العنوان: أخطاء يرتكبها بعض الحجيج
رقم المقالة: 1724
صاحب المقالة: سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
-----------------------------------------
أخطاء يرتكبها بعض الحجيج
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد خاتم النبيين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين،
أما بعد
فقد قال الله – تعالى -{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}، [الأحزاب: 21].
وقال – تعالى - {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}، [الأعراف: 158].
وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}، [آل عمران: 31].
وقال تعالى: {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ}، [النمل: 79]، وقال تعالى: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ}، [يونس:32].
فكل ما خالف هدي النبي - صلى الله عليه وسلم – وطريقته، فهو باطل وضلال مردود على فاعله، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم – ((مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوُ رَدٌّ))؛ رواه مسلم؛ أي: مردود على صاحبه غير مقبول منه.(56/1)
وإن بعض المسلمين - هداهم الله ووفقهم - يفعلون أشياء في كثير من العبادات غير مبنية على كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - ولا سيما في الحج الذي كثر فيه المقدمون على الفتيا بدون علم، وسارعوا فيها حتى صار مقام الفتيا متجرًا عند بعض الناس للسمعة والظهور، فحصل بذلك من الضلال والإضلال ما حصل، والواجب على المسلم ألا يُقدم على الفتيا إلا بعلم يواجه به الله - عز وجل - لأنه في مقام المبلِّغ عن الله – تعالى - القائل عنه، فليتذكر عند الفتيا قوله -تعالى - في نبيه - صلى الله عليه وسلم – {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ}، [الحاقة: 44-47]، وقوله – تعالى - {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ}، [الأعراف: 33].
وأكثر الأخطاء من الحجاج ناتجة عن هذا - أعني عن الفتيا بغير علم - وعن تقليد العامة بعضهم بعضًا دون برهان. ونحن نبيِّن بعون الله - تعالى - السنة في بعض الأعمال التي يكثر فيها الخطأ مع التنبيه على الأخطاء، سائلين من الله أن يوفقنا، وأن ينفع بذلك إخواننا المسلمين إنه جواد كريم.
الإحرام والأخطاء فيه:
ثبت في "الصحيحين" وغيرهما عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقّت لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل نجد قرن المنازل، ولأهل اليمن يلملم، وقال: ((فهن لهن، ولمن أتى عليهن من غير أهلهن لمن كان يريد الحج والعمرة)).(56/2)
وعن عائشة - رضي الله عنها – "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقّت لأهل العراق ذات عرق"؛ رواه أبو داود و النسائي.
وثبت في "الصحيحين" أيضًا في حديث عبد الله ابن عمر - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((يُهِلُّ أهل المدينة من ذي الحليفة، ويهل أهل الشام من الجحفة، ويهل أهل نجد من قرن))؛ الحديث.
فهذه المواقيت التي وقتها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حدود شرعية توقيفية موروثة عن الشارع، لا يحل لأحد تغييرها أو التعدي فيها، أو تجاوزها بدون إحرام لمن أراد الحج والعمرة، فإن هذا من تعدي حدود الله، وقد قال الله – تعالى - {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}، [البقرة: الآية229]؛ ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - ((يهل أهل المدينة، ويهل أهل الشام، ويهل أهل نجد)) وهذا خبر بمعنى الأمر.
والإهلال: رفع الصوت بالتلبية، ولا يكون إلا بعد عقد الإحرام، فالإحرام من هذه المواقيت واجب على من أراد الحج أو العمرة إذا مر بها أو حاذاها، سواءٌ أتى من طريق البر أم البحر أم الجو.
فإن كان من طريق البر نزل فيها إن مر بها، أو فيما حاذاها إن لم يمر بها، وأتى بما ينبغي أن يأتي به عند الإحرام من الاغتسال، وتطييب بدنه، ولبس ثياب إحرامه، ثم يحرم قبل مغادرته.
وإن كان من طريق البحر، فإن كانت الباخرة تقف عند محاذات الميقات، اغتسل، وتطيب، ولبس ثياب إحرامه حال وقوفها، ثم أحرم قبل سيرها، وإن كانت لا تقف عند محاذات الميقات، اغتسل، وتطيب، ولبس ثياب إحرامه قبل أن تحاذيه ثم يحرم إذا حاذته.
وإن كان من طريق الجو، اغتسل عند ركوب الطائرة، وتطيب، ولبس ثوب إحرامه قبل محاذات الميقات، ثم أحرم قبيل محاذاته، ولا ينتظر حتى يحاذيه؛ لأن الطائرة تمر به سريعة فلا تعطي فرصة، وإن أحرم قبله احتياطًا فلا بأس؛ لأنه لا يضره.(56/3)
والخطأ الذي يرتكبه بعض الناس أنهم يمرون من فوق الميقات في الطائرة أو من فوق محاذاته ثم يؤخرون الإحرام حتى ينزلوا في مطار جدة، وهذا مخالف لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - وتعدٍّ لحدود الله – تعالى -
وفي "صحيح البخاري " عن عبد الله ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: لما فُتح هذان المصران - يعني البصرة والكوفة - أتَوا عمر - رضي الله عنه - فقالوا: "يا أمير المؤمنين، إن النبي - صلى الله عليه وسلم - حدد لأهل نجد قرنًا، وإنه جورٌ عن طريقنا، وإن أردنا أن نأتي قرنًا شق علينا قال: فانظروا إلى حذوها من طريقكم" فجعل أمير المؤمنين أحد الخلفاء الراشدين ميقات من لم يمر بالميقات إذا حاذاه، ومن حاذاه جوًا فهو كمن حاذاه برًا ولا فرق.
فإذا وقع الإنسان في هذا الخطأ، فنزل جدة قبل أن يحرم، فعليه أن يرجع إلى الميقات الذي حاذاه في الطائرة فيحرم منه، فإن لم يفعل وأحرم من جدة، فعليه عند أكثر العلماء فدية، يذبحها في مكة، ويفرقها كلها على الفقراء فيها، ولا يأكل منها، ولا يهدي منها لغني؛ لأنها بمنزلة الكفارة.
الطواف والأخطاء الفعلية فيه:
ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه ابتدأ الطواف من الحجر الأسود في الركن اليماني الشرقي من البيت، وأنه طاف بجميع البيت من وراء الحجر، وأنه رَمَل في الأشواط الثلاثة الأولى فقط في الطواف أول ما قدم مكة.
وأنه كان في طوافه يستلم الحجر الأسود، ويقبله، واستلمه بيده وقبلها، واستلمه بمحجن كان معه، وقبّل المحجن وهو راكب على بعيره، وطاف على بعيره فجعل يشير إلى الركن - يعني الحجر - كلما مر به، وثبت عنه أنه كان يستلم الركن اليماني.(56/4)
واختلاف الصفات في استلام الحجر إنما كان - والله أعلم - حسب السهولة، فما سهل عليه منها فعله، وكل ما فعله من الاستلام، والتقبيل، والإشارة إنما هو تعبد لله - تعالى - وتعظيم له، لا اعتقادًا أن الحجر ينفع أو يضر، وفي "الصحيحين" عن عمر - رضي الله عنه - أنه كان يقبِّل الحجر، ويقول: "إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقبلك ما قبلتك".
والأخطاء التي تقع من بعض الحجاج:
1_ ابتداء الطواف من قِبَلِ الحجر، أي من بينه وبين الركن اليماني، وهذا من الغلو في الدين الذي نهى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يشبه من بعض الوجوه تقدم رمضان بيوم أو يومين، وقد ثبت النهي عنه. وادعاء بعض الحجاج أنه يفعل ذلك احتياطًا غير مقبول منه؛ فالاحتياط الحقيقي النافع هو اتباع الشريعة، وعدم التقدم بين يدي الله ورسوله.
2_ طوافهم عند الزحام بالجزء المسقوف من الكعبة فقط، بحيث يدخل من باب الحجر إلى الباب المقابل ويدع بقية الحجر عن يمينه، وهذا خطأ عظيم لا يصح الطواف بفعله؛ لأن الحقيقة أنه لم يطف بالبيت، وإنما طاف ببعضه.
3_ الرمل في جميع الأشواط السبعة.
4_ المزاحمة الشديدة للوصول إلى الحجر لتقبيله، حتى إنه يؤدي في بعض الأحيان إلى المقاتلة والمشاتمة، فيحصل من التضارب، والأقوال المنكرة ما لا يليق بهذا العمل، ولا بهذا المكان في مسجد الله الحرام وتحت ظل بيته، فينقص بذلك الطواف بل النسك كله؛ لقوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ}، [البقرة: 197]، وهذه المزاحمة تُذهب الخشوع، وتُنسي ذكر الله – تعالى - وهما من أعظم المقصود في الطواف.(56/5)
5_ اعتقادهم أن الحجر نافع بذاته؛ ولذلك تجدهم إذا استلموه مسحوا بأيديهم على بقية أجسامهم، أو مسحوا بها على أطفالهم الذين معهم، وكل هذا جهل وضلال؛ فالنفع والضرر من الله وحده، وقد سبق قول أمير المؤمنين عمر: "إني لأعلم أنك حجر، لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقبلك ما قبلتك).
6_ استلامهم - أعني بعض الحجاج - لجميع أركان الكعبة، وربما استلموا جميع جدران الكعبة وتمسحوا بها، وهذا جهل وضلال؛ فإن الاستلام عبادة، وتعظيم لله - عز وجل - فيجب الوقوف فيها على ما ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يستلم النبي - صلى الله عليه وسلم - من البيت سوى الركنين اليمانيين- الحجر الأسود، وهو في الركن اليماني الشرقي من الكعبة، والركن اليماني الغربي - وفي مسند الإمام أحمد عن مجاهد عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه طاف مع معاوية - رضي الله عنه - فجعل معاوية يستلم الأركان كلها، فقال ابن عباس: لِمَ تستلم هذين الركنين ولم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستلمهما ؟ فقال معاوية: ليس شيء من البيت مهجورًا. فقال ابن عباس: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة. فقال معاوية: صدقت.
الطواف والأخطاء القولية فيه:
ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يكبر الله - تعالى - كلما أتى على الحجر الأسود، وكان يقول بين الركن اليماني والحجر الأسود: {رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}، [البقرة:201]، وقال: ((إنما جُعل الطواف بالبيت وبالصفا والمروة ورمي الجمار؛ لإقامة ذكر الله))؛ رواه أبو داود و الترمذي.(56/6)
والخطأ الذي يرتكبه بعض الطائفين في هذا، تخصيص كل شوط بدعاء معين لا يدعو فيه بغيره، حتى إنه إذا أتم الشوط قبل تمام الدعاء قطعه ولو لم يبق عليه إلا كلمة واحدة؛ ليأتي بالدعاء الجديد للشوط الذي يليه، وإذا أتم الدعاء قبل تمام الشوط، سكت.
ولم يرِد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الطواف دعاء مخصص لكل شوط. قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - وليس فيه - يعني الطواف - ذكر محدود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا بأمره، ولا بقوله، ولا بتعليمه، بل يدعو فيه بسائر الأدعية الشرعية، وما يذكره كثير من الناس من دعاء معين تحت الميزاب، ونحو ذلك فلا أصل له.
وعلى هذا، فيدعو الطائف بما أحب من خيري الدنيا والآخرة، ويذكر الله - تعالى - بأي ذكر مشروع من تسبيح، أو تحميد، أو تهليل، أو تكبير، أو قراءة قرآن.
ومن الخطأ الذي يرتكبه بعض الطائفين، أن يأخذ من هذه الأدعية المكتوبة فيدعو بها وهو لا يعرف معناها، وربما يكون فيها أخطاء من الطابع أو الناسخ تقلب المعنى رأسًا على عقب، وتجعل الدعاء للطائف دعاءً عليه، فيدعو على نفسه من حيث لا يشعر. وقد سمعنا من هذا العجب العجاب. ولو دعا الطائف ربه بما يريده ويعرفه فيقصد معناه لكان خيرًا له وأنفع، ولرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكثر تأسيًا وأتبع.
ومن الخطأ الذي يرتكبه بعض الطائفين، أن يجتمع جماعة على قائد يطوف بهم، ويلقنهم الدعاء بصوت مرتفع، فيتبعه الجماعة بصوت واحد، فتعلوا الأصوات وتحصل الفوضى، ويتشوش بقية الطائفين فلا يدرون ما يقولون، وفي هذا إذهاب للخشوع، وإيذاء لعباد الله - تعالى - في هذا المكان الآمن، وقد خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - على الناس وهم يصلون ويجهرون بالقراءة، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((كلكم يناجي ربه، فلا يجهر بعضكم على بعض في القرآن))؛ رواه مالك في "الموطأ" وقال ابن عبدالبر: "وهو حديث صحيح".(56/7)
ويا حبذا لو أن هذا القائد إذا أقبل بهم على الكعبة، وقف بهم، وقال افعلوا كذا، قولوا كذا، ادعوا بما تحبون، وصار يمشي معهم في المطاف حتى لا يخطئ منهم أحد، فطافوا بخشوع وطمأنينة يدعون ربهم خوفًا وطمعًا بما يحبونه وما يعرفون معناه ويقصدونه، وسلم الناس من أذاهم.
الركعتان بعد الطواف والخطأ فيهما:
ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لما فرغ من الطواف، تقدم إلى مقام إبراهيم، فقرأ: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125]، فصلي ركعتين، والمقام بينه وبين الكعبة، وقرأ في الركعة الأولى الفاتحة و: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} وفي الثانية الفاتحة و: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}.
والخطأ الذي يفعله بعض الناس هنا، ظنهم أنه لا بد أن تكون صلاة الركعتين قريبًا من المقام، فيزدحمون على ذلك، ويؤذون الطائفين في أيام الموسم، ويعوقون سير طوافهم، وهذا الظن خطأ؛ فالركعتان بعد الطواف تجزئان في أي مكان من المسجد، ويمكن المصلي أن يجعل المقام بينه وبين الكعبة، وإن كان بعيدًا عنه فيصلي في الصحن أو في رواق المسجد، ويسلم من الأذية، فلا يؤذِي ولا يؤذَي، وتحصل له الصلاة بخشوع وطمأنينة.
ويا حبذا لو أن القائمين على المسجد الحرام منعوا من يؤذون الطائفين بالصلاة خلف المقام قريبًا منه، وبيَّنوا لهم أن هذا ليس بشرط للركعتين بعد الطواف.
ومن الخطأ أن بعض الذين يصلون خلف المقام يصلون عدة ركعات كثيرة بدون سبب، مع حاجة الناس الذين فرغوا من الطواف إلى مكانهم .
ومن الخطأ أن بعض الطائفين إذا فرغ من الركعتين وقف بهم قائدهم يدعو بهم بصوت مرتفع، فيشوشون على المصلين خلف المقام فيعتدون عليهم، وقد قال - الله تعالى -: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف:55].
صعود الصفا والمروة والدعاء فوقهما والسعي بين العلمين والخطأ في ذلك:(56/8)
ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه حين دنا من الصفا قرأ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ}، ثم رقى عليه حتى رأى الكعبة، فاستقبل القبلة ورفع يديه، فجعل يحمد الله، ويدعو ما شاء أن يدعو، فوّحد الله وكبره وقال: ((لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده)) ثم دعا بين ذلك، فقال مثل هذا ثلاث مرات، ثم نزل ماشيًا فلما انصبت قدماه في بطن الوادي، وهو ما بين العلمين الأخضرين، سعى حتى إذا تجاوزهما مشى حتى إذا أتى المروة، ففعل على المروة ما فعل على الصفا.
والخطأ الذي يفعله بعض الساعين هنا أنهم إذا صعدوا الصفا والمروة استقبلوا الكعبة، فكبروا ثلاث تكبيرات يرفعون أيديهم، ويومِؤون بها كما يفعلون في الصلاة ثم ينزلون، وهذا خلاف ما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - فإما أن يفعلوا السنة كما جاءت إن تيسر لهم، وإما أن يَدَعوا ذلك ولا يحدثوا فعلاً لم يفعله النبي - صلى الله عليه وسلم -
ومن الخطأ الذي يفعله بعض الساعين أنهم يسعون من الصفا إلى المروة - أعني أنهم يشتدون في المشي ما بين الصفا والمروة كله - وهذا خلاف السنة؛ فإن السعي ما بين العلمين فقط، والمشي في بقية المسعى، وأكثر ما يقع ذلك إما جهلاً من فاعله، أو محبة كثير من الناس للعجلة والتخلص من السعي، والله المستعان.
الوقوف بعرفة والخطأ فيه:
ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه مكث يوم عرفة بنمرة حتى زالت الشمس، ثم ركب ثم نزل فصلى الظهر والعصر ركعتين ركعتين جمع تقديم بأذان واحد وإقامتين، ثم ركب حتى أتى موقفه فوقف وقال: ((وقفت هاهنا، وعرفة كلها موقف))؛ رواه مسلم. فلم يزل واقفًا مستقبلاً القبلة، رافعًا يديه يذكر الله، ويدعوه حتى غربت الشمس، وغاب قرصها فدفع إلى مزدلفة.
والأخطاء التي يرتكبها بعض الحجاج:(56/9)
1_ أنهم ينزلون خارج حدود عرفة، ويبقون في منازلهم حتى تغرب الشمس، ثم ينصرفون منها إلى مزدلفة من غير أن يقفوا بعرفة، وهذا خطأ عظيم يفوت به الحج؛ فإن الوقوف بعرفة ركن لا يصح الحج إلا به، فمن لم يقف بعرفة في وقت الوقوف فلا حج له؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((الحج عرفة، من جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر فقد أدرك))؛ رواه الترمذي وغيره. وسبب هذا الخطأ الفادح أن الناس يغتر بعضهم ببعض؛ لأن بعضهم ينزل قبل أن يصلَها ولا يتفقد علاماتها؛ فيفوِّت على نفسه الحج ويغري غيره، ويا حبذا لو أن القائمين على الحج أعلنوا للناس بوسيلة تبلغ جميعهم، وبلغات متعددة، وعهدوا إلى المطوفين بتحذير الحجاج من ذلك؛ ليكون الناس على بصيرة من أمرهم، ويؤدوا حجهم على الوجه الأكمل الذي تبرأ به الذمة.
2_ أنهم ينصرفون من عرفة قبل غروب الشمس، وهذا حرام؛ لأنه خلاف سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث وقف إلى أن غربت الشمس، وغاب قرصها، ولأن الانصراف من عرفة قبل الغروب عمل أهل الجاهلية.
3_ أنهم يستقبلون الجبل - جبل عرفة - عند الدعاء، ولو كانت القبلة خلف ظهورهم، أو على أيمانهم أو شمائلهم، وهذا خلاف السنة، فإن السنة استقبال القبلة كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -
رمي الجمرات والخطأ فيه:(56/10)
ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه رمى جمرة العقبة، وهي الجمرة القصوى التي تلي مكة بسبع حصيات ضحى يوم النحر، يكبِّر مع كل حصاة، كل حصاة منها مثل حصا الخذف أو فوق الحمص قليلًا، وفي "سنن النسائي " من حديث الفضل بن عباس - رضي الله عنهما - وكان رديف النبي - صلى الله عليه وسلم - من مزدلفة إلى منى - قال: "فهبط - يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - محسرًا، وقال: ((عليكم بحصا الخذف الذي ترمى به الجمرة))؛ رواه ابن حبان في "صحيحه" قال: "والنبي - صلى الله عليه وسلم - يشير بيده كما يخذف الإنسان، وفي "مسند الإمام أحمد " عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال يحيى: لا يدري عوف، عبد الله أو الفضل - قال: "قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غداة العقبة، وهو واقف على راحلته: ((هات القط لي)) قال: فلقطت له حصيات هن حصا الخذف فوضعهن في يده. فقال: ((بأمثال هؤلاء)) مرتين وقال بيده. فأشار يحيى، إنه رفعها وقال: ((إياكم والغلو فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين))؛ رواه النسائي و ابن ماجه.
وعن أم سليمان بن عمرو بن الأحوص - رضي الله عنها - قالت: "رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يرمي جمرة العقبة من بطن الوادي يوم النحر وهو يقول: ((يا أيها الناس، لا يقتل بعضكم بعضًا، وإذا رميتم الجمرة فارموها بمثل حصا الخذف))؛ رواه أحمد. وفي "صحيح البخاري " عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أنه كان يرمي الجمرة الدنيا بسبع حصيات، يكبر على أثر كل حصاة، ثم يتقدم حتى يسهل، فيقوم مستقبل القبلة فيقوم طويلًا، ويدعو ويرفع يديه، ثم يرمي الوسطى ثم يأخذ ذات الشمال فيسهل، ويقوم مستقبل القبلة فيقوم طويلًا، ويدعو، ويرفع يديه، ثم يرمي جمرة العقبة من بطن الوادي، ولا يقف عندها، ثم ينصرف فيقول: "هكذا رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم – يفعله".(56/11)
وروى أحمد و أبو داود عن عائشة - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إنما جعل الطواف بالبيت وبالصفا والمروة، ورمي الجمار لإقامة ذكر الله)).
والأخطاء التي يفعلها بعض الحجاج هي:
1_ اعتقادهم أنه لا بد من أخذ الحصا من مزدلفة، فيتعبون أنفسهم بلقطها في الليل، واستصحابها في أيام منى حتى إن الواحد منهم إذا ضاع حصاه حزن حزنًا كبيرًا، وطلب من رفقته أن يتبرعوا له بفضل ما معهم من حصا مزدلفة، وقد عُلِم مما سبق أنه لا أصل لذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنه أمر ابن عباس - رضي الله عنهما - بلقط الحصا له، وهو واقف على راحلته، والظاهر أن هذا الوقوف كان عند الجمرة؛ إذلم يُحفظ عنه أنه وقف بعد مسيره من مزدلفة قبل ذلك، ولأن هذا وقت الحاجة إليه فلم يكن ليأمر بلقطها قبله لعدم الفائدة فيه، وتكلف حمله.
2_ اعتقادهم أنهم برميهم الجمار يرمون الشياطين، ولهذا يطلقون اسم الشياطين على الجمار فيقولون: "رمينا الشيطان الكبير، أو الصغير، أو رمينا أبا الشياطين - يعنون به الجمرة الكبرى جمرة العقبة - ونحو ذلك من العبارات التي لا تليق بهذه المشاعر، وتراهم أيضًا يرمون الحصاة بشدة، وعنف، وصراخ، وسب، وشتم لهذه الشياطين على زعمهم، حتى شاهدنا من يصعد فوقها يبطش بها ضربًا بالنعل، والحصى الكبار بغضب وانفعال، والحصا تصيبه من الناس وهو لا يزداد إلا غضبًا وعنفًا في الضرب، والناس حوله يضحكون ويقهقهون كأن المشهد مشهد مسرحيه هزلية، شاهدنا هذا قبل أن تبنى الجسور وترتفع أنصاب الجمرات، وكل هذا مبني على هذه العقيدة: أن الحجاج يرمون شياطين، وليس لها أصل صحيح يعتمد عليه، وقد علمت مما سبق الحكمة في مشروعية رمي الجمار وأنه إنما شرع؛ لإقامة ذكر الله - عز وجل - ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يكبر على إثر كل حصاة.(56/12)
3_ رميهم الجمرات بحصى كبيرة، وبالحذاء – النعل - والخفاف – الجزمات - والأخشاب، وهذا خطأ كبير مخالف لما شرعه النبي - صلى الله عليه وسلم - لأمته بفعله، وأمره حيث رمى - صلى الله عليه وسلم - بمثل حصا الخذف، وأمر أمته أن يرموا بمثله، وحذرهم من الغلو في الدين، وسبب هذا الخطأ الكبير ما سبق من اعتقادهم أنهم يرمون شياطين.
4_ تقدمهم إلى الجمرات بعنف وشدة لا يخشعون لله – تعالى - ولا يرحمون عباد الله، فيحصل بفعلهم هذا من الأذية للمسلمين والإضرار بهم، والمشاتمة، والمضاربة ما يقلب هذه العبادة، وهذا المشعر إلى مشهد مشاتمة ومقاتلة، ويخرجها عما شرعت من أجله، وعما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - ففي "المسند" عن قدامه بن عبد الله بن عمار قال: "رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم النحر يرمي جمرة العقبة على ناقة صهباء لا ضرب ولا طرد ولا إليك إليك"؛ رواه الترمذي وقال: "حسن صحيح".
5_ تَرْكُهُم الوقوف للدعاء بعد رمي الجمرة الأولى والثانية في أيام التشريق، وقد علمت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقف بعد رميهما مستقبل القبلة رافعًا يديه، يدعو دعاءً طويلاً، وسبب ترك الناس لهذا الوقوف الجهل بالسنة، أو محبة كثير من الناس للعجلة، والتخلص من العبادة، ويا حبذا لو أن الحاج تعلم أحكام الحج قبل أن يحج؛ ليعبد الله - تعالى - على بصيرة، ويحقق متابعة النبي - صلى الله عليه وسلم - ولو أن شخصًا أراد أن يسافر إلى بلد لرأيته يسأل عن طريقها حتى يصل إليها عن دلالة، فكيف بمن أراد أن يسلك الطريق الموصلة إلى الله - تعالى - وإلى جنته، أفليس من الجدير به أن يسأل عنها قبل أن يسلكها ليصل إلى المقصود؟!
6_ رميهم الحصى جميعًا بكف واحدة، وهذا خطأ فاحش، وقد قال أهل العلم إنه إذا رمى بكف واحدة أكثر من حصاة لم يحتسب له سوى حصاة واحدة؛ فالواجب أن يرمي الحصا واحدة فواحدة كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -(56/13)
7_ زيادتهم دعوات عند الرمي لم ترد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل قولهم: "اللهم اجعلها رضًا للرحمن، وغضبًا للشيطان" وربما قال ذلك وترك التكبير الوارد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - والأولى الاقتصار على الوارد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من غير زيادة ولا نقص.
8_ تهاونهم برمي الجمار بأنفسهم، فتراهم يوكلون من يرمي عنهم، مع قدرتهم على الرمي ليُسقطوا عن أنفسهم معاناة الزحام ومشقة العمل، وهذا مخالف لما أمر الله - تعالى - به من إتمام الحج؛ حيث يقول سبحانه: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196]؛ فالواجب على القادر على الرمي أن يباشره بنفسه، ويصبر على المشقة والتعب؛ فإن الحج نوع من الجهاد لا بد فيه من الكلفة والمشقة، فليتق الحاج ربه، وليتم نسكه كما أمره الله - تعالى - به ما استطاع إلى ذلك سبيلاً.
طواف الوداع والأخطاء فيه:
ثبت في "الصحيحين" عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: "أُمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت، إلا أنه خُفف عن الحائض" وفي لفظ لـ مسلم عنه قال: "كان الناس ينصرفون في كل وجه فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت"؛ رواه أبو داود بلفظ: "حتى يكون آخر عهده الطواف بالبيت" وفي "الصحيحين" عن أم سلمة - رضي الله عنها - قالت: "شكوت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أني أشتكي فقال: طوفي من وراء الناس وأنت راكبة، فطفت ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي إلى جنب البيت، وهو يقرأ بـ: {وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ} [الطور:1-2]، ولـ النسائي عنها أنها قالت: "يا رسول الله، والله ما طفت طواف الخروج فقال: إذا أقيمت الصلاة فطوفي على بعيرك من وراء الناس".(56/14)
وفي "صحيح البخاري " عن أنس ابن مالك - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ثم رقد رقدةً بالمحصب، ثم ركب إلى البيت فطاف به، وفي "الصحيحين" عن عائشة - رضي الله عنها - أن صفية - رضي الله عنها - حاضت بعد طواف الإفاضة، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم –: ((أحابستنا هي ؟ قالوا: إنها قد أفاضت، وطافت بالبيت قال: فلتنفر إذن)).
وفي الموطأ عن عبد الله بن عمر بن الخطاب - رضي الله عنهما - أن عمر - رضي الله عنه - قال: "لا يصدرن أحد من الحج حتى يطوف بالبيت؛ فإن آخر النسك الطواف بالبيت" وفيه عن يحيى بن سعيد أن عمر - رضي الله عنه - رد رجلاً من "مر الظهران" لم يكن ودع البيت حتى ودع.
والخطأ الذي يرتكبه بعض الحجاج هنا:
1_ نزولهم من منى يوم النفر قبل رمي الجمرات، فيطوفون للوداع، ثم يرجعوا إلى منى فيرموا الجمرات، ثم يسافروا إلى بلادهم من هناك، وهذا لا يجوز؛ لأنه مخالف لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يكون آخر عهد الحجاج بالبيت، فإن من رمى بعد طواف الوداع فقد جعل آخر عهده بالجمار لا بالبيت، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم -لم يطف للوداع إلا عند خروجه حين استكمل جميع مناسك الحج، وقد قال: ((خذوا عني مناسككم))؛ رواه مسلم. وأثرُ عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - صريحٌ في أن الطواف بالبيت آخر النسك. فمن طاف للوداع ثم رمى بعده فطوافه غير مجزئ؛ لوقوعه في غير محله، فيجب عليه إعادته بعد الرمي، فإن لم يعد كان حكمه حكم من تركه.(56/15)
2_ مكثهم بمكة بعد طواف الوداع، فلا يكون آخر عهدهم بالبيت، وهذا خلاف ما أمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - وبيَّنه لأمته بفعله، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أن يكون آخر عهد الحاج بالبيت، ولم يطف للوداع إلا عند خروجه، وهكذا فعل أصحابه، ولكن رخص أهل العلم في الإقامة بعد طواف الوداع للحاجة إذا كانت عارضة كبيرة، كما لو أقيمت الصلاة بعد طوافه للوداع فصلاها، أو حضرت جنازة فصلي عليها، أو كان له حاجة تتعلق بسفره، كشراء متاع، وانتظار رفقة، ونحو ذلك، فمن أقام بعد طوافه للوداع إقامة غير مرخص فيها، وجبت عليه إعادته.
3_ خروجهم من المسجد بعد طواف الوداع على أقفيتهم يزعمون بذلك تعظيم الكعبة، وهذا خلاف السنة بل هو من البدع التي حذرنا منها النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال فيها: ((كل بدعة ضلالة)؛ رواه ابن ماجة، والبدعة كل ما أُحدِث من عقيدة، أو عبادة على خلاف ما كان عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - وخلفاؤه الراشدون، فهل يظن هذا الراجع على قفاه تعظيمًا للكعبة على زعمه أنه أشد تعظيمًا لها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو يظن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يعلم أن في ذلك تعظيمًا لها لا هو ولا خلفاؤه الراشدون ؟!
4_ التفاتهم إلى الكعبة عند باب المسجد بعد انتهائهم من طواف الوداع، ودعاؤهم هناك كالمودعين للكعبة، وهذا من البدع؛ لأنه لم يرد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن خلفائه الراشدين، وكل ما قصد به التعبد لله - تعالى - وهو مما لم يرد به الشرع فهو باطل مردود على صاحبه؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد))؛ متفق عليه. - أي مردود على صاحبه -(56/16)
فالواجب على المؤمن بالله ورسوله، أن يكون في عباداته متبعًا لما جاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها لينال بذلك محبة الله ومغفرته، كما قال - تعالى -: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران: 31]، واتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - كما يكون في مفعولاته يكون كذلك في متروكاته، فمتي وجد مقتضي الفعل في عهده، ولم يفعله كان ذلك دليلاً على أن السنة والشريعة تركُه، فلا يجوز إحداثه في دين الله - تعالى - ولو أحبَّه الإنسان وهواه، قال الله تعالى -: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ} [المؤمنون:71]، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به)). قال ابن حجر في "الفتح": "أخرجه الحسن بن سفيان وغيره، ورجاله ثقات، وقد صححه النووي في آخر "الأربعين".(56/17)
العنوان: أخطاء يقع فيها بعض الصائمين
رقم المقالة: 1186
صاحب المقالة: الشيخ عائض بن عبدالله القرني
-----------------------------------------
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وآله وصحبه وبعد.
فيخطئ كثير من الصائمين في عدم التفقه في دين الله تعالى، بما فيه الصيام ؛ فكثير منهم لا يعرف ما يفطر صومه، ولا ما يجرحه، ولا ما يفسده، وماذا يُسَنُّ للصائم، وماذا يجوز له، وماذا يجب عليه، وما يَحرُم عليه.
وقد صح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ((مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ)) فكأن الذي لا يتفقه في الدين، ولا يسأل عن أمور دينه، ما أراد الله به خيرًا .
وقال عز وجل: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان:67]. تصبح الأسواق في رمضان مليئةً بالمشترين، وكلهم يحمل من الأشربة والأطعمة، ما يكفي عشرات الأسر.
هناك أسر تموت جوعًا، ولا تجد فتات الخبز، تنام في العراء، تفترش الغبراء، وتلتحف السماء، وأسر هنا أصابتها التخمة من كثرة إسرافها وتبجحها!!
من مقاصد الصيام استفراغُ المواد الفاسدة في المعدة بتقليل الطعام، وكيف يتم ذلك لمن أسرف في طعامه وشرابه، وبذَّر في مأكله؟!
وكثير من الصائمين قطعوا النهار في نوم؛ فكأنهم ما صاموا، منهم مَن لا يستيقظ إلا عند الصلاة ثم يعود إلى نومه، قطع نهاره بالغفلة، وأمضى ليله بالسهر.
فَمَا أَطَالَ النَّوْمُ عُمْرا وَمَا قَصَّرَ فِي الأَعْمَارِ طُولُ السَّهَرْ
الحكمة من الصيام أن يعيش الصائم لذة الجوع لمرضاة الله، وطعْم الظمأ في سبيل الله. والذي جعل النهار نومًا كله لا يجد ذلك.(57/1)
ومِن الصائمين مَن يلعب ألعابًا أقلُّ أحكامها الكراهةُ؛ مثل لعب البلوت، والإسراف في لعب الكرة، وكذلك ألعابًا يزعمون أنها مسلية، تضيع الوقت، وتفني الساعات في غير منفعة. قال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون: 115]. وقال تعالى: {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} [الأنعام: 70].
ومِن الصائمين مَن يسهر الليل سهرًا ضائعًا، لا منفعةَ فيه، ولا أجر؛ فَهُمْ في لهْوٍ ولعب وشرود، بينما لا تجد في هذا السهر ركعتين في ظلام الليل.
ومِن أشنع أخطاء بعض الصائمين تخلفُهم عن صلاة الجماعة لأدنى سببٍ وأتفه عذر، وهذا من علامات النفاق، ومن براهين مرض القلوب، وموت الأرواح. ومنهم مَن ليس بينه في رمضان وبين القرآن الكريم صلةٌ أو قربى، يقرأ كثيرًا لكن في غير القرآن الكريم، ويطالع كثيرًا ولكن في كتب غير كتاب الله عز وجل.
ومِن الصائمين مَن لا تجود نفسُه بصدقةٍ في هذا الشهر العظيم، ولا تشرف مائدتُه بتفطير بعض الصائمين؛ فبابه مغلق، وكفه بخيلة. قال تعالى: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل: 96]. وقال تعالى: {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ} [المزمل: 20].
ومِن الصائمين مَن ترك صلاة التراويح، وتكاسل عنها، ولسان حاله يقول: تكفيني الفريضة، وهو لا يكتفي من الدنيا بالقليل، بل يحرص على الكماليات منها حرصه على الضروريات.
ومِن الصائمين مَن أتعب أهله بتكلف صنع كثير من الأطعمة والأشربة؛ حتى أشغلهم عن القرآن الكريم والسُّنة، وعن ذكر الله والعبادة، ولو اقتصر على الضروري؛ لوجد أهلُه وقتًا واسعًا للتزود من طاعة الله عز وجل .اللهم زدنا ولا تنقصنا، وأعطنا ولا تحرمنا، وأكرمنا ولا تهنا، وسامحنا، واعف عنا.(57/2)
ومن الأخطاء الإسرافُ في رمضان في موائد الإفطار والسحور؛ فيوضع من الطعام ما يكفي الفئام من الناس، ويكثر من الأنواع، ويفنن في عرض كل غالٍ ورخيص، من مطعم ومشرب، من حلوٍ وحامض، وحلو ومالح، ثم لا يؤكل منه إلا القليل، ويهدر باقيه مع الفضلات، ويرمى في النفايات، وهذا خلاف هدي الإسلام العظيم، قال سبحانه وتعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31]. فكلُّ ما زاد على حاجة الإنسان واستهلاكه فهو إسراف مذموم، ولا يرضى به ربُّ الصائمين، ويندرج في قوله تعالى: {وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} [الإسراء: 26- 27].
ويقع بعض الصائمين في ذنوب عظيمة، تفسد عليهم صيامهم، وتضيع عليهم قيامهم؛ منها الغِيبة - وقد سبق ذكرها في درس كيف يصوم اللسان ؟ -، ومنها النميمة، والفحش في القول، والاستهزاء واللعن، وغيرها من ذنوب اللسان.
يقول سبحانه لعباده: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]. وأهل الذكر هم العلماء، فحقٌّ على المسلم الذي يريد أن يعبد الله على بصيرة أن يسأل عما يجهله من أمر دينه، ويبحث عن العلم، ويحرص على التفقه في الدين.(57/3)
العنوان: أخطر آليات تحقيق الأماني الراندية (2/1)
رقم المقالة: 954
صاحب المقالة: د. سعد بن مطر العتيبي
-----------------------------------------
أخطرُ آليَّات تحقيقِ الأماني الراندية
(محاولةٌ استشرافية حاذرة)
مِمَّا لا ينبغي الاختلافُ فيه أنَّ من واجبِنا الإسلامي الوطني أنْ نعرفَ ما يُراد لنا، وما يُقالُ عنَّا، وما يُفترَى علينا؛ لنشكرَ المنصِفَ، ونُفنِّدَ افتراءَ المفتري، بياناً للحق وزيادةَ توضيح له، ونأخذَ الحذرَ قبل وقوع الخطر؛ امتثالا لقول الباري جل وعلا: {يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم} [النساء: 71].
وقبل الدخول في هذه المحاولة الاستشرافية الحاذرة أُنبِّه على مقولة لتشارلز يوست (Charlesyost) جاء فيها: "الدرس الذي تعلمناه من حرب فيتنام: أن مقدرة الدول الكبرى على التدخل في الدول الأخرى بشكل فعَّال قد تناقص وتضاءل في الزمان والمكان والتاريخ. ويمكن أن يتم تدخلُ دولة كبرى في حرب مع دولة أخرى عن طريق دولة حليفة لها، وحتى إن فعلَتْ ذلك ستكشف لاحقاً أن ثمن التدخل يزيد كثيراً عن الفائدة المتوخاة ...".
ولكن يبدو أن اليمينيين الذين يحكمون أمريكا حاليا يحتاجون إلى فيتنام أخرى ليتعلموا الدرس مرّة أخرى، وهذا ما ظهرت بوادرُه في حروبهم التي أعلنوها بنشوة، وسخَّروا مؤسساتِهم البحثيةَ في مجاراتها مهما كانت النتائج، وقد صرخ الأمريكان أنفسهم: لقد تحولَ العراقُ إلى فيتنام جديدة!!(58/1)
1) ودخولاً في المراد: يُعدُّ استبعادُ البعد الديني - في الدراسة المستقبلية لعالمنا العربي والإسلامي - مظهراً من مظاهر الدراسات الاستشراقية الحديثة، أو ما يُعبَّر عنه بمدرسة المستشرقين الجدد، وقد أنصتُّ ليلةً لمحاضرةٍ كاملة لأحد هؤلاء المستشرقين، صرَّح في بدايتها بأنَّه استبعد (البعد الديني) من دراسته لما يعرف بالإسلام السياسي!! وهو موضوع محاضرته؛ فأي موضوعية يمكن أن يقنعنا بها هذا المستشرق! وقد بيَّنتُ له - في مداخلتي عليه - أن تصريحَه إفصاحٌ عن خطأ منهجي، كشف لنا فيما بعد سرَّ امتلاء محاضرته بالخلط والخبط! الذي كان محلَّ تندُّر الحضور بعد ذلك، وتوالت عليه المداخلات من عددٍ من الإخوة والأخوات تنتقد هذا الاستبعادَ المستهجن للبعد الديني في دراسة الموضوعات والظواهر الإسلامية ..
ويبدو أن الرانديين لا يوافقون المستشرقين الجدد في نظرتهم هذه، ولا سيما أنهم يخدمون ما يُعرف بالمحافظين الجدد .. ولكنَّهم فكَّروا وقدَّروا، مستبطنين رؤيةَ (صمويل هنتجتون) في صدام الحضارات!(58/2)
2) وأظنّ تقارير (راند) الأخيرة تشهد لما أقول؛ فإنَّها حملت على عاتقها محاولةَ إبعاد الدين لا استبعاد البعد الديني .. ويكفينا - لتبيُّن خطورة تقاريرها التي تتبنى هذه السياسة - ما نعلمُه من أنها إحدى المؤسسات المَعنِيَّة بالدراسات المستقبلية والخطط الاستراتيجية الأمريكية، ومع أنَّ مقرها في الولايات المتحدة الأمريكية، إلا أنَّ لها مكتبا فاعلاً في دولة عربية مجاورة. ويتجلى خطرُها أكثر وأكثر في استهدافِ تقريرِها السابق تغييرَ الإسلام ذاته، إذ كان عنوانُ ذلك التقرير: (الإسلام الديمقراطي المدني: الشركاء والمصادر والاستراتيجيَّات)، وقالت المشرفة على التقرير شاريل بينارد (Cheryl Benardزوجة خليل زلماي) ! مُلمِحَة إلى صعوبة المهمّة: "إنَّ تحويل ديانة عالَم بكامله ليس بالأمر السهل. إذا كانت عمليةُ بناء أمَّة مهمَّةً خطيرة، فإنَّ بناءَ الدِّين مسألة أكثر خطورة وتعقيداً منها".
3) وعوداً على بدء؛ فإنَّ من المهم في علم الدراسات المستقبلية: الاهتمامَ بالمعلومة المؤثِّرة، حتى كان من قواعد هذا العلم قولُ بعض المختصين: (اصدقني في المعلومة أصدقْك في التنبؤ) ..
ولمَّا كانت معلوماتُ (راند) حديثَ نفس عدائي في حرف مكتوب، صادر ممن يعلن بعداوتنا، ويكشِف سوءَ رؤيته لنا، فينبغي أن نقرأ التقرير قراءة استشرافية جادة، لا تَغفُل عن المنطلق الأيديلوجي والبعد الثقافي والإسقاط التاريخي الذي ينتهجه الرانديون في وضع استراتيجيتهم ضدنا ..(58/3)
وبالعودة لتقرير راند السابق (الإسلام الديمقراطي المدني) نجد أخطر الآلية لتحقيق مرامي التقرير مُعلَنة في العنوان، كما نجد تفاصيلَها في صفحاته؛ وفي مقابلة أجراها موقع (MuslimWakeup) مع (شاريل بينارد) ذاتها أكَّدتْ هي ضرورةَ دعم الحداثيين والمفكرين الذين يخدمون أهداف التقرير ومشاركتهم مشاركة فعالة، وذكرت أن هذا الدعم لا يلزم أن يكون علنياً وعلى الملأ! وحتى لو أدى هذا الدعم إلى اتهامهم بالعمالة للغرب فلا بأس؛ لأنهم مصنفون من قبل الأصوليين كأدوات للغرب على أية حال؛ لذلك فإنَّ دعمهم - على الأقل - يجعل ميدان الصراع بين الفريقين متوازنا نوعاً ما! وإذا كان هذا قول شاريل فليصدقوها أو ليكذبوها!
4) وفي التقرير الأخير (بناء شبكات إسلامية معتدلة) جاء التصريحُ بإسقاط مرحلة تاريخية قريبة - على فكرته التصادمية مع الإسلام وأمة الإسلام - كدرس من دروس الحرب الباردة، بغية إقناع أصحاب القرار برؤيته عبر التذكير بنشوة آثار تلك الحرب ضد السوفييت، منضما بذلك إلى من يعدون الإسلام العدو الجديد، وهو ما لم يكتفِ التقريرُ بالإشارة إليه بوصفِه ديناً يَحُولُ دون الإذعان (للأمْرَكَة) والقبول بالدمقرطة المغرية بزخرف القول، دون وضعها في ميزان عدله فحسب، وإنَّما صرَّح به في ثناياه.(58/4)
وهذا ما صار أمراً مكشوفا يُعلنه المفكِّرون الغربيون الأحرار من التبعية للمحافظين الجدد، وللسياسة الخارجية الأمريكية، وهذا ما أكَّده (Michel Bugnon –Mordont) في كتابه (أمريكا المستبدة) إذ يقول: "أدركَت الولايات المتحدة أن التنوع السياسي والجغرافي والتاريخي في العادات والتقاليد والمعتقدات والقوانين والثقافات يكون حواجزَ وروادعَ إنسانية وأخلاقية أمام انتشارها؛ فكان لا بد من وضع خطط تفرض الرأي الواحد وتمحو هوية الآخرين"، وأكتفي بإيراد هذا النص الذي يكشف لنا بعض خلفيات وضع الخطط الاستراتيجية للسياسة الأمريكية، التي تُعد مؤسسة (راند) من أهم جهات تنظيرها إن لم تكن الأهم.
5) ما أحب التركيز عليه في قراءة التقرير قراءةً استشرافية هو: لب الفكرة الراندية المتمثلة في وضع استراتيجية لتبديل الدين وتغيير أحكام شريعة رب العالمين.
ولمَّا كان القومُ لهم تجربة ناجحة في تبديل دينهم المحرَّف، فإنَّ مِنْ عِبَرِ التاريخ أنْ نضع خلفيتهم تلك أمام أعيننا ونحن نقرأ أفكارهم. ذلك أنَّ علمَ الاستشراف يقوم على منهجياتٍ تعتمدُ أمورا؛ منها: وضعُ المَشَاهد المستقبلية (السيناريوهات) في ضوء أنماط المشاهد الماضية، وبتعبير آخر: الإفادةُ من التجارب الناجحة في الماضي في وضع الاستراتيجيات للمستقبل.
والتجربة الخطيرة - التي لا أظنها تغيب عن المنظرين الغربيين من الليبراليين على وجه الخصوص - هي تلك الوثيقة الكنسية أو (المدونة البابوية) التي وضعتها الكنيسة الغربية لها ولأتباعها متخليةً بها عن ثوابتها، وما كانت تقضي به لنفسها من حقوق وما تضعه من واجبات؛ لتحظر عليهم ما كان واجبا في ديانتها، وتحجِّر عليهم ما كان واسعا في نظرها، وتمنح فيه خصومها من اللادينيين مكاسبَ هائلة تتمثل في تخليها لهم عن الشؤون السياسية والعلمية وحتى الدينية تحت مسمى (المدنية).(58/5)
وبغض النظر عن كيفية وقوع هذه التنازلات، إلا أنها وقعت! سواء كان ذلك نتيجة اختراق المجالس الكنسية من غير المتدينين بدينها، أو كان نتيجة ضغوط هائلة تمثلت في أكوام من الاتهامات الخطيرة حول ظلمها وجورها وفسادها؛ وضعتها في موقف الدفاع الذي أدى إلى تخريب بيتها بيدها؛ فانهارت مبادئُها التي كانت ترتسمها على مرِّ حِقَبها التاريخية بجرة أقلام القساوسة والكهنة ..
وأمَّا رؤى المشهد المستقبلي لهذا النموذج التاريخي في تحقيق الأماني الراندية فهو ما سيكونُ مدارَ الحلْقة الثانية من هذا الموضوع إن شاء الله تعالى.(58/6)
العنوان: أخطر آليات تحقيق الأماني الراندية (2/2)
رقم المقالة: 979
صاحب المقالة: د. سعد بن مطر العتيبي
-----------------------------------------
أخطر آليات تحقيق الأماني الراندية
(محاولة استشرافية حاذرة)
في الحلقة الماضية أشرت إلى أنّ علم (استشراف المستقبل) يقوم على منهجيات تعتمد أموراً كثيرة، منها: وضع المشاهد المستقبلية (السيناريوهات) في ضوء أنماط المشاهد الماضية، وبتعبير آخر: الإفادة من التجارب التاريخية الناجحة في وضع استراتيجيات مستقبلية مشابهة.
كما أشرتُ إلى التجربة التاريخية الخطيرة، التي لا أظنها تغيب عن المنظرين الغربيين، من (الليبراليين) على وجه الخصوص، ألا وهي تلك الوثيقة الكَنَسِيَّةُ أو (المُدَوَّنَةُ البابَوِيَّةُ)، التي وضعتها الكنيسة الغربية لها ولأتباعها، متخلية بها عن ثوابتها، وما كانت تقضي به لنفسها من حقوق، وما تضعه عن نفسها وأتباعها من واجبات؛ لتحظر عليهم ما كان واجباً في ديانتها، وتحجِّر عليهم ما كان واسعاً في نظرها، وتمنح فيه خصومها من (اللادينيين) مكاسب هائلة، تتمثل في تخليها لهم عن الشؤون السياسية والعلمية، بل والدينية؛ تحت مسمى (المدنية)!!
ومن أهم فوائد علم الاستشراف (الدراسات المستقبلية): أنه يُعنى بكشف المشكلات المتوقعة قبل حدوثها؛ للتهيؤ لمواجهة تلك المشاكل، ببذل الجهود البحثية، ووضع الترتيبات والخطط والسياسات المضادة؛ لمنع وقوع تلك المشكلات في بداياتها، أو الحد من آثارها بعد تقدّم خطواتها، وهذا ما يطلِق عليه بعضُ الباحثين: (وظيفة الإنذار المبكر).
وإذا حاولنا استشراف المشهد المستقبلي للنموذج التاريخي المشار إليه، في تحقيق الأماني (الراندية)، وهو ما لم يصرح به التقرير المعلن لمؤسسة (راند)؛ فإننا سنصل إلى نتائج تستوجب الحذر، بل الحذر الشديد، خشية أن نقع ضحايا لخطط معلنة!(59/1)
وفي بيان المشهد التاريخي؛ سأبدأ بعرض بعض مواد تلك الوثيقة البابوية، والتنازلات الكنسية، التي وضعها المتدينون النصارى لغير المتدينين، وإن شئت فقل: قدَّمها الكنسيون للملحدين دون مقابل! وعنونها خبيرُ الدراسات الاستراتيجية والمستقبلية أستاذُنا د. محمد بريش بـ (الاستبداد الديني! أو كشف اللثام عن المدونة البابوية للمحظور من الفكر والكلام - حفريات معرفية في جذور صراع الكنيسة مع العلمانية).
ولم يجانب أستاذنا الحقيقة في عنوان دراسته، فقد جاءت المادة (19) من تلك الوثيقة بتنازل كبير يمنح السلطة غير الدينية تحديد حقوق الكنيسة! وهذا نص ما جاء في المدونة البابوية: "الكنيسة ليست مجتمعاً صحيحاً مثالياً كامل الحريّة، وليست لها حقوق خاصّة ودائمة ومخوّلة لها من طرف مؤسسها المقدس، بل من حق السلطة المدنية أن تحدد ما هي حقوق الكنيسة، وفي أي حدود يمكنها ممارسة تلك الحقوق ".
وجاءت المادة (31) بتنازل عن سلطتها في جانب الأحكام المدنية والجنائية، ونصها: "إن المنتدى، أو المحكمة الكنسية للأحكام الدنيوية لرجال الدين، سواء على الصعيد المدني أو الجنائي؛ يلزم أن تُلغى كليّةً، وحتى بدون استشارة الكرسي البابوي، ودون أي اعتبار لاحتجاجاته"!!
بل مُنحَت السلطةُ المدنية حقَّ التدخل في القضايا التي تتعلق بالدين والتوجه الروحي! كما في المادة (43)، ونصها: "يحق للسلطة المدنية التدخل في القضايا التي تتعلق بالدين والأخلاق والتوجه الروحي، ومن ثم فإنه يمكنها الحكم على الأوامر والتوجيهات الصادرة عن قساوسة الكنيسة ".
وفي المادة (53) ألغت المدونةُ الكنسية القوانين التي تحمي ميثاق المجموعات الدينية، وتعطي الحكومة الحق في مساندة من يتخلون عن دينهم:(59/2)
"يلزمُ إلغاءُ القوانين التي تحمي ميثاق المجموعات الدينية وحقوقها ووظائفها. يمكن للحكومة المدنية أن تساند كل أولئك الذين يرغبون في التخلي عن الحالة الدينية التي اعتنقوها، ومخالفة عهودهم الرسمية، وفي نفس الوقت يمكنها -أي الحكومة المدنية- أن تحل كل هذه المجموعات الدينية، وكذلك الكنائس الجامعية، ومكاسبها البسيطة في حق الإشراف، وإخضاع ممتلكاتها ومداخلها لإدارة وقوة السلطة المدنية"!!
وفي المادة (55) حققت المدونة البابوية أمنية العلمانيين، بقولها: "يجب فصل الدين عن الدولة، وفصل الدولة عن الكنيسة"!!
ومن هنا يمكننا أن نبدأ قراءة استشرافية لتقرير راند المعنون بـ "بناء شبكات مسلمة معتدلة - Building Moderate Muslim Networks ". وذلك في نقط تقتصر على الإشارات:
أولاً: لنفترض كيفية وقوع تلك التنازلات:
- ربما كانت نتيجة اختراق للمجالس الكنسية ممن يتظاهرون بالدين!
- أو نتيجة تغييرات تربوية وسلوكية طرأت على بعض القيادات الدينية؛ نتيجة تأثرها بنظريات فلسفية مُخترِقة عالقة، أو تصرفات كنسية متناقضة، أو اضطهاد داخلي، ونحو ذلك من المؤثِّرات..
- أو نتيجة ضغوط هائلة تمثلت في أكوام من الاتهامات الخطيرة للكنيسة بظلمها واستبدادها وفسادها وتشويه سمعتها؛ لوضعها في موقف الدفاع، حتى أخذت تدافع بتنازل تلو تنازل، ويضغطون علمياً (والتصرفات الكنسية الاستبدادية وغيرها قابلةٌ للنقد العلمي، ولا شك، وهو ما لا يصح إسقاطه على الإسلام)، ويضغطون إعلامياً، حتى أدى ذلك في نهاية المطاف إلى انهيار أهم مبادئ الكنيسة (المحرّفة) -التي كانت ترسمها في حقبها التاريخية، بأقلام القساوسة والكهنة- نتيجة هذه الضغوط، وإشغالها بالدفاع الذي يضطرها إلى التنازل، ثم إقناعها بفشل مبادئها السائدة -آنذاك- وتنازلها عنها بإصدار المدونة المذكورة آنفاً..(59/3)
- وربما كانت هذه المدونة صنيع فئة أكثر حضوراً، وأقوى أثراً وتأثيراً من الفئة المحافظة داخل الكنيسة، في حين كان المحافظون صوتاً خافتاً عاجزاً، حصل تجاوزُه بقوة الخروج إلى الواقع بعد صنع قيادات بديلة.
ثانياً: لنقرأ لبّ تلك التنازلات في المشهد التاريخي:
مما يمكن ملاحظته عند محاولة قراءة ذلك المشهد التاريخي: أنَّ الدين لم يُستبعد تماماً، لكونه أثراً من آثار التنازلات الكنسية، وإنّما جُسِّد في شعارات وطقوس ووظائف تابعة، فارغة من معاني السيادة والتمكين؛ ليحقق أغراض السياسيين (اللادينيين) في هدوء واطمئنان!
وهذا الأمر ذاته تحقق في الحالة الأوربية المعاصرة، فلا زلنا نجد النص على الدِّين في دساتير عدد من الدول[1]! وهو أمر يطول الحديث فيه، وفي دلالاته..
- ومع ذلك فقد كان للمدونة البابوية أثر ظاهر في تغيير مناهج التعليم، فكان من أُولى الخطوات التي نتجت عن التنازل الكنسي في المجال التعليمي: استبعاد ما يتعلق بذم اليهود في مناهج التعليم الأوربية!
- كما كان لتلك المدونة أثر أكبر في الجانب (التقنيني) والقضائي، فقد ألغي كل ما كان للكنيسة من ذلك، بنص المادة (31) السابق ذكره، بل أعطت المدونة الكنسية للعلمانيين حقاً بالتدخل في القضايا الدينية والخلقية والروحية، وهو ما نصت عليه المادة (43)!!!
- وأمَّا حرية الخروج على الدين و(التجديف) الإلحادي؛ فهذا لب المادة (53) من تلك المدونة، التي صنعها رجال الدين!!
- وأمَّا لبّ العلمانية في الناحية السياسية؛ فهو ما نصت عليه المادة (55) التي أوجب فيها (رجال الدين) فصل الدين عن الدولة، والدولة عن الدين!
وإذا عدنا إلى واقع أمتنا، واستكملنا نظرتنا إليها بوضعها في مشهدٍ (رانديٍّ)، مستقبلي، متواضع التحليل؛ فإنَّنا سنجد من خطوات الواقع ما يعطي مشهداً للمستقبل -ما لم نُغير ما بأنفسنا- وذلك في جهتين:(59/4)
الأولى: من جهة ظهور الدعوات التي يطمح (الرانديون) إلى تحقيقها، وسأقتصر على أوضح أصولها:
1) ظهور الدعوات المناقضة للإسلام، كالفكر العلماني و(الليبرالي) -وإن بلبوس إسلامي- مستغلةً الانحراف الفكري، لفئة من المحسوبين على أهل العلم والدعوة، منذ قرن، كما في كتاب (الإسلام وأصول الحكم)، المنسوب لعلي عبد الرازق.
2) ظهور الدعوات التي تطالب بتغيير مناهج التعليم في البلاد الإسلامية ظهوراً خطِيراً، كما نشهد المناداة الإعلامية بتغيير المناهج في جميع بلاد الإسلام دون استثناء، ولم تخل تلك الدعوات من الإشارة إلى مراعاة الآخر، وإن كان الآخر ذلك الصهيونيَّ المحتل لفلسطين!
3) ظهور التحريفات في الدين وتأويل النصوص لدى عدد من الكتّاب ممن يحسبون على أمة الإسلام، ممن بلغت بهم الجرأة، أو الجهل، أو الانهزامية، حدَّ المجاهرة بإحياء الدعوى (القاديانية) المنادية بإباحة الردة عن الإسلام، وعدم تجريم فاعلها، بلْه معاقبته، وذلك ضمن مقولات باطلة، منها: نَفيُهم مشروعية عقوبة المرتد، مع أنها دعوى (قاديانيةُ) المنشأ، باطلةٌ بطلان الديانة (القاديانية).
ومن يقرأْ تاريخ (القاديانية) في الهند يجدْها مشهداً تاريخياً من مشاهد تسويغ المشروع الغربي؛ إذ هي صنيعة الحاقدين من المستشرقين، وعملاء الجيش الإنجليزي، وما أشبه الليلة بالبارحة؛ فتلك الهجمة الفكرية تسببت في ظهور فتاوى من بعض علماء الهند، تضمنت تنازلاتٍ من أخطرها جعلُ جهاد المحتل أمراً غير مشروع!
وللفائدة؛ أُحيلُ إلى كلامِ مؤصِّلٍ، في الردّ على فكرة تطبيع الردّة، تلك الفكرة الخطِرة، وتفنيدٍ قويٍّ لشبهات المنقادين لها، وهو للشيخ الدكتور/ يوسف القرضاوي، سلمه الله، أُلخِّصُه في قوله: "أجمع فقهاء الإسلام على عقوبة المرتد، وإن اختلفوا في تحديدها، وجمهورهم على أنها القتل، وهو رأي المذاهب الأربعة، بل الثمانية".(59/5)
الثانية: من جهة الآليات التي يُتوقع لجوء منفذي المؤامرة (الراندية)، في ضوء المشهد التاريخي للمدونة البابوية:
1) جمع شمل شتات ذوي الأفكار المنحرفة، والسعي في التنسيق بينهم، في صور متعدِّدة، من مثل: المنتديات، والمؤسسات الفكرية العامة في ظاهرها، واللقاءات الشخصية، والاستقطابية، والإبراز الإعلامي لأشخاص مغمورين، أو منحرفين معروفين، وكذا التنظيمات التي تتخذ من (مؤسسات المجتمع المدني) شعاراً، ومن (الليبرالية) مساراً، ومن (المنح الأجنبية) زاداً للخيانة.
2) التنقّص من الشخصيات العلمية والدعوية، الحقيقية، كأفراد العلماء الربانيين، و(الاعتبارية) كهيئات الإفتاء ولجانه المعتبرة؛ وذلك ابتغاء كسر جلال العلم وتحطيم محدِّدات المنهج، وفتح الطريق للمشروع الأجنبي!
3) السعي في اختراق المجامع الفقهية والمجالس والروابط العلمية الإسلامية القائمة، وتكوين أكثرية مطلقة، ولو كانوا من الإداريين؛ ليظهر أثرها في القرارات التي تتطلب تصويتاً.
4) الضغط على المسلمين، دولاً، أو جمعيات، أو مجامع فقهية، أو مجالس إفتاء، أو تجمعات إسلامية، أو كلِّ ذلك؛ لاستصدار بيانات ومواثيق متخاذلة تجعل من المصلحة الملغاة أو المتوهمة مستنداً لتنازلاتها، ثم تسويغ مضامينها على نحو ما.
5) إيجاد مجامع أو مجالس أو روابط من المنحرفين فكرياً، ممن ينسبون للعلم الشرعي أو الدعوة الإسلامية، وتلقيبهم بألقاب العلم، والفتوى، والفكر الإسلامي، والخبرة، إلخ..!! ولا سيما في حال فشل محاولات الاختراق للمجامع الفقهية والمجالس الإفتائية القائمة.(59/6)
6) استهداف إصدار بيان من علماء مسلمين، ينتمون إلى مجمع فقهي، يتبع منظومة الدول الإسلامية؛ تُقدَّم فيه تنازلاتٌ، على نمط المدونة البابوية: تنازلات عن المناهج التعليمية المحافظة، وعن القضاء الشرعي، وإن كان في الأسرة والأحوال الشخصية، وعن الوقوف في وجه المرتدين، بل وفتح المجال للردة الجماعية أمام إرساليات المنصرين، ويُبقَى فيه على مسمى الدِّين، على النحو الوارد في تقرير (راند) 2003 م، وربما يُسمَح بذكر الإسلام في بعض الدساتير الإسلامية، وما تمثيلية (الدستور العراقي) منا ببعيد.
7) استصدار قرارات من المجامع أو المجالس أو الروابط أو الجمعيات العلمية تخدم الأهداف (الراندية).
8) فرض مقتضيات البيان والقرارات المجمعية على الدول الإسلامية التي تمتنع عن تطبيقه، وذلك بآليات ما يُعرف بـ (الشرعية الدولية)، كميثاق الأمم المتحدة؛ سِلماً بالفصل الخامس، وحرباً بالفصل السابع؛ بحجة حماية حقوق الإنسان، ونشر الديمقراطية، ونحو ذلك من شعارات القوم.
ولقد رأينا بوادر ذلك، وهو ما حمل على كتابة هذه الرؤية الاستشرافية الحاذرة، مع علمي بأنها دون التحقيق المطلوب..
هذه بعض الآليات (الراندية) المتوقعة؛ لتحقيق تلك الأماني الخطيرة الخائبة -بإذن الله تعالى- وهي آليات غير إقليمية.
ولا شك أن ثمة آليات تخص كل بلد على حدة، ربما تمتطي الطابور الخامس، وتتستر بالنفاق السياسي والدبلوماسية الغدّارة، فلا عجب أن ترى علمانيَّ فِكرٍ يسعى لفتح كلية شرعية! أو (ليبراليَّ أدلجةٍ) يطمح إلى الخَطابة من منبر جامع عريق!!
وإننا لنناشد علماء الإسلام، في المجامع الفقهية، والتجمعات العلمية؛ أن يقفوا وقفة الحامي لحمى الإسلام، الذائد عن حياض الشريعة.(59/7)
كما نناشد قادة الأمة الإسلامية أن يأخذوا كل الاحتمالات في الاعتبار، ويقفوا -بكل ما أُوتوا من قوة- في وجه كل محاولة لتغيير الدين، أو التنقّص من ثوابته، أو تشويه نقائه، فإنهم مسؤولون أمام الله -تعالى- أولاً، ثم أمام شعوبهم وتاريخ أمتهم ثانياً. وليس ذلك عسيراً، فقد وقفت الدول الإسلامية الجادة، في إبطال بعض المؤتمرات الدولية المُغرضة، وقفةً تشكر عليها.
وختاماً؛ أود التنبيه إلى أمر مهم، لا يسعني تجاوز التنبيه عليه، في طرح موضوعٍ بخطورة هذا الموضوع، ألا وهو: أهمية البعد عن تصنيف الأشخاص والأعيان، والمؤسسات الدعوية، والعلماء، والدعاة، وغيرهم، ضمن آليات المخططات الأجنبية، دون برهان ودليل..
فكم اتهم أشخاص بما لم يَخطُر لهم على بال! وبين يدي بعض المقالات والرسائل، التي يسعى في نشرها بعضُ أهل الغَيرة، تجاوزت الحد في التخمين، حتى نالت من بعض خيار المسلمين!!
وإن مما يَريب اللبيبَ، وجودُ أسماءٍ وطنية عرفت بشرفها، في طيات تقارير أجنبية مُعلنة، كما لا يُستبعد انطلاق تلك الرسائل والمقالات من جهات مغرضة أو أشخاص مغرضين، وصدق الله العظيم: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات:6]، وإني لشاكر للإخوة الذين يتثبَّتون فيما يردهم من رسائل، وما يقفون عليه من مقالات؛ حذراً من أن يصيبوا قوماً بجهالة.
كفى الله المسلمين كيد الكائدين، وجعل مكائد الأعداء وبالاً عليهم، وسبباً من أسباب نضج الصحوة الإسلامية العارمة، ووفق ولاة أمور المسلمين لتحمّل مسؤولياتهم الكبيرة، وسياسة دنياهم بدينهم؛ إنه على كل شيء قدير.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] http://www.alqlm.com/index.cfm?method=home.con&contentID=152(59/8)
العنوان: الفتاة المسلمة
رقم المقالة: 146
صاحب المقالة: محمد حسام الدين الخطيب
-----------------------------------------
أَنا الفتاةُ المسلمهْ مَصونةٌ مُكرَّمهْ
أمشي على دَربِ الهدى فخورةً مُحْتَرَمهْ
حِجابيَ الخِمارُ وَكلُّه وَقارُ
وأرتدي رَغْمَ العِدا ما ليسَ فيهِ عارُ
أسيرُ في الطريقِ وخالقي رفيقي
وناظِري على المدى أَصْوَنُ مِنْ شقيقي
في السرِّ والإعلانِ أعيشُ باطمئْنانِ
لأنني مثلُ النَّدى نَقِيَّةُ الأَردانِ(60/1)
العنوان: أداء الأمانة
رقم المقالة: 739
صاحب المقالة: سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
-----------------------------------------
الحمد لله الذي أحاط بكل شيء علماً وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له نعم المولى ونعم النصير، وأشهد أن محمداًً عبده ورسوله البشير النذير والسراج المنير صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً.
أما بعد، أيها المؤمنون: اتقو الله تعالى، اتقوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم اتقوا الله تعالى في السر والعلانية اتقوا الله تعالى بأداء الأمانة التي أبت السماوات والأرض والجبال أن تحملها وأنتم حملتموها فأدوها كما تحملتموها، أدوا الأمانة في حقوق الله وحقوق العباد. فأداء الأمانة في حقوق الله أن تعبدوا الله مخلصين له الدين ومتبعين لسيد المرسلين لا تشركوا بالله في أعمالكم ولا تراؤوا فيها، فإن من راءى راءى الله به فأظهر رياءه للعالمين وفضحه بين الخلائق أجمعين. ألا وإن من علامات الرياء كون الإنسان يعصي الله في السر حين لا يطلع إلا الله ويظهر خشية الله في العلانية حين يراه الناس. أما أداء الأمانة في حقوق العباد فهو أن يعاملهم على وجه النصح والإخلاص من غير غش ولا كذب ولا خيانة في جميع ميادين الحياة.(61/1)
فعلى ولاة الأمور أن يؤدوا ما أوجب الله عليهم من تفقد أحوال من في ولايتهم والسلوك بهم على ما يرونه أنفع لهم في دينهم ودنياهم، وهم مسؤولون عن ذلك أمام الله، وعلى من تحتهم من الرعية أن يؤدوا الأمانة في حقوق أولياء الأمور فيأخذوا بإرشاداتهم ويطيعوا أوامرهم في غير معصية الله، وعليهم أن يكفوا عن عيوبهم فإن أمكنهم إزالتها بمناصحتهم فذلك هو الواجب عليهم، وإن لم يتمكنوا من ذلك فليسألوا الله لهم الهداية وإصلاح بطانتهم؛ لأن في صلاحهم صلاح الرعية كما أن صلاح الرعية سبب لصلاح الراعي، فأحوال الراعي والرعية متشابهة متلازمة. وعلى الذين يتولون التعليم في جميع مراحله في الابتدائي والمتوسط والثانوي وما فوقه أن يؤدوا الأمانة في التعليم فيسلكوا بالطلبة أقرب الطرق إلى تفهيمهم وتعليمهم، وليعاملوا كل طائفة بما تتحمله عقولهم وأفهامهم، وعليهم أن يركزوا في نفوسهم حب الله وحب رسوله والمؤمنين، وأن يغرسوا في نفوسهم قواعد الدين وأسسه وأهدافه ليرسخ في قلوبهم، وعلى المعلم أن يمثل أمام الطلبة بالأخلاق الفاضلة والأعمال الصالحة، فإن المتعلم يقتدي بمظاهر المعلم وأخلاقه أكثر مما يقتدي به في تعليمه، فمتى عرف المعلم المسؤولية الكبرى التي عليه وأنه يواجه جيلاً ينبني صلاح مستقبله وفساده على التعليم الذي يتلقاه فإنه يحرص على نفع الطلبة ويجتهد في سلوك الطرق التي تؤدي إلى إصلاحهم، فليستعن بالله وليخلص النية والله ولي التوفيق.(61/2)
وأداء الأمانة في البيع والشراء أن يلتزم فيهما الحدود الشرعية التي رسمها الشارع الحكيم، فلا يتعاطى المعاملة بالربا لا صريحا ولا حيلة فإن التحيل على الربا شر من الربا الصريح لأن المتحيل جمع بين المخادعة والربا، وعلى العامل بالبيع والشراء أن يتجنب الغش والغرر لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الغرر وقال: ((من غش فليس منا)) وعلى من استحفظوا على مال وأمن عندهم أن يؤدوا الأمانة فيه وأن يحفظوه لصاحبه، ولا يحل لمن جعل عنده أمانة أن يتسلف منها شيئاً إلا بعد أن يستأذن من صاحبها، وعلى من له ولاية في تزويج امرأة أن يتقي الله فيها فلا يمنعها من كفئها، ولا يزوجها بغير كفء لها، وليختر لها صاحب الدين والأخلاق الفاضلة ولا يجعلن همه في المال فالمال قد يزول من الغني، وقد يكون الفقير غنياً، وكم من إنسان زوج ابنته أو غيرها لهذا الغرض فحصل بينهم الشقاق والنزاع، أما الدين والخلق فإنهما هما الذخيرة النافعة إن أمسكها أمسكها بمعروف وإن فارقها فارقها بإحسان. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ * وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [الأنفال:27،28].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم... إلخ.(61/3)
العنوان: آداب إسلامية
رقم المقالة: 673
صاحب المقالة: سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
-----------------------------------------
الحمد لله الذي أتم علينا نعمته، وأكمل لنا الدين، وشرع لنا من الأعمال الصالحات أنواعاً وأصنافاً لنتقرب بها إلى رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أكرم الأكرمين، وأشهد أن محمداًً عبده ورسوله المصطفى على جميع المرسلين صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً.(62/1)
أما بعد: أيها المؤمنون اتقوا الله، واعلموا أن الإنسان إذا أصبح كان عليه لكل عظم من عظامه صدقة لكنها صدقة لا تختص بالمال بل تعم جميع ما يقرب إلى الله من الأقوال والأعمال، ففي الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((كل سلامى من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس)) ثم بين النبي - صلى الله عليه وسلم - نوع هذه الصدقة، فقال: ((تعدل بين اثنين صدقة، وتعين الرجل في دابته، فتحمله عليها، أو ترفع له عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وبكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة، وتميط الأذى عن الطريق صدقة، فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - العدل بين اثنين صدقة، فمن عدل بين اثنين في القضاء بينهما، أو عدل بينهما، فأصلح بينهما فهو له صدقة))، ومن عدل بين أولاده فيما يجب العدل عليه فيه بينهم فهو له صدقة، ومن عدل بين زوجتيه في القسم فهو له صدقة، وجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - إعانة الرجل في دابته صدقة، فمن وجد رجلاً لا يستطيع الركوب على دابته، فأمسكها حتى يركب، أو حمله عليها فذلك صدقة، ومن وجد شخصاً يريد أن يحمل على دابته شيئاً، فساعده على حمله، أو أمسك دابته فهو صدقة، وجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - الكلمة الطيبة صدقة، والكلمة الطيبة تشمل كل قول يقرب إلى الله تعالى، فالأمر بالمعروف صدقة، والنهي عن المنكر صدقة، وبكل تسبيحة أو تكبيرة أو تهليلة صدقة، وتعليم العلم النافع صدقة، وابتداء السلام، ورده صدقة، وجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - بكل خطوة يخطوها العبد إلى الصلاة صدقة، وكلما بعدت طريق الصلاة كانت الصدقات أكثر، وهذا من أكبر فضائل صلاة الجماعة في المساجد، وجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - إزالة الأذى عن الطريق صدقة، فمن عزل حجراً أو شوكة أو عظماً عن طريق الناس، فذلك صدقة يثاب عليها، ويؤجر وفي الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((مر رجل(62/2)
بغصن شجرة على ظهر طريق، فقال: والله لأنحين هذا عن المسلمين لا يؤذيهم فأدخل الجنة)) وفي رواية: ((لقد رأيت رجلاً يتقلب في الجنة أي: يروح فيها: ويجيء كما شاء من شجرة قطعها من ظهر الطريق كانت تؤذي الناس))، وفي رواية ((بينما رجل يمشي بطريق وجد غصن شوك على الطريق، فأخره، فشكر الله له، فغفر له))، ويدخل في إماطة الأذى عن الطريق تسهيل الطرقات الصعبة التي تشق على من سلكها، وتؤذيهم فإن في إصلاحها وتسهيلها إزالة لأذاها ومشقتها، فمن ساهم في ذلك بماله أو بدنه، فقد فعل خيراً، ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله والإحسان إلى عباد الله، فسوف يلقى الذكر الطيب في الدنيا والثواب الجزيل في الأخرى إن شاء الله؛ وفقني الله وإياكم إلى المسارعة في الخيرات والمساهمة في جميع المشاريع النافعة، وجعل عملنا خالصاً لوجهه موافقاً لمرضاته إنه قريب مجيب الدعوات. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً}. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.(62/3)
العنوان: آداب الصيام المستحبة
رقم المقالة: 1316
صاحب المقالة: سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
-----------------------------------------
الحمدُ لله مُبلِّغِ الراجِي فوقَ مأمُولِه، ومُعْطِي السائلِ زيادةً على مسؤولِه، أحمدُه على نيلِ الهُدَى وحصولِه، وأقِرُّ بوحدانيَّتِهِ إقرارَ عارفٍ بالدَّلِيل وأصُوله، وأصلِّي وأسَلِّم على نبينا محمدٍ عبدِه ورسولِه، وعلى صاحبه أبي بكرٍ الملازم له في ترحالِهِ وحُلُولِه، وعلى عُمَر حامِي الإِسْلامِ بعزْمٍ لا يُخَافُ من فُلولِه، وعلى عثمانَ الصابرِ على البلاء حين نزولِه، وعلى عليٍّ بن أبي طالبٍ الذي أرهبَ الأعداءَ بشجاعتِهِ قبل نُضُولِه، وعلى جميع آلِه وأصْحابه الذين حازُوا قصَبَ السَّبْق في فروعِ الدينِ وأصُولِه، ما تَرَدَّد النسيمُ بين جَنوبِه وشمَالِهِ وغرْبِهِ وقُبولِه.
إخواني: هذا المجلسُ في بيانِ القسمِ الثانِي من آداب الصومِ وهي الآدابُ المُسْتحبَّةُ، فمنها:
السُّحُورُ وهو الأكلُ في آخِرِ الليل سُمِّي بذلكَ لأنَّه يقعُ في السَّحَرِ فقد أمَرَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلّم - به فقال: ((تَسحَّروا فإن في السحورِ بركةً))؛ متفق عليه. وفي صحيح مسلم عن عمرو بن العاصِ رضي الله عنه أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلّم - قال: ((فَصْلُ ما بَيْنَ صيامِنَا وصيامِ أهلِ الكتاِب أكْلةُ السَّحَر)). وأثْنَى - صلى الله عليه وسلّم - على سَحُورِ التَّمرِ فقال: ((نِعْمَ سَحُورُ المؤمنِ التمرُ))؛ رواه أبو داود[1]. وقال صلى الله عليه وسلّم: ((السُّحُور كله بركةٌ فلا تَدَعُوْه ولو أن يجرع أحدكم جرعةً من ماءٍ فإن الله وملائكتَه يُصلُّون على المُتسَحِّرِين)) رواه أحمد وقال المنذريُّ: إسنادُه قويٌّ[2].(63/1)
وَيَنْبَغِي للمتسحر أنْ ينْويَ بِسُحُوره امتثالَ أمر النبي صلى الله عليه وسلّم، والاقْتداءَ بفعلِهِ، ليكونَ سُحُورُه عبادةً، وأنْ ينويَ به التَّقَوِّيَ على الصيام ليكونَ له به أجرٌ. والسُّنَّةُ تأخيرُ السُّحورِ ما لَمْ يخْشَ طلوعَ الْفَجْرِ لأنَّه فعلُ النبيِّ صلى الله عليه وسلّم، فعن قتادة عن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه أن نبيَّ الله - صلى الله عليه وسلّم - وزَيْدَ بن ثابتٍ تسحَّرَا فلَّما فرغا من سُحُورهما قام نبيُّ الله - صلى الله عليه وسلّم - إلى الصلاةِ فصلَّى، قُلنا لأنس: كمْ كان بين فراغِهما من سُحُورهما ودخولهما في الصلاةِ؟ قال: قَدْرُ ما يقْرأ الرجلُ خَمسين آيةً؛ رواه البخاري. وعن عائشةَ رضي الله عنها أنَّ بلاَلاً كان يؤذِّنُ بلَيْل، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلّم: ((كُلُوا واشرَبُوا حتى يُؤذِّنَ ابن أمِّ مكتومٍ فإنَّه لا يؤذنُ حتى يطلُعَ الفجْرَ))؛ رواه البخاري. وتأخيرُ السُّحور أرفْقُ بالصائِم وأسْلَمُ من النومِ عن صلاةِ الفجرِ. وللصائم أن يأكلَ ويشربَ ولو بَعْد السُّحورِ ونيَّةِ الصيام حتى يَتيقَّنَ طلوعَ الفجر لقوله تعالى: {وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 183]. ويحكم بطلوعِ الفجرِ إما بمشاهَدَتِهِ في الأُفقِ أو بخَبَرٍ موثوقٍ به بأذانٍ أو غيرِه، فإذا طلع الفجرُ أمْسَكَ وينوي بقلبِه ولا يَتلفَّظ بالنيةِ لأنَّ التلفظ بها بدعةٌ.(63/2)
ومن آداب الصيام المستحبةِ تعجيلُ الفُطور إذا تحقق غروبُ الشَّمْسِ بمُشَاهدتِها أو غَلَب على ظنِّه الغروبُ بِخبرٍ موثوقٍ به بأذانٍ أو غيرِه، فعن سَهْلِ بنِ سعد رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلّم - قال: ((لا يَزالُ الناسُ بخيْرٍ ما عَجَّلُوا الفِطْرَ))؛ متفق عليه. وقال - صلى الله عليه وسلّم - فيما يرْويهِ عن ربِّه عزَّ وجلَّ: ((إن أحبَ عبادي إليَّ أعجلُهم فطرًا))؛ رواه أحمد والترمذي[3]. والسنَّة أنْ يفطِرَ على رُطَبٍ، فإن عُدِم فتمْر، فإنْ عُدِم فَمَاء، لقول أنسٍ رضي الله عنه: ((كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلّم - يُفطِرُ قبلَ أن يُصَلِّيَ على رُطباتٍ، فإنْ لَمْ تكنْ رطبات فَتَمَرَات، فإن لم تكن تمرات حَسَا حَسَواتٍ من ماءٍ))؛ رواه أحمد وأبو داود والترمذي[4]. فإن لم يجد رُطبًا ولا تمرًا ولا ماءً أفْطَر على ما تَيسَّر من طعام أو شرابٍ حلال. فإنْ لم يجد شَيْئًا نَوى الإِفطار بقلبِه ولا يمص إصْبَعَه أو يجمع ريقَه ويَبلعه كما يفعلُ بعضُ العَوَامِّ.
وينبغي أن يدعُوَ عند فِطرِه بما أحَبَّ، ففي سنن ابن ماجة عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلّم - أنَّه قال: ((إنَّ للصائِمِ عند فطْرِه دعوةً ما تُرَدُّ)). قال في الزوائد: إسنادُه صحيح[5]، وروى أبو داودَ عن معاذَ بنِ زهْرَةَ مرسَلاً مرفوعًا: كان إذا أفطر يقولُ: اللَّهُمَّ لك صُمْت وعلى رزقك أفَطَرَتُ[6]. وله من حديث ابنِ عمَر رضي الله عنهما أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلّم - كان إذا أفْطَر يقولُ: ((ذَهَبَ الظَّمأُ وابْتَلَّتِ العروُقُ وثَبتَ الأجْرُ إنْ شاءَ الله))[7].(63/3)
ومن آدابِ الصيامِ المستحبةِ كثرةُ القراءةِ والذكرِ والدعاءِ والصلاةِ والصدقة. وفي صحيح ابن خزيمة وابن حبَّان أن النبي - صلى الله عليه وسلّم - قال: ((ثلاثة لا ترد دعوتُهم: الصائمُ حتى يُفْطِر، والإِمامُ العادلُ، ودعوةُ المظلومِ يرْفَعُها الله فوقَ الغمامِ وتُفتَحُ لها أبوابُ السماء ويقولُ الرَّبُّ: وعِزَّتِي وجَلالِي لأنصُرنَّكِ ولو بَعدَ حينٍ))، ورواه أحمد والترمذي[8]. وفي الصحيحين من حديث ابن عباسٍ رضي الله عنهما قال: كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلّم - أجْوَد الناسِ، وكان أجوَدَ ما يكونُ في رمضانَ حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن. فَلَرَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلّم - حينَ يَلقاهُ جبريلُ أجْوَدُ بالْخيرِ من الريحِ المُرسلةِ. وكان جُوْدُه - صلى الله عليه وسلّم - يَجْمعُ أنْواعَ الجُودِ كُلَّها من بذْلِ الْعِلْمِ والنَّفْسِ والمالِ لله عزَّ وجلَّ في إظهارِ دينِه وهداية عبادِه وإيْصالِ النَّفْعِ إليهم بكَلِّ طريقٍ من تعْليم جاهِلِهِم وقضاءِ حوائِجِهم وإطعام جائِعهم. وكان جودُه يتضاعَفُ في رمضان لِشَرَفِ وَقتِهِ ومضاعَفَةِ أجْرِهِ وإعانَةِ العابدين فيه على عبادتهم والجمع بين الصيام وإطعامِ الطعام وهما مِنْ أسْبابِ دخولِ الجنَّةِ.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرةَ رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلّم - قالَ: ((مَنْ أصبح منْكُمْ اليومَ صائمًا؟ فقال أبو بكر: أنا. قال: فمَنْ تبعَ منكم اليومَ جِنازةً؟ قال أبو بكر: أنا. قال: فمَنْ أطعم منكم اليومَ مسكينًا؟ قال أبو بكر: أنا. قال: فمَنْ عادَ منكم اليومَ مريضًا؟ قال أبو بكر: أنا. قال النبي صلى الله عليه وسلّم: مَا اجتمعْنَ في امرأ إلاَّ دَخَلَ الجنَّةَ)).(63/4)
ومن آداب الصيام المستحبةِ أنْ يَسْتحضِرَ الصائمُ قدْرَ نعْمة الله عليه بالصيام حيثُ وفَّقَه له ويَسَّره عليه حتى أتمَّ يومَه وأكْملَ شَهْره، فإنَّ كثيرًا من الناسِ حُرمُوا الصيامَ إمَّا بموتِهِم قبل بلوغِهِ أو بعجْزهم عنه أو بضلالهم وإعْرَاضِهِم عن القيام به، فَلْيَحْمدِ الصائمُ ربَّه على نعمةِ الصيامِ التي هي سببٌ لمغفرةِ الذنوب وتَكْفير السيئاتِ ورفْعةِ الدرجاتِ في دارِ النعيم بجوارِ الربِّ الكريم.
إخواني: تأدبُوا بآداب الصيام، وتَخلَّوا عن أسْباب الغضب والانتقام، وتَحلوا بأوْصاف السَلَف الكرام، فإنَّه لن يُصْلِحَ آخر هذِه الأمة إلاَّ ما أصلَحَ أوَّلها منَ الطاعَة واجتنابِ الآثام.
قال ابن رجبٍ رحمه الله: الصائمون على طَبقَتَين: إحدَاهما: من ترك طعامَه وشرابَه وشهوتَه لله تعالى يرجو عنده عِوَضَ ذَلِكَ في الجنَّة،فهذا قد تاجَرَ مع الله وعَامله والله لا يضيعُ أجرَ منْ أحسنَ عملاً ولا يخيبُ معه من عامله، بل يربحُ أعظمَ الربح، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلّم - لرجل: ((إنك لن تدع شيئًا اتقاء الله إلا آتاك الله خيرًا منه)) أخرجه الإِمام أحمد[9].
فهذا الصائم يُعطى في الجنةِ ما شاء من طعام وشرابٍ ونساءٍ. قال الله تعالى: {كُلُواْ وَاشْرَبُواْ هَنِيئًَا بِمَآ أَسْلَفْتُمْ فِى الاَْيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة:24]. قال مُجاهدٌ وغيرُه: نَزَلتْ في الصائمين. وفي حديثِ عبدالرحمَن بنِ سَمُرةَ الَّذي رآه النبيُّ - صلى الله عليه وسلّم - في منامِه قال: ((ورَأيتُ رجلاً من أمَّتِي يلْهثُ عَطَشًا كُلَّمَا دنا من حَوضٍ مُنِعَ وطُرِدَ فجاءه صيامُ رمضان فسقاهُ وأرواه))، خرجه الطبراني[10].
يا قوم ألا خاطبٌ في هذا الشهرِ إلى الرحمن؟ ألا راغب فيما أعدَّ الله للطائِعين في الْجنَان؟
مَنْ يُرِدْ مُلْكَ الْجِنَانِ فلْيَدعْ عنه التواني
ولْيَقْم في ظُلمةِ الليلِ إلى نورِ القُرآنِ(63/5)
ولْيَصِلْ صومًابصومٍ إن هذا العَيشَ فَانِ
إنَّما العيشُ جِوارُ الله في دارِ الأمانِ
الطَّبَقَةُ الثانيةُ مِنَ الصائِمين: منْ يصومُ في الدنيا عما سِوى الله فَيَحْفَظُ الرأسَ وما حَوى والْبطْنَ وما وَعَى ويَذْكُر الموتَ والْبِلى ويريد الاخِرةَ فَيتركُ زينةَ الدنيا، فهذا عيدُ فِطرهِ يوم لقاءِ ربِّه وَفَرَحته برُؤْيتِهِ.
من صام بأمر الله عن شهواته في الدنيا أدركها غدًا في الجنة، ومن صام عما سوى الله فعيده يوم لقائه: {مَن كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [العنكبوت:5].
يا مَعْشَر التائبين صومُوا اليومَ عن شهواتِ الْهَوى لِتُدْرِكوا عيدَ الفطرِ يوم اللِّقاء.
اللَّهُمَّ جَمِّل بواطِنَنَا بالإِخلاصِ لك، وحَسِّنْ أعمالَنا باتِّباع رسولِكَ والتأدُّب بآدابه، اللَّهُمَّ أيْقِظْنا من الغَفَلات، ونجِّنا من الدَّركات، وكفِّر عنَّا الذنوبَ والسَيِّئات، واغْفِرْ لَنَا ولوالِدِينا ولجميع المسلمين الأحياءِ منهم والأموات، برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمدٍ وعلى آلِهِ وأصحابِه أجمعينَ.
ــــــــــــــــــــــــــــ
[1] إسناده حسن وله شواهد يصل بها إلى درجة الصحة.
[2] الجملة الأولى منه لها شاهد في الصحيحين.
[3] إسناده ضعيف وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.
[4] إسناده حسن جدًا.
[5] ضعفه بعضهم وسبب اختلافهم في صحته اختلافهم في تعيين أحد رواته لكن له شواهد في إجابة دعوة الصائم مطلقًا فالحديث بذلك حسن.
[6] معاذ بن زهرة تابعي وثقه ابن حبان فالحديث ضعيف لإرساله لكن له شاهد ربما يقوى به.
[7] إسناده حسن.
[8] فيه ضعف ولبعضه شواهد.
[9] صحيح.(63/6)
[10] ضعيف الإسناد لكن قال ابن القيم بعد أن ساقه بتمامه في المسألة العاشرة من كتاب (الروح) سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يعظم أمر هذا الحديث وقال –يعني شيخ الإسلام- أصول السنة تشهد له وهو من أحسن الأحاديث. اهـ.(63/7)
العنوان: آداب الصيام الواجبة
رقم المقالة: 1311
صاحب المقالة: سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
-----------------------------------------
الحمدُ لله الَّذِي أرْشَدَ الخلقَ إلى أكْملِ الآداب، وفتَحَ لهم من خزائنِ رحمتِهِ وجودِهِ كُلَّ باب، أنَار بصائرَ المؤمنينَ فأدركوا الحقائقَ وطلبُوا الثَّواب، وأعْمَى بصائرَ المُعْرِضين عن طاعتِهِ فصار بينهم وبين نوره حجاب، هدى أولئك بفضله ورحمته وأضلَّ الآخرين بعدله وحكمته، إن في ذلك لذِكْرى لأولى الألبَاب، وأشْهدُ أنْ لا إِله إِلاَّ الله وحده لا شريكَ له، له الملكُ الْعَزيزُ الوَهَّاب، وأشْهدُ أنَّ محمدًا عبده ورسولهُ المبعوثُ بأجَلِّ العباداتِ وأَكمَلِ الآداب، صلَّى الله عليه وعلى جميع الآل والأصْحَاب، وعلى التابعين لَهم بإحْسَانٍ إلى يومَ المَآب، وسلَّم تسليمًا.
إخواني: اعْلَمُوا أنَّ للصيام آدابًا كثيرةً لا يتمُّ إِلاّ بها ولا يكْمُلُ إِلاَّ بالقيامِ بها وهي على قِسمَين: آدابٌ واجبةٌ لا بُدَّ للصائم من مُراعاتِها والمحافظةِ عليها، وآداب مستحبةٌ ينبغي أن يُراعيها ويحافظَ عليها.(64/1)
فمنَ الآداب الواجبةِ أنْ يقومَ الصائمُ بما أوجبَ الله عليه من العباداتِ القوْليَّةِ والفعليَّةِ ومن أهمِّها الصلاةُ المفروضةُ التي هي آكدُ أركانِ الإِسلامِ بعد الشهادَتَين، فتجبُ مراعاتُها بالمحافظةِ عليها والقيامِ بأرْكانِها وواجباتِها وشروطِها، فيؤديها في وقْتِها مع الجماعةِ في المساجِدِ، فإنَّ ذَلِكَ من التَّقْوى التي مِنْ أجْلها شُرعَ الصيامُ وفُرِضَ على الأمة، وإضاعةُ الصلاة مُنافٍ للتَّقْوى وموجبٌ للعقوبةِ. قال الله تعالى: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصَّلاةَ وَاتَّبَعُواْ الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيًّا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيًّا * إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَلِحًا فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئًا} [مريم: 59،60].
ومِنَ الصائمين مَنْ يتهاونُ بصلاة الجماعةِ مع وُجوبها عليه. وقد أمَرَ الله بها في كتابه فقال: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ} (يعني: أتُّموا صلاتَهم) فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} [النساء: 102].(64/2)
فأمر الله بالصلاةِ مع الجماعةِ في حالِ القتالِ والخوفِ. ففي حالِ الطُّمَأنينةِ والأمنِ أوْلَى. وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه: ((أنَّ رجُلاً أعْمَى قال: يا رسولَ الله ليس لي قائدٌ يقودنُي إلى المسجدِ. فرخَّصَ له. فلمَّا ولَّى دعاه وقال هلْ تسمعُ النِّداء بالصلاةِ؟ قال نَعَمْ قال فأَجِبْ))؛ رواه مسلم. فلم يُرخِّص له النبيُ - صلى الله عليه وسلّم - في تركِ الجماعةِ مع أنه رجلٌ أعمى وليس له قائد، وتاركُ الجماعةِ مع إضاعتِهِ الواجبَ قَدْ حَرَم نفْسَه خيرًا كثيرًا من مُضاعفةِ الحسنات، فإن صلاة الجماعة مضاعفة كما في الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلّم - قال: ((صلاةُ الجماعة تفضل على صلاةِ الْفذِّ بسبْعٍ وعشرين درجةً)). وفوَّتَ المصالِحَ الاجتِماعيَّة التي تحصل للمسلمين باجتماعِهم على الصلاةِ من غرْسِ المَحَبَّةِ والأُلفةِ وتعليمِ الجاهلِ ومساعدةِ المحتاجِ وغير ذلك.(64/3)
وبتركِ الجماعةِ يَعرِّضُ نفْسَه للعقوبةِ ومشابهةِ المنافقينَ، ففي الصحيحين عن أبي هريرةَ رضي الله عنه أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلّم - قال: ((أثْقلُ الصَلَوَاتِ على المنافقين صلاةُ العشاءِ وصلاةُ الفجر، ولو يَعْلَمون ما فيهما لأتَوهُما ولوْ حَبْوًا. ولقد هممْت أنْ آمُرَ بالصلاةِ فتقام، ثم آمر رجلاً فيصلِّي بالناس، ثم أنطلق معي برِجالٍ معهم حِزَمٌ من حطبٍ إلى قوم لا يشهدون الصلاةَ فأحرق عليهم بيوتَهم بالنارِ)). وفي صحيح مسلم عن ابن مسعودٍ رضي الله عنه قال: من سَرَّه أنْ يَلْقى الله غدًا مسلمًا فلْيحافظْ على هؤلاء الصلواتِ، حيث يُنادَى بهن فإنَّ الله شَرَعَ لنبيكم سُنَنَ الْهُدى وإنهنَّ مِنْ سُننِ الهُدى، قال: ولقد رأيتنا وما يتخلَّفُ عنها إلاَّ منافقٌ معلوم النفاقِ. ولقد كَان الرجُلُ يُؤتْى به يُهادَى بين الرجلين حتى يقامَ في الصفَّ. ومن الصائمين مَنْ يتجاوزُ بالأمر فينامُ عن الصلاةِ في وقتِها. وهذا منْ أعظمِ المنكرات وأشدِّ الإِضاعَةِ للصلواتِ حتى قال كثيرٌ من العلماءِ: إن مَنْ أخَّرَ الصلاةَ عن وقتِها بدونِ عذْرٍ شرعيٍّ لَمْ تقبلْ وإن صلى مئة مرَّةٍ لقول النبي صلى الله عليه وسلّم: ((مَنْ عمِل عملاً ليس عليه أمْرُنا فهو رَدُّ))؛ رواه مسلم. والصلاةُ بعد وقتِها ليس عليها أمرُ النبي - صلى الله عليه وسلّم - فتكونُ مردودةً غيرَ مقبولةٍ.(64/4)
ومن الآداب الواجبةِ: أن يجتِنبَ الصائمُ جميعَ ما حَرَّمَ الله ورسولُه مِنَ الأقوال والأفَعالِ، فيجتنبَ الكذبَ وهو الإِخبار بخلاف الواقع، وأعظمُه الكذبُ على الله ورسولِه كأنْ يَنْسُبَ إلى الله أو إلى رسولِهِ تحليَلَ حرامٍ أوْ تحريمَ حلالٍ بلا علم. قال الله تعالى: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ * مَتَعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النحل: 116، 117]، وفي الصحيحين وغيرهما من حديثِ أبي هريرة وغيره، أن النبي - صلى الله عليه وسلّم - قال: ((مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ متعمِّدًا فليتبوَّأ مقْعَدَه من النار)). وحذَّر النبي - صلى الله عليه وسلّم - من الْكَذِب فقال: ((إيَّاكُم والكذبَ فإنَّ الكَذبَ يَهْدِيْ إلى الفُجُورِ وإنَّ الفجورَ يهدِي إلى النار ولا يزالُ الرجلُ يكذِب ويتحرَّى الكذبَ حتى يُكتَب عند الله كَذَّابًا))؛ متفق عليه.(64/5)
ويجتنبُ الغِيْبَةَ، وهي ذكْركَ أخَاك بما يَكْرهُ في غَيْبتِهِ، سواءٌ ذكرتَه بما يَكرَه في خِلْقَتهِ كالأعْرَجِ والأعورِ والأعمى على سبيلِ الْعيْبِ والذَّم، أو بما يَكرهُ في خُلُقِه كالأحْمَق والسفيهِ والفاسِقِ ونحوه. وسواءٌ كان فيه ما تقُولُ أمْ لم يكُنْ، لأن النبي - صلى الله عليه وسلّم - سُئل عن الغِيْبةِ فقال: ((هي ذكْرُك أخاك بما يكْره، قيل: أفَرأيتَ إنْ كان في أخِي ما أقول؟ قال: إنْ كان فيه ما تقولُ فقد اغتبتَه وإنْ لم يكن فيه ما تقول فقد بَهَتَّهُ))؛ رواه مسلم. ولقد نهى الله عن الغِيبةِ في القرآن وشبَّهها بأبشعِ صورةٍ؛ شبَّهها بالرَّجُل يأكلُ لحمَ أخيه ميتًا، فقال تعالى: {وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات:12]. وأخْبرَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلّم - أنَّه مَرَّ لَيْلَةَ المعراجِ بقومٍ لهم أظْفارٌ من نُحاسٍ يخمشون بها وجوهَهم وصدورَهُمْ فقال: ((مَنْ هؤلاء يا جبريلُ؟ قالَ: هؤلاءِ الذينَ يأكلونَ لحومَ الناسِ ويَقعونَ في أعْراضِهِم))؛ رواه أبو داود.
ويجتنبُ النَّمِيْمَةَ وهي نقْلُ كلامِ شخصٍ في شخصٍ إليهِ ليُفْسدَ بَينهما، وهي من كبائِر الذنوبِ. قال فيها رسولُ الله صلى الله عليه وسلّم: ((لا يدخلُ الجَنَّةَ نَمَّام))؛ متفق عليه. وفي الصحيحين من حديث ابن عباسٍ رضي الله عنهما أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلّم - مرَّ بقَبْرَين فقال: ((إنَّهما ليُعَذَّبانِ وما يُعذَّبان في كبير (أي في أمرٍ شاقٍّ عليهما)، أمَّا أحَدُهما فكان لا يسْتنْزهُ من البولِ، وأمَّا الآخرُ فكانَ يَمْشِي بالنَّميمة)). والنميمةُ فَسَادٌ للفَرْدِ والمجتَمَع وتفريقٌ بينَ المسلمين، وإلقاءٌ للعداوةِ بينهم {وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ * هَمَّازٍ مَّشَّاءِ بِنَمِيمٍ} [القلم:10،11] فمن نمَّ إليكَ نمّ فيك فاحذره.(64/6)
ويجتنبُ الْغِشَّ في جميع المعاملاتِ من بيعٍ وإجارةٍ وصناعةٍ ورهنٍ وغيرها، وفي جميع المناصحاتِ والمشوراتِ فإنَّ الغشَّ من كبائِر الذنوبِ، وقد تبرأ النبيُّ - صلى الله عليه وسلّم - من فاعِلِه فقال صلى الله عليه وسلّم: ((من غَشَّنَا فليس مِنَّا)). وفي لفظٍ: ((من غش فليس مِني))؛ رواه مسلم. والغشُّ خديعةٌ وضياعٌ للأمانةِ وفقْدٌ للثِّقَةِ بين الناسِ، وكلُّ كَسبٍ من الغشِّ فإنَّه كسبٌ خبيثٌ حرامٌ لا يزيدُ صاحبَه إلاَّ بُعْدًَا من الله.(64/7)
ويجتنبُ المَعازِفَ وهي آلاتُ اللَّهْوِ بجميعِ أنواعِها كالْعُودِ والرَّبابةِ والقَانونِ والْكَمنجَةِ والبيانو والْكَمانِ وغيرها فإنَّ هذه حَرَام. وتزدادُ تحريمًا وإثمًا إذا اقترنت بالْغنَاءِ بأصواتٍ جميلةٍ وأغانٍ مثيرةٍ قال الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِى لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [لقمان:6]. وقد صَحَّ عن ابن مسعودٍ أنَّه سُئِلَ عن هذِه الآية فقال: والله الذي لا إِلهَ غيرُه هو الغناء. وصح أيضًا عن ابن عباسٍ وابن عمرَ وذكره ابن كثيرٍ عن جابرٍ وعكرمةَ وسعيدِ بن جُبيْرٍ ومجاهِدٍ وقال الْحَسنُ: نزلتْ هذه الآية في الغناءِ والمزامير. وقد حذَّر النبيُّ - صلى الله عليه وسلّم - من المَعازفِ وقَرَنَها بالزِّنَا فقال صلى الله عليه وسلّم: ((ليكونَنَّ من أمَّتي أقْوَامٌ يستحِلُّونَ الحِرَ والحريرَ والخمْر والمعازفَ))؛ رواه البخاري. فالْحِرُ الفَرْجُ والمراد به الزِنا ومعنى يستحلون أي يفعلَونَها فعْلَ المستحِلِّ لها بدونِ مبالاةٍ، وقد وقعَ هذَا في زمِننا فكان مِن الناسِ من يستعملُ هذه المعازفَ أوْ يَسْتَمِعُها كأنَّها شَيْءٌ حلالٌ، وهذا مما نجحَ فيه أعداء الإِسلام بكيدهم للمسلمين حتى صدوهم عن ذكر الله ومهامِّ دينهم ودنياهُم، وأصْبَحَ كثيرٌ منهم يستمعون إلى ذلك أكْثر مما يستمعونَ إلى قراءةِ القرآنِ والأحاديثِ وكلام أهْلِ العلم المُتضمِّنِ لبيانِ أحْكامِ الشريعةِ وحِكَمِها. فاحذورا أيها المسلَمونَ نواقضَ الصومِ ونواقِصَهُ، وصُونُوه عن قول الزُّورِ والعملِ به. قال النبي صلى الله عليه وسلّم: ((من لم يَدَعْ قولَ الزور والعملَ به والجهلَ فليس لله حاجةٌ في أنْ يَدَع طعامَهَ وشرابَه)). وقال جابرٌ رضي الله عنه: إذا صمتَ فليصمْ سمعُك وبصرُك ولسانُك عن الكذب والمحارِمِ، ودَع عنك أذَى الجارِ،(64/8)
وليكن عليك وقارٌ وسَكِينةٌ، ولا يكن يومُ صومِك ويومُ فِطْرِك سواءً.
اللَّهُمَّ احفظْ علينا دينَنَا، وكفَّ جوارحَنا عما يُغْضبُك، واغفرْ لنا ولِوالِدينا ولجميع المسلمينَ برحمتِكَ يا أرْحَمَ الراحمينَ، وصلَّى الله وسلَّم على نَبِيَّنَا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.(64/9)
العنوان: إدارة الموارد البشرية بين التقليدية والمعاصرة
رقم المقالة: 910
صاحب المقالة: محمود حسين عيسى
-----------------------------------------
مقدمة:
إن المنافسةَ الشرسة بين الشركات الإقليمية والمحلية بشكل عام، والعالمية - العملاقة العابرة للقارات، ومتعددة الجنسيات – بشكل خاص، فَرَضت منذ عقود زمنية قليلة - وتحديداً بعد ظهور مصطلح العولمة للوجود – على هذه الشركات الاهتمامَ بالاستثمار في تنمية الموارد البشرية، إذ أصبح يقيناً لديها أن العنصرَ البشريَّ لا يمكن أن يُستبدل بالتكنولوجيا مهما تطورت وتقدمت، فالعنصرُ البشري هو المفكِّر، وهو المبدعُ، وهو المبتكر، وهو المطور، ولكي تتمكن هذه الشركات من زيادة حصتها في الأسواق، أو المحافظة على حصتها السوقية – على أقل تقدير – فلا بد لها من تقديم منتجاتٍ ذات جودة عالية، وميزات خاصة، تُرضي من خلالها طُموحَ المستهلكين.. وأيقنت هذه الشركاتُ أنَّ هذه الجودةَ، وتلك المميزات الخاصة لن تتحقق بالتكنولوجيا وحدها، بل بفكرٍ ومهارة وفاعلية وسواعد العناصر أو الموارد البشرية، ومن ثم فإن زيادةَ حصة الشركات أو المنظمات في السوق، وبالتالي زيادة أرباحها، لن يتأتى إلا من خلال زيادة الاستثمار في العنصر البشري، الذي يساعد بشكل مباشر وغير مباشر على تحقيق زيادة الأرباح..(65/1)
ونود في هذه الدراسة أن نلقي الضوءَ على الإدارة التي تهتمُّ بالعنصر البشري في أية منظمة (شركة، أو منشأة... إلخ) ألا وهي إدارة الموارد البشرية.. نشأتها وتطورها، وتحديد طبيعة عمل هذه الإدارة، وهل هناك اختلافٌ بين دور إدارة الموارد البشرية في الحاضر ودورها في الماضي، أو بين أدوارها المعاصرة والتقليدية، أو بين دورها في الدول المتقدمة ودورها في الدول النامية، فضلاً عن بيان هدف إدارة الموارد البشرية، وما البعدُ الاستراتيجي لهذا الهدف؟ وهل العمل في إدارة الموارد البشرية يتطلب عنصراً بشرياً مؤهلاً ومحترفاً؟!
نشأةُ وتطور إدارة الموارد البشرية:
إنَّ تاريخ إدارة الموارد البشرية يرجعُ إلى قرنين من الزمان تقريباً، إلى عصر الثورة أو النهضة الصناعية، إذ بدأ التفكير في أهمية العنصر البشري، فبدأت الشركات والمنظمات الصناعية بإنشاء إدارات خاصة بالموظفين، تبحث في شؤونهم وتعتني بكل ما يتعلق بهم.. وسميت هذه الإداراتُ بمسميات مختلفة؛ منها: إدارة شؤون العاملين، إدارة شؤون الموظفين، إدارة الأفراد... إلخ.(65/2)
ومع اختلاف النظرة إلى العنصر البشري باختلاف تطور النظريات والمدارس الإدارية على مر العقود الزمنية، إلا أن هذا الاختلافَ لم يمنعِ التطورَ الموازيَ في الاهتمام بالعنصر البشري.. حتى ظهر مصطلحُ إدارة الموارد البشرية في بداية الستينيات من القرن العشرين، وظهور هذا المصطلح مَثَّل نقطة البداية لظهور مدرسة الموارد البشرية..! ومع ذلك استقر على تسمية الإدارة التي تهتم بالموظفين "إدارة الأفراد".. حتى عام 1980م تقريباً فغير مسمى "إدارة الأفراد" إلى "إدارة الموارد البشرية"، وإنَّ هذا التغييرَ لم يكن في المسمَّى فقط، ولكن كان في المضمون أيضاً، فدور إدارة الأفراد كان محصوراً في تنفيذ سياسات الموارد البشرية التي تضعها الإدارةُ العليا في المنظمة، أما دور إدارة الموارد البشرية فقد امتد إلى التخطيط والتنفيذ معاً في آن..! وبهذا أصبح لإدارة الموارد البشرية استراتيجيةٌ تخطيطية وتنفيذية خاصة بها.. تعمل من خلالها على تحقيق الاستراتيجية الأم للمنظمة، وأصبح مدير إدارة الموارد البشرية أحدَ أعضاءِ – بل من الأعضاء المؤثرين - الإدارة العليا، الذين يرسمون السياسات، ويتخذون القرارات الاستراتيجية في المنظمة..
وأصبح الأفرادُ العاملين في إدارة الموارد البشرية من المتخصصين، فهم إخصائيون لهم دراسات خاصة، وقد احترفوا العملَ في مجال إدارة الموارد البشرية، وكان لتغير الدور بين إدارة الأفراد وإدارة الموارد البشرية الأثرُ الكبيرُ في توجه العديد من الجامعات الكبرى – آنذاك – إلى تغيير مسمى إدارة الأفراد إلى "إدارة الموارد البشرية".
ويمكننا تلخيصُ نشأة وتطور إدارة الموارد البشرية في الآتي:(65/3)
- إن نشأة وتطور إدارة الموارد البشرية يعود إلى بروز أهمية الدور البشري في العمل.. ومدى أهمية هذا الدور في تحقيق رؤية وغايات وأهداف المنظمة، ومن ثم بقائها واستمراريتها، فنشأةُ وتطورُ إدارة الموارد البشرية يدلان على مدى اهتمام المنظمات بدورها الكبير داخل هذه المنظمات، فضلاً عن دورها في تنمية وتطوير أداء العنصر البشري المنوط به العمل داخل المنظمات.
- نتيجة للقوانين الحكومية الخاصة بالحفاظ على الموارد البشرية، والقوانين الخاصة بالنقابات والاتحادات العمالية وغيرها، وانطلاقاً من إلزامية هذه القوانين للمنظمات، اتجهت هذه المنظماتُ إلى تكوين إدارة متخصصة باسم "إدارة الموارد البشرية" للتعامل مع هذه القوانين كي لا تقع تحت طائلتها وتتعرض لمخالفات وغرامات أو تهديد بالإغلاق.
- أدت المنافسة الشديدة بين المنظمات (الصناعية والتجارية... إلخ) كأحد إفرازات العولمة إلى توجيه جل اهتمام هذه المنظمة إلى إرضاء العملاء، ويقين هذه المنظمات أن هذا الإرضاء لن يكون إلا من خلال جودة وتميز السلع والخدمات التي تنتجها وتقدمها.. ولن تتم هذه الجودة إلا من خلال جودة أداء العنصر البشري، فكان لزاماً على هذه المنظمات أن تلجأ إلى إدارة الموارد البشرية، التي تضع ضمن مهامها الرئيسية تطوير مفاهيم الجودة لدى العاملين، فضلاً عن تنمية مهاراتهم من خلال المناهج العلمية، والوسائل التدريبية الحديثة.
- إنَّ التطورَ الاقتصادي العالمي الهائل، وكبر حجم الشركات، ومن ثم كبر حجم العمالة وما تجره من مشاكل متنوعة، فرَضَ الحاجةَ لإدارة متخصصة - وهي إدارة الموارد البشرية - للتعامل مع هذه المشكلات.
الموارد البشرية:(65/4)
الموارد البشرية في منظمة ما.. هم جميع البشر أو الأفراد المنتمين لها، والعاملين فيها.. سواء كانوا رؤساء أو مرؤوسين.. وهؤلاء الأفراد تعاقدت معهم المنظمةُ للقيام بمهام وظيفية أو عمل محدد مقابل راتب أو أجر، وتعويضات، ومكافآت، ومزايا عينية محددة.. على أن يلتزمَ هؤلاءِ الأفرادُ في أثناء قيامهم بأعمالهم الموكلة إليهم من قبل المنظمة أو الشركة.. باستراتيجية هذه المنظمة أو تلك الشركة، وهذه الاستراتيجيةُ تشتمل على رؤية، ورسالة، وأهداف مادية ومعنوية تسعى المنظمةُ إلى تحقيقها..
وقد عمَدت المنظمات في الدول المتقدمة، وبعض دول العالم النامي الساعية إلى التقدم إلى تغيير مصطلح العاملين أو القوى العاملة أو العمال أو الأفراد – وهو مصطلح تقليدي، ما زال يستعمل في كثير من بلدان العالم النامي – إلى مصطلح المورد البشري – الموارد البشرية – للدلالة على أهمية العنصر البشري – بجعله مورداً – في تحقيق أهداف المنظمة أو الشركة الاستراتيجية (طويلة المدى)، وأهدافها (متوسطة المدى)، وأهدافها (قصيرة المدى)، فضلاً عن بقاء المنظمة أو الشركة واستمراريتها، إذ يعتمد بقاؤها واستمراريتها على رضا المستهلك (الزبون أو العميل) عن جودة وتميز منتجات الشركة، مما يساعدها على الاحتفاظ بحصتها السوقية، والعمل على زيادة هذه الحصة مستقبلاً، ومن ثم زيادة مطردة في أرباحها..
ومن نافلة القول: أن جودة وتميز السلع والخدمات التي تنتجها أو تقدمها الشركة، لن يتحقق إلا من خلال موارد بشرية ذات كفاءة عالية، تكتسبها من خلال تدريب مستمر وفعّال، وتحت إشراف ومتابعة من إدارة متخصصة ومحترفة وهي إدارة الموارد البشرية.. فمثلث الجودة الذي يضمن بقاء واستمرار الشركة يتكون من: موظف ذي كفاءة عالية راضٍ عن شركته، ومنتَج أو خِدمة ذات جودة عالية، ومستهلِك أو عميل راضٍ عن هذا المنتج أو تلك الخدمة التي تشبع احتياجاته.(65/5)
إن الفكر الإداري الحديث والمعاصر – غير التقليدي – ينظر إلى الاستثمار في تنمية الموارد البشرية على أنه استثمار أو تكلفة ذات عائد مباشر أو غير مباشر، وهذا يختلف تماماً عن الفكر الإداري التقليدي – السائد في كثير من بلدان العالم النامي، المسمى بالعالم الثالث – الذي ينظر إلى الاستثمار في تنمية الموارد البشرية – إن استثمر في الأصل – على أنه تكلفة ليست ذات عائد مباشر أو غير مباشر، بل ينظر إليها على أنها إنفاق أو خسارة يتحملها سواء كانت موجهة للتدريب أو بعض المزايا العينية، والتعويضات... إلخ.
إن المنظمة أو الشركة التي تأخذ بالفكر الإداري الحديث والمعاصر، إنما تحافظ بذلك على قوتها، وقدرتها على الوجود والمنافسة، وتضمن بقاءها واستمراريتها من خلال المحافظة على قوة وفاعلية مواردها البشرية.
إدارة الموارد البشرية:
إن إدارة الموارد البشرية - كما سبق أن ذكرنا - هي إحدى الإدارات الرئيسية والأساسية في المنظمات والشركات التي تأخذ بالفكر الإداري المعاصر، ويتركز عملها على جميع الموارد البشرية التي تعمل داخل المنظمة أو الشركة، فهي تهتم بكل ما يتعلق بهذه الموارد البشرية من قبل التحاقها بالعمل من حيث التخطيط لمواصفاتها، ومنذ بدء التحاقها بالعمل، وحتى ساعة انتهاء خدماتها..!
فإدارة الموارد البشرية في المنظمة تعمل على تحقيق الاستخدام الأفضل – إن لم يكن الأمثل – للموارد البشرية التي تعمل في المنظمة.. من خلال استراتيجية تشتمل على رؤية وغايات وأهداف وسياسات كلها تصب في الاستراتيجية العامة للمنظمة أو الشركة.
الإطارُ العام لوظائف إدارة الموارد البشرية:
إنَّ الإطار العام لوظائف إدارة الموارد البشرية يشتمل على العديد من الوظائف التي تكوِّن في مجموعها مجالَ عمل إدارة الموارد البشرية داخل المنظمة أو الشركة.
ومن أهم تلك الوظائف - سنذكر مهامها بشكل مختصر، إذ نفرد التفصيل في دراسات مقبلة متخصصة في تلك الوظائف -:(65/6)
أولاً: وظيفة تجميع وتكوين الموارد البشرية:
هذه الوظيفة أو النشاط من أهم النشاطات الموكلة لإدارة الموارد البشرية، فهي وظيفة رئيسة يندرج تحتها الكثير من الوظائف الفرعية، إذ تتكاملُ وتترابط هذه الوظائفُ الفرعية لتنتج في النهاية سلسلةً من الأعمال، تقوم من خلالها وعلى أساسها إدارةُ الموارد البشرية بتوفير كل احتياجاتِ المنظمة أو الشركة من الموارد البشرية، وَفق مواصفات محددة من حيث: الشهادات العلمية، والخبرات العملية، والمهارات، والقدرات الذاتية... وغيرها، لشغل الوظائف الشاغرة والمتاحة في الشركة أو المنظمة.. وهذه الوظائف الفرعية يمكننا ذكر بعضها فيما يلي:
- وظيفة أو نشاط تصميم وتحليل العمل: تقوم هذه الوظيفة بتحديد واضح وقائم على أسس علمية، ومنهجية مدروسة، لواجبات ومهام ومسؤوليات وظائف الشركة أو المنظمة.. وتحديد واضح، ودقيق للشروط التي يجب توافرها في الموارد البشرية المرشحة لشغل هذه الوظائف.
- وظيفة تخطيط الموارد البشرية: تقوم هذه الوظيفة الهامة من وظائف إدارة الموارد البشرية بتقدير الحاجة المستقبلية من الموارد البشرية للمنظمة أو الشركة، من حيثُ أعدادُها ومواصفاتها، ونوعيتها... إلخ، ويعتمد هذا التخطيط على نتائج وظيفة تصميم وتحليل العمل والوظائف.
- وظيفة جذب واستقطاب الموارد البشرية: بناء على نتائج وظيفتي تصميم وتحليل العمل وتخطيط الموارد البشرية، تقوم وظيفةُ جذب واستقطاب الموارد البشرية بعملية ترغيب وجذب للموارد البشرية، بعرض مزايا العمل في المنظمة أو الشركة.. من خلال سوق العمل المحلي أو الإقليمي أو العالمي.
- وظيفة انتقاء واختيار وتعيين الموارد البشرية: تعمل هذه الوظيفة على انتقاء – بعين الخبير - أفضل المتقدمين لشغل الوظائف الشاغرة في الشركة أو المنظمة، والذين تم جذبهم واستقطابهم، وذلك بالاعتماد على أسس ومعايير اختيار دقيقة تم وضعها من خلال وظيفة تصميم وتحليل العمل والوظائف.(65/7)
- وظيفة التدريب والتأهيل للموارد البشرية: بعد اختيار الموارد البشرية الجديدة، تبدأ مرحلة إعادة التأهيل، وذلك من خلال برامج تدريبية علمية وعملية مدروسة، والتي تعمل على تأهيلهم وتجهيزهم لتسلم وتحمل مهام عملهم في المنظمة أو الشركة.
ثانياً: وظيفةُ تصميم نظم التعويضات والمكافآت والمزايا العينية:
تعد وظيفة تصميم نظم التعويضات والمكافآت والمزايا العينية من الوظائف الرئيسة والأساسية لإدارة الموارد البشرية، فتصميم عدد من الأنظمة التي على أساسها يتم وضع نظام للتعويضات والمكافآت والمزايا العينية.. التي تمنح للموارد البشرية التي تعمل داخل الشركة أو المنظمة أمرٌ بالغُ الأهمية بالنسبة للشركة أو المنظمة، إذ يتم التحفيز المباشر وغير المباشر للموارد البشرية على أساس هذه النظم، وهذا التحفيز وغيره.. يؤدي إلى وجود روح الانتماء، وزيادة درجات الولاء للمنظمة.. وغيرها من الآثار الإيجابية، وتجنب المشكلات وآثارها السلبية.. ومن أهم هذه النظم:
- نظام المكافآت المالية المباشرة: وهذا النظام التحفيزي المالي المباشر، يقدَّمُ للموارد البشرية المجدة والمتميزة في عملها داخل الشركة أو المنظمة المكافآت المالية المباشرة كثواب مباشر للجد والتميز، وذلك من خلال التقويم المستمر لأداء هذه الموارد البشرية المبني على أسس علمية وفنية.
- نظام المزايا العينية: وهذا النظام التحفيزي غير المالي، يقدم للموارد البشرية العاملة في المنظمة أو الشركة دون استثناء خدمات متنوعة مثل: التأمين الصحي، الرعاية الاجتماعية، النشاطات الثقافية والترفيهية... إلخ.
- نظام تقييم أداء الموارد البشرية: طبقاً لهذا النظام توضعُ مجموعة من القواعد والإجراءات والضوابط التي على أساسها يتمُّ تقييمُ أداء الموارد البشرية، من حيثُ الكفاءة والتميز في العمل، وبناء على نتائج هذا التقييم يُفَعَّل نظامُ المكافآت المالية المباشرة.ٍ(65/8)
ثالثاً: وظيفة تدريب وتنمية الموارد البشرية:
إن وظيفة تدريب وتنمية الموارد البشرية، تعد من أهم وظائف إدارة الموارد البشرية، فالتدريب لا يُكتفى به فقط للموارد البشرية الجديدة، بل هو نظام مُستدام يهدِف إلى رفع الكفاءة المهنية والمهارية للموارد البشرية الجديدة والقائمة، فضلاً عن تنميتها المستمرة.. وتشتمل هذه الوظيفة على:
- التعلم المستمر والتدريب المتواصل: إن التعلم والتدريب يُكسبان المواردَ البشرية معارفَ ومهاراتٍ جديدةً، تقف بهم على أحدثِ ما توصلت إليه التكنولوجيا في مجال عملهم، مما يظهر بالضرورة في أدائهم لأعمالهم بكفاءة وفاعلية واقتدار.
- التنمية: تسعى إدارةُ الموارد البشرية من خلال هذه الوظيفة أو النشاط إلى تنمية أداء الموارد البشرية داخل المنظمة أو الشركة في المستقبل المنظور والبعيد، من أجل جعلها مؤهلةً وقادرة على ممارسة وظائف ذات متطلبات أعلى مما هي عليه الآن في المستقبل.. فضلا عن تزويد الموارد البشرية بكل جديد في مجال المعرفة المتصلة بعملها وصناعتها.. بهدف تمكينها من الاندماج والتكيف مع كل جديد أو مع التغيرات التي تدخل على الشركة أو المنظمة لكي تواكب التطورات في مجال الصناعة أو غيرها والتي قد تُفرَضُ عليها محلياً أو إقليمياً أو عالمياً، وتحافظ المنظمة أو الشركة من خلال هذه المواكبة على قوة موقعها التنافسي.
رابعاً: وظيفة حماية الموارد البشرية:
قد تنطبق كلمة صيانة على العِدَد والآلات والمعدات، ولكننا نفضل استخدام كلمة حماية الموارد البشرية بدلاً من صيانة الموارد البشرية كما يستخدمها البعض، فالحماية أشمل وأعم من الصيانة.. وتهدف هذه الوظيفة إلى:(65/9)
- توفير السلامة للموارد البشرية: إن توفير السلامة للموارد البشرية إنما يتم بتصميم ووضع برامج فنية إدارية مشتركة عالية المستوى من أجل حماية هذه الموارد البشرية من الحوادث الطبيعية، والعمل على التقليل من آثار الحوادث غير الطبيعية، وما يترتب عليهما من إصابات العمل.
- توفير الرعاية الصحية: وذلك من خلال التأمين الصحي، وتصميم برامج للتوعية الصحية عامة، وبرامج توعية صحية خاصة ببيئة العمل، بهدف حماية الموارد البشرية من الإصابات والأمراض التي قد تنتج بسبب طبيعة وبيئة العمل داخل الشركة أو المنظمة.
خامساً: وظيفة علاقات الموارد البشرية:
تعد هذه الوظيفة من أهم الوظائف المنوطة بإدارة الموارد البشرية تجاه الموارد البشرية داخل المنظمة أو الشركة، إذ تعمل على خلق بيئة مساعدة لنمو العلاقات الاجتماعية، والرعاية الإنسانية... إلخ، وتشتمل هذه الوظيفة على:
- عملية دمج الموارد البشرية: فهذه الوظيفة أو النشاط يتم من خلاله تصميمُ برامجَ متنوعة تشتمل على وسائلَ وطرقٍ تهدِف إلى تفعيل مشاركة الموارد البشرية في العملية الإنتاجية داخلَ المنظمة أو الشركة، بدءاً من المساهمة والمشاركة في عملية التخطيط التي تؤهلهم إلى المشاركة في عملية اتخاذ القرارات، وتهدف هذه البرامج أيضاً إلى توفير الرعاية الاجتماعية للموارد البشرية، والمعاملة الإنسانية الراقية لهم، والعمل على حل المشكلات والصراعات والنزاعات التي قد تنشأ بينهم، أو بينهم وبين إدارة الشركة أو المنظمة.. وعملية الدمج هذه بما توفره من برامج - لا شك - تعمل على رفع الروح المعنوية للموارد البشرية، فضلاً عن زيادة معدلات الانتماء والولاء للشركة..
موقع إدارة الموارد البشرية داخل المنظمة:(65/10)
إنَّ إدارة الموارد البشرية جزء من كلٍّ، ومسؤوليتها داخل الشركة أو المنظمة مسؤولية مشتركة مع الإدارات الأخرى، فالكل مسؤول عن تحقيق رؤيةِ ورسالةِ وغاياتِ وأهدافِ الشركة أو المنظمة.. وانطلاقاً من هذه المسؤولية المشتركة تَحَتَّمَ أو وَجَبَ التفاعلُ الكامل والتام بين إدارة الموارد البشرية والإدارات الأخرى، وهذا التفاعل يتمثل فيما يتمثل في الآتي:
- رسم واضح لسياسة دمج الموارد البشرية في المنظمة، وهذا الدمج يساعد في اطّلاع العنصر البشري على توجهات المنظمة المستقبلية، وإشراكه في عملية اتخاذ القرار مما يولد لديه الانتماء والولاء للمنظمة.
- مساعدة الإدارات في تقدير احتياجاتها من الموارد البشرية.
- العمل على توفير حاجات الإدارات من الموارد البشرية في الوقت المطلوب ومن نوعيات ومواصفات متميزة.
- تصميم نظام لتقييم الأداء ليستخدمه المديرون والرؤساء في تقييم أداء مرؤوسيهم، وتدريبهم على استخدامه.
- تقديم المساعدة للمديرين ليتمكنوا من قياس الرضا الوظيفي في إداراتهم وتحليل نتائجه.
- تقديم المساعدة للمديرين ليتمكنوا من تحديد المرشحين للترقية من الموارد البشرية العاملة في إداراتهم.
- تدريب المديرين والرؤساء على استخدام الأسلوب الفعال في توجيه وتحفيز مرؤوسيهم، وكيف يكونون رواداً في تحقيق المعاملة الإنسانية لهم.
- مساعدة المديرين والرؤساء وتمكينهم من الأسلوب الفعال في تدريب مرؤوسيهم في أثناء العمل.
- تصميم برامج التدريب والتنمية للموارد البشرية في الإدارات.
- مساعدة المديرين والرؤساء في تكوين فرق العمل لتحقيق عمل جماعي تعاوني فعال.
- توعية المديرين والرؤساء بأهمية العنصر البشري في العمل، وكيف أن تكلفة الإنتاج وجودته، ورضا العملاء وسمعة المنظمة وبقاءها مرتبط بكفاءة ورضا مرؤوسيهم.
أهداف إدارة الموارد البشرية:(65/11)
إن إدارة الموارد البشرية ومن خلال وظائفها.. تهدف فيما تهدف إلى وضع استراتيجية بشرية، تتفق مع متطلبات استراتيجية المنظمة أو الشركة ككل.. سواء في الوقت الحاضر أو في المستقبل، والإسهام في تحقيق رؤية ورسالة وغايات وأهداف المنظمة عن طريق توفير قدرات بشرية ذات مستوى عالٍ من العلم والكفاءة والفعالية والإنتاجية..
ومن أهم الأهداف التي تسعى إدارة الموارد البشرية إلى تحقيقها داخل المنظمة أو الشركة:
1 – العمل على تحقيق الكفاية الإنتاجية:
إن تحقيق الكفاية الإنتاجية يتم من خلال دمج الموارد البشرية مع الموارد المادية التي تمتلكها المنظمة أو الشركة، لتحقيق الاستخدام الأفضل لهذه الموارد مجتمعة.. فالموارد المادية المتمثلة في المواد الخام، والعِدَد والآلات، والمعدات، وتكنولوجيا التصنيع... وغيرها، كلها مدخلات للعملية الإنتاجية، يستخدمها العنصرُ البشري داخل الشركة أو المنظمة، ومن خلال كفاءة أدائه وحسن استخدامه لهذه الموارد المادية، يخرج المنتج في شكله النهائي كسلع، بالمواصفات والكميات المحددة سلفاً، وبأقل تكلفة ممكنة.. فتحقيق الكفاية الإنتاجية من خلال سلع أو خدمات ذات مواصفات مطلوبة، وكميات محددة، وبأقل تكلفة.. من مسؤوليات العنصر البشري، الذي تشتمله اهتماماتُ إدارة الموارد البشرية، التي تحدد مهام الوظيفة وكيفية ممارستها، والمسؤولة عن تأهيل وتدريب العنصر البشري، والمسؤولة أيضاً عن تحفيزه، ورفع درجة انتمائه وولائه للشركة أو المنظمة التي يعمل بها، وهذه المنظمة تصبح من خلال هذا العنصر البشري قادرة على الأداء بإنتاجية عالية، مما يساعدها على البقاء والاستمرار في ظروف تنافسية مغايرة.
2- العمل على تحقيق الفاعلية في الأداء التنظيمي:(65/12)
إن الكفاية الإنتاجية التي تهتم بتحقيق مخرجات ذات كفاءة عالية من حيث الكميات والمواصفات وأقل تكلفة، حقاً تساعد على بقاء واستمرار المنظمة أو الشركة، ولكنها لا تكفي وحدها لتحقيق النجاح والتميز ومن ثم القدرة الكبيرة على المنافسة والبقاء والاستمرار، إذ لا بد بجانب الكفاية الإنتاجية من تحقق الفاعلية في الأداء التنظيمي، والفاعلية تعني أن المنتج النهائي أو الخدمة التي تنتجها أو تقدمها المنظمة أو الشركة لا بد وأن يتوافر فيها الجودة العالية، لتحقيق الرضا المنشود من قبل العملاء والمستهلكين لها، أي أن هذه السلعة أو تلك الخدمة تكون قادرة على تلبية احتياجات هؤلاء العملاء، فضلاً عن تحقيق رغباتهم وتوقعاتهم في السلعة أو الخدمة التي يستهلكونها، ولتعي المنظمة أو الشركة أن الحكم على توافر الجودة العالية في المنتج أو الخدمة التي تقدمها للمستهلكين لن يكون معتبراً إذا كان من قِبَلِها وفقط، وإنما – وهو الأهم – أن يكون الحكم بجودة السلعة أو الخدمة صادرا عن المستهلكين أو العملاء..(65/13)
إن تحقيق الجودة في السلع والخدمات يتوقف على كفاءة ومهارة العنصر البشري، وهذه الكفاءة وتلك المهارة الواجب توافرها في العنصر البشري من أكبر المهام الملقاة على عاتق إدارة الموارد البشرية، فعليها تصميم البرامج التدريبية لرفع كفاءة العنصر البشري، وإكسابه المهارة اللازمة، التي تمكنه - بجانب قدراته الذاتية - من تحقيق معدلات الجودة المأمولة، فضلاً عن توعيته بأهمية تحقيق الجودة في السلعة أو الخدمة التي يشارك في إنتاجها أو تقديمها، وأن توافر هذه الجودة يحقق رضا العميل أو المستهلك عن هذه السلعة أو الخدمة، ومن ثم تزداد رغبته في عدم تغييرها إذ إنها تلبي احتياجاته ورغباته، ومن ثم تحافظ الشركة أو المنظمة على عملائها، وهذا يؤدي بدوره إلى المحافظة على أرباحها، والمحافظة على موقعها التنافسي، وحصتها السوقية، وقد يؤدي هذا الاستقرار إلى قدرتها على فتح أسواق جديدة، وزيادة حجم الشركة أو المنظمة، وتحقيق أرباح أعلى، ومن ثم زيادة الاستثمار في تنمية الموارد البشرية، فضلاً عن زيادة الرواتب والأجور والمكافآت المالية والتعويضات والمزايا العينية والتي تعود بالفائدة الكبرى على العنصر البشري في المنظمة أو الشركة.. بشكل مباشر وغير مباشر.. فضلاً عن الفائدة الكبرى التي يتحصل عليها المجتمع ككل من جراء الزيادة في النمو الاقتصادي.
دور إدارة الموارد البشرية المعاصر:(65/14)
إن واقع إدارة الموارد البشرية في المنظمات أو الشركات في وقتنا المعاصر – خاصة في الدول الصناعية المتقدمة – تغير كثيراً عما كان عليه في الماضي، إذ زاد الاهتمامُ بالعنصر البشري، والذي تبعه زيادةُ الاهتمام بوجود إدارة للموارد البشرية لها صفة التخصص تهتم بهذا العنصر أو المورد البشري.. فقد أصبحت إدارةُ الموارد البشرية هي الجهةَ المسؤولة عن حماية، وتأهيل وتنمية، وتنظيم علاقة العنصر البشري في العمل داخل المنظمة أو الشركة، ومسؤولة أيضاً عن تحفيزه بكل الوسائل المادية والمعنوية، لتزيد من انتمائه وولائه، وتستخرج مكنون قدراته وإبداعاته وابتكاراته.. وهي المسؤولة أيضاً عن حل مشكلاته.. وتهيئة المناخ والبيئة المناسبة والصالحة للعمل.. وهي بذلك تعلب دوراً غاية في الصعوبة إذ تتعامل مع العنصر البشري، المتقلب المزاج.. المتعدد الثقافات والقناعات.. المختلف في درجات تفكيره وتقديره للأمور.. والمتعدد الدوافع.
المراجع:
1- د. عمر وصفي عقيلي "إدارة الموارد البشرية المعاصرة بعد استراتيجي" ط 1، 2005م، دار وائل للنشر – عمان – الأردن.
2- Ashon D. Felstead, Human resource management, London, 1995.
3- Allen Cowling, Chole Moiler, managing human resources, Edward Arnold, London, 1992(65/15)
العنوان: إدارة الموارد البشرية وبناء استراتيجيتها
رقم المقالة: 1092
صاحب المقالة: محمود حسين عيسى
-----------------------------------------
مقدمة:
كان للتحولاتِ الكبيرة التي شهِدَها العالمُ في أول التسعينيات من القرن الماضي، وأهمها تفكك الاتحاد السوفياتي، وانصراف دول حلف وارسو عن الحلف، واتجاه دول المعسكر الشيوعي إلى التخلي عن أيدلوجيتهم، واتجاههم نحو الفكر الرأسمالي، وظهور القطب الواحد في العالم وتفرده..! كل هذه التحولات في البيئة الخارجية والمحلية المحيطة بمنظمات الأعمال جعلتها تلجأ إلى التخطيط الاستراتيجي البعيد المدى، وذلك حمايةً لمكتسباتها ومواقعها، فضلاً عن حماية استقرارها من المخاطر البيئية المحدقة بها، إلى جانب توفير القدر الكافي من الأمان من خلال توفر بيئة عمل مناسبة.. فلجأت المنظمات إلى وضع الخطط الاستراتيجية العامة، وألزمت كلَّ إدارة من إداراتها بوضع خطة استراتيجية خاصة بها، تصب في الخطة العامة، وتتناسق وتتكامل وتكون جزءًا أساسيا لا يتجزأ ولا ينفصل عن الاستراتيجية العامة، وتعمل على تحقيقها.. ومن هذه الإدارات بل في مقدمتها (إدارة الموارد البشرية).
فكيف تعدّ وتبني إدارةُ الموارد البشرية استراتيجيتَها؟
إن تكوين استراتيجية إدارة الموارد البشرية يمر بست مراحل –نوردها بإيجاز-:
المرحلة الأولى:
الدراسة المستفيضة:(66/1)
إن القاعدة الأساسية في تكوين استراتيجية إدارة الموارد البشرية –التي تعتبر نقطة الانطلاق– هي الدراسة المستفيضة من قبل مدير إدارة الموارد البشرية [وهو من ضمن المديرين التنفيذيين والعضو في هيئة الإدارة العليا في المنظمة] لمتطلبات تحقيق رسالة المنظمة [رسالة المنظمة mission هي المحددة للإطار العام الذي توضع ضمنَه استراتيجياتُ جميع الإدارات المكونة للمنظمة، فرسالة المنظمة تمثل سببَ وجود المنظمة وبقائها، وهي توضح الرؤية المستقبلية للمنظمة، والصورة التي تريد أن تكون عليها في المستقبل، وهي تمثل المحور العام الذي تدور حوله، وتعمل على تحقيقه جميعُ النشاطات والأعمال والاستراتيجيات التي تتم في المنظمة، وعن طريق رسالة المنظمة يتحقق مبدأ الالتزام من الجميع (الرؤساء والمرؤوسين)].
المرحلة الثانية:
دراسة مفصلة للبيئة الداخلية والخارجية للمنظمة وتحليلها بدقة فائقة:
وهذه الدراسة تتكون من قسمين أساسيين:
الأول: دراسة شاملة للبيئة الداخلية للمنظمة والقيام بتحليلها، وذلك بهدف تحديد نقاط القوة والضعف في إمكانيات الموارد البشرية العاملة فعلا داخل المنظمة، لتتمكن إدارة الموارد البشرية من تحديد مدى قدرة هذه الموارد البشرية على تلبية احتياجات وإنجاز استراتيجية المنظمة العامة، وتحقيق رسالتها المستقبلية.
الثاني: دراسة شاملة للبيئة الخارجية للمنظمة والقيام بتحليلها – تساعد إدارة الموارد البشرية بدور في ذلك من خلال منظمومة العمل داخل المنظمة - وذلك بهدف معرفة الفرص الاستثمارية الحقيقية المتاحة للمنظمة، فضلاً عن معرفة طبيعة هذه الفرص، والتي يمكن للمنظمة أن تستغلها مستقبلاً، ولكي تكتمل منظومة الدراسة وتحقق الغرض منها لا بد من معرفة المخاطر التي تكتنف هذه الفرص الاستثمارية وغيرها من المخاطر الخارجية، والتي توجب على المنظمة الاستعداد لها لتجنبها أو تخفيف آثارها للحد الأدنى.(66/2)
ولكي تتمكن المنظمة من تجنب هذه المخاطر لا بد لها من الحصول على إجابات واضحة ومحددة لهذه الأسئلة:
1- ما المتغيرات البيئية الخارجية التي تؤثر في أعمال ونشاطات المنظمة عامة، وإدارة الموارد البشرية خاصة؟
2- ما مدى حركة وتأثير هذه المتغيرات البيئية الخارجية؟
3- ما الاستراتيجية التي يجب أن تبنيها المنظمة، والاستراتيجيات التي تبنيها إداراتها المكونة لهيكلها التنظيمي، للتعامل والوقوف في وجه تأثير هذه المتغيرات الخارجية؟
ولكي تتمكن إدارة الموارد البشرية من وضع إجابات محددة لهذه التساؤلات، لا بد لها من القيام بدراسات ومسوحات ميدانية بصفة مستمرة، لمتابعة تأثير ومدى تطور هذه المتغيرات البيئية الخارجية، وما تحمله من مخاطر مباشرة وغير مباشرة على المنظمة ككل وعلى إدارة الموارد البشرية تحديداً، وجمع بيانات صحيحة، ومعلومات دقيقة عن هذه المتغيرات وتوصيفها وتصنيفها وتحليلها، ومن استخلاص النتائج تضع إدارة الموارد البشرية استراتيجيتها، وتعمل على توافق وتكيف ممارساتها ونشاطاتها المستقبلية معها.
ومن الوسائل التي تستخدمها المنظمات في دراسة البيئة الخارجية ما يلي:
1- تحديد أقرب إلى الشمول لكل المتغيرات البيئية الخارجية من فرص ومخاطر (تهديدات)، وحركتها واتجاهاتها المؤثرة، وتحديد احتمالات تأثر المنظمة بها.
2- تحديد نتائج الاحتمالات والتوقعات التي توصلت إليها المنظمة لكل الفرص والمخاطر البيئية الخارجية.
3- تصنيف هذه الاحتمالات، وترتيبها من حيث الأهمية.
4- التحديد الواضح للاستراتيجيات الواجب اتباعها (تنفيذها) مع كل احتمال من الاحتمالات بغض النظر عن كونه احتمالا سلبيا أو إيجابيا من وجهة نظر المنظمة.
5- الفحص الدقيق والتوثيق للبيانات والمعلومات المجمعة، وتجهيزها للاستخدام من خلال نظام معلوماتي شامل ودقيق.(66/3)
وبناء على نتائج الدراسة الخاصة بالبيئة الداخلية والخارجية وتحليلها، تتمكن المنظمة من تحديد ما إذا كانت هناك فجوة استراتيجية خاصة بالموارد البشرية، حيث تظهر الفجوة بصورة جلية في حال ما إذا كانت إمكانات وقدرات ومهارات الموارد البشرية الحالية الموجودة في المنظمة أقل بكثير مما هو مطلوب لإنجاز الاستراتيجية العامة للمنظمة، والتحديد الواضح لهذه الفجوة يمكّن إدارة الموارد البشرية من بناء استراتيجيتها على أساس معلوماتي واضح وسليم مستمَدّ من قاعدة معلوماتية موثقة ودقيقة، ومن ثم تتمكن إدارة الموارد البشرية من الاستغلال الأمثل للفرص المتاحة، وتلافي المخاطر والتهديدات المحيطة بها.
