استخدم الزق وعاء للعسل. والذي يستنتجه المرء من هذا كله أن التسميات هنا ليست قاطعة الدلالة وربما استخدم الشيء لأكثر مما نص عليه.
السَّجْلُ:
((السَّجْلُ، الدلو الضخمة المملوءة ماء، مذكر، وقيل: هو ملؤها، وقيل: إذا كان فيه ماء قل أو كثر. والجمع سِجَال وسُجُول. ولا يقال لها فارغة سجل ولكن دلو)).
تعريف السجل هنا ليس بمحدد الدلالة، فمرة الدلو إذا كان مملوءاً فهو سجل ومرة أخرى هو الدلو فيه ماء قل أو كثر. ولم يتطرق التعريف السابق إلى المادة التي يتخذ منها السجل.
ولدينا طائفة من الأحاديث النبوية التي أشارت إلى السجل وكانت في بعض الأحيان لا تفرق بينه وبين الدلو. فقد روي أبي هريرة – رضي الله عنه – أن أعرابياً دخل المسجد. والنبي – صلى الله عليه وسلم – جالس، فصلى، فلما فرغ قال: اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً، فالتفت إليه النبي – صلى الله عليه وسلم –، فقال: ((لقد تحجرت واسعاً)) فلم يلبث أن بال في المسجد، فأسرع إليه الناس، فقال النبي – صلى الله عليه وسلم –: ((أهريقوا عليه سجلاً من ماء أو دلواً من ماء))، ثم قال: ((إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين)).(/33)
وفي رواية أخرى أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((... هريقوا على بوله سجلاً من ماء، أو ذنوباً من ماء...)).
وهذه الرواية الأخيرة لا تفرق بين السجل والذنوب، مع العلم بأن الدلو لا يقال لها ذنوب إلا إذا كانت ملأى.
وأخيراً فإنه يحسن القول بأن التفريق بين الدلو أو السجل لا يخلو من صعوبة، ولعل الصعوبة في ذلك ترجع إلى كون الفرق طفيفاً جداً بين الاثنين لدرجة أن رواة الأحاديث يخلطون أحياناً بين الوعائين.
لكن الشيء الذي لا خلاف عليه هو كون السجل من أوعية السوائل وقد وردت الإِشارة إليه في طائفة من أحاديث الرسول الكريم.
السَّطيحة:
((السَّطيحةُ والسَّطيحُ: المزادة التي من أديمين قوبل أحدهما بالآخر. وتكون صغيرة وتكون كبيرة وهي من أواني المياه)).
ولم ترد الإشارة إلى السطيحة كثيراً في المصادر هنا، فقد جاء عن الصحابي سلمة بن الأكوع – رضي الله عنه – في حديثه عن غزوة ذي قرد قوله: ولحقني عامر بسطيحة فيها مذقة من لبن وسطيحة فيها ماء فتوضأت وشربت.
وفي مناسبة أخرى كان النبي – صلى الله عليه وسلم – وأصحابه في سفر فاشتكى إليه الناس من العطش، فدعا علي بن أبي طالب ورجلاً آخر فقال: اذهبا فابتغيا الماء فانطلقا فتلقيا امرأة بين مزادتين أو سطيحتين من ماء على بعير لها، فقالا لها: أين الماء؟.
وجاء عن ابن عباس، أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال لابن مسعود ((معك ماء؟)) قال: لا. إلا نبيذ في سطيحة فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: ((تمرة طيبة وماء طهور. صب عليّ)).
وفي رواية عن الصحابي أبي قتادة الأنصاري – رضي الله عنه –، أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كان في سفر، فسأل ((هل من ماء؟)) قال أبو قتادة فأتيته بسطيحة أو قال ميضأة فيها ماء فتوضأ رسول الله – صلى الله عليه وسلم –.(/34)
مما تقدم يمكن الخلوص إلى أن السطيحة إناء يصنع من الجلد وقد تكون صغيرة أو كبيرة وأنها من أواني الماء في غالب الأحوال، إلا أنها في بعض الحالات قد تتخذ للنبيذ أو للبن فاستخدامها والحال كذلك ليس موقوفاً على الماء بل ربما استخدمت لغيره من السوائل متى اقتضت الضرورة ذلك.
السِّقاء:
((السِّقاءُ: جِلدُ السخلة إذا أجذع ولا يكون إلا للماء. وجاء عن ابن السكيت: أن السقاء يكون للبن والماء)).
مما يدل على أهمية السقاء على عهد النبي – صلى الله عليه وسلم –، أننا نجد بعض الأحاديث النبوية التي ترشد إلى الكيفية المثلى في استخدامه! فقد روى أبو هريرة – رضي الله عنه –، أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : ((نهى عن الشرب من فم القربة أو السقاء..)).
وروى ابن عباس – رضي الله عنهما – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ((نهى أن يشرب من فم السقاء)). وروي عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قوله: ((أغلقوا الباب وأوكئوا السقاء)) وهكذا فإننا نلاحظ هنا أن السقاء من الأوعية القليلة التي تحظى باهتمام النبي – صلى الله عليه وسلم – وتوجيه الناس إلى الطريقة الفضلى لاستخدامها. ولعل مرد ذلك الاهتمام يعود إلى كون السقاء من أوعية الماء التي لا غنى لكل فرد عنها فلهذا جاز أن تتعاقب الأيدي على استخدام السقاء مع ما في هذا الاستخدام من محاذير وذلك فيما يتعلق بالنظافة على الأقل، لهذا جاءت التوجيهات النبوية واضحة بهذا الخصوص. وعلى الرغم من أهمية السقاء فمن الملاحظ أنه لم يكن بمتناول جميع الناس.
ففي إحدى المناسبات يحث النبي – صلى الله عليه وسلم – أصحابه على عدم الانتباذ في بعض الأوعية ويحثهم على الانتباذ في الأسقية أي أوعية الأدم. فيرد الناس قائلين: ليس كل الناس يجد. وفي رواية أخرى ليس كل الناس يجد سقاء، فرخص لهم النبي – صلى الله عليه وسلم – في الجر غير المزفت.(/35)
وجاء عن ابن عباس – رضي الله عنهما – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – خرج في سفر. ثم رجع وقد نبذ ناس من أصحابه في حناتم ونقير ودباء فأمر به فأهريق. ثم أمر بسقاء فجعل فيه زبيب وماء. وحين ضاق الناس بمنعهم من الانتباذ في بقية الأوعية وقصر ذلك على السقاء جاء الترخيص لهم من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قائلاً:
((نهيتكم عن النبيذ إلا في سقاء. فاشربوا في الأسقية كلها ولا تشربوا مسكراً)). ويرى الإمام النووي، شارح صحيح مسلم أن صواب هذه الرواية ((كنت نهيتكم، الانتباذ إلا في سقاء فانتبذوا واشربوا في كل وعاء)).
وتقدم لنا أم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها – وصفاًَ لنبيذ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قائلة:
كنا ننبذ لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – في سقاء يوكي أعلاه وله عزلاء. ننبذه غدوة فيشربه عشاء، وننبذه عشاء فيشربه غدوة.
وفي رواية أخرى لعائشة – رضي الله عنها – قالت فيها:
كنا ننبذ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في سقاء فنأخذ قبضة من تمر أو قبضة من زبيب فنطرحها فيه ثم نصب عليه الماء.
وليس الحديث هنا عن نبيذ أو ماذا كانت صفة نبيذ رسول الله – صلى الله عليه وسلم –، ولكن جاءت الإشارة إلى هاتين الروايتين لبيان أوجه الاستخدام الأخرى للسقاء، فعلى الرغم من أن التعريف بالسقاء جاء على أنه من أوعية الماء واللبن إلا أننا هنا نلاحظ أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يستخدمه في نبيذه، ويأمر أصحابه باستخدام السقاء للانتباذ.
وربما استخدم السقاء وعاء اللبن. فقد جاء عن أنس – رضي الله عنه – قوله: دخل النبي – صلى الله عليه وسلم – على أم سليم، فأتته بتمر وسويق، قال: ((أعيدوا سمنكم في سقائه، وتمركم في وعائه، فإني صائم..)).
مما سبق يتضح بأن السقاء كان بالغ الأهمية على عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ولهذا جاءت توجيهاته النبوية الشريفة موضحة الاستخدام الأمثل للأسقية.(/36)
ويتضح كذلك أن استخدام السقاء لم يكون مقصوراً على الماء أو اللبن بل يتعداه إلى تحضير النبيذ وحفظ السمن، بل الحث النبوي على الانتباذ في السقاء دون غيره. ولعل من الطريف أن الشواهد التي عثرنا عليهما فيما يخص السقاء لم تتطرق إلى الماء أو اللبن بل تكاد تجمع على أن السقاء يكاد يكون للنبيذ خاصة.
ومن المؤكد أن السقاء يستخدم للماء في غالب الأحيان ولا يستبعد أنه يستخدم للبن كذلك كما استخدم للسمن ولكن يظهر أن عدم توافره بكثرة أدى إلى استخدامه في أغراض مختلفة. حكمه في ذلك حكم بقية الأوعية ولعل هذا يعكس عدم توافر الآنية والأوعية المناسبة لكل نوع من الطعام والشراب.
الشَّجْبُ:
((الشَّجْبُ، بالسكون، السقاء الذي أخلق وبلى، وصار شناً، وهو من الشجب، الهلال ويجمع على شجب وأشجاب)).
وكذلك الشجب من الأساقي: ما تشنن وأخلق.
وفي تعريف آخر للشجب أنه سقاء يقطع نصفه فيتخذ أسفله دلو.
من التعريفات السابقة يبدو أن الشجب وعاء من أوعية الماء. وهو عبارة عن سقاء أخلق من كثرة الاستعمال. إلا أن التعريف الأخير يقول: إن الشجب عبارة عن دلو اقتطع من سقاء ولم يذكر الحال التي يكون عليها السقاء، أقديم هو أو أم جديد؟!
وليس لدينا ما نقوله عن الشجب إلا القليل. فقد روى عن ابن عباس – رضي الله عنهما – في وصفه لمبيته عند رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وقيام الرسول – صلى الله عليه وسلم – لصلاة الليل: ((... ثم عمد إلى شجب من ماء وتوضأ وأسبغ الوضوء...)).(/37)
أما المناسبة الثانية التي جاءت الإِشارة فيها إلى الشجب ففي حديث الصحابي جابر بن عبدالله – رضي الله عنهما –، أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم –، قال: ((يا جابر ناد بوضوء)) فقلت: ألا وضوء؟ ألا وضوء؟ قال، قلت: يا رسول الله ما وجدت في الركب من قطرة. وكان رجل من الأنصار يبرد لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – الماء في أشجاب له على حمارة. من جريد. قال، فقال لي: ((انطلق إلى فلان بن فلان الأنصاري فانظر هل في أشجابه من شيء؟...)).
فالذي يتضح مما تقدم أن الشجب في الأصل هو السقاء الذي نعرفه، ولكن مسماه تغير تبعاً لتغير حاله، فالسقاء بعد أن أخلق وبلى من كثرة الاستعمال صار يطلق عليه الشجب.
وربما كان الشجب قريباً في الصفة من الشن الذي سنتحدث عنه فيما يلي.
الشَّنُّ:
((الشَّنُّ والشَّنَّةُ: الخلق من كل آنية صنعت من جلد، وجمعها شنان.. وتشنين السقاء واشتن واستشن: أخلق. والشن القربة اللق والشَّنَّةُ أيضاً، وكأنها صغيرة والجمع الشَّنَانُ.
وجاء في مصدر آخر أن ((الشنان، الأسقية الخلقة، واحدها شَّنٌ وشنَّةٌ. وهي أشد تبريداً للماء من الجدد.
وقد أشار ابن عباس – رضي الله عنهما – إلى الشنة والشن في حديثه عن وضوء رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فتوضأ من شنة وضوءاً، فقمت فصنعت كما يصنع.
وفي رواية أخرى عن ابن عباس، أنه قال: ثم قام – أي النبي – إلى شن معلقة فتوضأ منها فأحسن وضوءه.
وجاء عن جابر بن عبدالله – رضي الله عنهما – أنه قال: أتى النبي – صلى الله عليه وسلم – رجلاً من الأنصار يعوده وجدول يجرى، فقال: إن كان عندكم ماء بات في الشن وإلا كرعنا. وفي رواية أخرى لجابر بن عبدالله يقول فيها: دخل النبي – صلى الله عليه وسلم – ورجل من أصحابه على رجل من الأنصار وهو يحول الماء في حائطه، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: ((إن كان عندك ماء بات هذه الليلة في شن وإلا كرعنا)) قال: بل عندي ماء بات في شن.(/38)
والشن ليس دائماً للماء، فقد ينتفع به في بعض الأمور الأخرى كأن ينتبذ به مثلاً. فقد روى أن قوماً جاؤوا لرسول الله – صلى الله عليه وسلم –، فقالوا له إنا كنا أصحاب كرم وخمر، وإن الله قد حرم الخمر، فما نصنع بالكرم؟ قال: ((اصنعوه زبيباً))، قالوا فما نصنع بالزبيب؟ قال: ((انقعوا في الشنان، انقعوه على غدائكم، واشربوه على عشائكم)).
وأخيراً فإن الشن في الأصل هو السقاء، والتشنن صفة طرأت عليه بسبب طول الاستعمال، أما في الأصل فليس هناك شيء يعرف بالشن، ولا يستبعد أن الكثير من بيوت المدينة بما فيها بيوت رسول الله – صلى الله عليه وسلم –، كانت لا تخلو من الشن. ويحتمل أن الشن كان من أوعية الماء المفضلة لدى القوم لأن برودة الماء فيها أسرع من السقاء الجديد.
الطَّست:
((الطَّستُ: من آنية الصفر، أنثى، وقد تذكر)). ويحتمل أن أصله فارسي معرب. وجاء في مصدر حديث أن الطست: إناء من نحاس لغسل اليد وربما استخدم لغسل الثياب.
ويبدو أنه كان من الآنية المستخدمة على عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في بيته وبيوت أصحابه. وقد روي عند أم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها –، أن علياً كان وصياً – أي وصياً للنبي – صلى الله عليه وسلم –، فقالت: متى أوصى إليه؟ فقد كنت مسندته إلى صدري أو إلى حجري. فدعا بطست فلقد انخنث في حجري فمات وما شعرت به. فمتى أوصى – صلى الله عليه وسلم –؟.
وفي رواية أخرى لعائشة – رضي الله عنها – أكثر أيضاحاً من السابقة تقول فيها: يقولون إن النبي – صلى الله عليه وسلم – أوصى إلى علي، لقد دعاء بالطست ليبول فيها، فانخنثت نفسه، وما أشعر، فإلى من أوصى؟!.
وقالت عائشة في رواية أخرى: إن النبي – صلى الله عليه وسلم – اعتكف معه بعض نسائه، وهي مستحاضة ترى الدم، فربما وضعت الطست تحتها من الدم. وفي رواية أخرى: فربما وضعنا الطست تحتها وهي تصلي.(/39)
وفي إحدى المناسبات يطلب بعض المسلمين من علي – رضي الله عنه – أن يعلمهم كيفية وضوء النبي – صلى الله عليه وسلم –، فيدعو بالوضوء فأتى بركوة فيها ماء وطست. وفي مرة أخرى يقول علي – رضي الله عنه – لغلام له:
إيتني بطهور. قال: فأتاه الغلام بإناء في ماء وطست.
ومن الواضح أن الطست يستخدم لغسل اليدين والثياب، وقد يستخدمه المرضى في بعض الحالات وعاء للتبول كما يستخدم في شؤون الطهارة وربما في غيرها من الوجوه المختلفة.
العُكَّة:
العُكّة للسمن، كالشكوة للبن، وقيل العكة أصغر من القربة للسمن، وهو زُقيق صغير، توجمعها عكك وعكاك.
وفي مصدر آخر أن العكة: وعاء من جلود مستدير وهو بالسمن أخص.
أشارت مصادر هذه الدراسة إلى العكة في أكثر من مناسبة، فقد جاء عن أنس – رضي الله عنه – قوله: أن أمه أم سُليم، عمدت إلى مُدٍ من شعير جشته، وجعلت منه خطيفة وعصرت عكة عندها ثم بعثت بها معه إلى النبي – صلى الله عليه وسلم –.
وفي رواية أن أم مالك البهزية – رضي الله عنها – كانت تهدي في عكة لها سمناً إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فبينما بنوها يسألونها الإِدام وليس عندها شيء، فعمدت إلى عكتها التي كانت تهدي فيها إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فوجدت فيها سمناً فما زال يدوم لها إدام بنيها حتى عصرته.
وقال أنس في إحدى الروايات أن أبا طلحة الأنصاري قال لزوجته أم سُليم – رضي الله عنهما –: لقد سمعت صوت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ضعيفاً أعرف فيه الجوع.
فهل عندك من شيء؟ فقالت: نعم. فأخرجت أقراصاً من شعير، ثم أخذت خماراً لها فلفت الخبز ببعضه ثم دسته تحت يدي... فعصرت عليه أم سُليم عكة لها فآدمته.(/40)
ومن طريف الروايات عن صناعة العكة جاءت عن ابن عمر – رضي الله عنهما – حيث قال: رسول الله – صلى الله عليه وسلم –، ذات يوم ((وودت لو أن عندنا خبزة بيضاء من برة سمراء ملبقة بسمن نأكلها)) ((قال، فسمع بذلك رجل من الأنصار فاتخذه فجاء به إليه.
فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ((في أي شيء كان هذا السمن؟)) ((قال: في عكة ضب. قال فأبى أن يأكله)).
وقال أبو هريرة – رضي الله عنه –:
... وكان أخْير الناس للمساكين جعفر بن أبي طالب. كان ينقلب بنا فيطعمنا ما كان في بيته. حتى إن كان ليخرج إلينا العكة التي ليس فيها شيء فنشقها فنلعق ما فيها.
وفي إحدى الروايات يتبين أن العكة ليست دائماً وعاء للسمن فقط. فقد تستخدم لبعض السوائل الأخرى كالعسل مثلاً، فقد جاء عن عائشة – رضي الله عنها – أن النبي – صلى الله عليه وسلم –، دخل على حفصة بنت عمر – رضي الله عنهما – وكانت امرأة من قومها أهدت لها عكة من عسل، فسقت النبي – صلى الله عليه وسلم – منه شربة.
من خلال العرض السابق يتضح أن العكة تتخذ من الأدم وأنه لا يشترط أن تكون ذات شكل معين فقد تكون مستديرة أو مستطيلة أو قد تأخذ شكل الجلد الذي أخذت منه. مثل عكة الضب. ويتضح كذلك أن العكة كانت من أوعية السمن الشائعة الاستعمال على عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كما كانت تستخدم أيضاً لبعض السوائل الأخرى كالعسل ونحوه.
العُلْبَة:
العُلْبَةُ: قدح ضخم من جلود الإِبل، وقيل: العُلْبَةُ، من خشب كالقدح الضخم يحلب فيها. وقيل أنها كهيئة القصعة من جلد ولها طوق من خشب. وقيل، محلب من جلد.
وهناك رواية أخرى توضح كيف تصنع العلبة. فالعلبة: جلدة تؤخذ من (جلد جنب) البعير إذا سلخ وهو فطير فتسوى مستديرة ثم تملأ رملاً سهلاً، ثم يضم أطرافها وتخل بخلال ويوكى عليها مقبوضة بحبل وتترك حتى تجف وتيبس، ثم يقطع رأسها وقد قامت قائمة لجفافها تشبه قصعة مدورة كأنها نحتت نحتاً أو خرطت خرطاً.(/41)
الإشارة إلى العلبة نادرة جداً فيما توافر لدينا من مصادر فلم يذكرها سوى مصدر واحد، إذ أورد البخاري عن ذكوان مولى أم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها – في حديثها عن وفاة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أنها قالت: إن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كان بين يديه ركوة أو علبة ماء فجعل يدخل يده في الماء ويمسح بها وجه.
يظهر أن العلبة من الأوعية التي لا يستغني عنها المسافر فمن مزاياها حسب أحد المصادر أنه يعلقها الراعي والراكب فيحلب فيها ويشرب بها.. وللبدوي فيها رفق خفتها وأنها لا تنكسر إذا حركها البعير أو طاحت إلى الأرض.
فهي مما تقدم تعد من الأوعية اللازمة للمسافرين، وأهل البادية أكثر حاجة إليها من الحاضرة وسكان المدن.. وهذا ربما يفسر ندرة الإِشارة إليها فيما بين يدينا من مصادر.
القارورة:
((القَارُورَةُ: واحد القوارير من الزجاج، والقارورة ما قر فيه الشراب وغيره، وقيل: لا يكون إلا من الزجاج خاصة. وقوله تعالى: {قوارير من فضة}.. معناه أواني زجاج في بياض الفضة وصفاء القوارير..)).
في التعريف السابق بيان صفة القارورة أما كيف شكلها، عريض أم طويل أم غير ذلك ولأي الأغراض تستخدم؟ فهذا كله ليس بمعلوم. لكن لدينا بعض الأحاديث النبوية التي تشير إلى القارورة بصيغة الجمع على وجه التشبيه.
جاء عن ابن عباس – رضي الله عنهما – قوله:
كان غلام يسوق بأزواج النبي – صلى الله عليه وسلم – فقال: ((يا أنجشة، رويداً سوقك القوارير)).
وفي رواية أخرى عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال:
كان للنبي – صلى الله عليه وسلم – حاد يقال له أنجشة، وكان حسن الصوت، فقال له النبي – صلى الله عليه وسلم –: ((رويدك يا أنجشة، لا تكسر القوارير)).
وروى أنس أيضاً: أنه كان النبي – صلى الله عليه وسلم – في مسير له، فحدا الحادي، فقال النبي – صلى الله عليه وسلم –: ((ارفق يا أنجشة، ويحك، بالقوارير)).(/42)
ورواية ثالثة لأنس بن مالك، قد تساعد على فهم بعض وظائف القارورة حيث يقول:
دخل علينا النبي – صلى الله عليه وسلم –، فقال عندنا فَعَرقَ. وجاءت أمي بقارورة فجعلت تسلت العرق فيها. فاستيقظ النبي – صلى الله عليه وسلم – فقال: ((يا أم سُليم! ما هذا الذي تصنعين؟)) ((قالت: هذا عرقك نجعله في طيبنا وهو من أطيب الطيب)).
يبدو من هذه الرواية وكأن القارورة وعاء من أوعية الطيب المستخدمة في ذلك الحين. ويظهر من الرواية الثالثة أن للقارورة بعض الاستخدامات النادرة.
فقد روي أن الصحابي الجليل أبا موسى الأشعري، كان يبول في قارورة.
على كل حال جاءت الإشارة هنا إلى القارورة لأنها تقع ضمن أوعية السوائل. وإن لم تكن بالضرورة من أوعية الماء.
القِربَة:
((القِرْبَةُ: من الأساقي... والقِرْبَةُ: الوطب من اللبن، وقد تكون للماء وقيل: القربة، هي المخروزة من جانب واحد)). والقربة، ما يُستقى فيه الماء، والجمع في أدنى العدد قِربَات وقِرِبات وقِرْبات والكثير قِرَبٌ.
من التعريفات السابقة يتبين أن القربة من أوعية الماء وأنها تتخذ من الجلد ويشترط خرزها في جانب واحد. وأحد التعريفين السابقين يجعل الوظيفة الأولى للقربة أنها وعاء للبن. (الوطب من اللبن) وفي أحد المصادر أن القربة والسقاء يكونان للماء، وأن الوطب للبن. وقد جاء التوجيه النبوية بحفظ القرب وصيانتها فقد رُوي عنه – صلى الله عليه وسلم – قوله: ((وأوكوا قربكم واذكروا اسم الله...)).
على كل من مجموع الروايات المتعلقة بالقربة يترجح بأنها وعاء للماء على الأغلب. فقد جاء عن كبشة الأنصارية – رضي الله عنها –:
أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم –، دخل عليها، وعندها قربة معلقة، فشرب منها وهو قائم. فقطعت فم القربة تبتغي بركة موضع في رسول الله – صلى الله عليه وسلم –.
وروي عن أم سليم – رضي الله عنها – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – شرب من فم قربة قائماً.(/43)
وفي حديث الهجرة تقول أسماء بنت أبي بكر – رضي الله عنهما –، أنها شقت نطاقها نصفين فأوكت قربة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بأحدهما.
وقال أنس رضي الله عنه:
لما كان يوم أحد انهزم الناس عن النبي – صلى الله عليه وسلم –.. ولقد رأيت عائشة بنت أبي بكر وأم سُليم... تنقلان القرب على متونهما ثم تفرغانه في أفواه القوم.
وروت عائشة – رضي الله عنها – أنه لما اشتد على النبي – صلى الله عليه وسلم – وجعه قال:
((أهريقوا علي من سبع قرب لم تحلل أو كيتهن لعلي أعهد إلى الناس)).
كما روى عن علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – أنه قال:
قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: ((إذا أنا مت فاغسلوني بسبع قرب)).
والقربة لأهميتها تدخل ضمن جهاز المرأة، فالنبي – صلى الله عليه وسلم – حين زف ابنته فاطمة لعلي بن أبي طالب – رضي الله عنه. كان من ضمن ما جهزها به قربة.
وفي رواية أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – جهز فاطمة – رضي الله عنها – بخميل وقربة.
مما سبق تظهر لنا أهمية القربة في عهد النبي – صلى الله عليه وسلم –، فالقربة لا غنى لكل بيت عنها والقربة لا يستغنى عنها في الحروب.. كما أنها مهمة أيضاً حتى في تجهيز العروس.
القُلّة:
((القُلّةُ: الحب العظيم، وقيل الجرة العظيمة، وقيل الجرة عامة، وقيل الكوز الصغير، والجمع قُللٌ وقِلالٌ. وقيل: هو إناء للعرب كالجرة الكبيرة)).
وجاء في تعريف آخر للقلة: أنها إناء للعرب كالجرة الكبيرة، وقد تجمع قلل. وقال:
وظللنا بنعمة واتكأنا وشربنا الحلال من قلله
مما سبق يتضح بأن القلة، هي الجرة أو شيء شبيه بها، وأنها قد تكون كبيرة الحجم، ولا يستبعد أنها تصنع من الفخار. ويبدو من بعض الروايات أن أشهر أنواع القلل ما جاء من اليمن، أو هجر. وأنها عادة تكون كبيرة الحجم.(/44)
وفي رواية عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم –، يصف فيها سدرة المنتهى في الجنة، أن نبقها مثل قلال هجر. وفي رواية أخرى أن ثمر سدرة المنتهى كالقلال.
وقد جاءت الإشارة إلى القلة في بعض أحاديث الرسول – صلى الله عليه وسلم – منها قوله: ((إذا بلغ الماء قلتين لم ينجسه شيء)) وفي رواية أخرى أو ثلاث قلال وربما سائل يسأل عن قدر القلة؟ وحسب أحد المصادر فإن القلة أربعة أصوع، وقيل قدر القلة: قربتان. مع ملاحظة ما في القرب من التفاوت من حيث الحجم.
ومن بعض الروايات يظهر أن القلة قد تستخدم لأغراض أخرى غير الماء. فقد جاء عن النبي – صلى الله عليه وسلم –، أنه قال عن الزبيب: ((انبذوه في الشنان ولا تنبذوه في القلال فإنه إن تأخر صار خلا)).
وفي حديث أنس بن مالك – رضي الله عنه – عن تحريم الخمر ما يبين أن القلة آنذاك من آنية الخمر، فهو يقول: إني لقائم أسقيها أبا طلحة وأبا أيوب ورجالاً من أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في بيتنا. جاء رجل فقال: هل بلغكم الخبر؟ قلنا: لا. قال؛ فإن الخمر قد حرمت. فقال: يا أنس أرق هذه القلال.
يستفاد مما سبق، أن القلة من الأوعية المعروفة على زمن رسول الله – صلى الله عليه وسلم –، وأنها ذات حجم كبير، بل هي الجرة العظيمة وربما كانت تتخذ من الفخار، وأنها تستخدم للنبيذ والخمر كما تستخدم للماء، وأن أجود القلال ما كان من هجر أو اليمن.
القُمقُم:
((والقُمقُمُ: ما يستقى به من نحاس)). وحسب ما جاء في مصدر آخر فإن)) القمقمن ما يسخن فيه الماء من إناء وغيره، ويكون ضيق الرأس.
وجاء في تعريف آخر للقمقم بأنه... ((الجرة وآنية العطار، وإناء من نحاس يسخن فيه الماء، ويسمى المِحَمْ، وأهل الشام يقولون غلاية... وجمعه قماقم)).
وليس من المستبعد بأن القمقم معرب وربما كان أصله رومياً أو سريانياً.(/45)
جاءت الإِشارة إلى القمقم في المصادر الحديثية مرة واحدة فقد رواها البخاري في حديث النبي – صلى الله عليه وسلم – عن صفة النار حيث قال: ((إن أهون أهل النار عذاباً يوم القيامة رجل على أخمص قدميه جمرتان، يغلي منها دماغه كما يغلي المرجل بالقمقم)).
وفي رواية ابن الأثير... ((كما يغلي المرجل والقمقم))، ويعلق على ذلك قائلاً: وهو أبين إن ساعدته صحة الرواية.
يتضح مما تقدم بأن القمقم إناء من نحاس قد يكون ضيق الرأس، وأنه يستخدم للسقيا، كما يستخدم في تسخين الماء.
وبما أنه جاءت الإِشارة إليه في الحديث النبوي الشريف، فليس من المستبعد أن يكون القمقم من الآنية المعروفة على عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم –، وأنه كان يستخدم في ذلك الحين في تسخين الماء بالإِضافة إلى بعض الاستعمالات الأخرى.
المِخْضَب:
((المِخْضَبُ، بالكسر شبه الإِجانة، يغسل فيها الثياب)).
و((المخصب: المركن)).
التعريفات السابقة ليس فيها ما يغني. فهي لا تجيب على الكثير من التساؤلات لكن لعل استعراض بعض الروايات المتعلقة بالمخضب تبين لنا صفته وصناعته وغير ذلك.
رُوي أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال لأهله: ((أصلى الناس؟)) قلنا: لا. هم ينتظرونك يا رسول الله! قال: ((ضعوا لي ماء في المخضب)).
وفي رواية عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال:
حضرت الصلاة، فقام من كان قريب الدار إلى أهله، وبقي قوم، فأتى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بمخضب من حجارة فيه ماء، فصغر المخضب أن يبسط فيه كفه.
ولدينا رواية أخرى تقول إن المخضب يكون من النحاس.
فقد روت أم المؤمنين زينب بنت جحش – رضي الله عنها – أنه كان لها مخضب من صفر، كانت ترجل رأس رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فيه.
أما الرواية الأخيرة المتعلقة بالمخضب فتوضح لنا أن المخضب قد يكون كبيراً لدرجة أن يجلس فيه الإِنسان.(/46)
فقد رُوي عن أم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها – قولها، إن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال بعد ما دخل بيته واشتد وجعه:
((أهريقوا علي من سبع قرب لم تحلل أو كيتهن لعلي أعهد إلى الناس)) وأجلس في مخضب لحفصة زوجة النبي – صلى الله عليه وسلم – ثم طفقنا نصب عليه.
مما تقدم يظهر أن المخضب يصنع من الحجارة ومن النحاس أيضاً. وأنها ذو أحجام مختلفة فمنه الصغير جداً ومن الكبير الذي قد يستحم فيه الإنسان. فالمخضب يستخدم وعاء لغسل الثياب والوضوء والاستحمام.
المِركَن:
((المِرْكَنُ شبه تور من أدم أو شبه لقن.. وقيل: المركن الإجانة التي تغسل فيها الثياب)). وحسب مصدر آخر فإن المركن يتخذ من الخزف.
الأمر هنا لا يخلو من غموض فهل المركن هو الإِجابة، وهي الآنية التي تغسل فيها الثياب؟ ثم هل المركن يتخذ فقط من الجلد (الأدم) أم من الخزف كذلك؟ وما الوظيفة الأساسية للمركن؟
لدينا هنا بعض الروايات التي يمكن من خلال سردها أن تلقي شيئاً من الضوء على المركن وأوجه استعمالاته.
من بين هذه الروايات ما يوضح أن بعض بيوت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لم تكن تخلو من المركن، فقد سئلت أم المؤمنين أم سلمة – رضي الله عنها – أتغتسل المرأة مع الرجل؟ قالت: نعم إذا كانت كيِّسة. رأيتني ورسول الله – صلى الله عليه وسلم – نغتسل من مركن واحد.
وفي بعض الروايات يظهر أن المركن كبير الحجم، فقد روت أم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها – أن أم حبيبة بنت جحش استحيضت على عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم –، فأمرها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بالغسل لكل صلاة فإن كانت لتدخل المركن وإنه لمملوء ماء فتنغمس فيه ثم تخرج منه، وإن الدم فوقه لعاليه فتصلى.
وفي رواية أخرى... وكانت تقعد في مركن لأختها زينب بنت جحش حتى إن حمرة الدم لتعلو الماء.(/47)
من الروايات السابقة يتبين أن المركن ربما كانت وظيفته الأساسية أنه آنية تستخدم للاستحمام، كحوض الاستحمام في أيامنا هذه، وربما كان يستخدم لغسيل الملابس. والذي لا خلاف عليه هنا هو أن المركن كبير الحجم لدرجة أن الإِنسان ينغمس فيه بل يقعد فيه، وأنه قد يتخذ من الأدم كما يتخذ من الخزف.
الذي يخلص إليه المرء مما تقدم هو أن المركن كان معروفاً على عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بل كان في بعض بيوته..
المِطْهَرة:
((المِطْهرةُ: الإِناء الذي يُتوضأ به ويُتَطهرُ به، والمطهرة: الأداوة على التشبيه بذلك والجمع المطاهر. وكل إناء يُتَطَهرُ منه مثل: سطل أو رِكوة مِطْهرةُ)).
يلاحظ أن التعريف السابق لا يخلو من تعميم فحسب ما جاء فيه أن كل إناء يتطهر منه فهو مطهرة وهذا يعني أن معظم الآنية يمكن أن يطلق عليها اسم مطهرة متى استخدمت لذلك الغرض.
على كل حال... لقد عرف عن الصحابي الجليل عبدالله بن مسعود – رضي الله عنه –، أنه صاحب النعلين والوساد والمطهرة أي المسؤول عن هذه الأشياء الثلاثة الخاصة برسول الله – صلى الله عليه وسلم –. ولدينا رواية تدل على أن المطهرة شيء معروف وربما يكون متميزاً عن غيره من الآنية. فقد جاء ما يأتي:
... فقال صاحب السرية للجيش:
هل أصبتم من هؤلاء شيئاً؟ فقال رجل من القوم: أصبت منهم مطهرة. فقال: ردوها فإن هؤلاء قوم ضماد. هذه الرواية تبين أن المطهرة معروفة بين الآنية بالاسم فلا يمكن الخلط بينها وبين الآنية الأخرى.
وفي مناسبة أخرى سئل الصحابي الجليل بلال – رضي الله عنه – كيف مسح النبي – صلى الله عليه وسلم – على الخفين؟ قال: تبرز ثم دعا بمطهرة أي إداوة فغسل وجهه... وفي هذه الرواية يتضح عدم التفريق بين الإِداوة والمطهرة.
وجاء في رواية عن المغيرة بن شعبة – رضي الله عنه –، قال:
تخلف رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وتخلفت معه. فلما قضى حاجته. قال: ((أمعك ماء)) فأتيته بمطهرة...(/48)
مما سبق يظهر أن مصطلح مطهرة لا يخلو من غموض فليس لدينا صفة محدودة للمطهرة وكأن المطهرة اسم عام لأي إناء استخدم للطهور. بينما لدينا رواية واحدة كأنها توحي بأن المطهرة إناء بعينه يمكن أن يختلف عن بقية الآنية. وقد أغفلت جميع الروايات السابقة مِمَّ تصنع المطهرة كما أغفلت حجمها وغير ذلك.
المهراس:
((المِهْراسُ: حجرٌ مستطيل منقورٌ يتوضأ منه ويُدَقُّ فيه)).
يتبين من التعريف أن المهراس هنا له وظيفتان، الأولى لحفظ الماء وهذا الذي يهمنا أما الأخرى فتتعلق بهرس الحبوب.
والمهراس الذي يحفظ فيه الماء كان معروفاً على عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم –. ولو أن الروايات المتعلقة به قليلة.
إحدى هذه الروايات تقول:
روى أبو هريرة عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أنه قال:
((إذا استيقظ أحدكم من نومه فليفرغ على يديه من إنائه ثلاث مرات فإنه لا يدري أين باتت يده)). فقال قيس الأشجعي: يا أبا هريرة فكيف إذا جئنا إلى مهراسكم.
((أراد بالمهراس هنا هذا الحجر المنقور الضخم الذي لا يقله الرجال ولا يحركونه لثقله يسع ماء كثيراً ويتطهر الناس منه)).
وفي حديث تحريم الخمر يقول أنس بن مالك – رضي الله عنه –، فقال أبو طلحة: يا أنس قم إلى هذه الجرة فاكسرها فقمت إلى مهراس لنا فضربتها بأسفله حتى تكسرت.
الذي يفهم من هذا كله أن المهراس وعاء حجري كبير يحفظ فيه الماء في المنازل وربما في الطرقات أو عند المساجد لتيسير أمر الطهور للناس بالإِضافة إلى كونه يستعمل فيه هرس الحبوب. وأن المهراس كان معروفاً على عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ولو أنه ليس لدينا ما يفيد أنه كان ضمن ما تحويه بيوت الرسول – صلى الله عليه وسلم –.
المَيْضَأة:
المِيَضأةُ: ((مِطْهَرةُ وهي التي يتوضأ منها أو فيها)).
في هذا التعريف عدم التفريق بين الميضأة والمطهرة.(/49)
والميضأة معروفة على عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وجاءت على ذكرها بعض الروايات. ومن تلك الروايات، ما روته الربيع بنت معوذ بن عفراء – رضي الله عنها –: قالت: كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يأتينا في منزلنا فآخذ ميضأة لنا تكون مداً وثلث مد أو ربع مد فأسكب عليه فيتوضأ ثلاثاً.
وفي رواية أخرى أن الناس في أحد المغازي مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – شكوا شدة العطش... فقال: ((لا هلك عليكم)) ثم قال: ((يا أبا قتادة ائت بالميضأة)) فأتيته بها، فقال: ((احلل لي غمري)) – يعني قدحه – فحللته فأتيته به. فجعل يصب فيه ويسقي الناس...
وقال أبو قتادة في خبر آخر عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم –:
... ثم دعا بميضأة كانت معي فيها شيء من ماء. قال: فتوضأ منها وضوءاً دون وضوء. قال: وبقى فيها شيء من ماء. ثم قال: ((احفظ علينا ميضأتك فسيكون لها نبأ)). كما روي عن أنس بن مالك – رضي الله عنه –، أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: دخل حائطاً وتبعه غلام معه ميضأة هو أصغرنا فوضعها عند سدرة فقضى رسول الله حاجته.
وخلاصة القول أن الميضأة كانت معروفة على عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وإن كان الفرق بين الميضأة والمطهرة ليس بواضح. لكن لدينا فكرة تقريبية عن حجم البعض منها حيث تبلغ مداً وثلث مد أو ربعه.. وهذا يعني أنها ليست بالكبيرة.
النِّحْيُ:
((النِّحيُ: بالكسر: زِقُّ للسمن والجمع أنحاء)).
وليس لدينا الكثير مما يمكنَ قوله عن النحي، سوى رواية واحدة. فقد جاء عن جابر، عن البهزية بنت أم مالك.
أنها كانت تهدي في عكتها سمناً للنبي – صلى الله عليه وسلم – فبينما بنوها يسألونها عن إدام وليس عندها شيء فعمدت إلى نحيها التي كانت تهدي فيه السمن إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – فوجدت فيه سمناً.(/50)
هذه الرواية تبين أن النحي من أوعية السمن، ولا يستبعد أن يكون اسم النحي مرادفاً للعكة حيث أنه جاء في النص ما يوحي بذلك.
النَّقِير:
((النَّقِيرُ: أصلُ النخلة يُنَقرُ فيُنَبَذُ فيه. وقيل إن أهل اليمامة كانوا ينقرون أصل النخلة، ثم يشدخون فيها الرُطَبُ والبُسر ثم يدعونه حتى يهدر، ثم يموت)).
وفي تعريف آخر للنقير ليس فيه تعيين ما يتخذ نقيراً فليس بالضرورة أن يكون نخلة، فالنقير: ((أصل خشبة ينقر فينبذ فيه)). ويظهر أن نقير النخلة اختص به أهل اليمامة دون غيرهم. ولا غرابة في ذلك فإنهم أهل نخل.
وقد جاءت الإِشارة إلى النقير فيما يُروى عن النبي – صلى الله عليه وسلم – في أكثر من مناسبة:
فقد رُوي أنه حين جاء وفد عبد القيس يبايع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – على الإِسلام أمرهم بأشياء ونهاهم عن أشياء، من بينها النقير، فقال:
((وأنهاكم عما ينبذ في الدباء والنقير والحنتمة والمزفت)).
وقال ابن عباس – رضي الله عنهما –:
نهى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عن الدباء والنقير والمزفت. وجاء عن أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه – أنه قال:
نهى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عن الشرب في الحنتمة والدباء والنقير.
وفي رواية عن ابن عباس قال:
خرج رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في سفر. ثم رجع وقد نبذ ناس من أصحابه في حناتم ونقير ودباء. فأمر به فأهريق.
من العرض السابق يظهر أن النقير كان من الآنية المعروفة على عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ويبدو أنه كان يستخدم في غالب الأحيان لتحضير النبيذ ونظراً لشدة التخمر فيه جاء النهي عن استخدامه لمثل هذا الغرض.
الوَطْب:
((الوَطْبُ: سقاء اللبن)) وقيل: سقاء اللبن خاصة، وهو جلد الجذع فما فوقه، والجمع أوطُبٍ، وأوطابٌ ووطابٌ.
ليس من كبير خلاف حول تعريف الوَطْب على أنه سقاء اللبن وإن اشترط في بعض الحالات على أن يكون جلد الجذع فما فوق.(/51)
والروايات عن الرسول – صلى الله عليه وسلم – فيما يتعلق بالوطب قليلة جداً. فقد روى أبو سعيد الخدري – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –:
((لا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يحل صرار ناقة بغير إذن أهلها فإنه خاتمهم عليها. فإذا كنتم بقفر فرأيتم الوطب أو الراوية أو السقاء من اللبن فنادوا أصحاب الإبل ثلاثاً..)).
وفي حديث الهجرة طلب أبو بكر – رضي الله عنه – من أحد الموسرين في مكة أن يزوده ببعير وزاد ودليل. يقول صاحب الرواية:
فجئت إلى مولاي فأخبرته فبعث معي ببعير ووطب من لبن فجعلت آخذ بهم في إخفاء الطريق.
وفي رواية للصحابي عبدالله بن أبي حدود قال:
بعثنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إلى إضم. فخرجت في نفر من المسلمين.. حتى إذا كنا ببطن إضم مر بنا عامر الأشجعي على قعود له متيع ووطب من لبن فلما مر بنا سلم علينا.
كل الروايات الثلاث السابقة تربط بين الوطب واللبن، ومنها يبدو أن الوطب موقوف الاستخدام على اللبن خاصة.
ويتضح مما سبق أن الوطب كان شائع الاستخدام في عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم –، ولا يستبعد أنه كان مستخدماً في بيوته – عليه الصلاة والسلام – وبيوت أصحابه حيث لا غنى عنه لحفظ اللبن.
الفئة الرابعة: أوعية تستخدم لأغراض شتى:
الجراب:
الجِرابُ، الوعاء، معروف، وقيل هو المِزْوَدُ والعامة تفتحه، فتقول الجَرابُ، والجمع أَجْرِبةٌ وجُرُبٌ. والجِرابُ: وعاء من إهاب الشاء لا يُوعَى فيه إلا يابسٌ.
الجزء الأول من التعريف ينقصه الوضوح حيث أنه يطلق على الجراب، أنه الوعاء وصفة الوعاء مجهولة وصفة المزود كذلك.
أما الجزء الثاني من التعريف فقد أبان بأن الجراب من الجلد وهو ((الإهاب)). وأنه لا يحفظ فيه إلا يابس. أي لا يصلح لحفظ السوائل.(/52)
جاء عن أم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها – إشارة للجراب في وصفها لهجرة الرسول – صلى الله عليه وسلم – ووالدها أبي بكر – رضي الله عنه – حيث تقول:
فجهزناهما أحب (أحث؟) الجهاز وصنعنا لهما سفرة في جراب فقطعت أسماء بنت أبي بكر من نطاقها فأوكت الجراب فلذلك كانت تسمى ذات النطاقين.
وقد أشار كذلك الصحابي جابر بن عبدالله إلى الجراب بقوله:
... فانكفأت إلى امرأتي. فقلت لها: هل عندك شيء؟ فإني رأيت برسول الله – صلى الله عليه وسلم – خمصاً شديداً. فأخرجت لي جراباً فيه صاع من شعير..
وفي رواية أخرى عن جابر – رضي الله عنه – يقول فيها: بعثنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأمر علينا أبا عبيدة نتلقى عيراً لقريش وزودنا جراباً من تمر لم يجد لنا غيره.
وفي رواية وكان معنا جراب من تمر.
أما الرواية الأخيرة حول الجراب فقد جاءت عن عبدالله بن مغفل حيث قال: أصبت جراباً من شحم يوم خيبر. قال: فالتزمته. فقلت لا أعطي اليوم أحداً من هذا شيئاً. قال: فالتفت فإذا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مبتسماً..
وفي رواية رمى إلينا جرب فيه طعام وشحم يوم خيبر فوثبت لأخذه.
مما تقدم يظهر أن الجراب وعاء من جلد وأنه تحفظ فيه بعض أنواع الأطعمة الجافة مثل الشعير ونحوه والجامدة مثل الشحوم وما إلى ذلك.
الجُوالِقُ:
الجُوالِقُ والجُوالَقُ، بكسر اللام وفتحها... وعاء من الأوعية معروف معرب..
قال الراجز:
يا حبذا ما في الجواليق السود من خشكنان وسويق مقنود
((الجوالق: أعجمي معرب. وأصله بالفارسية كواكه، وجمعه جوالق بفتح الجيم. وهو من نادر الجمع)).(/53)
التعريفات السابقة تذكر أن الجوالق وعاء من الأوعية ولكنها تغفل صفته وهيئته فالأوعية كثيرة، والتعريفات السالفة تهمل كذلك المادة التي يتخذ منها الجوالق، ولو أن أحد المصادر يذكر أن الجوالق وعاء يتخذ من الجلود والثياب. وحسب ما ورد في مصدر آخر فإن مسمى الجوالق تبعاً لحجمه فالجوالق الكبير يدعى غرارة، أما الصغير فهو عكم.
على كل حال، مما يلاحظ كذلك أن الإِشارة إلى الجوالق في كتب السنة جاءت مبتسرة ولا تعطي المرء تصوراً كافياً عن ماهية الجوالق والوظيفة التي يتخذ لها كوعاء(!).
والمناسبة الأولى التي جاء فيها ذكر الجوالق هو ما ورد عند البخاري في حديثه عن القسامة في الجاهلية يقول:
... فمر رجل من بني هاشم، قد انقطعت عروة جوالقه. فقال: أغثني بعقال أشد به عروة جوالقي...
أما المناسبة الثانية التي ذكر فيها الجوالق فقد جاءت في حديث طويل للصحابي الجليل جابر بن عبدالله – رضي الله عنه – قال:
... فلما ذهب النبي – صلى الله عليه وسلم – ينهض قالت صاحبتي: يا رسول الله دعوات منك. قال: نعم. فبارك الله لكم. ثم بعثت بعد ذلك إلى غرمائي فجاؤوا بأحمرة وجواليق... فأوفيتهم والذي نفسي بيده عشرين وسقاً من العجوة وفضل فضل حسن...
مما تقدم يظهر أن الجواليق وعاء شبيه بالكيس يتخذ لحفظ الحبوب والتمور وما في حكمها وربما كان له ألوان عدة منها الأسود ولا يستبعد كذلك أن الجوالق يتخذ من الجلد كما يتخذ من بعض المنسوجات (الثياب).
الحقيبة:
للحقيبة عدة معان وأهمها:
((الحَقِيبَةُ، تكون على عجز البعير تحت حنوى القتب الآخرين، والحقيبة الوعاء الذي يجعل الرجل فيه زاده...)).
أما الحقيبة بمعنى الوعاء الذي يجعل فيه الزاد، فقد جاء في حديث طويل عن الصحابي ذي الجوشن الضبابي – رضي الله عنه –، في مقابلته لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – قوله:(/54)
... ثم قال: الرسول – صلى الله عليه وسلم –: ((يا بلال، خذ حقيبة الرجل فزوده من العجوة))، فلما أدبرت، قال: ((أما إنه من خير فرسان بني عامر)).
وقد رُوي عن أسماء بنت أبي بكر الصديق – رضي الله عنهما –، أنها كلما مرت بالحجون تقول: ((صلى الله على رسوله وسلم، لقد نزلنا معه هاهنا، ونحن يومئذ خفاف الحقائب، قليل ظهرنا قليلة أزوادنا...)).
من الروايتين السابقتين يتبين بأن الحقيبة، وعاء يوضع فيه الطعام، ولعله طعام المسافر وربما كانت الحقيبة من الأوعية التي لا يستغني عنها المسافرون.
الخُرْجُ:
((الخُرْجُ: هذا الوعاء – ثلاثة خِرَجَة – وهو جُوالِقُ ذو أونين))، (أذنين)؟. و((الخرج، من الأوعية معروف، عربي وهو هذا الوعاء وهو جوالق... والجمع أخراج وخرجة.
وفي تعريف آخر ربما أكثر وضوحاً جاء فيه ((الخرج: كقفل، وعاء معروف، يجعل على ظهر الدابة لوضع شيء فيه، ويكون ذا عدلين. جمعه خرجة. والظاهر أن الخرج من الأوعية اللازمة للمسافر، حيث إن المسافر يضع فيه آلاته.
على كل حال لم تأت الإشارة إلى الخرج سوى مرة واحدة وفي صيغة الجمع. فقد روى أحد أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: كنا نأكل الجزر في الغزو ولا نقسمه، حتى إن كنا لنرجع إلى رحالنا وأخْرجتنا من مملاة.
