وعلى أي حال، فإن كتب الأصوليين تتناول الحكم الشرعي ومباحثه المتعلقة به من الحاكم والمحكوم فيه والمحكوم عليه؛ والأدلة الشرعية المتفق عليها والمختلف فيها في الظاهر من حيث حجيتها ومراتب الاستدلال بها وشروط العمل بها، وطرق استنباط الأحكام من الأدلة وهي القواعد اللغوية أو قواعد تفسير النصوص، والاجتهاد والتقليد والمجتهد والمقلد ضوابطهما وشروطهما، ومجالهما وحكمهما وجوباً وندباً وتحريماً وكراهة وإباحة، وغير ذلك.
والأدلة المتفق عليها هي الكتاب والسنة والإجماع والقياس. والأدلة المختلف فيها كثيرة أشهرها سبعة هي الاستصلاح أو المصالح المرسلة، والاستحسان، والعرف وقول الصحابي، وشرع من قبلنا، وسد الذرائع، والاستصحاب.
أما موضوع الفقه فهو كما تقدم أفعال المكلفين من حيث ثبوت الأحكام عن طريق العلم بالأحكام الشرعية العملية، والعلم بالأدلة التفصيلية.
2 – مصادر استمداد أصول الفقه وتاريخ نشأته وتدوينه:
استمد العلماء أصول الفقه من حقائق الأحكام الشرعية وتصوراتها لا من جزئياتها. ومن علم الكلام باعتبار أن الإلزام بالقرآن والسنة ناشئ ممن ألزم العمل بها وهو الله تعالى، وهو مصدر التشريع، ومنزل الوحي على الرسل لتبليغ الأحكام والشرائع. وتأييدهم بالمعجزات الدالة على صدقهم، وبحث هذه العقائد في علم الكلام.
كذلك استمدوا كثيراً من قواعد الاستنباط من اللغة العربية التي جاء بها القرآن والسنة مصدرا التشريع الأصليان، فباللغة نسترشد مقاصد الشريعة، وبها يتمكن المجتهد من معرفة الحقيقة والمجاز، والصريح والكناية، والعموم والخصوص، والاشتراك، والإطلاق والتقييد، والمنطوق والمفهوم، وهذه كلها من مباحث اللغة.(123/5)
وقد نشأ علم أصول الفقه إبان ظهور الحركة الاجتهادية في عهد الخلفاء الراشدين وبقية الصحابة الذين كانوا يستفتون في المسائل المستجدة، فيبحث المجتهد منهم عن حكمها الشرعي في نصوص القرآن الكريم وظواهره، ثم في منطوق الحديث النبوي ومفهومه وإيحاءاته، ثم يلجأ إلى القياس أو الاجتهاد بالرأي المتفق مع روح التشريع ومقاصده وإيماءاته، وذلك عملاً بقوله تعالى: {فاعتبروا يا أولي الأبصار}[16] وبما دلت عليه السنة النبوية بآثار بلغت حد التواتر على مشروعية القياس، منها حديث معاذ الذي بعثه النبي صلى الله عليه وسلم قاضياً ومعلماً، والمتضمن أن الرسول صلى الله عليه وسلم سأله: ((ماذا تصنع إن عرض لك قضاء؟)) قال: أقضي بما في كتاب الله، قال: ((فإن لم تجد في كتاب الله؟)) قال: فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((فإن لم يكن في سنة رسول الله؟)) قال: أجتهد رأيي لا آلو – أي لا أقصر – فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على صدر معاذ، وقال: ((الحمدلله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله))[17] فهذا يدل على إقرار الرسول العمل بالرأي الصحيح المستند على النصوص وروح التشريع، والقياس نوع من الرأي.
واستمر العمل بهذا المنهج في عصر التابعين، فقدموا القرآن أولاً، ثم السنة، ثم الإجماع، ثم الرأي، لكن بعضهم كان يميل إلى العمل بالقياس الضيق بإلحاق الأمور غير المنصوص على حكمها بالمنصوص عليها، وبعضهم مال إلى العمل بالمصلحة المتفقة مع مقاصد التشريع إن لم يكن في المسألة نص على حكمها. وكان التابعون يأخذون بآراء الصحابة، ويقدمونها على العمل برأيهم.(123/6)
ثم تبلور علم الأصول في عهد أئمة المذاهب، وبرزت تسميات المصادر المختلف فيها في الظاهر، مع اتفاقهم على مضمونها الصحيح في الواقع، مثل القياس والاستحسان والمصالح المرسلة وقول الصحابي وشرع من قبلنا وسد الذرائع وعمل أهل المدينة ونحو ذلك. وظهرت فيهم نزعتان أو مدرستان: مدرسة أهل الحديث في الحجاز، ومدرسة أهل الرأي في العراق، ومع اتفاق أهل المدرستين على العمل بكل من الحديث الصحيح والرأي، إلا أنه كان يغلب على اجتهاد المدرسة الأولى الأخذ بالحديث الذي ثبت عندهم، والوقوف عنده دون أخذ بالرأي المنسجم مع قواعد الشريعة العامة ومبادئها الكلية، ويغلب على اجتهاد المدرسة الثانية العمل بالرأي عند عدم وجود نص قرآني أو نبوي صحيح، علماً بأن بيئة العراق التي لم يتوافر لها الثقات الكُثر من الرواة كانت سبباً واضحاً في هذا الاتجاه، كما أدى ذلك إلى خصوبة فقه أهل الرأي بسبب تقدم المدنية، إزدهار الحضارة، واستقرار الخلافة الإسلامية العباسية في بغداد وتوابعها.
وقد بدأ تدوين علم أصول الفقه بنحو شامل متكامل على يد الإمام الشافعي محمد بن إدريس المتوفي سنة 204هـ في كتابه ((الرسالة)) بناء على طلب الإمام عبدالرحمن بن المهْدي الذي أعجب بالرسالة إعجاباً شديداً، وكان بعدئذ يكثر من الدعاء له. وقد بحث فيها الشافعي مصادر التشريع، فأوضح أنواع البيان في القرآن، وأبان حجية السنة ومنزلتها في القرآن حتى لقب بأنه ((ناصر السنة وإمام الحديث)) وتحدث عن الناسخ والمنسوخ، علل الأحاديث وأثبت حجية خبر الواحد، ثم أفاض الكلام عن الإجماع والقياس والاستحسان وما يجوز الإختلاف فيه وما لا يجوز، فضبط أصول الخلاف، ووضع قواعد الاستنباط وأنار الطريق لمن بعده من العلماء لتأصيل مباحث هذا العلم وقواعده ومناهجه، وتبيان طرق الاجتهاد والاستنباط، وكان بهذا العمل الرائد الأول في تحديد المفاهيم الأصولية وضبطها وإبرازها للعلماء.(123/7)
ولا يعني بدء التدوين لعلم الأصول على يد الشافعي أن قواعد هذا العلم من وضعه، وإنما كانت تلك القواعد مرعية في اجتهادات الصحابة والتابعين، وظهرت أيضاً في وقائع اجتهاداتهم قواعد أصولية فرعية، تعد أساساً في مبادئ الترجيح بين الأدلة المتعارضة، كما فعل الإمام علي رضي الله عنه بقياس حد السكران على المفتري القاذف، وكما أفتى ابن مسعود بأن عدة الحامل المتوفي عنها زوجها بوضع الحمل، لأن سورة الطلاق وفيها عدة الحوامل نزلت بعد سورة البقرة وفيها عدة الوفاة، والمتأخر من النصوص ينسخ المتقدم أو يخصصه، وكتقديم المتواتر على الآحاد، والخاص على العام، والتحريم على الإباحة، وتخصيص العام بالخاص، وحمل المطلق على المقيد، مثل آية {حُرِّمت عليكم الميتة والدم...}[18] وآية {إلا أن يكون ميتةً أو دماً مسفوحاً..}[19] فاللفظ المطلق في الآية الأولى ((الدم)) محمول على المقيد في الآية الثانية، ويكون الدم المحرم هو المسفوح.
كذلك كانت لأئمة المذاهب قبل الشافعي كأبي حنيفة ومالك رحمهما الله قواعد وأصول يعتمدونها في استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها، وما تزال هذه الأصول والقواعد منقولة عنهم متميزة فيهم، تميز كل مذهب عن غيره، وآثارها واضحة في الاجتهادات المنقولة عن أولئك الأئمة والإعلام، والتي أوضحها تلامذتهم من بعدهم في مؤلفات خاصة.
ثم تتابع العلماء بعد الإمام الشافعي في تدوين وتوضيح علم أصول الفقه، وفي طليعتهم الإمام أحمد رحمه الله الذي ألف كتاب ((طاعة الرسول)) وكتاب ((الناسخ والمنسوخ)) وكتاب ((العلل)). وكتب علماء الحنيفة وعلماء الكلام في هذا العلم، لتأصيل مناهج وقواعد استنباط الأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية.
3 – الغاية من دراسة علم الأصول وفائدته:(123/8)
يتميز علم أصول الفقه بأنه نظريات كبرى ومناهج استنباط أصيلة واضحة، فهو كما أنه يضبط أصول الاجتهاد وينير الطريق أمام المجتهدين، كذلك فهو يضبط للعالم والفقيه والمتفقه أصول الأحكام الشرعية، ويبين طرق استنباطها، ويوضح أسس الوصول إليها، والتعرف على الوسائل التي تمكِّن العالم المستنير بشرع الله ودينه من فهم مباني الأحكام وقواعد الشريعة، ومنهج التجديد والاجتهاد، والتوصل إلى تغطية الحاجة المتجددة عبر الزمان إلى أحكام الحوادث والوقائع الطارئة والمسائل المستجدة.
يتبين من هذا أن الفائدة الأساسية من علم الأصول إمداد المجتهدين بقواعد استنباط الأحكام الشرعية في دائرة الوجوب والندب والحرمة والكراهة والإباحة من النصوص التشريعية في القرآن والسنة بطريق مباشر أو غير مباشر.
ويتعرف أتباع المجتهدين والمقلدون بواسطة قواعد الأصول مدارك أولئك الأئمة في اجتهادهم، ويتبينون طرق استنباطهم، والتوصل بها إلى معرفة الأحكام الشرعية معرفة دقيقة مرتكزة على الفهم واطمئنان النفس، ويمكن التفريع عليها، والقياس وإلحاق النظائر ببعضها حين يريد العالم تقرير حكم لمسألة مشابهة أو طارئة ذات شبه كلي أو جزئي.
فيكون علم الأصول للمجتهد مفيداً بل ضرورياً لتحصيل القدرة على استنباط الأحكام من الأدلة، وللمقلد للوقوف على مدارك الأئمة ومستنداتهم في الأحكام التي استنبطوها، ومعرفة الأدلة التي اعتمدوها في بناء الحكم الشرعي للفروع الفقهية والمسائل العلمية المتنوعة.
كما أن علم الأصول يفيد العالم في التخريج على أقوال الفقهاء المتقدمين، وفي الترجيح بين آراء الأئمة، واصطفاء ما يكون منها الأنسب في كل عصر ومكان، وما يحقق المصلحة المنشودة، والحاجة المتغيرة.(123/9)
والمقارنة بين المذاهب أو بينها وبين معطيات العلوم القانونية الوضعية أو العلوم الأخرى لا تحقق ثمرتها ولا تفيد من دون الاعتماد على علم الأصول الذي يرتكز على الأدلة النصية أو العقلية أو اللغوية قال الفخر الرازي في المحصول: أهم العلوم للمجتهد: علم أصول الفقه، وقال الغزالي في المستصفى: أصول الفقه مقصدها تذليل طرق الاجتهاد للمجتهدين.
ثم إن فهم أسرار التشريع وحكمه ومقاصده يتوقف على تعليلات الأصوليين للأحكام، ولا ينشط المكلف عادة للقيام بالتكاليف والأوامر الدينية، أو لا ترتاح نفسه إلا بعد فهم تلك الأسرار، لذا قال علماء الأصول: فائدة أصول الفقه: معرفة أحكام الله تعالى، وهي سبب الفوز بالسعادة الدينية والدنيوية.
والخلاصة: أن أصول الفقه ينفع المجتهد والمقلّد، أما المجتهد: فيتمكن بالاهتداء بالقواعد الأصولية من استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية، ومصادرها المقررة شرعاً. وأما المقلد أو المفتي الذي لم تتوافر فيه شروط الاجتهاد، فيستفيد من علم الأصول معرفة أدلة الحكم، ومصادر المذهب، وأسلوب فهمه وطرقه في استنباط الأحكام الشرعية، ويمكّنه من استخراج الحكم الشرعي في المسائل التي لم يسبق للمجتهد إبداء رأي فيها، بالتخريج على قواعده الأصولية في الاستنباط، وعلى أقواله في المسائل التي أصدر رأيه فيها، ويجعله أكثر قدرة على المقارنة بين الآراء المذهبية في المسألة الواحدة، والترجيح بينها بأقوم الطرق، وأصح الأدلة.
ونحن في عصرنا الحاضر حيث كثرت المشكلات، وتجددت المعاملات، وتنوعت أساليب الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، بأمسّ الحاجة إلى علم الأصول لبيان حكم المستجدات، والتفاعل مع التطورات، ومواكبة ركب الحضارة والتقدم.(123/10)
كما أننا بالاستعانة بالقواعد الأصولية نفهم كل قانون أو تشريع مكتوب بالعربية، ونستطيع حسم الخلاف في قضايا متعارضة أو متشابهة في الظاهر ولكنها متباينة في الواقع؛ لأن قواعد الاستنباط ودلالات الألفاظ المقررة لدينا مستمدة من معين اللغة العربية، وتوحي بها المسلمات العقلية، وقواعد الفطرة، وتنمو بالتمرس بفهم أصول الشرائع.
قال ابن خلدون في مقدمتهم المشهورة: أعلم أن هذا الفن – يعني أصول الفقه – من الفنون المستحدثة في الملة، وكان السلف في غنية عنه، بما أن استفادة المعاني من الألفاظ لا يحتاج فيها إلى أزيد مما عندهم من الملكة اللسانية. وأما القوانين التي يحتاج إليها في استفادة الأحكام خصوصاً، فمنهم أخذ معظمها، وأما الأسانيد فلم يكونوا يحتاجون إلى النظر إليها، لقرب العصر، وممارسة النقلة، وخبرتهم به.
4 – المدارس الأصولية وتطور البحث الأصولي:
صنف علماء الأصول بعد عهد أئمة المذاهب كتباً ممتازة في أصول الفقه وفي طريقة بحثه على طريقتين أو باتجاهين لمدرستين في التأليف وهما مدرسة المتكلمين أو الشافعية، ومدرسة الفقهاء أو الحنفية. ومحور الخلاف بين الطريقتين أو المدرستين هو كيفية تقرير أو إبداع النظرية أو القاعدة، هل تكون سابقة على الفروع والتطبيقات أو أن الفروع والمسائل هي الأصل، وأما النظرية فهي التابع؟
ولا شك بأن تصور أرضية النظرية وهي إدراك حقائق بعض الأشياء أو المسائل أمر سابق وضروري قبل وجود النظرية، لكن ليس ذلك بنحو شامل أو كلي، فإن ولادة النظرية في أذهان العباقرة أو الفلاسفة لا تكون إلا بعد تأملات وملاحظات في جوانب الحياة، لا يدركها غيرهم، ثم يأتي الإبداع وصياغة النظرية، ليستفاد منها في التطبيق الكلي أو الشامل، فتكون النظرية بعد التوصل إليها بمثابة القاعدة أو المنارة التي يُهتدى بها في تحقيق مضمونها وتطبيق مفهومها، وهذا يدل على أن النظرية تسبق في النشوء والظهور عادة قضية التفريع والتطبيق.(123/11)
فما الذي سار عليه المصنفون في التأليف في ميدان علم الأصول؟
أولاً – مدرسة المتكلمين أو طريقة الشافعية:
قرر أصحاب هذه المدرسة قواعد الأصول المأخوذة من الأدلة النصية النقلية واللغوية والكلامية والعقلية، وحققوها من غير نظر إلى الفروع الفقهية؛ لأن الأصول أسمى وأسبق من الفروع، وهذا اتجاه منطقي، ومنهج أسلم في تقرير القواعد الأصولية المستفادة من الأدلة المجردة من غير تعصب لمذهب أو استنباط معين، ولتكون ميزاناً لضبط الاستنباط، ومعياراً لسلامة الاستدلال، وأساساً للاجتهاد الحر الطليق دون أن يكون للفروع الفقهية حاكمية، أو توجيه للنظر، أو تقييد لا خروج عنه، وحينئذ تكون الأصول هي الحاكمة على الفروع، وقد التزم أصحاب هذه المدرسة بهذا المنهج، فلم يتعرضوا للفروع الفقهية إلا على سبيل التمثيل والتوضيح.
وإمام هذه المدرسة هو الشافعي رحمه الله الذي وضع أصوله قبل فقهه، فسميت المدرسة باسمه، ونسبت إليه، كما سميت بطريقة المتكلمين؛ لأن أكثر علماء الكلام (علماء التوحيد) كتبوا فيها واعتمدوها أكثر المصنفين، لامتيازها بالمنهج العقلي المجرد، ومواكبتها لنظريات الكلاميين أي علماء التوحيد، دون تأثر بالتقليد، ولكن اعتماداً على نزاهة البحث وحرية التحقيق.
وقد كثر أنصار هذه المدرسة حتى شملت جميع مذاهب أهل السنة غير الحنفية وبعض المذاهب الأخرى.
خصائص هذه المدرسة:(123/12)
إن خصائص هذه المدرسة إجمالاً ثلاث: الاعتماد على الاستدلال العقلي المجرد، وعدم التعصب لمذهب فقهي معين، والاقتصار على الفروع الفقهية لمجرد التوضيح والمثال. ولا شك بأن هذه الخصائص تستهوي الباحثين في كل عصر، وبخاصة في عصرنا الذي أعطى للعقل مداه الكبير، لذا كانت طريقة هذه المدرسة سبباً في إثراء علم الأصول، والتعمق في مدلولاته، وبلورة قضاياه ومبادئه، دون تأثر بالمسائل الفرعية، قال إمام الحرمين أبو محمد الجويني: ((على أنَّا في مسالك الأصول لا نلتفت إلى مسائل الفقه، فالفرع يصحح على الأصل، لا على الفرع)).
أهم كتب هذه المدرسة ومنهاجها:
قد ألفت كتب أصولية كثيرة على هذه الطريقة التي يرجع الفضل في إبرازها للقاضي أبي بكر الباقلاني من خلال آرائه المنقولة في الكتب، وإن لم تصلنا مؤلفاته. ومن أشهر كتب هذه المدرسة أو الطريقة: كتاب ((العمدة)) للقاضي عبدالجبار الهمداني المعتزلي (415هـ) و((المعتمد)) لأبي الحسين البصري المعتزلي (463هـ) و((البرهان)) لإمام الحرمين عبدالله الجويني النيسابوري (478هـ) و((المستصفى)) لأبي حامد الغزالي (505هـ) و((المحصول)) لفخر الدين محمد الرازي (606هـ) و((الأحكام في أصول الأحكام)) لسيف الدين الآمدي (631هـ).
ثم اختصر كتاب المحصول تاج الدين محمد بن الحسين الأرموي (656هـ) في كتاب ((الحاصل)) وسراج الدين محمود بن أبي بكر الأرموي (682هـ) في كتاب ((التحصيل)).
واختصر القاضي عبدالله بن عمر البيضاوي (675هـ) كتاب الحاصل في متنه: ((منهاج الوصول إلى علم الأصول)) الذي شرحه كثيرون مثل عبدالرحيم بن حسن الإسنوي (756هـ).(123/13)
ومنهاج هذه الكتب على النحو التالي: التعريفات المشتملة على المقدمات المنطقية واللغوية، ثم الأحكام الشرعية، ثم الأدلة ودلالات الألفاظ، ثم الاجتهاد والتقليد. وقد يكون هناك طريقة أخرى في بيان الأصول مثل كتاب ((تخريج الفروع على الأصول)) لشهاب الدين محمود بن أحمد الزنجاني الشافعي (656هـ) و((تنقيح الفصول في علم الأصول)) لشهاب الدين أبي العباس أحمد بن إدريس القرافي المالكي (684هـ) والتمهيد في تخريج الفروع على الأصول لجمال الدين بن عبدالرحيم الإسنوي الشافعي (772هـ).
ثانياً – مدرسة الفقهاء أو طريقة الحنفية:
سارت هذه المدرسة على منهج مغاير لمنهج المتكلمين، فإنهم لم يضعوا الأصول من غير تأثر بالفروع، وإنما اتجهوا إلى استنباط القواعد الأصولية في ضوء الفروع الفقهية التي قررها أئمتهم، وجعلوا القاعدة الأصولية منسجمة مع الفرع الفقهي. وغالب أصحاب هذه الطريقة من متأخري الحنفية الذي اشتهروا بالتعصب لمذهبهم، للدفاع عنه، والشهادة بسلامة فروعه، وإثبات أن له أصولاً مسبقة[20] حينما لم يجدوا لأئمتهم قواعد أصولية مدونة كما فعل الإمام الشافعي، وإنما وجدوا فروعاً فقهية كثيرة يتخللها بعض القواعد المنثورة. وصارت هذه القواعد أو الأصول أداة للدفاع عن مذهبهم في مقام الجدل والمناظرة بينهم وبين أتباع المذاهب الفقهية الأخرى، ثم أصبحت أساساً لهم في استنباط الأحكام الشرعية للوقائع والمسائل الجديدة.
وقد سميت هذه الطريقة بطريقة الحنفية ونسبت إليهم، كما سميت بطريقة الفقهاء لشدة تعلقها بالفرع الفقهي وإخضاع الأصل أو القاعدة له. قال ابن خلدون في مقدمته: إن كتابه الفقهاء – الحنفية – في أصول الفقه أمسُّ بالفقه، وأليق بالفروع لكثرة الأمثلة فيها.(123/14)
وعلى أي حال، فإن كلتا الطريقتين تؤديان الغاية المرجوة وهي استنباط الحكم الشرعي للفروع الفقهية التي تندرج تحت القاعدة، سواء قررت أولاً قبل الحادثة أو ثانياً بعدها، أو بالعكس، كما أن النتيجة واحدة وهي تحقيق النماء وخصوبة الفقه الإسلامي الذي لا يترك واقعة من أفعال الناس إلا ويكون لها فيه حكم ما.
ويحسن إيراد هذا المثال لتوضيح طريقة المتكلمين وطريقة الحنفية: وهو جزء الوقت الذي يكون سبباً للإيجاب، أي علامة على توجه الخطاب الشرعي من الله تعالى للمكلف، فقال جمهور الأصوليين: إن سبب الوجوب هو أول جزء من أجزاء الوقت المحدد للصلاة شرعاً، لقوله تعالى: {أقم الصلاة لدلوك الشمس}[21] فالدلوك الذي هو ميل الشمس عن وسط السماء سبب لوجوب الظهر، أي أن القاعدة تؤخذ من الدليل الشرعي دون نظر إلى الفروع. وقال الحنفية: إن سبب وجوب الصلاة هو الجزء الذي يتصل به الأداء (أي فعل الصلاة) من الوقت، فإذا ضاق الوقت تعين هذا الجزء الأخير للسببية، وإذا خرج الوقت كله دون أداء الصلاة أضيف السبب إلى الوقت كله، وهذا يدل على أن القاعدة تؤخذ من الفروع الفقهية المنقولة عن أئمة المذهب: أبي حنيفة وصاحبيه.
خصائص هذه المدرسة:
تمتاز هذه المدرسة بالمميزات الثلاث التالية: وهي أن منهجها عملي قائم على ربط الأصول بالفروع تمهيداً لاستخلاص الأصول من الفروع فتميزت بالتطبيق العملي، وأنها قاربت بين الأصول والفقه ومزجت بينهما بأسلوب مفيد، وأنها خدمت الفقه بنحو جلي في مجال التأليف في باب الخلاف وتخريج الفروع على الأصول، وكتابة قواعد الفقه الكلية، وسبق التأليف في القواعد.
أهم كتب هذه المدرسة ومنهاجها:(123/15)
ظهرت كتب أصولية رائعة على هذه الطريقة التي يعد الرائد لها الإمام أبو منصور الماتريدي (330هـ) في كتابه ((مآخذ الشرائع)) وأهمها: أصول الجصاص لأبي بكر أحمد بن علي الجصاص الرازي (370هـ) و((تقويم الأدلة)) لأبي زيد الدبوسي (430هـ) و((تأسيس النظر)) للدبوسي المذكور و((تمهيد الفصول في الأصول ((لشمس الأئمة أبي سهل محمد بن أحمد السرخسي (490هـ) وأصول فخر الإسلام علي بن محمد البزدوي (483هـ) ويسمى كتابه ((أصول البزدوي)) وقد شرحه عبدالعزيز البخاري (730هـ) شرحاً وافياً نفيساً يسمى ((كشف الأسرار على أصول البزدوي)) وكتاب ((المنار)) لعبدالله بن أحمد المعروف بحافظ الدين النسفي (710هـ) وله شروح عديدة أهمها شرح عز الدين عبداللطيف بن عبدالعزيز بن الملك.
ومنهاج هذه الكتب على النحو التالي: تعريف علم الأصول، ثم ذكر الأدلة إجمالاً، ثم بيان المصدر الأول – القرآن، وفي بحثه تذكر القواعد اللغوية وطرق الاستنباط، ثم السنة ومباحثها، ثم بقية الأدلة: شرع من قبلنا، ومذهب الصحابي، والإجماع، والقياس، والاستصحاب، والاستحسان، ثم أحوال المجتهدين، ثم التعارض والترجيح، وأخيراً مباحث الحكم (الحاكم، والحكم الشرعي، والمحكوم فيه، والمحكوم عليه والأهلية) وهذا واضح في أصول السرخسي، أما البزدوي فإنه بدأ بالأمر والنهي وفيهما أورد المباحث اللغوية، ثم تحدث عن الكتاب والسنة والإجماع، والبيان بما فيه النسخ، ثم بقية المصادر، ثم الترجيح، ثم مباحث الحكم.
ثالثاً – طريقة المتأخرين في الجمع بين المدرستين:(123/16)
ظهرت في القرن السابع الهجري في عصر التقليد مدرسة جديدة في التأليف في أصول الفقه جمعت بين طريقة المتكلمين وطريقة الحنفية، إهتم أصحابها بتحقيق القواعد الأصولية وإثباتها بالأدلة، ثم تطبيقها على الفروع الفقهية. وكان منهم بعض الحنفية وبعض الشافعية، وسميت هذه الطريقة طريقة المتأخرين التي كان ظهورها بسبب التعصب المذهبي، ولكنها أفادت كثيراً في مجال المقارنة ومناقشة الآراء الأصولية لكلتا المدرستين السابقتين، والترجيح بينها في الجزئيات الفقهية، لكن الكتابة فيها إتسمت بالإيجاز والتلخيص في كتابة المتون في الأصول والفقه على حد سواء[22].
أهم كتب هذه الطريقة:
لقد ألفت كتب على هذه الطريقة الجامعة بين طريقتي المدرستين السابقتين، من أهمها كتاب ((بديع النظام الجامع بين كتابي البزدوي والإحكام، لمظفر الدين أحمد بن علي الساعاتي الحنفي (694هـ) جمع فيه بين كتاب البزدوي الحنفي، والآمدي الشافعي، وكتاب ((تنقيح الأصول)) وشرحه كتاب ((التوضيح)) لصدر الشريعة عبيدالله بن مسعود البخاري الحنفي (747هـ) جمع فيه ثلاثة كتب هي أصول البزدوي، والمحصول للرازي الشافعي، ومنتهى القول والأمل أو المختصر لابن الحاجب المالكي، وقد شرحه بكتاب التلويح سعد الدين التفتازاني الشافعي (793هـ).
ومن هذه الكتب كتاب ((جمع الجوامع)) لتاج الدين عبدالوهاب بن علي السُّبكي الشافعي (771هـ) شرحه الجلال المحلي، وكتب الشيخ حسن العطار عليه حاشية تسمى ((حاشية العطار على جمع الجوامع)). وقد استمد ابن السبكي كتابه مما يقرب من مائة مصنف، كما ذكر، فسماه جمع الجوامع.(123/17)
ومنها كتاب ((التحرير)) لكمال الدين بن الهمام الحنفي (861هـ) وله شروح كثيرة منها شرح محمد بن محمد بن أمير حاج (879هـ) يسمى ((التقرير والتحبير)) وشرح محمد أمين المعروف بأمير بادشاه الحنفي. ومنها كتاب ((مسلم الثبوت)) لمحب الله بن عبدالشكور الهندي (1119هـ) وهو من أدق الكتب، وقد شرحه عبدالعلي محمد بن نظام الدين الأنصاري شرحاً نفيساً سماه (فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت).
ومن هذه الكتب الأصولية ذات النمط الفريد والكثير الفائدة كتاب ((الموافقات)) لأبي إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبي (780هـ). ثم توالت كتب مفيدة، من أحسنها كتاب ((إرشاد الفحول في تحقيق الحق من علم الأصول)) للقاضي محمد بن علي بن عبدالله الشوكاني (1250هـ) الذي أجاد في بيان الأصول وآراء الأصوليين.
ثم ظهرت مؤلفات كثيرة حديثة في رحاب الجامعات، مثل كتاب ((أصول الفقه)) للشيخ محمد الخضري (1354هـ) وكتاب ((تسهيل الوصول إلى علم الأصول)) للشيخ عبدالرحمن المحلاوي، وكتاب ((علم أصول الفقه)) للشيخ عبدالوهاب خلاّف (1376هـ – 1955م) و((أصول الفقه)) للشيخ محمد أبو زهرة (1395 – 1974م) و((أصول الفقه الإسلامي)) للشيخ زكي الدين شعبان (1408هـ – 1987م) و((أصول الفقه الإسلامي)) في مجلدين للدكتور وهبة الزحيلي، وجميع هذه الكتب وأمثالها لدى المعاصرين يجمع بين طريقة الشافعية والحنفية، وهي الطريقة المفضلة علمياً، لذا كتب لها النجاح والاستمرار والانتشار.
وخلاصة البحث ما يلي:(123/18)
1 - إن أصول الفقه: معناه أدلة الفقه وكيفية استنباط الحكم الشرعي منها وحال المجتهد المستنبط والمقلد غير القادر على الإجتهاد، سواء أكان عالماً غير مختص بفن الاجتهاد أم عامياً. أما الفقه فهو مجموعة الأحكام الشرعية المكتسبة من أدلتها التفصيلية وموضوع أصول الفقه الأحكام والأدلة وموضوع الفقه: أفعال المكلفين من طريق العلم بالأحكام الشرعية العملية، والعلم بالأدلة التفصيلية، أي الأدلة الجزئية، كالعلم بحل البيع وتحريم الربا، وفرضية الصلاة والزكاة وإباحة الزواج من آيات {وأحل الله البيع وحرًّم الربا}[23] {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة}[24] {فانكحوا ما طاب لكم من النساء}[25].
2 - إن استمداد علم أصول الفقه من ثلاثة مصادر: علم الكلام (وعلم التوحيد) واللغة العربية، والأحكام الشرعية، وكان أول من دونه الإمام الشافعي رحمه الله تعالى.
3 - الغاية من معرفة الأصول: التمكن من الاجتهاد، والتخريج على آراء المذاهب الإسلامية، وفهم أسرار التشريع ومقاصده، والمقارنة بين المذاهب، والترجيح بين آراء الأئمة، وبيان ضوابط التقليد والتلفيق.
4 - للأصوليين طرق ثلاث في كتابة الأصول: طريقة المتكلمين أو طريقة الشافعية، وطريقة الحنفية أو الفقهاء، وطريقة الجمع بين الطريقتين المتقدمتين لدى العلماء المتأخرين. والطريقة الأولى تستمد قواعدها من الأدلة الشرعية مباشرة، والثانية من الفروع الفقهية التي هي ثمرة الأدلة، والثالثة توفيقية ومقارنة.
والحمدلله رب العالمين،،،
ــــــــــــــــــــــ
[1] المنهاج للقاضي البيضاوي مع الإسنوي والبدخشي: 1/16. حاشية البناني على جمع الجوامع: 1/25.
[2] حاشية البناني وشرح المحلب على جمع الجوامع: 1/32 وما بعدها، شرح الإسنوي: 1/24.
[3] حاشية البناني: 1/35، التوضيح لصدر الشريعة والتلويح: 1/13 وما بعدها.
[4] سورة البقرة – آية 43.
[5] سورة الإسراء – آية 33.
[6] سورة البقرة – آية 198.(123/19)
[7] سورة الإسراء – آية 78.
[8] شرح العضد المختصر المنتهى لابن الحاجب: 1/18، التقرير والتحبير لابن أمير الحاج: 1/26، 28، مرآة الأصول لمنلا خسرو: 1/39، المدخل إلى مذهب أحمد لابن بدران: ص58.
[9] سورة البقرة – آية 275.
[10] سورة البقرة – آية 185.
[11] سورة النساء – آية 23.
[12] سورة الإسراء – آية 32.
[13] التوضيح لصدر الشريعة: 1/22.
[14] التقرير والتحبير: 1/32.
[15] الإحكام في أصول الأحكام للآمدي: 1/8 – 9.
[16] سورة الحشر – آية 2.
[17] رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن عدي والطبراني والدارمي والبيهقي. حديث مرسل صحيح، لأن رجاله ثقات.
[18] سورة المائدة – آية 5.
[19] سورة الأنعام – آية 145.
[20] أصول الفقه للمرحوم الأستاذ محمد الخضري: ض6 ، 20.
[21] سورة الإسراء – آية 78.
[22] أصول الفقه للخضري: ص9.
[23] سورة البقرة – آية 275.
[24] سورة البقرة – آية 43.
[25] سورة النساء – آية 3.(123/20)
العنوان: إضاءة على لقاء برنامج إضاءات مع الدكتور الأحمري
رقم المقالة: 536
صاحب المقالة: سعد مقبل العنزي
-----------------------------------------
استضاف الإعلامي تركي الدخيل في برنامجه (إضاءات) في قناة العربية سعادة الدكتور محمد حامد الأحمري، وكان اللقاء مثيراً ومتشعباً, وقد خلَّف الحوار ردوداً ومقالات عديدة في تعقُّب الدكتور الأحمري، ومما رأيته يستحق المناقشة ما يمكن إجماله في مسألتين:
المسألة الأولى: هل القول بـ (خلق القرآن) قد اندثر؟
ذكر الدكتور الأحمري أنه لا قائل الآن بمسألة (خلق القرآن), وأعجب: كيف يصدر هذا من رجل له حضوره الإعلامي, وتفاعله الفكري في الواقع المعاصر؟!.
فمن المسلَّمات أنه: "لا تعميمٌ إلا بعد استقراء"، وأنَّ: "المذاهب لا تموت بموت أصحابها". وهذه المقولة قد سمعتها من بعض الشيوخ قبل أن أسمعها من الدكتور، وهي دعوى مردودة من وجهين:
الأول: أن هناك تياراً عريضاً في المجتمع الإسلامي لا يزال يقول بهذا, ويتبنَّى طرحه في منابره التعليمية والإعلامية؛ فالأشاعرة لا يزالون على القول بأن القرآن الذي نقرؤه في المصاحف مخلوق, وعلى هذا سار المتقدِّمون والمعاصرون, مصرِّحين بما أراد شارح "الجوهرة" أن يستره حين قال: "يمتنع أن يقال: إن القرآن مخلوق، إلا في مقام التعليم"[1].
يقول فضيلة الشيخ سفر الحوالي - حفظه الله -: "فمذهب أهل السنة والجماعة أن القرآن كلام الله غير مخلوق، وأنه - تعالى - يتكلَّم بكلام مسموع، تسمعه الملائكة، وسمعه جبريل، وسمعه موسى - عليه السلام - ويسمعه الخلائق يوم القيامة. ومذهب المعتزلة: أنه مخلوق، أما مذهب الأشاعرة فمن منطلق التوفيقية - التي لم يحالفها التوفيق - فرَّقوا بين المعنى واللفظ؛ فالكلام الذي يثبتونه لله - تعالى - هو معنى أزلي أبدي، قائم بالنفس، ليس بحرف ولا صوت، ولا يوصف بالخبر ولا الإنشاء! واستدلوا بالبيت المنسوب للأخطل النصراني:(124/1)
إِنَّ الْكَلامَ لَفِي الْفُؤَادِ وَإِنَّمَا جُعِلَ اللِّسَانُ عَلَى الْفُؤَادِ دَلِيلا
أما الكتب المنزَّلة ذات الترتيب والنظم والحروف - ومنها القرآن - فليست هي كلامه تعالى على الحقيقة؛ بل هي عبارة عن كلام الله النفسي، والكلام النفسي شيءٌ واحدٌ في ذاته، لكن إذا جاء التعبير عنه بالعبرانية فهو توراةٌ، وإن جاء بالسريانية فهو إنجيل، وإن جاء بالعربية فهو قرآن، فهذه الكتب كلها مخلوقة، ووصفها بأنها كلام الله مجازٌ؛ لأنها تعبيرٌ عنه.
واختلفوا في القرآن خاصة؛ فقال بعضهم: "إن الله خلقه أولاً في اللوح المحفوظ، ثم أنزله في صحائف إلى سماء الدنيا فكان جبريل يقرأ هذا الكلام المخلوق ويبلغه لمحمد صلى الله عليه وسلم". وقال آخرون: "إن الله أفهم جبريل كلامه النفسي، وأفهمه جبريل لمحمد - صلى الله عليه وسلم - فالنزول نزول إعلام وإفهام، لا نزول حركة وانتقال"؛ لأنهم ينكرون علوَّ الله.
ثم اختلفوا فيمن عبَّر عن الكلام النفسي بهذا اللفظ والنظم العربي؛ من هو؟ فقال بعضهم: هو جبريل، وقال بعضهم: بل هو محمد - صلى الله عليه وسلم-!.
واستدلوا بمثل قوله تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} في سورتَي الحاقَّة والانشقاق - حيث أضافه في الأولى إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - وفي الأُخرى إلى جبريل - بأن اللفظ لأحد الرسولَين (جبريل أو محمد)، وقد صرَّح الباقلاني بالأول، وتابعه الجويني.
قال شيخ الإسلام: "وفي إضافته - تعالى - إلى هذا الرسول تارة، وإلى هذا تارة، دليلٌ على أنه إضافة بلاغ وأداء، لا إضافة إحداثٍ لشيءٍ منه وإنشاء، كما يقول بعض المبتدعة الأشعرية، من أن حروفه ابتداء جبريل أو محمد، مضاهاة منهم في نصف قولهم لمن قال: إنه قول البشر من مشركي العرب"[2].(124/2)
الثاني: أن الحداثيين - الذين لا يماري الدكتور في منابذتهم لشريعة الله - يعتبرون أن أصول الفرق الضالة – كالمعتزلة، والخوارج، والباطنية، والصوفية - من الأصول الفكرية للحداثة, وما ذاك إلا لمصادمتها للمنهج السلفي[3].
وحسن حنفي وزمرته العلمانيون في مصر قد أوْلَوا تراث المعتزلة - القائلين بخلق القرآن - عنايةً, وجعلوه منطلقاً لهم لهدم الاتجاه السلفي.
ويذكر حسن حنفي أنه يهتم بالمعتزلة من أجل وعي حضاري حديث, ومن أجل الخروج من الإيمان السلفي, وله ثناءات عليهم, ويتخذ منهم وسيلةً لترسيخ العلمانية والدعاية لها[4].
وبنحو هذا سار نصر أبو زيد، الذي جعل عقيدة المعتزلة في خلق القرآن مَطِيَّةً ليقول بأن القرآن ليس من عند الله, وإنما هو نصٌّ إنسانيٌّ مخلوقٌ مثل المسيح، وأن نصوص القرآن لغوية بشرية كغيرها من النصوص, وقد امتدح المعتزلة واعتبرهم مبدعين!![5].
وعلى شاكلتهم نجد الطيب صالح يثني على الخليفة العباسي المأمون؛ لأنه كان يؤمن بأقوال المعتزلة القائلة بأن القرآن غير سرمدي!.
إن المسألة ليست سَبْق لسان, ولا غلطة بنان؛ بل هو انطباع بدأ يتكوَّن لدى البعض من مفكرينا السلفيين, وهو - بطريقة أو بأخرى - لا يخرج عن مفهوم (توحيد الكلمة، على حساب كلمة التوحيد).
إنها مسألةٌ كبيرة, ومقالةٌ عظيمة أشغلت الفكر الإسلامي قروناً متطاولة, وشلَّت حركة التربية في أجيال المسلمين, وما زالت حاضرة في أذهان أتباع هذا المنهج التوفيقي وعقولهم.
المسألة الثانية فيما يؤخذ على ما دار في الحلقة:
هل كان السكوت على بيان الخلفية العقدية لـ (حزب الله) الإمامي الجعفري في أثناء حرب العدو الإسرائيلي على لبنان هو الموقف الشرعي؟ وهل التحليل العقدي لمثل هذا الحدث خطأ؟.
من الإلزامات التي لا تلزم قول البعض: إما أن يكون موقفك مؤيداً لحزب الله, أو مؤيداً لإسرائيل! والحق لا هذا ولا ذاك، إلا على نظرية بوش: "مَنْ لم يكن معنا, فهو ضدنا".(124/3)
الموقف الشرعي هو ما عبَّر عنه بعض العلماء الربانيين، ممَّن لهم مواقف مشهودة في بيان الحق في الملمَّات, كالشيخ ناصر العمر حفظه الله.
فعداوتنا الراسخة لليهود لا تمنع من بيان انحراف حزب الله الرافضي, وكشف مخطَّطه, وعلاقته بالمشروع الصَّفَوي بالمنطقة؛ إذ إن هذا من البيان الذي أخذه الله على أهل العلم, و"لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة", وهذه قاعدة مقررة عند أهل العلم.
والمتأمل في مواقف السلف - عبر تاريخ هذه الأمة - يجدها لا تجامل على حساب المنهج كائناً مَنْ كان.
وخذ مثلاً فتنة ابن الأشعث: حين خرج على الحجَّاج بن يوسف, الذي كانت مظالمه تملأ الأرض, وكانت الخوارج تثير الناس بذلك، وتتذرَّع به لنشر ضلالها, وكان العلماء والصالحون حَيارى بين فتنة الخوارج ومظالم الحجَّاج, وفي هذا الجو الحالك؛ أعلن ابن الأشعث تمرده على الحجاج, فتأثَّر بدعوته بعض العلماء, ووقف الحسن البصري العالم الرباني في هذه الفتنة موضحاً خطرها، ومحذراً من الخروج فيها, وتجنب سفك الدماء, كما هو منهج أهل السنة والجماعة, ولكن بعد أن أدبرت الفتنة، وتغلَّب الحجاج على ابن الأشعث, وقتل من قتل, وزاد جور الحجاج وظلمه، ندم مَنْ شارك في الخروج، وتمنَّوا لو سمعوا نصح الحسن وغيره من العلماء الربانيين.
وهناك فئةٌ ثالثةٌ من أرباب العلم استسلمت للواقع, وأحدثت الهزيمة لديها ردَّة فعلٍ نفسية؛ فهي لم تلزم منهج السلف - علماً وعملاً - في التعامل مع الحدث, ولم تره كافياً أمام غلواء الخوارج, حتى ابتدعت بدعةً شرٌّ من بدعة الخروج, وهي القول بالإرجاء.
إقصاء التحليل العقدي للأحداث, واستبعاده كلِّياً في بعض المواقف, لا يمكن تصوره، فضلاً عن الحديث عن وقوعه؛ لأن ارتباط الظاهر بالباطن حقيقة شرعية ونفسية.(124/4)
لكن من المهم أن يدرك المرء أن الحديث عن البُعْد العَقَدي للأحداث لا يستلزم نفيَ بقية الدوافع من اقتصادية وسياسية, لكن الذي ننكره على الدكتور: هو القول بتخلُّف الدافع العقدي بالمرة في بعض الأحداث.
لقد سجل القرآن أحداثاً عظيمةً عبر التاريخ, ونقل تفاصيلها, وبيَّن أبعادها المختلفة، والتي من أبرزها البُعْد العَقَدي, وتعقَّبها بالتوجيه المُجلي للدافع العقدي وراء الحدث.
وهذا نموذجٌ واحدٌ فقط من كتاب الله - تعالى - وهي قصة طالوت وجالوت:
قال الله – تعالى -: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلا قَلِيلا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ *}... إلى قوله: {فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ}[6].
لا يمكن أن يتجاهل الناظرُ في سياق هذا الحدث البُعْد العَقَدي, مع حضور أبعادٍ أخرى، كالمال, والمنصب، وغيرها.
أرأيتَ كيف أن العصمة للمنهج وحده, وليس للأشخاص, فمَنْ لزم المنهج عُصِم, ومَنْ تنصَّل منه قُصِم.(124/5)
وفي أحداث لبنان؛ لما انتشرت فتوى سماحة الشيخ عبد الله الجبرين في بعض المواقع عورضت بشدة من بعض العلماء، كالدكتور يوسف القرضاوي, حين ظهر على شاشة قناة الجزيرة, وأنكر الكلام في عقيدة الحزب الرافضية, وتساءل: كيف نقول ذلك وهم مسلمون يشهدون الشهادتين، ويصلون، و...؟!.
هذه أسبابٌ وشروطٌ إذا سلَّمنا بتحقُّقها في القوم, فهل انتفت الموانع؛ من تكفير الصحابة, والقول بعصمة الأئمة, إلى ما هنالك من الأمور الكفرية؟.
إن إهمال النظر في القواعد الشرعية المقرَّرة عند أهل العلم, كقاعدة: "الحكم لا يتم إلا باجتماع شروطه وأسبابه, وانتفاء موانعه", وعدم الاستنارة بها في فهم النصوص الشرعية, ثم بلورة المواقف بناءً على ذلك، هو من المزالق التي تورث مثل هذا التباين في أيام الفتن.
فكم جرَّ سكوت العلماء عن البيان في الفتن واختلاط الأمور من ويلات على الأمة, ومنها ما شهده الجميع من تقبُّل عوام الأمة لأكذوبة حزب الله, وتأثُّره بمنطلقاته الفكرية الباطلة، التي سرعان ما انكشف عوارها تحت أنهار الدماء السنِّية في بلاد الرافدين.
فأيُّ الفريقين أحق بالصواب؟ وأيُّ الموقفين أقرب لمنهج السلف والأصحاب؟.
ــــــــــــــــــــــــــ
[1] انظر: منهج الأشاعرة, للشيخ د. سفر الحوالي (ص23- 24).
[2] انظر: المصدر السابق.
[3] انظر: الانحراف العقدي في أدب الحداثة وفكرها, للشيخ د. سعيد الغامدي (2/961).
[4] المصدر السابق: (ص962).
[5] المصدر السابق: (ص 963).
[6] سورة البقرة: الآيات (246- 251).(124/6)
العنوان: أضواء على مقومات النظام الاقتصادي
رقم المقالة: 660
صاحب المقالة: محمد عيد العباسي
-----------------------------------------
الحمدلله وكفى، والصلاة والسلام على عباده الذين اصطفى، وعلى من تبع سبيلهم واقتفى، أما بعد:
فهذه نظرات سريعة إلى مقومات النظام الاقتصادي الإسلامي وخصائصه التي تميزه عن الأنظمة الاقتصادية الأخرى:-
1- أنه نظام رباني فذ فريد، مستقل عن الأنظمة الأخرى، فواضعه هو الله - تعالى - خالق العباد ومبدع الأشياء، والعالِم بما يصلح الإنسان على اختلاف الأماكن والأزمان، بينما الأنظمة الأخرى من صنع البشر، ومن أهم صفاتهم الجهل والنقص، والخطأ والتأثر بالأهواء.
ولذلك كان من الخطأ الكبير وصف نظام الإسلام بأنه اشتراكي، أو رأسمالي، أو غير ذلك، وإن كان يلتقي مع كل من الأنظمة السائدة في بعض الأمور، إلا أنه يختلف عن جميعها في أمور أخرى مهمة اختلافاً جذرياً.
2- تتجلى صفة الربانية في النظام الإسلامي باعتماده في أنظمته المختلفة على العقيدة الإسلامية التي تتمثل في الإيمان بالله - تبارك وتعالى - أنه الرب الخالق البارئ المالك الرازق المشرِّع والحاكم والمدبر للأمور كلها، وأنه - وحده - المعبود الذي توجه إليه - وحده - جميع أنواع العبادات والقربات والأعمال الصالحة، ويختص بالتعظيم والإجلال، والخوف والرجاء والحب والطاعة، والانقياد والاستسلام، كما أنه المتفرد بجمع صفات الكمال، التي لا يشركه فيها أحد من خلقه، التي أثبتها في كتابه وسنة نبيه – صلى الله عليه وسلم.(125/1)
ومما تتضمنه العقيدة الإسلامية أن الإنسان مخلوق مكرم، ومكلف مستخلف، وحر مختار، خلقه الله - تعالى - لعبادته، وقلَّبه في الظروف المختلفة؛ لاختباره، وكشف حقيقته، وأنه يراه ويراقبه، ويعلم ما يخفي وما يعلن، وأنه - سبحانه - سيحاسبه، يوم القيامة ويجازيه الجزاء العادل، وأنه لن يفيده في ذلك اليوم أحد ولا شيء إلا إيمانه وعمله، وأنه سيرجع إلى ربه وحيداً فريداً، مجرداً من ماله وأهله وأنصاره، وأنه سيكون في قبضة الله - جل وعلا - لا يستطيع الفرار أو الإفلات.
3- والمرجع الوحيد لهذا النظام هو التشريع الإسلامي المتمثل في الكتاب والسنة وما تفرع منهما كالإجماع والاجتهاد، وفهم السلف الصالح من أهل القرون الثلاثة الأولى وهديهم، والمصالح المرسلة وغيرها. فلا يُقبل أي قانون إذا خالف نصاً صحيحاً صريحاً من الكتاب والسنة. وأما ما اجتهد فيه العلماء ولم يخالف نصاً صريحاً، فيؤخذ بالاجتهاد الأقوى دليلاً، والأصلح نفعاً، والأيسر تطبيقاً، وما كان من ذلك في الأمور العامة فما يعتمده الإمام أو الخليفة أو السلطان فهو المُلزِم النافذ الواجب الطاعة.
4- ويتميز النظام الإسلامي بأنه في جوانبه المختلفة - ومنها الجانب الاقتصادي - يراعي المبادئ الأخلاقية، والقيم النبيلة، ويتقيد بها، ويلتزم بالحفاظ على الفطرة السليمة، وتُعنَى تشريعاته بالحفاظ على المقاصد الخمسة الكبرى في الحياة وهي: الدين، والحياة، والعقل، والعِرض، والمال.
وبهذا يكون ذا أصل رباني يختلف اختلافاً جذرياً عن الفلسفات والتشريعات والأفكار والأنظمة الأخرى، ويتجلى هذا فيما يلي:-(125/2)
1 - أن مفهوم الصلاح والنجاح في نظر الحياة الغربية تابع للمنفعة المادية، فقيمة الإنسان ما يملكه من المال. والعقلية الاقتصادية الغربية تفسر السلوك البشري على أنه نتيجة عملية حسابية دقيقة موجهة بحذر وعناية نحو النجاح الاقتصادي، وهذا النجاح يعرفونه بأنه تحويل الإنسان إلى مكاسب مالية، والحصول على الثروة سواء كانت في صورة نقود، أو في صورة مواد وسلع، وهذا هو الهدف الأسمى والغاية النهائية للحياة، وهو معيار النجاح الاقتصادي عندهم.
2 - الأخلاق عندهم تابعة لهذه الفلسفة، فالنجاح في كسب المال بما تبيحه القوانين عندهم، هو فضيلة في حد ذاته، كما أن العَلاقات الاجتماعية تابعة للمنفعة المادية، فإقامة عَلاقة مع صديق تُعَد جيدة ما دامت تحقق نفعاً مادياً للإنسان، والدقة في المواعيد والأمانة والصدق فضائل ما دامت مفيدة مادياً. والترف والإسراف والتبذير مباح لديهم، وكذا شرب الخمور وتعاطي الربا وتناول المخدِّرات مباح مادام ممارسها لا يضر غيره، كما أن الزنا والخيانة الزوجية، واتخاذ الخليلة والخل، والشذوذ الجنسي جائز ومسموح به مادام برضا الطرَف الآخر، وليس للحلال والحرام قيمة لديهم، ولا مراعاة في سلوكهم وتعاملهم.
والإنسان يتصرف في ماله كيف شاء فيستطيع أن يصرفه كما يشاء بشرط ألا يخالف القانون، فلا بأس أن يوصي أو يهب ماله كله لكلب أو هرة، ويَحرم منه أولاده وأقاربه وأرحامه. كما أن الصدقات والقرض الحسن والإنفاق في سبيل الله تعد خسارة ومخالفة للتصرف السليم المقبول لدى جمهورهم، كما أن صرف جزء من الوقت عندهم للصلوات والأذكار ولتلاوة القرآن، أو لرعاية الأهل والأولاد وتربيتهم، أو للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو للتفقه في الدين، أو لصلة الأرحام ولزيارة الإخوة في الله، كل هذا يعد عندهم مأثما وخسارة ودليلا على الحمق وضعف التفكير.(125/3)
بينما النجاح الحقيقي والفلاح الصحيح في حكم الإسلام يكون في تحقيق العبودية لله - تعالى - ومحبته والإيمان به وطاعته والحصول على رضاه، وهذا هو الذي ينجي الإنسان في الآخرة من عذاب النار، ويكون سبباً لدخول الجنة، إضافة إلى كونه سبباً للحصول على الاطمئنان في الدنيا والحياة الكريمة العزيزة السعيدة بقدر الإمكان، كما أنه يجعل المجتمع كله كريماً مطمئناً، سليماً عزيزاً سعيداً أكثر من أي مجتمع آخر في ظل أي نظام وضعي.
3 - والإسلام يقيم اعتباراً كبيراً لمبدأ الحلال والحرام، ويأمر المسلم أن يبذل بعض ماله في الزكاة، والصدقات والكفَّارات طمعاً في ثواب الآخرة، ويحذره من اكتساب المال ولو كان كثيراً عن طريق الربا بنوعيه الفضل والنسيئة (الفائدة)، والميسر (القمار) وبيع المواد المحرَّمة، والحلف الكاذب، والدعاية بما هو خلاف الحقيقة، والغش، وبيع النجس، وبيع الغرر، والكهانة، والسحر، والبغاء، وبيع التماثيل وأنواع الفنون التي لا تُراعَى فيها الضوابط الشرعية؛ إلى آخره.
4- يعتمد الإسلام في تطبيق نظامه الاقتصادي وغيره، وعدم مخالفته والخروج عليه على أمرين:
أولهما: تربية المسلم وتقوية ضميره، وخوفه من الله والدار الآخرة.
ثانيها: نظام العقوبات الشرعية الرادعة التي تنفذها الدولة؛ كما أشار إلى ذلك الخليفة الراشد عثمان - رضي الله عنه - فقال: "إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن".
نظرة الإسلام إلى المال والثروة والسلع:(125/4)
1- الأصل في المال والثروة في الإسلام أنه نعمة وخير، كما يفهم من قوله - تعالى - عن الإنسان: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ}؛ [العاديات: 8] والخير هنا المال، كما ورد عن السلف، ومثله قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((نعم المال الصالح للرجل الصالح))[1] وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده))[2]، وقوله- صلى الله عليه وسلم -: ((ما جاءك من هذا المال وأنت غير مستشرف له فخذه وتموَّله، وما لا فلا تُتْبعه نفسك))[3].
كما يدل على ذلك استعاذته - صلى الله عليه وسلم - من الفقر، فكان من دعائه قوله- صلى الله عليه وسلم -: ((اللهم إني أعوذ بك من الفقر والقلة والذلة، وأعوذ بك من أن أظلم أو أظلم))[4] وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى))[5].
وهذا لا يتعارض مع حثه - صلى الله عليه وسلم - على الزهد في الدنيا ومدح القناعة كما في قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس))[6] وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل))[7].
ذلك لأن الزهد إنما هو عدم تعلق قلب الإنسان بالمال، ومتاع الدنيا، وليس هو خلو اليد منهما، وقد عبَّر عن ذلك أحسن تعبير أحد الفقهاء فقال:
ما فَقْدُ مالٍ تَبْتَغِيه الزُّهْدُ لكِنْ فَراغُ القَلْبِ مِنْه الزُّهْدُ
هذا سُلَيْمانُ بنُ داوُدَ النَّبِي يُدْعَى مِنْ الزُّهّادِ مَعَ ما قَدْ حُبِي(125/5)
والمال هو قوام الحياة، والسبيل إلى تحقيق الإنسان عامة حاجاته، وقد قال الله – سبحانه -: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا}؛ [النساء: 5]. قال الحافظ ابن كثير - رحمه الله -: "ينهى - سبحانه وتعالى - عن تمكين السفهاء من التصرف في الأموال التي جعلها الله للناس قياماً، أي تقوم بها معايشهم من التجارات وغيرها، ومن هاهنا يؤخذ الحَجْرُ على السفهاء".
ولكن المال مع ذلك سلاح ذو حدين، فيمكن أن يكون خيراً عظيماً للإنسان إذا استخدمه في وجوه البر والخير، وكسبه من طريق حلال، كما يمكن أن يكون شراً كبيراً، إذا استخدمه الإنسان في المعاصي والآثام. ومن المؤسف جداً أن أكثر الناس يستعمله في المحرمات ويكسبه من طرق حرام، فيكون وبالاً عليه في الدنيا والآخرة.
وهذه النظرة للمال هي من أهم وجوه الاختلاف بين النظام الإسلامي والأنظمة الأخرى.
وبمثل هذه النظرة إلى المال ينظر الإسلام إلى السلع والبضائع، يعدها نعماً، ويسميها رزقاً وطيبات، وهذا يحمل معنى الحسن والنقاء والطهارة، والقيم الأخلاقية، وأما المواد الضارة كالخمر والخنزير والميتة وأمثالها فيسميها خبائث؛ يقول الله - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ}؛ [البقرة: 172] ويقول عن المؤمنين من أهل الكتاب: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ}؛ [الأعراف: 157].(125/6)
وكلمة الرزق تحمل معنى إيمانياً، إذ تُذكِّر أن الله هو المانح المعطي الرازق، فتذكر الإنسان بربه الذي أنعم عليه بهذه السلع؛ كي يشكر الله عليها، ويؤدي حق الله - تعالى - فيها.
ويعد الإسلام السلع ملكا للمجتمع، ويأمر الأغنياء، أن ينفقوا منها على الفقراء، ويذم من يمنعها عن غيره؛ قال الله - تعالى -: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ}؛ [يس: 47]. فهذا منطق الكفار، وأما حال المؤمنين فكما وصفهم الله - تعالى - في كتابه العزيز: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنّاً وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}؛ [البقرة: 262].
والتمتع بالسلع والطيبات محمود إذا كان لقصد العيش وَفْق شريعة الله - عز وجل - وهو - سبحانه - ينكر على من يحرمه فيقول: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}؛ [الأعراف: 32].
ولكن الإسلام يحرم الإسراف وهو: الإنفاق في الحلال بما يزيد عن الحاجة. والتبذير وهو: الإنفاق في الحرام، وفي الحلال على طريق السفه. ويأمر بالاعتدال؛ كما قال رب العزة - تبارك وتعالى -: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا}؛ [الإسراء: 29].(125/7)
وهذا فارق كبير بين نظام الإسلام، والأنظمة الأخرى، وخاصة النظام الرأسمالي حيث يبلغ الإسراف والتبذير فيها مداهماً، دون حساب ولا رقيب، ولا إنكار، ولا لوم، بينما الإسلام لا يكتفي باللوم والإنكار على المسرفين والمبذرين، بل يعاقب عليهما، ويحرم أصحابها من حرية التصرف في أموالها، ويحجر عليها، ويضعها في يد وصي ينفق عليها منها بالمعروف كما سبق في الآية التي مضت {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا}؛ [النساء: 5].
فلسفة الإنتاج والعمل في الإسلام:
6- ويعد الإسلام استخراج خيرات الكون، واستثمار ما فيه، وإحياء الأرض، والانتفاع بخيراتها هدفاً من أهدف خَلْقِ الإنسان، وواجباً دينياً عليه، وعبادة ينوي بها التقرب إلى الله - عز وجل - قال الله - تعالى -: {هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا}؛ [هود: 61]. وقوله: {وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا}. أي: وطلب منكم عمارتها، وسمي المستعمرون كذلك لأنهم ادَّعوا أنهم جاؤوا لعمارة البلاد التي احتلوها ولإصلاحها، وتهيئة أهلها لحكمها، وكذبوا، بل جاؤوا لنهب خيراتها، واستعباد وأهلها، فهم أجدر بأن يسَمَّوْا مستدمرين، وقال – سبحانه -: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً}؛ [لقمان: 25]. وقال: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً}؛ [البقرة: 29]. وقال: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك: 15].(125/8)
وهذه النصوص وأمثالها تعطي قيمة أخلاقية عالية للإنتاج والعمل، وتبين تحريم البطالة والكسل والفراغ، ولو كان من أجل زيادة التعبد، خلافاً لدعاوى المتصوفة المتأخرين، فتأمل قوله - تعالى -: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ}؛ [الجمعة: 10]. أي: إذا قضيتم صلاة الجمعة، واستمعتم إلى خطبتها، فاخرجوا من المساجد وتعاطَوا أعمالكم المختلفة ونشاطكم في الأرض لكسب الرزق. قال ابن كثير: "روي عن بعض السلف أنه قال: "من باع واشترى في يوم الجمعة بعد الصلاة بارك الله له سبعين مرة؛ لقول الله - تعالى -: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ}".(125/9)
وقد ندبنا الله - تعالى - إلى استخراج كلِّ كنوز الأرض، والاستفادة منها لتوفير السلع للناس، وتحسين مستواهم الدنيوي والمادي، وقد تعهد ربنا - سبحانه - أن يُوجِد في الأرض الخيرات والأقوات التي تكفي البشر، وتزيد عن حاجتهم مهما تزايدوا وكثروا، ودون دفعهم لتقليل النسل أو تنظيمه، خلافاً لنظرية الكاهن الإنكليزي (مالتوس) الذي ادَّعى أن عدد البشر في تزايد، وثروات الأرض في تناقص؛ لذلك على البشر تحديد نسلهم، وإلا حلَّت بهم المجاعات والأمراض والمصائب، وقد أثبت الواقع خطأ هذه النظرية، وصحة ما أخبر به الرب الكريم الرحيم حيث قال: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا}؛ [هود: 6]. والدابة: كل ما يدب على الأرض أو يمشي عليها، كما بين الله - جل وعلا - في قوله: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير}؛ [النور: 45]. ولا شك أن الإنسان ممن يمشي على رجلين، فهو دابة على هذا، وإن كان الناس اصطلحوا فيما بعد على استعمال كلمة الدابة للحيوان خاصة، كما يدل على ذلك قوله - عز وجل -: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} [فصلت: 9، 10]، وتأمل قوله - تعالى -: {وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا}. لتدرك أن الله - تعالى - وضع في الأرض الأقوات اللازمة الكافية للإنسان على مر القرون والأزمان، وبارك في هذه الأرض، وكثَّر فيها هذه الأقوات والخيرات.(125/10)
وقد يسأل البعض: ما دام الأمر كذلك فلماذا تحدث هذه المجاعات؟ ولماذا تعيش كثير من الشعوب في ضيق مادي وفقر شديد؟
والجواب أن هذه المشاكل الاقتصادية الكثيرة وهذا الضيق والفقر المدقع إنما هو نتيجة عوامل ثلاثة:
أولها: كسل كثير من الشعوب، وتأخرهم في الاستفادة من خيرات أرضهم، وجهلهم بالطرق الحديثة التي تساعد على كثرة الإنتاج وتيسره.
ثانيها: سوء التوزيع، وخاصة إذا تذكَّرنا ما حل في البلاد المحتلة، فقد نهبها المحتلون المجرمون الجشعون، واستغلوا أهلها، ولم يعطوهم إلا الفتات، وكدسوا الأموال الطائلة، ولم يَخْرجُوا حتى تركوا أكثرها خراباً يبابا. كما أن من سوء التوزيع تسلط من خلَفهم على الحكم من أبناء البلاد الفقيرة الأقوياء وغالبهم ممن كان يتعاون مع المحتل الأجنبي على ثروات البلاد، والاستئثار بها، وحرمان الأكثرية الشعبية من هذه الثروات، بقوة الحديد والنار، والتغطية على ذلك بالتأييد الأجنبي.(125/11)
ثالثها: هذه الحروب الطاحنة والنزاعات الدموية، والصراعات المحلية التي تستنزف الثروات، وتخرب البلاد، وتقضي على ما يسمى البنية التحتية فيها، وتقتل الآلاف المؤلفة، وتشرد الملايين، وتملأ الأرض فسادا ووراء هذه الحروب والمنازعات في الغالب يد المحتلين المجرمين تغزيها وتسعرها لتبقي تسلطها وتحكُّمها في هذه البلاد، وأكثرها بلدان إسلامية، ولتمنع قيام نهضة إسلامية، تمهد السبيل لإعادة الخلافة الإسلامية، التي تقيم للمسلمين كياناً قوياً واسعاً يحقق لهم العزة، والسيادة والمجد، وينقذهم من مخالب تلك الذئاب البشرية المسعورة، ولا أحد يجهل تلك الألغام المؤقتة التي تركها المحتلون في غالب البلاد التي خرجوا منها، ليرجعوا إليها من النافذة بعد أن خرجوا من الأبواب، ومن تلك الألغام منطقة كشمير بين الهند وباكستان، ومنطقة الصحراء الغربية بين الجزائر والمغرب، وغيرهما كثير وقد أصبح من البدهي المكشوف مكر أصحاب الشركات الكبرى للسلاح وغيره لإيقاد نار الحروب والفتن بغية تسويق منتجاتها، وزيادة أرباحها، وتكديس الأموال في جيوب أصحابها، دون أن يبالوا بمآسي الشعوب وقتل أبنائها وتيتيم أولادها وحرمان نسائها من رجالها وأبنائها، فالمال عند هؤلاء المجرمين أغلى وأسمى وأعز وأعلى من سلامة الناس وسعادتهم، وراحتهم وطمأنينتهم. ولا شك أن من المعروف أن هؤلاء الرأسماليين هم الذين يصنعون السياسيين ويقودونهم، وبدون أموالهم ومساعداتهم لا يستطيعون أن يصلوا إلى كراسي الحكم حسب أنظمة الديموقراطية الزائفة.(125/12)
وأنا حين أحمِّل الدول المحتلة سواء الاحتلال القديم أو الحديث، وسواء الاحتلال السياسي والعسكري أو الاحتلال الاقتصادي - لا أعفي أبناء البلاد الفقيرة وخاصة الحكام وأهل الحل والعقد فيها من المسؤولية، إذ لولا جهلهم وقلة وعيهم وسذاجتهم، من ناحية، وأطماعهم في الوصول إلى السلطة والاستئثار بالأموال الطائلة، وممالأة الدول الأجنبية من ناحية أخرى على حساب الوطن، لولا ذلك لما استطاع الأجنبي الغادر من تحقيق ما أراد.
7- حرية الملكية الفردية وصيانتها:
من أهم أسس الاقتصاد الإسلامي أنه صان الملكية الفردية وحماها عن أي اعتداء، هذا طبعاً إذا كان وصل إليها صاحبها عن طريق مشروع، وقد قرر الله - تعالى - ذلك في كتابه الكريم فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ}؛ [النساء: 29]. وقال: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}؛ [البقرة: 188]. وأكد ذلك النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - في أكبر تجمع حاشد جرى في حياته وهو حجة الوداع - فخطب في الناس تلك الخطبة التاريخية العظيمة، التي قرر فيها أهم مبادئ الإسلام وتشريعاته فقال بعد أن مهد لانتباه الناس بخطابات مثيرة: ((أي شهر هذا؟ وأي يوم هذا؟ وأي بلد هذا؟ أليس شهر ذي الحجة، ويوم عرفة، والبلد الحرام؟)) فأجابوا: نعم. فقال: ((فإن دمائكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا)). ثم في آخر خطبته أشهد الله أنه قد بلغ الناس ما أمر تبليغه إياهم[8].(125/13)
كما أكد - صلى الله عليه وسلم - ذلك مرة أخرى في مناسبة ثانية فقال: ((كل المسلم على المسلم حرام؛ دمه وماله وعرضه))[9]. وقال - صلى الله عليه وسلم - أيضاً: ((ولا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه))[10].
وبهذه التقريرات الجازمة الحازمة يعيش المرء في المجتمع الإسلامي آمناً مطمئناً على نفسه وعرضه وماله من أي اعتداء، فإذا حصل عليه أي اعتداء رغم ذلك فهناك القضاء ليعيد إليه حقه المسلوب كاملاً غير منقوص، ولا يستطيع أحد كائناً من كان حتى ولو كان رئيس الدولة نفسه أن يظلم أحداً شيئاً، أو أن يأخذ شيئاً منه أو ينال منه إلا بحقه، والشريعة هي الحامية لذلك، والدولة كلها مستخلفة لتنفيذ شرع الله - عز وجل.
وهذه مَيزة عظيمة لنظام الإسلام عن الأنظمة المستبدة، والأنظمة الاشتراكية والشيوعية التي لا يأمن أحد من الناس على الزوجة فضلاً عن أملاكه وعرضه.
ولا شك أنه في ظل هذا الأمن يعم الاستقرار والطمأنينة، فيخرج الناس أموالهم ويستثمرونها فتنشط الأحوال الاقتصادية وتكثر فرص العمل، وتعمر البلاد، وتزدهر الأوطان وينعم الناس.
8- إشراف الدولة على النشاط الاقتصادي:(125/14)
ومن وظيفة الدولة في الإسلام الإشراف على النشاط الاقتصادي؛ حتى لا يحدث أي خلل فيه، وخوفاً من أن يتدخل بعض المنتفعين والأغنياء وأصحاب الشركات الكبرى وغيرهم للتلاعب بالسوق، واحتكار البضائع، وإحداث الأزمات، والقيام بالغش والظلم والخداع، فالدولة حارسة للقوانين المأخوذ، من الشريعة الإسلامية بقوة السلطان، ولكن الإسلام يحرم على أصحاب السلطة وعلى الدولة نفسها ممارسة التجارة والزراعة والصناعة، فينافسون الناس، ويظلمونهم، ويستأثرون بالكسب والأرباح دونهم، متمتعين بصفتهم الرسمية، وهيبة الحكم، وإن ممارسة الدولة نفسها للتجارة والزراعة والصناعة يؤدي إلى ظلم كبير، إذ لو حدث أي خلل أو غش أو تلاعب فمن الذي يراقبه ويحاسب عليه؟! هذا فضلا عن الفشل والإخفاق الذي يحُل بكل ما تقوم به الدولة من هذه الأنشطة؛ لأن الذي يقوم عليها هم الموظفون، وبما أن هؤلاء لا يستفيدون شيئاً من هذه المشروعات لو نجحت، كما أنهم لن يخسروا شيئاً إذا خسرت، فيؤدي هذا إلى ضعف حماستهم وحرصهم على نجاحها وتقدمها، فلا يبذلون الجهد المطلوب، ولا يهتمون الاهتمام اللازم لنجاحها وتقويتها، وعلى هذا فسيكون مصيرها الانهيار والإفلاس كما حدث في كثير من البلدان التي تنهج النهج الاشتراكي، أو الشيوعي الذي تسيطر فيه الدولة على وسائل الإنتاج، أو تمتلك كل شيء وتؤمم المؤسسات والشركات والمصانع والمزارع، وما خبر ما حل بالمعسكر الشيوعي العالمي منا ببعيد.
وما يعرف بأملاك الدولة وهي في الحقيقة الأراضي التي ليست لأحد، فهي أملاك الله التي لم يتملكها أحد، يأمر الإسلام بالسماح لأي أحد بتملكها، إذا سبق إليها، بشرط أن يعمرها ويحييها خلال ثلاث سنوات، فإذا لم يحيها خلال هذه المدة نزعت منه، وردت إلى حالها الأولى، وذلك قطعاً لكل طريق يعطل الأراضي عن الاستثمار والإعمار وإفادة الناس.(125/15)
وفي هذا يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من أحيا أرضاً ميتة فهي له، وليس لعرق ظالم حق))[11] ويقول: ((من عمر أرضاً ليست لأحد فهو أحق بها))[12]. واختلفوا: هل يحتاج ذلك إلى إذن السلطان؟ فرأى الشافعي وصاحبا أبي حنيفة أنه لا حاجة إلى ذلك وذهب أبو حنيفة إلى وجوبه، ولعل الأول هو الأرجح لعدم ورود ذلك في الأحاديث، والله أعلم.
وكان الخليفة الراشد الثاني عمر - رضي الله عنه - يمهل من يحوط أرضاً ثلاث سنوات ليعمرها، فإن لم يفعل نزعها منه. وهذا هو الذي ينسجم مع الغرض الذي شرعه الله من وضع اليد على الأرض وتملكها، فهو أراد بذلك إحياءها، ولم يرد تعطيلها وحجزها عن الإفادة منها واستثمارها، ومن وظيفة الدولة المسلمة جمع الزكاة من الأغنياء، وتوزيعها على الفقراء، هذا في المواشي والمزروعات، وأما في النقود فقد ترك لصاحب المال إخراج زكاة ماله بنفسه، وفي هذا تحقيق المصلحة المثلى بإيصال المال إلى مستحقيه، فبعضهم يعرف مالك المال، وربما كان من أقاربه فهو يساعده بذلك، ويصل رحمه، وربما كان بعض الفقراء لا يعلمهم الناس، فتتولى الدولة إيصال الزكاة إليهم.
ثم إن علمت الدولة أحداً منع زكاة ماله عاقبته بأخذ الزكاة منه قسراً، وزيادة على ذلك تأخذ نصف ماله الذي وجبت فيه الزكاة؛ كي تمنع أي أحد أن تسول له نفسه هضم حق الفقراء.
وفي هذا يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من أعطاها مؤتجراً فله أجرها، ومن منعها فإنا أخذوها منه، وشطر ماله، عزمه من عزمات ربنا - عز وجل - ليس لآل محمد منها شيئ))[13].(125/16)
وللقيام بواجب إشراف الدولة أنشأ المسلمون وظيفة المحتسب الذي يرأس جهازاً خاصاً في الدولة يسمى الحسبة، وذلك في وقت مبكر وفي عهد الخلفاء الراشدين، يتولى العاملون فيه مراقبة المكاييل والموازين، ومنع الاحتكار لأقوات الناس، ومنع الغش، ومعاقبة المتلاعبين بالأسواق والأسعار، والذين يبيعون المواد المحرمة ويصنعونها وينتجونها، وغير ذلك من الشؤون والمخالفات، وطرق الكسب الحرام، وكل ما فيه إضرار بمصلحة الناس، وشؤون معاشهم وحياتهم.
9- يتبنى الإسلام مبدأ الحرية الاقتصادية:
ويمنع الدولة من التدخل لتحديد أسعار السلع، ويترك ذلك لحركة السوق الطبيعية بناء على قانون العرض والطلب، حرصاً على تحقيق العدالة، ومنعاً لظلم البائعين والمستهلكين؛ ذلك لأنه ليس من العدل إجبار البائع على بيع سلعته بسعر أقل مما يصل إليه التعامل الحر في السوق، فعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: غلى السعر على عهد - رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: يا رسول الله لو سعرت؟ فقال: ((إن الله هو الخالق القابض الباسط الرازق المسعر، وإني لأرجو أن ألقى الله، ولا يطلبني أحد بمظلمة ظلمتها إياه في دم ولا مال))[14].
هذا إذا كانت السوق تسير بوضع طبيعي تجري فيه المنافسة الحرة، ويتوفر فيه تكافؤ الفرص، وتشرف الدولة عليه، فتوفر الشروط الطبيعية، وتمنع الغش والاحتكار والتلاعب.
أما إذا وقع شيء من الاحتكار وتمالؤ التجار على رفع الأسعار، والتلاعب بالسوق، فحينئذ يجوز للدولة أن تتدخل، وتمنع الظلم، وتحدد الأسعار؛ دفعاً للظلم والاستغلال.
أقول: وبسب أن الموضوع قد طال، وبسطه يحتاج إلى كتاب فأكتفي بما سبق وأختم الموضوع بذكر بعض المبادئ الاقتصادية التي لم تذكر مجرد ذكر فأقول: من هذه المبادئ ما يلي:(125/17)
10- يسعى الإسلام لتداول المال بين جميع الناس، ويحارب حصر تداوله بين الأغنياء، فقد أرسى القرآن هذه القاعدة بقوله - تعالى -: {كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ}الحشر7 [الحشر:7]، كما يسعى الإسلام لتفتيت الثروة كلما انقضى جيل من البشر عن طريق نظام المواريث، ويساعد على التقريب بين الطبقات إضافة إلى ذلك بواسطة نظام الزكاة والصدقات والكفارات والأوقاف.
11- يفرض الإسلام العدالة في تشريع الضرائب، وبعيد النظر فيه كي لا يكون مجحفا بالطبقات الفقيرة، ويجعله متناسباً مع مقدار الثروة التي يملكها الإنسان، ولذلك يقلل ما أمكن من الضرائب غير المباشرة على السلع الضرورية أو يلغيها.
12- يحث الإسلام على ما يوجب تحقيق الاكتفاء الذاتي للبلاد وخاصة في الأقوات الضرورية للناس حتى لا يتحكم أجنبي فيها.
13- كما يوجب إقامة تعاون اقتصادي كامل مع الدول الإسلامية وإقامة السوق الإسلامية المشتركة، والاستغناء عن الدول الأجنبية ما أمكن.
14- يوجب الإسلام: تحقيق التوازن الاقتصادي مع القوى الاقتصادية الدولية الكبرى، بل وتحقيق التوازن العسكري أيضاً.
15- يوجب الإسلام الحصول على أرقى التقنيات العلمية واستخدامها الزيادة الإنتاج وتحقيق الازدهار الاقتصادي.
16- لا يمنع الإسلام من مشاركة المرأة في العمل المناسب لطبيعتها النفسية والعضوية، بشرط عدم الإخلال بواجبات بيتها؛ من رعاية الزوج والولد، وبشرط تجنب الخلوة والاختلاط بالرجال، والتقيد باللباس الشرعي.
والحمد لله أولاً وآخراً.
ـــــــــــــــــــــــــ
[1] رواه أحمد (4/197) عن عمرو بن العاص وسنده صحيح.
[2] رواه الترمذي والحاكم عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع - 1887".
[3] رواه بنحوه الشيخان وغيرهما عن عمر".
[4] رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه والحاكم عن أبي هريرة، وصححه الألباني في "الإرواء - 860".(125/18)
[5] رواه مسلم والترمذي وابن ماجه عن ابن مسعود.
[6] رواه ابن ماجه والطبراني والحاكم والبيهقي في الشعب عن سهل بن سعد، وصححه الألباني في "صحيح الجامع 922".
[7] رواه البخاري وغيره عن ابن عمر.
[8] رواه مطولا مسلم في صحيحه، وأورده الألباني في "حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - ص71 و 88.
[9] رواه مسلم (ص 1986).
[10] أورده الألباني في "الإرواء - 5/ 280/1459" وعزاه إلى أحمد (5/72) والطحاوي في (شرح المعاني - 2/340) و(المشكل 4/41) وابن حبان والبيهقي وغيرهم، وصححه.
[11] رواه أحمد وأبو داود والترمذي عن سعيد بن زيد، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (5976) ومعنى (ليس لعرق ظالم حق) أي أن من يغتصب أرض الآخرين فيغرس فيها أو يزرع، فلا حق له، وبقلع غراسه وزرعه".
[12] رواه البخاري عن عائشة.
[13] رواه أبو داود (الزكاة 5/1575) والنسائي (الزكاة 4/2442) والدارمي (الزكاة 36/1/333/1684) وأحمد (5/2و4) كلهم من عن معاوية بن حيدة القشيري، وحسنه الألباني في "صحيح السنن".
[14] رواه أحمد (3/156، و2/337و 373و 3/85 و 282) وأبو داود (البيوع 51/3451) والترمذي (بيوع 73) وابن ماجه (تجارات 27) والدارمي (البيوع 13) وصححه الألباني في "صحيح السنن".(125/19)
العنوان: أضواء على نظام الحكم في الإسلام
رقم المقالة: 814
صاحب المقالة: محمد عيد العباسي
-----------------------------------------
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه ومن اتبع هديه. أما بعد:
1- لابد للناس من حاكم وتشريع:
فمن المعلوم لدى الجميع أن الإنسان اجتاعي بطبعه، ويكاد يكون من المستحيل أن يعيش وحده، فإن له حاجات لا يمكن أن يقوم بها منفرداً، فهو لا يستطيع أن يكون نجاراً وحداداً وخبازاً، ومزارعاً، ومعمارياً، وطبيباً إلى آخره، في آن واحد، هذا إضافة إلى حاجته النفسية والعاطفية إلى الأُنس بالصاحب والرفيق، حتى قيل في المثل الشعبي: "الجنة من غير ناس لا تداس"، ولما خلق الله آدم وأسكنه الجنة شعر بالفراغ والوَحدة، واستوحش فاستلقى وألقى الله عليه النوم، وحينئذ أخذ الله - تعالى - ضِلَعاً من أضلاعه وخلق منها حواء، فلما أفاق آدم رآها أمامه ففرح واستأنس، وعاش مسروراً إلى أن حدث ما حدث.
واجتماع أناس في مجتمع يؤدي حتما إلى أن تنشأ بينهم عَلاقات ومعاملات، ومن ثَم نزاعات وخصومات، ذلك أن لهم إرادات مختلفة ومتعارضة، فكان من مقتضى ذلك أن يكون لهم تشريع ينظم هذه العَلاقات، ويحل تلك الخلافات، على قواعد الحق والعدل والخير، ويلتزم الجميع به.
ولما كان هذا التشريع لا يمكن أن يطبق إلا إذا قام عليه إنسان له قوة وسلطان، ومساعدون وأعوان، يسهرون على تنفيذه، وإلزام الناس به، فلذا كان من البدهي أن يكون لكلِّ مجتمع رئيس أو حاكم، يحقق الأمن، ويمنع الظلم، ويقضي على الفوضى، وينظم الأمور، ويحكم في الخصومات، ويعاقب المذنب، ويوفر الحاجات التي لا يستطيع الفرد توفيرها بنفسه، وخاصة في الحياة المعاصرة المعقدة، ويدافع عن البلاد ضد الأعداء والغزاة.(126/1)
والخلاصة أن كل مجتمع بشري لابد له من قوانين وتشريعات تنظم أحواله المختلفة، كما أنه لابد له من حاكم وسلطان ينفذ هذه التشريعات، ويدبر الأمور ويسوس الناس على هديها، وهذا الذي أدركه الشاعر الجاهلي القديم وعبَّر عنه بفطرته السليمة فقال:
لا يَصْلُحُ النّاسُ فَوْضَى لا سَراةَ[1] لَهُمْ وَلا سَراةَ إذا جُهّالُهُمْ سادُوا
وعبَّر علماء الاجتماع المعاصِرون كالمفكر الفرنسي جان جاك روسو عن وجود الحكومة بأنه: عقد اجتماعي قام بين الناس وحاكمهم، تعاقدوا فيه معه على أن يقوم بتدبير أمورهم وَفق طريقة معيَّنة، ونظام تعارفوا عليه، مقابل تنازلهم عن صلاحيات يعطُونها له من الطاعة والمال وحرية التصرف وَفق النظام الذي حددوه له، واتفقوا معه عليه.
2- التشريع الوحيد الصالح لكلِّ زمان ومكان هو التشريع الإسلامي المستند إلى العقيدة الإسلامية:
إنه لابد لأي تشريع حتى يتقبله الناس وينفذوه من أن يكون الذي وضعه لهم موضع ثقة عندهم واحترام وقدسية، فلابد أن يكون واسع العلم بحاجاتهم وواقعهم ونفوسهم، وأن يكون على قدر كبير من الكفاءة والكمال، والعدالة والنزاهة، غير منحاز لفريق منهم على فريق آخر.
وهذه الصفات لا تحقق ولا تتوفر إلا في التشريع الإسلامي، ذلك لأن واضعه ومشرعه هو الله - جل شأنه وتقدست أسماؤه - ولأنه - سبحانه - -:
أ- العالِم الذي ينتهي العلم كله إليه، والذي أحاط بكل شيء علماً، عالم الغيب والشهادة، علام الغيوب، العليم بما في الصدور، العالم بما كان وما يكون، وبالصغير من الأمور والجليل، هو خالق الأشياء جميعاً، وبارئ البشر كافة، بأجناسهم وأنواعهم وأصقاعهم، المطلع على سرائرهم وخفاياهم؛ {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}؛ [الملك: 14].(126/2)
ب - وهو - سبحانه - المنزه وحده عن الهوى، والميل لبعض خلقه دون بعض وعن المداهنة والمحاباة، فكل البشر عبادُه، هو خلقهم، ومن مادة واحدة أنشأهم، ولا تربطه بأي واحد منهم أو بأي طبقة أو جنس أو عِرق صِلة خاصة، أو قرابة معينة، أو رغبة أو رهبة، أو منفعة أو أي عَلاقة تدفع للخروج بالحكم عما يقتضيه الحق والعدل والصواب، فهو حين يشرع لهم تشريعاً فإنه يراعي فيه مصلحتهم جميعاً، ويراعي الحِكْمة العليا التي تتصف بها أفعاله كلها، ويعدل بينهم جميعاً دون تمييز أو تفريق بينهم.
والمصلحة التي يراعيها في سياسته مع عباده لا تنحصر في حدود الدنيا فقط، بل تشمل المصلحة الدنيوية والأخروية معاً، ولا شك أن المصلحة الأخروية أهم وأعظم، ولذلك فقد يرى الإنسانُ بنظره القاصر أن فيما شرعه الله تفويتاً لبعض منافعه ورغباته الدنيوية، ولكنه لو أمعن النظر لرأى أن ذلك خير له وأنفع بما لا يقاس ذلك أن الأمر كما قال – - سبحانه - -: {وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى}؛ [الأعلى: 17].
ومن أهم الأسباب التي تجعل التشريع الوضعي غير صالح، أن من يقوم بوضعه من البشر لا يمكن أن يخلو من الهوى، والميل لبعض الناس أو الطبقات أو الشرائح الاجتماعية، فتلك طبيعة البشر، مهما سمت منزلتهم، وعلت مكانتهم، فإن كان المشرع غنياً فإنه يراعي مصلحة الأغنياء، وإن كان فقيراً فإنه سيراعي في تشريعه مصلحة الفقراء، وإن كان عاملاً راعى مصلحة العمال، أو فلاحاً راعى مصلحة الفلاحين، أو عسكرياً راعى مصلحة العسكر، وإن كان رجلاً راعى مصلحة الرجال، وإن كانت امرأة راعت مصلحة النساء، وقُلْ مثل ذلك في الشعوب والأمم، فإن كان المشرِّع عربياً فإنه سيميل بتشريعه نحو مصلحة العرب، وهكذا إذا كان تركياً أو فارسياً أو كردياً إلى آخره.(126/3)
أما الله - سبحانه - فهو بريء من الهوى، والميل إلى بعضهم، وهو منزه عن الحيف على أحد منهم، لأنهم كلهم - كما سبق – عباده، ولا تربطه بأحد منهم أي رابطة.
وقد يظن بعض الناس أن للدين تأثيراً في ذلك، وأن الله يحابي المسلمين على حساب غيرهم، وينحاز في تشريعه إليهم. وهذا خطأ، فإن الله - عز وجل - هو الحق، ودينه الحق، والحق هو العدل، وهو القائل في كتابه الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}؛ [المائدة: 8]، فهو ينهى المؤمنين عن الظلم، والحيد عن الحق، ولو كان الذي عليه الحق كافراً أو عدواً، ويأمرهم بأن يحكموا بالعدل ويشهدوا بالحق دون أن يتأثروا في ذلك بأي عَلاقة ولو كانت عَلاقة الدين نفسه؛ يقول - سبحانه - في الحديث القدسي: ((يا عبادي إن حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً، فلا تظالموا))؛ رواه مسلم عن أبي ذر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ربه - تبارك وتعالى.
فالعدل هو شرع الله في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فواضح في نصوص الكتاب والسنة، كما هو واضح في تاريخ الإسلام حينما كان الإسلام الحاكم في حياة المسلمين، وأخبار العدالة المثالية في عهود السلف الصالح تعطر صفحات التاريخ، وقد اعترف بها العدو والصديق، وضربت بعدالة العمرَين: عمر الفاروق، وعمر بن عبد العزيز وأمثالهما الأمثال، وكان ذلك مما دفع الشعوب المختلِفة إلى الدخول في دين الله أفواجاً.
وأما العدالة في الآخرة فتتمثل في مجازاة كل إنسان بعمله {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ}؛ [الزلزلة: 7، 8].(126/4)
ويلاقي كل إنسان المصير الذي يستحقه فيدخل المؤمنون جنات النعيم، ويصلى الكافرون نار الجحيم، ويحاسب الجميع على أعمالهم، ولا يكون لأحد حجة عند الله، وهو - سبحانه - لا يظلم أحداً مثقال ذرة، بل إنه يقول له: {اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً }؛ [الإسراء: 14]، وأي عدل أسمى من أن يقال للمتهم الذي يحاكم: احكم أنت بنفسك على نفسك، فإنا راضون بذلك؟! وفي ختام: الحديث القدسي السابق يقول الله – تعالى -: ((يا عبادي إنما هي أعمالكم، أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسه)).
ولبيان الحق نقول: إن في الشريعة الإسلامية بعض الأحكام التي يتميز بها المسلمون على الكافرين في المعاملات الدنيوية، مثل منع غير المسلمين من تولي رئاسة الدولة الإسلامية، أو بعض الإدارات المهمة، ومثل عدم قتل المسلم بالكافر، وجعل دية الكافر على النصف من دية المسلم، ومثل تحريم زواج الكافر بالمسلمة، وغيرها مما هو مذكور في مَحَله، فهذه الأمور إنما هي استثناءات قليلة، ولها حِكَم وأسباب؛ منها: أن الدولة المسلمة وظيفتها تطبيق أحكام الإسلام ونشر عقيدته، وحمايته ودعوة الناس إليه، والجهاد في سبيله، فمن غير المقبول ولا المناسب أن يُعهَد إلى من لا يؤمن بالإسلام القيام بذلك. إن هذا ضد طباع الأشياء، ومناقض للنظر السليم.(126/5)
ومن الحِكَم الأخرى أن تولية غير المسلم المناصب الكبرى في الدولة المسلمة يؤدي إلى فتنة الناس عن دينهم، ذلك أن الناس مولعون بالتشبه كبرائهم ووجهائهم، وتقليدهم في أخلاقهم وأعمالهم ومظاهرهم، فإذا تولى غير المسلمين تلك المناصب فإن ذلك يؤدي إلى محبتهم والاقتداء بهم، وهذا مناقض للرسالة التي جاء بها الإسلام، إذ يَعُدُّ الأديان الأخرى باطلة، وإنما جاء الإسلام بالهدى والحق وحده. ومطلوب من المسلم أن يكون قدوة للناس وأسوة برشدهم ويهديهم إلى السبيل القويم، لا أن يكون ذيلاً لهم ومقلداً، ومن غير المقبول أن يكون المبصر السميع متبعاً للأعمى الأصم.
وللأحكام الاستثنائية الأخرى في معاملة غير المسلمين أسباب وجيهة، وحِكَم مهمة، ومصالح كبرى، ليس هذا مجال تفصيلها، وقد يعلم الإنسان بعضها ويجهل بعضها الآخر، ولكن علينا أن نؤمن بما قرره ربنا - سبحانه - وهو القائل: {وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}؛ [البقرة: 216].(126/6)
ج - وهو - سبحانه - الكامل المبرأ من كل نقص وعيب، والمعصوم من كل خطأ، فما حكَم به فهو الحق، وما قاله فهو الصدق، وما شرعه فهو العدل والخير والهدى، ولهذا فإن التشريع الإلهي المحفوظ من التغيير والتحريف والتبديل الذي أنزله على عبده ورسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - هو الكامل وحده، وما سواه إما تشريع إلهي أنزل على بعض الرسل السابقين ولكنه ضاع ولم يحفظ، ولم يسلم من التحريف والتبديل، فلا يوثق به، وإما تشريع بشري، واضعه مهما سما وعلا ففيه كل صفات البشر من الجهل والنقص والخطأ والهوى، فلا يصلح؛ والدليل على ذلك أنه ما إن يوضع تشريع ما: دستور أو قانون في بلد ما وفي زمن ما إلا ويجد الناس عند تطبيقه ثغرات وأخطاء ومفاسد، فيحاولون علاجه بتفسير غريب، أو تأويل متكلَّف، أو تعديل أشبه بالترقيع، وأحياناً كثيرة بالإلغاء والإبطال، ولو فرض أنه وجد صالحاً لمجتمع ما أو زمن ما، فإنه لا يكون صالحاً لكل المجتمعات ولكل الأزمنة، هذا مع العلم أنه لا يتوصل الناس إلى صلاح تشريع ما إذا توصلوا إلا بعد تجارب طويلة وتضحيات جسيمة، وأزمان مديدة، ويكلفهم ذلك من الجهود المضنية والشقاء الطويل، والحياة البائسة التعيسة ما لا يمكن وصفه ولا إدراكه، ولذلك كان أعظم نعم الله على العباد هذا القرآن العظيم وهذه السنة النبوية الشريفة اللذَين أخرج الله بهما الناس من الظلمات إلى النور، ووفر عليهم بهما كل ذلك الشقاء والتجارب والتضحيات.(126/7)
وما نقوله ليس كلاماً نظرياً وفرضيات خيالية، بل هو واقع ملموس وأمر مجرب، فهذا التاريخ يشهد أن المسلمين حينما آمنوا بهذا الدين العظيم وطبقوه واهتدوا بهداه، وتأدبوا بآدابه، كانوا خير أمة أخرجت للناس، وعاشوا سعداء، أعزاء سادة قادة منعمون في رضا من الله، وطمأنينة في النفس وراحة في الضمير، وبحبوحة في العيش، وأمن وسلام، هذا إضافة إلى ما ينتظرهم في الآخرة من النعيم المقيم، والسعادة العظمى، التي لا توصف في جنات الخلود.
وأما حين أعرضوا عن هدي الله وشرعه فإنهم كما نراهم اليوم في تعاسة وشقاء، وفرقة وشقاق، وتسلط من الأعداء، يستبيحون بلادهم، ويحتلون أوطانهم، وينتهكون أعراضهم، ويغتصبون ثرواتهم - وضعف وهوان، وتأخر وانحطاط، وفقر شديد للكثرة الكاثرة منهم، وغنى مطغى للقلة القليلة جداً منهم، وخلاف في الآراء، وصراع في الاتجاهات، وصدق الله القائل: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى}؛ [طه: 123-124].
والخلاصة أنهم لم يجنوا ولن يجنوا من الإعراض عن دين الله إلا شقاء ونكداً وتعاسة في الدنيا، وعذاباً أليماً مهيناً دائماً في الآخرة.
وأما غير المسلمين ممن يتخذ التشريع الوضعي، ويغتصب حق الله في التشريع، ويجعل نفسه إلهاً من دون الله، فحالهم أشد وأنكى، إنهم في حَيرة وضياع، ولا يزالون يجربون ويجربون، ويعانون من ذلك الوَيلات، ويجرُّون على أنفسهم وبلادهم ألوان العذاب والشقاء، وأصناف البؤس والأذى والأخطار.(126/8)
والأدلة والشواهد على ذلك تملأ صفحات التاريخ البعيد والقريب، فمن يجهل ما حصدته أُوروبا والعالم أجمع خلال ربع قرن من الزمان من حربين عالميتين، أتت على الأخضر واليابس، وأهلكت الملايين، بل عشرات الملايين من البشر، دمرت الحرث والنسل، والحيوان والنبات، والبنيان، ومختلف المنشآت التي صرفت فيها مليارات الدولارات، وكله من كد الشعوب المسكينة وعرقها ودمها، وما هو السبب؟ إنه تلك النظريات العرقية عن فضل بعض الشعوب وتفوقها على الشعوب الأخرى، وطمع بعضها في ثروات غيرها، وتنافسهم جميعاً على ما في البلاد الأخرى من الخيرات والمنافع والمطامع.
ومن لم يشهد تلكم الحربين الفظيعتين، فمن يجهل تَجرِبة الحكم الشيوعي في الاتحاد السوفيتي، ودول المعسكر التابع له، الذي يضم عشرات الدول، وما قاساه الناس الذين خضعوا له خلال القرن الماضي من التعذيب والشقاء والتشريد والخوف والقتل والسجن، والقمع، والحكم البوليسي الاستعبادي الرهيب، هذا إضافة إلى الفقر الشديد والحرمان القاسي من أنواع الرفاهيه التي كان يتمتع بها المعسكر الآخر والبلاد الأخرى، فضلاً عن حرمان الناس من الحرية الدينية، ومن إجبارهم على الإلحاد، وفرضه عليهم تعليماً وتثقيفاً ودعاية.
والسبب في ذلك كله نظريات ونظم وشرائع وضعية تبدت لبعض من يدعَون مفكرين، روَّجوها لدى العامة والغوغاء، وزخرفوها وزوقوها بمختلف المساحيق والزينات، وأججوا بها حرباً طبقية ضروساً، فأثاروا الأحقاد والأضغان، والإحن والعداوات بين أهل البلد الواحد؛ بين الفقراء والأغنياء، ثم بينهم وبين البلاد الأخرى بغية تصدير الثورة إليها، ونشر الشيعوعية فيها، وبذلت الجهود الهائلة والطاقات، وصرفت الأموال والثروات، خلال عشرات السنين لأجل الصناعة الحربية، والصراع على امتلاك أحدث الأسلحة وأفتكها، وكم أدى التسابق الحربي للسيطرة على الفضاء إلى خسائر وأضرار وويلات، ثم ماذا!(126/9)
لقد تبين لقادة النظام الشيوعي أنفسهم قبل غيرهم أن نظريتهم كانت خاطئة، وأن نظامهم كان فاسداً ومخالفاً للفطرة والعلم والواقع، فانقلبوا عليه، وهدموه بأنفسهم وبأيديهم، وذهبت تلك التضحيات والجهود والطاقات هباء منثوراً.
تنبيه:
وليس بياننا لفساد النظام الشيوعي تزكية للنظام الرأسمالي، أو أن معناه أن النظام الآخر صالح وجيد وأنه هو الحل المنشود، كلا فما قام النظام الشيوعي أصلاً إلا لعلاج الفساد الواقع في النظام الرأسمالي، فكان ردة فعل له، ولكنه كبقية ردود الأفعال ذهب بعيداً جداً في العلاج، فكان بقاء ذلك الفساد خيراً أو أخف شراً من ذلك البديل الذي جُعل له، ولله در الشاعر العبقري أحمد شوقي رحمه الله إذ قال مقارناً بين النظام الذي جاء به محمد بن عبدالله - صلى الله عليه وسلم - من لدن ربه، وبين النظام الاشتراكي أو الشيوعي الذي أريد أن يكون علاجاً للنظام الغربي الرأسمالي فقال مخاطباً النبي الأمين - صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله -:
الاشْتِراكِيُّونَ أَنْتَ إِمامُهُمْ لَوْلا دَعاوَي القَوْمِ والغُلَواءُ
داوَيْتَ مُتَّئِداً، وداوَوْا ظَفْرَةً وأَخَفُّ مِنْ بَعْضِ الدَّواءِ الدَّاءُ
ومن الغريب أن الشيخ تقي الدين النبهاني - رحمه الله - هاجم في بعض كتبه أو نشراته هذه الآبيات، وفهم منها أن الشاعر يمدح الاشتراكية وينسب النبي - صلى الله عليه وسلم - إليها، وأنه إمامها، وغفل - رحمه الله وعفا عنه - عن الغرض من وجود أداة (لولا) التي تفيد امتناع الجواب لوجود الفعل، كما غفل عن البيت الثاني الذي يبين فيه أن بقاء المرض أخف وأهون وأفضل من ذلك الدواء الذي جاءت به الاشتراكية، فأين في البيتين ما يعاب وما يؤاخذ عليه؟!(126/10)
د - وإضافة إلى ما سبق فإن الله - سبحانه – له وحده القدسية والهيبة والخوف والمحبة في نفوس كل البشر، وإن اختلفت تصوراتهم عن الإله وعن دينه، ما عدا قلة قليلة جداً من الملحدين الذين لا يؤمنون بإله، وهؤلاء لا وزن لهم فالحكم إنما هو للغالبية العظمى للبشر.
ولا شك أن التشريع الذي يراد تطبيقه على أي مجتمع يجب أن يكون محترماً ومقبولاً من الناس، ولا يكون كذلك إلا إذا كان واضعه محترماً عندهم وموضع ثقة وتعظيم، وإلا استهانوا به وسهل عليهم مخالفته والتحايل عليه، وخاصة إذا خالف أهواءهم ومصالحهم، وهذا في الحقيقة من أهم مشاكل المجتمعات البشرية، فقد توفق هذه المجتمعات إلى وضع قانون صالح لأمر من أمور الحياة، ولكنها تخفق في تطبيقه، ونفاجأ بالمخالفات الكثيرة له، ذلك أنها لا تستطيع أن تضع لكل فرد فيها شرطياً يراقب تصرفاته وأعماله، وما أكثر الحيل التي يخترعها البشر للفرار من العقوبة، والسبب في ذلك أنه ليس لهذه القوانين ولا لواضعيها قداسة عندهم، ومكانة واحترام تدفعهم لتنفيذها، أما التشريعات التي وضعها لله - سبحانه - فإنها لها المكانة العظمى والقدسية الكبرى، وكامل الثقة والاحترام مما يدفع الناس إلى تطبيقها، بوازع من داخل نفوسهم، سواء وجد الرقيب أم لم يوجد، وسواء هددوا بالعقاب إذا خالفوها أو لم يهددوا، نعم قد يوجد ناس يكون ذلك الوازع ضعيفاً في أنفسهم، ولكن الغالبية العظمى من الناس يخشون إذا خالفوها عقاب الله وانتقامه وهو القوي القادر الذي لا راد لأمره، والمطلع على أحوالهم مهما تخفَّوا ومهما استتروا، وهو شديد العقاب، ومالك الملك، له الأمر وله الحكم، لا إله إلا هو، وشتان بين قانون يضعه الله - عز وجل - وآخر يضعه بشر فيه من عيوب البشر ما فيه، ولذلك ترى الناس إذا أراد أحدهم أن يؤكد أمراً أقسم بالله - عز وجل - ليصدق الناس، وفي الخصومات تشترط دور القضاء والمحاكم حتى تأخذ بشهادة إنسان أن يقسم بالله على(126/11)
قوله، لأنهم يعلمون جلال الله في نفوسهم وعظمته، وأنه لا يتجرأ أحد أن يقسم به إذا كان كاذباً؛ خوفاً من بطشه وانتقامه في الدنيا والآخرة، وأما إذا أقسم بغيره فما أسهل أن يتجرأ على الكذب؛ لأنه يكون غالباً في مأمن من العقاب، ولذلك فلا يُعتَد بقسمه عند الناس وفي المحاكم وغيرها، ويؤكد ذلك في واقع الناس أنك إذا عاتبت إنساناً مثقفاً أو عامياً، على مخالفته بعض القوانين الوضعية أجابك: هل هو قرآن منزل حتى لا نخالفه؟! فهذا أكبر دليل على أن للقانون الإلهي مكانة كبرى في نفوس الناس، تدفع إلى تنفيذه وعدم مخالفته؛ لأنهم إن أمنوا أن تطَّلع أجهزة الدولة على فعلهم فإنهم يعلمون أن الله مطلع عليها، وأنهم سيقفون بين يديه في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون ولا جاه ولا سلطان، ولا شافع ولا نصير إلا الإيمان والعمل الصالح.
ويتبين مما سبق أن التشريع الإسلامي لا ينجح، ولا يؤتي ثمراته اليانعة ونتائجه الباهرة إلا إذا كان مصحوباً بالعقيدة الإسلامية، فهو مبني عليها، ومستند إليها، وصدق من قال: "خذوا الإسلام كله أو فدعوه". وقبل ذلك قول الله - عز وجل - في محكم التنزيل منكراً على من يؤمن ببعض الدين ويكفر ببعض: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة: 85]. ومثل ذلك: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً * أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً }؛ [النساء: 150، 151].
ملحوظة:(126/12)
نظراً لأن الموضوع واسع وله شعب كثيرة، ولا يمكن في هذه العجالة تفصيله وعرضه كما سبق، فإنني أكتفي بعرض رؤوس أقلام لأهم المسائل التي لم تعرض، أو عرضت عرضاً غير واف أو فيه ثغرات، فأقول:
3- المسلم ملزم منذ نطقه بالشهادتين، وإقراره بهما عند سن التكليف بكل ما ورد في الكتاب والسنة، فلا يجوز له أن يعمل عملاً مخالفاً لما أمر الله به، فإذا فعل ذلك وهو معترف بخطئه فهو مسلم، وأما من استحل المعصية وأنكر الأوامر أو الأخبار الثابتة في الوحيين أو أحدهما أو بعضاً منها وأقيمت عليه الحجة فإنه يخرج من دائرة الإسلام.
ولذلك فمن يقول بفصل الدين عن الدولة أو عن الحياة ومن يدعو إلى نظام أو عقيدة أو فكرة تخالف الإسلام فإنه يعد كافراً خارجاً عن الملة بشرط أن يبلغ ذلك، ويبين له وتقام عليه الحجة، فإن السياسة جزء من الإسلام، وكذلك الاقتصاد وبقية شؤون الحياة؛ قال الله – تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً}؛ [البقرة: 208]. والسلم هو الإسلام. وتوعد من يؤمن ببعض الدين ويكفر ببعضه {أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض}؛ [البقرة: 85]. وقال: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}؛ [الأنعام: 162]. وقال: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ}؛ [النحل: 89].
4- تسمى رئاسة الدولة الإسلامية الإمامة أو الخلافة، ومهمتها تدبير أمور المسلمين الدينية والدنيوية ورعايتها وتنفيذ حكم الله فيهم، وحمل الدعوة الإسلامية إلى العالم ونشرها وحمايتها، ونصرة المظلومين في كل مكان، وتنفيذ الحدود (العقوبات) وتوفير الأمن والعمل للناس، وتيسير التعليم الأساس لهم جميعاً، وتحصين الثغور وحماية البلاد من العدو، وتوليه الولاة الأكْفاء ومراقبتهم، والإشراف على أمور الأمة عامة.
5- لنظام الحكم الإسلامي أسس أهمها:(126/13)
1 - وجوب قيام الإمام بواجباته في رعاية مصالح الأمة وإقامة حكم الله والعدل فيها.
2- وجوب طاعة الأمة للإمام في كل شيء إلا في المعصية، لا سمع فيها ولا طاعة.
3- وجوب الشورى، فعلى الإمام أن يشاور الأمة متمثلة في أهل الحل والعقد والعلم والفقه ولا يستبد بالأمر دونها.
4- لا تنعقد الإمارة للإمام إلا إذا بايعته الأمة، وأهل الحل والعقد فيها.
6- النظام الإسلامي نظام خاص فريد متميز:
فلا يجوز أن يوصف (بالديكتاتوري) ولا الملكي ولا الديموقراطي ولا الديني ولا القومي ولا الوطني ولا الإنساني ولا الاشتراكي ولا الرأسمالي ولا الجمهوري إلى آخره.
لأن لهذه الأسماء معاني وظلالا خاصة في أذهان الناس، وقد يلتقي الإسلام مع بعضها في بعض الأمور ولكنه يختلف معها في أمور أخرى كثيرة.
7- وضع الإسلام الأصول والأسس لأنظمته المختلفة:
وقد ترك التفصيلات وتحديد الآليات والأساليب لأهل الاجتهاد في كل زمان، لأن هذه الأمور تتغير وتتطور، ولا يلزمنا الإسلام بطريقة أو آلية معينته. ويوضح ذلك أن طريقة اختيار الخليفة قد تنوعت في عهد الخلفاء الراشدين المهديين الذين أثنى عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فالخليفة الأول كانت طريقة اختياره بالانتخاب المباشر من أكثرية أهل الحل والعقد، بينما الخليفة الثاني تم اختياره بمشورة الخليفة للناس وترشيحه وموافقتهم عليه إمامهم القادم، وتم اختيار الخليفة الثالث بتعيين ستة مرشحين ينفقون فيما بينهم على أحدهم، وأما الخليفة الرابع فتم اختياره بلجوء الناس وأهل الحل والعقد إليه، وطلبهم منه تولي الأمر ومبايعتهم له، وهكذا، ويمكن للأمة أن تجتاز طريقا أخرى إذا رأتها مناسبة لظروفها وزمانها.
8-يدعي الشيعة والرافضة أن الله قد عين علياً وأحد عشر من ذريته أئمة للمسلمين وجعلهم معصومين في دينهم ودنياهم، وأمر بطاعتهم وعد من لم يقر بذلك كافراً، وهذه دعوى باطلة، عمدتها روايات ساقطة، لم يصح منها شيء.(126/14)
9-يشترط في الخليفة أن يكون ذكراً[2] عاقلاً حراً مكلفاً عالماً (أي مجتهداً) عدلاً حسن السيرة والأخلاق، حازماً قوي الشخصية، قرشياً، وإذا لم يتوفر أحد يتصف بهذه الشروط كلها يسامح في الشروط الأقل أهميته وتأثيراً على القيام بوظيفته، فيقدم العالم الصالح الشهم ذو الكفاءة على القرشي فاقد العلم أو الصلاح أو الكفاءة، وهكذا، وهذه الصفات تختلف أهميتها حسب الظروف والحاجة، فالحاجة وقت الحرب غير الحاجة وقت السلم وهكذا، ومن فقد أحد الشروط فعليه الاستعانة بأصحاب ذلك الشرط والأخذ برأيهم.
10-يجوز تحديد مدة ولاية الخليفة بعدد من السنين يتفق عليه، وأفضِّل أن يكون خمساً، كما يجوز إطلاقها حتى الوفاة، ويجوز تجديدها مرة أو مرتين.
11-طريق اختيار الخليفة يجوز أن يكون بالانتخاب المباشر من الأمة، ويجوز أن يكون بطريق الاختيار غير المباشر بواسطة نواب الأمة وممثليها.
12-يجوز للخليفة أن يستقيل من منصبه، كما يجوز أو يجب أن يقال أو يعزل بطريقة سلمية عن طريق أهل الحل والعقد إذا أخل بواجباته، كأن يرتد عن الإسلام، أو يغير شيئاً من قواعده وأصوله، أو يضيع أموره وشرائعه، كأن يبتدع بدعة كبيرة تخالف الوحيين والإجماع، أو يترك الحكم بالشريعة الإسلامية، ويحكم بغيرها من غير إكراه، أو يقوم بأعمال أو قوانين تفسد مصالح المسلمين ودنياهم وتضيعها، أو يصبح في حال لا يتمكن فيه من القيام بأعباء الخلافة كأن يصاب بالجنون أو يفقد بعض حواسه المهمة أو يصاب بمرض عضال.(126/15)
13-إذا لم يمكن عزله بطريقة سلمية في الحالات السابقة فهل يجوز أن يتوصل إلي ذلك بالقوة، والثورة عليه، في ذلك خلاف، فالجمهور على منع ذلك، ومن السلف من رأي جوازه إذا لم يؤد ذلك إلى ضرر أكبر من بقائه، ودليله خروج كثير من الصحابة والتابعين على أئمة الجور؛ كخروج الحسين بن على، وعبد الله بن الزبير، وزيد بن علي بن الحسين، وأهل المدينة، والقراء من أهل البصرة، وغيرهم على يزيد بن معاوية ومروان بن الحكم وعبد الملك بن مروان، وهشام بن عبد الملك، والحجاج بن يوسف وغيرهم.
14- لا يعد الخارج على إمام الجور الذي فحش ظلمه، وعظمت المفسدة منه، وتعطلت الحقوق بوجوده باغياً عند هؤلاء.
15- يجب طاعة الخليفة ولا يجوز الخروج عليه إذا كان عادلاً صالحاً أو إذا أتي بعض المعاصي والمظالم مادام يقوم بمقاصد الولاية ويحكم بالشرع، ومن خرج عليه فهو باغ يجب قتاله حتى يرجع أو تنكسر شوكته.
16- توهم بعضهم أن الإسلام أوجب السمع والطاعة للإمام وتحمل ظلمه، وحرم الخروج عليه إلا إذا أظهر الكفر البواح، أو ترك إقام الصلاة في المسلمين كما ورد في بعض الأحاديث، وهذا فهم سطحي ظاهري لها، والحق أن المراد من هذه الأحاديث أنه لا يجوز الخروج على الإمام بسبب أمور صغيرة وقليلة يعود ضررها على شخص الإمام أو عدد قليل من الناس، ما دام يقوم بوظائف الإمامة، ويحكم بالشرع، لأن الخروج عليه في هذه الأحوال يعرض حياة الناس إلى الفتن والاضطراب وعدم الاستقرار.
أما إذا ضيع المقصود من الإمامة كأن يغير الشرع، أو يفسد شؤون المسلمين، أو يعظم ظلمة وضرره على الرعية، فيجوز، وقد يجب الخروج عليه إذا لم يؤد ذلك إلى مفسدة أكبر، والأصل في ذلك كله إعمال القاعدة الشرعية باختيار أو تحمل أخف الضررين لدفع أكبر المفسدتين.(126/16)
وفي كل الأحوال يجب أداء النصح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومحاولة الإصلاح بالحسنى - قبل أي عمل، فذلك من أهم واجبات الدين، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((الدين النصيحة))[3].
17- إذا استولى رجل على الحكم بالقوة، وملك زمام الأمور فيجب طاعته إذا كان يقيم شرع الله ويرعى مصالح المسلمين، ويجوز تولية المفضول مع وجود الفاضل عند الضرورة كأن يتوقع حدوث فتن وأضرار إذا تولى الفاضل، وذلك من باب تحمل أخف الضررين أيضا.
18- لا يجوز نصب خليفتين للمسلمين جميعاً ما دام نصب واحد ممكنا، والخليفة الشرعي المطاع هو الذي بويع أولاً، ويجب انسحاب الثاني فإن أبى فيعزل، وإلا فيقتل، ويجب أن يكون للمسلمين في شتى أقطارهم خليفة واحد، وحكومة مركزية واحدة، ولكل قطر والٍ معين من قبل الخليفة، يتمتع بحكم شبه ذاتي فيه نوع من الاستقلالية تحدد تفصيلاتها ولكن يجوز تولية أمير أو أكثر في بعض الأحوال للضرورة، كأن يخلو الزمان من خليفة، فلا يجوز بقاء المسلمين من دون وال، فيختار المسلمون لهم أميراً في كل بلد يصل حكمه إليه، أو تتسع الخلافة الإسلامية ويكون قطر منها بعيداً جدا لا يصل سلطان الخليفة إليه فيعين أمير لهم ولا يكون خليفة.
19- يجب أن تقوم الدولة الإسلامية على مؤسَّسات وأجهزة تضمن عدم الانحراف والبغي، ووقوع الفساد؛ وأهم هذه المؤسسات، القضاء، والمجلس التشريعي، الذي يضم العلماء والفقهاء لمراقبة شرعية القوانين ومجلس الشورى الذي يضم أهل الحل والعقد من ممثلي الأمة، إضافة إلى المؤسسة التنفيذية، التي تتمثل في الحكومة والوزراء والولاة.
ويجب فصل هذه المؤسسات بعضها عن بعض، وتوفير الاستقلال لها، لسلامة قيامها بوظائفها وتوفير الحرية لها لمحاسبة السلطة التنفيذية ونقدها، ويرجع إلى السلطة القضائية في الخلافات التي تنشأ بين هذه المؤسَّسات.(126/17)
20 - يُسمح للشعب بإصدار الصحف ووسائل الإعلام المختلفة، وإنشاء الجمعيات، والنوادي، والمدارس، والأحزاب ضمن دائرة الإسلام، وبضوابطَ معينة مثل عدم التعصب لإنسان أو فئة، وألا يكون همها الوصول إلى الحكم بأي طريق، وأن تتأدب بآداب الإسلام من عدم تفرقة المسلمين، ونشر العداوات والخصومات بينهم، ويمنع ما يخالف الإسلام من ذلك كله.
21- لا يجوز أن يطلب أحد تولي الإمارة خلافة كانت أو ولاية، ولا يجاب إليها إذا وجد أكْفاء غيره لهذا المنصب؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنا والله لا نولي على هذا العمل أحداً سأله، ولا أحداً حرص عليه))؛ رواه بنحوه أحمد والشيخان (البخاري 8/107، ومسلم ص 1456، واللفظ له). أبو داود والنسائي عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - وأما إذا لم يوجد أكْفاء لها غيره فيجوز له، بل يجب أن يطلبها؛ لأن في تولية غير الكفء لها ضرراً كبيراً على المسلمين، وتفويتاً لكثير من مصالحهم، ويدل على ذلك ما فعله يوسف - عليه السلام - فقال للملك: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ}؛ [يوسف: 55]. وما فعله سيف الله خالد بن الوليد في سرية مؤتة، بعد استشهاد امرائها الثلاثة الذين ولاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رواه البخاري وبوب عليه بعنوان "من تأمر في الحرب بغير إمرة إذا خاف العدو".
ـــــــــــــــــــــ
[1] بفتح السين جمع سري وهو الشريف، والمراد الحكام والأمراء.
[2] لقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ((لن يفح قوم ولوا أمرهم امرأة)) رواه البخاري والترمذي والنسائي واللفظ للبخاري.
[3] رواه مسلم عن تميم بن أوس الداري.(126/18)
العنوان: أطفال الطلاق عالم من الآلام
رقم المقالة: 295
صاحب المقالة: محمد السيد
-----------------------------------------
إذا كان الطلاق في بعض الأحيان حلاً لخلافاتٍ زوجيةٍ لا يمكن علاجها إلا به، فهو في أحيان كثيرة فتنة ينبغي أن نستشعر أضرارها اللاحقة بضحايا لا ذنب لهم في هذه القضية وهم الأبناء الذين يمثلون رمز وحدة الأسرة ومستقبل نهضة الأمة.
في دراسة بعنوان (الحرمان العاطفي وعلاقته بالاضطرابات النفسية العضوية لدى أطفال الطلاق) أعدها الباحث "رضي الحمراني" أخصائي نفسي ودبلوم دراسات عليا في علم النفس الإكلينيكي أوضح سبق القرآن والسنة في التنبيه على خطورة هذه المعضلة الاجتماعية وتركيز القرآن الكريم في مواضعَ كثيرةٍ على السبب الرئيسي الذي أهلك الأمم والشعوب السابقة، ألا وهو الشقاق والفرقة، والحكمة في ذلك أن الله - عز وجل - أراد لأمة محمد - صلى الله عليه وسلم- أن تستخلص العبرة من هذه الآفة حتى لا تقع فيها، قال - سبحانه وتعالى-: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} (آل عمران: من الآية103)، لقد أمر رب العالمين في هذه الآية عباده المسلمين بالتزام الجماعة ومن مظاهرها الزواج، ونهاهم عن الفرقة ومن تجلياتها الطلاق.
إن موضوع هذه الدراسة، يتناول الاضطرابات النفسية العضوية التي تصيب أطفال الطلاق، كالاضطرابات الغذائية والجلدية واضطرابات النوم إلى غيرها من الأعراض الأخرى، سواء كانت مؤقتة أم مزمنة.(127/1)
ولقد اعتمدت هذه الدراسة على المنهج الإكلينيكي الذي ينبني على التحليل المعمق لشخصية الفرد، وذلك من خلال المقابلة النصف موجهة والملاحظة الإكلينيكية والاختبارات الإسقاطية ، أما فيما يخص عينة البحث، فتكونت من ثلاثة أطفال تتراوح أعمارهم ما بين سن السادسة والثالثة عشر، تمت دراسة حالاتهم خلال سنة كاملة، وبالموازاة مع الدراسة التشخيصية والتحليلية لمشكلاتهم النفسية، اعتمدت برنامجاً علاجياً، استخدمت من خلاله عدة وسائل علاجية كالتعبير عن المعاناة النفسية بوسائل شفوية كالحوار ورمزية كالرسم، وأشركت أُسَرَ الحالات في المشروع العلاجي، بالإضافة إلى التعاون مع فريق متعدد الاختصاصات من: مربين، أخصائيين اجتماعيين ونفسيين ومدرسين لتتبع تطور الأطفال خلال فترة الدراسة.
وتتناول هذه الدراسة نوعاً محدداً من أثر السلبية للحرمان العاطفي على أطفال الطلاق وهي الاضطرابات النفسية العضوية، ولا يَدَّعي البحث بذلك أن هذه الأعراض هي رد الفعل الوحيد لكل طفل يعاني من مشكلة الفراق بين والديه، بل تتنوع ردود أفعال الأطفال حسب طبيعة شخصياتهم، وتبعاً لنوعية الصراعات التي يعيشونها داخل محيطهم الأسري.
والسؤال الذي سعت الدراسة للإجابة عليه هو: كيف يولد الحرمان مثل هذه الاضطرابات لدى الطفل في حالة فراق والديه؟
وفي إطار الإجابة عرف الباحث الحرمان العاطفي بأنه : معاناة الإنسان الناتجة عن غياب الأسباب الضرورية لتلبية حاجاته ورغباته النفسية، والمقصود بالحرمان العاطفي في هذه الدراسة فقدان الطفل رعايةَ وحمايةَ والديه بعد الطلاق.
أما الاضطرابات النفسية العضوية فهي أعراض مرضية تلحق بعض أعضاء الجسم، وليس السببُ في نشأتها عضوياً، بل مصدره صراعات ومشكلات نفسية، فشل المصاب في التعبير عنها لغوياً، فلجأ إلى تفريغ هذه الانفعالات في شكل اضطرابات جسدية.
* دراسة حالة(127/2)
أ.م: طفل يبلغ من العمر ثلاثة عشر سنة انفصل والداه وهو ابن سنتين، والسبب في ذلك راجع إلى إهمال أبيه لمسؤولياته العائلية بعد أن طُرِدَ من عمله لإدمانه شرب الخمر.
بعد الطلاق استقرت الأم برفقة ابنها في منزل والديها واضطرت للعمل خارج البيت حتى توفر ضروريات الحياة، لكنها لم تتمكن من الاستمرار في رعاية طفلها لذلك تركته في بيت جَدَّيْه وعمره آنذاك عشر سنوات، لتتزوج برجل مسن يملك ثروة لا بأس بها.
بعد مرور سنة على زواج الأم، ظهرت على الطفل اضطرابات جلدية (Eczema) في عدة مناطق من جسمه ولم يتماثل هذا العَرَضُ المرضيُّ للشفاء على الرغم من خضوع الحالة للعلاج بالأدوية لمدة تجاوزت ستة أشهر وقد لاحظ المشرفون على تتبع الحالة أن فشل العلاج يعود إلى تلذذ الطفل بحك المناطق المصابة لكنهم لمسوا بعضَ التحسن على مستوى هذا الاضطراب خلال فترة المعالجة النفسية.
إضافةً إلى الأعراض السابقة؛ كان أ. م يتميز بشراهة مرضية عند تناول الأغذية وقد علَّق على هذا الاضطراب بقوله: (إن كثرةَ الأكلِ تملأُ بطني وتشعرني بالسعادة). بالموازاة مع هذا الاضطراب النفسي العضوي، لوحظ تشبث الطفل بممارسة بعض العادات التي تنتمي إلى المرحلة الرضيعية كمص الإصبع (إبهام يده اليمنى).
* تحليل الحالة
خلال السنتين الأوليين من عمره، عانى الطفل من حرمان مادي ومعنوي، ناتج عن إهمال الأب لمسؤولياته تجاه الزوجة والابن بسبب تعاطيه الخمر، وقد أدى هذا العامل إلى اهتزاز الاستقرار العائلي بشكل تدريجي، فقد أثَّر أولاً على التوازن النفسي للأم، ثم انتقل هذا الاضطراب من خلالها إلى الابن، وقد بيَّن علماء النفس في هذا الإطار أن الطفل في مرحلة الرضاعة لا يكتفي بالغذاء البيولوجي المتمثل في حليب أمه بل يتشرب أيضاً الإيماءاتِ الرقيقةَ والمشاعرَ الدافئةَ التي تبدو على وجهها وهي تداعبه أثناء الرضاعة.(127/3)
إن غياب هذا الغذاء النفسي هو ما أفسد على الحالة المدروسة شهية الأكل فالطفل يمتص الحليب من ثدي أمه ثم يتقيؤه لعدم شعوره بالعطف والحنان المصاحبان لعملية الإرضاع البيولوجي، وحرمانه العاطفي هذا ناجم عن التوتر النفسي الذي عانته الأم من جراء المشكلات التي عاشتها في علاقتها بالأب.
إن كثرة المشاعر السلبية التي تلقاها الطفل من أمه، جعلته لا يكتفي بتفريغ هذه الانفعالات عبر الاضطرابات الغذائية (التقيؤ) بل تجاوزها إلى تعابير نفسيةٍ عضويةٍ أخرى وهي اضطرابات النوم مما يدل على أنه كان يشعر بالفقدان التام للطمأنينة والسكينة النفسية في ظل أجواء أسرية ملبدة بغيوم المشكلات الزوجية.
بعد انفصال الوالدين عانى الطفل نوعاً آخر من الحرمان لمدة ثمان سنوات وهو افتقاده لأمه بسبب غيابها عن البيت وتركيزها على كسب لقمة العيش وهذا ما يفسر لماذا كان أ. م يتناول الأغذية بشراهة غير عادية، فحسب الدراسات النفسية المنجزة حول موضوع الاضطرابات الغذائية تبين أن الطفل يملأ بطنه بالأكل ليعوض الشعور المؤلم بالفراغ العاطفي الذي يعانيه، وهذا ما يوضح العلةَ في الاختيار اللاشعوري للاضطرابات الغذائية كوسيلة للتعبير عن توتراته النفسية لارتباطها بالفم وهو مصدر إشباع الحاجات البيولوجية بامتياز في مرحلة طفولته الأولى التي ذاق فيها أقصى مظاهر الحرمان وهو رضيع.
يتجلى مما سبق أيضاً السرُّ في عدم تخلص الطفل من عادة مص الإصبع على الرغم من بلوغه سن الثالثة عشر لأن تعاقب مظاهر الحرمان التي عاشها دون أن يفهمها أدى إلى تراكم هذه التجارِب المؤلمة لتشكل حواجز نفسية منعته تحقيقَ نموه النفسي بالموازاة مع نموه الجسمي لذلك كان أكثرَ قرباً من التعبير بلغة جسدية سطحية وأكثرَ بعداً عن تفريغ انفعالاته في قالب لغوي منطوق يساعده على فهم معاناته وبالتالي تجاوزها.(127/4)
إضافة إلى كل هذا فقد تعمق شعور الطفل بالحرمان العاطفي لاضطراب صلته بأمه بعد زواجها الثاني مما أثر فيه في شكل أعراض جلدية (Eczema) لقد أكد الخبراء في مجال العلاقة الثنائية بين الطفل وأمه، أن الرعاية النفسية الأمومية تكسب الطفل قوة نفسية تعزز مناعته الجسمية ضد الأمراض العضوية لكن الطفلَ موضوعَ الدراسةِ - نظراً لضعف تنشئته الاجتماعية التي تلقاها - اختل توازنه النفسي فصارت مناعته الجسمية عموماً والجلدية خصوصاً هشةً ومعرضةً للإصابة بالاضطرابات النفسية العضوية.
* نتائج البرنامج العلاجي
في المشروع العلاجي لحالة أ.م، تم التركيز على ثلاثة أهداف رئيسية:
أولا: تدريب الطفل على استعمال وسائل تعبيرية سوية عن معاناته النفسية كالتعبير الشفوي (الحوار) والتعبير الرمزي (الرسم)، حتى يتخلصَ تدريجياً من التعابير المرضية التي تعوَّد عليها.
ثانيا: تنظيم زيارات تجمع الأم بطفلها لإذابة التوتر الذي خيم على العلاقة بينهما منذ زواجها الثاني.
ثالثا: محاولة إدماج الطفل في بيت زوج أمه، بعد إقناع الأخير بالظروف النفسية التي مرت بها الحالة المدروسة ليساهم بدوره كبديل للأب في إنجاح البرنامج العلاجي.
إن هذه المجهودات العلاجية، لم تؤد إلى شفاء الطفلِ من الاضطرابات النفسية العضوية التي يعاني منها لكنها مكنت على الأقل من التخفيف من حدتها.
* وصايا
- على المتزوجين والشباب المقبل على الزواج الرفع من رصيد ثقافتهم الدينية والنفسية المرتبطة بشؤون الأسرة .
- ينبغي على المؤسسات المهتمة بالشأن التربوي في مجتمعاتنا الإسلامية عقد دورات تكوينية للشباب لا تكتفي فيها ببيان الشروط الشرعية والنفسية الضرورية لنجاح مشروع بناء الأسرة المسلمة، بل تعرض إضافة إلى ذلك تجارِب واقعية سواء الناجحة منها والفاشلة على وجه الخصوص وتطرحها للنقاش لأن التجرِبة الصحيحة تتحقق بالاستفادة من التجارِب الخاطئة.(127/5)
- تنظيم حملات إعلامية لتوعية الشباب غير المتزوج بأهمية التأهيل للزواج وإشعار المتزوجين بضرورة التكوين المستمر لضمان استمرارية وحدة الأسرة.
- إنشاء مراكز نفسية واجتماعية متخصصة في علاج المشكلات الأسرية.
- اجتهاد الأخصائيين النفسيين والاجتماعيين في نشر ثقافة نفسية أصيلة داخل المجتمع تهدف إلى تقوية وحدة الأسرة.
- إحداث وحدات للبحث خاصة بالأسرة في الجامعات.(127/6)
العنوان: أطفال غزة يموتون، فأين أنتم؟؟؟!!!
رقم المقالة: 2012
صاحب المقالة: زياد مشهور مبسلط
-----------------------------------------
أعلنت وحدة الإعلام التابعة للّجنة الشعبية لمواجهة الحصار عن وفاة أحد المواطنين الفلسطينيين في قطاع غزة بسبب منعه من السفر لتلقي العلاج بالخارج، وبهذا يرتفع عددُ ضحايا حصار قطاع غزة إلى 83 شخصًا؛ علمًا بأن مئات المرضى في قطاع غزة يعانون أمراضًا خطيرة من جرَّاء عدم تلقيهم العلاج، بسبب عدم توفر الأدوية والإمكانات الطبية في القطاع الذي يعاني حصارًا شديدًا وخاصة الأطفال.
كما أن الموت الجماعي الفجائي يهدد ما يزيد عن مائة مريض، بينهم أطفال حديثو الولادة في قسم الخدج، وأن خمسة عشر مريضاً في العناية المشددة، واثني عشر آخرين في عناية القلب، وثلاثين طفلاً حديث الولادة معرضون للوفاة حال انقطاع الكهرباء. وإن حاضنات الأطفال هي الأكثر تضرراً من انعدام الوقود اللازم لتشغيل المولدات حال انقطاع الكهرباء، ناهيك عن النقص الكبير في أصناف الأدوية والمستلزمات الطبية الخاصة بالأطفال.
وأكد باحثون ومختصون أن الأطفال في غزة يعانون سوء التغذية بسبب الحصار المفروض على الشعب الفلسطيني، والانتهاكات الإسرائيلية التي تركت أثارًا سلبية في مختلف مناحي حياتهم.
وقال الدكتور رأفت حسونة (مندوب عن اليونيسيف) بناءً على البحوث التي قدمتها منظمة اليونيسيف ومنظمة الصحة العالمية: هناك أربعة عناصر أساسية، وهي بين طلبة المدارس في قطاع غزة موجودة، وبالضفة ولكن بنسبة أقل، على رأسها نقص في "الحديد" ونقص "فيتامين A" ونقص "فيتامين D" و"مادة الأيوداي" هذه العناصر الأكثر انتشارًا.
وأضاف أن نقص كمية الحديد تسبب ما يسمى بفقر الدم، وأن 64% من الأطفال مصابون بهذا المرض, كما قال إن نسبة نقص فيتامين A عند الأطفال هناك 22% ونسبة نقص مادة اليود 15 % من طلبة المدارس.(128/1)
وبين أن انعكاس نقص هذه المواد على الطلبة من الناحية الصحية يظهر في عدم مقدرة الطلبة على التعلم، وضعف قدرتهم على التحدث، وتأثر السمع أيضًا، وضعف المناعة عند طلبة المدارس, وزيادة تعرضهم للأمراض، وينعكس على حضورهم ومشاركتهم والتغيب المتكرر عن المدرسة. فقر الدم الناجم عن نقص الحديد يؤدي إلى نقص عملية النمو عند الأطفال والأداء في المدرسة يكون ضعيفًا, أيضا قصر القامة وتأثيرها على التركيز والأداء مع الأسف موجود عندنا بنسبة كبيرة وصلت إلى 14% في غزة، أما بالضفة فالنسبة 9% في طلبة المدارس، من النتائج السلبية الناجمة عنه ضعف الإدراك والذكاء.
وهكذا وعلى ضوء ما ذكر أعلاه فإنني أناشدُ الجهات الرسمية والمؤسسات الإنسانية والحقوقية والطبية العربية والدولية كافة، والوسط الثقافي والإعلامي العربي والدولي أن يؤدوا عملهم، وأن يتحملوا مسئولياتهم الإنسانية أمام هذه المأساة والمعاناة الإنسانية المستمرة، وأقترح أن تقوم هذه الجهات والمؤسسات المعنية بالتنسيق والعمل الجاد على إدخال الأدوية واللوازم الطبية إلى القطاع، إضافة إلى بذل قصارى جهدها في المساعدة في سفر الحالات المرضية العاجلة وخاصة الأطفال لتلقي العلاج والعمليات الجراحية في الخارج.
وللاطلاع على النتائج والأضرار التي تلحق بأهالي قطاع غزة يمكنكم الاطلاعُ على موقع اللجنة الشعبية لمواجهة الحاصر، وتقديم اقتراحاتكم ومرئياتكم وملاحظاتكم الكفيلة بأن تساعد بالدعم والمساندة في مواجهة الحصار الظالم التي تمارسه سلطات الاحتلال.
موقع اللجنة الشعبية لمواجهة الحصار على الرابط التالي: http://www.freegaza.ps/index.php.
مع شكري الجزيل لاطلاعكم وتفاعلكم.(128/2)
العنوان: أطفالك أو أطفالهم.. كيف تتصرفين معهم؟
رقم المقالة: 842
صاحب المقالة: سحر فؤاد أحمد
-----------------------------------------
ماذا تفعلي إذا أبدت صديقتك أو قريبتك امتعاضها من تعنيفك أو انتقادك لطفلها واعتبرت ذلك تدخلاً منك في أسلوب تربيتها له؟
ماذا تفعلي للمحافظة على جو هادئ ومسالم مع الأمهات الأخريات ؟
لأجل ذلك اقرئي السطور التالية..
عندما يكون أطفالك اجتماعيين يجمعون بين الظرف وخفة الظل، سيراودك شعور بالغبطة والسرور وهم حولك هنا أوهناك معظم الوقت، ولكن حينما يأتي إليهم أحد أصدقائهم أو بعض جيرانهم ليقضوا بعض الوقت سوياً فماذا تكون النتيجة؟ فوضى، وضجيج، واتساخ، وأصوات كالمواء، ونوبات من الحدة والصراخ، وأحياناً أضرار جسمانية بالغة.
وقد لا تقف المشكلة عند هذا الحد، فالصعوبة الأخرى التي تعانيها هي تلك الحيرة التي تصيبك عندما يقوم طفلك وأصدقائه بإفساد كل ما رتبته من غرف المنزل، أو راحوا ينغصون عليك الحفلة التي تقيمينها، أو يوم إجازتك، أو نزهتك، أو حياتك كلها ليجعلوها في غاية البؤس.
وتعود المشكلة في جوهرها إلى أن هؤلاء الأطفال المزعجين أو "الوحوش المصغرة "إنما هم أولاد لآباء وأمهات آخرين لهم أفكارهم ونظراتهم الخاصة، ولهم الحق كذلك في أن يربوا أولادهم على الطريقة التي يريدون، وفوق هذا كله كيف يمكن لأحد منهم أن يتقبل بطيب نفس أي انتقاد يوجه إلى أطفاله؟
خذي مثلاً هذا الحادث الذي كاد يدمر الإجازة السنوية في العام الماضي لإحدى صديقاتي – نورة - حيث تقول: "كنا في فيلا فاخرة وكان أشقاء زوجي في فيلتين مجاورتين، وعندما يجتمع أطفال الأسر الثلاثة في فلتنا تتحول إلى ناد رياضي، إذ يصل عددهم أكثر من عشرة، وكان في الفيلا حوض للسباحة خاص بها إلا أن حمد - 4 سنوات - كان يتعمد أن يبول فيه بوقاحة حيث يقف على حافته ويفعل ذلك لمجرد أن يرى إلى أي مدى يمكن أن تصل بولته".(129/1)
لقد بدا والدا "حمد" وكأنهما قد قررا أن يهملا ما يفعله ابنهما، وقلت في نفسي عندئذ: لعل عندهما وجهة نظر أن طفلهما إنما يفعل ذلك لمجرد لفت الأنظار إليه ومن ثم فمن الممكن أن يتوقف إذا لم يعطه أحد أي انتباه، ولكن على كل حال كنت أظن أن ما يفعله يبدو لهما كريهاً ومقززاً.
وعندما أمسكت به نورة وهو يفعلها ثانية فاض بها الكيل، وأسمعته كلمات تأنيب جهاراً نهاراً أمام والديه، ولكن بعدها لاحظت أن أمه كانت تنظر إلى ما حدث بوجه عابس جامد حتى شعرت نورة بالإحراج وصعوبة التعامل معها.
تقول نورة: إنني لست من النوع الذي يحب المشاكل أو يبحث عنها ولذلك حاولت أن أخرج من هذا الموقف بأسهل الطرق فقلت معتذرة: لقد انفعلت بسبب شدة قلقي على حمد أن تتأثر صحته من جراء هذا، ولكن كان ينبغي أن أكل لك الأمر فيما تفعلينه مع ابنك، وعلى الرغم من هذا فلم تعد العلاقة بيننا إلى طبيعتها إلا بعد مرور يومين كاملين، ولكن كان يكفيني سروراً أن حمد لم يعد إلى التبول في حوض السباحة بعدها قط.
متى تتصرفين..؟
ما الصواب وما الخطأ في مثل هذه المواقف؟ يجب أن تتذكري أن الوالدين يجب أن يأخذا في اعتبارهما متطلبات وراحة كل شخص حولهما بمجرد خروجهما من المنزل، ويشمل هذا أن يزجرا أي تصرف سيئ من ابنهما، كإلقاء الطعام على المنضدة، أو أي صورة من صور العنف تجاه أي شخص آخر وخاصة الأطفال الأصغر سناً.(129/2)
ولكن الأخذ بهذا الاعتبار قد يكون سلاحاً ذا حدين، فهو يؤدي عند كل شخص يؤمن بهذا إلى الشعور بالضيق عندما يرى غيره من الآباء أو الأمهات يعتبرون أن تجهمك في وجه طفلهما أو إشارتك له بسبابتك أو توبيخك له، إهانةً وانتقاداً لهم، وقد يصل الأمر إلى أن تفقدي بعض الصديقات والقريبات بالفعل، ولذلك فإن الأفضل لك أن تفكري جيداً قبل أن تتدخلي في أي تصرف أكثر من التأفف المنخفض، فلا تحاولي أن تفعلي شيئاً في أثناء غيظك دون فكر وتروي. فاسألي نفسك عند حدوث مثل هذا الموقف:-
• هل ما يفعله الطفل المشاكس الذي يزوركم أو تزورون أسرته من الممكن أن يحدث خطورة فورية على طفلك؟ فلا يمكن– مثلاً– أن ينصحك أحد أن تترددي عن التدخل- ولو للحظة واحدة- إذا جاء ابن أخيك بعود ثقاب أو علبة دواء ووضعها في يد طفلك الصغير، ولكن الطفل الذي يبلغ عمره أربع سنوات حين يخطف دمية من ابنك الذي في سن قريب منه فإنه ليس محفوفاً بالخطر على حياة طفلك أو على أي طرف من جسده.
• هل هذه أول إساءة من هذا الطفل على الإطلاق؟ إن حدوث مرات قليلة ومتفرقة من خطف الدمية من يد طفلك قد يكون من الأفضل التغاضي عنها مع محاولة أن تصرفي ذهن طفلك الذي يبكي إلى لعبة أخرى.
• هل من الممكن تفهم سلوك ذاك الطفل مع الأخذ في الاعتبار عمره والظروف المحيطة به؟
• هل تستطيعين إحباط هذا الموقف قبل أن ينفجر بأن تخلعي نفسك أو طفلك منه؟ أحياناً قد تزداد حدة السلوك السيئ للطفل بسبب وجود أطفال آخرين إما بوصفهم متفرجين أو بوصفهم طرفاً في النزاع معه، فإذا اشتدت شقاوة ذلك الطفل فالأفضل أن تَخرُجي أنت أو تُخرِجي طفلك من المكان لمدة قليلة، فهذا نفسه يحفز والدة هذا الطفل أن تفعل شيئاً.
التغلب على الإحراج؟(129/3)
تتساءل كثير من الأمهات اللاتي يخجلن من تصرفات أطفالهن أمام الناس تقول إحدى صديقاتي: هل أترك أي تجمع يحوي أطفالاً؟ لقد سئمت من همهمة الأمهات الأخريات وهن يستنكرن ما يفعله أولادي.
وليس هنا إجابة سهلة على تساؤلات هؤلاء الأمهات ولكن مما لا شك فيه أن الانعزال عن جميع الناس لا يمكن أن يساعدك، فالأطفال يحتاجون إلى تعلم الكثير عن طريق المشاركة والمجالسة وكيف يكونون جزءاً من مجموعة. ويعد أخذ الطفل بانتظام إلى المنتزهات- حيث حضور غيره من الأطفال- من الوسائل المفيدة في هذا الشأن، ولكن لكي تتغلبي على عامل الإحراج الذي قد يسببه لك طفلك فعليك باتباع الآتي:
1 - أخبري الآخرين بمدى ما تشعرين به من استياء، واطلبي منهم المساندة والعون.
2 - بيني لطفلك أنك ستنصرفين من المكان الذي يفعل به أي سلوك شائن بمجرد وقوعه، حتى يعلم الطفل أنه لا يسمح له أن يلعب بهذه الطريقة.
3 - اطلبي من قريباتك وصديقاتك أن يخبروك إذا ضبطوا طفلك وهو يفعل شيئاً لا ينبغي فعله.
حين تطلبين من الآخرين النصح والعون وتضعينهم في دائرة من تسألينه المساندة فإن ذلك – بالإضافة إلى تقديمهم العون بالفعل – يجعلهم في صفك، ومن ثم يصيرون أكثر استيعاباً لمشكلتك، وقد تجدين من الأمهات من تساهم ببعض التوجيهات والمساندة المعنوية – وبمجرد أن يشعر الناس أنك تعيشين مشكلة طفلك فسوف يكونون أقل انتقاداً بلا شك.
كيف تهدئين الموقف؟
من المفيد أيضاً أن تتوقعي المشاكل قبل وقوعها وبذلك تستطيعين تجنبها، فإذا مرت بك تجربة سابقة ظهر لك فيها أن بعض أقاربك يكونون سعداء عندما يتركوا أولادهم – مثلاً – في المناسبات الاجتماعية يتناولون أطباق الطعام الممتلئة من فوق المنضدة ليأكلوها على الأرض بينما أنت ترين أن أولادك ينبغي أن يجلسوا في لطف وأدب طوال الوقت، فإن مناسبة تجمعهم مثل عيد من الأعياد تعد كالقنبلة الموقوتة التي يفضل تجنبها.(129/4)
ولكن إذا قررت المضي والاستمرار في حضور المناسبات رغم علمك بأن القواعد والنظم التي تنشئين عليها أطفالك تختلف عن تلك التي تتبعها الأمهات الأخريات، فأمامك أحد الخيارات الآتية:
1 - خذي معك أولادك بعيداً عن الموقع الذي فيه التجمع وذلك بحجة عمل بعض الألعاب أو التجول معهم فبذلك تستطيعين أن تقللي من ظهور التباين أو التضاد بينهم وبين غيرهم من الأطفال بقدر المستطاع.
2 - اسألي أقاربك بطريقة لطيفة إذا استطاعوا أن يضبطوا سلوك أولادهم لأن أولادك يشتد هيجانهم مع تلك الأفعال وأنك تجدين بعدها صعوبة معهم ليناموا في المساء بسبب تعرضهم للإثارة الزائدة في أثناء النوم، وقد يكون هذا حقيقياً بالفعل.
3 - تجنبي أن يشترك أولادك في طعام جماعي مع غيرهم- فهذا دائماً هو أكثر شيء يظهر المساوئ الموجودة في كل شخص- ويا حبذا لو نظمت نشاطات خاصة يشترك فيها جميع الأشخاص.
وبالطبع فإن الخيار الأسهل – إذا كنت لا ترين مثل هؤلاء الأطفال كثيراً – أن تدعي أولادك يفعلون مثلما يفعل هؤلاء، فإن الأطفال الصغار حتى الذين لم تتجاوز أعمارهم سنتين أو ثلاثاً يدركون أن تصرفاتهم من الممكن أن تختلف في الظروف غير العادية، وخاصة إذا كانوا في بيوت لأسر أخرى، ولا ينتظر بالضرورة أن يعودوا من هناك بتلك التصرفات إلى بيوتهم.
وللأسف يتزايد في مجتمعاتنا – ولأسباب متنوعة – نموذج الأسرة (النووية) حيث تعيش الأسر فيه على شكل وحدات مستقلة مكتفية ذاتياً أكثر من أي وقت مضى، ولم يعد لدى الآباء والأمهات شعور حقيقي بأن أولادهم جزء من عائلة ممتدة فضلاً عن أن يكونوا جزءاً من مجتمع واسع، ومن ثم فأنت التي تقحمين نفسك في المشاكل باختيارك، فإن أبيت إلا ذلك فستجدين أن الأسلوب الأمثل للتعايش مع الآخرين هو أن تتأملي- في معظم الأحيان – الحكمة القائلة "الصمت من ذهب".(129/5)
العنوان: إطلالة على سيرة ذي الجناحين: جعفر بن أبي طالب
رقم المقالة: 1384
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، ومَنْ تبعهم بإحسان إلى يوم الدِّين.
أما بعد فيا أيها المسلمون:
اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى، واستمسكوا بالعروة الوثْقى؛ فإن أجسامكم على النار لا تقوى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآَمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحديد: 28].
أيها الإخوة المؤمنون:
بعدما يهتدي العبد إلى الله تعالى، ويعمِّر قلبه بالإيمان؛ تتغير مجرياتُ حياته، وتتحوَّل اهتماماته، وينتقل من الدُّونية إلى الفَوْقيَّة، تعلو همَّته، ويُبعِد نظره، وتسمو نفسه، فلا ترضى من الدنيا بشيء؛ بل همُّها الأكبر متعلِّقٌ بالآخِرة. ولذا تجد أن صاحبَ تلك النفس النفيسة، وهذا القلب الحيِّ العامر، لا يرضى بغير محبة الله بديلاً، فلا تبصره إلا ماشيًا في مرضاة الله تعالى، مُجانِبًا لمغاضِبه ومَساخِطِه.
ما أحوجنا - أيها الإخوة - إلى الاقتراب من تلك النفوس السَّامقة، والقلوب الصَّالحة؛ لعلَّ الله يُصلح لنا القلوب، ويزكِّي منَّا النُّفوس، ويرزقنا التقوى دائمًا وأبدًا.
أيها الإخوة:
هذه إطلالةٌ سريعةٌ، ووقفةٌ عابرةٌ على سيرةٍ من أعجب السِّير، مَنْ تأمَّل أحوال صاحبها مع اعتباره وادِّكاره؛ نبض قلبه بالحياة بإذن الله تعالى.(130/1)
صاحبها صاحب شرفٍ في الدُّنيا والآخِرة، فنسبه ضاربٌ في العَراقة والمجد، نسب الطاهرين من بني هاشم، أوسط قريش نسبًا.
وصفاته وأخلاقه تتقدَّم الصفوف الأولى من الكمال البشري؛ يقول أبو نُعَيْم الأصبهاني في وصفه: "الخطيب المقدام، السخيِّ المطعام، خطيب العارفين، ومضيف المساكين، ومهاجر المهاجَرتَين، ومصلِّي القِبلتين، البطل الشجاع، الجواد الشَّعشاع ..."[1].
ومع كل هذا الوصف والمجد يبلغ المنتهى في التواضع، فلا يأنف من أن يكون جنديًّا من جنود الحقِّ، تحت إمْرَة مولىً من موالي ابن عمه الصادق المصدوق - صلَّى الله عليه وسلَّم.
خاطبه النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - يومًا فقال: ((أشْبَهْتَ خَلْقي وخُلُقي))؛ أخرجه البخاريُّ[2].
إنه جعفر بن أبي طالب - رضيَ الله عنه وأرضاه. تقدَّم إسلامه جدًّا، حتى إنه يُقَدَّم في أوائل مَنْ أسلموا[3]، وهاجر إلى الحبشة فرارًا بدينه، كما قالت أم سَلَمَة - رضيَ الله عنها -: لما ضاقت علينا مكة، وأوذيَ أصحاب رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وفُتنوا، ورأوا ما يصيبهم من البلاء؛ فقال لهم رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إن بأرض الحبشة ملِكًا لا يُظلم عنده أحدٌ؛ فالحقوا ببلاده، حتى يجعل الله لكم فَرَجًا ومخرجًا))[4].
كان جعفر - رضيَ الله عنه - من المهاجرين إلى الحبشة فرارًا بدينه، لكن قريشًا لم يتركوهم؛ بل أرسلوا في أثرهم عمرو بن العاص وعبدالله بن أبي ربيعة؛ فالتقى وفد المشركين بالمسلمين في مجلس الملك العادل النجاشيِّ - رحمه الله تعالى - فكانت المناظرة العظيمة بين داهية العرب عمرو بن العاص - رضيَ الله عنه - ممثِّلاً للمشركين، وبين جعفر بن أبي طالب خطيب المسلمين ذلك اليوم.(130/2)
تروي أمُّ المؤمنين أم سَلَمَة - رضيَ الله عنها - تفاصيل تلك المناظرة العظيمة فتقول: "لما نزلنا أرض الحبشة؛ جاورْنا بها خير جار: النجاشي، أمِنَّا على ديننا، وعبدنا الله تعالى، لا نؤذَى، ولا نسمع شيئًا نكرهه. فلما بلغ ذلك قريشًا، ائتمروا بينهم أن يبعثوا إلى النجاشي فينا رجلَيْن منهم جَلْدَيْن، أهدوا للنجاشي هدايا مما يُستطرف من متاع مكة، فلم يبقَ من بطارقته بطريقٌ إلا دفعا إليه هديَّته قبل أن يكلِّما النجاشي، وطلبوا منهم معونتهم عند النجاشي.
ثم إنهما قدما هداياهم إلى النجاشي فقبلها منهما، ثم كلَّماه فقالا له:
أيها الملك: إنه قد ضَوَى إلى بلدكَ منَّا غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينكَ، وجاؤوا بدين ابتدعوه، لا نعرفه نحن ولا أنت. وقد بعثَنَا إليكَ منهم أشرافُ قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لتردَّهم إليهم، فهم أعلى بهم عينا، وأعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه.
قالت: فقالت بطارقته حوله: صِدْقًا أيها الملك، قومهم أعلى بهم عينًا، وأعلم بما عابوا عليهم؛ فأسلمهم إليهما، فلْيَردَّاهُم إلى بلادهم وقومهم.
قالت: فغضب النجاشيُّ ثم قال: لاها الله - أي لا والله - إذن لا أسلمهم إليهما ولا يكاد، قومٌ جاوروني، ونزلوا بلادي، واختاروني على مَنْ سوايَ! حتى أدعوهم؛ فأسألهم عمَّا يقول هذان في أمرهم، فإن كانوا كما يقولان أسلمتهم إليهما، ورددتُّهم إلى قومهم، وإن كانوا على غير ذلك؛ منعتهم منهما، وأحسنتُ جوارهم ما جاوروني.
قالت: ثم أرسل إلى أصحاب رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فدعاهم، فلما جاءهم رسوله اجتمعوا، ثم قال بعضهم لبعض: ما تقولون للرجل إذا جئتموه؛ قالوا: نقول والله ما علمنا، وما أمرنا به نبينا - صلَّى الله عليه وسلَّم - كائنًا في ذلك ما هو كائنٌ.(130/3)
فلما جاؤوا - وقد دعا النجاشي أساقفته فنشروا مصاحفهم حوله - سألهم فقال لهم: ما هذا الدين الذي قد فارقتم فيه قومكم، ولم تدخلوا في ديني ولا في دين أحدٍ من هذه الملل؟ قالت: فكان الذي كلَّمه جعفر بن أبي طالب، فقال له: أيها الملك! كنَّا قومًا أهلَ جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل المَيْتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القويُّ منَّا الضعيف، فكنَّا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منَّا، نعرف نَسَبَه وصدقه، وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحِّده ونعبده، ونخلع ما كنَّا نعبد نحن وآباؤنا منَ الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة.
قالت: فعدَّد عليه أمور الإسلام؛ فصدَّقناه وآمنا به، واتبعناه على ما جاء به منَ الله، فعبدنا الله وحده، فلم نشرك به شيئًا، وحرَّمنا ما حرَّم علينا وأحللنا ما أحلَّ لنا. فعدا علينا قومنا، فعذبونا وفتنونا عن ديننا؛ ليردُّونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله، وأن نستحلَّ الخبائث. فلما قهرونا وظلمونا وضيَّقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا؛ خرجنا إلى بلادكَ، واخترناكَ على مَنْ سواك، ورغِبنا في جواركَ. رجونا أن لا نظلم عندكَ أيها الملك.
قالت: فقال النجاشيُّ: هل معك مما جاء به عن الله من شيء؟ قالت: فقال له جعفر: نعم، فقال له النجاشي: فاقرأه، قالت: فقرأ عليه صدرًا من {كهيعص} [مريم: 1]. قالت: فبكى والله النجاشيُّ حتى اخضلَّت لحيته، وبكت أساقفته حتى أَخْضلوا مصاحفهم، حين سمعوا ما تلا عليهم.
ثم قال النجاشيُّ: إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مِشكاةٍ واحدة. انطلِقا، فلا والله لا أسلمهم إليكما ولا يُكادون.(130/4)
قالت: فلما خرجا من عنده، قال عمرو بن العاص: والله لآتينَّه غدًا عنهم بما أستأصل به خضراءهم، والله لأخبرنَّه أنهم يزعمون أن عيسى بن مريم عبدٌ. قالت: ثم غدا عليه من الغد فقال: أيها الملك، إنهم يقولون في عيسى بن مريم قولاً عظيمًا؛ فأرسلْ إليهم فسَلْهُم عمَّا يقولون فيه. قالت: فأرسلَ إليهم ليسألهم عنه. قالت: ولم ينزل بنا مثلها قط؛ فاجتمع القوم ثم قال بعضهم لبعض: ماذا تقولون في عيسى بن مريم إذا سألكم عنه؟ قالوا: نقول والله ما قال الله، وما جاءنا به نبيُّنا، كائنًا في ذلك ما هو كائنٌ.
قالت: فلما دخلوا عليه قال لهم: ماذا تقولون في عيسى بن مريم؟ قالت: فقال جعفر بن أبي طالب: نقول فيه الذي جاءنا به نبيُّنا - صلَّى الله عليه وسلَّم - هو عبد الله ورسوله، ورُوحه وكلمته، ألقاها إلى مريم العذراء البَتُول.
قالت: فضرب النجاشيُّ بيده إلى الأرض فأخذ منها عودًا ثم قال: والله ما عدا عيسى بن مريم ما قلتَ هذا العُودَ.
قالت: فتناخرت بطارقته حوله حين قال ما قال؛ فقال: وإن نخرتم والله، اذهبوا فأنتم شيوم بأرضي - أي آمنون - من سباكم غَرِمَ - قالها ثلاثًا - ما أحبُّ أن لي دَبْرًا من ذهب، وأني آذيتُ رجلاً منكم.
وفي روايةٍ قال: مرحبًا بكم وبمن جئتم من عنده، أشهد أنه رسول الله، وأنه الذي نجد في الإنجيل، وأنه الرسول الذي بشَّر به عيسى بن مريم؛ انزلوا حيث شئتم، والله لولا ما أنا فيه من المُلْك؛ لأتيته حتى أكون أنا الذي أحمل نعليه.
قالت: وأمر لنا بطعام وكسوة"؛ حديثٌ صحيحٌ عظيمٌ، أخرجه أحمد وابن إسحاق وأبو نُعَيْم[5].
وهكذا كان جعفر - رضيَ الله عنه - خطيب القوم والمحامي عنهم؛ بل كان إسلام النجاشي على يديه، وتلك مَنْقَبَةٌ عظيمةٌ.(130/5)
وبقي جعفر مع مَنْ بقيَ منَ المسلمين في الحبشة، فلما ظهر الإسلام، وكان عام فتح خيبر - هاجر جعفرُ ومَنْ معه من الحبشة إلى المدينة، فلمَّا رجع النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - من خيبر تلقَّاه جعفرُ، فالتزمه رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وقبَّل بين عينيه وقال: ((ما أدري بأيِّهما أنا أفرحُ، بقدوم جعفر، أم بفتح خيبر)). أخرجه الحاكم مرسلاً صحيحًا[6].
وعلى الرغم من أن جعفرًا كان من أعلام الجهاد، آتاه الله قوةً في لسانه فلا يُحاجّ، مع قوته وثباته في القتال؛ فإنه كان متواضعًا طائعًا لله ورسوله.
لما جهَّز رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - جيش مؤتة، جعل أميرهم مولاه زيد بن حارثة، ثم جعفرًا، ثم ابنَ رواحة، فلم يغضب من ذلك جعفر؛ بل وثب وقال لرسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: "بأبي أنت وأمي! ما كنت أرهب أن تستعمل زيدًا عليَّ"[7].
وانطلق جيش مؤتة، وقاتل المسلمون الرومَ حتى قُتل زيدٌ، فاستلم إمارة الجيش جعفر، فقاتل قتالاً مريرًا حتى قُتل، ثم عقبه ابنُ رواحة.
قال من رأى جعفرًا يوم مؤتة: "لكأنِّي أنظر إلى جعفر يوم مؤتة، حين اقتحم عن فرسٍ له شقراء، فعقرها، ثم قاتل حتى قُتل"[8]، قال ابن إسحاق: "وهو أوَّل مَنْ عَقَرَ في الإسلام"[9].
قاتل - رضيَ الله عنه - حتى قُتل، لم يفرّ من كثرة العدد، ولم يرهب قوة العدو؛ بل كان ثابتًا مقدامًا.
أتدرون كم كانت جراحه - رضيَ الله عنه -؟ جاءت في أخبارٍ لولا ثبوتها في صحيح البخاري وغيره لما كانت تُصدَّق!
روى البخاريُّ، عن ابن عمر - رضيَ الله عنهما -: "أنه وقف على جعفر يومئذ وقد قُتل. قال: فعددت به خمسينَ، بين طعنةٍ وضربةٍ، ليس منها شيءٌ في دُبُره. يعني: في ظهره[10].
وفي البخاريِّ أيضًا عن ابن عمر: "ووجدنا ما في جسده بضعًا وتسعينَ، من طعنةٍ ورميةٍ"[11].(130/6)
وجاء في حديثٍ آخَر عند الحاكم وغيره: "أنَّه أخذ اللِّواء بيده اليمنى فقُطعت، ثم باليسرى فقُطعت، فعوَّضه الله عنهما بجناحَيْن يطير بهما في الجنة"[12].
وفي الطَّبراني بإسنادٍ حسن، من حديث عبدالله بن جعفر قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((هنيئًا لك يا عبدالله بن جعفر؛ أبوك يطير مع الملائكة في السماء))!.
وعند التِّرْمِذِي، وصحَّحه ابن حبَّان من حديث أبي هريرة - رضيَ الله عنه - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((رأيتُ جعفرًا يطير في الجنة مع الملائكة))[13].
وفي صحيح البخاري: "أن ابن عمر كان إذا سلَّم على عبدالله بن جعفر قال: السلام عليك يا ابن ذي الجناحين"[14].
وقد حزن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - على جعفر. قالت عائشةُ - رضيَ الله عنها -: "لما جاءت وفاة جعفر؛ عرفنا في وجه النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - الحزن"[15].
وعن عبدالله بن جعفر قال: "جاء النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - بعد ثلاثٍ من موت جعفر فقال: ((لا تبكوا على أخي بعد اليوم، وادعوا لي الحلاَّق))؛ فجيء بالحلاَّق، فحَلَقَ رؤوسنا. ثم قال عليه الصَّلاة والسَّلام مداعبًا: ((أمَّا محمَّدٌ فشَبِيهُ عمِّنا أبي طالب، وأمَّا عبدالله فشَبِيه خَلْقي وخُلُقي)). قال عبدالله: ثم أخذ بيدي، فأشالها وقال: ((اللهم اخلفْ جعفرًا في أهله، وبارك لعبدالله في صفقة يمينه)). قالها ثلاثًا. قال عبدالله: وجاءت أمُّنا فذكرت له يُتْمَنَا، وجعلت تُفرِح له، فقال لها النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((العَيْلَة تخافين عليهم وأنا وَلِيُّهم في الدنيا والآخرة؟!))[16].
اللهم ارضَ عن جعفر وأرْضِهِ، وارضَ عن الصحابة أجمعين، واحشرنا في زمرتهم يارب العالمين، وألحقنا بهم في دار النعيم، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثَّانية(130/7)
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وليُّ الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله النبيُّ الأمين، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه والتابعين، ومَنْ تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدِّين، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102].
أيها الإخوة المؤمنون:
كان هذا الإمام الكبير، والصاحب الجليل جوادًا كريمًا، محبًّا للضعفاء والمساكين، قال أبو هُرَيْرَة - رضيَ الله عنه -: "إن كنت لألْصِقُ بطني بالحصباء من الجوع، وإن كنتُ لاستقرئ الرجل الآية وهي معي، كي ينقلب بي فيطعمني، وكان أخْيَرُ الناس للمسكين جعفر بن أبي طالب، كان ينقلب بنا، فيطعمنا ما كان في بيته؛ حتى إن كان ليخرج إلينا العُكَّة التي ليس فيها شيءٌ؛ فنشقُّها، فنَلْعَقُ ما فيها"[17].
وكان النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - يكنِّيه أبا المساكين[18].
وأخرج الإمام أحمد والتِّرْمِذِي من حديث أبي هُرَيْرَة - رضيَ الله عنه - قال: "ما احتذى النِّعال، ولا ركب المطايا بعد رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أفضلُ من جعفر بن أبي طالب"[19]؛ يعني: في الجود والكرم.
أيها الإخوة:
كانت هذه إطلالةٌ سريعةٌ على سيرة هذا الصَّاحب الجليل، الكبير الشأن، العظيم المنزلة في إيمانه وصبره، وهجرته وجهاده، وأخلاقه وصفاته.(130/8)
رجالٌ باعوا نفوسهم لله تعالى، هم أفاضل البشر على الرغم من أنوف المنافقين والمارقين، يجب أن تقرأ سيرتهم، وأن تحفظ مكانتهم كما حفظها الله تعالى؛ فقد ترضَّى عنهم، فقال سبحانه: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ} [التوبة: 100].
ما أجمل أن يربَّى على سيرتهم شباب المسلمين وناشئتهم، وأن يقرأها كبارهم. ما أحسن أن تعطَّر بها المجالس، ويُقضى بسماعها وقت الفراغ؛ ففيها أحكام الشَّرع، وأخبار الجهاد والكفاح، وأنباء البطولات والملاحم، وفيها العبرة والعظة؛ فرضيَ الله عنهم وأرضاهم.
ألا وصلُّوا وسلِّموا على نبيِّكم محمد بن عبدالله، كما أمركم بذلك ربكم.
---
[1] حلية الأولياء (1/114).
[2] أخرجه البخاري في الصلح باب كيف يكتب: هذا ما صالح فلان بن فلان... إلخ ( 2699).
[3] قال ابن إسحاق: أسلم بعد خمسة وعشرين رجلاً، وقيل: بعد أحد وثلاثين، الإصابة (2/85).
[4] جزء من حديث طويل تخريجه في الفقرة التالية.
[5] أخرجه أحمد (1/201) وأبونعيم في الحلية (1/115) وابن إسحاق في سيرته (194-197) وعنه ابن هشام (1/344) والسياق منه، إلا أني اختصرته فماذكرت عقبه نقط فهو من حذفي للاختصار، قال الهيثمي: ورجاله رجال الصحيح غير ابن إسحاق وقد صرح بالسماع، انظر: مجمع الزوائد (6/27) وذكره الذهبي في السيرة النبوية وقال: رواها جماعة عن ابن إسحاق (117) وصححه الشيخ شاكر في شرحه على المسند (1740).(130/9)
[6] أخرجه الطبراني في الكبير (22/100) برقم (244) والأوسط (2003) والصغير (1/20) برقم (30) والحاكم وقال: إنما ظهر بمثل هذا الإسناد الصحيح مرسلاً، قال الذهبي: وهو الصواب (3/211) وذكره ابن الأثير في أسد الغابة (1/542) وابن حجر في الإصابه (2/86) والهيثمي في المجمع وعزاه للطبراني في الثلاثة وذكر أن في رجال الكبير أنس بن سلم ولم يعرفه قال: وبقية رجاله ثقات (9/272) وذكره الذهبي في السير وعزاه محققه لطبقات ابن سعد، انظر السير (10/213).
[7] سير أعلام النبلاء (1/209).
[8] أخرجه أبو داود في الجهاد باب في الدابة تعرقب في الحرب وقال عقبه: هذا الحديث ليس بالقوي (2573) وأبو نعيم في الحلية (1/118) والبيهقي في الدلائل (4/363) والطبري في تاريخه (3/108) وابن إسحاق كما في سيرة ابن هشام (2/378) والحاكم وعزاه الذهبي في التلخيص للترمذي والنسائي ولم أجده عندهما، انظر: المستدرك مع التلخيص(3/230) وعزاه الهيثمي للطبراني وقال: ورجاله ثقات. انظر: المجمع (6/159-160) وحسنه الحافظ في الفتح (7/584) والألباني في صحيح سنن أبي داود (2243) وقال الشيخ أحمد شاكر: "صرح ابن إسحاق بسماعه من يحيى بن عباد، وهو كذلك في سيرة ابن هشام عن ابن إسحاق والحديث صحيح" اهـ من تعليقه على سنن أبي داود (3/63).(130/10)
قال الخطابي في شرحه: "هذا يفعله الفارس في الحرب إذا أزهق وأيقن أنه مغلوب فينزل ويجابه العدو راجلاً، وإنما يعقر فرسه لئلا يظفر به العدو فيقوى به على قتال المسلمين. وقد اختلف الناس في الفرس يقف على صاحبه فيعقره لئلا يظفر به العدو فرخص فيه مالك بن أنس. وعن أبي حنيفة أنه قال: إذا ظفر المسلمون بدواب ومواش فعجزوا عن حملها ذبحوها وحرقوا لحومها، وكره ذلك الأوزاعي والشافعي وأحمد بن حنبل، واحتج الشافعي بحديث النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - "من قتل عصفورًا فما فوقه بغير حق سأله الله تعالى عن قتله" واحتج بنهيه عن قتل الحيوان إلا لمأكله، قال: وأما أن يعقر بالفارس من المشركين فله ذلك؛ لأن ذلك أمر يجد به السبيل إلى قتل من أمر بقتله. وضعف أبو داود إسناد حديث جعفر وكره أيضًا عقر الدابة". اهـ. انظر: معالم السنن بهامش سنن أبي داود (3/63).
[9] سير أعلام النبلاء (1/209) والإصابه (2/86).
[10] أخرجه البخاري في المغازي باب غزوة مؤتة (4260).
[11] أخرجه البخاري في المغازي باب غزوة مؤتة (4261).
[12] أخرجه الحاكم وسكت عنه الذهبي (3/232) وقد ذكر الحافظ في الفتح عددًا من الأحاديث الحسنة في شأن جناحي جعفر - رضيَ الله عنه - (7/96).
[13] أما حديث عبدالله بن جعفر فأخرجه الطبراني، وحسنه الحفّاظ ابن حجر في الفتح (7/96) والهيثمي في مجمع الزوائد (3/273) والمنذري في الترغيب والترهيب (2/288) برقم (2035). وأما حديث أبي هريرة فأخرجه الترمذي في المناقب باب مناقب جعفر بن أبي طالب أخي علي - رضيَ الله عنه -ما (2763) وصححه ابن حبان (4047) والحاكم وقال: على شرط مسلم، ووافقه الذهبي (3/212).
[14] أخرجه البخاري في فضائل الصحابة باب مناقب جعفر (379).
[15] أخرجه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي (3/232).(130/11)
[16] أخرجه أحمد (1/204-205) من مسند عبدالله بن جعفر، وذكره ابن كثير في البداية وقال: رواه أبو داود ببعضه والنسائي في السير بتمامه من حديث وهب بن جرير به (4/251) والهيثمي في المجمع وقال: روى أبوداود وغيره بعضه، رواه أحمد والطبراني ورجالهما رجال الصحيح (6/156-157) وصححه الشيخ أحمد شاكر في تخريجه للمسند برقم (1750) وذكر قوله: "وجعلت تفرح له" ونقل عن النهاية قول أبي موسى: هكذا وجدته بالحاء المهملة، وقد أضرب الطبراني عن هذه الكلمة فتركها من الحديث، فإن كان بالحاء فهو من أفرحه إذا غمه وأزال عنه الفرح، وأفرحه الدين إذا أثقله، وإن كانت بالجيم فهو من المفرج الذي لا عشيرة له فكأنها أرادت أن أباهم توفي ولاعشيرة لهم، والرواية الثابتة في المسند وابن كثير بالحاء المهملة، انظر: شرح المسند لأحمد شاكر (3/-175).
[17] أخرجه البخاري في فضائل الصحابة باب مناقب جعفر (3708).
[18] الإصابة (2/86).
[19] أخرجه أحمد (2/413) والترمذي في المناقب باب مناقب جعفر بن أبي طالب - رضيَ الله عنه - وقال الترمذي: حديث حسن صحيح غريب (3764) والحاكم وصححه ووافقه الذهبي (3/233) وصححه الحافظ في الإصابة (2/86).(130/12)
العنوان: أطوار الاجتهاد الفقهي
رقم المقالة: 478
صاحب المقالة: د. عبدالله الزايد
-----------------------------------------
- توطئة -
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ومن نزغات الشياطين، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد، فإنه لمن دواعي رغبتي في الكتابة أن أتقدم ببحثي هذا إلى مجلة البحوث الإسلامية التي تصدر عن الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد؛ فلها قيمتها العلمية الخاصة بين طلاب العلم ومحبي المعرفة ورواد البحث، أو أنه يجب أن تكون لها هذه المنزلة لديهم وأرجو أن يكون هذا البحث مما يجدر أن تضمه هذه المجلة الرائدة.
وقد اشتمل البحث على أطوار الاجتهاد من عهد الصحابة - رضوان الله عليهم - إلى ما بعد عهود التابعين - رحمهم الله - وقد راعيت فيه أن يكون متمشياً مع كل الأطوار التي استدعت ما يناسبها من الاجتهاد، وقد حاولت أن يستنتج القارئ بنفسه في كثير من فصول البحث الفرق بين أطوار الاجتهاد وسيجد ذلك واضحاً في الفرق بين اجتهاد الصحابة - رضوان الله عليهم - وبين اجتهاد من جاء بعدهم وهكذا الفرق بين اجتهاد التابعين وبين اجتهادات غيرهم؛ وإلى جانب ذلك سيجد القارئ الكريم تراجم للأعلام الذين جاء ذكرهم في البحث أو أكثرهم.
وأرجو أن يمن الله بفرصة أستطيع أن أواصل فيها البحث عن أهم أبواب الأصول وأكثرها صلة بحياة الناس وإفادة الباحثين وطلاب المعرفة والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وأصحابه في البدء وفي الانتهاء وسلم.
الطور الأول من أطوار الاجتهاد في:
عهد الخلفاء الراشدين:(131/1)
أ - إن مما لا جدال فيه أن مصدر التشريع في عصر النبوة كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأن الرسول - عليه الصلاة والسلام - كان موئل الاستفتاء والاستقضاء فلما لحق بربه - عزَّ وجلَّ - وانقطع الوحي بذلك انقلبت قيادة الأمة في أمور الدنيا والدين إلى خلفائه الراشدين وكبار الصحابة فاضطلعوا بهذه المهمة ونهضوا بأعبائها على خير وجه كيف لا وقد استفادوا من صحبته - صلى الله عليه وسلم - وعلوا بعد أن نهلوا من مجالستهم إياه سفراً وحضراً، سلماً وحرباً، ما أكسبهم الذوق التشريعي السليم حين تعرض عليهم الحوادث، فيزنونها بميزان الشرع ولهذا كان حكمهم أصح من أحكام غيرهم، ذلك بالإضافة إلى ما قد رباهم النبي - صلى الله عليه وسلم - تربية تشريعيةِِْْ محكمة يشاهدونه وهو يجتهد في حادثة لأنها تشتمل على وصف كذا ويرون تطبيقه لأحكام القرآن في غير ما حادثة قد ينزل على سبب فيطبق على سببه وعلى غيره. كل ذلك أكسبهم هذا الذوق وصدق التقدير الشرعي فيما لم ينص على حكمه.
ولقد دفعتهم سرعة الأحداث ومجريات الأمور إلى ولوج باب الاجتهاد والتصدي للفتوى ببصيرتهم النافذة فلم تمض لحظات على وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى خطب أبو بكر في الناس يفتيهم في أمرهم ويوضح لهم ما ينبغي أن تكون عليه الحال بعد أن اختلفت وجهات القوم وكاد يتفاقم الأمر فيما بين المسلمين فكان لكلامه بين الناس الوقع الجميل، وللفتاته على النفس برد وسلام ردهم الله به من هاوية كادت تعصف بالأمة في أودية من الخلاف الذي ما إن ينشب بمخلب واحد حتى يمزق الأمة كما حصل في عهود الخلاف والتفرق.(131/2)
أوَ لم يكن الصديق - رضي الله عنه - صاحب الموقف الأول ذلك الموقف الإيجابي البديع حين ترامي إلى مسامع الناس أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد بكت على وفاته السماء والأرض، وقال قائلهم: إنه لم يمت، وهدد آخر بقوله: من قال إن محمداً مات فلأفعلن به ولأفعلن [ووقف عمر بن الخطاب وقال - من شدة حزنه وانفعاله -: من قال إن محمداً قد مات فلأفعلن به ولأفعلن]، فقال الصديق - رضي الله عنه -: من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، وتلا قوله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ}[1].
وما أن استقر أمر الخلافة حتى واجهتهم المهمة الشاقة باتساع الفتوحات وامتداد نفوذ المسلمين إلى ما وراء الجزيرة إلى مصر والشام وفارس والعراق حتى دخل الناس في دين الله أفواجاً، وانضوت أمم وشعوب مختلفة تحت راية الإسلام ولابد أن لهذه الشعوب من العادات والأعراف والنظم الاجتماعية والاقتصادية وسائر أمور تعاملهم في الحياة ما هو غريب على عهد المسلمين الذين فتح الله على أيديهم هذه الأمصار والأقاليم.
فتطلب الأمر من المجتهدين البحث عن أحكام شرعية لتلك الأمور حتى يقام منهج الله.
وغني عن القول أنه لم ينص على أشخاص الحوادث لا في الكتاب العزيز ولا في السنة المطهرة فكان لزاماً عليهم أن يجتهدوا في تطبيق القواعد الكلية المقررة لنص من الكتاب والسنة على أشخاص هذه الحوادث الطارئة عليهم فبذلوا قصارى جهدهم، ووقفوا نشاطهم على استنباط أحكام ما جد من مسائل دون أن يتجاوزوها إلى الافتراضيات.(131/3)
وكان اجتهاد الصحابة - رضي الله عنهم - بمعناه الواسع فقد نظروا في دلالة النصوص وقاسوا واستحسنوا إلى غير ذلك من العمل بالأمارات وقرائن الأحوال، إلا أنهم كانوا يطلقون كلمة الرأي على ما يراه القلب بعد فكر وتأمل وطلب لمعرفة وجه الصواب فيما تتعارض فيه الأمارات.
وإذ هم يستعملون الرأي بمعناه الواسع لم يكونوا ليطلقوا على أضرب الاجتهاد مصطلحاته الأصولية التي عرفت فيما بعد، كالاستحسان، والمصالح المرسلة، والقياس بأنواعه، وقاعدة سد الذرائع، وعموم البلوى ونحو ذلك.
وقد كان الاجتهاد في هذا العصر - كما أشرنا - مقصوراً على استنباط الأحكام لما هو واقع دون أن يلجؤوا إلى الافتراضات. فلم يكونوا يفترضون مسائل لم تقع ثم يبحثون عن حكمها كما سيأتي فيمن بعدهم.
وقد رُوي عن بعض الصحابة نهيُ الناس عن الخوض فيما لم يقع، ومن ذلك ما رُوي عن زيد بن ثابت[2] - رضي الله عنه - أنه كان إذا استُفتِي في مسألة سأل عنها، فإن قيل له وقعت أفتى فيها وإن قيل له لم تقع قال: دعها حتى تكون، ويروى مثل ذلك عن عمر - رضي الله عنه - [3].
ب - أسباب ترك الصحابة الافتراض في الأحكام:
لم يترك الصحابة - رضي الله عنهم - افتراض المسائل وتقدير أحكامها لأنهم منصرفون عن ذلك بجهاد أو غيره. إذ العلم من الجهاد بل من أعظم الجهاد وإذا دعت الحاجة إليه فلا ينبغي أن يشغل عنه شاغل، ولكن حقيقة تركهم تعود إلى أمرين هامين:
أحدهما:
أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يسلك هذا المسلك وهو المدرسة المعصومة التي تخرج فيها هؤلاء الصفوة.
ولو سلك التشريع هذا المسلك - أعني الافتراض - لنتج عنه محذورات ثلاثة:
المحذور الأول:(131/4)
أن هذا خلاف كون الشريعة جاءت أحكامها عامة كلية في غير ما تناولته وقت الوحي أو المسائل التي لا يجوز فيها الاجتهاد. وقد تقرر أن الشريعة جاءت أحكامها كلية وعامة بل حتى ما نزل به الوحي مفصلاً في حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الأوامر والنواهي يعتبر كلياً فيما بعد التشريع حين نزوله.
المحذور الثاني:
لو سلك التشريع هذا المسلك لكانت الشريعة غير ما قص الله علينا من أنه ما جعل علينا في الدين من حرج، ووجه الحرج ههنا أن الصور لا نهاية لها إلا بقيام الساعة وهذا أمر مستحيل عادة أن يتحمله جيل لكل الأجيال إلى ذلك الحين ولكن الله - عزَّ وجلَّ - تكرم ولطف بأن جعل الشريعة يسراً لا حجر فيها كما شرع تعالى لا تبديل لشرعه كما لا تبديل لخلقه.
المحذور الثالث:
لو سلك التشريع مسلك الافتراض لأدى بكثير من العقول إلى الفتنة التي جاءت الشريعة منقذة منها والفتنة الكفر أو الحيرة التي أنقذ الله منها بهداه من شاء من عباده، وإنما الحيرة من دعوة الشيطان يستهوي بها إلى الضلال بعضاً من الغاوين.
ووجه ذلك أن كثيراً من الأمور التي تتناولها قواعد الشريعة الكلية وعموم أحكامها لو ذكرت تفاصيلها للأجيال الأولى لأدت إلى ما قلنا، مع أنه لا حاجة إليهم بذكر التفاصيل ويكفي من بعدهم وضع التقعيد العام الذي ينتظم حكم ما سيجد بينهم، ولنضرب لذلك مثلاً: في الركوب وحمل الأثقال والمتاع والزينة فإنه قد جد لهذه المرافق من أمور الناس من الطائرات السابحة في أجواء الفضاء على اختلاف أنواعها، ومن السفن الماخرة في عباب المحيطات كذلك سواء منها ما يجري على متون البحار أو ما يسير في قيعانها من وسائط النقل البري المختلفة من حاملة ضخمة إلى (سيارة) لا تحمل إلا شخصين أو ثلاثة وتلك أمور تستدعي أحكاماً متعددة:(131/5)
1 - من جهة حل ركوبها واستعمالها: وقد جاء قوله – تعالى -: {وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ. وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ. وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ. وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}[4].
فجملة {ويخلق ما لا تعلمون} تنتظم جميع هذه الوسائل وغيرها مما هو في علمه تبارك وتعالى.
2 - ومن جهة الأحكام المتعلقة بالسفر والترخص بقصر الصلاة الرباعية والفطر في نهار رمضان: فقد جاءت أحكام ذلك صالحة لكل سفر سواء ما كان معروفاً في زمن الوحي أو في زمننا هذا إذ لم تحد بمسافة بل جيء بما يصلح لكل زمان من إطلاق اسم السفر دون إشارة إلى ذكر آلات السفر [إذ المعتبر في قصر الصلاة وفطر رمضان هو المسافة لا آلة السفر].
فلو ذكرت هذه على وجه التفاصيل لعاش كثير من الناس في صراع مع الحيرة داخل أعماق نفوسهم إذ العقل لا قبل له بتسليم هذه الأشياء إلا في عالم الذهنيات إلا أن يكون قد بلغ في الإيمان مبلغ أبي بكر وعمر ونحوهما. ولأدت هذه الحيرة إلى اهتزاز الإيمان في النفس والبعد كثيراً عن الإيمان بالله ورسوله بعد أن دخلوا فيه دون أن يكون ثَمَّ داعٍ إلى إقحام العقول في مثل هذه الورطة، وإنك لترى التشريع ينحو هذا النحو حتى عند تطلع الصحابة إلى معرفة بعض أمور لا حاجة إليها سوى المعرفة بحقيقتها ومن ذلك ما قيل في سبب نزول قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ}[5].(131/6)
فقد ذكر القرطبي[6]في تفسيره أن معاذاً[7] - رضي الله عنه - قال: ((يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ اليهودَ تَغْشَانَا وَيُكْثِرُونَ مَسْأَلَتَنَا عَن الأَهِلَّةِ؟ فَمَا بَالُ الهِلالِ يَبْدُو دَقِيقَاً ثُمَّ يَزِيدُ حَتَّى يَسْتَوِِي وَيَسْتَدْبِر ثُمَّ يُتْنَقَصُ حَتَّى يَعُودَ كَمَا كَانَ؟)) فأنزل {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ} الآية.
وقيل إن سبب نزولها سؤال قوم من المسلمين النبي - صلى اله عليه وسلم - عن الهلال وما سبب محاقه[8] وكماله ومخالفته لحال الشمس قاله ابن عباس وقتادة والربيع وغيرهم[9].
وقال العوفي عن ابن عباس سأل الناس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الأهلة فنزلت هذه الآية {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ} وقال العوفي عن ابن عباس سأل الناس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الأهلة فنزلت هذه الآية.
يعلمون بها حل دينهم وعدة نسائهم ووقت حجهم[10].
فإن الحاجة داعية إلى معرفة ما أجيبوا به لا ما سألوا عنه.
ولقد كان من طبع اليهود كثرة المسائل التي تورث الاختلاف منهم على أنبيائهم، وقد نهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصحابة عن ذلك بقوله - عليه السلام - ((إِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَثْرَةُ مَسَائِلِهِمْ وَاخْتِلافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ))[11]. فاليهود في هذه الأمة عليهم لعنة الله أرادوا أن يشغلوا المسلمين بما ارتكسوا فيه من الشغب والتفرق عن الحق والمعاندة للرسل، فحمى الله صدر هذه الأمة لأنه المثال الخيِّر لكل القرون بعده. وكان من تلك الحماية هذا المسلك الرائد إلى الهدى على يد معلم الهدى - صلى الله عليه وسلم - حتى لا تضل القرون وتهلك الأمة في متاهات الحيرة والتشكك.(131/7)
وقد جنت الأمة بعد الجيل الأول من ثمار هذه التربية خيراً كثيراً بما هُيء لهم من فرض الاجتهاد وترك تنزيل الأحكام على الحوادث رهناً باجتهاد ذوي الاجتهاد في كل بلد بما يناسب الحال في إطار الشريعة الإسلامية السمحة فيما لا نص فيه من كتاب أو سنة.
الأمر الثاني من الأمرين الهامين:
أن الصحابة تركوا افتراض المسائل وتقدير أحكامها فيما لم يقع بينهم، إدراكاً منهم لما يأتي:
1 - أن الأمة لا يزال فيها من يفتيها في أمور دينها قياماً بأمر الله الذي وعد الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأن هذه الأمة لا يزال فيها من يقوم به حتى تقوم الساعة.