إن دور إدارة الموارد الاستراتيجية في المرحلة الثانية، يتركز حول معرفة المهارات والقدرات والإمكانات والمواهب البشرية المطلوبة، لكي تتمكن المنظمة من استغلال الفرص الاستثمارية المتاحة في البيئة الخارجية، وفي خط متواز تلافي وتجنب المخاطر والتهديدات المحتملة أو المتوقعة، وتطرح إدارة الموارد البشرية هذه الأسئلة:
- هل إمكانات وقدرات ومهارات الموارد البشرية المتاحة حالياً داخل المنظمة تستطيع أن تمكن المنظمة من استغلال الفرص وتجنب المخاطر؟
- وإذا لم تستطع هذه الموارد البشرية المتاحة حالياً للمنظمة من تمكينها من استغلال الفرص وتجنب المخاطر، وكانت هناك فجوة استراتيجية strategic gap عميقة.. فما الاستراتيجية التي سوف تبنيها وتنتهجها إدارة الموارد البشرية لتأمين الموارد البشرية الماهرة والقادرة على تحقيق رسالة وأهداف المنظمة؟
- وكيف تتمكن إدارة الموارد البشرية –بعد تأمين هذه الموارد البشرية– من تجهيز وتأهيل هذه الموارد البشرية وجعلها قادرة على تحمل تبعات العمل داخل المنظمة، فضلا عن مساهمتها الفعالة في تحسين جودة منتجات المنظمة وتطويرها؟(66/4)
فمن المناسب أن نتطرق إلى الحديث بشكل موجز عن أهم متغيرات البيئة المعاصرة، والتي تؤثر بشكل أو بآخر في استراتيجية إدارة الموارد البشرية (ثم نستكمل المراحل المتبقية في بناء استراتيجية إدارة الموارد البشرية):
• رسالة المنظمة: إن نقطة الانطلاق أو البدء في إعداد الاستراتيجية هي التحديد الواضح لرسالة المنظمة، التي تقوم الاستراتيجية على تحقيقها لضمان بقاء واستمرارية المنظمة، فرسالة المنظمة هي الرؤية المستقبلية لما تريد أن تصل إليه المنظمة في المستقبل بعيد المدى، ومن ثم فهي تمثل الأمل المنشود، والطموح القائم والمشترك الذي يسعى كل العاملين في المنظمة إلى تحقيقه.(66/5)
• تخطيط وتصميم عمل المنظمة: إن تخطيط وتصميم عمل المنظمة واتجاهه نحو الفردية أو الجماعية، يؤثر بشكل جوهري على وضع استراتيجية إدارة الموارد البشرية، فإذا كان التصميم يقوم على العمل الجماعي -أي تتم الأعمال والنشاطات داخل المنظمة من خلال فرق عمل لكل عمل أو نشاط– فإن استراتيجية الاستقطاب، والاختيار، والتعلم والتدريب والتنمية سوف تتجه إلى تكوين موارد بشرية ذات مواصفات خاصة من حيث القدرات والمهارات والمواهب وغيرها.. لكي تتمكن من ممارسة عدة أعمال أو مهام وظيفية ضمن فريق العمل الواحد، أما استراتيجية التعويضات والحوافز فسوف تركز على ناتج العمل الجماعي. وتتضمن آليات العمل الجماعي ما يطلق عليه منظومة المصفوفة matrix ، حيث نجد أن منظومة المصفوفة هذه تؤثر في استراتيجية الهيكل التنظيمي، إذ تحتاج هذه المنظومة من إدارة الموارد البشرية أن توفر قوة عمل إضافية تمتلك وتتمتع بمهارات خاصة ومتنوعة، تمكنها من سرعة النشاط والحركة واتخاذ القرار، ويتوفر لها قدر كبير من الاستقلالية في العمل، بهدف إنجاز مهمة المصفوفة وفق الأهداف المحددة المطلوب تنفيذها، ثم العودة إلى المنظمة الرئيسة (المنظمة الأم) بعد انتهائها من المهمة المكلفة بها في أحد الفروع (أو الأقسام) التابعة للمنظمة.
• ثقافة المنظمة التنظيمية: إن من مسؤوليات إدارة الموارد البشرية القيام بنشر وتعليم ثقافة المنظمة بين العاملين في المنظمة، وتدريبهم على كيفية الالتزام بهذه الثقافة في أثناء تعاملهم مع الآخرين، إذ تعبر ثقافة المنظمة عن القيم والعادات السلوكية التي تؤدي إلى توحيد إدراك وتفهم العاملين لرسالة المنظمة وأبعاد هذه الرسالة، وتوضح هذه الثقافة ما هو أخلاقي وتريد المنظمة تأصيله وتوطين العاملين عليه، وما هو غير أخلاقي وتأباه المنظمة وترفض أن يتمثله العاملون فيها.(66/6)
ويمتد دور إدارة الموارد البشرية ليشمل مراعاة أهداف هذه الثقافة الخاصة بالمنظمة، وذلك في أثناء عملية استقطاب واختيار الموارد البشرية، فتضع إدارة الموارد البشرية المعايير التي تنتقي على أساسها الموارد البشرية بحيث تتوافق وتنسجم مع ثقافتها كإدارة، وهي منبثقة من ثقافة المنظمة، فضلاً عن توافقها مع ثقافة المنظمة، وعلى إدارة الموارد البشرية أيضاً أن تضع برامج التوعية المستمدة من ثقافة المنظمة، لجميع العاملين بالمنظمة وبشكل دوري.
• الاختلافات والفروق الفردية بين الموارد البشرية داخل المنظمة: وهذه الاختلافات قد تكون من حيث العمر، والثقافة، والمؤهلات العلمية، والخبرات العملية، والبيئة الاجتماعية... إلخ.
وقد تؤدي هذه الاختلافات إلى تباين كبير في حاجات، واتجاهات، ورغبات، وطموحات الموارد البشرية، وطريقة تفكيرها وتعاملاتها.. هذا التباين وتلك الاختلافات تفرض على إدارة الموارد البشرية أخذها في الاعتبار عند وضع برامجها التنفيذية وممارساتها ونشاطاتها وهي في طريقها إلى تنفيذ استراتيجيتها. فلا يصح أن تميز فئة من العاملين على أخرى –دون وجه حق– فإن هذا سيؤدي إلى وجود صراعات واحتدامات واختلافات بين العاملين داخل المنظمة، وذلك يؤثر سلباً على الإنتاجية، وجدير بالذكر أن تجنب الصراعات والاختلافات تقع مسؤوليته على جميع مديري الإدارات في المنظمة، وهذا التجنب يكون دليلاً من ضمن الأدلة التي تشهد بكفاءة المدير ومهارته الإدارية..!
وعلى إدارة الموارد البشرية أن تجعل من صميم استراتيجيتها تصميم البرامج التعليمية، والتدريبية المناسبة، والتي تعين ويتمكن من خلالها مديرو الإدارات داخل المنظمة من التعامل بمهارة مع هذه الاختلافات، ووأدها قبل ظهورها.(66/7)
• المتغيرات الاقتصادية: إن تحرير التجارة الخارجية، ومظاهر ومؤثرات العولمة، وحالة الرواج الاقتصادي، كلها من المتغيرات الاقتصادية التي أدت إلى ازدياد حدة المنافسة بين الشركات ومنظمات الأعمال في شتى بقاع الأرض، فزيادة الطلب على السلع والخدمات أدى إلى تبني المنظمات استراتيجياتٍ توسعيةً في نشاطها وأعمالها، مما استدعى قيام إدارات الموارد البشرية بوضع استراتيجيتها على أساس التوسع في برامجها الخاصة بالاستقطاب، والاختيار والتوظيف، وبرامج التأهيل والتعلم والتدريب والتنمية، وبرامج التعويضات... إلخ. هذه المتغيرات الاقتصادية التي أفرزت هذه المنافسة الشديدة، فرضت على إدارة الموارد البشرية أن تبني استراتيجيتها في ظروف متغيرة وغير مستقرة، ومنها:
1- العمل على توفير موارد بشرية تتمتع بمرونة عالية، فضلا عن امتلاكها مهارات وخبرات متنوعة تؤهلها للعمل في مجالات ونشاطات ووظائف عدة داخل المنظمة.
2- توجيه كل الاهتمام للبرامج التعليمية والتدريبية وبرامج التنمية، من أجل الحفاظ على المستويات العليا من الكفاءة التي تتمتع بها الموارد البشرية داخل المنظمة، فضلا عن إكسابهم المزيد والمزيد من تلك المهارات حتى يتمكنوا من أداء أعمالهم بكفاءة أعلى؛ ليقدموا للمستهلك منتجًا أو سلعة ذات جودة عالية تجذبه وترغبه في الاستمرار في استهلاكها؛ لأنها تشبع رغباته، وتسد احتياجاته.
3- الاهتمام والتركيز من جانب إدارة الموارد البشرية في كل ممارساتها على تحقيق أعلى معدلات ربحية للمنظمة، أي الاهتمام بالقيمة المضافة الحقيقية، فالربح يضمن بقاء واستمرار المنظمة قويةً قادرة على المنافسة.
4- الاهتمام والتركيز من جانب إدارة الموارد البشرية في كل ممارساتها على تحقيق معادلة الإنتاجية (وهي تحقيق أعلى المخرجات بأقل المدخلات) فقد تؤدي حالة المنافسة الشديدة إلى ظهور حالات من الكساد في الأسواق.(66/8)
5- عدم استقرار التعويضات والحوافز المالية الخاصة بالعاملين، نتيجة لعدم استقرار العوائد والأرباح الخاصة بالمنظمة؛ لتبعيتها لتغيرات الطلب على منتجات وخدمات المنظمة، فعندما ينخفض الطلب على منتجات وخدمات المنظمة تنخفض الأرباح، ومن ثم تنخفض الحوافز المالية المقدمة للعاملين.
6- عدم قدرة المنظمة على الحفاظ على خاصية الاستقرار الوظيفي داخل المنظمة؛ لتبعيتها لتغيرات الطلب على منتجات وخدمات المنظمة، فعندما ينخفض الطلب على منتجات وخدمات المنظمة تنخفض الأرباح، ومن ثم تتجه المنظمة إلى تقليص عدد العاملين فيها.(66/9)
• المتغيرات التقنية (التكنولوجية): يؤثر المستوى التكنولوجي المراد تطبيقه واستخدامه في أعمال ونشاطات المنظمة في استراتيجية إدارة الموارد البشرية، فالمعدات والآلات والأنظمة الحديثة ذات التقنية المعقدة أو العالية تحتاج إلى موارد بشرية ذات كفاءات خاصة تتناسب وتكنولوجيا الآلات والمعدات والأنظمة الحديثة والمتطورة، وهذا قد يجعل إدارة الموارد البشرية مضطرة إلى الاستغناء عن جزء من العاملين الحاليين بالمنظمة، الذين لا تتوفر فيهم المهارة والكفاءة المطلوبة للتعامل مع التكنولوجية الحديثة، والاستعاضة عنهم بموارد بشرية جديدة تتوفر فيها المهارة والكفاءة والقدرات المطلوبة، وهذا يوجب على إدارة الموارد البشرية ضرورة وضع برامج خاصة بالتعويضات للعمالة التي يتم الاستغناء عنها، فضلا عن وضع برامج استقطابية خاصة لاستقطاب الموارد البشرية الجديدة المرغوبة، واستخدام أساليب اختيار حديثة تمكنها من كشف قدرات وكفاءات ومهارات العمالة الجديدة، ومدى قدرتها على التعامل مع التقنية الحديثة، وأيضا إعداد وتصميم برامج تعويضات وحوافر مالية وعينية ترغّب الموارد البشرية الجديدة في العمل والاستمرار في المنظمة، فضلا عن قيامها بتصميم برامج تعلُّم وتدريب وتنمية مستدامة لهذه الموارد البشرية الجديدة، بهدف إكسابها المزيدَ من المهارات التي تمكنها من استيعابٍ أقوى للمستجدات التكنولوجية الأحدث التي تخطط المنظمة إلى استخدامها في المستقبل.
المرحلة الثالثة:
تطوير استراتيجية إدارة الموارد البشرية:
بناء على تحليل البيئة الداخلية والخارجية للمنظمة يتم إعداد استراتيجية المنظمة العامة، وفي ضوء متطلبات الاستراتيجية العامة تقوم جميع إدارات المنظمة بإعداد استراتيجيتها.
ونستعرض فيما يلي بعضَ الاستراتيجيات التي قد تلجأ إليها المنظمة، ونعرض من خلالها الاستراتيجية التوافقية لإدارة الموارد البشرية:(66/10)
- في حال ما إذا كانت استراتيجيةُ المنظمة استراتيجيةَ توسع: تقوم استراتيجية إدارة الموارد البشرية على أساس استقطاب أعداد كبيرة من الموارد البشرية لمواجهة أعباء ومتطلبات الحجم الكبير للعمل في المستقبل، ومن ثم توسيع عملية الاختيار والتوظيف، وإعداد الكثير من برامج التعلم والتدريب والتنمية، وزيادة نشاط حماية العاملين من مخاطر العمل والمحافظة على سلامتهم، والقيام بإعداد وتصميم برامج للتعويضات والحوافز لترغيب العاملين في البقاء والاستمرار في المنظمة.
- في حال ما إذا كانت استراتيجيةُ المنظمة استراتيجيةَ اندماج مع منظمة أخرى: تقوم استراتيجية إدارة الموارد البشرية على أساس الاستغناء عن جزء من مواردها البشرية الحالية. ويقع على إدارة الموارد البشرية هنا مسؤولية تحديد العناصر التي سيتم الاستغناء عنها، وكيفية تعويضهم مالياً، وكيفية دمج الموارد البشرية في المنظمتين، وتحقيق التعاون الكامل والتوافق فيما بينها، وذلك لضمان سير العمل طبقاً للخطط الموضوعة، دون حدوث هزات مالية أو معنوية تؤثر تأثيراً مباشرا أو غير مباشر على المنظمة بعد الاندماج، وتحديد ماهية البرامج الثقافية والتعليمية والتدريبية والتنموية التي تتناسب مع الموارد البشرية بعد اندماجها.
- في حال ما إذا كانت استراتيجية المنظمة استراتيجية تنوع المنتجات: تبني إدارة الموارد البشرية استراتيجيتَها في هذه الحالة على أساس تخطيط حاجة المنظمة لموارد بشرية متنوعة، وهذا يتطلب منها القيام بإعداد وتصميم برامج استقطاب متنوعة، وبرامج اختيار وتوظيف وتعلم وتدريب وتنمية متنوعة، فضلا عن برامج حماية وسلامة العاملين من مخاطر وإصابات العمل متنوعة أيضا.(66/11)
- في حال ما إذا كانت استراتيجية المنظمة استراتيجية استقرار: هنا ستقوم إدارة الموارد البشرية بوضع استراتيجيتها على أساس استقطاب أعداد قليلة من الموارد البشرية الجديدة، والبقاء على برامج التعلم والتدريب والتنمية على حالها أو تحديثها قليلاً، وعدم التجديد في برامج حماية وسلامة العاملين، ولكن يجب على إدارة الموارد البشرية أن تحدث وتزيد برامج التعويضات والحوافر المالية، بهدف تحفيز العاملين، ودفعهم إلى المحافظة على بقاء حالة الاستقرار التي تنتهجها المنظمة كاستراتيجية.
- في حال ما إذا كانت استراتيجية المنظمة تحقيق التميز في الجودة: هذا يتطلب من إدارة الموارد البشرية أن تسعى عند بناء استراتيجيتها الاستقطابية إلى استقطاب العمالة الماهرة والمميزة، وفي المقابل الاستغناء عن العمالة نصف الماهرة، بهدف تحقيق استراتيجية المنظمة التي تهدف إلى تميز منتجاتها وخدماتها، وتقوم استراتيجية إدارة الموارد البشرية فيما يخص التعلم والتدريب والتنمية على أحدث ما توصل إليه العلم، وأحدث البرامج التدريبية التي تساعد العمالة الحالية والجديدة على الوقوف دائماً على كل جديد يتعلق بمجال عملهم، وتمكينهم منه بهدف الوصول من خلالهم إلى منتج أو خدمة خاصة بالمنظمة ذات جودة عالية، وميزة نسبية، تمكنها من التفرد، والحفاظ على حصتها السوقية إن لم تتمكن من زيادتها، في ظل منافسة شديدة وقوية. فضلا عن قيام إدارة الموارد البشرية بإعداد وتصميم برامج خاصة بالتعويضات والحوافز المالية والعينية والمعنوية التي تحفز العاملين دوماً على الإنتاجية، والإبداع والابتكار، فيشعرون بالعائد المباشر وغير المباشر على جهدهم في المنظمة.(66/12)
- في حال ما إذا كانت استراتيجية المنظمة قيادة التكلفة: إذ تقوم هذه الاستراتيجية على تحقيق أعلى معدل كفاءة إنتاجية من خلال العلاقة بين المخرجات (المنتج والخدمة) والمدخلات (العناصر الداخلة في العملية الإنتاجية – التكاليف)، أي تسعى هذه الاستراتيجية إلى إنجاز أكبر قدر من المنتجات بأقل قدر من التكاليف، وذلك بهدف طرح المنتج بسعر تنافسي في السوق لا يمكن للمنظمات المنافسة أن تبيع به، فتبني إدارة الموارد البشرية استراتيجيتها في هذه الحالة على استقطاب الموارد البشرية ذات المهارات العالية والمتميزة -والقادرة على الإنتاجية بأعلى معدلات من الكفاءة وبأقل تكلفة ممكنة– وكيفية المحافظة على هذه العمالة؛ إذ تقوم إدارة الموارد البشرية بتصميم البرامج التعليمة والتدريبية والتنموية التي تهدف إلى تنمية وتطوير مهارات وقدرات الموارد البشرية، وتمكينها من الأداء بكفاءة عالية، وفي الوقت نفسه تمكنها من تقليل الفاقد من الموارد، فضلا عن استغلال كل الطاقات وفي كل الأوقات بحيث يتم الاستغلال الأفضل –إن لم يكن الأمثل– للوقت، وفي ظل استراتيجية قيادة التكلفة أيضا تسعى إدارة الموارد البشرية إلى وضع نظام للتعويضات والتحفيز المالي يعتمد على الاستغلال الأمثل للموارد المتاحة، وتقليل تكلفة الإنتاج إلى أقل المعدلات الممكنة.(66/13)
- في حال ما إذا كانت استراتيجية المنظمة التنبؤ ووضع الاحتمالات (التوقع): إذ تهدف هذه الاستراتيجية إلى توافق وتكييف إمكانيات المنظمة وظروفها الداخلية مع المحتمل أو المتوقع وقوعه في البيئة المحيطة، فإذا توقعت المنظمة زيادة كبيرة في الطلب على منتجاتها وخدماتها، فهي تأخذ عندئذ باستراتيجية التوسع، أي تعمل على زيادة إنتاجها لمواجهة زيادة الطلب هذه، وإذا توقعت أن منافسيها قد زادوا من جودة منتجاتهم وخدماتهم، فتأخذ المنظمة باستراتيجية التميز في الجودة، أي تعمل على رفع مستوى جودة منتجاتها وخدماتها. فالمنظمة في هذه الحالة تتبنى استراتيجية تهدف إلى توفير أعلى درجات المرونة في كيفية التأمين والحصول على مواردها، لكي تتمكن من مواكبة ما يحدث من تغيرات تتوقعها في البيئة المحيطة بها، والتكيف معها في أقل وقت ممكن، ولكي تنجح المنظمة في تحقيق هذا التكيف عليها أن تتفاعل وتراقب التغيرات التي تحدث في البيئة بشكل مستمر.
وفي ظل هذه الاستراتيجية العامة للمنظمة تبني إدارة الموارد البشرية استراتيجيتها على أساس استقطاب الأفضل والأنسب وذا الكفاءة العالية والمتميزة من الموارد البشرية، وتولي العناية الفائقة بهذه الموارد من حيث التدريب والحوافز المالية والحماية الصحية، فهي تتعامل مع نوعية مميزة من العناصر البشرية، مطلوب منهم تحقيق أعلى المعدلات الإنتاجية من حيث الكم والكيف.
المرحلة الرابعة:
تطوير استراتيجية وظائف وممارسات إدارة الموارد البشرية:
تقوم إدارة الموارد البشرية ببناء استراتيجية وظائفها (استقطاب، اختيار وتوظيف، تدريب، تعويضات، علاقات العمل) وممارساتها المستقبلية داخل المنظمة بطريقة تنسجم وتتكامل وتتوافق وتعمل على تحقيق استراتيجيتها، التي تعمل على تحقيق الاستراتيجية العامة للمنظمة.
فتقوم إدارة الموارد البشرية ببناء استراتيجية منفصلة لكل وظيفة من وظائفها كما يلي:(66/14)
1- استراتيجية تكوين الموارد البشرية: تقوم إدارة الموارد البشرية بتقدير دقيق لاحتياجات إدارات المنظمة ونشاطاتها وأعمالها المتنوعة من الموارد البشرية، مراعيةً في ذلك العدد والمواصفات والكفاءات والمهارات، ثم يتم تحديدُ مصادر الحصول عليها، وتُتبِع ذلك ببناء برامج استقطابها، واختيار الأحسن والأفضل من بينها، الذي يمكنه تنفيذ الأعمال والمهام التي ستوكل إليه، ومن ثم السعي إلى تحقيق الاستراتيجية العامة للمنظمة.
ويمكننا أن نجزئ استراتيجية تكوين الموارد البشرية إلى:
- استراتيجية تصميم وتحليل النشاطات والأعمال والوظائف داخل المنظمة.
- استراتيجية تخطيط الموارد البشرية التي تحتاجها المنظمة.
- استراتيجية الاستقطاب.
- استراتيجية الاختيار والتوظيف.
2- استراتيجية التعلم والتدريب والتنمية: فمن المهام الرئيسة الملقاة على عاتق إدارة الموارد البشرية داخل المنظمة عملية وضع استراتيجيات خاصة بالتعلم والتدريب والتنمية من خلال وضع استراتيجيات فرعية مستقلة أهمها:
- استراتيجية للتعلم والتدريب المتواصل.
- استراتيجية للتنمية ورفع الكفاءات وتطويرها.
- استراتيجية لكيفية ومسار الترقي داخل المنظمة.
- استراتيجية لتقدير مستوى الأداء.(66/15)
فعلى إدارة الموارد البشرية أن تصمم البرامج والنظم التعليمية لتثقيف العاملين في المنظمة، وإطْلاعهم على كل جديد يتعلق بمجال عملهم، وتصميم البرامج التدريبية والدورات التأهيلية لرفع الكفاءة الإنتاجية للعاملين، فضلا عن تصميم برامج التنمية المستمرة لتأهيل العاملين وجعلهم مستعدين لأداء مهام وأعمال ووظائف المستقبل التي تتطلب مداومة الاطلاع على كل حديث لكي تستطيع التكيف معها وقت تطبيقها، والتكيف السريع مع التقنية الحديثة والمتطورة التي قد تلجأ إليها المنظمة لزيادة جودة منتجاتها، أو للتوسع في عملياتها الإنتاجية لمواجهة زيادة الطلب على منتجاتها، وعلى إدارة الموارد البشرية أن تضع برامج لتقدير أداء العاملين مبنية على دراسات علمية، وخبرات عملية تمكنها من التقدير الصحيح لأداء العاملين، والوقوف بشكل دقيق على مستوياتهم الحقيقية، والتي تبنى على أساسها استراتيجية التعلم والتدريب والتنمية، وكذلك استراتيجية مسار الترقي داخل المنظمة.
3- استراتيجية التعويضات: تقوم إدارة الموارد البشرية ببناء استراتيجية التعويضات من خلال تجزئتها إلى استراتيجيات فرعية ومنها:
- استراتيجية الرواتب والأجور.
- استراتيجية الحوافز المالية.
- استراتيجية المزايا العينية والمزايا الوظيفية.
وتهدف إدارة الموارد البشرية من وراء هذه الاستراتيجية إلى تحقيق الدوافع المحفزة للموارد البشرية التي تعمل داخل المنظمة، لكي تحفزها باستمرار، وتستخرج منها أفضل ما لديها من مهارات وقدرات وإبداعات وابتكارات، وذلك بهدف تحقيق الأداء الفعّال والمتميز، ومن ثم الكفاءة الإنتاجية التي تؤدي إلى إنتاج منتجات وتقديم خدمات ذات جودة عالية، فضلا عن تحقيق معدلات عالية من الانتماء للمنظمة، وكل هذا يعمل في النهاية على تحقيق رسالة وأهداف الاستراتيجية العامة للمنظمة.(66/16)
4- استراتيجية علاقات العمل: تقوم إدارة الموارد البشرية ببناء استراتيجية علاقات العمل من خلال تجزئتها إلى استراتيجيات فرعية ومنها:
- استراتيجية العلاقة مع الجهات الحكومية.
- استراتيجية السلامة والحماية.
- استراتيجية العلاقة مع المنظمات والنقابات الخاصة بالعاملين.
وتقوم إدارة الموارد البشرية ببناء هذه الاستراتيجية بغرض تحقيق التعاون والتفاهم المشترك بين المنظمة وبين الجهات الحكومية وغيرها من الجهات ذات العلاقة بالمنظمة، والمهتمة بشؤون العاملين من حيث ضمان حقوقهم وأمنهم وسلامتهم.
المرحلة الخامسة:
إنجاز استراتيجية إدارة الموارد البشرية:
تحتاج عملية تنفيذ استراتيجية إدارة الموارد البشرية إلى الكثير من المرونة، فالمنظمة تتأثر بالمتغيرات البيئية الداخلية والخارجية، ويمكن لإدارة الموارد البشرية أن تتفاعل وتتعامل وتستجيب أو لا تستجيب مع متغيرات البيئة الخارجية بأحد أسلوبين:
- أسلوب التعامل أو الاستجابة المسبقة (الوقاية): إذ تتعامل إدارة الموارد البشرية مع المتغير الخارجي (الحدث) قبل وقوعه.
- أسلوب ردة الفعل: إذ تتعامل إدارة الموارد البشرية مع المتغير الخارجي (الحدث) بعد وقوعه.
ومما لا شك فيه أن أسلوب التعامل المسبق مع الحدث أفضل في كثير من الأحوال من أسلوب ردة الفعل؛ إذ تتمكن إدارة الموارد البشرية في هذه الحالة من اتخاذ القرار المناسب لمواجهة هذا الحدث بعد دراسة مستفيضة، في حين إن أسلوب ردة الفعل لا يترك لها مجالا ولا وقتاً كافياً لاتخاذ القرار بعد دراسة مستفيضة؛ لأن القرار يأتي بعد وقوع الحدث، والحدث يفرض على إدارة الموارد البشرية أن تتعامل معه طبقاً للأمر الواقع.
وتتطلب عملية تنفيذ استراتيجية إدارة الموارد البشرية إعداد وتصميم العديد من البرامج، ووضع العديد من النظم والسياسات والإجراءات المتعلقة بشؤون العاملين داخل المنظمة.
ومن البرامج التي يتطلب من إدارة الموارد البشرية وضعها:(66/17)
- برامج تتعلق بالمزايا الخاصة بكل وظيفة داخل المنظمة.
- برامج التعلم والتدريب والتنمية.
- برامج للاستقطاب.
- برامج خاصة بتقليل الصراعات التنظيمية بين العاملين في المنظمة.
- برامج خاصة بسلامة وصحة العاملين في بيئة العمل داخل المنظمة.
ومن النظم التي يتطلب من إدارة الموارد البشرية وضعها:
- نظام تقدير الأداء لجميع العاملين في المنظمة.
- نظام الثواب والعقاب (النظام التأديبي).
- نظام الاتصالات داخل المنظمة.
ومن السياسات التي يتطلب من إدارة الموارد البشرية وضعها:
- السياسات الخاصة باختيار وتعيين العاملين الجدد.
- السياسات الخاصة بحوافز العاملين الحاليين والجدد.
- السياسات الخاصة بعلاقات العمل مع الجهات الحكومية وغيرها.
المرحلة السادسة:
معرفة مدى تنفيذ استراتيجية إدارة الموارد البشرية:
لكي تتمكن إدارة الموارد من معرفة مدى تنفيذ استراتيجية إدارة الموارد البشرية لا بد لها من معاييرَ واضحةٍ ودقيقة لتقدير أداء تنفيذ استراتيجيها، وإن كان هناك من معيار دقيق يمكنها أن تقدر من خلاله أداءَ تنفيذ استراتيجيتها فلن يخرج عن معيار مدى مشاركة استراتيجية إدارة الموارد البشرية في تحقيق فاعلية الأداء التنظيمي داخل المنظمة، فنجاح استراتيجية إدارة الموارد البشرية يظهر بوضوح في نجاح الأداء التنظيمي للموارد البشرية، وليس النجاح فقط بل النجاح المتميز الذي يظهر من خلال مستويات الأداء العالية للموارد البشرية داخل المنظمة، وهذا النجاح المتميز لأداء العاملين نتج –بلا شك– عن ولاء وانتماء ورضا من العاملين حققته فيهم استراتيجيةٌ ناجحة لإدارة الموارد البشرية، فيؤدي بالقطع إلى تمكين المنظمة من تحقيق رسالتها وأهدافها أي تحقيق استراتيجيتها العامة.
المراجع:
1 - د. عمر وصفي عقيلي "إدارة الموارد البشرية المعاصرة، بُعد استراتيجي" ط1، 2005م، دار وائل للنشر – عمان – الأردن.(66/18)
2 - Charles W.L. and Gareth R. Jones, strategic management, an integrated approach, 4th ed., Houghton Miffilin, Boston, 1998.
3 - Richard L. Daft, organization theory and design, 4th ed., Ohio south western, 1988.(66/19)
العنوان: أدب الرحلات عند الشيخ علي الطنطاوي
رقم المقالة: 1433
صاحب المقالة: صدقي البيك
-----------------------------------------
أدب الرحلات عند الطنطاوي
كان لفضيلة الشيخ والأستاذ الأديب علي الطنطاوي -رحمه الله- دورٌ بارز ومتميِّز في ميدان الرحلات؛ لكثرة رحلاته وتنوعها، واتساع مداها؛ ولتناوله هذه الرحلات فيما كتب من مقالات، وما نُشر من مؤلفات.
وقد بدأ رحلاته مبكراً؛ فبعد حصوله على شهادة الثانوية العامة (البكالوريا) -سنة 1928م- كثرت رحلاته إلى دول مجاورة أو بعيدة، وتعدَّدت وتنوَّعت أهدافها؛ بين طلب العلم، والعمل، والعبادة، والاكتشاف، والدعوة، والعمل لقضايا الأمة، والمشاركة في المؤتمرات الإسلامية.
ولو اقتصرت رحلاته هذه على تحقيق ما يرنو إليه منها؛ لنسيها هو ولم نذكرها نحن، ولكنه عمد إلى الحديث عنها والكتابة فيها، كما فعل الشعراء في ارتحالهم، والمستكشفون في جولاتهم.
والشيخ الأديب علي الطنطاوي ذو قلم سيَّالٍ إذا كتب، ولسان ذَرِبٍ إذا تحدَّث، وخيال مجنَّح، ونفس مرهفة، وعين دقيقة في التقاط كل جديد وعجيب ومثير ومؤثر! كما أن ذاكرته قوية في الاحتفاظ بما يراه أو يسمعه أو يدركه؛ فقد بقي متوقد الذهن، يستعيد المشاهد، حتى حين بدأ يكتب ذكرياته، أو يتحدث عن رحلاته بعد مضي نصف قرن على بعضها!!.
لقد جوَّب في الآفاق، فزار مصر والعراق والحجاز مراراً، كما زار إيران وباكستان والهند وسنغافورة وماليزيا وإندونيسيا، وزار ألمانيا وأماكن أخرى، ولم يفته أبداً أن يتحدث -أو أن يكتب- عن كل زياراته هذه، حتى استغرقت قسماً كبيراً من حلقات ذكرياته، كما شغلت حيزاً كبيراً من أحاديثه الإذاعية والتلفازية، وأصدر عنها عدَّة كتب، سجَّلها بأسلوبه الأدبي الجذاب.
تنوع ما يتناوله في رحلاته:(67/1)
وهو -في حديثه عن رحلاته- لم يكن يكتفي بذكر جمال طبيعة البلاد التي يزورها، أو قسوة الظروف التي يعانيها؛ بل كان يُبرز دائماً ما خلَّفته هذه الديار من أثر في مشاعره وأحاسيسه، ويستعرض -أحياناً- تاريخ تلك البلاد بإيجاز، ودخول الإسلام إليها، والظروف الاجتماعية التي يعيشها الشعب فيها، وعاداته وتقاليده، وما قام به من بطولات، وما قدَّمه من تضحيات حتى تحرر من الاستعمار؛ فهو يقول:
"وأنا حين أهمُّ بالكتابة عن بلد؛ لا أصف طبيعة أرضه، ولا تحديد مساحته وحاصلاته؛ ولكن أحاول أن أصف مدى شعوري به، ومبلغ ما له في نفسي"[1].
وقد تحدَّث بتفصيل أو بإيجاز في "ذكرياته" عن زيارته إلى مصر، مروراً بفلسطين[2]، وعن زيارته إلى بغداد سنة 1936[3]، وعن زيارته إلى القدس 1954[4]، وإلى كراتشي ودلهي[5] وسنغافورة وماليزيا[6]، وأخرى إلى ألمانيا 1970[7]، كما تحدث عن قدومه إلى الرياض[8].
ولكثرة رحلات الشيخ علي الطنطاوي؛ فلن أتناول منها إلا رحلتين:
1- رحلته عبر صحراء الحجاز:
أما الأولى منهما: فهي رحلته إلى قلب الصحراء، التي لم يكن فيها طريق معبَّد ولا ممهَّد، وقد اضطُّر ورفاقه في الرحلة إلى أن يَبعُدوا عن الطرق المسلوكة، فامتطوا خمس سيارات، وانطلقت القافلة من دمشق عام 1353هـ - 1934م؛ لاكتشاف طريق بري للحج بالسيارات، يربط الشام بمكة المكرمة، وحالت السلطة في شرقي الأردن أيام الاحتلال الإنكليزي دون مرورهم فيها، فاضطُّروا إلى الضرب في أعماق البادية، مبتعدين عن المناطق المأهولة، أو الخاضعة لسيطرة أبي حنيك (غلوب باشا)، ولاقَوا في ذلك الطريق أهوالاً، ومشاق تتضاءل أمامها معاناة المسافرين على الجمال؛ فالطريق بين دمشق ومكة يقطعها راكب السيارة حديثاً في أقل من يوم، ولكنهم قضوا ثمانية وخمسين يوماً في رحلتهم تلك.
فقدانه مذكرات الرحلة:(67/2)
وقد كان الطنطاوي عازماً على تسجيل رحلته هذه، وتدوين كل ما يلاقيه فيها، أو يطلع عليه من معالم جغرافية واجتماعية؛ يقول:
"وعزمتُ أن أدوِّن الرحلة، ولا أكتفي بما تحمل ذاكرتي؛ فاتخذت دفتراً كتبت فيه كلَّ طريق مشينا فيه، وكلَّ جبل مررنا به، وكلَّ أرض حللنا بها، ودوَّنتُ أنساب وعادات وأحوال من لقينا فيها".
وهو بذلك يحاول أن يجعل وصف رحلته أدقَّ وأعمق ما يكون.
ولكنه فقد دفتره هذا -بكلِّ ما فيه من معلومات- قبل وصوله إلى المدينة المنورة؛ فاضطرَّ إلى الاعتماد فيما كتب بعد ذلك على ذاكرته، وبعث مقالاته إلى مجلة "الرسالة" في القاهرة، و"ألف باء" في دمشق، كما أنه عاد إلى هذه الرحلة وتحدث عنها في ذكرياته، في حدود عشر حلقات من الجزء الثالث.
وهو يصور لنا فيما كتبه عن رحلته هذه الطبيعة القاسية للأراضي التي مرَّ فيها، فهي جبال وصحاري وبواد لم تطأها أقدام مسافرين من قبل؛ لأنهم اضطروا إلى الابتعاد عن الطرق المسلوكة من قبل؛ فيقول مثلاً:
"وصلنا إلى حَرَّة من أوسع الحِرَار وأعجبها، مستويةً من الأراضي، مفروشة بحجارة سوداء لماعة، أكثرها حاد الأطراف كالسكاكين. وكنا ننزل من السيارة فنزيح الأحجار من طريقها، وإذا بلغنا هضبة لا تقوى السيارة على صعودها ربطنا السيارة بالحبال وجررناها ودفعها ناس من خلفها. وقطعنا تسعين كيلاً. خرجنا منها فوجدنا أنفسنا أمام (مركز الأزرق) الحدود الذي هربنا منه!!"[9].
عيوب الرحلة:
ويقول في مكان آخر:
"حتى الطبيعة من حولنا لا أحسُّ منها إلا ما يبعث الخوف وينفي الأمان؛ تلال الرمل، وصخور الجبال، وأرض تشتعل رمضاؤها، وتنفث لهباً سماؤها، وسرابٌ رأيته أول مرة فحسبته ماء! فهو كالشهرة والمجد والجاه؛ يتمناها المحروم، ولا يشعر بالمتعة بها مَنْ أوتِيَها"[10].
ولم يتحرج عن ذكر عيوب هذه القافلة، وسلبياتها، وأخطائها، ونواقصها؛ فلم يكن معهم خريطة للمنطقة، ولا بوصلة، ولا أمير للركب:(67/3)
"وكنا -كعادتنا دائماً- جميعاً أمراء؛ فكانت رحلتنا مثلاً في باب عدم التنظيم، أي إنها المَثَل الكامل للفوضى"[11].
وفوق كل ذلك؛ اتخذوا دليلاً في الصحراء، تبين لهم -بعد فوات الأوان- أنه جاهل لا يعرف الطرق، ولم يركب في هذه الصحراء سيارةً من قبل! أو أنه قليل الخبرة، ولكنه خيرٌ منهم؛ فهم لا خبرة لهم.
في مركز حدود السعودية:
وكان يقف طويلاً عند عادات أهل البادية الذين مروا بهم، فوصفهم، ووصف مساكنهم ومعيشتهم وتقاليدهم، فيقول عن وصولهم إلى أول مركز حدود للمملكة العربية السعودية:
"رأينا ثلاثة شبان بأثواب عربية، فوقها رداءٌ عسكري، يهبطون لاستقبالنا، بوجوهٍ يشرق فيها الكرم، وعليهم مناطق (الرَّصاص)، وبأيديهم بنادق جديدة، وعليها كتابة قرأتها فإذا هي:
(وقفٌ لله -تعالى- وقفه عبدالعزيز).
وساروا أمامنا حتى بلغنا الخِبَاء في أعلى التل، فإذا فيه البُسُط والجلود، ورَحْلُ جملٍ يتكئ عليه الجالس، وفي وسَط الخِبَاء حفرةٌ فيها نارٌ موقدةٌ، حولها دِلالُ القهوة. وواجبهم الرسمي أن يتحققوا من أسمائنا، ويستقرؤوا أحوالنا، وهم في حَيرة من أمرهم بين هذا الواجب الرسمي وبين كرم المضِيف، حتى حلَّ هذه المشكلة كبير الرحلة الشيخ ياسين الروَّاف، فأطلعهم على الجوازات، وبعد أن أدَّوْا واجب الوظيفة، تفرغوا لأداء واجب الضيافة العربية"[12].
مساجد (القُرَيَّات):
كما أنه يصف المساجد في (القُرَيَّات)[13] في تلك الأيام فيقول:
"والمساجد خاليةٌ من الزخارف، دانيةٌ السقوف، تقوم سقُفُها على عُمُد كثيرة متقاربة من جذوع النخل ومن اللَّبِن، وأرضها مفروشةٌ بالرمل، لا سجادة ولا بساط ولا حصير!".
ولا يسكت عمَّا يرى أنه مخالفٌ لرأيه؛ فيقول:(67/4)
"أنا رجلٌ سلفيٌّ، ولكني لست ظاهرياً أتسمك بحرفيَّة النص، وأحبس نفسي في حدود الألفاظ. فلما كانت أرض البيوت من التراب؛ كانت المساجد كذلك، أما أن نتخذ لبيوتنا أغلى السجاد العجمي، ثم نجعل أرض المسجد من التراب، وندوس عليه بالأحذية!! فلا"[14].
مجلس الملك عبدالعزيز:
ويتابع رحلته إلى تَبُوك، ثم المدينة، فجُدَّة ومكة، حيث أمضَوا أسبوعين، ويصف زيارة الوفد للملك عبدالعزيز:
"دخلنا مجلس الملك فقام لنا، وكان يقوم للداخل! ورأيتُ أولاد الملك صفّاً عن يمينه على ترتيب أعمارهم، ورأيتهم إن جاء أمير منهم تنحى له مَنْ هو أصغر منه ولو بأسبوع، حتى يأخذ مكانه بحسب عمره، وكان يدخل عليه من الناس مَنْ شاء، وكان أهل البادية يدعونه باسمه: (والله يا عبدالعزيز)!!"[15].
من مصاعب الرحلة:
ولم تكن روحه المرحة تفارقه في كتاباته عن رحلته هذه، وهي روحٌ تَشيع في كثير من كتاباته وأحاديثه، فهو يتحدث بعد مفارقتهم تَبُوك أنهم مروا بجوار خط سكة الحديد، والأرض قاسية، أو فيها رمالٌ تغوص فيها عجلات السيارات، فاقترح أحدهم أن يستفيدوا من طريق القطار الممهَّد أو من السكة الملساء المستوية، فأعجبهم الاقتراح، وجرُّوا السيارات حتى صعدت إلى طريق القطار، وبذلوا في ذلك جهداً كبيراً؛ لأن جنبات الطريق شديدة الانحدار، فلما وصلوا وسارت السيارات فوق الطريق لاقَوا من الاهتزازات العنيفة بسبب العوارض التي تمسك القضبان الحديدية، فكانت أقسى عليهم من الحفر ومن الصخور، فآثروا بعد ذلك السير على الأرض، وتركوا خطَّ القطار. وأنزلوا السيارات، فلاقَوا في إنزالها أشد مما لاقَوا في رفعها، خوفاً من انزلاق السيارات وانقلابها، وما أكثر المشاهد المضحكة في سرده للمواقف العصيبة!!.
2- رحلته إلى إندونيسيا:(67/5)
وإذا كانت رحلته إلى الحجاز غلب عليها وصف الطبيعة القاسية، وعرض الأهوال والمخاوف التي لاقتها القافلة؛ فإن له رحلة أخرى أبعد مدى، وأطول زمناً، وأمتع طبيعة، وألين جانباً، إنها رحلته إلى إندونيسيا، التي قام بها عام 1954م، في وفد أرسله (المؤتمر الإسلامي) الذي انعقد في القدس لنُصرة فلسطين، وشرح القضية للمسلمين؛ ليشاركوا فيها جهاداً بأموالهم.
وقد استغرقت رحلته هذه ثمانية أشهر، جال خلالها في أرجاء العالم الإسلامي شرقاً، حتى وصل إلى إندونيسيا، مروراً بالعراق وباكستان والهند وبورما وسيام والملايوا وسنغافورة، وبعد أن عاد سجَّل رحلته هذه عبر أحاديثه الإذاعية، ومقالاته في مجلة "المسلمون"، ثم جمع ما أذاع وما نشر في كتاب اسمه "في إندونيسيا.. صورٌ من الشرق"، وتحدث عنها أيضاً في "ذكرياته".
وهو كلما وصل فيما كتب إلى دولة أو مدينة؛ وقف عند طبيعتها، يستجلي جمالها وخضرتها، وأنهارها الجارية، وجوِّهاً اللطيف، وتحدَّث عن تاريخها الغابر، وعن وصول الإسلام إليها، وتناول واقعها المعاصر من ثوراتها التي أوصلتها إلى الاستقلال، وحركاتها السياسية، وتطوراتها الاجتماعية والعمرانية، وعادات شعوبها، وكأنه آلة تصوير للصورة والصوت، مع لمس المشاعر والأحاسيس والعقائد والمواقف.
(جَاوَة) جنة الدنيا:
فهو عندما وصل إلى (جاكرتا) رآها جنة الدنيا، وعدَّها (سويسرا الشرق)، فيقول:
"وليست جنة الدنيا الشام ولا لبنان ولا سويسرا، ولكنها (جَاوَة)، مَنْ رآها فقد علم أني أقول حقّاً، ومَنْ لم يرها لم يغنه عن مرآها البيان! أمضيتُ فيها يومين، ما رأيت في حياتي يومين كانا أمتع لنفسي متعةً، وأحلى في عيني منظراً، وأبقى في قلبي أثراً منهما، قطعت فيها الجزيرة بالقطار، في طريقٍ ما رأيتُ ولا سمعت - ولا أظن أني سأرى أو أسمع - أن في الدنيا طريقاً أجمل منه"[16].
وكان يقف في وصفه عند بعض مغانيها؛ فيصور بقلمه جمالها.
بين الماضي والحاضر:(67/6)
وهو يتناول في الحديث عن إندونيسيا دخولَ الإسلام إليها من قبل 650 سنة، أي قبل أن يصل إليها ابن بطوطة في رحلته الطويلة، على أيدي التجار المسلمين، وقيام دولة إسلامية فيها، صارعت بعد ذلك الاستعمار البرتغالي، ثم الهولندي، واستئنافها الثورة في أواسط القرن العشرين، حتى نالت استقلالها عام 1945م.
ولم ينسَ أن يعقد فصلاً للحديث عن وصف ابن بطوطة لجزيرة (جاوة) -يقصد (سومطرة)- وإبرازه جمالها، وأنواع أشجارها، وعادات أهلها وملابسهم في تلك الأيام.
كما تحدث عن واقعها السياسي، ودور الحركة الإسلامية والجمعيات والأحزاب الإسلامية؛ ومنها (شركة إسلام)، و(الجمعية المحمدية)، و(مجلس الشورى الإسلامي- حزب ما شومي)، و(جمعية نهضة العلماء)، و(الجماعة الإسلامية).
كما تحدث عن (دار الإسلام) في إحدى جزر إندونيسيا، وعن الحركات التنصيرية فيها، والمدارس الأهلية والإسلامية.
مشاهد من إندونيسيا:
ويتناول عادات أهلها وطباعهم فيقول:
"والقوم في إندونيسيا أرقُّ الناس نفساً، وأرهفهم حسّاً لا يحتملون شدةً ولا عنفاً، ولقد لمتُ السائق مرةً على ذنب أذنبه، ورفعت صوتي عليه؛ فبقي أياماً متألماً! وما سمعتُ في إندونيسيا ضجةً، فالشوارع تكاد تكون هادئة، والكلام يكاد يكون همساً، وما رأيت فيها (خناقة)، و(الخناقات) في الشوارع مقياس أعصاب الأمم. وفيها لا يكون سبٌّ أبداً؛ لأن لغتهم -كما أظن- خالية من ألفاظ السباب!!"[17].
ويتحدثُ عن وسائل النقل في داخل (جاكرتا)، وأكثرها انتشاراً الدراجات، حتى ظنَّ ورفيقه -عند جولته الأولى فيها- أن هناك موسم سباق بالدراجات (الهوائية)! يقول:
"يركبها الصغير والكبير، والرجل والمرأة، وربما أردفت الفتاة وراءها أخرى أو رجالاً، لا يرون في ذلك بأساً! وإن بدا من الراكبة ما تخفي الفتاة عادةً شرعاً من أعضائها!!.(67/7)
وأغرب من ذلك -في التكشُّف- أن فيها نهراً فيه ماءٌ قليلٌ، ينزل إليه الرجال والنساء عراةً؛ إلا ما يستر السوأة الكبرى، فيغتلسون معاً! ولم أجد من ينكر عليهم هذا المنكر!!"[18].
وهذا من استطرادات الطنطاوي التي اشتهر بها في أحاديثه، وفي كتاباته أيضاً.
ثم يعود ليكمل حديثه عن وسيلة نقل أخرى هي (الرَّكْشَة)، وهي:
"عربةٌ صغيرةٌ لها مقعدان، يجرُّها إنسانٌ! يعدو بها حتى يتصبب عرقاً ويلهث تعباً".
ثم يذكر أنواعها المتطورة، ويقارن بينها وبين مثيلاتها في (كلكتا) و(كراتشي).
عجبٌ من عجب!!
ويصف احتفال المسلمين -هناك- بعيد نزول القرآن!! ويحددون له يوم 17 رمضان، فيقول:
"يجعلونه أكبر أعيادهم، ويحتفلون به احتفالاً ضخماً في القاعة الكبرى من قصر الرئاسة، ويشترك رجالهم ونساؤهم في الاحتفال. يجلس الرجال في المقاعد اليمنى، والنساء في المقاعد اليسرى، لا يتجاورون في المجالس، وأكثر النساء الحاضرات قد ألقينَ المناديل على رؤوسهنَّ، فسترنَ بها شعورهنَّ. وافتتحت الحفلة بآيات من القرآن، تلتها قائمةً أمام المذياع زوجة الرئيس سوكارنو، بصوت رخيم، وقراءة فصيحة صحيحة المخارج.وقد عجبت من قراءتها القرآن دون الرجال فعجبوا من عجبي!!"[19].
نبات أم بنات؟
ويصف ملابس النساء في ثنايا عرضه لجمال الطبيعة، فيقول واصفاً ما يراه عبر نافذة القطار:(67/8)
"فكانت عن يسارنا مزارع الرُّز، وعن أيماننا الجبال، تلبس فروةً خضراء، تتزاحم على سفوحها وذراها عمالقة الأشجار، يمشي في موكبها وبين أرجلها آلافٌ من أنواع النبات، فمن دخل هذه الغابات لم ترَهُ عين الشمس، ولم يَرَ هو وجه السماء؛ لأنه يكون تحت سبعة سقوف من الأغصان والأوراق! ورأيت الزهر خلال نبات الأُرز كالشقائق الحمر خلال حضرة القمح في بلادنا، فلما دنا بنا من ذلك القطار، رأينا ما حسبناه زهراً ليس بالزهر، وما ظنناه من النبات إنما هو البنات الحاصدات بأزُرِهن الملونة "الفوط" التي تحكي الزهر بنقشها ولونها، وعلى رؤوسهن قبعات الخوص الكبار، كأنها المظلات الملونة المنقوشة!!"[20].
تصرفات سلبية:
وإذا كان يسهب في وصف جمال البلاد، والجوانب الإيجابية في سلوك أهلها ومعاملاتهم، فإنه لا يسكت عن إبراز الجوانب السلبية والعيوب في تصرفات بعض مَنْ تعامل معه أو ما رآه، فهو لم يسكت عن التكشُّف والتعرِّي في أحد أنهار (جاكرتا)، وتحدَّث عن تصرف أحد مرافقيهما اللذَين انتدبتهما الحكومة لذلك:
"وكان معنا مرافقان يتكلمان العربية؛ واحدٌ من وزارة الشؤون الدينية، عالمٌ فاضلٌ أمينٌ صادقٌ، وآخر من وزارة الخارجية، رأيت الكثير من شرِّه وضرِّه، وتعلَّمت منه أن الكذب والاحتيال بضاعةٌ موجودةٌ في كل مكان، وأن الواحد ربما أساء بفعله إلى بلد بكامله، فقد كان يأخذ السيارة المخصصة لنا ويدعنا بلا ترجمان، نستأجر السيارات، ويأكل في المطعم على حسابنا، وهو يأخذ من الحكومة ما يدَّعي أنه صرفه علينا لأننا ضيوفها!!"[21].
(الجودك):
ويصف طعامهم السائد فيقول:
"وهؤلاء يأكلون دائماً الرز المسلوق، الذي يخلطونه بالفليفلة، يعملونه كـ (جرادق) رمضان، والموز المشوي والمقلي والمطبوخ، والشاي البارد بلا سكر"[22].(67/9)
"وكنتُ كلما شكوتُ من هذا الطعام قالوا: ستذوق (الجودك)؛ فتعرف ما لذة الطعام الإندونيسي، فهو أفخر طعام في الدنيا! فإذا بي أجد في فمي (شوربة) زيت الخروع بصبغة اليود!! ولم أستطع أن أبتلع اللقمة؛ فقلت: واشوقاه إلى الشام وطعام الشام!!"[23].
ولم يَفُتهُ الحديث عن المساجد في (جاكرتا)، وسعتها وجمالها[24].
والحديث عن رحلات الشيخ علي الطنطاوي يطول بمقدار طول حديثه هو عن هذه الرحلات، الذي امتاز بدقة الوصف، وكثرة التمثيل، والإسهاب، وكثرة الاستطراد، كما امتاز بأسلوبه الأدبي الرشيق، الذي جعل رحلاته تتقدم على كثير من كتب الرحلات الحديثة، التي اهتمت بالموضوعية أكثر من اهتمامها بالأسلوب.
مع حَدْوِ القافلة:
أيها الراحل فينا من الوريد إلى الوريد، كيف نبكيك، وأنت أعمق من أن تحدوك قوافي الشعراء؟!.
كيف نشدو لك أشواق الروح؟ فأي لغة شفيفة تراها تحيط بذكرياتك؟! كيف نحاور اليوم دمشق بكل ينابيعها المفعمة بدفء نبضك لتحنو عليك؟!.
أي تاريخ غدا قطوفاً دانيةً من صفاء أحاسيسك؟! أي تاريخ قرأناه معك عابقاً في حياة أبي بكر، وأخبار عمر، رضي الله عنهما؟! ترى أنَّى نحدثك، وكل ما نسطره لن يفيض عن حديث أنفاسك؟!.
أتموت واقفاً، أبياً، فقيهاً، أديباً، في الزمن الصعب، زمن التردي، حين داهمنا ركان الخنوع والانكسار؟!.
أتموت شامخاً؛ وكنا نسألك حين تعز الأسئلة، حين نتوجس راجعين منحنين من ثقل المعصية؟!.
أتموت ونحن لم نزل نهدهد آهاتنا، نفرُّ من نفحات الألم إلى "نفحات الحرم"، التي تداعب أزهار سطورك؟!.
من منا تراه سيهاتفك وأنت الذي هاتفت عروقنا اليابسة بأندى "هتاف المجد"؟!.
هل ترانا نشعل الجراح ثانية، وأنت الذي أشعلت جراحنا في "قصتنا مع اليهود"، وأوغلت بنا في "صور من الشرق الأسير"؟!.
عمَّ نتحدث إليك وأنت الذي أضأت حروفنا المتعبة في دمغ زيف الحضارة عبر "موقفنا من الحضارة الغربية"؟!.(67/10)
هل من كلمات تتألق مع حَدْو القافلة أمام: "رجال من التاريخ" وأمام "عبدالرحمن بن عوف" أو "عبدالله بن المبارك"؟!
وهل من باقات نقطفها إليك؟ ومن أي نافذة مشروعة سنأوي إلى رباك المزهرة؛ وفينا كل هذا الأسى؟!.
ــــــــــــــــــــــــــــ
[1] ذكريات: ج 8/1/8، ط2، 1409/1989م، دار المنارة، جدة.
[2] ذكريات: ج1/ 241، نفسه.
[3] ذكريات: ج3 / 241.
[4] ذكريات: ج5 / 123.
[5] ذكريات: ج5 / 177.
[6] ذكريات: ج6 / 109.
[7] ذكريات: ج7 / 202.
[8] ذكريات: ج8 / 181.
[9] ذكريات: ج3 / 67.
[10] ذكريات: ج3 / 86.
[11] ذكريات: ج3 / 57.
[12] ذكريات: ج3 / 74.
[13] القريات: مدينة في شمال السعودية، عند الحدود الأردنية.
[14] ذكريات: ج3 / 82، نفسه.
[15] ذكريات: ج3 / 138، نفسه.
[16] كتاب: "في إندويسيا.. صور من الشرق"، ص91، ط2، 1412هـ / 1992م، دار المنارة، جدة.
[17] السابق: ص 163.
[18] السابق: ص 85.
[19] السابق: ص 86.
[20] السابق: ص92.
[21] السابق: ص 94.
[22] السابق: ص 95.
[23] الساب: ص 104.
[24] ذكريات: ج6 / 159.(67/11)
العنوان: أدب المذكرات، وأنواعها
رقم المقالة: 1911
صاحب المقالة:
-----------------------------------------
أدب المذكرات، وأنواعها
"إنها حواريَّ، ومجتمعي، ورفيقي،
وسميري، وإنها عزائي، وذاكرتي،
وآلامي، وصداي، ومستودع تجارِبي
الذاتية، ومخطط رحلتي النفسية، ومجني
ضد صدأ فكري، وذريعتي في العيش".
"هـ.ف.آمييل"
من الظواهر الأدبية التي تستدعي - في عصرنا هذا - التأمُّلَ والتفكير، شيوعُ كتابة المذكرات، ففي زحمة النتاج الفكري، الذي تقذف به المطابع كل يوم في الشرق والغرب، تستأثر كتب المذكرات واليوميَّات بجزء وافر منه، فلم يَعُدْ هذا النوع - كما كان في الماضي - وقفًا على أرباب العلم والمعرفة، أو ذَوِي الشخصيَّات الفذَّة التي لها في المواهب، والعَلاقات، والأثر، والأفق الذهني الخارق للمألوف، ما يؤهّلُها أو يحمِلُها على تدوين مُذَكَّراتها، تُودِعُها خُلاصَةَ التَّجارِب التي مَرَّتْ بِها أو شهادتِها أمام محكمة الحق والتاريخ.
ويتحدَّد مفهوم المذكرات وأنواعها تبعًا لمظاهر الحياة الثلاثة: الأفعال، والأفكار، والعواطف، ويقابلها:
1 – المذكرات التاريخية: وهي التي تهدف إلى الكلام عن الآخرين، أو عن المؤلف نفسه، ويعتمد صاحبها في تدوين الوقائع على الذاكرة أو المشاهدة، ملتزمًا - ما أمكن - الحيادَ فيما يكتب، وقد عبَّر الكاتب رومان رولان عن هذا بقوله: "سأحاول - جهد المستطاع - في هذه الملاحظات المجرَّدة، القيامَ بدور المسجل البسيط، الذي يدوِّن ما يمليه عليه الزمن، وسوف أحاول ألا أُعْطِي انطباعًا صحيحًا عن هذا العصر المعقَّد المُتَشابِك، إنني أدوّن أقوالاً وأعمالاً، وأنا قابع في زاوية صغيرة من زوايا المعركة".(68/1)
2 – المذكرات الوثائقيَّة: وهي مذكرات مسلسلة تتناول مجالات عديدة؛ أدبية وسياسية وفلسفية واجتماعية وفنية، ويغلب على هذا النوعِ الطابعُ النفعي لاستفادة أصحابها من المواد الفكرية الشائعة، والوثائق الَّتي اعْتَمَدُوا عليها أثناء التدوين، وأكثر ما تشتمل على آراء اجتماعية موزَّعة، وحِكَم متناثرة، ومقالات وأقوال عابرة مستقلة، وأفضل مَن يمثل هذا النوع عندنا "محمد كرد علي"، الذي حلَّتِ المطالعات المجرَّدة عنده محلَّ التفكير الذاتي؛ فجَمَعَ بين شخصيَّتَيِ المؤرّخ والمنشئ.
3 – المذكَّرات الشخصيَّة: وأفضلها القائم على التسجيل الوجداني الفوري للانطباعات، التي قصد منها رصد حركات العالم الخارجي، وتموجات "الأنا" وارتكاساته تجاه معاصرته وأحْدَاثِ عصره. وقد يبدو هذه النوع في شكل يوميَّات كُتِبتْ يومًا فيومًا، أو سنة فسنة، علمًا بأنَّ الاستمرار والمتابعة، وتجنّب الفجوات والانقطاع، شروطٌ لازمة، وإلا فقدت صفة الفورية، وحلَّتْ محلها الصفة التاريخية، كما فعل جان جاك روسو في الغرب، الذي كتب مذكراته في الثالثة والخمسين، وميخائيل نعيمة في السبعين.
وفي هذا يقول الأخوان غونكور، اللذان بلغت مذكراتهما عشرة مجلدات: "إن هذه المذكرات اعترافاتنا كل مساء، اعترافات حياتين غير منفصلتين في السراء والضراء والجهد، اعترافات فِكْرين توأمين، وعقلين يتلقيان من التماس مع الناس والأشياء انطباعاتٍ، بَلَغَ من تشابهها ومطابقتها أنها تعتبر امتدادًا للأنا الواحد، ففي هذه الترجمة الذاتية التي سجلت يومًا فيومًا، يبرز على المسرح أناسٌ، ألقتهم مصادفات الحياة في طريقنا، فرسمنا هؤلاء الرجال، وأولئك النسوة في تشابههم في ذلك اليوم وتلك الساعة، ثم أعدنا النظر مرة أخرى؛ لنبرزهم فيما بعد بأشكال مختلفة حسب التعديلات الطارئة عليهم...".(68/2)
العنوان: أدعياء الصوم
رقم المقالة: 1493
صاحب المقالة: د. محمد حسان الطيان
-----------------------------------------
ثمة أناس -من أدعياء الصوم- يحلو لهم أن يجعلوا من رمضان مِشجَباً يعلقون عليه أخطاءهم وممارساتهم غير المرضية، بل سوء خلقهم وفظاظة تعاملهم مع الآخرين، فترى أحدهم كالقنبلة الموقوتة يجمع في صدره كل مقت الحاقدين وحنق المغيظين، فما إن يبادره مُبادر بكلمة حتى ينفجر في وجهه مخرجاً كل غله وضغينة قلبه، وأنكى من ذلك أنه يسوِّغ سوء فعله هذا بصومه أو ((بأن الدنيا رمضان)).
ومن قال لك ياهذا إن رمضان شهرُ سوء الخلق، وضيق الصدر والعطن، وانطلاق اللسان بما لا يحسن ذكره، ولا يحلو نطقه، ولا يجمل سمعه؟
أتُراك إن فعلت هذا مسوِّغاً فعلتك التي فعلت بأنك صائم قَبِلَ الناس ذلك منك؟! أو رضي الله في هذا عنك؟! أم ترى شيطانك زيَّن لك سوء فعلك وصدك عن السبيل، ثم أمعن في إغوائك حين جعلك تتعلَّل لكل هذا بأن الدنيا رمضان؟!.
ربنا سبحانه يقول: {يا أيها الذين آمنوا كُتب عليكم الصيامُ كما كُتب على الذين من قَبلكُم لعلكم تتَّقون} وأنت تفهمها: لعلكم تفجرون أو تسيئون!
ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم يقول: ((الصوم جُنّة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يَرفُث ولا يَفسُق، فإن سابّه أحدٌ أو شاتَمَه فليقُل إني صائم))، وأنت تفهم الصوم إباحة للشتم والسب، وعلَّة لسوء الخلق وضيق الصدر، وحجة تحتجُّ بها لما ينطلق به لسانك من نابي القول وجارح الكلم !
أين أنت من هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم حين قال: ((كم من صائمٍ ليس لهُ من صَومه إلا الجوعَ والعطش، وكم من قائمٍ ليس له من قيامه إلا التعب))؟!
بل أين أنت من قوله صلى الله عليه وسلم: ((مَن لم يَدَع قولَ الزُّور والعَمَل بهِ فليسَ لله حاجةٌ في أن يَدَعَ طعامَه وشَرابَه))؟!.(69/1)
إن الصوم يا أخي مدرسةٌ يتعلم فيها الصائم كيف يتخلَّق بأخلاق الصالحين ويرتقي في مدارج السالكين فتصفو نفسه، ويتسع صدره، ويحلو نطقه، ويدع كل ما من شأنه أن يشوبَ صومه من سيئ الخلق أو فاسد العمل.
وإذا كان سوء الخلق وسلاطة اللسان أمراً مذموماً في سائر أيام العام، فأَحرِ به يكون كذلك في رمضان، إذ تصفَّد الشياطين، ويذوي الشر، ويعم الخير.
ولعمري إن من تسوِّل له نفسه الفساد والإفساد، والسب واللعن، وسوء الخلق، في وقت صُفِّدت فيه الشياطين، لهو أبعد عن الخير وأدنى إلى الشرِّ في غيره من الأوقات!
جاء في كلام لقمان لابنه وهو يعظه: ((إذا كان خازنُك حفيظاً وخزانتُك أمينة رَشَدت في أمرَيك: دنياك وآخرتك)) يعني القلب واللسان.
وقال الشاعر:
إذا المرءُ لم يَخزِن عليهِ لسانَهُ فليسَ على شَيءٍ سِواهُ بِخَزَّانِ
وإن زعم زاعم أنه مجبولٌ على ضيق الصدر، وسرعة الغضب، وسلاطة اللسان فليعلم أن الصوم ينبغي أن يهذِّب من طباعه، ويحسِّن من أخلاقه، لأنه إن لم يفعل ذلك ضاع صومه، وفسدت طاعته.
ولا ريب أن مثل هذا لايتأتّى للمرء دون كظمٍ للغيظ، وتجملٍ بالصبر، وتحلمٍ وتعلم. ولقد دلنا رسولنا صلى الله عليه وسلم على طريق ذلك بقوله: ((إنما العلمُ بالتعلُّم، وإنما الحِلمُ بالتحَلُّم، ومَن يَتَوخَّ الخيرَ يُعطَه، ومَن يَتَوقَّ الشرَّ يُوقَه)).
أسأل الله سبحانه أن يُخلِّقنا بخلق الصائمين الصادقين، وأن يجنبنا كل ما يَشين، ويلهمنا أن نكونَ ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه والحمد لله رب العالمين.(69/2)
العنوان: أديب.. ومكتبة!
رقم المقالة: 1699
صاحب المقالة: خاص: الألوكة
-----------------------------------------
بأسلوب جَمَعَ بين الحزن والطرافة.. يحدّثنا الأديب الناقد "إبراهيم الكيلاني" عن "معاناته" مع مكتبته، متمماً بذلك مسيرةَ من سبقه من العلماء والأدباء في وصف مكتباتهم ومعاناتهم الحلوة – المرة معها فيقول:
مكتبتي
لعل أشدَّ المحن، التي يُبتلى بها المرء في هذه الأيام المثقلةِ بالأعباء والتكاليف، حبُّ الكُتب. وهي محنة تزيد وطأتها بتقادم الأيام، واستحكام غريزة التملك، وكثرة المطبوع، وضيق المساكن الحديثة، التي تكاد أن تشبه في ضيقها، والتصاق أجزائها علبَ المقوى (الكرتون)؛ حتى بات اقتناءُ الكتب، ورصفها، والحفاظ عليها، وبقاؤها في وضعٍ يمكن الإفادة منها عند الحاجة، علةَ العلل، ومن المنغصات الصغيرة للعيش.
إن مهنتي وهوايتي تقتضيان البقاء على صلة بالنتاج العلمي، وحركة التأليف والتصنيف، وتفرض تلك الصلة عليَّ شراء الكتب، والمجلات والصحف باستمرار، وليس كل الكتب والمجلات؛ بل المصطَفَى منها، وذو القيمة الوثائقية، وما أتوسَّم فيه نفعًا عاجلاً أو آجلاً في دراساتي وبحوثي؛ حتى تَكَوَّنت عندي على مر الزمن مكتبةٌ، جُمِعَتْ بعرق الجبين والحرمان.
كان عليَّ - في البداية - أن أقتطع غرفةً من الدار، أَطْلَقنا عليها اسم المكتبة، فوُضعتِ الكتب - كالعادة - في الخزائن، ثم على الرفوف، والطاولات، ثم غرفة الطعام، فكدست على المقاعد، وحشرتْ في خزائن الثياب، ودُسَّتْ بين الأثاث؛ حتى لم يبقَ فراغ إلا ملأته. كل هذا يجري في شكل وباء بطيء، لا سبيل إلى مكافحته؛ إلا بالانسحاب أمامه، وتمكينه من الاحتلال، وكنت كلما ازدادتِ الحالة حرجًا ازددتُ اقتناء للمطبوع؛ تحدِّيًا وإصرارًا، حتى أشبهتُ المدْمِنين، الذين يداوون العلة بالعلة، أو كما قال الشاعر:
وَدَاوِنِي بِالَّتِي كَانَتْ هِيَ الدَّاءُ(70/1)
ولا ريب في أنَّ عاقبة هذه الحالة لا تؤدي إلى شعور الأسرة بالحرج وضيق المدى الحيوي فحسب؛ بل إنَّ زوجتي - وقد أيأسها هذا البلاء، والوقوف دون امتداده، التي ترفع يديها إلى العلاء كلما رأتني متأبطًا رزمة، صائحة: "أشبعك الله كُتُبًا، أنَّى لنا بالمكان الذي يسعُ كل هذا؟!" - قد دبَّ في قلبها القنوط من إيجاد حدود واضحة، وخطوط فاصلة بين المكتبة وبقية أقسام الدار، حتى كادت هذه أن تتحول إلى مستودع أو دكان ورَّاق، ويئستُ أنا أيضًا من الإفادة من هذه الكتب على وجه يُسوِّغ وجودها، وعناء اقتنائها، فما أكثر ما يَعِزُّ الوصول إلى ما أبتغي بين هذه الكتب المكدسة، وما أكثر ما أدس بين الرفوف؛ سعيًا وراء ضالتي، وقد أعود من هذه الرحلة أشعثَ، أغبر، مخدش اليدين، مغيظًا، محنقًا؛ لعجزي وإخفاقي، وما أكثر ما كنت أشفق من الجهد الذي يلزَمُنِي لِلْعُثور على كتاب، فأتغاضَى عن ذلك، والحسرة تملأ نفسي، وقد ألجأ إلى المكتبات العامَّة، أو الإعارة من الأصدقاء.
وقد بدأتْ طلائع الأزمة في الغرب، حيث تصور الكتب على أفلام صغيرة، تُقرأ عند الحاجة إليها بواسطة آلات يدعونها "القارئات". ولا أدري اسم ذلك العبقري، الذي نصح قارئ عصره بأن يقرأ الكتاب وبيده مقص، كلما مرَّ بصفحة استجادها، أو عبارة نالت إعجابه، أو فصلٍ توسم فيه فائدة أو متعة، قصَّه ورمى ببقية الكتاب في سلة المهمَلات. ولو عملنا بهذه النصيحة لَمَا وقعنا بهذا الضيق، ولأضْحَتْ مكتباتُنا قصاصاتِ ورقٍ، تضمها مصنفات وأضابير، تشغل حيزًا صغيرًا في الأبعاد الثلاثة! ولولا احترامي للكِتَاب، وتقديسي للحرف، وإكباري كلَّ مَن كَتَبَ سطرًا؛ لعملتُ بهذا الرأي فأرحت واسترحت. وهذا لا يعني بأني لم أضق ذرعًا بتلك الكتب، فقد عزمت أكثر من مرة على الخلاص منها كلها، أو قسم منها على أقل، ثم لا ألبث أن يتملَّكني الذعر، فأقول في نفسي: كيف أضيع هذه الثروة التي هي جزء من كياني؟!(70/2)
ثم يدور في خلدي بأن أصطفي الجيد منها، وأتخلص من البواقي، فتأخذني عندئذ الوساوس، أي الكتب أبيع؟ وما يدريني أنني سأحتاج يومًا إلى هذا أو ذاك؟! ثم يبدو لي حل وسط، أخفّف فيه من سأمي، فأُجري بعض "التنظيم" في المكتبة، فأقدِّم الثمين والمهم واللازم، وما لا يستغْنَى عنه إلى الصفوف الأولى، وأكدس الكتب من النوع الثاني والثالث والرابع، مما لم يُتح لي الإفادة منه حتى الآن إلى الوراء، أو أصفّها في الصناديق لتُرفع إلى السقيفة، حيث ترقد في منفاها المظلم الرطب، ولكن حتى هذه العمليَّة الاصطفائية التصنيفية صعبة التنفيذ، على ما فيها من إجهاد للأعصاب، وكدّ للبدن؛ فقد تحملني الحاجة إلى إبراز ما حقّه التأخير، وتأخير ما حقّه البروز.
ومكتبتي مؤلفة من قسمين يجعلانها صعبةَ التصنيف، قسم عربي وآخر أجنبي، وكان كل قسم إلى حين منفصِلاً عن الآخر؛ عملاً بالقول المأثور: "الشرق شرق، والغرب غرب، ولن يلتقيا"، إلا أن ضيق المكان، وانعدام الوسائل جعلهما يلتقيان في ميدان الفكر، وصعيد العلم، فصرتَ ترى شكسبير إلى جانب الجاحظ، وابن الرومي جالسًا القرفصاء على أكتاف فولتير، فكيف تريد مني بعد هذا أن أستغني عن تلك النفائس الكريمة، وأن أُحرم من مطالعة تلك الوجوه الحبيبة المؤنسة، وأن أبعد عن معاشرة هذه العبقريات الخيِّرة، التي لولاها لأصبحت حياتنا فراغًا مؤنسًا؟!
وبعْدُ، فلي في نوابغ أدبنا العربي؛ كالجاحظ والتوحيدي والمتنبي وغيرهم، أسوةٌ حسنة، فقد كانوا يَكْتَرُون دكاكين الوراقين؛ يبيتون فيها للقراءة، وإشباع نهمهم للمعرفة، يوم كان الكِتَاب أندر من كل شيء نادر. أفلا تدري - أيها القارئ - أن الجاحظ مات من جراء انهيار رفِّ الكُتُب عليه؛ فَقَضَى في سبيل الكتاب الذي أحبه، وأفنى العمر في صقله، والدعوة إلى الاستمتاع به؟! فيالها من مأساة محزنة، وخاتمة شريفة!(70/3)
العنوان: إذا هاجرت العقول، هاجرت البقول!!!
رقم المقالة: 853
صاحب المقالة: د. حيدر عيدروس علي
-----------------------------------------
اهتمت دوائر التخطيط الاستراتيجي[1] في عالمنا الخامس - أخيراً - بهجرة العقول، فأُعِدَّت الدراسات والأبحاث المتعددة للحد من هذه الهجرة، من أجل العمل على خفض أسبابها للحد الأدنى، والسعي إلى استقطاب العقول المهاجرة، ولعل الناظر في أسباب هذه الهجرة يجد أن كثيرا منها لم يكن طلباً للرفاهية والعيش الرغيد، إذ أن كثيراً من أصحاب هذه العقول لا يهتم بذلك بقدر ما يهتم بزيادة المعرفة، ومواكبة التطور العلمي، خاصة في مجال العلوم التطبيقية، التي هاجرت هي الأخرى قبل قرون كثيرة من هجرة العلماء، لكأنها أحست بالظلام قد أطبق، وأدركت أن العقول لا تهضمها، فهاجرت إلى حيث تُفهم ويُعتنى بها، فازدهرت بعد هجرتها، ووجدت الرعاية في بلاد غير بلادها، فأصبح قومي عليها يأسفون، وباتوا كلما مسهم طائف من ذكراها يرددون:
وذكَّرْتَني العهدَ القديمَ على الحِمى رعى اللهُ أيامَ الحِمى ورعاكا
فديتُك طيفاً لا يُذكِّر ناسياً ولكنْ يزيد المستهام هلاكا(71/1)
ثم حدثت بعد هجرة العلوم هجرة العقول المتقدة الذكية، أذكر أن البروفسير محجوب عبيد طه[2] - أستاذ الفيزياء في جامعة الملك سعود - رحمه الله - وأحد العلماء الكبار في علم الفيزياء في السودان، والعالم - كان قد عُيِّن عميداً لكلية العلوم في جامعة الخرطوم، في عهد الرئيس السابق - جعفر نميري - حفظه الله - ولكنه لما أحس بقصر نظر القائمين على رعاية العلم، إضافة إلى هيمنة الشيوعيين الخفية والتي تغلغلت في دواوين الخدمة المدنية، مشكِّلة في الخفاء مراكز للقوى التقدمية - فيما يظنون - فطرَدَت من طردت، وشَرَّدتْ من شَرَّدتْ من أصحاب الفطنة والذكاء، = لما أحس بذلك هاجر البروفسير محجوب، وترك لهم السودان، لا لكسب العيش، ولكن لإحباط أصابه عندما حاول الصعود بهذا العلم النافع إلى أقصى الدرجات، ويجدر بالذكر أن فلول الشيوعيين - حينما انقلبوا على النميري في التاسع عشر من يوليو في آخر العقد السابع من القرن الميلادي الماضي - كانوا قد اعتَقَلوا العشرات من كبار ضباط القوات المسلحة، من حملة المؤهلات العليا، والخبرات العسكرية الثرة - وجمعوهم في بيت الضيافة - وقتلوهم عن آخرهم في مجزرة بشعة لن ينساها لهم أهل السودان، مهما تنصلوا منها.(71/2)
وأراد الله - سبحانه - أن يعود النميري للحكم مرة أخرى، ليقطع الله به دابرهم، ثم إنهم اليوم قد بدؤوا يتنكرون لماضيهم الدموي، ويعلنون براءتهم من انقلاب التاسع عشر من يوليو، الذي لم يوافق عليه الأمين العام للحزب الشيوعي - آنذاك - حسب زعم كبيرتهم، التي ولوها أمرهم، ولن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة!!! ينكرون ذلك وكأن الناس قد جهلوا أنهم شاركوا في انقلاب النميري قبل أن يتآمروا عليه، ويقلبوا له ظهر المِجَنّ، ولن تنطلي هذه الخدع، وهذا التنكر على من تابع الأحداث إلا أن يهاجر عقله إلى جزر الواق واق، ويبقى جسده كسائمة الأنعام. إن دموية النظام الشيوعي لا يعرفها سكان السودان وحدهم، بل يعرفها سكان كل البلاد التي تمكنوا فيها، والعجيب أنهم يرمون غيرهم بالدموية، والاستبداد!!!
وكثيرون من سكان العالم الخامس - مثل البروفسير محجوب عبيد - كانت في صدورهم تتبدى الآهات والحسرات على ما يشاهدون من ضعف علمي يمكن تقويته بقليل من الاهتمام، فلا يجدون غير: هيهات، هيهات!!!
هذا جانب قد أُعْطِيَ اهتماماً مقدراً نأمل أن يؤتي أُكُله بعد حين - بإذن الله - ولكن هناك أيضاً عجائب يقف عندها المتأمل فلا يجد من أسباب دفعها إلا بذل الجهد في توعية الناس، وتنمية أسباب القوة والعزة في نفوسهم، والاجتهاد في إزالة الهزيمة النفسية التي يعيشونها. فالتقنية حلال لجنس خاص، حرام على سائر الأجناس، كما يفهم من جهود محمد البرادعي!
ولئن أخذك هذا الاستطراد المحزن عن عجائب الهجرة قليلاً، فعد لتسمع نصحي بألا تحزن إذا ما قيل: هذه سيارة يابانية لا تضارع، وتلك أمريكية لا تبارى، وأخرى ألمانية، أو إنجليزية، أو كورية، أو صينية، لا.....، ولا.....، فهي منتجات تأكدت قوتها ومنافستها بالتجربة، والبرهان.(71/3)
لقد بلغ بنا الضعف مبلغاً، فلم نعد نقتنع حتى بمنتجاتنا الزراعية التي أثبتت التجربة جودتها، ولم نعد نقنع بجودة القطن السوداني، أو النيجيري، أو المصري، أو اليماني - مهما طالت فتيلته - حتى إذا رأينا في مظاهر الدعاية، ما يرفع من قدر المنسوجات الإنجليزية، أو السويسرية، أو اليابانية لأعلى قيمة بيعية في سوقنا المستهلكة أبداً، دهشنا لذلك، برغم أن لجودة التقنية لديهم ما يسوغ تقدم صناعة النسيج عندهم، وهو الذي هيأ لهم أن يستأثروا بحظ الأسد في السوق، فنحن نصدر المواد الخام، ونستورد ناتج الصناعة.
ولو ظللنا على هذا لكان التخلف محتملاً، ولكن العجب العجاب إذا تأكدت لدينا هجرة الحبوب والبقول، ففي مدينة جبل الأولياء الواقعة في وادي النيل بالقرب من مدينة الخرطوم، مررت على بائع لأشترى مكيالاً من الفول، فوجدته يغريني بأنه فول إنجليزي، ويؤكد لي أنه ما يكاد يستقر في القِدْر على النار برهة حتى تتفتح قشرته عن لب كالزبد، يقول البائع ذلك عن ثقة، ويؤكد مرة أخرى أنني حتماً سأعود للشراء من عنده مرة أخرى بعد التجربة الأولى. ولم ينقضي عجبي حتى وجدت نفسي مضطراً إلى العودة إليه لصدق دعايته، لأشتري فول النيل المهاجر من واديه إلى وادي نهر التايمز[3] ، فحصل على الجنسية البريطانية بعد هجرته مباشرة، وحصل على رمز الجودة البريطانية العالية، ثم هاجر من هناك إلى[4] وادي نهر المسيسبي فحصل على بطاقة الإقامة الدائمة (The American Green Card)، وعاد إلى أسواقنا ليتصدرها، لأنه أصبح من الخواجات، إذ ما يكاد المشتري يرى علبة الفول من حدائق كاليفورنيا حتى يتلمظ الطعم. ومع هذه الجودة المصنوعة ينسى المستهلك سخاء النيل، وفيضه في غناء النبات الذي لا يحتاج في واديه إلى سماد اليوريا، ولا إلى الهرمون النافخ! ولم يعد لدينا من سلوى إلا أن نردد كلمات الشاعر السوداني إدريس محمد جمَّاع - رحمه الله - الذي قال في النيل:(71/4)
النيلُ من نَشْوةِ الصَّهْباء سَلْسَلهُ وساكنو النيلِ سُمَّارٌ ونُدْمانُ
ينسابُ من رَبْوةٍ عذراءَ ضاحكةٍ في كل مَغْنىً بها للسحرِ إيوانُ
حيثُ الطبيعةُ في شرْخِ الصِّبا، ولها من المفاتنِ أترابٌ وأقرانُ
وِشاحُها الشَّفَقُ الزاهي، وملعبُها سهْلٌ نَضِيرٌ وآكامٌ وقِيعانُ
وخَفْقَةُ الموجِ أَشْجانٌ تُجاوبُها من القلوبِ الْتِفَاتاتٌ وأَشْجانُ
كلُّ الحياةِ ربيعٌ مُشرِقٌ نَضِرٌ في جانبيهِ، وكُلُّ العمرِ ريعانُ
تمشي الأَصائِلُ في واديهِ حالِمَةً يَحُفُّهَا مَوكِبٌ بالعِطْرِ رَيَّانُ
وللخَمائِلِ شَدْوٌ في جوانِبِهِ، لهُ صَدىً في رحابِ النفسِ رَنَّانُ
إذا العَنَادِلُ حَيَّا النِّيلَ صَادِحُها والليلُ سَاجٍ؛ فَصَمتُ الليلِ آذانُ
فهل يصيبك الذهول يا صاح من هجرة العقول، أم من هجرة البقول؟ أم من حسن ديباجة الشعر عند الزَّوْل[5] ؟ الزول الذي من فرط رهافة حسه عاش مغترباً في بلاده حتى أصابه الذهول، ولم يهاجر منها - إلى أن مات رحمه الله .
ــــــــــــــــــــــــــ
[1] الاستراتيجية: كلمة معربة، ومعناها بعد النظر في التخطيط، أو التخطيط طويل المدى، والذي لم نحتفل به كثيرا، نجن في العالم الخامس!!!
[2] عالم فذ، ولد في مدينة الدويم بالنيل الأبيض في السودان، في سنة سبع وثلاثين وتسع مئة وألف من الميلاد تقريبا، وتلقى تعليمه العام في السودان، والجامعي والعالي في إنجلترا، ودرس هناك الرياضيات بما فيها علم الجبر الذي هاجر قبله إلى هناك، ثم عاد مدرساً للفيزياء، ومعلماً للأخلاق ومكارمها في سيرته العطرة، في جامعة الخرطوم، ثم اختار بعد السودان أن يعيش في السعودية فوجد فيها الترحاب، فالتحق بجامعة الملك سعود إلى أن توفي في الرياض بالمملكة العربية السعودية، بعد ست وعشرين ليلة خلت من شهر جمادى الأولى من عام واحد وعشرين وأربع مئة وألف من الهجرة.(71/5)
المرجع موقع فواصل على الأثير: http://www.fawasel.net/vb/showthread.php?t=14893
ولو كان محجوب طالباً للرفاهية والعيش الرغيد لكان استقراره في أمريكا، أو بريطانيا، ولكنه آثر الدين على الدنيا، وقد سمعته في محاضرة في مركز الملك فيصل في الرياض، وكنت أهدف إلى سبر مقدرته على تقديم علم تلقاه بغير اللغة العربية كيف يقدمه بها، فرأيته محيطاً بالأسلوب الراقي، ممسكاً بأزمَّة البيان العربي.
[3] التايمز نهر في بريطانيا، لا يمكن مقارنته بنهر النيل، ولا مقارنة واديه بواديه.
[4] المسيسبي، نهر في أمريكا، لا يمكن مقارنته بنهر النيل، ولا مقارنة واديه بواديه.
[5] الزول: هو: الخفيف الحركات، و الفطن، والشخص، والشجاع الذي يزول الناس من شجاعته، و الصقر، والجمع: أزوال و يقال هذا زول من الأزوال: عجب من العجائب. (المعجم الوسيط 1/408). والأنثى: زولة.(71/6)
العنوان: اذج من البيع المحرم وعقوبة الربا
رقم المقالة: 749
صاحب المقالة: سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
-----------------------------------------
الحمد لله الذي أباح لنا من المكاسب كل تعامل مبرور ونهانا عن كل معاملة تشتمل على الغش والكذب والظلم والجهالة والغرور، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في الألوهية والربوبية والأسماء والصفات وتدبير الأمور، وأشهد أن محمداًً عبده أهدى آمر وأبر مأمور صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم البعث والنشور وسلم تسليماً.(72/1)
أما بعد، أيها الناس: اتقوا الله تعالى، وتعاملوا فيما بينكم بالبر والصدق والبيان وإياكم والكذب والغش والكتمان، فمن تعامل بما حرم الله عليه فقد باء بالإثم والخسران، واعلموا أن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها وحد حدودا فلا تعتدوها وحرم أشياء فلا تنتهكوها. لقد فرض الله عليكم في معاملاتكم الصدق والبيان وحرم عليكم الكذب والكتمان، من باع سلعة وجب عليه أن يبين ما فيها من العيوب وأن يصدق فيما يذكره فيها من كل وصف مطلوب لا يذكرن فيها وصفاً يرغب وليس فيها، مثل أن يقول إنها طيبة إنها جديدة وليست كذلك، فإن من فعل هذا فهو خاسر وإن ربح حطاماً من الدنيا، أترضى أن تأخذ من مال أخيك بما كذبت عليه أما تخاف أن يتعلق بك يوم القيامة مطالباً بحقه حين لا درهم ولا دينار تعول عليه؟ إذا بينت عيوب سلعتك فأنت رابح وإن نقصت قيمتها لأنك امتثلت ما أمر الله وتركت ما حرم الله، رابح لأنك اكتسبت المال من طريق حلال، رابح لأنك خرجت من تبعتها وبرئت ذمتك من النكال والوبال ولن يفوتك شيء مما كتب الله لك من الرزق والمال، فإنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها، فاتقوا الله تعالى وأجملوا في الطلب وإياكم والربا فإن الذين يأكلون الربا لا يقيمون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس، يقوم الواحد منهم من قبره يوم القيامة يتخبط في قيامه كما يتخبط المجنون. آكل الربا ملعون على لسان محمد - صلى الله عليه وسلم - قال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه، ألا وإن قلب الدين من الربا سواء فعل ذلك صريحا أو تحيل عليه مثل أن يقول لمدينه إذا حل دينه: إما إن توفي دينك وإما أن أصبر بزيادة دراهم في مقابلة صبره أو يتحيل على ذلك فيقول: استدن مني وأوفني أو اذهب إلى فلان واستدن منه وأنا أضمنك ثم أوفني وأدينك مرة أخرى لتوفيه، كل ذلك لا يجوز، وإذا باع أحدكم سلعة على شخص(72/2)
بثمن مؤجل فلا يشتريها منه بأقل مما باعها به إلا إذا أوفاه أو باعها على شخص آخر، وإذا اشترى أحد منكم تمراً أو عيشاً أو علفاً سلماً فلا يقوم من مجلس العقد حتى يوفي الثمن كله، فإن تفرقاً قبل أن يوفيه فالعقد محرم باطل ومن ذلك شراء العلف من الفلاحين، فإن الناس أهل الدكاكين وأهل البيوت يشترون من الفلاحين أوزاناً معلومة يأخذونها يوماً فيوماً فعليهم إذا اشتروا منهم شيئاً أن يسلموا ثمنه بمجلس العقد قبل التفرق، فإن تفرقوا قبل استلامه فالعقد محرم وباطل. وإياكم والنجش فإن النجش حرام، وهو أن يزيد الإنسان في السلعة وهو لا يريد شراءها وإنما يقصد نفع البائع أو ضرر المشتري، ولا يبعن أحدكم على بيع أخيه ولا يستأجرن على استئجاره مثل أن تقول لمن اشترى سلعة بعشرة أعطيك مثلها بتسعة أو أحسن منها بعشرة، وكذلك إذا قلت لمن باع سلعة بتسعة أعطنيها بعشرة لأن في ذلك قطعاً لرزق أخيك وإضراراً به، وكذلك إذا كان مستأجر البيت ساكناً فيه وقد رضي صاحبه بالأجرة وقنع بها فلا يحل لك أن تزيده في الأجرة ليخرج المستأجر، أما إذا كان صاحب البيت يطلب المزيد وقد عرضه لذلك فإنه لا بأس أن تزيد ولو كان المستأجر في البيت لأن صاحب البيت لم يقنع بالأجرة. ومن وكل على بيع شيء فإنه لا يحل له أن يشتريه أو يشتري شيئاً منه إلا أن يستأذن من وكله فيأذن حتى ولو أخذته بمثل ما يشتريه الناس فإنه لا يحل حتى يأذن صاحبه؛ لأننا لو أجزنا له أن يشتري منه لخيف منه أن لا يستقصي في زيادة الثمن. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [آل عمران:130-132].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم... إلخ.(72/3)
العنوان: أذكار الحج
رقم المقالة: 1694
صاحب المقالة:
-----------------------------------------
إن باب الدعاء واسع، وللمسلم أن يدعو ربه بما شاء من خيري الدنيا والآخرة، في أي وقت، وفي أي زمان، ويتضرع إليه، والله قريب من عباده الذاكرين، يجيب دعواهم ويسمع شكواهم، قال – تعالى -: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186].
وهذه جملة من الأدعية والأذكار التي يحتاجها الحاج، مع أدعية جامعة لا تختص بزمان أو مكان:
1- دعاء المسافر لإخوانه المقيمين:
من السُّنة أن يدعو المقيمون للمسافر قائلين: "أستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك"، ويجيبهم بقوله: "أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه"، كما ثبت ذلك في سنن الترمذي، من حديث عبدالله بن عمر، رضي الله عنهما.
2- دعاء الركوب:
إذا ركب المسافر راحلته من دابة أو طائرة أو سيارة، سُنَّ له أن يقول: "الله أكبر الله أكبر الله أكبر، سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مُقرنين، وإنَّا إلى ربنا لمُنقلِبون، اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البرَّ والتقوى، ومن العمل ما ترضى، اللهم هوِّن علينا سفرنا هذا، واطوِ عنا بُعده، اللهم أنت الصاحب في السَّفر والخليفة في الأهل، اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السَّفر، وكآبة المنظر وسوء المُنقَلب في المال والأهل"، وإذا رجع قالهن وزاد فيهن: "آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون"؛ كما ثبت ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم- فيما رواه مسلم.
3- التلبية:
والتلبية التي لبى بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم- هي: ((لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك))، وكان عبدالله بن عمر يزيد: "لبيك، لبيك وسعديك، والخير بيديك، لبيك والرَّغبَاء إليك والعمل"؛ كما ثبت ذلك في صحيح مسلم.(73/1)
والسنة أن يجهر بها لما رواه الترمذي وغيره عن أبي بكر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم – سُئل: "أي الحج أفضل؟"، فقال: ((العَجُّ والثَّجُّ))، والعج: رفع الصوت بالتلبية، والثج: نحر الهدي.
4- دعاء الطواف:
يستحب للمسلم أن يدعو الله بما شاء أثناء طوافه، فلم يَرِدْ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك دعاء خاص، سوى ما ورد أنه كان يقرأ بين الركن اليماني والحجر الأسود: {رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة: 201]؛ رواه أحمد وغيره، ولا بأس أن يتلو القرآن أثناء طوافه، وأن يثني على الله بأنواع الذكر، فإن المقام مقام تعظيم لله - عز وجل - وثناء عليه.
5- الدعاء عند شرب ماء زمزم:
ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((ماء زمزم لما شُرِبَ له))؛ رواه أحمد، فيُستحب للمسلم أن يتخيَّر من الدعاء أعجبه عند شربه من هذا الماء المبارك، وكان ابن عباس - رضي الله عنه - إذا شرب ماء زمزم قال: "اللهم إني أسألك علمًا نافعًا، ورزقًا واسعًا، وشفاءً من كل داء".
6- الدعاء عند صعود الصفا والمروة:
إذا شرع الحاج في السعي فإنه يبدأ بالصفا، وعند دنوه منه يقرأ قوله – تعالى -: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158]، ويقول: "أبدأ بما بدأ الله به"، ثم يرقى على الصفا ويستقبل الكعبة ويقول: "لا إله إلا الله والله أكبر ثلاث مرات، ويقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحي ويميت وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده"، يكرر ذلك ثلاث مرات ويدعو بينها، ويفعل على المروة مثل فعله على الصفا، كما ثبت ذلك في صحيح مسلم عن جابر - رضي الله عنه - ولا يكرر قوله: "{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ}، أبدأ بما بدأ الله به".(73/2)
7- الدعاء يوم عرفة:
ثبت عند الترمذي من حديث عبدالله بن عمرو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلتُ أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير))، وفي رواية في المسند: "كان أكثر دعاء النبي - صلى الله عليه و سلم- يوم عرفة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد بيده الخير، و هو على كل شيء قدير".
فيستحب للمسلم أن يشغل وقته في هذا اليوم بالدعاء والتضرع إلى الله عز وجل، والإكثار من شهادة التوحيد بإخلاص وصدق.
وقد اخترنا لك - أخي الحاج - مجموعة من جوامع الدعاء؛ لتشتغل بترديدها مع حضور قلب وفهم معنى، وصدق توجه إليه سبحانه.
أدعية جامعة من القرآن والسنة:
أولاً: أدعية قرآنية:
- {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 286].
- {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران: 8].
- {رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ * رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آَمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآَمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ * رَبَّنَا وَآَتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [ آل عمران: 192 - 194].(73/3)
- {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} [النمل: 19].
- {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان: 74].
- {رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ * وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآَخِرِينَ * وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ} [الشعراء: 83 - 85].
- {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ * رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} [إبراهيم: 40 - 41].
ثانيًا: أدعية من السنة:
- ((اللهم إني أسألك من الخير كله عاجله وآجله، ما علمتُ منه وما لم أعلم، وأعوذ بك من الشر كله، عاجله وآجله، ما علمتُ منه وما لم أعلم، اللهم إني أسألك من خير ما سألك منه عبدك ونبيك، وأعوذ بك من شر ما استعاذ منه عبدك ونبيك، اللهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل، وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل، وأسألك أن تجعل كل قضاء قضيته لي خيرًا)).
- ((اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل، والجبن والهرم والبخل، وأعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات، وضلع الدين، وغلبة الرجال)).
- ((اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي إليها معادي، واجعل الحياة زيادة لي في كل خير، واجعل الموت راحة لي من كل شر)).
- ((اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله الذي لا إله إلا أنت الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد، أن تغفر لي ذنوبي، إنك أنت الغفور الرحيم)).(73/4)
- ((اللهم احفظني بالإسلام قائمًا، واحفظني بالإسلام قاعدًا، واحفظني بالإسلام راقدًا، ولا تشمت بي عدوًّا ولا حاسدًا، اللهم إني أسألك من كل خير خزائنه بيدك، وأعوذ بك من كل شر خزائنه بيدك)).
- ((اللهم أسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وأسألك القصد في الفقر والغني، وأسألك نعيمًا لا ينفد وأسألك قرة عين لا تنقطع، وأسألك الرضى بعد القضاء، وأسألك برد العيش بعد الموت، وأسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة، اللهم زينَّا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين)).
- ((اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا من لا يخافك فينا ولا يرحمنا)).
- ((اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل، والجبن والبخل، والهرم وعذاب القبر، اللهم آتِ نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولها، اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها)).
- ((رب أعنِّي ولا تُعِنْ عليَّ، وانصرني ولا تنصر علي، وامكر لي ولا تمكر علي، واهدني ويسر الهدى لي، وانصرني على من بغى علي، رب اجعلني لك ذكَّارًا، لك شكَّارًا، لك رهابًا، لك مطواعًا، لك مخبتًا، إليك أواهًا منيبًا، رب تقبل توبتي، واغسل حوبتي، وأجب دعوتي، وثبت حُجتي، واهدِ قلبي، وسدد لساني، واسلُل سَخِيمةَ صدري)).(73/5)
- ((اللهم إني أعوذ بك من فتنة النار وعذاب النار، وفتنة القبر وعذاب القبر، ومن شر فتنة الغنى، ومن شر فتنة الفقر، وأعوذ بك من شر فتنة المسيح الدجال، اللهم اغسل خطاياي بالماء والثلج والبرد، ونقِّ قلبي من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس، وباعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم إني أعوذ بك من الكسل والهرم، والمأثَم والمَغرَم)).
- ((اللهم إني أعوذ بك من قلب لا يخشع، ومن دعاء لا يُسمع، ومن نفس لا تشبع، ومن علم لا ينفع، وأعوذ بك من هؤلاء الأربع)).
والله نسأل أن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال.(73/6)
العنوان: أذكار معينة وعامة
رقم المقالة: 700
صاحب المقالة: سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
-----------------------------------------
الحمد لله مستحق الحمد وأهله، المنعم على خلقه بسابغ نعمه وفضله، الذي جعل أفئدة عباده المؤمنين متعلقة به وألسنتهم ناطقة بذكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة مخلص لله في سره وجهره، وأشهد أن محمداًً عبده ورسوله القائم بطاعة ربه وأمره صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن ساروا على نهجه، وسلم تسليماً.(74/1)
أما بعد أيها الناس: اتقوا الله تعالى، وأديموا ذكره، أديموا ذكره بقلوبكم وألسنتكم وجوارحكم، فإن الله مع الذاكرين، يقول الله تعالى في الحديث القدسي: ((أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم)). أيها الناس: إن ذكر الله يكون في القلب، ويكون في اللسان، ويكون بالجوارح أما ذكر الله بالقلب، فإن معناه أن يكون القلب متعلقاً بالله، ويكون ذكر الله، وتعظيمه دائماً في قلبه يستحضر دائماً عظمة ربه وآياته، ويستحضر نعمه العامة والخاصة، ويستدل بما يشاهده من مخلوقاته وآياته على عظمته وإحاطته، وأما ذكر الله باللسان، فهو النطق بكل ما يقرب إلى الله، فالتهليل ذكر، والتكبير ذكر والتحميد والتسبيح ذكر، وقراءة القرآن ذكر وقراءة العلوم الشرعية ذكر؛ لأنها ذكر لأحكام الله وتشريعاته ونصيحة العباد للقيام بأمر الله ذكر، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر ذكر، وأما ذكر الله بالجوارح، فهو كل فعل يقرب إلى الله عز وجل، فالطهارة ذكر، والصلاة ذكر، والسعي إليها ذكر، والزكاة، والصيام ذكر، والحج ذكر، وبر الوالدين ذكر، وصلة الأرحام ذكر، وكل فعل يقربك إلى الله، فهو ذكر؛ لأن التقرب إلى الله لا يكون إلا بنية ونيتك، واستحضارك عند الفعل ذكر الله عز وجل، فالدين كله ذكر الله، ولقد شرع الله الحكيم الرحيم لعباده ذكره في كل مناسبة ليكونوا بذلك دائماً في ذكر الله، فشرع الله لعباده التسمية على كل أمر ذي بال، وأهمية، شرع الله الذكر قبل الأكل والشرب وبعدهما، قبلهما تقول: بسم الله، وبعدها تقول: الحمد لله، وإن الله ليرضى عن العبد يأكل الأكلة، فيحمده عليها، ويشرب الشربة، فيحمده عليها شرع الله الذكر عند دخول محل قضاء الحاجة، وبعد الخروج منه، فإذا أراد أحدكم أن يدخل مكان البول أو الغائط، فليقل: بسم الله أعوذ بالله من الخبث والخبائث، وإذا خرج منه، فليقل: غفرانك(74/2)
الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني. شرع الله الذكر عند النوم وبعده، فعند النوم إذا وضعت جنبك، تقول: باسمك اللهم أحيا وأموت، اللهم بك وضعت جنبي، وبك أرفعه، فإن أمسكت روحي، فاغفر لها، وارحمها، وإن أرسلتها، فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أوى إلى فراشه قال: ((الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وكفانا وآوانا)). فكم ممن لا كافي له ولا مؤوي، وشرع لعباده عند الاستيقاظ ذكر الله، فإن العبد إذا نام عقد الشيطان على قافية رأسه ثلاث عقد، فإذا قام، وذكر الله انحلت عقدة، وإن توضأ انحلت العقدة الثانية، فإذا صلى انحلت العقدة الثالثة، فأصبح نشيطا طيب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان، وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه بات عند خالته ميمونة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما قام النبي - صلى الله عليه وسلم - من النوم جعل يمسح النوم عن وجهه بيده ثم قرأ: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لاَيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ} إلى آخر سورة آل عمران. وفي حديث ثان أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من استيقظ من الليل، فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، والحمد لله، وسبحان الله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: اللهم اغفر لي، أو دعا إلا استجيب له، فإن توضأ، وصلى قبلت صلاته)). وشرع لعباده أذكارا يقولونها إذا قلقوا، فلم يناموا، أو كانوا يفزعون في نومهم، وفي صحيح البخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا رأى أحدكم رؤيا يحبها، فإنما هي من الله، فليحمد الله عليها، وليحدث بها، ولا يحدث بها إلا من يحب، وإذا رأى غير ذلك مما يكره، فإنما هي من الشيطان، فليستعذ من شرها، ولا يذكرها لأحد، فإنها لا تضره))، وشرع لعباده أن يذكروه عند دخول بيوتهم،(74/3)
وعند الخروج منها، ((فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - الرجل إذا دخل بيته أن يقول: اللهم إني أسألك خير المولج وخير المخرج بسم الله ولجنا، وبسم الله خرجنا، وعلى الله ربنا توكلنا، ثم ليسلم على أهله))، وكان إذا خرج من بيته قال: ((بسم الله توكلت على الله، اللهم إني أعوذ بك أن أضل أو أضل، أو أزل أو أزل، أو أظلم أو أظلم، أو أجهل أو يجهل علي))، وقال: ((من قال يعني إذا خرج من بيته: بسم الله، توكلت على الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، يقال له: كفيت، ووفيت، وهديت، ويتنحى عنه الشيطان)). أيها الناس: إن ربكم قد أمركم بذكره في أحوال معينة، ولأسباب معينة، وأمركم بذكره أمراً مطلقاً يعم الأوقات والأحوال، فقال تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلاَ * تَكْفُرُونِ}. وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً}. وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يذكر الله على كل أحيانه، فأديموا ذكر ربكم، واغرسوا لأنفسكم في جنات النعيم، فإن غراسها سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم)).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.. الخ.(74/4)
العنوان: آراء الإمام البخاري الأصولية من خلال تراجم صحيحه
رقم المقالة: 385
صاحب المقالة: د. سعد بن ناصر بن عبدالعزيز الشثري
-----------------------------------------
المقدمة:
الحمد لله الذي تفضل على هذه الأمة بحفظ دينها، وصلاح أمرها، ورفعة شأنها، وهيأ لهذه الأمة علماء يُعلِّمون جاهلها ويُرشدون ضالَّها، فله الحمد سبحانه أولاً وآخراً، وظاهراً وباطناً، هو الحق لا يستحق العبادة أحد سواه، ولا يحتاج أحد من الخلق إلى واسطة في خطاب ربه ودعائه، وأشهد أن سيدنا وحبيبنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وأمينه على وحيه، أتباعُه سبب لمحبة الله، وطاعته سبب لدخول جنة الخلد، فصلى الله على هذا النبي الكريم وعلى آله وأصحابه وأتباعه الهداة الأبرار والسادة الأطهار، وسلم تسليماً كثيراً.. أما بعد:
فإن الله تعالى بفضله هَيَّأَ لهذه الأمة من يحفظ لها دينها فنقلوا كتاب الله نقلاً متواتراً لا مجال للتشكيك فيه، ونقلوا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وميزوا صحيحها من غيره، وصنفت المؤلفات في الأحاديث الصحيحة، ومن أبرز هذه المؤلفات ((الجامع الصحيح)) للإمام البخاري، رحمه الله الذي جزم كثير من الأئمة بأنه أصح الكتب بعد كتاب الله عز وجل[1]، ومن هنا اهتم علماء الأمة بهذا الكتاب فتلقوا أحاديثه بالقبول[2]، وصنفوا حوله المصنفات في الكلام عن معانيه وشروحه وأحكامه ورجاله، واختصاراته، إلاّ أنه لم يتصدّ أحد من المؤلفين للحديث عن القواعد الأصولية التي قرَّرها الإمام البخاري أو طبَّقها على الأحكام الشرعية في عناوين الأبواب في هذا الكتاب التي يسميها العلماء بـ(التراجم) وقد قيل: فقه الإمام البخاري يعرف من تراجمه[3]، ومن هنا ظهرت فكرة هذا البحث.
وتراجم الإمام البخاري على أنواع[4]:
النوع الأول:(75/1)
ما ليس له علاقة مباشرة بالأحكام الشرعية، ومن أمثلة ذلك (باب بدء الوحي)[5]، و(باب حلاوة الإيمان)[6]. ومن ذلك أيضاً أبواب المناقب[7].
النوع الثاني:
التراجم التي تساق على جهة الاستفهام والسؤال، مثل قوله: (باب هل يدخل الجنب يده في الإناء قبل أن يغسلها؟)[8]، و(باب هل تصلي المرأة في ثوب حاضت فيه؟)[9]، و(باب المتيمم هل ينفخ فيهما؟)[10].
النوع الثالث:
التراجم التي يفهم الحكم منها عند قرنها بما وضع تحتها مثل (باب من رفع صوته بالعلم)[11]، و(باب إسباغ الوضوء)[12]، و(باب الاستنجاء بالحجارة)[13]، و(باب مسح الرأس كله)[14].
النوع الرابع:
التراجم التي صرحت بالحكم منسوباً لقائل سواء كان هذا القائل معروفاً أو ليس بمعروف، مثل قوله: (باب من لم ير الوضوء إلاّ من المخرجين)[15]، و(باب من لم يتوضأ إلاّ من الغشي المثقل)[16]، و(باب من لم يتوضأ من لحم الشاة والسويق)[17].
النوع الخامس:
التراجم التي يفهم من ظاهرها أن الحكم إنما يصدق على بعض أفراد العام مثل قوله: (باب ما يصلى بعد العصر من الفوائت ونحوها)[18]، و(باب ما يكره من السمر بعد العشاء)[19]، و(باب ما يكره من البيع)[20].
النوع السادس:
التراجم التي صرح المؤلف فيها بالحكم من غير نسبته إلى قائل، مثل قوله: (باب كراهية الصلاة في المقابر)[21]، و(باب تحريم التجارة في الخمر)[22]، و(باب كراهية السخب في الأسواق)[23].
والنوع الأول لا علاقة له باستخراج الأحكام الشرعية، ومن ثم فهو خارج عن موضوع هذا البحث.
والأنواع من الثاني إلى الخامس لم يصرح فيها الإمام البخاري بالحكم، ومن ثَمَّ لم تدخل في هذا البحث، وإني لآمل أن يُهيِّئ الله لها باحثاً يستخرج بواسطتها القواعد الأصولية التي بنى عليها الإمام البخاري هذه التراجم.(75/2)
فهذا البحث اقتصرت فيه على التراجم التي وُجد الحكم فيها صريحاً من غير نسبة لقائل، بحيث يتأكد الباحث أن البخاري يرى هذه الأحكام وتوصل إليها باجتهاده، وهذه التراجم منها ما يتعلق بالمسائل الأصولية مباشرة بحيث يقرر فيها حكماً أصولياً، ومنها ما يقرر فيه حكماً فقهياً مبنياً على دليله فيأتي الباحث فيوضح القاعدة الأصولية التي استخرج بواسطتها هذا الحكم من هذا الدليل.
وقد رتبت هذا البحث من مقدمة وتمهيد وبابين، وهذه هي المقدمة فيها أهمية الموضوع وحدوده وخطة البحث ومنهجه.
والتمهيد في ترجمة الإمام البخاري باختصار شديد لأني قد كفيت المؤنة في ذلك.
الباب الأول: الآراء الأصولية التي صرح بها الإمام البخاري، وفيه أربعة فصول:
* الفصل الأول: الآراء الأصولية التي صرح بها الإمام البخاري في مباحث السنة، وفيه مبحثان:
الأول: حجية السنة الإقرارية.
الثاني: حجية خبر الواحد.
* الفصل الثاني: الآراء الأصولية التي صرح بها في مباحث الإِجماع، وفيه مبحثان:
الأول: قطعية الإجماع.
الثاني: عدم اعتبار العوام في الإجماع.
* الفصل الثالث: الآراء الأصولية التي صرح بها في الأدلة المختلف فيها، وفيه أربعة مباحث:
الأول: عمل أهل المدينة.
الثاني: حجية القياس.
الثالث: تعريف الصحابي.
الرابع: العرف.
* الفصل الرابع: الآراء الأصولية التي صرح بها في دلالات الألفاظ، وفيه ثلاثة مباحث:
الأول: دلالة الأمر على الوجوب.
الثاني: دلالة النهي على التحريم.
الثالث: صرف الأمر والنهي عن ظاهرهما للقرائن.
الباب الثاني: الآراء الأصولية المستنبطة من كلام الإمام البخاري، وفيه ثمانية فصول:
* الفصل الأول: آراؤه المتعلقة بالحكم الشرعي، وفيه مبحثان:
الأول: عدم التفريق بين الواجب والفرض.
الثاني: دلالة لفظ (كتب) على الوجوب.
* الفصل الثاني: آراؤه المتعلقة بالسنة النبوية، وفيه ثلاثة مباحث:
الأول: حجية الأفعال النبوية.
الثاني: دلالة الأفعال النبوية.(75/3)
الثالث: حجية السنة الإقرارية.
* الفصل الثالث: آراؤه المتعلقة بالأدلة المختلف فيها، وفيه خمسة مباحث:
الأول: حجية القياس.
الثاني: حجية شرع من قبلنا المنقول بشرعنا.
الثالث: حجية شرع من قبلنا المنقول بطريقهم.
الرابع: حجية قول الصحابي.
الخامس: إعمال العرف في تفسير الألفاظ المحتملة.
* الفصل الرابع: آراؤه المتعلقة بالأمر، وفيه خمسة مباحث:
الأول: دلالة الأمر على الوجوب.
الثاني: دلالة صيغة افعل على الأمر.
الثالث: دلالة صيغة افعل على الوجوب.
الرابع: دلالة فعل المضارع المسبوق بلام الأمر على الوجوب.
الخامس: صرف الأمر عن الوجوب لعدم فعل النبي صلى الله عليه وسلم له.
* الفصل الخامس: آراؤه المتعلقة بالنهي، وفيه ثلاثة مباحث:
الأول: دلالة صيغة لا تفعل على النهي.
الثاني: دلالة النهي على الفساد.
الثالث: دلالة النهي المصروف عن التحريم.
* الفصل السادس: آراؤه المتعلقة بالنهي، وفيه أربعة مباحث:
الأول: دلالة الاسم الموصول (من) على العموم.
الثاني: دلالة النكرة في سياق النفي على العموم.
الثالث: دلالة الجمع المعرف بـ(أل) على العموم.
الرابع: دلالة الاسم المفرد المعرف بـ(أل) لغير المعهود.
* الفصل السابع: آراؤه المتعلقة بالمفاهيم، وفيه مبحثان:
الأول: مفهوم الموافقة.
الثاني: مفهوم المخالفة.
* الفصل الثامن: آراؤه المتعلقة بباقي مباحث الدلالات، وفيه ثلاثة مباحث:
الأول: دلالة السياق.
الثاني: دلالة الاقتضاء.
الثالث: دلالة (أو) على التخيير.
* الخاتمة وفيها خلاصة البحث وأهم نتائجه وتوصياته:
أما عن منهج البحث فبالنسبة للآراء الأصولية التي صرح بها الإمام البخاري فقد ذكرت آراءه الأصولية التي ذكرها في تراجم الأبواب دالة على اختيارات أصولية وقارنتها برأي جماهير العلماء، وذكرت استدلالات البخاري التي استدل بها مطلقاً، كما استوعبت بحث المسائل التي خالف فيها الجمهور.(75/4)
أما بالنسبة للآراء الأصولية التي تفهم من كلام الإمام البخاري فقد ذكرت رأيه في المسألة الفقهية، ثم ذكرت الدليل الذي اعتمد عليه ومن ثم استنبطت القاعدة الأصولية التي استخرج بواسطتها هذا الحكم من هذا الدليل.
هذا وأسأل الله عز وجل أن يوفقني للقول الصواب والعمل السديد، وأن يجنبني الزلل في القول والعمل، وأن يرزقني النية الصالحة والأجر الجزيل والرفعة في الدرجات.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
التمهيد:
وفيه ترجمة موجزة للإمام البخاري[24]:
هو الإمام محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة البخاري. ولد سنة 256 ببخارى وتوفي سنة 291 – بسمرقند.
من مؤلفاته: الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه، المعروف بصحيح البخاري. وخلق أفعال العباد، والتاريخ الكبير والتاريخ الأوسط والتاريخ الصغير، والضعفاء الصغير، والكنى، والأدب المفرد، ورفع اليدين في الصلاة، والقراءة خلف الإمام.
قال المزي: "البخاري الحافظ صاحب الصحيح إمام هذا الشأن والمقتدى به فيه والمعول على كتابه بين أهل الإسلام"[25].
وقال ابن حجر عنه: "جبل الحفظ وإمام الدنيا في فقه الحديث"[26].
الباب الأول: الآراء الأصولية التي صرح بها الإمام البخاري
الفصل الأول: الآراء الأصولية التي صرح بها في مباحث السنة:
وفيه مبحثان:
المبحث الأول: حجية السنة الإقرارية.
ذكر الإمام البخاري القول بحجية ما أقره النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "باب من رأى ترك النكير من النبي صلى الله عليه وسلم حجة لا من غير الرسول"[27].
وأيد ذلك بما ورد ((أن جابر بن عبدالله حلف أن ابن صياد الدجال، فسئل: تحلف بالله؟ قال: سمعت عمر يحلف على ذلك عند النبي صلى الله عليه وسلم فلم ينكره النبي صلى الله عليه وسلم))[28]، وفي الباب الذي بعده أن الضب أكل على مائدة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستدل بذلك ابن عباس على أنها ليست للتحريم[29].(75/5)
والأصوليون يرون حجية السنة الإقرارية[30].
المبحث الثاني: حجية خبر الواحد.
قرر الإمام البخاري صحة الاعتماد على خبر الواحد وحجيته فهو يقول: ((باب ما جاء في إجازة خبر الواحد الصدوق في الأذان والصلاة والصوم والفرائض والأحكام))[31].
واستدل البخاري لذلك بعدد من الأدلة، منها:
1 - قوله تعالى: {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ} [التوبة: 122] الآية، قال: ويسمى الرجل طائفة لقوله تعالى: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} [الحجرات: 9] فلو اقتتل رجلان دخلا في معنى الآية.
2 - قوله تعالى: {إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأ} [الحجرات: 6]. فيقبل خبر غير الفاسق بدو ن تبين.
3 - أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبعث أمراءه واحداً بعد واحد[32]، كما أنه كثر النقل في أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر بالاعتماد على قول الواحد أو الاثنين في التعليم والأذان والصلاة[33].
4 - كما استدل الإمام البخاري بعدد من آثار الصحابة قبلوا فيها خبر الآحاد[34].
والاحتجاج بخبر الواحد هو مذهب جمهور الأصوليين[35]، وكان من ضمن ما استدلوا به على ذلك الأدلة التي ذكرها المؤلف وقد قرروا وجه الاستدلال بها والاعتراضات عليها والأجوبة عنها، وعرضوا الدليل الرابع بصورة أخرى حيث حكوا فيه الإجماع[36].
الفصل الثاني: الآراء الأصولية التي صرح بها الإمام البخاري في مباحث الإجماع:
وفيه مبحثان:
المبحث الأول: قطعية الإِجماع.
يرى الإمام البخاري نقض قضاء القاضي بما يخالف الإجماع فهو يقول: ((باب إذا قضى الحاكم بجور، أو خلاف أهل العلم فهو ورد))[37].
ومعنى هذا أنه يرى أن الإجماع يفيد القطع بدلالة أنه يرى نقض قضاء القاضي المخالف له. والقول بأن الإجماع يفيد القطع هو مذهب الجمهور[38].
المبحث الثاني: عدم اعتبار العوام في الإِجماع.(75/6)
ظاهر كلام الإمام البخاري عدم اعتبار العوام في الإجماع، بدلالة أنه فسر بعض أدلة حجية الإجماع بأهل العلم، فقال: ((باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق يقاتلون))[39] وهم أهل العلم))[40].
كما أنه قرر عدم اعتبار العوام في موطن آخر فقال: "وما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بلزوم الجماعة وأهل العلم"[41].
واستدل على ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين وإنما أنا قاسم ويعطي الله، ولن يزال أمر هذه الأمة مستقيماً حتى تقوم الساعة أو حتى يأتي أمر الله))[42].
ولم يذكر وجه الاستدلال، لكن يظهر أنه استدل به من جهة أن النص مدح أولاً أهل الفقه في الدين، ثم بين حجية الإجماع وبيّن اعتبار قول أهل الإجماع وبدلالة السياق السابق يظهر أن المراد في الجميع هم أهل العلم. وجمهور الأصوليين على هذا القول[43]، ولم أجد من استدل بهذا الحديث هنا.
الفصل الثالث: الآراء الأصولية التي صرح بها في الأدلة المختلف فيها:
وفيه أربعة مباحث:
المبحث الأول: عمل أهل المدينة المنقول عن زمن النبوة.
قرر الإمام البخاري أن ما تناقله أهل المدينة وعملوا به من زمن النبوة فإنه حجة شرعية، فيقول في ذلك: ((باب صاع المدينة، ومد النبي صلى الله عليه وسلم وبركته، وما توارث أهل المدينة من ذلك قرناً بعد قرن))[44].
وأورد الإمام البخاري في هذا الباب عدداً من الآثار، هي:
1 - قال السائب بن يزيد: "كان الصاع على عهد النبي صلى الله عليه وسلم مداً وثلثاً بمدكم اليوم فزيد فيه في زمن عمر بن عبدالعزيز"[45].
2 - قال نافع: "كان ابن عمر يعطي زكاة رمضان بمد النبي صلى الله عليه وسلم المد الأول، وفي كفارة اليمين بمد النبي صلى الله عليه وسلم"[46].(75/7)
3 - قال مالك: "مدنا أعظم من مدكم، ولا نرى الفضل إلاّ في مد النبي صلى الله عليه وسلم، لو جاءكم أمير فضرب مداً أصغر من مد النبي صلى الله عليه وسلم؛ بأي شيء كنتم تعطون؟ قال أبو قتيبة: كنا نعطي بمد النبي صلى الله عليه وسلم"[47].
وقد حكى جماعة من العلماء الاتفاق على حجية ذلك[48].
المبحث الثاني: حجية القياس.
قد يفهم من كلام الإمام البخاري عدم القول بحجية القياس[49]، ويؤخذ ذلك مما يأتي:
أولاً: أنه أورد في أحد تراجمه عبارة يفهم منها ذم الرأي، وأن القياس تكلف فقال: ((باب ما يذكر من ذم الرأي وتكلف القياس))[50].
ثانياً: أنه أورد في الباب السابق قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((أن الله لا ينزع العلم بعد أن أعطاكموه انتزاعاً، ولكن ينتزعه منهم مع قبض العلماء بعلمهم فيبقى ناس جهال يستفتون برأيهم، فيضلون ويضلون))[51].
ثالثاً: أنه أورد في الباب السابق قول سهل بن حنيف: ((اتهموا رأيكم على دينكم))[52].
رابعاً: أن الإمام البخاري يرى أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحكم بالقياس في المسائل التي وردت عليه ولا نص فيها، بل انتظر النص، قال البخاري: باب ما كان النبي يسأل مما لك ينزل عليه الوحي فيقول: لا أدري، أو لم يجب حتى ينزل عليه الوحي، ولم يقل برأيٍ ولا بقياس[53]. واستدل على ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: كيف أصنع في مالي فلم يجب حتى نزل الوحي بآية الميراث[54].
خامساً: استدل على ما قرره من عدم الرجوع النبي صلى الله عليه وسلم للقياس بقوله تعالى: {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله}[55] ولم يقل بما رأيت.
سادساً: حمل الإمام البخاري المسائل التي قيل فيها بأن النبي صلى الله عليه وسلم النبي قاس فيها على أنه أراد التقريب ليُفهم الحكم وليس لتقرير الحجية القياس فهو يقول: ((باب من شبه أصلاً معلوماً، وقد بين صلى الله عليه وسلم حكمهما ليفهم السائل))[56].(75/8)
أما جمهور الأصوليين فإنهم يرون حجية القياس[57]، ويسوقون على ذلك أدلة عديدة[58]. وأجاب الجمهور على ما ذكره البخاري من أدلة بأجوبة عديدة ملخصها ما يأتي:
أولاً: أن ما ورد في منع قول الإنسان بما رآه يعني فيما لا يرجع إلى أصل يقاس عليه، توفيقاً بين ذلك وبين النصوص الواردة في حجية القياس[59].
ثانياً: أن المسائل التي انتظر فيها النبي صلى الله عليه وسلم ليس لها أصول يقاس عليها في الشريعة، فلابد من انتظار الوحي فيها[60]. والذي يظهر لي أن الإمام البخاري لا يخالف الجمهور في ذلك بل هو موافق لهم ويدل على ذلك أمور:
أولاً: أن البخاري قال: ((باب ما يذكر من ذم الرأي وتكلف القياس)).
مما يدل على أنه إنما ينظر القياس المتكلف فقط، وليس جميع الأقيسة، قال ابن حجر: "وأشار بقول: ((من)) إلى أن بعض الفتوى بالرأي لا تذم، وهو إذا لم يوجد نص من كتاب أو سنة أو إجماع، وقوله: ((وتكلف القياس)) أي إذا لم يجد الأمور الثلاثة واحتاج إلى القياس، فلا يتكلفه، بل يستعمله على أوضاعه ولا يتعسف في إثبات العلة الجامعة"[61].
ثانياً: كون البخاري يرى أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستعمل القياس ليس معناه منع المجتهدين بعده من ذلك. كما أن بعض الأصوليين يرى أن النبي صلى الله عليه وسلم ليس متعبداً بالاجتهاد[62]، ومع ذلك يجعل القياس حجة شرعية في حق المجتهدين بعده.(75/9)
ثالثاً: أن ما أورده الإمام البخاري من ذم الرأي إنما يراد به المقابل للنص؛ كما في قول سهل: ((اتهموا الرأي على دينكم))[63]، أو الرأي المجرد الصادر من غير المجتهد كما في حديث: ((فيبقى ناس جهال يستفتون برأيهم))[64]، قال ابن حجر موضحاً مراد الإمام البخاري: "قوله – باب ما يذكر من ذم الرأي أي الفتوى بما يؤدي إليه النظر، وهو يصدق على ما يوافق النص وعلى ما يخالفه، والمذموم منه ما يوجد النص بخلافه، وأشار بقوله ((من)) إلى أن بعض الفتوى بالرأي لا تذم وهو إذا لم يوجد النص من كتاب أو سنة أو إجماع"[65].
رابعاً: أن الإمام البخاري يُعنون بعض الأبواب بعنوان يتعلق بمحل معين ثم يورد في هذا الباب نصوصاً لا تتعلق بهذا المحل بنصها، وإن كان الحكم يفهم من خلال استعمال القياس، مما يدلنا على أن البخاري يرى صحة الاستدلال بالقياس، وسيأتي لذلك مثال فيما يأتي.
خامساً: أن الإمام البخاري من علماء الأمة الذين لهم مكانة ومنزلة فيها، ولو كان لا يرى الاحتجاج بالقياس، أو يفهم ذلك من كلامه لاشتهرت النسبة إليه بذلك.
سادساً: أن صحيح البخاري موضع عناية الأمة، بل هو من أكثر الكتب التي اشتغلت الأمة بالعناية بها من خلال روايته وشرحه والتعليق عليه والاعتراض على مواطن منه ونحو ذلك، فلو كان القول بعدم صحة استنباط الأحكام الشرعية بواسطة القياس يفهم من كلام البخاري لكان موضع عناية من هؤلاء العلماء الذين اهتموا بصحيح البخاري.
المبحث الثالث: تعريف الصحابي.
يكتفي الإمام البخاري في كون الرجل صحابياً باشتراط رؤيته للنبي صلى الله عليه وسلم حالة كونه مسلماً فهو يقول: "ومن صحب النبي صلى الله عليه وسلم أو رآه من المسلمين فهو من أصحابه"[66].(75/10)
وهذا مذهب الحنابلة[67] وأكثر المحدثين[68] وبعض الشافعية[69]. واستدل لهذا القول بأنه مقتضى اللغة؛ لأن الصحبة تطلق لغة على المصاحبة اليسيرة كما تطلق على المصاحبة الكثيرة، ومن هنا يقال صحبه ساعة، ولو قال قائل: صحبت فلاناً لم يقبح سؤاله: هل صحبته شهراً أو يوماً أو لحظة صلى الله عليه وسلم ولو حلف ليصحبن فلاناً برَّ بصحبته ولو زمناً قليلاً[70].
والقول الثاني في المسألة: أن الصحابي هو من رأى النبي صلى الله عليه وسلم متبعاً له ولازمه مدة. وهذا قول الحنفية[71] وبعض الشافعية[72] وبعض المالكية[73] وبعض المحدثين[74]. واستدل لهذا القول بأن مقتضى العرف تخصيص لفظ الصحبة بالملازمة كما يقال أصحاب الكهف لأنهم لازموه[75]. والذي يترجح لديَّ هو القول الثاني لأمور:
الأول: أن الكتب اللغوية تفسر الصحبة بالمعاشرة والملازمة[76]، قال في القاموس: "((صحبه كسمعه... عاشره... واستصحبه دعاه إلى الصحبة ولازمه))[77]، وفي لسان العرب: ((صاحبه عاشره))[78]، وقال: ((وكل ما لازم شيئاً فقد استصحبه))[79]، ولفظ العشرة يشعر بطول الزمن كما في لسان العرب: ((العشرة المخالطة))"[80].
الثاني: ما ورد في الحديث من أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تزالون بخير ما دام فيكم من رآني وصاحبني))[81] مما يظهر معه أن للصحبة معنى مغايراً لمجرد الرؤية.
المبحث الرابع: العرف.
من الأدلة التي يرى الإمام البخاري اعتبارها ((العرف)) فهو يقول: ((باب من أجرى أمر الأمصار على ما يتعارفون بينهم في البيوع والإجازة والكيل والوزن))[82].
وإعمال العرف من الأمور المتفق عليها في الجملة، قال القرافي: "وأما العرف فمشترك بين المذاهب، ومن استقرأها وجدهم يصرخون بذلك فيها"[83].
واستدل الإمام البخاري على هذه القاعدة بأدلة منها:
1 - قول الله عز وجل: {وَمَن كَان فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 6].(75/11)
2 - أن أبا طيبة حجم النبي صلى الله عليه وسلم دون شرط سابق فأمر له النبي صلى الله عليه وسلم بصاع من تمر[84].
3 - ولما سألت امرأة عن حكم أخذها من مال زوجها الذي لا ينفق عليها قال لها النبي صلى الله عليه وسلم: ((خذي أن وبنوك ما يكفيك بالمعروف))[85]. كما أورد بعض الآثار التي تؤيد رأيه في ذلك.
الفصل الثالث: الآراء الأصولية التي صرح بها في دلالات الألفاظ:
وفيه ثلاثه مباحث:
المبحث الأول: دلالة الأمر على الوجوب:
قرر الإمام البخاري أن الأصل في الأوامر أن تكون للوجوب، فقال: ((باب نهي النبي صلى الله عليه وسلم على التحريم إلاّ ما تعرف إباحته وكذلك أمره))[86].
ولا يتصور أن يقصد الإمام البخاري بهذه اللفظة أن أمره دال على التحريم كالنهي، ومن هنا قال الشراح تفسيراً لكلامه هذا: "أي يحرم مخالفته لوجوب امتثاله"[87].
وذكر جماعة من الأصوليين أن القول بدلالة الأمر على الوجوب هو قول الجمهور خلافاً لبعضهم[88]. بينما يرى الغزالي أن العلماء متفقون على دلالة الأمر على الوجوب والخلاف المحكي في المسألة إنما هو متجه نحو دلالة صيغة (افعل) على الأمر، قال الغزالي: "إن قول الشارع: أمرتكم بكذا أو أنتم مأمورون بكذا أو قول الصحابي: أمرت بكذا، كل ذلك صيغ دالة على الأمر، وإذا قال: أوجبت عليكم أو فرضت عليكم أو أمرتكم بكذا أو أنتم معاقبون على تركه فكل ذلك يدل على الوجوب ولو قال: أنتم مثابون على فعل كذا ولستم معاقبين على تركه فهو صيغة دالة على الندب فليس في هذا خلاف، وإنما الخلاف في أن قوله: (افعل) هل يدل على الأمر بمجرد صيغته إذا تجرد عن القرائن؟"[89].
المبحث الثاني: دلالة النهي على التحريم:
قرر الإمام البخاري أن النهي يفيد التحريم فهو يقول: ((باب نهي النبي صلى الله عليه وسلم على التحريم إلاّ ما تعرف إباحته))[90].(75/12)
ولم يذكر في هذا الباب أدلة على هذه القاعدة ولا أمثلة لها. وقد ذكر طائفة من العلماء أن جمهور العلماء يرون أن النهي المجرد عن القرائن يقتضي التحريم[91]، وذكر آخرون أن هذه المسألة يجري فيها خلاف مماثل للخلاف في اقتضاء الأمر للوجوب[92]، بينما ذكر بعض المالكية أن هناك من يرى دلالة النهي على التحريم ولا يرى دلالة الأمر على الوجوب لأن الاعتناء بدرء المفاسد أكثر من الاعتناء بجلب المصالح[93].
المبحث الثالث: صرف الأمر والنهي عن ظاهرهما للقرائن:
يرى الإمام البخاري أن القرائن يصرف بها ظاهر الأمر عن الوجوب، والنهي عن التحريم، فهو يقول: ((باب نهي النبي صلى الله عليه وسلم على التحريم إلاّ ما تعرف إباحته، وكذلك أمره))[94].
واستدل على ذلك بما يأتي:
1 - أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر من حج قارناً ولم يسق الهدي بالتمتع بعد الطواف والسعي، فقال: ((أحلوا وأصيبوا من النساء))[95]، فلم يفهم الصحابة التحريم، ولعل ذلك لأنه أمر بعد خطر وقال جابر: ولم يعزم علينا، لكن أحلّهن لهم[96]
2 - قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((صلوا قبل صلاة المغرب))، قال في الثالثة: ((لمن شاء))[97] فلما ورد لفظ لمن شاء فهم أن الأمر ليس للوجوب ومن هنا قال الصحابي: خشية أن يتخذها الناس سنة[98] أي طريقة دائمة.
الباب الثاني: الآراء الأصولية المستنبطة من كلام الإمام البخاري وفيه ثمانية فصول:
الفصل الأول: آراؤه المتعلقة بالحكم الشرعي.
وفيه مبحثان:
المبحث الأول: عدم التفريق بين الواجب والفرض:
قرر الإمام البخاري أن الزكاة واجبة فقال: ((باب وجوب الزكاة))[99] واستدل على ذلك بحديث: ((أعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم))[100]. واستدلال البخاري بقوله (افترض) على الوجوب يدل على أنه يرى ترادفهما. كما يرى الإمام البخاري أن قيام الليل ليس واجباً فقال: ((باب تحريض النبي صلى الله عليه وسلم على قيام الليل والنوافل من غير إيجاب))[101].(75/13)
واستدل على ذلك بما ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم ليدع العمل وهو يحب أن يعمل به خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم[102]، وقال عن صلاة الليل: ((لم يمنعني من الخروج إليكم إلاّ أني خشيت أن تفرض عليكم))[103]. فاستدل بالنصوص الواردة بنفي الفرضية على نفي الوجوب، مما يدل على أنه يرى أنهما بمعنى واحد. وقرر الإمام البخاري وجوب صوم رمضان فقال: ((باب وجوب صوم رمضان))[104]. واستدل على ذلك بما ورد في فرضية صوم رمضان فلما سأل الأعرابي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أخبرني بما فرض الله علي من الصيام. قال: ((شهر رمضان إلاّ أن تطوع شيئاً))[105]، وقال ابن عمر: "صام النبي صلى الله عليه وسلم عاشوراء وأمر بصيامه فلما فرض رمضان ترك[106]، وقالت: عائشة: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بصيامه – عاشوراء – حتى فرض رمضان"[107].
ومما سبق يتضح أن الإمام البخاري يرى ترادف كلمتي الواجب والفرض.
المبحث الثاني: دلالة لفظ: (كتب) على الوجوب:
قرر الإمام البخاري أن صوم رمضان واجب فقال: ((باب وجوب صوم رمضان))[108]. واستدل البخاري على ذلك بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]. فاستفاد من قوله كتب عليكم الصيام وجوب الصيام مما يدل على أنه يرى أن لفظة (كتب) دالة على الوجوب.
الفصل الثاني: آراؤه المتعلقة بالسنة النبوية.
وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: حجية الأفعال النبوية:
يرى الإمام البخاري صحة صلاة الجمعة إذا ترك كثير من الناس الإمام وهو يخطب، حيث يقول: ((باب إذا نفر الناس عن الإمام في صلاة الجمعة فصلاة الإمام ومن بقي جائزة))[109].(75/14)
واستدل البخاري على ذلك بأن الصحابة كانوا يصلون مع النبي صلى الله عليه وسلم فلما أقبلت عير تحمل طعاماً التفتوا إليها حتى ما بقي مع النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة إلاّ اثني عشر رجلاً[110]. فاستدل البخاري بفعل النبي صلى الله عليه وسلم مما يدل على أنه يرى حجية الأفعال النبوية.
المبحث الثاني: دلالة الأفعال النبوية:
اختار الإمام البخاري جواز كون الإجارة لا تلي العقد مباشرة، فهو يقول: ((باب إذا استأجر أجيراً ليعمل له بعد ثلاث أو بعد شهر أو بعد سنة جاز))[111].
واستدل البخاري على رأيه بأن النبي صلى الله عليه وسلم استأجر رجلاً من الديل ليعرفه طريق المدينة وواعده بعد ثلاث[112]. فاستدل بفعل النبي صلى الله عليه وسلم.
المبحث الثالث: حجية السنة الإقرارية:
قرر الإمام البخاري أن سترة الإمام سترة للمأمورين فقال: ((باب سترة لمن خلفه))[113]. واستدل البخاري على رأيه بما ورد أن أحد الصحابة أرسل حماره فدخلت الصف فلم ينكر ذلك عليه أحد[114]. مما يدل على أنه يرى أن إقرار النبي صلى الله عليه وسلم وعدم إنكاره عليه حجة شرعية.
الفصل الثالث: آراؤه المتعلقة بالأدلة المختلف فيها.
وفيه خمسة مباحث:
المبحث الأول: حجية القياس:
ذهب الإمام البخاري إلى إثبات الحد واللعان بإشارة الأخرس فقال:
((إذا قذف الأخرس امرأته بكتابة أو إشارة أو إيماء معروف فهو كالمتكلم))[115]. واستدل على ذلك بالقياس من جهتين:
الأولى: أن الطلاق معتبر بالإشارة، قال البخاري: "إن طلق بكتابة أو إشارة أو إيماء جاز، وليس بين الطلاق والقذف فرق، فإن قال: القذف لا يكون إلاّ بكلام، قيل له: كذلك الطلاق لا يكون إلاّ بكلام"[116].(75/15)
الثاني: قياس إشارة الأخرس في القذف على ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في الإشارة المعتبرة في الأحكام الشرعية، قال البخاري: "إذا قذف الأخرس امرأته بكتابة أو إشارة أو إيماء معروف، فهو كالمتكلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أجاز الإشارة في الفرائض"[117].
المبحث الثاني: حجية شرع من قبلنا المنقول بشرعنا:
يرى الإمام البخاري صحة الإجارة على إقامة جدار يُخاف من سقوطه فهو يقول: ((باب إذا استأجر أجيراً على أن يقيم حائطاً يريد أن ينقض جاز))[118]. واستدل البخاري بقوله تعالى: {فَوَجَدََا فِيهَا جِداَراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْت عَلَيْهِ أَجْراً} [الكهف: 77]، وروى مثله من قول النبي صلى الله عليه وسلم[119].
فاستدل بقول موسى عليه السلام على جواز ذلك مما يدل على أنه يرى حجية شرع من قبلنا. كما يرى الإمام البخاري أن صلاة الجمعة فرض، فهو يقول: ((باب فرض الجمعة))[120]. وكان مما استدل به البخاري على ذلك حديث: ((نحن الآخرون السابقون يوم القيامة بيد أنهم أتوا الكتاب من قبلنا، ثم هذا يومهم الذي فرض عليهم فاختلفوا فيه فهدانا الله له))[121].
فأخذ من كون الجمعة قد فرضت عليهم أنها فرضت علينا، وهذا ما يعرف بشرع من قبلنا.
المبحث الثالث: حجية شرع من قبلنا المنقول بطريقهم:
قرر الإمام البخاري كراهة السخب في الأسواق فقال: ((باب كراهية السخب في الأسواق))[122]. واستدل البخاري على رأيه بما ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم موصوف في التوراة بأنه ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب في الأسواق[123].
فاستدلال البخاري على كراهة هذا الأمر بما ورد في التوراة استدلال بشرع من قبلنا المنقول بطريقهم. وقد يقال بأنه استدلال بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان كذلك لكن ليس في هذا الخبر ذلك، وإنما هو نقل عما في التوراة.
المبحث الرابع: حجية قول الصحابي:(75/16)
ذهب الإمام البخاري إلى أن العمرة واجبة فقال: ((باب وجوب العمرة))[124]. واستدل البخاري على ذلك بأنه قول الصحابة فقال: ((قال ابن عمر رضي الله عنهما: ليس أحد إلاّ وعليه حجة وعمرة))[125]، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: إنها لقرينتها في كتاب الله عز وجل[126]: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196][127] فاستدلال البخاري بما ورد عن الصحابة في ذلك يدل على أنه يرى حجية قول الصحابي.
المبحث الخامس: إِعمال العرف في تفسير الألفاظ المحتملة:
لفظ (أخدمتك) يحتمل أن يكون عارية ويحتمل أن يكون هبة، وقد رأى الإمام البخاري أن المكلف إذا أطلق هذا اللفظ فإنه يحتمل على العرف فهو يقول: ((باب إذا قال: أخدمتك هذه الجارية، على ما يتعارف الناس فهو جائز، وقال بعض الناس: هذه عارية))[128]. واستدل البخاري على رأيه بما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((هاجر إبراهيم بسارة فأعطوها آجر فرجعت، فقالت: أشعرت أن الله كبت الكافر وأخدم وليدة))[129] والمراد بذلك التمليك لأن العرف لديهم يقتضيه.
فدل على أن البخاري يرى حمل الألفاظ المحتملة على حسب العرف.
الفصل الرابع: آراؤه المتعلقة بالأمر.
وفيه خمسة مباحث:
المبحث الأول: دلالة الأمر على الوجوب:(75/17)
قرر الإمام البخاري وجوب التكبير في الصلاة فقال: ((باب إيجاب التكبير))[130]. واستدل البخاري بحديث: ((إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا))[131]. وقوله (كبّروا) أمر استخرج البخاري بواسطته وجوب التكبير، مما يدل على أنه يرى أن الأمر مفيد للوجوب. كما قرر الإمام البخاري وجوب الزكاة بقوله: ((باب وجوب الزكاة))[132]. واستدل على ذلك بقوله تعالى: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43]، وحديث: ((أعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم))[133] وقوله صلى الله عليه وسلم: ((آمركم بأربع ذكر منها: إيتاء الزكاة))[134]. فقرر البخاري وجوب الزكاة بناء على هذه الأوامر، مما يدل على أنه يرى أن الأمر يدل على الوجوب.
المبحث الثاني: دلالة صيغة افعل على الأمر:
ذكر الإمام البخاري أن من لم يتم ركوعه فإنه يؤمر بالإعادة فقال: ((باب أمر النبي صلى الله عليه وسلم الذي لا يتم ركوعه بالإعادة))[135]. واستدل البخاري على رأيه بقول النبي صلى الله عليه وسلم للمسيء صلاته: ((ارجع فصلِّ))[136]. فعلم مما سبق أن الإمام البخاري يرى أن قوله (صلِّ) وهي على صيغة (افعل) أمر من الشارع بالصلاة، مما يدل على أنه يرى أن صيغة افعل دالة على الأمر.