وأخيراً فإن الذي يفهم مما تقدم بأن الخرج وعاء من الأوعية اللازمة للمسافر حيث يضع فيه حوائجه. وليس من المعروف مِمَّ يتخذ، وإن كان من غير المستبعد أنه يصنع من الصوف. والذي لا شك فيه أنه يقع ضمن الأوعية المعروفة على عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم –.
الخَريطة:
الخَرِيطَةُ هَنةٌ مثل الكيس تكون من الخرق والأدم، تُشَرَّجُ على ما فيها، ومنه خرائط كتب السلطان وعماله.
الروايات المتعلقة بالخريطة قليلة قلة ظاهرة، فقد جاء عن أم المؤمنين أم سلمة – رضي الله عنها – قالت:(/55)
أكثر ما علمت أتي به نبي الله – صلى الله عليه وسلم – من المال بخريطة فيها ثمان مائة درهم.
وفي رواية متأخرة عن عصر النبوة، أن رجلاً قال لصاحبه:
أقرضني ألف درهم إلى عطائي. قال: نعم. وكرامة.
يا أم عُتبة هلمي تلك الخريطة المختومة التي عندك...
من الروايات السابقة على ندرتها يظهر أن الخريطة كانت تستخدم فقط لحفظ المال (النقود). وقد تكون استخدمت لكتب الحكومة في وقت لاحق. أما الذي لا خلاف عليه هنا أن الخريطة كيس يتخذ من الخرق أو الجلود. ويظهر أنه ذو أحجام مختلفة فمنها ما يسع ثمان مائة درهم وربما منها ما يسع أكثر وأقل من ذلك.
الزبيل (الزنبيل):
((الزَّبِيل والزَّنْبِيل، الجِرَابُ، وقيل الوعاءُ يُحمَلُ فيه. فإذا جمعوا قالوا زنابيل... والزبيل، القفة، والجمع زُبُلٌ)). ويظهر أنه معرب، والإشارة إلى الزبيل في مصادر هذه الدراسة قليلة جدا.
فقد جاء في إحدى الروايات عن الرجل الذي جامع أهله في نهار رمضان:
أن النبي – صلى الله عليه وسلم – أتي بعرق فيه تمر وهو الزبيل، قال: ((أطعم هذا عنك...)) وفي حديث آخر، أنه كان بين سلمان الفارسي وحذيفة شيء فأتاه يطلبه فأخبرَ أنه في مبقلة له فتوجه إليه فلقيه معه زبيل فيه بقل، قد أدخل عصاه في عروة الزبيل وهو على عاتقه...
من الروايات السالفة يتبين أن الزبيل وعاء معروف على عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم –، ويظهر كذلك أنه من الأوعية التي تحمل وتحفظ فيه المواد الجافة مثل التمور والبقول وما إلى ذلك.
والذي يخلص إليه المرء هو أن الزبيل وعاء يحمل فيه وأنه له عروة. وإن كان ليس من المستبعد أن له عروتين وليس واحدة فقط. وأنه يتخذ من الخوص. انظر: العرق.
العَرَقُ:
((العَرَقُ: السّفيفَةُ المنسوجة من الخوص وغيره قبل أن يُجعَلَ منه الزبيل، ومنه قيل للزبيل عرق)).(/56)
وقيل ((العرق: زبيل منسوج من نسائج الخوص، وكل شيء مضفور فهو عرق وعرقة بفتح الراء فيهما))، وقيل العرق زنبيل يأخذ خمسة عشر صاعاً.
يظهر مما سبق أن العرق زبيل من خوص، ويبدو أنه لابد أن تكون سعته خمسة عشر صاعاً، حتى يكون عرقاً، وإلا فهو الزبيل صغر أو كبر.
وفي مصادر هذه الدراسة روايات عدة متشابهة عن العرق.
ففي الحديث الشريف أن رجلاً جاء إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم –، فقال: احترقت. قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ((لِمَ؟))، قال: وطئت امرأتي في رمضان نهاراً... فأمره أن يجلس فجاءه عرقان فيهما طعام، فأمره رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أن يتصدق به.
وفي رواية أخرى فأتى النبي – صلى الله عليه وسلم – بعرق فيه تمر. فقال: ((تصدق بهذا)).
وفي حديث الصحابية خويلة بنت مالك بن ثعلبة، أن زوجها ظاهر منها فذهبت إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – تشكو إليه... قال: ((فليطعم ستين مسكيناً))، قالت: ما عنده شيء يتصدق به، قالت: فأتى ساعتئذ بعرق من تمر. قلت: يا رسول الله، فإني أعينه بعرق آخر...
من كل ما تقدم يتضح بأن العرق زبيل من خوص يتسع لخمسة عشر صاعاً أو أكثر من ذلك. فهو ليس بوعاء صغير ولذلك تميز بمسمى العرق عن الزبيل المعروف نظراً لسعته. وكان العرق على عهد النبي – صلى الله عليه وسلم – شائعاً استعماله بين الناس آنذاك ويحتمل أن بيوت النبي – صلى الله عليه وسلم –، لم تكن لتخلو منه.
العَيبَة:
((العَيبَةُ: وعاء من أدم يكون فيها المتاع، والجمع عِيابٌ وعِيَّبٌ والعيبة أيضاً زبيل من أدم يُنقل فيه الزرع المحصود إلى الجرين في لغة همدان، والعيبة: ما يُجَعلُ فيه الثياب)).
العيبة هنا ليست محصورة بشيء بعينه فهي وعاء جلدي لحفظ المتاع، وقد تكون زبيلاً من جلد لنقل الحبوب، وهذا ما يقوي الاحتمال بأن الزبيل الذي سبق الحديث عنه ربما يكون أحياناً من جلد.
والذي يهمنا هنا هو العيبة التي تجعل فيه الثياب.(/57)
فقد أشار الصحابي جرير بن عبدالله – رضي الله عنهما – إلى العيبة قائلاً:
لما دنوت من المدينة أنخت راحلتي ثم حللت عيبتي، ثم لبست حلتي، ثم دخلت فإذا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يخطب...
وفي رواية عن الصحابي جابر بن عبدالله – رضي الله عنهما – يقول فيها: فنظر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إليه، أي إلى الراعي.. فقال: ((أما له ثوبان غير هذين؟)) فقلت: بلى يا رسول الله. له ثوبان في العيبة. كسوته إياهما.
وحين حانت منية الصحابي أبي ذر – رضي الله عنه – وهو في الربذة، قال للرهط من حوله:
... فأنشدكم الله أن لا يكفنني رجل منكم كان أميراً أو عريفاً أو بريداً. فكل القوم كان قد نال من ذلك شيئاً إلا فتى من الأنصار كان مع القوم قال:
أنا صاحبك، ثوبان في عيبتي من غزل أمي...
وقد جاء عن رئيس وفد بني عبد القيس: المنذر بن عائذ، أنه: تخلف بعد القوم فعقل رواحلهم وضم متاعهم ثم أخرج عيبته، فألقى عنه ثياب السفر ولبس من صالح ثيابه، ثم أقبل إلى النبي – صلى الله عليه وسلم –...
مما تقدم يظهر أن العيبة وعاء لحفظ الملابس وأنها تكون من لزوم المسافر والمقيم وأنها تتخذ من الجلد.
الغِرَارة:
((الغِرَارةُ، الجُوالِقُ، واحدة الغَرائِر، قال الشاعر: كأنه غرارة ملأى حثي)). وحسب مصدر آخر فإن القرارة، واحدة الغرائر التي للتبن، وأظنه معرباً.
التعريفات السابقة لا تفصح كثيراً عن ماهية الغرارة، فمرة هي الجوالق، ومرة أخرى هي الغرارة التي للتبن، وهنا خصصت بأنها وعاء للتبن وليس غير.
أما الروايات التي بين أيدينا على قلتها فإنها تشير إلى الغرارة على أنها ربما تكون شيئاً مختلفاً عن وعاء التبن وما شابهه.
جاء في إحدى الروايات أن الصحابي جابر بن عبدالله – رضي الله عنهما – قال:(/58)
... فقلت يا رسول الله هلم إلى الظل. قال: فنزل رسول الله – صلى الله عليه وسلم –. فقمت إلى غرارة لنا فالتمست فيها شيئاً فوجدت فيها جرو وقثاء فكسرته، ثم قربته إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم –..
وفي رواية ثانية تشير عائشة – رضي الله عنها – إلى الغرارة قائلة: أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بينما هو جالس في ظل فارع، أجم حسان. جاء رجل فقال: احترقت يا رسول الله. قال: ((ما شأنك؟)) قال: وقعت على امرأتي وأنا صائم. قالت: وذاك في رمضان. فقال له رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ((اجلس))، فجلس في ناحية القوم. فأتى رجل بحمار عليه غرارة فيها تمر. قال هذه صدقتي يا رسول الله...
أما الرواية الثالثة فقد كان الخليفة عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – في طريقه إلى السوق فاعترضته إحدى النساء قائلة:
... أنا بنت خفاف بن إيماء الغفاري، وقد شهد أبي الحديبية مع النبي – صلى الله عليه وسلم –. فوقف معها عمر – رضي الله عنه – ولم يمض، ثم قال: مرحباً بنسب قريب، ثم انصرف إلى بعير ظهير كان مربوطاً في الدار، فحمل عليه غرارتين ملأهما طعاماً، وحمل بينهما نفقة وثياباً، ثم ناولها بخطامه...
مما سبق يتضح أن الغرارة تستخدم وعاء لزاد المسافر، وتستخدم وعاء لحمل الأطعمة وما شابه ذلك... وأنها ليست مقتصرة على التبن!
القَفْعَة:
((القَفْعةُ شيء شبيه بالزَّبيل ليس بالكبير، يعمل من خوص، وليس له عرى، والقفعة مثل القفة تتخذ واسعة الأسفل ضيقة الأعلى، حشوها مكان الحلفاء عراجين تُدق، وظاهرها خوص على عمل سلال الخوص)). ويبدو أن القفعة تستخدم لجني الثمر ونحوه.
ولم ترد الإِشارة للقفعة في مصادر هذه الدراسة سوى مرة واحدة علماً بأن القفعة من الوصف السابق لها ليست بعزيزة المنال فهي تتخذ من الخوص وشبيهة بالزبيل.
جاء عن عبدالله بن عمر – رضي الله عنهما – أنه قال:
سئل عمر بن الخطاب عن الجراد فقال: وددت أن عندي قفعة نأكل منه.(/59)
هذا ما جاء عن القفعة رواية واحدة تنسب للخليفة عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – وندرة الإِشارة إليها لا تعني عدم وجودها على عهد النبي – صلى الله عليه وسلم – بل ربما المناسبة لم تستدع ذكرها، ولا يستبعد وجود القفعة في بيوت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وبيوت أصحابه، لأنها كانت من الأوعية التي تدعو الحاجة إلى مثلها.
الماعون:
جاء في تعريف الماعون، أن ((الماعون، المعروف كله، حتى ذكر القصعة والقدر والفأس. وقال ثعلب: الماعون: كل ما يستعار من قدوم سفرة وشفرة)).
وقال ابن الأثير في النهاية، ((الماعون، اسم جامع لمنافع البيت، كالقدر والفأس وغيرهما مما جرت العادة بعاريته)).
أما في القرآن الكريم، فقد نزلت سورة باسم الماعون، قال تعالى في نفس السورة: {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} (7/الماعون).
وفي الحديث النبوي الشريف، جاءت الإِشارة إلى الماعون مرة واحدة في سنن أبي داود، حيث رُوي عن أحد أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم –، قوله: كنا نعد الماعون على عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عارية، الدلو القدر.
وهكذا فالماعون ليس كما يظن البعض أنه إناء بعينه، لا، بل الماعون اسم جامع لمنافع البيت يمكن استعارتها ويجب عدم منعها. وقد أوردناه هنا لإِزالة ما قد يعلق بذهن القارئ من لبس حول معنى الماعون.
المَزادة:
((المزَادَةُ التي يُحمَلُ فيها الماء وهي ما فُئِمَ بجلد ثالث بين الجلدين ليتسع، سميت بذلك لمكان الزيادة. والمزادة تكون من جلدين ونصف وثلاثة جلود، سميت مزادة لأنها تزيد على السطيحتين وهما المزادتان... والمزادة هي الظرف الي يحمل فيه الماء كالراوية والقربة والسطيحة)).
الذي يفهم مما سبق أن المزادة وعاء من أوعية الماء تتخذ من الجلد وأنها أكبر من السطيحة التي سبق الحديث عنها، وأنها سميت المزادة لمكان الزيادة فيها.(/60)
والمزادة على الرغم من أهميتها كوعاء للماء إلا أن الإِشارة إليها في مصادر هذه الدراسة لم تكن بالكثيرة.
فقد جاء في أحد المصادر أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كان في غزاة... فاشتكى إليه الناس من العطش، فنزل فدعا فلاناً ودعا علياً، فقال: ((اذهبا فابتغيا الماء)). فانطلقا فتلقيا امرأة بين مزادتين أو سطيحتين من ماء على بعير لها...
وفي رواية أخرى فبينما نحن نسير إذا بامرأة سادلة رجليها بين مزادتين فقلنا لها أين الماء؟.
وفي رواية عن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال:
قدم رجل من دوس على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – براوية خمر أهداها له. فقال له رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: ((هل علمت أن الله حرمها بعدك)). فأقبل صاحب الراوية على إنسان معه فأمره، فقال النبي – صلى الله عليه وسلم – ((بماذا أمرته؟)) قال ببيعها. قال: ((هل علمت أن الذي حرم شربها حرم بيعها وأكل ثمنها)). قال: فأمر بالمزادة فأهريقت.
في الروايات السابق خلط واضح بين المزادة والسطيحة والراوية ومن المعلوم أن كل هذه الأوعية هي من أوعية السوائل وعلى وجه الخصوص الماء إلا أن الأحاديث المتقدمة لا تفرق كثيراً بينها، مما يقوي الاحتمال بأن تلك الأوعية كانت متشابهة لدرجة كبيرة. وكما أن المزادة من أوعية الماء إلا أنها قد تتخذ وعاء للخمر كما تقدم في رواية ابن عباس وكما جاء عن أنس – رضي الله عنه – حين يتحدث عن تحريم الخمر فقال: ((إني لأسقي أبا طلحة وأبا دجانة وسهيل بن بيضاء من مزادة، فيها خليط بسر وتمر..)).
المِزْوَد:
((المِزْوًدُ، شبه جراب من أدم يُتَزوّدُ فيه الطعام للسفر، جمعه المزاود)). وفي تعريف مقتضب. المِزْوَدُ وعاءُ يُجعَلُ فيه الزاد)).
وجاء عند الثعالبي أن المزود، وعاء زاد المسافر.(/61)
على الرغم من أهمية المزود بالنسبة للمسافر فإن الإِشارة إليه فيما بين أيدينا من مصادر جاءت قليلة جداً، فقد أشار رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في إحدى المناسبات إلى المزود بصيغة الجمع حين خاطب أصحابه وهم في سفر قائلاً:
((أيسركم لو رجعتم إلى مزاودكم فوجدتم ما فيها قد ذهب به؟)).
كما يُروى عن أحد أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قوله: خرجنا مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم –، في غزوة فأصابنا جهد حتى هممنا أن ننحر بعض ظهرنا – أي الدواب – فأمرنا نبي الله – صلى الله عليه وسلم – فجمعنا مزاودنا، فبسطنا نطعاً فاجتمع زاد القوم على النطع.
أما آخر الروايات حول المزود فقد جاءت عن طريق جابر بن عبدالله – رضي الله عنهما – حيث قال: بعث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بعثاً قبل الساحل، فأمر عليهم أبا عبيدة بن الجراح... فخرجنا حتى إذا كنا ببعض الطريق فني الزاد فأمر أبو عبيدة بأزواد ذلك الجيش فجمع ذلك كله فكان مزودي تمر...
يظهر أن المزود وعاء من جلد يحمل فيه المسافر طعامه وأنه شبيه بالجراب. ويظهر كذلك أن المزود من الأوعية الشائعة في عهد الرسول – صلى الله عليه وسلم –. وأنه من المتاع الذي لا يستغني عنه المسافر.
المِكْتَل:
((المِكْتَلُ... الزَّبِيل الذي تُحمَلُ فيه الثمر أو العنب إلى الجرين، وقيل المكتل شبه الزبيل يسع خمسة عشر صاعاً. وهو من حيث السعة صار شبيهاً بالعرق.
وحسب ما جاء في التعريف السابق فإن المكتل يحمل فيه الثمر، أو هو شبه زبيل. ويظهر أن التأكيد هنا على السعة، فالمكتل هنا هو الذي يتسع لخمسة عشر صاعاً. والتعريف السابق لا يشير إلى المادة التي يتخذ منها المكتل، ولا يستبعد أن يكون من الخوص. ولدينا هنا إشارات عدة لاستخدام المكتل وشيوعه على عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم –.
فقد جاء عن أنس – رضي الله عنه – أنه قال:(/62)
بعثت معي أم سُليم بمكتل فيه رطب إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ووضعت المكتل بين يديه فجعل يأكل ويقسم حتى فرغ منه.
وفي رواية عن ربيعة الأسلمي – رضي الله عنه – قال:
... فقال لي رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: اذهب إلى عائشة فقل لها فلتبعث بالمكتل الذي فيه الطعام. قال: فأتيتها فقلت لها ما أمرني به رسول الله – صلى الله عليه وسلم –، فقالت: هذا المكتل فيه تسع أصع من شعير لا والله إن أصبح لنا طعام غيره.
وجاء عن عائشة – رضي الله عنها – أن رجلاً أتى النبي – صلى الله عليه وسلم – فقال، أنه احترق. فسأله ما شأنه؟ فقال: أصاب أهله في رمضان نهاراً، فأتاه مكتل يدعى العرق فيه تمر، فقال: ((أين المحترق؟)) فقام الرجل. فقال: ((تصدق بهذا)).
وفي رواية أخرى أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال له:
((فتستطيع أن تطعم ستين مسكيناً؟)) قال: لا، قال: فجاء رجل من الأنصار بعرق، والعرق المكتل، فيه تمر، فقال له النبي – صلى الله عليه وسلم –: ((اذهب بهذا فتصدق به))...
في الرواية الأخيرة عدم تفريق بين العرق والمكتل ويبدو أن الفرق بين الوعائين طفيف بل ربما كان في التسمية فقط.
والذي يمكن الجزم به هنا هو أن المكيل وعاء تحمل فيه الثمرة وربما أنه يصنع من السعف، وأنه كبير الحجم حيث أنه يتسع لخمسة عشر صاعاً، وأنه كان شائع الاستعمال في عهد النبي – صلى الله عليه وسلم –، بل كان موجوداً في بيوته وكان يحفظ فيه طعامه.
الفئة الخامسة:
وحدات الكيل:(/63)
من المعروف أن وحدات الكيل ليست من الأواني أو الأدوات الداخلة في الاستعمال اليومي للأسرة أيام رسول الله – صلى الله عليه وسلم –. ربما بسبب ندرة الآنية المناسبة في ذلك الحين اضطر الناس إلى استخدام وحدات الكيل لبعض شؤون الحياة اليومية، أو هذا على الأقل ما كان يحدث في بيوت رسول الله – صلى الله عليه وسلم –. وسنتطرق بالإِشارة هنا إلى ما تم العثور عليه في مصادر هذه الدراسة من المكاييل التي استخدمت لأغراض أخرى إضافة لأغراضها الأساسية.
الصَّاع:
((الصّاعُ لأهل المدينة يأخذ أربعة أمداد، يذكر ويؤنث... والصُّواع كالصّاع.. وصاعُ النبي – صلى الله عليه وسلم –، الذي بالمدينة أربعة أمداد بمدهم المعروف عندهم)). والصاع في دراسة حديثة حين يستخدم للسوائل فإنه يتسع لـ4.2125 لتراً أما للحبوب ونهحوها فإنه يتسع لـ2.24 كيلو غرام.
من الغريب أن جميع الروايات التي تم العثور عليها في مجال هذه الدراسة عن الصاع تدور حول الطهارة.
فقد جاء عن أم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها – أنها قالت: أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان يغتسل بالصاع ويتوضأ بالمد.
وجاء عن أنس – رضي الله عنه – قوله: كان النبي – صلى الله عليه وسلم – يتوضأ بإناء يسع رطلين، ويغتسل بالصاع. وقد جاء عن سفينة قوله: كان النبي – صلى الله عليه وسلم –. يتوضأ ويغتسل بالصاع.
وجاء عن سفينة كذلك: كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يغسله الصاع، من الماء من الجنابة...
كما جاء في رواية أخرى لأنس – رضي الله عنه – قوله: كان النبي – صلى الله عليه وسلم –. يتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع...
وفي رواية عن أبي سلمة بن عبدالرحمن، قال: دخلت على عائشة، أنا وأخوها من الرضاعة. فسألها عن غسل النبي – صلى الله عليه وسلم – من الجنابة؟ فدعت بإناء قدر الصاع. فاغتسلت وبيننا وبينها ستر.(/64)
من كل ما تقدم يظهر أن الصاع ليس بالوعاء الكبير حيث أنه يأخذ من السائل ما سعته أربعة ليترات وربما. ومعظم الروايات التي أشارت إلى الصاع أشارت إليه مقترناً بالطهارة من وضوء وغسل والمقصود منها التنبيه للقدر الذي يجزئ من الماء للوضوء وللغسل.
والمصادر التي تم الرجوع إليها هنا لم تشر إلى المادة التي يصنع منها الصاع وإن كان من المحتمل جداً أن الصاع كان يتخذ من الخشب كالصاع في أيامنا هذه.
الفَرْق:
((الفَرْقُ والفَرَقُ: مكيال ضخم لأهل المدينة معروف، وقيل: هو أربعة أرباع، وقيل: هو ستة عشر رطلاً... والجمع فُرْقان...
والفرق حسب مصدر آخر يقدر بثلاثة أصوع. وهذا ما يعادل 12.617 لتراً تقريباً.
ومع أن الفرق مكيال، إلا أنه في عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قد استخدم في بعض الحالات لأغراض أخرى منها أغراض الطهارة. فقد جاء عن عائشة – رضي الله عنها – أنها قالت:
كنت أغتسل أنا ورسول الله – صلى الله عليه وسلم – من إناء واحد وهو الفرق. وجاء عن عائشة في رواية أخرى قولها: أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كان يغتسل من إناء هو الفرق من الجنابة. وجاء في رواية أخيرة لعائشة – رضي الله عنها – عن الفرق قولها: كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يغتسل في القدح وهو الفرق. وكنت أغتسل أنا وهو في الإِناء الواحد.
وأخيراً فقد جاء عن كعب بن عجرة، أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – رآه والقمل يسقط على وجهه، فقال: ((أيؤذيك هوامك؟)) قال: نعم. فأمره رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أن يحلق... فأنزل الله الفدية، فأمره رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: أن يطعم فرقاً بين ستة مساكين...
وجاء عن عائشة – رضي الله عنها – أنها قالت: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: ((ما أسكر الفرق منه إذا شربته فملء الكف منه حرام)).(/65)
في جميع الروايات السابقة جاءت الإِشارة إلى الفرق متعلقة بالطهارة من غسل ونحوه. والرواية ما قبل الأخيرة هي الوحيدة التي أشير فيها إلى الفرق على أنه من وحدات الكيل.
المُدّ:
((المُدُّ: ضرب من المكاييل وهو رُبعُ صاع، وهو قدرُ مدّ النبي – صلى الله عليه وسلم –. والصاع خمسة أرطال، قال:
لم يغذها مُدُّ ولا نَصيفٌ ولا تُميرات ولا تعجيفُ
والجمع أمدادٌ ومِدادٌ، مِدادٌ...)).
وحسب ما جاء في مصدر آخر فإن المُد ((.. ملء كفي الإِنسان المعتدل إذ ملأهما ومد يده بهما وبه سمى مُداً..)). وفي إيضاح أكثر لحجم وسعة المد. فإنه يتسع لـ812.5 غرام (قمح) ويتسع لمقدار من السائل كالماء مثلاً يساوي 0.05 لتر. وقد جاءت الإِشارة إلى المد في حديث لعائشة – رضي الله عنها – حيث قالت:
أنها كانت تغتسل هي والنبي – صلى الله عليه وسلم – في إناء واحد يسع ثلاثة أمداد، أي (4/3 الصاع) أو قريباً من ذلك. وجاء عن عائشة كذلك: إن النبي – صلى الله عليه وسلم – يغتسل بالصاع ويتوضأ بالمد. وعن سفينة قال: كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يغسله الصاع، من الماء من الجنابة ويوضؤه المد.
وقال أنس – رضي الله عنه –: كان النبي – صلى الله عليه وسلم – يغسل أو كان يغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد يتوضأ بالمد.
وجاء في رواية عن الربيع بنت معوذ بن عفراء أنه: كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم –. يأتينا في منزلنا فآخذ ميضأة لنا تكون مداً وثلث مد أو ربع مد فأسكب عليه فيتوضأ ثلاثاً ثلاثاً.
كما روى عن عمارة بنت كعب أنها قالت: أن النبي – صلى الله عليه وسلم – توضأ فأتى بماء في إناء قدر ثلثي المد.
وروي أخيراً عن عائشة – رضي الله عنها –: أنها كانت تغتسل هي والنبي – صلى الله عليه وسلم – في إناء واحد يسع ثلاثة أمداد أو قريباً من ذلك.(/66)
وأخيراً فقد جاء عن أنس – رضي الله عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: ((اللهم بارك لهم في مكيالهم، وبارك لهم في صاعهم ومدهم..)) أي أهل المدينة.
من كل ما تقدم يظهر أن المد مكيال صغير يقدر بملء كفي الإِنسان المعتدل، أو ما يقارب ثلاثة أرباع الكيلو من الطعام. وقد أشارت إليه المصادر هنا كوحدة من وحدات الكيل مرة وكإناء من الأواني المستخدمة في الغسل والطهارة. وفي غالب الأمر يظهر أن الإِشارة إليه في مصادر هذه الدراسة في معظم الأحوال المقصود منه بيان القدر الواجب من الماء في أمور الطهارة.
أما من حيث صناعته فلا يستبعد أنه كان يتخذ من الخشب مثل الصاع الذي لا يزال موجوداً إلى أيامنا هذه ومصنوع من الخشب.
المَكّوك:
((المَكُّوكُ: مكيال، وهو ثلاث كَيْلَجَات، والكَيْلَجَةُ، مناً وسبعةً أثمان المَنْ)).
وحسب ما جاء في مصدر آخر فإن المَكُّوكُ: طاسٌ يُشرَبُ به، وفي المحكم، طاس يشرب فيه، أعلاه ضيق ووسطة واسع... والمكوك مكيال معروف لأهل العراق، وهو صاع ونصف...)).
جاءت الإِشارة إلى المكوك في عدة أحاديث فقد روى عن أنس – رضي الله عنه – قال: كان النبي – صلى الله عليه وسلم – والمرأة من نسائه يغتسلان من إناء واحد، وكان يغتسل بخمس مكاكي ويتوضأ بمكوك.
وفي رواية أخرى عن أنس – رضي الله عنه – قال: كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يتوضأ بالمكوك وكان يغتسل بخمس مكاكي.
وفي رواية أخيرة لأنس – رضي الله عنه – قد لا يختلف كثيراً عن سابقاتها قال فيها: كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يغتسل بخمس مكاكيك ويتوضأ بمكوك.
من المعلومات السابقة يتضح بأن المكوك ربما كان في الأساس وعاء يشرب به، ثم امتدت الغاية منه إلى أن يستعمل كأداة كيل، وهو حسب الوصف السابق وعاء أعلاه ضيق ووسطة واسع وسعته صاع ونصف. ويعادل وزناً من الحنطة قدره 5.625 كيلو غرام تقريباً ويتسع لـ7.3 أو 7.77 لتراً من السائل.(/67)
وروايات الحديث السابقة لا تنص حرفياً على أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان يستعمل وعاء المكوك في وضوئه وغسله، بل الظاهر منها يفيد بأن الرسول – صلى الله عليه وسلم – كان يجزئه من الماء في وضوئه قدر مكوك. وفي غسله قدر خمس مكاكيك.
وهذا الإستنتاج لا ينفي استخدام ذلك الوعاء المعروف بالمكوك في الاستعمالات اليومية من وضوء وغسل ونحوه بالإِضافة إلى كونه مكيالاً.
الخاتمة
في ختام هذه الدراسة عن الآنية والأوعية المستخدمة في عصر الرسالة، على صاحبها (أفضل الصلاة والسلام)، يتبين، أن تلك المواد ليست بالكثيرة وربما يعود سبب ذلك إلى المصادر المستخدمة هنا لم تأت عليها جميعاً حيث إن المناسبة لم تدع لذلك، وهذا احتمال قوي. أو ربما تعود قلة تلك المواد إلى زهد القوم بمتاع الحياة، أو ربما لقلة ذات اليد، أو لكلا الأمرين معاً.
ويمكن تصنيف المواد التي جاءت عليها الدراسة من حيث أوجه استعمالها إلى خمس فئات هي:
1 - آنية الطعام، مثل: القدر والبرمة والجفنة والصحفة... الخ.
2 - آنية الشراب، مثل: الكوب والقعب، والكأس والغمر والقدح... الخ.
3 - أوعية وآنية السوائل: مثل السقاء، القربة، الوطب، العكة، والمركن والمخضب والقارورة... الخ.
4 - أوعية ذات استخدامات شتى، مثل: جراب، غرارة، مكتل، مزود وزبيل... الخ.
5 - وحدات الكيل، مثل: الصاع، المد، الفرق والمكوك.
ويمكن كذلك تصنيف هذه المواد من حيث مادة صناعتها إلى الآتي:
1 - ما يصنع من الجلد، مثل: السقاء والوطب والعكة والجراب والعلبة... الخ.
2 - ما يصنع من الحجارة أو الفخار والخزف، مثل: البرمة، وبعض الأنوار والقدور، والجرة والكوز والقلة والمركن... الخ.
3 - ما يصنع من المعادن، الحديد والنحاس، مثل: الطست، والأبزن والتور، والقمقم، المخضب... الخ.
4 - ما يصنع من الخشب، مثل: العس، والصحفة والجفنة والقعب... الخ.
5 - ما يصنع من الزجاج، مثل: القارورة والباطية وبعض أنواع الأقداح.(/68)
6 - ما يصنع من النخل وسعفه، مثل: النقير، وبعض الأقداح وكذلك الزبيل، والعرق والطبق والقناع... الخ.
7 - ما يصنع من بعض الأنسجة، مثل: الغرارة والجوالق والخرج.. الخ.
8 - ما يتخذ من القرع ((الدباء)) والذي يستخدم أوعية لحفظ النبيذ أو السمن.
إنه من الملاحظ على مواد هذه الدراسة أن غالبيتها مصنوعة من الجلد، ثم الفخار والخزف والحجارة وذلك بصورة أقل، ثم الخشب.
أما بقية المواد الأخرى التي صنعت من معادن أو زجاج أو حتى أنسجة فقد جاءت قليلة مقارنة بالمواد الثلاث الأولى.
وهذا الاستنتاج ربما يقود إلى حقيقة هامة وهي اعتماد القوم في ذلك الحين على خامات البيئة المحيطة بهم قدر الإِمكان.
ومن الملاحظ كذلك أن الغالبية العظمى من الآنية والأوعية الواردة في ثنايا هذه الدراسة ظلت معروفة بأسمائها واستعمالاتها في جزيرة العرب عبر القرون ولم تخل منها البيوت إلا في هذا العصر حيث تراجعت أمام منافسة الصناعات الحديثة وإن كان البعض من تلك الآنية والأوعية لا يزال مستخدماً في جنوب الجزيرة العربية حاضرة وبادية وربما في غيرها من بلاد العرب.
وفي الختام فإن يجدر التنبيه على أن المواد التي شملتها الدراسة هنا هي في غالبها وصفاً لبعض بيوت رسول الله، – صلى الله عليه وسلم – نقول للبعض منها وليس لكلها لأنه يكاد يكون من المستحيل الإِحاطة بها وذلك ليس بالطبع لكثرتها ولكن لقصور المصادر التي بين أيدينا عن الإِحاطة بها جميعاً.
ولا عجب أن لاحظ المرء كذلك أن مقتنيات بيوت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كانت بمثل تلك القلة والبساطة، فحياته كلها زهد وتقشف، وهو القائل ((مالي وللدنيا)). ويجب في هذا السياق أن لا يتبادر إلى الذهن بأن بيوت أهل المدينة قاطبة، كانت محتوياتها بمثل تلك القلة والتواضع. كلا! فالمرء لا يستبعد أن بعض أهل بيوت المدينة وغيرها كانوا على جانب كبير من الثروة ولديهم مقتنيات على جانب أكبر من النفاسة.(/69)
وأخيراً فإن الباحث يأمل أن تكون هذه الدراسة دعوة جادة للدارسين إلى أهمية العودة إلى مصادر السنة النبوية الشريفة من خلالها على بعض مظاهر حياة المسلمين في أيامها الأولى وذلك من خلال ما كان لديهم من مقتنيات مادة كالآنية والأوعية وغير ذلك لعلنا نفلح في النهاية في رسم صورة تقريبية لما كانت عليه حياة المجتمع في ذلك الحين.
والأمر الثاني الذي يرجوه الباحث هو أن تكون هذه الدراسة في بعض جوانبها قد نبهت إلى الحاجة الملحة ليقوم بعض المختصين بفقه اللغة إلى بحث موضوع بعض المسميات التي نستخدمها في حياتنا اليومية وفي بعض كتب التراث التي نغترف منها مادة علمنا، ومحاولة تسمية الأشياء بمسمياتها الصحيحة.
والله الهادي سواء السبيل
مسرد عام بمفردات الآنية والأوعية
الواردة في الدراسة
أبزن ... صاع ... مخضب
إبريق ... صحفة ... مد
إداوة ... طبق ... مرجل
باطية ... طست ... مركن
برمة ... عرق ... مزادة
تور ... عس ... مزود
جام ... عكة ... مطهرة
جراب ... علبة ... مكتل
جفنة ... عيبة ... مكوك
جوالق ... غرارة ... مهراس
حقيبة ... غمر ... ميضأة
حلاب ... فرق ... نحى
حنتمة ... قارورة ... نقير
خرج ... قدح ... وطب
دباء ... قدر ...
دلو ... قربة ...
دن ... قصعة ...
ركوة ... قعب ...
زبيل ... قفعة ...
زق ... قناع ...
سجل ... قلة ...
سطيحة ... قمقم ...
سقاء ... كأس ...
سكرجة ... كوب ...
شجب ... كوز ...
شن ... ماعون ...(/70)
العنوان: الاهتمام بالمتلقي ليس فتحاً حداثياً
رقم المقالة: 496
صاحب المقالة: د. وليد قصّاب
-----------------------------------------
أكتب هذا المقال وبين يديَّ عشراتُ المقالات والبحوث والدراسات والكتب التي تتحدَّث عن ((التلقِّي)) و((القراءة)) و((دور القارئ))، وأنواع القراءة والقرَّاء؛ فقارئ عادي، وقارئ ذكي، وثالث مُنتج، ورابع ضمنيّ، وما شاكل ذلك من مصطلحات كثيرة أفرزها هذا المنهج النقدي المسمَّى اليوم بـ((نظرية القراءة)) أو التلقِّي..
ولا يلفت النظرَ شيء إلا تلك الحماسةُ التي تصاحب كلَّ جديد، فإذا بها تُخرجه عن الموضوعيَّة، وإذا بأصحابه ينسَون إنجازات من تقدَّمهم، حتى كأنَّ ما يأتون به يُفتَح به عليهم أوَّل مرة، ولم يسبقهم أحدٌ إليه.
ففي هذا التلقِّي الذي نتحدَّث عنه تسمع من ينفي معرفةَ النقد العربيِّ به، وجعله من فُتوحات النقد الغربيِّ الحديث.
يقول أحد الباحثين: ((إن الاهتمام بالقارئ هو من فتوح النقد الغربيِّ الحديث.. وإذا استعرضنا تاريخَ النقد القديم نجد أن النقد ركَّز على النص وعلى مُبدع هذا النص، مُتجاهلاً – تجاهلاً تامّاً – القارئ.. كان هذا حالَ النقد العربيِّ القديم الذي انصبَّ اهتمامُه على النص الأدبيِّ ونسيجه[1]..)).
ولا كلام أكثر مجافاةً للحقيقة من هذا الكلام، وهو يدلُّ على أحد أمرين أو على كليهما معاً: على جهلٍ بتراث النقد العربيِّ والبلاغة العربية، أو على استهانة به واحتقار له، حتى كأنَّ ما أتَوا به لا يعدُّ شيئاً مذكوراً، أو لا يستحقُّ أن يُتَوَقّف عنده.
المتلقِّي في النقد العربيِّ:
إن الاهتام بالمتلقِّي – قارئاً أو مخاطَباً – هو من صُلب النقد العربيِّ القديم والبلاغة العربية، ولكنَّ هذا ((المتلقِّي)) لم يكن يسمَّى متلقياً، كان يسمَّى – في الغالب – ((المخاطَب)).(/1)
وهذا المخاطَب هو جزء هامٌّ من الأساس الذي بُنيت عليه البلاغة العربيَّة، وعُرِّفت به، حتى قالوا: ((البلاغة هي مراعاةُ مقتضى الحال))، والمخاطَب هو الرُّكن المكين في ((مقتضى الحال))، بل إن بعض الدارسين لا يصرف الحال إلا إلى المخاطَب، حتى كان يقال أحياناً: ((لكلِّ مخاطَب مقال))، وما أكثرَ ما نُقِد القائل لأنه لم يراعِ المخاطَب، ولم يعرف حاله! وما أكثرَ ما طُلب منه أن يكونَ من جماليات كلامه إنزالُ القول على قدر المخاطَب، بل تغييرُ ما قيل حتى يتناسَب معه.
وفي باب ما سمَّاه ابن رشيق ((باب الاتِّساع)) في معاني الشعر وكثرة دلالاتها، وتنوُّع القراءات فيها، نجد الربط الوثيق بين قوَّة ألفاظ الشعر التي تجعلها محمَّلة بطاقةٍ هائلةٍ من الدلالات، وبين القارئ القادر على استنباط ذلك.
يقول ابن رشيق: ((يقول الشاعر بيتاً يتَّسع فيه التأويل، فيأتي كلُّ واحد – أي من القرَّاء – بمعنى..))[2].
ويقول البغداديُّ كذلك في مثل هذا الربط والتأكيد على دور القارئ المؤوِّل، وحضوره الباهر في هذه العمليَّة: ((وإنما الكلامُ إذا كان قوياً.. احتمل لقوَّته وجوهاً من التأويل بحسب ما تتحمَّل ألفاظُه، وعلى مقدار قُوى المتكلِّمين فيه...))[3].
وها هو ذا المتنبِّي يتحدَّث عن دور القارئ في فَهم شعره وتأويله، فيقول:
أنامُ مِلْءَ جُفوني عَن شَوارِدِها ويَسهَرُ الخَلقُ جَرَّاها ويَختصِمُ
بل هاهو ذا المتنبِّي يمضي إلى أبعدَ من ذلك، فيجعل متلقِّي شعره، إذا كان ((قارئاً عارفاً)) مثلاً – بتعبير نظرية التلقِّي الحديثة – أقدرَ على إدراك أسرار الشِّعر من الشاعر نفسه، وهو يقدِّر لهذا المتلقِّي ذلك، ويعترف به.
أُثِر عن المتنبِّي أنه سُئل عن شعره فقال: ((اسألوا ابنَ جنِّي، فإنه أعرفُ بشعري منِّي)).(/2)
وعلى أن النقد العربيَّ كان أكثرَ موضوعية من نظرية التلقِّي الحداثيَّة في هذه القضية، إذ لم يجعل حرية المتلقِّي مطلقةً، بل قيَّدها – كما رأيتَ في النصوص القليلة التي أوردناها – باحتمالية لغة النص المُؤَوَّل، فالقارئ ليس حرّاً حرية مطلقةً في فهم النص، وتأويله كما يريد، مما قد يَخرُج به عن هذه الاحتمالية، ويجعله ألعوبةً في يد القارئ يفعل به ما يشاء بحُجَّة الإعلاء من دوره، وجعله كل شيء في العمليَّة النقدية.
وهكذا يبدو واضحاً أن الاهتمام بالقارئ ليس من فُتوح النقد الحداثي وما بعد الحداثي، بل إن هذا النقدَ قد أسرف وبالغ في قضيةٍ معروفة في تراثنا الأدبيِّ والنقدي، فخرج عن الموضوعيَّة في كلامه على القارئ ، إذ جعل حريته مطلقةً، على حين قيَّد ذلك النقدُ العربيُّ، فجعلها مرتبطة بـ((مَقصِديَّة النصِّ اللغويَّة)) أي بالداخل، وأحياناً بالخارج – كالمناسبة وظُروف النشأة مثلاً – حينما يكون هذا الخارجُ مفيداً مساعداً على فَهم الداخل واستخراجه.
وبدا هذا الربط واضحاً مؤكَّداً عليه عندما يكون التعاملُ مع النصِّ المقدَّس كالنصِّ القرآني مثلاً، إذ إن المؤوِّل – في مثل هذه الحالة – حذِرٌ شديد الحذر، ورِعٌ عظيم الورع، لا يتقحَّم، ولا يتجرَّأ، ولا يندفع من غير بصرٍ ولا رويَّة. إنه مطالبٌ أن يكونَ عالماً مطَّلعاً على عوالم النصِّ الداخليَّة والخارجيَّة، متمثِّلاً ذلك في فهم دلالة اللفظ القرآني، ومعرفة أُسلوب هذا الكتاب السماويِّ – الذي هو على أسلوبِ العرب وطرائقِهم في التعبير – معرفةً دقيقة عميقة، ثم كذلك في معرفة الخارج متمثِّلاً في مناسبة النزول، والناسخ والمنسوخ، والمكيِّ والمدني، والمحكَم والمتشابه، وما شاكلَ ذلك من ملابسات متعدِّدة.
ـــــــــــــــــــ
[1] د. غسان السيد، المجلة الثقافية، الجامعة الأردنية (العدد: 43، 1419هـ/1989م).
[2] العمدة، لابن رشيق: 2/93.(/3)
[3] خزانة الأدب، للبغدادي: 3/143 – 144.(/4)
العنوان: الأهداف والقيم
رقم المقالة: 280
صاحب المقالة: د. خالد بن عبدالرحمن الجريسي
-----------------------------------------
يكثر الحديث عن القيم وأهميتها البالغة في حياة الفرد والجماعات، لما لها من ارتباط وثيق وتأثير مباشر على سلوك الفرد وأهدافه، فهو يبذل جهداً متناسباً مع قيمة الهدف الذي يسعى إلى تحقيقه، والمعني بالقيمة هنا مدى تقدير هذا الفرد واهتمامه - من خلال المعايير الثابتة لديه وخبرته المتراكمة - بهذا الهدف، الأمر الذي يُشعره أن لديه مبررات خلقية أكيدة، ودواع منطقية قوية تلزمه العمل على تحقيق ذلك الهدف، فالقيم ليست - بهذا الاعتبار - سوى موجهات عامة للسلوك ومرجعيات يلتزم بها الأفراد عندما يتبنون سلوكاً معيناً. فهي تحدد ما يعتبره الفرد صواباً أو "أخلاقياً". وتزوده بالمعايير التي يسترشد بها في حياته اليومية، وتساعده في تشكل توجهاته في مختلف القضايا. ولا نغفل دور القيم التي يتبناها الفرد في التأثير على اختيار الأشخاص الذين يتفاعل معهم لتحقيق أهدافه. وبالجملة فإن للقيم العامة لدى الفرد تأثير قوي على تحديد أهداف الفرد، واعتماده سلوكيات تحقق ذلك.
ونحن في العمل داخل المنظمات نعتمد قيماً تشكل بدورها جزءاً من القيم العامة التي نمتلكها يطلق عليها قيم العمل، وهي مجموعة من الموجهات السلوكية التي تحدد سلوك الفرد في عمله من حيث اختياره لهذا العمل، وأهدافه منه،وأدائه له، وتحقيقه لنتائجه، ومن تلك القيم : النزاهة في العمل والصدق والأمانة والإخلاص والولاء وحسن الإنجاز وغيرها... وإن جميعها مؤثر - ولا شك - على السلوك والأداء الكلي للعاملين. وتأسيساً عليه، فإننا لو أردنا أن نفسر تصرفات وسلوكيات وظيفية فإنه يتعين علينا البحث عن الدوافع لذلك وتفهّم مجموعة القيم التي تحكم مثل هذا السلوك ومحاولة السيطرة عليه بغية تحقيق الأهداف ضمن قيم صحية تنعكس سلوكيات صحيحة.(/1)
وهكذا فإن الفرد يخضع أثناء أدائه لعمله لتوجهات قيمية هي التي تحدد أشكال الأداء والنتائج، لذا، فإنه يتعين علينا - كممارسين للإدارة - إذا أردنا أن نكوِّن فهماً دقيقاً لمشاكل العمل والصراعات بين العاملين، وعوائق الاتصال بينهم، وانخفاض الروح المعنوية لديهم، ومعدلات الأداء العام، وغيرها من مشاكل العمل: أن نبدأ أولاً بتحديد قيم العمل داخل منظماتنا، ومن ثمّ تحديد مدى تكاملها مع القيم التي يلتزم بها مرؤوسينا، عندها يمكننا تجنب عدد كبير من مشاكل العمل، ما يساعدنا في وضع نظام فعال لعملية الاختيار، وذلك من خلال التوفيق بين قيم الفرد ومتطلبات الوظيفة لتحقيق أهداف المنظمة. فالأهداف مرتبطة بنوعية القيم التي تدفع إليها، مع حرصنا على أن تكون هذه القيمة أخلاقية لتكون الأهداف مقبولة.(/2)
العنوان: الأيام الأخيرة لفتح في غزة المجاهدة
رقم المقالة: 959
صاحب المقالة: توفيق أحمد
-----------------------------------------
لم تستطع المدينة، التي شهدت حدوث عدد لا يحصى من المواجهات، وسقوطَ آلاف الشهداء؛ أن تستوعب مدةً أطول وجودَ فصيلين مسلحين، تقدم إحداهما المقاومةَ قيمةً جهاديةً إسلاميةً على حساب أي شيء آخر، ويقدِّم الآخر مصالحه الشخصية على حساب القضية الفلسطينية برمتها.
سنوات طويلة مضت، كانت فيها المقاومة الفلسطينية المسلحة واحدة في الهدف، وواحدة في المصير، وواحدة في الرؤية، قبل أن تنضم حركة (فتح) إلى ركب الذين وقعّوا؛ للتنازل عن القضية الفلسطينية، مقابل وعود يهودية، معلوم أنها لن تتحقق.
ذهب ياسر عرفات - زعيم التنظيم، الذي أطلق عليه فيما بعد اسم: "رئيس السلطة الفلسطينية!" - ليوقع اتفاقية سلام مع الحكومة الإسرائيلية، برعاية أمريكية، لم تكن لتنحاز يوماً إلا لمصلحة الإسرائيليين.
وقف مادّاً يده في الهواء، (لإسحاق رابين) - رئيس الحكومة الإسرائيلية آنذاك - قبل أن يمد (رابين) يده، مصافحاً إياه بشيء من (القرف)، كما اعترف بذلك (رابين) نفسه فيما بعد.
ومع أن الاتفاقية كانت - برمتها - لصالح الإسرائيليين؛ إلا أن اليهود كانوا يحلمون بأكثر من ذلك، فاتهموا (رابين) بالتخاذل والتنازل، فخرج من بين الحشود شاب متطرف يدعى (عامير)، أطلق النار عليه فأرداه قتيلاً!
كانت الرسالة واضحة للإسرائيليين: أن الاتفاق مع الفلسطينيين عارٌ يلحق بأي رئيس صهيوني، لذلك لم يأت - مِن بعد (رابين) - مَن وضع يده في يد الفلسطينيين مرة أخرى إلا في اتفاقات أكلت من الاتفاق الأول، ومهدّت له الطريق إلى القبر!(/1)
وهكذا حدث، فبعد سنوات من الفرح الفلسطيني، بانتصار وهمي لـ(فتح)؛ بدأت مسيرة المماطلات، فتأجل إعلان الدولة الفلسطينية إلى (يونيو) 2002م، ثم تأجل أخرى إلى عام 2005م، ليغيب أي تاريخ حقيقي - بعد ذلك - لتحقق ما حلم به الرئيس الفلسطيني عرفات، قبل أن يموت.
المفارقة أنه في الوقت الذي كان فيه اليهود حزانى على ما قام به (إسحاق رابين) من اتفاق مع الفلسطينيين؛ كان الفرح عامراً في قلوب الفتحيين بالحصول على "كرسي رئاسة!"، ووثيقة عالمية تقر بوجود "فلسطين"!! على أراض لا تتجاوز مساحتها 15% من مساحة فلسطين المحتلة!
لم يكن هناك خيار آخر أمام حركات المقاومة الأخرى إلا الاستمرار في النضال، والمضي في طريق الحل العسكري، الذي أثبت أنه أفضل الحلول وأقصر الطرق للوصول إلى الحق، فبرزت حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، وشقيقتها حركة الجهاد الإسلامي، والعديد من الفصائل الأخرى، كلجان المقاومة الشعبية، وغيرها.
وبامتياز؛ قادت حماس دفة الصراع العسكري مع الإسرائيليين، فطوّرت أسلحة محلية الصنع، واكتفت بالقليل الموجود لديها من مال وعتاد لمقارعة الاحتلال، فنفَّذت - في المدن المحصنة التي احتلها - عدة عمليات موجعة، أسفرت عن حالة من الهجرة العكسية لليهود خارج فلسطين، وأفهمت الصهاينة أن الحل إما أن يكون عادلاً، وإما أن يكون مميتاً.
لم يعد بالإمكان إلا أن تزرع الدولة العبرية الخلاف بين الفلسطينيين أنفسهم، وهذا ما حصل؛ بعد سنوات من الاتفاقات واللقاءات، بين قادة فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية من جهة، وبين الإسرائيليين من جهة أخرى، برعاية أمريكية احترافية، أعلنت - وتعلن على الدوام - وقوفها إلى جانب فتح والمنظمة!!!