2 - أن الاجتهاد ليس حكراً عليهم دون الأجيال.
وخوفاً من الوقوع في المأثم المترتب على الخطأ في الرأي الذي يقررونه لجيل غير جيلهم وكأنه حكم معصوم بالوحي، والحكم المعصوم بالوحي انتهى بما تقرر بالنص في حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - مما أراد تعالى أن تكون الأمة عليه في أمر معاشها ومعادها، وليس من حق أحد بعدَه أن يقرر هذا التقرير.
ولقد رأينا سلامة هذا المسلك من الصحابة - رضي الله عنهم - بعد أن اشتغل الفقهاء بتلك الأمور من الفرضيات التي كان كثير منها أقرب إلى اللهو ومضيعة الوقت منه إلى الجد والمحافظة على الأوقات، مع ما أثارت من تبلد في أذهان الذين ورثوا هذه الكتب المشحونة بها إلى أن وصل الفقه بين المسلمين إلى حد ليس بعده إلا الموت، وقل في الأمة من يقال عه إنه مجتهد مطلق أو قريب منه منذ قرون. [ ولقد رأينا سلامة هذا المسلك عند الصحابة - رضي الله عنهم - بعد أن رأينا عند الفقهاء من بعدهم الإيغال في بعض المسائل الفرضية بما لا حاجة إليه، وإن كانوا فعلوا ذلك للمبالغة في الاحتياط من باب قوله تعالى - (وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ) إذ ربما يستحدث بعدهم ما لم يكن في زمانهم، ولكل وجهته وكل من رسول الله ملتمس].(131/8)
وفي وقتنا الحاضر لا أعلم من يطلق عليه هذا اللقب مع شديد الأسف وإنما يوجد أفراد جد قلائل يمكن أن يطلق على بعضهم مجتهد مذهب.
فرضي الله عن صحابة محمد - صلى الله عليه وسلم - الذين اختارهم لحمل الأمانة إلى الأجيال فسلموها إليها صافية المنهل طيبة المجتنى.
جـ - طريقة الصحابة - رضي الله عنهم - في استنباط الأحكام:
كان للصحابة - رضي الله عنهم - وبخاصة في عهد الخلفاء الراشدين الأربعة مجالات ثلاثة يسلكونها للوصول إلى حكم الوقائع بشريعة الله - عزَّ وجلَّ - وتلك هي:
1 - أخذ الحكم الشرعي من ظاهر النص أي تطبيق النصوص على الحوادث المندرجة تحتها، ويدخل في هذا المسلك إجماع الصحابة على الحكم كما كان معروفاً في عهد أبي بكر وعمر، (فإنه عندما يعييهما) أن يجدا نصاً لحكم الواقعة في القرآن أو السنة يلجئان إلى جمع رؤوس الناس وخيارهم فإذا اجتمع رأيهم على شيء قضيا به إلا أن عمر كان ينظر قبل تلك الخطوة في المأثور عن أبي بكر.
2 - القياس على الأشباه والنظائر، وهو أمر دربهم النبي - صلى الله عليه وسلم - عليه باجتهاده كما في قصة المرأة التي سألته عن الحج عن أمها وقد ماتت.
أ - كتاب عمر بن الخطاب إلى قاضيه باليمن أبي موسى: ((اعْرفِ الأَشْبَاهَ والنَّظَائِرَ ثُمَّ قِسْ الأُمُورَ عِنْدَ ذَلِك)) الخ.
ب - ما روي من قضائهم في الجد والأخوة في الميراث، وتشبيههم إياها بالجدولين من النهر أو بالغصنين من الشجرة.
جـ - ما ذكر من قياسهم الشارب على القاذف من أجل إقرار الحد ثمانين جلدة إلى غير ذلك مما أثر عنهم - رضي الله عنهم - في هذا المجال.
3 - استنباطهم الحكم مراعين فيه مقاصد الشريعة وقواعدها الكلية التي منها قاعدة سد الذرائع ونحوها.(131/9)
ويمثل لذلك بما جرى بين أمير المؤمنين عمر وبين حذيفة بن اليمان[12] - رضي الله عنهم - وقد تزوج حذيفة بكتابية بالمدائن فكتب إليه عمر : ((أن خل سبيلها فإني أخاف أن يقتدي بك المسلمون فيختاروا نساء أهل الذمة لجمالهن وكفى بذلك فتنة لنساء المسلمين )).
هذا هو أسلوبهم فيما كان يعرض عليهم من قضايا وبه أوصوا قضاتهم الذين كانوا يبعثونهم إلى المدن والأمصار وذلك بعد أن فُصِلت مهمة القضاء من الولاية العامة في عهد الفاروق وحين كثرت الأعمال في عهده، فقد أثر عنه - رضي الله عنه - أنه لما ولى شريحاً الكندي قضاء الكوفة قال له: ((اقض بما استبان لك من قضاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم أحله إن لم تجد ذلك على قضاء الأئمة المجتهدين بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم على الاجتهاد)).
ومع استعمالهم - رضي الله عنهم - للرأي لم يجرؤ أحد منهم أن يجزم بأن ما وصل إليه هو حكم الله وأنه الحق والصواب وأن ما عداه هو الخطأ، بل كان هديهم في هذا كما قال أبوبكر - رضي الله عنه -.
((أقول فيها برأيي فإن كان صواباً فمن الله وإن كان خطأ فمني)) الخ[13].
ولما سئل ابن مسعود - رضي الله عنه - عن المفوضة[14] التي ماتت قبل أن يدخل بها زوجها قال: أقول فيها برأيي: ((لها مهر المثل لا وَكْسَ ولا شطط فإن يكن صواباً فمن الله وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه بريئان))[15].
د - سبب اختلاف فقهاء الصحابة في بعض الأحكام:
في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - لا مجال للاختلاف في الأحكام بإطلاق وذلك نظراً إلى وحدة التشريع وتركز الفتوى والقضاء في شخص النبي - صلى الله عله وسلم - أما في عصر الصحابة فقد تغيرت الحال: فأصبحت الأحكام طائفتين:
طائفة: هي محل وفاق بينهم، وطائفة اختلفوا فيها باختلاف وجهات أنظارهم في القاعدة التي تحكم الحادثة المعروفة أو الواقعة.(131/10)
ولكن مهما كان الاختلاف موجوداً في عهد الصحابة فإنه أضيق دائرة من اختلاف من جاء بعدهم، وكانت أسباب اختلافهم ترجع إلى أمور أهمها ما يلي:
1 - الاختلاف في فهم القرآن:
فقد يكون اللفظ الوارد فيه مشتركًاً بين معنيين فيحمله أحدهم على أحد المعنيين ويحمله الآخر على المعنى الثاني لقرينة تظهر له؛ فقد اختلفوا في تفسير لفظ القرء الوارد في قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ}[16]. لأن القرء في اللغة يطلق على الحيضة والطهر.
وقد ذهب ابن مسعود - رضي الله عنه - إلى أن عدة المطلقة لا تنتهي إلا باغتسالها من الحيضة الثالثة لأنه يرى أن القرء هو الحيضة وهو رأي عمر أيضاً، ولكن زيد بن ثابت يرى أن القرء هو الطهر؛ ولهذا ذهب إلى أن العدة تنتهي متى دخلت المطلقة في الحيضة الثالثة دون أن تنتظر حتى تطهر منها[17].
وأحياناً يكون الخلاف راجعاً إلى حمل اللفظ الوارد في القرآن على الاشتراك المعنوي كما فى مسألة الجد والأخوة فإن من حجب الأخوة به رأى أن معنى الأبوة متحققة فيه كما قال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ}[18] وهو الجد الأول للبشرية جمعاء. وكما في قوله - عزَّ وجلَّ - عن يوسف: {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِي}الآية[19].
ومنهم من رأى عدم الاشتراك بتسميته جداً ونظر إلى معنى آخر وهو اشتراك الجد والأخوة في قربهم من الميت باستواء.
وأحيانًا يكون الاختلاف راجعاً إلى تعارض نصين عامين في القرآن، فقد ذهب عُمر وابنُ مسعود إلى أن الحامل المتوفى عنها زوجها تكون عدتها وضع الحمل، وذهب علىٌ وابنُ عباس إلى أنها تعتد بأبعد الأجلين (وضع الحمل أو عدة الوفاة). وسبب الخلاف أن قوله تعالى: {أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}[20] يدل على عدة الحامل وضع الحمل.(131/11)
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً}[21] يفيد أن عدة الوفاة أربعة أشهر وعشرة أيام من غير تفصيل بين الحامل وغيرها، فذهب علىُّ وابنُ عباسٍ إلى العمل بالآيتين معاً فتكون كل آية منهما مخصصة لعموم الأخرى وذهب عُمر وابن مسعود إلى أن آية {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ} خاصة بغير الحامل لتأخر آية {وَأُولاتُ الأَحْمَال أَجَلُهُنّ}.
والصواب ما ذهب إليه عُمر وابن مسعود بلا شك لحديث سبيعة بنت الحارث الأسلمية؛ فقد توفى عنها زوجها سعد بن خولة - رضي الله عنه - في حجة الوداع وهي حامل فلم تنشب أن وضعت حملها بعد وفاته فلما تعلت من نفاسها (أي طهرت من نفاسها) تجملت للخطاب فدخل عليها أبو السنابل ابن بعكك (رجل من بني عبد الدار) فقال لها: مالي أراك متجملة لعلك ترجين النكاح: إنك والله ما أنت بناكح حتى تمر عليك أربعة أشهر وعشرة قالت سبيعة: فلما قال لي ذلك جمعت علي ثيابي حين أمسيت فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسألته عن ذلك فأفتاني بأني قد حللت حين وضعت حملي وأمرني بالتزوج إن بدا لي[22].
2 - الاختلاف في أمور تتصل بالسنة:(131/12)
إن من الصحابة المقل ومنهم المكثر في محفوظه من السنة المطهرة فقد كان فيهم الملازم للنبي - صلى الله عليه وسلم - لا يشغله شاغل عنها، ومنهم من شغله الصفق في الأسواق طلباً للرزق الذي أباحه الله - عزَّ وجلَّ -، وآخرون يقاتلون في سبيل الله في السرايا التي كان ينظمها النبي - صلى الله عليه وسلم -، لذلك ولتعليم الناس دين الله - عزَّ وجلَّ - ولجباية الزكوات، ولا ريب أن ذلك سيكون له أثر في الأحكام التي يفتى بها كل من هؤلاء وهؤلاء ولهذا كان بعض الصحابة إذا أفتى برأيه واستبانت له السنة رجع عنه. ومن ذلك: ما روي أن أبا موسى الأشعري[23] - رضي الله عنه - أفتى برأيه في ميراث بنت الابن مع البنت والأخت؛ فقسم المال بين البنت والأخت نصفين ولم يفرض لبنت الابن شيئاً. وقال للسائل: ((وائت ابن مسعود فسيتابعني، فسُئِل ابنُ مسعود وأُخبِر بقول أبي موسى، فقال: لقد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين: أقضى فيها بما قضى به النبي - صلى الله عليه وسلم -: للابنة النصف ولابنة الابن السدس تكملة الثلثين وما بقي فللأخت، فأتيا أبا موسى فأخبراه بقول ابن مسعود، فقال: لا تسألوني ما دام هذا الحبر فيكم)) [24].
3 - الاختلاف في الرأي:
علمنا من طريقتهم في الاستنباط أنهم - رضي الله عنهم - إنما يلجؤون إلى العمل بالرأي إذا لم يجدوا نصاً من كتابٍ أو سنةٍ، ومما لا شك فيه أن الرأي مختلف باختلاف الناظرين؛ وفتاوى الصحابة - رضي الله - عنهم التي اختلفت وجهات نظرهم فيها إنما مردها إلى اختلاف منازعهم في المأخذ، ولكل وجهة هو موليها.
ومع أنه قد حصل شيء من الاختلاف فيما بينهم من جهة الرأي فقد كان شيئاً قليلاً بالنسبة ل من بعدهم ويرجع ذلك إلى الأمور الآية:(131/13)
1 - تيسر الإجماع في هذا الدور لأن المفتين من الصحابة وكبارهم كانوا مجتمعين في المدينة عاصمة الخلافة آنذاك، وقد ساعد على ذلك أن عمر كان ينهاهم عن الخروج من المدينة إلا بإذنه عند الحاجة الشديدة.
2 - تمسكهم بمبدأ الشورى وهو من الأمور التي لا يجد الخلاف معها سبيلاً في الغالب.
3 - قلة روايتهم لأحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خوف الوقوع في الكذب، ولهذا كانوا يتشددون في قبولهم، فأبو بكر وعمر كانا يطلبان شاهداً خلاف الراوي (أحياناً) ورُوي عن علي قولُه: "كنت إذا سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديثاً نفعني الله بما شاء منه ,وإذا حدثني عنه محدث استحلفته فإن حلف لي صدقته".
4 - قلة الحوادث في عصرهم وتورعهم عن الفتيا فقد كانوا يميلون على بعضهم، يقول ابن القيم: وكان السلف من الصحابة والتابعين يكرهون التسرع في الفتيا ويود كل واحد منهم أن يكفيَه إياها غيرُه فإذا رأى أنها قد تعينت عليه بذل جهده في معرفة حكمها من الكتاب أو السنة أو قول الخلفاء الراشدين ثم أفتى[25].
هـ - خلاصة ما تقدم:
ويتلخص لنا مما سلف:
1 - واقعية التشريع وارتباطه بالحوادث التي تقع، وعدم افتراض وقوع حوادث، ثم تقدير أحكام لها وذلك للأسباب التي ذكرناها.
2 - قلة المسائل الخلافية لما منحهم الله من الذوق السليم لفهم الشريعة التي شاهدوا مُبلِّغها - صلى الله عليه وسلم - وتلقوا تربيتهم على يديه وواكبوا أسباب التنزيل إلى جانب ما أسلفنا بيانه.
3 - تفاوتهم في استعمال الرأي؛ فقد كان من بينهم من يتحرج من الخوض فيه إلا في حالات نادرة ومنهم من يتوسع فيه إذا لم يجد نصاً وينسب الخطأ إلى نفسه؛ فالأولون كعبد الله بن عُمر وزيد بن ثابت، والآخَرون كعمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود[26] - رضي الله عنهم جميعاً -.
وقد كان هذا الأمر مقدمة لبروز مدرستي الحديث والرأي فيما بعد.(131/14)
4 - عدم تدوين الفقه بالمعني الذي صار إليه في عهد مَن بعدهم حين بدأ تدوين العلوم الإسلامية كما سيأتي بيانه - إن شاء الله تعالى - وإنما هي فتاوى بأحكام محفوظة في الصدور تتناقل عنهم[27] اللهم إلا ما كان من كتابات لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لبعض عماله ككتابه إلى عمرو بن حزم، ببيان أنصبة الزكوات، وألا يمس المصحف إلا طاهر، وما أشبه ذلك مما هو مدون في هذا الكتاب، وقد طعن فيه المحققون من أهل الحديث بعدة علل، ومهما يكن من أمر فإن العلماء يسيرون على مضمون هذا الكتاب مما يشهد لصحته معنى وإن لم ثبت سنداً.
ومن ذلك كتابة عُمر إلى بعض قضاته؛ ككتابته إلى شريح القاضي[28] والى أبي موسى.
كما أن بعض الصحابة كعبد الله بن عمر كان يكتب عن رسول الله - صلى اله عليه وسلم - أحاديثه التي يسمعها منه. ولهذا كان من أكثر الصحابة حظاً في تجارة الحديث.
5 - حدوث اجتهادات قائمة على المصلحة ولم تكن هذه الأحكام على ما عُهد عليه الحال في عهد النبوة ومن ذلك:
1 - أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - رأى ألا تعطى المؤلفة قلوبهم من سهمهم من الزكاة.
ومبنى هذا الرأي: أن الله أعز الإسلام وأهله ومكن لهم في البلاد وأذل لهم رقاب العباد[29].
فقد نظر عمر - رضي الله عنه - إلى الباعث على الحكم فقرر أنه مؤقت بوصف متى زال ما بني عليه وهذا الوصف ضعف المسلمين وقوة عدوهم، وقد أعزهم الله ومكن لهم في الأرض فليس هناك حاجة إلى الإبقاء على هذا السهم.
وقال آخرون بل هو باق، ونظروا إلى أمرين:
الأول: أن النص القرآني الكريم واضح في هذا، وهو لم ينسخه شيء مع أنه لم يقترن بعلة تدل على وضوح العلَِّية التي أشير لها تبريراً للرأي الأول و(أل) في المؤلفة قلوبهم تؤكد بقاء هذا السهم ما وجد سبب للتألف على الإسلام وهو رجاء إسلام الكافر بدفعه إليه، أو كف شره، أو نحو ذلك مما ذكر من دواعي التأليف، في كتب الفقه.(131/15)
الأمر الثاني: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - تألف على الإسلام بعد فتح مكة وكسر هوازن في وقت قد أعز الله الإسلام وأهله ومكن لهم في البلاد وبين العباد[30].
وهذا ما عليه الجمهور.
2 - ما صح عن عمر أيضاً - رضي الله عنه -: أنه جعل الطلاق ثلاثاً بلفظ واحد ثلاث طلقات تبين به الزوجة بيونة كبرى ولا تحل لمطلقها كذلك حتى تنكح زوجاً غيره في نكاح صحيح.
وقال مبيناً مبنى رأيه: إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم عقوبة لهم على تسرعهم في الطلاق الذي هو أبغض الحلال إلى الله.
فقد روى مسلم في صحيحه عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: ((كان الطلاق على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاقَ ثلاثٍ واحدةً)). فقال عمر بن الخطاب: إن الناس قد استعجلوا في أمر قد كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم[31].
وعمر - رضي الله عنه - لم يخف عليه أن السنة ما كان إلى السنتين الأوليين من خلافته وأنها توسعة من الله - تعالى - لعباده إذ جعل الطلاق مرة بعد مرة وما كان مرة بعد مرة لم يملك المكلف إيقاع مرات كلها جملة واحدة كاللعان، إنه لو قال: أشهد بالله أربع شهادات أني لمن الصادقين كان مرة واحدة، ولو حلف في القسامة وقال: "أقسم بالله خمسين يميناً أن هذا قالتل" كان كذلك يميناً واحدة.
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - ((من قال في يومه: سبحان الله وبحمده مائة مرة حطت عنه خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر))[32].
فلو قال: سبحان الله وبحمده مائة مرة لم يحصل له هذا الثواب حتى يقولها مرة بعد مرة.
فهذه النصوص وغيرها مما في معناها مما دل على اعتبار إيقاع المعدود بعددٍ مرة بعد مرة هو الذي يدل عليه المعقول من اللغة والعرف.
وقوله تعالى: {الطلاق مرتان}[33] بابها وتلك النصوص واحد ومشكاتها واحدة.(131/16)
ومما دل عليه حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - مما كان عليه أمر الطلاق في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - هو الذي دل عليه الكتاب والسنة والقياس والإجماع القديم، ولم يأت بعده إجماع يبطله.
ولكنْ رأَى أمير المؤمنين عمر - رضي الله عنه -: أن الناس قد استهانوا بأمر الطلاق، وكثر منهم إيقاعه جملة واحدة فرأى من المصلحة عقوبتهم بإمضائه عليهم ليعلموا أن أحدهم إذا أوقعه جملة بانت منه المرأة وحرمت عليه حتى تنكح زوجاً غيره نكاح رغبة يراد للدوام لا نكاح تحليل فإنه كان من أشد الناس فيه فإذا علموا ذلك فكوا عن الطلاق المحرم فرأى عمر أن هذه مصلحة لهم في زمانه ورأى أن ما كانوا عليه في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وعهد الصديق وصدراً من خلافته كان الأليق بهم لأنهم لم يتتابعوا فيه وكانوا يتقون الله في الطلاق وقد جعل الله لكل من اتقاه مخرجاً فلما تركوا تقوى الله وتلاعبوا بكتاب الله وطلقوا على غير ما شرعه الله ألزمهم بما التزموه عقوبة لهم[34].
6 - أن مصادر التشريع في هذه الفترة هي:
1 - الكتاب. 2 - السنة. 3 - الإجماع. 4 - الرأي بمعناه الأعم.
هذا هو ما أردت أن أتطرق إليه من أهم عوامل تطور أصول الفقه في هذا الدور والله المستعان.
عصر الأمويين - أو عصر صغار الصحابة - رضي الله عنهم -
أ) في هذا الدور الذي يبدأ من ولاية معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه - سنة 41هـ إلى الوقت الذي عرضت فيه بوادر الضعف في الدولة الأموية، وذلك في أوائل القرن الثاني الهجري - في هذا الدور - سار الاجتهاد على نحو ما سبق في عصر الراشدين من حيث اعتماده على الكتاب والسنة ثم الإجماع ثم الرأي إلا أنه قد جدت أحداث سياسية وأخرى غير سياسية كان لها أثر ظاهر في الحركة الاجتهادية.(131/17)
فعلى الرغم من أن العام الحادي والأربعين يسمى بعام الجماعة إذ أن كلمة المسلمين قد اجتمعت على خلافة معاوية بعد تنازل الحسن بن على - رضي الله عنهما - له عن الخلافة حقناً للدماء، وجمعاً لشتات المسلمين وحذراً من تفرق جمعهم، إلا أن ذلك لم يمنع من وجود طوائف تضمر الكيد والخلاف لمعاوية كالخوارج والشيعة فكان المسلمون بسبب هذا الخلاف ثلاث طوائف:
1 - خوارج.
2 - شيعة.
3 - وجمهور.
أما الخوارج: فهم الذين انشقوا على أمير المؤمنين على بن أبي طالب - رضي الله عنه - حين رضي بالتحكيم بينه وبين معاوية بحجة أنه جعل الحكم إلى الرجال ولا حُكْمَ إلا لله[35].
وقد تعددت فرق الخوارج حتى أحصاها بعضهم نحواً من عشرين إلا أن أشهرها خمس فرق:
1 - الأزارقة أتباع نافع بن الأزرق، ومذهب هذه الفرقة يقوم على تكفير المسلمين ما عداهم.
2 - الصفرية أتباع زياد بن الأصفر وهي أشبه الأزارقة في أكثر ما يختص بها.
3 - النجدات: أتباع نجدة بن عطية بن عامر الحنفي وأهم ما تنفرد به هذه الطائفة أن الدين أمران معرفة الله ومعرفة رسوله.
4 - البيهسية أتباع أبي بيهس: هيجم بن جابر.
5 - الإباطية - أتباع عبد الله بن إباض المري، ولا تزال منها بقايا إلى اليوم - أعني الإباضية - في عمان - من الخليج العربي - والجزائر وشرقي أفريقية[36].
وأما الشيعة: فهم فرقة لا يرون الخلافة حقاً إلا لعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وآل بيته لما يرونه من أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أوصى بالخلافة له من بعده ومن ثم يكون من سلبهم هذا الحق ظالماً لا تصح ولايته ونتيجة لذلك لم يعترفوا بخلافة الأمويين وجوزوا الخروج عليهم إذا واتتهم الفرصة وهم فرق أشهرها الإمامية، ,الكيسانية، والزيدية.(131/18)
والزيدية هم أتباع زيد بن علي بن الحسين بن أبي طالب - رضي الله عنه - ولم يدع زيد الإمامة لنفسه وإنما خرج للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لكن شيعة الكوفة لما رأوا رأيه في الثورة على الأمويين قالوا بإمامته[37]. وتتمركز من في اليمن من جنوب شبه الجزيرة العربية[38].
ب) الذي يهمنا في هذا الفصل استبانة مدى أثر هذه الفرق على الاجتهاد في الفقه الإسلامي فنقول:
أولا: أثر الخوارج:
إن أهم ما يتميز به مذهب الخوارج: التكفير بالذنوب مطلقاً سواء أكانت مما يكفر بجنسه عند أهل السنة والجماعة (الجمهور) أم لا، ويقولون - أي الخوارج - بخلود صاحبها في النار أبد الآباد إذ من دخل النار لا يخرج منها مطلقاً.
وبهذا نرى أنهم ألغوا الكثير من نصوص الشريعة، إذ لم يأخذوا إلا بنصوص الوعيد وتركوا نصوص الوعد وانهدم تبعاً لذلك الجمع بين ما ظاهره التعارض من النصوص، خاصة ما جاء في الوعد والوعيد[39].
والأصل في هذا عندهم أن نصوص الوعيد محمولة على الاستقلال بإفادة الحكم الذي تتضمنه دون النظر إلى أدلة أخرى خارجة عنها مثل قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً}[40].
فإنهم لا يقيدون الإطلاق في هذه الآية ونحوها من نصوص الوعيد بقوله تعالى:
{إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}[41].(131/19)
فإنه ظاهر من مذهبهم أن المغفرة لما دون الشرك إنما تكون للمؤمن بعد التوبة هذا هو الظاهر من كلام بهجة الأنوار المتقدم الذكر[42] فإنه يلوح منه أن المحاسبة للمؤمن المقصر التائب هي ثمرة فهمهم لآيات الوعد الكريم من الله الوارد في كتابه وعلى لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - مع طعنهم في الأحاديث التي لا ترد عن طريق أهل ملتهم ولا يقبلون من الإجماع إلا الإجماع الحاصل قبل خلافهم على - رضي الله عنه -. هذا أهم أصل خالفوا فيه أهل السنة في أمر التوحيد.
أما في الجانب الفقهي فإن لهم اجتهاداتهم الخاصة ومن ذلك أنهم لا يرجمون الزاني ولا يقبلون في الجملة ما ورد من اجتهادات عن كبار الصحابة بعد الفرقة التي كانت زعامتها فيهم نعوذ بالله من الفرقة عن الحق والتفرق عن أهله، ولهم مفاهيمهم الفقيهة الخاصة بهم.
وأما الشيعة:
فكان لانفرادهم في نزعتهم سوء ظنهم بمن يخالفهم في التشيع، الأثر العميق في الاجتهاد الفقيه، وذلك أن الفقه عندهم وإن كان يعتمد على الكتاب والسنة - أصلاً - إلا أن منهجهم في الاستنباط يخالف مذهب أهل السنة والجماعة من وجوه:
أحدهم: كونهم لا يقبلون من الأحاديث ولا من الأصول أو الفروع شيئاً إلا ما كان عن طريق أئمتهم مهما كانت درجته من الصحة.
الثاني: أنهم ما كانوا يرون الأخذ بالإجماع أو استعمال الرأي، وقد نرى في بعض كتبهم القول بالإجماع يشرط أن يكون فيهم المعصوم وتلك خديعة حاذقة، ذلك أن مبنى هذا أن عدم وجود الإمام المعصوم مفسد للإجماع، فوجوده إذاً هو المعتبر دون غيره إذ لو أجمعت الأمة كلها على مر عصورها وتعاقب أجيالها ولا يكون في الأمة أي جيل هذا المعصوم فلا عبرة بإجماعها[43].(131/20)
فاعتقادهم العصمة في أئمتهم وسوء الظن بغيرهم جعلهم لا يعتدون بخيار الأمة من الرعيل الأول - رضي الله عنهم - في إجماع ولا في رأي ولا في نقل حديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لهذا كان مذهبهم أن الأخذ من الكتاب والسنة إنما يكون عن طريق أئمتهم فهماً ونقلاً.
الثالث: أنهم كانوا يفسرون القرآن الكريم تفسيراً يتفق ومبادئهم - ولا يأخذون بتفسير غيرهم ولا بما يعتمد على حديثه لغير أئمتهم[44].
ومن الواضح أن مسلكهم هذا أوجد مفاهيم شاذة عن الجادة التي عليها جمهور المسلمين وحملهم على نبذ الكثير من الأحاديث القوية والآراء السديدة وليس لذلك من سبب سوى أنها عن غير الشيعة.
ومخالفتهم فيما خالفوا فيه من أصول استتبع مخالفتهم لأهل السنة في كثير من الأحكام منها:
نكاح المتعة فهم لا يرون فيه بأساً بل هو جائز إلى يوم القيامة بل يرونه قربة إلى الله ويستشهدون لذلك بظاهر قوله تعالى: {فما استمتعتم به منهن فأتوهن أجورهن}[45] ويقول بعض أئمتهم: ليس منا من لم يستحل المتعة. والآية عند كافة أهل السنة والجماعة على ما استقر الأمر أخيراً عليه فهي عندهم محمولة على النكاح المعروف[46] وما يجب للزوجة من المهر كاملاً، وقد صحت السنة بالنهي عن نكاح المتعة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وممن روى النهي عن نكاح المتعة عن النبي صلى الله عليه وسلم - أمير المؤمنين على بن أبي طالب حيث قال:
إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهي عن نكاح المتعة، وعن لحوم الحمر الأهلية زمن خيبر، وفى رواية: ((نهي عن متعة النساء يوم خيبر وعن لحوم الحمر الأنسية)) متفق عليه.
وهذا مثال على ما خالفوا فيه الجمهور ولهم مخالفات عديدة ولهم كتبهم في الفروع والأصول تخدم مذهبهم وهنالك يمكن لنا أن نطلع على العديد من الصور والمسائل التي خالفوا فيها أهل السنة والجماعة.(131/21)
وما عدا الشيعة والخوارج ومنهج سبيلهم من الفرق المخالفة لأهل السنة، ما عدا هؤلاء هم الجمهور: أهل السنة والجماعة من المسلمين.
ومذهبهم قبول الأخذ بما صح من الأحاديث عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - حسب ضوابطَ وأصولٍ وضعوها لمعرفة الصحيح من غيره.
هذا التفرق السياسي ووجود الفرق به هو السبب الأول للتأثير على الحركة الاجتهادية في هذا لدور على نحو ما أشرنا إليه.
أما السبب الثاني: لذلك، فإنه يرجع إلى اتساع رقعة الخلافة وانتشار الصحابة في الأمصار والمدن وذلك في عهد عثمان - رضي الله عنه[47] - وقد صاحب هذا التوسع في الفتوحات إذن الخليفة عثمان - رضي الله عنه - للصحابة في الانتشار وسكنى البلاد المفتوحة، فتفرقوا في الأقطار واستوطنوها عمالاً ومعلمين ومرابطين وكانت الأمصار متعطشة لمعرفة دين الإسلام والاستفادة من علومه على أيدي تلامذة المعلم الأول - صلى الله عليه وسلم -، فتدفق الناس على الصحابة كل في بلده ومدينته يستفتونهم ويروون عنهم مسموعاتههم من النبي - صلى الله عليه وسلم - ويتعلمون منهم العلم.(131/22)
ومن المسلََّم به أن الصحابة لم يكونوا في المحفوظ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا في الفهم سواء، كما أن الأمصار المفتوحة لم تكون متفقة عاداتها - ولا أعرافها ولا نظمها الاجتماعية والاقتصادية ولا طرقها في العيش والتعامل. فإذا انضاف إلى هذه الاعتبارات بعد الشقة بين عاصمة الخلافة والبلدان المفتحة وصعوبة المواصلات والاتصالات بين علماء الصحابة في شتى هذه المدن والأمصار ليستفيد بعضهم من بعض. فإنه من السهل أن تدرك أن ذلك سينتج عنه اختلاف الاجتهادات والفتاوى الفقهية في المسألة الواحدة بين المسائل الكثيرة. وأن كل أهل قُطْرٍ سيتمسكون بفتاوى علمائهم وأحاديثهم ويعولون على ما جرى عليه عملهم وحكم به قضاتهم لمبلغ ثقتهم بهم وخبرتهم بأحوالهم وسيرتهم فكان للمصريين فتاوى، وللشاميين أخرى، ولليمنيين وسائر المدن غيرها وكان بعد ذلك أن شعر التابعون بأن في الأمصار الأخرى علماً غير علمهم فأكثروا من الرحلة وعملوا على توثيق الروابط العلمية بين الأمصار فكان لذلك أثر لا ينكر في تقليل وجود الخلاف[48].
السبب الثالث: ظهور الوضع في الحديث.
وهذا السبب كان له الأثر السيء في عرقلة تقدم الاجتهاد الففهي وفي صعوبة مهمة الفقيه.
فلقد كان للإسلام أعداؤه المتربصون بأهله - الدوائر من اليهود وغيرهم - ممن تغلب عليهم المسلمون بقوة الإسلام وسلطانه وربما ساعدهم على هذا الوهم كون المسلمين يعتمدون على حفظهم في الصدور ما يروونه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من سنته القولية، أو الفعلية، أو التقريرية، طيلة بعثته في الثلاث والعشرين سنة؛ فما عليهم إلا أن يختلفوا من الأقاويل التي تخدم مآربهم ما ينسبونه إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - حديثاً طمعاً في استرداد ما ضاع منهم من مجد وجاه ودولة. عن طريق تحذير المسلمين بما يضعونه من أحاديث.(131/23)
فأما الكتاب العزيز فلحفظ الله إياه حفظاً من مظاهر انتشاره بين المسلمين وتلقيه عن طريق الكواف من الأئمة كانوا على يقين أنهم لن يجدوا سبيلاً لتضليل الناس فيه. فعمدوا إلى تكوين الجمعيات المخبرية وكان أول جمعية سرية بقيادة عبد الله بن سبأ اليهودي الذي أسلم ظاهراً ليتمكن من الدس والتنكيل بالمسلمين فلما ظهر أمره اختفى وصار إلى تنظيم النشاط المخرب سراً[49].
ومما لا ريب فيه أن هذه الحملة الشريرة تمادت حتى استطاعت أن تُروِّج لمفترياتها في كل باب من أبواب العلم في الإسلام.
فوجدت أحاديث في الأسماء واصفات للباري - تبارك وتعالى - تتضمن تشبيه الباري بالحوادث وتعطيله[50]، وفي باب العبادات أحاديث تتضمن من البدع ما يحرف السالك عن الصراط السوي، وأحاديث في باب الحلال والحرام حتى كثر الوضع كثرة مزعجة مروعة بتصدع الوحدة الإسلامية وظهور الفرق الدينية، فاستباح الشيعة لأنفسهم أن يضعوا الأحاديث التي تؤيد مذاهبهم وكذلك الخوارج وكثرت بعد ذلك الأسباب الحاملة على الوضع، ومما يدل على مبلغ الوضع في هذا الدور: أن ابن عباس - رضي الله عنهما - وهو المعروف بالرغبة في جمع الحديث والجد في طلبه يقول فيما يرويه مسلم ((إنما كنا نحدث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ لم يكن يكذب عليه، فلما ركب الناس الصعب والذلول تركنا الحديث عنه)).
وفي رواية عنه: (( إنما كنا نحفظ الحديث والحديث يحفظ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأما إذا ركبتم كل صعب وذلول فهيهات))[51].(131/24)
وعن مجاهد قال: جاء بشير العدوى إلى ابن عباس فجعل يحدث ويقول قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فجعل ابن عباس لا يأذن[52] لحديثه ولا ينظر إليه فقال يا ابن عباس مالي لا أراك تسمع لحديثي: أحدثك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا تسمع فقال ابن عباس: ((إنا كنا مرة إذا سمعنا رجلاً يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ابتدرته أبصارنا وأصغينا إليه بآذاننا فلما ركب الناس الصعب والذلول لم نأخذ من الناس إلا ما نعرف)).
وعن ابن أبي مليكة. قال: كتبت إلى ابن عباس أسأله أن يكتب لي كتابًا ويخفى عني[53] فقال: "ولدٌ ناصح أنا أختار له الأمور اختيارًا أو أخفي عنه". قال" فدعا بقضاء على فجعل يكتب من أشياء ويمر به الشيء فيقول: والله ما قضي بهذا على إلا أن يكون ضل".
وقال طاووس: "أتى ابن عباس بكتاب فيه قضاء علي - رضي الله عنه - فمحاه إلا قدر - وأشار سفيان بن عيينة - (أحد رواة الخبر) - بذراعه"[54].
وعن أبي إسحاق قال: لما أحدثوا تلك الأشياء بعد علي - رضي الله عنه - قال رجل من أصحاب علي قاتلهم الله. أيَّ علم أفسدوا.
وقال النووي[55] على قوله: "قاتلهم الله أيَّ علم أفسدوا" أنه إشارة إلى ما أدخلته الروافض والشيعة في علم علي - رضي الله عنه - وحديثه وتقولوه عليه من الأباطيل وأضافوه إليه من الروايات والأقاويل المفتعلة والمختلفة وخلطوه بالحق فلم يتميز ما هو صحيح عنه مما اختلفوه[56].(131/25)
وإذا كان الزنادقة والمتربصون بالإسلام من أهل سائر ملل الكفر قد طوع لهم كفرهم وأطماعهم وأحقادهم أن يختلقوا ما اختلقوا من أحاديث قذفوا بها في نحور الأمة الإسلامية علهم يصيبون منها مقتلاً لتدور لهم الدائرة بعد أن هُزموا بفكر الإسلام وسيفه، فإن هذا المنكر لم يقف عند حد هؤلاء بل قد سلك مسلكهم بعض الجهلة المتسمين بسمة الزهاد فوضعوا أحاديث في أبواب الترغيب والترهيب فقالوا كذب للرسول - صلى الله عليه وسلم - ولا نكذب عليه وما دروا أن هذه طامة الطوام ودويهية أصفر الأنامل إذ يتضمن هذا - إلى جانب استحلال الكذب عليه - صلى الله عليه وسلم - وهو غاية الحرام - اتهامه بالتقصير في الإبلاغ حتى جاؤا يكملون ما به أخل ويتممون ما نقص ويكذبون قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي}[57].
فتلاقى على هذه المكيدة حقد ومكيدة الكافرين، وجهل وغباوة الجاهلين ومما لا شك ولا افتراء فيه أن ذلك الجهل في الأغبياء ثمرة من ثمرات أولئك الزنادقة.
وقد ظهر بما تقدم بعض الأسباب الحاملة على الوضع ويمكننا أن نجملها لك في سطور:
1 - العداوة الدينية:
لقد رأينا كيف أن ابن سبأ اليهودي وأضرابه تستروا بالإسلام وأخفوا وراء التشيع أغراضهم الدنيئة وتذرعوا بإظهار حب آل البيت ليدسوا على المسلمين ما أرادا به أن يطفئوا نور الله، ولكن الله - عزَّ وجلَّ - وعد بأن يخيب آمالهم ويتم نوره مهما حاولوا إطفاءه.
2 - التعصب المذهبي:
وذلك أن بعض الفرق المنتمية إلى الإسلام كان يدفعها غلوها في تأييد ما تذهب إليه إلى وضع أحاديث تشهد بصحة ما ترى. قال الحاكم أبو عبد الله: "كان محمد بن القاسم الطائكاني من رؤساء المرجئة يضع الحديث على مذهبهم".(131/26)
3 - متابعة بعض ما يستمون بسمة العلم لهؤلاء الأمراء والخلفاء يضعون لهم ما يعجبهم رغبة فيما في أيديهم كالذي حكى عن غياث بن إبراهيم أنه دخل على المهدي بن المنصور وكان يعجبه اللعب بالحمام فروي حديثًا: ((لا سبق إلا في خف أو حافر أو جناح)) فزاد كذباً أو جناح فأمر له المهدي بعشرة الآف درهم فلما قام ليخرج قال المهدي: أشهد أن قفاك قفا كذاب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "جناح" ولكنه أراد أن يتقرب إلينا.
4 - تساهل بعضه في باب الفضائل والترغيب والترهيب كالذي روى في فضائل القرآن سورة سورة.
5 - تغالي بعض الناس في أنهم لا يقبلون اجتهادات الصحابة وغيرهم فدعا ذلك بعض الوضعة إلى أن يعمد في كلام الصحابة وغيرهم وحكم العرب والحكماء فينسبها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم.
تكفل الله عزَّ وجلَّ بحفظ كتابه يشمل حفظه سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -:
إذا كان أعداء الإسلام قد أدركوا ما يرومون بوضع بعض المفتريات ونسبوها إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - فإنهم لم ينالوا خيراً وكفى الله المسلمين ضياع سنة نبيهم - صلى الله عليه وسلم - بين المفتريات والأباطيل؛ فإن الله - عزَّ وجلَّ - قد تكلف لحفظ كتابه. والسنة تفسير الكتاب وبيانه. قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [58] ولا يتم بيان التنزيل بسنة ضائعة بين ركام الكذب، ومن أجل ذلك قيض الله من أذكياء العالم ما أهَّلَهم لهذه المهمة فقاموا لله يذبون عن سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - فبينوا بالتمحيص والتنقيب ونبذ الزائف وتحقيق الحق ما تحقق به وعد ربنا فإنه - تعالى - لا يخلف الميعاد.(131/27)
ومن ذلك الوقت تكون فرع من فروع علم الحديث هو علم الجرح والتعديل وقد أجهد أئمة هذا العلم أنفسهم وتعقبوا الوضاعين وفضحوا عملهم وحذروا من كل واحد باسمه ولم يقبلوا مما حدثوا به شيئاً وبينوا أعيان الأحاديث التي وضعوها والأغراض التي حملتهم على الوضع حتى سلم الله الشريعة بفضله ومَنِّه من كيدهم.
وقد بدأ الكلام في الجرح والتعديل من عهد صغار الصحابة فقد رُويَتْ أقوال في ذلك عن عبد الله بن عباس - كما أسلفنا - وعن عبادة بن الصامت وأَنَس وكثُر القول في ذلك من التابعين ومن أقوالهم ما نذكر لبعضهم فيما يلي.
1 - قال عبد الله بن المبارك: الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء وقال أيضاً: دعوا حديث عمرو بن ثابت فإنه كان يسب السلف.
2 - وحدث أبو عقيل صاحب بهية قال: كنت جالساً عند القاسم بن عبد الله، ويحيى بن سعيد فقال يحيى للقاسم: يا أبا محمد إنه قبيح على مثلك عظيم أن تسأل عن شيء من أمر هذا الدين. فلا يوجد عندك منه علم ولا فرج أو علم ولا مخرج فقال له القاسم: وعم ذاك؟ قال: لأنك ابن إمامي هدى ابن أبي بكر وعمر قال: يقول له القاسم: أقبح من ذلك عند من عقل عن الله أن أقول بغير علم أو آخذ عن غير ثقة. قال فسكت فما أجابه.
3 - قال يحيى بن سعيد: سألت سفيان الثوري وشعبة ومالكًا وابن عيينة عن الرجل لا يكون ثبتاً في الحديث فيأتيني الرجل فيسألني عنه قالوا: أخبر عنه أنه ليس ثبتًا.
4 - وقال شعبة: لقيت شرهاً فلم أعتد به يعني شهر بن حوشب أبا سعيد ويقال: أبو عبد الله وأبو عبد الرحمن وأبو الجعد الشعري الشامي الحمصي وقيل: الدمشقي[59].
وقد ذكر جلال الدين عبد الرحمن السيوطي في شرح تقريب النواوي المسمى بتدريب الراوي ضوابط في الوضع وأقسام الواضعين فذكر من الأول:
1 - الإقرار بالوضع من الواضع وذكر خلاف الأصوليين في ذلك.(131/28)
2 - معنى إقراره كأن يحدث بحديث عن شيخ ويسأل عن مولده فيذكر تاريخاً لعام وفاة ذلك قبله ولا يعرف ذلك الحديث إلا عنده.
3 - قرينة في الراوي أو المروي وذكر من ذلك طول الأحاديث مع ركة لفظها ومعانيها.
قال الربيع بن خثيم: إن للحديث ضوءًا كضوء النهار تعرفه، وظلمة كظلمة الليل تنكره. إلى أن قال: أو يكون خبراً عن أمر جسيم تتوفر الدواعي على نقله بمحضر الجمع ثم لا ينقله منهم إلا واحد. ومنها الإفراط بالوعيد الشديد على الأمر الصغير أوا لوعد العظيم على الفعل الحقير وهذا كثير في حديث القصاص والأخير راجع إلى الركة وقال) قلت: ومن القرائن كون الراوي رافضيًا والحديث في فضائل أهل البيت.. إلخ[60].
وذكر للوضع أقساماً فقال: والواضعون أقسام بحسب الأمر الحامل لهم على الوضع أعظمهم ضرراً قوم ينسبون إلى الزهد وضعوه احتسابا للأجر عند الله في زعمهم الفاسد فقبلت موضوعاتهم ثقة بهم وركونًا إليهم لما نسبوا إليه من الزهد والصلاح.
وذكر كلاما ليحيى القطان هنا منه: ولكن الواضعون منهم وإن خفى حالهم على كثير من الناس فإنه لم خف على جهابذة الحديث ونقاده وقد قيل لابن المبارك هذه الأحاديث الموضوعة؟ فقال: تعيش لها الجهابذة: {إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}.
ومن أمثلة ما وضع حسبة: ما رواه الحاكم بسنده إلى أبي عمار المروزي أنه قيل لأبي عصمة نوح بن أبي مريم: من أين لك عن عكرمة عن ابن عباس في فضائل القرآن سورة سورة، وليس عند أصحاب عكرمة هذا؟ فقال: إني رأيت الناس قد أعرضوا عن القرآن واشتغلوا بفقه أبي حنفة ومغازي ابن إسحاق فوضعت هذا الحديث حسبة. وكان يقال لأبي عصمة هذا: نوح الجامع. قال ابن حيان: جمع كل شيء إلا الصدق... إلخ.
الضرب الثاني: قوم كانوا يتكسبون بذلك ويرتزقون به في قصصهم كأبي سعيد المدائني.(131/29)
الضرب الثالث: أرباب النحل والمذاهب البدعية كالكرامية نسبة إلى محمد بن كرَّام بتشديد الراء السجستاني المتكلم.
الضرب الرابع: وضع الزنادقة فقد وضعت جملاً من الأحاديث ليفسدوا بها الدين.
روى العقيلي بسنده إلى حماد بن زيد قال: وضعت الزنادقة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربعة عشر ألف حديث منهم عبد الكريم بن أبي العوجاء الذي قتل وصلب في زمن المهدي[61].
ومما تقدم يتضح أن الوضاعين وإن لم يبلغوا مأربهم من الدين لمناهضة العلماء لهم ومقاومتهم إيَّاهم إلا أنهم قبحهم الله - إلا من تاب إلى رشده منهم - وضعوا في طريق المجتهدين ما عرقل سيرهم وجعله بطيئاً وعسيرًا فبعد أن كان الفقيه لا يشغله شاغل بعد سماع الحديث عن النظر فيه والاستنتاج منه وهو واثق مطمئن أصبح واجباً عليه أن يُعني قبل كلِّ شيء ببحث الحديث متنًا وإسنادًا والتثبت من صحتهما، حتى إذا تبددت غياهب الشك حل له أن ينظر ويستنبط فلا يبلغ ما يروم إلا بعد جهد ومشقة وطول عناء.
أما السبب الرابع: من الأسباب التي كان لها الأثر في الاجتهاد في هذه الفترة فهو انقسام العلماء:
شاء الله - عزَّ وجلَّ - أن ينقسم جمهور الأمة الذين سلمهم الله من بدعتي الخروج والتشيع إلى أهل حديث وأهل رأي.
وذلك نتيجة لما سلكوا في الفقه، فجماعة: امتازت بشدة الاشتغال بالنصوص والآثار والتمسك بها، وآخرون: امتازوا بالتوسع في استعمال الرأي. ومن هنا نشأت تسمية الفريق الأول بأهل الحديث، وتسمية الفريق الثاني بأهل الرأي.
وكان الفريق الأول بالحجاز[62] وزعيمه سعيد بن المسيب القرشي؛ إذ رأى هو وأصحابه أن أهل الحرمين الشريفين أثبت الناس في الحديث والفقه، وأعلمهم بفتاوى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه فأكب على حفظ ما بأيديهم من الآثار ورأى أنه بعد هذا في غنية عن استعمال الرأي.(131/30)
أما الفريق الثاني فكان مركزه العراق وعلى رأسهم: إبراهيم النخعي[63] وطريقتهم مبنية على أن أحكام الشرع معقولة المعنى مشتملة على مصالح راجعة إلى العباد. ذات أصول محكمة وعلل ضابطة لتلك المعاني والحكم فكانوا يبحثون عندها المعاني والعلل ويستجلون الحكم التي شُرعت الأحكام لأجلها حتى يستقر عندهم دوران الحكم معها وجودًا وعدمًا.
وربما رد بعض هذا الفريق شيئاً من الأحاديث إذا لم تتمش مع تلك الضوابط والأصول لأن تلك الأصول الضوابط عنده تبلورت من جملة نصوص، والنص الواحد لا يقاوم العدد.
أما الفريق الأول فكان بحثه عن النصوص أكثر من بحثه عن العلل إلا فيما لم يجد فيه أثراً.
ويرجع شيوع الرأي في العراق إلى:
أولاً: أن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - هو أستاذ في هذه المدرسة، وقد كان من المتأثرين بعمر بن الخطاب في الاجتهاد الفقهي الذي اعتمد على استعمال الرأي، فكان تأثير ابن مسعود على مدرسته أمرًا طبيعيًا.
ثانياً: أن العراق منبع الشيعة ومقر الخوارج فقد شاع فيها الوضع في الحديث فاشترط علماؤها شروطًا لقبول الحديث لا يسلم معها إلا القليل فإذا ضم إلى هذا اكتفاؤهم بمروي نزلاء العراق من الصحابة من الحديث كان المعول عليه من الأثر قليلاً فلا مندوحة لهم حينئذ من التوسع في الرأي.
ثالثا: أن المسائل التي يُحتَاج إلى تعرف أحكامها في العراق أكثر وأعقد منها في الحجاز؛ إذ كان الحجاز بمنأى عن تلك النشاطات الفكرية والاجتماعية التي ماج بها العراق لما جد من حركة التشيع والخروج مع ذات طبيعة أهله، وهذا بلا شك مع قلة المعول عليه من الأحاديث، عامل قوي في التوسع في استعمال الرأي.
ولقد كان الفقه في مدرسة الحديث واقعياً فلم يفرضوا المسائل ويقدروا لها أحكامها، أما في مدرسة الرأي ففي أول الأمر كان واقعيًا ثم ما لبث أن اتجه إلى الفروض والتقديرات خصوصاً حين وضعوا الضوابط والقواعد ليفرعوا عليها.(131/31)
تلك أهم أحداث هذه المرحلة ومنها اتسعت دائرة الخلاف مما يتعذر معه الإجماع إلا ما كان اتفاقًا.
هذا وقد انقضت هذه المرحلة دون أن يدون فيها شيء من العلوم بصفة ذاتية ولم تتكون فيها مذاهب معينة: فهي تشبه المرحلة السابقة من تلك الناحية وتخالفها من جهة كثرة الاختلاف وتشعب الآراء للأسباب التي ذكرت.
الطور الثالث من أطوار الاجتهاد الفقهي:
أ - الربط بين هذا الدور والدور الذي قبله.
ب - بدء نشوء مدرستي الظاهر والرأي.
جـ - التغيرات التي طرأت في هذا الدور على الاجتهاد الفقهي وأسبابها.
د - تدوين أصول الفقه.
هـ - منهج الشافعي في الرسالة.
و - أصول الفقه بعد الإمام الشافعي - رضي الله عنه -.
ر - التدوين لأصول الفقه من نهاية القرن الرابع إلى آخر القرن الرابع عشر الهجري.
ح - طريقة المتكلمين في تأليف أصول الفقه ومؤلفاتها وخصائصها.
ط - طريقة الفقهاء في تأليف أصول الفقه ومؤلفاتها وخصائصها.
ي - المؤلفات الجامعة للطريقتين.
الطور الثالث للاجتهاد الفقهي من أول القرن الثاني إلى الآن:
أ - الربط بين هذا الدور والذي قبله:
ظل الصحابة - رضي الله عنهم - بعد أن لحق الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالرفيق الأعلى ملتزمين المنهج الذي تركهم عليه هذا النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - في الفتوى والقضاء والإجابة عن الأسئلة التي كانت تعرض عليهم حتى كان واقعهم - رضي الله عنهم - بمثابة العرض الأمين لما كان عليه الحال في عهد المصطفى - صلى الله عليه وسلم - سواء في ذلك ما يتصل بشؤون العبادة وما يتصل بشؤون العباد في حياتهم اليومية على وجه يزيل الحرج ويضمن المصلحة التي جاء بهذا هذا الدين.(131/32)
ولقد اتسعت الدولة، وامتد الفتح، وتعددت الأفعال، وتنوعت التصرفات، ومع ذلك فقد كان الصحابة - رضي الله عنهم - إذا عرضت الوقائع عليهم أفتوا فيها بمعاني النصوص، وبمقتضى الإشارات، والإيماءات، والاقتضاءات، والضرورات، وبطريق القياس والاستحسان، والمصالح، وسد الذرائع والاستصحاب، والأخذ بالقرائن، والاهتداء بالأمارات، وبما وقَر في نفوسهم من الثقة بالمروِّي وبما شرطه أحدهم في الحديث من شروطٍ خوفًا من الكذب والغلط على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبما جاء مخصصاً أو مقيداً أو مفسرًا، وقد انعكست هذه الطرق على الكيفيات والصور وغطت الاجتهادات أفعال الناس بالأحكام.
وهكذا استمد العلم المعاني اللغوية والعربية والمعاني الشرعية المفهومة من الرسول - صلى الله عليه وسلم - والمعلومة من النصوص في قلوب التابعين بعد الصحابة فامتلأت وتقدم الحقيقة على التجوز، ودلالة النص على الفهم بالرأي والمحكم على المفسر والمفسر على المحتمل الظاهر.
ب - بدء نشوء الأخذ بالظاهر والمعنى - أو مدرستي الظاهر والرأي:
وأخذ التابعون من قصة بني قريظة علماً بجواز سلوك ظاهر النص، وجواز البحث عن المقاصد والأسرار فوُجِد بذلك طريقان أو مدرستان:
مدرسة غلب على أهلها تقديم النصوص وكثرة الاعتماد في الاستنباط على أصلها لعدم الحاجة إلى الرأي بسبب قلة الحوادث وكثرة النصوص والثقة بصدقها لعد الكاذبين الضالين هناك، وأهل هذه المدرسة هم أهل الحديث أو أهل المدينة كما سلفت الإشارة إلى ذلك.
والثانية: تكثر من الاجتهاد بالرأي وتشترط شروطًا كثيرة وشديدة لقبول الحديث لا يسلم معها إلا القليل.
وينجم هذا من حال البلد الذي يعيش فيه هذا العالم وحال الصحابي الذي اختار هذا البلد مسكنًا له حين هاجر من الحجاز، وما عليه أهل البلد من أعراف في شؤونهم المختلفة.
وبذلك تأسست المدارس الفقهية الإسلامية.(131/33)
وفي كل مصر كان علماء من الصحابة والتابعين وأئمة بعدَهم لهم لغتُهم وعلمُهم وروايتُهم وآراؤُهم وتلاميذُهم، ومع هذا وسعت مبادئ الشريعة والاجتهادات والآراء حتى عمت رحمتها وعدالتها كلَّ الناس.
ولا ريب أنه كلما كان العهد قريبًا بحياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسنته ومعاني التنزيل التي شرحها والفتاوى والأحكام التي صدرت منه كانت الأحكام التي تؤسس على هذا المنهج على كمالها: علمًا وحفظًا وفهماً وسنة وعربية وخشية من الله - عزَّ وجلَّ - هي النبراس الذي يضيء الطريق والهادي الأمين إلى الحياة الشرعية التي يريد الله - تعالى - أن يكون عليها البشر في هذه الدار.
جـ - التغيرات التي طرأت على الاجتهاد الفقهي في هذا لدور وأسبابها:
وقد حدثت في هذا الدور الذي نكتب فيه تغيرات طرأت على الاجتهاد الفقهي نلخص بعضًا من ظواهرها فيما يلي:
أولاً: عناية الخلفاء العباسيين بالفقه والفقهاء فقد كانوا لا يقصرون همهم على النواحي السياسية وحسب كما كان الشأن في العهد الأموي، بل كان اهتمامهم بالفقه والفقهاء يتخذ أشكالاً متعددة، فمنهم من يدني الفقهاء ويؤثرهم بخاصته كأبي جعفر المنصور، ومنهم من يتعقب الزنادقة ويشتد في تعذيبهم حتى أنشأ دائرة متخصصة للبحث عنهم والتنكيل بهم[64].
وكان الرشيد يخص أبا يوسف بالصحبة والملازمة، والمأمون يشاطر العلماء الجدل العلمي ويستنهض همهم إلى النقاش الحاد ويثير القول بخلق القرآن، تلك الفتنة العمياء التي كانت نكتة داكنة في تاريخ المأمون لن تنسى مهما كانت محاسنه. وامتحن فيها علماء سلف الأمة وأئمتها وكان أشدهم أذى الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله - حيثُ عُذب عذاباً لم ينله أحدٌ قبلَه وكان صابرًا محتسباً ثابتًا على الحق.(131/34)
وقد كان لهذه العناية من الخلفاء الأثر الواضح في التشريع إذ اتسع مجال الفقه، وغدا المحور الذي تدور عليه وحوله شؤون الدولة في جميع المجالات؛ فكتاب الخراج لأبي يوسف من ثمار هذا النشاط وقد عالج أبو يوسف فيه كل ما يتعلق بجباية الأموال.
بل إن الأمر تجاوز معالجة واقع الناس إلى افتراضِ المسائل وتقديرِ أحكامٍ لها حتى تضخم الفقه ونما نموًا عظيماً شاهدُه ما حفلت به المدونات الفقهية في ذلك العصر.
ثانياً: اتساع الجدل وشيوع الخلاف:
لقد امتازت هذه الفترة ببلوغ الجدل فيها أشده واتساعِ مداه لكثرة العلماء وانفراج الحياة الاجتماعية عما كانت عليه من قبل والتوسع في الرأي، والاعتماد عليه في القياس واستمداد أساليب الجدل من المنطق. وكان الجدل بين العلماء يدور حول تحديد معاني الألفاظ اللغوية وحمل الكلام على الحقيقة أو المجاز حول الكتاب بالسنة والعكس وعمل الصحابي أهو حجة أم لا؟ والقياس ومداه ومتى يصح ومتى لا يصح إلى غير ذلك مما يعتمد عليه الفقيه في الاستنباط واستخراج الأحكام.(131/35)
ومما يؤكد لنا شغف القوم بالجدل والمناظرة أن كل مكان يلتقي فيه العلماء تدور بينهم المناقشات الجدلية والنظرية سواء في حلقات الدروس، أو [أم] المنازل أو [أم] في المساجد أو [أم] في مواسم الحج أو [أم] غيرها بالمكاتبة أو المشافهة، واقرأ من أوثق المدونات في أوائل هذا العصر: الأم للإمام محمد بن إدريس الشافعي الرسالة، أيضاً تجد أثر هذا الأسلوب جلياً واضحًا في تأليفهما، واقرأ ما شئت سواهما من كتب هذا العهد التي زخرت بتلك المناظرات حتى كانت مرآة صافية تعكس عقلية أولئك العلماء وقوة ذهنهم وقدرتهم على التركيز لما يفهمونه من الأحكام وحتى ساعدت المتأخرين على معرفة وجه الرأي بين أسلافهم، وهدتهم إلى مآخذ الحكم عند كل فريق، وكان غذاء للروح العلمي فيما بعد، غير أن تلك المناظرات لم تُنْقَلْ كلُّها إلينا على حقيقتها بل تناولها المتأخرون بالتحوير والتحريف بل ربما اختلقوا مناظرات ونسبوها إلى الأولين ترويجا لمذاهبهم واستجابة لداعي العصبية المذهبية.
من سيئات الجدل في هذا الدور:
بعد أن كان الجدل يقصده العلماء للوصول إلى الحق فحسب، أصبح في هذا الدور يستخدم كثيراً لمجرد التغلب على الخصم، وتزييف مذهب المخالف حتى انحرف عن السنن وحُشِدَ فيه مالا يتصل بجوهر الموضوعات ولذلك نرى كثيراً مما وصل إلينا غريباً على العلم وزائدًا عن الحاجة.
نموذج للمناظرات التي كان تجري بين العلماء في هذا الدور:
روى الفخر الرازي[65]: "أن محمد بن الحسن[66] صاحبَ أبي حنيفة) قال للشافعي يوماً: بلغني أنك تخالفنا في مسائل الغصب[67] قال الشافعي: أصلحك الله إنما هو شيء أتكلم به في المناظرة، قال: فناظرني... قال محمد: ما تقول في رجل غصب ساحة وبني عليها جدارًا وأنفق عليها ألف دينار فجاء صاحب الساحة وأقام شاهدين على أنها ملكه؟
فقال الشافعي: أقول لصاحب الساحة ترضى أن تأخذ قيمتها؟ فإن رضي - وإلا قلعت البناء ودفعت ساحته إليه.(131/36)
قال محمد بن الحسن: فما تقول في رجل غصب لوحاً من خشب فأدخله في سفينة ووصلت السفينة إلى لُجَّةِ البحر فأتى صاحب اللوح بشاهدين عدلين أكنت تنزع اللوح من السفينة؟ قال: لا، قال (محمد): الله أكبر تركت قولك، ثم قال (محمد): ما تقول في رجل غصب خيطًا من إبريسم فمزق بطنه فخاط بذلك الابرسيم تلك لجراحة فجاء صاحب الخيط بشاهدين عدلين أن هذا الخيط مغصوب أكنت تنزع الخيط من بطنه؟ قال: لا، قال (محمد): الله أكبر تركت قولك وقال أصحابه أيضا تركت قولك.
قال الشافعي: فقلت لا تعجلوا أرأيت لو كان اللوح لوح نفسه ثم أراد أن ينزع ذلك اللوح من السفينة حال كونها في لجة البحر أمباح له ذلك أم محرم عليه؟ قال: يحرم عليه. قلت: أرأيت لو كان الخيط خيط نفسه وأراد أن ينزعه من بطنه ويقتل نفسه أمباح له ذلك أم محرم؟ قال: بل محرم، قلت: أرأيت لو جاء مالك الساحة وأراد أن يهدم البناء أيحرم عليه ذلك أم يباح؟ قال: بل يباح قال الشافعي: فكيف تقيس مباحاً على محرم؟ قال محمد: فكيف تصنع بصاحب السفينة؟ قلت: آمره أن يسيرها إلى أقرب السواحل ثم أقول له: أنزل اللوح وادفعه إليه، فقال محمد بن الحسن: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا ضرر ولا ضرار في الإسلام)) فقال الشافعي: من ضره؟ هو ضر نفسه، ثم قال الشافعي: ما تقول في رجل من الأشراف غصب جارية لرجل من الزنج في غاية الرذالة ثم أولدها عشرة كلهم قضاة سادة أشراف خطباء فأتى صاحب الجارية بشاهدين عدلين أن هذه الجارية التي هي أم هؤلاء الأولاد مملوكة له، ماذا تعمل؟ قل محمد: أحكم بأن أولئك الأولاد مماليك لذلك الرجل: قال الشافعي: أنشدك الله أيُّ هذين أعظم ضرراً: أن تقلع الساحة وتردها إلى مالكها أو تحكم برق هؤلاء الأولاد؟ فانقطع محمد بن الحسن[68].(131/37)
هذه المحاورة بين هذين أنموذج حيٌّ لما كان يجري من مجالس علمية تُمتَحنُ فيها أصول كلِّ إمام بما يقرر، من جزئيات، فهذا الإمام الشافعي - رضي الله عنه - يقول لمحمد بن الحسن(.. فكيف تقيس مباحاً على محرم) ويقول أيضاً لما قال له محمد بن الحسن - رحمه الله - فكيف تصنع بصاحب السفينة؟ وأجابه: فقال محمد بن الحسن قال النبي - صلى الله عليه وسلم - (( لا ضرر ولا ضرار في الإسلام)) أي وأمر صاحب السفينة بتسييرها إلى الساحل لنزع اللوح المغصوب ضرر عليه فقال الشافعي: من ضره؟ هو ضر نفسه فبين أن هذا الحكم مستثنى من قاعدة: ((لا ضرر ولا ضرار)) ثم أجرى موازنة بين مفسدة استرقاق الأحرار العشرة الذين ولدتهم الزنجية المغصوبة وبين مفسدة هدم الجدار، المقام على الأرض المغصوبة وأن المفسدة الأولى أعظم من المفسدة الثانية باتفاق لهذا انقطع محمد بن الحسن - رحمهما الله -.
هذه المناظرة واحدة من عديد المناظرات التي تجري بين العلماء في ذلك العصر وإن حكاها كل جماعة بما يتفق وعصبيته المذهبية، وسعت دائرة الاجتهاد الفقهي والحركة الفقهية، وتكون منها آراء قانونية لها قيمتها، وحملت الكثيرين من الفقهاء على أن يتسلحوا بأسلحة مناظريهم فالقياسيون يتسلحون بالحديث، والمحدثون يتسلحون بالرأي وقربت كثيراً من أوجه النظر المتباعدة وربما كان أقرب مثال لذلك الشافعي ومحمد بن الحسن في النموذج المتقدم آنفاٍِ فكلاهما اطلع على الناحيتين وتسلح بالسلاحين. هذا ولم يقتصر الأمر على المناظرات الشفوية بل تجاوزها إلى المكاتبة فهذا الليث بن سعد[69] يكتب من مصر إلى مالك بالمدينة يجادله في حجية علم أهل المدينة ويرد عليه مالك[70].
ثالثا: اتساع الدولة وكثرة الوقائع(131/38)
ضمن الدولة الإسلامية في هذا العهد شعوباً وأممًا مختلفة في الدين والحضارات والعادات والتقاليد والنظم الاجتماعية وطرق المعيشة وفى أنواع كثيرة من المعاملات؛ ففي العراق سادت العادات الفارسية والقبطية وغيرها، فمن دخل في الإسلام عرض ما قد كان عليه قبل الإسلام على أبي حنيفة مثلاً وفى الشام عرضت الأوضاع الرومانية ونظم القضاء الروماني وقضاياه على الأوزاعي[71] وفي مصر عرضت العادات المصرية والرومانية والإغريقية على الليث بن سعد.
وقد عمل هؤلاء الفقهاء وغيرهم على تمحيص ما عرض عليهم فأقروا بعضه وعدلوا بعضه وأنكروا بعضه على ضوء ما عندهم من علم شرعي حتى غدت الحياة العامة في كل إقليم ومصر مصطبغة بالصبغة الإسلامية.
ومما ساعد على تقريب وجهات النظر بين المجتهدين في هذا العصر أن كل قطر من الأقطار المفتوحة وُجدت فيه أحكام لم تكن موجودة في غيره نظراً لاختلاف البيئات والفوارق الإقليمية فلقد أحس العلماء في كل إقليم بحاجتهم إلى التعرف على ما في الإقليم الآخر من اجتهادات فقهية فنشأت الرحلات العلمية فالشافعي رحل إلى المدينة والعراق ومصر. وربيعة الرأي رحل إلى العراق، ورحل محمد بن الحسن الشيباني صاحب أبي حنيفة إلى المدينة ورحل أحمد بن حنبل إلى الحجاز وإلى اليمن فآتت هذه الرحلات ثمراتها في إزالة كثيرٍ من أوجه الخلاف وأشعرت كلاً بحاجته إلى ما عند غيره من العلم والفقه.
رابعاً: نمو الحركة العلمية
كان بدء هذه الحركة في أواخر الدور السابق، لكنها في هذا الدور نمت نمواً عظيماً بوصول المدينات القديمة إلى رؤوس المفكرين من علماء المسلمين وقد ساعد على وصول هذه المدنيات عوامل أهمهما:(131/39)
أ - ترجمة العلوم والفلسفة اليونانية إلى لغة العرب: ولم تبلغ الترجمة شأوها إلا في عهد المأمون بن الرشد في القرن الثالث من الهجرة إذ كان مغرماً بالآداب اليونانية وبآراء أرسططاليس على وجه خاص ولقد انتشرت هذه الكتب انتشاراً هائلاً فكانت العاملَ المهم في تكوين معلومات أهل الكلام.
ب - الموالي فقد دخلوا في الإسلام بأعداد عظيمة من الفرس والروم والمصريين. فمنهم من أُسِرَ صغيراً وتربى تحت كنف سادته من المسلمين فورثوا ما عندهم من العلوم الإسلامية التي أساسها الكتاب والسنة فحملوا عنهم شيئاً كثيرا وكان منهم القراء الكبار والمحدثون بجانب إخوانهم من العرب.
ومنهم من دخل في الإسلام وهو كبير فكان من نتيجة ذلك تلاحم الأفكار وإنضاج العقول.
خامسا: التدوين[72]
سوف نُعني ههنا بما يتصل بالتدوين لأصول الفقه إذ هو الموضوع الذي عقدت هذه الدراسة التاريخية من أجله.
أما التدوين من حيث هو فحسبنا أن نشير إلى أن عمر بن عبد العزيز[73] الخليفة الأموي - رضي الله عنه - كتب قبل موته بسنة إلى عامله على المدينة أبي بكر محمد بن عمرو بن حزم: ((أن انظر ما كان من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو سنته فاكتبه: فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء))[74].
كما أن التدوين من حيث هو تدوين بصرف النظر عن ترتيبه وتنظيمه والاهتمام به على النحو الذي وصل إليه في عهد التدوين الزاهي - كان موجوداً على حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد خرّج أحمد في مسنده عن عبد الله بن عمرو بن العاص حين نهته قريش عن كتابة كل ما يسمع من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأنه بشر يتكلم في الغضب والرضا فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((اكتبه فوالذي نفسي بيده ما خرج مني إلا حق)).(131/40)
وقد جمع العلماء بين نهيه[75] - صلى الله عليه وسلم - عن الكتابة وأمره ثانياً بها: بأن النهي كان قبل أن يميز الصحابة بين ما هو قرآن وبين غيره من كلام الرسول - صلى الله عليه وسلم - فلما تميز عندهم زال المحذور فأذن - عليه الصلاة والسلام - بالكتابة عنه.
وأرى من المفيد أن نمر بالقارئ على موجز ما ذكر الحافظ ابن حجر - رحمه الله - [76] حيث ذكر أن آثار النبي - صلى الله عليه وسلم - لم تكن في عصر أصحابه وكبار تبعهم مدونة في الجوامع ولا مرتبة، وعلل ذلك بأمور ثلاثة:
1 - نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - أول الأمر خشية أن يختلط بعض ذلك بالقرآن العظيم.
2 - سعة حفظهم وسيلان أذهانهم.
3 - ولأن أكثرهم لا يعرفون الكتابة[77].
ثم حدث في أواخر عصر التابعين تدوين الآثار وتبويب الأخبار وعلل ذلك:
1 - بانتشار العلماء في الأمصار.
2 - ظهور فرق المبتدعة من الخوارج والروافض والمعتزلة.
ويبين أن أول من جمع ذلك الربيع بن صبيح[78] وسعيد بن ابي عروبة[79] وغيرهما.
وكانوا يصنفون كل باب على حدة. إلى أن قام كبار أهل الطبقة الثالثة (وأهل هذه الطبقة هي التي اصطلحنا على ادماجها ضمن فئات الدور الرابع من أدوار الاجتهاد الفقهي) فدونوا الأحكام. فصنف الإمام مالك الموطأ وتوخى فيه القوي من حديث أهل الحجاز ومزجه بأقوال الصحابة وفتاوى التابعين ومن بعدهم.
وصنف أبو محمد عبد الملك بن عبد العزيز بن جريح بمكة وأبو عمر وأبو عبد الرحمن بن عمر الأوزاعي بالشام وأبو عبد الله سفيان بن سعيد الثوري[80] بالكوفة وأبو سلمة حماد بن سلمة بن دينار بالبصرة.. إلخ.
هذه إشارات عابرة إلى بداية التدوين وتطوره أرجو أن يطلع منها [فيها]القارئ على ما يهديه إلى نشأة هذا النشاط واهتمام السلف الصالح به.
ــــــــــــــــــــــــ
[1] سورة آل عمران، من الآية 144).(131/41)
[2] هو زيد بن ثابت بن الضحاك الأنصاري الخزرجي النجاري أي من بني النجار وكنيته أبو سعيد - شهد أحداً والخندق وكان فيمن حفره، وقد أثنى عليه الرسول بقوله "نعم الغلام". وفي غزوة تبوك سلم إليه الرسول راية بني مالك بن النجار بعد أن أخذها من عمارة بن حزم وقال له "زيد أكثر أخذا للقرآن منك" كتب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولأبي بكر وعمر واستخلفه عمر على المدينة ثلاث مرات كما استخلفه عثمان. قال فيه الرسول "أفرضكم زيد" وهو الذي استدعاه أبوبكر وأمره بتتبع القرآن وجمعه ففعل.
من الفتح المبين 1/79.
[3] ترجع إلى إعلام الموقعين إن شئت 1/69 وما بعدها ونشا’ الفقه لمحمد السادس ص 24.
[4] سورة النحل الآيات (5 - 6 - 7 - 8).
[5] سورة البقرة من الآية 189).
[6] أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح (بفتح فسكون) الأنصاري الخزرجي الأندلسي القرطبي المفسر كان من عباد الله الصالحين والعلماء العارفين الورعين الزاهدين في الدنيا المشغولين بالآخرة سمع من الشَّيخُ أبي العباس أحمد بن عمر القرطبي بعض شرحه (المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم)، حدث عن الحافظ أبي على الحسن بن محمد بن محمد البكري وحدث أيضاً عن الحافظ أبي الحسن على بن محمد بن محمد البكري وحدث أيضاً عن الحافظ أبي الحسن على بن محمد بن على بن حفص اليحصبي وغيرهما وقد جمع في تفسير القرآن كتاباً كبيراً سماه الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمن من السنة وآي الفرقان) وهو من أجل التفاسير وأعظمها نفعاً أسقط منه القصص والتواريخ وأثبت عوضها أحكام القرآن واستنباط الأدلة وذكر القراءات والإعراب والناسخ والمنسوخ وهو مطبوع متداول الآن بين الناس وله كتاب الأسني في شرح أسماء الله الحسنى وله تواليف وتعاليق مفيدة غير هذا كان مطرحاً للتكلف يمشى بثوب واحد وعلى رأسه طاقية وكان مستقراً بمنية ابن خصيب وتوفى ودفن بها سنة 671هـ رحمه الله تعالى.(131/42)
مقدمة الطبعة الثانية لكتاب الجامع لأحكام القرآن عن الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب لابن فرحون ونفح الطيب.
[7] معاذ بن جبل بن عمرو بن أوس الأنصاري الخزرجي ويكنى بأبي عبد الرحمن صحابي جليل، أسلم وهو شاب وشهد المشاهد كلها مع رسول الله - صلى اله عليه وسلم - امتدحه الرسول بأنه أعلم المسلمين بالحلال والحرام، وهو من الأربعة الذين حفظوا القرآن على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد بعثه الرسول - صلى الله عليه وسلم - في السنة العاشرة قاضياً ومعلماً لأهل اليمن كان يرى الاجتهاد بالرأي عند عدم وجود نص من الكتاب والسنة وقد أقره الرسول على ذلك. وما زال باليمن قاضيا حتى توفى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعاد إلى المدينة والتحق بجيش أبي عبيدة في غزوة بلاد الشام.
وقد روى عنه كثير من الصحابة منهم عمر وابنه عبد الله وأنس بن مالك وتوفي - رضي الله عنه - سنة 18هـ وعمره ثمان وثلاثون سنة. ودفن بناحية شرق الأردن وقال فيه عمر "عجزت النساء أن يلدن مثل معاذ، ولولا معاذ لهلك عمر".
وهو الذي روى الحديث المشهور في اتجاه الرأي.
من الفتح المبين 1/61.
[8] المحاق يقال بكسر الميم وفتحها وضمها وهو استرار [استتار] القمر ليلتين فلا يرى غدوة ولا عشية.
[9] الجامع لأحكام القرآن 2/341.
[10] تفسير ابن كثير 1/225.
[11] رواه مسلم في كتاب الحج، باب فرض الحج مرة في العمر ص 412ط عبدالباقي، ورواه غيره.(131/43)
[12] هو حذيفة بن حسل - ويقال: حسيل - بن جابر بن عمرو بن ربيعة، وينتهي نسبه إلى غطفان اليمان لقب أبيه ويقال لقب أحد أجداده وإنما لقب بذلك لأنه حالف أهل المدينة وأصلهم من اليمن. ولما أسلم هاجر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. وشهد غزوة أحد وحرب نهاوند فأبلى بلاء حسناً وكان فتح همدان والري على يده وقد اختصه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتعريفه بالمنافقين ولهذا سأله عمر يوماً فقال: "أفي عمالي أحد من المنافقين" قال نعم واحد. قال عمر: من هو؟ قال "لا أذكره" فما زال عمر يتحرى حتى عرفه فعزله. وقد اشتهر حذيفة بالفتوى في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وروى عنه كثيراً من الأحاديث. وروي عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وغيرهما.
توفي رحمه الله بعد مقتل عثمان بأربعين يوماً سنة 36هـ.
من الفتح المبين 1/77.
[13] تلخيص الحبير 3: 89.
[14] المفوضة اصطلاح فقهي يطلق على عدم تسمية المهر وتفويض الزوجة تسميته إلى زوجها ووليها يقوم مقامها سواء أكان بالنطق أو السكوت وحينئذ تستحق مهر المثل عرفاً. عند النكاح.
[15] نشأة الفقه لمحمد السايس 24 وإعلام الموقعين 1/63.
[16] سورة البقرة، من الآية [228].
[17] الشريعة الإسلامية لبدران أبي العيني ص 59.
[18] سورة الأعراف، من الآية [26].
[19] سورة يوسف، من الآية [38].
[20] سورة الطلاق، من الآية [4].
[21] سورة البقرة، من الآية [234].
[22] خرجه البخاري 9/ 469 بشرح فتح الباري ومسلم 3/704 - 705 والسياق لمسلم. بشرح النووي.(131/44)
[23] هو عبد الله بن قيس بن سليم من بني الأشعر من قحطان ويكنى بأبي موسى صحابي جليل ولد - رضي الله عنه - سنة 21 قبل الهجرة في زبيد باليمن وقدم مكة عند ظهور الإسلام فأسلم. وقد أرسله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع معاذ بن جبل إلى اليمن واختص أبو موسى بالجزء الجنوبي منها وهو زيد وعدن. وقد ولى البصرة في عهد عمر سنة 17هـ. وافتتح أصبهان والأهواز. , ولما ولي عثمان أقره على البصرة حيناً ثم عزله. ثم ولاه لكوفة بطلب من أهلها ولما ولى على أقره على الكوفة حيناً ثم عزله علي وقد كان أحد الحكمين في التحكيم بين على ومعاوية.
كان - رضي الله عنه - من أحسن الصحابة صوتاً في تلاوة القرآن الكريم ولهذا قال له الرسول "يا أبا موسى لقد أُعطيت مزماراً من مزامير آل داود". وقد أقام بالكوفة حتى كانت وفاته سنة 44هـ.
من الفتح المبين 1/63.
[24] صحيح البخاري بشرح فتح الباري 12/17 قال ابن حجر في المصدر المذكور والحبر بفتح المهملة وبشكرها أيضا وسكون الباء حكاه الجوهري ورجح الكسر وجزم الفراء بأنه بالكسر وقال سمى باسم الحبر الذي يكتب به وقال أبو عبيدة الهرَوِيُّ هو العالم بتحبير الكلام وتحسينه وهو بالفتح في رواية جميع المحدثين وأنكر أبو الهيثم الكسر وقال الراغب سمى العالم حبرا لما يبقى من أثر علومه.
[25] الشريعة الإسلامية لبدران أبي العينين 16 إلى 26، وارجع إلى كلام ابن القيم في إعلام الموقعين 1/33.(131/45)
[26] هو عبد الله بن مسعود بن غافل بن حبيب وهو هذلي من أجلاء الصحابة ومن السابقين إلى الإسلام قال يحدث عن نفسه" لقد رأيتنى سادس ستة ما على ظهر الأرض مسلم غيرنا". وهو أول من جهر بالقرآن في مكة، قرأ سورة الرحمن رافعاً صوته فجعل كفار قريش يضربونه حتى أدموا وجهه، وكان خادماً أميناً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورقيقاً مخلصاً له يدخل عليه في أي وقت شاء بإذن من الرسول - صلى الله عليه وسلم -. هاجر الهجرتين وشهد جميع المشاهد مع رسول الله وهو الذي احتز رأس أبي جهل في غزوة بدر وأتى بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. له في الصحيحين ثمانية وأربعون وثمانمائة حديث. كان - رضي الله عنه - حجة في القرآن حفظاً وفهماً حسَن التلاوة والأداء. قال له النبي - صلى الله عليه وسلم - اقرأ عليَّ سورة النساء فقرأ حتى بلغ قوله - تعالى - {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا}أ) ففاضت عينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالدموع فكف وكان من المفتين في عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ويقول ابن حزم إن فتاوى ابن مسعود لو جمعت كانت سفراً ضخماً وقد أوفده عمر إلى الكوفة معلماً ووزيرًا فأقام بها يأخذ عنه أهلها الحديث وفي خلافة عثمان عاد إلى المدينة وبها مكث حتى حضرته الوفاة وعنده عثمان - رضي الله عنهما - ثم صلى عليه. ودفن بالبقيع. وكانت وفاته سنة 33هـ. وعمره بضع وستون سنة.
من الفتح المبين 1/69.
أ سورة النساء، الآية [41].
[27] الشريعة الإسلامية ص 62 – 63.(131/46)
[28] هو شريح بن الحارث بن معاوية الكندي ويكنى بأبي أمية. ولد سنة 42 قبل الهجرة. ولم يلق النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو من كبار التابعين كان محسناً كريماً يُضرب به المثل في الحِلم. وكان يميل إلى المزاح والدعابة وكان معروفاً بسعة الاطلاع والعلم والاجتهاد فاختاره - عمر بن الخطاب قاضياً على الكوفة فسار مسيرة مرضية، ظل قاضياً حتى تولى الحجاج على العراق. فاستعفاه من القضاء فأعفاه مريداً ألا تؤثر فيه عواصف السياسة. وقد شهد بفضله أمير المؤمنين على بن أبي طالب إذ قال له في جمع الفراء: "إذهب[اذهب] فأنت من أفضل الناس". توفى - رحمه الله - سنة 78هـ وعمره مائة وعشرون سنة على الأرجح.
الفتح المبين 1/85.
[29] تفسير ابن كثير 2/365.
[30] المرجع السابق أيضاً.
[31] صحيح مسلم بشرح النووي 2/668.
[32] رواه البخاري في كتاب الدعوات باب فضل التسبيح ص206 البخاري بشرح فتح الباري ج11 ورواه مسلم في كتاب الذكر.
[33] سورة البقرة من الآية [229].
[34] من إعلام الموقعين من 3/30 ومن 32 - 34 ومن 35 - 36 وقد بحث الإمام ابن القيم هذا الحكم بحثاً نفيساً وأسهب فيه فارجع له هنالك إن شئت.(131/47)
قلت: الجمهور من الصحابة كما يفهم من حديث ابن عباس وكما قرر ابن القيم أعلاه على خلاف رأي الفاروق - رضي الله عنهم - أجمعين وقد ذهب إلى رأي عمر الجمهور من الفقهاء من أصحاب أهل المذاهب الأربعة وهو مذهب ابن حزم الظاهري أيضا وحجة ابن حزم أن ما رواه ابن عباس لم يكن مسندًا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وإنما هو قول من قوله وعنده أنه لا يقبل الحديث إلا إن [أن] يصرح فيه ب: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ، أو رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعل، أو يترك كذا، أو رأى فلاناً يعمل كذا فأمره، وقد ذكر الشَّيخُ بدران أبو العينين في كتابه الشريعة الإسلامية حاشية ص 63 قوله: ومما يذكر هنا أن المحاكم الشرعية في مصر حسب قانونها الجديد المعمول به الآن على خلاف عمر - رضي الله عنه - تيسيراً على الناس.
قلت: وعدم إيقاع الطلاق الثلاث، بفم واحدة وهو مختار شيخ الإسلام ابن تيمية من الحنابلة وتلميذه ابن القيم. وتجدر الإشارة هنا إلى أن المحاكم الشرعية بالمملكة العربية السعودية تسير على رأي عمر وكذلك الفتوى الرسمية هناك إلا أن القاضي إذا تخرج من إمضاء الثلاث بلفظ واحد استفتي شيخنا العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز أ) فإنه يرى - حفظه الله - عدم وقوع الثلاث إذا كانت بلفظ واحد، ويعتبرها طلقة واحدة كما رأى ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية وقد كان على هذا منذ أمد حتى على حياة شيخه شيخنا علامة المملكة محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف آل الشَّيخُ - رحمه الله وغفر له - فما كان يرى بأساً أن يخالفه تلميذه ما دام الحق رائد الجميع.
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد حالياً.(131/48)
[35] وقد روي عن علي - رضي الله عنه - أنه قال بصدد قلوهم "لا حكم إلا لله": نعم لا حكم إلا لله لكن هؤلاء يقولون لا إمرة إلا لله. وقال - رضي الله عنه -: إنه لابد للناس من إمام برٍ أو فاجر يعمل في إمرته المؤمن ويستمتع فيها الكافر ويبلغ الله فيها الأجل ويجمع الفيء ويقاتل به العدو وتأمن به السبل ويؤخذ به للضعيف من القوي حتى يستريح ويستراح من فاجر الله.
تاريخ التشريع الإسلامي ص144.
[36] الشريعة 65 - 66 نقله عن النظم الإسلامية للدكتورصبحي الصالح ص123 وتاريخ التشريع 244 - 145.
[37] الشريعة 66.
[38] كلمة الشيعة مأخوذة من كلمة التشيع وهي النصرة والموالاة لمن يُتَشَيَّعُ له وقد اتخذت هذه الكلمة في مدلولها في واقع الناس أشكالاً مختلفة، وألواناً متباينة ولإزالة اللبس وجب أن ننبه بأن التشيع ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
أحدها:
تشيع بعض السلف الصالح: الذين يرون أحقية علي بالخلافة إما بالنسبة لكافة [إما للخلفاء] الخلفاء أو بالنسبة لعثمان [أو لعثمان] فهذا تشيع لا يوصل صاحبه إلى الضلال فضلاً عن الكفر.
الثاني:
تشيع الجهلة: رأيٌّ جماعته تسمى شيعة ويعملون أعمالا لا يدري هو ما هي فهؤلاء حكمهم حكم من جهل ما يجب عليه.
القسم الثالث:(131/49)
تشيع يفضي إلى دعوى أن علياً كان أحق بالرسالة من محمد ولكن خيانة جبريل أحالت الرسالة إلى محمد: فهذا كفر مجرد نعوذ بالله منه، ويدخل في هؤلاء من يدعون علياً أو آل البيت من دون الله أو مع الله دعوة المؤمنين ربهم فهذا أيضا كفر بذاته وقد قال الله لرسوله - صلى الله عليه وسلم - وهو تحذير للأمة: "وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ" سورة يونس، آية [106]، السورة العاشرة ومثل هؤلاء أحرقهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - بالنار هذا ونحوه لا يصح أن يحسب أهله على المسلمين ونحن نُشهد الله على محبة عليٍّ من سويداء قلوبنا فهو رابع العشرة المبشرين بالجنة وهو الذي فدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنفسه وحارب معه بسيفه وكان ملازماً له من الطفولة، لم يسجد لغير الله سجدة ولا رفع بصره إلا صوب السماء داعيًا ربه منيباً إليه، كما نشهد الله على محبة وموالاة المؤمنين من آل البيت، وأنهم آثَرُ عندنا من أقاربنا محبة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإيثاراً على النفس والوالد والولد
[39] قال في بهجة الأنوار شرح العقول في التوحيد (على مذهب الإباضية) وهي منظومة قالها وشرحها سعيد بن خميس بن أحمد بن سالم المدسري البهلوي خادم بني علي سنة 1314هـ على هامش الجزء الأول من كتاب شرح طلعة الشمس على الألفية المسماة بشمس الأصول لأبي محمد عبد الله بن حميد السالمي في أصول فقه الإباضية هامش 1/117 قال سعيد بن خميس في نظمه في الحساب يوم القيامة:
خص به مقصر ليعلما: أو فاسق ليكثر/التندما.
وما عداهما إلى الجنان بلا حساب أو إلى النيران.(131/50)
ثم قال: أي خص بالحساب صنفان من الناس: أحدهما المؤمن المقصر التائب من ذنبه وثانيهما الفاسق العامي. والحكمة في حساب المؤمن المقصر هي أن يعلم نعمة الله عليه بغفران ذنوبه. وستر عيوبه، والحكمة في حساب الفاسق هي ازدياد حسرته وتضعيف تنكيله. بالتأسف على إضاعة عمله فإنه متى رأى العمل الموجب للغفران محبوطاً بعمل صدر منه ازداد حسرة وندامة، ومن الحكمة في هذه أيضاً إظهار إنصاف الله - تعالى - لخلقه فإنه لا يظلم الناس شيئاً ولكن أنفسهم يظلمون، وما عدا هذين الصنفين فهم إما في الجنة بلا حساب وهم المؤمنين الموفون، وإما في النار بلا حساب وهم المشركون وهذا حاصل ما ذكره في القواعد وعليه جريت في النظم وظاهره – أن المشركين غير محاسبين ثم ظهر بعد ذلك أنهم محاسبون لقوله تعالى: في سورة الصافات آيتي [24 و25] {وقفوهم إنهم مسؤولون مالكم لا تناصرون} ولقوله تعالى: في سورة التغابن آية [7] {زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم} ولغير ذلك من الآيات.
[40] سورة النساء 4: آية [93].
[41] نفس السورة من الآية [48] ومن آية [116].
[42] انظر حاشية ص 27.
[43] قال فخر الدين الباري: قالت الشيعة دل الدليل على أنه لابد من زمان التكليف عن إمام معصوم فإذا أجمعت الأمة دل ذلك الإجماع على حصول ذلك الإمام وقوله حجة فيكون الإجماع حجة بهذا الاعتبار - 102 المعالم في الأصول مخطوطة بمكتبة الأزهر.
[44] تاريخ التشريع 162 - 163.
[45] سورة النساء: 4 س: آية [24].
[46] نيل الأوطار على منتقى الأخبار 6/115 ط/ مصطفى الحلبي سنة 1347هـ.(131/51)
[47] هو عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف الأموي القرشي يكنى بأبي عبد الله ويلقب بذي النورين لتزوجه ببنتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رقية ثم أم كلثوم كان رابع أربعة في الإسلام وثالث العشرة المبشرين بالجنة. دعاه أبوبكر فأجاب فأنفق كثيراً من ماله في سبيل الله ولم يتخلف عن غزوة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا غزوة بدر لمرض زوجته. وكان يوم الحديبية سفير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى قريش للمفاوضة في دخول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة فحبسته قريش فكانت بيعة الرضوان. ولما كانت غزوة تبوك تبرع بمال كثير وثلاثمائة بعير في سبيل الله فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "ما على عثمان ما عمل بعد هذه" وقبل موت عمر - رضي الله عنه - جعل الأمر من بعده في علي وعثمان والزبير وطلحة وسعد وعبد الرحمن بن عوف فبايعوا عثمان - رضي الله عنه - بالخلافة فقام بأعمال جليلة منها كتابة ست نسخ من مصحف أبي بكر وزعها على الأمصار وأحرق بالتشاور مع الصحابة ما سوى ذلك مما بأيدي الناس من رقاع وقراطيس. وزاد أذان آخر يوم الجمعة ليتيح وقتاً للسعي وشهود الخطبة والصلاة. وهو أول من اتخذ داراً للقضاء ولكن بعض الناس نقموا عليه هذا التصرف وجاءته وفود أهل الكوفة والبصرة ومصر يطلبون عزل أقاربه فامتنع فحاصروه في داره وعرضوا عليه أن يخلع نفسه فأبى ودام الحصار طويلاً وتسور بعضهم عليه الدار فقتلوه وهو يقرأ القرآن سنة 35هـ ودفن بالبقيع ليلاً وعمره اثنتان وثمانون سنة. وكانت مدة خلافته اثنتى عشرة سنة إلا اثني عشر يوماً. الفتح المبين مع شيء من التصرف 1/53.
[48] تاريخ التشريع 167. لعبد اللطيف السبكي ومحمد على السايس ومحمد الديري ط ثانية مطبعة الاستقامة 1365هـ.(131/52)
[49] ابن سبأ اليهودي هو الذي وصل بتنظيمه إلى تدبير مؤامرة ضد الخليفة الراشد عثمان بن عفان - رضي الله عنه - حتى قتله البغاة في شهر ذي الحجة سنة 35 من الهجرة (سنة 656م) عن 82 سنة إذ كانت ولادته سنة 47 قبل الهجرة أي سنة 577م.
من الفتح المبين 1/53.
[50] وتجدر الإشارة ههنا إلى أن معتقد أهل السنة والجماعة في باب أسماء الله - تبارك وتعالى - وصفاته تعتمد على قاعدة النفي المجمل والإثبات المفصل والإجمال في النفي هو ما دل عليه القرآن والسنة وأساسه أن كل صفة نقص أو عيب يتنزه عنها المخلوق لا تتضمن أصلاً من العيوب أو النقائص شيئاً، فالخالق - عزَّ وجلَّ - أولى بالتنزه منها.
وهكذا يمكن أن يقال في جانب الإثبات أن كل وصف من أوصاف الكمال ثبت للمخلوق على وجه لا يتضمن إثباته أصلاً نقيصه ولا عيباً فالخالق به أولى كما قال –تعالى -: {وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} من سورة الروم من آية [27].
ويلتزم أهل السنة والجماعة طريقة التفصيل في الإثبات فلا يصفون الله - سبحانه - إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله – صلى الله عليه وسلم - كتاباً، وصحيح سنة، وهم في الإثبات يلتزمون أيضاً اعتقاد أن صفات الباري - تعالى - لا تشبه صفات المخلوقين، وأن كل ما خطر على بال أحد من الخلق فالله بخلافه ولهذا نجد أن عقيدتهم اجتمعت حول هذه الجملة: "وإثبات لا تشبيه ولا تكييف" وفي النفي يلتزمون كذلك النفي المستلزم لإثبات صفات الكمال للباري - تعالى - فنجد أن مسلكهم في هذا الجانب يدور حول هذه الجملة. "نفي بلا تعطيل".(131/53)
وهم في ذلك على الصراط المستقيم الذي دل عليه الوحي ومن ذلك قول الله - عزَّ وجلَّ - في سورة الشورى من آية [11] {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}، تلك خلاصة مسلك أهل السنة والجماعة في باب أسماء الباري - تعالى - وصفاته وموجز للقاعدة التي يقيسون عليها معتقدهم في هذا الباب والله أعلم.
[51] 1/67 صحيح مسلم بشرح النووي.
[52] لا يأذن لحديثه أي لا يستمع إليه ولا يعيره سمعه.
[53] اختلف في ضبط ويخفى هل هي بالخاء المعجمة أو بالحاء المهملة ومن معنى الخاء أحسن ما قيل فيه أنه من باب الأدب أي اكتب لي ما شئت ودع ما شئت وذلك من باب الرفق بابن عباس من أهل الفتن إذ ربما كان عليه في كل ما يكتب شناعة منهم وإما بالحاء فمن الاحنفاء أي أنقص ومنه احفاء الشارب هذا وقد صوب القاضي أنه بالمعجمة (انظر النووي على مسلم 1/69) ويرجح هذا قول ابن عباس ولدٌ ناصح.
[54] مسلم 1/1/78 - 70.
[55] يحيى بن شرف بن مرى بن حسن الفقيه الشافعي الحافظ الزاهد، المكنى بأبي زكريا الملقب بمحيى الدين النووي المعروف بشيخ الإسلام ولد سنة 631هـ بنوي وهي قرية من قرى حوران من بلاد سورية. تعلم القرآن ببلده ثم قدم دمشق مع والده فسكن بالمدرسة الرواحية فاشتغل بالعلم وجد في طلبه. وأعجب به الشَّيخُ كمال الدين إسحاق المغربي فجعله معيداً لأكثر تلامذته. وكان يقرأ في كل يوم اثني عشر درساً في العلوم الدينية واللغوية والعقلية. وقد ولى مشيخه دار لحديث بعد الشَّيخُ شهاب الدين أبي شامة وكان لا يأخذ من مرتبها شيئاً بل كان يقنع بالقليل مما يبعثه إليه والده وكان فقيهاً حصوراً لم يتزوج. وله مصنفات عديدة منها رياض الصالحين في الحديث والمنهاج في شرح مسلم والإيضاح في المناسك والتبيان في بيان آداب جملة القرآن والأربعون النووية وله كتاب الأصول والضوابط وهي في أصول الفقه على الأرجح. توفي رحمه الله سنة 676هـ ودفن ببلده.(131/54)
عن الفتح المبين 2/81.
[56] النووي على مسلم ص 70.
[57] سورة المائدة: 5: من آية [3]. وفي تدريب الراوي شرح تقريب النواوي أن ميسرة أقر بأنه وضع حديث فضائل القرآن، وقال البخاري في التأريخ الوسط حدثني يحيى اليكسري عن على بن جرير قال: سمعت عمر بن صبيح يقول: أنا وضعت خطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - المقصود من ص98 تدريب الراوي وقد ذكر نماذج من الأحاديث الموضوعة تضحك وتكبي تضحك من سخف قائلها وتكبي من شر ما حملت إلى المسلمين. فارجع إليها هنالك إن شئت من ص98 وما بعدها. وفي ص 102 ذكر أقسام الواضعين وذكر أن أعظمهم ضررًا قوم ينتسبون إلى الزهد وضعوه ه - أي الحديث - حسبة أي طلباً للأجر عند الله في زعمهم الفاسد.
[58] سورة النحل: 16 من الآية [44].
[59] صحيح مسلم بشرح النووي 1/73 – 78.
[60] 98 - 99 تدريب الرواي.
[61] هذا باختصار عرض لبعض ما ذكر في تدريب الراوي عن أقسام الوضع وذويه 102 – 103.
[62] هو سعيد بن المسيب المخزومي ويكنى بأبي محمد ولد سنة 15هـ 636م، وتوفي سنة 94هـ - 712م وكان نابغة فذًا في العلم ولقي كثيراً من الصحابة - رضي الله عنهم - فسمع منهم ومنهم أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -. انظر المفتاح المبين 1/87.
[63] هو إبراهيم بن يزيد النخعي أحد الأعلام يرسل عن جماعة وقد رأى زيد بن أرقم وغيره ولم يصح له سماع من صحابي وقد قال فيه الشعبي: ذاك الذي يروي عن مسروق ولم يسمع منه شيئاً - قلت: استقر الأمر على أن إبراهيم حجة وأنه إذا أرسل عن ابن مسعود وغيره فليس ذلك بحجة اهـ. من ميزان الاعتدال 1/74 - 75 وعن مذهب إبراهيم تفرع مذهب الحنفية - توفى وهو مختلف من الحجاج سنة 96هـ، وله 49 عاماً.
تاريخ التشريع 189.
[64] ضحى الإسلام لأحمد أمين 163.(131/55)
[65] هو - محمد بن عمر بن الحسين بن الحسن بن على اليميمي البكري الطبرستاني الرازي الملقب بفخر الدين المكنى بأبي عبد الله المعروف بابن الخطيب الفقيه الشافعي الأصولي المتكلم المفسر الأديب الفيلسوف صاحب المكان المختار بين الأمراء والعلماء. وُلد بالري سنة 544هـ، وأصله من طبرستان تفقه على والدله وعليه تلقى أصول الفقه وبعد موته تلقى العلم على جهابذة عصره. وقد رحل إلى كثير من البلاد لنشر العلم والذود عن الدين ثم استقر في هراة وكان درسه حافلاً بالأفضال من الملوك والعلماء وكان أينما ذهب لقي التعظيم والإجلال وبنيت له المدارس ليلقى فيها دروسه. وكان - رحمه الله - شديد الوطأة على الخوارج والطوائف المارقة من الدين. أقبلت عليه الدنيا بمصاهرة طبيب ثري من أطباء الري وباتصاله بالملوك والأمراء، وكان يعظ باللسانين العربي والعجمي فهدى الله به كثيراً من الطوائف الزائغة، وقد اشتهرت مؤلفاته في الآفاق فانصرف بها الناس عن كتب المتقدمين وهي إن دعاها العد فلن يحصيها الحد. ومنها: محصل إنكار المتقدمين والمتأخرين من العلماء والحكماء والمتكلمين. ومعالم الأصول. ومفاتيح الغيب وهو المشهور بالتفسير الكبير ومنها المحصول في أصول الفقه. توفى - رحمه الله - سنة 606هـ بمدينة هراة. الفتح المبين جـ2 ص47.(131/56)
[66] محمد بن الحسن الشيباني الفقيه الأصولي ويكنى بأبي عبد الله، وُلد بواسط بالعراق ونشأ بالكوفة فحفظ القرآن الكريم وأجاد تلاوته، ثم سمع الحديث على أئمته وحضر دروس الإمام أبي حنيفة ثم لازم أبا يوسف وتفقه عليه وسمع من مالك والشافعي والأوزاعي والثوري واشتهر بالتبحر في الفقه والأصول حتى صار مرجع أهل الرأي في العراق تَولَّى قضاء الرقة ثم لازم الرشيد حتى مات - رحمه الله - وقد صنف في الفقه والأصول الكتب الكثيرة النادرة منها: الجامع الكبير، والجامع الصغير، والمبسوط، والزيادات، والآثار وله في الأصول كتب: الصلاة والزكاة والمناسك نودر الصلاة. توفى سنة 186 بقرية من قرى الري. الفتح المبين جـ1 ص110.
[67] خلاصة مذهب الحنفية في الغصب إذا غيره الغاصب بزيادة فيه كأن غصب ثوباً فصبغه أن المالك بخير [فإن المالك يخير] فإن شاء رد قيمة الزيادة واسترد العين المغصوبة وإن شاء ضمن الغاصب قيمة المغصوب وتركه له ومذهب الشافعي تخيير المالك بين قيمة المغصوبة وتركه للغاصب وبين إزالة الزيادة – رد العين إليه وهناك تفصيلات في الوضوء لا محل لذكرها هنا.
ضحى الإسلام ص168.
[68] مناقب الشافعي الرازي ص 85 وفيه 23 مسألة من هذا القبيل نقلا عن ضحى الإسلام ص 169 - 170 لأحمد أمين.(131/57)
[69] الإمام الحجة فقيه مصر وعالمها كان من الموالي على أصح الأقوال وهو أصبهاني الأصل مصري الدار ولد بقلقشندة قرية بمصر سنة 94هـ وقد رحل إلى كثير من البلدان لأخذ العلم فرحل إلى مكة وبيت المقدس وبغداد ولقي تسعة وخمسين تابعياً حدَّثَ عنهم، وكان له اتصال بالإمام مالك في المدينة يكاتبه في مسائل التشريع ويحآجُّه، وكان ذا منزلة رفيعة في علمه وفضله وعقله ونبله ولذا كان الولاة والقضاة يستشيرونه في عظام الأمور وأخطرها، بل قيل كان نائب مصر وقاضيها تحت أمره وتصرفه وقد عرض عليه المنصور أن يكون والياً على مصر فأبى. ألف الحافظ ابن حجر جزءاً في ترجمته وفضائله وقال النووي في تهذيبه: أجمع العلماء على جلالته وأمانته وعلو مرتبته في الحديث والفقه. توفى بمصر سنة 175هـ. تاريخ التشريع الإسلامي 293.
[70] جواب الليث على رد مالك ذكره ابن القيم في إعلام الموقعين 3/83.
[71] هو الإمام أبو عمرو، عبد الرحمن بن عمرو الشامي. كان يسكن دمشق ثم حُوِّل إلى بيروت فسكنها إلى أن توفى بها. والأوزاع قرية بدمشق أو بطن في اليمن. كان قد نزل فهيم فنسب إليهم. روى عنه أكابر المحديثن. وقد أخذ عن مالك مكا أخذ مالك عنه. وكان إليه فتوى أهل الشام لسعة علمه وكمال فضله حتى قيل إنه أفتى في سبعين ألف مسألة. قال الحكم: "الأوزاعي إمام عصره عمومًا وإمام أهل الشام خصوصاً، وكان من رجال الحديث الذين يكرهون القياس. وهو من الأئمة المجتهدين الذين لهم مذاهب خاصة. وكان أهل الشام يعملون بمذهبه. وقد عمل به أيضًا أهل الأندلس لكثرة الداخلين إليها من الشام. ثم اضمحل أمام مذهب الشافعي في الشام وأمام مذهب مالك في الأندلس وذلك في منتصف القرن الثالث ولم يبق من مذهبه إلا ما يوجد في كتب الخلاف، ولد سنة 88هـ وتوفى سنة 157هـ.
تاريخ التشريع الإسلامي للسايس وزميله ص290.(131/58)
[72] انظر في هذا الشريعة الإسلامية 81. تأليف بدران أبو العينين - رحمه الله -/ط دار النجاح للطباعة، في الإسكندرية بمصر 1392هـ.
[73] عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم الأموي القرشي ويكنى بأبي حفص ويلقب بأشج بني أمية لأنه وقع فوق فرس فشجت جبهته. ولد بحلوان مصر سنة60هـ، وكان والده أمياً بها ولما شب بعثه والده إلى المدينة ليتأدب بآداب أهلها وكان معروفاً بالعلم والفتيا متمكناً من حديث رسول الله – صلى الله علبه وسلم - روى منه الكثير عن أنس بن مالك وغيره فصار إمامًا فقيهاً مجتهداً ثبتاً حجة حافظاً. وقد ضرب المثل بصلاحه وعدله وزهده وقد تولى الخلافة سنة 99هـ بعهد من سلميان بن عبد الملك وعرضت عليه مراكب الخلافة فرفضها قائلا: دابتي أوفق لي وكان أول ما عمل أن أبطل سب على ابن أبي طالب ووضع في خطبته مكان سبه {إن الله يأمر بالعدل والإحسان} الآية [90] من سورة النحل. توفي رضي الله عنه مسموماً سنة 101هـ ودس له السم بعض بني أمية تخلصًا من شدته التي لم يألفوها - كما قيل - الفتح المبين 1/94.
[74] الحديث في صحيح مسلم كما ذكره في الهدي الساري مقدمة فتح الباري ص 6 وقال النووي على شرح مسلم: "وجاء في الحديث النهي عن كتب الحديث وجاء الإذن فيه فقيل كان النهي لمن خيف اتكاله على الكتاب وتفريطه في الحفظ مع تمكنه منه الإذن لمن لا يتمكن من الحفظ وقيل كان النهي أولاً خيف اختلاطه بالقرآن والإذن بعده لما أمن ذلك وكان بين السلف من الصحابة والتابعين خلاف في جواز كتابة الحديث. ثم أجمعت الأمة على جوازها واستحبابها. 1/207 النووي.
[75] عن تاريخ التشريع الإسلامي للسبكي وزميله ص212.(131/59)
[76] أبو الفضل شهاب الدين أحمد بن على بن محمد بن حجر العسقلاني المولود في مصر العتيقة سنة 773هـ طلب العلم وجد في طلبه ورحل إلى كثير من القطار واجتمع بفحول الرجال ومنحه الله ذاكرة قوية وحافظة واعية وفق في دراساته العلمية والحديثية منها بنوع خاص. وله مؤلفات كثيرة قيمة منها كتاب: "تلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير، ومنها فتح الباري شرح البخاري والإصابة في أحوال الصحابة، والدرر الكامنة، وغيرها توفي - رحمه الله - سنة 852هـ ودفن بتربة بني الحزوبي بين تربة بين تربية الشافعي ومسلم السلمي.
مقدمة تلخيص الحبير للسيد عبد الله هاشم اليماني) ضمن صفحة 4 شركة الطباعة الفنية المتحدة.
[77] هذا الثالث غير واضح فيما أحسب إذ إن قلة الكاتبين إن لم يكن مبررًا للإذن بالكتابة لئلا يهلك هذا القليل من الكتبة فلا يجد المسلمون من يكتب لهم الآثار وقت الحاجة إلى الكتابة فلا أقل من ألا تكون قلتهم مانعة من الإذن فيها.
[78] مجاهد صالح توفي غازيًا في بحر السند سنة 160هـ.
[79] وفاته سنة 156هـ ولهما ترجمة في تهذيب التهذيب.
محب الدين الخطيب حاشية الهدى الساري ص6.(131/60)
[80] هو أبو عبد الله سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري الكوفي وقيل له الثوري نسبة إلى ثور بن عبد مناة أحد أجدده. وهو من تابعي التابعين ولد سنة 97هـ وروى عن أعلام التابعين وروي عنه من التابعين الأعمش وابن عجلان ومن أقرانه شعبة ومالك والأوزاعي وغيرهم. قال غير واحد من العلماء "سفيان أمير المؤمنين في الحديث" وقال مالك: "كانت العراق تجيش علينا بالدراهم والثياب ثم صارت تجيش علينا بالعلم منذ جاء سفيان" وقال ابن المبارك "كتبت عن ألف ومائة شيخ ما كتبت عن أفضل من سفيان" وكان لا يسمع شيئاً إلا حفظه، عهد له الخليفة المهدي بقضاء الكوفة فأخذ العهد وخرج ورمي به في دجلة وهرب وطلب في كل بلد فلم يوجد، وقد عاصر أبا حنيفة بالكوفة وهو من أرباب المذاهب المقلدة وكان له أتباع بفنون بمذهبه. خرج من الكوفة سنة 150هـ ولم يعد إليها. ومات بالبصرة سنة 161هـ.
تاريخ التشريع الإسلامي للسايس وزميله ص 291.(131/61)
العنوان: إعداد الخطبة
نصائح وإرشادات
رقم المقالة: 1622
صاحب المقالة:
-----------------------------------------
وهكذا فإنَّه يسرّ وزارة الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية، أن تضع بين يدي السادة الدعاة والخطباء وأئمة المساجد هذا السّفْر النفيس، الذي أعده نخبة من العلماء المختصين؛ رغبة في توفير المادة العلمية اللازمة للخطابة والتدريس على مدى العام، مراعية في ذلك بساطة اللفظ، وسهولة العبارة، ودقة المعلومة وتخريج الأحاديث، مع حِرْصٍ في تناوُل المواضيع على الجمع بين الأصالة والمعاصرة، والاستفادة من العلوم الحديثة، والشواهد الحضارية التي تدعم الفكرة، وتقوي الاستدلال، وتلزم بالحجة، وقد روعي في كل ذلك التركيز على أحداث السيرة الشريفة، والاستفادة من العِبَر والدروس العظيمة المبثوثة فيها، مثلما لوحظت المناسبات التاريخية والأحوال الحاضرة للأمة الإسلامية، وسُبُل إصلاح هذا الحاضر من قبسات ماضينا المشرق.
ولقد كان من دواعي السرور والاعتزاز أن هذه الوزارة منذ نشأتها، وهي تتشرف بخدمة الكلمة الطيبة، لم تلجأ إلى تقييد حرية المنبر، أو ممارسة أيَّة وسيلةٍ لِفَرْضِ رأْيِها أوْ رُؤْيَتِها على أحدٍ منَ السَّادةِ الخُطَبَاءِ والأَئِمَّة، وإنَّما كانتْ دائمًا المناصحة والمذاكرة، وكان التواصي بالحق والتواصي بالصبر، ولقد كان لنا من وعي خطبائها وإدراكهم للظروف ومعرفتهم بالأحوال ما يعيننا على المضي في هذا السبيل؛ إطلاقًا لحرية الكلمة، ورغبة في الاستفادة من فكرة نيرة، وعبارة لطيفة، وتحليل سديد، ورأي رشيد.
أما المحدّدات التي ننصح الإخوة الوعاظ والخطباء بالتزامها في خطبهم ودروسهم، فهي لا تعدو الأطر العامة التي تضعها شريعتنا السمحة لأسلوب الدعوة، وهي أن تكون دعوتنا بالحكمة والموعظة الحسنة، وبيان محاسن الشريعة، والابتعاد عن التيئيس، وجلد الذات، والاتهام والتجريح.(132/1)
وبهذه المناسبة فإنه لا بد من التذكير بطريقة تحضير الخطبة والدرس؛ لكي تؤتي الخطبة أُكُلَها، وتخرج عن النمط التقليدي الذي لا يعدو كونَه تسديدَ خانة، فمن ذلك: تحديد هدف الخطبة، واختيار الموضوع وجمع المادة العلمية؛ باختيار الآيات المناسبة والاطلاع على تفسيرها، والأحاديث الشريفة وتخريجها، ومعرفة أقوال أهل الفقه في ذلك، ثم التأكيد على تحقيق الهدف بالأمثلة، والحِكَم والأشعار، والاستعانة بِكُتُبِ السِّيَر والتاريخ والتراجم، وكتب الثقافة العامَّة ذات الصّلة، ثم تنسيق المعلومات والتأليف بينها، والخلوص من ذلك إلى النتيجة المطلوبة.
وهنا لا بُدَّ منَ القَوْلِ بأنَّ الخُطبة الفعالة هي التي تؤثر في نفس السامع، وتدفعه نحو الاستجابة لمطالب الخطيب، وتشد قلبه وعقله للتوجّه إليها والاستفادة منها.
ومن أسباب الفاعلية والتأثير:
أولاً: العوامل الخارجية:
ونقصد بها تلك العوامل التي لا تتعلق بالخطبة نفسها؛ ولكنها خارجة عنها، وإن كانت ذات صلة وثيقة بها، ومن ذلك ما يلي:
خلفية الخطيب وسيرته:
حيث إنَّ هذه الخلفية تُمثِّل إطارًا مرجعيًّا عند السامع، يحكم من خلاله على هذه الخطبة؛ لذلك يحسن بالخطيب أن يكون ودودًا وصولاً مبادرًا، محبًّا للعلم وأهله، مكرمًا لإخوانه، بارًّا بوالديه وجيرانه، يتحرَّى الحلال، ولا يخالف قولَه فعلُه، غير مداهن ولا متملق، وأن يكون مخلصًا بعيدًا عن النفاق وأهله.. إلى غير ذلك من الصفات الطيبة، التي تجعله قدوة طيبة صالحة.
السمت والمظهر:
ويكون ذلك باللباس النظيف الواسع، الذي ليس فيه ما يستغرب أو يستهجن أو يشغل بال المستمعين، وكلما كان اللباس قريبًا من السُّنة، كان ذلك أكثر فاعلية وتأثيرًا في نفس السامع.
الصوت:(132/2)
فكلما كان الصوت مناسبًا وعلى قدر الحاجة، بحيث يصل إلى جميع السامعين من غير تشويش أو تقطيع، وبما يتناسب مع طبيعة الموضوع وسياق الحديث - كان ذلك أدعى لجَمْع طاقات المستمع على هدف الخطبة.
التكييف والتبريد والتهوية:
فالمستمع الذي يشعر بالبرد أو بشدة الحر، وكذلك المستمع الذي يستنشق الهواء الفاسد أثناء الخطبة - لا شك أنه سيفقد الكثير من تأثير الخطبة؛ لانشغاله بعوامل أخرى غيرها.
نظافة المكان:
فالمسجد النظيف في ساحاته وأروقته وفراشه وجدرانه وأثاثه، كل ذلك يعطي السامع راحةً نفسية، لها أثرها في حسن الفَهْم، وقوة الاستيعاب لما يقوله الخطيب.
مدى الاتصال بين المتكلّم والسامع:
حيْثُ إنَّ الاتّصالَ كُلَّما كان أوثقَ وأقْرَبَ كان ذلك أدْعَى للتأثّر، وتناسب حركات اليد مع الكلمة، وتوزيع نظرات الخطيب نحو المستمعين، وكذا اختيار الموضوع المناسب؛ فإنه يشد انتباه المصلين مع الخطيب.
الحالة النفسية للخطيب:
حيث يحسن بالخطيب أن يكون عند الخطبة هادئ النفس، مطمئن القلب، متوجهًا إلى الله تعالى، غير مشغول بما يصرفه عما هو بصدده من أمر الخطبة، ويحسن به أن يكون باسم الوجه مستبشرًا، فالوجه العابس المكفهرّ المتوتر، والجبين المقطّب، كل ذلك من أسباب النفرة واليأس من الخطبة.
ومن الأمور الخارجية ذات الصلة بفاعلية الخطبة وتأثيرها:
توجه السامع ورغبته في السماع، حيث إن هذا الأمر يترك أثرًا واضحًا على نفس الخطيب، ويشرح صدره للكلام؛ مثلما يؤثر جفاء السامع وانشغاله عن الخطبة سلبيًّا على نفسية الخطيب.
وهكذا فإن على السامعين مسؤولية غير قليلة عن نجاح الخطبة أو فشلها، وهذا يؤكد أن فن الاستماع لا يقل أهمية عن فن الإلقاء.(132/3)
ومن أهم الأمور التي يجب أن تسبق إلقاء الخطبة - معرفةُ الخطيب ماذا يريد أن يقول، ومعرفته لمن يقول، وهو الجمهور الذي يستمع اليه، فإن لكل مقام مقالاً، وهي العوامل المؤثرة في فاعلية الخُطبة، وتأثيرها في نفس السامع.
ثانيًا: العوامل الداخلية: ونقصد بها تلك العوامل التي تتعلق بالخطبة نفسها، ومن ذلك:
براعة الاستهلال:
وهي أن تبدأ ببداية مثيرة تشد السامع، وتحرك في نفسه الرغبة في الاستماع والتفاعل، ولنا أن نقتدي في ذلك بالأسلوب القرآني المعجز في مطالع وبدايات السور القرآنية المباركة؛ كقوله – تعالى -: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} [الفيل: 1]، وقوله – تعالى -: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية: 1]، وقوله – تعالى -: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل: 1]، وقوله - تبارك وتعالى -: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر: 1]، ومثل ذلك كثير جدًّا، ويتحقق ذلك بطرح المشكلة أو القضية التي يراد الحديث عنها بجملة من الأسئلة والاستفسارات.
ولنا في أحاديث المصطفى - صلى الله عليه وسلم - أسوة حسنة، فمن ذلك قوله - عليه السلام -: ((ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان))؛ أخرجه البخاري، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((خمس أعوذ بالله أن تكون فيكم أو تدركوهن))؛ رواه الطبراني، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((بادروا بالأعمال سبعًا))؛ رواه الترمذي، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة))؛ رواه الطبراني، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات))؛ رواه الإمام مسلم والترمذي والنسائي.
التحذير من طول المقدمات:(132/4)
وهذا شأن يقع فيه كثير من الخطباء، فتجده لا يدخل الموضوع إلا بعد إملال السامع، وتيئيسه من التعرف على الخطبة من أين تبدأ وإلى أين ستنتهي، فتجده يستسلم للنعاس أو الغفلة عن الخطيب؛ فلا ينتبه إلا عند إقامة الصلاة.
تحديد الموضوع مسبقًا:
وعدم إجْهاد السامع في استنتاج ذلك؛ كأن يقول من البداية: أما بعد فحديثنا إليكم اليوم عن عِبَر الإسراء والمعراج، أو أن يقول: الحمد لله الذي جَعَلَ الحَجَّ رُكنًا من أركان الإسلام، وهكذا فتبدأ الأسئلة والاستفسارات بِقَصْدِ تَوْضِيح أهميَّة الموضوع، وضرورة مُجالَسَتِه.
دقة الاستشهاد بالآيات القرآنية والأحاديث الشريفة:
ويشار في هذه المناسبة إلى أن كثيرًا من الخطباء يبدأ الخطبة وينتهي منها دونما استشهاد بآية ولا حديث؛ مِمَّا يترُكُ الخُطبة خاوية، فقيرة إلى أنوار الوحي! وفي حال ذكر آية كريمة أو حديث شريف فيحسن بالخطيب أن يتأكَّد من دقة حفظه للنص القرآني، ومن تخريج الحديث النبوي الشريف.
تجنيب الأمور الخلافية:
وترك الحديث في الاختلافات الفقهية إلى الدروس العلمية المتخصصة، والحرص على الكلام في القضايا الكلية العامة في ديننا التي لا يختلف عليها اثنان، وهذا شأن الخطبة، فهي مقررة في الدين؛ لتوحيد الناس والتأليف بينهم، وجمعهم على مقاصد الشريعة.
تناول الحديث عن الإسلام على أنه منهج الله الشامل ودينه الكامل:(132/5)
ونحذر من الاجتزاء وتقطيع أوصال الدين من خلال الرؤى الضيقة، التي تفهم الإسلام أجزاء وتفاريق، نأخذ منها ما نشاء، ونذَرُ منها ما نشاء وَفْقَ نَظَرٍ قاصر، يغفل حكمة الشريعة وهدفها في بناء مجتمع إنساني راشد، ويؤكّد ذلك الحديث عن منهج النبيّ - صلى الله عليه وسلم - في إقامة مجتمع فريد، يقوم على الطاعة والعدل والشُّورى والتعاوُن والتكافل، والإعراض عن الحديث في القضايا التي لا تكون عند الخطيب عنها معرفة، مما يقوم على المصالح والأهواء الضيقة المحدودة، التي ليس لها ثبات على حال، إذ الحديث في هذا الجانب ضرره أكثر من نفعه، ويكفينا في الحُكْمِ على الأشخاص والأشياء ميزانُ شريعَتِنا الذي لا يُجامِلُ أحدًا لرغبة أو رهبة.
ولا بد من التأكيد على أنَّ الشريعة ليستْ ضِدَّ أحد بعيْنِه؛ ولكنَّها رحمةٌ للعالمين، ومن هنا فيحسن بالخطيب أن يذكر الخطأ بأسلوب يعتمد الحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن، ويعرض عن ذِكر المخطئ لإعطائه فرصة للرجوع إلى الصواب دونما حرج.
تجنب التجريح والتشهير بالأفراد والجماعات:
لأن هذا يوغر الصدور، ويثير الأحقاد، ويقطع فرص الآخرين للاستفادة من الخطبة؛ لأن السامع في هذه الحالة سيهيئ نفسه للرد عليها، وليس للإفادة منها.
التأكد من صحة المعلومة ودقتها:
لكي تكون سببًا لقوة الخطبة؛ وليست عاملاً من عوامل ضعفها.
الاهتمام باللغة العربية وتجنب اللحن والتزام قواعد الإعراب:
فكم من موضوعٍ مُهِمٍّ مُفِيد أضاعه ضعفُ لغة الخطيب، ولا يصِحّ أن يلوذ الخطيب أحيانًا بجهل السامع، أو عدم رَغْبَتِه في المراجعة؛ إذِ العربية لبوسُ ديننا، ولغة قرآننا، ولسان نبينا محمد، صلى الله عليه وسلم.
تناسب النبرة والصوت مع الموقف:
فيشتد الخطيب في موقف الشدة، ويَلِينُ في موضع اللين؛ تمامًا كما هو وارد في الحديث عن خطب النبي - عليه السلام - الذي كان في مواقف الشدة كأنه منذر جيش.
تجنب تكرار كلمة بعينها:(132/6)
إذ إن ذلك يدعو إلى السآمة والملل، ويقلل من هيبة الخطبة، ويدفع إلى الاستغراب والاستهجان.
تجنب الإشارة إلى الناس عند ذكر أمر مذموم:
كما في قوله – تعالى -: {فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} [الأنفال: 35]، وقوله – تعالى -: {كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ} [المرسلات: 46].
اختيار العبارات السهلة البسيطة:
فبدلاً من "اشرأبت"؛ نقول: "تطاولت"؛ وبدلاً من "يتجشمون"؛ نقول: "يتحملون"؛ وبدلاً من "تفاقمت"؛ نقول: "اشتدت"؛ وهكذا، فالمقصود إيصال المعنى؛ وليس الاستعراض اللغوي.
الحركة المناسبة والاشارة المناسبة:
فرُبَّ حركة أوصلت المعنى إلى القلب قبل الكلمة وأبلغ من الكلمة، ورُب حركة أضاعت هيبة الكلمة وأفقدتها معناها، ولا بد هنا من التذكير بأنَّ كثرة الحركة وخروجها عن حد الاعتدال - قد يؤدي إلى الزراية والسخرية، فلْيفطن الخطيب لكل ذلك.
الابتعاد عن جلد الذات وتقريع الآخرين:
وترسيخ حالة اليأس والإحباط التي نعانيها، فَكُلّ هذا يؤدّي إلى النُّكوصِ والتَّراجُعِ، ولا يُساعِدُ في تقدُّم الأُمَّة فتيلاً.
إشاعة الأمل وروح التيسير والتبشير:
وهذا ليس من باب الحديث المكرور المرتجل؛ ولكنه منهج رباني مسلوك، وطريق ممدود، يقول المولى – سبحانه -: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح: 5 – 6]، ويقول - جل جلاله -: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا} [يوسف: 110]، وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((يَسِّرَا ولا تُعَسِّرَا، وبَشِّرَا ولا تُنَفِّرَا)).
الخاتمة:
ويراعى أن تختم الخطبة بكلمات جامعة، ملخصة لما تفرق في الخطبة، ومنسجمة مع ما بدأت به الخطبة، وما عرضت له من موضوع.(132/7)
وبعد: فإن هذا بعض مؤشرات ومؤثرات في إعطاء الخطبة فاعليتها، لم تذكر على سبيل الاستقصاء والحصر، وإنما هي من باب النصح والإرشاد، وهي بالتأكيد قابلة لأن يُزاد عليها أو يُحذف منها {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير} [البقرة: 148].(132/8)
العنوان: إعداد الزوجة الناجحة فن.. هل نتقنه؟!
رقم المقالة: 883
صاحب المقالة: رحمة أبو إسماعيل
-----------------------------------------
ليس الطلاق لوحده فقط مؤشر فشل المرأة في أن تكون زوجة ناجحة، فهناك الخلافات الزوجية، والعنوسة، وإعراض الشباب عن الزواج بسبب ما يلمسونه في الأسر المتزوجة. وهناك عنف بين الصغار لعدم مقدرة الأم على تربية صغارها والقيام بمسؤولياتها الزوجية. وهناك أيضاً العلاقات المتوترة بين الأهل والأقارب وزوجة الابن والحماة.
إن معظم هذه المشاكل سببه الرئيسي الزوجة، ذلك أن محور نجاح الأسرة وأساس استقرارها يقع جزء كبير منه على عاتق المرأة. فكيف نعلِّم الفتاة منذ الصغر وفي مرحلة المراهقة أن تكون زوجة ناجحة. وما هو فن إعداد الزوجة؟ وعلى من تقع المسؤولية في إعداد الزوجة الناجحة؟
• أعمال المنزل ضرورية:
** يقول د. خالد السلمي - طبيب -: لقد اخترت زوجتي على أساس الكفاءة العلمية، فهي طبيبة أسنان، وأسرتها على قدر كبير من الأخلاق ووالدتها (حماتي) تعمل مدرسة وإنني لا أعيب على زوجتي سوء خلق، لكنها ليست قائمة على مسؤوليات البيت بشكل يسعدني، بل نكاد نعيش في تعاسة. فالحقيقة أن حماتي انشغلت بعملها عن الأولاد برغم أنها كانت حريصة على متابعة دروسهم بصورة جيدة جعل معظمهم أطباء وطبيبات، لكن المشكلة أن زوجتي تهتم بصورة غير طبيعية بعملها خارج المنزل، وهي لا تتقن مطلقاً إعداد الطعام، وهذا جعلني بين الحين والآخر أذهب إلى أمي لتناول بعض الأكلات التي أحبها. ومن ناحية أخرى فإن البيت سوق كبير وغير منظم تماماً. وعندما أدخل إلى بيوت بعض الأقارب والأصدقاء أجد اختلافاً كثيراً، ثم إن زوجتي أيضاً تدلل ابنتي كثيراً وتلبي لها معظم طلباتها ولذا فإن الابنة عنيدة وأنانية. وهكذا فإن التقييم الكلي لزوجتي تجاهي وتجاه البيت وأولادنا سلبي جداً.(133/1)
** أما خديجة عبد الباقي - ربة منزل - فتقول: لقد حصلت على تعليم متوسط لأن أمي منذ صغري وهي تقول البنت لزوجها وبيتها، وقد جهزت لي أثاث منزلي وبه كل التفاصيل الصغيرة. وكانت دؤوبة على ذلك منذ صغري. وطَوال حياتي وأنا أهتم بآخر صيحات الموضة ولا أحب القراءة لكني مدمنة لمشاهدة التلفاز. تزوجت بمن اختارته لي أمي، وفي فترة الخطوبة كنت سعيدة، لكن بعد الزواج فوجئت بالعديد من المسؤوليات تجاه البيت وتجاه زوجي، وبرغم أنني لا أعمل إلا أنني لا أتحمل القيام بمهام المنزل خصوصاً عندما تزورني حماتي أو أهل زوجي، وزوجي أيضاً صرت أختلف معه كثيراً، وعندما يشتد الخلاف معه أو مع أحد من أهله أترك البيت وأذهب إلى أمي بعض الوقت ثم أعود مكرهه لمسؤولياتي الزوجية.
• العناد والندية مدخل للشيطان:
** صالح محمود - مهندس - يقول: تزوجت من زميلتي في العمل، وهي تقوم بمهام البيت مع عملها بصورة جيدة، وهي فنانة في المطبخ لأنها مدربة منذ صغرها وهي في بيت أهلها على
إعداد الأكلات المميزة، إلا أن كل هذه الأشياء لا تعنيني بصورة أساسية قدر طاعتها لي،فهي برغم أنها مهندسة وطباخة ماهرة إلا أنها عنيدة. كلمة حاضر ملغاة من قاموسها. وهذا العناد سبب لنا مشاكل عديدة مع الأهل والجيران وفي العمل أيضاً ودائماً أهلها يناصرونها في مشاغباتها هذه، ويتعاطفون معها، وهو ما أدى إلى تدهور حياتنا الزوجية.
** أما محمد الفولى - مدرس ثانوي - فيقول: إنني دائماً أدعو لوالد زوجتي ووالدتها لأنهما أحسنا تربيتها. فهي دائماً مطيعة وعندما يكون لها رأي مخالف لرأيي تصمت حتى ينتهي غضبي وتحاول إقناعي بعد حين بلين ولطف، ولذا فإنني أحترم طلباتها وآراءها، وعندما أجدها مرهقة في أمور المنزل أحاول مساعدتها قدر الإمكان وحسب استطاعتي.(133/2)
** ابتهال حسين - مديرة دار حضانة - تقول: كانت الأمهات والجدات منذ زمن غير بعيد يحرضن الفتيات على التمسك بالزوج والحفاظ على الأسرة ويساهمن في تقليص هوة الخلافات الزوجية. ومهما بلغت حدة الزوج يوصين المرأة بالتمسك به مهما كانت عيوبه وتقول الأم لابنتها. يكفيك من زوجك أنه أجير لك بالنهار وحارسك بالليل. لكن يبدو أن الفتيات الصغيرات الآن قد غابت عنهن تلك الوصايا البليغة وصرن فريسة للبث الإعلامي الضار، وحكايات الحب والهيام التي تنطفئ عند أول خلاف. فالبيوت لا تقام على مجرد العواطف الوهمية والأحلام الخيالية والطموحات المادية، ولكنها تقام على استبسال المرأة في الدفاع عن بيتها من أي تأثير داخلي أو خارجي.
• إعداد الزوجة الناجحة مسئولية المجتمع:
** د. بسام الحسن - أستاذ علم الاجتماع - يقول: هناك معاهد لإعداد القادة، وجامعات في شتى العلوم الإنسانية لإعداد الكوادر في مختلف المجالات، لكن أهم مؤسسة تربوية في المجتمع هي إعداد الفتاة للزوجية، ويجب أن تتكاتف الجهود سواء من البيت أو المدرسة أو الجامعة لإعداد وتربية الفتاة على تحمل مسؤولية الأسرة، فنجاح أي مجتمع قائم على استقراره الأسري.
** د. أحمد عبد الهادي - أستاذ التربية - يؤكد أن المرأة لها حقوق كثيرة عند الرجل، ويجب أن يقوم بها، وفي المقابل مسؤولية وشرف الزوجية له تبعات كثيرة، والفتاة يجب أن تُربَّى منذ الصغر علي كيفية تحمل مسؤولية البيت وطاعة الزوج، فالزواج ليس مجرد عرس وفستان، لكنه تربية أجيال، فالزوجة يجب أن تكون مدرسة، راعية لزوجها ولأولادها.(133/3)
ويرى د. أحمد عبد الهادي أن أولويات الزوجة الناجحة هي طاعة الزوج بالكلمة الطيبة وحفظ أسراره وحفظه في غيابه وفي حضوره وحسن التدبير في المنزل، وهذه الأمور أكثر أهمية من إعداد كَمِّ من الأطباق والأواني والأثاث. فهذه الأمور المادية يمكن التغلب عليها وتعويضها، لكن إعداد الزوجة الصالحة مسؤولية كبيرة يجب أن تهيَّأ لها الفتاة منذ الصغر، ويجب أيضاً ألَّا تثير خلافات مع أهل زوجها احتراماً وتقديراً لزوجها.
إن الدراسات الميدانية تؤكد وجود ارتفاع مخيف في حالات الطلاق وبالذات من حديثي الزواج، وهذا يدل على أن الفتيات برغم أنهن يحصلن على الشهادات العلمية إلا أن معظمهن غير مدركات لمسؤولياتهن الزوجية، والفتاة اليوم هي نتاج التأثير الإعلامي الذي يركز فقط على العواطف والحب دون الاهتمام بالبناء العقلي والوجداني، ويجب أن تتضافر جهود الأسرة مع مؤسسات المجتمع التعليمية والإعلامية لإعداد الفتاة للزوجية.
• فصاحة امرأة مسلمة:(133/4)
** د. محمد رأفت عثمان- أستاذ الشريعة بجامعة الأزهر- يقول: كانت المرأة تذهب إلى الرسول- صلى الله عليه وسلم- تسأله ما حق الزوج على زوجته لكي تتعلم تكاليف الزواج ومسؤوليته، ويجب أن تتعلم الفتاة من الأم المسؤولية عن رعيتها وحقوق الزوجية. وقد فصل الإسلام بشكل دقيقة في تلك المسألة فرُوِيَ عن الرسول- صلى الله عليه وسلم- قوله ((إذا صلت المرأة خمسها وصامت شهرها وحصنت فرجها وأطاعت زوجها دخلت من أي أبواب الجنة شاءت)).وقد جاءت امرأة إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وقالت ((بأبي أنت وأمي، إني وافدة النساء إليك وإنا معشر النساء محصورات مقصورات، قواعد بيوتكم ومقضى شهواتكم، وحاملات أولادكم، وإنكم معاشر الرجال فُضِّلْتم علينا بالجمعة والجماعات وعيادة المرضى وشهود الجنائز، والحج بعد الحج وأفضل من ذلك الجهاد في سبيل الله. وإن الرجل منكم إذا اخرج حاجاً أو معتمراً أو مرابطاً، حفظنا لكم أموالكم وغزلنا لكم أثوابكم، وربينا لكم أولادكم فما نشارككم في الأجر يا رسول الله. فالتفت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أصحابه ثم قال هل سمعتم مقالة امرأة قط أحسن من مسألتها في أمر دينها من هذه، وقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم - انصرفي أيتها المرأة وأَعْلِمي مَنْ خَلْفَكِ من النساء أن حسن تبعل إحداكن لزوجها، وطلبها مرضاته، واتباعها موافقته تعدل ذلك كله. فأدبرت المرأة وهي تُكَبِّر)).
فمن من فتيات المسلمين الآن يدركن ذلك؟ وهل شرفُ وفنُّ الزوجية قائم على أثاث فاخر وأواني وأطباق وفرش وملابس، أم مجرد عواطف وكلمات حب زائفة، أم على عناد ومكابرة وندية وتشاجر؟ علينا أن نعود لديننا وقيمنا لنصحح المنظومة الأسرية.
• فاقد الشيء لا يعطيه:(133/5)
** د. أحمد المجدوب - الخبير الاجتماعي بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية - يقول: كيف تُعِدُّ المرأةُ اليوم فتاتها لكي تكون زوجة صالحة وهي غير قادرة على ذلك؟ فمن خلال لقاءاتي مع سيدات جامعيات وجدت أن نسبة الإدمان منتشرة بين أبنائهن حيث انشغلنَ بالعمل عن تربية أبنائهن وهن لا يدركن جيداً معنى المسؤولية الأسرية وحقوق الزوجية. هذا إلى جانب كثرة الخلافات والمناوشات الأسرية وهذا يؤثر حتماً في الأولاد.
ومن ناحية أخرى فإن فن إعداد الفتاة لكي تكون زوجة صالحة ومسؤولة عن أسرة يستلزم القدوة الحيَّة وتلك هي لُبُّ القضية، أما التغير الذي لحق بالفتاة اليوم فسببه الأساسي التحولات الاقتصادية وما لحق بها من تغيرات اجتماعية أدت إلى تراجع القيم الأسرية المحافظة وتقدم قيم جديدة لا تأخذ في الاعتبار التربية. ومن العوامل المؤثرة سلباً في المرأة والأسرة غياب التدين الحقيقي المترجم في سلوك عام. ولعلاج ذلك كله لابد من العودة إلى الدين.(133/6)
العنوان: إعراب آيات من سورة الحج
رقم المقالة: 1806
صاحب المقالة: خاص: الألوكة
-----------------------------------------
تضافرت جهود العلماء على دراسة علوم القرآن، وذلك من منطلق الاهتمام بكلام الله تعالى، ومن أجل الوصول إلى المعاني التي يتضمنها وصولاً صحيحاً..
ومن اهتمامهم، تلك العنايةُ بإعراب القرآن الكريم.. فخصصوا للإعراب كتباً جليلة برزت في كل عصر من عصور الإسلام.
منها الكتابُ الذي بين أيادينا، وهو (إعراب القرآن الكريم وبيانه) في تسعة مجلدات نفيسة، للأستاذ محيي الدين الدرويش.وهو من أهم كتب الإعراب في العصر الحديث، يعرب كلمات القرآن وجمَله، ويناقش مفرداته ومشكِله، ويشرح بعض القضايا النحوية، ويلقي على آياته أضواءً بلاغية.. فلنقرأ إعرابه لقوله تعالى في سورة الحج:
{وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ * ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 26 - 29].
الإعراب:
{وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا}(134/1)
"الواو": استئنافية، والظرف متعلق بمحذوف تقديره: اذكرْ، وجملة "بَوَّأْنَا": مُضافة إليها الظرف، و"بوأنا": فعل وفاعل، و"لإبراهيم": متعلقان بـ: ((بَوَّأْنَا))، و"مكان البيت": مفعول بوأنا، واختار أبو البقاء وغيرُه أن تكون اللام زائدة، أي: أنزلناه مكان البيت، والدليل عليه قوله تعالى: {وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} [يونس: 93]، أما على الأول، فيكون معنى "بوأنا": هيأنا، و"أن": هي المفسرة لأنها واقعة بعد قول مُقدَّر، أي: قائلين له: لا تُشركْ، و"لا": ناهية، و"تشرك": فعل مضارع مجزوم بلا الناهية، وقيل: هي مصدرية، فَعَلْنَا ذلك لِئلاَّ تُشْرِك، وجُعل النَّهْي صلة لها، و"بي": مُتعلقان بتُشْرِك، و"شيئًا": مفعول تشرك.
وعبارة أبي حيان: و"أن": مخففة من الثقيلة، قاله ابن عطية، والأصل: أن يليها فعلُ تحقيقٍ، أو ترجيحٍ كحالها إذا كانت مُشدَّدة، أو حرف تفسير، قاله الزمخشري، وابن عطية. وشرطها أن يتقدمها جملة في معنى القول، و"بوأنا" ليس فيه معنى القول، والأَوْلى عندي: أن تكون "أن" الناصبة للمضارع، إذ يليها الفعل المتصرف من ماضٍ ومضارع وأمر، والنهي كالأمر.
{وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ}
"وطهر": الواو عاطفة، و"طهر": فعل أمر، فاعله مستتر تقديره: أنت، و"بيتي": مفعول طهر، و"للطائفين": متعلّق بطهر، و"القائمين والركع": عطف على ما تقدم، و"السجود" صفة للركع، والأَوْلَى: أن تجعل الكلمتين بمثابة الكلمة الواحدة؛ لأنهما عملان في عمل واحد، وهو الصلاة.
{وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ}(134/2)
"وَأَذِّنْ": فعلُ أمرٍ، أي: نادِ بدعوة الحج، والأمر به، والخطاب لإبراهيم؛ كما يقضيه السياق، وعليه المفسّرون جميعًا. وعن الحسن: أنه خطاب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أُمِر أن يفعل ذلك في حَجة الوداع، وهو أقوى من جهة التشريع، و"في الناس": متعلقان بِـ: ((أَذِّنْ))، و"بالحج": متعلقان بمحذوفٍ حالٍ، أي: مُعلنًا، و"يأتوكَ": مضارع مجزوم؛ لأنه وقع جوابًا للطلب، و"الواو": فاعل، و"الكاف": مفعول به، و"رجالاً": حال، "وعلى كل ضامر": عطف على "رجالاً"، أي: مُشاة وركبانًا، و"يأتينَ": فعل مضارع مبني على السكون لاتصاله بنون النسوة، و"النون": فاعل، وجملة "يأتين": صفة لكل ضامر؛ لأنه في معنى الجمع، وقرئ "يأتون" صفة للرجال الركبان، و"من كل فج": متعلقان بيأتين، و"عميق": صفة لفَجٍّ.
{لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ}
"اللام": للتعليل، و"يشهدوا": فعل مضارع منصوب بأنْ مضمرة بعدها، وهي متعلقة مع مجرورها بـ"يأتوكَ"، أو بـ"أَذِّنْ"، و"منافع": مفعول به، و"لهم": صفة لمنافع، و"يذكروا": عطف على يشهدوا، و"الواو": فاعل، و"اسم الله": مفعول به، و"في أيام": متعلقان بـ"يذكروا"، و"معلومات": صفة لأيام، وسيأتي ذكر هذه الأيام في باب الفوائد.
{عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ}
"على ما رزقهم": متعلقان بـ"يذكروا" أيضًا، ومعنى "على": هنا التعليل، ومثله قوله – تعالى -: {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 185].
وقول الشاعر:
عَلامَ تَقُولُ الرُّمْحَ يُثْقِلُ عَاتِقِي إِذَا أَنَا لَمْ أَطْعَنْ إِذَا الْخَيْلُ كَرَّتِ(134/3)
و"من بهيمة الأنعام": متعلقان بـ"رزقهم"، "فكلوا": الفاء الفصيحة، و"كلوا": فعل أمر وفاعل، و"منها": متعلقان بـ"كلوا"، "وأطعموا": عطف على كلوا، و"البائس": مفعول به، و"الفقير": صفة.
{ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ}
"ثم": حرف عطف، و"اللام": لام الأمر، وسيأتي بحث مفيد عنها في باب الفوائد، و"يقضوا": مضارع مجزوم بلام الأمر، و"تفثهم": مفعول به، "وليوفوا نذورهم": عطف على يقضوا تفثهم، "وليطوفوا بالبيت": عطف أيضًا، و"بالبيت": متعلقان بـ"يطوفوا"، و"العتيق": صفة للبيت.(134/4)
العنوان: أعرِضْ عن الجاهلين
رقم المقالة: 1327
صاحب المقالة: إبراهيم الأزرق
-----------------------------------------
قال الله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [الشورى: 40-43]، فجوّز الاقتصاص بالعدل، وندب إلى الفضل، والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً {إن الله لا يضيع أجر المحسنين} [التوبة: 120].
وقد علم أنّ من دَيْدَن الفضلاء وأصحاب القلوب الحية، الفيئةَ بعد الإساءة، وإكرام المساء إليه، وإن كان بعض أولئك المسيئين لا يَمُت إلى العلم الشريف بكبيرِ صلة، روى الخطيب في تاريخ بغداد أن الزجاج وقع بينه وبين رجل من أهل العلم شر فاتصل، ونسجه إبليس وأحكمه، حتى خرج الزجاج معه إلى حد الشتم، فلم يكن من غريمه إلاّ أن كتب إليه:
أبى الزجاجُ إلاّ شتمَ عرضي لينفعه فآثمه وضره
وأقسم صادقاً ما كان حُرٌّ ليطلق لفظه في شتم حره
ولو أني كررت لفر مني ولكن للمنون عَلَيَّ كَرَّه
فأصبح قد وقاه الله شري ليوم لا وقاه الله شره
قال الخطيب: فلما اتصل هذا بالزجاج قصده راجلاً حتى اعتذر إليه وسأله الصفح[1].
فانظر كيف كان الفضلاءُ المنصفون قديماً يعرفون مغبة الوقوع في الخصم المخالف، ولم يكن يمنعهم علوُّ منزلتهم عند الناس التزامَ أمر رب الناس.
ذكر ابن مفلح في الفروع أن الوزير ابن هبيرة اتفق هو والعلماء على شيء وخالفهم فقيه مالكي، وكان الجمع في مجلسه، فقال الوزير لما ضجر: أحمارٌ أنت؟ الكل يخالفونك وأنت مُصِر!(135/1)
ومضى المجلس وانفض بعدها، إلاّ أن ابن هبيرة راجع نفسه ونظر في قوله، فعملت النفس اللوامة عملها.
ولك أن تتأمل لفظه: أحمار أنت؟!
غاية ما فيه تعريض باستفهام، إلاّ أن الضمير اليقظ لم يلتمس لصاحبه العذر، والنفس اللوامة آثرت أن تحرز السلامة، والفقه أفهمَه أن التعريض في هذا كالتصريح، فلما كان في اليوم الثاني قال الوزير للجماعة: جرى مني بالأمس ما لا يليق بالأدب، حتى قلت له تلك الكلمة، فليقل لي كما قلت له، فما أنا إلا كأحدكم. فضج الخلق بالبكاء.
وأخذ ذلك الفقيه يعتذر ويقول: أنا الأولى بالاعتذار.
والوزير يقول: القصاصَ، القصاصَ.
وكان في المجلس بعضُ أهل الفطنة من فقهاء الشافعية يُدعى يوسف الدمشقي صاحب درس النظامية فخلص المجلس بأن قال: إذ أبى القصاص فالفداء.
فقال الوزير: له حُكْمُه.
فقال الرجل: نعمك علي كثيرة فأي حكم بقي لي!
قال: لا بد.
قال: عليّ دين مائة دينار.
فقال الوزير: يُعطَى مائة لإبراء ذمته، ومائة لإبراء ذمتي.
فأحضرت في الحال فلما أخذها قال الوزير: عفا الله عنك وعني وغفر لك ولي.
وقد ذكر هذا الخبر ابن الجوزي في تاريخه[2].
فتأمل نتيجة الاقتصار وترك المجازاة بالمثل كيف كان أثرها عند من كان له قلب أو ضمير؟
وإذا كانت تلك ثمرة الكف فكيف بالإحسان؟
يذكرون أن مساورًا الوراق الشاعر، نقَم على أبي حنيفة وأصحابه، فقال يعرّض بهم:
كُنا من الدّين قبل اليوم في سَعَةٍ حتى ابتُلِينا بأصحابِ المقاييسِ
قامُوا من السُوق إذ قلّت مكاسبُهم فاستعمَلوا الرأيَ عند الفقر والبوسِ
أمِّا العُرَيْب فأمَسوْا لا عطاءَ لهم وفي المَوالي علاماتُ المفاليسِ
فلقيه أبو حَنيفة، فقال له: هجوْتَنا، نحن نرضيك، فبعث إليه بدراهم، فقال:
إذا ما الناسُ يوماً قايسُونا بمسألة من الفُتيا لطيفَةْ
أتيناهم بمقْياس صَحيح صليبٍ من طِراز أبي حَنِيفةْ
إذا سَمِع الفقيه به حواه وأثبته بِحِبْرٍ في صَحيفةْ[3](135/2)
وفي صحيح مسلم: أن صفوان قال والله لقد أعطاني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما أعطاني وإنه لأبغض الناس إليَّ، فما برح يعطيني حتى إنه لأحب الناس إليَّ[4].
فحرِيٌّ بنا أن نقتفي أثره، ونستمسك بهديه، مع مخالفينا، بل مبغضينا.
وإذا تأملت ما يُروى من شأن الصدر الأول وجدت عجباً، "قال أبو الدرداء رضي الله عنه لرجل أسْمَعَه كلاماً: يا هذا لا تغرقن في سبّنا، ودَعْ للصلح موضعاً؛ فإنا لا نكافئ من عصى الله فينا بأكثرَ من أن نطيع الله عز وجل فيه.
وشتم رجل الشعبيَّ فقال: إن كنتُ كما قلتَ فغفر الله لي، وإن لم أكن كما قلتَ فغفر الله لك.
واغتاظت عائشة -رضي الله عنها- على خادم لها ثم رجعت إلى نفسها فقالت: لله در التقوى ما تركت لذي غيظ شفاء"[5].
{وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [الشورى: 43].
قال النضر بن شميل: سمعت شعبة يقول: قال رجل للأحنف بن قيس: إن قلت واحدة لتسمعن عشراً!
فقال الأحنف له: لبيك، لئن قلتَ عشراً لم تسمع واحدة![6].
وألح آخرُ عليه بالشتم، فلما فرغ قال: هل لك في الغداء؛ فإنك منذ اليوم تحدو بأحمال ثقال؟
وشتم سفيه حكيماً وهو ساكت فقال: إياك أعني!
فقال الحكيم: وعنك أغضي![7].
ولما ولي عمر بن عبد العزيز خرج ليلة ومعه حرسي فدخل المسجد، فمر في الظلمة برجل نائم فعثر به، فرفع رأسه إليه فقال: أمجنون؟ قال: لا. فهم به الحرسي، فقال له عمر: مه إنما سألني أمجنون أنت؟ فقلت: لا![8].
وقال لرجل لأبي بكر رضي الله عنه: لأشتمنك شتماً يدخل معك قبرك. فلم يزد على أن قال له: معك يدخل والله لا معي![9].
وقد قيل -وينسب لعمرو بن العاص رضي الله عنه-:
وبعض انتقام المرء يزري بعقله وإن لم يقع إلا بأهل الجرائم
وقال آخر:
لا ترجعن إلى السفيه خطابه إلا جواب تحية حَيَّاكَها
فمتى تحركه تحرك جيفة تزداد نتناً ما أردت حَرَاكها
قال المهلب: إذا سمع أحدكم العوراء فليتطأطأ لها تتخطاه[10].(135/3)
ومن شعر حاتم الطائي قوله:
وكِلْمة حاسد في غير جرم سمعت فقلت مرّي فانفذيني
وعابوها عليَّ ولم تَعبني ولم يَعرق لها أبداً جبيني
إن الكريم يغمض ويغضي، وسيءُ الأدب لن يعدَم أسوأ أدباً منه يبتليه الله به، ما دامت الإساءةُ للناس ديدنَه، فلا تكن أنت ذاك وترفّع.
كنت كثيراً ما يستفزني في أثناء قيادتي للسيارة بعض المخطئين أو المستهترين –أو هكذا أحسبهم- فأستشيط غيظاً منهم، حتى قدر ذات يوم أن ركب معي ابن بعض مشايخنا المربين، فحدث في الطريق من بعض العابثين –فيما أحسب- ما يحدث، فلحظ الأخ تغيري، فقال لي: دعه لا تكترث به.. قد كان أبي يقول في مثل هذا: اتركه.. فإن كان ذلك ديدنه فسوف يبتليه الله بغيرك من شثني الطباع وسيئي الأخلاق، وإن كانت زلة أو له عذر فلتغتفر![11].
ومن جيد ما قال منصور بن محمد الكريزي:
سألزمُ نفسي الصفحَ عن كل مذنب وإن كثرت منه إليَّ الجرائمُ
فما النّاسُ إلا واحدٌ من ثلاثةٍ شريف، ومشروف، ومِثلٌ مقاومُ
فأما الذي فوقي: فأعرف فضلَه وأتبع فيه الحقَّ، والحقُّ لازم
وأما الذي دوني: فإن قال صنت عن إجابته عِرضي، وإن لام لائمُ
وأما الذي مثلي: فإن زلَّ أو هفا تفضَّلتُ إن الحلم للفضل حاكمُ
وجماع هذا كله قول ربنا سبحانه: {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين * وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم} [الأعراف: 199-200].
ــــــــــــــــــــــــــــ
[1] ينظر تاريخ بغداد، ترجمة إبراهيم بن السري بن سهل أبو إسحاق النحوي الزجاج، 6/92.
[2] نقل ذلك ابن مفلح في الفروع 6/120، وهو في المنتظم 10/215-216.
[3] ينظر تاريخ بغداد 13/363.
[4] 4/1806 (2313).(135/4)
[5] ينظر أدب الدنيا والدين، للماوردي ص252، والأثر الأول عن عمر بن ذر أشهر [ينظر الأثر في شعب الإيمان للبيهقي 6/347 (8464)، والحلية لأبي نعيم 5/113، والكرم والجود لابن أبي الدنيا ص46 (35)، ومشيخة ابن الحطاب ص185 (65)، وكشف الخفاء 1/28(41) مع 2/202 ( 1222 ) ، وتاريخ دمشق 45/27 و28 و29]. وأثر الشعبي رواه ابن أبي الدنيا في الإشراف في منازل الأشرف ص224 (259)، وكذلك الحافظ المزي في تهذيب الكمال 14/38، وابن عساكر في تاريخه 25/381، و384، يذكر نحوه في تفسير ابن عباس وأنس بن مالك رضي الله عنهما للآية (ولا تستوي الحسنة ولا السيئة)، انظر معاني القرآن 6/269، ومداراة الناس لابن أبي الدنيا ص53، وقد رواه غير واحد عن زين العابدين علي بن الحسين منهم المزي في تهذيب الكمال 20/397، وانظر صفة الصفوة 2/94، والكبائر للذهبي ص160. وأثر عائشة ذكره صاحب الكشاف وتلقاه عنه المفسرون ولم أجده مسنداً.
[6] ينظر الخبر في تاريخ مدينة دمشق، لابن عساكر، 24/331، وقد ذكره غير واحد في ترجمته.
[7] يذكر هذا عن علي بن الحسين زين العابدين، ذكره ابن كثير في ترجمته من البداية والنهاية، 9/105.
[8] ينظر تاريخ مدينة دمشق 45/206.
[9] ينظر وفيات الأعيان 3/69.
[10] رواه ابن أبي الدنيا في الإشراف في منازل الأشراف ص192(188)، ومن طريقه ابن عساكر في تاريخ دمشق في ترجمته 61/299، والسند فيه مجهول إلاّ أن المهلب اشتهر بالحلم ومن ترجم له ساق أخباراً شتى تدل على إعراضه عن الجاهلين.
[11] والشيخ المذكور أحسبه من أفراد أساتذة التربية في هذا العصر، شيخنا ناصر بن سليمان العمر حفظه الله.(135/5)
العنوان: اعرف عدوك
رقم المقالة: 1435
صاحب المقالة: هيثم الكناني
-----------------------------------------
إنَّ الناسَ على ظهر هذا الكوكب يخوضون الكثيرَ من الصراعاتِ فيما بينهم، سواءٌ كانت سياسيةً أو اقتصاديةً أو عسكرية، وكلٌّ يسعى ليكون في هذه الصراعات من المنتصرين، ومن المبادئ الأساسية التي لا يمكن الانتصارُ بغيرها في أي صراع، المبدأ القائل: اعرِفْ عَدُوَّك، وهذا يعني أولاً تحديد العدو أو الأعداء الفعليين والمحتملين، ثم تحديد طبيعة كل عدو من هؤلاء الأعداء ونقاط ضعفه ونقاط قوته، ثم ترتيب الأعداء من حيث القوة والضرر؛ للتعامل بداية مع الأخطر فمن هو دونه.
إن كل إنسان يولد على هذه الأرض، منذ أن نزل إليها آدم عليه السلام إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، يخوضُ وحدَه معركةً هي الأخطرُ على الإطلاق، هي أخطر من معركة الحصول على الجاه والسلطان، وأخطر من معركة الحصول على لقمة العيش، بل إنها أخطر من معركة البقاء على قيد الحياة!
إنها معركةُ الخلود.. معركة العودة من الغربة إلى أرض الوطن:
فحي على جنات عدن فإنها منازلك الأولى وفيها المخيمُ
ولكننا سبي العدو فهل ترى نعود إلى أوطاننا ونُسَلّم[1]؟!
إنها معركة مصيرية بكل ما في الكلمة من معنى؛ لأن نتيجتها تحدد مصير الإنسان ومستقبله، ليس لسنوات تالية أو قرون آتية فحسب، بل إنها تحدد مصيره في خلود أبدي لا نهاية له، فإما في جنة النعيم، وإما في نار الجحيم.
إذا كان الأمر كذلك، فإنَّ ألدَّ أعداء الإنسان إنما هو من كان سبباً في غربته هذه، وإخراج أبيه من الجنة، حيث كان له ألاَّ يجوع فيها ولا يعرى، ولا يظمأ فيها ولا يضحى، وإهباطه إلى الأرض ليشقى.
ألد أعداء الإنسان هو من امتلأ حقداً وحسداً على أبينا وذريته من بعده لما آتاهم الله من فضله؛ أن خلق آدم بيده، وعلمه الأسماء كلها، وأسجد له ملائكته، فكرمه وكرم ذريته من بعده.(136/1)
ألد أعداء الإنسان هو من لا تُرجى مودته قط، ومن لا ينام بالليل ولا بالنهار؛ ليكيد لهذا الإنسان، فيصرفه عن ربه عز وجل، ويقطع عليه طريقه إليه سبحانه.
إنه من لا تقر له عينٌ ولا يهدأ له بال، حتى يجعل ذرية آدم عليه السلام معه في العذاب مقترنين.
ومن رحمة ربنا عز وجل بنا، أن عرَّفنا عدوَّنا بأوضحِ عبارة، وبيَّنَ لنا هدفَه بالتصريح دون الإشارة، فقال عَزَّ مِن قائلٍ: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر: 6]، وبرغم ذلك أعرضَ الكثيرُ من الناس عن هذه الرحمة وعن هذا الإنذار الخطير، بل منهم من عكس الآية تماماً حتى بلغ مبلغاً لا يصل إليه إلا من سفه نفسه، كما قال تعالى: {إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأعراف: 30]، فعن هؤلاء قال الله: {بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً} [الكهف: 50].
وقد بين لنا سبحانه تاريخ بدء هذه العداوة؛ حيث كان الأبوان ما يزالان في الجنة {فَقُلْنَا يَا آَدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ} [طه: 117] وبين لنا سلاح العدو الذي استخدمه مع أبينا كي نتقيه {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ} [طه: 120]، وبين أثر استخدامه أول مرة على آدم وبنيه من بعده {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ} [البقرة: 36]، وبين لنا عز وجل أن سلاحه مع بني آدم هو نفس سلاحه مع الأبوين، حيث وصفه أنه {يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ} [الناس: 5]، وأن حيلته مع الذرية هي الحيلة نفسها التي أخرجت الأبوين من الجنة والتي يريد بها أن يدخل الذرية النار {يَا بَنِي آَدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ} [الأعراف: 27].(136/2)
وحتى لا يتعاظم الشيطان في نفسه فيوقع الإنسان في حبائل العجز عن دفع كيده ووسوسته، أظهر لنا الله سبحانه وتعالى حقيقة هذا العدو فقال: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء: 76]، وهذا إنما يكون لمن حقق العبودية لله عز وجل، واعتصم به، والتجأ إليه، واستعان به على عدوه، وهي الحقيقة التي أدركها الخبيثُ من أول يوم كما أخبر عنه ربنا عز وجل أنه قال: {إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [الحجر: 40]، وأما من اتخذ ربه وخالقه وراءه ظهرياً فهؤلاء يكونون ألعوبة في يد الشيطان {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا} [النساء: 120]، ثم يوم القيامة تتكشف الحقائقُ، وتُرفع الحجب إذ يقول لأتباعه: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} [إبراهيم: 22] مصداقاً لقوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر: 42].
فإذا عرفنا العدو، وعرفنا طبيعته، وعرفنا خطورة عداوته ومراده الأعظم من هذه العداوة، وعرفنا السبيل لمقارعة هذا العدو وهزيمته وإفساد خطته، يبقى لنا أن ندرك أن هذا العدو –لشدة خبثه وعداوته– إنْ أخفق في تحقيق مراده في إيقاع بني آدم في الكفر ليكونوا وإياه خالدين في سواء الجحيم، فإنه يسعى لإيقاعهم فيما دون الكفر ليذوقوا شيئاً من عذاب الله وإن لم يخلدوا فيه، أو ليباعد بينهم وبين الدرجات العلى في جنات النعيم!
وقد ذكر ابن القيم رحمه الله مجامع حيل الشيطان التي يوقع بها بني آدم في حبائله، وهي مما ينبغي لكل عبد أن يتفكر فيه ويتنبه له، وهذه الحيل هي[2]:
1- إيقاع المرء في الكفر والنفاق على اختلاف أنواعه، وفيه قرة عين الشيطان، ولا يقع في حبائل هذه الحيلة إلا كل مخذول مرذول.(136/3)
2- فإن اعتصم الإنسان بالتوحيد أعملَ العدوُّ الحيلةَ في إلقائه في البدعة على اختلاف أنواعها، ولا يقع فيها إلا من أسلم نفسه للشبهات، ولم يدرك حقيقة قوله: "أشهد أن محمداً رسول الله"، وأنها تقطع كل الطرق إلى الله إلا طريق نبيه عليه السلام.
3- فإن تمسك الإنسان بالسنة وهجر البدعة، حاول أن يلقيه في الكبائر، وزين له فعلها بكل طريق، ولا يقع في هذه إلا من أسلم نفسَه للشهوات، فانساق وراء نزواته.
4- فإن أعجزته هذه الحيلةُ، وعظم وقارُ الله في قلب العبد، هوّن عليه الصغائرَ، وقال: له إنها تقع مكفَّرة باجتناب الكبائر حتى كأنها لم تكن، وهذه التي يقع فيها عامة الموحدين.
5- فإن عجز عن ذلك نقله إلى الفضول من أنواع المباحات والتوسع فيها، كالتوسع في المأكل والمشرب والملبس وغير ذلك، فينغمس القلب في ملاذّ الدنيا وإن كانت من المباحات، ويتباعد عن الآخرة شيئاً فشيئاً، وهذه حيلتُه مع الأتقياء الصالحين.
6- فإن عجز عن ذلك نقله إلى الطاعات المفضولة الصغيرة الثواب ليشغله بها عن الطاعات الفاضلة الكثيرة الثواب، وهذه حيلته مع العُبَّاد، ولا يقع فيها إلا من لم يأخذ من العلم بحظ وافر.
فلكلِّ طالبٍ للانتصار في هذه المعركة المصيرية، نقولُ كما قال الله:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200].
فمن صبرَ على مقارعة عدوه، وصابرَ، ورابط، واتقى الله، فإنما هو صَبْرُ ساعة، ثم توشك الحرب أن تضع أوزارها.
نسأل الله أن يجعلنا وإياكم فيها من المفلحين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
ـــــــــــــــــــــ
[1] البيتان لابن القيم رحمه الله.
[2] ينظر إعلام الموقعين لابن القيم 3/329-330.(136/4)
العنوان: إعصار غونو
رقم المقالة: 934
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
الحمد لله القوي القاهر؛ خلق المخلوقات بقدرته، ودبرها بعلمه وحكمته، فلا تبقى ولا تفنى إلا بأمره {إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [فاطر:41] نحمده حمدا يليق بجلاله وعظمته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ {اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصِّلت:11] وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ كان أعلم الناس بالله تعالى، وأتقاهم له، وأشدهم خوفا منه، شرفه الله تعالى بأن منع به العذاب، ورفع العقاب، {وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ } [الأنفال:33] فلم يركن لذلك، ولم يأمن مكر الله تعالى، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واحذروا غضبه فلا تعصوه، واشكروا نعمه، ولا تأمنوا مكره، فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون.
أيها الناس: لا يقدر الخلق ربهم حق قدره، ولا يعظمونه كما ينبغي له أن يعظم، والبشر كثيرا ما يعصونه ولا يطيعونه؛ وذلك لجهلهم بأنفسهم، وعدم معرفتهم بعظمة ربهم، وأنه سبحانه غني عنهم، وهم فقراء إليه، وهو قادر عليهم وهم عاجزون عنه، وهو عالم بهم، ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء.(137/1)
إن هذه الأرض التي نعمرها ونمشي في مناكبها فلا ندركها ولا نعلم كل ما فيها، وما نجهله من عجائبها وأسرارها أكثر مما نعلمه منها، وما يخفى علينا من مخلوقاتها أكثر مما ظهر لنا، مع ما فيها من الدول والأمم والعمران والمراكب وغيرها، كل ذلك ليس شيئا يذكر عند الرحمن جل جلاله، ويطويه يوم القيامة بيده، ويجعله على أصبعه، كما يجعل السماء على أصبع، فسبحان الله ما أعظمه، روى ابن مسعود رضي الله عنه فقال: جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد، إنا نجد أن الله يجعل السماوات على إصبع والأرضين على إصبع والشجر على إصبع والماء والثرى على إصبع وسائر الخلائق على إصبع فيقول: أنا الملك فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه تصديقا لقول الحبر، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزُّمر:67] رواه الشيخان.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(يقبض الله تبارك وتعالى الأرض يوم القيامة ويطوي السماء بيمينه ثم يقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض) متفق عليه.
وقد كانت تعلو النبي صلى الله عليه وسلم هيبة عظيمة، وإجلال كبير لله تعالى وهو يحدث أصحابه بذلك، ويحكي لهم شيئا من عظمة الله تعالى وقدرته؛ كما جاء في حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يأخذ الله عز وجل سماواته وأرضيه بيديه، فيقول: أنا الله، ويقبض أصابعه ويبسطها أنا الملك حتى نظرت إلى المنبر يتحرك من أسفل شيء منه حتى إني لأقول أساقط هو برسول الله صلى الله عليه وسلم)رواه الشيخان واللفظ لمسلم.(137/2)
وفي رواية ابن حبان:ورسول الله يقول هكذا بإصبعه يحركها يمجد الربُ جل وعلا نفسَه: أنا الجبار أنا المتكبر أنا الملك أنا العزيز أنا الكريم، فرجف برسول الله صلى الله عليه وسلم المنبرُ حتى قلنا: ليخرنَّ به) زاد أبو الشيخ في روايته:(أنا الذي بدأت الدنيا ولم تك شيئا، أنا الذي أعيدها، أين الملوك؟ أين الجبابرة؟)
قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: ما السموات السبع والأرضون السبع وما فيهن وما بينهن في يد الرحمن ألا كخردلة في يد أحدكم، وقال الحسن البصري رحمه الله تعالى: بقضها وقضيضها كأنها جوزة في يده.
وهو سبحانه بين لنا من عظمته بقدر ما نعقله، وإلا فعظمته عز وجل فوق ما نتصور، لا يحدها حد، ولا يحيط بها عقل، ولا يدركها أحد؛ ومهما وصفوه سبحانه فلن يقدروه قدره، ولن يعظموه حق عظمته، فسبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم.
أرزاق العباد وآجالهم بيده سبحانه، واستقرارهم في الأرض وعيشهم فيها بأمره تعالى لا بأمر أحد سواه، ولو شاء لأطبق السماء على الأرض فسحق من فيها، ولو شاء عز وجل لطوى الأرض على من فيها فأهلكهم، كيف؟ وهو يطويها بيده يوم القيامة، ولكنه عز وجل رءوف بعباده، يؤخرهم ولا يعجل عليهم، ويعفو عنهم أكثر مما يؤاخذهم، ولا يعذبهم إلا بعد قيام الحجة عليهم {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحج:65]
إنه سبحانه قادر على أن يسلط على أهل الأرض جنده فيعذبوهم ويهلكوهم، ولا يذروا منهم أحدا {وَلله جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [الفتح:7] {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدَّثر:31](137/3)
وقادر عز وجل على أن ينزل عليهم العذاب من السماء، وقادر على أن يحدثه لهم من الأرض، ولا حيلة لهم في شيء من ذلك، وقادر سبحانه على أن يجعل عذابهم بأيديهم {قُلْ هُوَ القَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآَيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} [الأنعام:65]
وقيل للنبي عليه الصلاة والسلام لما كذبه قومه {وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ} [المؤمنون:95] وفي الزخرف {فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ * أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ} [الزُّخرف:42].
وقد رأى العالم كله ما تخلفه الزلازل والأعاصير والفيضانات من دمار كبير في الأرض، تأتي بأمر الله عز وجل في ثوان أو دقائق، وفي جزء قليل من الأرض، فإذا القتلى والجرحى بالمئات رغم الاحترازات والاحتياطات، فما أغنت عن البشر حضارتهم ولا علومهم، ولا منع عذاب الله تعالى عنهم حرصهم واحتياطهم {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ} [الطُّور:8] {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ * لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ * مِنَ الله ذِي المَعَارِجِ} [المعارج:3].(137/4)
وفي الإعصار الأخير رصدت المراصد سيره، وراقب الخبراء حركته، ولا يقدرون له دفعا ولا تخفيفا ولا تحويلا، إنْ هم إلا متربصون ينتظرون وصوله، ويدوكون في آثاره، ويخلون المدن من ساكنيها لأجله، ويهرب الناس من طريقه تاركين أموالهم ومراكبهم ومساكنهم وما تحويه من نفيس أثاثهم ومتاعهم، قد رخصت في تلك الساعة العصيبة فلم تساو شيئا، وحق للناس أن يهربوا من جند الله تعالى، فمن ذا الذي يطيق عذابه. وعند هذه الإجراءات والاحترازات تتوقف قدرة البشر وطاقتهم على ما بلغته علومهم ومعارفهم، فيضرب الإعصار ما أمر بضربه من المدن، ويدمر ما يدمر، ويقتل من حانت ساعته، ولا تسل حينئذ عن المدن وقد غمرتها المياه، وحدث ما حدث فيها من خراب.
وقد نُقل للناس ما خلفه هذا الإعصار من بعض الدمار، ورأوا السيارات كأنها أكوام حجارة قد حملت فألقي بعضها فوق بعض، واخترق بعضها الجدران، فولجت إلى البيوت، فإذا ما جاوزهم الإعصار أحصوا خسائرهم، ودفنوا موتاهم، رحم الله تعالى المؤمنين منهم، وخلف على الخاسرين ما خسروا، ومن ثم يعود من سلم إلى مسكنه لينظر ما أصابه، ويصلح خرابه.
ومن لم يصلهم الإعصار يترقبون وصوله، ويصدرون التعليمات في إثر التعليمات لمن كانوا بطريقه، ويلهجون بالدعاء والتضرع، وهذا غاية ما يفعلون، ونهاية ما يقدرون، فسبحان الله القوي القاهر، وما أعجز البشر! وما أقل حيلتهم أمام جند الرحمن جل جلاله!
إنها عبرة يا عباد الله وأي عبرة تدل على عجزنا وضعفنا واستكانتنا، كما تدل على قدرة الله تعالى علينا، وعلى حاجتنا إليه وغناه سبحانه عنا، فلماذا الاستكبار عن طاعة الله تعالى؟ ولماذا العصيان؟ ولماذا الغرور بمنجزات البشر ومخترعاتهم وهي لم تغن عنهم من عذاب الله تعالى شيئا؟(137/5)
إن هذه الكوارث والنكبات عقوبات ربانية لمن يستحق العقوبة من عصاة البشر، وابتلاء لمن لا يستحق العقوبة، وهي تخويف وإنذار لمن سلموا منها؛ ليثوبوا إلى رشدهم، ويراجعوا أنفسهم، ويتوبوا من معصية ربهم {وَآَتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآَيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} [الإسراء:59]
والناس فيهم المعتبر المتعظ وفيهم المصر المستكبر {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى * سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى * وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى} [الأعلى:11] فكونوا عباد الله من أهل الخشية ولا تكونوا من أهل الشقاء؛ فإن العذاب إذا حل بدار قوم رخصت أموالهم وإن امتلأت بها البنوك، وهانت عليهم مساكنهم وإن كانت قصورا، وتكدر عيشهم وإن كانوا قبله في أعظم النعيم والهناء، وحينها لا يطلبون إلا النجاة، فخذوا من يسركم ما يعينكم في عسركم، وتعرفوا إلى ربكم في رخائكم تجدوه في شدتكم، ولا تغتروا بدنياكم فإنها في لحظة تكون أهون شيء عليكم، وسلوا من أصيبوا بتلك الكوارث تعلموا حقيقة الأمر.
روى ابن أبي حاتم: أن أبا الدرداء رضي الله عنه لما رأى ما أحدث المسلمون في الغوطة من البنيان، ونصب الشجر؛ قام في مسجدهم فنادى: يا أهل دمشق، فاجتمعوا إليه، فحمد الله تعالى وأثنى عليه ثم قال: ألا تستحيون؟ ألا تستحيون؟ تجمعون ما لا تأكلون، وتبنون ما لا تسكنون، وتأملون ما لا تدركون، إنه قد كانت قبلكم قرون يجمعون فيوعون، ويبنون فيوثقون، ويأملون فيطيلون؛ فأصبح أملهم غرورا، وأصبح جمعهم بورا، وأصبحت مساكنهم قبورا، ألا إن عادا ملكت ما بين عدن وعمان خيلا وركابا فمن يشتري مني ميراث عاد بدرهمين.(137/6)
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آَخَرِينَ} [الأنعام:6]
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، نحمده حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، {وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ} [البقرة:196]
أيها المسلمون: يجب على المسلم أن لا تمر عليه هذه الحوادث الربانية الكونية وهو غافل عنها؛ فلقد تكررت وتنوعت في هذا العصر، وكان ضحاياها عشرات الألوف، وخسائرها ألوف الملايين؛ فمن الزلازل الكبيرة التي ضربت إيران فالباكستان فالجزائر، إلى إعصارات تسونامي فكاترينا إلى إعصار غونو، وتخللها كثرة ملحوظة في الخسوف والكسوف، ما عهدها الناس من قبل، ومعلوم من السنة النبوية المعصومة أن الشمس والقمر آيتان من آيات الله تعالى يخوف الله بهما عباده، ومع بالغ الأسف فإن كثيرا من الناس تمر بهم هذه الآيات العظيمة المخوفة، فلا يأبهون بها، ولا يخافون العذاب، والمكذبون من الأمم السالفة ما أهلكوا إلا لما أمنوا مكر الله تعالى ولم يتعظوا بآياته التي خوفهم بها، فحق عليهم العذاب فعذبوا.(137/7)
إن العلم المسبق بهذه الآيات، ورصد ظواهرها بالمراصد والمناظير قد قلل من هيبتها عند كثير من الناس، وهذا من موت القلوب الذي يخشى معه نزول العذاب. وزاد الأمر سوءاً أن كثيرا ممن يحللون أسباب هذه العقوبات الربانية، والظواهر الكونية، ويتكلمون فيها يرجعونها إلى أسباب أرضية أو جوية بحتة، غافلين أو متغافلين عن قدر الله تعالى وقدرته، وأنه سبحانه هو مقدرها ومقدر أسبابها، بل يتعمد بعضهم الإلحاد بالله تعالى حين ينفون قدر الله تعالى عنها، ويسخرون ممن يقررون أنها نذر وعقوبات، ولا يماري في كونها من آيات الله تعالى، وتقع بقدره وقدرته إلا زنديق ملحد، وقد أخبرنا ربنا جل جلاله أنه سبحانه وتعالى يخوفنا بآياته {وَمَا نُرْسِلُ بِالآَيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} [الإسراء:59]. كما أخبرنا عز وجل أن الكوارث التي تصيبنا إنما هي بسبب ذنوبنا {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشُّورى:30] إن البشر في هذا العصر لحقيقون بالعقوبة إلا أن يرحمهم الله تعالى فيعفو عنهم أو يمهلهم؛ فكم بارزوا الله تعالى بالعصيان، وكم حاربوه بالمنكرات على مستوى الأفراد والدول والأمم.
أليس أقوياء البشر في هذا العصر يظلمون ضعفاءهم، والأغنياء منهم يزيدون في فقر فقرائهم؟!
أليست الدول المستكبرة تتجبر وتظلم فتغزو ما شاءت، وتبيد من الشعوب ما أرادت، وتحاصر من تشاء، وتمنع رزق الله تعالى عمن تشاء، وبقية الدول إما معينة على هذا الظلم والجور الكبير، وإما خائفة من بطش الأقوياء المستكبرين؟!
أليس المستكبرون من البشر يريدون القضاء على شريعة الله تعالى وتعبيد الناس لنظامهم الطاغوتي، وفرضه على سائر البشر بدعاوى الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، ويريدون إفساد المرأة والأسرة، والموافقون لضلالهم من البشر كثير، والمنكرون عليهم قليل؟!(137/8)
أليس النظام الرأسمالي المتوحش قد أغرق الأفراد والدول بأنواع الكسب الخبيث الذي لا يخرج عن كونه حربا على الله تعالى وعلى شريعته، ونتج عنه ما نتج من الظلم والأثرة والبغي وأكل الحقوق، وغياب الإحسان والإيثار والتعاون.
أليس المستكبرون من البشر يسعون جادين إلى القضاء على معاني العفة والطهر والنقاء في المجتمعات؛ ليخلفها الفساد والانحلال والرذيلة، ويفرضون ذلك على الناس بالقوة العسكرية، والعقوبات الاقتصادية، والإرهاب الفكري الإعلامي، وما يعرض في القنوات الفضائية من تشريع مقنن لكل رذيلة، ومحاربة كل فضيلة ليس يخفى على المتابعين.
أوليس المصلحون من الناس، وذوو الغيرة على الأعراض والأوطان يحاربون بشراسة من قبل المفسدين؛ لأنهم يحولون بينهم وبين إفسادهم، ويفضحون للناس مشروعاتهم التي هي من إملاءات المؤسسات الغربية المفسدة، يريدون تمريرها باسم الإصلاح في الدول الإسلامية. وليس بعيدا عن ذلك في هذه الأيام: حملتهم الشرسة الظالمة على هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ينفرون الناس منها، ويؤلبون الأعداء عليها، يريدون إلغاءها؛ لتسلم لهم شهواتهم، ويمضي في الناس إفسادهم، رغم أن هذه الهيئات هي من أكبر صمامات الأمان للبلاد والعباد، ولكن لم تعجبهم لأنها تحول بين الشهوانيين وشهواتهم المسعورة، وتقف أمام إفساد المفسدين، ولا يسعى والله في إبطال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا مغرض خبيث، يريد الإفساد ولا يريد صلاحا وإصلاحا، ولو زعم خلاف ذلك.(137/9)
أوليس من ملاحدة الغرب من اعتدوا على كتاب الله تعالى بالإهانة والتمزيق ووطئه بالأقدام، واعتدوا على خاتم النبيين عليه الصلاة والسلام بالتحقير والاستصغار، ولم يقدر أحد على معاقبة أولئك المجرمين، وإيقاف إهاناتهم المتكررة للقرآن وللنبي عليه الصلاة والسلام، ولشريعة الله تبارك وتعالى؛ وذلك لضعف المسلمين، ولظهور النفاق وعلو المنافقين.أليست هذه الموبقات والعظائم حقيقة باستجلاب غضب الجبار جل جلاله على البشر، وحرماته تنتهك جهارا نهارا، ولا ينكرها إلا القليل من الناس؟!
أيشك البشر أن ما يصيبهم من أنواع القوارع والكوارث في هذا العصر عذاب وعقوبات ونذر بين يدي عذاب، وهم على هذه الحال المزرية من استعلاء المفسدين، وضعف المصلحين والله تعالى يقول {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود:117] وقال في المعذبين السابقين {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آَلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ * وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102] وفي الآية الأخرى {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} [الزُّخرف:76] والله تعالى يملي للبشر، ويرسل لهم الآيات تلو الآيات لعلهم يتعظون، ومن لم يتعظ منهم حقت عليه العقوبة {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ المَصِيرُ} [الحج:48].(137/10)
فخذوا العبرة من هذه الأحداث الكونية، التي لا تعدو أن تكون آيات إنذار وتخويف من الله تعالى لكم، فاقبلوا عن الله تعالى نذره، والتزموا شريعته، وخذوا على أيدي المفسدين؛ لئلا يصيبكم ما أصاب غيركم. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِالله الغَرُورُ} [فاطر:5].
وصلوا وسلموا على نبيكم...(137/11)
العنوان: أعمال المستشرقين مصدراً من مصادر المعلومات عن الإسلام والمسلمين
رقم المقالة: 368
صاحب المقالة: علي بن إبراهيم النملة
-----------------------------------------
المدخل:
الاستشراق ظاهرة تمثل الاهتمام بعلوم الشرق بعامة وبعلوم المسلمين بخاصة، ولم يقتصر اهتمامها على العلوم فحسب، بل امتد الاهتمام إلى الثقافة والآداب والعادات والتقاليد والأساطير ونحوها. وقد كان لهذه الظاهرة في الآونة الأخير أثرها في الدراسات الإسلامية منذ بدأت حركة التأليف الجادة في المحيط العربي الحديث بعد الصحوة من سيطرة الاستعمار، فقد تنبه العرب والمسلمون على إسهامات المستشرقين في تراث المسلمين، وكان هذا التنبُّه قد جاء في وقت كان المسلمون فيه قد وصلوا إلى مرحلة خطيرة من التقهقر السياسي والاجتماعي والاقتصادي نتيجة للبعد عن الدين نفسه مما أثر في جزء غير قليل منهم في ثقتهم بانتمائهم لهذا الدين، فكان أن انبهر جزء كبير منهم بهؤلاء المستشرقين وهم ينتمون إلى ثقافة غير الثقافة الإسلامية فيتحدثون عن القرآن الكريم وعن سيرة الرسول محمد – صلى الله عليه وسلم – وسنته وعن التاريخ الإسلامي وسير رجاله عائدين في توثيق أحاديثهم إلى أمهات الكتب والمصادر الإسلامية لعلوم المسلمين[1].(138/1)
ومع وصول المسلمين إلى مرحلة خطيرة من التقهقر كانت هناك فئة منهم تمسكت بدينها على أصوله الصحيحة. فلم يثق هؤلاء بالمستشرقين وهم يتحدثون عن الإسلام وتراث المسلمين، لأن هذه الفئة المتنبهة أدركت أنه لن يخدم الإسلام والمسلمين إلا أهل الإسلام وأبناء المسلمين، وبنت هذا الإدراك على استقراء آيات القرآن الكريم كما في قوله تعالى: {وَلَن تَرضَى عَنكَ اليَهُودَ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُم}[2] وعلى استقراء التاريخ ومواقف اليهود والنصارى من الإسلام والمسلمين منذ بعثة محمد – صلى الله عليه وسلم – فقد بدأت السبئية تضرب أطنابها في المجتمع المسلم منذ سنيه الأولى[3]. وقد عرف في التاريخ الموثق أن اليهود سمّوا الرسول – صلى الله عليه وسلم –[4] وأن لهم ضلعاً في فتنة مقتل عثمان – رضي الله عنه –، وأن كيدهم استمر مع استمرار هذا الدين مما يوحي بالاستمرار في هذا الخبث لأن هذا الدين مستمر {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسلاَمُ}[5].(138/2)
ولم يكن موقف النصارى من الإسلام والمسلمين بأقل من موقف اليهود خبثاً، وإن لم يبد هذا ظاهراً إلا إبان الحروب الصليبية التي امتدت سنين عديدة[6]. فكان أن عد هؤلاء المتنبهون من المسلمين إسهامات المستشرقين داخلة في هذا الصراع، إذ أدركوا أن هذا المستشرق أو ذاك ممن يتحدث عن الإسلام والمسلمين قد نشأ وتربى على هذه الخلفية المعادية للإسلام والمسلمين، فعرّفوا المستشرق على أنه ((أعجمي ناشيء في لسان أمته وتعليم بلاده، ومغروس في آدابها وثقافتها (ألماني أو إنجليزي أو فرنسي)، متى استوى رجلاً في العشرين من عمره أو الخامسة والعشرين فهو قادر، أو مفترض أنه قادر، تمام المقدرة على التفكير والنظر، ومؤهل، أو مفترض أنه مؤهل أن ينزل في ثقافته ميدان ((المنهج)) و((ما قبل المنهج)) بقدم ثانية. نعم، هذا ممكن أن يكون كذلك. ولكن هذا الفتى يتحول فجأة عن سلوك هذا الطريق ليبدأ في تعلم لغة أخرى[7]، مفارقة كل المفارقة للسان الذي نشأ فيه صغيراً، ولثقافته التي ارتضع لبانها يافعاً ((يدخل قسم)) اللغات الشرقية في جامعة من جامعات الأعاجم، فيبتدي تعلم ألف باء تاء ثاء، أو أبجد هوز في العربية، ويتلقى العربية نحوها وصرفها وبلاغتها وشعرها وسائر آدابها وتواريخها من أعجمي مثله، وبلسان غير عربي، ثم يستمع إلى محاضرين في آداب العرب أو أشعارها أو تاريخها أو دينها أو سياستها بلسان غير عربي، ويقضي في ذلك بضع سنوات قلائل، ثم يتخرج لنا ((مستشرقاً)) يفتي في اللسان العربي والتاريخ العربي والدين العربي))[8] فهو هنا يتحدث عن ثقافة لا يؤمن بها، ولا يعمل بها، ولا ينتمي إليها، وتلك هي أعمدة الثقافة الثلاثة وأركانها (الإيمان والعمل والإنتماء) لا يكون لها وجود ظاهر إلاّ بها[9].(138/3)
وبين هذين الموقفين كان أخذ ورد، وهجوم ودفاع، وتكريم وتشهير، حتى تخطى الإنتاج الفكري في هذا المجال ألفي عمل بين كتاب ومقالة ومحاضرة وحديث في المجلات الثقافية السيارة في اللغة العربي فقط[10] ولم يتفق المثقفون العرب (والكاتبون بالعربية من غير العرب) على تحديد موقف إزاء هذه الظاهرة، فكان أن أوصلها البعض إلى علم له نظريته ومنهجه، وله وصفه وأهدافه وغاياته، وأوقفها البعض عند مجرد الظاهرة المؤثرة في المجتمع المسلم المثقف وغير المثقف، مثلها في هذا مثل التنصير والاستعمار، فجعلها معولاً من معاول الهدم وجناحاً من أجنحة المكر[11] ولم يتفق المثقفون العرب (والكاتبون بالعربية من غير العرب) على تعريف لمفهوم الاستشراق، كما لم يتفقوا على بداياته الأولى. فهناك أربعة مفهومات حول الاستشراق تبدأ من المفهوم الأعم إلى المفهوم الأخص، كما أن هناك أكثر من اثنى عشر رأياً حول انطلاقة الاستشراق وبداياته.