المبحث الثالث: دلالة صيغة افعل على الوجوب:(75/18)
قرر الإمام البخاري وجوب القراءة في الصلاة فقال: (باب وجوب القراءة للإمام والمأموم)[137]. واستدل البخاري على إيجاب القراءة بقول النبي صلى الله عليه وسلم للمسيء صلاته: ((إذا قمت إلى الصلاة فكبر ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن))[138]. وقوله صلى الله عليه وسلم (اقرأ) على وزن (افعل) وقد استدل بها البخاري على الوجوب مما يدل على أنه يرى أن صيغة (افعل) دالة على الوجوب. كما قرر الإمام البخاري وجوب النفير فقال: ((باب وجوب النفير))[139]. واستدل البخاري على ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((وإذا استنفرتم فانفروا))[140]. وهذا يظهر أن الإمام البخاري استدل بصيغة افعل على الوجوب.
المبحث الرابع: دلالة الفعل المضارع المسبوق بلام الأمر على الوجوب:
اختار الإمام البخاري وجوب قبول المحال للحوالة فهو يقول: ((إذا حال على مليء فليس له رد))[141]. واستدل البخاري على ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((من اتبع على مليء فليتبع))[142]. فقوله (فليتبع) فعل مضارع مسبوق بلام الأمر وقد استدل به البخاري على الوجوب مما يدل على أنه يرى إفادته للوجوب.
المبحث الخامس: صرف الأمر عن الوجوب لعدم فعل النبي صلى الله عليه وسلم له:
قرر الإمام البخاري عدم وجوب السحور فقال: ((باب بركة السحور من غير إيجاب))[143]. واستدل البخاري على ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه واصلوا ولم يذكر السحور[144]. فصرف البخاري دلالة الأمر على الوجوب في قوله: ((تسحروا))[145] بعدم فعل النبي صلى الله عليه وسلم له وأصحابه ولو كان واجباً لتسحروا.
الفصل الخامس: آراؤه المتعلقة بالنهي.
وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: دلالة صيغة لا تفعل على النهي:(75/19)
يرى الإمام البخاري أن الاستنجاء باليمين منهي عنه، فهو يقول: ((باب النهي عن الاستنجاء باليمين))[146]. وقد استدل البخاري على ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا شرب أحدم فلا يتنفس في الإناء، وإذا أتى الخلاء فلا يمس ذكره بيمينه))[147]. والقاعدة التي يمكن أن يستنبط بواسطتها هذا الحكم من هذا الدليل هي قاعدة: دلالة صيغة لا تفعل على النهي، ومن هنا فالبخاري يرى أن صيغة (لا تفعل) تدل على النهي فهذا الحديث ليس فيه لفظ النهي وإنما فيه فعل مضارع مسبوق بلا الناهية وقد جعله البخاري مفيداً للنهي مما يدل على أن هذه الصيغة للنهي عنده.
المبحث الثاني: دلالة النهي على الفساد:
قال البخاري: ((باب لا يجوز الوضوء بالنبيذ ولا المسكر))[148] فقرر تحريم الوضوء بذلك. واستدل على هذا الحكم بقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((كل شراب أسكر فهو حرام))[149]. ولا يمكن أن يستنبط هذا الحكم من هذا الدليل إلاّ بتقرير أن النهي والتحريم يدل على الفساد، فلما كان المسكر محرماً كان نجساً فلا يجوز الوضوء به.
المبحث الثالث: دلالة النهي المصروف عن التحريم:
رأى الإمام البخاري كراهة السفر بالمصحف إلى بلاد الكفار، فهول يقول: ((باب كراهية السفر بالمصاحف إلى أرض العدو))[150]. وقد استدل البخاري على الكراهة بحديث: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو)[151]، وقد استدل البخاري على صرفه عن التحريم بأنه ((قد سافر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في أرض العدو وهم يعلمون القرآن))[152]. فاستدلال البخاري السابق يدل على أنه يرى أن المكروه منهي عنه بحيث إذا صرف النهي عن التحريم حمل على الكراهة ولو لم يكن هناك دليل يدل على ذلك.
الفصل السادس: آراؤه المتعلقة بالعموم.
وفيه أربعة مباحث:
المبحث الأول: دلالة الاسم الموصول (من) على العموم:
قرر الإمام البخاري وجوب القراءة على الإمام والمأموم فقال:(75/20)
((باب وجوب القراءة للإمام والمأموم))[153]. واستدل البخاري على ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب))[154]. فأخذ البخاري من قوله (من لم يقرأ) تعميم الحكم على الإمام والمأموم، مما يدل على أنه يرى أن (من) الموصولة تفيد العموم.
المبحث الثاني: دلالة النكرة في سياق النفي على العموم:
يرى البخاري وجوب القراءة في جميع الصلوات فقال: ((باب وجوب القراءة للإمام والمأموم في الصلوات كلها))[155]. واستدل البخاري على ذلك بحديث: ((لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب))[156]. فقوله: (لا صلاة) نكرة في سياق النفي، وقد استدل البخاري بها على وجوب القراءة في جميع الصلوات مما يدل على أنه يرى أن النكرة في سياق النفي تفيد العموم.
المبحث الثالث: دلالة الجمع المعرف بـ(أل) على العموم قال البخاري:
(باب ما جاء أن الأعمال بالنية والحسبة، ولكل امرئ ما نوى، فدخل فيه: الإيمان والوضوء والصلاة)[157]. ثم استدل الإمام البخاري على أن النية تدخل في عبادة الإيمان بقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((الأعمال بالنية، ولك امرئ ما نوى))[158]. فقرر البخاري أن الإيمان يدخل في الأعمال ويتم تقرير هذا الاستدلال، بأن الأعمال جمع معرف بأل فأفاد العموم فيدخل فيه الإيمان، مما يدل على أن الإمام البخاري يرى أن الجمع المعرف بـ(أل) يفيد العموم.
المبحث الرابع: دلالة الاسم المفرد المعرف بـ(أل) لغير المعهود على العموم:
قرر البخاري أن عرق المسلم ليس نجساً فقال: (باب عرق الجنب وأن المسلم لا ينجس)[159]. وقد استدل البخاري على هذا الحكم بأن النبي صلى الله عليه وسلم قابل أحد الصحابة وهذا الصحابي جنب، فانخنس الصحابي كراهية أن يجالسه وهو جنب فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن المؤمن لا ينجس))[160].(75/21)
والقاعدة التي يستنبط بها هذا الحكم من هذا الدليل أن المفرد المعرف بـ(أل) الجنسية يفيد العموم، فإن (المؤمن) اسم مفرد معرف بأل الجنسية فيشمل جميع أجزائه، ومن ذلك العرق.
الفصل السابع: آراؤه المتعلقة بالمفاهيم.
وفيه مبحثان:
المبحث الأول: مفهوم الموافقة.
يرى البخاري كراهة الصلاة في ثوب فيه تصاوير قال رحمه الله: ((باب كراهية الصلاة في التصاوير))[161]. واستدل البخاري على ذلك بما ورد أن عائشة كان لها قرام سترت به جانب بيتها فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: ((أميطي عني فإنه لا تزال تصاويره تعرض لي في صلاتي))[162]. فاستدل البخاري بمفهوم الموافقة حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم كره الستر المعلق أمام المصلي، ففهم منه البخاري كراهة الثوب الملبوس بطريق مفهوم الموافقة.
المبحث الثاني: مفهوم المخالفة.
يرى الإمام البخاري أن المناجاة بين اثنين إذا كان في المجلس أكثر من ثلاثة جائزة، قال: ((باب إذا كانوا أكثر من ثلاثة فلا بأس بالمسارة والمناجاة))[163]. واستدل البخاري على ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى رجلان دون الآخر حتى تختلطوا بالناس))[164]. ويتم الاستدلال بهذا الحديث على الجواز عندما يكونون أكثر من ثلاثة بتقرير مفهوم المخالفة، سواء مفهوم العدد في قوله (إذا كنتم ثلاثة)، أو مفهوم الغاية في قوله: (حتى تختلطوا بالناس).
الفصل الثامن: آراؤه المتعلقة بباقي مباحث الدلالات.
وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: دلالة السياق.(75/22)
ذهب الإمام البخاري إلى تحريم الرجوع في الهبة، فهو يقول: ((باب لا يحل لأحد أن يرجع في هبته))[165]. واستدل البخاري بقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((ليس لنا مثل السوء الذي يعود في هبته كالكلب يرجع في قيئه))[166]. ويفهم مما سبق أن الإمام البخاري أعمل دلالة السياق، فإن الكلب لا يحرم عليه الرجوع في قيئه لكن لما ورد في السياق ((ليس لنا مثل السوء)) دل ذلك على المنع من الرجوع في الهبة لمشابهته لرجوع الكلب في قيئه.
المبحث الثاني: دلالة الاقتضاء.
يرى الإمام البخاري صحة قبول الحي انتقال دين على ميت إلى ذمته وتكون حوالة صحيحة فهو يقول: ((باب إذا أحال دين الميت على رجل جاز))[167]. واستدل البخاري على رأيه بأن النبي صلى الله عليه وسلم امتنع عن الصلاة على ميت عليه دين ولم يترك وفاءً فقال أحد الصحابة: صل عليه يا رسول الله وعلىَّ دينه فصلى عليه[168]. فاستدل بكون النبي صلى الله عليه وسلم صحح انتقال الدين إلى ذمة الحي، ولا يصح هذا الاستدلال إلاّ بتقرير دلالة الاقتضاء، فكأنه قال: فأجاز انتقاله فصلى عليه.
المبحث الثالث: دلالة (أو) على التخيير:
قرر الإمام البخاري أن من حلق شعره وهو محرم مخير بين الإطعام أو الصيام أو النسك فقال: ((باب قوله تعالى: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] وهو مخير))[169].
واستدل على ذلك أيضاً بحديث: ((احلق رأسك وصم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين او انسك شاة))[170]. مما يدل على أنه يرى أن (أو) للتخيير.
الخاتمة:
الحمد لله.. وبعد:(75/23)
فمن خلال هذه الدراسة تظهر لنا عمق الجوانب الأصولية لدى الإمام البخاري رحمه الله وقد اقتصرت هنا على تراجم الإمام البخاري التي وُجد الحكم فيها صريحاً من غير نسبة لقائل سواء كانت متعلقة بالقواعد الأصولية مباشرة أو فيها حكم فقهي مبني على دليل شرعي فيتم إبراز القاعدة التي استخرج بواسطتها هذا الحكم من هذا الدليل. هذه خلاصة البحث، أما عن نتائجه، فقد تم استعراضها في ذات البحث لكن من أهمها ما يأتي:
1 - هذه الدراسة تبين لنا أنواع تراجم الإمام البخاري بالنسبة لعلاقتها بالأحكام الشرعية والقواعد الأصولية.
2 - أن القواعد الأصولية كانت محل عناية العلماء في أوائل مراحل التدوين، مما يدل على أنها كانت تحت أنظار العلماء السابقين للتدوين في زمن الصحابة والتابعين، بل هي موجودة في زمن التشريع، لأن كثيراً من القواعد مبنية على أدلة شرعية.
3 - يفهم من كلام البخاري موافقته للجمهور في عدم التفريق بين الواجب والفرض.
4 - استفاد الإمام البخاري الوجوب من لفظة كتب.
5 - استدل البخاري بالأفعال النبوية وبالسنة الإقرارية التي قرر حجيتها كما قرر حجية خبر الواحد.
6 - رأى الإمام البخاري نقض حكم القاضي المخالف للإجماع مما يدل على أنه يرى أن الإجماع دليل قطعي.
7 - ظاهر كلام البخاري عدم اعتبار العوام في الإجماع.
8 - استدل البخاري بعمل أهل المدينة المنقول عن زمن النبوة.
9 - قد يفهم من كلام الإمام البخاري عدم القول بحجية القياس، وبتمحيص النظر ظهر لي أنه يرى حجيته، والعبارات عنه في ذم القياس إنما هي في ذم المتكلف منه مما هو مقابل للنص، ويدل على ذلك أن البخاري استعمل القياس، وكان من عادته أن يعنون بشيء ثم يورد نصوصاً لا تتعلق بذلك الشيء بذاته، ولا يفهم حكمه من هذا النص إلاّ بواسطة القياس.
10 - استدل البخاري بشرع من قبلنا المنقول بشرعنا ممن يدل على أنه يرى حجيته.(75/24)
11 - يفهم من استدلال البخاري بقول الصحابي أنه يرى حجيته، لكنه اكتفى في تفسير الصحابي باشتراط الرؤية مع المتابعة، وجمهور الأصوليين يزيدون اختصاص الصاحب به، وقد ظهر لي من خلال البحث ترجح رأي جمهور الأصوليين.
12 - أعمل البخاري العرف ووضعه من الأدلة الشرعية واستدل لذلك بعدد من الأدلة.
13 - هناك موافقة بين البخاري وجمهور الأصوليين في دلالة الأمر على الوجوب ودلالة النهي على التحريم وصرف الأمر والنهي عن ظاهره للقرائن المحتفة به، ودلالة افعل على الأمر، ودلالة المضارع المسبوق بلام الأمر عليه، ودلالة النهي على الفساد، ودلالة النهي المصروف عن التحريم على الكراهة.
14 - استدل الإمام البخاري ببعض ألفاظ العموم في مسائل عامة مما يدل على أنه يرى إفادتها للعموم.
15 - كما استدل البخاري بمفهوم الموافقة والمخالفة ودلالة السياق ودلالة الاقتضاء. وهذه النتائج تظهر بعض منزلة الإمام البخاري العلمية في القواعد الأصولية. وهذا يدعونني إلى التوصيتين الآتيتين:
الأولى: الاهتمام بالآراء الأصولية الموجودة في صحيح البخاري التي كانت خارج محل الدراسة.
الثانية: الاهتمام بكتب الأحاديث النبوية وخصوصاً الكتب المسندة التي اهتم أصحابها بكتابة عناوين لأبوابها لأن ذلك يفيدنا في معرفة المراحل الأولى لتدوين القواعد الأصولية، ويفيدنا في تعرف التطور التاريخي لهذا العلم سواء في مصطلحاته أو في الآراء فيه، كما يفيدنا في إظهار أدلة أخرى للقواعد الأصولية لم يذكرها الأصوليون، ويفيدنا في تعرف بعض تطبيقات القواعد الأصولية. ولا يعني ذلك إغفال غيرها من الكتب كالشروح أو الكتب المؤلفة في ترتيب المدونات الحديثية فإن لها مشاركة قوية في ذلك. هذا وأسأل الله للجميع التوفيق والهداية للرجوع إلى المصادر الأصلية في مسائلنا العلمية. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
المراجع:(75/25)
1 - الإبهاج في شرح المنهاج، تأليف تقي الدين السبكي وابنه تاج الدين، دار الكتاب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى – 1404هـ.
2 - الإحكام في أصول الأحكام، تأليف: أبي محمد علي ابن حزم الظاهري، دار الحديث، القاهرة، الطبعة الأولى – 1404هـ.
3 - الإحكام في أصول الأحكام، تأليف: علي بن محمد الآمدي، تحقيق: د. سيد الجميلي، دار الكتاب العربي، الطبعة الثانية – 1406هـ.
4 - إحكام الفصول في أحكام الأصول، تأليف: أبي الوليد الباجي، تحقيق: د. عبدالله الجبوري، مؤسسة الرسالة – بيروت، الطبعة الأولى – 1419هـ.
5 - إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول، تأليف: محمد بن علي الشوكاني، مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده، مصر، الطبعة الأولى 1356هـ.
6 - الأشباه والنظائر، تأليف: ابن نجيم الحنفي (مع حاشية ابن عابدين) تحقيق: محمد مطيع الحافظ، دار الفكر، دمشق، الطبعة الأولى 1403هـ.
7 - أصول السرخسي، تحقيق: أبي الوفا الأفغاني، دار المعرفة، بيروت، لبنان، دون تاريخ.
8 - إعلام الموقعين عن رب العالمين، تأليف شمس الدين محمد بن قيم الجوزية، تحقيق محمد محيي الدين عبدالحميد، دار الفكر – بيروت، الطبعة الثانية – 1397هـ.
9 - البحر المحيط في أصول الفقه، تأليف: بدر الدين الزركشي، تحرير: عبدالقادر الحاتمي وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية الكويت، الطبعة الأولى – 1409هـ.
10 - البداية والنهاية، تأليف: الحافظ ابن كثير، مكتبة المعارف، بيروت، الطبعة الرابعة – 1401هـ.
11 - البرهان في أصول الفقه، تأليف: أبي المعالي الجويني، تحقيق: د. عبدالعظيم الديب، مطابع الدوحة الحديثة، قطر، الطبعة الأولى – 1399هـ.
12 - تاريخ بغداد، تأليف: الخطيب البغدادي، مطبعة السعادة، القاهرة، 1349هـ.
13 - تاريخ التراث العربي، تأليف: د. فؤاد سزكين، ترجمة: د. محمود فهمي حجازي، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الرياض، 1403هـ.(75/26)
14 - التبصرة في أصول الفقه، تأليف: أبي إسحاق الشيرازي، تحقيق: د. محمد حسن هيتو، دار الفكر، دمشق، تصوير 1403هـ.
15 - تذكرة الحفاظ، تأليف: شمس الدين الذهبي، وزارة المعارف بالهند، تصوير: دار الكتب العلمية – بيروت.
16 - التفريق بين الأصول والفروع، تأليف: د. سعد بن ناصر الشثري، دار المسلم للنشر والتوزيع، الرياض، الطبعة الأولى 1417هـ.
17 - تفسير النصوص في الفقه الإسلامي، تأليف: د. محمد أديب الصالح، المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الثالثة 1404هـ.
18 - تقريب التهذيب تأليف: الحافظ ابن حجر، تحقيق: صغير الباكستاني، دار العاصمة – الرياض، الطبعة الأولى 1416هـ.
19 - تقريب الوصول إلى علم الأصول، تأليف: ابن جزي الكلبي، تحقيق: محمد علي فركوس، دار الأقصى، الطبعة الأولى – 1410هـ.
20 - التقرير والتحبير، تأليف: ابن أمير الحاج، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الثانية – 1403هـ.
21 - التلخيص، تأليف: أبي المعالي الجويني، تحقيق: د. عبدالله النيبالي وشبير العمر، مكتبة دار الباز، مكة، الطبعة الاولى 1417هـ.
22 - التمهيد في أصول الفقه، تأليف: أبي الخطاب الكلوذاني، تحقيق، د. مفيد أبو عمشة ومحمد إبراهيم علي، نشر: كلية الشريعة بمكة، طباعة: دار المدني، جدة، الطبعة الأولى – 1406هـ.
23 - تهذيب الكمال في أسماء الرجال، تأليف: الحافظ المزي، تحقيق: د. بشار عواد معروف، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الثانية، 1403هـ.
24 - تيسير التحرير، تأليف: محمد أمين أمير بادشاه، دار الكتب العلمية، بيروت.
25 - دلالة الأوامر والنواهي في الكتاب والسنة، تأليف: د. محمد وفا، دار الطباعة المحمدية، القاهرة، 1404هـ.
26 - الرسالة، تأليف: الإمام الشافعي، تحقيق: أحمد محمد شاكر.
27 - روضة الناظر، تأليف: موفق الدين ابن قدامة، تحقيق: د. عبدالكريم النملة، مكتبة الرشد، الرياض، الطبعة الأولى – 1413هـ.(75/27)
28 - زوائد الأصول، تأليف: جمال الدين الإسنوي، تحقيق: محمد سنان الجلالي، مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت، الطبعة الأولى 1413هـ.
29 - سير أعلام النبلاء، تأليف: شمس الدين الذهبي، تحقيق جماعة من المحققين، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى – 1401هـ.
30 - شرح تنقيح الفصول، تأليف: شهاب الدين القرافي، دار الفكر القاهرة، مكتبة الكلية الأزهرية، مصر، الطبعة الأولى – 1393هـ.
31 - شرح الكوكب المنير، تأليف: ابن النجار الفتوحي، تحقيق د. محمد الزحيلي، ود. نزيه حماد، نشر: كلية الشريعة بمكة، طباعة دار الفكر بدمشق – 1400هـ.
32 - شرح اللمع، تأليف: أبي إسحاق الشيرازي، تحقيق: عبدالمجيد تركي، دار الغرب الإسلامي – بيروت، الطبعة الأولى – 1408هـ.
33 - شرح مختصر الروضة، تأليف: نجم الدين الطوفي، تحقيق: د. عبدالله بن عبدالمحسن التركي، مؤسسة الرسالة، بيروت الطبعة – 1407هـ.
34 - صحيح البخاري، دار السلام للنشر والتوزيع، الطبعة الاولى 1407هـ.
35 - طبقات الحنابلة، تأليف: ابن أبي يعلى، تحقيق: محمد حامد الفقي، تصوير: دار المعرفة – بيروت، عن طبعة مطبعة السنة المحمدية، القاهرة.
36 - العدة في أصول الفقه، تأليف: القاضي أبي يعلى، تحقيق: د. أحمد بن علي المباركي، الطبعة الثانية – 1410هـ.
37 - عمدة القاري شرح صحيح البخاري، تأليف: بدر الدين العيني دار الفكر – 1399هـ.
38 - فتح الباري بشرح صحيح البخاري، تأليف: ابن حجر العسقلاني، حقق أوله: الشيخ عبدالعزيز بن باز، المطبعة السلفية ومكتبتها، القاهرة، الطبعة الأولى – 1380هـ.
39 - الفصول في الأصول تأليف: أبي بكر الجصاص، تحقيق: د. عجيل النشمي، وزارة الأوقاف بالكويت، الطبعة الأولى – 1405هـ.
40 - الفقيه والمتفقه، تأليف: الخطيب البغدادي، تحقيق: عادل العازي، دار ابن الجوزي – الدمام، الطبعة الأولى – 1417هـ.(75/28)
41 - فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت، تأليف: عبدالعلي الأنصاري، المطبعة الأميرية ببولاق – مصر، الطبعة الأولى – 1322هـ.
42 - القاموس المحيط، تأليف: مجد الدين الفيروزآبادي، المؤسسة العربية للطباعة والنشر، بيروت.
43 - القطع والظن عند الأصوليين، تأليف: د. سعد بن ناصر الشثري، دار الحبيب، الرياض، الطبعة الأولى – 1418هـ.
44 - قواطع الأدلة، تأليف أبي المظفر السمعاني، مكتبة نزار الباز مكة، الطبعة الأولى – 1418هـ.
45 - قواعد الأصول ومعاقد الفصول، تأليف: صفي الدين الحنبلي تحقيق: د. علي الحكمي، مركز إحياء التراث بجامعة أم القرى، مكة، الطبعة الأولى – 1409هـ.
46 - كشف الأسرار عن أصول البزدوي، تأليف: علاء الدين البخاري، تعليق: محمد البغدادي، دار الكتاب العربي، بيروت الطبعة الاولى – 1411هـ.
47 - مباحث في الأمر، تأليف: عبدالقادر شحاتة محمد، دار الهدى للطباعة، الطبعة الأولى 1404هـ.
48 - مجمع الزوائد، تأليف: الحافظ الهيثمي، مؤسسة المعارف، بيروت، 1406هـ.
49 - مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، جمع: عبدالرحمن بن قاسم وابنه محمد، طبع بأمر الملك خالد بن عبدالعزيز آل سعود، مكتبة المعارف، الرباط.
50 - المحصول في علم الأصول، تأليف: فخر الدين الرازي، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى – 1408هـ.
51 - المستصفى من علم الأصول، تأليف: أبي حامد الغزالي، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الثانية – 1398هـ.
52 - مسند الإمام أحمد، المكتب الإسلامي للطباعة والنشر، بيروت الطبعة الثانية – 1398هـ.
53 - المسودة في أصول الفقه، تأليف: آل تيمية، تحقيق: محمد محيي الدين عبدالحميد، مطبعة المدني، القاهرة، 1384هـ.
54 - المصنف، تأليف: ابن أبي شيبة، تحقيق: عامر الأعظمي، الدار السلفية بالهند، بومباي.
55 - المعجم الكبير، تأليف الحافظ الطبراني، تحقيق: حمدي بن عبدالمجيد السلفي، مكتبة ابن تيمية، الطبعة الثانية.(75/29)
56 - مفتاح الوصول إلى بناء الفروع على الأصول، تاليف: أبي عبدالله التلمساني، تحقيق: عبدالوهاب بن عبداللطيف، دار الكتب العلمية – بيروت، 1403هـ.
57 - المقدمة في علوم الحديث، تأليف: أبي عمرو ابن الصلاح، دار الكتب العلمية، بيروت، 1398هـ.
58 - مقدمة فتح الباري: هدى الساري، تأليف: الحافظ ابن حجر، دار الكتاب الجديد، لجنة إحياء التراث الإسلامي.
59 - المنخول من تعليقات الأصول، تأليف: أبي حامد الغزالي، تحقيق: د. محمد حسن هيتو، دار الفكر – دمشق، الطبعة الثانية، 1400هـ.
60 - ميزان الأصول في نتائج العقول: تأليف شمس النظر السمرقندي، تحقيق: د. محمد زكي عبدالبر، مطابع الدوحة الحديثة، قطر، الطبعة الأولى – 1404هـ.
61 - نفائس الأصول، تأليف: شهاب الدين القرافي، تحقيق: عادل عبدالموجود وعلي معوض، مكتبة نزار الباز، مكتبة مكة المكرمة، الطبعة الأولى – 1416هـ.
62 - نهاية الوصول في دراية الأصول، تأليف: صفي الدين الهندي تحقيق: د. صالح اليوسف، ود. سعد السويح، المكتبة التجارية، مكة المكرمة، الطبعة الأولى 1416هـ.
63 - الوصول إلى الأصول، تأليف: أبي الفتح ابن برهان، تحقيق: د. عبدالحميد أبو زنيد، مكتبة المعارف، الرياض، 1403هـ.
ـــــــــــــــــــــــ
[1] مقدمة فتح الباري لابن حجر ص7، عمدة القاري 1/ 5.
[2] شرح الكوكب المنير 2/ 350، مقدمة ابن الصلاح ص14، إرشاد الفحول ص49.
[3] مقدمة فتح الباري ص11.
[4] انظر مقدمة فتح الباري ص11.
[5] صحيح البخاري ص1.
[6] صحيح البخاري ص7.
[7] صحيح البخاري ص718 – 811.
[8] صحيح البخاري ص58.
[9] البخاري ص67.
[10] البخاري ص73.
[11] البخاري ص17.
[12] البخاري ص36.
[13] البخاري ص39.
[14] البخاري ص45.
[15] البخاري ص42.
[16] البخاري ص44.
[17] البخاري ص49.
[18] البخاري ص120.
[19] البخاري ص122.
[20] البخاري ص412.
[21] البخاري ص92.
[22] البخاري ص436.
[23] البخاري ص419.(75/30)
[24] انظر ترجمته في: تهذيب الكمال 24/ 430، وتاريخ بغداد 2/ 4، وطبقات الحنابلة 1/ 271، وسير أعلام النبلاء 12/ 391، وتذكرة الحفاظ 2/ 555، والبداية والنهاية 11/ 24، ومقدمة فتح الباري، تاريخ التراث العربي 1/ 1/ 256.
[25] تهذيب الكمال 24/ 431.
[26] تقريب التهذيب ص528 ف4675.
[27] صحيح البخاري ص1540 كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة باب رقم (23).
[28] أخرجه البخاري برقم 5537 من حديث محمد بن المنكدر عن جابر.
[29] صحيح البخاري ص45 كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة.
[30] العدة لأبي يعلى 1/ 721، شرح اللمع 1/ 65، نهاية الوصول 5/ 5612، تقريب الوصول ص117، تيسير التحرير 3/ 128، شرح الكوكب المنير 2/ 194.
[31] صحيح البخاري ص0251 كتاب أخبار الآحاد باب رقم (1).
[32] صحيح البخاري ص0251 و 3251 وحديث رقم 4627.
[33] أخرجها البخاري برقم 6427 – 5227 و 4527 و 5527.
[34] أخرجها البخاري برقم 3527 و 6527.
[35] المسودة ص238، المستصفى 1/ 146، فواتح الرحموت 2/ 131، تيسير التحرير 3/ 82، شرح تنقيح الفصول ص357، شرح الكوكب المنير 2/ 361، إرشاد الفحول ص48.
[36] الرسالة ص104، 024، أصول السرخسي 1/ 223، المستصفى 1/ 841.
[37] صحيح البخاري ص7051 كتاب الأحكام باب رقم (53).
[38] الفصول 3/ 346، العدة 4/ 1058، إحكام الفصول ص435، الفقيه والمتفقه 1/ 154، البرهان 1/ 679، القطع والظن عند الأصوليين 1/ 217.
[39] انظر ما أخرجه البخاري برقم 1137 من حديث المغيرة.
[40] صحيح البخاري ص3351 كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة باب رقم (01).
[41] صحيح البخاري ص935 كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة باب رقم 91.
[42] أخرجه البخاري برقم 2137 من حديث معاوية.
[43] شرح مختصر الروضة 3/ 13، التمهيد لأبي الخطاب 3/ 052، المسودة ص331.
[44] صحيح البخاري ص1141 كتاب كفارات الأيمان باب رقم (5).
[45] أخرجه البخاري برقم 2176.
[46] أخرجه البخاري برقم 3176.(75/31)
[47] أخرجه البخاري برقم 3176.
[48] مجموع فتاوى ابن تيمية 02/ 303، نفائس الأصول 6/ 2708، المسودة ص332، البحر المحيط 4/ 484، وانظر: فتح الباري 11/ 607، إحكام الفصول ص414.
[49] عمدة القاري 52/ 74.
[50] صحيح البخاري ص1532 كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة باب رقم (7).
[51] أخرجه البخاري برقم 7307 من حديث عبدالله بن عمرو.
[52] أخرجه البخاري برقم 7308.
[53] صحيح البخاري ص532، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة باب رقم (8).
[54] أخرجه البخاري برقم 7309 من حديث جابر.
[55] سورة النساء آية رقم 105.
[56] صحيح البخاري ص3351 كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة باب رقم (921).
[57] التلخيص 3/ 154، الوصول 2/ 243، ميزان الأصول ص556، المحصول 2/ 245، وانظر: الرسالة ص476، التبصرة ص419، شرح اللمع 2/ 760، أصول السرخسي 2/ 118، إحكام الفصول 2/ 460، شرح تنقيح الفصول ص385، العدة 4/ 1281، التمهيد 3/ 365، المسودة ص367، شرح مختصر الروضة 3/ 242.
[58] انظر التفريق بين الأصول والفروع 2/ 951.
[59] فتح الباري 13/ 291.
[60] فتح الباري 31/ 192 و 782، عمدة القاري 52/ 74.
[61] فتح الباري 13/ 282.
[62] انظر هذا القول في: البرهان 2/ 1356، المستصفى 2/ 335، شرح تنقيح الفصول ص436، شرح الكوكب المنير 4/ 475.
[63] أخرجه البخاري برقم 7308.
[64] أخرجه البخاري برقم 7307 من حديث عبدالله بن عمرو.
[65] فتح الباري 13/ 282.
[66] صحيح البخاري ص747 كتاب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم باب رقم (1)، وانظر في نسبة هذا القول له: شرح الكوكب المنير 2/ 465.
[67] العدة 3/ 987، التمهيد 3/ 172، روضة الناظر 2/ 404، شرح مختصر الروضة 2/ 185، قواعد الأصول ص17، شرح الكوكب المنير 2/ 465.
[68] نزهة النظر ص55، فتح الباري 7/ 3، الإحكام لابن حزم 2/ 85، الباعث الحثيث ص179، شرح مسلم للنووي 1/ 35.
[69] الإحكام للآمدي 2/ 401، زوائد الأصول ص823.(75/32)
[70] انظر ذلك في: العدة 3/ 988، الإحكام للآمدي 2/ 104، التمهيد لأبي الخطاب 3/ 174، شرح مختصر الروضة 2/ 185.
[71] تيسير التحرير 2/ 65، التقرير والتحبير 2/ 261، كشف الأسرار للبخاري 2/ 712، فواتح الرحموت 2/ 158.
[72] التلخيص للجويني 2/ 414، المستصفى 1/ 561، قواطع الأدلة 1/ 473.
[73] شرح تنقيح الفصول ص563.
[74] شرح الكوكب المنير 2/ 174، مسند أحمد 5/ 27، فتح الباري 7/ 4.
[75] التلخيص للجويني 2/ 414، المستصفى 1/ 561، تيسير التحرير 2/ 66.
[76] قواطع الأدلة 1/ 473.
[77] القاموس المحيط 1/ 59 (صحب).
[78] لسان العرب 1/ 915 (صحب).
[79] المرجع السابق.
[80] لسان العرب 4/ 475 (عشر).
[81] أخرجه ابن أبي شيبة 12/ 178 (12463)، والطبراني في الكبير 22/ 86. (207) قال الهيثمي في مجمع الزوائد 10/ 20: ((رواه الطبراني من طرق ورجال أحدها رجال الصحيحين))، وقال ابن حجر في فتح الباري (7/ 5): ((الحديث أخرجه ابن أبي شيبة وإسناده حسن)).
[82] صحيح البخاري ص234 كتاب البيوع باب رقم (59).
[83] شرح تنقيح الفصول ص488، وانظر: الأشباه والنظائر لابن نجيم ص101، وفتح الباري لابن حجر 4/ 406، واعلام الموقعين 2/ 393، ومع اتفاقهم على إعمال العرف، إلاّ أن منهم من جعله دليلاً ومنهم من جعله طريقاً لتطبيق النص.
[84] أخرجه البخاري برقم 2210 من حديث أنس.
[85] أخرجه البخاري برقم 2211 من حديث عائشة.
[86] صحيح البخاري ص1543 كتاب الإعتصام بالكتاب والسنة باب رقم (27).
[87] فتح الباري 13/ 337، عمدة القاري 25/ 77.
[88] العدة 1/ 229، أصول السرخسي 1/ 15، شرح اللمع 1/ 206، المسودة ص5، تفسير النصوص 2/ 240، دلالة الأوامر والنواهي في الكتاب والسنة ص23، مباحث في الأمر ص57.
[89] المستصفى 1/ 714، وانظر: البرهان 1/ 412، الإحكام للآمدي 2/ 951.
[90] صحيح البخاري ص345 كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة باب رقم (72).(75/33)
[91] مفتاح الوصول ص37، التبصرة ص99، تفسير النصوص 2/ 379. وانظر: الرسالة للشافعي ص343، كشف الأسرار للبخاري 1/ 525.
[92] المنخول ص126، الإحكام للآمدي 2/ 209، نهاية الوصول 3/ 1169، الإبهاج 2/ 67، شرح مختصر الروضة 2/ 430.
[93] شرح تنقيح الفصول 861.
[94] صحيح البخاري ص3451 كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة باب رقم 72.
[95] أخرجه البخاري برقم 7637 من حديث جابر.
[96] أخرجه البخاري برقم 7637 من قول جابر.
[97] أخرجه البخاري برقم من حديث عبدالله المزني برقم 8637.
[98] أخرجه البخاري برقم 8637 من قول عبدالله المزني.
[99] صحيح البخاري ص672 كتاب الزكاة باب رقم (1).
[100] أخرجه البخاري برقم 5931 من حديث ابن عباس.
[101] صحيح البخاري ص222 كتاب التهجد باب رقم (5).
[102] أخرجه البخاري برقم 8211 من قول عائشة.
[103] أخرجه البخاري برقم 9211 من حديث عائشة.
[104] صحيح البخاري ص373 كتاب الصوم باب رقم (1).
[105] أخرجه البخاري برقم 1981 من حديث طلحة.
[106] أخرجه البخاري برقم 2981.
[107] أخرجه البخاري برقم 3981.
[108] صحيح البخاري ص373 كتاب الصوم باب رقم (1).
[109] صحيح البخاري ص581 كتاب الجمعة باب رقم (83).
[110] أخرجه البخاري برقم 639 من حديث جابر.
[111] صحيح البخاري ص344 كتاب الاجارة باب رقم 4.
[112] أخرجه البخاري برقم 4622 من حديث عائشة.
[113] صحيح البخاري ص401 كتاب الصلاة باب رقم (09).
[114] أخرجه البخاري برقم 394، من حديث ابن عباس.
[115] صحيح البخاري ص1150 كتاب الطلاق باب رقم 52.
[116] صحيح البخاري ص1150.
[117] المصدر السابق.
[118] صحيح البخاري ص444 كتاب الاجارة باب رقم (7).
[119] أخرجه البخاري رقم 7622 من حديث أبي بن كعب.
[120] صحيح البخاري ص371 كتاب الجمعة باب رقم (1).
[121] أخرجه البخاري برقم 678 من حديث أبي هريرة.
[122] صحيح البخاري ص914 كتاب البيوع باب رقم (5).(75/34)
[123] أخرجه البخاري برقم 5212 من كلام عبدالله بن عمرو بن العاص قال ابن الأثير في النهاية 2/ 349 (سخب): ((السخب بمعنى الصياح)).
[124] صحيح البخاري ص153 كتاب العمرة باب رقم (1).
[125] ذكره البخاري تعليقاً، وأخرجه ابن خزيمة (4/ 356 ح3066) والحاكم 1/ 471 والدارقطني 2/ 285، والبيهقي 4/ 351، وابن أبي شيبة ص221 من الملحق، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
[126] ذكره البخاري تعليقاً وأخرجه الشافعي في الأم 2/ 145، والبيهقي 4/ 351، وورد عن ابن عباس وجوب الحج بلفظ آخر أخرجه الحاكم 1/ 471، والدارقطني 2/ 285، والبيهقي 4/ 351، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
[127] صحيح البخاري ص153.
[128] صحيح البخاري ص523 كتاب الهبة باب رقم 36.
[129] أخرجه البخاري برقم 2635 من حديث أبي هريرة.
[130] صحيح البخاري ص741، كتاب الأذان باب رقم (28).
[131] أخرجه البخاري برقم 337 و 437 من حديث أنس وأبي هريرة.
[132] صحيح البخاري ص672 كتاب الزكاة باب رقم (1).
[133] أخرجه البخاري برقم 5931 من حديث ابن عباس.
[134] أخرجه البخاري برقم 8931 من حديث ابن عباس.
[135] صحيح البخاري ص851 كتاب الآذان باب رقم 221.
[136] أخرجه البخاري برقم 397 من حديث أبي هريرة.
[137] صحيح البخاري ص150 كتاب الآذان باب رقم (59).
[138] أخرجه البخاري برقم (757) من حديث أبي هريرة.
[139] صحيح البخاري كتاب الجهاد والسير باب رقم 72 ص754.
[140] أخرجه البخاري من حديث ابن عباس برقم 5282.
[141] صحيح البخاري كتاب الحوالات باب رقم (2ص). 944.
[142] أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة برقم 8822.
[143] صحيح البخاري ص973 باب رقم (20).
[144] أخرجه البخاري من حديث ابن عمر برقم 2291.
[145] أخرجه البخاري من حديث أنس برقم 3291.
[146] صحيح البخاري ص83، كتاب الوضوء، باب رقم (81).
[147] أخرجه البخاري برقم (351) في الباب المذكور من حديث أبي قتادة.(75/35)
[148] صحيح البخاري ص45، كتاب الوضوء باب رقم (17).
[149] أخرجه البخاري برقم 242 من حديث عائشة.
[150] صحيح البخاري ص606 كتاب الجهاد باب رقم 921.
[151] أخرجه البخاري برقم 2990 من حديث ابن عمر.
[152] صحيح البخاري ص606.
[153] صحيح البخاري ص150 كتاب الأذان باب رقم 59.
[154] أخرجه البخاري برقم 657 من حديث عبادة بن الصامت.
[155] صحيح البخاري ص150، كتاب الأذان باب رقم (59).
[156] أخرجه البخاري برقم 657 من حديث عبادة بن الصامت.
[157] صحيح البخاري ص61، كتاب الإيمان، باب (14).
[158] أخرجه البخاري حديث رقم (45) كتاب الإيمان، باب ما جاء أن الأعمال بالنية من حديث عمر.
[159] صحيح البخاري ص26، كتاب الغسل باب رقم (32).
[160] أخرجه البخاري حديث رقم (382) من حديث أبي هريرة.
[161] صحيح البخاري ص9621 كتاب اللباس باب رقم (39).
[162] أخرجه البخاري برقم 9595 من حديث أنس.
[163] صحيح البخاري ص3331 كتاب الاستئذان باب رقم (74).
[164] أخرجه البخاري برقم 6290 من حديث ابن مسعود.
[165] صحيح البخاري ص125 كتاب الهبة باب رقم (03).
[166] أخرجه البخاري برقم 2262 من حديث ابن عباس.
[167] صحيح البخاري ص944 كتاب الحوالات باب رقم (3).
[168] أخرجه البخاري برقم 9822 من حديث سلمة بن الأكوع.
[169] صحيح البخاري ص953 كتاب المحصر باب رقم (5).
[170] أخرجه البخاري برقم 4181 من حديث كعب بن عجرة.(75/36)
العنوان: أربعُ تقنيات نفسية فعالة!
رقم المقالة: 1508
صاحب المقالة: د. ياسر بكار
-----------------------------------------
بناءُ الذات رحلةٌ جميلة، تتقدمُ فيها كلَّ يوم نحوَ المزيد من معرفتها والقدرة على التحكم بها، عندما تحسنُ بناءَ نفسك فسوف تشعرُ بقوة أكبرَ وقدرةٍ أعلى على مجاراة الحياة والكسب منها.
نفسُك هي مَن ستحاسَب عليها.. هي أقربُ الأشياء إليك وأعزها، وهي الأحق بالعناية والرعاية. لقد قضينا وقتاً طويلاً ونحن نقدر قيمة الناس ونحكم عليهم وننتقدهم. لقد حان الوقتُ لكي نقف وننظر إلى أقربَ من ذلك.. إلى أنفسنا، وفي سبيل المزيد من التحكم والتطوير سنتدرب اليومَ على أربعِ تقنيات نفسيةٍ أثبتت فعاليتها:
أولاً: الحديثُ مع النفس:
دعونا نتذكرُ أننا نتحدثُ إلى أنفسنا في كل لحظة، فإذا لم تكن تتحدث مع أحد فأنت تتحدث مع نفسك. ومع الأسف فإن معظمَ حديثنا مع أنفسنا هو حديث سلبي: (انظر أين وصل فلانٌ، وأين أنت الآن؟! كم أنا غبي! أوه! لو قلتُ كذا، أو فعلتُ كذا، أو امتلكتُ كذا..)، وهكذا سلسلةٌ من الحوار الداخلي السلبي الذي يحطم فينا كلَّ طموح وأمل.. التقنية التي أود منك أن تتدرب عليها هي أن تقتطع كل يوم وقتًا قصيرًا وتتحدث إلى نفسك بطريقة مختلفة.. في الغد عندما تستيقظُ صباحاً وبعد أن تغسل وجهَك، قِفْ أمام المرآة وأرسل لنفسك (عبارات التوكيد)، أي رسائل إيجابية توكيدية بصيغة الحاضر مثل: (أنا بخير اليوم، أشعر بالحيوية والنشاط)، (أنا شخص محبوب من زملائي وناجح في علاقاتي مع أسرتي)، (يا للسعادة التي أشعر بها هذه الأيام، الحمد لله على نعمه التي تغمرني). اعتراف بنعم الله المنسية، وشعور بالفخر من الإنجازات التي حققتها ونسيتها. تذكر أن مثل هذه الكلمات لا تذهب في الهواء سدى، بل تعود إلى الداخل لتعزز شعورنا نحو أنفسنا وثقتنا بها.
ثانياً: قوةُ الكلمات:(76/1)
للكلمات قوةٌ عجيبة في برمجة أنفسنا. عندما يسألُك شخصٌ ما هذا السؤال الروتيني: (كيف حالك؟) لاحظ العبارة التي تستخدمُها. تُرى هل تقول: (ماشي الحال)، (لا بأس). إن كنتَ كذلك ما رأيك أن تدخل تعديلاً صغيراً على ذلك؟ ففي المرة القادمة قل: (على أفضل حال)، (تمام التمام)، (أحسن من كذا ما في!!).. وانفث في كلماتِك رُوحَ التفاؤل والحيوية. وترقب ذلك التغييرَ الرائع الذي ستشعر به في الحال، وبالأثر الذي ستتركه في المستمع إليك. فهذه الإحساسات كما يسميها الأطباءُ (مُعْدِية).
عندما كنت أقول هذه المعاني لمرضاي، كثيراً ما كانوا يقولون: (تريدني أن أكذب؟! أنا لست على أفضل حال). والواقع أنهم تغيبُ عنهم فكرةٌ أساسية. إن الحكمَ على مشاعرنا هو أمر نسبي. فما رأيُك أن تزور إحدى المستشفيات القريبة من منزلك، وخذ جولة في أجنحة أمراض الدم والأعصاب والكبد والأمراض النفسية و.. و.. حينها ستقابلُ أشخاصاً إذا حضر الطعامُ لم يشتهوه، وإذا أكلوه لم يستطيعوا هضمَه، وإذا حل الليلُ لم يستطيعوا النومَ إلا بأقوى المسكنات التي سرعان ما يذهب مفعولُها ليوقظهم الألمُ، واحكم بعد ذلك على نفسك، وما تتقلبُ فيه من نعم ظاهرة وباطنة، ألستَ على أفضل حال؟!!.
هذه الفكرةُ تنطبق أيضاً على وصفنا للألم الذي نشعر فيه، فإذا ابتليت بالصداع يوماً فلاحظ الفرق بين أن تقول: (أشكو من صداع قاتلٍ وألم رهيب!!) وبين أن تقول: (أشعر ببعض الألم في رأسي، لقد أزعجني هذا الصداعُ قليلاً). قال أحد الحكماء: (الكلمةُ التي نلصقها بتجربة ما، تصبح تجربتنا).
جاء في البخاري أن النبي -صلى الله عليه وسلم- عاد أعرابيًا يتلوى من شدة الحمى، فقال له مواسياً: "طهور"، فقال الأعرابي: بل هي حمى تفور، على شيخ كبير، لتورده القبور، قال: "فهي إذن".(76/2)
تذكر أن الكلمات لها مفعولٌ سحري في تغيير مشاعرنا وعالمنا الداخلي، سواء بطريقة أفضل أو بطريقة أسوأ. هذه إحدى الأدوات الفعالة بيدك الآن فاستفد منها.
ثالثاً: قوة الأسئلة:
لقد كشف الحكماءُ القوةَ الهائلة للأسئلة التي نطرحُها على أنفسنا باستمرار؛ فهي من الأدوات الرائعة التي تعمل على توجيه تركيزنا نحوَ الهدف وإطلاق قوانا الداخلية. ولكي أسهل الأمر أكثر تأمل هذه الأسئلة:
- ما الهدفُ الأكثر أهمية عندي؟
- لماذا هذا الهدف مهم عندي؟
- ما العملُ الذي يجب أن أفعله الآن لكي أبدأ في التغيير؟
- ما أهم عائق يقف أمامي في سبيل تحقيق ما أريد؟
- من الشخصُ الأكثر قدرة على مساندتي في التغيير؟
وهكذا كما ترى، تضعُك هذه الأسئلةُ أمامَ التغيير بكل وضوح، وتخرجك من حالة التيه التي يقع فيها كثير من الناس: (أريد أن أتغير، لكن لا أعرف من أين أبدأ؟!). إنها أداة رائعة لمراجعة عملية التغيير، وتوجيهها نحو الوجهة الصحيحة عندما تشعر بأنك ابتعدت عنها.
من يسألُ السؤالَ الصحيح، يجدُ الإجابةَ الصحيحة:
تحدث (أنتوني روبنز) عن قوة الأسئلة في كتابه الرائع (أيقظ قواك الخفية) إذ يقرر: "أن الفرق الأساسي بين الأشخاص الذين حققوا نجاحاً في أي ميدان من الميادين، وأولئك الذين لم يحققوا مثلَ هذا النجاح هو أن الأشخاصَ الناجحين وجهوا أسئلةً أفضل، ومن ثم توصلوا لإجابات أفضل، منحتهم القوةَ لكي يعرفوا ما الذي يجب فعلُه في أية وضعية يجدون أنفسهم فيها".(76/3)
ومن العبر التي رواها في كتابه هذا أن مؤلفاً مرموقاً أخبره كيف غرس والدُه فيه مهارة إلقاء الأسئلة؛ فقد كان أبوه يسألُه كل يوم وهُما على مائدة العشاء: "ماذا تعلمتَ اليوم يا بني؟" وكان عليه أن يقدم إجابة، وأن تكون إجابتُه مميزة. فإن لم يكن قد تعلم شيئاً يثير الاهتمام في ذلك اليوم، كان يسرع إلى إحدى الموسوعات ليدرس شيئاً مثيراً ليخبر أباه عنه. ومن ذلك الحين لا يذهبُ هذا المؤلف إلى فراشه إلا أن يكون قد تعلم شيئاً جديداً ذا قيمة. وبذلك فإنه يحفز عقله باستمرار. ما رأيُك أن تجرب ذلك مع نفسك ومع أبنائك، ستذهلك النتائج!.
خطوة عملية:
ضع هذه الأسئلةَ في مكان بارز في غرفتك، وجرّب أن تبدأ بها صباحَك بعد ذكر الله، وانتظر نتائجَ باهرة:
- كيف سأخطو اليوم خطوة إلى الأمام في علاقتي مع الله عز وجل؟
- ما أهم هدف يجب أن أحققه هذا اليوم؟
- ما أهم عمل يجب أن أعمله لكي أحقق هذا الهدف؟
- ما العمل الذي سيزيد ثقتي واحترامي لنفسي لو أديته هذا اليوم؟
- ما أفضل توزيع لوقتي هذا اليوم؟
- ما أكثر عمل سيجعلني أشعر بالمتعة هذا اليوم؟
- ما أجمل صفة من صفاتي أود أن أبرزها هذا اليوم؟
- من الشخص الذي سأقوي علاقتي به هذا اليوم؟
رابعاً: قوة التصور:
إحدى الأدوات التي ساعدت الكثير من الناجحين هي قدرتُهم على استخدام التصور، أي تكوين صور خيالية ذهنية واضحة للهدف الذي يودون تحقيقه، ويعيشونه في اللحظة الحاضرة، ويشعرون بما يصاحبه من فرحة وسرور بإنجازهم ذاك. فالطالبُ الذي أرهقته سنواتُ الدراسة الطويلة يستحضر في خياله مقاطعَ صورية لتلك اللحظات السعيدة وقد أنجز تحصيلَه الدراسي وقُبِل في وظيفة مميزة، ويرسم في خياله صوراً لوالديه وهما ينظران إليه بكل فخر واعتزاز بسبب النجاح الذي حققه.
ستساعدُك هذه التقنية في أمرين:(76/4)
(1) رسم أهدافك، ووضع صورة واضحة لما تريد تحقيقه وإنجازه من عملية التغيير. فالأهداف تصنع أولاً في أذهاننا عبر تصوير كل جزء منها، تماماً كما يفعل المهندسُ الذي يضع تصوراً واضحاً لكل جزء من البيت الذي يريد بناءَه قبل أي يضرب مسماراً واحداً. يقول أرسطو: (لا تفكر الروح دون صورة).
(2) تحديد المشاعر التي سيجلبها لك تحقيقُ التغيير المنشود، والوضعية الجديدة التي ستكون عليها، والفائدة المرجوة منه. وخذ مثلاً: فلو كان من أهدافك أن تصبح محرراً لمجلة علمية، ستستخدم التصور الخيالي في ذهنك لشكل المجلة، وأسلوب تحريرها، وطريقة عملك وغير ذلك. ومن جهة أخرى ستلمس في ذهنك مشاعر السرور والفرح وأنت ترى العدد الأول واهتمام الناس بالمجلة والفائدة التي حصلوا عليها، وثناءهم على جهدك وإحساسك بالفخر والرضا بما أسديته لمجتمعك وأمتك.
عندما تستخدم هذه التقنية ستستجلب إلى مخيلتك تصوراً كاملاً للعمل الذي تود إنجازه أو التغيير المنشود بالصورة الجميلة والصوت الواضح والمشاعر القوية. وقد شبه (أنتوني روبنز) هذه الوسيلة بعمل المخرج السينمائي. فلكي يصل بالمشاهد إلى الشعور بالخوف يلجأ إلى التحكم بالصوت، وطريقة عرض المشاهد، ويظهر مؤثرات خاصة في اللحظة المناسبة..
ومن أجمل ما قرأت في هذا السياق: كيف استخدم (حاتم الأصم) -رحمه الله وهو أحد التابعين- قوة التصور في تعزيز خشوعه في الصلاة حين تعجب الناس من شدة خشوعه، فقال لهم: (أقوم إلى صلاتي، وأجعل الكعبة بين حاجبي، والصراط تحت قدمي، والجنة عن يميني، والنار عن يساري، وملك الموت على رأسي، وأظنها آخر صلاتي..).
هذه أربعُ تقنيات نفسية ستضيفُ إلى شخصيتك الكثير لو أتقنتها.(76/5)
بقي لي أن أنبه على أمر مهم، وهو أن هذه التقنيات هي مهارات وليست معلومات، وهذا يعني أنك بحاجة إلى الوقت والممارسة لترسيخها والاستفادة منها.. تماماً كقيادة السيارة التي كانت يوماً حلماً وشيئًا مستحيلا، ولكن مع الوقت والممارسة أصبحنا نفعلها بطريقة تلقائية ودون وعي أو تركيز.
وفقك الله لما يرضيه.(76/6)
العنوان: أربعون حديثًا في فضائل القرآن
رقم المقالة: 1505
صاحب المقالة:
-----------------------------------------
(1) ثبت في صحيح ابن حبان عن أبي شريح الخزاعي - رضي الله عنه - قال: ((خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: أبشروا وأبشروا أليس تشهدون أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟ قالوا: نعم، قال: فإن هذا القرآن سبب طرفه بيد الله وطرفه بأيديكم فتمسكوا به، فإنكم لن تضلوا ولن تهلكوا بعده أبدًا)).
أخرجه ابن حبان في صحيحه: حديث/ 122، 1/329، وابن أبي شيبة: حديث/ 30006، 6/125، والطبراني في الكبير: حديث/ 491، 22/108، والبيهقي في شعب الإيمان: حديث/ 201/، 2/352. [صحيح].
(2) عن عمران بن حصين - رضي الله عنه - أنه مر على قاص يقرأ، ثم سأل فاسترجع، ثم قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((من قرأ القرآن فليسأل الله به فإنه سيجيء أقوام يقرؤون القرآن يسألون به الناس)).
أخرجه الترمذي: حديث/ 2917، 5/175، والطبراني في الكبير: حديث/ 374، 18/167، والبيهقي في شعب الإيمان: حديث/ 2627، 2/533. [حسن].
(3) عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن نقرأ القرآن وفينا الأعرابي والأعجمي فقال: ((اقرؤوا فكل حسن وسيجيء أقوام يقيمونه كما يقام القدح يتعجلونه ولا يتأجلونه)).
أخرجه أبو داود: حديث/ 830، 1/220، وأحمد: حديث/ 14898، 3/257، والبيهقي في شعب الإيمان: حديث/ 2642، 2/835. [حسن].(77/1)
(4) عن أبو هريرة - رضي الله عنه - قال: ((حدثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن الله عز وجل إذا كان يوم القيامة نزل إلى العباد ليقضي بينهم وكل أمة جاثية فأول من يدعو به رجل جمع القرآن ورجل يقتل في سبيل الله ورجل كثير المال فيقول الله للقارئ: ألم أعلمك ما أنزلت على رسولي، قال: بلى يا رب، قال: فماذا عملت فيما علمت، قال: كنت أقوم به آناء الليل وآناء النهار فيقول الله له كذبت، وتقول الملائكة له: كذبت، فيقول الله عز وجل: أردت أن يقال: فلان قارئ فقد قيل، ويؤتى بصاحب المال فيقول: ألم أوسع عليك حتى لم أدعك تحتاج إلى أحد، قال: بلى، قال: فماذا عملت فيما آتيتك، قال: كنت أصل الرحم وأتصدق، فيقول الله: كذبت، وتقول الملائكة كذبت، ويقول الله: بل أردت أن يقال: فلان جواد فقد قيل ذلك، ويؤتى بالرجل الذي قتل في سبيل الله فيقال له: فيم قتلت، فيقول: أمرت بالجهاد في سبيلك فقاتلت حتى قتلت، فيقول الله: كذبت، وتقول الملائكة له: كذبت ويقول الله: بل أردت أن يقال: فلان جريء فقد قيل ذلك، ثم ضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ركبتي فقال: يا أبا هريرة أولئك الثلاثة أول خلق الله تسعر بهم النار يوم القيامة)).
أخرجه الترمذي: حديث/ 2382، 4/591، وقال حسن غريب، والحاكم: حديث/ 1527، 1/579،وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وابن حبان: حديث/ 408، 2/125. [صحيح].
(5) عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن رجلا جاءه، فقال: أوصني، فقال: ((سألتني عما سألت عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قبلك، أوصيك بتقوى الله فانه رأس كل شيء، وعليك بالجهاد فانها رهبانية الاسلام، وعليك بذكر الله وتلاوة القرآن فانه روحك في السماء وذكرك في الأرض)).
أخرجه أحمد: حديث/ 11791، 3/ 82، [ حسن].(77/2)
(6) عن أبي مالك الأشعري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماوات والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدو فبايع نفسه فمعتقها أو موبقها)).
أخرجه مسلم: حديث/ 223، 1/203، وابن حبان: حديث/ 844، 3/124، والترمذي: حديث/ 3517، 5/535 والنسائي في الكبرى: حديث/ 2217، وابن ماجة: حديث/ 280، 1/102، والدارمي: حديث/ 653، 1/174.
(7) عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((مثل الذي يقرأ القرآن كالأترجة طعمها طيب،وريحها طيب، والذي لا يقرأ القرآن كالتمرة طعمها طيب، ولا ريح لها، ومثل الفاجر الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة ريحها طيب، وطعمها مر، ومثل الفاجر الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة طعمها مر، ولا ريح لها)).
أخرجه البخاري: حديث/ 4731، 4/1917، ومسلم: حديث/ 797، 1/549، وابن حبان: حديث/ 770، 3/47، والترمذي: حديث/ 2856، والنسائي في الكبرى: حديث/ 11769، 6/538، وأبو داود: حديث/ 4829، وابن ماجة: حديث/ 214، 1/77، وأحمد: حديث/ 19630، 4/403، والدارمي: حديث/ 3364، 2/535.
(8) عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول ألم حرف ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف)).
أخرجه الترمذي بهذا المتن: حديث/ 2190، 5/175، وقال حديث حسن صحيح غريب، والبيهقي في شعب الإيمان: حديث/ 1984، 2/342. [ صحيح ].
(9) عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن لله أهلين من الناس، قالوا يا رسول الله: من هم، قال: هم أهل القرآن أهل الله وخاصته)).(77/3)
أخرجه ابن ماجة: حديث/ 215، 1/78، وأحمد، حديث/ 13566، 2/242، والدرامي: حديث/ 3326، 2/525، والطيالسي في مسنده: حديث/ 2124، 1/283، ومن طريقه البيهقي في شعب الإيمان: حديث/ 2688، 2/551. [ صحيح ].
(10) عن أبو أمامة الباهلي - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((اقرؤوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه، اقرؤوا الزهراوين البقرة وسورة آل عمران فإنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان، أو كأنهما غيايتان، أو كأنهما فرقان من طير صواف تحاجان عن أصحابهما، اقرؤوا سورة البقرة فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا تستطيعها البطلة... قال معاوية: بلغني أن البطلة السحرة)).
أخرجه مسلم في صحيحه: حديث/ 804، 1/553، وأحمد: حديث/ 22246، 5/254، والبيهقي في الصغرى: حديث/ 998، 1/547، والطبراني في الأوسط: حديث/ 468، 1/150.
(11) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أيحب أحدكم إذا رجع إلى أهله أن يجد فيه ثلاث خلفات عظام سمان، قلنا: نعم، قال فثلاث آيات يقرأ بهن أحدكم في صلاته خير له من ثلاث خلفات عظام سمان)).
أخرجه مسلم: حديث/ 802، 1/552، وابن ماجة: حديث/ 3782، 2/1243، وأحمد: حديث/9141، 2/296، والدارمي: حديث/ 3314، 2/523.
(12) عن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((خيركم من تعلم القرآن وعلمه)).
أخرجه البخاري: حديث/ 4739، 4/1919، وابن حبان: حديث/ 118، 1/324، والترمذي: حديث/ 2907، والنسائي في الكبرى: 8037، 5/19، وأبو داود: حديث/ 1452، 2/70، 5/173، وأحمد: حديث/ 500، 1/69، والدارمي: حديث/ 3337، 2/528. وفي رواية عند البخاري أيظاً: عن عثمان - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفضلكم من تعلم القرآن وعلمه.(77/4)
(13) عن على - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خياركم من تعلم القرآن وعلمه)).
أخرجه أحمد: حديث/ 1317، 1/153، والدرامي: حديث/ 3337، 2/528، وابن أبي شيبة: 30072، 6/132. [صحيح].
(14) عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((يقال لصاحب القرآن: إقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها)).
أخرجه الترمذي: حديث/ 3914، 5/177، وأبو داود: حديث/ 1464، 2/73. [ صحيح ].
(15) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((يجيء القرآن يوم القيامة فيقول: يا رب حله، فيلبس تاج الكرامة، ثم يقول: يا رب زده، فيلبس حلة الكرامة، ثم يقول: يا رب أرض عنه فيرضى عنه، فيقال له اقرأ وارق وتزاد بكل آية حسنة)).
أخرجه الترمذي: حديث/ 2915، 5/178وقال حسن صحيح، والحاكم في المستدرك: حديث/ 2029، 1/738، وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه، والدارمي: حديث: 3311، 2/522، والبيهقي في شعب الإيمان: حديث/ 2996، 2/346. [حسن].
(16) عن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - قال: خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن في الصفة فقال: ((أيكم يحب أن يغدو كل يوم بطحان أو العقيق فيأتي بناقتين كوماوين في غير إثم بالله ولا قطع رحم؟ فقلنا: يا رسول الله كلنا نحب ذلك فقال: فلئن يغدو أحدكم كل يوم إلى المسجد فيتعلم آيتين من كتاب الله عز وجل خير له من ناقتين وثلاث خير له من ثلاث وأربع خير له من أربع ومن أعدادهن من الإبل)).
أخرجه مسلم: حديث/ 803، 1/552، وابن حبان: حديث/ 115، 1/321، والنسائي في السنن الصغرى: حديث/ 985، 1/542، وأبو داود: حديث/ 1456، 2/71، وأحمد في المسند: حديث/ 15444، 4/154.
(17) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليس منا من لم يتغن بالقرآن وزاد غيره يجهر به)).(77/5)
أخرجه البخاري: حديث/ 7089، 6/737، وابن حبان: حديث/ 120، 1/326، والنسائي في الصغرى: حديث: حديث/ 1042، 1/558، وأبو داود: حديث/ 1469، وأحمد: حديث/ 1512، والدارمي: حديث/ 1491، 1/417، والبيهقي في شعب الإيمان: حديث/ 2613، 2/528.
(18) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعثا وهم ذو عدد فاستقرأهم فاستقرأ كل رجل منهم ما معه من القرآن فأتى على رجل منهم من أحدثهم سنا، فقال: ما معك يا فلان قال معي كذا وكذا وسورة البقرة، قال: أمعك سورة البقرة، فقال: نعم قال فاذهب فأنت أميرهم، فقال رجل من أشرافهم: والله يا رسول الله ما منعني أن أتعلم سورة البقرة إلا خشية ألا أقوم بها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تعلموا القرآن فاقرؤه وأقرئوه فإن مثل القرآن لمن تعلمه فقرأه وقام به كمثل جراب محشو مسكا يفوح بريحه كل مكان، ومثل من تعلمه فيرقد وهو في جوفه كمثل جراب وكئ على مسك)).
أخرجه الترمذي: حديث/ 2876، 5/156، وقال: حديث حسن، والنسائي في الصغرى: حديث/ 8749. [ حسن].
(19) عن سهل بن سعد - رضي الله عنه - قال: أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - امرأة فقالت: إنها قد وهبت نفسها لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، فقال: ((ما لي في النساء من حاجة، فقال رجل: زوجنيها، قال: أعطها ثوبا، قال: لا أجد، قال: أعطها ولو خاتما من حديد، فاعتل له، فقال: ما معك من القرآن: قال: كذا وكذا قال: فقد زوجتكها بما معك من القرآن)).
أخرجه البخاري: حديث/ 4741، 4/1919، والترمذي/ 1114، 3/421، والنسائي في الصغرى: حديث/ 3200، 6/54، وأبو داود: حديث/ 3111، 2/236، وابن ماجة: حديث/ 1889، 1/608، وأحمد: حديث/ 6680، 2/179 ومالك في الموطأ: حديث/ 1096، 2/526، والدارمي: حديث/ 2201، 2/190.(77/6)
(20) نافع بن عبد الحارث لقي عمر - رضي الله عنه - بعسفان، وكان عمر يستعمله على مكة فقال: من استعملت على أهل الوادي، فقال: بن أبزي، قال: ومن بن أبزي، قال: مولى من موالينا، قال: فاستخلفت عليهم مولى، قال: إنه قارئ لكتاب الله عز وجل، وإنه عالم بالفرائض، قال: عمر أما إن نبيكم - صلى الله عليه وسلم - قد قال: ((إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع به آخرين)).
أخرجه مسلم: حديث/ 817، 1/559، وابن ماجة: حديث/ 218، 1/79، وأحمد: حديث/ 232، والدارمي: حديث/ 3365، والبيهقي في شعب الإيمان: حديث2682، 2/550.
(21) عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((بئس ما لأحدهم أن يقول نسيت آية كيت وكيت بل نسي واستذكروا القرآن فإنه أشد تفصيا من صدور الرجال من النعم)).
أخرجه البخاري: حديث/ 4744، 4/1921، ومسلم: حديث/ 790، 1/544، وابن حبان: حديث/ 763، 3/41، والترمذي: حديث/ 2942، 5/193، والنسائي في الكبرى: حديث/ 1015، 1/327، وأحمد: حديث/ 3620، 1/381، والدارمي: حديث/ 575، 1/152.
(22) عن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((تعلموا كتاب الله وتعاهدوا واقتنوه وتغنوا به فوالذي نفسي بيده لهو أشد تفلتا من المخاض في العقل)).
أخرجه النسائي في الكبرى: حديث/ 8049، 5/21، وأحمد: حديث/ 17355، 4/146، والدارمي: حديث/ 3349، 2/521.
(23) عن بن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إنما مثل صاحب القرآن كمثل صاحب الإبل المعقلة إن عاهد عليها أمسكها وإن أطلقها ذهبت)).
أخرجه البخاري: حديث/ 4743، 4/1920، ومسلم: حديث/ 789، 1/543، وابن حبان: حديث/764، 2/41، والنسائي في الصغرى: حديث/ 942، 2/154، وأحمد: حديث/ 5315، 2/64، ومالك في الموطأ: حديث/ 474، 1/202.(77/7)
(24) عن البراء بن عازب - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله يقول: ((حسنوا القرآن بأصواتكم فإن الصوت الحسن يزيد القرآن حسنًا)).
أخرجه الدارمي: حديث/ 3501، 2/565، والبيهقي في شعب الإيمان: حديث/ 2141، 2/368. وفي رواية عند ابن حبان والنسائي، وابن ماجة والحاكم والبيهقي: زينوا القرآن بأصواتكم.[صحيح].
(25) عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: حسن الصوت زينة القرآن.
أخرجه الطبراني في الكبير: حديث/ 10023، 10/82. [حسن ].
(26) عن أسيد بن حضير - رضي الله عنه - أنه كان يقرأ وهو على ظهر بيته، وهو حسن الصوت، فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((بينا اقرأ إذ غشيني شيء كالسحاب والمرأة في البيت والفرس في الدار فتخوفت أن تسقط المرأة وتنفلت الفرس فانصرفت فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقرأ يا أسيد فإنما هو ملك استمع القرآن)).
أخرجه عبد الرزاق: 4182، 2/486، والحاكم في المستدرك: 5259، 3/326، والطبراني في الكبير: حديث/ 563، 1/207. [صحيح].
(27) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا حسد إلا في اثنتين رجل علمه الله القرآن فهو يتلوه آناء الليل وآناء النهار فسمعه جار له فقال: ليتني أوتيت مثل ما أوتي فلان فعملت مثل ما يعمل ورجل آتاه الله مالا فهو يهلكه في الحق فقال رجل ليتني أوتيت مثل ما أوتي فلان فعملت مثل ما يعمل)).
أخرجه البخاري: حديث/ 4738، 4/1919، ومسلم: حديث/ 815، 1/559، وابن حبان: حديث/ 90، 1/292، والترمذي: حديث/ 1936، 4/330، والنسائي في الكبرى: حديث/ 5841، 3/426، وابن ماجة: حديث/ 4209، 2/1408، وأحمد: حديث/ 4550، 2/8،.
(28) عن عبد الرحمن بن شبل - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((تعلموا القرآن فإذا علمتموه فلا تغلوا فيه، ولا تجفوا عنه ولا تأكلوا به ولا تستكثروا به)).(77/8)
أخرجه النسائي: حديث/990، 1/544، وأحمد: حديث/ 15568، 3/428، والبيهقي في شعب الإيمان: حديث/ 2687، 2/551. [صحيح].
(29) عن النواس بن سمعان - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((يؤتى يوم القيامة بالقرآن وأهلَه الذين كانوا يعملون به في الدنيا تَقدُمُهُ سورة البقرة وآل عمران، وضرب لهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أمثال ما نسيتهن بعد قال كأنهما غمامتان أو ظلتان سوداوان بينهما شرق أو كأنهما حزقان من طير صواف تحاجان عن صاحبهما)).
أخرجه مسلم: حديث/ 805، 1/554، والترمذي: حديث/ 2883، 5/160.
(30) عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((أقرأني جبريل على حرف فراجعته ثم لم أزل أستزيده فيزيدني حتى انتهى إلى سبعة أحرف)).
أخرجه البخاري: حديث/ 3047، 3/1177، ومسلم/ 818، 1/561، وابن حبان: حديث/ 737، 3/11، والنسائي في الصغرى: حديث/ 1045.
(31) عن عائشة رضي الله عنها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة والذي يقرأ القرآن وهو يشتد عليه له أجران)).
أخرجه البخاري: حديث/ 4653، 4/1882، ومسلم: حديث/ 798، 1/549، وابن حبان: حديث/ 767، 3/44، والترمذي/ 2904، 5/171، والنسائي في الصغرى: حديث/ 986، 1/542، وأبو داود: حديث: 1453، 2/70، وابن ماجة: حديث/ 3779، 2/1242، وأحمد: حديث/ 24257، والدارمي: حديث/ 3368.
(32) عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من نام عن حزبه أو عن شيء منه فقرأه فيما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر كُتِب له كأنما قرأه من الليل)).
أخرجه مسلم: حديث/ 747، 1/515، وابن حبان: حديث/ 2643، 6/369، والترمذي: حديث/ 581، 2/474 والنسائي في الكبرى: حديث/ 1643، 1/457، وأبو داود: حديث1313، 2/34، وابن ماجة: حديث/ 1343، والدارمي: حديث/ 1477، 1/412.(77/9)
(33) عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - قال: ((قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إقرأ القرآن في شهر، قلت إني لأجد قوة حتى قال: إقرأه في سبع ولا تزد على ذلك)).
أخرجه البخاري: حديث/ 4767، 4/1924، ومسلم: حديث/ 1159، 2/418، وابن حبان: حديث/ 757، 3/34، والنسائي في الصغرى: حديث/ 1035، 1/561، وأبو داود: حديث: 1390، 3/54، وابن ماجة: حديث/ 1346، 1/428، وأحمد: حديث/ 6546، 2/165.
(34) عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - قال، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من قرأ القرآن في أقل من ثلاث لم يفقهه.
أخرجه الترمذي: حديث/ 2946، 5/196، والنسائي في الصغرى: حديث/ 1037، وابن ماجة: حديث/ 1347، 1/428، والبيهقي في شعب الإيمان: حديث/ 2168، 2/394.[صحيح].
(35) عن بن عباس - رضي الله عنهما - قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجود بالخير من الريح المرسلة)).
أخرجه البخاري: حديث/ 6، 1/6، ومسلم: حديث/ 2308، 4/1803، وابن حبان: حديث/ 3440، 8/225، والنسائي في الكبرى: حديث/ 2406، 2/64، وأحمد: حديث/ 2042، 1/230.
(36) عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قرأ قطع آية آية. الحمد لله رب العالمين، ثم يقف، الرحمن الرحيم، ثم يقف، قال بن أبي مليكة: وكانت أم سلمة تقرأها ملك)).
أخرجه الحاكم في المستدرك: حديث/ 2910، 2/252، وأبو داود: حديث/ 4001، 4/37، وأحمد: حديث/ 26625، 6/302، والبيهقي في شعب الإيمان: حديث/ 2587، 2/520. [صحيح].
(37) عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه، والجافي عنه، وإكرام ذي السلطان المقسط)).(77/10)
أخرجه أبو داود: حديث/ 4834، 4/261، والبيهقي في شعب الإيمان: حديث/ 2685، 2/550، والبزار: حديث/ 3070، 8/74، والطبراني في الأوسط: حديث/ 6736، 7/21.
[حسن].
(38) عقبة بن عامر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((سيخرج أقوام من أمتي يشربون القرآن كشربهم اللبن)).
أخرجه الطبراني في الكبير: حديث/ 821، 17/297، والروياني في المسند: حديث/ 249، 1/188. [حسن].
(39) أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((الجدال في القرآن كفر)).
أخرجه أبو داود: حديث/ 4603، 4/199، والحاكم في المستدرك: حديث/ 2803، 2/243، والبيهقي في شعب الإيمان: حديث/ 2256، 2/416. [صحيح].
(40) عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في ثوب واحد ثم يقول: ((أيهم أكثر أخذا للقرآن، فإذا أشير له إلى أحدهما قدمه في اللحد)).
أخرجه البخاري: حديث/1282، 1/452، ومسلم: حديث/ 2296، وابن حبان: حديث/ 3183، 7/456، والترمذي: حديث/ 1036، 3/354، والنسائي: حديث/ 2802، 1/635، وغيرهم.(77/11)
العنوان: إرشادات للأمهات في الأنف والأذن والحنجرة
رقم المقالة: 1970
صاحب المقالة: د. هاشم المشد
-----------------------------------------
• يجب أن تضع الأم رضيعها أثناء الرَّضاعة في وضعٍ مائل، بحيث يكون رأسه أعلى من جسمه، ولا يكون في وضع أُفُقِيٍّ؛ كأنْ تُرْضِعَهُ وهو نائم بجوارها؛ كما تفعل كثيرٌ من الأمهات، وذلك حتى لا يتسرب اللبن إلى الأذن الوسطى مُحْدِثًا التِهَابًا بِها.
• كثيرًا ما يصاب الرضيع بارتفاع في درجة الحرارة وقيء وإسهال، وتُشَخَّصُ الحالة خطأً على أنها نزلة مَعَوِيَّة؛ ولكنَّ الأمَّ قويةَ الملاحظة قد تلاحظ كثرةَ شَدِّ الطفلِ لأذنه، فهو يشير من حيث لا يدري إلى السبب الحقيقي لمرضه، وغالبًا ما يكون ذلك التهابًا بالأذن الوسطى، عندئذ يجب أن تُسرِعَ الأمُّ بعلاجه عند طبيب مختصٍّ.
• إذا لاحظتِ الأمُّ نزولَ سائل صَدِيدِيٍّ منَ الأُذُن –وهو غير الإفراز الشَّمْعِيِّ الطبيعيّ الأصفر أو البُنِّيّ–: يَجِبُ عليها أن تَمنع دُخول الماء إلى الأُذُن عند استحمام الطفل، وذلك بوضع قطعةِ قُطْنٍ مُشَبَّعَةٍ بالزَّيْتِ أو الفازلين في أُذُنِهِ؛ وذلك حتى يتم علاجه.
• عندما يصاب الطفل بنَزيف منَ الأَنْف، على الأمِّ ألا تَنْزَعِجَ؛ لأنه في كثير من الأحيان يكون الأمر بسيطًا، ولا يدعو للقلق، ولكنها تسارع فتُجْلِسُ الطفل في وضعٍ يكون رأسُهُ لأعلى ووجهُهُ لأسفلَ (مثل وضع التشهُّد في الصلاة مثلاً) ولا تجعله ينام على ظَهْرِهِ؛ كما تفعل بعضُ الأمهات، ثم تضع قطعةً منَ القُطْنِ في الفتحة التي ينزل منها الدمُ، وتضغط بأصابعها برِفْق على الأنف من الخارج لمدة 3 – 5 دقائق حتى يقف النَّزِيف، ولا مانع من استخدام كَمَّادَاتٍ باردة على رأسه.
• كثيرٌ منَ الأطفال يُدْخِلون بعضَ الأجسام الغريبة في آذانهم، أو أُنُوفِهِمْ، أو حتى يَبتلِعون هذه الأجسامَ، وهذا يحتاج إلى بعض العناية من الأم كالتالي:(78/1)
1 – بالنسبة للأنف غالبًا تكون حَبُّة فُول أو قطعة أَسْتِيكَة، وعلى الأمِّ أن تضع قليلاً من الشَّطَّة أمام أَنْف صغيرها؛ حتى إذا همَّ بالعَطْسِ تضغط على فَتْحَةِ الأنف الأخرى؛ فيندفع الجسم الغريب من الأنف مع تيار الهواء.
2 - بالنسبة للأشياء الَّتي يَبتلِعُها الطفل وتكون عادة عُمْلَةً مَعْدِنِيَّة، عليها أن تسارع بإمساك الطفل من قدميه ورأسه لأسفل، وتضرب بخفة على ظهره، فربما يندفع الجسم إلى الخارج.
3 – بالنسبة للأجسام الغريبة في الأُذُن، أو في حالة فشل المحاولات السابقة على الأمِّ أن تَعْرِضَ الطفل على مُخْتَصٍّ، ولا تحاول إخراجَها بنفسها؛ لأنها غالبًا سوف تدفعها أكثر إلى الداخل.
• قد يُولَدُ قليلٌ - ولله الحمد - من الأطفال بعيوب تَخْلِيقِيَّة تَستَلْزِمُ التدخُّلَ الطِّبي، ولأهمية توقيت بدء العلاج نَلْفِتُ نَظَرَ الأمهات إلى أكثرها شُيُوعًا وتأثيرًا على صحة الصغير:
1 - الشَّفَة الأَرْنَبِيَّة: تُجْرَى عملية جراحية لإصلاحها في الشهر الثالث، وإذا كانت مصحوبةً بشَقٍّ في سَقْف الفمِ، فيجِبُ علاجُهُ في الشهر الثامِنَ عَشَرَ؛ وذلك ليَتَمَكَّنَ الطفل منَ النُّطْقِ السليم، والذي غالبًا ما يبدأ في هذا السن، وإلى أن يتمَّ العلاج يجب إرضاع الطفل باستخدام قطارة.
2 - نَقْص السَّمْعِ: مشكلة خطيرة يجب على الأم اكتشافها وعلاجُها مبكرًا؛ حتى لا تُؤَثِّرَ على سلامة نُطْقِ الصغير، وهُناك بعض الأشياء التي قد يؤدِّي حدوثُها إلى هذا النقص، ومن ثَمَّ تساعد الأمُّ على اكتشافه أو على الأقل توقُّع حدوثه، منها: زواج الأقارب، طول مدة الولادة، واستخدام الجِفْت أو الشَّفَّاطِ، تَغَيُّر لون الوليد إلى الزُّرْقَة، إصابته بالحُمَّى الشَّوْكِيَّة أوِ الصَّفْرَاءِ، استخدام بعض المضادات الحيوية مثل (الجاراميسين) لمدد طويلة.(78/2)
فإن تأكدتِ الأمُّ، أو حتى شَكَّتْ في أن صغيرها، يُعانِي من نَقْصِ السمع، فعليها أن تبادر بعَرْضه على الطبيب المختصِّ، وعلاجِهِ إمَّا طِبِّيًّا أو جِرَاحيًّا، أو باستخدام السَّمَّاعة، وهذه الأخيرة يجب على الأمِّ ألاَّ تَسْتَنْكِفَ منَ استخدام ابنِها أو ابنتها للسَّمَّاعة؛ لأنها مثل النظارة تمامًا، تُكَبِّر الصوت؛ كما أن هذه تُكَبِّر الصورة، ولأن هذا –نقصد نقص السمع– من قضاء الله الذي من صَمِيمِ الإيمان الرضا به، ومن غير شكٍّ فإنَّ الطفل الذي يسمع ولو باستخدام السَّمَّاعَةِ أحسنُ حالاً من الذي لا يَسمع، ومن ثَمَّ لا يَنطق!!
ثم نصيحة أخيرة، تستطيع كل أمٍّ حمايةَ صغارها –بل والكبار– من متاعبَ كثيرةٍ في الأَنْف، والجُيُوب الأَنْفِيَّة، إذا التزموا بهَدْيِ الإسلام في الوضوء، وذلك بغَسْل الأَنْفِ ثلاثَ مرَّات، والمبالَغَةِ في إدخال الماء ثم استنثاره بقُوَّة فيخرج الماء من الأَنْفِ مُحَمَّلاً بما قد يوجَدُ في الأَنْفِ من أَتْرِبَةٍ وجَرَاثِيمَ.(78/3)
العنوان: إِرَمُ اللُّغاتِ
رقم المقالة: 107
صاحب المقالة: مطيع الببيلي
-----------------------------------------
العَبْقَريَّةُ حُلَّةٌ بَرّاقَةٌ ماسَتْ بها يومَ الفَخارِ الضادُ
هيَ رَبَّةُ الحُسْنِ التي ما مِثْلُها بينَ اللغاتِ وإنْ أبى الحسّادُ
تهفو القلوبُ إلى صَباحةِ وَجْهِها شَغَفًا وتَغْبِطُ عيدَها الأعيادُ
إن تُدْعَ سيّدةَ اللغاتِ فقِسْمَةٌ من قبلِ أن تَلْقى العَواديَ عادُ
الطُّهْرُ في الأنسابِ بعضُ جَمالها والسِّحْرُ سائرهُ فكيفَ تُكادُ!
يقفُ الفَناءُ أَمامَها مستخذِيًا وتَلُمُّ آلةَ حَرْبِها الأَحقادُ
ويَبوءُ بالخِذْلانِ من يَبْني لها شَرَكًا، وتَحبِسُ أهلَه الأَصفادُ
ويَبيتُ حاسِدُها يُحرِّقُ قلبَه بالغيظِ، فهيَ النارُ وهوَ رمادُ
اللهُ صاغَ لمَجْدِها قرآنَهُ فأَضاءَ مِشْعَلُ قُدْسِها الوَقَّادُ
فهيَ الإطارُ له على إعجازِهِ وهو الوسامُ لصَدْرِها يَنْقادُ
هي خَمْرَةٌ لا غَوْلَ فيها صانَها ذُخْرًا بآنيةِ الزَمانِ مِدادُ
أَسْماءُ آدمَ وطَّدَتْ أركانَها فتَلَقَّفَتْ آياتِها الأَحفادُ
ودَعا لها نوحٌ دُعاءَ متيَّمٍ حتى رعَتْها العُصْبَةُ الأَنْجادُ
باتَتْ على ظهرِ السفينةِ ليلةً وسَميرُها الإبْراقُ والإرْعادُ
ثم استبى عربَ الجزيرة حُسْنُها فَحَنَتْ عليها منهمُ أكبادُ
ومضَتْ على أهلِ الفصاحة حِقْبَةٌ وشَرابهُمْ منها ومنها الزادُ
تَلِدُ العواصفَ إن طغى بُرْكانُها وتُلِينُ قلبَ الصَّخْرِ وهو جَمادُ
ويَتيهُ عُجْبًا بالمدَائحِ أَهْلُها وتثورُ خوفَ هجائها الآسادُ
فإذا شَدَتْ بعُكاظَ فهي ملاحمٌ وإذا بدَتْ في (الرُبْع) فهيَ عِهادُ
وإذا سَباها الوَجْدُ فهي فراشَةٌ وإذا دَعاها المَجْدُ فهي جَوادُ
والمُذْهَباتُ مآثرٌ منشورةٌ فخَرَتْ بها في الكعبةِ القُصّادُ
ثم استقرَّتْ في ضميرِ محمّدٍ والزَّيْتُ في مِشكاتِها مَدّادُ
اللَّفْظُ نورٌ والمقاطِعُ حكمةٌ وشذَا البيَانِ رفيقُها المعتادُ(79/1)
يغزو البلادَ معَ السُيوف بَيانُها فيَفُوقُ فِعْلَ البِيضِ وهي حِدادُ
وتفَتَّحتْ فيها العلومُ نضيرةً أَزهارَ حُسْنٍ ما لهنَّ نفَادُ
إن شُبّهَتْ بالبَحْرِ في أحشائِه دُرَرٌ يَشُوفُ بهاءَها النُّقَّادُ
فلكَمْ أَطافَ بشاطِئَيْها باحثٌ ومَضى يُغازلُ كنزَها صَيّادُ
ولكَمْ تقَحَّمَ مَوْجَها متقحِّمٌ وأقامَ يَسْبُرُ غَوْرَها مُرْتادُ
ولكَمْ تَوَشَّحَ نَثْرَها مُتأنِّقٌ وأجَادَ نَظْمًا شاعرٌ مِجْوادُ
أَرْسى بأَوْكارِ النسور لِواؤُها وعَنَتْ لبُعْدِ خيَالِها الأَبْعادُ
إِرَمُ اللغاتِ فليسَ يُخْلَقُ مِثْلُها شَهِدَتْ بذلك أَلْسُنٌ وبلادُ
فَبِناؤها الصَّرْحُ الممرَّدُ رِفْعَةً وحُروفُها – أَفْدي الشُموخَ! – عِمادُ(79/2)
العنوان: أزمة الإيدز في ليبيا .. بين السياسة والقضاء
رقم المقالة: 988
صاحب المقالة: معمر الخليل
-----------------------------------------
مع القرار الجديد بتأجيل النطق بالحكم حول قضية الإيدز في المستشفيات الليبية، تكونُ المحكمةُ الليبية في طرابلس قد خطَتْ خطوةً جديدة في سبيل تسوية "سياسية" قد تنتهي بإطلاق سراح المعتقلين البلغار، بالإضافة إلى المتهم الفلسطيني، الذي حصل مؤخراً على الجنسية البلغارية!!
وإذا كانت طرابلس قد اضطُرت أخيراً - بعد سنوات من الحصار الأمريكي العالمي عليها على إثر قضية "لوكربي" – إلى دفعِ مبالغَ مالية تقدر بنحو 2.7 مليار دولار (بواقع 10 ملايين دولار لكل قتيل)، مع اعترافها رسمياً بمسؤوليتها عن العملية، فمن الواضح أنها ستقبل تسوية أقل بآلاف الأضعاف، ربما لن يجني منها ذوو الأطفال المصابين بالإيدز سوى القليل.
فكيف بدأت القضية؟ وكيف اختارت لها القيادة الليبية أن تنتهي؟
أطفال تحت رحمة الإيدز:
في مطلع عام 1999، وبعد انتشار ملحوظ لمرض الإيدز لدى الأطفال الذين زاروا مستشفى الفاتح للأطفال شمال بنغازي، قبضت الأجهزة الأمنية الليبية على مجموعة من الأطباء والممرضين، الذين وُجهت لهم تُهم نشر مرض نقص المناعة المكتسبة (الإيدز) - عن طريق القصد - لمئات الأطفال في تلك المستشفى.
القضية كانت مفاجئة للرأي العام المحلي، والعالمي أيضاً؛ لأن المتهمين جميعهم من جنسيات أخرى غير ليبية، فهم طبيب فلسطيني الجنسية، مقيم للعمل في ليبيا، وطبيب وخمس ممرضات بلغار.(80/1)
وربما بسبب كبر القضية وحساسيتها، في وقت كانت فيه ليبيا ترزح تحت الحصار الأمريكي والغربي على خلفية أحداث تفجير طائرة أمريكية فوق "لوكربي" الأسكتلندية، فقد تأجلت أول جلسة للحكم أكثر من عامين كاملين، زار خلالهما وزيرُ العدل آنذاك (تيودوسي سيميونوف) والمدعي العام (نيكولا فيلشيف) طرابلسَ، للنظر في الموضوع، ونقل ما وصفته الصحافة الليبية بـ"التماس" من الرئيس البلغاري آنذاك (بيتور ستويانوف) بتأجيل المحاكمة، والتي كان من المقرر لها أن تعقد في فبراير 2000م، بعد أن كان نحو 13 طفلاً ليبيّاً قد لقُوا حتفهم بسبب المرض! إذ تأجلت إلى شهر إبريل اللاحق.
ولم تكف الصفحات الألف والست مئة التي قدمها الادعاءُ في إجراء الجلسة الأولى للمحاكمة بتاريخها الجديد (إبريل 2000م)!. وفي ذلك الوقت، كان قد توفي أكثر من 20 طفلاً بسبب المرض من أصل نحو 430 طفل مصاب. قبل أن تؤجل لشهر يونيو 2001، إذ شهد اليوم الأول من هذا الشهر انعقادَ أول جلسة محاكمة في محكمة الشعب المختصة بقضايا الأمن القومي.
وخلال جلسة المحاكمة، حاول المتهمون الدفاع عن أنفسهم، مدعين أنهم "أرغموا على الاعتراف بالمسؤولية عن إصابة الأطفال بالإيدز"، مضيفين أنهم "عذبوا بالصدمات الكهربائية للاعتراف"!!
ولم يكتف المتهمون بالدفع بالبراءة، بل أعلنت الحكومة البلغارية أن رعاياها أبرياء!!
وقد شهدت المحاكمة - التي استمرت 4 ساعات - الكثيرَ من اللغط والاتهامات المتبادلة، قبل أن تؤجل المحكمة موعد جلستها إلى تاريخ 16 من الشهر نفسه، في وقت شهدت فيه العلاقات بين ليبيا وبلغاريا أزمة سياسية؛ كانت تشير إلى أن القضية قد لا تحل إلا بالسياسة!
سنوات المحاكمة والتأرجح:(80/2)
بعد جَلَسَات من المحاكمة، كان من المفترض أن تعلن المحكمة الليبية قراراً بالحكم على المتهمين البلغار والطبيب الفلسطيني، ونحو 9 ليبيين أيضا متهمين بنفس القضية، وحددت المحكمة تاريخ 22 من ديسمبر 2001، إلا أن القاضي طلب وقتاً إضافياً لدراسة الأدلة، مرجئاً الحكم لشهرين آخرين.
ولم يكن من السهل الوصول إلى نتيجة مؤكدة، خاصة مع استمرار رفض المتهمين التهم الموجهة إليهم، في حين دافع المحامي بأن نقل الفيروس كان بسبب الإهمال في المستشفى وعدم النظافة وإعادة استخدام الحقن بين المراجعين!
على أنه لم تكن التهم الموجهة للممرضات تقتصر على مسألة "نشر الإيدز بين الأطفال الليبيين" بل شملت "التآمر مع جهات غربية لزعزعة أمن ليبيا، وشرب الكحول والتورط في الخيانة الزوجية".
وخلال جلسة النطق بالحكم، تفاجأ المتابعون للمحكمة، بحكم المحكمة بـ"عدم وجود أدلة تشير إلى تآمر المتهمين مع جهات غربية" محيلة القضية إلى محكمة الجنايات. لتبدأ رحلة جديدة في محكمة جديدة، كان أبرز ما فيها أن القضية ابتعدت قليلاً عن اللعبة السياسية فيما يبدو، مع أنها كانت تسير بشكل أكبر نحوه في الخفاء؛ خاصة وأن السلطات البلغارية استنجدت بمساعدة "مؤسسة القذافي الخيرية" التي يرأسها نجل الزعيم الليبي، والتي قيل آنذاك: "إن حالة المتهمين تتحسن وكذلك الظروف الذين يحتجزون فيها". في وقت تشهد فيه ليبيا مزيداً من الإشارات إلى تولي نجل القذافي الحكم بعده!
كما أن دخول طبيب فرنسي على خط اللعبة القضائية، أشار إلى وجود أطراف دولية فيها، حيث ادعى الطبيب الفرنسي لوك مونتانيي (الذي كلفته الحكومة البلغارية ببحث القضية بشكل مستقل) - الذي توصل لعزل فيروس الإيدز لأول مرة - خلال عام 2003 أن عدوى الإيدز التي تفشت في مستشفى بليبيا سببها نقص النظافة والعناية الصحية، وليس إهمال الموظفين الصحيين السبعة الذين يحاكمون حاليا بتهمة النشر المتعمد للمرض.(80/3)
وقال الدكتور مونتانيي: "إن العدوى قد بدأت بالفعل في المستشفى قبل عمل هؤلاء المتهمين فيها، ثم استمرت في الانتشار بعد القبض عليهم".
كما أشار دبلوماسيون غربيون في تلك المدة إلى أن الدعوى قد تكون وسيلة لتحويل الأنظار عن الحالة المزرية للمستشفيات الحكومية الليبية، حسب قولهم. في حين نقلت شبكة البي بي سي في خبر لها بتاريخ 4 من سبتمبر 2003، عن مراسليها قولهم: "إنه ثمة احتمالات بأن ليبيا ربما تهدُف من وراء هذه الدعوى إلى الضغط على بلغاريا لتلغي ديون ليبيا التي تقدر بنحو 300 مليون دولار أمريكي"!!
التسويات.. لعبة ليبية بامتياز:
القضية التي بقيت في المحاكم الليبية عدة سنوات، ألقت بظلالها على العلاقات الليبية الخارجية، ليس فقط فيما يتعلق ببلغاريا والولايات المتحدة ودول أوروبا، بل بمنظمات حقوق الإنسان، خاصة وأن الممرضات البلغاريات كن يدعين على الدوام أنهن أخضعن للتعذيب لإجبارهن على الاعتراف.
وفي وقت كان فيه الرئيس الليبي (معمر القذافي) يقارع الدول الغربية وأمريكا، وجد في هذه القضية مطية جديدة للحديث عن "محاولات أمريكية إسرائيلية لزعزعة أمن واستقرار ليبيا" مؤكداً بين الحين والآخر أن إدخال فيروس الإيدز في الأطفال الليبيين تم بأيدي إسرائيلية أمريكية، وتحديداً بأيدي الاستخبارات المركزية والموساد.
إلا أن القضية نحت منحىً آخر، عندما أذعنت ليبيا للضغوط الخارجية، وخاصة الأمريكية منها، حول أزمة لوكربي، التي أدى انفجار الطائرة فيها إلى مقتل 270 شخص، بينهم أمريكيون، عام 1988.
فقد وافقت طرابلس على دفع مبلغ تعويض مُبالَغ فيه قدره 10 ملايين دولار لكل فرد قتل في الطائرة تسلم لأسرته، بعد أن أعلنت ليبيا مسؤوليتها المباشرة عن خطف وتفجير الطائرة.
واشترط القذافي أن يتم فك الحصار المفروض على ليبيا، مقابل إرسال المبالغ، التي استمر تحويل الجزء الأكبر منها يومين، بسبب ضخامته.(80/4)
مع العلم بأن مشروع القرار الذي ينص على فك الحصار المفروض على ليبيا في ذلك العام، تم تقديمه من قبل بلغاريا وبريطانيا؛ الأمر الذي يثبت أن موضوع الطبيب والممرضات البلغار بات سياسياً بالدرجة الأولى.
التسوية تمت بالفعل، وقررت الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي رفع الحصار عن ليبيا، برغم أن ليبيا لم تدفع كامل المبلغ تماماً.
تسوية أخرى كانت تتم بالخفاء بعد تلك الأحداث، وهي تسوية تتعلق باليهود الليبيين الذين خرجوا من ليبيا خلال حرب عام 1967، واتجهوا نحو أوروبا؛ إذ كشفت مصادر إعلامية عن استقبال العقيد (معمر القذافي) لمجموعات من يهود إيطاليا، كانوا قد خرجوا من ليبيا وقت حرب 67، قبل أن تقوم الحكومة الليبية بوضع يدها على أملاكهم.
وسوغ القذافي ذلك بقوله: "يجب أن نفرق بين اليهود والصهاينة، ولذلك فإن اليهود الذين كانوا في ليبيا وصودرت ممتلكاتهم بشكل غير عادل (!!) يجب تعويضهم، .. أما اليهود الذين استولوا على ممتلكات الفلسطينيين في إسرائيل فلا يستحقون أي تعويض"!
وقد وافق القذافي بالفعل على تعويض اليهود الذين تركوا ليبيا، والذين يقدر عددهم بنحو 6 آلاف يهودي، في حين وصفت المصادرُ الغربية خطوةَ القذافي المفاجئة بأنها "تحول إيجابي جديد في سياسة ليبيا"!
وخلال تلك المدة، فاجأت ليبيا العالمَ أيضاً بتسوية جديدة، أعلنت خلالها عن وقف برامجها النووية السرية، وفتح منشآتها أمام الولايات المتحدة والأمم المتحدة، والإذعان لمطالب واشنطن بشكل مباشر ودون شروط مسبقة، على أمل أن يرفع البيت الأبيض الحظر الأمريكي المفروض على ليبيا، والذي ماطلت فيه واشنطن عدة سنوات.
بعد ذلك استحق القذافي أن يكون لاعباً ماهراً في قضية التسويات بامتياز، لذلك فقد بدأ بإطلاق سلسلة من الشروط، التي يمكن أن تكون أساساً لتسوية سياسية ودبلوماسية كاملة، حول قضية المعتقلين البلغار.(80/5)
ويعلِّقُ أحد الصحفيين الغربيين بقوله: "يبدو أن القذافي قرر الاستفادة من أوضاع مئات العائلات الليبية، وتحريك الموضوع لمصالح شخصية".
وكان الحديث يدور آنذاك حول التسوية التي أعلنها المدعي المدني في قضية الإيدز، والتي قال فيها: "إنه يطالب بدفع تعويضات قيمتها 10 ملايين دولار لكل طفل ليبي مصاب بالإيدز"، وذلك بعد أن خضعت طرابلس للابتزاز، ودفعت تعوضيا مماثلا لكل عائلة قتيل في لوكربي.
وهذه التسوية جاءت بعد أن طالب الادعاء العام الليبي، خلال جلسة المحاكمة في سبتمبر 2003، أن يتم "إعدام" البلغار الستة. وفي العالم التالي (مايو 2004) أعلنت المحكمة حكمها المبدئي، بإعدام الممرضات البلغاريات والطبيب الفلسطيني، رمياً بالرصاص، وسجن الطبيب البلغاري 4 سنوات، ليبدأ فصل جديد من فصول التسوية السياسية.
هل تخرب السياسية القضاء أم تصلحه؟!
كان من الواضح أن الأزمة المتعلقة بالطبيب والممرضات البلغار ستتجه نحو الحل السياسي أكثر من القضائي، لذلك فقد ذهبت المحكمة الليبية إلى أقصى درجات الحكم، لتترك أكبر مساحة ممكنة للدبلوماسية الليبية كي تتحرك بموجبها، وتحاول من خلالها الحصول على مكاسب، في وقت كانت تعمل فيه بجد واجتهاد للخروج من العزلة الدولية، وإجراء مصالحة مع الدول الغربية.
ولم يخْفَ الأمر على الطرف الآخر، الذي تمثل بداية ببلغاريا، إذ قال ديميتار تسونيف (المتحدث باسم الحكومة البلغارية): "إن الحكومة ستبذل قصارى جهدها لحشد المجتمع الدولي، والاتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة للحصول على حكم عادل من محكمة أخرى".
أما أوجنيان جيردجيكوف (رئيس البرلمان البلغاري)، فقد ذهب إلى أكثر من ذلك، مبدياً توقعات سياسية بالدرجة الأولى؛ إذ قال: "إنه واثق أن أحكام الإعدام لن تنفذ"، وأضاف : "أتوقع أن يتصرف القذافي بطريقة إنسانية للفوز بهدف سياسي معين هو بحاجة إليه أمام الرأي العام"!(80/6)
وعلى الفور، تحرّك الاتحاد الأوروبي لمساندة بلغاريا، وذلك جعل القضية تخرج تماماً عن المسار القضائي، حيث دعا رومانو برودي (رئيس المفوضية الأوروبية آنذاك) القذافي الذي كان في زيارة تاريخية لأوروبا إلى إعادة النظر في الحكم. وقال: "إن المفوضية الأوروبية مشغولة للغاية ومستاءة تماما من حكم المحكمة".
في حين قال كريس باتن (مفوض الشؤون الخارجية بالاتحاد الأوروبي آنذاك): "إن تلك الأنباء ستلقي بظلال على علاقة كنا نأمُل أن تتحسن".
كما كانت الولايات المتحدة موجودة دائماً على الخط الساخن للأزمة، إذ نددت على الفور بالحكم الليبي، مطالِبةً بإعادة المحاكمة، التي وصفتها بغير العادلة.
وقد نشطت الدبلوماسية الليبية خلال الأعوام اللاحقة؛ لضمان الحصول على أكبر قدر ممكن من التعويضات، أو الامتيازات، وهو ما فسَّره وزير الخارجية الليبي (عبد الرحمن شلقم) بالقول: "إذا تم تعويض الضحايا فإنه قد يتم مراجعة الأحكام".
وقد ساعد رفع العقوبات الأمريكية عن ليبيا في سبتمبر 2004، والدعم الدبلوماسي الذي حصلت عليه طرابلس من بعض دول أوروبا، وخاصة التوصل لاتفاق بين ليبيا وبلغاريا على إنشاء صندوق لتعويض عائلات الأطفال المرضى، ساعد كل ذلك على إحراز تقدم حول قضية الإيدز، إذ قضت المحكمة الليبية العليا، في أواخر عام 2005، بإلغاء أحكام الإعدام، وإحالة القضية مجدداً أمام محكمة عادية. وهذا قد أساء لمئات العائلات الليبية، التي باتت مطية للعبة سياسية خارجية، في وقت وصل فيه عدد الأطفال الذين ماتوا بسبب الإيدز إلى أكثر من 50 طفلاً.(80/7)
إلا أن استمرار واشنطن في وضع اسم ليبيا على قائمة الدول الراعية لما يوصف (بالإرهاب)، وعدم التوصل لتمثيل دبلوماسي كامل بين البلدين، وعدم دعم الاتحاد الأوروبي لمبادرات ليبيا العربية أو الإفريقية، وعدم التوصل لصيغة نهائية حول صندوق التعويضات للأطفال المرضى، حدا بالقضاء الليبي إلى ممارسة ضغط سياسي أكبر، حيث طالب الادعاء الليبي في المحاكمة التي جرت في محكمة الجنايات بتاريخ 29 من أغسطس 2006، بإعدام الممرضات البلغاريات والطبيب الفلسطيني. وذلك أثار من جديد الأزمةَ دولياً، وبادرت عدة دول لحل هذه القضية، والخروج بتسوية عادلة، كما تم تحريك ملف صندوق تعويضات الأطفال، الذي دَعَمَه الاتحادُ الأوروبي، فيما تنامت الانتقادات الدولية لليبيا، وخرجت مظاهرة في بلغاريا للتنديد بالحكم، الأمر الذي بدا فيه الموقف الليبي أكثر حساسية.
وخلال الأشهر اللاحقة، تم تأجيل النطق بالحكم النهائي على الممرضات البلغاريات، والطبيب الفلسطيني، الذي قدمت له بلغاريا الجنسية البلغارية؛ كي تضمن دخوله في أية صفقة سياسية بين البلدين!!
وفي حين كانت الأمور القضائية تتجه للخروج من القضية بحكم نهائي، بتحديد موعد 20 من يونيو الحالي، موعداً لإطلاق الحكم، كانت المباحثات السياسية لا تزال مستمرة، بين ليبيا وبلغاريا، وأطراف أمريكية أوروبية أدت دوراً تجارياً في إتمام صفقة التعويضات. لذلك تم تأجيل الحكم مرة أخرى إلى موعد 11 من يوليو القادم، وهو ما أعطى الدبلوماسية الليبية زمناً إضافياً، ربما للتوصل لتسوية نهائية.(80/8)
وأمام هذا التأجيل الأخير، سيكون على القضاء الليبي الوقوف رهن إشارة السياسة الخارجية، فإن تمت التسوية بالفعل، فإن الحكم سيكون بإطلاق سراح البلغار (بما فيهم الفلسطيني) أو تخفيف الحكم، وإلا، فإن الإعدام سيكون مصيرهم، وذلك قد يدخل ليبيا في أزمة سياسية طويلة الأجل، قد تلقي بظلالها على العلاقات مع أوروبا لسنوات عديدة، وهو الأمر الذي لن ترغب فيه ليبيا أبداً.(80/9)
العنوان: أزمةُ الثقة في أمريكا والغرب.. نظرةٌ فكرية
رقم المقالة: 1522
صاحب المقالة: د. أسامة عثمان
-----------------------------------------
تكشفُ أزمةُ الولايات المتحدة في العراق عن أزمةٍ أعمقَ في بنية المجتمع الأمريكي خاصة والغربية عامة، تلكم هي أزمةُ الثقة، ولعلها قد تصاعدت دلائلُها لدى إدلاء بتريوس وروكر بشهادتيهما أمام الكونغرس، وليست محصورة في السياسة، بل إنها تكاد تطغى على المجتمع كله، من السياسة إلى الإعلام، حتى الرياضة التي أصبح جمهورُها في الولايات المتحدة وأوربا يتوصل إلى نتيجة مفادها أن الأداء الرياضي المتميز لا يمكن أن يحدث لولا الاستعانة بعقاقير منشطة، وهذا الامتداد في الظاهرة يَشِي بوجود أزمة لها جذور فكرية في بنية المجتمعات الغربية.
ففي العراق يشعرُ الجنودُ الأمريكيون بالإنهاك، وتتزعزع ثقتهم بقيادتهم السياسية؛ فيضعف إيمانهم بالمعركة، وتنخفض لديهم الروح القتالية المتواضعة أصلا.
والشعب الأمريكي تنخفض ثقته بالإدارة الحالية إلى أدنى مستوياتها؛ بسبب ما تكشَّف من كذب الدعاوى التي ساقتها تلك الإدارةُ لتسويغ الحرب، وبسبب عدم رؤية نجاحات ملموسة وثابتة في العراق.
وقد كشفت دراسةٌ حديثة أجراها مركزُ البحوث (بيو) أن أكثرَ من نصف الأمريكيين يرون أن وسائل إعلامهم تقدم أخبارًا غيرَ دقيقةٍ وموجهةً سياسيا. وقال المركز: "إن موقف الجمهور من عمل وسائل الإعلام كان أقل سلبية قبل عقدين".
والسؤال: ما الأسباب الفكرية لتلك الأزمة؟
في الفكر السياسي الغربي يندر أن يعد الكذبُ والتضليلُ مرضًا يجب علاجُه، ولا يمكن أن يعد كذب الساسة الغربيين أمرًا غير مألوف، ولا نبالغ إذا قلنا: إن العكس هو الصحيح.(81/1)
في الكثير من البلدان الأوربية وفي بريطانيا وأمريكا صدرت كتبٌ وكتابات فيها الرغبةُ في فضح الأكاذيب؛ مثل كتاب "أسلحة الخداع الشامل"، وهو كتاب يكشف عن دعوة كبار المسؤولين في إدارة بوش لاحتلال العراق حتى قبل أن يتولى بوش منصبه، لكنهم انتظروا حتى سبتمبر 2002 لإعلام الجمهور بذلك، من خلال ما سماه البيت الأبيض "جرح المنتج".
ويبين كيف استخدم موظفو البيت الأبيض التضليل لخلق الانطباع الخاطئ بأن العراق يقف خلف هجمات 11 سبتمبر.
ويتناول الوثائقَ المزورة والخُدع التي تزعم بأن العراق يملك مخزونًا احتياطيًا هائلا من الأسلحة المحرمة.
ويُظهر الكتابُ تواطؤَ وسائل الإعلام الأمريكية التي اشتركت في الدعاية والرقابة، وكررت دون تمحيص رسائلَ البيت الأبيض.
كتاب (أسلحة الخداع الشامل) يقول: إن شركات العلاقات العامة التي تتعاقد مع الحكومة الأمريكية هي التي تدير جزءًا كبيرًا من السياسة الأمريكية، وإن هذه الشركات أدت دورًا كبيرا في حرب أفغانستان وحرب العراق وحرب الإرهاب، وإنها كانت تدير المعارضة العراقية في الخارج.
وهذه الخدع والأكاذيب -التي ما انفكت تتكشف- تضربُ موطنَ ثقة الشعب الأمريكي والبريطاني خاصة بساستهم ووسائل إعلامهم؛ لأنها تستغفله، مستغلةً إيمانَه بقيم معينة، ومعتمدة على مخاوف اصطنعتها إدارةُ الحرب المبيتة، وآزرتها وسائلُ إعلامٍ كان من المفترض أن تكون مصدرًا نزيهًا للمعلومة.(81/2)
وفي هذا السياق يختم جيم هوغلاند مقالته: "بين الرياضة والسياسة: صيف الشكوك والتشكيك" في الـ"واشنطن بوست" بالقول: "الدول التي تعاني الاستقطاب العميق، وتخصص قدرًا كبيرًا من زمنها وطاقتها في تعقب ومحاكمة المجرم الحقيقي وكبش الفداء على حد سواء، تدفع ثمنًا جماعيًا باهظًا. هذه الدول تنحدر بسهولة إلى اليأس والاستياء اللذين يقودان في نهاية الأمر إلى دمار أوسع. سيفعل الأمريكيون خيرًا إذا فكروا في هذا الأمر مليًا خلال صيف يتسم بالتشكيك والانقسام."
أزمة الثقة من أزمة المبدأ والفكرة:
ولا نتعجل إن قلنا: إن طغيان القيمة المادية على المجتمع والأفراد سيُفضي بالضرورة إلى الاستماتة في تحقيقها، بعيدًا عن التقيد بالقيمة الخلقية، أو الإنسانية، إلا ما شذ وندر.
ولا ملاذ لهم في الفكر اللبرالي واقتصادات السوق؛ لأنها هي المسؤولة عن تلك الإفرازات الشاقة والقاسية.
لقد كان من العجيب أن تتساوق الفكرةُ الرأسمالية مع الشح الذي رُكِّب في النفس الإنسانية، وهو المفضي إلى تغليب التنازع والأَثَرة على الوفاق والإيثار، بدلا من العمل على الوقاية منه: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9]؛ فما مسوِّغُ هذا المبدأ إذن؟! والإنسان إن تركته من غير تهذيب ولا توجيه مال إلى الاستئثار بالملك.(81/3)
لقد ارتفع صوتُ الشكوى والاحتجاج من تلك القيم التي جعلت العالم أكثرَ شقاءً، ابتداء بالحركات الجماهيرية، ومنها المناهضةُ للعولمة حتى رؤساء تلك الدول، أصحاب القرارات العليا، والقائمون على رعاية تلك الأنظمة والقيم، ولعل آخرَها ما حمله خطابُ ساركوزي أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة من نبرة اعتراف بصعوبة الاستمرار على هذه الوتيرة التي تظلم الغالبية في توزيع الثروة. وقد تكون تلك الأقوال غير بريئة من دولة هي في صميم النظام الرأسمالي العالمي، إنما لها مآرب سياسية، ليس أقلها الظهور بالمظهر الإنساني الذي تفتقده أمريكا بالتأكيد هذه الأيام، ثم السعي نحو إعادة بعض المكانة المفقودة للأمم المتحدة التي تجاوزتها أمريكا، وتركتها جانبًا.
إن الشعور بزعزعة الثقة قد وصل إلى كبارٍ في السياسة والفكر، ووصل إلى الحالة العامة داخليًا وخارجيا.
ولا يُمكِن الباحثَ في السياسات الغربية والطبائع والممارسات السائدة أن يعزل ذلك عن نظريات فكرية راجت، وما تزال تلقي بظلها على الجميع، وإن بِتفاوتٍ، إذ هي البنية العميقة الغالبة.
ومن تلك النظريات العلمية التي لها بُعدُها الاجتماعي نظرية داروِن (النشوء والارتقاء)، و(البقاء للأقوى)، وهي تقود إلى قياس الإنسان المفكر على البهائم المدفوعة بالغريزة فقط، والأدهى أنهم يجعلون العقل في خدمة الغريزة، ويصدق عليهم قوله تعالى: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان: 44].
لقد كانت الدراوِنيةُ الاجتماعية -كما يقول بعضهم- في ذلك الوقت كفَّارةً لضمير الإنسانية المتعب؛ إذ قُدِّمت على أنها قانون الطبيعة الذي لا محيد عنه. كان سبنسر -الفيلسوف البريطاني الذي سبق داروين في مصطلح البقاء للأصلح- يمتلك علاقاتٍ وثيقةً مع كبار الرأسماليين في عصره، الذين تلقفوا أفكاره ورحبوا بها.(81/4)
ولنتصور كيف سيكون شعورُ الإنسان تجاه أخيه الإنسان في مجتمع لا اعتبار فيه إلا للقوة التي لا ترحم، ولا تراعي أية قيمة سوى القيمة المادية.
إن المسألة هي: هل نختار أن تكون العلاقاتُ الإنسانية قائمةً على الصراع؟ أو على التعاون؟ وأيهما أفيد حتى للإنتاج والتطور؟
أن توقظ في النفوس غريزةَ البقاء التي تنتج الصراعات التي تنمو في جو الجشع والرغبة الجامحة في التملك والاستهلاك؛ بما يعني العدوانية والكراهية والحسد وعدم الثقة.
أو توقظ فيهم غريزةَ النوع الإنساني المفضية إلى الشعور الإنساني العام؟! بما تعنيه من مراعاة الفئات القاصرة والضعيفة في التشريعات والقيم... وليس الأمر كما حاولوا الإيهام؛ أنه قانون الطبيعة الذي لا محيد عنه!! فالأوضاع الاجتماعية والسياسية مشروطة، لا محتومة؛ فهي نتيجة سلسلة من الخيارات التاريخية التي صاغها أبناء البشر؛ لا أنها طبيعة قدرها الله؛ فلا ترد.
وتلك مجتمعاتٌ أخرى، وعلى رأسها الإسلامي، لم تتوحشْ، ولم تستحوذْ عليها القيمةُ المادية والصراع، اللهم إلا تلك المتأخرة التي تأثرت، أو خضعت لاقتصاد الغرب وقوانينه؛ فأصابها بعضُ ما أصاب الغرب، على قدر التأثر والخضوع؛ ففقدت تلك العلاقات الأخوية الصادقة، وابتليت بضعف الثقة أيضا.
وإنه، وإن سُمِعت أصواتٌ فكرية تنادي بمسحة إنسانية أخلاقية في الحياة الاقتصادية الغربية، كصوت دافيد ريكاردو (1772-1823م) الذي رأى أن "أي عمل يعد منافياً للأخلاق ما لم يصدر عن شعور بالمحبة للآخرين"، إلا أن تلك الأصوات ظلت باهتة في تأثيرها، منزوية في زوايا ثقافية محدودة.
وإذا كان الفكرُ الرأسمالي السائد قد مال نحو إضفاء الشرعية على الأثرة والصراع على المادة، ورأى الحياة الاقتصادية خاضعةً لنظام طبيعي ليس من وضع أحد، إذ يحقق بهذه الصفة نمواً للحياة وتقدماً تلقائياً لها؛ فإنه لا شك يعد تمثلا فعليا للدارونية الاجتماعية.(81/5)
ومن المفكرين الغربيين الذين صدقوا في تشخيص الأزمة (تشومسكي) الذي يصف السياسة الأمريكية الخارجية تجاه الشرق الأوسط بأنها ضالة ومضللة، وخادمة وتكيل بمكيالين. وليس غريبا أن يقع التضليل على الشعوب الأخرى غير الشعب الأمريكي، ولكنه يبدو غريبًا حين يَستهدِف الأمريكيين أنفسهم في أهم مكونات حياتهم.
ففي مقابلة أجراها معه الصحفي الكردي (هاوزين و. كريم) مدير تحرير جريدة "كومال"؛ يَرُدُّ (نعوم تشومسكي) عدمَ الثقة التي يعانيها غالبيةٌ من الأمريكيين تجاهَ نظامهم السياسي إلى تَحَكُّم رأس المال، يقول: "كثيرًا ما أوضح علماءُ السياسة بأن الولايات المتحدة هي أساسًا دولة يحكمها حزبٌ واحد... وهو حزب رجال الأعمال المؤلف من جناحين، الديمقراطيين والجمهوريين، ويبدو أن معظم المواطنين يوافقون على ذلك. ثمة نسبة عالية، تفوق الـ80 % أحيانا، تعتقد بأن الحكومة تخدم "مصالح الأقلية وذوي المصالح الخاصة"، وليس مصالح الشعب، وقد اختار منهم 75 % أن التنافس خلال انتخابات عام 2000 كان في عمومه مهزلة لا علاقة لها بهم، ومجرد لعبة يمارسها الأغنياءُ والمشاركون بالتبرعات الانتخابية لزعماء الحزبين وشركات الدعاية والعلاقات العامة التي تدرب المرشحين على التفوه بأشياء لا معنى لها غالبا، والتي يمكن لها أن تتلقف بعض الأصوات. هذا تم قبل أن تتم الانتخاباتُ فعلا، هذه الانتخاباتُ التي تخللتها اتهاماتٌ بالتزوير واختيار بوش دون أن يحوز على أغلبية أصوات الناخبين. إنني أميل إلى الموافقة مع رأي أغلبية المواطنين بهذه المسائل".
هي إذن خديعة كبرى مردُّها الإيهامُ بالحكم الديمقراطي، والحقيقة هي تحكم الرأسماليين؛ فكيف سيكون شعورُ الغربي، وهو يخدع في صلب نظامه الديمقراطي الذي يفترض أنه مزيّة له ومفخرة؟! ومن أين تأتيه الثقةُ بمجتمع له مثل تلك البنية الفكرية؟! ودولة لها مثل تلك الأولويات والاعتبارات؟!(81/6)
العنوان: أزمة الصمت في الحياة الزوجية كيف تتجاوزينها..؟
رقم المقالة: 462
صاحب المقالة: سحر فؤاد أحمد
-----------------------------------------
"تكلم كي أراك" حكمة عربية قديمة تلخص أهمية الكلام في التواصل الاجتماعي، فإذا كان الكلام مهمّاً بين الناس لتحقيق التعارف والتعاون والتكامل فإنه أكثر أهمية بين الزوجين، إذ يسهم الصمت في إرباك الحياة الزوجية، وإثارة الشكوك فيها، فقد تعتقد الزوجة انشغال زوجها بأخرى، وقد يبادلها الزوج نفس الشك، وقد يظن كلا الطرفين أن الآخر يتخذ موقفاً خاصاً تجاهه؛ فيدَّعي الإرهاق والتعب ليهرب من الحوار وجلسات النقاش. وهكذا تسهم الشكوك في شرخ جدار الزوجية، وتقويض أعمدتها، و الكلام والحوار هما الحل الأمثل لإعادة المياه إلى مجاريها، والحياة إلى طبيعتها.
وسواء أكان الصمت من الزوج أم من الزوجة فإن مواجهته وتمزيقه بالكلام أمر حيوي من أجل بقاء كيان الأسرة؛ لأن الكلام عنصر من أهم عناصر التفاهم بين الزوجين والأولاد، فالبيت المسلم يقوم على مشاركة الزوجين، ويهدف إلى السكن والمودة والرحمة، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالاتصال بين الزوجين سواء على المستوى المادي أو المعنوي، وذلك من أهم الواجبات الملقاة على عاتق كل منهما.
نتائج الأبحاث:
كشفت دراسة أعدَّتها "لجنة إصلاح ذات البين" في المحكمة الشرعية السنية بلبنان أن انعدام الحوار بين الزوجين هو السبب الرئيس الثالث المؤدي إلى الطلاق. وفي دراسة أخرى أعدها علي محمد أبو داهش- الباحث الاجتماعي بالرياض- أكد فيها: أن أهم أسباب الطلاق المبكر هو عدم النضج، وعدم التفاهم، وصمت الزوج، وأشار –أيضاً- إلى أن مشكلة انطواء الأزواج وصمتهم في المنزل أصبحت من القضايا التي تُخصَّص لها نقاشات مفردة في الندوات العالمية، وذلك لما لها من تأثير سلبي في نفسية الزوجة والحياة الزوجية عامة.
أسباب الصمت الزوجي:(82/1)
يرى الاجتماعيون أن الأسباب المؤدية إلى الصمت الزوجي تختلف باختلاف الأشخاص وطبيعة العلاقة بين الزوجين، فقد يكون منها عدم الصراحة والوضوح بين الطرفين، و قد يرجع بعضها إلى الرتابة في العلاقة الزوجية، أو كثرة المشكلات بين الزوجين سواء بسبب الأبناء أو بسبب الأمور المادية. وقد أجمل الخبراء تلك الأسباب فيما يلي:
* عدم وجود الحب واختلاف ميول الطرفين: فالحب والمشاركة في الاهتمامات تخلق الحوار، حيث يحرص كلا الزوجين على إسعاد الآخر بالتواصل معه، ومعرفة أخباره، وإشباع احتياجاته، فإذا افتقد الزوجان الحب والمشاركة فترت العلاقة بينهما، وافتقدت حياتهما الحوار.
* عدم الوعي بأهمية الحوار: فهناك غياب وعي بأهمية الحوار، وغياب إدراكٍ بأنه عصب الحياة الزوجية، والجسر الذي تنتقل عبره المغازلات والمعاتبات، والإشارات والملاحظات. وقد يظن البعض أن الحوار يحمل معنى الضعف بالافتقار إلى رأي الآخر، أو أنه البوح بمكنون النفس الذي لا ينبغي أن يباح به، وهذا كله ظن خاطئ، و اعتقاد غير صحيح.
* الظن بأن الحوار بين الزوجين يعني البدء بالتفاهم، أو أنه لابد أن يسوده دوماً الهدوء والسلاسة، فلابد من إدراك أن الحوار يحتمل الشد والجذب، ويحتمل اختلاف وجهات النظر حتى نصل إلى الهدف المنشود.
* الخوف من تكرار الفشل أو رد الفعل السلبي: تخاف الزوجة أو تتحرج من محاورة زوجها، إذ ربما يصدُّها، أو يهمل طلبها، أو يستخف به كما فعل في مرة سابقة، وقد ييئس الزوج من زوجة لا تُصغي، ولا تجيد إلا الثرثرة، أو لا تفهم ولا تتفاعل مع ما يطرحه أو يحكيه. وهو ما يجعله يؤثر السلامة، ويرى أن الصمت هو الحل.(82/2)
* قد يكون الصمت بسبب التعب والقلق الخارجي، وليس بسبب خلافات أو عدم توافق فكري بين الزوجين، فعمل المرأة خارج المنزل، وعمل الزوج أيضاً، وعودتهما إلى المنزل والتعب يحيط بهما، من أهم أسباب انعدام الحوار بين الزوجين، إضافة إلى وجود التلفاز فضلاً عن الشابكة (الإنترنت) الذي يقطع سبل التواصل بين الزوجين.
* قد يعود الصمت لكثرة غياب أحد الطرفين عن الآخر في سفرٍ طويل لدراسة، أو عمل ما، فيراه رفيقه في أزمان وأوقات متباعدة، وهذا يزيد الهوَّة بينهما.
* الاعتقاد الخاطئ بأن الأفعال تُغني عن الأقوال: فهناك من يرى أن في الفعل ألف دليل على الحب، وأنه أبلغ من الكلام، وتلك هي نصف الحقيقة، لأن الله خلق للإنسان لساناً فعلمه الكلام، وصار فعل الكلام سبيلاً وعلامة على التواصل، في حين أن عدمه دليلٌ على الانقطاع.
الصمت الزوجي .. حلول عملية:
أهم ما نحتاج إليه كي ندفع حالة الصمت إلى حالة الحوار هو أن يكون تشخيصنا لوظائف الصمت دقيقاً فمن الممكن أن يكون الصمت للاسترخاء، فالصمت حالة تؤدي إلي الهدوء والصفاء، وتؤهل الإنسان العامل والباحث عن مستوى أفضل في حياته المهنية لتجديد قواه وتوفير جهوده الذهنية لما يحتاج إليه عمله.
وقد يكون الصمت تعبيراً عن الخوف أو الضعف، وقد يكون نوعاً من العصيان، وفي أوقات معينة يكون الصمت علامة الرضا، و في أوقات أخرى يكون دلالة على عدمه.
وأياً كان السبب فإن التغلب على الصمت الزوجي في يد كلا الزوجين، فعلى كل طرف أن يراعي حقوق الطرف الآخر، لأن المشكلة تبدأ عندما يتجاهل كل من الطرفين حقوق الآخر وعلى الزوجين توفير مِساحة زمنية للحوار والنقاش، وتبادل الرأي سواء فيما بينهما أو بين الأولاد، لأن الإنسان بحكم تركيبه النفسي يحتاج إلى ذلك، والكلام أول درجة في سلَّم الوصال، ومن ثم فإن الصمت يمزق هذا الوصال، ويجب تجاوز أي مشكلة في الحياة الزوجية بحيث لا يتعطل الاتصال.(82/3)
وإذا حدث أي اختناق فلابد من التغلب عليه في أقصر وقت ممكن، ولا بد من الحوار حتى لو اضطر الزوجان إلى إلغاء هوايات مهمة، أو التوقف عن متابعة برامج تلفازية جذابة، حرصاً على استقرار الحياة الزوجية التي تحتاج إلى تواصل دائم ومستمر بين الزوجين. والزوجة قادرة على إلغاء الصمت من حياتها الزوجية حينما تعرف كيف تشارك زوجها في ميوله وهواياته، والأحاديث التي تهمه، ولكن دون أن تتنازل عن هواياتها وما يهمها، وتستطيع الزوجة أن تتجاوز الكثير من المشكلات التي تعترضها، من خلال تفهمها للأمور واستيعابها لحجم الضغط الذي يتعرض له زوجها خارج البيت، وهي بذلك تحمي منزلها من الانهيار، وتخلق مساحة أكبر للحوار.
نصائح الخبراء:
* لا تُشعري زوجك بأنه في حالة استجواب دائم، لأنه يرى في هذه الحالة أن الصمت أفضل له من الشعور بأنه متهم، أو أنه في تحقيق بوليسي.
* اختاري الحديث المناسب قبل أن تشتكي من صمت زوجك، فليس من المعقول أن تكون كل مفردات حديثك "ادفع. هات. اشتر. البيت يحتاج" إلى ما لا نهاية من هذه الطلبات، وعندما يكون حديثك خالياً من هذه الكلمات سيخترق زوجك الصمت، و سيندفع في الكلام.
* التحاور والتشاور لا يكون إلا من طرفين أحدهما يتحدث والآخر يستمع ثم العكس، ولا يعني أن أحدهما يرسل طوال الوقت أو يُتوقع منه ذلك، والآخر يستقبل طوال الوقت، أو يُنتظر منه ذلك، وتكرار المبادرات بفتح الحوار، ومحاولة تغيير المواقف السلبية مسألة صعبة، لكن نتائجها أفضل من ترك الأمر، والاستسلام للقطيعة والصمت، وإذا كانت حاجتنا شديدة وماسة لتعلم فنون الكلام، فإن حاجتنا ربما تكون أكثر وأشد لتعلم فن الإصغاء.(82/4)
* تفهم سيكولوجية الآخر، فالرجل في عملية التواصل يمر بثلاث مراحل: فهو أولاً يبدأ بالتفكير، ولا يرى ضرورة إلى كشف محتوى تفكيره، وبعدها يقوم بالتخزين، وفي أثنائه يصمت حتى يسيطر على الموقف، وبعد تقديره لجميع الإجابات الممكنة يختار منها ما يراه الأفضل فيتواصل، أما النساء فلديهن ميل إلى التفكير بصوت عالٍ، وذلك من أجل إطلاع الآخر على حالتهن النفسية، والحوار عند المرأة طلب عون، وهي بطلبها لتلك المعونة تقدِّر من تطلب معونته، أما الرجل فلا يطلب العون إلا في آخر المطاف، فلابد أن تفهم المرأة أن صمت الرجل هو جزء من تواصله أيضاً.
* تعلم فن الحوار باختيار الوقت المناسب، وعدم الانفعال، والبعد عن الجدل والمراء، وحسن الإصغاء، وعدم المقاطعة، فمثل هذه الأمور وغيرها تحقق نجاح الحوارات بين الزوجين وتشجع على استمرارها.
بيت النبوة.. قدوة وأسوة:
يضرب لنا الرسول- صلى الله عليه وسلم- في حياته الخاصة النموذج العملي للعلاقة الزوجية، فسيرته-صلى الله عليه وسلم- تمثل السنة العملية التي لا تقل في حُجِّيَّتها وإلزامها عن السنة القولية، فقد كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يداعب زوجاته، ويلاعب أهله، ويعاونهن في شؤون البيت، ويتحدث معهن في شؤون الحياة والدعوة.
والسيرة النبوية تذكر لنا الكثير من الحوارات التي كانت تدور بين الرسول الكريم- صلى الله عليه وسلم- وزوجاته. فمثلاً في بداية الوحي كان يبلغ أم المؤمنين خديجة بما كان يحدث له، ويتحدث معها في حوار مطوَّل عما رآه وعما سمعه، وتبادله هي الحديث مواسية له وتقول له: ((إنك لتصل الرحم،... وتعين على نوائب الدهر... )) وكل ذلك يؤكد أن الزوجة شريك كامل في الحياة الزوجية، تتحمل المسؤولية التي عليها، ولا بد للزوج أن يعي ذلك، ويعطي جزءاً من وقته لأهله، وجزءاً لعمله، وجزءاً لخاصَّة شؤونه، وأن يوازن بين الحقوق والواجبات.(82/5)
العنوان: أسئلة وأجوبة مختارة من فتاوى الحج
رقم المقالة: 1761
صاحب المقالة: سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز
-----------------------------------------
أسئلة وأجوبة مختارة من فتاوى الحج
أسئلة وأجوبة مختارة من فتاوى الشيخ عبدالعزيز بن باز
الكتب التي بينت أحكام الحج
س: إذا كنتُ أقيم في منطقة جبلية وأريد أن أحج، فأيُّ الكتب تنصحونني بقراءتها؛ كي أحج على بصيرة؟[1]
ج: ننصح بقراءة الكتب التي بينت أحكام الحج مثل: "عُمْدة الحديث" للشيخ عبدالغني المقدسي، ومثل: "بُلوغ المَرَام"، ومثل: "المُنْتَقى". هذه موجودة ومُهِمَّة، وهناك مَناسِك فيها كفاية وبركة إذا قرأتها استفدت منها. ومنها مَنْسَك كتبناه في هذا، وسميناه: "التحقيق والإيضاح لكثير من أحكام الحج والعمرة والزيارة"، وهو جيد ونافع ومفيد، وهناك مناسك أُخْرى لغيرنا من المشايخ والأخوة مثل: "منسك الشيخ عبدالله بن جاسر"، وهو جيد ومفيد.
س: ما حكم من أَخَّر الحج بدون عُذْر، وهو قادِرٌ عليه ومُسْتَطيع؟[2](83/1)
ج: مَنْ قدر على الحج ولم يحج الفريضة وأَخَّره لغير عُذْر، فقد أتى مُنْكرًا عظيمًا، ومعصية كبيرة، فالواجب عليه التوبة إلى الله مِنْ ذلك، والبدار بالحج؛ لقول الله - سبحانه -: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}[3]، ولقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((بُنِيَ الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وإِقَام الصَّلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت))[4]؛ مُتَّفَق على صحته، ولقوله - صلى الله عليه وسلم - لمَّا سأله جبرائيل - عليه السلام - عن الإسلام، قال: ((أن تشهدَ أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتُؤْتِي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن اسْتَطَعْتَ إليه سبيلاً))[5]؛ أخرجه مسلم في صحيحه، من حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - والله ولِيّ التوفيق.
العُمْرَةُ واجبة في العُمْرِ مرة.
س: حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((إنَّ الله كتب عليكم الحج))، فقام الأَقْرَع بن حَابِس فقال: "أَفِي كل عام يا رسول الله؟" قال - صلى الله عليه وسلم -: ((لو قُلْتُها لَوَجَبَتْ؛ الحج مرة فمن زاد فهو تطوع))[6]؛ رواه الخمسة إلا الترمذي، وأصله في مسلم من حديث أبي هُرَيْرة. ألا يدل على عدم وجوب العمرة؟[7].(83/2)
ج: الأدِلَّة متنوعة وهذا في الحج، والعُمرة لها أدلتها، والصوابُ أنها واجبة مرة في العمر؛ كالحج وما زاد فهو تطوُّع؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح لعائشة - رضي الله عنها - لما سألته: "هل على النساء جهاد؟" قال: ((نعم، جِهَاد لا قتال فيه: الحج والعمرة))[8]، ولقوله - صلى الله عليه وسلم - لما سأله جبرائيل - عليه السلام - عن الإسلام، قال: ((الإسلام أن تشهدَ أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وتُقيم الصلاة، وتُؤْتِي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج وتعتمر))[9]؛ أخرجه ابن خُزَيْمة، والدَّارقُطْني بإسناد صحيح. ولأدلة أُخْرى.
من اعتمر مع حجّهِ فلا يلزمه عمرة أخرى
س: حَجَجْتُ حجة فرض ولم أعتمر معها فهل عليَّ شيءٌ؟، ومن اعتمر مع حجه هل يلزمه الاعتمار مرة أخرى؟[10].(83/3)
ج: إذا حَجَّ الإنسان ولم يعتمر سابقًا في حياته بعد بلوغه، فإنه يعتمر: سواء كان قبل الحج أو بعده، أما إذا حَجَّ ولم يعتمرْ فإنه يعتمر بعد الحج إذا كان لم يعتمرْ سابقًا؛ لأن الله - جَلَّ وعلا - أَوْجَبَ الحج والعمرة، وقد دَلَّ على ذلك عِدَّة أحاديث عَنِ النبي - صلى الله عليه وسلم - فالوَاجِبُ على المؤمن أن يُؤَدِّيها، فإن قرن الحج والعمرة فلا بأس، بأن أحرم بهما جميعًا أو أَحْرم بالعمرة، ثم أدخل عليها الحج فلا بأس ويكفيه ذلك. أما إنْ حجَّ مفردًا بأن أحرم بالحج مفردًا من الْمِيقَات، ثم بقي على إحرامه حتى أكمله، فإنه يأتي بعمرة بعد ذلك من (التنعيم) أو من (الجِعْرَانة) أو غيرها من الحل خارج الحرم، فيحرم هناك ثم يدخل فيطوف، ويَسْعَى، ويحلق، أو يُقَصِّر هذه هي العمرة؛ كما فعلتْ عائشة - رضي الله عنها - فإنها لما قدمت، وهي مُحْرِمة بالعُمْرة أصابها الْحَيْض قرب مكة، فلم تتمكن من الطَّوَاف بالبيت وتكميل عمرتها، فأمرها الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن تحرم بالحج وأن تكون قارِنَة، ففعلت ذلك وكملت حجها، ثم طلبت من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تعتمر؛ لأنَّ صواحِبَاتِهَا قد اعتَمَرْن عُمرة مفردة، فأمر أخاها عبدالرحمن أن يذهبَ بها إلى (التنعيم)؛ فتحرم بالعمرة من هناك ليلة أربعة عشر، فذهبت إلى (التنعيم) وأحرمت بعمرة، ودخلت، وطافت، وسعت، وقصرت، فهذا دليلٌ على أن من لم يؤدِّ العمرة في حجه يَكْفيه أن يحرم من (التنعيم) وأشباهه من الحل، ولا يلزمه الخروج إلى المِيقَات، أما مَنِ اعْتَمَر سابقًا، وحَجَّ سابقًا ثم جاء ويسر الله له الحج، فإنه لا تلزمه العمرة، ويكتفي بالعمرة السابقة؛ لأن العمرة إنما تَجِب في العُمرِ مرة كالحج سواء، فالحج مرة في العمر، والعمرة كذلك، لا يَجِبان جميعًا إلا مَرَّة في العُمرِ، فإذا كان قدِ اعتمر سابقًا كَفَتْهُ العمرة السابقة، فإذا أحرم بالحج مفردًا واسْتَمَرَّ في(83/4)
إحرامه، ولم يفسخه إلى عُمْرَة، فإنه يكفيه، ولا يلزمه عمرة في حجته الأخيرة، لكن الأفضل له والسنة في حقه إذا جاء محرمًا بالحج أن يجعله عمرة بأن يفسخ حجه هذا إلى عمرة، فيطوف، ويسعى، ويقصر، ويتحلل، فإذا جاء وقت الحج أحرم بالحج يوم الثامن، هذا هو الأفضل وهو الذي أمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه في حجة الوَدَاع لما جاء بعضهم محرمًا بالحج وبعضهم محرمًا بالحج والعمرة وليس معهم هَدْي، أمرهم أن يحلوا ويجعلوها عمرة، أما من كان معه الهَدْي فيبقى على إحرامه حتى يكمل حجه إن كان مفردًا، أو عمرته إن كان معتمرًا مع حجه.
الحج مع القدرة واجب على الفَوْر.
س: هل الحج واجب على الفَوْر أم على التَّرَاخي؟[11].
ج: الحج واجبٌ على المُكَلَّف على الفَوْر مع القُدرة إذا استطاع، قال الله - عَزَّ وَجَلّ -: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}[12].
فالحج: هو الرُّكْن الخامس مِنْ أركان الإسلام، وهو واجب مع الاستطاعة، أما العاجز فلا حج عليه، لكن لو اسْتَطَاع ببدنه وماله وَجَب عليه، وإذا استطاع بماله، ولم يَسْتَطِع ببدنه؛ لكونه هرمًا أو مريضًا لا يُرْجَى بُرْؤُه، فإنه يقيم من ينوب عنه، ويحج عنه.
حكم تأخير الحج إلى ما بعد الزواج.(83/5)
س: إذا كان الشاب قادرًا على أن يحج فَأَخَّرَ الحج إلى أن يَتَزَوَّج أو يكبر في السن، فهل يأثم؟[13] ج: إذا بلغ الحُلُم وهو يستطيع الحج والعمرة وَجَبَ عليه أداؤهما؛ لعموم الأدلة، ومنها قوله - سبحانه -: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا}[14]، ولكن من اشتدت حاجته إلى الزَّوَاج وجَبَتْ عليه المُبادرة به قبل الحج؛ لأنه في هذه الحال لا يسمى مستطيعًا، إذا كان لا يستطيع نفقة الزواج والحج جميعًا، فإنه يبدأ بالزواج حتى يعفَّ نفسه؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((يا مَعْشَرَ الشباب مَنِ استطاع منكم البَاءَة فَلْيَتَزَوَّج، فإنه أغضُّ للبصر، وأحصن للفَرْج، ومن لم يستطِعْ فعليه بالصَّوْم فإنه له وجاء))[15]؛ مُتَّفَق على صِحَّته.
س: سمعت مِنْ بعض الناس: أن الحج قبل الزواج لا يصح فريضة؛ بل لا بُدَّ من تأدية الفَرِيضة بعد الزَّوَاج، هل هذا صحيح؟[16].
ج: هذا القول ليس بصحيح، فالحجُّ يجوز قبل الزواج وبعد الزواج، إذا كان قد بلغ الحُلُم فحجه صحيح، ويؤدي عنه الفريضة، أما إذا حَجَّ قبل أن يبلغ فيكون نافلة، والبلوغ يحصل بأمور ثلاثة: بإكمال خمس عشرة سنة، وبإنبات الشعر الخشن حول الفَرْج، وبإنزال المَنِيّ عن شهوة في الليل، أو في النهار، أو في النوم، أو في اليقظة. إذا نظر أو فَكَّر فأنزل المني يكون بذلك قد بلغ الحُلُم بإنزال المني عن تفكير، أو ملامسة، أو احتلام، وبإكمال خمس عشرة سنة، وبإنبات الشعر الخشن حول الفرج، هذه الأمور الثلاثة يحصل بها البلوغ للرَّجل والمرأة جميعًا، وتزيد المرأة أمرًا رابعًا وهو: الحَيْض، فإذا حاضَتْ صارت بَالِغة، فإذا حج بعدها أو بعد أحدها على الوجه الشرعي فحجه صحيح، ويُؤَدِّي عنه الفريضة ولو لم يتزوج.
حكم تَكرار الحج للرجال والنساء(83/6)
س: ما رأيكم في تَكرار الحج مع ما يحصل فيه من الزحام، واختلاط الرجال بالنساء؟ وهل الأفضل للمرأة تَرْك الحج إذا كانت قد قَضَتْ فرضها، وربما تكون قد حجت مرتَينِ أو أكثر؟[17]
ج: لا شَكَّ أن تَكرار الحج فيه فضلٌ عظيم للرجال والنساء، ولكن بالنظر إلى الزحام الكثير في هذه السنين الأخيرة؛ بسبب تيسير المواصلات، واتساع الدنيا على الناس، وتوفُّر الأمن، واختلاط الرجال بالنساء في الطَّواف وأماكن العبادة، وعدم تحرُّز الكثير منهن عن أسباب الفتنة، نرى أن عدم تَكرارهن الحج أفضل لهن، وأسْلَم لدينهن، وأبعد عن المَضَرَّة على المجتمع الذي قد يفتن ببعضهن، وهكذا الرجال إذا أمكن ترك الاستِكْثار من الحج؛ لقصد التَّوْسعة على الحُجَّاج، وتخفيف الزحام عنهم، فنَرجُو أن يكون أجره في الترك أعظم من أجره في الحج إذا كان تركه له؛ بسبب هذا القصد الطيب، ولا سيَّما إذا كان حجه يترتب عليه حج أتباعٍ له قد يحصل بحجهم ضرر كثير على بعض الحجاج؛ لِجَهْلِهِم أو عدم رفقهم وقت الطواف والرَّمْي وغيرهما من العِبَادات التي يكون فيها ازدحام، والشريعة الإسلامية الكاملة مبنية على أصلينِ عَظِيمَيْنِ:
أحدهما: العناية بتحصيل المصالح الإسلامية وتكميلها ورعايتها حسب الإمكان.