ولأن محمود عباس كان من أوائل الذين التقوا مع الإسرائيليين بالخفاء، منذ عام 1968؛ فقد كان الأجدر بثقة الإسرائيليين، هو ومحمد دحلان، الذي حقق - بامتياز - حرفة "العمالة" لصالح قادة اليهود.(/2)
ساهم كل هذا، بالإضافة إلى وصول حركة حماس إلى الحكم بانتخابات نزيهة، هي بكل الأحوال أكثر نزاهة آلاف المرات من تلك التي تحدث في كثير من أصقاع العالم؛ ساهم ذلك في إطلاق أولى شرارات الخلاف المسلح بين الفصيلين؛ الأول الذي يمثله تيار حماس الإسلامي، الذي لا يزال ملتزماً بالخيار العسكري، وبالجهاد في سبيل تحرير الأقصى، وكان يمكن للعملية الديمقراطية أن تعطيه فرصة كاملة لترشيح رئيس جديد للسلطة الفلسطينية، خلفاً لعباس.
أما الفصيل الثاني، فهو فصيل فتح ومنظمة التحرير، التي نخرت العمالةُ كلَّ جزء من أجزائها، فأضحت مطية للخيارات الإسرائيلية، ومنفِّذة للقرارات الصهيونية، على حساب الجميع.
كان لابد أن يحدث الخلاف بين الفصيلين، فغزة التي صمدت عشرات السنين أمام الاحتلال الإسرائيلي؛ لم تعد تطيق وجود عملاء فلسطينيين فيها، بعد أن امتلأت بالجواسيس الذين حددوا تحركات قادة حماس والجهاد فيها، فأصبحوا تحت نيران الصواريخ الإسرائيلية اغتيالاً وقتلاً، وامتلأت بأذناب السلطة الفلسطينية، التي حملت على عاتقها حماية الحدود الإسرائيلية من المجاهدين الفلسطينيين!! فأوقفت بالقوة تهريب الأسلحة من معابر الدول العربية، وإدخال الأموال من المتبرعين في الخارج للحكومة، ومنعت أي فلسطيني من التوجه إلى داخل الأراضي المحتلة لتنفيذ عمليات فدائية أو جهادية.
كانت حامية حقيقية للإسرائيليين! وعندما لم يستطع جنودها الوقوف في وجه الصواريخ التي كانت تطلق من مناطق داخلية؛ لم تحرّك ساكناً قطُّ لدى رؤيتها القوات الإسرائيلية تجتاح المخيمات والمدن الفلسطينية لقتل الفلسطينيين، المجاهدين منهم والمسالمين!! ولم تتحرك للوقوف في وجه الجرَّافات الإسرائيلية، وهي تدك وتهدم منازل الأسر الفلسطينية!! ولم تفكر في استخدام طلقة رصاص واحدة في وجه العملاء الإسرائيليين!!!(/3)
فالاتفاقات مع قادة اليهود تحذّر السلطة وجنودها من استخدام الأسلحة - التي أمدتها بها تل أبيب وواشنطن - في وجه الإسرائيليين؛ إذ إنها يجب أن توجه فقط إلى الفلسطينيين، ليس إلى أحد غيرهم!!
وقد حدث بالفعل ما كان يجب أن يحدث، فاستخدمت السلطة أسلحتها في وجه المجاهدين الفلسطينيين من حماس وغيرهم، وزَوَّدَت حركةَ (فتح) المواليةَ لها بالأسلحة الإسرائيلية والأمريكية المختلفة؛ لمواجهة حماس وحكومتها، وضيّقت الخناق على الفلسطينيين في غزة؛ بحجة "نشر الأمن"، وقتلت الفلسطينيين بالأسلوب الإسرائيلي ذاته، فقد أظهرت لقطة (فيديو) - لأحد المدنيين - عناصر من فتح تطلق النار على فلسطيني ملتحٍ؛ لأنه اشتبه عليهم انتماؤه لحماس، وتتركه ينزف أمام أعين الناس، كي يموت ببطء!!
فلسطين صبرت مع حماس، وقدمت الشهداء يوماً بعد يوم، وواصلت مسيرتها التي أقرتها الأمهات قبل الأبناء، في الصمود والبسالة، فعاشت الحصار والدمار، عاشت خنق العالم الغربي والعربي لها؛ بسبب وجود حركة إسلامية في السلطة، وعاشت التدمير الذي مارسته الآلة العسكرية الإسرائيلية باستمرار.
ولكنها لم تصبر على مزيد من الخونة، فقررت حركة حماس تطهيرها من أتباع اليهود، ومن الذين يوالون أمريكا أكثر من الأمريكيين أنفسهم، ومن الذين فرضوا على الحكومة وجود قوات مسلحة في الشوارع غير القوات الحكومية؛ بحجة نشر الأمن، فحصلت مصادمات مسلحة، انتهت بفوز حماس، ونشر قواتها الحكومية في كل أرجاء غزة، فتوقفت الدماء عن النزف، وهرب عشرات المنتمين لفتح إلى داخل الأراضي المحتلة، أو إلى مصر.(/4)
وحينما بدا للجميع أن الحكومة الإسلامية متماسكة برغم كل ما يحدث، وبدا أنها ماضية في سبيل تغيير المعالم السياسية لفلسطين، في الحكومة والبرلمان والسلطة ذاتها، بعد وقت ليس بالطويل، متمسكة برفض التطبيع مع الإسرائيليين والموافقة على معاهدات الاستسلام التي أقرتها فتح مع القادة الإسرائيليين؛ رأت منظمة التحرير الفلسطينية وحركة فتح، أن الوقت حان لاستخدام خيار قانوني فرضته السلطة في الحكم، وهو حل الحكومة الفلسطينية، وإعلان حكومة طوارئ، وإجراء انتخابات مبكرة.
وعلى الفور، رحّبت الولايات المتحدة بهذا القرار، وأعلنت التزامها بمساندة محمود عباس، كما أعلن الاتحاد الأوروبي على الفور وقوفَه إلى جانب عباس، قائلاً: "إن الرئيس الشرعي لكل الفلسطينيين هو محمود عباس"! خاصة وأنه وقّع مع الاتحاد الأوروبي (الطرفِ الرئيس في الرباعية الدولية) وثيقةَ للسلام، التي تقر بوجود دولة إسرائيلية، وتعلن رفضها الجهاد أو حمل السلاح ضد الصهاينة، الذين يتملكون ويستخدمون أفضل الأسلحة المتطورة في العالم.
أما بريطانيا (الحليف الدائم للأمريكيين) فقد وصفت وزيرة خارجيتها (مرجريت بيكيت)، عناصر حماس بأنهم "متطرفون مسلحون، يعرقلون السلام بين الدولتين"، وقالت: "إن حماس ترتكب خطأ إذا حاولت أن تجني ثمار ما أسمته (انقلاباً) في غزة".
واشنطن وتل أبيب قررتا المضي على نحو أوسع من ذلك في تأييد عباس وفئته المتعاونة، لذلك؛ يدرس القادة اليهود والأمريكيون حالياً فك الحصار عن الضفة الغربية - التي يسيطر عليها عباس وتنظيمه - بحجة دعم حكومة الطوارئ الجديدة، التي أعلن عنها عباس، بقيادة سلام فياض.
وفي الوقت الذي تعتقل فيه حركةُ فتح قادةَ حماس في طولكرم والضفة وغيرها، وتقوم بإعدام بعضهم؛ قامت حكومة حماس في غزة، بإصدار عفو عام عن كل قادة فتح، الذين استغلوا نفوذهم في سبيل تطويق حركة حماس في السابق، وقتل أعضائها.(/5)
اليوم، تعيش الأراضي الفلسطينية حالة عدم توازن، حالةً قد تعيد القضية الفلسطينية سنوات طويلة إلى الوراء، ولا بد أن الدول الغربية - وخاصة تل أبيب وواشنطن وحلفاءهم - ستحاول - عبر هذه الحالة - أن تُقوِّض حماس، وتُضيِّق عليها الخِناق في غزة، لتُقتَلَ جوعاً وقصفاً!
وربما هذا ما يعزي الفلسطينيين الذين يوالون حماس!! فلو أن تل أبيب أنعمت عليهم بفك الحصار، وبالتمويل والتموين؛ لثبت أنهم خونة وعملاء، ولكنهم لا يزالون مرابطون في أرض الرباط.
السؤال الأهم من ذلك هو: كيف سيتعامل العرب والمسلمون مع هذه القضية؟!(/6)
العنوان: الأيام العشر من ذي الحجَّة
رقم المقالة: 1791
صاحب المقالة: سعد بن سعيد الحجري
-----------------------------------------
الأيام العشر من ذي الحجَّة
ملخص الخطبة
1- الله يصطفى ما يشاء ويختار من خلقه.
2- بركة الطاعة وفوائدها.
3- فضائل عشر ذي الحجَّة.
4- فضل يوم عرفة.
5- فضل يوم النَّحر.
6- أعمال يُندَب لها في عَشْر ذي الحجَّة.
-------------------------
الخطبة الأولى
أما بعد:
فيا أيها المسلمون، اتقوا الله الذي يخلق ما يشاء ويختار، خلق السماوات واختار منها السابعة، وخلق الجنَّات واختار منها الفردوس، وخلق الملائكة واختار منهم جبريل وميكائيل وإسرافيل، وخلق البشر واختار منهم المؤمنين، واختار من المؤمنين الأنبياء، واختار من الأنبياء الرسل، واختار من الرسل أولي العزم، واختار من أولي العزم الخليلين، واختار من الخليلين محمَّدًا - صلَّى الله عليه وسلَّم وعليهم أجمعين - وخلق الأرض واختار منها مكة، وخلق الأيام واختار من أشهرها شهر رمضان، ومن أيامها يوم الجمعة، ومن لياليها ليلة القدر، ومن ساعاتها ساعة الجمعة، ومن عَشْرها عَشْر ذي الحجَّة.
والمسلم يعيش مباركًا في العمل وفي الزمن، وأعظم البركة في العمل الطاعةُ؛ إذ هي بركة على أهلها كما يقول تعالى: {مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160]، وكما يقول صلَّى الله عليه وسلَّم: ((إن الله كتب الحسنات والسيئات، ثم بيَّن ذلك، فمَنْ همَّ بحسنةٍ فلم يعملها كتبها الله عنده حسنةً كاملةً، ومَنْ همَّ بحسنةٍ فعملها كتبها الله عنده عشر حسنات، إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة، ومَنْ همَّ بسيئة فلم يعلمها كتبها الله عنده حسنةً كاملةً، ومَنْ همَّ بسيئةٍ فعملها كتبها الله سيئةً واحدةً، ولا يهلك على الله إلا هالك)).(/1)
وهذا يدلُّ على أنَّ الطاعة بركةٌ في القَوْل؛ إذ الكلمة الواحدة من الطاعة بعشر حسنات؛ يكتب الله بها رضوانه، فيحفظ بها عبده حتى يُدخله الجنة، ويرضى عليه في الجنة؛ فلا يسخط عليه أبدًا.
والطاعة بركةٌ في العمل؛ إذ الصلاة بعشر صلوات كما في الحديث القدسي: ((أمضيتُ فريضتي، وخفَّفْتُ عن عبادي))؛ فهي خمسٌ في الفعل وخمسون في الأجر والثواب.
وصوم رمضان بعشرة أشهر؛ كما في الحديث: ((رمضان بعشرة أشهر، وستُّ شوال بشهرَيْن))، ((والصدقة بسبعمائة ضِعف))، ((والحج المبرور ليس له جزاءٌ إلا الجنة)).
والطاعة طُهْرَةٌ من الذنوب؛ فالصلاة طُهْرَةٌ من الذنوب، كما في الحديث: ((مَثَل الصَّلوات الخمس كمثل نهر غمر على باب أحدكم، يغتسل منه خمس مرات في اليوم والليلة، هل يبقى عليه من الدَّرَن شيءٌ؟!)).
والصوم طُهْرَةٌ من الآثام، كما في الحديث: ((جاءني جبريل؛ فقال: مَنْ أدرك رمضان فلم يُغْفَر له أبعده الله، قل: آمين))؛ فقلتُ: آمين.
ومَنْ صامه وقامه وقام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا؛ غُفر له ما تقدَّم من ذنبه. و: ((الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار))، و: ((مَنْ حج فلم يرفث ولم يفسق؛ رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمَّه)).
والطاعة بركةٌ في التعامل؛ إذ بالتعامل الحسن يدرك الإنسان درجة الصائم القائم، ويجاور الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - ويحظى ببيتٍ في أعلى الجنة، ويدخل الجنة، ويكمل إيمانه، ويثقل ميزانه.
وأعظم الزمن بركةً: عَشْر ذي الحجَّة؛ إذ لها مكانةٌ عظيمةٌ عند الله تعالى، تدلُّ على محبَّته لها وتعظيمه لها؛ فهي عَشْرٌ مباركاتٌ كثيرةُ الحسنات، قليلة السيِّئات، عالية الدَّرجات، متنوِّعة الطَّاعات.(/2)
فمن فضائلها: أنَّ الله تعالى أقسم بها فقال: {وَلَيالٍ عَشْرٍ} [الفجر: 2]، ولا يقسم تعالى إلا بعظيم، ومما يدلُّ على ذلك: أن الله لا يقسم إلا بأعظم المخلوقات، كالسماوات والأرض والشمس والقمر والنجوم والرياح، ولا يقسم إلا بأعظم الأزمان، كالفجر والعصر والضحى والليل والنهار والعشر، ولا يقسم إلا بأعظم الأمكنة، كالقسم بمكة، وله أن يقسم من خلقه بما يشاء، ولا يجوز لخلقه أن يقسموا إلا به، فالقَسَم بها يدلُّ على عظمتها ورفعة مكانتها وتعظيم الله لها.
ومن فضائلها: أنَّ الله تعالى قرنها بأفضل الأوقات، والقرين بالمقارَن يقتدي؛ فقد قرنها بالفجر وبالشفع والوتر وبالليل.
أما اقترانها بالفجر: فلأنه الذي بحلوله تعود الحياة إلى الأبدان بعد الموت، وتعود الأنوار بعد الظُّلْمَة، والحركة بعد السكون، والقوَّة بعد الضعف، وتجتمع فيه الملائكة، وهو أقرب الأوقات إلى النزول الإلهي في الثُّلُث الأخير من الليل، وبه يُعرف أهل الإيمان من أهل النفاق.
وقرنها بالشفع والوتر: لأنهما العددان المكوِّنان للمخلوقات، فما من مخلوق إلا وهو شفعٌ أو وترٌ، وحتى العَشْر فيها شفعٌ، وهو النحر، وفيها وترٌ، وهو عرفة.
وقرنها بالليل لفضله؛ فقد قُدِّم على النهار، وذُكِرَ في القرآن أكثر من النهار، إذ ذُكِرَ اثنتين وسبعين مرَّة، والنهار سبعًا وخمسين مرَّة، وهو أفضل وقتٍ لنَفْل الصَّلاة، وهو أقرب إلى الإخلاص؛ لأنه زمن خُلْوَةٍ وانفراد، وهو أقرب إلى مراقبة الربِّ تعالى؛ إذ لا يراه ولا يسمعه ولا يعلم بحاله إلا الله، وهو أقرب إلى إجابة الدُّعاء وإلى إعطاء السؤال ومغفرة الذنوب؛ إذ يقول الربُّ في آخِره: ((هل من داعٍ فأجيبه، وهل من سائلٍ فأعطيه، وهل من مستغفرٍ فأغفر له؟)).(/3)
مُيِّز به أهل الجنة في قوله تعالى: {كَانُواْ قَلِيلًا مّن اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات: 17]، وفي قوله: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [السجدة: 16]، وميِّز به عباد الرحمن في قوله: {وَعِبَادُ الرَّحْمَانِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَمًا * وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} [الفرقان: 63-64]، قال بعض السلف: "لولا الليل ما أحببتُ العَيْش أبدًا"، وقال آخَر: "لم يبقَ من لذَّة الدُّنيا إلا قيام الليل وصلاة الجماعة وصُحْبَة الصَّالحين".
ومن فضائلها: أنَّ الله تعالى أكمل فيها الدِّين؛ إذ تجتمع فيها العبادات كلِّها، وبكمال الدِّين يَكْمُل أهله، ويَكْمُل عمله، ويَكْمُل أجره، ويعيشون الحياة الكاملة التي يجدون فيها الوقاية من السيئات، والتلذُّذ بالطَّاعات، ومحبَّة المخلوقات.
وبكمال الدِّين تنتصر السنَّة، وتنهزم البدعة، ويقوى الإيمان، ويموت النفاق.
وبكمال الدين ينتصر الإنسان على نفسه الأمَّارة بالسوء؛ لتكون نفسًا مطمئنة تعبد الله كما أراد، وتقتدي بالأنبياء، وتصاحب الصالحين، وتتخلَّق بالأخلاق الحسنة.
وبكمال الدين ينتصر الإنسان على شيطانه الذي شطَّ ومال به عن الصِّراط المستقيم، وينتصر على الهوى والشهوات.(/4)
وقد كَمُلَ الدِّين حتى تركنا الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - على المحجَّة البيضاء؛ ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالكٌ شقيٌّ. وقد حسدنا اليهود على هذا الكمال؛ قال حَبْرٌ من أحبار اليهود لعمر - رضيَ الله عنه -: آيةٌ في كتابكم لو نزلت علينا معشر اليهود؛ اتَّخذنا ذلك اليوم الذي نزلت فيه عيدًا: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلاَمَ دِينًا} [المائدة: 3]. قال عمر: إني أعلم متى نزلت، وأين نزلت. نزلت يوم عرفة في يوم جمعة.
وكمال الدِّين يدلُّ على كمال الأمَّة وخيريَّتها.
ومن فضائلها: أن الله أتمَّ فيها النعمة؛ إذ تنعم الأرواح بشتَّى أنواع الطاعات القَوْليَّة والفعليَّة والتعامليَّة.
ومن تمام النِّعمة: أن الله فتح قلوب العباد للإسلام، فدخل الناس في دين الله أفواجًا؛ إذ كان عددهم عند تمام النعمة أكثر من مائة ألف.
ومن تمام النعمة: أن الله أظهر الإسلام على جميع الأديان؛ إذ كان في الجزيرة أديانٌ متنوِّعةٌ؛ منها: اليهودية، والنصرانية، والمجوسية، والوثنية، والنفاق، فأُبيدت بالإسلام، وظهر عليها الإسلام؛ قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [الفتح: 28].
ومن تمام النِّعمة: منع الكفار من دخول الحَرَم، واختصاص المسلمين بذلك، فتوحَّدت صفوف المسلمين حتى أصبحوا كالجسد الواحد، ووحَّدوا معبودهم، وتوحَّد دينهم، وتوحَّدت كلمتهم، وتوحَّد طريقهم، ويا لها من نعمة عظيمة أن ترى أهل الإيمان ظاهرين وأهل الكفر مهزومين.(/5)
ومن فضائلها: أن العبادات تجتمع فيها ولا تجتمع في غيرها، فهي أيام الكمال، ففيها الصلوات كما في غيرها، وفيها الصَّدقة لمَنْ حال عليه الحَوْل فيها، وفيها الصوم لمَنْ أراد التطوع أو لم يجد الهَدْي، وفيها الحجُّ إلى البيت الحرام ولا يكون في غيرها، وفيها الذِّكْر والتَّلْبية والدعاء الذي تدلُّ على التوحيد، واجتماع العبادات فيها شرفٌ لها لا يضاهيها فيه غيرها، ولا يساويها سواها.
ومن فضائلها: أنها أفضل أيام الدُّنيا على الإطلاق، دقائقها وساعاتها وأيامها وأسبوعها، فهي أحبُّ الأيام إلى الله تعالى، والعمل الصالح فيها أحبُّ إلى الله تعالى؛ فهي موسم للرِّبح، وهي طريق للنَّجاة، وهي ميدانُ السَّبْق إلى الخيرات؛ لقوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ما من أيامٍ العمل الصالح فيها أحبُّ إلى الله تعالى من هذه الأيام))؛ يعني أيام العَشْر. قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ((ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجلٌ خرج بنفسه وماله، فلم يرجع من ذلك بشيء))، وهذا يدل على أن العمل في أيام العشر أفضل من الجهاد بالنفس، وأفضل من الجهاد بالمال، وأفضل من الجهاد بهما والعودة بهما أو بأحدهما؛ لأنه لا يَفْضُل العمل فيها إلا مَنْ خرج بنفسه وماله، ولم يرجع لا بالنفس ولا بالمال.
وقد روي عن أنس بن مالك – رضيَ الله عنه - أنه قال: "كان يُقال في أيام العَشْر: بكل يوم ألف يوم، ويوم عرفة بعشرة آلاف يوم"؛ يعني: في الفضل.
وروي عن الأوزاعي قال: "بلغني أنَّ العمل في يوم من أيام العَشْر كقدر غزوةٍ في سبيل الله، يُصام نهارها ويُحرَس ليلها؛ إلاَّ أنْ يختصَّ امرؤٌ بالشَّهادة.(/6)
ومن فضائلها: أن فيها يوم عرفة، وهو اليوم التاسع من ذي الحجَّة، وهو يومٌ معروفٌ بالفضل وكثرة الأجر وغفران الذنب؛ فهو يومٌ مجيدٌ، يعرف أهله بالتوحيد؛ إذ يقولون: لا إله إلا الله، وقد قال صلَّى الله عليه وسلَّم: ((وخير ما قلتُ أنا والنبيُّون قبلي: لا إله إلا الله))، ويعرف الإنسان ضعف نفسه؛ إذ يُكْثِر من الدُّعاء، ويلحُّ على الله في الدُّعاء، وفي الحديث: ((خير الدُّعاء دعاء يوم عرفة))، ويعرف إخوانه المسلمين الذين اجتمعوا من كلِّ مكانٍ في صعيدٍ واحد، ويعرف عدوَّه الذي ما رُئِيَ أصغر ولا أحقر منه في مثل يوم عرفة، ويعرف كثرة مغفرة الله في هذا اليوم؛ لكثرة أسباب المغفرة، من توحيد الله، ودعائه، وحفظ جوارحه، وصيامه لغير الحاجِّ.
وهو يوم الحجِّ الأعظم؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((الحج عرفة))، وصومه تطوُّعًا يكفِّر ذنوب سنتين: سنة ماضية وسنة مقبِلة، وما علمتُ هذا الفضل لغيره؛ فكأنه حفظ للماضي والمستقبل.
ومن فضائلها: أنَّ فيها يوم النَّحر، وهو اليوم العاشر من ذي الحجَّة، وهو أفضل الأيام كما في الحديث: ((أفضل الأيام يوم النَّحْر))، وفيه معظم أعمال النُّسُك: من رمي الجمرة، وحَلْق الرَّأس، وذبح الهَدْي، والطَّواف، والسَّعي، وصلاة العيد، وذبح الأُضحية، واجتماع المسلمين في صلاة العيد، وتهنئة بعضهم بعضًا.
الخطبة الثانية
أما بعد:
ففضائل العَشْر كثيرةٌ؛ لا ينبغي للمسلم أن يضيِّعها؛ بل ينبغي أن يغتنمها، وأن يسابِق إلى الخيرات فيها، وأن يشغلها بالعمل الصَّالح.(/7)
ومن الأعمال المشروعة فيها: الذِّكْر؛ يقول تعالى: {لِيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ فِى أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} [الحج: 28]، وروى الإمام أحمد عن ابن عمر، أنَّ النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((ما من أيامٍ أعظم عند الله ولا أحبُّ إليه من العمل فيهنَّ من هذه الأيام العَشْر، فأكثروا فيهنَّ من التَّهليل والتَّكبير والتَّحميد))؛ قال الشيخ أحمد شاكر – رحمه الله -: "وإسناده صحيح"، وكان أبو هريرة وابن عمر - وهما أكثر الصحابة روايةً للحديث، وأكثرهم اتِّباعًا للسنَّة - إذا دخلت عَشْر ذي الحجَّة يخرجان إلى السوق، يكبِّران كلٌّ على حِدَتِه، فإذا سمعهم الناس تذكَّروا التَّكبير، فكبَّروا كلَّ واحدٍ على حِدَتِه، وهذا التَّكبير المطلَق، ويُكثِر مع التكبير من التَّسبيح والتَّهليل والتَّحميد والذِّكر، ويُكثر من قراءة القرآن؛ فإنه أفضل الذِّكر، وفيه الهدى والرحمة والبركة والعظمة والتأثير والشفاء.(/8)
وليعلم المسلم بأن الذِّكْر هو أحبُّ الكلام إلى الله تعالى، وهو سبب النَّجاة في الدُّنيا والآخِرة، وهو سبب الفلاح، وحفظٌ لصاحبه من الكفر ومن الشيطان ومن النار، به يُذْكَر العبد عند الله، ويصلِّي الله وملائكته على الذِّاكر، وهو أقوى سلاح، وهو خير الأعمال وأزكاها وأرفعها في الدَّرجات، وخيرٌ من النَّفقة، به يضاعف الله الأجرَ، ويغفر الوِزْرَ، ويُثْقِل الميزان، ومجالسه هي مجالس الملائكة ومجالس الرُّسل، ومجالس المغفرة والجنَّة والإيمان والسعادة والرَّحمة والسَّكينة، وفضائله كثيرة، قرنه الله بالصلاة فقال: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصلاةَ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ} [النساء: 103]، وقرنه بالجمعة فقال: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاةُ فَانتَشِرُواْ فِي الأَرْضِ وَابْتَغُواْ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُواْ اللَّهَ} [الجمعة: 10]، وقرنه بالصوم فقال: {وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 185]، وقرنه بالحجِّ فقال: {فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} [البقرة: 200]، وقرنه بالجهاد فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللَّهَ} [الأنفال: 45]، ولا يتقيَّد بزمنٍ ولا حال، أمر الله به على جميع الأحوال فقال: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصلاةَ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ} [النساء:103].(/9)
ويكثر من نوافل الصلوات بعد الفرائض، كالرواتب التي قبل الفرائض وبعدها، وهي اثنتا عشرة ركعة، أربع قبل الظهر، وركعتان بعدها، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء، وركعتان قبل الفجر. ويواظب على النوافل المقيَّدة، مثل أربع قبل الظهر، وأربع بعدها، وأربع قبل العصر، وركعتان قبل المغرب، وصلاة الليل، وهي إحدى عشرة ركعة كما في السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يواظب عليها ويقضيها وقت الضحى لو نام عنها، وصلاة الضحى ركعتان أو أكثر، فالمحافظة على النوافل سببٌ من أسباب محبَّة الله، ومَنْ نال محبَّة الله حفظه وأجاب دعاءه، وأعاذه ورفع مقامه؛ لأنها تكمل النَّقص وتجبر الكسر وتسدُّ الخََلَل.
ويُكْثِرُ من الصدقة في العَشْر؛ إذ الصَّدقة فيها أفضل من الصَّدقة في رمضان، وما أكثر حاجات الناس في العَشْر من النفقة والاستعداد للحج وللعيد وطلب الأضحية ونحوها، وبالصَّدقة ينال الإنسان البرَّ، ويضاعَف له الأجر، ويُظلُّه الله في ظلِّه يوم القيامة، ويفتح بها أبواب الخير، ويغلق بها أبواب الشرِّ، ويفتح فيها باب من أبواب الجنة، ويحبَّه الله ويحبَّه الخَلْق، ويكون بها رحيمًا رفيقًا، ويزكي ماله ونفسه، ويغفر ذنبه، ويتحرَّر من عبودية الدِّرهم والدِّينار، ويحفظه الله في نفسه وماله وولده ودنياه وآخِرته.
ويُكْثِر من الصيام في أيام العَشْر، ولو صام التسعة الأيام لكان ذلك مشروعًا؛ لأن الصِّيام من العمل الصالح، ولأنه ثبت في الحديث أنه كان يصوم يوم عاشوراء، وتسع ذي الحجَّة، وثلاثة أيام من الشَّهر، وما ورد عن عائشة أنه ما صام العَشْر؛ فالمراد إخبار عائشة عن حاله عندها، وهو عندها ليلةٌ من تسع، ولربَّما تَرَكَ الشيء خشية أن يُفرض على أمَّته، ولربَّما تَرَكَه لعذرٍ من مرض أو سفر أو جهاد أو نحوه، وإذا تعارض حديثان أحدهما مُثبِت والآخَر نافي؛ فإننا نقدِّم المثبت على النافي، لأن عنده زيادة علم.(/10)
وينبغي للمسلم أن يسابق في هذه العَشْر بكل عمل صالح، ويُكْثِر من الدُّعاء والاستغفار، ويتقرَّب إلى الله بكل قُرَبة، وينبغي للمسلم إذا دخلت عليه العَشْر وهو يريد أن يضحِّي؛ فلا يأخذ من شَعْره ولا بشرته شيئًا، وأمَّا مَنْ يُضحَّى عنه فلو أمسك لكان حسنًا، باعتباره يضحِّي في الأصل بأضحية وليِّه، وإن لم يمسك فلا حرج عليه.(/11)
العنوان: الإيثار على النفس
رقم المقالة: 566
صاحب المقالة: بدر بن محمد عيد الحسين
-----------------------------------------
لو أدرك الناس في جميع أنحاء العالم مقاصد الإسلام السامية، التي هي إنما تعود عليهم بالسعادة والاستقرار النفسي، لاعتنقوه، ولتمثَّلوه عقيدةً وسلوكاً وفكراً.
ولو أدرك دعاة التحرُّر لذَّة السَّكن النَّفسي الذي ينعَمُ به المسلمون الحقيقيون، الذي إنما هو رحيقُ العبادة، لجابوا القِفار والتلال، ولتجشَّموا المصاعب في سبيل معرفة أركان هذا الدين وآدابه، ورياضه الزاهرة.
الإسلامُ حياةٌ سعيدةٌ بما يحمل في طياته من سُموٍّ في العلاقات، ونُكرانٍ للذَّات، وانخراطٍ في الجماعة.
إن حياةً يؤثرُ الناسُ فيها غيرهم على أنفسهم، لهي حياةٌ سعيدة بكل المقاييس والمعايير؛ لأن القيم المتبادلة هي غذاء الروح الشفيفة، والنفس الرهيفة.
فهذا هو نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - يَضرِبُ أروع الأمثلة في الإيثار، وحُبِّ الآخرين، وهذه سجيَّة من سجاياه الحميدة - صلى الله عليه وسلم - تلازمه ملازمة المشرق لطلوع الشمس، وملازمة النور للقمر.
إنها مواقف كثيرة سأستعرضُ منها موقفاً، والبلاغة في الإيجاز، تبدأ أحداث هذا الموقف عندما اشترى النبي - صلى الله عليه وسلم - قميصاً من أحد الحوانيت، ولدى خروجه استوقفه رجلٌ من الأنصار؛ فخاطبه قائلاً: يا رسول الله، اُكسُني هذا القميص. فلم يتردَّد النبي - صلى الله عليه وسلم - في خلع القميص، وإعطائه للرجل الذي طلبه..
عاد النبي من جديد؛ فاشترى قميصاً آخر، ولم يبقَ معه سوى درهمين، وعندما خرج من الحانوت إذا بجاريةٍ (خادمة) تبكي؛ فقال: لماذا تبكين أيتها الجارية؟ قالت: أعطاني أهل البيت الذين أعمل عندهم درهمين؛ لأشتري لهم طحيناً؛ فأضعتُ الدرهمين.
فقال لها النبي الرحيم صاحب القلب الرقيق والنفس السمحة واليد الحانية: ((خُذي هذين الدرهمين وعودي لأهلك)).(/1)
ذهبت البنت تحمل الدرهمين وهي تبكي فتبعها النبي - صلى الله عليه وسلم - مسائلاً إياها: ولم تبكين ؟ قالت: أخشى أن يضربوني. فقال: لا عليك، وذهب معها النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى حيثُ تعمل فسلَّم على أهل البيت، وأخبرهم بقصَّة الخادمة، فسعِدوا كثيراً بقدوم النبي - صلى الله عليه وسلم - إليهم، وإكراماً لقدومه أعفَوا أمَتَهم الخادمة من العمل لتصبح حرَّة طليقة.
هذه لمسةٌ حانية، وومضة من ومضات الإنسانية، التي إنما تستمدُّ قيمتها ونورها من تشريع الإله العزيز الحكيم، الذي ارتضى محمداً - صلى الله عليه وسلم - رسولاً ومبلغاً لهذه الرسالة السماوية السمحة، التي إنما تحمل في طيَّاتها ترياقَ النفوس، وبلسمَ الأرواح، ونورَ الأفهام.(/2)
العنوان: الإيجار المنتهي بالتمليك مناقشة آراء القائلين بالجواز
رقم المقالة: 1302
صاحب المقالة: د. رفيق يونس المصري
-----------------------------------------
تعقيب[1]:
نشرت مجلتكم الموقرة للدكتور سعود الفنيسان بحثاً، حول الإيجار المنتهي بالتمليك، في العدد 48، شوال 1421هـ، كانون الثاني (يناير) 2001م، وقد قرأته، وبدا لي ما يلي:
1 - ذكر الباحث الأسماء المختلفة، المعروفة في القوانين الغربية لهذا العقد. وهذه الأسماء واضحة إلا ((الإيجار السلبي)) كنت أتمنى أن يشرح لنا وجه هذه التسمية ومأخذها.
2 - الإيجار المنتهي بالتمليك له صور عديدة، لم يذكر الباحث منها الصورة أو الصور التي يرى جوازها.
3 - ذكر الباحث أن أغلب البحوث والفتاوى، حول هذا العقد، تنصب على العقود الصغيرة، كبيع سيارة أو عمارة، دون العقود الكبيرة، كبناء مصنع أو مستشفى. ولم يبين ما إذا كان الحكم الشرعي للعقد الكبير مختلفاً عن الحكم الشرعي للعقد الصغير.
4 - الإشكالات التي ذكرها الباحث للرد عليها، ليست هي الإشكالات الوحيدة، ولا الأساسية، لهذا العقد. كما أنه أوردها بعبارات مجملة.
5 - قال الباحث: ((أما رجوع العين إلى البائع، حالة الإفلاس، فهي حق له، فما الضرر في هذا))؟ الجواب: ليست المشكلة ههنا، لأنه إذا كان العقد بيعاً فالعين لا ترجع إليه، وإذا كان إجارة فالعين له، فالحكم ههنا متضاد تماماً، خلافاً لما ذكره الباحث. ثم إنه لم يذكر شيئاً عن قيمة العين عند رجوعها، وعن حكمها إذا كانت القيمة أكثر من حق البائع، أو أقل وما كتبه هو من باب التبسيط المخل.(/1)
6 - قال الباحث: ((أما عند انفساخ العقد، لسبب أو لآخر، فالجمع بين العوض والمعوض عين الصواب)). نعم ربما يكون ذلك، إذا كان الجمع بينهما مساوياً لحق البائع، أما إذا كان أكثر من حقه، فلا يمكن القول بأنه عين الصواب. ثم إن هذا عندئذ ليس من باب الجمع بين العوض والمعوض، لأن العوض ناقص، والمعوض ناقص.
7 - ذكر الباحث أن من الجائز أن يشتري المشتري السلعة، بأزيد من ثمن المثل. ولم يذكر وجهه فإذا اشتراه، وهو غير عالم بثمن المثل، فله حكم، وإذا اشتراه بأكثر من ثمن المثل، رغبة في التصدق على بائع فقير، فله حكم. وإذا خرّجه مفتٍ أو فقيه كذلك بقصد الحيلة، فله حكم. والتهرب من هذا البيان يعد في البحث العلمي عيباً من عيوبه.
8 - بين الباحث أن هذا العقد يستخدمه التاجر بديلاً عن بيع التقسيط، عند تعذر الرهن. ولكنه لم يذكر أسباب تعذر الرهن، كما لم يذكر أيهما أفضل، وأقرب إلى الجواز، وأبعد عن الخلاف: الرهن أم هذا الإيجار؟
9 - أضاف الباحث إلى هذا العقد ما أشكل، وهو مراجعة الأقساط (الشهرية أو السنوية)، مما يعني الجهالة والغرر. وفي نتائج البحث، قال: ((إذا لم يحصل عند مراجعة الأقساط زيادة، فلا جهالة ولا غرر)). وإذا حصل نقص، لم يذكر موقفه. وإذا لم يحصل زيادة ولا نقص، لم يقل ما معنى هذه المراجعة؟
10 - ما ذكره عن الإرادة والقصد، في القوانين القديمة والحديثة، لم تتضح للقارئ صلته بالسياق. بل إنه كتب في الصفحة 11/5 ثلاث فقرات متوالية، الأولى منها سطران، والثانية ثلاثة أسطر، والثالثة في الصفحة 12، لم تتضح علاقة أي فقرة منها بالأخرى.
11 - كلام الباحث عن استثناء المنفعة في البيع أو الإجارة، لم تتبين لي صلته بالموضوع.
12 - كلامه عن الأصل في العقود، هل هو الحظر أم الإباحة، لا علاقة له، لأن العقد فيه شبهات، يجب الرد عليها بوضوح وتفصيل، ومنهج علمي سليم.(/2)
13 - كذلك كلامه في الشروط كان الأولى منه أن يذكر صور العقد وشروطه، ويبحث فيها، ويناقشها مناقشة خاصة، عميقة ودقيقة، بدلاً من الكلام العام الوارد في كتب الشروط، قديمها وحديثها.
14 - أورد الباحث بعض القواعد الفقهية، ولم يبين انطباقها على العقد موضع البحث، وقال بأنها ظاهرة عند القارئ اللبيب، وكنت أتمنى أن يبين الباحث انطباقها، فهذا أولى من اللجوء إلى العموميات، بمناسبات مختلفة، أشرنا إليها.
15 - عرج الباحث على أسباب تحريم العقد عند المحرمين، وذكر سببين فقط، وهناك أسباب أخرى أهم منها لم يذكرها.
16 - تكلم الباحث عن جواز الجمع بين عقدي البيع والإجارة. ولكن عقدنا مختلف، فهو ليس من هذا الباب، إنما هو عقد غير محدد: أهو بيع أم إجارة؟ فالفرق كبير، ولكل منهما آثار مختلفة.
17 - ذكر الباحث في نتائج البحث كلاماً عن الوعد الملزم، مع أنه لم يتعرض له في صلب البحث. وأود أن أقول بأن الوعد المجرد فيه خلاف مشروع بين العلماء القدامى: هل هو ملزم أم لا؟ لكن هذا الوعد، إذا كان بديلاً لعقد محرم، فلا يجوز أن يكون ملزماً بحال، فأي فرق بين العقد والعقد الملزم هنا؟
18 - كما جاء في نتائج البحث على ذكر قرار هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية، ولم يتعرض له في متن البحث، أيضاً. وكان من الأولى أن يناقشه في البحث مناقشة صريحة وحرة، فأدلة المانعين فيه، وهم الجمهور، أدلة أقوى.
19 - كلام الباحث، في نتائج البحث، عن تصرف المشتري بالسلعة قبل قبضها، هو أولاً لم يسبق في متن البحث، وثانياً هو كلام لم يفهم منه: هل يجوز التصرف أم لا يجوز؟
20 - نقل الباحث، في النتائج، كلاماً عن ابن قدامة، في جواز دفع الرجل الدابة إلى من يعمل عليها، بجزء من دخلها. وهذا مختلف تماماً عن موضوعنا، فليس بينهما أدنى شبه، وأعجب ما في هذا الكلام خاتمته، عندما قال: ((لأن العمل هو الشراء أو التأجير..))!(/3)
21 - ورد في البند الثالث عشر من الخاتمة، من تساؤل الباحث، نقلاً عن ابن تيمية: هل تنعقد الإجارة بلفظ البيع؟
فهو أولاً لم يرد في صلب البحث، وثانياً فإن ابن تيمية يتكلم عن عاقدين فردين، ربما يقصدان شيئاً، ويذكران آخر، فما معنى هذا الكلام هنا، حيث يكون أحد طرفي العقد، على الأقل، حكومة أو شركة كبيرة.
هل يريد الأخ الباحث أن تتصرف الحكومة أو الشركة كما يتصرف فرد جاهل؟
22 - نقل الباحث، في خاتمته، عن ابن القيم قاعدة مفادها أن كل ما يعلم أنه لا غنى للأمة عنه، ولم يزل يقع في الإسلام، ولم يعلم من النبي صلى الله عليه وسلم تغييره ولا إنكاره، ولا من الصحابة، فهو من الدين. لكن الباحث لم يثبت في بحثه أن هذا العقد لا غنى عنه، كما لم يخلصه من الشبهات تخليصاً علمياً رصيناً، حتى يقال إنه من الدين.
صور وتخريجات وإشكالات:
لم يذكر الباحث كيف يكيف لنا، في هذه الإجارة المنتهية بالتمليك، انقلاب الإجارة إلى تمليك: هل يتم هذا التمليك هبة أم بيعاً؟ وهل يجوز اعتبار القسط الأخير، مثلاً، ثمناً للبيع. والقسط الأخير مقداره معروف منذ بدء العقد، ولكن البيع لا يتم إلا بنهاية الأقساط، فيكون الثمن محدداً مسبقاً، والمبيع مجهولاً، لا تعرف قيمته إلا عند البيع؟
وإذا تم تخريج التمليك على أساس الهبة، لم يذكر الباحث: هل يجوز الجمع بين الإجارة والهبة؟ أم أن هذا الجمع يثير الشبهات، من حيث إن الهبة مؤشر على الحيلة، وتدخل في علبة عدد وأدوات المتحايلين، المتشابهة في كل زمان ومكان، والتي فضحها ابن تيمية في كتابه عن الحيل، وابن القيم في كتابه: ((أعلام الموقعين)).
قرار هيئة كبار العلماء:(/4)
قررت الهيئة، بتاريخ 6/11/1420هـ، بأغلبية أعضائها، أن هذا العقد غير جائز شرعاً، وعدد أعضاء الهيئة (19) عضواً، غاب أحدهم لمرضه، وخالف منهم (3) أعضاء، الشيخ عبد الله بن منيع والشيخ عبد الله البسام والشيخ محمد بن جبير، أما الشيخ محمد بن جبير فلم أطلع على رأيه، ولا أظن أن له رأياً مكتوباً، وأما الشيخ المنيع فقد اطلعت على رأيه، من خلال مقال نشرته صحيفة عكاظ، في 17/12/1420هـ، وكذلك اطلعت على رأي مكتوب للشيخ البسام، فوجدت الرأيين متشابهين، ولكني بالتأمل فيهما وجدت أن العقد الذي أجازاه هو عقد معدل، مختلف عن العقد الشائع، ومن ثم فلا يمكن القول بأنهما مخالفان، لأن الآراء لم تتوارد على محل واحد. ولعل البعض يريد من ذكر أنهما مخالفان هو فتح باب الخلاف لهما، ولغيرهما.
ما ثبت وما لم يثبت:
ثبت عندي أن من الجائز شرعاً أن يؤجره إيجاراً حقيقياً (لا صورياً)، ثم يبييعه بسعر السوق، أو يعطيه الخيار بالشراء بسعر السوق. كذلك من الجائز أيضاً نقل ملكية المبيع، مع شرط المنع من التصرف، أو مع رهن المبيع نفسه، حتى سداد الأقساط جميعاً.
أما الإيجار المنتهي بالتمليك، بصوره السائدة، فلم يستطع حتى الآن أن يثبت جوازه فقيه أو مفتٍ، بأدلة شرعية سليمة.
ـــــــــــــــــــــــ
[1] عملاً بحرية النشر فقد نشرنا هذا التعقيب على بحث الإيجار المنتهي بالتمليك المنشور في العدد السابق ولكل من الأخوين الباحثين وجهة نظره ولكل منهما اجتهاده.(/5)
العنوان: الإيجار المنتهي بالتّمليك
رقم المقالة: 1055
صاحب المقالة: د. سعود بن عبدالله الفنيسان
-----------------------------------------
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم، والحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على رسوله الأمين، نبيِّنا محمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين.
التمهيد:
عُرِف في القوانين الغربيَّة بأسماء كثيرة، أوَّل ما عرف في فرنسا بـ(الإيجار السّلبيّ)، ثمَّ تطوَّر مع تطوُّر الحياة الاقتصاديَّة؛ فسُمِّي بـ(البيع بالتَّقسيط، مع الاحتفاظ بالملكيَّة حتى سداد الثَّمن)، ثمَّ تطوَّر مرَّة ثالثة إلى (الإيجار السَّاتر للبيع)، ثمَّ تطوَّر في المرحلة الرَّابعة والأخيرة إلى ما هو عليه الآن: الإيجار المقترن بالبيع[1] وعندنا يُسمَّى بـ(التَّأجير المنتهي بالتَّمليك)، وهو عَقْد مُرَكَّب من عدَّة عقود، سمِّي إيجارًا لئلاَّ تترتَّب عليه آثار عقْد البيع، وهذا العقد فيما يظهر ليس بيعًا محضًا، ولا إجارةً محْضةً؛ فالإجارة ليس لها تمليك؛ ولكنَّها تنتهي بانتهاء مدَّة العقْد، والبيع لا يتمُّ حتى يسلِّم البائع العين المباعة للمشترِي؛ يتصرَّف فيها تصرُّفًا تامًّا من بيعٍ، أو إجارةٍ، أو هِبةٍ ونحو ذلك.(/1)
ثمَّ إنَّ (الإيجار المنتهي بالتَّمليك) صيغةٌ من صِيَغ البُيوع المنتشرة في الغرب، وتعاملت به البنوك الإسلاميَّة في السَّنوات الأخيرة في بلاد المسلمين لما فيه من مرونة، وقد أُدخلت عليه بعض التَّعديلات؛ ممَّا رأته مُوافقًا لمعاملاتها المصرفيَّة الإسلاميَّة، والإشكال في مدى شرعيَّة مثل هذا العقد هو ضمن إشكاليَّاتٍ أخرى حول معاملات تلك البنوك، ومن الطَّبيعيِّ أن تظهر هذه الإشكاليَّات؛ نتيجة لظهور المُستجدَّات المتسارِعَة في العالم، والمجتمعات الإسلاميَّة. ونتيجةً لقلَّة الاجتهاد الشَّرعيِّ، أو ضعفه من أهل الاختصاص الفاقهين للنُّصوص الشَّرعيَّة، العارفين بالواقع ومستجدَّاته، ومن ثَمَّ تكييف هذه الوقائع والأحوال بإنزالها على النُّصوص الشَّرعيَّة من الكتاب، والسُّنَّة، وأقوال الصَّحابة، والقواعد الشَّرعيَّة.
مشكلة البحث وأهمِّيَّة الدِّارسة:
نَظَرْت في مشكلة البحث وأهمِّيَّة دراسته ووجدتها تنحصر في خمْس نقاطٍ هي:
الأولى: العَقْد المسمَّى (الإيجار المنتهي بالتّمليك)، عقْد جديد لم يكن مَعروفًا بهذا الاسم عند السَّلف وأئمَّة الفِقْه - رضوان الله عليهم-.
الثَّانية: هو عقْد مُرَكَّب من عدَّة عقود؛ فيه شَبَهٌ من عُقود البيع، والإجارة، والرَّهن، والبيع بالآجال (التّقسيط) إلخ .. غير أنَّه لا يمكن إلحاقه بواحد من هذه العقود دون الآخر.
الثّالثة: حاجة النّاس إلى معرفة حكمه الشَّرعيِّ؛ نظرًا لانتشاره بينهم، وتعاملهم به.
الرَّابعة: اختلاف الفتاوَى فيه بين مانع ومُجِيز، رغم وفرة البحوث، والدِّراسات الخاصَّة به.(/2)
الخامسة: غالب البحوث والفتاوَى حول هذا العقد رأيتها تنصبُّ على العقود الصَّغيرة؛ كبيع سيَّارة أو عِمارة، وأعرضَتْ أو أغفلَتْ العقود الكبيرة التي تُبْرمها الشَّركات والمؤسَّسات بعضها لبعضٍ، أو مع الدَّولة؛ كبناء المصانع، والمدارس، والمستشفيات، وتأمين الطُّرق، والمواصلات، والحكم في الحالين واحد.
من الإشكالات العلميَّة التي قد ترد على هذا النَّوع من البُيوع:
أ- عقْدٌ جُمِع فيه بين بَيع وشرط. وقد ورد في الحديث النَّهي عن ذلك[2].
ب- عقْدٌ جُمِع فيه بيعتان في بيعة. وقد صحَّ في الحديث النَّهي عن ذلك[3].
ج- مطالبة المُستأجِرِ بأن يدفع للمُؤْجِرِ مبلغًا مقدَّمًا عند العَقْدِ يعتبره المؤجِر جزءًا من حقَّه. ومثل هذا الفعل لا يكون عادةً في عقْد الإجارة؛ وإنَّما يكون في عقْد البَيع، في حين أنَّ البيع لم ينعقد لعدم تسلُّم المشتري للعين المباعة يتصرَّف فيها تصرُّفًا تامًّا، من بيع أو هِبةٍ ونحوها، بل لا تزال السِّلعة في مِلْك البائع.
د- إلزام المُستأجِر بدفْع دُفعة أخيرة- على أنَّها ثَمنٌ للسِّلعة المباعة – غير صحيحٍ.
هـ- إذا أفلس المشتري قبل تمام السَّداد رجعت العَيْن المباعة والأقساط إلى البائع وهذا فيه جَمْع بين العِوَض والمُعوَّض، وهو غير جائز شرعًا.
علاوةً على اشتماله على (التَّأمين) التِّجاريِّ، وهو حرامٌ عند أهل العلم عامَّة.
ويجاب عن تلك الإشكاليَّات بما يلي:
أولاً: الحديث الذي فيه النَّهي عن بيع وشرط غير صحيح. ونصَّ شيخ الإسلام (ابن تيميَّة) على بُطلانه[4] وقد ثَبَت خلافه بالنَّصِّ والإجماع كما في حَدِيثِ جَابرٍ (( لمَّا بَاعَ جَمَلَهُ فاشْتَراهُ مِنْه الرَّسُولُ – صَلَّى اللهُ عليْه وسَلَّمَ – واشْتَرَطَ جَابِرٌ حُمْلانَهُ إلى المَدِينَةِ)) [5].(/3)
ثانيًا: كونه جُمِع فيه بيعتان في بيعة. وجاء في الحديث الصَّحيح النَّهي عن ذلك[6]. وفُسِّرت البيعتان في بيعة: بيع العِينَة، فسَّرها ابن القيِّم بذلك، كأنْ يبيعَ الرَّجلُ السِّلعةَ بمئةٍ إلى سنةٍ على أن يشتريَها البائعُ بثمانين حالّة. ووجه ذلك أنَّه جمَع البيعتين أو الصَّفقتين: النَّقد والنِّسبة في بيعة واحدة[7]. بدليل الرِّواية الأخرى: ((فَلَه أَوْكَسُهُمَا أَوِ الرِّبَا))[8]، وكلُّ التَّفاسير التي فسَّرت بها البيعتان في بيعة، لا يظهر فيها معنى الرِّبا إلا تفسير ابن القيِّم لها بالعِينَة.