فالتعريف الأعم للاستشراق هو دراسة الشرق، ثقافاته ومعتقداته وآدابه وعاداته وتقاليده وأساطيره وتاريخه من قبل علماء ومؤسسات غربية[12] وبين الأعم والأخص عام وخاص. والتعريف الأخص – عندي – هو دراسة العلوم الإسلامية وآداب المسلمين وعقائدهم وثقافاتهم وتراثهم وأساطيرهم من علماء غير مسلمين ومؤسسات غير مسلمة. وواضح أن هذا التعريف الأخص يخرج أولئك الذين يدرسون ثقافات شرقية غير إسلامية، كما يدخل أولئك العرب غير المسلمين ممن لهم إسهامات مباشرة في علوم المسلمين. ومثل هذا التعريف يحدث شيئاً من اللبس ناتج عن غموض فكرة الاستشراق.(138/4)
والبدايات الأولى للاستشراق عند الباحثين العرب (والباحثين بالعربية من غير العرب) تختلف إلى مدى قد يصل إلى أكثر من ستمائة (600) سنة. فالبداية عند البعض تعود إلى غزوة مؤته على عهد النبي – صلى الله عليه وسلم –[13] وهي عند البعض من علماء المسلمين ومثقفيهم تبدأ رسمياً سنة 1312 ميلادية مع صدور قرار مجمع ((فيّنا)) الكنسي بإنشاء عدد من كراسي اللغة العربية وغيرها من اللغات في عدد من الجامعات الأوربية[14]. وبين تلك وهذه يبرز العالم النصراني ((يوحنا الدمشقي))[15] الذي كتب لإخوانه في النصرانية مما كتب (محاورة مع مسلم) وكتاب (إرشاد النصارى في جدل المسلمين) وكان هذا في القرن الأول الهجري/ نهاية القرن السابع وبداية القرن الثامن الميلادي[16].
ولست بصدد التوسع في هذه الوقفات، فليرجع إليها في مظانها، ولكنها على أي حال تفتح لنا المجال لنغوص في الإسهامات نفسها لنرى مدى المنهجية في التعامل مع الثقافة الإسلامية والتراث الإسلامي من هذه الفئة التي لم تقتصر إسهاماتها على التراث فحسب، بل هي لا تزال تبحث في الواقع الذي نعيشه اليوم، تقدم حوله الدراسات التي يعتمد عليها في القرار السياسي والعسكري والاقتصادي والعلمي. وإنني أحمّل المستشرقين جزءاً غير يسير مما وصلنا إليه اليوم فيما قبل الأزمة وما بعدها[17] بل إنني أرى أن لهم قصب السبق في توجيه دفة تلك القرارات[18].
وكما اختلف في المفهوم والبدايات اختلف كذلك في الدوافع والغايات. ويؤكد أحد الباحثين أن الدوافع والأهداف مهما اختلفت وتنوعت فإنها لا تخرج عن غايتين يمكن تلخيصهما بأنهما حماية الإنسان الغربي من أن يرى نور الإسلام فيؤمن به ويحمل رايته أولاً، ثم معرفة الشرق ودراسة أرضه ومياهه وطقسه وجغرافيته ورجاله وتراثه قصداً إلى الوصول إليه ثانياً[19].(138/5)
ولكنه لن يصل إليه ما دام هذا الشرق قد تمثل الثقافة بأعمدتها الثلاثة، الإيمان والعمل والإنتماء، فكان لابد من السعي إلى زعزعة هذه الأركان الثلاثة أو بعضها بحيث تصبح الثقافة ((مجرد معلومات ومعارف وأقوال مطروحة في الطريق متفككة لا يجمع بينها جامع ولا يقوم لها تماسك ولا ترابط ولا تشابك))[20]. ويمكن أن تتزعزع هذه الأركان الثلاثة عندما يتمكن الاستشراق من إبعاد سلطان الدين عن النفوس. وتلك محاولة صرح بها ((هاملتون جب))[21] في كتابه (وجهة الإسلام)[22] حيث يقول عن العمل الاستشراقي: "كانت النتيجة الخالصة لهذه الحركة التعليمية (على الطريقة الغربية) أنها حررت – بقدر ما كان لها من تأثير – نزعة الشعوب الإسلامية من سلطان الدين دون أن تحس الشعوب بذلك غالباً، وهذا تقريباً هو جوهر كل نزعة غربية فعالة في العالم الإسلامي"[23].
ويقول كذلك في الكتاب نفسه: "تحاول الدراسات الاستشراقية الحديثة التركيز على أهمية القوانين الوضعية وتطبيقها على المسلمين بدلاً من شريعة القرآن"[24].(138/6)
ولا يستطيع المستشرقون – أو غيرهم – أن ينزعوا العلم من صدور الناس، كما لا يستطيعون إبعاد سلطان الدين عن النفوس إلا بتقويض الأعمدة الثلاثة للثقافة. فنحن ندرك أن التحول لا يكون سريعاً، ولكن العلم يتضاءل من الصدور، فيكثر الخلط والجهل، وتهتز الثقة، فيكون البحث عن البديل فيخرج في الأمة من يتمثل فيه ذلك، فيدعو إلى نبذ الماضي، وإعادة التشكيل الثقافي وفق النمط الغربي، والتقليل من قيمة الميراث الثقافي أو قراءته بأبجدية النسق الغربي[25] وإن لم يكن ذلك ممكناً فلا بأس من الانتقاء من التراث الديني والأدبي والثقافي نقاطاً تهز الثقة، مرت عبر التاريخ الحافل بكل شيء حسن في معظمه، سيء في بعض مواضع منه، ولا بأس من وأد اللغة الأم وجعلها مقصورة على المعابد، وجعل لغات أخرى هي لغة المعاهد، فالفرنسية في المغرب، والانجليزية في المشرق، وربما الروسية بينهما، حتى تصل لغة المعابد إلى مستوى غير مفهومة فيه، خاضعة للترديد دون إدراك للمعنى مع إدخال اللهجات فيها حتى يتم إحلالها محلها، فتتفكك الرابطة، ويصبح العربي في بلاده وأهله غريب اليد واللسان، وإن لم يكن غريب الوجه، ويصبح لزاماً عليه أن يسير مع الركب وإلا صدقت عليه إدعاءات التخلف والرجعية، والتقوقع على الذات دون الإفادة من الثقافات الأخرى المحيطة بالمجتمع المسلم قديمه وحديثه. فأدى الخوف من الوصم بالتخلف والرجعية والتقوقع إلى أن يتبنى بعض أبناء المسلمين الثقافات الغربية عليهم وعلى مجتمعهم، واستدعى هذا التبني محاولة الانسلاخ من الماضي بإهانته والتقليل من شأنه وحصر آثاره على الوقت الذي ظهرت فيه هذه الآثار دون امتداد إلى المستقبل مما يستدعي – في نظر هؤلاء المنبهرين بالثقافة الغربية – السير في ((ثقافة عالمية)) قادمة من الغرب أو من الشرق.
وتلك ربما تكون نتيجة من نتائج إبعاد سلطان الدين من النفوس التي تأتي نتيجة من نتائج الفعل الاستشراقي.(138/7)
وإذا سلمنا بأن العلم والثقافة لا تنتزع من الصدور انتزاعاً – ونحن مسلِّمون بهذا – سلمنا بأن الوقت عامل مهم في تحقيق ذلك، ومع الوقت تأتي الجهود في تحقيق الهدف أو الغاية التي تدخل في الغاية الثانية التي مر ذكرها آنفاً، وذكر أنها تسعى في النهاية إلى السيطرة على هذا الشرق سيطرة قد لا تكون بالضرورة مباشرة. وهذا متحقق إذا مانزع العلم من الصدور[26].
مشكلة البحث:
ومن أبرز الجهود على الساحة العلمية والثقافية الإسلامية اليوم قبل الأمس ولوج المستشرقين التراث والكتابة عنه دراسة وتحقيقاً ونشراً وتبويباً وتصنيفاً وتكشيفاً، حيث وصلت مؤلفاتهم في فترة مائة وخمسين سنة (1800 – 1950م) إلى ما يربو على ستين ألفاً بين كتاب ومقالة في الفلسفة والتاريخ والتصوف وتاريخ الأدب واللغة العربية[27].
ونحن بحاجة اليوم إلى إحصاء ما كتبوه في النصف الثاني من القرن العشرين الميلادي[28]. وهو عمل أسهل بكثير من إحصاء الناتج الفكري في الفترة السابقة، حيث تطورت أدوات الحصر الوراقي (الببليوجرافي) وانتشرت المعرفة بحكم تقنية المعلومات[29].(138/8)
ويضاف إلى هذا إصدار أكثر من خمسمائة (500) دورية ذات علاقة بالاستشراق، وإصدار أكثر من ثلاثمائة (300) دورية متخصصة به[30]. ومنها ما يحمل عنوانات لها جاذبية للمسلمين أنفسهم. أما المعاهد والمراكز التي تهتم بالاستشراق والدراسات العربية والإسلامية فهي اليوم تعد بالمئات في آسيا وأوربا واستراليا وأمريكا[31]. ونحن بحاجة إلى مزيد من التقويم الموضوعي لهذه المعاهد من خلال إسهاماتها، إذ لا يكفي أن نتخذ موقف المدافع الذي يترقب سهماً فيحتمي دونه، أو رصاصة فيهرب منها، أو صاروخاً فيطلق عليه آخر مضاداً له! ولكننا في الحق لا ندري كيف نبدأ. هل نبدأ بتصحيح الأخطاء التي وقع بها المستشرقون عمداً أو عن غير قصد؟ إذاً لا نكون قد خرجنا عن موقف الدفاع. هل نتهجم على المستشرقين ونطلق عليهم عبارات بعيدة عن الروح العلمية القادرة على المواجهة والإقناع؟ إذاً نحن نغالط أنفسنا، لأن القوم مستمرون في طريقهم، ولا تصلهم رشاقتنا، هل نفتح باباً للحوار المباشر وننشر لهم أعمالهم ونعقد المؤتمرات معهم في ديارهم وفي ديارنا؟ وهنا نقف عاجزين إذا ما قابلناهم بالشعور أنهم متفوقون علينا، وتكون نظراتنا له نظرات المستجدي الذي يطلب من الطرف المتفوق عليه سماع ما لديه، ليس فقط الاستماع له من طرف واحد، وهنا تبرز أمامنا مشكلة الثقة، كما تبرز أمامنا مشاعر مختلطة قوامها أن القوم ضدنا، فهم يريدون التأثير علينا لا التأثر بنا. ويبدو أن المجال هنا غير محدد في مدى السماع منهم ولهم، ويبدو أن معظمهم قد حددوا موقفهم منا، فيقربون منها من يسير على نهجهم ويبدو عليه تأثيرهم، كما يبدو عليه شيء من القدرة على أن يسهم في هذا النهج[32]. ولذا نراهم أبعدوا من دائرتهم ذلك الباحث الذي كتب رسالة الماجستير عن أمهات المؤمنين – رضي الله عنهن – كتابة إسلامية، فلم يتيحوا له الاستمرار في الدراسة ناصحين إياه أن يتوجه إلى (الأزهر) إذا كان سينظر إلى موضوعات(138/9)
الدراسة هذه النظرة[33]. وكانوا يتوقعون منه أن يسهم في شيء يغير فيه النظرة – ولو قليلاً – حول زوجات الرسول – عليه السلام – ؛ وبخاصة منهن من كان لها التأثير القوي على المجتمع المسلم إلى اليوم مثل ((عائشة بنت أبي بكر الصديق))، و((خديجة بنت خويلد)) – رضي الله عنهما – ومن كان لهن إسهام في رواية الحديث، فما استطاعوا أن يملوا على الباحث الكفيف وجهة نظرهم في هذا المجال. ولم يستطيعوا تشكيله ثقافياً في ضوء رؤيتهم المحدودة ولم يتمكنوا من أن يملوا عليه وجهة نظرهم بشكل أو بآخر[34].
وإذ لم يوفقوا إلى كثير من التلاميذ العرب والمسلمين فإن هذا يعد عندهم هدفاً ثانوياً وإن كان يدخل – أيضاً – في الغاية الثانية المذكورة سلفاً، ومع هذا فالأدبيات حول الاستشراق تتحدث عن التلاميذ وتذكرهم بالاسم، وتبين مدى تأثرهم بأساتيذهم من المستشرقين[35].
وإذ لم يوفقوا إلى كثير من التلاميذ العرب والمسلمين فقد نجحوا في التأثير على مجتمعاتهم فيما يتعلق بالنظرة إلى الإسلام وإلى نظام الإسلام في الحياة. وكان التأثير منطلقاً للنظرة إلى المجتمع المسلم المعاصر، حيث يبرز تأثر المثقفين العرب تأثراً غير مباشر بهؤلاء المستشرقين، وإنما التأثر ينصب على الأفكار التي جاء بها المستشرقون فساحت وانتشرت آخذة سبلاً وقنوات عدة في هذا التأثير، وكان هذا أسهل بكثير من التلقي المباشر لهذه الأفكار على أيدي المستشرقين وفي معاهدهم، فكان أن أسهموا في الفجوة بين المسلم وثقافته. وهذا واضح في كثير من الإسهامات التي اعتمدت على دراسات المستشرقين مراجع لها في مادتها العلمية.(138/10)
وذكر أسماء مؤلفات بعينها متأثرة بهذه الدراسات قد يعني الحصر أو يوحي به، والحصر غير ممكن. وبالإمكان إعادة قراءة إسهامات ((طه حسين)) في السيرة والخلفاء الراشدين والوعد الحق، وإسهامات ((أحمد أمين)) في فجر الإسلام وضحاه وظهره ويومه، وغيرها كثير جداً إلى أن نصل إلى الأكثر منها سطحية مع بروزه – سياسياً – على الساحة وهو إسهام الكاتب المسلم الأصل الهندي المولد البريطاني الجنسية ((سلمان رشدي)) في روايته (آيات شيطانية). فهذا نموذج بارز وواضح التأثر، وإن كان التأثر قد صيغ بشكل غال جداً، ولكنه يذكر دائماً بأعمال المستشرق البريطاني ((مونتغمري وات)) عن النبي – صلى الله عليه وسلم – (محمد في مكة) و(محمد في المدينة) و(محمد النبي القائد). بل ربما ذهب الزعم إلى حد أن عنوان الرواية نفسه مستقى من فصل من فصول كتاب (محمد في مكة) إذ يأتي الفصل الخامس من الكتاب متحدثاً عن تنامي المعارضة للرسول – عليه السلام –، وكل فصل من الكتاب مقسم إلى مباحث، والمبحث الأول من الفصل الخامس يركز على بدايات المعارضة The Beginning of Opposition وفي هذا المبحث مما يتبع العنوان عبارة هي نفسها عنوان الرواية ((The Satanic Veصلى الله عليه وسلمses )) ويتحدث فيها ((مونتغمري وات)) عن قصة الغرانيق[36].
أسئلة البحث:(138/11)
وحيث فشا الاعتماد على إسهامات المستشرقين في مجالات عدة كالدراسات والتحقيق والنشر والتكشيف والفهرسة، فإن السؤال هنا ماهو مدى الاعتماد على هذه الإسهامات في الكتابة عن الإسلام والمسلمين؟ وما مدى عملية إسهامات المستشرقين في الحديث عن الثقافة الإسلامية؟ وهل يمكن الاعتماد على هذه الإسهامات مصدراً موثوقاً من مصادر المعلومات عن الإسلام وعن تراث المسلمين؟ وهل تكتسب الأعمال العلمية التي يقوم باحثون مسلمون علمية أكثر إذا ما اقتبست من أعمال المستشرقين أو استشهدت بآرائهم؟ وهل بالإمكان قبول اقتباسات المستشرقين واستشهاداتهم من أمهات الكتب العربية دون التوثيق أولاً، اعتماداً على أن منهجيتهم في البحث والدراسة قد أملت عليهم قسطاً كبيراً من التجرد والموضوعية؟ ثم هل يمكن الاستغناء عن إسهامات بعض هؤلاء المستشرقين في هذا المجال بعد أن يتبين للباحثين والدارسين المسلمين أخطاء كثيرة وقع فيها المستشرقون تحول دون قبول ما وصلوا إليه من نتائج؟ وهل يمكن تصحيح هذه الأخطاء من خلال حوار مباشر أو غير مباشر مع المستشرقين بعامة يُدَعون فيه إلى مزيد من الموضوعية ومن العلمية والتجرد؟ وهل المستشرقون قابلون لهذا الحوار ولديهم الرغبة في تصحيح الأخطاء التي وقع فيها أترابهم؟ أو عندهم الرغبة في عدم الوقوع فيها من خلال نقلهم عن أترابهم؟.(138/12)
ولا يتوقع لهذه الوقفة أن تجيب إجابة شافية ومقنعة عن جميع هذه الأسئلة. ولعله يكتفى منها بإثارة الأسئلة والتدليل على إمكان الإجابة عن جزء منها سعياً إلى الاستمرار في الإجابة على جزء كبير منها، مع التأكيد على أن جهوداً للمستشرقين تدخل في جانب الإسهامات المحمودة التي لا ينبغي إغفالها أو تناسيها، فلم تكن إسهامات المستشرقين كلهم سيئة أو متحاملة على تراث المسلمين وثقافتهم، وهذا في النهاية يؤدي إلى عدم القدرة على تعميم النتائج على ظاهرة الاستشراق. ولعل هذا سر من أسرار عدم الاتفاق بين الباحثين والدارسين والمفكرين والعلماء المسلمين على موقف موحد تجاه المستشرقين قدمائهم ومحدثيهم.
مصادر المعلومات عن التراث:
ومنذ انطلاقة التدوين، في بداية البعثة المحمدية ثم التجميع في عهد الخلفاء الراشدين ثم التصنيف والتبويب في القرن الثاني الهجري (الثامن الميلادي) إلى نهاية القرن التاسع الهجري (الخامس عشر الميلادي)، والمسلمون في رصد مستمر للتراث في أعمال موسوعية أو موضوعية في العلوم الإنسانية والاجتماعية والطبيعية والطبية والرياضية وسائر المعارف. ومنذ انطلاقة التدوين من قرطبة غرباً إلى سمرقند شرقاً والمكتبات الإسلامية مجال للتنافس بين الولاة والأمراء[37] وهناك مظاهر كثيرة ذكرها دارسو التراث حول مجالات التنافس.(138/13)
وليس الغرض من هذه الوقفة استعراض الجهود العلمية للمسلمين، إذ سيدخل هذا في الجانب الدفاعي والاعتذاري الذي لجأ إليه بعض المتحمسين للثقافة الإسلامية عندما أرادوا أن يلفتوا أنظار الآخرين لها[38]. ولكن الغرض من هذه الوقفة التأكيد على أن المعلومات التراثية كانت موضع اهتمام المسلمين أنفسهم، على أقل تقدير في القرون الثمانية التي حددت بين القرنين الثاني والتاسع الهجريين، ومعظم الأعمال التي جاءت بعد القرن التاسع الهجري أخذت طابع الشروح والتعليقات والتلخيصات[39] وكل ما يدور حول مصادر المعلومات عن التراث، إلى الوصول إلى التحقيق والنشر في القرنين الأخيرين الثالث عشر والرابع عشر الهجريين، مع عدم إغفال الجهود العلمية التي ابتُدئت ابتداءاً، ولكن الطابع العام في هذه القرون التالية كان يهمس إلى الدارسين والمؤلفين أنهم بطريقة أو بأخرى عالة على علماء السلف.
ولا يعني هذا أن الخلف لم يكونوا على مستوى التفكير وتأليف الأعمال العلمية ابتداءاً، ولو كان هذا المقصود لوقعنا في محظور هو مجرد ردة فعل لأولئك المتعلقين بالثقافات الحديثة على حساب الماضي. ولكننا نقدر هنا أن بعض الأعمال العلمية ذات الصبغة التراثية تستمد معلوماتها من مصادر التراث التي ألفها السلف في زمن النهضة العلمية، ثم أُخضع شيء منها للشرح أو الاختصار أو التعليق في زمن الشروح والاختصارات[40]. فيأتي زمننا – وهو المعد زمن العودة إلى النهضة فيبتدئ أعمالاً علمية تقر بالفضل لما أسهم به علماء السلف فتكون امتداداً لهذه الإسهامات.
ومع أن هذه الوقفة مع مصادر المعلومات عن التراث تحاول التأكيد على وجود الأساس، وهو المصادر إلا أنها لا تملك إلا أن تذكر للمستشرقين جهودهم في إظهار شيء من هذه المصادر خاصة في مجال النشر أو الطبع الابتدائي دون تحقيق[41].(138/14)
إلا أن هذه الجهود تحتاج إلى تمحيص ودراسة متأنية يبين فيها مدى هذه الجهود ونوعية التركيز على المجالات. وفيما يلي من الصفحات إشارات سريعة إلى مثل هذا. وفيها وقفات على نماذج محدودة جداً من الدراسات ثم النشر والتحقيق فالترتيب والتكشيف، وعينات محدودة جداً كذلك من المنشور أريد منها التمثيل فقط. ولم يرد من هذا التعميم، ولكنها وقفات تفتح المجال إلى مزيد منها في سبيل الوصول إلى حكم قابل للتعميم مما يحتاج معه إلى مزيد من البحث والغوص والتحليل.
مصدرية الاستشراق:
والمقصود هنا هو مناقشة أعمال المستشرقين للنظر في مدى الاعتماد عليها مصدراً من مصادر المعلومات في الدراسات العربية والإسلامية. وهل تصل هذه الأعمال إلى درجة من الثقة يمكن معها الاستشهاد بها؟
وقد ذكرت أن قسطاً من الإسهامات العربية في مجالات التراث قد بدا عليها التأثر غير المباشر، وكان لهذا التأثر أثره في الفجوة بين المسلم وثقافته. هذه الفجوة التي حفرها المستشرقون بالغوص في معلومات التاريخ ينقلونها من مصادر معلومات عربية معتمدة عندنا على أنها من ((أمهات الكتب)) ولكنهم بغوصهم هذا يعتمدون سوء النقل وسوء الاقتباس وسوء الاستشهاد ضاربين صفحاً عن مفهومات علمية كالأمانة والدقة والتجرد والموضوعية.(138/15)
وهم بهذا يلجأون إلى المعلومات الغربية غير الموثقة في أمهات الكتب العربية فيتكئون عليها. وتراهم يحيلونك إلى المصادر التي يستشهدون بها أو يقتبسون منها ببياناتها الوراقية (الببليوجرافية) التامة، فتعود إلى هذه الإحالات في هذه المصادر فلا تجد لها أثراً فيها، أو ربما يتبين لك عندما تعود للموضع المستشهد به أو النص المقتبس منه أنه على خلاف تام ومناقض للمقصود من الاستشهاد أو الاقتباس. أو ربما يتبين أن في الأمر تحريفاً أو تصحيفاً مع الرجوع إلى المصادر العربية التي تترك عند القاريء أثراً بأن المستشرقين قد اعتمدوا على مصادرنا في تعضيد أفكارهم التي يسعون إلى الإتيان بها. أو تراهم من وجه رابع يسعون إلى تفسير بعض المعلومات بما يؤمنون به هم أو بما يريدونه من المتلقين أن يؤمنوا به إزاء معلومات حول حادثة تاريخية لها مساس بالثقافة والخلفية الفكرية والعلمية التي يتبناها المسلم في حياته. وكل هذه الأساليب لها أمثلة في الإنتاج الفكري للمستشرقين، وتساق لها أمثلة هنا. وربما دعا الأمر إلى الوقوف على كل أسلوب على حده ودراسته واسعة والخروج بالنتيجة التي تمليها الدراسة وتجيب على سؤال من أسئلة البحث، فيصدق السؤال البحثي، أو تثبت عدم صحته. وهذه نماذج لما ينبغي أن تكون عليه الدراسة أو لما يتوقع أن تكون عليه الدراسة.
في مجال الدراسات:
1 – كتاب (النظام والفلسفة والدين في الإسلام) لهاملتون جب[42] مليء بالمغالطات التي لا تغيب عن ذهن القاريء العادي. ومع أنها تحتاج إلى وقفة طويلة مستقلة إلا أن هذه ومضات سريعة لما يذكره المؤلف المستشرق حول القرآن الكريم، والرسول الكريم – عليه السلام – يقول:(138/16)
أ – ((سأتحدث في المقالة الثانية عن المسارب الجديدة التي يسرها القرآن للطاقات الشعورية والخيالية لدى العرب[43] وعن أثرها في المواقف الدينية الإسلامية. أما في هذا المقام فإن ما يهمنا هو جمهور العرب الوثنيين الذين تقبلوا التعاليم القرآنية دون أن يتخلوا تمام التخلي عن معتقداتهم القديمة. فكان ما حققه محمد لديهم هو أنه فرض قوة سيطرة عليا باسم (الله القوي المتعال)[44] وجعلها فوق ما عندهم من حصيلة (نسميه)[45] وبذلك ظل الموروث العربي القديم قائماً تحت هيمنة ذلك القادر الأعلى، وظل لديهم إيمانهم بالسحر وبالقوى الغيبية، وبخاصة الشرير منها كالجن وبالقرينة أو التابع – كل هذه المعتقدات وأشباهها ظلت قائمة مصبوغة بصبغة إسلامية تكثف هنا أو ترق هناك، لتلعب دوراً كبيراً في أفكار المسلمين من العالم))[46].
ب – ((وبما أن كل دين يظل في قاعدته مرتبطاً بالحياة التخيلية فإنه لا يستطيع أن يمس الروح دون توجه نحو الحواس والمشاعر. وإذا لم تكن الحواس متنبهة، ولم تستثر شعائره ورموزه استجابة شعورية بقي الدين هيكلاً من التعاليم العقائدية والأخلاقية. وظل مفتقراً إلى الروح والرؤى، ليس الفن فحسب خادماً للدين، بل هو حارس قدس أقداسه.
وذلك هو الحال أيضاً بالنسبة للمسلم، فالذي يمنح القرآن قوة على تحريك قلوب الناس وتشكيل حياتهم ليس محتواه من مباديء ونذر[47] وإنما هو سياقه اللفظي، إذ يتكلم كأسفار النبوءات في التوراة بلغة الشعر[48] وإنما لم يخضع لقيود الشعر من وزن وقافية))[49].(138/17)
ج – ((إن الكنيسة المسيحية لجأت إلى عون الموسيقى لتعلي من التوتر الشعوري في الصلوات، وإن الإسلام كذلك طور في القراءة المرتلة للقرآن كي يشحذ من قدرته على اجتذاب الخيال والشعور. والفرق بين الفنين الموسيقيين لدى الدينين لافت للنظر حتى إنه يستحق أن يكون موضع تحليل ممتع. ولكنه يجب ألا يحجب وجه الحقيقة هنالك، وهي أن الغاية القصوى واحدة في الحالتين[50].
د – ((سعينا في الفصل السابق[51] لنبين أن القرآن سجل لتجربة محمد الحدسية من ناحية. وأنه المنبع الذي يعود إليه المسلم بين الحين والحين لينعش رؤاه الروحية من ناحية أخرى))[52].
هـ – ((في التصوف قاعدة فعالة هي قدرته على استثمار التجربة الدينية على نحو منظم، وهو ينشأ كعلم الكلام في مرحلة راقية من مراحل التطور الديني. ولم يكن في القرن الأول من تاريخ الإسلام متكلمون أو متصوفة، ففي ذلك القرن كانت الجماعة الدينية المسلمة تمثل نوعاً من المجتمع الأخلاقي القائم على المبادئ المحسوسة حول الله واليوم الآخر، وعلى الواجبات الدينية المحسوسة التي وردت في القرآن))[53].
و – ((وأنا أرى أن وحدة الوجود – شبه الإسلامية – تحاول النقيض التام لما أخذ محمد نفسه بتحقيقه، فقد حاول حين واجهته عقائد النسمية العربية أن يحكمها فجاء بفكرة إله منزل متعال على العالم المادي الذي خلقه، وحرم عبادة أي مخلوق، وعرف في الوقت نفسه من تجربته الصوفية[54] أن الله أيضاً موجود في العالم الذي خلقه على نحو خفي لا يستطاع التعبير عنه))[55].
وإذا خلت هذه الاقتباسات من التعليق التحليلي فإنما ذلك عائد إلى الوضوح في الخلط الذي لجأ إليه المؤلف مما جعله يوحي به كالمسلمات.(138/18)
2 – يحدد ((ولفرد سميث))[56] في كتابه (الإسلام في التاريخ الحديث) معنى الدين بقوله: "العرب لا يدركون كنه الإسلام الحقيقي، فهناك ثلاثة أنواع من الدين الإسلامي: دين القرآن، ودين العلماء، ودين الدهماء، ويتسم النوع الجديد (الأخير) منها بالخرافة والجمود، أما الثاني (دين العلماء) فمثقل بتراث قديم عقيم، وهو بعد ذلك غير عصري، ومادته صعبة تقضي على الإنسان ألا يتصرف في أي شيء إلا بحسب فتوى العلماء وقد تخلصت تركيا من هذا النوع الثاني، ووجدت أن الوقت قد حان للقضاء عليه. وبذلك كان الأتراك قادة العالم الإسلامي[57] وما زال العرب وغيرهم من الحمقى مقيدين في تفكيرهم بأن تركيا تركت الإسلام، وهذا غير صحيح"[58].
3 – ويربط المستشرق ((مورو بيرجر))[59] في كتابه (العالم العربي اليوم) بين الدين والبيئة. فإذا تطورت البيئة تطورت القيم، فالشريعة الإسلامية نشأت متأثرة بالبيئة العربية من حيث اهتمامها بالكرم عندما كانت البيئة بدوية رعوية، هذه البيئة التي قامت على الحاجة إلى الأمطار فنشأت فيها سجية الخوف من الله الذي يحجب المطر فيحل بالقوم جوع ومرض وموت. والقصاص جاء ليشبع مفهوم الثأر في المجتمعات الصحراوية. هذه كلها تتطور في المجتمع الصناعي ((الذي عرف شيئاً كثيراً عن تطبيقات علم النفس والمباديء الإنسانية فلم يحتج إلى مبدأ القصاص لأنه سيراعي جانب المجرم))[60] ولم يعد يهتم بالخوف من الله لأن وسائل الحصول على الماء متوافرة، ولم يعد بحاجة إلى الكرم، لأن كلاً مشغول بحياته المتطورة، وهكذا يبدو التبرير لتطوير الدين ونقل القيم وحسب البيئات.(138/19)
4 – في مادة ((إجماع)) في ((دائرة المعارف الإسلامية)[61] يذكر المستشرق الأمريكي ((دونكان بلاك ماكدونالد))[62] أن ما كان في أول الأمر بدعة أصبح بفضل الإجماع أمراً مقبولاً نسخ السنة الأولى. فالتوسل بالأولياء مثلاً صار عملياً جزءاً من السنة، وأعجب من هذا أن الاعتقاد بعصمة النبي قد جعل ((الإجماع)) ينحرف عن نصوص واضحة في القرآن، فلم يقتصر الإجماع هنا على تقرير أمور لم تكن مقررة من قبل فحسب، بل غير عقائد ثابتة وهامة جداً تغييراً تاماً. وعلى هذا فهم يقولون إن المسلمين يستطيعون أن يجعلوا من الإسلام ما شاؤوا على شريطة أن يكونوا مجتمعين. على أن الآراء غير متفقة فيما يمكن أن يكون له شأن كبير، على خلاف ((سنوك هورجرنيه))[63] الذي يرى أن (الفقه) قد جمد، ولذلك لا رجاء في الإجماع[64].
5 – عني المستشرقون بترجمة معاني القرآن الكريم، ووضعوا للترجمات مقدمات لهم تحدثوا فيها عن القرآن الكريم من حيث طبيعته ومصدره[65]. وكمثال على ذلك يقول ((جورج سيل))[66] في مقدمة ترجمة معاني القرآن الكريم التي صدرت سنة 1734م: "أما أن محمداً كان في الحقيقة مؤلف القرآن والمخترع الرئيسي له فأمر لا يقبل الجدل. وإن كان المرجح – مع ذلك – أن المعاونة التي حصل عليها من غيره في خطته لم تكن يسيره. وهذا واضح في أن مواطنيه لم يتركوا الاعتراض عليه بذلك"[67].
ويوصف ((سيل)) بأنه نصف مسلم نظراً لاهتمامه البالغ بالإسلام، وقد صادفت مقدمته هذه ((التي جزم فيها بتأليف محمد للقرآن نجاحاً عظيماً في أوربا، الأمر الذي أدى بمستشرق آخر هو ((كاسميرسكي))[68] أن يجعل من مقدمة ((سيل)) مقدمة لترجمته الفرنسية لمعاني القرآن الكريم التي صدرت عام 1841م. وقد استطاعت هذه المقدمة أن تثبت وجودها زمناً طويلاً جداً كمصدر علمي موثوق به لدى المستشرقين من حيث اشتمالها على عرض شامل للدين الإسلامي))[69].(138/20)
ومسألة مصادر ملعومات القرآن الكريم واستعانة الرسول – صلى الله عليه وسلم – بمصادر معلومات الثقافات كالنصرانية واليهودية وغيرها مما ظهر به المستشرقون مسألة متداولة بين المهتمين بمصادر المعلومات عن الإسلام. وقد أعاد المستشرقون المعلومات في القرآن الكريم إلى مصادر وزعت توزيعاً عجيباً على الحضارات والثقافات السابقة. ويزعم المستشرقون أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – قد ألف القرآن مستعيناً بهذه المصادر على النحو التالي:
أ – استعان بالمصادر الجاهلية في فكرة صلاة الجمعة، وصوم عاشوراء، وتطبيب البيت الحرام وحظ الذكر في الميراث مثل حظ الأنثيين، والتكبير، والأشهر الحرم، والحج والعمرة، ونتف الإبط، وحلق العانة، والوضوء، والاغتسال، والختان، وتقليم الأظافر.
ب – واستعان بالمصادر الصابئة في مسألة الصلوات الخمس، والصلاة على الميت، وصيام شهر رمضان المبارك، والقبلة، وتعظيم مكة المكرمة، وتحريم الميتة ولحم الخنزير، وتحريم الزواج من القرابات.
ج – واستعان بالمصادر الهندية والفارسية في المعلومات عن المعراج، والجنة والحور والولدان والصراط.
د – واستعان بالمصادر اليهودية في المعلومات عن قصة هابيل وقابيل، وقصة إبراهيم – عليه السلام –. وقصة ملكة سبأ، وقصة يوسف – عليه السلام –.
هـ – واتكأ الرسول – عليه السلام – على المصادر النصرانية في استقاء المعلومات عن قصة أهل الكهف، وقصة مريم – عليها السلام –، وقصة طفولة المسيح عيسى بن مريم – عليه السلام –[70].(138/21)
6 – وفي (قصة الحضارة) يقول ((ول ديورانت)) عن الرسول – عليه السلام –: "وقد أعانه نشاطه وصحته على أداء جميع واجبات الحب والحرب. ولكنه أخذ يضعف حين بلغ التاسع والخمسين من عمره، وظن أن يهود خيبر قد دسوا له السم في اللحم قبل عام من ذلك الوقت، فأصبح بعد ذلك الحين عرضة لحميات ونوبات غريبة، وتقول ((عائشة)) إنه كان يخرج من بيته في ظلام الليل ويزور القبور، ويطلب المغفرة للأموات، ويدعو الله لهم جهرة ويهنئهم على أنهم موتى"[71].
ولم يكن دس السم ظناً، بل هو مشهور وموجود في مصادر المعلومات النبوية، فقد أورده ((ابن هشام)) في سياق غزوة خيبر[72] وأورده ابن سعد في الطبقات[73] ورواه البخاري ومسلم وأحمد وأبو داود والدارمي[74].
7 – وينقل عن ((جولدتسيهر)) قوله عن ((زياد بن عبدالله البكائي)) نقلاً عن وكيع: "أنه مع شرفه كان كذوباً. وقد جاء في التاريخ الكبير للإمام البخاري – رحمه الله – قوله عن زياد: وقال بن عقبة السدوسي عن وكيع إنه (أي زياد) أشرف من أن يكذب"[75].
8 – وينقل عنه كذلك قوله عن الزهري: "قد كانت تقواه تجعله يشك أحياناً، ولكنه لا يستطيع دائماً أن يتحاشى تأثير الدوائر الحكومية، وقد حدثنا معمر عن الزهري بكلمة مهمة وهي قوله: أكرهنا هؤلاء الأمراء على أن نكتب أحاديث".
وعن ابن عساكر وابن سعد أن الزهري كان يمتنع عن كتابة الأحاديث للناس فأصر علي هشام أن يملي على ولده فأملى عليه أربعمائة حديث، وخرج على الناس وناداهم أن ((كنا قد منعناكم أمراً قد بذلناه لهؤلاء، وأن هؤلاء الأمراء أكرهونا على كتابة الأحاديث فتعالوا حتى أحدثكم بها، فحدثهم بالأربعمائة حديث))[76]. والفرق هنا بين كلام ((جولد تسيهر وكلام ((الزهري)) أن ((جولد تسيهر)) حذف أداة التعريف من ((أحاديث)).(138/22)
9 – ويقول ((ول ديورانت)) في (قصة الحضارة)): "وكان ((للزبير)) بيوت في عدة مدن مختلفة وكان يملك ألف جواد وعشرة آلاف عبد، وكان عبدالرحمن يمتلك ألف بعير وعشرة آلاف رأس من الضأن، وأربعمائة ألف دينار (1.912.000) دولار، وكان عمر ينظر بحسرة إلى الترف الذي أخذ مواطنوه يتردون فيه"[77].
وأصل النص في المصادر الإسلامية: ((كان للزبير ألف مملوك يؤدون إليه خراجهم كل يوم، فما يدخل إلى بيته منها درهماً واحداً يتصدق بذلك كله))[78].
10 – ويقول نفسه عن ((هارون الرشيد)) وعلاقته بـ((جعفر البرمكي)): "وكان هارون الرشيد يحب جعفراً حباً أطلق ألسنة السوء في علاقتهما الشخصية، ويقال إن الخليفة أمر بأن تصنع له جبة ذات طوقين يلبسهما هو وجعفر معاً فيبدوان كأنهما رأسان فوق جسم واحد، ولعلهما في هذا الثوب يمثلان حياة بغداد الليلية"[79].
وقبل هذا قال عن هارون الرشيد: "وإنه كان يحج إلى مكة مرة كل عامين"[80].
والمشهور في مصادر المعلومات الإسلامية أنه كان يحج سنة ويغزو سنة[81].
11 – وفي كتاب (السيطرة العربية) لفان فلوتن[82] رواية عن الطبري (2/ 806) يقول فيها: "ولقد أصابت الأسر المرموقة في الكوفة ثراء فاحشاً كان مصدره المغانم والأعطيات السنوية، فكان الكوفي إذا ما ذهب إلى الحرب يصطحب معه أكثر من ألف من الجمال عليها متاعه وخدمه"[83].
وعبارة الطبري جاءت على لسان ((قيس بن الهيثم)) أحد أصحاب ((مصعب بن الزبير)) يرغب أهل العراق في القتال ويبين لهم حسن معاملة ((ابن الزبير)) لهم، يقول: "والله لقد رأيت سيد أهل الشام على باب الخليفة يفرح إن أرسله في حاجة، ولقد رأيتنا في الصوائف أحدنا على ألف بعير، وإن الرجل من وجوههم ليغزو على فرسه وزاده خلفه"[84].
فالواحد من أهل الكوفة قائد للجيش يأتمر له أكثر من ألف مقاتل، ولا يصطحب معه ألف جمل عليها متاعه وخدمه!!.(138/23)
تلكم أمثلة متناثرة تروى عن المستشرقين، ومنهم المشهورون المعروفون، ويطول بنا المقام لو أردنا المزيد من الأمثلة والوقفات. ولو تتبعنا إصدارات المستشرقين لما استطعنا الوقوف عند حد. والأولى من هذا كله أن تبحث دراسات كل مستشرق على حده، ويحلل مضمون ما قاله، وتقابل استشهاداته المرجعية بالمصادر التي رجع إليها، وخاصة منها ما يتصل بالاقتباس أو الاستشهاد بمصادر المعلومات الإسلامية، وعندئذ يستطيع المرء الخروج بأحكام موثقة لها ما يدعمها.
وفي سبيل الوصول إلى هذا يمكن الاستعانة بالحصر الذي أسهمت به الدراسات حول الاستشراق فيما يتعلق بمواقف المستشرقين من المعلومات الإسلامية ومصادرها التاريخية والدينية والأدبية وغيرها من المصادر. والحصر هذا محاولة لوضع مجالات اتسمت بها إسهامات المستشرقين، ومن هذه المجالات على سبيل المثال:
(أ) – الخضوع للأهواء وعدم التجرد للبحث.
(ب) – العجز عن تمثل الثقافة واللغة.
(جـ) – التعسف في التفسير والاستنتاج.
(د) – التفسير بالإسقاط.
(هـ) – منهج العكس.
(و) – التشكيك في الدليل القاطع.
(ز) – التحريف والتزييف والادعاء.
(ح) – إصدار الأحكام القاطعة دون دليل يعضدها.
(ط) – الاختلاق والتمويه[85].(138/24)
ويقول أحد المسهمين في الدراسات الاستشراقية عن واحد من أبرز أعلام المستشرقين وهو المستشرق ((هنري لامانس))[86]: "وأبشع ما فعله خصوصاً في كتابه (فاطمة وبنات محمد) هو أنه كان يشير في الهوامش إلى مراجع بصفحاتها. وقد راجعت معظم هذه الإشارات في الكتب التي أحال إليها فوجدت أنه إنما يشير إلى مواضع غير موجودة إطلاقاً في هذه الكتب، أو يفهم النص فهماً ملتوياً خبيثاً، أو يستخرج إلزامات بتعسف شديد يدل على فساد الذهن وخبث النية، ولهذا ينبغي ألا يعتمد القارئ على إشارته إلى مراجع، فإن معظمها تمويه وكذب وتعسف في فهم النصوص. ولا أعرف باحثاً من بين المستشرقين المحدثين قد بلغ هذه المرتبة من التضليل وفساد النية"[87].
وكلام عبدالرحمن بدوي هذا له وزنه لأنه يأتي من باحث اشتهر عنه تعاطفه مع المستشرقين وميله إلى الإعجاب بإسهاماتهم في مجالات الدراسة والتحقيق والنشر والتصنيف. وهذا يجر إلى تتبع مستشرقين بأعينهم – كما مر ذكره – من خلال إنتاجهم الفكري للنظر في مدى مطابقة هذه المجالات التسعة أو بعضها عليهم. ويمكن أيضاً أخذ عينة متحيزة منهم ممن درس أو كتب في سيرة الرسول – صلى الله عليه وسلم –، بل إن الوقوف على كتب ((مونتجمري وات)) الثلاثة حول حياة محمد – عليه السلام – (محمد في مكة)، و(محمد في المدينة)، و(محمد النبي القائد)، موضوع يستحق المتابعة.
وهكذا نجد أن المجال واسع في تقرير ادعاء أو اتهام أو فرضية، أو الإجابة على أسئلة تقوم على تحقق المجالات التسعة في المستشرقين، أو تحقق مجموعة منها في مستشرق بعينه إن لم تتحقق فيه كلها، وكل هذا داخل في الغوص في الدراسات التي قاموا بها، ودقتهم في استشهاداتهم المرجعية واقتباسهم من المصادر.
في مجال التحقيق والنشر:(138/25)
أما فيما يتعلق بمدى إسهامهم في تحقيق التراث الإسلامي ونشره فهذا موضوع لا يقل أهمية عن تتبع الدراسات، فالمعروف عن المستشرقين عنايتهم بنشر المخطوطات التي كانت حبيسة المكتبات الغربية، والتتبع هنا ربما ينصب على نسبة المحقق والمنشور عن طريق المستشرقين مقابلاً بما حققه ونشره العلماء المسلمون من العرب وغيرهم. كما ينصب على الاتجاهات التي طغت على الموضوعات أو العنوانات المحققة والمنشورة. والمفترض الآن أنهم ركزوا على موضوعات معرفية هي على العموم لا تسير على الخط الإسلامي السليم، وربما قيل إن النسبة الكبرى لما حققه المستشرقون ونشروه لا يسير على الخط الإسلامي السليم. وعند النظر إلى العنوانات أو الموضوعات وحصرها يمكن للمرء أن يخرج بهذه النتيجة السلبية. فإن كان العكس بأن خرج الباحث بنتائج طيبة، فليكن كذلك، معتمدين في هذا على العدل الذي لا يردنا عنه عدم اتفاقنا معهم فيما قاموا به من تأثير على بيئتنا الدينية والثقافية والعلمية والسياسية والاجتماعية[88].
ومن هذا القبيل الدراسة التي قام بها ((عبدالعظيم الديب)) حيث قام بعمل إحصائي حصر فيه شيئاً مما تم تحقيقه ونشره من تراث العرب والمسلمين معتمداً في هذا على مصدرين أساسيين في هذا المجال هما (معجم المخطوطات العربية) لصلاح الدين المنجِّد، وقد صدر في خمسة أجزاء من الفترة 1398هـ إلى 1400هـ، وكتاب (ذخائر التراث العربي الإسلامي) لعبدالجبار عبدالرحمن، وقد صدر في جرأين من الفترة 1401هـ إلى 1403هـ[89].
فالجزء الأول من معجم المنجد يغطي ما نشره في الفترة من سنة 1374هـ إلى 1380هـ، حيث نشر فيها أربعمائة وأربعة عشر (414) عنواناً، كان نصيب المستشرقين منها ثمانية وخمسين (58) عنواناً، وهذا يعدل أربعة عشر بالمئة (14%).(138/26)
والجزء الثاني يغطي ما نشر في الفترة من سنة 1381هـ إلى سنة 1385هـ، حيث نشر في هذه الفترة ثلاثمائة واثنان وخمسون (352) عنواناً، وكان نصيب المستشرقين منها سبعة عشر (17) عنواناً فقط، وهذا يعدل خمسة بالمائة (5%).
والجزء الثالث من المعجم يغطي الفترة من سنة 1387هـ إلى سنة 1395هـ، حيث نشر فيها أربعمائة وثلاثون (430) عنواناً، وكان نصيب المستشرقين منها ثمانية عشر (18) عنواناً، وهذا يعدل 4%.
ولو وزعت هذه العنوانات البالغة ألفاً ومائة وستة وتسعين (1196) عنواناً على السنين التي غطاها المعجم وهي سبع عشرة (17) سنة لكان نصيب كل سنة منها سبعين (70) عنواناً، ونصيب المستشرقين في كل سنة منها خمسة عنوانات ونصف العنوان (5.5)، إذ إن النصيب الإجمالي للمستشرقين في السنين كلها ثلاثة وتسعين (93) عنواناً. وهذا يعدل (8%) من مجموع المنشور والمحقق.
وكانت الطريقة التي اتبعها ((عبدالعظيم الديب)) مع كتاب (ذخائر التراث العربي الإسلامي) لعبدالجبار عبدالرحمن تختلف عنها مع معجم البلدان المخطوطات العربية) لصلاح الدين المنجِّد، حيث اتبع هنا أسلوب العينة العشوائية، فاختار عدداً متساوياً من الصفحات من كل مائة صفحة من الجزء الأول، فحصل على ست وخمسين بواقع ثماني صفحات من كل مائة صفحة[90]. على أن الكتاب كله يغطي المخطوطات المؤلفة في القرون العشرة الأولى للهجرة، ويجعل سنة (1400هـ) حداً نهائياً للمنشور منها. وكانت النتيجة أن حصر المؤلف ((عبدالعظيم الديب)) ثلاثمائة وعشرين عنواناً (320) كان نصيب المستشرقين منها اثنين وثلاثن (32) عنواناً، وهذا يعدل عشرة بالمئة (10%).
الاتجاهات الفكرية للمنشور:(138/27)
ودرس المؤلف ((عبدالعظيم الديب)) الاتجاهات الفكرية لمنشورات المستشرقين من حيث المخطوطات من خلال ما أثبته لهم ((صلاح الدين المنجِّد)) و((عبدالجبار عبدالرحمن)). وحيث كان نصيب المستشرقين في معجم البلدان ((صلاح الدين المنجِّد)) ثلاثة وتسعين (93) كتاباً، فقد جاءت على النحو التالي: -
الفن ... عدد الكتب ... النسبة
التصوف والفلسفة وعلم الكلام ... 40 ... 43%
التاريخ والتراجم ... 28 ... 30%
الجغرافيا والرحلات ... 4 ... 4.3%
الفقه ... 4 ... 4.3%
اللغة والنحو ... 3 ... 3.3%
الأدب ... 3 ... 3.2%
الشعر والطرائف ... 3 ... 3.2%
البلاغة ... 3 ... 3.3%
العلوم ... 2 ... 3.2%
التفسير ... 2 ... 2.1%
المجموع ... 93 ... 99.7%
جدول رقم (1)
الاتجاهات الفكرية في المخطوطات المنشورة في معجم ((صلاح الدين المنجد))
وحيث كان نصيب المستشرقين من المخطوطات المنشورة في العينة المأخوذه من كتاب (ذخائر العرب) لـ((عبدالجبار عبدالرحمن)) اثنين وثلاثن (32) عنواناً، فقد جاءت موزعة على النحو التالي:
الفن ... عدد الكتب ... النسبة
التاريخ ... 7 ... 21%
التصوف والأخلاق ... 4 ... 12.5%
التراجم ... 3 ... 9%
الشعر ... 3 ... 9%
اللغة والنحو ... 3 ... 9%
الديانات ... 2 ... 6%
العقيدة والكلام ... 2 ... 6%
الأدب ... 2 ... 6%
السيرة ... 1 ... 3%
التفسير ... 1 ... 3%
الحديث ... 1 ... 3%
المجموع ... 32 ... 98%
جدول رقم (2)
الاتجاهات الفكرية في عينة المخطوطات المنشورة في معجم ((عبدالجبار عبدالرحمن))(138/28)
والاتجاهات واضحة في الكتب والعنوانات من (معجم البلدان المخطوطات العربية) حيث برزت فنون التصوف والفلسفة وعلم الكلام على بقية الفنون الأخرى بنسبة تعد عالية (43%)، ثم يليها التاريخ والتراجم (30%). والتشابه هنا في علو النسبة لدى كتاب (ذخائر التراث العربي الإسلامي) إذ التاريخ يشكل (21%) وهي أيضاً تعد نسبة عالية، ثم يليها التصوف والأخلاق (12.5%)، كما أن هناك تشابهاً في ترتيب الفنون فيما يتعلق بالفنين الذين احتلا المرتبتين الأولى والثانية، وإن تنافسا على الأولية في المصدرين، وهذا مؤشر على الاتجاهات الفكرية التي حرض عليها جماعة المستشرقين في نشر المخطوطات العربية، مع عدم إغفال أهمية الفنون الأخرى رغم صغر نسبتها.
عينات من المنشور والمحقق:
عني المستشرقون بأمهات الكتب، نشروها وعلقوا على بعضها وترجموا بعضها، ويذكر لهم في هذا مجموعة مما نشروه مثل السيرة النبوية لابن هشام، وفتوح البلدان للبلاذري، والطبقات الكبرى لابن سعد، والمغازي للواقدي، ومعجم الأدباء لياقوت الحموي، وبدائع الزهور لابن إياس، والكامل للمبرد، ونقائض جرير والفرزدق، وتاريخ الطبري، والوافي بالوفيات للصفدي ووفيات الأعيان لابن خلكان، وغيرها.(138/29)
وفي الوقت نفسه عنوا بنشر المخطوطات الأخرى التي لا تستطيع أن نقول إنها موضع اتفاق من حيث قيمتها العلمية أو الثقافية والفكرية من أمثال: أخبار الحلاج الحسين بن منصور، والطواسين للحلاج، وطبقات الصوفية للسلمي، والبلغة في الحكمة لابن عربي، وآداب الصحبة حسن العشرة للسلمي، والتشوف إلى رجال التصوف لابن الزيات الشاذلي يوسف بن يحي، والرسائل الصغرى لابن عياد الرندي، والخلوة والتنفل في العبادة ودرجات العابدين للحارث بن أسد المحاسبي، وذم الدنيا لابن أبي الدنيا، والمنتقى من كتاب الرهبان لابن أبي الدنيا، المسائل للخراز، ومثلى الطريقة في ذم الوثيقة للسان الدين بن الخطيب، والأئمة المستورون للمهدي عبدالله، والشافية لأبي فراس شهاب الدين الإسماعيلي، والهفت والأظلة لمفضل بن عمر الجعفي، وتاج العقائد ومعدن الفوائد لعلي بن محمد الراعي، والإيضاح لشهاب الدين الراعي، وتنقيح الأبحاث لملل الثلاث لابن كمونة اليهودي سعد بن منصور، ورسالة راهب من فرنسة إلى المقتدر بالله لراهب من فرنسة، والدياسطرون أو الإنجيل الرباعي لططيانس وترجمة بن الطيب البغدادي، ومثالب علي بن أبي بشر (أبي الحسن الأشعري) للأهوازي، ورسالة في الحكمين وتصويب أمير المؤمنين علي في فعله للجاحظ، والنهج السديد والدر الفريد لأبي الفضائل مفضل القطبي المصري، والأخلاق والانفعالات النفسية لابن سينا، وعيون الحكمة لابن سينا أيضاً، وتعبير الرؤيا لأرطاميدس ونقله إلى العربية حنين بن اسحق، والآثار العلوية لأرسطو طاليس، ورسالة في ماهية العدل لمسكويه أحمد بن محمد، والحيل (في الفقه) للخصاف أبي بكر بن عمرو، وديوان أبي نواس، ورسالة التربيع والتدوير للجاحظ (يسخر فيها من أحمد بن عبدالوهاب، ويهزأ بعيونه الخلقية) والمفاخرة بين الجواري والغلمان للجاحظ[91].(138/30)
وينبغي التأكيد هنا على أن بعض هذه الآثار لها قيمتها العلمية والفلسفية، ومع هذا نجدها تأتي في وقت الحاجة فيه إلى ما هو أكثر علمية وأنفع فائدة من النفائس، ذلك الوقت الذي بدأت فيه الحركة العلمية في البلاد العربية والإسلامية تعود إلى التراث تجمعه من الخارج وتسعى إلى إخراجه نشراً وتحقيقاً.
والحق الذي يتبين من مجموعة من الأعمال التي تشيد باهتمام المستشرقين بتحقيق التراث تنظر إلى الاهتمام بالتراث لذاته، وربما أغفلت الاتجاهات في تحقيق التراث، وأظن أن دراسة الاتجاهات تحتاج إلى وضوح في المعايير التي ستقاس عليها هذه الاتجاهات، بحيث لا يكون نشر كتاب صوفي – مثلاً – يعد عملاً حسناً من خلال قياسه على المعايير، أو ربما كان حسناً إذا ما كان العيار يحتويه، ولذا فإن الأهمية هنا تكمن في صياغة المعايير بحيث تكون منبثقة من أصالة الإسلام التي عرفتها القرون الأولى، بحيث يخرج منها كل من يمكن أن يكون قد أسهم في الابتعاد عن هذه الأصالة من إسهامات المسلمين الأوائل أنفسهم مما كان مجالاً للتحقيق والنشر عند المستشرقين. وعند عدم الالتزام بمثل هذه الجزئية للمعيار وعدم مراعاته سبب في أن ينظر إلى عمل واحد على أنه حسن كما ينظر إليه نفسه على أنه عمل سيئ.
وعلى أي حال فإن خدمة التراث ((ميدان واسع متشعب الجوانب بدءاً بجمع المخطوطات وانتهاء بتحقيقها))[92] ولا تقف جهود المستشرقين عند جمع المخطوطات وصيانتها وتحقيقها ونشرها أو تصنيفها وفهرستها، بل ربما زادوا على ذلك بالتعريف بها والكتابة عنها وترجمتها إلى اللغات الأخرى.(138/31)
وإذا ثبت حكم أو ظهرت نتيجة من خلال دراسة إتجاهات المستشرقين في نشر المخطوطات بني على النتيجة الحكم الموضوعي الذي يعمل على حسم الموقف من تحقيق التراث فيخفف من الاندفاع في تأييد الفكرة تأييداً مطلقاً، ويخفف من الاندفاع أيضاً في عدم الثقة بهذه الوسيلة من وسائل المستشرقين في العمل مع مصادر المعلومات الإسلامية[93]. وربما يترك حكماً وسطاً بين الاندفاعين فيحفظ لأهل الفضل فضلهم، ويبين التجاوزات والانحرافات والإساءات والأخطاء، كما يبين أسبابها ومبرراتها حتى لا تكون كلها دليلاً عليهم. وبهذا نتجنب الثناء المطلق كما نتجنب التحامل المطلق الذي ((يتنافى مع الحقيقة التاريخية التي سجلها هؤلاء المستشرقون فيما قاموا به من أعمال، وما تطرقوا إليه من أبحاث))[94].
في مجال الترتيب والفهرسة والتكشيف:
وللمستشرقين جهودهم في مجالات الفهرسة والتكشيف. ويذكر هنا العمل الكبير الذي قاموا به تحت إشراف ((أرنيت يان فنسنك))[95] وآخرين (المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي) الذي ظهر في سبعة أجزاء، وغطى الكتب الستة ومسند الدارمي وموطأ الإمام مالك ومسند الإمام أحمد بن حنبل. والعمل الآخر الذي قام به ((فنسنك)) نفسه حيث حاول حصر الأحاديث النبوية مرتبة تريباً هجائياً، ونقله إلى العربية ((فؤاد عبدالباقي)) تحت عنوان (مفتاح كنوز السنة) وكانت طبعته الأصلية قد ظهرت في ((حجم الربع)) ونشرها بريل في ليدن سنة 1934م في 18، 268ص، وطبع في مصر العربية سنة 1353هـ – 1934م.
ويذكر هنا في هذا المجال كشاف ((نجوم الفرقان في أطراف القرآن)) للمستشرق الألماني ((جوستاف فلوجل))[96] ونشر في لايبتزج سنة 1842م. وكشاف ((تفصيل آيات القرآن الحكيم)) الذي وضعه بالفرنسية ((جول لابوم))[97] ونقله إلى العربية أيضاً ((محمد فؤاد عبدالباقي)) وفيه ترتيب للآيات تريباً موضوعياً[98].(138/32)
ويذكر العمل الذي قام به كل من ((فيشر)) و((برويونلخ)) حيث حاولا حصر شواهد الشعر في أمهات كتب النحو العربية في كتاب صدر في كل من لايبتزج وفيينا بين سنة 1934م – 1954م، وطبعته دار أوتو تزيلر في أوزنا بروك بألمانيا سنة 1982م في 352 صفحة[99].
وتذكر أعمال أخرى كثيرة حول فهرسة المخطوطات العربية الموجودة في المكتبات والمتاحف الغربية، وهناك أكثر من مستشرق عني بهذا العمل يصعب حصرهم هنا، ويذكر منهم المستشرق الألماني ((آلوارد)) الذي وضع فهرساً للمخطوطات العربية بمكتبة برلين في عشرة مجلدات، وصدر هذا الفهرس في نهاية القرن الميلادي الماضي، وحوى نحو عشرة آلاف (10.000) مخطوطة[100]، وقد عمل الأستاذ ((فؤاد سزكين)) على حصر الفهارس في مكتبات العالم ضمن العمل الذي قام به حول تاريخ التراث العربي[101]. وقبله عمل ((كارل بروكلمان)) في (تاريخ الأدب العربي) على حصر بعض فهارس المخطوطات في مكتبات العالم[102].
ولا شك في تأثير هذه الأعمال الحصرية على المكتبة العربية وعلى الباحث العربي، ومع هذا فهي لا تكاد تخلو من ملحوظات بعضها يدخل في جانب التقصير البشري الذي يصاحب أي عمل جاد ومضن، وبعضها الآخر قد يتعدى مجرد ذلك إلى ما يدخل في الخطأ والإساءة والانحراف في التبويب أو التكشيف أو الترتيب أو الفهرسة مما قد يدخل في الأسباب غير العلمية.
وقد لحظ المراجعون لما هو متوافر من هذه الكشافات والفهارس في المكتبة العربية شيئاً من هذا القصور الذي يستحق المتابعة. وخير ما يذكر في هذا المقام وقفة ((سعد المرصفي)) مع أخطاء المستشرقين في المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي. ومع أنه لم يعمد إلى استقصاء الأخطاء في المعجم إلا أنه وصل أربعمائة وتسعة وسبعين (479) نموذجاً للأخطاء كلها تتعلق بصحيح مسلم أحد مواد المعجم التسع، وزعها على سبع مجموعات ويورد لكل مجموعة نماذج من الأخطاء التي وقف عليها على النحو التالي[103]:
المجموعة الأولى:(138/33)
التحريف في العبارة: وأختار مثالاً لهذه المجموعة النموذج رقم (26) في الكتاب، حيث ورد في الجزء السابع من المعجم، ص303 في مادة ((وكع)) كلمة فوكعت في جملة ((فقدمنا المدينة فوكعت شهراً)) والأصل أنها فوعكت شهراً[104].
المجموعة الثانية:
الخطأ في العزو: ومثاله النموذج رقم (66) حيث ورد في الجزء السابع ص382 في مادة ((يمن)) جملة ((كان يسلم ثم يقول السلام.. عن يمينه وعن يساره)) فأشار إلى ورودهما في مسلم، إقامة 28، وهو خطأ، حيث لا يوجد في مسلم كتاب باسم الإقامة[105].
المجموعة الثالثة:
الخطأ في الإشارة إلى الكتب: ومثاله ورود مادة ((جنب)) في الجزء الأول ص380، في جملة ((وجنب الشيطان ما رزقتنا)) مشاراً إليها في مسلم، طلاق 6، وهو خطأ، والصحيح أنها في 16 النكاح 116[106]. وأراد بالكتب هنا تقسيم الكتاب إلى مجموعة أبواب عبر عنها السلف بالكتب وهي أقرب إلى رؤوس الموضوعات.
المجموعة الرابعة:
الخطأ في الإشارة إلى أرقام الكتاب الواحد: ومثاله النموذج رقم (12) حيث ورد في الجزء الرابع، ص153 في مادة عدل جملة ((إمام عادل)) مشاراً إليها في مسلم، زكاة، وهو خطأ، والصحيح أنها في 12 – زكاة 91 (1031) وهي فيه ((الإمام العادل)) بأل التعريف[107].
المجموعة الخامسة:
وضع اللفظ في غير مادته: وأختار له مثالاً النموذج رقم (15) حيث ورد في الجزء الأول ص272 كلمة ((ترياق)) في مادة ((ترى)) وهو خطأ والصواب وضعها في مادة ((ترق)) وهي في ((وإنها ترياق أول البكرة)) 36 – الأشربة 156 (2048)[108].
المجموعة السادسة:
المخالفة في الترتيب والتداول: ومثالها في النموذج رقم (13) حيث ورد في الجزء الأول ص361 – 362 مادة ((جمم)) قبل ((جمح)) والمشهور المتداول وضعها بعد ((جمل)) وهي في ((فأتى الناس الماء جامين رواء)) 5 – المساجد[109].
المجموعة السابعة:(138/34)
عدم الاستيعاب: ومثاله النموذج (4) حيث لم يذكر في المعجم الجزء الثالث ص124 مادة ((شطر)) في ((الطهور شطر الإيمان)) مع ورودها في مسلم، 2 – الطهارة – 1 (223)[110].
وإذا كان في المستشرقين رجال أحرار الفكر لا يقصدون إلى التعصب، ولا يميلون مع الهوى، إلا أنهم أخذوا العلم – في الغالب – عن غير أهله، ((وأخذوا من الكتب، وهم يبحثون في لغة غير لغتهم، وفي علوم لم تمتزج بأرواحهم، وعلى أسس غير ثابتة وضعها متقدمون، ثم لا يزال ما نشئوا عليه واعتقدوا يغلبهم، ثم ينحرف بهم عن الجادة.
فإذا هم قد ساروا في طريق آخر، غير ما يؤدي إليه حرية الفكر والنظر السليم))[111].
ويقول أحمد محمد شاكر: ((ومعاذ الله أن أبخس أحداً حقه، أو أنكر ما للمستشرقين من جهد مشكور في إحياء آثارنا الخالدة، ونشر مفاخر أئمتنا العظماء، ولكني رجل أريد أن أضع الأمور مواضعها، وأن أقر الحق في نصابه، وأريد أن أعرف الفضل لصاحبه، في حدود ما أسدى إلينا من فضل، ثم لا أجاوز به عن حده، ولا أعلو به عن مستواه، ولكني رجل أتعصب لديني ولغتي أشد العصبية، وأعرف معنى العصبية وحدَّها، وأن ليس معناها العدوان، وأن ليس في الخروج عنها إلا الذل والاستسلام، وإنما معناها الاحتفاظ بمآثرنا ومفاخرنا، وحوطها والذود عنها، وإنما معناها أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، وأعرف أنه ((ما غزى قوم قط في عقر دارهم إلا ذلوا)) وقد – والله – غُزينا في عقر دارنا، وفي نفوسنا، وفي عقائدنا، في كل ما يقدسه الإسلام ويفخر به المسلمون. وكان قومنا ضعافاً، والضعيف مغرى أبداً بتقليد القوي وتمجيده، فرأوا من أعمال الأجانب ما بهر أبصارهم، فقلدوهم في كل شيء، وعظموهم في كل شيء، وكادت أن تعصف بهم العواصف، لولا فضل الله ورحمته))[112].
الخاتمة والنتيجة:(138/35)
في العرض السابق محاولة لإعطاء أمثلة مقتبسة من مصادر عربية تحدثت عن ظاهرة الاستشراق وأبرزت في حديثها شيئاً مما أسهم به المستشرقون في تشويه الآثار الإسلامية حول الرجال الذي نعدهم قادة في العلم والفكر والسياسة، وحول ظواهر نعدها من مقومات هذا الدين.
وربما تكون هذه المحاولة ظاهرة الميل إلى الحكم العام على إسهامات المستشرقين بأنها لم تكن في مصلحة الدراسات الإسلامية، وأنها لم تتعامل مع مصادر المعلومات عن الإسلام والمسلمين بتجرد وموضوعية مطلوبة من كل عالم يخوض في مجالات العلم مهما كانت انتماءاتها العقدية والفكرية.
وليست هذه المحاولة بشاملة لهذه الهفوات التي وقع فيها المستشرقون، إذ إن إسهامات الكتاب المسلمين لا تزال تترى لتبيان الأخطاء التي يصر عليها هؤلاء المستشرقون ضد الإسلام والمسلمين. وهي على العموم أخطاء مقصودة في غالب الأحيان، وإن كانت هناك هفوات ((عفوية)) ما أرادها بعض المستشرقين لذاتها، ولكنهم وقعوا فيها لاعتمادهم على أترابهم الذين وقعوا هم فيها.
وحيث إن الأمر يحتاج إلى مزيد بحث ودراسة مستقلة تطغى عليها العلمية ويقودها منهج البحث الموضوعي فإن الوصول إلى النتيجة يحتاج إلى مزيد من الاقتناع والإقناع.(138/36)
وقد قدم لنا المسهمون في نقد آثار المستشرقين أنفسهم، الأرضية التي يمكن أن نسير عليها في سبيل الوصول إلى النتيجة. وقد يقال إن الإسهامات وحدها كفيلة بالوصول إلى النتيجة دون مزيد بحث أو دراسة، ولكني أقول إن هذه الإسهامات قد طغت عليها – في غالبها – التعميمات التي تريد أن تثبت ما وصلت إليه عن طريق الاستشهاد بأكثر من عمل لأكثر من مستشرق في أكثر من فرع من فروع المعرفة. بل إن من الإسهامات حول هذه الظاهرة ما لا يتعدى كونه ترديداً لمفهومات قديمة مكررة من محاضرة ألقيت، أو كتاب ألف في بدايات مناقشة ظاهرة الاستشراق، ويحصل في هذه المجموعة شيء من الخلط يعمد إليه المستشرقون أنفسهم يستشهدون به، ويردون به على أولئك الذين يرغبون في حوار علمي مباشر تنجلي من خلاله كثير من المغالطات.
وهذا لا يغفل وجود دراسات متخصصة حول إسهامات المستشرقين في موضوعات محددة كالقرآن الكريم[113]، وسيرة الرسول – عليه السلام[114] – وأحاديثه – عليه الصلاة والسلام[115] – والتشريع الإسلامي ومصادره[116]، والعقيدة[117]، والتاريخ الإسلامي[118]، ونحوها من الإسهامات المتخصصة التي تحتاجها المكتبة العربية قصداً إلى الوصول إلى النتيجة.
والنتيجة الأولية التي تدعو إليها معظم هذه الإسهامات هي الدعوة الصادقة إلى العلماء المسلمين والمثقفين، والمفكرين للاستغناء عن إسهامات المستشرقين وإسقاط جانب الدراسات والتعليقات من قائمة مصادر المعلومات عن الإسلام والمسلمين.
وهذه دعوة سهلة الوضع النظري، ولكنها من الناحية العملية سابقة لأوانها لأن عاملي الاقتناع والإقناع لا يزالان في مراحلهما الأولى.(138/37)
وليس من السهل الميسور أن يقف مثلي هذا الموقف داعياً إلى مثل هذه النتيجة، لأن مدى قبولها مرهون بمدى تعمق الداعي نفسه في هذه الظاهرة (الاستشراق)، وإلمامه بجل جوانبها بحيث يكون ما يقوله أو يدعو له مستنداً على تلكم الأرضية التي مهدها لنا أولئك الذين تتبعوا المستشرقين ولا يزالون. وأخص منهم هنا ((الجادين)) الذين لا يشكلون صدى الآخرين لمجرد أنهم متحمسون لفكرة، وغيورون على انتمائهم الثقافي من تلك الفئة التي تعتقد اعتقاداً لا يخلو من السطحية أن نظرية المؤامرة تلاحق هذه الثقافة من كل مكان ووجهة[119].
1 – والاستغناء عن الاعتماد على إسهامات المستشرقين في مجالات الدراسات والتعليقات على مصادر المعلومات الإسلامية يمكن أن يبدأ مرحلياً، بحيث لا نصر – مثلاً – على الباحثين في العلوم العربية والإسلامية أن يجعلوا ضمن مراجعهم المراجع الأجنبية، ولا يكون هذا ديدنهم إلا إذا كان البحث يتطلب – علمياً – مثل هذا الاستشهاد. وقد رأينا بحوثاً، في التاريخ الإسلامي خاصة، كثيرة المصادر والمراجع العربية ثم تضع في ختامها مجموعة من المراجع الأجنبية ومعظمها لمستشرقين. ورأيت في هذا شيئاً من التكلف وعدم الاقتناع من الباحث. فيزال هذا المطلب الضمني، وتعتمد علمية البحث أو الرسالة على مدى اقتصارها على أمهات الكتب والمصادر الموثوقة والمراجع المقبولة.
2 – كما يمكن أن يبدأ الاستغناء هذا بعدم التبجح بالاستشهاد بأقوال المستشرقين التي تبدو فيها الإيجابية حول مصادر المعلومات عن الإسلام والمسلمين. ولا أخال الإسلام بحاجة إلى هذه الأقوال إذا ما كان موضع اقتناع كامل من أهله العلماء والمثقفين وعامة الناس. فحاول الجميع غرس الثقة بالموروث الثقافي، وخاصة ما صلح منه.(138/38)
3 – ويمكن أن يبدأ الاستغناء أيضاً عن إسهامات المستشرقين في مصادر المعلومات عن الإسلام والمسلمين في مجالات الدراسات والتعليقات عندما يتحقق البديل لهذه الدراسات والتعليقات باللغة العربية أولاً، ثم باللغات الأخرى التي يتكلمها المسلمون ثانياً، ثم باللغات الباقية الأخرى ثالثاً. هذا البديل الذي يراد منه أن يسد النقص في مجالات كثيرة لا تقتصر على الدراسات الإسلامية التي تملأ الساحة اليوم، بل تتعدى هذا إلى إيجاد الأدوات المرجعية كالموسوعة الإسلامية المؤصلة[120]، والوراقيات ((الببليوجرافيات)) العربية للإسهامات الإسلامية[121] وتعدد مراكز البحوث التراثية التي تهتم بالمخطوط العربي دراسة وتحقيقاً ونشراً وصيانة[122] وأعلم، ويعلم كثير من المتابعين، أن هناك دراسات وتحقيقات لمخطوطات أريد منها الحصول على مؤهلات علمية عالية، ثم بقيت عند أصحابها والمؤسسات التعليمية التي أجازتها مطبوعة بالآلة الكاتبة، واعتمد نشرها على قدرة الباحث المادية على تحمل نفقات نشر هذا الانتاج، وهناك بدائل أخرى كثيرة ذات علاقة مباشرة بخدمات المكتبات والمعلومات من وراقيات ((ببليوجرافيات)) وفهارس وكشافات ونحوها مما لا يستغني عنه الباحث اليوم، وإن وجدت هذه بكثافة أسهمت في تحقيق الدعوة إلى الاستغناء عن أسهامات المستشرقين في دراسات مصادر المعلومات الإسلامية.(138/39)
4 – ثم يمكن أن يبدأ الاستغناء هذا عندما تقوم المؤسسات العلمية المتخصصة بدراسة ظاهرة الاستشراق بتوجيه جهودها إلى المستشرقين أنفسهم بلغاتهم، تحاورهم محاورات علمية، وتناقشهم مناقشات موضوعية، وتناظرهم مناظرات هادئة، يقصد من ورائها كلها الوصول إلى الحق. فيعترف من خلال المؤسسات العلمية المتخصصة بدراسة الاستشراق بالجيد المقبول من الإسهامات الاستشراقية، ويرد غيرها مما حصل فيه خلط أو سوء فهم أو قصد فيه إلى المغالطات. والمحاورات والمناظرات يمكن أن تكون مباشرة من خلال الندوات والمؤتمرات والحلقات العلمية وغيرها، أو يمكن أن تكون عن طريق الدراسات والأبحاث والمقالات التي تنشر في دوريات علمية محكمة رصينة.
والوسائل متعددة وكل ما أسهم في تذليل عقبات اللقاء مع المستشرقين قصداً إلى الاستغناء عن الاعتماد عليهم في مجالات الدراسات والتعليقات فهو مقبول ما دام لا يجر إلى محذور يدخل في متاهات أخرى، وإن كان البعض ربما لا يروقه مثل هذا الأسلوب، ويرى إغفال القوم وعدم إعارتهم أي انتباه مباشر، والاستمرار في الوقوف مع إسهاماتهم نقداً ومراجعة، ولا أظن هذا الموقف سوف يغنينا عن الاعتماد على إنتاج المستشرقين العلمي مصدراً من مصادر المعلومات عن الإسلام والمسلمين وعن تراث المسلمين في ماضيهم وحاضرهم. ولا أرى من الحكمة تجاهل هذا الأمر وإثارة سؤال استنكاري حول التصدي لإسهامات المستشرقين في إثراء المكتبة الإسلامية بالأعمال حين يقال: ثم ماذا؟! ماذا يهمنا أن يقول عنا المستشرقون وأرى أن من الحكمة إعطاء هذا الأمر ما يستحق، لأني أزعم أنه جزء مهم وفاعل في محاولة نزع سلطان الدين من النفوس.
ـــــــــــــــــــــ(138/40)
[1] نؤكد دائماً للطلبة الدارسين لمصادر التراث بقسم المكتبات والمعلومات. وفي كل مقام أن القرآن الكريم وسنة المصطفى – صلى الله عليه وسلم – ليست من التراث، لأنه لا ينطبق عليها ما ينطبق على مفهوم التراث من المراجعة والأخذ والرد والنقد ونحوها مما لا يصدق على كتاب الله وسنة رسوله – صلى الله عليه وسلم.
[2] الآية (120) من سورة البقرة.
[3] نسبة إلى عبدالله بن سبأ. وستأتي إشارة إلى هذا التوجه فيما يلي من الصفحات.
[4] وكان هذا في خيبر، وسيأتي الحديث عن هذه الحادثة فيما يلي من الصفحات.
[5] الآية (19) من سورة آل عمران.
[6] بدأت في ربيع الثاني 491هـ/ مارس 1098م وانتهت في شعبان 690هـ أغسطس 1291م. انظر سعيد عاشور. الحركة الصليبية. – 2ج. – القاهرة: مكتبة الأنجلو المصرية، 1976. – 2/ 1126.
[7] وهذا قد يصدق على بعض المستشرقين اليهود الذين بدأوا رحلتهم بدراسة العبرانية ثم توسعوا لدراسة اللغات السامية فوجدوا منها العربية أكثرها حيوية وتراثاً ومتحدثين فانعطفوا عليها يدرسونها ويدرسون تراثها وأهلها.
قصداً إلى إيجاد الثغرات فيها مما يوحي بالامتداد في الكيد للإسلام وأهله. ولعل إمام هؤلاء ((إجناس جولدتسيهر)) حيث مر بهذه المراحل حتى استقر به المقام أن يكون علماً من أعلام المستشرقين)) انظر نجيب العقيقي. المستشرقون. – 3ج – القاهرة: دار المعارف، 1981. – 3/ 40 – 42.
[8] محمود محمد شاكر، رسالة في الطريق إلى ثقافتنا. – القاهرة: دار الهلال، 1488هـ. – ص99 – 100. – (سلسلة كتاب الهلال/ 442).
[9] عبدالعظيم محمود الديب. المنهج في كتابات الغربيين عن التاريخ الإسلامي. الدوحة: رئاسة المحاكم الشرعية والشؤون الدينية بدولة قطر، 1411هـ. – (سلسلة كتاب الأمة/ 27) نقلاً عن محمود محمد شاكر في رسالة في الطريق إلى ثقافتنا. – ص98.(138/41)
[10] علي بن إبراهيم النملة. الاستشراق والمستشرقون في الأدبيات العربية – الرياض: مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، 1412هـ.
[11] عبدالرحمن حسن حبنكة الميداني. أجنحة المكر الثلاثة وخوافيها، التبشير – الاستشراق – الاستعمار: دراسة وتحليل وتوجيه. – ط4 – دمشق: دار القلم، 1405هـ. – وانظر إسهامات أنور الجندي، مثل الإسلام في وجه التغريب: مخططات التبشير والاستشراق، وسموم الاستشراق في العلوم الإسلامية، والشبهات والأخطاء الشائعة في الفكر الإسلامي، وشبهات التغريب في غزو الفكر الإسلامي.
[12] رودي بارت. الدراسات الإسلامية في الجامعات الألمانية. – ترجمة مصطفى ماهر. – القاهرة: دار الكتاب العربي، 1967م. – ص11.
[13] ومؤته قرية من أرض البلقاء بالشام. وكانت الغزوة في جمادى الأولى سنة ثمان للهجرة، وقابل فيها المسلمون الروم. وهي التي تعد الانطلاقة العلمية الأولى للمسلمين خارج الجزيرة العربية. انظر عبدالسلام هارون. تهذيب سيرة ابن هشام. – ط3. د.م: المؤسسة العربية الحديثة، 1396هـ. ص270.
[14] إدوارد سعيد. الاستشراق: المعرفة. السلطة. الإنشاء. – نقله إلى العربية كمال أبو ديب. – بيروت: مؤسسة الأبحاث العربية، 1984م. – ص80.
[15] يوحنا الدمشقي، معلم الكنيسة، ألف في اللاهوت والفلسفة والخطابة والتاريخ والشعر. انظر نجيب العقيقي. المستشرقون. – 1/ 72.
[16] نجيب العقيقي. المستشرقون. – 1/ 72.
[17] المقصود هنا الأزمة التي نتجت عن غزو العراق والكويت في 11/ 1/ 1411هـ – 2/ 8/ 1990م.(138/42)
[18] شاع الآن أن بعض مراكز الدراسات العربية والإسلامية في الولايات المتحدة الأمريكية وكندا وأوروبا مدعومة من قبل وكالات الاستخبارات، وأنها تُستأجر في إجراء دراسات حول الأوضاع الراهنة في المنطقة. وهناك وثائق تؤيد هذا صدرت عن بعض رؤساء هذه المراكز التي تدرس المجتمع الإسلامي المعاصر وتنظر إلى التغييرات التي يعيشها المجتمع، وترتكز على منبع هذه التغييرات وتوصى بمواجهتها إن بدا منها ما يهدد المصلحة الأجنبية في المنطقة. وأهم هذه التغييرات متابعة الصحوة وأثرها على القرار السياسي. والمركز التابع لجامعة هارفارد في الولايات المتحدة الأميريكية مثال على ذلك.
[19] عبدالعظيم محمود الديب، المنهج في كتابات الغربيين.. ص38 – 39. وهناك من يفصل في الدوافع والغايات فيوزعها إلى سياسية وتنصيرية واستعمارية وتجارية وعلمية، والعلمية إما نزيهة وإما مشبوهة. بل إن هناك من يفرق بين الدوافع والأهداف فيعطي لكلٍ عواملها المستقلة. وينبغي التنويه هنا إلى أن هذه الوقفة إنما هي عالة على هذا الكتاب وكتاب آخر للمؤلف نفسه عن المستشرقين والتراث سيأتي بيانه. ورغم إثباتهما في أكثر من موضع إلا أنه من المهم التأكيد على أن الفكرة والمعلومات مستقاة منهما ثم من المراجع المساندة الأخرى.
[20] المرجع السابق. – ص73.
[21] مستشرق بريطاني (1895 – 1971م)، اهتم بالأدب العربي، تتلمذ على كيندي، وخلف مرجليوث في أكسفورد. له إسهامات عدة حول الإسلام والعربية والرحلات. انظر نجيب العقيقي. المستشرقون. – 2/ 129 – 131.
[22] ذكر نجيب العقيقي (2/ 130) أن من كتبه الاتجاهات الحديثة في الإسلام ((وهو خير كتبه)). وقد كلف مجموعة من المستشرقين بالكتابه فيه، واكتفى منه بالمقدمة والخاتمة.
[23] عابد بن محمد السفياني. المستشرقون ومن تابعهم ومواقفهم من ثبات الشريعة وشمولها: دراسة وتطبيقاً. – مكة المكرمة: مكتبة المنارة، 1408هـ. – ص1.(138/43)
[24] نقلاً عن المرجع السابق. – ص1.
[25] عمر عبيد أبو حسنة. في مقدمة كتاب عبدالعظيم محمود الديب. المنهج في كتابات الغربيين.. ص18.
[26] وهذا مستوحى من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص – رضي الله عنهما – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا ينزع العلم من الناس بعد أن يعطيهم إياه، ولكن يذهب بالعلماء. وكلما ذهب عالم ذهب بما معه من العلم حتى يبقى من لا يعلم، فيتخذ الناس رؤساء جهالاً فيستفتوا فيفتوا بغير علم فيضلوا ويضلوا" انظر أحمد عبدالرحمن البنا. الفتح الرباني ترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني مع شرحه بلوغ الأماني من أسرار الفتح الرباني. – 24ج. – القاهرة: دار الشبهات، د.ت. – 1/ 181.
[27] عبدالعظيم الديب. المنهج في كتابات الغربيين.. – ص38.
[28] انظر مناقشة هذه الفكرة عند عبدالستار الحلوجي. ((المستشرقون والعمل البيليوجرافي)) في: دراسات في الكتب والمكتبات. – جدة: مكتبة مصباح، 1408هـ. – ص121 – 129.
[29] ويقوم معهد تاريخ العلوم العربية والإسلامية في فرانكفورت بحصر وراقي ((بيليوجرافي)) لكل ما كتب عن الإسلام بالألمانية. وقد ظهر من هذا العمل الضخم مجموعة من الأجزاء أشرف عليها الأستاذ فؤاد سزكين مدير المعهد.
[30] عمر عبيد أبو حسنة. في تقديمه لكتاب عبدالعظيم الديب. المنهج في كتابات المستشرقين. – ص22.(138/44)
[31] انظر مثلاً رودي بارت. الدراسات الإسلامية والعربية في الجامعات الألمانية. وإسهامات أخرى فيما يتعلق بالروسية والانجليزية. ولعل آخر ما صدر في هذا المجال الحصر الذي قامت به الملحقية الثقافية السعودية في واشنطن بالولايات المتحدة الأمريكية، حيث حصرت عدد المعاهد والمراكز المهتمة بالدراسات العربية والإسلامية في كل من كندا والولايات المتحدة الأمريكية فأوصلتها إلى مائة وثلاثين مركزاً وقسماً. انظر سفارة المملكة العربية السعودية، الملحقية الثقافية بواشنطن. دليل برامج الدراسات العربية والإسلامية والشرق أوسطية بالجامعات الأمريكية. – واشنطن: السفارة الملحقية، 1411هـ. – 268ص.
[32] وأزعم أن معهد تاريخ العلوم العربية والإسلامية في فرانكفورت بألمانيا يسعى إلى تحقيق هذه النظرة. كما أن هناك جهوداً بدأت السنة الماضية 1411هـ تحاول إقامة مؤسسة علمية في ألمانيا. أيضاً، تسعى إلى قيام حوار مباشر مع المستشرقين. وهي في خطواتها الأولى. ولا يدري مدى قدرتها على الوقوف على قدميها إذا لم تكن رؤيتها واضحة فتلقى الدعم والتشجيع المعنوي والمادي والمتابعة من قبل المهتمين بمثل هذه الجهود.
[33] Farouq Mohamed El-Zayat. Mutter des Glaubigen Munchen. HKD Bavaria – Handels & Verlogs (1982). 109s.
[34] وهنا يقول عمر عبيد أبو حسنة. مرجع سابق ص17: ((لقد اهتم المستشرقون بالتشكيل الثقافي للأمة المسلمة في ضوء رؤية معينة، وخطة مدروسة، لذلك ولجوا جميع الميادين وحاولوا الوصول والتحكم بالموارد الثقافية كلها، وبحثوا ونقبوا وأثبتوا وجهة نظرهم، وتفسيرهم في الكثير من القضايا المعرفية إلى درجة يمكن معها القول: بأن الاستشراق استطاع أن يملي على الكثير منا وجهة نظره في مجالات متعددة بشكل أو بآخر، وإن كان مدى التأثير يختلف من شخص إلى آخر)). ولعل صاحبنا هنا لم يخضع لهذا التشكيل.(138/45)
[35] انظر مثلاً محمد الغزالي: دفاع عن العقيدة والشريعة ضد مطاعن المستشرقين. – القاهرة: دار الكتب الحديثة، 1965م. – ص8. وانظر أيضاً محمد أحمد دياب. أضواء على الاستشراق والمستشرقين. – القاهرة: دار المنار، 1410هـ – 1989م. – ص147 – 159. وقد ركزت كثير من الإسهامات على أبرز التلاميذ. وأظن أن الأمر ليس مقصوراً عليهم وحدهم فحسب، فالتلاميذ كثر البارز منهم وغيره.
[36] W. Montgomery Watt. Muhammed at Mecca Kqrachi. Oztord University Press. 1979, P. 100-109.
وقد تصدى للوقوف على هذا العمل مجموعة من المؤلفين المسلمين، وبينوا ارتباطه بالغايتين اللتين ورد ذكرهما آنفاً، انظر مثلاً: فهمي الشناوي. من وراء سلمان رشدي: أسرار المؤامرة على الإسلام. القاهرة: المختار الإسلامي، د.ت. – ص101 ورفعت سيد أحمد. آيات شيطانية: جدلية الصراع بين الإسلام والغرب. القاهرة: الدار الشرقية، 1409هـ – ص196. وأحمد ديدات. شيطانية الآيات الشيطانية وكيف خدع سلمان رشدى الغرب – نقله إلى العربية وقدم له على الجوهرى. القاهرة: دار الفضيلة (1990م) – ص112.
[37] عز الدين إسماعيل. المصادر الأدبية واللغوية في الأدب العربي. – ط2. – القاهرة: دار المعارف، 1980م. – ص3 – 7.
[38]
Charles G. Adams. Islamic Religious Tradition.
انظر العرض عنه في دليل الدراسات العربية والإسلامية والشرق أوسطية بالجامعات الأمريكية: – مرجع سابق. حيث يقسم المؤلف المداخل لدراسة الإسلام إلى ثلاثة هي: المدخل التقليدي التبشيري، والمدخل الاعتذاري، والمدخل السلبي، ص252 – 253.
[39] السعيد الورقي. في مصادر التراث. – بيروت: دار النهضة العربية 1404هـ – 1984م. – ص86.
[40] سيد حامد النساج، رحلة التراث العربي. ط2. القاهرة: دار المعارف، 1985م. – ص36.
[41] السعيد الورقي. في مصادر التراث. ص8 – 9.(138/46)
[42] هاملتون جب. النظم والفلسفة والدين في الإسلام. – دمشق: المركز العربي للكتاب، د.ت – ص108.
[43] جرت عادة المؤلفين في الغرب على استعمال لفظ ((السرسان)) للمسلمين العرب وغيرهم، واستعمل المستشرقون الأوائل ((المحمدين)) وتطور الاستعمال واختلف من بلد أوربي إلى آخر حتى استقر على لفظ ((الأتراك)) بمعنى المسلمين منذ القرن الخامس عشر الميلادي في أوروبا، ولفظ ((الموريسكو)) في أسبانيا. واختلف الاستعمال بعد ذلك في أوروبا من الخلط الموجود بين العرب وغير العرب في الاستعمال الاستشراقي الآن.
[44] الأولى المتعالي، وهذه من هنات المترجم الذي لم يفصح عن اسمه رغم الجهد الذي قام به.
[45] النسمية استخدمها المترجم تتقابل كلمة Animism بالإنجليزية وهي تعني الاعتقاد بأن كل كائن موجود أو مخلوق من حيوان أو إنسان أو جماد وريح ونبات وما إلى ذلك له روح، وأن هذه الأرواح توجد منفصلة عن الأجساد.
[46] هاملتون جب. النظم والفلسفة والدين في الإسلام. – ص58.
[47] لو قال ((فحسب)) لما احتاج المرء معه إلى وقوف.
[48] جرت عادة كثير من المستشرقين التأكيد على اقتباس القرآن الكريم من الكتب السماوية والثقافات السابقة كما سيأتي بيانه.
[49] المرجع السابق –. ص73 – 74.
[50] المرجع السابق، ص74.
[51] جعله المترجم داخلاً تحت عنوان ((مبنى الفكر الديني في الإسلام)) ووزعه إلى أربع فقرات، الثانية منها محمد والقرآن ص66 – 77.
[52] المرجع السابق. – ص78.
[53] المرجع السابق، ص93.
[54] كان المؤلف قد ذكر في الفقرة السابقة أن القرن الأول من تاريخ الإسلام كان خالياً من المتكلمين والمتصوفة.
[55] المرجع السابق، ص98.
[56] ولفرد سميث (مولود 1916) مستشرق كندي تخرج في برنستون. درس في كندا وإنجلترا والولايات المتحدة، والكتاب نشرته جامعة برنستون سنة 1957م. انظر نجيب العقيقي. المستشرقون – 3/ 182.(138/47)
[57] الواضح أن العثمانيين كانوا قادة العالم الإسلامي امتداداً للخلافة الإسلامية. والخلط هنا في قيادة العالم الإسلامي أثناء الخلافه العثمانية وانتهاء الخلافة الإسلامية في تركيا على يد القوميين الأتراك. فالواقع يكذب (ولفرد سميث) فتركيا تحت الخلافة العثمانية كانت أشد حالاتها ضعفاً أقوى منها الآن. وما ذلت تركيا ولا عانت ولا صغرت إلا عندما تخلت عن الإسلام.
[58] عابد بن محمد السفياني، المستشرقون ومن تابعهم ومواقفهم من ثبات الشريعة وشملوها. – ص9.
[59] مورو بيرجر مستشرق يهودي أمريكي عمل في جامعة برنستون كما عمل مع مؤسسة براند التجسسية في الولايات المتحدة الأمريكية.
[60] عابد بن محمد السفياني، مرجع سابق. – ص52.
[61] إلى الآن لم يوفق العرب والمسلمون إلى إصدار دائرة معارف إسلامية موثوقة، أو موسوعة مؤصلة. انظر مناقشة هذه الفكرة في العمل الذي قام به نسيم الصمادي، دائرة المعارف العربية. أزمة فكر لا أزمة نشر. – عمان: دار الكرمل، 1988م. – ص85.
[62] مستشرق أمريكي (1863 – 1943م). كان صديقاً لنيكلسون. أسهم في إنشاء المعاهد والدوريات بمعاونة زويمر وسارتون. انظر نجيب العقيقي. المستشرقون. – 3/ 136 – 137.
[63] كريستيان سنوك هورجورنيه (1857 – 1936م) مستشرق هولندي تعلم في ليون على (( دي خويه)). وعلى ((نولدكه)). ورحل إلى جاوة، وزار مكة المكرمة متسمياً بعبدالغفار ووضع في الحج كتاباً، وله آثار أخرى. انظر قاسم السامرائي، الاستشراق بين الموضوعية والافتعالية. – الرياض: دار الرفاعي، 1483هـ – 1983م. – ص110 – 137.
[64] د.ب. ماكدونالد. ((إجماع)) في دائرة المعارف الإسلامية – يصدرها باللغة العربية أحمد الشنتناوي وإبراهيم زكي خورشيد وعبدالحميد يونس. – بيروت: دار المعرفة، د.ت. – 1/ 438 – 440.(138/48)
[65] بدأت فكرة ترجمة معاني القرآن الكريم في القرن الأول الهجري – السابع الميلادي، وترجمت المعاني إلى ما يربو على مائة وإحدى وعشرين لغة في أنحاء العالم منها ثماني لغات أوروبية هي الألمانية والإنجليزية والإيطالية والروسية والفرنسية والإسبانية واللاتينية والهولندية على الترتيب حسب عدد الترجمات. انظر مناقشة ترجمات معاني القرآن الكريم في: محمد صالح البنداق. المستشرقون وترجمة معاني القرآن الكريم. – بيروت: دار الآفاق الجديدة، 1483هـ – 1983م. – ص240.
[66] جورج سيل (1697 – 1736م) بفتح السين. مستشرق إنجليزي. هوى الاستشراق واشتد اهتمامه بالإسلام. مقدمته لترجمة معاني القرآن الكريم هي ((بمثابة مقالة إضافية عن الدين الإسلامي حشاها بالإفك واللغو والتجريح)) انظر نجيب العقيقي. المستشرقون. – 2/ 47.
[67] محمود حمدي زقزوق. الاستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضاري. – الدوحة: رئاسة المحاكم الشرعية والشئون الدينية في دولة قطر، 1404هـ. – ص83 (سلسلة كتاب الأمة/ 5).
[68] البر كاسميرسكي (1808 – 1887م) مستشرق بولوني، كتب بالفرنسية، متهم في أمانته العلمية. انظر نجيب العقيقي. المستشرقون. – 2/ 498 – 499.
[69] محمود حمدي زقزوق. الإسلام في تصورات الغرب. – القاهرة: مكتبة وهبة، 1407هـ. ص23 – 24. وانظر للمؤلف الاستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضاري. – ص83.
[70] إبراهيم خليل أحمد. الاستشراق والتبشير وصلتهما بالإمبريالية العالمية. – القاهرة: مكتبة الوعي العربي، (1973م). – ص67 – 68.
[71] ول ديورانت. قصة الحضارة. – مج4، ج2 – ترجمة محمد زيدان. – بيروت: الإدارة الثقافية في جامعة الدول العربية، د.ت. – ص46.
[72] عبدالله بن هشام المعافري. السيرة النبوية لابن هشام. – القاهرة: مكتبة الكليات الأزهرية، د.ت – 3/ 218.(138/49)
[73] وعند ابن سعد قوله عن غزوة خيبر: ((وفي هذه الغزاة سمت زينب بنت الحارث امرأة سلام بن مشكم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أهدت له شاة مسمومة فأكل منها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وناس من أصحابه فيهم بشر بن البراء بن معرور فمات منها)) محمد بن سعد. الطبقات الكبرى. – ,ج. – بيروت: دار صادر، 1485هـ – 1985م. – 2/ 187.
[74] ونصه في مسند الإمام أحمد ((عن أنس بن مالك أن يهودية جعلت سماً في لحم ثم أتت به رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فأكل منه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال: إنها جعلت فيها سماً. قالوا ألا نقتلها؟ قال: لا قال: فجعلت أعرف ذلك في لهوات رسول الله – صلى الله عليه وسلم –)) انظر أحمد عبدالرحمن البنا. الفتح الرباني 22/ 66.
[75] مصطفى السباعي، السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي. – ط2. – بيروت: المكتب الإسلامي، 1396هـ. – ص230 – 231. وينقل الذهبي عن عبدالله بن إدريس قوله: ((ما أحد في ابن إسحاق أثبت من زياد البكائي لأنه أملى عليه مرتين)) انظر محمد بن عثمان الذهبي. سير أعلام النبلاء. – 23 مج. – بيروت: مؤسسة الرسالة، 1482هـ – 1982م. – 9/ 5 – 6.(138/50)
[76] عبدالعظيم الديب. المستشرقون والتراث. – المحرق (البحرين): مكتبة ابن تيمية، 1406هـ – 1986م. – ص30 – 31. ويقول الأستاذ فؤاد سزكين: ((وبدون أن يفهم جولدتسيهر المعنى الدقيق لمصطلح ((كتاب)) أو ((كتابة)) فقد أخطأ في تفسيره لعبارة الزهري: كنا نكره كتابة العلم حتى أكرهنا عليه هؤلاء الأمراء فرأينا ألا نمنعه أحداً من المسلمين)). وقد فهم جولدتسيهر من هذا النص أن الزهري اعترف بأنه – على هذا النحو – قد مكن الأمويين من الحصول على ذرائع دينية تخدم مصالح أسرتهم الحاكمة)). انظر فؤاد سزكين، تاريخ التراث العربي – 1 –. – المجلد الأول، الجزء الأول في علوم القرآن والحديث. – نقله إلى العربية محمود فهمي حجازى. – الرياض: جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، 1403هـ. – ص141.
[77] ول ديورانت. قصة الحضارة. – مرجع سابق – ص77 . وذكره عبدالعظيم الديب في المستشرقون التراث. – ص32 – 33.
[78] انظر على سبيل المثال ابن الأثير، علي بن محمد الجزري. – أسد الغابة في معرفة الصحابة. – 6ج. – د.م: الفكر. د.ت. – 2/99.
[79] ول ديورانت، قصة الحضارة. – مرجع سابق. – ص92. وذكره عبدالعظيم الديب في المستشرقون والتراث. – ص34 – 36.
[80] المرجع نفسه، ص91.(138/51)
[81] انظر إشارة إلى هذا عند أحمد أمين. هارون الرشيد. – القاهرة: دار الهلال 1951م. – 1370هـ. – ص219. مع أن الكتاب كله فيه رائحة التأثر بآراء المستشرقين حول الرشيد وحاضرة الإسلام بغداد والحضارة الإسلامية رغم عدم وجود مراجع للكتاب تدل على هذا الحكم نفياً أو إثباتاً. ولكننا تعودنا من أحمد أمين هذا التأثر في أعماله المشهورة التي مر ذكرها في بداية هذه الوقفة. وعند الذهبي أنه ((كان يصلي في خلافته كل يوم مائة ركعة إلى أن مات، ويتصدق بألف، وكان يحب العلماء ويعظم حرمات الدين، ويبغض الجدال والكلام، ويبكي على نفسه ولهوه وذنوبه، لاسيما إذا وعظ)). انظر محمد بن شاكر الكتبي فوات الوفيات. والذيل عليها. – 5ج. – تحقيق إحسان عباس. – بيروت: دار الثقافة، 1974م. – 4/ 225 – 227. وكان قد مات – رحمه الله – في غزوة من غزواته بخراسان في 3/ 6/ 193هـ وقبره بمدينة طوس.
[82] ج. فان فلوتن (1866 – 1903م). ذكره نجيب العقيقي مع المستشرقين الهولنديين. وذكر آثاره ولم يذكر منها كتاب (السيطرة العربية) وذكر من آثاره كتاب (الفتح العربي وبعض العقائد في عصر الأمويين). انظر: المستشرقون. – 2/ 316 – 317. ويذكر قاسم السامرائي أن وفاته كانت سنة 1902م وأنه تلميذ ((دي خويه)). انظر: الاستشراق بين الموضوعية والافتعالية. – ص123. وذكره عبدالرحمن بدوي وأشار إلى كتابه بعنوان: (أبحاث في السيطرة العربية والتشيع والعقائد المهدوية في عهد الخلافة الأموية). انظر: موسوعة المستشرقين. – ط2. – بيروت: دار العلم للملايين، 1989م. ص285.
[83] عبدالعظيم محمود الديب، المنهج في كتابات الغربيين.. – ص76.
[84] ابن جرير الطبري. تاريخ الرسل والملوك. – تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم. – 6ج. – القاهرة: دار المعارف، 1963م. – 6/ 157. والمقصود بـ(2/ 806) في نقل ((فان فلوتن)) الورقة السادسة بعد الثمانمائة من الجزء الثاني من المخطوط.(138/52)
[85] عبدالعظيم محمود الديب. المنهج في كتابات المستشرقين – ص7 – 125. وقد أورد المؤلف أمثلة لكل مجال من المجالات، فيعاد إليها للاستزادة، وبعضها مبثوث في هذه الوقفة مأخوذ عن المؤلف. وانظر أيضاً: عماد الدين خليل. ((المستشرقون والسيرة النبوية)). في: الإسلام والمستشرقون. – تأليف نخبة من العلماء المسلمين. – جدة: عالم المعرفة، 1485هـ – ص274.
[86] الأب هنري لامانس (1862 – 1937م) مستشرق بلجيكي وراهب يسوعي شديد التعصب ضد الإسلام. ((يفتقر افتقاراً تاماً إلى النزاهة في البحث والأمانة في نقل النصوص وفهمها)). تعلم في الكلية اليسوعية ببيروت، وعلم فيها، أدار مجلة ((المشرق)) ومجلة تنصيرية اسمها ((البشير)) كتب في السيرة والخلافة الأموية. انظر عبدالرحمن بدوي. موسوعة المستشرقين. – ص347 – 349.
[87] عبدالرحمن بدوي. موسوعة المستشرقين. –348 – 349.
[88] وهذا ما يمليه علينا قوله تعالى من الآية الثامنة من سورة المائدة "يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط، ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى، واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون".
[89] عبدالعظيم الديب. المستشرقون والتراث. – ص46. وقد اقتصرت دراسة الدكتور عبدالعظيم الديب على الأجزاء الثلاثة الأولة. ولابد من ملاحظة أن كتاب عبدالجبار عبدالرحمن (ذخائر التراث العربي الإسلامي) يعد عالة على إصدارات صلاح الدين المنجِّد (معجم المخطوطات العربية) ولابد كذلك من ملاحظة أن هناك مخطوطات منشورة من تحقيقات المستشرقين منثورة في الدوريات الاستشراقية لمَّا ترصد. وقد حاول على البواب استدراكها في عدة من أعداد من مجلة عالم الكتب (الأعداد الأربعة من المجلد التاسع (1408 – 1409هـ) والعدد الأول من المجلد العاشر (رجب 1409هـ) وهاتان الملحوظتان قد تقللان من دقة البيانات المستقاة من الكتابين لعدم شمولهما.(138/53)
[90] المرجع السابق، ص13. وقد يشكك في الثقة في استخدام العينة وأنها لا تعطي نتائج ثابتة، ويفضل أخذ العمل كاملاً كما هي الحال مع كتاب (معجم المخطوطات العربية) لصلاح الدين المنجِّد. وعلى أي حال إذا أضيفت هذه الملحوظة مع الملحوظتين السابقتين تأكد أن مثل هذا المسح إنما يعطي إشارات تمكن من الوصول إلى نتائج أولية، وإن بقي في النفس شيئ من رغبة في مسح جميع ما نشر من مخطوطات على أيدي المستشرقين واستقراء هذا المنشور من حيث الاتجاهات الفكرية للمنشورة. ولعل هذه الوقفة تمتد إلى مثل هذا في مجال آخر بإذن الله.
[91] عبدالعظيم الديب. المستشرقون والتراث. – ص33 – 26.
[92] سامي الصقار. ((دور المستشرقين في خدمة التراث الإسلامي)) المنهل. – مج 50، ع471، السنة 55. – ص142 – 167. ويؤكد الدكتور الصقار في إسهامات أخرى على الإشادة بأعمال المستشرقين في مقابل غمط الحق مما تأباه الروح الإسلامية.
[93] مصطفى السباعي، الاستشراق والمستشرقون: ما لهم وما عليهم. – ط3. – بيروت: المكتب الإسلامي، 1405هـ – 1985م. – ص12 – 13.
[94] المرجع السابق. – ص13.
[95] أرنت يان فنسنك (1882 – 1939م) مستشرق هولندي كان تلميذاً لهوتسما، ودي خويه، وهورجرونيه وسخاو. رسالته للدكتوراة كانت عن ((محمد واليهود في المدينة)) استعان بمائة وثلاثين باحثاً لوضع المعجم المفهرس من سنة 1916م. انظر عبدالرحمن بدوي. موسوعة المستشرقين. – ص289 – 290.
[96] جوستاف فلوجل (1802 – 1870م) درس اللغات الشرقية في لايبزج، ثم أقام في فينا وباريس ثم عاد لألمانيا. وعمل على وضع فهارس للمخطوطات العربية والفارسية والتركية في مكتبة فينا. توفي في درسدن. انظر نجيب العقيقي. المستشرقون. – 2/ 363 – 364.
[97] ذكره عبدالستار الحلوجي في المرجع التالي. ولم أقف له على ترجمة في مظانه.(138/54)
[98] عبدالستار الحلوجي. ((جهود المستشرقين في مجال التكشيف الإسلامي)) في: مجلة كلية اللغة العربية والعلوم الاجتماعية بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، ع6 (1396هـ 1976م)، ص723 – 749.
[99]
Fischer und E. Braunlich. Shawahid – Indices. Osnabruk Otto Zeller, 1982 – 352 P.P.
[100] سامي الصقار ((دور المستشرقين في خدمة التراث الإسلامي)). المنهل. ص156. وانظر مناقشة الفهارس عند أحمد محمد شاكر في مقدمة الجامع الصحيح وهو سنن الترمذي، بتحقيق وشرح أحمد محمد شاكر. – 5ج. – بيروت: دار إحياء التراث العربي، د.ت. – 1/ 43. 62.
[101] فؤاد سزكين. تاريخ التراث العربي: مجموعات المخطوطات العربية في مكتبات العالم. نقله إلى العربية محمود فهمي حجازي. الرياض: جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، 1402هـ – 1982م. 281ص. وانظر أيضاً مناقشة فهارس المخطوطات عند عبدالستار الحلوجي. ((فهارس المخطوطات)). في: دراسات في الكتب والمكتبات. ص155 – 168.
[102] كارل بروكلمان. تاريخ الأدب العربي. ج4 نقله إلى العربية السيد يعقوب بكر ورمضان عبدالتواب. القاهرة: دار المعارف، (1983م). ص20 – 40. وبروكلمان (1868 – 1956م) مستشرق ألماني تخرج باللغات السامية. وكتب بالعربية وبالتاريخ الإسلامي، وتاريخ الأدب العربي، له آثار كثيرة، انظر نجيب العقيقي المستشرقون – 2/ 424 – 430.
[103] سعد المرصفي. أضواء على أخطاء المستشرقين في المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي. – الكويت: دار القلم، 1408هـ – 1988م. – 210ص.
[104] المرجع السابق، ص76.
[105] المرجع السابق، ص90.
[106] المرجع السابق، ص96.
[107] المرجع السابق، ص123.
[108] المرجع السابق، ص137.
[109] المرجع السابق، ص149.
[110] المرجع السابق، ص177.
[111] أحمد محمد شاكر. في الجامع الصحيح، 1/ 19 – 20.
[112] المرجع السابق، 1/ 20.(138/55)
[113] انظر على سبيل المثال: محمد صالح البنداق. المستشرقون وترجمة القرآن الكريم. – مرجع سابق. ومحمد حسين علي الصغير. المستشرقون والدراسات القرآنية. – بيروت. المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، 1403هـ – 1983م. – ص134. وزاهر عواش الألمعي. مع المفسرين والمستشرقين في زواج النبي – صلى الله عليه وسلم – من زينب بنت جحش: دراسة تحليلية. – ط4 – (الرياض: المؤلف)، 1403هـ – 1983م – 127ص.
[114] انظر مثلاً نذير حمدان. الرسول – صلى الله عليه وسلم – في كتابات المستشرقين. – ط2. جدة: دار المنارة، 1406هـ – 1986م. – 207ص. ومحمد سرور بن نايف زين العابدين. دراسات في السيرة النبوية. – برمنجهام: دار الأرقم، 1407هـ – 1986م. – 366ص. وجوستاف بفانمللر. سيرة الرسول في تصورات الغربيين. – ترجمة محمود حمدي زقزوق. – المحرق (البحرين): مكتبة ابن تيمية، 1406هـ – 1986م. – ص56.
[115] انظر مثلاً سعد المرصفي. أضواء على أخطاء المستشرقين في المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي. – مرجع سابق.
[116] انظر مثلاً عجيل جاسم النشمي. المستشرقون ومصار التشريع الإسلامي. – الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 1404هـ – 1984م. – ص256.
[117] انظر زيد بن أحمد بن زيد العبلان. الدراسات الاستشراقية في ضوء العقيدة الإسلامية: دراسة ومناقشة وتحليل. – بحث مقدم لنيل درجة الماجستير في العقيدة إلى قسم العقيدة والمذاهب المعاصرة بكلية أصول الدين بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، 1406هـ. – ص613 (مخطوطة).
[118] انظر مثلاً شوقي أبو خليل، موضوعية فيليب حتى في كتابة تاريخ العرب المطول. – دمشق دار الفكر للطباعة والتوزيع والنشر، 1406هـ – 1985م، – ص223. وعبدالكريم علي الباز. افتراءات فيليب حتى وكارل بروكمان على التاريخ الإسلامي. جدة: تهامة، 1403هـ. – ص174.(138/56)
[119] ينقل سامي الصقار عن مجلة المسلمون ع5 15/ 2/ 1402هـ – 27/ 11/ 1981م. ص42 من مقال للمستشرقين الأمريكي ((دونالد ليتل)) قوله: ((نعم؛ الاستشراق ليس شراً كله، كما يعتقد البعض ممن ترسبت في نفوسهم الكراهية للغرب الاستعماري، حتى أغلقوا وأيقنوا أن كل ما يهب من الغرب لا يمكن إلا أن يكون رياح المؤامرات والدس والفتن والكيد للإسلام والمسلمين. وفي هذا ظلم كبير لبعض المستشرقين ولأنفسنا أيضاً، لأننا بهذا الموقف نحرم ثقافتنا الإسلامية من ثمار عقول لا يحركها إلا حبها للحقيقة، ونقيم حاجزاً بين أنفسنا وبين علماء ينفقون سنوات عمرهم في محاولة الاقتراب منا وإستيعاب ثقافتنا وفهمها)) انظر ((دور المستشرقين في خدمة التراث الإسلامي)) المنهل. – مرجع سابق. ص143. وكلام ((ليتل)) يوحي بالانتماء للإسلام، فإن يكن مسلماً فإنه حينئذ لا يصدق عليه أن يقال عنه إنه مستشرق. ومن غير الصواب قول بعضهم عن مستشرق أسلم المستشرق المسلم. إذ لا يجتمعان.
[120] انظر المناقشة الجيدة للموسوعة العربية عند نسيم الصمادي، دائرة المعارف العربية: أزمة فكر لا أزمة نشر، مرجع سابق.
[121] انظر المناقشة الجيدة لتجميع التراث المخطوط عند عبدالستار الحلوجي. ((نحو خطة عربية لتجميع تراثنا المخطوط)) في: دراسات الكتب والمكتبات. مرجع سابق. ص169 – 181.
[122] وانظر أيضاً المناقشة الجيدة حول دراسة المخطوط عند عبدالستار الحلوجي. ((مسؤولية جامعاتنا تجاه تراثنا المخطوط)) في المرجع السابق، ص183 – 190.(138/57)
العنوان: إغارة أستاذ جامعي على كتاب "تتمة الأعلام"
رقم المقالة: 532
صاحب المقالة: محمد خير رمضان يوسف
-----------------------------------------
الأستاذ الجامعي يوسف بن عبدالرحمن المرعشلي يستولي على أكثر من (550) ترجمة من "تتمة الأعلام" ما يعادل (أكثر من 400 صفحة)، في كتابيه "نثر الجواهر" وذيله "عقد الجوهر"!!
توطئة وتعريف:
ولع أهل التراجم بأن ينقلوا من أمير المؤمنين في الحديث محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله قوله: "أرجو أن ألقى الله عزَّ وجلَّ ولا يحاسبني أني اغتبت أحداً"!
ينقلون منه هذا لا للفتِ النظر إلى مناقبه العظيمة فقط، وإنما لمعرفتهم بصعوبة ذلك على أهل الحديث خاصة، وهم يعدِّلون ويجرِّحون، فلابدَّ من الحديث عن الرواة في غيبتهم، رضوا أم سخطوا، وأحياءً كانوا أم أمواتاً... وما أراه قال ذلك إلا بعد أن صنَّف كتابه "التاريخ الكبير" وربما "الأوسط" و"الصغير"، وكلها تراجم وسير وأحوال رواة. ولم يقل الإمام البخاري ذلك عُجباً وافتخاراً، فلا يعرف عنه هذا قط، وهو الذي تأدَّب بآداب النبوة، وزهد بما في الحياة إلا العلم والعبادة، ولكنه قال ذلك تنبيهاً وتعليماً لأهل الحديث والمهتمين بالتراجم والسير، بأنهم في خطر ما لم يكونوا كذلك، فإن الغيبة من الكبائر، ولا ينجو منها إلا من رحم الله، وقد وقع فيها كثير من العلماء، من حيث يدرون أو لا يدرون.
وقد ابتليتُ بالاهتمام بالتراجم وفيها ما ذُكر، وكلما ابتعدت عنها رأيتني عدت إليها مدفوعاً بطبيعتي وكأنها هوايتي المفضلة. وقد قدمت في هذا الموضوع أكثر من (30) كتاباً بفضل الله ومنِّه وكرمه. والله المستعان.
وهذا كتاب صدر وكأنني أرغمت على التعقيب عليه، بعد أن أعرضت عنه مدة، وأنا أدعو الله ألاّ أزعج صاحبه، وألاّ أجرح شعوره، ولا أغتابه، على الرغم من أنه يستحقُّ التأنيب والتقريع الشديد.(139/1)
ولأذكّر القارئ الكريم أولاً بكتابي "تتمة الأعلام" الذي صدرت طبعته الأولى سنة 1418هـ ويقع في مجلدين، بآخره مستدرك. ويحتوي على أكثر من (2000 ترجمة). وصدرت طبعته الثانية عام 1422هـ، وبآخره مستدرك آخر، ولا علاقة للطبعة الثانية بهذا التعقيب، فإن المؤلف اعتمد على الأولى. ويحتوي على وفيات (20) عاماً، من 1396-1415هـ.
والكتاب المطروح في هذا البحث هو أصل وذيل.
أما الأصل فهو "نثر الجواهر والدرر في علماء القرن الرابع عشر" من إعداد الدكتور يوسف بن عبدالرحمن المرعشلي، صدر عن دار المعرفة ببيروت سنة 1427هـ، ويقع في 1687ص.
والذيل هو: "عقد الجوهر في علماء الربع الأول من القرن الخامس عشر"، للمؤلف نفسه، وهو تكملة للصفحات السابقة، حتى ص 2199 الذي هو نهاية الكتاب.
فالذيل يقع في (510 ص)، ويتبيَّن للقارئ أنه مجلد متكامل، وكان الأَولى أن يكون في جزء مستقل.
وقد احتوى الأول على وفيات (1301-1400هـ)، والذيل على وفيات (1401هـ حتى ما بعده، لعله سنة 1422هـ).
وملخص القول في هذا التعقيب أن المؤلف المحترم أخذ من كتابي تتمة الأعلام معظم مادة كتابه من وفيات (1396هـ - 1415هـ) دون الإشارة إلى المصدر، بالحرف والنص، إلا ما شذ وندر، وهو ما لا حكم له، وذلك على التفصيل الآتي.
وقبل التفصيل أود أن أحيط القارئ بشيء من ترجمة المؤلف المذكور بإيجاز، كما أوردها في آخر كتاب "عقد الجواهر".(139/2)
فهو الدكتور يوسف بن عبدالرحمن المرعشلي، من مواليد بيروت 1372هـ، حاصل على شهادة "الدكتوراه اختصاص" من جامعة القديس يوسف في بيروت سنة 1404هـ عن تحقيق كتاب "المكتفى في الوقف و الابتدا"، ثم على "الدكتوراه آداب" منها أيضاً سنة 1410هـ عن موضوع علم غريب القرآن. قال وفقه الله: وهي أعلى شهادة تمنحها الجامعة! وافتتح مركزاً للبحث وتحقيق المخطوطات يتبع مؤسسة عالم الكتب، ثم آخر يتبع دار المعرفة. ودرَّس التفسير والتجويد في المعهد العالي للدراسات الإسلامية ببيروت، وعمل باحثاً في مركز خدمة السنة والسيرة النبوية بالمدينة المنورة. وعاد إلى بيروت ليدرِّس الحديث والفقه الشافعي بجامعة بيروت العربية. وذكر لنفسه (185) شيخاً أجيز منهم، مع مؤلفات وتحقيقات بلغت ( 52) كتاباً.
ونعود إلى الكلام على كتابيه "نثر الجواهر" و "عقد الجوهر"، اللذين ما إن قدّمهما إلي أحد الإخوة المهتمين بالتراجم، حتى أكبرتهما ودعوتُ لمؤلفهما بالخير والثواب، لكن قال لي صاحبي: إنه أخذ منك الكثير. فقلت: هنيئاً له، أخذ الصفوة من كتابي، فهو أفضل منه. فعجب وسكت على مضض، وكأنه تركني حتى أراه!
وما إن قلبت صفحاته حتى صُدمت، فهو ينقل من "الأعلام" للزركلي كما ورد دون زيادة أو نقص، ويكتب المراجع التي اعتمد عليها الزركلي في آخر الترجمة وبآخرها كتابه، ويعني هذا أن "الأعلام" هو أحد المصادر التي اعتمد عليها المؤلف، في حين أنه كله، فهو لم يعتمد على أي مصدر من تلك المصادر التي أوردها!
وعندما وصلت إلى ما نقله من "تتمة الأعلام" كانت الصدمة أكبر! فهو لا يذكره أصلاً، بل يورد جميع الهوامش التي اعتمدتُ عليها فقط! وهذا يعني أنها مصادره هو، وأنه هو الذي كتب الترجمة، وهذا في جميع التراجم التي أخذها من التتمة، مع النقل الحرفي متناً وهامشاً، إلا ماندر، كأن أتحدث عن علاقتي بالمترجم له وما إليه، وهو لا يتعدى بضع تراجم، فيحذفه.(139/3)
ولم يذكر "التتمة" في كتابيه جميعاً "الأصل والذيل" سوى (19 مرة) من أصل (576) ترجمة التي تخص السنوات 1396-1415هـ، يعني أنه أخذ (557) ترجمة من كتابي دون أن يشير إلى ذلك!!
إحصائية موثقة:
أذكر هنا إحصائية دقيقة في ذلك. وأورد الأسماء أيضاً (فهي قليلة)، ولا أشير إلى الصفحات، فالتراجم مرتبة ألفبائيًّا:
أولاً: نثر الجواهر والدرر في علماء القرن الرابع عشر:
يحتوي على تراجم علماء القرن الرابع عشر من سنة1301هـ-1400هـ.
والذي يهمني من بينها هو السنوات 1396-1400هـ، التي تخص كتابي تتمة الأعلام. فقد أورد فيها (124) ترجمة من وفيات خمس السنوات المذكورة، بينها 76 ترجمة نقلها من تتمة الأعلام، ذكر فيها المصدر "تتمة الأعلام" (5) مرات فقط، وهم (أحمد بن عبدالمجيد الساعاتي، أحمد بن محمد سعيد الإدلبي، علي عبدالعظيم، محمد حسين الذهبي، محمد الشامي)
أما باقي المترجم لهم ممن لم أوردهم في التتمة، فهم على التفصيل التالي:
1 - التراجم التي أوردتها وأوردها هو كذلك، وكلانا اعتمد على المصادر نفسها، وقد أزيد، ويزيد هو، ولم ينقل من التتمة إلا ما أشيرُ إليه من أشياء جانبية، وعددها (15) ترجمة، على النحو التالي:
أحمد محمد الدقر، ثابت الحلواني، آخر اسمه حسن (فاتني تقييد اسمه الكامل) اعتمد على مصد آخر، وذكر مصادر التتمة معها، حسن حبنكة، الصادق الفقي، عبدالقادر العاني، عبدالماجد العاني، آخر لعل اسمه علي، فاطمة اليشرطية، محمد بهجة البيطار، محمد حسام الدين الدمشقي، محمد الصالح بن مراد، محمد الهادي العامري، محمد وفا القصاب، مصطفى الفرا.
2 - التراجم التي أوردتها وأوردها هو، واعتمد فيها مصادر أخرى غير التي اعتمدت عليها، ولم يأخذ من التتمة إلا ما أشير إليه، وعددها( 13) ترجمة، وهم:(139/4)
حسن بن عمير الشيرازي، خيرو ياسين، زين العابدين التونسي، سليمان الحمدان، عبدالله الجرافي، عبدالله بن علي العمودي، عبدالرزاق الحفار، عبدالسلام التركي، عثمان الكعاك، محمد سعدي ياسين، محمد سعيد الحمزاوي، محمد يوسف البنوري (أورد نموذج خطه من التتمة)، نديم الجسر.
3 - التراجم التي أوردها هو ولم أوردها، من أسباب ذلك أنهم ليسوا "أعلاماً"، كما فاتني ذكر بعضها وأوردتها في المستدرك الثاني الذي لم يعتمد عليه المؤلف، وبعضها محفوظ عندي، وعددها (20 ترجمة) وهم:
أحمد محيي الدين حرب، وآخران فاتني ذكرهما لعل اسمهما أحمد، خالد عثمان المخلافي، سعيد السيد أبولحاف، عبدالحسيب عدي، عبدالحميد كريم، عبدالسلام بن سودة، عبدالعزيز عيون السود، عبدالكريم بن سودة، علي العطاس الشكيني، قاسم البحر، محمد الحافظ التجاني، محمد خليفة نده، محمد سليم اللنبي، محمد سليم رحمة الله العثماني، محمد الطالب بن سوده، محمد عبدالرحمن العراقي، محمد الهادي اليشرطي، مهدي العلوي.
وما عدا ذلك فقد أخذه كله من تتمة الأعلام، ولم يشر إليه سوى (5) مرات كما قلت!
ثانياً: عقد الجوهر في علماء الربع الأول من القرن الخامس العشر:
وفيه وفيات 1401-1422هـ، وهو تتمة للكتاب السابق، ويقع في (510 ص). أورد فيها (611) ترجمة، (44) من هذه التراجم لا علاقة للتتمة بهم، فهم إما أعلام توفوا بعد 1415هـ، أو أنهم ماتوا بعد ذلك ولم بعرف المؤلف وفاتهم فتركهم هكذا، أو أنهم معاصرون (أحياء).
فالمقصود (567) ترجمة،بينها مما نقله من "تتمة الأعلام" (500) ترجمة، لم يشر من بينها إلى التتمة سوى (14) مرة، ذكر بينها عنوان "ذيل الأعلام" بدل "التتمة" (5) مرات، لكنه متبوع باسمي، فيعرف أنه المقصود، وهم : (إبراهيم محمد الزفنكي، أحمد أومري، أحمد التجاني عمر، أحمد الحسين العاكولي، أسعد سيد أحمد).(139/5)
والذين وثقهم في الهامش بعنوان تتمة الأعلام: (عبدالواحد الخلجي، عز الدين أحمد الخزنوي، محمد أديب الكيلاني، محمد الأمين سيسي، محمد الأهدل، محمود شبكة، محمود عبدالدائم علي، محمود ناظم نسيمي،يوسف الكربوزي.
وهذه إحصائية موثقة بذلك في كتاب "عقد الجوهر":
1 - التراجم التي أوردتها وأوردها هو كذلك، وكلانا اعتمد على المصادر نفسها، وقد أزيد ويزيد هو، ولم ينقل فيها من التتمة، (وعددهم 36 ترجمة) على النحو التالي:
إبراهيم إسماعيل اليعقوبي، إبراهيم بن عمر بن عقيل، أحمد عبيد، أحمد القهوجي الرفاعي، أحمد محمد ناصيف، أنور محمد سليم سلطان، بشير الجلال، حبيب الرحمن الأعظمي، حبيب الحلاق، حسين خطاب، رشدي عرفة، رمزي البزم، رمضان البوطي، شوكت الجبالي، عبدالرحيم الشاطر، عبدالقادر حتاوي، عبدالقادر بركة، عبداللطيف الأحمر، عبدالهادي قدور الصباغ، علي سليق، علي محمود بن الخوجة، عمر بدران، فوزي النابلسي، محمد بدر الدين الغلاييني، محمد دهمان، محمد بشير الشلاح، محمد رشيد الخطيب، محمد رفيق السباعي، محمد سهيل الخطيب، محمد شمس الدين المولوي، محمد عبدالقادر المبارك، محمد علي الجمال، محمد فخر الدين الحسني، محمد لطفي الفيومي، ناظم الكزبري، نور الدين الحمدوني.
2 - التراجم التي أوردتها وأوردها هو، واعتمد على مصادر أخرى غير التي اعتمدت عليها، ولم يأخذ من "تتمة الأعلام" سوى ما أشير إليه (وعددها 19 ترجمة) وهم:(139/6)
أحمد عساف، إسماعيل الزين، حسن دمشقية، خديجة الخاني، زكريا ميلاد، سعيد الأحمر، شكري فيصل (ذكر أنه من بين ما اعتمده مذكرات المؤلفين، وهذا يشبه أسلوب صاحبي إتمام الأعلام)، صبحي الصالح، عبدالله محمد الغماري (اعتمد في ترجمته على مصادر أخرى، لكنه أخذ عناوين مؤلفاته كلها من تتمة الأعلام)، محمد صالح الخطيب، محمد صالح الفرفور، محمد عبدالله الخطيب، محمد أبو الفرج الخطيب، محمد أبو اليسر عابدين، محمد بدرالدين عابدين، محمد مختارالدين الفلمباني، محمد وحيد جباوي، محمود الرنكوسي، مصطفى جويجاتي.
3 - التراجم التي أوردَها ولم أوردْها، وهي التي تقع بين وفيات 1401-1415هـ، ولم أذكرها لأسباب: إما لأني وجدتها ولم أوردها لأنها ليست أعلاماً، أو لأني ذكرتها في المستدرك الثاني الذي لم يعتمد عليه المؤلف، أو لأنها عندي مخطوطة في مستدرك آخر، أو أنه فاتني ذكرها وهي قليلة جداً، (وعددها جميعاً 14 ترجمة) وهي:
أحمد ملحم، أديب جمعة زبادنة، حسن محمد تميم، زكي الموصلي، عبدالله قزيها، عبدالحميد حباب، عبدالرحمن أحمد التلمساني، قاسم الشماعي، محمد بن علي الشرفي، محمد بن الحاج محمد مسلم الغنيمي، محمد يحيى الأهدل، مختار العلايلي، هاشم العيطة.
4 - أما الذين توفوا بعد 1415هـ، هم ممن لا يدخلون في أعلام "التتمة" فعددهم 25 ترجمة.
وأما الذين لم يؤرخ وفاتهم، إما لأنهم أحياء، أو لأن المؤلف لم يعرف تاريخ وفاتهم، فعددهم 19ترجمة.(139/7)
وإذا عرفت - بعد هذا - أن الذين ذكرهم المؤلف في "عقد الجوهر" (611 ترجمة) فيها (500) ترجمة من "تتمة الأعلام"، فاقرأ ما قاله المؤلف في مقدمة كتابه هذا، وأنه بعد فراغه من "تأليف" كتابه "نثر الجواهر" واستخارته في جمع ذيل له يذكر فيه علماء الربع الأول من القرن الخامس عشر الهجري، قال: "وكثير منهم ممن عاصرتهم وتتلمذت عليهم، وذلك رعاية لحقهم وبرًّا بهم، فهم أنسابي في الدين، وصلتي إلى سيد المرسلين". وذكرت يا أخي المؤلف أنك سعيت جهدك "القاصر في جمع ما أستطيع من تراجم... وذلك بحسب ما تسعفني المصادر...".
فما رأي القارئ فيما قاله المؤلف؟
بل أخاطب المؤلف نفسه وأقول: أًبحثتَ حقاً عن مصادر يا أخي الكريم حتى تسعفك لتورد غير الذي أوردته، أم أنك اقتصرتَ على جهود من جمعها واكتفيتَ بما سهل عليك و تيسَّر؟
لقد تيسَّر لي بحمد الله وتوفيقه مئات التراجم الجديدة لأفذاذ من العلماء وآخرين مغمورين ممن فاتني ذكرهم سابقاً أو استجدَّت وفاتهم من بعد، ضمن أكثر من أربعة آلاف ترجمة من الأعلام والمؤلفين والنساء، أدعو الله تعالى أن ييسر نشرها لتستفيد منها مرة أخرى، ولكن بالأمانة يا ابن الإسلام، يا ابن دين العلم ودين الأمانة.
في حين لم أستفد من كتابيك كليهما، اللذين زادا على الألفي صفحة، سوى ترجمة واحدة، وسنوات الوفاة لعالمين، وهم: حسن محمد تميم [هكذا أورده، والصحيح في اسم والده محمود، كما في المصدر الذي نقل منه]، ومحمد الهادي اليشرطي، وقاسم الشماعي. ومصدر ترجمة الأولين متوفر.
إشارات إلى أسلوب الأخذ من تتمة الأعلام في المتن والهامش:
لا مزيد على ما ذكرت، ومن أراد التوثق مما قلت فأمامه الكتابان في المكتبات، ليقارن ويحكم، ولكن يبدو أنه لابد من الكلام، فلعله يلفت النظر إلى ذلك أكثر، وفيه يظهر اللوم والعتب على المؤلف الكريم أكثر، باختيار ما أورده من أمثلة، وهي قصيرة وقليلة، لكن يستوحى منها التبكيت:(139/8)
- قلت في ترجمة أحمد الحسين العاكولي إنني رأيته وصليت خلفه مذ كنت طالباً في ثانوية عربستان بالقامشلي.. إلخ.. فأورده كما هو! وأشار في المصدر إلى "ذيل الأعلام" يعني التتمة. ولا تورد التراجم المنقولة كذلك.
- وفي ترجمة بكري بن عبده الحلبي قلت في الهامش: أمدني بالترجمة فلان، فقال هو كذلك، ولم يذكر التتمة.
- وقلت في ترجمة حامد بن علوي الحداد: زودنا بها الشيخ محمد الرشيد، وذكر هو أيضاً كذلك في هامش الترجمة، ولم يشر إلى التتمة، ومن المؤكد أنه لم يزوده بها.
ومثلها في ترجمة محمد عبدالقادر الحكيم...
- مفتي لبنان "حسن خالد" رحمه الله، نقل ترجمته بحروفها من التتمة، ولم يشر إلى المصدر كالعادة، وكان بإمكانه أن يحصِّل ترجمته هناك بسهولة، ولكنها السهولة، والراحة، اللتان تتطلبان هذا الفعل.
- وقلت في هامش ترجمة عبدالله عبدالغني خياط، بعد إيراد عدة مصادر: (انظر مصادر أخرى في المستدرك) فأثبته كما هو.. ولا مستدرك لديه.
- قلت في ترجمة عبدالسلام هارون إنني اطلعت على كتبه التي اشترتها مكتبة الملك فهد، وتقدمت بطلب إلى إدارة المكتبة لتقييد حواشيه... وقال هو كذلك! ولم يشر إلى المصدر.
- وفي ترجمة الأستاذ عبدالعزيز الرفاعي قلت إنه سألني قبل وفاته بأيام عن كذا.. فأورده كما هو... ولم يشر إلى التتمة في الهامش، ومثل هذا الكلام غير موجود في تلك المصادر التي أوردها، بل هو كلام من عندي...
- وقلت في ترجمة كامل البابا إنه غَيْرُ سَمِيِّه وزير الكهرباء السوري، فكتب ذلك هو أيضاً، ولم يشر...
- وعملت لمحمد أبي الفضل إبراهيم ترجمتين: في الأصل ثم المستدرك، وكتبت في الهامش الآخر: وهي الترجمة البديلة عن السابقة، فكتب هو كذلك في هامش ترجمته، ولا ترجمة سابقة له عنده!
- وفي ترجمة نعمت صدقي كتبت في هامش ترجمتها: رأيت في مقدمة كتابها "بديع صنع الله ما يفيد وفاتها... إلخ". وذكر هو ما ذكرته دون ذكر التتمة.(139/9)
- وذكرت المصدر في هامش ترجمة محمد يوسف سبتي وقلت إثره: ورد مرة سبتي وأخرى سيتي، والترجمة غير واضحة تماماً، وكتب هو كذلك في هامش الترجمة، ولم يذكر التتمة مصدراً.
* * *
ودأبه في نقل التراجم من التتمة أن ينقلها كما هي تماماً، وحتى المؤلفات التي أوردها إذا ذكرتها كاملة البيانات أوردها كاملة، وإذا اقتصرت على العنوان اقتصر فيها على العنوان..
وورد في أكثر من هامش عنده (وانظر المستدرك) نقلاً من هوامش التتمة، وهو لا مستدرك عنده كما قلت، وكما تأتي أمثلة على ذلك.
الوثائق وما إليها:
- أوردت خريطة إيران مبيناً فيها مناطق أهل السنة في ترجمة محمد بن محمد صالح ضيائي، وأوردها هو كذلك مع الترجمة، ولم يشر إلى المصدر كالعادة.
- وأوردت نموذجاً من خط وتوقيع الشهيد عبدالله عزام، حصلت عليه من قبل أستاذ من دير الزور يسكن الطائف، وأثبته هو كذلك دون الإشادة إلى المصدر.
- وأوردت ثلاثة نماذج من خطوط محمد الطاهر الكردي وأورد هو الثلاثة...
- كما أوردت نموذجا من خط أحمد محمد جمال، وقلت إنه من خلال رسالة بعث بها إلى المؤلف، وكتب هو أيضاً تحت النموذج كذلك، ولم يشر إلى التتمة، ويعني هذا أن الكلام له! وذكر له 19 مصدراً لترجمته، هي التي أوردتها في التتمة!
ملاحظات أخرى فيها تذكير وفائدة:
- مصطفى مجاهد العشري نقلت ترجمته من جريدة الأخبار المصرية، وتركت سنة وفاته مجهولة بتقدير أنها بعد 1400هـ، وكتبها هو 1401هـ مع نقل كل المعلومات من التتمة، ولا أظن أن له علماً بذلك.
- ولم يورد ترجمة محمد جلال كشك، وكانت الساحة الإعلامية تشهد مناقشاته ومحاوراته الإسلامية ضد العلمانيين بكثافة... في حين أورد تراجم آخرين عليهم ملاحظات من انحراف فكري وما إليه، مثل محمد عبدالله عنان... وأورد أسماء آخرين ليسوا علماء مثل إبراهيم فودة (أديب)، وإبراهيم الرفاعي (الخطاط)، وأمثال هؤلاء مما لم أتابعه وليس داخلاً في موضوع هذا التعقيب.(139/10)
- أخطأتُ فقلت إن محمد تقي الدين الهلالي من أصل سوري، فكتب كما قلت، ولم يذكر المصدر "التتمة" والمصادر المذكورة لترجمته لم ترد فيها هذه المعلومة.
- أورد ترجمة محمد حسين العفيفي على أنه صحفي إسلامي، صاحب مشروع التفسير النبوي للقرآن الكريم، وظن أنه مكرر مع "محمد العفيفي". لكن الاسم الثلاثي يخص شخصية صحفية أخرى، فهو كاتب ساخر... ينظر التتمة 2/200، 3/87.
- وخلطت في ترجمة أحمد الشرباصي بين "العالم" وآخر بالاسم نفسه "مهندس"، وصححت ذلك في المستدرك استفادة من أحد الإخوة المتابعين في مصر، فأورده الأستاذ المرعشلي بخطئه، والمشكلة أنه لم يشر إلى المصدر "تتمة الأعلام" فإن الخطأ فيه وليس في المصادر التي ذكرتها، ولو ذكر المصدر لبرئت ذمته من الخطأ!!
أعلمت الآن أيها الأخ الكريم أحد فوائد ذكر المصادر؟
- ومحمد بن إبراهيم الحقيل، أوردت ترجمته خطأ على أنه توفي فأورده كذلك في ص1803 وقد حذفته من الطبعة الجديدة، ولم يحذفه هو، على الرغم من ظهور كتابه بعد صدور الطبعة الجديدة بخمس سنوات!
- عبدالكريم المدرس، قلت في المستدرك الثاني أيضاً إنه مازال حياً إلى سنة (1418هـ)... فأورده كالسابق.
- في ترجمة عبدالله بن محمد السعد ص 1885 أورد مؤلفات لا تخصه، فليس له تأليف واحد، وما أورده كله يخص عبدالله بن سعيد الحضرمي اللحجي، ت 1410هـ، الذي أوردت ترجمته في التتمة أيضاً. ولم أتابع أخطاء له كهذه كما قلت، بل هو ما جاء عفواً وعلق بالبصر، وأوردته فائدة للقارئ، وتذكرة للجامع.
المصادر.. وملاحظات:(139/11)
لم يذكر في آخر كتابه مصادر ومراجع الكتاب كما يفعله أهل التراجم، وسبب ذلك عنده، لكنه ذكر "بعضها" في المقدمة، والله أعلم إذا كان قد اعتمد على كثير مما ذكر، حيث تبين لي أنه لم يورد من مصادرَ اعتمدتها سِوى ما نقلتُ منها من تراجم!! مع أن وفيات كتابه غير وفيات التتمة، فكان بإمكانه أن ينقل منها الكثير من وفيات ما قبل 1396هـ. كما أن بينهم من لم أوردهم لأنهم ليسوا أعلاماً، وإن كانوا في طبقة العلماء الذين اعتبرهم هو كذلك، فاقتصر هو على ما اقتصرت عليه وأورده بتلخيصي وزياداتي وهوامشي... فأين الصدق فيما قال؟؟
وربما يظن القارئ العادي الذي لا يهمه أمر التوثيق والمصدر، أن المراجع التي ذكرها في آخر كل ترجمة هي التي اعتمد عليها هو، وليس الأمر كذلك، فإنه يورد الترجمة بمصادرها هكذا "صبّاً من التتمة" ولا يذكر أنه أخذ المتن والهامش كله منه في (557) ترجمة!!
وهذه تعليقات لطيفة تبين الأمر، لعل المؤلف الكريم يتذكرها ويلوم نفسه لأجلها:
- كتاب "بلاد شنقيط: المنارة والرباط" أثبتُّ منه جلَّ أو كلَّ تراجم علماء موريتانيا، لكن الأستاذ المرعشلي أخذها كلها من التتمة ولم يشر إليها مرة واحدة، وفي ذلك الكتاب وفيات أخرى لما قبل 1396هـ، ولكنه لم يأخذ منه شيئاً غير ما أخذت، وهذا يعني أنه لم يرَ ذلك المصدر، ولو رآه لأخذ منه الوفيات الأخرى، ويقال هذا لما عداه من المصادر التي اكتفى منها بالسنوات التي تخص وفيات التتمة.
- وهناك كتب ودوريات عديدة لم تلمسها يده ولم ترها عينه، أوردها في هوامش التراجم ولم يشر إلى صنعته هذه.
- واعتمدتُ على كتاب لم يطبع منه سوى بضع عشرة نسخة، لا أذكره هنا رعاية لاسم مؤلفه الذي لا يريد أن يشهر كتابه ولا أن يعرف أنه قام بتأليفه، وقد ذكره صاحب "عقد الجوهر" في كل مرة وكأنه هو الذي حصَّله واعتمد عليه لا صاحب التتمة!(139/12)
- ومن المصادر التي أثبتها للزعيم الإسلامي السني أحمد مفتي زاده من إيران مجلة "كردستان المجاهدة"، التي لا يقدر أن يقول إنه سمع بها أصلاً فضلاً عن النقل منها!
- وراجعتُ أعداد مجلة "المجتمع" الإسلامية الأسبوعية لعشرين عاماً (1396-1415هـ) قلبت صفحاتها كلها بحثاً عن تراجم الدعاة والعلماء فيها، بفضل الله وحوله وقوته، وأثبتَ هو هذا المصدر في كل التراجم التي نقلتها منها، ولم يشر مرة واحدة إلى أنه نقلها من التتمة، ولا أذكر أنه أورد ترجمة واحدة من عنده من هذا المصدر، فلا يكون قد قلب صفحات عدد أو أعداد منها!!
- ومثلها مجلة "المسلمون" التي كنت أحتفظ بأعداد كثيرة نادرة منها، أوردت منها تراجم ثم أهديتها إلى مكتبة الملك فهد الوطنية، وقد أورد الأستاذ المرعشلي التراجم التي أوردتها. ويقال فيها وفي غيرها ما قيل في مجلة المجتمع.
- واعتمدت على أعداد من صحيفة "الحرية" التي كانت تصلني من قبل أخ من تونس يجلبها من السفارة التونسية. وهو كان يثبتها على أنه هو الذي اعتمد عليها، ولا يذكر التتمة...
ومن المصادر الشخصية:
- ترجمة شيخي علوان رحمه الله، الذي كتبت له أوسع ترجمة في التتمة تقريباً، فحذف ما حذف، وكتب أن الترجمة بقلم شقيقه خاشع، في حين أورد من كلامي أيضاً ولم يشر إلى التتمة، ولن يجد له ترجمة في سواها.
- وقلت في ترجمة عبدالقادر عيسى: أفادني بها الدكتور (الطبيب) ناصر بشعان البدراني، فكتب كما كتبت. وقد التقيت به في الطائف فأفادني بمجموعة من التراجم، ولم يشر إلى المصدر كالعادة. وقلت في هامش هذه الترجمة: انظر المستدرك، فأورده كذلك!
- عبدالقادر المطلق الرحباوي لم أذكر له مصدراً، فأورده أيضاً بلا مصدر، ولم يشر إلى التتمة.
- ومثله ترجمة محمد محمود فرغلي....
- وترجمة يوسف إبراهيم النور زودني بها -كما كتبت في هامش ترجمته – صديقي في العمل عبد السيد عثمان، فكتب هو كذلك دون ذكر التتمة.(139/13)
- ومثله محمد أحمد الحاج...
- وفقيه شافعي هو عبدالوهاب حسن علي، استفدت ترجمته من ولده حسن، من مدينة القامشلي، فذكر هو في الهامش أن الترجمة من إفادة ابنه حسن ولم يذكر المصدر (التتمة).
- وقلت في ترجمة أحمد محمد رمضان (عالم من تركيا استوطن الحسكة): أفادني بالمعلومات السابقة رمضان سليمان من الحسكة [هو زميل لي في الدراسة]، أثبت هو كذلك في الهامش، ومن المؤكد أنه لم يفده بذلك، ولا أظنه رآه أو سمع به.
- في هامش ترجمة حسن خالد الدباس، ذكرت أن الترجمة بقلم محمدنور ونشوقاني، فحذف الاسم الأول وأبقى الآخر، وفعل هذا أكثر من مرة!! ولا أعرف تفسيراً له.
- عبدالمجيد السيد قطامش لم أورد له مصدراً، فنقل ولم يورد، وقد أفادني ببعض المعلومات عنه الأستاذ علي البواب، وأكملت الباقي من عندي.
- وفي ترجمة الغزالي خليل عيد لم أورد مصدراً لترجمته لأنه كان أستاذي، درَّسني في مرحلة الماجستير، فعملت له ترجمة بما أعرفه عنه ولا مصدر، فنقله هو ولم يشر.. كدأبه...
- رشيد بن محمد نوري الديرشوي شيخ صوفي من جزيرتنا، طلبت ترجمته، فأرسل إلي بكتاب كبير مخطوط استنتجت منه تلك الترجمة، فذكر الكتاب ولم يذكر التتمة، وقد وردت فيها أخطاء أنا المسؤول عنها، لا ذلك المصدر، وعندما يذكر هو المصدر وحده مع اختصاري دون ذكر التتمة فكأن الخطأ من المصدر نفسه.
- وفي ترجمة مجذوب الحجاز قلت إن ترجمته من جريدة لعلها سودانية، فكتب هو إنها جريدة سودانية، وقلت هذا للأمانة العلمية، حيث أعطانيها أحد الإخوة من السودان دون توثيقها.
- وأثبت تحت كل ترجمة أعدها للتتمة الأستاذ عمر نشوقاتي للأمانة العلمية، وإثباتاً لجهده في ذلك، ولم يطلب هو مني ذلك قط، ولكنها الأمانة والاعتراف بالجهد والفضل، وقد أثبت هو كذلك اسم الأستاذ عمر ولم يذكر التتمة، وهو موجود، فلماذا لم يزوده أو لم يطلب منه أن يزوده بتراجم أخرى لنفسه...؟؟؟(139/14)
- ويبدو أنه وضع في كتابه هذا كتباً: مثل "تشنيف الأسماع"، وربما "علماؤنا في بيروت"، و"تاريخ علماء دمشق" (أو كمًّا كبيراً منه) لكنه كان يشير إليه باستمرار، على هيئة ما يشير إلى مصادر المصدر الذي ينقل منه!
بعد هذا البيان والأمثلة القليلة التي تثبت في الذاكرة شيئاً، أذكرك - يا أخي المؤلف- بما قلته في مقدمة "نثر الجواهر"، الذي يعتبر مقدمة لـ"عقد الجوهر" أيضاً : "لقد رجعت لعدد كبير من المصادر لإعداد هذا الكتاب، كما اجتمعت ببعض أصحاب التراجم واستمعت منهم إلى تراجمهم...".
ثم ذكرت المصادر العامة التي اعتمدت عليها، كالأعلام للزركلي، وقلت إثره: وقد صدرت له تتمة جمعها محمد خير رمضان بن يوسف [الصحيح محمد خير بن رمضان يوسف كما في آخر الكتاب] من الفترة [1397- 1415هـ]. ولا يفهم من هذا التعبير أنه من مصادرك. وذكرت كتباً أخرى.
ثم ذكرت المصادر المتخصصة، وهي كثيرة، منها أعلام القصيم، ورجال من القصيم، وعلماء من الرس، ومن أدباء الطائف المعاصرين، والفهرست المفيد في تراجم أعلام الخليج، ولمحات عن الإسلام في نيجيريا...
وذكرت من كتب المؤلفين "تكملة معجم المؤلفين" الذي ألفه صاحب التتمة نفسه، لكني لم أرك أشرتَ إليه في هوامشك ألبتة!! وقد يزيغ البصر عما هو قليل.
وذكرت أنك حاولت قدر الإمكان استيفاء جميع ما يتعلق بحياة المترجم- حسب ما تسعفك به المصادر- وأنها لذلك قد تتفاوت طولاً وقصراً وتوسطاً واختصاراً، وأنك تضيف إليها من سائر المصادر... لكن لم أعرف هذا في منهجك كما قلت، بل تأخذ الترجمة كاملة مما قرب منك أو من المصدر الأوسع، ولم تضف إلى مئات التراجم التي أخذتها من "تتمة الأعلام" شيئاً إلا ما لا يذكر لقلَّته، مع أن الكتب التي نقلتها منها فيها ما هو أطول، وذكرت في مقدمتك أنها من مصادرك. فهل شعرت بالخلل الذي توجهت به إلى القارئ في كلامك؟؟.(139/15)
وقلتَ: حاولت الحصول على المصادر المتخصصة بتراجم كل بلد، وأنك سعيت جهدك ألا تغفل منه شيئاً. وكلامك هذا كما ترى يا أخي الكريم، ولم تكن مكرهاً على قوله، فإن هذه الكتب موجودة، وفي المعارض تحصِّل أكثر، والقارئ المسلم يحب الصدق والتواضع.
ومن المؤكد أنك لم تعتمد على المصادر كلها، بدليل أنك لم تورد الوفيات التي لا تخص التتمة منها، وفيها وفيات علماء كثر كما قلت أكثر من مرة.
ولنذكر كتاب "الفهرست المفيد في تراجم أعلام الخليج" الذي زعمتَ في المقدمة (ص 29) أنه من مصادرك، وأنا متيقن أنك لم تنقل منه ترجمة واحدة، وإذا قلتُ إنك لم تره أيضاًلم أبتعد عن الحق، فإن مؤلفَ المصدر المذكور شيعي، ومعظم التراجم التي أوردها فيه من الشيعة، وأنت لا تذكر مصادر الشيعة ولا تورد تراجمهم. ومع ذلك أحببتُ التأكد مما إذا كنتَ نقلتَ منه تراجم لعلماء السنة من غير وفيات التتمة، فلم تورد ترجمة أحمد بن محمد الفارس (ت 1354هـ) ولا ترجمة أحمد بن محمد القطان (ت 1327هـ) ولا ترجمة ثاني بن منصور الراشد (ت 1395هـ)... الخ. فالمصدر المذكور هو من المصادر الحقيقية لكتابي تتمة الأعلام وليس كتابك، وهو مثل مصادر أخرى ذكرتَ أنك اعتمدتَ عليها ولم تصدق.
فهل أنت صادق مع الله، ومع نفسك، ومع القارئ، يا أستاذ يوسف، إذا قلت في المقدمة إنك اعتمدت على كذا وكذا من المصادر ولم ترها ولم تعتمد عليها! وإذا حاسبك الله تعالى على ذلك هل تعلم كثرة ما ستحاسب عليه، يعني من حيث إنك قلت كذا ولم تفعله في التراجم كلها؟(139/16)
ولذلك، فإن ما أنصحك به يا أخي في الإسلام، أن تذكر في الطبعة الثانية من الكتاب تبرؤك مما قلته سابقاً، وأن تشير إلى المصدر الذي تنقل منه مباشرة، وتقول في الهامش: ومصادره هي كذا وكذا، أو لا تذكر مصادره، فإن المصدر الذي تنقل منه هو المسؤول عما أوردوه... من أجل الدين أولاً، فإن ديننا يأمر بالأمانة، وإن الإسناد من الدين، والتوثيق -يعني إسناد المعلومة إلى أهلها أو مصدرها- من الأمانة والورع، وإسناد الفضل إلى أهله من الأمانة. ثم من أجْلك يا أخي الكريم، فإنه أحرى بمن اتصف بسمة العلم في الإسلام ولبس لباس أهله، وليس هذا بعار عليك ألبتة، بل هو دالٌّ على نبلك وفضلك إن فعلت.
إذا أفادكَ إنسانٌ بفائدةٍ من العلومِ فأدمنْ شكرَهُ أبدا
وقل: فلانٌ جزاهُ الله صالحةً أفادنيها، وألقِ الكِبرَ والحسدا
وما زلت أظن أن هناك خطأ حصل في الكتاب، وربما خرج إلى الطبع ولم تعلم بذلك، ولو علمت أو تذكرت لأمرت بذكر المصدر كما فعلت بغيره.. والله أعلم.
موجز الكلام وختام الملام:
أذكِّرُ القارئ الكريم والمؤلف الفاضل مرة أخرى أن ما أخذه من "تتمة الأعلام" من تراجم العلماء هو (576) ترجمة بمتونها وهوامشها، ولم يشر فيها جميعها إلى المصدر "تتمة الأعلام" سوى (19) مرة فقط. وإذا كان المرء قلَّ ألاّ يخطئ، فليكن ما أخذه (560) ترجمة، على أن الخطأ وارد في النقص أيضاً.
وإذا علمنا أنه أورد في "عقد الجوهر" (611) ترجمة، فإنه يكون متوسط كل ترجمة (83) بالمئة من الصفحة، فيكون ما أخذه من التتمة دون الإشارة إليها (462) صفحة تقريباً بصفحات كتابه هو! لكنه كان يتوسع في ترجمة شيوخه بما لا لزوم له، فتكون الصفحات على كل حال أكثر من (400) صفحة.
والعتب على أخي الكريم الأستاذ يوسف أنه:(139/17)
- عندما ينقل الترجمة من كتاب ينقلها بمصادرها مع ذكر عنوان الكتاب الذي نقل منه في آخر هوامشه، وهذا ما رأيته في التراجم التي نقلها من "الأعلام للزركلي" و "تاريخ علماء دمشق" وربما غيرهما، فلماذا إذاً لم يفعل ذلك مع تتمة الأعلام؟
ولو أنه أشار إلى التتمة كما أشار إلى غيره لما كان هذا التعقيب، ولو أنه غير مقبول على هذه الصورة أيضاً، للسبب الآتي في الفقرة التالية.
- الأسلوب الذي اتبعته في وضع المصدر في آخر الهامش فيه تمويه وتدليس، فلا يعرف القارئ العادي من أين نقلت الترجمة حرفياً واعتمدت فيها على جهد المؤلف بالكامل، فالأمانة تقتضي أن تذكر المصدر الحقيقي هكذا: (الأعلام للزركلي، ومصادره في الترجمة هي...) أو أن تذكر المصادر في الهامش وتقول في آخرها: (نقلاً من الأعلام للزركلي) أو أية عبارة توضح هذا الأمر. بخلاف ما لو تصرَّفت في الترجمة تهذيباً وحذفاًَ وزيادة وتعبيرًا من عندك كيفما شئت، فإذا استعنت بمصادر أخرى ذكرتها، وإذا نقلتها من مصدر أو مصادر أخرى ذكرت ذلك أيضاً، ولو أشرت إلى عملك هذا في المقدمة لبرّأت ذمتك..
- لعلك لجأت إلى كتابي "تتمة الأعلام" دون الكتابين الآخرين "ذيل الأعلام" و "إتمام الأعلام" لما تميَّز به من كثرة تراجم العلماء وإسهاب في سيرتهم، فإنني أشكر لك هذا، فقد ساعدت في نشر ما علَّمنيه الله تعالى، ولكن لومي لك أدبي تربوي...
فقد فعل صاحبا "إتمام الأعلام" مثلما فعلت، ولكنهما كانا يذكران المصدر في آخر الهوامش وأحياناً لا يذكرانه.(139/18)
وكذا فعل صاحب "موسوعة أعلام القرن الرابع عشر والخامس عشر الهجري في العالم العربي والإسلامي" الذي أصدر منه حرف الألف فقط، في ثلاثة مجلدات، وفعل كما فعلت، لكنه "لعب" بالمصادر و"خنقها" أحياناً ربما لئلاّ يعرف، لكن الأمر كان واضحاً لدي بما لا يلزم الشك، وقد توقف عن إتمام كتابه لأنه أدرك أن في الأمر "ملاحقة" و "حقوقاً" وغير ذلك...كما سمعته منه، دون أن أصرِّح له بالأمر.
وكذا صاحب "معجم الشعراء من العصر الجاهلي حتى سنة 2002 م" الذي صدر في ستة مجلدات كبار، وقد بدا لي أنه فعل كما فعلت تماماً -ولم أتابعه في هذا متابعة دقيقة مثل كتابك- فهو يورد الترجمة بمصادرها... ويضع عنوان المصدر الذي أخذ منه في آخر المصادر... ولكنه كان أميناً في ذلك، فأخذ من كتابي جلَّ الشعراء، أو قسماً كبيراً منهم -لم أقم بعمل إحصائية في ذلك- مع ذكر "التتمة" في آخر المصادر التي أوردها...
والعتب الذي جاء إليك دون السابقين، ودون غيرهما ممن تعدَّى على كتب لي لم أذكرها هنا، هو كثرة ما استوليت عليه دون ذكر مصدرها، ولأنك تميَّزت بالعلم، فإن لم تكن عالماً فمن طلابه ومتابعيه، وتلامذة أصحابه، وممن تعلم الناس وتبين لهم الحق والباطل، والصواب والخطأ، والاستقامة في القول والعمل، ولك أياد بيضاء في التأليف والدراسة، واستفاد الناس منها، وأنا واحد منهم، أعني الفهارس الحديثية، ثم كتابك الجليل "معجم المعاجم والمشيخات والفهارس..." الذي أبدعتَ فيه وقدمتَ ما يفيد، جزاك الله خيراً. أما كيف خفي عليك هذا، وكيف أصدرت كتاب (نثر الجواهر) وذيله بهذا الأسلوب، فما لا أقدر على تفسيره، ولا أعرف سببه، وإذا كان لك عذر لا أعرفه، فعذري أيضاً أنني أكتب من واقع، وأحكم على ما أرى، وكان عليك أن تتصرف بما يجلي خطأك بعد صدور الكتاب...(139/19)
- وأقول من هذا المنطلق: ألا ينبغي لأصحاب الأقلام من أهل العلم و الإصلاح أن يكونوا قدوة لغيرهم، علماً وورعاً وأمانة، وأن يكونوا بعيدين عن الشبهات وما يثلم مروءتهم...؟؟ أما ترى عيوب الدعاة والعلماء صارت بيِّنة حتى تنكس الرؤوس منها أحياناً؟!
- يبقى التذكير بالطبعة الثانية من الكتاب، الذي أرجو إذا تكرمت بإصداره مرة أخرى، أن تشير إلى الخطأ الذي حدث من قبلك، وتصححه كما ذكرتُ من قبل، والله يوفقنا ويوفقك، ويهدينا إلى الحق ويرزقنا اتباعه، وبانتظار المزيد من كتبك النافعة إن شاء الله.
- وأخيراً، لا أدري هل أغبطك على كثرة ما أُجزتَ به من شيوخ أفاضل أم لا؟ ولعلي لو علمت أن ذلك يؤدي إلى مزيد من التقوى لفعلت، وليس لي سوى شيخ واحد مات، وكان حليماً خاشعاً تقيّاً، أجازني بإجازة عامة فرفضتها، وقلت له إنني لا أستحقها، فأبى إلا أن يجيزني وأنا كاره، وتلقّفها خطاط كان حاضراً في المجلس، ليكتبها بخطه البديع، ولما انتهى منها وجدته سها عن كلمات وجمل، مع أخطاء إملائية وما إليها، فلم أتابعه عليها، ولم أرها منذ ثلاثين سنة، وأظنها ضاعت. وكانت سلسلة السند فيها نادرة رائعة، فيها نجم الأتقياء الإمام النووي رحمه الله، يصل بسنده فيها إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
ولو لم تظنَّ أنني أعرِّضُ بك لقلتُ في إجازات هذا العصر وما قبله بقرون ما قلت، والمجازون يعرفون ذلك، وكأنهم لا يرجون من ورائها سوى "البركة"، وحتى هذه قد يكون وراءها إشارات استفهام. والله أعلم.
- ولعله لم يعد يخفى عليك أنني سأضع هذا الردَّ في أول أو آخر كتابي "تتمة الأعلام" في طبعة قادمة قريبة إن شاء الله.
- ثم... أرجو أن أكون قد استعملت معك أدب العلماء في النقد و التوجيه يا أخي المؤلف، ولم أدرج فيه مصطلحات تستعمل عادة في مثل هذه الردود.(139/20)
وقد كلفني هذا الردُّ أياماً، كان بالإمكان الاستفادة منها في غير هذا، فيما ينفع به المرء نفسه أو مجتمعه. غفر الله لي ولك. وسلام عليك.(139/21)
العنوان: اغتنام الأوقات بالأعمال الصالحات قبل الندم عليها
رقم المقالة: 1187
صاحب المقالة:
-----------------------------------------
عن ابن عمر - رضي الله عنهما -، قال: أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمنكبي فقال: ((كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ، أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ))، وكان ابن عمر - رضي الله عنهما - يقول: "إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك".
هذا الحديث أصلٌ في قصر الأمل في الدنيا ، وأن المؤمن لا ينبغي له أن يتخذ الدنيا وطنًا ومسكنًا، فيطمئن فيها، ولكن ينبغي أن يكون فيها كأنه على جناح سفر، يهيئ جهازه للرحيل، قال تعالى: {يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ القَرَارِ} [غافر: 39].
وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (( مَالِي وَلِلدُّنْيَا، إنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رَاكِبٍ قَالَ فِي ظِلِّ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا)).
ومن وصايا المسيح - عليه السلام - لأصحابه أنه قال لهم: "من ذا الذي يبني على موج البحر دارًا؟! تلكم الدنيا؛ فلا تتخذوها قرارًا". وكان علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - يقول : "إن الدنيا قد ارتحلت مدبرة، وإن الآخرة قد ارتحلت مقبلة، ولكل منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا؛ فإن اليوم عمل ولا حساب، وغدًا حساب ولا عمل".
قال بعض الحكماء: "عجب ممن الدنيا مولية عنه، والآخرة مقبلة إليه، يشتغل بالمُدبِرة، ويعرض عن المقبلة!"
وقال عمر بن عبد العزيز في خطبته: "إن الدنيا ليست بدار قراركم،كتب الله عليها الفناء، وكتب على أهلها منها الظعن، فأحسنوا - رحمكم الله - منها الرحلة بأحسن ما بحضرتكم من المقلة، وتزودوا فإن خير الزاد التقوى".
حال المؤمن في الدنيا(140/1)
وإذا لم تكن الدنيا للمؤمن دارَ إقامة ولا وطنًا؛ فينبغي للمؤمن أن يكون حاله فيها على أحد حالين : إما أن يكون كأنه غريب مقيم في بلد غربة، همه التزود للرجوع إلى وطنه. أو يكون كأنه مسافر غير مقيم ألبتة، بل هو ليله ونهاره يسير إلى بلد الإقامة؛ فلهذا وصى النبي - صلى الله عليه وسلم - ابنَ عمر أن يكون في الدنيا عبى أحد هذين الحالين:
فأحدهما: أن ينزل المؤمن نفسه كأنه غريب في الدنيا يتخيل الإقامة، لكن في بلد غربة، فهو غير متعلق القلب ببلد الغربة، بل قلبه متعلق بوطنه الذي يرجع إليه. قال الحسن: "المؤمن في الدنيا كالغريب؛ لأنه لما خُلق آدم، أُسكن هو وزوجته الجنة، ثم أُهبطا منها، ووُعدا الرجوع إليها، وصالح ذريتهما، فالمؤمن أبدًا يحن إلى وطنه الأول:
فَحَيَّ عَلَى جَنَّاتِ عَدْنٍ فَإِنَّهَا مَنَازِلُكَ الأُولَى وَفِيهَا الْمُخَيَّمُ
وَلَكِنَّنَا سَبْيُ الْعَدُوِّ فَهَلْ تُرَى نَعُودُ إِلَى أَوْطَانِنَا وَنُسَلَّمُ
وَقَدْ زَعَمُوا أَنَّ الْغَرِيبَ إِذَا نَأَى وَشَطَّتْ بِهِ أَوْطَانُهُ فَهْوَ مُغْرَمُ
وَأَيُّ اغْتِرَابٍ فَوْقَ غُرْبَتِهَا التِّي لَهَا أَضْحَتِ الْأَعْدَاءُ فِينَا تَحَكَّمُ
كان عطاء السلمي يقول في دعائه: "اللهم ارحم في الدنيا غربتي، وارحم في القبر وحشتي، وارحم موقفي غدًا بين يديك".
وما أحسن قولَ يحيى بن معاذ الرازي: "الدنيا خمر الشيطان، مَن سكر منها لم يفق إلا في عسكر الموتى، نادمًا مع الخاسرين".
الحال الثاني: أن ينزل المؤمن نفسه في الدنيا كأنه مسافر غير مقيم ألبتة، وإنما هو سائر في قَطْع منازل السفر؛ حتى ينتهي به السفر إلى آخره، وهو الموت. ومن كانت هذه حاله في الدنيا، فهِمَّته تحصيل الزاد للسفر، وليس له همة في الاستكثار من متاع الدنيا، ولهذا أوصى النبي - صلى الله عليه وسلم - جماعةً من أصحابه أن يكون بلاغهم من الدنيا كزاد الراكب.(140/2)
قيل لمحمد بن واسع: كيف أصبحت؟ قال: ما ظنك برجل يرتحل كل يوم، ورحله إلى الآخرة؟!
الحث على اغتنام أوقات العمر
وقال الحسن: "إنما أنت أيام مجموعة، كلما مضى يوم مضى بعضك".
وقال: "ابنَ آدم، إنما أنت بين مطيتين يوضعانك، يوضعك النهار إلى الليل، والليل إلى النهار، حتى يسلمانك إلى الآخرة".
قال داود الطائي: "إنما الليل والنهار مراحل، ينزلها الناس مرحلة مرحلة، ينتهي ذلك بهم إلى آخر سفرهم، فإن استطعت أن تقدم في كل مرحلة زادًا لما بين يديها، فافعل؛ فإن انقطاع السفر عن قريب ما هو، والأمر أعجل من ذلك، فتزود لسفرك، واقضِ ما أنت قاضٍ من أمرك، فكأنك بالأمر قد بغتك".
وكتب بعض السلف إلى أخ: "يا أخي يخيل لك أنك مقيم! بل أنت دائب السير، تساق مع ذلك سوقًا حثيثًا، الموت موجه إليك، والدنيا تطوى من ورائك، وما مضى من عمرك، فليس بكارٍّ عليك".
سَبِيلُكَ فِي الدُّنْيَا سَبِيلُ مُسَافِرٍ وَلاَ بُدَّ مِنْ زَادٍ لِكُلِّ مُسَافِرِ
وَلاَ بُدَّ لِلْإِنْسَانِ مِنْ حَمْلِ عُدَّةٍ وَلاَ سِيَّمَا إِنْ خَافَ صَوْلَةَ قَاهِرِ
قال بعض الحكماء: "كيف يفرح بالدنيا مَن يومه يهدِم شهرَه، وشهره يهدم سنته، وسنته تهدم عمره؟! وكيف يفرح مَن يقوده عمره إلى أجله، وتقوده حياته إلى موته؟!
وقال الفُضَيْل بن عِيَاض لرجل: كم أتت عليك؟ قال: ستون سنة. قال: فأنت منذ ستين سنة تسير إلى ربك، يوشك أن تبلغ. فقال الرجل: فما الحيلة؟ قال: يسيرة. قال: ما هي؟ قال: تُحسِن فيما بقي؛ يغفر لك ما مضى، فإنك إن أسأتَ؛ أُخذت بما مضى وبما بقي.
قال بعض الحكماء: "من كانت الليالي والأيام مطاياه، سارت به وإن لم يَسِر". وفي هذا قال بعضهم :
وَمَا هَذِهِ الأَيَّامُ إلاَّ مَرَاحِلُ يَحُثُّ بِهَا دَاعٍ إلَى المَوْتِ قَاصِدُ
وَأَعْجَبُ شَيْءٍ - لَوْ تَأَمَّلْتَ - أَنَّهَا مَنَازِلُ تُطْوَى وَالمُسَافِرُ قَاعِدُ(140/3)
قال الحسن: "لم يزل الليل والنهار سريعين في نقص الأعمار، وتقريب الأجال". وكتب الأوزاعي إلى أخ له: "أما بعد، فقد أحيط بك من كل جانب، واعلم أنه يُسار بك قي كل يوم وليلة، فاحذر الله والمقام بين يديه، ومن يكون آخر عهدك به، والسلام".
نَسِيرُ إِلَى الآجَالِ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ وَأَيَّامُنَا تُطْوَى وَهُنَّ مَوَاحِلُ
وَلَمْ أَرَ مِثْلَ الْمَوْتِ حَقًّا كَأَنَّهُ إِذَا مَا تَخْطَفْهُ الأَمَانِي بَاطِلُ
وَمَا أَقْبَحَ التَّفْرِيطَ حين الصِّبَا فَكَيْفَ بِهِ وَالشَّيْبُ لِلرَّأْسِ شَامِلُ
تَرَحَّلْ مِنَ الدُّنْيَا بِزَادٍ مِنَ التُّقَى فَعُمْرُكَ أَيَّامٌ وَهُنَّ قَلاَئِلُ
ذم طول الأمل والحث على تقصيره
وأما وصية ابن عمر - رضي الله عنهما -، فهي مأخوذة من هذا الحديث الذي رواه، وهي متضمنة لنهاية قصر الأمل، وأن الإنسان إذا أمسى لم ينتظر الصباح، وإذا أصبح لم ينتظر المساء، بل يظن أن أجَلَه يدركه قبل ذلك. قال المروزي: "قلت لأبي عبدالله - يعني أحمد - أي شيء الزهد في الدنيا؟ قال: قصر الأمل، من إذا أصبح قال: لا أمسي". وكان محمد بن واسع إذا أراد أن ينام قال لأهله: "أستودعكم الله، فلعلها أن تكون منيتي التي لا أقوم منها". فكان هذا دأبه إذا أراد النوم. وقال بكر المزني: "إن استطاع أحدكم أن لا يبيت إلا وعهده عند رأسه مكتوب، فليفعل؛ فإنه لا يدري لعله أن يبيت في أهل الدنيا، ويصبح في أهل الآخرة".
وقال عون بن عبدالله: "ما أنزل الموت حقَّ منزلته من عدّ غدًا من أجله". وقال بكر المزني: "إذا أردت أن تنفعك صلاتك؛ فقل: لعلي لا أصلي غيرها". وهذا مأخوذ مما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((صَلِّ صَلاَةَ مُوَدِّعٍ)). روي عن أبي الدرداء والحسن أنهما قالا: "ابنَ آدم، إنك لم تزل في هدم عمرك منذ سقطت من بطن أمك". ومما أنشد بعض السلف:(140/4)
إِنَّا لَنَفْرَحُ بِالأَيَّامِ نَقْطَعُهَا وَكُلُّ يَوْمٍ يُدْنِينَا مِنَ الأَجَلِ
فَاعْمَلْ لِنَفْسِكَ قَبْلَ المَوْتِ مُجْتَهِدًا فَإِنَّمَا الرِّبْحُ وَالخُسْرَانُ فِي العَمَلِ
الحث على استغلال أيام العمر في الأعمال الصالحة
قوله: "وخذ من صحتك لسقمك، ومن حياتك لموتك". يعني: اغتنم الأعمال الصالحة في الصحة قبل أن يحول بينك وبينها الموت. وقد روي معنى هذه الوصية عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ))، وعن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لرجل وهو يعظه: ((اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هِرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ)).
وقال غنيم بن قيس: "كنا نتواصى في أول الإسلام: ابنَ آدم اعمل في فراغك قبل شغلك، وفي شبابك لكبرك، وفي صحتك لمرضك، وفي دنياك لآخرتك، وفي حياتك لموتك".
وعن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ سِتًّا: طُلُوعَ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، أَوِ الدُّخَانَ، أَوِ الدَّجَّالَ، أَوِ الدَّابَّةَ، وَخَاصَّةَ أَحَدِكُمْ، أَوْ أَمْرَ العَامَّةِ)).
وبعض هذه الأمور العامة لا ينفع بعدها عمل، كما قال تعالى: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام: 158].(140/5)
وفي الصحيحين عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا، فَإِذَا طَلَعَتْ وَرَآهَا النَّاسُ؛ آمَنُوا أَجْمَعُونَ، فَذَلِكَ حِينَ لاَ يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا)).
وعنه - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ثَلاَثٌ إِذَا خَرَجْنَ لَمْ يَنْفَعْ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا: طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَالدَّجَّالُ، وَدَابَّةُ الأَرْضِ)).
فالواجب على المؤمن المبادرة بالأعمال الصالحة قبل أن لا يقدر عليها، ويحال بينه وبينها، إما بمرض أو موت، أو بأن يدركه بعض هذه الآيات، التي لا يقبل معها عمل.
قال أبو حازم: "إن بضاعة الآخرة كاسدة، ويوشك أن تَنْفَق، فلا يوصل منها إلى قليل ولا كثير. ومتى حيل بين الإنسان والعمل؛ لم يبق له إلا الحسرة والأسف عليها، يتمنى الرجوع إلى حالة يتمكن فيها من العمل، فلا تنفعه الأمنية".
قال تعالى : {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ * أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّه وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ المُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى العَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ المُحْسِنِينَ} [الزمر: 54-58].(140/6)
وقال تعالى : {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ المَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون: 99-100].
اغْتَنِمْ فِي الفَرَاغِ فَضْلَ رُكُوعٍ فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مَوْتُكَ بَغْتَهْ
كَمْ صَحِيحٍ رَأَيْتَ مِنْ غَيْرِ سُقْمٍ ذَهَبَتْ نَفْسُهُ الصَّحِيحَةُ فَلْتَهْ(140/7)
العنوان: اغتيال المهد!!
رقم المقالة: 191
صاحب المقالة: عمر بن عبدالله المديفر
-----------------------------------------
كان الوقت ليلاً.. وكان هو في غرفته.. بين يديه ورقة يكتب فيها، حيناً بسرعة وحيناً يتوقف ليحذف كلمة كتبها، وحيناً يقف مفكراً، ولكن متى ما توقف عاد بسرعة إلى الكتابة على الورقة بيده.. مضى وقت والورقة بين يديه.. أحس بأنه انتهى فأخذ يتأمل الورقة ويعيد قراءة ما فيها مرات كثيرة.. لما انتهى من التأمل فيها.. قال لنفسه بزهو وافتخار: "لا شك ستحوز إعجاب أستاذ اللغة العربية في المدرسة"، وبيَّت في سره أنه سيعرضها على أستاذه غداً..
أشرقت الشمس معلنة بدء يوم جديد يحمل في طياته الجميل والقبيح..
يسير بروح مفعمة بالحيوية نحو مدرسته وفي جيبه ورقة البارحة.. كان طوال اليوم ينتظر بشوق درس اللغة العربية..الدروس باتت جميعها مملَّة مع الانتظار، فدرس اللغة هو الدرس السابع.. بين كل درس ودرس كان يُخرج ورقته يتأملها ويكرر النظر فيها معجباً..
مضت الدروس وأتى الدرس السابع وهو الدرس المنتظر.. بدا نشيطاً متفاعلاً مع الشرح.. ولما انتهى المدرس من شرحه جعل الوقت المتبقي وقتاً حراً يفعل فيه الطلاب ما يشاؤون..كل طالب راح يتحدث مع زميله أو يضع رأسه على الطاولة متمنياً الراحة...
صاحبنا لم يتحدث مع من بجانبه ولم يضع رأسه على الطاولة.. بل قام متوجهاً ناحية المدرس.. أخرج من جيبه ورقة الأمس وفتحها قائلاً لأستاذه: "لقد كتبت قصيدة وأود أخذ رأيك فيها" قال ذلك وهو يمد الورقة للمدرس..
قبضها المدرس مفتوحة.. قرأ ما فيها بسرعة..
صاحبنا كان ينتظر من المدرس مدحاً أو نصحاً.. ينتظر المدرس أن ينتهي من قراءة الورقة.. ينتظره بحماسة لا مثيل لها..
انتهى المدرس من قراءة القصيدة وقال لتلميذه:"أتسمي هذا شعراً؟!! هذا نثر مفصول بين أجزائه.." قال ذلك ببرود دون أن ينظر إلى تلميذه..(141/1)
وقعت الكلمات على روح الطالب كوقوع صخرة ثقيلة على قشر بيض هش.. حطَّمت الكلمات روح الطالب وقتلت فيه شاعريته دون ترك أدنى أمل بحياتها..
ومنذ ذلك الوقت وقلم التلميذ أصبح مشلولاً لا يسير على الورق كما كان يسير من قبل..(141/2)
العنوان: أغلى من المال فكيف تستثمرينه؟
رقم المقالة: 1139
صاحب المقالة: سحر فؤاد أحمد
-----------------------------------------
إذا كنت ممن يستسلمون للفشل ويتكيفون مع متاعب الإخفاق ولا يبذلون جهداً لتحقيق النجاح فأنت كسولة ومضيعة للوقت، فالناجحون يتعلمون من أخطائهم ويستثمرون أوقاتهم لتحقيق المزيد من النجاح والتفوق. فمقدار الاستفادة من الوقت هو الفارق بين الإنسان الجاد القادر على التأثير في مجتمعه وحركة تطوره، وبين المستهتر الذي لا يقدِّر الأمور حق قدرها ويمثل عبئاً على مجتمعه.
أغلى من المال:
يرى د.حمدي عبد العظيم- أستاذ الاقتصاد- أن الوقت من الأمور المهدرة التي لا يهتم الكثيرون باستثمارها، فإذا كانت النظرية الغربية ترى أن الوقت هو المال، فالإسلام يرى أن هذا بخس في حق الوقت، فالوقت يعني الحياة وهو أغلى من المال.
لكننا لا نهتم بالوقت، حيث تعودنا على الحركة البطيئة، ورد الفعل المتأخر، وعدم الاحتياط والتخطيط للمستقبل، وكثيراً ما نتحدث عن أهمية الوقت، لكن التطبيق العملي مفقود؛ إذ يوجد لدينا انفصام بين ما يقال وما هو موجود فعلاً.(142/1)
وقد اهتم الإسلام بالوقت وقد أقسم الله به في آيات كثيرة فقال- تعالى- {والعصر.إن الإنسان لفي خسر} وقال- تعالى- {والليل إذا يغشى. والنهار إذا تجلى} وقال- عز وجل- {والفجر. وليال عشر} وغيرها من الآيات التي تبين أهمية الوقت وضرورة اغتنامه في طاعة الله, وهناك أحاديث كثيرة توضح ذلك: فعن معاذ بن جبل- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم " لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه وعن شبابه فيما أبلاه وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه وعن علمه ماذا عمل به؟ " وعن ابن عباس- رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ((نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ)) وعن أنس- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم ((إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة فإن استطاع ألا يقوم حتى يغرسها فليفعل)).
وقال سيدنا عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه ((إني لأمقت الرجل أن أراه فارغاً ليس فيه شيء من عمل الدنيا ولا عمل الآخرة)) وقد ورد في الأثر ((من أمضى يوماً من عمره في غير حق قضاه, أو فرض أداه، أو مجد أثله، أو حمد حصله، أو خير أسسه، أو علم اقتبسه، فقد عق يومَه وظلم نفسه)) لذلك علينا أن نستغل الأوقات فيما يعود علينا وعلى الأمة بالنفع في الدنيا والآخرة فما أحوج الأمة إلى رجال ونساء يعرفون قيمة الوقت ويطبقون ذلك في الحياة.
تخطيط وتنظيم:
هناك من يفهمون الوقت على أنه حبيس الساعة وأسير التقويم وهذا المفهوم للوقت هو أكثر المفاهيم ضحالة إذ يدمر روح المبادرة ويحبط البواعث الإبداعية، ولا يحقق إنجازاً في الوقت المخصص. فإذا كان لدينا يوم لإنجاز مهمة فإنها سوف تستغرق يوماً وإذا ما منحنا أسبوعاً لإنجازها فإنها سوف تستغرق أسبوعاً، فالمهمات - وفقاً لهذا المفهوم - تتمدد وتنكمش لاستيعاب كل الوقت المخصص لها.(142/2)
لكن هناك من يعطون الوقت معنى حقيقياً للحياة فهم يعيشون لتحقيق هدف، وعملهم ليس إلا تعبيراً عن رسالة يؤمنون بها ويسعون لتحقيقها، وهؤلاء هم الذين يعرفون قيمة الوقت فيحسنون تنظيمه واستغلاله في العمل والإنجاز.
ويبين الدكتور زكي محمد عثمان- أستاذ الثقافة الإسلامية: أن قضية الوقت في حياة المسلم محسومة دينياً؛ فيجب أن يَستثمر وقته كله، ويقسمه بين العمل والعبادات والأسرة وخدمة المسلمين والذكر والقراءة والترويح عن النفس؛ فاستثمار الوقت يفيد الإسلام والمسلمين، ولكن يحتاج المسلم إلى إرادة قوية لتنظيم هذا الوقت، والتعود على التنظيم، وتثبيت العمل به كنمط يومي للحياة.
وعن كيفية تنظيم الوقت وإدارته بصورة مخططة وعلمية يقول د. حمدي عبد العظيم: على كل فرد أن يهتم بإدارة وقته وذلك بالاعتماد علي الوسائل المعينة على الاستفادة القصوى من الوقت في تحقيق الأهداف، وخلق التوازن في حياة الإنسان ما بين الواجبات والرغبات والأهداف.
ويجب أن ينظم المسلم وقته، ويخطط له بتحديد الأهداف بحسب أهميتها، ثم يقسم الوقت على تلك الأهداف في حدود الأعمال المطلوب إنجازها لتحقيق كل هدف.
ويجب أن نضع وقتاً للطوارئ حتى لا يضيع الوقت بسبب الانشغال بأمور غير مخططة تأتي بصورة عشوائية، فتستقطع جزءاً من الوقت المخصص لتحقيق الأهداف مثل المحادثات التليفونية.
ويضيف: يجب أن نكتب خطوات تحقيق الأهداف لأن الفرد يكون أكثر التزاماً حين يقوم بذلك، ثم إن الكتابة تذكره بما يجب فعله، وتكون بمثابة واجب يجب أداؤه.
ولابد من عمل تقييم ذاتي بعد انتهاء الوقت المحدد لتحقيق الهدف، فعملية التقييم تساعد الفرد على التعرف على أسباب التقصير -إن وجدت- لتلافيها في المستقبل، وينبغي ألا يطغى الوقت المخصص لعملٍ على الوقت المخصص لآخر".
خطوات عملية:(142/3)
ويتفق روبرت بودش- صاحب كتاب " كيف تنجز أكثر في وقت أقل" مع ما قاله الدكتور حمدي عبد العظيم حيث يقول: أكثر ما يعينكِ على تذكر قيمة الوقت وأهميته هو أن تحددي رسالتك في الحياة والأهداف التي تسعين لتحقيقها، وقد أُجريَت دراسة في أمريكا على عينة من الناجحين كشفت أن ما يقارب 80% من الناجحين كانوا قد كتبوا أهدافهم ورسالتهم في الحياة بوضوح على ورق.
ويضيف بودش: من المهم أيضاً أن توازني بين أدوارك في الحياة في المنزل والعمل والمجتمع بحيث لا يطغى أي منها على الآخر فلكل وقتُه وطريقةُ أدائِه التي قد تختلف عن غيره ولكنها تتكامل وتتداخل مع غيرها من الأدوار الأخرى.
وحتى يمكنك تحقيق الهدف عليك بوضع خطة أسبوعية أو شهرية من خلال ترتيب أولوياتك، ويفضل خبراء التخطيط والتنمية الخطة الأسبوعية لأنها تعطي مدى مناسباً للتحرك من أجل الإنجاز، فالخطة اليومية لا تكون محكمة بحيث توفر الوقت، أما الخطة الشهرية فمداها الكبير قد يسبب تراكمات الأعمال المراد إتمامها، وهو ما يعني في النهاية العجز عن إتمام المهام المطلوبة.
المعادلة الصعبة:
يرى خبراء التخطيط أن الحسرة على الوقت الضائع يمكن أن تتحول إلى قوة دافعة للخير للاستفادة من الوقت المتبقي الذي يكفي لإنجاز الكثير إذا ما أوقفنا الكسل والبكاء على الوقت المهدور، فإذا كنت تريدين استغلال الوقت في العمل والإنجاز فعليك أن تخططي لذلك، أمَّا إذا انتظرت إلى أن يحين الوقت المناسب ويعرض نفسه عليك، فإنك قد تنتظرين إلى الأبد.
ولتحقيق إنجاز أكبر في وقت أقل ينصحك الخبراء بالتالي:
• اكتبي جدولاً بمهامك اليومية حسب أولويتها، وأعطي كلَّ مهمةٍ الوقتَ اللازم لإنجازها، وإذا انتهيتي من المهمة مبكراً، عليك بالبدء مباشرة في إنجاز المهمة التالية.(142/4)
• استغلي الأوقات التي تكونين فيها في ذروة طاقتك لإنجاز المهام الأكثر إلحاحاً، وكلما أكثرت من استعمال تقنية الوقت المحدد لكل مهمة أصبحت أكثر مهارة في تحديد الوقت المطلوب.
• لا تؤجلي عملك وابدئي فوراً، واتخذي شعار "الآن الآن وليس غدا" وإن لم تبدئي فلن تنتهي، وإذا انتظرت انتظام بعض الأمور، فقد تفقديها كلها. فإنجاز بعض الخطوات كل يوم يصل بك إلى تحقيق هدفك.
• عند ما تواجَهين بقائمة من المهام الثقيلة قومي بعمل أبغض المهام أولاً، و ستشعرين بعد ذلك أن كل ما يأتي لاحقاً سهل، فلا تقهري باقي اليوم.