والثاني: العِنَاية بِدَرْء المفاسد كلها أو تقليلها، وأعمال المصلحينَ والدعاة إلى الحق وعلى رأسهم الرُّسل - عليهم الصلاة والسلام - تدُور بين هذَينِ الأصْلَينِ، وعلى حسب علم العبد بشريعة الله - سبحانه - وأسرارها ومقاصدها وتَحَرِّيه لِمَا يرضي الله، ويقرب لديه، واجتهاده في ذلك يكون توفيق الله له - سبحانه - وتَسْدِيده إياه في أقواله وأعماله. واسأل اللهَ - عزَّ وجَلَّ - أنْ يوفِّقنا وإياكم، وسائر المسلمينَ لكل ما فيه رِضَاه، وصلاح أمر الدين والدنيا، إنه سميعٌ قريبٌ.
العمرة مشروعة في كل وقت.
س: ما هو الأفضل أن يكون بين العمرة والعمرة للرجال والنساء؟[18](83/7)
ج: لا نعلم في ذلك حدًّا محدودًا؛ بل تُشْرَع في كل وقت؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((العُمْرَة إلى العُمْرَة كَفَّارة لما بينهما، والحج المَبْرُور ليس له جزاءٌ إلا الجنة))[19]؛ متفق على صحته، فكُلَّما تَيَسَّر للرجل والمرأة أَداءُ العمرة فذلك خيرٌ، وعملٌ صالح، وثَبَت عن أمير المؤمنينَ علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أنه قال: "العُمْرَة في كل شَهْر". وهذا كله في حق من يقدم إلى مَكَّة من خارجها. أما من كان في مَكَّة: فالأفضل له الاشتغال بالطواف والصلاة وسائر القُرُبات، وعدم الخروج إلى خارج الحرم لأداء العمرة إذا كان قد أَدَّى عمرة الإسلام، وقد يُقال باستِحْبَاب خروجه إلى خارج الحرم؛ لأداء العمرة في الأوقات الفاضلة كرمضان؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((عمرة في رمضانَ تَعْدِل حجة)) [20]، ولكن يجب أن يُرَاعَى في حَقِّ النساء عِنَايتهن بالحِجَاب، والبُعْد عن أسباب الفِتْنة، وطوافهن من وراء الناس وعدم مُزَاحمة الرجال على الحَجَر الأَسْود، فإن كن لا يَتَقَيَّدْن بهذه الأمور الشرعية فينبغي عدم ذهابهن إلى العمرة؛ لأنه يترتب على اعْتِمَارِهن مَفَاسد تضرهن، وتضر المجتمع، وتَرْبُو على مصلحة أدائهن العمرة، إذا كن قد أَدَّيْن عمرة الإسلام، والله - سبحانه وتعالى - أعلم.
س: أرجُو من سماحتكم توضيح الآية: {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ}[21]، وهل الأحسن للمُقيم بمكة الطواف بالبيت، أم الصلاة، أثابكم الله؟[22].(83/8)
ج: الله - تعالى - أَمَر أن يُطَهَّر بيته للطَّائفينَ، والعاكفينَ: وهم القائمونَ المُقيمون في هذا البلد، وتطهيره يكون بإبْعَاد ما لا خيرَ فيه للطائفينَ، والمُقيمينَ وجميع ما يُؤْذيهم من أعمال أو أقوال أو نَجَاسة أو قَذَر وغير ذلك، يجب تطهير بيته للطائِفينَ، والراكعينَ، والقائمينَ، والرُّكَّع السجود، فيكون ما حول البيت كله مُطَهَّرًا ليس فيه أذًى للعَاكِف، ولا الطائف، ولا المصلي، يجب أن يُنَزَّه عن كل ما يُؤْذِي المُصلِّينَ، ويشق عليهم، أو يحول بينهم وبين عبادة ربهم جل وعلا. أمَّا تفضيل الصلاة على الطَّوَاف، أو الطواف على الصلاة فهذا مَحلّ نَظَر، فقد ذكر جَمْع من أهل العلم أنَّ الغريب الأفضل له أن يكثر من الطواف؛ لأنه ليس بمُقِيم ولا يحصل له الطواف إلا بمكة، أما المُقيم بمكة فهو نازل مُقيم. وهذا: الصلاةُ أفضلُ له؛ لأن جنس الصلاة أفضل من جنس الطواف، فإذا أكثر من الصلاة كان أفضل. أما الغريب الذي ليس بمقيم: فهذا يُسْتَحَبّ له الإكثار من الطواف؛ لأنه ليس بمقيم؛ بل سوف ينزح ويخرج ويبتعد عن مكة، فاغتِنَامه الطواف أَوْلَى؛ لأن الصلاة يمكنه الإتْيَان بها في كل مكان يعني كل هذا في النافلة؛ أعني: طواف النافلة، وصلاة النافلة.
الحج والعمرة أفضل من الصدقة بنفقتهما
س: إذا دخل شهر رمضان المبارك، ذهب كثير من الناس إلى مكةَ المكرمة بعَوَائِلهم وسكنوا هناك طوال الشهر الكريم، وقد سمعت من أحد الأخوة: أنكم - يا سماحة الشيخ - تَرَوْن أن التصدق بتكاليف العمرة أفضل من أدائها، فهل هذا صحيح؟ وإذا كان صحيحًا، فهل من نصيحة لهؤلاءِ الذين يذهبون سنويًّا إلى هناك حتى إنها أصبحت مجالاً للمُفَاخرة والمُبَاهَاة عند البعض؟[23].(83/9)
ج: ليس ما ذكرته صحيحًا، ولم يصدر ذلك مني، والصواب أن الحَجَّ والعمرة أفضل من الصَّدقة بنفقتهما لِمَنْ أخلص لله القصد، وأتى بهذا النُّسُك على الوَجْه المشروع، وقد صَحَّ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((العُمْرة إلى العُمْرة كَفَّارة لما بَيْنَهُما، والحج المبْرُور ليس له جزاءٌ إلا الجنة))[24]؛ متفق على صحته، وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((عُمْرة في رمضان تعدل حجة))[25]، مُتفق على صحته أيضًا. والله ولِيّ التوفيق.
الأفضل لمن حج الفريضة أن يتبرع بنفقة حج التطوع في سبيل الله.
س: بالنسبة لمن أَدَّى فريضة الحج وتَيَسَّر له أن يحج مرة أخرى، هل يجوز له بدلاً من الحج للمرة الثانية تلك أن يتبرعَ بقيمة نَفَقَات الحج للمُجاهِدينَ المُسلمينَ، حيث إن الحج للمرة الثانية تطوع، والتبرع للجهاد فرضٌ؟ أفيدونا جزاكم الله عن المسلمينَ خير الجزاء[26]
ج: مَنْ حَجَّ الفريضة فالأفضل له أن يتبرع بنفقة الحج الثاني للمُجاهدينَ في سبيل الله؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا سُئِل: "أي العمل أفضل؟"، قال: ((إيمان بالله ورسوله))، قال السائل: "ثم أي؟"، قال: ((حج مبرور))[27]؛ مُتَّفق على صِحَّته.
فجعل الحجَّ بعد الجِهَاد، والمرادُ به حج النافلة؛ لأن الحج المفروض رُكْن من أركان الإسلام مع الاستطاعة، وفي الصحيحينِ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((مَنْ جَهَّز غَازِيًا فقد غزا، ومن خلفه في أهله بخير فقد غزا))[28]. ولا شك أن المجاهدينَ في سبيل الله في أشَدّ الحاجة إلى المُساعدة المادية. والنفقة فيهم أفضل من النفقة في التطوع للحدِيثَيْنِ المذكورَيْنِ وغيرهما.
تُصْرَف نفقة حج التطوع في عمارة المسجد إذا كانت الحاجة إليه ماسة.
س: ما قولُكم عن بر الوَلَد والدَيْه بحجة، وعنده مسجدٌ يحتاج إلى بناء، هل الأفضل أن يتبرع لبناء المسجد، أو الحج عن والديه؟[29].(83/10)
ج: إذا كانت الحاجة ماسَّة إلى تعمير المسجد فتُصْرف نفقة الحج تطوعًا في عمارة المسجد؛ لعظم النفع واستمراره، وإعانة المسلمينَ على إقامة الصلاة جماعة.
أما إذا كانت الحاجة غير ماسَّة إلى صرف النفقة – أعني: نفقة حج التَّطَوُّع - في عمارة المسجد لوُجود من يعمره غير صاحب الحج، فحجه تَطَوّعًا عن والدَيْه بنفسه، وبغيره من الثِّقَات أفضل - إن شاء الله - لكن لا يجمعان في حجة واحدة؛ بل يحج لكل واحد وحده.
من مات على الإسلام فله ما أسلف من خير
س: شخصٌ أَدَّى فريضة الحج وبعدها ترك الصلاة - والعِياذُ بالله - ثم تاب وصَلَّى، فهل يلزمه الحج مرة أخرى، باعتبار أنه تَرَك الصلاة، وتارك الصلاة كافر؟. نرجُو الإفادة أثابكم الله[30]
ج: إذا كان الواقع هو ما ذكره السائل، فإن حجه لا يبطل ولا يلزمه حجة أخرى؛ لأن الأعمال الصالحة إنما تبطل إذا مات صاحبها على الكُفْر.
أما إذا هداه الله وأسلم، ومات على الإسلام، فإن له ما أسلف من خير؛ لقول الله - عز وجل - في سورة البقرة: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}[31]؛ ولقوله - صلى الله عليه وسلم - لحكيم بن حزام لما سأله عن أعمال صالحة فَعَلَها في الجاهلية، هل تنفعه في الآخرة؟ فقال له - صلى الله عليه وسلم -: ((أَسْلَمْتَ على ما أَسْلَفْتَ من خير))[32]، والله وَلِي التوفيق.
تارك الصلاة لا يصح حجه
س: ما حُكْم من حج وهو تارك للصلاة سواء كان عامدًا أو مُتَهَاوِنًا؟ وهل تجزئه عن حجة الإسلام؟[33](83/11)
ج: مَنْ حج وهو تارك للصلاة: فإنْ كان عن جَحْد لوُجُوبها؛ كَفَر إجماعًا ولا يصِحّ حجه، أما إذا كان تركها تساهُلاً وتهاونًا، فهذا فيه خلافٌ بين أهل العلم: منهم من يرى صحة حجه، ومنهم من لا يرى صحة حجه، والصوابُ أنه لا يصح حجه أيضًا؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((العَهْد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمَنْ تَرَكها فقد كَفَر))[34]، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((بَيْن الرجل وبين الشرك والكُفْر تَرْك الصلاة))[35]، وهذا يعم من جَحَدَ وجوبها، ويعم من تركها تَهَاوُنًا، والله ولي التوفيق.
حج الصبي لا يجزئه عن حجة الإسلام.
س: هل حجُّ الصبيّ الذي لم يبلغِ الحُلُم يغْنِيه عن حجة الإسلام؟[36]
ج: لا حَرَجَ أن يحجَّ الصبي، بحيث يعلم ويحج ويكون له ذلك نافلة، ويُؤْجر عن حجه؛ لكن لا يجزئه عن حجة الإسلام، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((أَيُّما صبي حجَّ ثم بلغ الحِنْث فعَلَيْه أن يحجَّ حجة أخرى))[37]، وقد قالت امرأة للرسول - صلى الله عليه وسلم - ومعها صبيٌّ صغير: "يا رسول الله ألِهَذا حج؟" فقال: ((نعم، ولك أَجْر))[38]، وقال الصحابة: "كُنَّا نُلَبِّي عن الصبيان، ونَرْمِي عنهم".
كيفية إحرام الصبي ولوازمه
س: الأخ: م. م. ص. من بُور سعيد - مصر يقول في سؤاله:
لو حَجَجْتُ بطفلي الصغير ولبَّيْتُ عنه؛ ولكننا لم نستَطِعْ أن نكمل حجه فهل علينا شيء؟ نرجو التَّكَرُّم بالإفَادة[39].(83/12)
ج: يُسْتَحَبّ لِمَنْ حج بالطفل من أب أو أم أو غيرهما أن يُلَبِّيَ عنه بالحج، وهكذا العمرة؛ لما ثَبَت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن امرأةً رفعت صبيًّا فقالت: "يا رسول الله، ألهذا حج؟" قال: ((نَعَم، ولك أَجْر))[40]؛ أخرجه مسلم في صحيحه. ويكون هذا الحج نافلة للصبي، ومتى بلغ وَجَب عليه حَجّ الفريضة إذا استَطَاع السبيل لذلك، وهكذا الجارية، وعلى مَنْ أحرم عن الصبي، أو الجارية أن يَطُوف به، ويَسْعَى به، ويَرْمِي عنه الجِمَار، ويذبح عنه هديًا إن كان قارنًا أو مُتَمَتِّعًا، ويطوف به طَوَاف الوَدَاع عند الخُروج؛ للحديث المذكور ولما جاء في مَعْناه من الأحاديث والآثار عن الصحابة - رضي الله عنهم - ومن قصر في ذلك فعليه أن يتمم. فإن كان قد ترك الرَّمْي عنه، أو ترك طَوَاف الوَدَاع، فعليه عن ذلك دمٌ يذبح في مكة للفُقراء من مال الذي أحرم عنه، وإن كان لم يطف به طَوَاف الإفاضة أو لم يسعَ به السَّعْي الواجب، فعليه أن يرجعَ به إلى مكَّة ويطوف ويسعى، وإذا كان من معه الصبي أو الجارية يخشى أن لا يقوم بالواجب فليترك الإحرام عنه؛ لأن الإحرام ليس واجبًا؛ ولكنه مستحبٌّ لمن قدر على ذلك. والله ولي التوفيق.
أعمال الصبي له ويؤجر والده على تعليمه
س: هل أعمال الطفل الذي لم يَبْلُغ: من صلاة، وحج، وتلاوة، كلها لوالديه؟ أم تحسب له هو؟[41]
ج: أعمال الصبي الذي لم يبلغ - أعني أعماله الصالحة - أجرُها له هو لا لوالده ولا لغيره؛ ولكن يؤْجَر والده على تعليمه إياه، وتوجيهه إلى الخير وإعانته عليه؛ لما في صحيح مسلم عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن امرأة رفعتْ صبيًّا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع فقالت: "يا رسول الله: ألهذا حج؟"، قال: ((نعم، ولك أَجْر))[42]. فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّ الحج للصبي، وأن أمه مأْجُورة على حَجّها به.(83/13)
وهكذا غير الولد له أجرٌ على ما يفعله من الخير؛ كتعليم من لديه من الأيتام، والأقارب، والخَدَم، وغيرهم من الناس؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((مَنْ دَلَّ على خَيْر فَلَهُ مِثْل أجر فَاعِلِه))[43]؛ رواه مسلم في صحيحه؛ ولأن ذلك من التَّعاوُن على البر والتَّقْوى، والله - سبحانه - يثيب على ذلك.
س: حديث جابر أنه قال: "عندما حَجَجْنا مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - لَبَيْنَا عن الصبيان، ورمينا عنهم"؛ هل يصِحّ هذا الحديث؟[44]
ج: في سَنَدِه مقالٌ؛ لكن الرَّمْي عن الصبيان وعن العاجزين لا بأس به؛ لأن الصحابة رموا عن الصبيان، ومثلهم المرأة العاجزة، والرجل العاجز، فإنهم يوكلون من يرمي عنهم. وهذه قاعدة شرعية في مثل هذا الأمر الذي تدخله النيابة.
س: هل يشترط أن يكون الصبيُّ مميزًا؟[45]
ج: ليس بشرط؛ بل يصح الإحرام عنه، ويطوف به ولِيّه، ويسعى به، ويرمي عنه؛ لما روى مسلم في صحيحه أن امرأة رفعت للنبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع صبيًّا صغيرًا وقالت: "يا رسول الله، ألهذا حج؟"، قال: ((نعم، ولك أجر))[46].
المَحْرَم للمرأة شرطٌ في وجوب الحج
س: هل شرط المَحْرَم للمرأة في الحج للوُجوب، أم شرط للأداء؟[47]
ج: لا يجب عليها الحج ولا العمرة إلا عند وجود المَحْرَم، ولا يجوز لها السفر إلا بذلك، وهو شرط للوجوب.
حكم حج الخادمات بلا محرم
س: إذا جمعوا مجموعة من الخادمات في سيارة واحدة وذهبوا بهن للحج، هل يأثمون؟[48]
ج: الصواب أنهم يَأْثَمُون إلا بمَحْرم؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تُسافر المرأة إلا مع ذي مَحْرَم))[49]، وهو يعم سفر الحج وغيره. وليس على المرأة حج إذا لم تجد مَحْرمًا يُسافر معها، وقد رَخَّصَ بعض العلماء في ذلك إذا كانت مع جماعة من النساء بصُحْبة رجال مؤمنينَ؛ ولكن ليس عليه دليل، والصواب خلافُه للحديث المذكور.
ضابط المَحْرَم(83/14)
س: هل تُعتبر المرأة مَحْرَمًا للمرأة الأجنبية في السَّفَر والجُلوس ونحو ذلك، أم لا؟[50]
ج: ليستِ المرأة مَحْرَمًا لغيرها، إنما المَحْرَم هو الرجل الذي تحرم عليه المرأة بنسب: كأبيها وأخيها، أو سبب مُباح: كالزوج، وأبي الزوج، وابن الزوج، وكالأب من الرضاع، والأخ من الرضاع ونحوهما.
ولا يجوز للرجل أن يخلوَ بالمرأة الأجنبية، ولا أن يسافر بها؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تُسافر المرأة إلا مع ذي مَحْرم))[51]؛ متفق على صحته؛ ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يخلُوَنَّ رجل بامرأة، فإن ثالثهما الشيطان))[52]؛ رواه الإمام أحمد، وغيره من حديث عمر - رضي الله عنه - بإسناد صحيح.
والد الزوج مَحْرم لزوجة ابنه.
س: هل يجوز أن يكون والدي مَحْرَمًا لزوجتي لأداء العمرة، وأنا داخل الرياض؟[53]
ج: أبو الزوج مَحْرم لزوجة الابن في الحج وغيره.
يشترط في المَحْرم البلوغ
س: ما هو أدنى سن للشاب حتى يكون مَحْرمًا للمرأة، إذا أرادت السفر؟[54]
ج: أدنى سن يكون به الرجل مَحْرمًا للمرأة هو البلوغ، وهو إكمال خمسة عشر سنة، أو إنزال المني بشهوة، أو إنبات الشعر الخشن حول الفرج، ويُسمى العانة.
ومتى وُجِدَتْ واحدة من هذه العلامات الثلاثة صار الذَّكَر بها مكلفًا، وجاز له أن يكون مَحْرَمًا للمرأة، وهكذا وجود واحدة من الثلاث تكون بها المرأة مكلفة، وتزيد المرأة علامة رابعة وهي الحيض، والله ولي التوفيق.
حكم سَفَر المرأة في الطائرة بدون مَحْرم
من عبدالعزيز بن عبدالله بن باز إلى حضرة الأخ المُكَرَّم الأستاذ/ أ. س. ع. وفَّقَهُ الله لكل خير، آمين[55].
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. وبعد:(83/15)
كتابكم المؤرخ في 15/1/1394هـ وصل، وصلكم الله بهداه، وما تضمنه من الإفادة: أنك اختلفت مع أحد زملائك في جواز سفر المرأة المُسْلِمة بالطائرة بدون مَحْرم، مع أن وليها يكون معها حتى تركب الطائرة، ومحرمها الآخر يكون في استقبالها في البلد المُتَوَجِّهَة إليه، ورغبتك في الفتوى كان معلومًا.
ج: لا يجوز سَفَر المرأة المسلمة في الطائرة ولا غيرها بدون مَحْرم يرافقها في سفرها؛ لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تسافر المرأة إلا مع ذي مَحْرم))[56]؛ مُتَّفق على صحته؛ ولأنَّه من المحتمل تعرضها للمَحْذور في أثناء سير الطائرة بأية وسيلة من الوَسائل، ما دامت ليس لديها من يَحْمِيها، وأمر آخر وهو أن الطائرات يحدث فيها خرابٌ أحيانًا، فتنزل في مطار غير المطار الذي قصدته، ويقيم ركابها في فُندق أو غيره في انتظار إصلاحها، أو تأمين طائرة غيرها، وقد يمكُثون في انتظار ذلك مدة طويلة أو يوم أو أكثر، وفي هذا ما فيه مِنْ تعرض المرأة المسافرة وحدها للمحذُور، وبالجملة فإن أسرارَ أحكام الشريعة الإسلامية كثيرة، وعظيمة، وقد يخفى بعضها علينا، فالواجبُ التَّمَسُّك بالأدلة الشرعية، والحَذَر من مُخَالفتها من دون مسوغ شرعي لا شَكَّ فيه. وَفَّق الله الجميع للفِقْه في الدين، والثبات عليه. إنه خير مسؤول، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
مدى صحة حديث: ((السبيل الزاد والراحلة)).
س: حديث أَنَس - رضي الله عنه - في الزَّاد والرَّاحِلَة. قال: "قيل يا رسول الله، ما السبيل؟" قال: ((الزاد والراحلة))؛ رواه الدَّارَقُطْنِيّ، وصححه الحاكم، والراجح إرساله، وأخرجه الترمذي من حديث ابن عمر، وفي إسناده ضعفٌ، فما صحته؟[57]
ج: كلها ضعيفة؛ لكن يشهد بعضها لبعض، فهي من باب الحَسَن لغيره، وأجمع العلماء على المعنى.(83/16)
والأصل في ذلك قوله – تعالى -: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا}[58]، فمن استطاع السبيل إلى البيت لزمه الحج، ومن لم يستَطِع فلا حَرَج عليه، وكل إنسان أعلم بنفسه.
حكم من حج من مال أبيه وفيه كسب حرام
س: حججتُ وأنا طالب في الجامعة، وأخذت مالاً من والدي لمصاريف الحج، وذلك لعدم استطاعتي توفير المال بنفسي، ولكن والدي كان يعمل آنذاك في أعمال مُحَرَّمة وأرباح من تلك الأعمال المحرمة، فهل حجي صحيح أم أعيده؟[59]
ج: الحج صحيح - إن شاء الله - إذا كنتَ أَدَّيْتَه على الوَجْه الشرعي، ولا يبطله كون المال فيه شُبهة أو كَسْب مُحَرَّم؛ لأن أعمال الحج كلها بدنية؛ ولكن يجب على المسلم أن يَحْذر الكسب الحرام، ويتوب إلى الله مما سلف، ومن تاب تابَ الله عليه؛ كما قال – تعالى -: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[60]
حكم الحج لمن عليه دَيْن.(83/17)
س: أفيدكم بأنني شابّ أبلغ من العمر حوالي 32 سنة، ومتزوج ولي من الأطفال خمسة، وشاء الله أن أقع في كثير من الدّيون حتى إنها بلغتْ ما يُقارب خمسين ألف ريال، وذلك في إتمام الزواج حسب العادات والتقاليد بمنطقة الباحة، وحيث إن بعض هذا الدَّيْن له ما يُقارب من 13سنة، حيث إنني أقيم الآن بمدينة الطائف، وأستأجر سكنًا بمدينة الطائف، ومن ذوي الدخل المحدود، وحيث إن ظروفي - والله يا والدي العزيز - لم تساعدني حتى الآن في سَداد هذه الديون، فعندما أقوم بسَداد مبلغ أرجع فأقترض غيره؛ وذلك لقِلَّة دخلي. وحيث إننا مُقبلينَ على مَوْسم الحج هذا العام، ولي رغبةٌ في أداء فريضة الحج هذا العام، فأرجو من الله، ثُمَّ منك إفادتي: هل إذا حججتُ دون علم الذين لهم عندي دَيْن عليّ إثمٌ، ولا أستطيع الاستئذان منهم حيث إن بعضهم في الباحة، والبعض الآخر في مكة المكرمة وجدة، ولا أعرف عُنوان أغلبهم، وكل منهم له ما يُقارب من خمسة آلاف ريال.
لذا أرغب من سماحتكم إفادتي في هذا الموضوع على العُنوان المذكور، وذلك قبل الحج لهذا العام على أن أقوم بالحج من عدمه؟[61]، وفقكم الله وأطال في عمركم.
ج: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فإذا كان عندك ما يوفيهم فلا حاجة للاستئذان؛ لكونك قادر على الوفاء، وإن كان لديك قدرة على الحج والوفاء جميعًا فلا حاجة للاستئذان منهم؛ لأن الحج لمن استطاع إليه سبيلاً. وَفَّق الله الجميع والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وفاء الدين قبل الحج
س: عليَّ دَيْن وأريد الحج، فهل يجوز لي ذلك، وجزاكم الله خيرًا؟[62](83/18)
ج: إذا كان لديك مال يتسع للحج ولقضاء الدين فلا بأس، أمَّا إذا كان المال لا يتَّسِع لهما، فابدأ بالدَّيْن؛ لأن قضاء الدَّيْن مُقَدَّم، والله - سبحانه وتعالى - يقول: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا}[63]، وأنت لا تستطيع؛ لأن الدَّيْن يمنعك من الاستطاعة، أمَّا إذا كان لديك مال كافٍ لسَداد الدَّيْن، وأداء الحج فلا بأس أن تحج وأن تفي بالدَّيْن؛ بل هو الواجب عليك للآية المذكورة وما جاء في معناها من الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
حكم الاقتراض من أجل الحج
س: رجل مقيم بالمملكة وموظف بإحدى المؤسسات يريد أن يحج، هل يجوز له أن يتسلم مُرَتَّبه مقدمًا قبل نهاية الشهر؛ للمُساعدة في نفقات الحج علمًا بأنه سيعمل بنفس الأجر الذي تَسَلَّمه، وهل يجوز له أن يقترض من زملائه؛ ليحج ثم يُسَدد لهم فيما بعد؟[64]
ج: لا حرج في ذلك، إذا سمح له المسؤول بذلك، ولا حرج في الاقتراض إذا كان يستطيع الوفاء، والله ولي التوفيق.
س: هل يجب على الزَّوْج دفع تكاليف حج زوجته؟[65]
ج: لا يجبُ على الزَّوْج دفع تكاليف حج زوجته، وإنما نفقة ذلك عليها إذا استطاعت؛ لقول الله - عز وجل -: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا}[66]، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا سأله جبرائيل - عليه السلام - عن الإسلام، قال: ((الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً))[67]؛ أخرجه مسلم في صحيحه من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
وهذه الآية الكريمة والحديث الشريف يعمان الرجال والنساء، ويعمان الزَّوْجات وغير الزوجات، لكن إذا تبرع لها بذلك فهو مشكور ومأجورٌ، والله ولي التوفيق.
حكم من حج وترك زوجته وحدها.(83/19)
س: هل يجوز أن يذهبَ الرجل للحج أو العمرة دون أن يَصْطَحِب الزوجة؟ وجزاكم الله خيرًا[68]
ج: يجوز له أن يدعها في البيت، ويذهب للحج أو العمرة أو للصلاة أو للجهاد أو لحاجاته الخاصة في التجارة، لا بأس بذلك كله. وإذا كانت الزوجة تستوحش فعليه أن يجعل عندها من الخَدَم من يؤنسها، أو يسمح لها أن تذهب عند أهلها للوحشة التي تصيبها، أو إذا كان عليها خطر، فيجمع بين المصلحتَيْنِ، ولا يلزم أن تذهب معه كُلَّما سافر.
حكم الحج عمن مات ولم يحج
س: مَنْ مات ولم يحج لمرض أو فَقْر ونحوه هل يُحَج عنه؟
ج: من مات قبل أن يحج فلا يخلو من حالَينِ:
إحداهما: أن يكونَ في حياته يستطيع الحج ببدنه وماله، فهذا يجب على ورثته أن يخرجوا من ماله لمن يحج عنه؛ لكونه لم يؤدِّ الفريضة التي مات وهو يستطيع أداءها، وإن لم يوصِ بذلك، فإن أَوْصى بذلك فالأمر آكد، والحُجَّة في ذلك قول الله – سبحانه -: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ}[69]، والحديث الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له رجل: "إن فريضة الله على عباده أدركت أبي شيخًا كبيرًا لا يستطيع الحج ولا الظعن، أفأحج عنه؟"، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((حج عن أبيك واعتمر))[70]. وإذا كان الشيخ الكبير الذي يشق عليه السفر وأعمال الحج يحج عنه، فكيف بحال القَوِيّ القادر إذا مات ولم يحج؟! فهو أَوْلَى وأَوْلَى بأن يُحَج عنه. وللحديث الآخر الصحيح أيضًا، أن امرأة قالت: "يا رسول الله، إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت، أفأحج عنها؟" قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((حجي عن أمك))[71].(83/20)
أما الحال الثانية: وهي ما إذا كان الميت فقيرًا لم يستطِع الحج، أو كان شيخًا كبيرًا لا يستطيع الحج وهو حَيّ، فالمشروع لأولياء مثل هذا الشخص: كابنه وبنته أن يحجوا عنه؛ للأحاديث المتقدِّمة؛ ولحديث ابن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمع رجلاً يقول: ((لبيك عن شبرمة))، قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((مَنْ شبرمة؟))، قال: "أخ لي أو قريب لي"، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((حججت عن نفسك؟))، قال: "لا"، قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((حج عن نفسك، ثم حج عن شبرمة))[72].
ورُوي هذا الحديث عن ابن عباس - رضي الله عنهما - موقوفًا عليه. وعلى كلتا الروايتَينِ، فالحديث يدل على شرعية الحج عن الغير: سواء كان الحج فريضة أو نافلة. وأما قوله – تعالى -: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى}[73]، فليس معناه أن الإنسان ما ينفعه عمل غيره، ولا يجزئ عنه سَعْي غيره، وإنما معناه عند علماء التفسير المحققينَ أنه ليس له سَعْي غيره، وإنما الذي له سعيه وعمله فقط، وأما عمل غيره فإن نَوَاه عنه وعمله بالنِّيابة، فإن ذلك ينفعه ويُثاب عليه؛ كما يثاب بدعاء أخيه وصدقته عنه، فهكذا حجه عنه وصومه عنه إذا كان عليه صوم؛ للحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((من مات وعليه صيام صام عنه ولِيُّه))[74]؛ أخرجه البخاري ومسلم من حديث عائشة، وهذا يختص بالعبادات التي ورد الشرع بالنيابة فيها عن الغَيْر، كالدُّعاء والصدقة والحج والصوم، أما غيرها فهو محل نظر واختلاف بين أهل العلم، كالصلاة والقراءة ونحوهما، والأَوْلَى التَّرْك؛ اقتصارًا على الوارد؛ واحتياطًا للعبادة، والله الموفق.
س: ما حكم الحج عن الوالدين اللذينِ ماتَا ولم يحجَّا؟[75](83/21)
ج: يجوز لك أن تحج عن والديك بنفسك، وتنيب من يحج عنهما إذا كنت حجَجْتَ عن نفسك، أو كان الشخص الذي يحج عنهما قد حَجَّ عن نفسه؛ لما رُوي عن عبدالله بن عباس - رضي الله عنهما - من حديث شبرمة[76].
س: رجل مات ولم يقضِ فريضة الحج، وأَوْصَى أن يُحَج عنه من ماله، ويسأل عن صحة الحجة، وهل حج الغير مثل حجه لنفسه؟[77]
ج: إذا مات المسلم ولم يقضِ فريضة الحج، وهو مستكمل لشروط وجوبها وجب أن يُحَج عنه من ماله الذي خلفه، سواء أوصى بذلك أم لم يوصِ، وإذا حج عنه غيره ممن يصح منه الحج وكان قد أدى فريضة الحج عن نفسه، صَحَّ حجه وأجزَأَه في سقوط الحج عنه؛ كما لو حج عن نفسه، أما كون ذلك أقل أو أكثر فذلك راجع إلى الله - سبحانه وتعالى - لأنه العالِم بأحوال عباده ونِيَّاتهم، ولا شك أن الواجب عليه المُبادرة بالحج إذا استَطَاع قبل أن يموت للأدلة الشرعية الدالة على ذلك، ويُخْشَى عليه من إِثْم التأخير.
حكم الحج عمن مات ولم يوصِ بالحج
س: إذا مات رجل لم يوصِ أحدًا بالحج عنه، فهل تسقط عنه الفريضة إذا حج عنه ابنُه؟[78]
ج: إذا حج عنه ابنه المسلم الذي قد حج عن نفسه سقَطَتْ عنه الفريضة بذلك، وهكذا لو حج عنه غير ابنه من المسلمينَ الذين قد حجوا عن أنفسهم؛ لما ثبت في الصحيحَينِ عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن امرأة قالت: "يا رسول الله: إن فريضة الله على عباده أدركت أبي شيخًا كبيرًا لا يستطيع الحج ولا الظعن، أفأحج عنه؟" قال: ((نعم حجي عنه))[79]. وفي الباب أحاديث أخرى تدل على ما ذكرنا.
حكم من نذر الحج ومات ولم يحج.
س: من نَذَر على نفسه الحج، ومات وليس وراءه تَرِكَة، هل يكون القضاء استحبابًا أو وجوبًا؟[80](83/22)
ج: إن تَيَسَّر من بعض الوَرَثة أو غيرهم أن يحج عنه فذلك مُسْتَحَب وفاعله مأجور، وإلا فليس عليه شيءٌ؛ لقول الله – سبحانه -: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}[81]، مثل الدَّيْن إذا قضوا عنه فقد أحسنوا، وإلا فلا حرج إذا لم يخلف تَرِكة.
الحج عن الوالدَيْنِ أفضل من إنابَة من يحج عنهما.
س: تُوفِّيتْ والدتي وأنا صغير السن، وقد أجَّرَتْ على حجتها شخصًا موثوقًا به، وأيضًا والدي تُوفِّي وأنا لا أعرف منهما أحدًا، وقد سمعت من بعض أقاربي أنه حَجَّ. فهل يجوز أن أُؤجِّر على حجة والدتي، أم يلزمني أن أحج عنها أنا بنفسي، وأيضًا بالنسبة لوالدي هل أقوم بحجة له، وقد سمعت أنه حَجَّ؟ أرجُو إفادتي وشكرًا[82]
ج: إن حججتَ عنهما بنفسك، واجتهدت في إكمال حجك على الوَجْه الشرعي فهو الأفضل، وإن استأجرتَ مَنْ يحج عنهما من أهل الدِّينِ والأمانة فلا بأس.
والأفضل أن تؤدي عنهما حجًّا وعمرة، وهكذا من تستنيبه في ذلك، يشرع لك أن تأمره أن يحج عنهما ويَعْتَمِر، وهذا من بِرِّك لهما وإحسانك إليهما، تَقَبَّل الله منَّا ومنك.
تقديم الأم على الأب في الحج أفضل؛ لأن حقها أعظم وأكبر.
س: تُوفِّي والدي منذ خمس سنوات، وبعده بسنتين تُوفِّيت والدتي، قبل أن يؤدِّيَا فَريضة الحج، وأرغبُ أن أحج عنهما بنفسي، فسمعتُ بعض الناس يقول: يلزمك أن تحج عن أمك أولاً؛ لأن حقها أعظم من حق الأب، وبعضهم يقول: تحج عن أبيك أولاً؛ لأنه مات قبل أمك. وبقيت محتارًا فيمن أُقَدِّم؟ وضّحُوا لي أثابكم الله[83](83/23)
ج: حجك عنهما من البر الذي شَرَعَهُ الله - عز وجل - وليس واجبًا عليك؛ ولكنه مشروع لك ومستحبّ ومُؤَكَّد؛ لأنه من برهما؛ كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح لما سأله رجل: "هل بقي من بر أبوي شيء أبرهما به؟" قال: ((نعم الصلاة عليهما والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وإكرام صديقهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما))[84]. والمقصود أن من برهما بعد وفاتهما أداء الحج عنهما. وثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه سألته امرأة، قالت: "يا رسول الله، إن أبي أدركته فريضة الله على عبادِه في الحج وهو شيخٌ كبيرٌ لا يثبت على الراحلة أفأحج عنه؟"، قال: ((حجي عن أبيك))[85]، وسأله آخر عن أبيه، قال: "إنه لا يثبت على الراحلة، ولا يستطيع الحج ولا الظعن، أفأحج عنه وأعتمر؟" فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((حج عن أبيك واعتمر))[86].
فالمشروع لك يا أخي أن تحج عنهما جميعًا، وأن تعتمر عنهما جميعًا، أما التقديم فلك أن تقدم من شِئْت: إن شئت قَدَّمْت الأم، وإن شئت قَدَّمْت الأب، والأفضل هو تقديم الأم؛ لأن حقها أكبر وأعظم، ولو كانت متأخرة الموت وتقديمها أَوْلَى وأفضل؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - سُئِل فقيل له: "يا رسول الله، من أبر؟" قال: ((أمك))، قال: "ثُمَّ مَنْ؟"، قال: ((أمك))، قال: "ثم من؟"، قال: ((أمك))، قال: "ثم من؟" قال: ((أبوك))[87] فذكره في الرابعة. وفي لفظ آخر سُئِل - عليه الصلاة والسلام - قيل: "يا رسول الله، من أحق الناس بحسن صحابتي؟"، قال: ((أمك))، قال: "ثم مَنْ؟"، قال: ((أمك))، قال: "ثم من؟"، قال: ((أمك))، قال: "ثم من؟" قال: ((أبوك))[88]. فدل ذلك على أن حقها أكبر وأعظم، فالأفضل البداءة بها ثم تحج بعد ذلك عن أبيك، وأنت مأجورٌ في ذلك، ولو بدأت بالأب فلا حَرَج.
جواز الإنابة في الحج والعمرة[89]
س: سماحة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز - حفظك الله -(83/24)
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
أرسل إليكم هذا المكتوب - راجيًا من فضيلتكم - في أمر يخص مسألة وصية وهي:
أنَّ جدتي أوصتني أن أحج لها، وبالنسبة لي فإنني مقعد بسبب رجلي، وكبر سني، ولا أطيق الحج، فقد كلفت المدعو محمد بن سعيد بالحج عني، وقد تكلفت بمصاريف حجه، فأعطيته ألفينِ وستمائة ريال 2600 لذلك. فهل تجزئ هذه الحجة عن تلك الوصية؟. بارك الله فيكم.
ج: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، وبعد:
إذا كان الواقع هو ما ذكرتم فقد أحسنت فيما فعلت، وحج محمد بن سعيد المذكور عن جدتك لا بأس به إذا كان ثِقَة. وفق الله الجميع لما يرضيه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ما يشترط في النائب
س: سماحة الشيخ: هل يجوز أن استأجر من يقوم بأداء الحج لوالدي، علمًا بأنني لم أقضِ فريضة الحج بعدُ؛ لعدم وجود مَحْرم لديّ، أو إذا لم يكن ذلك جائزًا، فهل يجوز أن أقوم بذلك العمل في نفس العام الذي سوف أحج فيه إن شاء الله؟[90]
ج: لا حَرَج عليكِ أن تستأجري من يحج عن أبيك، وإن كنتِ لم تحجي عن نفسك، أما أنت فليس لك الحج عن أبيك إلا بعد أن تحجي عن نفسك، ولا مانع أن يحج عن أبيك مَنْ قد حج عن نفسه في السنة التي تحُجِّينَ فيها عن نفسك. والله الموفق.
لا يلزم النائب أن يأتي بالحج من بلد من ناب عنه
س: إذا كان النائب عمن نذر الحج في بَلْدة أخرى غير بلد الناذر أقرب من بلد الناذر نفسه، هل يلزمه أن يأتي بالحج من بلد الناذر؟[91]
ج: لا يلزمه ذلك؛ بل يكفيه الإحرام من المِيقَات، ولو كان في مكَّة فأحرم منها بالحج كفى ذلك؛ لأن مكة مِيقَات أهلها للحج.
لا حاجة إلى استشارة أبناء المتوفى للحج عنه
س: أريدُ أن أُؤدِّي فريضة الحج عن خَالي، فهل لي أن استشير أبناءه الصغار؟[92](83/25)
ج: إذا كان خالك مُتوفَّى، وأنت قد أديتَ الفريضة عن نفسك فلا بأس أن تؤديَ الحج عنه، ولا حاجة إلى استشارة أبنائه أو غير أبنائه إذا كان قد تُوفِّيَ، أو كان كبير السن لا يستطيع الحج، وأنت قد أديتَ الفريضة، فإنك إذا أحسنت إليه بأداء الحج عنه تطوعًا، فأنت مشكور ومأجور، ولا حاجة إلى استئذانِ أحد في ذلك.
حج عن والدتك ولو بغير إذنها.
س: أريد أن أحج عن والدتي فهل لا بد أن أستأذنها، علمًا بأنها سبق أن أدتْ حجة الفريضة؟[93]
ج: إذا كانت والدتك عاجزةً عن الحج لكِبَر سنها، أو مرض لا يُرْجى بُرْؤه، فلا بأس أن تحج عنها ولو بغير إذنها؛ لما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه استأذنه رجل قائلاً: "يا رسول الله، إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج والعمرة"، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((حج عن أبيك واعتمر))[94]، واستأذنته امرأة قائلة: "يا رسول الله، إن أبي شيخ كبير، ولا يستطيع الحج ولا الظعن، أفأحج عنه؟"، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((حجي عن أبيك))[95]. وهكذا الميت يحج عنه؛ لأحاديث صحيحة ورَدَتْ في ذلك، ولِهذَينِ الحديثَينِ. والله ولي التوفيق.
حجك عن أخيك من مالك مسقط للواجب عليه
من عبدالعزيز بن عبدالله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم/ م. ن. س. ع. وفَّقه الله إلى ما فيه رضاه. آمين[96]
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد:
فقد وصلني سؤالك من طريق "جريدة الجزيرة"، ونصه:
أن أخاك تُوفِّيَ وترك مبالغ عند بعض الناس، وتم جمع هذه الأموال وهي عندك الآن، وتريد إنفاقها في المشاريع الخيرية، وقد حججتَ عنه من مالك.. إلى آخره.
ج: حجك عنه من مالك كافٍ وهو مُسْقِط للواجب عليه. جزاك الله خيرًا، وضَاعَفَ مَثُوبتك.
أمَّا الأموال المذكورة فالواجب تقسيمها بين الوَرَثة، وما أشكل عليكم في ذلك من وصية أو غيرها فراجعوا فيه المحكمة، وفيما تراه المحكمة الكِفَاية إن شاء الله.
حُكْم أخذ حجة لوفاء دَيْن(83/26)
س: هل يجوز أخذ مال عن أداء الحج عن غيري؛ لسداد دَيْن عَلَيّ؟ أفيدوني مأجورينَ[97]
ج: لا بأس أن تأخذ حجة؛ لتفي بالدَّيْن الذي عليك؛ ولكن الذي ينبغي لك أن يكون القصد من الحجة مُشاركة المسلمينَ في الخير مع قضاء الدَّيْن؛ لعل الله أن ينفعك بذلك، ويكون المقابل المادي الذي تأخذه عن الحجة تبعًا لذلك.
حُكْم الحج عن مُقرئ مقابل إهدائه ثواب تلاوته
لي صديق مقرئ في مصر، هل يجوز لي أن أُؤَدي عنه الحجة أو العمرة بشرط أن يقرأ هو القرآن عدة مرات، ويهب ثواب ذلك لوالدي؟[98]
ج: إذا كان عاجزًا كالشيخ الكبير، والعجوز الكبيرة، والمريض الذي لا يرجى برؤه، جاز لك أن تحج عنه وتعتمر، وأنت مأجور؛ لكن بدون هذا الشرط؛ بل تبرُّعًا منك أو بمال يعطيك إياه لتحج عنه؛ أما القراءة عنك أو عن غيرك فلا أصل لها شرعًا.
حكم الحج والعمرة عن عدة أشخاص معًا
س: لي إخوة كثيرون، هل يجوز أن أعتمر عمرة واحدة وأحج حجة واحدة أثوبهما لي ولهم، مع العلم أنهم لا يحافظون على الصلاة؟[99]
ج: العمرة لا تكون إلا عن واحد، وكذلك الحج، فليس لك أن تحج عن جماعة، ولا تعتمر عن جماعة، وإنما الحج عن واحد، والعمرة عن واحد فقط إذا كان المحجوج عنه ميتًا، وهكذا المعتمر عنه ميتًا، أو عاجزًا لمرض لا يُرْجى بُرْؤه، أو كبير سن فلا بأس أن تحج عنه وتعتمر إذا كان شخصًا واحدًا، وإذا أعطاك وليُّه مالاً أو هو نفسه - أي العاجز - لتحج عنه فلا بأس إذا أخذته لله لا لقصد الدنيا. والذي لا يحافظ على الصلاة لا يحج عنه، وإذا كان الشخص الميت أو العاجز عن الحج لكبر سنه أو لمرض لا يرجى بُرْؤُه معروفًا بأنه كان لا يصلي، أو عنده ما يكفر به من نواقض الإسلام الأخرى فإنه لا يحج عنه؛ لأن ترك الصلاة كفر أكبر في أصح قولي العُلماء. نسأل الله العافية.
حكم من استناب رجلاً غير صالح(83/27)
س: شخص دفع مالاً لشخص من أجل أن يحج لوالدته، وهو يرى أنه أمين، ثم تبين له أن هذا الشخص يعمل عملاً غير صالح، ويطلب الإفادة؟[100]
ج: ينبغي لمن أراد أن يستنيب أحدًا أن يبحث عنه، وأن يعرف أمانته، واستقامته، وصلاحه، وعليه إذا كانت الحجة لازمة وفريضة أن يعوض عنها حجة أخرى، وإذا كانت الحجة وصية لأحد أوصاه بأن يخرجها فوضعها في يد غير أمينة، فإن الأَحْوَط في حقه أن يبدلها بغيرها؛ لأنه لم يحرص ولم يعتنِ بالمقام؛ بل تساهل، أما إن كان متطوعًا ومحتسبًا وليس عنده وصية لأحد؛ وإنما أراد التطوع والأجر فلا شيء عليه، وإن أحب أن يخرج غيرها فلا بأس.
يجوز حج المرأة عن الرجل والعكس.
س: الأخت أ. م. م. من القاهرة تقول في سؤالها: هل يجوز أن تحج المرأة عن الرجل، وهل هناك فرق بين أن يكون الحج تطوعًا أو واجبًا نرجُو الفتوى؟، وجزاكم الله خيرًا[101]
ج: يجوز حج المرأة عن الرجل إذا كان المَحْجُوج عنه ميتًا أو عاجزًا عن الحج؛ لكِبَر سن أو مرض لا يرجى برؤه: سواء كان الحج فرضًا أو نَفْلاً؛ لما ثَبَت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن رجلاً قال له: "يا رسول الله، إن أبي لا يستطيع الحج ولا الظعن، أفأحج عنه وأعتمر؟" فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((حج عن أبيك واعتمر))[102]، وثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أن امرأة من "خَثْعَم" قالت: "يا رسول الله، إن أبي لا يستطيع الحج، أفأحج عنه؟" فقال لها - صلى الله عليه وسلم -: ((حجي عن أبيك))[103]، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة. ولم يفصل النبي - صلى الله عليه وسلم - بين حج الفَرْض والنَّفْل؛ فدل ذلك على جواز النيابة فيهما من الرجل والمرأة بالشرط المذكور، وهو كَوْن المحجوج عنه ميتًا أو عاجزًا؛ لكبر سن، أو مرض لا يُرْجَى بُرْؤُه. والله ولي التوفيق.
الحج عن الآخرين ليس خاصًّا بالقرابة.(83/28)
س: هل الحج عن الآخرين مشروع على الإطلاق أم خاصٌّ بالقرابة؟، ثم هل يجوز أخذ الأجرة على ذلك؟، ثم إذا أخذ الأجرة على حجة عن غيره فهل له أَجْر في عمله هذا؟[104]
ج: الحج عن الآخرين ليس خاصًّا بالقرابة؛ بل يجوز للقرابة وغير القرابة؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - شبهه بالدين؛ فدل ذلك على أنه يجوز للقرابة وغير القرابة. وإذا أخذ المال وهو يقصد بذلك المُشاهدة للمشاعر العظيمة، ومشاركة إخوانه الحُجاج والمشاركة في الخير فهو على خير - إن شاء الله - وله أجر. أما إذا كان لم يقصد إلا الدنيا، فليس له إلا الدنيا، ولا حول ولا قوة إلا بالله؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى))[105]؛ مُتَّفق على صحته.
تارك الصلاة لا يحج عنه.
س: أبو عبدالله من الرِّياض يقول في سؤاله: ماذا يقول فضيلتكم فيمن يهب الأعمال الصالحة: كقراءة القرآن، والحج والعمرة عمن توفى وهو تارك للصلاة، وفي الغالب يكون هذا المُتوفَّى جاهلاً وغير متعلم؟ أفيدونا جزاكم الله خيرًا[106].
ج: تارك الصلاة لا يُحَج عنه، ولا يُتَصَدق عنه؛ لأنه كافر في أصح قولي العلماء؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((بين الرجل وبين الشرك والكُفْر ترك الصلاة))؛ رواه مسلم في صحيحه[107]، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((العَهْد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمَنْ تركها فقد كَفَر))[108]؛ رواه الإمام أحمد، وأهل السُّنن بإسناد صحيح.
أما القراءة عن الغير فلا تشرع، لا عن الحي ولا عن الميت؛ لعدم الدليل على ذلك، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رَدّ))[109]؛ أخرجه مسلم في صحيحه؛ وأخرجه الشيخان: البخاري ومسلم في الصحيحينِ بلفظ: ((من أحْدَثَ في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رَدّ))[110]، ومعنى فهو رد: أي فهو مَرْدود.(83/29)
ولم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن الصحابة - رضي الله عنهم - فيما نعلم أنهم قَرؤُوا القرآن، وثَوَّبُوه لحي ولا ميت. والله ولي التوفيق.
حُكْم الصدقة والحج عمن كان يذبح لغير الله
س: سائل يقول: إن والده يذبح لغير الله فيما قيل له عن ذلك، ويريد الآن أن يتصدق عنه ويحج عنه، ويعزو سبب وقوع والده في ذلك إلى عدم وجود عُلماء، ومُرْشِدينَ، وناصِحينَ له، فما الحُكْم في ذلك كله؟[111]
ج: إذا كان والده معروفًا بالخير والإسلام والصَّلاح، فلا يجوز له أن يصدق من ينقل عنه غير ذلك ممن لا تعرف عدالته، ويُسَن له الدعاء والصدقة عنه حتى يعلم يقينًا أنه مات على الشرك، وذلك بأن يثبت لديه بشهادة الثقات العُدول اثنينِ أو أكثر، أنهم رأوه يذبح لغير الله من أصحاب القبور أو غيرهم، أو سمعوه يدعو غير الله، فعند ذلك يمسك عن الدعاء له، وأمره إلى الله - سبحانه وتعالى - لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - استأْذَنَ ربه أن يستغفر لأمه فلم يأذن الله له، مع أنها ماتت في الجاهلية على دين الكُفَّار، ثم استأذن ربه أن يزورها فأذن له، فدل ذلك على أن من مات على الشرك ولو جاهلاً لا يُدْعَى له، ولا يُسْتغفر له، ولا يُتَصدق عنه، ولا يُحَج عنه، أما من مات في محل لم تبلغه دعوة الله، فهذا أمره إلى الله – سبحانه - والصحيح من أقوال أهل العلم: أنه يُمْتَحَن يوم القيامة، فإن أطاع دخل الجنة، وإن عصى دخل النار؛ لأحاديث صحيحة وردت في ذلك.
باب المواقيت: مواقيت الحج الزمانية والمكانية.
س: نسأل فضيلتكم عن معنى قول الله – سبحانه -: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ... الآية}؟، جزاكم الله خيرًا[112].(83/30)
ج: يقول الله – سبحانه -: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ}[113].
ومعنى الآية: أن الحج يهل به في أشهر معلومات وهي: شوال، وذو القعدة، والعشر الأولى من ذي الحجة، هذه هي الأشهر. هذا هو المراد بالآية وسَمَّاها الله أشهرًا؛ لأن قاعدة العرب إذا ضموا بعض الثالث إلى الاثنينِ، أطلقوا عليها اسم الجمع.
وقوله – سبحانه -: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} يعني: أَوْجَب الحج فيهن على نفسه بالإحرام بالحج، فإنه يُحَرَّم عليه: الرَّفَث، والفُسوق، والجِدَال. والرَّفَثُ هو: الجِمَاع ودَوَاعيه، فليس له أن يُجَامع زوجته بعد ما أحرم، ولا يتكلم ولا يفعل ما يدعوه إلى الجِمَاع، ولا يأتي الفُسُوق وهي: المعاصي كلها من: عقوق الوالدينِ، وقطيعة الرحم، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والغيبة، والنميمة، وغير ذلك من المعاصي.
والجِدال معناه: المُخاصَمَة، والمُمَاراة بغير حق؛ فلا يجوز للمُحْرِم بالحج أو بالعمرة أو بهما أن يُجادِل بغير حق، وهكذا في الحق لا ينبغي أن يُجَادل فيه؛ بل يُبَيِّنه بالحكمة والكلام الطيب، فإذا طال الجدال ترك ذلك؛ ولكن لا بد من بيان الحق بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن وهذا النوع غير مَنْهيّ عنه؛ بل مأمور به في قوله – سبحانه -: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}[114].
حكم من جَاوزَ المِيقَات دون إحرام.
س: ما حكم من جاوز الميقات دون أن يُحْرِم سواء كان لِحَج أو عمرة أو لغرض آخر؟[115](83/31)
ج: من جاوز الميقات لحج أو عمرة، ولم يُحْرِم وجب عليه الرُّجوع والإحرام بالحج والعمرة من الميقات؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بذلك، قال - عليه الصلاة والسلام -: ((يُهِلُّ أَهْلُ الْمَدِينَةِ مِنْ ذِى الْحُلَيْفَةِ، وَيُهِلُّ أَهْلُ الشَّامِ مِنَ الْجُحْفَةِ، ويُهِلُّ أهل نَجْد من قَرْن، ويُهِلّ أَهْل اليَمَن مِنْ يَلَمْلَم))[116]، هكذا جاء في الحديث الصحيح، وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: "وَقَّتَ النبي لأهل المدينة ذَا الحُلَيْفَة، ولأهل الشَّام الجُحْفَة، ولأهل نَجْد قَرْن المنَازِل، ولأهل اليمن يَلَمْلَم، هُنَّ لَهُنَّ وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِن مِنْ غير أَهْلِهِنّ ممن أراد الحج والعمرة" [117]، فإذا كان قصده الحج أو العمرة فإنه يلزمه أن يُحْرِم من الميقَات الذي يمر عليه، فإن كان من طريق المدينة أحرم من ذي الحُلَيْفة، وإن كان من طريق الشام، أو مصر، أو المغرب أحرم من "الجُحْفَة" - من "رَابِغ" الآن - وإن كان من طريق اليمن أحرم من "يَلَمْلَم"، وإن كان من طريق "نجد" أو "الطائف" أحرم من "وادي قَرْن"؛ ويسمى "قرن المنازل"؛ ويسمى "السيل" الآن، ويسميه بعض الناس "وادي محرم" فيحرم من ذلك بحجة أو عمرة أو بهما جميعًا، والأفضل إذا كان في أشهر الحج أن يحرم بالعمرة فيطوف لها ويَسْعَى ويقصر ويحل، ثم يُحْرِم بالحج في وقته، وإن كان مر على الميقَات في غير أشهر الحج مثل: رمضان أو شعبان أحرم بالعمرة فقط، هذا هو المشروع. أما إن كان قدم لغرض آخر لم يرد حجًّا ولا عمرة، إنما جاء لمكة للبيع أو الشراء أو لزيارة بعض أقاربه وأصدقائه، أو لغرض آخر ولم يرد حجًّا ولا عمرة، فهذا ليس عليه إحرام على الصحيح، وله أن يدخل بدون إحرام، هذا هو الراجح من أصح قولي العلماء، والأفضل أن يحرم بالعمرة؛ ليَغْتَنِم الفرصة.
حكم من تجاوز الميقات أكثر من مرة دون إحرام(83/32)
س: شخص عليه دم لإحرامه من "جدة" بعد أن جاوز الميقَات، وقد وقع في هذا الخطأ عدة مرات، ماذا يفعل؟ هل يذبح ذبيحة واحدة وتكفي، أم الجواب خلاف ذلك؟ أرجو من سماحتكم الإفادة؟ جزاكم الله خيرًا[118].
ج: عليه عن كل مرة ذبيحة تُذْبَح في مكة للفُقراء، إذا كان قد جاوز الميقات وهو ناوٍ الحج، أو العمرة ثم أحرم من جدة، ويجزئ عن ذلك سُبع بَدَنَة، أو سُبع بَقَرة مع التوبة إلى الله – سبحانه - من ذلك؛ لأنه لا يجوز للمسلم أن يُجَاوز الميقات وهو ناوٍ للحج أو العمرة إلا بإحرام؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لما وقت المواقيت: ((هُنَّ لَهُنَّ، ولمن أتى عَلَيْهِنَّ من غير أهلِهِنَّ ممن أراد الحج والعمرة))[119]؛ ولقول ابن عباس - رضي الله تعالى - عنهما: "من تَرَك نُسُكًا أو نسيه فليهرق دمًا"[120]، وفَّق الله الجميع لما يحبه ويرضاه.
مَنْ قصد مكة لتجارة أو زيارة لأقاربه فليس عليه إحرام
س: ما حكم من قدم إلى مكة، ولم يحرم للعمرة ولم يَطُف، ولم يَسْع؟[121]
ج: إذا كان الذي قصد مكة لم يقصد حجًّا ولا عمرة؛ وإنما أراد التجارة أو الزيارة لبعض أقاربه أو نحو ذلك، فليس عليه إحرامٌ ولا طوافٌ ولا سعي ولا وداع؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لما وقَّت المواقيت لأهل المدينة والشام ونجد واليمن: ((هُنَّ لَهُنَّ وَلِمَنْ أتى عليهِنَّ من غير أهلِهِنَّ ممن أراد الحج والعمرة))[122]؛ الحديث أخرجه البخاري ومسلم من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - فدل ذلك على أن من لم يرد الحج والعمرة فليس عليه شيء، ولكن إذا تَيَسَّر له الإحرام للعمرة فهو أفضل؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((العمرة إلى العمرة كَفَّارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة))[123]، وهذا في حق من قد أَدَّى عمرة الإسلام. أما من لم يؤدها فالواجب عليه البدار بها إذا قدر على ذلك كالحج. والله الموفق.(83/33)
حُكْم التَّردُّد بين الطائف وجدة للعمل بلا إحرام لمن نوى الحج.
س: موظف قد عزم على الحج؛ لكن له أعمال في الطائف يتردد؛ من أجلها بين الطائف وجدة بغير إحرام؟[124]
ج: لا حَرَج في ذلك؛ لأنه حين تردده من الطائف إلى جدة لم يقصد حجًّا ولا عمرة، وإنما أراد قضاء حاجاته؛ لكن من علم في الرجعة الأخيرة من الطائف أنه لا عَوْدَة له إلا الطائف قبل الحج، فعليه أن يحرم من الميقَات بالعمرة أو الحج. أما إذا لم يعلم ثم صادَف وقت الحج، وهو في جدة فإنه يحرم من جدة بالحج، ولا شيء عليه. ويكون حكمه حُكْم المُقيمينَ في جدة الذين جاؤوا إليها لبعض الأعمال، ولم يُريدوا حجًّا ولا عُمرة عند مُرورهم بالميقَات.
حكم من نوى العمرة لوالده ثم لنفسه قبل الميقات
س: أنا مقيم وأرغَب في تأدية عمرة رمضان لي ولوالدي المُتوفَّى، فهل يجوز لي أن أذهب للميقات، وأنوي العمرة لوالدي ثم إذا أديتُ النُّسُك أحرم من مكاني سواء بمكة أو جدة بعمرة لنفسي، أم لا بد من الذّهاب للميقَات؟[125](83/34)
ج: إذا كنتَ خارج المواقيت، وأردتَ الحج أو العمرة لك أو لغيرك من الأموات أو العاجزينَ عن أدائها؛ لكبر سن أو مرض لا يرجى بُرْؤه. فإن الواجب عليك أن تحرم من الميقات الذي تَمُرّ عليه، وأنت قاصد الحج أو العمرة، فإذا فرغت من أعمال العمرة أو الحج فلا حرج عليك أن تأخذ عمرة لنفسك من أدنى الحل؛ كالتَّنْعِيم والجِعْرَانة ونحوهما، ولا يلزمك الرجوع إلى الميقات؛ لأن عائشة - رضي الله عنها - أحرمت بالعمرة من مِيقَات المدينة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع، فلمَّا فرغت من حجها وعمرتها استأذنَتِ النبي - صلى الله عليه وسلم - في عمرة مفردة، فأمر أخاها عبدالرحمن أن يذهبَ بها إلى التَّنْعِيم فاعتمرتْ بعد الحج، ولم يأمرها بالرجوع إلى الميقَات. وكانت قد أدخلت الحج على عمرتها التي أحرمت بها من الميقات بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - لما حاضت قبل أن تُؤَدِّيَ أعمالها.
أما إن كنتَ ساكنًا داخل المواقيت جدة، وبحرة ونحوهما، فإنه يَكْفيك أن تحرم بالعمرة أو الحج من منزلك، ولا يلزمك الذهاب إلى الميقَات؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما وَقَّت المواقيت قال: ((هُنَّ لَهُنَّ، ولمن أتى عَلَيهِنَّ من غير أهلهِنَّ ممن أراد الحج والعمرة))، ثم قال: ((ومن كان دون ذلك، فمِنْ حيثُ أَنْشَأَ حتى أهل مكة يُهِلّون من مكة))[126]؛ متفق عليه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
وبَيَّن حديث عائشة - رضي الله عنها - المذكور آنفًا: أنَّ مَنْ كان داخل الحرم ليس له أن يحرم من داخل الحرم للعمرة خاصة؛ بل عليه أن يخرج إلى الحل فيحرم منه بالعمرة؛ كما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - عائشة بذلك. ويكون حديث عائشة المذكور مخصصًا لقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن عباس: ((حتى أهل مكة يهلون من مكة))، وهذا قول جمهور أهل العلم - رحمهم الله تعالى - وبالله التوفيق.
إحرام من هم دون المواقيت.(83/35)
س: مَنْ كان سكنه دون المواقيت، فمن أين يُحْرِم؟[127]
ج: من كان دون المواقيت أحرم من مكانه مثل: أهل أم السلم وأهل بحرة يُحْرِمُون من مكانهم، وأهل جدة يحرمون من بلدهم؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن عباس: ((ومن كان دون ذلك - أي دون المواقيت - فمُهَلُّه من حيث أنشأ))[128]، وفي لفظ آخر: ((فمُهَلُّه من أهله حتى أهل مكة يُهِلُّون منها))[129].
ميقات الحُجَّاج القادمينَ من إفريقيا.
من عبدالعزيز بن عبدالله بن باز إلى حضرة المكرمة السيدة/ ت. أ. ر. حفظها الله.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فقد تلقيت رسالتك المُؤرَّخَة في 16/12/1391هـ، وعلمت ما تضمنته من الأسئلة، وإليك الإجابة عنها[130].
أولاً: بالنسبة لحجك مع عمك فلا بأس به؛ لأن العم مَحْرم شرعي، ونرجو من الله أن يتقبل منك، ويثيبك ثواب الحج المبرور.
وأما ميقاتُ الحُجَّاج القادمينَ من إفريقيا: فهو الجُحْفة أو ما يُحاذيها من جهة البر والبحر والجو، إلا إذا قدموا من طريق المدينة فميقاتهم ميقات أهل المدينة. ومن أحرم من رَابِغ فقد أحرم من الجُحْفة؛ لأن الجحفة قد ذهبت آثارها، وصارت بلدة رَابِغ في محلها أو قبلها بقليل.(83/36)
وأما من ناحية المساجد الموجودة بالمدينة المعروفة حاليًا، فكلها حادثة ما عدا مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - ومسجد قُباء، وليس لهذه المساجد غير المسجدينِ المذكورينِ خصوصية من صلاة أو دعاء أو غيرهما؛ بل هي كسائر المساجد مَنْ أدركَتْه الصلاة فيها صَلَّى مع أهلها، أما قصدها للصلاة فيها والدعاء والقراءة أو نحو ذلك لاعتقاده خصوصية فيها، فليس لذلك أصل؛ بل هو من البدع التي يجب إنكارُها؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو ردّ))[131]؛ أخرجه مسلم في صحيحه من حديث عائشة رضي الله عنها، وتحقيقًا لرغبتك يسرنا أن نبعث إليك بعضًا من الكتب، التي توزعها الجامعة حسب البيان المرفق، نسأل الله أن ينفع بها. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
بيان خطأ من جعل جدة ميقاتًا لحجاج الجو والبحر
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه..أما بعد:[132]
فقد اطَّلَعْتُ على ما كتب في التقويم القطري بإملاء فضيلة الشيخ/ عبدالله بن إبراهيم الأنصاري صفحة 95، 96 حول المواقيت للوافدينَ إلى مكة بنِيَّة الحج أو العمرة، فألْفَيْته قد أصاب في مواضع، وأخطأ في مواضع خطأ كبيرًا، فرأيتُ أنَّ من النصح لله، ولعباده التَّنبيهَ على المواضع التي أخطأَ فيها؛ راجيًا بعد اطلاعه على ذلك توبته عما أخْطَأ فيه ورجوعه إلى الحق؛ لأن الرجوع إلى الحق شرف وفضيلة وهو خير من التَّمادِي في الباطل؛ بل هو واجب لا يجوز تركُه؛ لأن الحق واجب الاتِّباع، فأقول:
أولًا: ذَكَر - وفَّقه الله - في الفقرة الثالثة من كلمته ما نصه: "القاصدون عن طريق الجو لأداء الحج والعمرة إذا كانت النية منهم الإقامة بجدة ولو يومًا واحدًا، ينطبق عليهم حكم المقيمينَ بجدة، والنازلينَ بها فلهم أن يحرموا من جدة" انتهى.(83/37)
وهذا كلام باطل، وخطأ ظَاهِرٌ، مُخالف للأحاديث الصحيحة الواردة في المواقيت، ومخالف لكلام أهل العلم في هذا الباب، ومخالف لما ذَكَره هو نفسه في الفقرة الأولى من كلمته المشار إليها آنفًا؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وَقَّت المواقيت لمُريدِي الحج والعمرة من سائر الأمصار، ولم يجعل جدة ميقاتًا لمن تَوجَّه إلى مكة من سائر الأمصار والأقاليم، وهذا يعم الوافدينَ إليها من طريق البر أو البحر أو الجو.
والقول: بأن الوافد من طريق الجو لم يمر عليها قولٌ باطل لا أساس له من الصحة؛ لأن الوافد من طريق الجو لا بد أن يَمُرّ قطعًا بالمواقيت التي وقَّتَها النبي - صلى الله عليه وسلم - أو على ما يسامتها فيلزمه الإحرام منها، وإذا اشتبه عليه ذلك لزمَهُ أن يحرم في الموضع الذي يَتَيقَّن أنه محاذيها أو قبلها حتى لا يجاوزها بغير إحرام، ومن المعلوم أن الإحرام قبل المواقيت صحيح؛ وإنما الخلاف في كراهته وعدمها، ومن أحرم قبلها احتياطًا خَوْفًا من مجاوزتها بغير إحرام فلا كراهة في حقه، أما تجاوُزها بغير إحرام فهو مُحَرَّمٌ بالإجماع في حق كل مكلف أراد حجًّا أو عمرة؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن عباس المتفق عليه لما وَقَّت المواقيت: ((هُنَّ لَهُنَّ، ولمن أتى عليهنّ مِنْ غير أهلهِنَّ ممن كان يريد الحج والعمرة))[133]، ولقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن عمر المتفق عليه: ((يُهِلُّ أهل المدينة من ذي الحُلَيْفَة، ويُهِلُّ أهل الشام مِنَ الجُحْفَة، وأهل نَجْد من قَرْن))[134]، وهذا اللفظ عند أهل العلم خبر بمعنى الأمر فلا تجوز مخالفته، وقد ورد في بعض الروايات بلفظ الأمر وذلك بلفظ: ((ليُهِلّ)).
والقول: بأن من أراد الإقامة بجدة يومًا أو ساعات من الوافدينَ إلى مكة من طريق جدة له حكم سُكَّان جدة في جواز الإحرام منها، قولٌ لا أصل له ولا أعلم به قائلًا من أهل العلم.(83/38)
فالواجب على من يوقِّع عن الله ويفتي عباده في الأحكام الشرعية أن يَتَثَبَّت فيما يقول، وأن يتقي الله في ذلك؛ لأن القول على الله بغير علم خطره عظيم وعواقبه وخيمة. وقد جعل الله - سبحانه - القول عليه بلا علم في أعلى مراتب التحريم؛ لقوله - عز وجل -: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ}[135]
وأخبر - سبحانه - في آية أُخْرى أن ذلك مما يأمر به الشيطان فقال – سبحانه -: {وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ}[136]، وعلى مُقْتَضى هذا القول الباطل لو أراد مَنْ توجَّه من المدينة إلى مكة بنية الحج والعمرة أن يقيم بجدة ساعات جاز له أن يُؤَخِّر إحرامه إليها، وهكذا من توجه من نجد أو الطائف إلى مكة بنية الحج أو العمرة، وأراد الإقامة في لزيمة أو الشرائع يومًا أو ساعات جاز له أن يتجاوز قرنًا غير محرم، ويكون له حكم سكان لزيمة أو الشرائع. وهذا قول لا يخفى بُطْلانه على من تأمل النصوص، وكلام أهل العلم، والله المستعان.
ثانيًا: ذكر الشيخ عبدالله الأنصاري في الفقرة الخامسة ما نصه: "يجوز لمن يقصد أداء العمرة أن يتجه إلى التنعيم فيحرم منها حيث إنها الميقات الشرعي" انتهى.(83/39)
وهذه العبارة فيها إجمالٌ وإطلاقٌ؛ فإن كان أراد بها سكان مكة والمُقيمينَ بها فصحيح، ولكن يؤخذ عليه قوله: "إن التنعيم هو الميقات الشرعي" فليس الأمر كذلك؛ بل الحل كله ميقات لأهل مكة والمقيمين بها، فلو أحرموا من الجِعْرَانة أو غيرهما من الحل فلا حرج وكانوا بذلك محرمينَ من ميقات شرعي، وقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - عبدالرحمن بن أبي بكر أن يخرج بعائشة إلى الحل لما أرادَتِ العمرة، وكونها أحرمت من التَّنْعِيم لا يُوجب ذلك أن يكون هو الميقات الشرعي، وإنما يدل على الاستحباب؛ كما قاله بعض أهل العلم؛ لأن في بعض الروايات من حديثها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر عبدالرحمن يعمرها من التنعيم وذلك - والله أعلم - لكونه أقرب الحل إلى مكة جمعًا بين الرِّوَايات، أما إن أراد بهذه العبارة أن كل من أراد العمرة له أن يحرم من التنعيم، ولو كان في جهة أخرى من الحل فليس بصحيح؛ لأن كل من كان في جهة من الجهات خارج الحَرَم ودون المواقيت، فإن ميقاته من أهله للحج والعمرة جميعًا؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن عباس المتفق عليه -: ((ومن كان دون ذلك - يعني دون المواقيت - فمُهَلُّه من أهله))، وفي لفظ: ((فمُهَلُّه من حيث أنشأ))، وقد أحرم النبي - صلى الله عليه وسلم - من الجِعْرَانة عام الفتح لما فرغ من تقسيم غنائم حُنين، فلم يذهب إلى التنعيم، والله ولي التوفيق.
ثالثًا: ذكر الشيخ عبدالله في الفقرة السادسة والسابعة ما نصه: "لا حجة لمن يقول بأن القاصد إلى جدة بالطائرة يمُرّ بالميقات؛ لأنه لا يمر بأي ميقات من المواقيت؛ بل هو هائم أو طائر في الجو ولم ينزل إلا بجدة"، ونص الحديث: ((ولِمَنْ مَرَّ بِهِنَّ))، ولا يعتبر من كان طائرًا بالهواء بأنه مارّ بأي ميقات" انتهى كلامه.(83/40)
وهذا القول غير صحيح، وقد مضى الرد عليه آنفًا، وقد سبق الشيخ عبدالله الأنصاري إلى هذا الخطأ، الشيخ/ عبدالله بن زيد آل محمود في مقال وَزَّعَهُ زعم فيه أن الوافد من طريق الجو أو البحر إلى مكة لا يمُرّ على المواقيت، وزعم أن ميقاته جدة، وقد أخطأ في ذلك؛ كما أخطأ الشيخ/ عبدالله الأنصاري فالله يغفر لهما جميعًا، وقد كتب مجلس هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية ردًّا على الشيخ/ عبدالله بن زيد آل محمود في زعمه أن جدة ميقات للوافدينَ إلى مكة من الحُجَّاج والعُمَّار من طريق الجو أو البحر ونشر الرد في وقته، وقد أصاب المجلس في ذلك، وأدَّى واجب النُّصْح لله ولعباده، ولا يزال الناس بخير ما بقي فيهم من ينكر الخطأ والمُنْكَر، ويبين الصواب والحق.
وما أحسن ما قاله الإمام مالك - رحمه الله -: "ما منا إلا رادّ ومردود عليه إلا صاحب هذا القبر"؛ يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأسأل الله أن يغفرَ لنا جميعًا، وأن يمنحنا وسائر إخواننا إصابة الحق في القول والعمل والرجوع إلى الصواب إذا وضح دليله، إنه خير مسؤول.
رابعًا: ذكر الشيخ/ عبدالله الأنصاري - هداه الله - في الفقرة الثامنة والتاسعة ما نصه: "على من يريد مُواصلة سيرِه إلى مكة لأداء نُسُكه أن يجهز إحرامه من آخر مطار يقوم منه، وينوي قبل جدة بمقدار عشرين دقيقة إذا كان قصده مُواصلة السَّيْر بدون توقُّف أو إقامة في جدة، أما الذي يقيم بجدة ولو ساعات يجوز له أن يحرم من جدة إن شاء الله، وينطبق عليه حُكْم ساكن جدة" انتهى كلامه.(83/41)
وقد سبق أن هذا التفصيل والتحديد لا أساسَ له من الصحة، وأن الواجب على من أراد الحج أو العمرة من الوافدينَ إلى مكة من طريق الجو أو البحر الإحرام بالنُّسُك، الذي أرادوا من حج أو عمرة إذا حاذوا الميقات الذي في طريقهم أو سامتوه، ولا يجوز لهم تأخير الإحرام ولو نووا الإقامة بها يومًا أو ساعات، فإن شكوا في المحاذاة لزمهم الإحرام من المكان الذي يتيقَّنُون فيه احتياطًا للواجب، وإنما الكراهة عند بعض أهل العلم في حق من أحرم قبل الميقات بدون عذر شرعي.
وأسأل الله أن يهدينا جميعًا صراطه المستقيم، وأن يوفقنا وجميع علماء المسلمينَ لإصابة الحق في القول والعمل، وأن يعيذنا جميعًا من القول عليه بلا علم إنه سميع قريب, ولواجب النصح للمسلمين جرى تحريره، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
إبطال دعوى من ادّعَى أن جدة ميقات لجميع الوافدين إلى مكة من طريقها للحج أو العمرة[137]
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بَيَّنَ مواقيت الإحرام التي لا يجوز لمن مَرّ بها يريد الحج، أو العمرة تجاوزها بدون إحرام وهي:
ذو الحُلَيْفَة (أبيار علي): لأهل المدينة، ومن جاء عن طريقهم.
والجُحْفَة: لأهل الشام، ومصر، والمغرب، ومن جاء عن طريقهم.
ويَلَمْلَم (السعدية): لأهل اليمن، ومن جاء عن طريقهم.
وقَرْن المنازل (السيل الكبير): لأهل نجد، وأهل المشرق، ومن جاء عن طريقهم.
وذات عرق: لأهل العراق، ومن جاء عن طريقهم.
ومن كان منزله دون هذه المواقيت مما يلي مكة فإنه يحرم من منزله حتى أهل مكة يحرمون من مكة للحج، وأما العمرة فيحرمون بها مِنْ أَدْنَى الحل.(83/42)
ومَنْ مَرّ بهذه المواقيت قادمًا إلى مكة، وهو لا يريد حجًّا ولا عمرة فإنه لا يلزمه إحرام على الصحيح؛ لكن لو بَدَا له أن يحج أو يعتمر بعد ما تجاوزها، فإنه يُحْرِم من المكان الذي نَوَى فيه الحج أو العمرة، إلا إذا نوى العمرة وهو في مكة، فإنه يخرج إلى أدنى الحل ويُحْرِم - كما سبق - فالإحرام يجب من هذه المواقيت على كل مَنْ مَرّ بها أو حَاذاها برًّا أو بحرًا أو جوًّا، وهو يريد الحج أو العمرة.
والذي أَوْجَب نشر هذا البيان أنه صدر من بعض الإخوة في هذه الأيام كُتيبٌ اسْمُه: "أدلة الإثبات أن جدة ميقات"، يحاول فيه إيجاد ميقات زائد على المواقيت التي وقَّتَها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث ظَنّ أن جدة تكون ميقاتًا للقادمينَ في الطائرات إلى مطارها، أو القادمينَ إليها عن طريق البحر أو عن طريق البر، فلكل هؤلاء أن يؤخروا الإحرام إلى أن يَصِلُوا إلى جدة ويحرموا منها؛ لأنه بزعمه وتقديره تُحاذِي ميقاتي السعدية، والجُحْفَة؛ فهي ميقات وهذا خطأ واضح يعرفه كل من له بصيرة ومعرفة بالواقع؛ لأن جدة داخل المواقيت، والقادم إليها لا بد أن يمُرّ بميقات من المواقيت التي حَدَّدَها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو يُحَاذيه برًّا أو بحرًا أو جوًّا فلا يجوز له تَجاوُزه بدون إحرام، إذا كان يريد الحج أو العمرة؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - لما حدد هذه المواقيت: ((هُنَّ لَهُنَّ، ولمن أتى عليهِنَّ مِنْ غير أهلهِنَّ ممن يريد الحج أو العمرة))، فلا يجوز للحاج والمعتمر أن يخترق هذه المواقيت إلى جدة بدون إحرام ثم يحرم منها؛ لأنها داخل المواقيت.(83/43)
ولما تسرع بعض العلماء منذ سنوات إلى مثل ما تسرع إليه صاحب هذا الكُتَيِّب، فأفتى بأن جدة ميقات للقادمينَ إليها صدر عن هيئة كبار العلماء قرارٌ بإبطال هذا الزعم، وتفنيده جاء فيه ما نصه: "وبعد الرجوع إلى الأدلة، وما ذكره أهل العلم في المواقيت المكانية، ومُناقشة الموضوع من جميع جوانبه، فإن المجلس يقرر بإجماع ما يلي:
1- أن الفتوى الصادرة بجواز جعل جدة ميقاتًا لرُكاب الطائرات الجوية والسفن البحرية، فتوى باطلة؛ لعدم استنادها إلى نص من كتاب الله أو سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - أو إجماع سلف الأمة، ولم يسبقه إليها أحد من علماء المسلمينَ الذين يُعْتد بأقوالهم.
2- ولا يجوز لمن مر بميقات من المواقيت المكانية، أو حاذى واحدًا منها جوًّا أو برًّا أو بحرًا أن يتجاوزها من غير إحرام؛ كما تشهد لذلك الأدلة؛ وكما قرره أهل العلم رحمهم الله تعالى.
ولواجب النصح لله ولعباده، رأيتُ أنا وأعضاء اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء إصدار هذا البيان؛ حتى لا يَغْتَرّ أحد بالكتيب المذكور" انتهى.
هذا وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.
ميقات القادمين من السودان
س: بالنسبة للقادمينَ من السودان: بعض العلماء يفتونهم بأن ميقاتهم جدة؟[138]
ج: على حسب الطريق إن كان طريقهم يمُرّ بميقات الجُحْفَة لزمهم الإحرام إذا حاذُوها، وإن كان طريقهم لا يُحاذي ميقاتًا قبل جدة، فإنهم يحرمون منها إذا كانوا ممن أراد الحج أو العمرة.
حكم من يقول للقادمينَ للحج أو العمرة: "اجلسوا في جدة ثلاثة أيام ثم أحرموا"
س: بعض القادمينَ من خارج المملكة إذا وصلوا جدة، يقولون: "اجلسوا ثلاثة أيام في جدة ثم أحرموا من الميقات، فما حكم ذلك؟"[139](83/44)
ج: يلزمهم أن يعودوا إلى مِيقاتهم إذا كانوا قادمينَ للحج أو العمرة، ولا يجوز لهم تَجاوُز الميقات بدون إحرام؛ لأن الرسول - عليه الصلاة والسلام - لما وقَّتَ المواقيت لأهل المدينة، والشام، ونجد، واليمن، وغيرهم، قال: ((هُنَّ لَهُنَّ، ولِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْر أَهْلِهِنَّ ممن أراد الحج والعمرة))[140]، فلا بد أن يحرِموا من الميقَات الذي يمرُّون عليه، إذا كانوا قاصدينَ الحج أو العمرة، فيحرموا منه فإذا تَجَاوَزُوه، فإن عليهم الرجوع إليه فإن تَجَاوَزُوه ولم يرجعوا وأحرموا بعده لزمهم دم، وهكذا إن عجزوا عن الرجوع إليه أحرموا من مكانهم وعليهم دم يُجْزِئ في الأضحية، يذبح في مكة للفقراء، ويُقَسّم بينهم.
تعقيب على فضيلة الشيخ/ عبدالله كنون حول تأخير الإحرام لأهل المغرب إلى جدة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على الصادق الأمين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن سار على دَرْبِهم إلى يوم الدين، أما بعد:[141]
فقد اطَّلَعْتُ على فتوى لصاحب الفضيلة الشيخ/ عبدالله كنون قد نشرت في صحيفة "الميثاق المغربية" حول الإحرام من الطائرة لأهل المغرب، وتأخيره إلى جدة، فاستغربْتُها كثيرًا، ومع تقديري لعلمه وفضله، فقد رأيتُ التنبيه على عدم صحة هذه الفتوى، وإن تأخير الإحرام إلى جدة للحاج المغربي أو المعتمر أمر مُخَالف للأحاديث الصحيحة الدالة على وجوب الإحرام من المواقيت التي وقَّتها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومنها الجُحْفَة لأهل مصر، والشام، والمغرب، وسائر دول شمال إفريقيا؛ بل الوَاجب على الحاج المغربي أن يُحْرِم إذا حَاذَى الميقات جوًّا وبرًّا وبحرًا؛ كما هو نص الحديث الشريف؛ وكما نص عليه أهل العلم.
والتوقيت من النبي - صلى الله عليه وسلم - ليس توقيتًا لزمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بل هو توقيت للمسلمينَ إلى يوم القيامة.(83/45)
والله - سبحانه وتعالى - يعلم أنه سيكون في آخر الزمان طائرات وغيرها، فدَلّ على دخول ركابها في ذلك. وإذا خاف ركابها من تَجاوُز الميقات قدم الإحرام قبل وصوله الميقات احتياطًا.
وما ذكره الأستاذ عبدالله من عدم تمكُّن المسافر من الاستعداد في الطائرة بالغُسل والصلاة، فإن بإمكان الحاج أن يستعدّ في بيته أو بلده قبل ركوبه الطائرة، مع العلم بأنَّ الغسل ليس بواجب وإنما هو مُستحبّ. وهكذا الوُضوء ليس بواجب. فلو أحرم من دون وضوء، ولا غُسْل فإحرامه صحيح.
وهكذا الصلاة قبل الإحرام ليست واجبة؛ وإنما هي مستحبَّة عند الجمهور. وقال بعض أهل العلم لا تُستحَبّ لعدم الدليل الصحيح الصريح في ذلك.
فلو أحرم الحاج أو المعتمر من دون وضوء ولا غسل فإحرامه صحيح، ولا يجوز تأخير الواجب عن وقته أو مكانه؛ من أجل تحصيل المُستحبّ؛ بل يجب البدار بالوَاجب، وإن فات المُستحبّ. وهذا أمر واضح لا غُبَار عليه.
فنصيحتي للأستاذ أخينا/ عبدالله كنون الرُّجوع عن هذه الفتوى؛ لأن الرجوع إلى الصَّواب هو الواجبُ على المؤمن، وهو شَرَف له، وهو خير من التَّمادِي في فتوى تُخَالِفُ الدليل.
وأسأل الله أن يوفِّقَنا وإياه، وسائر إخواننا لإصابة الحق في القول والعمل، إنه جَوَادٌ كريم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
حكم من نَسِيَ وتجاوَزَ الميقات
س: من نسي الميقات هل يلزمه الرجوع أم لا؟ وهل عليه شيء؟[142]
ج: يرجع ويحرم من الميقات إذا لم يكن قد أحرم بعد، أما إذا كان قد أحرم بعد الميقات فعليه دم ولا يرجع.
حكم التلبية قبل الوصول للميقات احتياطًا
س: إذا كان المسافر بالطائرة وقالوا: بعد نصف ساعة سنمر فوق الميقات؛ لكنه لَبَّى احتياطًا؟[143]
ج: لا بأس إذا احْتَاط قبل أن يصلَ الميقات، فالاحتياط مطلوبٌ.
من لم يمُرّ بميقات، ولم يتمكن من تَحَرِّي المحاذاة يحرم إذا كان بينه وبين مكة مرحلتان.(83/46)
س: ما حكمُ مَنْ أحرم من الحُجَّاج القادمينَ من خارج المملكة من جدة؟[144]
ج: الواجب الإحرام مِنَ الميقات سواء كان ذلك الميقاتُ ميقاتَ بلدِه أو ميقاتًا آخر، مَرَّ عليه في طريقه؛ كالشاميّ يقدم من طريق المدينة، فإنه يُحْرِم من ميقات المدينة، وإذا قُدِّر أنه اجتازه فإن أمكنه الرجوع إلى الميقات والإحرام منه فهذا هو الواجب، فإن لم يمكنه أحرم من مكانه وعليه دم لفقراء الحرم يذبح في مكة. والذي لم يكنِ الميقاتُ في طريقه، فإنه يتَحَرَّى مُحاذاة أول ميقات يمُرّ به ثم يُحْرِم. والذي لا يتسنَّى له لا هذا ولا ذلك، فإنه يُحْرِم إذا كان بينه وبين مكة مرحلتان؛ وهما: يوم وليلة ومقدار ذلك ثمانون كيلاً تقريبًا. والله ولي التوفيق.
س: إذا نوى شخص أن يعتمر، وهو من أهل نجد فجاوزت الطائرة الميقات، فوصل المطار هل يجوز له أن يذهب إلى رَابِغ؟[145]
ج: الواجب أن يرجع للمِيقَات الذي مَرَّ عليه فيُحْرِم منه إذا كان حين مر على الميقات ناويًا الحج أو العمرة، أما من أتى جدّة لحاجة، ولم ينوِ حجًّا ولا عمرة حين مر على الميقات؛ وإنما بَدَا له بعد ذلك أن يحج أو يعتمر بعدما وصل جدَّة، فإنه يُحْرِم من جدة؛ لكونه إنما نوى الحج أو العمرة بعد وصوله إليها؛ كما دل على ذلك الحديث الصحيح، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ومن كان دون ذلك - أي من المواقيت - فمن حيث أنشأ حتى أهل مكة من مكة)) [146].
لكن من أراد العمرة من مكة يخرج إلى الحل فيحرم منه؛ كالتنعيم والجِعْرَانة وغيرهما؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر عائشة - رضي الله عنها - لما أرادَتِ العمرة، وهي في مكة أن تخرج إلى التَّنْعِيم فتحرم منه، فدلّ ذلك على تخصيص حديث ابن عباس المذكور بحديث عائشة المذكور في حق المعتمر. والله الموفق.
حكم من ذهب إلى جدة وهو قاصد العمرة.(83/47)
س: سافرت إلى جدة وكانت نِيَّتِي أن أمْكُث فيها خمسة أيام، ثم أذهب بعدها إلى مكة المكرمة؛ لأداء العمرة، فماذا يلزمني يا سماحة الشيخ في مثل هذه الحالة؟[147]
ج: يلزمك الرُّجوع إلى الميقات في "وادي قَرْن" المعروف بـ "السيل"؛ للإحرام منه بعمرة إذا كنت قاصدًا للعمرة حين توجُّهِك إلى جدة؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لما وَقَّت المواقيت: ((هُنَّ لَهُنَّ، ولِمَنْ أَتَى عَلَيهِنَّ مِنْ غير أهلهِنَّ، ممن أراد الحج والعمرة))؛ متفق على صحته من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
س: نويتُ زيارة أختي في جدة، وكذلك أداء العمرة، وسافرت على الطائرة من نجران إلى جدة ومكثْتُ في جدة ذلك اليوم، وفي اليوم الثاني ذهبتُ إلى مكة للعمرة، فهل عُمْرتي صحيحة أم لا؟ [148]
ج: إذا كنت أحرمت من الميقات وهو يَلَمْلَم - ميقات أهل اليمن - فليس عليك شيء، وإن كنت أحرمتَ من جدة فعليك دم يُذْبح في مكةَ للفقراء؛ لكَوْنِك جاوَزْت الميقات، ولم تُحْرِم وقد نويتَ العمرة؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لما وَقَّت المواقيت: ((هُنَّ لَهُنَّ وَلِمَنْ أَتَى عَليهِنَّ مِنْ غَيْر أهلهِنَّ ممن أراد الحج والعمرة))؛ الحديث مُتَّفق عليه. ولقول ابن عباس - رضي الله عنهما -: "من ترك نُسُكًا أو نَسِيَهُ فليهرق دمًا"[149]، وعدم الإحرام من الميقات الذي مررتَ عليه يُعتبَر تَرْكًا للنُّسك. وَفَّق الله الجميع.
الإحرام في الطائرة
س: متى يُحْرِم الحاج والمعتمر القادم عن طريق الجو؟[150]
ج: القادم عن طريق الجو أو البحر إذا حَاذَى الميقات، مثل: صاحب البر إذا حَاذَى الميقات أحرم في الجو أو في البحر أو قبله بيسير حتى يَحْتاطَ لسرعة الطائرة، وسرعة السفينة، أو الباخرة.
تقرير من سماحته لما قرره مجلس المَجْمَع الفِقْهي الإسلامي في حق من أحرم قبل الميقات، ومن حاذى الميقات وليس معه ملابس الإحرام[151](83/48)
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقينَ سيد المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين؛ أما بعد:
فإن مجلس مَجْمَع الفِقْه الإسلامي المُنْعقِد في مكة المكرمة بين 7/4 إلى 15/4/1401هـ، في دورته الرابعة قد نَظَر فيما يعرض لكثير من الوافدينَ إلى مكة المكرمة للحج، أو للعمرة من طريق الجو أو البحر مِنْ جَهْلِهم بِمُحاذاة المواقيت التي وقَّتَها النبي - صلى الله عليه وسلم - وأَوْجَب الإحرام منها على أهلها، وعلى من مَرَّ عليها من غيرهم ممن يريد الحج والعمرة وهي:
ذو الحُلَيْفَة: لأهل المدينة ومن مَرّ عليها من غيرهم، وتسمى حاليًا (أبيار علي).
والجُحْفَة: وهي لأهل الشام، ومصر، والمغرب، ومن مَرَّ عليها من غيرهم، وتسمى حاليًا (رَابِغ)[152]
وقرن المنازل: وهي لأهل نجد ومن مَرَّ عليها من غيرهم، وتسمى حاليًا (وادي محرم)[153]، وتسمى أيضًا (السيل).
ذات عرق: لأهل العراق وخراسان، ومن مَرَّ عليها من غيرهم، وتسمى حاليًا (الضريبة).
ويَلَمْلَم: وهي لأهل اليمن ومَنْ مَرَّ عليها من غيرهم.(83/49)
وقرر أن الواجب عليهم أن يحرموا إذا حاذوا أقرب ميقات لهم من هذه المواقيت الخمسة جوًّا أو بحرًا، فإن اشتبَه عليهم ذلك ولم يجدوا معهم من يرشدهم إلى المُحاذاة، وَجَب عليهم أن يحتاطوا، وأن يحرموا قبل ذلك بوقت يعتقدون أو يغلب على ظنهم أنهم أحرموا قبل المُحاذاة؛ لأن الإحرام قبل الميقات جائز مع الكَرَاهة ومُنْعَقد، ومع التَّحَرِّي والاحتياط - خوفًا من تجاوز الميقات بغير إحرام - تزول الكراهة؛ لأنه لا كَرَاهة في أداء الواجب، وقد نص أهل العلم في جميع المذهب الأربعة على ما ذكرنا، واحتَجُّوا على ذلك بالأحاديث الصحيحة الثابتة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في توقيت المواقيت للحُجَّاج والعمار، واحتجوا أيضًا بما ثبت عن أمير المؤمنينَ عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لما قال له أهل العراق: "إن قَرْنًا جَوْرٌ عن طريقنا"، قال لهم - رضي الله عنه -: "انظروا حَذْوَها مِنْ طريقكم"[154]
قالوا: إن الله - سبحانه - أوجب على عباده أن يتقوه ما استطاعوا، وهذا هو المستطاع في حق من لم يمُرّ على نفس الميقات.
إذا عُلِم هذا فليس للحجاج والعمار الوافدينَ من طريق الجو والبحر ولا غيرهم، أن يؤخروا الإحرام إلى وصولهم إلى جدة؛ لأن جدة ليست من المواقيت التي وَقَّتَها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهكذا من لم يحمل معه ملابس الإحرام، فإنه ليس له أن يُؤَخِّر إحرامه إلى جدة؛ بل الواجب عليه أن يُحْرِم في السراويل إذا كان ليس معه إزار؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: ((من لم يجد نعلينِ فليلبس الخُفينِ، ومن لم يجد إزارًا فليلبس السراويل))[155] وعليه كَشْف رأسه؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما سُئِل عما يلبس المُحْرِم، قال: ((لا يلبس القميص، ولا العمائم، ولا السراويلات، ولا البرانس، ولا الخفاف، إلا لمن لم يجد النعلين)) [156]؛ الحديث متفق عليه.(83/50)
فلا يجوز أن يكون على رأس المُحْرِم عمامة، ولا قلنسوة، ولا غيرهما مما يُلْبَس على الرأس، وإذا كان لديه عمامة ساترة يمكنه أن يجعلها إزارًا يَأْتَزِرُ بها، ولم يجز له لبس السراويل، فإذا وصل إلى جدة وجب عليه أن يخلع السراويل، ويستبدل الإزار بها إذا قدر على ذلك، فإن لم يكن عليه سراويل، وليس لديه عمامة تصلح أن تكون إزارًا حين محاذاته للميقات في الطائرة، أو الباخرة، أو السفينة، جاز له أن يُحْرِم في قميصه الذي عليه مع كَشْف رأسه، فإذا وصل إلى جدة اشترى إزارًا وخلع القميص، وعليه - عن لبسه القميص - كَفَّارة وهي: إطعام ستة مساكين؛ لكل مسكين نصف صاع من تَمْر، أو أرز، أو غيرهما، من قوت البلد لمساكين الحرم، أو صيام ثلاثة أيام، أو ذبح شاة، هو مُخَيَّر بين هذه الثلاثة؛ كما خير النبي - صلى الله عليه وسلم - كعب بن عجرة لما أذن له في حَلْق رأسه، وهو محرم للمرض الذي أصابه، والله ولي التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه.
ليس عليك حرج في إقامتك بجدة وأنت مُحْرِم
س: ذهبتُ للعمرة في رمضان ومعي والدتي، وأحرمت فوق أبيار علي بالطائرة، ونزلنا بجدة وجلسْنَا فيها، وعندما أفطرنا ذهبنا من المساء إلى مكة؛ لقضاء العمرة، ولم نخلع الإحرام حتى أنهيناها، فهل علينا شيء؟، وقد جلسنا وقتًا بجدة ونحن محرمون، أفيدونا جزاكم الله خيرًا[157]
ج: إذا كان الواقع هو ما ذكرته فليس عليك ولا على أمك شيء بإقامتكما بجدة، وأنتما محرمان؛ لأنه لا يجب على المحرم مُوَاصلة السير في الطريق حتى يؤدي العمرة؛ بل له أن يستريح في الطريق، ويقيم فيما شاء من المنازل للحاجة التي تدعو إلى ذلك، وهو على إحرامه، وفق الله الجميع.
حكم إنشاء نية الإحرام من المنازل القريبة من الميقات
من عبدالعزيز بن عبدالله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم / ع. ر. ن. سَلَّمَهُ الله
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:(83/51)
فأشير إلى كتابكم رقم 885 وتاريخ 16/10/1411هـ الذي جاء فيه ما نصه: "نتقدم لسماحتكم بالسؤال الآتي: نسكن بمنطقة القنفذة التي تبعد عن مكة المكرمة بثلاثمائة وخمسين كيلو تقريبًا، ومعلوم أن ميقات أهل اليمن يَلَمْلَم - أي السعدية - وحيث إن الخط أصبح اليوم مُيَسَّرًا - والحمد لله على نِعَمِه - وإننا نشاهد بعض الناس يغتسل ويلبس الإحرام من منطقة القنفذة التي تبعد عن وادي يَلَمْلَم - أي السعدية - حوالي مائتين وستين كيلو مترًا تقريبًا.
فهل يجوز لهم الاغتسال ولباس الإحرام من منازلهم بمنطقة القنفذة؟، وإذا جاز لهم ذلك، فهل يجوز لهم عقد نية الإحرام من منازلهم أو لا؟ أفيدونا أثابكم الله، وكتب لكم الأجر، وأمدكم بعونه وتوفيق لخدمة الإسلام والمسلمين[158]
ج. أفيدكم بأنه لا حرج في الاغتسال، ولبس ملابس الإحرام والتطيب من منازلهم؛ لقربهم من الميقات بواسطة السيارات؛ لكن المشروع لهم ألا يحرموا إلا من الميقات، والإحرام هو نية الدخول في النُّسُك، هذا هو الإحرام ثم يشرع لهم مع النية التلفظ بالنُّسُك، فيقول: لبيك عمرة، أو لبيك حجَّة، أو اللهم إني أوجَبْت عمرة، أو اللهم إني أوجبت حجة، ثم يُلَبِّي التلبية الشرعية وهي: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك".
وفَّق الله الجميع لما فيه رِضَاه.
---
[1] من برنامج "نُور على الدَّرْب" الشريط الأول
[2] من ضمن الأسئلة المُوَجَّهة لسماحَتِه من "المجلة العربية"
[3] سورة: [آل عمران: 97]
[4] رواه البخاري في "الإيمان"؛ باب بني الإسلام على خمس برقم 8، ومسلم في (الإيمان)، باب بيان أركان الإسلام ودعائمه العظام برقم 16.
[5] رواه مسلم في (الإيمان)؛ باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان برقم 8
[6] رواه الإمام أحمد في "مسند بني هاشم" بداية مسند عبدالله بن العباس برقم 2637، والدارمي في (المناسك)؛ باب كيف وجوب الحج برقم 1788(83/52)
[7] من أسئلة: دروس "بلوغ المرام"
[8] رواه ابن ماجَهْ في (المناسك)؛ باب الحج جهاد النساء برقم 2901
[9] رواه ابن خُزَيمة في (المناسك)؛ باب ذكر البيان أن العمرة فرض، وأنها من الإسلام برقم 3044، والدَّارقطني (الحج)؛ باب المواقيت برقم 2664
[10] نشر في "مجلة التوعية الإسلامية في الحج" العدد 11 في 11/12/1400هـ، وفي كتاب "فتاوى تتعلق بأحكام الحج والعمرة والزيارة لسماحته"، طبعة عام 1408هـ ص 35
[11] نشر في "مجلة الدعوة"، العدد 1637 في 19/12/1418هـ
[12] سورة: [آل عمران: 97]
[13] من أسئلة دروس "بلوغ المرام"
[14] سورة [آل عمران: 97]
[15] رواه البخاري في (النكاح)؛ باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من استطاع منكم الباءَة فليتزوج))؛ برقم 5065، ومسلم في (النكاح)؛ باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه برقم 1400
[16] من برنامج "نور على الدرب"
[17] نشر في "مجلة الجامعة الإسلامية"، وفي "جريدة الجزيرة" يوم الجمعة 6/12/1418هـ
[18] نشر في "مجلة الجامعة الإسلامية"
[19] رواه البخاري في (الحج)؛ باب وجوب العمرة وفضلها برقم 1773، ومسلم في (الحج)؛ باب فضل الحج والعمرة، ويوم عرفة برقم 1349
[20] رواه الإمام أحمد في "مسند بني هاشم" بداية مسند "عبدالله بن العباس" برقم 2804، وابن ماجَهْ في (المناسك)؛ باب العمرة في رمضان برقم 2994
[21] سورة [البقرة: 125]
[22] من ضمن أسئلة موجهة لسماحته في المسجد الحرام في حج عام 1418هـ
[23] نشر في "المجلة العربية" في رمضان عام 1413هـ
[24] رواه البخاري في (الحج)؛ باب وجوب العمرة وفضلها برقم 1773، ومسلم في (الحج )؛ باب في فضل الحج والعمرة ويوم عرفة برقم 1349
[25] رواه الإمام أحمد في "مسند بني هاشم" بداية مسند "عبدالله بن عباس" برقم 2804، وابن ماجَهْ في (المناسك)؛ باب العمرة في رمضان برقم 2994(83/53)
[26] نشر في جريدة "الرياض" العدد 10868 في 29/11/1418هـ، وفي جريدة "عكاظ" يوم الخميس 30/11/1416هـ، وفي جريدة "الجزيرة" في 11/12/1416هـ، وفي كتاب "الدعوة" لسماحته ج1 ص 132
[27] رواه البخاري في (الإيمان)؛ باب من قال: "إن الإيمان هو العمل" برقم 26، ومسلم في "الإيمان"؛ باب كون الإيمان بالله - تعالى - أفضل الأعمال برقم 83
[28] رواه البخاري في (الجهاد والسير)؛ باب فضل من جهز غازيًا أو خلفه بخير برقم 2843، ومسلم في (الإمارة)؛ باب فضل إعانة الغازي في سبيل الله برقم 1895
[29] نشر في "مجلة التوعية الإسلامية في الحج" العدد الخامس عام 1404هـ، وكذلك نشر في كتاب "فتاوى تتعلق بالحج والعمرة والزيارة" لسماحته ص 46
[30] نشر في "مجلة الدعوة" بتاريخ 17/8/1412هـ
[31] سورة [البقرة: 217]
[32] رواه البخاري في (الزكاة)؛ باب من تصدق في الشرك ثم أسلم برقم 1436، ومسلم في (الإيمان)؛ باب بيان حكم عمل الكافر إذا أسلم بعده برقم 123
[33] نشر في "مجلة الدعوة" العدد 1540 في 22/12/1416هـ
[34] رواه الترمذي في (الإيمان)؛ باب ما جاء في ترك الصلاة برقم 2621
[35] رواه مسلم في (الإيمان)؛ باب بيان إطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة برقم 82
[36] نشر في "مجلة الدعوة" العدد 1637 في 19/12/1418هـ
[37] رواه البَيْهَقِي في "السنن الكبرى" في الحج في جماع أبواب دخول مكة؛ باب حج الصبي يبلغ والمملوك يعتق والذمي يسلم برقم 9865
[38] رواه مسلم في (الحج)؛ باب صحة حج الصبي برقم 1336
[39] من ضمن الأسئلة الموجهة لسماحته من "المجلة العربية"
[40] رواه مسلم في (الحج)؛ باب صحة حج الصبي برقم 1336
[41] نشر في جريدة "الرياض" العدد 10910 بتاريخ 12/1/1419هـ
[42] رواه مسلم في (الحج)؛ باب صحة حج الصبي برقم 1336
[43] رواه مسلم في (الإمارة)؛ باب فضل إعانة الغازي برقم 1893
[44] من أسئلة دروس "بلوغ المرام"
[45] من أسئلة دروس "بلوغ المرام"(83/54)
[46] رواه مسلم في (الحج)؛ باب صحة حج الصبي برقم 1336
[47] من أسئلة دروس "بلوغ المرام"
[48] من أسئلة دروس "بلوغ المرام"
[49] رواه البخاري في (الحج)؛ باب حج النساء برقم (1862)، ومسلم في (الحج)؛ باب سفر المرأة مع مَحْرَم برقم 1339
[50] نشر في جريدة "الرياض" العدد 10917 في 19/1/1419هـ، وفي المجلة العربية، شعبان عام 1413هـ
[51] رواه البخاري في "الحج"؛ باب حج النساء برقم 1862، ومسلم في (الحج)؛ باب سفر المرأة مع مَحْرَم برقم 1339
[52] رواه الإمام أحمد في "مسند العشرة المبشرين بالجنة" أول "مسند عمر بن الخطاب" برقم 178، والترمذي في (الرضاع)؛ باب ما جاء في كراهية الدخول على المغيبات برقم 1171
[53] من أسئلة دروس "بلوغ المرام"
[54] من ضمن الأسئلة الموجهة لسماحته من "المجلة العربية"
[55] خطاب صدر من مكتب سماحته برقم 1803/ خ في 5/8/1395هـ إجابة على سؤال مُقَدَّم من أ . س. ع.
[56] رواه البخاري في (الحج)؛ باب حج النساء برقم 1862، ومسلم في (الحج)؛ باب سفر المرأة مع مَحْرَم برقم 1339.
[57] من أسئلة دروس "بلوغ المرام"
[58] سورة [آل عمران: 97]
[59] من برنامج "نور على الدرب"
[60] سورة [النور: 31]
[61] سؤال مُقَدَّم من م. ع. غ. وأجاب عنه سماحته برقم 1601/ 1/ ش، وتاريخ 29/11/1415هـ
[62] نشر في "مجلة الدعوة" العدد 1635 في 28/11/1418هـ
[63] سورة [آل عمران: 97]
[64] نشر في "مجلة الدعوة" العدد 1686 في 22/12/1419هـ
[65] من ضمن الأسئلة الموجهة لسماحته من "المجلة العربية"
[66] سورة [آل عمران: 97]
[67] رواه مسلم في (الإيمان)؛ باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان برقم 8
[68] نشر في "مجلة الدعوة" العدد 1635 في 28/11/1418هـ
[69] سورة [آل عمران: 97]
[70] رواه الإمام أحمد في "مسند المدنيينَ" حديث أبي رزين العقيلي برقم 15751، والنسائي في (المناسك)؛ باب وجوب العمرة برقم 2621(83/55)
[71] رواه الإمام أحمد في "باقي مسند الأنصار" حديث بريدة الأسلمي برقم 22523، ومسلم في (الصيام)؛ باب قضاء الصيام عن الميت برقم 1149
[72] رواه أبو داود في (المناسك)؛ باب الرجل يحج عن غيره برقم 1811
[73] سورة [النجم: 39]
[74] رواه البخاري في (الصوم)؛ باب من مات وعليه صوم برقم 1952، ومسلم في (الصيام) باب قضاء الصيام عن الميت برقم 1147
[75] نشر في "جريدة البلاد" في 1/12/1416هـ
[76] رواه أبو داود في (المناسك)؛ باب الرجل يحج عن غيره برقم 1811
[77] نشر في "مجلة التوعية الإسلامية في الحج" العدد الخامس عام 1404هـ، وفي كتاب "فتاوى تتعلق بأحكام الحج والعمرة والزيارة" لسماحته ص 52
[78] نشر في مجلة "رابطة العالم الإسلامي" في ذي القعدة عام 1406هـ
[79] رواه الترمذي في (الحج)؛ باب ما جاء في الحج عن الشيخ الكبير والميت برقم 928
[80] من أسئلة دروس "بلوغ المرام"
[81] سورة [التغابن: 16]
[82] نشر في كتاب "الدعوة" عام 1408هـ ج1 ص 127.
[83] نشر في مجلة "التوعية الإسلامية في الحج" العدد الحادي عشر عام 1400هـ.
[84] رواه الإمام أحمد في "مسند المكيين" حديث أبي أسيد الساعدي برقم 15629، وأبو داود في "الأدب"؛ باب في بر الوالدين برقم 5142.
[85] رواه الإمام أحمد في "مسند بني هاشم" باقي "مسند ابن عباس" برقم 3041، والنسائي في (مناسك الحج)؛ باب الحج عن الميت الذي لم يحج برقم 2634.
[86] رواه الإمام أحمد في "مسند الشاميين"، حديث أبي رزين العقيلي برقم 15751، والنسائي في (المناسك)؛ باب وجوب العمرة برقم 2621.
[87] رواه الإمام أحمد في "مسند البصريين" حديث معاوية بن حيدة برقم 19544، وابن ماجه في (الأدب)؛ باب بر الوالدين برقم 3658.
[88] رواه البخاري في (الأدب)؛ باب: "من أحق الناس بحسن الصحبة" برقم 5971، ومسلم في "البر والصلة والآداب"؛ باب بر الوالدين برقم 2548.
[89] سؤال شخصي مُقَدَّم من الأخ م. ط. ح. د.(83/56)
[90] سؤال شخصي مُوَجَّه لسماحته من سائلة، وقد أجاب عنه سماحته بتاريخ 14/1/1420هـ
[91] من أسئلة دروس "بلوغ المرام"
[92] من برنامج "نور على الدرب"
[93] نشر في "مجلة الدعوة" العدد 1641 في 18/1/1419هـ
[94] رواه الإمام أحمد في "مسند المدنيين" حديث أبي رزين العقيلي برقم 15751، والنسائي في (المناسك)؛ باب وجوب العمرة برقم 2621.
[95] رواه الإمام أحمد في "مسند بني هاشم" باقي "مسند ابن عباس" برقم 3041، والنسائي في (مناسك الحج)؛ باب الحج عن الميت الذي لم يحج برقم 2634.
[96] خطاب صدر من مكتب سماحته برقم 1509/1 في 12/5/1415هـ إجابة عن سؤال مُقَدَّم من م. ن. س. ع
[97] نشر في "مجلة الدعوة" العدد 1635 في 28/11/1418هـ
[98] من برنامج "نور على الدرب"
[99] من برنامج "نور على الدرب"
[100] نشر في مجلة "التوعية الإسلامية في الحج" العدد الثامن في 4/12/1401هـ ص 63.
[101] من ضمن الأسئلة الموجهة لسماحته من "المجلة العربية".
[102] رواه الإمام أحمد في "مسند المدنيين" حديث أبي رزين العقيلي برقم 15751، والنسائي في (المناسك)؛ باب وجوب العمرة برقم 2621.
[103] رواه الإمام أحمد في "مسند بني هاشم" باقي "مسند ابن عباس" برقم 3041، والنسائي في (مناسك الحج)؛ باب الحج عن الميت الذي لم يحج برقم 2634.
[104] سؤال بعد محاضرة ألقاها سماحته في الحج في اليوم الثامن من ذي الحج في منى عام 1402هـ.
[105] رواه البخاري في (بدء الوحي)؛ باب بدء الوحي برقم 1، ومسلم في (الإمارة) باب قوله : ((إنما الأعمال بالنية)) برقم 1907.
[106] نشر في "مجلة الدعوة" في العدد (1489)بتاريخ 27/11/1415هـ.
[107] رواه مسلم في (الإيمان)؛ باب بيان إطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة برقم 82.
[108] رواه الترمذي في (الإيمان)؛ باب ما جاء في ترك الصلاة برقم 2621.(83/57)
[109] رواه البخاري مُعَلَّقًا في النجش، ومسلم في (الأقضية)؛ باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور برقم 1718.
[110] رواه البخاري في (الصلح)؛ باب إذا اصطلحوا على صلح جور برقم 2697، ومسلم في (الأقضية)؛ باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور برقم 1718.
[111] نشر في "مجلة الدعوة" العدد 1648 في 8/3/1419هـ.
[112] من الأسئلة الموجهة لسماحته في المحاضرة التي ألقاها بمنى يوم التروية سنة 1402هـ.
[113] سورة [البقرة: 197].
[114] سورة [النحل: 125].
[115] نشر في "جريدة الجزيرة" العدد 8593 بتاريخ 20/12/1416هـ، وفي "جريدة عكاظ"، العدد 11543 بتاريخ 2/12/1418هـ، وفي العدد 11545 بتاريخ 4/12/1418هـ.
[116] رواه البخاري في (الحج)؛ باب ميقات أهل المدينة برقم 1525، ومسلم في (الحج )؛ باب مواقيت الحج والعمرة برقم 1182.
[117] رواه البخاري في (الحج)؛ باب مهل أهل الشام برقم 1526، ومسلم في (الحج)؛ باب مواقيت الحج والعمرة برقم 1181.
[118] نشر في "المجلة العربية" رجب 1412هـ.
[119] رواه البخاري في (الحج)؛ باب: "مهل أهل الشام" برقم 1526، ومسلم في (الحج)؛ باب مواقيت الحج والعمرة برقم 1181.
[120] رواه مالك في "الموطأ" في (الحج)؛ باب التقصير برقم 905، وفي باب ما يفعل من نسي من نسكه شيئًا برقم 957.
[121] فتوى صدرت من مكتب سماحته.
[122] سبق تخريجه من قبل.
[123] رواه البخاري في (الحج)؛ باب وجوب العمرة وفضلها برقم 1773، ومسلم في (الحج)؛ باب في فضل الحج والعمرة ويوم عرفة برقم 1349.
[124] نشر في كتاب "فتاوى إسلامية" جمع الشيخ/ محمد المسند ج2 ص 205.
[125] نشر في "المجلة العربية" جمادى الآخرة 1411هـ.
[126] رواه البخاري في (الحج)؛ باب مهل أهل مكة للحج والعمرة برقم 1524، ومسلم في (الحج)؛ باب مواقيت الحج والعمرة برقم 1181.(83/58)
[127] نشر في "مجلة الدعوة" العدد 1545 في محرم 1417هـ، وفي "جريدة الرياض"، وفي "جريدة الجزيرة" بتاريخ 15/2/1415هـ.
[128] رواه البخاري في (الحج)؛ باب مهل أهل الشام برقم 1526، ومسلم في (الحج)؛ باب مواقيت الحج والعمرة برقم 1181.
[129] سبق تخريجه من قبل.
[130] خطاب صدر من مكتب سماحته برقم 621/1/1 وتاريخ 20/1/1392هـ عندما كان رئيسًا للجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.
[131] رواه البخاري معلقًا في النجش، ومسلم في (الأقضية)؛ باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور برقم 1718.
[132] نشر في "مجلة الدعوة" العدد 826 بتاريخ 1402هـ، وفي "مجلة التوعية الإسلامية في الحج" ص 20 العدد الأول عام 1402هـ، وفي "مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة" العدد 53 السنة الرابعة عشر عام 1402هـ، وفي "مجلة البحوث الإسلامية" العدد 6 ص 282.
[133] سبق تخريجه من قبل.
[134] رواه البخاري في (الحج)؛ باب ميقات أهل المدينة برقم 1525، ومسلم في (الحج)؛ باب مواقيت الحج والعمرة برقم 1182.
[135] سورة [الأعراف: 33].
[136] سورة [البقرة: 168 - 169].
[137] صدرت من مكتب سماحته، وفي "جريدة الندوة" العدد 11064 في 19/11/1415هـ، وفي "جريدة المسلمون" العدد 533 في 21/11/1415هـ، وفي غيرها من الصُّحف المحلية.
[138] من أسئلة موجهة لسماحته في درس "بلوغ المرام".
[139] من أسئلة موجهة لسماحته في درس "بلوغ المرام".
[140] رواه البخاري في (الحج)؛ باب مهل أهل الشام برقم 1526، ومسلم في (الحج)؛ باب مواقيت الحج والعمرة برقم 1181.
[141] نشرت في "مجلة البحوث الإسلامية" العدد 24 عام 1409هـ.
[142] من أسئلة موجهة لسماحته في درس "بلوغ المرام".
[143] من أسئلة موجهة لسماحته في درس "بلوغ المرام".
[144] سؤال موجه لسماحته عندما كان نائبًا لرئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.
[145] من أسئلة موجهة لسماحته في درس "بلوغ المرام".(83/59)
[146] رواه البخاري في (الحج)؛ باب مهل أهل مكة للحج والعمرة برقم 1524، ومسلم في (الحج) باب مواقيت الحج والعمرة برقم 1181.
[147] نشر في "المجلة العربية" في جمادى الأولى سنة 1412هـ
[148] من ضمن الأسئلة الموجهة لسماحته من "المجلة العربية"
[149] رواه مالك في "الموطأ" في (الحج)؛ باب التقصير برقم 905، وفي باب ما يفعل من نسي من نُسُكه شيئًا برقم 957
[150] نشر في "مجلة الدعوة" العدد 1562 في 28/5/1417هـ، وفي "جريدة عكاظ" في 2/12/1417هـ.
[151] صدر من مكتب سماحته عندما كان رئيسًا لإدارات "البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد"، وعضوًا في مجلس المَجْمَع الفِقْهي الإسلامي.
[152] رابغ قريبة منها وليست هِيَ هي.
[153] وادي محرم ما يلي الطائف من وادي السيل.
[154] رواه البخاري في (الحج)؛ باب ذات عرق لأهل العراق برقم 1531
[155] رواه البخاري في (الحج)؛ باب ما ينهى من الطيب للمحرم برقم 1838
[156] رواه البخاري في (الحج)؛ باب ما لا يلبس المحرم من الثياب برقم 1542، ومسلم في (الحج) باب ما يباح للمحرم بحج وعمرة وما لا يباح برقم 1177.
[157] نشر في "جريدة البلاد" في 5/12/1416هـ.
[158] خطاب صدر من مكتب سماحته عندما كان رئيسًا عامًّا لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد برقم 3270/2 وتاريخ 3/12/1411هـ.(83/60)
العنوان: اسألوا الضفة عما يجري؟
رقم المقالة: 1076
صاحب المقالة: زياد بن عابد المشوخي
-----------------------------------------
ما يجري اليوم في الضفة الغربية المحتلة في الأرض المباركة (فلسطين) -من انتهاكٍ لحرمة المساجد والبيوت، وتدميرٍ للمؤسسات والجمعيات الخيرية والمستشفيات، وملاحقةٍ للمجاهدين، ومعاقبةٍ لأقارب الشهداء والأسرى- يُعَدُّ محاربةً لدين الله وأوليائه!! ولا مسوغ لمثل هذه التصرفات والأفعال، وهي باختصار إعادةٌ لما كان يجري في قطاع غزة من حرب على الإسلام والمسلمين ولكن بأسلوب مكثّف، إذ بلغ عددُ الاعتداءات أكثرَ من (497) اعتداء، أي بمعدل (41) اعتداء في اليوم الواحد!
تتزامن هذه الاعتداءاتُ مع غطاء رسمي لها، بقرارات وتصريحات (عباسية! فياضة!) تتجاوز كل التوقعات!
فمن ذا الذي يحق له أن يحل أجنحة المقاومة؟!
ومن ذا الذي يحق له أن يلغي ويوقف المؤسسات الخيرية؟!
ومن الذي يمكنه أن يصف المقاومة بأبشع الصفات؟!
ومن الذي ينقلب على المجلس التشريعي ويعين حكومة طوارئ؟!
لقد تحول الرجل إلى ديكتاتور صغير في المنطقة، وأقول "صغير" لكونه لا يملك حقيقةً إلا المنطقة الخضراء –عفواً أقصد المقاطعة– وبعض (الميلشيات) التابعة له والتي تحتمي باليهود، وقد قال المستشرق الدكتور (جاي باخور): "إنه من مفارقات التاريخ أن يكون الاحتلالُ الإسرائيلي هو الضمانةَ الوحيدة لبقاء حركة (فتح) في الضفة الغربية!!!".
ونحن على يقين أن نتيجة هذه الأحداث هي المزيد من السقوط والفضح لهؤلاء الخائنين، والكشف والتعرية لحقيقتهم وجرائمهم محلياً وعربياً، بل وعالمياً!(84/1)
إنهم يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين، فالذي يمتنع عن الحوار مع شعبه، ويسعى جاهداً إلى لقاء العدو، والذي يستمد شرعيتَه وقوته بدبابات الاحتلال وبالدولارات الأمريكية، متجاهلاً وسط محيطه الشعبي بل والعربي والإسلامي، والذي يهرُب من اللقاءات العربية لينطلق إلى باريس ويطالب بقوات دولية ليصبح الاحتلالُ الواحد اثنين، بل يشن حملة إبعاد داخل حركة (فتح) لكل القيادات التي تخالفه الرأي، والتي كان منها (أحمد حلس) و(هاني الحسن)، إن من يفعل ذلك كله بالتأكيد سيخسر كل شيء.
وقد شن (سيفير بلوتسكر) كبير معلقي صحيفة "يديعوت أحرنوت" هجوماً عنيفاً على القيادات الإسرائيلية التي تطالب بتقديم الدعم لأبي مازن، متهماً إياها بالعيش في "الوهم الذاتي"، قائلاً بأن إسرائيل ترتكب خطأً كبيراً عندما تراهن على تقديمها الدعم لـ(فتح) في الضفة على اعتبار ذلك مصلحة لها، عادًّا حركة (فتح) حركة متعفنة، ولا أمل في دعمها، واصفاً أبا مازن بزعيم "من ورق".
أما الجنرال (شلومو غازيت) رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية سابقا فقال في مقال نشره في صحيفة (معاريف): "إن إسرائيل تتعلق بالوهم عندما تعتقد أن ممارسة الضغوط على الفلسطينيين في القطاع ستدفعهم للثورة ضد (حماس)"، وسخِر من رهان إسرائيل على أبي مازن وحركة (فتح) قائلاً: "إن التاريخ قد أدار ظهره له ولحركة فتح، وهما صارا لا يستحقان أي استثمار إسرائيلي، ناصحا حكومته بمحاولة إجراء حوار مع (حماس) التي تحظى بدعم غالبية الجمهور الفلسطيني، حسب وصفه".
أما بعض المحللين الصهاينة فقالوا بأن الكيان الصهيوني اغتال عرفات لإنجاح مشروع الرئيس عباس، فخرج هذا المشروع بحكومة حماس, وحاولت الحكومة الصهيونية القضاء على حكومة حماس, فخرجت دولة حماس في غزة!!.
ودعونا نسأل الضفة الغربية اليوم عن:(84/2)
أبطالها في السجون الصهيونية ومعاناتهم وعذابهم.. وعن عناصرَ من الخونة أبت إلا أن تنكأ الجراح وتزيد من مأساة أقارب الأسرى والشهداء.. وعن أمهات وزوجات وبنات الأسرى إذ يُعاقبن على بطولات أبنائهن وأزواجهن وآبائهن.. وعن امرأة خطفت لأن زوجها أسير من حماس كان قد أرق الاحتلال وجنده.. وعن مرتزِقة تجاوزت كل القيم والأخلاق والأعراف.. وعن عناصر من الأجهزة الأمنية الفلسطينية تفتح لهم الحواجز الصهيونية ليحرقوا ويداهموا المساجد والمحاكم والمؤسسات ودور رعاية الأيتام والجمعيات الخيرية.. وعن لئام ما كان لهم أن يرفعوا رؤوسهم لولا مساندة الاحتلال لهم.. وعمن قبعوا في (رام الله) لماذا يرفضون لجنة تقصي الحقائق العربية؟!.. وعن أولئك لماذا يغلقون باب الحوار مع بني جلدتهم، ويسارعون لعقد القمة مع الاحتلال.. وعن انقلاب سموه شرعية.. (وهل ستغطى الشمس بالغربال؟).. وعن بيت رئيس المجلس التشريعي الذي حرق وهو سجين عند الاحتلال.. وعن فلول الخونة والعملاء التي هربت من غزة واجتمعت في (رام الله) لتحيك المؤامرات من جديد.. وعن تعليق العمل بأحكام المواد 65-66-67 من القانون الأساسي.. وعن قوم من بني جلدتنا يستمدون قوتهم اليوم من الاحتلال.. وها هو ذا رئيس وزراء الحكومة الصهيونية (إيهود أولمرت) يرحب بالخطوات التي اتخذتها حكومة سلام فياض ضد المقاومة الفلسطينية في الضفة المحتلة، وشنها حملة لحل الأجنحة العسكرية لفصائل المقاومة الفلسطينية وسحب سلاح المقاومة.
واسمعوا للضفة الغربية
.. وهي تتبرأ من الخونة الذين اتخذوا اليهود والنصارى أولياء، وقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة: 51].
واستمعوا لها(84/3)
.. وهي تصرخ: ويلكم! إني أرض مباركة.. أنا أكناف بيت المقدس.. بل قلبي هو المسجد الأقصى.. ويلكم! المسجد الأقصى بجواركم تُنتهك حرمتُه ويهدم ما حوله وما أسفله ولا تنصرونه.. ويلكم! أين أنتم من قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُهِيناً * وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً} [الأحزاب:57-58] فإذا كان الله عز وجل يتوعد على مجرد الأذى، فكيف الحال بمن يقتل ويعتدي؟
واسمعوا للضفة
.. وهي تصرخ فيهم أنِ اذكروا ما قاله النبي الكريم ليلة الإسراء والمعراج عن حرمة الإشارة بالسلاح على المسلم، بقوله -عليه الصلاة والسلام-: "من أشار إلى أخيه بالسلاح فإن الملائكة تلعنه حتى ينتهي" أخرجه مسلم، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "من حمل علينا السلاح فليس منا" أخرجه البخاري ومسلم، وقوله -صلى الله عليه وسلم-:" لا يحل لمسلم أن يروّع مسلماً"، رواه أبو داود والترمذي.
واسمعوا للضفة
.. وهي تصرخ فيهم وتنادي عسى أن توقظ نداءاتها الإيمان في قلوبهم: إن من حق الأسرى والشهداء الذين سقوا بدمائهم الزكية في أرضي أن نرعى أقاربهم من بعدهم، قال -صلى الله عليه وسلم-: "من جهز غازياً في سبيل الله فقد غزا، ومن خلفه في أهله بخير فقد غزا" أخرجه البخاري ومسلم، وقال -عليه الصلاة والسلام-: "من أظل رأس غاز أظله الله يوم القيامة" رواه أحمد.
واسمعوا للضفة(84/4)
.. وهي تحذرهم من الاعتداء على أقارب الأسرى والشهداء، بقوله -صلى الله عليه وسلم-: "حرمةُ نساء المجاهدين على القاعدين كحرمة أمهاتهم، وما من رجلٍ من القاعدين يخلف رجلاً من المجاهدين في أهله فيخونه فيهم إلا وقف يوم القيامة فيأخذ من حسناته ما شاء حتى يرضى" أخرجه مسلم، وفي المسند: "فَضْلُ نِسَاءِ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ فِي الْحُرْمَةِ كَفَضْلِ أُمَّهَاتِهِمْ".
قال النووي –رحمه الله-: "هَذَا فِي شَيْئَيْنِ: أَحَدهمَا: تَحْرِيم التَّعَرُّض لَهُنَّ بِرِيبَةٍ مِنْ نَظَر مُحَرَّم، وَخَلْوَة، وَحَدِيث مُحَرَّم، وَغَيْر ذَلِكَ. وَالثَّانِي: فِي بِرّهنَّ وَالْإِحْسَان إِلَيْهِنَّ، وَقَضَاء حَوَائِجهنَّ الَّتِي لَا يَتَرَتَّب عَلَيْهَا مَفْسَدَة، وَلَا يُتَوَصَّل بِهَا إِلَى رِيبَة وَنَحْوهَا. قَوْله -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي الَّذِي يَخُون الْمُجَاهِد فِي أَهْله: (إِنَّ الْمُجَاهِد يَأْخُذ يَوْم الْقِيَامَة مِنْ حَسَنَاته مَا شَاءَ فَمَا ظَنّكُمْ؟) مَعْنَاهُ: مَا تَظُنُّونَ فِي رَغْبَته فِي أَخْذ حَسَنَاته، وَالِاسْتِكْثَار مِنْهَا فِي ذَلِكَ الْمَقَام، أَيْ : لَا يُبْقِي مِنْهَا شَيْئًا إِنْ أَمْكَنَهُ".
اسمعوا للضفة
.. وهي تذكرهم بأنهم سيحشرون على أرضها –أرض المحشر والمنشر- ولكن: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [إبراهيم: 48].
نعم..!
سيقف هؤلاء بين يدي الله ويسألهم عن كل دم سُفك، وعن كل حرمة هُتكت، وعن كل مال سُلب، ولن يُغني عنهم أولئك القادة الذين يأمرونهم بتلك الأفعال..
وأخيراً..!(84/5)
فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من لم يغزُ ولم يجهز غازياً أو يخلف غازياً في أهله بخير أصابه الله بقارعة قبل يوم القيامة" أخرجه أبو داود وابن ماجة، قال ابن الأثير: "أصابه الله بقارعة، أي: بداهية تهلكه، يُقال: قرعه أمر إذا أتاه فجأة".
فإن خلف غازياً بِشَرّ فماذا سيحل عليه؟!
إذاً.. أبشروا بالقارعة أيها الخونة والعملاء!
وعليكم أن تنتظروا عقاب الجبار المنتقم، وانتصار المجاهدين لدين الله وعباده المستضعفين، فهم كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} [الشورى: 39]، كما أننا على يقين بأن أسلحة المجاهدين وصواريخهم تعرف طريقها، وإلى أين تتجه، حينما تخطئ وتضل طريقها أسلحة الآخرين.
أما أنتم أيها المرابطون في الضفة!
فتذكروا قول الله عز وجل: {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ} [إبراهيم: 42]، وتذكروا قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "... أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرا"، واعلموا أن من أهداف هذه المرتزقة استدراجَكم إلى معارك جانبية واستنزاف طاقتكم وقوتكم فيها، والكشف عن قدراتكم العسكرية للاحتلال.
وعلى الشرفاء والعقلاء من أبناء (فتح) الانحيازُ لدينهم ووطنهم، وإلا فليحذروا من غضب الله وسخطه على كل من والَى المغضوبَ عليهم والضالين، ولنتذكر ما قاله خُرَيْمُ بْنُ فَاتِكٍ الأَسَدِيُّ: "أَهْلُ الشَّامِ سَوْطُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ؛ يَنْتَقِمُ بِهِمْ مِمَّنْ يَشَاءُ كَيْفَ يَشَاءُ، وَحَرَامٌ عَلَى مُنَافِقِيهِمْ أَنْ يَظْهَرُوا عَلَى مُؤْمِنِيهِمْ، وَلَنْ يَمُوتُوا إِلاَّ هَمًّا أَوْ غَيْظًا أَوْ حُزْنًا"، انفرد به أحمد وإسناده صحيح موقوف.(84/6)
وإن كان هذا الأثر خاصا بالشام ففي سنن أبي داود قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: " إِنَّ اللَّهَ أَجَارَكُمْ مِنْ ثَلاَثِ خِلاَلٍ: أَنْ لاَ يَدْعُوَ عَلَيْكُمْ نَبِيُّكُمْ فَتَهْلِكُوا جَمِيعًا، وَأَنْ لاَ يَظْهَرَ أَهْلُ الْبَاطِلِ عَلَى أَهْلِ الْحَقِّ، وَأَنْ لاَ تَجْتَمِعُوا عَلَى ضَلاَلَةًَ".
فيا عقلاء (فتح)!
لا تكونوا أداة للعملاء يخيطون بدمائكم الزكية الغافلة خيوطَ المؤامرة، ويحصدون بها مكاسبهم الدنيئة، ويجعلون منها وقوداً لمعركة خاسرة في الدنيا والآخرة، فخذوا على أيدي سفهائكم.
والعاقبة والغلبة للمتقين، قال -صلى الله عليه وسلم-: "لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أبواب دمشق وما حوله، وعلى أبواب بيت المقدس وما حوله، لا يضرُّهم من خذلهم ظاهرين على الحق إلى أن تقوم الساعة". وينبغي للجميع نصرة إخواننا المسلمين المستضعفين في أرض الرباط، أرض الإسراء والمعراج كلٌ بحسبه.
فصبراً آل حماس!
صبراً آل الصدق والوفاء!
صبراً آل التضحية والفداء!
صبراً يا أهلنا في فلسطين!
صبراً.. فألسنةُ الصادقين تلهج بالدعاء لكم، وأكفهم إلى السماء تسأل القوي العزيز أن ينتقم من الخائنين، وأن يرد كيدهم في نحورهم، وأن يعجل لكم الفرج والنصر، {... وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً} [الإسراء: 51].(84/7)
العنوان: أساليب العمل مع الشباب
رقم المقالة: 361
صاحب المقالة: صباح أحمد النجار
-----------------------------------------
المقدمة:
إن الفرد كائن إجتماعي يكتسب خصائصه وقيمه الإجتماعية بتفاعله مع الجماعات، هذه الحقيقة تجعلنا ندرك خطورة وأهمية الجماعات التي ينتمي إليها الفرد منذ الولادة بدءاً بالأسرة ثم رفاق اللعب وجماعات المدرسة وزملاء العمل وجماعات الأصدقاء والروابط والمنظمات وغيرها من الجماعات التي ينمو ويتفاعل فيها الفرد، هذه الجماعات هي المسؤولة عما يميز الفرد من خصال طيبة وغير طيبة، فالجماعة هي البيئة الإجتماعية ومعمل التفاعلات التي تلازم الفرد طوال حياته ويستمد منها مقومات شخصيته الإجتماعية.
وأن ما يكتسبه الفرد من خصائص وقيم قابلة للتغيير، بل ويمكن للفرد أن ينميها خلال التجارب التي يمر بها في حياته وأثناء إتصاله بغيره وتفاعله مع المواقف التي يواجهها وهذا يعني قدرته على إكتساب خصائص صالحة والتخلص من الخصائص غير الصالحة.
غير أنه ينبغي أن نعرف أن تغير القيم والخصائص غير الصالحة لا يتم بمجرد النصح أو الزجر وإنما عن طريق ممارسة علاقات وخبرات إجتماعية داخل الجماعات التي ينتمي إليها الفرد، حيث إن هذه الجماعات تؤثر فيه وتغيره بفعل إشباع حاجاته وخضوعه لنظمها وتبنيه لقيمها وقواعد السلوك فيها.
ونستهدف من العمل مع الشباب مساعدة الفرد على إستخدام قدراته ومهاراته المكتسبة كي تنعكس على الأوضاع الإجتماعية التي يعيش فيها، وبذلك يتمكن من ممارسة قدر من المسؤولية الإجتماعية، فالعمل مع الشباب يساعد الفرد على إكتساب وتنمية مهاراته وقدراته ويمكنه من الإسهام مع الآخرين بعد أن تسلح بالخصائص الإجتماعية والخبرات الجماعية التي تتطلبها عمليات التنمية.(85/1)
ولا يمكن تحقق هذا الهدف الحيوي إلا بإتباع أساليب يمكن بموجبها تحقيق متطلباته، وهذه الأساليب تتعلق بسلوك القائد في جماعات الشباب ونمط القيادة التي تمارس وكيفية تحقيق الإنتماء الفعلي للفرد وفهم العمليات الجماعية داخل الجماعة وكيفية تقسيم جماعة الشباب إلى مجموعات صغيرة وتوفير المستلزمات والتقنيات اللازمة للعمل مع الشباب.
المبحث الأول: إجراءات البحث ومنهجه:
مشكلة البحث:
يضطلع أسلوب العمل مع الشباب بدور كبير في تحقيق أهداف الشباب وتنمية قدراتهم المتاحة لتحقيق الأهداف المستجدة لهم، وتختلف أساليب العمل بإختلاف جماعات الشباب وبإختلاف القائمين عليها وهم قادة الجماعة في الغالب، وعلى الرغم من الإختلافات فإن السمة الغالبة في تطبيق هذه الأساليب لا تخرج عن نطاق التمسك ببعض المبادئ الإدارية والمحددة سلفاً للعمل مع الشباب وما لذلك من بعض الآثار السلبية التي تحد من نشاط الجماعة، من هنا رأينا ضرورة دراسة هذا الموضوع مستندين على تطور مفاهيم ومناهج العمل مع الشباب في الخدمة الإجتماعية وعلمي الإجتماع والنفس.
أهداف البحث:
يهدف هذا البحث إلى إعادة النظر بجزئيات الأساليب المتبعة في العمل مع الشباب بنحو يكفل إناطة دور بارز لهذه الفئة في المجتمع ولا يمكن تحقيق ذلك – في رأينا – إلا بإتباع جملة أساليب من شأنها النهوض بواقع الشباب وهم يؤدون أدوارهم ضمن المنظمات الجماهيرية وهذه الأساليب تشمل القادة والشباب في آن واحد وهي أنماط القيادة وسلوكيات القادة وأثرها في العمل مع الشباب وتحقيق الإنتماء الفعلي للفرد في جماعته وفهم العمليات الجماعية داخل الجماعة وتقسيم الجماعة (الشباب) إلى جماعات فرعية متماسكة إجتماعياً ونفسياً وفقاً لأسلوب القياس الإجتماعي (السوسيو متري) وتوفير المستلزمات والتقنيات للعمل مع الشباب.
أهمية البحث:(85/2)
تتجلى أهمية هذا البحث في تناوله لموضوع غاية في الأهمية وهو أساليب العمل مع الشباب وفيه نعرض جملة أساليب من شأنها النهوض بواقع الشباب فضلاً عن أهمية البحث في كونه تواصلاً لما كتب في هذا المجال.
مفاهيم البحث:
العمل مع الجماعات: طريقة تسعى إلى مساعدة الأفراد في مختلف أنواع الجماعات بالمؤسسات المتنوعة عن طريق إختصاصي يوجه تفاعلهم من خلال أوجه النشاط كي يرتبطوا معاً ويمارسوا خبرات وفرص النمو بما يتفق وحاجاتهم وقدراتهم وبما يحقق نمو الفرد والمجتمع المحلي لأقصى درجة ممكنة[1].
ونرى أن هذا التعريف يتفق مع أغراض هذا البحث.
الأسلوب: نعني بالأسلوب في هذا البحث الطريقة التي يتبعها القائد في عمله مع الجماعة، وتقوم على أساس من المعرفة والفهم والمهارات والمبادئ. والشباب: ونقصد به الشريحة/ الفئة السكانية التي تتراوح أعمارها بين (9 – 30) سنة، وحدد الاتحاد العام لشباب العراق ثلاث فئات عمرية موزعة على ثلاث منظمات هي:
1 – الطلائع: من 9 – 13 سنة، 2 – الفتوة من 14 – 18 سنة، والشباب من 19 – 30 سنة[2].
منهج البحث:
يعد هذا البحث من البحوث الوصفية التحليلية التي تعتمد على جمع الحقائق عن موضوع معين وتحليلها وتفسيرها لإستخلاص دلالاتها، والمنهج المتبع هو المسح الإجتماعي الذي يعد محاولة منظمة لتقرير وتحليل وتفسير الوضع الراهن لنظام إجتماعي أو جماعة أو بيئة معينة.
المبحث الثاني: أساليب العمل مع الشباب:
تحقيقاً لأهداف البحث بضرورة إعادة النظر بجزئيات الأساليب المتبعة في العمل مع الشباب نتناول في هذا المبحث الأساليب المقترحة التي نراها تلائم العمل مع الشباب آخذين بنظر الإعتبار أهمية دور القائد وسلوكه في هذا المجال بإعتباره المحرك الأساس لجماعة الشباب وبرامجها في تحقيق أهدافها، فضلاً عن دور جماعة الشباب بإعتبارهم الغاية والوسيلة في تحقيق أهدافهم، والأساليب هي:
أ – دور القائد في العمل مع الشباب:(85/3)
يعد القائد ركناً أساسياً في العملية القيادية ويضطلع بدور كبير في نجاحها[3]. ومن الخصائص المهمة التي ينبغي أن تتوافر في القائد هي سمة العضوية في الجماعة وأن يتوافر لديه نمط الاتجاهات والميول الشائعة فيها، فضلاً عن إمتلاكه للخطط والسياسات التي تتفق مع رغبات الجماعة وأهدافها بنحو تقوي وحدة صفوف الجماعة.
وفي هذا المجال نحاول أن نتطرق إلى أثر نمط القيادة وسلوك القائد في العملية القيادية المتمثلة بدور القائد في العمل مع الشباب.
نمط وسلوك القيادة وأثره في العمل مع الشباب:
على الرغم من إختلاف وجهات نظر الباحثين في تقسيم القيادة، فإنه يمكن تقسيم القيادة إلى ثلاثة أنماط هي:
أ – القيادة الديمقراطية (الإقناعية).
ب – القيادة الأوتوقراطية (الآراغامية).
جـ – القيادة الفوضوية (الحرية المطلقة)[4].
ولكل نمط من هذه الأنماط مناخها الخاص، ففي القيادة الديمقراطية نجد أن كل السياسات تتحدد نتيجة للمناقشة الجماعية والقرار الجماعي ويشجع القائد الأعضاء في مناقشاتهم وتترك لهم حرية توزيع العمل ويعلم الأعضاء خطوات العمل الكاملة نحو الهدف الجماعي.
وفي القيادة الأتوقراطية يقوم القائد بتحديد سياسة الجماعة تحديداً كلياً ويملي على الأفراد خطوات العمل خطوة تلو الأخرى بنحو يصعب معها معرفة الخطوات التالية أو الخطة الكاملة ويحدد القائد أيضاً نوع العمل الذي يقوم به الفرد ويعزف القائد عن المشاركة الفعلية مع أفراد الجماعة.