ثالثًا: ما يَدْفعه المستأجِر عند العقْد كدُفعة أولى. يخرَّج على أن يكون جزءًا من الأُجْرة في عقد الإجارة، أو جزءًا من الثَّمن في عقْدِ البيع الموعود به، وذلك عند النَّظر إلى كلٍّ منهما على أنَّه عقْد مُسْتَقِلٌّ.
رابعًا: الدُّفعة الأخيرة التي يدفعها المستأجِر لمالِك العَيْنِ المؤجَرة هي جزءٌ متمِّمٌ للأُجْرة أو لثَمَن السِّلْعة.
خامسًا: الأقساط التي دَفَعها المشتري (أو المستأجِر)؛ هي مقابل انتفاعه بالعين المباعة أو المؤجَرَة، ولو قيل غير ذلك للحق الضَّرر بالبائع (أو المؤجِر)؛ لكون المُشتري (أو المستأجِر) انتفع بالعين المباعة دون مُقابلٍ. وأمَّا رجوع العين إلى البائع حالَة الإفلاس فهي حقٌّ له. فما الضَّرر في هذا؟ ثمّ إنَّ النَّهي عن الجَمْع بين العِوَض والمُعَوِّض؛ إنَّما هو إذا كان الجمْع بينهما في زمن واحد عند إبرام العَقْد. أمَّا عند انفساخ العقْد لسبب أو لآخر؛ فالجمْع بين العِوَض والمُعَوَّض عين الصَّواب. وأيضًا فإنَّ إرضاعَ أمِّ موسى لابنها - عليه السَّلام - من قِبَل امرأة فِرْعون عقْد إجارة جُمِع فيه بين الإجارة والعِوَض (وهو النَّقد) والمعوَّض. وهو إرضاع أمِّ موسى لموسى- عليه السَّلام-. وشَرْعُ من قبلنا شَرْعٌ لنا ما لم يكن في شَرعنا خلافُه، كما في هذا المثال.(/4)
وبالنَّظر في الشُّروط في البيع نجدُها أربعة أضْرب:
1- ما يكون من مُقتضى البَيْع؛ كاشتراط تسليم السِّلعة، فَهذا لا أَثَر له؛ لأنَّه مُجرَّد بيان وتأكيد لمُقتضى العَقْد فحسب.
2- ما يكون من مصلحة عقد البيع؛ كاشْتراط الخيار، والأجل. ومنه التَّقسيط، والرَّهن، والضَّمان. فالشَّرط في مثل هذا صحيحٌ لازمٌ وقد جاء الشَّرْع به.
3- أن يكون الشَّرط مُنافيًا لمُقتضى العقْد؛ كشرْط أن لا يَنْتفع البائع أو المستأجِر بالسِّلْعة، أو لا يتصرَّف بها؛ كاشْتراط البائع عدم تسليم استمارة السَّيَّارة، أو صكِّ العِمارة للمُشتري ففي هذه الحال؛ الشَّرط باطلٌ والعقْدُ صحيحٌ. كما في حَديثِ عَائِشَةَ عِنْدَ شِرَاءِ بَريرَةَ واشْتَرَطَ أهْلُها الوَلاءَ لهم. قال رَسُول اللهِ - صَلَّى اللهُ عليْه وَسَلَّمَ -: ((اشْتَرِيهَا وأَعْتِقِيهَا واشْتَرِطِي لَهُمُ الوَلاءَ؛ إنَّما الوَلاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ))[9].
4- شُروطٌ لا تُنافي مُقتضى العقْد ولا هي من مصلحته؛ كأنْ يَشْترط مع عقْده عقدًا آخر، أو يبيعه سلعة، بشرط أن يبيعه الآخر سلعة أخرى، أو يشترط المُشتري منفعةَ البائع في المبيع، أو كأن يشتري السِّلعة منه بأزيدَ من ثَمَن مثلها. وهذا جائزٌ. وما يُشترط في البيع من شُروط يُشْترطُ في الإجارة؛ لأنَّها نَوْع منه إلاَّ ما اختصَّت به عنه، والإيجار المُنتهِي بالتَّمليك يدخل في الضَّرب الثَّالث فيصحُّ معه العقْد ويبطُل الشَّرط.
وبما أنَّ هذا (الإيجار المنتهي بالتَّمليك) عقْد مُرَكَّب من عدَّة عُقود من البيع، ومن الإيجار، والوعد بالبيع، والبيع، ومنه – التَّقسيط، والرَّهن. مع اشتماله على التَّأمين، فإنَّه - والحالة هذه - لا يُشْبه عقدًا من تلك العُقود بعينها دون الآخر، ولكنَّه أخذ من كلِّ عَقْد صِفَة من صفاته، ومن مَجْموع هذه الصِّفات تَكَوَّن عقْد سُمِّيَ بـ(الإيجار المنتهي بالتَّمليك).(/5)
ومن دواعي استخدام هذا العقْد المُرَكَّب عندنا أمور منها:
1- الانفتاح التِّجاريِّ على العالم، وسرعة تطوُّره، وانتشاره عن طريق الاتِّصالات الحديثة.
2- يستخدمه التَّاجر (البائع أو المؤجِر) بديلاً عن بيع التَّقسيط عند تعذُّر الرَّهن.
3- مُحافظة التَّاجر على ماله ما دام مؤجِرًا لتلك العَيْن؛ كالسَّيَّارة والعِمارة. فلو ماطل العميل عن السَّداد أو أفلَس استردَّ البائع سلعته المباعة أو المؤجَرَة؛ لأنَّها لا تزال في مِلْكه وتحت يده.
4- يستفيد منه العميل (المُشتري أو المستأجِر)؛ لأنَّه لا يَحْتاج إلى ضَمان، أو كَفالة، أو رهْن.
5- يمكن معه تغيُّر الثَّمن على صفة مُرَاجعة الأقساط الشَّهريَّة، أو السَّنويَّة بين الطَّرفين عند الحاجة لذلك. وهذا مَرْبط الفَرَس ومَحَلُّ المُشْكِلة.
ولو دقَّقنا في حقيقة هذا العقْد الجديد الوافدِ إلينا، لوجَدنا أكثر شروطه والاستفادة منه كلَّها تصبُّ في مصلحة التَّاجر القَويِّ، وقليلاً منها في جانب العميل الضَّعيف.
والعُقود تتأثَّر كثيرًا بالإرادة أو القَصْد. والإرادة في العُقود الشَّرعيَّة وسَطٌ بين القوانين الوضعيَّة القديمة والحديثة. ففي القانون الرُّومانيِّ القديم لا أثر للإرادة في العُقود؛ حيث العُقود مسمَّاةٌ محدَّدةٌ في القانون، ولا يمكن القياس عليها. أمَّا في القانون الوضعيِّ الحديث (الغَّربيِّ) فعلى العكس من ذلك؛ فقد أطلقت القوانين الغربيَّة الإرادة في العقود بلا حدود؛ نتيجة تأثُّرها بالمذْهب الفرديِّ؛ حيث إرادة الإنسان عندهم مُطْلَقةٌ، فالعُقود والالتزامات في القوانين الوضعيَّة يحدِّدُها عندهم سلطان الإرادة لا غير.(/6)
أمَّا الإرادة في العُقود الشَّرعيَّة فهي وسَطٌ بين إفراط القانون الرُّومانيِّ، وتفريط القوانين الغربيَّة، وللإرادة في العقود الشَّرعيَّة ضابطان: الأوَّل؛ الرِّضا بين المتعاقِدَيْنِ "وهو يمثِّل الإرادة" قال تعالى: {... إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ}[10]. والثَّاني: الوفاء بالشُّروط لحديث عائشةَ في الصَّحيح: (الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ إِلاَّ شَرْطًا حَرَّمَ حَلاَلاً أَوْ أَحَلَّ حَرَامًا)[11] ولعُموم قَوله تَعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}[12].
وليس للعُقود الشَّرعيَّة صيغةٌ خاصَّةٌ لا تَنْعقد إلا بها؛ بل كلُّ ما تعارف عليه النَّاس بأنَّه بيع أو إجارةٌ فهو كذلك.
قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة: "لم يُنْقل عن الرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - ولا عن أحد من الصَّحابة، أو التَّابعين أنَّه عيَّن للعُقود صيغة مُعيَّنةَ الألفاظ أو غيرها، أو قال ما يدلُّ على ذلك من أنَّها لا تنعقد إلاَّ بصيغ خاصَّة. بل قد قيل: إنَّ هذا القول ممَّا يخالف الإجماع القديم، وأنَّه من البدع - ثمَّ قال: فإذا لم يكن للبيع حد في الشَّرع ولا في اللُّغة كان المرجع فيه إلى عُرْف النَّاس وعاداتهم. فما سمَّاه النَّاس بيعًا فهو بيعٌ، وما سمَّوه هِبة أو إجارةً فهو كذلك[13].
وقد بوَّب البُّخاريُّ في صحيحه: "بابُ مَنْ أَجْرَى أَمْرَ الأَمْصارِ على ما يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُم في البُيُوعِ، والإجَارَةِ، والمِكْيَالِ، والوَزْنِ، وسُننَهُم على نِيَّاتِهِم، ومَذَاهِبِهِمُ المَشْهُورَة"[14]. وقال ابن القيِّم: لو باع غيره دارًا، أو عَبْدًا، أو سِلعةً، واستثْنى منفعة المبيع مدَّة مَعلومةً جاز. كما دلَّت عليه النُّصوص الشَّرعيَّة، والقياس الصَّحيح[15].(/7)
واستثناء استمارة السَّيَّارة أو صكِّ العِمارة في "الإيجار المنتهي بالتَّمليك" قريبٌ من هذا النَّوع؛ سواءٌ خُرِّجَ على أنَّه عَقْد إجارةٍ، أو عقْدِ بيع، أو مُرَكَّب منهما. وكلُّ ما وجدته ممَّا صَوَّره العلماء من أمثلةٍ في هذا الموضع؛ هو في البيع دون الإجارة. ولا يعني هذا عدم جواز الإجارة في ما ذكره ابن القيِّم، ولم أطَّلع لأحدٍ من الفقهاء نصَّ على عدم جواز استثناء بعض المنفعة في الإجارة. وعدم وجود نصٍّ لأحد العلماء في الاستثناء في عقْد الإجارة لا يدلُّ على المنع بحالٍ؛ بل لو جدَّ لهم من العُقود مثل ما استُجِدَّ لنا لخرَّجوه على ما لديهم من نُصوص، وقواعدَ شرعيَّة. ولو أبدلْت في كلام ابن القيِّم السَّابق كلمة (باع) بـ(آجر) و(المبيع) بـ(العين المؤجَرَة). لأصبح استثناء بعض المنفعة في عقد الإجارة أو بعض منفعة العين في عقد البيع حقيقةً فيها؛ لأنَّ الاستثناء إنَّما وقع في بعض ما عُقِد عليه فيهما، وهو (المنفعة) أصالةً في التَّأجير، أو تبعًا في البيع. والإجارة نَوْعٌ من البُيوع إلاَّ ما خُصَّ به أحدهما دون الآخر، وليس ما صوَّره ابن القيِّم ممَّا خُصَّ به أحدهما..(/8)
وإذا كان الأمر كذلك؛ فإنَّ عَقْد الإيجار المنتهي بالتَّمليك، أو بعبارةٍ أصح؛ الإيجارَ معَ الوَعْد بالبيع جائزٌ حينئذٍ لوُجود المنفعة المُباحة؛ لأنَّ ما لا نَفْع فيه لا يجوز بيعه؛ ولأنَّ عقْد البيع لا يكون إلاَّ بطلب منفعة العَيْن. وإذا جاز الانتفاع بالعين المُباعة مُدَّةً مَعلومةً، جاز استثناء الانتفاع لبعض المنفعة، وإذا جاز بالإجارة مُدَّةً معلومةً، جاز الانتفاع ببعض المنفعة في العَين المباعة. والاستثناء في الإجارة أظهر منه في البيع؛ لأنَّه في الأوَّل استثْناءٌ لجميع المنفعة، وفي الثَّاني استثناءٌ لبعضها. واستثناء الجميع هو الذي نَصَّ الفقهاء على جَوازه دون الآخر. ربَّما لعدم حاجتهم إليه، أو هو من باب القياس، أو الإشارة. وعلى هذا فالمُؤجِر للسِّلعة مع الوعْدِ بتمليكِها استثْنى جزءًا من مَنْفعتها وهو (الاستمارة مثلاً في السَّيَّارة)، وعلى فرض التَّسليم بعدم الجواز سدًّا للذَّريعة، فإنَّ القاعدة الشَّرعيَّة تقول: "ما حُرِّم سدًّا للذَّريعة، أُبِيحَ للمَصْلحةِ الرَّاجِحَة"[16]، وهذا العقد فيه مَصلحةٌ ظاهرةٌ، وراجحةٌ للطَّرفَين على ما يبدو.
هل الأصل في العُقود الحظْر أو الإباحة؟
اختَلَف فيه العلماء على قوْلَين:
الأوَّل: الأصل فيها الحظْر حتى يقوم الدَّليل على الإباحة[17] وهو مذهب ابْن حَزْمٍ الظَّاهريّ، وهو مشهور الحنفيَّة، ومذهب الشَّافعيَّة. وقد رُوي عن بعض أصحاب مالكٍ وأحمد، وإن كان هؤلاءِ يتوسَّعون في الشُّروط أكثر من أهل الظَّاهر؛ لأنَّهم يقولون بالقياس دونهم[18].
الثَّاني: الأصل في العُقود الإباحة حتى يَرِد عليها دليلٌ حاضرٌ أو موجِبٌ، قال بهذا القول عددٌ من المتقدِّمين من فقهاء المذاهب الأربعة، وهو قول الإمام الشَّافعيِّ[19]، والزَيْلعيِّ[20] من الحنفيَّة، والشَّاطبيِّ من المالكيَّة[21]، وابن تيميَّة وابن القيِّم من الحنابلة[22].
أدلَّة أهل القول الأوَّل:(/9)
1- حَديثُ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللهُ عنْها - المُتَّفَقُ عليْه، في قِصَّةِ عِتْقِ مَوْلاتِها بَرِيرَةَ لمَّا اشْتَرَطَ أهْلُها الوَلاءُ لَهُم قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عليْه وَسَلَّمَ - لعَائِشَةَ: ((خُذِيهَا واشْتَرِطِي لَهُمُ الوَلاءَ) ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عليْه وَسَلَّمَ -: ((مَا بَالُ رِجَالٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ؟!! مَا كَانَ مِنْ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَ مِئَةَ شَرْطٍ قَضَاءُ اللَّهِ أَحَقُّ، وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ؛ وَإِنَّمَا الْوَلاءُ لِمَنْ أَعْتَق))[23].
مَحَلُّ الاستدلال قوْلُه: (مَا كَانَ مِنْ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ)، ووجه الاستدلال: لا يجوز من الشُّروط أو العُقود إلاَّ ما ورد به دليلٌ من الشَّارع.
ورُدَّ هذا الاستدلال: بأنَّ الشَّرط في الحديث بمعنى المَشرُوط. كما تقول العرب: هَذَا الدِّرْهَمُ ضَرْبُ الْأَمِيرِ؛ أي مَضْروبه، فالمراد المشروط لا نفس التَّكلُّم به. وقوله في الحديث: "وَإِنْ كَانَ مِئَةَ شَرْطٍ". لا يراد به تَكرار التَّكلُّم بالشَّرط؛ وإنَّما المراد تَكرار المشروط. بدليل قوله في الحديث (كتاب اللّهِ أَحَقُّ، وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ). ثُمَّ المراد بكتابِ الله العُموم للجزئيَّات والكلِّيَّات.
2- حَديثُ عَائِشَةَ - المُتَّفَقُ عليْه - أيْضًا (مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عليْه أمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ)[24].
وجْه الاستدلال: أنَّ العُقود عملٌ من الأعمال، وَرُدَّ هذا الاستدلال؛ لأنَّ المراد بالأعمال في الحديث: هي أعمال العِبادات حيث هي تَوْقيفٌ، فلا يُعبد الله إلاَّ بما شرع، أمَّا أفعال المُعاملات (العُقود) فهي عاديَّة: الأصل فيها الإباحة[25].(/10)
3- حَديثُ أبِي هُرَيْرَةَ وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ - المُتَّفَقُ عليْه - في قِصَّةِ العَسِيفِ، ومَحَلُّ الاسْتِدْلالِ قَوْلُ النَّبِيِّ – صَلَّى اللهُ عليْه وَسَلَّمَ -: (الوَليدَةُ والغَنَمُ رَدٌّ عليْكِ، وَعَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِئَةٍ، وَتَغْرِيبُ عَامٍ)[26]، ووجه الاستدلال: أنَّ النَّبيَّ أبطل صُلْح الذي زنى بالمرأة فرَدَّ عليه الوليدة، ومئةً من الغنم فدلَّ على أنَّ الصُّلح غير جائزٍ أصلاً.
ورُدَّ هذا الاستدلال؛ بأنَّ هذا الصُّلح الذي أبطله الرَّسول مُخالفٌ لأدلَّة الشَّرع؛ لتضمُّنه إسقاط الحدِّ الشَّرعيِّ، ولو لم يصادم الشَّرع لكان جائزًا.
4- حَديثُ (نَهَى النَّبِيُّ – صَلَّى اللهُ عليْه وَسَلَّمَ – عَنْ بَيْعٍ وشَرْطٍ) [27] ووجْه الاستدلال ومَحَلُّه ظاهران. غير أنَّه رُدَّ: بأنَّه لا يوجد في شيءٍ من دَواوين السُّنَّة النَّبويَّة. وقد أنكره أحمد وغيره من العلماء وذكروا أنَّه لا يُعْرَف؛ بل الأحاديث الصحيحة تُعَارضه؛ كحديث بيع جَمَل جابرٍ وغيره.
أدلَّة أهل القول الثاني القائلين: الأصل في العقود الإباحة:
1- قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}[28]. وقوله: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدِ كَانَ مَسْئُولًا}[29].. وهذا عامٌّ في كلِّ العُهود التي تَجري بين النَّاس ممَّا لم يمنعه الشَّارع.
2- قوله – صَلَّى اللهُ علَيْه وسَلَّمَ -: ((المُسْلِمُونَ على شُرُوطِهِم إلاَّ شَرْطًا حَرَّمَ حَلالاً، أوْ أَحَلَّ حَرَامًا))[30]. فإذا كان جِنْس الوفاء، ورعاية العهد مأمورًا بهما، دلَّ على أنَّ الأصل صحَّة العُقود والشُّروط؛ إذ لا معنًى للتَّصحيح إلاَّ ترتَّب أثَرُه عليه.(/11)
3- قوله – صَلَّى اللهُ عليْه وسَلَّمَ – في الحديثِ المُتَّفَقِ عَلَيْه: ((أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ))[31]
4- النُّصوص الشَّرعيَّة عامَّةً التي تَنْهى عن نقض العهد، أو تُحذِّر من الغدر بالمعَاهِدِ؛ كقوله تعالى: {الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ}[32].(/12)
5- إنَّ العُقود من باب الأفعال العاديَّة، والأصل فيها عدم التَّحريم، وممَّا يدلُّ على ذلك أنَّ الله ذمَّ مُشركي العرب حين حرَّموا أفعالاً لم يحرِّمها الله ورسوله؛ مثل: تَحريم قريشٍ على غير أهل الحرم، أن يطُوفوا بالكَعبة بالثِّياب التي عَصَوْا بها الله؛ بل عليهم أن يطُوفوا عُراةً إلاَّ إذا كانوا حُمْسًا، أو أعار أحْمَسيٌّ أحدهم ثيابه. وأيضًا كان الأوس والخزرج يُحرِّمون على الرَّجل إتيانَ امرأته في فَرْجها، إذا كانت مُجْبِيَةً. وأيضًا كانت قريشٌ تُحَرّم السَّعي بين الصَّفا والمروة. إلى غير ذلك من الأفعال التي أنكرها الله على أهل الجاهليَّة، ولو لم يفعلوها لما لَحِقهم الإنكار. يقول ابن تيميَّة: إذا حرَّمنا العُقود والشُّروط بين النَّاس في مُعاملاتهم العاديَّة بغير دليلٍ شرعيٍّ؛ كنَّا مُحرِّمين ما لم يُحرِّمْه الله، بخلاف العُقود التي تتضمَّن شرْع دينٍ لم يَأذَن به الله، فإنَّ الله حرَّم من الدِّين ما لم يَأْذن به، فلا تُشرع عبادةٌ إلاَّ بشَرْع الله، ولا تُحرَّم عبادةٌ إلاَّ بتحريم الله، والعُقود والمعاملات من العادات التي يفعلها المسلم والكافر، وإن كان فيهما قُرْبةٌ من وجهٍ آخر. فليست من العبادات التي يُفْتَقر فيها إلى شَرْعٍ؛ كالعِتق والصَّدقة[33]. ويوضِّح ابن تيميَّة معنى "لا تُشرَع عبادةٌ إلاَّ بشَرْع الله، ولا تُحرَّم إلاَّ بتحريمه" قائلاً: إنَّ الأحكام الثَّابتة بأفعال العباد؛ كالمِلْك الثَّابت بالبيع، ومِلْكِ البُضْعِ الثَّابِت بالنِّكاح" العباد هم الذين أحدثوا أسباب تلك الأحكام، والشَّارع أثْبتَ الحُكْم لثُبُوتِ سَبَبِه مِنْهُم، ولم يثْبِتْه الشَّارع عليهم ابتداءً؛ كما أثْبَت إيجاب الواجبات، وتحريم المُحرَّمات المُبتدئة. وإذا كان العباد قد أثبتوا ذلك الحُكْم الجُزئيَّ لم يحرِّم الله عليهم أن يرفعوه بأنفسهم؛ لأنَّ مَنْ شرَع شيئًا فهو الذي يرفعه، وذلك أنَّ الأحكامَ(/13)
الجزئيَّة؛ كحِلِّ هذا المال لزيْدٍ، وحُرمَتِهِ على عَمْروٍ، لم يشرعْها الشَّارع شرعًا جزئيًّا؛ وإنَّما شرَعها شرعًا كلّيّا[34] بمثل قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا}[35]. وقوله: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ}[36].
6- الأصل في العُقود رضا المتعاقدَين، ومُوجبها ما أَوْجَباه على أنفسهما؛ قال تعالى: {.. إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِّنْكُمْ}[37]. فعلَّق جواز التِّجارة على الرِّضا تعلِيقَ الجزاء بشرطه، فدلَّ على أنَّه سببٌ له، والرِّضا شرطٌ زائدٌ على مُجَرَّد البيع (التِّجارة). قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة: "الأصل في العُقود والشُّروط عند الإمام أحمد، وقَريبٌ منه الإمام مالكٌ: الجوازُ والصِّحَّة؛ فلا يَحْرُم منها ولا يَبْطُل إلاَّ ما دلَّ الشَّرع على تحريمه أو بُطلانه نصًّا أو قياسًا، وليس في الفقهاء الأربعة أكثر تصحيحًا للشُّروط من أحمد"[38].
مذاهبُ العلماء في الشُّروط إذا خالفت مُقتضى العقْدِ.
منشأ الخلاف تَعارُض أحاديثَ أربعةٍ في هذا:
1- حَديثُ جابرٍ بْنِ عَبْدِاللهِ – رَضِيَ اللهُ عنْه – المُتَّفَقُ عليْه -: أنَّه كان يَسيرُ على جَمَلٍ له قَدْ أعيا فَمَرَّ النَّبِيُّ – صَلَّى اللهُ عليْه وسَلَّمِ – فَضَرَبَه فَدَعا له فَسَارَ بِسَيْرٍ لَيْسَ يَسيرُ مِثْله ثُمَّ قال: (بِعْنِيه بِأُوقِيَّةٍ). قُلْتُ: لا. ثمَّ قال: (بِعْنِيه بِأُوقِيَّتَيْنِ) فَبعتُه، فاسْتَثْنَيْتُ حُمْلانَهُ إلى أهلي. فلمَّا قَدِمْنا المدِينَةَ أتَيْتُه بالجَمَلِ وَنَقَدَنِي ثَمَنَه. ثمَّ انْصَرَفْتُ؛ فَأرْسَلَ على إِثْرِي قال: ((ما كُنْتُ لِآخُذَ جَمَلَكَ فَخُذْ جَمَلَكَ ذَلِكَ فَهُوَ مَالُكَ)) [39].(/14)
2- حَدِيثُ عَائِشَةَ – رَضِيَ اللهُ عنْها - المُتَّفَقُ عليْه، أَنَّ بَرِيرَةَ جَاءَتْ تَسْتَعِينُهَا فِي كِتَابَتِهَا، َلَمْ تَكُنْ قَضَتْ مِنْ كِتَابَتِهَا شَيْئًا، قَالَتْ لَهَا عَائِشَةُ: ارْجِعِي إِلَى أَهْلِكِ؛ فَإِنْ أَحَبُّوا أَنْ أَقْضِيَ عَنْكِ كِتَابَتَكِ وَيَكُونَ وَلاؤُكِ لِي فَعَلْتُ. فَذَكَرَتْ ذَلِكَ بَرِيرَةُ لِأَهْلِهَا فَأَبَوْا، وَقَالُوا: إِنْ شَاءَتْ أَنْ تَحْتَسِبَ عَلَيْكِ فَلْتَفْعَلْ وَيَكُونَ وَلاؤُكِ لَنَا. فَذَكَرَتْ عَائِشَةُ ذلك لِرَسُولِ اللهِ - صلَّى اللهُ عليْه وسَلَّمَ - فَقَالَ لَهَا: ((ابْتَاعِيها وأعْتِقِيها؛ فإنَّما الوَلاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ)). ثمَّ قال رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ -: ((فَمَا بَالُ النَّاسِ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّه ؟ مَنِ اشْتَرَطَ شَرْطًا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَ مِئَةَ شَرْط.شَرْطُ اللَّه أَحَقُّ أَوْثَقُ))[40].
3- حَدِيثُ جَابِرِ بْنِ عَبْدِاللهِ - المُتَّفَقُ علَيْه - قَال: نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ علَيْه وسَلَّمَ – عَنِ المُخَابَرَةِ وَالْمُحَاقَلَةِ وَعَنِ الْمُزَابَنَةِ، وعَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حتَّى يَبْدُوَ صَلاحُها، وأنْ لا يُبَاعَ إلاَّ بالدِّينارِ والدَّراهِمِ إلاَّ العَرَايا[41].
4- حَدِيثُ (نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ علَيْه وسَلَّمَ - عَنْ بَيْعٍ وَشَرْطٍ)[42].
والأحاديث الثَّلاثة كلُّها صحيحةٌ ثابتةٌ. أمَّا الحديث الرَّابع فغير معروفٍ عند العلماء، ويخالف ما هو أصحُّ منه؛ فلا يُحْتَجُّ به.
وهذه مذاهب العلماء في الشُّروط إذا خالفت مقتضى العقد.(/15)
1- مذهب الحنفيَّة إذا شَرَطَ البائع شرطًا لا يقتضيه، ولم يَرِد بالشَّرع جوازُه؛ ولكنَّه يلائم العقد ويوافقه؛ كأن يشتري شيئًا بشرط أن يعطي للبائع كفيلاً بالثَّمن فلا يخلو الأمر من حالين:
أ- إمَّا أن يكون الكفيل أو الرَّهن، معلومًا بالإشارة أو التَّسمية. وإمَّا أن لا يكون معلومًا بهما كأن يقول: أبيعُك بشرطٍ، أن تعطيني كفيلاً بالثَّمن، ولم يسمِّ إنسانًا أو يُشِر إليه. فالبيعُ فاسدٌ؛ لأنَّ هذه جهالةٌ تُفْضي إلى مُنازعةٍ مانعةٍ عن التَّسليم والتَّسلُّم. أمَّا إذا كان معلومًا بالإشارة أو التَّسمية، فالقياس عندهم أنَّه لا يجوز البيع. وبه أخذ زُفَرُ. وفي الاستحسان يجوز، وهو قول علمائنا وهو الصَّحيح؛ لأنَّ الرَّهن أو الكفالة شرعا توثيقًا للمُثمِّن فيكون شرطًا مقرَّرًا لما يقتضيه العقْد معنًى[43].
ب- وإذا شرط شرطًا لا يقتضيه العقْد ولا يَتَعارفه النَّاس، وفيه مَنفعةٌ لأحد العاقدَين؛ كأن يشتري حِنْطةً على أن يطْحنها البائع، فالبيع فاسدٌ. وهذا مذهب علمائنا، وقال ابن أبي لَيْلى: إنَّ البيع جائزٌ والشَّرط باطلٌ، وقال ابن شُبْرُمَةَ: إنَّ البيع جائزٌ والشَّرط جائزٌ. ولو شَرَطَا شرطًا فيه ضررٌ لأحد العاقِدَين؛ بأنْ باع ثَوبًا أو حيوانًا سوى الرَّقيق بشرط أن لا يبيعه ولا يهِبه، فالبيع بهذا الشَّرط صحيحٌ. وقال أبو يوسف بفسادِه[44].(/16)
2- مذهب المالكيَّة: الشُّروط مع البيع عندهم ثلاثة أقسامٍ: الأوَّل: شروطٌ تَبْطل هي والبيعَ معًا. الثَّاني: شُروطٌ تَجوز هي والبيعَ معًا. الثَّالث: شُروطٌ تَبْطل ويَثبُت البيع .. وذلك راجعٌ إلى كثرة ما يتضمَّن الشُّروط من صِنْفَيِ الفساد؛ وهما الرِّبا والغَرَر. وإلى قلَّتِه وإلى التَّوسُّط في ذلك.. فما كان دخول هذه الأشياء فيه كثيرًا من قِبَل الشَّرط أبطَلَه وأبطل الشَّرط. وما كان قليلاً أجازه وأجاز الشَّرط. وما كان مُتَوسِّطًا أبطل الشَّرط وأجاز البيع. وبهذا تجتمع الأحاديث[45]. وعند المالكيَّة ضابطٌ حسنٌ في هذا الموضوع وهو: (كلُّ عَقْدين يتضادَّان وضْعًا، ويتناقضان حُكْمًا لا يجوز الجمْع بينهما)[46] وذكر القَرَافيُّ[47] ستَّة أنواعٍ من العقود لا يجوز اجتماعها مع البيع جُمِعت في جملة: (جِصٌّ مُشَنَّقٌ)؛ فالجيمُ للجَعَالَةِ، والصَّادُ للصَّرْفِ، والميمٌ للمُسَاقَاِة، والشِّينُ للشَّرِكَةِ، والنُّونُ للنِّكَاحِ، والقَافُ للقِرَاضِ، والسِّر في ذلك أنَّ العُقود أسبابٌ لتحصيل سببها بطريق المناسبة، والشَّيء الواحد لا يناسب المتضادَّين، فكلُّ عقدين بينهما تضادٌّ لا يجمعهما عقدٌ واحدٌ. فلا يجتمع عقد النَّكاح مع البيع؛ لتضادِّهما بالمكايسة بالعوض والمعوض؛ فالمُسامَحَة في النِّكاح، والمُشَاحَة في البيع فحصل التَّضادُّ. والمُصارفَة مبنيَّةٌ على التَّشديد فامتنع فيها التَّأجيل، وخيار الشَّرط والبيع بخلافها، فتضادَّ البيعُ والصَّرفُ حينئذٍ. فيَمتنِع الجمْع بينهما. وهكذا سائرُ العُقُود السِّتَّة. وأمَّا غيرها؛ كالإجارة مع البيع، أو السَّلَم مع البيع مثلاً، فلا تضادَّ بينهما في الوضْع، فالإجارة، والسَّلَم، والبيعُ عُقودٌ على عِوَضٍ قابلة للأجل، ولا تناقض بينها لقيامها على المُشَاحة.(/17)
3- مذهبُ الشَّافعيَّة: ما لا يقتضيه مطلق البيع من الشُّروط، ولا هو من مصلحة البيع فإنَّه يُفْسِد البيع إلا شرْط العِتق. وذلك مثلُ أن يشتريَ سِلْعةً على أن يحمِلَها البائع إلى بيته، أو ثوبًا على أن يخيطه، أو دابَّة على أن يسلِّمها في بلد كذا، أو وقت كذا. أو على أن لا خسارة عليه في البيع، فالعقد فاسدٌ؛ لأنَّه شرطٌ يصير به الثَّمن مجهولاً. وكذلك لو باع داره وشرط رضا الجيران، أو رضا فلانٍ؛ ففاسدٌ[48].
4- مذهب الحنابلة: قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة: "فالأصل في العُقود والشُّروط، الجوازُ والصِّحَّة، ولا يَحْرُم منها إلا ما دلَّ الشَّرع على تحريمه وإبطاله نَصًّا أو قياسًا.
وأصول أحمد المَنصوصة عنه أكثرها يَجري على هذا القول. ومالكٌ قريبٌ منه؛ لكنَّ أحمد أكثر تصحيحًا للشُّروط. فليس في الفقهاء الأربعة أكثر تصحيحًا للشُّروط منه[49].
والأصل في العُقود أن تَنْعقد بكُّلِّ ما دلَّ على مقصودها من قولٍ أو فعلٍ، وبكلِّ ما عدَّه النَّاس بيعًا أو إجارةً، وهي التي تدلُّ عليها أصول الشَّريعة، وتعرفُها القلوب[50].(/18)
ولا يجب على النَّاس التزامُ نَوْعٍ مُعيَّنٍ من الاصطلاحات في المعاملات، ولا يَحْرُم عليهم التَّعاقد بغير ما يَتَعاقد به غيرُهم، إذا كان ما تعاقَدوا به دالاًّ على مَقْصودهم[51]. ومعلومٌ أنَّ البيع، والإيجار، والهبة ونحوها لم يَحُدِّ الشَّارع لها حدًّا لا في كتاب الله، ولا في سُنَّة رسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -، ولا نُقِل عن أحدٍ من الصَّحابة والتَّابعين أنَّه عيَّنَ للعُقود صفةً معيَّنةَ الألفاظ، أو غيرها، أو قال ما يدلُّ على ذلك من أنَّها لا تنْعقد إلاَّ بالصِّيغة الخاصَّة، وهذا القول يخالف الإجماع القديم وهو من البدع[52]. وتصرُّفات العباد من الأقوال والأفعال نوعان: عبادةٌ يَصْلُح بها دينهم. وعاداتٌ يحتاجون إليها في دنياهم. وباستقراء أصول الشَّريعة نعلم أنَّ العبادات التي أوجبها الله، أو أحبَّها لا يَثْبُت الأمر بها إلاَّ بالشَّرع. والعادات -فهي ما اعتاده النَّاس في دنياهم ممَّا يحتاجون إليه- الأصل فيها العفو فلا يُحْظَر منها إلا ما حرَّمه الله ورسوله[53]. والحاجة الشَّديدة يندفع بها يسير الغَرَر. والشَّريعة جميعها مبنيَّةٌ على أنَّ المفسدة المُقْتَضية للتَّحريم، إذا عارضها حاجةٌ راجحةٌ أُبِيحَ المُحرَّم، فكيف إذا كانت المفْسَدة مُنتفِيَةً؟[54]. وكلُّ ما احتاج النَّاس إليه في معاشهم، ولم يكنْ سببه مَعْصية - وهي تَرْك واجبٍ أو فعل مُحَرَّمٍ - لم يُحرَّم عليهم؛ لأنَّهم في معنى المضطر الذي ليس بباغٍ ولا عادٍ .. والمنفق للمال في المعاصي حتى لزمتْه الدُّيون يُؤمَر بالتَّوبة، ويُقْضَى عنه دَينُه من الزَّكاة. وكلُّ من توسَّع في تحريم ما يعتقِده غَررًا؛ فإنَّه لابدَّ أن يضطرَّ إلى إجازة ما حرَّمه الله. فإمَّا أن يَخْرج عن مذْهبه الذي يقلِّده في هذه المسألة، وإمَّا أن يحتال[55]. ويقول أيضًا: ولقد تأمَّلت أغلب ما أوقع النَّاس في الحِيل فوجدته أحد شيئين: إمَّا ذنوبٌ جُوزُوا عليها(/19)
بتضييقٍ في أمورهم فلم يستطيعوا دفع هذا الضِّيق إلاَّ بالحِيلِ فلم تزدْهم الحيلُ إلا بلاءً، كما جرى لأصحاب السَّبت من اليَهود، وإمَّا مُبالغةٌ في التَّشديد لما اعتقدوه من تحريم الشَّارع[56].
وما تمسُّ الحاجة إليه من فروع هذه القاعدة -(الأصل في العُقود الصِّحَّةُ والجوازُ)- ومن مسائل بيع الثَّمر قبل بُدُوِّ صلاحه، وما قد عمَّت به البلوى في كثيرٍ من بلاد الإسلام الأصل فيه الجوازُ[57]. ويقول ابن القيِّم: الأصل في العُقود والشُّروط الصِّحَّةُ إلاَّ ما أبطله الشَّارع أو نَهَى عنه. وهذا القول هو الصَّحيح[58]. وكلُّ ما لم يبيِّنِ اللهُ ورسولُهُ منَ العُقود والشُّروط فلا يجوز تَحْريمُها؛ فإنَّ الله –سبحانه- قد فصَّل لنا ما حرَّم علينا فما كان من هذه الأشياء حرامًا، فلابدَّ أن يكون تَحْريمه مُفَصَّلاً. وكما أنَّه لا يجوز إباحة ما حرَّمه الله؛ فكذلك لا يجوز تحريم ما عفا عنه ولم يحرِّمْه[59].
ولكلِّ هذه الأقوال من الإمامين ابن تيميَّة، وتلميذه ابن القيِّم يظهر لي شمولُها، ودخول عقد (الإيجار المنتهي بالتَّمليك) في دائرة العفو والجواز والحلِّ، وتؤيِّده مُجْمل القواعد الفِقهيَّة الآتية:
من القواعد الفقهيَّة التي لها عَلاقةٌ بهذا العقد.
- الأصْل في العُقود بناؤها على قول أربابها[60].
- المعروف بين التُّجَّار؛ كالمَشروط بينهم[61].
- الإجارة؛ كالبيع إلاَّ في موضعين: وجوب التَّوقيت (الأجَل)، والانفساخ بعد القَبْض بتَلَف[62].
- استعمال النَّاس حُجَّة يجب العمل به[63].
- العِبْرة في العُقود للمقاصد والمعاني، لا الألفاظ والمباني[64].
- الحاجة تَنْزل منزلة الضَّرورة عامَّةً كانت أو خاصَّةً[65].
- المواطأَة العُرفيَّة تَنْزِل منزلة المواطأة اللفْظيَّة من كلِّ وجهٍ[66].
ولولا خشيةُ الإطالة لبيَّنت انطباق هذه القواعد على هذا العقد، وهي ظاهرةٌ عند القارئ اللَّبيب.(/20)
بعض المجامع، والهيئات الفقهيَّة حرَّمت (الإيجار المنتهي بالتَّمليك)؛ لأمرين:
الأوَّل: أنَّه عقدٌ اشتمل على عقدين مُخْتلِفَين على عينٍ واحدةٍ في وقتٍ واحدٍ.
الثاني: أنّ هذا العقد يصبُّ في خانة الأغنياء على حساب الفقراء وذَوي الدَّخل المحدود. فجعل هذان الأمران علَّةً للتَّحريم حينًا، وضابطًا للصُّورة الممنوعة حينًا آخر دون ذكر دليلٍ من كتابٍ، أو سُنَّةٍ، أو أثرٍ عن الصَّحابة يُعتمد عليه.
والجواب عن الأمر الأوَّل: أن يُقال ما المحذور من اجتماع عقْدين على نحو ما ذُكِرَ؟(/21)
إن قيل: سببُ المنع دخوله تحت النَّهي عن بيعتين في بَيْعةٍ، فالجواب عنه: ما حقَّقه ابن قيِّم الجوزيَّة بأنَّ البيعتَيْن في بَيْعةٍ هو بيع العِينَة. وليس الإيجار المنتهي بالتَّمليك من العِينَة في شيءٍ؛ بل قد نصَّ العلماء المحقِّقون على جواز اجتماع البَيْع، والإجارة في عقدٍ واحدٍ. ذكر ابن القيِّم في إعلام الموقِّعين في "جواز الاحتيال إلى الحقِّ بطريقٍ مباحٍ، وإن لم تشرع بهذا الطَّريق" قال: "المثال الخامس" لا يجوز استئْجار الشَّمْع؛ ليشعله لذَهَاب عين المستأجِر، والحيلةُ في تَجْويز هذا العقْد أن يبيعه من الشَّمعة أواقٍ معلومةً ثمَّ يؤجِرُه إيَّاها.. وهذا جائزٌ على أحد القولَين في مذهب الإمام أحمد، واختاره شيخنا وهو الصَّواب المقطوع به.. فإن قيل: لكنَّ العقد تضمَّن الجمع بين البيع والإجارة، قيل: لا محذُور في الجمع بين عقدَين؛ كلٌّ منهما جائزٌ بمفرده؛ كما لو باعه سِلعةً وآجَره داره شهرًا بمئة دِرهمٍ. وكلام ابن القيِّم ينطَبِق على العقد- مَحَلّ البَحْث - فقد اشتمل على عقدَين مُخْتَلِفَين: الأوَّل بيعٌ،والثَّاني إجارةٌ، وكلٌّ منهما جائزٌ بمفرده - على عينٍ واحدةٍ - هي العِمَارة أو السَّيَّارة مثلاً، أو الشَّمعة في المثال الآخر بيعًا وتأجيرًا، فقد جَعلْتَ الثَّلاثين دِرْهمًا ثمنًا مُشْترَكًا بين السِّلعة وأجْرة الدَّار؛ كما جَعلْتَ الدَّراهم ثمنًا للشَّمعة، وأُجْرةً لها في وقتٍ واحدٍ.(/22)
وجاء مثل هذا عند المالكيَّة، ففي مُختصر خليلٍ "وفسدتْ إن انْتَفى عُرْف تعجيل المُعيَّن؛ كَمَعَ جُعْلٍ لا بَيْعٍ". قال الأزهريُّ في شرحه للمُخْتَصر: فَسَدتِ الإجارة بشَيءٍ معيَّنٍ إن انتفى منها تعجيل الأجر المعيَّن بأن كان العُرْف تأخيره، أو لا عرف بأحدهما بأن جرى العرف بهما معًا. هذا مذهب ابن القاسم، وقال ابن حبيبٍ: تصحُّ في الوجهين. أي؛ عُرْف التأخير وعرفهما معًا، وشبه في الفساد فقال: كالإجارة مع جُعْلٍ في عَقدٍ واحدٍ؛ لتَنافي أحكامِهِمَا. ولا تفسد الإجارة المُجْتمعة مع بيعٍ في عقدٍ واحدٍ؛ لاتفاقهما في الأحْكام.
أمَّا الجواب عن علَّة البيع الثَّانية التي هي: "إنَّ عقدَ التَّأجير المنتهي بالتَّمليك، هو في صالح الأغنياء على حساب الفقراء، وذوي الدَّخل المحدود" فيقال: هل هذه علَّةٌ مؤثِّرةٌ في الحكم؟! ألَيس عُقود البُيوع والمعاوضَات الشَّرعيَّة عامَّةً، المستفيد الأوَّل هو الغنيُّ؟وما المانع من جواز هذه العقود إذا توافرت فيها الشُّروط وانتفت منها الموانع؟ ولم يُعْرف في كتب الفِقْه فضلاً عن الكتاب والسُّنَّة، أنَّ من شُروط العقد أن يتماثل العاقدان في الغِنى أو الفقر، أو لا يربحُ الغَنيُّ في بيعه على الفقير وهذا القول مردودٌ على قائله.
نتيجة البحث
بعْدَ النَّظر في أقوال العلماء، ومذاهِبِهم، واختيارات المحقِّقين منهم ظَهَر لي أنَّه يمكن التّكييف الفِقهيُّ للعقْد المُسمَّى (بالإيجار المنتهي بالتَّمليك) على نحو مما يلي:(/23)
أولاً: أنَّ هذا العقْد توافرت فيه أركانُ البيع، وأركانُ الإجارة – (العاقدان، والمعقود عليه (السِّلْعة)، والعِوَض، والأجل، والصِّيغة (الإيجاب والقبول)- غير أنَّه جُمِعَ بينهما في صيغةٍ واحدةٍ. وأُطْلِق فيه لفظُ التَّمليك. والمراد به تمليك منافع الإجارة وأُطْلق فيه لفظُ الإيجار، والمراد به منافع العَيْن المباعة، ولم يتخلَّف فيه سِوى معرفة الثَّمن فيما لو تَمَّت مراجعة الأقساط عند تأخُّر السَّداد بزيادتها، وسيأتي لها مزيدُ بيانٍ قريبًا. أمَّا إذا لم يَشْترط مراجعة الأقساط بزيادةٍ أو نقصٍ، فَجَهالَة الثَّمن مُرتفعةٌ حينئذٍ،، والله أعلم.
ثانيًا: هذا العَقْد بمجموع ما تركَّب منه يولِّد التزامًا بين الطَّرفَين؛ التَّاجر (البائع) والعميل (المشتري)، كلٌّ فيما يخصُّه فهو عقْد مُعَاوضَةٍ بين طَرَفين لهما به منفعةٌ.
ثالثًا: أنَّه عقدٌ واضحٌ محدَّدٌ في الجملة، وليس من العُقود الاحتماليَّة بحالٍ حتَّى يَدْخُله الغَرَر أو الجَهَالَة.
رابعًا: هذا العقْد (بيعٌ بالوعد) وفيه كلامٌ لأهل العلم، هل هو مُلزِمٌ أم لا؟ وهو مذهب المالكيَّة وهو المختار. وأقرَّه مَجْمَع الفِقْه الإسلاميُّ بجِدَّة.
خامسًا: ثمَّ هو عقْد رضًا، وعقدُ إذْعانٍ في وقتٍ واحدٍ. عقد رضًا؛ لأنَّه برضا الطَّرفين، وعقد إذْعانٍ من قِبَل المستأجِر؛ حيث يُمْلي عليه المالِك (المؤجِر)، وليس للمستأجِر ردُّ زيادةٍ أو نقصٍ في الأقساط ثمنًا وعددًا. وكلٌّ من الطَّرفين مُلْتَزِمٌ بتنْفِيذه. والمسلمونَ على شُرُوطِهم.
سادسًا: أنَّ الوفاء بمثل هذا العَقْد مُلْزِمٌ للطَّرفين قضاءً وديانةً، ويُمْكن تعيينُ بعض الأقساط الأخيرة ممّا يقارب ثلث ثمن السِّلْعة مثلاً للبيع المَوْعُود به.(/24)
سابعًا: إذا كان الأصل في الأشياء الإباحة قبل ورود الدَّليل - كما هو مُقَرَّرٌ في موضعه عند أهل العلم -؛ فإنَّ للمُسلِمين أن يُحْدثُوا من العُقُود التِّجاريَّة ما يَخْدم مصلحتهم، ما دام ذلك لا يُعَارِض نصًّا صريحًا من نصوص الشَّارع،كما هو الحال - في نظري -في العقد المُسمَّى (بالإيجار المنتهي بالتَّمليك) بعد أن يسمَّى بـ (التَّأجير مع الوعد بالبيع) - إذ لو كان مُخالِفًا لنصٍّ صريحٍ من الشَّارع ما وقع فيه اختلافٌ بين العلماء؛ كما ظهر في قرار هَيْئة كبار العلماء في المملكة العربيَّة السُّعوديَّة.
ثامنًا: "الأصلُ في العُقود والشُّروط كما يقول شيخ الإسلام -ابن تيميَّة - الجوازُ والصِّحَّة، ولا يَحْرُم منها ولا يَبْطُل إلاَّ ما دلَّ الشَّرع على بُطلانه، والإمام أحمد أكثر تصحيحًا للشُّروط وليس في الفقهاء الأربعة أكثر تصحيحًا للشُّروط منه". وقد يصحُّ العقد ويَبْطُل الشَّرطُ كما في حديث بريرة لمَّا اشتَرتْها عائشة لتَعْتِقَها - الحديث.
تاسعًا: قد يوجدُ في العقْدِ شرطُ (التَّأمين) على السِّلْعة المُباعةِ؛ كالسَّيَّارة أو العِمارة مثلاً، فهذا شرطٌ باطِلٌ لما فيه من الظُّلْم، والغَرَر، والجَهَالَة. وإنْ تَعَذَّر على العميل الحصولُ على السِّلْعَة إلاَّ بشرط التَّأمين عليها فلا بأَس حينئذٍ -إذا كانت الحاجَة ماسَّةٌ- ولكن يجب عليه إن حصل عليه حادثٌ أن لا يأخذ أكثر ممَّا دفع لشَرِكَة التَّأمين، وهذا الشَّرط وإن كان باطلاً؛ فإنَّه لا يُبْطِل أصلَ العَقْد.(/25)
عاشرًا: قد يُجْهَل الثَّمَن في هذا العقد - الإيجار المُنْتَهِي بالتَّمليك - عند مُرَاجَعَة الأقساط الشَّهريَّة عند تأخُّر السَّداد، أو المُماطَلَة. ويمكن لإزالَة هذا الأمر بأنْ يُنَصَّ عند إبرامِ العَقْدِ ما يَزِيل هذه الجَهَالة؛ كأنْ يُشْترط عند تأَخُّر السَّداد أنَّه يجوز للمالك (البائع أو المؤجِرِ) أن يَرْهَن السِّلْعة؛ حتّى يتمَّ سداد الأقساط المُتَأخِّرة. أو يفكَّ الرَّهْنَ عنها فتُبَاعُ في مزادٍ يَسْتوْفي البائع منه قيمة ماله من أقساطٍ ثمنًا للسِّلْعة. وعلى كلِّ حالٍ إذا لم يَحْصل عند مراجعة الأقساط زيادةٌ فلا جَهَالة، ولا غَرَر في الثَّمن. والله أعلم.
الحادِيَ عَشَرَ: قد يَرِد على هذا العقْدِ إشكالٌ: هو تصرُّف المُشْتري بالسِّلْعة قبل قبضها، وقبض كلِّ شيءٍ بَحَسبه. وقبْضُ السَّيَّارة المُباعة بهذا العقْد مثلاً لا يتِمُّ إلا بقبْضِ الاستِمارة، أو تسجِيلِها باسْم المُشْتَرِي وهذا لم يحصل.