• استخدمي الأوقات الأقل في معدلات الإنتاج للرد على المكالمات الهاتفية أو إرسال الفاكسات أو للاجتماعات وإدارة المناقشات.
• لا تقومي برحلة لإنجاز العمل ووفري وقتك وجهدك إذا كان العمل يمكن إنجازه بخطاب أو بمحادثة هاتفية .
• استغلي أوقات الانتظار في المواصلات أو عند الطبيب أو غيرها في القيام ببعض الأعمال كأن تقرئي في كتاب، أو مصحف، أو تذكري الله، أو تعيدي ترتيب حسابات يومك.
• عندما تؤدين عملك ابتعدي عن المقاطعات الشخصية فقد تعيق نجاحك، وتجنبي الأشخاص الذين يسرقون وقتك، استخدمي وسائل عدم الإزعاج مثل علامات على الباب أو البريد الصوتي، وإن كنت مضطرة ابحثي عن مكان بعيد للعمل حيث لا يجدك الآخرون.
• احتفظي بخطتك اليومية أو دفتر ملاحظاتك بالقرب منك دائماً، سجلي كل أفكارك وملاحظاتك وأي معلومات أخرى تقفز إلى ذهنك في أي وقت.
• كوني رقيبة على نفسك، وأسهل وسيلة لتطوير الحافز الذاتي هي أن تحتفظي برؤية واضحة لهدفك طَوال الوقت، فتذكُّر الهدف دائماً يعطيك الوقود اللازم لتخطى الصعوبات.(142/5)
• حافظي على صحتك العقلية والبدنية للقيام بأفضل إنجاز، فبقاؤك في حالة صحية جيدة يعطيك طاقة وقدرة على التحمل، ويجعلك أكثر تفتحاً وأقل توتراً، وممارسة الرياضة تجعلك تفكرين بصورة أفضل. فأنت تحتاجين لصحة جيدة لكي تستمتعي بإنجازاتك على النحو المطلوب.
• خصصي أوقات للراحة، وحاولي أن تجعليها تتفق مع أوقات الصلاة، وخصِّصي من وقتك فترات للتفكر والتأمل، وقومي بشحن بطاريات الإيمان لديك، واعملي بالقاعدة الشرعية ((إن لربك عليك حقاً ولبدنك عليك حقاً ولأهلك عليك حقاً فأعط كل ذي حق حقه)).(142/6)
العنوان: أغنية المطر
رقم المقالة: 1445
صاحب المقالة: عبير صندوق
-----------------------------------------
زهرات تتلألأ بالندى المتساقط .. عبق يملأ الأجواء برائحة ريفية نقية .. نسيم يحرك المشاعر.. وأشجار خُضر تتراقص على أغنية المطر بتمايل خَجِل .. أغنية المطر المنعشة للقلوب والمطهرة للأفئدة الخبيثة، تلك التي تغنِّيها الطبيعة بكل جوارحها، وهي الأغنية التي يعشقها كل إنسان وينتظرها حتى ينسى نفسه و يذوب مع نغماتها..
في ذلك الخريف.. في تلك الحديقة الذهبية.. تأتي معه ليتسابقا تحت أغنية المطر والورق الأصفر المتطاير مع الرياح الخريفية، فيصنعان سواراً ذهبياً من هذا الورق بعدما كتبا جملةً لطالما حفرها العشاق: ((سنبقى حتى يفرقنا الموت))..
وفي ذلك الشتاء.. في تلك الحديقة البيضاء.. تأتي معه ليلعبا كطفلين سرقهما الزمن وأعادهما إلى الطفولة البريئة، مع بساط أبيض من الثلج؛ ليصنعا منه جليداً ويحفرا عليه جملة العشاق: ((سنبقى حتى يفرقنا الموت))..
وفي ذلك الربيع.. في تلك الحديقة المفروشة بالأزهار الجوريَّة.. تأتي معه ليقطفا زهور حبِّهما معاً، وينسجا منها إكليلاً يتوِّج رأسيهما، ويصنعا منها قلباً يحيط به جملة واحدة: ((سنبقى حتى يفرقنا الموت))..
أما في ذلك الصيف.. في تلك الحديقة.. فقد أتى وحده.. جلس على ذلك المقعد يبكي حبَّه الذي أخذته معها إلى المثوى الأخير، ليقطفَ زهرة بيضاء وحده، و يكتب اسمها على الشجرة وحده..
وكلما مرَّ فصل جلس في ذلك المقعد تحت أغنية المطر ورياح الحب الخريفية، وفراشات الربيع، وأزهار الصيف، ليردِّد اسمها الذي ألهب قلبه بحبٍّ صادق.. ليموت بعد أن كتب جملته الأخيرة: ((يبدو أن الموت قد فرَّقنا)).
تعليق وتقويم أ. شمس الدين درمش:(143/1)
أغنية المطر للأخت الأديبة الناشئة عبير صندوق قطعة نثرية فنية متألقة تبشِّر بأديبة غير عادية، الفكرة واضحة وهي الرغبة في ديمومة المحبة الفطرية التي تنشأ بين الزوجين في سنٍّ مبكرة، ويحلم بها الاثنان ويعيشان بمشاعر السعادة القادمة، ولكن الحياة لها مفاجآت فما يتوقع الإنسانُ دوامه ينقطع، وفيها دعوة إلى الواقعية.
أربع لوحات جميلة يرسمها قلم الأديبة عبير: الخريف، الشتاء، الربيع، الصيف، والصيفُ أوان جني الثمر، ولكن ثمرةَ حبهما سقطت قبل أوان القِطاف!!
وإضافةً إلى الجمال الفني في النص، والعاطفة الرومانسية المتلاحمة مع الطبيعة فإنه خالٍ من الأخطاء الإملائية والنحوية وخالٍ من الصياغات الضعيفة، وبذلك أقول إنه يستحقُّ النشر.
وأقول للأخت عبير: تابعي قراءاتك في الأدب شعره ونثره، واتركي قلمك ليعبِّر عن مشاعرك وآرائك بعفوية، وراجعي ما تكتبين أكثرَ من مرة، واقرئيه على من حولك، واستفيدي من ملحوظاتهم. والله الموفق.(143/2)
العنوان: أفاعي واشنطن
رقم المقالة: 1044
صاحب المقالة: محمد حسام الدين الخطيب
-----------------------------------------
من بعض زوايا واشنطنْ.. والليلُ بهيمْ
هبَّتْ أسرابٌ زاحفةٌ.. والليلُ بهيمْ
أسرابُ أفاعٍ تتفعَّى.. والناسُ نيامْ
ما زالت تسعى.. وبصمتٍ.. والناس نيامْ
حتى أوصلها مسعاها.. جُحْرَ الأوهامْ
جُحْرٌ قد شُقَّ بواشنطنْ
جُحْرٌ أبيضْ..
دخلتْ.. وارتاحتْ.. وتحوَّتْ..
وانتصبَ الثعبانُ الأكبرْ
وارتجل فحيحاً مسموماً مما أضمرْ:
إيهٍ يا أصلالَ[1] يَهُوهْ[2]
ها أنتمْ صرتمْ في العالمْ.. أسياد الناسْ
سُدتمْ أَمْريكَةَ بل سُدتمْ
أَوْربَّةَ مهدَ عدائكمُ من دون الناسْ
ماذا تبغونْ؟!
* * *
وتطاول صِلٌّ مُتَسَربلْ.. قُفْطانَ سوادْ
وأجاب بصوتٍ مُتَحَشرجْ: نبغي أكثرْ
نبغي رأسَ عدوٍّ أكبرْ..
نبغي رأسَ عمود الأرضْ!
أمْريكةُ أوْ أَوْربَّةُ عهدٌ ثم يزولْ..
لكنَّ الراسخَ في جَنَباتِ الأرضْ
منذُ استعلى أحمدْ
يدعو الإنسانَ إلى الرحمنْ
يَستصرخُ عقلَ البشريهْ..
ويُلِينُ قلوباً حجريهْ!
يُصبي[3] بالعدل وبالرحمهْ
واهٍ.. أواهُ.. ووا أواهْ..!
إن ساد العدلُ فأين نكونْ؟!
إن سادت رحمةُ دين محمدْ؟! دين الإسلامْ
سنعود إلى دِمَنِ التاريخْ..
لا.. لا عيش لنا بالعدلْ
لا عيش لنا بالرحمهْ
الظلم أبونا نَعلَمهُ والقسوةُ أُمْ
* * *
واصفرَّ الثعبان الأكبرْ
وارتجل فحيحاً مسموماً مما أضمرْ:
إيهٍ يا أصلال يَهُوهْ
ماذا تنوونْ؟
* * *
وارتجَّ الجُحْر الأبيضُ حتى كاد يُدَكْ
بعَويل أفاعي واشنطنْ.. واهٍ أواهْ
واهٍ أوّاهُ! ووا أوَّاهْ!!
دين الإسلام يعادينا
دين الإسلام يهاجمنا
واهٍ ما هذا؟! ما هذا؟! هذا إرهابْ
غولُ الإرهاب يعادينا
غول الإرهاب يهاجمنا
الغوثَ الغوثَ الغوثْ
* * *
وابتسم الثعبان الأكبرْ!
وارتجل فحيحاً مسموماً مما أضمرْ:
إيهٍ يا أصلال يَهُوهْ
مرحى.. مرحى.. إذ أعولتمْ
مرحى.. مرحى.. مكراً قلتمْ(144/1)
والمكر لنا.. هو زورقنا.. وبه نعبرْ
هذا ديدننا فانتشروا..
في كلِّ بقاع الأرضْ..
بوسائل إعلام الدنيا..
سَنُجَيِّشُ أشرارَ العالمْ
وسنصنع منهم وحشاً أخرسْ
يهجم بالنار وبالذرَّة..
هَجمةَ فتَّاك لا يرحمْ..
سنصُدُّ به الغولَ المزعومْ
غولَ الإرهابْ
وبذلكَ.. وبأيدي الأشرارْ.. سنُبيد جماعات الأخيارْ
* * *
وبرُكنٍ من أركان الجُحرْ
فحَّت أَصَلَهْ..
فحَّتْ قائلة: ثعباني عندي فكرة:
السمُّ الناقع في أنياب مَباسمنا
سمٌّ مِدرارْ
لو شئنا كان لنا وَحشاً ضد الأخيارْ
يُغنينا عن جيش الأشرارْ
وتقلُّ تكاليفُ الهجمهْ
* * *
وابتسم الثعبان الأكبر.. ضحك الثعبانْ
ضِحْكاً أصفرْ.. ثم تندَّرْ:
السمُّ الناقع يا ملساءْ.. نخبؤه لعدوٍّ آخرْ
نَسقيه به.. وعلى جُرعاتْ.. كي يتخدَّرْ
سنجرِّعه مَنْ قرَّبْنا
سنُبيدُ به مَنْ جيَّشْنا
وبأيدينا سنبيدُ جماعات الأشرارْ
* * *
وستخلو الأرضُ لنا.. أرضُ الإنسانْ
لن نُبقي فيها إنساناً.. غيرَ الفئرانْ
وستَصدَحُ أبواقُ الإعلامْ.. بمفاخِرنا
وستُغلَقُ أفواهُ الطرقاتْ.. لمواكبنا
نحن الحيَّاتْ.. حياتُ الليل بواشنطنْ.. من يعرفنا!![4]
* * *
انتهت
ـــــــــــــــــــــــــ
[1] أصلال: جمع صِل؛ وهو الحية الخبيثة.
[2] يهوه: بمد الواو. – هو الإله الخاص باليهود، الذي صارعه يعقوب ليلاً ولم يفلته حتى الصباح كما تقول التوراة.
[3] يصبي: يستميل.
[4] هذه القصيدة من شعر التفعيلة مبنية على تفعيلة البحر المتدارك (فاعلن) بكافة الجوازات التي تدخلها مجتمعة أو منفردة: الخبن – التشعيث – التذييل – الترفيل.(144/2)
العنوان: افتتاحية مجلة العصور
رقم المقالة: 1786
صاحب المقالة: محمود محمد شاكر
-----------------------------------------
افتتاحية مجلة العصور
بسم الله الرحمن الرحيم
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ * وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الأنفال: 24-26].
ساعةٌ فاصلةٌ في تاريخ الإنسان، حين يرمي تحت قدميه كلَّ وساوس الشيطان متجرِّدا لله، مجاهدًا يعمل ويكدُّ وينطلق، لا يَرُدُّه فَزَع، ولا يَكبح جِماحه وَجَلٌ. ساعةٌ فاصلةٌ يَنصرم من ورائها عُمْرٌ قد أدبر، ويمتدُّ أمامَها أَجَلٌ يُستقبَل، والحياة بينهما شاخصةٌ تنظر عمل الحيِّ في أسباب حياته.
في هذه الساعةِ أضعُ بين يَدَيَّ أشياءَ عزيرةً كنتُ أَضِنُّ بها دون الناس جميعًا، ثم أُرسِلُ إليها بصري مؤمِّلاً يرجو أن يفوز، مُشفِقًا يخشى أن يَحْبَطَ عملُهُ.
لقد عِشتُ ما عشتُ، وجرَّبتُ ما جرَّبتُ، ثم بَقِيتُ صامتًا أو كالصامت، فالآن حين أبدأ أَعرض نفسي على الناس في كُلّ أسبوع أو أسبوعين، أراني مُتكلمًا أبدًا: إن سكت القلم بقيَ عملي من أمامي يتكلَّم. فأنا – ما بقيتُ – مُحاسَبٌ بالكلمة يقولها، والعُدَّة يُعِدُّها، والتدبير يَسوسه، والعمل يعمله؛ ورُبَّ واحدةٍ تخفض منِّي ما كنتُ أرجو أن أرتفع ببعض أسبابه.(145/1)
لقد انتزعتُ نفسي من بين أحبابي وأصحابي، وصِرتُ رجلاً لكل امرئ فيه حقٌّ، وعليه في كل ما هو بسبيله تَبِعةٌ، ولكلِّ يدٍ في عُنُقه مِنَّةٌ أو دَيْنٌ، ولديه أمانةٌ هو مؤدِّيها على الرضا كما يؤدِّيها على الكُرْه، فإن خاسَ أو خانَ أو أمسك هَلَكَ – ولا هلك سواه – وكان من الخاسرين.
لقدِ انتزعتُ نفسي من بين أحبابي وأصحابي، ولَزِمني أن أُبطِلَ – في هذا العمل الصُّحُفِيِّ – معنى العداوة والصداقة في جانبٍ من قلبي، إذ ليس أقْتَلَ لعملِ الصَّحافيِّ من تحكُّم العداوة ومحاباة الصداقة.
ولئن كنتُ قد خسرتُ لذَّةَ إيثار الصديق، فأحسبُني سوف أَربح جمال إيثار الحقِّ والعدل من طريق المساواة في المحبة، وكأيٍّ من لذَّةٍ تَعْدِل لذَّة القدرة على إنصاف عدوِّكَ من نفسكَ حين يكون مع الحقِّ، أو كان الحقُّ معه!!
إن هذا العمل الذي أُقْدِم عليه يكاد يُشعرني بعضُ الفِكْر فيه بدبيب الشَّيْب وهو يَصَّاعَد بين القلب والشَّعْر، ويكاد يحملني بعضُ هذا الفِكْر على حالةٍ من أريحيَّة الصِّبا وعُنْفوان الشباب، أَتدفَّق بهما في نفسي تَدَفُّق السَّيْل تحت صَعَقات الرَّعد، وخَفَقات البروق؛ وانقضاض الرياح العواصف بين مخارم الأودية وأفواه الفِجاج.
أما دَبيب الشَّيْب: فمن هَوْلِ المَطْلع، حين أُغمضُ عيني على هدأةٍ، وأرمي ببصيرتي فأرى ليلاً مظلمًا قد أَطْبَقَ على هذه الشعوب العربية والإسلامية والشرقية، وأرى من ورائها دنيا تموج وتضطرب، وتضيءُ وتخبو، وتسمو وتَتَّضِع، وتأخذ وتَدَع... توشك أن تلتهم الشرق كلَّه، فينتاشُنِي[1] الهمُّ من نواحي نفسي، ويتداخلني الرعب والفزع واليأس أو يكاد.
كيف...! كيف نَستنقِذُ مَجْدنا وتاريخَنا وأرواحَنا وذَرَارِيَّنا مِن بعدِنا، وأنَّى المسلكُ؟(145/2)
إنَّ أحدَنا لَيَضْرِبُه العجزُ عن ضبط ما يتبدَّد على أفكاره من خَطَرَاتِ الرَّأْيِ الَّتي يريد نَفْسَه وأُمَّته على العمل بها لِيُنْقِذ رُوحه من الهلاك، ومَجْده من التهدُّم، وذُرِّيَّته من إرث السوء وتَرِكات الشَّرِّ.
وأما عُنفوان الشباب: فحين أَمُدُّ طَرْفِي إلى مجد آبائي وأجدادي، وهم يَهُبُّون من بواديهم في غبارها، ثم لا يلبثون إلا قليلاً فيملأون الدنيا حضارةً تلوح في بَدئها كتباشير الفجر، ثمَّ تَتَفَجَّر بشُموسها وأنوارها حتى تضيء من جَنَبات الأرض كلَّ مظلمةٍ داجيةٍ، فَثَمَّ الأُسْوَةُ.
إنَّ المجد الغابر يُنادينا من وراء السنين والأجيال: لابد. لابد!! فهل ييأس مَنْ يريد أن يحيا؟ إنَّ الصخرة العظيمة المعترضة سبيل الظمآن إلى الماء تقول له: إمَّا أن تَحْطِمُنِي، وإمَّا أن تموت، فأين الخِيَرة...؟ لقد أَعتقِدُ أنَّ إرادة الرجل إذا تعلَّقت بالله، وأمَّلَتْ في الله، وعَمِلَتْ لله لم يبق أمامَها إلا ما يَلِينُ أو يَتَقَصَّف أو يَتَهَدَّم أو يَستقيم.
لقد تعلمتُ ألا أيْأَسَ، وقد بالغتِ الحوادث والأيام في تكوين بعض ما في نفسي حتى ما أكاد أَعرِف كيف أفرَحُ لِنَجاحٍ أُصِيبُه وأُدْرِكُه، لقد سُلِبْتُ أشياءَ كثيرةً، وحُرمْتُ أشياءَ كثيرةً، ثم وجدتُ أشياءَ كثيرةً، فعَرفْتُ ممَّا حُرمتُ وممَّا وجدتُ خَيْرًا كثيرًا، أرجو أن أنفع الناس به بإذن الله؛ فإن فُزْتُ فبإذنه، وله الحمد في الأُولى والآخرة، وذلك أملي في الله، وهو على كلِّ شيءٍ قديرٌ.
من أين؟ وإلى أين؟
في هذه العاصفة الهَوْجاء التي تجتاح الدنيا، والشرق أوَّل ما تجتاح في تهجُّمها وانقضاضها - أجترئ فأُصْدِرُ "العصور"، محتملاً في سبيل ذلك ما يهدُّ وما يُفزع وما يغتال، وبالله أستعينُ، وله أتوجَّهُ، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلتُ وإليه أُنيبُ.(145/3)
إنَّ بَعْثَ مجلة "العصور" التي كان يقوم على تحريرها، ويتولَّى إصدارها صديقي (إسماعيل مظهر) عملٌ قد نصَبْتُ نفسي له، وفرغتُ من كلِّ شيءٍ في سبيل تحقيقه.
لقد كان مما يَسعني أن أُصدرَ مجلةً أخرى باسمٍ آخَرَ، وأنهجَ لها عين المنهج الذي أريدُه الآن "للعصور". ولكنَّ تاريخًا قديمًا ينبعث من بعض نواحي القلب يدفعني إلى أن لا أختار إلاَّ ما اخترتُ؛ "فالعصور" الأُولى التي كان يقوم بأمرها إسماعيل إنما كانت ثمرةَ مبدأ اعتقده صاحبه واستمسكَ به، وخفَّ له، ونافح دونه، ورمى به إلى غرضٍ، وفي الطريق إلى غرضه أصاب إسماعيلُ وأخطأ، وأحسنَ وأساءَ، وأثار إلى نفسه مَنْ يُحِبُّ ومَنْ يُبْغِض، واحتقب[2] في ذلك شرًّا كثيرًا وأصاب بعض الخير.
لقد ميَّز "العصور" الأولى عن سائر ما كنتُ رأيته من المجلات أنَّ صاحبها أنشأها لمبدأ تقوم عليه وتعمل به، واستمرَّ يُلاقي في سبيله ما يُلاقي من شرِّ نفسِهِ وشرِّ الناس، حتى اندفعت به الحوادث إلى مصائبها ونَكَبَاتها فَصَرَفَ وجهَه اضطرارًا، وفاءَ إلى سَكْتَةٍ ظاهرةٍ، يعمل من ورائها قلبٌ مشبوبٌ.
إنَّ الشركة بيني وبين إسماعيل في أصل المبدأ الذي قامت عليه "العصور" الأولى هو الذي جعلني أتجاوز ابتداءَ مجلةٍ إلى بَعْثِ مجلةَّ، وأيضًا... لقد عملت "العصور" عملاً لا يُنْكَر أثرُه في الفكر العربي الحديث، وسواءٌ علينا أكان هذا الأثر ممَّا نَرضى عنه أم كنَّا نُعارض فيه ونقف دونه، ونخالِف على صحَّته أو بطلانه.
وعقيدتي أن حقيقة الحياة هي المبدأ والإيمان به، وبغيرهما ينقلب الإنسان آلةً عاملةً، لا يعرف معنى الإيجاد والإبداع والمقاومة، والنزوع العقلي والرُّوحي إلى المعاني السامية والفضائل العُلويَّة.
وكذلك يفقد الإنسان الحياةَ، وكذلك يضيع التراث الإنساني الذي جاهدت أجيالُ البَشَرِ الغابرةُ في سبيله، بما وُهبت من قوةٍ، وما أُعينت به من وسيلةٍ.(145/4)
إنَّ صحَّة المبدأ وحدَها كفيلةٌ بإحداث أعظم الآثار في تاريخ العقل الإنساني، وأما الإيمان بهذا المبدأ فهو إعطاء العقل قوَّة التدبير ليُخرج حقائقه وأمانيَّهُ إخراجًا عمليًّا في الحياة.
لقد كان المبدأ الأول "للعصور" هو حرية الفكر، وصراحة الضمير، وإخلاصٌ للوطن والعلم والأدب، هذا هو المبدأ، وقد آمن به "إسماعيل" إيمان الشباب المتوقِّد؛ فاندفع به الرأي في مَجَاهِلِهِ، فاهتدى وضلَّ، وأضاع نفسه ووجدها... لم يَبْقَ على حالةٍ يَستقرُّ عندها استقرار الحكمة الرَّزينة.
الرَّجل الحرُّ، هذا هو مبدئي ومبدأ أصحابي.
الرَّجل الحرُّ؛ أيْ: الفِكر الحرِّ، الذي يَبلغ من حريته، واتساعِ آفاقه، وبُعْدِ مَداهُ، وتَرَامِيهِ إلى الغايات البعيدة، وتساميه إلى الأجواء العُلويَّة – أن يعرف أنَّ للحرية قيودًا كثيرةً، وأنَّ الجاهل المغرور هو الذي يظنُّها انطلاقًا منَ القيد، وخروجًا من التقاليد، وتحلُّلاً من إصْر الأخلاق وأغلال الشَّرائع.
إن النفس (البُغاثية)[3] إذا انطلقت – في ضعفها وفتورها – بين حدائق الرأي وغاباته أذهلها سَعَة ما ترى من الأرض الخضراء المثمِرة المظلَّة، وخُيِّل إليها أنَّ الدنيا كلها امتدادٌ لما ترى يَنبسط على نهجٍ واحد.
ولكنَّ نفس (النَّسر) الأجدل تنطلق لترى الغاب وما وراء الغاب، فترى كيف ينتهي إلى قَفْرٍ يَحُدُّه بِجَدبه وظمأه وفَقره وإعدامه، ثم يصدُّه بجبالٍ رواسٍ شامخاتِ الذُّرى، مظلماتِ النواحي، مضلاَّت المخارم[4] ؛ فتختلف المعالم باختلاف الحدود.
أمَّا الشيء الذي لا حدَّ له، فهو شيءٌ يستحيل وجوده في هذه الدنيا، فلا جَرَم أن تكون الحُرِّيَّة شيئًا كسائر الأشياء محدودًا بحدوده.(145/5)
إني أومِن بالحرية، وأومِن بقُدرة الرجل على الإتيان بالمعجزة حين تَتمُّ فيه آيةُ الحرية؛ فلذلك لا يسعني حين أبدأ هذا العمل إلاَّ أن أقول بملء نَفَسي لمن يسمع: "من ها هنا ابدأْ"، من ها هنا ابدأْ، لا لنفسي، ولكن للناس. إن هذه كلمةٌ شاملةٌ لا يكون تفصيلها إلا عملاً في كلِّ موضعِ عملٍ.
إنَّ العمل الصَّحافيَّ لَيقتَضِيني أشياءَ كنتُ بمَنْجاةٍ منها، وكان أحبَّ إليَّ أن أفرغ لما كنتُ فيه من عمل، ولكنِّي أشدُّ حبًّا لهذا التراث العربي الإسلامي العظيم من أن أَدَعَهُ في يد مَنْ لا يقوم عليه كقيامي عليه.
إنَّ هذا التراث الإسلامي ليس وحدَهُ ما خلَّف آبائي من دِين وعلم وأدب وآثار؛ بل إن أعظم التُّراث وخيره وأروعه هو هذه النفوس التي انحدرت معنا إلى هذا العصر من أجيال القُوَّة الحرَّة المستحصدة[5] العادلة، إن هذه النفوس التي نحيا بها هي التي تطالبنا – من تحت الأدران التي غَشِيَتْها – بالعمل من أجلها وفي سبيلها لإنقاذها من التعفُّن والبِلى، ثمَّ لردِّها إلى حياة هذا العصر؛ لتُثبت أنها لا تزال نفوسًا يجب أن توصَف بالحياة.
هذه فِلَسْطِينُ الصغيرة المجاهدة المظلومة التي تحيط بها الأفاعي الذهبيةُ من كنوز اليهود تُثبت للعالم كلِّه أنَّ (الرَّجل) في العربيِّ لم يَمُتْ بعدُ، وأنَّه حين يستيقظ في داخله تستيقظ معه كلُّ الفضائل والأخلاق والتقاليد العربية التي تتوهَّج تحت شمس البادية المقفِرة... تتوهَّج كالذهب حيث يفقد الذهب قيمتَهُ المدنيَّة، هذا العربيُّ حين يحارب، ولكن أين العربيُّ العالِم العامِل المخلِص الدؤوب الذي لا يفتر؟!
إنَّني وأصحابي ممَّن أكرموني بصحبتهم، ومَنْ يكرمني بعدُ بصداقته، سوف نَرصُد قوانا كلَّها لإيقاظ الفكر العربي والإسلامي في مصر والحجاز والشام والعراق والمغرب وسائر بلاد العربية والإسلام.(145/6)
إنَّ هذا الفكر إذا جُدِّد تاريخُه القديم، وبدأ بَدْءَهُ؛ أثبت هو الآخَرُ أنَّ (العاقل) في العربي إذا انتبه، انتبهتْ فيه كلُّ الحقائق العادلة في الحياة العقليَّة والاجتماعية، وكل الأحلام الجميلة الوديعة التي تتندَّى على النفس العاملة المجهَدة بالراحة والسكينة.
إنِّي أَكتب كلمتي هذه من هذا المكان، وقد انبسطَتْ تحت عينيَّ خريطةُ رُقْعةٍ من الأرض ما بين المشرق والمغرب، أهلها إما عربٌ قد انحدروا سلالة أُمَّةٍ تاريخيةٍ قد حازت من المجد كلَّ غالٍ وكريم، وإما مسلمون من غير العرب قد اندمجوا في العرب بإسلامهم فكانوا منهم واستبقوا خيرات المجد العربي، وأعانوا على إبداع الحضارة العربية الإسلامية بقُلوبهم وأيديهم وعقولهم، غير مُقَصِّرين ولا مُتَخاذلين.
إن هذه الرُّقعة من أرض الله كانت يومًا ما نبراسَ العقل والعلم والحضارة؛ بل كانت منبع الفيض الإنساني السامي المتفوِّق؛ بل كانتْ مَعْبد الرحمة والعدل والحقِّ، والسموِّ بالطبيعة الإنسانية إلى عَنان السَّماء المشرقة بفضائلها وأخلاقها، كانت كذلك حين كانت القوة في هذه الشعوب ميراثًا لا يُضِيعُهُ وارثٌ من ورثته، فلما رُمينا بحُبِّ الخمول والكسل، انفلتت أسباب القوَّة من أيدينا، وانْفَتَل كلُّ خير، وكلُّ مجد، وكلُّ فكرٍ سامٍ، إلى مَنْ يستطيع أن يَحُوزَهُ ويَحرص عليه، ويقوم على تربيته ليربوَ بين يديه.
القوة، القوة.. إنها الفضيلة الأولى في حياة الإنسان الحيِّ، القوة... إنها عَصَب الحرية الكاملة التي تعمل بنقائها لتطهير الحياة البشرية من أدران الذُّلِّ القَذَرِ الذي يجعل الحياة جِيفةً مُنْتِنَةً على الأرض.(145/7)
إنَّ هذا الطاعون الوبيء الذي انتشر في الشرق - وفي الشرق العربي والإسلامي خاصةً، طاعون الضعف - قد فَتَّ كلَّ خيرٍ فينا وأحاله إلى فساد، فاختلفتِ الأنظار إلينا هازئةً ساخرةً بنا.. كَلاَّ؛ بل هازئةً ساخرةً بالمجد المخلَّف من عصور آبائنا الأمجاد... كلا كلا؛ بل اختلفت أنظارنا (نحن) إلى هذا الميراث النبيل بالهُزْء والسخرية والاحتقار؛ فصارت الناشئةُ منَّا إلى ازدراء ما وَرِثْنا من علم وفن وأدب ودين، وشريعةٍ اجتماعية، وفضيلةٍ أخلاقية، واندفعت إلى ما بَهَر أبصارَها من مَدَنِيَّات الأُمم.
وارَحْمَتَاهُ لنا... إنَّ الضعف قد أيقظ في الإنسان الشرقيِّ الطبيعةَ المنتكِسة، الطبيعةَ (القِرَدِيَّةَ)، طبيعة التقليد على غير هُدًى في بصيرة النفس، والفرحِ بغير انبساطٍ في حرية العقل، والفِكْرِ بغير تأمُّلٍ في عواطف القلب، والعملِ بغير ضابطٍ من قلب أو عقل أو بصيرة.
وأيُّ خيرٍ يُرجى لمثل هذا الإنسان الذي لا تحرِّكه إلا أدنأ الطبائع، وأحطُّها مرتبةً عن الإنسانية العالية السامية، التي يجب أن تتفوَّق في الإنسان المهذَّب على الإنسان الوحشيِّ المريض فيه؟!
أَكتبُ هذه الكلمة، وأنا أعلم أنَّ عمل الصَّحافة اليوم قد خرج عن أن يكون مقالاً أدبيًّا يكتبه أديبٌ متمكِّنٌ، أو قطعةً فنيةً يصوِّرها فنانٌ مبدِعٌ، أو قصيدةً دُرِّيَّةً تتلألأ على الذُّرى العالية؛ ليسمو الشاعر برواته وقرَّائه إلى أحلامها الجميلة الرائعة، تَحَفُّها أناشيدُ النفوس الرقيقة التي عَذَّبَها الأسْر في السجن الآدمي المسمَّى بالجسد.(145/8)
إني أعلمُ، وأعلمُ أن الحياة المدنية الحاضرة قدِ اقتسرت الناس على خُطَّةٍ مالية لا يُعرف فيها ما قال فلان، ولكن: ما مَلَكَ فلان؟ إني أعلم، وأعلم أن الجمهور قد اعتنقته هذه الحياة إلى طريقة هازئة ساخرة، فهو لا يُقَدِّر إلا ما يجد له لذَّةً طارئة تَهُزُّ النَّفسَ هِزَّتها الأرضية... وما يبالي بعدُ باللَّذة الخالدة التي تَبقى حلاوتها في النفس بالتأمُّل، وفي العقل بالتفكير الحرِّ، وفي القلب بالعاطفة المتفجِّرة التي تملأ إنسانية الإنسان عذوبةً ورِيًّا، ثم حنانًا ورحمةً.
إني أعلم هذا... ولكني أعلم أيضًا أنَّ الصحافة الأدبية الشرقية قدِ اندفعت في طريقٍ ليس لها أن تسلكه، أو تُصِرَّ على المسير فيه، إن هذه الصحافة قد بلغ بعضُها فيما بلغ مرتبةَ أعظمِ الصحافة في العالم، ولكنِّي أجِدُ الحقَّ والعدل أكرمَ عندي من صداقة الأصدقاء، إني أُجِلُّ كلَّ عمل، وأُقَدِّر كلَّ عامل، ولكني أُجِلُّ أُمَّتي وتاريخي، وأُقَدِّرهما بما يفوق كلَّ عمل وكلَّ عامل.(145/9)
إنَّ يمبصحافتنا التي اتَّخذنا أساسها من أُسس الصحافة الغربية - لا تنفعنا ولا تُجدي علينا إلا بقدرٍ لا يكفي ما نطالب به ونجاهد له، إن هذه الأممَ التي أخذنا عنها، واهتدينا بها، وشرعنا على منهاجها ـ: أُممٌ قد بلغتْ شُعوبُها من مرتبة الحرية والقوة ما أوحى إلى صحافتها بالنَّهْج الذي يجب أن تنهجه في تتبُّع إرادات الشعب، واستغلال أهوائه وشهواته لمصلحتها، ثم للذَّته، فلذلك كانت هذه الصحافة مُتعة المستمتع، وكان فيها لذَّة الضعيف ولذَّة القويِّ معًا، وكان فيها ما ينفع وما يضرُّ، ما يَهدم وما يبني؛ لأنَّ استفحال القوة وامتلاء النفس والعَصَب والرُّوح والقلب بآثارها وأصولها لا يجعل الشعور بما يُضعف أو يَضرُّ أو يَهدم شعورًا تامًّا يوقظ النزاع لمقاومة هذه العوامل الهدَّامة ودَرْء آثارها، وأيضًا لأنَّ القوة تحمل على البَغْي، وتجعل الاعتقاد فيها والإيمان بها نفيًا للمبالاة والاكتراث من نفس الإنسان القوي.
أما نحن؛ فإن السبيل علينا مختلفٌ، والغرض الذي من أجله ننشئ الصحافة جِدُّ مُباينٍ لأغراض الصحافة الأوروبية:
إنَّ صحافتنا صحافةُ شعوبٍ ضعيفة خاملة متهدِّمة، شعوبٌ قد فقدت فضيلة القوَّة وكلَّ أسبابها العاملة، وافتقدتْ نور الحرية النبيلة المترفِّعة على الشهوات، وبذلك صار من حقِّها على الصُّحُفيِّ أن ينظر نظرةً متأمِّلةً متعمِّقةً نافذةً شاملةً؛ ليَنهج لها النَّهْج القويم الذي يردُّ إليها ما فقدت، ويوجدها ما افتقدت، ويعمل لها عمل الأب الرحيم لولده الضعيف حتى يَشبَّ ويستحكم.(145/10)
وأنا حين فكَّرتُ في بَعْث "العصور" واحتمال تكاليف الحياة الصُّحُفيَّة، لم أُلْقِ كثيرَ بالٍ إلى مَشَقَّة المال، وهو أصلٌ في قوَّة الصحافة، ولا في النَّصَب الذي يَهُدُّ الجسد؛ لأن الرُّوح يجب أن تبقى مستعليةً بشبابها على عَجْز البدن، ولا في الآلام التي سأحملها في كلِّ شيءٍ؛ لأن الآلام هي التي تجدِّد عزم الإنسان، وتدْفَعُه إذا عَرَف كيف يحتملها مبتسمًا راضيًا.
لم أفكر في هذا ولم أُلْقِ بالي إليه، وإنما فكَّرتُ في المبدأ الذي يجب عليَّ أن أُحَدِّده لنفسي تحديد الذي يريد أن يَشْرَعَ في عملٍ يَنْتَظِمُ، وفي الغرض الذي يجب أن أُسدد إليه كلَّ سهمٍ من سهامي في هذا العمل.
إنَّ مَبْدئي ومَبدأ أصحابي - ممَّن أرتضي أن يَشْرَكَنِي في هذا العمل - هو الجهاد في سبيل القوة التي نملك بها القدرة على الاحتفاظ بهذه الحريات، والنظام الذي يسدِّد خُطانا في العمل بقوَّةٍ وحرية في إيقاظ الشعوب المستضعفَة العاجزة.
إن هذا المُجْمَل الذي تنطوي تحته أسرارُ اليقظة، يشمل الحياة الاجتماعية العربية والإسلامية كلها: حياة الفرد؛ من حيث إنه أصلٌ في تكوين الجماعة وتكييفها، وحياة الجماعة؛ من حيث إنها اشتراكٌ بين الأفراد لتكوين شعب مثقَّفٍ عالٍ عاملٍ، ويشمل الحياة الأدبية والعلمية والعملية، أوِ الحياة العقلية كلها مستغلَّةً ومنتجةً.
من وراء هذا المبدأ البسيط أهوالٌ:
أهوال النَّظر في كل ما يمتُّ إليه بسببٍ من أشياء الحياة.
وأهوال العمل على تنفيذ السياسة التي نَتَّخذها لكلِّ إرادة من إرادات الخير للمنفعة.
وأهوال التنبُّه للخطأ: كيف ينشأ، وكيف يُصلح.
وأهوال الخطر: من أين يقبل علينا وكيف يُتَّقى.
وفوق ذلك: قول الترفق على هون، والتلطُّف للنفوذ بما نريد إلى المكان الصالح؛ لاستنبات المبادئ الصالحة والأعمال الناجحة.(145/11)
فالعمل الصُّحفي في مجلتنا هذه ليس عملاً إخباريًّا ولا سياسيًّا، ولكنه عملٌ اجتماعيٌّ تمتدُّ أصولُه إلى كلِّ شيءٍ، في الشارع وفي البيت، وفي النفس وفى العلم، وفي الأدب وفي السياسة، وفي كل ما هو ممثِّلٌ للحياة التي يجب أن يصير بها الشرق العربي والإسلامي كائنًا حيًّا يعيش بنفسه ولنفسه، ثمَّ بالإنسانية وللإنسانية.
إنَّ النظرة الأولى إلى هذا المبدأ الذي نهجناه وبيَّنا بعضَ أصوله، توحي إلى النَّاظر غرورَ العمل الذي نحن مُقْبِلون عليه.
وأما النظرة الثانية: نظرة المتأمل الذي يرمي ببصره إلى الأعماق البعيدة، ثم إلى الذُّرَى العالية، ويستوعب ما عليه الأمم العربية المختلفة، وما تتباين فيه، وما تتَّفق عليه، وما يجترفها من التيارات الحديثة القوية المكتسِحة – سوف يرى مشقَّة العمل، ومشقَّة التوجيه السياسي لهذه المبادئ.
وأمَّا الغَرَضُ الذي نرمي إليه: فهو غرضٌ واضحٌ بيِّنٌ لا خفاء فيه؛ هو إصلاح الحياة التي نحياها، وإمدادها بكلِّ أسباب القوَّة والحرية والسِّيادة النفسيَّة والعقليَّة والأدبيَّة، وما يحمي هذه السِّيادة من الخضوع لاستبداد الأهواء والشهوات.
وطريقُنا طريقٌ واضحةٌ؛ هي أن ننفض الكسل عن عقولنا وأرواحنا، ونتجرَّد للحقِّ والعدل والسيادة والاستقلال.
إننا نريد أن تكون حياتُنا المنزليَّة والاجتماعيَّة، وحياتُنا العقليَّة والعمليَّة، وحياتُنا السياسيَّة والأدبية -: حياةً ممثِّلةً للفضائل الإنسانية الكاملة، ومميِّزةً لنا بتقاليدها القويمة القويَّة، وساميةً بنا إلى مرتبة المجد الذي أذهل العالم في أوانه بحضارته ورَوْعته وعبقريته وجماله.
الطريق واضحٌ بيِّنٌ؛ فيجب أن نقول، وأن نعمل وأن نؤمن بما نقول وما نعمل من سرِّ أنفسنا.. من قلوبنا.. من أحشائنا... من دمائنا... من نوازع المجد التي تتراءى لأبصارنا أحلامًا تريد أن تتحقَّق... ولابد من أن تتحقَّق.
---
[1] انتاشه: أخذه وتناوله من قريب.(145/12)
[2] احتقب: حمل.
[3] بُغاث الطيور: ألائمها وشرارها، وما لا يصيد منها.
[4] المخارم: الطرق في الجبال.
[5] المستحصَدة: القوية.(145/13)
العنوان: افتقارنا إلى الله تعالى
رقم المقالة: 194
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
21/9/1427
الحمد لله ؛ خلق الخلق بقدرته ، وكتب آجالهم وأرزاقهم بحكمته ، نحمده حمد الشاكرين ، ونستغفره استغفار المذنبين ، ونسأله من فضله العظيم ؛ فله سبحانه في رمضان هبات وعطايا لا تنقضي ، وخزائنه عز وجل لا تنفد ، وهو القائل سبحانه( وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم ) لو أعطى كل سائل مسألته ما نقص ذلك في ملكه إلا كما ينقص البحر إذا أدخل البحر ، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ؛ عظيم في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته ؛ فهو الملك الحق الكبير ، وهو العليم الخبير ( له ملك السموات والأرض وما فيهن وهو على كل شيء قدير) ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ؛ عرف ربه تمام المعرفة ، وقدره حق قدره ، فتبرأ من كل حول وقوة إلا من الله تعالى ، ونصب في طاعته سبحانه ساجدا وقائما ، وفي عشر رمضان كان يعتزل الدنيا وما فيها، معتكفا في مسجده ، خاليا بربه ، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد : فأوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله عز وجل ؛ فإنها النجاة للعبد في الدنيا والآخرة ، وما قيمة الإنسان بلا إيمان ولا تقوى ( وإن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر عظيم ).
أيها الناس: حاجة الخلق إلى الله تعالى لا يحيط بها الوصف ؛ إذ هم مفتقرون إليه في كل أحوالهم ، محتاجون إلى عونه في كل شؤونهم ..هو سبحانه موجدهم من العدم ، ومربيهم بالنعم ، وهاديهم إلى ما ينفعهم ، وصارفهم عما يضرهم ؛ فما قيمة الخلق بلا خالقهم.(146/1)
والقرآن العظيم قد عرضت آياته لهذه المسائل ، وجلت تلك الحقائق ، وكثير من الناس يغفلون عنها وهم يقرئون القرآن ، وهذه الليالي هي ليالي القرآن ، فالمسلمون في كل الأقطار يتحرون فضلها ، ويلتمسون أجرها ، فيحيونها بالتلاوة والصلاة ، وأنواع الذكر والدعاء ، وحري بهم أن يتدبروا ما يقرئون ويسمعون من كلام الله تعالى في تلك الليالي المباركات؛ ليدركوا حقيقة فقرهم لله تعالى ، ويعرفوا ما له سبحانه من المنة والفضل عليهم ، فيقودهم ذلك إلى تعظيمه وذكره وشكره وحسن عبادته.
إن ربنا جل جلاله هو الذي خلقنا وهو غني عن خلقنا ، فلم يخلقنا سبحانه ليستكثر بنا من قلة ، ولا ليستقوي بنا من ضعف ، ولا ليحتاج لنا في أي شيء ؛ فكان خلقه لنا محض فضل منه سبحانه وتعالى تفضل به علينا ( يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق في ظلمات ثلاث ذلكم الله ربكم له الملك لا إله إلا هو فأنى تصرفون ).
تخيل يا عبد الله أنك لم تخلق فماذا كان ؟! هل سيختل الكون بدونك ؟! وهل ستفتقر الموجودات إلى وجودك؟!(146/2)
ألم تمض أزمان قبل وجودك ، والكون هو الكون ، ولم يفتقر أحد إليك حتى توجد من أجله ، وبعد موتك سيعيش من يعيش ، والكون هو الكون ، والناس هم الناس ، فلا افتقرت الموجودات إلى خلقك ، ولا اختل نظامها بموتك؟ وهذه الحقيقة نص عليها القرآن في غير ما موضع ( أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا ) ( هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا ) نعم مضت أزمان قبل خلق آدم عليه السلام لم يكن للبشر فيا ذكر ؛ لأنهم غير مخلوقين ، ثم مضت أزمان أخرى بعد وجود البشر لم يكن الواحد منا فيها مذكورا معروفا ؛ لأنه لم يولد بعد ، فكان فضل الله تعالى علينا أن خلق أصل البشر ، ثم تفضل سبحانه علينا فجعلنا من نسل هذا البشر ، ولما بشر زكريا عليه السلام بالولد وتعجب أن يرزق الولد على الكبر وامرأته عاقر كان الجواب ( قال ربك هو على هين وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا ).
وسمع جبير بن مطعم وهو على الشرك قراءة النبي صلى الله عليه وسلم لسورة الطور قال: فلما بلغ هذه الآية ( أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون ) كاد قلبي أن يطير ) رواه البخاري.(146/3)
ثم بعد افتقارنا إلى الله تعالى في وجودنا بشرا سويا نفتقر إلى الله تعالى في بقائنا وبقاء جنسنا البشري ، والله عز وجل وهو الغني عنا كان ولا يزال قادرا على أن يهلكنا ويذهبنا ، وأن يبدلنا ببشر مثلنا ، بل هو القادر على أن يلغي جنسنا ، ويخلق خلقا آخر غيرنا ، يعبدون الله تعالى ولا يعصونه طرفة عين ، والقرآن ملئ بالآيات التي تثبت افتقارنا إلى الله عز وجل في استمرار بقائنا وبقاء جنسنا البشري ( وربك الغني ذو الرحمة إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين ) وفي سورة النساء ( إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين وكان الله على ذلك قديرا ) وفي سورة إبراهيم عليه السلام ( ألم تر أن الله خلق السماوات والأرض بالحق إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز ) وفي سورة المعارج ( فلا أقسم برب المشارق والمغارب إنا لقادرون على أن نبدل خيرا منهم وما نحن بمسبوقين ) وفي سورة الإنسان ( نحن خلقناهم وشددنا أسرهم وإذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديلا ).
بل جاء النص الصريح في القرآن على حقيقة افتقارنا إلى ربنا جل جلاله في بقائنا وبقاء جنسنا البشري ( يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز ).
ونحن مفتقرون إلى الله تعالى في هدايتنا وإسلامنا وإيماننا ، وإلى عبادته سبحانه وتعالى ، فلولا الله تعالى لما كنا مسلمين ولا آمنا ولا صلينا ولا صمنا ولا عملنا صالحا ، ولا جانبنا المحرمات ، ولسنا أعلى البشر شأنا ، ولا أوفرهم عقلا ، ولا أشدهم بأسا ، ولكن الله تعالى منَّ علينا بالهداية ، وضلَّ عنها غيرنا ممن لم يهتدوا ( قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين ) وقال سبحانه في الحديث القدسي :( يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم )(146/4)
واستحق جل جلاله أن نحمده ونكبره على هذه الهداية ؛ كما جاء الأمر بذلك في سياق آيات مناسك الحج ( واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين ) وفي سياق آيات الصيام ( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون ).
وكم من شخص ضلَّ الطريق إلى الإيمان فلا هادي له ، بل الكثرة الكاثرة من البشر هم أهل الضلال ، ومأواهم إلى النار، وربنا سبحانه جعلنا من المؤمنين وهم الأقلون ، واقروا آيات الهداية والضلال في كتاب الله تعالى تعرفوا قدر نعمة الله عليكم بالهداية ، وتدركوا مدى افتقاركم إليه سبحانه في الثبات على الإيمان ، فقد أنكر عز وجل على من أراد أن يهدي من أضله الله ، وصرح بأن من أضله الله لا يوجد سبيل إلى هداه فقال سبحانه ( أتريدون أن تهدوا من أضل الله ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا ) وفي الآية الأخرى ( ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا) وفي آية ثالثة (من يضلل الله فلا هادي له )
ولا زلنا مفتقرين إلى الله تعالى في الديمومة على إيماننا ، والثبات على إسلامنا ، فلا ثبات لنا إلا بالله تعالى وعونه وتوفيقه ؛ ولذا ذكر سبحانه عن الراسخين في العلم أنهم يقولون ( ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا ) والمصلي يتلوا في كل ركعة هذا الدعاء المبارك ( اهدنا الصراط المستقيم ).
ونحن مفتقرون إلى الله تعالى في رزقنا فمن ذا الذي يرزقنا غير ربنا وخالقنا والمنعم علينا ، والخلق مهما كانت عظمتهم ، أو بلغت قوتهم ، أو علت مكانتهم لا يرزقون أنفسهم فضلا عن أن يرزقوا غيرهم ، فكلهم عيال على الله تعالى ، يسوق إليهم أرزاقهم حيث كانوا ( وما من دآبة في الأرض إلا على الله رزقها ) (وكأين من دآبة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم وهو السميع العليم ).(146/5)
وقد جمع الله تعالى ذكر افتقارنا إليه سبحانه في الخلق والرزق في آيات كثيرة ؛ وذلك أنه لا قوام لنا ، ولا بقاء لجنسنا بعد أن خلقنا ربنا جلل جلاله إلا برزقه الذي رزقنا (الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء سبحانه وتعالى عما يشركون ) وأمرنا سبحانه بدوام تذكر هذه النعمة العظيمة وعدم نسيانها ( يا أيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض).
ولو حبس عنا رزقه فمن يرزقنا ( أمن هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه ) فالرزق إنما يطلب ممن يملكه ويقدر عليه ، وربنا جل جلاله بيده خزائن السموات والأرض ( إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقا فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون )
إننا مفتقرون إلى الله تعالى في طعامنا وشرابنا وكسائنا وصحتنا وعلاجنا وفي كل شئوننا ، وقد قال الله تعالى في الحديث القدسي( يا بنى آدم كلكم كان ضالا إلا من هديت ، وكلكم كان عاريا إلا من كسوت ، وكلكم كان جائعا إلا من أطعمت ، وكلكم كان ظمآن إلا من سقيت ، فاستهدونى أهدكم ، واستكسوني أكسكم ، واستطعموني أطعمكم ، واستسقوني أسقكم ) رواه أحمد بإسناد على شرط مسلم.
وفقرنا إلى الله تعالى دائم معنا ، ملازم لنا ، فكل حركاتنا وسكناتنا بتقدير الله تعالى وتدبيره ، أقر بذلك من أقر به ؛ فخضع لعبادة مولاه جل جلاله ، فكان من الناجين الفائزين ، وأنكره من أنكره ، فاستكبر عن عبادته سبحانه ، فكان من الهالكين المعذبين.(146/6)
فاعرفوا لله تعالى حقه ، وأقروا بفضله ، وتبرئوا من كل حول وقوة إلا بالله تعالى ؛ فإن ذلك التبرؤ إلا من حول الله تعالى وقوته كنز من كنوز الجنة ؛ لأن فيه اعترافا بالفقر الدائم إلى الله تعالى ، روى أبو موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى عليه وهو يقول :( لا حول ولا قوة إلا بالله ، فقال: يا عبد الله بن قيس ، ألا أدلك على كلمة هي كنز من كنوز الجنة: لا حول ولا قوة إلا بالله) رواه الشيخان.
(وله ما في السماوات والأرض وله الدين واصبا أفغير الله تتقون ، وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون ، ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون ، ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون ) بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم....
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين ؛ أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ، أحمده كما ينبغي له أن يحمد ، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ؛ قيوم السموات والأرض ، خضع الخلق لأمره ، وذلوا لسلطانه ، ولم يخرج أحد عن حكمه ( له ما في السماوات والأرض كل له قانتون ، بديع السماوات والأرض وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون ) وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ؛ كان يطيل قيام الليل حتى تتفطر قدماه ، قالت عائشة رضي الله عنها :( إن كان النبي صلى الله عليه وسلم ليقوم ليصلي حتى ترم قدماه أو ساقاه فيقال له ، فيقول: أفلا أكون عبدا شكورا ) صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه أمهات المؤمنين ، وأتباعه إلى يوم الدين .(146/7)
أما بعد : فاتقوا الله - عباد الله - فإنكم في ليال عظيمة ، تغفر فيها الذنوب ، وترفع الدرجات ، وتستجاب الدعوات ، وتقال العثرات ، ويعتق الله تعالى خلقا كثيرا من عباده من النار ، وفيها ليلة مباركة من أدركها وهو على عمل صالح فقبل الله تعالى منه فقد نال خيرا عظيما ، وحاز فضلا كبيرا (ليلة القدر خير من ألف شهر ، تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر ، سلام هي حتى مطلع الفجر ).
أيها المسلمون : كان دأب الرسل إليكم ، وسبيل الصالحين قبلكم :الافتقار إلى الله تعالى ، والانطراح بين يديه ، والاعتراف له بالعجز والفاقة ، والضعف والحاجة ، والتبرؤ من الحول والقوة.
هذا خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام يتبرأ من أصنام قومه ، ويعلن فقره لله تعالى في كل شئونه الدنيوية والأخروية ( قال أفرأيتم ما كنتم تعبدون ، أنتم وآباؤكم الأقدمون ، فإنهم عدو لي إلا رب العالمين ، الذي خلقني فهو يهدين ، والذي هو يطعمني ويسقين ، وإذا مرضت فهو يشفين ، والذي يميتني ثم يحيين ، والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين ).
اعتراف منه عليه السلام بفضل الله تعالى عليه ، وإعلان الفقر والحاجة إليه ، وتعداد نعمه عليه.
ونبيكم محمد صلى الله عليه وسلم كان أشد الناس فقرا إلى الله تعالى ، واعترافا بفضله ، وتعدادا لنعمه ، وتعلقا بجنابه ، وإلحاحا في دعائه ، دعاه عليه الصلاة والسلام رجل من أهل قباء ، فلما طعم وغسل يديه قال: الحمد لله الذي يطعِم ولا يطعَم ، منَّ علينا فهدانا وأطعمنا وسقانا ، وكل بلاء حسن أبلانا ، الحمد لله غير مودع ولا مكافىء ولا مكفور ولا مستغنى عنه ، الحمد لله الذي أطعم من الطعام ، وسقى من الشراب ، وكسا من العري ، وهدى من الضلالة ، وبصر من العماية ، وفضل على كثير ممن خلق تفضيلا ، الحمد لله رب العالمين ) صححه ابن حبان والحاكم.(146/8)
وكان عليه الصلاة والسلام يربي ذريته وأمته على دوام الافتقار إلى الله تعالى ، والإقرار بالحاجة إليه سبحانه في كل شيء ، روى أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لابنته فاطمة رضي الله عنها:( ما يمنعك أن تسمعي ما أوصيك به أن تقولي إذا أصبحت وإذا أمسيت : يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين ) رواه الحاكم وصححه.
فسيروا - رحمكم الله تعالى - سيرة الأنبياء والصالحين في افتقارهم إلى الله تعالى ، وإعلان الحاجة إليه ؛ فكم نحتاج إلى إحياء هذا الافتقار في القلوب ، بعد أن قست بالذنوب.
لنعلن يا عباد الله في هذه العشر المباركة فقرنا إلى الله تعالى، ولنلح عليه بالدعاء ، فما أفقرنا إلى ربنا جل في علاه ، وما أحوجنا إليه.
إننا مفتقرون إلى الله تعالى في صلاح قلوبنا ، وزكاء أعمالنا، واستقامتنا على ديننا ، وكل ذلك بيد الله تعالى إذ إن قلوبنا بين أصبعين من أصابعه يقلبها كيف شاء.ومفتقرون إليه سبحانه في حفظ أنفسنا وأولادنا وأموالنا من الأمراض والحوادث والجوائح.ومفتقرون إليه سبحانه في دوام أمننا واستقرارنا ، وفي حفظ بلادنا وبلاد المسلمين من مشاريع الكفار والمنافقين.ومفتقرون إليه عز وجل في ديمومة النعم التي أنعم بها علينا ، فهو من يملك بقاءها وزوالها.
ما أفقرنا إلى الله تعالى في صلاح بيوتنا ، واستقامة أزواجنا وأولادنا على ما ينفعهم في الدنيا والآخرة.وما أفقرنا إلى عفو ربنا ورحمته ؛ لنعتق من النار ، ويكتب لنا الرضوان ، ولربنا تبارك وتعالى في هذه العشر المباركة هبات وعطايا فما أشد حاجتنا إليها.(146/9)
فتعرضوا لنفحات ربكم ، بدعائكم وإلحاحكم ، وإقراركم بفقركم إلى ربكم ، ولا تغتروا بجاهكم وأموالكم وصحتكم ورغد عيشكم ، وما بسط عليكم من النعم ؛ فإن ذلك من أبين الدلائل على فقركم ؛ لأنكم وقعتم في أسرها ، ولا تطيقون فراقها ، ولا يملك دوامها لكم إلى الله تعالى ، فافتقروا إليه سبحانه يغنكم ، ولا تستغنوا بغيره فتهلكوا.
انطرحوا بين يديه في هذه الليالي المباركات خاشعين باكين، داعين مستغفرين ، تقرون بفضله ونعمته عليكم ، وتعترفون بجرمكم وتقصيركم في حقه ؛ فإن ربكم غني حميد ، جواد كريم ، إن علم صدقكم ، ورأى ذلكم ، وسمع تضرعكم ؛ غفر لكم ، وأعطاكم سؤلكم ، ودفع الشر عنكم ( ومن يغفر الذنوب إلا الله ) (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون ). وصلوا وسلموا على نبيكم....(146/10)
العنوان: (أفريكوم).. والحرب على القاعدة في إفريقيا
رقم المقالة: 1064
صاحب المقالة: محمد مصطفى علوش
-----------------------------------------
في الوقت الذي تزدادُ فيه النزاعاتُ العِرْقية والحدودية في كثير من دول القارة الإفريقية، تعلن الولاياتُ المتحدة عن عزمِها بناءَ قاعدةٍ عسكرية لها في إفريقيا، على الرغم من اعتراض كثير من دول القارة بما فيها دول شمال إفريقيا، إلى أن تم في 13 من تموز/يوليو 2007 اختيارُ أول رئيس للقيادة العسكرية المذكورة (التي باتت تعرف باسم "أفريكوم") إذ يتولى الإشراف على العمليات اليومية للقوات الأميركية والمصالح العسكرية في 92 بلدا، تضم غالبية الدول الإفريقية.
يقف المرء متسائلاً عن سبب التزامن بين إعلان تعيين أول رئيس لقاعدة "أفريكوم" في الوقت الذي يصرح فيه البيتُ الأبيض أن شمال إفريقيا بات من أكثر المناطق انتشارا وتوسعاً لتنظيم القاعدة؛ خصوصاً أن من مهمة القاعدة الأمريكية -بحسب ما أعلن الرئيس بوش سابقاً- تنسيق التعاون الأمني الحالي مع الدول الإفريقية، والذي أكده بوضوح وزارةُ الدفاع الأميركية في بيان أصدرته يوم 10 من تموز/يوليو الجاري "إن هدف القيادة العسكرية الأمريكية الخاصة بإفريقيا هو المساعدة في بناء قدرات الدول الإفريقية والمنظمات الإفريقية".
ثم ما الذي يمكن أن تقدمه الولايات المتحدة الأمريكية للدول الإفريقية أكثر مما قدمته للعراق وأفغانستان، وهما الدولتان اللتان يوجد فيهما أكبر عدد من القواعد العسكرية الأمريكية المنتشرة في العالم؟!(147/1)
وفي ظل تحرك تام وتحكم كامل للقيادة الأمريكية سياسيا واقتصاديا وعسكريا في مصير هاتين الدولتين، يخرج علينا "التصنيف السنوي للدول الفاشلة" لعام 2007 والذي تعده سنوياً مجلة "السياسة الخارجية الأمريكية"، ومركز "أبحاث صندوق السلام"، في تصنيف الدول الفاشلة بناء على 12 معيارًا؛ أهمها: النزاعات الداخلية، وتدهور الاقتصاد، وعدم دور مؤسسات الدولة وإداراتها، ونسبة الجريمة، إضافة إلى الضغط الديمغرافي، والنزوح الداخلي والتهجير، ووجود جماعات الانتقام، وعدم احترام حقوق الإنسان، وتدخل دول أخرى في شؤون البلاد. ليقول إن العراق وأفغانستان -اللتين تحتلهما أمريكا- بين الدول العشر الأكثر فشلاً في العالم!!.
وما الذي يمكن أن تقدمه إدارة بوش للشعب الأمريكي الذي تزداد الضرائب عليه لتمويل الحرب على الإرهاب، والتي كلفت الخزينة الأمريكية مبالغ باهظة جدا؛ فبحسب دراسة مفردة أعدتها هيئة الأبحاث في الكونغرس فإن الولايات المتحدة أنفقت منذ بدء الهجمات على أفغانستان والعراق في 11 من أيلول 2001 نحو 610 مليارات من الدولارات على هذين النزاعين، وكانت معظم التكاليف في العراق، والتي قدرت بـ450 مليار دولار أنفقت حتى الآن.
لا شك أن إفريقيا بلد استراتيجي هام، وتزاد أهميته الاستراتجية يوما بعد يوم بعد أن ازداد التوجهُ نحو مصادر أخرى للنفط غير موارد الشرق الأوسط في غياب تكامل اقتصادي وعسكري بين الدول الإفريقية، وعدم التنسيق بين الدول الإفريقية على القضايا الأساسية الهامة والمصيرية بينها، وفي ظل صراع أمريكي صيني عليها؛ إذ إن الصناعات الصينية تغزو أفريقيا، والتي يواكبها نفوذ سياسي لدرجة أن الولايات المتحدة طلبت من القيادة الصينية الضغط على حكومة البشير في السودان لقَبول قوات دولية في دارفور الغنية بالموارد الطبيعية.(147/2)
لكن ذلك وحده لا يكفي لتفسير الوجود الأمريكي في القارة الأفريقية، فتقارير البنتاغون -منذ خروج (بن لادن) من السودان وإخراج الأمريكان من الصومال- تتحدث عن تنامي تنظيم القاعدة في معظم القارة، لا سيما في الشمال والوسط، وأن لها مراكز تدريب في أكثر من بلد إفريقي، ولا ننسى كيف أن الطائرات الأمريكية تتبعت من اشتبهت في انتمائهم للقاعدة من قادة المحاكم الإسلامية عقب بداية المواجهات بينها وبين الجيش الإثيوبي الغازي.
وحتى تستطيع الإدارة الأمريكية السيطرة على منابع النفط وحماية أنابيب النفط والغاز من شرق ووسط إفريقيا إلى غربها وصولاً للمحيط الأطلسي لا بد من تعزيز وجودها في عموم القارة تحسباً لمواجهة جديدة مفتوحة بين القاعدة من جانب وأمريكا وحلفائها في الحرب على الإرهاب من جانب آخر.
ونحن نستشف هذا الإصرار من قبل الرئيس الأمريكي الذي سوّغ وجود قواته في العراق بالحد من نفوذ وانتشار تنظيم القاعدة المصمم على تحقيق أهدافه المعادية للولايات المتحدة الامريكية قائلاً: "إذا أفلحت القاعدة في العراق فإنها ستتابع أهدافها المعلنة بتحويل العراق إلى قاعدة من حيث ستنطلق للإطاحة بحكومات معتدلة في المنطقة، وفرض عقيدتها الحاقدة على الملايين، وشنّ هجمات جديدة ضد أميركا وأمم أخرى".
ثم على افتراض انتشار للقاعدة وبشكل كثيف في شمال إفريقيا فهل يستطيع بوش مكافحتها بسياسته تلك؟! وهو الذي أخفق في مواجهتها في العراق وأفغانستان، لا سيما أنه استعان بفصائل من المقاومة العراقية المحاربة للجيش الأمريكي في العراق وزودها بالسلاح لمواجهة القاعدة في ديالا والأنبار وغيرها؟(147/3)
بل إن سياسة بوش الاستعلائية والعدائية للشعوب الإسلامية ومواردها زادت من تنامي الحركات المتشددة على نمط القاعدة، فعلى سبيل المثال تورد "الفاينانشل تايمز" البريطانية مؤخراً تقريراً بعنوان "الوقت ضيق لوقف المد الجهادي" تؤكد فيه أن "جهاز مناعة الأنظمة العربية ينهار"، متابعة: "ورغم أن التفجيرات الإرهابية من الدار البيضاء إلى إسطنبول، ومن بالي إلى مومباي، ومن الرياض إلى عمان، ومن لندن إلى مدريد، كانت مروعة فعلا، فإن الخطر الجهادي الحقيقي يترعرع في الظلام كالفطريات السامة، لينتشر في كل الشرق الأوسط.
وينقل "ديفيد بروكس" من جهته في صحيفة "نيويورك تايمز" بتاريخ 19/5/2007، عن خريج أكاديمية "قوة سلاح الطيران" الذي عمل ضابطاً في الوحدة الخاصة بمكافحة الإرهاب "جون روب" والذي كرس جزءاً طويلاً من وقته خلال السنوات القليلة الماضية، في الدراسة التفصيلية لسلوك هذه الجماعات، ونشر خلاصة ما توصل إليه في كتابه "الحروب الجسورة الجديدة" اعتقاده أنه ليس هناك من معنى لمحاولة قطع رأس هذه الحركة –أي القاعدة- أو لتفكيك بنيتها التنظيمية؛ لأنها تفتقر لمثل هذه العناصر والمكونات أصلاً في بنيتها الهيكلية، وبدلاً من ذلك، فإنها تتألف من مجموعات شتى يائسة ومصممة على تنفيذ ما تريد، ولها القدرة على تبادل المعلومات فيما بينها، وكذلك تبادل الخبرات والتجارب الميدانية، إلى جانب قدرتها على الاستجابة السريعة للتغيرات والمؤشرات البيئية الميدانية المحيطة بها.(147/4)
بل إن أخطر ما يلحظه الباحث فيما يتعلق بأيديولجية القاعدة أنها ليست طامحة في تسلم زمام السلطة والقيادة في البلدان التي تنشط فيها، "وإنما يقتصر الهدف الوحيد الذي تسعى هذه الجماعات الحديثة لتحقيقه، على إضعاف الدول والحكومات، حتى يزدهر ويتسع نشاطها، في فضاء الفوضى وعدم القانون، الذي تتعمد خلقه لنفسها هناك. وبما أن الهدف الاستراتيجي لهذه الجماعات هو انهيار القانون والنظام، فإن ذلك هو الذي يفسر عدم حاجتها أصلاً لبناء أي شيء أو تحمل أية مسؤولية كانت.
فهل سنشهد جبهة جديدة من المواجهة المفتوحة بين القاعدة والولايات المتحدة الأمريكية في القارة الإفريقية مع تزايد الوجود الأمريكي في دول القارة؟
وهل يستطيع بوش فيما تبقى من ولايته أن يحقق ما عجز عن تحقيقه في هزيمة القاعدة في العراق وأفغانستان خصوصاً أن القارة تعيش نزاعات وصراعات داخلية وانكشافات أمنية في أكثر من بلد وإقليم؟(147/5)
العنوان: أفضل قدوة وأعظم معلِّم
رقم المقالة: 142
صاحب المقالة: آلاء محمد مرهف عبدي
-----------------------------------------
فلكل أمّة رسول تقتدي به في جميع شؤونها ، ولكل فرد شخصية تكون مثله الأعلى في هذه الحياة ويحب أن يكون مثلها ..
ونحن المسلمين نملك أفضل قدوة وأعظم معلم ، وهو الشخصية المثالية التي يتمنى الجميع الاقتداء بها ، فصاحب هذه الشخصية رمز الصدق والأمانة والأخلاق الفاضلة ...
وأنا كفتاة مسلمة أريد أن أعرف أصدقائي الأطفال على ديني ونبيي .
إن رسولي اسمه محمد وهو الذي جاء بدين الإسلام العظيم ، وهو الشخص الذي أرسله الله تعالى إلينا ليعرفنا الفرق بين الخير والشر ، فمن اختار الخير فله الجنة ، ومن اختار الشر فله النار ، وهو الذي نشر رسالة الإسلام في البلاد ونشر معها الحب والسلام لقد أتى إلى هذا العالم بعد ما انتشر فيه الظلم والوحشية ، والقوي فيه يأكل الضعيف ، فجاء ليخلصنا من الشر والحروب ونشر دين الإسلام الذي أنهى به عصر الجهل والظلام ..
فجاء يأمر بالأخلاق الحسنة وينهى عن الأخلاق السيئة ، وكان صادقاً أميناً يحب الخير لجميع الناس ويعلمهم كيف يعيشون سعداء ، وكان متواضعاً رحيماً حسن المعاملة والخُلق ، وقال من عاش معه: ( كان خلقه القرآن ) ، فكان أحسن الناس خلقاً وأشجع الناس وكان لا يستكبر أن يمشي مع المساكين والخدم ، ولا يضرب الخدم ولا يسبهم ، وكان لا يأتيه أحد يريد حاجة إلا قضاها له قبل أن ينصرف
لذلك نحن نسير على سنته ونهتدي بهديه في طعامنا وشربنا ، وفي ملبسنا وفي نومنا وفي جميع أمورنا !
قال الله تعالى : ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ) .
فلم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الإسلام فحسب ! ولكن علمنا جميع أمور الحياة ، فهو يعلمنا رحمة الله عز وجل بنا ، وكيف نبث الرحمة والتفاؤل في كل(148/1)
مكان ، و يعلمنا آداب الطعام ، وأن نسمي الله ، وأن نأكل بيدنا اليمنى ، ونأكل من أمامنا ، كما علمنا النظافة ، كما علمنا أن نغسل أيدينا قبل الطعام ، وأن ننظف أسناننا ، ويعلمنا أن نمارس الرياضات المفيدة مثل السباحة و ركوب الخيل .
وعلمنا أن نقص أظافرنا ، كما علمنا أن نطيع والدينا ونحترمهما ولا نعصيهما أبداً حتى ندخل الجنة ، وعلمنا أن نحترم الكبير ، و نعطف على الصغير ، ونساعد الفقراء والمحتاجين ، وعلمنا الرفق بالحيوان وأن نطعمه ولا نؤذيه .
كما علمنا الصدق ونهانا عن الكذب ، وشجعنا على تلاوة القرآن وحفظه وقال صلى الله عليه وسلم : ( خيركم من تعلم القرآن وعلمه ) .
وإنني الآن أحفظ من كتاب الله ثلاثة أجزاء وأتمنى أن أختم القرآن كاملاً ..
وقد علمنا حسن استقبال الضيوف وإكرامهم وعلمنا السلام على الآخرين والتبسم في وجوههم ، وحثنا على الأمانة وعدم الغش ، وأمرنا بالتطيب ، وكان يحب الروائح الطيبة وإذا أتى عُرف من رائحة الطيب ،
فمن هذا نعرف بأن رسالته التي جاء بها هي منبع الصدق والرحمة ، فهو يحب جميع الناس ويحب الأطفال خاصة ، فقد كان رؤوفاً رحيماً يعطف على الصغار ويرحمهم ويلاعبهم ويقدم لهم الهدايا ويقيم بينهم المسابقات .
لذلك يجب علينا نحن الأطفال أن نبادله نفس الحب .
وقد جعل لنا عيدين في العام نلعب فيهما ونلهو ونشتري الحلويات ونلبس ملابس جديدة ونأخذ الهدايا ونزور أقاربنا وأصدقاءنا .
فبعد كل هذا ! لماذا لا أحبه صلى الله عليه وسلم قولاً وفعلاً وأتخذه مثلاً أعلى في هذه الحياة ؟؟؟
وإذا كنت أحبه حباً حقيقياً علي باتباع سنته وأنا دائماً أتبع ما يأمرني به الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنا أحبه أكثر من كل شيء فهو سيكون السبب في دخولي الجنة إن اتبعت ما يأمرني به واجتنبت ما ينهاني عنه ، وبذلك أكون قد أخلصت في حبي له .(148/2)
فقلبي يعيش المبادئ الصحيحة والأخلاق الحسنة التي اكتسبها من النبي صلى الله عليه وسلم ، فأنا لا أنقطع عن نبيي العظيم وأتصل به دائماً عن طريق سماع سيرته وأسلم عليه دائماً وهو يرد علي السلام وأنا أجعله المثل الأعلى والقدوة الأولى في حياتي ، وحين أذكره في كل وقت كأنني أراه ، كما أنني أشتاق دائماً لرؤيته وأتمنى مرافقته في الجنة .
فأكون دائماً المسلمة المتبعة لنبيها الكريم و إنني أفتخر دائماً بانتمائي إلى محمد صلى الله عليه وسلم وأحب جميع الأنبياء وخاصة محمد صلى الله عليه وسلم لأنه أفضلهم جميعاً وهو خاتم الأنبياء والمرسلين ، ولأن حبه هو من أساسيات إسلامي ولا يكون المسلم مؤمناً كاملاً إلا إذا أحب نبيه أكثر من كل شيء ..
بنت الإسلام
آلاء محمد مرهف عبدي(148/3)
العنوان: أقسام الناس بالنسبة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
رقم المقالة: 760
صاحب المقالة: سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
-----------------------------------------
الحمد لله العليم الحكيم الرؤوف الرحيم خلق العباد وقسمهم إلى طائع مثاب وعاص أثيم وقدر لعباده من الأسباب المعنوية والأسباب الحسية ما يمنعهم من ارتكاب المعاصي وهو القوي العظيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة أرجو بها النجاة من العذاب الأليم والفوز بالنعيم المقيم، وأشهد أن محمداًً عبده ورسوله وحبيبه وخليله المبعوث بما يصلح الخلق في الدنيا والدين صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم في هديهم القويم وسلم تسليماً.
أما بعد، أيها الناس اتقوا الله تعالى واعلموا أنه إنما ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون، وأن ما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم، ويعفو عن كثير. ففساد الأرض ومصائب الخلق هي حصائد أعمالهم وعواقب أفعالهم.
أيها المسلمون، إن الواجب علينا أن يأخذ حلماؤنا على أيدي سفهائنا ويأطروهم على الحق أطرا قبل أن يهلكوا جميعا. فقد جاء في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده، وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فصار بعضهم في أعلاها وبعضهم في أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا (يعنون في أسفلها) خرقاً ولم نؤذ من فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً وإن أخذوا على أيديهم (يعني منعوهم من خرق أسفلها) نجوا ونجوا جميعا)).(149/1)
أيها المسلمون: إن الناس بالنسبة إلى تغيير المنكر منهم من يستطيع تغييره بيده ومنهم من لا يستطيع إلا بلسانه ومنهم من لا يستطيع إلا بلقبه، وقد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يجب على كل واحد من هؤلاء فقال: ((من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان)).
أيها المسلمون: إننا إذا قمنا بتغيير المنكر حسب استطاعتنا أفلحنا بأنفسنا وأصلحنا مجتمعنا وحصلت لنا الرفعة في الدار الدنيا وفي الآخرة، أما إذا ضيعنا الواجب علينا في ذلك فستكون النتيجة وخيمة، تكثر المعاصي ويظهر الفسوق وتحل العقوبات، نعوذ بالله من ذلك.
أيها المسلمون: إن واقع الناس لا يخلو من أربع حالات:
أحدها: أن يقوى الإيمان ويقوى السلطان وهذه أكمل الأحوال وأحسنها. فبقوة الإيمان تحصل تقوى الله وخشيته في السر والعلانية، ويمتنع الناس من المعاصي عن رغبة في ثواب الآخرة وخوف من الله عز وجل. ولو قدر أن أحداً سولت له نفسه بمعصية يوماً من الأيام لذكر قوة السلطان فرجع عما هم به وارتدع.
الحال الثانية: أن يقوى الإيمان ويضعف السلطان وهذه أقل درجة من الأولى وأضعف، فإنه ربما لا يرتدع عن المعصية من سولت له نفسه فعلها يوماً من الأيام إذا علم أن السلطان ضعيف، ولكن يحصل بهذه الحال خشية الله سراً وعلناً ورجاء ثواب الآخرة وهذه فائدة كبيرة.
الحال الثالثة: أن يضعف الإيمان ويقوى السلطان وهذه أضعف بكثير مما قبلها، فإنها لا تمنع من فعل المعاصي سراً ولكن تمنع من المجاهرة بالمعصية خوفا من السلطان، فإن ضعيف الإيمان إذا علم أنه إذا علم به أدب تأديبا صارما يردعه فإنه يمتنع عن المجاهرة بالمعصية ويكون خائفا.(149/2)
الحال الرابعة: أن يضعف الإيمان ويضعف السلطان فهذه أخطر الحالات على المجتمع وشرها، فلا إيمان يمنع عن المعاصي سراً ولا سلطان يردع عن المعاصي جهراً، وإذا كان الناس بهذه الحال ضعف إيمان وضعف سلطان كثرت المعاصي وانتشرت وأسرت وأعلنت فلا حول ولا قوة إلا بالله. ولقد كان من سياسة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه إذا رأى ضعف الإيمان في القلوب وكثرة ارتكاب الناس للمعصية زاد في تعزيرهم وعقوبتهم فيما ليس فيه عقوبة محدودة شرعاً، وهذا كمال السياسة لمصالح العباد.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يوماً لاَ يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شيئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [لقمان:33].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم... إلخ.(149/3)
العنوان: أقسام الناس في الصيام
رقم المقالة: 1324
صاحب المقالة: سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
-----------------------------------------
الحمد للهِ الَّذِي أتقَنَ بحكمتِهِ مَا فَطرَ وبنَى، وشرعَ الشرائعَ رحمةً وحِكْمةً طريقًا وسنَنًا، وأمرنَا بطاعتِه لا لحَاجتِهِ بلْ لَنَا، يغفرُ الذنوبَ لكلِّ مَنْ تابَ إلى ربَّه ودَنا، ويُجزلُ العطَايَا لمَنْ كان مُحسنًا {وَالَّذِينَ جَهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69] أحْمده على فضائلهِ سِرًّا وعلَنًا، وأشهد أنْ لا إِله إِلاَّ الله وحدَه لا شريكَ له شهادةً أرْجو بها الفوزَ بدارِ النَّعيمِ والْهنَا، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولهُ الَّذِي رفَعَه فوقَ السموات فدَنَا، صَلَّى الله عليه وعلى صاحِبه أبي بكر الْقائمِ بالعبادةِ راضيًا بالعَنا، الَّذِي شَرَّفه الله بقوله: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40]، وعلى عُمرَ المجدِّ في ظهور الإِسلام فمَا ضعُف ولا ونَى، وعلى عثمانَ الَّذِي رضيَ بالْقَدرِ وقد حلَّ في الفناءِ الفنا، وعلى عليٍّ الْقريبِ في النَّسب وقد نال المُنى، وعلى سائرِ آلِهِ وأصحابه الكرام الأمَنَاء، وسلَّم تسليمًا.
إخواني: سبَقَ في المجلس الثالث أنَّ فَرْضَ الصيام كان في أولِ الأمر على مرْحلتين، ثم استقرتْ أحْكامُ الصيامِ فكان الناسُ فيها أقسامًا عَشرَةً:
القسمُ الأوَّلُ:(150/1)
المُسلِمُ البالغُ العاقلُ المقيمُ القادر السالمُ من الموانعِ، فيجبُ عليه صومُ رمضانَ أدَاءً في وقتِه لدلالةِ الكتاب والسُنَّةِ والإِجْماع على ذلك، قال الله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلّم: ((إذا رأيتمُ الهلاَلَ فصُوموا))؛ متفق عليه. وأجمع المسلمونَ على وُجوبِ الصيامِ أداءً على مَنْ وصفنا.
فأمَّا الكافرُ فلا يجب عليه الصيام ولا يصِحُّ منه لأنَّه ليس أهلاً للعبادةِ، فإذَا أسْلمَ في أثْناءِ شهرِ رمضانَ لم يلزمه قضاءُ الأيام الماضية، لقولِه تعالى: {قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال:38]. وإنْ أسْلمَ في أثَناءِ يوم منه لزمه إمساكُ بقيِّة اليَومِ لأنَّه صار من أهلْ الوجوبِ حين إسلامه ولا يلزمه قضاؤه لأنه لم يكن من أهل الوجوب حينَ وقْت وجوبِ الإِمسَاكِ.
القسم الثاني:
الصغيرُ فلا يجب عليه الصيامُ حتى يبلُغَ لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلّم: ((رُفِعَ القَلَمُ عن ثلاثةٍ: عن النائم حتى يستيقِظَ وعن الصغير حتى يكْبُرَ وعن المجنونِ حتى يفيقَ))؛ رواه أحمدُ وأبو داودَ والنسائيُّ وصححه الحاكم. لكن يأمُرُه وليُّه بالصومِ إِذَا أطاقه تمرينًا لَهُ على الطاعة ليألفَهَا بعْدَ بلوغِهِ اقتداءً بالسلفِ الصالح رضي الله عَنْهم. فقد كان الصحابةُ رُضوان الله عليهم يُصَوِّمُون أولادَهم وهُمَ صِغارٌ ويذْهَبون إلى المسجد فيجعلون لهم اللُّعْبةَ من الْعِهنِ (يعني الصوف أو نحوَه) فإذا بكَوا من فقْدِ الطعامِ أعطوهُم اللعبة يتَلهَّوْن بها.(150/2)
وكثيرٌ من الأولياءِ اليومَ يغْفُلونَ عن هذا الأمْرِ ولا يأمرونَ أولادَهم بالصيام، بلْ إنَّ بعْضَهم يمنعُ أولادَه من الصيامِ مع رغْبَتهم فيه يَزعُم أنَّ ذلك رحمةً بهم. والحقيقةُ أنَّ رحْمَتهمْ هي القيامُ بواجب تربيتهم على شعائر الإِسلام وتعالِيْمهِ القَيِّمةِ. فمنْ مَنعهم مِن ذلك أوْ فرَّط فيه كان ظالمًا لهم ولِنَفْسه أيضًا.. نعَمْ إنْ صَاموا فَرأى عليهم ضَررًا بالصيامِ فلا حرجَ عليه في منعهم منه حِيْنِئذٍ.
ويَحْصل بُلوغُ الذكر بواحدٍ من أمور ثلاثةٍ:
أحدُها: إِنزالُ المَنيِّ باحتلامٍ أو غيرهِ لقولِه تعالى: {وَإِذَا بَلَغَ الاَْطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُواْ كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} [النور:59]، وقولِهِ صلى الله عليه وسلّم: ((غُسْلُ الجُمُعةِ واجِبٌ على كلِّ محتلم))؛ متفق عليه.
الثاني: نبَاتُ شَعرِ العَانةِ وهو الشَّعْر الْخشِنُ ينْبُت حوْلَ الْقُبلِ، لقول عَطيَّة الْقُرَظِّي رضي الله عنه: ((عُرِضْنا على النبيِّ - صلى الله عليه وسلّم - يومَ قُرَيْظةَ فمن كان محتلمًا أو أنبتت عانته قتل ومن لا تُرِكَ))؛ رواه أحمد والنسائي وهو صحيح.
الثالثُ: بلوغُ تمامِ خَمْسَ عَشْرةَ سنةً لقولِ عبدالله بن عُمرَ رضي الله عنهما: ((عُرِضْت على النبيِّ - صلى الله عليه وسلّم - يوم أحد وأنا ابنُ أربَعَ عَشرَةَ سنةً فلم يُجْزني)) (يعني: القتالِ) زاد البيهقيَّ وابنُ حبَانَ في صحيحه بسند صحيح: ((ولم يرني بلغت، وعرضت عليه يوم الْخَنْدَقِ وأنا ابنُ خمْسَ عَشْرةَ سنةً فأجازنِي))، زاد البيهقي وابن حبان في صحيحه بسند صحيح: ((ورآني بَلغْت)) رواه الجماعة. قال ابن نافع: فقَدِمتُ على عُمرَ بن عبدِالعزيز وهو خليفة فحدثته الحديث فقال: إن هذا الحد بين الصغيرِ والكبيرِ، وكتَبَ لعُمَّاله أنْ يفرضُوا (يعني من العطاء) لمنْ بلَغَ خمسَ عَشْرَةَ سنةً؛ رواه البخاريُّ.(150/3)
ويحصل بلوغُ الأُنثى بما يحْصلُ به بلوغُ الذَكَرِ وزيادة أمرٍ رابعٍ وهو الحيضُ، فمتى حاضتْ الأُنثى فقد بلغتْ، فيجري عليها قلَمُ التكليفِ وإنْ لم تبلُغْ عشر سنينَ، وإذا حصل البلوغُ أثْنَاء نهار رمضانَ فإنْ كان منْ بَلغ صائمًا أتمَّ صومَه ولاَ شَيْءً عليه وإن كان مفطرًا لزمه إِمساكُ بقيةِ يوْمهِ لأنه صار مِنْ أهل الوجوبِ، ولا يلزمه قضاؤه لأنه لم يكن من أهلِ الوجوبِ حين وُجوبِ الإِمساكِ.
القسمُ الثالثُ:
المجنونُ وهو فاقِدُ العقلِ فلا يجبُ عليه الصيامُ، لما سبق من قولِ النبي صلى الله عليه وسلّم: ((رُفعَ القلمُ عن ثلاثةٍ..)) الحديث. ولا يصحُّ مِنه الصيامُ لأنه ليس له عَقْلٌ يعقِل به العبادةَ وينويها، والعبادة لا تصح إلا بنيَّةٍ لقولِ النبي صلى الله عليه وسلّم: ((إنما الأعمالُ بالنيِّاتِ وإنما لكلِّ امرأ ما نَوى..)) فإنْ كان يجنُّ أحيانًا ويُفيقُ أحيانًا لزمه الصيام في حالِ إفاقتهِ دون حالِ جنونِه، وإنْ جُنَّ في أثناءِ النهارِ لم يبطُل صومُه كما لو أغمي عليه بمرضٍ أو غيره لأنَّه نوى الصومَ وهو عاقلٌ بنيَّةٍ صحيحةٍ. ولا دليل على البطلانِ خصوصًا إذا كان معلومًا أنَّ الجنونَ ينْتَابُه في ساعاتٍ مُعيَّنةٍ. وعلى هذا فلا يلزمُ قضاءُ الْيَوْم الَّذِي حصل فيه الجُنونُ. وإذا أفَاق المجنونُ أثناء نهار رمضانَ لزمه إمْسَاكُ بقيَّةِ يومِهِ، لأنَّه صار من أهلِ الوجوب، ولا يلزمُهُ قضاؤهُ كالصبيِّ إذا بلَغَ والكافرِ إذا أسْلَمَ.
القسمُ الرابعُ:
الْهَرِمُ الَّذِي بلَغَ الهذَيَان وسقَط تَميِيزُه فلا يجبُ عليه الصيامُ ولا الإِطعام عنه لسُقوطِ التكليف عنه بزَوال تمييزهِ فأشْبهَ الصَّبيَّ قبل التمييزِ. فإن كان يميز أحيانًا ويهذي أحيانًا وجب عليه الصوم في حال تمييزه دونَ حالِ هذَيانِه. والصلاةُ كالصومِ لا تلزمه حال هذيانه وتلزمه حالَ تمييزِه.
القسمُ الخامسُ:(150/4)
العاجزُ عن الصيام عجْزًا مستَمِرًا لا يُرجَى زوالُه، كالكبيرِ والمريض مرضًا لا يُرْجى برؤه كصاحبِ السَّرطانِ ونحوِه، فلا يجب عليه الصيامُ لأنَّه لا يستطيعُه. وقد قال الله سبحانه: {فَاتَّقُواْ اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16]، وقال: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286]. لكن يجب عليه أن يُطعمَ بدلَ الصيامِ عنْ كلِّ يومٍ مسكينًا لأنَّ الله سبحانَه جَعَل الإِطعامَ مُعَادلاً للصيامِ حينَ كان التخييرُ بينهُما أوَّلَ ما فُرِضَ الصيامُ فتعيَّن أنْ يكون بدلاً عن الصيامِ عند العَجزِ عنه لأنه معادله.
ويخيَّرُ في الإِطعام بين أنْ يُفرِّقَه حبًَّا على المسَاكينِ لكُلِّ واحدٍ مُدٌّ من البرِّ ربْعُ الصَّاع النَبوي، ووزنه - أي المُدِّ - نصفُ كِيلُو وعَشرةُ غراماتٍ بالْبُرِّ الرِّزينِ الجيِّدِ، وبينَ أنْ يُصلحَ طعامًا فيدعو إليهِ مساكينَ بقدْرِ الأيامِ الَّتِي عليه، قال البخاريُّ رحمه الله: وأمَّا الشيخُ الكبيرُ إذا لم يُطقِ الصيام فقَدْ أطعَمَ أنسٌ بعدمَا كبر عامًا أوْ عامين كُلَّ يوم مسكينًا خُبْزًا ولحمًا، وَأفْطرَ. وقال ابنُ عباس رضي الله عنهما في الشيخ الكبيرِ والمَرأةِ الكبيرةِ لا يستطيعانِ أنْ يَصُومَا فيطعمانِ مكانَ كلِّ يوم مسكينًا؛ رواه البخاري.
إخواني: الشَّرعُ حكمةٌ من الله تعالى ورحمةٌ رحم الله به عبادَه لأنه شَرْعٌ مبنيٌ على التسهيلِ والرحمةِ وعلى الإِتقانِ والحكمةِ، أوجبَ الله به على كلِّ واحدٍ من المكلَّفين ما يناسب حالَه ليقومَ كلُّ أحدٍ بما عليهِ، منشرحًا به صَدرُه، ومطمئِنةً به نفْسُه، يَرْضى بالله ربًا وبالإِسلام دينًا وبمحمَّدٍ - صلى الله عليه وسلّم - نبيًَّا، فاحمدوا الله أيُّها المؤمنون على هذا الدِّين القيِّم وعلى ما أنْعَمَ به عليكم من هِدايتكُم له وقد ضلَّ عنه كثيرٌ من الناسِ، واسألوه أنْ يُثَبِّتكُمْ عليه إلى الممات.(150/5)
اللَّهُمَّ إنا نسألُك بأنا نَشْهد أنَّك أنت الله لا إِله إلاَّ أنت الأحدُ الصَّمَدُ الذي لم يلد ولم يولد ولم يكنْ له كفوًا أحدٌ، يا ذَا الجلالِ والإِكرامِ، يا مَنَّانُ يا بديعَ السمواتِ والأرضِ، يا حيُّ يا قيومُ، نسألك أن تُوفِّقنَا لما تُحبُّ وترضَى، وأنْ تْجعَلنَا ممَّنْ رضِي بك ربًَّا، وبالإِسلام دينًا، وبمحمد - صلى الله عليه وسلّم - نبيًَّا، ونسألك أنْ تُثبتنا على ذلك إلى المماتِ، وأنْ تغفرَ لنَا الخطايَا والسيئاتِ، وأنْ تَهبَ لنا منك رحمة إنَّك أنْتَ الوهابُ، وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمدٍ وآلِهِ وصحبهِ وأتْبَاعهِ إلى يوم الدِّين.
طائِفَة من أقسَام الناس في الصيّام:(150/6)
الحمد لله المُتعَالى عن الأنداد، المقَدَّس عن النَّقائص والأضداد، المُتنزِّهِ عن الصاحِبةِ والأوْلاد، رافع السَّبع الشِّداد، عاليةً بغير عِماد، وواضِع الأرضِ للمهاد، مثَبتةً بالراسياتِ الأطْواد، المطَّلِع على سِرِّ القُلُوب ومكنونِ الفُؤاد، مقدِّرِ ما كان وما يكونُ من الضَّلال والرَشاد، في بحار لُطفِه تجري مراكب العباد، وفي ميدان حبِّه تجول خيلُ الزُّهَّاد، وعنده مبتغى الطالبين ومنتهى القصاد، وبِعينِه ما يتحمَّل المُتَحَمِّلون من أجله في الاجتهاد، يرى دبيب النمل الأسود في السَّواد، ويعلَمُ ما توَسْوسُ به النفسُ في باطِن الاعتقاد، جادَ على السائلين فزادَهُم من الزَّاد، وأعطى الكثير من العاملين المخلصين في المراد، أحمَدُه حمدًا يفوقُ على الأعْداد، وأشْكره على نِعَمه وكلَّما شُكِر زَاد، وأشهد أنْ لا إِله إِلاَّ الله وحدَه لا شريكَ له له الملكُ الرَّحيم بالعباد، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسولهُ المبعوث إلى جميعِ الخلْق في كلِّ البلاد، صلَّى الله عليه وعلى صاحبه أبي بكرٍ الَّذِي بذَل منْ نفْسِه ومالِهِ وجاد، وعلى عُمَر الَّذِي بالَغَ في نصْرِ الإِسلام وأجاد، وعلى عثمانَ الَّذِي جهَّزَ جيشَ العُسْرةِ فيا فخره يوم يقوم الأشهاد، وعلى علٍّي المعروفِ بالشجاعةِ والجلاد، وعلى جميع الآلِ والأصْحابِ والتابعينَ لهم بإحَسانٍ إلى يوم التَّنَاد، وسلِّم تسليمًا.
إخواني: قدَّمنا الكلامَ عن خْمسَةِ أقسامٍ من الناس في أحْكامِ الصيام. ونتكلَّمُ في هذا المجلِس عن طائفةٍ أخرى من تلك الأقسامِ:
فالقسمُ السادسُ:(150/7)
المسافرُ إذا لم يقْصُدْ بسَفَرِه التَّحيُّلَ على الفِطْرِ، فإن قَصَد ذَلِكَ فالفطرُ عليه حرامٌ والصيامُ واجبٌ عليه حْينئذٍ. فإذا لَمْ يقصد التَّحيُّلَ فهو مخيَّرٌ بين الصيام والفطر سواءٌ طالتْ مدةُ سفره أمْ قصُرتْ، وسواءٌ كان سفرُه طارِئًا لغَرض أمْ مُسْتَمِّرًا، كسَائِقي الطائراتِ وسياراتِ الأجْرةِ لعموم قوله تعالى: {وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]. وفي الصحيحين عن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه قال: كُنَّا نُسَافر مع النبي - صلى الله عليه وسلّم - فَلَمْ يَعِب الصائمُ على المُفطِر ولا المفْطِرُ على الصائمِ. وفي صحيح مسلم عن أبي سعيدٍ الخدريِّ رضي الله عنه قال: يَرْونَ أنَّ مَنْ وجَدَ قُوَّة فصَام فإنَّ ذلك حَسَنٌ، ويرونَ أنَّ منْ وجَدَ ضعْفًا فأفْطرَ فإنَّ ذلك حَسَنٌ. وفي سنن أبي داودَ عن حمزةَ ابن عمْرو الأسلَميِّ أنَّه قال: يا رسولَ الله إني صاحبُ ظهرٍ أعالجه أسافِرُ عليه وأكريه وإنَّه ربَّما صادفني هذا الشهرُ - يعنِي رمضانَ - وأنا أجدُ الْقوَّة وأنا شَابٌ فأجد بأنَّ الصَّومَ يا رسولَ الله أهونُ عليَّ منْ أن أؤخِّرهُ فيكون دينًا عليَّ أفأصُومُ يا رسولَ الله أعظمُ لأجري أمْ أفطرُ قال: ((أيَّ ذلك شئتَ يا حمزةُ))[1].(150/8)
فإذا كان صاحبُ سيارةِ الأجرةِ يشقُّ عليه الصومُ في رمضانَ في السَّفرِ من أجل الحرِّ مثلاً فإنه يؤخره إلى وقت يبرد فيه الجو ويتيسَّر فيه الصيام عليه. والأفضل للمسافر فعلُ الأسهلِ عليه من الصيام والْفِطرِ، فإنْ تساويَا فالصَّومُ أفضلُ لأنَه أسْرعُ في إبراء ذمته وأنشط له إذا صامَ معَ الناسِ، لأنه فعلُ النبي - صلى الله عليه وسلّم - كما في صحيح مسلمٍ عن أبي الدرداءِ رضي الله عنه قال: خَرَجنا مع النبي - صلى الله عليه وسلّم - في رمضانَ في حرٍّ شديدٍ، حتى إنْ كان أحَدُنا ليضع يَدَه على رأسِهِ من شدةِ الحرِّ، وما فينا صائمٌ إلاَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلّم - وعبدُالله بنُ رواحة. وأفْطرَ - صلى الله عليه وسلّم - مراعاةً لأصحابِه حينَ بلغه أنَّهمْ شَقَّ عليهِم الصيام، فعن جابرٍ رضي الله عنه أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلّم - خرج إلى مكةَ عامَ الفتحِ فصامَ حتى بَلَغ كُرَاعَ الْغميمَ، فصامَ الناسُ معه فقيل له: إنَّ الناسَ قد شقَّ عليهم الصيامُ، وإنَّهم ينظُرونَ فيما فَعْلت، فَدعَا بقَدَحٍ مِن ماءٍ بعد العصر فشَربَ والناسُ ينظرون إليه؛ رواه مسلم. وفي حديثِ أبي سعيدٍ الخدريِّ رضي الله عنه، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلّم - أتَى على نهرٍ من السَّماءِ والناسُ صيامٌ في يوم صائفٍ مُشاةً، ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلّم - على بغلةٍ له، فقال: ((أشْربُوا أيها الناسُ)) فأبَوْا، فقال: ((إنِّي لسْتُ مثلكُمْ، إنِّي أيْسرُكمْ، إني راكب))، فأبَوْا، فَثَنَى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلّم - فخِذَه فنزلَ فشرب وشربَ الناسُ، وما كانَ يُرِيدُ أن يشربَ صلى الله عليه وسلّم))؛ رواه أحمد[2].(150/9)
وإذا كان المسافرُ يَشُقُّ عليه الصومُ فإنَّه يفطرُ ولا يصُومُ في السفرِ، ففي حديثِ جابرٍ السابق أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلّم - لمَّا أفْطرَ حينَ شَقَّ الصومُ على الناس قيل له: إنَّ بعض الناسِ قد صَامَ، فقالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلّم: ((أولَئِك العُصاةُ، أولئك العصاة))؛ رواه مسلم.
وفي الصحيحين، عن جابرٍ أيضًا أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلّم - كان في سفرٍ، فرأى زحامًا ورجلاً قد ظُلِّلَ عليه، فقال: ((ما هذا؟)) قالوا: صائمٌ، فقال: ((ليس من البرِّ الصيامُ في السفر)). وإذا سافر الصائمُ في أثناء اليوم وشقَّ عليه إكْمالُ صومِهِ جاز له الفطرُ إذا خَرجَ من بلدِه، لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلّم - صام وصامَ الناسُ معه حتى بلغ كُراعَ الْغميمِ، فلما بلغه أن الناس قد شَقَّ عليهم الصيام أفطر وأفطر الناس معه، وكراعُ الغميمِ جبلٌ أسودُ في طرفِ الحَرَّةِ يمتدُّ إلى الوادي المُسَمَّى بالْغَمِيمِ بين عُسفَانَ وَمَرِّ الظَّهرانِ.(150/10)
وإذا قدِم المسافرُ إلى بلدِه في نهارِ رمضانَ مفطِرًا لم يصحَّ صومُه ذلكَ اليومَ، لأنه كان مُفْطِرًا في أوَّل النهار. والصومُ الواجبُ لا يصح إلاَّ مِنْ طلُوعِ الفجر، ولكن هل يلزمه الإِمساكُ بقيةَ اليوم؟ اختلفَ العلماءُ في ذلك فَقَال بعْضهُم: يجب عليه أنْ يُمسِكَ بقيةَ اليومِ احترامًا للزمنِ، ويجب عليه الْقَضَاءُ أيضًا لِعَدَمِ صحةِ صومِ ذلك اليوم، وهذا المشهور من مذهب أحمد رحمه الله، وقال بعض العلماء: لا يجب عليه أن يمسك بقية ذلك اليوم، لأنه لا يستفيدُ من هذا الإِمساكِ شيئًا لوجوب القضاءِ عليه، وحُرْمةُ الزَّمن قد زالتْ بفِطره المباح له أوَّلَ النهارِ ظاهرًا وباطنًا. قال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: من أكل أول النهار فلْيَأْكُلْ آخره، أي: من حلَّ له الأكل أولَ النهار بعُذرٍ حلَّ له الأكلُ آخِره. وهذا مذهَبُ مالِك والشافعيّ ورواية عن الإِمام أحمد، ولكنْ لا يُعْلِنُ أكلَه ولا شربَه لخفاءِ سببِ الفطرِ فيُساء به الظَّنُّ أو يُقْتَدى به.
القسمُ السَّابعُ:
المِريضُ الَّذِي يُرجَى برؤُ مرضِه وله ثلاثُ حالاتٍ:
إحداها: أنْ لا يشقَّ عليه الصومُ ولا يَضُرُّه، فيجبُ عليه الصومُ لأنه ليس له عُذْرٌ يُبِيح الْفِطْرَ.
الثانيةُ: أنْ يشقَّ عليه الصومُ ولا يضُرُّه، فيفطرُ لقوله تعالى: {وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185]. ويُكْره له الصوم مع المشقَّةِ، لأنه خروجٌ عن رُخصةِ الله تعالى وتعْذيبٌ لنفسه، وفي الحديث: ((إن الله يُحب أن تُؤتى رُخَصُه كما يكرهُ أن تؤتى معْصِيتُه)) رواه أحمد وابنُ حبان وابنُ خُزَيمة في صحيحيهما[3].(150/11)
الثالثةُ: أنْ يضُرَّه الصومُ فيجبُ عليه الْفطرُ ولا يجوزُ له الصومُ لقولِه تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء:29]، وقولِه: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195]، ولقول النبي صلى الله عليه وسلّم: ((إنَّ لِنفْسكَ عليْك حقًَّا))؛ رواه البخاري. ومن حقهَا أنْ لا تضرَّها مع وجود رخصةِ الله سبحانه. ولقولِه صلى الله عليه وسلّم: ((لا ضَررَ ولا ضرارِ))، أخرجه ابن ماجه والحاكم. قال النَّووي وله طرق يقويِ بعضها بعضًا.
وإذا حدَث له المرَضُ في أثناءِ رمضانَ وهو صائمٌ وشقَّ عليه إتمامُه جاز له الفطرُ لوجودِ المُبيح للفطر. وإذا برأ في نهارِ رمضانَ وهو مفطر لم يصحَّ أنْ يصومَ ذلك اليَوْمَ لأنَّه كان مُفطِرًا في أوَّلِ النهار، والصومُ الواجب لا يصحُّ إلاَّ مِنْ طلوع الفجر ولكِنْ هل يلْزَمه أنْ يُمسِكَ بقية يومِهِ؟ فيه خلافٌ بَيْنَ العلماء سبق ذكْرُه في المسافرِ إذا قدِم مُفطِرًا.
وإذا ثبت بالطِّبِّ أنَّ الصومَ يجلِبُ المرَضَ أو يؤخر بُرءَه جاز له الفطرُ محافظةً على صِحَّتِه واتقاءً للمرض. فإنْ كان يُرْجى زوالُ هذا الْخَطر، انْتظَرَ حتى يزولَ ثم يقضْى ما أفْطر. وإنْ كان لا يُرْجى زوالهُ فحكمه حُكمُ القسمِ الخامِسِ يُفطِرُ ويُطْعِمُ عنْ كلِّ يومٍ مسكينًا.
اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا للعملِ بما يُرضيك، وجنِّبْنا أسبابَ سَخَطِك ومعاصِيْك، واغفر لنا ولوالدينَا ولجميع المسلمينَ برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمد وعلى آلِهِ وصحبِه أجمعين.
بقيّة أقسام الناس في الصيّام وأحكام القضاء:(150/12)
الحمدُ لله الواحدِ العظيم الجبَّار القدير القويَّ القَهَّار، المُتَعالِي عن أنْ تُدركهُ الخواطر والأبْصار، وَسَمَ كل مخلوقٍ بسِمة الافتِقار، وأظْهر آثارَ قدرتِه بتصريفِ الليلِ والنهار، يسمعُ أنين المدنفِ يَشْكو ما بِه مِنَ الأضْرار، ويُبْصِر دبيبَ النملةِ السوداءِ في الليلةِ الظَّلماءِ على الغَار، ويعلم خَفِيَّ الضَّمائرِ ومكنونَ الأسْرار، صفاتُه كذاته والمُشبِّهةُ كفَّار، نُقرُّ بما وصف به نفسه على ما جاء في القرآنِ والأخبار {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ} [التوبة: 109]، أحْمدُه سبحانَه على المَسَارِّ والمَضَارِّ، وأشهد أنْ لا إِله إِلاَّ الله وحدَه لا شريكَ لَهُ المتفردُ بالْخلقِ والتدبير {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَيَخْتَارُ} [القصص:68]، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسولهُ أفضلُ الأنبياءِ الأطهارِ، صلَّى الله عليه وعلى أبي بكر رفيقِه في الْغَار، وعلى عُمرَ قامِع الكُفَّار، وعلى عثمانَ شهيدِ الدَّار، وعلى عليٍّ القائمِ بالأسْحار، وعلى آلِهِ وأصْحابهِ خصوصًا المهاجرينَ والأنْصار، وسلَّم تسليمًا.
إخواني: قدَّمنَا الكلامَ عن سبعة أقسامٍ من أقْسَامِ الناسِ في الصيامِ وهذه بقيَّةُ الأقسامِ:
القسمُ الثامنُ:
الحائضُ فيحرمُ عليها الصيامُ ولا يصحُّ منها لقول النبيِّ - صلى الله عليه وسلّم - في النساءِ: ((ما رأيت مِنْ ناقصاتِ عَقْلٍ ودينٍ أذْهَبَ للُبِّ الرَّجل الحازمِ مِنْ إحداكُنَّ، قُلنَ: وما نقصانُ عقلِنا ودينِنا يا رسولَ الله؟ قال: أَلْيسَ شَهادةُ المرأةِ مثلَ نصْفِ شهادةِ الرَّجُلِ؟ قُلنَ: بلى. قال: فذلك نقصانُ عَقْلِها، أليس إذا حاضتْ لم تُصلِّ ولَم تُصم؟ قلن: بلى. قال: فذلك مِنْ نقصانِ دِيْنِها))؛ متفق عليه.
والْحيْضُ دمُ طبيعي يعتادُ المرأةَ في أيَّامٍ معلومةٍ.(150/13)
وإذا ظَهَرَ الحيضُ منها وهي صائمةٌ ولو قبلَ الغروبِ بلحْظَةٍ بَطلَ صومُ يومِها ولزِمَها قضاؤه إلاَّ أنْ يكون صومُها تطوُّعًا فقضاؤه تطوُّعٌ لا واجبٌ.
وإذا طهُرتْ من الحيضِ في أثناءِ رمضانَ لم يصحَّ صومُها بقيَّة اليومِ لوجودِ ما يُنافي الصيامَ في حقِّها في أولِّ النهارِ، وهل يَلزمُها الإِمْساك بقيَّة اليوم؟ فيه خلافٌ بين العلماء سبق ذِكْرُه في المسافر إذا قدِم مُفطِرًا.
وإذا طهرتْ في الليل في رمضان ولو قبْل الفجرِ بلحظة وجب عليها الصومُ لأنها مِنْ أهلِ الصيام وليس فيها ما يمنعُه فوجبَ عليها الصيامُ، ويصحُّ صومُها حينئذٍ وإنْ لم تَغْتَسل إلاَّ بعد طلوعِ الفجر كالجُنبِ إذا صامَ ولم يغْتسِلْ إلاَّ بعدَ طلوعِ الْفجرِ فإنَّه يصحُّ صومُه لقول عائشة رضي الله عنها: ((كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلّم - يصبحُ جُنُبًا من جماعٍ غير احتلامٍ ثم يصومُ في رَمضانَ))؛ متفق عليه.
والنُّفسَاءُ كالحائضِ في جميع ما تقَدَّم.
ويجبُ عليها القضاءُ بعددِ الأيام التي فاتَتْها لقوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184]. وسُئلت عائشةُ رضي الله عنها: ما بالُ الحائضِ تقضي الصومَ ولا تقضي الصلاة؟ قالتْ: "كان يصيبُنَا ذلك فنؤمرُ بقضاء الصومِ ولا نؤمرُ بقضاء الصلاة))؛ رواه مسلم[4].
القسمُ التاسعُ:
المرأة إذا كانت مُرضعًا أو حاملاً وخافتْ على نفسِها أو على الولَد من الصَّوم فإنها تفطرُ لحديث أنسِ بن مالك الْكعِبي - رضي الله عنه - قال: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلّم: ((إن الله وضَع عن المسافر شطرَ الصلاة وعن المسافر والحامل والمرضع الصومَ أو الصيام))، أخرجه الخمسة، وهذا لفظ ابن ماجة[5]. ويلزمُهَا القضاءُ بِعَدَدِ الأيامِ التي أفطرتْ حِينَ يتيسَّرُ لها ذلك ويزولُ عنها الخوفُ كالمريض إذا بَرِأ.
القسمُ العاشرُ:(150/14)
مَن احتاج للْفطرِ لِدفْعِ ضرورةِ غيرهِ كإِنقاذ معصومٍ[6] مِنْ غرقٍ أوْ حريقٍ أو هدْمٍ أوْ نحو ذلك فإذا كان لا يمكنه إِنقَاذُه إلاَّ بالتَّقَوِّي عليه بالأكْل والشُّرب جاز له الفِطرُ، بل وَجبَ الفطرُ حِيْنئذٍ لأن إنقاذ المعصوم من الْهَلكَةِ واجبٌ، وما لا يَتمُّ الواجبُ إلاَّ به فهو واجبُ، ويلزمُه قضاءُ ما أفْطَرَه.
ومثلُ ذلك مَن احتاجَ إلى الْفِطرِ للتَّقَوِّي به على الْجهادِ في سبيل الله في قِتَاله الْعَدُوَّ فإنه يفْطر ويقضي ما أفطَر سواء كان ذلك في السفر أو في بلده إذا حضره العَدُوُّ لأنَّ في ذلك دفاعًا عن المسلمينَ وإعلاءً لكلمةٍ الله عزَّ وجَلَّ. وفي صحيح مسلمٍ عن أبي سعيدٍ الخدريِّ رضي الله عنه قال: سافَرْنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلّم - إلى مكةَ ونحنْ صيامٌ فنَزلْنا منْزلاً فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلّم: ((إنكم قد دَنَوْتم مِنْ عدوِّكم والْفِطرُ أقْوى لكم)) فكانتْ رخصةً فمِنَّا مَنْ صامَ ومنا مَنْ أفْطر، ثم نزلنا منزلاً آخرَ فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلّم: ((إنكم مُصَبِّحو عدوِّكم والفطرُ أقوى لكم فأفْطرِوا وكانتْ عزمْةً فأفْطَرنا)). ففي هذا الحديث إيماءٌ إلى أن القوةَ على القتال سببٌ مُستقِلٌ غيرُ السفرِ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلّم - جعل عِلَّةَ الأمْرِ بالفِطر القُوَّةَ على قتالِ العدُوِّ دونَ السفرِ ولذلِك لم يأمرهم بالفِطر في المنزَلِ الأوَّل.
وكُلُّ مَنْ جاز له الفطرُ بسببٍ مما تقَدَّم فإنَّه لا يُنكرُ عليه إعْلانُ فِطْرهِ إذا كان سبَبُه ظاهرًا كالمريضِ والكبير الذي لا يستطيع الصومَ، وأمَّا إن كان سببُ فطره خفيًَّا كالحائِضِ ومَنْ أنقَذَ معصومًا من هلَكةٍ فإنه يُفطر سرًَّا ولا يعْلِنُ فِطْرَه لئلا يَجُرَّ التهمةَ إلى نَفْسِه ولئلاَّ يَغْتَرَّ به الجاهلُ فيظنُّ أنَّ الفطرَ جائزٌ بدون عُذْر.(150/15)
وكُلُّ من لَزِمه القضاءُ من الأقسام السابقةِ فإنَّه يقْضِي بعددِ الأيامِ التي أفْطر لقوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}. فإنْ أفطَر جَميعَ الشهر لزمه جميعُ أيامه. فإن كان الشهر ثلاثين يومًا لزمه ثلاثون يومًا، وإن كان تسعةً وعشرينَ يومًا لزمه تسعةٌ وعشرونَ يومًا فَقْط.
والأوْلىَ المُبادَرَةُ بالْقضاءِ من حينِ زوالِ الْعذرِ لأنه أسبقُ إلى الخيرِ وأسْرَعُ في إبراءِ الذِّمَّةِ.
ويجوز تأخيرهُ إلى أن يكونَ بينهُ وبين رمضانَ الثاني بعددِ الأيامِ التي عليه لقولِه تعالى: {فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ} [البقرة: 184].
ومن تمام الْيُسرِ تأخير قضائِها. فإذا كان عليه عشرةُ أيامٍ من رمضان جاز تأخيرها إلى أن يكون بينه وبينَ رمضانَ الثاني عشرة أيامٍ.
ولا يجوز تأخيرُ القضاءِ إلى رمضانَ الثاني بدونِ عذرٍ لقولِ عائشة رضي الله عنها: ((كان يكونُ عليَّ الصومُ من رمضانَ فما أسْتطيع أنْ أقضيه إلاَّ في شعبانَ))؛ رواه البخاري، ولأنَّ تأخيره إلى رمضانَ الثاني يُوْجبُ أنْ يتراكم عليه الصومُ وربَّمَا يعجزُ عنه أوْ يموتُ، ولأن الصومَ عبادةٌ متكرِّرةٌ فَلْم يَجُز تأخيرُ الأولَى إلى وقتِ الثانيةِ كالصلاةِ، فإن استَمرَّ به العذرُ حَتَّى ماتَ فلا شَيْءَ عليه لأن الله سبحانه أوجَبَ عليه عدَّةً من أيامٍ أُخَرَ ولم يتمكنْ منْها فسقطت عنه كمن مات قبلَ دخولِ شهر رمضانَ لا يلزمُه صومُه، فإن تمكَّن من القضاءِ فَفَرَّط فيه حتى مات صام وليُّهُ عنه جميعَ الأيامِ التي تمكَّنَ من قضائِها، لقوله صلى الله عليه وسلّم: ((مَنْ ماتَ وعليه صيامٌ صامَ عنه وليُّه))؛ متفق عليه.(150/16)
ووَلِيُّهُ وارِثُه أو قريبُه. ويجوز أنْ يصومَ عنه جماعةٌ بعددِ الأيامِ التي عليه في يوم واحدٍ، قال البخاري: قال الحسنُ: إن صامَ عنه ثلاثَونَ رجلاً يومًا واحدًا جاز. فإن لم يكن له وليٌّ أو كان له وليٌّ لا يريدُ الصومَ عنه أُطعمَ مِنْ تركتِه عن كلِّ يومٍ مسكينٌ بعددِ الأيام التي تمكَّنَ من قضائِها؛ لِكُلِّ مسكينٍ مدُّ بُرٍّ وزنه بالبرِّ الجيِّد نصفُ كيلو وعشرةُ جرامات.
إخواني: هذه أقسامُ الناسِ في أحكام الصيامِ شرعَ الله فيها لكل قِسْمٍ ما يُناسِب الحالَ والمَقَام. فاعرِفوا حكمة ربِّكم في هذه الشَّرِيْعَة. واشكروا نعمتَهُ عليكم في تسهيلِهِ وتيْسيرِه. واسألوه الثَّباتَ على هذا الدِّينِ إلى الممات.
اللَّهُمَّ اغْفِر لنا ذنوبًا حالتْ بيننا وبينَ ذِكْرِك. واعفُ عن تقصيرنا في طاعتِك وشُكْرك. وأدم علينا لُزُومَ الطريقِ إليَك. وهَبْ لنا نُورًا نهتدي به إليك. اللَّهُمَّ أذِقْنا حلاوةَ مناجاتِك. واسلكْ بنا سبيلَ أهْلِ مرضاتِك. اللَّهُمَّ أنْقِذْنا من دَرَكاتِنا، وأيْقظْنا من غفَلاتِنا، وألْهمنا رُشْدَنَا، وأحْسِنْ بكَرَمِك قصدَنا، اللَّهُمَّ احْشُرْنا في زُمْرةِ المُتَّقين، وألحقْنا بعبادِك الصالحِينَ. وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنَا محمدٍ وعلى آلِه وأصحابِه أجمعين.
ــــــــــــــــــــــــــ
[1] في إسناده ضعف وله شواهد وأصله في صحيح مسلم عن حمزة أنه قال: يا رسول الله أجد بي قوة على الصيام في السفر فهل علي جناح فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هي رخصة من الله فمن أخذ بها فحسن ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه".
[2] سنده جيد قاله في الفتح الرباني.
[3] في سنده شيء من الاضطراب لكن له شواهد من الحديث وأصول الشريعة.
[4] وهو من أحاديث العمدة وعزاه في المنتقى للجماعة.
[5] وهو حسن.
[6] المعصوم هو: الآدمي المحرم قتله.(150/17)
العنوان: أكبر نقطة قوة (1)
رقم المقالة: 804
صاحب المقالة: د. عبدالكريم بكار
-----------------------------------------
تعوَّدنا أن نرى الأشياء المحسوسة، وأن نحسب حسابها، ونؤكِّد عليها، ونعلِّق عليها الآمال... مع أن لدينا مواهب وقوى كبيرة ومؤثرة جداً، لكننا لم نحتفل بها، ولم نستفد منها على النحو المأمول؛ لأننا لم نرها، ولم ندركها على ما ينبغي. في اعتقادي أن (الإرادة) هي القوة الضاربة التي وهبها الخالق – عز وجل - لبني البشر، وإن من شكر هذه النعمة العملَ على تصليبها، وتقويتها، ورفع مستوى العزيمة في خططنا وأعمالنا.
من المعروف أنه لا يمكن إنجاز أي عمل إلا بتوافر شيئين: الإرادة والقدرة، وإذا تساءلنا: أيهما أعظم أهمية؟ فإنني لا أتردد في القول: إن الإرادة هي الأهم، وذلك لأن المرء حين يعزم على شيء على نحو صادق وقوي؛ فإنه يسعى إلى توفير الإمكانات المطلوبة لتحقيقه، وإن الإرادة الصلبة تكشف عن الفرص الكامنة، بل تصنعها في بعض الأحيان، كما أنها تستنفر القوى المعطَّلة والخامدة، ولو أننا تأملنا في الإنجازات الحضارية الكبرى - لدى كل الأمم، وفي كل العصور - لوجدنا أنها مدينة للعزيمة والإصرار، ولا يغني عنهما علم ولا موهبة، والعالم مملوء بالموهوبين الفاشلين والمتعلمين العاطلين عن العمل!.(151/1)
تصوروا معي شخصاً يعاني من مرض عُضال يفتك به، وإلى جوار منزله الذي يسكن فيه مركز طبي متقدم جداً ومجاني، وهذا المركز يقصده الناس الذين يعانون من مثل ما يعاني منه ذلك الرجل من كل مكان، لكن صاحبنا يرفض العلاج بسبب أو بغير سبب، فماذا ستكون النتيجة؟ إن كل الإمكانات الطبية المتوفرة، وكل ما لديه من قابلية للانتفاع بها؛ سيصبح غير ذي معنى، وكأنه غير موجود. وإذا تصورنا مريضاً آخر تتملكه رغبة شديدة في الحصول على علاج لكنه لا يملك الإمكانات المادية لذلك؛ إن ذلك المريض سوف يسعى في كل اتجاه، ويطرق كل باب، وفي الغالب سيجد السند والعون في الوصول إلى ما يسعى إليه.
إذا تأملنا في التفاوت بين الناس على صعيد الإنجاز والنجاح، وعلى صعيد العمل والعطاء والاستقامة...؛ فإننا نجد أن ذلك التفاوت يحدث بسبب اختلاف إرادات الناس، وليس بسبب اختلاف قدراتهم، وهذا طبعاً في الأعم الأغلب. لدينا أعداد هائلة من الشباب والنساء الذين يستطيعون قراءة كتاب في الشهر، كما يستطيعون قراءة نصف جزء من القرآن يومياً، ويستطيعون التصدق بمبلغ زهيد من المال أسبوعياً... لكن فئة قليلة منهم هي التي تفعل ذلك، وهي الفئة التي تملك إرادة الفعل.(151/2)
ومن هنا يمكن القول: إن الأزمة الحقيقية التي يعاني منها المسلمون، على معظم الصعد الحضارية، وعلى صُعُد رد العدوان، وتحرير المقدسات... هي أزمة إرادات لا أزمة قدرات، لكن الناس يستحيون من القول: إننا لا نريد أن نقرأ، أو لا نريد طرد العدو من أرضنا، فيلجؤون إلى الزعم بعدم امتلاك القدرة، وهم يفعلون ذلك لأنهم يعرفون أن القول بأنهم لا يريدون فعل كذا.. يشكِّل نوعاً من الإدانة لهم، ويعبر عن سوء الوجهة والمقصد، أما القول بأنهم لا يقدرون؛ فإنه مقبول، لأنه ينطوي على احتمال العجز واحتمال تدخل عوامل خارجية غير داخلة تحت السيطرة، وهذا ما فعله المنافقون حين تخلَّفوا عن غزوة تبوك، فقد اعتذروا بعدم الاستطاعة، كما أخبر الله عنهم حين قال: {وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}[1]. ثم أخبر – عز وجل - أن المشكلة ليست مشكلة قدرة، وإنما مشكلة إرادة: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأََْعَدُّوا لَهُ عُدَّةً}[2].
إن من رحمة الله - تعالى - أن قدرة الناس على تنمية إراداتهم وتقويتها أعظم بكثير من قدرتهم على تنمية الإمكانات والطاقات التي لديهم ،وأعظم من قدرتهم على تحسين بيئاتهم وظروفهم، ولكن من الواضح أيضاً أن تقوية الإرادة قد يعني خوض نوع من الحرب الداخلية، حيث يجد المرء نفسه مطالباً بالوقوف ضد المغريات، والشهوات، وضد بعض طباعه وعاداته الرديئة، وهذا ليس بالسهل، إلا إذا سهَّله الله - تعالى - ولابد من الإشارة هنا إلى أن كل مجتمع يحدد لأفراده السويَّة المطلوبة من صلابة الإرادة حتى يكونوا لائقين اجتماعياً، والمجتمع يفعل ذلك بدافع من عقائده، وعلى هدي أولوياته واهتماماته.(151/3)
ومن هنا نجد - مثلاً - أن المجتمع الذي يهتم بصلاة الجماعة، أو بطلب العلم، أو بالمظاهر والشكليات، أو بالطعام والشراب... يرفع سوية اهتمامات أبنائه، وسوية إراداتهم بهذه الأمور، ويلقنهم الأدبيات والرمزيات المتعلقة بها، مما يجعلهم يعملون من أجلها، من غير الشعور بتحمل أعباء أو تكاليف غير عادية. وهذا يعني أن قوة الإرادة منتج اجتماعي، وهي أشبه بهدية يقدمها المجتمع لأبنائه مقابل انخراطهم في أعرافه وتقاليده ومبادئه وقيمه.
وهذا يفتح عيوننا على شيء مهم؛ هو الحرص على اختيار البيئة الصالحة والمتعلمة؛ لأن العيش فيها يزود المرء بطاقات إضافية على صعيد الاتجاه نحو الفلاح والنجاح، ونحن نعرف هذا من الثواب العظيم الذي جعله الله للمؤمنين إذا ما هاجروا من مكة - قبل فتحها - إلى المدينة، ونعرفه كذلك من التحذير الوارد من الإقامة في دار الكفر؛ إلا في حالات معينة.
في المقال القادم سأتحدث بإذن الله؛ تعالى عن أدوات تقوية الإرادة.
ومن الله الحول والطول.
ـــــــــــــــــــــــ
[1] سورة التوبة: 42.
[2] سورة التوبة: 46.(151/4)
العنوان: أكبر نقطة قوة (2)
رقم المقالة: 855
صاحب المقالة: د. عبدالكريم بكار
-----------------------------------------
تحدثت في المقال السابق عن بعض حيثيات (الإرادة)، ووعدت أن أتحدث عن بعض الأمور والإجراءات التي تساعد على تقويتها، وأنا الآن أوفِّي بما وعدت به، ولعلي أتحدث عن ذلك عبر المفردات الآتية:
1 - بين الفرد وبيئته نوع من التطابق والتخالف، ونوع من الشدِّ والجذب المستمرين، وهذا يعني أن الأفراد يتأثرون ببيئاتهم تأثراً سريعاً وشاملاً، لكنهم وعلى المدى البعيد هم الذين يصنعون تلك البيئات، وهم الذين يطوِّرونها، وإن كان ذلك لا يظهر دائماً على نحو واضح.
ونستفيد من هذا أن تصليب إرادة الشباب - والناس عامة - يحتاج إلى نوع من الإجماع الوطني والتحفيز الإعلامي؛ فمن عادة الإنسان أن يظل ذاهلاً عن كثير من الأشياء المهمة والجوهرية، بل أن يظل جاهلاً الكثير من الواجبات الشرعية والحضارية؛ ما لم يظفر بمحرِّض -إعلامي أو تعليمي أو تربوي - يدفع بتلك الأشياء والواجبات إلى مقدمة اهتماماته، ويضعها على سطح وعيه.
ومن هنا فإن على الإعلام مسؤولية كبرى في هذا الشأن، والمطلوب منه تحديداً هو إثارة اهتمام الناس، وتفتيح أذهانهم، وتحفيز هممهم، في اتجاه بعض الأمور الضرورية لنهضة الفرد والمجتمع، وذلك مثل: الاستقامة، والالتزام، والجدية، والتعاون، والمثابرة، والاهتمام، وحسن الاستماع، والتطوع، والعطاء المجاني...
إن الإعلام - بما يملك من سطوة وانتشار وتأثير - يستطيع فعلاً تقوية إرادة الناس نحو هذه المعاني، كما يستطيع إضعافها، ونأمل أن يدرك المسؤولون عنه هذه المسؤولية، وينهضوا إليها.(152/1)
2 - نحن في حاجة ماسّة إلى معونة الله - تعالى - وتوفيقه؛ كي ننتصر على أنفسنا، وشهواتنا، وعاداتنا السيئة، وخير ما نستنزل به تلك المعونة هو الدعاء ومجاهدة النفس، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69]. وقال تباركت أسماؤه: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا} [السجدة:24].
إن أي إصلاح أو تغيير أو ترقّي لا يمكن أن يتم من غير مجاهدة للنفس، وإن كثيراً من الإخفاق الذي نعانيه سببه أننا نريد التقدم والازدهار، لكننا غير مستعدين لمخالفة أهوائنا أو التخلي عن شيء من عاداتنا السلبية، أو بذل شيء من الجهد الإضافي، وينبغي لهذا الأمر أن يكون واضحاً كلَّ الوضوح.
3 - يتطلب تقوية الإرادة أن نلزم أنفسنا بتنفيذ أشياءَ صغيرةٍ، لكن بشكل يومي، وعلى نحو دائم، ولا بد من الالتزام بذلك على نحو صارم، ومن تلك الأمور والأشياء على سبيل المثال:
- قراءة نصف جزء من القرآن يومياً.
- قراءة في كتاب جيد مدة ساعة.
- الالتزام بصلاة الجماعة في المسجد، إلا لضرورة.
- المسارعة إلى تنفيذ طلبات الوالدين، بهمة ونشاط وطيب نفس.
- الالتزام بالحضور إلى الوظيفة أو العمل والانصراف في الوقت المحدد.
- الاستيقاظ قبل الفجر مرة في الأسبوع على الأقل.
- الاتصال يومياً بذي رحم أو صديق؛ من أجل السؤال عنه والاطمئنان عليه.
- الصدقة بمبلغ من المال - ولو كان زهيداً - على نحو يومي.
- الحرص على المبادرة بالسلام على من نعرف ومن لا نعرف.(152/2)
وإذا لم يستطع المرء أداء ما التزم به في يومه، فإنه يقوم به في وقت تال من ليل أو نهار، وكأنه يقضيه، وهذه طريقة سنَّها لنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فقد ذكرت عائشة رضي الله عنها: ((أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كانَ إذا فاتته الصلاةُ من الليلِ، مِن وَجَعٍ أو غيرِهِ - صلّى من النهارِ ثِنْتَي عشرةَ ركعةً)) [رواه مسلم].
وقال - عليه الصلاة والسلام - مرشداً إلى هذا المعنى: ((من نَامَ عن حِزْبِهِ من الليل، أو عن شَيْءٍ منه، فَقَرَأَهُ مَا بين صَلاةِ الْفَجْرِ وَصَلاةِ الظُّهْرِ؛ كُتِبَ له كَأَنَّمَا قَرَأَهُ من اللَّيْلِ)). [رواه مسلم].
4 - لابد لتقوية (الإرادة) من اتباع أسلوب التدرج في اكتساب العادات وتنفيذ المهمات، وأنا أشجع دائماً على أن يلتزم المرء بالقيام ببعض الأعمال الصغيرة والمحدودة، فإذا صارت جزءاً عادياً من حياته وأخلاقه وسلوكه؛ قام بزيادة شيء قليل عليها، فإذا كان فلان من الناس لا يقرأ - مثلاً - في اليوم أي شيء، ثم التزم بقراءة نصف ساعة، فإنه بعد ذلك الالتزام بستة أشهر، يزيد عليها ربع ساعة، وبعد ستة أشهر أخرى يزيد عليها ربع ساعة أخرى، وهكذا...
5 - يحتاج الواحد منا إلى أن يُثْبِتَ نفسَه أمام نفسه، وذلك بحرمانها من بعض الأشياء، وبعدم الاستجابة لبعض وسوساتها وخواطرها، فإذا حدثته نفسه بأن يترك العمل الذي بين يديه حتى يشرب كأساً من الشاي؛ فليرفض طلبها، أو ليقم بتأجيل تنفيذه ساعة. وإذا كان يجد نوعاً من المتعة في القراءة وهو مستلقٍ على السرير؛ فليحرمها من تلك المتعة، وليجلس خلف مكتب، وليمسك بقلم وهو يقرأ من أجل تلخيص بعض الأفكار... إن مخالفة النفس تُشعر صاحبها بالقوة، وتجعل منجزاته ومكتسباته أكبر، وهذا ما يجعله يشعر بفوائد المجاهدة.(152/3)
6 - من الأمور المهمة على صعيد تقوية الإرادة: مصاحبة الأشخاص أصحاب الإرادات القوية والهمم العالية، فعدوى الأرواح مثل عدوى الأجسام، وليعمل الإنسان على الابتعاد عن (الفوضويين) والكسالى والمحبطين واليائسين، فإن هؤلاء يسممون أرواح من يصاحبهم، ويشدونه نحو الوراء. كل شيء من الخير والتقدم يمكن أن يحدث؛ إذا تحلينا بالاهتمام والمثابرة.
والله الموفق.(152/4)
العنوان: اكتشاف مخطوطات علم التعمية
رقم المقالة: 917
صاحب المقالة: د. محمد حسان الطيان
-----------------------------------------
اكتشاف مخطوطات التعمية والجهود المبذولة فيها
ملخص البحث:
يرمي هذا البحث إلى جلاء أمر الكشف عن مخطوطات علم التعمية ورحلة التنقير عنها في مكتبات العالم، وهو يتألف من تمهيد، وقسمين.
يعرِّف التمهيد علم التعمية، ويشير إلى مكانته وأثره.
ويحكي القسم الأول قصة الكشف عن مخطوطات التعمية ومبلغ ما اجتمع لدينا منها.
ويتناول القسم الثاني أهم هذه المخطوطات بالوصف وإيراد نماذج مصورة منها.
تمهيد:
التعمية أو الشِّفْرة: تحويل نصٍّ واضح إلى آخر غير مفهوم باستعمال طريقة محددة يستطيع من يعرفها أن يفهم النص.
واستخراج التعمية أو كسر الشِّفْرة: تحويل النص المعمى إلى نص واضح دون معرفة مسبقة لطريقة التعمية المستعملة فيه.
ويحظى هذا العلم اليوم بمكانة مرموقة بين العلوم، إذ تنوعت تطبيقاته العملية لتشمل مجالات متعددة نذكر منها: المجالات الدبلوماسية والعسكرية، والأمنية، والتجارية، والاقتصادية، والإعلامية، والمصرفية والمعلوماتية.
وقد توافر لهذا العلم من أسباب الرعاية والتطوير الشيء الكثير لدى معظم الدول المتقدمة، إلا أنه غاب عن أذهان الكثيرين ممن يعملون به أن أصله عربي، وأن العرب هم آباؤه وواضعو أسسه ومطوروه، ولكنه خبا لديهم حتى لم يعد شيئاً
مذكوراً.
يقول كبير مؤرخي هذا العلم دافيد كهن في كتابه Kahn on Codes ص41:
"إن شفرة قيصر بقيت حية حتى آخر أيام الروم؛ لأن أول مستخرجي التعمية (الذين يكسرون الشفرة) لم يظهروا إلا بعد عدة قرون لاحقة. العرب كانوا أول من اكتشف مبادىء استخراج المعمى، ولكن معلوماتهم تقلصت مع أفول حضارتهم".
أولاً: الكشف عن أقدم مخطوطات التعمية في العالم(153/1)
كانت مهمة عسيرة.. بل مغامرة مثيرة.. تلك التي بدأها معنا د. محمد مراياتي، حين أوقفني والأخ الدكتور يحيى مير علم على نص لكبير مؤرخي التعمية دافيد كهن في ص93 من كتابه THE CODEBREAKERS يقول فيه: "ولد علم التعمية بشقَّيه بين العرب فقد كانوا أولَ من اكتشف طرق استخراج المعمَّى وكتبها ودوَّنها".
ولدى تتبع تلك المقولة تبين لنا أنه اعتمد فيها على ما جاء في كتاب (صبح الأعشى في صناعة الإنشا) للقلقشندي (821هـ = 1418م) الذي عقد باباً سماه "باب إخفاء ما في الكتب من السرِّ.." أكثر النقل فيه عن رسالة تدعى "مفتاح الكنوز في إيضاح المرموز" لعالم يدعى ابن الدريهم.
ويعبر البرفسور دافيد كهن عن أسفه الشديد لأن رسالة ابن الدريهم هذه تعد من الكتب الهامة المفقودة LOST BOOKS OF CRYPTOLOGY وتلمس في كتابه مقدار الرغبة الملحة والحماسة الشديدة لإثبات ما عده فتحاً تاريخياً، حين تقرأ في ملحقاته ما أثبته من رسائل وردت إليه تنعى عليه كشفه هذا، وتنكر وجود ابن الدريهم أصلا، وتزعم أنه ضرب من الخيال أو الوهم، ولا وجود له في حقيقة الأمر.
والدعاوى ما لم يقيموا عليها بيناتٍ أصحابها أدعياءُ
يا له من تحدِّ ما أجمله!!... ويا لها من مهمة ما أعسرها!!...
يقول دافيد كهن في كتابه THE CODEBREAKERS ص284: "طور المسلمون معرفة نظرية في استخراج المعمى، تنم عن ممارستهم لاعتراض المراسلات واستخراج تعميتها، وذلك على الرغم من تشكيك بعض الباحثين في ذلك. و بما أن التراث الإسلامي المخطوط لا يزال غير مكتشف في معظمه، فقد يحصّل الباحث فيه اكتشافات جديرة بالتقدير".
رحلة البحث عن المخطوطات
1- في دمشق (عام 1979):(153/2)
من هنا بدأت رحلتنا في البحث والتنقير عن ذلك المخطوط الضائع، وعن صاحبه المجهول، بل عن كل ما له مِساس بعلم التعمية واستخراج المعمى. بدأناها في الظاهرية التي كانت آنذاك (عام 1979) أعظم مكتبة في دمشق، وكانت تضم في جنباتها نحواً من اثني عشر ألف مخطوط استعرضنا جذاذتها واحدة واحدة بحثاً عن ضالتنا دون أن نحلى بطائل أو نظفر بدليل يدل على المخطوط الضائع، على أننا وجدنا آثاراً تدل على صاحبه أعني ابن الدريهم. فقد عثرنا على رسالتين مخطوطتين له، أما الأولى فهي "منهج الصواب في قبح استكتاب أهل الكتاب" وأما الثانية فهي قصيدة في ثلاثين قافية في مدح النبي محمد صلى الله عليه وسلم، نحا فيها ابن الدريهم نحواً عجيباً إذ جعل لكل بيت فيها ثلاثين قافية تستغرق حروف العربية وتزيد عليها اللام ألف، فلك أن تقول إن القصيدة همزية أو بائية أو تائية أو........ إلى أن تستنفد حروف العربية. ولما كانت القصيدة في ثلاثين بيتاً فقد بلغ عدد قوافيها تسعمئة قافية. (وقد حققتها ونشرتها في حوليات كلية الآداب بجامعة الكويت).
لقد كان لعثورنا على رسالتي ابن الدريهم هاتين أثر كبير في شحذ همتنا لمتابعة البحث، فابن الدريهم إذن عالم عربي مسلم كان له وجودٌ، وقد خلف آثاراً ضمت الظاهرية اثنين منها فيكف بباقي المكتبات؟!.. ثم إن ترجمة الرجل في (الدرر الكامنة) تؤذن بوجود عشرات المؤلفات له في فنون شتى منها فن التعمية.
على أن بحثنا في الظاهرية لم يخلُ من فوائد أخرى، إذ جمعنا كل ما تضمه المكتبة من رسائل التعمية البديعية، وهي تعمية تعتمد على إخفاء المعاني بالتورية ومجالها الشعر، وقد عني بها الفُرس وتلقفها عنهم العرب بأَخَرَة (فيما يسمى بعصور الانحطاط).
أما مفتاح الكنوز فلم يزل ضائعاً...
2- في اصطنبول (عام 1981):(153/3)
لابد إذن من الترحل في البحث عن مفتاح الكنوز، ولعل مكتبات تركية بما تضم من كنوز تراثنا العربي الإسلامي خير ما يمكن أن يتطلع إليه الباحث إذ تضم بين جنباتها أكثر من مئة ألف مخطوط، ولكن.. كيف السبيل إليها؟ وهل يستطيع أي باحث أن يصور ما يشاء منها؟!.
طرحنا هذا السؤال على شيخنا الأستاذ أحمد راتب النفاخ علامة الشام طيب لله ثراه، فأرسل به إلى صديقه الأستاذ الدكتور صلاح الدين المنجد أول مدير لمعهد المخطوطات ليعود الجواب مخيباً للآمال، فتصوير المخطوطات من مكتبات تركية من الصعوبة بمكان، وهو من المحظورات التي يحاسب عليها القانون التركي بحزم لا هوادة فيه لكن ذلك لم يكن ليفتَّ في عضدنا فما نذرنا أنفسنا له أكبر من أن يحبسه حابس أو تعترضه عقبة. ومن ثم فقد رحنا نبحث عن كل ما من شأنه أن يذلل لنا الطريق ويضمن لنا التصوير.
زوَّدنا د. مراياتي بخطابين حبرهما المدير العام لمركز الدراسات والبحوث العلمية بدمشق موجهين إلى كل من السفير السوري في تركية ومدير المكتبة السليمانية باصطنبول.
وزودنا أحد العاملين في تصوير المخطوطات برسالة موجهة من الأستاذ الدكتور سهيل زكار إلى طالب موفد من جامعة دمشق يحضر الدكتوراه في كلية الآداب بجامعة اصطنبول. حملناها إليه مع اثني عشر ميكروفلم لو رآها شرطة الحدود للبثنا في السجن بضعة شهور، ولكن الله سلَّم!.
وحملنا إلى ذلك كله أصنافاً من الهدايا والتحف نقدمها بين يدي المهمة التي ارتحلنا في سبيلها عسانا نحظى ببغيتنا، ولكن هيهات!!.(153/4)
وهكذا انتقل البحث من دمشق إلى اصطنبول، ومن الظاهرية إلى السليمانية حيث ترقد الكثرة الكاثرة من المخطوطات العربية الإسلامية رهينة المحبسين: الغربة، وخزائن الكتب. وبدأنا البحث ثمة عن ضالتنا في جذاذات الفهارس التي كتبت بالحروف اللاتينية فازدادت غربتها وانطمست معالمها، وضُرِب بينها وبين المطالع العربي بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب، ولكن العذاب يَعذُب حين تلوح من ورائه بارقة الأمل بالعثور على المفقود.. والكشف عن المخطوط الضائع.
وكان لنا ما أردنا، لقد وجدنا المخطوط الضائع، عثرنا على مفتاح الكنوز فما كان أشد فرحتنا وما كان أعظم سعادتنا.
أرأيت إلى الأعرابي يُضل بعيره في الصحراء... ثم يجده بعد طول يأسٍ واغتمام..؟..أرأيت إلى الأم تفقد فلذة كبدها في متاهة... ثم تلقاه بعد طول بعد وغياب..؟..أرأيت إلى الباحث الجاد يمضي مع بحثه خطوة خطوة.. يجمع مصادره.. ويجري تجاربه.. ويستقري كل أدواته.. ثم يؤتى بحثه أكله بعد طول عنت واستعصاء..؟.. كذلك كانت فرحتنا يوم لقينا مخطوطنا الضائع "مفتاح الكنوز في إيضاح المرموز" لابن الدريهم الموصلي. وقد كتب اسمه في جذاذة الفهارس هكذا:
(Miftah Al Kunuz Fi Idah Al Marmoz) Ibn Al-durayhim Al Mowsili
لم نكد نصدق أعيننا حين قرأنا هذه التهجئة، ومن ثم هُرعنا إلى أمين المكتبة نأخذ طلب استعارة ونكتب ما رُقِن على الجذاذة حرفاً حرفاً نخشى أن نخطىء في حرف أو في رقم فيفلت الضائع منا.. وبتنا على أحر من الجمر دقائق حسبناها ساعات، أقبل علينا بعدها رجل يحمل الكنز المرتقب إنه هو "مفتاح الكنوز" وإن مؤلفه ذلكم المجهول المُغَيَّب علي بن الدريهم الموصلي.(153/5)
لم ننتظر إذناً بالتصوير أو نلتمس إلى ذلك سبيلاً وإنما عكفنا عليه ناسخين حتى أتينا عليه جميعاً من الجلدة إلى الجلدة ثم عارضنا ما نسخنا، حتى إذا ما تم لنا كل ذلك التفتنا نبتغي التصوير ونسعى إليه سعينا ملتمسين كل سبيل يمكن أن يوصلنا إليه.
سلمنا ما بأيدينا من رسائل محفوفة بالهدايا والتحف إلى مدير المكتبة وإلى القنصلية في اصطنبول فلم يُجدِ ذلك شيئا، وسعينا عند أساتذة أجلاء تعرفنا إليهم هناك فلم تُغنِ معرفتهم فتيلاً.
وصادف أن لقينا الأستاذ الدكتور صلاح الدين المنجد في السليمانية، ولم نكن نعرفه، وإنما دلنا عليه اسمه وقد كُتب على محفظة تكاد تحيلها السنون إلى مخطوطة لكثرة ما عانت من صحبة المخطوطات، اقتربنا منه على وجل وسألناه التعارف والمصاحبة فبذلهما لنا، ورأيتنا نكتنفه متوسلين أن يمدَّ لنا يد العون في تصوير المخطوط فما زادنا غير يأس وقنوط، بل راح يقرِّعنا لأننا لم نستمع إلى نصحه حين أرسل إليه شيخنا النفاخ يسأله عن تصوير المخطوطات في مكتبات تركية. وأكد لنا أن تصوير صفحة واحدة من مخطوطات السليمانية أمر محال.
لم نتوقف في أثناء ذلك عن البحث في فهارس المكتبة وهي كثيرة تبلغ بضعة وتسعين فهرساً – استعرضناها واحداً واحداً، فحظينا بعدة رسائل في التعمية كان أهمها على الإطلاق "رسالة الكندي في استخراج المعمى" تلك الرسالة التي جعلتنا نعيد تاريخ علم التعمية خمسة قرون إلى الوراء، لأن صاحبها يعقوب بن إسحاق الكندي فيلسوف العرب المشهور توفي في القرن الثالث للهجرة (260هـ).
وكان مما عثرنا عليه مجموع يشتمل على ثماني رسائل في التعمية، والحق أن شيخنا النفاخ - عليه رحمات المولى سبحانه – كان قد حصل على مصورة عنه من صديقه المؤرخ العلامة التركي المعروف د. فؤاد سزكين. ولكن فيه ورقةً ناقصة استدركناها من الأصل الذي وجدناه في المكتبة السليمانية آنذاك.(153/6)
وقد صنعنا برسالة الكندي صنيعنا بسابقتها إذ نسخناها وعارضناها، وكذلك الورقة الناقصة من المجموع.
على أن أملنا لم ينقطع في إمكانية الوصول إلى تصوير كل تلك المخطوطات مع مخطوطات أخرى كنا نسعى إليها على رأسها رسالة "أسباب حدوث الحروف" لابن سينا.
وطرقنا آخر الأبواب إنه ذلكم الطالب الموفد الذي حملنا إليه رسالة د. زكار والأفلام الاثني عشر، وقد أجابنا إلى طََلِبَتِِنا، ولكنه أغلى الثمن لأن كل من يساعده على إنجاز مهمة التصوير يحتاج إلى تلقيم وكذلك كان، فلم نبخل عليه بأي ثمن طلبه، دفعنا ذلك من حرِّ أموالنا، على ضيق ذات اليد، تغشانا سعادة غامرة بما حصَّلنا، ويحدونا أمل وطيد بأن يخلف كل ذلك عند الله أولاً ثم عند أولي الأمر ثانياً.
ولابد لنا هنا من كلمة شكر نزجيها لذلك الطالب الموفَد الذي أعاننا على إنجاز مهمتنا على خير وجه وقد أصبح فيما بعد وكيلاً لكلية الآداب بجامعة دمشق، إنه الصديق الدكتور محمود عامر، فله منا كل الشكر والتقدير.
وهكذا عدنا من رحلتنا وقد امتلأت جَعبتنا بأكثر مما كنا نؤمل، إن حصيلة ما اجتمع لدينا من رسائل التعمية بلغ إحدى عشرة رسالة، دع عنك ما جمعناه من رسائل التعمية البديعية، وهي الرسائل التي عنيت بفن التعمية بوصفه فناً بديعاً يعتمد على تزيين الشعر والإلغاز فيه.(153/7)
عكفنا بعد ذلك على مخطوطات التعمية دارسين ومحققين وشارحين وموازنين لنُخرج فيها سِفرَين كبيرين، اشتمل الأول على ثلاثة من أهم رسائلها مع دراسة تحليلية لكل منها ودراسة موسعة لتاريخ علم التعمية عند العرب، ونشر بعنوان "علم التعمية واستخراج المعمى عند العرب- الجزء الأول- دراسة وتحقيق لرسائل الكندي وابن عدلان وابن الدريهم" ضمن مطبوعات مجمع اللغة العربية بدمشق عام 1987 مصدراً بمقدمة ضافية لرئيس المجمع أستاذنا الدكتور شاكر الفحام. واشتمل الثاني على ثماني مخطوطات ونشره المجمع أيضاً عام 1997 بعنوان "علم التعمية واستخراج المعمى عند العرب (التشفير وكسر الشفرة)- الجزء الثاني - دراسة وتحقيق لثماني رسائل مخطوطة" مصدراً بمقدمة ضافية لأستاذنا الفحام رئيس المجمع.
تلكم كانت محطتنا الثانية في رحلة البحث والكشف عن مخطوطات التعمية، أما المحطة الثالثة فكان لها شأن آخر، وهذا أوان الحديث عنها.
3-في باريس (عام 1986):
اتجهت أنظارنا بعد ذلك للحصول على مخطوط في غاية من الأهمية في مجال التعمية إنه: "شوق المستهام في معرفة رموز الأقلام" لابن وَحشِيَّة النبطي، ذلك المؤلف الذي كشف اللثام عن رموز الهيروغليفية قبل عشرة قرون من كشف شامبليون لها. وقد أشارت المراجع إلى أنه طُبع في لندن عام 1806 بعناية جوزيف هامّر مما جعلنا نتطلع نحو المتحف البريطاني للحصول على نسخة من تلك المطبوعة، ولكن هيهات!! إذ لم يُعِر القائمون على المتحف أيَّ اهتمام لخطاباتنا المتكررة برغم أن بعضها حُمل إليهم باليد مع لجان متخصصة مما أقنعنا بمقولة أطلقها بعض المهتمين بشؤون المخطوطات والكتب النادرة، مفادها أن هذا الكتاب يقع ضمن ما يحظر تداوله إعارةًً أو تصويراً أو اطِّلاعاً في المتحف البريطاني.(153/8)
لم يبق أمامنا- والحالة هذه- إلا اللجوء إلى الأصل الذي طُبع عنه ذلك الكتاب وهو مخطوط تحتفظ به المكتبة الوطنية بباريس، وسنحت الفرصة بسفري إلى فرنسا عام 1986 حيث قصدت المكتبة الوطنية بباريس، وتمكنت من استعارة المخطوط (شوق المستهام) ومعاينته، وكم كان عجبي كبيراً وفرحتي عظيمة حين عرفت أنه يشتمل على واحد وثمانين قلماً (أي لغة قديمة) كان الحكماء يستعملونها في تعمية كتاباتهم، من بينها قلم هرمس الذي يؤلف أساس لغة الفراعنة وهي اللغة الهيروغليفية القديمة، وبادرت من فوري إلى نسخ المخطوط خشية ألا أحظى بتصوير نسخة منه، وكم كان النسخ شاقاً وعسيراً لأن المخطوط يشتمل على صور وأشكال يصعب أن ترسم إلا بيدٍ حَذاق صَناع، وأين مني تلك اليد؟! ومع ذلك فإنني أتممت نسخ المخطوط، وكتبت صفحة في وصفه، ثم تقدمت بطلب رسمي مشفوع بتزكية من أستاذ في جامعة السوربون هو الدكتور جورج بواس لتصويره، ووُعدت خيراً.. إلا أنني عدت إلى دمشق بخُفَّي حُنَين، ولم يطل صبري كثيراً فما هي إلا ثمانية أشهر حتى جاءني خطاب من المكتبة الوطنية بباريس يخبرني بوجوب دفع مئتي فرنك فرنسي قيمة المصورة التي أفرج عنها أخيراً، وجاءتني تحمل نجاحاً آخر في رحلة بحثنا المضنية، وكانت فرحة غامرة.
4- في اصطنبول ثانية (1991):(153/9)
لم يكن "شوق المستهام" على أهميته وشهرته – هو الوحيد في بابه، فقد دلنا التتبع والاستقصاء على أن ثمة مخطوطات أخرى تنحو نحوه ولا تقل أهمية عنه. أهمها مخطوط لذي النون المصري يدعي (حل الرموز وبرء الأسقام في أصول اللغات والأقلام) يشتمل على مئتي قلم (أي لغة قديمة)، وآخر للجلدكي يشتمل على سبعين قلماً، وثالث لمجهول. وكل ذلك في مكتبات تركية، ومن ثم كانت رحلتي الثانية إلى تركية عام 1991 حيث حصلت على مصورات لهذه المخطوطات جميعاً بعد لأي، إلا أني على كل حال لم أُلاقِ ما لاقيت والأخ الدكتور يحيى في رحلتنا الأولى، وإنما جنيت كثيرأ مما كنا زرعناه في تلك الرحلة، وتضافرت إلى ذلك أفضال عدد من الأصدقاء الكرام لا بد أن يُذكروا هنا ويشكروا وهم الأستاذ لطفي الخطيب ود.عبد الرحمن الفُرفور (المهتمان بشؤون المخطوطات) والأستاذ رأفت غوغول (خبير التجليد العالمي) ود. أحمد صبحي فرات (الأستاذ بكلية الآداب- جامعة اصطنبول) جزاهم الله عنا خير الجزاء.
5- مخطوطات لم نرتحل إليها:
وفدت إلينا خلال رحلتنا الطويلة هذه مخطوطاتٌ لم نرتحل إليها، وإنما ساعدنا في الحصول عليها أساتذةٌ أجلاء وأصدقاء نبلاء بذلوا جهداً حميداً في سبيل ذلك، فلهم منا كل الشكر والتقدير. منها:
أ - مجموع يضم تسع رسائل في التعمية، من المكتبة السليمانية، أتحفنا به أستاذنا النفاخ كما تقدمت الإشارة إلى ذلك.
ب - قصيدة ابن الدريهم في حل رموز المكاتبات وفهم أقلام المتقدمين، من مكتبة دار الكتب المصرية، تكرم بإرسالها إلى د. مراياتي صديقه الدكتور فتحي صالح المشرف على مشروعات نُظُم معلومات الثقافة في المركز الإقليمي لتكنولوجيا المعلومات بالقاهرة.
ج - نسخة من مخطوط "شوق المستهام في معرفة رموز الأقلام" لابن وحشية النبطي، من مكتبة خاصة، قدمها لنا الأستاذ الفاضل محمد عدنان جوهرجي، بعد أن ألقى محاضرة عنها في المركز الثقافي بدمشق.(153/10)
د - نسخة أخرى من مخطوط "شوق المستهام في معرفة رموز الأقلام" لابن وحشية النبطي، تكرم بتصويرها الأخ الصديق المهندس محمد الزمامي من المكتبة الوطنية في فيينا.
هـ - كشف المغمى عن أصول المعمَّى، لمحمد مرتضى الزَّبيدي، وهي رسالة صغيرة تحتفظ بها المكتبة اليهودية الوطنية بالقدس، وقد تكرم بتصويرها فضيلة الأخ الشيخ نظام اليعقوبي من مقتنيات مكتبته الخاصة بالبحرين.
و- ورقات من مجموع التعمية تكرم بإرسالها الأستاذ الدكتور عبد الرحمن الهدلق (محقق رسالة ابن طباطبا في استخراج المعمَّى) بعد أن صورها الأستاذ الدكتور عبد العزيز المانع شكر الله لهما.
هذه جملة المخطوطات التي اجتمعت لدينا حتى الآن في علم التعمية واستخراج المعمى، وهي على غناها وكثرتها وتنوعها غيض من فيض وقُلٌّ من كُثر، فما في المكتبة العربية أعظم من أن يحيط به جهد، أو يحصيه محص، وفي جَعبتنا عناوين كثيرة لما نصل إليها، ومن ورائها عناوين كثيرة لما تصل إلينا، بل لما يبلغنا علمها، وما زال البحث عنها جارياً...
وسأعمد فيما يأتي إلى وصف أهم ما جمعناه من مخطوطات التعمية، وهي التي ألفت نواة السِّفرين اللذين أشرت إليهما، ثم أشفع كل وصف بنموذج مصور.
ثانياً: وصف المخطوطات
1- رسالة الكندي في استخراج المُعَمَّى
نسخة ضمن مجموع كبير، كُتب بخطٍّ صغير متداخل، ويتألف من (232) ورقة، يقعُ في قسمين: يشتمل الأول منهما على رسائل ثابتِ بنِ قُرَّة في الرياضيات وغيرها، ابتدأ بجدولٍ كُتِب فوقه "جدول فيه فهرست ما وجدنا من كتب ورسائل ثابت بر قُرَّة في الرياضيات". كما رُسم في أعلى الورقة عبارتان مهمّتان نصُّ الأولى منهما: "هذا الكتابُ كان لأبي عليّ الحسين بن عبد الله بن سينا، وصُنِّف من رسائلَ كثيرةٍ، والله أعلم".(153/11)
أما القسم الثاني من المجموع فيشتمل على رسائل مختلفة للكندي ابتدأت بفهرس كُتب فوقه: "الجزء الأول من كُتب ورسائل يعقوب بن إسحاق الكندي، وفيه ستون مصنفاً". ورسالته في استخراج المعمى واحدة من رسائل هذا القسم، وهي تشغلُ من المجموع ما بين (59-64) (ترقيم قديم) أو (211-216) (ترقيم حديث). وتقع في (12) صفحة، يتضمن كلٌّ منها (32) سطراً، وفي كلّ سطرٍ ما يقربُ من (17) كلمةً. وفي الرسالة قسمٌ مكرر استغرق آخر ورقة من الأصل، وهي الورقة (216). والمجموع محفوظ في خزائن مكتبة آيا صوفيا ضمن المكتبة السليمانية برقم (4832). وفيما يلي نموذج مصور من رسالة الكندي:
2- رسالة ابن عدلان
المؤلَّف للملك الأشرف
رسالة ابن عدلان واحدة من رسائل عديدة يشتمل عليها مجموع كبير يقع في (191) ورقة ذي حجم متوسط، يشتمل على موضوعات مختلفة، بينها رسائل في التعمية تشغل منه ما بين الورقة (48) والورقة (133) تمثل ما لدينا منه، أما رسالة ابن عدلان فتقع ما بين 89/أ و107/ب.
وخطُّ مجموع التعمية هذا نَسْخي واضح بالجملة، وإن كان لا يخلو من غموض أحياناً وإهمال للحروف المعجمة أحياناً أخرى، وهو خِلْوٌ من ذكر اسم الناسخ أو تاريخ النسخ إلا أن رسم حروفه يؤذن بتقدمه، وقد قدّر الدكتور فؤاد سزكين أنه يعود إلى القرن السادس الهجري.
وهو متفاوت في حجم الخط ونوعه وعدد الأسطر، إذ يراوح أغلبُ ما في صفحاته من أسطر ما بين (14) و(15) سطراً، وربّما نقص بعضها عن ذلك، ونسخة المجموع من خزائن مكتبة فاتح المحفوظة في المكتبة السليمانية برقم (5300). وفيما يلي أسماء ما تضمّنه المجموع من رسائل حسبما وردت فيه، وإلى جانب كل منها رقم الصفحة التي تبدأ بها الرسالة:
- رسالة أبي الحسن بن طباطبا في استخراج المعمى 48/أ
- زُبَد فصول ابن دنينير في حلّ التراجم 54/أ
- مقاصد الفصول المترجمة عن حلِّ الترجمة 55/أ
- من كتاب الجرهمي 80/أ(153/12)
- من كتاب البيان والتبيين لأبي الحسين إسحاق بن إبراهيم بن سليمان بن وهب الكاتب 82/أ
- من رسالة أبي الحسن محمد بن الحسن الجرهمي 83/أ
- من كتاب العين 87/أ
- المؤلّف للملك الأشرف في حلّ التراجم 89/أ
- المقالة الأولى في جمل القول على حلّ التراجم المسهلة المستحسنة إلى الخروج 109/أ
- المقالة الثانية في استنباط التراجم العويصة الغامضة المشددة وفي كيفية وضعها 115/أ
- رسالة في استخراج المعمى من الشعر مجردة من كتاب أدب الشعراء119/ب
وفيما يلي نموذج مصور من رسالة ابن عدلان:
3- رسالة ابن الدريهم
مفتاح الكنوز في إيضاح المرموز
نسخة مصورة عن أصل يقع ضمن مجموع ذي قطع صغير، يشتمل على رسائل مختلفة في بعض العلوم الخفية كالزايرجة والجَفْر والأوفاق والرّمل والطلاسم وغيرها، وهو مكتوب بخط نسخيٍّ جميل، تحتفظ به مكتبة أسعد أفندي المودعة في خزائن المكتبة السليمانية في اصطنبول برقم (3558). وقد حوت الورقة الأولى منه فهرساً بخط الناسخ تضمنَ أسماء الرسائل، كُتب اسمُ كلٍّ منها في سطرين، وأُثبتَ تحته رقمُ الورقة التي تبدأ بها الرسالة121".
وقد جاءت رسالةُ ابن الدريهم في هذا المجموع تامة شغلت منه ما بين 47/ب و59/أ وفي ختمها صرّح ناسخها باسمه وبتاريخ نسخها، قال "أنهاه كتابةً الفقير صدقي مصطفى بن صالح في نهار الجمعة الغرّاء عاشر شهر رمضان المبارك من شهور سنة تسعٍ وأربعينَ ومئةٍ بعد الألف من هجرة مَنْ [له] العزُّ والشرفُ صلّى الله عليه وعلى آله أجمعين. م".
وفيما يلي نموذج مصور منها:
4- مخطوط "المقالتين"
يقع مخطوط المقالتين ضمن "مجموع التعمية" المذكور آنفاً - في وصف رسالة ابن عدلان - وهما تشغلان من المجموع إحدى عشرة ورقة (108/ب-118/ب) تقع الأولى في الأوراق (108/ب-115/ب) وتقع الثانية في الأوراق (115/ب-118/ب) وفيما يلي نماذج مصورة من هاتين المقالتين:
5- مخطوط ابن وهب(153/13)
تقع رسالة ابن وهب ضمن مجموع التعمية نفسه الذي تقدم ذكره، وهي صغيرة لا تتجاوز ثلاث الصفحات؛ إذ تشغل من المجموع صفحتي الورقة (82) ووجه الورقة (83) وفيما يلي نموذج مصور منها:
6- مخطوط ابن دنينير
يشغل كتاب ابن دنينير أكبر حجم في مجموع رسائل التعمية؛ إذ يقع ضمن الورقات 54/أ-80/أ، وقد حملت الورقة الأولى منه عنوان "زبد فصول ابن دنينير في حل التراجم" وجاء تحتها أبيات مختلفة عن القوافي وما إليها، أما الورقة الثانية فقد حملت عنوان "مقاصد الفصول المترجمة عن حل الترجمة". وفيما يلي نموذج مصور منه:
7- وصف مخطوط ابن طباطبا
مخطوط ابن طباطبا هو الأول ترتيباً بين رسائل مجموع التعمية، ويحتل منه نحواً من خمس ورقات، إذ يشغل الأوراق 48/أ-53/أ. وقد جاء عنوان الرسالة واسم مؤلفها على الوجه الأول من المخطوط ونصه: "رسالة أبي الحسن بن طباطبا العلوي في استخراج المعمى" وكتب تحته "بسم الله الرحمن الرحيم". وفيما يلي نموذج مصور منه:
8- وصف مخطوط استخراج المعمّى من الشعر
هذا المخطوط هو آخر رسائل المجموع ترتيباً، وهو يحتل منه نحواً من خمس عشرة ورقة؛ إذ يشغل الورقات 119/ب-133/أ وهو لا يحمل عنواناً مستقلاً، وإنما يبدأ بالبسملة، ويتبعها بمقدمة يليها عنوان في وسط الصفحة نصه: "معنى قولهم فلان يستخرج المعمى من الشعر" ويتابع بعد ذلك الكلام. وفيما يلي نموذج مصور منه:
9- وصف مخطوطي الجرهمي
يقع مخطوطا الجرهمي في مجموع التعمية المذكور، ولكنهما لم يأتيا متتابعين وإنما فصلتْ بينهما رسالة ابن وهب الكاتب.
أما المخطوط الأول فحمل عنوان: "من كتاب الجرهمي" وشغل ثلاث صفحات (80/ب- 81/ب).
وأما المخطوط الثاني فحمل عنوان: "من رسالة أبي الحسن محمد بن الحسن الجرهمي" وشغل نحواً من أربعة ورقات (83/أ-86/ب) وفيما يلي نماذج مصورة من كلا المخطوطين:
الخاتمة(153/14)
لابد لي في ختام هذا البحث من كلمة أقول فيها: إننا معشرَ العرب قد نمنا حتى عن مفاخرنا، و طال سباتنا حتى لقد نسينا أننا قدَّمنا للإنسانية حضارة شامخة أفادت منها الكثير و مازالت تفيد، بل لقد بتنا نشك في كثير مما قدمنا و نقدم الريبة و الظن في كثير مما يُنسب إلينا، و لا غروَ فما آل أمرنا إليه لا يشي بشيء مما كنا عليه.
ولكن الله جلت حكمته يريد أن يُحقَّ الحقَّ، فيقيض لهذه الأمة كل حين من يوقظها من سباتها، و يعيدها إلى رشدها و يبعث أعلامها من مراقدهم
تنبهوا واستفيقوا أيها العرب فقد طمى الخطب حتى غاصت الركب
ولعل المؤرخ الأستاذ دافيد كهن واحد من هؤلاء النَّصَفَة الذين بعثوا مجد هذه الأمة في هذا العلم ( علم التعمية واستخراج المعمى ) فأسدوا إليها يداً بيضاء لا يمكن أن تنسى. لذا كان حقاً على أمتنا أن تشكر هذه اليد وأن ترفع الصوت بالثناء على صاحبها و العرفان لعظيم جهده و كبير فضله. فاسمحوا لي أيها الإخوة باسم فريق العمل الذي أنجز هذا العمل، و باسمكم جميعاً، بل باسم هذه الأمة أن أحييه أجمل تحية و أشكره جزيل الشكر.
ولعل من تمام أياديه علينا تلك الرسالة التي أتحفنا بها لدى اطلاعه على الجزء الأول من عملنا عام 1989. وسأثبت صورة عنها فيما يلي مشفوعة بترجمتها:
ترجمة الرسالة:
عزيزي الدكتور منصور:
أشكر لكم جزيل الشكر تفضلكم بإرسال نسخةٍ لي من كتاب الدكتور مراياتي "أصول علم التعمية واستخراج المعمَّى عند العرب".
هلاَّ تكرمتم نيابة عني بإعلامه أنني أرى من المستخلص الإنجليزي أن الكتاب إسهام عظيم في تاريخ علم التعمية، ومدعاة كبرى لامتناني الشخصي وتقدير سائر المهتمين بهذا المبحث والمؤرخين له. وسنكون مدينين دومًا بالشكر له[1] ولمركز الدراسات والبحوث العلمية كذلك.
وأتطلع بفارغ الصبر إلى تلقي الطبعة الإنجليزية الكاملة من هذا العمل.(153/15)
لعل الوقت لم يفت بعد لألفت النظر لاستدراك خطأ ورد في رسم اسمي حيث لاحظت أن حرفي H و A منه مرسومان "بطريقة القلب"، حيث وقع كل منهما موقع الصواب للآخر في المستخلص: فاسمي هو Kahn وليس Khan.
أشكركم ثانية.
وإذا ما أتيحت لكم أو لأي من المؤلِّفين المحقِّقين فرصة للحضور إلى نيويورك فاسمحوا لي أن أتشرَّف بلقائكم.
المخلص ديفيد كهن 7/3/1989م
ــــــــــــــــــــ
[1] لأن العمل إسهام كبير كما قلت.(153/16)
العنوان: أكذوبة استطلاعات الرأي في الانتخابات الفلسطينية
رقم المقالة: 265
صاحب المقالة: خليل محمود الصمادي
-----------------------------------------
عرفت دول العالم الثالث استطلاعات الرأي متأخرة عن غيرها من دول العالم الأول والثاني، ويبدو أن جل استطلاعات الرأي في دول العالم الثالث بما فيها دول العالم العربي تعبر عن البيئة التي تصدر منه فما زالت تحمل بقايا مما يحمله عالمهم من تبعية مجهل ومكابرة وتخلف.
إن استطلاعات الرأي في العالم الأول أو الثاني لا تكون صحيحة مئة بالمئة، بيد أن الخطأ فيها قد يتجاوز الواحد في المئة؛ لذا يتبناها السياسيون والمنظرون والمحللون السياسيون ويعتمدون عليها لا سيما الاستطلاعات التي تجرى قبيل الانتخابات .
أما الاستطلاعات في عالمنا العربية وعلى قلتها فالكثير منها يعمل ضمن أجندة حزبية تبشر بنتائج سياسية من باب الدعاية الحزبية والحرب النفسية ضد المناوئين أو ما تتمنى مما ستحصده من أصوات مزورة، وأما إذا كانت الانتخابات نزيهة أو شبه نزيهة فإن قراءة النتائج غالبا تأتي بعكس ما بشرت به الاستطلاعات السابقة.
وما أجواء الانتخابات الفلسطينية الأخيرة قبل تسعة أشهر بعيدة عنها فمراكز الدراسات والاستطلاعات بشرت المناوئين لحركة حماس بالنصر المظفر على الحركة وأعطت هذه المراكز أرقاما ظلت تكابر بها طيلة فترة الدعايات الانتخابية وحتى قبيل الإعلان الرسمي عن النتائج. ويبدو أن بعض السياسيين اعتمد على ما بشرت به الاستطلاعات فكانت لثقتهم بهذه الاستطلاعات الوقع السيئ لهم ولمن صوت لهم.(154/1)
ففي استطلاع للرأي نشره المركز الفلسطيني لاستطلاع الرأي قبل الانتخابات التشريعية بتاريخ 20-21 يناير/ كانون الثاني 2006 بشرت هذه الاستطلاعات بهزيمة حركة حماس وفوز كاسح لحركة فتح ويبدو أن مرشحي فتح وغيرهم وثقوا بهذه الاستطلاعات فأخذوا يبشرون بها عبر الفضائيات والصحف قبيل الإعلان الرسمي عن النتائج وابتهج البعض بإطلاق الأعيرة النارية تعبيرا عن فوزه المضمون والتي بشرت بحصول فتح على 39.6% و حماس على28،8%.
وفي استطلاع آخر لمركز "استطلاعات الرأي والدراسات المسحية- جامعة النجاح - أكد حصول فتح على39% و حصول حماس على23.4 %، أي تقدم فتح على حماس بشكل كبير .
وذكرت جريدة الوطن ما يلي:
القدس 25 يناير كانون الثاني (رويترز) - قال مصدر رفيع في إحدى الجماعات التي تقوم باستطلاع مواقف الناخبين لدى خروجهم من مراكز الاقتراع أن من المتوقع أن تفوز حركة حماس بنسبة 30 في المائة من الأصوات في الانتخابات الفلسطينية اليوم الاربعاء وان تفوز حركة فتح بنسبة 40 في المئة.
وذكرت الصحيفة أنَّ هذه النتائج تتفق على وجه التقريب مع نتائج الاستطلاعات السابقة على الانتخابات وهي أول انتخابات تشريعية فلسطينية منذ نحو عقد.
ولكن النتائج الفعلية جاءت بما لا تشتهي السفن والصناديق وعلى عكس التوقعات، فلم تحصل فتح إلا على 45 مقعدا مقابل 74 مقعدا لحركة حماس!!
ويبدو أن الكرة تعيد نفسها هذه الأيام وبعد الحرب الدائرة بين أكبر فصيلين على الساحة الفلسطينية بسبب إجراء الانتخابات فبدل أن تعتذر مراكز استطلاع الرأي عن فشلها في الاقتراب من النتائج الحقيقة للانتخابات التشريعية الأخيرة نجدها شمرت عن ساعديها لتبشر بنتائج استطلاعاتها المستقلة !!
ويبدو أن كل مركز يغني على ليلاه فبعض المراكز يبشر بنسب تسر الفريق المؤيد للانتخابات وبعضها جاء بنتائج مغايرة تماما!!(154/2)
وعلى سبيل المثال ما ذكرته صحيفة الحياة 23/12/2006 أن أكبر مركز للاستطلاع في فلسطين المحتله أجرى استطلاعا على منافسة السلطة بين عباس وهنية نال الأول على 46% بينما نال الثاني 45% أما إذا كانت المنافسة بين مروان البرغوثي وخالد مشعل فسيحصل الأول على 57% بينما يحصل مشعل على 36%، بينما يرى هذا المركز تراجعا ملموسا في شعبية حماس إذ سينخفض تأييدها من 47% إلى 36% وأن شعبية فتح سترتفع شعبيتها من 38% إلى 42%
ونقل موقع البوابة عن بعض مراكز الاستطلاع ما يلي:
أفاد استطلاع أجري قبيل دعوة الرئيس الفلسطيني محمود عباس الانتخابات مبكرة إن حركة حماس ستخسر الانتخابات التشريعية أمام حركة فتح في حال أجريت الانتخابات الآن .
وأجرى المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية استطلاعا في الفترة بين 14 و16 كانون الاول/ديسمبر 2007 جاءت نتائجه أن 61 % من الفلسطينيين يفضلون إجراء انتخابات مبكرة. وعارض ذلك 37 % .
وأظهر الاستطلاع إن حركة فتح التي يقودها عباس ستحصل على 42 في المئة من الأصوات فيما ستحصل حماس على 36 في المئة. وستذهب الأصوات الباقية للمستقلين أو للأصوات التي أفادت أنها لم تحسم أمرها
أما جامعة " بيرزيت" الفلسطينية فقد أجرت استطلاعا برقم 28 بتاريخ 20/9/2006 تحت عنوان :
الانتخابات الفلسطينية: تراجع في شعبية حماس وثبات شعبية فتح، وتأييد لإجراء انتخابات رئاسية وتشريعية جديدة وجاءت نتائجه كما يلي:
- يؤيد 58% من المستطلعين إجراء انتخابات تشريعية ورئاسية جديدة، في حين يعارض ذلك 39%.(154/3)
- في حال حصلت انتخابات تشريعية جديدة في هذه الفترة، ستحصل حركة فتح على 35% من الأصوات (متفوقة على حماس للمرة الأولى منذ الانتخابات السابقة)، في حين ستحصل حماس على 31% حسب آراء المستطلعين. وتشير نتائج الاستطلاعات المختلفة إلى التراجع في نسبة منتخبي حماس حيث كانت هذه النسبة 50% في نيسان الماضي، وقد هبطت إلى 37% في حزيران الماضي.
بينما نرى نتائج بعض المراكز القريبة من حركة حماس أو المستقلة على مفارقة عجيبة بل متناقضة!! ولا سيما الاستطلاعات التي تجرى على مواقع الانترنت ففي قراءة سريعة لبعضها نجد ما يلي:
في الاستطلاع الذي أجراه موقع "المركز الفلسطيني للإعلام"، وشارك فيه أكثر من سبعة آلاف مصوت؛ فإن 85.78 في المائة من زوار الموقع أعربوا عن رفضهم لدعوة عباس، فيما أيدها 13.43%بينما عبر 79,. % بلا أدري.
أما الاستطلاع أجراه موقع قناة "الجزيرة" على شبكة الانترنت، الذي بين أن 82.4 % من إجمالي المشاركين في الاستطلاع، وعددهم أكثر من أربعين ألفاً لا يؤيدون الدعوة لإجراء انتخابات مبكرة، فيما أيدها فقط 17.67 % من إجمالي المصوتين .
وفي استطلاع آخر، أجراه موقع صحيفة القدس الفلسطينية، وشارك فيه قرابة 11 ألفاً؛ قال نحو 48.52 % من المشاركين في الاستطلاع أنهم سيصوتون لصالح حركة حماس إذا أجريت الانتخابات المبكرة، فيما قال 30.35 % إنهم سيصوتون لصالح حركة فتح .
وفي إجابة المستطلعين على سؤال، طرحه موقع إخباريات الإلكتروني: إذا جرت انتخابات مبكرة لمن ستصوت؟ قال 56.3 % من المشاركين في الاستطلاع، والذي بلغ عددهم 1200 زائر، إنهم سيصوتون لحركة حماس، و32.9 % لفتح ".
أما نتيجة استطلاع موقع "فلسطين اليوم"، والذي شارك فيه نحو ألف زائر، حول موقفهم من دعوة رئيس السلطة محمود عباس لإجراء انتخابات تشريعية ورئاسية مبكرة فكانت على النحو التالي: 61.68 % يرفضون هذه الدعوة، فيما أيدها 38.32 %(154/4)
وفي استطلاع لموقع "فلسطين الآن"؛ أجابت نسبة 67.5 % من المشاركين في الاستطلاع وعددهم نحو خمسمائة، أن الخروج من الأزمة السياسية الراهنة يكون بإجراء انتخابات رئاسية فقط، مقابل 22 % رأوا بأنه مرتبط بإجراء انتخابات رئاسية وتشريعية، و10.4 % غير ذلك .
ومن خلال القراءتين السابقتين نجد أن استطلاعات الرأي العربية لا تحترم عقل القارئ العربي وهي متناقضة إلى حد بعيد ومتفاوتة، في الوقت الذي يجب أن تكون متقاربة، ونجد إنها تعاني عدة مشكلات أهمها التبعية وعدم الصدقية ولا سيما التي تقام من قبل مراكز والتي تسمي نفسها مستقلة، فهذه المركز إما أنها تجهل المعايير الحقيقية للاستطلاع من حيث العينات والأسئلة المطروحة والأعمار وتنوع الانتماء السياسي، أما أنها تخفي عن عمد النتائج الحقيقة للمستطلعين ولا تبوح بها في انتظار التزوير المرتقب أو أنها وسيلة من وسائل الحرب النفسية ضد الخصوم، أو أنها تكابر في شعبيتها المرتقبة والتي لا يكشفها سوى صناديق الانتخابات لا سيما إذا كانت شفافة.(154/5)
العنوان: ألا إن نصر الله قريب
رقم المقالة: 533
صاحب المقالة: صالح بن فريح البهلال
-----------------------------------------
إن الناظر في أحوال العالم الإسلامي اليوم، يجد من المصائب التي حلت بأمة الإسلام ما ينقبض له صدره، ويتفطَّر له فؤاده.
وهذا الهم علامة تدل على إيمان المتحلِّي به، وصدق ولائه للمسلمين؛ إلا أن بعض أولئك الغيورين، ربما أشجاه الحُزْنُ بغُصَّته؛ لكثرة ما يسمع من هاتيك الخطوب وتلك النوازل، فساوره شيءٌ من اليأس من ظهور الدين الحق على الدين كله، وهذا موطئ منكرٌ في الدين، ومغْمَزٌ يَبْهَجُ له العدو ويفرح.
وفي هذا المقال ذكرٌ لبعض ما يجب التعامل به في مثل هذه النوازل؛ فأقول:
أولاً: لنعلم يقيناً لا شك فيه، أن الله - سبحانه - ناصرٌ دينه والمؤمنين، كما قال – تعالى -: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ} [التوبة: 32]، وقال: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ البَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214]، وقال: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر: 51].(155/1)
لكنَّ الله - سبحانه - يؤخر النصر؛ ابتلاءً لعباده، وتمحيصاً لهم، كما قال – تعالى -: {ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} [محمد: 4] وقال: {مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [آل عمران: 179]، وقال: {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 3].
أما الظن بخلاف ذلك، فهو من الظن السَّوْءِ، كما قال الإمام ابن القيم - رحمه الله -: "فمن ظن بأنه لا ينصر رسوله، ولا يتم أمره، ولا يؤيده، ويؤيد حزبه، ويعليهم، ويظفرهم بأعدائه، ويظهرهم عليهم، وأنه لا ينصر دينه وكتابه، وأنه يديل الشرك على التوحيد، والباطل على الحق إدالةً مستقرةً، يضمحل معها التوحيد والحق اضمحلالاً لا يقوم بعده أبداً، فقد ظن بالله ظن السوء، ونسبه إلى خلاف ما يليق بكماله وجلاله وصفاته ونعوته؛ فإن حمده وعزته وحكمته وإلهيته تأبى ذلك، وتأبى أن يذل حزبه وجنده، وأن تكون النصرة المستقرة والظفر الدائم لأعدائه المشركين به العادلين به، فمن ظن به ذلك فما عرفه، ولا عرف أسماءه، ولا عرف صفاته وكماله"[1].(155/2)
ويقول العلامة عبدالرحمن بن سعدي - رحمه الله -: "واليوم وإن كان المسلمون مصابين بضعف شديد، والأعداء يتربصون بهم الدوائر، هذه الحالة أوجدت من بينهم أناساً ضعيفي الإيمان، ضعيفي الرأي والقوة والشجاعة، يتشاءمون بأن الأمل في رفعة الإسلام قد ضاع، وأن المسلمين إلى ذهاب واضمحلال، فهؤلاء قد غلطوا أشد غلط؛ فإن هذا الضعف عارضٌ له أسباب، وبالسعي في زوال أسبابه تعود صحة الإسلام كما كانت، وتعود إليه قوته التي فقدها منذ أجيال، وما ضعف المسلمون إلا لأنهم خالفوا كتاب ربهم، وسنة نبيهم - صلى الله عليه وسلم - وتنكَّبوا السنن الكونية التي جعلها الله - بحكمته - مادة حياة الأمم ورقيها في هذه الحياة، فإذا رجعوا إلى ما مهَّده لهم دينهم، وإلى تعاليمه النافعة، وإرشاداته العالية؛ فإنهم لابد أن يصلوا إلى الغاية كلها، أو بعضها. وهذا المذهب المهين - مذهب التشاؤم - لا يرتضيه الإسلام؛ بل يحذر منه أشد تحذير، ويبين للناس أن النجاح مأمول، وأن مع العسر يسراً... فليتق الله هؤلاء المتشائمون، وليعلموا أن المسلمين أقرب الأمم إلى النجاح الحقيقي والرقي الصحيح)[2].
ثانياً: أنه ينبغي لنا أن نشيع روح التفاؤل، في مثل هذه الأوقات القاسية، وأن ننبذ اليأس عنا مكاناً قصياً، وأن نوقن بأن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً، وهذا منهج أرشدنا إليه نبينا - صلى الله عليه وسلم - وهنا موقفان يبينان ذلك:(155/3)
الموقف الأول: حين أتى خبَّاب بن الأرتِّ - رضي الله عنه - إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - مكروب النفس، محزون الصدر، قلق الخاطر، من شدة ما لاقى من المشركين، فوجد النبي - صلى الله عليه وسلم - متوسداً بُرْدَةً في ظل الكعبة، فقال: يا رسول الله، ألا تستنصر لنا؟! ألا تدعو الله لنا؟! فقعد وهو محمرٌّ وجهه، فقال: ((لقد كان مَن قبلكم ليمشَّط بمشاط الحديد ما دون عظامه من لحم أو عصب، ما يصرفه ذلك عن دينه، ويوضع المنشار على مفرِق رأسه، فيشق باثنين، ما يصرفه ذلك عن دينه، وليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا اللهَ، والذئبَ على غنمه، ولكنكم تستعجلون))[3].
فتأمل كيف فاجأ النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - أصحابه بهذا الخبر الذي تتهلل له الوجوه بشراً، وتتدفق سروراً، في ظل هذا الضغط الرهيب من المشركين، الذي جعل بعض النفوس تستبطئ النصر.
الموقف الثاني: حين كان المسلمون يحفرون الخندق، وهم يترقبون عدواً قادماً عليهم، يتربص بهم الدوائر، قد أوعدهم، وألَّب عليهم الناس، فلا يدرون في أي لحظة ينقض عليهم، وفي هذه الأثناء عرضت لهم - وهم يحفرون الخندق - صخرة لا تأخذ فيها المعاول،قال: فشكوها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوضع ثوبه، ثم هبط إلى الصخرة فأخذ المعول، فقال: ((بسم الله)). فضرب ضربةً، فكسر ثلث الحجر، وقال: ((الله أكبر، أعطيتُ مفاتيح الشام، والله إني لأبصر قصورها الحمر من مكاني هذا!)). ثم قال: ((بسم الله)) وضرب أخرى، فكسر ثلث الحجر، فقال: ((الله أكبر، أعطيتُ مفاتيح فارس، والله إني لأبصر المدائن، وأبصر قصرها الأبيض من مكاني هذا!)). ثم قال: ((بسم الله)) وضرب ضربةً أخرى، فقلع بقية الحجر، فقال: ((الله أكبر، أعطيتُ مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني هذا!))[4].(155/4)
فانظر إلى النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - كيف ينقل أصحابه من هذا العناء والرَّهَق، إلى السعة والدعة، بمجرد أحرف يسيرة، فيثوب إلى أحدهم نشاطه في عمله، كأنما يتفيأ ظلال الراحة.
إن الأمة بحاجة إلى أن يشاع فيها التفاؤل الإيجابي، الذي يساهم في تجاوز المرحلة التي تمرُّ بها اليوم، مما يشدُّ من عَضُدها، ويثبِّت أقدامها في مواجهة أشرس الأعداء، وأقوى الخصوم؛ ليتحقق لها النصر بإذن الله.
إن اليأس لا يصنع شيئاً سوى سقوط الهمة، وتخاذل العزم، والرضا بالتخلف والدُّون.
ولقد مرَّ في تاريخ الإسلام حوادث عظيمة نكبت بها الأمة، وتجاوزتها بسلام، ولو ذهبنا نستقري التاريخ؛ لطال بنا المقام، وإليكم إحدى هذه الحوادث، نتبين من خلالها أن أمة الإسلام تمرض، لكنها لا تموت، ألا وهي غزو التتار بلاد الإسلام، وأُفسح المجال للمؤرخ الكبير أبي الحسن ابن الأثير ليحدثنا في كتابه "الكامل"[5]عن هذه الحادثة، فيقول: "لقد بقيتُ عدة سنين معرضاً عن ذكر هذه الحادثة؛ استعظاماً لها، كارهاً لذكرها، فأنا أقدم إليه رِجْلاً وأُؤخر أخرى، فمَنْ الذي يسهل عليه أن يكتب نعي الإسلام والمسلمين؟! ومَنْ الذي يهون عليه ذكر ذلك؟! فيا ليت أمي لم تلدني، ويا ليتني مت قبل حدوثها، وكنتُ نسياً منسياً.
إلا أني حثَّني جماعة من الأصدقاء على تسطيرها وأنا متوقف، ثم رأيت أن ترك ذلك لا يجدي نفعاً، فنقول: هذا الفعل يتضمن ذكر الحادثة العظمى، والمصيبة الكبرى، التي عقمت الأيام والليالي عن مثلها، عمَّت الخلائق، وخصَّت المسلمين، فلو قال قائل: إن العالم مذ خلق الله - سبحانه وتعالى - آدم - وإلى الآن - لم يبتلوا بمثلها، لكان صادقاً؛ فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا ما يدانيها".(155/5)
ثم شرع ابن الأثير يذكر تفاصيلها، وكان مما قال: "وهؤلاء -يعني: التتار- لم يُبقوا على أحد، بل قتلوا النساء والرجال والأطفال، وشقوا بطون الحوامل، وقتلوا الأجنة، فإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، لهذه الحادثة التي استطار شررها، وعمَّ ضررها، وسارت في البلاد كالسحاب استدبرته الريح...".