وفي القيادة الفوضوية يتمتع أفراد الجماعة بالحرية المطلقة في اتخاذ القرارات مع أدنى حد من مشاركة القائد مع استعداده للمشاركة وإعطاء المعلومات في حالة المطالبة من قبل أفراد الجماعة[5].(85/4)
بعد عرض أهم جوانب العملية القيادية في كل نمط من أنماط القيادة نكون أمام سؤال هو أي نمط من هذه الأنماط ملائم للعمل مع الشباب....؟ للإجابة عن هذا السؤال نورد نتائج دراسات (لبيت وهوايت) التي أجريت على جماعات من التلاميذ لمعرفة أثر أنماط القيادة في سلوك أفراد هذه الجماعات وفي سلوك القائد نفسه.
ففيما يتصل بتأثير سلوك أفراد الجماعات بأنماط القيادة اتضح لهما أن الدافع للعمل كان أقوى وأن الإبتكار كان أكثر وأن أفراد الجماعة كانوا أكثر تماسكاً واظهروا تقبلاً أكبر للمشاركة في ممتلكات الجماعة في نمط القيادة الديمقراطية في حين أن إستمرارية العمل كانت مرهونة ببقاء القائد في القيادة الأوتوقراطية وأظهر أفراد الجماعة قدراً أكبر من التعالي والسيطرة على بعضهم البعض وقدراً أكبر من العداء ومحاولات أكثر للحصول على انتباه القائد والنزوع بأنفسهم إلى تخريب ممتلكاتهم وإزدادت نسبة السلوك الإعتمادي في نمط القيادة الأوتوقراطية[6].
وفيما يتصل بتأثير أنماط القيادة في سلوك القادة اتضح لهما أن القائد الأوتوقراطي يزيد إلى حد كبير عن القائدين الديمقراطي والفوضوي في نسبة إعطاء الأوامر وفي إصدار الأوامر التي تعترض طريق رغبة يعبر عنها الأعضاء أو توقف نشاطاً معيناً له وتحل محلها رغبة القائد، وفي توجيه النقد غير الموضوعي لأفراد الجماعة وفي تقبل المديح، أما القائد الديمقراطي فهو يزيد من القائدين الأوتوقراطي والفوضوي في تقديم الاقتراحات الموجهة التي تختلف عن إعطاء الأوامر وفي تشجيع التوجيه الذاتي وفي إتباع سلوك المرح والثقة[7].(85/5)
وتدلنا نتائج هذه الدراسة على أن القيادة الديمقراطية هي النمط الذي يجب أن نعمل على تنميته ودعمه في العمل مع الشباب، مع الأخذ بعين الإعتبار أن الفرد كما يرفض النظام والتسلط المفروضين عليه من القائد، فإنه كذلك لا يرتاح إلى عدم وجود أي توجيه وعدم وجود هدف يسترشد به، أي أن حاجة الفرد إلى الحرية تقابلها حاجته إلى الضبط.. وهذا يلقى على عاتق المربين والموجهين والعاملين مع الشباب مهمة خلق الأجواء الإجتماعية المناسبة التي يمارس الفرد فيها ويتعلم كيف يكون ديمقراطياً وهو يضطلع بأدواره الإجتماعية المختلفة[8].
ب – تحقيق الإنتماء الفعلي إلى جماعة الشباب:
إن إنتماء الأفراد إلى جماعة الشباب مسألة نسبية، فقد ينتمي فرد ما بقصد تحقيق هدف خاص به، فيلجأ إلى التسيب أو الابتعاد عن الجماعة بعد ذلك، وقد يلجأ آخر إلى الإنتماء بقصد الإنتماء فقط، وهؤلاء الأفراد وأمثالهم كثيرون في جماعات الشباب، ويتأثر تحقيق أهداف الجماعة بهامشية إنتماء هؤلاء إلى الجماعة فيهدر وقت الجماعة في محاولة جذب هؤلاء ثانية بدلاً من تحقيق جذب جديد للجماعة.
ويتم تحقيق الإنتماء الفعلي إلى جماعة الشباب بتحديد الأدوار لأفراد الجماعة، وعلى الرغم من أن تحديد هذه الأدوار لا يتم فجأة بل يتطلب ذلك تفاعلاً جماعياً لزمن، فإن تجارب الأفراد الآخرين في الماضي والحاضر وتطور الأدوار على أساس المواقف الخارجية تكون فعالة للعضو الجديد حالما ينضم إلى الجماعة، وأنه بعد تحديد الدور يتوقع أن يستجيب الفرد له كما حددته الجماعة وربما يستجيب لطلبات الجماعة برغم أنه من الممكن ان لا يوافق بالضرورة عليها، وإذا رغب في مجرد الإستجابة الإيجابية من أفراد معينين أو الجماعة نفسها دون تقبل قواعد الجماعة السلوكية وأدوارها أو الإيمان بها فهو يستجيب فقط بغية تجنب اللوم.(85/6)
في هذه الحالة ينبغي على القائد زيادة مقدار الإتصال الموجه نحو هذا الفرد حتى يصل إلى نقطة ما، فإذا ثبت عدم جدوى الإتصال واستمر الفرد في سلوكه المنحرف ينبغي على القائد إجباره على التخلي عن الجماعة أو يتخلى هو بصورة طوعية عنها، وبالعكس إذا ازداد اندماج الفرد بالجماعة السلوكية ((وقبل أن يتمكن الفرد من الإندماج بصورة حقيقية بتنظيم الجماعة ينبغي عليه أن يكون وفياً للأجزاء الصغيرة في هذا التنظيم لأنه من شأن ذلك خلق الإرتباط العاطفي بينه وبين الجماعة وتقوية ولاءاته له))[9].
كما ويمكن للقائد أن يعمق إنتماءات الشباب إلى جماعاتهم بإتباع صيغة المكافآت للمبدعين من الشباب والمكافأة هي شيء ذو قيمة يحصل عليها الفرد نتيجة تأديته عملاً ما، والمكافآت المتوافرة للقيادة تضم الإستحسان الشفهي والمكافأة المالية والتذكارات والشارات والأوسمة[10].
جـ – فهم العمليات الجماعية داخل جماعات الشباب:
تزداد قوة القائد وفاعليته عندما يفهم سلوك أفراد جماعة الشباب، لكن على القائد أن ينظر إلى الجماعة لا بصفتها تتكون من أفراد فقط، بل أعضاء في فريق يستجيب كوحدة.
وعندما يرى قائد العمل مع جماعات الشباب بأن معياراً قوياً يسود الجماعة في هذه الحالة ينبغي على القائد عدم التأثير في الجماعة في اتجاه مختلف لهذا المعيار لأن تأثير الجماعة في هذه الحالة يكون أقوى، وحل هذا يكون في توجيه القرارات الجماعية التي تتم بالمناقشة وقوة القائد على الإقناع.
كما يحتاج القائد إلى الإلمام بطبيعة البناء الداخلي للجماعة كالصداقة والإتصال والمراكز الإجتماعية، حيث، من الممكن التأثير في الجماعة بنجاح أكثر بدارسة هذه المتغيرات، فمعرفة القائد للأشخاص الإجتماعيين وذوي الهيبة يجعله في موقف يستطيع بموجبه التأثير في جماعة الشباب، لأن هؤلاء الأعضاء يضطلعون بدور بارز داخل جماعتهم[11].(85/7)
وهناك جانب ثالث يتمثل في التنبيه لمختلف الحاجات التي يحاول الأعضاء إشباعها في الجماعة، فعلى الرغم من أن الأهداف الرسمية للجماعة تتضمن حلولاً لمشكلات أو تنفيذاً لعمل.. فإن أكثر الأشياء أهمية في نظر أفراد الجماعة هو العلاقات بالأعضاء الآخرين، ويختلف الأفراد في ذلك فبعضهم يسعى إلى تكوين علاقات دافئة وبعضهم يسعى للقوة والتأثير والبعض الآخر يسعى إلى الحماية في كنف قائد قوي. ونتيجة لذلك فإن سلوك الأفراد يختلف فسلوك المهتمين بالقوة يتجه إلى اتخاذ طريق مختلف عن سلوك المهتمين بالدفء والتقبل، وبذلك يختلف سلوك الأفراد نحو القائد في إستجاباتهم، حيث تتراوح إستجاباتهم من العداء نحو كل نماذج السلطة داخل الجماعة إلى التوحد الكامل والتبعية العمياء للقائد ويمكن للقائد أن يستغل تأثيره الكبير في جماعة الإعتماديين في التأثير على الأفراد الآخرين[12].
وهناك مشكلة أخرى تواجه القائد في جماعات الشباب، وهي أسلوب التعامل مع مختلف الأعضاء الشاذين في الجماعة من قبيل الشخص الذي يتحدث كثيراً في المناقشات الجماعية والشخص الذي لا يقوم بواجبه على نحو أفضل. ويمكن أن يتعامل القائد مع هذين النوعين بإستخدام التوقيع الآلي للعقوبات أو يلجأ القائد إلى الجماعة لغرض تأثيرها في هؤلاء الأفراد، وقد يواجه القائد وجود أفراد يعانون من اضطرابات نفسية في الجماعة وهؤلاء لا يهتمون بتأثير القائد أو الجماعة ويكون تأثيرهم مدمر في نشاط الجماعة فيجب على القائد إنهاء عضوية هؤلاء الأفراد[13].
د – تقسيم جماعات الشباب إلى جماعات فرعية:(85/8)
يتمشى حجم كل جماعة مع رغبات أعضائها، فقد تكون الجماعة صغيرة جداً لأن رغبات أعضائها لا تتحقق إلا في نطاق جماعة صغيرة، وتتوقف طبيعة ونوع ومدى وأثر التفاعل الجماعي على عدد الأعضاء المكونين للجماعة، فالجماعة المكونة من خمسة أو ستة أفراد تختلف عن الجماعة المكونة من خمسة وعشرين فرداً، فقد تهيء الجماعة المكونة من خمسة وعشرين فرداً أنسب الأجواء الإجتماعية لمزاولة أنواع معينة من النشاط تكون هذه الجماعة نفسها عائق يحول دون مزاولة أنواع أخرى من النشاط ولذلك فإن أنسب حجم للجماعة يتحدد بنوع البرامج التي يميل إليها أعضائها[14].
ولكن حجم جماعات الشباب في مختلف انتماءاتهم التنظيمية متوسطة وكبيرة الحجم، يمكن أن يعوق عملية التفاعل الإجتماعي وتكوين العلاقات الاجتماعية التي تعد من أهم متطلبات تماسك الجماعة سواء في مستوى قاعدة الجماعة المتمثلة بالعلاقات الأفقية أو في مستوى قمتها المتمثلة بالعلاقات الرأسية بين القائد وأفراد الجماعة وما لذلك من أثر في تحقيق جماعات الشباب لأهدافها، فإن تقسيم جماعات الشباب إلى جماعات فرعية صغيرة الحجم اعتماداً على مستوى الأسلوب السوسيو متري ووفقاً لنشاطات جماعة الشباب المختلفة يمكن قائد الجماعة من السيطرة على أفرادها عن طريق القادة الفرعيين لهذه الجماعات الصغيرة، فضلاً عن أن تماسك هذه الجماعات بعضها مع بعض يخلق تماسكاً داخل الجماعات الرئيسة ويكشف عن الأفراد المعزولين أو المرفوضين فيها وما لذلك من أهمية في تحقيق أهداف الجماعة وتنمية الشعور بالإنتماء إليها.
أما عن كيفية تقسيم الجماعات (المتوسطة والكبيرة) إلى جماعات فرعية فيمكننا ذلك بإتباع ما يأتي:(85/9)
الطلب من أفراد الجماعة اختيار بعضهم البعض وحسب درجات التفضيل للمشاركة في موقف معين أو مواقف مختلفة في الجماعة، وبذلك يمكن وضع الفرد في جماعة فرعية يكون قد اختار عدداً كبيراً منهم، ويكشف لنا هذا الإجراء التعرف على (النجوم) وهم أفراد ظفروا بعدد كبير من الأصوات، و(المعزولين) وهم أفراد لا يكترث لهم أحد و(المنبوذين) الذين يكرههم الكثير من أفراد الجماعة.
والشكل الآتي يمثل تخطيط فرضي لجماعة مؤلفة من (12) فرداً يمثل فيه كل فرد بدائرة ولإسمه بحرف وطلب منهم أن يختاروا أحب ثلاثة أفراد يودون مشاركتهم في قضاء وقت الفراغ.
مخطط إجتماعي (سوسيو كرام) يوضح العلاقات بين أفراد جماعة مؤلفة من (12) فرداً.
الإختيار من طرف
الإختيار من طرفين
تشير الأرقام في الدوائر إلى عدد الأصوات التي حازها كل عضو، أما الأسهم فتشير إلى إتجاه الإختيارات، ويلاحظ من الشكل أن (هـ) هو نجم لأنه حصل على (8) أصوات ويشكل هنا قائد الجماعة وأن (ك) مرفوض من الجماعة وأن (أ، ب، د) يكونون جماعة فرعية بينهم ويرتبطون بعلاقات ودية مع القائد في حين نرى هناك علاقات بين فردين يرغبان قضاء وقت الفراغ مع بعضهم البعض كالعلاقة بين (ز، ط) و (ح، ى) ونرى كذلك بعض الأفراد يحاولون قضاء وقت الفراغ مع غيرهم إلا أنهم لا يرغبون بذلك وهم (ب) لا يرغب بـ(جـ) و(ط) لا يرغب بـ (ى) و(و) لا يرغب بـ(ط).
يتبين لنا من هذا الشكل البسيط لجماعة صغيرة في موقف معين كيفية تقسيم هذه الجماعة إلى شلل صغيرة مكونة من ثلاثة أفراد أو فردين، فكيف يكون الحال عندما تكون الجماعة كبيرة مكونة من عشرات الأشخاص وفي مواقف مختلفة، تؤكد نتائج البحوث* أن هذه الجماعات تنقسم على نفسها إلى جماعات صغيرة وشلل مختلفة وما لذلك من أهمية في صعيد تماسك الجماعة المذكورة.(85/10)
من هنا نرى ضرورة إتباع نمط تقسيم الجماعات الكبيرة إلى جماعات صغيرة كأسلوب للعمل مع الجماعات آخذين بنظر الإعتبار القيام بذلك بإتباع الأسس العلمية الموضحة أعلاه وبمشاركة خبراء في هذا المجال.
هـ – توفير المستلزمات والتقنيات للعمل مع الشباب:
يتطلب العمل مع جماعات الشباب توفير بعض المستلزمات والتقنيات التي يتم بموجبها الإتصال بين القائد وأفراد جماعة الشباب بسهولة. أو تؤدي إلى سرعة فهم أفراد الجماعة وإدراكهم للغرض المقصود من الإتصال، ومن هذه المستلزمات وسائل الإيضاح السمعية والبصرية والتلفزيون والخرائط والفيديو والسلايدات والصور والسبورة15، كما أن الإهتمام بأماكن إجتماعات الشباب وتوفير الإمكانات اللازمة لها من تحديد مكان الإجتماع وتحضير جداول أعمال الإجتماعات وكتابة التقارير وتزويدها إلى المجتمعين من الشباب للاستعانة بها خلال المناقشات، تسهم بدور كبير في حفز الشباب للحضور إلى إجتماعات جماعتهم وأداء الأدوار المناطة بهم لتحقيق أهداف الجماعة.
نتائج البحث:
بعد تناولنا للموضوع بجوانبه المختلفة نرى أن أهدافه تحققت بموجب النتائج الآتية:
1 - إن القيادة الديمقراطية هي النمط الذي يجب أن نعمل على تنميته وتدعيمه في العمل مع الشباب.
2 - لتعميق انتماءات الشباب إلى جماعاتهم ينبغي إتباع صيغ المكافآت للمبدعين وإجبار المنحرفين عن أهداف الجماعة بالتخلي عنها خوفاً من تأثيرهم على الآخرين.
3 - على قائد جماعة الشباب فهم سلوك أفراد الجماعة ومعاييرهم وفهم طبيعة البناء الداخلي للجماعة كحالات الصداقة، فضلاً عن دراسته بالحاجات الفعلية للشباب.
4 - أن يكون القائد قادراً على توجيه العقوبة نحو الأفراد الشاذين والمنحرفين عن أهداف الجماعة.
5 - ان تقسيم الجماعات الكبيرة على جماعات صغيرة الحجم ضرورة ملحة في العمل مع جماعات الشباب نظراً لسهولة الإتصال ودقة النشاط وسرعة إنجاز الأهداف في النمط الثاني.(85/11)
6 - ضرورة توفير المستلزمات والتقنيات الملائمة للعمل مع الشباب.
ـــــــــــــــــــــــ
[1] علي الدين السيد وآخر، مقدمة في الخدمة الإجتماعية، ط11، بدون مكان طبع، 1985، ص397.
[2] عادل عبدالحسين شكارة (دكتور) الإتحاد العام لشباب العراق وتنشئة الشباب، مطبعة إتحاد الشباب، 1980، ص12.
[3] عبدالحليم عباش قشطة (دكتور)، الجماعات والقيادة، مطابع جامعة الموصل، 1981، ص58.
[4] مختار حمزة (دكتور)، أسس علم النفس الإجتماعي، دار المجمع العلمي بجدة، 1979، ص322.
[5] المصدر السابق، ص323.
[6] المصدر السابق، ص324.
[7] المصدر السابق، ص325.
[8] عبدالحليم عباس قشطة، مصدرسابق، ص93.
[9] صاموئيل هيز، ت سامي هاشم، تولي القيادة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط2، 1984، ص183.
[10] المصدر السابق، ص214.
[11] ميشيل ارجايل، علم النفس ومشكلات الحياة الإجتماعية، مكتبة مدبولي، القاهرة، 1982، ص228.
[12] المصدر السابق، ص229.
[13] المصدر السابق، ص230.
[14] عبدالمنعم هاشم وآخرون، العمل مع الجماعات، مكتبة القاهرة الحديثة، ط2، 1960، ص46 – 47.
* – دراسات مورينو في مدرسة نيويورك التدريبية للبنات، براون، علم النفس الإجتماعي في المجال الصناعي، ت محمد خيري وآخرون، دار المعارف، 1960، ص14.
– دراسات التون مابو وزملائه في مصانع هوثون، علي عبدالرزاق جلبي (دكتور)، علم إجتماع الصناعة، دار المعرفة الجامعية، 1984، ص62.
– دراسات فان زيلست عن أرباب المهن المختلفة في البناء، عبدالرحمن عيسوي (دكتور)، دراسات في علم النفس الإجتماعي، دار النهضة، 1974، ص406.
– دراسة صباح أحمد النجار عن العلاقات الإجتماعية في المصنع، صباح أحمد النجار، العلاقات الإجتماعية في المصنع، دراسة سوسيو مترية، مقبولة للنشر في مجلة آداب الرافدين، كلية الآداب، جامعة الموصل.
15 عبدالخالق علام وآخرون، رعاية الشباب مهنة وفن، مكتبة القاهرة الحديثة، 1962، ص90.(85/12)
العنوان: أساليب المنصريْن للوُصُول إلى أهدَافهم في المجتمعَات الإِسلاميَّة المُعاصِرة
رقم المقالة: 303
صاحب المقالة: د. مهدي رزق الله أحمد
-----------------------------------------
قال الله تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهلِ الكِتَابِ لَو يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّن عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الحَقُّ}[1] {وَلَن تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُل إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعتَ أَهْوَاءَهُم بَعدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ العِلمِ مَالَكَ مِنَ اللهِ مِن وَليٍّ وَلاَ نَصِير}[2] {وَدَّت طَّائِفَةٌ مِّن أَهلِ الكِتَابِ لَو يُضِلُّونَكُم وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشعُرُونَ}[3] {لَتُبلَوُنَّ فِي أَموَالِكُم وَأَنفُسِكُم وَلَتَسمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبلِكُم وَمِنَ الَّذِينَ أَشرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِن تَصبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِن عَزمِ الأُمُورِ}[4] صدق الله العظيم.
والكفر ملة واحدة.. اتفقوا في الأهداف.. وتشابهت وسائل وأساليب تحقيق تلك الأهداف. وفي الصفحات التالية خلاصة لأهم الأهداف والوسائل والأساليب التي تضمنتها حركة التنصير في العصر الحديث بصفة خاصة.
الأهداف:
1 - نشر المسيحية من منطلق عقدي.
2 - نشر المسيحية لتكون عاملاً عظيماً في توطين الحكم الاستعماري.
3 - توهين القيم الإسلامية، وبالتالي تفتيت وحدة الشعوب العربية الإسلامية والشعوب الإسلامية غير العربية وإبعاد المسلمين عن دينهم، وذلك حتى يسهل القضاء عليهم[5].(86/1)
ومن الواضح من خلال تاريخ التنصير في العالم أنّ نشر الدين المسيحي من الأمور الثانوية جداً عند المنصرين، وقليل منهم هم الذين يسعون لنشر المسيحية من منطلق عقدي بحت، بل إن الكثيرين من الذين يمولون حملات التنصير ومن الذين يأتون في بعثاته لا صلة بين أهدافهم الحقيقية وبين الدين الذي يزعمون أنهم قد جاءوا لنشره، والدليل على ذلك أن الغرب النصراني نفسه أحوج من الشرق الإسلامي للحياة الروحية والمحبة والسلام الديني. فبينما نرى فرنسا دولة علمانية في بلادها نجدها الدولة التي تحمي رجال الدين في الخارج، ونجد أن اليسوعين المطرودين من فرنسا هم خصوم فرنسا في الداخل وأصدقاؤها الحميمون في مستعمراتها. وكذلك إيطالية التي ناصبت الكنيسة العداء وحجزت البابا في الفاتيكان، كانت تبني جميع سياساتها الاستعمارية على جهود المنصرين، ودعت إلى مجمع مسكوني في موسكو وحملت إليه المؤتمرين في طائراتها، وشرّف ستالين نفسه أولئك المؤتمرين بمقابلته، كل ذلك عندما أرادت أن تحقق لنفسها توسعاً إقليمياً وسياسياً تنافسياً مع الدول الغربية، وكثيراً ما كان العسكريون الإنجليز يحضون حكوماتهم على بث المنصرين في العالم. وجاء كثير من أفراد المنصرين إلى الشرق من منطلقات وطموحات شخصية[6].
وقد كتب رشيد الخوري في العصبة الأندلسية عام 1947م، ع4 متألماً من أمثال هؤلاء[7]. وأمثال هؤلاء هم الذين عناهم ((حسب)) عند حديثه عن التنصير في سورية. وفي ذلك يقول: "إن بعض هذه الأديرة كان مقراً للفاحشة".
إذن فالأهداف السياسية هي المحرك الأساسي لحركة التنصير، وإن هذا الهدف السياسي هو إضعاف المسلمين ليكونوا أداة طيعة في أيدي الشرق والغرب والصهيونية العالمية.(86/2)
ولعل الإنسان يعجب إذا علم أن لليهود أصابع وبصمات بارزة في هذا المجال إذ أن العامل الأول في تطوير سلاحي الاستشراق والتنصير في القرنين التاسع عشر والعشرين عائد إلى اليهود الذين تظاهروا باعتناق النصرانية لهدمها من الداخل ومن ثم الزحف على أي قوى روحية دينية أخرى عند الإنسان، أي الدين عموماً. ووجهوا الحكومات الغربية ضد الدين[8].
إضافة إلى ذلك نجد – مثلاً – أن صمويل زويمر، الذي عمل في التنصير لمدة ستين سنة في البلاد العربية، لم يكشف عن يهوديته إلا عند احتضاره سنة 1952م، وذلك عندما طلب حاخاماً يهودياً يلقنه الشهادة. واحتفظت الكنيسة بهذا السر لأسباب تعلمها، كما يقول التل[9].
والذي نراه أن هدف اليهود من ذلك هو استغلال المسيحية الغربية لحرب الإسلام بسلاح التنصير، وفي النهاية إضعاف الدين عند المسلمين كما أضعفوه عند الغربيين. ومن الشخصيات البارزة في هذا المجال إلى جانب زويمر: وليام جيفورد بالكراف، الذي قال: "متى توارى القرآن ومدينة مكة عن بلاد العرب يمكننا حينئذ أن نرى العربي يتدرج في سبيل الحضارة التي لم يبعده عنها إلا محمد وكتابه"[10].
وهاهو بلفور اليهودي – وزير خارجية بريطانية سنة 1917م، وصاحب الوعد المعروف – وعد بلفور – يعلن عن أهمية مؤسسات التنصير في خدمة أهداف السياسة[11].
لقد بدأ التنصير في البلاد الإسلامية بصفة خاصة والعالم بصفة عامة يدخل مرحلة جديدة بأساليب جديدة بعد أفول شمس الاستعمار العسكري، منطلقاً من فكرة الشاعر في قوله:
ينال الفكر ما تعيا الجيوش به كالموت مستعجلاً يأتى على مهل(86/3)
ومنطلقاً من وصية القديس لويس التاسع، ملك فرنسة وقائد الحملة الصليبية الثامنة، الذي اندحرت جيوشه أمام عزيمة وإيمان قوات المسلمين في مصر ووقوعه في الأسر بمدينة المنصورة المصرية، إذ أنه عندما فدى نفسه من الأسر وعاد إلى بلاده، أدرك عدم جدوى الحرب المكشوفة مع المسلمين، لأن روح الجهاد والاستشهاد كانت أقوى مما يتصور. ورأى أن من الحكمة اتخاذ سبيل آخر للدخول إلى بلاد المسلمين وكان ذلك السبيل الذي أوصى به النصارى هو الغزو الفكري التنصيري والدخول في بلاد المسلمين تحت أقنعة مختلفة وبأساليب متعددة لإحداث التنصير المطلوب. وقد نفَّذُوا وصيته. ومنذ ذلك الحين كانت البعثات التنصيرية في طليعة عوامل تنصير المسلمين ونشر الثقافة الغربية بينهم خاصة في آسية وأفريقية.
لقد أدت البعثات التنصيرية خدمات كبيرة للإستعمار لتحقيق أهدافه التي عجز عنها بقوة السلاح، إذ عمد المنصرون إلى وسيلتين في غاية الخطورة لتنصير الآسيويين والأفريقيين بصفة خاصة. الوسيلة الأولى هي إنشاء المدارس النصرانية، والثانية هي تقديم الخدمات الطبية المختلفة للناس.
ونتيجة للأثر الفعال للتعليم في التغيير الاجتماعي والثقافي والعقدي فقد لوحظ تركيز مؤتمرات التنصير على أهمية التوسع فيه. ففي البحث رقم (20) من أبحاث مؤتمر المنصرين المنعقد بولاية كلورادو الأمريكية سنة 1978م، وصل الأمر بأن يقترح ريتشارد بيلي إنشاء كلية تكنولوجية في بنجلاديش كوسيلة من وسائل التنصير.
وركز جورج بيترز، مقدم البحث رقم (26) لذات المؤتمر، على أهمية إنشاء المدارس لتمكن الإرساليات من القيام بواجبها نحو تنصير المسلمين وخاصة مدارس البنات في الشرق الأوسط، وَذَكَّرَ المؤتمرين بدور الكليات والجامعات التنصيرية في البلاد الإسلامية، مثل: كلية روبرت باستنبول والجامعة الأمريكية ببيروت والقاهرة والكلية الفرنسية في لاهور بباكستان.(86/4)
وكان من بين بنود جدول أعمال المؤتمر السنوي للبعثة التنصيرية لشمالي أفريقية المنعقد في عام 1979م: الاهتمام بالتعليم وفتح المدارس في أكبر عدد من البلدان حيث أن هذه المدارس تكون وسيلة فعالة لنشر تعاليم النصرانية واجتذاب أكبر عدد من سكان بلدان شمالي أفريقية.
ومن الأدلة الواضحة على أهمية التعليم النصراني، قول لوشاتليه[12] في مقدمته عن إرساليات التنصير البروتستانتية: "ينبغي لفرنسة أن يكون عملها في الشرق مبنياً قبل كل شيء على قواعد التربية العقلية".
وقوله، بعد أن ركز على أن السبيل الوحيد إلى هذا هو التعليم: "... وأنا أرجو أن يخرج هذا التعليم إلى حيز الفعل ليبث في دين الإسلام التعاليم المستمدة من المدرسة الجامعة الفرنساوية"[13].
وقول الكاردينال لافيجري[14] – مؤسس جمعيات التنصير – وهو: "... لا حاجة لنا إلى الدعوة لنفس الدين، بل الحاجة هي إلى التعليم والتمريض".
وقد سجل دعاة التنصير هذه الحقيقة في كثير من تصريحاتهم ومؤلفاتهم. ففي المؤتمر التنصيري لسنة 1924م، وجه المؤتمر إلى الاهتمام بأطفال المسلمين قائلين: "... في كل حقل من حقول العمل يجب أن يكون العمل موجهاً نحو النشئ الصغير من المسلمين.."[15].
وتقول المنصرة أنامليجان: "ليس ثمة طريق إلى حصن الإسلام أقصر مسافة من هذه المدرسة"[16].
ويرى هنري جسب[17]: أن التعليم في مدارس الإرساليات النصرانية إنما هو واسطة إلى غاية فقط، وأن تلك الغاية هي تنصير الناس وليس تعليمهم المهارات المختلفة.
ويقول تاكلي، أحد أعمدة التنصير: "يجب أن نشجع إنشاء المدارس على النمط الغربي العلماني، لأن كثيراً من المسلمين قد زعزع اعتقادهم بالإسلام والقرآن حينما درسوا الكتب المدرسية الغربية وتعلموا اللغات الأجنبية.."[18].(86/5)
ويقول زويمر – عميد التنصير في الشرق الإسلامي لنصف قرن –: "ما دام المسلمون ينفرون من المدارس المسيحية فلابد أن ننشئ المدارس العلمانية، ونيسر لهم الالتحاق بها، هذه المدارس التي تساعدنا على القضاء على الروح الإسلامية عند الطلاب..."[19].
ولقد أورد الدكتوران مصطفى الخالدي وعمر فروخ[20] كثيراً من آراء المنصرين حول أهمية التعليم في التنصير، وعقدا فصلين – الثالث والرابع – خاصين لذلك في كتابهما المشهور: (التبشير والاستعمار في البلاد العربية..).
وكذلك الجندي في كتابه: ((الإسلام في وجه التغريب)) تناول هذا الأمر في فصل بعنوان: ((التعليم في أحضان التبشير)) – ص167 – 173.
وممن فطن إلى خطر المدارس الأجنبية في مصر خاصة، الشيخ محمد عبده، ولذلك اقترح على مجلس المعارف الأعلى الذي ألف عام 1881م أن يتقرر جعل جميع مدارس الأجانب في مصر تحت مراقبة الحكومة وتفتيشها.. وتوقف مسعى محمد عبده بعد الاحتلال الإنجليزي لمصر، حيث جاء دنلوب – القسيس والمنصر الإنجليزي ومسئول التعليم في مصر – لينفذ سياسة الاستعمار والنصرانية في مصر[21].
وقد تأكدت النتائج الخطيرة التي حققها التعليم النصراني في تقريب المسافة بين الاستعمار وأهل الأوطان الإسلامية، إذ أن الذين حملوا لواء التشهير بالدولة العثمانية، وعملوا على تمزيق الرابطة الإسلامية بين العرب والأتراك، وتمكين الاستعمار في بلاد نفوذ الأتراك، كانوا ممن تعلموا في المدارس التنصيرية وكان منهم معظم أصحاب الدعوات القومية والعنصرية والإقليمية والعلمانية، والإنحلالية[22].
وقد فرضت أغلب هذه المعاهد على طلابها المسلمين الإلتزام بتقاليدها الخاصة، ومن ذلك حضور الصلوات في الكنيسة[23]. ومما يؤسف له أن تتلقى مثل هذه المؤسسات التنصيرية دعم بعض الحكومات في البلاد العربية الإسلامية[24].(86/6)
أما الوسيلة الثانية – تقديم الخدمات الطبية المختلفة – فقد كانت واضحة في خطط المنصرين للعمل في المناطق التي يرتادونها. فمثلاً نجد منذ سنة 1959م أن الأمريكيين يعتبرون الطب مشروعاً مسيحياً[25]، ويقول الطبيب الأمريكي بول هاريسون في كتابه: (الطبيب في بلاد العرب): ص277: "لقد وُجِدنا نحن في بلاد العرب لنجعل رجالها ونساءها نصارى"[26].
ويوضح س.ا. موريسون، في مجلة العالم الإسلامي التنصيرية الحكمة من ذلك، وهي أن الطبيب يستطيع أن يصل إلى جميع طبقات البشر حتى أولئك الذين لا يخالطون غيرهم. وفرضوا أن يكون الطبيب المبشر نسخة حية من الإنجيل[27].
ففي عام 1924م أقام المنصرون مؤتمراً عاماً عقدوا جلساته في القدس وإسلامبول وحلوان المصرية وبرقانا اللبنانية وبغداد. واهتموا بصفة خاصة في جلسة القدس بالتطبيب على أنه وسيلة إلى التنصير، وفصلوا طرق ذلك[28].
لا غرو بعد هذا إذا رأينا مستشفياتهم ومستوصفاتهم تملأ الأرض في كل بلاد المسلمين، بل نجد منهم من يصرح أن نفراً من المنصرين قد أنشأوا مستوصفاً في بلدة الناصر بجنوبي السودان، لا يعالجون المريض فيه أبداً إلا بعد أن يحملوه على الاعتراف بأن الذي يشفيه هو المسيح[29].
واستخدموا أسلوب الاستعانة بالموسيقى والفانوس السحري لجذب الناس إلى اجتماعاتهم[30]. ومحاولة كسب الشباب المسلم وذلك بالتحدث إليهم في موضوعات اجتماعية وخلقية وتاريخية ثم ينطلقون منها إلى مباحث الدين[31].
واعتمدوا كثيراً على الصحف والكتب والسينما والمسرح في إذاعة الآراء التي تحقق إخراج المسلمين من مقومات فكرهم[32].
وادعو إنسجام الإسلام مع الحضارة الغربية بغية تقبل الناس للحضارة الغربية ومن ثم قبول المسيحية في المرحلة القادمة[33].(86/7)
واستغلوا ما تعانيه البشرية في بعض بقاع العالم الثالث من كوارث ومجاعات طارئة، فأخذوا في تقديم العون لها ومن ثم دعوتها إلى النصرانية.. وهذا من الأمور المشاهدة في أفريقية وآسية بالذات.
وفي الحبشة كانت المعالجة لا تبدأ قبل أن يركع المرضى ويسألوا المسيح أن يشفيهم[34]. وللمنصرين حيل لجميع المرضى للعمل وسطهم قبل وصول الطبيب المعلن عن موعد مجيئه لهم[35]. كما فعلوا في الناصر بالسودان وباليمن. كانوا يعلنون هذه النوايا ويتواصلون على استغلال التطبيب في الدعوة إلى النصرانية[36].
وعندما تخفق جميع الوسائل والأساليب في تنصير المسلمين، يلجأ المنصرون إلى أسلوب إخراج المسلم من دينه. ومثال ذلك ما صرح به صمويل زويمر أمام مؤتمر القدس التنصيري سنة 1935م، قائلاً: ".. ولتكن مهمة التبشير التي ندبتكم لها الدول المسيحية في البلاد الإسلامية ليست هي إدخال المسلمين في المسيحية، فإن في هذا هداية لهم وتكريماً، وإنما مهمتكم أن تخرجوا المسلم من الإسلام ليصبح مخلوقاً لا صلة له بالله وبالتالي لا صلة له بالأخلاق التي تعتمد عليها الأمم في حياتها.."[37].
وما صرح به شنودة في الاجتماع المغلق الذي عقده في 5/ 3/ 1973م مع القساوسة والأثرياء بالكنيسة المرقسية بالاسكندرية، قائلاً: "... إن الخطة المرسومة هي التنصير بين الفئات والجماعات وذلك لزحزحة أكبر عدد من المسلمين عن دينهم... على أن يكون ذلك بطريقة ذكية، خشية الإثارة واليقظة وإفشال الخطة..."[38].
بل ظنوا أن استمرار الحرب الإسلامية – اليهودية، فرصة سانحة لخدمة أهدافهم وفي ذلك يقول شنودة: "... إننا يجب أن ننتهز ما هم فيه من نكسة ومحنة (يعني المسلمين المصريين خاصة والمسلمين عامة) – لأن ذلك في صالحنا، ولن نستطيع إحراز أية مكاسب أو أي تقدم إذا انتهت المشكلة مع إسرائيل سواء بالسلم أو بالحرب.."[39].(86/8)
وظهر أسلوب إرسال الكتيبات والنشرات للأفراد على صناديق بريدهم، ومثال ذلك، ما وقع في يدي من ذلك الذي أرسل إلى المملكة العربية السعودية دعوة لعضوية نادي ((هوني قايد)) – بمعنى دليل العسل – العالمي للصداقة، تدعو لعقد علاقات صداقة بين الشباب من الجنسين، والهدف منها إفساد الحياة الاجتماعية الإسلامية بمثل هذه الوسائل الخبيثة الماكرة[40].
واعتمد المنصرون على أسلوب العمل المعتمد على الدراسات النظرية والميدانية والإحصائية لاكتشاف أفضل السبل والأساليب لتنصير المسلمين. ويعقدون المؤتمرات لمناقشة تلك الدراسات والأساليب والتجارب الميدانية. ومن تلك المؤتمرات:
1 - مؤتمر القاهرة، سنة 1324هـ/ 1906م.
2 - مؤتمر أدنبرة، سنة 1328هـ/ 1910م.
3 - مؤتمر لكنو بالهند، سنة 1329هـ/ 1911م.
4 - مؤتمر القسطنطينية في العام نفسه.
5 - مؤتمر القدس 1343هـ/ 1924م.
6 - مؤتمر جبل الزيتون بلبنان سنة 1346هـ/ 1927م.
7 - مؤتمر مجلس الكنائس العالمي التي يتكرر عقدها وبخاصة مؤتمرات الأعوام 1344هـ/ 1925م، 1346هـ/ 1927م، 1347هـ/ 1928م.
8 - مؤتمر القدس سنة 1380هـ/ 1961م.
9 - المؤتمر الأول حول تنصير العالم في برلين عام 1386هـ/ 1966م.
10 - مؤتمر مدراس بالهند سنة 1347هـ/ 1928م.
11 - مؤتمر السويد سنة 1389هـ/ 1969م.
12 - مؤتمر لوزان بسويسرا سنة 1394هـ/ 1974م.
13 - مؤتمر كلورادوا بأمريكا سنة 1398هـ/ 1978م.
14 - مؤتمر أستراليا سنة 1400هـ/ 1980م.
15 - مؤتمر أكسفورد في أغسطس 1986م.... إلخ.
ولم تبدأ هذه المؤتمرات في القرن الرابع عشر الهجري/ العشرين الميلادي، بل هي قديمة فمثلاً، في أواخر القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي، دعا البابا أوربان الثاني إلى عقد مجمع بهيئة مؤتمر للرهبان لدراسة مقاومة انتشار الإسلام ومبادئه باعتبارها تهدد الأفكار المسيحية.(86/9)
إن مؤامرة تنصير المسلمين قد نسجت خيوطها بوضوح في مؤتمر كلورادوا المذكور الذي عقد تحت عنوان ((مؤتمر أمريكا الشمالية لتنصير المسلمين في العالم))[41] وتساءلوا في هذا المؤتمر: لِم لم يتم حتى الآن تنصير المسلمين كما يجب وبصورة أفضل؟
ولقد قرروا أن يكون مؤتمراً عملياً تنفيذياً يغير سياسة التنصير ووجهته، واتفقوا على أربعين بحثاً قدمها المنصرون أمام مؤتمرهم هذا.
لقد استمر المؤتمر منعقداً لمدة أسبوعين وكان مغلقاً على أعضائه وانتهى إلى وضع استراتيجية شاملة ذات أهداف معينة يتم تنفيذها في فترة زمنية محددة في كل بقعة من بقاع العالم الإسلامي لاسيما وسط الأقليات المسلمة في العالم. وقال دون مك كري في كتاب له عن هذا المؤتمر: "... إن الاستراتيجية التي وضعها المؤتمر ستبقى سرية لخطورتها"
وهو ما ذكره في بحثه أمام المؤتمر بعنوان: (الوقت المناسب لمنطلقات جديدة)، وقال: "... ولن نستطيع نشر هذه التقارير الكاملة لأنها تحتوي على حقائق ومعلومات حساسة للغاية، من الأفضل أن تظل طي الكتمان".
لقد عالجت الأربعون بحثاً المقدمة إلى هذا المؤتمر موضوعات رئيسة ضمن محاور ثلاثة، إذ تعرضت عشرة أبحاث لموضوع التصورات في العمل ومفاهيمه وعالجت ستة عشر بحثاً أخرى موضوع الطعم المطروح في مواجهة المسيحية للإسلام اليوم، وعالجت الأبحاث الأربعة عشر المتبقية الاستجابات المحددة التي تعد ضرورية للخدمات التنصيرية الفعالة بين المسلمين.
ومن بين الأبحاث التي أولاها المؤتمرون اهتماماً خاصاً، سبل محاولة الاتصال بالمرأة المسلمة التي يمكن عن طريقها الوصول إلى الأسرة المسلمة[42].(86/10)
لقد أبانت هذه البحوث الأربعون عن كل أساليب ووسائل المنصرين للوصول إلى أهدافهم في البلاد الإسلامية. فمثلاً نجد البحث رقم (1) يعالج أهمية قبول الصيغ الثقافية المؤلفة عند الشخص المراد تنصيره. أما الصور والأشكال الثقافية المألوفة لدى الناس والتي يمكن استخدامها في تفهم الناس النصرانية، ومن الذي يحددها؟ وما المفروض والمقبول منها؟ وما الذي يحتاج إلى تأويل؟ فتلك أسئلة انعقد المؤتمر للإجابة عنها دون غيرها.
وفي البحث رقم (2) بعنوان: (الإنجيل واختلاف الثقافات)، يرى دونالد لاسون أن الأساليب الفعالة في التنصير هي أهمية احترام وجهة نظر المدعو للنصرانية وإجراء الحوار الهاديء معه، وإن هذا الاتجاه هو ما أكده فرانك كولي وآخرون في البحث رقم (2) عند دراستهم لوضع الإسلام والمسيحية في جنوبي شرقي آسية، وما أكده كذلك بشير عبد المسيح في البحث رقم (3)، إذ يلخص إلى أن احتواء الثقافة الإسلامية أمر مقبول استراتيجياً ويمكن الوصول إليه بلا عناء.
ومن الأساليب التي تناولها هارفي كون في البحث رقم (4): استخدام أسلوب التنصير الجماعي عن طريق الزعامات المحلية.
ومن الأساليب التي تناولها آرثر جلاسر في البحث رقم (6): أهمية تجنب الخوض في المسائل الدينية التي يتفوق فيها المسلم على النصراني[43].
ومن أساليبهم في تخطي عقبات وصول النصرانية إلى المسلمين هو دراسة اللاهوت الإسلامي لمعرفة العقبات التي يجب تخطيها والجسور التي يمكن أن يعبروا عليها إلى المسلمين، ذلك حسبما جاء في البحث رقم (11) بقلم كنيس كراج.(86/11)
هذا بالإضافة إلى أساليب أخرى كثيرة تناولتها بقية الأبحاث، مثل أسلوب أهمية إنشاء الكنائس الوطنية والاعتماد على أناس لا يشغلون وظائف دينية (بحث رقم 15)، واستخدام البث الإذاعي بذكاء، مباشر وغير مباشر (بحث رقم 17، 24)، وترويج العلمانية والمادية في المجتمعات الإسلامية، وتعلم المنصرين للغات المحلية للمدعوين إلى النصرانية والعمل وسط المجموعات ذات العقائد البعيدة عن الإسلام والشباب والبدو (بحث رقم 18)، واستخدام ترجمات الإنجيل (بحث رقم 21، 23) واستخدام الأدب المسيحي (بحث رقم 22) والبحث عن ثغرات ينفذون منها إلى مبادئ الإسلام (بحث رقم 15) والاهتمام بما يسمونهم ((الخيامين)) في تنصير البلاد التي لا تسمح بالوجود العلني لمؤسسات التنصير، مثل بعض دول الخليج العربي!
والخيامون هم المدرسون والممرضون والأطباء والمهندسون والدبلوماسيون ومستشارو الأمم المتحدة والموظفون والعمال عموماً الذين يدخلون البلاد الإسلامية المغلقة في وجه التنصير لأداء مهام وظائف محددة تتعاقد معهم الحكومات والمؤسسات لأدائها.
ونبه المؤتمرون إلى أهمية أن يعمل هؤلاء الخيامون بحذر شديد وتخطيط دقيق مدروس. واستخدام الحوار الذي يفتح باباً للصداقات مع المسلمين ومن ثم التأثير فيهم (بحث رقم 34).
ومثل تقديم المعونات الغذائية والصحية (بحث رقم 37).. إلخ.(86/12)
ونتيجة لاستخدام النصارى مختلف الوسائل والأساليب لتنصير المسلمين، فقد واجه المجتمع الإسلامي تحدياً كبيراً، تمثل في الوجود النصراني الكبير في آسية وأفريقية بصفة خاصة، ومثال ذلك أن إحصائية مجلس الكنائس الأندونيسي لطائفة البروستات تبين أن عدد كنائسها حتى عام 1972م فقط 9319 كنيسة و 23970 قسيساً و 6504 منصراً متفرغاً وعشرات الجامعات والمعاهد والمستشفيات الكبرى والمتنقلة ودور الأيتام والإذاعات المحلية وامتلاك الصحف الكبرى ودور النشر الكبرى، بينما يملك المسلمون صحيفة واحدة ويمتلكون السفن والطائرات للتنقل بين 30.000 جزيرة في أندونيسية.
وقرر مؤتمرهم التنصيري بجاوا الشرقية مدة عشرين سنة لتنصير جاوا و 50 سنة لتنصير أندونيسية! ويمتلكون مطاراً في منطقة كاليمنتان الغربية وأسطولاً من الطائرات العمودية وأسطولاً بحرياً[44].
لقد أعد أبو هلال الأندونيسي كتاباً خاصاً عن أندونيسية وموقف التنصير منها، بعنوان: (غارة تبشيرية جديدة على أندونيسية) فيه الكثير من أمثال تلك الحقائق والإحصاءات[45].
وفي عام 1911م نشرت مجلة الشرق المسيحي تقريراً عن المؤسسات والأجهزة التي يعمل من خلالها المنصرون في بلاد المسلمين، ومن تلك الإحصاءات التي حواها التقرير: 3838 إرسالية تنصيرية عامة، و34719 إرسالية تنصيرية من الدرجة الثانية، و1.412.044 عدد الأساتذة والتلاميذ، و88 جامعة وكلية بها 8628 طالباً، و552 مدرسة دينية لتخريج المنصرين والمعلمين وبها 12.761 طالباً و1714 مدرسة تنصيرية عليا بها 166.447 طالباً، و30.185 مدرسة ابتدائية بها 1.290.357 تلميذاً، و576 مستشفى، و1077 صيدلية، و11 مجلساً طبياً بها 830 طالباً، و98 معهداً للممرضات فيها 663 طالبة، ويشرف على إرساليات التنصير 520 جمعية عمومية عاملة و433 جمعية لإعانتها و22 جمعية مختلفة... إلخ، وكل ذلك قبل أكثر من ثلاثة أرباع قرن أي منذ سنة 1911[46].(86/13)
وقبل أكثر من نصف قرن بلغ عدد الإرساليات التنصرية في الهند وحدها 377 إرسالية بالإضافة إلى 50 كلية و318 مدرسة ثانوية و78 مدرسة إجتماعية و65 مدرسة زراعية و11 مدرسة للمنصرين و10 مدارس لتخريج معلمين و170 صحيفة وجريدة ونشرة، وبلغت النفقات السنوية للإرساليات 227.330 مليون روبية[47].
ويذكر الكاتب التركي (ضياء أويغور) في كتابه (جذور الصهيونية) أن عدد ما طبع من الإنجيل بوساطة إرساليات التنصير خلال 150 سنة يزيد عن الألف مليون نسخة مترجمة إلى مائة ألف وثلاثين لغة عدا النشرات والمجلات، وقدرت هذه بسبعة آلاف مليون دولار.
إن من الثابت أن جمعية ترجمة الإنجيل في أفريقية تتولى إعداد أكثر من 442 ترجمة الإنجيل في طريقها إلى أفريقية لتوزيعها هناك كل حسب لغته، وتشتمل هذه الترجمات على: 72 ترجمة حديثة للإنجيل، وكانت قد ترجمت سابقاً وأصبحت غير متمشية، ولا ملائمة للمفاهيم الحديثة، مما حدا بهم إلى إعادة ترجمتها بما يوافق العصر، وهناك حوالي 350 ترجمة جديدة تعتبر الأولى من نوعها، وقد بلغت ميزانية هذه الجمعية سبعة ملايين دولار أمريكي خاصة بأفريقية وحدها[48].
وتجد الإشارة أيضاً إلى أن أكثر من 10 ملايين وثمانمائة ألف نسخة من الإنجيل قد تم توزيعها في العالم من قبل اتحاد جمعيات الإنجيل في العام الماضي فقط، كما تم شحن 5900 نسخة من الإنجيل باللغة العربية من كوريا إلى الشرق الأوسط وشمالي أفريقية، كما تم تزويد لبنان بثلاثة ملايين نسخة.
كما يجب التنبيه إلى أن هناك أكثر من 6 ملايين من الطلاب المسلمين يتعلمون في مدارس تخضع للكنيسة[49].
إن أمريكا وحدها تنفق على الإرساليات التنصيرية، ومنها أفريقية أكثر من 600 مليون دولار سنوياً، كما تنفق إنجلترا على ذلك أكثر من مليون جنيه أسترليني وكذلك بقية الدول الغربية الأخرى.(86/14)
وفي دول الخليج العربي بالذات تجلت هجمة المنصرين الشرسة من خلال استغلالهم لحاجة أبناء هذه المنطقة لمطالب الحياة الضرورية من طب وتعليم وخبرات فنية[50] وقد ركز على أهمية هذه الأشياء في التنصير البحث الذي قدمه روبرت بيكيت وآخرون في مؤتمر كلورادو (رقم 17، 30).
وكان نتيجة هذا الاهتمام من قبل هذا المؤتمر والمؤتمرات التي قبله والتي من بعده، ذلك الوجود النصراني متمثلاً في مؤسساته التعليمية والطبية وغيرها، ومتمثلاً في نتائجه السلبية على المجتمعات الإسلامية، وتلك النتائج السلبية حدت بالدكتور حسين مؤنس إلى تحذير المسلمين منها، والعمل على تفاديها، ومن ذلك قوله عن التنصير في أفريقية: "وفي أيامنا هذه (أكتوبر 1977م) توقف تقريباً توسع الإسلام في أفريقية جنوبي الصحراء.. الزيادة التي تأتي هي من مواليد المسلمين... في أفريقية المدارية والاستوائية باستثناء زائيري، كان المسلمون عشرة أضعاف المسيحيين، واليوم أصبح المسيحيون أضعاف المسلمين. المعركة اليوم تدور حول كسب 70% من سكان أفريقية – وهو وثنيون – إلى الإسلام أو النصرانية... إذا سارت الأمور على هذا المنوال سنجد أنفسنا في أفريقية 150 مليوناً في مواجهة 300 مليون غير مسلم على الأقل"[51].(86/15)
وقوله عن التنصير في آسية: "... وأحب ألا يستهين أحد بعمل هذه الأرساليات لقد طالما استهنا بأعمالها وقلنا: إن الإسلام وحد كفيل بإحباط كل جهودها، ولكننا في النهاية نجد أنفسنا أمام مواقف تتحول إلى مشاكل إسلامية قومية، كما في جنوب السودان... إن الأمريكيين يؤيدون أعمال التبشير بكل قواهم لكي يزعزعوا أقدام الإسلام في أندونيسية، فهل ننتظر حتى تتعقد المسألة أو تصبح مشكلة قومية هناك؟ ولماذا لا تتخذ حكومة أندونيسية منذ الآن قراراً حاسماً بإيقاف أعمال التبشير في بلادها لتنقذ نفسها من مشكلة لابد أن تظهر يوماً ما؟ وهل يعلم المسلمون مثلاً أنهم عندما قسموا جزيرة غينية الجديدة إلى قسمين: شرقي يتبع أسترالية؛ وغربي يتبع أندونيسية (إيريان الغربية) ركزت جمعيات التبشير جهدها في إيريان الغربية التابعة لأندونيسيا، لكي يحولوها إلى أرض مسيحية تاركين إيريان الشرقية – وهي تابعة لهم – لأنهم واثقون بأنها بلادهم.. نريد أن نقول هنا إن الإسلام في خطر في أندونيسية.. هل تذكر المثل الذي يقول: من مأمنه يؤتى الحذر؟ إذن فاذكر إلى جانب ذلك أننا سنؤتي في جنوبي شرقي آسية من مأمننا: أندونيسية...".
كل الذي ذكرناه من أساليب ناعمة ماكرة خبيثة غير مباشرة، تنطلي على قصيري النظر من المسلمين، لا يعني أن المنصرين لا يلجأون إلى الأساليب المباشرة في حرب الإسلام، سواء أكانت أساليب مادية أو معنوية، ومن أمثلة ذلك:
1 - عطلوا – مع قوى الاستعمار الأخرى – الدراسات الإسلامية في موزمبيق، ومنعوا استخدام اللغة العربية، ووضعوا جميع نظم التعليم بين أيدي المنصرين الكاثوليك[52].
2 - أغلقوا في الحبشة مكاتب تحفيظ القرآن سنة 1945م، واعتبروا تعليم اللغة العربية جريمة يعاقب عليها القانون[53].(86/16)
3 - دبروا في نيجيريا الاغتيالات في مسرحية مكشوفة، عندما وجدوا المسلمين في مركز القيادة، ومثال ذلك ما حدث للزعيم النيجيري أحمدو بللو، ورئيس الوزراء النيجيري أبي بكر تفاوا بليوه وعندما حركت الصليبية والصهيونية عملاءها برئاسة (ايرونسي) وقيادة شوكور ما نزيجو من قبيلة أيبو النصرانية، وأصدر أوامره بإلغاء توحيد نيجيريا وفرض سيطرة أيبو على نيجيريا.. وحركوا عميلهم الجنرال أوجوكو ليقوم بمحاولات فصل إقليم بيافرا.. وتدفقت عليه الأسلحة من قوى النصرانية في الغرب المسيحي[54]. وعبر عن أهداف أوجوكو ((البروفيسور)) (النصراني جير يام أم ريك)، قائلاً: "إن الحظ السياسي لدولة بيافرا سيكون في وضع حد للتوسع الإسلامي في كل أرجاء أفريقية".
"إن الثورة البيافرية سوف تنشئ حكومة مسيحية في نظراتها.."[55].
4 - وفي زنجبار تعاونت الصهيونية والاستعمار مع المنصرين، ودبروا مذبحة جماعية عام 1963م، راح ضحيتها ثلاثة وعشرون ألفاً من المسلمين من مجموعة ستة وعشرين ألفاً[56].
5 - وتعاونوا مع ((ملتون أبوتي)) المسيحي المتعصب للإطاحة ((بعيدي أمين)) في أوغندة لأنه مسلم، وقتلوا المسلمين وألجأوهم إلى الهرب إلى البلاد المجاورة[57].
6 - كانوا ومازالوا في السودان وراء الفتن التي تعصف بجنوبي السودان. يذكر هولت في كتابه: (تاريخ السودان الحديث)، ص149 ((إشارة البروفيسور ليبون اليهودي. وعميد كلية الآداب بجامعة الخرطوم في السابق في محاضرة ألقاها في أروقة الجامعة، إذ يقول فيها: ".. إن السودان سيتطور تطوراً ملحوظاً سنة ألفين، هذا في الجزء الشمالي أما الجزء الجنوبي فإنه سينفصل وينضم إلى دولة ستنشأ يومئذ واسمها دولة أواسط أفريقية"[58].
وعندما انكشف دور الأوربيين النصارى في هذه المؤامرة طردوا من البلاد[59].(86/17)
7 - سعوا إلى تنصيب رؤساء الدول الإسلامية في أفريقية بالذات من بين النصارى الأفريقيين، فعلوا ذلك في السنغال أيام سنغور، وفي غامبيا.. ولكن الله هدى الرئيس الغامبي الحالي فعاد إلى حظيرة الإسلام. وفي تشاد نصبوا تمبال باي.. وفي أفريقية الوسطى نصبوا ((بوكاسا)).. وعندما أسلم تمكنوا من عزله وطردوه[60].
8 - سعوا مع المستشرقين في تشويه صورة الإسلام في شخص الرسول r وفي القرآن الكريم[61].
لم يتركوا ميداناً من ميادين الدراسات الإسلامية إلا اقتحموه لبث سمومهم وافتراءاتهم تلميحاً وتصريحاً.
9 - خططوا عن طريق الضغوط الدبلوماسية إلى علمنة الدساتير الإسلامية، أو على الأقل ضمان ما يسمونه ((حرية تنصير المسلمين بقوة الدستور)).. وذلك عندما فشلوا في فرض حكومات نصرانية في البلاد ذات الثقل الحضاري، مثل مصر[62].
ولذلك نراهم يتحدثون عن تأثير الحضارة الغربية على الشرق كوسيلة من وسائل التغيير لتفريغ الدساتير من محتواها الإسلامي لتصبح شكلاً بلا مضمون أو بلا موضوع..
10 - استغلال الحماية الأجنبية التي كانت تسيطر على البلاد.. ففي مصر – مثلاً – نجد الحكومة الاستعمارية، تفصل بضعاً وسبعين عالماً أزهرياً من وظائفهم بتهمة التصدي لنشاط الإرساليات النصرانية[63].
11 - وفي موزمبيق فتك الدكتور الصليبي الدواردو بالمسلمين الذين شاركوا معه في تحرير موزمبيق من الاستعمار البرتغالي تحت اسم حركة ((فريملو))، وتبنى الرئيس سامورا ماشيل الشيوعي النصراني سياسة فظة ومليئة بالكراهية تجاه المسلمين[64]، وبذلك سار في نفس طريق السياسة الاستعمارية البرتغالية[65].(86/18)
12 - أما في الكونغو فقد رفضت الدولة الاعتراف بالإسلام، ورفضت أن تكون اللغة السواحلية، لغة رسمية للبلاد لأن بها 60% من الكلمات العربية، وقد جمع المسلمون أنفسهم بعد الاستقلال وطالبوا بالشخصية المدنية ليكون لهم نوابهم وممثلوهم ومدارسهم ومؤسساتهم، ووعدهم رئيس الوزراء السابق ((أدولا)) بكل خير، ولكنه أبعد عن الحكم قبل أن ينفذ شيئاً واتهمه المستعمرون البلجيك والمنصرون بأنه مسلم وأن اسمه ((عبدالله))، وأنا أباه سنغالي مسلم.
لا عجب في ذلك، ففي الكونغو ما يزيد عن 15 ألف بعثة تنصيرية من الدول الأوربية ويعملون وفق خطة مرسومة[66].
13 - وبعد أن أبعدوا الأغلبية الإسلامية عن مراكز القيادة في تشاد، كان ((تومبال باي)) تلك العصا التي يضرب بها النصارى المسلمين، ولهذا كان لابد لمنظمة ((فرولينا)) أن تعمل لتغيير هذا الوضع الذي استمر حتى بعد زوال ((تومبال باي))[67].
14 - وما زال الشعب الأرتيري معزولاً عن سيادة نفسه، بل أجبروه ليظل في فلك الحبشة النصرانية الصليبية[68].
15 - وفي أندونيسية قاموا بكل عمل من شأنه إضعاف انطلاقة الإسلام وتشجيع التنصير والعلمانية[69].
ثبت بأهم مصادر ومراجع البحث
أولاً: الكتب.
ثانياً: الدوريات.
1 – الكتب
1 - القرآن الكريم.
2 - التل، عبدالله: جذور البلاء، ط2، بيروت، المكتب الإسلامي، 1405هـ/ 1985م.
3 - الجبهان، إبراهيم سليمان: ما يجب أن يعرفه المسلم من حقائق عن النصرانية والتبشير، ط1، الرياض، الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، 1397هـ/ 1977م.
4 - الجندي، أنور: الإسلام في وجه التغريب – مخصصات التبشير والاستشراق، القاهرة دار الاعتصام، د.ت.
5 - خليل، د. عماد الدين: مأساتنا في أفريقية، ط1، بيروت، مؤسسة الرسالة 1987م.
6 - شاتليه، أ.ل: الغارة على العالم الإسلامي، ترجمة وتلخيص محب الدين الخطيب ومساعد اليافي، جدة، الدار السعودية للطباعة والنشر، د.ت.(86/19)
7 - شلبي، د. عبدالودود: أفيقوا أيها المسلمون قبل أن تدفعوا الجزية، ط4 جدة، دار المجتمع للنشر والتوزيع، 1406هـ/ 1986م.
8 - فروخ، عمر، ومصطفى الخالدي: التبشير والاستعمار في البلاد العربية، ط5، بيروت، شركة علاء الدين للطباعة والتجليد، 1973م.
9 - مك كري: التنصير والإسلام، ترجمة الأستاذ آدم أبو الرجال وآخرون، الرياض، مؤسسة الراجحي الخيرية، 1986م.
10 - الملكاوي، د. محمد عبدالقادر خليل: المناظرة الكبرى بين الشيخ رحمة الله والدكتور القسيس فندر، جمع وتحقيق وتعليق ونشر الدكتور الملكاوي، ط1، الرياض، دار ابن تيمية للنشر والتوزيع والإعلام، 1405هـ.
11 - نقرة، د. التهامي، وآخرون: مناهج المستشرقين في الدراسات العربية الإسلامية، الرياض، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم ومكتب التربية العربي لدول الخليج 1405هـ/ 1985م، جزءان.
12 - أبو هلال الأندونيسي: غارة تبشيرية جديدة على أندونيسية، ط4، جدة، دار الشروق، 1400هـ/ 1980م.
2 – الدوريات
1 - جريدة البلاغ، العدد 58 – 13 ربيع الآخر، 1390هـ، 17 يونيو 1970م، ((مؤامرة في نيجيريا))، معلومات تنفرد البلاغ بنشرها.
2 - جريدة البلاغ، العدد 414 – 17 يوليو 1977م، ((أنقذوا عيدي أمين، إنه يتعرض لحرب صليبية شرسة)).
3 - جريدة البلاغ، العدد 451 – 4 يونيو 1978م، ((الإسلام في موزمبيق)).
4 - جريدة البلاغ، العدد 395 – 6 مارس 1977م، ((أوغندا.. المبشرون يتآمرون فاحذروهم أيها الغافلون)).
5 - مجلة حضارة الإسلام، مجلدات 1 – 3، سنة 1384هـ، تموز 1964م، العدد الأول، السنة الخامسة، ((ضيف الحضارة الحاج إبراهيم أحمد أبو بكر الهرري)).
6 - حضارة الإسلام، العددان 3 – 4، السنة الثامنة، جمادى الأول والآخر، سنة 1387هـ، أيلول 1967م، ((مأساة المسلمين في نيجيريا)).(86/20)
7 - حضارة الإسلام، المجلد الثامن، العددان 1 – 2، ربيع أول وآخر، سنة 1387هـ، حزيران – تموز 1967م، ((مأساة المسلمين في أثيوبية)).
8 - حضارة الإسلام، العدد 5، رجب 1388هـ، السنة التاسعة، تشرين 1968م، ((حالة المسلمين في الحبشة)) بقلم الشيخ محمد العبودي، الأمين العام للجامعة الإسلامية.
9 - مجلة كلية العلوم الاجتماعية، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض العدد 4، سنة 1400هـ، ((تصدي الإرساليات النصرانية لتقدم الإسلام بين الشعوب الوثنية في وادي النيل))، بقلم الدكتور إبراهيم عكاشة علي.
10 - مجلة المسلمون، المجلد الثامن، العدد 3، كانون الأول 1963م، ((حملة التشهير الآثمة على السودان)) بقلم الأستاذ القاضي/ عثمان خالد مضوي.
11 - مجلة المسلمون، المجلد الثامن، العدد 5، سنة 1387هـ ((مغزى كارثة زنجبار)) بقلم الأستاذ محمد المجذوب.
12 - مجلة هذه سبيلي، التابعة للمعهد العالي للدعوة الإسلامية، جامعة الإمام، العدد الثاني سنة 1399هـ، ((أفريقية والنصرانية))، بقلم الدكتور مهدي رزق الله أحمد.
13 - مجلة الهلال، أكتوبر 1977م، ((الإسلام في خطر)) بقلم د. حسين مؤنس.
14 - مجلة الهلال، نوفمبر 1977م، ((إسلام آسية في خطر)) بقلم د. حسين مؤنس.
ــــــــــــــــــــــ
[1] سورة البقرة: 109.
[2] البقرة: 120.
[3] آل عمران: 69.
[4] آل عمران: 186.(86/21)
[5] في هذه المسألة أنظر: مجلة ((هذه سبيلي))، العدد الثاني، السنة الثانية، 1399هـ، صادرة عن المعهد العالي للدعوة الإسلامية بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، مقال ((أفريقية والنصرانية)) بقلم الدكتور مهدي رزق الله، ص279، قول زويمر سنة 1925م. وتكراره ذلك في أكثر من مناسبة.. انظر قوله بعد هذه الفقرة، نفس ص279.. وانظر قوله أمام مؤتمر القدس التنصيري سنة 1935م.. وخلاصة القول في هذه المسألة أن المنصرين يسعون إلى إخراج المسلم من دينه إذا فشلوا في إدخال النصرانية. وفي هذه الناحية انظر أنور الجندي: الإسلام في وجه التغريب – مخططات التبشير والاستشراق، القاهرة، دار الاعتصام، د.ت.، ص70.
[6] انظر: التبشير والاستعمار في البلاد العربية – الدكتور عمر فروخ والدكتور مصطفى الخالدي، ط5، بيروت، شركة علاء الدين للطباعة والتجليد، 1973م، ص34 – 35.
[7] المرجع نفسه، ص35.
[8] أسد: 43.
[9] التل، عبدالله: جذور البلاء، ط3، بيروت، المكتب الإسلامي، 1405هـ/ 1985م ص28.
[10] التبشير والاستعمار، مرجع سابق، ص55.
[11] أفريقية والنصرانية، مرجع سبق ذكره، ص287.
[12] الغارة على العالم الإسلامي، تحريراً. ل شاتليه، نقلها إلى العربية ولخصها محب الدين الخطيب ومساعد اليافي، جدة، الدار السعودية للطباعة والنشر، ب.ت.، ص13.
[13] المرجع نفسه، ص14.
[14] انظر: أفريقية والنصرانية، بحث للدكتور مهدي رزق الله أحمد – منشور بمجلة هذه سبيلي التي يصدرها المعهد العالي للدعوة الإسلامية، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية – الرياض – العدد الثاني، سنة 1399هـ، ص284.
[15] المرجع والمكان نفسهما؛ الإسلام في وجه التغريب – أنور الجندي، مرجع سبق ذكره، ص167.
[16] المرجعان والمكانان نفسهما.
[17] انظر: التبشير والاستعمار في البلاد العربية، مرجع سبق ذكره، ص66 – 67.
[18] المرجع نفسه، ص88.(86/22)
[19] الغارة على العالم الإسلامي، ص82. إن هذا الاتجاه الخطير هو ما تؤكده دائماً الأبحاث التي تقدم في مؤتمرات التنصير ويظهر جلياً من خلال المناقشات في تلك المؤتمرات، ومن الأمثلة على ذلك أن المنصر والمستشرق الكبير كنيث كراج، الذي ترأس مؤتمر التنصير الذي انعقد في إحدى كليات جامعة أكسفورد من 18 – 25 أغسطس 1986م، قال في محاضرة له في هذا المؤتمر، عنونها: ((موضوعات مشتركة بين المسلمين والمسيحيين)) إن نجاح الحضارة العلمانية الغربية في غزو المسلمين يمثل عاملاً حاسماً في التقريب بينهم وبين المسلمين..)) إلخ. إن دور العلمانية في مساندة التغيير من الموضوعات التي اهتم بها كراج في أبحاثه، انظر في ذلك:
K. Cragg: Counsels in Contemporary Islam (Islamic Surveys 3 E.U.P 1965),PP. 9, 192.
[20] التبشير والاستعمار، ص65 – 112.
[21] الإسلام في وجه التغريب، مرجع سبق ذكره، ص29.
[22] انظر: الإسلام في وجه التغريب، مرجع سبق ذكره، ص168.
[23] المرجع نفسه، ص169.
[24] انظر مثال ذلك: أفيقوا أيها المسلمون، ص58 وما بعدها.
[25] التبشير والاستعمار، ص59.
[26] المرجع والمكان نفسهما.
[27] المرجع والمكان نفسهما.
[28] المرجع نفسه، ص60.
[29] صرحت بذلك المنصرة ماليجان في كتابها المطبوع بفلادلفيا سنة 1921، بعنوان: ((Facts and Falks on Field Abroad)) . ص159.. نقلاً عن المرجع السابق، ص62. ومن الأدلة على ذلك ما شاهده علي رياض في مستشفى هرمل بالقاهرة (انظر في ذلك: افيقوا أيها المسلمون قبل أن تدفعوا الجزية)، ص47 – 48.
[30] انظر الإسلام في وجه التغريب، مرجع سبق ذكره، ص93.
[31] المرجع والمكان نفسهما.
[32] المرجع نفسه، ص94.
[33] المرجع نفسه، ص94 – 95.
[34] المصدر نفسه، ص32، ومرجع ومكان النقل نفسهما.
[35] المصدر نفسه، ص142، ومرجع ومكان النقل نفسهما.
[36] التبشير والاستعمار، ص62 – 63.(86/23)
[37] ما يجب أن يعرفه المسلم من حقائق عن النصرانية والتبشير، إبراهيم سليمان الجبهان، ص105، جذور البلاء: عبدالله التل، مرجع سبق ذكره، ص275 – 276، وهذا القول نفسه ذكره أمام مؤتمر أدنبرج التنصيري سنة 1910م وأمام مؤتمر جبل الزيتون التنصيري سنة 1927م انظر: الإسلام في وجه التغريب، ص70.
[38] المرجع والمكان نفسهما.
[39] المرجع والمكان نفسهما.
[40] عن هذا الأسلوب، راجع: مجلة الإصلاح، عدد رمضان 1402هـ/ ص8 – 11، ومجلة الدعوة السعودية، العدد 798 بتاريخ 14 رجب 1402هـ، ص6، عدد 611، ص13، تحت عنوان: (بيان من رابطة العالم الإسلامي حول المنشورات النصرانية) وقد درجت هذه المنشورات على مهاجمة الإسلام والدعاية للنصرانية، وهي صادرة عن عدة مصادر، أهمها: (1) صوت كلمة الحياة بأسبانية – ملقا، ص.ب. 57. (2) دار الهداية بسويسرا، ويكون، ص.ب 66. (3) مفتاح المعرفة، فرنسة، مرسيليا، ص.ب 14. وانظر: أفيقوا.. مرجع سبق ذكره، ص70 – 73.
[41] نشر أبحاث هذا المؤتمر السيد/ مك كري في أمريكا باسم (The Gospel and Islam ) وترجمته ((الإنجيل والإسلام)) أو ((التبشير والإسلام)).
[42] عن التنصير والمرأة المسلمة انظر: الإسلام في وجه التعريب، مرجع سبق ذكره ص179 – 181.
[43] إن من الدروس البالغة الأهمية التي تلقاها المنصرون من نتائج المناظرة مع المسلمين هي تفوق الشيخ رحمة الله الهندي على الدكتور القسيس فندر وذلك في المناظرة الكبرى التي جرت بينهما في الهند سنة 1270هـ/ 1854م. قام بتحقيق هذه المناظرة والتعليق عليها زميلنا بقسم الدراسات الإسلامية محمد عبدالقادر الملكاوي ونال بهذا العمل درجة الدكتوراه في العقيدة والمذاهب المعاصرة من كلية أصول الدين بجامعة الإمام محمد بن سعود بالرياض. انظر ردة الفعل العنيفة لدى المنصرين، ص376 – 378 من رسالة د. الملكاوي وانظر في تحذير المنصرين من الخوض في مجادلة المسلمين المراجع الآتية:(86/24)
التبشير والاستعمار، ص50، الغارة على العالم الإسلامي، ص54 – 55.
[44] انظر مجلة الأمة القطرية، رجب 1401هـ، ص43.
[45] انظر: أبو هلال الأندونيسي: غارة تبشيرية جديدة على أندونيسية، ط4 جدة، دار الشروق، 1400هـ/ 1980م.
[46] الغارة على العالم الإسلامي، مرجع سبق ذكره، ص112 – 113.
[47] انظر: الإسلام في وجه التغريب، مرجع سبق ذكره، ص56.
[48] المسلمون – العدد 88، في 8 – 14 صفر 1407هـ، 11 – 17 أكتوبر 1986م، ص10، تحت عنوان (بدون تعليق)، بقلم عبدالرحمن القباع من الدار البيضاء.
[49] راجع: المجتمع الكويتية، عدد 553، في 6 صفر 1402هـ: 22 ديسمبر 1981م، بعنوان ((مذكرة تفصيلية بالإحصاءات عن الوجود النصراني في الخليج، ص20.
[50] في هذا انظر الكتاب الخطير: أفيقوا أيها المسلمون... قبل أن تدفعوا الجزية – الدكتور عبدالودود شلبي – دار المجتمع للنشر والتوزيع – جدة.
[51] مجلة الهلال، أكتوبر 1977م، ((الإسلام في خطر)) بقلم الدكتور حسين مؤنس ص45 – 49.
[52] انطر: جريدة البلاغ – العدد 451 – 4 يونيو 1978م – الإسلام في موزمبيق، ص42.
[53] حضارة الإسلام – العدد 5 – رجب 1388هـ – السنة التاسعة، ((حالة المسلمين في الحبشة)) بقلم الشيخ محمد العبودي، ص72 – 75. وانظر: جريدة حضارة الإسلام – المجلد الثامن – العدد 1، 2 – ربيع أول وآخر 1387هـ، حزيران وتموز 1967م، ((مأساة المسلمين في أثيوبيا))، ص16 – 165.
[54] انظر تفاصيل ذلك في ((عماد الدين خليل)) مأساتنا في أفريقية، ط1، بيروت، مؤسسة الرسالة 1987م.(86/25)
[55] انظر في ذلك: جريد البلاغ – العدد 58 – الأربعاء 13 ربيع الآخر 1390هـ، الموافق 17 يونيو 1970م، ((مؤامرة في نيجيريا)) – معلومات تنفرد البلاغ بنشرها، ص19 وما بعدها، جريدة البلاغ، العدد 404 – 17 يوليو 1977م، ((مقال بعنوان أنقذوا عيدي أمين، إنه يتعرض لحرب صليبية شرسة))، ص27، مجلة حضارة الإسلام، عدد 9، السنة 6، ذو القعدة 1385هـ/ آذار 1966م. ((نيجيريا والمخالب السود)) بقلم د. محمد أديب الصالح، ص917 – 922.
[56] انظر: مجلة هذه سبيلي – بحث ((أفريقية والنصرانية))، مرجع سبق ذكره، ص291، عماد الدين خليل: مأساتنا في أفريقية، مرجع سبق ذكره، ص110.
[57] انظر: جريدة البلاغ – العدد 414 – 17 يوليو 1977م – ((انقذوا عيدي أمين إنه يتعرض لحرب صليبية شرسة)).
[58] انظر: المرجع نفسه، ص59، مجلة هذه سبيلي، أفريقية والنصرانية، المرجع السابق، ص291.
[59] انظر: ((مجلة المسلمون)) المجلد الثامن – عدد 3 – كانون الأول، 1963م، ((حملة التشهير الآثمة على السودان)) بقلم الأستاذ عثمان خالد مضوي، ص307 وما بعدها.
[60] انظر في ذلك: مأساتنا في أفريقية، مرجع سبق ذكره، ص83 – 86.
[61] انظر في ذلك: جذور البلاء، مرجع سبق ذكره، ص207 – 222، مناهج المستشرقين في الدراسات العربية الإسلامية، الجزء الأول – صادر عن المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم ومكتب التربية العربي لدول الخليج 1405هـ، بحث ((القرآن والمستشرقون)) للدكتور التهامي نقرة، ص19 – 57. وبحث ((المستشرقون والسيرة النبوية)) بقلم الدكتور عماد الدين خليل، ص113 – 201، بحث ((منهج مونتغمري)) و1 ط في دراسة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم))، بقلم د. جعفر شيخ إدريس، ص205 – 247.(86/26)
[62] انظر: مجلة كلية العلوم الاجتماعية – جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية العدد 4 سنة 1400هـ، بحث بعنوان: ((تصدي الإرساليات النصرانية لتقدم الإسلام بين الشعوب الوثنية في وداي النيل، بقلم د. إبراهيم عكاشة علي، ص95 – 98.
[63] المرجع نفسه، ص103.
[64] انظر: البلاغ، عدد 451، 4 يونية 1978م، ((الإسلام في موزمبيق)) ص2.
[65] انظر: مأساتنا في أفريقية، ص128.
[66] انظر: مجلة هذه سبيلي، أفريقية والنصرانية، مرجع سبق ذكره، ص290، مأساتنا في أفريقية، ص9.
[67] انظر: البلاغ، عدد 385، ديسمبر 1977م. ((فرولينا ثورة في تشاد))، ص22 – 24، مجلة هذه سبيلي، المرجع السابق، ص292.
[68] انظر: مجلة الأمة، عدد2، السنة الأولى، صفر 1401هـ/ ديسمبر 1980م، ((مأساة المسلمين في أرتيريا))، بقلم الدكتور عبدالعظيم الديب، ص56 – 59.
[69] انظر تفاصيل ذلك في مثل: مجلة الأمة، رجب 1401هـ، ((أندونيسية المسلمة في مواجهة المخططات التنصيرية الاستعمارية))، تحقيق نبيه عبد ربه، ص33 – 43.(86/27)
العنوان: أسباب منع القطر
رقم المقالة: 2003
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
الحمد لله الجواد الكريم؛ خلق الخلق فدبرهم، وهداهم إلى ما يصلحهم ورزقهم، احتاج الخلق إليه وهو غني عنهم {وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو القُوَّةِ المَتِينُ} [الذاريات:56-58] نحمده على ما هدانا، ونشكره على ما أعطانا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الشُّورى:12]، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ أكمل الخلق إيمانا به، وأكثرهم رجاء له، وأشدهم خوفا منه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- وأطيعوه؛ فإن في طاعته سعادةَ الدارين، وإن في معصيته شقاءَ الحياتين {يَا بَنِي آَدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الأعراف:35-36].
أيها الناس: رِزْقُ الخلقِ على الله تعالى، خلقهم سبحانه وكفلهم وهو يرزقهم {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك:15].(87/1)
ومن خصائص ربوبيته عز وجل أنه ينفق على خلقه ويرزقهم منذ خلقهم، فلا ينقطع رزقه، ولا تنفد خزائنه، ولا ينقص ما عنده {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ الله بَاقٍ} [النحل:96] وفي الآية الأخرى {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ} [ص:54].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يَدُ الله مَلْأَى لَا يَغِيضُهَا نَفَقَةٌ سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، أَرَأَيْتُمْ ما أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السماوات وَالْأَرْضَ فإنه لم يَغِضْ ما في يَدِهِ) متفق عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه.
ورِزْقُ الله تعالى لعباده خاص وعام: فأما الخاص فيكون لبعض عباده دون بعض، بما يفتح الله تعالى عليهم من أبواب الرزق دون غيرهم، كما فتح سبحانه لبعض عباده في أبواب التجارة فلا يخسرون فيها أبدا، وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم لعُرْوَةَ الْبَارِقِيِّ رضي الله عنه بِالْبَرَكَةِ في بَيْعِهِ (فكان لو اشْتَرَى تُرَابًا لَرَبِحَ فيه) رواه أبو داود.
وأما الرزق العام فبما ينزل الله تعالى لعباده من غيث السماء، ويخرج لهم من خيرات الأرض، مما يحتسبونه وينتظرونه، ومما لا يحتسبونه ولا يتوقعونه، والله يرزق من يشاء بغير حساب، فينتفع بهذا الرزق البشرُ والحيوان والأشجار، ثم يعود نفع ذلك لبني آدم؛ لأن كل ما في الأرض مسخر لهم {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية:13].
إن رزق الله تعالى مقسوم بين عباده أفرادا ودولا وأمما على كيفية لا يعلمها إلا الله تعالى فهو الباسط القابض، وهو المعطي المانع {وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ} [النحل:71] ومردُّ هذا التفاوت في الرزق بين العباد والدول والأمم علمُ الله تعالى وحكمتُه {اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [العنكبوت:62].(87/2)
وأكثر الناس لا يدركون حكمة الله تعالى في رزقه؛ ولذلك يتسخطون ولا يرضون بما قُسم لهم منه {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [سبأ:36].
ومن حكمة الله تعالى في عدم التوسعة على البشر في الرزق أن ذلك يؤدي بهم إلى الأشر والبطر والبغي والفساد في الأرض {وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} [الشُّورى:27].
والرزق يطلب من الله تعالى، ولا يبتغى عند غيره؛ لأنه لا رازق إلا الله تعالى {فَابْتَغُوا عِنْدَ الله الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [العنكبوت:17].
ولجلب الرزق وتحصيله أسباب، كما أن للحرمان منه ومنعه أسبابا أخرى، وحري بالعاقل أن يجتنب أسباب حرمان الرزق، ويَجِدَّ في أسباب حصوله.
والمطر من رِزْقِ الله تعالى لأهل الأرض {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آَيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا} [غافر:13].
ويكون تصريفه وقسمته بين أهل الأرض على وفق مشيئة الله سبحانه لحكمة يريدها عز وجل {وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ} [النور:43] وفي الآية الأخرى {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا} [الفرقان:50].
وإذا حُبِس القطر عن أهل الأرض حصل لهم من الكرب والجوع ونقص الثمرات وقلة الخيرات ما لا يعلمه إلا الله تعالى {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ} [الملك:21].(87/3)
وفي خصوص الماء الذي لا حياة لمن على الأرض إلا به يقول سبحانه ممتنا على عباده {أَفَرَأَيْتُمُ المَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ المُزْنِ أَمْ نَحْنُ المُنْزِلُونَ * لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ} [الواقعة:68-70] وفي الآية الأخرى {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ} [الملك:30].
وأسباب منع القطر من السماء عديدة، يجمعها ظلم العباد لأنفسهم بمعصية الله تعالى، وظلم العباد بعضهم لبعض.
كما أن التخلص من هذا الظلم بنوعيه سبب لنزول الأمطار، والبركة في الأرزاق، وحلول الخيرات، ورفع العقوبات، وتصديق ذلك من كتاب الله تعالى {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف:96].
فعلم أن سبب حبس بركات السماء والأرض عنهم تكذيبهم، كما أن الإيمان والتقوى سبب لفتح هذه البركات على العباد.
ومن شؤم أرباب الذنوب والمنكرات، أنهم سبب لمنع الأرض من الخيرات، وتَنَزُّلِ العقوبات، قال مجاهد رحمه الله تعالى في قول الله سبحانه (ويلعنهم اللاعنون): البهائمُ تلعن عصاة بني آدم حين أمسك الله عنهم بذنوب بني آدم المطر فتخرج البهائم فتلعنهم.
وسمع أبو هريرةَ رضي الله عنه رجلاً يقولُ: إِنَّ الظالمَ لا يضرُّ إِلا نفسَه فقال أبو هريرةَ: بَلى والله حتى الحُبارى لتَموتُ في وكْرها هُزْلاً لظلمِ الظالمِ).
قال العلماء: إنما خص الحبارى بالذكر لأنها أبعد الطير طلباً للرزق. ومع ذلك يرزقها الله تعالى في أوكارها حتى يلحقها شؤم معصية العاصين من البشر، فتحرم الرزق بسببهم.(87/4)
ولأجل ذلك ثبت في الحديث الصحيح (أن الْعَبْدُ الْفَاجِرُ يَسْتَرِيحُ منه الْعِبَادُ وَالْبِلَادُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ) وكل ما يصيب العباد من المصائب والنكبات، ونقص الأرزاق، وغور المياه، وحبس الأمطار، وضعف النبات، وموت الأشجار فبسبب معاصيهم وذنوبهم، ولا يظلمهم الله تعالى شيئا {ظَهَرَ الفَسَادُ فِي البَرِّ وَالبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الرُّوم:41] وفي الآية الأخرى {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشُّورى:30].
بل إن الله تعالى لا يؤاخذ العباد بكل ذنوبهم، وإلا لأهلكهم أجمعين، ولم يظلمهم شيئا {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [النحل:61] وفي الآية الأخرى {وَرَبُّكَ الغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ العَذَابَ} [الكهف:58].
ومن بعض عقوبات الله تعالى للعباد أن يحبس عنهم قطر السماء، ويمنع نبات الأرض؛ كما عاقب سبحانه وتعالى بذلك فرعون وقومه لما عصوه عز وجل، ولم يتبعوا رسوله موسى عليه الصلاة والسلام {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [الأعراف:130].(87/5)
وهكذا عوقب أهل مكة على عصيانهم بحبس القطر والنبات عنهم، وأصيبوا بالجوع بدعوة النبي عليه الصلاة والسلام عليهم؛ كما روى ابن مسعود رضي الله عنه فقال:(إِنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لَمَّا رَأَى من الناس إِدْبَارًا قال: (اللهم سَبْعٌ كَسَبْعِ يُوسُفَ فَأَخَذَتْهُمْ سَنَةٌ حَصَّتْ كُلَّ شَيْءٍ حتى أَكَلُوا الْجُلُودَ وَالْمَيْتَةَ وَالْجِيَفَ وَيَنْظُرَ أَحَدُهُمْ إلى السَّمَاءِ فَيَرَى الدُّخَانَ من الْجُوعِ) رواه الشيخان.
نسأل الله تعالى أن يرحمنا برحمته، وأن يشملنا بعفوه، وأن يتجاوز عنا، ونستجير به سبحانه أن يعذبنا بذنوبنا وبما فعل السفهاء منا، إنه سميع مجيب. {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ} [الأعراف:23].
أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم.....
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، أحمده على جزيل فضله وعطائه، وأشكره على عظيم مَنِّه وإحسانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه؛ فإن تقواه سبحانه سبب لرفع البلاء، ودفع الضراء، وحصول الرزق، وحلول البركة {وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطَّلاق:3].
أيها المسلمون: ثبت في نصوص الشريعة أن الذنوب والمعاصي سبب لكل بلاء ينزل بالناس، كما أن الطاعة سبب لكل خير يصيبهم.(87/6)
وقطر السماء من رزق الله تعالى، وما حُرمه الناس إلا ببعض ذنوبهم، ولو أُخذوا بها كلها لهلكوا. وكل عبد يعصي الله تعالى فليعلم أنه من أسباب حرمان البلاد والعباد من الرزق، وأن وبال معصيته يتعداه إلى غيره، حتى يأتي على الحيوان والطير، سواء كانت هذه المعصية فيما بينه وبين الله تعالى كالتهاون في الصلوات، وتضييع الطاعات، وارتكاب المحرمات، أو تعلقت معصيته بحقوق العباد من ظلمهم وأكل حقوقهم، وبخسهم أشياءهم، وقد جاء في حديث ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه) وفي لفظ: (وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِخَطِيئَةٍ يَعْمَلُهَا) رواه ابن ماجه وصححه ابن حبان. وذكر ابن عباس رضي الله عنهما أن اكتساب السيئات سبب لنقص الرزق.
فإذا كان كذلك فكم في كل واحد منا من المعاصي والذنوب التي يجترحها وهو مُصِّرٌ عليها، أو التي يقترفها وهو غافل عنها؟ ولو جمعت ذنوب العباد كلهم فكيف ستكون؟!
إن ذنوب الواحد منا سببٌ لمنع رزقه، وحرمانه التمتع به، ونزع البركة منه، فإذا حُرم مجموع الناس أرزاقهم بسبب ذنوبهم لم يبق لهم أرزاق، فيضيق عيشهم شيئا شيئا، حتى يأكل بعضهم بعضا، عوذا بالله تعالى من ذلك.
إن منع القطر من السماء، وجدب الأرض، وفساد الزرع من شدة البرد ما هو إلا من نتائج ذنوبنا، ولا دافع لذلك إلا الله تعالى، فواجبٌ علينا أن نُقِّرَّ بذلك، ونتوب إلى الله سبحانه وتعالى؛ فما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة.
انظروا يا عباد الله كم في الناس من تضييع للصلوات، ومنع للزكاة وقد جاء الحديث بأن منعها سبب لمنع القطر من السماء.
تأملوا..كم في الناس من عقوق للوالدين، وقطيعة للأرحام، وأذية للجيران، وهجر للإخوان..قد امتلأت قلوب الإخوان بعضهم على بعض بأسباب تافهة، وأمور حقيرة، استوجبوا بها غضب الله تعالى ونقمته..وحرموا رزقه سبحانه..(87/7)
شاهدوا في زمننا هذا كيف تنتشر المنكرات، ويُجاهر بالموبقات، في الأسواق والمستشفيات والأعمال وغيرها، ويفرض هذا الفساد على الناس بالقوة، ويُؤصل له في كثير من وسائل الإعلام المنحرفة، ولا ينكر ذلك إلا القليل من الناس، حتى ماتت كثير من القلوب، وغابت شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. أو تكاد!! بسبب تخاذل الناس، وقوة أهل الشر والبغي والفساد..
تأملوا..كيف بلغ ظلم الناس بعضهم لبعض في أكل الحقوق والغش في التجارات، والمجاهرة بالربا، وانتشار الرشوة والاحتكار والاستغلال والسرقة وأنواع المعاملات المحرمة..
كل ذلك.. وغيره كثير وكثير جدا سببٌ لما يجده الناس من حبس الأمطار، وفساد الزروع والثمار، وغلاء الأسعار، وقلة البركة في الأموال..فإن لم نبادر بتوبتة صادقة عاجلة نتخلص فيها من ذنوبنا فإن أحوالنا ستضيق على ضيقها، وستكسد معايشنا، وتمحق بركة أموالنا وأرزاقنا، والله تعالى إذا أراد عذاب العباد فهو سبحانه قادر عليهم {قُلْ هُوَ القَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآَيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} [الأنعام:65].
ألا فاتقوا الله ربكم، وتخلصوا من ذنوبكم، وأدوا الحقوق التي عليكم..حافظوا على صلاتكم، وأدوا زكاة أموالكم، وصلوا أرحامكم، وأزيلوا الشحناء من قلوبكم؛ فإنها سبب لرفع الخير، ووقوع الشر..
مروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر، ولا يغلبنكم أهل الفساد والإفساد بباطلهم، وأنتم تمتلكون الحق وهو أقوى منه..
فإننا إن فعلنا ذلك، وصدقنا مع الله تعالى في توبتنا فتح سبحانه وتعالى علينا أرزاق السماء والأرض، وبارك لنا فيها، فجمع لنا بين نعيم الدنيا، وتحصيل أسباب نعيم الآخرة. {وَتُوبُوا إِلَى الله جَمِيعًا أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31].(87/8)
وصلوا وسلموا على نبيكم...(87/9)
العنوان: استراتيجية إدارة الموارد البشرية
ودورها في إنجاز استراتيجية المنظمة
رقم المقالة: 992
صاحب المقالة: محمود حسين عيسى
-----------------------------------------
مقدمة:
كان من نتائج العولمة أنْ وضعت المنظمات (الشركات، والمؤسسات...) في أكثر دول العالم في بيئات اقتصادية، ومالية، وقانونية ذات تغير كبيرٍ وسريعِ الإيقاع، فجعلت العالم المترامي الأطراف كقرية صغيرة، فلم تعد هناك القيودُ التي كانت مفروضة من قَبْل من جانب الدول لحماية صناعاتها المحلية، وأصبحت حريةُ حركة وتداول السلع والخدمات أكبر بكثير مما كانت عليه في الماضي، مما أشعل حدةَ المنافسة بين المنظمات والشركات العالمية والمحلية والإقليمية.
وقد فَرَضت هذه النتائجُ والظروف والتغيرات البيئية المغايرة للواقع الذي ساد في الماضي، فرضت على المنظمات ضرورةَ سرعة التعامل والتكيف معها، وعدم الاصطدام بها..! فأخذت هذه المنظماتُ تكيِّف استراتيجيتها العامة، واستراتيجيات إداراتها، وممارساتها في جميع مجالات العمل فيها؛ سواء كانت مجالات إنتاجية، أو موارد بشرية، أو تسويقية أو بيعية، أو في الفكر الإداري، أو في الهياكل التوظيفية... إلخ مع هذه التغيرات البيئية الداخلية والخارجية.(88/1)
وكان أحدَ مجالات العمل داخل المنظمات، والذي احتاج إلى تغيير شامل وتكييف - مجالُ عمل إدارة الموارد البشرية، فكان من غير الممكن أن يستمر دورُ "إدارة الأفراد" كما كانت تسمى قبل العام 1980م إذ استبدلت الجامعات الكبرى بهذا المسمي مسمى "إدارة الموارد البشرية" HRM) Human Resource Management)، ولم يقتصر التغييرُ على المسمى فقط، بل امتد التغيير إلى المضمون والأدوار أيضاً، وأصبح لإدارة الموارد البشرية استراتيجيةٌ خاصة بها، تنصهر في الاستراتيجية العامة للمنظمة، وتعد جزءا لا يتجزأ منها، فضلاً عن تكاملها وتنسقيها معها، إذ تقوم استراتيجية إدارة الموارد البشرية بدور هام في تحقيق أهداف الاستراتيجية العامة.
فاستراتيجية إدارة الموارد البشرية تعمل على فهم البيئة الداخلية للمنظمة، ومتطلباتها ومتغيراتها الأساسية والمؤثرة؛ من حيث: رسالتها، وغاياتها، وأهدافها، وأساليبها الإدارية، وثقافتها التنظيمية، ومتطلبات العمل فيها.. وغيرها، فضلاً عن فهمها للبيئة الخارجية المحيطة بالمنظمة، والإحاطة بجميع متغيراتها، وقوانينها، واتجاهاتها المؤثرة أو التي قد تؤثر في أعمال المنظمة ونشاطاتها، وهذا الفهم للبيئة الداخلية والخارجية للمنظمة، يُمكِّن إدارةَ الموارد البشرية من وضع استراتيجيتها بنجاح وبشكل يحتوي على مواءمة كبيرة بين ممارسات ونشاطات إدارة الموارد البشرية، والمتغيرات والتحديات التي تحتويها البيئة الداخلية والخارجية للمنظمة.(88/2)
إنَّ استراتيجيةَ إدارة الموارد البشرية الفعالة يتوقف عليها الآن استراتيجيةُ المنظمة المستقبلية، حيث توفر وتلبي – أعني استراتيجية إدارة الموارد البشرية – حاجةَ الإدارات الأخرى المكونة للمنظمة من الموارد البشرية المناسبة، والمدربة والمؤهلة، والمحفزة بشكل جيد، من خلال برامج تدريبية، وسياسات تعليمية، تضعُها إدارةُ الموارد البشرية لرفع وتنمية قدرات هذه الموارد البشرية، والتي عن طريقها ستحققُ كلُّ إدارة - أو وظيفة - داخلَ المنظمة أهدافَها الاستراتيجية، ومن ثَمَّ تحقق المنظمةُ أهدافها الاستراتيجية.
وهكذا أصبحت مسؤوليةُ إدارة الموارد البشرية كبيرة جداً، فمُستهدَفٌ منها وبشكل متواصل، تهيئةُ وتكييف استراتيجيتها ونشاطاتها وممارساتها مع المتغيرات والتحديات البيئية الداخلية والخارجية التي تؤثر في استراتيجية المنظمة العامة.
وقبل الحديث عن ماهية استراتيجية إدارة الموارد البشرية، والأبعاد الاستراتيجية لدور إدارة الموارد البشرية، نود أن نٌوجِزَ بعضاً من التحديات والمتغيرات الإدارية والإنتاجية، والتسويقية والبيعية التي تحيط بالمنظمات وتعمل في ظلها، وهذه التحديات المعاصرة سواء كانت إدارية أو قانونية... إلخ تفرض على المنظمات - وفي القلب منها إدارات الموارد البشرية - أن تتعامل معها بما يناسبها من وسائلَ وإجراءاتٍ معاصرة أيضاً، ونُتبِع ذلك العرضَ بعرض موجز آخر للوظائف الأساسية للإدارة.
وقد عرض Oren Harari هذه التحديات بشكل موجز كما يلي:
- المنظمة مكان للعمل والعيش معاً، يجب أن يسودَها جوٌّ من الألفة والمودة والمحبة؛ فهي عشيرة مترابطة، أفرادُها لديهم ولاء وانتماء لها، ويسعَون إلى تحقيق أهدافها.
- يحيط بالمنظمة - التي هي مصدرُ رزقِ كل من يعمل فيها - مخاطرُ بيئية على رأسها المنافسةُ السوقية الشديدة، لذلك فالكل عليه مسؤولية مشتركة وجسيمة، وهي أن يعي هذه المخاطر.(88/3)
- البيئة التي تعمل فيها المنظمات سريعة التغير، ومن لا يتكيف مع هذا التغير سيؤول للزوال.
- العميل ورضاه هو أساس بقاء المنظمة واستمراريتها، وبالتالي فكل من يعمل في المنظمة هو رجل تسويق يسعى لرفع سمعة المنظمة وإرضاء عملائها، فهذه مسؤولية الجميع.
- تحقيقُ القيمة المضافة في جميع مناشط المنظمة هدفُ ومسؤولية كل من يعمل فيها، فالجميعُ عليه أن يفكر في مسألة الربح والخسارة.
- الطموحُ المستمر والسعي للأفضل هو شعار المنظمة وجميع من يعمل فيها، ومن ثم فمواجهةُ التحديات جزء من حياة العاملين في المنظمة.
- الاستفادة من أخطاء وتجارِب الماضي مسألة هامة، فالذي لا ماضي له لا حاضر ولا مستقبل له، فالندم والأسف لا مجال لهما في حياة المنظمة، فهو لا يقودها للتقدم، فالنظر دائماً يكون للأمام.
- التجديد والابتكار - ومن ثم التحسين المستمر لكل شيء في المنظمة - مسألة حتمية ومحسومة، فالذي لا يتحسَّن سيزول بلا شك؛ لأن الآخرين سيسبقونه، لذلك يجب توفير المبادرة لدى الجميع، وواجبٌ عليهم تقديمُ الجديد النافع للمنظمة التي هي للجميع وليست لفئة معينة.
- المنظمة وكل مكوناتها، وكل من يعمل فيها نظام كلي واحد يعمل تُِجاه تحقيق رسالتها المستقبلية، وبالتالي فهذا النظام متعاون متكامل يعمل في نسق واحد.
- كل من يعمل في المنظمة - من مديرين، وموظفين، وعمال، وفنيين... إلخ - هم شركاء وليسوا أجراء، يشاركون في اتخاذ القرارات.
- المرونةُ والحرية شعارُ العمل في المنظمة، فكل فرد هو سيد عمله ودوره الذي يؤديه، ومن ثم فهو مدير لوظيفة يتحمل مسؤوليتها كاملة.
- إدارة العمل أصبحت ذاتية، لكن ليست فردية بل جماعية، فأعمال المنظمة تؤدَّى جماعياً من خلال فِرَقِ عمل مُدارة ذاتياً من قِبَل أعضاء الفريق، فالأسلوب الفردي لم يعد له وجود في المنظمات المعاصرة،؛ لأن النهج الإداري الجديد هو الاعتماد على الذات في ممارسة المهام وحل المشكلات.(88/4)
- الشعور بالمسؤولية الذاتية لدى الجميع مطلب أساسي، فالجودة المتميزة وإرضاء العملاء والمستهلكين وتحقيق البقاء للمنظمة، يجب أن يكون هاجساً داخلياً لدى كل من يعمل فيها، فواجب كل فرد إذا عمل في مكان داخل المنظمة أن يسعى لتقديم النصح لها.
- الاستقرارُ الوظيفي مسألة يقوم عليها تحقيق الانتماء للمنظمة لدى العاملين لديها، فيجب إشعارُ الجميع أنهم باقون في المنظمة مدى الحياة، وأنهم سيتقاعدون عن العمل فيها وهم يحملون أجمل ذكريات حياتهم.
- التعلم وتطوير الذات جزء وهدف أساسي ومستمر طوال حياة العاملين في المنظمة.
- تقييم الأداء البشري لم يعد تقليديا يعتمد على تحقيق المعايير المطلوبة فحسب، بل تخطيها وتحقيق التميز في الأداء، فهو أساس البقاء والاستمرار.
- جميع العاملين في المنظمة أصحاب عزيمة وجَلَد في تحديات ومخاطر البيئة، فشعارُهم هو مواجهةُ التحدي لا الهَرَبُ منه.
- المواردُ البشرية التي تحتاجها المنظمات اليوم مواردُ تمتلك مهاراتٍ متنوعةً؛ فالفرد الذي يمتلك مهارةً واحدة لن يجد له مكاناً في المنظمات الحديثة بسهولة.
إن معظم الباحثين والخبراء والممارسين قد اتفقوا على الوظائف الأساسية للإدارة التي يؤديها المديرون في معظم المنظمات والشركات وغيرها.. مع اختلاف أنشطتها، وتنوع مجالات أعمالها، مع الأخذ في الاعتبار أيضاً فوارق التطبيق بين المنظمات..
ويمكننا عرضُ هذه الوظائف الإدارية الخمس بإيجاز فيما يلي:
1- التخطيط Planning: ويختص التخطيط بتحديد الأهداف، ووضع المعايير ورسم السياسات، وصياغة الخطط، واستشراف المستقبل، ووضع القواعد والإجراءات التنظيمية والتنفيذية التي من شأنها ضمانُ عملية تنفيذ الخطط.(88/5)
2- التنظيم Organizing: وهذه الوظيفة الهامة والحيوية تختص بتكليف كل موظف (مرؤوس) بمهام أو مهمة محددة، وتختص أيضاً بتكوين الإدارات، والأقسام، وترسم حدود السلطات، ومن ثم تفويض السلطة للمرؤوسين، وتقوم هذه الوظيفة بوضع الهياكل الوظيفية، ورسم خطوط وقنوات الاتصال فيما بين السلطات، فضلاً عن التنسيق بين أعمال ومهام ووظائف المرؤوسين لضمان عدم التضارب بين المهام، وأيضاً ضمان تنفيذ الخطط المرسومة.
3- تكوين وتنمية الكفاءات (التوظيف) Staffing: من مهام هذه الوظيفة الإدارية الهامة تحديدُ نوعية الأفراد المطلوب الاستفادة منهم، وذلك بتعيينهم بالمنظمة، ووضع آلية لاستقطاب ما تحتاجه المنظمة من كفاءات بشرية مميزة، ووضع آلية تمكّنُها من المفاضلة بين العناصر البشرية المتقدمة لشغل الوظائف الشاغرة بالمنظمة، واختيار الأكفأ من بين هذه العناصر.. ومن مهام هذه الوظيفة الإدارية أيضاً وضعُ معايير للأداء يلتزم بها كلُّ العاملين داخل المنظمة، وتحديد أنسب وأعدل وأفضل الطرق التي يمكن الاعتمادُ عليها في التعامل مع العاملين داخل المنظمة؛ من حيث المكافآت، وتقييم الأداء، والاهتمام بتنمية مهارات وكفاءات العاملين من خلال برامج تدريبية وتأهيلية مبنية على أسس علمية مدروسة، وخبرات علمية مشهود لها بالفاعلية.
4- القيادة Leading: وتهدف هذه الوظيفة الهامة إلى حَثّ العاملين داخل المنظمة على أداء واجباتهم الوظيفية بشكل فعّال طبقاً للخطط الموضوعة، فضلاً عن الاهتمام بالجوانب النفسية للعاملين من خلال رفع رُوحهم المعنوية بشكل مستمر.(88/6)
5- الرقابة Controlling: ومن مهام هذه الوظيفة وضع المعايير الرقابية الخاصة بمستويات وجَوْدة الإنتاج، والحصة السوقية، والأداء... إلخ، ثم القيام بعملية التقييم بهدف معرفة مدى تطابق الأداء الفعلي للعاملين في المنظمة مع الأداء المستهدَف والمحدد في الخطط والمعايير الموضوعة، ومن مهامها أيضاً القيام بالإجراءات التصحيحية في حال وجود انحرافات بين المخطط والمنفذ.
ماهية استراتيجية إدارة الموارد البشرية:
* تعريف استراتيجية إدارة الموارد البشرية:
هي خطة معاصرة طويلة المدى، تشتمل على ممارسات وسياسات تتعامل من خلالها المنظمة مع المورد (العنصر) البشري في العمل، وتتفق وتتكامل وتتناسق هذه الخططُ والممارسات والسياسات مع الاستراتيجية العامة للمنظمة، وتعمل على تحقيق رسالتها، وغايتها، وأهدافها، في ظل متغيرات البيئة الداخلية والخارجية التي تعمل من خلالها المنظمةُ، والتي من أهمها المنافسة الحادة بين المنظمات العالمية والإقليمية والمحلية.
ويمكن تعريفُ استراتيجية إدارة الموارد البشرية أيضاً بأنها: خطة طويلة الأجل، تتكون من مجموعة من النشاطات على هيئةِ برامجَ محددة البداية والنهاية، وسياسات تكوِّن وظائفَ ومهامَّ إدارة الموارد البشرية داخل المنظمة، وتحتوي هذه الخطةُ على مجموعة من الإجراءات والقرارات المتعلقة بشؤون الموارد البشرية داخل المنظمة، والمستقبل الوظيفي لهذه الموارد البشرية.
وتهدف إدارة الموارد الاستراتيجية - فيما تهدف - إلى إيجاد قوة عمل حقيقية، مؤهلة تأهيلاً عالياً، وفعالة وقادرة على تحمل مسؤوليات وتبعات الأعمال داخل المنظمة، ومن ثم تكون قادرة على تحقيق متطلبات وطموحات الاستراتيجية العامة للمنظمة ككل.
وقد أظهرت نتائجُ دراسةٍ أجريت على عدد من الشركات اليابانية والأمريكية الناجحة لمعرفة سبب نجاحها بل وتميزها.. الآتِيَ:(88/7)
1- أن هذه الشركات قد اهتمت بوضع استراتيجية جيدة ومناسبة لمواردها البشرية وإدارتها، فالتحديث والتميز الذي حققته كان وراءَه إدارةُ موارد بشرية ذات فاعلية، وقرارات توظيف تخدم استراتيجية هذه الشركات.
2- أن هذه الشركات تضعُ برامجَ استقطابٍ فعالة لجذب أفضل المهارات البشرية الموجودة في سوق العمل، وتوفير تعليم وتدريب مستمرين لها، لحمايتها من مخاطر العمل، وتصميم الوظائف بطريقة توفر لشاغليها عنصرَ الإثارة والتحدي وتحمل المسؤولية، مما جعل هذه الشركات مكاناً محبباً للعمل بالنسبة للموارد البشرية.
وقد انعكس ذلك على رفع درجة الرضا والسعادة لدى هذه الموارد البشرية، وجودة أدائها، وخَفَضَ من معدل دورانها، وقد توصلت الشركاتُ إلى جودة عالية في منتجاتها وخدماتها، وأسعار مناسبة لمنتجاتها، مما حقق لدى زبائنها وعملائها الرضا والسعادة، وحصة سوقية أكبر للمنظمة، فضلاً عن موقع تنافسي قوي بين المنافسين.
* استراتيجية الموارد البشرية جزء من استراتيجية المنظمة:
إن استراتيجية إدارة الموارد البشرية جزء لا يتجزأ من استراتيجية المنظمة، وتقع في المستوى الثالث من هرم اتخاذ القرارات الاستراتيجية داخل الشركة [حيث المستوى الأول في هذا الهرم: يُتخذ فيه القرارُ المتعلق بتحديد الخيار الاستراتيجي العام، والمستوى الثاني: يُتخذ فيه القراراتُ المتعلقة بوحدات الأعمال، وتحديد نشاطاتها الرئيسية، ومجالات الاستثمار فيها، أما المستوى الثالث: فيتخذ فيه القراراتُ المتعلقة بتحديد وظائف وممارسات وحدات الأعمال].
وهو مستوى استراتيجية الوظائف: كالتسويق، والإنتاج، والمشتريات، والمبيعات.. إلخ والتي يكوِّن مجموعُها استراتيجية المنظمة، ومن هذا المنطلق نجد أن وظائف وممارسات إدارة الموارد البشرية تعمل جميعها في خدمة استراتيجيات الإدارات (الوظائف) الأخرى، أي في خدمة استراتيجية المنظمة، تحت مظلة التكامل والتوافق معاً.(88/8)
يتوافقُ الاتجاهُ السابق مع مفهوم يُدعى "التكامل الاستراتيجي" strategic integration الذي يؤكد على أن استراتيجية المنظمة تتوافق مع رسالتها، واستراتيجيات الهيكل التنظيمي (إدارات: الإنتاج، والتسويق، والمبيعات، والمشتريات... إلخ) تتطابقُ أيضا مع استراتيجية المنظمة؛ لأنها تعمل على خدمتها، واستراتيجيةُ إدارة الموارد البشرية تتطابق وتعمل على خدمة استراتيجية المنظمة واستراتيجية الهيكل التنظيمي، في ظل تأثير متغيرات البيئة الخارجية التي تعمل في ظلها المنظمة ككل، وتستخدم استراتيجيتها للتكيف معها لتضمن لنفسها البقاء والاستمرار.
ومما سبق يتضح لنا أن بناء استراتيجية الموارد البشرية يتطابق ويتكامل مع:
- متطلبات استراتيجية المنظمة بما تشمله من رسالتها، وغاياتها، وأهدافها، ووسائلها.
- متطلبات استراتيجية الهيكل التنظيمي (الإدارات المختلفة واحتياجاتها من الموارد البشرية ذات الكفاءة والفاعلية).
ومما تقدم يتضح لنا أن صفة التكامل والتطابق التي وصف بها بناء استراتيجية الموارد البشرية تشتمل على جانبين:
1- تكامل وتطابق داخلي: ويُقصد به أن إدارة الموارد البشرية نظام متكامل، يتكون من وظائف تتفاعل مع بعضها بشكل متكامل، بهدف خدمة وإنجاز الاستراتيجية العامة للمنظمة، واستراتيجية الهيكل التنظيمي.
2- تكامل وتطابق خارجي: ويقصد به تكامل استراتيجية إدارة الموارد البشرية مع استراتيجية المنظمة والهيكل التنظيمي في مواجهة التحديات الخاصة بالبيئة الخارجية.
فاستراتيجية إدارة الموارد البشرية جزء أو نظام فرعي من نظام كلي أشمل وأكبر هو استراتيجية المنظمة، التي تشتمل على استراتيجيات الهيكل التنظيمي بما فيها استراتيجية الموارد البشرية، التي تتكامل جميعها مع بعضها؛ لتحقيق رسالة وأهداف المنظمة.(88/9)
ولتوضيح عملية التكامل الاستراتيجي.. نفترض أن إحدى الشركات قررت بناءَ استراتيجية عامة تعملُ من خلالها على تغيير منتجها الحالي الذي انخفض الطلبُ عليه بدرجة كبيرة، والتحول إلى منتج جديد عليه طلبٌ مرتفع، وتتوقعُ الشركة تحقيقَ أرباح وفيرة من وراء إنتاجه وبيعه.
وفي ظل هذه الاستراتيجية الجديدة قامت إدارة الموارد البشرية بوضع استراتيجية تتكامل وتتطابق مع استراتيجية الشركة، واحتوت على الآتي:
1- توصيف وظائف جديدة، وتصميم أعمال جديدة، تخدمان وتتماشيان مع المنتج الجديد.
2- تحديد الاحتياجات التي تتطلبها المنظمة لخدمة المنتج الجديد من الموارد البشرية، مع تحديد حجم الموارد البشرية القديمة التي سيتم الاستغناء عنها نظراً لعدم توفر المهارات العالية فيهم، والتي يتطلبها المنتج الجديد.
3- تصميم حملة استقطاب شاملة لسوق العمل، بهدف إيجاد وتوفير الموارد البشرية ذات الكفاءة والمهارة العالية، للاختيار من بينها؛ لتوظيفه وتعيينه في المنظمة لتلبية حاجاتها الجديدة لمواجهة متطلبات المنتج الجديد.
4- إعداد ووضع برامج تدريبية وتأهيلية مستخدِمةً في ذلك الوسائلَ والمناهج العلمية التدريبية الحديثة، والمعرفة التكنولوجية المتقدمة في مجال صناعة المنتج الجديد، وذلك للموارد البشرية الجديدة، وما ستبقي عليه المنظمة من الموارد البشرية القديمة.
5- من الطبيعي أن المنتج الجديد سيحتوي على مخاطر مختلفة عن المخاطر التي كان يحتويها المنتج القديم، ومن ثم يجب على إدارة الموارد البشرية - وهي تقوم بإعداد استراتيجيتها - تضمينُها برامجَ سلامةٍ وصحة تتناسب والمخاطر الجديدة التي قد تتعرض لها الموارد البشرية.
* الأبعاد الاستراتيجية لدور إدارة الموارد البشرية:
يمكننا إيجاز الأبعاد الاستراتيجية لأدوار ومهام إدارة الموارد البشرية فيما يلي:(88/10)
1- تأمين المورد أو العنصر البشري المناسب والمؤهل تأهيلاً علمياً معاصراً، والذي تحتاجه المنظمة، وذلك من خلال استراتيجية واضحة ومحددة تتكامل وتتوافق مع الاستراتيجية العامة للمنظمة، بمعنى المشاركة الفعالة في تحقيق المنظمة لرسالتها، ورؤيتها، وغاياتها، وأهدافها ووسائلها.
ولن تتمكن إدارة الموارد البشرية من توفير هذا العنصر أو المورد البشري، وجعله قوة عمل حقيقية وفعالة ومفيدة داخل المنظمة، ويدين لها بالانتماء والولاء، ويعمل بكل طاقاته وإمكانياته لرفع شأن المنظمة - إلا من خلال خطة استراتيجية طويلة المدى، تشتمل على رؤية واضحة، ورسالة محددة، وأهداف واقعية قابلة للتطبيق العملي – بعيدة عن الفلسفات النظرية – وسياسات وبرامج وإجراءات في مجال التحفيز المعنوي والمادي لهذا المورد البشري، فضلاً عن تهيئة وتوفير بيئة عمل مناسبة تمكّن هذا المورد أو العنصر البشري من استخراج إبداعاته وابتكاراته، فضلا عن القيام بأداء واجبات عمله.
2- على إدارة الموارد البشرية - وهي تقوم بإعداد استراتيجيتها وتحديد دورها داخل المنظمة - أن تتماشى هذه الاستراتيجية مع الاتجاهات الحديثة والمتطورة التي انتشرت أو المتوقع انتشارها عالمياً في المدى المنظور، وذلك في جميع المجالات: الإدارية، والإنتاجية، والتسويقية، والقانونية.. وغيرها من مجالات البيئة الخارجية.(88/11)
3- ينبغي للمنظمة أن توفر العناصر البشرية المؤهلة والمتخصصة والمحترفة للعمل في إدارة الموارد البشرية، حتى يتسنى لهذه الإدارة القيام بمهامها، والأعمال المنوطة بها، والمتوقعة وغير المتوقعة منها، فضلاً عن تحقيقها لآمال المنظمة المنعقدة عليها. ومن نافلة القول: ألا تعد المنظمة الإنفاق على إدارة الموارد البشرية إنفاقا لا عائدَ من ورائه، وأنه يمثل خسارة بالنسبة لها، بل تعد هذا الإنفاق استثمارا في مورد هام يعود من ورائه عائدٌ مادي وغير مادي، أو عوائد مادية ملموسة وعوائد معنوية محسوسة.
4- على إدارة الموارد البشرية القيامُ بتحديث البرامج والسياسات المتعلقة بالموارد البشرية، وجعلها متوافقة مع الاتجاهات الحديثة المتعلقة بالموارد البشرية، وهذه البرامج وتلك السياسات الحديثة من شأنها زيادةُ الإنتاجية والفعالية والجودة مما يؤدي إلى نجاح المنظمة وازدهارها.
5- على إدارة الموارد البشرية أن تعمل من خلال التكامل والتنسيق والتعاون مع الإدارات الأخرى داخل المنظمة، لكي تضمن نجاح استراتيجيتها، فمسؤولية إدارة الموارد البشرية مسؤولية تشترك فيها جميع الإدارات عن طريق مديريها، وخاصة الإدارة المباشرة، والإدارة الوسطى، وهما الإدارتان المنوط بهما وضعُ استراتيجية إدارة الموارد البشرية موضعَ التنفيذ على أرض الواقع العملي.
وهذا التكامل والتنسيق والتعاون بين مديري الإدارات ومدير إدارة الموارد البشرية في المنظمة، والحرص عليه يؤدي إلى تفادي مديري الإدارات في المنظمة الوقوعَ في بعض الأخطاء ومنها:
1) وضع الموظف أو العامل أو المورد البشري المتاح للمنظمة في وظيفة لا تتناسب وإمكاناته وقدراته، سواء كانت إمكاناته وقدراته أكبر أو أقل من مهام هذه الوظيفة.
2) عدم استغلال طاقات الموارد البشرية الاستغلالَ الأمثل أو الأفضل، بل هَدْر هذه الطاقات، وذلك بارتفاع معدلات دوران العمل بينهم.(88/12)
3) تدني وانخفاض الروح المعنوية لدي العاملين في المنظمة، وزيادة شعورهم بعدم الانتماء والولاء، مما يؤدي إلى تباطؤهم وعدم مبالاتهم عند قيامهم بأداء واجباتهم نحو العمل المَنُوط بهم، وهذا يؤثر بشكل سلبي على معدلات الإنتاجية، وعلى جودة المنتج، مما يترتب عليه انخفاضُ رضا العميل أو المستهلِك، مما يُفقد المنظمة حصتَها السوقية، وتعرضها لأخطار المنافسة القاسية، والتي قد تودي بالمنظمة إلى الخروج من إطار المنافسة كلياً، ومن ثم انهيارها..!
4) شعور بعض العاملين بالاضطهاد أو بعدم العدالة من رؤسائهم المباشرين أو غير المباشرين، والذي قد يتأصل في نفوسهم من خلال التفرقة في المعاملة الإنسانية أو المادية بينهم وبين أقرانهم في المنظمة، مما يدفعُهم إلى التقصير في أداء مهام وواجبات أعمالهم، أو اللجوء إلى ردود أفعال سلبية، تصب كلها في غير صالحهم أو في غير صالح المنظمة ككل.
5) الإهمال والتقصير في وضع برامج تأهيلية وتدريبية فعالة ومستمرة، للتنمية والنهوض بقدرات ومهارات الموارد البشرية، مما يؤثر على فعالية ومستويات أدائها داخل المنظمة، وهذا ليس في صالح المنظمة بلا شك.
6) ممارسة بعض السلوكيات غير المناسبة، والخارجة عن الأخلاقيات من قبل المسؤولين على اختلاف درجاتهم الوظيفية.. في بعض الأحيان داخل بيئة العمل.
7) عدم تقدير ومراعاة الفوارق الفردية، والثقافات، والمعتقدات المختلفة للعاملين داخل بيئة العمل.
* الفكر الاستراتيجي وأثرُه في وظائف إدارة الموارد البشرية:(88/13)
إن وظائف إدارة الموارد البشرية [وهي: تصميم العمل وتوصيف الوظائف، تكوين الموارد البشرية، التحفيز، تقييم الأداء، علاقات العمل، التعويضات] تعرضت خلال عقدين ونصف من الزمان تقريباً إلى تغييرات جوهرية وأساسية وبطريقة تدريجية في وظائف وممارسات إدارة الموارد البشرية، فرضتها طبيعةُ التغيرات والتحولات التي طرأت على المنظمات والشركات الكبرى واستراتيجيتها، والتي تولدت عن التغيرات الكبيرة في البيئة العالمية، والبيئة الإقليمية والمحلية المحيطة بهذه المنظمات والشركات.
وهذه التغيرات التي تعرضت لها وظائف إدارة الموارد البشرية، فرضت عليها تحولاتٍ استراتيجية نوجزُها فيما يلي:
1- وظيفة تصميم العمل وتوصيف الوظائف:
لقد فرض التغير الذي حدث في مجال البيئة الاقتصادية، والمعرفة الإدارية، واستراتيجية المنظمة، على إدارة الموارد البشرية أن تغير مفهومَ وظيفة تصميم العمل من مجرد تحديد واجبات ومسؤوليات وظائف المنظمة، والمواصفات والشروط التي يجب توافرُها في العناصر البشرية التي ستَشْغَل هذه الوظائف، إلى إعادة هيكلة العمل – أو كما يسميها البعض "هندسة العمل" - من أجل أن توفر وظائفُ المنظمة لشاغليها عناصرَ الإقبال على العمل والحماسة إليه، والتحفيز بأشكاله المتنوعة، وإيجاد الشعور بالمسؤولية لدى العاملين عند ممارستهم لمهامهم داخل المنظمة، وهي تهدف من وراء ذلك إلى تشجيعهم، واستخراج طاقاتهم وإبداعاتهم، فضلاً عن أدائهم الفعال داخل المنظمة، مما يترتب عليه الاستغلال الأمثل لطاقات الموارد البشرية وعدم هَدْرها، فضلاً عن الاستغلال الأمثل للموارد المالية من ناحية أخرى، مما يصب في النهاية في الصالح العام للمجتمع، والصالح الخاص للعاملين، والصالح الأخص للمنظمة.
2- وظيفة تكوين الموارد البشرية:
1) تخطيط الموارد البشرية: إن عملية تخطيط الموارد البشرية أصبحت مرتبطة ارتباطاً تاماً بمتطلبات استراتيجية المنظمة طويلة المدى.(88/14)
2) الاستقطاب والاختيار: إن الاستراتيجيات الحديثة لعملية الاستقطاب والاختيار تُبنى على أساس استقطاب واختيار العنصر البشري متعدد المواهب والمهارات والقدرات والإمكانيات، والتي تمكنه من العمل في وظائف متعددة داخل المنظمة، فأسلوب العمل الحديث يقوم الآن على العمل الجماعي من خلال فِرَق العمل، وليس على العمل الفردي الذي ساد في الماضي، حيث كان استقطاب واختيار الموارد البشرية يتم بناءً على أساس انتقاء الفرد المناسب بغض النظر عن مواهبه وقدراته وإمكانياته للقيام بمهام وظيفة أو عمل ثابت يستمر في أدائه طبقاً لما هو محدد سنواتٍ عديدة، دون تغيير أو تطوير يواكب التغيرات سريعة الإيقاع في محيط البيئة الداخلي أو الخارجي سواء للوظيفة أو العنصر البشري.
3) التدريب: إن النظرة إلى التدريب على أنه نشاط وقتي تلجأ إليه المنظمة عند الضرورة، كأن تريد من خلاله تلافي بعض نقاط الضعف الظاهرة في بعض الموارد البشرية، أو لتحسين مهاراتهم، هذه النظرة أصبحت من مخلفات الماضي..! فنظرة المنظمات الكبرى والعلم الحديث للتدريب الآن اختلفت كثيراً عنها في الماضي، فالنظرة إلى التدريب الآن تتكون من ثلاثة عناصر مستدامة وهي: تعلمٌ، تدريبٌ، تنميةٌ.. تلتصق جميعها بالمورد البشري داخل المنظمة منذ لحظة تعيينه – وفي بعض الحالات قبل التعيين الرسمي – إلى لحظة تقاعده أو تركه للعمل في المنظمة.(88/15)
والغاية من ذلك دعمُ هذا المورد البشري ومساندتُه وتمكينُه من استخراج أفضل ما عنده، وجعله قادراً على أداء عدة أعمال في الحاضر والمستقبل، ضمن فريق عمل عالي المستوى والكفاءة، ومن ثم يستفيد هذا الموردُ البشري من خلال التدريب والاحتكاك بفريق عمل ذي كفاءة عالية. فعمليةُ التعلم والتدريب والتنمية المستدامة والمستمرة تعد اليوم من أهم الوسائل الفاعلة لتأهيل وتكييف المورد أو العنصر البشري في العمل، فضلاً عن وضعه في الصورة دائماً مع أحدث وآخر التطورات والأساليب العلمية والعملية على المحيطين الداخلي والخارجي للمنظمة.. وقد استقرت النظرةُ الحديثة للتدريب على أنه من أفضل أنواع استثمارات المنظمة، وأنه استثمار له عائد كبير في المدى المنظور، والمدى البعيد على السواء، يتمثل هذا العائد في زيادة فاعلية العاملين مما يؤثر مباشرة في جودة المنتج التي تحقق أعلى درجات الرضا من جانب المستهلكين، ومن ثم تقوية المركز التنافسي للمنظمة في السوق.
3- وظيفة التحفيز:
بعد تغير أسلوب أداء العمل من أسلوب قائم على العمل الفردي إلى أسلوب قائم على العمل الجماعي يعتمِد على فِرَق العمل، لم تعد أساليبُ التحفيز القديمة مقبولةً مع هذا الأسلوب الجديد المعاصر، حيث تطلَّب هذا الأسلوب من إدارة الموارد البشرية تصميمَ وإعداد سياسة تحفيز جديدة تقوم وترتكز على الحفز الجماعي، وأن تتناسب وتتماشى مع التوجه الحديث المعاصر، الذي لا يعد المواردَ البشرية التي تعمل في المنظمة أجيرة لدى المنظمة، بل يعدها شريكة فيها..! وطبقاً لذلك أعدت إدارةُ الموارد البشرية برامجَ لتمليك العاملين أسهماً في المنظمة، وتعديل نسب المشاركة في الأرباح، ووضع أساليب تحفيز معنوية جديدة تتناسب مع الموارد البشرية التي تعمل بشكل جماعي داخل المنظمة، وتتوافق هذه الأساليب التحفيزية مع التوجهات والأساليب المعاصرة في مجال الحفز الإنساني بشكل عام.
4- وظيفة تقييم الأداء:(88/16)
بعد تغير أسلوب تنفيذ الأعمال من الأسلوب الفردي إلى الأسلوب الجماعي، أصبح تقييم أداء الأعمال داخل المنظمة يخضع لأنظمة وبرامج ومعايير تقييمية حديثة تعتمد على العمل الجماعي، بدلاً من الأنظمة القديمة التي كانت تخضع لأنظمة وبرامج تقييمية تعتمد على العمل الفردي، حيث اتسمت أنظمةُ وبرامج ومعايير تقييمِ الأعمال الحديثة بتوفيرِ معاييرِ تقييمِ أداءٍ جديدة وهي: التكلِفةُ، والوقتُ، والجودةُ، وخدمةُ العملاء في أثناء البيع، وخدمتُهم فيما بعد البيع، وقياسُ مدى رضا العملاء الذي ربطت كثيرٌ من المنظمات نظامَ حوافزها لعامليها به.
5- وظيفة علاقات العمل:(88/17)
انصبت وانحصرت هذه الوظيفةُ في الماضي على قيام إدارة الأفراد (والتي سميت بداية من العام 1980م "إدارة الموارد البشرية") نيابةً عن أصحاب العمل والشركات والمنظمات في العديد من الدول بإجراء مفاوضات مع النقابات العمالية والمهنية - والتي تمثل العاملين في تلك الدول - بهدف التوصل إلى اتفاقيات بينهما ترضي جميع الأطراف، فيما يخص أنظمة التعويضات المالية، والعديد من المزايا العينية والاجتماعية التي تخص العاملين، في حين تغير الآن هذا النظام في التعامل في ظل التحول الاستراتيجي الذي انتهجته وظيفة إدارة الموارد البشرية، ليختلف هذا النظام الجديد في علاقات العمل من حيث الشكل والمضمون عما كان سائداً من قبل، ويقوم النظام الجديد على تحقيق أقصى درجة من التعاون والتنسيق والوفاق بين المنظمة والنقابات الممثلة للعاملين، مبنية على الثقة فيما بينهما. ولقد أصبح هذا النظام الجديد جزءاً من استراتيجية المنظمة وإدارة الموارد البشرية، إذ إن توفر رضا النقابات الممثلة للعاملين يعني توفر رضا العاملين في المنظمة، وهذا الرضا يؤدي إلى رفع الروح المعنوية للعاملين مما يجنبهم الصراعات فيما بينهم وبين المنظمة، وهذا يكون له أبلغُ الآثار الإيجابية على الإنتاجية وجودتها داخل المنظمة، ومن ثم تحسين موقعها التنافسي.
ولم تقتصر وظيفة علاقات العمل على العلاقة بين المنظمات والنقابات العمالية، بل امتدت هذه الوظيفةُ لتشمل العلاقة بين المنظمات والحكومات من حيث القوانين والتشريعات الخاصة بالعمل، فقد أصبح لزاماً على إدارة الموارد البشرية أن تفهم وتتعامل مع القوانين والتشريعات بشكل لا لبس فيه، بحيث لا تعرِّض المنظمة لأية مخاطر قانونية.
6- وظيفة التعويضات:(88/18)
إن هذه الوظيفة قامت في الماضي باستخدام نظام لدفع الرواتب والأجور والمكافآت على أساس الأداء والجهد الفردي في العمل متوافقة في ذلك مع أسلوب تنفيذ الأعمال الفردي، أما الآن ومع انتهاجِ المنظمات أسلوبَ تنفيذ الأعمال الجماعي، كان لزاماً على إدارة الموارد البشرية تصميمُ نظم جماعية لدفع الرواتب والأجور والمكافآت – إذ تمثل التعويضاتُ الجانب الأساسي في الحفز المالي للعاملين - مستخدمة في ذلك معايير دفع حديثة مبنية على:
- جودة أداء العاملين.
- تحقيق وفرة مادية ملموسة وذات قيمة في تكاليف التشغيل.
- زيادة الإنتاجية.
- الزيادة المطردة في درجة رضا العملاء.
المراجع:
1- د. عمر وصفي عقيلي "إدارة الموارد البشرية المعاصرة بعد استراتيجي" ط1، 2005م، دار وائل للنشر – عمان – الأردن.
2- Oren Harari, Back To The Future, Management Review, 82 (September 1993).
3- Gary Dessler - Human Resource Management.
4- George T. Milkovich, John W .Boudreau, OP. CIT. P. 42.(88/19)
العنوان: استعلاء الإيمان
رقم المقالة: 1858
صاحب المقالة: محمد يوسف الجاهوش
-----------------------------------------
يتقاصَرُ الزمانُ، ويتقارَبُ كثيرًا عندما نُسقِط أحداثَ التاريخ وعِبَرَه على واقع حياتنا، وتتراءى لنا الصورُ والأحداث كأنها تعيد نفسها، وتأتي المشاهدُ بين متشابه ومكرور؛ فالطغاة يقفو بعضُهم أثر بعض، ولا يمايز بينهم إلا اختلافُ الوسائل، وتنوع الأساليب.
أما الضحية، فهم صفوة المؤمنين، الذين استعصوا على الفتن، وثبتوا لها، وألزموا أنفسهم كلمة التقوى، {وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا}، فسَمَتْ بهم إلى آفاق عوالٍ لا يرقى إليها تعليقٌ ولا مقال، وعصَمَتْهم من الاعتزاز بغير الله، ومن الذلة إلا إليه سبحانه وتعالى.
وقد مضت سنة الله: أن يُعري الاستعلاءُ بالإيمان -من غير خطب ولا محاضرات- أهلَ الباطل، ويكشفَ ضعفَهم وزيفَهم، وخواءَ نفوسِهم، وحقارةَ ما يعظمون.
نعم، إنه لا شيءَ يفضحُ أهل الضلال مثل وجود الأخيار في الأمة؛ لأنهم يمثلون مظهر الرقي الذي يتمنى كلُّ فرد الوصول إليه.
إن كل مقصر أو منحرف يشعر بين حين وآخر بوخزات ضميرية تؤرق جفنه، وتعكر صفوه.
وهي أشد ما تكون إيلامًا لصاحبها عندما يرى فريقًا من أقرانه قد استقاموا على سنن الحق، وسارعوا في الخيرات، لم يبطرْهم غنى، ولا أفسدَ حياتهم لهوٌ أو مجون. وهنا تثورُ عواملُ الندم في أعماقه، وتستيقظ نوازعُ الفطرة، لتشدَّه إلى محاكاة أخلاقهم، والتأسي بأفعالهم.
إن مجرد وجود الأخيار ضمانٌ من انحدار أخلاق الأمة وترديها، وسبب رئيسٌ من أسباب هداية الأفراد واستقامتهم، وهي معلم واضح على عظمة الإيمان، ومدى تأثيره في القلوب والنفوس.
فكيف إذا ما خالطوا أقوامَهم، وعُنُوا بنصحهم وإرشادهم، وذكَّروهم بما يلزمهم من أخلاق المؤمنين، وصفات المتقين؟(89/1)
إن الثمرة والحال كذلك: أن يشيع خلقُ الحياء، وتسود الفضائلُ، ويتجنب كثيرٌ من الناس الرذائلَ، ومواقف التهم. وبذلك تستقيم الحياةُ، وتستنير العقولُ، ويعرف كل فرد حقوقَه وواجباته.
وعندما تبلغُ الأمةُ هذه المكانة من النضج والرشد، فإنها ستقف للطغاة بالمرصاد، وسيجدون من يقاوم ظلمهم، ويفضح مواقفهم وأكاذيبهم.
فليس بدعًا بعد هذا أن تُبنى سياسة الظلمة وأعوانهم على اقتلاع بذور الخير، وقطع أيدي باذريها، وتشويه صورة الدعاة المخلصين، ومحاربتهم في أرزاقهم، وسمعتهم، ثم قتلهم في نهاية المطاف.
إن تاريخَ الجبارين والمتسلطين طافح بالفجائع والمآسي التي كان ضحاياها رموز الخير وأعلام الصلاح.
كما أن تاريخ الدعاة حافل بمواقف البذل والعطاء التي استعلى أصحابها بإيمانهم، وترفعوا فوق جميع المغريات، وأبوا إلا الالتزامَ بشمول الرسالة وتبليغها للناس كاملة، غير مبالين بما يصيبهم في سبيل الله.
وكانت حياتُهم شَجًى في حلوق الظلمة والجبارين، ودماؤهم هاجسَ رعبٍ يكدر على المجرمين دنياهم، ويشخص لهم ما ينتظرهم من سوء المصير، {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}.
وفي قصة زياد مع أبي المغيرة ما يجلي هذه الحقيقة:
روى ابنُ عساكر في تاريخ دمشق أنه: لما قدم زياد بن أبيه الكوفةَ سأل عن أعبد أهلها وأتقاهم لله؟
فقيل له: أبو المغيرة الحميري.
فأرسل إليه، فأتى، وله سمت حسن، ومنظر يدل على صدق مخبر. قال زياد: إني بعثت إليك لأمر خير.
قال أبو المغيرة: إني إلى الخير لفقير.
قال زياد: بعثت إليك لأمولك، وأعطيك، على أن تلزمَ بيتَك.
قال أبو المغيرة: سبحان الله! والله لصلاةٌ واحدة في جماعة أحبُّ إلي من الدنيا كلها، ولزيارة أخ في الله، وعيادة مريض، أحب إلي من الدنيا كلها، فليس إلى ذلك سبيل.
قال زياد: فاخرج، فصل في جماعة، وزر إخوانك، وعد المريض، والزم شأنك.(89/2)
قال أبو المغيرة: سبحان الله! أرى معروفًا فلا أقول فيه، وأرى منكرًا ولا أنهى عنه!
فوالله لمقام من ذلك أحب إلي من الدنيا كلها.
قال زياد: يا أبا المغيرة، فهو السيفُ إذا!
قال أبو المغيرة: السيفُ أهونُ مما تطالبني به.
فأمر به، فضربت عنقُه بين يديه.
ولما حضرت زيادًا الوفاةُ، قال له بعضُ من حضره: أبشِرْ، فتنهد طويلا ثم قال: كيف وأبو المغيرة في الطريق؟!
درس إيماني:
إنه لدرس للدعاة: أنه لا يصلحُ لهذا الأمر إلا من قام به من جميع جوانبه.
وأن هناك ثوابتَ، لا يصلح فيها سياسةُ: (خذ وطالب).
إن الإسلام لا يعرف السلبية في مبادئه، ولا يرضاها من أتباعه؛ فقوام دعوته: الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وما وُجِدت المساجد، وشُرِعت الجمعة والجماعة، إلا للقيام بواجب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.
لابد أن يكون المظلومُ على ثقة بأن الظلمة يحيون بأنفس ممزقة، وقلوب خاوية، ورعب من المستقبل.
إن شبح أبي المغيرة لا يُفزع زيادًا وحده، فكل مظلوم أبو المغيرة، وكل ظالم زياد.
وغدًا سوف تُنصب الموازين للحساب، وتزول العروش، ويذهب السلطان، وتسقط الأنساب والأحساب، ويتمايز الناس بالأعمال، عندها يعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
فلا يفرح الذين ولغوا في دماء المسلمين، فإن أمامهم سفرًا مرهقاً، ومفازة مقفرة، يتلهفون في هجيرها على شربة ماء، فلا يجدون إلا دماء ضحاياهم تحرق أكبادهم، ولا يشاهدون سوى أشباحهم تسوقهم إلى النار سوقا؛ {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الِّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ} [آل عمران : 21، 22].(89/3)
{إنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق: 37].(89/4)
العنوان: استعمال الحكمة في الأمور
رقم المقالة: 742
صاحب المقالة: سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
-----------------------------------------
الحمد لله الملك الوهاب الغني الجواد والمتصرف في خلقه بما تقتضيه حكمته البالغة ورحمته الشاملة فهو الحكيم الرحيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداًً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليماً.
أما بعد: فقد قال الله تعالى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خيراً كثيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَ أُولُو الأَلْبَابِ}. الحكمة هي التصرف الرشيد الذي توضع به الأمور مواضعها اللائقة بها بإعطاء كل ذي حق حقه والاعتراف لكل ذي فضل بفضله، وأن أبلغ الحكمة معرفة العبد حق فاطره وخالقه سبحانه وتعالى، فإنه سبحانه له الحق الأكبر على عباده وله الفضل العظيم عليهم، فعلى العبد أن يعرف ذلك لربه ثم يقوم بما تقتضيه هذه المعرفة من شكره وطاعته خوفاً من عقابه وطمعاً في ثوابه، وإن من الحكمة أن يعترف الإنسان للرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - بما له من الحقوق بأن يشهد بقلبه ولسانه أنه عبد الله ورسوله الصادق المصدوق، فيكون متبعاً له مقدماً لشريعته وهديه على كل شريعة وهدي معتقداً أن شريعته هي النظام الوحيد في إصلاح الدنيا والآخرة، وإن من الحكمة أن يكون الإنسان رشيدا في تصرفه فيبدأ بالأهم فالأهم ويأخذ بالأصلح فالأصلح، فإذا كان أمامه مصلحتان قدم أنفعهما وإذا رأى مصلحة عامة ومصلحة خاصة قدم العامة لأنها أنفع وأشمل، وإذا دار الأمر بين أن يفعل واجباً أو تطوعاً ولا يمكنه القيام بهما جميعاً قدم الواجب على التطوع لأنه آكد، وإذا نشأ من فعله مصلحة ومفسدة وتكافأتا أخذ بدرء المفسدة لأن درء المفسدة عند التكافؤ أولى من جلب المصلحة. ومن الحكمة أنه إذا تعارضت مفسدتان وكان لا بد من فعل إحداهما(90/1)
أخذ بأخفهما ضرراً وأقلهما مفسدة، ومن الحكمة أن يعترف الإنسان لكل ذي فضل بفضله فيعترف لمن أسدى إليه معروفا دينيا أو دنيويا بمعروفه ويكافئه عليه إن أمكنه، فإن لم يجد ما يكافئه دعا له حتى يظن أنه كافأه، ومن الحكمة أن ينظر الإنسان إلى تصرفات غيره بمنظار الرحمة والنصح والعدل، فإن كل أحد لا بد أن يخطئ إلا من عصمه الله تعالى. ولكن ليس من الحكمة أن ينظر الإنسان إلى جانب الخطأ فقط ويدع جانب الصواب، بل ينظر إلى الجانبين ويوازن بينهما ثم يسعى في إصلاح الخطأ، فإن المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً، وقد أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ملاحظة الأمرين بقوله: ((لا يفرك مؤمن مؤمنة إن سخط منها خلقاً رضي منها خلقاً آخر)) وقد يكون صاحبك مرتكباً خطأ في نظرك أنت وعندما تناقشه يتبين لك أنه ليس خطأ، فالتراجع في الأمور والمناقشة فيها بإخلاص وإرادة صالحة من أكبر الأسباب في إصلاحها ونجاحها، ومن الحكمة إذا نبه الإنسان على خطأ أن لا يركب رأسه ويعبد هواه فيمضي في خطئه ورأيه، فإن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل، والمؤمن ضالته الحق حيث وجده أخذه. وكثير من الخلق يمنعه منصبه أو جاهه من الرجوع إلى الحق بعد ما تبين له، وهذا من السفه، فنسأل الله أن يعيذنا من ذلك. ومن الحكمة إذا جاءك أخوك ناصحاً لك أن لا تعبس بوجهه أو تظهر له الاستياء فإن من حق الناصح أن يقابل بالشكر، فإن شكر الناصح فضيلة للمنصوح وتشجيع للناصح، ولا مانع من أن تبين له الأسباب التي أدت إلى فعل ما نصحك من أجله. أيها الناس، وإن من الحكمة أن لا يدخل الإنسان في أمر حتى يعرف الخلاص منه، فإن بعض الناس يغتر بظواهر الأمور ومبادئها حتى إذا تورط فيها لم يستطع الخلاص منها، وإن من الحكمة أن من ابتدأ بعمل وارتاح له فليستمر عليه، فمن بورك له في شيء فليلزمه، وبعض الناس يبدأ الأعمال ولا يتممها فيمضي عليه الوقت سبهللا من غير فائدة، فمثلاً يقرأ(90/2)
في هذا الكتاب أو في هذا الفن ثم يدعه من غير أن يكمله وينتقل إلى غيره ثم إلى آخر من غير تكميل الأول فيضيع عمله وينقضي عمره بلا فائدة، وكذلك في الأعمال الأخرى. كل يوم له عمل وكل يوم له رأي فيضيع الوقت عليه من غير فائدة.