ويُجاب عن هذا الإشكال: أنَّ المراد بالتَّصرُّف هو عُموم الانتِفاعات، والبيعُ بعضها لا كلُّها والحُكْم للأغْلَب. والواقِعُ أنَّ المُشْتَري يتصرَّف بالسِّلْعة بكلِّ منافعها، وإن كان لا يستَطِيع بيعَها؛ لأنَّها لا تزال بِيَدِ مالِكِها، وهو البائع حَسْبَ ما اشَتَرَطاه، ومِثْلُ هذا العقد في التَّصرُّف بالسَّلْعة قَبْل قبْضِه جائزٌ بما عدا البيع. وقد نَصَّ العُلماء: أنَّ ما عدا المَكِيل والمَوْزُون يَجُوز التَّصرُّف فيه - بغير البيع - قبْلَ قَبْضه، ويجوز بيعُه لبائعه. أجاز فُقَهاء الحنابلة كلُّ ما مُلِك بعقْدٍ سِوى البيع؛ كالإجارة والهِبة مثلاً فإنَّه يجوز التَّصَرُّف فيه قبل قَبْضه بالبَيْع وغيره[67]. وأجاز شَيْخ الإسلام - ابن تيميَّة - في بيع الرَّقيق وشرائه أنّه يُمْلَك بمُجرَّد العقْد دون قَبْضِه[68].(/26)
الثاني عشر: أجَاز ابن قُدَامَة في المُغْنِي: أنْ يَدْفع الرَّجُل الدَّابَّة إلى مَنْ يَعْمل عليها بِجُزءٍ من الدَّخل المُتَوَلِّد منها ونَصُّ كلامِه: "فإنْ قيل فقد جَوَّزْتُم دَفْع الدَّابَّة إلى من يَعْمل عليها بنِصْفِ ربْحها. قلنا إنَّما جاز ثَمَّ تشبيهًا بالمُضَارَبَة. وفي مسألتِنَا لا يُمْكن ذلك؛ لأنَّ النَّماء الحاصل في الغنم لا يقِفُ حصوله على عمله فيها فلم يُمْكن إلحاقُه. وإن استأجَرَه على رعايتها مدَّةً مَعْلُومةً، بنصفها، أو جزءٍ معلومٍ منها، صحَّ؛ لأنّ العمل والأجر والمدَّة معلومٌ، فصحَّ، كما لو جَعَل الأجر دراهم، ويكون النَّماء الحاصل بينهما بحكم المِلْك؛ لأنَّه مَلَك الجزء المجْعُول له منها في الحال، فيكون له نماؤه، كما لو اشتراه"[69].
ولو نظرنا لموقف ابن قُدَامة من هذا النَّوع -من العُقود مع عدم موافَقته لعَقْد الإجارة، أو المُضَاربة- وجدنا أنَّه رآه معاملةً جديدةً لم تُعْرَف من قبل، واحتاج النَّاس إليها في عصره فأَجازها تخريجًا على عقد المُسَاقاة؛ وذلك لمصلحة النَّاس حيث لا يوجد فيها غَرَرٌ ولا جَهَالةٌ، ولا أكلٌ لأمْوال النَّاس بالباطل. ولو خرَّجنا كلام ابن قدامة هذا على مسألة ما يُسمَّى بـ(الإيجار المنتهي بالتَّمليك أو الإيجار مع الوَعْد بالبيع)، لَوَجدنا السَّيَّارة أو العمارة المعقود عليها مثلاً بمثابة الدَّابَّة التي يُعْمل عليها بجزءٍ ممَّا ينتج، أو يتولَّد منها، وهي الأقساط التي تدفع إلى المالك أو المؤجِر للسِّلْعة؛ لأنَّ العمل هو (الشَّراء أو التَّأجير) والأجر هو (الثَّمَن) والمدَّة التي هي (الأجل) كلُّها مَعْلومةٌ، فلا جَهَالة حينئذٍ.(/27)
الثَّالِثَ عَشَرَ: وإن قيل إنَّ هذا العقد -الإيجار المنتهي بالتَّمليك - إجارةٌ فهل تَنْعَقد بلفظ البيع؟. فيه قولان لأهل العلم يقول ابن تيميَّة: "وهل تَنْعقد الإجارة بلفظ البيع؟ فيه وجهان يَثْبُتان على أنَّ هذه المُعَاوَضة نَوْعٌ من البَيْع أو شَبَهٌ به"[70]. والتَّحقيق أنَّ المُتَعَاقدَين إن عَرَفَا المقصود انْعَقدَت، فأيُّ لفظٍ من الألفاظ عَرَف به المُتعاقِدان مقصودهما، انْعَقد به العَقْد، وهذا عامٌّ في جميع العُقُود[71].
الرابِعَ عَشَرَ: يمكن تَخْريج هذا العقْد (الإيجار المنتهي بالتَّمليك) بأنَّه إجارةٌ مع شرطٍ مطلقًا، أو مع شَرْط الخيار المُؤَجَّل إلى أجلٍ طويلٍ. وعدم تحديد مُدَّة للخيار قال بها الإمام مالكٌ، وأحمد بن حنبل، وابن أبي ليلى، وابن شُبْرُمَة؛ لقول النَّبيِّ – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((المُسْلِمون عِنْد شُرُوطِهِم)) وأَحَال الإمام مالكٌ مدَّة الخيار إلى العُرْف.
الخامِسَ عَشَرَ: ذَكَر ابن القيِّم قاعدةً عظيمةً من قواعد الشَّريعة وهي: "كلُّ ما يُعْلم أنَّه لا غِنَى بالأمَّة عنه، ولم يزَل يقع في الإسلام ولم يُعْلم من النَّبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم – تَغْييرُه، ولا إنكارُه، ولا من الصَّحابة، فهو من الدِّين .. وقد نصَّ الله على جواز النَّكاح من غير تَسْميةٍ، وحَكَم النَّبيُّ بمهر المثل. فإذا كان هذا في النِّكاح، ففي سائر العقود من البُيوع والإجارات أَوْلى وأَحْرَى".(/28)
السادِسَ عَشَرَ: وخلاصة التَّكييف: أنَّ الإيجار المنتهي بالتَّمليك عقْدٌ جديدٌ لم ينشئْه المسلمون ابْتِداءً؛ بل هو عقْدٌ وافدٌ إليهم من بلاد الغرب؛ نتيجة الانفتاح الحضاريِّ والتِّجاريِّ، فهو عقْدٌ مُرَكَّبٌ من عدَّة عقودٍ: فيه شَبَهٌ من الإجارة. وشَبَهٌ من البيع. وشَبَهٌ من بيع الآجال (التَّقسيط)، وشَبَهٌ ببيع المواعدة. وشَبَهٌ بالرَّهن. علاوةً على ما قد يتضمَّنه من شرط (التَّأمين)، فهو مَزيجٌ من هذه العقود مُجْتَمَعةً، ولا يمكن إلحاقُه بواحدٍ منها دون الآخر. ويُخرَّج وَفْق القواعد الشَّرعيَّة للنَّظر إليه جُمْلَة حيثُ الأصل في العُقُود الجوازُ والحِلُّ، أو يُخَرَّج تخريجًا جُزئيًّا على أنَّه إجارةٌ مع الوعْد بالبيع.
الخُلاصة
بعْدَ النَّظر والتَّأمُّل ظَهَر لي جواز هذا العقد إذا سَلِم من شرط التَّأمين، وإن كان اشتراطه فيه لا يُبْطِل أصل العقد. وسَلِم أيضًا من جهالة الثَّمن؛ نتيجة مُرَاجعة الأقساط بالزِّيادة أو النَّقص عند التَّأخُّر عن السَّداد. وسبق أن خرَّجْنا تكْيِيفه الفِقهيَّ بما يُزيل اللَّبس إن شاء الله. فهو عقْدٌ جديدٌ التَزَم الطَّرفان الوفاءَ به، وليس فيه ما يُخَالِف نصًّا صريحًا من كتابٍ أو سُنَّة. والمؤمنون على شروطهم إلاَّ شرطًا حرَّم حلالاً أو أحلَّ حرامًا. والقَوْل بالجواز يتَّفِق مع يُسْر الشَّريعة وسماحتها؛ كقوله تعالى: {يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}[72]، وقَوْلِه: {مَا جَعَلَ عَلَيْكُم في الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}[73]. ورسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم – ((مَا خُيِّرَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلاَّ اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ فيه إِثْمٌ))[74]. متَّفقٌ عليه.(/29)
فإن كان الصَّوابُ حليفي في اجتهادي فَمِن الله، وإن كان غير ذلك فمن نَفْسي ومن الشَّيطان. والله ورسوله منه بَريئان. وصلَّى الله على الموْصوف من ربِّه بأنَّه: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}[75]والله أعلم.
ــــــــــــــــــــــــــــ
[1] مجلّة مجمع الفقه الإسلاميّ في جدّة – العدد 5 ص 2605.
[2] لم يرد في كتب السّنّة هذا اللّفظ ويخالف ما هو أصحّ منه.
[3] انظر شرح السّنة للبغويّ ج8 ص142.
[4] مجموع الفتاوى ج18 ص63.
[5] ونَصُّ الحديثِ أنَّه كان يَسيرُ على جَمَلٍ قَدْ أعْيا فَمَرَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عليْه وسَلَمَ - فَضَرَبَهُ، فَدَعَا له فَسَارَ بِسَيْرٍ لَيْسَ يَسِيرُ مِثْلَه، ثُمَّ قال بِعْنِيهِ بِوُقِيَّة، قلت: لا. ثم قال: بِعْنِيه بأوقِيَّتَيْنِ فبِعْتُه فاستثْنَيْتُ حُمْلَانُه إلى أهْلي، فلما قدمنا المدينة أتَيْتُه بالجَمَلِ ونقدَنِي ثَمَنه، ثم انْصَرَفْت فَأَرَسَلَ على إثْرِي قال: ما كنتُ لآخُذَ جَمَلَكَ، فَخُذْ جَمَلَكَ ذلك فُهُوَ مَالُكَ. اللُّؤْلُؤُ والمَرْجَان ص 345.
[6] شرح السّنّة للبّغويّ ج8 ص142.
[7] تهذيب السّنن ج5 ص148.
[8] سنن أبي داود ج3 ص274.
[9] اللُؤْلُؤُ والمَرْجَان ص365.
[10] سورة النساء من الآية 29.
[11] صَحيحُ البُخَارِيِّ معَ الفَتْحِ ج4 ص451.
[12] سورة المائدة من الآية 1.
[13] القواعد النّورانيّة ص101، 112.
[14] البخاري مع الفتح ج4 ص405.
[15] إعلام الموقّعين عن ربّ العالمين ج3 ص389.
[16] القواعد الفقهيّة ص119.
[17] القواعد النّورانيّة ص184-185.
[18] المصدر السابق ص186.
[19] الأمّ ج3 ص2.
[20] تبيين الحقائق ج4 ص87.
[21] الموافقات ج1 ص284.
[22] القواعد النّورانيّة لابن تيميّة ص214، وإعلام الموقّعين لابن القيّم ج2 ص348.
[23] اللؤْلُؤْ والمَرْجَان ص365، البخاري مع الفتح ج5 ص190.(/30)
[24] اللؤْلُؤْ والمَرْجَان ص431.
[25] الموافقات ج1 ص384.
[26] اللؤلؤ والمرجان ص423.
[27] لم يرد في كتب السنة ويخالفه ما هو أصح منه.
[28] سُورَةُ المائِدَة من الآية: 1.
[29] سورة الإسْرَاءِ الآية 34.
[30] سُنَنُ الدَّارَقُطْنِيِّ ج3 ص27، وسُنَنُ البَيْهَقِيِّ ج6 ص79، وسُنَنُ التِّرْمِذِيِّ ج3 ص403 وأصْلُه عِنْدَ البُخَارِيِّ.
[31] اللؤْلُؤْ والمَرْجَان ص12.
[32] سورة البقرة الآية: 27.
[33] القواعد النّورانيّة ص201.
[34] المصدر السّابق ص202.
[35] سورة البَقَرة: 275.
[36] سورة النِّسَاء: 24.
[37] سورة النِّساء: 29.
[38] القواعد النّورانيّة ص188.
[39] اللُؤْلؤ والمَرْجَان ص290.
[40] المصدر السابق ص364.
[41] اللؤْلُؤُ والمَرْجَان ص376.
[42] حديثٌ ضَعِيفٌ لا يُوجَدُ في دَوَاوينِ السُّنَّةِ كما يَقُولُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ.
[43] تحفة الفقهاء للسّمرقنديّ ج3 ص62.
[44] نفس المرجع ج3 ص61، وانظر (بداية المجتهد ونهاية المقتصد) ج2 ص159.
[45] بداية المجتهد ونهاية المقتصد ج2 ص159.
[46] القَبَس شرح الموطّأ ج2 ص843.
[47] الفُروق ج3 ص142.
[48] مختصر المزنيّ ج2 ص203، وانظر (شرح السّنّة للبغويّ )ج8 ص147.
[49] القواعد النّورانيّة ص188.
[50] مجموع الفتاوى ج29 ص13.
[51] القواعد النّورانيّة ص105، ومجموع الفتاوى ج29 ص7.
[52] القواعد النّورانيّة ص112.
[53] نفس المرجع، وانظر مجموع الفتاوى ج29 ص16.
[54] القواعد النّورانيّة ص133، ومجموع الفتاوى ج29 ص49.
[55] القواعد النّورانيّة ص143.
[56] مجموع الفتاوى ج29 ص45.
[57] نفس المرجع ص55.
[58] إعلام الموقّعين ج1 ص324.
[59] نفس المرجع ج3 ص383.
[60] المنثور في القواعد الفقهيّة للزركشيّ والشّافعيّ ج1 ص92.
[61] فتح الباري ج4 ص405.
[62] المنثور في القواعد الفقهية مرجع سابق.
[63] شرح القواعد الفقهيّة ص223.
[64] نفس المرجع ص55.(/31)
[65] شرح المجلّة ج1 ص33، والمنثور في القواعد الفقهيّة ج2 ص24.
[66] إعلام الموقّعين ج3 ص241.
[67] حاشية ابن قاسمٍ على الرّوض ج4 ص478.
[68] نفس المرجع ج4 ص477.
[69] المغني ج8 ص16.
[70] الاختيارات الفقهيّة مع الفتاوى الكبرى ج4 ص490.
[71] مجموع الفتاوى ج20 ص533.
[72] سورة البقرة: 185.
[73] سورة الحج: 78.
[74] اللؤلؤ والمرجان ص613.
[75] سورة التوبة: 168.(/32)
العنوان: الإيمان بالغيب
رقم المقالة: 1411
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يُضْلِلْ فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورس-وله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70-71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله - تعالى - وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - وشر الأمور محدثاتها، وكلَّ محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها المسلمون: من أعظم أسباب سعادة العبد في الدنيا والآخرة: طمأنينة قلبه وسكينته، والقلب لا يطمئن إلا بالإيمان. والإيمانُ يعني: التصديق بالغيب، والقناعة بأن العالم المشاهد ليس إلا جزءًا يسيرًا من الموجود، واليقين بأن لهذا الوجود بعالميه: عالم الغيب والشهادة، خالقًا ومدبّرًا، هو على كل شيء قدير، وبكل شيء عليم.(/1)
وأركان الإيمان الستة المنصوص عليها في السُّنَّة كلُّها غيب؛ ولذا استحق المصدقُ بها وصف الإيمان، وكان منتفعًا بالقرآن، كما قال الله - سبحانه وتعالى -: {ذَلِكَ الكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ} [البقرة: 2-3].
والذين لا يؤمنون بالغيب مع قيام الأدلَّة على وجوده ما هم إلا جاهلونَ لأقدار أنفسهم، مستكبرون عن عبادة ربهم، ولو أُظهِر لهم هذا الغيبُ فشاهدوه أو لمسوه فلن يؤمنوا؛ لأن من أنكر الغيب مع تظاهُر الأدلَّة على وُجوده، فذلك دليل على فساد قلبه، واختلال عقله، ولن تنفعه مشاهدة الغيب شيئًا لو شاهده، وقد أخبر الله - تعالى - عن استكبار هذه الفئة من الناس؛ فقال – سبحانه -: {وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا المَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا} [الفرقان: 21]، وأخبر – سبحانه - عنهم بأنهم لو رأوا الغيب مشاهدًا أمامهم لما آمنوا {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ المَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ المَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} [الأنعام: 111].
والغيبُ كله - سواءٌ ما كان منه في الماضي أم في الحاضر أم في المستقبل - لا يعلمه إلا الله - تعالى - ومهما بلغت منزلة المخلوق وعظمته وقوتُه، ومهما كان عنده من الوسائل والأساليب والصناعات فإنه لا يستطيع معرفة الغيب؛ إذ علم الغيب من خصائص الرب جلَّ جلاله.(/2)
وأفضل خَلْقٍ خلقه الله - تعالى - نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - وله عند الله - تعالى - منزلة عظيمة، ومقام محمود، وحوض مورود، ومع ذلك فإنه - عليه الصلاة والسلام - لا يعلم الغيب، كما قالت عائشة - رضي الله عنها -: "من زعم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخبر بما يكون في غد فقد أعظم على الله الفرية، والله - تعالى - يقول: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الغَيْبَ إِلَّا اللهُ} [النمل: 65]" رواه مسلم[1].
وقد أمره ربه - تبارك وتعالى - فقال: {قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللهِ وَلَا أَعْلَمُ الغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} [الأنعام: 50].
ولما رميت عائشةُ - رضي الله عنها - بالإفك لم يعلم - عليه الصلاة والسلام - أهي بريئة أم لا، وعظم عليه الأمر حتى أخبره الله - تعالى – ببراءتها.
وذبح إبراهيمُ - عليه السلام - عجله للملائكة ولا علم له بأنهم ملائكة حتى أخبروه وقالوا: {إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ} [هود: 70]، ولما جاءوا لوطًا - عليه السلام - لم يعلم أيضًا أنهم ملائكة؛ ولذا {سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ} [هود: 77] ولم يعلم خبرهم إلا لما أخبروه فقالوا: {إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ} [هود: 81].
ويعقوبُ - عليه السلام - ابيضت عيناه من الحزن على يوسف، وهو في مصر لا يدري خبره حتى أظهر الله خبر يوسف عليه السلام.
وسليمان - عليه السلام - مع أن الله - تعالى - سخر له الشياطين والريح، ما كان يدري عن أهل مأرب قوم بلقيس حتى جاءه الهدهد وقال له: {أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} [النمل: 22].(/3)
فهؤلاء الرسل - عليهم السلام - أفاضل البشر، ما كانوا يعلمون الغيب، إلا ما أطلعهم الله - تعالى - عليه، وكشف لهم خبره، من أنباء الماضي، وعلوم الحاضر والمستقبل. والملائكةُ - عليهم السلام - مع قربهم من الله - تعالى - وقيامهم بوظائفهم التي كلفوا بها؛ فإنهم لا يعلمون الغيب أيضًا؛ ولما أخبرهم الله - سبحانه وتعالى - أنه جاعل في الأرض خليفة {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30]، ولما قال لهم – سبحانه -: {أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ العَلِيمُ الحَكِيمُ} [البقرة: 31-32]، فبان بذلك أن أعلم المخلوقات، وأقربها إلى الله - تعالى - وهم الرسل والملائكة - عليهم السلام - لا يعلمون الغيب؛ لكنَّ الله - تعالى - يطلعهم على شيء منه كما قال – سبحانه -: {وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الغَيْبِ وَلَكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ} [آل عمران: 179]، وقال – تعالى -: {عَالِمُ الغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجنّ: 26-27].(/4)
وما كشفه الله - تعالى - لرسله من الغيب من قصة بداية الخلق، وعمارة الأرض، وأخبار الأمم الماضية، وما جرى لهم، أو ما كان منه في المستقبل من أنباء آخر الزمان، وعلامات الساعة، وأخبار البعث، والقيامة والمصير، فكل ذلك ما هو إلا جزء يسير من الغيب الذي أطلع الله عليه بعض خلقه، وإلا فإنه - سبحانه وتعالى -: {بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 29]، وقد {وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} [طه: 98]، وأخبر – سبحانه - أن خلقه {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [البقرة: 255]، وهو ما علمهم إياه.
ولذا فإنه لما تقرَّر في الشريعة أنَّ الغيب لا يعلمه إلا الله - تعالى - فإنَّ كل طريقة يراد بها التوصلُ إلى شيء من علم الغيب غير طريقة الوحي الذي اختص الله - تعالى - به رسله فهي ضلال وإفكٌ وكذبٌ، ولا توصل إلى علم حقيقي؛ بل هي مجردُ ظنونٍ وأوهامٍ وأكاذيب لا تغني من الحق شيئًا. ولأجل ذلك حرم الله السحر والكهانة والعرافة، وما جرى مَجراها مِما فيه ادِّعاءُ علم الغيب بطرق شيطانية، وحِيَل كُفريَّة؛ لما فيها من منازعة الرب - جلَّ جلاله - في بعض خصائصه.
وكل ما يحتاج إليه البشر، وما يُصلح أحوالهم من الغيب كشفه الله - تعالى - لهم، وعلمهم إيَّاه؛ وهو ما أخبرت به الرسل من تفرد الله - سبحانه وتعالى - بالخلق والأمر والتدبير، ولزوم إفراده بالعبادة دون ما سواه، والطريق الموصلة إلى رضوانه، وأنباء المكذبين وما جرى لهم، وأخبار المؤمنين وجزائهم، والإخبار عن البعث والنشور والحساب والجنة والنار. فكل ذلك مما يحتاج المكلفون إلى العلم به؛ حتى يقودهم إلى الإيمان بالله - تعالى - وإخلاص العبادة له وحده؛ علمهم الله إياه.
كذلك كشف الله لهم من العلوم ما يحتاجون إليه في عمارة الأرض، وإصلاح دنياهم، وحَجَب عنهم ما لا يحتاجون إليه.(/5)
قال ابن القيم - رحمه الله تعالى -: "وكذلك أعطاهم من العلوم المتعلقة بصلاح معاشهم ودنياهم بقدر حاجاتهم؛ كعلم الطب والحساب وعلم الزراعة والغراس، وضروب الصنائع، واستنباط المياه، وعقد الأبنية، وصنعة السفن، واستخراج المعادن.. والتصرّف في وجوه التّجارات، ومعرفة وجوه المكاسب، وغير ذلك مما فيه قيام معايشهم، ثم منعهم – سبحانه - علمَ ما سوى ذلك مما ليس في شأنهم، ولا فيه مصلحة لهم؛ كعلم الغيب، وعلم ما كان وكل ما يكون، والعلم بعدد القطر، وأمواج البحر، وذرات الرمال، ومساقط الأوراق، وعدد الكواكب ومقاديرها، وعلم ما فوق السموات، وما تحت الثرى، وما في لجج البحار، وأقطار العالم، وما يكنُّه الناس في صدورهم، وما تحمل كلُّ أنثى، وما تغيض الأرحام وما تزداد؛ إلى سائر ما عزَب عنهم علمُه. فمن تكلف معرفة ذلك فقد ظلم نفسه، وبخس من التوفيق حظه، ولم يحصل إلا على الجهل المركب، والخيال الفاسد في أكثر أمره، وجرت سنة الله وحكمتُه أن هذا الضرب من الناس أجهلهم بالعلم النافع، وأقلهم صوابًا، فترى عند من لا يرفعون به رأسًا من الحِكَمِ والعلم الحق النافع ما لا يخطر ببالهم أصلاً، وذلك من حكمة الله في خلقه وهو العزيز الحكيم" ا هـ[2].
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي البَرِّ وَالبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 59].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله، حمدًا طيبًا كثيرًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، أحمده وأشكره وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين..(/6)
أما بعد: فاتقوا الله - عباد الله - واعملوا صالحًا.
أيها المؤمنون: الإيمان بالغَيْبِ هو مفتاح الإيمان بالله - تعالى - وبما أخبرت به الرسل - عليهم السلام - ومن أنكر الغيبَ فليس لديه قابليةٌ لأن يُصَدِّق بما أخبرت به الرسل، وما أنزل من الكتب؛ لأن أساس الإيمان بذلك هو الإيمان بالغيب[3]. وكلما كان الإيمان بالغيب أقوى؛ كان الإيمان بالله - تعالى - وبما جاء من عنده أقوى وأمكنَ في قلْبِ العَبْدِ.
وكُلَّما ضعُف الإيمانُ بِالغيب؛ ضعف الإيمان بالله - تعالى – وهكذا. بل إن من أنكر الغيب فهو خارج من الإيمان كله، وليس في قلبه إيمان ألبتة، وكان حاله كحال الدّهرية الملاحدة الذين قالوا: {مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية: 24].
ومن تكلف البحث في الغيبيات ففيه ضعفُ إيمان بها، ونوع إنكار لها؛ لأن قلبه لو اطمأن بالإيمان بالغيب لما راح يبحث عن هذا الغيب.
والنفسُ البشرية بحكم جهلها وعجزها، تنساق خلف دعوات البحث عن الغيب واكتشافه؛ ولكنها عاجزة عن ذلك. ومنذ أزمنة طويلة وإلى يومنا هذا كان كثيرٌ من البشر يبحثون في سر موت الإنسان ورُوحه، وما وجد الماديون منهم لذلك تفسيرًا، لكنهم لو آمنوا بالغيب لعلموا أنَّ الرُّوح من أمر الله - تعالى - وأنَّ البشر مهما بلغت أبحاثهم وعلومُهم فلن يصِلوا إلى علمها؛ لضعفهم، وقلة علمهم {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ العِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85].(/7)
إن المؤمن الحقَّ هو من يؤمن بالغيب، ولا يتكلَّف البحث فيه؛ لعلمه أنه من أسرار الله - تعالى - وأنه لن يدركه ما لم يطلعْه الله على شيء منه، ويجعلُ همّه ومهمته في العمل على تحقيق ما يرضي الله - تعالى - من الإيمان به، وإقامة دينه، والدعوة إليه. ولو نظرنا إلى طريقة العلماء الراسخين في العلم لما وجدناهم إلا على هذا المنهج السديد.
قارنوا مثلاً بين ما خلَّفه لنا علماؤنا من إرث في جوانب العقائد، وبين ما تركوه لنا في جوانب العبادات العملية؛ تجدوا أن ما كان في أمور العقائد لا يتجاوز العشر مما جاء في الفقه العملي، فما سبب ذلك؟ وهل يعني ذلك أنهم ما كانوا يهتمون بالعقائد؟! كلا، ليس الأمر كذلك، وإنما كانت كتبهم في العقائد أقلُّ حجمًا وكثافة من كتبهم في الفقه العملي؛ لأن ما جاء في العقائد غيب، أثبتوا منه ما ثبت في الكتاب والسنة، ولم يدخلوا في تفصيلات وجزئيات متكلفة لم يرد الجواب عنها لا في الكتاب ولا في السنة، ولم يكلفوا عقولهم اقتحام هذا الغيب، الذي حُجب عنهم بتفصيلاته وجزئياته، وعدوا بحث ذلك من أسباب الزيغ والضلال؛ ولذا كان تراثهم في العقائد قليلاً مقارنة بالفقه العملي؛ لاقتصارهم على ما جاءت به النصوص.
بينما لو نظرنا إلى نِتاج أسلافنا في الفقه العملي لوجدناه تراثًا ضخمًا، وما من جزئية فيه إلا وقد أَتَوْا عليها بالتفصيل؛ لحاجة المكلف إلى العلم بذلك؛ لأنه متعلق بعبادته، التي يطلب بها رضى الله - تعالى - ولإمكانية إعمال العقول في نصوصها بالاستنباط والقياس وما شابهه.
وكان من التعدي في الدعاء أن يسأل العبد ربه القصر الفلاني في الجنة، أو الشجرة الفلانية، أو النهر الفلاني، أو أوصافًا معيَّنة يطلبها في الجنة؛ لما في ذلك من التكلف في سؤال المغيبات؛ ولأنه إن دخل الجنة حاز قُصورها وأنهارها وأشجارها فلا يحتاج إلى تفصيل ذلك.(/8)
إن كثيرًا من المسلمين قد حادوا عن منهج أسلافهم؛ فقعدوا عن العمل، وصاروا يشتغلون بالغيبيات، محاولين كشف المستقبل المخبوءِ علمُه، إما بقراءة نبوءات أهل الكتاب، أو بالرؤى والمنامات، ولا سيما مع توارد الفتن في هذا الزمان، وانتقل هَمُّ الواحد منهم من العمل إلى التوقع، ومن الكسب إلى التخمين.
إننا نؤمن بأن الرؤى الصالحة مبشّراتٍ، وأنَّها جزء يسير من النبوة؛ ولكننا ما كلفنا بالبحث في الغيب، وتوقُّع ما سيحْصُل وما يَسْتَجِدُّ من أحداث، ومتى تكون هذه الأحداث، ولن يسألنا الله - تعالى - عن ذلك، وإنما سيسأَلُنا - تبارك وتعالى - عن عباداتنا، وعن دعوتنا، وماذا قدمنا في سبيل الله - تعالى -؟! فواجب علينا أن نعد للسؤال جوابًا، بالاشتغال بما يعنينا، والبعد عمَّا لم نكلف به؛ حتى ننال رضى الله تعالى.
ألا وإن من أعظم الفتن في زمن الفتن: اشتغال الناس بما لا ينفعهم، وانصرافهم عمَّا ينفعهم، وتركهم ما كلفوا به، وإسراعهم فيما لم يكلفوا به، وهذه فتن من نتائج الفتن الكبرى.
فاتقوا الله ربكم، واحذروا الفتن، وافقهوا سبل النجاة منها، بالعمل بما يرضي الله - تعالى - وترك القيل والقال في زمن كثر فيه الحديث، وقلَّ فيه العمل.
وصلوا وسلموا على نبينا محمد كما أمركم بذلك ربكم.
---
[1] أخرجه مسلم في الإيمان باب معنى قول الله - عزَّ وجلَّ -: {وَلَقَدْ رَآَهُ نَزْلَةً أُخْرَى} [النَّجم: 13] (177).
[2] "مفتاح دار السعادة" (1/282). انظر: "أضواء البيان" للشنقيطي (2/175 - 176).
[3] انظر: "أضواء البيان" (1/176).(/9)
العنوان: الأيوبيّون في اليمن تاريخهم السّياسي
رقم المقالة: 942
صاحب المقالة: د. محمود ياسين التكريتي
-----------------------------------------
الأيوبيّون في اليمن تاريخهم السّياسي من (569هـ - 626هـ)
(1174م – 1226م)
تمهيد:
أصبح بمقدور الدولة الأيوبية على عهد ملكها صلاح الدين بأن تمارس الحكم السياسي في اليمن إذ استطاعت هذه الدولة بأن تخضع اليمن إلى نفوذها منذ سنة 569هـ/ 1174م. حيث يعود الدور الأكبر إلى الملك تورانشاه بن أيوب في فرض مثل تلك السيطرة إلا أن وفاة هذا الملك سنة 576هـ/ 1180م. فسح المجال أمام نوابه من الأمراء الأيوبيين في التحرك باتجاه الاستقلال عن دولة صلاح الدين في مصر والشام.(/1)
وكان للظروف المرحلية التي تمر فيها الدولة الأيوبية[1] في مصر والشام أثر كبير في ذلك التحرك والذي انتهى في نشوب الخلاف بين الأميريين خطاب (حطان) بن مبارك بن منقذ الكناني والي زبيد – والأمير عز الدين بن عثمان الزنجيلي – والي عدن[2] – حيث عكس هذا انطباعاً عاماً لدى الجميع عن ضعف الحكم الأيوبي في اليمن: كما نتج عنه ادراك صلاح الدين ابن يوسف صاحب مصر والشام خطورة ما يبيته ذلك الوضع السياسي في اليمن بالنسبة للحكم الأيوبي، وكما ذكر في المصادر التاريخية عن خوف صلاح الدين بأن تخرج اليمن من حكمه[3]، ولهذا كله بعث مملوكه خطاباً (قتلغ أية) على رأس حملة عسكرية إلى اليمن وما أن وصلها حتى استقرت الأحوال السياسية فيها إلا أن خطاب مات تاركاً حكم اليمن، وبهذا فسح المجال أمام الأميرين حطان الكناني، وعز الدين الزنجيلي بالعودة إلى ولايتيهما فاستجد الخلاف بينهما من جديد واشتدت الفتنة باليمن، وما أن تسربت أخبار اليمن إلى صلاح الدين هذه وحرصاً منه على استقرار الأوضاع السياسية والقضاء على الفتنة بادر إلى تجهيز حملة عسكرية ترك قيادتها إلى أخيه الملك سيف الإسلام طغتكين وذلك في أواخر سنة 577هـ/ 1181 لتعود اليمن في وصوله إليها/ سنة 578هـ/ 1182م إلى الحكم الأيوبي.
إن عودة اليمن إلى الحكم الأيوبي يعني بلاشك عودة الوحدة بين مصر والشام، واليمن، كما يعني فتح الطريق أمام الجيش الأيوبي للوصول إلى مكة المكرمة. لتنضم هي الأخرى إلى وحدة العرب ودولة المسلمين.(/2)
لقد تركت المنازعات السياسية بين حكام اليمن أثرها الواضح في تسهيل، مهمة مد دولة صلاح الدين في مصر باتجاه اليمن وتوسيع رقعتها الجغرافية، فقد كانت عدن ومخلاف في يد بني زريع، وكانت صنعاء وبعض مخاليفيها في يد بني حاتم وكانت صعده والجوف في يد الإمام المتوكل على الله أحمد بن سليمان وكان المخلاف السليماني في يد الشريف غانم بن يحيى بن حمزة وزبيد وما حولها في يد عبد النبي مهدي الحميري، وكانت الخلافات مستفحلة بين تلك الأطراف السياسية الحاكمة كتلك التي دفعت بين حاكم مخلاف السليماني الشريف غانم، وبين حاكم زبيد إبان وصول عسكر بني أيوب إلى اليمن مما سهل مهمة فتح اليمن ومد سيطرتهم فوق أراضيها.
لقد وفر الحكم الأيوبي في اليمن لنفسه الكثير من الضمانات السياسية التي مكنته بالبقاء والاستمرار بالرغم من ضعف الحكم وفي بعض الفترات الزمنية منها ما سجله صلاح الدين من انتصارات في مصر وبلاد الشام على القوى الصليبية وخاصة في تحريره لفلسطين وبيت المقدس... مما لفت معه نظر الجماهير العربية والإسلامية، بأن تلتف حوله إلى جانب ما أسدله اعتراف الخليفة العباسي على حكمهم من شرعية وهيبة في النفوس ومن ضمنها اعترافه في حكمهم على اليمن واحتلالهم لمكة المكرمة فضلاً عما سجله الحكم الأيوبي بنفسه من انتصارات ساحقة على المعارضة القبلية والسياسية في اليمن بالاضافة إلى ما أثبته حكمهم من تقدم على طريق البناء الحضاري[4].(/3)
إن ما سبق لا يعني بأن الحكم الأيوبي لا يخلو من الصعوبات التي واجهها وعلى رأسها المعارضة السياسية والتي تكشفها سلسلة الوقائع والحروب التي خاضتها عساكرهم والتي استغرقت الكثير من الوقت وعلى مدى خمسين عاماً من حكمهم تقريباً، مما يفصح لنا أن حكمهم لم يستقر، كما أنه لا يملك القدرة الكاملة في فرض هيمنته على جميع الأراضي اليمانية، وقد تمثل هذا في الفتنة التي عصفت بحكمهم على إثر وفاة الملك المعظم تورانشاه بن أيوب، وأخيه سيف الاسلام طغتكين.
وأخيراً فإن فاعلية الحكم الأيوبي في السيطرة المباشرة كانت قد تمت منذ سنة 578هـ/ 1182م على اليمن على الرغم من معرفتنا بأن الحكم بدأ منذ سنة 569هـ/ 1174م، وعلى أَثر وصول أَول حملة أَيوبية إلى اليمن بقيادة تورانشاه بن أيوب وبالرغم مما اتصف به حكمه من الحزم والشدة إلا أن عودته إلى مصر والشام جعلت نوابه يتمتعون بالحكم الذاتي، ولهذا كان عام 578هـ يمثل مرحلة جديدة للحكم الأيوبي في اليمن.
الملك سيف الاسلام طغتكين وحكم اليمن:
اختير الملك طغتكين ليكون قائداً للحملة الأيوبية إلى اليمن من قبل صلاح الدين فوصل إلى زبيد سنة 578هـ فخاف حاكمها خطاب بن منقذ وتحصن في بعض القلاع فلاطفه طغتكين حتى أَمن جانبه فنزل إليه وتلقاه طغتكين مترجلاً وقال له ((أَنت أَخي))[5] فأحسن صحبته، وأَخيراً أَذن له بالعودة إلى الشام[6] فلما كان الغد دخل على سيف الاسلام ليودعه فقبض عليه وأَودعه السجن وصادر أَمواله وذخائره[7]، وهكذا استطاع الملك طغتكين من ردع خطاب وعودة زبيد إلى بني أَيوب.(/4)
أَما عدن فإن حاكمها عثمان الزنجيلي لما علم بما حل في صاحب زبيد خاف وأرتحل إلى الشام هارباً مما أَتاح الفرصة أَمام طغتكين أن يرسل نائبه إلى عدن فتسلمها وعندها صفت بلاد اليمن لسيف الاسلام وامتدت سيطرته على البلاد الواقعة بين زبيد وحضرموت[8] وبلغ الجوف وغيره وأخضع لحكمه جميع الحصون وما أَن حل عام 581هـ/ 1185م حتى سيطر على حصن خدد وريمة الحديا ونعم.
لم تقتصر الانتصارات التي حققها سيف الاسلام طغتكين باليمن وعلى مدى خمس سنوات من حكمه فيها على ازالة الفتن والمستغلين على الحكم من أمرائه فحسب وإنما اتخذت بعداً سياسياً آخر شمل تحديد موقفه السياسي من بعض الأمراء المحليين من حكام اليمن كبني همدان (بنو حاتم) في صنعاء وما جاورها فليس من السهل أن يذعن أولئك الحكام إلى الحكم الجديد كما لا يمكن للحكم الجديد أن يستمر مالم يوفر الحماية الكافية له وخاصة وأنه ينشأ دولته في وسط أَنظمة متعددة تمثل الخوارج والباطنية ذات النزعة القبلية... وضمن هذا الاتجاه سارت سياسة طغتكين في اليمن.(/5)
كانت صلته الأولى مع بني همدان (بني حاتم) عندما نزل على حصن قب ليفتحه وجد فيه السلطان زياد بن حاتم الزريعي.. مما دعا زياد أَن يستنجد بالسلطان علي الوحيد بن حاتم وبغيره. وعلى الرغم من استعداد زياد لنجدته إلا أَنه حدث ما أَفسد الحال بينهما مما أَدى إلى خذلانه بالاضافة إلى أَن سيف الاسلام توجه إلى مكة سنة 581هـ/ 1185م فإذا ما رجع من مكة عاود الحصار إلى أن فتحه سنة 582هـ/ 1186م[9] وقد أَعطاه هذا الانتصار القوة السياسة ودفعه إلى أَن يتقدم لاكمال مهمة السيطرة على مناطق أخرى بالاضافة إلى اعلان وجوه البلاد الطاعة له[10] ثم سار بعسكره حتى وصل إلى ذمار فأوقع بقبيلة جنب فاستولى على بلادها وملك مهران – أَما علي بن حاتم فلم يبق أَمامه شيء إلا أَن يصدر الأمر إلى أَتباعه بخراب قصر غمدان وسور صنعاء وذلك سنة 583هـ/ 1187م مما يدل على عدم امتلاكه القدرة لمقاومة سيف الاسلام ويؤكد لنا هذا انتقاله مع أخيه إلى حصن براش شاحناً العتاد والذخائر منه[11] بعد أن أحرق جميع ما كان لهما من غلة، أمر الرعايا بالخروج إلى حيث يمتنعو عن وطأة الجيش الأيوبي[12] فلجأوا إلى اتباع سياسة المهادنة إلا أن جميع التدابير تلك لا تنفع بنو حاتم بتوفير الحماية الكافية لحكمهم ونفوذهم. فقد قدم حاتم بن أسعد إلى سيف الاسلام وهو مقيم في مشرق ذمار فعرض عليه الصلح فصالحه على ثمانين ألف دينار ومائة حصان، ولمدة سنة. ثم عاد سيف الاسلام إلى اليمن (صنعاء) تاركاً الأمير مظفر الدين قيماز حاكماً على ذمار إلا أن قبيلة جنب عاودت الهجوم على عسكره بذمار يقودها الشيخ عمران الجنبي[13] تسندها قبيلة عيسى مما اضطر سيف الاسلام أن يسرع لنجدة عسكره في ذمار، فلما رأت جنب عساكر بني أيوب ولت الأدبار فتبعها سيف الاسلام وأوقع بها وشتت شملها[14] وغنم أموالها وقتل الكثير من رجالها، ولهذا اضطر علي بن حاتم أن يعقد الصلح مع الأيوبيين للعام المقبل وعلى شروط(/6)
الصلح نفسها للسنة السابقة[15].
لم يذعن بنو حاتم إلى السلطة الأيوبية واستمرت الحرب سجالاً بين الطرفين ففي سنة 584هـ تقدم سيف الاسلام إلى الدملوة[16] فحاصرها وطال أمد الحصار حتى استسلم صاحبها جوهر المعظمي[17] فنزل وعرض بيعها بعشرة آلاف دينار ملكية واشترط أن لا ينزل من الدملوة ولا يطلع إليه أحد حتى يصل أولاد مولاه – أي موضع يقصدونه من جزائر بحر اليمن – فوافقه الملك الأيوبي إلا أنه نقض هذا، حيث هرب متخفياً وبصحبة أهله إلى الحبشة عن طريق البحر بعد أن ترك نائبه في الدملوة[18] فلما علم سيف الاسلام بأمره أرسل إلى نائبه يطلب منه تسليم الحصن فامتنع فحاصرها وبينما هو على هذه الحال وصل إليه بشر بن حاتم فأحسن ضيافته وأكرمه إلا أن قومه خالفوه فرجع إلى سيف الاسلام بالأمر فقال له ((تعهد لّنا وكن منا ونطلق رهائنك))[19] فتعهد له وكساه وأطلق رهائنه وأستمر تهديد طغتكين لقلاعهم وحصونهم حتى اضطرهم إلى مفاوضته وطلب الأمان فخرج كل من الأخوين عمر بن بشر ابن حاتم وعلوان من حصن الفص إلى ذي مرمر بصحبة عوائلهم فتسلم الحصن، وأتجه منه إلى قتال أهل الظفر حتى أجبر أميره سالم بن علي بن حاتم على التسليم[20]، وأخيراً حاصر حصن كوكبان وضربه بالمنجنيقات وفي داخله عمر بن حاتم، فلما سئمت رجاله الحصار والحرب اضطر الأمير إلى طلب الصلح من بني أيوب فوقع ذلك على أن يكون لبني حاتم العروس وبلاد يعينها الملك طغتكين[21] لعمر بن علي بن حاتم وأن يطلق له أمواله فحصل ذلك، ودخل الأيوبيون كوكبان منتصرين.
إن الصلح السابق لم يضع حداً للحروب بين الطرفين بل استمرت إلى سنة 593هـ على ما يبدو، وانتهت بسيطرة الملك طغتكين على سائر جبال اليمن ومدنه وحصونه ومخالفه من صعدة إلى عدن[22] وزالت مع هذه السيطرة دولة آل الصليحي وآل حاتم الاسماعيلية من اليمن.(/7)
شهدت فترة حكم سيف الاسلام طغتكين لليمن حروباً ومعارك متعددة أظهر خلالها شجاعة فائقة ومع ذلك فإن تلك الحروب لم تشغله عن الانصراف إلى البناء الحضاري فقد عين الأمراء نواباً على مدن اليمن وترك عند كل أمير ما يحتاج إليه من الخيل والعسكر هذا في مجال البناء الاداري أما في مجال العمارة والبناء فقد انصرف في فترة استقرار إلى بناء الدور وتشييد القصور بالاضافة إلى بنائه مدينة المنصورة[23].
أشاد الكثير من المؤرخين في سياسة دولته التي أمتدت من زبيد إلى حضرموت، وما أن حل شوال من سنة 593هـ/ 1199م حتى توفي الملك المعظم سيف الاسلام طغتكين في مدينة المنصورة بعد أن دام حكمه ست عشرة سنة[24].
اليمن في عهد الملك اسماعيل بن طغتكين بن أيوب:
هو الملك اسماعيل بن طغتكين بن أيوب بن شاذي الملك شمس الملوك بن العزيز كان أكبر أخوته سناً وأكثرهم قرباً إلى أبيه حيث يعول أكثر أمور الدولة إليه[25] إلا أنه لم يستمر بالعيش قريباً من الحكم إذ طرده والده إلى الحجاز[26] الأمر الذي جعله ينقم عليه[27] إلا أن وفاة أبيه أعقبت خروجه فأدركه العلم بها[28] وهو في المخلاف السليماني فرجع إلى اليمن وتسلم حكمها فدخل زبيد في 19 ذي القعدة سنة 593هـ/ 1196م ومنها رحل إلى تعز ثم جبلة[29] وكان يهدف من هذه الجولة التأكد عن مدى ولاء هذه المناطق لحكمه السياسي حيث نراه في مطلع عام 594هـ يختتم جولته هذه بالسير إلى صنعاء وهناك يقدم على قتل الأمير الهمام – نائب أبيه على صنعاء – وجعل في عهدته شهاب الجزري[30] وما أن تأكد من ولاء صنعاء له حتى نراه يعود إلى اليمن...
وعلى الرغم من تلك الجولة التي قام بها الملك المعز بن طغتكين فلا تزال بعض الصعوبات تعترض حكمه مما استوجب عليه معالجتها منها.(/8)
إعادة النظر في علاقة بني أيوب مع الحواتم من بني همدان – لقد استجد على ساحة اليمن السياسية بعض الأمور التي كان لها الأثر في تحديد علاقة بني أيوب مع الحواتم منها تجديد إمامة المنصور عبدالله بن حمزة الحسين، وأخذ البيعة له من أعيان اليمن ومن بينهم السلطان علي بن حاتم فأجابه وأعانه[31] في وقت كانت علاقة بني أيوب غير طيبة مع الإمام المنصور بالله حيث أوقعوا في جيشه الهزيمة وقتلوا الأمير محمد بن علي أحد قادته[32].. وهنا يتوجب على الملك المعز أن يجابه صعوبة التحالف السياسي بين الإمام المنصور والسلطان علي بن حاتم ولم يبق أمامه سوى مراسلة علي بن حاتم فكتب إليه يستميله إلى طاعته وأنه سيعطيه صنعاء فاتفق الأمر بينهما فبعث إليه علي بن حاتم أخاه بشراً وولده عمر بن علي فلما وصلا ألقى القبض عليهما ناقضاً عهده مما أسفر عنه ثبات علي بن حاتم على موالاة الإمام المنصور[33] حيث لجأ الأمير إلى معاضدة السلطان علي بن حاتم مصافياً له وجرت بينهما عهود منها أن الإمام إذا تمكن من البلاد ومن صنعاء ترك حصون السلطان علي بن حاتم جميعها وتكون صنعاء بينهما نصفين[34] إلا أن تحالف الإمام مع الأمير حاتم ضد بني أيوب لم يستمر طويلاً والسبب يعود إلى تراجع الإمام عن شروط الاتفاق فقد رفض تسليم صنعاء إلى الأمير علي بن حاتم إذ منعه أصحابه وصرفوه عن العهد فلما رأى علي ذلك لزم حصنه ذمرمر وبقي فيه إلى أن توفى سنة 597هـ/ 1202م[35]. هكذا تخلص الملك المعز منه أما موقف بقية أمراء بني حاتم من حكم الملك المعز فقد وقفوا موقف المعارضين لحكمه ومنهم الأمير بشر بن حاتم الذي استطاع الملك المعز القاء القبض عليه وايداعه السجن بحصن التعكر[36] أما عمرو بن علي بن حاتم فهو الآخر تلقى الهزيمة على يد الملك المعز حينما حاصر كوكبان في سنة 591هـ/ 1199م وفيه عمرو بن علي بن حاتم. مقيماً وبصحبته عسكر من حمير وغيرهم، فأضطرهم المعز إلى الهروب من(/9)
شبام فتسلمها منهم[37].
إن الانتصارات المتلاحقة التي حققها بنو أيوب ضد بني حاتم أجبرتهم إلى سلوك خط العود للتحالف مع الإمام المنصور على حرب الملك المعز، وعلى الرغم من اجتماع أهل الرحبة من حمير وأهل سنجان حول عسكر الإمام بقيادة أخيه الأمير الحسن بن حمزة وهجومهم على الجيش الأيوبي ولجوئهم إلى قطع طريق اليمن الأسفل، لمنع ايصال الامدادات إلى الجيش الأيوبي، لم ينجحوا في قهر بني أيوب وذلك لاضطراب البلاد وانقطاع المواد عن محطة كوكيان وارتفاع الأسعار كل هذا اضطرهم إلى عقد الصلح مع الملك المعز على (أن يكون كوكيان وبكر له مقابل أن يطلق سراح الأمير بشر بن حاتم من سجنه)[38] وما أن تقرر الصلح حتى دخل المعز كوكيان من جديد وأذعنت لسلطته وعندها وصله بشر بن حاتم فأكرمه وخلع عليه وهكذا تقرر الصلح بين الطرفين في اليمن.
أما القوة السياسية الثانية التي ظلت تحمل لواء المعارضة للوجود الأيوبي في اليمن وتشكل إحدى الصعوبات المهمة التي وجب على بني أيوب تجاوزها هي قوة الإمام المنصور عبدالله بن حمزة الحسيني والذي توجه الملك المعز إلى حربه وبصحبته الأمير سيف الدين جكوا بن محمد الكردي وذلك سنة 594هـ/ 1197م فإذا ما التقى الجيشان ثبت جكوا وقاتل بشجاعه حتى هزم جيش الإمام ودخل المعز صنعاء منتصراً[39].(/10)
إن الانتصار الذي سجله الملك المعز على الإمام المنصور لم يغير من موقف الأخير تجاه الأيوبيين وحكمهم بل استطاع أن يسيطر على جهات صعدة وتنقل بين معين وبراقش[40] وفي الحصن الأخير وردت إليه كتب الأشراف والسلاطين يعرضون قوتهم عليه ومعاضدتهم له على حرب بني أيوب وقد وقع ما يشير إلى ذلك حيث اجتمعت عساكر الإمام على حربهم فتحالف بنو حاتم مع الإمام سنة 596هـ/ 1199م وأشاروا عليه بقطع الطريق على جيش الأيوبيين وذلك بالتحرك في اتجاه صنعاء، فأرسل أخاه الأمير الحسن إلى ذي مرمر، وهناك تحالف مع العرب من حمير وسنحان إلا أن خططهم فشلت جميعاً ولم يبق أمام تلك القوى السياسية والمحالفات العسكرية سوى عقد الصلح مع بني أيوب بسبب ما حققوه من انتصارات متتالية[41].