ثم ذكر ابن الأثير من أفعال التتار أشياء مروعة، وكان مما قال: "ولقد حكي لي عنهم حكايات يكاد سامعها يكذِّب بها، من الخوف الذي ألقى الله - سبحانه وتعالى - في قلوب الناس منهم، حتى قيل: إن الرجل الواحد منهم – أي: التتار- كان يدخل القرية أو الدرب، وبه جمع كثير من الناس، فلا يزال يقتلهم واحداً بعد واحد، لا يتجاسر أحد أن يمد يده إلى ذلك الفارس، ولقد بلغني أن إنساناً منهم أخذ رجلاً، ولم يكن مع التتري ما يقتلهم به، فقال له: ضع رأسك على الأرض ولا تبرح. فوضع رأسه على الأرض، ومضى التتري فأحضر سيفاً، فقتله به!. و حكى لي رجل قال: كنت أنا ومعي سبعة عشر رجلاً في طريق، فجاءنا فارس من التتر، وقال لنا: ليكتِّف بعضكم بعضاً، فشرع أصحابي يفعلون ما أمرهم، فقلتُ لهم: هذا واحد، فلِمَ لا نقتله ونهرب؟ فقالوا: نخاف، فقلتُ: هذا يريد قتلكم الساعة، فنحن نقتله، فلعل الله أن يخلصنا، فوالله ما جسر أحد أن يفعل، فأخذت سكيناً وقتلته، وهربنا فنجونا، وأمثال هذا كثير". ومن أراد الزيادة، فليرجع إلى الكتاب المذكور.
ثالثاً: كما ينبغي لنا إذا أردنا النصر الحقيقي - ألا نكتفي بمجرد الأماني والتخيلات، والتفاؤل غير المصحوب بالعمل؛ بل لابد أن نفعل الأسباب، ونطرق الباب، فذلك سبيل النصر، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7].(155/6)
وقال: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 40]، وإن أمة الإسلام لن تنتصر ما لم تأخذ بأسباب النصر، فتقيم شعائر الإسلام ظاهرة وباطنة، وتخلع رِبْقة الترف الفكري والاجتماعي من عقول أبنائها، ويكون عند أبنائها الاستعداد التام للتضحية؛ لأجل هذا الدين، كلٌّ حسب استطاعته وقدرته.
إن النصر مدَّخرٌ للذين يَؤمُّون معالي الأمور، فلا يرضون بالهون صاحباً، ولا يقيمون على المذلة، ولا تنحني رؤوسهم للعاصفة، وهو مدَّخرٌ لأولئك للذين لا يخامرهم ريب في نصر الله، ولا تعترضهم فيه شبهة يأس.
وليس الله - سبحانه - عاجزاً عن نصرة الحق بغير فعل الأسباب، وهو الذي يقول للشيء: "كن" فيكون، ولكن هكذا اقتضت مشيئته وحكمته، وهكذا تجري سنَّته.
ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو إمام المتوكلين، كان أوعى الناس لهذه السنَّة، وهذا خبرٌ واحدٌ يدل على أخذه - صلى الله عليه وسلم - بالأسباب:(155/7)
يقول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: لما كان يوم بدر، نظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المشركين، وهم ألف، وأصحابه ثلاث مئة وتسعة عشر رجلاً، فاستقبل نبي الله - صلى الله عليه وسلم - القِبْلَة، ثم مدَّ يديه، فجعل يهتف بربه: ((اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم آت ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تُعبد في الأرض)). فما زال يهتف بربه، مادّاً يديه، مستقبلاً القبلة، حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأتاه أبو بكر، فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه، ثم التزمه من ورائه، وقال: يا نبي الله، كفاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك. فأنزل الله - عزَّ وجل -: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ المَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ}[6][الأنفال: 9]. والشاهد منه: أنَّ الرسول - صلى الله عليه وسلم، وهو الموعود من ربه؛ إما بالنصر والغنيمة من قريش، أو الاستيلاء على عِير قريش التي تحمل تجارتهم، وذلك في قوله تعالى: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ} الآية. [الأنفال: 7] - فعل الأسباب، وألحَّ على ربه بالدعاء؛ فجاءه النصر.
رابعاً: ومع إيقاننا بأن البلاء حتمي؛ وأن هذه النوازل من أقدار الله؛ فإنه لا يعني هذا أن نتواكل ونستسلم للذل والهوان، كلا؛ بل ندافع أقدار الله بأقداره، ونستفيد من هذه الأحداث، بأن نعود إلى ربنا، ونجدِّد إيماننا، ونَصْدق في توبتنا؛ وهذه من حِكَم البلاء، وقد قال ربنا: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ} [الأنعام: 42].
وقال: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأعراف: 168]، وقال: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} [المؤمنون: 76].(155/8)
والقلب في ذروة الشدة يتلقَّن درساً لا ينساه، ويستجلي قنواتٍ إصلاحية ربما لا تكون لولا تلك الشدة، ويكون عنده من الإقبال على الله، والتألُّه له ما لا يكون في غير تلك الشدة، قال - تعالى -: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ البَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214]، وعندها يأتي النصر، وتنكشف الغمَّة، كما قال – تعالى -: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ القَوْمِ المُجْرِمِينَ} [يوسف: 110].
ألا وإن مما يُستدفع به هذا البلاء، أن يراجع كلٌّ منا نفسه عن تقصيره في جنب الله، فما نزل بلاءٌ إلا بذنب، وما رُفع إلا بتوبة، قال – تعالى -: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشُّورى: 30]، وقال: {ظَهَرَ الفَسَادُ فِي البَرِّ وَالبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الرُّوم: 41].
وتأمل رحمة الله بعباده؛ إذ قال: (بعض)، ولم يقل: (كل)!!.
وقال - سبحانه -: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف: 96].
وقد عاتب الله أصحاب نبيه عن استفسارهم عن سبب هزيمتهم في غزوة أحد، فقال: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران: 165].(155/9)
خامساً: كما ينبغي للمسلم عند وقوع هذه الأزمات أن يكون بعيد النظر؛ فلا يستبطئ النصر، ولا يستعجل ثمراته، متأسِّياً بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك، وهذا موقفٌ من مواقفه في ذلك:
سألته عائشة - رضي الله عنها - يوماً: هل أتى عليك يومٌ كان أشد من يوم أحد؟ قال: ((لقد لقيتُ من قومك ما لقيتُ، وكان أشد ما لقيتُ منهم يوم العقبة؛ إذ عرضتُ نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهمومٌ على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعتُ رأسي، فإذا أنا بسحابةٍ قد أظلَّتني، فنظرت، فإذا فيها جبريل، فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردُّوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال؛ لتأمره بما شئتَ فيهم. فناداني ملك الجبال، فسلَّم عليَّ، ثم قال: يا محمد، إن شئتَ أن أطبق عليهم الأخشَبَيْن؟)).
فماذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -؟
هل قال: هذه فرصةٌ تُهْتَبل، ونصرٌ كبيرٌ بلا مؤونة؟
أو قال: هذه ساعةٌ أنتقم فيها من أعدائي؟ وأشفي فيها فؤادي؟
كلا! لم يقل ذلك كلَّه، إنما قال: ((بل أرجو أن يُخرج الله من أصلابهم مَنْ يعبد الله وحده، لا يشرك به شيئاً))!![7].
سبحان الله، أيُّ صبر في سبيل الدعوة أجلُّ من هذا الصبر؟! تقرع الأحزان ساحته - صلى الله عليه وسلم - فيبددها بإيمانه، فترتد حسيرة، كأن لم تكن.
إنه الإيمان الراسخ رسوخ الجبال الراسية، والجَنَان الثابت الموقن بنصر الله.
فلم تكن تلك الشدائد - مع قسوتها - تحول بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين استشراف المستقبل، وإحسان الظن بالله.(155/10)
ومما يجب التنبيه عليه هنا: أن غاية المؤمن أن يعمل، لا أن يرى النصر؛ بل قد تراه الأجيال بعده، وخير شاهد على ذلك قصة الغلام والساحر([8] )؛ حيث أسلم الناس لما ضحَّى الغلام بنفسه؛ فوقع النصر بعد موته، وكان ما فعل تثبيتاً للناس في أن ما دعاهم إليه هو الحق، ووقع ما يخشاه الملك من إيمان الناس إيماناً حقيقياً؛ أُدخلوا لأجله في الأخاديد المضرمة بالنيران، فصبروا واقتحموا.
وقال خَبَّاب - رضي الله عنه -: "هاجرنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - نريد وجه الله؛ فوقع أجرنا على الله، فمنَّا مَنْ مضى، لم يأخذ من أجره شيئاً، منهم مصعب بن عُمَيْر: قُتل يوم أحد، وترك نَمِرَةً، فكنَّا إذا غطَّينا بها رأسه بدت رجلاه، وإذا غطَّينا رجليه بدا رأسه، فأمَرَنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نغطي رأسه، ونجعل على رِجْلَيْه شيئاً من إِذْخِر! ومنَّا مَنْ أينعت له ثمرته، فهو يَهْدِبُها"[9].
اللهم إنك تشاهدنا في سرَّائنا وضرائنا، وتطَّلع على ضمائرنا، وتعلم مبلَغ بصائرنا، أسرارنا لك مكشوفة، وقلوبنا إليك ملهوفة، نسألك برحمتك التي وسعت كل شيءٍ أن تهب لنا من لدنك نصراً عزيزاً، وفتحاً مبيناً، وعزّاً ظاهراً، وعيشاً نقيّاً، ومردّاً غير مخزٍ ولا فاضح، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
ــــــــــــــــــــــ
[1] زاد المعاد: 3 / 204.
[2] منقول بتصرف يسير من رسالة له بعنوان: " وجوب التعاون بين المسلمين "، ص 11.
[3] أخرجه البخاري: ( 3852).
[4] أخرجه أحمد 38 / 133 والنسائي في الكبرى (8858) من حديث البَرَاء بن عازب.
[5] الكامل 12 / 358 - 500 – 501.
[6] أخرجه مسلم: (1763).
[7] أخرجه البخاري: (3059)، ومسلم: (1795).
[8] أخرجها مسلم: (3005).
[9] أخرجه البخاري (3897) ومسلم (940).(155/11)
العنوان: الأبحاث الدوائية
رقم المقالة: 2015
صاحب المقالة: د. رياض رمضان العلمي
-----------------------------------------
الأبحاث الدوائية
مقدمة:
لقد تمكن العلم من تحقيق تقدم ملموس واسع خلال الخمسين سنة الماضية، خصوصًا في مجال المعالجة الكيميائية والهرمونات. كان مريض البول السكري قبل 70 عامًا محكومًا عليه بالإعدام؛ إذْ كان شِفاؤُه مَيْئُوسًا منه، فهو إذًا مرضٌ قاتل؛ ولكن اكتشاف الأنسولين والأدوية الأخرى الَّتي تخفض من مستوى السكر في الدم، أحدثت تغييرًا دراميًّا في مسيرة البشرية، فأصبح مريض البول السكري مفعمًا بالأمل؛ لأنَّه صار بإمكانه أن يحيا حياة عادية.
وقبل اكتشاف المضادات الحيوية كان المريض المصاب بالنيمونيا والتهاب الرئتين يحتاج فترة لا تقل عن ثمانية أسابيع في المستشفى، هذا إذا نجا من الموت. أمَّا الآن فإنَّ معدَّل بقائِه في المستشفى لا يتجاوز سِتَّة أيام، كما أنَّ نسبة الوفيَات انخفضت من 35 % إلى 5 %، وقد حدث تقدّم ملموس في معالجة مرض السرطان، واكتشاف العديد من الأدوية الجديدة؛ فارتفعت نسبة الشفاء، فبينما كان مريض فقر الدم الخبيث لا أمل يرجى منه، ارتفعت الآن نسبة الشفاء منه بشكل ملحوظ.
إن أكثر من 80 % من المستحضرات الطبية التي كانت معروفة قبل ثلاثين عامًا قد اندثرت وخرجت من نطاق الطبابة والمعالجة، وليس لها وجود الآن في الصيدليات أو الأسواق؛ وذلك أنَّ البحث المتواصل، والتصنيع المستمر هما من سمات العصر، ومن أساسيات الصناعة الصيدلية المتفجّرة.(156/1)
لقد حدث في عام 1828 حادث مغمور، كان من نتيجتِه فتح الأبواب على مصاريعها أمام تقدم الكيمياء العضوية، فقد كان الاعتقاد السائد أنَّ الكائنات الحيَّة هي وحدها القادرة على إنتاج الموادّ العضوية والكربونيَّة؛ ولكن تمكَّن العالم الألماني "وهلر" (Wuhler ) من إثبات عكس ذلك بتحضيره مادة اليوريا في مختَبَرِه، ومعروف أنَّ المادَّة مادة عضوية، يصنعها الجسم بشكل طبيعي، وكان من نتيجة ذلك أن قامَ العُلماءُ بِتَخْلِيق أكثر من مليوني مستحضر كيماوي جديد، هي من صنع الإنسان؛ وليست موجودة في الطبيعة أصلاً.
بعد ذلك الحادث بِحَوالي 82 عامًا تمكن العالم الدكتور الألماني إيرليخ من تخليق مادة الأرسفنابين كأوَّل مادَّة قاتلة للجراثيم، ولكنه لم يصل إلى هدفه إلا بعد أن جرب 605 مستحضرات قبل ذلك، وعثر على ضالته المنشودة في المحاولة رقم (606).
يقدر عدد المواد الكيميائية التي تحضر سنويًّا بما لا يقل عن 40.500 مادة؛ وذلك من أجل إيجاد أدوية جديدة نافعة للإنسان، وذات تأثير فعال مفيد، وخالية من الأضرار الجانبية، كما طرق العلماء باب العلوم الجرثومية، وحضروا أدوية جديدة من هذه الكائنات الحية الصغيرة؛ بدءًا بالبنسلين عام 1928، والآن يوجد تحت تصرف الأطباء والصيادلة آلاف من هذه الأدوية المضادة الحيوية، كما تمكن الإنسان من تحضير فئة دوائية أخرى من دم الحيوانات منها الخيول، حضروا الأمصال، واللقاحات الوقائية التي ساعدت الإنسان على القضاء على الأوبئة والأمراض المعدية ووقايته منها.
ومن أهم المصادر الدوائية بالطبع المملكة النباتية ويكفي أن نذكر - كمثال على ذلك - نبات عين القط، وعلاقته بشفاء السرطان، وكذلك نبات قفاز الثعلب، وفضله على مرضى القلب، ونبات الروالفيا الثعبانية، والاستفادة منه في معالجة مرض ضغط الدم المرتفع، وست الحسن، والخشخاش، والسنكونا، والكوراري، والديسكورا، وغير ذلك كثير.
أهمية الأبحاث الدوائية:(156/2)
إن التَّقدّم الدَّوائِي الَّذي وصلتْ إِلَيْهِ الإنسانيَّة لم يبدأ من الصفر، والحقيقة الناصعة هي أنَّ بداية التقدّم الدَّوائِي قد انطلقت منذ أن اقتبست بلدان أوروبا مختلف علوم العرب، خلال القرون الوسطى. وقد سبق أن أشرنا إلى الشواهد التي تدل على فضل العرب في هذا المجال، وقد استند علماء الغرب على كتب العرب الرائدة ومؤلفاتهم أمثال: "الحاوي" للرازي، و"القانون" لابن سينا، وكتاب "الجامع لِلمُفْردات" لابْنِ البَيْطَار في الأعشاب الطبيعية، واكتشافات ابن النفيس، وابن الهيثم، والزهراوي، وغيرهم.
فمنذ مطلع القرن العشرين نجحت جهود علماء الغرب في القضاء على كثير من الأوبئة المرعبة والأمراض السارية بفضل الاكتشافات الصيدلية، والدوائية العلاجية، والوقائية. فانخفضت نسبة وفيات الأطفال وزاد متوسط الأعمار بشكل عام، ولم تعد الإصابة ببعض الأمراض مثل حكم بالإعدام المحقق. أصبح بالإمكان الوصول إلى تشخيص سريع، ومعالجة فورية، وشفاء ناجح في كثير من الحالات.
ومع ذلك بقي الإنسان مكتوف الأيدي أمام الكثير من الحالات المرضية حائرًا، كما أنَّ الأبحاث الطبية والصيدلية لم تتعرض لبعضها حتى الآن، وهكذا وبرغم التقدم العلمي الباهر ما زالت البشرية عاجزة عن إيجاد أدوية ناجحة لعدد غير قليل من الأمراض والآفات.
ومن الشواهد المذهلة الأرقام الخيالية من النقود التي يصرفها العالم الصناعي على الأبحاث، مبالغ تزيد على 5 بلايين دولار سنويًّا، فهل يا ترى تعود بالفائدة المرجوة الحقيقية في مجال الطبابة والدواء.(156/3)
ومع أنَّه يصعب تحديد بداية الأبحاث الدوائية والصيدلية تحديدًا دقيقًا؛ إلا أن البشرية أصبحت في وضع يستحيل معه الاستغناء عن الأبحاث والدراسات الحديثة على صعيد الدواء والعقاقير، وعلى أي حال فقد تجلت أهمية ذلك ما بين نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. فقد برز في تلك الآونة نخبة من العلماء الأكفاء – أطباء وصيادلة وكيميائيين وغيرهم – عملوا جاهدين على تطوير الأدوية من حيث مكوناتها ومفعولها.
وإحراز درجة من الأمان والسلامة، مع الاستعداد لتصنيع كميات هائلة تغطي حاجة الجميع في كل مكان بقدر الإمكان.
وتدل الإحصائيَّات على أنَّ أعداد الأدوية الجديدة الَّتي بَرَزَتْ خلال الثلاثين سنة الماضية، قد زادت على 1500 دواء جديد بشري وبيطري، وهي أدوية كيميائية محدودة التركيب، حضرها العلماء في المختبرات، ولم يكن لها وجود من قبل.
وتدلّ الإحصائيات نفسُها أيضًا على أنَّه حصل تدهور في إعداد الأدوية الجديدة سنة بعد سنة؛ لأسباب عدة أهمها:
ارتفاع كلفة الأبحاث الدوائية، وارتفاع كلفة تصنيعها على شكل مستحضرات، بالإضافة إلى أسباب جوهرية أُخْرَى سنأتي على ذكرها، كذلك يلاحظ التفاوت في هذا الانحدار من بلد إلى آخر. ومن العجيب أن نسبة التدهور هي أكثر ما تكون في الولايات المتحدة الأمريكية، بالرغم من أنها ما زالت في المقدمة من حيث الكم وعدد الأدوية الإجمالي من المواد الجديدة، التي تنتجها فقد انخفض إنتاجها من 27 دواء عام 1972 إلى 12 دواء عام 1982، أما اليابان فيلاحظ أنها من البلدان التي حافظت على مستواها، وعلى نسبة نموها في باب اكتشاف الأدوية الجديدة، وتأتي فرنسا وألمانيا في القائمة بعد الولايات المتحدة الأمريكية مباشرة.(156/4)
كما تفيدنا الإحصائيات أنها – على المستوى العالمي – تشير إلى أن العدد الإجمالي للأدوية الجديدة انخفض عام 1960 من 98 دواء إلى 84 دواء عام 1968، ثم أصبح 63 دواء عام 1976، وأخير أصبح 48 دواء عام 1980؛ أي إن نسبة الانخفاض تزيد عن 50 % تقريبًا خلال عشرين عامًا.
هذه الحقائق تدعونا إلى النظر في ظاهرة أزمة الأبحاث الدوائية التي بدأت بعد كارثة الثاليدوميد، وازدياد القوانين والتشريعات صرامة وحدة.
مأزق الأبحاث الدوائية:
في الوقت الذي يتطلب الأمر ازدياد الأبحاث الدوائية وتطورها لمجابهة مختلف المشاكل الصحية والمرضية والزيادة السكانية، نجد أن هناك عوامل كثيرة تعيق البحث الدوائي وتؤخره، وتتلخص هذه العوامل بعدم توفر الأموال اللازمة، وصعوبات الاختيار والتقييم، ومشاكل صحة ودقة هذه الاختبارات، مع تعدد الأنظمة وتعقيدها وصرامة الاشتراطات الجديدة.
ومِن الناحية المالية فكُلَّما زاد الإنفاقُ على نشر استخدام أدوية معينة معروفة، قلَّ عددُ الأدوية الجديدة التي يمكن تصنيعُها وفحصُها واختبارُها، فقد بات من الضروري على الشركات الصناعيَّة أن تركّزَ نَشاطَها على أدوية فعَّالة ضِدَّ أمراض شائعة؛ من أجل الحصول على مردودها المالي العالي والمُجْدِي، وذلك من أجل استمراريَّتها وانتعاشها.
وما دامت الحياة، وما دام الناس فالحاجةُ للأدوية تبقى مُلِحَّة، بل يجب أن يستمرَّ البحثُ عن أنواع من الأدوية أفضل وأكثر فعالية، ولكن لكل دواء مَخاطرُه ومحاذيرُه، ومع ذلك فقد أنقذت الأدوية الجديدة حياة الكثيرين من البشر، وحمت المجتمعات من كثير من الأوبئة - كاستئصال الجُدَريّ دون رجعة، والتَّخفيف من حدَّة شلل الأطفال، والدفتريا بواسطة اللقاحات، والطعوم، والأمصال، والمضادات الحيوية - هذا بالإضافة إلى تحسين طرق التشخيص، والعناية بالمرضى، وبالمعالجة التعويضية؛ كما هو الحال في استعمال الأنسولين، والهرمونات، وغير ذلك.(156/5)
ولكن هناك أدوية يستعملها بنو البشر؛ ولكنَّها لا تعيد الصحة إليهم - كأدوية أمراض الحساسية، والتهاب المفاصل، والأورام السرطانية، والأمراض النفسية - فيقتصر مفعولها على إزالة الأعراض مؤقَّتًا، والتخفيف من وطأتها.
يضاف إلى ذلك أنَّ بعض البلدان المتقدمة تمنع لوائحها إنتاج واستعمال بعض الأدوية الجديدة، فيضطر السكان إلى عبور الحدود إلى البلدان الأخرى؛ للحصول عليها. كما أن الأبحاث الدوائية تنعدم تمامًا في البلدان الفقيرة.
إنَّ الخطة الرئيسة اللازم اتباعها لاكتشاف أدوية جديدة، تتمثل في متابعة تفاصيل نظام فسيولوجي، أو كيميائي حيوي، واستغلال تطبيقاته العلمية، وقد أفضت هذه الطريقة إلى اكتشاف الأنسولين، ويعود الفضل في ذلك إلى الجو الأكاديمي الذي كان سائدًا آنذاك؛ لكن هذه الطريقة فقدت أهميَّتها في المُدَّة الأخيرة؛ بِسبَبِ عَجْزِ الجامعات المادّي، وعَدَمِ قُدْرَتِها على توفير الموارد اللازمة للتطوير.
يُضافُ إلى ذلك أنَّ ازْدِيادَ التَّخصّص أدَّى إلى انفصال الدراسات بعضها عن البعض الآخر؛ كما هو الحال مثلاً بالنسبة للكيمياء العضوية وعلم الصيدلة، اللذينِ كانا مرتبطين ارتباطًا وثيقًا في السابق.
وصفوة القول إنَّ اكتشافَ أدويةٍ جديدة فعَّالة أصبح أمرًا يزداد صعوبة؛ ولذلك فالأمراض غير القابلة للشفاء تظلّ – مع الأسف – غير قابلة للشفاء، وتدخل العمليَّة في دوَّامة، وفِي حلْقة مُفْرَغة. هذا بِالرَّغْمِ من أنَّ بَعْضَ الشَّرِكات الصناعيَّة أصابتْ نَجاحًا لا بأسَ بِهِ فِي اكْتِشاف العديد من الأدوية الجديدة؛ لِما بَذَلَتْهُ منَ التَّضحية بالمال، والوقت، والجهد.
وقد تَمكَّنتْ بعضُ كبريات الشركات الصناعية من اكتشاف أدوية جديدة مضادَّة للملاريا، وللأورام السرطانية، وأدوية النقرس، ومضادات الجراثيم، وغير ذلك.(156/6)
لكن لا بد من الإشارة إلى الحوادث المُفْجِعة، الَّتِي أثارت قلق الجماهير، وإلى خوف المسؤولين من الأدوية الجديدة بالرغم من أنها حصلت بسبب ظروف خاصة، لم تكن متوقَّعة (الثاليدوميد)، أو بِسَبب حساسية مفرطة لا تعليلَ لَها لدى أقلّيَّة منَ النَّاس (البروكتالول الذي سبب الاعتلال البصري، الذي أصاب القرنية بالضرر والجفاف)، ولا شك في أن هذه الحوادث كان لها تأثير سلبي على الأبحاث الدوائية، وعلى احتمال اكتشاف أدوية جديدة مفيدة.
ومع أنه يجب إجراء تجارب سريرية على الحيوانات قبل طرح الدواء الجديد لاستعمال البشر، إلاَّ أن هناك مآخذ على التجارب الحيوانية أهمها؛ أنه لا يمكن دائمًا استقراء النتائج منها وتطبيقها على الإنسان، السبب في ذلك أنَّ لكل جنس من المخلوقات نَمَطَهُ الخاصَّ بِهِ. فإِذَا كان أحدُ الأدْوِيَة سامًّا لِلْحيوان، فلا يجري عادة اختباره على الإنسان، فهل يحتمل أن يكون ضارًّا بالنسبة للإنسان أيضًا؟ لا أحدَ يعرف الجواب عن هذا السؤال، ولذا قد تخسر البشرية علاجًا هامًّا!!
كذلك من الصعب مُقارنة الخطر الناجم عنِ استعمال دواء ما بخطر عدم استعماله، إذ مِمَّا يدعو إلى العجب أنه إذا كان الأذى الذي يحصل للمريض باستخدامه الدواء الجديد هو عمل شرير، فهل يعتبر الامتناع عن استعماله عملاً غير أخلاقي؟
الأدوية الجديدة:
اشتملتِ الأدوية الجديدة المكتشفة - خلال الفترة موضوع البحث - عدة أنواع وفئات لعدة مجالات. فمنها الأدوية الخافضة للكولسترول، ومنها الخافضة لضغط الدَّم المرتفع، ومنها المُضادَّات للفطور، ومُدِرَّات البَوْلِ مع تطوير المُشتقَّات للهرمونات الجنسيَّة، والأدوية المسكنة للألم، والأدوية النفسية والمضادة للكآبة، والمضادة للأورام والسرطان، وأدوية الروماتزم، كذلك الأدوية المضادة لمستقبلات الهيستامين (هـ 2)؛ كالتاجامات، والزانتاك.(156/7)
أمَّا المضادات الحيوية فتحتلّ مكان الصدارة في قائمة الاكتشافات الدّوائية الجديدة، وأهمها مشتقات بيتا لاكتام، والسيفالوسبورين، والبنسلينات المصنعة نصف؛ ولكن الآثار الجانبية العديدة لها؛ كالتفاعلات التحسسية الخطرة، وبروز ظاهرة مقاومة الجراثيم لها بتشكيلها سلالات جرثومية جديدة ضارية وقوية، دفعت العلماء إلى بذل المزيد من الجهد بحثًا عن مضادات حيوية أخرى جديدة ؛تحتل أمكنة المضادات الحيوية القديمة.
ويوضح الجدول التالي أهم الفئات الدّوائية التي تمت اكتشافات تنتمي إليها:
---
- أدوية الجملة العصبية. - أدوية الجهازين العضلي والهيكلي.
- أدوية الجهاز الهضمي. - أدوية الجهاز التنفسي.
- أدوية القلب والأوعية الدموية. - الأدوية المضادة للسرطان.
- الأدوية المضادة للالتهابات. - أدوية الجهازين البولي والتناسلي.
- الأدوية الجلدية. - أدوية الطفيليات.
- الهرمونات. - أدوية الدم.
---
هذا وتهتم الأبحاث الدوائيَّة بالحصول على مزيد من المعلومات عن الجسم البشري، من حيث كيميائيته الحيوية، والكشف عن سير العمليات المرضية؛ بهدف الأغراض الوقائية والعلاجية المبكرة على دراسة جهاز المناعة، ودعمه ضد الفيروسات والجراثيم والطفيليات وغير ذلك.
ويشمل برنامج الأبحاث الدوائية عزل المواد الطبيعية الموجودة في الجسم، ومن ثم تصنيعها في المختبر، وبعد ذلك تحضير مشتقات جديدة لها ذات فعالية أفضل، عند ذلك تتاح الفرصة للعلماء إعادة النظر بالأدوية القديمة، ومقارنة مزاياها، وتأثيرها، وآثارها الجانبية.(156/8)
ولكي يحصل العالم الباحث على مادة كيميائية جديدة عليه أن يتبع نظام الغربلة، مثلما حصل مع إيرليخ عندما اكتشف السالفرسان، ومع ذلك فهناك من يعثر على دواء يفيد بطريق الصدفة مثلما حصل مع الدكتور سستاينباخ الذي اكتشف الأدوية المهدئة من فئة (Chloordiazepoxide ). وأدى ذلك إلى اكتشاف الفاليوم الَّذي ما لبث أن غَزَا العالم وما زال في المقدّمة.
ومن الأمور الطريفة التي يُصادفها العلماء حصولُهم على موادَّ مُفيدة لأمراض معينة، غير تلك التي كانوا يهدفون إليها أصلاً. ومن الأمثلة على ذلك أنه خلال البحث عن مشتقات جديدة للسلفوناميد ذات أطياف واسعة لِمُكافَحَةِ أكبر عدد من الجراثيم، وإذا بالعلماء يعثُرُونَ على دواءٍ مُدِرّ لِلْبَوْلِ، وخافض لضغط الدم المرتفع، اسمه التجاري داياموكس الذي انتشر استعماله انتِشارًا واسعًا. وفي نفس الوقت وأثناء إجراء التَّجارب على مشتقَّات السلفا، عثر فريق آخر من العلماء على أدْوية فموية قادرة على تخفيض السكر في الدم مثل الدايونيل (يوجلوكون)، والَّذي أصبحَ أهمَّ أدويةِ البول السكري الفموية، والذي تستهلك منه البشرية كميات كبيرة يوميًّا.
يقودنا ذلك إلى التطرّق إلى أدوية المحصرة للبيتا (Beta Blockers )، والتي كانت بدايتُها أبحاثًا أراد العلماء إجراءها على الأدرينالين؛ لتحضير مشتقَّات منه تكون أقلَّ خُطُورةٍ في معالجة الرَّبْوِ؛ ولكن كانتِ النتيجة أنَّهم - بدلاً من ذلك - اكتشفوا الأنديرال الذي يعد من أشهر ما في الترسانة الدوائية حاليًّا لِمُعالَجَةِ أمراض القلب، والأوعية الدموية، وضغط الدم المرتفع. وينتَمِي الأنديرال إلى فِئَةِ "صادّات المستقبلات"، وأصبح لدينا سلسلة من أمثالها: التنورمين، فيسكين، سكترال، وغيرها.
ومن أعجب الأمور أن يصادف العلماء خلال أبحاثهم مادة كيميائية جديدة، ذات آثار جانبية أهم من آثارها الدوائية الرئيسة، ومن أوضح الأمثلة على ذلك دواء كلوندين.(156/9)
لقد كانت هناك محاولات لاختبار كلوندين؛ كمضاد للزكام والأنفلونزا، إذ إنه يقلل من احتقان الأغشية المخاطية الأنفية، إلى تأثيره الجانبي غير المرغوب فيه بالنسبة لتخفيفه ضغط الدم المرتفع. وكانت النتيجة أن هذا الأثر الجانبي غير المرغوب فيه، أصبح هو المفعول الرئيس المرغوب فيه؛ كدواء ضمن الأدوية المخفضة لضغط الدم المرتفع.
وبالرغم من كل ذلك؛ وبالرغم من المأزق الذي يواجهه البحاثة فالأبحاث الدوائية ظاهرة حضارية، لا بُدّ من وجودها وتطورها ودفعها إلى الأمام، وبدونها تتدهور العلوم وتتراجع. كذلك بالرغم من التقدم العلمي الذي تم إنجازه، فما زال أمام البشرية أشواط وخطوات عديدة، فالحالات المرضية المعروفة حاليًّا تزيد عن 27000 حالة، ومع ذلك فإن الحالات القابلة للمعالجة الدوائية لا تتجاوز ثلث هذا العدد، أما تلك الأمراض القابلة للشفاء فهي أقل بكثير.(156/10)
وتسعى الصناعة الدوائية في أبحاثها إلى عدة أهداف؛ أولها الحصول على مزيد من المعلومات عن الكيمياء الحيوية للجسم البشري في حالته الصحية والمرضية، ومن ثم إيضاح سير العمليات المرضية بهدف الوقاية والعلاج المبكر، وكذلك دراسة القدرة المناعية للأعضاء، وكيفية دعمها ضد الفيروسات، والجراثيم، والأمراض الالتهابية؛ كما يشتمل ذلك على عزل وتعيين ذاتية وهوية المواد الطبيعية – بروستجلاندين، إنترفيرون، والقنينات، وغيرها - ومن ثَمَّ تصنيع هذه الموادّ في المُخْتَبَر لِلحصول على مُشتقَّات جديدة لها ذات فعاليَّة أفضل، وعند ذلك يعاد النظر في الأدوية الجديدة من حيث المفعول، والآثار الجانبية. لذلك لا بد من متابعة الأبحاث فهي أمر في غاية الأهمية، وذلك للتخفيف من مآسي البشرية وآلامها، ويتطلب البحث العلمي الصحيح فريق من البحاثة يضم مختلف التَّخصّصات، ومنَ المستغرَب أنَّ كُلَّ دواء يحتاج إلى حوالي 700 – 800 خطوة منذ ابتداء التعامل مع المادة الخام إلى أن يصل البحث إلى نِهايته؛ كمستحضر دوائي جاهز للاستعمال.
أمَّا الأبحاث الصيدليَّة فهي ذات أهمية كبرى بالنسبة لوضع الدواء الجديد في شكله المناسب، بحيث يضمن الفائدة العلاجية اللازمة. ويلعب الصيدلي دورًا هامًّا في هذا المجال الذي لا يقتصر فقط على تحديد الشكل النهائي فحسب؛ بل يشمل كذلك دراسة المواد المساعدة، والسواغ، التي يجب مزجها مع المادة الفعالة. ففي حالة الأقراص مثلاً يجب أن تكون السواغ خاملة دوائيًّا وكيميائيًّا. وأن تؤمن – في الوقت ذاته – التفكك والتماسك الجيدين للأقراص. كما يجب على الصيدلي اختيار الشكل البلوري للمادة من أجل وصولها بسرعة كافية إلى الدم. كما عليه البحث دائمًا عن طرق جديدة لإعطاء الأدوية؛ كي يحصل على أفضل النتائج.(156/11)
كل ذلك يدل على أن الكلفة الإجمالية باهظة. وتعتمد المبالغ المنصرفة على الأبحاث على مقدار ما تنتجه الشركات الصناعية ومقدار مبيعاتها وأرباحها، ففي عام 1972 بلغت المبيعات للشركات الدوائية حوالي 70 بليون دولار، أما في عام 1982 فقد ارتفع هذا الرقم إلى حوالي 115 بليون دولار، هذه القفزة الجبارة تدل على أهمية البحث الدوائي، وعلى مكانته المرموقة والحاجة الماسة إليه من أجل الحضارة والإنسانية.
نَعَمْ؛ فالبشرية على وشك الدخول في القرن الحادي والعشرين، وعلى منكبيها كل هذه الاختراقات الحديثة مقرونًا ذلك بآمال بالوصول إلى اختراعات أحدث وأهم.(156/12)
العنوان: الإبداع الحداثي
رقم المقالة: 782
صاحب المقالة: عادل السبيعي
-----------------------------------------
كثيرون هم الذين يتباكون على الإبداع والحداثة من سطوة منتقديها، ويفزعون من هديرهم إلى موجةٍ طالما ركبوها -بإيحائهم وتهويلهم- وهي اتهامهم الآخر أنه يزعم امتلاك الحقيقة المطلقة؛ فيأسفون على من يدعي -في زعمهم- احتكار الحق، ولا يحترم وجهات النظر المختلفة.
وحينما يهربون من "التابوات" (المحرمات المقدسة)، التي تسيطر -في زعمهم- على كثير من أنماط السلوكيات الاجتماعية، قبل الثقافية؛ فإنهم يقعون فيما هربوا منه بمثل ما سبق.
هذه "التابوات" الجديدة ما هي -في الحقيقة- إلا أصنام وأزلام لكل عقلانيي عصرنا.. وسبل مزخرفة للتفلُّت من إلزامية النصوص الشرعية المحكمة.. وصد عن فورية الاستجابة لأمر الله..
وهي طرائق جديدة لعقلانيي زماننا؛ جعلوها مقدمات وتسويغات مقيتة لكل عبثية تمارس من قِبَلِهم..
وغدا هذا العبث مِشجَباً عريضاً تعلَّق عليه كل أوزارنا الفكرية النتنة.. وقناة واسعة يمرَّر من خلالها الكفر والزندقة..
وللكلِّ الحق في العبث بكل ثوابتنا، ثم التبجح بكل برود بأنها وجهات نظر، مع أن بعضها لا يَمحو أثره ولا يَستأصل شأفته إلا سيف الردة الحاد!!
هذه الموجة التي ركبوها لا تلبث أن تتكسَّر بين يدي حقيقة ناصعة واضحة أبَى مريدو الحداثة فهمها، أو هم مستغرقون في نشوة لذتهم، بنخبويتهم الحداثية، ولا يريدون تعكيرها بالإفاقة منها؛ ليُصدَموا بأن الحداثة مذهب شامل، يؤسِّس لنظرية تفلُّتيَّة متمرِّدة على كل سلطة أياً كان شكلها..
وما التمرد على سلطة شكل القصيدة وبنائها إلا نوعٌ طغى على المشهد، وكان مَفزَعاً وسبيل تَقِيَّة عند اشتداد الإنكار عليهم..(157/1)
وليس من شيء يضحك، ويدعو للغثيان في آن واحد؛ مثل تأكيدهم البارد رفضَهم الخروجَ على قيم الشريعة، وتعاليم الدين، في بعض نصوص مؤسسي حركة الحداثة؛ مخاتلة منهم، وتجنياً على الحداثة نفسها..
وهي توصيف للمشهد الحداثي، من قبيل التقية المشار إليها سابقاً، ومحاولة لتحجيم الاتجاه العام والروح الحداثية، الساكنة في كل منجزاتهم، والمودعة في ثنايا تهويماتهم، وعبثيات غموضهم؛ تحجيمها في مفردات قليلة؛ مثلت خروجاً على القيم الدينية وثوابت الأمة!!
لم يكن الإبداع -في كل أشكاله المنضبطة- مشكلة؛ في نظر من أحدثوا ضجة وفوضى كلامية على المستويات العديدة، الإعلامية والشعبية ومنابر الجمعة – كما زعموا –؛ إنما المحذور والخطير أن يُستَلَب الإبداع، وتُلبَس مسوح التمرد الشامل، ورفض السائد؛ على كل المستويات، ويُرفع من شأن سدنة الحداثة، ويشار إليهم بالإبداع؛ برغم كل ما يمارسونه من (هرطقةٍ) فارغة، وهَلْسِ مَقاهٍ، ويبشر بهم أئمة إبداع، ويُعلَّى كعبهم، ويُدرس إنتاجهم بكل حبور ودهشة، بل ومحبة! بل ويُقتصر على طريقتهم فيمن يسمى مثقفاً -(المثقف إما أن يكون حداثياً أو لا يكون مثقفاً)!! كما قالها أحد كبارهم– أليست هذه قمة الوصاية؟!!
هنا يكمن البلاء، وتتراءى لنا نُذُر الفتنة، وما خافه أولئك الغيورون؛ من عبث مراهقي الفكر والمتجرئين على ثوابت الأمة وقيمها..
ثم إنك لتعجب من تباكيهم على الإبداع، ثم لا تجد إبداعهم المزعوم إلا في تهويمات عقلية، وشطْحات غامضة، ونصوص مكتئبة مشتتة، لا تخرج عن الدائرة الذهنية واللذة المعرفية المجرَّدة، في حين الإبداع المادي قد أفلسوا منه؛ فهم صفر اليدين..(157/2)
أما الغربي فقد توقَّد ذهنه، وجادت قريحته بإبداعات تقنية عالية، وقطع شوطاً مادياً امتد طَوال حياته.. وأصحابنا المبدعون يجترُّون تجريدات موغلة في الرمزية والعبثية، يتقاذفونها بينهم؛ نصاً ونقداً وتفكيكاً فارغاً سمجاً، ثم يأتون يتباكون على أعداء الإبداع ومن مارس وأده!!
كل ما يمكن قوله: إن الإفلاس حتى في الإبداع قد لازم الحداثيين؛ فضلاً عن إفلاسهم الفكري، وإنهم ما هم إلا مشردو فكر، يقتاتون على مفكري الغرب ومخلفاتهم..(157/3)
العنوان: الأبعاد السياسية لمشكلة المياه في حوض نهر النيل
رقم المقالة: 1913
صاحب المقالة: د. رمزي سلامة
-----------------------------------------
الأبعاد السياسية لمشكلة المياه في حوض نهر النيل
ترى مصر أنَّ لها حُقُوقًا تاريخيَّةً مُكتسَبَةً بالنسبة لمياه النِّيل، وأنه لا يجوز التعرُّضُ لها، وأنَّ لمصرَ الحقَّ في الحصولِ على نصيبٍ معقولٍ من أيِّ إيرادات إضافيَّة تنجُمُ عن تقليل المفقود عند المنابع، كما تؤكِّد على وجوب التشاوُر معها من قِبَلِ دول حوض النهر قبل الشروع في أيِّ ترتيبات من شأنها أن تؤثِّر على مواردِهِ الحاليَّةِ والمُستقبليَّةِ، وتعتمِدُ مصرُ في تحقيق هذه الرُّؤية الاستراتيجية على أداتين هما:
أ - الهيئة الفنيَّة الدائمة المشتركة لمياه النيل، الَّتي أنشئت طبقًا لاتفاقية عام 1959 م بين مصر والسودان، ومهمتها دراسة الأرصاد الجوية النَّهْرِيَّة، ومَسْح مناطقِ تَجَمُّع الأمطار التي تُغَذِّي بحيرات الهضبة الاستوائية (فكتوريا، كيوجا، البرت)، وتحظى الهيئة بدعم من برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP )، ومنظمة الأرصاد العالمية (OMW )، وهدفها الأساسي هو تنظيم عملية استغلال مياه النهر بواسطة الدول المُطِلَّة عليه.
ب - الأندوجو: وتعني الصداقة، أوِ الإخاء باللغة السواحلية، وهي عبارة عن تَجَمُّع لدول حَوْض النيل أنشئ عام 1983 م؛ بناء على اقتراح مصريٍّ وتأييد سودانيٍّ، وأهدافُهُ التعاون والتنسيق والتشاور بين دُول حوض النيل التسع، انطلاقًا من خطة عمل لاجوس عام 1980، الّتي أكَّدت على أنَّ الأنهار الإفريقية هي البِنْيَة الأساسية الضرورية للتعاون الإقليمي، ويشارك في أعمال المجموعة كل دول الحوض (باستثناء إثيوبيا) لوضع خطط العمل المشترك في المجالات المائية.(158/1)
وتبرِّرُ مصرُ حقَّها الثابت هذا بأنَّه عندما كانتْ بريطانيا تحتلُّ الجزء الأكبر من حوض نهر النيل وَقَّعَتْ بريطانيا – باعتبارها مسؤولةً عنِ السودان – مع إثيوبيا عام 1902م على معاهدة تنُصُّ بالتزام إثيوبيا بعدم القيام بأية أعمال أو مشاريعَ على منابعِ نهر النيل، مِمَّا يؤدي إلى التأثير على كَمِّيَّةِ المياه المتدَفِّقَة في النهر – إلا بعد الرجوع إلى الحكومتين البريطانية والسودانية، وتعتبر هذه المعاهدة سارية المفعول من وجهة نظر القانون الدوليّ، برغم اعتراض الحكومات الإثيوبية المتعاقبة.
وقد سعتْ بعض الدول غير المشاركة بحوض النيل بالتَّنسيق مع إحدى أو بعض دول الحوض؛ لإقامة مشاريع على النهر من باب استثمار النهر، وعلى سبيل المثال ما حدث عام 1964م حينما استخدمت الولايات المتحدة مشروعاتِ استصلاح أراضي إثيوبيا؛ كورقة ضغط سياسي تجاه مصر في الوقت الذي كانتِ العلاقة بين أمريكا ومصر (في عهد الرئيس الراحل جمال عبدالناصر) سيئة للغاية، وفي محاولة منها للرد على مشروع السد العالي اقترحت أمريكا في الدراسة إنشاء 26 سَدًّا وخَزَّانًا؛ لتوفير مياه الرَّيِّ لإثيوبيا، وبالتالي خفض تصريف النيل الأزرق بنحو 5.4 مليار متر مكعب، مِمَّا يعني أنها ستخلق مشكلة لمصر والسودان، وقد نفذت إثيوبيا مشروعًا واحدًا منها فقط (مشروع سَدِّ فينشا)؛ مِمَّا لم يُفْضِ إلى أيِّ نوع منَ الكوارث، أو العجز المائي لمصر.(158/2)
وتنازع إثيوبيا مِصْرَ في كيفية استخدام مياه النيل بداخل الأراضي المصرية، على حين ترى مِصْرُ بأنَّه أمر طبيعي قيامُها بِمَدِّ تُرعة من مياه النيل إلى صحراء سيناء، خاصَّة أنَّ لها سابقةً فقد سبق لمصرَ أن قامت بشقِّ تُرعة الإسماعيلية شرقيَّ النيل، وحتى الحدود الشرقية دون اعتراض من الدول النِّيلِيَّة الأخرى، وتبرِّر مصرُ مشاريعها بأنها لا تعدو أن تكون تطويرًا مفيدًا للانتفاع بحِصَّتِها المائيَّةِ في حدود المتاح لها من الحصَّة المائية المستمدَّة من نهر النيل؛ خاصَّة أنَّها لا تسبب ضررًا لدول الحوض الأخرى.
والواقع أنه يوجد خلاف مصري - إثيوبي قديم، مرجعه أنَّ أباطرة الحبشة قد تَرَسَّخَ لديهم منذ عدة قرون فكرة مُؤدَّاها قدرتهم على تحويل مياه النيل عن مصر، وترتَّب على هذه الفكرة وجود نوع من المخاوف أن تكون إثيوبيا مصدرًا لتهديد مصر مائيًّا، أو أن تكون مصر مصدرًا لإثارة قلق إثيوبيا أَمْنِيًّا إذا ما سعتْ لتأمين منابع النيل.
وظلَّ الموقف الإثيوبي على هذا المنوال، الذي يشتد في فترة ويضعف في أخرى، وذلك لارتباطه بالحكومة التي تتولَّى حكم إثيوبيا وموقفها من مصر، ومدى خضوعها للضغط الصهيوني، إلى أن تَمَّ عقد اتّفاق القاهرة في يونية 1993م، والذي وضع حدًّا لهذا الخلاف.
الأطماع الإسرائيلية:(158/3)
تستند الحركة الصهيونية منذ بازل 1898م إلى استراتيجية محدَّدة تضع المياه في رأس قائمة أولوياتها، باعتبار أهَمّيَّتها القصوى في هذه المنطقة من العالم المتَّسمة بالجفاف، فبدون المياه تستحيل الزراعة في مستوطناتها، ويتعذَّر تنفيذ برامج استيعاب المهاجرين إليها في الريف والحضر، عدا ما تتطلَّبُه الصناعة وخُطَط تَنْمِيَتِها؛ ووضعتْ إسرائيل خريطتها مبكرًا على أساس التحكُّم في مجمل المصادر الطبيعية للمياه في المنطقة؛ بل وتغيير خريطتها الطبيعية لحسابها، ووضعتِ النيل ضمن حساباتها، وهي لا تضع خُطَطَها على الورق؛ بل تَعْمِدُ فَورًا لتنفيذها بشتَّى الطرق، غير مبالية بالحقوق التاريخية، أو الاتفاقيات القانونية الدولية.
وهكذا إذا كانت استراتيجية إسرائيل ترتكز على التهجير، الزراعة، المستوطنات، فإنها تُوَظِّف سياستها المائية لتحقيق مجموعة من الأهداف، والمقاصد التي يمكن حصرها فيما يلي:
1 – التحكم في مصادر المياه.
2 – مضاعفة مواردها المائية بشتى الطرق.
3 – تنمية مواردها من المياه الجوفية.
4 – تدبير الموارد اللازمة لقنوات استهلاكها.
5 – تحقيق مشروعها بسحب مياه النيل إلى النقب.
6 – العمل على إنشاء سوق للمياه في المنطقة.
7 – الإدارة المركزية المشتركة لمياه المنطقة.(158/4)
وفيما يتصل باستراتيجيتها الخاصَّة بمياه النيل، فهي تعود إلى عام 1903م أي إلى مشروع تأسيس الوطن القومي لليهود في سيناء، وتتبناه الآن في إطار فكرة محورية تستبدل بها برامجها لنقل السكان إلى المياه بأخرى هي "نقل المياه إلى السكان"، ويتحدَّد مشروعها بالنسبة للنيل في أنَّه يُمكِنُ لنسبة قليلة من مياهه (لا تتجاوز 1 % من جملتها في مصر؛ أي من أصل الـ 55.54 مليار م3) أن تحل مشاكل إسرائيل المائية ولفترة طويلة مقبلة، وأن ذلك مجدٍ من الناحية الاقتصادية للدولتين، حيث ستدفع إسرائيل ثمن ما تشتريه من مياه (مثلما تدفع هونج كونج للصين، أو سنغافورة لماليزيا)، وبالنسبة لما يمنحها ذلك المشروع مساحة مزروعة تناهز 20 مرة ما تزرعه الآن بما يستوعب المستعمرات، ويحول النقب إلى منطقة كثيفة السكان.
وقد برزتْ فكرة إنشاء سوق للمياه في المنطقة في ندوة عقدت في جامعة تل أبيب (إبريل - مايو 1994م)، وفيها طُرِحت أفكار متعددة حول تكلفة توفير المياه من مصادرها المختلفة، واستبعدت التحلية لارتفاع التكلفة، وطرح اقتراح شراء المياه بواسطة سوق للمناقصة، وتناولت الندوة موضوع جدوى جلب المياه من مصر أم تركيا؟ وحسبت تكلفتها من النيل حتَّى قطاع غزة والنقب، وتكلِفَتها من تركيا (الفرات) إلى طبرية، وتبيَّن أن جلبها من مصر أفضل اقتصاديًّا (مشروع ترعة السلام).
ولولا النقب لما كانتْ هناك – في الواقع – مشكلة مياه في إسرائيل بعدما وضعت يدها وسرقت ونهبت معظم مصادر المياه في المنطقة من حولها، والنقب صحراء تبلغ مساحتها نصف مساحة فلسطين تقريبًا، وتشكّل القسم الجنوبي منها، وهي في حاجة ماسة للماء ليس فقط لكونها صحراء جافة؛ بل أيضًا لملوحة تربتها.(158/5)
وفي أثناء زيارته الشهيرة للقدس في سبتمبر 1979م، أعلن الرئيس المصري الرَّاحل محمد أنور السادات اعتزامه مد مياه النيل التي ستروي سيناء إلى صحراء النقب في إطار اتفاق عام للسلام بين إسرائيل والبلدان العربية، ومعلومٌ أنَّ الرئيس السادات كان قد استخدم فكرة مشروع "ترعة السلام" كورقة تفاوُضِيَّة لحثِّ إسرائيلَ على احترام حقوق العرب - المسلمين في مدينة القدس، ووقف النشاط الاستيطانيِّ في الضفة الغربية وغزة، والبدء في إزالة المستوطنات القائمة آنذاك، لكنَّ هذه الورقة احترقت تمامًا في لهيب الحسِّ الوطنيِّ المصريِّ قبل أن يموت الرئيس السادات.
وفي عهد الرئيس محمد حسني مبارك، تجدَّدت الخطة الرئيسة لمشروع ترعة السلام في إطار منظورٍ وطنيٍّ خالصٍ لتنمية متكاملة تربط بين غرب قناة السويس والساحل الشمالي في شرقها، وتقوم بري 600 ألف فدان في سيناء على مرحلتينِ تم بالفعل الانتهاء من المرحلة الأولى منها في نهاية العام 1997م، دون أيِّ إشارة إلى اشتراك إسرائيل في أيِّ حصَّةٍ منَ المياه المصريَّةِ، ونعتقد يقينًا أنَّ حصول إسرائيل على أدنى حِصَّةٍ من مياه النيل سوف يبقى كما بدأ، مجرَّدَ حُلْمٍ إسرائيليٍّ مستحيلٌ أن يتحقَّقَ تحت أيِّ ظرف، وفي ظلِّ أيِّ حاكم مصريٍّ أيًّا كان.(158/6)
العنوان: الأبناء والصيف.. نقتل الوقت أم يقتلنا؟!
رقم المقالة: 1138
صاحب المقالة: أحلام علي
-----------------------------------------
بدأت الإجازة الصيفية وفيها يتضخم حجم الفراغ لدى الأبناء والشباب، وتنحو الأسر مناحٍ مختلفة من حيث استثمارها للوقت، خاصة أن الإجازة الصيفية تقارب مائة يوم أي ما يعادل 3000 ساعة من عمر أبنائنا، وفي كل عام يتجدد السؤال وتتجدد الحيرة، كيف سيُمضي الأبناء الإجازة؟ وتكون الإجابة عند كثيرين: في النوم، والنزهة، وأمام التلفاز، وشاشات الحاسوب، فما الإجازة عند هؤلاء سوى ضياع للوقت، ومن ثم أثر سلبي في الصحة، وتنمية الكسل والتراخي في الأبناء، ثم تتعالى صرخات الوالدين بعد ذلك مستغيثة من جيل هذه الأيام، ونتناسى أننا نحن من ساهم بطريقة جيدة في صناعة هذا الجيل المتراخي الهش.
فكيف ينعم أبناؤنا بإجازة سعيدة- بإذن الله- بما يعود عليهم بالفائدة والترويح الممتع في إطار شرعي؟ هذا ما يجيب عليه التحقيق التالي:
• رأي الأمهات:
تقول أم عبد الله: في بداية الإجازة أجلس أنا وزوجي مع الأبناء، ونضع برنامجاً للإجازة، ونترك لكل واحد منهم وضع التصور الذي يراه، ثم نناقش كل برنامج على حدة، ونقارب بين أفكارهم، ونتفق على نقاط محددة كي ننفذها، وأتدخل أنا وزوجي لإضافة بعض الفقرات في برنامجهم- لأنه لا يخرج عن نطاق الترفيه والمنتزهات- فنضيف لهم برنامجاً دينياً يومياً مع تذكيرهم بأن الإجازة هي أيام من عمر الإنسان ولا يليق بالمسلم أن يضيع كل عام ثلاثة أشهر من حياته هباءً، وبالطبع كل عام يختلف في برنامجه عن العام الذي يسبقه، مع ضرورة وجود الثوابت كل عام، مثل القيام بعمرة، وزيادة البرنامج الديني؛ حيث إنهم مشغولون طَوال العام بالاستذكار ومتابعة الدروس وفي الإجازة فرصة عظيمة لأن يكون هناك استزادة من حفظ القرآن وقراءة السيرة وغير ذلك.(159/1)
وتقول أم يُمنى: إجازتنا كل عام نقضيها في بلدنا (مصر) حيث زيارة الأهل والتنزه هناك والفسح، وأيضاً صلة الرحم، ولا تخرج إجازتنا كل عام عن هذا النطاق.
وتقول أم بنان: تأتي الإجازة ويزداد فيها ضغط أعصابي أكثر من أيام الدراسة لأن أبنائي يطيلون السهر بالليل ويكثرون من النوم بالنهار ومشاركتهم المنزلية لي ضعيفة بسبب ذلك والعبء كما هو لا يتغير، وأنا الآن أريد أن أسجلهم في مركز صيفي ليمضوا فيه وقتاً يعود عليهم بالفائدة بدلاً من قتل الوقت بلا فائدة.
• الفراغ مفسدة:
يقول محمد عمران- أب لستة أبناء-: لابد من شغل وقت الأبناء في الإجازة بما يفيدهم لأن الفراغ فعلاً مفسدة خاصة في هذا الزمن الذي تمتلئ فيه الشوارع والطرقات بالأولاد الذين لا يراعون حرمة الطريق فلا تدري وأنت سائر في طريقك إلى المسجد من أين ستأتيك الكرة ولو كان لأمثال هؤلاء الأبناء ما يشغل وقت فراغهم في الإجازة لما رأيت كل هذه الطاقات المعطلة.
ولابد أن يكون هناك وعي وتثقيف للأسر أولاً لأن كل شاب يتسكع في الطرق يؤذي غيره، وكل من يعاكس الفتيات وراءه أسرة غير واعية ومغيبة وغافلة عن دورها وإلا لما قذفت بأبنائها لرفقاء السوء هكذا، ولو أن كل أسرة عملت بمنهج الإسلام وعلمت أن خير الأنام عمل برعي الغنم (وهو ابن ثماني سنوات وليس شاباً جامعيّاً وكان من أشرف الأسر وأعلاها منزلة حينذاك) ما كان هذا حال شباب الأمة، ولعمل الأبناء فيما يعود عليهم بالكسب وشغل الوقت بالنافع المفيد، فلابد من التوازن بين العمل النافع المفيد وبين الاستمتاع بالإجازة.
• فرصة ذهبية:(159/2)
يقول إبراهيم بن مبارك- أب لأربعة أبناء-: هناك بعض الأمور التي تُعين الشاب على عمارة وقته وحياته في الإجازة وهي: حفظ القرآن أو شيء منه، وكم يمر على أبناء المسلمين إجازة تلو إجازة دون أن يحفظوا القرآن الكريم أو جزءاً منه، فيجب أن نعوِّد الأبناء على أن يحفظوا خلال هذه الإجازة على الأقل خمس آيات يوميّاً، وأيضاً قراءة السنة النبوية وفهمها، وكتاب رياض الصالحين ففيه خير كثير، وكذلك الحرص على أداء العمرة وزيارة الحرمين وكذلك الحرص على الكسب وتعلم صنعة أو مهارة؛ فالإجازة ليس معناها النوم والسهر؛ بل يجب أن يكون هناك عمل صيفي يتكسب من ورائه، أو الدخول في دورات حاسب آلي أو مهنة يتعلم منها مهارة من المهارات كالسباكة والكهرباء.
وقد تفيد الإجازة في تقوية الضعف الدراسي حيث إن بعض الطلاب يعاني ضعفاً في بعض المواد الدراسية كالإنجليزي والرياضيات وهذا يسبب له تأخراً في الدراسة، فلتكن الإجازة فرصة لإصلاح حاله في هذه المواد وغيرها.
وأنصح الشباب بالاشتراك في المراكز الصيفية، وأحذر من إطالة السهر التي تظهر جلية أيام الأجازات وأيضاً ظاهرة المعاكسات والتجول في الشوارع والأسواق بدون هدف وهذه ظاهرة مرضية فيها انتهاك لحرمات وأعراض المسلمين، وماذا يستفيد الشباب من هذا التجول؟ غير أنه يعرض نفسه للفتن التي لا تُحمد عقباها، فضلاً عن إهدار الوقت الذي سيسأل عنه أمام الله.
• ثلاثة أصناف:
الدكتور عائض القرني يقول: حين تأتيك العطلة الصيفية ينقسم شباب الإسلام إلى ثلاثة أقسام: ظالم لنفسه ومقتصد وسابق بالخيرات، فأما الأول فهو شاب ظن أن الحياة لعب ولهو وغناء وأكل وشرب ونوم وذهاب وإياب، وما عَلِم أن الله سوف يسأله عن كل دقيقة من دقائق حياته، وهذا الصنف يتحرى الإجازة بلهف ليذهب في كل مذهب، أما الصلوات فلا تسأل عنها فقد ضيّعها، وأما القرآن فهجره، وأما الذكر فلا يعرفه، وأما المسجد فما اهتدى إليه.(159/3)
وأما الصنف الثاني فهو شاب مقتصد لم يقض الإجازة في معصية الله بل يقضيها في المباحات، يؤدي الفرائض، وينتهي عن المحرّمات،وينام نوماً عميقاً، فإذا استيقظ اشتغل بالزيارات والنزهات، فأين استثمار الوقت؟ أين القراءة؟ أين التلاوة؟ أين العلم والتعلم؟
وأما الصنف الثالث فهم السابقون بالخيرات وهؤلاء هم شباب الإسلام، ونجم التوحيد، وكوكبة محمد- صلى الله عليه وسلم، وهم الفجر لهذا الدين، إنهم شباب عرفوا الحياة وعرفوا أنهم سوف يقفون بين يدي علام الغيوب، وعرفوا أن السلف الصالح استثمروا أوقاتهم في مرضاة الله.
هذا الشاب سابق بالخيرات، كتاب الله خِدنه ورفيقه وربيع قلبه، لا تفوته الصلوات ولا تكبيرة الإحرام في جماعة.
ويدعو الدكتور القرني الشباب أن يكونوا من السابقين بالخيرات الذين جعلوا ليلهم طاعة، ونهارهم تسبيح وزلفى وقربى من الله، كمصعب بن عمير، وسعد، وخالد . كطارق وصلاح الدين، فالشباب هم أمل الأمة والمرشحون لقيادة البشرية.
• ترويح آمن:
الدكتور محمود عنان- أستاذ التربية الرياضية بجامعة حلوان- فيقول: إن من أهداف الترويح: الشعور بالاستمتاع نتيجة ممارسة بعض ألوان الأنشطة الترويحية متمثلة في الأعمال الإبداعية والابتكارية من قراءة وأعمال فنية وهوايات يبرز فيها الأبناء مهاراتهم، وكذلك النشاطات البدنية التي تكسب الصحة والتمتع بالقيم الإجمالية وممارسة خبرات جديدة نتيجة استخدام القدرات الفعلية ومن هنا فإننا نتوقع تغير السلوك نتيجة ممارسة تلك الأنشطة في اتجاه إيجابي لخدمة البيئة وقضايا التنمية وذلك للأسباب الآتية:
• الطاقة التي لا توجه إلى الخير سوف تستنزف في أعمال الشر.
• الطاقة التي لا تستثمر في الحلال سوف يساء استخدامها في الحرام.
• الفراغ الذي لا يحسن استثماره سوف يساء استخدامه.
• الترويح المباح هو الترويح الذي لا يرتبط أو يقترب من دائرة التحريم أو يؤدي إلى الحرام.(159/4)
• الترويح المشروع لا يطغى في حجمه على العبادة أو العمل ويقول الله- سبحانه وتعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص: من الآية77].
• يمكن قياس تقدم أي شعب من الشعوب عن طريق معرفة وسائله في استخدام وقت الفراغ.
• المراقبة مع حسن الظن:
يؤكد الدكتور عنان أهمية دور الوالدين فيقول: يجب علينا تشجيع كل ترويح إيجابي يعود على أبنائنا بالنفع والمتعة ونرفع-في الوقت نفسه- رايات التحذير الحمراء إزاء صور اللهو المنتشرة بالأندية، يبثها البعض عنوة ويعرضها الآخرون خفية، ويتداولها أطفالنا في سرية مثل: الصور العارية، والقصص الماجنة تحت اسم الأدب الواقعي أو الأدب المكشوف أو الأبيات الشعرية التي ترمز إلى عقائد أخرى.
ولعل بعض المراهقين يتزعمون شلة السوء، ويأخذون على عاتقهم عرض بعض أفلام الجنس الفاضحة، ولا يتصور البعض أن هناك بالنادي أو مركز الشباب بعض الأركان الخفية لعرض تلك الأفلام من خلال الفيديو الخاص (الشخصي) بحجم الكتاب الصغير.
والبعض الآخر يروج لأندية الجنس ذات الصور العارية والأوضاع المخلة، وهو ما يجرح الحياء ويدعو إلى الانحراف، كل هذه الأمور إنما تدخل في الكبائر، وعلى الآباء مكافحة ذلك بالمراقبة والتشديد والنصيحة والنهي عن مجالسة تلك الشلل بصورة أو بأخرى والحذر من أفكارها حتى لا نصل بالترويح إلى اللهو أو التسلية الماجنة.
• استقلال مشروط:
يضيف الدكتور عنان: من أدوارنا التربوية بوصفنا أولياء أمور للمراهقين والشباب أن نتيح لهم الاستقلال المشروط، وترشيح بعض الكتب التربوية والثقافية الهادفة، وسلاسل الهوايات، وتوفير بعض الألعاب الفكرية بالمنزل أو النادي، ثم إن ممارسة تلك الألعاب يجب أن تخلو من صور التحدي أو المراهنة.
• الألعاب الإلكترونية:(159/5)
يوضح الدكتور عنان مخاطر الألعاب الإلكترونية فيقول: هذا مما عمت به البلوى؛ نظراً إلى ما لها من أضرار كثيرة على الأبناء، فلقد اجتذبت هذه الأجهزة عدداً كبيراً من الأطفال الذين يستخدمونها في أماكن خاصة بنظام التأجير بمدة محدودة (نصف ساعة أو ساعة أو أكثر) ولا مانع أن يجرب الطفل مثل هذه الألعاب ويستمتع بها أو ببعضها ويقضي بعض الوقت في اللعب ببرامجها، لكن القضية لا تكمن في ذلك بل إنها أعم وأشمل؛ حيث إن مثل هذه الأجهزة الكبيرة ألغيت وأصبح استخدامها محظوراً في عدد من الدول بعد أن تنبهوا إلى مخاطرها، فالطفل يجعل من تلك الألعاب عالماً خاصاً له يشغله عن عمله وصلواته -أي دينه ودنياه- ثم إن الطفل قد يستنزف نقوده ويضطر إلى الاقتراض من زملائه، وقد يتبارى البعض في هذه الألعاب بنظام المقامرة والمراهنة، فضلاً عن تعرض الطفل إلى بعض الإشعاعات المنبعثة من تلك الأجهزة، وقد يتحول الترويح المشروع هنا إلى ألوان من اللهو المسرف.
ومن العجيب في هذه الأيام تطور تلك الألعاب وبرامج الكمبيوتر المتخصصة لتشمل أفلاماً كاملة عن الجنس بالصوت والصورة وقد تنبه بعض المسؤولين في البلاد العربية إلى المخاطر المصاحبة لتلك الأندية الخاصة بالألعاب الإلكترونية، فأُغلقت وصودرت أجهزتها، وكنوع من الحيل فقد اقتنى البعض مثل هذه الأجهزة بصورة مصغرة في المنازل، ويبدو هنا دور الأسرة في تنظيم أوقات الطفل فيما بين اللعب والعبادة وإلا أصبحت أيضاً نوعاً من اللهو الذي قد يستمر أياماً وشهوراً، ويصاب أطفالنا عقبه بالاستهتار والإهمال وعدم المبالاة في دينهم ودنياهم.
• المراكز الصيفية:(159/6)
يقول الدكتور خالد الشنتوت- كاتب إسلامي وباحث تربوي بالمدينة المنورة-: من أفضل وسائل تكوين الرفاق الصالحين المخيمات الإسلامية والمراكز الصيفية، وهذه المراكز تشبع عدة حاجات- روحية ونفسية واجتماعية- للأطفال والشباب، ولأن معظم أفراد هذه المخيمات أو المراكز من الفتيان المنتقين إسلاميّاً، فإنها أفضل البيئات لانتقاء الرفقة الصالحة، وينبغي للأخ المسلم أن يرسل أولاده إلى هذه المخيمات ولو كانت بعيدة، وعليه أن يخطط عطلته وفقاً لهذه المخيمات والمراكز نظراً لأهميتها، وأن يتحمل النفقات- إن وجدت- من أجل تربية أولاده تربية إسلامية.
وعندما نسلم بأن المراهقة حبس الطاقات المتفجرة عند الفتى، وهو ما يدفعه إلى البحث عن رفاق سوء ليشغل وقته ويصرف هذه الطاقة الفائضة المحبوسة، فإن المعسكرات أفضل الوسائل لصرف هذه الطاقات بالعمل والتدريب والأنشطة والتعلم إضافة إلى إشباع الحاجات المتعددة.
فالحاجات الروحية المتفجرة عند الشباب تشبعها إقامة الصلوات الخمس جماعة في المخيم، إضافة إلى التهجد قبل الفجر، وصلاة القيام في جوف الليل، وتلاوة القرآن الكريم آناء الليل وأطراف النهار، وصوم التطوع والإفطار الجماعي، وأذكار اليوم والليلة.
والحاجات الاجتماعية يشبعها توفير الأقران في العمر والثقافة والفكر إضافة إلى تحمل المسؤولية عندما تسند المهمات إلى الأفراد المشاركين في المعسكر، والعيش المشترك مع الآخرين.
والحاجات النفسية يشبعها شعور الشاب بأنه رجل يعيش في المعسكر، ويتدرب على القتال من أجل الجهاد في سبيل الله، والتعود على الخشونة في المأكل والمشرب والنوم، والتعود على المفاجآت.
أما خدمة البيئة فتشبع دافع تأكيد الذات، كبناء سد أو تعبيد طريق، وتشعر الفتيان بأهميتهم في المجتمع، ويدفعهم إلى تحمل المسؤولية.(159/7)
العنوان: الإتجاه الفكري لدعوة ابن تومرت (دراسة تاريخية)
رقم المقالة: 369
صاحب المقالة: د. حمد بن صالح السحيباني
-----------------------------------------
المقدمة:
الحمدلله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فإن دعوة ابن تومرت، التي اشتهرت بين المؤرخين بدعوة الموحدين، قد ظهرت في بلاد المغرب الأقصى، على يد محمد بن عبدالله بن تومرت، وذلك خلال الثلث الأول من القرن السادس الهجري، ثم ما لبثت هذه الدعوة أن انتشرت وأصبح لها كيان سياسي يحميها، حيث امتد سلطانها إلى معظم بلاد المغرب، وأقاليم واسعة من بلاد الأندلس.
وقد قامت دعوة ابن تومرت على أساس عقدي، حيث زعم مؤسسها أن ما يدعو إليه إنما هو الإسلام الصحيح، وأن الأسس الفكرية التي بني عليها دعوته، إنما هي أسس سليمة تنطلق من القواعد الإسلامية الصحيحة. وهذا بلا شك كان من الأسباب القوية التي مكنت تلك الدعوة من الظهور، ثم الذيوع والانتشار، في أنحاء واسعة من بلاد المغرب والأندلس.
وكما انتشرت هذه الدعوة في بلاد المغرب والأندلس، وتمكنت من قلوب بعض الناس فيها. فإن مؤسسها استطاع أن يقيم لها كياناً سياسياً واسعاً في تلك البلاد، وهو ما عرف بدولة الموحدين، حيث تمكنت هذه الدولة من أن تصبح في مصاف الدول الإسلامية المعاصرة لها، حينما أصبح لها نظامها المستقل، وكيانها السياسي القوي.(160/1)
وقد تناول عدد من الكتاب والباحثين بالدراسة والبحث بعض الجوانب من تاريخ هذه الدولة ونظمها، وقد كنت أحد الباحثين الذين تناولوا نظمها حينما أعددت رسالة الماجستير بعنوان ((النظم الحربية في دولة الموحدين بالمغرب والأندلس)) حيث يسر لي ذلك التعرف على هذه الدولة، ونظمها الحربية، إلا أن الاتجاه الفكري لدعوة ابن تومرت والتي قامت على أساسه دولة الموحدين لم يتيسر لي بحثه، والوقوف عليه، لأني حينذاك كنت ملزماً بالخطة التي وضعتها لرسالتي وهي ما يتناول النظم الحربية فقط، وذلك بالرغم من أهمية دراسة الاتجاه الفكري لتلك الدعوة إذ أنه كان له أثره الواضح في توجيه سياسة الدولة لاسيما في أول أمرها.
ومما زاد من أهمية هذا الموضوع، وأهله لأن يكون ميداناً للدراسة والبحث، تباين آراء الكتاب، والمؤرخين، في تقويمهم لهذا الاتجاه، حيث وصفه بعضهم بأنه اتجاه سني سار على منهج سليم، بينما قال آخرون بخلاف ذلك، حيث وصفو تلك الدعوة بالغلو والانحراف، وهذا ما زاد من عزمي على دراسة هذا الموضوع لعلي أتمكن – بعون الله – من الوصول إلى الحقيقة فيه.
ولمحاولة الإحاطة بكل جوانبه، والتي يفرضها علينا عنوان البحث، فقد جاء هيكله على النحو التالي:
في بادئ الأمر قدمت له بمقدمة مختصرة، تحدثت فيها عن الدعوات، والدول الإسلامية التي ظهرت في بلاد المغرب، حتى ظهور دعوة ابن تومرت وقيام دولة الموحدين، وذلك لكي نتعرف على مكان هذه الدعوة بين تلك الدعوات.
ثم أعقبت ذلك بالحديث عن دعوة ابن تومرت في مراحلها الأولى، حيث تحدثت عن نشأة ابن تومرت، ثم بدئه بدعوته حتى ظهور تلك الدعوة وانتشارها في بلاد المغرب حينما قامت دولة الموحدين.
وبعد ذلك بسطت القول في الأسس الفكرية التي قامت عليها دعوة ابن تومرت حيث ذكرت أهمها، ومدى انسجامها مع النهج الإسلامي الصحيح.(160/2)
وفي الختام ذكرت موقف أتباع ابن تومرت من دعوته بعد وفاته، حيث تتبعت موقف الموحدين عنها، والمراحل التي مروا بها أثناء تخليهم عن هذه الدعوة.
وقد حاولت خلال هذه الدراسة أن أسلك المنهج النقدي التحليلي، لا السرد التاريخي، معتمداً في ذلك – بعد الله سبحانه – على ما خلفه لنا ابن تومرت من تراث فكري يصور لنا تلك الدعوة تصويراً دقيقاً، بالإضافة إلى ما دونه لنا المؤرخون المعاصرون لهذه الدعوة من مادة علمية قيمة، أحاطت بمعظم جوانب هذا الموضوع.
تمهيد:
مني العالم الإسلامي، منذ عصر صدر الإسلام، حتى عصرنا الحاضر، بظهور العديد من الدعوات والدول التي لبست ثوب الإسلام، واتخذته شعاراً ظاهراً، لتحقيق مطامح ومطامع خفية تهدف إلى النيل من الإسلام، وحرب المسلمين بشعار الإسلام وأسمه، وما دعوات الرافضة، والقرامظة، والعبيديين، وابن تومرت، إلا ضرباً من تلك الدعوات والدول، على مدار التاريخ الإسلامي.(160/3)
وإذا كانت الدعوات، والدول الثلاث الأولى، قد كتب عنها كثير من المؤرخين والكتاب المحدثين[1]، وأبانوا حقائقها، وكشفوا زيفها وبطلانها، فإن دعوة ابن تومرت كان نصيبها من الدراسات النقدية الموضوعية قليل – في نظري – ولهذا خفي على كثير من المسلمين حقيقتها، لاسيما وقد سماها مؤسسها بدعوة الموحدين فظنوا بها خيراً، ونسبوها إلى الصلاح والاستقامة، على الرغم من كونها على خلاف ذلك، كما يظهر من تراثها الفكري، وتاريخ مؤسسها وداعيتها الأول محمد بن تومرت، وهذا ما دفعني إلى دراسة هذه الدعوة، والتعرف على أسسها العقدية، واتجاهها الفكري لكشف ما بها من انحراف عن الخط الإسلامي الأصيل معتمداً في ذلك بعد الله – سبحانه وتعالى – على أقوال ابن تومرت وأفعاله، وما دونه لنا المؤرخون المعاصرون لتلك الدعوة، حيث أن تراث ابن تومرت الفكري ومؤلفاته، وكذلك ما دونه لنا المؤرخون المعاصرون لتلك الدعوة والذين هم من تلاميذ ابن تومرت من أمثال، البيذق[2]، وابن القطان[3]، وابن صاحب الصلاة[4]، موجودة بين أيدينا، إضافة إلى أن الفترة التي ظهرت فيها تلك الدعوة حظيت بوجود العديد من المؤرخين الذين عاصروها، أو عاشوا قريباً منها، فكتبوا عنها، وهم شهود عيان لما كتبوا، أو قريبون من عصرها من أمثال: ابن الأبار (ت568هـ)، والمراكشي (ت747هـ)، وابن عذارى (ت أوائل ق8هـ). وغيرهم.(160/4)
وسأنهج في دراستي لدعوة ابن تومرت، أن أقوم أولاً بتتبع نشأة تلك الدعوة، وبيان المراحل والأطوار التي مرت بها، ثم أخلص بعد ذلك إلى بيان أهم الأسس الفكرية التي قامت عليها، ومدى قربها أو بعدها من الأسس الإسلامية الصحيحة، ولكن قبل أن نشرع بذلك قد يكون من المناسب أن أتحدث – بإيجاز – عن الاتجاهات الفكرية للدول الإسلامية التي ظهرت في بلاد المغرب الإسلامي – الشمال الأفريقي – منذ القرن الثاني، وحتى القرن الخامس الهجري، لنعرف مكان دعوة ابن تومرت بينها، والأرضية التي ظهرت فيها تلك الدعوة، وأصبح لها كيان سياسي يحميها.
المغرب قبل دعوة ابن تومرت:
بدأ ظهور تلك الكيانات السياسية في الشمال الأفريقي حينما ضعفت قبضة الخلافة الإسلامية بالمشرق على تلك الديار، حيث قام هناك العديد من الدول الإسلامية التي أعلن بعضها استقلالها عنها، بينما بقى البعض الآخر منها موالياً لها ولاءاً صورياً، وكما تباينت ولاآت هذه الدول، فقد تباينت أيضاً اتجاهاتها ومشاربها الفكرية، حيث انقسمت إلى أربعة اتجاهات رئيسة هي:
1 – الاتجاه السني ويمثله دولتا الأغالبة والمرابطين والدولة الزيرية الصنهاجية في آخر عمرها:
وقد أسس دولة الأغالبة في المغرب الأدنى إبراهيم بن الأغلب ابن سالم التميمي الذي عينه الخليفة العباسي هارون الرشيد (170 – 193هـ) سنة 184هـ على ولاية إفريقية، ثم ما لبث أن عرض على الرشيد الاستقلال الجزئي عن الخلافة العباسية، والاكتفاء بالتبعية الإسمية مقابل دفعه للخلافة العباسية مبلغاً من المال في كل سنة، فوافق له الرشيد على هذا الطلب[5].
وقد توالت على عرش دولة الأغالبة عدد من الأمراء كان آخرهم زيادة الله بن عبدالله بن الأغلب (290 – 296هـ)، حيث حصل في فترة حكمه انقسام داخلي بين الأغالبة أنفسهم، مما ساعد الدولة العبيدية على القضاء على دولتهم سنة 296هـ[6].(160/5)
وقد عمل الأغالبة – حين مدة حكمهم – على توطيد المذهب السني ونشره في البلاد التي خضعت لنفوذهم في بلاد المغرب، وصقلية، كما عملوا أيضاً على نشر الحضارة الإسلامية في تلك الديار[7].
أما دولة المرابطين (451 – 541هـ) فقد قامت في بادئ أمرها في جنوب بلاد
المغرب الأقصى على يد الفقيه عبدالله بن ياسين[8]، والأمير يحيى بن إبراهيم الجدالي، ثم يحيى بن عمر اللمتوني، وذلك في مستهل النصف الثاني من القرن الخامس الهجري[9].
وقد قامت دولة المرابطين على أسس إسلامية سليمة، حيث نهجت نهج أهل السنة والجماعة، ولم تتأثر بأي نزعة دينية أخرى، وكان من أهم الأسس التي تبنتها ((الجهاد في سبيل الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتزام أحكام الدين في فروض الزكاة والإعشار...))[10].
ولما تولى السلطان يوسف بن تاشفين (453 – 500هـ) أمر المرابطين بسط سلطانه على المغرب الأقصى ثم الأندلس، حيث حملت دولة المرابطين لواء الجهاد في سبيل الله ضد النصارى بالأندلس[11]، وفي مستهل القرن السادس الهجري بدأ الضعف ينتاب دولة المرابطين لا سيما بعد ظهور دعوة ابن تومرت في بلاد المغرب الأقصى، ثم ما لبث الموحدون أن قضوا عليها حينما دخلوا مدينة مراكش وقتلوا السلطان إسحاق بن علي بن يوسف بن تاشفين (539 – 541هـ) سنة 541هـ[12]، وبهذا تمكن الموحدون من أن يقيموا دولتهم على أنقاض دولة المرابطين في المغرب والأندلس.
وبالإضافة إلى هاتين الدولتين السنيتين، فإن الدولة الزيرية الصنهاجية قد نهجت النهج السني في آخر عمرها وذلك حينما أعلن المعز بن باديس (406 – 453هـ) انفصاله عن الدولة العبيدية في سنة 440هـ، حيث خلع طاعتهم، وأخذ بمذهب أهل السنة كما لعن الرافضة وقتل من وجده في دياره منهم، ثم ما لبث أن دعا للخليفة العباسي القائم بأمر الله (422 – 467هـ)[13] وبهذا تحول اتجاه هذه الدولة إلى الاتجاه السني، بعد أن كان تجاهها رافضياً.(160/6)
2 – الاتجاه الخارجي[14] ويمثله دولتا المدراريين (140 – 347هـ) والرستميين (144 – 296هـ):
وقد قامت دولة بني مدرار في سجلماسة جنوب المغرب الأقصى سنة 140هـ، على يد عيسى بن يزيد المكناسي، والذي كان يدين بالمذهب الصفري أحد الاتجاهات الرئيسة عند الخوارج[15]، حيث بسطت هذه الدولة سلطانها على منطقة سجلماسة جنوب بلاد المغرب الأقصى[16].
وفي سنة 155هـ قتل أهل سجلماسة زعيمهم عيسى المكناسي لمآخذ أخذوها عليه، ثم ولوا بعده أبا القاسم سمعون بن واسول الملقب بمدرار (155 – 167هـ)[17]، وقد توالى على عرش الدولة أبناؤه وأحفاده من بعده حيث تذبذبوا في ولاءهم المذهبي والسياسي، فمنهم من خطب للعباسيين، ومنهم من خطب للعبيديين، فلما تولى محمد بن الفتح بن ميمون بن مدرار (332 – 347هـ) أعلن خروجه على المذهب الخارجي، وأخذ بالمذهب السني، لكن العبيديين قضوا عليه حينما هاجم جوهر الصقلي سجلماسة سنة 347هـ وبوفاته انتهت دولة بني مدرار[18].
أما دولة الرستميين، والتي كانت تنهج المذهب الأباضي، فقد أسسها في بلاد المغرب الأوسط عبدالرحمن بن رستم (144 – 171هـ) سنة 144هـ، حيث اتخذ مدينة تاهرت حاضرة له[19].
ولما توفي عبدالرحمن بن رستم سنة 171هـ ترك الأمر شورى بين سبعة من رجال الدولة الرستمية، وقد اختلف هؤلاء السبعة، فبينما رأى بعضهم مبايعة ابنه عبدالوهاب، رأى آخرون[20] مبايعة مسعود الأندلسي أحد السبعة الذين ترك عبدالرحمن الأمر فيهم، لكن مسعود تنازل لعبدالوهاب، بعد أن كادت الفتن تعصف بالدولة[21].
وقد استمرت هذه الدولة تحكم بلاد المغرب حتى قضى العبيديون على آخر أمرائها وهو اليقطان بن أبي اليقطان (292 – 296هـ) وذلك سنة 296هـ[22]، لكن سقوط هذه الدولة لايعني سقوط المذهب الخارجي في بلاد المغرب فقد استمر وجود هذا المذهب هناك حتى بعد سقوط تلك الدولة[23].
3 – الاتجاه الرافضي ويمثله دولة العبيديين:(160/7)
وهذا الاتجاه كان آخر الاتجاهات الفكرية دخولاً لبلاد المغرب إذ أن الدولة العبيدية التي نشرت هذا المذهب هناك، لم تقم في بلاد المغرب الأدنى إلا في سنة 296هـ[24].
والدولة العبيدية تدين بالمذهب الرافضي الإسماعيلي حيث تستند إلى أساسين هامين هما:
* العلم الالهي الموروث عن النبي – صلى الله عليه وسلم – عن طريق علي بن أبي طالب ثم أولاده من بعده.
* أما الأساس الثاني فهو الوصية أو النص على ولاية العهد، ولهذا فهم يرون كما يرى غيرهم من الرافضة أن علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – يستحق الخلافة بعد النبي – صلى الله عليه وسلم – لا عن طريق الكناية وحدها بل عن طريق النص أيضاً[25].
وبالرغم من كون الدولة العبيدية قد تمكنت من القضاء على الأغالبة، والرستميين، والمدراريين، والأدارسة فاستطاعت بذلك – إلى حد ما – أن تبسط سلطانها السياسي على معظم أقاليم بلاد المغرب، إلا أنها لم تتمكن من فرض مذهبها الديني على مكان تلك البلاد، وذلك لأن الناس لم يتقبلوا أفكار العبيديين لما فيها من غلو وشطط لم يألفه سكان تلك الديار، بل إنهم تطلعوا إلى خلافة سنية جديدة قامت في الأندلس هي الخلافة الأموية بالأندلس[26]، وهذا بلا شك من الأسباب القوية التي جعلت العبيديين يرحلون عن بلاد المغرب إلى مصر سنة 362هـ[27].
4 – الاتجاه الاعتزالي[28] ويمثله دولة الأدارسة بالمغرب الأقصى (172 – 313هـ):
أقام هذه الدولة إدريس بن عبدالله بن الحسن سنة 172هـ، وذلك حينما آوته قبيلة أوربة البربرية[29]، حيث امتدت حدود دولة الأدارسة من المحيط الأطلسي غرباً إلى تلمسان ووهران شرقاً[30].
ولما توفي ادريس بن عبدالله سنة 177هـ بقي الأمر في سلالته حتى قضى على دولتهم العبيديون عام 313هـ[31].(160/8)
وكان الأدارسة يطمحون[32] إلى توحيد العالم الإسلامي تحت قيادتهم مستندين في ذلك إلى أصلهم الشريف[33]، وقرب نسبهم للرسول – صلى الله عليه وسلم – ولكنهم يظهروا شيئاً من التشيع كما يبدو هذا من خلال استقراء تاريخ تلك الدولة، ولهذا يبدو ليس مقبولاً ما يميل إليه أحد الباحثين من أن دولة الأدارسة قد أخذت بالمذهب الشيعي[34] الزيدي[35]، ولعل السبب في هذا القول هو تبني الرافضة لأفكار المعتزلة في القرون المتأخرة فيما لا يتعلق بالإمامة.
أما تبني دولة الأدارسة للمذهب الاعتزالي فقد ذكر عدد من الكتاب والمؤرخين[36] أن هذا المذهب قد انتشر في بلاد المغرب الأقصى، وأن قبيلة أوربة البربرية والتي ساعدت إدريس في إقامة دولته كانت معتزلية، ولهذا فقد أقر إدريس الثاني لهم نشر المذهب في دولته.
وهكذا تبنت دولة الأدارسة المذهب الاعتزالي، ولكن الذي يبدو هو أن زعماء هذه الدولة لاسيما القدماء منهم وجدوا أن هذا المذهب قد انتشر في بلاد المغرب الأقصى خاصة بين أفراد قبيلة أوربة التي ساعدت إدريس الأول في إقامة دولته، ولهذا لم يجدوا مناصاً من إظهار موافقتهم الظاهرية لهذا الفكر ليبقى في دولتهم بعد قيامها مراعاة منهم لزعماء قبيلة أوربة الذين تبنوه وعملوا على نشره، لكن الأدارسة لم يظهروا حماساً لنشره وجعله مذهباً رسمياً لدولتهم.
كان هذا عرضاً – سريعاً – للاتجاهات الفكرية الرئيسة التي وجدت في بلاد المغرب حتى ظهور دعوة ابن تومرت، وهذه الاتجاهات كان لها ثقل مذهبي وسياسي، حيث أن كل واحد منها قد حمته دول أو دولة من القوى السياسية التي نشأت في تلك الديار، وهذا بلا شك هو الذي أكسب تلك الاتجاهات هيبة ومكانة عند الناس، مما ساعد على شيوعها وانتشارها في مناطق جديدة من بلاد المغرب.(160/9)
وبالإضافة إلى هذه الاتجاهات الفكرية الأربعة الرئيسة فقد كان هناك اتجاه خاص هو اتجاه دولة الموحدين التي قامت على أسس قوية من دعوة ابن تومرت الذي كان يجمع بين هذه الاتجاهات وغيرها من الاتجاهات الفكرية الأخرى، إذ أن محمد بن تومرت مؤسس هذه الدولة استقى من جميع هذه المشارب بل زاد عليها ما يرى أنه يخدم ميوله ويحقق أهدافه، ولهذا جاءت الأسس الفكرية لدعوته ثم لدولة الموحدين خليطاً مضطرباً ونسيجاً فكرياً متبايناً – كما سنرى –.
دعوة ابن تومرت في مراحلها الأولى:
ولد محمد بن عبدالله بن تومرت الصنهاجي، في الثلث الأخير من القرن الخامس الهجري ببلاد المغرب الأقصى، وقد اختلف المؤرخون في تحديد سنة مولده[37]. حفظ ابن تومرت القرآن الكريم، ودرس بعض العلوم الإسلامية في بلاد المغرب في صباه، ثم ارتحل منها سنة 501هـ حيث زار قرطبة ودرس ملفات ابن حزم الظاهري[38].
ثم ارتحل بعد ذلك إلى المشرق، حيث تنقل بين عواصمه الثلاث (بغداد) و(مكة) و(القاهرة)[39]، وقد أفاد من هذه الرحلة علماً غزيراً لاسيما في العلوم العقلية واللسانية[40]، حيث أعانه على ذلك ذكاؤه المفرط، ومثابرته وهمته العالية[41].
وفي طريق عودته إلى بلاده من بلاد المشرق مرّ بمكة، وفيها بدأ دعوته حيث أخذ بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذاً يذكر ابن العماد الحنبلي أنه ((بدأ أولاً الإنكار بمكة فآذوه فقدم مصر...))[42].
هكذا كانت بداية ظهور دعوة ابن تومرت، أما الوضع السياسي لبلدان العالم الإسلامي في تلك الفترة – مطلع القرن السادس الهجري – فقد كان وضعاً مضطرباً فالخلافة العباسية بالمشرق قد دبّ فيها الضعف، كما أن دولة العبيديين بمصر قد كرهها الناس بسبب غلو حكامها وتشططهم العقدي، إلى جانب أعمالهم العدائية ضد الإسلام والمسلمين.(160/10)
أما بلاد المغرب والأندلس فكانت في تلك الفترة تخضع لحكم دولة المرابطين، وكانت قبضتها قوية، واتجاهها اتجاه سني، حيث كان يتولى أمرها آنذاك السلطان علي بن يوسف بن تاشفين (500 – 537هـ) وكان ورعاً مجاهداً مقبولاً عند الناس، وهذا ما جعل الطريق صعباً أمام ابن تومرت الذي بدأ ظهوره في بلاد المرابطين، ولهذا فان ابن تومرت ولكي يضمن لدعوته النجاح والانتشار سلك الخطوات التالية:–
1 - إظهاره للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتقمصه لأساليب وشخصيات المصلحين، فقد انتحل ابن تومرت صفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبدأ بهذا النهج منذ وقت مبكر وذلك حينما كان بمكة بعد عودته من العراق حيث استغل تجمع المسلمين فيها، فأخذ يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر حتى ناله شيء من الأذى بسبب ذلك[43]، ومن مكة توجه إلى مصر وفيها استأنف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبالغ في ذلك حتى طرده العبيديون منها حيث خرج إلى بلاد المغرب[44].
ويبدو أن ابن تومرت كان يهدف من وراء إظهاره للأمر والنهي عن المنكر إلى تحقيق غرضين: الأول منهما هو لفت أنظار الناس إليه في البلاد التي مر بها حتى يعد من المصلحين، أما الثاني فهو تكوين بعض الخلايا السرية في تلك البلاد من الأفراد الذين يعجبون بمنهجه، وذلك ليكونوا دعاة إلى أفكاره ومبادئه، وقد نجح في ذلكم حيث يذكر البيذق أنه كان لابن تومرت بمصر واحد وخمسون رجلاً من أهلها ((وكانوا له مثل أعضائه وجسده سامعين لقوله مجيبين لأمره مؤمنين به. ولما تبين حالهم بذلك اختار لهم الاقامة هناك))...[45].(160/11)
ولما وصل إلى بلاد المغرب نزل بمدينة المهدية سنة 505هـ حيث كانت تخضع للأمير يحي بن تميم بن المعز الصنهاجي[46] (501 – 509هـ)، وفيها واصل نشاطه في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ودعوة الناس إلى الدخول في دعوته، حيث يذكر ابن خلدون أنه لما نزل بطرابلس أظهر ما يدعو إليه صراحة، كما أنكر على علماء المغرب عدم أخذهم بما يدعو إليه وينادي له[47].
وفي بلاد المغرب انتقل ابن تومرت من الجانب التنظيري في دعوته، إلى الجانب العملي حيث جد في تكوين قاعدة لدعوته، وكانت وسيلته المعلنة في ذلك هي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة حلقات للتدريس ينشر من خلالها أفكاره ليستقطب بعد ذلك من يتقبلها من تلاميذه[48].
ويبدو أن جرأة ابن تومرت في الكلام، وتظاهره بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلى جانب كونه يتوجه في دعوته إلى التجمعات الشعبية العامة كانت من العوامل القوية لنجاح دعوته في هذه المرحلة[49]، حيث يذكر تلميذه البيذق، أنه ما أن حل ببلاد المغرب الأدنى حتى كثر حوله المؤيدون والأنصار، فاختار بعضهم ممن يتوسم فيهم القبول المطلق لدعوته ومخايل الذكاء والنجابة، وتوجه بهم إلى بلاد المغرب الأقصى[50].
كانت هذه هي الخطوة الأولى التى نهجها ابن تومرت لنشر دعوته، ومن خلال تتبعنا لهذه الخطوة ندرك أن ابن تومرت قد نهج عدد من السبل حتى يظهر دعوته للناس، ويجمع حوله المؤيدين والأنصار ومن هذه السبل ما يلي:
أ – أنه تدرج في إظهار دعوته، كما ألبسها الصبغة الإصلاحية، وهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ب – أنه خاطب بها الجهال والسذج من الناس الذين لا يدركون حقيقة ما فيها من انحراف عن الخط الإسلامي الصحيح، حيث توجه بها إلى قوم صيام عن جميع العلوم كما يقول المراكشي[51].(160/12)
ج – أنه كان يبالغ في إنكار المنكر على الحكام الذي يمر بديارهم كما فعل مع العزيز بن المنصور بن الناصر بن علناس بن حماد صاحب بجاية[52]، ومع يوسف بن تاشفين زعيم دولة المرابطين[53]، وذلك لكي يكسب بهذه الجرأة مكانة عند الناس.
د – مما يلحظ على ابن تومرت أثناء هذه المرحلة في دعوته أنه بالرغم من تظاهره بالتقى والصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلا أنه كان لا يتورع عن الكذب حتى أثناء قيامه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حيث يذكر البيذق أنه كان إذا خشي بطشاً وهو يأمر بالمعروف خلط في كلامه حتى ينسب إلى الجنون[54]، وهذا النهج منهج كثير من الفرق الباطنية حيث يلجأون إلى الكذب وإلى العبارات الموهمة حتى لا تتكشف حقائقهم.
2 - وكانت الخطوة الثانية التي نهجها ابن تومرت في بداية دعوته، أنه جدّ في تكوين قاعدة قوية مؤمنة بالمباديء التي يدعو إليها، حيث أعد أفرادها إعداداً خاصاً، وذلك لكي يكونوا قاعدة شعبية لدعوته ثم لدولته، وقد بدأ بهذا النهج مند مستهل دعوته حيث تمكن من تكوين خلية في بلاد مصر قوامها واحد وخمسون رجلاً[55]، ولما انتقل إلى المغرب زاد من جهوده في هذا الميدان حيث أنشأ حلقات للتدريس كان يبث أفكاره من خلالها ولكي يؤصل تلك الأفكار في أذهان أتباعه ألف لهم كتاباً في العقيدة يتضمن الخطوط العريضة لأصول دعوته حيث طالبهم بحفظه[56].(160/13)
وإلى جانب اهتمامه بتكوين القاعدة الشعبية، فإنه كان يحتمي بشوكة بعض القبائل البربرية حتى يضمن لنفسه الأمان، ولدعوته الانتشار في ظل حماية تلك القبائل، فهو حينما وصل إلى بجاية بعد عودته من مصر خشي من بطش الحماديين فلجأ إلى قبيلة بنورياكل – إحدى قبائل صنهاجة – فآووه وأجاروه ومنعوا الحماديين من النيل منه[57]، ولما انتقل إلى بلاد المغرب الأقصى وخاف من سطوة المرابطين ذهب إلى بلاد هرغة حيث نزل على قومه وقبيلته مصمودة فاحتمى بشوكتيهما من المرابطين، كما توفر له عندهم الجو المناسب لمواصلة الدعوة[58].
هكذا تمكن ابن تومرت من تكوين قاعدة شعبية قوية لدعوته، وقد كانت هذه القاعدة في غاية التلاحم والتفاهم مع القيادة مما أدى إلى إعجاب الناس بها ومن ثم تقبلهم لمبادئها.
3 - ومن الخطوات التى سلكها ابن تومرت تحديد موقفه من دولة المرابطين والتي كانت تبسط سلطانها السياسي على بلاد المغرب، وقد جاء عمله بهذه الخطوة متأخراً بعض الشيء إذا ما قورن بالخطوتين السابقتين، وذلك لأن ابن تومرت لم يرد أن يحدد موقفه من دولة المرابطين، إلا بعد أن يشيع بين الناس ذكره، ويكون قاعدة شعبية يتكئ عليها في ساعات الخطر، فلما اطمأن إلى وجود هذه القاعدة، وإلى أنه لم يصبح نكرة عند كثير من الناس، أعلن رأيه في دولة الرابطين، متخذاً الأمر بالمعروف ستاراً ووسيلة لتحقيق غايته وطريقاً لإظهار مفاسد دولة المرابطين[59]، فبدأ بالطعن في عقيدة المرابطين ووصفهم بالتجسيم[60] والكفر والنفاق[61] كما قال لأتباعه بأن غزوهم ومقاومتهم أوجب[62] من حرب النصارى والمجوس[63].(160/14)
هكذا أعلن ابن تومرت رأيه بدولة المرابطين حيث استغل تنقله بين مدن وأقاليم المغرب الأقصى لبيان هذا الرأي، وبهذا أصبح خطره يهدد كيان دولة المرابطين، حينئذ استدعاه السلطان علي بن يوسف ابن تاشفين وسأله: ما هذا الذي بلغنا عنك؟ فأجابه ابن تومرت في قوة بأنه يطلب الآخرة، ويأمر بالمعروف وينهي عن المنكر، وأن هذه مسؤولية الحاكم قبل غيره، ويذكر بعض المؤرخين أن السلطان علي بن يوسف حين سمع ذلك أطرق برأسه إلى الأرض ملياً، ثم أمر الفقهاء بمناظرته واختباره[64]، فلما ناظروه تبين لهم حقيقة ما يحمله ابن تومرت من آراء ومعتقدات تخالف طريقة أهل السنة والجماعة، فأوصوا السلطان بسجنه سداً للذريعة. ودرءاً للفتنة لكن أحد المرابطين شفع فيه فأمر السلطان بإخراجه من مراكش ولم يسجنه[65].
أدرك ابن تومرت بعد ذلك المخاطر التي تهدده من قبل المرابطين، لا سيما أن دعوته قد وصلت إلى مرحلة الظهور والجهر بالأهداف، فقرر الانتقال إلى بلاد السوس مسقط رأسه حيث نزل على قومه وقبيلته مصمودة، سنة 515هـ، وذلك لضمان الحماية اللازمة لدعوته ضد خطر دولة المرابطين[66].
وفي بلاد السوس أسس ابن تومرت مسجداً يجتمع به مع تلاميذه وزعماء قبيلته، حيث التف حوله الكثير من المؤيدين والأنصار، فاختار منهم نخبة لتكون قاعدة لدعوته حيث شرع في تدريسهم على شكل حلقات ودروس منظمة، وكان يؤصل في نفوس أتباعه موقفه من دولة المرابطين من خلال تلك الحلقات والدروس[67]، وبهذا استطاع أن يوجد حاجزاً نفسياً قوياً بين كثير من تلاميذه ودولة المرابطين، وهذا بلا شك مما ساعد على تهيئة كثير من الموحدين للتصدي للمرابطين، ومقاومتهم وهو ما كان يهدف إليه ابن تومرت.(160/15)
ولما شعر ابن تومرت بقبول دعوته في أوساط الهرغيين، وأي توسيع إطاره المكاني، فاختار جماعة من تلاميذه حيث أرسلهم إلى بعض القبائل القريبة من بلاد السوس لاستمالتهم ودعوتهم إلى الخروج على طاعة المرابطين، وقد تمكن بواسطة هذا الأسلوب من استثارة كثير من القبائل البربرية ضد الدولة المرابطية[68].
كانت هذه هي خطوات ابن تومرت في تمهيد الطريق، وجهوده في تأسيس قواعد البناء قبل أن يدعو الناس إلى مبايعته بالإمامة، ويعلن قيام الدولة الموحدية، وبالإضافة إلى هذه الخطوات، فقد أعانه على اجتذاب المؤيدين والأنصار ما سار عليه من خطوات محكمة، إضافة إلى ما كان يتسم به كثير من أفراد القبائل البربرية
من سذاجة وجهالة، فضلاً عما كان يتمتع به ابن تومرت من ذكاء، وعلم وقدرة على التنظيم[69]، والتأثير[70].
اعلان ابن تومرت قيام دولته:
لما اطمأن ابن تومرت إلى قاعدته وحسن ولائها له، دعا الناس إلى مبايعته حيث يذكر ابن القطان أنه قام خطيباً فيهم ومما جاء في خطبته: "...الحمد لله الفعال لما يريد، القاضي بما يشاء، لا راد لأمره، ولا معقب لحكمه، وصلى الله على سيدنا محمد المبشر بالمهدي الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، كما ملئت جوراً يبعثه الله إذا نسخ الحق بالباطل وأزيل العدل بالجور مكانه بالمغرب الأقصى واسمه اسم للنبي ونسبه نسب النبي"[71].
وبعد هذه الخطبة قام الناس فبايعوه بالإمامة وكان ذلك في الخامس عشر من شهر رمضان سنة 515هـ[72].
وهكذا نرى كيف أن ابن تومرت لم يجرؤ على إعلان أنه المهدي إلا بعد أن وثق من ولاء عامة الناس له، وفي هذا يقول ابن خلدون: "ولما كملت بيعته لقبوه بالمهدي وكان لقبه قبلها الإمام"[73].(160/16)
وقد جاءت مبايعة ابن تومرت إماماً للموحدين قرب مراكش، دون تصد ومقاومة من قبل المرابطين أصحاب السلطة الشرعية هناك، بل ودون إحساسهم بالخطر الداهم قرب عاصمتهم شاهداً على ضعف دولة المرابطين وقتذاك وعلى النجاح الكبير الذي حققه ابن تومرت لدعوته الناشئة آنذاك.
أمضى ابن تومرت السنوات الثلاث التالية لسنة مبايعته في جهد متواصل، وعمل داؤب لدعوته حيث خاطب القبائل القريبة منه يدعوهم إلى الدخول في طاعته ونبذ طاعة المرابطين، فاستجابت له بعض القبائل[74] ولكي يوفر مزيداً من الأمن لدولته ودعوته غادر جبل إيجليز في بلاد السوس سنة 518هـ إلى قرية تينملل[75] ببلاد هرغة وقد جاء اختياره لها بسبب حصانتها وموقعها المهم[76].
ويبدو أيضاً أن ابن تومرت أراد من ذهابه إلى تينملل الابتعاد عن زعماء قبيلته ليتوقى مغبة تدخلهم في شؤون دولته الناشئة لا سيما وهو في مرحلة وضع الأسس الأولى لها.
أصبحت تينملل بعد وصول ابن تومرت إليها عاصمة لدولة الموحدين الناشئة حيث قسم أراضيها وديارها على أصحابه الموحدين ليسكنوا فيها، كما بنى مسجداً وداراً له بينهم[77]، وفيها وضعت أسس دولة الموحدين ومنها انطلقت جيوشهم، كما وزع ابن تومرت مسؤوليات الدولة ووظائفها على أصحابها الموحدين حسب ولائهم لطاعته[78].
هكذا أصبحت بلاد السوس بالمغرب الأقصى تغلي حماساً وولاءاً لدعوة ابن تومرت لكنه توفي قبل أن يحكم البناء ويوسع إطار دعوته، حيث وافاه الأجل في شهر رمضان عام524هـ، وكانت مدة حكمه حوالي تسع سنوات[79]، وقد ترك حرباً مشتعلة بين أتباعه والمرابطين، وكل من خالف دعوة الموحدين في أرض المغرب الأقصى، كما خلف أتباعاً مؤمنين بدعوته محاربين لأجلها.
الأسس الفكرية لدعوة ابن تومرت:(160/17)
بعد هذا العرض التاريخي – السريع – الذي تحدثنا فيه عن نشأة دعوة ابن تومرت منذ أن كانت فكرة، وحتى ظهرت إلى حيز الوجود، وأصبح لها كيان سياسي يحميها، ويدعو الناس إليها، نتحدث – بعون الله بشيء من التفصيل – عن الأسس الفكرية التي قامت عليها هذه الدعوة لنتبين هل كانت تلك الأسس إسلامية خالصة تسير حسب المنهج الإسلامي الصحيح؟ أم كانت خلاف ذلك؟ وذلك من خلال استقراء تاريخ هذه الدعوة، وما خلفه لنا ابن تومرت من تراث فكري ومن أهم الأسس التي قامت عليها دعوة ابن تومرت مايلي:–
1 – ادعى ابن تومرت النسب القرشي، وأنه من سلالة الرسول – صلى الله عليه وسلم – وقد أقر بعض المؤرخين هذا الادعاء[80]، كما قال به بعض الكتاب المحدثين[81]، لكن طائفة أخرى من المؤرخين أنكرت هذا الادعاء وقالت أن ابن تومرت دعي فيه فهو من هرغة إحدى قبائل المصامدة البربرية حيث عرف بمحمد بن تومرت الهرغي[82]، كما قال بهذا الرأي من الكتاب المحدثين محمد عبدالله عنان – رحمه الله – إذ يرى أن هذا الادعاء ما هو إلا نحلة باطلة، وثوباً مستعاراً قصد من ورائها ابن تومرت أن يدعم بها صفة المهدي الذي انتحلها أيضاً شعاراً لإمامته ورياسته[83]، كما يرى حسن محمود هذا الرأي حيث ذكر أن ادعاء ابن تومرت للنسب العربي ما هو إلا وسيلة لكسب الأنصار لدعوته الناشئة[84].
والمتتبع لتاريخ ابن تومرت يدرك أنه لم يظهر ادعاءه النسب القرشي دفعة واحدة بل إنه تدرج في هذا الأمر، حتى يضمن قبل الناس له، فبعد أن اطمأن إلى قبول دعوته، وإلى تمكنه من أتباعه، أخذ يشوقهم إلى المهدي ونسبه، ثم لما قبلوا هذا الأمر، ادعى ذلك الأمر لنفسه حيث قال لهم: ((أنا محمد بن عبدالله... ورفع نسبه إلى النبي صلى الله عليه وسلم))[85]....(160/18)
هكذا ادعى ابن تومرت النسب القرشي، وقد تبين لنا من خلال العرض السابق اختلاف وجهات نظر الكتاب والمؤرخين حول ذلك الادعاء، والذي يبدو أن هذا الادعاء ليس بصحيح وإنما أراد به ابن تومرت أن يصل إلى بعض المطامح والمطامع حينما يضفي حول نفسه هالة تجر الناس إليه، وتدعوهم إلى الإعجاب به، وذلك عندما تتأصل محبته في نفوس الناس والذي يقود إلى هذا الاستنتاج ما يلي:
1 - أنه لم يشتهر بين المؤرخين لا سيما علماء الأنساب منهم أن ابن تومرت يعود إلى أصل عربي، وإنما معظم الذين قالوا بهذا هم من مؤرخي الدولة الموحدية الذين سجلوا تاريخها بوحي من سلاطينها وأمرائها، أو بتأثر بدعوة ابن تومرت.
2 - إن هذا الادعاء كان مألوفاً عند أصحاب المطامح الدينية والسياسية في بلاد المغرب – آنذاك – حيث انتهجه العبيديون[86] قبله، والمرينيون[87] والحفصيون[88] بعده، حتى يؤصلوا محبتهم في نفوس الناس الذين يحكمونهم.
3 - ويضاف إلى ما سبق أن انتساب ابن تومرت إلى الأصل العربي لم يكن معروفاً عند أتباعه إلا بعد أن ادعى ذلك لحاجة في نفسه – كما أسلفنا–.
2 – ومن الاتجاهات الفكرية لدعوة ابن تومرت أنه ادعى العصمة حيث قال عن نفسه: بأنه هو المهدي المعصوم، ثم أشاع ذلك بين أتباعه حتى أصبحوا يطلقون عليه لفظ العصمة دون حرج أو تردد[89]، وقد أكد هذا الأمر في مؤلفاته التي انتشرت بينهم إذ جاء فيها: ((ويجب أن يكون الإمام معصوماً من الباطل ليهدم الباطل، كما يجب أن يكون معصوماً من الضلال... ولابد أن يكون الإمام معصوماً من هذه الفتن وأن يكون معصوماً من الجور لأن الجائر لا يهدم الجور بل يثبته،.. وأن يكون معصوماً من الكذب لأن الكذب لا يهدم الكذب بل يثبته، وأن يكون معصوماً من الباطل... ولا يصح الاتفاق إلا باستناد الأمور إلى أولي الأمر وهو الإمام المعصوم من الباطل والظلم))[90].(160/19)
كما قال بعصمة الامام من الزلل والفساد حيث قال: ((لا يقوم بحقوق الله إلا العدل الرضا المعصوم من الفساد))[91].
وهكذا نرى كيف أن القول بالعصمة للأئمة أصبحت اتجاهاً قوياً من اتجاهات دعوة ابن تومرت الفكرية، وقد تمكن من تأصيل هذا الأمر عند أتباعه حتى أطلقوا عليه لقب المعصوم، وأصبح هذا اللقب من أشهر ألقاب ابن تومرت لدرجة أنهم كانوا يطلقونه عليه دون ذكر لإسمه بسبب اشتهاره به[92].
وقد حاول ابن تومرت أن يتدرج في إظهار هذا الأمر في باديء أمره، فبدأ أولاً بالتلميح لهم، ثم صرح بدعوى العصمة لنفسه، وأنه المهدي المعصوم، وروى في ذلك أحاديث كثيرة[93]، ولعل الذي دفعه إلى ذلك هو شعوره بأهمية النقلة التي يريد أن يكون عليها أتباعه، ولهذا بدأهم بالتدريج كما فعل معهم حينما قال بنسبه العربي.
والعصمة عند أهل السنة والجماعة لم تثبت إلا للأنبياء والرسل – عليهم الصلاة والسلام – فيما يبلغون عن الله من شرع ولم يقولوا بها لسواهم حتى لكبار الصحابة الذين خصهم الله بالفضل، كأبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي وغيرهم[94].
ولكن ابن تومرت بهذا النهج يوافق الرافضة الاثنى عشرية الذين قالوا بالعصمة لأئمتهم حيث يقولون بوجوب عصمتهم من الكبائر والصغائر والخطأ والنسيان[95].
كما قالوا: إن الإمام كالنبي يجب أن يكون معصوماً من جميع الرذائل والفواحش ما ظهر منها وما بطن من سن الطفولة إلى الموت عمداً وسهواً، كما يجب أن يكون معصوماً من السهو والخطأ والنسيان[96]. وهكذا نرى كيف غالى ابن تومرت في القول بالعصمة لنفسه، وهذا بلا شك انحراف عقدي خطير ((لأن من جعل بعد الرسول معصوماً يجب الإيمان بكل ما يقوله فقد أعطاه معنى النبوة وأن لم يعطه لفظها))[97].(160/20)
بل إنه لم يكتف بهذا الأمر حيث كان يأمر بقتل كل من يشك[98] في عصمته[99]، ولكي يؤصل هذا الادعاء عند أتباعه ألف لهم كتاب أعز ما يطلب[100]، وأمرهم بقرآته بل حفظه، وهذا بلا شك مما أصل فكر ابن تومرت ومحبته في نفوس أصحابه، ((إلى أن بلغوا في ذلك إلى حد لو أمر أحدهم بقتل أبيه، أو أخيه، أو ابنه لبادر إلى ذلك من غير إبطاء)) كما يذكر المراكشي[101].
وقد يكون هذا الوصف من قبل المراكشي فيه شيء من المبالغة لكنه يستوحى منه أن أتباع ابن تومرت قد اعتقدوا عصمته، ولهذا فإنه أصبح مطاع الأمر والنهي فيهم، حتى ولو كان ما يأمرهم به أمر محرم شرعاً.
3 – ادعى ابن تومرت أنه هو المهدي الذي وعد الرسول – صلى الله عليه وسلم – بخروجه في آخر الزمان، حيث قال في خطبته حين مبايعته إماماً للموحدين سنة 515هـ: "الحمدلله الفعال لما يريد القاضي بما يشاء لا راد لأمره ولا معقب لحكمه، وصلى الله على سيدنا محمد المبشر بالمهدي الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً يبعثه الله إذا نسخ الحق بالباطل وأزيل العدل بالجور مكانه بالمغرب الأقصى، واسمه اسم النبي ونسبه نسب النبي"...[102].
كما يذكر المراكشي[103] أنه صرح لأصحابه بأنه المهدي المعصوم، وروى لهم في ذلك أحاديث كثيرة حتى استقر في نفوسهم أنه المهدي وبسط يده فبايعوه على ذلك، أما ابن خلدون فذكر أنه ((لما كملت بيعته لقبوه بالمهدي وكان لقبه قبلها الإمام))[104].(160/21)
ولم يكتف ابن تومرت بهذا الإجراء، بل إنه أكد لهم هذا الاتجاه الفكري في مؤلفاته التي طالب أتباعه بحفظها، والعمل بما جاء بها، ومما جاء بها عن قضية المهدي قوله: "إن العدل ارتفع، وأنا لجور عم، وإن الرؤساء الجهال استولوا على الدنيا، وإن الملوك الصم البكم استولوا على الدنيا، وإن الدجالين استولوا على الدنيا، وإن الباطل لا يرفعه إلا المهدي، وإن الحق لا يقوم إلا بالمهدي، وإن المهدي معلوم في العرب، والعجم، والبدو والحضر، وإن العلم به ثابت في كل مكان وفي كل أوان وآن"..[105].
وبعد أن قرر ابن تومرت مبدأ ظهور المهدي، عدد صفاته بقوله: "إنه فرد زمانه صادق في قوله، وأنه يملأها بالعدل – يعني الأرض – كما ملئت بالجور، وأن أمره قائم إلى أن تقوم الساعة"..[106].
ثم ذكر بعد ذلك المهام التي سيقوم بها المهدي حيث بينها بقوله: "وأنه – يعني المهدي – معصوم فيما دعا إليه من الحق لا يجوز عليها لخطأ وأنه لا يكابر، ولا يضاد، ولا يدافع ولا يعاند، ولا يخالف ولا ينازع... وأنه صادق في قوله، وأنه يقطع الجبابرة والدجاجلة، وأنه يفتح الدنيا شرقها وغربها، وأنه يملؤها بالعدل كما ملئت بالجور"..[107].
هكذا كان رأى ابن تومرت في المهدي، كما يصور ذلك تراثه الفكري، ويلاحظ هنا كيف تجرأ ابن تومرت فكذب على الله ورسوله حينما حدد مكان ظهور المهدي بالمغرب الأقصى مع أن الأحاديث الصحيحة الواردة في المهدي لم تشر إلى ذلك[108]. ولما كان هذا الادعاء من قبل ابن تومرت فيه شطط وانحراف عن المنهج الإسلامي الصحيح، الأمر الذي قد يثير ضده كثيراً من المعارضين الذين قد لا يقبلون مثل هذا القول، فإنه أحاط دعواه بالمهدية بسياج قوي من الأحكام الصارمة ضد الخارجين عليها، حيث أمر بالقيام بعمليات التمييز ضد أولئك المكذبين أو المعاندين والمكابرين للمهدي كما أحل دمهم[109].(160/22)
وبهذا العرض لنظرية المهدي كما يراها ابن تومرت، ندرك أنه قد حاول تأصيلها في نفوس أتباعه، وأنه قد وضع ضوابط تنطبق عليه، ليصل من خلالها إلى ما يريد، ولتكون جسراً يحقق بواسطتها مطامعه وطموحاته، وقد أخذ كثيراً من أتباعه هذا الادعاء بالقبول حيث أصبحوا يلقبونه بالمهدي بعد أن كانوا يلقبونه بالإمام[110].
4 – أن ابن تومرت تأثر بكثير من المذاهب والفرق الإسلامية، حيث أخذ منها ما يلائم اتجاهاته، ويخدم أهدافه، ولهذا جاء تراثه الفكري خليطاً مضطرباً متأثراً بكثير من النزعات الفكرية الغالية، فهو في مسألة الإمامة يقول برأي الرافضة حيث ضمن كتابه أعز ما يطلب هذا الرأي حين حديثه عنها حيث قال: "لا يصح قيام الحق في الدنيا إلا بوجوب الإمامة في كل زمان إلى أن تقوم الساعة ما من زمان إلا وفيه إمام لله قائم بالحق"..[111].
وهو بهذا القول يوافق الشيعة الذين يجعلون الإمامة أصلاً من أصول الدين حيث أنهم يقولون: "إن الإمامة أصل من أصول الدين لا يتم الإيمان إلا باعتقادها ولا يجوز فيها تقليد الأباء والأهل والمربين مهما عظموا وكبروا، بل يجب النظر فيها كما يجب النظر في التوحيد والنبوة"[112].
كما وافق ابن تومرت الرافضة في تصوره للإمامة حيث يعتبر أن هذه الواجبات إزاء الإمام إذا ما أقيمت تم بها الأمر، وثبت بها العمود الذي قامت عليه السموات والأرض وهو الإمام، أما متى ضيع أمر الإمام أو عصى أو نوزع أو خولف أو أهمل فإنه ينتج عن ذلك مفاسد كثيرة[113].
كذلك تأثر ابن تومرت بمذهب المعتزلة حيث قال ببعض آرائهم كقوله: إن الله لا يكلف العبد ما لا يطيق، كما سمى مرتكب الكبيرة بالفاسق ولم يسمه بالمؤمن أو الكافر، وهذا قريب من مذهب المعتزلة[114].(160/23)
كما وافقهم، في نفي الصفات عن الله – سبحانه[115] – حيث قال حينما تحدث عن صفات الله: "واشتغلوا بتعلم التوحيد فإنه أساس دينكم، حتى تنفوا عن الخالق التشبيه، والشريك، والنقائص، والآفات، والحدود والجهات، ولا تجعلوه سبحانه في مكان ولا في جهة فإنه تعالى موجود قبل الأمكنة والجهات فمن جعله في جهة ومكان فقد جسمه ومن جسمه فقد جعله مخلوقاً ومن جعله مخلوقاً فهو كعابد وثن"[116].
هكذا تبنى ابن تومرت مذهب المعتزلة في الأسماء والصفات حيث نفى كل ما عساه أن يوهم الشبه والمثلية لله سبحانه حتى ولو كان ذلك من الأسماء والصفات الثابتة لله في الكتاب والسنة، ولهذا سمى أصحابه بالموحدين[117]، لأنهم في رأيه هم الذين يوحدون الله حقاً لنفيهم الصفات عن الله سبحانه وتعالى[118]، كما كان يسمى أتباعه بالمؤمنين ويقول لهم: ما على وجه الأرض من يؤمن إيمانكم[119].
كما نهج ابن تومرت نهج الأشاعرة في تأويل بعض صفات الله – سبحانه وتعالى – حيث يذكر ابن خلدون أن ابن تومرت هو الذي حمل أهل المغرب على القول بالتأويل والأخذ بالمذهب الأشعري في كافة العقائد[120]، كما ذكر المراكشي أن ابن تومرت ضمن تصانيفه مذهب الأشاعرة في كثير من المسائل، حيث كان ((...جُل ما يدعو إليه علم الاعتقاد على طريقة الأشعرية...))[121] أما المقريزي فيرى أن ابن تومرت تعلم المذهب الأشعري أثناء وجوده في بلاد العراق، فلما عاد إلى بلاد المغرب، وأخذ بتعليم أصحابه علمهم المذهب الأشعري فكان ذلك سبباً في انتشار هذا المذهب في بلاد المغرب[122].
وبالإضافة إلى ما سبق فإن الدارس لتراث دعوة ابن تومرت يدرك أنه قد تأثر بكثير من آراء الخوارج لا سيما في التساهل بسفك الدماء، ومقاومة السلطان الجائر حتى جعله ضرباً من الجهاد في سبيل الله، كما أخذ برأيهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغيرها، وقد أدرك هذا التأئر علماء المرابطين كما يذكر ابن الخطيب[123].(160/24)
وبعد هذا العرض يتبين لنا أن دعوة ابن تومرت قد تأثرت بآراء كثير من الفرق والمذاهب الإسلامة، فهي ليست أشعرية بحتة، وليست معتزلية تقوم على الأدلة العقلية وحدها، وليست خارجية كما ظنها علماء المرابطين، وهي أيضاً ليست رافضية في كل اتجاهاتها، بل هي مزيج مضطرب من أغلب الفرق والمذاهب الإسلامية، ولهذا فإنه يبدو من المقبول أن يطلق عليها العقيدة التومرتية، وذلك لتميزها عن كل المذاهب السابقة بمنهج مستقل[124].
ومما لا شك فيه أن هذا التأئر العقدي والفكري الذي انتاب دعوة ابن تومرت كان له أثره بعد ذلك على بلاد المغرب، حيث أن هذه الدعوة أصبح لها كيان سياسي يحميها، وهذا الكيان امتد نفوذه السياسي وظله الفكري على معظم بلاد المغرب، وقد أدرك هذا التأثر المؤرخ المغربي السلاوي، حيث صوره بقوله: "...وأما حالهم – يعني أهل المغرب – في الأصول والاعتقادات فبعد أن طهرهم الله من نزعة الخارجية أولاً والرافضية ثانياً أقاموا على مذهب أهل السنة والجماعة مقلدين للجمهور من السلف – رضي الله عنهم – في الإيمان بالمتشابه وعدم التعرض له بالتأويل مع التنزيه عن الظاهر... واستمر الحال على ذلك مدة إلى أن ظهر محمد بن تومرت مهدي الموحدين في صدر المائة السادسة"[125].
وهكذا اعتبر السلاوي خروج ابن تومرت في بلاد المغرب خروجاً لأهله عن مذهب أهل السنة والجماعة، وذلك لتأثرهم بدعوته التى كانت متأثرة بآراء وأفكار كثير من الفرق الإسلامية مما أبعدها عن منهج أهل السنة والجماعة.(160/25)
5 – ومن الاتجاهات الفكرية الخطيرة التى تبناها ابن تومرت، أنه كفر من لم يؤمن بما يقول، ويعتنق ما يدعو إليه، واستباح دمه حتى ولو كان من أتباعه[126]، كما قال بكفر دولة المرابطين ووجوب جهادها، ولتأصيل هذا المبدأ في نفوس أصحابه فقد صرح به في أكثر من مناسبة، كما ضمنه كتبه التي ألفها لهم، ورسائله التي كان يبعثها إلى الموحدين حيثما كانوا، حيث جاء في إحدى رسائله أن المرابطين قد عملوا ((... على إهلاك الحرث والنسل، والاعتداء على الناس في أخذ أموالهم، وخراب ديارهم، وفساد بلادهم، وسفك دماءهم، واستباحوا أكل أموال الناس بالباطل، وأخذ أموال اليتامى والأرامل...))[127] ويذكر المراكشي أنه لما توجه جيش الموحدين إلى قتال المرابطين سنة 517هـ أوصى أفراد ذلك الجيش بقوله: "اقصدوا هؤلاء المراقين المبدلين الذين تسموا بالمرابطين فادعوهم إلى إماتة المنكر وإحياء المعروف وإزالة البدع والإقرار بالإمام المهدي المعصوم، فإن أجابوكم فهم إخوانكم، وإن لم يفعلوا فقاتلوهم فقد أباحت لكم السنة قتالهم"..[128].
وبالإضافة إلى هذه التهم الواضحة الصريحة التى قال بها ابن تومرت ضد دولة المرابطين، فإن القاريء لكتاب أعز ما يطلب يدرك أن ابن تومرت قد شحنه بالافتراءات والدعاوي الباطلة ضدهم، بل إنه قد أفرد فصولاً خاصة منه لهذا الغرض[129].
وقد تنبه المرابطون لهذه التهم الموجهة ضدهم فأخذوا بالتصدي لها حيث بينوا للناس كذب تلك التهم التي ألصقها بهم ابن تومرت، وأنها مخالفة للحقيقة، ولكن هذا العمل لم يثن ابن تومرت عن حربه الدعائية بل إنه كثف جهوده في هذا الميدان، ومما جاء في إحدى رسائله التي وجهها لهذا الغرض ((واعلموا وفقكم – يعني أتباعه – أن المجسمين والمكابرين وكل من نسب إلى العلم، أشد في الصد عن سبيل الله من إبليس اللعين فلا تلتفوا إلى ما يقولون فإنه كذب وبهتان وافتراء على الله ورسوله))[130].(160/26)
كان هذا هو رأي ابن تومرت في دولة المرابطين، وموقفه من تلك الدولة السنية، التي أقامت كيانها على مذهب أهل السنة والجماعة والدعوة إلى الله على هدى من سنة الرسول – صلى الله عليه وسلم – فقد طعن في عقيدتهم ووصفهم بأنهم مجسمون وكفار لا تجوز طاعتهم، ولا الولاء لهم، بل يجب جهادهم، ولهذا قاتل الموحدون المرابطين، قتال المسلمين للكفار حسب اعتقادهم، وما ذلك إلا بسبب أن ابن تومرت قد نحى في حربه للمرابطين منحي فكرياً عقدياً غالى فيه حتى أصبح العداء للمرابطين اتجاهاً فكرياً واضحاً عند ابن تومرت وأتباعه المخلصين لدعوته.
ومما لا شك فيه أن هذا الاتجاه الذي حدده ابن تومرت من دولة المرابطين، قد أثر على معنويتها، ثم على كيانها السياسي، وذلك لأن كثيراً من الناس قد تبنوه، ومن ثم انبروا للعمل على حرب هذه الدولة، والسعي إلى إسقاطها لتقوم دولة ابن تومرت على أنقاضها[131].
6 – تساهل ابن تومرت في إراقة الدماء، دونما مسوغ شرعي، حيث كان لا يتردد في ذلك، حينما يرى أنه يخدم دعوته، أو يحقق شيئاً من مطامحه مهما كانت التضحيات المقدمة لهذا الغرض، وقد تأصل هذا العمل عند ابن تومرت حيث ألبسه لباساً دينياً حتى أصبح اتجاهاً دعوياً واضحاً في دعوته، ومن نماذج عمله في هذا الميدان ما ذكره ابن القطان – أحد تلاميذ ابن تومرت – أنه كان يعظ تلاميذه وأنصاره في كل وقت ((... ومن لم يحظر أدب فإن تمادى قتل، وكل من لم يحفظ حزبه عزر بالسياط، وكل من لم يتأدب بما دأب به ضرب بالسوط بالمرة والمرتين فإن ظهر منه عناد وترك امتثال الأوامر قتل ومن داهن... قتل))[132].(160/27)
كما ذكر كل من البيذق[133]، وابن القطان[134]، وغيرهما من المؤرخين[135] أن ابن تومرت كان يقوم بما يسمى بعملية التمييز لأتباعه حيث يقتل كل من يشك في ولائه لدعوته، وقد ذكر لنا البيذق وصفاً لعملية التمييز التي قام بها ابن تومرت قبل موقعة البحيرة سنة 524هـ حيث قال: "فأمر بالميز فكان البشير[136] يخرج بالمخالفين المنافقين والخبثاء من الموحدين، حتى امتاز الخبيث من الطيب ورأى الناس الحق عياناً، وازداد الذين آمنوا إيماناً وذاق الظالمون النار، فظنوا مواقعوها، وما لهم عنها من محيص... فمات يومئذ من الناس خمس قبائل"..
ويبدو أن الذي دفع ابن تومرت للقيام بعمليات التمييز لا سيما في تلك السنة هو تراجع عدد كبير من الداخلين في دعوته عنها، وذلك بسبب ما تحمله من غلو وشطط، فقام بهذه العملية للتخلص من الذين يشك في إخلاصهم خشية أن يقوى رد الفعل المضاد لدعوته[137]، ولما حل ابن تومرت بتينملل، أواه أهلها، وأعلنوا طاعتهم له، لكنهم كانوا كثيري العدد وافري العدة، وفي منعة بسبب حصانة مدينتهم، فأمرهم ابن تومرت بأن يحضروا إلى المسجد بغير سلاح فلما فعلوا ذلك عدة مرات أمر بعض أتباعه المقربيين أن يقتلوهم ففعلوا، ثم دخلوا المدينة وقتلوا منها عدداً كبيراً من الرجال حتى بلغ عدد الذين قتلوا بهذه الحادثة خمسة عشر ألف رجل[138].(160/28)
ولكي لا تحدث هذه الأعمال رد فعل عند أتباعه، أو تلقى معارضة عند الناس، فإنه كان يظهر لأصحابها أنه يقوم بشيء من الخوارق والمعجزات حتى يؤصل في نفوس الناس شرعية ما يقوم به، ويدعو إليه، فقد ذكر المؤرخون أنه كان يتوطأ مع بعض أصحابه على أن يدفنهم في المقابر وهم أحياء، حيث يترك لهم مكاناً للتنفس، ويأمرهم بأن يكلموه إذا دعاهم، وليشهدوا له بما يطلبه منهم كأن يشهدوا بأنه المهدي الذي بشر به رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأنه هو الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، كما ملئت جوراً وظلماً، وأن من اتبعه أفلح، ومن خالفه خسر، وحينما يسمع أتباعه أن الموتى يكلمونه، ويشهدون له بصحة ما يدعو إليه يعظم اعتقادهم فيه، وتتأكد طاعتهم له، أما أولئك المقبورون فإنه بعد أن ينهوا المهمة التي من أجلها قبوروا يستبيح دمائهم حيث يهدم عليهم قبورهم حتى يموتوا لكي لا يفشوا سره بعد ذلك[139].
هذه صور وأمثلة للأعمال التي قام بها ابن تومرت واستحل بها دماء الناس المعصومة بغير حقها، حتى ولو كانوا من أنصاره أو المقربين إليه، ولا شك أن هذا العمل يعد في نظر الإسلام كبيرة من كبائر الذنوب حتى ولو كان المقتول شخصاً واحداً، فكيف يجوز لابن تومرت أن يقدم على هذه الأعمال المتنافية مع الشرع الحنيف وهو يحسب نفسه داعية إلى الله بل مهدياً معصوماً!؟.
وتكون هذه الأعمال التى قام بها ابن تومرت في ميدان سفك الدماء دليلاً آخر على أنه قد تشطط في دعوته، وخرج بها في بعض تصرفاته عن النهج الإسلامي الصحيح.(160/29)
ومن العجيب الغريب حقاً أن أحد الباحثين المحدثين قد حاول أن يبرر هذه الأعمال التي قام بها ابن تومرت، حيث ادعى أن نسبتها إلى ابن تومرت قد داخلها عامل الهوى فلم تكن معبرة عن حقيقة ما يجري، كما قال إن هذه المآخذ ذكرها صنفان من المؤرخين: الصنف الأول منهما طائفة عرفت بالانتصار للمهدي، وموالاة ابن تومرت، والتشيع لدولة الموحدين مثل ابن القطان، والبيذق، وغيرهما. أما الصنف الثاني فهم أولئك الذين عرفوا بالقدح في دعوة ابن تومرت والطعن في إمامها مثل ابن عذارى وابن أبي زرع، وابن الأثير وغيرهم[140]، وقد رد هذا الكاتب كل ما ذكره هذان الصنفان بحجة أن الصنف الأول منهما ربما نقلوا هذه الأحداث عن بعض المفتونين بابن تومرت، أو اصطنعوها من عندهم، على أنها من مفاخر ابن تومرت وكراماته، ومن مظاهر قوته وشدة بأسه واطلاعه على الغيب، وأوردوها في نطاق إيمانهم بأن الإمام لا يسأل عما يفعل لأنه المؤيد بالهداية الإلهية.(160/30)
أما الصنف الثاني، فقد رد رواياتهم بحجة ان ابن أبي زرع، وابن عذارى كانا قد كتبا تاريخهما في ظل الدولة المرينية التي قامت على أنقاض الدولة الموحدية، وعملت على التهجم عليها والنيل منها، أما ابن الأثير فقال عنه إنه لم يكن خبيراً ولا مطلعاً على شؤون المغرب وأخباره وإنما كان ناقلاً عن غيره من غير رؤية أو تمييز[141]. والذي يبدو أن هذه التبريرات التي أوردها هذا الباحث غير علمية وبالتالي ليست مقبولة، فلو قبلنا – جدلاً – ما قاله عن الطائفة الثانية فكيف نقبل ما قاله عن الطائفة الأولى؟ لأن أفرادها من تلاميذ ابن تومرت والمقربين إليه، ومن الصعب أن يذكروا عنه شيئاً لم يفعله، وإذا كان قد رباهما على أنه لا يسئل عما يفعل كما يقول الباحث فهذا مآخذ آخر يضاف إلى المآخذ الكثيرة التي أخذت على ابن تومرت، ثم كيف يجيب هذا الباحث على ادعاء ابن تومرت العصمة؟، وأنه يجوز له أن يقتل من لا يحفظ كتابه الذي ألفه لتلاميذه؟ وهذه الأمور قد ذكرها ابن تومرت في مؤلفاته ولا مجال لإنكارها، وهي بلا شك لا تقل خطورة عن سفك الدم المعصوم بغير حق.
وبهذا العرض نرى أن ابن تومرت قد برر أي عمل، أو تصرف يرى أنه يخدم دعوته، ومنها سفك الدماء المعصومة دونما مسوغ شرعي يجيز له ذلك، بل إنه قد بالغ في هذا العمل حيث تجاوز الأفراد إلى الجماعات والقبائل حتى أصبح أمراً مألوفاً عند أتباعه، واتجاهاً واضحاً في ميدان نشر دعوته، وحتى شعر كثير من الناس أن ما يقوم به ابن تومرت في هذا المجال إنما هو عمل شرعي نفذه من أجل خدمة دعوته، ويدل على هذا الشعور أن أعماله هذه لم تلق مواجهة أو مقاومة حينما يشرع في تنفيذها، حيث كان الناس يستسلمون له ليفعل بهم ما يشاء باعتباره لا يسئل عما يفعل كما يظن الكثيرين منهم.(160/31)
كان هذا عرضا للالمجاه الفكري الذي سارت عليه دعوة ابن تومرت ومن خلاله تبين لنا أن هذه الدعوة قد انطلقت من عدة اتجاهات ومشارب فكرية عقدية حاول ابن تومرت أن يجعلها محاور رئيسة
دعوية أو سياسية، وقد حاول ابن تومرت أن يصبغ هذه الاتجاهات بصبغة دينية ليكون قبولها عند الناس أقوى، فادعى النسب القرشي والعصمة والمهدية، كما أنه حدد موقفه من دولة المرابطين وهي الدولة التي تبنت دعوته في أرضها وتحت مظلتها السياسية، فبين للناس أن هذا الموقف من قبله له بعد ديني ومغزى دعوى بسبب عدم اكتراث حكام دولة المرابطين بأمور الإسلام، ووضع المسلمين.
كما تبين لنا – أيضاً – أن من الاتجاهات الفكرية الواضحة في دعوة ابن تومرت العمل على تأصيل ما يدعو إليه في نفوس أصحابه بكل الوسائل والأسباب مهما كانت مشروعيتها حتى أصبحت تلك الوسائل تشكل اتجاهاً واضحاً تميزت به دعوة ابن تومرت كالتساهل في إراقة الدماء، وتكفير المعارضين والخصوم والعمل من أجل القضاء عليهم.
وقد أعاد ابن تومرت على تحقيق ما يصبو إليه من اجتذاب المؤيدين والأنصار ونشر أفكاره بينهم في بلاد المغرب ما سار عليه من خطوات محكمة أثناء نشره لدعوته، إضافة إلى ما كان يتصف به أهل المغرب الأقصى من سذاجة وجهالة[142]، فضلاً عما كان يتمتع به ابن تومرت من ذكاء وعلم وقدرة على التنظيم والثأثير[143].(160/32)
وهنا قد يتساءل البعض فيقول: هل هذا الاتجاه الفكري لدعوة ابن تومرت قد تأصل في نفوس أفراد دولة الموحدين عامتهم وخاصتهم، فأخذوا يعملون بمقتضاه، ويسيرون وفق اتجاهه وخطاه، أم أنهم بعد موت ابن تومرت، ومع مضي الزمن، بدأوا يتحللون من تعاليم تلك الدعوة ويسيرون في اتجاه غير اتجاهها؟، وللإجابة على هذا التساؤل يقال: إن أتباع ابن تومرت يمكن تقسيمهم إلى صنفين: الصنف الأول وهم التلاميذ والأصحاب المقربين الذين أعجبوا بدعوة ابن تومرت، وتعلقوا بها وهذا الصنف بقي على ولائه لتلك الدعوة حتى بعد وفاة ابن تومرت، وقد عرف هذا الصنف عند المؤرخين بشيوخ الموحدين.
أما الصنف الثاني فهم الذين دخلوا بها في باديء الأمر، وهم معجبون بها لكن حماسهم بدأ بالفتور إزائها مع مضي الوقت، ويشكل القادة السياسيون شريحة هامة من شرائح هذا الصنف، فقد خلف ابن تومرت في الحكم تلميذه عبدالمؤمن ابن علي (524 – 558هـ) الذي أعلن محبته لدعوة ابن تومرت، وتظاهر بأنه سيعمل على نشرها في بلاد المغرب والأندلس، لكن المتتبع لتاريخ هذا الرجل يدرك بجلاء أن هذا الحماس ما لبث أن تبدد حيث انشغل عبدالمؤمن عن ذلك بالأمور السياسية والعسكوية واكتفى بالقيام بزيارة قبر ابن تومرت بين الفينة والأخرى، كرمز على محبته له ولدعوته، أما العمل على تأصيلها في نفوس الناس ونشرها في أماكن جديدة، فلم يذكر المؤرخون – حسب علمي – أنه قام بشيء من هذا، ويدل على ذلك أن عبدالمؤمن لما بسط سلطانه على بلاد المغرب والأندلس لم تنتشر دعوة ابن تومرت في تلك الديار، ولم تتأصل محبتها في قلوب سكانها كما تأصلت عند سكان بلاد المغرب الأقصى الذين انتشرت بينهم تلك الدعوة في عهد ابن تومرت.(160/33)
ومن الباحثين[144] من يرى أن عبدالمؤمن قد سار على نهج ابن تومرت في نشر الدعوة التومرتية، واستدل على هذا الرأي بأن عبدالمؤمن قد استمر بالبرنامج التعليمي الذي وضعه ابن تومرت حيث كان مستمداً من تعاليمه، إلى جانب أن أوامره قد صدرت إلى كافة الموحدين بشأن ضرورة المحافظة على تعاليم ابن تومرت والعمل على نشرها، ولكن يجاب على هذا القول، بأن هذه الخطوات التي اتخذها كانت طبيعية بل إنها ضرورية لرجل يعتبر التلميذ الأول لابن تومرت، فضلاً عن كونه قد خلفه في رئاسة الدولة، وذلك لكي يحافظ على مكانته بين الموحدين المخلصين لدعوة ابن تومرت، والذين بايعوه خلفاً لابن تومرت، لكن عبدالمؤمن لم يكن جاداً في هذا، بدليل أن ظل الدعوة الموحدية لم يسر جنباً إلى جنب مع الظل الياسي للدولة في عهد عبدالمؤمن كما هو الحال بالنسبة لعهد ابن تومرت.
وقد أخذ هذا الضعف إزاء دعوة ابن تومرت يزداد في عهد يوسف بن عبدالمؤمن (558 – 580هـ). حيث لم يقم هذا السلطان الموحدي بأي عمل لخدمة دعوة ابن تومرت سوى الإشادة بمؤسسها والدعاء له في المراسلات وعلى المنابر[145]، حيث يذكر المراكشي[146] أن السلطان يوسف بن عبدالمؤمن دعا إلى الأخذ بالكتاب والسنة ونبذ ما سواهما وذلك حينما دخل عليه أبو بكر بن الجد وبين يديه بعض الكتب الفقهية فقال له: يا أبا بكر أرأيت المسألة فيها أربعة أو خمسة أقوال أو أكثر من هذا فأي هذه الأقوال هو الحق؟ وأيهما يجب أن يأخذ بها المقلد؟ فقال أبو بكر فافتتحت أبين له ما يُشكل عليه من ذلك لكن يوسف قطع كلامه وقال له: يا أبا بكر ليس إلا هذا وأشار إلى المصحف أو هذا وأشار إلى كتاب سنن أبي داود وكان عن يمينه أو السيف.(160/34)
ويلاحظ هنا أن السلطان يوسف بن عبدالمؤمن قد صرح بعدم ارتياحه لجميع كتب الفروع بما فيها مؤلفات ابن تومرت والتي أخذ كثير من الموحدين بما فيها دون سواها، ولا أستبعد أن يكون هذا الإجراء من قبل السلطان يوسف إنما كان من أجل مؤلفات ابن تومرت لكنه لم يستطع أن يفردها دون غيرها حتى لا يثير الناس ضده.
وهكذا يتبين لنا أن السلطان عبدالمؤمن بن علي ثم خليفته السلطان يوسف بن عبدالمؤمن لم يكونا متحمسين لنشر دعوة ابن تومرت، وإن أبديا ظاهرياً أنهما مهتمين بها، وبنشر تراثها ودعوة الناس إلى تعلمه والعمل بموجبه، حيث أصدرا الأوامر وبعثا الرسائل من أجل هذا الغرض[147]، لكنهما بالحقيقة وكما يوحي بذلك تاريخهما لم يكونا جادين في ذلك، ولعل ما تحمله دعوة ابن تومرت من شطط وغلو في بعض أفكارها من الأسباب الرئيسة التي جعلتهما يحجمان عن العمل على نشرها حتى لا يحدث رد فعل مضاد لهما مما يعرض دولتهما للخطر، أما تظاهرهما بأنهما يعملان على نشرها والذود عنها، فهذا أمر طبيعي لأن دولتهما إنما قامت على اكتاف معتنقي هذه الدعوة وهم شيوخ الموحدين.
ومع مضى الزمن أخذ حماس زعماء دولة الموحدين يقل إزاء الدعوة، بل إن بعض زعماء الموحدين تجرؤا فأعلنوا براءتهم مما تحمله من غلو وانحراف، حيث يذكر المراكشي أن السلطان يعقوب بن يوسف بن عبدالمؤمن (585 – 595هـ) – ثالث أمراء الموحدين بعد ابن تومرت – قال لأبي العباس أحمد بن إبراهيم ابن مطرف المرى – أحد المقربين إليه –: يا أبا العباس اشهد لي بين يدي الله عز وجل أني لا أقول بالعصمة – يعني عصمة ابن تومرت – كما يذكر أبوالعباس أيضاً أنه قال له يوماً وقد استأذنه في فعل شيء يفتقر إلى وجود الإمام: يا أبا العباس أين الإمام؟ أين الإمام؟[148].(160/35)
ولم يكتف المنصور بهذا بل إنه حاول إرجاع الناس إلى الكتاب والسنة واستئصال ونبذ تعاليم ابن تومرت التي توغلت في قلوب بعض الناس بالمغرب والأندلس – آنذاك –، حيث يذكر المراكثي أن السلطان يعقوب المنصور بعد انتصاره في معركة الأرك[149] سنة 591 ذهب لمدينة جيان[150] فخرج أهلها لتلقيه وتهنئته بالنصر فلما اقتربوا منه قدموا أحدهم ويدعى أبا بكر بن هانيء لتكليمه يقول أبو بكر: "...فسألني عن أحوال البلد وأحوال قضاته وولاته وعماله – على ما جرت عادته – فلما فرغت من جوابه سألني: كيف حالي في نفسي؟ فشكرت له، ودعوت بطول بقائه، ثم قال لي: ما قرأت عن العلم؟ قلت: قرأت تواليف الإمام – أعني ابن تومرت – فنظر إلي نظرة المغضب وقال: ما هكذا يقول الطالب! إنما حكمك أن تقول: قرأت كتاب الله، وقرأت شيئاً من السنة، ثم بعد هذا قل ما شئت"..[151].
ويضيف المراكشي أيضاً حين حديثه عن عقيدة العامة في ابن تومرت، أن يعقوب المنصور استخف بعقول من بالغوافي تعظيم ابن تومرت وتقديسه، والعمل بما قال به، أو دعا إليه ((لأنه لا يرى شيئا من هذا كله وكان لا يرى رأيهم في ابن تومرت))..[152] ولعل هذا الشعور هو الذي دفعه إلى أن يؤثر في الطلبة الذين جاؤا من أنحاء بلاد المغرب والأندلس لطلب العلم في حاضرة الدولة على شيوخ الموحدين الذين تأصل حب ابن تومرت وما دعا إليه في نفوسهم فلما بلغه حسد شيوخ الموحدين لهؤلاء الطلبة على مكانتهم عنده وتقريبه لهم خاطبهم قائلاً: "..يامعشر الموحدين أنتم قبائل فمن نابه منكم أمر فزع إلى قبيلته وهؤلاء – يعني الطلبة – لا قبيل لهم إلا أنا فمهما نابهم أمر فأنا ملجؤهم وإلي فزعهم وإلي ينتسبون"[153].(160/36)
وهكذا نرى أن دعوة ابن تومرت وإن كانت قد تغلغلت في قلوب بعض المعجبين بها من السذج والعامة من الناس في بعض بلاد المغرب الأقصى والأندلس فإن ما تحمله من شطط وغلو قد بدا لمن كان عنده شيء من العلم مما دفع العقلاء من الموحدين وهم يعدون حماتها إلى العمل على إزالتها والسعي لبيان وجه الخطأ فيها، فالمنصور ثالث أمراء الموحدين بعد ابن تومرت عمل على بيان باطلها وسعى لثقويضها ولم يمض على انتشارها بين الناس سوى نصف قرن، وهي مدة قصيرة في عصر الدعوات، لكن ما تحمله هذه الدعوة من جنوح في بعض أفكارها جعلت أقرب الناس منها يسعون لتقويضها – كما بينا في السطور السابقة –.
وهنا قد يرد تساؤل وهو: لماذا لم يعلن المنصور الموحدي للناس صراحة بطلان ما دعا إليه ابن تومرت ويعمل جاداً للقضاء على دعوته؟.
وللإجابة على هذا التساؤل يقال: إن الكثير من الناس ببلاد المغرب الأقصى، لا سيما العامة وشيوخ الموحدين، وزعماء القبائل، قد تعلقوا بدعوة ابن تومرت، واقتنعوا بصحة ما قال به أو دعا إليه، فلو واجههم المنصور بالنقد المريح، أو العمل الجاد للقضاء على دعوة ابن تومرت لنشأ عن ذلك رد فعل خطير من قبل أولئك القوم قد لا يستطيع رده أو التصدي له، وهذا بلا شك جعله يكتفي ببيان موقفه منها دون اتخاذ أي خطوات عملية ضدها.(160/37)
ولكن وبالرغم من قلة ما قام به المنصور من جهداً، أو عمل مضاد لدعوة ابن تومرت، إلا أن عمله هذا كانت له نتائج إيجابية وطيبة، حيث أنه بهذا الإجراء كسر ذلك السياج الذي أحيطت به دعوة ابن تومرت، مما دعى كثيراً من الموحدين لا سيما المنصفين منهم إلى التمعن في حقيقة دعوة ابن تومرت ودراستها بموضوعية وإنصاف، فبانت لهم حقيقتها وما تحمله من جنوح في تفكيرها مما دفعهم إلى الأخذ بالتحلل من تعاليمها شيئاً فشيئاً حتى إذا ما تولى أبو العلاء إدريس الملقب بالمأمون[154] (624 – 629هـ) أعلن صراحة خروجه على تعاليم ابن تومرت كما بين للناس علانية ما تحمله هذه الدعوة من شطحات في بعض أفكارها وقال وهو على المنبر في مدينة مراكش يخطب الناس: "أيها الناس لا تدعوه بالمهدي المعصوم – يعني ابن تومرت – وادعوه بالغوي المذموم فإنه لا معصوم إلا الأنبياء ولا مهدي إلا عيسى[155] وأنا قد نبذنا أمره النجس"...[156].
كما يذكر ابن أبي زرع أنه بعد أن نزل من على المنبر كتب إلى جميع بلاده بتغيير سير المهدي، وما كان ابتدعه للموحدين، وجرا عليه عملهم، وسير ملوكهم، وأمر بإسقاط المهدي من الخطبة، وإزالته من الدنانير والدراهم، وقال: ((كل ما فعله المهدي وتابعه عليه أسلافنا فهو بدعة ولا سبيل لإبقاء البدع...))[157].
وبالإضافة إلى ما سبق فقد أرسل المأمون كتاباً إلى المدن المغربية والأندلسية بين لم فيه الخطوات التي اتخذها ضد دعوة ابن تومرت، وقد جاء في ذلك الكتاب: ((... ولتعلموا أنا نبدنا الباطل وأظهرنا الحق وأن لا مهدي إلا عيسى ابن مريم... وقد أزلنا لفظ العصمة ممن لا تثبت له عصمة...))[158].(160/38)
هكذا تجرأ المأمون تاسع أمراء الموحدين فبين للناس صراحة بطلان ما دعا إليه ابن تومرت، وأمرهم بنبذه والعودة إلى المنهج الإسلامي الأصيل، ولم يذكر المؤرخون أن هذا العمل لقي أي معارضة من الموحدين مما يدل على أنهم كانوا في ذلك الوقت قد بدأوا يتحللون منها لما بدا لهم الشطط في أفكارها واضحاً.
الخاتمة
الحمدلله، الذي بنعمه تتم الصالحات، وبعد: فإني أحاول في ختام هذا البحث أن أبرز أهم النتائج التي بدت لي خلال إعدادي له، والذي كان بعنوان: الاتجاه الفكري لدعوة ابن تومرت – دراسة تاريخية – .
– أن ابن تومرت جذ في بادئ الأمر، في تكوين قاعدة قوية مؤمنة بما يدعو إليه، أو يقول به، وذلك لكي يضمن قاعدة شعبية لدعوته، ثم لدولته، ولهذا سلك العديد من السبل والوسائل المشروعة، وغير المشروعة، حتى يظهر دعوته للناس ومن ثم يكثر حوله المؤيدون والأنصار، وقد نجح في ذلك نجاحاً كبيراً.
– أن هناك منطلقات معينة حاول ابن تومرت أن تكون أسساً فكرية لدعوته، ومن أجل تأصيلها في نفوس أتباعه سلك العديد من السوائل بغض النظر عن مشروعيتها، وقد نجح إلى حد كبيرفي تأصيل هذه الأسس. مؤقتاً – عند أتباعه والمقربين إليه بالرغم مما يشوبها من الشطط والانحراف.
– أن ابن تومرت قد تأثر بأراء كثير من الفرق والمذاهب الإسلامية في الاعتقاد، والمنهج، لا سيما الفرق الباطنية منها، ويبدو هذا جلياً في قوله بالمهدية، والعصمة والإمامة، وهذا بلا شك من الشطحات الواضحة التي وقعت فيها دعوة ابن تومرت.(160/39)
– أن هذا الانحراف في دعوة ابن تومرت هو السبب الرئيسي الذي جعل قبول الناس لها وقتياً ومرهوناً بوجود ابن تومرت، إذ أنه ما لبث الناس بعد وفاته أن أخذوا يتبينون ما فيها من غلو وشطط، ففتر حماسهم لها، ومع مضي الزمن، زاد تحولهم عنها، حتى أصبح زعماء دولة الموحدين خصوماً لها يسعون للقضاء عليها في وضح النهار، وهذا التحول السريع عنها يدل بوضوح على أن هذه الدعوة كانت لا تملك مقومات البقاء.
قائمة المصادر والمراجع
أ -المصادر:-
– ابن الآبار: أبوعبدالله محمد بن عبدالله القضاعي (ت 568هـ). التكملة لكتاب الصلة.
تحقيق عزت العطار.
نشر مكتبة نشر الثقافة الإسلامية بالقاهرة 1380هـ.
– الحلة السيراء ج2.
تحقيق حسين مؤنس ط أولى 1963م.
نشر الشركة العربية للطباعة والنشر.
– ابن الأثير: أبوالحسن علي بن أحمد الشيباني (ت 630هـ).
الكامل في التاريخ.
دار صادر ودار بيروت للطباعة والنشر بيروت سنة 1385هـ (12 مجلد).
ابن الأحمر: أبو الوليد اسماعيل بن يوسف (ت 857هـ).
روضة النسرين في دولة بني مرين، الدار البيضاء
المكتبة الملكية 1382هـ.
الأشعري: أبو الحسن علي بن إسماعيل (ت 335هـ).
مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين.
تحقيق محمد محي الدين عبدالحميد.
نشر مكتبة النهضة المصرية 1369هـ.
– الباروني: سليمان بن عبدالله الباروني النفوسي.
الأزهار الرياضية في أئمة وملوك الأباضية، القسم الثاني.
نشر مطبعة الأزهار البارونية.
البيذق: أبوبكر بن علي الصنهاجي المكنى بالبيذق (ت. ق 6هـ).
أخبار المهدي بن تومرت وبداية دولة الموحدين.
تحقيق وتصحيح ليفي بروفنسال.
طبع في باريس سنة 1928م.
– أخبار المهدي بن تومرت.
تقديم وتحقيق: عبدالحميد حاجيات.
نشر الشركة الوطنية للنشر والتوزيع بتونس 1395هـ.
– المقتبس من كتاب الأنساب في معرفة الأصحاب.
تحقيق عبدالوهاب بن منصور.
الناشر: دار المنصور للطباعة والوراقة بالرياض سنة 1971م.(160/40)
– ابن تومرت (أبو عبدالله محمد) (524هـ).
أعز ما يطلب. تقديم وتحقيق عمار الطالبي.
نشر المؤسسة الوطنية للكتاب بالجزائر سنة 1985م.
– ابن تيمية (أحمد بن عبدالحليم بن عبدالسلام) (728هـ).
منهاج السنة في نقض كلام الشيعة القدرية.
نشر المطبعة الأميرية ببولاق سنة 1322هـ.
ابن خلكان (أبو العباس شمس الدين أحمد بن محمد) (ت 681هـ).
وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان.
تحقيق إحسان عباس.
نشر دار الثقافة بيروت سنة 1968م.
الحموي: ياقوت بن عبدالله الحموي (ت 626هـ).
معجم البلدان.
نشر دار صادر، بيروت.
ابن خلدون: أبو زيد عبدالرحمن بن محمد (ت 808هـ).
العبر وديوان المبتدأ والخبر وأيام العرب والعجم ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر.
مطبعة بولاق بالقاهرة 1284هـ.
مقدمة ابن خلدون.
طبعة بولاق 1284هـ.
– ابن أبي دينار: محمد بن القاسم القيرواني (ت 1110هـ).
المؤنس في أخبار أفريقية وتونس.
تحقيق محمد شمام الطبعة الثانية، المكتبة العتيقة بتونس 1967م.
– الذهبي: أبو عبدالله شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان التركماني (ت 748هـ). دول الإسلام في التاريخ.
مطبعة دائرة المعارف العثمانية بحيدر أباد سنة 1265هـ.
– العبر في خبر من غبر.
تحقيق فؤاد سيد.
نشر مطبعة حكومة الكويت.
ابن أبي زرع: أبو الحسن علي بن عبدالله الفاسي (ت ق8هـ).
الأنيس المطرب بروض القرطاس في أخبار ملوك المغرب وتاريخ مدينة فاس.
دار المنصور للطباعة والوراقة بالرياض سنة 1972م.
الزركشي: أبو عبدالله محمد بن أحمد (ت حوالي سنة 864هـ).
تاريخ الدولتين الموحدية والحفصية.
تحقيق محمد ماضور، ط. الثانية.
نشر المكتبة الفنية بتونس.
– ابن أبي السراج: محمد بن الأندلسي (ت 1149هـ).
الحلل السندسية في الأخبار التونسية.
تحقيق محمد الحبيب الهيلة.
نشر الدار التونسية للنشر 1975م.
السلاوي: أبو العباس أحمد الناصري (ت 1315هـ).
الاستقصا لأخبار دولة المغرب الأقصى.(160/41)
تحقيق جعفر الناصري، ط. الدار البيضاء سنة 1954م.
السليماني: محمد بن الأعرج الجسني (ت 1344هـ).
اللسان المعرب عن تهافت المعمرين حول المغرب (مخطوطة بالخزانة الملكية بالرباط رقم 297).
– الشهرستاني: أبو الفتح محمد بن عبدالكريم (ت 548هـ).
الملل والنحل.
نشر مكتبة ومطبعة محمد علي صبح وأولاده (1384هـ).
– ابن صاحب الصلاة: عبدالملك (ت. ق السادس).
تاريخ المن بالإمامة على المستضعفين بأن جعلهم الله أئمة وجعلهم الوارثين. تحقيق د.عبدالهادي التازي.
نشر وزارة الثقافة والفنون العراقية سلسلة كتب التراث (68) 1979م.
– ابن عذارى (أبو العباس أحمد محمد بن محمد المراكشي. ت.ق8هـ)
البيان المغرب في أخبار المغرب.
تحقيق أميروس هويس مراندة وآخرين.
نشر دار كريما دنيس للطباعة تطوان 1965م.
ابن العماد الحنبلي: عبدالحي بن أحمد بن محمد الحنبلي (ت 1089هـ).
شذرات الذهب في أخبار من ذهب.
المكتب التجاري للطباعة والنشر ببيروت.
أبو الفدا: عماد الدين اسماعيل صاحب حماه (ت 732هـ).
المختصر في أخبار البشر.
نشر المطبعة الحسينية المصرية.
– ابن الفقيه: أبو بكر أحمد بن محمد الهمذاني المعروف بابن الفقيه، (ت. ق3هـ).
مختصر كتاب البلدان.
طبع لندن سنة 1302هـ.
– ابن القطان: أبوالحسن علي بن محمد الفاسي (ت. ق7).
نظم الجمان في أخبار الزمان.
تحقيق محمود مكي.
جامعة محمد الخامس بالرباط سنة 1964م.
ابن قنفذ: أبو العباس أحمد بن حسين بن علي (ت 810هـ).
الفارسية في مباديء الدولة الحفصية.
تحقيق محمد الشاذلي النيفر، عبدالمجيد التركي.
الدار التونسية للنشر 1968م.
– الوافي بالوفيات.
تحقيق عادل نويهض الطبعة الثانية دار الآفاق الجديدة. بيروت 1978م.
– ابن كثير أبو الفدا اسماعيل بن عمر (ت 774هـ). البداية والنهاية.
مكتبة المعارف ببيروت ومكتبة النصر بالرياض 1966م.
المراكشي: عبدالواحد بن علي (ت 647هـ).
المعجب في تلخيص أخبار المغرب.(160/42)
تحقيق محمد سعيد العريان ومحمد العربي العلمي.
نشر دار الفكر بالدار البيضاء سنة 1978م.
المراكشي: أبو عبدالله محمد أحمد بن عبدالملك الأنصاري (ت 703هـ).
الذيل والتكملة لكتابي الموصول والصلة.
تحقيق إحسان عباس.
نشر دار الثقافة بيروت 1973م.
– ابن مرزوق: محمد بن أحمد بن أبي بكر بن مرزوق التلمساني (ت 781هـ).
المسند الصحيح الحسن في مآثر ومحاسن مولانا أبي الحسن.
تحقيق ماريا خيوس.
الشركة الوطنية للنشر، الجزائر 1451هـ.
– المقريزي: تقي الدين أحمد بن علي بن عبدالقادر (ت 845).
اتعاظ الحنفا بأخبار الأثمة الفاطميين الخلفاء.
الجزء الأول. تحقيق جمال الدين الشيال، دار الفكر العربي 1367هـ.
مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر.
– المواعظ والاعتبار في ذكر الخطط والآثار.
نشر دار صادر بيروت.
– النعمان: أبو حنيفة بن أبي عبدالله بن محمد بن حنون (ت 363هـ).
كتاب افتتاح الدعوة.
تحقيق فرحات الدشرواوي.
نشر الشركة التونسية للتوزيع.
ب -المراجع:-
– اشباخ: يوسف.
تاريخ الأندلس في عهد المرابطين والموحدين.
ترجمة محمد عبدالله عنان – الطبعة الثانية 1377هـ.
الباجي: أبو عبدالله محمد الباجي المسعودي (ت 1297هـ).
الخلاصة النقية في أمراء إفريقية.
مطبعة الدولة التونسية 1383هـ.
– بروفنسال: ليفي.
الإسلام في المغرب والأندلس.
ترجمة السيد عبدالعزيز سالم وآخرين.
نشرمكتبة نهضة مصر ومطبعتها.
– بروفنسال: ليفي. (جامع ومحقق).
مجموع رسائل موحدية من إنشاء كاتب لدولة المؤمنية. ط. الدار البيضاء سنة 1941م.
– بل الفرد.
الفرق الإسلامية في الشمال الإفريقي من الفتح العربي حتى اليوم.
ترجمة عبدالرحمن بدوي.
نشر دار البيان للنشر والتوزيع 1969م.
– سالم: السيد عبدالعزيز.
المغرب الكبير العصر الوسيط، دراسة تاريخية وعمرانية وأثرية.
ط. دار النهضة العربية بيروت 1981م.
– حسن: حسن علي.
الحضارة الإسلامية في المغرب والأندلس عصر المرابطين والموحدين.(160/43)
ط. أولى 1980م مكتبة الخانجي بمصر.
درويش: عبدالحميد.
الفلسفة الإلهية عند محمد بن تومرت الإمام أبو عبدالله محمد بن عبدالله بن تومرت،
مهدي الموحدين (473 – 524هـ).
نشر دار المنار 1410هـ.
– شعوط: إبراهيم علي.
أباطيل يجب أن تمحى من التاريخ.
المطبعة الرابعة دار التأليف 1976م بمصر.
– العبادي: عبدالحميد.
المجمل في تاريخ الأندلس.
نشر مطبعة السعادة بمصر 1358هـ.
– عبدالحميد: سعد زغلول.
تاريخ المغرب العربي (تاريخ دولة الأغالبة والرستمتين وبني مدار والأدارسة حتى قيام الفاطميين).
نشر منشأة المعارف بالإسكندرية 1979م.
محمد بن تومرت وحركة التجديد في المغرب والأندلس.
نشر جامعة بيروت العربية 1393هـ.
– علام: عبدالله علي.
الدعوة الموحدية بالمغرب.
دار المعرفة بالقاهرة ط. أولى 1964م.
– مؤنس: حسين.
عقد بيعة بولاية العهد.
(مقال منشور في مجلة كلية الآداب بجامعة القاهرة سنة 1955م، مجلد 12).
– محمود: اسماعيل.
الأغالبة (184 – 296هـ) سياستهم الخارجية.
نشر مكتبة دراقة الجامعة بفاس.
– المظفر: محمد رضا.
عقائد الإمامية ط. الثالثة 1973م.
– النجار: عبدالمجيد.
المهدي بن تومرت، ط. أولى 1403هـ، دار المغرب الإسلامي بيروت.
– الهرفي: سلامة محمد سليمان الهرفي.
دولة المرابطين في عهد علي بن يوسف بن تاشفين، دراسة سياسية وحضارية. نشر المكتبة الفيصلية بمكة سنة 1405هـ.
ــــــــــــــــــــــ
[1] من أهم الكتب التي عنيت برصد حركة الرافضة، والقرامطة، والعبيديين كتاب القرامطة لابن الجوزي، والمهدي والمهدوية تأليف عبدالرزاق حصان، والفرق بين الفرق تأليف عبدالقاهر البغدادي، والملل والنحل للشهرستاني، ومنهاج السنة لابن تيمية، وكتاب الحاكم بأمر الله، وأسرار الدعوة الفاطمية تأليف محمد عثمان.(160/44)
ولعل أهم الكتب المحدثة التي اهتمت بدراسة هذه الحركات الثلاث وغيرها من الحركات الهدامة في التاريخ الإسلامي كتاب ((وجاء دور المجوس)) لمؤلفه عبدالله بن محمد الغريب.
أما دعوة ابن تومرت فقد درسها أكثر من مؤرخ وباحث لكن دراستهم لها لم تعن ببيان وكشف حقيقتها، واتجاهها الفكري، حيث انطلت على بعضهم حقيقة دعوة الموحدين فظنوا بها خيراً، وفاتهم ما بها من غلو، فمن المؤرخين القدامى، ابن خلدون الذي حصر هفوات ابن تومرت بزلة واحدة هي موافقته للرافضة في القول بعصمة الإمام حيث قال: ((ولم يحفظ عنه فلته في البدعة، إلا ما كان من وفاقه الامامية من الشيعة في القول بالإمام المعصوم)) (ابن خلدون: العبر جـ11، ص471 – 472).
أما من الكتاب المحدثين فيرى عبدالمجيد النجار أن دولة الموحدين التي أسسها محمد بن تومرت دولة سنية حذت النهج الذي نهجته دولة المرابطين. (عبدالمجيد النجار: المهدي بن تومرت ص12).
وقد رأى قريباً من هذا الرأي عبدالله علام، حيث قال: أن دعوة ابن تومرت دعوة إصلاحية إسلامية، وأن مهدوية ابن تومرت في نطاق إسلامي سني معتدل.. (عبدالله علام: الدعوة الموحدية بالمغرب ص6 – 6).(160/45)
أما محمد سعيد العريان، ومحمد العربي العلمي محققاً كتاب المعجب للمراكشي، فذكرا أن كثيراً من المؤرخين المشارقة قد انكروا ما جاء به ابن تومرت، ونسبوه إلى الدجل والشعوذة، كما تعقبوا دعاوية بالتفنيد والابطال، وقد عزا الكاتبان هذا الموقف من قبل هؤلاء المؤرخين المشارقة إلى سبب رئيسي هو ((.. لأن المغرب الإسلامي.. لم يكن يعترف بشيء من الولاء للخليفة العباسي في بغداد، ولم يدع له يوماً على منبر من المنابر المغرب لا في الأندلس ولا في الشاطئ الأفريقي.. فما احرى هذا أن يحمل مؤرخي المشارقة على النظر بارتياب إلى ابن تومرت وأصحابه، وأن يعتبروهم طلاب ملك يخلعون في سبيله طاعة الخليفة، ويخرجون عن الولاء له، ومن ثم كان رأي مؤرخيهم في شيخ الموحدين.. على أن الرأي مهما يختلف في شأن محمد بن تومرت فمما لا شك فيه أنه رجل من أهل الإيمان والفطنة، كان له رأي في سياسة الدولة الإسلامية يستند إلى أساس من الدين..)). (المراكشي: المعجب ص276 حاشية رقم 2).
هكذا كانت نظرة هذين الكاتبين لدعوة ابن تومرت، وهي بلا شك نظرة سطحية، حيث فسراها تفسيراً سياسياً، مع أنها كانت تستند إلى أسس عقدية بحته.
[2] البيذق: هو أبو بكر بن علي الصنهاجي الملقب بالبيذق، أحد تلاميذ ابن تومرت المقربين إليه، إذ كان يلازمه ملازمة تامة في إقامته وسفره، ولهذا تأثر تأثراً قوياً بدعوة ابن تومرت فآمن بكل ما نادى به، أو دعى إليه.
وقد عاش البيذق بعد وفاة ابن تومرت مدة طويلة، حيث توفي في آخر عهد الخليفة الموحدي عبدالمؤمن بن علي – حوالي سنة 555هـ – ولهذا فإنه حفظ لنا أخبار دعوة ابن تومرت منذ نشأتها حتى آخر عهد عبدالمؤمن بن علي حيث دون لنا ذلك في كتابين هما:
1 – أخبار المهدي بن تومرت وابتداء دولة الموحدين.
2 – المقتبس من كتاب الانساب في معرفة الأصحاب.(160/46)
وهذان الكتابان يعدان في غاية الأهمية بالنسبة لدعوة ابن تومرت، وذلك لأن البيذق كان معاصراً للأحداث، وشاهد عيان لما كتب. (انظر في تفصيلات ذلك البيذق: أخبار المهدي بن تومرت تحقيق عبدالحميد حاجيات ص7 – 11 من مقدمة المحقق).
[3] ابن القطان: هو أبوالحسن علي بن محمد بن عبدالملك أحد تلاميذ ابن تومرت البارزين، ألف كتاب ((نظم الجمان لترتيب ما سلف من أخبار الزمان)) حيث تحدث فيه عن بدء دعوة ابن تومرت، ونشأتها، وقيام دولة الموحدين، لكن هذا الكتاب فقد معظمه حيث لم يصل إلينا منه سوى السفر الثالث عشر والذي تحدث فيه عن أخبار ثلاثين سنة من سنة 500هـ إلى 533هـ، وهذا السفر يحوي معلومات مهمة عن ابن تومرت ودعوته.
ويؤخذ على ابن القطان مبالغته في مدح ابن تومرت، وتحامله على دولة المرابطين، حيث وصفهم بأنهم مجسمون وكفار. (انظر في تفصيلات ذلك كلاً من: ابن القطان: نظم الجمان ص46 – 47، وابن الأبار. التكملة لكتاب الصلة جـ2، ص686 – 687. ابن عبدالملك: الذيل والتكملة القسم الأول، ص312).
[4] ابن صاحب الصلاة: هو عبدالملك بن محمد بن إبراهيم الباجي المعروف بابن صاحب الصلاة، ولد سنة 537هـ وتوفي (أواخر ق6هـ) وهو من رجال الدولة الموحدية المقربين إلى زعماءها، وقد ألف كتاباً عن تاريخ دولة الموحدين سماه ((تاريخ المن بالإمامة على المستضعفين بأن جعلهم الله أئمة وجعلهم الوارثين..)) ويتألف هذا الكتاب من ثلاثة أجزاء، وقد فُقد الجزآن الأول والثالث، ولم يصل إلينا منه سوى الجزء الثاني والذي حوى في ثناياه معلومات مهمة عن ابن تومرت، ونهجه في تربية أصحابه ولكن يؤخذ عليه المبالغة الشديدة في مدح الموحدين، وذم خصومهم المرابطين. (ابن صاحب الصلاة: المن بالإمامة ص185، 259، 300، 429، وكذلك مقدمة المحقق عبدالهادي النازي ص35 – 40).
[5] ابن الآبار: الحلة السيراء ج1، ص93 – 95، ابن الأثير: الكامل ج6، ص155.(160/47)
[6] انظر في تفصيلات هذه الأحداث السيد عبدالعزيز سالم: المغرب الكبيرج2، 372 – 406.
[7] محمود إسماعيل: الأغالبة سياستهم الخارجية ص44.
[8] يعتبر الفقيه عبدالله بن ياسين أول من سعى لتأسيس دولة المرابطين حيث تمكن من أن يجمع القبائل المتناحرة في وحدة دينية، كانت هي النواة الأولى لدولة المرابطين، وذلك حينما قدم ابن ياسين إلى بلاد جدالة بدعوة من يحيى بن إبراهيم الجدالي حيث لقي عبدالله بن ياسين ترحيباً من قبل أفراد قبيلة جدالة، لكن عبدالله أخذ ينكر على أفراد تلك القبيلة ما هم عليه من منكرات وبدع، فساءت العلاقة بينه وبينهم، مما دفعه إلى الارتحال عنهم إلى جزيرة منعزلة بالسنغال حيث صحبه بعض أبتاعه وعلى رأسهم يحيى بن إبراهيم ويحيى بن عمر.
(ابن أبي زرع: الأنيس المطرب ص134)، ابن خلدون: العبر ج6، ص182 – 183، حسن محمود: قيام دولة المرابطين ص113 – 114.
[9] ابن أبي زرع: الأنيس المطرب ص123، ابن الخطيب: أعمال الإعلام، القسم الثالث ص228.
[10] حسن محمود: قيام دولة المرابطين ص166.
[11] ابن أبي زرع: الأنيس المطرب ص134 – 138هـ، ابن الخطيب: أعمال الإعلام القسم الثالث ص228 – 266، السلاوي: الاستقصا ج2، ص31.
[12] المراكشي: المعجب ص241، ابن عذارى: البيان المغرب ج3، ص23، ابن أبي زرع: الأنيس المطرب ص189.
[13] ابن خلدون: العبر ج6، ص159، ابن الأثير: الكامل ج9، ص532.
[14] الخوإرج: هم إحدى الفرق الإسلامية كانت بداية ظهورهم بعد موقعة صفين حينما خرجوا على أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه – بعد حادثة التحكيم وتبرأوا منه. (الأشعري مقالات الإسلاميين ج1، ص191).
قد انقسم الخوارج إلى فرق كثيرة تزيد على عشرين فرقة ولهم آراء واعتقادات خالفوا بها جماعة المسلمين من أهمها رأيهم في الخلافة حيث أجازوا أن تكون الإمامة في غير قريش (الشهرستاني: الملل والنحل ج2، ص26).(160/48)
وقد عرف في بلاد المغرب فرقتان للخوارج هما: الخوارج الصفرية وهم أتباع زياد بن الأصفر القرشي، وفرقة الخوارج الإباضية نسبة إلى عبدالله بن إباض التميمي.
(انظر السيد عبدالعزيز سالم: المغرب الكبير ج2، ص534 – 538، محمد أحمد عبدالمولى: القوى السنية في المغرب جذ، ص92 – 93).
[15] ابن الخطيب: أعمال الأعلام القسم الثالث ص146، ابن عذارى: البيان المغرب ج1، ص215، ابن خلدون العبر ج6، ص276.
[16] أحمد مختار العبادي: دراسات في تاريخ المغرب والأندلس ص46.
[17] ابن خلدون: العبر ج6، ص267، السلاوي: الاستقصا ج1، ص125.
[18] ابن الخطيب: أعمال الأعلام القسم الثالث ص148، السيد عبدالعزيز سالم: المغرب الكبير ج2، ص589، أحمد العبادي: دراسات في تاريخ المغرب والأندلس ص46.
[19] الباروني: الأزهار الرياضية في أئمة وملوك الأباضية ج2، ص2 – 3، السيد عبدالعزيز سالم: المغرب الكبير ج2، ص583، احمد العبادي: دراسات في تاريخ المغرب والأندلس ص46.
[20] وقد تطور هذا الخلاف حتى تحول إلى انقسام مذهبي بين الأباضية أنفسهم، حيث نشأت فرقة الوهابية، وهم الذين يؤيدون عبدالوهاب بن رستم، والنكارية وهم الذين عارضوا عبدالوهاب وأنكروا عليه بعض المآخذ التى أخذوها عليه. (انظر في تفصيلات ذلك: الباروني، الأزهار الرياضية ج2، ص111، السيد عبدالعزيز سالم: المغرب الكبير ج2، ص552 – 553).
[21] الباروني: الأزهار الرياضية ج2، ص990، أحمد العبادي: دراسات في تاريخ المغرب ص45 – 46، السيد عبدالعزيز سالم: المغرب الكبير ج2، ص550 – 551.
[22] أحمد العبادي: دراسات في تاريخ المغرب والأندلس ص48، السيد عبدالعزيز سالم: المغرب الكبير ج2، ص565.
[23] أحمد العبادي: دراسات في تاريخ المغرب والأندلس ص48.
[24] القاضي النعمان: افتتاح الدعوة ص276.
[25] أحمد العبادي: دراسات في تاريخ المغرب والأندلس ص53 – 54.
[26] المرجع السابق ص55.(160/49)
[27] الذهبي: العبر ج2، ص326، ابن عذارى: البيان المغرب ج2، ص221، أبو الفدا المختصر ج2، ص109.
[28] المعتزلة: هم فرقة ظهرت في القرن الأول الهجرى في بلاد المشرق وسموا بهذا الاسم لاعتزال إمامها وأصل بن عطاء مجلس الحسن البصري، وترى المعتزلة تأويل بعض الآيات القرآنية الدالة على أسماء الله وصفاته خشية مشابهة الخالق بالمخلوق كما بنوا مذهبهم على خمسة أصول هي: التوحيد، والعدل، والوعد والوعيد، والمنزلة بين المنزلتين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
(الأشعري: مقالات الإسلاميين ج1، ص216 – 219، محمد أحمد عبدالمولي: القوى السنية ج1، ص94 – 95.
[29] ابن خلدون: العبر ج4، ص25، السلاوي: الاستقصا ج1، ص157.
[30] أحمد العبادي: دراسات في تاريخ المغرب ص50.
[31] السيد عبدالعزيز سالم: تاريخ المغرب ج2، ص486.
[32] تبدو هذه المطامح من خلال الرسائل التى بعثها الأدارسة إلى بعض المسلمين، كما تبدو أيضاً من خلال الاتصالات التي أجروها مع أهل مصر والأغالبة. (انظر في تفصيلات ذلك: ابن الخطيب: أعمال الأعلام القسم الثالث ص14 – 17، أحمد العبادي: دراسات في تاريخ المغرب ص50 – 51).
[33] أحمد العبادي: دراسات في تاريخ المغرب والأندلس51.
[34] سعد زغلول عبدالحميد: تاريخ المغرب العربي ج2، ص423.
[35] ويقابل هذا القول ما ذكره الفرد بل من أن دولة الأدارسة كانت على المذهب السني وإنهم عملوا على نشره في بلاد المغرب (الفرق الإسلامية في الشمال الإفريقي ترجمة عبدالرحمن بدوي ص88).
[36] من هؤلاء الكتاب والمؤرخين ابن الفقيه، مختصر كتاب البلدان ص84، الشهرستاني الملل والنحل ج1، ص57، محمد أحمد عبدالمولى: القوى السنية في المغرب ج1، ص95 – 96.(160/50)
[37] انظر في تفصيلات هذا الخلاف كلاً من ابن القطان: نظم الجمان ص74، المراكشي: المعجب ص245، الزركشي: تاريخ الدولتين ص4، ابن الخطيب: رقم الحلل ص57، ابن الأثير: الكامل ج10، ص578، ابن خلكان: وفيات الأعيان ج5، ص53، ابن السراج: الحلل السندسية ج1، ص985.
[38] المراكشي: المعجب ص179، الزركشي: تاريخ الدولتين ص4، مراجع الغناي قيام دولة الموحدين ص196، العبادي: المجمل في تاريخ الأندلس ص167.
[39] المراكشي: المعجب ص179، الزركشي: تاريخ الدولتين ص4.
[40] ابن خلكان: وفيات الأعيان ج5، ص46، ابن الأثير: الكامل ج10، ص570.
[41] عبدالله علام: الدولة الموحدية في عهد عبدالمؤمن ص46، سعد زغلول عبدالحميد: محمد بن تومرت ص13.
[42] شذرات الذهب ج4، ص70.
[43] ابن خلكان. وفيات الأعيان ج5، ص46.
[44] المصدر السابق ص46.
[45] أخبار المهدي بن تومرت (نشر بروفنسال) ص32.
[46] يحيى بن تميم بن المحز بن باديس الصنهاجي أحد أمراء الدولة الصنهاجية تولى الأمر بعد وفاة أبيه سنة 551هـ وفي عهده قدم ابن نومرت إلى بلاد المغرب الأدنى في سنة 505هـ. (ابن كثير: البداية والنهاية ج12، ص223، ابن خلدون: العبر ج6، ص958، ابن أبي دينار: المؤنس ص82 – 85، الباجي: الخلاصة النقية ص49 – 50).
[47] العبر ج6، ص466 – 467.
[48] البيذق: أخبار المهدي بن تومرت ص51، المراكشي: المعجب ص274، ابن خلدون: العبر ج6، ص467.
[49] المراكشي: المعجب ص179 – 180، عبدالله علام: الدعوة الموحدية بالمغرب ص85.
[50] أخبار المهدي بن تومرت، (تحقيق عبدالحميد حاجيات) ص36 و42.
[51] المعجب ص270.
[52] ابن القطان: نظم الجمان ص22، ابن خلدون: العبر ج6، ص467.
[53] البيذق: أخبار المهدي بن تومرت ص56 – 57، الزركشي: تاريخ الدولتين ص5.
[54] أخبار المهدي بن تومرت ص22.
[55] المصدر السابق ص30 – 31، عبدالحميد درويش: الفلسفة الإلهية عند ابن تومرت ص19.(160/51)
[56] ابن القطان نظم الجمان ص46، ابن أبي زرع: الأنيس المطرب ص177.
[57] ابن خلدون، العبر ج6، ص467.
[58] ابن خلدون: العبر ج6، ص469، ابن قنفذ: الفارسية في مبادىء الدولة الحفصية ص101، سعد زغلول عبدالحميد: محمد بن تومرت ص21.
[59] سلامة الهرفي: دولة المرابطين في عهد علي بن يوسف بن تاشفين ص99.
[60] ابن القطان: نظم الجمان ص47، ابن خلدون: العبر ج6، ص471.
[61] ابن القطان: نظم الجمان ص47.
[62] مما جاء في إحدى رسائل ابن تومرت التي وجهها إلى الموحدين قبيل لقياهم بالمرابطبن بإحدى المعارك "واعلموا وفقكم الله أن جهادهم فرض على الأعيان على كل من فيه طاقة على القتال، واجتهدوا في جهاد الكفرة الملثمين فجهادهم أعظم من جهاد الروم وسائر الكفرة بأضعاف كثيرة لأنهم جسموا الخالق سبحانه وأنكروا التوحيد وعاندوا الحق"... (البيذق: أخبار المهدي بن تومرت، تحقيق بروفنسال ص9).
[63] البيذق: أخبار المهدي بن تومرت، تحقيق ليفي بروفنسال ص9، ابن أبي زرع: الأنيس المطرب ص175.
[64] الزركشي: تاريخ الدولتين ص5، ابن خلدون: العبر ج6، ص226، الذهبي: العبر ج4، ص59.
[65] المراكشي: المعجب ص187، عبدالله علام: الدعوة الموحدية ص107 – 108.
[66] ابن خلدون: العبر ج6، ص328، ابن قنفذ: مبادىء الدولة الحفصية ص100، سعد زغلول عبدالحميد: محمد بن تومرت ص21.
[67] ابن أبي زرع: الأنيس المطرب ص177.
[68] ابن أبي زرع: الأنيس المطرب ص176، المراكشي: المعجب ص254.(160/52)
[69] من صور التنظيم التى كان يعمل بها ابن تومرت أنه صنف اتباعه بعد مبايعته بالإمامة إلى طبقات حسب أسبقيتهم إلى بيعته ودخولهم في طاعته، وقد توخى أن لا يصل إلى هذا التصنيف إلا من كان مخلصاً لدعوته، ملماً بالأفكار التي نادى بها ودعا إليها، وهدا التصنيف يشتمل على أربع عشرة طبقة هي: (1) الجماعة أو العشرة وهؤلاء أقرب الناس إليه. (2) أهل الخمسين وهؤلاء يكونون دائرة أوسع من الدائرة السابقة. (3) أهل السبعين وهؤلاء دون أهل الخمسين مرتبة ونفوذاً.
وهذه الطبقات الثلاث تشارك ابن تومرت في إبداء الرأي، وإدارة شؤون الدولة حيث يذكر صاحب كتاب الحلل الموشية أن ابن تومرت "... يعقد الأمور العظام مع أصحابه العشرة لا يحضر غيرهم فإذا جاء أمر أهون أحضر أهل الخمسين فإذا جاء دون ذلك أحضر معهم السبعين".. الحلل الموشية ص 88.
ويلي هذه الطبقات الثلاث إحدى عشرة طبقة هي: (1) الطلبة. (2) صغار الطلبة. (3) أهل الدار: وهم أسرة ابن تومرت ومن يقوم لخدمته. (4) أهل هرغة: وهم زعماء قبيلة ابن تومرت. (5) أهل تينملل، وجدميوه، وجنفيسه، وهنتاته وهي كبرى القبائل البربرية التي استجابت لدعوته ويكونون أربع طبقات. (9) أهل القبائل: وهم بعض زعماء القبائل الموالية لابن تومرت. (10) الجند، (11) الغزاة.