فاتقوا الله أيها المسلمون واعرفوا الحكمة واسلكوا طريقها وأعطوا كل ذي حق حقه وكل عمل ما يستحقه، واعترفوا لكل ذي فضل بفضله فإن ذلك هو الحكمة {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خيراً كثيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَ أُولُو الأَلْبَابِ} [البقرة:269] .
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم... إلخ.(90/3)
العنوان: استقبال شهر رمضان المبارك
رقم المقالة: 705
صاحب المقالة: سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
-----------------------------------------
الحمد لله الذي من على عباده بمواسم الخيرات ليغفر لهم بذلك الذنوب، ويكفر عنهم السيئات، وليضاعف لهم بذلك الثواب، ويرفع لهم الدرجات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له واسع العطايا وجزيل الهبات، وأشهد أن محمداًً عبده ورسوله أفضل المخلوقات صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان، وسلم تسليماً.
أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله ربكم، واعبدوه، واشكروه على ما أنعم به عليكم، واحمدوه، واعرفوا نعمته عليكم بمواسم الخيرات التي تتكرر عليكم كل عام ليتكرر بها عليكم من الله الفضل والإنعام، وتجددوا النشاط على صالح الأعمال واجتناب الآثام.(91/1)
عباد الله: لقد أظلكم شهر عظيم، وموسم كريم تضاعف فيه الحسنات، وتعظم فيه السيئات، إنه شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن، إنه شهر الصيام والقيام، شهر الصدقات والبر والإحسان، شهر أوله رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره عتق من النار، شهر تفضل الله به على هذه الأمة بخمس خصال لم تعطها أمة من الأمم: الخصلة الأولى خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك. الثانية: تستغفر لهم الملائكة حتى يفطروا. الثالثة: يزين الله فيه كل يوم جنته، ويقول: ((يوشك عبادي الصالحون أن يلقوا عنهم المؤونة والأذى، ويصيروا إليك)). الرابعة: تصفد فيه مردة الشياطين، فلا يخلصون فيه إلى ما كانوا يخلصون إليه في غيره. الخامسة: يغفر الله لهذه الأمة في آخر ليلة منه، شهر من صامه إيماناً بالله واحتساباً لثواب الله غفر الله له ما تقدم من ذنبه، ومن قامه إيماناً واحتساباً غفر الله له ما تقدم من ذنبه شهر تفتح فيه أبواب الجنة، وتغلق فيه أبواب النيران، وفي الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((كل عمل ابن آدم له، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبع مئة ضعف، قال الله تعالى: إلا الصيام فإنه لي، وأنا أجزي به، إنه ترك شهوته، وطعامه، وشرابه من أجلي للصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه)) يفرح عند فطره بأمرين، باستكمال صوم اليوم الذي من الله عليه بصيامه، وقواه عليه، ويتناول ما أحل الله له من طعام وشراب، ويفرح عند لقاء ربه بما يجده عند ربه مدخرا له من أجر الصيام.(91/2)
عباد الله: إن شهر رمضان شهر مغنم وأرباح، فاغتنموه بالعبادة، وكثرة الصلاة، وقراءة القرآن، والذكر، والعفو عن الناس، والإحسان، وأزيلوا العدواة، والبغضاء بينكم، والشحناء، فإن الأعمال تعرض على الله عز وجل يوم الاثنين والخميس، فمن مستغفر فيغفر له، ومن تائب، فيتاب عليه، ويرد أهل الضغائن بضغائنهم حتى يتوبوا، ويصطلحوا، واستكثروا في شهر رمضان من أربع خصال اثنتان ترضون بهما ربكم، واثنتان لا غنى لكم عنها، فأما اللتان ترضون بهما ربكم، فشهادة أن لا إله إلا الله، والاستغفار، وأما اللتان لا غنى لكم عنهما، فتسألون الله الجنة، وتستعيذون به من النار، واحرصوا على الدعاء عند الإفطار، فإن في الحديث أن للصائم عند فطره دعوة لا ترد.
واعلموا أن الصيام إنما شرع ليتحلى الإنسان بالتقوى، ويمنع جوارحه من محارم الله، فيترك كل فعل محرم من الغش والخداع والظلم ونقص المكاييل والموازين ومنع الحقوق والنظر المحرم وسماع الأغاني المحرمة، فإن سماع الأغاني ينقص أجر الصائم، كل قوم محرم من الكذب والغيبة والنميمة والسب والشتم، وإن سابه أحد أو شاتمه أحد، فليقل: إني صائم، ولا يرد عليه بالمثل، فلا تجعل أيها المسلم يوم صومك ويوم فطرك سواء، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)).
وصوموا أولادكم الذكور والإناث إذا كانوا يطيقون الصيام ليتعودوا على ذلك، فإن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يصومون أولادهم وهم صغار حتى كان الصبي ربما يبكي من الجوع، فيعطونه لعبة يتلهى بها حتى يفطروا، وأجر الصيام يكون لهم بأنفسهم لكن الوالدين أو الأولياء لهم أجر التأديب والتوجيه.(91/3)
وتحروا الهلال ليلة الثلاثين من شعبان، فإن رأيتموه، فصوموا، وإن لم تروه، فلا تصوموا حتى تكملوا عدة شعبان ثلاثين يوماً، فإن من صام اليوم الذي يشك فيه، فقد عصى أبا القاسم - صلى الله عليه وسلم - ومن رآه منكم، فليخبر القاضي، ومن سمعه منكم في الإذاعة السعودية، فعليه الصيام إذا تحقق أنها أعلنت ثبوت الشهر. ولا يصومن أحدكم تطوعاً قبل رمضان بيوم أو يومين، إلا من كان له عادة بصيام شيء من الأيام، فوافق قبل الشهر بيوم أو يومين، فلا بأس من صيامه. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ((يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون)).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.(91/4)
العنوان: أسدُ الله وسيِّد الشُّهداء حمزة بن عبدالمطلب رضيَ الله عنه
رقم المقالة: 1382
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَنْ يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]، {يَا أَيُّهَا النَّاس اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70-71].
أما بعد، فيا أيها الإخوة المؤمنون:
في زمن الإخفاقات المتكرِّرة، والهزائم المتتابعة، والإحباط المتوالي، واليأس الذي يلفُ قلوب كثير من أهل الإسلام، وكل ذلك سببه الوهن الذي أصاب المسلمين؛ حتى جعلهم يقدِّمون مصالحهم على مصالح أمَّتهم، ويهتمُّون بذواتهم أكثر من اهتمامهم بالدين.
نعم! الوهنُ سبب ذلك: حبُ الدنيا وكراهية الموت، وضعفُ اليقين بالآخِرة، وعدم التفريق بين النَّصر والهزيمة، وعدم المبالاة بالغزو والمسخ والتَّزوير الذي يُمارس على تعاليم الإسلام وشرائعه.(92/1)
في هذه الأجواء المعتمة، والأحوال المتردِّية؛ نحتاج إلى مطالعة تاريخ الصَّدر الأوَّل، والنَّظر في سِيَر الصحابة المجاهدين، والشهداء والمهاجرين، الذين بذلوا النفس والنفيس لإعلاء كلمة الدين، ونشر الإسلام في أرجاء المعمورة.
وهذه سِيرَة بطلٍ من أبطال الإسلام، وأسدٍ من أُسْدِ الله تعالى، كان قويًّا في إسلامه، بطلاً في جهاده، عظيمًا في استشهاده، لقَّبه النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: أسدُ الله، وسمَّاه: سيِّد الشُّهداء، رضع هو والنبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - من ثديٍ واحدٍ؛ فكان أخاه من الرضاعة[1].
إنه ابن عبدالمطلب، حمزةُ، عمُّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم.
كان من خبر إسلامه: "أنَّ أبا جهل مرَّ برسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فآذاه وشتمه، ونال منه ما يكره من العيب لدِينه، والتَّضعيف له؛ فلم يكلِّمه رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ومولاةٌ لعبدالله بن جُدْعان في مسكنٍ لها فوق الصَّفا تسمع ذلك.
ثم انصرف عنه؛ فعَمِد إلى نادي قريش عند الكعبة، فجلس معهم، فلم يلبث حمزةُ أن أقبل متوشِّحًا قوسَه، راجعًا من قَنَصٍ له - وكان صاحب قَنَصٍ - وكان إذا رجع من قَنَصه بدأ بالطَّواف بالكعبة، وكان أعزَّ فتًى في قريش، وأشدَّه شكيمةً، فلما مرَّ بالموالاة قالت له: يا أبا عمارة، لو رأيتَ ما لقيَ ابنُ أخيك آنفًا من أبي الحكم، وجده هاهنا جالسًا، فآذاه وسبَّه وبَلَغ منه، ولم يكلِّمه محمدٌ.
فاحتمل حمزة الغضب، لما أراد الله به من كرامته؛ فخرج يسعى مُغذًّا لأبي جهل، فلما رآه جالسًا في القوم أقبل نحوه؛ حتى إذا قام على رأسه رفع القوسَ فضربه بها، فشجَّه شجَّةً منكرةً، ثم قال: أتشتمه؟ فأنا على دِينه، أقول ما يقول؛ فرُدَّ عليَّ ذلك إن استطعتَ.
فقامت رجالٌ من بني مخزومَ إلى حمزة لينصروا أبا جهلٍ؛ فقال أبو جهل: دعوا أبا عمارة، فوالله لقد سببتُ ابنَ أخيه سبًّا قبيحًا.(92/2)
وتمَّ حمزةُ على إسلامه، فلمَّا أسلم؛ عرفت قريش أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قد عزَّ وامتنع، وأن حمزة - رضيَ الله عنه - سيمنعه؛ فكفُّوا بعض الشيء"؛ أخرجه البَيْهِقِيُّ والحاكم[2].
ولمَّا كانت الهجرة؛ هاجر إلى المدينة، وشهد بَدْرًا، وأبلى فيها بلاءً عظيمًا مشهورًا، بارز أبطال قريش فصرعهم، وأتى على صفوفهم فهدَّها، حتى قال أحد أسرى المشركين: "من الرَّجل المُعلَّم بريشة نعامة؟". قالوا: "حمزة - رضيَ الله عنه". قال: "ذاك فعل بنا الأفاعيل"[3].
ثمَّ في شوَّال من السنة الثَّالثة حضر أُحدًا وقاتل قتالاً عظيمًا؛ قال سعد بن أبي وقَّاصٍ - رضيَ الله عنه -: "كان حمزة يقاتل يوم أُحدٍ بين يَدَي رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم – بسيفَيْن، ويقول: أنا أسدُ الله"[4]. كان يُسيِّر فرسه بركبتيه، وفي يمينه سيفٌ، وفي يساره سيفٌ يقاتل بهما".
الله أكبر، ما هذه الجرأة! وكيف كانت تلك المهارة؟!(92/3)
كانت شَهادَته - رضيَ الله عنه - في أُحُدٍ، يروي قصَّتها قاتِلُه؛ فقد أخرج البخاريُّ في "صحيحه" من حديث جعفر بن عمرو، أن وحشيًّا قال: "إن حمزة قتل طُعَيْمَة بن عَدِيٍّ بن الخِيار ببدرٍ؛ فقال لي مولاي جُبَيْر بن مُطْعِم: إن قتلتَ حمزة بعمِّي؛ فأنت حرٌّ. قال: فلما أن خرج الناس عام عَيْنَين - وعَيْنَين جبلٌ بحيال أحدٍ، بينه وبينه وادٍ - خرجتُ مع النَّاس إلى القتال، فلما اصطفُّوا للقتال، خرج سِباعٌ فقال: هل من مبارزٍ؟ قال: فخرج إليه حمزة بن عبد المطلب؛ فقال: يا سِباعُ، يا ابنَ أمِّ أنمارٍ مقطِّعة البظور، أتحادُّ الله ورسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -؟! قال: ثم شدَّ عليه، فكان كأمس الذَّاهب! قال: وكَمَنْتُ لحمزة تحت صخرةٍ، فلما دنا مني رميتُه بحربتي، فأضعها في ثُنَّته، حتى خرجت من بين وِرْكَيْه، فكان ذلك العهد به"[5]، وفي روايةٍ: "فجعل حمزة يهدُّ النَّاس بسيفه"[6]، وفي أخرى: "فرأيتُ رجلاً إذا حمل لا يرجع حتى يهزمنا؛ فقلتُ: مَنْ هذا؟ قالوا: حمزة. قلتُ: هذا حاجتي"[7]، ثم ذكر بقيَّة الحديث.
قُتل حمزة - رضيَ الله عنه - ومَثَّلَ به المشركون؛ انتقامًا من رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وقد تأثَّر لذلك كثيرًا، فوقف على حمزة، فرآه قد شُقَّ بطنُه، وقد مُثِّلَ به، فكره أن ينظر إليه، ثم وقف بين ظهراني القتلى فقال: ((أنا شهيدٌ على هؤلاء، لُفُّوهم في دمائهم؛ فإنه ليس من جريحٍ يجرح في الله إلا جاء يوم القيامة يَدْمى، لونه لون الدم، وريحه ريح المِسْك، قدِّموا أكثرهم قرآنًا فاجعلوه في اللَّحْد))[8].(92/4)
وروى أبو هُرَيْرَة - رضيَ الله عنه - أن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وقف على حمزة حيث استُشْهِدَ، فنظر إلى منظرٍ لم ينظر إلى شيءٍ قطُّ كان أوجع لقلبه منه، ونظر إليه وقد مُثِّل به فقال: ((رحمة الله عليكَ، فإنَّك كنتَ - ما علمتُ - وَصُولاً للرِّحِم، فعولاً للخيرات، ولولا حزنُ مَنْ بعدكَ عليكَ؛ لسرَّني أن أترككَ حتى يحشركَ الله من أرواحٍ شتَّى، أما والله عليَّ ذلك لأمثِّلَنَّ بسبعين منهم مكانكَ))؛ فنزل جبريل - عليه السَّلام - بخواتيم النَّحل: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} [النحل: 126]؛ فكفَّر النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - عن يمينه، وأمسك عن الذي أراد، وصبر[9].
وعن ابن عباس - رضيَ الله عنهما - قال: لما قُتل حمزة أقبلت صفيَّة أخته، فلقيتْ عليًّا والزُّبير، فأرياها أنهما لا يدريان، فجاءت النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال: ((فإني أخاف على عقلها)). فوضع يده على صدرها، ودعا لها، فاسترجعتْ وبكتْ. ثم جاء فقام عليه وقد مُثِّلَ به؛ فقال: ((لولا جَزَعُ النِّساء لتركته حتى يُحْشَر من حواصل الطَّير وبطون السِّباع)).
وفي رواية الزُّبير: أن صفيَّة - رضيَ الله عنها - جاءت بثَوْبين لتكفين حمزة، وكان إلى جنب حمزة قتيلٌ منَ الأنصار؛ فكرهوا أن يتخيَّروا لحمزة؛ فقال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أسهموا بينهما، فأيهما طار له أجودُ الثَّوْبَيْن؛ فهو له)). فأسهموا بينهما؛ فكفِّن حمزة في ثوبٍ، والأنصاريُّ في ثوبٍ[10]؛ ولكنَّ ثوب حمزة كان قصيرًا، فجعلوا يجرُّونه على وجهه فتنكشفُ قدماه، ويجرُّونه على قدميه فينكشفُ وجهه، فقال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((اجعلوه على وجهه، واجعلوا على قدميه من هذا الشَّجر)).(92/5)
ورفع رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - رأسه فإذا أصحابه يبكون، فقال: ((ما يبكيكم؟)). قيل: يا رسول الله، لا نجد لعمِّك اليوم ثوبًا واحدًا يَسُعُه! فقال: ((إنه يأتي على الناس زمان يخرجون إلى الأرياف؛ فيصيبون فيها مطعمًا وملبسًا ومركبًا))[11]؛ أي: من كثرة الخيرات وانفتاح الدنيا.
كان حمزةُ - رضيَ الله عنه - من شهداء أُحد؛ بل هو سيِّد الشُّهداء كما قال النبيُّ - عليه الصَّلاة والسلام -: ((سيِّد الشهداء حمزة، ورجلٌ قام إلى إمامٍ جائرٍ، فأمره ونهاه؛ فقتله))؛ أخرجه الحاكم وصحَّحه[12].
وشهد عليه الصَّلاة والسَّلام لشهداء أُحُدٍ بالجنَّة؛ فقال: ((لمَّا أصيب إخوانكم بأُحُدٍ؛ جعل الله أرواحهم في أجواف طير خُضْرٍ، تَرِدُ أنهار الجنة، وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديلَ من ذهبٍ، معلقةٍ في ظلِّ العرش، فلما وجدوا طِيبَ مأكلهم ومشربهم ومَقِيلِهم قالوا: مَنْ يُبْلِغُ إخواننا عنَّا؛ أننا أحياءٌ في الجنة نرزق؛ لئلاَّ ينكلوا عند الحرب، ولا يزهدوا في الجهاد. قال الله: أنا أبلغهم عنكم؛ فأُنزلت: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا} [آل عمران: 169]))؛ أخرجه أبو داود[13].
وحَرَّم الله أجسادهم على الأرض أن تُبلِيها؛ فبعد أربعين عامًا من وقعة أُحد، أراد معاوية - رضيَ الله عنه - أن يجري عينه التي بأُحد؛ فكتبوا إليه: إنَّا لا نستطيع أن نجريها إلا على قبور الشهداء؛ فكتب إليهم: انبشوهم. قال جابر: فرأيتُهم يُحملَون على أعناق الرجال؛ كأنَّهم قومٌ نيامٌ، وأصابت المَسْحَاةُ طرف رجل حمزة بن عبدالمطلب؛ فانبعث دمًا[14].
كان عُمْر حمزة لمَّا استُشهد سبعًا وخمسين سنة[15]، فرضيَ الله عنه وأرضاه، ورضيَ عنِ الصحابة أجمعين.(92/6)
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} [الأحزاب: 23].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
الخطبة الثَّانية
الحمد لله، حمدًا طيِّبًا كثيرًا مباركًا فيه، كما يحبُّ ربُّنا ويرضى، أحمده وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه، ومَنِ اهتدى بهداهم إلى يوم الدِّين.
أما بعد:
فيا عباد الله؛ اتقوا الله تعالى بفعل ما أمر، واجتنبوا الفواحش ما بَطَن منها وما ظهر، واعلموا أن الله مع المتقين.
أيها الإخوة المؤمنون:
تُظهر سِيرةُ حمزة - رضيَ الله عنه - المعانيَ العظيمة للإسلام، حينما فعل المشركون في أُحُد الأفاعيل بشهداء المسلمين؛ من جَدْع أنوفهم، وبَقْر بطونهم، وشَرْط أجسادهم؛ حتى استخرجوا كَبِدَ حمزةَ من بطنه، ويحلف رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ليمثِّلن بهم إذا ظهر عليهم؛ لكنْ ينزل عليه الوحي في موقفه ذاك؛ لِيُبيِّن أنَّ العقاب لابدَّ أن يكون على قدر الجريمة، وأن المُثْلَة بالمُثْلَة، وأن الصبر خيرٌ من ذلك كلِّه، وما كان من رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - إلا أن صبر وكفَّر عن يمينه.
فأيُّ تزويرٍ يُمارس في حقِّ الإسلام والمسلمين وتاريخهم، على أيدي أعداء الله من الملاحدة واليهود والنصارى والمنافقين، حينما يَصِمُون المسلمين بالعنف والأصوليَّة، ومحبة الدِّماء، والتلذُّذ بتعذيب الضّحايا؛ وبالرغم من أن تاريخهم يحكي شرفهم في القتال، ويُثبت نزاهتهم في حروبهم، وما أكثر ما عفوا وصفحوا في حال ظهورهم وانتصارهم.(92/7)
فالمرأة والوليد والشيخ الكبير لا يُقتلون، ومَنْ لم يشارك في الحرب لا يُقتل، والأسير يُكرَم حتى يُقضى في أمره، والجريح لا يُجْهَز عليه، والثَّمر لا يُقطع، والزَّرْع لا يُحرَق، والآمِن لا يروَّع.
والمسلمون ينفِّذون تلك الوصايا؛ لأنَّهم لا ينطلقون في جهادهم من تحقيق مصالحٍ ذاتيَّةٍ، وليس يدفعهم للقتال أحقادٌ دفينةٌ، أو أضغانٌ قديمةٌ.
ومع ذلك تُخفى الحقائق، ويمارَس التَّزوير في حقِّ المسلمين في كل وسيلةٍ تُسمع أو تُقرأ أو تُرى، بينما يصور غيرهم بأنهم رحماء، ومن العفو أقرب، وعن الانتقام أبعد.
ماذا فعل الصليبيُّون في بيت المقدس لما اغتصبوه، وبقي في أيديهم ما يزيد على تسعين سنة؟! إن التاريخ يذكر أن الدِّماء في الأقصى بلغت الرُّكَب، وأن الصليبيين لم يفرِّقوا بين طفل رضيع، أو امرأة ضعيفة، أو شيخ طاعن في السِّن؛ بل كانت سيوفهم تُعْمِل القتلَ في الرِّقاب كلِّها، ولست محتاجًا لأن أرجعكم إلى ذاكرة التاريخ؛ لأن ممارسات الصليبيين الصِّرب الدَّموية قريبة العهد؛ ولأن أفعال اليهود بمسلمي الأقصى تُنقل إلى الأسماع والأبصار كلَّ صباحٍ ومساء.
وما من فِرْيَة تُلْصَق بالإسلام إلا ويتولى كِبْرَها منافقو العرب ممَّن نزع الله منهم الإيمان؛ فامتلأت قلوبهم أحقادًا زُرْقًا على الإسلام وأهله؛ ولكنهم يَضُرُّون أنفسهم، ولن يضرُّوا الله تعالى شيئًا، ولن يضرُّوا المسلمين ما بقي المسلمون مستمسكين بشريعتهم، عاضِّين عليها بالنَّواجذ، وإن كيدهم ومكرهم عائدٌ عليهم بأمر الله - عزَّ وجلَّ - ولا تزال الأيام تفضحهم، وتُظهر عوراتهم ونفاقهم: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ} [آل عمران: 54]، {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا * فَمَهِّلِ الكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا} [الطًّارق: 15-17].
ألا وصلُّوا وسلِّموا على خير خلق الله، كما أمركم بذلك ربُّ العزَّة والجلال.
---(92/8)
[1] أسد الغابة (2/67) والإصابة وعزاه للصحيح (2/285) ومستدرك الحاكم (3/212).
[2] أخرجه الحاكم (3/213) والبيهقي في الدلائل (1/459) وابن سعد (3/9) وابن إسحاق كما في سيرة ابن هشام (2/34) وابن الأثير في أسد الغابة (2/67) وعزاه الهيثمي في المجمع للطبراني وقال: مرسل ورواته ثقات (9/267) ومعنى (مُغذًّا) أي: مسرعًا.
[3] أخرجه ابن سعد (3/6) وانظر: أسد الغابة (2/68).
[4] أخرجه الحاكم دون قوله «بسيفين» وصححه على شرط الشيخين ووافقه الذهبي (3/214) أما الرواية التي فيها ذكر قتاله بسيفين فأخرجها ابن أبي شيبة في مصنفه (6/382) برقم (32208) والطبراني في الكبير (3/149) برقم (2953) والحاكم (3/192) وذكرها ابن الأثير في أسد الغابة وعزاها لابن إسحاق (2/68).
[5] أخرجه أحمد (3/501) والبخاري في المغازي باب قتل حمزة بن عبدالمطلب - رضيَ الله عنه - (472) والطيالسي (2348) وهو في سيرة ابن هشام (3/70) والدلائل للبيهقي (3/241).
[6] هذه رواية ابن إسحاق كما في الفتح (7/427).
[7] هذه رواية ابن عائذ كما في الفتح (7/427).
[8] أخرجه ابن سعد (3/9) وابن أبي شيبة في المصنف برقم (18634) وذكره الحافظ في المطالب العالية (4269) وقال البوصيري في مختصر اتحاف السادة المهرة: رواته ثقات (5226) وعزاه الهيثمي في المجمع للطبراني وقال: ورجاله رجال الصحيح (6/119).
[9] أخرجه ابن سعد (3/9) والحاكم (3/218) وهو ضعيف لضعف صالح المري؛ ولكن في معناه حديث أبيّ بن كعب - رضيَ الله عنه - عند أحمد (5/135) والترمذي في التفسير باب من تفسير سورة النحل وقال: حسن غريب (3129) وصححه ابن حبان (487).
[10] أما حديث ابن عباس فأخرجه ابن سعد (3/9) وأما حديث الزبير فأخرجه أحمد (1/165) وأبو يعلى (686) والبزار كما في كشف الأستار (1797) والبيهقي في السنن (4/401) والدلائل (3/290).(92/9)
[11] أخرجه ابن سعد (3/10) وابن أبي شيبة في المصنف برقم (18603) وذكره الحافظ في المطالب العالية (4266) وعزاه الهيثمي للطبراني وقال: ورجاله ثقات (6/119).
[12] أخرجه الحاكم وصححه (3/215) والطبراني في الأوسط (4079) وأورده الألباني في السلسلة الصحيحة واستوفى الكلام عليه، وذكر له شواهد يصحح بها (374).
[13] أخرجه من حديث ابن عباس - رضيَ الله عنه -ما أحمد (1/266) وأبو داود في الجهاد باب فضل الشهادة (2520) والحاكم (2/297) ونحوه عند مسلم من حديث ابن مسعود - رضيَ الله عنه - (1887).
[14] أخرجه ابن سعد (3/7) وابن الأثير في أسد الغابة (3/71)، وعزاه الحافظ في الإصابة لفوائد أبي طاهر (2/287).
[15] انظر: أسد الغابة (3/70).(92/10)
العنوان: إسرائيل تمارس حرب الجوع والعطش ضد الشعب الفلسطيني
رقم المقالة: 320
صاحب المقالة: أحمد أبو زيد
-----------------------------------------
الحرب التي تمارسها اسرائيل ضد الشعب الفلسطيني تمتد لكل المستويات، فقد كشفت تقارير دولية عن الممارسات التعسفية وغير الإنسانية التي تمارسها إسرائيل على المستوى الاجتماعي والاقتصادي ضد الشعب الفلسطيني الأعزل، ومن أخطر هذه الممارسات حرب الجوع والعطش، فهناك أكثر من 60% من الفلسطينيين يعيشون تحت خط الفقر ونفس النسبة تقريباً تعتمد كلياً علي المساعدات الدولية، وأكثر من 22% من الأطفال الفلسطينيين دون سن الخامسة يعانون من سوء التغذية، وأكثر من 15% من الأطفال دون سن الخامسة يعانون من فقر الدم بالغ الخطورة، هذا الى جانب مصادرة الأراضي والموارد المائية للفلسطينيين.
فقد بات من المؤكد أن هناك مخططا صهيونيا واضحا وصريحا لإبادة الشعب الفلسطيني بالجوع والعطش، بعد أن فشلت المدافع والدبابات في استئصال هذا الشعب العربي المجاهد، فإسرائيل تسعى بكل السبل للتضييق على الفلسطينيين في مصادر رزقهم ومقدرات حياتهم اليومية، وتتعامل مع المياه، مصدر الحياة في الأرض باعتبارها مسألة إستراتيجية، وتسعى للسيطرة على جميع موارد المياه في المنطقة، فالأرقام تؤكد أن الصهاينة يغتصبون 95% من موارد المياه الفلسطينية في الضفة والقطاع، ويخططون لحرمان الفلسطينيين منها. والفلسطينيون اليوم يعانون من الشح المائي، ويتعرضون للموت عطشا كل يوم، بعد أن سيطرت إسرائيل على مصادر المياه، وخططت لحرمانهم منها. وهناك 150 قرية في الضفة الغربية تعاني من نقص المياه ولا ترتبط بشبكة للمياه حتى هذا اليوم.
* حصار الشعب الفلسطيني(93/1)
فالحرب الدائرة اليوم ومنذ أكثر من نصف قرن بين الشعب الفلسطيني صاحب الحق في الأرض والمقدسات وبين الصهاينة المغتصبين، وصلت إلى كل مستويات الصراع، ولم تعد تتوقف على حرب المدافع والدبابات والطائرات، بل امتدت إلى الحصار الشامل للشعب الفلسطيني الأعزل بهدف إبادته والقضاء عليه حتى لا تقوم له قائمة، وإسرائيل اليوم تمارس حرب العطش وتسعى إلى ضرب الشعب الفلسطيني في مقتل من خلال سلب المياه والتي هي المصدر الضروري والمهم لاستمرار الحياة على سطح الأرض.
وقد اتهم الكاتب الإسرائيلي "جدعون ليفي" المراسل المختص في حقوق الإنسان بصحيفة "هآرتس" الحكومة الإسرائيلية بأنها تعمل على منع وصول المياه إلى القرى الفلسطينية المحاصرة من قبل الجيش الإسرائيلي. وقال في تقريره الصحفي الذي نشرته الجريدة اليهودية بأخرة : "إنه بينما تحدد منظمة الصحة الدولية 100 لتر من المياه يومياً للفرد كحد أدنى، يستهلك الإسرائيلي في المتوسط 348 لتر ماء يومياً، وتقرر الحكومة الإسرائيلية للمواطن الفلسطيني على الأكثر 70 لتراً من المياه".
وأكد أن هناك معاناة يواجهها سائقو ناقلات المياه لإدخالها إلى القرى الفلسطينية، فمثلاً محمود الذي ينقل المياه إلى قرية "بيت دجن" قرب نابلس التي يقطنها 3500 نسمة وتضم 5 آلاف رأس من الغنم والبقر والدجاج -يقوم بتهريب المياه منذ فرض الحصار الإسرائيلي عليها، وأضاف أنه من الغريب جداً أن الجيش يمنعه من نقل الماء لأهله المحاصرين، ويصادر مفاتيح الناقلة، وبطاقة الهوية، وقد تم احتجازه لمدة 9 ساعات تحت تهديد السلاح.
وانتقد الصحفي اليهودي عدم الالتزام الإسرائيلي بالاتفاقيات الخاصة بتوزيع المياه مع السلطة الفلسطينية قائلا: " لا يزال هناك نحو 150 قرية أخرى في الضفة الغربية تعاني من نقص المياه ولا ترتبط بشبكة للمياه حتى هذا اليوم".(93/2)
وقد خططت سلطات الاحتلال لعدم زيادة الاستهلاك الفلسطيني من المياه، وعملت على زيادة كمية الماء المتاحة للزراعة الإسرائيلية في الضفة بنسبة 100%، وذلك من خلال تقييد استخدام السكان العرب للمياه الصالحة من آبار شرق الضفة وفرض رقابة مشددة على حفر آبار جديدة لأغراض الزراعة وحظر زراعة المحاصيل المستهلكة للمياه مثل الموز.
واتبعت إسرائيل السياسة نفسها في قطاع غزة، حيث سرقت 200 مليون متر مكعب من المياه الجوفية وثبتت حصة المياه للمزارعين الفلسطينيين منذ السبعينات، في حين حفر المستوطنون في هذه الفترة عشرات الآبار، يقع أغلبها بالقرب من مصادر المياه العربية مما أدى إلى نضوبها، كما تستخدم إسرائيل أجهزة متقدمة ومعقدة لضخ المياه تعجز إزاءها الأساليب البدائية للسكان العرب، فهذه الأجهزة تصل إلى عمق 500 متر.
كما أن الكيان الصهيوني يحصل على ثلث استهلاكه من مياه الشرب والزراعة والأغراض الأخرى من مياه الجولان، وذلك عبر سيطرته على منابع نهر الأردن في كل من سوريا ولبنان والأردن، وتستطيع سوريا أن تصيب إسرائيل بالجفاف والقحط إذا استعادت سيطرتها على هضبة الجولان.
ومن المشاهد التي نراها اليوم في الأراضي الفلسطينية، تلك الشاحنات الكبيرة التي تجر صهاريج مياه.. ويندفع الفلسطينيون للشراء.. المئة لتر بدولار ونصف.. وتحت الحصار يصل اللتر إلى 7.5 دولارات.. ومن لا يشتري يموت عطشًا! إنه مشهد مألوف لسكان قطاع غزة يحدث يوميًّا ؛ فهو السبيل الوحيد للحصول على مياه صالحة للشرب بعد أن تلوثت المياه الجوفية، وأصبحوا يعتمدون على الشركات التي تقوم بتنقية المياه وتقوم ببيعها عبر السيارات المتجولة ونقاط البيع.
* فجوة كبيرة(93/3)
وهناك فجوة كبيرة في استخدام الماء بين الفلسطينيين والإسرائيليين، فالأرقام تشير إلى أن الإسرائيلي يصل استهلاكه اليومي من الماء 274 لتر للفرد الواحد، وفي مستوطنات قطاع غزه 584 لتر للفرد الواحد، وفي المقابل نجد الفلسطيني لا يتعدى استهلاكه من الماء 65 لتراً في اليوم، وفي غزه متوسط استهلاك المياه 75 لتراً بجودة متدنية جداً، وذات مستوى مرتفع من الكلوريد والآكسيدات، الذي يشكل خطراً علي الصحة يتجاوز المستوى المسموح بعدة درجات، وهذه الفجوة نابعة من كون إسرائيل هي الجهة المسيطرة علي المياه في المصادر المشتركة بين الفلسطينيين واليهود "حوض الأردن والحوض الجوفي "، وتقوم باستغلاله لمصلحتها، وطوال فترة احتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينية، وهي تقوم بتطوير الإنتاج المائي بهدف تكريس التقسيم غير العادل للمياه المشتركة.
* تمييز وتفرقة
والشركات الصهيونية الخاصة بالمياه تتبع سياسة تمييز وتفرقة حتى يومنا هذا، وفي الصيف لا تقوم بزيادة كمية المياه للفلسطينيين بل تقلصها من أجل الاستجابة لارتفاع الطلب على المياه في المستوطنات التي تصلها المياه من نفس الخطوط، ففي المستوطنات اليهودية نشاهد رشاشات الماء تروي العشب الأخضر وتتطاير لتصل ألي الشوارع والأرصفة، بينما في الجهة المقابلة حيث المناطق الفلسطينية، تري الناس يبحثون عن الماء والعصبية بادية على وجوههم، وقد أصبح البحث عن الماء والحاجة إليه لا يترك مجالا لراحة البال.(93/4)
وإسرائيل تسعى دائماً وباستمرار لزيادة استهلاكها المائي بهدف فرض الحقائق علي الأرض والإدعاء بأن حقوقها المائية أكبر في المياه المشتركة، والمبدأ المركزي لتقسيم المياه بين الدول يقوم علي نظرية السيادات المحددة، والتي تقول أنه يتوجب عليها أن تأخذ شركاءها بالحسبان في الموارد المائية، وقد امتنعت إسرائيل عن التصويت على معاهدة استخدام مسارات المياه الدولية لأهداف غير الملاحة، هذه المعاهدة التي تقوم علي مبدأ السيادة المحدودة ومبدأ الاستخدام العادل والمعقول، ومبدأ الامتناع عن إلحاق الضرر الملموس بالغير، وهي المعاهدة التي أقرتها الجمعية العمومية للأمم المتحدة بأغلبية الأصوات.
* السيطرة على مصادر المياه
ومنذ احتلال الضفة، وإسرائيل تسيطر على كل مصادر المياه، والآن تماطل الإدارة المدنية الإسرائيلية في إصدار تصريح للفلسطينيين لإقامة خط مياه من بئر جديدة.
وتقليص المياه بالنسبة للفلسطينيين يعني أن عشرات ومئات الآلاف من المواطنين لن يحصلوا على كفايتهم من المياه، وهذا بالطبع مسؤولية السلطة الإسرائيلية التي لا تعطي أدنى اهتمام لمشكلة المياه الفلسطينية.
ولقد أعلنت شركة المياه في رام الله أن المياه سوف تصل لكل حي مرة أو مرتين في الأسبوع وعلى المواطنين الاستعداد لتعبئة الأواني والأوعية للتخزين، وبناء على ذلك سيضطر الفلسطينيون إلى إشباع ظمئهم وفقاً لمحتويات الأواني المعبأة.(93/5)
فهل هذا هو التقسيم العادل للمياه بين الفلسطينيين أصحاب الأرض ومصادر المياه، وبين الإسرائيليين الذين يريدون اغتصاب كل ما على الأرض وتحت الأرض ؟! إن اليهود يعرفون أن تقسيم المياه بين الفلسطينيين وبينهم تقسيم وتوزيع غير عادل، والمنظمات المعنية بالمياه تدعو السلطة الإسرائيلية لتغطية العجز المائي الفلسطيني من خلال تحويل 113 مليون متر مكعب المخصصة للري في داخل إسرائيل للفلسطينيين، كما تقترح هذه المنظمات أن تقوم السلطة الإسرائيلية والسلطة الوطنية الفلسطينية بتبني مبدأ الإدارة المشتركة لمصادر المياه، ولكن اليهود – كعادتهم – يماطلون ويخططون لحرمان الفلسطينيين من كل شيء.(93/6)
العنوان: أسرار الزوجة السعيدة
رقم المقالة: 448
صاحب المقالة: هدى سيد أحمد
-----------------------------------------
الزواج أساسه المودة والرحمة بين الزوجين، وبهما يتحقق السكن والطمأنينة، وإن كانت مسؤولية بناء البيت المسلم تقع على عاتق الزوجين معاً، فإن الزوجة تتحمل الجزء الأكبر من هذه المسؤولية؛ فهي المعينة لزوجها على الخير، وهي الأم الحنون الناصحة لأولادها، وهي المواسية في وقت الشدائد.
من أجل ذلك نقدم إليك عزيزتي الفتاة نصائح ذوي الخبرة لبناء أسرة مسلمة سعيدة برضا الله - عز وجل.
أحسني الاختيار:
توجه الدكتورة إجلال حلمي - أستاذة علم الاجتماع - نصائح للفتاة المقبلة على الزواج فتقول:
حسن الاختيار مهم جداً في بناء أسرة سعيدة؛ فيجب على الفتاة أن تختار الزوج المناسب لها من الناحية الدينية، والأخلاقية، والثقافية، والاجتماعية، والاقتصادية، وأن يكون شخصاً ناضجاً يقدر مسؤوليات الزواج ويتحملها.
ويحاول كل منهما فهم طبائع، وعادات، وأخلاقيات شريك الحياة حتى يتفقا على وضع منهج لحياتهما الزوجية, ولأن تعديل الطباع بعد الزواج أمر صعب، فعلى كل منهما أن يغير من نفسه، وطباعه بما يتلاءم مع الطرف الآخر حتى تستمر الحياة؛ فالصدق، والوضوح، وعدم إخفاء العيوب قبل الزواج أمر له أهميته في بناء العش السعيد.
تعلمي الطهي:
وتؤكد الدكتورة إجلال أهمية قيام الفتاة قبل الزواج - مهما كانت ظروف دراستها أو عملها - بتعلم طرق الطهي، وأنواع الأكلات المختلفة - لاسيما التي يحبها زوجها - وتحاول جاهدة إتقان عمل الطعام، ومهارات المنزل حتى تتقرب إلى زوجها بفعل ما يحبه، وتدخل بذلك السرور على قلبه بتفانيها في إسعاده بشتى الطرق.
كوني مقتصدة في بيته:(94/1)
على الفتاة أن تتعلم كيفية إدارة شؤون البيت؛ لأنها ستكون راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها؛ فعليها أن تتعلم كيف تكون مقتصدة في بيتها تعرف كيف تدبر ميزانية الأسرة، وطرق إنفاق الموارد المحدودة على الاحتياجات المتعددة.
وعلى الفتاة إذا ارتضت خلق ودين من تقدم لزواجها ألا ترهقه بكثرة الحاجات، وتثقله بالديون حتى لا تبدأ حياتهما بهذه الصورة.
وبعد الزواج، عليها أن تنفق حسب قدرة زوجها وإمكانياته، ولا ترهقه بكثرة الطلبات، وإذا كانت الزوجة عاملة فلتساهم بجزء من راتبها في المنزل، وعليها أن تدخر جزءاً من المال تحسباً لأية ظروف طارئة، أو مناسبات كي لا تعرض الأسرة لأية أزمة مالية, ولا تنسى تخصيص جزء من المال للصدقات، وجزء آخر للترفيه والتنزه.
كوني سكناً له:
ينصح د. محمد عبد المنعم البري - أستاذ الدعوة - كل فتاة مقبلة على الزواج بأن تتدبر المعنى الجليل لقوله – تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَات لِقَوْمٍ يتَفَكَّرُونَ} [الروم:21].
فأساس الحياة الزوجية المودة، والرحمة بين الزوجين، وعليه يكون الزواج سكناً أي: سكينة، وطمأنينة، وواحة وارفة الظلال تهنأ بها النفس، ويسعد بها القلب، فإذا استشعرت الزوجة هذه المعاني السامية أدركت خطورة وأهمية دورها في بناء هذه الحياة السعيدة.
وعلى الفتاة أن تتمرس، وتعتاد على كل الظروف سواء الإيجابية أم السلبية؛ فقد تمر بالزوجين أوقات شدة وضيق، فعليها أن تتفهم هذا كله، وتقبل الحياة بحلوها ومرها مع التماس الأعذار، وقد قيل: "التمس لأخيك سبعين عذراً، فإن لم تجد فقل لعل له عذراً أو لعله نسي".
وتقتضي الحياة الزوجية لصفائها واستمرارها من المؤمن والمؤمنة أن يغضا الطرف عن بعض السلبيات، والعيوب، والهفوات، والأخذ بالحكمة التي تقول:(94/2)
لَيْسَ الْغَبِيُّ بِسَيِّدٍ فِي قَوْمِهِ لَكِنَّ سَيِّدَ قَوْمِهِ الْمُتَغَابِي
أي الذي يدعي عدم الفهم، وهو عكس ذلك، أي يتغاضى عن عيوب غيره كأنه لم يرها، والتسامح خلق طيب يجب أن يتحلى به كلا الزوجين.
الصبر على التقويم:
إن عملية التقويم لأي اعوجاج في الطرفين لا تؤتي ثمرتها إلا على المدى الطويل، وتحتاج إلى رعاية، وعناية، وجهد، واصبر.
وقد قال المولى - جل شأنه - لرسوله الكريم - صلى الله عليه وسلم -: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه:132].
فالأمر بالصلاة أمر شاق، وصعب، ويحتاج ليس فقط إلى صبر، بل إلى اصطبار، والكلمة تدل على معنى أوسع وأشمل من الصبر؛ فهو صبرٌ ليس هيناً، وليس عاديّاً؛ فعلى كل طرف أن يصطبر على تقويم أي عادة، أو طبع غير حسن في زوجه، ويبذل قصارى جهده في ذلك بالرفق، واللين، والهدوء لدوام العشرة الطيبة بينهما.
ويضيف الدكتور البري قائلاً: إن حسن معاملة المرأة لزوجها، وذكره بالخير أمام الناس – حتى لو كان مسيئاً لها – من شأنه أن يؤدي إلى تقويم اعوجاجه بطريق غير مباشر؛ فإصلاح الخطأ، وتقويم الاعوجاج قد يحقق نجاحه ويؤتي ثمارَه إذا اتبعت الحكمة فيه، والأسلوب غير المباشر في النصح والتوجيه، وقد قال الله - جل شأنه –: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل:125].
كما تنبه الدكتورة إجلال حلمي على أهمية مناقشة الخلافات الزوجية داخل البيت؛ فيجب ألا تترك الزوجة المنزل لأي سبب من الأسباب، وعليها ألا تفشي أسرار بيتها – ولاسيما الخاصة - خارج المنزل ولأي شخص مهما كانت درجة قرابته لها.
وعلى الزوجين أن يعملا على حل مشاكلهما بهدوء، وود، وداخل حدود المنزل، وعدم اللجوء إلى تدخل طرف ثالث مهما كانت الأسباب؛ لأن ذلك يزيد الفجوة بين الزوجين اتساعاً.(94/3)
فالزواج أخذ وعطاء, وعلى الزوجين معاً أن يعطي كل واحد منهما لرفيق دربه وشريك عمره كل حنانه، وصافي مودته، والتحمل لظروف عمله، والضغوط التي قد يتعرض لها، وقبل ذلك كله على الزوجة أن تراقب الله - عز وجل - في معاملة زوجها لأنها تعامل الله - عز وجل - وجزاؤها على حسن خلقها، وصبرها، ورعايتها للبيت، والزوج، والأبناء جزاء عظيم؛ فهي الزوجة، والأم، والحبيبة، والرفيقة، منبع الحنان والدفىء في البيت والحياة.
كوني له أَمَةً:
وتقدم د. أمينة أبو كيفة - أستاذ علم النفس التربوي بكلية التربية - نصائحها للزوجة قائلة:
يقوم الزواج على أمرين أساسيين هما أهم ما يقوم عليه ( المودة والرحمة )كما ذكر المولى - جل شأنه – و ذلك لأنهما يؤديان إلى حسن المعاشرة بين الزوجين؛ فالسكن هو شعار البيت المسلم، والمودة تكون في أوقات الصحة، والقوة، والسعة في العيش، أما الرحمة فلابد منها في أوقات الضعف، والمرض، والضيق، وضغوط الحياة التي نعيشها والتي أصبحت تؤثر في بيوتنا بدرجة كبيرة.
فعلى الفتاة أن تبدأ حياتها الزوجية بالصدق، والوضوح، والصراحة التي لا تؤذي ولا تجرح, وعلى الزوجة أن تكون مطيعة لزوجها؛ تنفذ أوامره مادامت في طاعة الله - عز وجل – وفي غير معصيته, ولا يوجد خير مما نصحت به السيدة الأعرابية ابنتها المقبلة على الزواج حين قالت لها: "كوني له أَمَةً, يكن لك عبداً".
والمعنى أن تكون الزوجة كالأمة لزوجها مطيعة له، مهذبة في التعامل معه, تعامله باحترام وحب ودفء, برفق ولين, وإذا غضب تمتص غضبه؛ تبتسم دائماً في وجهه تراعي ماله وعياله, لا تكدر صفوه إذا كان سعيداً, ولا تفرح بين يديه إذا كان مهموماً.
لا يرى منها أي شيء قبيح سواءٌ في المظهر أم الجوهر، ولا يشم منها إلا أطيب ريح.
تحسن الوقت المناسب للحديث, لا تخبر زوجها بالأخبار السيئة أو المشكلات فور مجيئه, بل تخبره بما يسعده، وتمهد له تدريجياً حتى يتقبل أي خبر غير طيب.(94/4)
الزوجة حصن:
وتضيف الدكتورة أمينة أبو كيفة قائلةً: الزوجة هي الحصن الذي يتحصن به الزوج المسلم ضد مغريات الحياة وفتنتها؛ فعليها أن تكون في أحسن زينه، وأطيب هيئة كي تملأ عين زوجها، وقلبه، وينشرح صدره عند لقائها، وعند رؤيتها بعد عناء العمل، ومشقة الحياة.
على الزوجة أن تحرص على إعداد الطعام الطيب لزوجها وأولادها، ومهما كانت مشغولة بعمل، أو غيره يجب ألا تُقصِّر في شؤون المنزل؛ لأن هذه هي مهمتها الأولى، ووظيفتها الأصلية.
يتولد نوع من الطمأنينة النفسية كلما كان هناك إحساس بالمشاركة بين الزوجين في جميع أمور الحياة.
وعلى الزوجين أن يشتركا معاً في تربية الأبناء بحيث لا يتعارض أسلوب كل منهما مع الآخر، وحتى يسعدا بأولادهما وحياتهما الزوجية السعيدة.
التوعية الصحية:
وتوصي د. ميرفت أنور - المتخصصة في أمراض النساء والولادة –كل فتاة مقبلة على الزواج بالاهتمام بصحتها، وبمعلوماتها الصحية، وتوجز لها هنا بعض النصائح الطبية حتى تهنأ بحياتها الجديدة:
* توعية الأم لابنتها قبل الزواج عن مفهوم الزواج، ومسؤولية البيت، والزوج، والأبناء هي ضرورة أساسية؛ لأن الزواج مسؤولية عظيمة تقع على كاهل الزوجة؛ حيث إن عليها رعاية نفسها، وزوجها، وأولادها من جميع النواحي الصحية، والنفسية، والتربوية، والاجتماعية، وغيرها.
* لابد من اطلاع الفتاة على الكتب العلمية الهادفة، والمعلومة المصدر، المتخصصة في مجال الزواج، والإنجاب، وصحة المرأة حتى تُلِمَّ بمعلومات صحيحة وعلمية عن مفهوم الزواج، والعلاقة الزوجية، وكيفية الحفاظ على صحتها قبل وبعد الزواج، وأثناء الرضاعة.
* وعلى الفتاة الاهتمام بصحتها العامة قبل الزواج، والمحافظة على نفسها من السمنة التي تسبب أمراضاً عديدة كالضغط، والسكر، وأمراض القلب، وعدم النحافة الشديدة؛ لأن هذا كله يسبب تأخر الحمل أو عدم القدرة على الإنجاب.(94/5)
* الاهتمام بالغذاء الجيد للفتاة، خاصة شرب اللبن منذ الصغر؛ لأنه يمد الجسم بالكالسيوم اللازم أثناء الحمل لنمو الجنين، ويساعد في عملية التسنين، وحتى لا تحدث للزوجة هشاشة، ولين العظام وهو ما يسبب ضعف بمنطقة الحوض، وغيرها من المتاعب.
* اهتمام الفتاة بالنظافة الشخصية بصورة دورية، ومستمرة قبل الزواج وبعده لمنع حدوث أي التهابات أو أمراض قد تنشأ بعد الزواج أو ما يسمى: (HONY MOOL INFICTIION).
* وعلى الزوجة أن تسرع باستشارة طبيبة متخصصة حتى لا تحدث مضاعفات أو زيادة في التهابات موضعية قد تمتد إلى الأنابيب، أو الحوض، ويحدث معها مشاكل عديدة قد تعوق الحمل.
* إذا حدث تأخر في الحمل فلا داعي إلى القلق؛ لأن القلق في حد ذاته يؤثر من الناحية الصحية، والنفسية في كلا الزوجين. ولا يُعَد تأخر الحمل عقماً أولياً إلا إذا استمر سنتين, وعلى الزوجين استشارة الأطباء، وعمل التحاليل اللازمة لمعرفة سبب ذلك، وأخذ العلاج المناسب.
وختاماً يجب أن تعم الحياةَ الزوجيةَ المودةُ، والرحمةُ، والحبُّ المتبادل بين الزوجين، وفهمُ كل منهما لمشاعر واحتياجات الآخر حتى ينعما بحياة سعيدة طيبة.(94/6)
العنوان: أسرار الشخصية الجذابة
رقم المقالة: 411
صاحب المقالة: ألماز برهان
-----------------------------------------
من متطلبات القيادة الإدارية، القدرة على امتلاك مفاتيح قوة التأثير في الآخرين، وإيجاد قناعات معينة، وإحداث تغيير ما، وحتى يستطيع القائد التصرف بذكاء، ويُسمَع له لابد أن يمتلك القدرة الذاتية على إدارة الذات التي تسهم في بناء شخصيته، ومن أسرار الشخصية الجذابة للآخرين، القدرة على جذب قلوب الناس، وإن كانوا عدائيين معك.
الأستاذ عبد اللطيف العزعزي - خبير التنمية البشرية والتدريب واستشاري تطوير المهارات الإدارية والقيادية - قدم بعض تلك الأسرار التي ستخولك حق القيادة والتأثير، من خلال الشخصية الجذابة:
1- تقدير الطرف الآخر واحترامه:
إذا أردت أن يحترمك الآخرون، وأن يتعاملوا معك بإحسان، وأن تكسب قلوبهم ومحبتهم ويتقبلوا مقترحاتك وأفكارك، فما عليك إلا أن تحترمهم بالمثل، بل أكثر من ذلك، ولتعلم أن ما تزرعه ستجده وتحصده؛ فقد أثبتت الدراسات العلمية أن من يتعلم كيفية التعامل مع الآخرين يكن بذلك قد أنجز 85% من طريق النجاح، ثم إنه يكون قد حقق 99% من طريق سعادته الشخصية.
2 - تعلم مهارات استقطاب الطرف الآخر عن طريق:
* ذكر اسم الطرف الآخر باستمرار: فإذا كانت الابتسامة تسحر الناس وتجذب قلوبهم، فإن للأسماء وقع السحر إن لم يكن أكبر؛ فكل منا يهتم باسمه دون البشر؛ يطرب لسماعه، ويحب أن يكتبه، أو يراه مكتوباً في صحيفة أو مجلة أو قائمة أو كتاب، فإذا ما التقيت بشخص وحييته باسمه، فإنه سيفرح ويبتهج لذلك.
وقد كان للرئيس الأمريكي الأسبق (فرانكلين روزفلت) طريقته الخاصة في جذب قلوب الناس من خلال ذكر أسمائهم؛ فقد كان يخصص بعض الوقت لتذكر الأسماء، حتى أسماء الميكانيكيين الذين كان يتعامل معهم، لإدراكه أن أبسط وأفضل طرق كسب قلوب الآخرين هي تذكر أسمائهم، وهذا ما يجعلهم يشعرون بأهميتهم.(95/1)
* إظهار الثقة واحترام النفس: إن إظهار الثقة بالنفس عاملٌ هامٌ في كسب ثقة الآخرين، ومتى تحقق ذلك أقبل الناس عليك، وقدَّروا كل ما تقوله وتفعله، ثم إن احترام الذات وتقديرها هي الركيزة الأساسية التي توصلك إلى أن يحترمك الآخرون؛ فمن المعروف لدى الناس أن من لا يحترم نفسه لا يحترمه الآخرون، فإذا اتخذ الإنسان لنفسه المكانة التي تتناسب معه ومع طموحه، عندها سيذعن الآخرون لقراره هذا، قال زهير بن أبي سلمى:
وَمَنْ لا يُكَرِّمْ نَفْسَهُ لا يُكَرَّمِ
أيضاً قال المنفلوطي: "من العجز أن يزدري المرء نفسه؛ فلا يقيم لها وزناً، وأن ينظر إلى من هو فوقه من الناس نظر الحيوان الأعجم إلى الحيوان الناطق، وعندي أن من يخطئ في تقدير قيمته مستعلياً، خير مِن مَن يخطئ في تقديرها متدنياً؛ فإن الرجل إذا صغرت نفسه في عين نفسه؛ يأبى لها من أعماله وأطواره إلا ما يماثل منزلته عنده، فتراه صغيراً في عمله وأدبه، صغيراً في مروءته وهمته، صغيراً في ميوله وأهوائه وفي جميع شؤونه وأعماله، فإن عظمت نفسه عظم بجانبها كل ما كان صغيراً في جانب النفس الصغيرة".
* ذكر واستحسان إيجابيات الطرف الآخر: إذا وجدت فيمن تحدثه ميزة أو صفة أو خصلة أو عادة جميلة وحميدة؛ حاول أن تلفت نظره إلى ذلك، وتبين له أهميتها؛ فهذا يُشْعِره أنك بالفعل شخص يستحق التقدير والاحترام، وأنك شخص يفضَّل التعامل معه؛ لأنك خلوق وطيب وتقدر الآخرين وتقدر ما لديهم من الصفات والميزات الحميدة، وهذا يدل على أنك لست شخصاً حقوداً ولا غيوراً ولا أنانياً تحب نفسك فقط.(95/2)
* حسن الإصغاء إلى الطرف الآخر: إن لحسن الاستماع أثراً بالغاً في نفوس الآخرين، فلا يتقنه إلا من يعرف كيف يستخدمه؛ ولهذا الغرض تقوم كثير من الشركات والمكاتب الإدارية بإعطاء دورات تدريبية وتثقيفية كثيرة في كيفية الاستماع والإصغاء الجيد للآخرين، وذلك لتحقيق الفهم الكامل للوصول إلى حل مناسب، ويذكر (بيرتون كبلان) في كتابه "كيف تسيطر على الآخرين؟"، أن الدراسات الجامعية تؤكد أن الاستماع الجيد يساوي 20 نقطة من نقاط حاصل الذكاء؛ فعندما تستوعب المحتوى النقدي للعبارات المتحدث بها، فإنك تقيم المواقف بدقة أكثر، وسينظر إليك الآخرون على أنك شخص يدرك ما يقال، ويفهم ويفكر فيما يجب على الآخرين قوله، ويقول كبلان: "فيؤدي ذلك إلى أن يعتبروك أكثر ذكاءًً من المستمعين الذين ليس لديهم نفس المهارة؛ حيث إن فرصة تكوين الثقة، وقوة الشخصية تكمن في إثبات ذكاتك من خلال الاستماع الجيد".
* قوة أثر الابتسامة: للابتسامة تأثيرها في الشخص الذي يبتسم، وفي الآخرين؛ فقد أثبتت البحوث العلمية أن التعبير عن انفعالٍ ما، يمكن أن يولد لدى الشخص الإحساس بالانفعال نفسه، وهذا يعني أن بمقدور الإنسان أن يشعر بالسعادة بمجرد أن يبتسم، وقد توصلت دراسة أخرى قام بها عدد من علماء النفس والاجتماع الأمريكيين إلى أن الابتسامة سبب من أسباب النجاح والسعادة؛ حيث تبين أن الشخص الذي يبتسم دائماً هو أكثر الأشخاص جاذبية وقدرة على إقناع الناس، وهو أكثرهم ثقة بنفسه.(95/3)
عندما تبتسم في وجه شخص ما، فإن موجات كهرومغناطيسية إيجابية ذات ذبذبات معينة تنطلق منك - دون أن تشعر - في اتجاه ذلك الشخص، وتتوقف كمية تلك الموجات على طريقة تبسمك وترحيبك به وقوة مشاعرك الداخلية ومدى تركيز نظرتك إليه، وتعتمد على العبارات والكلمات المصاحبة لتلك الابتسامة، فإذا كان ذلك الشخص يحمل في نفسه شيئاً ما من ناحيتك، كالحقد أو البغض، فإنك بتبسمك في وجهه بالطريقة السليمة؛ تكون قد حققت الآتي:
- قويت هالتك وحميت نفسك من الموجات السلبية التي يوجهها إليك - دون أن يشعر بذلك - لمجرد أنه يفكر فيك بطريقة سلبية.
- أثرت في موجاته السلبية؛ لهذا ستقترب موجاته من موجاتك الإيجابية فتتحقق الألفة والمحبة، وهو الذي يحقق لك الجذب.
3- قدرة الحصول على موافقة الطرف الآخر 3 مرات:
من أنجح الطرق التي تجعل الطرف الآخر ينساق إلى ما تقول هي أن تجعل ردود فعله ردوداً إيجابية، أي تجعله يتلفظ بعبارات التأييد والموافقة سواءٌ نطق بذلك أم لم ينطق، كأن يقول: (نعم، أو صحيح، أو فعلاً)؛ فالرد الإيجابي يجعله يرى ما تطرحه يتوافق مع ما بداخله.
يقول الطبيب النفساني (أوفرستريت) : "إن الجواب بالنفي لهو من أصعب العقبات التي يمكن التغلب عليها؛ فعندما يجيب الإنسان بـ "لا" يفرض عليه كبرياؤه أن يبقى مصراً عليها، وقد يشعر فيما بعد أنه مخطئ لكن كبرياءه يأبى عليه الاعتراف بخطئه، وحين يتفوه بشيء يجب أن يحافظ عليه؛ لذلك من المهم جداً أن نبدأ الحديث مع أي إنسان من الناحية الإيجابية".
4 - إخراج الطرف الآخر من حالة الرفض:
لكي تحطم حاجز الرفض وتذيب قالب الجليد الذي يحيط بالطرف الآخر؛ عليك اتباع الأساليب التي تتناسب مع الموقف الذي أنت فيه، ومن هذه الأساليب الآتي:
1- النظر إليه عندما تتحدث عن موضوع أو نقطة تعلم أنه يوافقك عليها، كأن تقول: "وكلنا يسعى لتحقيق النجاح، والوصول إلى أهدافنا التي خططنا لها وتخيلنا نجاحها".(95/4)
2 - التحدث عن أمرٍ هو يتميز أو يتصف به، أو نجاح قام به، كأن تقول: "فالعزيمة القوية تقود الشخص إلى تحقيق ما كان يقال بأنه صعب، ونحن لدينا هنا من حقق بعزيمته ما عجز عنه البعض".
3 - ذكر اسمه خلال عملية الشرح، كأن تقول: "فمثلاً إذا قلنا بأن فلاناً (وتذكر اسمه) يعد مخططاً استراتيجياً، ويريد تحقيق أعلى نسبة إنجاز بجودة عالية، فما الذي يمنعه من تحقيق هدفه؟".
4 – طلب المشاركة منه في طرح خبرته في الموضوع الذي تتحدث عنه كأن تقول: "لا يفتى ومالك في المدينة!" فما تقول يا أستاذ (.....) فيما ذُكر وما هي خبرتك في هذا الأمر؟".
5 - بناء الألفة مع الغير: تحدث عملية التوافق بين الناس بصورة عامة بطريقة طبيعية لا شعورية، وهذا يكون واضحاً في الاجتماعات، وجلسات النقاش، فإذا كان لأحد المناقشين أو الحضور رأيٌ ما، وكان هناك من يؤيد فكرته فإن حركات الشخص المؤيد تبدأ - في الغالب - تنساق وراء حركات صاحب الفكرة بطريقة لا إرادية؛ فمثلاً في اعتدال صاحب الفكرة في جلسته تجد ذلك الشخص يفعل الشيء نفسه بطريقة غير مقصودة، وذلك لحدوث التوافق بينهما، وهكذا.
هناك ثلاث طرق أساسية لبناء الألفة والتوافق مع الآخرين، هي:
أولاً التطابق: بمعنى القيام بكل ما يأتي به الطرف الآخر من سلوك تعبيري خارجي، وهو يتحقق في خمسة مستويات، وهي الآتية:
1- مستوى التعبيرات: وهي الإيماءات الجسدية من طريقة الجلوس، حركة اليدين، نظرات العيون، ميلان الجسم....الخ.
2- المستوى السمعي: شدة الصوت، درجته، نغمته، سرعته... الخ.
3- المستوى اللغوي: نوعية الكلمات المستخدمة، هل هي بصرية أم سمعية أم حسية؟ ونوعية التعبيرات.
4- مستوى المعتقدات والقيم: قم بعمل تطابق لمستوى المعتقدات، والقيم للطرف الآخر، ولكن دون أن يكون في ذلك ما يمس قيمك أو معتقداتك الدينية.(95/5)
5- مستوى البرامج العالية: تفضيل الإجمال أو التفصيل؛ فإن تحدث بالإجمال عن موضوع ما، فتحدث بالإجمال مثله، وإن تحدث بالتفصيل فتحدث بالتفصيل.
ثانياً المجارة: عملية المجارة هي أن تقلد الطرف الآخر فيما يفعله لفترة زمنية معينة حتى يحدث التوافق؛ فمثلاً: لكي نجعل الطرف الآخر يتقبلنا ويطمئن إلينا ويحبنا ويميل إلينا؛ يجب أن نحاول مجاراته فيما يفعله؛ فنجاريه في أسلوب الكلام، وطريقة الأكل، وكيفية الجلوس، ونغمة الصوت، وما إلى ذلك إلى أن يحدث التوافق.
والمجاراة في حد ذاتها فن يتطلب مهارة وأداءً وإتقاناً، وعلى رأس كل ذلك يتطلب صبراً وجهداً؛ فقد يكون من تريد قيادته صعب المجاراة، وقد تكون حالته النفسية أو المكان أو الجو العام لتنفيذ عملية المجاراة غير مساعدة.
ثالثاً القيادة: تتحقق عملية القيادة بعد أن تكون قد تحققت من إتمام المجاراة - ولو بنسبة معينة - فعندها تبدأ بعملية القيادة؛ لترى مدى تجاوب الطرف الآخر معك.
فمثلاً: إذا كنت تجاري شخصاً ما في طريقة جلوسه وتنفسه وإيماءات جسده ونبرات صوته، والكلمات والعبارات التي يستخدمها في حديثه وما إلى ذلك - فقم بعد فتره زمنية بالقيادة لتجعله يتبعك، وذلك بتغيير طريقة جلوسك ولاحظ هل سيغير من جلسته ولو تغييراً يسيراً، ثم قم بتغيير نبرة صوتك وكلماتك وعباراتك وطريقة تنفسك، وفي كل مرة قم بأخذ القيادة، وتأكد من نجاحها، فإن تحققت، فقم بتعميقها أكثر، أما إن لم تتحقق، فعد إلى مجاراته من جديد، وهكذا.(95/6)
العنوان: أسرة بلا أب ريشة في مهب الريح
رقم المقالة: 278
صاحب المقالة: إيمان صابر
-----------------------------------------
كثيراً ما نتحدث عن أهمية دور الزوجة والأم داخل أسرتها ومدى الخلل الذي يحدث للأسرة والأبناء عند غيابها أو تقصيرها في أداء مهمتها ، ومع اهتمامنا بدور الأم نهمش أحياناً دور الأب على الرغم من أهميته فهو الذي يوجه السفينة ويقودها إلى بر الأمان . فلماذا يغيب الأب ؟ وما أثر غيابه في الأسرة ؟ وكيف نتجنب الآثار السلبية لهذا الغياب ؟ هذه الأسئلة وغيرها يجيب عنها التحقيق التالي :
* المال ضيع الأولاد !
المحاسب عُمر يروي قصته مع السفر فيقول : كسَبت كثيراً من سفري إلى إحدى الدول الذي امتد قرابة السنوات العشر ، ولم نعد نعاني أيَّ أزمة مادية ،بل أصبحنا على النقيض نعيش في رغد من العيش ، وكنت خلال السفر أترك زوجتي وأولادي في بلدي لظروف ارتباطهم بالمدارس ، وكانوا في رعاية والدي - وهو شيخ كبير- ولكنه لم يستطع أن يستوعب أحد أبنائي الذي أخذ يدخن السجائر ويرسب في المدرسة وانضم إلى رفقاء السوء وانقلبت شخصيته تماماً وفقدنا السيطرة عليه ، وكلما رأيته أمامي تذكرت أنه ضحية سفري .
أما عبد الكريم- معلم- ، فكانت تجرِبتُه أشدَّ إيلاماً فقد ظل الرجل مكافحاً طَوال حياته مع زوجته - معلمة أيضا - حتى جاءته فرصة السفر وهو في الخمسينات من عمره واصطحب زوجته وأولاده تاركاً اثنين منهم على أبواب الثانوية العامة ليكملوا دراستهم الجامعية واستمر هو وزوجه في السفر .(96/1)
وكانت أول مفاجأة هي رسوب أحد الأبناء ونجاح الآخر نجاحاً كالرسوب، وزلزلت المفاجأة الأب وهو الذي عانى حتى يكون أولاده دائماً متفوقين . فتحمل الغربة وحده وأرسل زوجته إلى الأبناء ، وهنا اكتشفت الأم السهرات غير البريئة التي تورط فيها ابناها ، وتدخينهما المخدرات، ورفقاء السوء، وبعد جهد جهيد نجح الولدان بمجموع ضعيف أدخلهما معهداً وليس الكلية التي كانا يحلمان بها وأسرتُهما . وتضاعفت سنوات الدراسة عليهما لضعف مستواهما وضعف الرقابة عليهما .
أما (نجوى) فهي مثل الكثيرات فأبواها طبيبان سافرا واصطحباها وفي الثانوية العامة أرسلاها إلى جدتها لتعيش معها وتلتحق بالجامعة وأغدقا عليها بالملابس والأموال ، نجحت في الثانوية ودخلت الجامعة، ولكنها حولت الشقة إلى وكر تعاطي المخدرات والهيروين مع زميلاتها بحجة المذاكرة معهم ، ورسبت في الجامعة وأخفت ذلك عن أهلها الذين لم يكتشفوا ذلك إلا بعد فوات الأوان حينما قُبض على نجوى وهي تشتري الهيروين ، وانتهى بها الحال إلى مصحة لعلاج الإدمان وسط دموع الأب والأم، فماذا أفاد المال ؟ وإذا كان الطبيب والطبيبة عجزا عن رعاية ابنتهما الوحيدة ...فماذا سيفعل من هم أقل منهما ؟!
* من يردم الفجوة ؟(96/2)
الدكتور ماهر يروي قصته فيقول : أنا دكتور مهندس أنتدب للخارج كثيراً بسبب تخصصي النادر وذلك منذ أكثر من 10 سنوات وكنت قد تركت أبنائي وهم في المدارس الابتدائية وآتيهم مرة أو مرتين في العام وكم أشعر بالأسى معهم فأنا أشعر بأنني ضيف ثقيل فأوقات نومهم غير أوقات نومي ولا يحبون ما أحبه من الطعام، بل إذا تناقشت مع واحد منهم أجد التفاهة والسطحية وعدم التأدب في الحوار؛ فيتركني ابني بمجرد الحديث عن العلم ، وينظر إلي ابني الآخر نظرةَ متخلفِ إذا حاولت أن أُوَجِهَهَ إلى أية قيمة أو عادة من عاداتنا الطيبة وكأن التمدن والرقي لا يتفق أبداً مع الأدب والعلم والعادات الحميدة وحتى الصلاة ، طبعاً للأسف أنظر لنفسي وقد وصلت إلى أعلى الدرجات العلمية ، في حين أن أولادي يتدهورون علمياً وأخلاقياً، بل والأكثر من ذلك أجد هوة كبيرة وبوناً شاسعاً بيني وبينهم، وطِباعاً من المستحيل التوافق بينها فأجدني في النهاية أسحب نفسي مسافراً وكلي حسرة على أولادي وعلى زوجتي أيضاَ التي جرفها التيار وجرفت أولادي معها ولا أدري ماذا أفعل لنلتقيَ ولو في نقطة واحدة لأستطيعَ إكمالََ المسيرة معهم ؟!
* آثار سلبية
نقلنا هذه النماذج إلى د.عبد الله جودة أستاذ الطب النفسي ، فقال : أعلم من التفاصيل ما هو أكبر بكثير جداً من هذه الحالات ، فانحراف الأبناء نتيجة غياب الأبوين معاً مؤكد تماماً ، أما انحراف الأبناء أو أحدهم نتيجة غياب الأب فقط فهو محتمل احتمالاً كبيراً خاصة إذا كان الأبناءُ ذكوراً أو فيهم الذكور ، فالطفل الصغير بحاجة إلى رعاية أبيه بصفة خاصة فهو يقلده ويحاكيه ويجيب عن أسئلته ويمثل إليه المدخل الطبيعي لعالمه الذي يحلم بالانضمام إليه...(96/3)
غير أن المشكلة تزداد تعقيداً إذا كان هذا الابن في مرحلة البلوغ والمراهقة...ففي هذه المرحلة تحدث تغيرات جوهرية في جسم الطفل وفي عقله وفي نفسيته ووجود الأب بجواره عامل هام جداً لامتصاص هذه التغيرات وتهذيبها وتقويمها...وإذا كانت الأم وحدها ففي أحيان كثيرة لا تستطيع السيطرة على ابنها ولا تكون مقنعة بالنسبة إليه ، وقد يعلن التمرد والعصيان عليها وهذا معناه ضياع محقق للطفل .
أما د.رشدي بدران أستاذ علم النفس التربوي فيقول : إن كثيراً من الأُسَر عانت معاناة شديدة جراء سفر الزوج أو سفر الزوجين وترك الأبناء إما وحدهما أو في رعاية غيرهما ، وتركهما وحدهما هو خيانة للأمانة وعدم إدراك للمسؤولية، فالخطورة مؤكدة تماماً والانحراف لا جدال فيه، خاصة أن الأبوين في هذه الحالة يريدان تعويض الأبناء فيسبغان عليهم بالأموال والهدايا التي تكون عاملاً حاسماً ومساعداً على الانحراف الذي يكون إما بالتدخين والإدمان وإما بتحويل الشقة إلى وكر للأعمال المنافية للقيم والآداب، ويضيع الأبناءُ نتيجة طمع وجهل الآباء .
وإذا غاب الزوجان وتركا الأبناء مع أحدٍ حتى وإن كان جدهما فإن الخطورة محتملة تماماً وربما مؤكدة فهناك فاصل زمني ونفسي بين الجد و الأبناء، والجد بطبيعته أكثر شفقة وتلطفاً بالأبناء وقد يدفعه ذلك إلي عدم السيطرة عليهم وضبط سلوكياتهم ومتابعتهم.
أما في حالة سفر الزوج فقط وترك الأبناء مع الزوجة فيشترط د.رشدي أن يكون مع الزوجة أحد المحارم المخلصين، أو تكون مقيمة مع الأسرة الكبيرة ووسائلُ مراقبةِ وضبطِ سلوكِ الأبناءِ متاحةٌ ، وأن تكون الضرورة القصوى هي التي دعت إلى سفر الزوج وحدَه ..
* الدور المفقود(96/4)
تقول الدكتورة ملك الطماوي- أستاذة التربية- : إن معظم الدراسات والأبحاث تركزت حول دور الأم والعلاقة بينها وبين الطفل ولكنها أهملت دور الأب في التنشئة ولكن في السنوات الأخيرة بدأ الاهتمام بدور الأب وقد بدأت هذه الدراسات خلال الحرب العالمية الثانية عندما ابتعد ملايين الآباء عن الأسرة والطفل وبدأ الاهتمام بتأثير هذا الغياب .
ومؤكدٌ أن للأب دوراً كبيراً في الضبط الاجتماعي فهو رمز للسلطة والقوة والابن يحاكي الأب في السلوك ومن خلال الأب يتعلم الأبناء الكثير وتنضج خبرتهم ويتعرفون على الحياة .
وتأثير غياب الأب يعتمد على جنس الطفل وعلى السن الذي حدث فيه الغياب، ولقد اتفق معظم علماء النفس والاجتماع على أن تأثير الأب يبدو أكثرَ وضوحاً في مرحلة الطفولة خصوصاً مع الأولاد أكثر من البنات فالأولاد يتربون من خلال آباء أقوياء وعطوفين يصبحون هم أنفسهم أكثرَ دفئاً وثقة بالنفس وقدرة على القيادة من الأطفال الآخرين .
كما أثبتت الدراسات أن غياب الأب يؤثر على الأبناء من الناحية الجسمانية والنفسية والاجتماعية فيبدو الطفل أقلَّ نشاطاً ويكون أكثر عدوانية حينما يلعب مع أصدقائه ويتلفظ بألفاظ عنيفة كما يؤثر غياب الأب في الضبط الاجتماعي داخل الأسرة والذي من شأنه أن يؤدي إلى فوضى سريعة في الأسرة وعندئذ يفشل الأفراد في الاتفاق مع المجتمع .
وغياب الأب لا يؤثر فقط على الأبناء بل يؤثر أيضاً على الأم التي تفقد شريك حياتها وتقوم بدور مزدوج مما يضغط على سلوكها ويؤثر على تنشئتها لأطفالها ولا تستطيع الأم أبداً تعويض دور الأب القيادي التربوي.
* عوامل تقلل من الآثار السلبية لغياب الأب:(96/5)
الدكتورة منيرة عيد العبد العزيز- أستاذة الإدارة التربوية بجامعة الملك سعود- تقول : يتحمل الأب جزءاً كبيراً في مساعدة الأبناء على تنمية قدراتهم على التكيف النفسي في البيئة، وقد أثبتت الدراسات أن غياب الأب – لأي سبب - يقود إلى الكثير من الاضطرابات السلوكية أو الجنوح خاصةً إذا استمر لمدة ستة أشهر أو أكثر، حيث وُجد أن ذلك يترك أثراً سلبياً على الأسرة بشكل عام وعلى الأبناء بشكل خاص، إلا أن هذه النتائج ليست حتميةً مطلقةً وليست عامةً في كل الأحوال، وربما لا تنطبق على كل حالات الفقدان، فبعض الدراسات لم تجد فروقاً بين الفاقدين وغير الفاقدين لآبائهم في الابتكار ومستوى الطموح والقلق وتحقيق الذات والحاجة إلى الإنجاز، ولم توجد فروقٌ بينهم في القيم الاجتماعية والثقة بالنفس والاتجاه نحو الجماعة والقدرات العقلية والجسمية والاتزان الانفعالي والعدوانية، والرضا عن البيت والمدرسة والمستوى الاقتصادي والاجتماعي ومفهوم الذات.. بل إن هناك دراسات أثبتت أن الأبناء الذين فقدوا آبائهم كانوا أكثرَ رجولةً واستقلاليةً وأقلَّ عدوانيةً من الذين يعيشون مع آبائهم .
وعلى الرغم من أن ما أثبتته العديد من الدراسات ووضحته بالنسبة إلى الدور الكبير للأب في حياة الأسرة وتأثيرِه على السمات الشخصية للطفل إلا أن هناك عواملَ أُخر تؤثر بشكل إيجابي في التخفيف من الآثار السلبية لغياب الأب لفترة طويلة أو فقدانه كلياً لأي سبب كان منها:
* ما تقوم به الأم من دور عقب فقدان الأب. فعندما تكون الأم في حالة توافق نفسي وتملك ذاتاً فعالة ولديها القدرة على استغلال قدراتها الذاتية والخارجية وتستطيع القيام بدوري الأم والأب مع عدم التعارض بينهما، فإنها تستطيع التعامل مع مشكلات رعاية الأسرة وتُجَنِّبُ الأبناءَ الآثار السلبية التي من الممكن أن تنجم نتيجة فقدان الأب.(96/6)
* أثبتت الدراسات التي أجريت على أسر يغيب فيها الأب فترات طويلة أن المجموعة المضطربة انفعالياً تتميز بوجود اضطراب انفعالي لدى الأم. وانتباه الأم لهذه المشكلة وحرصها على التغلب عليها سيمكنها من المحافظة على توازن ونمو أبنائها .
* موقف الأم المباشر من الأب الغائب له أثر كبير في التخفيف من آثار الغياب.. فهناك دراسات وجدت أنه لم يكن هناك تأثير سلبي على الأبناء لغياب الأب لفترات طويلة، ذلك لأن الأمهات كن يصورن هؤلاء الآباء بوصفه مثلاً يقتدي به. بينما في الأسر المماثلة والتي لم تقم الأم فيها بمثل هذا الدور وُجدَ أنَّ الأبناءَ أقلٌّ نضجاً وتكيُّفاً مع أقرانهم، والبنات كن أكثر اتكالية من قريناتهن .
* وجود فرصة لربط الطفل بأب بديل من الكبار يخفف من الأثر النفسي لغياب الأب.. مثلاً عن طريق ما يمكن أن يُقدِّمَه الأهلُ والأقاربُ من الذكور الكبار مثل الأعمام والأخوال ومن خلال انخراطه في فرق الكشافة والفرق الرياضية ودور العبادة وما يمكن أن يقدمه المجتمع المحلي من دعم اجتماعي للطفل. كل هؤلاء يمكن أن يكون لهم تأثير في التخفيف من وطأة الآثار التي يتركها غياب الأب .(96/7)
العنوان: أسس اختيار الزوجة
رقم المقالة: 365
صاحب المقالة: مصطفى عيد الصياصنه
-----------------------------------------
إنَّ الإِعداد لتكوين الأُسرة المسلمة يرجع إلى حقبة السنوات السابقة على إعلان مراسم الزواج، فبمقدار ما يكون كلٌّ من الزوجين قد نُشِّئ على الفهم الواعي لمبادئ الإِسلام، ورُبِّي على تطبيقه لفضائله الرفيعة وآدابه، بمقدار ما يُكتبُ لزواجهما النجاح، ولكيان أسرتهما المرتقب السداد والفلاح، ومن هنا ألحَّ الإِسلامُ على الخاطب ضرورة إعمال أقصى درجات التثبّت والتحقّق والتحري في اختيار شريكة العمر ورفيقة الدرب، وجعل لذلك أسساً ينبغي على كلّ مسلم أن يلتزمها – جهدَ استطاعته – ليضمن لكيانه الجديد أن يُبنى على الصلاح والتقوى، وليظفر بالتالي برضوان الله وسعادة الدنيا والآخرة. ولعل أهمّ الأسس التي ينبغي مراعاتها في اختيار الزوجة ما يلي:
اجتناب المُحرَّمات:
1 – أن لا تكون مُحرّمةً حرمةً أبدية أو مؤقتة:
وهو أول ما ينبغي أن يضعه المسلم في اعتباره، حين التفكير بالإِقدام على اختيار زوجة له.(97/1)
أولاً: والتحريم المُؤبَّد يمنع المرأة أن تكون زوجة للرجل في جميع الأوقات، وهو إمَّا أن يكون بسبب النسب، أو المصاهرة، أو الرضاع، قال تعالى: {وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءَابَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاءِ إلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَاءَ سَبِيلاً، حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُم وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُم اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ}[1].
1 – أوضحت الآية أنّ المحرَّمات من النسب سبع: الأمهات، البنات، الأخوات، العمّات، الخالات، بنات الأخ، وبنات الأخت.
2 – وأنّ المحرمات بسبب المصاهرة (أي القرابة الناشئة بسبب الزواج) أربع:
أ – أم الزوجة، وكذا أم أمها، وأم أبيها، وإن علت.
{وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ}.
ب – ابنة الزوجة المدخول بها، وكذا بنات بناتها، وبنات أبنائها، وإن نزلن، {وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم..}.
جـ – زوجة الإِبن، وابن الإِبن، وابن البنت، وإن نزل، {وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ} والحليلة: الزوجة.
د – زوجة الأب، بمجرد عقد الأب عليها وإن لم يدخل بها، {وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءَابَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاءِ}.
3 – وأمّا المحرَّمات بسبب الرضاع فسبع، كالمحرمات من النسب، للحديث الذي روته عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب))[2]، وهنّ:
1 - المرأة المرضعة، باعتبارها أمّا.
2 - أم المرضعة، باعتبارها جدّة.(97/2)
3 - أم زوج المرضعة صاحب اللبن، لأنها جدّة أيضاً.
4 - أخت المرضعة، باعتبارها خالة.
5 - أخت زوجها، باعتبارها عمّة.
6 - بنات بنيها وبناتها، باعتبارهنّ بنات إخوته وأخواته.
7 - الأخت، سواء كانت أختاً لأب وأم (وهي التي أرضعتها الأم بلبان الأب نفسه – سواء أرضِعتْ مع الطفل الرضيع أو رضعت قبله أو بعده) أو أختاً لأم (وهي التي أرضعتها الأم بلبان رجل آخر) أو أختاً لأب (التي أرضعتها زوجة الأب).
(ومن المعلوم أنّ العدد المقتضي للحرمة من الرضعات خمس، لقول عائشة رضي الله عنها: (كان فيما أُنزل من القرآن: (عشرُ رضعات معلوماتٍ يُحرِّمنَ) ثم نُسخِنَ بخمسٍ معلومات، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي فيما يُقرَأ من القرآن)[3].
والرَّضاعُ المُحرَّمُ للزواج ما كان خلال الحولين الأولين من عمر الطفل، أمّا إذا كان بعدَ الحولين فلا اعتبارَ له، لأنَّ الرضيعَ في هذه المدّة يكون صغيراً، يكفيه اللبن، وبه ينبتُ لحمُه، وينشزُ عظمُه، فيصير جزءاً من المرضعة، فيشترك في الحرمة مع أولادها، فعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا رضاعَ إلاَّ ما أنشزَ العظمَ وأنبتَ اللحمَ))[4]، وعن عائشة رضي الله عنها أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: ((يا عائشة، انظرنَ مَنْ إخوانكنَّ فإن الرضاعة من المجاعة))[5]، وعن عبدالله ابن الزبير رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا رضاعَ إلاَّ ما فتَّق الأمعاءَ في الثدي وكان قبلَ الفِطام))[6]، قال مالك: "ما كان من الرضاعة بعد الحولين، فإنَّ قليلَه وكثيره لا يُحرِّمُ شيئاً، وإنَّما هو بمنزلة الطعام"[7].
ثانياً: أما التحريم المؤقَّت، فإنَّه يمنع من التزوج بالمرأة، ما دامت على حالة خاصة، فإنْ تغيَّرت تلك الحالُ زال التحريم، وصارت حلالاً. ومن المَحرَّم على المسلم حرمةً مؤقتة:
1 – الجمع بين الأختين، لقوله تعالى:(97/3)
{وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ}، بالإضافة إلى أنَّ الجمع بينهما يولّد الشقاق بين الأقارب، ويعكّر صفو الأخوة والمودة، ويمزّق ما بين الأرحام من صلات.
2 – الجمع بين المرأة وعمّتها، وبين المرأة وخالتها، لما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يُجمَعُ بين المرأة وعمّتها، ولا بين المرأة وخالتها))[8]. قال النووي: "هذا دليل لمذهب العلماء كافّة، أنه يحرم الجمع بين المرأة وعمّتها، وبينها وبين خالتها، سواء كانت عمّة وخالةً حقيقية (وهي أخت الأب، وأخت الأم) أو مجازيةً (وهي أخت أبي الأب، وأبي الجد، وإن علا، أو أخت أم الأم وأم الجدة، من جهتي الأم والأب، وإن علت فكلُّهنَّ بإجماع العلماء يحرم الجمع بينهما)"[9].
3 – زوجة الغير، وذلك رعايةً لحق الزوج، لقوله تعالى:
{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}[10]، أي: وحُرِّمتْ عليكم المحصناتُ من النساء، وهن ذوات الأزواج.
4 – مُعتَّدة الغير، وهي التي مات عنها زوجها، أو طلَّقها طلاقاً بائناً، ولا تزال في عِدَّتها، فهذه تحرُمُ خِطبتُها إلاَّ أن تكون تلميحاً فقط، وإنَّما حُرِّم التصريح بخِطبتها، مراعاةً لحزنها وإحدادها ومواساةً لشعور أهل الميت في الحالة الأولى، ولأنَّ حقَّ الزوج لا يزال متعلقاً بها في الثانية، أمَّا إذا كانت في عِدَّة طلاق رجعي فلا يحلُّ لأحد التصريح أو التلميح بخطبتها، لأنها لا تزال في ملك زوجها وعصمته، قال تعالى:
{وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الكِتَابُ أَجَلَهُ}[11].(97/4)
وعن سليمان بن يسار أنّ طُليحة الأسدية كانت تحت رُشَيد الثقفي، فطلَقها، فنكحت في عِدَّتها، فضربها عمر بن الخطاب وضرب زوجها بالمخفقة ضربات، وفرَّق بينهما، ثم قال عمر: "أيُّما امرأة نكحت في عِدّتها، فإن كان زوجها الذي تزوَّجها لم يدخل بها فُرِّقَ بينهما، ثمّ اعتدَّتّ بقية عِدَّتها من زوجها الأول، ثمّ كان الآخر خاطباً من الخُطَّاب، وإن كان قد دخل بها، فُرِّقَ بينهما، ثمّ اعتدَّت بقية عِدَّتها من الأول، ثمّ اعتدت من الآخر، ثم لا يجتمعان أبداً".
قال مالك وسعيد بن المسيب، ولها مهرها بما استحلّ من فرجها[12].
5 – الزانية: لقوله تعالى:
{وَالزَّانِيَةُ لاَ يَنكِحُهَا إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} النور/ 3.
وللحديث الذي رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: ((أنّ مَرْثَد بن أبي مَرْثَد الغنوي كان يحمل الأسارى بمكة، وكان بمكة بغي يقال لها (عَنَاق) وكانت صديقتَه، قال: جئتُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسولَ الله أنكحُ عناق؟؟ قال: فسكتَ عني، فنزلت، {وَالزَّانِيَةُ لاَ يَنكِحُهَا إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ}، فدعاني فقرأها عليَّ وقال: لا تنكحهْا))[13] وللحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا ينكِحُ الزاني المجلودُ إلاَّ مثلَه))[14] قال الشوكاني: "هذا وصفٌ خرج مخرجَ الغالبِ باعتبار من ظهر منه الزنا، وفيه دليلٌ على أنه لا يحلُّ للرجل أن يتزوجَ بمن ظهر منها الزنا، وفيه دليلٌ على أنه لا يحلُّ للرجل أن يتزوجَ بمن ظهر منها الزنا: ويدل على ذلك الآية المذكورة في الكتاب الكريم، لأنّ آخرها {وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ}".(97/5)
فإنه صريح في التحريم[15]. وقال الشنقيطي: "إنَّ أظهر قولي العلماء عندي أنَّ الزانية والزاني إن تابا من الزنا، وندماً على ما كان منهما، ونويا ألاَّ يعودا إلى الذنب، فإنَّ نكاحهما جائز، فيجوز له أن ينكحها بعد التوبة، ويجوز نكاح غيرهما لهما، لأنَّ التائب من الذنب كمن لا ذنب له، لقوله تعالى: {إِلاَّ مَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِم حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَّحِيماً} الفرقان/ 70، فالتوبة من الذنب تذهب أثره، أمّا من قال: إنَّ مَنْ زنى بامرأة لا تحلُّ له مطلقاً ولو تاب، فقولُهم خلافُ التحقيق[16]".
والمسلم الفاضل لا يمكن أن يرضى بالحياة مع زانية، أو يعاشر امرأةً غيرَ مستقيمة، والله شرعَ له الزواجَ لتكونَ الزوجة له سكناً، ويكون بينهما مودة ورحمة، فأين المودةُ التي يمكن أن تحصلَ بين مسلمٍ فاضلٍ وزانية؟؟
وهل يمكن لنفسه أن تسكنَ إلى نفسها الخبيثة الداعرة؟؟
قال ابن القيم: "ومما يوضح هذا التحريم أنَّ هذه الجناية من المرأة تعود بفسادِ فراشِ الزوج، وفسادِ النسبِ الذي جعله الله بين الناس لتمام مصالحهم، فالزنا يُفضي إلى اختلاط المياه واشتباه الأنساب، فمن محاسن هذه الشريعة تحريم نكاح الزانية حتى تتوب وتستبرئ"[17].
وقال رحمه الله: "أمّا نِكاحُ الزانية فقد صرَّح الله بتحريمه في سورة النور، وأخبر أنَّ من ينكحها فهو زنا أو مشرك، فإنَّه إمَّا أن يلتزم حكمه سبحانه ويعتقد وجوبه، أو لا، فإن لم يلتزمه ولم يعتقده فهو مشرك، وإن التزمه واعتقد وجوبه وخالفه فهو زان، وأيضاً فإنه سبحانه قال: {الخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ والْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ} النور/ 26، والخبيثات: الزواني، وهذا يقتضي أنَّ مَنْ تزوجهنَّ خبيثٌ مثلُهنَّ"[18].(97/6)
6 – المشركة: وهي كلّ امرأة تعبد الوثن، كالبوذية والهندوسية والمجوسية، أو هي على مذهب إلحادي كالشيوعية، أو مذهب إباحي كالوجودية، لقوله تعالى: {وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ}[19].
وقوله: {وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ}[20]، ففي الآية الأولى نهيٌ عن نكاح المشركات، وفي الثانية نهيٌ لمَنْ أسلمَ وظلَتْ زوجُه على الشركِ أن يُبقيَها في عصمته.
والكتابياتُ غيرُ مشمولاتٍ بهذا النهي – على الأرجح – لأنَّ آية المائدة خصَّصت الكتابياتِ من هذا العموم، وهي قوله تعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ والْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ} المائدة/ 5.
ومما يؤكد ذلك أنَّ سورة البقرة من أول ما نزل من القرآن، في حين أنّ سورة المائدة من آخر ما نزل، ثم إنَّ لفظ (مشرك) لا يتناول أهل الكتاب، لقوله تعالى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ البَيِّنَةُ} البينة/ 1، ففرَّقت الآيةُ بينهما، ولو كانا شيئاً واحداً ما فَرّقتْ. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "لا يصحُّ من أحدٍ أنَّه حرَّم ذلك (يعني الزواج بالكتابيات) وبه قال: عثمان وطلحة وجابر وحذيفة وابن عباس من الصحابة، ومالك وسفيان والأوزاعي وابن المسيب وابن جبير والحسن وطاووس وعكرمة والشعبي والضحاك، ممن بعدهم، كما حكاه النحاس والقرطبي"[21].
أقول: ولكنّ آية المائدة اشترطت في الكتابيات أنْ يكنَّ (مُحْصَنات) أي: عفيفات لا يُعْرَفُ عنهنّ تبذلٌ أو فاحشة، أو مجاهرة بشرك كالقول بألوهية المسيح، أو أنّه – أو عزير – ابن الله.(97/7)
يقول رشيد رضا في بيان الفرق بين المشركة والكتابية: "والمشركة ليس لها دين يحرّم الخيانة ويوجب الأمانة، ويأمرها بالخير، وينهاها عن الشر، فهي موكولة إلى طبيعتها وما تربَّتْ عليه في عشيرتها، وهو خرافات الوثنية وأوهامها، وأمانيُّ الشياطين وأحلامها، تخون زوجها، وتفسد عقيدة ولدها: أمّا الكتابية فليس بينها وبين المؤمن كبيرُ مباينة، فإنَّها تؤمن بالله وتعبده، وتؤمن بالأنبياء، وبالحياة الأُخرى وما فيها من جزاء، وتدين بوجوب عمل الخير وتحريم الشر، والفرق الجوهري بينهما هو الإِيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، والذي يؤمن بالنبوة العامة لا يمنعه من الإيمان بنبوة خاتم النبيين إلاَّ الجهلُ بما جاء به، ويوشك أن يظهر للمرأة من مباشرة الرجل أحقيةُ دينه وحسنُ شريعته، والوقوفُ على سيرة من جاء بها، وما أيده الله تعالى به من الآيات البينات، فيكمل إيمانها، ويصحُّ إسلامها، وتؤتَى أجرها مرتين، إن كانت من المحسنات في الحالين"[22].
ويقول الأستاذ حسين محمد يوسف: "إنَّ الله تعالى بيَّن العلة في تحريم الزواج بالمشركة بقوله: {أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللهُ يَدْعُواْ إِلَى الجَنَّةِ والمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ}. أي أن المشركة بما نشأت عليه من كفر، وما تعودته من رذائل لانعدام أصل الإيمان في قلبها، ضمينةٌ بأن تؤثِّرَ في زوجها وأولادها، فيجارونها في بعض أحوالها المنافية للإسلام، فيقودهم ذلك إلى النار، في حين أنَّ الله تعالى لا يرضى لعباده الكفر، ولذلك فإنَّه يدعوهم إلى اختيار الزوجة المؤمنة التي تؤسَسُ بها الأسرة على التقوى، في سياج من آداب الإسلام الفاضلة"[23].
7 – الزيادة على الأربع: لقوله تعالى: {فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّن النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ} (النساء/ 3)، ولِما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنّه أمر مَنْ أسلم وتحته أكثرُ من أربع زوجات، بمفارقة ما زاد على الأربع:(97/8)
أ – فعن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أنّ غيلان بن سلمة أسلم وعنده عشر نسوة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((أمسكْ أربعاً، وفارقْ سائَرهنَّ))[24].
ب – عن قيس بن الحارث رضي الله عنه قال: أسلمتُ وعندي ثماني نسوة، فأتيتُ النبي صلى الله عليه وسلم، فذكرت له ذلك، فقال: ((اخترْ منهنَّ أربعاً))[25].
ذات الدين:
2 – أن تكون ذات دين وخلق: لقوله تعالى:
أ – {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ} (الحجرات/ 13).
ب – {وَأَنكِحُواْ الأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} (النور/ 32).
جـ – {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللهُ} (النساء/ 34).
د – {وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} (النور/ 26).
ولما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من الأحاديث الثابتة التالية.
أ – عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((تنكح المرأةُ لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها، فاظفرْ بذات الدين تَرِبتْ يداك))[26].
ب – عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الدنيا متاع، وخيرُ متاعها المرأةُ الصالحة))[27].
جـ – عن سعد بن أبي وقَّاص رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أربعٌ من السعادة: المرأةُ الصالحة، والمسكنُ الواسع، والجارُ الصالح، والمركبُ الهنيء، وأربعٌ من الشقاء: الجارُ السوء، والمرأةُ السوء، والمركبُ السوء، والمسكنُ الضيّق))[28].
د – وعن ثَوبان قال: لما نزل في الفضة والذهب ما نزل، قالوا: فأيُّ المالِ نتخذُ؟؟ فقال صلى الله عليه وسلم: ((لِيتخذْ أحدكم قلباً شاكراً، ولساناً ذاكراً، وزوجةً مؤمنةً تُعينُ أحدَكم على أمرِ الآخرة))[29].(97/9)
(فالدينُ هو العنصُر الأساس في اختيار الزوجة، ذلك أنّ الزوجة سكنٌ لزوجها، وحرثٌ له، وهي مهوى فؤاده، وربَّةُ بيته، وأمُّ أولاده.. عنها يأخذون صفاتهم وطباعهم، فإن لم تكن على قدرٍ عظيمٍ من الدين والخلق؛ فشل الزوج في تكوين أسرةٍ مسلمةٍ صالحة، أمَّا إذا كانت ذاتَ خلقٍ ودين كانت أمينةً على زوجها في ماله وعرضه وشرفه، عفيفةً في نفسها ولسانها، حسنةً لعشرةِ زوجها، فضمنتْ له سعادتَه، ولأولاد تربيةً فاضلة، وللأسرةِ شرفَها وسمعتَها، فاللائقُ بذي المروءة والرأي أن يجعل ذواتِ الدينِ مطمحَ النظر وغايةَ البُغية. لأنَّ جمال الخُلُقِ أبقى من جمال الخَلْقِ، وغنى النفس أولى من غنى المال وأنفس، والعبرةُ العبرةُ في الخصال لا الأشكال، وفي الخِلال لا الأموال.. ومن هنا فضَّل الإِسلام صاحبَة الدين على غيرها، ولو كانت أمةً سوداءَ، (كانت لعبد الله بن رواحة أَمَةٌ سوداءُ، فلطمها في غضب، ثمّ ندم، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال: ما هي يا عبدالله؟ قال: تصومُ وتصلي وتُحسِنُ الوضوء وتشهدُ الشهادتين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((هذه مؤمنة، فقال عبدالله، لأعتقنَّها ولأتزوّجنَّها، ففعل، فطعن عليه ناسٌ من المسلمين وقالوا: نكح أمة، وكانوا يفضَّلون أن ينكِحوا إلى المشركين رغبةً في أحسابهم. فنزل قوله تعالى: {وَلأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ}[30]، وعن أبي بُردة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاثةٌ لهم أجران: رجلٌ من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بمحمد صلى الله عليه وسلم، والعبد المملوك إذا أدَّى حقَّ الله وحقَّ مواليه، ورجلٌ كانت عنده أَمَةٌ فأدَّبها فأحسنَ تأديبها، وعلَّمها فأحسنَ تعليمها، ثم أعتقها، فتزوجها، فله أجران))[31].(97/10)
.. نعم إنَّ المرأة إذا كانت صالحةً مؤمنةً تقيةً ورعة، كانت كبنت خويلد رضي الله عنها، التي آمنت برسول الله صلى الله عليه وسلم إذ كفر الناس، وصدَّقته إذ كذَّبوه، وواسته بمالها إذ حرموه، فكانت خير عونٍ له في تثبيته أمام الصعاب والشدائد.. وكانت كأسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها، مثالِ المرأةِ الحرَّةِ الأبيَّة، التي دفعت بولدها إلى طريق الشهادة، وحرَّضته على الصمود أمام قوى الجبروت والطغيان، ليموت مِيْتةَ الأحرار الكرام.. أو كانت كصفيَّة بنت عبدالمطلب التي دفعت بنفسها إلى غمار الوغى، لتدفع يهود عن أعراض المسلمين.. أو كانت كالخنساء التي جادت بأولادها الأربعة في سبيل الله، وعندما جاءها نبأُ استشهادهم قالت: الحمد لله الذي شرَّفني باستشهادهم وإنّي لأرجو الله أن يجمعني بهم في مستقر رحمته.
الولود:
3 – أن تكون ولوداً:
وذلك لما ورد في الكتاب الكريم والسنة المطهرة، من تحبيب بطلب الذرية الصالحة، وحثٍ على التكاثر في النسل، بما يحقق الغرض الأسمى من الزواج، والمتمثل في استمرار النوع البشري، وإنجاب الذرية، ودوام عمارة الإنسان للأرض، التي هي من الغايات الأساسية التي خلقه الله من أجلها.
ففي القرآن الكريم:
أ – قال تعالى:
{الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً} الكهف/ 46.
ب – وقال:
{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ والْبَنِينَ والقَنَاطِيرِ المُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ المُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ والحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيِا واللهُ عِندَهُ حُسْنُ المَئَابِ} آل عمران/ 14.
جـ – وحكى سبحانه على لسان زكريا عليه السلام، أنَّه كان يتوجه إلى ربِّه بهذا الدعاء:(97/11)
{رَبِّ إِنِّي وَهَنَ العَظْمُ مِني واشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا، وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالَيِ مِن وَرَاءِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ ليِ مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا، يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ ءَالِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلهُ رَبِّ رَضِيًّا} مريم/ 4 – 6.
د – وقال على لسان إبراهيم:
{رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ} إبراهيم/ 40.
هـ – وذكر أنّ طلب الذرية الصالحة من أُمنيات المؤمنين، بل هو صفة من صفاتهم.
{وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْينٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} الفرقان/ 74.
و – وحتى الملائكة، إذا أرادت الاستغفار للمؤمن، استغفرت له ولزوجه ولأولاده، وهذا فضل من أفضال الله على عباده المؤمنين:
{الَّذِينَ يَحْمِلُونَ العَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَىْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُواْ وَاتَّبَعُواْ سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدتَّهُمْ وَمَن صَلَحَ مِنْ ءَابَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ} غافر/ 7 – 8.
فقد بيَّنت الآيات الكريمات أنَّ البنين من مُتَعِ الحياة الدنيا وزينتها، وأنَّ طلب النسل من الأمور التي حبَّبها الله إلى خلقه، وطبعهم على ابتغائه، وجعله جِبلَّةً فِطريةً فيهم، كما وجعله أمنيةً أجراها على لسان رسله وأنبيائه، وبغيةً للمؤمنين يحرصون على إدامة الدعاء في طلبها.(97/12)
وفي السنة المطهرة: عن معقل بن يسار قال: "قال جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنّي أصبتُ أمرأة ذاتَ حسب وجمال، وإنَّها لا تلد، أفأتزوجُها؟؟ قال: لا، ثم أتاه الثانية، فنهان، ثما أتاه الثالثةَ، فقال: ((تزوَّجوا الودودَ الولودَ، فإنّي مكاثرٌ بكم الأمم))"[32].
وتُعرَفُ الولود بالنظر إلى حالها من كمال جسمها وسلامة صحتها من الأمراض التي تمنع الحمل أو الولادة، وبالنظر إلى حال أمها، وقياسها على مثيلاتها من أخواتها وعمَّاتها وخالاتها المتزوجات، فإن كُنَّ ممن عادتهن الحمل والولادة كانت – في غالب أمرها – مثلَهن.
الودود:
4 – أن تكون ودوداً، تقبل على زوجها، فتحيطه بالمودة والحب والرعاية، وتحرص على طاعته ومرضاته، ليتحقّق بها الهدف الأساسي من الزواج وهو السكن.
قال تعالى في وصف الحور العين:
{فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً، عُرُباً أَتْرَاباً} الواقعة/ 36 – 37، والعروب هي المرأة المتحبِّبة إلى زوجها الودودة، وقد وردت أحاديث عديدة تؤكد على ضرورة مراعاة هذه الصفة في المرأة.
أ – فعن معقل بن يسار، أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((تزوَّجوا الودودَ الولودَ، فإنّي مكاثرٌ بكم الأمم))[33].
ب – وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((نساءُ قريش خيرُ نساءٍ ركبن الإِبلَ: أحناه على طفلٍ في صغره، وأرعاه على زوج في ذات يده))، وفي رواية: ((خيرُ نساءٍ ركبنَ الإِبلَ صالحُ نساء قريش..))[34]، فقد وصفهنَّ صلى الله عليه وسلم بالشفقة على أطفالهنَّ، والرأفةِ بهم والعطفِ عليهم، وبأنَّهنَّ يراعين حالَ أزواجهنَّ، ويرفقنَ بهم ويخففنَ الكُلَفُ عنهم، فواحدتُهنَّ تحفظ مال زوجها وتصونه بالأمانة والبعدِ عن التبذير، وإذا افتقر كانت عوناً له وسنداً، لا عدوًّا وخصماً.(97/13)
جـ – وعن أبي أُذينة الصدفي أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((خيرُ نسائكم الودودُ الولودُ، المواتيةُ، المواسيةُ، إذا اتقينَ الله))[35].
د – وعن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا ينظرُ الله إلى امرأةٍ لا تشكرُ لزوجها، وهي لا تستغني عنه))[36].
هـ – والمرأة الودود تكون مطيعة لزوجها، لا تخالفه في نفسها ولا مالها بما يكره.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أيُّ النساءِ خير؟ قال: ((التي تسرّه إذا نظر، وتطيعه إذا أمر، ولا تخالفه في نفسها ولا مالها بما يكره))[37].
والودود هي المرأة التي يُعْهَدُ منها، التودّدُ إلى زوجها، والتحبّبُ إليه، وبذلُ ما بوسعها من أجل مرضاته، لذا تكون معروفةً باعتدال المزاج، وهدوء الأعصاب، بعيدةً عن الانحرافات النفسية والعصبية، تقدر على الحنو على ولدها، ورعاية حقّ زوجها. أمّا إذا لم تكن المرأة كذلك، كثر نشوزها، وترفَّعتْ على زوجها، وصعب قيادها لشراسة خلقها، مما يفسد الحياة الزوجية بل ويدمرها، بعد استحالة تحقّق السكن النفسي والروحي للزواج بسببها.
البكر:
5 – أن تكون بكراً، لتكون المحبة بينهما أقوى والصلة أوثق، إذ البِكرُ مجبولةٌ على الأُنس بأول أَليفٍ لها، وهذا يحمي الأسرة من كثير مما يُنغّصُ عليها عيشها، ويُكدّر صفوها، وبذا نفهم السرَّ الإِلهي في جعل نساء الجنة أبكاراً، في قوله تعالى:
{إنا أنشئناهن إنشاء، فجعلناهن أبكارا، عربا أترابا} (الواقعة/ 35 – 37).
وقد وردت في الحثّ على انتقاء البِكر أحاديث كثيرة، منها:(97/14)
أ – عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه، قال: تزوَّجتُ امرأةً في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلقيتُ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا جابر، تزوجتَ؟ قلتُ: نعم، قال: بِكراً أم ثيِّباً؟ قلت: ثيِّباً، قال: ((فهلاَّ بكراً تلاعبها وتلاعبك)) وفي رواية لمسلم: قال: ((فأين من العذاري ولِعابها؟؟))، وفي رواية للبخاري قال: ((فهلاَّ جاريةً تلاعبك؟؟)) قلت: يا رسول الله، إنَّ أبي قُتِلَ يومَ أُحد، وترك تسع بنات، كُنَّ لي تسعَ أخوات، فكرهتُ أن أجمع إليهن جاريةً خرقَاء مثلَهنَّ، ولكن امرأة تمشطهنَّ وتقوم عليهنَّ، قال: ((أصبت))[38].
ب – عن عبدالرحمن بن سالم بن عتبة عن أبيه عن جده، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((عليكم بالأبكار فإنَّهنَّ أعذبُ أفواهاً، وأنتقُ أرحاماً، وأرضى باليسير))[39].
جـ – وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت يا رسولَ الله، أرأيتَ لو نزلتَ وادياً فيه شجرٌ قد أُكِلَ منها، ووجدتَ شجراً لم يؤكل منها، في أيَّها كنتَ تُرتِعُ بعيرك؟ قال: في التي لم يُرتَعُ منها، يعني: أنّ النبي لم يتزوج بكراً غيرها[40].
ومن المعلوم أنَّ في زواج البكر من الألفة التامة، لما جُبلت عليه من الأُنس بأول إنسان تكون في عصمته، بخلاف الثيّب التي قد تظلُّ متعلقةَ القلب بالزوج الأول، فلا تكون محبتها كاملة، ولا مودتها صادقة، مما يدفعها أحياناً إلى النفور من الأخير، أو الفتور في معاملته.
وقد ذكرت الأحاديث التي سقناها مجموعة من الصفات التي تتميز بها البكر، منها:
1 - كثرة ملاطفتها لزوجها، وملاعبتها له، ومرحها معه.
2 - عذوبة ريقها، وطيب فمها، بما يحقّق لزوجها متعةً عظيمة حين معاشرتها، كما أنَّ عذوبة الأفواه تفيد حسن كلامها، وقلة بذائها وفحشها مع زوجها، وذلك لكثرة حيائها، لأنها لم تخالط زوجاً قبله.
3 - كونها ولوداً، حيثُ لم يسبق لها الحمل والولادة.(97/15)
4 - رضاها باليسير، من الجماع والمال والمؤنة ونحو ذلك، لكونها – بسبب حداثة سنها – أقلَّ طمعاً، وأسرعَ قناعةً، فلا ترهق زوجها ما لا يطيق لكثرة مطالبها.
5 - كونها أقلَّ خبَّاً، أي مكراً وخداعاً، لما جبلت عليه من براءة القصد، وسذاجة الفكر.. فهي – في الغالب – غُفْلٌ لا تزال على فطرتها، لا تعرف حيلة، ولا تحسن مكراً.
ومع كلّ، فإنه يجوز للرجل اختيار الثيّب إذا توفَّر لديه من الأسباب ما يدعوه إلى ذلك، قال صاحب عون المعبود في التعليق على حديث جابر: "وفيه دليل على استحباب نكاح الأبكار، إلاَّ المقتضي لنكاح الثيّب، كما وقع لجابر، فجابر مات أبوه وترك له تسع أخوات يتيمات، يحتجنَ منه إلى رعاية وعطف وخدمة، فكان من الموائم له أن يتزوج ثيِّباً، تقوم على أمرهنَّ وتعنى بشأنهنَّ". (عون المعبود 6/ 44).
الجمال:
6 – أن تكون جميلة، حسنة الوجه، لتحصل بها للزوج العِفَّة، ويتمَّ الإِحسان، وتسعد النفس، ومن هنا كانت نساء الجنة، اللاتي جعلهن الله تعالى جزاءً للمؤمنين المتقين، من الحور العِيْنِ، قال تعالى:
{إِنَّ المُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ، فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ وإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ، كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ} (الدخان/ 51 – 54).
وقال عنهنّ القرآن في آية أخرى:
{وحُورٌ عِينٌ، كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ المَكْنُونِ} (الواقعة/ 22 – 23).(97/16)
والحُور: جمع حوراء، وهي البيضاء، قال مجاهد: "سميت الحوراء حوراء لأنه يحار الطرفُ في حسنها، وقيل: هي من حَوَرِ العين: وهي شدّة بياضها في شدّة سوادها، وقال أبو عمرو بن العلاء: الحَوَرُ أن تسودَّ العينُ كلها، مثل أعين الظباء والبقر، وليس في بني آدم حَوَر، وإنَّما قيل للنساء حور لأنهنَّ شُبَّهنَ بالظباء والبقر، أمّا العِين: فجمع عيناء، وهي الواسعة العين. واللؤلؤ المكنون الذي شبههنّ به في الآية الثانية، هو اللؤلؤ المصون الذي لم يتعرض للّمس والنظر، فلم تثقفه يد، ولم تخدشه عين، وفي هذا – كما يقول سيد قطب – كناية عن معان حسيّة ونفسية لطيفة في هؤلاء الحور الواسعات العيون"[41].
وقد أشارت بعض الأحاديث النبوية الشريفة إلى اعتبار عنصر الجمال في المرأة عند الاختيار:
أ – عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أي النساء خير؟ قال: ((خير النساء التي تسره إذا نظر، وتطيعه إذا أمر، ولا تخالفه في نفسها ومالها بما يكره))[42].
ب – وعن أبي هريرة أيضاً، أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تَرِبتْ يداك))[43].
جـ – وعنه أيضاً، قال: كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتاه رجل فأخبره أنَّه تزوَّج امرأةً من الأنصار، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أنظرتَ إليها؟ قال: لا، قال: فاذهبْ، فانظرْ إليها، فإنَّ في أعينِ الأنصار شيئاً))[44].
قال صاحب عون المعبود: "يؤخذ من الأحاديث استحبابُ تزوّجِ الجميلة، إلاَّ إذا كانت الجميلة غيرَ ديّنة، والتي أدنى منها جمالاً متديّنة، فتقدَّمُ ذات الدين، أمَّا إذا تساوتا في الدين فالجميلة أولى"[45].
وفي ذلك يُروى عن أكثم بن صيفي أنه قال لبنيه: (يا بَنيَّ، لا يغلبنَّكم جمالُ النساءِ على صراحة النسب، فإنَّ المناكح الكريمة مدرجة للشرف)[46].(97/17)
فالجمال بالنسبة للمرأة ما لم يكن محصَّناً بالنشأة الدينية والتربية القويمة والأصل العريق، قد يصبح وبالاً عليها، إذ يغري الفساق بالطمع فيها، ويهوِّنُ عليها التفريط بشرفها، مما يؤدي بها إلى التردي في هوّة الفاحشة، دون مبالاة بما يعود على الأسرة من دمار، وما يلوّث من عار وشنار.
الحسب:
7 – أن تكون حسيبةً، كريمةَ العنصر، طيبةَ الأرومة، من حرائر النساء: لأن الغالب فيمن اتصفت بذلك، أن تكون حميدةَ الطباع، ودودةً للزوج، رحيمةً بالولد، حريصةً على صلاح الأسرة وصيانة شرف البيت، وفي كلّ الأحوال فإنَّ أصالة الشرف وحسن المنبت ونُبل الأرومة أمرٌ مرغوب ومطلبٌ محمود.
أ – عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها..))[47].
ب – وعنه أيضاً أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((خير نساء ركبن الإِبل صالح نساء قريش: أحناه على ولد في صغره، وأرعاه على زوج في ذات يده))[48].
ج – وعن أنس بن مالك رضي الله عنه، أنّه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من أراد أن يلقى الله طاهراً مُطهَّراً فليتزوج الحرائر))[49].
د – وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تخيَّروا لنطفكم، وانكحوا الأكفاء))[50] والحسبُ هو الشرف بالآباء والأقارب، مأخوذ من الحِساب، لأنهم كانوا إذا تفاخروا، عدَّدوا مناقَبهم ومآثَر آبائهم وقومهم وحسبوها، فيُحَكُم لمن زاد عدده على غيره. ويؤخذ من الأحاديث المذكورة أنّ الشريف النسيب يستحبُّ له أن يتزوج بذات حسب ونسب مثله، إلاّ أن تعارض نسيبة غير ديّنة وغير نسيبة ديّنة، فتقدّم ذات الدين، وهكذا في كلّ الصفات[51]. وقد مرَّ قولُ أكثم بن صيفي: (فإنَّ المناكحَ الكريمةَ مدرجةً للشرف).(97/18)
وبدهيٌ أنّ الرجل إذا تزوَّج المرأة الحسيبة المنحدرة من أصل كريم، أنجبت له أولاداً مفطورين على معالي الأمور، متطبّعين بعاداتٍ أصيلة وأخلاقٍ قويمة. لأنهم سيرضعون منها لِبانَ المكارم، ويكتسبون خصالَ الخير.
أمَّا أهلُ الدنيا فإنَّهم يجعلون المالَ حسبهم الذي يسعون إليه، ففضائلهم التي يرغبون فيها ويميلون إليها ويعتمدون عليها في النكاح وغيره المالُ، لا يعرفون شرفاً آخَر مساوياً له، بل مدانياً إيَّاه، فصحابُ المال فيهم عزيزٌ كيفما كان، والمقلُّ عندهم وضيع ولو كان ذا نسب رفيع.
هـ – فعن أبي بريدة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ أحسابَ أهل الدنيا الذين يذهبون إليها المال))[52].
والحقّ الذي ينبغي أن يُصار إليه، أن حسب المرء لا يكون بكثرة ماله ووَفرة رِعائه، بل بنبالة أصله وشرف محتده.
السلامه من العيب:
8 – أن تكون سليمةً من العيوب المنفرة والأمراض السارية والعلل المعدية.
أ – عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يُورِدونَّ مُمْرِضٌ على مُصحّ))[53].
ب – وعنه أيضاً قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فِرَّ من المجذوم كما تفرُّ من الأسد))[54].
ج – وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا ضررَ ولا ضِرار))[55].
وقد ذكر العلماء عدداً من العيوب التي يُفسخُ بها الزوج، كالجَبّ، والعُنَّة، والجنون، والبَرَص، والجُذَام، والقَرَن (انسداد الفرج)، والفَتَق (انخراق ما بين السبيلين)، والنَتَن (في الفرج والفم)..(97/19)
قال ابن القيم رحمه الله: "إنَّ كلَّ عيبٍ يُنفِّرُ أحدَ الزوجين من الآخر، ولا يحصل به مقصودُ النكاح من الرحمة والمودة، يوجب الخيار.. أمَّا الاقتصار على عيبين أو ستة أو سبعة أو ثمانية، دون ما هو أولى منها، او مساو لها، فلا وجه له، فالعمى والخرس والطرش وكونها مقطوعة اليدين أو الرجلين أو إحداهما، من أعظم المنفرات، والسكوت عنه من أقبح التدليس والغش، وهو مناف للدين، والإِطلاق إنَّما ينصرف إلى السلامة، فهو كالمشروع عرفاً"[56].
د – وروي عن عمر رضي الله عنه أنّه قال: "أيُّما امرأةٍ غَرَّ بها رجل، بها جنونٌ أو جذامٌ أو بَرَصٌ، فلها المهرُ بما أصاب منها، وصَداقُ الرجل على مَنْ غرَّه"[57].
وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنّه قال: "أيُّما امرةٍ نكحت، وبها بَرَصٌ أو جُذامٌ أو جُنون أو قَرَن، فزوجُها بالخيار ما لم يمسَّها، إنْ شاء أمسك، وإنْ شاء طلّق، وإن مسَّها فلها المَهْرُ بما استحلَّ من فرجها"[58].
قال مالك: "وإنَّما يكونُ ذلك غُرْماً على وليها لزوجها، إذا كان وليُّها الذي أنكحها هو أبوها أو أخوها أو من يرى أنّه يعلم ذلك منها، أمَّا إذا كان وليها الذي أنكحها ابنَ عمٍ أو ابنَ العشيرةِ ممن يُرى أنَّه لا يعلم ذلك منها، فليس عليه غرم، وتردُّ تلك المرأةُ ما أخذته من صَداقها، ويتركُ لها قَدْرَ ما تُسْتَحلُّ به"[59].
العفّة والاحتشام:
9 – أن تكون عفيفةً محتشمة، ذاتَ أخلاق فاضلة، لا يُعْرَف عنها سفورٌ أو تبرج، بحيثُ لا يحجزها حياؤها عن إبراز مفاتن جسدها أمامَ كلِّ ناظر:(97/20)
أ – عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((صنفان من أهلِ النار لم أرهما: قومٌ معهم سياطٌ كأذناب البقر يضربون بها الناس (إشارة إلى الحكام الظلمة)، ونساءٌ كاسياتٌ عاريات، مميلاتٌ مائلات، رؤوسهنَّ كأسنمة البُخْتِ المائلة. لا يدخلنَ الجنةَ، ولا يجدنَ ريحَها، وإنَّ ريحَها لتوجدُ من مسيرة كذا وكذا))[60].
ب – عن أبي أذينة الصدفي رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((شرُّ نسائكم المُتبِّرجات المُتخيِّلات، وهنَّ المنافقات، لا يدخلُ الجنةَ منهنَّ إلاَّ مثلُ الغرابِ الأعصم))[61].
ج – وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ((إن عندي امرأة هي من أحبّ الناس إليّ، وهي لا تردُّ يدَ لامس، قال: طلِّقها، قال: لا أصبرُ عنها، قال: استمتع بها))[62].
ومن مظاهر حشمة المرأة وصونها وعدم ابتذالها:
1 – عدم إكثارها الخروج من بيتها، وتجوالها بين الرجال في الأسواق ومجامع الطرق فعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((المرأةُ عورةٌ، فإذا خرجتْ استشرفها الشيطانُ))[63]، واستشرفها: أي تعرَّض لها واطلَّع عليها ينظر إليها يحاول غوايتها.
2 – عدم اعتراضها الرجال مستعطرةً، فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((إن المرأة إذا استعطرت فمرَّتْ على القومِ ليجدوا ريحها، فهي كذا وكذا، يعني زانية))[64].
3 – أن لا تتشبه بالرجال في لبسها أو حركتها: فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجلَ الذي يلبس لِبْسةَ المرأة، والمرأةَ تلبس لِبْسَةَ الرجل"[65].(97/21)
وعن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما قال: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال، وقال: أخرجوهم من بيوتكم، فأخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فلانة، وأخرج عمر فلاناً"[66].
4 – أن لا تكون ممن يلبس ثياب شهرة: فعن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ لبس ثوبَ شُهرة ألبسه الله إيَّاه يومَ القيامةِ، ثمّ ألهبَ فيه النار، ومن تشبه بقوم فهو منهم))[67].
5 – أن لا تكون ممن يتزيّنَ بالوشم أو الوصل أو تفليج الأسنان:
عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما: (أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن الواصلةَ والمستوصلةَ، والواشمةَ والمستوشمة)[68]، وعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلعن المُتنمِّصات، والمتفلِّجات، والمستوشمات، اللاتي يُغيِّرنَ خلق الله تعالى"[69].
الغَيراء:
10 – أن لا تكون غيراء، والغَيْرةُ موجودة في غالب النساء، إلاَّ أنَّ المذموم منها تلك التي تتأجَّجُ في صدر صاحبتها ناراً تُشعِلُ جيوشَ الظنون والشكوك كلَّ آن فتحيلَ حياة الأسرة جحيماً لا يطاق:
أ – عن أنس بن مالك رضي الله عنه قالوا: يا رسول الله، ألا تتزوّج من نساء الأنصار؟ قال: ((إنَّ فيهم لغَيْرةً شديدة))[70].(97/22)
ب – ولذلك لم يتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أمَّ سَلَمة رضي الله عنها، إلاَّ بعد أن دعا أن يُذهِبَ الله غيرتها، عن أمّ سلمة قالت: لمّا توفّي أبو سلمة، استرجعتُ وقلت: اللهمَّ أجرني في مصيبتي واخلفني خيراً منه، ثم رجعت إلى نفسي، قلت: من أين لي خير من أبي سلمة؟ فلما انقضت عِدَّتي استأذن عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا أدبغُ إهاباً لي، فغسلت يدي من القَرَظِ (ما يُدبَغُ به) وأذِنتُ له، فوضعت له وسادة أدمٍ حشوها ليف، فقعد عليها، فخطبني إلى نفسي، فلما فرغ من مقالته، قلت: يا رسولَ الله، ما بي أن لا تكونَ بك الرغبةُ فيَّ، ولكني امرأة فيَّ غَيْرة شديدة، فأخاف أن ترى مني شيئاً يُعذِّبني الله به، وأنا امرأة قد دخلت فيَّ السنُّ، وأنا ذات عيال، فقال: ((أمّا ما ذكرتِ من غَيرتك فسوف يُذهبها الله عزَّ وجلَّ عنك (وفي رواية النسائي، فأدعو الله عزّ وجلّ فيُذهِبَ غيرتك)، وأما ما ذكرتِ من السنّ فقد أصابني مثلُ الذي أصابك، وأما ما ذكرتِ من العيال فإنَّما عيالك عيالي)): قالت: فقد سلَّمتُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتزوجها. قالت أمُّ سلمة: فقد أبدلني الله بأبي سلمة خيراً منه رسول الله صلى الله عليه وسلم)[71].
ج – أمّا الغيرة المعتدلة التي لا تتسلط على صاحبتها، فهي مقبولة بل وقد تُستملَح أحياناً:(97/23)
فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عند بعض نسائه (وفي رواية عائشة)، فأرسلت إليه إحدى أُمهات المؤمنين (في رواية أم سلمة، وفي أخرى صفية) بصَحفة فيها طعام، فضربت التي هو في بيتها يد الخادم، فسقطت الصحفةُ، فانفلقتْ، فجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم فِلَقَ الصحفة، ثم جعل يجمع فيها الطعام الذي كان في الصحفة، ويقول: ((غارتْ أُمُّكم، غارتْ أُمُّكم)) ثم حبس الخادم، حتى أُتي بصحفة من عند التي هو في بيتها، فدفعها إلى التي كُسرت صحفتها، وأمسك المسكورة في بيت التي كسرتها)[72].
د – أما الغيرة المحمودة، فهي التي تكون إذا ما ارتُكبتْ محارم الله:
عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إنَّ الله يغار، وإنَّ المؤمن يغار، وإنَّ غيرةَ الله أن يأتي المؤمنُ ما حرَّم الله عليه))[73].
مخطوبة الغير:
11 – أن لا تكون مخطوبةَ غيره: فقد نهى الشارع الحكيم أن يخطب الرجل على خطبة أخيه، لما في ذلك من توريث العداوات، وإثارة الإحن، وتأجيج الأحقاد بين الناس:
أ – عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إيَّاكم والظنَّ، فإنَّ الظنَّ أكذُب الحديث، ولا تجسَّسوا، ولا تحسّسوا، ولا تباغضوا، وكونوا عبادَ اللهِ إخوانا))[74].
ب – وعن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخطب الرجل على خطبةِ أخيه، حتى يترك الخاطب قبله، أو يأذنَ له"[75].
ج – وعنه أيضاً، أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يخطبُ أحدُكم على خِطبة أخيه، ولا يبع على بيع أخيه إلاَّ بإذنه))[76].
د – وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يخطب الرجل على خِطبة أخيه حتى ينْكِح أو يترك))[77].(97/24)
قال الإمام مالك: "وتفسير قوله ((لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه)): أن يخطب الرجل المرأة، فتركن إليه، ويتفقان على صداق واحد معلوم، وقد تراضيا، فهي تشترط عليه لنفسها، فتلك التي نهى أن يخطبها الرجل على خطبة أخيه، ولم يعن بذلك إذا خطب الرجل المرأة، فلم يوافقها أمره، ولم تركَنْ إليه، أن لا يخطبها أحد"[78].
وقد استدلَّ بعضُ الفقهاء على أنَّ تحريم خِطبة الرجل على خِطبة أخيه مشروطٌ بحصول التراضي مع الأول وتسمية المهر، بحديث فاطمة بنت قيس، حيثُ قالتْ: (فلمَّا حللتُ (من العِدَّة) ذكرتُ له (لرسول الله) أنَّ معاوية بن أبي سفيان وأبا جهم خطباني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أمَّا أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه، وأمَّا معاوية صُعلوك لا مالَ له، انكِحي أسامةَ بنَ زيد، فكرهتُه، ثم قال: انكحي أسامة، فنكحتُه))[79]، وحجَّتُهم أن، النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكرْ خِطبةَ بعضهم على بعض، بل خطبها لأسامة[80]. أما إذا خطب الأول، وأُجيب طلبُه، فقد أجمع الفقهاء على تحريم الخِطبة على خطبته، فإذا خطب الثاني ولم يدخل وجب فسخُ الخطبة، فإن دخل بها صحَّ زواجه، وكان آثماً[81]. أمَّا إذا كان الأول فاسقاً، فقد أجاز بعضُ الفقهاء خِطبة الرجل على خطبته، وقالوا: لا تحرم، ولو رَكَنَتْ إليه، لأنَّ درءَ المفسدةِ المترتبةِ على وقوعها في عصمة الفاسق مُقدَّمٌ على المفنعة المتوقعة من زواجها به ونقل الحافظ في الفتح (9/ 200) عن ابن القاسم صاحب مالك قوله: إنَّ الخاطب الأول إذا كان فاسقاً، جاز للعفيف أن يخطب على خطبته، ثم قال الحافظ رحمه الله: "وهو مُتَّجِهٌ فيما إذا كانت المخطوبة عفيفة، فيكون الفاسق غير كفء لها، فتكون خطبته كلا خطبة، وقال: وقد رجَّح قولَ ابن القاسم ابنُ العربي، أمّا الجمهور لم يعتبروا ذلك إذا صدرت منها علامة القبول، بل وأطلق بعضهم الإِجماع على خلافه".
خفّة المهر:(97/25)
12 – أن تكون يسيرة المهر: فقد فرض الشارع المهر للزوجة منحةَ تقدير تحفظ عليها حياءها وخفرها، وتعبيراً عن إكرام الزوج لها ورغبته فيها، إلاَّ أنَّه – من جانب آخر – حثَّ على يُسره وخِفَّته.
أ – عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((خيرُ النكاحِ أيسرُه))[82].
ب – عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إنَّي تزوجتُ امرأةً من الأنصار، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: هل نظرتَ إليها؟ فإنَّ في أعين الأنصار شيئاً، قال: قد نظرتُ إليها، قال: على كم تزوجتَها؟ قال: على أربع أواق، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((على أربع أواق، كأنَّما تنحِتون الفِضَّةَ من عُرْضِ هذا الجبل، ما عندنا ما نعطيك، ولكن عسى أن نبعثَك في بَعْثٍ تصيبُ منه..))"[83].
ج – عن عائشة رضي الله عنها أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إنَّ من يُمْنِ المرأةِ: تيسيرَ خِطبتها، وتيسيرَ صداقها، وتيسيرَ رحمها. قال عروة: يعني تيسير رحمها للولادة))[84].(97/26)
د – عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: (جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسولَ الله، جئتُ أهَبُ نفسي لك، فنظر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصعَّدَ النظَر فيها وصوَّبه، ثم طأطأ رأسه، فلما رأت المرأةُ أنَّه لم يقضِ فيها شيئاً جلستْ، فقام رجلٌ من أصحابه فقال: يا رسولَ الله، إنْ لم تكنْ لك بها حاجة، فزوجنيها، فقال: فهل عندك من شيء؟ فقال: لا واللهِ يا رسولَ الله، فقال: اذهبْ إلى أهلك فانظرْ هل تجد شيئاً؟ فذهب ثم رجع فقال: لا واللهِ ما وجدت شيئاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: انظر ولو خاتماً من حديد فذهب ثم رجع فقال: لا والله يا رسول الله ولا خاتماً من حديد، ولكن هذا إزاري فلها نِصفُه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما تصنُع بإزارك؟ إنْ لبستَه لم يكنْ عليها من شيء، وإن لبسَتْه لم يكن عليك منه شيء، فجلس الرجل حتى إذا طال مجلسه قام، فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم مولّياً، فأمر به فدُعِي، فلما جاء قال: ماذا معك من القرآن؟ قال: معي سورة كذا وسورة كذا، قال: تقرؤهنّ عن ظهر قلبك؟ قال: نعم، قال: اذهب فقد ملكتُكها بما معك من القرآن)[85].
هـ – عن أنس بن مالك رضي الله عنه (أنّ النبي صلى الله عليه وسلم رأى على عبدالرحمن ابن عوف أثر صُفرةٍ، فقال: ما هذا؟ قال: يا رسول الله إنّي تزوجتُ امرأة من الأنصار، قال: كم سقتَ إليها؟ قال: زِنَة نواةٍ من ذهب، قال: بارك الله لك، أولمْ ولو بشاة)[86]، وفي رواية البيهقي: (على وزن نواة من ذهب، قوّمت خمسة دراهم).
و – عن أبي العجفاء السلمي قال: "خطبنا عُمر يوماً، فقال: ألا لا تغالوا في صَدَقَاتِ النساء، فإنَّ ذلك لو كان مكُرمةً في الدنيا وتقوى عند الله، كان أولاكم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما أصدق رسولُ الله صلى الله عليه وسلم امرأةً من نسائه، ولا أُصدِقتْ امرأةٌ من بناته، أكثرَ من ثنتي عشرة أُوقيَّة"[87].(97/27)
ز – عن أبي سلمة بن عبدالرحمن قال: "سألتُ عائشة رضي الله عنها: كم كان صَداق رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: كان صداقه لأزواجه ثنتي عشرة أُوقيَّة ونشَّاً، قالت: أتدري ما النَّشُّ؟ قلت: لا، قالت: نِصف أُوقيَّة، فذلك خمس مئة درهم"[88].
ح – عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما قال: "لمّا تزوّج علي بفاطمة رضي الله عنهما وأراد أن يدخل بها، قال له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((أعطها شيئاً))، قال: ما عندي شيء، قال: ((أين درعُك الحُطَميَّة؟)) فأعطاها درعه"[89].
ط – عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "تزوَّج أبو طلحة أم سُليم، فكان صَداق ما بينهما الإِسلام، أسلمتْ أمُ سُليم قبل أبي طلحة، فخطبها، فقالت: إنّي قد أسلمت، فإن أسلمتَ نكحتُك، فأسلم، فكان صداق ما بينهما"[90].
يتبين لنا – مما سبقنا من أحاديث شريفة – أنَّ السنة في عدم التغالي في الصَّداق، بل إنَّ خَيره أيسرهُ، وأفضله ما كان موافقاً صداق نساء النبي صلى الله عليه وسلم وبناته الأطهار، وهو ما يعادل خمس مئة درهم، هذا بالنسبة للقادر المستطيع، أمّا الفقير الضعيف الحال فالأولى أن يكون أقلُّ من ذلك بكثير، فقد زوّج النبي صلى الله عليه وسلم ابنته لعلي، وطلب إليه – لما علم رقَّةَ حاله – أن يُصدِقها درعه الحُطميَّة، كما زوّج عليه الصلاة والسلام المرأة التي وهبت نفسها له من الصحابي الفقير، وجعل صداقها ما يحفظ من القرآن، وتزوّجت أم سليم أبا طلحة، وجعلا صداقَ ما بينهما إسلامَه، كما تزوّج عبدالرحمن بن عوف بزِنة نواةٍ من ذهب، وقال الخطَّابي: النواةُ اسم لقدرٍ معروف عندهم، فسَّروها بخمسة دراهم من ذهب، وقال أبو عبيد: إنَّ أبا عبيدة دفع خمسة دراهم تُسمى نواة، كما تُسمى الأربعون درهماً أوقيَّة[91]. وقد أنكر عليه السلام على الذي أصدق الأنصارية أربع أواق فضة، وحاله لا تساعدُه على ذلك، وقال له: كأنَّما تنحِتون الفِضَّةَ من عُرْضِ هذا الجبل.(97/28)
قال ابن القيم في (زاد المعاد 5/ 178): (تضمنت الأحاديث أنّ الصَّداق لا يتقدَّر أقلُّه، وأنَّ المغالاة في المهر مكروهة في النكاح، وأنّها من قِلَّة بركته وعُسره، وأنَّ المرأة إذا رضيت بعلمِ الزوج وحفظهِ للقرآن أو بعضِه مهرَها جاز ذلك، بل إنْ رضيتْ بالعلم والدين وإسلام الزوج وقراءته القرآن، كان من أفضل المهور وأنفعها وأجلّها.
وقال بعضهم: لا يكون الصَّداق إلاَّ مالاً، ولا يكون منافع أخرى، ثم جعلوا لأقلِّه حَّداً، فقال أبو حنيفة، لا يكون أقلَّ من عشرة دراهم، وقال مالك: لا يكون أقلَّ من رُبع دينار (أو ثلاثة دراهم)، وهي أقوال لا دليل عليها من كتاب ولا سنة ولا قياس ولا قول صاحب، وقد زوَّج سعيدُ بن المسيب ابنته على درهمين، وتزوَّج ابنُ عوف على خمسة دراهم، وأقرَّه النبي صلى الله عليه وسلم، ولا سبيل إلى إثبات المقادير إلاَّ من جهة صاحب الشرع).
ونقل الحافظ ابن حجر في (الفتح 9/ 209) قولَ ابن المنذر تعليقاً على حديث ((التمس ولو خاتماً من حديد)) (فيه ردٌ على من زعم أنَّ أقلَّ المهرِ عشرةُ دراهم، وكذا من قال ربع دينار، قال: لأنَّ خاتماً من حديد لا يساوي ذلك) ثم نقل رحمه الله قول ابن العربي من المالكية: (لا شكَّ أنَّ خاتم الحديد لا يساوي ربع دينار) (الفتح 9/ 211).
أمّا ما يُروى من قصة المرأة التي ردَّت على عمر بن الخطاب، حين دعا إلى عدم التغالي في المهور، بقوله تعالى:
{وَءَاتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً}.(97/29)
ونصُّها: (عن مجالد بن سعيد عن الشعبي قال: خطب عُمر بن الخطّاب رضي الله عنه الناسَ، فحمِد الله وأثنى عليه، وقال: ألا لا تغالوا في صُدُقِ النساء. فإنَّه لا يبلغني عن أحدٍ ساق أكثر من شيءٍ ساقَه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، أو سيق إليه، إلاَّ جعلتُ فضلَ ذلك في بيت المال، ثم نزل، فعرضت له امرأة من قريش، فقالت: يا أميرَ المؤمنين، كتاب الله أحقُّ أن يُتبَّع أو قولك؟ قال: بل كتاب الله عزّ وجلّ، فما ذلك؟ قالت: نهيتَ الناسَ آنِفاً أن يغالوا في صُدُق النساء، والله عزَّ وجلَّ يقول:
{ وَءَاتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً}.
فقال عمر: كلُّ أحدٍ أفقهُ من عمر – مرتين أو ثلاثاً – ثم رجع إلى المنبر، فقال للناس: إنّي نهيتُكم أن تغالوا في صُدُق النساء، ألا فليفعل رجلٌ في ماله ما بدا له)[92]. فهذه القصة غير ثابتةَ عن عمر رضي الله عنه، لأنَّ في سندها علتين: الأولى = الانقطاع، لأنَّ الشعبي لم يدرك عمر، حيث ولد لستٍ خلونَ من خلافته.(97/30)
والثانية = الضعف، من أجل مجالد بن سعيد، إذا ضعَّفه البخاري والنسائي والدارقطني وابن عدي وابن معين والحافظ في (التقريب)، هذا بالإضافة إلى نكارة المتن: إذ تخالفُ ما صحَّ عن عمرَ من أنَّه نهى عن المغالاة في المهور – كما ذكرنا فيّ ((و)) – أولاً، ولمخالفتها ما صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحثّ على عدم المغالاة فيها، وأمره بتيسير الصَّداق ثانياً، ولمخالفتها معنى الآية التي استشهدت بها المرأة، قال القرطبي: (لا تعطي الآية جواز المغالاة، لأنّ التمثيل بالقنطار، إنَّما هو على جهة المبالغة، كأنَّه قال: وآتيتم هذا القدر العظيم الذي لا يؤتيه أحد، وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم: ((من بنى لله مسجداً، ولو كمفحص قطاة)) ومعلوم أنَّه لا يكون مسجد كمَفْحَصِ قطاة)، ونقل أبو حيَّان عن الفخر الرازي قوله: (لا دلالةَ فيها على المغالاة، لأنّ قوله تعالى: {وَءَاتَيْتُمْ..} لا يدلّ على جواز إيتاء القنطار، ولا يلزم من جعل الشيء شرطاً لشيء آخر، كون ذلك الشرط في نفسه جائزَ الوقوع كقوله صلى الله عليه وسلم: ((من قُتِل له قتيلٌ فأهله بين خيرتين..))[93].(97/31)
قال ابن تيمية في ( الفتاوى 32/ 194): "والمستحبُّ في الصداق مع القدرة واليسار، أن يكون جميع عاجله وآجله لا يزيد على مهر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ولا بناته، وكان ما بين أربعمائة إلى خمسمائة بالدراهم الخالصة، فهذه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، من فعل ذلك فقد استنَّ بسنة رسول الله في الصداق، قال أبو هريرة رضي الله عنه: ((كان صداقُنا – إذ كان فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم – عشرَ أواق، وطبَّق بيديه، فذلك أربعمائة درهم، رواه أحمد في مسنده، وهذا لفظ أبي داود في سننه، فمن دعته نفسه إلى أن يزيد صداق ابنته على صداق بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم اللواتي هنَّ خيرُ خلق الله في كلّ فضيلة، وهنّ أفضل نساء العالمين في كلّ صفة، فهو أحمق جاهل، وكذلك صداق أمهات المؤمنين، هذا مع القدرة واليسار، فأمّا الفقير ونحوه فلا ينبغي له أن يُصدِقَ المرأة إلاَّ ما يقدر على وفائه من غير مشقة. والأولى تعجيل الصداق كله للمرأة قبل الدخول إذا أمكن، فإن قدَّم البعضَ وأخَّرَ البعضَ فهو جائز، وقد كان السلف الصالح الطيب يرخصون الصداق، والذي نقل عن بعض السلف من تكثير صداق النساء فإنَّما كان ذلك لأنَّ المال اتسع عليهم، وكانوا يعجِّلون الصداق كله قبل الدخول، لم يكونوا يؤخرون منه شيئاً، ومن كان له يسار ووجد فأحبَّ أن يعطي امرأته صداقاً كثيراً فلا بأس بذلك، كما قال تعالى: {وَءَاتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً}.