يتضح لنا مما سبق قدرة الملك اسماعيل على تجاوز الصعوبات التي واجهت حكمه بما فيها تحرك القوى السياسية المتواجدة في المناطق المحيطة بالأراضي التي يحكموها، وهذا ناتج بلاشك من نظرة تلك القوى إلى بني أيوب بأنهم يمثلون القوة السياسية الغريبة على بلادهم وجب إزالتها فضلاً عن انعدام التجانس المذهبي بينهم وبين بني أيوب، وقد كانت هذه النظرة وذلك التجانس يمثلان الدافع الرئيسي الذي يحرك جماهير اليمن باتجاه المعارضة السياسية والعسكرية لحكم بني أيوب وعلى طيلة فترة حكمهم في اليمن، ومع هذا فإن حكم الملك إسماعيل بن طغتكين لا يخلو من السلبيات التي وقع فيها وكان ذلك من العوامل المهمة في إنهاء حكمه، ومنها:
1 - مغايرته لمذهب أسرته: - ففي سنة 593هـ/ 1196م خرج من زبيد إلى تعز وهناك أظهر مذهبه المتمثل في مخالفة مذهب السنة وتشيعه (مذهب أسرته) فقويت به الاسماعيلية مما نتج عنه آثار سيئة انعكست على سياسته الداخلية وشق وحدة الأهالي.(/11)
2 - ادعى أنه أموي ورام الخلافة كما ادعى أنه قرشي النسب وخوطب بأمير المؤمنين وتلقب بالهادي[42]، وقطع خطبة العباسيين من منابر اليمن فلما سمع عمه الملك العادل ذلك أنكره وساءه فعله وكتب إليه يلومه ونهاه عن ذلك ووبخه[43] ففي تصرفه هذا أعطى بلاشك الصورة السيئة عن ضعف شخصيته وعدم اقتداره على تحمل المسؤولية كحاكم سياسي بحيث يتفق والارتفاع إلى مستوى تلك المسؤولية ولهذا سقط في نظر ملوك بني أيوب في الشام ومصر والجزيرة بالاضافة إلى سقوط شخصيته من نظر جماهير اليمن وحكامها.
3 - ادعاءها النبوة: فكان هذا سبباً رئيساً في خروج جماعة من مماليك أبيه عن طاعته وقتاله فانتصر عليهم[44] إلا أن نقمتهم لم تزل مما حبا بهم إلى الاتفاق مع جماعة من الأكراد للتخطيط لقتله وفعلاً نجحوا بمهمتهم وقتلوه في القوير من أعمال زبيد سنة 599هـ/ 1202م وأقاموا أخاه الناصر محله على حكم اليمن[45].
4 - ظلمه للرعية وغلبة الشح في عطائه للجند بل ذكر أنه منع أرزاقهم في حين كان يصرفها على الشعراء والمسافر (المتمسخرين)[46].
وهكذا اجتمعت عدة عوامل تمثل في مجموعها سوء سلوكيته وسياسته مع الأهالي وعساكره كما تعكس لنا من الجانب الآخر التناقض الواضح في الولاء المزدوج للمبادئ والقيم التي وجد ممن أجلها الحكم الأيوبي في اليمن وهو وحدة الأمة عن طريق توفير الحماية العسكرية لظهور المقاتلين العرب والمسلمين في الشام ومصر ضد الغزاة الصليبيين. خاصة وأنه نعت من قبل بعض المؤرخين بأنه كان شهماً شجاعاً، وشاعراً فصيحاً متأدباً سفاكاً للدماء سريع البطش[47].
سمات الحكم الأيوبي باليمن بعد وفاة الملك اسماعيل بن طغتكين:-(/12)
تركت وفاة الملك المعز اسماعيل بن طغتكين آثاراً واضحة على الحكم الأيوبي في اليمن منها: ليس هناك شخص قدير من الأسرة الأيوبية يتولى حكم المملكة مما اضطر الأمراء الأكراد إلى تنصيب الملك الناصر سيف الدين بن العزيز بالملك أخي الملك المغر وهو طفل صغير، وعينوا اتكاباً له الأمير سيف الدين سنقر مملوك والده فتولى الأتابك تدبير أمر المملكة[48].
بالاضافة إلى هذا فقد كان لمقتل المعز أثر في اضطراب الحالة السياسية باليمن فقد تحرك الأكراد إلى زبيد ونهبوها[49]، كما اضطربت الأمور على الأمير سيف الدين سنقر في كثير من البلاد، وتحركت عليه العساكر وقاتلوه، وجرت حروب كثيرة بينهم حتى انتصر عليهم[50] وذكر أنه كاتب الأكراد وصالحهم[51] وأقطع الأمير علم الدين ورؤساء صنعاء والأمير حسام الدين بكتمر السيفي تهامة ما خلا زبيداً والكدري[52]، وحالف أهل صنعاء على وردسار[53]، وبهذا تحرك كبار الأمراء ضد حكم بن أيوب وعلى الرغم من ذلك فإن المحالفات والمصانعات هذه لم تستمر طويلاً ففي عام 599هـ/ 1202م نقض الأكراد واستبدوا بملك زبيد وما وراءها من التهائم فأمر نائبه الأمير وردسار بمصالحة الإمام المنصور، ففعل وأتفق على قصد الأكراد فما كان على الإمام المنصور إلا أن يوافقه على هذا فخرج بجيش كثيف حتى التقى مع جيش الأتابك سيف الدين سنقر. وعندها جرت المعركة مع الأكراد. وثبت الأمير علم الدين وردسار في وسط المعركة انتهت بانتصار جيش الأتابك[54] وقتل جماعة من الأكراد والأتراك، وألقى القبض على القسم الآخر وهكذا أصبح الحكم الأيوبي للأتابك باليمن[55] حيث استولى على زبيد والتهائم بأسرها.
إن ما سبق يمثل انقسام قادة الحكم الأيوبي باليمن، ويعكسه بلاشك تحرك الأمراء للاستئثار بالحكم، وما اضطراب الحالة السياسية إلا دليل على ذلك مستغلين غياب الحاكم السياسي عن الساحة السياسية، كما يفصح عن ضعف السلطة وفقدان سيطرتها.(/13)
والأثر الآخر الذي تركته وفاة الملك المعز باليمن هو إعادة الخطبة العباسية في زبيد وصنعاء[56] بعد أن قطعها الملك المعز ((إذ خطب لنفسه بالخلافة على منابر اليمن، وخطب بنفسه على المنبر يوم الجمعة))[57].
أما موقف السلطة الأيوبية المركزية في مصر والشام من أحداث اليمن هذه فلم تقدم لنا المصادر التاريخية معلومات عدا توفر نص تاريخي بيننا يشير إلى كتاب أرسل من المختص والي البر بحماة إلى الملك المنصور صاحب حماة، وكان المختص قد حج سنة 598هـ/ 1201م يخبره بمقتل الملك المعز باليمن[58] ويكشف لنا هذا أن السلطة الأيوبية في الشام كانت على صلة مع أخبار وحوادث الحكم الأيوبي في اليمن ومما يفصح عن هذا أكثر هو أن الشخص الذي تولى الكتابة إلى الشام الأمير شهاب الدين الجزري صاحب صنعاء إذ أرسل كتاباً إلى الملك العادل الأيوبي صاحب مصر والشام يذكر فيه جملاً من الحوادث في اليمن منها مقتل المعز بن طغتكين وذكره لإمامه الإمام المنصور[59]، ومن المحتمل أن الكتاب نفسه الذي أرسله المختص والي البر في حماة إلى الملك المنصور وربما أوصله الملك المنصور بعد ذلك إلى الملك العادل ملك الأيوبيين وسلطانهم. أما علاقة الحكم الأيوبي مع الأمراء الموجودين باليمن فكانت تقوم على المهادنة والمصانعة تارة وعلى نقض العهود والمواثيق تارة أخرى، ووفق ما تمليه الظروف المرحلية التي يمر بها الحكم الأيوبي هناك ففي صنعاء كان يحكم الأمير شهاب الدين الجزري ولا يزال يدين بالولاء والتبعية إلى الحكم الأيوبي وأنه نائبهم في صنعاء[60] أما الأمير وردسار ففي هذه الفترة أظهر الطاعة للإمام المنصور وعلى أثر وفاة الملك المعز، فما كان على الامام المنصور إلا أن يكرمه ويقدمه على جيشه الذي سار إلى صنعاء وبصحبته الأمير محمد بن إبراهيم، بعد أن أعطاه حصاناً وخلع عليه الجند ووعده بولاية صنعاء فيما إذا انتصر على من فيها[61] وما أن تجهز الأمير وردسار حتى وصله كتاب(/14)
من الغز (الأيوبين) بصنعاء يستدعونه للسير إليهم ففعل، وما أن دخل المدينة اجتمع بالأمير شهاب الدين الجزري وعرفه بما يريده من موالاة الإمام المنصور: هو تحقيق هدف مرحلي يتجسد في تمرير الحوادث الجسام التي تسيطر على اليمن وذلك عن طريق الاعتصام بطاعته وفعلاً تمت المراسلة بين الأمير الجزري والامام انتهت بمبايعته للامام واعلان الطاعة له وبهذا يكون قد وقف علمياً إلى جانب وردسار وأعطى صوته بالتأييد ظاهرياً لسلطة الإمام المنصور[62].. أما موقف الأمير سيف الدين سنقر فقد وافاه رسول الإمام، في الجند[63]، يدعوه إلى الطاعة والولاء وطالبه بالجواب، فقال له لا يكون الجواب إلا بعد الاجتماع بوردسار[64]، وعلى الرغم من ذلك لم يظهر الأمير سنقر أي ميل إلى تأييد الإمام بل ماطل رسوله بالوعود حتى انصرف عنه، فإذا كان هذا أمر زبيد، وصنعاء فتهامة لا تختلف عنهما بشيء إذ كانت هي الأخرى خاضعة إلى حكم بني أيوب، وكتب الإمام المنصور بالله إلى أمير نصبه بنو أيوب يعرف بشيبرياك[65] يدعوه بالدخول في طاعته وما أن وصل الرسول وأبلغه الأمير الانقياد إلى الإمام ألقى بكتابه إلى الأرض ورد رسوله، وتم هذا كله في عام 598هـ/ 1201م وأثبت لرسول الإمام أنه قادر على صيانة البلاد واستقلالها من الغزو الخارجي خاصة وقد وجده على حالة كبيرة، وعنده من الخيل والمماليك مثلما كان عند المعز بن طغتكين[66].
أضف إلى هذا فقد سجلت عساكر الأيوبيين عدة إنتصارات وعلى مدى خمس سنوات من حكم الأمير سنقر شملت تحرير الكثير من الأراضي الواقعة ما بين زبيد وصنعاء كان آخرها قهر بالسيف لبراقش[67] واستمرت الحرب بين الطرفين إلى سنة 608هـ/ 1211م/ حيث تمت المراسلة بين الأمير سنقر والإمام المنصور انتهت بتوقيع الصلح بينهما لمدة سنتين[68]، وبهذا الصلح انتهى الخلاف مع أقوى شخصية باليمن آنذاك تمثل المعارضة للأيوبيين في اليمن.(/15)
كانت الخطوة التالية هو إلقاء القبض على الأمير شهاب الدين الجزري من قبل سنقر فأودعه السجن في قلعة تعكر، منها توجه إلى تعز فأدركته الوفاة فيها سنة 608هـ/ 1211م. مما أتاح الفرصة أمام الملك الناصر أيوب أن يستقل بحكم اليمن على الرغم من حداثة سنه وأسند أمر دولته إلى الأمير علم الدين وردسار[69] الذي استطاع أن ينقذ موقف الحكم الأيوبي من التداعي والانهيار خاصة وأن الإمام المنصور عبدالله بن حمزة عاد إلى قتال العساكر الأيوبية وبقي الأمير وردسار في الحكم إلى سنة 609هـ/ 1212م. حيث مات في هذا العام، ثم توفي بعده الملك الناصر أيوب وذلك في أوائل سنة 611هـ/ 1214م تاركاً حكم اليمن إلى وزيره بدر الدين غازي[70].
استطاع الوزير بدر الدين غازي أن يضطلع بمهمة الملك، فخالف العسكر وأجتمع بالأكابر من الأمراء وفرق عليهم الأموال واستخلفهم على حكمه ووضعهم على إمارة المدن ودخل صنعاء وخطب له على منابرها، ثم خرج منها إلى اليمن الأسفل وفي الطريق وثب عليه مماليك الناصر فقتلوه في منطقة السحول[71] وذلك سنة 611هـ وقيل أن أم الملك الناصر حرضتهم على قتله انتقاماً وثأراً لدم ابنها الملك الناصر لأن الأمير غازي اتهم بقتل ولدها[72].
بقي الحكم الأيوبي بدون رجل يدير أموره واستطاعت أم الناصر التغلب على زبيد والاستيلاء على الأموال، وانتظرت وصول رجل من بني أيوب تسلمه إدارة البلاد وبعثت إلى مكة بعض غلمانها يكشف لها عن أخبار مصر والشام[73] حيث انقطعت صلة اليمن بهما على ما يبدو وما أن وصل الرسول إلى مكة حتى التقى مع الملك سليمان بن شاهنشاه بن أيوب الذي قدم إلى مكة حاجاً، فعرفه بأحوال اليمن، فسار معه حتى وصل اليمن وحضر عند الملكة أم الناصر أيوب وخلعت عليه وتزوجته وملكته اليمن وذلك في ربيع سنة 611هـ/ 1214م[74].(/16)
أساء الملك سليمان بن شاهنشاه بن عمر التصرف بالملك وتنكر لحقوق الملكة زوجته، وانشغل بالملذات، وعرف حكمه بالجور والظلم[75] هذا من العوامل التي أدت إلى ضعف حكمه وانهياره، إلى جانب هذا أساء التصرف مع السلطان العادل – الملك الأيوبي – حيث أرسل إليه كتاباً جعل في أوله ((أنه من سليمان وأنه بسم الله الرحمن الرحيم))، مما جعل الملك العادل يحكم على سوء تصرفه[76] فضلاً عما بلغ الملك العادل من أخبار تفصح عن اضطراب الحالة السياسية منها مقتل المعز وسم أخيه الناصر وما جرى من تآمر على الحكم من قبل الوزراء.. كل هذه الأمور جعلته يرى ضرورة أن يولي أمر اليمن ملكاً قوياً حازماً يدير سياستها[77].(/17)
أن ما سبق ليمثل بلاشك مرحلة ضعف وانحطاط للحكم الأيوبي ويكشف ذلك خروج بعض البلاد من سيطرتهم كصنعاء التي دخلها الإمام المنصور عبدالله بن حمزة الحسين على أثر وفاة الملك الناصر، ودانت له بعض الوقت كما حاصر ذمار واستولى على كوكبان وساد البلاد حالة من الفوضى والخراب[78] بسبب حرب الإمام للأيوبيين مستغلاً ضعف سلطتهم إلى جانب تعدد مراكز القوى والتي كان من نتائجها إنقسام البلاد إلى أقاليم إدارية يحكم في كل اقليم أمير من أمرائهم، كما أن الحكم الأيوبي في اليمن بقي في صلة مع الحكم المركزي بمصر وبلاد الشام على الرغم من فتور تلك العلاقة أحياناً ويعود الأمر إلى انشغال ذلك الحكم في الفرنج الذين استفحل أمرهم هناك بالاضافة إلى انشغال الملك العادل في تثبيت حكمه بالأقاليم الشرقية من دولته في بلاد الشام والجزيرة إذ لا يزال الملك الظاهر بن أخيه السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب يحمل لواء المعارضة بالمنطقة إلى أن انتهى الأمر معه بتوقيع الصلح سنة 608هـ/ 1211م[79] وأخيراً رحل الملك العادل إلى مصر واستقر بدار الوزارة، في وقت كان قد رتب أولاده في حكم أقاليم البلاد. فكانت مصر من حصة ابنه الملك الكامل الذي يرجع إليه أمر تجهيز ولده المسعود صلاح الدين يوسف المعروف باطسيس[80] (اطسز) إلى اليمن لانقاذ الحكم الأيوبي من الضياع آلت البلاد من تمزق بسبب ضعف السياسة التي سلكها الملك سليمان بن سعد الدين شاهنشاه بن تقي الدين بن عمر باليمن إلى جانب هذا فقد وصل كتاب ابن النساخ المطرفي إلى الخليفة العباسي الناصر لدين الله أبو العباس أحمد المستضيء الذي يشكو فيه ما حل باليمن فأمر عندها الخليفة صاحب مصر الملك العادل بالتوجه إلى اليمن[81] فوقع الاختيار على ارسال حفيده المسعود إلى اليمن فرحل من مصر يوم الاثنين 17 رمضان سنة 611هـ/ 1214م. بألف من الجند وخمسمائة من الرماة[82] وأمده بالأموال، وكتب إلى الأمير شمس الدين علي بن(/18)
رسول وإلى سائر الأمراء المصريين باليمن يأمرهم بحسن صحبته وخدمته[83] وكان المسعود حديث السن في حد البلوغ[84]، وجعل أتابكة ومدبر ملكه جمال الدين فليت[85]، فوصل مكة ودخلها في ثالث ذي الحجة سنة 711هـ/ 1214م واستقبله قتادة بن إدريس وحج المسعود وخطب له بمكة، فما كان على المسعود إلا أن يكرم قتادة فخلع عليه وحمل إليه ألف دينار وقماشاً بألف أخرى، وذكر بأنه أقام بمكة ستة أشهر[86]، رحل منها إلى اليمن، فوصلها ودخل زبيداً يوم السبت الثاني من المحرم سنة 712هـ/ 1215م، وأول عمل قام به هو مراسلة الملك سليمان بن تقي الدين يسأله الصلح على أن تكون الجبال لسليمان والتهائم له[87] فلما سمع بذلك الأمير بدر الدين الحسن بن علي بن رسول سار إلى الملك المسعود وحثه بالتوجه إلى تعز لحرب سليمان[88] والعدول عن فكرة الصلح وقال له ((إنك لا تجد في الجبال من يصدك عنها والرأي أن تكتب إلى المماليك بتسليم سليمان إليك))[89] فكتب إليهم فعلاً كما سار بنفسه إلى تعز لمواجهة خصمه وراسل الجند الموجودين في داخل الحصن وأمر بالقاء القبض على سليمان فظفروا به، وبعثه المسعود تحت الحفظ إلى مصر[90]، ودخل المسعود حصن تعز يوم الأحد عاشر صفر من سنة 612هـ/1215م، وبهذا التاريخ يبدأ حكم المسعود لليمن، حيث شرعت عساكره في إعادة المناطق التي خرجت عن حكم بني أيوب كدمار وصنعاء وبيت انعم[91] وشبام، ثم نهض إلى البلاد الحميرية والمصانع[92]، وأجبرها على الاعتراف بسلطته، وكان لأتابكة جمال المدين فليت الأثر الكبير في هذه الانتصارات حيث كان يقود جيشه في المعارك وفتح هذه المناطق. وأخيراً أجبر الإمام المنصور بالله على مراسلته، فتمت بينهما وكان من نتائجها توقيع الصلح في أواخر سنة 617هـ/ 1215م ((على يد الأمير محمد بن حاتم ولمدة ستة عشر شهراً))[93]، وعلى ما يبدو أن الصلح استمر بين الطرفين إلى سنة 614هـ/ 1219م وهي السنة التي مات فيها الإمام المنصور(/19)
بالله عبدالله بن حمزة، ثم قام ولده عز الدين محمد محتسباً))[94]. وقام بالامامة بعد أبيه وتلقب بالناصر لدين الله[95].
إن علاقة الملك المسعود بالأمير عز الدين محمد بن عبدالله قد ساءت من جديد ففي سنة 617هـ/ 1220م تقدم الملك مسعود إلى صنعاء ومنها سار إلى بكرة فحاصرها ثمانية أشهر[96]، إلى أن وقع الصلح بينه وبين أهل بكر وتم بموجبه شراء الملك المسعود للحصن منهم بعشرة آلاف دينار مصرية وذلك سنة 618هـ/ 1221م[97]. إن أبرز التاريخ السياسي للحكم الأيوبي باليمن خلال هذه الفترة هو انشغال الملك المسعود في الوقائع والحروب ويعكس هذا عدم استقرار حكمهم السياسي في المناطق التي سيطروا عليها وبدليل ما واجهه ذلك الحكم من مقاومة اتسمت بتحرك عساكر الأمير عز الدين محمد بن الإمام المنصور وعساكر الأشراف ضدهم[98] حيث استمرت الوقائع والحروب بين الطرفين إلى سنة 619هـ/ 1222م لم يتحقق خلالها للحكم الأيوبي السيطرة التامة على بلاد اليمن، إلا أن هذا لم يمنع المسعود من تنظيم إدارتها وكان لبني رسول[99] دور في تحمل مسؤولية تلك الإدارة وتثبيت السيطرة الأيوبية باليمن خاصة وأن رجال أسرتهم كانوا بصحبة الملك المسعود في أيام دخوله اليمن، وظلوا مقيمين معه باليمن فوثق بهم وولاهم الولايات، وأعجبته طاعتهم وشدة بسالتهم فولى أمر صنعاء إلى بدر الدين بن علي بن رسول وجعلها أقطاعاً له وولى أخاه الأمير نور الدين عمر بن علي بن رسول الحصون الوصابية، ثم ولاه بعدها مكة المشرفة وبقى فيها مدة إلى سنة 619هـ/ 1222م ولما عزله عن ولايتها جعله أتابكاً لابنه الملك المظفر يوسف بن عمر[100] وعليه كان لهم دور في مساندة الملك المسعود وإدارة الحكم حتى استقررت الأحوال وهدأت الحروب والفتن[101] وضبط اليمن[102] ورافقت مسيرة الحكم الأيوبي في اليمن عدة أحداث سياسية أثرت بصورة غير مباشرة على مكانته السياسية خلال هذه الفترة منها:(/20)
1- انضمام مكة إلى الحكم الأيوبي باليمن: ففي سنة 719هـ/ 1222م غادر الملك المسعود اليمن إلى مكة حاجاً فلما كان يوم عرفة، تقدمت أعلام الخليفة العباسي الناصر لدين الله لترفع على الجبل إلا أن الملك المسعود أمر بمنعها بتقديم أعلام أبيه الملك الكامل الواردة من مصر، ولم يستطع أصحاب الخليفة منعه من ذلك فلما سمع الخليفة بذلك عظم الأمر عليه[103] فراسلَ الملك الكامل لانكار ذلك، فما كان على الملك إلا أن يعلن اعتذاره وللخليفة وأن ذلك لم يكن عن أمره. فقبل الخليفة العذر[104].
وربما أثر تصرف الملك المسعود[105] على علاقته مع السلطة الأيوبية بمصر والشام – بدليل أن والده سر بموته عندما أخبره بذلك خزنداره[106] – إن لم نقل على العلاقة بين بني أيوب والخلافة العباسية.
أقام الملك المسعود باليمن بعد عودته من الحج وبعد مدة يسيرة حدثته نفسه بالخروج إلى مكة لانتزاعها من حاكمها الأمير حسن بن قتادة الحسني فسار إليها ودخلها في رابع شهر ربيع الآخر من سنة 620هـ/ 1223م[107] وقاتل صاحبها الحسن وهزمه واستولى عليها ثم عاد إلى اليمن بعد أن عين عليها الأمير نور الدين عمر بن علي بن رسول والياً من قبل وجعله نائباً نيابة عامة عنه[108] وباستيلائه على مكة اتسعت دائرة نفوذه وحكمه فشملت مكة والحجاز واتسعت معها مملكة أبيه الملك الكامل حتى قال ابن خلكان معلقاً على هذا الأمر (ولقد حكى لي من حضر الخطبة يوم الجمعة بمكة شرفها الله تعالى أنه لما وصل الخطيب إلى الدعاء للملك الكامل قال: مالك مكة وعبيدها واليمن وزبيدها ومصر وصعيدها والشام وصناديدها والجزيرة ووليدها سلطان القبلتين ورب العلامتين)[109].
وأخيراً يمكن القول إن موقف المعارضة للدولة الأيوبية في اليمن تغير موقفها السياسي تجاهها على الرغم من التغيير الذي حصل في الخارطة الجغرافية لسيطرتها.(/21)
2- مغادرة الملك المسعود لليمن في شهر رمضان من سنة 620هـ/ 1223م[110] تاركاً نيابة البلاد إلى الأمير نور الدين عمر بن علي بن رسول في حين ترك ولاية صنعاء إلى الأمير بدر الدين حسن بن علي بن رسول[111] وعلى الرغم مما أثبته آل الرسول من حسن إدارة البلاد تجسد في الحفاظ على الحكم الأيوبي إلا إن جملة من الأحداث غيرت مواقع الحكم الأيوبي باليمن حيث تعرضت البلاد إلى ثورة قادها رجل في الحقل وبلاد زبيد اسمه مرغم الصوفي[112] وزعم أنه داع الإمام حق وأنه منصور حميد الذي سيخرج كنوزهم ويناصر المهدي الذي سيخرج في آخر الزمان، فتبعه الكثير من الناس وقوى أمره بهم فما كان على الأمير نور الدين بن رسول إلا أن يقاتله فسار إليه وبصحبته راشد بن مظفر بن الهرش فوقع القتال بين الطرفين قتل فيه راشد بن مظفر وذلك سنة 622هـ/ 1225م[113] فلما كثر القتل سلب حاله وضعف مركزه بين أتباعه، وظهر للناس كذبه وفساد مذهبه فخرج هارباً من بلد إلى بلد[114] وهكذا تخلص الناس من فساد رأيه وفتنته باليمن، كما تعرضت عساكر بني أيوب إلى وقعة أخرى خاض غمارها ضدهم هذه المرة الشريف عز الدين محمد بن الامام المنصور عبدالله بن حمزة الذي خرج قاصداً صنعاء[115] إلا أن العساكر الأيوبية بقيادة الأمير بن نور الدين عمر بن علي وأخيه الحسن بن علي استطاعا أن يوقعا الهزيمة بعسكر الأشراف وسميت هذه الوقعة بوقعة عصر[116] وذلك في شهر رجب من سنة 623هـ/ 1226م[117].(/22)
كان من نتائج انتصار العساكر الأيوبية باليمن في المعركة السابقة أن تسربت أخبارها إلى مصر فلما علم بها الملك المسعود اشتد خوفه على حكم اليمن من بني رسول وذلك لما شاهده فيهم من الشجاعة والهمة، وبعد الصيت وحسن السياسة وتمام مكارم الأخلاق...... الخ[118] فخرج من مصر قاصداً اليمن فوصل تعز ودخل حصنها يوم الاثنين السابع عشر من شهر صفر من سنة 624هـ/ 1226م ثم تقدم إلى الجند فقبض على بني رسول وهم بدر الدين حسن بن علي وفخر الدين أبا بكر بن علي وشرف الدين موسى وأرسلهم إلى مصر في حين نجا أخوهم الأمير نور الدين عمر لأنه كان يميل إليه ويستأنس في رأيه دون إخوته[119]، فتقدم عنده حتى إستنابه على اليمن جميعها سنة 625هـ/ 1227م[120].
إن التنكيل بامراء بني رسول أثر على حكم الملك المسعود إذ اكسب الأمير نور الدين تجربة سياسية جعلته بأن لا يستبق الأحداث أو يستعجلها فتراه حينما يستمع بموت الملك المعز سنة 626هـ/ 1228م يقوم بأمر الملك الأيوبي خير قيام ويضمر الاستقلال عن السلطة الأيوبية فلم يغير سكة ولا خطبة لهم[121] وأرسل إلى السلطان الأيوبي الكامل الهدايا، وقال له: ((أنا نائب السلطان على البلاد)) مما كان له الأثر في أن يصرف نظر السلطان عنه ويثبته في ولايته[122] كما ولى على المدن والحصون يثق به، ويعزل من يخشاه، ويأسر أو ينقل من يظهر العصيان.(/23)
إن مغادرة الملك المسعود لليمن سنة 625هـ/ 1227م أثرت بشكل مباشر على مكانة ووجود الحكم الأيوبي فيها كما فسحت المجال أمام الأمير نور الدين عمر بن رسول بالتمكن في حكم البلاد كلها حتى ذكر أنه استدعاه عندما عزم السير إلى مصر وقال له ((قد عزمت السفر وقد جعلتك نائبي في اليمن فإن مت فأنت أولى بملك اليمن من إخوتي)).. ويمضي إلى أن يقول: وإياك أن تترك أحداً يدخل اليمن من أهلي ولو جاءك الملك الكامل والدي.. الخ))[123]. إن هذه الثقة التي أودعها المسعود في الأمير نور الدين جعلت الأخير بأن يتصرف في البلاد، وأن انفراده في حكم اليمن دون أمراء بني أيوب من المصريين هو الآخر جعله بأن يفكر في الاستقلال عن حكم الأيوبيين بمصر والشام)) بالاضافة إلى هذا فمجرد تعرفنا على بقية الحديث الذي جرى بين الملك المسعود وبينه جعله أن يتلمس وجود خلاف بين بني أيوب يمكن استغلاله في سبيل الاحتفاظ بملك اليمن[124].
وهذا يتفق مع صحة ما ذكر عن مرض الملك المسعود عندما غادر اليمن إلى مكة متوجهاً إلى مصر[125] حيث علق نور الدين عمر آماله على احتمال وفاة الملك المسعود وهذا ما يمكنه من الاستمرار في الحكم. خاصة إذا علمنا أن الملك المسعود لم يترك سوى ولداً صغيراً يعيش بكفالة جدة الملك الكامل بمصر[126] أضف إلى هذا ما اتصف به الأمير نور الدين من ((صلاح السريرة ومحبة الناس له وانقيادهم لأمره طوعاً وكرهاً وكان صاحب حلم ودهاء))[127] بالاضافة إلى سرعة تحركه لحسن الموقف مع المعارضة السياسية للحكم الأيوبي والتي تتكون من الأشراف خاصة الأمير يحيى بن حمزة وسلاطين بنو حاتم[128] ففي سنة 628هـ/ 1230م وقع الصلح معهم في حصن ذمرمر وقالوا له: ((يا مولانا نور الدين تسلطن باليمن ونحن نخدمك ونبايعك على أن بني أيوب لا يدخلون اليمن))[129] فتبايعوا على ذلك وأقرهم على البلاد.
نهاية الحكم الأيوبي باليمن:(/24)
وكل العوامل السابقة كانت قد عجلت من انهيار الحكم الأيوبي وسقوطه وآخرها وفاة الملك المسعود سنة 626هـ/ 1228م تاركاً الحكم إلى نائبه نور الدين عمر بن رسول إذا تمكن بعدها من إعلان الحكم الرسولي، وإزالة الحكم الأيوبي، وما أن حل عام 628هـ/ 1230م حتى أعلن الاستقلال باليمن وقيام الدولة الرسولية فيها فتلقب بالملك المنصور[130] ومن أجل اسدال الشرعية على حكمه كاتب خليفة بغداد العباسي المستنصر بالله أبو جعفر المنصور ابن الظاهر محمد[131] فأقره على اليمن وجعل له النيابة عليها[132].
وما أن حل عام 629هـ/ 1231م حتى جهز نور الدين بن رسول جيشه إلى مكة لانتزاعها من الحكم الأيوبي، فلما وصلها حاصر أميرها طغتكين فأضطره الهرب إلى ينبع[133].
فكاتب الملك الكامل بالأمر كله: مما اضطره إلى أن يجهز جيشاً من مصر بقيادة فخر الدين شيخ الشيوخ، فلما وصل مكة حاصر الجيش نور الدين وأجلاهم عنها[134] واستمر النزاع حول مكة والسيطرة عليها بين الطرفين إلى سنة 633هـ/ 1239م حيث استطاع أخيراً السلطان نور الدين أن يوقع الهزيمة بعساكر الملك الأيوبي الصالح نجم الدين أيوب التي كانت تحت قيادة الأمير شيحة بن قاسم[135] حيث هرب الأمير شيحة إلى الديار المصرية ولم يستقر الحال فيها إلى أن دخلها السلطان نور الدين سنة 639هـ/ 1251م إذ استطاع أن يخضعها إلى نفوذه[136] وهكذا قضى على آخر ما تبقى من المدن الخاضعة إلى نفوذ بني أيوب في اليمن والحجاز.
إن أهم ما يمكن ملاحظته على التاريخ السياسي للأيوبيين في اليمن هو عدم استقرار حكمهم فيه على الرغم من امتداده لفترة زادت على الخمسين عاماً تعاقب في حكم البلاد خلالها ستة ملوك واتسمت معظمها بطابع الحروب كما اعتمدت سياسة دولتهم على القوة العسكرية في حكم البلاد.(/25)
وهذا يعود بلاشك إلى عدة عوامل منها تعدد مراكز القوى السياسية الموجودة في اليمن وفي الأراضي المجاورة لها إلى جانب فقدان التجانس الفكري الذي ينعكس بصورة مباشرة على أسلوب الحكم ونظامه، ومن بين تلك القوى الاشراف، وبنو حاتم إلى جانب انتشار النزعة القبلية بين غالبية سكان اليمن من العرب الذين أخذوا ينظرون إلى الأيوبيين وسلطتهم نظرة الرجل الغريب عنهم وعن بلادهم بدليل ما كانوا يطلقون على بني أيوب من الأسماء كالغز والأكراد، والاطماع الفردية كانت تلعب دورها الواضح في تحديد هوية الحكم باليمن، ومن خلال هذا المنطلق فإن المستقرئ للتاريخ السياسي الأيوبي في اليمن يلاحظ أن حالة من عدم الاستقرار والفوضى السياسية والعسكرية كانت تسيطران على الوضع السياسي في اليمن ليس فحسب على العهد الأيوبي وإنما على العهدين السابق واللاحق له. وأن ما انقاد إليهم من البلاد كان بلاشك بدافع القوة والسيف حتى تركت آثارها الواضحة لما بعد عهدهم فيها حتى قيل أصبح معه أن صاحب اليمن يهادي صاحب مصر ويداريه وذلك للامكانية التي تحتلها جغرافية مصر العربية إذ كان بالامكان تسلطها على اليمن من البحر والبر الحجازي[137] بالاضافة إلى ارتباطها التجاري والبشري مع مصر وبلاد الشام حيث كانت ولا تزال ملوك اليمن تستجلب من مصر والشام طوائف أرباب الصناعات لقلة وجودهم باليمن[138] وأخيراً فإن الأهمية السياسية لليمن تبقى غير واضحة المعالم في هذه الفترة من خلال مساهمتنا العملية من أجل خدمة المبادئ والأهداف قياساً إلى ما كانت تلعبه مصر والشام وبلاد الجزيرة من دور بارز في مقاومة الصليبيين[139] وعساكرهم، وقد يعود الأمر إلى طبيعة الحكم المحلي باليمن إلى جانب حاجة ذلك الحكم إلى مزيد من القوة العسكرية التي يمكن توظيفها واستخدامها بالرد على المعارضة والمقاومة العسكرية لحكمهم على الرغم من توفر وحدة المبادئ والأهداف التي تجمع بين اليمن ومصر والشام(/26)
وبلاد الجزيرة إلا أن درجة الوفاء لتلك المبادئ والقيم من قبل أنظمة الحكم السياسية تختلف من قطر لآخر، وبصورة عامة فإن الحكم الأيوبي في اليمن لم يحقق أي هدف استراتيجي على مدى فترة وجوده باليمن، وعليه يتمكن القول أن مردوده السلبي كان أكثر مما سنتظر أن يحقق إيجابياً لأن بقاء العساكر الأيوبية مرابطة في اليمن معناه إبعادها عن مهمة التحرير التي كان يخوضها الجيش الأيوبي المركزي في بلاد الشام ومصر ضد الغزاة الصليبيين..
المصادر والمراجع
أ – المخطوطات:
1 - ابن بهادر: محمود بن محمد المؤمن (ت877هـ). فتوح النصر – دار الكتب المصرية رقم (2399).
2 - الذهبي: شمس الدين أبو عبدالله محمد بن أحمد (ت748هـ). نسخة دار الكتب رقم 42 تاريخ الاسلام.
3 - الخزرجي: محمد بن إبراهيم ابن أبي الفوارس الأنصاري (ت حوالي 655هـ) تاريخ دولة الأكراد والأتراك. معهد المخطوطات جامعة الدول العربية رقم 112.
4 - الزبيدي: أبو عبدالرحمن بن علي البيع الشيباني (ت943هـ) بغية المستفيد في أخبار مدينة زبيد (القاهرة/ معهد المخطوطات القاهرة والآن تحت التحقيق).
ب - المطبوعات:
1 - ابن الأثير: أبو الحسن علي بن أبي الكرم الجزري (ت630هـ) الكامل في التاريخ 12 جزء دار صادر بيروت 1966م.
2 - ابن أيبك: أبو بكر عبدالله الدواه داري (ت حوالي سنة 736هـ) كنز الدرر وجامع الغرر (الدر المطلوب في أخبار ملوك بني أيوب) جـ7 تحقيق سعيد عاشور القاهرة 1972م.
3 - ابن تغري بردي: جمال الدين أبو المحاسن الأتابكي (ت704هـ) النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة 16 جزء – القاهرة 1929/ 1971م.
4 - الحنبلي: أحمد بن إبراهيم (ت876هـ) شفاء القلوب في أخبار بني أيوب – تحقيق ناظم رشيد – مطبعة دار الحرية – بغداد 1978م.
5 - الخزرجي: موفق الدين علي بن الحسن الأنصاري (ت812هـ) العقود اللؤلؤية في تاريخ الدولة الرسولية جزءان – تحقيق محمد بسيوني عسل – مطبعة الهلال – القاهرة 1911م.(/27)
6 - ابن خلدون: عبدالرحمن بن محمد (ت808هـ) العبر، وديوان المبتدأ والخبر 6 أجزاء منشورات الأعلمي بيروت 1971م.
7 - ابن خلكان: أبو العباس شمس الدين أحمد بن محمد (ت681هـ) وفيات الأعيان 6 أجزاء – مطبعة السعادة – ط1 القاهرة 1948م.
8 - الزبيدي: أبو ضياء عبدالرحمن بن علي (ت943هـ) قرة العيون بأخبار اليمن الميمون – تحقيق محمد بن علي الأكوع الحوالي. المطبعة السلفية – القاهرة 1971م.
9 - سبط بن الجوزي شمس الدولة بن قزاوغلي التركي (ت654هـ) مرآة الزمان في تاريخ الأعيان – جزءان – حيدر أباد – الدكن – 1951م.
10 - السبكي: تاج الدين عبدالوهاب بن تقي الدين (ت771هـ) طبقات الشافعية الكبرى – 6 أجزاء – المطبعة الحسينية القاهرة – 19.
11 - أبو شامة: شهاب الدين عبدالرحمن اسماعيل المقدسي (ت665هـ) الروضتين في أخبار الدولتين – تحقيق د. حلمي محمد أحمد جـ1 القاهرة – 1956م، جـ1 ق2 1962م. وكذلك الاعتماد على النسخة المصورة – عن دار الجيل ط2 بيروت 1972م.
12 - ابن شداد: أبو المحاسن بهاء الدين يوسف بن رافع الأسدي (ت632هـ) النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية (سيرة صلاح الدين). القاهرة – 1964م.
13 - الصفدي: صلاح الدين خليل بن أيبك (ت764هـ) الوافي بالوفيات الجزء التاسع باعتناء يوسف فان ريس. دار صادر – بيروت 1974م.
14 - ابن العبري: غريغوريوس هرون المالطي (ت685هـ) تأريخ مختصر الدول – المطبعة الكاثوليكية – بيروت 1968م.
15 - ابن العماد: أبو الفلاح عبدالحي الجنبيلي (ت1089هـ). شذرات الذهب في أخبار من ذهب 8 أجزاء – مكتبة القدس القاهرة – 1350هـ.
16 - العمري: مسالك الأبصار في ممالك الأمصار (القسم الخاص باليمن) تحقيق اليمن فؤاد السيد – مطبعة دار الاعتصام القاهرة – 1972م.(/28)
17 - الغساني: أبو العباس اسماعيل بن العباس (ت803هـ) العسجد المسبوك والجوهر المحكوك. جزءان في مجلد واحد – تحقيق شاكر محمود – دار التراث الاسلامي – بيروت – 1975م.
18 - أبو الفداء: عماد الدين بن محمد (ت732هـ) المختصر في أخبار البشر – المطبعة الحسينية – القاهرة – 1325هـ.
19 - ابن الفرات: ناصر الدين محمد بن عبدالرحمن (ت807هـ) تأريخ بن الفرات مجلدان – تحقيق حسن الشماع – دار الطباعة الحديثة – البصرة – 1969/1970م.
20 - القلقشندي: أبو العباس أحمد بن علي (ت821هـ) مأثرة الأناقة في معالم الخلافة – الجزء الثاني.
21 - أبو محزمة: أبو محمد عبدالله الطيب بن عبدالله بن أحمد تأريخ ثغر عدن – جزءان/ مجلد واحد – بريل – ليدن – 1936م.
22 - المقريزي: تقي الدين أحمد بن علي (ت845هـ) السلوك لمعرفة دول الملوك – 6 أجزاء تحقيق – مصطفى زيادة – مطبعة دار الكتب المصرية – القاهرة 1936م.
23 - ابن المجاور: جمال الدين أبو الفتح يوسف بن يعقوب بن حمد، صفة بلاد اليمن ومكة وبعض من الحجاز المسماة – تأريخ المستبصر – مطبعة – بريل – ليدن – 1951م.
24 - ابن منقذ: أسامة بن مرشد الكناني الشيزري (ت584هـ) الاعتبار. تحقيق (حرره) فليب متي.
25 - الهمداني: أبو محمد الحسن بن أحمد بن يعقوب (ت334هـ) صفة جزيرة العرب – طبعة ليدن – 1884م.
26 - ابن واصل: جمال الدين محمد بن سالم (ت697هـ) مفرج الكروب في أخبار بني أيوب 4 أجزاء جـ1 تحقيق جمال الدين الشيال مطبعة جامعة فؤاد الأول – القاهرة 1953م. جـ2، المطبعة الأميرية القاهرة 1957م، جـ3 مطابع دار التعليم – القاهرة – 1960م. جـ4 تحقيق د. حسنين محمد ربيع – دار الكتب المصرية – 1972م.
27 - اليافعي: عبدالله بن أسعد عفيف الدين اليمني المكي (ت768هـ) مرآة الجنان وعبرة اليقظان 4 أجزاء – دائرة المعارف حيدر آباد – الدكن – الهند 1338هـ.(/29)
28 - ياقوت الحموي: شهاب الدين بن عبدالله الحموي الرومي (ت626هـ) معجم البلدان 5 أجزاء – دار صادر – بيروت – 1975م.
29 - يحيى بن الحسين: بن الامام القاسم بن محمد (ت1100هـ) غاية الأماني في أخبار القطر اليماني – جزءان – تحقيق سعيد عاشور – دار الكتاب العربي للطباعة والنشر القاهرة 1968م.
30 - اليمني: نجم الدين محمد العلمي اليمني (ت569هـ) النكت العصرية في أخبار الوزراء المصرية تحقيق – ديريتورغ – باريس – 1897م.
المراجع:
31 - بيومي: علي، قيام الدولة الأيوبية في مصر ط1 دار الفكر الحديث – القاهرة 1952م.
32 - زامباور: أدواردفون. معجم الأنساب والأسرات الحاكمة في التاريخ – ترجمة زكي محمد وجماعته – مطبعة جامعة فؤاد الأول – القاهرة – 1951م.
33 - سليمان: أحمد السعيد. تأريخ الدول والأسرات الحاكمة – جزءان – دار المعارف – القاهرة 1969م.
34 - العرشي: حسين بن أحمد. بلوغ المرام في شرح مسك الختام من تولى اليمن من ملوك وإمام عني بنشره – الأب أنستاس الكرملي. مطبعة برتيري – القاهرة 1931م.
35 - محمود: حسن سليمان، تأريخ اليمن السياسي في العصر الاسلامي – مطبعة دار الجاحظ/ بغداد 1969م.
36 - Lane, pool; S:
A: A history of Egypt in the middle ages, London 1901.
B: Saladin and the Fall Kingdom of Jerusalem, London 1898.
C: Mohammadan Dynastise, London 1896.
ــــــــــــــــــــــــــــ
[1] عرفت الظروف المرحلية تلك التي تمثلت في سياسة صلاح الدين في الشام والجزيرة والتي اتخذت صفة الفتح والتحرير من أيدي الحكام المحليين، كحصاره لدمشق وفتحه لحلب وبلاد الجزيرة، فضلاً عن حروبه مع الفرنج في مصر وبلاد الشام.
[2] سيأتي شرح ذلك الخلاف وأبعاد التحرك السياسي للأميرين.
[3] عز الدين أبي الحسن علي بن الأثير: الكامل في التاريخ 1: 472، شهاب الدين عبدالرحمن المقدسي أبو شامة: الروضتين في أخبار الدولتين: 2/6.(/30)
[4] : حسن سليمان محمود تاريخ اليمن السياسي: 252.
[5] الزبيدي: قرة العيون: 1/386.
علي أبو الحسن بن أبي الكرم الجزري ابن الأثير: الكامل /11/48 سبط بن الجوزي مرآة الزمان: ق حـ8 368/
[6] ابن واصل: معترج الكروب: 2: 105.
[7] ابن الأثيرة الكامل: 11/480، أحمد بن إبراهيم الحنبلي: 199.
[8] الحنبلي: شفاء القلوب: 199، حسين بن أحمد العرشي: بلوغ المرام: 41.
[9] الزبيدي: قرة العيون 1/380، يحيى بن الحسين: غاية الأماني: 1/328.
[10] يحيى بن الحسين: غاية الأماني: 1/328.
[11] أخطأ أحمد بن حسين شرف الدين في إدراج هذه الحوادث ضمن سنة 570هـ كما نسبها خطأ إلى عهد تورنشاه بن أيوب والصحيح أنها وقعت سنة 583هـ وتعود بلاشك إلى عهد الملك سيف الاسلام طغتكين: انظر أحمد حسين شرف الدين: اليمن عبر التاريخ: 311 (هامش1) مطبعة السنة المحمدية/ ط2 القاهرة/ 1964.
[12] الزبيدي: قرة العيون: 1/389.
[13] أورد اسمه يحيى بن الحسين تحت اسم زيدان عمر الجنبي: انظر يحيى بن الحسين غاية الأماني: 1/339.
[14] قيل أن عدد قتلى قبيلة جنب على يد سيف الاسلام بلغ ستمائة في حين هرب شيخها عمران من وسط المعركة ناجياً: انظر الزبيدي: قرة العيون: 1/389- 390 يحيى بن الحسين: غاية الأماني 1/329.
[15] غاية الأماني: 1/329.
[16] الدملوة: حصن عظيم باليمن كان يسكنه آل زريع ياقوت: معجم البلدان: 2/471.
[17] جوهر المعظمي: - قيل هو مولى الدعاة بني زريع وولد الداعي عمران بن محمد بن سبأ، انظر الزبيدي: قرة العيون: 1/390.
[18] المصدرين السابقين.
[19] الزبيدي: قرة العيون: 1/393، يحيى بن الحسين: غاية الأماني: 332.
[20] المصدر السابق: 1/394.
[21] الزبيدي: قرة العيون: 1/394- 395، غاية الأماني: 1/334.
[22] يحيى بن الحسين: غاية الأماني: 1/335.(/31)
[23] سوف لا أتناول في البحث الجانب الحضاري للأيوبيين في اليمن انظر: سبط بن الجوزي مرآة الزمان: ق2 جـ8/453، الذهبي: تاريخ الاسلام: م28: ورقة 70.
[24] ابن الأثير الكامل: 12/128 الخزرجي: تأريخ دولة الأكراد والأتراك: ورقة 263 سبط ابن الجوزي: مرآة الزمان: ق2 جـ8/453، الذهبي: تأريخ الاسلام: م28 ورقة 70.
[25] أبو مخزمة/ تاريخ ثغر عدن: 2/29.
[26] الحنبلي: شفاء القلوب: 270.
[27] إن كل ما ذكر عن سبب نقمة أبيه عليه هو ما ظهر لأبيه منه الخروج عن مذهب السنة أي أصبح على مذهب الإمامية والشيعة فطرده من اليمن فخرج مغاضباً لأبيه يريد بغداد... راجع أبا مخزمة 2/19، الزبيدي: بغية المستفيد ورقة 40.
[28] وذكر بأن جمال الدولة كافور أحد أعيان دولة بني أيوب بعث بعده النجي وعرفه بوفاة والده فحضر وملك اليمن: انظر ابن واصل: مفرج الكروب: 7313 شفاء القلوب 199، الزبيدي قرة العيون: 1/40، الحنبلي/ 199.
[29] الخزرجي: تاريخ دولة الأكراد والأتراك ورقة: 63.
الذهبي/ تاريخ الإسلام، مجلد 28 ورقة 770.
أبو محزمة/ 1/19، الزبيدي، قرة العيون: 21/400.
[30] يحيى ابن الحسين: غاية الأماني/ 1/341.
[31] يحيى بن الحسين: غاية الأماني: 1/341.
[32] ابن واصل: مفرج الكروب: 3/136، وغاية الأماني: 1/341.
[33] تاريخ ابن الفرات م 4 ح 2/229.
[34] الزبيدي: قرة العيون 1/403- 404.
[35] نفس المصدر السابق: 1/404.
[36] يحيى بن الحسين: غاية الأماني 1/351.
[37] المصدر السابق: 1/352.
[38] انظر المصدر السابق: 1/352- 353.
[39] الزبيدي: قرة العيون: 1/402.
[40] معين وبراقش: حصنان من حصون اليمن.
[41] راجع بصدد تلك الانتصارات يحيى بن الحسين: غاية الأماني: 1/352.
[42] انظر: الخزرجي: تاريخ دولة الأكراد والأتراك: ورقة 63، أبو محزمه: تاريخ ثغر عدن: 1/20، الحنبلي: شفاء القلوب: 2/272.(/32)
[43] ابن الأثير: 11/130، ابن واصل: مفرج الكروب: 3/136- 137، ابن الفرات: تاريخ ابن الفرات: م 4 جـ 2/230.