ويذكر ابن القطان: "إن لكل صنف من هذه الأصناف رتبة لا يتعداها إلى غيرها لا في السفر ولا في الحضر وأخذهم في تارك امتثال أمر من يسمع أمره بالقتل وبايعوه على هذا".
انظر في تفصيلات هذا التصنيف: ابن القطان: نظم الجمان ص27 – 29، المراكشي: المعجب ص425، مؤلف مجهول. الحلل الموشية ص87 – 88، ليفي بروفنسال: مجموع رسائل موحدية ص53 – 54.
[70] ابن خلدون: العبر ج6، ص228، سعد زغلول عبدالحميد: محمد بن تومرت ص27.
[71] نظم الجمان ص75.
[72] ابن أبي زرع: الأنيس المطرب ص176، ابن قنفذ: الفارسية في مبادىء الدولة الحنفية ص100.
[73] العبر ج6، ص228.(160/53)
[74] المراكشي: المعجب ص254، ابن أبي زرع: الأنيس المطرب ص176.
[75] تينملل: قرية صغيرة في بلاد السوس يسكنها البربر تقع في رأس جبل درن ولا يمكن الوصول إليها الا من طريق واحد لا يتسع لغير فارس واحد، وهي في غاية الحصانة حيث يسد خللها أقل عصبة من الناس. (ياقوت: معجم البلدان ج2، ص69، ابن القطان: نظم الجمان ص75).
[76] ابن القطان: نظم الجمان ص75.
[77] ابن القطان: نظم الجمان ص75، ابن خلدون: العبر ج6، ص228.
[78] المصدران السابقان.
[79] البيذق: أخبار المهدي بن تومرت ص43، ابن قنفذ: الوافي بالوفيات ص273.
[80] من هؤلاء المؤرخين. أبو بكر الصنهاجي المعروف بالبيذق في كتابه المقتبس من كتاب الأنساب ص12، ابن القطان: نظم الجمان ص34، الزركشي: تاريخ الدولتين الموحدية والحفصية ص12، ابن خلدون العبر ج6، ص226.
[81] من هؤلاء الدكتور عبدالحميد العبادي: المجمل في تاريخ الأندلس ص182، عبدالله علام: الدعوة الموحدية بالمغرب ص54، عبدالمجيد النجار: المهدي بن تومرت ص27 – 28.
[82] ممن قال بهذا ابن أبي زرع: الأنيس المطرب ص2، 1، ابن عذارى: البيان المغرب ج4، ص68، ابن العماد الحنبلي: شذرات الذهب ج4، ص70.
[83] عصر المرابطين والموحدين ص160.
[84] قيام دولة المرابطين ص177.
[85] المراكشي: المعجب ص255.
[86] ابن خلدون: المقدمة ص121، إبراهيم شعوط: أباطيل يجب أن تمحى من التاريخ ص348.
[87] ابن أبي زرع: الأنيس المطرب ص278 – 201، الذخيرة ص14، ابن مرزوق: المسند الصحيح الحسن ص109 – 110.
[88] ابن خلدرن: العبر ج6، ص275، الزركشي: تاريخ الدولتين ص24.
[89] انظر في تفصيلات ذلك: البيذق: أخبار المهدي بن تومرت، ابن القطان نظم الجمان حيث وردت كلمة المعصوم عشرات المرات، كما ورد فصل بعنوان: "عصمته رضي الله عنه".
[90] أعز ما يطلب ص245 – 246.
[91] المصدر السابق ص246.(160/54)
[92] انظر في تفصيل هذا البيذق: أخبار المهدي بن تومرت، حيث عقد أكثر من عشرة فصول في هذا الكتاب بعنوان دخول المعصوم أو خروج المعصوم.. الخ. وكذلك ابن القطان في كتابه نظم الجمان.
[93] المراكشي: المعجب ص275.
[94] الصابوني: النبوة والأنبياء ص55 – 56.
[95] الشهرستاني: الملل والنحل ج1، ص195، ابن تيمية: منهاج السنة ج3، ص174 – 175.
[96] محمد رضا المظفر: عقائد الإمامية ص72.
[97] ابن تيمية: منهاج السنة ج3، ص172 – 175.
[98] أباح ابن تومرت دم كل من شك في عصمته أو خالفه فيما يدعو إليه، ولهذا كان يقوم بما أسماه بعملية التمييز لأصحابه وهي التعرف على ولاء أتباعه وإيمانهم بما قاله أو دعا إليه فمن شك في ولائه أو أظهر له شيئاً من المخالفة أمر بقتله، وسنفصل القول في هذا في آخر هذا البحث – إن شاء الله – .
[99] البيذق أخبار المهدي بن تومرت ص39، ابن تيمية منهاج السنة ج3، ص175.
[100] سمي هذا الكتاب بأعز ما يطلب لأنه بدأه بقوله: أعز ما يطلب وأسنى ما يبتغى، وقد ضمنه أهم آرائه في القول بالعصمة وغيرها، ويعتبر هذا الكتاب من الكتب الهامة عند الموحدين، وقد نشر بالجزائر لأول مرة سنة 1903م بعناية لوسياني حيث ضم معه عشرين رسالة صدرت من ابن تومرت إلى أتباعه يعالج بعض القضايا الفقهية والعقدية وغيرها وذلك من وجهة نظر ابن تومرت، ثم طبع بالجزائر سنة 1985م بتحقيق الدكتور عمار الطالبي حيث زاد عليه بعض الرسائل التي كتبها ابن تومرت.
[101] المعجب ص280 – 281.
[102] ابن القطان: نظم الجمان ص75.
[103] المعجب ص275.
[104] العبر ج6، ص228.
[105] ابن تومرت: أعز ما يطلب ص257.
[106] المصدر السابق ص256.
[107] المصدر السابق ص256 – 257.(160/55)
[108] يقول أهل السنة والجماعة بخروج المهدي في آخر الزمان وهم يعتمدون في ذلك على الأحاديث الصحيحة التي ثبتت عن رسول الله – r – ومنها ما رواه ابن مسعود وغيره عن النبي – r – إنه قال: "لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لطول الله ذلك اليوم حتى يخرج في رجل مني أو من بيتي يواطىء اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً". رواه الترمذي وأبو داود.
(ابن تيمية: منهاج السنة ج4، ص211).
[109] عبدالله علام: الدعوة الموحدية بالمغرب ص23.
[110] ابن خلدون: العبر ط. بيروت ج11، ص470.
[111] ابن تومرت: أعزما يطلب ص245.
[112] محمد رضا المظفر: عقائد الإمامية ص71.
[113] عبدالحميد النجار: المهدي بن تومرت ص237.
[114] المرجع السابق ص362.
[115] المراكشي: المعجب ص275،
[116] ابن تومرت: أعز ما يطلب ص204.
[117] يرى الدكتور حسين مؤنس: أن قول ابن تومرت بالتوحيد وتسميته أصحابه بهذا الاسم إنما كان له أكثر من مغزى سياسي بينها بقوله: (إن قوله بالتوحيد عل النحو الذي بينه إنما كان سياسة ماهرة ضد المرابطين فقد رماهم بالتجسيم والكفر واعتبر نفسه وأصحابه أنصار التوحيد وقد جازت هذه الدعاوى على معظم أهل المغرب في زمانه فانضموا إليه.. والمهم عندنا أن ابن تومرت استطاع بدعوى التوحيد التي ابتدعها أن يجمع الناس حوله).. (حسين مؤنس: عقد بيعة بولاية العهد، مقال منشور في مجلة كلية الآداب بجامعة القاهرة، مجلد12 سنة 1950م، ص149).
[118] ابن خلدون: العبر ج6، ص249.
[119] المراكشي: المعجب ص276.
[120] العبر ج6، ص466.
[121] المعجب ص271.
[122] الخطط ج2، ص358.
[123] أعمال الأعلام القسم الثاني ص266 – 267، وانظر أيضاً عبدالله علام: الدعوة الموحدية ص151.
[124] عبدالله علام: الدعوة الموحدية بالمغرب ص159.
[125] السلاوي ج1، ص126 – 127.
[126] البيذق: أخبار المهدي بن تومرت ص39.(160/56)
[127] ابن تومرت: أعز ما يطلب (تحقيق عمار الطالبي) ص260.
[128] المعجب ص282.
[129] من هذه الفصول على سبيل المثال "باب في بيان طرائف المبطلين الملثمين والمجسمين وعلاماتهم" و"باب فيما أحدثوه من المنكر والمغار".. انظر في تفصيلات ذلك كتاب أعز ما يطلب (تحقيق عمار الطالب) ص242 – 249.
[130] البيذق: أخبار المهدي بن تومرت (نشر بروفنسال) ص4.
[131] عبدالله علام: الدعوة الموحدية بالمغرب ص181.
[132] نظم الجمان ص39.
[133] أخبار المهدي (تحقيق عبدالحميد حاجيات) ص71 – 72.
[134] نظم الجمان ص102 – 104.
[135] من هؤلاء المؤرخين ابن الأثير: الكامل ج8، ص297، ابن خلدون: العبر ج6، ص471، السلاوي: الاستقصا ج2، ص88.
[136] البشير هو: أبو محمد عبدالله بن محسن الونشريشي المشهور بين الموحدين بالبشير أحد العشرة الذين اصطفاهم ابن تومرت للأمور الخاصة حيث أسند إليه مهمة عملية التمييز سنة 524هـ، توفي في موقعة البحيرة في تلك السنة. (البيذق: المقتبس من كتاب الأنساب ص24).
[137] عبدالله علام: الدعوة الموحدية ص191 – 192.
[138] ابن القطان: نظم الجمان ص39 – 40، ابن الأثير: الكامل ج8، ص296.
[139] ابن أبي زرع: الأنيس المطرب ص129، ابن تيمية: الفتاوى ج11، ص477.
[140] عبدالحميد النجار: المهدي بن تومرت ص141.
[141] المرجع السابق ص141 – 142.
[142] المراكشي: المعجب ص270.
[143] ابن خلدون: العبر ج6، ص228، سعد زغلول عبدالحميد: محمد بن تومرت ص27.
[144] حسن علي حسن: الحضارة الإسلامية في المغرب والأندلس ص460.
[145] ليفي بروفنسال: مجموع رسائل موحدية ص132، ابن صاحب الصلاة: المن بالإمامة ص276 – 303، حسن علي حسن: الحضارة الإسلامية في المغرب والأندلس ص461.
[146] المعجب ص202.
[147] انظر مثلاً الرسالة التى وجهها السلطان عبدالمؤمن لأهل بجاية سنة 556هـ. (ليفي بروفنسال: مجموع رسائل موحدية ص132).
[148] المعجب ص369.(160/57)
[149] الأرك: أحد الحصون الأندلسية المنيعة يقع غرب قلعة رباح وقعت فيه بين المسلمين بقيادة السلطان الموحدي يعقوب المنصور وبين النصارى بقيادة الفونسو الثامن ملك قشتالة معركة حاسمة وذلك في شهر شعبان سنة 591هـ، حيث تمكن الموحدون من إحراز نصر كبير، على أعدائهم النصارى، فقتلوا منهم ما يربوا على ثلاثين ألفاً كما أسروا وغنموا الكثير، ولما كانت هذه الموقعة قد وقعت بالقرب من حصن الأرك فقد نسبت إليه (راجع في تفصيلات هده المعركة كلا من المراكشي: المعجب ص382، ابن عذاري: البيان المغرب ج3، ص191 – 195، ابن أبي زرع: الأنيس المطرب ص222 – 223، يوسف أشباخ: تاريخ الأندلس ص87)،
[150] جيان مدينة أندلسية كبيرة تقع شرق مدينة قرطبة وبينها وبين مدينة بياسة عشرون ميلاً، ولها قصبة تعد من القصاب الموصوفة بالحصانة، وتقع على رأس جبل عال وهي كثيرة البساتين ويتبعها حوالي ثلاثة ألاف قرية (ياقوت: معجم البلدان ج2، ص195، الحميري: الروض المعطار ص183)
[151] المعجب ص417.
[152] المصدر السابق ص417 – 418.
[153] المصدر السابق ص402.
[154] هو أبو العلاء إدريس بن يعقوب المنصور تاسع أمراء دولة الموحدين، استغل الوضع المضطرب في الدولة الموحدية في آخر عمرها، فنبذ طاعة أخيه العادل (621 – 624هـ) ودعا لنفسه فبويع في إشبيلية، ثم أجابه أكثر ولاة الأندلس في آخر عام 624هـ فكتب إلى الموحدين الذين ببلاد المغرب فبعثوا إليه ببيعتهم، لكنهم لم يلبثوا سوى مدة قصيرة حتى نكث شيوخ الموحدين البيعة، وبايعوا يحيى بن محمد الناصر الذي تلقب بالمنتصر فغضب المأمون على شيوخ الموحدين الذين أصبح ولاؤهم حسب مصالحهم، وليس حسب المصلحة العامة، وهذا ما ساعد على أن يتخذ عدة إجراءات ضد دعوة ابن تومرت، (انظر في تفصيلات ذلك كلاً من: ابن عذاري: البيان المغرب ج3، ص253، ابن أبي زرع: الأنيس المطرب ص250 – 251).(160/58)
[155] يقول أهل السنة والجماعة بنزول عيسى في آخر الزمان كما تواترت بذلك الأحاديث، ويؤمنون بخروج المهدي كما صح في الحديث أيضاً.
[156] الأنيس المطرب ص251.
[157] المصدر السابق ص252.
[158] المصدر السابق ص252.(160/59)
العنوان: الإتجاه المحافظ في الشعر إبان الحروب الصليبية
رقم المقالة: 451
صاحب المقالة: مسعد بن عيد العطوي
-----------------------------------------
تمهيد:
اتسعت دوائر الفن الشعري اتساع الرقعة الإسلامية، وتعددت مكوناته ومؤثراته تعدد العواصم الإسلامية، واختلفت صبغاته باختلاف بيئاته في العراق وخراسان، والشام ومصر والجزيرة، والتنافس في مرحلة الحروب الصليبية كان بين بيئات ثلاث هي بيئات العراق، والشام ومصر، ولكل منها خصائصها فالعراق موطن الخلافة العباسية العريقة، وموطن التراكم الثقافي العربي الإسلامي ومنبت الشعراء، ومرتادهم من الأقاليم الأخرى ومنه عواصم الثقافة الأولى، والبصرة والكوفة وبغداد.
فتألق فيه الثراء الفكري واللغوي في القرن الخامس لكن في مستهل القرن السادس خبا الوهج الفكري وأكثروا من ألوان التجديد والعبث الشكلي، فكان مصدر للمقامات سيما مقامات الحريري ذات الأشكال الفنية الشعري منها والنثري.
ونظراً للركود الحركي الفكري والاجتماعي والاضطراب السياسي فقد ضحل المضمون في شعر المدح واتخذت القصيدة مسارب متعددة ليكتمل الشكل الخطابي الذي ظلت دواعيه قائمة عند الخلفاء والوزراء.
وبيئة الشام تعددت فيها العواصم الأدبية في حلب ودمشق، وعند الأمراء والعرب مثل آل منقذ في شيزر وآل عمار في طرابلس وهي في مواجهة الصدام مع الروم ومع الفرنجة، فتأثرت بهذا الاتجاه فكانت موطناً للشعر الحماسي وإن وظف المدح في ذلك كثيراً مما أشغلهم عن العبث للفظ... والتلاعب البديعي.
أمّا بيئة مصر فإنها تأثرت بالخلافة العبيدية في المبالغة والغلو في المدائح وأيضاً تأثرت بالرقة الحضارية والتي ظهرت في شعر ابن سناء الملك وغيره إلى جانب تأثرها بالحروب الصليبية.
ويلحظ القارئ أنني استخدمت مصطلحات عامة أعرضها للإِيضاح منها:(161/1)
الشعراء المحترفون المقلدون: وهم الشعراء الذين مارسوا الشعر وأخلصوا له، وكان مصدر جاههم ومالهم. وقد نهجوا نهج الأوائل في بناء القصائد، والشكل الفني في جل أشعارهم.
التجانس: يشتمل على التكرار والاشتقاق، والجناس البلاغي.
التقابل: ويشمل الطباق والمقابلة.
الاتجاه المحافظ:
والشعر المحافظ أو التقليدي ذلكم الذي نهج نهج النموذج السلف، فحافظوا على التوازن والاعتدال في الظواهر الفنية فلم يلحوا على أحدها دون الأخرى، ولم تكن الظواهر هاجساً لهم وإنما يأتون بها عفواً بلا تكلف، والتقليد أيضاً يعني أنهم ساروا على عمود الشعر العربي للقرون السالفة كالبناء الفني للقصيدة، وهم أولئك الذين استمدوا صورهم من التكوين الذهني المستمد من التراث العربي: وقد عني بهذا اللون الشعراء المحترفون المقلدون:
الشعراء المحترفون المقلدون في عهد الحروب الصليبية:
وهؤلاء هم الذين يجعلون من الشعر مهنة يمتهنونها، ووسيلة يرفقون بها للجاه والمال. وقد رزقهم الله موهبة، ونهلوا حفظاً، ومارسوا دربة، ثم تواصلت مسيرتهم بالتجارب والاستزادة من مظان النماء والتطوير لتكوين شاعريتهم ونبوغهم.
ولم يجدوا سبيلاً للارتقاء بشعرهم، أفضل من التبصر فيه، وتنقيته، وتنقيحه، فأخذوا يضيفون إلى التجربة والموهبة التراكم المعرفي من فكري وفني فرصعوا شعرهم بمعالم الجمال ليأخذ بالألباب ويجمع بين عناصر المنفعة والمتعة.
وقد تنبه الأصمعي من قبل إلى هذا التثقيف والتمحيص فقال: "زهير بن أبي سلمى والحطيئة وأشباههما عبيد الشعر. وكذلك كل من جود شعره ووقف عند كل بيت قاله، وأعاد فيه النظر، حتى يخرج أبيات القصيدة كلها مستوية في الجودة، وكان يقال: أولاً إن الشعر قد كان استبعدهم واستفرغ مجهودهم حتى أدخلهم في باب التكلف، وأصحاب الصنعة، ومن يلتمس قهر الكلام، واغتصاب الألفاظ، لذهبوا مذهب المطبوعين الذين تأتيهم المعاني سهواً ورهواً، وتنثال عليهم الألفاظ انثيالاً"[1].(161/2)
وأزعم أن الشعراء المحترفين يمرون بمرحلة المطبوعين الذين تأتيهم المعاني سهواً ورهواً، وتنثال عليهم انثيالاً، لكنهم يزيدون طلباً للكمال، واستزادة للجمال، وطرداً للعيوب، وتنسيقاً للبناء، وتشييداً للتركيب. ودعماً للدلالة ويقول عنهم الجاحظ: "ومن شعراء العرب من كان يدع القصيدة تمكث عنده حولاً كريتاً، وزمناً طويلاً يردد فيها نظره، ويجبل فيها عقله، ويقلب فيها رأيه، اتهاماً لعقله، وتتبعاً على نفسه، فيجعل عقله زماماً على رأيه، ورأيه عياراً على شعره، إشفاقاً على أدبه، وإحرازاً لما خوله الله من نعمته.
وكانوا يسمون تلك القصائد: الحوليات، والمقلدات، والمنقحات، والمحكمات؛ ليصير قائلها فحلاً خنذيذاً وشاعراً مفلقاً"[2].
وأميل إلى أن الصنعة الشعرية تماثل الصنعة التقنية، فإذا كان الصانع في المهنة خبيراً مدرباً معتمداً على العلم، والمعرفة والتجربة فإن صناعته تخرج متكاملة يظهر جمالها في اكتمال جوانبها، فإذا كان الشاعر يمتلك الموهبة والتكوين الذهني، والممارسة أفلا يكون من الخير أن يجيل النظر ليشيد البناء ويكون صرحاً ممرداً.
والأقدمون يسمون ذلك تكلفاً: ((ومن الشعراء المتكلف والمطبوع؛ فالمتكلف هو الذي قوَّم بالثقاف، ونقحه بطول التفتيش، وأعاد فيه النظر كزهير والحطيئة))[3].
وأرى أن التكلف يتأتى ممن لا موهبة، ولا خبرة له، فهو إنما يقتحم الشعر اقتحاماً، أما أولئك فقد اكتملت لديهم عناصر تكوين الشاعرية، فهم إنما يأخذون به إلى الأفضل. وكثير من الشعراء المحترفين المتزامنين مع الحروب الصليبية، ينقحون الشعر، ويطيلون النظر في بنيته، وتراكيبه، وسياقاته وجمالياته.
بناء القصيدة:
والشعراء المحترفون المقلدون التزموا بمناهج الشعر القديمة في إطارين هما: بناء القصيدة، وتعدد الأغراض في الديوان عامة.(161/3)
فالقصيدة تستهل بمقدمة مختلفة الموضوعات متواصلة الوشائج؛ فالمقدمة إيحاء بموضوع القصيدة، أو ترمز له، وقد أدرك تلك العلاقة الأوائل فابن رشيق يروي عن الحاتمي ((من حكم النسيب الذي يفتتح به الشاعر كلامه، أن يكون ممزوجاً بما بعده من مدح وذم غير منفصل عنه، فإن القصيدة مثلها مثل خلق الإنسان في اتصال بعض أعضائه ببعض، فمتى انفصل واحد عن الآخر، وباينه في صحة التركيب غادر الجسم عاهة، تتخون محاسنه وتُعفِّى معالم جماله[4].
وأكثر الشعراء المحترفين المتزمنين مع الحروب الصليبية ينقحون الشعر، ويطيلون النظر في بنيته، وتركيبته وسياقاته، وجمالياته.
فابن الدهان (ت581هـ) يقول قصيدة على لسان الحكيم بن النقاش يمدح فيها ناصر الدين، ويعرض بوعد مطله النواب فيستهل القصيدة بغزل يدور حول مطل الحبيب مما يشير إلى حدث القصيدة:
من مجيري من ظالم مستطيل ومعيني على اقتضاء المطول
حسن ليس محسناً بمحبٍ وجميل ما عنده من جميل
لج قلبي وقد لج في الإعرا ض عني ولجَّ فيه عذولي
أبداً ظامئ إلى خمر ثغر ما إلى سلسبيله من سبيل
ويجمع بالإشارة بين رسول المحبوب ورسول الممدوح فيقول:
أبداً يرجع الرسول إليه مثل ما عاد من دمشق رسولي
ثم يعقبه بالتصريح إلى مطل النواب:
منعوه الذي تطولتَ يامو لاي بعد المطال والتطويل[5]
فالشعراء يشاكلون بين هدف القصيدة، ومضمون النسيب، فسبط التعاويذي يغضب منه الوزير عضد الدولة لمدح منافسه، فيستعطفه ويعتذر إليه بهذه القصيدة فيستهل بالاعتذار لمحبوبته التي أضناه شوقها، وأعتراه الأسى بعد هجرها وأنها تناست العهد القديم، وكان يرجو دوام الود في القرب والبعد:-
أبثكم أني مشوق بكم صبُّ وأن فؤادي للأسى بعدكم نهبُ
تناسيتم عهدي كأني مذنب وما كان لي لولا ملالكم ذنبُ
فكأنه يشير إلى أن الممدوح نسي المدائح التي دبجها التعاويذي فيه ويقول:
وقد كنت أرجو أن تكونوا على النوى كما كنتم أيام يجمعنا القرب(161/4)
وقد كانت الأيام سلمى وشملنا جميع فأمست وهي لي بعدها حرب
وما أدعى أني على الحب صخرة وأن فؤادي لا يحنُّ ولا يصبو
ولكنها الأيام تعصف بالفتى إلى غير ما يهوى زعازعها النكب
وقد يصحب القلب الأبي على النوى ويسلو على طول المدى الهائم الصِّبُّ
وفي كل دار حلّها المرء جيرة وفي كل أرض للمقيم بها صحبُ
وزير إذا اعتل الزمان فرأيه هناء به تشفى خلائقه الجرب[6]
فهو إذن يريد عطف الأمير ووصله ورضاه، فوظف الاستهلال كي يرمز لمضمون قصيدته، فصدود الوزير يشبه صدود المعشوق، واعتذار الشاعر لهما متشابه.
وهم أجادوا في حسن التخلص كما هو واضح من الأبيات السالفة.
ومن حسن التخلص أيضاً وصف المحبوبة بالبخل والانتقال منه إلى كرم الممدوح كانتقال بسط التعاويذي في مجد الدين بن الصاحب فقال بعد اثنين وعشرين بيتاً:
ولئن بخلتِ وما على البي ض الحسان البخل عاب
فالصاحب الخرق الجوا د له العطايا والرغاب[7]
ومنه قوله في مدح الخليفة بعد ثلاثين بيتاً في المقدمة:
صب إذا ذكر الفراق تصاعدت أنفاسه وتحادرت عبراتهُ
ومن العجائب أن أثواب الصِّبا بليت فزادت جدَّة صبواتُهُ
ولقد أعاد له الشباب قشيبةً أبراده موشية حبراتُه
بذل الخليفة للنوال وعطفة وحنوه متتابعاً وصلاته[8]
ومنه حسن تخلص ابن عنين في مدح العادل بعد خمسة عشر بيتاً:
وكم ليلة كالبحر جبت ظلامها عن واضح الصبح المنير فأسفرا
في فتية مثل النجوم تسنموا في البيد أمثال الأهلة ضُمَّرا
قالو وقد خاط النعاس جفونهم أين المناخ فقلت جدوا في السُّرى
لا تسأموا الإِدلاج حتى تدركوا بيض الأيادي والجناب الأخضر
في ظل ميمون النقيبة طاهر ال أعراق منصور اللواء مظفرا
العادل الملك الذي أسماؤه في كل ناحية تشرِّف منبرا[9]
وهم يعددون أغراضهم، ويستطردون في الأوصاف ولاسيما في التغزل والرحلة، ومحاسن الممدوح، ويختمون القصائد بالدعاء للممدوح بثبات المجد، والملك، وطول العمر:(161/5)
وعش مُخْلِقاً ثوب الليالي مُجددًا لباس المعالي في بقاء وتخليد
مظاهر عزٌ لا يرثُ جديده وملكٍ على رغم العدى غير مجددِ[10]
وكثر ختم القصائد بذكر محاسن القصيدة والقوافي، وأنه مدح بقصيدة جديدة.
نطقت بعلم فيك لا بفراسةٍ فلم أطر في وصفي ولم أتزيد
فمن كان في مدح الرجال مقلداً فإني في مديحك غير مقلد[11]
والشعراء المحترفون المقلدون حافظوا على الذوق السلوكي الأخلاقي، وعلى روح الغزل الذي يتواصل مع الاحتشام، ويجنح إلى العذرية، فهم لجأوا إلى محاكاة الأقدمين في ذكر الأسماء والأماكن، ووقفوا معهم على الأطلال حيناً، وأكثروا من استحضارهم لصبا نجد، وعبير خزاماه، والتمتع برياضه، وهذه كثيرة الشواهد[12].
ومن محامد تلك الشريحة إعراضهم عن المجون، والغزل بالمذكر، بل إن بعضهم أعرض عن الغزليات كأبي الفوارس (حيص بيص)، كقوله في مدح صدر الإِسلام:
أظلما ورمحي ناصري وحُسامي وذلاً وعزمي قائدي وزمامي
ولي بأس مشبوح الذراعين مغضب يصاول عن أشباله ويُحامي
كذبت لقد أستسهل الوعر في العلى وأكرم نفسي أن يهون مقامي
هجرت الثغور اللامعات وشاقني بريق المواضي تحت كل قتام[13]
فهو مغرم بذاته وبقيمه ويعلن هجر الغزل وذكر الثغور. وهذا اللون كثير في شعره.
وفي ميادين الجهاد أعرضوا عن المقدمات فأبو المجد المسلم بن الخضر بن قسيم الحموي يمتدح عماد الدين زنكي عام 532هـ فيباشر المدح ويستهل قصيدته بقوله:-
بعزمك أيها الملك العظيم تذل لك الصعاب وتستقيم
ألم تر أن كلب الروم لما تبين أنك الملك الرحيم
فجاء يطبق الفلوات خيلاً كأن الجحفل الليل البهيم[14]
وفي سنة أربع وثلاثين وخمسمائه يمدح القيسراني عماد الدين زنكي بفتح حصن بادين ويستهل قصيدته:-
حذار منا وأنَّى ينفع الحذر وهي الصوارم لا تبقي ولا تذر
وأين ينجو ملوك الشرك من ملك من خيله النصر لا بل جنده القدر[15]
وله في فتح الرها عام 539هـ قصيدة يمدح بها عماد الدين استهلها بقوله:-(161/6)
هو السيف لا يغنيك إلا جلاده وهل طوق الأملاك إلا نجاده[16]
وله أيضاً:
أما آن يزهق الباطل وأن ينجز العدة الماطل
فلا تحفلن بصوت الذئا ب وقد زأر الأسد الباسل[17]
وابن منير أيضاً يعرض في المقدمات ويستهل قصائده بالمدح مباشرة ولاسيما ما يشير إلى الجهاد شأنه شأن القيسراني، فهو يمدح نور الدين بعد معركة الجولان بقصيدة أولها:-
ما برقت بيضك في غمامها إلا وغيث الدين لا يتسامها[18]
وقوله في مستهل قصيدة:-
لعلائك التأييد والتأميل ولملكك التأبيد والتكميل[19]
وأرباب شعر الاحتراف يميلون إلى الأوزان الطويلة التي تحوي نفساً طويلاً، ومضموناً وافراً، وهي أيضاً تمثل الوقار الذي يتلائم مع تكوين الشاعر القدير، ومقام الإِنشاد أمام السلطان، وتساعد على التنغيم الخطابي الذي يلونه الشاعر؛ فيكثر عندهم بحر الطويل، والبسيط، والكامل ثم الخفيف ثم الوافر والرجز كما هو الشأن في ديوان الأبيوردي الذي بلغت قصائده 246 احتوى الطويل منها ثلاثاً وثلاثين ومائة قصيدة. والبسيط منها ستاً وأربعين والكامل خمساً وثلاثين. والبقية موزعة على الأبحر الأخرى[20].
وقد أحصيت أبحر القصائد المطولة في ديوان الأرجاني؛ فشم الطويل عنده خمساً وأربعين قصيدة، الكامل بلغ ثمانياً وثلاثين قصيدة، والبسيط بلغ ثمانياً وعشرين، والوافر ست عشرة، والمتقارب ثلاث عشرة، والخفيف ثلاث عشرة، والرجز تسع قصائد، والمنسرح ثلاث، وبلغ السريع اثنتين، والرجز اثنتين، وواحدة لكل من المتدارك والهزج[21].
وابن منير أيضاً يكثر عنده بحر الكامل والطويل، والمتقارب، والخفيف وقد اتضح ذلك من نماذج أوردها أبو شامة له في مقدمة كتابه الروضتين، وأيضاً فإن النماذج التي أوردها أبو شامة للقيسراني في مدح نور الدين من بحر الكامل والخفيف والوافر[22].(161/7)
وقصائد أسامة بن منقذ تكثر الشكوى فيها، وتحتل مساحة كبيرة من الديوان، وقد بلغت القصائد على بحر الكامل ستاً وثلاثين وعلى بحر الطويل تسعاً وعشرين، وعلى البسيط عشرين، والرجز خمس قصائد، والمنسرح أربع قصائد، وقريباً من هذه النسبة في سائر الأغراض[23].
وأطول الشعراء نفساً في هذه الفترة، الأرجاني، فجل شعره قصائد طويلة من أربعين إلى سبعين بيتاً، وكثير منها تجاوز السبعين، فقد بلغت قصائد تلك تسعاً وثمانين قصيدة.
فالقصائد التي تجاوزت أبياتها 70 إلى 79 بلغت إحدى وعشرين قصيدة.
والقصائد التي تجاوزت أبياتها 80 إلى 89 بلغت تسعاً وثلاثين قصيدة.
والقصائد من 90 إلى 99 بلغت أربعة عشرة قصيدة.
والقصائد من 100 إلى 160 بلغت خمس عشرة قصيدة[24].
والشاعر ابن الخياط له مطولات كقصيدته في مدح عضب الدولة أبق التي بلغت اثنين وسبعين بيتاً[25].
وقافيته التي بلغت ستاً وسبعين بيتاً ورائيته التي بلغت سبعين بيتاً[26].
وهناك مطولات أشار إليها أبو شامة وأنه اقتطف منها أبياتاً كشعر ابن منير الطرابلس، والقيسراني.
وأيضاً فإن أسامة بن منقذ له مطولات غير أنه وزعها على أغراض شعره.
وسبط التعاويذي من الشعراء المداحين، فكثر عنده القصائد المطولة، وقد أحصيت عدد القصائد التي تجاوزت السبعين، فبلغت ثمان وعشرين قصيدة أطولها قصيدتان إحداهما. بلغت واحد وثلاثين ومائة بيت والأخرى أربعة وثلاثين ومائه بيت في مدح القاضي الفاضل، ولها من مطوله أربع علي روي البناء وثلاث على روي الدال، وخمس على روي الراء، وخمس على روي اللام وأربع على روي النون[27].
الخطابية:
الشعراء المحترفون يغلب عليهم التكسب بشعرهم، وعرضه والاستعراض به في المنتديات، وذلك يقتضي الإنشاد، وكما يصلح له ذلك فلا مناص من أن يتأطر بأطر منها:(161/8)
كثافة المضمون التي يقتضيها الموقف، فليس من المنطق أن يقف الشاعر لينشد مقطوعة شعرية أو قصيدة قصيرة، إذاً عليه أن يحشد المضامين ثم ينتظمها في منظومة شكلية خطابية، ومن هنا تعددت موضوعات القصيدة، فطالت قصائدهم، وغلبت على دواوينهم.
وتقتضي أيضاً الإِتقان في الصنعة لأنها تنشد على ملأ من علية القوم ومثقفيهم وعلى مسمع من المتنافسين والمتبارين.
ولابد من طول الأبحر الشعرية كيما تحتوي مضموناً كثيفاً.
ويغلب عليها اختيار الألفاظ القوية المكونة من حروف الحلق حيث الجهر والفخامة، وتتركب من هذه الألفاظ تراكيب جزلة فيتلوها الشاعر بصوت جهوري.
الموضوعية:
وتسود أشعارهم النظرة الموضوعية التي تعمد إلى وصف الأشياء وصفاً خارجاً بعيداً عن التأثر الذاتي في أغلب الأحيان. ونحن لا نلتمس الذاتية في قصائد المدح عند الشعراء المحترفين إلا في الغزل الذي يدبج في مقدمة القصائد، وتلتمسه في طلب النوال والشكوى التي يستدربها، وماعدا ذلك فالشاعر يجرد نفسه وينأى بها عن الحضور الذاتي داخل كل بيت أو أي موضوع من الموضوعات.
ونتيجة لذلك فإن القصائد التي تخلو من المقدمات الغزلية، لا تظهر فيها روح الشاعر ولا شخصيته، ولو حذفت من ديوانه لا تُعرف إلا بالأسلوب الذاتي للشاعر. ومرد كل هذا لعدم تلبس الشعر بتجربة ذاتية تتأطر القصيدة بأطر زمانها ومكانها ونوعيتها، كقصيدة سبط التعاويذي الهمزية في الخليفة العباسي المستضيء بأمر الله عام 572هـ فيستهلها بالأخبار بالماضي ليثبت الحدث. ثم يتبعه بخمسة عشر بيتاً تبتدئ بالفعل الماضي، وكأنه يستوحي أعمال الخليفة من الماضي.
خَجِلَتْ من عطائك الأنواءُ وتجلَّت بنورك الظلماءُ
واستجابت لك الممالك إذعا ناً وفيها على سواك إباءُ
أصبحت في يديك واتَّفقت طو عاً عليك القلوب والأهواءُ
نسخ العدل في إيالتك الجو ر كما ينسخ الظلامَ الضياءُ
وأهنت المال العزيز على غير ك حتى استوى الثرى والثراءُ[28](161/9)
وانظر إلى قصيدته البائية في مدح صلاح الدين كيف تتجلى الذاتية في غزله، بل يباشر بها الاستهلال في حوار عاتب:
حتَّام أرضى من هواك وتغضب وإلى متى تجني عليَّ وتعتبُ
ما كان لي لولا ملالك زلَّةٌ لمّا مَلِلْتَ زعمت أني مذنب
خذ في أفانين الصدود فإن لي قلباً على العلات لا يُتَغلَّبُ
أتظنُّني أضمرتُ بعدك سلوةً هيهات عطفُك من سلوي أقربُ
لي فيك نار جوانحٍ ما تنطفي حرقاً وماء مدامع ما ينضبُ
قالت وريعت من بياض مفارقي وشحوب جسمي: بأن منك الأطيبُ[29]
فالقارئ يحس بحضوره في كل بيت:
وابن عنين من الشعراء المحترفين يمتدح المعظم عيسى بن العادل بعينية تظهر ذاتيته في مقدمتها الغزلية، والموضوعية في المدح وتعود الذاتية في شكوى الغربة فهو في مطلعها لا يذيع سر أهل الحمى الذي نأى عنه[30]:
ما سر سكان الحمى بمذاع عندي ولا عهد الهوى بمضاع
أين الحمى مني سقى الله الحمى ريَّا وكان له الحفيظ الراعي
ويجرد الأبيات من ذاته في المدح:
ليث الشرى في متن أجدل كاسر يسطو بصلٍّ في ثياب شجاع[31]
ملك فواضلُ جوده مبثوثة في الأرض تسأل عن ذوي الإِدقاع
خُلقتْ أناملُهُ لحطم مُثقفٍ ولفل هندي وحفظ يراع
وتعود ذاته في شكواه من الغربة:
فإلى متى أنا بالسفار أضيع الأيا م بين الشدِّ والأَيضاع
حِلفَ الرَحالة والدَّجى فرواحلي ما تأتلي ممعوطة الأنساع
بينا أُصبِّحُ بالسلام محلة حتى أمسي أهلها بوداع[32]
ودواوين شعراء الاحتراف تزخر بالقصائد المطولات التي يدبجونها في المناسبات؛ كالتهاني بالأعياد، أو الانتصارات الحربية، أو تهنئة بتولي السلطة، أو الرثاء.
ولا قناعة لهم بالمقطوعات الشعرية، فمعظم دواوينهم قصائد حتى إنهم يطيلون في الألغاز والأحاجي لتبلغ أكثر من عشرة أبيات، وتتجاوز خمسة عشر بيتاً أحياناً كما هو عند ابن عُنين.(161/10)
وبعضهم أفرد المطولات في ديوان منفرد كالأبيوردي، فالجزء الأول في القصائد، وخص الثاني الذي يسمى (النجديات) بالمقطوعات الشعرية. ومثل ذلك (الثغريات) عند القيسراني.
ويغلب النفس الطويل على الأرجاني من ناحية طول القصائد وضخامة الديوان:
أما ديوان سبط التعاويذي فإن النفس الطويل يتجلى فيه، ونقل المقطعات الشعرية، ويماثله أبو الفوارس في ديوانه المكون من جزئين، لكن أبيات القصيدة عنده أقل منها عند سبط التعاويذي.
موقف المحترفين المقلدين من التجانس:
والذي يستضيئون على هذه المرحلة من الأدب العربي بالأحكام الاتباعية للنقاد الذين درجوا على وسم هذا العصر بالمغالاة في ألوان البديع، فإنهم يجانبون الأحكام الصادرة من الواقعية والانطباعية المباشرة، وقد أثرت الأحكام السلفية على كثير من المؤلفين والأدباء الذين لهم شأن في هذا المضمار، فمثلاً الدكتور محمد زغلول سلام يشير إلى تفنن الشاعر الأرجاني للبديع. وأنه أكثر تأثراً به لكونه ينتمي للمدرسة العراقية[33].
ولما نتقصى ديوان الأرجاني بنية استنباط الألوان البديعية، ونلتقي بالحقيقة الإِحصائية فإننا نقف أمام شاعر ينأى عن التكلف، وهو معتدل في صنعته، أوجد تلاحماً بين الشكل والمضمون، فلم يسرف في التجانس ولا التقابل، ولا مراعاة النظير، أو التورية.
وسطحية المضمون إن لُمِحت فتعود إلى الفكر بعامة، وإلى تكرار الموضوعات الشعرية، وإلى فقدان التوتر الذي يلحق التجارب المنفصلة الصادقة ونحن نأخذ نماذج عشوائية كما نطرح واقعه أمام القارئ.
والأرجاني من الشعراء المحترفين الذين يشتقون من الكلمة؛ فيكون اشتقاقاً، أو تكراراً أو جناساً، غير أنه لم يسرف فيه، وإن عني به، فعينيته تتكون من ثلاثة وسبعين بيتاً أحصيتُ التجانس فيها فكان تسعة وعشرين بيتاً، وبينما التقابل لم يتجاوز عشرة أبيات ومن التجانس قوله فيها أبيات متباعدة من القصيدة:(161/11)
فلئن أقمتُ فلاتَ حينَ إقامةٍ ولئن رجعتُ فلات حينَ رجوعِ
وإذا سَمِعتَ به سمعتَ بماجدٍ يأتيك واصفه بكل بديعِ
والمرء يُمنعُ ثُم يَرتعُ آمناً ما نجعة إلا وراء نجيعِ[34]
وله قصيدة ميمية في مدح معين الدولة مختص الملوك، عدد أبياتها أربعة وخمسين بيتاً، فكان التجانس فيها تسعة عشر بيتاً ومنه:
قل قولةً لله فاصلةً والداءُ تحسمُهُ فينحَسِمُ
دم للأفاضل ماهَمَتْ دِيَمُ وأسلم لهم ما أورق السَّلمُ[35]
وقصيدته القافية في ظهر الدين شمس الملك الوزير عثمان بن نظام الملك مكونة من ثلاثة وخمسين بيتاً، والتجانس فيها لا يتجاوز ستة أبيات، والتقابل ثلاثة أبيات فقط ومطلعها:
رمين القلوب بأشواقها ظباء تصيدُ بأحداقها
تحيَّر من حسنها الطرف بين حبيس الدموع ومُهراقها
رمتْ بالهوى قلبَ كلِّ امرئ عليل الجوانح خفاقها
فلم لا تَرِقُ لأشباهها عيون مراض كعشاقها[36]
فالتقابل ظهر في البيت الثاني: (حبيس الدموع ومهراقها).
أما التجانس فلم يستخدمه إلا في البيت الخامس عشر وما بعده كما في قوله:
قوافٍ على القاف مبنيةٌ لوصف الفراق بمُنساقِها
وقصيدته القافية التي يمدح فيها الصفيء علي بن نصر السالمي، التي بلغت واحداً وثمانين بيتاً استغرق التجانس منها عشرين بيتاً فقط، والتقابل سبعة أبيات[37]. وتجانسه غير متكلف وهو يستهل به قصائده أحياناً، كمدحته في شرف الملك أبي سعد محمد بن منصور المستوفي، التي بلغت أربعة وستين بيتاً، استغرق التجانس منها أحد عشر بيتاً، وإليك مطلعها الذي يحويه:
قليلُ لهم أن يحِن المشوقُ وهاهي حنَّتْ إلى الحي نوقُ
أيعلم حاديهم أنه يسوقُ فؤادي فيمن يسوق ؟
يا قلب: أنت مع الظاعنين تسايرهم فإلى من تتوق ؟
وما البين أول ما شاقني ولا هو أول دمع أريق[38]
فهو استخدم الجناس في (يحن وحنت)، والتكرار في البيت الثاني (يسوق ويسوق)، والبيت الثالث: (أول – أول).
ولا تشعر في هذا التجانس تكلفاً ولا تعسفاً، وكأنه عفو الخاطر.(161/12)
والأرجاني في مقطعاته يقرب إلى الطبع وقرب المأخذ، وإن ظهر عنده التكرار غير أنه له دلالة شعورية تنبض بها ألفاظه المكررة.
يقول في مقطعة شعرية يناجي فيها الحمام الحزين:
أقول وقد ناحت مطوقة ورقا على فننٍ والصبحُ قد نَوَّر الشرقا
بكتْ وهي لم تُبْعِدْ بألافِها النوى كإلفي، ولم تفقد قراءنها الورقا
كذا كنتُ أبكي ضلةً في وصالهم إلى أن نأوا عني فصار البُكا حقاً
فلا تضربي – قال الفراق – مجانةً فتلقي على فقد الأحبة ما ألقى
خذي اليوم في أنسٍ بألفك وانطقي بشكرِ زمانٍ ضم شملكما نطقا
وخلي البُكا مادام إلفك حاضراً يكن بين لقياه وغيبته فرقا
وفي الدهر ما يبكي فلا تتعجلَّي ولا تَحسبي شيئاً على حالةٍ يبقى[39]
فلا جدال في قوة التأثير بتكراره (إلفى) في البيت الثاني، حيث أضافها إلى ذاته للتحبيب ومعاودة ذكره، بينما نستشعر ألم الفرق في تكرار (البكا) في البيت الثالث ومثله (ألقى) في البيت الرابع.
والتكرار الاشتقاقي الذي يلح على الإِفصاح في البيت الخامس، فكأنه يأمر بالشكر، وأن يلهج به على جمع الشمل بين المتحابين، وجميل أن يستنطق الحيوان في هذا البيت.
ومن النادر عنده أن يتجاوز التجانس نصف عدد القصيدة، وقد فعل ذلك في مدح عزير الدين عماد الإِسلام في قصيدته اللامية، ولئن غلبت الصنعة هنا فإن منشأها هو ضعف الوازع في التجربة، فالممدوح ضعيف الشأن.
ومجمل أبيات القصيدة ثلاثون بيتاً استغرق التجانس منها ستة عشر بيتاً[40].
وله قصيدة لامية عدد أبياتها ستة وثمانون بيتاً يمتدح بها سعد الملك أبا المحاسن، لم يتجاوز التجانس فيها أربعة عشر بيتاً، أما التقابل فكاد ينعدم[41].
وقصيدته اللامية في مدح الأستاذ موفق الدين أبي ظاهر الخاتوني التي بلغت ستين بيتاً، والتجانس لم يتجاوز عشرة أبيات، وهي قصيدة رقيقة لينة الجانب يقول في مطلعها:-
هو ما علمتِ فاقصرى أو فاعذلي وترقبي عن أي عقبى تنجلي(161/13)
لا عارَ إن عطلتْ يداي من الغنى كم سابقٍ في الخيل غير مُحجل
صان اللئيم – وصنتُ وجهي – مالَه دوني فلم يبذل ولم اتبذلِ
أبكي لهمٍ ضافني متأوباً إن الدموع قرى الهموم النزلِ[42]
وقصيدته في مدح شهاب الدين أسعد الطغراني التي بلغت ثلاثة وثمانين بيتاً استغرق التجانس منها ثلاثة وعشرين بيتاً، استهلها بقوله:-
أقِلاّ عن طِيَّتي المقالا وحُلاَّ عن مطيتَّي العقالا
فما خُلِق الفتى إلا حُساماً وما خلِق السرى إلا صِقالا
وما راع الدُّمى إلا فراق خطبتُ به إلى العليا وصالا
سموتُ لها بزهرِ من فُتُوِّ هتفتُ بهم، وجْنح الليل مالا[43]
ومدحته لتاج الدين أبي الغنائم بلغت خمسين بيتاً استغرق التجانس خمسة أبيات[44].
ولاميته التي امتدح به معين الدين الوزير عدد أبياتها أربعة وثمانون، استغرق التجانس أربع وثلاثين بيتاً. والتقابل ستة أبيات ومنه:
أقلب طرفي يمنة ثم يسرة على إثر أحوال الزمان الحوائل
وقوله:
وما هو إلا عزمة منك تنتضى لإِعزاز حق أو لإِذلال باطل
وقوله:
وقد علم الأقوام صدق مقالتي وما عالم في حظه مثل جاهل[45]
وله قصيدة لامية مكونة من سبعين بيتاً لم يستغرق التجانس منها سوى سبعة أبيات يقول في مطلعها:
خفض عليك، وإن أطلت تأمّلاً فلقد عذلت من الرجال مُعذّلا
أعياك إسعادي فصرت مُعنِّفي ليت الذي عدم الجميل تجمّلا
ماذا تُريدُ إلى ردي مطالبٍ مُنِعَ الرِّضا من حاجةٍ فتعلّلا
مالي شكوتُ إليك نار جوانحي لتكون مُطفِئَها فكنت المشعلا[46]
ومن الشعراء الذين وظفوا الاشتقاق أو الجامع اللفظي بين الكلمات في أشعارهم توظيفاً مناسباً؛ يؤدي معنى مقبولاً، وانسجاماً موسيقياً، وتفتيقاً للغة، ابن الخياط الدمشقي المتوفي 517هـ ومن ذلك قوله:
يقيني يقيني حادثات النوائب وحزمي حزمي في ظهور النجائب
فيقيني الأولى من اليقين الاعتقاد ويقيني الثانية من الوقاية، وحزمي الأولى من الإِرادة والعزيمة، وحزمي الثانية من ربط الرحل على المطايا.(161/14)
ومنه قوله في مدح. مقلد بن منقذ:
وإن امرأ أفضى إليه رجاؤه فلم ترجهُ الأملاك إحدى العجائب
من القوم لو أن الليالي تقلَّدتْ بأحسابهم لم تحتفل بالكواكب
إذا أظلمت سبل السراة إلى العلا سروا فاستضاؤوا بينها بالمناسب
فمن قدرته على الاشتقاق، وتناسق الصوت، جمعة (رجاؤه والفعل (ترجه) وقوله: (السراة – و – سروا).
ومنه قوله:
هم غادروا بالعزِّ حصباءَ أرضِهمْ أَعزَّ منالاً من نجوم الغياهب
ترى الدهر ما أفضى إلى منتواهم ينكِّبُ عنهم بالخطوب النواكب
إذا المُنقذيُّون اعتصمت بعزهم خضبْتَ الحُسام العضب من كل خاضب
إذن فالتوليد درج على ألسنة الشعراء لإِتقان اللغة. وتدارسها الدائب، وقصد[47] توظيفها.
وابن منير (473- 548هـ) ينشد نور الدين لما فتح حارم قصيدة دالية مكونة من واحد وثلاثين بيتاً.
وعند تأملها نجد أن مقدمتها تخلو من التجانس، والتقابل. لكنه سرعان ما يتلألأ في أغصان الأبيات، وقد بلغت الأبيات التي ظهر فيها التجانس أحد عشر بيتاً ومنها:-
أنت الذي خطيت له حساده والفضل ما اعترفت به الحساد
وأشد ما يظهر صنعته في قوله:
حاملوا فلما عاينوا حوض الردى حاموا برائش كيدهم أو كادوا
حاموا الأولى بمعنى طافوا وحاموا الثانية بمعنى دافعوا وكيدهم: حقدهم وتدبيرهم، وكادوا بمعنى: أوشكوا.
وقوله:
ورجا البرنس وقد تبرنس ذلة حرماً بحارم والمصاد مصاد[48].
وهذان البيتان ظهر (فيها) الإِلحاح على الجناس، أما بقية الأبيات فإنه يوحي بمضمون ودلالة، وهذا يشير إلى عدم تكلف ابن منير للتجانس في أغلب بديعه.
وهو من الشعراء الذين لزموا المجاهدين من القادة الإِسلامية، ولمع نجمه الأدبي في شعره المصاحب للجهاد.
والتجانس عنده يغلب عليه إرادة الاشتقاق وتوليد الألفاظ.
وهذا يخفف من تكلف الجناس المقصود الذي يألفه البلاغيون، أحياناً وأحياناً نجده لتوافق بين عملية التوليد والجناس:(161/15)
فمن الاشتقاق المتوافق معنى قال معرضاً بصاحب دمشق في محاصرة نور الدين لها.
وجالدت جلاداً وأنت مؤنث فذكرت الجلاد أدهى وأجلد
ومنه:
ومنك تعلم القطع المواضي وقد زبنت بها الحرب الزبون
غنوا حتى غزوتهم فغنى الصي دى في أرضهم خف القطين[49]
ومنه استغلاله لكلمة الصليب بمعناها النصراني، حيث هي علامة صلب عيسى عليه السلام في زعمهم، والصلب ويعني في اللغة القوة.
كانوا على صلب الصليب سرادقا أنبت بنيته بكل مذكر[50]
وقوله:
وكم عبر الصليب بهم صلِبيا فردته قناك وفيه ليد[51]
ومن: قوله:
ملأت عظام ساحهم عظاما فكل ملأ لقولك به جرين
وبينهم القنا تجري نجيعا كأن عيون أكعبها عيون
وبين حرار حر خداذ بن حراً له في كل حبحبة كمين
ومنين من العريمة في عرام له في جوانبها الأقصى وجون
ولم حرم لحارم غادرته ودارته لمنسفها درين[52]
فأنت ترى سمات الاشتقاق والجناس معاً فعظام الأولى من العظمة والفخامة وعظام الثانية من العظام البشرية والحيوانية التي تكون هيكل الإِنسان. وكذلك بين عيون وعيون، فالعيون الأولى وهج الدمام وعيون الثانية عيون الرؤية: أو تكون الأولى. من جريان الدم والثانية العين المائية الجارية.
ومن حرار وحرٌ، والعريمة في عرام، وحرم لحارم دارته ودرين.
ومن أسلوب التجانس عنده التكرار.
أيا نور دين الله وابن عماده والكوثر بن الكوثر بن الكوثر[53]
ولما نتبع نماذج من قصائد تتبعاً اعتباطياً نجد أن التجانس بألوانه يأخذ حيزاً من أبياته أقل من نصفها. قصيدته نور الدين في محاصرة دمشق عام 545هـ أورد منها أبوشامة تسعة وعشرين بيتاً، التجانس منها عشرة[54].
وله قصيدة أخرى في الحادثة ذاتها أورد منه أربعين بيتاً بلغ التجانس منا (اثني عشرة بيتاً)، بمعنى أنه أقل من النصف[55]، وقصيدته في موقعة الجولان أورد منها أبوشامة تسعة وعشرين بيتاً بلغ التجانس عشرة أبيات[56].(161/16)
وله قصيدة ميمية بلغت الأبيات التي أورد ما صاحب الروضتين خمساً وثلاثين بيتاً الجناس منها (أربعة عشرة) بيتاً[57].
وله قصيدة لامية أورد منها أبو شامة ثلاثين بيتاً وبلغ التجانس اثني عشر بيتاً[58].
وأكثر قصائده جناساً الدالية التي وردت في الروضتين في سبعة وثلاثين بيتاً بلغ التجانس فيها عشرين بيتاً، وقد قيلت في عام 546هـ[59] أي قبل وفاته بعامين اثنين وجل قصائده تلك قيلت في الأربعين وخمسمائة مما يعني أنها في آخر حياته لأنه توفى 548هـ وزيادة العدد في قصيدته الأخيرة يوحي بإلحاحه على هذا اللون وقناعته به استجابة للاتجاه النقدي.
ويستعين القيسراني (478- 548هـ) بالتجانس لتلوين أسلوبه، وتكثيف لغته، وتنويع إيقاعه مما جعله يجلب منه [ألواناً يغلب عليها الأداء الجيد، فهي تحمل إيحاءً ودلالة وأحياناً تكمل المعنى فحسب، وتتبلور في قصائده فأورد أبو شامة له قصيدة عدد أبياتها واحد وخمسون بيتاً ورد التجانس في أربعة وعشرين منها[60].
ومن راهن الأقدار في صهوة العلى فلن تدرك الشعرى مداه ولا الشعر
وجللها نفعاً أضاع شياتها فلا شبهها شهب، ولا شقرها شقر
وتوجت ثغر الشآم منك جلالة تمنت لها بغداد لو أنها ثغر
والقيسراني يقل عدد أبياته في القصيدة الواحدة فيما نقله أبو شامة، ولكنها عند الإِحصاء تعطى مدلولاً، يقترب من قرينه ابن منير الطرابلسي كقصيدة القيسراني في تاج الملوك بوري عند انتصاره على الإِفرنج في عام 523هـ ومطلعها:
الحق مبتهج والسيف مبتسم ومال أعدا مجير الدين مقتسم
وبلغ عدد الأبيات التي نقلها أبو شامة اثنين وعشرين، الجناس منها تسعة أبيات[61].
وفي عام 539هـ فتح عماد الدين (الرها) فقال قصيدة أولها:-
هو السيف لا يفنيك إلا جلاده وهل طوق الأملاك إلا نجاده
وعدد أبياتها في الروضتين ثمانية وعشرون بيتاً بلغ الجناس أربعة عشرة بيتنا.(161/17)
وله قصيدة في ذات المعركة هنأ بها القاضي كمال الدين الشهر زوري أورد صاحب الروضتين واحداً وثلاثين بيتاً منها عشرة أبيات تحوى تجانساً[62]. ومدح القيسراني نور الدين لما فتح انطاكية بقصيدة بائية أورد منها اثنين وخمسين بيتاً منها ثلاثة وعشرون تحوي تجانساً[63].
القيسراني اعتمد في بديعه على التجانس الذي يوظف الاشتقاق بتوليد الكلمات من بعضها ويتلاحم مع الجناس أحياناً، وأيضاً على التكرار ثم الجناس.
ونلحظ أن جناسه امتداداً لأولئك الشعراء العباقرة الذين حذوا حذوهم.
فقد اقتفى أثر أبي تمام في الوليد الألفاظ عن طريق الاشتقاق فهو يأتي بفرع الكلمة في البيت الواحد، وهو أيضاً نتيجة لمتطلبات العصر النقدية فالاتجاه النقدي يحبذ هذا الاتجاه وكان زعيم النقديين العماد الأصبهاني، الذي يشيد بأهمية الصنعة عند القيسراني[64].
ولنوازن بين قصيد الأنموذج السلف لأبي تمام وبعضاً من أبيات القيسراني لنرى معالم التوليد الاشتقاق:
السيف أصدق أنباء من الكتب في حده الحد بين الجد واللعب
بيض الصفائح لا سود الصحائف في متونهن جلاء الشك والريب
والعلم في شهب الأرماح لامعة بين الخميسين لا في السبعة الشهب
فتح الفتوح تعالى أن يحيط به نظم من الشعر أو نثر من الخطب
فتح تفتح أبواب السماء له وتبرز الأرض في أثوابها القشب
حتى إذا مخض الله السنين لها مخض البخيلة كانت زبدة الحقب
بسنّة السيف والخطيِّ من دمه لا سنة الدين والإِسلام فختضب
وانظر إلى القيسراني يقتفي أثر أستاذه وقدوته في قصيدته البائية التي عارض بها قصيدة أبي تمام:-
مازال جدك يبني كل شاهقة حتى ابتني قبة أوتادها الشهب
ضربت كبشهم منهما بقاصمة أودى بها الصلب وانحطت بها الصلب
غضبت للدين حتى لم يفتك رضى وكان دين الهدى مرضاته الغضب
طهرت أرض الأعادي من دمائهم طهارة كل سيف عندها جنب[65](161/18)
وقد أحصيت التجنيس في بائية أبي تمام فوجدت أن عدد أبيات القصيدة أثنان وستون بيتاً، والتجنيس منها بلغ أربعين بيتاً بينما قصيدة القيسراني بلغت اثنين وخمسين بيتاً وبلغ التجانس فيها ثلاثة وعشرين بيتاً.
ومن هنا ندرك أن زعامة التصنيع لأبي تمام، وأن القيسراني وصاحبه ابن منير يجريان في سياقاته، وبهذا نخالف ما قاله الدكتور عمر موسى باشا عن القيسراني بأنه (رائد من رواد مذهب التصنيع البديعي في هذا العصر)[66].
والذي أراه أننا لا نصف ابن الخياط والأرجاني، وابن منير، والقيسراني بالتجديد، ولا بقيادة التكلف، وإنما يوصفون باتباعهم، وهم شعراء لهم دورهم الفاعل ولهم شاعريتهم القديرة، ولهم إبداعهم المشرق وعليهم مآخذ كأي شاعر، فلا نصفهم بالريادة ولا بالعبقرية وإنما هم امتداد طبيعي للاتجاه البديعي، ومن هنا فإني خالفت أولئك الذين يصفونهم بالزعامة الإبداعية في البديع أو قيادة التكلف والجمود.
والتجانس عند عرقلة الكلبي يؤدي معنى، ويلون صوتاً.
من ذلك قصيدته في مدح علي بن نيسان بآمد:
أظباء وجرة كم بشطي آمد من ظبية كحلى وظبي أكحل
ومدلل ومذلل في حبه شتان بين مذلل ومدلل[67]
وعرقلة الكلبي شاعر معاصر للحروب الصليبية، قريب من ميادين الأحداث وشعره رقيق، وقد أكثر من التوليد فهو الذي يقول:
وبوجنتي ووجنتيه إذا بدا فرط وجدينا حياً وحياءُ
كيف الوصول إلى الوصال وبيننا بين ودون عناقه العنقاء
* * *
لله جيراني يجيرون ولي بلحاظهم وبهم ظبي وظباء
وكأنهم وكأن حمرة راحهم في راحهم، وهنا دمى ودماء[68]
فجانس في البيت الأول بين وجنتي وجنتيه، وحيا وحياء، وزاد في البيت الثاني، حيث تصاريف الاشتقاقات في ثلاث كلمات هي: الوصول، بيننا، عناقه، وتقارب التوليد في قوله: جيران وجيرون، وظبى وظباء في بيته الثالث، أما الرابع فكرر الجرس فيه في كأن، وراحهم وذمي.
ومنه قوله[69]:
تضاعف ضعفي بعد بُعد الحبائب وقد حجبوا عني قسيّ الحواجب(161/19)
وقد أفلت تلك الكواكب لم تزل موكلة عني برعي الكواكب
وتكرير الكلمة يتبين في شعر عرقلة الكلبي في مثل قوله:
ميلوا إلى الدار من ذات اللمى ميلوا كحلاء ما جال في أجفانها ميل
فاستهل البيت بقوله: (ميلوا)، وبنى وسطه على مماثلة. ورد العجز على المقدمة في قوله: (ميل) التي يختلف معناها عن الميل والانحراف، وهو يولي الاشتقاق اهتماماً فيجعل القافية توليداً للكلمة التي تسبقها.
كأنما قدها رمح وميسمها صبح وحسبك عسال ومعسول
في كل يوم بعينيها وقامتها دمي ودمعي على الأطلال مطلول
إن يحسدوني عليها لا ألومهم لذلك جار على هابيل قابيل[70]
وأنت تشاركه الإِحساس بنمنمة الربيع في قوله:
رقم الربيع ربوعها فكأنها زنجية تختال فيها بالحلي
ويتجلى روعة تجانسه في ذابل ويذيل:
ويرد صدر السمهري بصدره ماذا يؤثر ذابل في يذبل
ومن تجانسه[71].
وكيف يكون لي صبر وفيه خلال صبرت جسمي خلالا
تصيدني الغزال بمقلتيه وقدما كنت أصطاد الغزالا
والتجانس عند أبي الفوارس يتأتى في تباعد بين الأبيات، ولم يلتزم به في المقدمة، أو في خاتمة القصيدة، وإنما يتخذ مكاناً حسب المضمون.
يقول في قصيدته الميمية التي قالها بمناسبة عزل شرف الدين علي بن طراد الزينبي وتولية شرف الدين أنو شروان بن خالد[72].
شكراً لدهري بالضمير وبالفم لما أعاض بمنعم عن منعم
فمنعم الأولى: الوزير علي بن طراد والثاني: أنو شروان.
وهو في البيت الثالث يأتي بالتكرار في شطره الأول:
خير الوداد وداد أفوه ناطق لعبت به الجلّى ولم يتصرم
والقصيدة مكونة من تسعة وستين بيتاً، ولم يأت التجانس إلا في اثنتي عشر بيتاً.
والتجانس الذي ورد فيها هو من باب التكرار في أغلبه مما يدل على أنهم أخذوا بمبدأ توليد الكلمة واشتقاقها أو توظيفها مرة أخرى حيث تضيف مدلولاً جديداً.
ومثلها قصيدته في شرف الدين الوزير علي بن طراد الزينبي[73]، وهاتان القصيدتان نموذجان، ويشاكلهما الكثير من قصائده.(161/20)
وأسامة بن منقذ الذي نهج سبيل الأوائل في الشعر، ولم يغرم بالجناس، وسائر المحسنات البديعية، وهو من أولئك الذين روضوا اللغة وولدوا اشتقاقاتها ووظفوها للحديث الوجداني في قدرة اشتقاقية رائعة.
فهاهو يكرر كلمة نهج في البيت الأول، أما الثاني فيأتي نغم (لجة) في إيحاء دلالي شعوري، ويزيد المعنى إشراقاً وإيحاءاً تكرار (لجوا) في ختام البيت حيث الأعماق السحيقة للعاشقين التي تستشرف أهوال ظلمات البحر ومخاوفه.
ونجده كذلك يكرر تمني النجاة في البيت الثالث:-
وقائلٍ رابهُ ضَلالي عن نَه جي والحبُّ مالَهُ نهجُ
ويحَ بني الوجد كلَّما عُذِلُوا في خَوضِهم لُجَّةَ الهوى لجوا
علَّكَ تنجو منهم، فقلت له إياك عني، حاشاي أن أنجو[74]
وقوله:
ذَكَرَ الوفاء خيالُك المُنتابُ فألم وهو بُودنا مرتاب
نفسي فداؤك من خيالٍ زائرٍ مُتعتبٍ عندي له الاعتابُ
مُستشرِفٍ كالبدر خلفَ حجابهِ أو في الكرى أيضاً عليك حجاب!
أنكرت هجري، والزمان بجوره يقضي بأن يتهاجر الأحباب[75]
فتراه يستخدم التكرار والاشتقاق في هذه الأبيات ماعدا البيت الأول حيث قارب التلوين الصوتي بين المنتاب ومرتاب.
وهذا اللون القريب من التجانس يكثر في شعر أسامة بن منقذ، غير أنه لا يظهر منه التكلف والتعسف له.
والتجانس عند أسامة بن منقد ليس فيه تكلف، ولا صنعة، وإنما يأتي نتيجة توظيفه للمعنى القريب، ويبدو أنه لا يسعى إلى تلوين صوتي من ورائه.
وقد أحصيت التجانس، بألوانه من تكرار وجناس في قصيدته الميمية التي تبلغ أبياتها تسعة وخمسين بيتاً، كان عدد التجانس فيها سبعة عشر بيتاً، يميل الكثير منها إلى التكرار ومن ذلك قوله[76]:
ونالهم من توالي سُحب ناثلة ما نال نبت الثرى من وابل الديم
ولئن ظهر هذا البيت أكثر عناية من غيره، فانظر إلى يسره وعفويته في قوله:
يرى الضغائن في قلب الحسود له تدب مثل دبيب النار في الفحم
ومثله:
جرت لطافته من قلب سامعه مجرى الهوى من فؤاد المغرم السدم(161/21)
يزيد سامعها تكرارها شغفاً بها وكم جلب التكرير من سأم
وقد استعرضت رائيته الرائعة التي تبلغ تسعين بيتاً فلحظت بعده عن الإِغراق فيها، أو جلبها، أو الحرص على ترصيع قصائده بها ومن التجانس القليل عنده:
فأيماننا في السلم سحب مواهب وفي الحرب سحب وبلهن دم هَمِر
قضت في بني الدنيا قضاء زمانها فسر بها شطر وسيء بها شطر
ويصف إقدام المجاهدين فيقول:
نواصلهم وصل الحبيب وهم عِدا زيارتهم ينحط عنا بها الوزر[77]
والتجانس تختلف كثافته في دار الخلافة عنها في ميادين الحروب الصليبية، فالشعراء يعبثون بالألفاظ، ويجدون فسحة للصنعة الشعرية بعيداً عن الحروب.
فهذا العماد الأصفهاني عاش بالقرب من دار الخلافة، وصحب قادة الجهاد، ولما نقارن بين قصائده نجده يكثر من التجانس في قصائده الأولى كقصيدته التي مدح بها عضد الدولة، أبياتها خمسة وستون بيتاً تحتوي على التجانس بألوانه، ماعدا سبعة عشر بيتاً[78].
أما قصيدته في صلاح الدين التي تضم ستة وستين بيتاً فإن التجانس أكثر من النصف فيها، فقد تجاوز ثلاثة وثلاثين بيتاً[79].
ومن الشعراء الذين زامنوا صلاح الدين الأيوبي الشاعر عبدالمنعم الجلياني 531- 603هـ وقد صحب صلاح الدين في حروبه وله قصائد قبل فتح بيت المقدس يستحثه فيها لفتحه، وتسمى المبشرات، وأخرى بعد الفتح وتسمى القدسيات ((لم أزل أتابع ذكر غزواته – أي غزوات صلاح الدين، وقرائن أحواله بأصناف المنظوم، والمدبج، والمسجوع، ثم توالت حروبه وفتوحه في الساحل، فعبرت عنها بالقصائد القدسيات))[80].(161/22)
وهذا الشاعر المغربي الذي التحق بديوان صلاح الدين الأيوبي، يمثل الاتجاه الذي لم يتأثر بالبديع فالقارئ لديوانه (المبشرات والقدسيات) يدرك عدم تأثر الجلياني بالاتجاه نحو التجانس والتقابل والتورية، وغيرها، فلم يحرص على تدبيج شعره بالمحسنات رغم تسميته ديوان شعره في صلاح الدين (ديوان التدبيج)[81] وقد انتقيت عدداً من قصائد الديوان الآنف الذكر، وأحصيت ما فيها من تجانس وتقابل، ومنها قصيدته الرائية التي سماها (القصيدة الفتحية الناصرية) التي بلغت اثنين وثلاثين بيتاً[82].
والتجانس فيها لم يتجاوز ثلاثة أبيات. والتقابل فيها بيتان فقط، وقصيدته الدالية في فتح بيت المقدس المكونة من واحد وأربعين بيتاً، التجانس فيها في سبعة أبيات فقط، والتقابل في ثلاثة[83].
و(مدبجة رهان الأذهان) الرائية في ذكر صلاح الدين الأيوبي التي بلغت ستين بيتاً يندر فيها التجانس والتكرار والتقابل، فلم أعثر على التجانس إلا في بيتين فقط، والتقابل في بيت واحد[84].
وميميته (المبسوطة الميمية) بلغت ستة وثلاثين بيتاً فيها تجانس واحد وتقابلان ولعلنا ننتقي منها شاهداً[85]:
ومَن ليلهُ فكر وصدق عنايةٍ تناهي ليحيي أمة مستدامةُ
فإن أظلم الإِسلام أشرق منك ما أجال به شمسا فذاب ارتكامه
فبالصدق ينقاد الملوي مسابقا بطاعته والفتح مُرخى زمامُهُ
وما وارثُ الأملاك غيرُ أخي وغى أفاض يداً يعلو الأنام حسامُهُ
وابن عُنين 549- 630هـ الذي عاش (متزامنا) مع تألق الكناية الفنية عند القاضي الفاضل، (ومتزامنا) مع العماد الأصبهاني، وابن سناء الملك اللذين أُخِذَ عليهم الإِكثار من التجانس، وألوان البديع الأخرى – تجد أن ديوانه مصنف إلى المدائح، والحنين إلى دمشق، والرثاء، والهجاء، والدعاية والفخرية، والألغاز، وجميع هذه الأبواب يندر فيها الإِلحاح على استجلاب البديع، بل تندر الصنعة أيضاً وبينهما فرق كبير.(161/23)
وقصيدته الرائية التي تصدرت الديوان في مدح العادل يستأذنه في العودة إلى دمشق لاتكاد تعثر فيها على التجانس، أو تقابل، أو أي لون من ألوان البديع[86].
وقصيدته اللامية في مدح الأشرف موسى بن الملك العادل المكونة من ستة وثلاثين بيتاً، ليس فيها من التجانس إلا خمسة أبيات، وخمسة أخرى في التقابل[87].[88]
وقصيدته في الملك المعظم بلغت واحداً وثلاثين بيتاً، حوت ستة أبيات في التكرار[89].
وقصيدته البائية في المعظم بلغت واحداً وثلاثين بيتاً، جاء التكرار في ثلاثة أبيات منها[90]، وقريب من هذا جميع قصائد الديوان، والذي ألحظه أن التكلف لم يكن في الموضوعات الجادة، ومواطن الإِنشاد، ولا يظهر التكلف حتى في باب الألغاز والأحاجي.
فهذا ابن عُنين الشاعر المشهور الذي يمثل مرحلة وسطاً بين القرنين السادس والسابع، ومتأخر في عهد الحروب الصليبية، نجزم بنأيه عن التكلف لألوان البديع (نتيجة إحصاء ديوانه)، بل إنه أقل من الجيل السابق له كابن منير الطرابلسي، والقيسراني، ولا يقترب من العماد الأصبهاني، وابن سناء الملك.
وهذا يحتم علينا أن نقول: إن الأحكام التي اتسمت بالشموالية ووسمت العصر بالتكلف والانجراف وراء البديع يجانبها الصواب.
ومن المعاصرين لابن عُنين بهاء الدين زهير غير أنهما في اتجاهين مختلفين من ناحية موضوعات شتى، فالحياة الجادة عند ابن عُنين ونفسيته التي جابت الآفاق مشردة تمارس التجارة، تعيش رغد العيش أحياناً. وتتلوى سغباً أحياناً أخرى، تلك الحياة أضفت ظلالها على شعره الذي يميل إلى القوة، والجزالة وموضوعات المدح والوصف، مع تعهده لشعره بالتثقيف والتنقيح إلا أنه ظهر لنا بمنأى عن الصنعة البديعية كما ظهر ذلك من خلال الإِحصائية السابقة، وربما أن تلك الظروف كانت تشغله عن التصنع البديعي.
لكن إذا انتقلت إلى بهاء الدين زهير (581- 656هـ/ 1185- 1258م).(161/24)
ذلكم الذي يذوب رقة، ويندفع شعره عفوية ويكثر من الأوزان الخفيفة، ويستخدم ألفاظاً وأمثالاً دارجة، وأكثر موضوعاته ذاتية، وقليل منها مدائح، وكلها تتأطر بالرقة، ومع أن هذه الصفات تنجذب إلى الصنعة البديعية إلا أن ديوانه يكاد يخلوا من تعمد البديع أو الإِكثار منه إلا ما جاء عفو الخاطر كغيرة من الشعراء الأوائل كمثل قصيدته القافية في مدح الصاحب صفي الدين المعروف بابن شكر المكونة من ثلاثين بيتاً، فإن التجانس الصوتي فيها لا يتجاوز خمس مرات[91].
وقصيدته في مدح السلطان الصالح نجم الدين أيوب عام 622هـ تعد من أطول قصائده ومع ذلك فإن التجانس (التكرار والجناس) لم يتجاوز خمسة أبيات وأقل منه التقابل[92].
ومثل ذلك قصيدته (جنة الحسن) في الرحيل عن مصر فإنها تكاد تخلو من التكرار أو الجناس معاً[93].
التقابل والتضاد:
إن التقاء الأشياء المتقابلة، وتجريدها أمام الناظر، يدعوه إلى التأمل، والمقارنة بينها، مما يطيل التدبر فيها، ويظهر مفرداتها أكثر، ويقرب التضاد بين الأشياء، فهو يدعو إلى التفكير وإجالة النظر، والتأمل، بل إنه يؤدي إلى الجدل، والحوار، وكلاهما يفتق الوعي، ويلهم، ويبرهن، ويبلغ إلى الجودة، والقمة.
والأرجاني معتدل في استخدامه للتقابل من طباق وتعارض وقد وقع أمام ناظري قصيدته العينية في مدح أنو شروان بن خالد التي بلغت ثلاثة وسبعين بيتاً فوجدت أن التقابل فيها لا يتجاوز عشرة أبيات ومنه قوله:
النار تقبس من وطيس جوانحي والماء يُورد من غدير دموعي
قلبي وعيني يغنيان ركابكم عن رحلتي قيظ لكم وربيع[94]
وله قصيدة عينية أخرى عدد أبياتها أربعة وخمسون بيتاً، والتقابل فيها لا يتجاوز خمسة أبيات[95].
ويقل التقابل عند ابن منير فهذه إحدى قصائده مكونة من واحد وثلاثين بيتاً، نجدها تحتوي على أربعة أبيات يتبلور فيها التقابل منها قوله:-
سحب إذا سبحت بأرض ذيلها فالحزن سهل والهضاب وهاد(161/25)
يامن إذا عصفت زغازع بأسه خمدت جحيم الشرك فهي رماد[96]
ويوجد التقابل بقلة عند القيسراني فرائيته أثبت أبو شامة منها واحداً وخمسين بيتاً، منها تسعة أبيات يظهر فيها أحد ألوان التقابل:-
قد أدمت البيض الحداد فروضها فلا عهدت في عنق سيف ولا نذر
وصلت بمعراج النبي صوارم مساجدها شفع وساجدها وتر[97]
وأبو الفوارس المتوفي 574هـ من الشعراء البارزين في العراق، وموطنه قريباً من مواطن الحريري، وقد تعهد التقابل، والتضاد بشيء من الاهتمام لم يبلغ مرحلة الصنعة أو الإِسراف.
يقول في قصيدته اللامية يمتدح فيها الخليفة المسترشد[98]:
وكلما كثرت – والحال شاهدة – وسائلي آذنت حالي بإقلال
أمضى الخلائق عزما عند مجلبة وأثبت القوم قلبا عند أهوال
مُنكب العيش خفضاً من تهامعه ونازل شغاف المجد محلال
فالكثرة والإِقلال ثم المضي والثبات، والخفض والشغاف، كلها كلمات متضادة تدعو إلى التأمل ومقارنة الحالين.
ومن ذلك أيضاً قوله[99]:
إذا رقد النكس الدثور عن العلى تجافي ضلوعاً عن حشي ونمرق
لتبلج جياش المراجل بالدحى ال هيم ضروبا بالصباح المشرق
يضاحك شمس الصبح منه ببيضة وزهر الليالي من شباكل أزرق
ليهنك عيد أنت عيد لأهله سرور لمهموم ووجدٌ لمملق
فالتقابل الذي يسمى بالطباق في (رقد وتجافي)، والتقابل في الدجى البهيم والصباح والمشرق)، وفي (الصبح والليل)، وفي (سرور الهموم ووجد المملق) ظاهر هنا.
وقد وجدنا أن الشاعر قليل العناية بالتقابل بشتى صوره، فهذه قصيدته مكونه من ست وخمسين بيتاً تخلو من التقابل إلا أربعة الأبيات السابقة.
ولا يبدو عليه فيها التكلف أو التصنع لهذا اللون إنما يأتي عفواً موحياً[100].
والأوائل أدركوا جمال التقابل والتضاد وتأثيرهما النفسي، فالعماد الأصبهاني يشيد بأربعة أبيات من رائية الأمير مجد العرب أبي فراس علي بن محمد بن غالب العامري التي أنشدها في حسام الدين تمرتاش في عام أربعة وثلاثين وخمسمائة:-(161/26)
حويت (حسام الدين) كل فضيلة سواك لها طي وأنت لها نشر
فما ينتهي إلا إلى كفك الندى ولا يعتزى إلا إلى بيتك الفخر
سُطا كلما تابعتها جزع الردى ونعمى متى فرقتها جمع الشكر
ونفس كأنّ من طبعها خلق السخا وبأس كأنَّ من حره طُبع الحر
ويقول العماد عنها: "الأبيات الأربعة حقها أن تكتب بذوب التبر، على صفحة الدهر. وترقم بسويداء الفؤاد على سواد الحدق، وترتاح لها النفوس ارتياح الرياض للديمة الغدق"[101].
والمتدبر للأبيات يلتمس أن الذي أعجب العماد هو التقابل بين (طي ونشر، وينتهي ويعتزي، وفرقتها وجمع، ونفس طيبة وبأس).
الشعراء يكثرون منها في غير ما إسراف ولا تبذل، وذلك شأن أسامة بن منقذ، وآخذ بطريقة عشوائية قصيدته الميمية التي يشكر فيها الملك الصالح بن رزيك على بعثه أهله من مصر، وهي مكونة من تسعة وخمسين بيتاً بما فيها المقدمة المفصولة عنها، وقد بلغت الأبيات التي احتوت على التقابل ثلاثة عشر بيتاً، وهذه نسبة متواضعة لا توحي بتكلف أو بعد مأخذ، يبدو أنه لا يسعى إلى إشارة جدلية من ورائه.
ومن تلك الأبيات:
يستقبل الحرب بساما، وقد كشرت بها المنية عن أنيابها الأرم
فإن سطا عن يقين أو كفا كرما فإنه خير ذي عفو ومنتقم[102]
وظاهرة الاعتدال هذه ظاهرة في جل شعره ومنه قصيدته الرائية في بطولات الجهاد لنور الدين، التي بلغت تسعين بيتاً. وهي من أجود شعره، وأجمله تركيباً وتصويراً، ومع ذلك لم يتكلف أو يتصنع التقابل فيها، فأبيات التقابل ثمانية عشر بيتاً فقط، ومنها:
بحيث حللنا الأمن من كل حادث وفي سائر الآفاق من بأسنا ذعر
وما في ملوك المسلمين مجاهد سوانا، فما يثنيه حر ولا قر
وفي سجننا ابن الفنس خير ملوكهم وإن لم يكن خير لديهم ولا بر[103]
ومن التقابل والتضاد في شعر عرقلة:
تناءوا بعد قربهم ملالا وسرنا يمنة وسروا شمالا
بك استغنيت عن زيد وعمرو ومن طلب الهدى ترك الضلالا
محلك في النجوم إذا تدانى وضدك في التخوم إذا تعالى(161/27)
أقاموا في سماحهم بحارا وأضحوا في حلومهم جبالا[104]
ويندر التقابل في شعر ابن عُنين فقصيدته اللامية في مدح الأشرف موسى بن العادل المكونة من ستة وثلاثين بيتاً بلغ التقابل فيها خمسة أبيات[105].
وقصيدته العينية مكونة من أربعة وثلاثين بيتاً منها ثلاثة أبيات في التقابل[106].
وقصيدته الرائية في مدح المعظم عيسى بلغت واحداً وثلاثين بيتاً صمت خمسة أبيات فيها تقابل[107].
وقصيدته البائية في المعظم بلغت واحداً وثلاثين بيتاً منها ثلاثة أبيات في التقابل[108].
وهذا التقابل الذي تبلور في شعرهم إنما هو امتداد لسلفهم وتقليد له فهم له يتجاوزوا رائد هذا اللون الشاعر أبي تمام بل لم يبلغوا مبلغه في هذا.
أعلام المحترفين:
1- الأرجاني:-
ناصح الدين أبو بكر أحمد بن محمد الأرجاني نسبة إلى أرجان من كور الأهواز ولد عام 460هـ، مدح نظام الوزير الفارسي الأصل الذي يمثل الرجل الثاني في دولة ملكشاه السلجوقي، ومدح غيره من وزراء السلاجقة، فقيه تولى القضاء كثيرا، مات عام 544هـ، وله ديوان مكون من ثلاثة مجلدات حققه الدكتور محمد قاسم مصطفى[109].
يغلب على ديوانه المدائح لوزراء السلاجقة، ووزراء الخلافة العباسية، وهو يطيل في المقدمات الغزلية، ومن ذلك قصيدة في مدح تاج الملك أبي الغنائم[110].
غير العدا بسيوفكن قتيل وعيونكن الصارم المسلول
أنى لبيض الهند وهي جديدة فتكات ذاك الطرف وهو كليل
وبعد ثلاثة عشر بيتاً من الغزل يمدح فيقول:
أو ليس تاج الملك من آدابه ألا يطاع على السماح عذول
وهو الإِمام المقتدى بفعاله وهو الهمام المتقى المأمول
إن كان كاد به الزمان فإنه بجواد آخر مثله لبخيل
قل في الورى طراً إذا استثنيته القول جمّ، والفعال قليل[111]
ومدائحه تتجاوز التسعين بيتاً أحياناً كميميته في القاضي الهروي وكنونيته في عز الدين أبي نصر وغيرها[112].
ويرثي بقصائد مطولة أيضاً كنونيته في رثاء أبي المحاسن فقد بلغت ثمانية وتسعين بيتاً.(161/28)
2- ابن منير الطرابلسي:
عين الزمان، مهذب الدين أبو الحسن أحمد بن منير بن مفلح الطرابلسي ولد عام 473هـ في طرابلس، وهو شيعي متعصب التحق بنور الدين ومدائحه كثيرة، وهي تمثل الحياة الحربية في تلك المرحلة مات عام 548هـ[113].
سجل له أبو شامة كثيراً من القصائد التي تصور حروب نور الدين ضد الصليبيين[114]:
شمّر فقد مدت إليك رقابها لا يدرك الغايات غير مشمر
أو لست من ملأ البسيطة عدله واجتب بالمعروف أنف المنكر
يا هضبة الإِسلام من يعتصم بها يؤمن ومن يتول عنها يكفر
كانوا على صلب الصليب سرادقا انبت بنيته بكل مذكر
ملك تساوى الناس في أوصافه عُذر المقل وبان عجز المكثر
يا أيها الملك المنادي جوده في سائر الآفاق هل من معسر
ويقول[115]:
ومنك تعلم القطع المواضي وقد زبنت بها الحرب الزبون
وأنت السيف لم تمسسه نار ولا شحذت مضاربه القيون
ترقرق فوق صفحته الأماني ويقطر من غراريه المنون
لقد أشعرت دين الله عزا تتيه له المشاعر والحجون
وقام بنصره والناس فوضى قوي منك في الجلى أمين
وكم عبر الصليب بهم صليبا فردته قناك وفيه لين
وما خطوت بدار الشرك إلا هوى الناقوس وارتفع الأذين
3- القيسراني:-
هو شرف الدين محمد بن نصر بن صغير الملقب بالقيسراني ولد في عكا سنة 478هـ ويدعي أنه من نسل خالد بن الوليد، خرج أبوه من عكا بأسرته فراراً من الصليبيين، واستوطن قيساريه ومن هنا لقب الشاعر بالقيسراني، وليس أبوه كما وهم الكثير، وصاحب الروضين يطلق عليه القيسراني.
تتلمذ على الشاعر المشهور ابن الخياط، ومدح أمراء دمشق، ثم التحق بعماد الدين ومدحه، ولما قتل عماد الدين في عام 541هـ عاد إلى دمشق لكنه لم يلبث طويلاً حتى التحق بنور الدين زنكي وصحبه في حروبه وأسفاره، ونافسه على تلك المكانة الشاعر أحمد بن منير الطرابلسي ثم عاد في عام 548هـ إلى دمشق وحُمّ ومات بعد عشرة أيام من مرضه.(161/29)
وشعره يتكون من شريحتين كبيرتين إحداهما: المتمثل في المدائح وهذه الشريحة يصور فيها حياة الجهاد ضد الصليبيين حتى وفاته، وهو شعر تقليدي ينهج فيه أثر أبي تمام، والمتنبي، وأبي فراس الحمداني، ويمتح من معان ثرة في الجهاد وأبطاله، ووصف المعارك والحصور، وحسن القيادة والتدبير، وأماني وحدة المسلمين، واسترداد بيت المقدس.
لذلك كان أسلوبه جزلاً قوياً، كان يطيل القصائد وينظمها على الأوزان الطويلة.
ومصدر أشعاره في الجهاد، كتاب الروضتين، والخريدة وغيرهما.
وقد صحب عماد الدين سنة 534هـ ومدحه لما استرد المهرة وكفر طاب[116]:
حذار منا وأنى ينفع الحذر هي الصوارم لا تبقى وتذر
وأين ينجو ملوك الشرك من ملك من خيله النصر لا بل جنده القدر
سلوا سيوفاً كأغماد السيوف بها صالوا فأغمدوا نصلاً ولا شهروا
حتى إذا ما عماد الدين أرهقهم في مأزق من سناه يبرق البصر
وفي المسافة من دون النجاة لهم طول وإن كان في أقطارها قصر
وأصبح الدين لا عيناً ولا أثراً يخاف والكفر لا عين ولا أثر
فلا تخف بعد الإِفرنج قاطبة فالقوم إن نفروا ألوى بهم نفر
والشريحة الثانية تتجسد في ديوانه الثغريات حيث كان يزور أنطاكية والرها ويتردد على الأديرة والكنائس، فأخذت لبه بنات الإِفرنج، وقال شعراً عاطفياً رقيقاً يفيض شعوراً وإحساساً، ويتحلى بقشيب الفن، ومتعة الذوق وسهولة النطق، وسلامة الترتيب وصدق العاطفة، وواقعية المضمون[117]:
كم بالكنائس من مبتلة مثل المهاة يزينها الخفر
من كل ساجدة لصورتها لو أنصفت سجدت لها الصورُ
قدسية في حيل عاتقها طول وفي زنارها قِصر
غرسَ الحياءُ بصحن وجنتها وردا سقى أغصانه النظرُ
وتكلمتْ عنها الجفون فلو حاورتها لأجابك الحَوَرُ
4- المهذب بن الزبير:-(161/30)
هو أبو محمد الحسن بن علي بن الزبير المصري ينتمي إلى غسان من أسرة معروفة بالمال والرياسة، ولد في أسوان بمصر مدح الملك الصالح نور الدين زنكي مات سنة 561هـ، حقق ديوانه الدكتور محمد عبدالحميد سالم، وكتب عن حياته وأدبه في ثلاث وسبعين وماية صفحة، ثم أتبع ذلك بالديوان ويبدو أن الذي عثر عليه أقل مما نظمه الشاعر بكثير وربما ضاع أكثره[118].
له في المقدمة قصيدة مدح:
بالله يا ريح الشما ل إذا اشتملت الليل بُردا
وحملت من نشر الخزا مى ما اغتدى للند نداً
ونسجت في الأشجار بي ن غصونهن هوى ووداً
وهززت عند الصبح من أعطافها قدا فقدا
ونثرت فوق الماء من أجيادها الزهر عقدا
فملأت صفحة وجهه حتى اكتسى آسا ووردا[119]
وأطول قصائده في الديوان النونية التي يمدح الصالح طلائع بن رزيك، بلغت سبعة وستين بيتاً منها:
أعلمت حين تجاور الحيان أن القلوب مواقد النيران
وعرفت أن صدورنا قد أصبحت في القوم وهي مرابض الغزلان
وعيوننا عوض العيون أمدها ما غادروا فيها من الغدران
ولقد بعثت إلى الفرنج كتائباً كالأسد حين تصول في خفّان
وتيمموا أرض العدو بقفرة جرداء خالية من السكان
وثللت في يوم العريش عروشهم بشبا ضراب صادق وطعان[120]
5- أبو الفوارس: حَيص بيَص
هو شهاب الدين سعد بن محمد بن سعد بن صيفي التميمي ينتهي نسبه إلى أكثم بن صيفي، ولد في بغداد سنة 492هـ ومات عام 574هـ درس في المدار النظامية ((اشتهر أبو الفوارس بصدق اللهجة، ورصانة الخلق، والترفع عن الصغائر، والتنزه عن المقابح، والتزام السلوك الكريم، والتأدب بآداب الشرع))[121].
يعد من كبار الشعراء في بغداد له مكانته، يلتزم بالزي الأعرابي، يُدل ويفخر بأرومته التميمية، يعرض كثيراً عن الغزل الفاحش، ويقدم مدائحه بالفخر أحياناً.
له ديوان شعر مكون من جزأين، حققه مكي السيد جاسم، وشاكر هادي شكر، نشر عام 1974م بالعراق.(161/31)
مدح خلفاء بني العباس ووزراءهم وملوك بني أسد ومدح نور الدين زنكي وهو يجنح إلى الصور البدوية في شعره يقول في مقدمة يمدح بها أنو شروان بن خالد الوزير[122].
وفتيان صدق من تميم تناثلوا دروعهم والليل ضافي الوشائع
وقيذين من عرق السرى وقلوبهم شداد على مر الخطوب الصوادع
يقودون جردا مضمرات كأنها كواسر عقبان الشريف الأباقع
وكنت إذا ما سورتني كريهة برزت لها في جحفل من مجاشع
فلم استكن من صرف دهرٍ لحادث ولا ارتعت من وقع الخطوب لرائع
وشعره يمتاز بقوته فهو يلجأ إلى الحروف ذات المخارج الحلقية، والأصوات الجهورية، ومن هذه الألفاظ القوية تتكون تراكيبه الجزلة القوية.
6- عرقلة الكلبي:-
هو أبو الندى حسان بن نمير، يلقب بالكلبي ولد عام 486هـ، عاش في دمشق، يقول عن العماد الأصبهاني: "لقيته في دمشق شيخاً خليعاً ربعة مائلاً إلى القصر، أعور مطبوعاً حلو المنادمة، لطيف النادرة، معاشراً للأمراء، شاعراً مستعراً في الهجاء". مات عام 567هـ[123].
مدح شيركوه وصلاح الدين لما ذهبا إلى مصر عام 562هـ[124].
وهو يتقلب في مدائحه فتارة يمدح الوزير ابن رزيك، ويعلن أنه على مذهبه يتشيع، وبعد ذلك يمدح أسد الدين شيركوه، وصلاح الدين. وتارة يعلن الابتعاد عن الصراع))[125].
ذَرِ الأتراك والعربا وكن في حزب من غلبا
بجلّق أصبحت فتن تجر الويل والخربا
لئن غمت فواأسفا ولم تخرب فواعجبا
وهو قصير النفس يغلب على ديوانه المقطوعات الشعرية، والقصائد القصيرة؛ فهي لا تتجاوز خمسة وعشرين بيتاً، وقد أشار إلى ذلك الأصبهاني: ((ثم وقع بيدي بعد ذلك ديوان شعره فطالعته، وقصائده قصار، وفي النادر أن تزيد قصيدته على خمسة وعشرين بيتاً، ومقطعته على عشرة أبيات وكلها نوادر))[126].
7- أسامة بن منقذ:(161/32)
ولد أسامة بن منقذ في شيزر عام 488هـ في أسرة توارثت الإِمارة في حصن شيزر كان (أبوه صالحاً) علمه الفروسية، وحفَّظه القرآن. وألحقه بالعلماء ورعاه عمه أبو العساكر حاكم شيزر حتى جاء به أبناء، فضيق على أسامة وأخرجه منها، فولى وجهه شطر عماد الدين زنكي، والتحق بجنده ثم عاد مرة أخرى إلى شيزر ليفك حصار الصليبيين عنها، ثم أخرجه عمه مرة أخرى هو وأسرته فاتجه إلى دمشق، وأصبح مستشاراً، ثم انتقل إلى مصر عام 539هـ واستقبل حافلاً، وأصبح من رجال الدولة لكنه عاد إلى الشام 549هـ والتحق بنور الدين زنكي واعتكف في حصن (كيفا) للتأليف ثم التحق بصلاح الدين عام 570هـ وقربه إليه وتقدمت به السن ومات عام 583هـ.
وشعره يمثل حياته فهو أمير فارس أبي النفس، له مكانة عالية عند علية القوم ليس بالمدح لكن بسجل الأحداث ولاسيما في مكاتباته مع الصالح طلائع بن رزيك، وله ديوان شعر مطبوع حققه الدكتور أحمد بدوي، وحامد عبدالمجيد، وله كتاب الاعتبار، وبديع البديع، والعصا، ولباب الآداب وغيره وقد اقتفى بشعره آثار أبي فراس. والمتنبي وأبي تمام وغيرهم من شعراء العربية[127] يقول في الشكوى[128]:
وما أشكو تلون أهل ودي ولو أجدتُ شكيتهُم شكوتُ
مطلتُ عتابَهم، ويئستُ منهم فما أرجوهم فيمن رجوتُ
إذا أدمت قوارصُهم فؤادي كظمت على أذاهم وانطويتُ
ورحت عليهم طلق المحيا كأني ما سمعت ولا رأيتُ
تجنوا لي ذنوباً ما جنتها يداي، ولا أمرت ولا نهيت
ولا والله ما أضمرت غدرا كما قد أظهروه ولا نويت
ويوم الحشر موعدنا وتبدو صحيفةُ ما جنوه وما جنيتُ
8- سبط التعاويذي:-(161/33)
هو أبو الفتح محمد بن عبيدالله بن عبدالله الكاتب المعروف بابن التعاويذي، ولد عام 519هـ ومات عام 583هـ، شاعر عراقي، ولكن له مدائح في صلاح الدين الأيوبي وله هبات وهدايا منه، يقول عنه ابن خلكان: "شاعر وقته ولم يكن مثله جمع شعره بين جزالة الألفاظ وعذوبتها، ورقة المعاني ودقتها، وهو في غاية الحسن والحلاوة"[129].
كان معاصراً للعماد الأصهاني وصديقاً له بينهما معارضات شعرية[130] وله ديوان ضخم مطبوع ولكنه لم يحقق.
وشعره ينبئ عن موهبة ودربة شاعرية، ونظرة واعية، وطول نفس، وتفوق في النظم، وقدرة في توظيف اللغة حيث السهولة والانسيات والتأثر الشعوري، وهو بعيد عن التكلف في المضمون والشكل، وبعيد عن صنعة البديع وتصنعه:
لما رأوك وأنت أثبت منهم جأشفا وأفئدة الفوارس تخفق
ولو على الأدبار لا يدرون أن همُ إلى ورد المنية أسبق
وأدرتهن كؤوس موت أحمر عاف الشراب به العدو الأزرق
فنجا وصدر الأشرفية واغر منه وقلب الزاغبية محنق
نبذته أقطار البلاد فأصبحت من دونه والرحب فيها ضيق
حتى كأن الأرض حلقة خاتم في عينه والجو سقف مطبق
يرتاع من ذكراك إن خطرت له وبراك في حلم المنام فيفرق[131]
9- ابن عُنين:-
هو شرف الدين أبو المحاسن محمد بن نصر الأنصاري الدمشقي، ولد سنة 549هـ وتوفي سنة 630هـ نشأ بدمشق قبلي الجامع الأموي قال الشعر وعمره ستة عشرة عاماً، وشب في مرحلة تكوين الدولة الأيوبية، فلم يكن عهد نور الدين محمد زنكي بعهد استقرار، ولم تظهر سمات القوة والجهاد عند صلاح الدين مما جعل ابن عنين يشك في الحكام الجدد ويسخر منهم فقال في صلاح الدين، والقاضي الفاضل:-
سلطاننا أعرج وكاتبه ذو عمش والوزير متحدب
فأخرج من دمشق وتوجه إلى اليمن، والحجاز، والعراق والهند، وطوف كثيراً ثم عاد إلى دمشق في عهد العادل أخي صلاح الدين الأيوبي.
والتقى بمصر بمجموعة من الشعراء، ولهم مجالس أنس يتطارحون الشعر فيها ومن ذلك الألغاز والأحاجي.(161/34)
وله ديوان حققه خليل مردم بك المتوفى عام 1959م. والديوان مصنف على أبواب: الباب الأول في المدائح، والثاني في الرثاء، والثالث في الحنين إلى دمشق، والرابع في الوقائع والمحاضرات، والخامس في الدعابة والتهكم والسخرية، والسادس في الألغاز والسابع في الهجاء[132].
وينهج ابن عنين في بناء القصيدة منهج العمود الشعري، والنسق المألوف فيستهلها بالغزل، ثم الشكوى، ثم يحسن التخلص إلى غرض المدح ويخرج أحياناً إلى ذكر محاسن دمشق كأنه يعوض به ذكر الأطلال.
وها هو يمدح الملك المعظم عيسى بن الملك العادل فيذكر دمشق[133]:
أشاقك من عُليا دمشق تصورها وولدان روض النيربين وحورها
ومنبجس في ظل أحوى كأنه ثياب عروس فاح منها عبيرها
منازل أنس ما أمحت ولا أمحت بمر العوادي والسواري سطورها
ومن الشكوى على شاكلة الأوائل حتى في التجريد واللفظ (الخليلي):
خليلي إن البين أفنى مدامعي فهل لكما من عبرة أستعيرها
لقد أنسيت نفسي المسرات بعدكم فإن عاد عيد الوصل عاد سرورها
ثم يتبلور عنده حسن التخلص:
وقد ماتت الآمال عندي وإنما إلى شرف الدين المليك نشورها
مليك تحلى الملك منه بعزمة بها طال رمح السماك قصيرها
ومن مبالغته:
همام تظل الشمس من عزماته محجبة تقع المذاكي ستورها
مهيب فلو لاقى الكواكب عابساً تساقطت الجوزا وخرت عبورها
مراجع البحث حسب ورودها في البحث
1 - الجاحظ، البيان والتبيين تحقيق عبدالسلام محمد هارون، الطبعة الرابعة 1395هـ - 1975م.
2 - ابن قتيبة، الشعر والشعراء، تحقيق أحمد محمد شاكر، دار المعارف بمصر 1966م.
3 - ابن رشيق – العمدة – تحقيق محمد محيي الدين عبدالحميد الطبعة الرابعة 1972م. بيروت – دار الجيل.
4 - ابن الدهان، الديوان، تحقيق عبدالله الجبوري، الطبعة الأولى 1388هـ - 1968م بغداد دار المعارف.
5 - سبط التعاويذي، الديوان، مصور عن طبعة المقتطف بمصر 1903م دار صادر 1408هـ - 1988م.(161/35)
6 - ابن عُنين، الديوان، تحقيق خليل مروم بك دار صادر.
7 - أبو الفوارس، الديوان، تحقيق مكي السيد جاسم، وشاكر هادي شكر، العراق 1974م.
8 - أبو شامة، الروضتين دار الجيل بيروت.
9 - الأبيوردي، الديوان تحقيق د. عمر الأسعد، الطبعة الثانية 1407هـ - 1987م، ومؤسسة الرسالة بيروت.
10 - الأرجاني، الديواني، تحقيق د. محمد قاسم مصطفى طبع عام 1981م دار الرشيد، العراق.
11 - العماد الأصبهاني – الخريدة، شعراء الشام تحقيق، د. شكري فيصل، الجزء السادس 1388هـ - 1968م.
12 - محمد زغلول سلام، الأدب في العصر الأيوبي، دار المعارف بمصر.
13 - د. عمر موسى باشا، الأدب في بلاد الشام عصور الزنكيين والأيوبيين والمماليك الطبعة الأولى 1409هـ - 1989م دار الفكر بيروت.
14 - عرقلة الكلبي، الديوان، تحقيق د. أحمد الجندي، دار الحياة، دمشق عام 1390هـ - 1907م.
15 - أسامة بن منقذ الديوان، تحقيق د. أحمد بدوي، وحامد عبدالحميد، الطبعة الثانية 1403هـ - 1983م، عالم الكتب بيروت.
16 - عبدالمنعم الجلياني، ديوان المبشرات والقدسيات تحقيق، د. عبدالجليل حسن عبد المهدي طبع عام 1409هـ - 1989م. دار البشير، الأردن عمان.
17 - بهاء الدين زهير، الديوان، طبع عام 1401هـ - 1981م دار بيروت للطباعة، بيروت.
18 - العماد الأصبهاني، الخريدة – القسم العراقي الجزء الثاني تحقيق بهجة الأثري، المجلد الأول، المجمع العلمي العراقي 1384هـ - ط 1966م.
19 - ابن خلكان، وفيات الأعيان، إشراف إحسان عباس، دار صادر، بيروت.
20 - المهذب بن الزبير، شعر المهذب بن الزبير، تحقيق د. محمد عبدالحميد سالم، الطبعة الأولى 1409هـ و1988م هجر.
21 - د. أحمد أحمد بدوي، الحياة الأدبية في عصر الحروب الصليبية بمصر والشام، الطبعة الثانية، دار النهضة/ مصر.
22 - د. محمد الهرفي شعر الجهاد في الحروب الصليبية في بلاد الشام، 1400هـ - 1980م الطبعة الثالثة، مؤسسة الرسالة – بيروت.(161/36)
ــــــــــــــــــــــ
[1] الجاحظ ، البيان والتبيين 2: 13 ، ابن قتيبة ، الشعر والشعراء 1: 78 .
[2] الجاحظ ، البيان والتبيين 2: 9 .
[3] ابن قتيبة: الشعر والشعراء 1: 78 ، دار المعارف بمصر 1966م .
[4] ابن رشيق ، العمدة م: 117 .
[5] ابن الدهان ، الديوان 102 ، 103 .
[6] سبط التعاويذي ، الديوان 31 ، 32 .
[7] سبط التعاويذي ، الديوان 55 .
[8] المرجع السابق 65 .
[9] ابن عنين ، الديوان 5 .
[10] سبط بن التعاويذي ، الديوان 108 .
[11] المرجع السابق 115 .
[12] انظر ديوان ، الأرجائي ، وأبي الفوارس ، وسبط التعاويذي ، وغيرهم كثير .
[13] أبو الفوارس ، الديوان 1: 142 .
[14] أبو شامة ، الروضتين 1: 32 .
[15] المرجع السابق 1: 34 .
[16] المرجع السابق 1: 37 .
[17] المرجع السابق 1: 49 .
[18] المرجع السابق 1: 81 .
[19] المرجع السابق 1: 84 .
[20] الأبيوردي ، الديوان 2: 324 .
[21] الأرجاني ، الديوان 3: 1601 .
[22] أبو شامة ، الروضتين 1: 18 حتى 21 .
[23] أسامة بن منقذ الديوان .
[24] انظر ديوان الأرجائي (فهرس القوافي) .
[25] العماد الأصبهاني ، الخريدة شعراء الشام 1: 145 .
[26] المرجع السابق 164 و183 .
[27] انظر سبط التعاويذي – الديوان .
[28] انظر سبط التعاويذي ، الديوان .
[29] سبط التعاويذي ، الديوان 1 .
[30] ابن عنين – الديوان 22- 26 .
[31] ابن غنين – المرجع السابق .
[32] ابن غنين – المرجع السابق .
[33] محمد زغلول سلام ، الأدب في العصر الأيوبي ، 267 .
[34] الأرجاني ، الديوان 3: 914 ، 922 .
[35] المرجع السابق 3: 1230 .
[36] الأرجاني ، الديوان 3: 980 ، 982 .
[37] المرجع السابق 3: 986 وما بعدها .
[38] المرجع السابق 3: 998 .
[39] المرجع السابق 3: 1005 .
[40] المرجع السابق 3: 1044 .
[41] المرجع السابق: 1048 .
[42] المرجع السابق 3: 1058 .
[43] المرجع السابق 3: 1064 .
[44] المرجع السابق 3: 1073 .(161/37)
[45] المرجع السابق 3: 1076 وما بعدها .
[46] المرجع السابق 3: 1088 .
[47] ..... غير واضح .....
[48] أبو شامة ، الروضتين 1: 101 .
[49] المرجع السابق 1: 89 .
[50] المرجع السابق 1: 78 .
[51] المرجع السابق .
[52] أبو شامة ، الروضتين 1: 82 .
[53] المرجع السابق 1: 77 .
[54] أبو شامة ، الروضتين 1: 77 ، 78 .
[55] المرجع السابق 1: 78 ، 79 .
[56] المرجع السابق 1: 81 ، 82 .
[57] المرجع السابق 1: 82 .
[58] المرجع السابق 1: 84 .
[59] المرجع السابق 1: 85 ، 86 .
[60] أبو شامة ، الروضتين 1: 73 ، 74 .
[61] المرجع السابق 1: 54 .
[62] المرجع السابق 1: 38 ، 39 .
[63] المرجع السابق 1: 58 .
[64] العماد الأصبهاني ، الخريدة 1: 98 .
[65] أبو شامة ، الروضتين 1: 58 .
[66] عمر موسى باشا ، الأدب في بلاد الشام 204 .
[67] المرجع السابق 3: 1058 .
[68] المرجع السابق 51 .
[69] المرجع السابق 5 .
[70] المرجع السابق 5 .
[71] المرجع السابق 84 .
[72] أبو الفوارس ، الديوان 1: 257 .
[73] المرجع السابق 1: 344 .
[74] أسامة بن منقذ ، الديوان 59 ، تحقيق د. أحمد بدوي ، وحامد عبدالحميد .
[75] المرجع السابق 53 .
[76] الديوان 244 ، 247 .
[77] أسامة بن منقذ ، الديوان 251 .
[78] العماد الأصبهاني ، الديوان 66 .
[79] المرجع السابق 107 .
[80] عبدالمنعم الجلياني ، ديوان المبشرات ، والقدسيات: 64 تحقيق د. عبدالجليل حسن عبدالهادي .
[81] الجلياني ، المبشرات والقدسيات: 58 .
[82] الجلياني ، المبشرات والقدسيات: 137 .
[83] المرجع السابق 143 .
[84] المرجع السابق 156 .
[85] المرجع السابق 160 ، 161 .
[86] السادس عشر ، الديوان 3 .
[87] المرجع السابق 9 .
[88] المرجع السابق 12 .
[89] المرجع السابق 15 .
[90] المرجع السابق 19 .
[91] بهاء الدين ، الديوان 228 .
[92] المرجع السابق 224 .
[93] المرجع السابق 230 .(161/38)
[94] الأرجاني ، الديوان 3: 914 إلى 921 .
[95] المرجع السابق 3: 1225 .
[96] أبو شامة ، الروضتين 1: 101 .
[97] المرجع السابق 1: 73 .
[98] أبو الفوارس ، الديوان 1: 343 .
[99] المرجع السابق 1: 346 ، 347 .
[100] المرجع السابق 1: 144 .
[101] العماد الأصبهاني ، الخريدة ، القسم العراقي ، الجزء الثاني 146 .
[102] أسامة بن منقذ ، الديوان 245 .
[103] المرجع السابق 251 ، 252 .
[104] عرقلة الكلبي ، الديوان 84 .
[105] ابن عنبر ، الديوان 9 .
[106] المرجع السابق 12 .
[107] المرجع السابق 15 .
[108] المرجع السابق 19 .
[109] مقدمة الديوان ، ابن حكال 1: 515 .
[110] الأرجاني 3: 1073 ، 1074 .
[111] المرجع السابق 3: 1300 ، 1342 .
[112] المرجع السابق 1: 1450 .
[113] ابن خلكال ، وقباب الأعمال 1/49 ، د. عمر موسى باشا ، الأدب في بلاد الشام 205 ، أحمد بدوي ، الحياة الأدبية في عصر الحروب الصليبية 136 ، د. محمد الهرفي ، شعر الجهاد: 255 .
[114] أبو شامة ، الروضتين 1: 78 .
[115] المرجع السابق 1: 82 .
[116] أبو شامة بالروضتين 1: 34 .
[117] العماد الأصبهاني ، الخريدة ، شعراء الشام ودمشق 1: 12 .
[118] انظر المهذب بن الزبير ، الديوان ، حياته وشعره .
[119] المرجع السابق 186 .
[120] المرجع السابق 233 .
[121] أبو الفوارس ، الديوان 1: 39 .
[122] المرجع السابق 1: 75 .
[123] العماد الأصبهاني ، الخريدة ، شعراء الشام 1: 178 .
[124] عرقلة الكلبي ، الديوان 30 ، 49 .
[125] المرجع السابق 13 .
[126] العماد الأصبهاني ، الخريدة ، شعراء الشام 1: 183 .
[127] انظر أسامة ابن منقذ ، الديوان ، المقدمة ، انظر عمر موسى باشا الأدب في بلاد الشام .
[128] أسامة بن منقذ ، الديوان 165 .
[129] سبط التعاويذي ، مقدمة الديوان .
[130] العماد الأصبهاني ، الديوان 438 .
[131] سبط التعاويذي ، الديوان 297 . مطبعة صادر .(161/39)
[132] ابن عنبر ، الديوان ، المقدمة د. عمر موسى باشا ، الأدب في بلاد الشام 344 ، د. أحمد بدوي ، الحياة الأدبية في عصر الحروب الصليبية 222 .
[133] ابن عنبر ، الديوان 15 إلى 18 .(161/40)
العنوان: الأثرُ الحقيقيُّ لصواريخ المقاومة في (زيكيم) الإسرائيلية
رقم المقالة: 1450
صاحب المقالة: خاص: الألوكة
-----------------------------------------
لم تستمر السلطةُ الكاملة لحركة المقاومة الإسلامية (حماس) في قطاع غزة طويلاً، حتى فاجأت المقاومةُ الفلسطينية قواتِ الاحتلال الإسرائيلي بضربة صاروخية، حققت أعلى نسبة إصابات بين صفوف جيش الاحتلال منذ بداية إطلاق الصواريخ المحلية الصنع.
تسعة وستون جريحاً، بينهم 13 إصاباتُهم بالغة، حصيلة صاروخين؛ أطلقت أحدَهما سرايا القدس، وأطلقت الآخرَ ألوية الناصر صلاح الدين, كلٌّ على حدة، باتجاه معسكر إسرائيلي على مقربة من قطاع غزة. قبل أن يتمكن الجنودُ الإسرائيليون من الاختباء في ملجأ عسكري محصّن، برغم إطلاق صفارات الإنذار قبل دقائق من سقوط الصاروخين على قاعدة (زيكيم) العسكرية.
جدوى صواريخ المقاومة:
على مقربة من قطاع غزة، تقيم قواتُ الاحتلال الإسرائيلية قواعدَ عسكرية، شاركت في عمليات الاجتياح التي شهدها القطاعُ طوال السنوات الماضية.
بين القطاع وبين قاعدة (زيكيم) كيلو متر واحد فقط، يعلوه (بالون) كبير في الهواء، لمراقبة الأجواء ورصد الصواريخ التي باتت تُقلق الإدارةَ الإسرائيلية قلقًا متكررًا.
آلافُ الصواريخ التي أطلقتها حركاتُ المقاومة الفلسطينية المختلفة، أصابت عددًا من المستوطنات الإسرائيلية، ولكنها لم توقع الكثيرَ من الإصابات والقتلى، حتى باتت الكثيرُ من الأقلام الصحفية تكتب عن جدوى الصواريخ، وجدوى المبالغ التي تنفق عليها، وقدرتها على مواجهة الصواريخ الإسرائيلية الذكية. إلا أن الصاروخين الأخيرين، استطاعا أن يحدثا صدمة حقيقية، وصفتها بعضُ الصحف الإسرائيلية "بالصدمة المروعة" برغم القدرات التكنولوجية التي يمتلكها جيشُ الاحتلال الإسرائيلي في مواجهة أي هجمة صاروخية.(162/1)
فالصاروخان سقطا في القاعدة العسكرية تماماً، وساعد الوقتُ المناسب الذي أطلق الصاروخان خلاله في إحداث أكبر نسبة إصابة محققة، وذلك أن الصاروخين سقطا في وقت كان جنودُ الاحتلال فيه لا يزالون في أسِرّتهم فجراً، ولم يسمع الكثيرُ منهم صفارات الإنذار التي انطلقت بعد رصد الصاروخين وهما في أجواء المعسكر.
وتنقل وسائلُ الإعلام عن متحدث عسكري إسرائيلي ومصادرَ طبيةٍ قولَها: "إن عشرات من المجندين الجدد أصيبوا بجروح خلال الهجوم، بينهم اثنا عشر في حالة خطيرة عند سقوط صاروخ في خيمة خالية في قاعدة (زيكيم) لتدريب المجندين قبل يومين فقط من احتفالات السنة اليهودية الجديدة".
كما أوضح المتحدثُ أن شظايا الصاروخ اخترقت خيامًا كان الجنود نائمين بها. ونقل الجنودَ المصابين نحوُ عشرين سيارة إسعاف وطائرات هليكوبتر إلى مستشفيات عسكرية.
وتنقلُ إذاعةُ الجيش الإسرائيلي عن المصادر العسكرية قولَها: "إن الصاروخ، الذي يعتقد أنه أطلق من بلدة بيت حانون شمال قطاع غزة، سقط على خيمة خالية لا تستخدم إلا في ساعات النهار لأغراض إدارية"، مشيرة إلى أن عدداً كبيراً من الجنود أصيبوا بشظايا الصاروخ خلال نومهم في خيام مجاورة. وأن "صفارة إنذار دوّت قبل دقائق من سقوط الصاروخ على الخيمة، لكن الكثير من الجنود كانوا نائمين، ولم يتمكنوا من الوصول إلى خندق محصن ضد القنابل في الوقت المناسب".
وفي كل الأحوال، فإن الانتصار الأكبر في هذه العملية يسجل لصالح الصواريخ الفلسطينية المحلية الصنع، التي باتت تثبت جدارتها أكثر فأكثر، وتثبت الأيادي الفلسطينية التي تصنعها على أنها قادرة على زيادة فاعليتها وقوتها أكثر فأكثر.
الصدمة:(162/2)
تحدّث بعضُ جنود الاحتلال عن الهلع والفزع الذي رافق استيقاظَهم على أصوات الانفجارات، ومشاهد الجرحى والدماء والدمار، وبرغم أنه لا يمثل إلا مشهداً يسيرًا لما يعيشه المدنيون من الفلسطينيين في غزة والضفة، إلا أن المشهد كان أليماً، وجعل أحد الجنود الإسرائيليين يقول: "نحن نعلم أننا في مجال صواريخ المقاومة الفلسطينية، ولكن ماذا بإمكاننا أن نعمل؟" وفق ما نقلت شبكة البي بي سي البريطانية، التي علّقت على كلام الجندي الإسرائيلي بالقول: "إن الجنود الإسرائيليين بَدَوا مستسلمين لقدرهم"!
ولا ينطبق هذا الكلام على الجنود فقط، بل يتخطاه إلى القيادة العسكرية، التي تعلم أن قواتها ستبقى في مرمى صواريخ المقاومة، التي لم يوقفها شيء، برغم الحصار والتضييق والتقسيم، وبرغم التهديد المستمر بالاغتيالات والاعتقالات والاجتياح. لذلك فقد سارع جيشُ الاحتلال بوضع تعزيزات دفاعية خرسانية، من مستطيلات الخرسانة المسلحة، نقلتها شاحنات كبيرة إلى القاعدة العسكرية شمال غزة، في مشاهد نقلتها شاشات التلفزة العالمية، أظهرت المخاوف الإسرائيلية من حدوث هجمات محتملة في المستقبل القريب.
كما نقلت القناة التلفزيونية الإسرائيلية، ما وصفته بأنه "مظاهرة" لعشرات من أسر الجنود الإسرائيليين في قاعدة (زيكيم)، الذين طالبوا بإجلاء أبنائهم من القاعدة، وتحصينها بطريقة أفضل لحمايتها مستقبلاً من هجمات المقاومة. وبحسب ما ذكرت القناة، فإنّ مشاداتٍ كلاميةً دارت بين أهالي الجنود وضباط القاعدة.
تهديدات الرد:
ربما كانت التعزيزاتُ الجديدة تحصيناً ضد ضربات قادمة محتملة بالفعل، خلال اجتياح عسكري إسرائيلي محتمل أيضاً في شمالي غزة -وهو أمر تدرسُه القيادةُ الإسرائيلية حالياً- وصفته الصحافةُ الإسرائيلية بأنه "دفع ثمن" للهجمات الفلسطينية.(162/3)
وبرغم أن الاجتماع -الذي ضم رئيسَ الحكومة (إيهود أولمرت)، إلى جانب اللجنة الوزارية المصغرة- قرّر الردّ العسكري على الهجمات الصاروخية، إلا أن ملامحَ الرد لم تكتمل بعد. إذ قالت الإذاعةُ الإسرائيلية: "إن أياً من المشاركين في الاجتماع -الذي حضره وزيرُ الدفاع (إيهود باراك) ووزيرة الخارجية (تسيبي ليفني) ورئيس الأركان (غابي أشكنازي)- لم يُدلِ بأي تصريح عن طبيعة الرد على العملية".
وحسب ما قال المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي، فإن اجتماعاً أمنياً وعسكرياً آخر ستعقده اللجنةُ الوزارية المصغرة، يوم الأحد القادم، بعد أعياد رأس السنة اليهودية، وسوف تُبحث الطريقةُ المناسبة للرد الإسرائيلي على الهجمات.
بطبيعة الحال، فإن المتوقع أن يكون الرد عسكرياً، وهو ما يحث عليه اليمينُ الإسرائيلي، الذي حذر من أنه سينسحب من الائتلاف الحكومي، ما لم تنفذ الحكومةُ اجتياحاً عسكرياً واسعاً في غزة. وهو الأمرُ الذي تحضُّ عليه أيضاً بعضُ القيادات المتطرفة، كبنيامين نتنياهو (زعيم المعارضة)، و(أفيغدور ليبرمان) وغيرهما.
الاجتياح العسكري، الذي لن يدوم إلى الأبد في غزة، سيحاول السيطرة على شمال القطاع، واحتلال الأجزاء التي يتوقع أن تكون الصواريخ الفلسطينية انطلقت منها. في محاولة لإيجاد مساحة أمان تُبعد مناطق إطلاق الصواريخ الفلسطينية أميالاً إلى الوراء. وهو أمر سيضع القوات الإسرائيلية المنتشرة في شمال غزة، في مرمى الصواريخ الفلسطينية المتراجعة، ويكون عائقاً أمام أي مفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين. خاصة وأن طريق مفاوضات "مؤتمر السلام" تحاول واشنطن تمهيدَه بشتى الوسائل.(162/4)
إلا أن القوات ستتراجع بعد مدة، تاركةً المجال مفتوحاً أمام صواريخ المقاومة التي لن تهدأ أبداً. وهو أمر تعلمُه القيادة الإسرائيلية جيداً، وتعلم أن إيقافَه يُعد إعجازاً حقيقياً. لذلك فقد صرّحت تسيبي ليفني (وزيرة الخارجية الإسرائيلية) بالقول بعد الاجتماع الوزاري المصغّر: "ليس لدينا جيوش فقط، بل لدينا الوسائل أيضاً، للعمل في غزة، وينبغي استخدامُها بشكل مدروس. ولكن يجب أن نقول الحقيقة، بأنّ حتى هذه الأدوات لن تستطيع أن توقف صواريخ القسّام".
هناك آلية أخرى للرد الإسرائيلي المحتمل، منها ما ذكرته صحيفة "يديعوت أحرونوت" العبرية، والتي قالت: "إن المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، تقوم حالياً ببلورة خطة رد، منها: تنفيذ اغتيالات واسعة ضد القيادات الفلسطينية، ومضاعفة عدد ومدى عمليات الاجتياح والتوغل البرية في عمق قطاع غزة، خاصة المتعلقة بأهداف جمع المعلومات الاستخبارية، وتدمير البنى التحتية العسكرية التابعة لحماس والجهاد، وزيادة العمليات المشتركة بين سلاح الجو الإسرائيلي والوحدات البرية؛ لتحديد أماكن إطلاق صواريخ القسام وإحباطها، والنيل من الخلايا قبل الإطلاق وبعده، وإطلاق نيران المدفعية، وشن غارات بالطائرات على الأماكن التي تنطلق منها عمليات إطلاق الصواريخ، حتى من دون وجود هدف محدد".
تقويض حكومة حماس:
موقع (عرب 48) على الإنترنت، نشرَ بعضَ بنود الخطة الإسرائيلية المحتملة، بناءً على مصادر إعلامية إسرائيلية؛ قال: "إنها تهدف إلى تقويض سلطة حماس أيضاً في قطاع غزة، وزعزعة الدعم الجماهيري لها، وتقليص إطلاق الصواريخ الفلسطينية من القطاع".(162/5)
ومن بين البنود التي أوردها الموقع: تشجيعُ أعمال الفوضى والعنف والتفلت في القطاع عن طريق العملاء. كما تشمل الخطة إيجاد وسائل ضغط مدنية ما زالت قيد الدراسة، وتُفحص الجوانبُ القانونية لتنفيذها، وتهدف إلى دفع السكان إلى ممارسة ضغط على فصائل المقاومة، وإضعاف حماس سياسيًا، وتعزيز قوة محمود عباس (رئيس السلطة الفلسطينية وزعيم حركة فتح). ومن ضمن الوسائل: قطعُ المياه والكهرباء، وخفضُ كميات الوقود التي تضخ إلى قطاع غزة، ومنعُ نقل البضائع غير الضرورية. كما تدرس الأجهزة الأمنية للاحتلال أيضا منعَ خروج الصيادين إلى البحر.
ويقول موقع (عرب 48): "إنه وبرغم ذلك، فإن الأجهزة الأمنية للاحتلال تعرب عن خشيتها من أن يؤدي الضغط الاقتصادي على قطاع غزة إلى دفع السكان إلى التبعية لحماس لتوفير أمورهم المعيشية الأساسية، وبذلك يعودُ الضغط بأثر عكسي، ويساهم في تعزيز قوة حماس". مشيرًا إلى أن قيادة جيش الاحتلال تدرس خطةً لتقسيم قطاع غزة إلى عدة مناطق عن طريق قصف الطرق، والطرق الترابية، بحيث ينتج عن القصف حُفَرٌ واسعة تغلق الطرق وتشل حركة السير، وبذلك تضطر خلايا الإطلاق إلى حمل القذائف والوصول مشيًا على الأقدام إلى مواقع الإطلاق المتقدمة. ومن خلال القصف الجوي يُقسم قطاعُ غزة إلى عدة مناطق يصبحُ التنقلُ بينها صعبًا للغاية. وتشير الخطةُ إلى أنه من السهل على الأجهزة الأمنية منع الفلسطينيين من ردم الحفر، ومن السهل عليها أيضا قصفها مرة أخرى أو قصف مكان محاذٍ لها!
تبدو العملية برمتها محاولة لفرض القوة الأكثر صبراً على الآخر، فالرهان الإسرائيلي الحالي يتعلق بمدى قدرة الفلسطينيين في غزة على الصبر على الأوضاع القاسية التي يعيشونها، في ظل قيادة حركة حماس للقطاع.(162/6)
ويأتي الجواب من داخل القطاع، الذي صبر ولا يزال، ما دام يؤمن بأنه على الحق.. وليس أدلَّ على ذلك من أن الصواريخ التي تحررت من سلطة حركة فتح وقيادتها وأمنها الوقائي، حتى باتت تصيبُ وتدك الحصون الإسرائيلية، غيرَ خائفة من الرد المحتمل. فكل ما قد تقوم به قواتُ الاحتلال الإسرائيلية قد عاشه القطاعُ وأبناؤه مرارًا. فلا انقطاعُ التيار الكهربائي، ولا عملياتُ الاغتيال والقتل، ولا الاجتياحُ بجديد عليهم.
المفاوضات.. أملاً:
ومقابل الصمت أحياناً، والتجريح أحياناً أخرى من قبل (فتح)، لا تُخفي حكومة (حماس) مساندتها للعمليات العسكرية ضد الاحتلال، فالأمرُ لديها هو جزء مشروعٌ من مقاومة الاحتلال، والدفاع عن الأرض المحتلة. وهو ما عبّر عنه صراحة سامي أبو زهري (المتحدث باسم الحركة) بقوله: "إن إطلاق الصاروخين جزء من المقاومة المشروعة، وإن العملية تمثل دفاعًا عن النفس في مواجهة الجرائم الإسرائيلية المستمرة". وأضاف بالقول: "إن التهديدات الإسرائيلية ليست جديدة، فهي قائمة وتم تنفيذها في الكثير من الأحيان، والشعب الفلسطيني واجه باستمرار هذه التهديداتِ بكل صلابة".
كما لا تخفي حكومة حماس توقعاتها بوجود رد إسرائيلي عسكري، لذلك فقد صرّح إسلام شهوان (المتحدث باسم القوة التنفيذية التابعة لوزارة الداخلية الفلسطينية) قائلاً: "إن القوة انتهت من عملية إخلاء مواقعها في قطاع غزة تحسّباً لهجوم إسرائيلي محتمل"، مضيفاً أن إخلاء مقارّ التنفيذية في القطاع جاء بعد التهديدات الإسرائيلية بالقيام بعمليات انتقامية لقصف القاعدة العسكرية الإسرائيلية.(162/7)
وفي المقابل، نجد أن الصبرَ الفلسطيني على الأوضاع الصعبة في القطاع، وتمسكَه بالخيار العسكري، والوقوفَ إلى جانب حركة حماس، أخرج الكثيرَ من السياسيين والإعلاميين الإسرائيليين، المطالبين بالجلوس إلى طاولة المفاوضات مع حماس، باعتبارها أقدرَ (حتى من فتح) على إعطاء الأمان للإسرائيليين، فسلطةُ (فتح) صارت غير قادرة على تقديم أي شيء للإسرائيليين، وصارت غير قادرة على تهديدهم بأي شيء، لذلك فإنّ أوراقَ اللعبة باتت بيد (حماس). وهو ما عبرت عنه شبكةُ البي بي سي البريطانية بالقول: "إن بعض المحللين يقولون: إن الشيء الوحيد القادر على إيقاف هجمات الصواريخ هو أن يجلس الطرفان أمام طاولة المفاوضات".(162/8)
العنوان: الإجازة الزوجية..
أسلوب جديد لإنعاش الحياة الزوجية
رقم المقالة: 576
صاحب المقالة: تحقيق: إيمان الحلواني
-----------------------------------------
• الأزواج: إيجابية إذا ما طبقت بطريقة صحيحة.
• الزوجات: فرصة لإعادة الحب، والسكينة لحياة أصابها الملل.
• د.عادل مدني: تعيد اكتشاف شخصية كل منهما على حدة.
• د.هاشم بحري: انفصال مؤقت، يعيد للحياة بريقها، وعافيتها.
* * *
بعد مرور زمن على الزواج، كثيراً ما تحدث حالة من التكرار والملل؛ بسبب الحياة الرتيبة، وغياب عنصر الإثارة عن أحداث المعيشة اليومية، عندها لابد من شيء يجدد النشاط، ويعيد للحياة السعادة.. ولكن: كيف يحدث ذلك؟!
يقترح البعض تغيير أثاث المنزل، أو شراء قطعة ثياب جديدة، أو الذهاب إلى رحلة بعيداً عن الحياة الزوجية التقليدية.
ويرى آخرون أن الحل في إنجاب طفل جديد ينعش الحياة الزوجية، ويضفي عليها مزيداً من الحيوية.
لكن الخبراء يضيفون حلاً آخر؛ هو (الانفصال المؤقت) أي: أن يأخذ كلا الزوجين إجازة من شريك حياته.. فهل يساعد ذلك على انتشال الحياة الزوجية من ركودها؟ أم يصبح (صورة من طلاق مؤقت)؟!
الزوجات بين القبول والرفض:
نهى سالم - متزوجة منذ 21 عاماً- تقول: "إن افتراق الزوجين مدة قصيرة، يمكن أن يساعد في إعادة الدفء إلى حياتهما، لكنَّ ذلك سيكون مشكلة؛ إذا رفض أحد الزوجين الاقتراح، واعتبره تهيئة نفسية لانفصال طويل". وتضيف نهى: "كثيراً ما أطلب من زوجي مدة من الهدوء بعيداً عن الأسرة، خاصة عندما نتعرض لإحدى نوبات الخلافات الساخنة، لذلك: أنا سعيدة في حياتي الزوجية؛ لأنني بعد كل مرحلة انفصال، أعود إلى زوجي لأبدأ حياة سعيدة معه من جديد متناسية كل المشكلات والخلافات.(163/1)
أما ريهام فتح الله - التي لم يمضِ على زواجها ست سنوات - فتقول: "اضطررت إلى اتخاذ قرار الإجازة؛ بعد مشاجرة عنيفة نشبت بيني وبين زوجي؛ بسبب أخطائه المتكررة وإهماله لي، ولكن: عندما طلبت منه أن أقضي زمناً في بيت آخر لمراجعة الحسابات - على أن يتركني لأعود وحدي - فوجئت به يتصل بي على هاتفي الجوال ليؤكد لي أنه يحبني كثيراً ولا يستطيع الاستغناء عني، ويرغب في عودتي إليه. شعرت وقتها بسعادة غامرة يصعب وصفها وكأنني سأتزوج للمرة الأولى.
لمياء رضا - متزوجة منذ 3 أشهر- ترفض تماماً اقتراح الانفصال المؤقَّت، وتقول: "التعود لا يلغي الحب، وإن كان يترك شيئاً من الفتور في علاقتهما، إلا أنه لا داعي إلى الانفصال المؤقَّت؛ لأنه يجعل كلا الزوجين يعتاد الاستغناء عن الآخر".
رأي آخر للأزواج:
سالم محمود - متزوج ولديه خمسة أبناء - يرى أنه: لو نجح كل زوج وزوجة في منح أنفسهما فرصة للتفكير الهادئ بعيداً عن الضغوط فستكون حياتهما الزوجية أفضل؛ لأن هذا هو الأسلوب الأمثل لاستمرار الزواج، ولا سبيل إلى الخروج من الملل، وتجاوز الأزمات والخلافات إلا بالإجازات الزوجية؛ لأنها تجدد حياة الزوجين.
ويختلف معه سامي حسين - وهو تاجر - فيقول: "أنا غير موافق على هذا الاقتراح جملةً وتفصيلاً؛ فالإجازة بهذا المعنى هي ضد العشرة، وبصراحة: أنا لا أجد في نفسي جُرأة كافية لأقترح على زوجتي هذا؛ هل أقول لها - مثلاً -: إنني بدأت أشعر بالملل منها، وإنني أحتاج إلى تغيير".
أما علي سليمان محمد فيقول: "ليس هناك رجل في العالم لا يتمنى أخذ إجازة من زوجته وأطفاله، ومن يقول كلاماً مغايراً لهذا هو غير صادق مع نفسه".(163/2)
كمال أشرف - طبيب - يقول: "الحياة الزوجية لا تستقيم إلا بالاتفاق؛ وإذا توافر ذلك، فسيكون كل شيء على ما يرام، ولكنه يتساءل عن حاجة الزوجين إلى إجازة يحدِّدانها هما؛ فهناك فترة انقطاع أجبرهما الله - سبحانه وتعالى - عليها لأسباب بيولوجية، وله في ذلك حكمة عظيمة، وفي اعتقادي: أن تغيير الجو، سيكون مقبولاً؛ إذا ظل في نطاق محدود، ولم يتجاوزه - أعني عدم إطالته - والاسترخاء فيه، وإلا أصبح تمهيداً لانفصال دائم.
مواصفات الإجازة:
الدكتور عادل مدني - أستاذ الطب النفسي بجامعة الأزهر - يؤكد أن: "الإجازة الزوجية، تعيد اكتشاف شخصية كل منهما على حدة، وتفجِّر في داخليهما طاقات لم يكتشفاها من قبل". ويقول: "الإجازة الزوجية مهمة، ولكن بشروط؛ منها:
ألا تطولَ مدتها على أسبوع؛ حتى لا تزيد مشاعر الحرية لدى الزوجين، وهى مشاعر يستحسنها الإنسان بعيداً عن الالتزامات اليومية، والواجبات التي لا تنتهي تجاه الآخر؛ فتضخم مشاعر الحرية المفاجئة، ويصعب معها تقلص هذه المشاعر، والعودة منها إلى الحياة الزوجية مرة أخرى. والإجازة الزوجية تخرج الإنسان من الأحاديث اليومية المعروفة داخل الأسرة الواحدة، وتنقله إلى أحاديث مختلفة، تجدد حيويته الذهنية التي هو في أشد الحاجة إليها، وهذا لا يكون إلا بإجازة زوجية قصيرة يقضيها كلٌّ منهما مع الأهل والأصدقاء".
ويضيف: "إن الإجازة تحدُّ من مظاهر السلوك السلبي؛ لاجتماع الزوجين دائماً في مكان واحد أوقاتاً طويلة؛ هذا الأمر يولِّد مشاعر الملل والرغبة في الهروب منه ومن الشريك".(163/3)
ويحدد د. عادل مدني مواصفات الإجازة قائلاً: "لابد أن يتفق الطرفان مقدَّماً وضمناً بأنها إجازة مؤقتة؛ يستمتع فيها كل منهما بحياته بعيداً عن الغضب؛ لاستعادة المشاعر الأولى المتوهجة التي توارت نسبياً بسبب رتابة الحياة، وكثرة الالتزامات، ومواعيد العمل المختلفة الضاغطة التي أدت بكل منهما إلى أن يشعر بغربته تجاه الآخر الذي ضاق به؛ لأن نظام حياتهما واحدٌ، وكلاهما أصبح مكرراً في مواضيع متقاربة ومتشابهة، وهنا لابد من الإجازة التي يشترط لإنجاحها أن يذهب كلٌّ منهما في اتجاه مغاير، متعاهدين على العودة القريبة، والاتصال الهاتفي من بُعْد؛ حتى لا تجفَّ المشاعر، ويمكن أن يحمل كل منهما ما يذكِّره بالآخر، وبهذا تكون الإجازة قد أ ثمرت".
إجازة مثمرة:
الدكتور هاشم بحري - أستاذ الطب النفسي - يؤكد أن: "الإنسان كائن اجتماعي بالفطرة؛ فُطِر على الحب والعطاء، ولكن الظروف المحيطة به هي التي تغير نظرته للحياة". ويقول: "الحب هو الضمان الوحيد لنجاح العلاقة الزوجية، وتأتي بعده عوامل أخرى، مثل: طبيعة الزوج والزوجة، وتحكيم العقل في العلاقة. فالحياة الزوجية شَرِكَة نفسية وجسدية يدخلها اثنان بِنِيَّةِ الاستمرار، ويتوقف استمرار العلاقة ودرجتها على قدرة الزوجين على الذوَبان كل في الآخر، فإذا كان هذا الذوبان على طريقة تقديم التنازلات لتمضي سفينة الحياة، فإن استمرار العلاقة سيكون نسبياً، ومعرَّضاً للأزمات؛ إذا ما تعرضت معادلة التنازلات للاهتزاز".(163/4)
وعن اقتراح الإجازة الزوجية يقول د. هاشم بحري: "إن الإجازة الزوجية تحفظ للزوجين استقلاليتهما الشخصية، وهو بعد مطلوب في الحياة الزوجية، وهى بمنزلة تجربة انفصال مؤقت تعاد خلالها الحسابات، ويتجدَّد فيها نشاطهما، ويعيدان النظر في أمور علاقتيهما اليومية؛ لتستعيد العلاقة عافيتها وبريقها الأول؛ لأن البديل هو الغرق في المشكلات حتى الموت حتماً، وإذا كانت الإجازة الزوجية مِساحة من الزمان يفترق فيها الزوجان برغبتهما وبوعي ونُضج، فإنها تكون إجازة مثمرة لكل منهما، أما الإجازة التي يذهب فيها كل واحد منهما بدوافع الغضب والهروب من الواقع، فتكون فرصة لزيادة الغضب، والقرارات العشوائية التي تنتهي بالانفصال أو الطلاق".
ويختم الدكتور بحري حديثه بأن: "الإجازة الزوجية في الأسرة الواحدة عربياً وعالمياً، لها أكثر من مفهوم؛ فالإجازة تكون عندما يخرج الزوج مع زوجته لتناول العشاء، وهناك إجازة يصطحب فيها الزوجان أولادهما، ولها مردود على المشاعر الأسرية، وهناك الإجازة الفاصلة وهي الإجازة الزوجية التي نحن بصددها، وهى إيجابية إذا ما طُبِّقت بطريقة صحيحة، على ألا تطول مدتها، وألا تكون بعد ثورة غضب، أو تأتي كفض اشتباك؛ فالإجازة تعني الانفراد بالنفس قليلاً من الوقت؛ لتجديد الحنين والشوق".(163/5)
العنوان: (الإِجازةُ) الصَّيفيَّةُ.. كَيف نَملأُ الفراغَ؟
رقم المقالة: 1010
صاحب المقالة: خاص: الألوكة
-----------------------------------------
أقبلَتِ (الإجازة) الصيفيَّة؛ واللهُ -تعالى- وحْدَه أعلمُ بما تَحمِل مِن أقدار وأخبار، أَقبلَتْ والحالُ كما عَهِدْتُه في سابق عَهْدِها، فمِنَ الناس مَن يُودِعُها خَيْرًا وإحسانًا ومنهم غيرُ ذلك، فالله -تعالى- وحْدَه أَعلَمُ مَنِ السعيدُ في هذه الإجازةِ ومَنِ الشقيُّ فيها.
أخي الحبيبُ!
لَيْسَ كلُّ الناس يُدرِكون قيمة العُمْر وأهميَّته، ليس كلُّ الناس يُحسِنون استثمارَ حياتهم استثمارًا يَعُود عليهِم بالرِّيع والفائدة..
لا يا أخي الحبيبُ!
ليس كلُّ الناس أولئكَ.. قليل هُم أولئكَ الذين أدركوا كُنْهَ الحقيقة، وعَرَفوا سِرَّ الوجود، وأقلُّ مِن هذا القليلِ أولئكَ الذين جَعَلوا الدنيا دارَ مَمَرٍّ، لا دارَ مَقرٍّ؛ فهم يَزرَعون ما يَرجُون حَصَاده غداً في الآخِرة.
وَقَدْ كَانُوا إِذَا عُدُّوا قَلِيلاً وقد صَارُوا أَقَلَّ مِنَ الْقَلِيلِ
ها هي ذي (الإجازة) الصيفيَّةُ بأيَّامها وليالِيها تَقتَحِم حياتَنا وحياة أبنائنا، ها هي ذي تُخيِّم علَينا بفَراغها الكبير الذي إذا لم نُحسِنْ مَلأَه بالعِلْم وبالعَمَل الصالح فسيَنكَبُّ بآثاره وسلبياته؛ لا يَعْرِف مَعروفاً، ولا يُنكِر مُنكَراً، ولا يَنفَع عندها عَضُّ أصابعِ الندم، ولومُ زماننا والعيبُ فينا.(164/1)
إن الكثيرَ مِن عباقرة التاريخ على امتداده، والكثيرَ مِنَ الحضاراتِ والأُمَم الناهضةِ لا تَعرِف في حياتها الإجازةَ أو الفراغَ، وإذا ما انتهى العامُ الدارسيُّ وأَقْبَلَ ما يُسَمُّونه الإجازةَ هُرِعوا إلى أعمال أُخرى، ونشاطات جديدة غيرِ ما سَبَق، وهكذا طَبَقٌ عن طَبَقٍ، حتى غَيَّروا وطَوَّروا... وأَجادوا وأَفادوا... وعلا شأنُهم في الأُمَم، وذَكَرَهُمُ التاريخُ فيمَن عنْدَه؛ فإنه الوقت الذي مَتَى ما نظر إليه بأنه الحياة دَفَعَ ذلك إلى الاهتمام به، والتفكيرِ في الاستثمار الأفضل له.
الوقتُ.. والهدفُ:
إذا كانَتِ الأُمَمُ والمجتمَعاتُ مُجْمِعةً على أهميَّة الوقت وأثره الكبير في النهضة والتقدُّم والرُّقيِّ لها؛ فإنها - أي: الأُمَمُ والمجتمَعات - تَختَلِف في نظرتها إليه، وطريقة الاستفادة منه.
فالمسْلِم يَتَميَّز بنظرته للوقت، وكيفية استثماره له عن غَيْره مِن الناس في أُمَم الأرض الكافرة الكثيرة.. الذين لا يُؤمِنون بالآخرة، ولا بالجَنَّة والنار؛ فهُمُ الذين يُسخِّرون كُلَّ أوقاتهِم وأعمارهِمْ لأَجْل دُنياهم وحَسْبُ، وهم كما قال الله تعالى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم: 7]. أو كما قال قائلهم يُلخِّص نظرتهم للوقت والحياة:
خَذْ مِنَ الدُّنْيَا بِحَظٍّ قَبْلَ أَنْ تَرْحَلَ عَنْهَا
فَهْيَ دَارٌ لَسْتَ تَلْقَى بَعْدَهَا أَطْيَبَ مِنْهَا
المسلم مُتمّيِّز بنظرته للحياة؛ فهي مُنبثِقة مِن عقيدته وإيمانه؛ فهو المُتيقِّن يَقِيناً لا يُداخِلُه شكٌّ أن الدنيا عَمَلٌ والآخرةَ جزاءٌ، أن الدنيا تَحصِيلٌ والآخرةَ استيفاءٌ، والسَّعِيد مَن أطاع اللهَ والشقيُّ مَن عَصاهُ.
هو يَعلَم حقَّ العِلْم، ويُدرِك تمامَ الإدراك أنه ما خُلِقَ في هذه الدنيا إلا لعبادة الله؛ فهي الغاية مِن وُجوده.(164/2)
قال الله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]؛ ليعبدوه -سبحانه- حقَّ العبادة، العبادة بمفهومها الشامل؛ كما عَرَّفَها شيخُ الإسلام ابنُ تَيْمِيَّةَ - رحمه الله - قائلاً: "هي اسمٌ جامِع لما يُحِبُّه اللهُ ويَرضاه مِنَ الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة".
وبهذا تَشْمَل الحياةَ كلَّها؛ فالحياةُ كلُّها عبادةٌ لله، قال الله: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأعراف: 163،162].
إذاً فالمسلم يَنظُر للوقت على أنه الحياة.. الحياةُ التي يَجِب أن تكون كُلُّها لله؛ فيَأخُذُ لله ويُعطِي لله، يَتعبَّد اللهَ في كل شُؤونه وأعماله.
إن كل يَوْم يَمُرُّ مِن عُمُر الإنسان هو نَفَسٌ يَتنفَّسه مِن عُمُره، وكل يوم تُشرِق علَيه شمسُه لا يَعُود إلَيه أَبَداً.
وَكُلُّ يَوْمٍ مِنَ الأَيَّامِ يُعْجِبُنَا فَإِنَّمَا هُوَ نُقْصَانٌ مِنَ الْعُمُرِ
قال مجاهِدٌ: ما مِن يَوْم إلا ويَقولُ: ابنَ آدمَ، قد دَخَلْتُ علَيك اليَوْمَ، ولسْتُ أَرجِع بعْد اليَوْم. فانظُرْ ما تَعمَل فِيَّ"[1].
وَنُسَرُّ بِالْعَامِ الْجَدِيدِ وَإِنَّمَا تَسْرِي بِنَا نَحْوَ الرَّدَى الْأَعْوَامُ
فِي كُلِّ يَوْمٍ زَوْرَةٌ مِنْ صَاحِبٍ مِنَّا إِلَى بَطْنِ الثَّرَى وَمُقَامُ
الوقت المقتول:
إن الوقت هو الحياة، وحياتُنا هي غِراس حياتِنا الأُخْرى والكُبْرى، والذِين يُضَيِّعون أوقاتَهم في هذه الحياةِ إنما همُ المُفلِسون حقّاً في الحياة الأُخْرى.
قال الله: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون: 115].
يُحِبُّ الْفَتَى طُولَ الْبَقَاءِ وَإِنَّهُ عَلَى ثِقَةٍ أَنَّ الْبَقَاءَ فَنَاءُ(164/3)
زِيَادَتُهُ فِي الْجِسْمِ نَقْصُ حَيَاتِهِ وَلَيْسَ عَلَى نَقْصِ الْحَيَاةِ نَمَاءُ
إِذَا مَا طَوَى يَوماً طَوَى الْيَومُ بَعْضَهُ وَيَطْوِيهِ إِنْ جَنَّ الْمَسَاءُ مَسَاءُ
جَدِيدَانِ لاَ يَبْقَى الْجَمِيعُ عَلَيهِمَا وَلَا لَهُمَا بَعْدَ الْجَمِيعِ بَقَاءُ
إن الفراغ إذا اجتاح أُمَّة مِنَ الأُمَم أَفسَدَها، وأَفسَدَ أهلَها، إذ تَتَفشَّى فيها البطالةُ وتَزِيد الرذائلُ، وتَسُوء الأخلاقُ ويَعُمُّ الخلل حياةَ الناس.
وقديماً قال الشافعيُّ -رحمه الله-: "إذا لم تَشغَل نفسَكَ بالحق شَغَلَتْكَ بالباطل".
وإلى هذا أشار النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- مُنبِّهاً الذين لا يَكترِثون بفَواته، ولا يَعبؤُون بذهابه، الذين يَتعمَّدون قَتْلَه، ويُسيؤُون شَغْلَه، داعياً إلى اغتنام فُرصة الحياة والتزوُّد منها ليوم المَعاد؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: ((اغْتَنِمْ خَمْساً قَبْلَ خَمْسٍ؛ حياتَكَ قبْلَ مَوْتِكَ، وصِحَّتَكَ قبْلَ سُقْمِكَ، وفَراغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وشبابَكَ قبْلَ هَرَمِكَ، وغِناك قبْلَ فَقْرِكَ))؛ رواه الحاكم في مستدركه.
قال المُناويُّ في شَرْح هذا الحديثِ: "يعني: اغتَنِمْ ما تَلقَى نفْعَه بعْدَ مَوْتكَ؛ فإنَّ مَنِ انقَطَعَ عَمَلُه، وفات أَملُه، حُقَّ ندمُه، وتَوالَى همُّه، واغتنمِ العَمَل حالَ الصِّحة، فقد يَمنَع مانعٌ، واغتنمْ فراغَكَ في هذه الدارِ قبْلَ شُغْلكَ بأهوال القيامة، واغتنمِ الطاعةَ حالَ قُدْرتكَ قبْلَ هُجُوم الكِبَر علَيْكَ، فتندم على ما فَرَّطْتَ في جَنْب الله. واغتنمِ التصدُّق بفُضُول مالك قبْلَ عُروض جائحةٍ تُفقِرُكَ، فَتَصِيرَ فقيراً في الدنيا والآخرة.
لَيسَ فِي كُلِّ سَاعَةٍ وَأَوَانِ تَتَأَتَّى صَنَائِعُ الْإِحْسَانِ
فَإِذَا أَمْكَنَتْ فَبَادِرْ إِلَيهَا حَذَراً مِنْ تَعَذُّرِ الْإِمْكَانِ(164/4)
قال أحد الحكماء: "لا تُمضِِ يَومكَ في غير مَنفَعة، فالعُمْر أَقصَرُ مِن أن يَنفَد في غَير المَنافع، والعاقلُ أَجَلُّ مِن أن يُفْنِي أيامه فيما لا يَعُود علَيْه نَفْعُه وخَيْرُه".
وقال -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه البخاري: ((نِعمَتانِ مَغْبُونٌ فِيهِما كثيرٌ مِنَ النَّاس؛ الصحة والفراغَ)).
قال ابن الجَوْزيِّ: "قد يَكْون الإنسان صحيحاً ولا يكون مُتفرِّغاً لشُغله بالمَعاش، وقد يكون مُستغنِياً ولا يكون صحيحاً، فإذا اجتَمَعَا، فغَلَبَ علَيْه الكَسَل مِنَ الطاعة، فهو المَغبون".
وتَمامُ ذلك:
أن الدنيا مَزرَعة الآخرة، وفيها التجارة التي يَظْهَر رِبْحُها في الآخرة، فمَنِ استعمَلَ فَراغَه وصحَّتَه في طاعة الله فهو المَغبُوط، ومَنِ استعمَلَهما في معصية الله فهو المَغبُون؛ لأن الفَراغَ يَعقُبُه الشُّغْلُ، والصِّحة يَعقُبُها السُّقْمُ، ولو لم يَكُن إلاَّ الهَرَم لكَفَى.
قصة عمل:
ولنا في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أُسوةٌ حسنة، وسِيرتُه العَطِرةُ تَحكِي قصَّةَ العمل المُستمِرِّ، والاجتهاد الدؤوب، والجهاد الذي لا يَهْدَأ، والتيقُّظ الدائب، وما عُرِفَ عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه شَعَرَ بفراغ، بل كان يَملأُ أوقاتَه بالنافع المُفِيد: عابداً، ذاكراً، يَقضِي حَوائج الناس، يَبنِي مَسجِداً، يُصلِح بَيْن اثنَيْنِ، يُناجِي ربَّه، يُحارِب الكفار، يرقع ثوبه، يَخصِف نعْلَه، يُعِين أهْلَه وأصحابه.. وغيرها الكثير مِن أعمال الخَيْر والبِرِّ.
اِعْزِمْ وَكِدَّ فَإِنْ مَضَيتَ فَلا تَقِف وَاصْبِرْ وَثَابِرْ فَالنَّجَاحُ مُحَقَّقُ
لَيسَ الْمُوَفَّقُ مَنْ تُوَاتِيهِ الْمُنَى لَكِنَّ مَنْ رُزِقَ الثَّبَاتَ مُوَفَّقُ
ها هو ذا الإمام مُحمَّد بنُ عليٍّ الشَوْكانِيُّ (ت 1250هـ) يَضرِب المَثَل في تنظيم الوقت وحُسْن الاستفادة مِنه، فَيُحدِّثنا عن نفسه بصيغة الغائب قائلاً:(164/5)
"وكانت تَبْلُغ دروسُه في اليَوْم والليلة إلى نحو ثلاثةَ عَشَرَ درساً، مِنها ما يَأخُذه عن مشايِخِه، ومِنها ما يَأخُذه عنه تلامِذَتُه، واستمرَّ على ذلك مُدَّةً. ثم إنه فَرَّغَ نفسَه مِنَ التَّلقِّي عن شيوخه لإفادة الطلبة، فكانوا يَأخُذون عنه في كل يَوْم زيادةً على عَشَرَة دروس، في فُنُون مُتعدِّدة، واجتمع مِنها في بعض الأَوقات التفسيرُ والحديثُ والأصولُ، والنحوُ والصَّرْفُ والمعانِي، والمَنْطِقُ، والفِقْهُ، والجَدَلُ والعَرُوضُ"[2].
وقبْلَه كان الإمام النوويُّ (ت 676هـ) أُسوةً حسَنَةً في تنظيم الوقت، والاستفادة القُصوَى مِنه، وقد حَدَّثنا عن ذلك تلميذُه أبو الحسن بنُ العطَّار، إذ قال: "كان يَقرَأ كلَّ يَوْم اثنَي عَشَرَ دَرساً على مشايخه شَرْحاً وتصحيحاً: درسَيْنِ في "الوسيط"، ودرساً في "صحيح مسلم"، ودرساً في "اللُّمَع" لابن جنيٍّ، ودرساً في "إصلاح المنطق"، ودرساً في التصريف، ودرساً في أصول الفقه، ودرساً في أسماء الرجال، ودرساً في أُصُول الدِّين، ودرساً في النحو"[3].
وسائلُ ومُقترَحاتٌ لاستثمارٍ أَفْضَلَ:
ولأجْل الاستفادة مِنَ الوقت عُموماً وفراغ الإجازة الصيفيَّة خصوصاً؛ فإن فيما يَلِي حُزْمةً مِنَ الأفكار ومجموعة مِنَ المُقترَحات التي مَتَى استعنْتَ بالله، ثُم عَمِلْتَ بالمُناسِب مِنها فإنها -لا شَكَّ- ستقُودُكَ إلى النجاح والفلاح -إن شاء الله تعالى- إذ إنَّ خَيْر ما مُلِئتْ بِه الأَوْقاتُ طاعةُ الله.
وقبْل البَدْء بعرْض هذه الوسائلِ والمُقترَحاتِ فإنه لا بُدَّ مِن ثلاثة شُروط رئيسةٍ لأَخْذ زِمام المُبادَرة بمِصداقيَّة، والبَدْءِ بالعمل بِجِدِّية
وهذه الشروط الثلاثة هي:
أولاً: النيَّةُ الصالِحةُ والعزيمة الصادقة.
ثانياً: دعاء الله -عز وجل- بالتوفيق، وسُؤالُهُ الإعانةَ والسَّدادَ.
ثالثاً: التوكُّلُ على الله، وشحْذُ الهِمَّة في العمل.(164/6)
ومِن أهمِّ الوسائل والمُقترَحات لاستثمار الإجازة الصيفية ما يَلِي:
1- طَلَبُ العِلْم الشرعيِّ؛ بمُلازَمة درُوس المشايخ والعلماء، أو الالتحاقِ بالدَّوْرات العِلْمية المُنتظِمة.
2- حِفْظُ ما تيسَّر مِنَ القرآن؛ وجهٍ أو وجهَيْن أو ثلاثةِ أوجُهٍ يَوميّاً على ضَوْء (بَرْنامَجٍ) مُنتظِم في ذلك.
3- حِفْظُ ما تيسَّر مِنَ الحديث النبويِّ؛ مِثْل "الأربعِينَ النوويةِ"، أو "مُختصَر صحيح البُخارِيِّ"، أو "مُختصَر صحيح مُسلِم"، وهذا أيضاً على ضَوْء "بَرْنامَجٍ" مُتناسِب والوقت المُخصَّص له.
4- المُشارَكة في المَراكِز الصيفية طالباً أو مُعلِّماً أو مُشارِكاً بما يُمكِنُكَ المُشاركةُ به وتَدعُو إلَيْه الحاجةُ في المَركَز.
5- السَّفَر للعُمْرة والصلاة في المَسجِد النبويِّ الشريف حَسَب الاستطاعة.
6- المُشارَكة في إثراء الإعلام الإسلاميِّ حَسَب إمكاناتِكَ وقُدْراتِكَ إما كاتباً أو مُبرمِجاً أو ناشراً للعِلْم والخَيْر.
7- الدعوة إلى الله -تعالى- بما تيسَّر لكَ، وحَسَب طاقتِكَ وقدْرتكَ؛ كأنْ تَقُومَ بِجَمْع كُتَيِّباتٍ وأَشْرِطة وتوزيعِها على الأماكن العامَّة؛ كالمُستشفَيَات، وأماكن الحِلاقة، وسيارات النَّقْل وغَيْره.
8- السفَر عَبْر إحدى الجَمعِيَّات أو المَكاتِب الدَّعوية للدعوة إلى الله.
9- تَعَلَّمْ شَيْئاً جديداً يُفِيدكَ في حياتكَ، مِهْنِيّا أو تِقْنِيّا.
10- تَبَنِّي مَشرُوعٍ تِجارِيٍّ إِنْ أَمكَنَ، والعملُ على نَجاحه.
11- زيارةُ الأقارب، وصِلةُ الأرْحام لا سِيَّما من هم خارِج مدِينتكَ.
12- عَمَلُ مُسابَقاتٍ للأُسرة في الحِفْظ، أو في الأَمثال والحِكَم، أو أفضَل تَلخيصٍٍ، أو أفضل تَعليقٍ، أو غَيْره.
13- زيارةُ المَرْضَى في المستشفَيَات، وحُضُورُ الجنائز للعِظَة والعِبْرة.
14- قراءةُ الكُتُب النافِعة، والمَجلاَّت الهادفة، وزيارةُ المَكتباتِ العامة.(164/7)
15- ربطُ الخَدَم أو العُمَّال غَيْر النَّاطِقِينَ بالعربية بمَكاتِب دَعْوَة الجَالِيَات.
16- استثمارُ مُناسَبات الزواج والأفراح في الدعوة إلى الله.
17- شراءُ بَعْض الأَشرِطَة السمْعِيَّة والمَرْئِيَّة، والإِفادة مِنها، وتَلخيصُها.
18- تنميةُ مَواهِبِ وإبداعاتِ الأطفال فيما يَخدُِم الدعوةَ إلى الله؛ كأنْ يَكُونَ خَطُّه جمِيلاً؛ فَيَكتُب حديثاً، أو فائدةً مأثورةً تُعلَّق في مَسجِد الحيِّ.
19- تنظيمُ الرِّحْلات الأُسْرِية، أو عَمَلُ وَجَباتِ عَشاء عائليةٍ خاصَّةٍ.
20- شِراءُ بعْض الألعاب الهادِفة والمُعلِّمة للفِتْيان والفَتَيات على السواء.
أهم محاذير الإجازة:
الجليس السوء:
في "الصحيح" مِن حديث أبي موسى عنِ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- قال: ((مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالجليس السَّوءِ كَحَامِلِ الْمِسْكِ وَنَافِخِ الْكِيرِ؛ فَحَامِلُ الْمِسْكِ إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحاً طَيِّبَةً، وَنَافِخُ الْكِيرِ إِمَّا أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَكَ وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ رِيحاً خَبِيثَةً)).
إن مِن أخطَرِ البلاء على المَرْء جليسَ السُّوء؛ فكَمْ مِن إنسان كان صالحاً ناجحاً مُسدَّداً أَخْلَد إلى الدَّعة والكَسَل بسبب صديقه ورفيقه! وكَمْ مِن إنسان مُهذَّب مُؤدَّب تَغيَّرتْ أخلاقُه، وفَسَدَتْ طِباعُه بسبب جليسه وصديقه!
وكم.. وكم.. إنه الداءُ العُضال، والخَطَرُ القاتل.
لاَ تَصْحَبَنَّ رَفِيقاً لَسْتَ تَأْمَنُهُ بِئْسَ الرَّفِيقُ رَفِيقٌ غَيْرُ مَأْمُونِ
قال شَيْخ الإسلام ابنُ تَيْمِيَّةَ: "فكَمْ ممَّن لم يُرِدْ خَيْراً ولا شرّاً حتى رأى غَيْرَه –لا سيَّما إن كان نَظِيرَه- يفعله ففعلَه، فإن الناس كأسراب القَطَا مَجبُولُون على تَشَبُّه بعْضِهِم ببعْضٍ"[4].
- قال الشَّيْخ/ عبد الكريم الحُمَيِّدُ مُعلِّقاً على كلام شَيْخ الإسلام:(164/8)
"سبحانَ اللهِ؛ كمْ هَلَك بذلكَ مَن هَلَك! وكم نَجا مَن نَجا! لو سألتَ شارِب الدُّخَان ما الذي أوقعكَ فيه؟ لقال: جالستُ مَن يَشرَبه فتعوَّدْتُ مِنه. ولو قُلتَ له: هل كنتَ تَستَلِذُّه في بداية شُرْبكَ له؟ لقال: لا؛ بل كنتُ أُلاقِي الشدائدَ مِنَ الغَثَيان، والتخدير، وتَأَلُّم العُيونِ، ولكنْ أُوطِّن نَفْسي لمجاراة جُلَسائِي، ولِأَفْعَلَ مِثْل ما يَفعَلون. والتمثيل بشُرْبِ الدُّخَان لأنه مُستقبَح ومُؤذٍ وكَرِيهٌ، ومع هذا يُوطِّن المُجالِس لِشُرَّابه نَفْسَه على شُرْبه حتى يُصْبِح عادةً راسِخةً"[5].
والصَّاحِب ساحِبٌ؛ فاعْلَمْ مَن تُصاحِبُ.
لاَ تَصْحَبِ الْكَسْلاَنَ فِي حَاجَاتِهِ كَمْ صَالِحٍ بِفَسَادِ آخَرَ يَفْسُدُ
عَدْوَى الْبَلِيدِ إِلَى الْجَلِيدِ سَرِيعَةٌ كَالنَّارِ تُوضَعُ فِي الرَّمَادِ فَتَخْمُدُ
التسويف:
التسويف مِنَ الأمراض الخطيرة التي تَعُوق المُسلِم في طاعته لربِّه وتَصرِفُه عن صالح أمْرِه، والتَّسوِيفُ طرِيقُ الغَفْلة... والغفلةُ تَقُود إلى الضَّياع أوْ الانْحِراف -لا قَدَّرَ اللهُ- فهي سِلسِلة يَجُرُّ بَعْضُها بَعْضاً.. التسوِيفُ مَبْدَؤها، وعِلاجُه عِلاجٌ لما بَعْدَه. ومِن أَهَمِّ أسباب التسويف رُفْقَةُ الكُسالَى، وأصحابِ الإرادة الضعِيفة، وطُولُ الأمل، إضافةً إلى عَدَمِ المُحاسَبة والمُتابَعة، وعَدَم تقدِير العَواقب المُترتِّبة علَيْه.
مَنْ كَانَ مَرْعَى عَزْمِهِ وَهُمُومِهِ رَوضُ الْأَمَانِي لَمْ يَزَلْ مَهْزُولا
وأهمُّ طرق عِلاجه: التذكُّرُ بأن التسويفَ عَيْبٌ وعَجْزٌ وضَعْف، وأن الإنسان قويٌّ قادِر مُثابِر قال أبو الطَّيِّبِ المُتَنَبِّي في هذا:
وَلَمْ أَرَ فِي عُيُوبِ النَّاسِ عَيْباً كَنقصِ القَادِرِينَ عَلَى التَّمَامِ.
وأيضاً: الدعاءُ والتضرُّعُ لله -تبارك وتعالى- بالإعانة والتوفيق، وتذكُّرُ المَوت والدار الآخرة.(164/9)
اجْتَهَدَ أبو موسى الأشعريُّ -رضي الله عنه- قَبْل مَوته اجتهاداً شديداً، فقِيل له: لو أَمْسكْتَ أو رَفَقْتَ بنفْسِكَ بَعْضَ الرِّفْق؟ فقال: "إن الخَيْل إذا أُرسِلَتْ فَقارَبَتْ رَأْسَ مَجْراها، أَخْرَجَتْ جمِيعَ ما عِنْدها. والذي بَقِي مِن أَجَلِي أَقَلُّ مِنْ ذلك".
وقال الحسن البَصْرِيُّ: "إياكَ والتسويفَ؛ فإنكَ بيَومكَ وَلَسْتَ بِغَدِكَ؛ فإن يَكُنْ غَدٌ لكَ، فكُنْ في غَدٍ كما كُنْتَ في اليَوْم، وإن لم يَكُنْ لكَ غَدٌ لم تَندَمْ على ما فَرَّطْتَ في اليَوْم".
ويُصَوِّر الشاعِرُ محمودٌ الورَّاقُ الذي يُسَوِّفُ ويُكثِر مِنَ الأمل دُون العمل تَصوِيراً رائِعاً في قوله:
قَطَعَ الدَّهْرَ بِأَسْبَابِ الْعِلَلْ وَأَعَارَ السَّهْوَ أَيَّامَ الْأَجَلْ
أَلِفَ اللَّذَّةَ حَتَّى اعْتَادَهَا وَاشْتَهَى الرَّاحَةَ وَاسْتَوْفَى الْكَسَلْ
فَهُوَ الدَّهْرُ يُقَضِّي أَمَلاً وَلَعَلَّ الْمَوتَ فِي طَيِّ الْأَمَلْ
يُحْسِنُ الْقَولَ إِذَا قَالَ وَلاَ يَتَحَرَّى حَسَناً فِيمَا فَعَلْ
صَيَّرَ الْقَولَ بَجَهْلٍ عَمَلاً ثُمَّ أَجْرَاهُ عَلَى مُجْرَى الْعَمَلْ
لَيتَهُ كَانَ كَمَا قَالَ وَلاَ يَقْطَعُ الْأَيَّامَ إِلاَّ بِالْجَدَلْ.
نسأل الله بمنه وكرمه أن يوفقنا وإياكم لاستثمار أعمارنا في طاعته، واغتنام حياتنا في عبادته، إنه ولى ذلك والقادر عليه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
ــــــــــــــــــــــــــــ
[1] حلية الأولياء 3/296.
[2] البدر الطالع 2/218.
[3] تذكرة الحُفَّاظ للذهبيِّ 4/1470.
[4] الفتاوى 28/129.
[5] تحف من ذخائر السلف 49.(164/10)
العنوان: الإجازةُ.. في حضن الآباء..
رقم المقالة: 1073
صاحب المقالة: هيفاء الوتيد
-----------------------------------------
مضى شهرٌ أو أكثر على انتهاء السنة الدراسية.. ونحن اليوم.. وسط معمعتها نخوض..!
فأمامَنا أيضًا شهر وأكثر لتوديعها..
الإجازة في يومنا تعني قلبَ الموازين.. فيغدو الليل صباحًا والصباح ليلاً.. وإلا فلن تكون إجازة عند البعض..!
الإجازة عند بعضنا.. ألاَّ يرى الأهلُ أبناءهم.. فالوالدان يتأهبان للنوم.. في حين إن الأبناء لم يستيقظوا بعد.!!
العشاء يصبح إفطارا.. والغداء عشاء..!! وهكذا قلب لموازين الحياة.. وتضييع للصلوات.. فتصبح الأنفس في أرق.. والأمزجة في تكدر وقلق..!! وقد يظن الأبوان أنها إجازة عن الأبناء أيضا فيسافر الأب بمفرده.. وتلهى الأم مع قريباتها.. والأبناء في دوامة ضياع..!!
فيا كل أب وأم.. لتكن الإجازة.. حضنا كبيرا لكم تحضنكم وأبناءكم وتقربكم أكثر وأكثر..
تعلمونهم فيها بعض المهارات.. أو تصطحبونهم في رحلة عائلية يسودها الحب.. وروح الود..
فكيف نَسعَد ونُسعِد أبناءنا في هذه الإجازة ؟؟
في البداية لا بد أن يتشارك الوالدان وأبناؤهما في وضع برنامجهم الصيفي، وأخذ رأيهم فيما يرغبون فيه مع ملاحظة أن يكون البرنامج منميا للجانب الإيماني والأخلاقي والثقافي والبدني والاجتماعي، ويكون كل ذلك بوسائل محببة وممتعة للأبناء، مثلا:
- تشجيع الأبناء على حفظ قدر معين من القرآن حسب طاقة الابن؛ سواء بالبيت أو عن طريق إلحاقهم بدور التحفيظ.
- حفظ الحديث الشريف بمعدل حديث أسبوعيا تقريبا مع مراعاة أن تكون الأحاديث تحث على مكارم الأخلاق أو التي ترتبط بالصفات التي نريد أن نغرسها في أبنائنا في الإجازة.
- زيادة ثقافة الأبناء من خلال الذهاب إلى المكتبات واختيارهم للكتب التي يحبونها ومكافأتهم على الانتهاء من قراءة الكتاب.(165/1)
- تنمية المهارات والهوايات التي يحبها كل واحد منهم ومساعدتهم في تجهيز الخامات أو الأماكن أو إلحاقهم بنوادٍ ودورات تساعدهم على تنمية المواهب كالرسم والتلوين والشعر ولعب الكرة وغيرها.
- تعلم بعض برامج الكمبيوتر مثل الوورد والفوتوشُب.. وتكليف بعض الأبناء والفتيات بعمل مجلة تتم كتابتها بالكمبيوتر وتتضمن أخبار الأهل وبعض المشاركات من الصديقات والأخوات وقبلهم الوالدان، وتتم طباعتها وتوزيعها على الأقارب.. بحيث يكتب على غلافها من أعدها وأخرجها، فهو إنجاز رائع يشغل فيه الأبناء وقتهم، ويدربهم على العمل الكتابي وإخراج المجلات.. ولا تنسوا مكافأتهم على ذلك.
- العلاقات الاجتماعية وصلة الأرحام، وحبذا وضع جدول لزيارة الأقارب والاتصال بهم هاتفيا ليتعود الأبناء التواصل مع أقاربهم.
- اصطحاب الأبناء في زيارة لدور الأيتام والمعاقين والعجزة وتوزيع بعض الهدايا عليهم لتعويد الأبناء العطاء ومساعدة الآخرين.
- التجهيز لرحلات قصيرة مع الأبناء في إحدى الحدائق وتشجيع الأبناء على المشاركة في إعداد الطعام والتجهيز للرحلة.
- السفر لمجموعة من بلادنا الحبيبة؛ لتعريف الأبناء بلادهم، وتثقيفهم بزيارة المتاحف والمعالم السياحية، ولا تنس أيها الأب الكريم في أثناء سفرك أن يكون همك الأول هو حفظ الأهل من كل منكر، ولو ضغطوا عليك، فكن حريصا على إبعادهم عن أماكن الاختلاط والتبرج.
- تناقشوا مع أبنائكم في الرحلة عن كل ما يمر بكم في الطريق من جبال وأنهار وبحار، وعرفهم بها، واتفقوا معهم في الطريق على احترام عادات وتقاليد كل مدينة، وأن تكون أخلاقهم كالتاج على رؤوسهم.
- عند زيارتكم لكل منطقة سياحية حبذا أن تجعلوا أبناءكم يأخذوا شيئا من تلك البلاد تذكرهم بها مستقبلا.
حقق الله آمالكم..
ونفع بإجازتكم..
ولا حرمكم أجر الجلوس والترفيه عن أبنائكم..(165/2)
العنوان: الأجزاء الحديثية المشتهرة عند المحدثين بأسماء خاصة
رقم المقالة: 552
صاحب المقالة: د. جمال عزون
-----------------------------------------
تزخر المكتبة الحديثيّة بعدد هائل من الأجزاء التي حرص العلماء عامّة والمحدّثون خاصّة على سماعها عن الشّيوخ المسندين أصحاب الأسانيد العالية إلى مؤلّفي تلك الأجزاء أو رواتها عنهم، والنّاظر في كتب التّراجم والمشيخات والأثبات والبرامج يعجب جدّا من هذا العدد الهائل من أجزاء المحدّثين المتداولة في مجالس السّماع، ويكفي الباحث مثلاً أن ينظر في مجاميع المكتبة الظّاهريّة ليرى نموذجاً ممّا وصلنا من تلك الأجزاء، وإذا قارن ذلك بثبت الضّياء المقدسي وفهرس ابن المبرد وغيرهما يدرك بجلاء أنّ المفقود أعظم بكثير من هذا المحفوظ في خزانة الظّاهريّة وغيرها من المكتبات.
وقد لفت انتباهي في أثناء قراءة كثير من أثبات المحدّثين وفهارسهم أسامي خاصّة عرفت بها أعداد من الأجزاء الحديثيّة، وصارت تلك الأسامي عَلَمًا عليها، ولذلك أسباب عديدة نشير إلى بعضها في خاتمة مبحثنا هذا الذي أكتفي فيه بنماذج من تلك الأجزاء المشتهرة عند المحدّثين بأسماء معيّنة خاصَّة، وهي تدلّ الباحث على ما سواها، وترشده إلى ما عداها.
1 - جُزْءُ البَرَاغِيثِ:
ذكره ابن حجر في كتابه ((المعجم المفهرس)) وقال: ((جزء من حديث عبيد الله بن هارون القطّان يُعرف بجزء البراغيث))[1].
وأفاد أنّه قرأه على شيخه زين الدّين أبي بكر بن الحسين بن عمر المراغي نزيل المدينة النّبويّة، بسماعه له على صالح بن مختار الأُشْنُهِيّ، بإجازته من محمّد بن عبد الهادي، أنبأنا السِّلَفي في كتابه، أنبأنا أبو الحسن محمّد بن عليّ بن أبي الصّقر، أنبأنا عبيد الله بن هارون به[2].
2 - جُزْءُ ابن بَوْشٍ:(166/1)
ذكره الطّبري المكّي في مقدّمة كتابه ((الرّياض النّضرة)) حين عدّد مصادره فقال: ((جزء من حديث محمّد بن إبراهيم السّرّاج يُعرف بجزء ابن بَوْشٍ))[3].
وابن بَوْشٍ هو الشّيخ المعمَّر الرُّحَلَةُ أبو القاسم يحيى بن أسعد بن يحيى بن محمّد بن بَوْشٍ البغدادي الأزَجِيّ الحنبلي الخبّاز، كان سماعه صحيحاً، وبورك له في عمره، وحدّث نحواً من أربعين سنةً، توفّي سنة 593هـ[4].
ومحمّد بن إبراهيم السّرّاج هو ابن إسحاق بن إبراهيم بن مهران البغدادي محدّث صدوق، توفّي سنة 313هـ[5].
3 - جُزْءُ ابن قُلُنْبَا:
ذكره ابن حجر ضمن مرويّاته فقال:
((فوائد السِّلَفِي يُعرف بجزء قُلُنْبَا))[6]. ويرويه بإسناده إلى جعفر بن عليّ الهَمْداني بسماعه من السِّلَفي وهو - أي السّلفي - مخرّجه.
وابن قُلُنْبَا هو بضمّ القاف واللاّم كما قال الزَّبيدي[7].
وقد حيّرني الحافظ الذّهبي في تحديد المقصود بابن قُلُنْبَا الذي اشتُهر بهذا الجزء حيث ذكر في تاريخ الإسلام ترجمتين لعَلَمَيْن مختلفين عزا لكلّ واحد منها جزءنا هذا:
الأوّل: هو الفقيه المحدّث أبو القاسم عليّ بن مهدي بن عليّ بن قُلُنْبَا اللّخمي الإسكندري، كان ثقة، وله أدب وشعر، وبنو قُلُنْبَا من أقدم بيت في الإسلام يقال: إنّ أسلافهم حضروا فتح الإسكندريّة، توفّي عام 574هـ.
قال الذّهبي في آخر ترجمته: ((وإليه يُنسب جزء ابن قُلُنْبَا[8] الذي للسِّلَفي))[9].
الثّاني: الإمام الفاضل البارع المناظر أبو الحسين إبراهيم بن مهدي بن عليّ بن محمّد بن قُلُنْبَا الإسكندري المتوفّى سنة 538هـ.
قال الذّهبي في آخر ترجمته: ((وإليه يُنسب جزء ابن قُلُنْبَا أظنّه انتقاه من روايات السِّلَفي رواه جعفر الهَمَذاني عن السِّلَفي))[10].(166/2)
ويبدو من تشابه الأسماء أنّ هذين العلمين أخوان، فهل صاحب الجزء هو عليّ كما قال الذّهبي في الموطن الأوّل جزماً، أم إبراهيم كما قال في الموطن الثّاني ظنّاً؟ وأجزم أنّ وقوف الباحث على الجزء يقطع الإشكال، ويزيل الاحتمال[11].
4 - جُزْءُ المَنْبِجِيَّيْنِ:
ذكره ابن طولون ضمن مرويّاته فقال: ((جزء من حديث أبي القاسم المنبجي وأبي عليّ المنبجي ويعرف بجزء المَنْبِجِيَّيْنِ))[12].
وذكره ابن رافع في ترجمة شرف الدّين الحسن بن علي بن عيسى اللّخمي الشّافعي 737هـ فقال: ((حضر على أبي بكر ابن الأنماطي جزء الكراعي وجزء المَنْبِجِيَّيْنِ))[13].
وقد يجري - خطأً - على لسان القرّاء ((جُزْءُ المَنْبِجِيِّينِ))بالجمع والصّواب أنّه بالتّثنية؛ ولهذا نرى الحافظ ابن حجر يحتاط لهذا الإيهام بطريقة الفصل والإفراد حيث قال: ((جزء المنبجي والمنبجي قرأته على أبي الحسن عليّ بن أحمد بن محمّد بن محمود المرادوي، أنبأنا محمّد بن عليّ بن أحمد بن فضل الواسطي، وأبو عبيد الله محمّد ابنا أحمد بن المحبّ، قالا: أنبأنا محمّد بن عليّ بن أحمد بن فضل الواسطي، حدّثنا الحسن بن عليّ بن الحسين ابن البنّ، أنبأنا جدّي الحسين بن الحسن، أنبأنا أبو القاسم عليّ بن محمّد بن أبي العلاء، أنبأنا أبو القاسم عمر بن محمّد المنبجي عن شيوخه، وأبو عليّ الحسن بن الأشعث المنبجي، عن أبي عليّ الكندي عن شيوخه))[14].
والعلمان المنبجيّان اللّذان عرف بهما الجزء هما:
1 - أبو عليّ الحسن بن أشعث بن محمّد بن علي المنبجي كان حيّاً عام 417هـ، وهو محدّث كان له مسجد في مدينة منبج يؤمّ النّاس فيه ويقرؤون عليه فيه كتب الحديث. روى عن عدد من الشّيوخ منهم شيخه في هذا الجزء المحدّث المسند الفقيه أبو علي الحسن بن عبد الله بن سعيد الكندي الحمصي[15] سمع عليه ببعلبك في مسجدها الجامع عام 388هـ[16].(166/3)
2 - أبو القاسم عمر بن محمّد المنبجي: ولا تُسعف المصادر بخبر عنه، ولعلّه كان رفيقاً لأبي عليّ الحسن بن أشعث بن محمّد بن علي المنبجي، ومن بلدٍ واحد هو منبج، وعنوان الجزء ((جُزْءُ المَنْبِجِيِّينِ)) يشير على شيء من ذلك والعلم عند الله تعالى.
5 - جُزْءُ التَّرَاجِم:
ذكره العلائي ضمن مرويّاته فقال: ((جزء من حديثه - أي النّجّاد - يُعرف بجُزْءِ التَّرَاجِم))[17]. وهو للإمام الحافظ الفقيه المفتي شيخ العراق أبي بكر أحمد بن سلمان بن الحسن البغدادي الحنبلي المعروف بالنّجّاد المتوفّى سنة 348هـ[18]، ذكره جمع من العلماء كالذّهبي والصّفدي والفاسي[19] وغيرهم. ولا تُعرف له نسخة، وثمّة بعض أجزاء من حديث النّجّاد في الظّاهريّة تحتاج إلى تفتيش وكشف لمعرفة ما إذا كان من بينها جزء التّراجم هذا، وما ذكره محقّقا ثبتَي العلائي وابن حجر[20] - وفّقهما الله - عن وجود الجزء بالظّاهريّة مجرّد احتمال يُقطع بالوقوف على تلك الأجزاء الخطّيّة ودراستها بدقّة.
ملاحظة: في الدّرر الكامنة ((جزء التّراجم للبخاري))، وفي الدّرّ المنثور ((أخرج البخاري في جزء التّراجم))[21]، وكلّ ذلك تصحيف صوابه النّجّاد، والبخاري لا يُعرف له جزء بهذا الاسم.
6 - جُزْءُ البَيْتُوتَةِ:
ذكره ابن حجر ضمن مرويّاته فقال:
((جزء البَيْتُوتَةِ وهو جزء لطيف من عوالي أبي العبّاس السَّرّاج كان لا يحدّث به إلاّ من بات عنده ليلة))[22].
وصاحب الجزء هو محدّث خراسان الإمام الحافظ أبو العبّاس محمّد بن إسحاق بن إبراهيم الثّقفي السّرّاج المتوفّى سنة 313هـ[23].(166/4)
فهذه نماذج من الأجزاء الحديثيّة التي عُرفت عند المحدّثين بأسماء معيّنة خاصَّة واشتُهرت بها عندهم، ولا شكّ أنّ ثمّة أجزاء أخرى كثيرة جديرة بالبحث والتّتبّع، والاستقصاء والتّوسّع، مثل جزء الحاكم ((فوائد الفوائد)) المعروف بـ: ((المئة))، والجزء التّاسع من حديث ابن السّماك المعروف بـ: ((جزء حنبل))، وحديث أبي الطّيّب الجعفري المعروف بـ: ((جزء ابن عمشليق))، وجزء هلال الحفّار المعروف بـ: ((حديث القطّان))، والفوائد المنتقاة والأفراد والغرائب الحسان للقَطيعي المعروف بـ: ((جزء الألف دينار)) وغيرها كثير.
ويمكن للباحث أن يلتمس أسبابَ هذه التّسمية التي التصقت بهذه الأجزاء واشتُهرت بها عند المحدّثين من ذلك:
1 - اشتراط المؤلّف شرطاً معيّنا لسماع جزئه؛ كما فعل أبو العبّاس السّرّاج الذي كان لا يحدّث به إلاّ من بات عنده ليلة، زيادة في إكرام المحدّثين الذين تجشّموا عناء السّفر والرّحلة لسماع ذلك الجزء.
2 - اعتبار كلمة من حديث جليل؛ كما فعل أبو القاسم الكناني في جزء البطاقة الذي يُشير به إلى حديث الرّجل الذي يُنشر له يوم القيامة تسعةٌ وتسعون سجلاّ أُحصيت فيها أعماله، ثمّ يؤتى له ببطاقة فيها كلمة التّوحيد، فترجح كِفّتها على كِفّة تلك السّجلاّت، وبهذا اشتُهر الجزء عند المحدّثين بجزء البطاقة.
3 - اعتبار مجموعة من الأحاديث عالجت موضوعاً معيَّناً ورد في الجزء؛ ومثله ((جزء البراغيث)) لعبيد الله بن هارون القطّان الذي جمع فيه - على ما يبدو - طرق الأحاديث الواردة في البُرغُوث[24].
4 - لاشتراكٍ في الرّواية من محدّثَين نسبتهما واحدة مثل جزء المنبجيّين.
5 - انفراد راوٍ برواية ذلك الجزء على حدّ قول النّاظم:
وبعد ذا الأجزاءُ وهي وحدَها بكثرةٍ لا تستطيعُ عَدَّها
وبعضُها في كلِّ وقتٍ ينفردْ بهِ جماعةٌ إليهِ تَستنِدْ
والله وليّ التّوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطّريق.
ــــــــــــــــــــــــــ(166/5)
[1] المعجم المفهرس 340.
[2] المعجم المفهرس 344، والمعجم المؤسّس 1/546.
[3] المعجم المفهرس 340.
[4] تاريخ الإسلام - وفيات 593هـ، ص 152، وسير أعلام النّبلاء 21/243.
[5] تاريخ الإسلام 25/474.
[6] المعجم المؤسّس 1/153، والمعجم المفهرس 341، وانظر كشف الظّنون 1/587.
[7] تاج العروس، فما في المعجم المفهرس من ضبطه شكلاً بفتح القاف واللاّم ((قَلَنْبَا)) غير معروف. وانظر الحاشية التالية.
[8] تصحّف في تاريخ الإسلام إلى: ((قلينا)) بياء بعدها نون، وصوابه نون بعدها باء.
[9] تاريخ الإسلام 40/153 - وفيات 574هـ، ص 153.
[10] تاريخ الإسلام 40/153 - وفيات 574هـ، ص 153.
[11] ينبغي التّوثّق أكثر ممّا جاء في حاشية المعجم المفهرس 1/153 من اعتبار الفوائد المرويّة من طريق جعفر بن عليّ الهمذاني عن شيخه السّلفي مخطوطة محفوظة في مكتبة الأوقاف ضمن مجموع تحت رقم: 2841؛ لأنّ ثمّة عدداً من الأجزاء والكتب للسّلفي مرويّة من طريق جعفر المذكور، وتحديد أساميها متوقّف على معرفة من خُرّجت له.
[12] السّفينة الطّولونيّة رقم: 201.
[13] وفيات ابن رافع 1/232.
[14] المعجم المفهرس 366، والمعجم المؤسّس 2/251 - 252، وسمّاه في الثّاني: حديث المنبِجِيَّيْن.
[15] انظر عن الكندي: سير أعلام النّبلاء 16/415.
[16] انظر عن أبي عليّ المنبجي: تاريخ دمشق 13/38، وبغية الطّلب 5/2305.