وقال أيضاً: "ويكره لرجل أن يصدق المرأة صداقاً يضرُّ به أن ينقده، ويعجز عن وفائه إن كان ديناً، وما يفعله بعض أهل الجفاء والخيلاء والرياء من تكثير المهر للرياء والفخر، وهم لا يقصدون أخذه من الزوج، وهو ينوي أن لا يعطيهم إياه، فهذا منكر قبيح، مخالف للسنة، خارج عن الشريعة".(97/32)
ويقول الإمام الشوكاني تعليقاً على حديث عائشة: ((إنّ أعظم النساء بركةً أيسرهن مؤونة)) في (نيل الأوطار 6/ 313): "فيه دليل على أفضلية النكاح مع قلّة المهر، وأنّ الزواج بمهر قليل مندوب إليه، لأنّ المهر إذا كان قليلاً، لم يستصعب النكاح من يريده، فيكثر الزواج المرغَّبُ فيه، ويقدر عليه الفقراء، ويكثر النسل الذي هو أهم مطالب النكاح، بخلاف ما إذا كان المهر كثيراً، فإنّه لا يتمكن منه إلاَّ أربابُ الأموال، فيكون الفقراء الذين هم الأكثر في الغالب غير مُزوَّجين، فلا تحصل المكاثرة التي أرشد إليها النبي صلى الله عليه وسلم".
وقال الصنعاني في (سبل السلام 3/ 113): "أنه لابدّ من الصداق في النكاح، وأنَّه يصحُّ أن يكون شيئاً يسيراً، فإنَّ قوله: ((ولو خاتماً من حديد)) مبالغة في تقليله، فيصحّ بكل ما تراض عليه الزوجان أو مَنْ إليه ولاية العقد مما فيه منفعة، وأنّه ينبغي ذكر الصداق في العقد، لأنه أقطع للنزاع، وأنفع للمرأة، فلو عقد بغير ذكر صداق صحّ ووجب لها مهر المثل بالدخول، وأنّه يُستحبُّ تعجيل المهر، ويصحُّ أن يكون منفعة كالتعليم فإنَّه منفعة ويقاس عليه غيره، ويدلُّ عليه قصة موسى مع شعيب، وقوله: ((بما معك من القرآن)) يحتمل وجهين: أظهرهما أن يعلِّمها ما معه من القرآن ويكون ذلك صداقاً، ويؤيده قوله في بعض طرقه الصحيحة: ((فعلِّمْها من القرآن))، ويحتمل أنّ الباء للتعليل وأنّه زوجه بها بغير صداق إكراماً له لكونه حافظاً لبعض القرآن".(97/33)
وقد اعتمد بعض الفقهاء في جعلهم عشرة دراهم حدّاً أدنى للمهر على حديث جابر: (لا مهرَ أقلُّ من عشرة دراهم) إلاَّ أنّ هذا الحديث لم يصحّ، فقد أخرجه الدارقطني في سننه (3/ 244) وقال: فيه مبشرّ ابن عبيد، متروك الحديث، أحاديثه لا يتابع عليها، كما أخرجه البيهقي من طريقه (7/ 240) ثم ذكر قول أبي علي الحافظ: فيه مبشرّ بن عبيد وقد أجمعوا على تركه، وكان أحمد بن حنبل يرميه يوضع الحديث، وذكره الشوكاني في (الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة) برقم/ 343؛ ونقل قول أحمد: مبشر كذاب، يضع الحديث، وقال الشوكاني في (نيل الأوطار 6/ 311): "لو صحّ لكان معارضاً لما تقدَّم من الأحاديث الدالة على أنّه يصحّ أن يكون المهر دونها، ولكنه لم يصحّ، فإنّ في إسناده: مبشرّ بن عبيد وحجاج بن أرطأة وهما ضعيفان، وقد اشتهر حجاج بالتدليس، ومبشر متروك، وقد روى الحديث البيهقي من طريق آخر، وفي إسناده داود بن زيد الأودي وهو ضعيف بلا خلاف، وثالثة فيها أبو خالد الواسطي، فهذه طرق ضعيفة لا تقوم بها حجة".
وقاس بعض الفقهاء أقلَّ المهر على أولّ ما يُقطَعُ به يد السارق، وقد ردّ ابن القيم هذا القياس في (الزاد 2/ 330) وقال: "وهو من أفسد القياس، وأين النكاح من اللصوصية؟ واستباحة الفرج من قطع اليد؟؟".
رضا المخطوبة:
13 – أن تكون راضيةً بالزواج ممَنْ تقدَّم لخطبتها: فينبغي على ولي البنت أخذُ رأيها فيمن رغب فيها، فلا يرغمها على الزواج من رجل لا ترغب فيه، ذلك أنَّ الزواج عقد الحياة، فيجب أن تتوافر فيه الإرادة الكاملة، والرضا التام، فلا إكراه لأحد الطرفين على الاقتران بطرف لا يرغب فيه، أمَّا إذا كانت المرأة تحبُّ الراغب في نكاحها، وتميل إليه، فالأولى تزويجها منه، إذا كان لها كفؤاً، وذلك للأحاديث التالية:(97/34)
أ – عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تُنْكَحُ الأيِّمُ حتى تُسْتَأمر، ولا تُنْكَحُ البِكر حتى تُستأذَن، قالوا: يا رسولَ الله وكيف إذنُها؟ قال: أن تسكت))[94].
ب – عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الأيِّمُ أحقُّ بنفسها من وليّها، والبِكرُ تُستأذَنُ في نفسها، وإذنُها صماتها))[95].
ج – عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت يا رسولَ الله تُستأمَرُ النساءُ في أبضاعهنَّ؟ قال: نعم، قلت: فإنَّ البِكرَ تُستأمَرُ فتستحي فتسكت، قال: سُكاتُها إذنُها[96].
د – عن خنساء بنت خِذام الأنصاريَّة (أنّ أباها زوَّجها وهي ثيّب، فكرهتْ ذلك، فأتتْ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فردَّ نكاحه)[97].
هـ – عن القاسم بن محمد (أنَّ امرأةً من ولد جعفر تخوَّفتْ أنْ يزوَّجها وليُّها وهي كارهة، فأرسلتْ إلى شيخين من الأنصار – عبدالرحمن ومجمع ابني جارية – فقالا: فلا تخشين، فإنَّ خنساء بنت خِذام أنكحها أبوها وهي كارهة، فردَّ النبيُ صلى الله عليه وسلم نكاحَها)[98].
والأيِّمُ باتفاق أهل اللغة، تُطلَقُ على امرأة لا زوج لها، صغيرةً كانت أو كبيرة، بِكراً كانت أو ثيّباً، وقال الفقهاء كافَّة: المراد الثيّب، واستدلوا أنَّه جاء في الرواية الثانية للحديث بلفظ الثيّب، وبأنّها جُعلتْ مقابلة للبكر، وبأنَّ أكثر استعمالها في اللغة للثيّب، وبأنّها جُعلتْ مقابلة للبكر، وبأنَّ أكثر استعمالها في اللغة للثيّب[99].، والاستئمار: طلب الأمر من قِبَلها وأمرها لا يكون إلاَّ بنطق، أمَّا الاستئذان: فهو طلب الإِذن، وقد يُعْلَمُ إذنُها بسكوتها، لأنَّ السكوتَ من علامات الرضا.(97/35)
قال الحافظ في التعليق على حديث أبي هريرة (الفتح 9/ 191): "الثَّيبُ البالغُ لا يُزوِّجُها الأبُ ولا غيُره، إلاَّ برضاها اتفاقاً... والحديثُ دالٌّ على أنَّه لا إجبار للأب عليها إذا امتنعت، وحكاه الترمذي عن أكثر أهل العلم... وقد وقع في الحديث التفرقة بين الثيب والبكر، فعبَّر للثيب بالاستئمار وللبكر بالاستئذان، فيؤخذ منه فرْقَ بينِهما من جهة أنَّ الاستئمار يدلُّ على تأكيد المشاورة، وجعل الأمر إلى المستأمَرة، ولهذا يحتاج الولي إلى صريح إذنها في العَقد، فإذا صرَّحت بمنعه امتنع اتفاقاً، والبكر بخلاف ذلك، والإِذن دائرٌ بين القول والسكوت، بخلاف الأمر فإنَّه صريح في القول، وإنّما جُعِلَ السكوتُ إذناً في حق البكر لأنها قد تستحي أن تفصح".
وحول حديث ابن عباس، قال النووي في (شرح مسلم 9/ 204): "واعلمْ أنَّ لفظة (أحقّ) هنا للمشاركة، ومعناه أنّ لها في نفسها – في النكاح – حقّاً، ولوليها حقّاً وحقها أوكدُ من حقِّه، فإنَّه لو أراد تزويجَها كفؤاً وامتنعت لم تُجْبَر".
وقال الحافظ في (الفتح 9/ 193): "البِكرُ التي أُمِرَ باستئذانها هي البالغ، إذ لا معنى لاستئذان مَنْ لا تدري ما الإِذن، ومن يستوي سكوتها وسخطها... واختلفوا في الأب يزوّج البكر البالغ بغير إذنها، فقال الأوزاعي والثوري والحنفية ووافقهم أبو ثور، يشترط استئذانها، فلو عقد عليها بغير استئذان لم يصحّ، وقال الآخرون: يجوز للأب أن يزوّجها ولو كانت بالغاً بغير استئذان لم يصحّ، وقال الآخرون: يجوز للأب أن يزوّجها ولو كانت بالغاً بغير استئذان، وهو قول ابن أبي ليلى ومالك والليث والشافعي وأحمد وإسحاق، ومن حجتهم مفهوم الحديث، لأنَّه جعل الثيبَ أحقَّ بنفسها من وليها، فدلَّ على أنَّ وليَّ البِكر أحقُّ بها منها".
وقال صاحب عون المعبود (6/ 116): "والاستئذانُ عندهم إنَّما هو على استطابةِ النفس دون الوجوب، وليس ذلك بشرط في صحة العقد".(97/36)
وذهب ابن القيم إلى ترجيح قول أبي حنيفة، من أنّ البكر لا تُجْبَرُ على النكاح من غير رضاها، لأنّ ذلك هو الموافق لحكم النبي صلى الله عليه وسلم، وقواعد الشرع، ومصالح الأمة، قال رحمه الله (زاد المعاد 5/ 96): "وموجب هذا الحكم أنّه لا تجبَرُ البكرُ البالغ على النكاح، ولا تُزوَّجُ إلاَّ برضاها، وهذا قول جمهور السلف، ومذهب أبي حنيفة، وأحمد في إحدى الروايات عنه، وهو القول الذي ندينُ الله به، ولا نعتقد سواه، وهو الموافق لحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره ونهيه وقواعد شريعته ومصالح أمته: أمَّا موافقتُه لحكمه، فإنَّه حَكَمَ بتخيير البكر الكارهة. أمَّا موافقةُ هذا القول لأمره، فإنُّه قال: ((والبِكرُ تُستأذَنُ)) وهذا أمر مؤكد، لأنه ورد بصيغة الخبر الدالّ على تحقّق المخبَرِ به وثبوته ولزومه، والأصل في أوامره صلى الله عليه وسلم أن تكون للوجوب ما لم يقمْ إجماع على خلافه. أمّا موافقتُه لنهيه فلقوله ((لا تُنْكَحُ البكر حتى تستأذن)) وهذا إثبات للحكم بأبلغ الطرق. أمّا موافقتُه لقواعد شرعه، فإنَّ البكر البالغ العاقلة الراشدة لا يتصرف أبوها في أقلّ شيءٍ من مالها إلاَّ برضاها، ولا يجبرها على إخراج اليسير منه دون رضاها، فكيف يجوز أن يُرقَّها، ويُخْرِجَ بُضْعَها منها بغير رضاها إلى من يريده هو، وهي من أكره الناس فيه، وهو من أبغض شيءٍ إليها، ومع هذا يُنْكِحُها إيَّاه قهراً بغير رضاها إلى من يريده، ويجعلها أسيرةً عنده. أمّا موافقتُه لمصالح الأمة، فلا يخفى مصلحة البنت في تزويجها بمن تختاره وترضاه، وحصول مقاصد النكاح لها به، وحصول ضد ذلك بمن تبغضه وتنفر عنه، فلو لم يأت السنة الصريحة بهذا القول، لكان القياس الصحيح وقواعد الشريعة لا تقتضي غيره".
أمّا إذا كانت البنت أو المرأة تحبُّ المتقدّمَ لخطبتها وتميلُ إليه فالأولى تزويجُها منه:(97/37)
و – عن ابن عباس رضي الله عنهما، أنّ رجلاً قال: يا رسول الله، في حجري يتيمة، قد خطبها رجلٌ موسرٌ ورجلٌ مُعْدَم، فنحن نحبُّ الموسر، وهي تحبُّ المُعْدَم، فقال صلى الله عليه وسلم: ((لم يُرَ للمتحابين مِثلُ النكاح))[100].
ز – وعنه أيضاً، قال: إنَّ زوج بريرة كان عبداً يقال له ((مُغيث))، كأنَّي أنظرُ إليه يطوفُ خلفَها ودموعهُ تسيلُ على لحيته، يتبعُها في سِكَكِ المدينة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للعباس: ((يا عباس، ألا تعجبُ من حبِّ مغيث بريرة، ومن بغض بريرة مغيثاً؟؟)) فقال: يا رسول الله، اشفعْ له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لها: ((يا بريرة اتقِ الله، لو راجعتِه))، قالت: يا رسولَ الله تأمُرني؟ قال: إنَّما أشفع، قالت: فلا حاجةَ لي فيه[101].
أمَّا اليتيمةُ، فإنَّها تستأذَنُ.. فإن أبت فلا جوازَ عليها ولا تُكَره:
ح – عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اليتيمة تُستأمَرُ في نفسها، فإن صمتت فهو إذنُها، وإن أبت فلا جواز عليها))[102].(97/38)
واليتيمةُ (في الأصل): الصغيرة لا أب لها، ولكنّ هذا اللفظ قد يطلق ويراد به البكر البالغة التي مات أبوها قبل بلوغها، فلزمها اسم اليتم، فدعيت به وهي بالغة، والعرب ربما دعت الشيء بالإِسم الأول الذي إنَّما سمي به لمعنى متقدم، ثم ينقطع ذلك المعنى ولا يزول الاسم. ومن هنا اختلف العلماء في جواز نكاح اليتيمة التي لم تبلغ، فذهب سفيان الثوري والشافعي إلى أنّ نكاحها لا يجوز حتى تبلغ، قال صاحب عون المعبود (6/ 117): "والمراد بالتيمية – في الحديث – البكر البالغة، سماها باعتبار ما كانت، كقوله تعالى: {وَءَاتُوا اليَتَامَى أَمْوَالَهُمْ}. وفائدة التسمية مراعاة حقها والشفقة عليها في تحري الكفاية والصلاح، فإنَّ اليُتْمَ مظنة الرأفة والرحمة، ثم هي قبل البلوغ لا معنى لإذنها ولا لإبائها، فكأنه عليه الصلاة والسلام شرط بلوغها، فمعناه: لا تنكح حتى تبلغ فتُستأمَر أي تُسْتأذَن. وذهب أحمد وإسحاق إلى جواز نكاحها إذا بلغت تسع سنين ورضيت، واحتجا بحديث عائشة: ((أنّ النبي صلى الله عليه وسلم بنى بها وهي بنت تسع سنين)) وقولها رضي الله عنها: ((إذا بلغت الجارية تسع سنين فهي امرأة))، وهو ما رجّحه الإِمام ابن القيم محتجاً بالحديث الذي رواه علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قال: حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنتين: ((لا يُتمَ بعدَ احتلام، ولا صُماتَ يومٍ إلى الليل))[103]. ثم قال رحمه الله: (فدلّ ذلك على جواز نكاح اليتيمة قبل البلوغ، وهذا مذهب عائشة رضي الله عنها، وعليه يدلّ الكتاب والسنة، وبه قال أحمد وأبو حنيفة وغيرهما)". (الزاد 5/ 100).
موافقة الولي:
14 – موافقة وليّها على زواجها، وذلك للأدلة التالية:
أ – قوله تعالى:
{وَأَنكِحواْ الأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} (النور/ 32).
ب – وقوله:(97/39)
{وَلاَ تُنكِحُواْ المُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ} (البقرة/ 221).
فمدلول الآيتين أنّ المرأة لا تنكح نفسها إلاَّ بوليّ لأن الخطاب فيهما موجَّهٌ إلى الأولياء، ويشمل ذلك كلاً من القاصرة والبالغة، على السواء.
ج – عن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا نِكاح إلاَّ بولي))[104].
د – عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أيُّما امرأةٍ نكحتْ بغير إذن وليها فنكاحُها باطل، فإنْ دخل بها فلها المَهْرُ بما استحلَّ من فرجها، فإن اشتجروا فالسلطانُ وليُّ من لا وليِّ له))[105].
هـ – وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تُزوَّج المرأةُ المرأةَ، ولا تزوّج المرأةُ نفسَها، فإنَّ الزانيةَ هي التي تُزوَّجُ نفسَها))[106].
و – وعن مَعْقلٍ بن يَسار رضي الله عنه قال: كانت لي أختٌ تُخطَبُ إليَّ، فأتاني ابنُ عمٍّ لي، فأنكحتُها إيَّاه، ثم طلَّقها طلاقاً له رَجْعة، ثم تركها حتى انقضتْ عِدَّتُها، فلَّما خُطِبتْ إليَّ أتاني يخطُبها، فقلتُ له: واللهِ لا أنكحتُها أبداً، قال: ففي نزلت هذه الآية:
{وَإذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} البقرة: 232.
فكفَّرت عن يميني، وأنكحتها إيَّاه)[107].(97/40)
وجمهورُ أهل العلم على أنَّه لا يصحُّ العقد بدون ولي للأدلة المذكورة، وممن قال بوجوب الولي: علي وعمر، وابن مسعود وابن عمر، وابن أبي ليلى والعَترة، وأحمد وإسحاق والشافعي، ونُقِلَ عن ابن المنذر أنّه لا يُعرَفُ عن أحدٍ من الصحابة خلاف ذلك، وذهب أبو حنيفة إلى أنَّه لا يُشتَرطُ الولي أصلاً، ويجوز للمرأة أن تزوّج نفسها ولو بغير إذن وليها إذا تزوَّجتْ كفؤاً، واحتجَّ بالقياس على البيع، فإنَّها تستقلُّ به، وبحديث ((الثيِّبُ أحقُّ بنفسها من وليها))، وحمل الأحاديثَ الواردة في اشتراط الولي على الصغيرة، وخصَّ بهذا القياس عمومها[108]. أمّا حديث ((الثيّب أحق بنفسها من وليّها)) فلا حجةَ لهم فيه، لأنّ معناه كما قال النووي في (شرح مسلم 9/ 204): "أنَّ لها في نفسها حقًّا، ولوليَّها حقًّا، وحقُّها أوكدُ من حقِّه، فإنَّه لو أراد تزويجهَا كفؤاً وامتنعت لم تُجْبَرُ"
ونقل صاحب عون المعبود (6/ 101) عن ابن الجوزي قوله: "إنَّه أثبت لها حقاً، وجعلها أحقَّ، لأنه لا يجوز للولي أن يزوجها إلاَّ بإذنها".
وقال الصنعاني في (سبل السلام 3/ 119): "أحقّيتُّه الولايةُ، وأحقّيتُها رضاها، فحقُّها آكدُمن حقّه، لتوقف حقّه على إذنها".
فتأويلُ الحنفية لهذا الحديث تردُّه الأخبار الصحيحة المفيدة لاشتراط الولي، أمّا لجوؤهم إلى القياس – مع وجود النص الصحيح الصريح – فهو من أفسد أنواع الأقيسة، قال الحافظ ابن حجر في (الفتح 9/ 187): "حديثُ مَعْقِل المذكور رفع هذا القياس، ويدلُّ على اشتراط الولي في النكاح دون غيره، ليندفعَ عن مولِّيته العارُ باختيار الكفء".
قال صاحب عون المعبود (6/ 101): "والحقُّ أنَّ النكاحَ بغير الولي باطل كما يدلّ عليه الحديث".(97/41)
وقال ابن تيمية في (الفتاوى 32/ 21): "جمهور العلماء يقولون: النكاح بغير ولي باطل، يُعزّرون من يفعل ذلك اقتداءً بعمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهذا مذهب الشافعي، بل طائفةٌ منهم يُقيمون الحدَّ في ذلك بالرجم وغيره".
وقال أيضاً (32/ 131): "دلَّ القرآنُ في غير موضع، والسنةُ في غير موضع، وهو عادةَ الصحابة، إنَّما كان يزوّج النساءَ الرجالُ، لا يُعرَفُ عن امرأةٍ تُزوِّجُ نفسَها، وهذا مما يُفَرَّقُ فيه بين النكاح ومتخذات أخدان، ولهذا قالت عائشة: ((لا تزوج المرأةُ نفسَها، فإنّ البغي هي التي تزوج نفسها))".
وقد يحتجّ بعض الناس على أنّ الأمر في النكاح للمرأة، وأنّ الولي ليس له من الأمر شيء، بالحديث التالي: (عن عبدالله بن بريدة عن عائشة رضي الله عنها، أنّ فتاة دخلت عليها، فقالت: إنّ أبي زوجني من ابن أخيه ليرفع بي خسيسته، وأنا كارهة: قالت: اجلسي حتى يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرتْه، فأرسل إلى أبيها فدعاه. فجعل الأمر إليها، فقالت: يا رسول الله، قد أجزتُ له ما صنع أبي، ولكن أردتُ أن أُعلِمَ الناسَ: أن ليس للآباء من الأمر شيء)[109].
فهذا الحديث ليس بصحيح، فقد رواه البيهقي في (السنن الكبرى 7/ 118) وقال عنه: "وهذا مرسل ابن بريدة لم يسمع من عائشة رضي الله عنها".
كما رواه الدارقطني (3/ 232) وقال عنه: "مرسل: لأنَّ ابنَ بريدة لم يسمع من عائشة شيئاً".
ووافقه على ذلك شمس الحقّ العظيم آبادي في (التعليق المغني على الدارقطني) وقال: "وإنْ وصحَّ فإنَّما جعلَ الأمرَ إليها لوضعها في غير كفء".
كما ضعفه الألباني في (غاية المرام) برقم/ 217.(97/42)
وقد اشترط الفقهاء في الولي أن يكون: حراً، عاقلاً، بالغاً، مسلماً إذا كان المُولَّى عليه مسلماً، أمّا العدالةُ فلا تشترط فيه، إذ أنَّ الفسق لا يسلبُ أهليَته للتزويج، إلاَّ إذا خرج به الفسقُ إلى حدّ التهتك، فعندها يُسلَبُ حقُّه في الولاية، إذ لا يؤتمن في هذه الحالة على مَنْ تحت يده[110].
الاشتراط:
15 – ألاَّ تشترطَ على خاطبها طلاقَ زوجته الأولى إذا كان متزوجاً، وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم.
أ – عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يحلُّ لامرأةٍ تسألُ طلاقَ أختها، لتستفرغَ ما في صحفتها، فإنَّما لها ما قُدِّرَ لها))[111].
ب – وعنه أيضاً، قال (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيعَ حاضرٌ لبادٍ، ولا تناجشوا، ولا يبِع الرجلُ على بيع أخيه، ولا يخطبْ على خطبة أخيه، ولا تسأل المرأةُ طلاقَ أختها لتكفأ ما في صحفتها)[112].
ج – وعن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يحلُّ أن تُنْكَحَ امرأةٌ بطلاق أخرى))[113].
قال النووي في (شرح مسلم 9/ 193): "ومعنى هذا الحديث نهي المرأة الأجنبية أن تسأل طلاق زوجته، وأن ينكحها ويصير لها من نفقته ومعروفه ومعاشرته ونحوها ما كان للمطلقة، فعبر عن ذلك بانكفاء ما في الصحفة مجازاً، قال الكسائي: أكفأت الإِناءَ كببتُه، وكفأتُه وأكفأته أملتُه، والمرادُ بأختها غيرها سواء كانت أختها من النسب أو أختها في الإسلام أو كافرة".
ونقل الحافظ في (الفتح (9/ 220) عن ابن عبدالبر قوله: "الأخت الضرة، وفيه من الفقه أنه لا بنبغي أن تسأل المرأة زوجها أن يطلق ضرتها لتنفرد به".
وقال الشوكاني في (النيل 6/ 143): "ومن الشروط التي تنافي مقتضى العقد أن تشترط عليه أن لا يقسم لضَرَّتها أو ينفق عليها، أو يُطلِّق مَنْ كانت تحته، فلا يجب الوفاء بشيء من ذلك".(97/43)
أمّا غير ذلك من الشروط، فلا ضيرَ فيه، ما دام لا يُحرِّمُ حلالاً، ولا يُحِلَّ حراماً، لما رواه عقبة بن عامر أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إنَّ أحقَّ الشروط أن تُوفُوا بها، ما استحللتُم به الفروج))[114].
قال ابن القيم في (الزاد 5/ 106): "تضمن هذا الحكم وجوبَ الوفاء بالشروط التي شرطت في العقد، إذا لم تتضمن تغييراً لحكم الله ورسوله، وقد اتفق على وجوب الوفاء بتعجيل المهر أو تأجيله، وعلى عدم الوفاء باشتراط ترك الوطء والإنفاق والخلو من المهر ونحو ذلك، واختلف في شرط الإقامة في بلد الزوجة، وشرط دار الزوجة، ولا يتزوج عليها".
وقال: "وتضمن حكمه صلى الله عليه وسلم بطلان اشتراط المرأة طلاق أختها، وأنّه لا يجب الوفاء به، فإن قيل: فما الفرق بين هذا وبين اشتراطها أن لا يتزوج عليها حتى صححتم هذا، وأبطلتم شرط طلاق الضرة؟ قيل: الفرق بينهما أن في اشتراط طلاق الزوجة من الإِضرار بها، وكسر قلبها، وخراب بيتها، وشماتة أعدائها ما ليس في اشتراط عدم نكاحها ونكاح غيرها، وقد فرّق النص بينهما، فقياس أحدهما على الآخر فاسد".
النظر إليها:
16 – أن يراها الخاطب وينظر منها إلى ما يدعوه إلى نكاحها، فيتعرَّف على جمالها الذي يشدَّه إلى الاقتران بها، أو قبحِها الذي قد يصرفه عنها إلى غيرها، فلربَّما تزوَّجها دون أن ينظر إليها، فوجدها خلافَ ما وُصِفتْ له فيصاب بخيبة أمل وانقطاع رجاء، فتسوء الحال بينهما، ويحلّ الخصام محل الوئام، ويكون الفشل والفرقة خاتمة ما بينهما، وهكذا شأن المسلم دوماً لا يقدم على أمر حتى يكون على بصيرة منه:
أ – عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا خطب أحدكم المرأةَ، فإنْ استطاع أن ينظرَ إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل))، قال: فخطبتُ امرأةً فكنتُ أتخبَّأ لها، حتى رأيتُ منها ما دعاني إلى نكاحها، فتزوجتها[115].(97/44)
ب – عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كنت عند رسول الله، فأتاه رجل فأخبره أنّه تزوَّج امرأةً من الأنصار، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنظرتَ إليها؟ قال: لا، قال: ((فاذهب فانظرْ إليها، فإنَّ في أعين الأنصار شيئاً))[116].
ج – عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه، أنّه خطب امرأة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((انظر إليها، فإنّه أحرى أن يؤدَم بينكما)) قال: فأتيتُها وعندها أبواها، وهي في خِدرها، فقلت: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني أن أنظر إليها، قال: فسكتا، قال: فرفعت الجاريةُ جانبَ الخدرِ فقالت: أحرّج عليك، إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرك أن تنظر لمَّا نظرتَ، وإن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأمرك أن تنظر فلا تنظر، قال: فنظرت إليها، ثم تزوجتُها، فما وقعت عندي امرأةٌ بمنزلتها، ولقد تزوَّجتُ سبعين أو بضعاً وسبعين امرأة)[117].
د – عن أبي حميد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا خطب أحدكُم امرأةً، فلا جُناح عليه أن ينظر إليها، إذا كان إنَّما ينظر إليها لخطبته، وإن كانت لا تعلم))[118].
هـ – عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أُريتَكِ في المنام ثلاثَ ليالٍ، جاءني بك المَلكُ في سَرَقَةٍ من حرير، فيقول: هذه امرأتك، فأكشف عن وجهك، فإذا أنتِ هي، فأقول: إنْ يكُ من عند الله يُمْضِه))[119].
و – قال سهل بن أبي حثمة: رأيت محمد بن مسلمة يطارد بثينة بنت الضحّاك فوق إجَّارٍ لها ببصره طرداً شديداً، فقلت: أتفعلُ هذا وأنتَ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: إنّي سمعتُ رسول الله يقول: ((إذا أُلقيَ في قلب امرئٍ خطبةُ امرأةٍ فلا بأسَ أن ينظر إليها))[120].(97/45)
ز – عن انس رضي الله عنه، أنّ النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يتزوّج امرأة، فبعث بامرأة تنظر إليها، فقال: ((شُمّي عوارضَها، وانظري إلى عُرقوبيها))، قال: فجاءت إليهم، فقالوا: ألا نغدّيك يا أم فلان؟ فقالت: لا آكلُ إلاَّ من طعامٍ جاءت به فلانة، قال: فصعدت في رفِّ لهم، فنظرتْ إلى عرقوبها، ثم قالت: قبّليني يا بُنيَّة، قالت: فجعلتْ تُقبِّلها، وهي تَشمُّ عارضَها، قال: فجاءت فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم[121]، والعوارض: الأسنان التي في عرض الفهم، لاختبار رائحة النكهة.
ح – وعن محمد بن علي بن الحنفية، أنّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه خطب إلى علي ابنته أم كلثوم، فذكر له صغرها، فقيل له: إنْ ردَّكَ فعادوه، فقال له علي: أبعثُ بها إليك، فإن رضيتَ فهي امرأتك، فأرسل بها إليه، فكشف عن ساقيها، فقالت: لولا أنَّك أمير المؤمنين لصككت عينك[122]، وقد تزوجها، ورزق منها بولديه، زيد ورقية.
نستخلص من استعراض هذه الطائفة من الأحاديث النبوية الشريفة الآتي:
1 - من المندوب أن ينظر الخاطب إلى المرأة التي يرغب في الزواج منها، ليكون على معرفة بصفات من تكون شريكة عمره، وهذا أدعى لقيام الألفة والمحبة بينهما.
2 - ومن الأفضل تقديم النظر على الخطبة، فإن لم تعجبه، وكره منها أمراً، تركها إلي غيرها، من غير إيذاء لخفرها وخدش لسمعتها.
3 - يجوز للناظر أن ينظر من مخطوبته ما يدعوه إلى نكاحها، وهذا يعني أكثر من الوجه والكفين، كالنظر إلى الساق والعنق والساعد والشعر، قال الحافظ في (الفتح 9/ 182): "قال الجمهور: لا بأس أن ينظر الخاطب إلى المخطوبة ولا ينظر إلى غير وجهها وكفيها، وقال الأوزاعي: يجتهد وينظر إلى ما يريد منها إلاَّ العورة، وقال ابن حزم: ينظر إلى ما أقبل منها وما أدبر، ولأحمد ثلاث روايات: الأولى كالجمهور، والثانية: ينظر إلى ما يظهر غالباً (وهو ما نرجحه ونميل إليه)، والثالثة: ينظر إليها متجردة".(97/46)
وقال الصنعاني في (سبل السلام 3/ 111): "والحديث مطلق، فينظر إلى ما يحصل له المقصود بالنظر إليه، ويدل على فهم الصحابة لذلك ما رواه عبدالرزاق وسعيد بن منصور أنّ عمر كشف عن ساق أم كلثوم بنت علي لمّا بعث بها إليه لينظرها".
وقال الألباني في (السلسلة الصحيحة 1/ 156): "وظاهر هذه الأحاديث أنّه يجوز للخاطب أن ينظر من مخطوبته إلى أكثر من الوجه والكفين، كالنظر إلى الساق والعنق أو الساعد والشعر، وقد أيد هذا فعل الصحابة رضوان الله عليهم، كما فعله جابر بن عبدالله ومحمد بن مسلمة والخليفة الراشد عمر بن الخطاب، أمّا تقييد الأحاديث بالنظر إلى الوجه والكفين فقط، فهو تقييد بدون نص مقيّد، وتعطيل لفهم الصحابة بدون حجّة".
وكما يجوز له إعلامها أنَّه يريد النظر إليها ورؤيتها، فإنَّه يجوز له أيضاً النظر إليها على غفلة منها، ومن غير أن تعلم، كما ورد في حديث جابر، وكما فعل محمد بن مسلمة رضي الله عنه حين كان يطارد بثينة بنت الضحاك ببصره طرداً شديداً دون علمها، قال النووي في (شرح مسلم 5/ 210): "والجمهور أنّه لا يشترط في جواز النظر إليها رضاها، بل له ذلك في غفلتها، ومن غير تقدّم إعلام، لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم قد أذن في ذلك مطلقاً، ولم يشترط استئذانها، ولأنَّها تستحي غالباً من الإِذن، ولأن في ذلك تغريراً فلربما رآها فلم تعجبه فيتركها فتنكسر وتتأذى".
وإذا لم يتمكن الخاطب – لظروف تمنعه – من النظر إلى مخطوبته، فإنَّه يُستَحبُّ له أن يبعث امرأة يثق بها، فتنظر إليها، وتخبره بصفتها، كما فعل عليه الصلاة والسلام حين بعث أم سُلَيم إلى امرأة رغب فيها، وقال لها: ((انظري إلى عرقوبيها، وشمي عوارضها)).
إنّ النظر إلى المرغوب فيها، لا يعني بحال الخلوة بها، بل إنَّ مقصوده يتحصَّلُ بالنظر إليها في مكان آهلٍ عام، أو بحضور أحد محارمها.(97/47)
إذا كان المندوب نظر الرجل إلى المرأة قبل إقدامه على الزواج منها، فهل من المندوب أن تنظر هي إليه؟ قال الصنعاني في (سبل السلام 3/ 111): "ويثبت مثل هذا الحكم للمرأة، فإنّها تنظر إلى خاطبها، فإنّه يعجبها منه ما يعجبه منها، كذا قيل ولم يرد به حديث، والأصل تحريم نظر الأجنبي والأجنبية إلاّ بدليل، كالدليل على جواز نظر الرجل لمن يريد خطبتها".
ـــــــــــــــــــــــ
[1] النساء، 22، 23.
[2] رواه أبو داود (2055) في النكاح، ما يحرم من الرضاعة، والترمذي (1146) في الرضاع، ما جاء يحرم من الرضاع، والبخاري (6/ 147) في النكاح، "وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم"، ومسلم (1444) في الرضاع، ما يحرم من الرضاعة، وأحمد (6/ 44) والنسائي (6/ 99) والموطأ (رقم 1287) والبيهقي (7/ 159) والدارمي (2/ 156).
[3] رواه مسلم (1452) في الرضاع، التحريم بخمس، والموطأ (رقم 1289) في الرضاع، ما جاء في الرضاعة، وأبو داود (2062) في النكاح، هل يحرم ما دون الخمس، والترمذي (1150) والنسائي (6/ 100) وابن ماجه (1942)، ومعناه: أنّ النسخ بخمس رضعات تأخر نزوله، حتى أنه صلى الله عليه وسلم توفي وبعض الناس يقرأ خمس رضعات، ويجعلها قرآناً متلواً، لكونه لم يبلغه النسخ لقرب عهده، فلما بلغهم النسخ بعد، رجعوا عن تلاوته. (حاشية الأرناؤوط على جامع الأصول 11/ 482).
[4] أبو داود (2060) النكاح، رضاعة الكبير، ومالك في الموطأ (1282) الرضاع، ما جاء في الرضاعة بعد الكبر.
[5] أبو داود (2058) النكاح، رضاعة الكبير، وابن ماجه (1945) النكاح، لا رضاعة بعد الفصال، والبخاري (9/ 126) في النكاح، من قال لا رضاعة بعد حولين، ومسلم (1455) الرضاع، إنما الرضاعة من المجاعة، والنسائي (6/ 102) في النكاح.(97/48)
[6] ابن ماجه (1946) النكاح، لا رضاع بعد الفصال، والترمذي (1152) الرضاع، الرضاعة لا تحرّم إلاّ في الصغر، وقال: حديث حسن صحيح، واللفظ له، والفطام يكون في الحولين لقوله تعالى: "والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرّضاعة"، قال الخطابي في (معالم السنن 3/ 185): إنّ الرضاعة التي تقع بها الحرمة ما كان في الصغر، والرضيع طفل يقوته اللبن ويسدّ جوعه، أما ما كان منه في الحال التي لا يشبعه إلاّ الخبز واللحم فلا حرمة له.
[7] الموطأ (1283).
[8] البخاري (9/ 138) النكاح، لا تنكح المرأة على عمتها، ومسلم (1408) النكاح، تحريم الجمع بين المرأة وعمتها، وأبو داود (2065) النكاح، والترمذي (1126) النكاح، الموطأ (1120) النكاح، والنسائي (6/ 96) وأحمد (2/ 462)، والبيهقي (7/ 165)، واستقصى الألباني طرقه في (الإرواء/ 1882) وقال: هو صحيح بل متواتر رواه سبعة من الصحابة. قال الإمام الخطابي (معالم السنن 3/ 189): يشبه أن يكون المعنى في ذلك ما يخاف من وقوع العداوة بينهنّ، فيكون منها قطيعة الرحم، وعلى هذا تحريم الجمع بين الأختين، وهو قول أكثر أهل العلم.
[9] شرح النووي على صحيح مسلم (9/ 190).
[10] النساء/ 24، انظر (فتح القدير 1/ 448) و (أضواء البيان 1/ 381).
[11] البقرة/ 235، والحديث في الآية عن المعتدة عدّة وفاة. أما عن التعريض: فعن عبدالرحمن بن القاسم عن أبيه أنه كان يقول في هذه الآية: أن يقول الرجل للمرأة وهي في عدتها من وفاة زوجها: إنك عليّ كريمة، وأنّي فيكِ لراغب، وإنّ الله لسائق إليك خيراً، ونحو هذا من القول. (الموطأ/ 1102، ما جاء في الخطبة).
[12] الموطأ (1127) النكاح، ما لا يجوز منه، قال الأرناؤط في تخريج جامع الأصول (8/ 161): رجال إسناده ثقات.(97/49)
[13] أبو داود (2051) في النكاح، واللفظ له، والنسائي (6/ 66) فيه: تزويج الزانية، والترمذي (3176) في التفسير، سورة النور، والحاكم (2/ 396) وصححه، والبيهقي (7/ 153)، وذكره الألباني في (الإرواء/ 1886) وصححه.
[14] أبو داود (2052) في النكاح، وأحمد (2/ 324)، وذكره الحافظ في (بلوغ المرام/ 1029) وقال: إسناده حسن.
[15] نيل الأوطار (6/ 145).
[16] أضواء البيان (6/ 83).
[17] إغاثة اللهفان (1/ 66).
[18] زاد المعاد (5/ 114).
[19] البقرة/ 221.
[20] الممتحنة/ 10.
[21] انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (3/ 70)، وتفسير ابن كثير (1/ 377)، وفتح القدير للشوكاني (1/ 124).
[22] تفسير المنار (2/ 351).
[23] اختيار الزوجين في الإسلام/ حسين محمد يوسف ص25.
[24] أخرجه الترمذي (1128)، وابن ماجه (1953)، وابن حبان (1277)، والحاكم (2/ 192)، والبيهقي (7/ 149)، وأحمد (2/ 44)، وذكره الألباني في (الإرواء/ 1883) وصححه. ورواه الدارقطني (3/ 270) في النكاح.
[25] أبو داود (2241)، وابن ماجه (1952)، والبيهقي (7/ 183)، وذكره الألباني في (الإرواء/ 1885) وحسّنه. وقد روى الحديث أيضاً الدارقطني (3/ 270) في النكاح.
[26] البخاري (9/ 115) في النكاح، الأكفاء في الدين، ومسلم (1466) الرضاع، استحباب نكاح ذات الدين، وأبو داود (2047) في النكاح، والنسائي (6/ 68) في النكاح، وابن ماجه (1858) فيه، الدارمي (2/ 132) والبيهقي (7/ 79)، والدارقطني (3/ 302) في النكاح، وأحمد (2/ 428)، وتربت يداك: التصقتا بالتراب، لا يريدون به الدعاء على المرء، بل المبالغة في التحريض على الشيء والتعجب منه ونحو ذلك. انظر جامع الأصول (11/ 430)، وعون المعبود شرح أبي داود (6/ 40).
[27] مسلم (1467) في الرضاع، والنسائي (6/ 66) في النكاح، وابن ماجه (1855) والبيهقي (7/ 80) النكاح، وأحمد (2/ 268).(97/50)
[28] رواه ابن حبان (111)، وأحمد (1/ 118) وذكره الألباني في (الصحيحة) برقم (282).
[29] رواه ابن ماجه (1856) في النكاح، وأحمد (5/ 278) والترمذي (3093) التفسير، التوبة، والطبري (التهذيب/ 11662) وقد ذكره الألباني في (صحيح الجامع) برقم/ 5231، وقال: رواه ابن حبان عن علي والحاكم عن ابن عباس.
[30] وقيل إنّ هذه الآية نزلت في (خنساء) وليدة سوداء كانت لحذيفة بن اليمان، فقال لها حذيفة: يا خنساء، قد ذكرت في الملأ الأعلى مع دمامتك وسوادك، وأنزل الله ذكرك في كتابه، فأعتقها وتزوجها.
انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (3/ 70) وابن كثير (1/ 377) وفتح القدير (1/ 225).
[31] رواه البخاري (1/ 35) في العلم، ومسلم (154) في الإيمان، والترمذي (1116) في النكاح، والنسائي (6/ 115) فيه.
[32] رواه أبو داود (2050) في النكاح، والنسائي (6/ 65) فيه، والبيهقي (7/ 81)، وأحمد (3/ 158) وابن حبّان (1228)، والحاكم (2/ 162) وصحّحه، ووافقه الذهبي، وذكره الألباني في (الإرواء/ 1811) بلفظ: فإني مكاثر بكم الأنبياء يوم القيامة. يقول قطب في التعليق على قوله تعالى: "المال والبنون زينة..": إنّهما زينة ولكنهما ليسا قيمة، فما يجوز أن يوزن بهما الناس أو يقدّروا على أساسهما (الظلال 4/ 2272).
[33] سبق تخريجه في صفحة (171).
[34] أخرجه البخاري (9/ 107) في النكاح، ومسلم (2527) في فضائل الصحابة، وأحمد (2/ 393)، وذكره الألباني في (الصحيحة/ 1052).
[35] أخرجه البيهقي (7/ 82)، وذكره الألباني في (الصحيحة رقم/ 1849) وصححه.
[36] أخرجه النسائي في عشرة النساء من السنن الكبرى (1/ 84/ 1) والحاكم (2/ 190) وقال: صحيح الإسناد. ووافقه الذهبي، وذكره الألباني في (الصحيحة/ 289).
[37] رواه النسائي (2/ 72) والحاكم (2/ 161) وأحمد (2/ 251) والبيهقي (7/ 82)، قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، وحسّنه الألباني في (الصحيحة/ 1838).(97/51)
[38] رواه البخاري (9/ 104) في النكاح، ومسلم (715) في الرضاع، وأبو داود (2048) في النكاح، والترمذي (1100) فيه والنسائي (6/ 69) فيه، والبيهقي (7/ 81) وأحمد (3/ 308) والدارمي (2/ 146).
[39] رواه ابن ماجه (1861) في النكاح، والبيهقي (7/ 81) فيه، وذكره الألباني في (الصحيحة/ 623) وحسّنه لمجموع طرقه.
[40] أخرجه البخاري (9/ 104) في النكاح، والبيهقي (7/ 81) فيه، وروى مسلم (4/ 128) في النكاح، عن علقمة قال: كنت أمشي مع عبدالله بن مسعود بمنى، فلقيه عثمان، فقام معه يحدثه، فقال له عثمان: يا أبا عبدالرحمن، ألا نزوجك جارية شابة لعلها تذكّرك ببعض ما مضى من زمانك؟؟)، قال النووي في (شرح مسلم/ 9/ 174): فيه استحباب نكاح الشابة، لأنها المحصِّلة لمقاصد النكاح، فإنها ألذ استمتاعاً، وأطيب نكهة، وأرغب في الاستمتاع، الذي هو مقصود النكاح وأحسن عشرة، وأفكه محادثة، وأجمل منظراً، وألين ملمساً، وأقرب إلى أن يعوّدها زوجها الأخلاق التي يرتضيها.
[41] انظر: (فتح القدير) للشوكاني 4/ 579، و(في ظلال القرآن) لسيد قطب 6/ 3464. وقد وصف النبي عليه السلام أهل الجنة في الحديث الذي رواه البخاري بأنه (لكل واحد منهم زوجتان اثنتان، يرى مخّ سوقهما من وراء اللحم..).
[42] سبق تخريجه (في صفحة 173).
[43] سبق تخريجه (في صفحة 167).
[44] رواه مسلم (2424) في النكاح، والنسائي (6/ 77) فيه، والدارقطني (369)، والبيهقي (7/ 84)، وذكره الألباني في الصحيحة برقم (95)، ومعنى: فإنّ في أعين الأنصار شيئاً: قيل صغر أو عمش.
[45] انظر (عون المعبود) 6/ 42، و(فتح الباري/ لابن حجر العسقلاني) 9/ 135.
[46] عن (إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري/ للقسطلاني) 8/ 31.
[47] تقدّم بحاشية (صفحة 167).
[48] تقدّم بحاشية (في صفحة 172).
[49] رواه ابن ماجه (1862) في النكاح.(97/52)
[50] رواه ابن ماجه (1968) في النكاح، والدارقطني (416)، والحاكم (2/ 163)، وذكره الألباني في الصحيحة/ 1067.
[51] انظر: فتح الباري (9/ 135)، وعون المعبود (6/ 42).
[52] رواه الترمذي (6/ 64) في النكاح، وابن ماجه (4219) والدارقطني (417) والحاكم (2/ 163) والبيهقي (7/ 135) وأحمد (5/ 10) وذكره الألباني في (الإرواء/ 1870) وصححه.
[53] البخاري (7/ 179) في الطب، ومسلم (7/ 31) في السلام، وأبو داود (3911) في الطب، وابن ماجه (3541) في الطب، وأحمد (2/ 406)، والممرض: الذي إبله مراض، والمصحّ: الذي إبله صحاح، فنهى أن يورد الأول إبله على الثاني مخافة العدوى.
[54] البخاري (7/ 64) في الطب، وأحمد (2/ 443).
[55] رواه مالك في (الموطأ/ 1426) في الأقضية، وابن ماجه (2340) في الأحكام، والحاكم (2/ 57) والبيهقي (6/ 69) والدارقطني (522) قال النووي: له طرق يقوي بعضها بعضاً، وقد تقبله جماهير أهل العلم واحتجوا به، وذكره الألباني في (الصحيحة) برقم/ 250، وصحّحه لمجموع طرقه.
[56] زاد المعاد (5/ 182).
[57] رواه مالك في (الموطأ/ 1108)، والبيهقي (7/ 135) في النكاح، والدارقطني (3/ 266) في النكاح، وذكره الحافظ ابن حجر في (بلوغ المرام) برقم (1041) وقال: أخرجه سعيد بن منصور وابن أبي شيبة، ورجاله ثقات، إلاّ أنّ الألباني ضعّفه في (الإرواء/ 1913).
[58] أخرجه البيهقي (7/ 215)، وعبدالرزاق في (المصنف/ 10677)، قال الأرناؤط في تخريج (زاد المعاد) (5/ 184): إسناده صحيح. كما رواه الداقطني (3/ 267) في النكاح.
[59] الموطأ/ برواية يحيى بن يحيى الليثي، الطبعة الثانية، دار النفائس (ص 357).(97/53)
[60] رواه مسلم (6/ 168) في الجنة، ومعنى كاسيات عاريات: أي يلبسن ثياباً رقيقة تصف ما تحتها، فهي في الظاهر كاسية، وفي الحقيقة عارية، مائلات: متبخترات في مشيهنّ، مميلات: يملن أعطافهنّ وأكتافهنّ، أسنمة البخت: أسنمة الإِبل، لما يضعنه في رؤوسهنّ من وصل الشعور ونفشها وتضخيم العمائم (جامع الأصول 11/ 789).
[61] أخرجه البيهقي (7/ 82)، وذكره الألباني في (الصحيحة/ رقم 1846) وصحّحه.
[62] رواه أبو داود (2049) في النكاح، والنسائي (6/ 67) فيه، وذكره الحافظ في (بلوغ المرام/ رقم 1132) وقال رجاله ثقات، كما ذكره ابن كثير في تفسير أول سورة النور (6/ 11) وجوَّد إسناده، وقال: (المراد أن سَّجيتها لا تردّ يد لامس، لا أنّ هذا واقع منها، وأنّها تفعل الفاحشة، فإنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأذن في مصاحبة من هذه صفتها، فإنّ زوجها – والحالة هذه – يكون ديّوثا، ولكن لمّا كانت سجيتها هكذا، ليس فيها ممانعة ولا مخالفة لمن أرادها – لو خلا بها – أمره الرسول بفراقها، فلما ذكر له أنّه يحبها، أباح له البقاء معها، لأنّ صحبته لها محققة، ووقوع الفاحشة منها متوهّم، فلا يصار إلى الضرر العاجل لتوهم الآجل).(97/54)
وقال ابن القيم في (روضة المحبين ص130): (إنّ الرجل لم يشْكِ من المرأة أنّها تزني، ولو سأل عن ذلك لما أقره الرسول صلى الله عليه وسلم على أن يقيم مع بغي ويكون ديّوثاً، وإنّما شكا إليه أنّها لا تجذب نفسها ممن لاعبها ووضع يده عليها، أو جذب ثوبها ونحو ذلك، فإنّ من النساء من يلنّ عند الحديث واللعب ونحوه، وهي حصان عفيفة إذا أريد منها الزنا، وهذا كان عادة كثير من نساء العرب، ولا يعدّون ذلك عيباً) وقال: (وقد راعى النبي صلى الله عليه وسلم دفع إحدى المفسدتين بأدناهما، فإنّه لمّا شكا إليه أنّه لا يصبر عنها، ولعل حبه يدعوه إلى معصية، أمره أن يمسكها مداواة لقلبه ودفعا للمفسدة التي يخافها باحتمال المفسدة التي شكا منها). وقد رجّح الحافظ ابن حجر في (التلخيص) أنّ قوله ((لا ترد يد لامس)) أنّها لا تمتنع ممن يمدّ يده ليتلذذ بلمسها، ولو كان كنّى به عن الجماع لعدّ قاذفاً، أو أن زوجها فهم من حالها أنّها لا تمتنع ممن أراد منها الفاحشة، لا أنّ ذلك وقع منها). وقال صاحب عون المعبود (6/46): والظاهر عندي ما ذكره الحافظ، ثم أورد تصحيح المنذري للحديث وقوله: رجال إسناده محتج بهم في الصحيحين).
[63] رواه الترمذي (1173) في الرضاع، قال الأرناؤوط في تخريج (جامع الأصول 6/ 665): إسناده حسن.
[64] رواه أبو داود (4174) في الترجل، والنسائي (8/ 153)، والترمذي (2787) في الأدب، وذكره الألباني في (غاية المرام/ رقم 84) وصححه، كما خرّجه في (حجاب المرأة المسلمة) ص/ 64.
[65] رواه أبو داود (4098) في اللباس، وصححه الألباني في (حجاب المرأة المسلمة) ص/ 66.
[66] رواه البخاري (10/ 280) في اللباس، وأبو داود (4930) في الأدب، والترمذي (2785) في الأدب.
[67] رواه أبو داود (4030) في اللباس، وأحمد (5664)، وابن ماجه (3606) في اللباس، وصححه الألباني في (غاية المرام/ رقم 91) وخرّجه في (حجاب المرأة ص/ 110).(97/55)
[68] البخاري (10/ 317) في اللباس، ومسلم (2124) فيه، وأبو داود (4168) في الترجل، والترمذي (2784) في الأدب، والنسائي (8/ 145) في الزينة، والوصلُ: هو وصل الشعر بشعر آخر ليطول، والوشم: تغيير لون الجلد بزرقة أو خضرة أو سواد، وذلك بغرز الإِبرةِ فيه وذرِّ النِّيلَج عليه حتى يرزقَّ أثُره أو يخضرَّ.
[69] رواه النسائي (8/ 146) في الزينة، ومسلم (2125) في اللباس، وأبو داود (4169) في الترجل، والترمذي (2783) في الأدب، والنَّمْصُ: نتف شعر الوجه أو الحاجب لترقيقه، والفَلَج: تباعد ما بين الثنايا، والمُتفلِّجة: التي تتكلف في فعل ذلك بصناعة، وهو محبوب إلى العرب مستحسن إليهم، فمن فعلت ذلك طلباً للحسن فهو مذموم أمّا الحديث الذي أخرجه الطبري عن امرأة أبي إسحق: (أنها دخلت على عائشة، وكان شابة يعجبها الجمال، فقالت: المرأة تحفّ جبينها لزوجها؟ فقالت: أميطي عنك الأذى ما استطعت) فضعيف كما حكم عليه الألباني في (غاية المرام/ رقم 96)، وردّ قولَ مَنْ استدلّ به على جواز حفِّ الوجه وإزالة ما فيه من شعر للمرأة، وقال: إنّ ذلك خلاف ما تدلّ عليه الأحاديث بإطلاقها، وقال: إنّ ما ذهب إليه النووي من عدم جواز الحفّ – خلافاً لبعض الحنابلة – هو الذي يقتضيه التحقيق العلمي.
[70] رواه النسائي (6/ 69) في النكاح، وقال الأرناؤط في تخريج (جامع الأصول 11/ 534): إسناده صحيح.
[71] رواه أحمد (4/ 28) واللفظ له، والنسائي (6/ 81) في النكاح، وقال الأرناؤط (جامع الأصول 11/ 410): إسناده صحيح.
[72] البخاري (9/ 283) في النكاح، وأبو داود (3567) في البيوع، والترمذي (1359) في الأحكام، والنسائي (7/ 70) عشرة النساء.
[73] رواه البخاري (9/ 281) في النكاح، ومسلم (2761) في التوبة، والترمذي (1168) في الرضاع.(97/56)
[74] البخاري (5143) في النكاح، وأبو داود (4882) في الأدب، والترمذي (1928) في البر والصلة، والموطأ (1641) في حسن الخلق/ المهاجرة، والتجّسس بالجيم: طلب الخبر لغيرك، وبالحاء: طلبه لنفسك (جامع الأصول 6/ 526).
[75] رواه البخاري (5142) في النكاح، ومسلم (4/ 128) فيه، والنسائي (6/ 72) فيه، وأحمد (2/ 126).
[76] رواه أبو داود (2081) في النكاح، وابن ماجه (1868) فيه، ومالك في الموطأ (1101) فيه أيضاً.
[77] رواه البخاري (3/ 431) في البيوع، والنسائي (6/ 72).
[78] الموطأ (1101) في كتاب النكاح.
[79] رواه مسلم (4/ 195) في الطلاق، وسيأتي كاملاً في الكفاءة للزوج، مع تمام تخريجه.
[80] شرح مسلم/ للنووي (9/ 198) طبعة دار الفكر 1401هـ.
[81] انظر: فتح الباري (9/ 199 – 200)، وشرح مسلم للنووي (9/ 197 – 198)، وإرشاد الساري للقسطلاني (8/ 57).
[82] رواه أبو داود (2117) في النكاح، وابن حبان (1257)، وذكره الألباني في (الصحيحة/ 1842) وقال: هذا إسناد صحيح، ورجاله ثقات كلهم على شرط مسلم.
[83] رواه مسلم (4/ 142) في النكاح.
[84] رواه أحمد (6/ 77)، والبيهقي (7/ 235)، وابن حبان (1256)، والحاكم (2/ 181) وقال: حديث صحيح على شرط البخاري ومسلم ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وذكره الألباني في (الإرواء 6/ 350) وحسّنه.
[85] رواه البخاري (9/ 113)، ومسلم (1425)، وأبو داود (2111)، والترمذي (1114) ومالك (1107) والنسائي (6/ 113) وابن ماجه (1889) والبيهقي (7/ 85) والدارقطني (393) كلهم في النكاح، وأحمد (5/ 330) والدارمي (2/ 142).(97/57)
قال النووي في (شرح مسلم 9/ 213): فيه دليل على أنه يستحبُّ أن لا ينعقد النكاح إلاَّ بصداق، لأنه أقطعُ للنزاع وأنفعُ للمرأة، من حيث إنه لو حصل طلاق قبل الدخول وجب نصف المسمى، فلو لم تكن تسمية لم يجب صداق، بل تجب المتعة، فلو عقد النكاح بلا صداق صح لقوله تعالى: "لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهنّ أو تفرضوا لهُنّ فريضة" فهذا تصريح بصحة النكاح والطلاق من غير مهر، وهل يجب المهر بالعقد أم بالدخول؟ فيه خلاف مشهور، وأصحهما الدخول، وهو ظاهر الآية. أ. هـ.
[86] رواه البخاري (5153)، ومسلم (4/ 14)، وأبو داود (2109)، والترمذي (1094)، والنسائي (6/ 137) ومالك (1146) كلهم في النكاح، والبيهقي (7/ 227) فيه أيضاً.
[87] رواه أبو داود (2106)، والترمذي (1114)، والنسائي (6/ 117)، وابن ماجه (1887)، والبيهقي (7/ 234) كلهم في النكاح، والحاكم (2/ 175)، وابن حبان (1259)، وذكره الألباني في (الإِرواء/ 1927) وصححه.
[88] رواه مسلم (1426)، وأبو داود (2105)، والنسائي (6/ 116)، وابن ماجه (1886) كلهم في النكاح، قال النووي في (شرح مسلم 9/ 215): استدل بهذا الحديث على أنه يستحب كون الصداق خمس مئة درهم، والمراد في حقّ مَنْ يحتمل ذلك، فإن قيل: فصداق أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم كان أربعة آلاف درهم (= أربع مائة دينار) فالجواب: إنَّ هذا القدر تبَّرع به النجاشي من ماله إكراماً للنبي صلى الله عليه وسلم.
[89] رواه أبو داود (2125)، والنسائي (6/ 129) في النكاح، وإسناده صحيح، والحطميّة: الدرع التي تكسر السيوف، وقيل: أنها منسوبة إلى بطن من عبد القيس يقال له (حُطَمة بن محارب) كانوا يعملون الدروع.
[90] رواه النسائي (6/ 114) في النكاح، قال الأرناؤط في حاشية جامع الأصول (7/ 7): وإسناده صحيح.
[91] انظر: شرح مسلم/ للنووي (9/ 216)، وزاد المعاد/ لابن القيم (5/ 176).(97/58)
[92] أخرجها سعيد بن منصور في سننه (1/ 3/ 166)، والبيهقي في السنن الكبرى (7/ 233)، كما أخرجها عبدالرزاق في مصنفه (6/ 180) عن طريق قيس بن الربيع عن أبي عبدالرحمن السلمي، إلاّ أنّ المحدّث الألباني أعلّها في (الإرواء 6/ 438) بعلتين: الانقطاع، لأنّ أبا عبدالرحمن السلمي لم يسمع من عمر كما قال ابن معين، والأخرى سوء حفظ قيس بن الربيع.
[93] انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (5/ 100)، والبحر المحيط لأبي حيان (3/ 205)، أما الآية فإنّها تفيد: أنّ الزوج القادر المستطيع، لو أحبّ أن يهب لزوجته من ماله تطوعاً وعن طيب نفس مالاً كثيراً، إكراماً لها، فهذا لا ضير فيه، أمّا أن تطلب هي أو وليها منه المهر العظيم، فهذا هو المنهي عنه.
ومَفْحصُ القطاةِ: موضعها الذي تجثم فيه وتبيض.
[94] رواه البخاري (5136)، ومسلم (1419)، وأبو داود (2092)، والترمذي (1107)، والنسائي (6/ 85)، وابن ماجه (1871) وأحمد (4/ 203)، وكلهم رووه في النكاح.
[95] رواه مسلم (1421)، ومالك في الموطأ (1103)، والترمذي (1108)، وأبو داود (2098)، والنسائي (6/ 84)، وابن ماجه (1870)، والبيهقي (7/ 115)، والدارقطني (3/ 238) وكلهم في النكاح، وأحمد (1/ 261)، والصمات: السكوت.
[96] رواه مسلم (1420)، والنسائي (6/ 85) في النكاح، وأحمد (2/ 229)، وكنى بالأبضاع عن النكاح، وملك فلان بضع فلانة: إذا ملك عقد نكاحها، وهي في الأصل كناية عن موضع الغشيان، والمباضعة: المباشرة.
[97] رواه البخاري (9/ 166)، والموطأ (1125)، وأبو داود (2101)، والنسائي (6/ 86)، وابن ماجه (1873)، والبيهقي (7/ 119) كلهم في النكاح، والدارمي (2/ 139)، وأحمد (6/ 328).
[98] رواه البخاري (9/ 166) في النكاح، باب إذا زوج ابنته وهي كارهة فنكاحه مردود.
[99] شرح مسلم/ للنووي (9/ 203).(97/59)
[100] أخرجه ابن ماجه (1847)، والحاكم (2/ 160)، والبيهقي (7/ 78) في النكاح، وذكره الألباني في (الصحيحة 624) وصححه، كما ذكره السيوطي في (الجامع الصغير) ورمز له بالصحة.
[101] رواه البخاري (9/ 358) في الطلاق، وأبو داود (2231) فيه أيضاً، والترمذي (1156) في الرضاع، والنسائي (8/ 245) في القضاة، والدارمي (3/ 293) في النكاح، والبيهقي (7/ 221) فيه، وأحمد (1/ 215)، وكانت بريرة زوجة لمغيث، وكان عبداً، فتعقت تحته، فتركته.
[102] رواه أبو داود (2093)، والترمذي (1109)، والبيهقي (7/ 120)، والدارقطني (3/ 221)، والدارمي (2/ 138) كلهم في النكاح، وصححه ابن حبان رقم (1238) والحاكم (2/ 166) ووافقه الذهبي.
[103] رواه أبو داود (2873) في الوصايا، قال الأرناؤط في تخريج (جامع الأصول 11/ 642): هو حسن بشواهده عندي.
[104] رواه الترمذي (1101)، وأبو داود (2085)، وابن ماجه (1880)، والبيهقي (7/ 107)، والدارمي (2/ 137) في النكاح وأحمد (4/ 394)، وابن حبان (1243) والحاكم (1/ 170) وصححاه، وصححه الألباني في (الإرواء/ 1839).
[105] رواه أبو داود (2083)، والترمذي (1102)، وابن ماجه (1879)، في النكاح، وكذا البيهقي (7/ 105) والدارقطني (381) والدارمي (2/ 137)، وصححه ابن حبان (1248) والحاكم (2/ 168) ووافقه الذهبي، وذكره الحافظ في (بلوغ المرام/ 1010) وبسط القول عنه في التلخيص (2/ 156)، وصححه الألباني في (الإرواء/ 1840).
[106] رواه ابن ماجه (1882)، والدارقطني (384) والبيهقي (7/ 110)، وذكره الحافظ في (بلوغ المرام/ 1013) وقال: رجاله ثقات، وذكره الألباني في (الإرواء/ 1841) وصححه دون الجملة الأخيرة، ووقفها على أبي هريرة.(97/60)
[107] رواه البخاري (8/ 143) في التفسير، والترمذي (3985) فيه، وأبو داود (2087) في النكاح. وقد نقل الصنعاني في (سبل السلام 3/ 118) عن الشافعي قوله: (هذه الآية هي أصرح آية في اعتبار الولي، وإلاّ لما كان لعضله معنى، فلو كان لها تزويج نفسها لم يعاتب أخاها على الامتناع، ولكان نزول الآية لبيان أنّها تزوّج نفسها).
[108] انظر: (فتح الباري 9/ 187) و (عون المعبود 6/ 101) و (نيل الأوطار 6/ 251).
[109] أخرجه النسائي (6/ 87) وابن ماجه (1874) كلاهما في النكاح، وأحمد (6/ 136).
[110] انظر: (فقه السنة) السيد سابق 2/ 125، طبعة دار الكتاب العربي.
[111] رواه البخاري (1515)، ومسلم (1408) في النكاح، والموطأ (2/ 900) في القدر، وأبو داود (2176) في الطلاق والترمذي (1190) فيه، والنسائي (7/ 258) في البيوع.
[112] رواه البخاري (4/ 295)، ومسلم (1515)، والموطأ (2/ 683)، والنسائي (7/ 258) في البيوع، والترمذي (1134) وأبو داود (2080) في النكاح، وابن ماجه (1272) في التجارات.
[113] رواه أحمد (2/ 176).
[114] أخرجه البخاري (5/ 322) في الشروط، ومسلم (1418) في النكاح.
[115] رواه أبو داود (2082) في النكاح، والطحاوي (2/ 8)، والبيهقي (7/ 84) في النكاح، وأحمد (3/ 334)، والحاكم (2/ 165) وقال: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، وذكره الحافظ في (بلوغ المرام/ 1000) وقال: رجاله ثقات، وخرّجه الألباني في (الصحيحة رقم/ 99) وفي (الإِرواء/ 1791) وحسّنه.
[116] رواه مسلم (1424)، والنسائي (6/ 77)، والبيهقي (7/ 84)، كلهم في النكاح، ومعنى ((إنَّ في أعين الأنصار شيئاًً)): قيل: عَمَش، وقيل: صِغَر، قال الحافظ في (الفتح 9/ 181): الثاني وقع في رواية أبي عوانة في مستخرجه فهو المعتمد.(97/61)
[117] رواه النسائي (2/ 73)، والترمذي (1/ 202)، وابن ماجه (1866)، والبيهقي (7/ 84)، والدارقطني (3/ 252) في النكاح، وأحمد (4/ 144)، والزيادة لأحمد والبيهقي، وذكره الألباني في (الصحيحة رقم/ 96).
[118] رواه البيهقي (7/ 85) في النكاح، وأحمد (5/ 424)، وخرّجه الألباني في (الصحيحة رقم/ 97) وقال: وهذا إسناد صحيح، رجاله كلهم ثقات رجال مسلم.
[119] البخاري (5215): والبيهقي (7/ 85) في النكاح، ومسلم (2438) في فضائل الصحابة، والترمذي (3875) في المناقب، والسَرَقَة: القطعة أو الثوب.
[120] ابن ماجه (1864) في النكاح، وأحمد (4/ 225)، والألباني في (الصحيحة) رقم 98، والإِجَّار: السطح الذي ليس حواليه ما يردّ الساقط عنه.
[121] رواه الحاكم (2/ 166) وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، والبيهقي (7/ 87) في النكاح.
[122] رواه سعيد بن منصور في سننه (520 – 521)، وذكره الألباني في (الصحيحة 1/ 156) والحافظ في (التلخيص 291 – 292).(97/62)
العنوان: إسعاف ذوي الحاجات
رقم المقالة: 1948
صاحب المقالة: الشيخ عبدالرحمن السديس
-----------------------------------------
إسعاف ذوي الحاجات
ملخَّص الخطبة:
1- الأواصر الاجتماعيَّة في الإسلام.
2- مشكلة الفقر.
3- المال مال الله.
4- فضل رعاية الفقراء.
5- الوصية باليتامى.
6- الحثُّ على العناية بالأرامل والأيامى.
7- عناية الرَّسول – صلَّى الله عليه وسلَّم - بالفقراء والمساكين والمحتاجين.
8- الحثُّ على رعاية المعاقين وذوي الاحتياجات الخاصَّة.
9- سَبْق بلاد الحرمَيْن في هذا المضمار.
-------------------------
الخطبة الأولى
أما بعد:
فخير ما يوصَى به - أيها المؤمنون - ويُساق ويُلحَن من الوصايا الأعلاق: تقوى البارئ الخلاَّق؛ فتقوى الله هي النور الهادي ليس به خَفَا، والبصيرة لمن اقتفى فاكتفى، والشِّفا لمَنْ كان من الفاقَة على شَفا، والغِنى لمَنْ أعوَز واعتَفَى، {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153].
أيُّها المسلمون:
من إشراقات عظمة الإسلام وجلاله وخصائصه الباهرة التي أضاءت في شموله وكماله وجلَّت بمُنَّةٍ عن رحماتِه في جماله، تلكمُ الأواصر الاجتماعية السامية، والوشائجُ الرُّوحيَّة والخُلُقية النَّامية، والعلائق الهَطِلَة بالإنسانية الحانية، لاسيَّما في أوان الماديَّات الذي حُجِبَت فيه كثير من القلوب بغلائل الذاتيَّة الجَمُوع، والفرديَّة اللَّحيدة المَنُوع، التي أصدرتها في غيابات الجشَع الجموح.
نعم، في أوانٍ أجدبت فيه المشاعر حتى غدت هشيمًا تذروه الرِّياح، وطوَّحت الجسومُ من جواهرها الرأفة، فآضت لصفاقتها كالأشباح بعد أن برَأها الباري جلَّ في علاها موئلاً لزكيِّ الطِّباع، ومَنهَلاً للبِرِّ المَشاع، والإخاء المتقارَض النّفَّاع.
إخوةَ الإيمان:(98/1)
ومن القضايا التي ترزح تحت مُرهقِها كثيرٌ من الأمم والأقطار، والمجتمعات والأمصار، وكان أن طبَّ لَها الإسلامُ بأحكامه ونوره قضيةُ الفقر وشأن الفقراء؛ يقول عزَّ اسمه: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [الذاريات: 19].
ولِمَا يجلبه الفقر من كلٍّ، ولِمَا فيه من فَلٍّ ونأيٍ وكَلكَلٍ؛ استعاذ منه الحبيب المصطفى بقوله: ((اللهم إنِّي أعوذ بك من الفقر والقِلَّة والذِلَّة))؛ أخرجه أبو داود والنَّسائي.
ألم تروا إلى الفقير بين النَّاس مريضَ الجناب منكسِر الجناح، حليفَ همومٍ وأتراح، دونَ اقتراف إثمٍ أو جُناح؟! يحمِل بين أضلاعه من لواعب العِيلَة ما أقبر أُنسَه، وأنشر بؤسَه، وقضَّ مضجعه، وفضَّ من الحُرقة مدمَعَه، يقتاتُ من تباريحِ العَوَز ما أطال سُهادَه، ورضَّ من الأسى أمانيَه ومراده. يعيش الفقير وحُشاشتُه بجِمار العَدَم والخَصَاصة تُنهَب، وزفراتُه الكاوِيَة في الأحشاء تَلْهَب:
قَدْ عَضَّهُ الْبُؤْسُ الشَّدِيدُ بِنَابِهِ فِي نَفْسِهِ وَالْجُوعُ فِي الأْحَشْاءِ
فِي قَلْبِهِ نَارُ الْخَلِيلِ وَإِنَّمَا فِي وَجْنَتَيْهِ أَدْمُعُ الْخَنْسَاءِ
ولكن يا أمَّة العقيدة لكن، لا يغيبَنَّ عن شريف عِلْمِكُم أنَّ المال مال الله، وأنَّ الله مُسْتَخْلِفَكُم فيه، وأنَّ الذي أغنى هو الذي أقنى، وأنَّ التفاوتَ في الأرزاق حكمةٌ من المولى الرزَّاق؛ {لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا} [الزُّخرف: 32]. يُمحِّص بها الأغنياء، ويبتلي الفقراء، وتلك الحكمة المطوية في قضائه وقَدَرِه، لا يتنوَّرُها إلا مَنْ غَمَرَه شعاع الإيمان، وسطع في قلبه نور الحكمة والإيقان؛ {كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الحشر: 7].(98/2)
أمَّا الذين استرقَّتهم شهواتهم وذواتهم، وبارح اليقين أنحاءهم؛ فهم الذين يجوبون في سُجُوف الحيرة والضَّلال. ونأيًا بالمسلمين عن هذا المَهْيَع المهين، توافقت الآيات والبراهين، على ترسيخ حقِّ المحاويج والضعفاء، والمساكين والفقراء، واحترام شخصهم، والتنويه بحالهم؛ تحسينًا لمستوياتهم، وحلاًّ لمشكلاتهم.
ومن لطائف التَّرابط في قوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} [الحاقة: 33-34] يقول العلامة الشَّوْكانيُّ - رحمه الله -: "وفي جَعْل هذا قرينًا لتَرْك الإيمان بالله من التَّرغيب في التصدُّق على المساكين وسدِّ فاقتهم وحثِّ النفس والنَّاس على ذلك ما يدلُّ أبلغ دلالة ويفيد أكمل فائدة على أنَّ منعهم من أعظم الجرائم وأشدِّ المآثم". انتهى كلامه رحمه الله.
وفي هذا الاستنباط دليلٌ على عظيم فضل رعاية الفقراء، ودِعامةُ أساسٍ في عظمة الإسلام وخصائص مجتمعه المنشودة، وأَلْوِيَةِ تكافله وتآزره المعقودة، وعلى هذا الغِرار يُذكَّر ذوو اليَسَار أنَّ الذي خلقهم وخلق الفقراء قد جعل بينهم ميثاق الرَّحمة والتَّعاطف، وعقد التَّكافل والتَّكاتف، وذلك بأن يمنح القادرُ العاجزَ رَوْحًا من قواه، ويَنفحَ الواجِدُ الفاقدَ قليلاً من جَدواه، {وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [النحل: 71].
إِبَّان ذلك يشيع في الأمَّة الرَّخاء، ويرتفع بقلوبها بَهِيُّ الإخاء، وستنعَم النفوس في الدارَيْن في منهج مُسدَّد، وفعل موفَّق مُرشَّد، بين عاجلٍ ممجَّد، وآجِل مخلَّد.(98/3)
فإلى أمَّة الإسلام، وإلى المجتمعات المستغيثة من غوائل الفقر وشروره، التي يجرها لخراب العالم ومعموره، إن كنتم تشفقون على نَعيم عَيشكم من البؤس والبؤساء، وتدرؤون عن جمال حياتكم دمامة الفقر والفقراء، فاقتحموا على الفقر مكامِنَه في الأكواخ والأعشاش، ولكن بعينٍ واكفةٍ وفؤاد بالرحمة جَيَّاش، ثم قيِّدوه بالاكْتِنان في إيتاء الزَّكاة وسائر القُرُبات، كالصَّدقات الجاريات، والأوقاف السَّاريات، والهبات الباقيات، والكفالات الواقيات.
إِنِّي أَرَى فُقَرَاءَكُمْ فِي حَاجَةٍ لَوْ تَعْلَمُونَ لِقَائِلً فَعَّالِ
وَجَزَاءُ رَبِّ الْمُحْسِنِينَ يَجُلُّ عَنْ عَدٍّ وَعَنْ وَزْنٍ وَعَنْ مِكْيَالِ
واغرسوا حبَّ ذلك في قلوب النَّاشئة؛ تكن منكم بإذن الله أمَّة متراصَّةُ البناء، على قلب الأودَّاء، تقطع مراحل الحياة رافهةً مطمئنة، لا يمسها عناءٌ ولا نَصَب، ولا يرهقها عَوَزٌ ولا تعب، حينئذٍ لن تروا - بإذن الله - عينًا تحسد، ولا قلبًا يحقد، ولا يدًا تجترح وتفسِد، ولا تكادون ترون في البيوت عائلاً، ولا في السُّجون قاتلاً، ولا في الطُّرقات متسوِّلاً ولا سائلاً، جاعلين قاعدة التكاتُف والتكافل طيلسانَ بُرُدكم، أينما يَكُنِ العَيْش الكريم يَكُنِ الأمن والسَّلام، والحبُّ والودُّ والوئام.
إخوة الإيمان:
ومن فئات المجتمع الذين كلأتهم الشَّريعة بعين أحكامها، وضَمَّخَتهم برُداعِ لُطفها وحنانها، ولهم في قلوبنا والمسلمين مكانة أَثِيلَة، فئةٌ فقدت حنان الأبوَّة المشفِقة الحادِبَة، ولَوَّعهم فقدُ الأمومة الحانية ووجدانِها الدافق بمشاعر الحب الحالم الجذلان، فباتوا في مَسيس الحاجة إلى مرفإِ حبِّكم ولطفكم وحنانكم وعطفكم ومَهدكم المفعَم بالرَّحمة والرِّفق والسُّلوان، تواسون جفونهم القريحة، وتؤاسون قلوبهم الجريحة، تلكم هي فئةُ أحبَّتنا الأيتام، رحم الله يُتْمَهُم وعوَّضهم بمن فقدوه خيرًا.(98/4)
فذو المرتَبَة يحنو على ذي المترَبَة، فتتبلَّجُ في حياتهم الرَّحمة في أسمى معانيها، والسعادةُ في أجلى مراميها، قال سبحانه ممتنًّا بكلاءَةِ نبيِّه عليه الصَّلاة والسَّلام: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى} [الضحى: 6]، ويقول فيما أخرجه البخاري عن سهل بن سعد – رضيَ الله عنه -: ((أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتَيْن))، وأشار بالسَّبابة والوسطى وفرَّج بينهما.
رَباه ربَّاه، ما أعظم هذا الشرف وما أرباه، لمَنِ احتضن يتيمًا فأحسن مَربَاه، فرحم الله مَنْ رحم الأطفال والأيامى، وهنيئًا لمَنْ زرع بسمةً حانيةً على وجوه اليتامى، ومسح على رؤوسهم مسحةً حادِبة، ورَبَّتَ على أكتافهم عِصاميَّةَ المستقبل وآفاق الأمل المشرق الوضَّاء.
وفي تعظيم حرمة اليتيم يقول سبحانه: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ} [الضحى: 9]. وللمؤتمَنين على أموال القُصَّر واليتامى يُلفَت النظر إلى خطورة التعرُّض لحقوقهم وأموالهم، يقول سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 10].
وهكذا يا أمَّة الإحسان صان الإسلام منزلةَ الفقراء والأيتام، واحتفظ لهم بالوجود المعتبَر في مسيرة الأمم، وكَفَل لهم الشخصيَّةَ الموفورة التي من حقِّها أن تشارك في العلياء وتؤُمّ.
لِلَّهِ دَرُّ السَّاهِرِينَ عَلَى الأُلي سَهِروا مِنَ الأَوْجَاعِ وَالأَوْجَالِ
أَهْلِ الْيَتِيمِ وَكَهْفِهِ وَحُمَاتِهِ وَرَبِيعِ أَهْلِ الْبُؤْسِ وَالإمْحَالِ
الذين أضاؤوا دياجيرَ المُدقِعين والمُعسِرين بنور الودِّ الهادي، والحنان الرَّائح الغادي.
كَادَ الْيَتِيمُ يَمُوتُ لَوْلا مَعْشَرٌ حَاكَوا جُدُودَهُمُ الْكِرَامَ خِلالا
وَقَفُوا الْجُهُودَ لِنَشْلِهِ مِنْ بُؤْسِهِ وَغَدَوْا أَبًا يَحْنُو عَلَيْهِ وَخَالا(98/5)
أَرَوَيْتُمُ ظَمَأَ النُّفُوسِ بِصَيِّبٍ مِنْ بِرِّكُمْ فَعَبَقْتُمُ إِفْضَالا
معاشر الأحبَّة:
وينتظم في سِلك الأحِقَّاء بالمَرْحَمَة والمواساة والتَّعاطف في هذه الحياة فئةٌ ثالثةٌ جديرةٌ بالذِّكْر والعناية والاهتمام والرعاية، فئةٌ صَهَر جوانحها فَقْدُ أحبابها، فعاشت ضِيقَ الإعسار ووَكْتَةَ الإقتار وهَمَّ تنشِئة الأبناء الأخيار، تلكم هي فئة الأرامل والأيامى، يقول في وَكِيد رعاية حقِّها: ((السَّاعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله، أو كالصَّائم لا يفطر، وكالقائم لا يفتُر))؛ أخرجه البخاريُّ ومسلمٌ.
ومن بدائع الفاروق الملهَم - رضي الله عنه وأرضاه - في شفقته على الأرامل وكفالة معايشهنَّ خشيةَ أن تُمزِّقهنَّ الفاقَة بنابها العضود، ما رواه البخاريُّ - رحمه الله - أنَّ امرأة قالت: يا أمير المؤمنين، هلك زوجي وترك صِبيةً صغارًا، وليس لهم زرعٌ ولا ضَرْعٌ. فوقف معها عمر ولم يمضِ، ثم انصرف إلى بعيرٍ ظهير، فحمل عليه غِرارتين ملأهما طعامًا، وحمَل بينهما نفقةً وثيابًا، ثم ناولها بخَطامه وقال: اقْتادِيهِ، فلن يفنى حتى يأتيَكم الله بخير.
الله أكبر! إنها المسؤوليَّة البرَّة الناطقة، والعاطفة الرّاحمة الوادِقة، حِيال الأمومة اللهيفَة السَّاغِبة. وهكذا منِ ازْدانَ به عصر سُلالته العادلة عمر بن عبدالعزيز رحمه الله؛ حيث لم يوجَد في عصره فقيرٌ يُعطَى من الزكاة، فللَّه دَرُّه لله.
أيها المؤمنون:(98/6)
وستظلُّ كثيرٌ من المجتمعات أمثولةَ أَثْرَةٍ مقيتة وفرديَّة شحيحة غداةَ ذَوَت فيهم أزاهيرُ الإحسان والمعروف، ما لم يعمد عُقَلاؤها وسُراتها إلى ربطها بجَوْهر نصوص الشَّريعة الحاضَّة على التَّواصي بالتَّراحم والتَّلاحم، استيعابًا وفَهْمًا وتطبيقًا؛ إذ هي الأَلَقُ والنُّور، وهي الشِّفاء لما في الصُّدور؛ لما تضطرب فيه الأمم من عوائق اجتماعية وضوائق ماديَّة وإنسانية. ويومئذٍ تَسْتَرْوِح البشريَّة الكالَّة واحةَ الإسلام الفيحاء، وترتوي بالعَذْب الزُّلال من نَميرِه. ألا فَلْتُهْدِ العَنادِل الرَّحمة والإخاء بين بني الإنسان، ولتُهدِ الفيوض المواساة والمرور على روابي أفئدة المسلمين الندية الخضراء، حيال أحبَّتنا الأيتام والأرامل والفقراء، والمحاويج والمساكين والضُّعفاء.
وبعد أيها الإخوة:
فللطَّامحين لنَيْل أعلى الدَّرجات، ومرضاة ربِّ البريَّات، إنها لفرصةٌ قارَّةٌ، ونَفحة عُلوِيَّةٌ بالحسنات دارَّة، وأعمالٌ بارَّة يَحْسُن اهتبالُها مداومةً على الأعمال الصَّالحة التي قَصْدها النَّهج الربَّانيّ، وسكبها في أرواحنا الفَيْضُ الرمضانيّ والعيد الإيمانيّ، والموفَّق مَنْ وفَّقه الله، والمحروم مَنْ حرمَ نفسَه فضلَ الله.
اللهمَّ إنَّا نسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحبَّ المساكين، اللهم خذ بأيدي أغنيائنا لعون فقرائِنا، وكُنْ للفقراء واليتامَى والأرامل والأيامَى؛ إنَّك جوادٌ كريم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولكافَّة بني الإسلامِ مِن جميع الخطايا والآثام، فاستغفروه وتوبوا إليه على الدَّوام، فيا لَفَوز المستغفِرين، ويا بشرى للتائبين، جعلنا الله وإيَّاكم منهم بفضله وكرمه، اللَّهمَّ آمين.
الخطبة الثَّانية(98/7)
الحمد لله، وفَّق مَنْ شاء للإحسان وهدى، وتأذَّن بالمزيد لمَنْ راح في المواساة أو غدا، وأشهد أنَّ لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً نرجو بها نعيمًا مؤبَّدا، وأشهد أنَّ نبيَّنا محمدًا عبد الله ورسوله أندى العالمين يدًا وأكرمهم مَحْتِدا، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه أهل التراحم والاهتدا، وبَذْل الكفِّ والنَّدى، ومَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ ما ليلٌ سجَى وصبحٌ بدَا، وسلَّم تسليمًا سَرْمَدًا أبدا.
أما بعد:
فاتقوا الله - عباد الله - ومدُّوا لإخوانكم المفؤودين رِفدًا ويَدا، تفلِحوا في دنياكم وغدا.
إخوة الإسلام:
وهؤلاء الفئام في مجتمع الإسلام، قد احتفى بهم سيد الأنام عليه الصَّلاة والسَّلام، فكان يزورهم، ويعود مرضاهم، ويسدُّ خلَّتهم وفاقَتَهم، وما من فئةٍ منهم إلاَّ ولها آمالُها التي ترنو إليها، وهي أعزُّ ما تطمح إلى تحقيقه؛ كي تتفيَّأ مرابِع الطمأنينة والهناء، وتُشاركَ في الإعمار والبناء والنَّماء، فعلى ذوي القرار والمسؤولية والتوجيه أن تكون لهم بصيرةٌ نافذة، وذلك هو المؤمَّل - بحمد الله - في تعاملٍ أمثَل وسعيٍ أنبَل، يحقِّق الحرص على إيثارهم ونفعهم، وإيصال الخير والعون إليهم مهما كانت الظروف والحتوف، والارتفاع بمنافعهم فوق كلِّ الروابط والضوابط، في رعايةٍ مسدَّدةٍ شاملة، نفسيًّا وتربويًّا واجتماعيًّا وعلميًّا.(98/8)
ويخصُّ المحبُّ بمزيد القول والتأكيد: دعمَ رعاية أعزَّتنا المُعاقين وذوي الاحتياجات الخاصَّة، الذين لم يُزِدْهم قضاء الله وقَدَرُه إلا عزمًا على المعالي وإباءً، وتفاؤلاً بالآمال ومضاءً، ودَمْجِهم في مسيرة المجتمع الوثَّاب وميادين بنائه ورقيه بما يتواءم وقدراتهم الجسدية، وتلمُّحٍ لمَلَكاتهم المتميِّزة ومواهبهم المبدعة، في تكافل وتمازج يسمُوان إلى علوِّ المشاركة الأخويَّة الوجدانيَّة، التي تتَّحد في الحاضر المجيد، والعَيْش الرَّغيد، والأُفْق المديد السَّعيد، وأنهم من المجتمع وإليه، ولهم الحقُّ كلُّ الحقِّ في العناية والاهتمام، والرِّعاية والزِّمام، وتلك مسؤوليةٌ مشتركةٌ بين كافَّة أطياف المجتمع وشرائحه ومؤسساته، عندها ستدرك الأمَّة أنَّ الإعاقة رسالةٌ بالعطاء دفَّاقة، وأنَّ مَنْ يُنسَبون إليها قد يفوقون بعضَ الأسوياء؛ إذِ المعاق المسبوك معاقُ الرُّوح والفِكر والسُّلوك.
إخوةَ الإيمان:
وفي هذا المضمار دَبَّجَتْ - بفضل الله وعظيم منِّه - بلادُ الحرمين السَّنِيَّة ومملكة الإنسانية دروبَ التكافل والإحسان والمواساة أيّانَ مرساها، ووشَّت دروبَ التراحم والتراؤف كيف مجراها، في تعاضد سَبَّاقٍ وبذلٍ غَيداق، وَفق سنن الإحسان الشرعيَّة، وقواعد اللُّحمة الوطنية والإسلامية، عبر المؤسسات الخيرية والهيئات الإغاثية ودور الرعاية الاجتماعية، وما هي - وايمُ الحقِّ - ببِدعٍ في ذلك؛ ففي ربوعها أَزْهَر الإيثار وسار، وفي هذه البطاح والدِّيار انبجسَت ينابيع الرَّحمة المحمديَّة المهداة والنعمة المُسداة، ومن هذه البقاع امتارتِ الدُّنيا أزوادَ الأرواح، واستبضعت الإنسانية المرزَّأة بلاسِمَ الكلوم والجراح.(98/9)
وإن تُرِد - يا رعاكَ الله - البرهان السَّاطع والدَّليل القاطع: فسَيرنو ذلك جليًّا في أطفال ومحتاجي فلسطين، ويتامى لبنان، ومتضرِّري العراق، ومنكوبي الحوادث، وضحايا الفيضانات والكوارث، مع ما يُؤمَّل من بذل المزيد، ولِرجال الأعمال ولذوِي اليسار والمال في ذلك الأنموذَجُ الأكيد والرِّفد الرَّفيد، أبقاها الله للأمن والإيمان أبهى واحة، وللتَّراحم والإحسان روضةً فوَّاحة؛ إنَّه خير مسؤول وأكرم مأمول.
هذا وصلُّوا وسلِّموا - رحمكم الله - على المرسَل بالرَّحمة التامَّة والرأفة العامَّة، والإحسان الغامِر والبرِّ الهامر، نبيِّكم محمد بن عبدالله، كما أمركم بذلك مولاكم ومولاه، فقال تعالى قولاً كريما: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على نبيِّنا الحبيب المصطفى...(98/10)
العنوان: أسفار العشق المقيم.. أدب إسلامي بنكهة سودانية
رقم المقالة: 905
صاحب المقالة: شمس الدين درمش
-----------------------------------------
في قراءة الشعر العربي قلَّما تجد شعراً يحمل طابع البيئة الشعرية الخاصة بالشاعر. فما نقرؤه لشاعر في المغرب لا يختلف عما نقرؤه لشاعر في المشرق، ومع أن هذا الأمر ظاهرة إيجابية تدلُّ على الوحدة اللغوية والثقافية للأمة العربية، فإني كنت أرغب في العثور على شعر يحمل التمايز في إطار الوحدة، والتخالف في إطار التآلف.
وقد تحقَّقت هذه الرغبة لديَّ في ديوان (أسفار العشق المقيم) للشاعر السوداني سليمان عبد التواب الزين. فقرأته مراراً أتملَّى فيه نكهة السودان من خلال تعبيراتٍ تحمل رموزاً دينية واجتماعية ووطنية في ذلك الجزء الحبيب من العالم العربي الإسلامي الموغِل في قلب القارَّة السمراء.
وجاء اختيار العنوان بكلماته الثلاث (أسفار العشق المقيم) موفَّقًا ذا دلالة على المضمون العام للديوان كلِّه، فهو من العناوين القليلة الشاملة في عالم الدواوين التي دأبت على إطلاق عنوان قصيدة ما على الديوان كله.
والعنوان شاعريٌّ، مؤسَّس على بديع تضاد المطابقة، يعطي يقظةً للشعور بالعشق المنجذب لطرفي (الأسفار) و(المقيم)!
بين أسفار الشافعي وأسفار الشاعر:
مهَّد الشاعر لديوانه بالسَّفَر إلى الماضي ليأخذ منه مشروعيةً لديوانه شكلاً ومضموناً، فجعل من قصيدة الشافعي رضي الله عنه مدخلاً، وهي التي يقول فيها:
سافر تَجِدْ عِوَضاً عَمَّن تُفارِقُه وانْصَب فإنَّ لذيذَ العَيشِ في النَّصَبِ
إنِّي رأيتُ وُقوفَ الماءِ يُفسِدُه إن ساحَ طابَ، وإن لم يَجرِ لم يَطِبِ
والأُسدُ لولا فِراقُ الأرضِ ما افتَرَسَت والسهمُ لولا فِراقُ القَوسِ لم يُصِبِ
والشمسُ لو وَقَفَت في الفُلكِ دائمةً لملَّها الناسُ من عُجْمٍ ومن عَرَبِ(99/1)
والتِّبرُ كالتُّربِ مُلقًى في أماكِنِه والعودُ في أَرضِهِ نَوعٌ منَ الحَطَبِ[1]
وقد تجاوز الشاعرُ البيت الأولَ في ديوان الشافعي وهو:
ما في المقامِ لذي عَقلٍ وذي أَدَبِ مِن راحَةٍ فَدَعِ الأوطانَ واغتَرِبِ
كما ترك البيت الأخير وهو:
فإنْ تَغَرَّبَ هذا عَزَّ مَطلَبُهُ وإنْ تَغَرَّبَ ذاكَ عَزَّ كالذَّهَبِ
فالشافعي يدعو إلى الحركة والعمل وترك السكون والكسل، لذلك وظَّف كلماته لإثبات صحَّة فكرته، فالماء والأسد والسهم والشمس والتبر والعود كلُّها يظهر فضلُها بالحركة ومفارقة الموطن، ولما كان الكسولُ مشدوداً إلى مَوطنه بالأُلفة، ولا يرغب في مفارقَتِه فإن الشافعيَّ يقول له: (سافِر تَجِد عِوَضاً عَمَّن تُفارِقُه)، لكن شاعرَنا يختلف مع هذا المعنى تماماً، فإن العِوَض عمن يفارقه يعني موتَ مشروعه بكلِّ أبعاده.
الشافعيُّ يدعو إلى المفارقة الجسميَّة والشعورية، والشاعرُ سليمان عبد التوَّاب يعبِّر عن المفارقة الجسمية المتواصلة شعورياً (أسفار العشق المقيم)، فهو مسافر في خطوط دائرية مرتبطة بمركز الدائرة، مشدودة إليها. ومعنى العشق المقيم عند الشافعي في قصيدة أخرى منسوبة إليه، وهو عشق للعلم لا يفارقه، يقول فيها:
سَهَري لتَنقيحِ العُلومِ ألَذُّ لي مِن وَصلِ غانيةٍ وطِيبِ عِناقِ
وصَريرُ أقلامي على صَفحاتِها أَحلى مِنَ الدَّوكاءِ والعُشَّاقِ
وألَذُّ مِن نَقرِ الفَتاةِ لدُفِّها نَقْري لأُلقي الرَّملَ عَن أَوراقي
وتَمايُلي طَرَباً لحَلِّ عَويصَةٍ في الدَّرسِ أَشْهى مِن مُدامَةِ ساقِ
وأَبيتُ سَهرانَ الدُّجى وتَبيتُه نَوماً وتَبْغي بعدَ ذاكَ لَحاقي؟![2]
وبذلك تتحَّقق المقاربة بين الشافعي والشاعر سليمان عبد التواب الزين، والذي كان عليه أن يُثبت القصيدة الثانية للشافعي إلى جانب الأولى.
إلى مَن يسافر الشاعر سليمان عبد التواب؟(99/2)
أضاء لنا الشاعر بمقدمته النثرية جزءاً مهماً من تكوين الديوان عندما صرح بوجهات أسفاره فقال:
- إلى التي أتاحت لنا الأفقَ الآخر من الالتزام، فعبرت بنا من ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، ومن ضمور (الأنا) إلى باحة الوطن الفسيح.
- إلى التي جسَّدت الرمز والمعنى (عازة) السودان، وعازتي.
- إلى شقيقة الروح.. صديقة الدرب.. زوجتي.
- إلى كل الذين شاركوا في تفاصيل ملامحي، وتشكيل حياتي، واستنهاض مشاعري..
فهذه الأسفار إذن كانت إلى العقيدة، والوطن، وثورة الإنقاذ، وإلى الزوجة والأهل والأصدقاء. ولذلك كان الشاعر مسافراً بعشقه المقيم، لا يبحث عن عوض، ولو أعطي لم يقبل.
السفر إلى الوطن:
يقول ابن الرومي:
ولي وَطَنٌ آلَيتُ ألَّا أَبيعَهُ وأَلَّا أَرى غَيري لهُ الدَّهرَ مالِكاً
هكذا رأى ابن الرومي الوطنَ سلعةً قابلة للبيع والتنازل والتملُّك بينه وبين غيره، وبرغم إعجاب النقَّاد بالقصيدة، فإن هذا المطلعَ على أقل تقدير مطلعٌ غيُر موفَّق، لما فيه من تصوُّر غيرِ صحيح للوطن حتى جعله يُقسِم ألا يبيعَه، والقَسَم يأتي في موضع الشكِّ في القول لدفع التُّهمة المحتملة.
فكيف يرى شاعرُنا سليمان عبد التواب الوطن؟
في جنوب الوطن جُرح نازفٌ، يزور الشاعر مدينة (جُوبا)، فيقول:
إني رأيتُك في جُوبَا
فَوقَ التِّلالِ الخُضْرِ
أَنسامَ الرُّبا
الغابَةُ العَذراءُ يَغلِبُها الحَياءْ
مَطَرٌ يُبَلِّلُ شَعرَها
عِطرٌ يُطَوِّقُ خَصرَها
شَمسٌ لِتَمنَحَها النَّضارَةَ والبَهاءْ
فالشاعر يصوِّر الوطن بروح الحياة والحياء (الغابة العذراء يغلبها الحياء) في زمن تتسابق فيه العَذارى إلى خلع أثواب الحياء، والحياء شعبةٌ من الإيمان، فماذا أراد الشاعر أن يقول عن هذا الجزء من الوطن (جُوبا) الذي يُكفكف صغارُه دموعَهم من الجوع والخوف والحزن ؟
يدخل الشاعر بنا إلى عُمق غابات (جُوبا) لنرى معه الصورةَ من الداخل كما رأيناها من الخارج، يقول:(99/3)
إني رأيتُك في جُوبا
عَبَقًا منَ الغاباتِ
يَرفُلُ في الفَضاءْ
شَمساً تَزوَّجَتِ الضِّياءْ
وأَنجَبَتْ في التَّوِّ
خَطَّ الاستِواءْ
جاؤُوكِ من كلِّ الدِّياناتِ القَديمَة
بالطُّقُوسْ
وسَقَوكِ من خَمرٍمُعَتَّقَةِ الكُؤُوسْ
وفَقَدتِ رُشْدَكِ
حينَ دَقُّوا الطَّبلَ
واهْتَزَّ الحُبُورْ
وتَمايَلَ الأَبَنُوسْ
ساعَةً للرَّقْص
وأُخْرى للكُجُورْ
فالشاعر صوَّر (جُوبا) من الخارج وطناً يلبَس ثوب الحياء الذي هو شعبة من الإيمان، وإذا كان الحياء يزين الإنسان أياً كان، فإنه من أخصِّ صفات المرأة، وهو بالمرأة المسلمة أخلق، وبذلك أضفى الشاعر على هذا الجزء المتنازَع عليه من الوطن ثوباً إيمانياً خالصاً إذا عرفنا أن النساء غير المسلمات في الجنوب لا يأبهن بهذا الموضوع بحُكم تعاليم الديانات غير الإسلامية المنتشرة فيها، والتي أشار إليها الشاعر (الديانات القديمة، وسقوك من خمر، وفقدت رشدك..).
وينتقل الشاعر إلى وصف مأساة الحرب في الجنوب التي لا تفرِّق بين (ملوال) و(دينق) و (أحمد) فيقول واصفاً تمايل (الأبنوس) في غابات (جُوبا):
لتُغنِّي بِالحِكاياتِ الحَزينَةْ
بشَجِيِّ الصَّوتِ يَغلِبُه البُكاءْ:
ماتَ (مَلْوالُ)
وقد كانَ صَبيّاً
كوُرودِ الغابةِ العَذْراءْ
قد تغَشَّتنا رُؤاكِ
بالخِياراتِ العَصِيَّة
يا ابنَ (دِينق)
ماتَ (مَلْوالُ) و(أحمدُ) والبَقيَّة
هِيَ في طَريقِ المَذبَح
المَمْهورِ بالدَّمِ والقَضيَّة
فالشاعرُ هنا لا يفرِّق بين انتماء وانتماء في المعاناة الإنسانية، لأن الإسلام جاء للإنسان، لذلك يقدِّم للجميع حلاًّ واحداً هو الشرب من كأس الأنبياء الذين حملوا رسالةَ السماء إلى الأرض:
ماذا عَلَينا
لو تَجَرَّعْنا بِكأسِ الأَنبياءْ
حِكمَةَ التَّوحِيدِ
مُرَّ الصَّبرِ
أَخبارَ السَّماءْ
لنُغَنِّي للخِياراتِ الذكيَّةْ
حَبَّةُ القَمحِ سِلاحاً
فَوقَ وَجهِ البُندُقِيَّةْ(99/4)
وبذلك تتحقَّق وَحدَة الوطن في إطار (حكمة التوحيد):
قد تَبارَت
في التَّباريحِ المآقي
وتَنادَت..
نحنُ رُوحانِ حَلَلنا بَدَنا
ويوظِّف الشاعرُ الثقافة الشعبية السودانية بتضمينه شطرَ بيت كان السودانيون يتغنَّونَ بقصيده للتعبير عن وَحدتهم، ويتلقَّاه أبناؤهم في المدارس صِغاراً وتكملته: (منقو) قُل لا عاشَ مَن يَفصِلُنا...
أسفار من خارج السودان:
كتب الشاعر سبعَ قصائد من قصائد ديوانه الأربعَ عشرةَ في أمريكا، وكتب قصيدة في القاهرة، وكتب سائر قصائده في السودان -حسب إشاراته في نهايات القصائد- مما يساعدنا في الدخول في جوِّ الديوان والعوامل المحيطة بأسفاره، وأبعادها.
والاغتراب يُعطي إحساساً أكثر لصوقاً بالوطن، سواء في ذلك غُربة الرُّوح، وغربة البدَن، غير أن بيئةَ الغربة لها أثرٌ إضافي في المشاعر، فغربة المسلم في بلاد غير إسلامية قد يكون أشدَّ إيلاماً، وغُربة الإنسان في بيئة لا يعرف لغةَ أهلها كذلك، إذ يجتمع عليه غربةُ البدن وغُربة الروح فيكون قريباً مما عبَّر عنه المتنبي يوماً وهو في شِعْب بوان من بلاد فارس:
مَغاني الشِّعْبِ طِيباً في المغاني بمَنزلَةِ الرَّبيعِ منَ الزَّمانِ
ولكِنَّ الفَتى العَربيَّ فِيها غَريبُ الوَجهِ واليَدِ واللِّسانِ
مَلاعبُ جِنَّةٍ لَو سارَ فيها سُلَيمانٌ لسارَ بتَرجُمانِ
فالشاعر في غُربته البعيدة بدَناً وروحاً يستسلم لأسفار الخواطر، راكباً أجنحةَ العشق المقيم الذي لا يُفارقه، فيرتحل إلى أحبابه، باعثاً الطُّمأنينةَ في نفسه ونفوسنا ونفوس من حولَه على مستقبل الوطن الذي ما زال يؤرِّقه أنى ذهب، فيقول في قصيدة (أسفار الخاطر) وهو في أمريكا:
يا مُستَغرِقُ.. يا مَجْنونْ
كَفاكَ شُروداً في المظنونْ
قد كنتُ لتَوِّي في الخُرطُومْ
الأَهلُ تعَشَّوا بالمَقْسُومْ
شَرِبُوا ماءَ النيلِ الصَّافي
وحَمِدوا...
مِلءَ النَّفْسِ قَناعَهْ(99/5)
فالشاعر هنا يتحدَّث بأسلوبٍ عفويٍّ أقرب إلى اللغة العادية، يحاول طرد َالهواجس والمخاوف التي تُطارد الإنسان السودانيَّ في غُربته الداخلية والخارجية معاً حول مستقبل الوطن.
وينقل صورةَ أُسرة من الخرطوم هي أسرتُه التي تمثِّل كلَّ أسرة سودانية في بساطتها وإيمانها ورضاها بما قَسَمَ الله سبحانه لها.
والشاعر يوازنُ بين ما في الوطن وما في خارجه، فيعترف بالمفارقة.. ففي أمريكا رزقٌ أكثر، ولكنَّ فيها سوءَ خلق أكثر أيضاً، فما الحل ؟
الحلُّ عند عبد التواب والد الشاعر الذي يمثِّل الإنسان السوداني المؤمن المليء بالقناعة والرِّضا، يقول الشاعر:
أَلفَيتُ الوالِدَ عبدَ التوَّابْ
قَد صَلَّى العَتْمَةَ ثمَّ إليهِ أَنابْ
طَرَحَ (السِّبحَة) في (التَّقْروبَة)
رفَعَ يدَيهِ وطَلَبَ التَّوبَهْ
يا ربُّ ببابِكَ أَطرُقْ
لا أبوابَ الناسْ
و(التقروبةُ) سَجَّادة الصلاة عند السودانيين، و(السِّبحة) من لوازم الإنسان المرتبط بالصلاة والأذكار في المجتمع السوداني، وصورةُ السبحة الملقاة فوق التقروبة بعد أداء صلاة العتمة (العشاء) فيه دلالةُ الاستعداد لصلاة الليل وصلاة الفجر، فمستلزمات العبادة جاهزة، وكأن المصليَ لم ينفكَّ من صلاته.
وإذا أضفنا إلى ذلك وقوفَ عبد التواب بباب الله طارقاً، لا بأبواب الناس، عرفنا كيف يرسُم الشاعر طريقَ الخلاص للإنسان السوداني من أزماته.
وينقلُنا الشاعر إلى صفحة المرأة السودانية من خلال حديثه عن والدته التي يُسمِّيها باسمها (زَنُّوبَة) ليُعطينا شعوراً بالواقعية اللصيقة بالمجتمع السوداني، فالاسمُ كما هو واضحٌ محرَّف في نُطقه من (زينب) فيقول:
(زَنُّوبَةُ) بنتُ الشَّيخِ حَكيمْ
ياقوتَةٌ بتاجِ العِزِّ تُقيمْ
أَشواقي إليكِ بلا تَحجِيمْ
يا حَبلَ الصَّبرِ نهايتَهُ
يا نَبعَ الحبِّ وطِيبتَهُ
يا زَرعَ القُوتِ وطِينَتَهُ(99/6)
ونحسُّ بارتفاع حرارة أشواق الشاعر في نداءاته لأمِّه بأنها نهايةٌ للصبر، ويَنبوعٌ للحب، وطينةٌ للقُوت. وهذه الثلاث هي الذَّخيرة التي يحتاج إليها الشعبُ السودانيُّ في مسيرته للخُروج من أزمته: الصبر، والحب، والقوت.
الشوقُ الذي يعيشه الشاعر (بلا تحجيم) يدفعُه إلى عالم اللاشعور ليحقِّق فيه التواصلَ المباشر مع الأسرة الكريمة، فينقلنا إلى عالم الحلُم، قائلاً:
بالأَمسِ رَأيتُكِ عندَ النَّومِ غِطاءْ
جَليدُ البَردِ يُحاصِرُني
وذِئابُ الغابِ تُقاتِلُني
ووَحْشَةُ دَربي تُقْلِقُني
نادَيتِ بإِصْبَعِكِ الحُكَماءْ
أَسقُوهُ رَحيقَ الوَطَنِ شِفاءْ
رائِحَةَ الطِّينِ
وعَبَقَ النَّد
وفَوحَ الحِنَّاءْ
أَحسَستُ سَكينةَ مَن وَصَلوا بعدَ الإِعْياءْ
وجَلَستُ بمجلِسِكُم
" يَس " الذِّكرْ
آياتُ الفِكرْ
خُطُواتُ العِطرْ
تُرقي المِسكينَ وتَحفَظُهُ
ببِلادِ العُهْر
ونجد في كلمات الرؤيا ارتفاعَ وتيرة الشعرية مع ارتفاع حرارة الشَّوق في التعبير عن حال الشاعر في غُربته البعيدة في بلاد (العُهر)، فهل كانت رؤياه حُلماً حقيقياً كما فسَّر (يوسف) عليه السلام رُؤيا الملك، أم أنها أضغاثُ أحلام كما قال (الملأ) من حاشيةِ الملك ؟
وعندما نقرأ وصفَهُ الأمَّ (زَنُّوبَة) بنت حَكيم التي تُنادي (بإصبعها الحكماء) فيكون رُقية المريض قراءة سورة " يس " في المجلس، و التكملة (والقرآن الحكيم)، فنكتشف من ذلك دلالات الكلمات في رُؤيا الشاعر، فزَنُّوبَة الأمُّ هي الوطن، والحكماء هم العلماء، والشاعر هو الإنسان السوداني، وشفاؤه من مرضه وحصنُه الحصين أن يدخلَ في الذكر والفكر من بوابة (القرآن الحكيم).
وفي مقطعٍ ثالث يواصل الشاعرُ السفرَ بشوقه المقيم إلى أخيه الأصغر (الزين) الذي يمثِّل الشبابَ السوداني، ولكن السفرَ يأتي هذه المرة على سطور رسالة تصله من أخيه (الزين)، فيقرأ في السطر الأول:
أطراك
لا يَنقُصُنا سِوى رُؤياك(99/7)
وفي السطر الثاني يبثُّ الطمأنينةَ في نفس الشاعر القلقَة بخبر دعاءِ والدَيه له كلَّ صباح:
بُشْراكْ
عَفوُ الأَبَوَينِ يُدَثِّرُك
في كُلِّ صَباحٍ يَغْشاكْ
ويختزل الشاعرُ قراءة السطر الثالث مُجمِلاً أخبارَ البيت والحيِّ الذي يَدعون له بلعلَّ وعَسى.
أما السطرُ الرابع ففيه:
جاءَ الفَرَجُ لأَهْلِ الحلَّةِ والبابُورْ
ما عادَ اللَّيلُ للطَّابونَةِ والطَّابُورْ
الآنَ...
الخُبزُ يُوزَّعُ بالدُّكَّانْ
والقَمحُ نِتاجُ العَرَقِ السُّوداني
في الطَّعْمِ تَجِدهُ كَما السُّكَّرْ
في اللَّونِ تَجِدهُ – نَعَم – أَسمَرْ
وشَذاهُ كما فَوحِ العَنْبَرْ
المُعْدِمُ والمَيْسُورُ كَما الميزانْ
العَدلُ بدايةُ مَولِدِنا
تَبّاً لليأَسِ وللأَحْزانْ
وهذا الذي يقرؤه الشاعر في السطر الرابع من رسالة أخيه (الزين) ينقلُنا إلى معاناة الإنسان السوداني في الوطن وفي الغربة، إنه همٌّ واحد، همُّ السلام والطعام، وهنا يأتي الفَرَج بإنتاج القَمح الأسمر بالعَرَق السوداني، ويؤكِّد الشاعر كلمةَ (أسمر) كنايةً عن الاستِغناء عن القمح الأمريكي (الأبيض) الذي يشكِّل عاملَ ضغط وتهديد دائمٍ للسودان.
ويؤكِّد هذا المعنى بقوله في السطر الخامس من الرسالة:
أَخبرَنا السَّاعي بالأَنْباءْ
أن (دُعاةَ الحَرب)
بَقايا داحِسَ والغَبْراءْ
قَد مَنَعوا عنَّا
قَمحَ الإِغْواءْ
حَسَناً فَعَلُوا
فالقَمحُ هُنا مَخبُوءٌ في العَزْم البِكْر
واللهُ يَجودُ بِرَيعِ الخِصْبِ والأَمطارْ
فالشاعر يضع يدَه على الحلِّ الحقيقي (فالقمح هنا مخبوء في العزم البكر).
وبذلك يتحقق مطلب السلام في الاكتفاء وإقامة العدل (المعدم والميسور كما الميزان).(99/8)
وتحتشد في القصيدة الكلماتُ ذات الصِّبغة السودانية مثل: (أطراك، ويدثرك، ويغشاك، والحلة والبابور - مطحنة الذُّرَة والحبوب، والطابونة - والطابور- الوقوف صفوفاً للحُصول على الخبز صباحاً، وتظهر المعاني الإسلامية غيرُ المتكلَّفة في التركيز على دعاء الوالدَين بعفوهما، ودعاء أهل الحيِّ بلعل وعسى المفيدتَين للرَّجاء، والاعتراف بنعمة الله سبحانه الذي (يجود بالرَّيع والأمطار) إذ يمنعُ دعاةَ الحرب (قمح الإغواء).
السفر إلى رَيَّان والسلوة:
في قصيدة (زهرة القَرَنفُل) ندخلُ مع الشاعر في دائرةٍ أضيق في (أسفار العِشق المقيم) فنسمع أنيناً من الشوق العارم وسط ضَجيج الغُربة الصاخب، إذ يتوجَّه الشاعرُ إلى ابنته (ريان) الصغيرة فيقول:
(رَيَّانُ) يا بَعْضِي أَنا
(رَيَّانُ) يا ضَوءَ السَّنا
(رَيَّانُ) يا زَهرَةَ القَرَنفُل
فَوحُه يَشْفي النُّفوسْ
الآنَ جِئتُكِ تائِقاً
هل مِن رَحيقِكِ مِن كُؤوسْ ؟
ويُدخل الشاعرُ في السياق نصفَه الآخر، فيخاطب زوجتَه متوسلاً إليها أن تقنع (ريان) أن هذه المعاناة من أجلها:
يا سَلْوَتي قُولي لها
باللهِ ربِّي ورَبِّها
إنَّ الفِراقَ لأَجْلِها
إنَّ العذابَ لأَجْلِها
إنِّي أُجَمِّرُ حُبَّها
في نارِ فُرقَتِها هُنا
وكلمات (العذاب، وأجمِّر حبَّها، ونار فرقتنا) تعبِّر عن معاناة حقيقية يعيشُها الشاعر بصورته الحقيقيَّة في الاغتراب عن (سلوته) و(ابنته), وبصورته الرمزية التي لا تُفارق دلالات ألفاظه الشعرية في التعبير عن الوطن السوداني، الذي يظهر في نهاية القصيدة في بُعْدٍ إيماني واضح بقوله:
الله تَعلَمُ ما بِنَفْسي مِن تَبارِيحَ سِخانْ
يا ربِّ إنِّي أَصْطَفيكَ بدَعوَتي
ولكَ الزَّمانْ
فَأْمُر زمانَ الهمِّ أن يَمضي
وعَجِّلْ فَرحَةَ الأيَّامْ
الدوران في تيه السين:(99/9)
الهمُّ السوداني يسكن قلبَ الشاعر لا يفارقه، ويملأ عليه تفكيره، وفي شاعرية شَفيفة يرسُم لنا صوراً جميلة، فيقول في قصيدة (أفكر فيك):
أُفكِّرُ فيكِ بعَقلٍ شَفيفٍ
تَكوني مُناخاً لكُلِّ الظُّروفِ
فأنتِ السَّحابُ لِذاكَ الخريفِ.
ويُعيد هذا المطلعَ في مقطع آخرَ قائلاً:
أُفكِّرُ فيكِ بعَقلٍ نَبيلٍ
يَراكِ الضِّياءَ لذاكَ الأَصِيلِ
تَسامَى.. تَسامَى بِخَطوٍ رَقيقِ
فكانَ وِشاحاً بِلَونِ العَقيقِ
ويقول في مقطع ثالث:
أُفكِّرُ فيكِ بعَقلٍ مُعذَّبْ
تَشاقَى زَماناً بوَجْدٍ مُؤَدَّبْ
تَدَفَّقَ حُبّاً بتِلكَ الدِّيارْ
يُغالبُ يَأساً بَناهُ الحِصارْ
ويأتي هذا الحصار من الداخل قبل الخارج، والذي يتمثَّل في:
فذلِكَ نهرٌ بجِسمٍ كَسِيحْ
حُطامُ حُقولٍ بحَجْمٍ فَسِيحْ
بَقايا جُهودٍ بجِسمٍ جَريحْ
تُحيطُ القُصورَ بِذاكَ الخَرابْ
ضَبابٌ كَثيفٌ ووَهمُ السَّرابْ
وأشدُّ من ذلك كلِّه حالةُ الشعب التي أَعيَت من يُداويها:
وذلكَ شَعبٌ قَصيرُ النَّظَرْ
كطِفلٍ يَرومُ شُعاعَ القَمَرْ
فَيأتي الشُّعاعُ بذَيلِ المَطَرْ
فيَهرُبُ خَوفاً يَرومُ الحَذَرْ
ويصل بنا الشاعر إلى الدوران في التيه فيقول:
أقولُ وعَقلي شَقِيٌّ مُعذَّبْ
أُمِرنا جَميعاً بسَعيٍ مُؤَكَّدْ
تَرُدُّ الشِّفاهُ بصَوتٍ مُوَحَّدْ:
سَنَفعَلْ
سَنَسعَى
سَنَعمَلْ
وتَمضِي السُّنونْ
وسينُ سنَفعَلُ فَوقَ الشِّفاهْ !
وأمام هذا التيه يغضبُ الشاعر فيقول :
أُفكِّرُ فيكِ نَشيداً يَثورْ
يُحرِّكُ شَعباً طَوَتهُ الدُّهورْ
فيَغْدو مُهاباً قَويّاً جَسورْ
وعلى أمل أن يستيقظَ الشعب من تيهِ (السِّين) يعود الشاعرُ إلى نفسه ليجدَها بعيداً بعيداً فيقول:
أُفكِّرُ فيكِ بعَقلٍ مُهاجِرْ
يُقيمُ بجِسمٍ ووَجْدٍ مُسافِرْ
أُحلِّقُ حُبّاً بأرضِ بِلادي
وأَسعَى خُشوعاً بأرضِ ووادِ
تَعَلَّقَ نَجماً بَعيداً فُؤادي
وصِرتُ مَداراً لعِشقي وذَاتي
أُفكِّرُ فيكِ لأنكِ أنتِ(99/10)
بلادي وهَمِّي وكلَّ صِفاتي
التجوالُ مع الشاعر سليمان عبد التواب الزين في (أسفار العشق المقيم) سيطولُ بنا إذا لم نستأذنه بالتوقف خشيةَ الإطالة على القرَّاء وإملالهم.
فهذا الديوان يشكِّل وَحدة في رحلة السفر في عالم العشق المقيم في أعماق الشاعر إلى عقيدته، ووطنه، وأهله الذين يرى فيهم مواطنيه، وهو إذ يرسُم مسيرة شعبه المتعثِّرة فإنه يرى طريقَ الخلاص واضحاً في الرجوع إلى الله سبحانه بما أنزل من (القرآن الحكيم).
وفي كلِّ ذلك نجد في الديوان صياغات شعريةً بفنيَّة عالية، غلب عليها شعرُ التفعيلة، ولم يَخلُ من الشعر الموزون المقفَّى الذي رسم من خلاله لوحات شعريةً جميلة أيضاً كقوله في قصيدة (تقدير اللقاء قدر):
فَلَكَمْ تأَجَّجَتِ الصَّبابَةُ قُربَكُم ولَكَمْ يُحَرِّقُني الحَنينُ وذا السَّفَرْ
ولأَنتِ خَفقُ القَلبِ أوَّلَ مرَّةٍ ولأَنتِ دَفقُ القَلبِ ما بَقِيَ العُمُرْ
ومَحَبَّتي فيكِ التِقاءُ عَقيدَةٍ قُرآنُها يا خَيرَ ما عَرَفَ البَشَرْ
وقَسيمَتي سُبُلُ الحياةِ كأنَّها في نِصفِها بَدرُ التَّمامِ أو القَمَرْ
فالفَضلُ مَوصولٌ على إِيثارِها والطَّلُّ مِن فَيضِ الكرامِ مَطَرْ
وبهذا أؤكِّد أن هذا الديوانَ أدبٌ إسلامي جميل بنكهةٍ سودانية خاصة، مع أنه الديوانُ الأول للشاعر.
ــــــــــــــــــــــ
[1] ديوان الشافعي، جمع وتعليق محمد عفيف الزعبي، ص 26-27، دار المطبوعات الحديثة، جُدَّة، ط 4، 1405هـ / 1985م.
[2] ديوان الشافعي، السابق، ص 62-63. وهذه القصيدة لا تثبُت للإمام الشافعي، وقد أُثبِتت في مُلحق ديوان الشافعي جمع وتحقيق ودراسة د. مجاهد مصطفى بهجت، الصادر عن دار القلم بدمشق، ط1، 1420هـ = 1999م، في قسم ما انفردَ بنسبته إلى الشافعي صاحبُ (الجوهر النفيس في أشعار الإمام محمد بن إدريس)، وهو محمد مصطفى، مطبعة النيل بمصر سنة 1903م.(99/11)
العنوان: اسم الفاعل: صَوغُه وعمَلُه
رقم المقالة: 1136
صاحب المقالة: أ.د. محمد عبدالله سعادة
-----------------------------------------
الفِعْلُ لمّا كان يَدُلُّ على المَصْدَرِ بلَفْظِه، وعلى الزمانِ بصِيغَتِه، وعلى المكانِ بمَحِلِّه، اشْتُقَّ منه لهذه الأقسامِ أسماءٌ، ولمّا كان يَدُلُّ على الفَاعِلِ بمَعْناهُ، لأنه حَدَثٌ، والحَدَثُ لا يَصْدُرُ إلا عن فَاعِلٍ اشْتُقَّ مِنه اسْمُ فَاعِلٍ؛ ولذلك اخْتَلَفَتْ تعريفاتُ اسْمِ الفَاعِلِ عندَ النُّحاةِ، فقال ابْنُ الحَاجِبِ[1]: "ما اشْتُقَّ مِن فِعْلٍ لِمَن قامَ به بمَعْنَى الحُدُوثِ" وقولُه: "لمَن قام به" يُخْرِجُ اسْمَ المَفْعُولِ؛ فإنه ليس قائمًا به، وإنما هو واقعٌ عليه، وقولُه: "بمَعْنَى الحُدُوثِ" يُخْرِجُ الصِّفَةَ المُشَبَّهَةَ؛ فإنها تَدُلُّ على الثُّبُوتِ.
وقال ابْنُ مَالِكٍ[2]: "هو الصِّفَةُ الدَّالَّةُ على فاعِلٍ، جارِيَةٌ في التَّذْكِيرِ والتَّأْنِيثِ على المُضَارِعِ".
وقال ابْنُ هِشَامٍ[3]: "ما دَلَّ على الحَدَثِ وفاعِلِه" فخَرَجَ بالحَدَثِ نَحْوُ أَفْضَلَ - اسْمَ تَفْضِيلٍ - وحَسَنٍ - صفةً مُشَبَّهَةً - وخَرَجَ بذِكْرِ فَاعِلِه نَحْوُ مَضْرُوبٍ.(100/1)
واسْمُ الفَاعِلِ الذي يَعْمَلُ عَمَلَ الفِعْلِ هو الذي يَجْرِي على فِعْلِه، ويَطَّرِدُ القِياسُ فيه كما ذَكَرَ ابْنُ السَّرَّاجِ[4]، ويَجُوزُ أن يُنْعَتَ به اسْمٌ قَبْلَه نَكِرَةٌ، كما يُنْعَتُ بالفِعْلِ الذي اشْتُقَّ منه ذلك الاسْمُ، ويُذَكَّرُ ويُؤَنَّثُ، وتَدْخُلُه الْأَلِفُ واللَّامُ، ويُجْمَعُ بالوَاوِ والنُّونِ؛ كالفِعْلِ إذا قُلْتَ: يَفْعَلُونَ، نَحْوُ ضَارِبٍ وقاتِلٍ، يَجْرِي على يَضْرِبُ ويَقْتُلُ، ومَعْنَى جَرَيانِ اسْمِ الفَاعِلِ على الفِعْلِ في حَرَكَاتِه وسَكَنَاتِهِ أنَّ عَدَدَ حُرُوفِ ضَارِبٍ كعَدَدِ حُرُوفِ يَضْرِبُ، وضَادُ ضاربٍ مَفْتُوحَةٌ، كما أنَّ ياءَ يَضْرِبُ مفتوحةٌ، والأَلِفُ ثانِيَةٌ وهيَ ساكِنَةٌ، كما أنَّ ثانيَ يَضْرِبُ ساكِنٌ، والرَّاءُ فيهما ثالِثَةٌ مَكْسُورَةٌ، والباءُ فيهما حَرْفُ إِعْرابٍ.
ونَبَّهَ ابْنُ هِشَامٍ أنَّ المُجَارَاةَ تَقَابُلُ حَرَكَةٍ بِحَرَكَةٍ، لا حَرَكَةٍ بعَيْنِها، فقال[5]: "اسْمُ الفَاعِلِ لا يَكُونُ إلّا مُجَارِيًا للمُضَارِع، فإنه مُجارٍ ليَضْرِبُ، فإن قُلْتَ: هذا مُنْتَقَضٌ بداخِلٍ ويَدْخُلُ، فإنَّ الضَّمَّةَ لا تُقَابِلُ الكَسْرَةَ، قلتُ: اعْتُدَّ في المُجَاراةِ تَقَابُلُ حَرَكَةٍ بحَرَكَةٍ، لا حَرَكَةٍ بعَيْنِها".
وكذلك جاءَ في التَّصْرِيحِ[6]: "إذ لا يُشْتَرَطُ التَّوَافُقُ في أعْيَانِ الحَرَكَاتِ".
وقال ابْنُ هِشَامٍ[7]: "فإن قُلْتَ: كيفَ تَصْنَعُ بقائِمٍ ويَقُومُ؛ فإنّ ثانيَ قائمٍ ساكِنٌ، وثانيَ يَقُومُ مُتَحَرِّكٌ؟ قلتُ: الحَرَكَةُ في ثاني يَقُومُ مَنْقُولَةٌ مِن ثالثِه، والأَصْلُ: يَقْوُمُ كيَدْخُلُ".
صَوْغُ اسْمِ الفَاعِلِ:
اسْمُ الفَاعِلِ مَقِيسٌ[8] مِنَ الفِعْلِ الثُّلاثِيِّ على وَزْنِ فاعِلٍ، في كلِّ فِعْلٍ على وَزْنِ (فَعَلَ) مُتَعَدِّيًا كانَ أو لازِمًا، نَحْوُ ضَرَبَ فهو ضاربٌ، وذَهَبَ فهو ذاهبٌ[9].(100/2)
وإن كان الفِعْلُ على وَزْنِ (فَعِلَ) بكَسْرِ العَيْنِ، فإن كان مُتَعَدِّيًا، فقِياسُه أيضًا أن يَأتيَ اسْمُ الفَاعِلِ على فاعِلٍ؛ نَحْوُ: رَكِبَ فهو راكبٌ، وعَلِم فهو عالمٌ.
وإن كان لازمًا فلا يُقالُ في اسْمِ الفَاعِلِ منه (فَاعِلٌ) إلّا سَماعًا[10]، نَحْوُ أَمِنَ فهو آمِنٌ، وسَلِمَ فهو سالِمٌ، بل قياسُ اسْمِ الفَاعِلِ منه أن يَكُونَ على فَعِلٍ في الأَعْراضِ؛ نَحْوُ: فَرِحَ فهو فَرِحٌ، ونَضِرَ فهو نَضِرٌ، وبَطِرَ فهو بَطِرٌ[11]، وأَشِرَ فهو أَشِرٌ، وتَعِبَ فهو تَعِبٌ، وحَمِقَ فهو حَمِقٌ.
وشَذَّ مَرِيضٌ وسَقِيمٌ وكَهْلٌ؛ إذ قياسُها كفَرِحٍ؛ لأنها أَعْراضٌ.
ويَأتي أيضًا اسْمُ الفَاعِلِ مِن ((فَعِلَ)) اللازمِ على (فَعْلان)، نَحْوُ عَطِشَ فهو عَطْشَانُ، وشَبِعَ فهو شَبْعَانُ، ورَوِيَ فهو ريَّانُ، وصَدِيَ فهو صَدْيَانُ، وسَكِرَ فهو سَكْرانُ.
ويأتي على أفْعَلَ في الأَلْوانِ؛ نَحْوُ: سَوِدَ فهو أَسْوَدُ، وحَمِرَ فهو أَحْمَرُ[12]، وعَوِرَ فهو أَعْوَرُ، وعَشِيَ فهو أَعْشَى وحَوِرَ فهو أَحْوَرُ، وجَهِرَ فهو أَجْهَرُ[13]، ووَجِلَ فهو أَوْجَلُ، وعَرِجَ فهو أَعْرَجُ، وعَمِيَ فهو أَعْمَى، وعَمِشَ فهو أَعْمَشُ.
ويأتي أيضًا على (فَعِيل)؛ نَحْوُ: حَزِنَ فهو حَزِينٌ، وغَنِيَ فهو غَنِيٌّ.
وقد يُسْتَغْنَي عن صِيغَةِ فاعِلٍ مِن فَعَلَ بالفَتْحِ بغَيْرِها؛ نَحْوُ: شَاخَ فهو شيْخٌ، وطَابَ فهو طَيِّبٌ، وشابَ فهو أَشْيَبُ، وعَفَّ فهو عَفِيفٌ[14].
وإذا كان الفِعْلُ على وَزْنِ (فَعُلَ) - ولا يَكونُ إلّا لازمًا - فاسْمُ الفَاعِلِ منه على فاعِلٍ قَلِيلٌ؛ نَحْوُ: حَمُضَ فهو حامِضٌ، وفَرُهَ فهو فَارِهٌ[15].
ويَكْثُرُ مَجِيءُ اسْمِ الفَاعِلِ منه على (فَعْلٍ)[16]؛ نَحْوُ: ضَخُمَ فهو ضَخْمٌ، وشَهُمَ فهو شَهْمٌ، وصَعُبَ فهو صَعْبٌ، وسَهُلَ فهو سَهْلٌ.(100/3)
ويأتي على (فَعِيل)[17]؛ نَحْوُ: جَمُل فهو جَمِيلٌ، وشَرُفَ فهو شَرِيفٌ، وظَرُفَ فهو ظَرِيفٌ، وقَرُبَ فهو قَرِيبٌ، وبَعُدَ فهو بَعِيدٌ، وقد يَأْتِي على غَيْرِ ذلك؛ نَحْوُ: جَبُنَ فهو جَبانٌ، وشَجُعَ فهو شُجاعٌ، وحَرُمَ فهو حَرامٌ، وجَنُبَ فهو جُنُبٌ، وخَشُنَ فهو خَشِنٌ، ومَلُحَ الماءُ فهو مِلْحٌ[18]، ونَجُسَ فهو نَجِسٌ.
وجميعُ هذه الصِّفاتِ[19] التي لَيست على "فاعل" صِفاتٌ مُشَبَّهَةٌ، إن قُصِدَ بها الثُّبُوتُ، وإطلاقُ اسْمِ الفَاعِلِ عليها مَجازٌ في الاصْطِلاحِ الشَّائِعِ، فإن قُصِدَ بها الحُدُوثُ والتَّجَدُّدُ كانتْ أسماءَ فَاعِلِينَ، وأما ما جاء على (فاعل) كضاربٍ وقائمٍ، فاسْمُ فاعلٍ إلا إذا دَلَّ على الثُّبُوتِ، كطاهرِ القَلْبِ، وقامتْ قرينةٌ على ذلك، وأُضِيفَ لمَرْفُوعِه؛ فيكونُ صفةً مُشَبَّهَةً تَجْرِي عليه أحكامُها على الرَّغْمِ مِن بَقَائِه على صُورَةِ اسْمِ الفَاعِلِ.(100/4)
والمَعْلُومُ عندَ النُّحاةِ أن اسْمَ الفَاعِلِ لا يُضَافُ لمَرْفُوعِه، بخلافِ الصِّفَةِ المُشَبَّهَةِ؛ فلا يُقالُ: زَيْدٌ كاتبُ الأَبِ؛ لأنَّ مَنْ كَتَبَ أبُوه لا يَحْسُنُ إِسْنادُ الكِتَابةَ له[20]، أمّا الصِّفَةُ المُشَبَّهَةُ، فيَجُوزُ جَرُّ فَاعِلِها بها؛ نَحْوُ: "حَسَنُ الْوَجْهِ، ومُنْطَلِقُ اللِّسَانِ، وطاهِرُ القَلْبِ"[21]، واسْمُ الفَاعِلِ المُتَعَدِّي لواحِدٍ تَمْتَنِعُ إضافتُه لفَاعِلِه عندَ الجمهورِ، وإن قُصِدَ ثُبُوتُه، أمّا اللازمُ "كقائِمِ الأَبِ"، فإنما تَمْتَنِعُ إضافتُه إذا قُصِدَ به الحُدُوثُ، فإن قُصِدَ به الدَّوامُ كان صفةً مُشَبَّهَةً، وانْطَلَقَ عليه اسْمُها، وجَازَ إضافتُه إلى ما هو فاعِلٌ في المَعْنَى، أما اسْمُ الفَاعِلِ المُتَعَدِّي لأَكْثَرَ من واحِدٍ، فلا يُضَافُ لمَرْفُوعِه اتِّفاقًا[22]، وأَجَازَ ابْنُ مَالِكٍ[23] في اسْمِ الفَاعِلِ المُتَعَدِّي لواحِدٍ أن يُضَافَ إلى مَرْفُوعِه إن لم يَلْتَبِسْ فاعلُه بمَفْعُولِه؛ نَحْوُ: مَرَرْتُ برجلٍ ضاربِ الأَبِ زَيْدًا، أي: ضاربٌ أبوه زيدًا؛ والحاصِلُ من ذلك أنك إذا أَرَدْتَ ثُبُوتَ الوَصْفِ، قلتَ: حَسَنٌ، ولا تَقُولُ: حَاسِنٌ، وإن أردتَ حُدُوثَه قلتَ حاسِنٌ، ولا تَقُولُ حَسَنٌ[24]؛ ولهذا اطَّرَدَ تحويلُ الصِّفَةِ المُشَبَّهَةِ إلى فاعلٍ في قوله تعالى: {وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ} [هود: 12]، عند قَصْدِ النصِّ على الحُدُوثِ[25]، فإن قُصِدَ بالصِّفَةِ المُشَبَّهَةِ مَعْنَى الحُدُوثِ حُوِّلَتْ إلى فاعِلٍ، وإن قُصِدَ ثُبُوتُ مَعْنَى اسْمِ الفَاعِلِ، عُومِلَ مُعَامَلَةَ الصِّفَةِ المُشَبَّهَةِ، ولو كان مِن مُتَعَدٍّ، إن أُمِنَ اللَّبْسُ[26].(100/5)
قال ابْنُ النَّاظِمِ[27]: "ولو قُصِدَ بالصِّفَةِ المُشَبَّهَةِ مَعْنَى الحُدُوثِ حُوِّلَتْ إلى بِنَاءِ اسْمِ الفَاعِلِ، واسْتُعْمِلَتْ اسْتِعْمالَهُ؛ كقولك: زَيْدٌ فارِحٌ أَمْسِ وجامِعٌ غدًا"؛ ومِن ذلك قولُه تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ} [الزمر: 30]؛ لأنّه أُرِيدَ الصِّفَةُ الثابتةُ، أي: إنكَ مِنَ المَوْتَى، وإن كنتَ حَيًّا؛ كما يُقالُ: إنّكَ سَيِّدٌ، فإذا أُرِيدَ أنكَ سَتَمُوتُ أو سَتَسُودُ، قيلَ: مائِتٌ وسائِدٌ"[28].
قال الزَّمَخْشَرِيُّ[29] "والفَرْقُ بين المَيِّتِ والمائِتِ أن المَيِّتَ كالحَيِّ صفةً ثابتَةً ، وأمّا المائتُ، فيَدُلُّ على الحُدُوثِ، تَقُولُ: زيدٌ مائتٌ الآنَ، ومائتٌ غدًا، ونَحْوُهما: ضَيِّقٌ وضائِقٌ، وقُرِئ: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَائِتُونَ} [المؤمنون: 15] بالأَلِفِ، يُرِيدُ حُدُوثَ الصِّفَةِ".
وقد يَأتي اسْمُ الفَاعِلِ على (فُعَلَة) بفَتْحِ العين؛ نَحْوُ: حُطَمَةٍ، وضُحَكَةٍ، وهُمَزةٍ، ولُمَزةٍ، للَّذي يَفْعَلُ ذلك بغَيْرِه، واسْمُ المَفْعُولِ بسُكُونِها؛ قال ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: "ما جاءكَ مِن هذا البابِ على (فُعَلَة) فهو الفاعل، وما جاءكَ على (فُعْلَة) فهو المَفْعُولُ"[30].
وقد يَأْتي (فاعِل)[31] بمَعْنَى ذِي كَذا، في "الصِّحَاحِ": رَجُلٌ خَابِزٌ: ذو خُبْزٍ، وتامِرٌ: ذو تَمْرٍ، ولَابِنٌ: ذو لَبَنٍ، ودَارِعٌ: ذو دِرْعٍ، ونابِلٌ: ذو نَبْلٍ.
وفي "نَوَادِرِ أبي زَيْدٍ": "يُقالُ: القومُ سامِنونَ زابِدُونَ، أي: كَثُرَ سَمْنُهم وزُبْدُهم"، وفي "أَدَبِ الكاتبِ" لِابْنِ قُتَيْبَةَ: "رجلٌ شاحِمٌ لاحِمٌ: ذو شَحْمٍ ولَحْمٍ".(100/6)
وإن كان الفِعْلُ الثُّلاثِيُّ قدِ اعْتَلَّتْ عَيْنُه؛ نَحْوُ: "قَامَ وبَاعَ"، تُبْدَلُ الهَمْزَةُ مِنَ الياءِ والواوِ إذا وَقَعَتَا عَيْنَيْنِ في اسْمِ الفَاعِلِ، بعدَ أَلِفٍ زائدةٍ؛ نَحْوُ "قائم وبائع" فتَحَرَكَّتِ الواوُ والياءُ في قَاوِم وبايِع، وقبلَهما فَتْحَةٌ، وليس بينَهما وبينَها حاجِزٌ إلّا الألفَ الزائدةَ، وهي حاجزٌ غَيْرُ حَصِينٍ، فاعْتَلَّتِ الواوُ والياءُ في اسْمِ الفَاعِلِ حَمْلًا على الفِعْلِ، فقُلِبَتا أَلِفًا، فاجْتَمَعَ ساكِنَانِ، فأُبْدِلَ مِنَ الثانيةِ همزةً، فإن صَحَّ حَرْفُ العِلَّةِ في الفِعْلِ صَحَّ في اسْمِ الفَاعِلِ، نَحْوُ "عاوِر" المَأْخُوذِ مِنْ (عَوِرَ)، ولا يَجُوزُ اللَّفْظُ بالأصلِ في "قائمٍ وبائعٍ ونَحْوِهما"، فلا يُقالُ: "قاوِم"، ولا "بايِع"[32].
صَوْغُ اسْمِ الفَاعِلِ مِنْ غَيْرِ الثُّلاثِيِّ:(100/7)
بِزِنَةِ المضارِعِ منه بعدَ زيادةِ مِيمٍ مَضْمُومَةٍ في أَوَّلِهِ، وبكَسْرِ ما قبلَ آخِرِه[33] مطلقًا؛ نَحْوُ: قاتَلَ يُقَاتِلُ فهو مُقاتِلٌ، ودَحْرَجَ يُدَحْرِجُ فهو مُدَحْرِجٌ، وشذَّ الفَتْحُ في ألفاظٍ؛ نَحْوُ: أَحْصَنَ فهو مُحْصَنٌ، فاسْتَغْنَوا بمُفْعَلٍ عن مُفْعِلٍ، وجاء الكَسْرُ على الأصلِ، ونَحْوُ: أَلْفَجَ الرجلُ فهو مُلْفَجٌ، أي: فَقِيرٌ، وفي الحديث: ((ارْحَمُوا مُلْفَجَكُم))[34]، وسُمِعَ: أُلْفِجَ مَبْنِيًّا للمَفْعُول، وعلى هذا فلا شُذوذَ، ونَحْوُ: أَسْهَبَ الرجلُ في الكلام، إذا أَكْثَرَ كلامَه وجاوَزَ الحَقَّ، فهو مُسْهَبٌ بالفَتْحِ، ومن ذلك[35]: أعَمَّ وأخْوَلَ، إذا كَثُرَتْ أَعْمَامُه وأَخْوَالُه، فهو مُعَمٌّ ومُخْوَلٌ. وقال الأَزْهَرِيُّ[36]: يُقالُ: أَنْتَجَتِ الناقةُ إذا اسْتَبَانَ حَمْلُها فهي نَتُوجٌ، ولا يُقال مُنْتِجٌ على الأصلِ، وهو القياسُ، إلّا أن العربَ اسْتَغْنَتْ عنه بـ (نَتُوج)، ويُقال: أَحْصَرَتِ الناقةُ إذا ضاق مَجْرَى لَبَنُها فهي حَصُورٌ.
وقد يَأتي الشيءُ مَرَّةً بلَفْظِ المَفْعُولِ، ومَرَّةً بلَفْظِ الفَاعِلِ، والمَعْنَى واحِدٌ، تَقُولُ العَرَبُ[37]: "عَبْدٌ مُكاتِبٌ، ومُكاتَبٌ"، و"مكانٌ عامِرٌ، ومَعْمُورٌ"، "ومَنْزِلٌ آهِلٌ ومَأْهُولٌ".
ورُبَّما اسْتُغْنِيَ عن (مُفْعِل)[38] بفاعِلٍ، قالوا: أَيْفَعَ الغُلَامُ، إذا شَبَّ، فهو يافِعٌ، والقياسُ مُوفِعٌ، وسُمِعَ يَفَعَ الغلامُ مِنَ الثُّلاثِيِّ، ويُقالُ: أَوْرَقَ الشَّجَرُ فهو وارِقٌ، والقياسُ مُورِقٌ، وأَوْرَسَ الشجرُ إذا اخْضَرَّ وَرَقُه، فهو وارِسٌ، وجاء مُورِسٌ قليلًا، وأَعْشَبَ فهو عاشِبٌ.
وشَذَّ أيضًا: أَمْحَلَ البَلَدُ، إذا قَحَطَ فهو ماحِلٌ، وأَلْقَحَتِ الرِّيحُ[39] فهي لاقِحةٌ؛ قال تعالى: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ}[40].(100/8)
وقد يُسْتَغنَى أيضًا عن فاعِلٍ بمُفْعِلٍ، قالوا: حَبَّه فهو مُحِبٌّ[41]، ولم يَقُولوا حابٌّّ.
كما اسْتَغْنَوْا عن (مُفْعَل) بمَفْعُولٍ فيما له ثلاثيٌّ؛ نَحْوُ: أَحَبَّه فهو مَحْبُوبٌ، ونَدَرَ: مُحَبٌّ.
وقد جاء (فاعِل) في مَوْضِعِ مَفْعُولٍ، نَحْوُ: "ماءٌ دافِقٌ"[42]، أي: مَدْفُوقٌ، و"عِيشَةٌ رَاضِيةٌ"، أي: مَرْضِيَّةٌ.
وكذا يَكونُ اسْمُ الفَاعِلِ بوَزْنِ المَفْعُولِ؛ كقوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا} [مريم: 61]؛ أي: آتِيًا، قال الرَّضِيُّ[43]: "والأَوْلى أنه مِنْ أَتَيْتُ الأمْرَ؛ أي: فَعَلْتُهُ، فالمَعْنَى::إِنَّهُ كان وَعْدُه مَفْعُولًا كما في الآيةِ الأخْرَى".