الحنبلي: شفاء القلوب: 272 أبو محزمة: تاريخ ثغر عدن: 1/20.
[44] ذكر أن عدد مماليك أبيه الذين خرجوا عن طاعته وحاربوه فكسرهم ثمانمائة مملوك... راجع: ابن واصل: مفرج الكروب: 3/136.
[45] انظر: ابن الأثير: الكامل: 11/130 ابن واصل: مفرج الكروب: 3/137، أبو الفداء: المختصر: 3/102 (المطبعة الحسينية).
[46] أبو محزمة: تاريخ ثغر عدن: 20، الزبيدي: قرة العيون: 1/403.
[47] المصدران السابقين: نفس المكان.
[48] ابن واصل: مفرج الكروب 3/13، أبو محزمة: تاريخ ثغر عدن: 2/24 الخزرجي، العقود اللؤلؤية: 1/29.
[49] الزبيدي: قرة العيون: 1/406، يحيى بن الحسين: غاية الأماني: 1/357.
[50] ابن واصل مفرج الكروب: 3/137.
[51] الزبيدي: قرة العيون: 1/405.
[52] الكدري لم أجد لها تعريفاً، بل ذكر ياقوت اسم مدينة تحت رسم كدراء بالمد، وهي تأنيث الأكدر، وقال هي اسم مدينة باليمن على وادي سهام، وأضاف الهمداني، والكدراء مدينة يسكنها خليط من عك والأشعر.. انظر ياقوت: معجم البلدان: 4/441، الهمداني: صفة جزيرة العرب: 54 (طبعة ليدن).
[53] الزبيدي: قرة العيون: 1/405.
[54] المصدر السابق: 1/406، يحيى ابن الحسين: غاية الأماني: 1/358- 359.
[55] ابن واصل: مفرج الكروب: 3/2137.
[56] الزبيدي: قرة العيون: 1/405، يحيى بن الحسين: غاية الأماني: 1/358.
[57] ابن واصل: مفرج الكروب: 3/137.
[58] المصدر السابق: 135- 136، ابن الفرات: تاريخ ابن الفرات: م4 ج2/232.
[59] يحيى ابن الحسين: غاية الأماني: 1/362.
[60] يحيى بن الحسين: غاية الأماني: 1/358.
[61] المصدر السابق: نفس المكان.
[62] المصدر السابق: نفس المكان 1/359- 360.(/33)
[63] الجند مجبل باليمن هكذا ذكره ياقوت الحموي: معجم البلدان: 2/170 وأشار الهمداني، بأنها مدينة وهي من أرض السكاسك وإلى أعمالها ينسب في دواوين الخلفاء قرى تهامة اليمانية، انظر الهمداني: صفة جزيرة العرب: 54.
[64] يحيى بن الحسن: غاية الأماني 1/363.
[65] الأمير شيرياك: لم أعثر على ترجمة له سوى ماشير بأنه كان من جملة من وصل إلى الإمام المنصور مع الأمير وردسار أيام الملك المعز: المصدر: انظر المصدر السابق 1/366.
[66] المصدر السابق: نفس المكان.
[67] براقش: هي حصن من حصون اليمن: انظر: ياقوت: حجم البلدان: 1/364.
[68] غاية الأماني: 1/395.
[69] ابن واصل: مفرج الكروب: 3/37، أبو محزمة: تاريخ ثغر عدن: 2/24.
[70] ذكر علي بن الحسين أن الملك الناصر أيوب جعل القائم بأعماله صاحب بابه وأستاذ داره غازي بن جبريل: انظر يحيى بن الحسين: غاية الأماني: 1/395.
[71] السحول: قرية من قرى اليمن يحمل منها ثياب قطن تدعى السحولية.
[72] ذكر ابن واصل، وأبو الفداء أن الذين قتلوه هم جماعة من عرب البلاد والصحيح هو أن المماليك الأيوبية هم الذين تولوا قتله، والتصويب من الحنبلي: شفاء القلوب: 272.
[73] ابن واصل: مفرج الكروب: 3/138- 139، ابن أيبك الداوندار: كنز الدرر: 7/156، ابن خلدون: تاريخ: 5/334.
[74] الزبيدي: قرة العيون: 1/411.
[75] أبو الفداء: المختصر: 3/102، الخزرجي: العقود اللؤلؤية: 1/30، قرة العيون: 1/411.
[76] الخزرجي: العقود اللؤلؤية: 1/30، قرة العيون: 1/411- 412.
[77] ابن واصل: مفرج الكروب: 3/139، الزبيدي: قرة العيون: 1/411- 412.
[78] راجع عن ذلك الحزاب يحيى بن الحسين: غاية الأماني: 1/40.
[79] انظر ابن واصل: مفرج الكروب: 3.(/34)
[80] اطسيس: هي كلمة تركية معناها بالعربية ماله اسم، ويقال إنما سمي بذلك لأن الملك الكامل ما كان يعيش له ولد، فلما ولد له المسعود، قال بعض الحاضرين في مجلسه من الأتراك في بلادنا إذا كان الرجل لا يعيش له ولد سماه اطسيس فسماه اطسيس، والناس يقولون اقسيس بالقاف وصوابه بالطاء. وهكذا ذكره ابن خلكان: وفيات الأعيان: 4/167.
[81] يحيى ابن الحسين: غاية الأماني: 1/403.
[82] اتفقت المصادر على عدم ذكر عدد الجيش الذي كان بعهدته إلى اليمن إلا أن الحنبلي انفرد في ايراد هذا الرقم. انظر ابن واصل: مفرج الكروب: 30/170 الخزرجي العقود اللؤلؤية: 1/30، الذهبي: تاريخ الاسلام: مجلد 30، ورقة 222 (قسم المخطوط – دار الكتب المصرية – رقم 42)، الحنبلي شفاء القلوب: 362.
[83] الخزرجي: العقود اللؤلؤية: 1/30.
[84] ذكر ابن بهادر أن عمره حينذاك عشر سنوات، والايبك التركماني هو أتابكه انظر ابن بهادر: فتوح النصر: القسم الأول: و75، (قسم المخطوط).
[85] راجع: قرة العيون: 1/412، يحيى بن الحسين: غاية الأماني 1/403.
[86] الحنبلي: شفاء القلوب: 272.
[87] الزبيدي: قرة العيون: 1/413، الخزرجي: العقود اللؤلؤية 1/31.
[88] الخزرجي: العقود اللؤلؤية: 1/31.
[89] يحيى بن الحسين: غاية الأماني 1/404.
[90] ابن واصل: مفرج الكروب: 3/227، ابن تغري بردي: النجوم الزاهرة: 6/272، ابن الفرات: تاريخ بن الفرات: م4 جـ2/247.
[91] بيت أنعم: حصن قريب من صنعاء اليمن نازله الفارس جمال الدين فليت (قليت) أتابك الملك المسعود مدة طويلة حتى تمكن من أخذه. انظر ياقوت: معجم البلدان: 1/519.
[92] المصانع: منطقة من جبل السراة باليمن وفي أعلاها جبل ذخار وخضور انظر الهمداني: صفة جزيرة العرب: 68.
[93] يحيى ابن الحسين: غاية الأماني: 1/405.
[94] المصدر السابق: 1/407.(/35)
[95] أعلن الإمام المعتضد بالله يحيى ابن المحسن بن محفوظ بن محمد بن يحيى من أولاد الهادي الدعاة بالإمامة لنفسه وعارض فيها الأمير عز الدين محمد بن المنصور فجرت بينهما وقائع وحروب راجع: غاية الأماني: 1/407- 408، العرشي: غاية المرام: 43.
[96] بكر: بضمتين: من مشهور قلاع صنعاء بالقرب منها قلعة يقال لها ظفرة. ياقوت الحموي: معجم البلدان: 1/475.
[97] الزبيدي: قرة العيون: 1/416.
[98] في سنة 617هـ قرر الأمير عز الدين محمد بن المنصور وأخوته أن يشغلوا الملك المسعود عن بكر فجمعوا له العساكر وأجمعوا على غزو تهامة فخالفهم عن هذا الرأي الأمير سليمان بن موسى الحمزي وقصد المسعود فأكرمه بالصلاة الجزيلة وجهز معه الجند لقتال الأشراف إلا الأشراف أولاد المنصور قتلوه. راجع يحيى بن الحسين: غاية الأماني: 1/409.
[99] بنو رسول: هم من ملوك اليمن، واسم رسول: محمد بن هارون بن أبي الفتح بن نوح بن رستم، وهو من ولاية جبلة بن الايهم بن الحارث تعلبه بن عمر بن جفنة بن عمرو مزيقياه بن عامر ينتهي نسبهم إلى يعرب بن قحطان، ونسبوا إلى التركمان خطأ، ويسمى محمد بن هارون رسولاً لأن الخليفة العباسي قربه إليه واختصه فكان سفيره الخاص يحمل رسائله إلى الشام ومصر، ولهذا أطلق عليه اسم رسول فاشتهر به وترك اسمه الحقيقي، ويطلق عليهم آل غسان. انظر الخزرجي العقود اللؤلؤية: 1/26- 27، العرشي: غاية المرام: 44.
[100] راجع الخزرجي: العقود اللؤلؤية: 1/33/22.
[101] المصدر السابق العقود اللؤلؤية: نفس المكان/ 22.
[102] ابن الفرات: تاريخ ابن الفرات: م4 جـ2/238.
[103] ابن واصل: مفرج الكروب: 4/125، أبو الفداء: المختصر: 3/131- 132.
[104] ابن واصل: مفرج الكروب: 4/125، ابن الفرات: تاريخ ابن الفرات: م4 ج2/238.(/36)
[105] ذكر عن شخصية المسعود بأنه ذا همة عالية وصرامة عظيمة فارساً مهيباً شجاعاً ذات سطوة إلا أن حكمه فيه عزف وظلم. ومع هذه الازدواجية في الشخصية فقد ذكر عنه بأنه أساء التصرف بمكة سنة 619هـ بما لا يحمد عقباه وذلك برمي حمام الحرم بالبندق من فوق زمزم كما أقدم غلمانه على ضرب الناس يالسيوف على أرجلهم وهم بالمسعى. الخ وقد يكون مثل هذا الرأي أو الوصف من سلوكية المسعود وتصرفه فيها شيء من المبالغة والتهويل: راجع عن شخصيته: الصفدي: الوافي بالوفيات: 9/316، ابن الفرات: تاريخ ابن الفرات: م4 ج2/237، المقريزي: السلوك: 1/217، الحنبلي؛ شفاء القلوب: 263.
[106] سبط بن الجوزي: مرآة الزمان: 8/658، الصفدي: الوافي بالوفيات: 9/316.
[107] ابن واصل: مفرج الكروب: 4/125.
[108] الخزرجي: العقود اللؤلؤية: 1/33.
[109] ابن خلكان: وفيات الأعيان: 4/174.
[110] ابن واصل: مفرج الكروب: 4/260، والخزرجي: العقود اللؤلؤية: 1/33.
[111] الخزرجي: العقود اللؤلؤية: 1/33 ويحيى بن الحسين: غاية الأماني 1/410.
[112] مرغم الصوفي: لقب بالعبد الصالح وهو مرغم بن منيف الصوفي الحميري النسب من قوم أولي بأساً وقوة وسلطان يسكنون بلد حمير المصاقبة للنعمان وعلى الرغم من صلاحه وزهده كان أمياً يمتهن الحياكة في بلاد عبس اتخذ من التصوف على ما يبدو حرف وبضاعه: انظر الزبيدي: قرة العيون: 1/416 هامش (3) ويحيى بن الحسين غاية الأماني: 1/411.
[113] انظر الخزرجي: العقود اللؤلؤية: 1/34، الزبيدي: قرة العيون: 1/417.
[114] الخزرجي: العقود اللؤلؤية: 1/34 ومن أجل الاستزادة والتفصيل راجع يحيى بن الحسين: غاية الأماني: 1/415.
[115] يحيى بن الحسين: غاية الأماني: 1/415.(/37)
[116] عصر بفتح العين: المهملة وكسر الصاد المهملة أيضاً آخره راء: قيل أنها قرية وجبل غربي صنعاء ومن ضواحيها وفيها غيل وفواكه الرقاق والبليس والقات: هكذا وردت في حاشية قرة العيون: 1/417: هامش 4 وذكر ياقوت أن عصر بكسر العين وسكون الضاد هو كل حصن يتحصن به يقال له عصر: ياقوت: معجم البلدان: 4/28.
[117] الخزرجي: العقود اللؤلؤية: 1/34: الزبيدي قرة العيون: 1/417- 418.
[118] الخزرجي: العقود اللؤلؤية: 1/39.
[119] الخزرجي: العقود اللؤلؤية: 10/40.
[120] يحيى بن الحسين: غاية الأماني: 1/407.
[121] الخزرجي: العقود اللؤلؤية: 1/46.
[122] المقريزي: السلوك: ق1 حـ1: 237.
[123] انظر الحديث في ابن واصل: مفرج الكروب: 4/260.
[124] من أجل الاستزادة راجع بقية الحديث الذي دار بين الأمير بدر الدين عمر بن رسول والملك المسعود عندما حضر عنده سنة 625هـ في: الخزرجي: العقود اللؤلؤية: 1/41.
[125] ابن واصل: مفرج الكروب: 4/259- 260، الصفدي: الوافي بالوفيات: 9/316.
[126] انظر عن حياته: مفرج الكروب: 4/263، أبو الفداء: المختصر: 3/142.
[127] الخزرجي: العقود اللؤلؤية: 1/44، 46.
[128] الخزرجي: العقود: 1/47، يحيى بن الحسين: غاية الأماني: 1/419.
[129] المصدر السابق: 1/47.
[130] غاية الأماني: 1/420.
[131] راجع الخزرجي: العقود: 1/49.
[132] في سنة 631هـ بعث الأمير نور الدين هدية إلى الخليفة المستنصر وطلب منه تجديد التشريف على اليمن كما جرت به عادة الملوك، غاية الأماني: 1/421.
[133] الخزرجي: العقود: 1/50.
[134] راجع الخزرجي: العقود اللؤلؤية: 56- 57 ويحيى بن الحسين: غاية الأماني: 1/420.
[135] شيحة بن قاسم: هو الوالي الأيوبي على المدينة المنورة تولاها على عهد الملك الكامل والملك الصالح وقد ورد اسمه عند الخزرجي تحت رسم سنحه، راجع الخزرجي، العقود اللؤلؤية 1/50 و64 و75.(/38)
[136] راجع المصدر السابق ص69، يحيى بن الحسين: غاية الأماني: 1/424، المقريزي: السلوك 1/313.
[137] ابن فضل الله العمري: مسالك الأبصار: 50 (القسم الخاص باليمن تحقيق أيمن فؤاد السيد).
[138] نفس المصدر السابق 51.
[139] ذكر حسن سليمان محمود عن حكم الأيوبيين في اليمن أنها لعبت في هذه الفترة مع مصر والشام والجزيرة دوراً هاماً في الجهاد الصليبي في عهد صلاح الدين وخلفائه وهذا قد يكون فيه شيء من المغالطة إذ لا يتوفر لدينا ما يشير إلى مشاركة العساكر اليمانية شقيقاتها العساكر العربية والاسلامية في معارك الجهاد والتحرير، راجع حسن سليمان محمود: تاريخ اليمن السياسي في العصر الاسلامي: ص254.(/39)
العنوان: الباحثة المحققة سكينة الشهابي
رقم المقالة: 911
صاحب المقالة: أحمد العلاونة
-----------------------------------------
يرحم الله المحقِّقة المؤرِّخة الفاضلة سُكَينة الشِّهابي، فقد كانت نمطاً فريداً فيمن عرفتُ من المحقِّقين، عرفتُها بتاريخ ابن عساكر قبل أن أراسلَها، وقبل أن ألقاها مرَّات في مجمع اللغة العربية بدمشق.
وسمعت اسمَها مقروناً بالتكريم والتبجيل بين أوساط المحقِّقين.
كانت تحدثني دائماً بأسفٍ عن عبث كبار المحقِّقين بالتراث، وقلَّة أمانتهم، وتذكُر لي أسماءهم، وهُم مِلْءُ السمع والبصر، وكانت تحدثني أيضاً عمَّا كانت تواجهُه من صعوبات في بداية عملها في تحقيق (تاريخ ابن عساكر)، وكيف اهتدَت إلى مَنهج مؤلِّفه فيه وطريقته في ذكر أسانيده، وتُعرِّج على أحد الناشرين الذي أخذَ منها عدَّة أجزاء من تاريخ ابن عساكر، فلا هو طبعَها ولا هو ردَّها!
وُلدت سكينةُ الشهابي في مدينة الباب من أعمال حلب سنة 1933م، ونشأت يتيمةً؛ إذ توفِّي والدُها سنة 1938، ومن حينها بدأ نضالُ إخوتها في سبيل العيش، وأكبرُهم لم يبلُغ العشرين من العمر؛ لأن والدَهم لم يترُك لهم شيئاً من مالٍ أو عَقار.
وحُرمت سكينةُ من الدراسة والمدرسة، وأمُّ الأسباب في ذلك الفقرُ والإهمال، وكانت عندها رغبةٌ لا تُقاوَم في المعرفة، فتعلَّمت قراءةَ القرآن الكريم بمساعدة إخوتها في البيت، ثم أَتبعت ذلك تعلُّمَ القراءة والكتابة، وكانت تختلسُ الساعات لقراءة ما تيسَّر لها من الصحف والمجلات والقصص...
وأحسَّ من يُحيط بها من الأهل والأقرباء أنها أصبحت أحسنَ من اللواتي يذهَبنَ إلى المدرسة، ومثلها في ذلك شقيقتُها الصُّغرى، فشُجِّعَتا على اجتياز امتحان الشهادة الابتدائيَّة بدراسةٍ حُرَّة، فنَجَحَتا، وتقدَّمتا بعد ذلك للحصول على الشهادة الإعدادية، فحَصَلَتا عليها، ثم فازَتا عن جَدارة بالشهادة الثانوية.(/1)
ثم انتقلت مع أُسرتها إلى دمشق، وأتمَّت الدراسةَ في قسم اللغة العربية بجامعة دمشق عام 1961-1962، واجتازَت المسابقةَ التي أجرتها وِزارةُ التربية لانتقاء المدرِّسين، وكانت الأُولى فيها، فعُيِّنت مدرِّسةً للغة العربيَّة، ووالَت نشرَ مقالات نقديةً وأدبية بمجلة الأديب اللبنانية، ثم اختيرَت للعمل في التراث بمجمَع اللغة العربيَّة في السنة التي توفِّيت فيها والدتُها (1973م)، وكانت وفاتُها أعظمَ محنة مرَّت عليها في حياتها، وتحوَّلت مقالاتُها من النقد والأدب إلى البحث في التراث والتحقيق، وأصبحت كَلِفَةً بتاريخ ابن عساكر الذي أَخرَجَت منه أكثرَ من عشرين مجلَّداً مطبوعاً، جوَّدت فيها ما شاءت.
واختارَت لمساعدتها في التحقيق أُستاذةً فاضلة هي الأُخت هَلا الضحَّاك، وعسى أن تكونَ قد تعلَّمت منها الكثير، لتُتابع المسير على خُطا أستاذتها الكبيرة.
وقد أنبأَتني مُراسلَتي إياها واجتماعي بها، بما تتَّصف به من تواضُع شديد وخُلُق حميد، وبما قاسَتهُ في صِغَرها من شَظَف العَيش، مع الصبر والاعتداد بالنفس.
وقد توفِّيت في 14/7/2006م، عذراءَ لم تتزوَّج، رحمها الله تعالى رحمةً واسعة.
حقَّقَت من الكتب - عَدا أجزاء تاريخ ابن عَساكر - : (تلخيص المتشابه في الرَّسم) للخَطيب البَغدادي جزآن، و(طبقات الأسماء المفردَة في الصَّحابة والتابعين ورجال الحديث) للبَرْديجي، و(أخبار الوافِدين من الرِّجال على معاوية)، و(أخبار الوافِدات من النِّساء على معاوية) كلاهما للعبَّاس بن بكَّار، و(تاريخ أبي بِشْر هارون بن حاتِم)، و(المعجم المشتَمِل على ذكر أسماء شيوخ الأئمَّة النُّبل) لابن عساكر، و(رجال عُروَة بن الزُّبَير) للإمام مسلم، و(المنتخَب من أزواج النبيِّ) للزُّبَير بن بكَّار.(/2)
العنوان: الباحثون عن الحقيقة
رقم المقالة: 1279
صاحب المقالة: الشيخ عائض بن عبدالله القرني
-----------------------------------------
إنَّ الحمد لله، نحمدهُ ونستعينهُ ونستغفرهُ، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا وسيِّئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومن يضللْ فلا هاديَ له، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء: 1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب: 70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثه بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها الناس:
إن أكبر قضية في حياة المسلم، وفي حياة الإنسان، هي قضية البحث عن الهداية، قضية معرفة الله سبحانه وتعالى، قضية توحيد الله - عزَّ وجلَّ، الله أكبر؛ فلا أكبر من الله، ولا إله إلا الله، ولا إله غير الله.
اللهُ رَبِّي لا أُرِيدُ سِوَاهُ هَلْ فِي الوجود حقيقةٌ إلاَّ هُو
قَدْ ضَلَّ مَنْ يَرْجُو سِوَاهُ وَأَفْلَسَتْ مِنْ كُلِّ خَيْرٍ فِي العُلا يُمْنَاهُ(/1)
يقول عز من قائل: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللّهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ} [الأنعام: 19].
ولذلك كانت هذه القضية، هي القضية الكبرى، التي بحثها الإسلام، والتي أرسى قواعدها، وأقام الأدلة عليها.
فأين الباحثون عن الحقيقة، وأين الملتمسون للهداية، وأين المتطلعون إلى معرفة الله سبحانه وتعالى؟
نحن اليوم مع بعض أولئك النفر الصالحين، مع المتلمسين للهداية، مع الباحثين عن الحقيقة، وفي مقدمتهم، وفي أولهم؛ سلمان الفارسي – رضي الله عنه وأرضاه – سلمان ابن الإسلام، الذي لما اجتمع مع نفر من العرب، فأخذ كل واحد منهم يفتخر بنسبه، فهذا يقول: أنا قرشي، وذاك يقول: أنا قيسي، وآخر يقول: أنا تميمي، أما سلمان – رضي الله عنه – فقال:
أَبي الإِسلامُ لا أبَ لِي سِوَاه إذَا افْتَخَرُوا بِقَيْسٍ أَوْ تَمِيمِ
هو لا يعرف إلا الإِسلام، ولا ينتسب إلا إلى الإِسلام، وأكرم به من نسب.
نسبٌ كأن عليه من شمس نوراً ومن فَلَقِ الصباحِ عمودا
فولاية الله - عزَّ وجلَّ - لا تُنال بالنسب - وإن اقترب - وإنما تُنال بالإيمان والعمل الصالح، فمن كان أكمل إيماناً وعملاً، فهو أعظم ولاية، سواء كان له نسبٌ قريب، أو لم يكن.
لعمرُك ما الإنسانُ إلا بدينهِ فلا تترك التقوى اتكالاً على النَّسبِ
لقد رفعَ الإِسلامُ سَلْمَانَ فارس وَقَدْ وضَعَ الشِّرْكُ النَّسِيبَ أَبَا لَهَبِ
أتى سلمان من أرض فارس، من وراء النهر، يلتمس الهداية، يطلب النور، يريد الحقيقة، وأبو جهل، وأبو لهب، وأبو طالب عند الركن اليماني، والحجر الأسود، يبغضون لا إله إلا الله، ويعادون لا إله إلا الله، ويكيدون لـ: لا إله إلا الله.(/2)
وانظر إلى قدر الله، وهداية الله، واصطفاء الله، كيف يقود الله سلمان من وراء جبال ((سيحون وجيحون)) ليكون من حماة الإسلام؟! وكيف يطرد الله هؤلاء الشرذمة الحاقدة، وهم عند الحجر الأسود والركن اليماني، فيموتون على الكفر والضلال؟!!.
كان سلمان يعبد النار من دون الله - تبارك وتعالى - يتخذها إلهاً، ويتقرب إليها بإيقادها وإشعالها!
وَأَصْبَحَ عَابِدُ النِّيرَانِ قِدَماً حُمَاةَ الْبَيْتِ وَالرُّكْنِ الْيَمَانِ
يحكي سلمان قصته فيقول: كنت مع أبي، وكان أبي من سدنة النار للمجوس، يوقدها لهم، ولا يتركها تخبو ساعة، فأمرني أبي ذات يوم أن أذهب إلى ضيعته فأطَّلعها، وأمرني فيها ببعض ما يريد. فخرجت أريد ضيعته التي بعثني إليها، فمررت بكنيسة من كنائس النصارى، فسمعت أصواتهم فيها وهم يصلون، فلما رأيتهم أعجبتني صلاتهم، ورغبت في أمرهم، وقلت: هذا والله خير من الدين الذي نحن عليه، ثم قلت لهم: أين أصْلُ هذا الدين؟ قالوا: بالشام.
وعدتُ إلى أبي في المساء، فسألني: أين كنت؟ فأخبرته الخبر، فحبسني، ووضع الحديد في رجلي – لأنه خاف أن أرتد عن دين المجوسية، وهكذا حماسُ أهل الباطل، فأين حماس أهل الحق؟!.
وبعثتُ إلى النصارى فقلت لهم: إذا قدم عليكم ركبٌ من الشام فأخبروني بهم، قال: فأخبروني بقدومهم، فلما أرادوا العودة إلى بلادهم، ألقيت الحديد من رجلي، ثم خرجت معهم حتى قدمت الشام، فلما قدمتها قلت: من أفضل أهل هذا الدين علماً؟ قالوا: الأسقف في الكنيسة، فجئته فقلت له: إني قد رغبت في هذا الدين، وأحببت أن أكون معك، وأخدمك في كنيستك، وأتعلم منك، فأصلي معك، قال: ادخل، فدخلت معه، فكان رجل سوء؛ يأمرهم بالصدقة ويرغبهم فيها، فإذا جمعوا له شيئاً، كنزه لنفسه، ولم يعطه المساكين! حتى جمع سبع قلال من ذهب، وورِق. قال: وأبغضته بغضاً شديداً لما رأيته يصنع، ثم مات.(/3)
واجتمعت له النصارى ليدفنوه، فقلت لهم: إن هذا كان رجل سوء؛ يأمركم بالصدقة، ويرغبكم فيها، فإذا جئتموه بها، كنزها لنفسه، ولم يعط المساكين منها شيئاً. فقالوا لي: وما علمك بذلك؟ فأريتهم كنزه، فاستخرجوا سبع قلال مملوءة ذهباً وورِقاً، فلما رأوها قالوا: لا ندفنه أبداً، فصلبوه، ورجموه بالحجارة، وجاؤوا برجل آخر، فوضعوه مكانه. قال سلمان: فما رأيت رجلاً أفضل منه، فأحببته حبّاً شديداً، فأقمت معه زماناً، ثم حضرته الوفاة، فقلت له: إني قد كنت معك، وأحببتك حبّاً شديداً، وقد حضرك ما ترى من أمر الله، فإلى من توصي بي؟ وبم تأمرني؟ فقال: أي بني، والله ما أعلم اليوم أحداً على ما كنت عليه إلا رجلاً بالموصل وهو فلان، وهو على ما كنت عليه، فالحقْ به. قال: فلما مات وغيب، لحقت بصاحب الموصل، فأقمت عنده، فوجدته خير رجل على أمر صاحبه، فلم يلبث أن مات، فلما حضرته الوفاة، قلت له: يا فلان، إن فلاناً أوصى بي إليك، وقد حضرك من أمر الله ما ترى، فإلى من توصي بي، وبم تأمرني؟ قال: يا بني، والله ما أعلم رجلاً على مثل ما كنا عليه، إلا رجلاً بنصيّبين، وهو فلان فالحقْ به، فلما مات وغُيب، لحقت بصاحب نصيبين، فأخبرته خبري، وما أمرني به صاحباي، فقال: أقمْ عندي، فأقمتُ عنده، فوجدته على أمر صاحبيه، فوالله ما لبث أن نزل به الموت، فلما حُضر قلت له: يا فلان، إن فلاناً كان أوصى بي إلى فلان، ثم أوصى بي فلان إلى فلان، ثم أوصى بي فلان إليك، فإلى مَنْ توصي بي، وبم تأمرني؟ قال: يا بني، والله ما أعلمه بقي أحد على أمرنا، آمرك أن تأتيه إلا رجل بعمّورية من أرض الروم، فإنه على مثل ما نحن عليه، فإن أحببت فائته فإنه على أمرنا، فلما مات وغُيب، لحقت بصاحب عمورية، فأخبرته خبري، فقال: أقم عندي، فأقمت عند خير رجل، قال: ثم نزل به أمر الله، فلما حُضر قلت: بم تأمرني وإلى من توصي بي؟ قال: أي بني، والله ما أعلم أحداً على مثل ما كنا عليه آمرك أن(/4)
تأتيه، ولكنه قد أظل زمان نبي مبعوث بدين إبراهيم، يخرج بأرض العرب، يهاجر إلى أرض ذات نخل بين حرتين، به علامات لا تخفى؛ يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة، بين كتفيه خاتم النبوة، فإن استطعت أن تلحق بتلك البلاد فافعل. قال: ثم مات وغُيب، ومكثت بعمورية ما شاء الله أن أمكث.
* عباد الله:
إنها رحلة طويلة شاقة، قضاها سلمان، وهو يبحث عن الحقيقة، يقطع المفاوز، ويعبر القارات، ليصل إلى الدين الحق، وقد عاش سلمان – كما قال أهل التاريخ – ثلاثمائة سنة، في المجوسية، والنصرانية والإسلام، فهو شيخ مجرب، ورجل مخضرم، استقرأ الحوادث والوقائع والأيام، وخرج بنتيجة واحدة، وهي أن الإسلام هو الدين الصحيح الذي رضيه الله تعالى للناس.
ولم تنته رحلة سلمان بعد، ولكنه اقترب من الحقيقة، بعد أن هداه صاحبه الرابع إلى نبي سيخرج في أرض العرب، قد أظل زمانه.
وتبدأ الرحلة من جديد للوصول إلى هذه الأرض البعيدة، يقول سلمان: ثم مر بي نفر من (كلب) تجار، فقلت لهم: احملوني إلى أرض العرب، وأعطيكم بقراتي هذه، وغنيمتي هذه – وكان سلمان قد اكتسب في عمورية فحصّل بعض الأموال من البقر والغنم – قال: فأعطيتهموها وحملوني معهم، حتى إذا بلغوا وادي القرى، قريباً من المدينة، ظلموني، فباعوني من رجل يهودي عبداً!! وانظر إلى عناية الله، كيف يقربه - تبارك وتعالى - من المدينة.
قال سلمان: فكنت عند هذا اليهودي، ورأيت النخل، فرجوت أن يكون البلد الذي وصف لي صاحبي.(/5)
فبينا أنا عنده، إذ قدم ابن عم له، من بني قريظة من المدينة، فابتاعني منه، فاحتملني إلى المدينة!! فوالله ما هو إلا أن رأيتها، فعرفتها بصفة صاحبي لها، فأقمت بها، وبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأقام بمكة ما أقام، ولا أسمع له بذكر، مما أنا فيه من شغل الرق، ثم هاجر إلى المدينة، وبينا أنا في رأس نخلة لسيدي أعمل، وسيدي جالس تحتي، إذ أقبل ابن عم له، حتى وقف عليه، فقال: يا فلان، قاتل الله بني قيلة – وبنو قيلة هم الأنصار – إنهم لمجتمعون الآن بقباء على رجل قدم من مكة اليوم، يزعمون أنه نبي. قال سلمان: فلما سمعتها أخذتني الرعدة، حتى ظننت أني ساقط على سيدي، فنزلت عن النخلة، فجعلت أقول لابن عمه: ماذا تقول؟ ماذا تقول؟ فغضب سيدي، فلكمني لكمة شديدة، ثم قال: ما لك ولهذا؟ أقبل على عملك.
طوى الجزيرة حتى جاءني خبرٌ فزعتُ فيه بآمالي إلى الكذبِ
حَتَّى إِذَا لَمْ يَدَعْ لِي صِدْقُُه كَذِباً شَرِقْتُ بِالدَّمْعِ حَتَّى كَادَ يَشْرقُ بِي
قال سلمان: وقد كان عندي شيء جمعته، فلما أمسيت أخذته، ثم ذهبت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بقباء – فدخلت عليه، فقلت له إنه قد بلغني أنك رجل صالح، ومعك أصحاب لك غرباء ذوو حاجة، وهذا شيء كان عندي للصدقة، فرأيتكم أحق به من غيركم، قال: فقربته إليه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه: ((كلوا)) وأمسك يده فلم يأكل. فقلت في نفسي: هذه واحدة.(/6)
ثم انصرفت عنه، فجمعت شيئاً، وتحول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة، ثم جئته وقلت له: إني قد رأيتك لا تأكل الصدقة، وهذه هدية، أكرمتك بها. قال: فأكل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منها، وأمر أصحابه، فأكلوا معه. قال: فقلت في نفسي: هاتان ثنتان. قال: ثم جئت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو ببقيع الغرقد، قد تبع جنازة رجل من أصحابه، وعليه شملتان، وهو جالس في أصحابه، فسلمت عليه، ثم استدبرته أنظر إلى ظهره، هل أرى الخاتم الذي وصف لي صاحبي؟ فلما رآني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استدبرته، عرف أني استثبت في شيء وصف لي، فألقى رداءه عن ظهره، فنظرت إلى الخاتم فعرفته، فأكببت عليه أقبله وأبكي، فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((تحول)) فتحولت بين يديه، فقصصت عليه حديثي، وشهدت أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله.
وشغل سلمان الرقُّ، فلم يشهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غزوتي بدر وأحد، ثم أمره الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالمكاتبة، وأعانه، وأمر الصحابة أن يعينوه حتى أعتق. قال: فشهدت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الخندق حرّاً، ثم لم يفتني معه مشهد[1].
وصل سلمان الفارسي إلى الحقيقة، وسار في طريق الهداية، بعد رحلة مضنية شاقة، لا تتحملها النفوس، ولا تصبر عليها الأبدان، فتوَّجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتاج: ((سلمان منا آل البيت))[2].
فهو من أهل البيت نسباً في التقوى، وهو من أهل البيت سلالة عريقة في النجابة، وفي النبل، وفي الجهاد، وهو من أهل البيت في العبادة، والطهارة، والنزاهة. ولذلك كان من أصدق الناس مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم.
والذي يحرص على الهداية، ويلتمسها، ويبحث عنها، ويدعو الله - سبحانه وتعالى - أن يهديه إلى سبلها، يوفقه الله إليها، ويطلعه عليها، ويقربه منها وإن كان بعيداً.(/7)
والذي يعرض عن الهداية، ولا يحرص عليها، ولا يسأل الله إياها، يطبع الله على قلبه، وينسيه ذكره، ويجعل الشيطان يستحوذ عليه {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [الصف: 5].
* ويقول عز من قائل: {وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَّأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ} [الأنفال: 23].
فيا مَنْ يريد الهداية، ابحث عنها، تلمَّسها، اسأل الله طريقها، وسوف تجدها، لأن الهداية لا تتعلق بنسب، ولا بمنصب، ولا بمال، ولا بجاه، ولكن إذا نظر الله إلى قلوب العباد، فرأى قلباً يستحق الهداية، قرب الله إليه هدايته، وأعطاه، واجتباه، واصطفاه، قال – تعالى -: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69].
* ورجل آخر، ورائد ثانٍ من رواد الحقيقة، ومن الباحثين عن النور، إنه (الطفيل بن عمرو الدوسي) رضي الله عنه.
كان الطفيل يعيش في جبال السراة، وكان سيداً مطاعاً شريفاً في دوس.
قدم من السراة من جبال زهران إلى مكة للتجارة، فاجتمع به كفار قريش، وخافوا عليه من الإسلام، فحذروه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونهوه أن يجتمع به، أو يستمع كلامه، قالوا: يا طفيل، أنت سيد في قومك، وعندنا رجل كاهن ساحر، إذا سمعت كلامه، فرق بينك وبين زوجك وأولادك، وسحرك. قال: فوالله ما زالوا بي، حتى أجمعت ألاّ أسمع منه شيئاً، ولا أكلمه، حتى جعلت القطن في أذني، فَرَقاً من أن يبلغني شيء من قوله.(/8)
قال: فغدوت إلى المسجد، فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي عند الكعبة. قال: فقمت قريباً منه، فأبى الله إلا أن يسمعني بعض قوله. قال: فسمعت كلاماً حسناً. فقلت في نفسي: واثكل أمي، والله إني لرجل لبيب شاعر، ما يخفى عليَّ الحسن من القبيح، فما يمنعني أن أسمع من هذا الرجل ما يقول؛ فإن كان الذي يأتي به حسناً قبلته، وإن كان قبيحاً تركته. قال: فمكثت حتى انصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بيته، فدخلت عليه، فقلت: يا محمد، إن قومك قالوا لي كذا وكذا، فوالله ما برحوا يخوفونني حتى سددت أذني بكرسف[3]؛ لئلا أسمع قولك، ثم أبى الله إلا أن يسمعني قولك، فسمعت قولاً حسناً، فاعرض عليّ أمرك. قال: فعرض عليَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الإسلام، وقرأ عليَّ القرآن، فلا والله ما سمعت قولاً قط أحسن منه، ولا أمراً أعدل منه، قال: فأسلمت وشهدت شهادة الحق، وقلت: يا نبي الله، إني امرؤ مطاع في قومي، وإني راجع إليهم وداعيهم إلى الإسلام، فادع الله أن يجعل لي آية، تكون لي عوناً عليهم فيما أدعوهم إليه. فقال: ((اللهم اجعل له آية)). قال: فذهبت إلى قومي، حتى إذا أقبلت عليهم، فإذا نورٌ قد وقع بين عيني مثل المصباح. فقلت: اللهم في غير وجهي، فإني أخشى أن يظنوا بي مُثْلة وقعت في وجهي لفراقي دينهم. قال: فتحول النور، فوقع في رأس سوطي. قال: فجعل الحاضرون يتراؤون ذلك النور في رأس سوطي كالقنديل المعلّق.
فلما وصلت إليهم، أتاني أبي – وكان شيخاً كبيراً – فقلت: يا أبي، أنت مني حرام، وأنا منك حرام، قال: ولم يا بني؟ قلت: لقد أسلمت وتابعت دين محمد - صلى الله عليه وسلم.(/9)
قال: أي بني، فديني دينك، وشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله. قال: ثم أقبلت صاحبتي، فقلت لها مثل الذي قلت لأبي، فأسلمت. قال: ثم خرجت على قومي فدعوتهم إلى الإسلام، فأبطؤوا عليّ، وأعرضوا عني، فجئت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة، فقلت: يا رسول الله، إني قد غلبني على دوس الزنا، فادع الله عليهم. قال: فرفع الرسول عليه الصلاة والسلام يديه، واستقبل القبلة، فقلت في نفسي: هلكت دوس، هلكت دوس، هلكت دوس. فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((اللهم اهد دوساً، اللهم اهد دوساً، اللهم اهد دوساً)) ثم قال: ((ارجع إلى قومك فادعهم، وارفق بهم)) نعم!
إنه الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، إنه الرؤوف الرحيم، {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 128].[4]
قال الطفيل: فلم أزل بأرض دوسٍ أدعوهم إلى الإسلام، حتى أسلموا كلهم على بكرة أبيهم، وشهدوا شهادة الحق.
واستأذن الطفيل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يحرق ذا الكفين – وهو صنم لعمرو بن حممة – فأذن له، فخرج إليه الطفيل، فجعل يوقد عليه النار ويقول:
يا ذا الكَفَّيْنِ لَسْتُ مِنْ عُبَّادِكَا
مِيلادُنَا أَقْدَمُ مِنْ مِيلادِكَا
إِنِّي حَشَوْتُ النَّارَ فِي فُؤَادِكَا(/10)
ويستمر الطفيل بن عمرو على وفائه وإسلامه وجهاده، بعد أن ارتد كثير من العرب، وخرج مع المسلمين لمطاردة المرتدين، حتى فرغوا من طُليحة، ومن أرض نجد كلها، ثم سار مع المسلمين إلى اليمامة؛ لمطاردة الدجال الكذاب مسليمة، وكان معه ابنه عمرو بن الطفيل، فرأى رؤيا وهو متوجه إلى اليمامة، فقال لأصحابه: إني قد رأيت رؤيا، فاعبروها لي؛ رأيت أن رأسي حُلق، وإنه خرج من فمي طائر، وأنه لقيتني امرأة، فأدخلتني في فرجها، وأرى ابني يطلبني طلباً حثيثاً، ثم رأيته حُبس عني! قالوا: خيراً. قال: أما أنا، والله فقد أولتها، قالوا: ماذا؟ قال: أما حلق رأسي، فيقطع. وأما الطائر الذي خرج من فمي، فروحي. وأما المرأة التي أدخلتني في فرجها، فالأرض تحفر لي، فأغيب فيها. وأما طلب ابني إياي، ثم حبسه عني، فإني أراه سيجتهد أن يصيبه ما أصابني.
وابتدأت المعركة، وقتل الطفيل بن عمروا شهيداً في سبيل الله، ومن أجل لا إله إلا الله، وجرح ابنه جراحة شديدة، ولكنه لم يمت، ثم قتل عام اليرموك – زمن عمر – شهيداً – رحمه الله –[5] {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [آل عمران: 169-170].
أيها الناس:
من أراد الله - عزَّ وجلَّ - والدار الآخرة، وفقه الله إليه، ودَلَّه على طريقه، ويسر له سبيل الاستقامة.
ومن أعرض عن الله، واستغنى عنه - تبارك وتعالى - حرمه الله الهداية، وختم على سمعته وقلبه، وجعله من الأشقياء؛ {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ} [النور: 35]. يوفق الله لهدايته من يشاء، يمنح الله عطاءه لمن يشاء.(/11)
فيا أيها الجيل المسلم ويا أيتها الأمة المباركة. ويا أيها المؤمنون الصادقون، هلموا إلى الهداية، سابقوا إلى النور والاستقامة، سارعوا إلى مغفرة من ربكم.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6].
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم، ولجميع المسلمين، من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، ولي الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وإمام المتقين، وحجة الله على الناس أجمعين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
إن الهداية إلى الطريق المستقيم، أعظم النعم التي امتن الله بها على العبد، لأن الله - عزَّ وجلَّ - حجب هذه الهداية عن ملايين من البشر، فلم يوفقهم إليها، ولم يهدهم سبلها، ولم يقربهم من طرقها.
وللهداية أسباب وعلامات ودلائل، تحصل الهداية غالباً لمن تعرض لأسبابها، ولمن تلبس بدلائلها وعلاماتها.
ومن أعظم أسباب الهداية: الاعتناء بكتاب الله - عزَّ وجلَّ - تلاوة، وسماعاً، وتدبراً، وعملاً بأحكامه وآدابه، فإن الله ذمّ قوماً فقال: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24] فهذا القرآن من أعظم أسباب الهداية؛ {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9]. وهذا القرآن من أعظم أسباب الشفاء والرحمة؛ {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء: 82]. فمن لم يهتد بالقرآن فلا هداه الله، ومن لم يستشف بالقرآن فلا شفاه الله.(/12)
ومن أسباب الهداية أيضاً: تعظيم سنة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - والاهتداء بهديه، والاستنارة بنوره، والتخلق بأخلاقه، وعدم التقدم عليه؛ برأي، ولا مذهب، ولا قول، ولا فكرة؛ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الحجرات: 1].
{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب: 21].
ومن أسباب الهداية: كثرة ذكر الله، وكثرة الدعاء والابتهال إلى الله الحي القيوم؛ أن يثبتك على الطريق المستقيم، وأن يريك الحق حقّاً ويرزقك اتباعه، وأن يريك الباطل باطلاً ويرزقك اجتنابه، وأن يصلح بنيك وبناتك وأهل بيتك.
ومن أسباب الهداية أيضاً: التقرب إلى الله - عزَّ وجلَّ - بالنوافل، بعد أداء الفرائض، لقول الله - عزَّ وجلَّ - في الحديث القدسي: ((ولا يزال عبدي يتقربُ إليّ بالنوافلِ حتى أحبَّه، فإن أحببتُه، كنت سمعه الذي يسمع به، وبَصَرَه الذي يُبصر به، ويده التي يبطشُ بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأُعْطِيَنَّهُ، ولئن استعاذني لأُعِيذَنَّه))[6].
وأما موانع الهداية، أو الأسباب التي تحول بين العبد وبين الهداية، فهي كثيرة أيضاً، نذكر بعضاً منها.
السبب الأول:(/13)
الخُبث: خبث النفس، فإن بعض الناس، مُعْرِض عن الله، لا يريد الله، ولا الدار الآخرة، لا يذكر الله، ولا يقرأ كتاب الله، ولا ينظر في حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإذا ذُكر الله في مجلس، أو ذُكر الرسول عليه الصلاة والسلام، اشمأز قلبه، واحمر وجهه، وساء حاله، فنعوذ بالله من هذا الخبث؛ {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ} [الزمر: 45]. وقد يقول قائل من هؤلاء الأغبياء؟ إنني لا أكذِّب الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولكنني لا أتبعه، فلا أكذِّبه ولا أصدِّقه. فنقول: كذبت يا عدو الله، فعدم اتباعك للرسول - صلى الله عليه وسلم - تكذيب برسالته، وطعن في نبوته، ولذلك يقول الله - عزَّ وجلَّ -: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنذِرُوا مُعْرِضُونَ} [الأحقاف: 3].
فما صرف الله من صرف عن الهداية، وما أضل الله مَنْ أضلّ، إلا لأنهم لا يريدون إلا الضلال، ولا يريدون إلا الكفر والإعراض؛ {وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ} [الأنفال: 23].
السبب الثاني:
مرض الشبهة والشك والإلحاد: وهو الذي ابتلي به كثير من شبابنا، حتى صار يشك في القدرة، ويشك في الإيمان، ويشك في الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقد حوربنا بهذا المرض الخطير في هذه الأيام، وهي حرب شعواء، أعظم وأشد من حرب الطائرات والصواريخ؛ إنها حرب الإلحاد، حرب الرأي العفن المتخلف، رأي ماركس ولينين واستالين، الذين اجتاحوا المعمورة بهذا التخلف والعفن، واجتاحوا به أيضاً كثيراً من البلاد الإسلامية، فنشروا الشكوك، وأبرزوا الشبهات، واستخدموا كل وسيلة للدعوة إلى باطلهم وكفرهم، حتى ألحد كثير من الناس وتركوا دينهم، وانصرفوا عن المسجد وتلاوة القرآن إلى جهنم وساءت مصيراً.(/14)
ولكن الله - عزَّ وجلَّ - يقول: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ} [الرعد: 17]. فانتقم الله - عزَّ وجلَّ - منهم، وأزال دولتهم، ومحاها من الوجود، {فَهَلْ تَرَى لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ} [الحاقة: 8].
والسبب الثالث:
مرض الشهوة: وهو التهالك، والتزاحم، والتقاتل، على الحطام، فكثير من الناس، لا يعرف شيئاً في حياته، إلا أنه يجمع المال، ولا نقول إن جمع المال حرام؛ بل هو مطلوب، وكان بعض الصحابة رضي الله عنهم من أغنى الأغنياء، ولكن الحرام أن يعبد الإنسان المال من دون الله، أو أن يشغله عن طاعة الله، أو ينفقه في معصية الله، ولا يؤدي حق الله فيه.
وكثير من الناس ابتلوا بالفحش؛ كالزنا، وشرب الخمر، وتعاطي السموم المخدرة، ذهبت عقولهم فأعرضوا عن الله - تبارك وتعالى - فتركوا الطاعات، وهجروا المساجد، وقاطعوا كتاب الله، وامتلأت بهم السجون، فما نفعت معهم موعظة، ولا أثرت فيهم نصيحة.
فنسأل الله - تبارك وتعالى - أن يقربنا من أسباب الهداية، وأن يصرفنا، ويصرف شبابنا عن موانعها، حتى نكون كما أرادنا الله - عزَّ وجلَّ - خير أمة أخرجت للناس.
{رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ} [آل عمران: 193].
عباد الله:
وصلوا وسلموا على مَنْ أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب: 56].
وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: ((من صلى عليَّ صلاة، صلى الله عليه بها عشراً))[7].(/15)
اللهم صلّ على نبيك وحبيبك محمد، واعرض عليه صلاتنا وسلامنا في هذه الساعة المباركة يا رب العالمين.
---
[1] انظر: "البداية والنهاية" (2/289-291).
[2] أخرجه الطبراني والحاكم عن عمرو بن عوف. قال الألباني ضعيف جداً، وقد صح موقوفاً عن عليٍّ رضي الله عنه انظر ضعيف الجامع رقم: (3272).
[3] الكرسف: هو القطن.
[4] أخرجه مسلم (1/288) رقم: (384).
[5] انظر: البداية والنهاية (397، 98). قال ابن كثير: هكذا ذكر محمد بن إسحاق قصة الطفيل بن عمرو مرسلة بلا إسناد. ثم ذكر ابن كثير لها شواهد عند الإمام أحمد.
[6] أخرجه البخاري (7/190).
[7] أخرجه مسلم (1/288) رقم: (384).(/16)
العنوان: ألبانيا المنسية
رقم المقالة: 944
صاحب المقالة: خاص: الألوكة
-----------------------------------------
ألبانيا.. نسيها المسلمون! ففتحت ذراعيها للأمريكيين!!!
في تقرير أوردته الإذاعة الهولندية يوم الجمعة الماضي، 8 (مايو) 2007م؛ قال مراسل الإذاعة في ألبانيا (تاين سادييه): "إن ألبانيا هي البلد الوحيد الذي يستقبل الرئيس الأمريكي "جورج بوش" بالترحيب!"، مشيراً إلى أن الألبان سيعيشون يوماً حافلاً بالترحيب اليوم الأحد، 10 (مايو)، عند زيارة "بوش" لهم.
بطبيعة الحال؛ لا يعد هذا الترحيب نموذجاً لما يلاقيه بعض الزعماء السياسيين -خاصة العرب- عند زيارتهم لمناطق في دولهم، حيث يخرج المواطنون بالقسر أحياناً! لمجاراة الزيارة؛ بل هو شكل حقيقي لسعادة الألبان.
ومن النماذج التي يمكن الإشارة إليها -هنا- فناجينُ القهوة، التي تباع بمبلغ 12 دولاراً، فقط لأن صورة "بوش" منقوشة عليها!!