[17] إثارة الفوائد المجموعة في الإشارة إلى الفرائد المسموعة 2/570.
[18] انظر عن النّجّاد: سير أعلام النّبلاء 15/502.
[19] انظر السّير 15/505، والوافي 21/145، وذيل التّقييد 1/104، 2/196.
[20] إثارة الفوائد المجموعة 2/570، والمعجم المؤسّس 1/135.
[21] الدّرر الكامنة 4/88، والدّرّ المنثور 1/487، وجاء على الصّواب في 3/529.
[22] المعجم المفهرس 250.
[23] انظر عن السّرّاج: مقدّمة تحقيق مسنده بقلم إرشاد الحقّ الأثري.(166/6)
[24] يشار هنا إلى جزء أفرده الحافظ ابن حجر في الموضوع سمّاه: البسط المبثوث في خبر البرغوث، وزاد عليه أشياء جلال الدّين السّيوطي في جزء آخر سمّاه: الطّرثوث في فوائد البرغوث. وقد صرّح أهل الحديث بعدم صحّة شيء من الأحاديث الواردة في هذا الباب.(166/7)
العنوان: الاحتجاج في العربية: المحتج بهم – زمان الاحتجاج
رقم المقالة: 293
صاحب المقالة: د. محمود فجال
-----------------------------------------
كلام العرب شعراً ونثراً مصدرٌ من مصادر الاحتجاج به في اللغة والنحو والصرف بعد كتاب الله – تعالى – وحديث رسولِه ومصطفاه صلى الله عليه وسلم.
وجميعُ العرب ولدُ إسماعيل – عليه الصلاة والسلام – فقد أنطقه الله – عزوجل – بالعربية المُبِينَةِ على غير التلقين والتمرين، وعلى غير التدريب والتدريج[1].
ففي ((طبقات فحول الشعراء)) – 1: 9 –: (قال يونس بن حبيب: أَوَّلُ من تكلم بالعربية، ونسي لسانَ أبيه إسماعيل بن إبراهيم – صلوات الله عليهما –).
ويستثنى من ذلك قبائلُ حِمْيَرِ، وبقايا جُرْهُمَ.
ففي ((طبقات فحول الشعراء)) – 1: 11 – (قال أبو عمرو بن العلاء: ما لسانُ حمير وأقاصي اليمن اليوم بلساننا، ولا عربيتهم بعربيتنا، فكيف بما على عهد عادٍ وثمودَ مع تداعيه ووهبه).
وكان العرب – قديماً – يقطنون اليمن والحجاز وما جاورهما، ثم انتشروا في سائر البلاد.
ففي ((فقه اللسان)) – 1: 3 –: (قال يوسف داود الموصلي في كتابه في ((نحو العربية)): إن اللغة التي تُسْتَعْمَل في معظم الغربية الجنوبية من آسيا، وفي مصر، وسائر البلاد الشمالية من إفريقية، وفي غير ذلك من الأمصار، تسمى اللغة العربية نسبة إلى العرب الذين هم في الأصل سكانُ اليمن والحجاز، وسائر ما يجاورها من البلاد المعروفة بجزيرة العرب، وسكان صحارى الشام، والجزيرة والعراق.
وكانت اللغة العربية على أنحاء شتى بسبب اختلاف قبائل العرب وتوالدهم كما يختلف الآن لسان البلد الواحد عن لسان البلد الآخر من بلاد العرب أنفسهم).
والعربي يحسن اختيار اللفظ للدلالة على المعنى المقصود، في موضعه المنشود، وله عناية فائقة في النثر والشعر.(167/1)
قال الشافعي – رحمه الله – في ((الرسالة)) – 42 – (لسانُ العرب أوسعُ الألسنة مذهباً، وأكثرها ألفاظاً، ولا نعلمه يحيط بجميع علمه إنسان غير نبي، ولكنه لا يذهب منه شيء على عامتها حتى لا يكون موجوداً فيها من يعرفه).
وهذا كلام حري أن يكون صحيحاً، ولم يَدَّعِ أحد ممن مضى حفظ اللغة كلِّها[2].
والمراد بكلام العرب المستشهد به كلامُ القبائل العربية الموثوق بفصاحتها، وصفاء لغتها في الجاهلية والإسلام إلى أن فسدت الألسنةُ بالاختلاط مع الأعاجم، وفنشو اللحن.
وأفصح العرب قبيلة قريشٍ، ولهذا نزل القرآن الكريم بلغتها.
قال أبو نصر الفارابي في أول كتابه المسمى بـ((الألفاظ والحروف))[3]: (كانت قريش أجود العرب انتقاداً[4] للأفصح من الألفاظ، وأسهلها على اللسان عند النطق بها، وأحسنها مسموعاً، وأبينها إبانةً عمَّا في النفس، والذين عنهم نقلت اللغة العربية، وبهم اقتدي، وعنهم أخذ اللسان العربي من بين قبائل العرب هم: قيس، وتميم، وأسد، فإن هاؤلاء هم الذين عنهم أكثر ما أخذ ومعظمه، وعليهم اتكل في الغريب، وفي الإعراب والتصريف، ثم هُذَيْل، وبعض كنانة، وبعض الطائِيِّينَ، ولم يؤخذ عن غيرهم من سائر قبائلهم)[5].
وقال أحمد بن فارس في ((الصاحبي)) – 33 – 34 – (... أجمع علماؤنا بكلام العرب، والرواة لأشعارهم، والعلماء بلغاتهم وأيامهم ومحالِّهم: أن قريشاً أفصح العرب ألسنةً، وأصفاهم لغة، وذلك أن الله – جل ثناؤه – اختارهم من جميع العرب واصطفاهم، واختار منهم نبيَّ الرحمة محمداً صلى الله عليه وسلم.
فجعل قريشاً قُطَّانَ حرمه، وجيران بيته الحرام، ووُلاتَهُ. فكانت وفود العرب من حُجَّاجها وغيرهم يفِدون إلى مكة للحج، ويتحاكمون إلى قريش في أمورهم. وكانت قريش تعلَّمهم مناسِكَهم، وتحكم بينهم...(167/2)
وكانت قريش – مع فصاحتها، وحسن لغاتها. ورِقَّةِ ألسنتها – إذا أتتهم الوفود من العرب، تخيَّروا من كلامهم وأشعارهم احسنَ لغاتهم، وأصفى كلامهم، فاجتمع ما تخيروا من تلك اللغات إلى نحائِزِهِمْ وسَلاَئِقِهِمْ التي طبعوا عليها، فصاروا بذلك أفصح العرب.
ألا ترى أنك لا تجد في كلامهم عَنْعَنَةَ تميم[6]، ولا عَجْرَفِيَّةَ قيس[7]، ولا كَشْكَشَة أسد[8]، ولا كَسْكَسَةَ ربيعة[9]، ولا الكَسْرَ الذي تسمعه من أسد، وقيس مثل: يِعْلَمُون ونِعْلَم، ومثل: شِعير وبِعير؟)[10].
والنحاة اعتمدوا في تقعيد القواعد، وتثبيتها على لغات هذه القبائل، فاعتمدوا على لغة قريش، وسموها: اللغة الحجازية، ويأتي بعدها في الفصاحة لغةُ تميم، وتُقْرَنُ بكتب النحو والصرف بلغة الحجاز.
وللنُّحاة عانية بذكر لغة قيس، وقد تقرن بلغة الحجاز، وبلغة تميم، كما يعتنون بلغة بني أَسَدٍ، وبلغة طيء.
وفي مقدمة ((فقه اللسان)) – 1: 3 – 4 –: قال الشيخ يحيى في رسالته المسماة ((ارتقاء السيادة)): إن العربَ المأخوذَ عنهم اللسانُ العربيُّ، الموثوقَ بعربيتهم هم: بنو قيس، وتميم، وأسد وهُذَيْل، وبعضُ الطائيين. اهـ.
فكانت لغةُ هذه القبائل المذكورة أفصحَ لغات العرب، وعليها المعتمد، وإليها المرجع، ومن هذه القبائل: بنو قريش، وهم بطون مضر ولد إسماعيل، ولغتهم مفضلة على غيرهم؛ لأنه فيها نَزَل ((القرآن)).
ومضر هو ابن نزار بن معد بن عدنان وإليه تنتهي أنسابُ قريش وقيس وهُذَيْل وغيرهم[11].
أخرج البخاريُّ في ((صحيحه)) في ((كتاب فضائل القرآن)) – باب نَزَلَ القرآن بلسان قُرَيْشٍ والعَرَبِ – 6: 97 – من حديث أنس بن مالكٍ قال: (فأمر عثمان زيد بن ثابت وسعيد بن العاص وعبدالله بن الزبير وعبدالرحمن بن الحارث بن هشام أن ينسخوها[12] في المصاحف، وقال لهم: إذا اختلفتم أنتم، وزيد بن ثابت في عربية من عربية القرآن فاكتبوها بلسان قريش، فإن القرآن أنزل بلسانهم ففعلوا).(167/3)
وفي ((فتح الباري)) – 9: 9: قال القاضي أبو بكر بن الباقلانيُّ: معنى قول عثمان: نزل القرآنُ بلسان قريش، أي: معظمُه، وأنه لم تقم دلالة قاطعةُ على أنَّ جميعَه بلسان قريش، فإن ظاهر قوله – تعالى – {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} أنه نزل بجميع ألسنة العرب، ومن زعم أنه أراد مضر دون ربيعة، أو هما دون اليمن، أو قريشاً دون غيره فعليه البيان، لأن اسم العرب يتناول الجميع تناولاً واحداً.
وقال أبو شامة: يحتمل أن يكون قولُه: نزل بلسان قريش أي: ابتداء نزوله، ثم أبيح أن يُقْرَأَ بلغة غيرهم. اهـ.
وتكملته أن يقال: إنه نزل أولاً بلسان قريش أحدُ الأحرفِ السبعة، ثم نزل بالأحرف السبعة المأذون في قراءتها تسهيلاً وتيسيراً. فلما جمع عثمانُ الناس على حرف واحد رأى أنَّ الحرف الذي نزل القرآن أوَّلاً بلسانه أَوْلَى الأحرف، فحمل الناس عليه؛ لكونه لسان النبي صلى الله عليه وسلم، وللِمَا له من الأوَّلِيَّة المذكورة...).
و((القرآن الكريم)) هو في أعلى مستويات الفصاحة بالإجماع.
قال ابن خالويه في ((شرح الفصيح)): (قد أجمع الناس جميعاً أن اللغة إذا وَرَدَت في القرآنِ فهي أفصحُ مما في غير القرآن، لا خلافَ في ذلك)[13].(167/4)
قال أبو نصر الفارابيُّ في ((الألفاظ والحروف)): (.. وبالجملة فإنه لم يؤخذ عن حضَرِيٍّ قط، ولا عن سُكَّان البراري ممن كان يسكن أطراف بلادهم التي تجاور سائِرَ الأمم الذين حولهم؛ فإنه لم يُؤْخَذْ لا من لَخْمٍ، ولا من جُذَام؛ لمجاورتهم أهل مصر والقِبْط، ولا من قضاعة، ولا من غسَّان، ولا من إياد؛ لمجاورتهم أهل الشام، وأكثرهم نصارى يقرأون في صلاتهم بالعبرانية، ولا من النَّمِرِ، فإنهم كانوا بالجزيرة مجاورين لليونانية، ولا من بكر لمجاورتهم للنَّبَطِ والفرس، ولا من أزْدِ عمان، لمخالطتهم للهند والفرس، ولا من أهل اليمن[14] أصلاً، لمخالطتهم للهند والحبشة، ولولادة الحبشة فيهم، ولا من بني حنيفة، وسكان اليمامة، ولا من ثقيف، وسكان الطائف، لمخالطتهم تُجَّار الأمم المقيمين عندهم، ولا من حاضرة الحجاز؛ لأن الذين نقلوا اللغة صادفوهم حين ابتدأوا ينقلون لغة العرب قد خالطوا غيرهم من الأمم، وفسدت ألسنتهم.
والذي نقل اللغة واللسان العربي عن هؤلاء، وأثبتها في كتاب، وصيَّرها علماً وصناعة، هم أهل الكوفة والبصرة فقط، من بين أمصار العرب[15].
ونقل ذلك أبو حيان في ((شرح التسهيل)) معترضاً به على ابن مالك حيث عني[16] في كتبه بنقل لغة لَخْمٍ وخزاعة وقضاعة، وغيرهم، وقال: ليس ذلك من عادة أئمة هذا الشأن[17].
ثم الاعتماد على ما رواه الثقاتُ عنهم بالأسانيد المعتبرة من نثرهم، ونظمهم وقد دُوِّنَتْ دواوينُ عن العرب الْعَرْباءِ كثيرة مشهورة، كـ((ديوان امريء القيس)) والطِّرِمَّاح وزهير وجرير والفرزدق وغيرهم[18].
هذه موارد الشواهد النحوية والصرفية عند البصريين الذين كانوا يتشددون في الأخذ والتحمل، ولا يقبلون كلام من اختلط بالحواضر.
ففي ((طبقات فحول الشعراء)) – 1: 12 –: (كان لأهل البصرة في العربية قُدْمَةٌ[19]، وبالنحو ولغات العَرَب والغريب عناية). انتهى.(167/5)
أما الكوفيون فقد اعتمدوا على القبائل التي اعتمد عليها البصريون واعتمدوا على لغاتٍ أخرى أبى البصريون الاستشهاد بها، وهي لهجات سكان الأرياف الذين وثقوا بهم، كأعراب الحطمية الذين غَلَّطَ البصريون لغتهم ولَحَّنُوها، واتهموا الكسائي بأنه أفسد النحو، أو بأنه أفسد ما كان أخذ بالبصرة، إذ وثق بهم، وأخذ عنهم. واحْتُجَّ على سيبويه في المناظرة التي جرت بينهما بلغاتهم[20].
أما الشعر من كلام العرب فكان النحاةُ عامة ينظرون إليه بدقة وحذر ولا يعتمدون إلا على ما ثبت عندهم صحةُ نسبته إلى قائله، وفصاحته، وصدق راويه، والوثوق فيه، وخلوه من الضرورات، لذلك اشتدت عنايتهم بالرواية وأنواعها وطرقها، وبصفات الراوي، وما يجب عليه من الأمانة والصدق، ونحوها[21].
ويعتمد في تقرير أحكام اللفظ على أشعار الجاهلية، وهم قبل الإسلام كأمريء القيس وزهير والأعشى.
والمخضرمين، وهم الذين أدركوا الجاهلية والإسلام، كحسان ولبيد والإسلاميين، وهم الذين نشأوا في صدر الإسلام، كالفرزدق وذي الرمة.
وأما المولَّدون، ويقال لهم: المُحْدَثُون وهم من بعدهم إلى زماننا، وتبتديء طبقتهم ببشار بن برد المتوفى سنة 167هـ[22]، وأبي نواس، الحسن بن هانئ المتوفى سنة 198هـ[23]، فلا يحتجُّ بشيء من أشعارهم في أحكام اللسان.
فالطبقتان الأوْلَيَان يستشهد بشعرهما إجماعاً، وأما الثالثة فالصحيح صحة الاستشهاد بكلامها[24].
وكان بشار قد هجا الأخفش، فأورد الأخفش في كتبه شيئاً من شعره، ليكفَّ عنه[25].
وكذلك سيبويه استشهد بشيء من شعرِ بشار؛ تَقَرُّباً إليه، لأنه كان قد هجاه؛ لتركه الاحتجاج بشعره[26].
واستشهد أبو علي الفارسي في ((الإيضاح)): 102، ببيت أبي تمام الطائي، المتوفى سنة 231هـ، وهو قوله:
مَنْ كانَ مَرْعَى عَزْمِهِ وَهُمُومِهِ رَوْضُ الأماني لم يَزَلْ مَهْزُولا[27](167/6)
لأنَّ عَضُدَ الدولة كان يحبُّ هذا البيت، وينشده كثيراً، لا لأنَّ أبا تمام يستشهد بشعره[28].
وذهب بعض علماء العربية إلى صحة الاستشهاد بكلام من يوثَق به من المُحْدَثين.
وجَنَحَ إلى هذا المذهب الزمخشريُّ، فقد استشهد ببيتٍ لأبي تمام في أوائل سورة البقرة من ((الكشاف)) (43:1)، وقال: وهو وإن كان مُحْدَثاً لا يستشهد بشعره في اللغة، فهو من علماء العربية، فأَجْعَلُ ما يقولهُ بمنزلة ما يرويه، ألا ترى إلى قول العلماء: الدليل عليه بيتُ الحماسة، فيقتنعون بذلك؛ لوثوقهم بروايته وإتقانه.
ونحا هذا النحو الرَّضيُّ، فقد استشهد بشعر أبي تمَّام في عدة مواع من شرحه لـ((كافية ابن الحاجب))[29].
وجرى على هذا المذهب الشهابُ الخفاجيُّ فقال في ((شرح درة الغواص)): أجعل ما يقوله المتنبي بمنزلة ما يرويه[30].
وضُعِّفَ هذا المذهبُ من ناحية أن الرواية تعتمد على الضبط والعدالة. أما الثقةُ بصحة الكلام، أو فصاحتِه فمدارُها على مَنْ يتكلم بالعربية بمقتضى النشأة والفطرة.
وكيف يُحْتَجُّ بأقوال هاؤلاء المولَّدِيْنَ وقد وقعوا في أغلاط كثيرة، لا يستطيع أحدٌ تخريجها على وجه مقبول.
فإن ذُكِرَتْ أقوالهم على سبيل الاستئناس به، ولم تجعل دليلاً فلا بأس به.
ولا يُفْتَحُ بابُ الاحتجاج بأقوال المولَّدِيْنَ؛ كيلا يلزم الاستدلال بكل ما وقع في كلام المحدثين، كالحريري وأضرابه، والحجة فيما رووه، لا فيما رأوه، وقد خطَّأوا المتنبي وأبا تمام والبحتري في أشياء كثيرة، كما هو مسطور في شرح تلك الدواوين، ويرى ذلك بوضوح في كتب النحو والصرف.
وليس بسديد أن تُصَحِّحَ بعض الكَلِمِ أو الأساليب، استناداً على استعمالات العلماء في مصنفاتهم إن وردت مخالفة لأساليب العرب في عصور الاحتجاج، فلكل جَوَادٍ كَبْوَةٌ، ولكل صارمٍ نَبْوَةٌ.(167/7)
فما يلفظ به رواة الشعر وعلماءُ العربية لا حجة فيه، إلاَّ أن تذكَره على وجه الاستئناس، وأنت مَاليء يدك بما هو حجة، أو منتظرٌ لأن تظفر بالحجة.
والفساد في اللغة أسرع إلى ألسنة أبناءِ العرب، ومَنْ نشأ في بيئتهم منذ وَصَلَتِ الفتوحُ الإسلامية العرب بالعجم.
وقد ظهر اللحن بجلاءٍ في أواخر عهد الدولة الأموية، وكان انقراضها سنة 132هـ[31].
أما سكان الجزيرة فإنهم ما برحوا على فصاحة اللغة إلى أواسط القرن الرابع.
وأما الخاصة من سكان المدن فبقوا على فصاحة اللهجة إلى أوائل عهد الدولة العباسية[32].
ونقل ثعلب عن الأصمعيِّ أنه قال: خُتم الشعر بإبراهيم بن هَرْمة، وهو آخر مَنْ يُحْتجُّ بشعرهم. وقد توفي في خلافة الرشيد سنة 176[33].
والذين نشأوا في بيئة عربية لم ينتشرْ فيها فسادُ اللغة انتشاراً يرفع الثقة بفصاحة لهجتها، يُوثَقُ بأقوالهم، ولو كانوا في القرن الثالث.
قال ابن جني في ((الخصائص)) – 2: 5 – (باب في ترك الأخذ عن أهل المَدَرِ كما أُخِذَ عن أهل الوَبَرِ) عِلَّةُ امتناع ذلك ما عَرَضَ للغاتِ الحاضرةِ وأهل المَدَرِ من الاختلال والفساد والخَطَل.
ولو عُلِمَ أن أهل[34] مدينةٍ باقون على فصاحتهم، ولم يعترضْ شَيْءٌ من الفساد للغتهم، لوجب الأخذ عنهم كما يؤخذ عن أهل الوبر.
وكذلك أيضاً لو فشا في أهل الوبر ما شاع في لغة أهل المَدَرِ من اضطراب الألسنة وخبالها، وانتقاضِ عادةِ الفصاحة وانتشارها، لوجب رفض لغتها، وترك تلقِّي ما تَرِد عنها. وعلى ذلك العملُ في وقتنا هذا؛ لأنا لا نكاد نرى بَدَوِيًّا فصيحاً. وإن نحن آنسنا منه فصاحة في كلامه، لم نكد نعدَم ما يُفْسِدُ ذلك ويقدح فيه، وينال ويَغُضُّ عنه.
والشافعيُّ المتوفى سنة 204هـ، نشأ في بيئة عربية، وهي مكة المكرمة وهو حجة في كلامه وعباراته، يصح الاستشهاد بما يستعمله من الألفاظ؛ لأنه يكتب ويتكلم بلغته على سجيته، ويتخير من لغات العرب ما شاء.(167/8)
ولقد كان الشافعي فصيحَ اللسان، ناصعَ البيان، في الذروة العليا من البلاغة، تأدب بأدب البادية، وأخذ العلوم والمعارف عن أهل الحضر.
قال أحمد: (كلامُ الشافعيِّ حجةٌ في اللغة)[35].
وقال الأزهريُّ في ((إيضاح ما استشكل من مختصر المُزَنِيّ)): (ألفاظُ الإمام الشافعي عربية محضة، ومن عجمة المولدين مصونة)[36].
وقال المازني: (كلام الشافعي عندنا حجة في النحو).
وأخرج الحاكم عن الزعفراني قال: (ما رأيت الشافعيَّ لحن قط).
وقالوا: إن كلامَ مالك – رضي الله عنه – المتوفى سنة 179هـ حجةٌ ثبتُ به القواعد النحوية[37].
وإنني أعجب كل العجب من بعض النحاة الذين تَبَنَّوا الصدَّ عن الاحتجاج بكلام سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم، تعللاً بالرواية بالمعنى، ورواية العجم، مع أنَّ الدواعي متوفرة لنقل كلامه صلى الله عليه وسلم، والاعتناء به أكثر من جميع الخلق.
وليت شعري، مَنْ أَوْلَى من رسول الله صلى الله عليه وسلم بالاحتجاج بكلامه؟!
ومَنِ الشافعي ومَنْ مالكٌ – رحمهما الله – بالنسبة لحامل لواء الرسالة للعالَمِين؟![38]
فمهلاً مهلاً يا مفْتُون.
ولا يجوز الاحتجاج بشعرٍ أو نثر لا يُعْرف قائله، وعلة ذلك: الخوف من أن يكون لمولَّدٍ، أو مَنْ لا يوثق بفصاحته[39].
فإن روى الشعْر عربيٌّ ينطق بالعربيَّة بمقتضى السليقة فيحتجُّ به، وكان العرب ينشُد بعضُهم شعرَهُ للآخر، فيرويه عنه كما سمعه، أو يتصرف فيه على مقتضى لغته، ولهذا تكثُرُ الرواياتُ في بعض الأبيات، ويكون كلٌ منها صالحاً للاحتجاج، كما يُحْتَجُّ بالشعر الذي يرويه من يوثق به في اللغة، واشتهر بالضبط والإتقان وإن لم يُعْرَفْ قائِلُهُ. وقد تلقَّى علماءُ العربية شواهد كتاب ((سيبويه)) بالقبول، وفيها شواهد كثيرةٌ لم يعرف أسماء قائليها، فإنما يكون الردُّ وجيهاً إذا روى الشعر من لم يكن عربياً فصيحاً، ولم يشتهر بالضبط والإتقان فيما يسوقه من الشعر على أنه عربي فصيح[40].(167/9)
ولا يَغِبْ عنك أنَّ ما نحنُ بصدده من موارِد العربية خاصٌّ بما يُسْتَشْهَدُ به في النحو والصرف واللغة.
أما ما يتعلق بالشواهد في المعاني والبيان والبديع فإنه يُسْتَشْهَدُ عليها بكلام الشعراء جميعاً، سواء أكانوا في عصر الاحتجاج أم في غيره.
وإليك ما قاله الأندلسيُّ في ((شرح بديعية ابن جابر)): (علوم الأدب ستة: اللغة، والصرف، والنحو، والمعاني، والبيان، والبديع، والثلاثة الأُوَلُ لا يُستشهد عليها إلا بكلام العرب، دون الثلاثة الأخيرة، فإنه يُستشهد فيها بكلام غيرهم من المولدين؛ لأنها راجعة إلى المعاني، ولا فرق في ذلك بين العرب وغيرهم؛ إذ هو أمر راجع إلى العقل، ولذلك قُبِلَ من أهل هذا الفن الاستشهاد بكلام البحتري وأبي تمام وأبي الطيب وهلُمَّ جرا)[41].
ويقول ابن جُني في ((الخصائص)) – 1: 24 – وقد استشهد ببيتٍ للمتنبي: "ولا تستنكر ذكر هذا الرجل – وإن كان مولَّداً – في أثناء ما نحن عليه من هذا الموضع وغموضه، ولطف متسرَّبه(؟)، فإنَّ المعاني يتناهبها المولَّدون كما يتناهبها المتقدمون. وقد كان أبو العباس[42] – وهو الكثير التعقب لجلَّةِ الناس – احتجَّ بشيء من شعر حبيب بن أوس الطائي في كتابه في الاشتقَاقَ، لما كان غرضه فيه معناه دون لفظه".
ويقول أيضاً في ((المحتسب)) – 1: 231 – وقد استشهد ببيتٍ للمتنبي: "ولا تقل ما يقوله من ضعفتْ نحيزته[43]، وركت طريقته: هذا شاعر مُحْدَثٌ، وبالأمس كان معنا، فكيف يجوز أن يحتج به في كتاب الله – جل وعز – ؟ فإن المعاني لا يرفعها تقدُّمٌ، ولا يُزْري بها تأخُّرٌ. فأما الألفاظ فلعمري أني هذا الموضع معتبر فيها، وأما المعاني ففائتة بأنفسها إلى مغرسها، وإذا جاز لأبي العباس أن يحتج بأبي تمام في اللغة كان الاحتجاج في المعاني بالمولَّد الآخر أشبه".
وسلام على المرسلين والحمدلله رب العالمين..
مصادر البحث ومراجعه:(167/10)
– ((الأعلام)) لخير الدين الزركلي – الرابعة – دار العلم للملايين 1979م.
– ((الاقتراح)) للسيوطي – تحقيق الدكتور أحمد محمد قاسم – الأولى 1396هـ – 1976م القاهرة.
– ((الإنصاف في مسائل الخلاف)) لأبي البركات الأنباري – تحقيق محمد محيي الدين عبدالحميد – الرابعة – 1380هـ السعادة.
– ((الإيضاح العضدي)) للفارسي – تحقيق الدكتور شاذلي فرهود – الأولى – 1389هـ مطبعة دار التأليف بمصر.
– ((بحوث ومقالات في اللغة)) للدكتور رمضان عبدالتواب – الأولى – 1403هـ – 1982م – المدني.
– ((البداية والنهاية)) لابن كثير – الأولى 1351هـ السعادة بمصر.
– ((البيان والتبيين)) لأبي عثمان، عمرو بن بحر الجاحظ – الرابعة 1395هـ.
– ((تاج العروس)) لمحمد مرتضى الزبيدي – الخيرية 1306هـ بمصر.
– ((الحروف)) للفارابي – دار المشرق – بيروت – تحقيق الدكتور محسن مهدي.
– ((خزانة الأدب)) لعبدالقادر البغدادي – تحقيق عبدالسلام هارون – دار الكتاب العربي – القاهرة 1387هـ.
– ((الخصائص)) لابن جني – تحقيق محمد علي النجار – طبع دار الكتب 1371هـ.
– ((دراسات في كتاب سيبويه)) للدكتورة خديجة الحديثي – الكويت 1980م.
– ((دراسات في العربية وتاريخها)) لمحمد الخضر حسين – دار الفتح بدمشق 1380هـ – 1960م.
– ((الرسالة)) للشافعي – تحقيق أحمد محمد شاكر – الأولى 1358هـ – 1940م – مصطفى البابي الحلبي.
– ((سيبويه إمام النحاة)) لعلي النجدي ناصف – عالم الكتب 1979م.
– ((الصاحبي)) لأحمد بن فارس، تحقيق السيد أحمد صقر – عيسى البابي الحلبي 1977م.
– ((الصحاح)) للجوهري – تحقيق أحمد عبدالغفور العطار – القاهرة 1377هـ.
– ((صحيح البخاري)) طبع إستانبول – تصوير دار الفكر.
– ((طبقات فحول الشعراء)) لابن سلام – تحقيق محمود شاكر – طبع المدني بالقاهرة 1394هـ.
– ((العربية)) ليوهان فك – نقله إلى العربية الدكتور عبدالحليم النجار – دار الكتاب العربي – القاهرة 1370هـ/ 1951م.(167/11)
– ((فتح الباري)) لابن حجر – تصوير على الطبعة السلفية.
– ((فقه اللسان)) للسيد كرامت حسين الكنتوري – لكنؤ – الهند 1915م.
– ((فيض نشر الانشراح من روض طي الاقتراح)) لابن الطيب – مخطوط.
– ((القاموس المحيط)) للفيروز أبادي – الثانية الحسينية 1344هـ.
– ((كتاب سيبويه)) تحقيق وشرح عبدالسلام هارون – الثانية الهيئة المصرية العامة للكتاب –.
– ((الكشاف)) للزمخشري – صورة عن طبعة مصرية – دار المعرفة – بيروت.
– ((لمع الأدلة)) للأنباري – تحقيق سعيد الأفغاني – الجامعة السورية 1377هـ.
– ((مجالس ثعلب)) تحقيق عبدالسلام محمد هارون – دار المعارف بمصر 1960م.
– ((المحتسب)) لابن جني – تحقيق علي النجدي ناصف وزميلَيْه – طبع المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية – القاهرة 1389هـ.
– ((المزهر)) للسيوطي – تحقيق محمد أحمد جاد المولى وزميلَيْه – عيسى البابي الحلبي – القاهرة.
– ((مغني اللبيب)) لابن هشام – تحقيق الدكتور مازن مبارك، ومحمد علي حمد الله – دار الفكر بدمشق 1384هـ.
– ((الموشح)) للمرزباني – تحقيق علي محمد البجاوي – مطبعة لجنة البيان العربي 1965م.
ـــــــــــــــــــــــ
[1] ((البيان والتبيين)) 3: 290.
[2] انظر ((الصاحبي)): 26.
[3] هكذا يسميه ((السيوطي))، وأما النسخة الخطية فتسميه ((رسالة الحروف)).
انظر المقدمة لرسالة ((الحروف)): ص: 34 بتحقيق د.مهدي محسن.
[4] النقد والانتقاد: تمييز الدراهم وغيرها. وقد تكون انتقاءً، من انتَقَاهُ: اختاره.
[5] ((الحروف)) – 147 – و((المزهر)) – 1: 211 –، و((الاقتراح)) – 56 – و((فيض نشر الانشراح)) – 192 – خ الرباط. والظاهر أن العبارة تلخيص ما قاله الفارابي، مع أشياء أضافها السيوطيُّ من معلوماته.
[6] هو قلبهم الهمزة في بعض كلامهم عيناً، يقولون: سمعتُ عنْ فلاناً قال كذا، يريدون: أن.
[7] وعجرفية ضبة، وهي: تقعرهم في الكلام ((تاج العروس)) – 6: 189 –.(167/12)
[8] هو إبدالهم الكاف شيناً، يقولو: عَلَيْش بمعنى: عَلَيْك وفي ((الخصائص)) – 2: 11 – أنها لربيعة.
[9] هي أن يصلوا بالكاف سيناً فيقولون: عَلَيْكِسْ، وفي ((مجالس ثعلب)) – 1: 81 – و((الخصائص)) – 2: 11 – أنها لهوازن. وانظر ((بحوث ومقالات في اللغة)) – 222 –.
[10] ((المزهر)) – 1: 210 –.
[11] ((فتح الباري)) – 9: 9 –.
[12] أي الآيات أو السو أو الصحف المحضرة من بيت ((حفصة)).
[13] ((المزهر)) – 1: 213 –.
[14] المراد بهم العرب النازلون في اليمن من يعرب وقحطان. ((فيض نشر الانشراح))، – 197 – خ الرباط.
[15] ((الحروف)) – 146 –، و((الاقتراح)) – 56: 57، و((المزهر)) – 1: 212 – تَصَرِّفَ السيوطي في العبارة.
[16] اعتنى ابن مالك في كتبه بنقل اللغات المذكورة، وذلك لكثرة اطلاعه، وسَعَة عارضته. ((فيض نشر الانشراح)) – 201 – خ الرباط.
[17] والجواب على أبي حيان: أن ((ابن مالك)) سار في علوم العربية سيرَ المجتهدين فلا يَرَى فيها تقليدَ أحدٍ، كما شهد له هو – أي: أبو حيان – بذلك. ((فيض نشر الانشراح)) – 201 – خ الرباط.
[18] ((الاقتراح)) – 57 –.
[19] يقال: له في الأمر قَدَمٌ وقُدْمَهٌ، أي: تقدّم وسبق وأثر حسن بقدمه في إصلاحه. ((الصحاح)) – قدم 5: 2007 –.
[20] انظر ((مغني اللبيب)) – 122: 125.
[21] ((لمع الأدلة)) – 85 – و((المزهر)) – 1: 137: 138 – و((دراسات في كتاب سيبويه)) – 73 –.
[22] ((الأعلام)) – 2: 52 –.
[23] ((الأعلام)) – 2: 225 –.
[24] انظر ((خزانة الأدب)) – 1: 6 –.
[25] ((الموشح)) – 385 –.
[26] استشهد سيبويه في الكتاب في (باب الإدغام) – 4: 441 – بعجز قوله:
فما كلُّ ذي لُبٍّ بِمُؤْتِيكَ نُصْحَهُ
وما كلُّ مُؤْتٍ نُصْحَهُ بِلَبِيبِ
جاء في ((رسالة الغفران)): 431: (وأصحاب بشار يروون له هذا البيت) ونَسَبَهُ كثيرون لأبي الأسود، وهو في ديوانه – 33 –.(167/13)
وفي كتاب ((سيبويه إمام النحاة)) – 152: 153 ما يلي: (وهذا تَقَوّلٌ على سيبويه في شواهده: أنه استشهد بشعر بشار، لا لأنه كان يرى الاستشهاد به، ولكن لأنه كان يخافه، ويتقي مَعَرِّةَ لسانه، فقد أنكر بشار أن لا يُستشهد به، وتوعده بالهجاء إن هو لم يفعل، ويذكرون أن سيبويه اضطر لذلك أن يستشهد بقوله:
وما كل مؤتٍ نصحَه بلبيبِ
وبالرجوع إلى الكتاب نجد هذا الشطر فيه دون نسبة، فهل تظن أن بشاراً كان يمكن أن يرضى بذلك، ويجدَ فيه مقنعاً. فنهدأَ ثورته، ويرجع عن هجاء صاحبه؟ هيهات؛ لأن أمنية بشار أن يرفعه سيبويه إلى مرتبة مَنْ كان يحتج بهم من الشعراء، ولا يتحقق ذلك على وجهه إلا إذا استشهد به، وذَكَرَ اسمَهُ في الاستشهاد.
وليس لسيبويه ما يعتذر به من إغفال اسمه، فإنه ليعلمن أن الشعر شعره غير منازع فيه، ثم ما جَدْوَاه من إغفال اسمه إذا هو قبل الاحتجاج به، فالخطب بعد ذلك يسير. وسيعلم الناسُ الحقيقة حتماً. ولقد كان الهجاء هيناً على بشار، بل لقد كان به مولعاً، وفيه جريئاً، حتى ما يكاد يرقب فيه ذماماً أو يهاب أحداً، فلعل سيبويه إذا صحت القصة إنما استشهد به للاستئناس، وحين المذاكرة والدرس.
على أن البيت ليس خالصاً لبشار، ينسبه إليه ناسٌ، وينسبه إلى أبي الأسود ناس آخرون، ورجعت إلى بَائِيَّاتِ بشار في الجزء الأول من ديوانه فلم أعثر على البيت فيه). اهـ (بتصرف). وفي كتاب ((العربية)) ليوهان فك – 52 – ما يلي: (... تريد إحدى الروايات أن تعرف أن سيبويه اعتبر شعر بشار حجة خوفاً من سلاطة لسانه. ولكن الكتاب نفسه يدحض هذه الرواية، حيث نبحث عبثاً عن اسم بشار فلا نجد له ذكراً...).
وانظر ((بحوث ومقالات في اللغة)) – 98: 99.
توسعت في هذه المسألة، لِتَطَلُّب المقام لها، لأن سيبويه أولُ واضع لقواعد العربية بشمولية فائقة، بحيث لم تستطع الأجيال المتأخرة أن تغير شيئاً من أسسه وقواعده.(167/14)
وسيبويه يرجع دائماً في شؤون الاستعمال اللغوي إلى العرب المتفق على الاحتجاج بهم، ولا يحيد عن ذلك، ولا يرهبه التهديد والتنديد.
[27] استشهد أبو علي بالبيت على رفع قوله مَرْعَى محلاًّ على الابتداء، و(روضُ الأماني) خبره، والجملة خبر كان، واسم كان ضمير عائد إلى المبتدأ الذي هو مَنْ.
[28] ((وفيات الأعيان)) – 2: 81 –، و((الاقتراح))، – 70 –، و((خزانة الأدب)) – 1: 8 –.
[29] ((خزانة الأدب)) – 1: 7 –.
[30] انظر ((دراسات في العربية وتاريخها)) – 37 –.
[31] ((خزانة الأدب)) – 1: 7 –.
[32] ((دراسات في العربية وتاريخها)) – 174 –.
[33] ((البداية والنهاية)) – 10: 169 –، و((الاقتراح)) – 7 –، و((خزانة الأدب))، – 1: 8 –.
[34] وفي ((القاموس)) (عَكِد): (أنه جَبَلًُ قُرْبَ زَبيدَ أهلها باقِيةٌ على اللُّغَةِ الفصيحةِ).
وقال شارحه محمد مرتضى الزبيدي في ((تاج العروس)) – 2: 429 –: أي: (إلى الآن ولا يقيم الغريب عندهم أكثر من ثلاثة ليال خوفاً على لسانهم) اهـ ووفاة الشارح كانت سنة 1205هـ.
[35] ((الاقتراح)) – 57 –.
[36] ((دراسات في العربية وتاريخها)) – 274 –.
[37] ((فيض الانشراح)) – 205 – خ الرباط.
[38] كابن الضائع المتوفَّى سنة 680هـ، وأبي حيان المتوفَّى سنة 745هـ ومن حَذَا حَذْوَهُمَا.
[39] انظر: ((الإنصاف)) – 2: 583 –، و((الاقتراح)) – 71 –.
[40] انظر ((دراسات في العربية وتاريخها)) – 39 –.
[41] ((خزانة الأدب)) – 1: 5 –.
[42] يريد المبرد، محمد بن يزيد المتوفَّى سنة 285هـ.
[43] طبيعته.(167/15)
العنوان: الاحتساب على غير المسلمين في دار الإسلام
رقم المقالة: 1934
صاحب المقالة: سعود بن إبراهيم الطريقي
-----------------------------------------
الاحتساب على غير المسلمين في دار الإسلام
بحث ماجستير (تكميلي) للباحث: سعود بن إبراهيم بن علي الطريقي
أعد الملخص/ محمَّد بن سالم بن علي جابر
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على عباده الذين اصطفى، وبعد:
لقد أرسل الله رسوله محمَّدًا - صلواتُ اللَّه وسلامه عليه - بدين الإسلام، وجعله من أكمل الأديان، وأمره بالدعوة إليه؛ حيث لا يقبل من الناس غيره {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85].
ولن يستقيم هذا الدين إلا بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر؛ لذا فقد أمرنا الله بذلك، فقال – تعالى -: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 104].
والمسلم في دعوته سوف يواجه أصنافًا من البشر، منهم المسلم، ومنهم الكافر.
وحيث إنه يجوز لبعض هؤلاء الكفار دخولُ دار الإسلام، والإقامة بها، ويمكن تحديدهم بصنفين فقط، هما:
أ - أهل الذّمَّة.
ب – والمستأمَنون.
حيث وَضَعَ الإسلام قيودًا لدخول الكفار لديار المسلمين، وأبان لنا طريقة التعامل معهم، وبالوقوف على هذه الأحكام نعرِف من خلالها سماحة الإسلام، وما تَميَّز به من معاملة حسنة لغير معتنقيه.
مِن هنا قام الباحث سعود بن إبراهيم بن علي الطريقي باختيار موضوع: "الاحتساب على غير المسلمين في دار الإسلام"؛ ليكون بحثًا مكمّلاً لنيل درجة الماجستير، التي أنهى دراستها في كليَّة الدَّعوة والإعلام، بجامعة الإمام مُحمَّد بن سعود الإسلامية.
وها نحن ننقل لكم مُقْتَطَفات من تلك الدراسة، سائلين الله - عز وجل - أن تجدوا فيها المتعة والفائدة.(168/1)
1- أسباب اختيار الموضوع:
1- أن هذا العصر قد ضَعُف فيه المسلمون، وقوِيَتْ فيه شوْكَةُ الكُفَّار فِي جميعِ ميادين الحياة الدُّنيويَّة، مِمَّا جَعَلَ المُسْلِمِينَ يَحتاجون إلى غيرهم من الكفار للاستفادة مِنْهُمْ، ونظرًا لِكَثْرَتِهم بَيْنَنَا فَنَحْنُ مُحتاجون إلى توضيح طريقِ معاملتهم.
2- أنَّ كثيرًا من المسلمين لا يعرفون طريقة التعامل مع هؤلاء الكفار، ولا يُفرِّقون بين ما يحتسب عليهم فيها، وما لا يحتسب؛ فيعاملونهم معاملة قاسية غليظة، ومنهم من يتساهل معهم ويعاملهم معاملة المسلمين؛ ولكنَّ الدّين الإسلامي دين الوسط، فلا إفراط ولا تفريط.
3- أنَّ هذا الموضوعَ أرى أنه بِكْرٌ لم يُطرَق بعْدُ، مِمَّا حداني إلى اختيار هذا الموضوع، وتجميع شَتَاتِه مِنْ كُتُبِ الفِقْهِ والتَّفسيرِ والْحَدِيثِ وغيرها، أمَّا الكتب الموجودة الآن فهي تتعلق بأحكام أهل الذّمَّة والمستأمنون، ولم تُفرِد للاحتساب جزءًا معينًا.
2- الصعوبات والعقبات:
واجهتِ الباحثَ بَعْضُ الصعوبات في البحث، وهي كما ذكر:
1- قلة المصادر المتخصّصة بهذا الموضوع، وهو الاحتساب على غير المسلمين، مِمَّا جَعَلَنِي أرجع إلى كتب الفِقْهِ، والتفسير، والحديث، وغيرها؛ حيث أخذ مني الجهد والوقت.
2- أنَّ بعض النقاط في البحث لم أَجِدْ لَها مصادِرَ على الإِطلاق، خُصوصًا في المستأْمَنين، ولَكِنَّني بذلتُ جهدي، وأعْمَلْتُ رأيي، وأوضحتها عن طريق القياس بأهل الذمة، فعلِّي قد وفقت إلى ذلك إن شاء الله.
3- منهج البحث:
يقول الباحث في تحديد منهجه في هذا البحث:
1- إنني حصرت بحثي في موضوع الاحتساب على أَهْلِ الذّمَّة والمستأمنين، بما يَتَعَلَّقُ بِالواجبات التي عليهم، أو ما فيه ضررٌ على المسلمين، أو يُعتبَر من المُنْكَرات، وقدِ اخْتَصَرْتُ بقدر الاستطاعة؛ نظرًا لطول المخطط، وقِصَر المدة.(168/2)
أمَّا بعض الأحكام فلمْ أَتَطَرَّقْ إليها؛ لأن العلماء قد كفونا إياها وأفاضوا فيها؛ كابن القيم في "أحكام أهل الذمة"، والدكتور عبدالكريم زيدان في "أحكام الذميين والمستأمنين".
2- حاوَلْتُ بِقَدْرِ اسْتِطاعَتِي أن أُورِدَ آراءَ الفُقَهاءِ الأَرْبَعَةِ المشهورين؛ إلا في بعض الحالات التي لم تسعفني المصادر في العثور عليها.
3- إنني خرَّجت الأحاديث الموجودة في صلب البحث، وترجمتُ لأعلام الأشخاص المشار إليهم في صلب البحث أيضًا.
4- أقسام الدراسة :
المقدمة.
تمهيد: وقد تناول فيه الباحث النقاط التالية:
1- تعريف الحِسْبة والاحتساب.
2- المراد بغير المسلمين في دار الإسلام، مع إعطاء نبذة عن وضع غير المسلمين الآن.
3- تعريف دار الإسلام، ودار الحرب.
4- وضع غير المسلمين، وعلاقة المسلمين بهم.
الفصل الأول: في حقوق غير المسلمين في دار الإسلام، وفيه مبحثان:
المبحث الأول: حقوق أهل الذمة.
المبحث الثاني: حقوق المستأمنين.
الفصل الثاني: في الاحتساب على أهل الذّمَّة، وفيهِ أرْبَعَةُ مَبَاحِثَ:
المبحث الأول: ما يحتسب على أهل الذّمَّة في الجزية، والخراج، والعشور، وضيافة المسلمين.
المبحث الثاني: الاحتساب على أهل الذمة فيما يُلحِق بالمسلمين الضرر، وهو:
1- خِيانة المسلمين بِالتَّواطؤ على قتالهم، والتجسس لأعدائهم.
2- فتنة المسلم عن دينه.
3- الزنا بالمسلمة، أو نكاحها.
4- قطع الطريق.
5- قتل المسلم.
المبحث الثالث:
أ – في المنكرات التي يفعلونها، وهي:
1- إحداث أماكن للعبادة.
2- إظهار الخمر والخنزير، والضرب بالنواقيس، وتعلية البناء على المسلمين.
3- الإقامة في الحجاز، ودخول الحرم.
4- رفع أصواتهم بكتبهم بين المسلمين.
ب – في الغيار والتمييز عن المسلمين:
1- في لباسهم.
2- في شعورهم.
3- في مركوبهم.
4- في الأسماء والكُنَى.
المبحث الرابع:
1- في الظلم الواقع بينهم.
2- في الظلم الواقع بينهم وبين المسلمين.(168/3)
الفصل الثالث:- في الاحتساب على المستأمنين وطريقته.
المبحث الأول: الاحتساب عليهم فيما يلحق بالمسلمين الضرر:
1- خيانة المسلمين بالتواطؤ على قتالهم، والتجسس لأعدائهم.
2- فتنة المسلمين عن دينهم.
3- الزنا بالمسلمة، أو نكاحها.
4- قطع الطريق.
5- قتل المسلم.
6- ما فيه غضاضة على المسلمين؛ مثل السخرية.
المبحث الثاني: في المنكرات التي يفعلونها.
1- إحداث أماكن للعبادة.
2- إظهار الخمر والخنزير، والضرب بالنواقيس، وتعلية البناء على المسلمين.
3- الإقامة في الحجاز، ودخول الحرم.
4- رفع أصواتهم بكتبهم بين المسلمين.
المبحث الثالث: الاحتساب عليهم:
1- في الظلم الواقع بينهم.
2 - في الظلم الواقع بينهم وبين المسلمين.
الفصل الرابع:- الأمور التي لا يحتسب على أهل الذمة والمستأمنين فيها.
أ - العقيدة.
ب - ما يعتقدون إباحته، وهو:
1 – شرب الخمر.
2 – أكل الخنزير.
3 – الأنكحة الفاسدة التي يعتقدون إباحتها.
الخاتمة: أهم النتائج:
4- أهم نتائج الدراسة:
1- أن الاحتساب ليس مقصورًا على المُحتَسِب المُعَيَّن؛ بل هو مطلوب من جميع أفراد المسلمين؛ حاكمهم ومحكوميهم.
2- أنَّ أصناف غير المسلمين، الذين يحق لهم الإقامة في دار الإسلام، يمكن حصرهم بِصِنْفَيْنِ فقط:
أ - أهل الذمة.
ب – المستأمنون.
3- أنَّ أهل الذّمَّة يَحِقُّ لَهُمُ الإقامة في دار الإسلام بدون تحديد وقتٍ معين؛ لأنَّهم بَذَلُوا الجِزْيَة، والْتَزَمُوا أحكامَ المِلَّة.
4- أنَّ المستأمنينَ هُمْ أَهْلُ الحرب الذين يدخلون دار الإسلام بأمان مؤقت، ولا يلتزمون للمسلمين ببذل الجزية.
5- أنَّ أَهْلَ الذّمَّة لن يكون لهم وجود بالمعنى الشرعي الصحيح؛ إلا مع ظهور الدولة الإسلامية، وهو دليل عِزّها وقُوَّتِها.
6- أن أصناف الكُفَّار الموجودين الآن في ديار المسلمين يمكن تحديدهم بصنفين:
أ – الوطنيُّون: وهم الكفرة الذين صار لهم العز والمنعة.(168/4)
ب – أجانب: وهم مَن يُصرَّح لهم بالدخول بإذن من سفارات تلك الدول الإسلامية، مع مراعاة أن يتمتَّعَ هؤُلاءِ بِالحُقُوقِ المرعيَّة في المعاهدات والمعاملات بالمثل.
7- أنَّ فُقهاءَ المسلمين يُقسِّمون الدُّور إلى دارين: دار إسلام، ودار حرب، ومنهم من يضيف دارًا أُخْرَى تُسَمَّى دارَ عَهْدٍ.
8- أنَّ أَهْلَ الذّمَّة يُلزَمون بِواجبات أكثر مما يُلزَم بها المستأمن؛ لأن الذمي يعتبر من أهل دار الإسلام، بخلاف المستأمن.
كما أنه يلزم الدفاع عن أهل الذّمَّة، بخلاف المستأمنين فلا يلزم الدفاع عنهم.
9- أن للإمام الحُرّيَّة في تحديد مدة بقاء المستأمن، وذلك حسب الحاجة والمصلحة، ولا بأس بزيادتها عمَّا حدَّدَهُ الفُقَهَاءُ؛ لأَنَّها أُمُورٌ اجتهادية.
10- أنَّ لِجَزِيرَةِ العَرَبِ خصائصَ ليست لغيرها من بلاد المسلمين؛ نظرًا لوجود مقدسات المسلمين فيها، فلا يجوز لغير المسلمين الإقامة بها.
11- أن الدين الإسلامي تميَّز عن غيره من الأديان، وذلك بتسامحه إلى حدٍّ فاق به الأديان الأخرى، فلا يلزم غير المسلمين للدخول فيه.
12- أنَّ الرحمة لغير المسلمين جائزة؛ ولكن بحدود لا تصل إلى حد الموالاة والمودة الممنوعة.
13- أنَّ الدّينَ الإسلامِيَّ تميَّز باحترامه للعهود والمواثيق.
14- أنَّ الذّمّيَّ له من الحقوق ما يقارب حقوق المسلم؛ لاعتباره من أهل دار الإسلام. وأما المستأمن فحقوقه قاصرة عن الذمي؛ لاعتباره أجنبيًّا عن دار الإسلام.
15- أنه يُحتسَب على أهل الذمة في كل ما يجب عليهم، وما فيه مضرَّة على المسلمين، وما هو من المنكرات، وفي مظالمهم فيما بينهم، وفيما بينهم وبين المسلمين، وكذلك المستأمنون.
16- أن الفرد له الحق في الاحتساب على أهل الذمة والمستأمنين في بعض الأمور، التي ليست من خصائص الإمام، أو نوابه.(168/5)
17- أن كل مِصْرٍ من أمصار المسلمين تجمع فيه الجُمَع، وتقام فيه الحدود، لا يجوز للكافر عمومًا إحداث الكنائس فيه، ولا إظهار الخمر والخنزير، ولا ضرب النواقيس.
18- أنَّ أَهْلَ الذّمَّة يجوز لهم البناءُ في دار الإسلام؛ بشرط عدم المضرَّة على المسلمين، وعدم التعلية عليهم.
19- المستأمنون لا يجوز لهم البناء في دار الإسلام، إلا في أرض الصّلح إذا شرطوه، وبشرط عدم المضرة على المسلمين.
20- أن حرم مكة والمدينة لا يجوز لغير المسلمين دخوله مطلقًا، إلا وقت الحاجة الماسة، إذا أَذِنَ الإمام لهم بذلك، إذا رؤيت المصلحة في دخولهم.
21- أن أهل الذمة يجب إلزامهم بزيٍّ يفرقهم عن المسلمين؛ لئلا يُعامَلوا معاملة المسلمين.
22- أنه لا يجوز أن يوجد حُكْم غير إسلامي في دار الإسلام، عليه فيجب الحكم بين أهل الذمة فيما بينهم، وفيما بينهم وبين المسلمين.
23- أن الكفار لا يُحتسَب عليهم فيما يعتقدون إباحته؛ كشرب الخمر، وأكل الخنزير، والأنكحة الفاسدة؛ بشرط عدم الضرر على المسلمين.
هذا، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.(168/6)
العنوان: الاحتفال بالمولد النبوي ..
نشأته، تاريخه، حقيقة من أحدثوه
رقم المقالة: 1417
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70-71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله - تعالى - وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها الناس: على الرغم من أن هذا العصر يوصف بأنه عصر العلم، فإنه عصر الجهل أيضًا، ورغم أنَّ الإعلام بوسائله المختلفة ينقل الأخبار والحقائق، وينشر العلوم والمعارف المتنوعة؛ فإنه أيضًا ينشر الجهالات، ويؤصل للضلالات.(169/1)
إن الإنسان المعاصر توصل إلى كثير من الحقائق الكونية، واكتشف كثيرًا من أسرار الأرض وعجائبها وكنوزها، وسخر ثرواتها في خدمته ورفاهيته، وطور الصناعات والتجارات والاتصالات، وكلَّ ما يحتاجه في حياته الدنيا؛ لكن أكثر البشر جهلوا الحقائق الشرعية، وأضلوا الطريق إلى الله - تعالى - ونسوا الدار الآخرة.
إن الإعلام بصحفه المقروءة، وشاشاته المعروضة، وإذاعاته المسموعة قد ضخ كثيرًا من العلوم والمعارف في مجالات مختلفة، وبين حقائق كثيرة كانت خافية على الناس؛ لكنه في نفس الوقت وفي كثير من مجالاته قد حجب الحق، وزين الباطل، وأضلّ الناس.
إنه إعلامٌ علّم الناس كثيرًا من أمور دنياهم؛ لكنه أنساهم أخراهم، فصدق في كثير من صنَّاع مادته، والقائمين عليه، والمتلقين عنه: قولُ الله - تعالى -: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الرُّوم: 7].
ومن اطلع على ما يعرض في كثير من الفضائيات من مناظرات سياسية، أو برامج حوارية، أو لقاءاتٍ دورية يجد أنها لا تخرج عن كونها مجادلات ومهاترات، لا يقصد منها إحقاق حق، أو إبطال باطل، أو نفع المشاهد؛ بل المقصود منها إقناع المشاهد برأي أو فكرةٍ ولو كانت خاطئة.
ولم تسلم كثير من البرامج الدينية من هذه الخطيئة المنهجية، فأكثرها برامجُ موجهة، لا تهدف إلى رفع مستوى التديّن في الأمة، وغرس مبادئ الالتزام بتعاليم الإسلام؛ ولكنها تسعى إلى تمييع الإسلام، وتطويعه لضغط الواقع، وحاجات العصر؛ وذلك بإيجاد المخارج، وإحياء الأقوال المهجورة، والفتاوى الشاذة الضعيفة، بقصد تقريب الإسلام من المناهج المادية العلمانية.(169/2)
ومن اعترض على هذا المنهج الخاطئ حُجب رأيه، وأخفي قوله؛ بل واتهم بالانغلاق والرجعية، وعدم فهم روح الشريعة!! ولم ينسَ الناس بعدُ الحملة الشعواء من مشايخ الضلالة على من قال بمشروعية هدم الأصنام، التي تعبد من دون الله تعالى[1]. وهل أرسلت الرسل إلا لمحو الشرك، وهدم الأوثان، وإقامة التوحيد؟! ولكن هذا الأصل الذي لا يختلف فيه مسلمان كان محلاًّ للشك والجدال والاختلاف، فلا حول ولا قوة إلا بالله!
وفي مثل هذه الأيام من كل عام تعرض الفضائيات المشاهد البدعية للاحتفال بمولد النبي - صلى الله عليه وسلم - ومع خطورة ذلك وأثره على جهلة المسلمين المقلدين، فإن كثيرًا من مشايخ الفضائيات لم يكتفوا بذلك؛ بل حاولوا الاستدلال لهذه البدعة النكراء، واخترعوا مسوغاتٍ لفعلها، وأضفَوْا عليها شيئًا من الشرعية، التي تخدع المتلقي الجاهل، وحجبوا الرأي الآخر في القضية، وهاجموا كل من ينكر هذه البدعة.
إنهم أخفوا عن المشاهد أصل هذه البدعة، وتاريخها، وحقيقة مَن أحدثها في الإسلام، والظروف التاريخية التي أحدثت فيها، وما هو قصد مَن أحدثها مِن هذا الابتداع!!
كل ذلك وغيره في حقيقة هذه البدعة، قد أخفي عن المشاهد ولم يُعرض ولو من باب عرض الرأي الآخر كما يقولون!! وأعظمُ من ذلك أنهم أوهموا المتابعين لبرامجهم أن لهذه البدعة أصلاً في الشريعة، وإجماعًا من الأمة، وقبولاً من علماء المسلمين. وهذا أقبح ما يكون غشًّا وخداعًا وتضليلاً، وعدم احترام لعقول أولئك المشاهدين، فأيُّ مصداقية يزعمونها، وأي موضوعية يتشدقون بها؟!(169/3)
إن أمة الإسلام مضت قرونها الثلاثة الأولى لم تعرف هذه البدعة، ولا احتُفل فيها بها، وهي القرون التي زكاها النبي - صلى الله عليه وسلم - وأخبر أن الخلاف والبدع تكون بعدها. وهذا من علاماتِ نبوته؛ إذ وقع ذلك كما أخبر به - عليه الصلاة والسلام - ففي القرن الرابع الهجري ظهر بنو عبيد، المتسمَّوْن زورًا بالفاطميين؛ انتسابًا إلى فاطمة بنت محمد - عليه الصلاة والسلام - ورضي الله عنها وأرضاها.
ومن ثم خرجوا على الخلافة العباسية، وأقاموا الدولة الفاطمية في مصر والشام. ولم يرتضِ المسلمون في مصر والشام سيرتهم في الحكم، وطريقتهم في إدارة شؤون الناس؛ فخاف بنو عبيد من ثورة الناس عليهم، فحاولوا استمالة قلوبهم، وكسب عواطفهم بإحداث الاحتفالات البدعية، فاخترع حاكمهم آنذاك المعز لدين الله العبيدي: مولد النبي - صلى الله عليه وسلم - وموالد لفاطمة وعلي والحسن والحسين ولجماعة من سلالة آل البيت رضي الله عنهم وأرضاهم[2].
وتتابعت في دولتهم احتفالات أخرى اخترعوها، لم تكن من قبلُ في الإسلام؛ كالاحتفال بالهجرة، ورأس السنة الهجرية، وليلة الإسراء والمعراج، وغيرها كثير.
وظلت هذه الموالد عند بني عبيد في مصر وبعض الشام، إلى أن انتهت دولتهم، وورثها مَن كانوا بعدهم، ولا يعرفها بقية المسلمين في شتى البقاع؛ بل أنكروها ولم يقبلوها تكملة القرن الرابع، وطيلة القرن الخامس والسادس؛ إذ انتقلت عدوى هذه الاحتفالات في أوائل القرن السابع من مصر إلى أهل إربل في العراق، نقلها شيخ صوفي يدعى الملا عمر، وأقنع بها ملك إربل في العراق أبا سعيد كوكبري[3] ثم انتشرت بعد ذلك في سائر بلدان المسلمين، بسبب الجهل والتقليد الأعمى، حتى وصلت إلى ما تشاهدونه في العصر الحاضر.
إذًا كان الهدف الرئيس من إحداث الموالد هدفًا سياسيًّا لتثبيت حكم بني عبيد، ولم يكن لمحبة النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا لمحبة آل بيته فيه أي نصيب.(169/4)
وهذا الحكم يتبين بمعرفة حقيقة دولة بني عبيد، والاطلاع على شيء من سيرة المعز العبيدي الذي أحدث هذه الموالد.
فأما بنو عبيد فهم من ذرية عبدالله بن ميمون القداح المعروفِ بالكفر والنفاق والضلال، والمشهور بعداوته لأهل الإيمان، ومعاونته لأهل الكفر والعدوان[4]، ومن ذريته كان حكامُ بني عبيد، الذين ظهروا في مصر في القرن الرابع الهجري وما بعده.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية فيهم: "وهؤلاء القوم تشهد عليهم الأمة وأئمتها أنهم كانوا ملحدين زنادقة، يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر، وجمهور الأمة تطعن في نسبهم، ويذكرون أنهم من أولاد اليهود أو المجوس، وهم يدّعون علم الباطن، الذي مضمونه الكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وعندهم: لا جنة ولا نار ولا بعث ولا نشور... ويستهينون باسم الله ورسوله، حتى يكتب أحدهم (الله) في أسفلِ نعله - سبحانه وتعالى - عمّا يقول الظالمون علوًا كبيرًا"[5].
وأما المعز الذي أحدث هذه الموالد فكان له سيرة سيئة؛ إذ قرّب اليهود والنصارى، وأقصى المسلمين، وحرّف الأذان الشرعي فهو أول من دعى بالأذان بحي على خير العمل، ويكفي في بيان حقيقته أن الشاعر ابن هانئ الأندلسي مدحه فقال فيه:
مَا شِئْتَ لاَ مَا شَاءَتِ الأَقْدَارُ فَاحْكُمْ فَأَنْتَ الوَاحِدُ الْقَهَّارُ
[6]
نعوذ بالله من الكفر والضلال. فهل يشك عاقل في حقيقة هذا الرجل وحقيقة دولته الباطنية؟! وهل يمكن أن يقال: إن دوافع إحداث هذه الموالد كان محبة النبي - صلى الله عليه وسلم - ومحبته آل بيته ومن قِبَلِ مَنْ؟! مِن قِبَلِ قومٍ كانوا يظهرون محبة آل البيت ويبطنون العقائد الفاسدة، ويمالئون أهل الكفر على أهل الإسلام، وماذا بعد الحق إلا الضلال؟!(169/5)
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآَهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [فاطر: 8].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا طيبًا كثيرًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، أحمده وأشكره وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله - تعالى - وأطيعوه، والتزموا سنة نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - وإياكم والمحدثات؛ فإنها تباعد بين العبد وربه، وتؤدي إلى ترك السنن، وهي من أسباب سوء الخاتمة {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران: 31].
أيها المؤمنون: لم يكتفِ مشايخ الضلالة بجر الناس إلى هذه البدعة المنكرة؛ بل حاولوا إقناعهم بأن الأمة كانت تحتفل بذلك على مر العصور، وأن هذه الموالد لم تنكرها إلا فئة محدودة من العلماء ينعتونهم: (بالوهابيين) وهذا من أوضح الكذب والافتراء؛ إذ إن علماء كثرًا من مصر والعراق والشام والمغرب وسائر الأمصار أنكروا هذه البدعة، وشنعوا على أهلها. وحَصْرُ المنكرين لهذه البدعة في علماء الجزيرة العربية مقصود؛ لأجل إبطال الحق بإخفاء أنصاره، وإظهار الباطل بتكثير أتباعه.(169/6)
وأوفى كتاب أُلف في تاريخ الاحتفال بالمولد النبوي كتبه أحد المتحمسين لهذه البدعة، الناشرين لها، المحتفين بها، ذلكم هو المؤرخ المصري: حسن السندوبي، ومع اهتمامه بتلك البدعة، وتأييده لها؛ فإنه اعترف في كتابه بأنها من المحدثات في الدين! وقال في كتابه: "تاريخ الاحتفال بالمولد النبوي" ما نصه: "وهنا يجمل بي أن أقول: إن هذه المواسم والأعياد والموالد وما شاكلها وجرى في سبيلها إنما تعد من البدع، التي لم يأذن بها الله، ولا ورد منها ما يشير إلى أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بها، أو أشار إليها، أو باشرها في قول أو فعل - حاشا عيدي الأضحى والفطر - وكذلك لم يعرفها الصحابة على طبقاتهم، ولم يشهدها أحد من التابعين على درجاتهم، ولم ينوه بها أحد من الأئمة المجتهدين، الذين ضبطوا أصول الشريعة، وحرروا فروعها، وبينوا مدلولاتها"[7]!!
ثم ذكر بعد ذلك أن الواقع فرضها بإحداث الفاطميين لها، وأنه يؤيدها من باب ضغط الواقع ليس إلا!! وهو ما قال هذا الكلام إلا بعد أن بحث ونقب في كتب التاريخ والآثار والفقه؛ لعله يعثر على ما يدل على وجودها في الصدر الأول من الإسلام، فلما لم يعثر على شيء من ذلك بعد طول بحث وتنقيب اعترف بهذه الحقيقة المهمة.
إن هذه الاحتفالات لا تنفع الإسلام شيئًا؛ بل ضررها ظاهر على المسلمين، وأكبر دليل على ذلك دعم الكفار والمنافقين لها بقصد هدم الشريعة، وتغيير معالم الملة، وتشويه صورة الإسلام، وحصره في مظاهر أولئك الدراويش، الذين يتراقصون ويتمايلون في احتفالات المولد، ويوضح حقيقة ذلك ما ذكره المؤرخ الجبرتي في أخبار مصر من أن القائد الفرنسي نابليون - إبان استعماره لمصر - أمر الشيخ البكري بإقامة الاحتفال بالمولد، وأعطاه ثلاثمائة ريال فرنسي لأجل ذلك، وأمره بتعليق الزينات؛ بل إن نابليون حضر المولد بنفسه، واحتفل به مع المسلمين[8]!!(169/7)
وكثير من العلمانيين الذين رفضوا الشريعة، وحاربوا الإسلام بأقوالهم وأقلامهم يحضرون تلك الاحتفالات ويشجعونها؛ فلولا أنها من سبل هدم الديانة في قلوب الناس لما فعلوا ذلك، ولما فعله المستعمر النصراني الحاقد نابليون.
وبعد - أيها الإخوة - فإن ما يعرض حيال هذا الموضوع ليكشف حقيقة الحياد والموضوعية، التي تتشدق بها كثير من القنوات الإعلامية، ولن يتضرر الإسلام بذلك؛ لأن الله - تعالى - قد تكفّل بحفظه؛ لكن الجهلة المتلقين عن هذه القنوات هم من سيتضرر بهذا الطرح الخبيث.
ألا فاتقوا الله ربكم، واحفظوا بيوتكم وأولادكم من وسائل الشبهات، والشهوات، وأسباب الضلال والفساد، وصلوا وسلموا على نبيكم كما أمركم بذلك ربكم.
---
[1] هذا إشارة إلى ما قامت به حركة طالبان الأفغانية قبل أسابيع من هدم لبعض أصنام البوذيين، وثارت ثائرة العالم بشرقه وغربه بحجة الحفاظ على التراث، وانبرى كثير من مشايخ التنوير للتنديد بذلك، والزعم بأن هدم هذه الأصنام ليس من الإسلام في شيء!! نعوذ بالله من الإفك والهوى، وتجمع وفد هؤلاء المشايخ من بعض الأقطار، وذهبوا في رحلة لمحاولة ثني الأفغان عن هدم تلك الأوثان، وسودت الصحف وقتها بكثير من الضلال، نسأل الله العافية!
[2] انظر: "تاريخ الاحتفال بالمولد النبوي" لحسن السندوبي (26) ويتوقع أن إحداثهم له كان قريبًا من عام 362هـ.
[3] المطلع على كتب العلماء يجد أن بعضها أرخ لبدعة المولد بالقرن الرابع، وبعضها بالقرن السادس، وتوجيه ذلك: أن أول إحداثها في مصر كان في القرن الرابع، ثم انتقلت في القرن السادس أو أوائل السابع إلى العراق؛ إذ احتفل به الملك أبو سعيد كوكبري. انظر: "الباعث على إنكار البدع والحوادث" لأبي شامة (31) و"مرآة الزمان" لسبط ابن الجوزي (8/013)، و"البداية والنهاية" (21/362).(169/8)
[4] كان أول خروج العبيديين من المغرب في قبائل تجهل الإسلام، انخدعت بدعوة أبي عبدالله الشيعي، فناصره أهل المغرب؛ حتى استقرّ له الأمر، فكتب إلى رئيسه الباطني ليقدم إليه من الشام، فلما دخل المغرب تسمى بعبيدالله ولقب نفسه بالمهدي - وإليه ينسب العبيديون - ويذكر العلماء أن اسمه: سعيد وهو من ولد ميمون القداح الملحد المجوسي. وفور تمكنه بطش بداعيته والممكن له في المغرب أبي عبدالله الشيعي. قال أبو شامة المقدسي عن عبيدالله: "وعبيد هذا كان اسمه سعيدًا، فلما دخل المغرب تسمى بعبيدالله، وزعم أنه علوي فاطمي، وادعى نسبًا ليس بصحيح، لم يذكره أحد من مصنفي الأنساب العلوية، وترقت به الحال إلى أن ملك وتسمى بالمهدي، وبنى المهدية بالمغرب، ونسبت إليه، وكان زنديقًا خبيثًا عدوًّا للإسلام، متظاهرًا بالتشيع، مستترًا به، حريصًا على إزالة الملة الإسلامية، قتل من الفقهاء والمحدثين والصالحين جماعة كثيرة، وكان قصده إعدامهم من الوجود؛ لتبقى العالم كالبهائم؛ فيتمكن من إفساد عقائدهم وضلالتهم، والله متم نوره ولو كره الكافرون. ونشأت ذريته على ذلك منطوين، يجهرون به إذا أمكنتهم الفرصة وإلا أسروه..." إلخ. انظر: "الروضتين في أخبار الدولتين" لأبي شامة (1/102)، وما بعدها، و"مختصر الروضتين" للدكتور محمد حسن عقيل (651) وما بعدها.(169/9)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ردًّا على من ادعى العصمة فيهم: "فكيف تكون العصمة في ذرية "عبدالله بن ميمون القداح" مع شهرة النفاق والكذب والضلال..." مجموع الفتاوى (53/721)، وعن نسبهم وإظهارهم الإيمان قال - رحمه الله -: "ومن المعلوم الذي لا ريب فيه أن من شهد لهم - لبني عبيد - بالإيمان والتقوى، أو بصحة النسب؛ فقد شهد لهم بما لا يعلم، وقد قال الله - تعالى -: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36]، وقال - تعالى -: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزُّخرف: 86]. وليس أحد من الناس يعلم صحة نسبهم، ولا ثبوت إيمانهم وتقواهم؛ فإن غاية ما يزعمه أنهم كانوا يظهرون الإسلام والتزام شرائعه، وليس كل من أظهر الإسلام يكون مؤمنًا في الباطن؛ إذ قد عرف في المظهرين للإسلام المؤمن والمنافق قال الله - تعالى -: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللهِ وَبِاليَوْمِ الآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 8]، وقال - تعالى -: {إِذَا جَاءَكَ المُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ المُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون: 1]، وقال - تعالى -: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 14]، وهؤلاء القوم يشهد عليهم علماءُ الأمة وأئمتها وجماهيرها أنهم كانوا منافقين زنادقة، يُظهرون الإسلام ويبطنون الكفر. فإذا قدر أن بعض الناس خالفهم في ذلك صار في إيمانهم نِزاع مشهْورٌ، فالشاهد لهم بالإيمان شاهد لهم بما لا يعلمه؛ إذ ليس معه شيء يدل على إيمانهم مثل ما مع منازعيه ما يدل على نفاقهم وزندقتهم، وكذلك "النسب" قد عُلم أن جمهور الأمة تطعن في نسبهم، ويذكرون أنهم من أولاد المجوس أو اليهود. هذا مشهور من شهادة علماء(169/10)
الطوائف: من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة وأهل الحديث وأهل الكلام وعلماء النسب والعامة وغيرهم، وهذا أمرٌ قد ذكره عامة المصنفين لأخبار الناس وأيامهم، حتى بعض من قد يتوقف في أمرهِم كابن الأثير الموصلي في تاريخه ونحوه؛ فإنه ذكر ما كتبه علماء المسلمين بخطوطهم في القدح في نسبهم. وأما جمهور المصنفين من المتقدمين والمتأخرين حتى القاضي ابن خلكان في تاريخه فإنهم ذكروا بطلان نسبهم، وكذلك ابن الجوزي وأبو شامة وغيرهما من أهل العلم بذلك؛ حتى صنَّفَ العلماء في كشف أسرارهم، وهتك أستارهم كما صنَّف القاضي أبو بكر الباقلاني كتابه المشهور في كشف أسرارهم وهتك أستارهم، وذكر أنهم من ذرية المجوس، وذكر من مذاهبهم ما بين فيه أن مذاهبهم شر من مذاهب اليهود والنصارى؛ بل ومن مذاهب الغالية الذين يدّعون إلهيّة عليٍّ أو نبوته فهم أكفر من هؤلاء؛ وكذلك ذكر القاضي أبو يعلى في كتابه: "المعتمد" فصلاً طويلاً في شرح زندقتهم وكفرهم، وكذلك ذكر أبو حامد الغزالي في كتابه الذي سماه "فضائل المستظهرية وفضائح الباطنية" قال: ظاهر مذهبهم الرَّفض وباطنه الكُفر المحضُ. وكذلك القاضي عبدالجبَّار بن أحمد وأمثاله من المعتزلة المتشيعة الذين لا يفضِّلون على علي غيره؛ بل يفسقون مَن قاتله ولم يتُبْ مِن قتاله: يجعلون هؤلاء من أكابر المنافقين الزنادقة. فهذه مقالة المعتزلة في حقهم فكيف تكون مقال أهل السنة والجماعة؟!!(169/11)
والرَّافضة الإمامية - مع أنهم من أجهل الخلق، وأنهم ليس لهم عقلٌ ولا نقلٌ ولا دينٌ صحيحٌ ولا دُنْيا منصورةٌ - نعم يعلمون أنَّ مقالة هؤلاء مقالة الزنادقة المنافقين؛ ويعلمون أن مقالة هؤلاء الباطنية شرٌ من مقالة الغالية، الذين يعتقدون إلهيّة عليٍّ رضي الله عنه. وأمَّا القدح في نسبهم فهو مأثور عن جماهير علماء الأمة من علماء الطَّوائف. وقد تولَّى الخِلافة غيرهم طوائف، وكان في بعضهم من البدعة والظُّلم ما فيه؛ فلم يقدح النَّاس في نسب أحد من أولئك كما قدحوا في نسب هؤلاء، ولا نسبوهم إلى الزَّندقة والنفاق كما نسبوا هؤلاء. وقد قام من ولد علي طوائف: من ولد الحسن وولد الحسين كمُحمد بن عبدالله بن حسن وأخيه إبراهيم بن عبدالله بن حسن وأمثالهما. ولم يطعن أحدٌ لا من أعدائهم ولا من غير أعدائهم لا في نسبهم ولا في إسلامهم، وكذلك الدَّاعي القائم بطبرستان وغيره من العلويين، وكذلك بنو حمود الذين تغلَّبوا بالأندلس مدَّة وأمثالُ هؤلاءِ، لم يقْدح أحدٌ في نسبهم ولا في إسلامهم. وقد قتل جماعة من الطالبيين على الخِلافة لا سيَّما في الدَّولة العبَّاسية، وحُبس طائفة كموسى بن جعفر وغيره ولم يقدح أعداؤهم في نسبهم ولا دينهم. وسبب ذلك أن الأنسابَ المشهورة أمرُها ظاهرٌ متداركٌ مثل الشمس لا يقدرُ العدوُّ أن يُطفئه؛ وكذلك إسلام الرَّجُل وصِحةُ إيمانِهِ بالله والرَّسولِ أمْرٌ لا يخفى، وصاحب النسب والدِّين لو أراد عدوه أن يبطل نسبه ودينه، وله هذه الشهرة لم يمكنه ذلك؛ فإن هذا مما تتوفّر الهمم والدَّواعي على نقله، ولا يجوز أن تتفق على ذلك أقوالُ العلماء، وهؤلاء "بنو عبيد القداح" ما زالت علماء الأمة المأمونون عِلمًا ودينًا يقدحون في نسبهم ودينهم؛ لا يذُمونهم بالرَّفض والتشيع؛ فإن لهم في هذا شركاء كثيرين؛ بل يجعلونهم "من القرامطة الباطنية" الذين منهم: الإسماعيلية والنصيرية - ومن جنسهم الخرمية المحمرة وأمثالهم من الكفار(169/12)
- المنافقون الذين كانوا يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر؛ ولا ريب أن اتباع هؤلاء باطل؛ وقد وصف العلماء أئمة هذا القول بأنهم الذين ابتدعوه ووضعوه؛ وذكروا ما بنوا عليه مذاهبهم؛ وأنهم أخذوا بعض قول المجوس وبعض قول الفلاسفة؛ فوضعوا لهم "السَّابق" و"التالي" و"الأساس" و"الحجج" و"الدعاوى" وأمثال ذلك من المراتب. وترتيب الدعوة سبع درجات؛ آخرها "البلاغ الأكبر؛ والنَّاموس الأعظم" مما ليس هذا موضع تفصيل ذلك.
وإذا كان كذلك فمن شهد لهم بصحة نسب أو إيمان؛ فأقل ما في شهادته أنه شاهد بلا علم، قافٍ ما ليس له به علم؛ وذلك حرام باتفاق الأمة؛ بل ما ظهر عنهم من الزندقة والنفاق، ومعاداة ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - دليلٌ على بطلان نسبهم الفاطمي؛ فإن من يكون من أقارب النبي - صلى الله عليه وسلم - القائمين بالخلافة في أمته لا تكون معاداته لدينه كمعاداة هؤلاء؛ فلم يعرف في بني هاشم ولا ولد أبي طالب ولا بني أمية: من كان خليفة وهو معادٍ لدين الإسلام؛ فضلاً عن أن يكون معاديًا كمعاداة هؤلاء؛ بل أولادُ الملوك الذين لا دين لهم، يكون فيهم نوع حميّة لدين آبائهم وأسلافهم، فمن كان من ولد سيد ولد آدم، الذي بعثه الله بالهدى ودين الحق، كيف يعادي دينه هذه المعاداة؟! ولهذا نجد جميع المأمونين على دين الإسلام باطنًا وظاهرًا معادين لهؤلاء إلا من هو زنديق عدو لله ورسوله، أو جاهل لا يعرف ما بُعث به رسوله، وهذا يدل على كفرهم وكذبهم في نسبهم". (مجموع الفتاوى 53/721 ـ 231).(169/13)
وقال أيضًا: "فإن القاهرة بقي ولاة أمورها نحو مائتي سنة على غير شريعة الإسلام؛ وكانوا يظهرون أنهم رافضة وهم في الباطن: إسماعيلية ونصيرية وقرامطة باطنية، كما قال فيهم الغزالي - رحمه الله تعالى - في كتابه الذي صنفه في الرد عليهم: "ظاهر مذهبهم الرفض وباطنه الكفر المحض". واتفق طوائف المسلمين: علماؤهم وملوكهم وعامتهم من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة وغيرهم، على أنهم كانوا خارجين عن شريعة الإسلام، وأن قتالهم كان جائزًا؛ بل نصوا على أن نسبهم كان باطلاً، وأن جدَّهم كان عبيدالله بن ميمون القدَّاح لم يكن من آل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصنَّف العلماء في ذلك مصنفات. وشهد بذلك مثل الشيخ أبي الحسن القدوري إمام الحنفية، والشيخ أبي حامد الإسفرائيني إمام الشافعية، ومثل القاضي أبي يعلى إمام الحنبلية، ومثل أبي محمّد بن أبي زيد إمام المالكية. وصنف القاضي أبو بكر بن الطيب فيهم كتابًا في كشف أسرارهم وسمّاه "كشف الأسرار وهتك الأستار" في مذهب القرامطة الباطنية. اهـ (مجموع الفتاوى 82/536 ـ 636) قلت: فقوم هذه سيرتهم وحقيقتهم كيف يظن بهم محبة النبي - صلى الله عليه وسلم - بإحداث هذه الموالد المنكرة في الإسلام؟! ولعل هذا يكشف القصد من وراء هذه المبتدعات من قوم يظهرون الإسلام، ويبطنون الكفر والعياذ بالله تعالى.
[5] "مختصر الفتاوى" للبعلي (884).
[6] انظر البيت في: "حسن المحاضرة" للسيوطي (2/02) وذكر أن ابن هانئ كفّره غير واحد من العلماء لمبالغته في المدح، ومن ذلك قوله هذا البيت في المعز العبيدي.(169/14)
ولهذا المعز الذي أحدث الموالد في الإسلام سيرة سيئة، وهو صاحب عقيدة فاسدة كما هو حال آبائه وأبنائه، قال أبو شامة المقدسي: "وقام بعده ابنه الملقب بالمعز فبث دعاته فكانوا يقولون: هو المهدي الذي يملك الأرض، وهو الشمس التي تطلع من مغربها!! وكان يسره ما ينزل بالمسلمين من المصائب من أخذ الروم بلادَهم، واحتجب عن الناس أيامًا ثم ظهر وأوهم أن الله رفعه إليه، وأنه كان غائبًا في السماء، وأخبر الناس بأشياء صدرت منهم كان ينقلها إليه جواسيس له؛ فامتلأت قلوب العامة الجهال منه، وهذا أول خَلْف خلفائهم بمصر، وهو الذي تنسب إليه القاهرة المعزية، واستدعى بفقيه الشام أبي بكر بن أحمد بن سهل الرملي - ويعرف بابن النابلسي - فحُمل إليه في قفص خشب فأمر بسلخه، فسلخ حيًّا، وحشا جلده تبنًا وصلب - رحمه الله تعالى - قال أبو ذر الهروي: "سمعت أبا الحسن الدارقطني يذكره ويبكي ويقول: كان يقول وهو يسلخ: {كَانَ ذَلِكَ فِي الكِتَابِ مَسْطُورًا} [الإسراء: 58]" ا هـ "مختصر الروضتين" (159 ـ 160).(169/15)
وذكر المؤرخون أنه قرب المنجمين وكان يأخذ بأقوالهم. انظر: "تاريخ الإسلام" للذهبي (26/350) و"النجوم الزاهرة" (4/57)، وذكر ابن عذارى المراكشي في "البيان المُغرب" (1/322): أن المعز في سنة 349هـ وجه أئمة المساجد والمؤذنين، يأمرهم ألا يؤذنوا إلا ويقولوا فيه: "حي على خير العمل" قال السيوطي: "ومن غرائبه: أنه استوزر رجلاً نصرانيًّا يقال له: عيسى بن نسطورس، وآخر يهوديًّا اسمه ميشا، فعز بسببهما اليهود والنصارى على المسلمين في ذلك الزمان؛ حتى كتبت إليه امرأة في قصة في حاجة لها تقول: بالذي أعز النصارى بعيسى بن نسطورس، واليهود بميشا، وأذل المسلمين بك؛ لما كشفت عن ظلامتي"!! ا هـ. "حسن المحاضرة" (2/22) وانظر ترجمته في: "المنتظم" (7/28) و"العبر" (2/933) و"مرآة الجنان" (2/383) و"شذرات الذهب" (3/25) و"البداية والنهاية" (11/383) و"الخطط" (1/153).
[7] "تاريخ الاحتفال بالمولد النبوي من عصر الإسلام إلى عصر فاروق الأول" لحسن السندوبي (22 ـ 32).
[8] "عجائب الآثار في التراجم والأخبار" (1/102) وفيه: "سأل صاري عسكر عن المولد النبوي ولماذا لم يعملوه كعادتهم؟ فاعتذر الشيخ البكري بتعطيل الأمور، وتوقف الأحوال، فلم يقبل وقال: لابد من ذلك، وأعطى له ثلاثمائة ريال فرنسي معونة، وأمر بتعليق تعاليق وأحبال وقناديل، واجتمع الفرنساوية يوم المولد، ولعبوا ميادينهم، وضربوا جلودهم ودبادبهم بطول النهار والليل بالبركة تحت داره..." إلخ.(169/16)
العنوان: الإحسان
رقم المقالة: 1536
صاحب المقالة:
-----------------------------------------
أولاً: من القرآن الكريم
{وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 58].
{وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195].
{الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 134].
{ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 172].
{وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النساء: 125].
{فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة: 13].
{وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ * وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ * فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة: 83 - 85].
{ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 55 – 56].(170/1)
{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [يونس: 24].
{وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ * وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [هود: 114 – 115].
{إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 90].
{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ} [النحل: 30].
{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69].
{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ * وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [المرسلات: 41 – 44].
ثانيًا من الحديث الشريف
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم – كَانَ يَوْمًا بَارِزًا لِلنَّاسِ إِذْ أَتَاهُ رَجُلٌ يَمْشِى... قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا الإِحْسَانُ؟ قَالَ: ((الإِحْسَانُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ))؛ صحيح البخاري - (ج 16 / ص 12).
وفي رواية: قَالَ: "يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا الإِحْسَانُ؟" قَالَ: ((أَنْ تَخْشَى اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنَّكَ إِنْ لاَ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ)). قَالَ: "صَدَقْتَ"؛ صحيح مسلم - (ج 1 / ص 122).(170/2)
وعَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ قَالَ: ثِنْتَانِ حَفِظْتُهُمَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم – قَالَ: ((إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ؛ فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ))؛ صحيح مسلم - (ج 13 / ص 111).
وعن عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم – قَالَتْ: جَاءَتْنِى امْرَأَةٌ وَمَعَهَا ابْنَتَانِ لَهَا، فَسَأَلَتْنِي فَلَمْ تَجِدْ عِنْدِى شَيْئًا غَيْرَ تَمْرَةٍ وَاحِدَةٍ فَأَعْطَيْتُهَا إِيَّاهَا، فَأَخَذَتْهَا فَقَسَمَتْهَا بَيْنَ ابْنَتَيْهَا، وَلَمْ تَأْكُلْ مِنْهَا شَيْئًا، ثُمَّ قَامَتْ فَخَرَجَتْ وَابْنَتَاهَا، فَدَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَحَدَّثْتُهُ حَدِيثَهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ((مَنِ ابْتُلِيَ مِنَ الْبَنَاتِ بِشَىْءٍ فَأَحْسَنَ إِلَيْهِنَّ كُنَّ لَهُ سِتْرًا مِنَ النَّارِ))؛ صحيح مسلم - (ج 17 / ص 111).
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: ((إِذَا أَحْسَنَ أَحَدُكُمْ إِسْلاَمَهُ، فَكُلُّ حَسَنَةٍ يَعْمَلُهَا تُكْتَبُ لَهُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، وَكُلُّ سَيِّئَةٍ يَعْمَلُهَا تُكْتَبُ لَهُ بِمِثْلِهَا))؛ صحيح البخارى - (ج 1 / ص 83).
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رضي الله عنهما - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم – قَالَ: ((الْعَبْدُ إِذَا نَصَحَ سَيِّدَهُ، وَأَحْسَنَ عِبَادَةَ رَبِّهِ، كَانَ لَهُ أَجْرُهُ مَرَّتَيْنِ))؛ صحيح البخارى - (ج 9 / ص 276).(170/3)
وعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رضي الله عنه – قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: "يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنُؤَاخَذُ بِمَا عَمِلْنَا فِى الْجَاهِلِيَّةِ؟". قَالَ: ((مَنْ أَحْسَنَ فِى الإِسْلاَمِ لَمْ يُؤَاخَذْ بِمَا عَمِلَ فِى الْجَاهِلِيَّةِ، وَمَنْ أَسَاءَ فِى الإِسْلاَمِ أُخِذَ بِالأَوَّلِ وَالآخِرِ))؛ صحيح البخارى - (ج 23 / ص 18).
ثالثًا الشعر
قال المتنبي:
وَقَيَّدْتُ نَفْسِي فِي ذُرَاكَ مَحَبَّةً وَمَنْ وَجَدَ الْإِحْسَانَ قَيْدًا تَقَيَّدَا
قال خليل مطران:
يَا مُحْسِنُونَ جَزَاكُمُ الْمَوْلَى بِمَا يَرْجُو عَلَى مَسْعَاكُمُ الْمَحْمُودِ
كَمْ رَدَّ فَضْلُكُمُ الْحَيَاةَ لِمَائِتٍ جُوعًا وَكَمْ أَبْقَى عَلَى مَوْلُودِ
كَمْ يَسَّرَ النَّوْمَ الْهَنِيءَ لِسَاهِدٍ شَاكٍ وَلَطَّفَ مِنْ أَسَى مَكْمُودِ
كَمْ صَانَ عِرْضًا طَاهِرًا مِنْ رِيبَةٍ وَنَفَى أَذًى عَنْ عَاثِرٍ مَنْكُودِ
قال أبو الفتح البستي:
إِنْ كُنْتَ تَطْلُبُ رُتْبَةَ الأَشْرَافِ فَعَلَيْكَ بِالإِحْسَانِ وَالإِنْصَافِ
وَإِذَا اعْتَدَى خِلٌّ عَلَيْكَ فَخَلِّهِ وَالدَّهْرَ فَهْوَ لَهُ مُكَافٍ كَافِ
قال المتنبي:
وَلَلتَّرْكُ لِلإِحْسَانِ خَيْرٌ لِمُحْسِنٍ إِذَا جَعَلَ الْإِحْسَانَ غَيْرَ رَبِيبِ
قال أحمد الكيواني:
مَنْ يَغْرِسِ الإِحْسَانَ يَجْنِ مَحَبَّةً دُونَ الْمُسِيءِ الْمُبْعَدِ الْمَصْرُومِ
أَقِلِ الْعِثَارَ تُقَلْ وَلاَ تَحْسُدْ وَلاَ تَحْقِدْ فَلَيْسَ الْمَرْءُ بِالْمَعْصُومِ
قال الدميري:
إِذَا كُنْتَ فِي أَمْرٍ فَكُنْ فِيهِ مُحْسِنًا فَعَمَّا قَلِيلٍ أَنْتَ مَاضٍ وَتَارِكُهْ
فَكَمْ دَحَتِ الأَيَّامُ أَرْبَابَ دَوْلَةٍ وَقَدْ مَلكَتْ أَضْعَافَ مَا أَنْتَ مَالِكُهْ
قال سفيان بن عيينة:
أَبُنَيَّ إِنَّ الْبِرَّ شَيْءٌ هَيِّنُ وَجْهٌ طَلِيقٌ وَكَلاَمٌ لَيِّنُ
قال المتنبي:(170/4)
وَأَحْسَنُ وَجْهٍ فِي الْوَرَى وَجْهُ مُحْسِنٍ وَأَيْمَنُ كَفٍّ فِيهِمُ كَفُّ مُنْعِمِ
وَأَشْرَفُهُمْ مَنْ كَانَ أَشْرَفَ هِمَّةً وَأَكْثَرَ إِقْدَامًا عَلَى كُلِّ مُعْظِمِ
قال إسحق بن إبراهيم الموصلي:
بَانِي الْعُلاَ وَالْمَجْدِ وَالإِحْسَانِ وَالْفَضْلِ وَالْمَعْرُوفِ أَكْرَمُ بانِ
لَيْسَ الْبِنَاءُ مُشَيَّدًا لَكَ شِيدُهُ مِثْلَ الْبِنَاءِ يُشَادُ بِالإِحْسَانِ
الْبِرُّ أَكْرَمُ مَا حَوَتْهُ حَقِيبَةٌ وَالشُّكْرُ أَكْرَمُ مَا حَوَتْهُ يَدَانِ
وَإِذَا الْكَرِيمُ مَضَى وَوَلَّى عُمْرُهُ كَفِلَ الثَّنَاءُ لَهُ بِعُمْرٍ ثَانِ
قال ابن زنجي:
لاَ تَحْقِرَنَّ مِنَ الإِحْسَانِ مُحْقَرَةً أَحْسِنْ فَعَاقِبَةُ الإِحْسَانِ حُسْنَاهُ
قال خليل مطران:
مَنْ أَحَبَّ الإِحْسَانَ لَمْ يُرِهِ دَهْرُهُ غَيْرَ وَجْهِهِ الْحَسَنِ
قال أبو الفتح البستي:
زِيَادَةُ الْمَرْءِ فِي دُنْيَاهُ نُقْصَانُ وَرِبْحُهُ غَيْرَ مَحْضِ الْخَيْرِ خُسْرَانُ
أَحْسِنْ إِلَى النَّاسِ تَسْتَعْبِدْ قُلُوبَهُمُ فَطَالَمَا اسْتَعْبَدَ الإِنْسَانَ إِحْسَانُ
مَنْ جَادَ بِالْمَالِ مَالَ النَّاسُ قَاطِبَةً إِلَيْهِ وَالْمَالُ لِلإِنْسَانِ فَتَّانُ
أَحْسِنْ إِذَا كَانَ إِمْكَانٌ وَمَقْدِرَةٌ فَلَنْ يَدُومَ عَلَى الإِنْسَانِ إِمْكَانُ
حَيَّاكَ مَنْ لَمْ تَكُنْ تَرْجُو تَحِيَّتَهُ لَوْلاَ الدَّرَاهِمُ مَا حَيَّاكَ إِنْسَانُ(170/5)
العنوان: الأحكام الشرعية والطبية للمتوفى في الفقه الإسلامي
رقم المقالة: 467
صاحب المقالة: د. بلحاج العربي بن أحمد
-----------------------------------------
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين، الذي قال له ربه: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ}[1] وعلى آله وصحبه، ومن اتبع هداهم إلى يوم الدين، وبعد:
1 – فإنه امتداداً لسلسلة مقالاتنا الاجتهادية المتعلقة بالفقه الطبي، والأسس التشريعية والأخلاقية لمهنة الطب، وكذا التصدي لبعض الأعمال المستجدة في علوم الطب والجراحة والبيولوجيا في ضوء النصوص الشرعية واجتهادات فقهاء الإسلام والنظم الطبية المعاصرة[2]، فإن مقالنا الحالي يندرج في نفس السياق؛ وهو البحث في الأحكام الشرعية والطبية للميت في الفقه الإسلامي، مع التركيز على المشاكل الشرعية التي تثيرها عمليات المساس بالجثة لضرورة علاجية أو للأغراض العلمية. ولاسيما بعد تطور التقنيات الطبية الحديثة، وتقدم البحوث والتجارب الطبية على الإنسان، والاكتشافات العلمية المعاصرة في وحدات العناية المركزة والإحياء الصناعي، التي ساعدت في نجاح عمليات نقل الأعضاء من جثث الموتى، ولكنها أظهرت مشاكل جديدة من الناحية الشرعية والإنسانية والأخلاقية والقضائية: كمشاكل تحديد لحظة الوفاة، ومشكلة الميت الحي (أو المتوفى دماغياً)، وحدود الإنعاش الصناعي، وموت الرحمة، وكيفية المساس بالجثة، ومدى حق الشخص على جثته بعد وفاته، واستنساخ الميت، وغيرها..، وكلها مسائل فقهية وليست طبية، فالرأي الأخير في هذه المسائل هو للفقهاء؛ لأن ذلك من اختصاصهم، وما رأي الأطباء فيها إلا للتوضيح والإستئناس فقط.(171/1)
إن حماية حق الإنسان في تكامل جثته ومعصوميتها وحرمتها، وتشجيعاً للأطباء والعلماء على الابتكار والتقدم العلمي الذي يساعد على إنقاذ العديد من المرضى من الموت المحقق، هي دلالات تقتضي وضع هذه العمليات في إطارها الشرعي والنظامي.
2 – والجدير بالذكر هنا، أن الشريعة الإسلامية تعد أول تشريع في العالم ينظم أحكام الجثة والحقوق المتعلقة بها، وهذا منذ خمسة عشر قرناً وبدون منازع[3]. فأحاطتها بالحماية الشرعية، وبسياج من الضوابط يضمن لها البقاء والحفظ والحرمة والكرامة وعدم الاعتداء وتحريم إهانتها شرعاً. فقد روي عن السيدة عائشة (رضي الله عنها) قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كسر عظم الميت ككسره حياً))[4] فإنه لا فرق في الحرمة بين الجملة والأجزاء، بدليل أن الحديث النبوي الشريف جاء عاماً، وورد في رواية ابن ماجة من حديث أم سلمة زيادةً في الإثم[5].
3 – ونبحث موضوع قضايا الميت الفقهية والطبية في الفقه الإسلامي من خلال فصلين مهمين وهما:
الفصل الأول: المعيار الشرعي للموت في الفقه الإسلامي.
الفصل الثاني: الحماية الشرعية للجثة في الفقه الإسلامي.
الفصل الأول
المعيار الشرعي للموت في الفقه الإسلامي
4 – نتناول مسألة المعيار الشرعي للموت في الفقه الإسلامي من خلال المباحث الأساسية التالية: –
المبحث الأول: التعريف بالموت.
المبحث الثاني: حقيقة الموت عند فقهاء الإسلام.
المبحث الثالث: مقدمات الموت وشدته.
المبحث الرابع: علامات الموت عند الفقهاء.
المبحث الخامس: علامات الموت عند الأطباء.
المبحث السادس: مشكلة الميت الحي.
المبحث السابع: الحدود الشرعية والإنسانية والأخلاقية للإنعاش الصناعي.
المبحث الثامن: حكم من يتعدى على من كان في النزع.
المبحث التاسع: تحديد وقت الموت وأهميته الشرعية والنظامية.
المبحث العاشر: حكم موت الرحمة في الشريعة الإسلامية.
المبحث الأول
التعريف بالموت(171/2)
5 – الموت هو اللحظة الحاسمة القاسية التي يغادر فيها الإنسان الدنيا ويستقبل الآخرة لقوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً}[6] وتقديم لفظ الموت على الحياة في الآية الكريمة هو لأنه أهيب في النفوس وأفزع[7]، وكذا لذكره والاستعداد له وللإشعار بأن الموت هو بدء الحياة الحقة العليا لا الحياة الدنيا[8]. فالموت ليس نهاية المطاف، بل هو مقدمة إلى حياة أبقى وأفضل[9]، وهذا لقوله سبحانه: {قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ}[10]، وقوله عز وجل: {نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ}[11]، أي قضينا وحكّمنا عليكم الموت وساوينا بينكم فيه، سواء فيه الشريف والوضيع والأمير والصعلوك وما نحن بعاجزين[12].
6 – والموت لغة هو السكون، وكل ما سكن فقد مات[13]، وهو أيضاً ما لا روح فيه[14]. والموت والحياة نقيضان، لا يجتمعان في آن واحد، لأن الموت صفة وجودية خلقت ضد الحياة[15]، يزول به قوة الإحساس والنماء والتعقل[16]، فهو مفارقة الروح البدن لعدم صلاحية البدن لاحتوائها[17]. فالموت شرعاً هو خروج الروح من الجسد، أو مفارقة الحياة للإنسان مفارقة تامة، بحيث تتوقف كل الأعضاء بعدها توقفاً تاماً عن أداء وظائفها، والذي يحدد ذلك هم الأطباء[18]. والكل يموت لا فرق بين نفس ونفس في تذوق جرعة مفارقة الحياة عن طريق مفارقة الروح للجسد[19]، لقوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ}[20]. إنما الفارق في شيء آخر وفي قيمة أخرى، في المصير المحتوم الذي يستحق أن يحسب له ألف حساب، لقوله عز وجل: {وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ}[21].(171/3)
7 – والموت في القرآن الكريم له عدة معان: فمن الموت ما هو إزالة القوة النامية الحية الموجودة في الإنسان والحيوان والنبات، ومنه قوله تعالى: {لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا}[22]، وقوله سبحانه: {وَيُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا}[23]. وموت هو زوال القوة الحسية، ومنه قوله سبحانه: {وَيَقُولُ الإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا}[24]، وقوله عز وجل: {يَالَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا}[25]. والموت هو زوال القوة العاقلة، ومنه قوله جل وعلا: {إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَى}[26]. والموت هو النوم نومة أبدية، وفي هذا المعنى قوله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا}[27]، وقوله سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمّىً ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}[28]، ومنه جاء قوله عليه الصلاة والسلام: ((النوم أخو الموت وأهل الجنة لا ينامون))[29] وعن حذيفة بن اليمان (رضي الله عنه)، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول عند النوم: ((باسمك اللهم أموت))، فإذا استيقظ قال صلى الله عليه وسلم: ((الحمد لله الذي أحيانا بعد أن أماتنا وإليه النشور))[30].(171/4)
وجاء الموت في القرآن الكريم أيضاً بمعنى الكفر أو الموت الفكري، ومنه قوله تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ}[31]، قال الحسن البصري رحمه الله: يخرج المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن، لقوله عز وجل {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ}[32]، فالمراد على هذا القول موت قلب الكافر وحياة قلب المؤمن، فالموت والحياة مستعاران[33]. والموت هو اليقين الذي لا مفر منه ولا هروب، لقوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}[34]، وقوله سبحانه: {وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ}[35]. وموت هو كل مصيبة كبرى، أو أمر جليل ينغص نعم الحياة الدنيا، لقوله جل وعلا: {فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ}[36]، وقوله سبحانه: {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ}[37]، وفي هذا المعنى جاء قوله عليه الصلاة والسلام: ((كفى بالموت مفرقاً))[38].(171/5)
8 – فالموت هو الأجل المحتوم والميقات المعلوم، في ساعة محددة ووقت محدد، لا تقديم فيه ولا تأخير عنه، لقوله تعالى: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ}[39]. وقوله عز وجل: {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا}[40]. وقوله سبحانه: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ}[41]، وقوله تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ}[42]، وقوله أيضاً: { قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لاَ تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلاَ تَسْتَقْدِمُونَ }[43]. والموت هو الحقيقة الحتمية الفجائية التي تواجه كل حي، فلا يملك لها رداً ولا دفعاً، لقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ}[44] وقوله سبحانه: {قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ}[45]، وقوله عز وجل: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ}[46]. وقوله جل وعلا: {فَادْرَأُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}[47]. وقوله تعالى: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاَقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}[48].(171/6)
فالله سبحانه وتعالى هو الحي القيوم، لقوله عز وجل: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ}[49]. وقوله جل وعلا: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ}[50]. وهو عالم الغيب والشهادة، وهو الذي اختص نفسه بمعرفة ساعة وفاة كل امرئ ومكانها، لقوله سبحانه: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ}[51]. وقوله عز وجل: {فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً}[52]. وقوله جل وعلا: {يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا}[53]. قال سيد قطب رحمه الله في تفسيره: الله يستوفي الآجال للأنفس التي تموت، وهو يتوفاها كذلك في منامها، وإن لم تمت بعد، ولكنها في النوم متوفاة إلى حين، فالتي حان أجلها يمسكها فلا تستيقظ، والتي لم يحن أجلها بعد يرسلها فتصحو إلى أن يحل أجلها المسمى[54].
9 – والموت هو الرزية العظمى، مفرق الجماعات، ومنغص النعم، وأعظم منه الغفلة عنه والإعراض عن ذكره، لقوله عليه الصلاة والسلام: ((أكثروا من ذكر هادم اللذات))[55]. أي نغصوا بذكره والتفكير فيه اللذات الفانية حتى ينقطع ركونكم إليها فتقبلوا على الله عز وجل[56] وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي المؤمنين أكيس ؟ قال: ((أكثرهم للموت ذكراً، وأحسنهم لما بعده استعداداً، أولئك هم الأكياس))[57]. وصدق عليه الصلاة والسلام إذ يقول: ((الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت))[58]. وقوله صلى الله عليه وسلم: ((أفضل الزهد في الدنيا ذكر الموت))[59]. وقوله عليه الصلاة والسلام: ((تحفة المؤمن الموت))[60]. وقوله أيضاً: ((الموت كفارة لكل مسلم))[61].(171/7)
وخرج عليه الصلاة والسلام إلى المسجد، فإذا قوم يتحدثون ويضحكون، فقال: ((اذكروا الموت أما والذي نفسي بيده لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً))[62]. وفي هذا، جاء قوله صلى الله عليه وسلم: ((لو تعلم البهائم من الموت ما يعلم ابن آدم ما أكلتم منها سميناً))[63]. ومن ثم، وجب على الإنسان ذكر الموت، وحسن الاستعداد له، وذكر الوقوف بين يدي الله عز وجل، لقوله سبحانه: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ}[64]. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه الكرام فقه الحياة، وصرف الهمة لما بعد الموت، لأنها الحياة الحقيقية التي من أجلها خلق الإنسان. عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم بمنكبي، فقال عليه الصلاة والسلام: ((كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل))[65]. وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: نام رسول الله صلى الله عليه وسلم على حصير، فقام وقد أثر في جنبه، قلنا: يا رسول الله لو اتخذنا لك وطاءً (أي فراشاً ليناً ناعماً)؟ فقال عليه الصلاة والسلام: ((مالي وللدنيا ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها))[66]. وعن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذهب ثلث الليل قام فقال: ((يا أيها الناس اذكروا الله جاءت الراجفة تتبعها الرادفة، جاء الموت بما فيه، جاء الموت بما فيه))[67].(171/8)
10 – فالموت حق، والمؤمن الحقيقي هو الذي يدرك تمام الإدراك أن الدنيا ما هي إلا استراحة قصيرة، ليتزود منها للآخرة، بذكر الموت والتعلق بالله عز وجل، فيهون عليه ما يفوته من زخرف الدنيا وحطامها الزائل[68]. وفي هذا المعنى، قال الإمام علي رضي الله عنه: القبر صندوق العمل، والناس نيام، فإذا ماتوا انتبهوا[69]، وقال الإمام المشهور في الزهديات الحسن البصري رحمه الله تعالى: فضح الموت الدنيا فلم يترك لذي لب فرحاً، وما ألزم عبد قلبه ذكر الموت إلا صغرت الدنيا عنده، وهان عليه جميع ما فيها[70]. وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول دائماً: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك[71]. وقد صدق ابن عمر رضي الله عنهما، لقوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ}[72]. وقوله سبحانه: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا}[73].
المبحث الثاني
حقيقة الموت عند فقهاء الإسلام
11 – الموت في الحقيقة، كما قال بعض العلماء الذين بصرهم الله جل وعلا بعيوب الدنيا، ليس بعدم محض أو فناء صرف، وإنما هو انقطاع تعلق الروح بالبدن، ومفارقة وحيلولة بينهما. فهو ليس فناءً أو انقطاعاً بالكلية عن الحياة، وإنما هو تبدل حال فقط، وانتقال من دار إلى دار[74]، أي انتقال الإنسان من دار التكليف والعمل إلى دار البرزخ والسؤال[75]. فقد ورد عن الخليفة عمر بن عبدالعزيز رحمه الله أنه قال: إنما خلقتم للأبد والبقاء، ولكنكم تنقلون من دار الفناء إلى دار البقاء[76].(171/9)
فإذا مات الإنسان، انتهت حياته الدنيوية بصفة تامة ونهائية، ودخل في حياة أخرى لا يعلم الناس حقيقتها ولا كنهها[77]. فالموت الذي يحل بالإنسان، ويعد ميتاً شرعاً بانقطاع الحياة في جسده هو موت نسبي فقط. فهو موت بالنسبة لعلم البشر في حدود تفكيرهم وتكليفهم، وهو موت بالنسبة لدار الدنيا لا دار البرزخ التي هي أوسع وأعظم[78]. فمن مات، فقد دخل البرزخ، والبرزخ في الأصل هو الحاجز بين الشيئين، ومعناه هنا: ما بين الموت والبعث[79].
فالله عز وجل على كل شيء قدير، جعل الدنيا دار تكليف وعمل، كما جعل الآخرة دار قرار وجزاء (الجنة أو النار)، وأن الموت في الحقيقة هو بدء الحياة البرزخية، ثم من بعدها الحياة الأبدية الدائمة (وهي حياة الجزاء والخلود). وعلى هذا النحو جاء قوله تعالى: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى}[80]، وقوله سبحانه: {فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ}[81].(171/10)
12 – وعلى هذا الأساس، فإن الموت هو تبدل حال فقط، وأن الروح باقية بعد مفارقة الجسد، إما منعمة وإما معذبة حسب أعمال صاحبها[82]. ذلك والله أعلم، دليل أن الجنازة إذا كانت صالحة قالت: قدموني، قدموني، وإن كانت غير ذلك قالت: يا ويلها أين يذهبون بها؟ يسمع صوتها كل شيء إلا الثقلين، لقوله عليه الصلاة والسلام: ((إلا الإنسان ولو سمع الإنسان لصعق))[83]. فالميت يجلس في قبره، وتعاد روحه في جسده، ويسأل ويجيب، مما يدل على أن الميت بعد موته يكون حياً حياة تختلف عن حياته في الدنيا[84]. ولهذا ثبت في الصحيح أن الميت يسمع ويرى ويحس وهو في قبره، كما قال عليه الصلاة والسلام: ((إن أحدكم إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه وأنه ليسمع قرع نعالهم))[85]. وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميت، وقف عليه الصلاة والسلام فقال: ((استغفروا لأخيكم وسلوا له التثبيت إنه الآن يسأل))[86]. وعن البراء بن عازب، أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ((استعيذوا بالله من عذاب القبر))، ثم قال: ((اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر))[87].
13 – ونلاحظ هاهنا، بأن القرآن الكريم قرر بأن الروح خالدة غير فانية، وأنها باقية بعد مفارقة الجسد. وما يؤكد ذلك بقاء حياة الشهداء وعدم موتهم في نعيم ورزق مع أن أجسادهم دفنت في القبور؛ لقوله تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}[88] وقوله سبحانه: {وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لاَ تَشْعُرُونَ}[89].(171/11)
فالجسد يفنى والروح تبقى، ليعيش في حياة البرزخ، وهذا لما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ((إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، فيقال هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة))[90].
ومن المعروف شرعاً، أن الميت يشعر بزيارة الحي ويفرح بها، وحينما يسلم الزائر عليه فإنه يرد السلام، وهذا لما روي عن السيدة عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى: ((ما من رجل يزور قبر أخيه ويجلس عنده إلا إستأنس ورد عليه حتى يقوم))[91]. وعلى هذا شرع النبي صلى السلام على أهل القبور، ففي صحيح مسلم أن الإنسان إذا دخل القبور يقول: السلام عليكم دار قوم مؤمنين[92].
14 – وحقيقة الموت هي مسائل اختص الله تبارك وتعالى وحده بعلمها وبمعرفتها، فالله عز وجل عنده علم الساعة، فهو وحده يعلم الساعة المحددة لأجل كل امرئ. ومنه قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمّىً عِنْدَهُ}[93].
فالموت من مفاتيح الغيب الخمس التي استأثر المولى سبحانه بعلمها وحده دون غيره إلى أن تقوم الساعة، لقوله جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}[94]. وروى البخاري في صحيحه، عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى: ((مفاتيح الغيب خمسة لا يعلمها إلا الله: لا يعلم أحد ما يكون في الغد، ولا يعلم أحد ما يكون في الأرحام، ولا تعلم نفس ماذا تكسب غداً، وما تدري نفس بأي أرض تموت، وما يدري أحد متى يجيء المطر))[95].(171/12)
فالموت أمر عظيم، بيد الخالق الباري وحده دون غيره، لقوله سبحانه: {وَلاَ يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا}[96]. فهو عز وجل يرسل أسباب النهايات عندما يحين الأجل المحتوم الذي لا رجعة فيه، لقوله جل وعلا: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلاً}[97]. وقوله سبحانه: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا}[98].
المبحث الثالث
مقدمات الموت وشدته
15 – المقصود بمقدمات الموت هي سكراته وشدة الألم الناتج منها – والسكرات جمع سكرة، وهي مأخوذة من السكر، والسكر حالة تعرض بين المرء وعقله. والسكرة تطلق على الغشى الناشئ عن الألم، وهي أكثر شيء في الموت إفزاعاً وتفزيعاً، وألماً وإيلاماً[99]، وقد وصف الله سبحانه وتعالى سكرات الموت وشدته في أكثر من آية: فأسماها سكرة في قوله عز وجل: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ}[100]. كما أسماها بالغمرات في قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلاَئِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمْ}[101]. كما شبه القرآن الكريم الخائف خوفاً شديداً بمن هو في سكرة الموت، ومنه قوله جل وعلا: {فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ}[102]. وذلك لذهاب عقولهم من شدة الخوف والفزع حتى لا يصح منهم النظر إلى جهة محددة[103]. وفي هذا المعنى، جاء قوله تعالى: {فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ}[104]، أي كمن يشخص بصره عند الموت، وذلك لشدة خوفهم وفزعهم[105].(171/13)
16 – إن شدة الألم في سكرات الموت لا يعرفها في الحقيقة إلا من ذاقها فعلاً، ومن لم يذقها فإنما لا يعرفها إلا بالقياس إلى الآلام التي أدركها، وإما بالاستدلال بالمشاهدة أو بالسماع بأحوال الناس في النزع على شدة ما هم فيه.
وذكر العلماء والشراح بأن سكرة الموت ((التي وردت في الآية 19 من سورة ق))، وهي قوله تبارك وتعالى: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} تعني غمرة الموت وشدته التي تغشى الإنسان وتغلب على عقله بالأمر الحق من أهوال الآخرة حتى يراها المنكر لها عياناً ذلك ما كنت منه تحيد أي ذلك ما كنت تفر منه وتميل عنه وتهرب منه وتفزع[106]. والمقصود هنا، هي ساعة الاحتضار والمعاناة لنزع الروح من البدن[107]، وهي لحظة رهيبة وعصيبة، حتى إنه لم يبق جزء من أجزاء الروح المنتشرة في أعماق البدن إلا وقد حل به الألم. وفي هذا جاء قوله تعالى: {فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ}[108]. وقوله سبحانه: {كَلاَّ إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ}[109]. وقوله عز وجل في ساعة الغرغرة حيث لا تقبل التوبة: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ}[110]. وفي هذا قال عليه الصلاة والسلام: ((تقبل توبة العبد مالم يغرغر))[111].
قال الزمخشري في تفسيره لقوله جل وعلا: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا}[112]. أي قبضت روحه، والتوفي استيفاء النفس وهي الروح، وهو أن يقبضها كلها لا يترك منها شيئاً، من قولك توفيت حقي من فلان أي استوفيته وافياً كاملاً من غير نقصان[113].(171/14)
وقال العلامة الغزالي صاحب كتاب ((إحياء علوم الدين))، إن الموت لا ألم فيه، وإن وجد فيه، فإنه يرجع في الحقيقة إلى التحسر على فراق الدنيا[114]. وهو ما ذهب إليه الأطباء، أن دخول المريض في سكرات الموت وحالة الاحتضار، لا يصحبه شيء من مسببات الهلع والخوف والفزع، وهذا من فضل الله عز وجل مناسب لرحمته ورأفته بعباده[115]. وسكرات الموت في الطب، هي عبارة عن توقف الأعمال الحيوية في جسم الإنسان، نتيجة لتوقف أجهزة البدن الأساسية، وهي الجهاز الدوراني والجهاز التنفسي، والجهاز العصبي، وبهذا التوقف التام الذي لا رجعة فيه يكون الشخص غير قابل للإنعاش الصناعي، بحيث تحدث تغييرات بالجسم تمنعه من العودة إلى الحياة[116].
والجدير بالذكر، أن ما يسبق الموت من سكرات يسمى موتاً مجازاً لأنه الطريق الذي ينتهي بالموت، أي بمفارقة الروح مفارقة تامة للجسد[117]. وفي هذا المعنى قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ}[118]. أي سكرات الموت أو مقدماته. ومنه قوله سبحانه: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا}[119]. وعليه فإن كل ما يرافق الأمراض من آلام وشدائد لا يسمى شرعاً سكرات الموت مالم تنته بخروج الروح، فخروج الروح هو الحد الفاصل بين الحي والميت، ولا يسمى الميت ميتاً إلا عند المفارقة التامة لروحه[120].(171/15)
17 – وعملية الموت في سكراته أو مقدماته، أو في غمراته وآهاته، تستغرق من الزمن حوالي عشر دقائق، ولكنها شديدة وعصيبة بمقياس الألم[121]. وهو الألم الذي استعمله الإمام علي رضي الله عنه في الحض على القتال، وهو يقول رضي الله عنه: إن لم تقتلوا تموتوا، والذي نفسي بيده لألف ضربة بالسيف أهون علي من موت على فراش[122].
وفي هذا الوقت الشديد، يأتي إبليس اللعين، فيتمثل أمام هذا الإنسان المحتضر، ومعه شيطان آخر بصورة والديه، أحدهما يكون عن يمينه والآخر عن شماله. ولهذه الفتن وغيرها، شرع تلقين المحتضر، لقوله عليه الصلاة والسلام: ((لقنوا موتاكم لا إله إلا الله))[123]. وفي رواية حذيفة بن اليمان رضي الله عنه ((فإنها تهدم ما قبلها من خطايا)). وفي رواية أخرى لمعاذ بن جبل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من كان آخر كلامه لا إله إلا الله وجبت له الجنة))[124].
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان عنده ركوة (أو قدح) فيها ماء عند موته، فجعل يدخل يديه في الماء فيمسح بها وجهه، وهو يقول عليه الصلاة والسلام: ((لا إله إلا الله إن للموت سكرات، اللهم هون علي سكرات الموت))، ثم نصب يديه فجعل يقول: ((في الرفيق الأعلى حتى قبض ومالت يده))[125]، وهذه الآلام الشديدة الطويلة هي التي جعلت السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها تقول: ما أغبط أحداً بهون موت بعد الذي رأيت من شدة موت رسول الله صلى الله عليه وسلم[126].
وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم، يطلب من الله تعالى ويستعين به من شدة سكرات الموت. وروى ابن أبي الدنيا في باب الموت، عن الضحاك بن سمرة مرسلاً: أدنى جبذات الموت بمنزلة مائة ضربة بالسيف[127]. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((أن الملائكة تكتنف العبد وتحبسه ولولا ذلك لكان يعدو في الصحارى والبراري من شدة سكرات الموت))[128].(171/16)
18 – ونلاحظ أخيراً، أن المحتضر في سكرات الموت، يشاهد الملائكة ويراهم، وقد يسلمون عليه، وهو يرد عليهم تارة باللفظ وتارة بالإشارة وتارة بالقلب، وذلك عند عدم التمكن من النطق والإشارة. ثم يجلسون عنده يتحدثون، وأهل الميت وغيرهم لا يبصرون شيئاً من ذلك، لقوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لاَ تُبْصِرُونَ}[129]. وقوله سبحانه: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ}[130]. أي احتضر وحان أجله، وتوفته رسولنا أي ملائكة موكلون بذلك[131]، لقوله عز وجل {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلاَمٌ عَلَيْكُمُ}[132]، وقوله سبحانه {فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلاَئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ}[133]، وقوله تعالى {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلاَئِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمْ}[134]، وقوله جل وعلا {قُلْ يَتَوفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ}[135]. قال ابن عباس رحمه الله تعالى: لملك الموت أعوان من الملائكة يخرجون الروح من الجسد، فيقبضها ملك الموت إذا انتهت إلى الحلقوم[136].(171/17)
وفي هذا المعنى، روي عن أم سلمة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا حضرتم الميت فقولوا خيراً فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون))[137]. فيكون الدعاء عند حضور هؤلاء الملائكة مقبولاً، لقوله عليه الصلاة والسلام: ((إذا حضر الموت أتت ملائكة الرحمة))[138]. وقوله عليه الصلاة والسلام: ((لن يخرج أحدكم من الدنيا حتى يعلم أين مصيره وحتى يرى مقعده من الجنة أو النار))[139]، وقوله عليه الصلاة والسلام: ((من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه))فقالوا: كلنا نكره الموت يا رسول الله !, فقال: ((ليس ذاك بذاك، إن المؤمن إذا فرج له عما هو قادم عليه أحب لقاء الله وأحب الله لقاءه))[140]. ومنه قوله تعالى {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لآَتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}[141]، وقوله سبحانه {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}[142].
المبحث الرابع
علامات الموت عند الفقهاء(171/18)
19– لم يتعرض الفقهاء القدامى لتعريف الموت من الناحية الطبية، وإن كان بعضهم قد حاول تعريفه من الناحية التصويرية، فقيل إنه زوال الحياة من جسم الإنسان، يحدث بخروج الروح من البدن[143]. وهذا انطلاقاً من بعض الآيات القرآنية التي أفادت بأن الموت هو خروج الروح من الجسد، ومفارقة الحياة للإنسان مفارقة تامة[144]. وقد جاءت بعض علامات الموت في القرآن الكريم، ومنها الخمود وسكون الحركة، لقوله تعالى {إِنْ كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ}[145]. والخمود هنا يعني السكون، فما كانت إلا صيحة واحدة أخمدت أنفاسهم[146]، وقوله سبحانه {فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ}[147]، وقوله عز وجل {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ}[148]. أي جعلت الريح تضرب بأحدهم الأرض فيخر ميتاً على رأسه، فينشرح رأسه، وتبقى جثته هامدة وكأنها قائمة النخلة إذا خرت بلا أغصان[149]. ومن علامات الموت أيضاً، عدم الكلام، لقوله جل وعلا {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا}[150]. ومعنى ركزاً في الآية أي صوتاً، والركز لغة هو الصوت الخافي[151].(171/19)
وتوضيح هذه الحالة إذا سكت النبض، وتوقف القلب توقفاً تاماً، وشخص البصر، واقشعر الجلد، وحشرج الصدر، وتشنجت الأطراف[152]. وقد روى ابن ماجة في سننه، عن أم سلمة رضي الله عنها، قالت: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي سلمة، وقد شق بصره فأغمضه، ثم قال عليه الصلاة والسلام: ((إن الروح إذا قبض تبعه البصر))[153]، ففي هذا الحديث النبوي الشريف، علامة على خروج الروح، فهي إذا خرجت تبعها البصر، وذلك بعد توقف القلب والتنفس، أما إذا كانا يعملان، فقد يكون الأمر مرضاً عصبياً، كما في نوبة الصرع أو رضوض الدماغ مثلاً.
قال النووي رحمه الله، في شرحه لهذا الحديث: إنه إذا خرج الروح من الجسد يتبعه البصر، وأن الروح أجسام لطيفة متخللة في البدن، وتذهب الحياة من الجسد بذهابها[154]، وهذا ما يحدث تماماً في حالة موت الدماغ بإجماع الأطباء، حيث تكون العينان شاخصتين لا تتحركان أبداً ولا حتى بتسليط ضوء عليهما، بينما في حالات الإغماء (الغيبوبة) الأخرى كلها يمكن للعينين أن تتحركا بتسليط الضوء عليهما[155]، فللروح نهاية تخرج معها من جسم الإنسان، وعلامة خروجها شخوص البصر، وهذا لقوله عز وجل {وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ}[156].(171/20)
20– وقد ذكر بعض الفقهاء بأن للموت علامات وأمارات يعرف بها حصوله منها. وهذه العلامات هي التغييرات الثابتة بمشاهدتها، والمستنبطة من خبرة البشر في مثل هذه الأمور. ومن هذه العلامات المذكورة في بطون كتب الفقه: توقف القلب، انقطاع التنفس، استرخاء الأعصاب والأطراف، سكون الحركة في البدن، تغير اللون، شخوص البصر، عدم انقباض العين، انخساف الصدغ، اعوجاج الأنف، انفراج الشفتين، امتداد جلدة الوجه، انفصال الكفين عن الذراعين، تقلص الخصيتين، عدم نبض العرق بين الكعب والعرقوب وعرق الدبر، وغيبوبة سواد العينين في البالغين، وكذا برودة البدن[157].(171/21)
وقال ابن نجيم الحنفي رحمه الله بأن المحتضر من قرب الموت، وعلامته: أن تسترخي قدماه فلا تنتصبان، وينعوج أنفه، وينخسف صدغاه، وتمتد جلدة الخصية، لأن الخصية تتعلق بالموت وتتدلى جلدتها[158]. وذكر الخرشي المالكي في شرحه لمختصر خليل: وعلامات الموت أربع: انقطاع نفسه، وإحداد بصره، وانفراج شفتيه فلا تنطبقان، وسقوط قدميه فلا تنتصبان[159]. وقال النووي الشافعي في روضة الطالبين: إن الروح إذا فارقت البدن لم يكن بعد حياة، كاسترخاء القدمين مع عدم انتصابهما، وانخساف الصدغ، وميل الأنف، وامتداد جلدة الوجه، فإن شك بأن يكون به علة، واحتمل أن يكون به سكتة، أو ظهرت علامات فزع أو غيره أو أخر (حكم الموت) إلى اليقين بتغير الرائحة أو غيره[160]. وذكر العلامة ابن قدامة الحنبلي في كتابه ((المغني)) أنه من العلامات الظاهرة للموت: استرخاء رجليه، وانفصال كفيه، وميل أنفه، وامتداد جلدة وجهه، وانخساف صدغيه[161]. وقال الإمام الغزالي في كتابه ((إحياء علوم الدين)) بأنه يجب أن تترك الروح كل أعضاء الجسد، بحيث لا يبقى جهاز من أجهزة البدن فيه صفات الحياة، فالموت عبارة عن استعصاء الأعضاء كلها[162]. وخلاصة القول: أن الشخص يعد حياً حتى يحصل يقين بزوال حياته من خلال ظهور علامات وأمارات لا تحصل إلا في شخص ميت، وأما من قربت نفسه من الزهوق فلم يحصل يقين بزوال حياته، فإنه يعد حياً عند الفقهاء[163]. كما أن سكرات الموت لا تعرف إلا بعد حلول الموت، فهي في ذلك كمرض الموت، فإن لم تنته الآلام والشدائد والكرب بالموت سميت نُذُر الموت لا سكراته[164]، لقوله عليه الصلاة والسلام: ((للموت نُذُر قبله، لقد أعذر الله تعالى إلى عبد أحياه حتى بلغ ستين أو سبعين سنة، لقد أعذر الله إليه، لقد أعذر الله تعالى إليه))[165].(171/22)
21 – وقد تعرض رجال الفقه المعاصر لتعريف الموت من ناحية علاماته أو أماراته. فقال سيد قطب رحمه الله هو مفارقة الروح للبدن[166]. وقال الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي بأن الموت هو سكون النبض ووقوف حركة القلب وقوفاً تاماً[167]. وذكر فضيلة الشيخ جاد الحق رحمه الله، بأن من علامات الموت: إشخاص البصر، وأن تسترخي القدمان، ويعوج الأنف، وينخسف الصدغان، وتمتد جلدة الوجه فتخلو من الانكماش[168]. كما أن دار الإفتاء المصرية في الفتوى المشهورة المؤرخة في 5/12/1979م قررت صراحة على ((أنه عند فقدان الجهاز العصبي لخواصه الوظيفية الأساسية، فإن الإنسان يعد ميتاً شرعاً، وتترتب آثار الوفاة من تحقق موته كلية، فلا تبقى فيه حياة ما، لأن الموت هو زوال الحياة))[169]. وهو ما أكده رئيس لجنة الفتوى بالأزهر الشريف من أنه ((لا يجوز التشريح ونقل الأعضاء إلا بموافقة أهل الميت، على أن يكون ذلك بعد تحقق وفاة الميت بتوقف مخه (أي دماغه) عن أداء وظيفته، لا بتوقف قلبه، لأن القلب قد يتوقف والمخ ما زال قائماً بوظيفته فلا تتحقق الوفاة))[170].(171/23)
22 – ونلاحظ بأنه يجب التأكد من توافر العلامات السابقة الذكر فيمن يموت، حتى لا يدفن بعض الناس وهم أحياء، نتيجة أنهم راحوا في غيبوبة طويلة (أو سبات عميق) تلتبس في بعض الأحيان مع غيبوبة الموت الحقيقي[171]. وفي هذا يقول الإمام ابن قدامة رحمه الله، وهو يتحدث عن تجهيز الميت، بعد أن ذكر علامات الموت، ((وإن مات فجأة كالمصعوق، أو خائفاً من حرب أو سبع، أو تردى من جبل، انتظر به هذه العلامات حتى يتيقن موته))[172]. وذكر الإمام الملهم الحسن البصري رحمه الله تعالى: في المصعوق (ومن في حكمه) ((ينتظر به ثلاثاً))[173] وقال النووي في ((المجموع))، فإن مات فجأة، لم يبادر بتجهيزه لئلا تكون به سكتة ولم يمت، بل يترك حتى يتحقق موته، فأما إن مات مصعوقاً، أو غريقاً، أو حريقاً، أو خاف من حرب أو سبع، أو تردى من جبل، أو في بئر فمات، فإنه لا يبادر به حتى يتحقق موته، فيترك اليوم واليومين والثلاثة حتى يخشى فساده، لئلا يكون مغمى عليه أو انطبق حلقه أو غلب المرار عليه[174].
وفي هذا، قال العلامة ابن رشد المالكي: فإذا قضى الميت غمض عينيه، ويستحب تعجيل دفنه لورود الآثار بذلك إلا الغريق، فإنه يستحب في المذهب تأخير دفنه مخافة أن يكون الماء قد غمره فلم تتبين حياته. وإذا قيل هذا في الغريق، فهو أولى في كثير من المرضى، مثل الذين يصيبهم انطباق العروق، وغير ذلك مما هو معروف عند الأطباء، حتى لقد قال الأطباء: إن المسكوتين لا ينبغي أن يدفنوا إلا بعد ثلاث[175].
23 – وقد أفادت دراسات علمية حديثة دقيقة: أنه في أمريكا يدفن خطأ شخص واحد في كل أربع وعشرين ساعة، وفي بريطانيا خلال 22 سنة دفن 2175 شخصاً أحياء (أي أن موتهم كان ظاهرياً فقط). وفي أمستردام بهولندا، أنقذت جمعية خيرية حياة 990 شخصاً في 25 سنة، كما أن جمعية مماثلة في همبورج بألمانيا أنقذت 107 أشخاص في أقل من خمس سنوات[176].(171/24)
وقد ذكرت الكتب المتعلقة بالموت وأسراره، الكثير من نوادر الموتى: كالشخص الذي سمع صوت أخيه المدفون حياً من داخل القبر[177]؛ والميت المصعوق الضاحك وهو في السبات العميق[178]: والعجوز الإيطالي في 67 من عمره الذي لقي مصرعه في حادث تصادم، وبعد خمسة أيام من وضع جثته في المشرحة (في درجة حرارة 7 تحت الصفر) انتظاراً لحضور أحد أقاربه، عاد فجأة إلى الحياة، وأخرجوه من المشرحة ليعيش بعدها سنوات طويلة[179]، والفتاة المصرية التي انتحرت حرقاً عام 1931م، والتي وضعت جثتها على طاولة تشريح الموتى، وفي انتظار الطبيب الشرعي ليقوم بتشريحها، بدأت فجأة تتحرك ثم صرخت ((أنا عطشانه))، وسرعان ما نقلت إلى المستشفى لإنقاذها[180].
وعلى هذا الأساس، اتفق الفقهاء على أنه لا يوجد ما يمنع شرعاً الرجوع حسب قواعد الشرع إلى أهل الذكر (أي أهل العلم والاختصاص) وهم الأطباء، لتعرُّف هذه العلامات الظاهرة بالوسائل الطبية الحديثة، والمتاحة في الوقت الحاضر، وذلك بغرض تشخيص الموت، والتيقن منه فعلاً.
المبحث الخامس
علامات الموت عند الأطباء
24 – استقر الطب الحديث على أن الموت الكامل لخلايا المخ (أي الدماغ) الذي يؤدي إلى توقف المراكز العصبية عن العمل، هو المعيار الشرعي، والقانوني لموت الإنسان موتاً حقيقياً لا رجعة فيه[181]. والمقصود بموت المخ كلية الغيبوبة النهائية التامة، حيث تتوقف مراكز الاتصال والتكفير والذاكرة والسلوك وغيرها عن العمل. فتخرج بذلك حالة موت جزء من خلايا المخ فقط، وهي الغيبوبة المؤقتة، إذ إن موت المخ لا خلاف بين الأطباء في أنه ليس موتاً[182].(171/25)
إن الدماغ (أو جذع المخ) هو المكان المعين في المخ الذي ترد عليه جميع الأحاسيس، وهو المركز الرئيسي للتنفس والتحكم في القلب والدورة الدموية، وربما هو وعاء الروح، فهو المسئول عن وعي الإنسان ونومه ويقظته وحياته، فموت هذا الجزء من الدماغ يؤدي إلى إثبات الوفاة طبياً[183]. إن موت جذع الدماغ بشكل دائم مرة واحدة يؤدي حتماً إلى خروج الروح من البدن، حتى وإن كان القلب سليماً، وذلك لأنه لا يمكن طبياً تبديل لا القشرة الدماغية الميتة ولا الدماغ لميت[184]. ولكي يشخص الطبيب موت جذع الدماغ، لابد من علامات طبية وهي: الإغماء الكامل، عدم الاستجابة لأي مؤثرات لتنبيه المصاب مهما كانت وسائل التنبيه قوية ومؤلمة، عدم التنفس لمدة ثلاث أو أربع دقائق بعد إبعاد المنفسة (Ventilator)، عدم وجود أي انفعالات منعكسة من جذع الدماغ[185]، وعدم وجود حركة الدمية عند تحريك الرأس، وكذا عدم وجود أي نشاط كهربائي في رسم المخ[186].
هذا ولا يعد رسم الدماغ أساسياً في تشخيص موت الدماغ، غير أنه إذا توافر كان دليلاً إضافياً مفيداً من الناحية الشرعية والقانونية[187]. ولا تكفي هذه الشروط لإعلان موت الإنسان، بل لابد أن يكون توقف وظائف جذع الدماغ مصحوباً بعلامات طبية (باثولوجية وتشريحية)، وما يتبع ذلك من ظهور تغيرات: كحدوث تغييرات بالعين، وبهاتة لون الجسم، وبرودة الجسم وفقد حرارته الحيوية، والزرقة الرمية، وغيرها من علامات ظهور الجسم بمظاهر الجثة تنتهي بتحليل الجسم تحللاً كاملاً[188].(171/26)
25 – والجدير بالذكر، أنه لم يتقرر ذلك إلا حديثاً[189] وبالتحديد في سنة 1952م، عندما قبلت إحدى المحاكم الأمريكية (في ولاية كنتاكي) النظر في الدعوى الخاصة بشخص كان قلبه لا يزال يدق لأنه كان يدفع بالدم من الأنف، فطبقت معيار موت جذع الدماغ كلية معياراً قانونياً للموت، وعدلت عن معيار توقف التنفس والنبض (أي القلب والدورة الدموية) الذي كان سائداً إلى وقت ما[190]. وهو ما أقره تقرير المؤتمر الثاني للأخلاق الطبية لجمعية الأطباء بفرنسا الذي انعقد بباريس سنة 1966م، والذي أكد بأن معيار الموت هو الموت الكامل لخلايا المخ (الدماغ)، وأن الموت ليس نتيجة حتمية لوقف حركة القلب في الجسم[191]. وكان أول من وضع المواصفات العلمية والطبية الخاصة بتحديد موت الدماغ هي لجنة ((آدهوك)) (AD HOC) في جامعة هارفرد (HARVARD) الأمريكية عام 1968م[192].
ولولا تطبيق هذا المعيار الحديث، لما استطاع البروفيسور الفرنسي المشهور ((كريستيان برنارد)) (CHRISTIAN BERANARD) أن يقوم بالعملية الأولى لزرع قلب كامل بمستشفى جوهانسبرج في جنوب إفريقيا سنة 1967م[193]. وذلك أنه حسب التعريف القديم، فإن الأشخاص الذين تجرى لهم عمليات القلب المفتوح، يعتبرون أمواتاً أثناء العملية الجراحية، حيث إنه في أثناء العملية فإن القلب والتنفس يتوقفان تماماً عن العمل؛ ولكن الواقع أن هؤلاء الأشخاص أحياء، ويعودون إلى وعيهم وحياتهم بعد العملية، لأن جزء المخ كفلت له وسائل الحياة بواسطة القلب الصناعي الذي قام بدفع الدم إلى المخ وباقي الجسم وساعدهم على انتظام استمرار التنفس[194].(171/27)
إن موت القلب يتبعه لا محالة موت الدماغ، إذا انقطع عنه الدم (لمدة تتراوح من دقيقتين إلى أربع دقائق)، وبالتالي يعد مثل ذلك الشخص في عداد الموتى[195]. ومن ثم، فإن الموت من الناحية الطبية هو توقف جهاز التنفس والدورة الدموية والجهاز العصبي توقفاً تاماً لبضع دقائق، وما يتبع ذلك من ظهور علامات وتغيرات، ومنها ظهور الجسم بمظاهر الجثة، ويتم ذلك بعد حوالي ساعتين وهو ما يعبر عنه بموت الأنسجة. ولهذا يفرق الأطباء بين موت الشخص وموت الأنسجة، فالأخير يبقى لمدة ما قد تصل إلى ساعتين أو أكثر في بعض الأحشاء أو الأنسجة بعد موت الشخص؛ فمثلاً قد تتفاعل العضلات للغيار الكهربائي إلى ما بعد الموت بنحو ثلث أو نصف ساعة، وقد يظل الكبد يحول المواد النشوية إلى سكرية لحوالي ساعة أو ساعتين بعد الوفاة، وكذلك قد تظل الحيوانات المنوية حية في الخصية[196].
ومن علامات الموت عند الأطباء؛ توقف الدورة الدموية والتنفس توقفاً تاماً، عتامة قرنية العين، نقص الضغط داخل العين، ارتخاء الأطراف، برودة الجسم، الزرقة الرمية، التيبس الرمي، التعفن الرمي، التصبن الرمي، وأخيراً التحول إلى مومياء[197].(171/28)
26 – ومن المؤكد لدى الأطباء، أنه ليس هناك لحظة محددة للموت، فهناك تدرج من الموت الإكلينيكي، إلى الموت البيولوجي، ثم الموت الخلوي النهائي[198]. فالموت الإكلينيكي هو المرحلة الأولى، حيث يتوقف جهازاً التنفس والقلب عن أداء وظائفهما. وفي مرحلة ثانية، يتوقف الدماغ (بموت خلايا المخ) بعد بضع دقائق من توقف دخول الدم المحمل بالأكسجين للمخ (ما لم تستعمل وبسرعة أجهزة الإنعاش الصناعي)[199]. وفي المرحلة الثالثة والأخيرة للموت، تموت خلايا أعضاء وأنسجة الجسم شيئاً فشيئاً وتدريجياً، فيحدث ما يسمى ((بالموت الخلوي))، وهو الموت التام والكامل للإنسان[200]. ومن ثم، فإن حالات الغيبوبة المؤقتة مهما طالت، والاغماء الطويل أو السبات العميق (أي غياب الوعي مهما طال الزمن)، والموت الإكلينيكي، وتعطل عمل القشرة المخية، والموت الجزئي للجسد أو لبعض أعضائه، لا تعد موتاً بالمفهوم الشرعي والطبي، مالم يتم إثبات تشخيص موت جذع الدماغ الذي هو موت حقيقي لا رجعة بعده للحياة[201].
27 – ونلاحظ مما سبق، بأنه يجب التفرقة بين موت جذع الدماغ وموت المخ. أما الأول فهو موت محقق لا رجعة للحياة بعده؛ وأما الثاني فهو غيبوبة ربما يتغلب عليها بالمعالجة الطبية بعد تشخيص أسبابها، ومن ثم فإن موت المخ لا خلاف في أنه ليس موتاً[202].(171/29)
فمن المعروف طبياً أن موت المخ (وهي الحالات التي تحدث عندما تتلف قشرة المخ بشكل دائم، فتتلف مع ذلك مراكز الإرادة والوعي، ولكن جذع الدماغ يكون سليماً فتبقى أعضاء الجسم الأخرى عاملة) لا يمكن اعتباره موتاً بالمفهوم الطبي الشرعي، إذ أنه من الثابت لدى الأطباء أن حالات موت المخ يكون أصحابها أحياء تظهر فيهم مظاهر الحياة المختلفة: كنبضان القلب نبضاً عادياً، والتنفس، والحرارة الطبيعية، واستمرار إفرازات معظم أجهزة الجسم، والأفعال الانعكاسية الإرادية، كما أنه يستمر شعرهم وأظافرهم في النمو، وأن الحمل في حالة السيدات الحوامل يستمر طبيعياً طوال فترة الغيبوبة حتى تتم الولادة في موعدها الطبيعي[203].
وعلى هذا الأساس، فإن تدخل الطبيب بإنهاء حياة المريض الذي هو في حالة موت المخ، إنما هو قتل لنفس حرم الله قتلها، وهو قتل يستوجب القصاص شرعاً. وذلك لاستمرار الحياة الطبيعية والحيوية في جسده التي تبقى عاملة وسليمة. خاصة وأن الطب الحديث، يسعى حالياً إلى تطوير تقنيات جديدة لإصلاح قشرة المخ بزرع الخلايا الدماغية بدل تلك التالفة[204]. وإن كان الرأي الراجح عند الأطباء أنه لا يمكن تبديل القشرة الدماغية الميتة ولا الدماغ الميت[205].(171/30)
28 – هذا ومن الممكن أن يتوقف قلب إنسان عن العمل، ولكن خلاياه (أي خلايا القلب) تظل حية، فإن موت هذا الإنسان ليس إلا موتاً ظاهرياً لعدم موت الجهاز العصبي. فالقلب يمكن أن يتوقف عدة مرات (السكتة القلبية)، ولكن يمكن إسعافه مادام الدماغ حياً[206]. فلا يوجد ما يمنع شرعاً من إسعاف القلب وإعادته إلى عمله الطبيعي، عن طريق استخدام التقنيات الطبية الحديثة، وهي أدوات الرعاية المركزة وأجهزة الإنعاش الصناعي للتحقق من الجهاز العصبي. فإن دلت الأجهزة الطبية على فقدان الجهاز العصبي لخواصه الوظيفية الأساسية، فإن الإنسان يعد ميتاً شرعاً وقانوناً[207]، وجاز حينئذ إيقاف أجهزة الإنعاش الصناعي[208]. وهو ما قررته دار الإفتاء المصرية[209]، واللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالمملكة العربية السعودية[210]، وما أفتى به مجمع الفقه الإسلامي بمقتضى القرار رقم 5 والصادر بتاريخ 3/7/1986م في دورته الثالثة المنعقدة بعمان (الأردن) من 11 – 16 أكتوبر 1986م، حيث عد موت الدماغ موازياً لموت القلب وتوقف الدورة الدموية، وهو الموت الشرعي الذي يجيز وقف أجهزة الإنعاش الصناعي[211].
وهو ما قررته المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية بالكويت، من أن المعتمد عليه في تشخيص موت الإنسان هو خمود منطقة المخ المنوط بها الوظائف الحياتية الأساسية، وهو ما يعبر عنه بموت جذع المخ، وعليه فإنه إذا تحقق موت جذع المخ، بتقرير لجنة طبية مختصة، جاز حينئذ إيقاف أجهزة الإنعاش الصناعي[212].
فالموت هو مفارقة الإنسان للحياة، بعد التحقق من الموت الكامل لجذع الدماغ، ومعيار ذلك بيد الأطباء[213]. فيكفي للتأكد من موت المتوفى التحقق من موت جميع خلايا مخه، ومن التوقف التلقائي للوظائف الأساسية للحياة في الجسم[214].(171/31)
29 – ومما يجدر الإشارة إليه، أن القوانين الطبية العربية حرصت على عدم تعريف المقصود بالموت في القانون، وهذا على أساس أن تعريف الموت مسألة طبية بالدرجة الأولى، ومن ثم فلا يجوز للمنظم أن يتدخل في تحديدها بقواعد تنظيمية. وهو الاتجاه الذي سلكه القانون الطبي الفرنسي رقم 1181 لسنة 1976م المتعلق بنقل وزرع الأعضاء البشرية الذي سكت عن تعريف الموت، وفضل أن يتم ذلك بأداة تنظيمية أكثر مرونة، بحيث يمكن تعديلها تبعاً للتطورات الطبية. ولهذا جاء في المادة 4/4 من القانون الطبي الفرنسي ((أن اللائحة التي ستصدر يجب أن تتضمن إجراءات طرق التأكد من الوفاة))[215].
المبحث السادس
مشكلة ((الميت الحي)) (الوفاة الدماغية)
30 – مشكلة ((الميت الحي))، إن جاز هذا الاصطلاح، يأتي حين يصاب الدماغ إصابة بالغة نتيجة الحوادث (كحوادث السيارات، والارتطام، والتردي، والسقوط من مكان شاهق، وإطلاق النار..)، أو نتيجة نزف في الدماغ، أو ورم الدماغ، أو توقف القلب لفترة قبل الإنعاش... ففي مثل الحالات عندما توضع أجهزة الإنعاش الصناعي، لا يكون الطبيب متيقناً أن جذع الدماغ قد مات[216]. فتحتاج إلى سرعة كبيرة، وعناية مركزة لمحاولة الإنقاذ فيبقى المصاب تحت المنفسة الاصطناعية (MECHANICAL VENTILATOR)[217]. ومن ثم، فإنه لا يمكن تشخيص موت جذع الدماغ، في مثل هذه الحالات من الناحية الشرعية، إلا بعد التأكد التام من التوقف الكامل الذي لا رجعة فيه لوظائف جذع الدماغ مع وجود إصابة مرضية باثولوجية وتشريحية[218].(171/32)
وتشخيص الوفاة الدماغية (أو موت الدماغ) يجريه طبيبان على الأقل، من الأطباء المختصين الثقات[219]، أحدهما مختص في جراحة الأعصاب (أو طب الأمراض العصبية)[220]. ومن علامات الوفاة الدماغية: الغيبوبة الكاملة، انتهاء الحركة وانقطاع التنفس التلقائي، غياب الأفعال المنعكسة الدالة على نشاط الجهاز العصبي، عدم استجابة حدقتي العينين للضوء، عدم الاستجابة للمؤثرات المؤلمة، عدم استجابة عضلات الحنجرة لتحريك أنبوب بالقصبة الهوائية، وكذا عدم استجابة العينين لحقن الأذنين بماء بارد[221].
31 – هذا ويفرق الأطباء بين الوفاة الدماغية، وهي توقف جميع وظائف الدماغ مما يؤدي حتماً إلى توقف القلب والتنفس، عند عدم وجود أجهزة الإنعاش الصناعي وبسرعة؛ وبين السكتة الدماغية وهي خلل مفاجئ في تدفق الدم في جزء من الدماغ (بفعل انسداد أوعية دموية في الدماغ، أو جلطة دموية تصل إلى الدماغ، أو ضعف في جدران الأوعية الدموية نتيجة تسارع أو ارتفاع في ضغط الدم أو غيرها..) مما يساهم بدوره في موت خلايا الدماغ في المساحة المصابة من الدماغ، وبالتالي إحداث خلل أو إعاقة في مهام الجسد التي يقوم بها ذلك الجزء من الدماغ (مثل الحركة أو البلع أو الإدراك الحسي أو الذهني أو أي إحساس آخر..) وقد استطاع الطب الحديث علاج العديد من المصابين بالسكتة الدماغية وتأهيلهم[222].
32 – وعند ثبوت تشخيص موت جذغ الدماغ، يحرر الأطباء المختصون شهادة شرعية بوفاة ذلك الشخص شرعاً وقانوناً[223]. أما عن أجهزة الإنعاش الصناعي، فإنها توقف شرعاً[224]، إلا إذا كان المصاب أو ذووه، قد وافق أو وافقوا على التبرع بأعضائه أو أنسجته[225]. وفي هذه الحالة، يمكن شرعاً استخدام أجهزة الإنعاش الصناعي، بأن تستمر في عملها بعد إعلان الوفاة الشرعية، من أجل الحصول على أعضاء صالحة في حالة جيدة، لنقلها وزرعها بنجاح في جسم المستفيد الحي[226].(171/33)
إن الاحتفاظ بأعضاء ((الميت الدماغي)) وأنسجته حية بواسطة أجهزة الإحياء الصناعي لبضع ساعات، للمحافظة على حياة بعض خلايا جسمه في الأعضاء المهمة: كالقلب أو الكلية أو الكبد أو الرئتين أو البنكرياس أو العيون أو الجلد أو غيرها، ريثما يوافق ذووه على التبرع بأعضائه، لا يغير من حقيقة الوفاة الشرعية شيئاً[227]. فلا يعد استقطاع القلب منه قتلاً، إذا كان مستوفياً للشروط الشرعية[228]، وذلك لأن التروية بأجهزة الإنعاش الصناعي، ليست إلا إحدى الوسائل الطبية الحديثة التي تستخدم لحفظ الأعضاء في حالة أنها تصلح للاستخدام والمعالجة الطبية[229]. وشأنه في ذلك كمن يضع الأعضاء في ثلاجة ريثما يتم زراعتها، وإن كان المريض المصاب ميتاً بالفعل، أو في ((حكم الميت)) فهو لا يعي ولا يحس ولا يشعر، وذلك لتلف مصدر ذلك كله وهو جذع الدماغ[230].
33 – وقد أفتى مجمع الفقه الإسلامي في دورته الثالثة المنعقدة بعمان عام 1986م بجعل موت الدماغ موتاً، إذا تعطلت جميع وظائف الدماغ تعطلاً نهائياً، وحكم الأطباء الاختصاصيون الخبراء بأن هذا التعطل لا رجعة فيه، وأخذ الدماغ في التحلل. وفي هذه الحالة يجوز رفع أجهزة الإنعاش الصناعي المركبة على الشخص، وإن كان بعض الأعضاء كالقلب مثلاً لا يزال يعمل آلياً بفعل الأجهزة المركبة[231]. وهذا قرار صائب يقوم على إجماع طبي، وفقاً لما أقره الفقهاء من فتاوى وآراء فقهية اجتهادية في هذا الخصوص.
وقد وافقت على هذا، توصيات ندوة ((الحياة الإنسانية بدايتها ونهايتها))، المنعقدة في الكويت في يوم 24/1/1985م، والتي قررت بأنه تسري على ((الميت الدماغي)) بعض أحكام الموت، قياساً على ما ورد في الفقه من أحكام، كتلك الخاصة بالمصاب الذي وصل إلى ((حركة المذبوح))[232].(171/34)
كما وافق عليه كل من الدكتور أحمد شرف الدين[233]، والدكتور محمد علي البار[234]، والدكتور محمد أيمن صافي[235]، والدكتور أحمد شوقي أبو خطوة[236]، والدكتور بكر أبو زيد[237]، والدكتور فيصل شاهين[238]، والدكتور عبدالله باسلامة[239]، ورئيس لجنة الفتوى بالأزهر[240] والشيخ محمد المختار السلامي ( مفتي الجمهورية التونسية )[241]، والباحثة ندى الدقر[242]، وكذا الدكتور يوسف الدقر[243]. غير أن المجمع الفقهي لرابطة العالم الإسلامي لم يجعل موت الدماغ كافياً لتشخيص الوفاة الشرعية؛ بل لابد من توقف قلب الشخص ودورته الدموية لتسري عليه أحكام الموت[244]. وهو ما ذهبت إليه اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء لهيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية التي أفتت بأنه لا مانع شرعاً من رفع أجهزة الإنعاش عن المريض المحتضر الذي مات دماغه، إذا قرر طبيبان فأكثر أنه في حكم الموتى، ولكن يجب التأكد من موته بعد نزع الأجهزة بتوقف قلبه وتنفسه قبل إعلان الموت[245].
وقد خالف بعض الفقهاء ما ذهب إليه مجمع الفقه الإسلامي، ومنه الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي[246]، والدكتور توفيق الواعي[247]، والدكتور عقيل العقيلي[248]، والدكتور عبدالله الحديثي[249]، على أساس أن موت الدماغ هو نذير موت محقق بالمقاييس الطبية لا بالمقاييس الشرعية؛ لأن الموت شرعاً هو خروج الروح من الجسد ومفارقة الإنسان للحياة مفارقة تامة، ومن علاماته سكون النبض وتوقف حركة القلب وقوفاً تاماً. إن موت الدماغ، لا يعدو أن يكون أحد مظاهر الموت، ولكن ليس هو الموت يقيناً، فحياة الإنسان يقين، واليقين لا يزول بالظن، بل يزول بيقين مثله وفقاً لقاعدة استصحاب الأصل[250].(171/35)
34 – والحقيقة أن ما ذهب إليه مجمع الفقه الإسلامي هو المعتمد، وذلك انطلاقاً من أن العلامات الجسدية المؤكدة للموت التي ذكرها فقهاء الإسلام متوافرة في موت الدماغ إلا توقف القلب والنبضان، وهو شرط لم يتناوله أحد من الفقهاء القدامى[251]. مع العلم أن الوفاة الدماغية هي التلف الكامل والنهائي للدماغ والذي لا رجعة فيه[252]، مما يؤدي حتماً إلى موت الأعضاء الأخرى التي تموت بالتدريج، كتوقف القلب وموت خلايا الكبد والكلى والرئتين والبنكرياس، ثم تتبعها العضلات والعظام والجلد التي تبقى فيها حياة لعدة ساعات[253]. وهذا كما يحدث تماماً بالموت عند توقف القلب والتنفس، غير أنه في حالة موت الدماغ يبقى القلب في العمل آلياً (أي أوتوماتيكياً) بفعل أجهزة التنفس الصناعي خلال ساعات إلى أيام قليلة[254].
وعليه فإن موت الدماغ هو علامة شرعية على موت الشخص، إذ أنه في حال الوفاة الدماغية يكون مركز التنفس في جذع الدماغ قد توقف تماماً عن العمل توقفاً نهائياً لا رجعة فيه، وذلك لموت خلاياه، وبالتالي لن تكون هناك حركة للتنفس[255]. ومن ثم، فإن إعادته إلى جهاز التنفس الصناعي إنما هو فقط للمحافظة على دوران الدم داخل الأعضاء المراد الاستفادة منها لأغراض علمية أو علاجية، ريثما توافق أسرته على التبرع بجثته أو بأعضائه[256].
المبحث السابع
الحدود الشرعية والإنسانية والأخلاقية للإنعاش الصناعي(171/36)
35 – المقصود بالإنعاش هو المعالجة الطبية المركزة، أو العناية المكثفة التي يقوم بها الفريق الطبي المختص، للمريض الذي فقد وعيه، أو تعطلت عنده بعض الأعضاء الحيوية، كالقلب والرئة إلى أن تعود إلى وظيفتها الطبيعية. ومن أجهزة الإنعاش الصناعي (RSUSCITATION) نذكر ما يلي: جهاز المنغاس الذي يعوض عمل الرئة، وجهاز منظم ضربات القلب الذي ينظم الضربات القلبية بشكل منتظم، وجهاز مزيل رجفان القلب الذي يعيد القلب للعمل من جديد في حال التوقف، وأجهزة الكلية الصناعية التي تعوض عن وظيفة الكلى، إضافة إلى معالجة دوائية مختلفة لا يمكن إعطاؤها إلا تحت مراقبة فائقة[257].
إن الفترة الزمنية التي تستعمل خلالها أجهزة أو أدوات العناية الطبية المركزة (INTENSIVE CARE)، يكون المريض المصاب فيها بين الموت والحياة. فهي تساعد المرضى الذين تعدت حالتهم موت الدماغ، والذين كانت تنطبق عليهم علامات الموت المتعارف عليها، باستمرار التنفس وعمل القلب آلياً أو اصطناعياً، عن طريق وسائل ((الإحياء الصناعي))[258]. فالصحيح من الناحية الطبية والعملية، أن الإنسان الخاضع لأجهزة الإنعاش قد مات بفقدان جهازه العصبي لخواصه الوظيفية، وأن الذي يبقى على قيد الحياة لا يعدو أن يكون مجموعة من الأعضاء أو الأنسجة بفعل استمرار الدورة الدموية اصطناعياً[259].(171/37)
وذكر بعض الأطباء أنه من بداية الموت الإكلينيكي (أي توقف القلب والرئتين)، وقبل موت خلايا المخ، وهي فترة لا تستغرق أكثر من بضع دقائق؛ فإن المريض المحتضر في هذه المدة القصيرة يعد من الأحياء[260]. ومن ثم فإنه يتعين شرعاً إنقاذه وبسرعة حتى لا تموت خلايا مخه موتاً تاماً وكاملاً[261]. ولذلك فإن الغرض من استخدام أجهزة التنفس الصناعي الأوتوماتيكية، في هذه الحالة، هو إطالة حياة مريض، ولا يعد ذلك من قبيل إعادة الحياة إليه لأنه ما زال حياً في حكم الشرع والقانون، حتى ولو كانت بعض مقومات حياته قد توقفت عن العمل التلقائي[262].
وقد أخبر الله جل وعلا، بأن المجرم والأشقى في الحياة الآخرة، لا هو ميت فيستريح من العذاب، ولا هو حي حياة هنيئة[263]. وهذا لقوله سبحانه {الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12) ثُمَّ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَا}[264]. وقوله عز وجل {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَا}[265].
36 – وسنحاول البحث في الحدود الشرعية والإنسانية والأخلاقية للإنعاش الصناعي من خلال التعرض للمسائل المهمة التالية: –
أ – الإنعاش الصناعي بين الحظر والإباحة.
ب – حكم الإنعاش الصناعي.
جـ – الإنعاش الصناعي وجرائم الامتناع.
د – حكم إيقاف أجهزة الإنعاش الصناعي.
أ – الإنعاش الصناعي بين الخطر والإباحة:
37 – إن الإنعاش الصناعي، هو نموذج حي للأعمال الطبية المستحدثة، ولاسيما بعد تقدم العلوم البيولوجية وتطور التقنيات الطبية الحديثة، التي يمكن أن يتأرجح حكمها بين الإباحة والتحريم؛ وذلك حسب ما إذا كان الهدف منها حفظ حياة قائمة، أو إطالة موت ثابت عن طريق وضع الشخص الذي يحتضر في حالة ((إحياء صناعي)) بوسائل صناعية أوتوماتيكية[266].(171/38)
كما أن مشكلة استمرار الحياة أو إنهائها، للمرضى الميؤوس من شفائهم، أو موتى الدماغ وهم في غيبوبة مستمرة (أو حياة عضوية صناعية بفضل استخدام أجهزة الإنعاش)، وكذا إطالة حياة عضوية صناعية والحفاظ عليها بوسائل صناعية معقدة لفترة قد تستمر إلى أسابيع إذا لزم الأمر، هي مسائل شرعية، متفرعة عن موضوع أوسع، هو ضرورة حماية حقوق الإنسان أمام تطور علوم الطب والبيولوجية، وخاصة فيما يتعلق بهذه الوسائل الفنية الجديدة في مجال الجراحة والتجارب الطبية على الإنسان[267].
38 – إن الإنعاش الصناعي، وإن كان نوع من أنواع التداوي، الذي يقلب حكم التحريم إلى الوجوب حفاظاً على الحياة بوسائل صناعية، وهي ثاني المقاصد الضرورية الخمسة[268]. فإن الفقه الإسلامي يحمي المريض الخاضع لأجهزة الإنعاش الصناعي، أو وسائل العناية المركزة، بسياج من الحقوق والضمانات الشرعية، مما ينجم عن ذلك من إيقافها دون التأكد من موته موتاً حقيقياً، وكذا من تسرع بعض الأطباء والجراحين إلى الإعلان عن وفاته لاستعمال جثته أو أعضائه أو التجريب عليه، بما يتعارض مع أخلاقيات المهنة الطبية في الإسلام[269].
ب – حكم الإنعاش الصناعي:(171/39)
39 – اتفق الفقهاء على أنه إذا كان الغرض من الإنعاش الصناعي، هو إنقاذ الأرواح التي يتعرض أصحابها لأزمات وقتية، بإعادتهم إلى وعيهم بصفة كاملة، حتى لا تموت خلايا المخ، عن طريق تزويدها بالدم والأكسجين اللذين تتوقف عليهما حياتها، أي بمعنى ضمان استمرارها في أداء وظائفها الأساسية والحيوية، فإن هذا جائز شرعاً[270]. وذلك لأن استمرار حياة المريض في هذه الحالة، أي المرحلة بين الموت الإكلينيكي وموت خلايا المخ، والتي لا تستغرق سوى بضع دقائق طبية فقط، لا يعد من قبيل إعادة الحياة له، لأنه ما زال حياً في حكم الشرع[271]. فإن أجهزة الإنعاش تعيد للقلب والجهاز التنفسي نشاطهما، بحيث يؤدي ذلك، في بعض الأحيان، إلى استرداد المريض وعيه كاملاً وإعادة وظائفه الأساسية، فيصبح من الممكن للمريض أن يعود إلى التنفس الطبيعي ويخرج من المستشفى سليماً[272].
وعلى هذا الأساس، فإنه لا يجوز شرعاً للطبيب أن يفصل هذه الأجهزة قبل حدوث موت جذع الدماغ، وإلا تسبب في موت المريض موتاً حقيقياً لا رجعة فيه[273]. ويسأل الطبيب عن فعلته هذه مسئولية مدنية وجنائية، كما أنه يُسأل إذا امتنع عن تقديم المساعدة لهذا المريض الذي يعد حياً من الناحية الشرعية والطبية[274].
وفي هذا النطاق، يجوز أن يعد الإنسان ميتاً متى زالت مظاهر الحياة منه، وبدت هذه العلامات الجسدية واضحة[275]. غير أنه لا يوجد ما يمنع شرعاً من استعمال أدوات طبية للتحقق من موت الدماغ، كاستعمال رسم الدماغ لتشخيص موت الدماغ[276]. إن استمرار التنفس وعمل القلب والنبض، وكل أولئك دليل شرعي على الحياة في جسم الإنسان وإن دلت الأجهزة الطبية على فقدان الجهاز العصبي لخواصه الوظيفية[277].(171/40)
إن المريض الخاضع لأجهزة الإنعاش، هو مريض تعطلت عنده بعض الوظائف الأساسية الحيوية تعطلاً مؤقتاً، والإنعاش هو علاج مكثف أو رعاية طبية مركزة لإنقاذ حياته، وبالتالي فهو يأخذ حكم الوجوب بالنسبة للمريض[278]. فالإنعاش أشبه ما يكون بإنقاذ غريق، أو من وقع تحت الهدم، فهو واجب كفائي، إن قام به بعضهم سقط عن الباقي، وإن لم يقم به أحد أثم الجميع[279]. قال الإمام البغوي الشافعي: إذا علم الشفاء بالمداواة وجبت[280]. وقال الشيخ محمد المختار السلامي (مفتي الجمهورية التونسية): أما الإنعاش فيبدو لي أنه واجب، ذلك أنه لا تختلف حالة الإنعاش عن أي حالة من حالات الاضطرار التي تقلب حكم التحريم إلى الوجوب حفاظاً على الحياة[281].
40 – غير أن الإنعاش الصناعي بهدف إطالة الموت، واحتكار الميت الموجود في مرحلة تعدت موت خلايا المخ، لا لسبب إلا لتأجيل إعلان الموت، أو التجريب على حياة عضوية صناعية بفعل استخدام أجهزة الإنعاش، أو أنه لا أمل إطلاقاً في عودة المريض إلى الحياة الطبيعية، أو للمحافظة على القيمة الشرعية للعضو المراد استقطاعه، والمرضى في حاجة ماسة إلى الجهاز لإنقاذ حياتهم ولا تجده، هي أمور لا يقرها الشرع مطلقاً. وذلك لأن مراكز الرعاية الطبية المركزة بالمستشفيات هي لإنقاذ الأرواح، وليس لدفع الموت أو تأجيله[282].(171/41)
وفيما يتعلق باستعمال أدوات العناية المركزة وأجهزة الإنعاش الصناعي، فإنه لابد من اتباع سياسة عادلة وواضحة داخل المستشفيات، بما يتفق مع مبدأ المساواة بين حقوق الناس في الحياة، وفقاً لأحكام الشرع الإسلامي. فإذا توافرت هذه الوسائل الطبية في مستشفى، فإنه يجب أن تكون مفتوحة لكل مريض بغض النظر عن سنه ونوع مرضه. كما أنه يجب أن يُعطى كل مريض الحق في الإنعاش متى سكت قلبه، حتى ولو كان مرضه ميئوساً منه دون تفرقة بين مريض ومريض[283]. فمثلاً يحتجز شيخ جهاز الإنعاش لمدة أسابيع، وفي المستشفى لا يوجد غيره، فاحتاجه شاب، فلا يجوز شرعاً أخذه من الشيخ قبل موت خلايا مخه وإعطاؤه للشاب، هذا قتل عمد في الشريعة الإسلامية يستوجب القصاص[284]. ومن ثم، فإنه إذا تعدد المرضى الذين يحتاجون إلى تركيب أجهزة الإنعاش الصناعي عليهم، في حين أنه لا يوجد منه عدد كاف، فإنه يوكل اختيار المريض الذي ينقذ حياته إلى لجنة من الأطباء المختصين الثقات[285].
41 – وقد ذكر فضيلة الشيخ جاد الحق علي جاد الحق (شيخ الأزهر السابق رحمه الله تعالى) في الفتوى المشهورة التي أصدرها بتاريخ 5/12/1979م، بأنه يمنع شرعاً تعذيب المريض المحتضر باستعمال أية أدوات أو أدوية، متى بان للطبيب المختص أن هذا كله لا جدوى منه إطلاقاً، وأن الحياة في البدن ذاهبة لا محالة إلى الموت الكلي النهائي[286].(171/42)
وهو ما ذهبت إليه اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالمملكة العربية السعودية، من أنه إذا وصل المريض المحتضر إلى المستشفى وهو متوفى، فإنه لا حاجة لاستعمال جهاز الإنعاش الصناعي[287]. كما أنه إذا كانت حالة المريض غير صالحة تماماً للإنعاش الصناعي (كأن يكون في حالة خمول ذهني متقدم، أو مرض مستعص غير قابل للعلاج إطلاقاً وأن الموت محقق، أو مرض مزمن في مرحلة متقدمة أو تلف في الدماغ غير قابل للعلاج، أو تكرار توقف القلب والرئتين، أو أن الإنعاش غير مجد وغير ملائم للمريض في وضع معين... )، فإنه لا حاجة شرعاً في مثل هذه الحالات لاستعمال جهاز الإنعاش إذا قرر ثلاثة من الأطباء المختصين الثقات ذلك، ولا يُلتفت إلى رأي أولياء المريض في وضع أجهزة الإنعاش أو رفعها لكون ذلك ليس من اختصاصهم[288]. وهذا الاجتهاد صائب، لأنه إذا كان هذا النوع من العلاج غير مُجد، أو فيه تعذيب للمحتضر بإطالة الموت، أو أنه أصبح كفاحاً وعناداً علاجياً ضد قدرة الله عز وجل (الموت) الذي هو حق فرضه الله تعالى على كل حي، فلا حاجة لاستعمال أجهزة الإنعاش الصناعي لعدم الجدوى.(171/43)
42 – فإذا مات الإنسان موتاً حقيقياً، بموت جذغ دماغه، وتوقف المراكز العصبية عن القيام بوظائفها الأساسية والحيوية، فإن محاولة إعادة الحياة إليه عن طريق الإنعاش الصناعي، بكل إصرار وعناد وتعنت علاجي، هو أمر يخالف الحقائق العلمية الطبية التي تقرر عدم إمكانية إعادة خلايا المخ بعد موتها[289]. إن الدماغ إذا تلف كله، فإنه لا يمكن تعويضه أو تشغيله مرة أخرى ولا يمكن استبداله، وهذا التلف الكامل والنهائي للدماغ والذي لا رجعة فيه، هو الذي يسميه الأطباء ((بالوفاة الدماغية))[290]. كما يخالف أيضاً الحقيقة الشرعية التي تقضي بأن الإحياء والإماتة، إنما هي من الأفعال الغيبية التي اختص الله تعالى بها وحده، لا يشارك أحد فيها الله عز وجل[291]. وقد أحصى علماء التفسير ما يزيد عن أثنتي عشر آية في القرآن الكريم تفيد أن الحياة والموت بيد الله وحده[292]. فإذا قضى الله جل وعلا بموت إنسان، فليس في مقدور أحد من الأطباء (مهما كانت خبرته) أن يؤخر قضاءه[293]. وهذا لقوله تعالى {لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ}[294]. وقوله سبحانه {وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}[295]، وقوله عز وجل {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ}[296]. وقوله جل وعلا {هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}[297]. وقوله تعالى {وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ}[298]. وقوله سبحانه {وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ}[299]. وقوله عز وجل {إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ}[300]. وقوله جل وعلا {إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ}[301]. وقوله تعالى {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ}[302]. وقول سبحانه {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا}[303]. وقوله عز وجل {فَإِذَا(171/44)
جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ}[304]. وقوله تعالى {فَادْرَأُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}[305]. وقوله عز وجل {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً}[306]. أي الذي أوجد في الدنيا الحياة والموت، فأحيا من شاء وأمات من شاء، إنه على كل شيء قدير[307]. وقوله جل وعلا {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا}[308]. قال القرطبي في تفسيره: أي يقبضها عند فناء آجالها[309]. وقال الشوكاني في فتح القدير: أي يقبضها عند حضور آجالها ويخرجها من الأبدان[310].
43 – وعلى هذا فإنه يمنع شرعاً تعذيب المريض المحتضر، باستعمال أجهزة الإنعاش وأدوات الإحياء الصناعي، متى تيقن الطبيب المختص القائم بالعلاج أن حالة المحتضر ذاهبة لا محالة به إلى الموت. وذلك لأن الشرع لا يضع التزاماً على عاتق الطبيب بإطالة حياة عضوية صناعية لإنسان ثبت موته من الناحية الطبية (بموت خلايا مخه). إن الاستمرار في المحافظة على حياة عضوية بفعل استخدام أجهزة الإنعاش، مليئة بالعوارض، مجردة من كل فائدة ذاهبة لا محالة إلى الموت الخلوي، بوسائل صناعية ((أوتوماتيكية)) معقدة، هي فكرة لا تتفق مع الشرع والنظام والأخلاق، ولا تنسجم مع أخلاقيات وآداب المهنة الطبية[311]. إن إيقاف عمل أجهزة الإنعاش الصناعي في مثل هذه الحالة لاستغلالها في إنقاذ مرضى أحياء هو أمر يقره الشرع الذي يعطي الأولوية لمصالح الأحياء[312].(171/45)
ونلاحظ بأنه في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث العلاج باهظ التكاليف وعلى نفقة المريض، يؤخذ رأي المريض أو ذويه قبل اتخاذ القرار بوضعه تحت أجهزة العناية المركزة أو الإنعاش الصناعي، وقد بلغ حرص الناس المادي إلى درجة أن بعض الأمريكيين يوصون بألا يمنحوا العناية المركزة والإنعاش، إذا ما دعت الضرورة إذا كان ذلك لمجرد تعذيبهم، أو عناد علاجي لا فائدة فيه، أو لمجرد إطالة مدة بقائهم أحياء على حساب مواردهم المالية المحدودة[313].
جـ – الإنعاش الصناعي وجرائم الامتناع:
44 – من المعروف طبياً أنه لا يجوز لأي طبيب أن يمتنع عن علاج مريض، ما لم تكن حالته خارجة عن اختصاصه، أو قامت لديه أسباب واعتبارات تبرر هذا الإمتناع، ولكن يجب عليه أن يسعفه في الحالات الطارئة احتراماً للحياة الإنسانية في جميع الظروف[314].
والمشكلة التي تثور هنا، عندما يموت المريض موتاً دماغياً، بموت خلايا مخه، رغم تمتعه بحياة عضوية اصطناعية بفضل استخدام أجهزة الإنعاش الصناعي، فهل يجوز شرعاً وقانوناً الامتناع عن تقديم المساعدة لهذا المريض، وإيقاف هذه الأجهزة رأفةً بالمريض الميؤوس من شفائه ؟[315].
45 – إن أجهزة الإنعاش الصناعي تمثل وسيلة طبية علاجية من نوع خاص، فهي تهدف لاطالة حياة مريض ميؤوس من شفائه، لفترة قد تطول أو تقصر. ويفرق رجال القانون هنا، بين حالتين أساسيتين: حالة الامتناع، وحالة الإيقاف رأفةً.(171/46)
أما الحالة الأولى، فهي أن يمتنع الطبيب عن استخدام أجهزة الإنعاش الصناعي لمريض معرض لخطر الموت، وهنا يكون قد ارتكب جريمة الامتناع عن مساعدة شخص في خطر المعاقب عليها قانوناً. فإذا كان المريض هو الذي طلب ذلك، وامتنع الطبيب عن استخدام هذه الوسائل الطبية، نكون بصدد قتل بدافع الشفقة بطريق الامتناع السلبي[316]. وأما الحالة الثانية، أن يوقف الطبيب أو غيره أجهزة الإنعاش الصناعي رأفةً بالمريض مما يؤدي إلى وفاته، وذلك عن طريق نزعها بفعل إيجابي. فهنا ندخل في حالة القتل بدافع الرأفة الإيجابي[317]. وإيقاف عمل هذه الأجهزة بعد توقف القلب والجهاز التنفسي، مع استمرار خلايا المخ يعد إنهاء لحياة إنسان ما زال على قيد الحياة ما دامت خلايا مخه ما تزال حية[318]. أما إيقاف عمل هذه الأجهزة بعد موت خلايا المخ فلا يعد إنهاء لحياة إنسان، وذلك لأن الشخص بموت خلايا مخه يكون قد فارق الحياة فعلاً[319].
46 – وقد ذهب جمهور الفقهاء إلى أن المريض المشرف على الهلاك، يكون إنقاذه أمراً واجباً من الناحية الشرعية، فهو كالجائع في البيداء يتضور جوعاً، وأمامه شخص معه فضل زاد، فإن الأخير يعد آثماً إذا تركه حتى مات جوعاً[320]. لقوله صلى الله عليه وسلم((أيما أهل عرصة أصبح فيه امرؤ جائع فقد برئت منهم ذمة الله))[321].
وقوله عليه الصلاة والسلام ((ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: رجل على فضل ماء بالفلاة يمنعه من ابن السبيل، ورجل بايع رجلاً بسلعة بعد العصر فحلف له لأخذها بكذا وكذا فصدقه وهو على غير ذلك، ورجل بايع إماماً لا يبايعه منها إلا الدنيا، فإن أعطاه منها وفّى، وإن لم يعطه منها لم يف))[322].(171/47)
وقال بعض الفقهاء أن الامتناع السلبي، والذي فيه يتوقف الطبيب عند إعطاء العلاج للمريض، لا يدخل في مسمى ((قتل الرحمة)) لعدم وجود فعل إيجابي من قبل الطبيب إنما هو ترك لأمر ليس بواجب ولا مندوب، فهو جائز ومشروع إن لم يكن مطلوباً، وللطبيب أن يمارسه طلباً لراحة المريض وراحة أهله[323]. خاصة، وأن بعض الصحابة والتابعين لم يكونوا يتداوون، بل فيهم من اختار المرض والصبر، كأبيّ بن كعب، وأبي ذر، رضي الله عنهما، ومع هذا فلم ينكر عليهم التداوي[324]. وهذا لحديث ابن عباس في الصحيح عن الجارية التي كانت تصرع (أي يصيبها الصرع)، وسألت النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو لها، فقال: ((إن أحببت أن تصبري ولك الجنة، وإن أحببت دعوت الله أن يُشفيك))، فقالت: بل أصبر، ولكن أتكشف، فادع الله لي ألا أتكشف، فدعا لها ألا تتكشف[325].
د – حكم إيقاف أجهزة الإنعاش الصناعي:
47 – إن حماية المصالح الشرعية المترتبة على إيقاف أجهزة الإنعاش الصناعي، يجب أن لا ينسينا وجود حياة إنسانية أخرى، يجب أن تحظى هي الأخرى، بالرعاية الصحية والاهتمام لحين إثبات وفاتها بصفة شرعية وقانونية[326]. وعليه فإنه عند تزاحم المرضى على أجهزة العناية المركزة، بأن تكون الأجهزة لا تكفي لإنقاذ الجميع، فإنه على الطبيب المختص، بحكم التجربة والممارسة وقواعد المهنة الطبية إيثار بعضهم بذلك، إذا غلب على ظنه انتفاع ذلك المريض به، وإلا تجري القرعة بينهم في ذلك[327].(171/48)
وقد عد الفقهاء القرعة أصلاً تبنى عليه الأحكام الشرعية لإزاحة تهمة الميل، وتطييب القلوب، وأقرها جمهور الفقهاء في الجملة، وأنكرها بعض الحنفية والمالكية[328]. ومن ثم أقر الفقهاء القرعة بين النساء عند السفر لدفع شبهة الميل[329]. وكذا جواز إلقاء أحد الركاب من سفينة في البحر خشي عليها العطب بقرعة لينجو الباقون دفعاً لهلاك الجميع[330]. والقرعة جائزة شرعاً، لقوله تعالى {إِذْ يُلْقُونَ أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ}[331]. وقوله سبحانه {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ}[332]. وهي من أمر النبوة، فقد أقرها النبي صلى الله عليه وسلم في خمس سنن أو في خمسة مواضع[333].
وبالإضافة إلى هذا، فإن المريض المحتضر الذي فقد بعض مقومات حياته الأساسية والحيوية، وتأكد الأطباء من حقيقة موت خلايا مخه، وأصبح مجرد حياة عضوية صناعية آلية وأوتوماتيكية، ما كان ليريد أن يكون طريقه إلى الموت مضطرباً ومليئاً بالعقبات والشدائد. ولذا فمن حق أسرته، من وجهة النظر الإنسانية والشرعية والأخلاقية أن تطلب إلى الطبيب المختص إيقاف أجهزة الإنعاش الصناعي[334]. ويكون إيقاف هذه الأجهزة بقرار جماعي، يتخذه الفريق الطبي المختص (طبيبان فأكثر)، بعد التأكد التام من موت جذع المخ حسب المقاييس العلمية الطبية، والتيقن من عدم امكان عودة الشخص إلى الحالة الطبيعية[335]. ولكن يجب أن ينتظر الأطباء بعد نزع الأجهزة مدة مناسبة للتأكد من توقف قلبه وجهازه التنفسي قبل إعلان الموت[336].(171/49)
48 – إن إيقاف أجهزة الإنعاش الصناعي يُعد قتلاً عمداً في الشريعة الإسلامية، إذا تم قبل موت الجهاز العصبي للمريض موتاً كاملاً ونهائياً؛ وإنه على العكس لا يُعد قتلاً شرعاً إذا كان تركيب الأجهزة قد تم بعد موت خلايا مخه، فحياته هنا كانت غير متحققة[337]. وذلك لأن جذع الدماغ هو المتحكم في جهازي القلب والتنفس، فإن توقف جذع الدماغ، يؤدي لا محالة إلى توقف الدورة الدموية والتنفس ولو بعد حين[338].
وعلى هذا الأساس، قرر مجمع الفقه الإسلامي، بأنه يجوز رفع أجهزة الإنعاش الصناعي المركبة على الشخص إذا تعطلت جميع وظائف دماغه تعطلاً نهائياً لا رجعة فيه، وأخذ دماغه في التحلل وإن كان بعض الأعضاء لا يزال يعمل آلياً بفعل الأجهزة[339]. وجاء في توصيات ندوة الحياة الإنسانية بدايتها ونهايتها، التي انعقدت في الكويت في شهر ربيع الآخر 1405هـ (يناير 1985م)، على أنه إذا تحقق موت جذع الدماغ بتقرير لجنة طبية مختصة جاز حينئذ إيقاف أجهزة الإنعاش الصناعي[340]. كما أجاز المجمع الفقهي لرابطة العالم الإسلامي في دورته العاشرة المنعقدة في مكة المكرمة سنة 1408هـ، رفع أجهزة الإنعاش عند تشخيص موت الدماغ، إلا أنه لابد من توقف قلب الشخص ودورته الدموية لتسري عليه أحكام الميت[341].
وهو ما ذهبت إليه اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالمملكة العربية السعودية، والتي قررت أنه لا مانع يمنع شرعاً من نزع أجهزة الإنعاش الصناعي عن المريض المحتضر الذي مات دماغه، إذا قرر طبيبان فأكثر أنه في حكم الموتى، ولكنه يجب أن ينتظر بعد نزع الأجهزة مدة مناسبة حتى تتحقق وفاته[342]. وذلك لأن حركة القلب والتنفس، إنما هي تشتغل بالأجهزة ((أوتوماتيكياً)) (أي بمعنى آلياً واصطناعياً)، وأنه لا حياة للشخص الموجود في غيبوبة مستمرة، فإنه يجوز إيقاف هذه الأجهزة، ولكن يجب التأكد من موته بعد رفع الأجهزة بتوقف قلبه وتنفسه قبل إعلان الموت[343].(171/50)
49 – وعليه فإنه يجوز شرعاً إيقاف أجهزة الإنعاش الصناعي، التي تبقي المريض المحتضر في حياة ظاهرية فقط، أي في حياة عضوية صناعية، إذا قرر ثلاثة من الأطباء المختصين الثقات تلف جذع دماغه تلفاً حقيقياً لا رجعة فيه. وذلك لأن هذا المريض هو ميت فعلاً، أو في حكم الميت لتلف جذع الدماغ، الذي به يحيا الإنسان ويعي ويحس ويشعر. إن بقاء المريض المحتضر على هذه الحالة يتكلف نفقات كثيرة دون طائل، ويحجز أجهزة طبية معقدة يحتاج إليها غيره ممن يجدي معه العلاج، وهو وإن كان لا يحس فإن أهله وذويه يظلون في قلق وألم ما دام على هذه الحالة التي قد تطول إلى عشر سنوات أو أكثر[344].
ومن هذا المنطلق، صرح الداعية فضيلة الشيخ يوسف القرضاوي بتاريخ 28/11/1991م، أمام حوالي 800 طبيب عربي وأجنبي اجتمعوا بالدوحة بقطر، أنه يجوز رفع أجهزة الإنعاش الصناعي من المريض في غيبوبة مستمرة، شريطة أن يكون في حالة متقدمة وأن الموت محقق، بعد معرفة التشخيص الطبي والتأكد من توقف دماغه من كل نشاط[345].
50 – إن حماية حق الإنسان في الحياة، وفي الوقت نفسه رعاية حقوق الآخرين بمن فيهم أسرة المريض والمجتمع، وأيضاً درء المسئولية عن الطبيب (وما يمليه عليه واجبه الإنساني في إنقاذ المرضى وإسعافهم)، وكذا أخلاقيات الشرع والمهنة الطبية التي ترفض بقاء هذه الأجهزة لمجرد إطالة الموت (أو لتأجيل إعلان الموت) وتعذيب المحتضر في وضع معين غير قابل للعلاج، هي أمور تقتضي وضع ضوابط شرعية للرعاية المركزة بالمستشفيات، لتغليب مصلحة الأحياء، ودون إهدار لحقوق المريض الخاضع لأجهزة الإنعاش الصناعي. فلا يجب ترك القول الفصل فيها للأطباء وحدهم، لأنها مسائل فقهية وليست طبية، كما أن هناك حدود شرعية يجب ألا تتعداها الاكتشافات الحديثة في العلوم الطبية والبيولوجية.
المبحث الثامن
حكم من يتعدى على من كان في النزع(171/51)
51 – لا يجوز شرعاً التعدي على المريض المحتضر الذي ظهرت عليه علامات الموت المتعارف عليها، وهو المريض الذي لا ترجى حياته، بأن كان في حالة الاحتضار أو النزع الأخير.
والنزع هو مؤلم نزل بنفس الروح، فاستغرق جميع أجزائه، حتى لم يبق جزء من أجزاء الروح المنتشرة في أعماق البدن إلا قد حل به الألم[346]. وهو ما يسمى بسكرات الموت (ق13)، أو غمرات الموت (الأنعام/ 93)، أو غشوة الموت (الأحزاب/ 19، ومحمد/ 20)، أو التراقي (القيامة/ 26 – 30).
وقال الفقهاء بأنه من تعدى عليه، فأنهى حياته، وجب عليه القصاص لأنه أنهى حياة مستقرة بإزهاق روحه[347]. وذلك لأن المريض المحتضر الذي يعاني من سكرات الموت، لا يُعد شرعاً في صنف الأموات مهما اشتدت عليه، بل هو حي في حكم الشرع والنظام، ويعامل معاملة الأحياء، حتى لو لم يبق بينه وبين خروج الروح إلا نفس واحدة[348]. فمن اعتدى على شخص في مثل هذه الحالة، فإنه يكون قد اعتدى على حي، له من الحرمة ما للأحياء، حتى ولو كانت بعض مقومات حياته قد توقفت عن العمل الطبيعي التلقائي[349]. فإذا كان التعدي على عضو من أعضائه (كالقلب أو الكبد أو الكلية أو الرئة أو العين أو غيرها...) ففيه القصاص إذا كان ذلك على سبيل العمد، أو الدية إذا كان لا يمكن القصاص، والدية والكفارة الضمان إذا كان ذلك على سبيل الخطأ[350].
52 – فلا يجوز شرعاً للطبيب المختص أن يوقف أجهزة الإنعاش الصناعي قبل موت الجهاز العصبي للمريض المحتضر، أي قبل موت جذع دماغه[351]. وإلا تسبب في موت المريض موتاً حقيقياً لا رجعة فيه[352]. ولا يشفع للطبيب في فعلته هذه وجود أناس آخرين، في حالة المريض نفسها، في حاجة إلى أجهزة الإنعاش، لأن مبدأ التساوي بين الناس معصومي الدم، يمنع التضحية بحياة إنسان لإنقاذ حياة أخرى[353].(171/52)
وقال ابن حزم الظاهري، في كتابه ((المحلى)): فمن قربت نفسه من الزهوق، وكان بينه وبين الموت نَفَس واحد فمات له ميت يرثه، وقاتله قاتل نفس[354]. وذكر الشربيني الخطيب الشافعي، في كتابه ((مغني المحتاج)): قال الإمام: ولو انتهى المريض إلى سكرات الموت، وبدت مخايله، فلا يحكم له بالموت[355]. وذكر العلامة ابن عابدين الحنفي، في كتابه ((رد المحتار)): ولو قتله وهو في النزع قتل به إن كان يعلم القاتل أنه لا يعيش بهذا النزع، لأن النزع غير محقق وفاة صاحبه، فإن المريض قد يصل إلى حالة شبه النزع، بل إنه قد يظن أنه مات، ويفعل به كالموتى، ثم يعيش به طويلاً[356].
53 – ومن ثم، فإنه من قربت نفسه من ((الزهوق)) (أو النزع الأخير)، له من الحرمة ما للأحياء من الناحية الشرعية والقانونية: ومن تسبب في إزهاق روحه عمداً وجب عليه القصاص عند المالكية والشافعية والحنابلة، سواء كان القتل بالمباشرة أو بالتسبب[357]. وعليه فإن استقطاع الأعضاء من المريض في حالة موت الدماغ، قبل التأكد من موت خلايا مخه، هو قتل يستوجب القصاص[358]. كما أن الفصاد إذا فصد إنساناً وتركه ينزف حتى مات، وجب عليه القصاص إن قصد الموت[359].
إن الشريعة الإسلامية تحمي المريض المحتضر، مهما اشتدت عليه الكرب والشدائد، من كل تعذيب، وكل تقصير أو تعد في حقه، وبأي حال من الأحوال. فلا يجوز للأطباء التسرع في اقتطاع أحد أعضائه بهدف علمي أو علاجي، إلا بعد الإثبات الطبي والشرعي للوفاة الشرعية، وأن يُعبر في أثناء حياته عن قبوله ذلك صراحة ودون تردد، أو موافقة أسرته بعد وفاته. هذه هي الضوابط والضمانات الشرعية التي وضعها الفقه الإسلامي[360].
المبحث التاسع
تحديد وقت الموت وأهميته الشرعية والنظامية(171/53)
54 – إن لحظة تحديد الوفاة تعني شرعاً ونظاماً ميلاد جثة هذا المتوفى، وهي مسألة متروك تقديرها لذوي الاختصاص وهم الأطباء[361]. والمقصود بالجثة هاهنا، جثة شخص ميت، ثبت بناء على الخبرة الطبية توقف جميع مظاهر الحياة في جسمه، وتختص بالتحقق من ذلك لجنة طبية مختصة لا يكون بين أعضائها الطبيب أو الأطباء الذي يعهد إليهم إرجاء عملية النقل[362].
وقد ذكرنا سابقاً، بأنه عند ثبوت تشخيص موت جذع الدماغ، يحرر الأطباء المختصون شهادة شرعية بوفاة ذلك الشخص، أي موته موتاً حقيقياً لا رجعة فيه. وأحكام الشرع الإسلامي توجب تكريم جثة المتوفى، وعدم التعريض بها أو إهانتها، وحق الأولياء في حمايتها والدفاع عنها[363].
وقد اتفق الفقهاء على أن الإنسان الذي يصل إلى مرحلة مستيقنة، هي ((موت جذع الدماغ))، يكون قد استدبر الحياة، وأصبح صالحاً لأن تجري عليه بعض أحكام الموت قياساً (مع فارق معروف) على ما ورد في الفقه خاصة بالمصاب الذي وصل إلى حركة ((المذبوح)). أما تطبيق بقية أحكام الموت عليه، فقد اتجه الفقهاء إلى تأجيله حتى تتوقف الأجهزة الرئيسية الأخرى كالقلب والتنفس[364].
كما أن المجمع الفقهي لرابطة العالم الإسلامي، لم يجعل حدوث موت الدماغ كافياً لتشخيص الوفاة الشرعية، بل لابد من توقف قلب الشخص ودورته الدموية لتسري عليه أحكام الميت[365].
55 – ومن المؤكد من الناحية الشرعية والنظامية، أن تحديد وقت الموت له أهمية بالغة لكثير من المسائل: كالعقود، والمسئولية، وحقوق الملكية، وقوانين الضرائب، وتنفيذ التصرفات المضافة إلى ما بعد الموت، وغيرها.(171/54)
ومن أهم الآثار الشرعية للموت في مجال الحقوق والديون: سقوط العبادات[366]. (كالصلاة والصيام والزكاة والإحرام بالحج والعمرة...)، وزوال أهلية الوجوب وانتهاء الشخصية القانونية والشرعية[367]. وزوال التكاليف الشرعية[368]. (كسقوط النفقات التي تجب عليه حال حياته، ونهاية الوكالة، وانفساخ بعض العقود التي أبرمها الميت كالوكالة والقراض ونحوهما، ونهاية سريان الأحكام الصادرة عليه قبل موته...)، وسقوط المسؤولية الجنائية بالموت[369]، وسقوط الحدود الشرعية بموت المعتدى عليه كالمقذوف[370]. ولا تفسخ بالموت عقود المعاوضات والمنافع المرتبطة بأجل (كالإجارات ونحوها)[371].
وبالموت يتم ارتفاع النكاح وبدء العدة على الزوجة من لحظة وفاة زوجها حقيقة أو حكماً، وهي عدة الوفاة، أي أربعة أشهر وعشرة أيام (سورة البقرة، الآية 233)[372]، وعدم الوجوب حد الزنا بوطء الميتة[373]. وإباحة خروج المعتكف لاتباع الجنازة[374]، فإذا كان موته بسبب جناية وجب شرعاً القصاص أو الدية حسب نوعية الجناية، وتحديد القاتل عند اشتراك الجناة على التتابع[375].
كما أنه بالوفاة تنتقل ملكية أموال وحقوق الميت إلى ورثته الشرعيين، لقوله عليه الصلاة والسلام: ((من ترك مالاً فهو لورثته))[376]. إن موت المورث هو شرط شرعي لتوزيع أمواله، وتنفيذ وصاياه الصحيحة والنافذة إذ إنه في هذا الوقت يتحدد عدد الورثة وصفاتهم وصلاتهم بالميت[377]. وبالوفاة أيضاً، تصبح جميع الديون، مطلقة كانت أم مؤجلة، مستحقة الأداء من التركة، لأنه لا تركة إلا بعد سداد الديون ورد الأمانات إلى أهلها[378]. لقوله تعالى {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ}[379]. وقوله عليه الصلاة والسلام: ((نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه))[380]. وقوله أيضاً: ((من حمل من أمتي ديناً، ثم جَهَدَ في قضائه فمات ولم يقضه فأنا وليه))[381].(171/55)
56 – وترجع أهمية معرفة مكان موت المتوفى، في تحديد المحكمة الشرعية المختصة إقليمياً في الفصل في المنازعات والخصومات المتعلقة بتصفية التركة، وجميع مشاكل القسمة الشرعية؛ كما أن تركة الميت وأمواله تخضع للنظام والقواعد الساري بها العمل لحظة الوفاة.
ومن أهم الآثار الشرعية المترتبة على لحظة الوفاة فوراً، هي الأحكام المتعلقة بذات الميت بعد موته: هي حرمة التعدي عليه، ومشروعية توجيهه إلى القبلة، وعدم تركه وحده قبل دفنه. وكرامة الميت إذا تيقن موته تعجيله، بمعنى المسارعة في تجهيزه بغسله وتكفينه والصلاة عليه استعداداً لدفنه، لأنه أصوب له وأحفظ من أن يتغير وتصعب معالجته. ويستحب على الحاضرين تلقين المحتضر وأمره بالشهادة؛ فإذا مات يستحب غمض عينيه، والدعاء له وتغطيته، والتعجيل بتجهيزه ودفنه، وسؤال التثبيت له بعد دفنه، وتعزية أهل الميت، كما أنه يستحب لأوليائه المبادرة لقضاء دينه من التركة[382].
هذا، وبعد غسل الميت وتكفينه[383]. تجب الصلاة عليه وجوباً كفائياً، سواء أكان تقياً حتى الشهيد، أم شقياً حتى المنتحر، ذكراً كان أم أنثى، عاقلاً أم مجنوناً، كبيراً أم صغيراً، وهي عبادة لا تصح بدون نية القربة[384].
57 – والجدير بالذكر هنا، أنه يترتب شرعاً على موت الحيوان نجاسته بالموت، بما في ذلك شعره وصوفه وعظامه، ويُستثنى من ذلك مالا دم له سائلة فإنه لا ينجس بالموت. لقوله صلى الله عليه وسلم: ((أحلت لنا ميتتان ودمان: السمك والجراد، والكبد والطحال))[385]. وما نجس من الحيوان بالموت، فقد حرم الشرع بيعه وحرم أكله، لقوله عليه الصلاة والسلام: ((إن الله إذا حرم شيئاً حرم ثمنه))[386]. ولا يحل أكل الميتة شرعاً إلا للمضطر، لقوله عز وجل {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[387].
المبحث العاشر
حكم ما يسمى موت الرحمة في الشريعة الإسلامية(171/56)
58 – المقصود بموت الرحمة (EUTHANASIE)، هو الموت السهل أو الرحيم، أو الموت الهادئ بدون ألم[388]. أو بمعنى آخر هو تيسير موت الشخص الميئوس من شفائه، وهو في انتظار موته المحقق لا يتحمل الألم، فيلح على الطبيب المعالج إنهاء حياته بطريقة خالية من الألم[389].
ويعرف موت الرحمة من الناحية القانونية، تحت اصطلاح ((قتل الرحمة))، وهو فعل أو ممارسة ما يسهل موت الأشخاص الذين يعانون من أمراض مستعصية من شفائها[390].. فهو ((القتل بدافع الشفقة أو الرحمة))، لتخليص مريض لا يرجى شفاؤه من آلامه المبرحة التي لا تطاق[391].
59 – وسنتكلم عن موت الرحمة بشيء من التفصيل على النحو الآتي:
أ – لمحة تاريخية عن فكرة ((قتل الرحمة)).
ب – موت الرحمة في القوانين الوضعية المقارنة.
جـ – موت الرحمة من منظور إسلامي.
د – البلاء وما للإنسان فيه في الفقه الإسلامي.
أ – لمحة تاريخية عن فكرة ((قتل الرحمة)):
60 – من الثابت تاريخياً، أن فكرة قتل الرحمة أو القتل بدافع الشفقة، تعود إلى فلاسفة اليونان القدماء كأفلاطون وسقراط وغيرهم، ونقله عنهم الإنجليز والألمان والفرنسيون ثم الأمريكيون[392]. وهو ما ذهب إليه سقراط وأتباعه الذين سموه ((بالتدبير الذاتي للموت بشرف))، وقد لجأ سقراط إلى تناول السم ومات في أثناء محاكمته، ولم يوافق على تهريبه من السجن الذي رتبه تلاميذه. غير أنه في العصور الوسطى، أدى تطور القانون الكنسي (اليهودي المسيحي) إلى عد الانتحار انتهاكاً للقانون الطبيعي[393].(171/57)
وينسب اصطلاح القتل بدافع الشفقة إلى الفيلسوف الإنجليزي ((روجيه باكون)) (ROGERBACON )، وهو قس امتدت حياته ما بين عامي 1214 – 1294م في القرن الثالث عشر، وكان يرى أنه ((على الأطباء أن يعملوا على إعادة الصحة إلى المرضى وتخفيف آلامهم، ولكن إذا وجدوا أن شفاءهم لا أمل فيه، يجب عليهم أن يهيئوا موتاً هادئاً وسهلاً))[394]. وذكر أفلاطون قبله، في كتابه ((الجمهورية)) أنه يجب تقديم كل عناية للمواطنين الأصحاء جسماً وعقلاً، أما الذين تنقصهم سلامة الأجسام فيجب أن يتركوا للموت[395].
وكان المفكر الإنجليزي ((توماس مور)) (THOMAS MOORE) في كتابه ((الوهم)) (UTOPIE) يرى أنه يجب على رجال الدين والقضاة حث التعساء على الموت[396]. وفي أوائل هذا القرن، قامت في ألمانيا على وجه الخصوص حركة تنادي بإباحة قتل الرحمة. وهو ما أقره الأمر الصادر من هتلر عام 1939م، الذي أباح قتل المرضى العقليين، والأشخاص المعتوهين، وكذا الشيوخ الذين أصيبوا بالخرف[397].
61 – وأول قضية في قتل الرحمة عرضت على القضاء الأمريكي، كانت سنة 1823م، وكان الجاني أباً أغرق أطفاله الثلاثة ليذهبوا حسب اعتقاده إلى الجنة مباشرة. وفي عام 1912م قتل أحد وكلاء النيابة العامة في فرنسا زوجته المصابة بشلل نصفي، ناشئ عن إصابة في الرأس، لتخليصها من آلامها المبرحة التي لا تطاق وفي سنة 1917م برئ طبيب أمريكي، من تهمة فشله في إنقاذ حياة طفل مشوه. وفي سنة 1920م قام زوج أمريكي بقتل زوجته بالسم بناء على طلبها، وكانت مريضة بمرض مستعص غير قابل للشفاء. وفي سنة 1925م، قتلت فتاة فرنسية خطيبها، الذي كان مصاباً بالسرطان، فقامت بحقنه بكمية كبيرة من المورفين ثم قتلته بمسدسها[398].(171/58)
وقد أباح بعض الأساقفة في أمريكا، قتل الرحمة في حدود معقوله ومقبولة، وعلى سبيل المثال رئيس أساقفة ((كنتربر))، في أثناء مناقشة جرت عام 1936م، حيث صرح: "لا يعقل أن يعاقب طبيب في هذه الحال، كقاتل، بل لا يجوز اتهامه أصلاً"[399]..
وفي سنة 1973م نشر طبيبان أمريكيان مقالاً، ذكرا فيه أن 43 طفلاً ماتوا في مؤسسة متخصصة بالعناية بالأطفال المولودين حديثاً، بموجب قرار اتخذه الجهاز الطبي المعالج، والآباء بعدم بذل أي عناية لهؤلاء الأطفال[400].
وحديثاً برأ القضاء الأمريكي أطباء مارسوا قتل الرحمة، بدافع الشفقة لتخليص مرضاهم من آلامهم المبرحة الناتجة من أمراض مستعصية مزمنة لا يرجى شفاؤهم، كممارسة نهائية للتعنت العلاجي الذي لا جدوى منه: ففي سنة 1950م، برئ طبيب أمريكي كان قد حقن مريضاً بالسرطان على شفا الموت بكمية من الهواء قضت عليه. وفي عام 1974م، في جنوب إفريقيا، برئ طبيب كان قد حقن مريضاً لا يرجى شفاؤه بحقنة مميتة[401].
62 – وفي سنة 1966م، وضعت إحدى المحاكم الأمريكية مبدأ قانونياً فاصلاً، مفاده أن طبيباً حسن النية، يمكن أن يكون مسئولاً جنائياً، بوصفه قاتلاً عند ممارسته لقتل الرحمة، وذلك لأن التعجيل بموت المريض تخليصاً له من آلامه يُعد فعلاً معاقباً عليه قانوناً. غير أن القوانين الأمريكية، ما زالت إلى الآن لا تحرم الانتحار، فقد أعطى القانون الأمريكي في ولاية كاليفورنيا عام 1977م، الحق لكل شخص أن يحدد موعد موته بأن يكون سهلاً وبلا معاناة[402]. كما أنه في سنة 1969م، أجري استبيان بواسطة نقاية الأطباء الأمريكيين، ظهر منه أن 80 في المائة يمارسون قتل الرحمة لوضع حد لحياة مريض لا يرجى شفاؤه لتخليصه من آلامه المبرحة[403].(171/59)
وفي بريطانيا هي الأخرى، نشر جراح عصبي إنجليزي مقالاً، ذكر فيه أنه كلف بمعالجة 37 طفلاً، مصابين بورم خلقي، ولكنه قرر عدم معالجة 25 منهم، فماتوا قبل الشهر التاسع من أعمارهم[404]. كما أنه أصبح المنتحر في بريطانيا، منذ عام 1961م، معفياً من أي إجراء عقابي، وبرزت في سنة 1970م حركة تنادي بالسماح بقتل الرحمة، وتأسست في سنة 1982م جمعية بريطانية لتيسير الموت وتسهيله (EXIT)، وتقديم المساعدات المادية والنفسية لمن يريد تيسير الموت[405].
وأخيراً في فرنسا، أوضح استبيان للرأي العام الفرنسي في شهر نوفمبر 1987م أن 85% من الفرنسيين يؤيدون القتل بدافع الشفقة، على أن يصبح طلب المريض في إنهاء حياته هو حق شرعي وفقاً لمبدأ الحرية في الموت. كما قرر 76% من الفرنسيين رغبتهم في تعديل القانون الجنائي الفرنسي لإباحة قتل الرحمة[406].
ب – موت الرحمة في القوانين الوضعية المقارنة:
63 – نص القانون الهولندي الصادر يوم 2/12/1993م على الإجراءات الشرعية لإعلان إنهاء حياة المريض طبياً، بناء على طلبه، والتي يطلق عليها القتل بدافع الشفقة (EUTHANASIE)[407]. وكان القانون الأمريكي، قد سبق ونص صراحة في المادة الأولى من قانون ولاية كاليفورنيا المؤرخ في 30/9/1976م على أنه: من حق المريض الامتناع عن العلاج، وحقه في رفض استخدام أي وسيلة طبية أو جراحية من شأنها إطالة حياته اصطناعياً[408].
كما اتخذت التشريعات الجنائية الغربية (كالروسي والسويسري والبرازيلي...)، موقفاً وسطاً، لتقرير المسئولية المخففة، بجعل باعث ((الشفقة)) مؤدياً إلى تخفيف العقوبة[409].(171/60)
ويناقش رجال القانون في أمريكا، فكرة قتل الرحمة، أو القتل بدافع الشفقة، في إطار حق المريض في رفض العلاج، وحقه في الاحتفاظ بأسراره الخاصة، بل حقه في الموت الرحيم الهادئ، على أساس وجود حق دستوري في الموت. وفي ظل أحكام المحاكم الأمريكية المتضاربة، وسكوت القوانين وعدم كفايتها لإزالة الغموض والإبهام، قررت المحكمة العليا الأمريكية، بأنه ((لا وجود قانوناً لحق دستوري في الموت)). ورغم هذا، فإن الموضوع لا يزال محل نقاش وخلاف في المجتمعات الغربية، وخاصة المجتمع الأمريكي[410]. والحقيقة أن طبيعة شعوب الغرب، من حيث ضعف الوازع الديني، والنظرة إلى الحياة نظرة مادية، والإسراف في الحريات، هي التي تجعلها تؤيد وتمارس الحرية في الموت، أو الحق في الموت السهل الهادئ[411].
والجدير بالذكر هنا، أن موقف القضاء الفرنسي، مستقر منذ حكم محكمة النقض الفرنسية في سنة 1816م، بوصف قتل الرحمة (أو القتل إشفاقاً) جريمة قتل عمد تتوافر فيه جميع أركان الجريمة، ومن ثم عد التفرقة بين قتل الرحمة والقتل العادي[412]. وهو ما أكدته محكمة النقض الفرنسية، في حكمها المشهور الصادر عام 1950م، في قضية طفل ولد لستة أشهر من الحمل، وقالت أمه إنها لا تريده، فتركه الطبيب يموت. فقررت محكمة النقض: ((أن هذا الطبيب مسئول جزائياً، لأنه لم يمد يد العون لطفل في حالة خطر، له حظ معقول في الحياة))[413].(171/61)
64 – إن القوانين الجنائية في البلاد العربية، وإن كانت لا تضع التزاماً على عاتق الطبيب بإطالة الحياة الصناعية لإنسان ثبت موته بطريق شرعي، فهي لا تفرق بين قتل الرحمة والقتل العادي[414]. ومن ثم، فإن قتل الرحمة هو قتل عمد، بصرف النظر عن الدوافع أو البواعث (نبيلة كانت أو دنيئة)[415]. كما أن إيقاف أجهزة الإنعاش الصناعي إشفاقاً، وقبل موت خلايا المخ، فإنه قتل عمد معاقب عليه في القوانين الطبية العربية[416]. وإن كانت بعض القوانين الجنائية العربية تنص على الظروف المخففة، التي يطبقها القاضي في بعض حالات قتل الرحمة، فتخفف العقوبة إلى ما هو أقل من العقوبة المقررة للقتل العمد. وقد أخذت قوانين العقوبات في سوريا (م538)، ولبنان (م552)، ومصر (م17)، والسودان (م249) بفكرة تخفيف العقوبة في حالة القتل بناء على رضا المجني عليه.
ونلاحظ أن بعض القوانين الطبية العربية، نصت صراحة بأنه لا يُسمح بما يُسمى موت الرحمة أو الموت الطيب (EUTHANASIE) أو الموت بقصد إنهاء معاناة المريض الذي يستحيل شفاؤه (LA BONNE MORT). ومن ذلك، قضت المادة 21 من نظام مزاولة المهنة الطبية في المملكة العربية السعودية، بأنه ((لا يجوز بأي حال من الأحوال إنهاء حالة مريض ميئوس من شفائه طبياً، ولو كان بناء على طلبه أو طلب ذويه))[417].
كما أن المادة 239 من القانون الطبي الجزائري[418]. تنص صراحة على ((المتابعة الجزائية لأي طبيب أو جراح، على كل تقصير أو تهاون أو خطأ مهني يرتكبه خلال ممارسته مهامه أو بمناسبة القيام بها، ويلحق ضرراً بالسلامة البدنية لأحد المرضى أو يحدث له عجزاً مستديماً أو يعرض حياته للخطر أو يتسبب في وفاته)) وهو ما يؤكده التشريع الجزائري، في المادتين 288 و289 من قاون العقوبات الجزائري.(171/62)
ولا يجوز في القانون الطبي الجزائري، إيقاف أجهزة الإنعاش الصناعي، إلا بعد التثبت الطبي والشرعي للوفاة، حسب المقاييس الطبية العلمية، على أن يكون ذلك بقرار جماعي يتخذه الفريق الطبي المختص[419].
65 – هذا، ويقسم رجال القانون، قتل الرحمة إلى نوعين: قتل الرحمة الإيجابي، وفيه يقوم الطبيب المعالج للمريض الميئوس من شفائه بناء على طلبه، بإنهاء حياته بواسطة حقنة مميتة، تحتوي على جرعة كبيرة من مادة مخدرة تؤدي إلى وفاة فورية للمريض. وهذا الفعل يعد جريمة قتل عمد، تتوافر فيه جميع أركان الجريمة، من فعل مادي من شأنه إزهاق روح إنسان حي، وقصد جنائي يتوافر باتجاه إرادة الجاني إلى الاعتداء على حياة إنسان حي وإزهاق روحه مع علمه بذلك، بصرف النظر عن البواعث الإنسانية والاجتماعية إلى ارتكابها[420]. وقتل الرحمة السلبي، وفيه يتوقف الطبيب عن إعطاء العلاج، هو عملية تسهيل وفاة المريض الميئوس من شفائه، ليلاقي حتفه بسبب أمراض ومضاعفات أخرى يمكن معالجتها والتصدي لها مؤقتاً. وهنا يعد قاتلاً عمداً بالامتناع أو الترك، وهي جريمة الامتناع عن تقديم العون والمساعدة لشخص في خطر[421]. مع العلم بأن أخلاقيات المهنة الطبية تفرض على الطبيب المعالج احترام الحياة الشخصية والإنسانية للمريض في جميع الظروف، وهو ما يشكل واجباً أساسياً للطبيب[422].
جـ – موت الرحمة من منظور إسلامي:(171/63)
66 – ومشكلة قتل الرحمة، من أساسها لا وجود لها في الشريعة الإسلامية، ذلك أن ما يسميه فقهاء الغرب بالحق في الموت الهادئ، لا يعدو أن يكون صورة من صور الانتحار وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق. فالحق في الحياة يجتمع فيه شرعاً حق الله تعالى وحق العبد، كما أن آلام المريض لا تبرر الاعتداء على حق الله عز وجل، خاصة وأن اليأس من رحمة الله غير مقبول. فلا يمكن الجزم بعدم اكتشاف علاج للمريض بالمستقبل؛ فإذا كان الدواء مجهولاً اليوم، فقد يكتشف غداً بإذن الله تبارك وتعالى.(171/64)
67 – وقد نهى القرآن الكريم عن القتل بصفة عامة، ومنه قوله تعالى {وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ}[423]، وقوله سبحانه {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ}[424]، وقوله عز وجل {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا}[425]. وقوله جل وعلا {وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا}[426]. وقوله تعالى {وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}[427]. وقوله سبحانه {وَلاَ تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ}[428]. وقوله أيضاً {مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا}[429]. وقوله {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ}[430]. وقوله {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا}[431]. وقوله {لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ}[432]. وقوله {قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا}[433]. وقوله {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ}[434]. وقوله {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ}[435].(171/65)
68 – وأما السنة النبوية، فقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن قتل المسلم وقتل الذمي كذلك من أهل الكتاب، لقوله صلى الله عليه وسلم: ((قتل المؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا))[436]. وقوله عليه الصلاة والسلام: ((من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة))[437]. وقوله عليه السلام: ((لزوال الدنيا أهون على الله من قتل مؤمن بغير حق))[438]. وقوله أيضاً: ((لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة))[439]. وقوله عليه الصلاة والسلام في خطبة الوداع: ((فإن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا...))[440].
وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن الانتحار، أشد النهي، بقوله صلى الله عليه وسلم: ((من قتل نفسه فهو في نار جهنم))[441]. وقوله عليه الصلاة والسلام: ((من قتل نفسه بحديدة، فحديدته في يده يجأ بها بطنه يوم القيامة في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً. ومن قتل نفسه بسم، فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً. ومن تردى من جبل فقتل نفسه، فهو مترد في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً))[442].
كما عد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم القنوط من رحمة الله تعالى من الكبائر، في روايات عديدة لحديث واحد يقول: إن رجلاً قال: يا رسول الله ما الكبائر ؟ قال عليه الصلاة والسلام: ((الإشراك بالله، واليأس من روح الله، والقنوط من رحمة الله))وفي روايات أخرى جاء ذكر قتل النفس[443].(171/66)
وقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلمفي هذا الخصوص، أن يتمنى المسلم الموت إذا مسه مكروه، فراراً من تكاثر المحن في حياته بما يضره ويؤذيه في نفسه أو ماله أو جاهه، بل يصبر على ما أصابه، فإن ذلك من عزم الأمور، فيستحق أجر الصابرين وينال درجة المقربين. وروى أنس بن مالك رضي الله عنه، أن النبيصلى الله عليه وسلمقال: ((لا يتمنين أحدكم الموت لضر أصابه فإن كان لابد فاعلاً فليقل اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي))[444]. وفي رواية النسائي عن قيس بن أبي حازم، قال: ((دخلت على خباب وقد اكتوى في بطنه سبعاً، وقال: لولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهانا أن ندعو بالموت لدعوت به))[445]. أما الاستسلام للوساوس والجزع عند المكاره والضرر والكرب، وتمني الخلاص بالموت، فذلك ضعف ونقص في الإيمان والثقة بالله جل وعلا ونسأله تعالى التثبت واليقين وهو ولي الصابرين، لقوله سبحانه: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ}[446]. وأما قول الله عز وجل على لسان يوسف عليه السلام {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ}[447]. فإنه ليس استعجال الموت المنهي عنه، بل هو دعاء بطلب الخير المحبوب، بألا يتوفاه الله تعالى إذا توفاه إلا مسلماً.(171/67)
69 – وعليه فإن ما يسمونه ((موت الرحمة))، يعد في النصوص الشرعية، قتلاً عمداً يوجب القصاص، كما أن التعجيل بموت المريض تخليصاً من آلامه يُعد فعلاً إجرامياً معاقباً عليه شرعاً[448]. فهو يأس من رحمة الله تعالى، وهو القائل عز وجل {وَلاَ تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ...}[449]. واليأس من شفاء المريض، أياً كان نوعه ودرجته، هو يأس من رحمة الله تعالى، وشك في قدرته جل وعلا، لقوله سبحانه {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ}[450]. وقوله تعالى {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ}[451]. {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ}[452].
وقد أصيب بعض الصحابة الكرام، في بعض الغزوات، بإصابات قاتلة، وظلوا أياماً وأسابيع يعانون من الآلام المبرحة قبل أن يتوفاهم الله تعالى. ولكن لم يتبادر إلى ذهن أحد من الصحابة، أو من غيرهم، أن يضعوا حداً لهذه الآلام التي لا تطاق عن طريق قتلهم[453].(171/68)
وعلى الأساس حرم الفقهاء في الإسلام قتل الرحمة، لأنه خارج على ما نص عليه الشرع؛ فالتخلص من الحياة أو التخلص منها، بدعوى الألم الشديد في الأمراض الميئوس من شفائها دعوة لا تجد سنداً إلا في المنطق الإلحادي الذي يرى: (({إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا}))[454]. ويفوته أن الدنيا مرحلة تتلوها أخرى[455]. فكلا القاتل والمقتول يأثمان: القاتل لتنفيذه الجريمة، والمقتول لطلبه تنفيذها. والإنسان في الإسلام ليس حراً في نفسه وماله، كما يدعي الغربيون، بل هو وماله ملك لله تعالى، وعليه أن ينفذ ما أمر الله به. فالله عز وجل هو واهب الحياة، وهو وحده الذي ينزعها، فإن اعتدى شخص على آخر فقتله، ولو بدافع الشفقة، أوجب الله تعالى عليه القصاص، لقوله سبحانه {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الأَلْبَابِ}[456]. وهذا ما قال به الشيخ محمد أحمد الشاطري، والشيخ عمر حامد الجيلاني، والشيخ يوسف القرضاوي، والشيخ عبدالحميد كشك، والدكتور محمد عبدالجواد محمد، والدكتور محمد علي البار، والدكتور عبدالرزاق الكيلاني، والدكتور أحمد طه، وغيرهم[457].
70 – وقد عرضت مسألة قتل الرحمة، وقتل المريض بفقد المناعة (الإيدز) على لجنة الفتوى بالأزهر الشريف، فقررت صراحة بأن المريض أياً كان مرضه، وكيف كانت حالة مرضه، لا يجوز قتله لليأس من شفائه إشفاقاً أو لمنع انتقال مرضه إلى غيره. ففي حالة اليأس من شفائه، مع أن الآجال بيد الله، وهو سبحانه قادر على شفائه، يحرم على المريض أن يقتل نفسه، ويحرم على غيره قتله حتى لو أذن له في قتله. فالأول انتحار، والثاني عدوان على الغير بالقتل، وإذنه لا يحلل الحرام، فهو لا يملك روحه حتى يأذن لغيره أن يقضي عليها[458].(171/69)
كما أكد فضيلة شيخ الأزهر السابق، المرحوم جاد الحق علي جاد الحق، أن قتل الرحمة ليس من الحق، بل من المحرم قطعاً وفقاً للنصوص الشرعية، كقتل المريض بمرض استعصى طبه على الأطباء ويعاني من مرضه آلاماً قاسية، حيث لا يباح قتله لإراحته من هذه الآلام[459].
وأفتى مفتي جمهورية مصر، أنه يحرم شرعاً قتل المرضى الذين لا يرجى شفاؤهم، ويتألمون من مرضهم، وهو ما يطلق عليه الأطباء القتل بدافع الشفقة، فهذا حرام شرعاً، إن مهمة الطبيب هي تقديم العلاج والنتائج بعد ذلك على الله عز وجل[460].
وقد قرر المجمع الفقهي الإسلامي في دورته السابعة المنعقدة بجدة من 9 – 14 مايو 1992م، بمقتضى القرار 67/5/17، رفضه بشدة لما يسمى ((قتل الرحمة))، بأي حال من الأحوال، وأن العلاج في الحالات الميئوس منها يخضع للتداوي والعلاج، والأخذ بالأسباب التي أودعه الله عز وجل في الكون. ولا يجوز شرعاً اليأس من روح الله أو القنوط من رحمته، بل ينبغي بقاء الأمل في الشفاء بإذن الله. وعلى الأطباء وذوي المرضى تقوية معنويات المريض ورعايته وتخفيف آلامه من النفسية والبدنية بصرف النظر عن توقع الشفاء أو عدمه[461].
د – البلاء وما للإنسان فيه في الفقه الإسلامي:(171/70)
71 – إن الأمراض المزمنة أو المستعصية أو الميئوس من شفائها، رغم ما فيها من الآلام المبرحة، يجب أن يعاملها المريض معاملة الأمراض العادية بالصبر على البلاء، والالتجاء إلى الله تعالى عز وجل قادر على شفاء جميع أنواع الأمراض. فإنه يجب على المريض أن يرضى بقضاء الله تعالى، ويصبر على قدره، ويحسن الظن بربه، لقوله عليه الصلاة والسلام: ((لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله تعالى))[462]. ومهما اشتد به المرض والألم، فلا يجوز للمريض شرعاً، كما ذكرنا سابقاً، أن يتمنى الموت. وهذا لحديث أم الفضل رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليهم، وعباس عم الرسول صلى الله عليه وسلم يشتكي، فتمنى عباس الموت، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ياعم لا تتمن الموت، فإنك إن كنت محسناً فإن توخر تزداد إحساناً إلى إحسانك خير لك، وإن كنت مسيئاً فإن تؤخر فتستعتب من إساءتك خير لك، فلا تتمن الموت))[463].
كما أنه لا يجوز للمريض أن يفقد الأمل والتفاؤل، وأن يسعى في العلاج وطلب الدواء، إمتثالاً لأمر الله تعالى الذي وضع لكل داء دواء[464]. إن العلاج أو التداوي مباح شرعاً، بل واجب عند بعض علماء الإسلام، وهو ما ذهب إليه بعض الشافعية والحنابلة، وما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله[465]. والعلامة المجدد ابن القيم الجوزية رحمه الله[466]. وهو ما ذهب إليه فضيلة الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي[467].(171/71)
72 – إن التداوي هو من أسباب الشفاء إذا أراده الله تعالى، فعلى المريض أن يسعى، وليس عليه إدراك المقاصد، وأن تعطيل الأسباب فيه تعطيل لسنة الكون. والتداوي قد أمر الإسلام به، لقوله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء فتداووا))[468]. وقوله عليه الصلاة والسلام: ((لكل داء دواء فإذا أصيب دواء الداء برأ بإذن الله))[469]. وروى أبو داود في سننه وصححه الترمذي عن أسامة ابن شريك، قال: جاءت الأعراب، فقالوا: يا رسول الله، أنتداوى ؟ فقال عليه الصلاة والسلام: ((تداووا فإن الله لم يضع داء إلا وضع له دواء غير داء واحد الهرم))[470]. روى أبو داود في سننه أيضاً، عن أبي الدرداء رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله أنزل الداء والدواء وجعل لكل داء دواء فتداووا ولا تداووا بحرام))[471].(171/72)
فهذه الأحاديث النبوية الشريفة، تمثل قاعدة أساسية صلبة من قواعد الطب الإسلامي، أرساها النبي صلى الله عليه وسلم منذ خمسة عشر قرناً، مفادها ضرورة العلاج وطلب الدواء، وممارسة البحث العلمي والتجارب الطبية، وعدم اليأس من رحمة الله تعالى. وقوله عليه الصلاة والسلام لأصحابه: ((تداووا)) وهو أمر يظهر منه الوجوب لطلب العلاج والدواء، وترك التمائم والتعاويذ والشعوذة والخرافات، وهم الذين كانوا ينسبون الأمراض إلى الشياطين والأرواح الشريرة، ورفض التداوي بحجة التوكل على الغيب، ولذلك سألوه عليه الصلاة والسلام في الحديث: أنتداوى ؟ إن الأمر بالتداوي لا ينافي التوكل، بل لا يتم حقيقة التوحيد إلا بمباشرة الأسباب التي نصبها الله عز وجل. فالتداوي مأمور به شرعاً، وعلى المريض الأخذ بالأسباب حتى اللحظة الأخيرة، لأن الشفاء يحتاج إلى سبب هو العلاج[472]. والإنسان مأمور بالأخذ به، والتداوي بأحسن الأدوية والعلاجات والسير على طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم[473]. فالمرض والشفاء والدواء كلها من الله تعالى، فهو الطبيب الشافي، لقوله سبحانه {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ}[474]، وقوله عز وجل {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ}[475]، وقوله جل وعلا {إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}[476]. وفي هذا، جاء قوله عليه الصلاة والسلام ((لا تكرهوا مرضاكم على الطعام والشراب، فإن الله تعالى يطعمهم ويسقيهم))[477].(171/73)
73 – ولا مانع شرعاً من الاستفادة من خبرات الطب الحديثة، وتجارب الغرب في معالجة الأمراض المستعصية والميئوس منها، وهذا واضح في قصة سعد بن أبي وقاص حين مرض، ووضع الرسول صلى الله عليه وسلم يده على صدره وقال له: ((إنك رجل مفؤود، ائت الحارث بن كلدة، فإنه رجل يعرف الطب)). على الرغم من أن الحارث بن كلدة كان وثنياً إلا أنه كان صاحب خبرات واسعة في الطب[478].
وقال العز بن عبدالسلام رحمه الله تعالى: "الطب كالشرع، وضع لجلب مصالح السلامة والعافية، ولدرء مفاسد المعاطب والأسقام"[479].
ومن ثم، فإن ما يعانيه المريض من الآلام، لا تبرر شرعاً الانتحار أو القتل؛ وموقف الطبيب أمام الحالات الميئوس منها هو أنه أداة الرحمة الإلهية، والوسيلة التي يخفف الله تعالى بها الآلام. فعندما قال أبو رمثة التميمي (كان طبيباً بارعاً في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم مزاولاً لأعمال الطب والجراحة) لرسول الله صلى الله عليه وسلم: دعني أعالج ما بظهرك فإني طبيب، قال عليه الصلاة والسلام: ((أنت رفيق والله الطبيب))[480]. وهذا معناه أن الطبيب المسلم دائم الصلة بالله عز وجل، يسأله التوفيق في عمله لتخفيف الآلام، وانتشال المريض من براثن المرض والهلاك[481].
74 – إن الطبيب لم يخلق لقتل الناس أو لتيسير موتهم، كما أن وصية المريض مرض الموت بأن لا يعالجه الطبيب، هي وصية غير شرعية، لا تتفق مع المعنى الاصطلاحي للوصية، ولا تنسجم مع الأحكام الشرعية للمهنة الطبية وأخلاقياتها. وذلك لأن مهمة الطبيب شرعاً، هي معالجة المريض وتخفيف آلامه، وضرورة إسعافه حتى آخر لحظة[482].(171/74)
فالواجب على الطبيب المسلم أن يبعث الطمأنينة والأمل في نفس المريض، فإن ذلك يساعده على سرعة البرء من مرضه بإذن الله تعالى، بأن يفرج عن المريض بالصبر وعدم الشكوى، ويشجعه على التغلب على مرضه بعون الله عز وجل. وهذا لقوله صلى الله عليه وسلم: ((إذا دخلتم على المريض فنفسوا له في الأجل فإن ذلك لا يضر شيئاً))[483]. وقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث القدسي: ((إذا وجهت إلى عبد من عبيدي مصيبة في بدنه أو ماله أو ولده، ثم استقبل ذلك بصبر جميل – أي صبر لا شكوى فيه – استحيت منه يوم القيامة أن أنصب له ميزاناً أو انشر له ديواناً))[484].
وروى مسلم في صحيحه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على أم السائب، فقال: ((مالك يا أم السائب تزفزفين؟))قالت: الحمى لا بارك الله فيها، فقال عليه الصلاة والسلام: ((لا تسبي الحمى فإنها تذهب خطايا بني آدم كما يذهب الكير خبث الحديد))[485]. وروى أبو داود في سننه عن أم العلاء (وهي عمة حكيم بن حزام)، قالت: عادني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا مريضة، فقال صلى الله عليه وسلم: ((ابشري يا أم العلاء، فإن مرض المسلم يذهب به الله خطاياه، كما تذهب النار خبث الذهب والفضة))[486].(171/75)
فالمعالجة النفسية هي كالمعالجة الدوائية أو أكثر منها، مهمة جداً للمريض الميئوس منه، وعلى الطبيب المسلم ممارستها لتقوية ثقة المريض بنفسه بالأمل والرجاء، فتنضم قواه النفسية إلى قواه البدنية، فالطمأنينة والسكينة والحكمة والرحمة تقوى عزيمة المريض وترفع من روحه المعنوية وتدعم وسائل المناعة في جسمه، فيتغلب بمشيئة الله تعالى على مرضه، فيكون شفاؤه أسرع والله أعلم وهو المستعان[487]. ففي حديث أنس بن مالك، أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على شاب وهو بالموت، فقال: كيف تجدك ؟، فقال الشاب المحتضر: والله يا رسول الله إني أرجو الله وإني أخاف ذنوبي، فقال عليه الصلاة والسلام: ((لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو وأمنه مما يخاف))[488].
75 – وهذه الأحاديث النبوية الشريفة، تمثل هي الأخرى، قاعدة جوهرية من قواعد الطب النفسي ((السيكولوجي))، أرساها النبي صلى الله عليه وسلم منذ خمسة عشر قرناً، وقبل علماء الطب النفسي في الغرب؛ ذلك أن الصبر وعدم الشكوى، والأمل والطمأنينة، والثقة بالله تعالى والرضا بالقضاء، هي من أهم الأسباب التي تساعد على الشفاء[489]. وفي هذا، روى مسلم عن عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اشتكى منا إنسان مسحه بيمينه، ثم قال: ((أذهب البأس رب الناس، واشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقماً))[490].(171/76)
فالله سبحانه وتعالى يبلو عبده بالخير والشر، والشدة والرخاء، ليمتحن صبره وثباته وشكره، لقوله عز وجل: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}[491]. وقال القرطبي رحمه الله في تفسيره لقوله تعالى {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً}[492]. أي الذي خلق الموت والحياة ليختبركم ويمتحنكم أيها الناس حتى يرى المحسن منكم من المسيء ويميز الخبيث من الطيب والصالح من الطالح[493]. وجاء في تفسير الصاوي على الجلالين: ((أي يعاملكم معاملة المبتلى المختبر))[494].
فالبلاء ليس وسيلة تعذيب، ولكنه نعمة من الله تعالى لردع النفوس وتهذيبها لتمييز المؤمن الصادق الإيمان القوي العقيدة، من المؤمن ضعيف الإيمان مذبذب العقيدة[495]. إن الله إذا أحب عبداً ابتلاه ليمكن له في ساحة الإيمان، وليكون أسوة لغيره في الصبر عندما يبتلى بسلب النعمة، لقوله تعالى {وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاَءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}[496]. وقوله سبحانه {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ}[497]. وقوله عز وجل {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}[498]. وقوله جل وعلا {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً}[499]. وقوله تعالى {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ}[500]. وروى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فيه السخط))[501].(171/77)
76 – ونلاحظ أخيراً، بأن حضور الطبيب المسلم في ساعة الموت، في الحالات الميئوس منها، ولاسيما إن كان المحتضر في المستشفى، هو مهم جداً، بما يساعده على القيام بواجبه الديني والإنساني بتلقينه كلمة الشهادة: ((لا إله إلا الله محمد رسول الله)). وإن حضره قبل الاحتضار، وكان عنده وقت، فليتكلم مع المريض المحتضر بلطف ورفق ورحمة، وليضع يده على المريض ويدعو له[502]. وليقص عليه قصصاً مسرة تذكره بالآخرة، ويشجعه في ألمه، ويشعره بطريقة غير مباشرة بقرب الأجل الذي لا مفر منه فلعله يوصي بشيء[503].
وهو أمر يجهله غالبية أطباء المسلمين اليوم، لأن مناهج الطب في كليات الطب العربية أصبحت علمانية. وقد ذكر الدكتور الطبيب أحمد طه في كتابه القيم: ((الطب الإسلامي))، أنه ((رأى طبيباً ينسب إلى الإسلام يهزأ أمام جمع فيهم المسلم وغير المسلم أن شاهد مرافقاً لمريض يحتضر يلقنه الشهادة!))[504].
إنه من المؤسف حقاً أن نرى مثل هذا السلوك وهذه الممارسات في مستشفيات البلاد العربية، والتي تتعارض مع أخلاقيات المهنة الطبية وآدابها، ولا تنسجم مطلقاً مع مهمة الطبية الروحية والإنسانية في تخفيف آلام المريض وإسعافه وتشجيعه على التغلب على محنه حتى آخر لحظة[505].
77 – نكتفي بهذا القدر فيما يتعلق بالفصل الأول، ونتعرض فيما يلي للفصل الثاني الخاص بالحماية الشرعية للجثة في الفقه الإسلامي، والذي نتناول فيه القضايا والمشاكل الشرعية التي تثيرها عمليات المساس بالجثة لضرورة علاجية أو لأغراض علمية.
الفصل الثاني
الحماية الشرعية للجثة في الفقه الإسلامي(171/78)
78 – إن عمليات المساس بالجثة، بما فيها عمليات التشريح، ونقل الأعضاء من جثث الموتى، لضرورة علاجية أو لأغراض علمية من أبحاث وتجارب، وكذا استنساخ الميت، والانتفاع بالجنين الميت، كلها قضايا شرعية تثير العديد من المشاكل التي يجب التصدي لها وهي تقوم أساساً على ضرورة توضيح مدى حق الإنسان في التصرف في جثته أو أجزاء منها وحق أسرته من بعده.
ونبحث موضوع الحماية الشرعية للجثة في الفقه الإسلامي من خلال المباحث المهمة الآتية:
المبحث الأول: حرمة الجثة في الفقه الإسلامي.
المبحث الثاني: حكم تشريح جثة الميت.
المبحث الثالث: حكم الانتفاع بالجنين الميت.
المبحث الرابع: حكم شق بطن الأم الميتة لإخراج ولدها الحي.
المبحث الخامس: حكم شق بطن الميت لإخراج مال ثمين.
المبحث السادس: حكم إخراج الجثة من ماء عميق أو غار أو كهف.
المبحث السابع: حكم الوصية بالعضو الآدمي.
المبحث الثامن: حكم انتقال الحق لورثة الميت.
المبحث التاسع: حكم التداوي بأجزاء الميت.
المبحث العاشر: حكم أخذ أعضاء الميت لإنشاء بنوك الأعضاء.
المبحث الحادي عشر: حكم استنساخ الميت.
المبحث الأول
حرمة الجثة في الفقه الإسلامي
79 – قررت الشريعة الإسلامية الغراء مبدأ حرمة المساس بجثة المتوفى، ووجوب تكريمها وعدم إهانتها، والتعامل معها باحترام وأدب، على أساس احترام القيم الدينية والأخلاقية والمعنوية، وهذا قبل القوانين الوضعية الحديثة بعدة قرون، فإذا كان جسم الإنسان له حرمة حال حياته، فإن له أيضاً حرمة بعد مماته، لأن الآدمي محترم حياً وميتاً في الفقه الإسلامي[506].(171/79)
فالأصل شرعاً، أن للميت حرمة كحرمته حياً، مما يقتضي عدم المساس بحرمة جثته أو التمثيل بها، مراعاة للأحكام الشرعية التي تحرم هذا المساس ولمشاعر الأحياء من أقاربه وذويه. فلا يتعدى عليه بشق أو كسر أو غير ذلك، ويلزم من ينتهك حرمة الميت بضمان حق أسرته في حرمته[507]. وقال بعض الفقهاء بوجوب القصاص على من جرح ميتاً أو كسر عظمه، أو قام باستئصال عضو من جثته دون مسوغ شرعي، وذلك لعدم تعلق أحكام القصاص بالحي فقط[508].
وقد ورد في هذا الشأن، الحديث النبوي الشريف: إن كسر عظم الميت ككسره حياً[509]. فهو يدل دلالة واضحة على تحريم كسر عظام الميت، وعلى حظر إتلافه أو إحراقه، وضرورة تكريمه وعدم إهانته[510]. الأمر الذي اقتضى شرعاً حرمة نبش القبور، والتمثيل بالجثث، وهشم عظام الموتى إلا لضرورة شرعية أو لمصلحة راجحة، لما روي عن السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها: سارق أمواتنا كسارق أحيائنا[511]. ولما روى البيهقي عن الشعبي: النباش سارق[512]. ولما روى أيضاً عن الإمام مالك رحمه الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن المختفي (يعني نباش القبور)[513]. وهو ما يستفاد منه أن حرمة المؤمن باقية كما كانت في حياته، ولذلك كان بعض السلف يتحرج من أن يحفر له في مقبرة يكثر الدفن فيها[514].(171/80)
80 – وجاء في الفتوى المشهورة رقم 639 الصادرة عن دار الإفتاء المصرية بتاريخ 31/10/1937 بأنه: عن جابر رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة، فجلس النبي صلى الله عليه وسلم على شفير القبر وجلسنا معه، فأخرج الحفار عظماً ساقاً أو عضداً فذهب ليكسرها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تكسرها فكسرك إياه ميتاً ككسرك إياه حياً ولكن دسه في جانب القبر[515]. وهو ما نصت عليه أيضاً كل من الفتوى رقم 1069[516]. والفتوى رقم 1087[517]. وكذا الفتوى رقم 47 الصادرة عن هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية[518]. في وجوب تكريم جثة المتوفى وعدم اهانتها أو الاعتداء عليها.
ومن مظاهر تكريم الإنسان ميتاً في الإسلام: ما شرع من التغسيل والتكفين والدفن، لقوله تعالى: {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ}[519]. وعدم سب الأموات وشتمهم، ولو كانوا كفاراً، لقوله عليه الصلاة والسلام: ((لا تسبوا الأموات فتؤذوا الأحياء))[520]. وكذلك حق الأولياء في الدفاع عن جثة الميت، فلهم دفع من أراد الاعتداء على جثتهم بالقطع أو الإتلاف[521]. ولهذا الحق أيضاً. منع الشرع من الجلوس على القبور للتغوط والبول. لأن في ذلك انتهاكاً لحرمة القبور وإهانة تؤذي أحياء الأموات[522].(171/81)
81 – وعلى هذا الأساس حرم الإسلام التعدي على الميت في قبره بالوطء والإهانة، فقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن توطأ القبور، فعن عمر بن حزام قال: رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئاً على قبر فقال عليه الصلاة والسلام: لا تؤذ صاحب القبر أو لا تؤذوه[523]. وكذا يحرم شرعاً الجلوس على القبور، لما روى مسلم من الحديث، عنه صلى الله عليه وسلم: لا تجلسوا على القبور فلأن يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه فتخلص إلى جلده خير له من أن يجلس على قبر[524] وروي عن السيدة عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الميت يؤذيه في قبره ما يؤذيه في بيته[525].
فإذا كان يحرم أن يتعدى على تراب القبر، وأن ذلك يؤذي صاحب القبر، فإن تحريم بدنه من باب أولى، لما أخرجه الشيخان عن ابن أبي شيبة عن ابن مسعود مرفوعاً، قوله عليه الصلاة والسلام: أذى المؤمن في موته كأذاه في حياته[526]. فلا يجوز التعدي على الميت أو على عضو من أعضائه، لقوله صلى الله عليه وسلم: ((المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده))[527].
ومن أجل هذا التكريم، أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يوارى كل ميت حتى قتلى الكفار، ونهى عن المثلة، أي عن التمثيل بجثة أي ميت أو قتيل، ولو قتل قصاصاً أو قتل في صفوف الكفار، فلا يجوز شرعاً الاعتداء على جثة المتوفى، أو انتهاك حرمة القبور أو الجبانات أو دنسها. ومن أجل هذا التكريم أيضاً، نص معظم الفقهاء على طهارة الإنسان حياً كان أم ميتاً، مؤمناً كان أم غير مؤمن، ولم يدخلوا لحمه في مفهوم الأطعمة وتقسيمها إلى حلال وحرام، أياً كانت سلالته ولونه ودينه وبيئته. كما اتفقوا على عدم جواز بيع الأعضاء الآدمية، لأنها مكرمة محترمة شرعاً، لا يجوز أن تكون محلاً للحقوق المالية[528]. ومن ثم، فإن جثة المتوفى، بوصفها قيمة معنوية، فإنها تخرج شرعاً عن دائرة المعاملات المالية[529].(171/82)
82 – هذا، ولا اعتبار في الإسلام للعمر في حرمة الجثة، ولا مكان للوظيفة الاجتماعية فيها، لأن الإسلام يكرم جثة الشاب اليافع، وجثة الشيخ الطاعن في السن، بل إنه يكرم حتى جثة الجنين الذي لم تنفخ فيه الروح بكونه أصل الآدمي ومادته[530]. وقد بحث المجمع الفقهي الإسلامي حكم الوليد المصاب بفقد المخ (غير قابل لاستمرار الحياة)، في دورته السادسة التي انعقدت في جدة عام 1990م، وأفتى بأنه لا يجوز استقطاع أي عضو من أعضائه إلا بعد وفاته (دماغياً أو بتوقف قلبه) وبالشروط الشرعية، والتي منها ضرورة موافقة أهله على ذلك[531].
المبحث الثاني
حكم تشريح جثة الميت
83 – التشريح لغة الكشف، ومنه تشريح اللحم والقطعة منه شريحة[532]. وفي المعجم الوسيط: شرح اللحم شرحاً، قطعه قطعاً طوالاً رقاقاً، وتشريح الجثة فصل بعضها عن بعض للفحص العلمي[533]. أما في الاصطلاح الشرعي، فإن المقصود بالتشريح الطبي هو العلم الذي يبحث في تركيب الأجسام العضوية وتقطيعها علمياً وتشقيقها للفحص الطبي العلمي[534].
وتشريح جثث الموتى عرفته البشرية منذ أقدم العصور: فقد عرفه الفراعنة في مصر القديمة الذين قاموا بتشريح موتاهم وإخراج الأمعاء من الجثة لوضع المواد الحافظة[535]. وعرف اليونان التشريح، وكان أبو قراط وجالينوس يمارسان التشريح لمعرفة الجسم وتشخيص الأمراض. كما عرف الصينيون القدامى التشريح، حيث قامت امرأة تدعى ((تشانغ سي)) بتشريح جثة رجل، وتمكنت من معرفة سبب الوفاة، وقد حدث هذا منذ حوالي 1400 عام[536].(171/83)
وقد عرف الأطباء المسلمون الفطاحل والأفذاذ: كالرازي، وابن سينا، وابن النفيس، والزهراني. وغيرهم علم التشريح وقاموا بتشريح الجثث لمعرفة الأعضاء والعظام والأسقام وتفصيلهم في ذلك تفصيلاً دقيقاً. كما أن العالم المسلم ابن الهيثم (الذي هو رائد علم الضوء في تاريخ العلوم) هو أول من وصف تشريح العين وأجزاءها، ووظيفة كل جزء وصفاً دقيقاً كالذي نعرفه اليوم[537]. وقال الإمام ابن رشد الأندلسي المالكي: إن من يقوم بالتشريح يتقرب أكثر من الله تعالى، ومن اشتغل بالتشريح ازداد إيماناً بالله عز وجل[538]. وقال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: العلم علمان: علم الأديان وعلم الأبدان[539]. وقال أيضاً: لا أعلم علماً بعد الحلال والحرام أفضل من الطب[540].
84 – هذا ويشتمل حكم تشريح جثة الميت على دراسة الأمور التالية:
أ – أقسام التشريح وأغراضه.
ب – حكم التشريح في الفقه الإسلامي.
ج – الشروط الشرعية لإباحة التشريح.
د – حكم تشريح جثث النساء.
أ – أقسام التشريح وأغراضه:
85 – التشريح من حيث الغرض منه نوعان: التشريح الطبي للوصول إلى نتائج علمية للاستفادة بذلك في دراسة علم الطب وتطوير العلوم الطبية، والتشريح الجنائي لمعرفة الجناية وملابساتها وسبب الوفاة في البحث الجنائي وقضايا الإجرام.
فبالنسبة للتشريح الأول، فإن المراد منه التعلم والتدريب، والبحث الطبي العلمي في كليات الطب ومعاهده. فهو ضروري لتعليم الطب، بمعرفة جثة الإنسان وأعضاء الجسم الظاهرة والباطنة، بغرض تعليمي أكاديمي وتربوي لشخص مختلف الأمراض، وكذا الوقوف على الداء وموضع العلة في الجسم، للبحث في العلاج النافع بالقدر المستطاع[541]. ومنه أيضاً، التشريح المرضي الذي يقوم به الطبيب المختص ليعرف المرض الوبائي الذي كان يعالجه ولم ينجح العلاج، وبدون هذا التشريح الطبي المرضي لا يمكن أن يتقدم الطب[542].(171/84)
وأما بالنسبة للتشريح الجنائي، فهو أيضاً ضروري لتمكين العدالة أن تأخذ وضعها الحق في الأحكام الجنائية. فإنه عن طريق الخبرة الجنائية، ولأغراض البحث والتحقيق في الجريمة، تفتح الجثة ويتم تشريحها لمعرفة الأسباب الحقيقية للوفاة، سواء كانت الوفاة بعنف أو بغير عنف، وخاصة إذا كان سبب الوفاة مجهولاً ومشتبهاً فيه. ويكون هذا تحقيقاً لمصلحة الجاني من نفي الجناية عنه، ولمصلحة المجني عليه بمعرفة قاتله، ولمصلحة المجتمع في الوصول إلى الحقيقة ومتابعة الخارجين عن النظام[543].
86 – إن دراسة علم الطب، هو عمل ضروري لمصلحة الفرد والجماعة والإنسانية، ولاشك أن تعلم الطب يقتضي علم التشريح لمعرفة الداء والدواء، لقوله صلى الله عليه وسلم: ((ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء ((أي دواء)) ))[544]. وقوله عليه الصلاة والسلام: ((تداووا فإن الذي خلق الداء خلق الدواء))[545]. وقوله أيضاً: ((إن الله أنزل الداء والدواء وجعل لكل داء دواء فتداووا ولا تداووا بحرام))[546]. وعليه فإن دراسة الطب تستوجب علم التشريح، لمعرفة أعضاء الجسم ووظائفها حال الصحة والمرض، ولتطوير البحث الطبي علمياً وعملياً للوصول إلى العلاج النافع[547].
كما أنه وفيما يتعلق بالتشريح الجنائي في البحث عن الجريمة، فإنه يهدف إلى إقامة ميزان العدل في ساحة العدالة، لمعرفة سبب الوفاة الذي يتوصل به إلى إدانة المجرم أو إبراء البريء، وكلها مصالح مشروعة يقرها الشرع الإسلامي، لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ}[548]. وقوله سبحانه وتعالى: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ}[549]. وقوله عز وجل: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}[550]. وقوله جل وعلا: {هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ}[551].
ب – حكم التشريح في الفقه الإسلامي:(171/85)
87 – لم يرد نص قطعي في القرآن الكريم أو السنة النبوية، يفيد تحريم التشريح أو إباحته. ولكن إذا رجعنا إلى كتب الفقه الإسلامي القديمة والحديثة، فإننا نجد تطبيقات لأعمال طبية جراحية تجرى على الجثة، وضع الفقهاء حكمها الشرعي الذي يمكن الأخذ به في خصوص تشريح جثث الموتى[552]. ومن أبرز هذه التطبيقات الفقهية: مسألة شق بطن الأم الميتة لإخراج ولدها الحي الذي يضطرب في أحشائها[553]. وكذا مسألة شق بطن الميت لإخراج المال الثمين الذي ابتلعه قبل الموت بارتكاب أخف الضررين[554]. وأيضاً مسألة إخراج الجثة من ماء عميق (أو بئر) ولو بالكلاليب ونحوها، ولو أدى ذلك إلى تقطيعه والتمثيل به، لصيانة حاجة الناس إلى البئر وغسل الميت ودفنه[555].
إن مشروعية التشريح في الفقه الإسلامي، تقوم على أساس قواعد الترجيح بين المصالح والمفاسد، وأن الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف، وفي أنه إذا تعارضت مفسدتان روعي أعظمهما ضرراً بارتكاب أخفهما. وقواعد الشرع مبنية على رعاية المصالح الراجحة، وتحمل الضرر الأخف لجلب مصلحة يترتب على تفويتها ضرراً أشد[556]. كما أن الشرع أوجب على الأمة تعلم فريق منها الطب، وهو فرض كفاية، وذلك لا يتم إلا بدراسة التشريح ومزاولته عملاً للأغراض المشروعة السابقة الذكر. فالتشريح وإن لم يرتفع إلى درجة الواجب فهو على الأقل مباح شرعاً[557].(171/86)
88 – إن مصالح التشريح تعود على الأحياء بحفظ أنفسهم وأموالهم، ومصالح الأحياء مقدمة شرعاً على حرمة الموتى لأنها أعم وأشمل منها. كما أن التشريح مشروع بالأدلة التي شرعت ضرورة العلاج وطلب الدواء، امتثالاً لأمر الله عز وجل الذي وضع لكل داء دواء. فالتشريح واجب بالأدلة التي أوجبت تعلم الطب وعلومه ومباشرته بالعمل التطبيقي، لتقوم طائفة من الأمة به[558]. والشارع إذا أوجب أمراً نص على إيجاب ما يتوقف عليه ذلك الأمر، فإذا أوجب الصلاة وجب الوضوء، وإذا أوجب على البعض تعلم الطب وجب علم التشريح ومزاولته علماً وعملاً[559].
ولا يكفي هاهنا، تشريح الحيوان لتعلم الطب الإنساني، وذلك لأن الاعتماد على الحيوانات الثديية لا يعطي فكرة صادقة عن تفاصيل جسم الإنسان، وقد يزرع في ذهن الأطباء عامة صورة غير صادقة عن تركيب الجسم البشري تكون سبباً في ارتكاب الأطباء للأخطاء الفنية[560]. ولولا التشريح الطبي لجثث الموتى، لمعرفة الأمراض والعلل وتشخيصها، لما تقدم الطب ولما أمكن إنقاذ آلاف أو مئات الآلاف من المرضى[561]. إذ إنه بدون التشريح قد يقدم الطبيب وخاصة الجراح على عمل فيه تهلكة للمريض، وقد استدل الطبيب والجراح المسلم الزهراوي (وهو مؤسس علم الجراحة)[562]. على وجوب التشريح، بمثال الجراح الجاهل بالتشريح الذي قام بإزالة ورم من عنق امرأة فأصاب خطأ شرايينها فماتت[563].(171/87)
89 – إن التداوي جائز شرعاً بغير المحرم، بل إنه قد يكون واجباً إذا ترتب عليه حفظ النفس والمال. ومن ثم. فإن التشريح مباح ومطلوب للمصالح المشروعة التي تترتب عليه، غير أنه يجب أن يقتصر في التشريح على قدر الضرورة. وهو ما ذهب إليه عدد من العلماء أمثال: الشيخ يوسف الدجوي[564]، والشيخ محمد بخيت[565]، والشيخ عبدالمجيد سليم[566]، والشيخ جاد الحق علي جاد الحق[567] والشيخ محمد خاطر[568]، والشيخ حسن مأمون[569]، والشيخ متولي الشعراوي[570]، والشيخ عبدالرحمن السعدي[571]، والشيخ حسنين مخلوف[572]، والشيخ أحمد الشرباصي[573]، والشيخ إبراهيم اليعقوبي[574]، والشيخ أحمد عطا[575]، والشيخ الدكتور يوسف القرضاوي[576]، والشيخ محمد الغزالي[577]، والشيخ أبو الأعلى المودودي[578].
وهو ما ذهب إليه أيضاً الدكتور أحمد شرف الدين[579]، والدكتور محمد الحبيب بن الخوجة[580]، والدكتور محمد عبدالمجيد محمد[581]، والدكتور محمد علي البار[582]، وغيرهم[583]، الذين قالوا بجواز تشريح جثة الميت، إذا كان فيه مصلحة شرعية، فهو جائز مادام فيه نفع للمسلمين، ولكن بشرط المحافظة على حرمة الجثة وكرامتها، وعدم إهانتها أو العبث بها أو إلقائها بعد ذلك باستهانة، على أنه يجب في جميع الأحوال والأغراض دفن جميع أجزاء الجثة المشرحة.(171/88)
90 – وهو أيضاً ما أفتت به دار الإفتاء المصرية بتاريخ 31/10/1937م[584]، وهيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية بتاريخ 20/8/1396هـ[585]، واللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالمملكة العربية السعودية بتاريخ 21/7/1396هـ[586]، والمجمع الفقهي الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي في دورته العاشرة المنعقدة في مكة المكرمة عام 1987م[587]، ولجنة الإفتاء التابعة للمجلس الإسلامي الأعلى بالجزائر بتاريخ 20/4/1972م[588]، وكذا لجنة الإفتاء بالمملكة الأردنية الهاشمية بتاريخ 18/5/1977م[589]، والتي أجازت كلها تشريح جثة الميت إذا كان فيه مصلحة يقرها الشرع، على أساس أن قواعد الدين الإسلامي مبنية على المصالح الراجحة، وتحمل الضرر الأخف لجلب مصلحة يكون تفويتها أشد من هذا الضرر.
إن القاعدة العامة الشرعية هي عصمة جثة المسلم ومن في حكمه، ووجوب رعاية حرمته وكرامته من كل امتهان أو تمثيل، لما روى أحمد وأبو داود وابن ماجة عن السيدة عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((كسر عظم الميت ككسره حياً))[590]، غير أن الفقه الإسلامي المعاصر استثني التشريح للحاجة إليه، وللمصالح المعتبرة الخاصة والعامة المترتبة عليه، والظاهرة في الأغراض الشرعية المشار إليها.
وقد سئل الشيخ حسنين مخلوف عن حكم تشريح جثث الموتى ؟ فقال: إن تطبيب الأجسام وعلاج الأمراض أمر مشروع، حفظاً للنوع الإنساني حتى يبقى الأمد المقدر له، وقد تداوى الرسول صلى الله عليه وسلم، وأمر به ومن أصابه مرض من أهله وأصحابه، ودرج بعده أصحابه على التداوي والعلاج[591].(171/89)
كما أن الداعية الشيخ محمد الغزالي رحمه الله تعالى، صرح في الملتقى الدولي لزرع الأعضاء الآدمية الذي نظمه الاتحاد الطبي الجزائري بالجزائر العاصمة يومي 16 و17 نوفمبر 1985م. بأنه يجوز التشريح لضرورة خدمة الإنسان، ولكن مع احترام حرمة الجثة وكرامتها وعدم إهانتها لأنه لابد من احترام الإنسان حياً أو ميتاً. غير أنه تقدم شرعاً كرامة الحي على كرامة الميت لمصلحة الحي ونفعه، والإسلام جاء لخدمة المصالح الراجحة الخاصة والعامة[592]، وقال الإمام المجدد ابن قيم الجوزية حيث وجدت المصلحة فثم شرع الله تعالى[593].
ج – الشروط الشرعية لإباحة التشريح:
91 – إن الإنسان في الإسلام له كرامته حياً أو ميتاً، لقوله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ}[594]. وقوله عليه الصلاة والسلام: إن كسر عظم المؤمن ميتاً مثل كسره حياً[595]. فإذا كان ولابد من التشريح لمثل هذه المقاصد الشرعية، المرتبطة بحياة الناس تحقيقاً لمصلحة الفرد والجماعة (وهي الطب الشرعي، والتشريح المرضي، وكذا التشريح العلمي من أجل تعلم الطب)، فإنه يكون مباحاً، بل هو مطلوب شرعاً، بشرط أن يتم باحترام وأدب وفقاً لقواعد الاستخدامات الطبية لجسم الإنسان وجثته وأخلاقياتها، وفي حدود الضوابط الشرعية[596]. وذلك بأن لا يكون القصد التمثيل بالجثة، وأن يعود كل شيء إلى أصوله، بعد أن يتم الهدف من تشريح الميت، فيدفن الدفن الطبيعي، ويحافظ على حرمته وكرامته، أما إهانة الجثة أو التمثيل بها، بعد الحصول على الغرض منها، فهو أمر لا يقره الشرع، لأن لها حرمة وكرامة شرعاً[597].(171/90)
ومن ثم فإنه يشترط لإباحة التشريح: ضرورة التحقق من موت صاحب الجثة الموت الشرعي القانوني، وموافقة الميت قبل موته وإجازة ذوي الشأن في ذلك، فيما عدا التشريح الجنائي فلا حاجة لرضا الميت وأهله. وأن لا يتم التشريح إلا وفقاً للحاجة والأغراض المباحة المبينة في ذكر أنواع التشريح، وأن لا يتجاوز العمل في التشريح حدود الحاجة الشرعية اللازمة، وأن يتم وفقاً لأخلاقيات المهنة الطبية بمراعاة آداب الميت وعدم إهانة جثته وعدم الاعتداء عليها، لقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}[598]. ولقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه))[599].
92 – إن إهانة جثة الميت في عملية التشريح، هو أمر يتنافى مع ما جاء في الحديث النبوي الشريف، من قوله عليه الصلاة والسلام: ((إن كسر عظم المؤمن ميتاً مثل كسره حياً))[600]. وهو ما يستفاد أيضاً من قوله عليه الصلاة والسلام: ((أذى المؤمن في موته كأذاه في حياته))[601]. فإن الظاهر من النصوص الشرعية أن حرمة الميت كحرمة الحي، وأن الآدمي محرم حياً وميتاً، ولهذا فلا يجوز المساس بسلامة جسده بعد الوفاة، كما هو الحال في حال حياته. فلا يتعدى عليه بكسر عظم أو شق أو اقتطاع أو غير ذلك لغير مصلحة راجحة أو حاجة ماسة[602]. فلا يجوز شرعاً التمثيل بالجثة أو إهانتها، ولا ينبغي تشريح جثة معصوم الدم إلا عند الضرورة، وأن يقتصر في التشريح على قدر الضرورة، كي لا يعبث بجثث الموتى، ويجب في جميع الأحوال دفن جميع أجزاء الجثة المشرحة[603].
93 – والجدير بالذكر، أنه في حالة تبرع شخص بجثته للتشريح لأغراض التعليم الطبي بعد موته (أي لتعليم طلاب العلم أو للبحث الطبي العلمي العام)، يكون الموقف واضحاً بالنسبة لجواز هذا التبرع بالجثة من الناحية الشرعية والقانونية.(171/91)
ويجوز أيضاً الحصول على جثث بعض المتوفين ممن لا أهل لهم، أو الذين لا يعرف لهم أهل، للإفادة العلمية من تشريحهم لتعليم طلبة الطب أو للبحث العلمي، مراعاة للمصلحة العامة، فالمصلحة الشرعية هنا أعم وأفيد[604]. على أن تقتصر في ذلك، ما تقضى به الضرورة القصوى، بالاكتفاء بتشريح جثث أموات غير معصومة، وعدم التعرض لجثث أموات معصومين إلا بمسوغ شرعي[605]. مع المحافظة على حرمة الجثة وكرامتها وعدم إهانتها، بحيث تجمع أجزاؤها وتدفن في المقابر كما تدفن الجثث قبل التشريح[606].
وقد أجازت الفتوى المشهورة رقم 1069 من دار الإفتاء المصرية سلخ جلد الميت لعلاج حروق الأحياء، وألا يتعدى الأموات الذين ليس لهم أهل، أما الأموات الذين لهم أهل، فإن أمر أخذ الطبقات السطحية من جلدهم يكون بيدهم وبإذنهم وحدهم، فإذا أذنوا جاز ذلك وإلا فلا يجوز بدون إذنهم وموافقتهم[607].
كما أجازت الفتوى رقم 1087، الصادرة عن نفس الهيئة، نقل عيون الموتى إلى الأحياء، لما في ذلك من المصلحة، وذلك لأن أخذ عين الميت لترقيع قرنية عين المكفوف الحي فيه مصلحة ترجح مصلحة المحافظة على الميت، ويجوز ذلك شرعاً[608]. وعلى ضوء هذه الفتوى، صدر في مصر القانون المشهور الذي ينظم بنك العيون وتلقي القرنيات من الموتى لنقلها إلى الأحياء[609].(171/92)
وهو ما قررته أيضاً، هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية، بمقتضى القرار التاريخي رقم 62 المؤرخ في 25/10/1398هـ: بجواز نقل قرنية عين من إنسان بعد التأكد من موته، وزرعها في عين إنسان مسلم مضطر إليها، وغلب على الظن نجاح عملية زرعها، مالم يمنع أولياؤه ذلك، بناء على قاعدة تحقيق أعلى المصلحتين وارتكاب أخف الضررين، وإيثار مصلحة الحي على مصلحة الميت. فإنه يرجى للحي الإبصار بعد عدمه، والانتفاع بذلك في نفسه ونفع الأمة به، ولا يفوت على الميت الذي أخذت قرنية عينه شيء، فإن عينه إلى الدمار والتحول إلى رفات، وليس في أخذ قرنية عينه مثلة ظاهرة، فإن عينه قد أغمضت وطبق جفناها أعلاهما على الأسفل[610].
94 – واضح من هذه الفتاوى الشرعية أنها إعمال لقاعدة ترجيح المصلحة إذا كانت أعظم من المفسدة التي تقابلها، وهي القاعدة الشرعية التي تحكم تشريح جثة الميت أو استئصال أعضاء منها بوصفها أعمالاً جراحية، كما أن الضرورات تبيح المحظورات، وأن الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف. فإذا كانت الضرورات هي التي تبيح التشريح، فإن الضرورات تقدر بقدرها شرعاً، فلا يجوز أن يتجاوز التشريح الشيء المرخص به، ولا يجوز اقتحام الجثة أو المساس فيها إلا بعد التأكد من موافقة الميت قبل وفاته أو موافقة أسرته بعد وفاته أو موافقة ولي الأمر بالنسبة للأموات الذين ليس لهم أهل[611]. كما أنه يجب أن تعامل الجثة في أثناء التشريح بأدب واحترام، مهما كانت أغراضه، حتى لا تتخذ الجثة للعبث والإهانة، فإنه يجب شرعاً احترام القواعد الشرعية والأخلاقيات الطبية التي تحكم البحوث والتجارب الطبية على الإنسان وضرورة مراعاة القواعد التي تحكم أيضاً الممارسات الطبية في أثناء القيام بعمليات التشريح[612].(171/93)
وعلى هذا الأساس، فإنه لا يجوز الاحتفاظ بجثث الموتى بقصد التمثيل بها، أو بيع أجزاء منها، أو التعامل فيها بأية صورة من صور التعامل. كما أن تشريح الجثث بقصد التعليم الطبي، أو بهدف التحقق من دعوى جنائية أو غيرها، وأخذ الأعضاء منها كالدماغ والمعدة والكبد والرئة مثلاً، لتحليلها ودراستها وكشف نوع السموم التي وصلت إليها وأدت إلى الوفاة، يستوجب شرعاً ونظاماً أن تعاد هذه الأحشاء إلى الجثة بعد ذلك. وهذا لأن الحقوق الشرعية الثابتة للجثة ليست خالصة للعبد وحده، وإنما فيها حق الله تعالى، فليس للعبد إسقاطها أو التنازل عنها[613]. قال القرافي المالكي في الفروق: إن حق الله تعالى لا يتمكن العباد من إسقاطه والإبراء منه بل إن ذلك يرجع إلى صاحب الشرع[614]. هذا، ومتى تحققت المصلحة الراجحة المقصودة من التشريح، وجب شرعاً غسل الجثة وتكفينها والصلاة عليها ودفنها على ملة الإسلام، كما تدفن الجثث قبل التشريح، فلا يجب شرعاً إهمال الجثة في المشارح، أو التمثيل بها وتعطيل دفنها، بل يجب دفن جميع أجزاء الجثة المشرحة، فهذا أمر لازم، وواجب على الناس لا يجب تركه عند الإمكان، وهذا لقوله عليه الصلاة والسلام: ((للمسلم على المسلم ستة حقوق ومنها اتباع جنازته))[615].
95 – ونلاحظ أخيراً، بأنه يجوز عند وجود الموافقة الشرعية، الاستمرار في تشغيل أجهزة العناية المركزة أو الإنعاش الصناعي للمحافظة على القيمة التشريحية للجثة المراد الاستفادة منها في أغراض البحث العلمي والتعليمي لطلبة الطب[616]. ولكن لا يكون ذلك إلا بعد التثبت من الوفاة وفقاً للمعايير الطبية والشرعية، ويعد موت الشخص شرعاً إذا تعطلت جميع وظائف دماغه تعطلاً نهائياً، وحكم الأطباء الاختصاصيون الخبراء بأن هذا التعطل لا رجعة فيه[617]. ويكون إيقاف هذه الأجهزة بقرار جماعي يتخذه فريق موثوق في دينه وعلمه وخبرته الطبية[618].
د – حكم تشريح جثث النساء:(171/94)
96 – وأما بالنسبة لتشريح جثث النساء، في جناية أو تعليم أو مرض وبائي، فإنه يجب شرعاً أن يخول القيام به إلى طبيبات مختصات وخبيرات من النساء، وذلك لأن في تشريح جثثهن أكثر من محظور شرعي.
فإذا لم يكن بد من قيام الرجال بتشريح النساء، فإنه لابد من حضور زوج الميتة المراد تشريح جثتها أو أحد محارمها، وأن يقتصر نظر الطبيب ومسه للجسد في أثناء التشريح على مواضع الضرورة (وليكن المس بقفاز دون مباشرة اليد لدرء الشبهات)، وكذا ضرورة التأكد من عدم الاختلاط بين الرجال والنساء في دروس تشريح الجثث في كليات ومعاهد الطب[619]. فلا يجوز شرعاً للرجل أن يشرف على فصل الطالبات في عمليات التشريح[620]. لقوله عليه الصلاة والسلام: ((لا يخلون رجل بامرأة إلا مع ذي محرم))[621].
وقد أوصى المجمع الفقهي الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي، في دورته الثامنة المنعقدة بمكة المكرمة بتاريخ 6/5/1405هـ، بعدم تشريح جثث النساء من قبل الأطباء مستقلاً. كما أنه قرر في دورته العاشرة (في الفترة من 17/10/1987م إلى 20/10/1987م) بمكة المكرمة، بأن جثث النساء لا يجوز أن يتولى تشريحها غير الطبيبات المختصات إلا إذا لم يوجدن.
وهذا اجتهاد صائب، لأن الأطباء المختصين في الطب الشرعي الجنائي أو الطب القضائي قليلون في العالم العربي الإسلامي، وأغلبيتهم الساحقة من الذكور، فإذا كان الطبيب الشرعي رجلاً، فهل نتوقف عن تشريح جثث النساء حتى نأتي بطبيبة شرعية ؟[622].
المبحث الثالث
حكم الانتفاع بالجنين الميت(171/95)
97 – المقصود بالجنين الميت هو الجنين الذي لم تنفخ فيه الروح، إذا كان ميتاً حقيقة أو حكماً، أي بمعنى صيرورة خلايا جسده عاجزة عن النمو والتطور والانقسام. ومن علامات وفاة الجنين في بطن أمه توقف حركته تماماً، أي عدم شعور الأم بالحركة، داخل بطنها مطلقاً، ويمكن الاستعانة بالأجهزة الطبية للتأكد من ذلك[623]. مع العلم أن قول البعض إن الجنين قبل أربعة أشهر هو بدون روح وإنه إذاً ميت، فهذا غير صحيح من الناحية الشرعية والعلمية، لأن الروح غير الحياة، والجنين فيه الحياة من أول دقيقة من عمره، ونحن لا نعلم عن الروح شيئاً فهي من أمر الله عز وجل لقوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي}[624]. ولعل قول النبي صلى الله عليه وسلم بأنه ينفخ فيه الروح، يعني حركته في البطن، أي أنه بعد أربعة أشهر تشعر المرأة بحركته في بطنها[625].
فالأصل أن الجنين الميت لا يمكن أن يستفاد منه في زراعة الأعضاء، لأن زراعة الأعضاء والأنسجة تستلزم من الناحية الطبية أن تكون خلايا الجنين حية[626]. غير أنه إذا احتيج إلى مثل هذا الجنين في التجارب العلمية والأبحاث الطبية، فإنه لا يوجد شرعاً ما يمنع الاستفادة منه، ولا يشترط الفقهاء لذلك إلا أن يرجى النفع من البحث العلمي في خلاياه وأعضائه وأنسجته، وأن لا يكون عبثاً، وأن يحترم هذا الجنين بوصفه أصل الآدمي ومادته[627].(171/96)
98 – وحكم استخدام الجنين الميت الذي لم تنفخ الروح فيه في الأبحاث والتجارب العلمية، وخاصة الجنين الذي تكون خلاياه حية، كما في اللقائح التي تزيد عن الحاجة في مشاريع أطفال الأنابيب[628]. وكذا الجنين الذي سقط من رحم أمه (وعجز الطب عن إعادته إليه بالرغم من بقاء الحياة في خلايا جسده)[629]. أو حتى الأجنة المجهضة لأسباب علاجية (كالأجنة المريضة وراثياً أو المشوهة خلقياً)[630].، فإن شروط الانتفاع بها شرعاً في زراعة الأعضاء والتجارب العلمية ترتكز أساساً على ضرورة الموازنة الشرعية بين المفاسد والمصالح، بأن يكون استخدام هذه الأجنة في إطار المباح، وأن تكون هذه البحوث العلمية والتجارب الطبية جادة وهادفة وأن تقف عند الحد الشرعي[631].
إن استخدام هذه الأجنة في التجارب العلمية، أو الأبحاث العلمية، أو بوصفها مصدراً مهماً لزراعة الأعضاء (خاصة في زراعة خلايا المخ والجهاز العصبي)، يستوجب شرعاً احترام الضوابط الشرعية التي قررها الفقهاء، ووافق عليها المجمع الفقهي الإسلامي في دورته السادسة المنعقدة في جدة من 14 إلى 20 مارس 1990م[632]. وهي أن يكون استخدام الجنين بإذن أبويه ورضاهما كليهما، وأن لا توجد طريقة أخرى لتحقيق المصالح المبتغاة إلا باستخدام الجنين الآدمي، وأن يتيقن أهل الاختصاص (وهم الأطباء المختصون) بتحقيق مصالح معتبرة للآدمي الذي ينتقل إليه جزء من الجنين وأن يتم الاحتياط للأنساب من الاختلاط والمفاسد، وأن لا يكون الغرض من استعمال أعضاء الجنين هو العبث أو التجارة أو التلاعب بالأجنة بما يتنافى مع مقاصد الشرع وكرامة الآدمي بإهانة أصله ومادته[633].(171/97)
99 – وبناء على هذه الضوابط الشرعية، فإنه لا يجوز أخذ خصية الجنين أو مبيضه لزراعته في شخص آخر، لأن الحيوانات المنوية ستكون من خلايا تلك الخصية المنقولة، فتكون نسبتها إلى الجنين صاحب الخصية، وكذلك الحال في المبيض[634]. وقد حرم الشرع الإسلامي اختلاط الأنساب، كأن تستعمل اللقائح الزائدة في مشاريع أطفال الأنابيب استعمالاً يؤدي إلى المفاسد[635]. أو كأن تزرع في رحم امرأة أجنبية[636]. وقد تباع لأجل هذا الغرض إذا تم التعامل مع تجار النطف والأبضاع وباعة اللقائح[637]. ومن ثم، فإن مثل هذه التجارب العلمية والأبحاث الطبية، يجب أن تحاط بجملة من القيود التنفيذية، فلا يسمح بذلك إلا لمراكز محددة موثوقة ومأمونة تحت إشراف مؤسسة مختصة رسمياً للتحقق من توافق الشروط المتقدمة وأن تكون مراقبة بأجهزة فعالة، بحيث لا يدخل في هذه المراكز شيء من الأجنة ولا يخرج منها إلا أن يكون تحت نظر المراقبين[638].
ونلاحظ أن هناك تجارة مغرية قائمة في الولايات المتحدة ودول أمريكا اللاتينية للاتجار بالأجنة (التي تجهض طبيعياً أو التي يتم إجهاضها عمداً)، حيث تباع هذه الأجنة لإجراء التجارب عليها، واستخدامها في زرع الأعضاء، أو استخراج بعض العقاقير والأدوية منها[639].
100 – وعلى هذا الأساس، فإنه لا يجوز شرعاً إحداث الإجهاض من أجل استخدام الجنين لزرع أعضائه في إنسان آخر، فلا يجوز الاستفادة منه إلا بعد التأكد من موته بالشروط الشرعية التي ذكرناها سابقاً[640]. كما أنه لا يجوز شرعاً استثماره أو استخدامه لزراعة الأعضاء إلا إذا كان غير قابل لاستمرار الحياة، وألا تخضع عمليات استخدام الأجنة لزراعة الأعضاء للأغراض التجارية على الإطلاق[641].(171/98)
والجدير بالذكر هاهنا، أنه إذا ثبت موت جذع دماغ الجنين (وهو المولود غير الدماغي)، فإن الأخذ من أعضائه وأنسجته وخلاياه، يجب أن تراعى فيه شرعاً الأحكام والضوابط والشروط المعتبرة في نقل الأعضاء من جثث الموتى، من الأذن المعتبر من وليه الشرعي، وعدم وجود البديل وتحقق الضرورة الشرعية[642]. فلا يجوز نقل خلايا الجنين العصبية، وغرسها في جهاز عصبي أو دماغ لإنسان محتاج إلا وفقاً للشروط الشرعية التي أقرها الفقهاء في هذا الخصوص[643].
هذا، ولا يجوز شرعاً استنساخ الجنين الميت، سواء بواسطة استئصال نواة من خلية حية مجمدة محتفظ بها قبل وفاة الجنين، أو بواسطة استئصال نواة من إحدى خلايا الجنين بعد وفاته[644]. بوصفه عبثاً وتلاعباً وتغييراً في خلق الله عز وجل ومنافياً للفطرة السليمة التي فطر الله الناس عليها، زيادة على شبهات المفاسد واختلاط الأنساب[645].
101 – والحقيقة أن العودة الصحيحة إلى الطب الإسلامي، بكل إبداعاته وإنجازاته النيرة وبما يليق بمكانته الرفيعة، تتطلب شمولية في المنهجية والعمل والتخطيط، بضرورة تكوين وحدات البحث العلمي وإنشاء مخابر التجارب العلمية الطبية والبيولوجية. غير أنه يجب أن تباشر هذه التجارب العلمية لجنة طبية موثوقة في دينها وعلمها وخبرتها، وفقاً للأخلاقيات العلمية والطبية التي تحكم الممارسات الطبية في أثناء القيام بالتجارب على الإنسان في إطار البحث العلمي والتجريبي. ويجب أن تخضع هذه التجارب العلمية للمراقبة، بأن تقف هذه التجارب والأبحاث عند الحد الشرعي المباح، وأن تحافظ على حق الإنسان في تكامل جسده وحرمته، وحرمة جثته بعد مماته، فالآدمي (ولو كان نطفة) محترم شرعاً حياً وميتاً في الفقه الطبي الإسلامي.
إن الطبيب الباحث، هو الخبير الفني المختص في إجراء هذه التجارب العلمية والأبحاث الطبية المعمقة أياً كانت صورتها، فإن كان عمله في صورة غير مشروعة، كان آثماً وكسبه حرام.(171/99)
إن الطبيب هو المسئول شرعاً عن بعض الممارسات الطبية غير الشرعية السرية في بعض المستشفيات الخاصة، كبنوك الأجنة المحرمة، وتسليم الأجنة قبل ولادتها، وتأجير الأرحام، والتلاعب بالبويضات الملقحة، وكذا إعدام الأجنة الفائضة[646].
المبحث الرابع
حكم شق بطن الأم الميتة لإخراج ولدها الحي
102 – ذهب الحنفية والمالكية والشافعية وبعض الحنابلة والظاهرية والإمام الشوكاني إلى أنه إن رجي حياة الجنين في بطن الأم الميتة، وجب شرعاً شق جوفها لإخراجه. فإذا علم أن الجنين حي بتحركه واضطرابه، وجب إخراجه بشق بطن الميتة لوجوب إحياء النفس، وحفظ الحياة الإنسانية، وفي عدم إخراجه هو هلاك له وقتل للنفس وهو محرم لا يجوز شرعاً. كما أنه وعملاً بالقواعد الشرعية المقررة بارتكاب أخف الضررين وأهون الشرين: إما شق بطن الميتة وانتهاك حرمتها، وإما هلاك الولد الحي، فوجب شرعاً شق بطن الأم الميتة لإخراج ولدها الحي الذي هو أهون من إهلاك ولدها الحي، كما أن انتهاك حرمتها هو أخف من جريمة قتل للنفس البريئة[647]. ولأنه يشق بطن الأم الميتة (بالعمليات الجراحية) إذا خرج بعض الجنين حياً ولم يمكن خروج بقيته إلا بشق، فجاز الشق بالوسائل الطبية الحديثة (فإنه يشق بطنها طولاً)، فجاز ذلك لأنه إتلاف جزء من الميت لإبقاء الحي وهو أولى بالجواز شرعاً[648].
103 – قال الإمام النووي في المجموع إنه إذا ماتت امرأة وفي جوفها جنين حي يشق جوفها لأن استبقاءه بإتلاف جزء من الميت فأشبه ما إذا اضطر إلى أكل جزء من الميت[649].(171/100)
وذكر ابن قدامة في المغني بأنه يحتمل أن يشق بطن الأم (الميتة) إن غلب على الظن أن الجنين حياً[650]. وقال ابن حزم الظاهري في المحلى أنه لو ماتت امرأة حامل والجنين قد جاوز ستة أشهر وكان يتحرك في بطنها تشق ويخرج منها الطفل[651]. وجاء في كتاب مغني المحتاج للعلامة الخطيب الشربيني (وهو شرح منهاج الطالبين للنووي) "أنه لو دفنت امرأة وفي بطنها جنينها حي ترجى حياته بأن يكون له ستة أشهر فأكثر نبش قبرها وشق جوفها وأخرج تداركاً للواجب لأنه يجب شق بطنها قبل الدفن، وإن لم ترج حياته لم ينبش[652]. وجاء في حاشية ابن عابدين الحنفي بأنه إذا ماتت حامل وولدها حي يضطرب يشق بطنها من الأيسر ويخرج ولدها، ولو مات الولد في بطنها وهي حية وخيف على الأم قطع الولد وأخرج[653].
وعلى هذا الأساس أباح الفقهاء في الإسلام، منذ عدة قرون، شق بطن الحامل الميتة لإخراج جنينها الذي له ستة أشهر فما فوق إذا ترجح حياة الولد في بطنها. فإذا كان الجنين حياً يتحرك، فإنه يشق بطنها دون انتظار ويخرج الولد. لأن مصلحة إنقاذ الحي أعظم من مفسدة هتك حرمة الميت، لقوله تعالى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا}[654]. كما أن القواعد الكلية الشرعية تقضي أن الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف، فإنها تسمح شرعاً بشق بطن الحامل الميتة لإخراج جنينها الحي[655].
104 – وقد انتهى الفقه المعاصر إلى إجازة شق بطن الأم الميتة، التي ماتت حاملاً، والجنين حي يتحرك في أحشائها وترجى حياته بعد إخراجه، وذلك لأن هذا الشق يطابق وظيفة الأم الطبيعية ولا يكون فيه تشويه أو تمثيل لجثتها، كما أنه إعمالاً للقواعد الشرعية: الضرورات تبيح المحظورات، وأن الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف التي يسندها الكتاب والسنة والإجماع[656].(171/101)
فسبحان الله رب العالمين، بيده ملكوت كل شيء، وهو على كل شيء قدير، يخرج الميت من الحي ويخرج الحي من الميت، لقوله تعالى: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا}[657]. وقوله سبحانه: {وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}[658]. وقوله جل وعلا: {وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ}[659].
المبحث الخامس
حكم شق بطن الميت لإخراج المال الثمين
105 – إذا أدخل شخص في جوفه أو في جسده (بابتلاع ونحوه) مالاً ثميناً من لؤلؤة أو جوهرة أو قطعة ذهب أو فضة ونحوها، مما يبقى ولا يستهلك عينه، ثم مات فهل يجوز شرعاً شق بطن الميت لإخراج هذا المال ؟
ذهب الحنفية وبعض المالكية إلى أنه لا يشق مطلقاً (سواء كان المال له أو لغيره)، وذلك لأن الأصل في الشق أنه حرام، وحرمة النفس أعظم من حرمة المال، كما أن حرمة الميت (وهو حق الله تعالى) أعظم من حرمة المال (وهو حق العباد فقط)، لقوله عليه الصلاة والسلام: ((كسر عظم الميت ككسره حياً))[660]. فيغرم بمثلها إن كان من ذوات الأمثال، وبقيمته إن كان من ذوات القيم[661]. قال الإمام النير ابن نجيم صاحب "الأشباه والنظائر" أنه لا يجوز شق بطن الآدمي من أجل المال، لأن حرمة الآدمي أعظم من حرمة المال[662].(171/102)
في حين، ذكر الإمام ابن حزم الظاهري، والإمام الشوكاني، وهو رأي بعض الأحناف، أنه يشق بطن الميت مطلقاً، سواء كان المال له أو لغيره، قليلاً كان أو كثيراً، وذلك بالنظر إلى حق العباد وتحريم إضاعة المال. ولأنه لا ضرر في الشق على الميت، وفيه صيانة المال المنهي شرعاً عن إضاعته، وأداء الحق إلى ذويه، ويخاط ما شقوه من جثته بعد إخراج المال لئلا يكون منظره قبيحاً[663].
قال الإمام ابن حزم رحمه الله في كتابه القيم "المحلى" بأنه يجوز شق بطن الميت لاستخراج جوهرة ابتلعها لأنه لا ضرر في ذلك على الميت، ويلحق الضرر بصاحب الجوهرة، لصحة ما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال، ولا يجوز أن يجبر صاحب المال على أخذ غير ماله مادام عين ماله ممكناً لأن كل ذي حق أولى بحقه[664].
106 – وذهب جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة وبعض الحنفية، إلى أن جثة الميت اجتمع فيها حق الله تعالى (وهو حرمة الميت) وحق العباد (وهم الورثة)، فلابد من مراعاة الحقين ما أمكن[665]. لقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}[666].(171/103)
وذهب أبو عبدالله العبدري من المالكية إلى أنه إذا كان المال كثيراً يشق بطن الميت مطلقاً، سواء كان المال له أو لغيره، لأن في ذلك نفعاً للورثة ودفعاً للضرر عن المالك برد ماله إليه[667]. وقال الحنابلة والشافعية إلى أن المناط هو كون المال الثمين ملكاً له أو لغيره، فإذا كان المال له فإنه لا يشق لأن ذلك استهلاك منه لماله في حياته، وإن كان المال لغيره فإنه إذا طلبه صاحبه يشق الجوف ويرد المال إلى مالكه لإبراء ذمة الميت[668]. ذكر الإمام النووي في المجموع أنه إذا بلع الميت جوهرة لغيره وطالب بها صاحبها يشق جوفه وترد الجوهرة[669]. وجاء في كتاب مغني المحتاج للإمام الخطيب الشربيني أنه لو بلع الميت مالاً لغيره وطالبه صاحبه ولم يضمن مثله أو قيمته أحد من الورثة أو غيرهم نبش وشق جوفه وأخرج منه المال ورد لصاحبه[670].(171/104)
107 – والراي الراجح في الفقه المعاصر هو جواز شق بطن الميت لإخراج مال ثمين ابتلعه قبل وفاته، إذا كان هذا المال لشخص يطالب بحقه، وليس من الورثة أحد يلتزم بدفع قيمة المال أو مثله، على أساس مصلحة عدم إضاعة المال والحفاظ على حقوق الغير التي هي شرعاً أعظم من مفسدة هتك حرمة الميت[671]. فإذا تعارضت مفسدتان روعي أعظمهما ضرراً بارتكاب أخفهما، كضياع مال أحد المسلمين هي مفسدة أعظم من مفسدة هتك حرمة الميت[672]. وخاصة مع تطور الوسائل الطبية الحديثة التي يمكن بواسطتها شق بطن الميت دون مثلة أو إهانة[673]. غير أنه إذا كان لابد من شق بطن الميت لهذا الغرض. فإنه يستوجب عدم إهانة الجثة وعدم التعريض بها. والتعامل معها بأدب واحترام[674]. لقوله عليه الصلاة والسلام: ((كسر عظم الميت ككسره حياً))[675]. وفي رواية أخرى: إن كسر عظم المؤمن ميتاً، مثل كسره حياً[676]. وهو يدل دلالة واضحة على خطر المساس بالجثة وتحريم إهانتها، فلا يتعدى عليها بشق أو كسر لغير مصلحة راجحة أو حاجة ماسة[677]. وقال المفسرون والشراح بأن المقصود من قوله عليه السلام: ككسره حياً يعني في الإثم. كما جاء في رواية ابن ماجة عن أم سلمة رضي الله عنها، إشارة إلى أن للميت حرمة كحرمة الحي تماماً وأن كسر عظامه في حال موته يحرم كما يحرم كسرها حال حياته[678].
إن الميت يتألم بما يتألم به الحي، لقوله عليه الصلاة والسلام: أذى المؤمن في موته كأذاه في حياته[679]. ولهذا فإنه يحرم شق بطن الميت أو قطع شيء من أطرافه لغير مصلحة راجحة يقرها الشرع، وضرورة الموازنة بين الحقوق الشرعية وتحمل الضرر الأخف لجلب مصلحة يكون تفويتها أشد من هذا الضرر وأن تعامل الجثة باحترام مصداقاً لتكريم الشرع للإنسان حياً أو ميتاً في قوله عز وجل: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ}[680].
المبحث السادس
حكم إخراج الجثة من ماء عميق أو غار أو كهف(171/105)
108 – إذا مات شخص في بئر، فإن أمكن إخراجه بلا تقطيع أو تمثيل به، وجب ذلك لتكريمه بتأدية فرض غسله وتكفينه والصلاة عليه ودفنه[681]. وإن لم يمكن إخراجه بالكلية، أو لم يمكن إلا متقطعاً، فإن لم يكن ثمة حاجة إلى البئر طمت عليه ليصير قبراً له، وذلك لأن الميت المسلم يدفن حيث مات، لا يجوز نقله إذا كان نقله يترتب عليه التمثيل به، لأن المسلم محترم حياً وميتاً[682]. أما إذا كانت ثمة حاجة إلى البئر لأهل القرية أو المارة عليها، فإنه يخرج مطلقاً رغم صعوبة الإخراج، ولو بالكلاليب ونحوها، ولو أدى ذلك إلى التمثيل به وتقطيعه، لأن فيه جمعاً بين حقوق كثيرة: أهل القرية، ونفع المارة، وغسل الميت وتكفينه ودفنه، وربما كانت المثلة في بقائه ودفنه أعظم حيث يصيبه التلف بأن يتحلل وينتن[683].
109 – وكذلك الشخص الذي سقط في غار أو كهف ثم مات. فإن أمكن إخراجه بلا تقطيع أو تمثيل به وجب القيام بذلك شرعاً، وإن لم يمكن إخراجه بالكلية أو لم يمكن إلا متقطعاً، دفن في الغار وردم عليه حتى يصان عن السباع والضباع والكلاب وغيرها[684]. عملاً بقوله جل وعلا: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}[685]. ومن هنا نستطيع القول بكل حزم، بأن الشريعة الإسلامية تحمي الإنسان قبل المهد وهو جنين في بطن أمه كما تحميه إلى ما بعد اللحد وهو في القبر.
المبحث السابع
حكم الوصية بالعضو الآدمي
110 – إذا أوصى المتوفى بجثته لكليات الطب، وبجزء منها لإنقاذ مريض من الموت المحقق، فإن هذه الوصية جائزة شرعاً[686]. وذلك لأن أخذ العضو من الميت بناء على وصيته ليس فيه إسقاط أو تنازل للحقوق الشرعية الثابتة على الجثة، لأن صاحب الحق قام بالتصرف فيه إبان حياته، وأن هذا لا يعد مثلة أو إهانة بالجثة[687].(171/106)
فالمثلة ليست مجرد أخذ العضو من الميت بقصد تحصيل حق أو حماية حق، وإنما المثلة شرعاً هي أخذ العضو من الجثة بغرض التشنيع والتشويه والعبث والتعدي على حرمة الميت[688]. فإذا مات المتوفى، وهو الموصي بالعضو مصراً على وصيته، تمت الوصية ولزمت شرعاً، إذ إنه ليس هناك نص خاص يمنع شرعاً التداوي بأجزاء الميت[689]. وقد ذهب الفقهاء القدماء في الفقه الإسلامي إلى أنه لا يجوز شرعاً التصرف في أجزاء الجثة، لكون جثة الإنسان ليست مالاً، فلا تجوز محلاً للوصية التي يشترط في محلها أن يكون مالاً أو حقاً مالياً مملوكاً لشخص يمكن أن ينتقل إلى ورثته[690]. إن جسم الإنسان ليس تركة، فلا يدخل في دائرة الأموال أو المنافع أو الحقوق، فهو لا يُعد مالاً متقوماً من حيث الأصل. ومن ثم فإنه لا يجوز الإيصاء به ولا ببعض أجزائه، وذلك لأنه لا يعد من الحقوق المالية، فلا يصح محلاً للمعاملات المالية، ولا التصرف بأي جزء منه[691]. لقوله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ}[692].
111 – وقال الفقه المعاصر بأن الوصية بالمنافع جائزة شرعاً، ومنها الوصية بالانتفاع بجثة الميت أو بعضو من أعضائه للحاجة التي يبيحها الشرع[693]. فإن تنازل الميت عن جثته لكليات الطب لأغراض علمية وطبية، وكذا تنازله عن عضو من أعضائه لمريض محتاج لأغراض علاجية، هي تصرفات إنسانية وأخلاقية ذات قيمة اجتماعية مؤكدة لا تتعارض مع أحكام الشرع[694]. وهي أيضاً لا تتعارض مع النظام العام أو الأخلاق العامة[695].(171/107)
فالشخص متى كان بالغاً عاقلاً، يكون من حقه التصرف في جسده، فالبلوغ يضع حداً للسلطة على الشخص[696]. ومن ثم، يمكنه أن يوصي قبل وفاته، بجثته، أو بأجزاء منها لضرورة علاجية أو لأغراض علمية أو طبية[697]. ويشترط شرعاً في الميت الموصي أهلية الإيصاء، بأن يكون أهلاً للتبرع، أي بالغاً عاقلاً، أما إذا كان قاصراً أو ناقص الأهلية كالمجنون أو المعتوه أو السفيه فيلزم شرعاً الحصول على موافقة الولي على النفس. ويشترط أيضاً أن يكون الموصي راضياً مختاراً، بأن يصدر منه رضاء حر وصريح بإقرار كتابي، فإذا كان مكرهاً أو خاطئاً أو هازلاً أو فاقداً للوعي والإدراك فلا تصح الوصية[698].
112 – وعلى هذا الأساس، اتفق جمهور الفقهاء أنه لا يجوز شرعاً نقل الأعضاء أو الأنسجة أو استئصالها من جثة الميت لزرعها في جسم إنسان حي مضطر إليها، إلا إذا أوصى بذلك قبل وفاته، بأن تكون هناك موافقة خطية (أي كتابية) من المتبرع (وهو المعطي) في حياته على قبول ذلك صراحة[699]. وهذا هو الإذن بالاستئصال[700].
ومن ثم، فإنه يمنع منعاً باتاً في الشرع والقانون، استئصال الأعضاء من الجثة بهدف الزرع إذا عبر الشخص قبل وفاته كتابياً عن عدم موافقته على ذلك[701]. وذلك لأن إرادة الإنسان بالنسبة لشخصه مقيدة شرعاً بعدم إهلاك نفسه، لقوله تعالى: {وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}[702]. غير أنه يجوز استحساناً قطع العضو أو جزء من الميت إذا أوصى بذلك قبل وفاته دون ضغط أو إكراه أياً كان نوعه، وتوفي مصراً على وصيته، جاز ذلك إذا دعت إليه الضرورة لأن المصلحة فيها أعظم من الضرر الذي يصيب الميت[703].(171/108)
ويشترط القانون المصري رقم 103 لسنة 1962م في مادته الثالثة، ضرورة الحصول على إقرار كتابي من الموصي وهو كامل الأهلية. كما أن القانون الطبي الجزائري رقم 85/5 المؤرخ في 16/2/1985م المعدل بالقانون رقم 90/17 المؤرخ في 31/7/1990م نص في المادة 165 بكل وضوح بأنه يمنع منعاً باتاً القيام باستقطاع أعضاء أو أنسجة بهدف الزرع إذا عبر الشخص قبل وفاته كتابياً عن عدم موافقته على ذلك[704].
113 – وقد سئل الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي عن حكم الوصية بالعضو الآدمي ؟ فقال: لا يوجد مانع شرعي أن يوصي الميت قبل وفاته بعضو من أعضائه لشخص معين، أو لمؤسسة مثل بنك الأعضاء لاستخدامها عند الحاجة، لأن في ذلك منفعة خالصة للغير، دون احتمال أي ضرر عليه. فإن هذه الأعضاء تتحلل بعد أيام ويأكلها التراب، فإذا أوصى ببذلها للغير قربى إلى الله تعالى، فهو مثاب ومأجور على نيته وعمله، ولا دليل من الشرع على تحريم ذلك، والأصل الإباحة، إلا ما منع منه دليل صريح ولم يوجد[705].
114 – هذا، وما دامت الحاجة أو الضرورة هي مبرر الحكم بجواز الوصية بالعضو الآدمي، فإنه لابد أن يكون ذلك وفقاً للضوابط الشرعية التالية:(171/109)
1 – أن يكون الموصي أهلاً للتبرع، بأن يكون بالغاً عاقلاً، قادراً على أن يعطي رضاء جاداً وكاملاً. فإذا كان قاصراً أو غير كامل الأهلية أو محجوراً عليه، فإنه يجب في هذه الحالة علاوة على رضاء المعطي رضاء الممثلين الشرعيين للقاصر[706]. وقد أوصت ندوة "الأساليب الطبية القانون الجنائي" التي نظمتها كلية الحقوق بجامعة القاهرة في شهر نوفمبر 1993م: بأنه لا يجوز نقل عضو من جثة ميت إلا بناء على وصية صحيحة صدرت عنه قبل وفاته، أو بناء على رضاء صحيح من زوجه وجميع أبنائه بعد وفاته. ويجوز أن تثبت الوصية أو الرضاء بوجه رسمي على النحو الذي يحدده القانون. ويجوز أن يحمل الشخص بطاقة يقرر فيها رضاءه بنقل عضو من أعضائه بعد وفاته، أو أن يسجل اسمه في سجل رسمي بعد ذلك، ضماناً لنقل العضو من جثته فور حصول الوفاة[707].
2 – أن يكون الغرض من الوصية هو استئصال جزء من أجزاء الجثة لضرورة علاجية لإنقاذ مريض من الموت المحقق وتخليصه من آلام المرض، أو لأغراض علمية كالتجارب العلمية والدراسات في كليات الطب[708]. ومن ثم، فإنه لا يجوز اقتحام الجثة أو المساس بها إلا لمصلحة علاجية لجسم حي آخر، أو لمصلحة علمية لأغراض البحث العلمي العام أو التعليم الطبي في معاهد وكليات الطب[709]. وذلك لأن العلاج أو العلم يكونان عندئذ مصلحة شرعية مؤكدة أولى بالرعاية من الجثة التي سرعان ما تتحلل في التراب[710].(171/110)
3 – أن لا تكون الغاية من الوصية الربح والتجارة والتداول، أو الحصول على ميزة معينة مقابل تنازل الميت عن أحد أعضائه بعد موته، كالوعد بمبلغ من النقود، أو مكافأة مجزية، كأنما المال هو الدافع للتنازل وليس الإنسانية والأخلاق. فإنه يحرم شرعاً اقتضاء مقابل مالي للإيصاء بالعضو أو جزئه، لأن بيع الآدمي لجسمه أو جثته أو عضوه هو باطل شرعاً[711]. ومن ثم فإن التنازل عن العضو الإنساني لا يكون إلا بالتبرع من الناحية الشرعية[712]. ولكن لو بذل المنتفع بالتبرع للشخص المعطي (أو أقاربه بعد وفاته)، مبلغاً من المال غير مشروط ولا مسمى، على سبيل الهبة والهدية والمساعدة، فهو جائز شرعاً، بل هو محمود ومن مكارم الأخلاق[713]. فهذا يشابه إعطاء المقرض عند رد القرض أزيد من قرضه دون اشتراط سابق، فهو مشروع وجائز، وقد فعله النبي صلى الله عليه وسلم حيث رد أفضل مما أخذه، وقال عليه الصلاة والسلام: ((إن خياركم أحسنكم قضاء))[714].
4 – أن لا يكون العضو الموصى به من طرف الميت، متعارضاً مع نص شرعي خاص أو مع المقاصد الشرعية، أو مع مبدأ الكرامة الآدمية، كالشعر لقوله عليه الصلاة والسلام: ((لعن الله الواصلة والمستوصلة))[715].، أو كالمني أو الخصية أو البويضة لتعارض ذلك مع مقاصد الشرع في حفظ الأنساب من الاختلاط وهو حرام شرعاً[716]. أو كالمخ لما يترتب عليه من خلط وفساد كبير[717]. وأن لا تكون هنالك أية بدائل صناعية للعضو الآدمي تقوم مقامه وتغني عنه[718].
5 – أن يغلب على الظن نجاح عملية زرعها، بناء على قاعدة تحقيق أعلى المصلحتين، وارتكاب أخف الضررين، بأن يدفع الميت بتنازله عن عضوه مفسدة أعظم من مفسدة فقد العضو نفسه بعد وفاته، بإيثار مصلحة الحي على مصلحة الميت الذي مصيره التحول إلى رفات[719].(171/111)
ومن ثم، فإن ارتفاع نسبة النجاح في مثل هذه العمليات الجراحية هو المصلحة الشرعية التي تدور معها الفتوى بالإباحة أو بالحظر[720]. وعلى هذا الأساس، فإنه يشترط في العضو الموصى، به، والمراد استئصاله لزرعه في الحي، أن يكون صالحاً وخالياً من الأمراض، بأن يتأكد الطبيب الجراح من ذلك قبل إجراء العملية وأن يقارن بين المزايا والمخاطر المترتبة على استقطاع الأعضاء من الجثة لزرعها وفقاً لأصول الصنعة الطبية[721].
6 – أن لا تنفذ الوصية بالعضو الآدمي إلا بعد وفاة الميت (وهو الموصي) مصراً على وصيته (إذ إنه يستطيع الرجوع في رضائه في أي وقت قبل وفاته)، ما لم يمنع أولياؤه ذلك (لأن أمر المساس بالجثة ينتقل إليهم شرعاً بعد الوفاة). وذلك لأن الوصية شرعاً، هي من التصرفات المضافة إلى ما بعد الموت، فلابد من التأكد من وفاة الموصي، الوفاة الشرعية بموت دماغه، بصفة مؤكدة ونهائية[722]. ولا تسري عليه أحكام الموت إلا بعد توقف قلبه ودورته الدموية[723].(171/112)
115 – وفي مثل هذه الوصية بالعضو: كالقلب والكبد والكلى والبنكرياس والرئة والأمعاء والأحشاء الباطنية والعظام والغضاريف وقرنية العين والجلد، بالإضافة إلى بقية أعضاء الجسم الأخرى، فإنه يمكن استئصاله مباشرة وبسرعة بعد موت الدماغ، وقبل موت خلايا العضو المراد زرعه[724]. فالقلب والكلى والقرنية مثلاً، تظل خلاياها حية لفترات قصيرة، وبذلك يمكن استعمالها في عمليات زرع الأعضاء بنجاح تام. وذلك لأن نجاح عمليات زرع العضو الموصى به، يتوقف من الناحية الطبية على عدم فساد خلاياه وصلاحيته في جسم المستفيد. إذ لا فائدة من نقل عضو فسد وتحلل، وبالذات القلب والكبد والرئتين والأمعاء والكلى[725]. وقد ذكرنا سابقاً، بأن مفهوم الموت من الناحية الشرعية هو تعطل وظائف دماغ الإنسان تعطلاً نهائياً لا رجعة فيه، مع أن الجسد لا يزال حياً لفترات تختلف من عضو لآخر، وهذا مهم جداً لنقل الأعضاء وزرعها بنجاح تام في جسم المستفيد[726]. وخاصة مع تطور التقنيات الطبية الحديثة، عن طريق وضع الشخص الذي يحتضر في حالة تنفس صناعي، بغرض المحافظة على صلاحية العضو المراد استقطاعه وعدم فساد خلاياه بوصول الدم إليه بفعل أجهزة الإنعاش والإحياء الصناعي المركبة[727]. ومن ثم، يكون من المستطاع من الناحية الطبية استئصال العضو الموصى به لزرعه أو (غرسه) في جسم المستفيد الحي[728].(171/113)
116 – ومعنى هذا القول بمشروعية الوصية بالأعضاء الآدمية، وأخذها من الميت لا قيمة له من الناحية الواقعية أو العملية، إذا اشترط الموصي توقف القلب (أي بمعنى الدورة الدموية) للحكم بحدوث الوفاة، لأن هذا يعني القول بمشروعية الوصية بما لا نفع فيه في الواقع العملي، اللهم إلا بالنسبة لبعض الأعضاء التي تأتي في المرتبة الدنيا من حيث أهميتها في إنقاذ المرضى المحتاجين[729]. فإن القلب والكبد مثلاً لا يمكن أخذهما إلا من متوفين دماغياً، لأن الإنسان لا يملك إلا قلباً واحداً وكبداً واحداً. فإذا انتظرنا حتى يتوقف القلب توقفاً نهائياً رغم الإنعاش الصناعي، فإن ذلك يفسد الأعضاء فساداً لا يمكن معه الاستفادة منها في نقلها إلى حي[730].
117 – وقد فتح مجمع الفقه الإسلامي بمقتضى قراره المشهور رقم [5] د 3/7/86 في دورته المنعقدة بعمان (الأردن) في شهر أكتوبر 1986م. الباب واسعاً لنقل الأعضاء من المتوفين دماغياً، للحصول على الأعضاء المهمة كالقلب، والكبد، والرئة، والبنكرياس، والكلى، والأمعاء الدقيقة، بعد أخذ موافقتهم في أثناء حياتهم على ذلك، أو بعد موافقة أوليائهم. إن هذه الأعضاء لا تبقى إلا دقائق معدودة بعد توقف القلب والدورة الدموية فإنه لا يمكن الاستفادة منها بعد توقف القلب[731]. حيث ينبغي طبياً أن يكون العضو المستقطع الموصى به، متمتعاً بالتروية الدموية إلى آخر لحظة، وذلك ما يوفره تشخيص موت الدماغ، بأن يستمر الأطباء في التنفس الصناعي وإعطاء العقاقير لضمان استمرار الدورة الدموية لحين استئصال الأعضاء المطلوبة من المتوفى[732]. أما الأعضاء الأخرى: كالعظام، والجلد، والقرنية، والغضاريف، فإنها يمكن أن تبقى سليمة وحية بعد توقف القلب والدورة الدموية لمدة تتراوح من 12 إلى 24 ساعة. وبالتالي يمكن أن تؤخذ من شخص توقف قلبه ودورته الدموية، وهذا إذا كانت الغرفة التي فيها الميت باردة[733].(171/114)
إن هذا القرار التاريخي هو قرار صائب، واكب المجمع من خلاله الإجماع الطبي الحديث الذي خلص إلى أن مخ ميت هو شخص ميت لا محالة. فإنه لابد أولاً أن يتم تشخيص موت الدماغ من قبل فريق طبي مختص لا علاقة له بفريق زرع الأعضاء وينبغي ثانياً لنجاح عملية الزرع أن يبقى الميت الدماغي تحت أجهزة الإنعاش الصناعي لحين استقطاع الأعضاء المراد زرعها[734].
118 – كما أن هذا القرار الاجتهادي هو نموذج حي لتطور الفقه الإسلامي دائماً إلى الأمام، وذلك عن طريق الاجتهاد بالرأي عند سكوت النص الشرعي، لاستنباط الأحكام الشرعية من أدلة الشرع ومقاصده وقواعده الكلية، أو عن طريق إلحاق ما لا نص فيه بما فيه نص للاشتراك في علة الحكم. وقد سار مجمع الفقه الإسلامي على هذا المنهج الاجتهادي لمسايرة جميع التطورات الحديثة المستجدة في علوم الطب والجراحة والبيولوجية والهندسة الوراثية، وقام بتخريجها تخريجاً شرعياً على قواعد الفقه وفقاً لأصوله وأحكامه العامة والخاصة[735].
إن إغفال أو إهمال الفقه الإسلامي المعاصر البحث في هذه الإنجازات الطبية الحديثة، هو مضر بالمصالح الخاصة والعامة للأمة، مما يجعلها لا محالة تتعدى الحدود الشرعية، وبالتالي تصطدم بأدلة الشرع وأوامره ونواهيه، كما أن الفراغ التشريعي في هذه المسائل المهمة يجعل الفقه تابعاً في هذه الأحكام.
المبحث الثامن
حكم انتقال الحق لورثة الميت(171/115)
119 – إذا لم يكن المتوفى قد أوصى بجثته أو بجزء منها، فإن أمر المساس بالجثة ينتقل شرعاً إلى أقارب الميت وذوي الشأن. فلا يجوز اقتحام الجثة، أو المساس بها، أو استئصال أي عضو منها، بأي حال من الأحوال، إلا إذا قبل الأولياء وذوي الشأن. فإن الحصول على موافقة الأسرة يعد شرطاً أساسياً لمشروعية عمليات استقطاع الأعضاء من جثة الميت[736]. إذ إن الأهل هم النواب الشرعيون للمتوفى. وهم الأقدر على تحديد موقف الميت لو طلب منه رأيه، قبل موته في تشريح جثته لأغراض علمية أو استئصال عضو منها بهدف علاجي لمريض في حاجة ماسة لهذا العضو بغية إنقاذه من الموت المحقق[737]. والأصل في الشريعة الإسلامية أن حق الأسرة في التصرف في الجثة لا ينشأ إلا بعد التأكد من الوفاة الشرعية، فمنذ لحظة الوفاة يكون للأسرة الحق في الموافقة أو الاعتراض على استئصال عضو من جثة المتوفى[738].
120 – فالأمر بعد الوفاة، يكون بيد أهل الميت وحدهم، فإذا أذنوا جاز ذلك، وإلا فلا يجوز شرعاً بدون إذنهم[739]. وحق الأولياء في الدفاع عن حرمة الميت وعن كرامة جثته هو حق شرعي، وحق معنوي ثابت للأسرة على جثة الميت، يقوم على أساس صلة القرابة والدم التي تربط أفراد الأسرة الواحدة. ومن ثم فإن التغاضي عن موافقة الأسرة، ينطوي على اعتداء صارخ لحقوقهم المعنوية وللاحترام الأدبي الواجب نحو الأموات[740].
وقد جعل الشارع للأولياء الحق في القصاص أو العفو في حالة القتل العمد، لقوله تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا}[741]. كما أن لهم حق القصاص عنه إن شاءوا أو المصالحة على الدية أو العفو كلياً أو جزئياً لوجه الله تعالى، لقوله سبحانه: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ}[742].(171/116)
وبناء على هذا الحق الشرعي الثابت للأولياء في أمواتهم، فإنه يجوز لهؤلاء دفع من أراد إهانة جثتهم، أو التعريض بها، أو الاعتداء عليها بالقطع أو الإتلاف أو الإحراق أو غيرها[743]. ومن ثم فإنه إذا اختلف الورثة، بأن أجاز بعضهم المساس بجثة مورثهم الموصى بها، دون البعض الآخر، فالراجح عند الفقهاء أن الموصى له يستحق تعويضات من الوارث الذي منعه لتعديه المنع[744].
121 – فإذا لم يوص الميت قبل وفاته، فإنه لا يجوز التشريح ونقل الأعضاء إلا بموافقة أهله، على أن يكون ذلك بعد تحقق وفاة الميت، بتوقف دماغه عن أداء وظيفته، لا بتوقف قلبه لأن القلب قد يتوقف والمخ لا زال قائماً بوظيفته فلا تتحقق الوفاة الشرعية[745]. فلا مانع شرعاً من تبرع الورثة ببعض أعضاء الميت مما يحتاج إليه بعض المرضى لعلاجهم، بنية الصدقة بذلك عن الميت، وهي صدقة يستمر ثوابها ما دام المريض المتبرع له منتفعاً بها[746]. وقد أجازت الفتوى المشهورة رقم 62 الصادرة عن هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية، نقل قرنية عين إنسان بعد التأكد من موته، وزرعها في عين إنسان مسلم مضطر إليها، وغلب على الظن نجاح عملية زرعها، ما لم يمنع أولياؤه ذلك...[747].(171/117)
وعليه فإنه إذا لم يعبر المتوفى في أثناء حياته. فإنه لا يجوز شرعاً نقل الأعضاء من الميت إلى الحي، إلا بعد موافقة أهل الميت، إن كان له أهل، حتى لا يوجد خلاف من جانبهم[748]. فربما يكون الخلاف بين ورثة الميت سبباً في فتنة بين الناس[749]. والله تبارك وتعالى يأمر باجتناب الفتنة كلها، بقوله عز وجل: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَآصَّةً}[750]. والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها))[751]. ومن ثم، فإن اشتراط الفقهاء إجازة الورثة، بأن يستأذن أهل الميت، في شأن اقتطاع الأعضاء من جثة المتوفى، هو أمر مقبول شرعاً لأن فيه رعاية لحرمة الميت وكرامته. كما أن المساس بجثته يؤثر فيهم ويضرهم ضرراً معنوياً، والقاعدة الشرعية تقضي ((لا ضرر ولا ضرار))[752].
122 – وفي هذا يقول الشيخ الدكتور بكر أبو زيد[753]. في كتابه "فقه النوازل" وشرط إذنه (أي إذن الميت في أثناء حياته) وإذن ورثته، لأن رعاية كرامته حق مقرر له في الشرع، لا ينتهك إلا بإذنه، فهو حق موروث كالحق في المطالبة من الوارث في حد قاذفه. ولذا فإن الإذن هو إيثار منه، أو من مالكه الوارث (أي مالك الحق) لرعاية حرمة الحي على رعاية حرمته بعد موته في حدود ما أذن، ولذا صح ولزم شرط الإذن منه قبل موته أو من ورثته جميعاً[754].(171/118)
ولذلك فإن سلطة التصرف في جثة الميت تنتقل إلى أسرته بعد الوفاة، بشرط ألا يتعارض هذا التصرف مع إرادة المتوفى في أثناء حياته. كما أن حق التصرف في الجثة لا يكون بالضرورة للورثة، وإنما يكون أيضاً للأقارب الذين تربطهم صلة الدم والقرابة[755]. ذلك لأن الجثة كما ذكرنا سابقاً، وإن كانت شيئاً إلا أنها ليست من الأشياء التي تدخل في دائرة التعامل، فهي ليست عنصراً من عناصر التركة[756]. فحق الأسرة على جثة أحد أفرادها ليس حق ملكية، وإنما هو حق معنوي يجد أساسه في صلة الدم التي تربط جميع أفراد الأسرة.
هذا، ويعامل المحكوم عليه بالقتل، من حيث الحصول على جثته لأغراض علمية، أو من حيث نقل عضو من أعضاء جسمه لأغراض علاجية، معاملة أي شخص آخر. فمن حق الأقارب التمسك بعدم جواز المساس بالجثة إلا بموافقتهم، احتراماً لمشاعرهم وحفاظاً على ذكرى المتوفى[757].
أما القانون المصري رقم 103 لسنة 1962 والمتعلق بتنظيم بنك العيون، فلا يشترط موافقة أحد للحصول على عيون من ينفذ عليهم حكم القتل[758]. فكأن هذا القانون يعد جثة المحكوم عليه بالقتل ملكاً للدولة تتصرف فيها في إطار المصلحة العامة، تلك المصلحة التي ترجح مصلحة الأسرة وحقوقها المعنوية على الجثة[759]. وهو ما أكده المنظم المصري في القانون رقم 119 لسنة 1974 والخاص بتنظيم السجون بأنه إذا لم يتقدم أحد من أهل المحكوم عليه بالقتل لتسلم الجثة خلال سبعة أيام من تاريخ إيداعها في مكان حفظ الجثث سلمت إلى الجهات الجامعية[760].(171/119)
والحقيقة أنه من الناحية الشرعية والنظامية لابد من الحصول على موافقة الأهل لاستئصال أي عضو من أعضاء من ينفذ عليهم حكم القتل[761]. فلا يجوز شرعاً إجبار المحكوم عليه بالقتل بالتنازل عن عضو من أعضاء جسده بعد الوفاة، ذلك أن المجتمع قد استوفى حقوقه بتنفيذ حكم القتل، ومن ثم فليس له أي حق على الجثة، كما أن استئصال الأعضاء من جثث المحكوم عليهم لا يعد اجراء مكملاً لعقوبة القتل[762].
123 – ومن المشاكل المطروحة من الناحية الطبية، هي بصدد مدى حق أطباء المستشفيات في استقطاع أعضاء من جثة المتوفى، خدمة للبحث العلمي أو لإنقاذ مريض من الموت، دون انتظار المهلة القانونية، وكذا مسألة قبول الأولياء هذا المساس بالجثة بسرعة ودون تأخير. وبالتالي قبولهم بوضع الميت المحتضر، تحت أجهزة الإحياء الصناعي للمحافظة على القيمة التشريحية للجثة وصلاحية العضو المراد استقطاعه. ومن هنا، ذهبت بعض القوانين الوضعية في فرنسا[763]. ولوكسومبورج[764]. وتشيكوسلوفاكية[765]. وبعض دول أوروبا إلى عدم الالتفات إلى إذن المتوفى أو إذن أهله. إذا مات هذا الشخص في مستشفى حكومي، ولم يكن قد أوصى في حياته بعدم أخذ أعضائه عند وفاته. فإنه يحق لولي الأمر في هذه القوانين أن يأمر باستقطاع الأعضاء من شخص توفي نتيجة موت الدماغ[766]. وهو ما ذهبت إليه فتوى وزارة الأوقاف الكويتية رقم 132/79 لسنة 1980م. والتي رفضها مجلس الأمة الكويتي[767]. وهو أيضاً، ما أشارت إليه المادة 164 من القانون الطبي الجزائري رقم 85/5 المؤرخ في 16/2/1985م (المعدلة بالقانون رقم 90/17 المؤرخ في 31/7/1990م)، والتي نصت صراحة على أنه يجوز اقتطاع القرنية والكلية بدون موافقة أحد أعضاء الأسرة، إذا تعذر الاتصال في الوقت المناسب بأسرة المتوفى أو ممثليه الشرعيين، أو كان التأخير في أجل الاستقطاع يؤدي إلى عدم صلاحية العضو موضوع الاستقطاع. ولا تتم هذه العملية إلا تحت إشراف اللجنة(171/120)
الطبية الخاصة. داخل الهيكل الاستشفائي التي تقرر ضرورة الاستقطاع أو الزرع وتأذن بإجراء العملية[768].
124 – وهنا لابد أن نوضح أن الشرع الإسلامي يحمي الميت المحتضر بسياج من الضمانات الشرعية، وكذا المريض الخاضع للعناية المركزة أو أجهزة الإنعاش الصناعي، من تسرع بعض الأطباء إلى الإعلان عن موته الدماغي لاستعمال جثته أو لاستقطاع بعض أعضائه.
كما أن الشرع واضح تمام الوضوح بأنه يمنع شرعاً اقتطاع أي عضو من أعضاء الميت أو أنسجته بهدف الزرع، وبأي حال من الأحوال، إذا عبر المتوفى في أثناء حياته عن عدم قبوله صراحة لذلك، غير أنه إذا لم يعبر المتوفى في أثناء حياته، فإنه لا يجوز الاقتطاع أيضاً، إلا بموافقة أسرته أو ممثليه الشرعيين[769]. فلا يجوز شرعاً إجراء عملية الاستئصال إذا عارض الزوج أو أحد الوالدين، أو أحد أقارب المتوفى (حسب ترتيبهم في استحقاق التركة حتى الدرجة الثانية) عمليات نقل الأعضاء من جثة الميت[770]. وهو ما قررته المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية في دورتها المنعقدة بالكويت بتاريخ 23 أكتوبر 1989م بأنه يجوز نقل عضو من ميت إلى حي تتوقف حياته على ذلك العضو أو تتوقف سلامة وظيفة أساسية فيه على ذلك بشرط أن يأذن الميت أو ورثته بعد موته، أو بشرط موافقة ولي المسلمين إن كان المتوفى مجهولاً أو لا ورثة له[771].
125 – والجدير بالذكر هاهنا، أنه في المملكة العربية السعودية، والولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا، وألمانيا، وهولندا، وبلجيكا، فإنه لا يجوز إجراء عملية الاستئصال من جثة الميت إلا بموافقة أهل المتوفى بالإضافة إلى إذن المتوفى حال حياته. أما إذا فات هذا الشرط، ولم يتحقق إذن الميت أو إذن جميع الورثة بأن أذن بعضهم دون بعض، فلا يجوز استقطاع أي عضو منه.(171/121)
وهو ما ذهب إليه الفقه الإسلامي المعاصر، على أن يكون ذلك في حدود الضرورة، أو الحاجة التي تنزل منزلة الضرورة، على أن يستوثق من عدم وجود أولياء للميت، فإذا كان له أولياء وجب استئذانهم، وألا يوجد ما يدل على أن الميت قد أوصى بمنع ذلك ورفضه[772]. ومن المعلوم أنه في الجزائر زرعت حتى عام 1985م، 60 كلية وكانت نسبة النجاح من 80 إلى 90% لأن نسبة النجاح العلمي الطبي هي المصلحة الحقيقية، وهي تؤثر في الفتوى الشرعية[773]. كما أنه في مصر حتى عام 1986م، أجريت حوالي 260 عملية نقل الكلية وزرعها بنجاح تام[774].
كما أن المملكة العربية السعودية تعد رائدة في هذا المجال، حيث تم زرع فيها حتى نهاية عام 1997م: 902 كلية من متوفين دماغياً (بسبب حوادث المرور خاصة) و74 قلباً كاملاً من متوفين بموت الدماغ، واستفيد من 134 قلباً بوصفها مصدراً للصمامات الإنسانية. كما تم أيضاً زرع 148 كبداً، و254 قرنية، وخمس حالات زرع الرئة وأربع حالات زرع بنكرياس. وكانت هذه العمليات بالتفاهم مع الأهل الذين أذنوا بإجراء عملية الاستئصال بغرض إنقاذ مرضى من الموت المحقق[775].
126 – ونلاحظ أخيراً، بأنه إن لم يكن للميت أقارب، ولم يوص صاحب الشأن، فإن الفقه المعاصر يتجه الآن نحو إباحة تشريح جثث الموتى الذين لا يعرف لهم أهل، بعد موافقة ولي الأمر وهم السلطات العامة[776].
فإذا جهلت شخصية المتوفى، أو عرفت وجهل أهله، فإنه يجوز شرعاً أخذ عضو أو جزء من عضو نقلاً لإنسان حي آخر لضرورة علاجية لإنقاذه من الموت، أو ترك جثته لتعليم طلاب كليات الطب، لأن في ذلك مصلحة راجحة تعلو شرعاً على الحفاظ على حرمة الميت[777]. غير أنه لابد من موافقة ولي الأمر، أو من يقوم مقامه، فالسلطان ولي من لا ولي له[778]. فيجوز للدولة أن تصدر قانوناً يرخص في أخذ بعض أعضاء الموتى في الحوادث الذين لا تعرف هويتهم أو لا يعرف لهم ورثة وأولياء[779].(171/122)
وقد أجازت الفتوى المشهورة رقم 1069 الصادرة عن دار الإفتاء المصرية سلخ جلد الميت لعلاج حروق الأحياء، وألا يتعدى الأموات الذين ليس لهم أهل[780].
127 – وقد برر الفقهاء جواز المساس بجثة من لا يعرف لهم أهل، للأغراض العلمية والعلاجية بنظرية الضرورة التي تبيح إلحاق الضرر اليسير لدفع الضرر الجسيم، تحقيقاً لامتداد المجتمع وبقائه، ولخدمة منفعة الناس والصالح العام[781]. ولا يعد هذا إهانة للميت، ولا مساساً بحرمة جثته، ولا إنتهاكاً لكرامته الآدمية، لأن المقصود هو مصلحة راجحة أو حاجة ماسة هي منفعة الحي. فمصلحة إنقاذ الحي أولى بالرعاية من مفسدة انتهاك حرمة الميت[782]. فالحي أفضل من الميت لأنه لا يزال في مجال الانتفاع به في المجتمع، وأن الميت مصيره إلى الدمار والتحول إلى رفات[783].
وهذا دون نسيان القاعدة الشرعية التي تقضي أن الضرورات تبيح المحظورات، لقوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[784]. وقوله سبحانه: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ}[785]. وقوله عز وجل: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[786]. فإن رعاية مصلحة معينة يقرها الشرع، وتقديمها على مفسدة تقابلها، مشروط بكون تلك المصلحة راجحة وأعظم من هذه المفسدة. كما أن حرمة المساس بالجثة إنما تتقيد شرعاً بعدم إهانة الجثة بأن تعامل باحترام وأدب وتكريم، وكذلك تتقيد بإرادة صاحب الشأن وإرادة أهله بعد وفاته[787].
المبحث التاسع
حكم التداوي بأجزاء الميت(171/123)
128 – ذكر بعض العلماء من الشافعية والحنابلة والمالكية، أنه يجوز للمضطر أن يأكل لحم الآدمي الميت، بمقدار ما يسد رمقه، إذا لم يجد غيره، وخاف على نفسه الهلاك إن لم يأكل[788]. وذلك لأن العلة في تحريمه لشرفه، لا تمنع شرعاً من سريان حكم الضرورة، لأن الضرورات تبيح المحظورات[789].
ويجيز الشافعية للمضطر بأجزاء الآدمي أن يستعمل جسم إنسان مهدور الدم كالحربي والزاني المحصن، أما بالنسبة للمعصوم، فإن كان ميتاً فيجوز للمضطر أن ينتفع بجثته كغذاء إن لم يجد غيره، وذلك لأن حرمة الحي أعظم من حرمة الميت، ولأن المفسدة في أكل ميتة الآدمي أقل من المفسدة في فوات حياة إنسان[790]. وعلى هذا، أجاز متأخرو الشافعية استخدام عظام الموتى، في جبر عظم الحي المنكسر إذا لم يكن جبره بغيره، على أساس أن الحديث النبوي الشريف الذي يفيد تحريم كسر عظم الميت يتعلق بغير حالات الاضطرار[791].
وقال العز بن عبدالسلام بصحة أكله منه، وهو الأصح عند الشافعية، إلا أن يكون الميت نبياً فلا يجوز الأكل منه جزماً لشرفه على غيره بالنبوة، ولا يجوز للمضطر الكافر الأكل من ميتة المسلم لشرفه عليه بالإسلام، واختار هذا المذهب أبو الخطاب الحنبلي، وقال العلامة ابن قدامة أنه أولى[792].
129 – وقد أجمع الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية[793]. على إباحة المحرمات عند الاضطرار إلى أكلها بقدر سد الرمق، وإن اختلفوا بعد ذلك في حكم التداوي بالمحرمات[794]. فإنه ليس هناك نص خاص يمنع شرعاً التداوي بأجزاء الميت عند الضرورة، أو نص يقرر أن الموتى لا تتغير أحكامهم الشرعية حتى في حالات الاضطرار. وهذا هو حكم الضرورة التي تبيح المحظورات شرعاً، وهو حكم عام ومطلق، لا يجوز تخصيصه أو تقييده بدون نص شرعي مخصص أو مقيد[795].(171/124)
ومتى كان هذا في نطاق الضرورة أو الحاجة التي تنزل منزل الضرورة. فإن مصلحة المحافظة على الحي الذي هو ما يزال في مجال الانتفاع به في المجتمع ونفع الأمة به، هي أعظم من المفسدة المترتبة على المساس بحرمة الجثة، وترك الجزء المنتفع به يبلى في التراب ويتحول إلى رفات[796]. فإذا تعين استقطاع جزء من الجثة علاجاً وحيداً للمريض المحتاج لإنقاذه من الموت المحقق، جاز هذا العمل متى تقيد بالضوابط الشرعية والشروط اللازمة حتى تصبح المنفعة الناجمة مؤكدة وحقيقية، والمصلحة المترتبة على ذلك مصلحة إنسانية واجتماعية جديرة بالاهتمام والرعاية الشرعية[797].
130 – والحقيقة أن قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((كسر عظم الميت ككسره حياً))[798]. يرمي منه عليه الصلاة والسلام إلى النهي عن إيذاء الميت لمجرد الإيذاء والتعدي، أو بدافع الحقد والكراهية، أو استخفافاً به لكونه لم يعد يشعر ولا يتألم[799]. فأراد عليه الصلاة والسلام أن يبين لنا أن حرمة الميت كحرمة الحي تماماً، وأن إيذاءه هو إثم يستوجب العقاب شرعاً[800]. أما إذا كان الكسر فيه مصلحة راجحة. فلا مانع في ذلك شرعاً، حتى لو كان عظم حي. فهذا عروة بن الزبير رضي الله عنهما، أحد فقهاء المدينة المنورة السبعة أصيب بأكلة في رجله، وقرر الأطباء بترها، فوافق على ذلك، ولم يقل لهم إن كسر العظم لا يجوز[801].
وعلى هذا الأساس، فإن العمليات الجراحية بما فيها شق أو كسر أو بتر ونشر واستئصال واستقطاع وتشريح الجثث مباحة شرعاً، وإن كان فيها هتك لحرمة الميت، إذا كان فيها مصلحة راجحة كإنقاذ حياة انسان مشرف على الهلاك. لقوله سبحانه: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا}[802]. وقوله عليه الصلاة والسلام: ((من استطاع أن ينفع أخاه فلينفعه))[803].(171/125)
إن جسم الإنسان ملك لله تعالى، فينتقل العضو من ملك الله تعالى (وهو الميت الذي لم يعد بحاجة إلى هذا العضو الذي مصيره الدمار والتحول إلى تراب)، إلى ملك الله تعالى (وهو الحي المشرف على الموت والهلاك وتيقن شفاؤه بانتقال هذا العضو إليه وغلب على الظن نجاح عملية زرعه)[804]. وهذا الإنسان الحي لن يخلد في الأرض، بل سيموت وسيعود إلى التراب هو والعضو الذي نقل إليه، لقوله تعالى: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى}[805]. فيكون الأمر هو مجرد تأخير عودة هذا العضو المنقول إلى الحي فترة من الزمن، أسبغ فيها الشفاء والقوة على إنسان كان مشرفاً على الهلاك[806]. فكم من مريض زرع له عضو يمشي بيننا يحمد الله ويدعو للمتبرعين في صلاته ونجحت زراعة العضو لديه لسنوات عديدة، يشكر الله في كل يوم مائة مرة أنه قد مد في عمره[807]. وهذا كله قياساً على نقل الدم من إنسان إلى إنسان آخر[808]. وقياساً أيضاً على تشريح الجثث بغرض علمي أو بقصد معرفة الجاني في القضايا الجنائية[809].
131 – وعليه فإنه يجوز شرعاً نقل قلب الميت أو كليته أو ذراعه أو عينه أو كبده أو أحشائه الباطنية أو جلده أو أي جزء من جثته لزرعه في جسم إنسان حي اضطر إلى ذلك، إذا أوصى بذلك قبل وفاته أو بموافقة أسرته، وغلب على الظن نجاح عملية الزرع فيمن سيزرع فيه[810]. ولا يعد هذا من الناحية الشرعية إهانة للميت، ولا مساساً بحرمة جثته، ولا انتهاكاً لكرامته الآدمية، لأن ذلك مقصود لمصلحة الحي المشرف على الهلاك، والحي أفضل من الميت، للانتفاع بذلك في نفسه ونفع الأمة به[811].(171/126)
إن أخذ عضو من جثة الميت لا يتنافى مع ما هو مقرر لحرمة جثته، فإن أجزاء الآدمي طاهرة ولو كان ميتاً خلافاً لبقية الميتات[812]. لقوله عليه الصلاة والسلام: ((لا تنجسوا أمواتكم فإن المؤمن لا ينجس حيّاً أو ميتاً))[813]. كما أن حرمة الجثة مصونة غير منتهكة، والعملية الجراحية تجرى للميت كما تجرى للحي، بكل عناية واحترام دون عبث أو مساس بحرمة الجثة.
فانتفاع المجتمع بجزء من الميت أولى من ترك هذا الجزء يبلى في التراب، لقوله صلى الله عليه وسلم: ((الناس بنو آدم، وآدم خلق من تراب))[814]. فأخذ الجزء من الميت لينتفع به الحي أيسر عملاً، وأهم شأناً من التضحية بالنفس في باب المنفعة العامة[815]. وهو ما ارتكزت عليه هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية، في قرارها التاريخي المشهور رقم 62 المؤرخ في 25/10/1398هـ، والمتعلق بجواز نقل قرنية عين الميت، بعد التأكد من موته، وزرعها في عين إنسان مضطر إليها، ما لم يمنع أولياؤه ذلك، بناء على قاعدة تحقيق أعلى المصلحتين، وارتكاب أخف الضررين، وإيثار مصلحة الحي على مصلحة الميت، فإنه يرجى للحي الإبصار بعد عدمه، والانتفاع بذلك في نفسه ونفع الأمة به، ولا يفوت على الميت الذي أخذت قرنية عينه شيء، فإن عينه إلى الدمار والتحول إلى رفات، وليس في أخذ قرنية عينه مثلة ظاهرة[816].(171/127)
132 – إن الأدلة الشرعية القائمة على نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية، تقرر شرعاً قواعد الضرورة الشرعية والمصالح الراجحة والاستحسان وسد الذرائع، كما أنها تدعو إلى التضحية والإحسان والإيثار والتعاون والتبرع والهبة وهي من مكارم الأخلاق[817]. وهذا لقوله تعالى: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}[818]. وقوله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}[819]. وقوله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقُوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ}[820]. وقوله جل وعلا: {وَلاَ تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ}[821]. وقوله تعالى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا}[822]. وقوله عليه الصلاة والسلام: ((تهادوا تحابوا))[823].
إن القيم الإنسانية لا تقدر بمال أبداً، لأنها طاهرة مكرمة، ولكن الأكثر علواً لهذه القيم النبيلة هو الحب والإيثار، بأن يقدم الإنسان مصلحة أخيه على مصلحة نفسه، بما هو حق له، تحملاً للمشقة في عون أخيه ومرضاة لله تبارك وتعالى، لقوله سبحانه: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}[824]. وفي حديث نبوي شريف رواه أبو هريرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أحب للناس ما تحب لنفسك تكن مسلماً))[825]. وفي حديث آخر رواه ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ومن نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا، نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه))[826]. وقوله عليه الصلاة والسلام: ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه))[827]. وقوله عليه الصلاة والسلام: ((المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً))[828].(171/128)
إن الإنسان بالحب والإحسان والتضامن والتكافل والبر يمكن أن يوصي بأغلى ما عنده دون مقابل، لقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِّرِّ وَالتَّقْوَى}[829]..
وعلى هذا الأساس جاءت فتوى الأزهر الشريف[830]. ودار الإفتاء المصرية[831]. وهيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية[832]. والمجلس الإسلامي الأعلى بالجزائر[833]. ولجنة الإفتاء بالمملكة الأردنية الهاشمية[834]. ولجنة الإفتاء بوزارة الأوقاف الكويتية[835]. ولجنة الإفتاء بالباكستان[836]. والمؤتمر الإسلامي الدولي[837]. والمجمع الفقهي لرابطة العالم الإسلامي[838]. وكذا مجمع الفقه الإسلامي الذي يمثل الدول الإسلامية كافة[839]. والتي أجمعت كلها على إباحة استخدام أعضاء الموتى لمداواة الأحياء وإنقاذ حياتهم وأن نقل الأعضاء من الأموات إلى الأحياء هو جائز شرعاً، وهو من جملة الدواء المشروع، إذا رضي المنقول منه أو وافقت أسرته بعد وفاته. وهو نوع من الإيثار، والإيثار من الصفات المحمودة شرعاً، ومحل ذلك كله إذا تبين طبيّاً أن عملية زرع العضو ناجحة، وثبت فائدة نقل العضو على سبيل القطع، وإن لم يثبت ذلك فلا يجوز عمله شرعاً[840].
133 – وإعمالاً لهذه الفتاوى الشرعية، في نقل الأعضاء والأنسجة بعد الوفاة، فإن الفقهاء يشترطون لإباحة النقل من الميت: ضرورة موافقة هذا الأخير في أثناء حياته بأنه تبرع بعضو أو أعضاء من جسمه بعد وفاته، وموافقة أهل الميت لأنهم يتوارثون شرعاً جثته، فلابد من إذنهم لاجتناب الفتن. وموافقة ولي الأمر (أو من يقوم مقامه) إذا توفي شخص مجهول الهوية، وأن يكون ذلك التبرع بدون مقابل مالي للمتبرع قبل وفاته أو لورثته بعد موته. وأخيراً أن يكون زرع الأعضاء ضرورة أو حاجة ماسة، لأن الضرورات تبيح المحظورات والضرر يزال، والضرر الأشد يزال بالضرر الأخف، وإذا تعارضت مفسدتان روعي أعظمهما بارتكاب أخفهما.(171/129)
134 – ومن الناحية الطبية، فإنه لا يجوز نقل الأعضاء من الموتى إلا بعد الإثبات الشرعي للوفاة حسب المقاييس الطبية والشرعية[841]. ولا تتم العملية إلا بعد أن يقرر الطبيب المعالج فائدتها للمستفيد على سبيل القطع، ولم يترتب عليها ضرر للشخص المستفيد[842].
ومن ثم، فإن الأطباء يشترطون لنجاح عملية استقطاع الأعضاء لزرعها، أن يكون العضو المراد استقطاعه خالياً من الأمراض، وأن يكون المتوفى أيضاً خالياً من الأمراض المعدية (كالإيدز أو السل أو الزهري أو التهاب الكبد الفيروسي...) وأن لا يكون هناك ورم خبيث في جسم الميت، وأن لا يكون المتوفى مصاباً بضغط الدم وضيق الشرايين، أو مصاباً بالبول السكري الشديد، وأن تكون فصيلة دم المتوفى مطابقة لفصيلة دم الشخص الذي سينقل إليه العضو، وأن لا يكون هناك تضاد بين أنسجة المعطي وأنسجة المتلقي، وهو ما يسمى طبياً فحص مطابقة الأنسجة المتصالب[843].
كما يشترط الأطباء لنقل الأعضاء من جثث الموتى، أن لا يكون المتوفى قد جاوز الخمسين عاماً بالنسبة لزرع القلب، وأن لا يكون قد جاوز الستين بالنسبة لزرع الكلى، وكذلك بالنسبة للأعضاء الأخرى كالرئة والكبد والبنكرياس.. إلخ[844].
هذا ويجب شرعاً على الطبيب القيام بالفحوص اللازمة قبل عملية الزرع، والمقارنة بين المصالح والمفاسد المترتبة على العملية، بأن يغلب على ظنه نجاح عملية الزرع وفقاً لأصول الصنعة الطبية والجراحية، ونلاحظ هنا أن نتيجة المقارنة بين المزايا والمخاطر المترتبة على عمليات استقطاع الأعضاء لزرعها، تتوقف على مدى تقدم الطب المعاصر في مسألة السيطرة على ظاهرة رفض جسم المريض للأعضاء الأجنبية عنه[845].(171/130)
ولقد ساعد في نجاح عمليات نقل الأعضاء البشرية وزرعها ما توصل إليه العلماء عام 1980م من اكتشاف عقار جديد يسمى (سيكلوسبورين أ) (cyclosporine "A") الذي يساعد العضو الغريب المزروع على البقاء في جسم المريض، ويقوي الجهاز المناعي لجسمه. وبفضل استخدام هذا العقار الجديد ارتفعت نسبة نجاح عمليات زرع الأعضاء إلى حوالي 80% وحقق بذلك آمال آلاف المرضى في إنقاذ حياتهم من الموت المحقق وتخليصهم من الآلام عن طريق عمليات زرع أعضاء لهم[846].
135 – هذا، ولا تتم عمليات استقطاع الأعضاء أو الأنسجة من الميت وزرعها في الحي، إلا بضرورة احترام الميت وكرامته وعدم إهانته، والسهر على السلامة البدنية للمريض الذي سينقل إليه العضو المستقطع، وكذا احترام المبادئ الشرعية والعلمية والأخلاقية التي تحكم الممارسات الطبية في أثناء القيام بهذه العمليات الجراحية لتعلقها بالتجريب على الإنسان[847].
فلا يمكن شرعاً وقانوناً للطبيب الذي عاين وشخص وأثبت موت جذع الدماغ أو موت القلب ووفاة الميت المتبرع بالعضو، أن يكون من بين المجموعة الطبية التي تقوم بعملية الزرع[848]. وهذا وفقاً لأخلاقيات المهنة الطبية وآدابها، حتى تكون عملية إستئصال عضو الميت وكذا عملية زرع هذا العضو في جسم المريض المستفيد خالصة للبحث العلمي الطبي في إطار التجربة على الإنسان والتقدم العلمي[849].
إن أخلاقيات المهنة الطبية لا تسمح بأن يشخص حالة الوفاة الدماغية أي من الأطباء الذين يعملون مباشرة في جراحة زراعة الأعضاء لدفع الشبهات وسد الذرائع في أنه لم يكن هنالك أي تهاون أو تقصير في التشخيص من أجل الإسراع في الحصول على الأعضاء[850].(171/131)
136 – إن دفع الضرر وجلب المنفعة، هي من المقاصد الأساسية للشرع الإسلامي، وإذا تعلق هذا الدفع وذلك الجلب بالنفس البشرية وإبقاء حياتها، كان ذلك أدخل في باب الجواز والإباحة[851]. فإذا تحقق لنا أن نقل عضو من إنسان ميت يفيد إنساناً حيًّا، فلا مانع شرعاً من نقل هذا العضو من الميت إلى الحي، بشرط موافقة الميت حال حياته على ذلك النقل، وموافقة أهل الميت بعد وفاته[852]. فإن ذلك يكون داخلاً بالمفهوم العام في باب التداوي والعلاج متى نصح بذلك الطبيب الشرعي المختص، الذي يقرر بمساعدة فريق طبي موثوق به ضرورة النقل ويأذن بإجراء العملية[853].
فنقل الأعضاء من الأموات إلى الأحياء، هو من قبيل التداوي المشروع، لقوله عليه الصلاة والسلام: ((إن الله أنزل الداء وجعل لكل داء دواء فتداووا ولا تداووا بحرام))[854]. كما أن حرمة الحي وحفظ نفسه أولى من حفظ الميت عن المثلة لقوله تعالى: {وَمَا يسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلاَ الأَمْوَاتُ}[855].
ففي ميدان زرع الأعضاء، ورد في حديث قتادة بن النعمان رضي الله عنه، أنه أصيبت عينه يوم بدر (وفي رواية أخرى يوم أحد) فأخذها في راحته إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأخذها عليه الصلاة والسلام وأعادها إلى موضعها، فكانت أحسن عينيه وأحدهما بصراً[856]. وهذا من معجزاته عليه الصلاة والسلام، وهو أول زرع للعين بكاملها في تاريخ زرع الأعضاء، لا يعرف ذلك حتى في العصر الحديث[857].(171/132)
وفي مجال استبدال جزء من الإنسان بقطعة معدنية (كالذهب والفضة مثلاً) لعلاج حالة مرضية، كما هو الشأن في الأسنان أو العظام أو المفاصل أو صمام القلب أو غيرها ورد حديث عرفجة بن أسد رضي الله عنه الذي أصيب أنفه يوم الكلاب (وهو يوم معروف من أيام الجاهلية) فاتخذ أنفاً من فضة فأنتن، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتخذ أنفاً من ذهب[858]. وهو دليل آخر على إجازة التداوي والعلاج، بما في ذلك التداوي بأجزاء الآدمي، بأخذ العضو من إنسان ميت لإنسان آخر مضطر إليه لزرعه أو الترقيع به في جسم الحي، أو بأخذ العضو من حيوان مأكول ومزكى مطلقاً، أو وضع قطعة صناعية من معادن أو مواد أخرى في جسم الإنسان لعلاج حالة مرضية[859].
فالتداوي مشروع بنص الحديث النبوي الشريف، لقوله عليه الصلاة والسلام: ((تداووا فإن الله لم يضع داء إلا وضع له دواء))[860]. وقد أخذ جمهور الفقهاء بهذا الحديث في باب الحظر والإباحة، على أساس أن الوقف عند الداء وموضع العلة في الجسم، للبحث عن العلاج النافع (أو البديل النافع)، وبالقدر المستطاع هو من متطلبات الشرع[861]. وقد أباح الفقهاء القدامى استخدام الأسنان وكذا العظام من الموتى لمعالجة الأحياء[862].
137 – وعليه، فإنه يجوز شرعاً نقل العضو من الميت وزرعه في الحي المضطر، لأن ميتة الآدمي طاهرة مكرمة، بشرط ألا يحدث النقل تشويهاً في جثة الميت وألا يتم التبرع من المتوفى (حال حياته)، أو لورثته بعد وفاته، مقابل مال أو بدل مادي أو بقصد الربح أو الكسب[863]. بل يكون ابتغاء الأجر والثواب، وتعبيراً عن التكافل والإحسان والبر والإيثار بين بني البشر، وإنقاذاً لمريض من الهلاك[864].(171/133)
ولا يقطع شرعاً أي عضو من أعضاء الميت، إلا إذا تحققت وفاته حسب المقاييس الشرعية والنظامية والطبية المعمول بها، وهي موت دماغ الإنسان بصفة مؤكدة ونهائية وتوقف القلب والتنفس في جسم المتوفى[865] بتقرير لجنة طبية مختصة مكونة من ثلاثة أطباء مختصين لكون ذلك من اختصاصهم[866]. لأن في ذلك مصلحة راجحة تعلو على الحفاظ على حرمة الميت[867]. ومع ذلك فإنه نظراً لأن الضرورة تقدر بقدرها، يجب ألا يترتب على الاستقطاع من الجثة التمثيل بها، أو إهانتها فيما لا ضرورة له[868]. وهذا معناه ضرورة ترقيع الجثة بعد استقطاع العضو أو الأعضاء، والاقتصار على قدر الضرورة، وعدم العبث بجثة المتوفى[869].
138 – هذا وفي مجال الانتفاع بأعضاء الميت في علاج الأحياء، صدر العديد من الفتاوى من علماء متخصصين، ومن جهات رسمية، تجيز استقطاع عضو محدد من الجثة أو جزء منها: كاستقطاع القلب[870]. أو الكلية[871]. أو قرنية العين[872]. أو قطعة من العظام[873] أو الجلد في علاج الأحياء من الحروق[874]. أو نقل الأعضاء من الأجنة ومن فاقد المخ[875]. أو أي عضو أو جزء عضو لإنقاذ إنسان حي مضطر إليه[876]. أو التشريح الطبي للموتى[877]. وكذا تحريم بيع الأعضاء الآدمية أو الاتجار بها[878].
وقد أصبحت معظم الأعضاء تزرع في جسم الإنسان إلى درجة تفكير بعض الأطباء بزرع الدماغ البشري[879] والكبد[880] والأمعاء الدقيقة والأحشاء الباطنية المتعددة[881].(171/134)
ولا يجوز شرعاً نقل الأعضاء التناسلية للمتوفى دماغيّاً، والخاصة بالوراثة والجينات والحيوانات المنوية، أو البويضة كالخصيتين أو المبيضين، لما ينجم عنه من خلط واضح للأنساب. والشرع الإسلامي يحرم خلط الأنساب بكل الوسائل، بدليل تحريم الزنا، والتبني. والتلقيح الصناعي بمني غير مني الزوج، وتجارة الأجنة وتأجير الرحم[882]. إن نقل الخصية من الميت إلى الحي لا يجوز شرعاً، لأنه يعد لوناً من اختلاط الأنساب، وذلك لأن الخصية هي المخزن الذي ينقل الخصائص الوراثية للرجل ولأسرته وفصيلته إلى ذريته[883]. كما أنه لا يجوز نقل مخ إنسان إلى آخر، فمثل هذا لا يجوز شرعاً لو أمكن، لما يترتب عليه من خلط وفساد كبير[884].
أما الأعضاء غير التناسلية (أي غير الوراثية) كنقل الرحم، أو قناة "فالوب" (أي الأبواق)، أو حبل منوي أو بروستاتة.. إلخ من شخص مانح متبرع إلى محتاج أو محتاجة، بما يحقق مصلحة راجحة وارتكاب أخف الضررين، فإن الوضع هنا يختلف عن نقل الخصية أو المبيض. فالرأي الراجح عند الفقهاء أنه ليس في ذلك خلط للأنساب، وأنها كالأعضاء الأخرى تماماً، أي كالقلب والكبد والكلى والقرنية وغيرها التي أفتى فيها الفقهاء بجواز نقلها[885].
139 – هذا، ولا يوجد مانع شرعي من انتفاع المسلم بعضو من جثة غير مسلم، لأن أعضاء الإنسان لا توصف بإسلام ولا كفر، كما أن كفر الشخص أو إسلامه لا يؤثر في أعضاء جسده أو جثته بعد وفاته. فإذا انتقل العضو من غير مسلم إلى مسلم، فقد أصبح جزءاً من كيانه، وأداة له في القيام برسالته كما أمر الله تعالى، فهذا كما لو أخذ المسلم سلاح الكافر وقاتل به في سبيل الله عز وجل[886].(171/135)
وأما قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ}[887]. فإنه لا يراد به النجاسة الحسية المادية التي تتصل بالأبدان، بل النجاسة المعنوية الروحية التي تتعلق بالقلوب والعقول[888]. وهذا لقوله سبحانه: {لَهُمْ قُلُوبٌ لاَ يَفْقَهُونَ بِهَا}[889]. وقوله جل وعلا: {فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا}[890].
140 – وقد أجازت هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية، في قرارها التاريخي رقم 62 في 25/10/1398هـ[891]. وكذا دار الإفتاء المصرية في فتوى مشهورة رقم 1087 في 14 إبريل 1959م أخذ عين الميت لترقيع قرنية عين المكفوف الحي، لأن في ذلك مصلحة راجحة وهي مصلحة المحافظة على الحي والتي ترجح مصلحة المحافظة على الميت، ويجوز ذلك شرعاً، بشرط ألا يتعدى الأموات الذين لا أهل لهم، أما من له أهل فيكون ذلك مشروطاً بإذنهم[892].
كما أجازت الفتوى التاريخية رقم 1069 في 2/2/1972م. من دار الإفتاء المصرية، سلخ الميت لعلاج حروق الأحياء، وألا يتعدى الأموات الذين ليس لهم أهل.
أما الأموات الذين لهم أهل، فإن أمر أخذ الطبقات السطحية من جلدهم يكون بيدهم وبإذنهم وحدهم، فإذا أذنوا جاز ذلك، وإلا فلا يجوز بدون إذنهم.
إن أخذ الطبقات السطحية من جلد المتوفين، بعد تحقق وفاتهم لعلاج الحروق الجسمية العميقة للأحياء جائز شرعاً، إذا دعت إليه الضرورة، وكان يحقق مصلحة ترجح مصلحة المحافظة على الميت، وليس في هذا اعتداء على حرمة الميت أو مساس بكرامته، لأن الضرورة دعت إليه، والضرورات تبيح المحظورات مادام هناك إذن من ولي الميت، أو وصية منه، بالموافقة على استخدام جلده في علاج الأحياء من الحروق[893].(171/136)
141 – وقد أصدر مجمع الفقه الإسلامي الموقر العديد من القرارات لوضع الأحكام الشرعية التي تنظم زرع الأعضاء. وقام بتخريجها تخريجاً فقهيّاً يتفق مع كليات الشرع وأصوله ومقاصده. فقام بتحديد الإطار الشرعي لأجهزة الإنعاش الصناعي[894]. وأباح نقل الأعضاء من الموتى بشروطه، ومنع بيع الأعضاء الآدمية، بأي شكل من الأشكال[895]. كما أباح استخدام الأجنة مصدراً لزراعة الأعضاء وزراعة خلايا المخ والجهاز العصبي من المولود غير الدماغي بعد أن يتحقق موته بموت جذع دماغه[896]. كما أنه حدد الضوابط الشرعية للبيضات الملقحة الزائدة عن الحاجة، ومنع استخدام البيضة الملقحة الزائدة في امرأة أخرى في حمل غير مشروع[897]. كما أباح استخدام الأجنة المجهضة بصفة طبيعية غير متعمدة أو للعذر الشرعي، في عمليات زرع الأعضاء للأغراض العلاجية تحت إشراف هيئة متخصصة موثوقة[898]. كما أباح زراعة الأعضاء التناسلية التي لا تنقل الصفات الوراثية، أما الخصية والمبيض فإن زرعهما محرم شرعاً[899]. وأباح أيضاً زراعة عضو استؤصل في حد أو قصاص[900]. كما أنه أباح زرع الأعضاء بفروعه، وبطريق الأولوية أن يؤخذ العضو من حيوان مأكول ومذكى مطلقاً، أو غيره عند الضرورة لزرعه في إنسان مضطر إليه[901].
وهذا دون نسيان قرارات مجلس المجمع الفقهي لرابطة العالم الإسلامي وفتاواه، وخاصة قراره بشأن زرع الأعضاء بما فيها زرع الأعضاء من الموتى[902]. وكذا قراره بجواز تشريح جثث الموتى[903]. وقراره المشهور بشأن موضوع تقرير حصول الوفاة الشرعية ورفع أجهزة الإنعاش من جسم الإنسان[904].(171/137)
ومما سبق، يتضح لنا أن الفقهاء قد اجتهدوا في هذا المجال، وبذلوا غاية الوسع في رسم الحدود الشرعية للاكتشافات الحديثة في ميدان الطب والجراحة والبيولوجيا، وفقاً لأصول الفقه الإسلامي وقواعده العامة مع احترام الأخلاق الشرعية للمهنة الطبية في ضمان حرمة النفس والجسم والجثة. وقد أحسن الفقهاء صُنعاً عندما واكبوا هذه التطورات الطبية الحديثة.
إن الفقه الإسلامي لا يعرف الجمود والوقوف، فهو لا تخيفه النوازل والمستجدات مهما تطورت وتعددت وذلك لأنه فقه مرن حي قابل للتطور دائماً إلى الأمام، بما يشتمل عليه من قواعد فقهية كلية، ومبادئ القياس المنطقي، وكذا الأحكام الموضوعية عن طريق أصول الاجتهاد والاستنباط من المصادر الشرعية.
المبحث العاشر
حكم أخذ أعضاء الميت لإنشاء بنوك الأعضاء
142 – من المعروف طبيّاً أن أعضاء الميت بعد اقتطاعها من الجثة تحفظ في سائل معين، وفي درجة برودة معينة، ويمكن أن تبقى حية محفوظة في بنوك الأعضاء لفترة من الزمن[905].
وقد أجاز جماعة من العلماء المحدثين اقتطاع أعضاء الميت، كالعيون والكليتين مثلاً، ووضعها في بنوك الأعضاء لمداواة الأحياء بها إذا دعت إليه الضرورة، وصدرت في هذا الخصوص الفتوى المشهورة رقم 73/1966 من دار الإفتاء المصرية التي قررت بأن الاستيلاء على عين الميت لتحقيق مصلحة راجحة للحي الذي حرم نعمة البصر عقب وفاته، وحفظها في بنك يسمى "بنك العيون" لاستعمالها في ترقيع قرنية المكفوفين الأحياء الذين حرموا نعمة البصر، ليس فيه اعتداء على حرمة الميت، وهو جائز شرعاً، لأن الضرورة دعت إليه، فإذا كان أخذ عين الميت لترقيع قرنية عين المكفوف الحي مصلحة ترجح المحافظة على الميت جاز ذلك شرعاً. لأن الضرر الذي يلحق بالحي المضطر لهذا العلاج أشد من الضرر الذي يلحق الميت الذي تؤخذ منه عينه بعد وفاته[906].(171/138)
غير أنه، ونظراً لأن الضرورة شرعاً تقدر بمقدارها فإنه يجب الاقتصار في هذا الاستيلاء على أخذ عين الميت، الذي لا أهل له قبل دفنه لاستخدامها في هذا الغرض العلاجي، أما الأموات الذين لهم أهل، فإن أمر الاستيلاء على عيون موتاهم يكون بيدهم، فإن أذنوا جاز ذلك، وإلا فلا يجوز بدون إذنهم[907].
143 – إن هذه البنوك يجب أن تكون تحت إشراف هيئة رسمية متخصصة موثوقة في دينها وعلمها وخبرتها، وأن تحاط بجملة من الاحتياجات اللازمة، وأن تكون مراقبة بأجهزة فعالة، بحيث لا يدخل شيء من الأعضاء أو الأنسجة، أو أجزاء الأعضاء ولا يخرج منها إلا أن يكون تحت نظر المراقبين، وذلك لضمان ألاّ تستعمل أعضاء الآدمي في أغراض التجارة بما يتنافى مع حرمة وكرامة الإنسان.
ولاشك أن هناك سوقاً مغرية لتجارة الأعضاء، وأن هناك عصابات مجرمة عالمية تتاجر في أعضاء الإنسان[908]. تقوم بتهريبها من دول العالم الثالث الفقيرة إلى أمريكا الشمالية وأوروبا، والتي للأسف يتعاون معها بعض المستشفيات الخاصة، ومن يعمل بها من الأطباء[909]. ومن الجرائم البشعة المرعبة ما نشرته صحيفة الشرق الأوسط في 3/12/1989م، أن طفلة عمرها 4 سنوات من أهل بيروت اختفت فجأة، وبعد خمسة أيام عثر عليها أهلها ومعها مبلغ 45 ألف ليرة لبنانية (107 دولار أمريكي)، ولدى الكشف الطبي على الصغيرة تبين أنها أخضعت لعملية جراحية تم خلالها استئصال كليتها اليمنى[910].(171/139)
144 – وأما فيما يتعلق ببنوك الأجنة المجمدة، في مراكز الأبحاث الخاصة بالتلقيح الصناعي على مستوى المراكز الاستشفائية المعتمدة، فإن استخدام بنوك الأجنة في إجراء التجارب والبحوث، هو أمر لا يقره أغلب الفقهاء المعاصرين[911]. خاصة وأن المالكية والطاهرية، والإمام الغزالي من الشافعية (في الإحياء) وابن رجب الحنبلي من الحنابلة وغيرهم، يرون حرمة الإجهاض منذ لحظة التلقيح، رغم أن الجنين لم ينفخ فيه الروح بعد[912]. فإن الاعتداء على هذا الجنين القابل لاستمرار الحياة، وهو أضعف مخلوقات الله على الأرض، هو اعتداء صارخ على كائن حي في طريقه لأن يكون إنساناً، ولو كان مكوناً من بضع خلايا فقط[913].
إن استخدام بنوك الأجنة المجمدة دون رقابة شرعية من طرف هيئة متخصصة موثوقة، سيؤدي لا محالة إلى عبث وتلاعب بالأجنة للحصول على أجنة ظاهرة لمن يعانون من العقم بالوسائل غير الشرعية[914]. وكذا استخدام هذه الأجنة وشراؤها ثم وضع الجنين في رحم مستأجرة[915]. واستثمارها لزراعة الأعضاء للأغراض التجارية[916]. ومن ثم الفوضى العارمة في الأنساب، وتلقيح المحارم، والتحكم في جنس الجنين، وفي صفاته وزيادة احتمال ظهور الأمراض الوراثية وكذا زيادة احتمال ظهور الأمراض التي ينقلها المني[917].
وقد أجمع الفقهاء أن تلقيح بويضة امرأة بمني رجل ليس زوجها، واستبدال مني الإنسان بغيره أو خلطه، والتعامل مع تجار النطف والأبضاع وباعة اللقائح، وإنشاء مستودع تستحلب فيه نطف رجال لهم صفات معينة لتلقيح نساء لهن صفات معينة، وكذا إنشاء بنوك المني وبنوك الأجنة المجمدة، هو عبث يؤدي إلى الإخلال بنظام الأسرة كما أرادها الله عز وجل[918]. وذلك لأن هذه البنوك قد تستخدم للتناسل في صورة غير شرعية لما يترتب عليه من اختلاط الأنساب، وضياع الأمومة، وانتهاء نظام الأسرة الإسلامي[919].(171/140)
145 – وقد أوضحت دراسة جديدة متعلقة ببنوك المني والأجنة المجمدة، قامت بها صحيفة "نيوزويك" الأمريكية بتاريخ 18/3/1985م، وجود ربع مليون طفل أمريكي لا يعرف لهم أب أصلاً ولا أم من ناحية النسب. وإنما الذي حملته امرأة استخدمت رحماً مؤجراً أو رحم ظئر أو أمّاً مستعارة، حملت الجنين عن طريق ما يسمى بالرحم المستأجر ولو بعد وفاة الأبوين.
وعلى هذا الأساس، أوصى العلماء بألا يسلم الزوجان نفسيهما إلا للجنة طبية مأمونة وموثوقة، وألا تتم عمليات التلقيح الصناعي إلا بالقيود الشرعية التي أجمع جمهور الفقهاء عليها في هذا الخصوص، وأن لا تتم العملية إلا في حالة الضرورة القصوى، وبمنتهى الاحتياط والحذر اللازمين من اختلاط النطف أو اللقائح، ولاسيما إذا كثرت ممارسات التلقيح الاصطناعي وشاعت مع وجود بنوك الأجنة، وأن أي شك أو إهمال أو ريبة يمنع من جوازها شرعاً[920]. وهو ما أقره مجمع الفقه الإسلامي في دورته الثالثة[921]. والمجمع الفقهي الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي[922]. ولجنة الفتوى للأزهر الشريف[923]. ودار الإفتاء المصرية[924].
146 – وانطلاقاً من هذه المحاذير الشرعية، والمفاسد العظيمة التي تؤدي حتماً إلى اختلاط اللقائح في أوعية الاختبار، ولاسيما مع وجود بنك المني وبنوك الأجنة المجمدة التي أصبح بها فائض من البيضات الملقحة الزائدة على العدد المطلوب للزرع في كل مرة، رجح الفقهاء في حالة الشك وعدم اليقين الاجتناب والبعد عن الشبهات[925]. وخاصة في ما يتعلق بالأبضاع، لأن الأصل في الأبضاع التحريم[926]. لقوله عليه الصلاة والسلام: ((دع ما يريبك إلى مالا يريبك))[927]. وقوله عليه السلام أيضاً: ((من اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه))[928].
المبحث الحادي عشر
حكم استنساخ الميت(171/141)
147 – أجمع الفقهاء المعاصرون على تحريم الاستنساخ البشري بصفة عامة[929]، وارتكزوا على الدفع بسد الذرائع ودرء المفاسد، وذلك لأن الاستنساخ وإن كان ليس من شأنه أن يجعل الإنسان إلى جانب الله خالقاً، إلا أنه يعد عبثاً وتغييراً في خلق الله، منافياً للفطرة السليمة التي فطر الله الناس عليها، كما أن به شبهة اختلاط الأنساب التي منعها الشرع بكل الوسائل[930].
فالاستنساخ ليس خلقاً جديداً، لأن الله عز وجل هو المتفرد وحده بالخلق، لقوله تعالى: {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ}[931]. وقوله سبحانه: {أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ}[932]. وقوله عز وجل: {عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}[933]. وقوله جل وعلا: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً}[934]. وقوله تبارك وتعالى: {سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا}[935]. وإنما هو إعادة للخلق، وذلك بالاعتماد على ما خلق الله بأخذ خلية من كائن حي ووضعها في رحم، وتسليط بعض المؤثرات العلمية من كيميائية وفيزيائية على الخلية وفقاً للهندسة الوراثية فيحدث الاستنساخ[936].
إن الاستنساخ عبث يؤدي لا محالة إلى الفوضى في العلاقات الاجتماعية، والإخلال في الروابط الأسرية، وهي قضايا جوهرية تمس مصلحة الإنسان، وذلك لأن أي جهالة في الأنساب تؤدي حتماً إلى الفوضى في النظام الاجتماعي الذي أقره الشرع الإسلامي، ورتب عليه حقوقاً في الولاية والحضانة والإرث والنفقات. وعلى هذا الأساس اتجه مجمع الفقه الإسلامي في دورته العاشرة المنعقدة بجدة عام 1418هـ، وكذا في دورته الخامسة عشرة المنعقدة في مكة المكرمة عام 1419هـ، نحو الحظر والتحريم والمنع إذا كان هذا الشيء يمس الإنسان، أما في غير الإنسان فإن كان ذلك نافعاً فلا مانع منه[937].(171/142)
148 – ومن المعروف طبيّاً، أنه لا يمكن كأصل عام استنساخ كائن حي بعد وفاته، وذلك لأن الاستنساخ الجيني يستلزم طبيّاً استخلاص نواة من إحدى الخلايا الجسدية الحية للكائن المراد استنساخه، وبموت هذا الكائن تموت هذه الخلايا[938].
غير أنه إذا تم استئصال نواة من خلية حية قبل وفاة الشخص وتم وضعها في بنك الخلايا المجمدة، فإنه يمكن علميّاً استنساخ الميت بواسطة نواة من خلية حية مجمدة محتفظ بها قبل وفاة الميت بواسطة علم الهندسة الوراثية. بحيث يتم وضع هذه النواة في بويضة، ثم سحبها من رحم أنثى وتفريغها من محتواها، لتنقل بعدها وتزرع في رحم أنثى لتستكمل مدة الحمل الطبيعية، وتنجب طفلاً هو نسخة للشخص الميت، فيكون الطفل في هذه الفرضية هو ولد الموت[939].
ومن أجل هذا، فإنه لا يجوز في الفقه الإسلامي استنساخ الميت بواسطة استئصال نواة من خلية حية مجمدة محتفظ بها قبل وفاة الميت، كما أنه لا يجوز استنساخ الميت بواسطة استئصال نواة من إحدى خلايا الشخص بعد وفاته، وذلك لحرمة جثة الميت المراد استنساخه، فالآدمي محترم حيّاً وميتاً في الشريعة الإسلامية[940].
والله عز وجل هو العليم بكل شيء، وهو الهادي سبحانه إلى الحق والصواب.
مراجع هذا البحث
1 - ابن تيمية. طب القلوب، دار الدعوة، الكويت، 1992م.
2 - ابن قيم الجوزية. الروح، دار القلم، بيروت، بدون تاريخ.
3 - ابن قيم الجوزية. إعلام الموقعين، دار الكتب الحديثة، القاهرة، بدون تاريخ.
4 - ابن حجر العسقلاني. فتح الباري شرح صحيح البخاري، المطبعة المصرية، القاهرة، 1380هـ.
5 - ابن حزم. المحلى، طبع منير الدمشقي، 1347هـ.
6 - ابن رشد. بداية المجتهد ونهاية المقتصد، دار المعرفة، بيروت، 1988م.
7 - ابن قدامة. المغني، دار الكتاب العربي، بيروت، 1983م.
8 - ابن نجيم. الأشباه والنظائر، دار المعارف، القاهرة، 1390هـ.(171/143)
9 - ابن الأثير الجزري. جامع الأصول في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، دار إحياء التراث العربي.
10 - ابن جزي. القوانين الفقهية، مطبعة النهضة، فاس، المغرب الأقصى.
11 - ابن عابدين. رد المحتار، دار الطباعة المصرية، القاهرة، 1272هـ.
12 - ابن الهمام. فتح القدير، مطبعة مصطفى الحلبي، القاهرة، بدون تاريخ.
13 - ابن فرحون. تبصرة الحكام، مطبعة مصطفى الحلبي، القاهرة، 1958م.
14 - ابن ماجة. سنن ابن ماجة، تحقيق محمد القزويني، مطبعة مصطفى الحلبي، القاهرة.
15 - أبو بكر جابر الجزائري. أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير، دار راسم، 1990م.
16 - أبو علي ابن سينا. القاموس في الطب. دار صادر، بيروت، بدون تاريخ.
17 - أبو زهرة (محمد). مسئولية الأطباء في الإسلام، مجلة لواء الإسلام، العدد 12.
18 - الألباني (محمد ناصر الدين). أحكام الجنائز، المكتب الإسلامي، بيروت، 1986م.
19 - الألباني (محمد ناصر الدين). إرواء الغليل، المكتب الإسلامي، بيروت، 1985م.
20 - الألباني (محمد ناصر الدين). غاية المرام، مطبعة النهضة، الجزائر.
21 - أبو عبدالله الذهبي. الطب النبوي، دار إحياء العلوم، بيروت، 1995م.
22 - أبو عودة هشام. زرع الأعضاء، المجلة العربية، العدد 10، يناير 1988م، ص39.
23 - د. الأبراشي (حسن). مسئولية الأطباء والجراحين، القاهرة، 1951م.
24 - د. أبو جميل (وفاء)، الخطأ الطبي، دار النهضة العربية، القاهرة، 1991م.
25 - د. الأهواني (حسام الدين). المشاكل القانونية التي تثيرها عمليات زرع الأعضاء البشرية، مجلة العلوم القانونية والإقتصادية، 1975م، العدد 1، ص1.
26 - د. الأهواني (حسام الدين). تعليق على القانون الفرنسي رقم 181 لسنة 1976 المتعلق بزرع الأعضاء البشرية، مجلة الحقوق، الكويت، 1978، العدد 2، ص253.
27 - د. أحمد عروة الجابري. الجديد في الفتاوى الشرعية للأمراض النسائية والعقم، عمان، 1994م.(171/144)
28 - د. أورفلي (سمير). مسئولية الطبيب في الإنعاش الصناعي، مجلة المحامون، 1986، العدد 5، ص558.
29 - د. أحمد الجوهري. الإنعاش الصناعي من الناحية الطبية والإنسانية، مجلة الحقوق، 1981، العدد 2، ص121.
30 - د. أحمد شرف الدين. الأحكام الشرعية للأعمال الطبية، الكويت، 1983م.
31 - د. أحمد شرف الدين. زراعة الأعضاء والقانون، مجلة الحقوق، 1977، العدد 2، ص163.
32 - د. أحمد شرف الدين. الإجراءات الطبية الحديثة، نشرة الطب الإسلامي، 1981، ص569.
33 - د. أحمد شرف الدين. الحدود الشرعية والقانونية والإنسانية للإنعاش الصناعي، مجلة الحقوق، 1981، العدد 2، ص103.
34 - د. أحمد شرف الدين. الضوابط القانونية لمشروعية نقل وزراعة الأعضاء، المجلة الجنائية القومية، 1978، العدد 1، 2 ص115.
35 - د. أحمد محمود سعد. زرع الأعضاء بين الحظر والإباحة، دار النهضة، القاهرة، 1986م.
36 - د. أسامة قايد. المسئولية الجنائية للأطباء، دار النهضة، القاهرة، 1989م.
37 - أبو فرج ابن الجوزي. الثبات عند الممات، دار الفكر، بيروت، 1992م.
38 - أبو بكر ميقا. أحكام المريض في الفقه الإسلامي، الطبعة الثالثة، 1981م.
39 - د. أبو زيد بكر. فقه النوازل، مكتبة الصديق، الطائف، 1988م.
40 - د. أبو زيد بكر. انتفاع الإنسان بأعضاء جسم إنسان آخر حياً أو ميتاً، بحث مقدم لمجمع الفقه الإسلامي، 1987م.
41 - د. أحمد إبراهيم. مسئولية الأطباء في الإسلام، مجلة الأزهر، المجلد 20، ص744.
42 - د. أحمد شوقي أبو خطوة. القانون الجنائي والطب الحديث، دار النهضة، القاهرة، 1995م.
43 - د. أحمد شوقي أبو خطوة. الإنعاش الصناعي بين الحظر والإباحة، بحث مقدم للمؤتمر الأول للجمعية المصرية للقانون الجنائي، القاهرة، 1987م.
44 - د. أحمد الشطي. تاريخ الطب وآدابه وأعلامه، دمشق، 1982م.(171/145)
45 - د. أمين البطوش. الحكم الشرعي لاستقطاع الأعضاء وزرعها، مجلة البحوث الإسلامية، العدد 53، محرم 1419هـ، ص317.
46 - د. إبراهيم بن مراد. تاريخ الطب عند العرب، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1991م.
47 - إبراهيم الجمل. الحياة بعد الموت، دار الكتاب العربي، بيروت، 1985م.
48 - د. أحمد طه. الطب الإسلامي، دار الاعتصام، القاهرة، 1986م.
49 - د. أحمد الفنجري. الطب الوقائي في الإسلام، القاهرة، 1991م.
50 - د. أبو شادي الروبي. تاريخ الطب العربي، دار المريخ، الرياض، 1988م.
51 - الشيخ أحمد عساف. الحلال والحرام في الإسلام، بيروت، 1989م.
52 - د. أحمد الكردي. القواعد الكلية في الفقه الإسلامي، دمشق، 1980م.
53 - الأتاسي خالد. شرح مجلة الأحكام العدلية، مطبعة حمص، سوريا، 1930م.
54 - إبراهيم محمد رمضان. مختصر الفقه على المذاهب الأربعة، دار القلم، بيروت، بدون تاريخ.
55 - أعمال وأبحاث وقرارات مجمع الفقه الإسلامي في دوراته المختلفة.
56 - أبحاث وقرارات المجمع الفقهي لرابطة العالم الإسلامي في دوراته المختلفة.
57 - أبحاث المؤتمر العالمي الأول للطب الإسلامي، الكويت، 1981م.
58 - أعمال وأبحاث ندوة الإنجاب في ضوء الإسلام، الكويت، مايو 1983م.
59 - أعمال وأبحاث ندوة المشاكل الطبية المعاصرة والإسلام، الكويت، يناير 1985م.
60 - أعمال وأبحاث ندوة بداية الحياة ونهايتها، الكويت، 1985م.
61 - أبحاث مؤتمر الطب والقانون، جامعة الإسكندرية، مارس 1974م.
62 - أبحاث المؤتمر الطبي الإسلامي عن الإعجاز الطبي في القرآن الكريم، القاهرة، 1985م.
63 - أبحاث المؤتمر الدولي عن المسئولية الطبية، جامعة بنغازي، ليبيا، أكتوبر 1978م.
64 - أبحاث وتوصيات المؤتمر الدولي لزرع الأعضاء، الجزائر العاصمة، نوفمبر 1985م.
65 - أعمال وأبحاث المؤتمر الطبي للتخدير والعناية المركزة، دمشق، 1993م.(171/146)
66 - أبحاث الندوة الطبية الخامسة، المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية، الكويت، أكتوبر 1989م.
67 - أعمال وأبحاث ندوة الطب والقانون، جامعة سيدي بلعباس، الجزائر، أبريل 1992م.
68 - أعمال وأبحاث ندوة الطب والقانون، جامعة الإمارات، مايو 1998م.
69 - الباجي. شرح الباجي على موطأ الإمام مالك، مطبعة السعادة، القاهرة، 1332هـ.
70 - البهوتي. كشاف القناع، تعليق الشيخ هلال، مكتبة النصر، الرياض، بدون تاريخ.
71 - البيجرمي. تحفة الحبيب على شرح الخطيب، دار الفكر، بيروت، 1981م.
72 - البيهقي. السنن الكبرى، دار المعرفة، بيروت، بدون تاريخ.
73 - بدر المتولي. نهاية الحياة الإنسانية في نظر الإسلام، مجمع الفقه الإسلامي، 1986م.
74 - د. بلحاج العربي. المدخل لدراسة التشريع الإسلامي، الجزائر، 1992م.
75 - د. بلحاج العربي. الوجيز في شرح قانون الأسرة الجزائري، الجزائر، 1994م.
76 - د. بلحاج العربي. النظرية العامة للالتزامات، الجزائر، 1992م.
77 - د. بلحاج العربي. أبحاث ومذكرات في القانون والفقه الإسلامي، الجزائر، 1996م.
78 - د. بلحاج العربي. أحكام المواريث، الجزائر، 1996م.
79 - د. بلحاج العربي. بحوث في فقه المعاملات، جامعة وهران، 1991م.
80 - د. بلحاج العربي. الضمانات القانونية لزرع الأعضاء في القانون الطبي الجزائري، بحث مقدم للملتقى الدولي لزرع الأعضاء، الجزائر العاصمة، نوفمبر 1985م.
81 - د. بلحاج العربي. أخلاقيات المهنة الطبية وآدابها في الفقه الإسلامي، بحث مقدم للملتقى الوطني للطب والقانون، جامعة سيدي بلعباس، أبريل 1992م.
82 - د. بلحاج العربي. حكم الشريعة الإسلامية في أعمال الطب والجراحة المستحدثة، مجلة البحوث الفقهية المعاصرة، الرياض، 1993م، العدد 18، ص53.
83 - د. بلحاج العربي. معالم نظرية الحق لدى فقهاء الشريعة الإسلامية، مجلة البحوث الفقهية المعاصرة، الرياض، 1995م، العدد 25، ص74.(171/147)