كما تخفق الأعلام الأمريكية فوق الكثير من المنازل في العاصمة تيرانا!!!
في حين احتشد المئات في الحدائق والأماكن العامة، وهم يرتدون القبعات الأمريكية!!!
قد يتساءل البعض عن السبب الذي يجعل ألبانيا المسلمة -التي يؤلف المسلمون أكثر من 75% من سكانها- تفتح ذراعيها للأمريكيين، ولرئيسهم "بوش"، في زيارةٍ هي الأولى من نوعها لرئيس أمريكي إلى هذا البلد الأوروبي.
سؤال يثير الكثير من الشجون، بعد سنوات طويلة؛ نذر فيها الآلاف أنفسهم، من دول إسلامية عديدة؛ لمساعدة هذا البلد، بالنفس، والمال، والعلم، والخبرة.
سنوات الشيوعية المؤلمة...
في سنوات مضت من عمر "يوغسلافيا" السابقة؛ لقي مئات الآلاف من المسلمين حتفهم على يد القوات الصربية، المدعومة من قبل الاتحاد السوفيتي سابقاً، وروسيا لاحقاً، لمطالبتهم بالاستقلال، والحكم الذاتي في كوسوفا.(/1)
وإذا كانت الدول العربية والإسلامية وقفت موقفاً موحداً من القضية الألبانية في كوسوفا، في مواجهة الحرب الشيوعية، التي شنتها القوات الصربية سنوات طويلة، بهدف تطهير العرق الألباني المسلم هناك؛ إلا أن الحدثَ الفصلَ كان تدخل قوات حلف "الناتو" بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، التي شنت حرباً في 9 (يونيو) 1999م، أدت إلى وقف المجازر هناك.
ومع أن قوات "الناتو" -بقيادة واشنطن- لم تتحرك إلا بعد 8 سنوات من القتل والتشريد في الإقليم المسلم؛ إلا أن الألبان -الذين ييؤلفون الكثرة الكاثرة في إقليم كوسوفا، فضلاً عنهم في ألبانيا- باتوا ينظرون إلى "الناتو" وواشنطن نظرة الولاء والفضل!!!
لا شيء يؤكد أن الولايات المتحدة تدخلت لوقف قتل وذبح المسلمين في كوسوفا، بدءاً من السنوات الطويلة، التي كانت فيها واشنطن وحلفاؤها الأوروبيون ينظرون بصمت إلى ما يحدث هناك، وصولاً إلى العديد من الحالات التي يُقتَل فيها المسلمون بيد الأمريكيين أنفسهم، أو بيد آخرين لا تحرك فيها الإدارة الأمريكية ساكناً!!
فقط هناك تأكيد واحد: هو أن أمريكا لم "تحرر!" كوسوفا إلا بسبب عدائها لروسيا التي كانت تدعم صربيا آنذاك، وتدعم إبقاء الإقليم المسلم في يد الصرب الشيوعيين.
الخلاف المحرك!!
واليوم، لم يذهب "بوش" إلى ألبانيا إلا للسبب ذاته الذي دفعه للتدخل عسكرياً في يوغسلافيا السابقة؛ فالخلاف مع روسيا هو المحك، وتوجيه رسالة إلى موسكو هو الهدف الأساس!(/2)
إذ إن "بوش" خرج لتوه من مؤتمر دول الثماني، الذي شارك فيه إلى جانب الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين"، في صِدامٍ لم يهدأ، بدءاً من الملف النووي الإيراني، مروراً بالملف الكوسوفي ذاته، وصولاً إلى المشكلة الرئيسة وهي نشر القواعد الأمريكية الصاروخية في أوروبا، وهو ما جعل الرئيس الروسي ينذر بإطلاق حرب باردة جديدة ضد أمريكا، يقوم فيها بنشر صواريخ نووية إضافية، أثبتت التجارب قدرتها على النفاذ من الأنظمة الأمريكية الاعتراضية.
لذلك، فإن الزيارة إلى ألبانيا في مثل هذا الوقت، ترسل إلى موسكو رسالة: "أن لا تراهني على قدرتنا في تمتين العلاقات مع الأوروبيين"! خاصة أن ألبانيا صوتت -بأكثرية ساحقة- على الانضمام إلى حلف "الناتو"، وغليه، فإنها ستكون دولة مؤثرة في القرار الأوروبي، الذي يتزايد نفوذه وولاؤه لأمريكا؛ كلما بعدت المسافة بين موسكو وواشنطن.
المسلمون.. وألبانيا..
يتذكر المسلمون، وهم يتابعون أخبار وصول "بوش" إلى ألبانيا، واستقباله فيها استقبال الأبطال؛ ما كان في الأمس من هذه الدولة المسلمة، التي ظلت حتى عام 1943م الدولةَ الإسلاميةَ الوحيدةَ في أوروبا الغربية، بعد أن فتحها العثمانيون عام 1423م، ودخل فيها الإسلام لأول مرة..
وقد بدأت معالم الدولة الأوروبية المسلمة بالتآكل عندما تسلّم الشيوعيون الحكم فيها، بمجيء "أنور خوجه" للحكم، الذي مكَّن للشيوعية "الستالينية" في البلاد، وقضى على الحريات المدنية، وعزل ألبانيا عن العالم الخارجي، وعن العالم الإسلامي خاصة، وحارب الدين الإسلامي، وحوّل المساجد فيها إلى متاحف ومتاجر وملاهٍ ليلية!!!
فبعد أن كانت ألبانيا تضم في جنباتها نحو 1667 مسجداً، بعضها بني على طراز عثماني مزخرف؛ لم يبق فيها سوى 270 مسجداً فقط.(/3)
ولم يتوقف المد الشيوعي -الذي خلّف وراءه جيلاً كبيراً من الملحدين العلمانيين- إلا حينما سقطت الشيوعية في عرينها السابق (الاتحاد السوفيتي)؛ فأصبحت البلاد مسرحاً للحركات التنصيرية واليهودية التي استغلت الوضع، وبدأت بإقامة معابد، ومراكز ثقافية، وملحقيات، ومدارس خاصة؛ لنشر النصرانية واليهودية هناك.
وإلى جانب محاولات بسيطة؛ لم يكن هناك حضور لافت للدعوة الإسلامية في ألبانيا، التي لم يتنبه لها المسلمون تنبُّهاً كافياً؛ إلا عندما دخلتْ في صراع سياسي ثم عسكري مع صربيا؛ دعماً لألبان كوسوفا المسلمين.
وفي الحرب التي استمرت نحو 8 سنوات، وقف آلاف المسلمين إلى جانب الألبان في كوسوفا وألبانيا، نصرة لهم، كما أقاموا معسكرات طبية وإغاثية، وهاجر البعض للجهاد هناك ضد الصرب الشيوعيين، وقدَّم الآلافُ أموالاً عبر تبرعات، فتحت بعض الدول العربية والإسلامية حسابات خاصة لها.
وبعد أن هدأت الأمور؛ استمر المسلمون في تقديم المعونات، من الخبرات العلمية، والطبية، والشرعية، والتربوية؛ بهدف دعم الإقليم الألباني، الذي لا يزال يطالب بالاستقلال عن صربيا.
وأمام المد التنصيري واليهودي الذي سبق المسلمين هناك زمناً ودعماً مالياً؛ باتت بعض المظاهر الإسلامية والإنسانية تتراجع، كالحجاب الذي بات يحارَب على الملأ هناك، إلى حد أن المسلمات المتحجِّبات صرن يُطْرَدْنَ من بعض المدارس، في مقابل انتشارٍ كبيرٍ للكنائس والمراكز اليهودية.
كما تشهد البلاد تضاؤلاً في الدعم المالي والوقفي للمؤسسات الإسلامية.. فعلى سبيل المثال: يشتكي المسلمون من الضعف المالي في المشيخة الإسلامية هناك، التي اضْطُرَّت مراراً إلى بيع أراضٍ وقفية لها إلى جهات نافذة؛ كان آخرُها القضيةُ التي أثارها -قبل أيام قليلة- مجموعةٌ من المسلمين هناك، أضربوا عن الطعام؛ احتجاجاً على بيع أهم أرض وقفية للمشيخة، تقع في قلب العاصمة تيرانا!!(/4)
وحسب التقارير التي نشرت الخبر، فإن الأرض -التي مساحتُها نحو 1600 متر مربع، المواجهة لمبنى البرلمان الألباني مباشرة- بيعت بنحو 33% من قيمة الأرض الفعلية.
ويعوّل المسلمون الدعاة على الطلاب الألبان، الذين يدرسون في بعض الدول الإسلامية، خاصة في المملكة العربية السعودية؛ في تعزيز القيم الإسلامية للبلد، الذي يعاني من مشكلة أخلاقية كبيرة، خاصة في الملابس الفاضحة، التي باتت سمة للكثير من الفتيات والنساء هناك.
كما يعوّل البعض على المؤسسات الإسلامية، التي تقوم بجهود مشكورة، في دعم العقيدة الصحيحة، وتصحيح المفاهيم الخاطئة، برغم قلة الحيلة، وضيق ذات اليد، وتكالب الدول الغربية على المؤسسات الإسلامية الدعوية؛ بحجة (الإرهاب)، لمواجهة الدعم المادي غير المحدود، الذي يتلقاه المُنَصِّرون والمهوّدون هناك.
الموقف الأمريكي الداعم لألبانيا!
في حين لا تمتلك الدول الإسلامية أية وسيلة مؤثرة في القرارات الدولية؛ لهوانها وتشتتها وغرقها في مصالح ضيقة، إلا من رحم الله؛ لا يزال الألبان يعوِّلون على الأمريكيين في إخراج البلاد من المشكلة السياسية، المتعلقة باستقلال كوسوفا الألبانية عن صربيا الشيوعية!!
ففي مواجهة التصريحات الصربية والروسية النارية، التي كلَّل بها "بوتين" قمةَ الثماني قائلاً: "كوسوفا تؤلف جزءاً لا يتجزأ من صربيا، وإن هذا الوضع لا يمكن تغييره إلا برضا الطرفين!"؛ أطلق "بوش" في زيارته لألبانيا تصريحات طمأنت الألبان، وشدّت من عزيمتهم، قائلاً: "علينا أن نبدأ بالتحرُّك... والهدفُ المنشود هو استقلال كوسوفا"..
وأضاف: " الاستقلال الأكيد يجب أن يكون في صلب أية محادثات مستقبلية تُجرى حول وضع الإقليم الصربي".
وقال: "السؤال هو: هل علينا أن نمضي في حوار لا نهاية له، بشأن أمر قد حسمناه؟! إنني قلق لعدم تحقيق الآمال في كوسوفا، ولذلك علينا دفع العمليّة إلى الأمام".(/5)
وخاطب "بوش" سكان الإقليم قائلا: "الأمر الهام بالنسبة لشعب كوسوفا هو: أن يعلموا أنّ الولايات المتحدة وألبانيا تدعمان الاستقلال دعماً قوياً".
ربما كان هذا أكثر ما تحتاجه ألبانيا في هذا الوقت بالذات، فهي قدمت مساعدات كبيرة للأمريكيين حتى الآن، وشاركت واشنطن في حربها ضد ما يسمى (بالإرهاب)، داخل وخارج أوروبا، وشاركت في القوات الدولية في أفغانستان والعراق، وقبلت -على خلاف جميع دول العالم الأخرى- استقبال معتقلين من غوانتانامو، ينتمون إلى دول مختلفة، وهو ما زاد في قوة العلاقة بين تيرانا وواشنطن، على حساب إقصاء المد الإسلامي، الذي لم يبلغ مبتغاه بعد.
من المفارقات العجيبة: أن "بوش" خرج من إيطاليا (النصرانية) -التي زارها قبل ألبانيا مباشرة- محمّلاً بالكراهية، ومودَّعاً بالمظاهرات المناوئة له، وبالاحتجاجات التي رافقت زيارته كاملة، في حين اسْتُقبَِ في ألبانيا (المسلمة) استقبالَ الأبطال! وهذا ما جعل معظم الصحف العالمية تكتب عن هذه الزيارة، وهذا الترحيب، على نحو لافت للنظر.
ترى.. هل نضع اللوم على الحكومة والشعب في ألبانيا؟؟ أم على المسلمين الذين يكادون يفقدون دولة أخرى لهم في أوروبا؟؟!!(/6)
العنوان: البرلماني الهولندي... والقرآن
رقم المقالة: 1342
صاحب المقالة: سيف الدين يوسف
-----------------------------------------
نشر موقعُ (الألوكة) شاكرًا مقالة لنا بعنوان: "البرلماني الهولندي والنقاب"، بتاريخ 15/ 07/ 1428 هـ، 30/ 07/ 2007م ، وكان لذلك البرلماني -خيرت فيلدرز- قصة مع النقاب ذكرناها في تلك المقالة، فمن أراد المزيد عن الموضوع، ونُبْذَة عن تاريخ هذا البرلماني، فباستطاعته مراجعة المقالة.
أمَّا في هذه المقالة فنحاول أن نسلط الضوء على ما قاله البرلماني نفسه -خيرت فيلدرز- Geert wilders: عن القرآن الكريم، في مقالة، بعث بها بتاريخ 8 أغسطس 2007 م، إلى صحيفة De Volkskrant –صحيفة الشعب– الواسعة الانتشار، والمشهورة في هولندا، إن لم تكن أشهر الصحف على الإطلاق، تحت عُنوان "كفاية يعني كفاية" يقول فيها:
"امنعوا القرآن؛ القرآن كتاب فاشيّ يدعو إلى العنف؛ لذلك يجب أن يُمنع مثل كتاب "كفاحي"[1].
أنادي منذ سنوات قائلاً: إنه لا يوجد إسلام معتدل، ومن يشكّك في كلامي بإمكانه قراءة كلام الكاتبة الإيطالية أوريانا فلاسي Oriana Fallaci، التي تُوُفّيت -مع الأسف الشديد- السنة الماضية؛ فقد أعلنت من نيويورك -في 22 من نوفمبر 2005 في أثناء تسلمها جائزة كفاحها في مواجهة الإسلام الفاشيّ من أجل الحرية-: أنه لا يوجد إسلام معتدل.. لا يوجد!!
هذا لأنَّه لا يوجد إسلام جيد وإسلام سيئ؛ بل هناك إسلام واحد فقط، والإسلام هو القرآن، ولا شيء آخر سوى القرآن، والقرآنُ هو مثل كتاب "كفاحي" كتاب عقيدة، تريد القضاء على الآخر، العقيدة التي تُسَمِّي الآخرين –غير المسلمين– بالكلاب أو أدنى المخلوقات.
اقرأ القرآن "كفاحي" مرة أخرى بأي طريقة كانت، سوف ترى الضرر والأذى الذي يلحقه أبناء الله[2] بنا وبأنفسهم، وكل ما يفعلونه مستخلص من القرآنOriana Fallaci, the force of Reason post – script, pag. 305. Febr. 2006).(/1)
إحسان جامي كلب غير مؤمن[3] وهو ضد عقيدته، وقد تَجَرَّأ، وجعل النبي محمدًا مُجْرِمًا، وكذلك جعل بعض ما ورد في القرآن تخلفًا، وهذا الشخص كان قد كوَّن لجنة للكلاب التي على شاكلته الذي يعملون في مواجهة عقيدتهم.
والله قد شرع عقوبة الإعدام لأمثال هؤلاء، الذين هم على غير عقيدتهم.
ففي السبت الماضي كان هذا على وشك أن يُصبح حقيقة واقعية، فقد هاجم مغربِيَّان وصوماليٌّ الكافر جامي، وضربوه حتى أَدْمَوْه.
كفاية يعني كفاية، دعونا نترك المناورات السياسية جانبًا، ولنكن حازمين، إنه شيء جيد أن يكون لجامي حماية خاصة الآن، ولكن من المؤسف أنه لم يحصل عليها من قبل.
لكن هذا لا يحل صميم المشكلة؛ لأن المشكلة تكمن في الإسلام الفاشي، الأيديولوجية المريضة، أيديولوجية الله ومحمد؛ كما هو موجود في "كفاحي الإسلامي" (القرآن).
ففي مُخْتَلِف السور هناك نداء للمسلمين، ومطالبة بالملاحقة والضغط والقتل لكلٍّ من اليهود والمسيحيين والكفار الآخرين؛ غير المؤمنين جميعًا، ومُطالبة للمؤمنين -أيضًا- بأن يضربوا النِّسَاء ويغتَصِبُوهن، ومطالبة بتثبيت أركان الدولة الإسلامية على وجه المعمورة بالعنف، سُوَر تطالب كثيرًا من المسلمين بالتحريض على القتل والفساد.
امنعوا هذا الكتاب الجالب للمشاكل؛ مثل كتاب "كفاحي"، أعْطوا إشارة لملاحقي جامي، الذين هاجموه وللإسلاميين الآخرين بأنَّ القرآن في بلدنا لن يكون ملهمًا لاستخدام العنف على الإطلاق.
إن ما يَجْعَلُني أشعر بالخجل الشديد هو موقف الساسة الهولنديين الذين يحاولون –بسذاجة- التعويل على الإسلام المعتدل، وهذا ما يتعذَّر وجودُه؛ فهذا الإسلام لا يجلب لبلدنا غير اللعنة والجحيم.(/2)
كما يؤسفني هؤلاء الذي هم داخل الحكومة والبرلمان وخارجهما، هؤلاء الذين يرفضون وضع حد للهجوم الإسلامي على هولندا، ومما يُخْجِلُني –أيضًا- أن السياسة الهولندية تقبل بالجرائم التي تقوم بها الجالية الأجنبية[4] هنا يومًا بعد يوم دون أن يكون لها أي جواب عن هذا الموضوع.
دنهاخ[5] مدينة مليئة بالجُبناء، أناسٌ خائفون؛ وُلِدُوا جُبَناءَ، وسيموتون جُبَناء؛ فهم الذين يشجعون على أن ترتكز الثقافة الهولندية على العادات والثقافات: (اليهودية والمسيحيَّة والإسلامية)[6].
- وهم الذين منحوا عفوًا عامًّا للكذابين والمجرمين[7].
- وهم الذين يديرون وجوههم عندما يُضرب –كل يوم تقريبًا– الشَّاذون جنسيًّا، ولا يفعلون شيئًا.
- وهم الذين يتحدثون مع ممثلي حركة حماس الإرهابية.
- وهم الذين يُنَفِّذون وينجزون الأعمال من أجل الديكتاتور الملك المغربي.
- وهم الذين يعدون المتشددين المتزمتين من الإخوان المسلمين شركاءَ حوار.
- وهم الذين يسمحون للمسلمين أن يرفضوا علاج نسائهم أمام الأطباء الذكور.
- هؤلاء الذين لا يهمهم شيء بالنسبة للمواطن الهولندي، بأن تتحول هولندا إلى (هوبية)[8]كمحافظة من دولة إسلامية عظيمة هي Eurobie أوروبا عربية (أوروعربية).
أنا ممتلئ غيظًا من الإسلام في هولندا.
لا أريد مهاجرًا مسلمًا آخر في هولندا.
لديّ الكفاية من عبَّاد الله ومحمد في هولندا.
لا أريد مسجدًا آخر بعد.
لدي الكفاية من القرآن في هولندا.
امنعوا هذا الكتاب الفاشي.. كفاية يعني كفاية".
وبعد يوم من نشر المقالة للبرلماني ذكرت جريدة مترو metro، الصادرة بتاريخ 9 من أغسطس 2007 أن ثلثي مؤيدي البرلماني يوافقونه الرأي بأن يُمْنَع القرآن نهائيًّا في هولندا.
كما ذكرت جريدة spits، بنفس التاريخ بأن المنظمات السياسية والإسلامية قد رفضت آراء البرلماني بشدة.
وقد قال السيد إدريس من مؤسسة الإسلام والحوار:(/3)
"إن حُجَّة البرلماني بأن (القرآن يلهم المسلمين العنف؛ لذلك يجب أن يُمْنَع)، فَحَسَبَ هذه النظرية يجب أن تُمْنَع كتبُ الأطفال في المدارس، وألعابُ الكومبيوتر، والرواياتُ؛ كل هذا يجب أن يُمنع؛ لأن كل ذلك يمكن أن يكون مصدرَ إلهام لإشعال الحروب، أو استخدام للعنف"!
كما ذكرت الجريدة بأنَّ محاميين هولنديين قَدَّمَا دَعْوَيَيْنِ قضائيتين ضد البرلماني، المحامية الأولى من مدينة لليستاد Lelystad، والمحامي الثاني من مدينة روتردام Rotterdam، وقد ذكرت في الدَّعَاوى أن البرلماني يدعو إلى الكراهية بين أفراد المجتمع الهولندي؛ ويدعو إلى العنصرية.
وفي تعقيبه على الدعاوى قال البرلماني: بأن هذا شيء محزن، فأنا لا أدعو إلى الكراهية؛ بل أدعو إلى منع القرآن، وهذا رأي سياسي، وأنا عضو في البرلمان؛ لأعبر عن نفسي (متروmetro).
وقال برلماني آخر عن حزب VVD يمين وسط -معلقاً على آرائه-: "إن البرلماني (فيلدرز) قد ضل الطريق".
بينما ذكر برلماني آخر عن حزب CDA بأن التصريحات لافتة للنظر، وقال السيد خيرون في المجلس الإسلامي الاستشاري: إن السيد (فيلدرز) لطالما قال بأن القرآن كتاب سيئ، وأعتقد بأنه سيطالب -لاحقًا- بمنع التوراة والإنجيل في هولندا أيضًا!
بينما قال السيد جُمْعان من جمعية CMO: "إن السيد (فيلدرز) يريد بتصريحاته تكوين شباب إسلامي راديكالي؛ ليتمكن من أخذ الإجراءات المناسبة بحقهم".
في حين إن الحكومة قد بينت رأيها على لسان وزيرة الاندماج السيدة إللا فوقيلافElla Vogelaav قائلةً:
يجب أن يكون واضحًا جدًّا بأنَّ مسألة منع القرآن في هولندا ليس واردًا بالنسبة للحكومة إطلاقًا، لا الآن.. ولا في المستقبل، لا بل ترى الوزيرة بأن ما قاله البرلماني بمثابة ضرر للرابطة الموجودة داخل المجتمع الهولندي.
وأن هذا يُوَسِّع الهُوَّة بين المسلمين وغير المسلمين في المجتمع الهولندي".
إن القارئ لتصريحات البرلماني يرى الآتي:(/4)
1- أنه ليس متعمِّقًا البتةَ في قراءة ودراسة القرآن والإسلام.
2- تصريحاته لا تَمُتُّ إلى الحقيقة بصلة.
3- هناك افتراءات واضحة على القرآن.
4- تصريحاته عنصرية تمامًا، ولا يستطيع أن يتملَّص منها مهما أنكر.
أما الإشكالات التي حاول أن يثيرها مثل: الحرية والمرأة و.... إلخ، فقد أجاب عن تلك التساؤلات كثيرٌ من علماء المسلمين، وبيَّنوا علّة الأحكام، إلا أن السيد (فيلدرز) لم يكلف نفسه عناء البحث، فقد كرر وزاد على ما قاله بعضُ المستشرقين غير المنصفين.
ولكن نريد أن نختم بقول الله، ومن أصدق من الله قيلاً:
{لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الممتحنة: 8 ، 9].
ـــــــــــــــــــــــــ
[1] يقصد كتاب (كفاحي) للزعيم الألماني أدولف هتلر، والكتاب منع في هولندا بعد الحرب العالمية الثانية.
[2] المقصود بأبناء الله هم المسلمون.
[3] هذا ما قاله البرلماني بالضبط، وهو يقصد بأن جامي في نظر المسلمين كلب؛ لأنه غير مؤمن، وجامي هذا مرتد ويهاجم الإسلام، وهو رئيس لجنة المرتدين في هولندا.
[4] يقصد بالجالية الأجنبية هنا: المسلمين، مع أنه ليس كل الأجانب في هولندا مسلمين.
[5] (دنهاخ) هي العاصمة السياسية لهولندا، حيث مقر الحكومة والبرلمان؛ كما أن فيها محكمة العدل الدولية، وهي معروفة عالميا باسم (لاهاي)، أعتقد بأن نداءه هنا شديد الخطر جدًّا، وكأنه ينادي أبناء شعبه، ويطالبهم بطرد المسلمين أو التخلص منهم بأي طريقة كانت.(/5)
[6] من المعروف أن القلق يُسَاور الأوساط الأوربية من الاجتياج الإسلامي لأوروبا، وقد صدرت تصريحات من مسئولين كبار في القارة على أن الثقافة الأوربية مرتكزة فقط على الأسس اليهودية والمسيحية، وهذا ما يقوله الفاتيكان ويكرره باستمرار.
[7] ويقصد به العفو العام الذي أصدرته الحكومة الهولندية بما يخص اللاجئين الذين أغلقت ملفاتهم منذ بضع سنين. وقد أعطى العفو العام هذا بعضًا منهم رخص الإقامة ضمن شروط محددة، والبعض الآخر لم يشمله العفو، واللاجئ في السنوات الأخيرة يلاقي الأَمَرَّيْن في مسيرة حصوله على الإقامة. كما يذكر بأنَّه ليس كُلُّ اللاجئين مُسْلِمين.
[8] ويقصد به هولندا - وعربية وقد دمج الكلمتين في كلمة واحدة من هولندا Nederland وArabië عربية فقال (Nederabië ).(/6)
العنوان: البرلمانيُّ الهُولندي والنِّقاب
رقم المقالة: 1085
صاحب المقالة: سيف الدين يوسف
-----------------------------------------
قَدَّم[1] البرلمانيُّ الهولندي خِيرت فيلدرز[2] – Geert wilders – مشروع قانون (حظر ارتداء النقاب أو البرقع) للبرلمان الهولندي (الغرفة الثانية). وتمثل اقتراح البرلمانيِّ بحظر ارتداء البرقع، أو النقاب في الشارع، أو السيارة، أو المسجد: أي في الأماكن العامة. والنساء اللائي يخالفن القانون – المقترح – يجب عليهن دفع غرامة قدرُها 3.350 ثلاثة آلاف وثلاثمائة وخمسون يورو، أو عقوبة بالسجن مدة أقصاها 12 يومًا.
والنساء اللائي يحبذن ارتداء البرقع أو النقاب؛ فبإمكانهن الذهاب إلى إيران أو السعودية – حسب رأيه - ويقول بأن مشروعه هذا يقضي بأن يُنظف أفراد المجتمع من هذا الرداء الذي يغطي الجسم والوجه. وقد أثار هذا الاقتراح تساؤلات كثيرة منها: لماذا حظر النقاب؟
وهل سينال الاقتراح مصادقة غالبية أعضاء البرلمان؟
ألا يدفع هذا الاقتراح إلى عزل بعض النساء في البيوت؟
لماذا كل هذا الهجوم على أفراد محدودين جدًا؟
- أخيرًا ألا يتناقض كل هذا مع الدستور والمعاهدات الدولية؟
يرى البرلماني الهولندي: أن اقتراحه بحظر ارتداء النقاب لا يدعو إلى الخجل ألتبة، وأن النقاب يقف عقبة أمام القيم الأوروبية، وأن النقاب رمز لرفض هذه القيم. كما أن النقاب علامة الثقافة المتخلفة، التي تجعل من المرأة تابعة وخاضعة للرجل.
وإذا تحررت المرأة المسلمة من الزي الإسلامي؛ فبإمكانها كسب صداقات أكثر، ويكون حظها أوفر في سوق العمل!!
والأمر لا يقتصر على ما سبق؛ فهناك نقطة أمنية مهمة في الموضوع فأكثر المواطنين الهولنديين يعتبرون البرقع أو النقاب كتهديد!!.
وإن كاميرات المراقبة لا تستطيع تحديد هُوية الشخص إذا كان الوجه مغطى.(/1)
ولدى السيد فيلدرز أملٌ كبير في مصادقة غالبية نواب البرلمان على مشروعه، سيِّما وأنه يستند في ذلك إلى تأييد نواب حزبَيْن مهمين على الساحة الهولندية وهما:
1- الحزب الديمقراطي المسيحي CDA[3].
2- حزب الشعب من أجل الحرية والديمقراطية VVD[4].
الحزبان اللذان صوَّتا لصالح نفس الاقتراح عام 2005 إلا أن الأمر أُجِّل وقتئذ بانتظار أن يصدر قانونٌ أشمل بشأن ذلك.
كما أن محاولاته لم تتوقف في السعي لكسب ثقة الأحزاب المسيحية الأخرى، وحزب "من أجل الحيوانات PVDD"[5].
ولدى فيلدرز أمل كبير بعد أن يصبح مشروعُه المقترح قانونًا رسميًّا: بأن النساء عندئذ سيقلن لأزواجهن أو آبائهن بأنهن سينزعن النقاب؛ فالأمر غير مسموح به الآن!
ويضيف بأن بعض البلديات في بلجيكا قد حظرت ارتداء النقاب في الأماكن العامة، ولم يُذكر أن الآباء أو الأزواج عزلوا بناتهن أو زوجاتهن، وأما بالنسبة لعدد المنتقبات فلا أعرف كم هو عددهن، ولكن الذي أعرفه أنَّ عددهن في تزايد مستمر، فدعونا نتخذ الإجراءات اللازمة قبل أن يفلت زمام الأمور من أيدينا!
وما سنفعله لن يكون مخالفًا للدستور، أو أي معاهدة دولية أخرى؛ فالحقوق الموجودة في الدساتير والمعاهدات الدولية ليست مطلقة، فالاستثناءات موجودة في الدساتير والمعاهدات، ولدينا قضية محددة وهي النقاب والبرقع، وليس كل ما يوضع على الرأس؛ فالقبعة مثلاً ليست في معرِض الحظر؛ فالقبعة لا تُشعر المرأة بأنها مضغوطة، وحرية المرأة بالقبعة في مأمن من الحظر؛ فلا يجوز المقارنة بين القبعة والنقاب.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] قُدم المشروع بتاريخ 28 – جمادى الآخرة 1428هـ. الموافق لـ 12 – تموز يوليو 2007م.
[2] ولد جيرت فيلدرز عام 1963م في مدينة فينلو Venlo المتاخمة للحدود الألمانية.(/2)
في عام 1998م أصبح نائبًا في البرلمان عن حزب "الشعب من أجل الحرية والديمقراطية VVD"، وفي الثاني من أيلول سبتمبر 2004م أصبح نائبًا مستقلاً، وفي بداية عام 2006م أسس حزب الحرية وصار رئيسًا له، كما شغل مناصب أخرى في حياته منها: على سبيل المثال عضو لجنة الديمقراطية وحقوق الإنسان (إيران) من عام 1998م – 2002م. وعضو الجمعية العامة لمنظمة حلف شمال الأطلسي. ومن آرائه المعروفة أنه ضد انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي.
[3] CDA الحزب الديمقراطي المسيحي. أُسس بشكل رسمي في الحادي عشر من أكتوبر تشرين الأول 1980م من اندماج ثلاثة أحزاب مسيحية، ولديه الآن 41 نائبًا في البرلمان من أصل 150، ويقود تحالفًا في الحكومة مع حزبين آخرين هما حزب العمل، وحزب الاتحاد المسيحي.
أما عدد نوابه في مجلس الشيوخ (الغرفة الأولى) فهو 21 نائبًا من أصل 75، يُذكر أن رئيس الوزراء من الحزب نفسه.
[4] VVD. حزب ليبرالي يميني محافظ،أسس في بداية عام 1948م، كان مشاركًا في الحكم لفترات طويلة، وهو الآن في المعارضة، ولديه الآن 22 مقعدًا في البرلمان من أصل 150، كما أنه لديه 14 مقعدًا في مجلس الشيوخ من أصل 75.
[5] حزب "من أجل الحيوانات PVDD"، أُسس في أكتوبر تشرين الأول 2002م، واتجاه الحزب محايد، أيديولوجية الحزب قائمة على مسألة حقوق الحيوان، ولكن يعتبر حزبًا سياسيًّا هولنديًّا، وهدفه الأساسي هو التعامل الإيجابي، والحسن مع الحيوانات، وهذا هو الموضوع الرئيس للحزب، وتعتبر هولندا منذ 30 نوفمبر تشرين الثاني 2006م أول دولة في العالم يمثل في برلمانها حزبٌ موضوعه الرئيس هو الحيوان، ويذكر أن عدد أعضاء الحزب في نهاية عام 2006م بلغ 6370 عضوًا، وللحزب نائبان في البرلمان.(/3)
العنوان: البنات والبدانة.. حرب وهمية
رقم المقالة: 506
صاحب المقالة: هبة عبدالمجيد
-----------------------------------------
مشاكل البنات كثيرة ولكن مع هاجر وسارة وهالة للمشاكل طعم آخر مختلف، فالبدانة المفرطة هي السبب الرئيس والمباشر لحالة الإحباط التي يعشنها، والتي قد تصل بهن إلى حد اعتزال الناس والحياة بعدما فشلت كل طرق العلاج ومراحله المتعددة في تغيير الصورة إلى الأفضل.
فهل حقاً تعوقهن السمنة عن التفاعل مع مفردات الحياة بصورة أفضل، وفي مقدمتها الدراسة؟ وماذا عن نظرة المجتمع المحيط بهن، هل تؤثر أثراً سلبياً في زيادة إحساسهن بالأزمة؟
جراحات التجميل إلى أي حد يمكن أن تسهم في حل تلك المعضلة؟ خاصة بعد كثرة الحوادث الناتجة عنها، هل ما زال البعض يراها حلاً حاسماً أم أنها باتت حلاً مستحيلاً خاصة وأن تكلفتها ربما ليست في متناول الجميع؟
التساؤلات كثيرة والسطور القادمة محاولة للاقتراب من هموم بنات كتبت عليهن البدانة.
* سارة الأكثر إحباطاً تؤكد أنها لاتذهب إلى الجامعة إلا نادراً بسبب نظرات الطالبات التي تشعرها بالخجل، فمن جانبها حاولت كثيراً اتباع نظام غذائي خاص على أيدي متخصصين لكنها كانت تفشل دائماً في الوصول إلى الصورة والحجم المطلوبين، خاصة أنها كانت ترفض وأهلها إجراء أية جراحات تجميلية من شفط للدهون أو ربط للمعدة أو غيرها من الجراحات التجميلية.
* هاجر هي الأخرى عانت كثيراً نظرات الجميع حولها، سواءٌ أكانت نظرات شفقة أم نظرات سخرية، بقصد أو بغير قصد، فهناك دائماً حالة من الحساسية في استقبال رد فعل مَن حولها، إضافة إلى أن السمنة المفرطة حالت كثيراً دون ممارستها للأنشطة الجامعية، باختصار منعتها من أن تعيش سنها، وهذا ما أشعرها بالتعاسة لحرمانها من جانب مهم في الحياة.(/1)
* هالة هي الأخرى محبطة وتشعر بالاكتئاب طَوال الوقت، خاصة عندما ترى مَن حولها يلبسن ما يبرز جمالهن في حين لا تخرج اختياراتها عن حدود معينة، وهذا يصيبها بحالة من الإحباط ومن ثَمَّ الاكتئاب.
نظرات الناس لا سيما الزميلات - كما تؤكد هالة وهاجر وسارة - مزعجة ومحرجة، بل مدمرة نفسياً، وهو مالا تدركه الكثيرات خاصة، والجميع بوجه عام، حينما يسخرون من بدانتنا التي هي خارجة عن إرادتنا ولا دخل لنا فيها؛ لأنها في أغلب الأحوال تكون مرَضية ومرتبطة بخلل في هرمونات الجسد، حتى لو كانت بسبب الإفراط في تناول الأكل- كما ترى هالة وتشاركها الرأي قريناتها- لا يجوز السخرية من أحد مهما كانت الأسباب.
هل للوراثة تأثير في زيادة الوزن؟
سؤال أجاب عنه د0 أحمد عادل نور الدين- أستاذ جراحات التجميل بكلية الطب جامعة القاهرة- مؤكداً أن الكثير من التشوهات والتجمعات الدهنية الموضوعية تكون وراثية، بمعنى أن عدد الخلايا في هذه المناطق التي تعاني تشوهاً دهنياً واضحاً كبيرةٌ وكثيرةٌ، وهذا العدد لا دخل للجسم به إنما هو مرض وراثي، والأمثلة كثيرة على ذلك ومثبَتةٌ علمياً.
تقدم السن أحد العوامل الأخرى التي تساعد على حدوث السمنة، حيث يقوم الجسم تلقائياً بإعادة توزيع الدهون في الجسم لأن كمية كبيرة من العضلات يحدث لها ضمور وتستبدل الأنسجة العضلية بأخرى قادرة على التخزين، يحدث هذا في الوقت الذي تتلاشى وتتناقص فيه الأنسجة المرنة، وهذا ما يفقد الجلد مرونته وتظهر التجمعات الدهنية أسفله بوضوح.
وأخيراً يشير د0أحمد إلى العادات الغذائية السيئة التي تغفل أسلوب الغذاء المتوازن والمتنوع وهو ما يسهم في زيادة الوزن.
أحلام في الهواء:(/2)
عن جراحات التجميل وهل يمكن أن تحل مشكلة البدانة، يرى د. أحمد أن نسبةً كبيرةً من الحالات يمكن أن تخضع لتدخل جراحي، خاصة أن الرغبة في تجميل القوام تكون سريعة ولا تجدي معها الأنظمة الغذائية مهما بلغت قسوتها، كما يؤكد أيضاً أن هذه العمليات من الأفضل أن تُجرى بعد إنقاص الوزن بالحِمية (الريجيم) حيث تبقى مناطق محدودة من الجسم سمينةً أكثرَ من اللازم فيتدخل الجرَّاح بعمليات شفط الدهون.
أما البنات ألطف الكائنات، فلا يتحمَّسن الآن لمثل هذه العمليات، خاصة بعد المشاكل العديدة التي حدثت لبعضهن، إضافة إلى تكلفتها الباهظة، ثم إن حُقَنَ إذابة الدهون- أحدث المكتشفات العلمية في هذا الصدد- لا تلقى قبولاً لديهن أيضاً لأكثر من سبب- كما تؤكد سارة بحكم التجربة- فهي لا تصلح في كل المناطق بالجسم، و هي باهظة التكلفة، قد تصل الجلسة- التي لا يبدأ مفعولها في الظهور من الجلسات الأولى- إلى ألف جنيه تقريباً مقابل بضعة مليمترات قليلة، يضاف إلى ذلك احتياج الجسم إلى أكثر من جلسة يفصل بين الجلسة والأخرى 6 أسابيع مع اتباع نظام غذائي مواز، ومن ثم فلا جدوى منها أصلاًً لأنها نوعٌ من الوهم، ولأن المدة طويلة ولو حدث إنقاص في الوزن فهو مرتبط بالحمية (الريجيم) وليس بالحقن.
التعايش السلمي:(/3)
بقدر استياء البعض من بدانة أجسادهن، نجد آخرين لا يُلقون لها بالاً، وهو ما تؤكده سلمى- الطالبة بكلية التربية- فهي بحسب تعبيرها (متعايشة معها) لم تعد تزعجها ولا تلتفت إلى آراء مَن حولها، ثم إنها أقلعت عن ممارسة الحِمية (الريجيم) تماماً ونهائياً، لأنها لاحظت إصابتها بزيادة ملحوظة مع كل محاولة تقوم بها وهذا ما يصيبها بحالات اكتئاب تالية، ولذلك قررت إنقاص كمية الطعام التي تتناولها فقط، مع الحرص على إلغاء وجبة العشاء متى استطاعت، وتخفف من تناول الحلويات، وقد أثمر هذا النظام نتائج معقولة، صحيح ما تزال تحتفظ ببدانتها، لكنها لم تعد مضغوطة نفسياً.
جواهر هي الأخرى تنتمي إلى نادي البدينات المتعايشات مع أوضاعهن، تقول: أصبحت أتعامل بسهولة مع حالتي، وفرضتُ ذلك على كل من حولي بنشاطي وحيويتي، وقدرتي على التواؤم مع الحياة وأنشطتها.(/4)
العنوان: البوصلة الأمريكية... لا تحدد القِبلة!!
رقم المقالة: 1409
صاحب المقالة: زياد بن عابد المشوخي
-----------------------------------------
إذا أردنا التنبؤَ بالخطواتِ القادمة التي يمكنُ أن تقوم بها حكومةُ رام الله –عفواً حكومة دايتون- بالتنسيق مع بقاياها في غزة، فينبغي لنا أن نقرأ في السيرة النبوية، ونتأمل تحديداً مؤامراتِ المنافقين التي كانت تتم فرديا أو جماعيا، وبالتنسيق مع يهود المدينة أو مع قريش، وبالتشويش على بعض المؤمنين أو بالتفريق بينهم، لقد اتخذوا كل السبل والوسائل في سبيل تحقيق أهدافهم.
ومن بين تلك المؤامرات بناؤهم لمسجد الضرار، وكان ذلك لما اتخذ بنو عمرو بن عوف مسجد قُباء، وبعثوا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأتاهم، فصلى فيه، فحسدهم إخوتهم بنو غَنْم بن عَوف، وكانوا من منافقي الأنصار، فقالوا: نبني مسجداً، ونرسل إلى رسول الله فيصلي فيه، ويصلي فيه أبو عامر الراهب إذا قدم من الشام؛ وكان أبو عامر قد ترهَّب في الجاهلية وتنصَّر، فلما قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة، عاداه، فخرج إلى الشام، وأرسل إلى المنافقين أن أعدُّوا ما استطعتم من قوة وسلاح، وابنوا لي مسجداً، فإني ذاهب إلى قيصر، فآتي بجند الروم فأُخرج محمداً وأصحابه، فبنوا هذا المسجد، إلى جنب مسجد قباء، وكان الذين بنوه اثني عشر رجلاً، ومنهم خِذام بن خالد ومِن داره أُخرِج المسجد، فلما فرغوا من بناء المسجد، أتوا رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: إنا قد ابتنينا مسجداً لذي العلَّة والحاجة والليلة المطيرة، وإنا نحب أن تأتينا فتصليَ فيه، كان هذا تبركاً في ظاهر الأمر، وتقريراً لوجود هذا المسجد.(/1)
فدعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقميصه ليلبسه، فنزل عليه القرآن وأخبره الله خبرهم، فدعا نفراً من الصحابة وقال: "انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله، فاهدموه وأحرِقوه" وأمر به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يتُخذ كُناسةً تُلقى فيها الجيف، قال جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما: (رأيت الدخان من مسجد الضرار حين انهار)، رواه الحاكم في المستدرك بإسناد صحيح. ومات أبو عامر بالشام وحيداً غريباً.(/2)
لقد كانت المؤامرةُ كبيرة، وكان مكرُهم عظيماً {وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال} [إبراهيم: 46]، ونسجت خيوط المؤامرة بعناية فائقة ولكنها واهية كبيت العنكبوت {وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت} [العنكبوت: 41]، ظاهر البناء الخير والصلاح، وأما الباطن فهو حرب على الله ورسوله وتفريقاً للمؤمنين، لقد كان المسجد أنموذجا؛ فالصور تتنوعُ، والأساليب تتعددُ، والهدف واحد، والدرع الذي يُتترَّس به: {إن أردنا إلا الحسنى} [التوبة: 107]، فجاء القرآن فاضحاً لهم، كاشفاً لزيفهم ولزيف كل من سار على دربهم؛ قال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ * أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 107-110]، إنه المصير المحتوم لكل مشروع ضرار لا بركة فيه؛ منهار معنوياً، وسرعان ما ينهار حسياً بإذن الله، لا ثبات له ولا قرار فمن يقيم فيه؟!.. وكيف يكون له ثبات وقد بُني على حافة حفرة وعلى تربة غير متماسكة؟ سرعان ما يسقط وينهار؛ إذِ الأرضُ الطيبة لا تقبله ولا أهلها الطيبون.(/3)
ها هي ذي حكومة دايتون اليوم تخطط من رام الله إلى جمع البقايا، ولكن ليس في مسيرة أو مهرجان بل في صلاة؛ لأنهم أدركوا أخيراً أن الشعب الفلسطيني المسلم شعب متدين، وأن الشعوب المسلمة تقف وتتعاطف مع المتمسكين بدينهم لا مع المتمسكين بالعلمانية، وبأن الصلاة لها هيبتها ومكانتها وقداستها، وبأن الاعتداءات السافرة على المساجد في غزة كانت سبباً في خسارتهم أمام حماس، فدعت جماهيرها إلى صلاة الجمعة في الشارع، ولكن جمعة الضرار الأولى التي أقامتها تلك الحكومة الخبيثة باسم حركة فتح لم تفلح في جمع أكثر من مائة من المصلين، فعزمت هذه الجمعة أن تعوض تلك الخسارة، وعادت إلى طريقتها وعهدها السابق في جمع الأنصار، وذلك عن طريق دفع الأموال استغلالاً لحاجة الناس فدفعت للمصلين المال لتأدية الصلاة؛ لأن عناصر التخريب كانت بحاجة إلى تلك الجموع لتمارس إفسادها وتدميرها للممتلكات متترسة بالصلاة والمصلين.
وقد نقلت لنا وسائلُ الإعلام صوراً جديدة للمصلين في أثناء الخطبة، فهذا يتحدث مع زملائه، وآخر يمسك بالسيجارة في يده ويدخن في أثناء الخطبة، وأولئك جالسون وأمامهم أكواب العصير البارد، وصفوف الصلاة غير متراصة، بل وليست في اتجاه واحد أصلاً!!!، وبعد انتهاء تلك الصلاة الخالية من الخشوع، انطلقت عناصر من بين المصلين لتدمير المرافق الخاصة والعامة وسباب الذات الإلهية، والهتاف باسم القاتل الهالك (سميح المدهون) ضابط الأمن الوقائي الذي أحرق البيوت والمساجد وقتل الأبرياء قبل أن يتم قتله على أيدي المجاهدين في الأحداث الأخيرة، والعجيب أنه -وعلى بعد أمتار من مكان تجمعهم للصلاة- يقع مسجدُ الهداية الذي تم اقتحامه في الأحداث الأخيرة من قبل عناصر الأمن الوقائي وحرس الرئاسة وتم قتل إمامه وعدد من المصلين ومسجد العباس الذي تم قتل إمامه أيضاً.(/4)
وأثناء الإعداد لتلك الصلاة المزعومة وللمسيرات حدث انفجار في منزل عقيد في المخابرات السابقة البائدة، وهو (نعيم حسنين) من حي الشيخ رضوان بغزة، حيث تبيّن بعد التحقيق في الأمر أنه كان يقوم بإعداد عبوات ناسفة وقنابل يدوية لاستخدامها في أي تصعيد بين أنصار حركة "فتح" المشاركين في صلاة الضرار وعناصر "القوة التنفيذية".
ستبوء تلك المحاولات اليائسة بالإخفاق بإذن الله، وسينهار ذلك البنيان الذي أسس على شفا جرف هار، ولن تزيل صور تلك الصلواتُ صور إنقاذ الأمن الوقائي في جنين للضابط اليهودي وإعادته سالماً إلى الجيش الصهيوني بعد التنسيق معه، في حين يقبع في سجون الاحتلال أكثرُ من عشرة آلاف أسير وأسيرة من هذا الشعب المسلم الصبور، ولن تزيل تلك الصلوات إغلاق حكومة دايتون لما يزيد عن مائة مؤسسة وجمعية خيرية، والاعتقالات اليومية للمجاهدين وأبناء الحركة الإسلامية في الضفة الغربية.
ومع هذا كله فإن حركة المقاومة الإسلامية حركة حماس على استعداد -كما أعلنت مراراً- لإرشاد هؤلاء المشاركين في تلك الصلاة ومن بعث لهم بالأوامر من رام الله من أجل العودة إلى تجاه مكة المكرمة حيث تم توقيع الاتفاق والتعاهد عند البيت الحرام على الوحدة، ذلك الاتفاق الذي بذلت فيه المملكة كل الجهود من أجل تحقيقه، ولكن وكما يبدو للجميع أن المشكلة الحقيقية لدى حكومة رام الله هي أن البوصلة التي لديهم صناعة أمريكية ولا يمكنها أن تعطي الاتجاه الصحيح لمكة المكرمة!!(/5)
العنوان: التاريخ الهجري هو تاريخنا
رقم المقالة: 353
صاحب المقالة: د. محمد بن لطفي الصباغ
-----------------------------------------
إخواني وأخواتي
أبنائي وبناتي
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد
فلقد بدأ العامُ الهجريُّ 1428 أمس، وإنّي لأسأل الله أن يجعلَه عاماً مباركاً تتحقَّق فيه العزَّة للمسلمين، وذلك بأن يعودوا إلى ربِّهم، ويَعوا واقعَهم، ويعملوا ليوم المعاد، يومَ لا ينفع مالٌ ولا بنونَ إلاَّ من أتى الله بقلب سليم، وأسأله سبحانه أن ينصُرَهم على عدوِّهم الشرس المتوحِّش إنَّه سبحانه سميعٌ مجيب.
لقد مضى على هجرة الرسول العظيم ألفٌ وأربعُ مئةٍ وثمانيةٌ وعشرون عاماً.. ومضى خلال ذلك تاريخٌ طويل فيه أمجادٌ وبطولات وانتصارات، وفيه فُتوحٌ علميَّة وفكريَّة وحضاريَّة رائدة قدمَتها أمة الإسلام للإنسا نيَّة.
والهجرةُ النبويَّة من مكَّة إلى المدينة حدثٌ عظيم؛ إذ كانت الهجرةُ الخطوةَ المتقدمة لقيام الدولة الإسلاميَّة التي حملت رسالةَ الله الخاتمة، وقامت بتبليغها إلى الدنيا كلِّها، واستمرَّت الدولُ التي تلت دولةَ الرسول والخلفاء الراشدين في أداء هذه المهمَّة.. إن الدولَ التي جاءت من الأمويِّين والعباسيِّين والعثمانيِّين وغيرهم كانت تعمل في نشر دين الله على مدٍّ وجَزر، والحربُ سِجال وهذا شأن الدنيا.
إنَّ التاريخَ الهجري عنصرٌ من عناصر هُويَّة أمَّتنا.. نَعَمْ التأريخُ والتوقيتُ واللباسُ وطِرازُ العمران وقبل ذلك كلِّه العقيدة.. هذه أهمُّ العناصر التي تكوِّن هُويَّةَ الأمَّة. وقد ظلَّت أمتنا المجيدة محافظةً على هذه المقوِّمات حتَّى داهمَنا الغزو الفكريُّ الماحق والاستعمار الماديُّ والمعنويُّ المدمِّر، وصار ينتقص من تلك المقوِّمات يريد أن نذوبَ في الآخَرين، وألا تكونَ لنا شخصيَّة متميِّزة.(/1)