وقد يَأتي اسْمُ الفَاعِلِ مَقَامَ المَصْدَرِ[44]؛ نَحْوُ: قُمْ قائمًا، أي: قيامًا؛ قال الرَّاجِزُ[45]:
قُمْ قائمًا، قُمْ قائما لَقِيتَ عَبْدًا نائما
وقد جاء المَصْدَرُ[46] على فَاعِلَة؛ نَحْوُ: باقِيةٍ بمَعْنَى بَقَاءٍ؛ {فَهَلْ تَرَى لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ} [الحاقة: 8]، وطاغِيَةٍ بمَعْنَى الطُّغْيَانِ.
قال أَبُو حَيَّانَ[47]: "مِنْ بَاقِيَةٍ"؛ أي: من بقاءٍ، مَصْدَرٌ على فاعِلَةٍ، كالعاقِبَةِ.
وقال أَبُو حَيَّانَ[48] - في قوله تعالى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ}- جَوَّزُوا أن تَكُونَ (خائنة) مَصْدَرًا كالعاقبة، أي: يَعْلَمُ خيانةَ الْأَعْيُنِ.
وقال ابنُ جِنِّي[49] "فيَجُوزُ أن يَكونَ مَصْدَرًا، أي: خِيانةً منهم".
وقال ابنُ جِنِّي[50]: "مَرَرْتُ به خاصَّةً، أي: خُصُوصًا، مِنَ المَصَادِرِ التي على فاعِلَة".
وقال أَبُو حَيَّانَ[51] في قوله تعالى: {فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ} [الحاقة: 5]: "وقِيلَ: الطَّاغِيَةُ مَصْدَرٌ؛ كالْعاقِبَةِ، ويَدُلُّ عليه: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا}.(100/9)
وقال تعالى: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا}، قال الزَّمَخْشَرِيُّ[52]: "النَّفْسُ النَّاشِئَةُ مَصْدَرٌ، مِن نَشَأَ، إذا قام ونَهَضَ على (فاعِلَة) كالعاقِبة".
وقد يُوضَعُ المَصْدَرُ مَقامَ اسْمِ الفَاعِلِ، نَحْوُ: رجلٌ عَدْلٌ، أي: عادِلٌ، وماءٌ غَوْرٌ، أي: غائِرٌ، وجاء رَكْضًا، أي: راكِضًا؛ قال أَبُو حَيَّانَ[53]: {وَأَنْزَلَ الفُرْقَانَ}، الفُرْقانُ: مَصْدَرٌ في الأَصْلِ، وأُرِيدَ به اسْمُ الفَاعِلِ، أيِ: الفَارِقُ".
وقال تعالى: {لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا}،كَرْهًا: مَصْدَرٌ يَقَعُ بمَعْنَى اسْمِ الفَاعِلِ؛ أي: كارِهاتٍ[54].
وجاء أسماءٌ بمَعْنَى اسْمِ الفَاعِلِ، نَحْوُ: "حَسْبُنا اللهُ" بمَعْنَى المُحْسِبِ، أيِ: الْكَافِي، قال أَبُو حَيَّانَ[55]: ألَا تَرَى أنه يُوصَفُ به، تَقُولُ: مَرَرْتُ برجلٍ حَسْبِكَ مِنْ رجلٍ؛ أي: كافِيكَ، فتَصِفُ به النَّكِرَةَ؛ إذْ إضافتُه غَيْرُ مَحْضَةٍ؛ لِكَونِه في مَعْنَى اسْمِ الفَاعِلِ غَيْرِ الماضي المُجَرَّدِ مِنْ أَلْ، فلا يَتَعَرَّفُ بالإضافةِ.
وقد يُقالُ: لماذا سُمِّيَ "اسْمُ الفَاعِلِ" بلَفْظِ الفَاعِلِ، الذي هو وَزْنُ اسْمِ الفَاعِلِ منَ الثُّلاثِيّ، ولم يَقُولوا: "اسْمُ المُفْعِل" إذا كان مِن غَيْرِ الثُّلاثِيِّ؛ قال ابنُ الحَاجِبِ[56]: "إنما سُمِّيَ اسْمُ الفَاعِلِ بلَفْظِ الفَاعِلِ لِكَثْرَةِ الثُّلاثِيِّ، فَجَعَلُوا أَصْلَ البابِ له، فلم يَقُولوا: "المُفْعِل" ولا "المُسْتَفْعِل"؛ ولأنهم أَطْلَقُوا اسْمَ الفَاعِلِ على مَنْ لم يَفْعَلِ الفِعْلَ؛ كالمُنْكَسِرِ، والمُتَدَحْرِجِ، والجَاهِلِ، والضَّامِرِ".
الثُّبُوتُ والحُدُوثُ في اسْمِ الفَاعِلِ:(100/10)
ذَكَرَ النُّحَاةُ أنَّ اسْمَ الفَاعِلِ هو ما دَلَّ على الحُدُوثِ، وأنَّ الصِّفَةَ المُشَبَّهَةَ ما اشْتُقَّتْ من فِعْلٍ لازِمٍ على مَعْنَى الثُّبُوتِ[57]، ومُقْتَضَى ذلك أن التفريقَ بين اسْمِ الفَاعِلِ والصِّفَةِ المُشَبَّهَةِ قائمٌ على الحُدُوثِ وَضْعًا في اسْمِ الفَاعِلِ، وعلى الثُّبُوتِ وَضْعًا في الصِّفَةِ المُشَبَّهَةِ، ولكنَّ الواقعَ غَيْرُ ذلك، فقد رَأَيْنا كثيرًا ممّا جاء على فاعلٍ يَدُلُّ على الثُّبُوتِ، وبعضًا مِنَ الصِّفَةِ المُشَبَّهَة يَدُلُّ على الحُدُوثِ، وقد ذَكَرَ النَّحْوِيُّونَ هذا:
قال الشَّيْخُ يَس[58]: "وكثيرًا ما يُسْتَعْمَلُ اسْمُ الفَاعِلِ مِنْ غَيْرِ إِفادَةِ التَّجَدُّدِ والحُدُوثِ؛ كما في "اللهُ عالِمٌ"، وغَيْرِ ذلك".
وقال الجُرْجَانِيُّ[59]: "فإذا قلتَ: "زَيْدٌ مُنْطَلِقٌ"، فقد أَثْبَتَّ الانْطِلاقَ فِعْلًا له مِن غَيْرِ أن تَجْعَلَهُ يَتَجَدَّدُ، ويَحْدُثُ منه شيئًا فشيئًا، بل يَكونُ المَعْنَى فيه كالمَعْنَى في قولك: زيدٌ طويلٌ، وعَمْرٌو قَصِيرٌ".
وقال أَبُو حَيَّانَ[60]: "المضارِعُ - فيما ذَكَرَ البَِيَانِيُّونَ - مُشْعِرٌ بالتَّجَدُّدِ والحُدُوثِ بخلاف اسْمِ الفَاعِلِ؛ لأنه عندَهم مُشْعِرٌ بالثُّبُوتِ".
ولذا جاء قولُه تعالى: {أَوَ لَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ}.
فجاءَ باسْمِ الفَاعِلِ (صَافَّاتٍ)؛ لأنَّ الأصلَ في الطَيَرانِ هو صَفُّ الأَجْنِحَةِ، وجاء بالمضارِع (يَقْبِضْنَ)؛ لأن القَبْضَ طارئٌ على البَسْطِ، بمعني أنهنَّ صافاتٌ، ويَكونُ القَبْضُ منهنَّ تارةً بعدَ تارةٍ؛ ذلك لأن المضارعَ هنا للتَّجَدُدِ والحُدُوثِ، بخلاف اسْمِ الفَاعِلِ - صَافَّاتٍ - الدَّالِّ على الثُّبُوتِ[61].(100/11)
وقال أَبُو حَيَّانَ - في قوله تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30]- "وجَعَلَ الخَبَرَ اسْمَ فاعلٍ؛ لأنه يَدُلُّ على الثُّبُوتِ دونَ التَّجَدُدِ شيئًا فشيئًا"[62].
وقال - في قوله تعالى: {واللهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة: 72] – "أَتَى باسْمِ الفَاعِلِ لأنه يَدُلُّ على الثُّبُوتِ، ولم يأتِ بالفِعْلِ الذي هو دَالٌّ على التَّجَدُّدِ والتِّكْرَارِ إِذْ لا تَجَدُّدَ فيه"[63].
وقال - في قوله تعالى: {إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة: 14] – "أَتَى باسْمِ الفَاعِلِ الذي يَدُلُّ على الثُّبُوتِ، وأنَّ الِاسْتِهْزَاءَ وَصْفٌ ثابِتٌ لَهُم"[64].
والصِّفَةُ المُشَبَّهَةُ - كذلك - لم تُوضَعْ للثُّبُوتِ دائمًا؛ قال الرَّضِيُّ[65]: "والذي أَرَى أن الصِّفَةَ المُشَبَّهَةَ كما أنها ليست موضوعةً للحُدُوثِ، ليست أيضًا موضوعةً للثُّبُوتِ في جميعِ الأَزْمِنةِ، لأنَّ الحُدُوثَ والاسْتِمْرارَ قَيْدانِ في الصِّفَةِ، ولا دَلَالَةَ فيها عليهما، لكن لمّا أُطْلِقَ ولم يكن بعضُ الأزمنةِ أَوْلَى من بعض، كان الظاهرُ ثُبُوتَه في جميع الأزمنة إلى أن تقومَ قرينةُ التَّخْصِيصِ؛ نَحْوُ: كان هذا حسنًا فقَبُحَ".(100/12)
مَعْنَى ذلك: أن الحدَّ الذي وَضَعَه النحاةُ للتفريقِ بينهما يَتَطَّرَقُ إليه اللَّبْسُ؛ لأن كثيرًا مما جاء على (فاعِل) يُفيدُ الثُّبُوتَ، لا الحُدُوثَ؛ كطاهرٍ وفاسِقٍ، وهذه الصِّفاتُ يُلْحِقُها بعضُ النُّحاةِ باسْمِ الفَاعِلِ اعْتِبارًا للصِّيغَةِ، ومنهم من يُلْحِقُها بالصِّفَةِ المُشَبَّهَةِ اعتبارًا للدَّلَالةِ، وقد يُقالُ إن العِبْرةَ بالأصلِ، لا بالفَرْعِ الطارئِ، أَعْنِي أن الأصلَ في اسْمِ الفَاعِلِ الدَّلَالَةُ على الحُدُوثِ، والثُّبُوتُ طارئٌ عليه، والأصلُ في الصِّفَةِ المُشَبَّهَةِ الثُّبُوتُ، والحُدُوثُ طارئٌ، وهذا ما جَعَلَ الرَّضِيَّ يَقولُ[66]: "ذلك لأن صِيغَةَ الفَاعِلِ مَوْضُوعَةٌ للحُدُوثِ، والحُدُوثُ فيه أَغْلَبُ".
وقد مَثَّلَ ابْنُ هِشَامٍ[67] للصفةِ المُشَبَّهَةِ بمستقيمِ الرَأْيِ، ومُعْتَدِلِ القَامَةِ، وهذا يَدُلُّ على أن اسمَ الفَاعِلِ مِن غَيْرِ الثُّلاثِيِّ يَكونُ أحيانًا صفةً مُشَبَّهَةً.
ونَرَى فيما تَقَدَّمَ أن الأصلَ في الحُدُوثِ والثُّبُوتِ هو الاسْتِعْمالُ، وأن كثيرًا مِنِ اسْمِ الفَاعِلِ دالٌّ على الثُّبُوتِ، وأنه يَدُلُّ على الحُدُوثِ تارةً أخرى، وهذا يُفَسِّرُ قَولَ النُّحاةِ: "إذا قُصِدَ بالصِّفَةِ المُشَبَّهَةِ مَعْنَى الحُدُوثِ حُوِّلَتْ إلى فَاعِلٍ، وإن قُصِدَ ثُبُوتُ اسْمِ الفَاعِلِ عُومِلَ مُعامَلَةَ الصِّفَةِ المُشَبَّهَةِ"[68].
وقد ذَكَرَ النحاةُ أن الصِّفَةَ المُشَبَّهَةَ فَرْعٌ عنِ اسْمِ الفَاعِلِ في العَمَلِ، وهي بَعْضُه، وقد عَبَّرَ بعضُهم باسْمِ الفَاعِلِ على ما عُرِفَ أنه صفةٌ مُشَبَّهَةٌ، كعَظِيمٍ وطَيِّبٍ؛ قال أَبُو حَيَّانَ - في قوله تعالى: {حَلَالًا طَيِّبًا} [البقرة: 168] –: "طَيِّبًا: اسْمُ فاعل"[69].(100/13)
وقال تعالى: {لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 105]. "اسْمُ فاعلٍ مِن عَظُمَ، غَيْرَ مَذْهُوبٍ به مَذْهَبُ الزَّمانِ"[70].
إعمالُ اسْمِ الفَاعِلِ:
يَعْمَلُ اسْمُ الفَاعِلِ عَمَلَ فِعْلِه مُتَعَدِّيًا ولازمًا، وهو فَرْعٌ[71] مِنَ الفِعْلِ في العَمَلِ، ونَشَأَ خلافٌ بين النحاة في عَمَلِ اسْمِ الفَاعِلِ، ومَنْشَأُ الخلافِ هو حَمْلُ اسْمِ الفَاعِلِ على الفِعْلِ لَفْظًا ومَعْنًى؛ لأن طائفةً مِنَ النحاةِ تَأْخُذُ بِجَرَيَانِ اسْمِ الفَاعِلِ على الفِعْلِ في اللَّفْظِ والمَعْنَى، وطائفةً أخرى تَأْخُذُ بِجَرَيَانِه في المَعْنَى دونَ اللَّفْظِ، وتَرَتَّبَ على هذا الخلافِ خلافٌ في الفروعِ، وأَكْثَرُ النحاةِ يُعَوِّلُونَ على المُجَاراةِ اللَّفْظِيّةِ والمَعْنَوِيَّةِ؛ قال سِيبَوَيْهِ[72]: "بابٌ مِنِ اسْمِ الفَاعِلِ الذي جَرَى مَجْرَى الفِعْلِ المُضارِعِ، وذلك قولُك: هذا ضاربٌ زيدًا غدًا، فمعناه وعَمَلُه: هذا يَضْرِبُ زيدًا غدًا".
وقال[73]: "بابٌ صار فيه الفاعِلُ بمَنْزِلَةِ الذي فَعَلَ في المَعْنَى، وما يَعْمَلُ فيه، وذلك قولُكَ، هذا الضَّارِبُ زَيْدًا، فصار في مَعْنَى: الذي ضَرَبَ زيدًا وعَمِلَ عَمَلَه".
وقال ابنُ يَعِيشَ[74]: "واعْلَمْ أنَّ اسمَ الفَاعِلِ الذي يَعْمَلُ عمَلَ الفِعْلِ هو الجارِي مَجْرَى الفِعْلِ في اللَّفْظِ والمَعْنَى".
وقال الرَّضِيُّ[75]: "واسْمُ الفَاعِلِ يَعْمَلُ لمشابَهةِ الفِعْلِ لَفْظًا ومَعْنًى.
ومُقْتَضَى ذلك بُطْلَانُ عَمَلِ اسْمِ الفَاعِلِ، إذا بَطَلَتِ المُشَابَهَةُ اللَّفْظِيَّةُ والمَعْنَوِيَّةُ؛ ولذلك إذا كان اسْمُ الفَاعِلِ بمَعْنَى الماضي لا يَعْمَلُ عَمَلَ الفِعْلِ؛ لعَدَمِ جَرَيَانِه على الفِعْلِ، فهو مُشْبِهٌ له مَعْنًى لا لَفْظًا، فلا تَقَولُ: هذا ضاربٌ زَيدًا أَمْسِ، بل يَجِبُ إضافتُه.
شروطُ عمل اسْمِ الفَاعِلِ:(100/14)
وَضَعَ النّحْوِيُّونَ شروطًا لِعَمَلِ اسْمِ الفَاعِلِ، وهو لا يَخْلُو مِن أن يكون مَقْرونًا بأَلْ، أو مُجَرَّدًا منها، فإن كان مُجَرَّدًا مِنْ (أَلْ) عَمِلَ عَمَلَ فِعْلِه إن كان حالًا أو مستقبَلًا؛ نَحْوُ: هذا ضاربٌ زيدًا الآنَ أو غدًا، وإنما عَمِلَ كما قُلْنا لجَرَيَانِه على الفِعْلِ الذي هو بمعناه، فضاربٌ يُشْبِهُ (يَضْرِبُ) في اللَّفْظِ والمَعْنَى؛ لأن المضارعَ للحالِ أوْ الِاسْتِقْبَالِ.
قال ابْنُ السَّرَّاجِ[76]: "تَقولُ: هذا ضاربٌ زيدًا، إذا أردتَ بضاربٍ ما أنتَ فيه، أوِ المُسْتَقْبَلَ كمَعْنَى الفِعْلِ المضارِع له، فإذا قلتَ هذا ضاربُ زيدٍ، تُرِيدُ به مَعْنَى المُضِيِّ فهو بمَعْنَى غلامِ زَيْدٍ، لم يَجُزْ فيه إلا هذا؛ يَعْنِي: الإضافةَ والخَفْضَ.
شروطٌ أخرى غَيْرُ كَونِه بمَعْنَى الحال والاستقبال:
أولاً: ألّا يُوصَفَ، ولا يُصَغَّرَ، وإنما اسْتَوَى التَّصْغِيرُ مع الصِّفَة في مَنْعِ العَمَلِ؛ لأن التَّصْغِيرَ وَصْفٌ في المَعْنَى، والوَصْفُ والتَّصْغِيرُ يَخْتَصَّانِ بالِاسْمِ، فيُبْعِدانِ الوَصْفَ عنِ الفِعْلِيَّةِ، فيَضْعُفُ العَمَلُ[77]، قال ابْنُ السَّرَّاجِ[78]: "ولا يُحَقَّرُ الاسْمُ إذا كان بمَعْنَى الفِعْلِ، نَحْوُ: هو ضُوَيْرِبٌ زَيْدًا، وإن كان ضاربَ زيدٍ؛ لِما مَضَى، فتَحْقِيرُه جَيِّدٌ".
وقال الرَّضِيُّ[79]: "ويُشْتَرَطُ في اسْمِ الفَاعِلِ والمَفْعُولِ ألّا يَكونا مُصَغَّرَينِ، ولا مَوْصُوفَينِ؛ لأن التَّصْغِيرَ والوصْفَ يُخْرِجَانِه عن تَأْوِيلِه بالفِعْلِ".
ويُعَلِّلُ السُّيُوطِيُّ عَدَمَ إعمالِ اسْمِ الفَاعِلِ المُصَغَّرِ عندَ الْبَصْرِيِّينَ، فقال[80]: "فلا يَجُوزُ: هذا ضُوَيْرِِبٌ زيدًا؛ لعدمِ وُرُودِه، ولدخولِ ما هو مِنْ خَوَاصِّ الاسْمِ عليه، فَبَعُدَ عن شَبَهِ المضارِع بتَغْيِيرِ بِنْيَتِه التي هي عُمْدَةُ الشَّبَهِ.(100/15)
وأجاز الْكِسَائِيُّ[81] إعمالَ اسْمِ الفَاعِلِ المُصَغَّرِ والمَوْصُوفِ، وحَكَى عن بعضِهم: "أَظُنُّنِي مُرْتَحِلًا وسُوَيِّرًا فَرْسَخًا"، ولا حُجَّةَ له في ذلك؛ لأن (فَرْسَخًا) ظَرْفٌ يَكْتَفِي برائحةِ الفِعْلِ، والظَّرْفُ يُتَوَسَّعُ فيه.
وأَرَى أن الْكِسَائِيَّ صَرَّحَ بعَمَلِ اسْمِ الفَاعِلِ المُصَغَّرِ؛ لأن اسمَ الفَاعِلِ المُكَسَّرَ يَعْمَلُ مِثْلَ: "هؤلاءِ ضَوَارِبٌ زَيدًا"، والتَّصْغِيرُ والتَّكْسِيرُ مِن خَواصِّ الأسماء، وهما يَرُدَّانِ الأشياءَ إلى أُصولها؛ ولذا لَمَحَ الْكِسَائِيُّ هذه الصِّلَةَ بينَهما، فأجاز عَمَلَه[82].
والفَرَّاءُ[83] مَذْهَبُه مَذْهَبُ البَصْرِيِّينَ: وهو أن المُصَغَّرَ لا يَعْمَلُ، فلا تَقُولُ: هذا ضُوَيْربٌ زيدًا، بل يَجِبُ الإضافةُ، أمّا الكُوفِيُّونَ - غَيْرَ الفَرَّاءِ - فنَسَبَ في "الهَمْعِ" إعمالَ المُصَغَّرِ إليهم، قال السُّيُوطِيُّ[84]: "وقال الْكُوفِيُّونَ إلا الفَرَّاءَ، ووافَقَهمُ النَّحَّاسُ: يَعْمَلُ مُصَغَّرًا، بِناءً على مَذْهَبِهم أن المُعْتَبَرَ شَبَهُهُ الفِعْلَ في المَعْنَى لا الصُّورَةِ.
وأَجَازَ ابْنُ هِشَامٍ[85] وَصْفَ اسْمِ الفَاعِلِ بعدَ العَمَلِ، فَجَوَّزَ أن يَكونَ (يَبْتَغُونَ) مِن قَولِه تعالى: {وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ} [المائدة: 2] - نَعْتًا لآمِّينَ، ورَدَّ على أبِي البَقَاءِ مَنْعَه ذلك.
قال ابنُ عُصْفُورٍ[86]: "إنْ وُصِفَ اسْمُ الفَاعِلِ بعدَ العَمَلِ عَمِلَ، مثلُ: هذا ضارِبٌ زَيدًا عاقلٌ، وإن وُصِفَ اسْمُ الفَاعِلِ قبلَ العَمَلِ لا يَجُوزُ عملُه، فلا يُقالُ: هذا ضاربٌ عاقلٌ زَيدًا". وأَجَازَ الْكِسَائِيُّ إعمالَه إذا وُصِفَ قبلَ العَمَلِ. واحْتَجَّ بقولِ الشَّاعِرِ[87].
إذا فَاقِدٌ[88] خَطْبَاءُ[89] فَرْخَيْنِ[90] رَجَّعَتْ[91] ذَكَرْتُ سُلَيْمَى في الخَلِيطِ المُزَايلِ[92](100/16)
لأن (فَرْخَينِ) معمولٌ لفاقدٍ الموصوفِ بِـ (خَطْبَاءُ)، وأُجِيبَ بأنه مَنْصُوبٌ بِإِضْمارِ فِعْلٍ يُفَسِّرُهُ (فَاقِدٌ)، تَقْدِيرُه: فَقَدَتْ فَرْخَيْنِ؛ لأنَّ "فَاقِدٌ"[93] صفةٌ غَيْرُ جارِيةٍ على الفِعْلِ في التَّأْنِيثِ، واسْمُ الفَاعِلِ إذا لم يَجْرِ على الفِعْلِ في تذكيرِه وتأنيثِه لا يَعْمَلُ.
ثانيًا: ألّا يَكونَ بمَعْنَى الماضِي؛ وذلك لعَدَمِ تَحَقُّقِ المُجَاراةِ اللَّفْظِيَّةِ، فهو يُشْبِهُ الفِعْلَ في المَعْنَى فَقَطْ؛ قال ابنُ يَعِيشَ[94]: "وقد بَيَّنْتُ ألَّا مُضَارَعةَ بين الماضي واسْمِ الفَاعِلِ إن كان في معناه، فَلَمَّا لم يَكُن بينَهما مُضارعَةُ ما بَيْنَه وبينَ الفِعْلِ إن أُرِيدَ به الحالُ أوْ الِاسْتِقْبالُ، لم يُعْمِلُوه عَمَلَه، بل يَكونُ مضافًا إلى ما بعدَه بحُكْمِ الِاسْمِيّةِ.
وقال الرَّضِيُّ[95]: إنما اشْتُرِطَ أحدُ الزَّمَانَينِ؛ ليَتِمَّ مُشابَهةُ الفِعْلِ لَفْظًا ومَعْنًى؛ لأنه إذا كان بمَعْنَى الماضي شابَهَهُ مَعْنًى لا لَفْظًا.
وقال الشَّيْخُ خَالِدٌ[96]: "لأنه إنما عَمِلَ حَمْلًا على المضارِعِ؛ لِما بينَهما مِنَ الشَّبَهِ اللَّفْظِيِّ والْمَعْنَوِيِّ، لا الماضِي؛ لأنه لم يُشْبِهْ لَفْظَ الفِعْلِ الذي هو بمَعْناهُ، خِلافًا للْكِسَائِيِّ في إِجازةِ عَمَلِهِ بمَعْنَى الماضي".
ولا يُقالُ إن الوَصْفَ عَمِلَ[97] ماضيًا، نَحْوُ: كان زيدٌ آكِلًا طَعَامَكَ؛ لأن الأصلَ زيدٌ آكِلٌ طعامَك، فلمّا دخلتْ (كان) قُصِدَ حِكايةُ التَّرْكِيبِ السابقِ؛ ولذا قال الشَّيْخُ الخُضَرِيُّ[98]: "وإن كان بمَعْنَى الماضي لم يَعْمَلْ إلا إذا صَحَّ وُقُوعُ المُضارِعِ مَوْقِعَهُ، نَحْوُ: كان زيدٌ ضاربًا عَمْرًا أَمْسِ؛ لصحَّةِ: كان زيدٌ يَضْرِبُ، بِخِلافِ هذا ضاربٌ زيدًا أَمْسِ؛ لعدمِ صِحَّةِ يَضْرِبُ بَدَلَه.(100/17)
وأجاز الكِسَائِيُّ وابنُ مَضَاءٍ وهِشَامٌ الضَّرِيرُ أن يَعْمَلَ اسْمُ الفَاعِلِ بمَعْنَى الماضي مطلقًا؛ كما يَعْمَلُ بمَعْنَى الحال والاستقبالِ سواءً، وتَمَسَّكَ بِجَوَازِ نَحْوِ: زيدٌ مُعْطِي عَمْرٍو أَمْسِ دِرْهَمًا، وقال الجمهورُ فيه: هو منصوبٌ بفِعْلٍ مدلولٍ عليه باسْمِ الفَاعِلِ، كأنه لمّا قال: (مُعْطِي عَمْرٍو) قيل: وما أَعْطَي قال دِرْهَمًا، أي: أَعْطَاهُ دِرْهَمًا[99].
قال الفَارِسِيُّ[100]: "كان أبو بَكْرٍ يقولُ في قولهم: "هذا مُعْطِي زيدٍ الدِّرْهمَ أَمْسِ": إنَّ الدِّرْهمَ يَنْتَصِبُ بمُضْمَرٍ يَدُلُّ عليه (مُعْطِي)، ولا يَكُونُ أَنْ يَنْتَصِبَ بـ (مُعْطِي)؛ لأنه ماضٍ".
وذَهَبَ السِّيرَافِيُّ، والأَعْلَمُ، والشَّلَوْبِينُ إلى أن (دِرْهمًا) منصوبٌ بـ (مُعْطٍ) المذكورِ، وإن كان ماضيًا؛ لقُوَّةِ شَبَهِهِ هنا بالفِعْلِ مِن حيثُ طَلَبُه ذلك المعمولَ[101].
واحْتَجَّ الْكِسَائِيُّ[102] أيضًا بقوله تعالى: {وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ} [الكهف: 18].
ولا حُجَّةَ له فيه؛ لأنه حكايةُ حالٍ ماضيةٍ، ومَعْنَى حكايةِ الحالِ الماضيةِ: أن تُقَدِّرَ نَفْسَكَ كأنكَ موجودٌ في ذلك الزمانِ، أو تُقَدِّرَ ذلك الزمانَ كأنه موجودٌ الآنَ، فالمقصودُ بحكايةِ الحالِ حكايةُ المَعَانِي الكائنةِ حِينَئِذٍ، لا الألفاظِ؛ ولذا قال تعالى: {وَنُقَلِّبَهُمْ} بالمضارِعِ الدَّالِّ على الحالِ، ولم يَقُلْ "وَقَلَّبْناهُمْ" بالماضي.
وقال بعضُهم[103]: لا حاجةَ إلى تَكَلُّفِ حكايةِ الحالِ؛ لأن حالَ أهلِ الكَهْفِ مُسْتَمِرٌّ إلى الآنَ، فيَجُوزُ أن يُلاحَظَ في (باسِطٌ) الحالُ، فيكونُ عاملًا.
ويَدُلُّ على بُطْلانِ مَذْهَبِ الْكِسَائِيِّ في إعمال اسْمِ الفَاعِلِ بمَعْنَى الماضي - وَصْفُه بالْمَعْرِفَةِ في قول الشَّاعِرِ النَّابِغَةِ الذُّبْيَانِيِّ يَعْتَذِرُ للنُّعْمَانِ[104].(100/18)
لَئِنْ كُنْتَ قَدْ بُلِّغْتَ عنِّي خِيانةً لَمُبْلِغُكَ الوَاشِي أَغَشُّ وَأَكْذَبُ
لأن (مُبْلِغُكَ) بمَعْنَى الماضي، والواشي: صِفَتُه، ولو عَمِلَ (مُبْلِغُ) لم يَتَعَرَّفْ، بل كان نَكِرَةً؛ لأن اسمَ الفَاعِلِ بمَعْنَى الماضي إضافتُه مَحْضَةٌ، وتُفِيدُ التَّعْرِيفَ.
وَيَنْبَغِي أن يُعْلَمَ أن مَحَلَّ الخلافِ في عَمَلِ اسْمِ الفَاعِلِ الماضي المجرَّدِ مِن (أل) بالنسبةِ إلى نَصْبِه المَفْعُولَ، أمّا رَفْعُه الفاعِلَ، فإن كان ضَمِيرًا بارزًا، أو مُسْتَتِرًا رفَعَه اتفاقًا بلا خلافٍ، وإن كان ظاهرًا فذَهَبَ بعضُهم إلى أنه لا يَرْفَعُهُ، وبه قال ابْنُ جِنِّي والشَّلَوْبِينُ، وذَهَبَ قومٌ إلى أنه يَرْفَعُه، وهو ظاهرُ كلام سِيبَوَيْهِ، واختاره ابنُ عُصْفُورٍ.
وشَرْطُ عَمَلِ اسْمِ الفَاعِلِ الرفْعَ في الفَاعِلِ الظاهرِ -: الاعْتِمادُ، لا كَوْنُه بمَعْنَى الحالِ أوْ الِاسْتقبالِ؛ قال الرَّضِيُّ[105]: "إنما اشْتُرِطَ فيه الحالُ والاستقبالُ للعَمَلِ في المَفْعُول لا الفَاعِلِ؛ لأنه لا يَحْتاجُ في الرَّفْعِ إلى شَرْطِ زَمَانٍ.
أما عَمَلُ اسْمِ الفَاعِلِ النَّصْبَ، فيُشْتَرَطُ فيه اجْتِماعُ الِاعْتِمادِ وكَوْنُه بمَعْنَى الحالِ أوْ الِاسْتِقْبالِ.
قال الشَّيْخُ خالِدٌ[106]: "اشْتِراطُ الجمهورِ الاعتمادَ وكَوْنَ الوَصْفِ بمَعْنَى الحالِ والاستقبالِ إنما هو للعَمَلِ في المنصوبِ، لا لمُطْلَقِ العَمَلِ؛ بدَلِيلَينِ:
أَحَدُهما: أنه يَصِحُّ "زيدٌ قائمٌ أبوه أَمْسِ".
والثاني: أنهم لم يَشْتَرِطُوا أن يَحْسُنَ إعْمالُه عَمَلَ الفِعْلِ إلّا في هذه المواضِعِ.(100/19)
وقال: "وقد قالوا: أقائمٌ أَخَوَاكَ، وأَذَاهِبٌ إِخْوَتُكَ، وما ذاهِبٌ إِخْوَتُكَ، فأَعْمَلُوا اسمَ الفَاعِلِ لمّا تَقَدَّمَ كلامٌ أُسْنِدَ إليه، وإنْ لم يَكُنْ أَحَدَ تلكَ الأشياءِ التي تَقَدَّمَ ذِكْرُها، فجعلوا هَمْزَةَ الاستفهامِ وحرفَ النَّفْيِ بمَنْزَلَةِ المَوْصُوفِ: نَحْوُ: مَرَرْتُ برجلٍ قائمٍ أَخَواهُ".
وقال الرَّضِيُّ[107]: "اعْلَمْ أن اسمَ الفَاعِلِ والمَفْعُولِ مع مُشَابَهَتِهِما للفِعْلِ لَفْظًا ومَعْنًى لا يَجُوزُ أن يَعْمَلا في الفَاعِلِ والمَفْعُولِ ابتداءً كالفِعْلِ؛ لأنَّ طَلَبَهما لهما، والعَمَلَ فيهما على خِلافِ وَضْعِهما؛ لأنهما وُضِعا على ما ذَكَرْنا للذَّاتِ المُتَّصِفَةِ بالمَصْدَرِ، والذَّاتُ التي حالُها هكذا لا تَقْتَضِي فاعِلًا ولا مَفْعُولًا، فاشْتُرِطَ للعَمَلِ إمّا تَقْوِيتُهما بذِكْرِ ما وُضِعا مُحتاجَينِ إليه، وهو ما يُخَصِّصُهما؛ كرجلٍ ضاربٍ ومضروبٍ، وإما وُقوعُهما بعدَ حرفٍ هو بالفِعْلِ أَوْلى، كحَرْفِ الاسْتِفْهامِ والنَّفْيِ".
ومُقْتَضَى ذلك أن اسمَ الفَاعِلِ غَيْرَ المُعْتَمِدِ لا يَعْمَلُ، هذا مَذْهَبُ جمهورِ البَصْرِيِّينَ، وأَجَازَ الكُوفِيُّونَ والأَخْفَشُ إعمالَه دونَ اعتمادٍ على شيءٍ، نَحْوُ: "قائمٌ الزيدانِ"، واستدلُّوا بقوله تعالى: {وَدَانِيَةٌ عَلَيهِمْ ظِلِالُهَا} [الإنسان: 14]، في قراءةِ[108] مَن رَفَعَ (دانية) فقالوا: هو مُبْتَدأٌ، وظِلَالُها فاعلُه، ورُدَّ ذلك بجواز كَوْنِ (ظلالُها) مبتَدَأً، وخَبَرِه (دانية).(100/20)
واسْتدَلَّ السُّهَيْلِيُّ[109] على إبطالِ (قائمٌ زيدٌ) دونَ اعتمادٍ، فقال: ما حُكِيَ عن بعضِ النَّحْوِيِّينَ مِن قولِهم: (قائمٌ زيدٌ) أن (قائمٌ) مبتدأٌ، و(زيدٌ) فاعلٌ، فقد قدَّمْنا أن هذا باطلٌ في القِياسِ؛ لأن اسمَ الفَاعِلِ اسمٌ مَحْضٌ، واشْتِقَاقَه مِنَ الفِعْلِ لا يُوجِبُ له عَمَلَ الفِعْلِ، ولكن إنَّما يَعْمَلُ إذا تَقَدَّمَ ما يَطْلُبُ الفِعْلَ، فيَقْوَى حينَئِذٍ مَعْنَى الفِعْلِ فيه، ويُعَضِّدُ هذا مِنَ السَّماعِ أنَّهم لم يَحْكُوا عنِ العَرَبِ (قائمٌ الزيدانِ) إلا على الشَّرْطِ الذي ذَكَرْناه".
وبَيَّنَ ابنُ يَعِيشَ سببَ اعتمادِ اسْمِ الفَاعِلِ على ما قبلَه فقال[110] "اسْمُ الفَاعِلِ محمولٌ على المضارِعِ في العَمَلِ؛ للمُشابَهةِ التي ذَكَرْناها، والفروعُ أبدًا تَنْحَطُّ عن درجاتِ الأصولِ، فلمّا كانتْ أسماءُ الفَاعِلِينَ فُروعًا على الأفعالِ كانتْ أَضْعَفَ منها في العَمَلِ، والذي يُؤَيِّدُ ذلك أنك تَقُولُ: "زيدٌ ضاربٌ عَمْرًا، وزيدٌ ضاربٌ لعمرٍو"، فتَكونُ مُخَيَّرًا بين أن تُعَدِّيَه بنَفْسِه، وبينَ أن تُعَدِّيَه بحَرْفِ الجَرِّ؛ لضَعْفِه، ولا يَجُوزُ مثلُ ذلك في الفِعْلِ؛ ولذلك مِنَ الضَّعْفِ لا يَعْمَلُ حتى يَعْتَمِدَ على كلامٍ قبلَه".
فاسْمُ الفَاعِلِ المُتَعَدِّي بنَفْسِه يَجُوزُ أن يُعَدَّى باللامِ؛ لضَعْفِه بسببِ فَرْعِيَّتِه للفِعْلِ، وكذلك المَصْدَرُ، تَقُولُ: "أنا ضاربٌ لزيدٍ، وأَعْجَبَنِي ضَرْبُكَ لزيدٍ"[111]، ويَظْهَرُ ممّا سَبَقَ أن اعتمادَ اسْمِ الفَاعِلِ يُقَوِّي فيه جانبَ الفِعْلِيَّةِ[112].
اسْمُ الفَاعِلِ المُقْتَرِنِ بأَلْ:(100/21)
يَعْمَلُ عَمَلَ الفِعْلِ مطلقًا، أي مِن غَيْرِ تَقْيِيدٍ بزمنٍ، أوِ اعتمادٍ على شيءٍ، قال سِيبَوَيْهِ[113]: "وذلكَ قولُكَ: "هذا الضاربُ زيدًا أَمْسِ أوِ الآنَ أو غَدًا"، فصار في مَعْنَى هذا الذي ضَرَبَ زيدًا، وعَمِل عَمَلَهُ، لأنَّ الأَلِفَ واللامَ مَنَعَتا الإضافةَ وصارتا بمَنْزِلَةِ التَّنْوِينِ، وكذلك هو الضاربُ الرجلَ، وهو وَجْهُ الكلامِ".
وقال الرَّضِيُّ[114]: فإن دَخَلَ اللامُ اسْتَوَى الجميعُ، أي: عَمِلَ بمَعْنَى الماضي والحالِ والاستقبالِ".
وقال ابنُ النَّاظِمِ[115]: "واعْلَمْ أنَّ إعمالَ اسْمِ الفَاعِلِ مع الألفِ واللامِ ماضيًا كان أو حاضِرًا أو مستقبَلًا جائِزٌ مَرْضِيٌّ عندَ جميعِ النَّحْوِيِّينَ، و(أل) في اسْمِ الفَاعِلِ المقرونِ بأل قيلَ إنها موصولةٌ، وقيل أنها حرفُ تعريفٍ"[116]، وقال المُرَادِيُّ[117]: "والصحيحُ أنها اسمٌ".
قال الشَّيْخُ خالدٌ[118]: "إنْ كان اسْمُ الفَاعِلِ صِلَةً لألْ عَمِلَ مطلقًا، ماضيًا كان أو غَيْرَه"، مُعتمِدًا (أل) هذه موصولةً، و(ضارب) حالًّا مَحَلَّ ضَرَبَ، أو يَضْرِبُ؛ بدليلِ عَطْفِ الفِعْلِ عليه في قولِه تعالى[119]: {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللهَ قَرْضًا حَسَنًا}.
قال الزَّمَخْشَرِيُّ[120]: "فإن قُلْتَ: عَلَامَ عَطَفَ قولَه: {وَأَقْرَضُوا}؟ قلتُ على مَعْنَى الفِعْلِ في {المُصَّدِّقِينَ}؛ لأن اللامَ بمَعْنَى الذينَ، واسْمَ الفَاعِلِ بمَعْنَى اصَّدَّقُوا، كأنه قيلَ: اصَّدَّقُوا وأَقْرَضُوا".
وذَهَبَ الأَخْفَشُ[121] إلى أن اسمَ الفَاعِلِ المقرونَ بأل يَعْمَلُ النَّصْبَ علي التَّشْبِيهِ بالمَفْعُولِ به في زَعْمِ أن (أل) ليستْ موصولةً، وإنما هي حرفُ تعريفٍ، فيَبْعُدُ الوَصْفُ بها عنِ الفِعْلِ، فالمنصوبُ بعدَه مثلَ: الحَسَنُ الوَجْهَ".(100/22)
وذَهَبَ الفارِسِيُّ[122] والمَازِنِيُّ والرُّمَّانِيُّ إلى أنَّ اسمَ الفَاعِلِ المقرونَ بأل لا يَعْمَلُ إلا إذا كان ماضيًا نَحْوُ: الضاربُ زيدًا أَمْسِ عمرٌو، قال الرَّضِيُّ[123]: "ولعلَّ ذلك لأن المُجَرَّدَ مِنَ اللام لم يَكُنْ يَعْمَلُ بمَعْنَى الماضي، فتُوُسِّلَ إلى إِعْمالِه بمعناه باللامِ".
والفَارِسِيُّ ومَنْ وافَقَه خَصُّوا النَّصْبَ بالماضي؛ أَخْذًا مِن ظاهِرِ تَقْدِيرِ سِيبَوَيْهِ اسمَ الفَاعِلِ المقرونَ بأل بالذي فَعَلَ كذا؛ حيثُ قال: "هذا الضاربُ زيدًا" فصار في مَعْنَى: هذا الذي ضَرَبَ زيدًا"، ويَحْتَمِلُ تَفْسِيرُ سِيبَوَيْهِ أنه إذا عَمِلَ بمَعْنَى الماضي، فالأَوْلَى جوازُ عَمَلِه بمَعْنَى المضارِعِ؛ لثُبُوتِ العَمَلِ مِن غَيْرِ (أل)، فيَعْمَلُ مع (أل) بالأَوْلى[124].
وقد يُضَافُ اسْمُ الفَاعِلِ المُحَلَّى بأل؛ قال سِيبَوَيْهِ[125]: "وقد قال قومٌ مِنَ العَرَبِ تُرْضَى عَرَبِيَّتُهم: "هذا الضارِبُ الرجلِ"، شَبَّهُوهُ بالحَسَنِ الوَجْهِ، وإن كان ليس مثلَه في المَعْنَى ولا في أحوالِه، إلا أنه اسمٌ".
والشَّبَهُ الحاصلُ بينَ الضاربِ الرجلِ والحسنِ الوجهِ في المضافِ والمضافِ إليه؛ لأن المضافَ فيهما وصفٌ مُحَلًّى بأل، والمضافَ إليه فيهما معمولٌ مُعَرَّفٌ بأل"[126].(100/23)
ولا يُضَافُ اسْمُ الفَاعِلِ المقرونُ بأل إلّا[127] إذا كان المَفْعُولُ به مُعَرَّفًا بأل، نَحْوُ: "الضاربُ الرجلِ"، أو كان اسْمُ الفَاعِلِ مُثَنًّى أو مَجْموعًا، نَحْوُ[128]: {وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ} [الحج 35]، وأبو عَلِيٍّ الفارِسِيُّ يَمْنَعُ مِن إضافةِ اسْمِ الفَاعِلِ المقرونِ بأل إذا كانت بمَعْنَى الذي، قال[129]: "وإن كان دخولُ اللامِ بمَعْنَى الذي في اسْمِ الفَاعِلِ لم تَجُزْ إضافتُه أيضًا؛ ألا تَرَى أنه إذا كان كذلك، كان اسْمُ الفَاعِلِ في تقدير جُمْلَةٍ، فلا يَجُوزُ إضافتُه، كما لا يَجُوزُ إضافةُ الجُمَلِ".
ومِن أحكامِ اسْمِ الفَاعِلِ المقرونِ بأل أنه[130] لا يَتَقَدَّمُ معمولُه عليه، لو قلتَ: "عَمْرًا زيدٌ الضاربُ" لم يَجُزْ؛ لأنه معناه: زيدٌ الضاربُ عَمْرًا؛ أي: الذي ضَرَبَ عَمْرًا، فلمَّا قَدَّمْتَ (عَمْرًا) على هذه الصلةِ لم يَجُزْ؛ لأنه بعضُ الاسْمِ؛ إذ كان مِن صِلَتِه، وإن كان اسْمُ الفَاعِلِ خاليًا مِن (أل) فإنه يَتَقَدَّمُ مَعْمولُه عليه، تَقُولُ: هذا زيدًا ضاربٌ، إلا إذا وَقَعَ صفةً لموصوفٍ، نَحْوُ: هذا رجلٌ ضاربٌ زَيْدًا، فلا يَجُوزُ أن تَقُولَ: هذا زيدًا رجلٌ ضاربٌ[131].
واسْمُ الفَاعِلِ المُحَلَّى بأل مِنَ المُثَنَّى والمجموعِ يَعْمَلُ النَّصْبَ عندَ ثُبُوتِ النُّونِ، ويُجَرَّدُ عِنْدَ حَذْفِها؛ قال سِيبَوَيْهِ[132]: "وإذا ثَنَّيْتَ أو جَمَعْتَ فأَثْبَتَّ النونَ قلتَ: هذانِ الضاربانِ زيدًا، وهؤلاء الضاربون الرجلَ، لا يكون فيه غَيْرُ هذا؛ لأن النونَ ثابتةٌ، ومثلُ ذلك قولُه عَزَّ وجَلَّ[133]: {والْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ والْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ}، فإن كَفَفْتَ النونَ حَرَّرْتَ، وصار الاسْمُ داخلًا في الجارِّ بَدَلًا مِنَ النونِ، لأنَّ النونَ لا تُعاقِبُ الألفَ واللامَ، وذلك قولُكَ: هما الضارِبا زيدٍ، وهمُ الضاربو عمرٍو".
إضافةُ اسْمِ الفَاعِلِ:(100/24)
اسْمُ الفَاعِلِ بمَعْنَى الماضي إضافتُه مَحْضَةٌ (حَقِيقِيَّةٌ)[134] على الصحيحِ، نَحْوُ: ضاربُ زيدٍ أَمْسِ؛ قال أَبُو حَيَّانَ[135]: "الإضافةُ مَحْضَةٌ، لأنه للماضي، والدليلُ على أنَّ كَوْنَها بمَعْنَى الماضي مَحْضَةٌ قولُه تعالى: {الْحَمْدُ للهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالْأَََََرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا} [فاطر آية: 1]، فجَعَلَ (فَاطِرِ) و(جَاعِلِ) صِفَتَينِ للمُعَرَّفِ".
قال الزَّمَخْشَرِيُّ[136]: "اسْمُ الفَاعِلِ لا يَعْمَلُ إذا كان بمَعْنَى الماضي، وإضافتُه إذا أُضِيفَ حَقِيقِيَّةٌ مُعَرِّفَةٌ كـ (غلامِ زيدٍ)".
والإضافةُ المَحْضَةُ تُفِيدُ التَّعْرِيفَ أوِ التخصيصَ، أما إن كان اسْمُ[137] الفَاعِلِ للحالِ أوْ الِاستقبالِ فإضافتُه غَيْرُ مَحْضَةٍ، كـ(ضاربِ زيدٍ الآنَ أو غدًا)، ولا تُفيدُ تعريفًا أو تخصيصًا، فاسْمُ الفَاعِلِ حينَئذٍ مُضافٌ إلى مَنْصُوبِهِ مَعْنًى؛ والدليلُ على أن هذه الإضافةَ لا تُفيد المضافَ تعريفًا وَصْفُ النَّكِرَةِ به، أي: بالوصفِ المضافِ، نَحْوُ قولِه تعالى: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] فـ (هَدْيًا): نَكِرَةٌ منصوبةٌ على الحال، و(بَالِغَ الكَعْبَةِ): صفتُها، ولا تُوصَفُ النَّكِرةُ بالمَعْرِفَةِ؛ والدليل على أن هذه الإضافةَ لا تُفيد تخصيصًا أن أصلَ (ضاربُ زيدٍ) بالخَفْضِ، (ضاربٌ زيدًا) بالنَّصْبِ، فالاختصاصُ بالمعمولِ موجودٌ قبلَ الإضافةِ، فلم تُحْدِثِ الإضافةُ تَخْصِيصًا.
أيُّهما الأصلُ: التَّنْوِينُ أمِ الإضافةُ:(100/25)
إذا اسْتَوْفَى اسْمُ الفَاعِلِ شروطَ عَمَلِه فأيُّهما الأصلُ: التَّنْوِينُ والنَّصْبُ، أمِ الإضافةُ؟ في نَحْوِ: (هذا ضَارِبُ زَيْدٍ)، يَرَى سِيبَوَيْهِ[138] أن الأصلَ هو التَّنْوِينُ قال[139]: "وقال الرَّضِيُّ[140]: "أما إضافةُ اسْمِ الفَاعِلِ إضافًة لَفْظِيَّةً، فهو مَبْنِيٌّ على كَوْنِها عاملةً في مَحَلِّ المضافِ إليه، إما رَفْعًا أو نَصْبًا، فالذي هو مجرورٌ في اللَّفْظِ ليس مجرورًا في الحقيقةِ، والتَّنْوِينُ المحذوفُ في اللَّفْظِ مُقدَّرٌ مَنْوِيٌّ، فتَكُونُ الإضافةُ كَلَا إِضَافَةٍ، وهو المُرادُ بالإضافةِ اللَّفْظِيَّةِ".
ويُفْهَمُ مِن كلام الرَّضِيِّ أن التَّنْوِينَ هو الأصلُ؛ لأنه في النِّيَّةِ، وظاهرُ كلام الزَّمَخْشَرِيِّ في "الكَشَّافِ" أيضًا أنَّ التَّنْوِينَ والنَّصْبَ هو الأصلُ؛ قال الزَّمَخْشَرِيُّ[141]: "يعني: اسمُ الفَاعِلِ إذا اسْتَوْفى شروطَ العَمَلِ، فالأصلُ أن يَعْمَلُ، ولا يُضَافُ، وقد أشار إلى ذلك سِيبَوَيْهِ في كتابِه، وقال الْكِسَائِيُّ: العَمَلُ والإضافةُ سَواءٌ"، وفيهم مِن قولِ ابْنِ مَالِكٍ[142]:
"وَانْصِبْ بِذِي الإِعْمالِ تِلْوًا وَاخْفِضِ"
أن النَّصْبَ أَوْلى؛ لتقديمِه على الخَفْضِ.
ويَرَى أَبُو حَيَّانَ أن الإضافةَ أَحْسَنُ مِنَ العَمَلِ؛ قال[143] "وقد ذهبْنا إلى أن الإضافةَ أحسنُ مِنَ العَمَلِ"، ويُعَلِّلُ ذلك بأن اسمَ الفَاعِلِ يُشْبِهُ الأسماءَ، إذا كانت فيها الإضافةُ، فإلحاقُه بجِنْسِه أَوْلى مِن إلحاقِه بغَيْرِ جِنْسِه" وقال أَبُو حَيَّانَ في قوله تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ}. [البقرة: 145].
"وما أنت بتابعٍ قِبْلَتَهم" وقَرَأَ بعضُ القُرَّاءِ (بتابِعِ قِبْلَتِهِمْ) على الإضافةِ، وكِلاهما فَصِيحٌ؛ أعني إعمالَ اسْمِ الفَاعِلِ هنا، وإضافتَه".(100/26)
قال صاحبُ التَّصْرِيحِ[144]: "والإضافةُ في (ضاربِ زيدٍ) تُفيدُ التخفيفَ؛ لأن الأصلَ في الصِّفَةِ أن تَعْمَلَ النَّصْبَ، ولكنَّ الخفضَ أَخَفُّ منه؛ إذ لا تَنْوِينَ معه، ولا نونَ". ومَعْنَى ذلك أن التَّنْوِينَ هو الأصلُ، كما قال ابْنُ يَعِيشَ[145]: "والتَّنْوِينُ هو الأصلُ، والإضافةُ دَخَلَتْ تخفيفًا"، فالإضافةُ اللَّفْظِيَّةُ لا تُفِيدُ إلا تخفيفًا في اللَّفْظِ، لأن مشابهتَها للفِعْلِ قَوِيَّةٌ، فكان إعمالُها عَمَلَ الفِعْلِ أَوْلى"[146].
قال الفَرَّاءُ في "هذا ضاربٌ زيدًا"[147] وأكثرُ ما تَختارُ العربُ التَّنْوِينُ والنَّصْبُ ولذا قُرِئَ بالوَجْهَينِ[148] في قوله تعالى: {إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمْرِهِ} [الطلاق: 1].
قَرَأَ حَفْصٌ (بَالِغُ) بغَيْر تَنْوِينٍ، و(أمْرِهِ) بالخَفْضِ، وقَرَأَ الباقونَ بالتَّنْوِينِ والنَّصْبِ. وقُرِئَ[149] {وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ} [الصف: 8].
قَرَأَ ابنُ كَثِيرٍ، وحَمْزَةُ، والْكِسَائِيُّ، وخَلَفٌ، وحَفْصٌ (مُتِمُّ) بالإضافةِ والخَفْضِ، وقَرَأَ الباقون بالتَّنْوِينِ والنَّصْبِ، وقُرِئَ[150] {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران: 185] قَرَأَ الْيَزِيدِيُّ بالتَّنْوِينِ والنَّصْبِ، وقَرَأَ الأَعْمَشُ[151] بطَرْحِ التَّنْوِينِ مَعَ النَّصْبِ، أي: ذائقةُ الموتَ، وقال أَبُو حَيَّانَ في قوله تعالى: {فَالِقُ الْإِصْبَاحِ}: "قَرَأَتْ فِرْقَةٌ بنَصْبِ (الإِصْبَاح) وحَذْفِ التَّنْوِينِ مِن (فَالِقُ)، وسِيبَوَيْهِ إنما يُجِيزُ ذلك في الشِّعْرِ، نَحْوُ قوله[152]:
فَأَلْفَيْتُهُ غَيْرَ مُسْتَعْتَبٍ وَلَا ذَاكِرَ اللهَ إلّا قَلِيلا
ونَحْوُ:(100/27)
"هذا ضاربُ زيدٍ أَمْسِ وعَمْرو" يَجوزُ فيه الجرُّ والنَّصْبُ، فالجرُّ مراعاةً للَفْظِ (زيدٍ)، والنَّصْبُ على إضمار فِعْلٍ، قال ابْنُ السَّرَّاجِ[153]: "واعْلَمْ أنَّ اسمَ الفَاعِلِ إذا كان لِما مَضَى فقلتَ: "هذا ضاربُ زيدٍ أَمْسِ وعمرو" جاز لك أن تَنْصِبَ (عَمْرًا) على المَعْنَى، فمن ذلك قوله تعالى[154]: {وَجَاعِلُ اللَّيْلِ سَكَنًا والشَّمْسَ والقَمَرَ حُسْبَانًا}[155]. على مَعْنَى "وجَعَلَ".
قال سِيبَوَيْهِ[156]: وتَقُولُ: "هذا ضاربُ زيدٍ وعمرٍو، إذا أشركتَ بين الآخِرِ والأَوَّلِ، وإن شئتَ نَصَبْتَ على المَعْنَى، وتُضْمِرْ له ناصبًا، فتَقُولُ: "هذا ضاربُ زيدٍ وعَمْرًا"، كأنه قال: "ويَضْرِبُ عمرًا".
ويَرَى ابنُ النَّاظِمِ[157] أن الوجهَ الراجِحَ هو الجَرُّ على اللَّفْظِ، ويَجُوزُ النَّصْبُ.
عَمَلُ اسْمِ الفَاعِلِ في الضمير:
في نَحْوِ: ضاربُكَ، والضَّارِبُكَ، مما الوصفُ فيه مقرونٌ بأل، أو مجرَّدٌ منها، اخْتَلَفَ النُّحاةُ في ذلك:
قال سِيبَوَيْهِ[158]: "وإذا قُلْتَ: هم الضارِبوكَ، فالوجهُ فيه الجَرُّ؛ لأنك إذا كَفَفْتَ النونَ مِن هذه الأسماءِ في المُظْهَرِ، كان الوجهُ الجَرَّ، إلا في قولِ[159] مَن قال "الحافِظُو عَوْرَةً".
فالضَّمِيرُ عندَ سِيبَوَيْهِ محمولٌ على الظاهرِ، والظاهرُ يَكونُ مَجْرورًا، وذَهَبَ إلى ذلك المُبَرِّدُ والمَازِنِيُّ والرُّمَّانِيُّ؛ لأن الضَّمِيرَ نائبٌ عنِ الظاهرِ، وإذا حُذِفَ التَّنْوِينُ مِنَ الوَصْفِ كان الظاهرُ مخفوضًا بالوصفِ، فكذلك نائبُه.
وقال الْأَخْفَشُ[160] وهِشَامٌ: "مَوْضِعُ الضميرِ نَصْبٌ، وزَعَمَا أنَّ التَّنْوِينَ في نَحْوِ "زيدٌ مُكْرِمُكَ" والنونَ في: "الزيدانِ مُكْرِمَاكَ" حُذِفَا؛ لِصَوْنِ الضميرِ عنْ الِانْفِصالِ، والضميرُ منصوبٌ؛ إذ لا دَلالةَ على الجَرِّ، وضَعَّفَ ذلك ابْنُ مَالِكٍ.(100/28)
واستدَلَّ الْأَخْفَشُ بقوله تعالى: {إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ} [العنكبوت: 33].
ألَا تَرَى أنَّ الكافَ في مَحَلِّ نَصْبٍ؛ لأنه نَصَبَ (وَأَهْلَكَ) بالعَطْفِ، وأُجِيبَ بأنه منصوبٌ بتقديرِ:ونُنَجِّي أَهْلَكَ[161].
قال ابْنُ السَّرَّاجِ[162]: "وتَقُولُ: هذا ضاربُكَ وزيدًا غدًا، لمّا لم يَجُزْ أن تَعْطِفَ الظاهرَ على المُضْمَرِ والمجرورِ حملْتَه على الفَاعِلِ؛ كقوله تعالى: {إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ} كأنه قال: مُنَجُّونَ أَهْلَكَ، ولم تُعْطَفْ على الكافِ المجرورةِ".
اسْمُ الفَاعِلِ المرادُ به الاستمرارُ في جميعِ الأَزْمِنَةِ:
قد يأتي اسْمُ الفَاعِلِ للزمانِ المُسْتَمِرِّ، مثلَ قولِه تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4]. فهل إذا أُضِيفَ تَكونُ إضافتُه مَحْضَةً أو غَيْرَ مَحْضَةٍ؛ لأنه إن كان بمَعْنَى الماضي، فإضافتُه مَحْضَةٌ تُفيدُ التعريفَ، وإن كان للحالِ أوْ الِاسْتقبالِ، فإضافتُه غَيْرُ مَحْضَةٍ، لا تُفيدُ تعريفًا، فإذا جاء للزمانِ المُسْتَمِرِّ، اختلفَ فيه النحاةُ[163]، ذَهَبَتْ طائفةٌ إلى أن إضافتَه غَيْرُ مَحْضَةٍ (لَفْظِيَّةٌ)، وذَهَبَتْ طائفةٌ - وهمُ الأَكْثَرُونَ - إلى أن إضافتَه مَحْضَةٌ (مَعْنَوِيَّةٌ)، فابْنُ هِشَامٍ[164] في "المُغْنِي" كلامُه صريحٌ في أنها مَحْضَةٌ.
وقال الشَّيخُ خالدٌ[165]: "اسْمُ الفَاعِلِ يَتَعَرَّفُ بالإضافةِ إذا كان للماضي، أو أُرِيدَ به الاسْتِمْرارُ".
وذَهَبَ بعضُ النُّحَاةِ إلى أن إضافةَ اسْمِ الفَاعِلِ المُسْتَمِرِّ تَكونُ مَحْضَةً تارةً، وغَيْرَ مَحْضَةٍ تارةً أُخْرَى، بالنَّظَرِ إلى جانب المُضِيِّ فيه، أو جانِبِ الحالِ أوْ الاستقبالِ، قال الشَّيْخُ يس[166]: "وأَجابَ الدَّمَامِينِيُّ تَبَعًا لحَوَاشِي الكَشَّافِ بأن اسمَ الفَاعِلِ إذا كان بمَعْنَى الاستمرارِ، ففي إضافتِه اعتبارانِ:(100/29)
أَحَدُهما: أنها مَحْضَةٌ باعتبارِ المُضِيِّ فيه، وبهذا الاعتبارِ يقعُ صفةً للمَعْرِفَةِ، ولا يَعْمَلُ.
وثانيهما: أنها غَيْرُ مَحْضَةٍ، باعتبارِ مَعْنَى الحالِ والاستقبالِ، وبهذا الاعتبارِ يَقَعُ صفةً للنكِرَةِ، ويَعْمَلُ فيما أُضِيفَ إليه"، ونَقَلَ صاحبُ التصريحِ عنِ اليَمَنِىِّ شارحِ الكَشَّافِ مثلَ هذا[167].
وذَكَرَ الرَّضِيُّ أيضًا الاعتبارَيْنِ؛ فقال[168]: "فاسْمُ الفَاعِلِ المُسْتَمِرُّ يَصِحُّ أن تكونَ إضافتُه مَحْضَةً، كما يَصِحُّ ألّا يكونَ كذلك".
ولذا أجاز الزَّمَخْشَرِيُّ الاعتبارَيْنِ في اسْمِ الفَاعِلِ المُسْتَمِرِّ، ففي قولِه تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}، ذَكَرَ[169] أن اسمَ الفَاعِلِ إذا أُريدَ به زمانٌ مُسْتَمِرٌّ، فإضافتُه حَقِيقِيَّةٌ (مَحْضَةٌ)، ويَتَعَرَّفُ اسْمُ الفَاعِلِ بالإضافةِ؛ بدليل وصفِ المَعْرِفَةِ به في الآية؛ وذلك لِئلّا يَلْزَمَ مُخالَفةَ الظاهِرِ بقَطْعِ مَالِكٍ عنِ الوَصْفِيّةِ".
وذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ في قوله تعالى[170]: {وَجَاعِلُ الليلِ سَكَنًا والشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} [الأنعام: 96]. "إن اسمَ الفَاعِلِ إذا أُريدَ به زمانٌ مُسْتَمِرٌّ، كانت إضافَتُه غَيْرَ مَحْضَةٍ، فاعْتُبِرَ جانبُ الحالِ والاستقبالِ فيه".
وقال العُكْبَرِيُّ في قوله تعالى[171]: {فَالِقُ الْحَبِّ} [الأنعام: 95]. "يَجُوزُ أن يكونَ مَعْرِفَةً، لأنه ماضٍ، وأن يكونَ نَكِرَةً على أنه حكايةُ حالٍ، وقوله: {وجَاعِلُ اللَّيْلِ} مثلُ {فَالِقُ الحَبِّ} في الوَجْهَيْنِ".
وذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ في قوله تعالى[172]: {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ} [غافر: 3]: أنَّهما مَعْرِفَتانِ لأنه لم يُرَدْ بهما حُدُوثُ الْفِعْلِيَّةِ، وإنما أُرِيدَ ثُبُوتُ ذلك ودوامُه، وإضافتُهما مَحْضَةٌ، وصَحَّ أن يُوصَفَ بهما المَعْرِفَةُ.
اسْمُ الفَاعِلِ المَصُوغُ مِنَ العَدَدِ:(100/30)
إذا بُنِيَ اسْمُ الفَاعِلِ مِنَ الواحدِ إلى العَشَرَةِ، كان للمُذَكَّرِ بغَيْرِ تاءٍ، وللمُؤَنَّثِ بالتاءِ، نَحْوُ: واحدٌ وواحدةٌ، وثانٍ وثانيةٌ، وثالثٌ وثالثةٌ .. إلى عَاشِرٍ وعاشرةٍ، أما (واحدٌ) فلا يَجُوزُ إضافتُه أصلًا، لا يُقالُ: واحدُ رجلٍ[173]، وما عَدَاه يَجُوزُ إضافتُه إلى العَدَدِ الذي أُخِذَ منه، وكذلك "ثانٍ" لا يَجُوزُ إضافتُه إلى واحدٍ؛ فلا يُقالُ: ثاني واحدٍ، وقد أَجَازَه بعضُهم[174]، ونَقَلَه عنِ العَرَبِ، ورَجَّحَه الدَّمَامِينِيُّ[175] بأنَّ مَعْناه: مَصِيرُ الواحدِ اثنينِ بنَفْسِهِ، ولا مانِعَ منه.
و(فَاعِل) المَصوغُ منَ العَدَدِ، إمّا أن يُفْرَدَ، فيُقالَ: ثانٍ وثانيةٌ، وثالثٌ وثالثةٌ، وإمّا أن يُضَافَ، فإن كان مضافًا إلى العَدَدِ الذي أُخِذَ منه لم يَجُزْ فيه إلا الإضافةُ، نَحْوُ:هذا ثاني اثنينِ، وثالثُ ثلاثةٍ، وكذا إلى عَشَرَةٍ، فلا يَجُوزُ فيه العَمَلُ والنَّصْبُ.
قال الفَرَّاءُ[176]: "ثالثُ ثلاثةٍ" يَكونُ مُضافًا، ولا يَجُوزُ التَّنْوِينُ في "ثالث"، فتَنْصِبَ "ثلاثة"؛ ألَا تَرَى أنه لا يَكونُ ثالثًا لنَفْسِهِ".
قال ابنُ عَقِيلٍ[177]: "وهذا هو المشهورُ، وهو مَبْنِيٌّ على أن العَرَبَ لم تَقُلْ: ثَنَّيْتُ الِاثْنَينِ، ولا ثَلَثْتُ الثلاثةَ، وكذا الباقي".
وهذه الإضافةُ تُفِيدُ أن الموصوفَ بعضُ ما اشْتُقَّ منه، فإذا قُلْنا: خامِسُ خَمْسَةٍ، أي: بعضُ جماعةٍ مُنْحَصِرَةٍ في خَمْسَةٍ، أي: واحدٌ منها، ويَجِبُ حينئذٍ إضافتُه لأَصْلِه، كما يَجِبُ إضافةُ البَعْضِ لكُلِّه، فلا يَنْصِبُ ما بعدَه؛ قال تعالى: {إِذْ أَخَرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَينِ} وقَالَ: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} [المائدة: 72].(100/31)
وزَعَمَ الْأَخْفَشُ[178] وقُطْرُبٌ والْكِسَائِيُّ وثَعْلَبٌ أنه يَجُوزُ الإضافةُ والنَّصْبُ كما يَجُوزُ في "ضاربُ زيدٍ"، وهو اختيارُ ابْنِ مَالِكٍ.
وإذا أُضِيفَ إلى ما ليسَ[179] منه أَرادَ به جَعْلَ الأَقَلِّ مُساويًا لِما فَوْقَه؛ كثالثِ اثنينِ، ورابعِ ثلاثةٍ، وفي ذلك تَجُوزُ الإضافةُ، ويَجُوزُ التَّنْوِينُ والنَّصْبُ، يُقالُ: رابعُ ثلاثةٍ، ورابعٌ ثلاثةً؛ لأنه بمَعْنَى: صَيَّرَ الثلاثةَ أربعةً؛ قال ابنُ عُصْفُورٍ[180]: "وهذا يَعْمَلُ عَمَلَ فِعْلِه؛ لأنه قد سُمِعَ استعمالُ الفِعْلِ مِن ثلاثةٍ، حُكِيَ مِن كلامِهم "ثَلَثْتُ الرجلَينِ، ورَبَعْتُ الثلاثةَ"، وفي "المِصْبَاحِ المُنِيرِ"[181]: "ثَلَثْتُهم صِرْتُ ثالثَهم، وكذلك إلى العَشَرَةِ".
ومِن ذلك قولُه تعالى[182]: {مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إلّا هُوَ رَابِعُهُمْ ولَا خَمْسَةٍ إلّا هُوَ سَادِسُهُمْ}.
ولا يُقالُ[183]: رابعُ اثنينِ، أي: لا يُضَافُ إلّا لِما هو أقلُّ منه بدَرَجَةٍ واحدةٍ فَقَطْ.
خاتمة:
اسْمُ الفَاعِلِ ليس فِعْلًا، وإنما يَعْمَلُ عَمَلَ الفِعْلِ، والعَمَلُ سببُه رائحةٌ مِنَ الفِعْلِ، بالإضافةِ إلى قَبُولِهِ علاماتِ الاسْمِيَّةِ؛ مِن تعريفٍ بأل، والإضافةِ، وقَبولِ التَّنْوِينِ، وقبولِه للتَّصْغِيرِ والوَصْفِ والتَّثْنِيَةِ والجَمْعِ خلافًا للفِعْلِ، وهناك فروقٌ أُخَرُ بينَ اسْمِ الفَاعِلِ والفِعْلِ، نُجْمِلُها فيما يلي[184]:
أولاً: يَجُوزُ إضافةُ اسْمِ الفَاعِلِ لمعمولِه، بخلافِ الفِعْلِ.
ثانيًا: اسْمُ الفَاعِلِ يَتَعَدَّى بنفْسِه وبحَرْفِ الجَرِّ، خلافًا للفِعْلِ، نَحْوُ: أنا ضاربٌ زيدًا، وضاربٌ لزيد، ونَحْوُ قولِه تعالى: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج: 16].
ويُسْتَثْنَي مِن ذَلِكَ أفعالٌ سُمِعَتْ عنِ العَرَبِ بوجْهَينِ، نَحْوُ: سَمِعَه، وسَمِعَ له، ونَصَحَه ونَصَحَ له، وشَكَرَه، وشَكَرَ له.(100/32)
ثالثًا: الفِعْلُ مع فَاعِلِه يُعَدُّ مِنَ الجُمَلِ، بخلافِ اسْمِ الفَاعِلِ مع فَاعِلِه المُضْمَرِ فهو مِنَ المُفْرَدَاتِ.
قال ابنُ الحاجِبِ[185]: "لم يَخْتَلِفْ أحدٌ في أن اسمَ الفَاعِلِ ليس جُمْلَةً مع ضَمِيرِ المَرْفُوعِ به، في مثلِ قولِكَ: "زيدٌ قائمٌ"، فقائمٌ مُفْرَدٌ باتِّفاقٍ، وإن كان لابدَّ له مِن مرفوعٍ غَيْرِ المُبْتَدَأِ، وسببُ ذلك أن الجملةَ هي التي تَسْتَقِلُّ بالإفادةِ باعتبارِ المنسوبِ والمنسوبِ إليه، وهذه ليستْ كذلك؛ فوَجَبَ ألّا تكونَ جُمْلَةً.
مراجع البحث
1- إتحاف فضلاء البشر للدمياطي، القاهرة 1359هـ.
2- أصول النحو لابْنِ السَّرَّاجِ، ت د/ عبدالمحسن القتلى ط أول 1985م.
3- أمالي بن الحاجب النحوية، ت هادي حسن حمودي، بيروت ط أولى 1985م.
4- إملاء ما من به الرحمن للعكبرى، دار الكتب العلمية، بيروت، ط الأولى 1399هـ.
5- البحر المحيط لأبي حيان، ط السعادة، القاهرة 1328هـ.
6- تذكرة النحاة لأبي حيان، ت د/ عفيفي عبدالرحمن، ط أولى 1986م.
7- التسهيل لابْنِ مَالِكٍ، ت محمد كامل بركات، 1967م.
8- التصريح على التوضيح، عيسى الحلبي، دار إحياء الكتب العربية.
9- التهذيب للأزهري، ت عبدالسلام هارون وآخرين، القاهرة 1964م.
10- حاشية الأمير على المغني، دار إحياء الكتب العربية القاهرة.
11- حاشية الخضري على شرح ابن عقيل لألفية ابْنُ مَالِكٍ.
12- حاشية الصبان على شرح الأشموني، ط صبيح 1344هـ.
13- حاشية يس على التصريح ـ دار إحياء الكتب العربية.
14- حاشية يس على شرح الفاكهي لقطر الندى، مطبعة مصطفى الحلبي 1353هـ.
15- الحجة ،لأبي علي الفارسي، ت د/ عبدالفتاح شلبي وآخرين، دار الكاتب العربي.
16- خزانة الأدب، للبغدادي، ت عبدالسلام هارون القاهرة.
17- دلائل الإعجاز، للإمام عبدالقاهر الجرجاني، ت محمد عبدالمنعم خفاجي.
18- شرح الأشموني على ألفية ابْنِ مَالِكٍ، ط صبيح 1344هـ.(100/33)
19- شرح ألفية ابْنُ مَالِكٍ لابن الناظم، ت د/ عبدالحميد السيد بيروت.
20- شرح الجمل، لابن عصفور، ت د/ صاحب أبو جناح، العراق 1980م.
21- شرح الشافية للرَّضِيِّ، ت محمد الزفزاف وآخرين، القاهرة 1356هـ.
22- شرح الكافية للرضي، 1275هـ.
23- شرح المرادي للألفية، ت د عبدالرحمن علي سليمان جامعة الأزهر.
24- شرح المفصل، لابن يعيش، إدارة الطباعة المنيرية.
25- ضياء السالك إلى أوضح المسالك، لابْنِ هِشَامٍ، ت محمد عبدالعزيز النجار.
26- قطر الندى وبل الصدى، لابْنِ هِشَامٍ، تأليف محمد محيي الدين عبدالحميد.
27- كتاب سِيبَوَيْهِ، ت عبدالسلام هارون.
28- الكشاف، للزمخشري، الطبعة الثانية 1343هـ.
29- لسان العرب، لابن منظور، بيروت ت 1955م.
30- مجالس العلماء، للزجاجي، ت عبدالسلام هارون، الكويت 1962
31- المحتسب، لابن جني، علي النجدي ناصف وآخرين، طبعة ثانية 1986م.
32- المسائل البصريات، للفارسي، ت د/ محمد الشاطر 1985م.
33- المساعد على تسهيل الفوائد، لابن عقيل، ت د/ محمد كامل بركات 1984م.
34- معاني القرآن للفراء، ت عبدالفتاح شلبي، محمد علي النجار.
35- مغني اللبيب، لابْنِ هِشَامٍ، دار إحياء الكتب العربية.
36- المقتضب، للمبرد، ت محمد عبدالخالق عضيمة، القاهرة.
37- نتائج الفكر، للسهيلي، ت د/ محمد البنا، دار الاعتصام، الطبعة الثانية.
38- النشر في القراءات العشر، لابن الجزري، بيروت.
39- همع الهوامع، للسيوطي، ت د/ عبدالعال مكرم، الكويت 1975م.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] أمالي ابن الحاجب 3/47: والكوفيون يسمون اسم الفاعل بالفعل الدائم. مجالس العلماء للزجاجي 318.
[2] التسهيل 136، وشرح الأشموني 2/293.
[3] ضياء السالك3/13.
[4] الأصول 1/122.
[5] قطر الندى 278.
[6] 2/82.
[7] قطر الندى 279.
[8] انظر شرح ابن الناظم 440، المساعد 2/590، حاشية الخضري 2/32.(100/34)
[9] وقد يأتي على غَيْر ذلك نحو عجزت المرأة إذا أسنَّت فهي عجوز، وسقط الولد من بطن أمه فهو سَقْط، وملك على الناس فهو مَلِك، وسلف الشيء إذا مضى فهو سَلفٌ. انظر اللسان والقاموس والمصباح.
[10] وقد جاء من المكسور على فاعل نحو: حاذر وفارح ونادم، وجارح. انظر المصباح المنبر (خاتمة).
[11] لا يحمد النعمة.
[12] وحيث كان الفاعل على (أفعل) للمذكر فهو للمؤنث على فعلاء، كأحمر وحمراء.
[13] لا يبصر في الشمس.
[14] ضياء السالك 3/6.
[15] الفاره: الحاذق بالشيء، والسليح الحسن، ومن الدواب: الجيد السير.
[16] انظر شرح الجمل لابن عصفور 12، 40، أوضح المسالك 2/267.
[17] قال أبو القاسم الزجاجي. "وهذا مطرد فيما كان من الأفعال على (فَعُل) إذ يأتي اسْمُ الفاعل منه على (فعيل) وهو فعل غَيْر متعد". انظر اشتقاق أسماء الله – ص 66. وانظر الممتع لابن عصفور 2/450.
[18] المصباح المنير (ملح).
[19] حاشية الخضرى 2/34، ضياء السالك 3/56.
[20] حاشية الأمير 2/88.
[21] حاشية الخضري 2/35.
[22] حاشية الخضري 2/29. وانظر شرح المرادي 3/41.
[23] حاشية يس على شرح الفاكهي 2/149، وحاشية الخضري 2/29. وانظر شرح المرادي للألفية 3/41-43.
[24] انظر التصريح 2/82.
[25] شرح الرضي 2/205.
[26] التسهيل 141 وشرح المفصل لابن يعيش 6/28.
[27] شرح الألفية 444.
[28] انظر المصباح المنير. خاتمة ص948.
[29] الكشاف: 3/179 وانظر البحر المحيط: 6/399. وفي معاني الفراء: 2/232. تقرأ لميتون ومائتون. وميتون أكثر.
[30] تذكرة النحاة لأبي حيان 534، وانظر حاشية الصبان 2/292.
[31] المزهر للسيوطي 2/274 ت محمد أبو الفضل وآخرين ط ثالثة دار التراث.
[32] انظر المقتضب للمبرد 1/99 والممتع (لابن عصفور 1/328).(100/35)
[33] ولو تقديرًا نحو: مختار من اختار. ومن ذلك قوله تعالى: {وأطعموا القانع والمُعْتَرَّ}. أي اعترَّ اعترارًا فهو مُعْتّرّ، والمَفْعُول: مُعْتَرّ أيضًا. لفظ الفاعل والمَفْعُول سواء. الكشاف 3/158 والبحر 6/370.
[34] المساعد 2/189، وفي اللسان: لفج وألفج الرجل: أفلس.
[35] المصباح. عمّ.
[36] التهذيم (نتج) وانظر التذكرة لأبي حيان نقلًا عن الأصمعي. ص580.
[37] الصاحبي لابن فارس 444.
[38] انظر شرح ابن عصفور للجمل 2/402، وشرح الرّضِيّ 2/199، والمساعد 2/189، وحاشية الصبان 2/312.
[39] شرح ابن عصفور 2/39.
[40] المساعد 2/189. الحجر آية 22.
[41] شرح الرضي 2/199.
[42] في البحر المحيط دافق قيل هو بمَعْنَى مدفوق، وعند الخليل وسِيبَوَيْهِ هو على النسب كلابن وتامر، أي: ذو دفق" البحر 8/455. وانظر الصاحبي لابن فارس 366.
[43] شرح الرضي 2/199 وانظر الصاحبي 367.
[44] شرح الشافية 1/176. وانظر الصاحبي 394.
[45] في الخصائص لابن جني 10313 لرجل يدعو لابنه وهو صغير. وانظر الصاحبي 394.
[46] المحتسب لابن جني 1/347.
[47] البحر 8/321. البحر 8/321.
[48] البحر 7/457.
[49] المحتسب 1/287.
[50] المحتسب 1/287.
[51] البحر 8/321. والكشاف 4/149.
[52] الكشاف 4/176. وانظر البحر 8/362.
[53] البحر 2/379.
[54] البحر 3/203.
[55] البحر 3/119.
[56] شرح الرضي 2/198.
[57] شرح الرضي 2/205.
[58] حاشية على شرح الفاكهي 2/146.
[59] دلائل الإعجاز 193.
[60] البحر 1/41.
[61] الكشاف 4/138.
[62] البحر 1/140.
[63] البحر 1/260.
[64] البحر 1/69.
[65] شرح الرضي2/205.
[66] شرح الرضي 2/205.
[67] ضياء السالك 3/57.
[68] التسهيل 141 وشرح ابن الناظم 444 وشرح ابن يعيش 6/28.
[69] البحر 1/478.
[70] البحر 1/46.
[71] شرح ابن يعيش 6/78.
[72] الكشاف 1/102.
[73] الكتاب 1/181.
[74] شرح المفصل 6/68.
[75] شرح الرضي 2/205.
[76] الأصول 1/125.(100/36)
[77] التسهيل 136، التصريح 2/65، حاشية الصبان 2/294.
[78] الأصول 3/62.
[79] شرح الرضي 2/8203.
[80] الهمع 2/95.
[81] انظر المساعد 2/191، المغني 2/75، التصريح 2/65، الأشموني 2/294.
[82] انظر المساعد 2/192.
[83] المساعد 2/191.
[84] الهمع 2/95، شرح الأشموني 2/294.
[85] المغني 2/149.
[86] شرح الجمل 1/554.
[87] بشر بن أبي خازم، انظر شرح ابن الناظم 430، والأشموني 2/364، واللسان (فقد) وحاشية يس 2/66.
[88] فاقد: تفقد ولديها.
[89] من الخطب وهو الأمر العظيم.
[90] ولدين.
[91] من الترجيع (إنا لله). (وكذا في حاشية الصبان على شرح الأشموني، والصواب: ترجيع الصوت بالبكاء حزنا على فراق حبيب؛ قال طرفة ابن العبد ـ يمدح أمته لحسن صوتها:
إِذَا رَجَّعَتْ فِي صَوْتِهَا خِلْتَ صَوْتَهَا تَجَاوُبَ أَظْآرٍ عَلَى رُبَعٍ رَدِ)
[92] المباين.
[93] شرح الأشموني 2/295.
[94] شرح المفصل 1/77.
[95] شرح الرضي 2/169.
[96] التصريح 2/65.
[97] حاشية الصبان 2/293.
[98] حاشية الخضري 2/25.
[99] انظر شرح الرضي 2/200 والمساعد 1/197 والتصريح 2/66 والبحر 6/109.
[100] المسائل البصريات 1/540 وانظر المغني 2/162.
[101] شرح ابن الناظم 431 والمساعد 2/98 وشرح الجمل لابن عصفور 1/552.
[102] شرح الرضي 2/201 وحاشية الصبان 2/293.
[103] التصريح 2/66، حاشية الخضري 2/25، وحاشية الصبان 2/293.
[104] المساعد 2/197.
[105] شرح الرضي 2/169، التصريح 2/66، شرح الأشموني 2/294.
[106] التصريح 2/66.
[107] شرح الرضي 2/199.
[108] انظر البحر 8/396 وهي قراءة أبي حيوة والقراءة ذكرها الزَّمَخْشَرِيّ في الكشاف 4/197، وانظر شرح الرضي 1/94. وشرح ابن عصفور للجمل 1/554 وشرح الأشموني 2/294.
[109] نتائج الفكر 425.
[110] شرح المفصل 6/78.
[111] انظر شرح الرضي 2/201.
[112] انظر شرح الجمل لابن عصفور 1/553.
[113] الكتاب 1/181.
[114] شرح الرضي 2/201.(100/37)
[115] شرح ابن الناظم 426.
[116] شرح الرضي 2/37. ونظر المغني 1/47.
[117] شرح الألفية 1/225.
[118] التصريح 2/65.
[119] الحديد 18.
[120] الكشاف 4/130.
[121] المساعد 2/199 وحاشية الصبان 2/296. وانظر الهمع 2/96.
[122] شرح الرضي 2/201، شرح الأشموني 2/1: 2، وحاشية الخضري 2/26.
[123] شرح الرضي 2/201.
[124] انظر حاشية الصبان 2/296.
[125] الكتاب 1/182.
[126] انظر حاشية الشيخ يس 2/28.
[127] انظر المساعد 2/202.
[128] الحج 35.
[129] البصريات 2/865.
[130] المقتضب 4/165، 197، المغني (2/87).
[131] شرح ابن عصفور للجمل 1/554.
[132] الكتاب 1/183 وانظر المقيمين 4/149 والأصول 1/129.
[133] في البحر 6/369: قرأ الجمهور: والمقيمي الصلاة بالخفض على الإضافة، وحذفت النون لأجلها، وقرأ ابن أبي اسحاق والحسن وأبو عمرو: الصلاة بالنَّصْبِ "قال ابن جني" "أراد المقيمين فحذف النون تخفيفًا لا لتعاقبها الإضافة" المحتسب 2/80.
[134] التصريح 2/28.
[135] البحر 7/298 وانظر شرح الرضي 1/256.
[136] الكشاف 2/709.
[137] انظر الكتاب 1/84، المقتضب 4/149، الأصول 1/126، التصريح 2/28.
[138] الكتاب 1/103.
[139] الكتاب 1/105.
[140] شرح الرضي 1/278.
[141] الكشاف 1/448 وانظر البحر.
[142] شرح الإيضاح 3/26 المحيط: 68، 5/218. وشرح المرادي 3/26.
[143] البحر 6/98، 6/218.
[144] البحر 1/432.
[145] شرح المفصل 6/68.
[146] شرح الرضي 1/259.
[147] معاني القرآن 2/202.
[148] النشر 2/388 والبحر 283.
[149] البحر 8/263.
[150] الكشاف 1/448 والبحر 3/133.
[151] الكشاف 1/448، البحر 3/133، الإتحاف 183.
[152] المقتضب 2/312، البحر 4/185.
[153] الأصول 1/128.
[154] الأنعام 96.
[155] انظر النشر 2/36. والبحر 4/186. قرأ الكوفيون "وجعل" من غير ألف ونصب (الليل).
[156] الكتاب 1/86.
[157] شرح ابن الناظم 432.
[158] الكتاب 1/187.(100/38)
[159] يعني بذلك حذف النون من (الحافظو) ونصب عورة، وسِيبَوَيْهِ يجيز ذلك في الشعر، ولم تحذف النون للإضافة ولكن كما حذفوها في (الذين) حيث طال الكلام.
انظر الكتاب 1/183 والمحتسب 2/80 والخزانة 2/188.
[160] المساعد 2/201 والبحر 2/318 والتصريح 2/30.
[161] البحر 4/186 وحاشية الشيخ يس على التصريح 2/30.
[162] الأصول في النحو 1/128.
[163] انظر شرح الرضي 1/278 والكشاف 1/6، 2/26، البحر 4/187، والمغني 2/5.
[164] المغني 2/5.
[165] التصريح 2/84.
[166] حاشية الشيخ يس على شرح الفاكهي 2/134، وحاشية الخضري 2/4.
[167] التصريح 2/70.
[168] التصريح 2/70.
[169] الكشاف 1/9، والبحر 7/447.
[170] الكشاف 2/29.
[171] العكبري 2/254.
[172] الكشاف 4/148، والبحر 7/447.
[173] ضياء السالك 4/95، وواحد اسم فاعل من وحد يحد، إذا انفرد، فالواحد بمَعْنَى المنفرد.
[174] هو الْكِسَائِيُّ: انظر ضياء السالك 4/115. المساعد 2/98.
[175] حاشية الخضري 2/139.
[176] معاني الفراء 1/317.
[177] المساعد على تسهيل الفوائد 2/95.
[178] ضياء السالك 4/113.
[179] الكتاب 2/172 والمقتضب 2/181.
[180] شرح الجمل 2/39.
[181] المصباح 944.
[182] المجادلة (7).
[183] حاشية الخضري 2/139.
[184] حاشية الصبان 2/292.
[185] أمالي ابن الحاجب 4/29 وانظر حاشية الخضري على ابن عقيل 1/197.(100/39)
العنوان: أسماء أحياء الرياض القديمة
رقم المقالة: 377
صاحب المقالة: حمد الجاسر
-----------------------------------------
نشرت ((المجلة العربية)) [جزء ذي القعدة 1408هـ/ تموز 1988م، ص20] كلمة للأديب الباحث الأستاذ الفريق يحيى بن عبدالله المعلمي تتعلق بتعليل بعض أسماء أحياء الرياض القديمة، على ما اتضح له من كتاب وقع في يده، أبَانَ أَصْلَ تلك الأسماء، وسبب إطلاقها على المواضع التي أطلقت عليها ومنها: (شِلَّقَا والْفُوطَة وخَنْشَلِيلَة).
مع الإشارة إلى أن الرياض كانت تسمى (رياض مقرن) لعله مقرن بن مرخان جد آل سعود، وعن وقوع خانات كثيرة في بلدة الرياض منها: (خان المحرق وخان جليجلة وخان شليلة).
والواقع أن الكتاب الذي أشار إليه الأستاذ الفريق المعلمي سبق أن لفت نظري للاطلاع عليه الصديق الكريم الأستاذ عبدالله بن علي بن حُمَيِّدٍ رئيس النادي الأدبي في أبها في كلمة نشرها في جريدة ((البلاد)) [ع8437 في 14/4/1407هـ] وقبل ذلك كان ابننا الأستاذ أبو عبدالرحمن بن عقيل بعث إليَّ بصفحات مصورة منه مستوضحاً عن بعض ما جاء فيها من معلومات، وكان من بينها سَرْدُ نَسَبِ الأمير أحمد بن محمد بن سليمان بن فوزان بن تركي بن عبدالمحسن ابن علي بن خالد بن أحمد بن عبدالله بن عبدالوهاب بن سليمان بن زيد بن محسن ابن سدير – السديري – إلى آخر النسب وقال: بأن سدير بن عامر سمي به وادي الفقء لتغلبه عليه هو وذريته من بعده.(101/1)
وسُدَيْرُ هذا هو الأب الرابع عشر للأمير أحمد بن محمد الذي ذكر المؤلف الالتقاء به سنة 1281 في عهد الإمام فيصل بن تركي، ومن المعروف أنَّ علماء التاريخ يحددون للقرن ثلاث طبقات (ثلاثة رجال) وعلى ما ورد في هذا الكتاب تكون الفترة الزمنية بين أحمد بن محمد وبين جده سُدير تقارب خمسة قرون أي أن الزمن الذي عاش فيه سدير هو القرن الثامن الهجري، بل قد نص صراحة في قسم يظهر أنه من أجزاء الكتاب قال عن سدير بن عامر: وقد ثارت ضده قبائل نجدٍ بعد وفاة أبيه بدعم من بني جروان في الاحساء عام 787.
ويتبين خطأ هذا إذا أدركنا أن وادي سدير كان معروفاً قبل هذه الفترة بقرون، فقد ورد ذكره في كتاب الحفصي عن اليمامة الذي هو أحد مصادر ياقوت في كتابه ((معجم البلدان)) حيث ذكر: ذو سدير قرية لبني العنبر. وقال في موضع آخر من كتابه: بظاهر السخال واد يقال له ذو سدير. ولا شك أنه يعني وادي سدير المعروف الذي كان يسمى أيضاً الفقء ووادي المياه أيضاً.
من هنا ضعفت ثقتي بذلك الكتاب، وإن كنت أعجبت بخيال مؤلفه الخصب، لتمكنه من إيراد أشعار كثيرة شواهد على ما يوردها من أخبار، أو يؤرخ من رجال ويذكر من حوادث، فقد يتبع ذلك بقصيدة قد تتجاوز العشرات بل قد تبلغ المئات من الأبيات على درجة قوية من حسن السبك، وسلاسة النظم، مع احتوائها على عدد كثير من أسماء المواضع والقبائل التي لها صلة بالخبر، مما يدل على سعة اطلاع الناظم ومعرفته بالمواضع والقبائل التي يتحدث عنها، وإن كان أسلوب القصائد التي يوردها في كتابه أسلوباً واحداً سواء منها ما ساقه على لسان أناس قال إنهم عاشوا في القرن الثاني الهجري أو آخرين عاشوا في القرن الرابع عشر مما يدل على أن الناظم واحد.(101/2)
أما ما يورده من أصول أنساب القبائل ويفرعه من ذكر أُسر يصلها بتلك الأنساب فمن الأمور التي تستدعي الحيرة، وتثير الدهشة لاتساع ذاكرته لأنساب القبائل، ولمساكنها، ولصلات بعضها ببعض، بصرف النظر عما يورده من خلط في ذلك.
لندع هذا إلى ما ذكر عن تعليل أسماء أحياء الرياض.
لقد تذكرت وأنا اقرأ ما كتب عن ذلك قصة حدثت قبل عشرين عاماً حين سُئِل أحدهم عن اسم جبل يقع جنوب مدينة الاحساء على طريق المتجه إلى قطر يدعى (دُخْنَة) وعن صلته بمحلة دخنة إحدى محلات الرياض، فأسعفه الخيال الخصب بأن قال (متمعلما) أو (هازلا): كانت هناك قبيلة تدعَى دخنة، تسكن حول ذلك الجبل، ثم إنها انتقلت إلى الرياض واستقرت هناك!! وقد اشرت إلى هذه الخرافة في كلامي عن ذلك الجبل في ((المعجم الجغرافي للبلاد العربية السعودية)) قسم المنطقة الشرقية، ولم يمض طويل وقت حتى رأيت كلام الرجل مسطراً في أحد المؤلفات باعتباره حقيقة تاريخية وهكذا تصبح الخرافات تاريخاً.
أما عن نسبة مواضع في الرياض إلى بني أمية فليس هناك من الأدلة التاريخية – حسب علمي – ما يثبته، بل إن أقوى عامل وطد حكمهم في نجد هو إبراهيم ابن عربي في عهد عبدالملك بن مروان ومن بعده، وقد اتخذ مقر إقامته في (العُقَيْر) وهذا في بطن وادي حنيفة، وقد أشرتُ فيما كتبت منذ زمن إلى أنني أرى أنه كان يقع على مقربة من المغيدر والملقا، حيث كان يوجد هناك قصر يدعى قصر (عقران) وقد شاهدتُّ من آثار ذلك القصر فرأيت اللبنات التي كان بني بها قد عملت من الآجُرِّ الأحمر، وما كان لهذه البلاد عَهْدٌ بالبناء بهذا النوع من اللبن إلا منذ زمن قريب، ولم يؤثر للوالي الأموي ابن عربي هذا من الإنشاءات العمرانية سوى سجن (دَوَّار) الذي أنشأه في مدينة حجر (الرياض) وخلد ذكره الشعر العربي في ذلك العهد فكان مما قال جحدر العكلي – انظر ((العرب)) س11، ص73 –:(101/3)
يَارَبَّ دَوَّارِ أَنْقِذْ أَهْلَهُ عَجِلاً وَانْقُضْ مَرائِرَهُ مِنْ بَعْدِ إِبْرَامِ
رَبّ ارْمِهِ بِخَرَابٍ، وَارْمِ بَانِيَهُ بِصَوْلَةٍ مِنْ أبِي شِبْلَيْنِ ضِرْغَام
ِ
وقد استجاب الله دعاء هذا الشاعر فزال دوار من الوجود.
وأمر آخر فقد تَصَدَّى لتحديد جميع المواضع المشهورة في اليمامة كلها ومنها ما يحيط بحجر (الرياض) من أمكنة وجبال، وأودية وقرى، عالم من أهل هذه البلاد في القرن الثالث الهجري وهو محمد بن إدريس بن أبي حفصة اليمامي فألف كتاب ((اليمامة)) سجل فيه أسماء قراها وأمكنتها المشهورة وجبالها وأوديتها وطرقها وكان من مصادر ياقوت فنقل عنه كثيراً في ((معجم البلدان)) ولم يرد فيما نقل أية إشارة عن أي موضع من هذه المواضع التي نُسِبَتْ إلى بني أمية – انظر عن كتاب ابن أبي حفصة ((العرب)) س1، ص763 و769 –.
أما المكان الذي دعاه (خان المحرق) وقال بأنه يقع في الجنوب الغربي لمدينة الرياض القديمة أي ناحية عُتَيِّقَة، فإذا صح أن الموضع معروف بهذا الإسم فليس من المستبعد أن يكون موضع قرية المُحَرَّقة التي حدد مكانها ياقوت بأنه في قبلة العرض وأن العرض في قبلة حجر وحجر في قبلة الشطِّ بين الوتر والعرض، ووصفها صاحب كتاب ((بلاد العرب)) بأنها قرية تقع في بطن العرض وأنها قرية آل المهير وهاؤلاء من سادات بني حنفية.
والقول بأن مدينة الرياض كانت تسمى (رياض مقرن) لعله مقرن بن مرخان جد آل سعود، فالظاهر أنَّ صاحب الكتاب نسبها إلى مقرن بن أجود بن زامل من الأجاودة أمراء الاحساء الذين امتد حكمهم إلى نجد في القرن التاسع وأول العاشر ومقرن هذا قتله البرتغاليون سنة 928.
وانظر عن آل أَجْود ((العرب)) س1، ص601/ 660 –.(101/4)
وكان قضاة الرياض في ذلك العهد قبل بروز اسمها يضافون إلى مقرن فيقال: قاضي مقرن ويقصد القرية التي كانت في الاصل إحدى محلات مدينة حجر حين كانت قائمة، فلما ضعفت تفرقت محلاتها وعرفت بأسماء متعددة مثل: مقرن ومعكال والبنية والعود وجبرة والصليعاء والخراب وغيرها حتى كان في عهد دهام بن دواس في النصف الثاني من القرن الحادي عشر الهجري فجمعها داخل سور واحد لا تزال بعض آثاره مشاهدة، وقد تحدثْتُ عن ذلك في كتاب ((مدينة الرياض عَبْرَ أطوار التاريخ)).
ومعكال كان الاسم ينطق بالنون (معكان) على ما جاء في كتاب ((سمط النجوم العوالي)) للعصامي حيث أورد خبر غزوة شريف مكة حسن بن أبي نمي هذه البلدة سنة 986 ونواحي أخرى من الخرج، ووصف الغزوة أحد شعراء مكة محمد بن علي الطبري بقصيدة منها:
ويحْسَبُ الناسُ مِنْ أَهْلِ (الْبَدِيع) وَمِنْ أَهْلِ (السُّلَيْمِيَّةِ) الْغَبْرا و(مِعْكَانَا)
أو (آل خَالِدَ) مَنْ أَهْدَى ضلالَتُهُمْ نُفُوسَهُم فَغَدَوا هَدْياً وَقُرْبَانَا
أما الْْقَرِيُّ فهناك مواضع لا يزال بعضها يحتفظ بهذه التسمية الآن، وفي العهد القديم من المواضع قرية كانت تابعة لحجر ذكرها صاحب كتاب ((بلاد العرب)) وحدد موقعها بأنها واقعة بين الواديين يقصد وادي الْوُتْرِ (البطحاء) ووادي العرض.
هذا ما رأيت التعليق به على كلمة حبيبنا الفريق الأستاذ المعلمي مما لا أراه وافياً بالغرض إذِ الموضوع في رأيي بحاجة إلى دراسة أوفى وأعمق ممن لهم من بسطة العلم، وسعة من الوقت والاتجاه للبحث في هذه الموضوعات مما يمكنهم من أن تكون كلمتهم الفصل في مثل هذه الأمور، وما التوفيق إلا من الله سبحانه وتعالى.(101/5)
العنوان: أسماء الكعبة، وأسباب التسميات
رقم المقالة: 1787
صاحب المقالة: خاص: الألوكة
-----------------------------------------
تبادر إلى ذهني -حالَ كتابتي هذه الأسطر حول أسماء الكعبة- قولُ الشاعر الفلسطيني إبراهيم طوقان:
تكثرُ الأسماءُ في شيءٍ إذا كمُلَ المعنى بهِ أوْ حَسُنا!
.. الكتاب النفيس (أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار) تأريخٌ شامل ضخم لمكة المكرمة.
أما مؤلفه، أبو الوليد محمد بن عبد الله بن أحمد الأزرقي، المتوفى نحو 250 هـ، فقد أبدع في الاستقصاء في كل مقال، وجمع ما قد لا يخطر على البال!
وأمّا محققه، الأستاذ/ رشدي الصالح ملحس، فقد زاد الكتاب بهاءً وروعة بحسن تحقيقه ومقارناته وإضافاته وإلحاقاته المهمة..
ومما ورد في هذا الكتاب (بعد اختصارنا الأسانيد):
بابٌ؛ (ما جاء في أسماء الكعبة، ولِمَ سمّيت بالكعبة).
قال فيه:
أسماء مختلفة..
• عن ابن أبي يحيى قال : بلغني أن ((أسماء مكة: مكة، وبكة، وأم رحم، وأم القرى، والباسة والبيت العتيق، والحاطمة تحطم من استخف بها، والباسة تبسّهم بسًّا، أي تخرجهم إخراجاً إذا غشموا وظلموا)).
• عن مجاهد قال: ((من أسماء مكة هي مكة، وهي بكة، وهي أم رحم، وهي أم القرى، وهي صلاح، وهي كوثى، وهي الباسة، وأول من تقدم في صلاح فاسمع أهلها، وأول من أذن بمكة حبيب بن عبد الرحمن)).
الكعبة:
• عن ابن أبي نجيح، قال : ((إنما سميت الكعبة ؛ لأنها مكعبة على خلقة الكعب)) قال: ((وكان الناس يبنون بيوتهم مدوّرةً تعظيماً للكعبة، فأول من بنى بيتاً مربعاً حميد بن زهير، فقالت قريش: ربّعَ حميد بن زهير بيتا، إما حياةً وإما موتا)).
بكّة:
• عن ابن عباس رضي الله عنه قال: ((إنما سميت بَكَّة لأنه يجتمع فيها الرجال والنساء)).
• عن إبراهيم قال: ((بكة موضع البيت، ومكة القرية)).
• وورد فيه: ((بكة البيت، وما حواليه مكة وإنما سميت بكة لأن الناس يبك بعضهم بعضاً في الطواف)).(102/1)
• ويقال: ((إنما سميت بكة لأنها تبكّ أعناق الجبابرة)). [أي تكسرها].
البيت العتيق:
• وقال مجاهد، والسدي : إنما سمي البيت العتيق الكعبة أعتقها الله من الجبابرة فلا يتجبرون فيها إذا طافوا. وكان البيت يدعى قادساً ويدعى ناذراً ويدعى القرية القديمة، ويدعى البيت العتيق.
• عن مجاهد قال : ((البيت العتيق أعتقه الله عز وجل من كلّ جبارٍ، فلا يستطيع جبارٌ يدّعي أنه له، ولا يقال: بيت فلان ولا ينسب إلا إلى الله عز وجل))[1].
أول بيت:
• قال عثمان : وأخبرني محمد بن السائب الكلبي في قول الله عز وجل: {إنّ أولَ بيتٍ وُضعَ للناسِ لَلَّذيْ ببكَّةَ مُبارَكاً} [سورة : آل عمران آية رقم : 96] قال: ((وهي الكعبة)).
ثم أضاف المحقق في الصفحة 379 أسماءً أخرى للكعبة، منها ما هو مختلَف فيه، ونختصرها في:
- الكعبة الشامية.
- كعبة اليمامة.
- وأجمع المؤرخون أنها كانت تسمى: بيت ذي الخلصة.
- الوليّة. وهي مشتقة من الولي، وهو المحب أو النصير.
ــــــــــــــــــــــــــــ
[1] وقال محيي الدين الدرويش، في كتابه إعراب القرآن الكريم وبيانه، ص 127: "فرجّح الزمخشري أنه القديم لأنه أول بيت وُضع للناس.."، ثم قال: "وقيل: بيتٌ كريم، من قولهم: عتاق الخيل والطير".(102/2)
العنوان: إسماعيل بن علي الأكوع علامة اليمن ومؤرخها
رقم المقالة: 854
صاحب المقالة: أحمد بن محمود الداهن
-----------------------------------------
لمحات من حياته
اسمه ولقبه ونسبه:
هو القاضي أبو محمد إسماعيل بن علي بن حسين بن أحمد بن عبد الله بن إسماعيل الأَكْوَع الحِوالي.
ولَقبُ القاضي؛ لقبٌ تشريفيٌّ لمن كان والدُه يشتغل بالقضاء، ولو لم يكن مع الابن ما يؤهِّله للقضاء. أما نسبة الأكوع، فتعود إلى جدِّه محمد بن إبراهيم، الملقَّب بالأَكْوَع؛ لبُروزٍ في كُوعِه. وأما الحِوالي فنسبة إلى ذي حِوال الأكبر الحِميَري.
وُلد في مدينة ذِمار ضحى الأربعاء 11 من جمادى الآخرة سنة 1338هـ، الموافق 1 من آذار 1920م.
ومذهب هذه الأسرة في الأصل هو المذهب الزيديِّ، إلا أنه ظهر فيهم منذ منتصف القرن الثالثَ عشرَ الهجريِّ من تحوَّل إلى مذهب أهل السنة، منهم أحمد بن عبد الله الأكوَع والد جدِّ صاحب الترجمة.
أسرته وأهل بيته:
والده: القاضي العلامة جمال الدين، علي بن حسين بن أحمد بن عبد الله الأكوع، تولَّى الإفتاء والقضاء في ناحية خُبَّان، وكان يقصده الناس من مختلِف المناطق.
والدته: فاطمة بنت حسين بن عبد الله المجاهد، يتصل نسبها من قِبَل أمِّها بالإمام محمد بن علي الشوكاني رحمه الله.
أولاده: أنجب ولدَين وبنتين، اهتمَّ بتربيتهم وتعليمهم العلم الشرعي والدنيوي، فكان منهم أول طبيبة في اليمن، وسفير اليمن في المملكة العربية السعودية.
طفولته وبداية طلبه للعلم:
تدور مراحلُ حياة صاحب الترجمة حول محور واحد هو العلم، فقد بدأت مرحلةُ الطلب من حين تخرَّج من المِعلامة (وهي حُجرة صغيرة ملحقةٌ بالمسجد) بعد سنتين أمضاهما فيها، وانتقل إلى (المكتب) وهو كتَّاب حكومي يعلم الطلاب قراءة القرآن وتجويده، والحساب، والخط، ثم دخل المدرسة، فقرأ فيها أول كتاب (شرح الآجُرُّومِيَّة) للصِّنهاجي.(103/1)
وفي طفولته كان ملازماً لوالده في حلِّه وترحاله، يحضر مجالسه العلمية في المدرسة والمسجد والبيت. ويقول هو عن ذلك: "إن المدرسة الحقيقية كانت مدرسةَ الوالد رحمه الله، وأكثر الاستفادة من جلساته العلمية، وكنت أحضر شطراً من اليوم في مجلس الوالد؛ ذلك لأني كنت في غالب الأيام أقوم بخدمته وخدمة مَن يرتاد مجلسه من العلماء والباحثين والدارسين..".
وقد غرسَت مجالس العلم هذه في نفس الشيخ حبَّ العلم والشغف به، وكان يتذوَّق للعلم لذة لا يجد لها مثيلاً في نعيم الدنيا. ومن الواضح أن هذه المرحلة أثرت في مسيرة حياته فيما بعد، حيث صبغتها بالصِّبغة العلمية وحب العلم وأهله، والتفاني في طلب العلم وخدمته.
شيوخه:
أخذ القاضي إسماعيل القرآن وعلوم الحديث والفقه وعلم أصول الفقه وعلم النحو وعلم المعاني والبيان عن جِلَّة علماء اليمن وأكابرهم؛ منهم:
أحمد بن علي التويرة: المقرئ الضرير.
وأحمد بن محمد بن أحمد الأكوع: وهو والد زوجة المترجَم، عالم في الفقه والفرائض مشارك في غيرهما.
وأحمد بن محمد الوائلي: وهو من ألمع تلاميذ العلامة محمد بن علي الأكوع أخي صاحب الترجمة.
وثابت بن سعد بهران: عالم محقق في علوم الحديث، له معرفة تامة بعلوم العربية.
وحسن بن أحمد بن عبد الباري الأَهْدَل: وهو عالم في الفقه، له مشاركة جيدة في غيره.
وحسن بن زيد بن علي الديلمي: وهو عالم مبرِّز في علوم العربية والحديث والتفسير.
وحمود بن محمد بن إسماعيل المِحْنَبي الهتاري: وهو عالم محقق في الفقه وعلوم العربية والتفسير والحديث.
وزيد بن يحيى عَقَبات: وكان عالماً في الصرف والنحو والمعاني والبيان وأصول الفقه.
وصالح بن محمد الحُودي: وكان إمام القرَّاء في عصره، وعالماً محققاً في علوم القراءات وأصول الدين والفقه.
وعبد القادر بن عبد الله بن علي: وهو عالم محقق في العلوم والحديث واللغة.
وعبد الله بن أحمد الصادق: وهو عالم مشارك.(103/2)
والعلامة عبد الله بن محمد السُّوسُّوَة: وهو عالم محقق في الفقه والفرائض والنحو.
وعلي بن أحمد بن قاسم حميد الدين: وهو عالم مشارك.
وعلي بن حسين الشامي: وهو عالم مبرز في كثير من العلوم، ولا سيما العربية، وكان شاعراً أديباً راوية للأخبار.
وعلي بن محمد بن حسن الأكوع: وهو عالم محقق ومبرز في الفروع والأصول والنحو والصرف والمعاني والبيان والفرائض.
ولطف بن زيد الديلمي: وهو عالم جليل محقق في النحو والصرف والمعاني والبيان وأصول الفقه.
ومحمد بن سالم البَيْحاني: العلامة الخطيب والشاعر الضرير، وهو من علماء عدن.
ومحمد بن ناجي وهَّابي: وهو عالم في الفقه، له مشاركات قوية في علوم العربية.
ووالده علي بن حسين الأكوع.
وأخوه محمد بن علي الأكوع.
مناشطه السياسية:
نشأ صاحب الترجمة - كما تقدَّم - في بيئة علمية كان لها أثر كبير في توسيع مداركه وزيادة وعيه في أمور الحياة، ولم يكن تقليدياً في تعلُّمه وتعليمه، فقد غرس فيه شيوخُه بغضَ الظلم والظالمين، فنشأ حرّاً أبيّاً، يأبى الظلم ويسعى إلى تغييره.
بدأ القاضي إسماعيل العمل السياسي بعد وفاة والده بانخراطه في صفوف الحركة الوطنية التي انضوى تحت لوائها كثيرٌ من أعلام اليمن ورجالاته. وتكفَّل أول الأمر بمهمة الاتصال بمشايخ بعض القبائل في بلاد ذمار، وتوزيع منشورات الأحرار عليهم، وتبصيرهم بالقضية الوطنية.
وقد جرَّ عليه العمل مع الأحرار متاعب جمَّة، من سجن وتعذيب وهجرة من وطنه سنوات عديدة، حتى عاد إليه سنة 1386هـ 1960م. وعُيِّن سكرتيراً أول للمفوضية اليمنية في موسكو.
وبعد قيام الثورة الجمهورية على الملكية، عاد إلى صنعاء، وعُهد إليه منصب مستشارٍ ثقافيٍّ في سفارة اليمن بالقاهرة، وفي سنة 1964 عمل في وزاة الخارجية، وعُيِّن نائباً ثانياً لوزير الخارجية، ثم سفيراً متجولاً، إلى أن استقرَّ به الحال وزيراً للإعلام في وزارة حسن العمري في عهد القاضي عبد الرحمن الأرياني.(103/3)
وبعد استقالة الحكومة سنة 1969م، رفض العودةَ للعمل في السلك السياسي، وبدأ بتأسيس مؤسسة تهتمُّ بالحفاظ على المخطوطات والكتب والآثار، والتي سميت فيما بعد (الهيئة العامة للآثار ودور الكتب)، وبقي في رئاستها 21 سنة، إلى أواخر سنة 1990م. وفي خلال هذا العمل تفرَّغ صاحب الترجمة للقراءة والكتابة، والاطلاع على المخطوطات المتعلقة بما قام بتأليفه. وحضر مؤتمرات الآثار التي عُقدت في بعض الدول العربية.
أما أبرز الأعمال التي قامت بها دار الكتب أثناء رئاسته، فهي إنشاء متحف للآثار اليمانية، وعمل مسح أثري لكثير من مناطق اليمن بمساعدة بعثات دولية متخصِّصة. وكان النصيب الأوفر من اهتمام الدار منصبّاً نحو اقتناء المخطوطات الإسلامية النادرة، والتي جمعت منها نحو ثلاثة آلاف من رسائل وكتب.
رحلاته:
عُرف عن الشيخ حبُّه للأسفار منذ صغره، وكان يعد السفر أفضلَ هواياته ويجد فيه متعة وفائدة كبيرين. فقد تجول داخل اليمن؛ فلم يدع مدينة ولا هجرة في اليمن إلا زارها، واطلع على معالمها، وتعرف أهلها وعلماءها. وخارج اليمن؛ زار بلدان العالم العربي جميعها وبعضاً من بلدان العالم الأخرى، ومن تلك الزيارات ما كانت رسمية بحكم عمله في السلك السياسي، ومنها ما كانت خاصة للبحث والاستزادة من المعرفة.
وكانت له رحلتان طويلتان: إحداهما من الإسكندرية إلى إيطاليا مروراً بأثينة وبلغراد وزغرب وتريستة ثم إلى برينديزي على شاطئ الأدرياتيك ثم العودة إلى الإسكندرية.
والأخرى من موسكو إلى ألمانية ومنها إلى فرنسة ثم إسبانية فالمغرب فالجزائر فتونس فرومة، انتهاءً بالقاهرة.
وقد زار الولايات المتحدة سنة 1979م بدعوة رسمية، وبقي فيها شهراً، تجوَّل خلاله في عدد من ولاياتها.
وفي آسية، زار الصين وأندونيسية وماليزية وبروناي وسنغافورة بالإضافة إلى الدول العربية فيها.
وزار المملكة العربية السعودية حاجاً وزائراً سنة 1378هـ.(103/4)
وقد عرف الشيخ من خلال رحلاته وعمله السياسي والعلمي، عدداً كبيراً من العلماء والأدباء من عرب وعجم، مسلمين وغير مسلمين، وربطته بهم علاقات وثيقة.
مناشطه العلمية وعضويته في المجامع:
شارك القاضي إسماعيل الأكوع في كثير من المؤتمرات والندوات واللجان العربية والدولية، بعضها ممثلاً عن اليمن، وبعضها بصفته الشخصية.
فقد تمتع بمكانة علمية رفيعة، رغبت لأجلها الكثيرُ من المجامع العربية والإسلامية في انضمامه إليها، فهو عضو في مجمع اللغة العربية بدمشق، وعضو في المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية في الأردن، وعضو في مجمع اللغة العربية الأردني، وعضو في المجمع العلمي الهندي، وعضو في اتحاد المؤرخين العرب، وعضو في معهد الآثار الألماني في برلين.
منهجه العلمي:
يقول صاحب الترجمة عن منهجه في التأليف: "البحث عن الحقيقة وإبرازها في صورة بعيدة عن الغلوِّ والتشويه أو الزيادة مما ليس منها، أو حذف ما لا ينسجم مع رغبة الكاتب".
ويقول: "على المؤرخ الصادق الأمين أن يبرز الجوانب المضيئة في تاريخ بلاده، وألا يَغفل عن ذكر الجوانب المظلمة، حتى يهتمَّ من بيده الأمر لإزاحة الظلام عنها. وعلى المؤرِّخ أن يكتب ما يراه صحيحاً بتجرُّد من الهوى لغرض ما، وأن يكون صادقاً منصفاً فيما يتناوله".
ويقول: "وقد أخذت على نفسي أن أتحرى الحقَّ؛ فلا حُبُّ من أحبُّه يجعلني أخفي ما له من عيوب ضارَّة بغيره، فإذا ذكرتُ ذلك فما بي زجرُه والتشهير به، ولكن ليتَّعظ به غيرُه. ولا كُرهُ مَن أكرهُ في سبيل الحقِّ يجعلني أسلبُه محاسنه، بل أُشيدُ بها ليكون قدوةً حسنةً لغيره".
وهذا المنهج الذي اتبعه صاحب الترجمة - إظهار الحق وبيانه للناس - طبَّقه على كل من ترجم له، حتى لو كان أقربَ الناس إليه، ذاكراً محاسنهم ومثالبهم.
نبذه للتقليد:(103/5)
لم يتقيَّد الشيخ بمذهب فقهي بعينه، بل نجده يدور مع الدليل، من الكتاب وصحيح السنَّة، حيث دار، ويُثني على مَنْ هذا شأنه، ويَعيب على من يجمُد على رأي في الأصول أو الفروع وإن كان الدليل يخالفُه، وقد بيَّن منهجَه هذا في مقدمة كتاب (هِجَر العلم ومعاقله في اليمن) بقوله: "أنكرت على المتعصِّبين تعصُّبهم لغير الحق، وشدَّدت النكير عليهم".
وقال حفظه الله منكرًا الجمودَ والتعصُّب: "وهذا ما يحدث عند كثير من الجامدين على آراء مذاهبهم، فإنَّهم وإن كانوا يعرفون أنَّ الحق مع غيرهم، وأنَّهم على غير الحقِّ، فإنَّهم لا يتزحزحون قِيدَ أُنملة رجوعًا إلى الصواب، مع أنَّ الحقَّ أحقُّ أن يُتَّبع، ولو كان مخالفاً لما نشأ عليه المقلِّد واعتقده، ولكن (لهوى النفوسِ سَريرةٌ لا تُعْلَمُ). وقد جرت بيني وبين أحد العلماء المحقِّقين لكثير من كتب السنَّة محاورةٌ، فكان دائماً يستشهد بكلام مذهبه، فنبَّهته لذلك، ولكنه مُصرٌّ على ذلك، ولو كان مخالفًا للسنَّة! ولا قوة إلا بالله".
دفاعه عن السنة:
ولنبذه التقليد، نجده دائمَ الدفاع عن السنَّة النبوية وأهلها من العلماء، ولا يَدَعُ مناسبةً في كتابٍ ألَّفه أو مقالة يكتبها، أو مجلسَ علم، إلا ويتصدَّى للدفاع عن السنَّة، والإشادة بعلمائها في شتَّى الأمصار، وعلى مرِّ الأزمان، ومن قرأ كتاب (أئمة العلم المجتهدون في اليمن)، وكتاب (هِجَر العلم ومعاقله في اليمن)، فسيرى مصداقَ ذلك.
وقد قال في مقدمته: "وأفضتُ في تراجم علماء السنَّة، لاسيما المجتهدين منهم، الذين كان لهم فَضلٌ كبير ويدٌ عظيمة في نشر السنَّة النبوية في اليمن والعمل بها، وحثِّ الناس على ترك التقليد، والرجوع إلى ما كان عليه السلف الصالح...".(103/6)
مثالُ ذلك ما أورده في ترجمة عقيل بن يحيى الإرياني في كتاب (هِجَر العلم ومعاقله في اليمن)، حيث قال فيه: "سلك مَسلَك أهل السنَّة في اتِّباع أدلة كتاب الله وسنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم، ونعى على المقلِّدين والمعتقدين بالأولياء جمودَهم... فاتَّهمه بعض الغُلاة بأنه يَنزِع إلى عقيدة الوهابية، فقال:
إن أنا نزَّهتُ إلهي عن الأندادِ قالوا أنتَ وهَّابي
لكنَّ لي بالمصطفى أسوةً فقَومُهُ سَمَّوه بالصابي
وعلَّق الشيخ الأكوع في هامش الترجمة بقوله: "مازال هذا دأبَ أعداء السنَّة؛ فمن قبلُ كانوا يتَّهمون مَنْ يميل إلى العمل بالكتاب والسنة بأنه ناصبيٌّ، واليوم يتهمونه بأنه وهَّابي، فلا حول ولا قوة إلا بالله".
بل إنَّه من شدةِ تمسُّكه بالسنَّة كان يشترط في إجازاته لمن يأخذُ عنه ألا يأخذَ عن رافضيٍّ أو أحدٍ من أهل البدع.
مؤلفاته:
خلَّف صاحب الترجمة مجموعة قيِّمة من المؤلَّفات و التحقيقات، بالإضافة إلى البحوث والمقالات النقدية، وأذكر هنا أهمَّ مؤلفاته وتحقيقاته:
1 - أئمة العلم المجتهدون في اليمن.
2 - أعراف وتقاليد حكَّام اليمن في العصر الإسلامي.
3 - الإمام محمد بن إبراهيم الوزير وكتابه العواصم والقواصم.
4 - الأمثال اليمانية.
5 - تاريخ أعلام آل الأكوع.
6 - الدولة الرسولية في اليمن.
7 - الزيدية: نشأتها ومعتقداتها.
8 - سدود اليمن، أبرز مظاهر حضارتها القديمة.
9 - مخاليف اليمن.
10 - المدارس الإسلامية في اليمن.
11 - نشوان بن سعيد الحميري، والصِّراع الفكري والسياسي والمذهبي في عصره.
12 - هِجَر العلم ومعاقله في اليمن.
13 - البلدان اليمانية عند ياقوت (تحقيق).
14 - مجموع بلدان اليمن وقبائلها للقاضي محمد بن أحمد الحجري (تحقيق).
المرجع:(103/7)
كتاب (إسماعيل بن علي الأكوع، علاَّمة اليمن ومؤرِّخها)، تأليف: إبراهيم باجس عبد المجيد المقدسي، وهو الكتاب رقم (27) في سلسلة: (علماء ومفكرون معاصرون، لمحات من حياتهم وتعريف بمؤلفاتهم) التي تصدرها دار القلم بدمشق، الطبعة الأولى، 1426هـ - 2005م.(103/8)
العنوان: إسهام في وضع مصطلحات علم القراءات
رقم المقالة: 1886
صاحب المقالة: محمد المختار وِلْد أبّاه
-----------------------------------------
إسهام في وضع مصطلحات علم القراءات
علم القِراءات والتجويد من أكثر العلوم الشرعية صعوبةً وتعقيدًا، حتى أصبحت دراسته حِكْرًا على ذوي الاختصاص، فلم تنزل مادَّته إلى مستوى العامَّة، ولم تنتشر بين الخاصَّة بصفتها ثقافةً إسلامية؛ ومن أسباب هذه الصّعوبة: ارتباطها عادةً بحفظ القرآن الكريم، وهذا الحفظ يحتاج إلى جهدٍ خاصٍّ متواصِلٍ، ليس في مقدور كثير من الناس، ولاسيَّما في عهدنا المعاصِر، الذي لم يَعُدْ الاعتماد فيه على الذَّاكرة مَنْهجًا في التربية والتعليم، واستغنى الناس عنِ الحِفظ بسبب سهولة العَوْدَة إلى المراجع المُتاحة.
ثم إن لهذا العلم مصطلحاتٍ خاصةً، بعضها يَندرج في علم الأصوات؛ مثل: صفاتِ الحروف، وبيانِ مَخارجها، وبعضُها من صميم القراءات؛ مثل: الرِّوايةِ، والطريق، والمتواتِر، والشَّاذِّ، والأصول، وفَرْشِ الحروف، ومسائلِ الوَقْف والابتداء، وهي مصطلحاتٌ لا زالت متناثرةً في مؤلَّفاتٍ مختلفة متنوِّعةِ الموضوعات.
وإسهامًا في الجهود المتكرِّرة التي تقوم بها لجنةُ الشريعة في مَجْمَعِنا الموقَّر؛ فإنِّي أَعرِضُ مجموعةً من مصطلحات علم التَّجويد، آملاً أن تُعين القائمين على هذا العمل بقسط – ولو قلَّ- في هذا المضمار، وذلك بعد فَحْصِها ومراجعتها إن اقتضى الحال من طرف السَّادة العلماء المشارِكين في هذه اللجنة، وإذا ما أَقَرَّها المَجْمَع؛ فإني أرجو إدراجها ضمن مُعْجَمِ مصطلحات العلوم الشرعيَّة، بعد أن سَبَقَ له أن أقرَّ مصطلحاتِ الحديث النبوي؛ ونَظَرَ في مصطلحات أصول الفقه التي عرضت عليه في السنة السالفة.
الأَلِف
1- الإمام:
أحد المصاحف العثمانيَّة، أو المصحَف الذي بقيَ عند الخليفة عثمان بن عفان - رضيَ الله عنه.
2- الاستعلاء:(104/1)
وصفٌ لسبعة حروف، يَجمعها قولُكَ: (قظ خص ضعط)، وسُميِّت بذلك لاستعلاء اللِّسان إلى الحَنَك الأعلى عند النُّطق بها.
3- الانفتاح: وهو صفةٌ لغير الحروف المُطْبَقَة.
4- الإطباق: ويُقابِل الانفتاح، وهو من صفات القوَّة، وحروفه: الصَّاد، والضاد، والطاء، والظَّاء.
5- الانْسِفال: وهو يقابل الاستعلاء، وأسفل حروفه الياء.
6- الأصول: أحكامُ قواعدَ عامَّة؛ مثل: مذاهب القُرَّاء في المَدِّ والقَصْر، والإمالة والفتح، والإدغام والإظهار.
7- الإمالة: النُّطق بالمَدِّ المفتوح جانحًا نحو الياء، وبالفتحة نحو الكسرة.
8- الإشْباع: إطالة حركة المَدِّ التي قد تَصِلُ إلى مقدار ستِّ أَلِفَاتٍ في بعض الروايات عن حمزةَ ووَرْشٍ.
9- الإضْجاع: الإمالة الكبرى.
10- الابتداء: استئناف القراءة أوَّلاً، أو بعد الوَقْف.
11- الانحراف: من صفة اللام.
12-الإظهار: يُقابِل الإدغام، وهو قَطْع الحرف الساكن ما بَعْدَهُ؛ كإظهار النُّون في قوله تعالى: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ} [التوبة: 101].
13-الإخفاء: واسطةٌ بين الإدغام والإظهار؛ نحو: التلفُّظ بالنُّون السَّاكنة قبل التاء.
14-الإدغام: إدخال صوت الحرف في الذي يَلِيهِ، ويأتي في المتماثِلَيْن إذا سَكَن أوَّلهما نحو (رد)، وفي الحرفَيْن إذا تقارب مخرجاهما؛ مثل: {وَقَالَت طَّائِفَةٌ} [آل عمران: 72]. و: {إِذ ظَّلَمُوا} [النساء: 64]، وهذا هو الإدغام الصغير.
أما الكبير: فهو إدغام المتماثِلَيْن والمتقارِبَيْن، ولو لم يكن أوَّلهما ساكنًا؛ مثل: {فِيه هُّدًى} [البقرة: 2]، و: {خَلَقكُّمْ}.
15- الإثبات: ضدُّ الحذف.
16- الاستِطالة: وصفٌ للضَّاد؛ لأنه جَمَعَ بين الجَهْر والاستعلاء والإطباق، واستطال عند النطق به، حتى اتصل بمخرَج اللام.
17- الأداء: اختيار الرِّواية في التِّلاوة، ويسمَّى أيضًا بالأَخْذ.
18- الإشْمام: الإشارة بالشِّفاه إلى الحركة بعد السُّكون.(104/2)
19- الاختلاس: انتقاص الحركة، والمَيْل بها إلى السُّكون؛ مثل قراءة أبي عمرو بن العلاء في: (بارئكم).
الباء
20- البَدَل: يُضاف إلى المَدِّ الذي يأتي بعد الهمز، نحو ءامَنَ، وهو متوسِّطٌ عند بعض القرَّاء.
21- بَيْنَ - بَيْن: صفةٌ للتَّسهيل المتوسِّط بين التَّحقيق وحركات الهمزة.
التَّاء
22- التَّدوير: عبارةٌ عن التوسُّط في الأداء بين التَّحقيق والحَدْر، وهو المختار عند أكثر أهل الأداء.
23- التَّحقيق: تحقيق الهَمْز عند النُّطق به من مَخْرَجِهِ، وتحقيق القراءة: الاجتهاد في الترتيل، مع إشباع الإمداد وإتمام الحركات، وتفكيك الحروف، واعتبار مواضع التَّشديد والوَقْف.
24- التَّجويد: مراعاة قواعد الأداء، والنُّطق بالحروف وَفْقًا لمخارجها ولصفاتها المعروفة، وهو واجبٌ عند القرَّاء، ويقول ابن الجزري في "مقدِّمته":
وَالأَخْذُ بِالتَّجْويدِ حَتْمٌ لازِمُ مَنْ لَمْ يُجَوِّدِ القُرَانَ آثِمُ
وَهُوَ إِعْطَاءُ الحُرُوفِ حَقَّهَا مِنْ صِفَةٍ لَهَا وَمُسْتَحَقَّهَا.
25- التَّواتُر: تواطؤ جَمْعٍ كثيرٍ مِنَ القرَّاء على روايةٍ متَّصِلَة بالنبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم.
26- التَّطريب: التِّلاوة بلُحون أهل الغناء.
27- التَّحزين: التلاوة بما يشبه البكاء.
28- التعسُّف: التكلُّف في التِّلاوة، أو في التلفُّظ بالحروف.
29- التَّفكيك: تقطيع النُّطق بحروف الكلمة.
30- التَّرعيد: ترديد ما يُشبِه الهَمْز في الإمداد، وهو من محظورات الأداء.
31- التَّرقيص: التلاوة على أوزان الأسجاع القصيرة بلحون المطرِبين.
32- التَّخفيف: ضدُّ التَّشديد؛ مثل: قراءة {كُذِبوا} بدلاً من: {كُذِّبوا}.
33- التَّام: صفةٌ للوَقْف في محلِّ استكمال المعنى؛ مثل: رؤوس الآي؛ نحو الوَقْف على البَسْمَلَة.(104/3)
34- التَّعانق: ترابطٌ بين حُكْمِ وقفَيْن في موضعَيْن؛ بحيث إن وقفتَ على أحدهما - تَعَيَّن الوَصْل في الموضِع الآخَر؛ مثل: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 1-2]، ويُشار إليه عادةً بثلاث نقط.
35-التَّفشِّي: وصفٌ للشِّين؛ لأنه انتشر في مَخْرَجِهِ حتى قَرُبَ من مخرَج الطَّاء.
36-التَّسهيل: التَّخفيف من النُّطق بالهمزة؛ فيُنطق بها بين الهمزة والياء إن كانت مكسورة، وبين الهمزة والألف إن كانت مفتوحة، وبين الهمزة والواو إن كانت مضمومة.
37-التِّلاوة: كيفية قراءة القرآن.
38-التَّهوُّع: المُبالغة في تحقيق بعض الحروف؛ كالهمزة - مثلاً.
الجيم
39-الجَهْر: قوَّة الاعتماد على الحَرْف عند خروج صوته، مع مَنْع النَّفَس من الجريان عند النُّطق به ساكنًا، وحروفه 19 وهي التي لم تُذْكَر في الهَمْس.
الحاء
40- الحُسْن: نحو الوقف على بسم الله.
41- الحَلْق: وتُنْسَب إليه حروفٌ معروفةٌ؛ وهى: الهمزة، والهاء، والعَيْن، والغَيْن، والخاء، والحاء.
42- الحَدْر: الإسراع في التِّلاوة، مع مراعاة بيان الحروف، وتقويم اللَّفظ، ومنه القراءة بالقَصْر الجائز، والاختلاس والبَدَل والإدغام، وهو معروفٌ في مذهب ابن كثير وأبي جعفر وقالون، ورواية الأصبهاني عن وَرْش.
43 - الحَشْو: الكلمة في وسط الآية.
الذَّال
44- الذَّلاقة: نِسْبَة إلى طَرَف اللِّسان، وفي حروفه الرَّاء والنُّون.
الرَّاء
45- الرِّواية: ما أخذه مشاهير الرُّواة عنِ الأئمة؛ مثل: رواية قالون عن نافع، والبَزِّيّ عن ابن كثير، والدُّوري عن أبي عمرو وعن الكسائي.
46- الرَّسم: شَكْلُ كتابة المصحف، التي قام بها الصحابة في عهد الخليفة عثمان - رضيَ الله عنه.
47- الطَّريق: ما اختاره أحد عُلماء القراءات من روايات القرَّاء؛ مثل: طريق الأزرق عن وَرْش.(104/4)
48- الرُّؤوس: رؤوس الآيات هي الكلمات التي تنتهي بها الآية، ولها أحكامٌ خاصَّةٌ بها في الوَقْف والإمالة والفَتْح.
49- الرَّخاوة: وهي وصفٌ لستَّةَ عَشَرَ حرفًا، ليست منها الشديدة المذكورة، ولا المتوسِّطة التي يجمعها (لِنْ عُمَر)، وهي التي يجري الصَّوت فيها عند سكونها؛ مثل: الظَّاء والضَّاد.
50- الرَّوْم: إضعاف النُّطق بالحركة دون ذَهابها نهائيًّا.
السِّين
51-السَّنَد: مجموعةُ رجال الرِّواية بين القارئ والإمام.
52-السَّكْتة: إيقاف القراءة قليلاً دون تنفُّس.
الشِّين
53-الشَّكْل: وضع علامات الحركات، وأوَّل مَنْ قام به أبو الأسودِ الدُّؤَلِيُّ – وجعله نَقْطًا؛ فالفتحة نُقْطَة فوق الحرف، والكسرة نُقطة تحته، والضمة نُقطة بين يديه.
54- الشِّدَّة: وصفٌ لحروفٍ ثمانيةٍ، يجمعها قولنا: (أجدت كقطب). وشدَّة الحرف: قوة الاعتماد في نطقه، ومَنْعُ جَرَيان النَّفَس معه إذا كان ساكنًا؛ مثل: "الحْق" و"الحج".
55- الشاذُّ: هو ما يُقابِل المتواتِر؛ أي: ما عدا الرِّواياتِ العَشْرِ المعروفة.
56 - الشَّفويَّة: نِسْبَة إلى الشَّفتَيْن، والحروف الشَّفوية هي: الواو، والباء، والميم، والفاء.
57- الشَّجريَّة: والحروف الشَّجريَّة هي: الجيم، والشِّين، والياء؛ نسبةً إلى مَفْرَج الفم.
الصَّاد
58- الصِّلَة: قد يُقصَد به مَدُّ هاء الضمير؛ نحو: فِيهِي هُدًى، أو ميم الجمع، عَلَيْهِمُو. أما الوَصْل: فهو ما يُقابِل الوَقْف.
59- الصَّفير: (حروفٌ)، وهي: الصَّاد، والسِّين، والزَّاي.
الضَّاد
60- الضَّبْط: كلُّ العلامات التي في المصحف الزَّائدة على الرَّسم؛ مثل: الشَّكْل، والنَّقْط، وعلامات الإمداد.
61- الغُنَّة:صوتٌ خاصٌّ يخرج من الخَيْشوم، لا عمل للِّسان فيه، يظهر في مثل إدغام النُّون في الميم.
الفاء(104/5)
62- فَرْش الحروف: بَسْطُ الأحكام في الكلمات التي اختلَف فيها القُرَّاء اختلافًا خاصًّا بكل كلمة؛ مثل: {عِنْدَ الرَّحْمَنِ} و {عِبَادُ الرَّحْمَنِ} [الزخرف: 19].
63- الفَتْح: النُّطق بالمدِّ المفتوح دون إمالة.
القاف
64- القراءة: ما نُسِبَ إلى أحد الأئمة: مثل قراءة نافع، وابن كثير، ومَنْ هو مِثْلُهم.
65- القَلْقَلَة: وصفٌ لخمسة حروف، ويجمعها قولُكَ: (قُطْب جَدٌّ)، وسُمِّيَت بذلك لأنها إذا وُقِفَ عليها قلْقلَ اللِّسان.
66- القَصْر: ويُقابِل المَدَّ المُشْبَع والمتوسِّط؛ كاختصار بعض القرَّاء في المدِّ المنفصل على المدِّ الطبيعي، وقد يُقابِل الوَصْل في هاء الضمير وميم الجمع.
67- القبيح: صفةٌ للوَقْف في محلٍّ لم يَكْمُل فيه المعنى، وعلى مَنِ اضطرَّ للوقوف عنده أن يُعِيدَ الكلمة التي وَقَفَ عليها.
68- القرآن: الكتاب المنزَّل على محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - للإعجاز وللتعبُّد بتلاوته.
الكاف
69- الكافي: مثل الوَقْف على نهاية كلام مفهوم المعنى؛ نحو: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ} [البقرة: 13].
اللام
70- اللِّين: صفةٌ تُطلَق على الألف لزومًا، وعلى الواو والياء في حالة مَدِّهما، وتُسَمَّى أحرفَ المَدِّ.
71- اللَّثَوِيَّة: نسبة إلى اللَّثَة، ويوصف بها الظَّاء والذَّال والثَّاء.
الميم
72- الموصول: في الرِّسم: ما غَلَبَ قَطْعُه، ثم وَرَدَ مَوْصولاً؛ نحو: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ} [الجن: 16].
73- المقطوع: في الرِّسم: ما غلب وَصْلُه ووَرَدَ مقطوعًا؛ نحو {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ} [الفرقان: 7].
74-المُصْحَف: الكتاب المتضمِّن للقرآن الكريم وحده.
75- المَخْرَج: المكان الذي ينطلق منه الصَّوت في الفمِ؛ مثل انطلاق العَيْن منَ الحَلْق، والقاف من أقصى اللِّسان، والميم من الشفتين.
76-المُصْمَت: صفة للحروف غير الذَّلَقِيَّة.(104/6)
77- المَدُّ: منه ما هو طبيعيٌّ؛ مثل: ألف (قال)، وواو (يقول)، وياء (قيل)، ومنه ما هو زائدٌ، وهو ما قد يأتي قبل السكون والهَمْز، وبعضه متَّصلٌ؛ مثل:"جاء، ودوابّ، ومحيايْ"، ومنه ما هو منفصلٌ؛ مثل: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ} [البقرة: 270].
النُّون
78- النَّقْط: وضع النُّقَط التي تُمَيِّز بين الحروف التي يُشبِه بعضُها بَعْضًا؛ مثل: الباء والتاء، وأوَّل مَنْ قام به في المصاحِف يحيى بنُ يَعْمَر وقيل نصر بن عاصم الليثيّ.
79- النَّقْل: تحريك السَّاكن الذي قبل الهمزة بحركتها، وحذفها، نحو: (هلَ اتى على الانسان) [الإنسان: 1]، فحركة همزة الإنسان نُقِلَتْ إلى أل التعريف، وحذفت الهمزة.
80- النِّطْعِيَّة: نسبة إلى نِطْع الفم، وهو الغارُ الأعلى؛ أي سَقْفُهُ، والحروف النِّطْعيَّة هي: الطَّاء والدَّال والتَّاء.
الهاء
81- الهواء: مَخْرَجُ حروف المَدِّ؛ لأنها لا تُسْنَد على جزء معيَّن في الفم.
82- الهَذّ أو الهَذْرَمَة: وهي سرعة التِّلاوة، ولا يجوز منه ما يُخِلُّ بقواعد التِّلاوة.
83- الهَمْز: أداء الهمزة بالتَّحقيق؛ أي: دون إبدالٍ أو تسهيل.
84- الهَمْس: ضعف الاعتماد على الحرف عند التلفُّظ به مع جَرَيان النَّفَس، وحروفُهُ يجمعها: (حَثَّهُ شَخْصٌ فَسَكَتَ).
الواو
85- الوَقْف: قَطْعُ القراءة في مكان معيَّن، ويكون بإسكان المتحرِّك؛ نحو: {لاَ رَيْبْ}، أو: بمد المفتوح؛ نحو: {غَفُورَا}.(104/7)
العنوان: إسهامات علماء التعمية في اللسانيات العربية
رقم المقالة: 310
صاحب المقالة: د. يحيى مير علم
-----------------------------------------
يتناول هذا البحث إسهامات أعلام التعمية في الدراسات اللغوية العربية وأثرها في تطورها، وذلك من خلال بيان العلاقة بين التعمية واللغة، وارتباط تطور التعمية بتطور الدراسات اللغوية، والوقوف عند ما يحتاج إليه استخراج المعمى من معارف لغوية كثيرة مثل : النحو والصرف والعروض والأصوات والمعاجم وأحكام نسج الكلمة العربية وغيرها، وأخيراً الكشف عن أبرز إسهامات أعلام التعمية في اللسانيات العربية في مجالات عدة : كالدراسات الإحصائية للحروف، ومعرفة تواتر الحروف ومراتبها، إضافة إلى تواتر الكلمات، وكذلك استغراق قوانين الائتلاف والتنافر فيما بين الحروف، وغير ذلك من علوم لغوية كانت بعيدة الأثر في التعمية واستخراجها كالعروض والقافية، والمعاجم وغيرها.
1 - العلاقة بين التعمية واللغة :
تُعدّ اللغة – كما هو معلوم – مادةً لكلٍّ من التعمية واستخراج المعمى، إذ تقوم الأولى على تحويل نص واضح إلى آخر غير مفهوم باستعمال طريقة محددة، يستطيع مَنْ يعرفها أن يفهم النص، وتقوم الثانية على عكس ذلك من تحويل النص المعمى إلى آخر واضح. وهذه العلاقة الوثيقة بين التعمية واللغة تفسر ارتباط تطور كلٍّ منهما بالآخر، وتفسر كذلك حاجة كل مَنْ يعاني التعمية واستخراجها إلى المعرفة الجيدة باللغة وعلومها وبخاصة الدراسات اللسانية النحوية والصرفية والمعجمية والعروضية والدلالية والإحصائية والصوتية، كما تفسر جمع عدد غير قليل من الأعلام بين علوم اللغة وعلوم التعمية، واشتراكهم في التصنيف فيهما، وشهرتهم بالتقدّم في النوعين.(105/1)
لقد أوفى اهتمام العرب باللغة وعلومها على الغاية، ولا عجب في ذلك إذ كانت العربيةُ لغةً للوحي وللتنزيل الحكيم وللرسول صلى الله عليه وسلم ولهذا الدين الحنيف، والعناية بها على أيّ صورة كانت دراسة أو تدريساً أو تأليفاً أو نشراً بين المسلمين من غير العرب في أرجاء الدولة الإسلامية ممن تفيَّؤُوا ظلال هذا الدين = تُعدّ من أعظم القربات إلى الله، لما فيها من خدمة للكتاب العزيز، وصون للألسنة عن الوقوع في اللحن. ولذلك أدى اهتمام العرب بلغتهم إلى نتائج علمية مهمة في اللسانيات العربية، فقد نهضوا بدراسات صوتية هامة للحروف العربية ومخارجها وصفاتها، وأجروا دراسات كمّيّة وإحصائية على الحروف وتواترها وتنافرها واقترانها، وتعمقّوا في دراسة النحو والتراكيب، والصرف والأبنية، والدلالة وعلاقتها بغيرها، وسبقوا إلى وضع المعاجم اللغوية على اختلاف أنواعها ومناهج ترتيبها.
إن تقدم العرب في علوم اللسان كان من أبرز العوامل المهمة التي ساعدت العرب على إحراز قصب السبق في معالجة التعمية وحلّ المعمّى، وإرساء قواعدهما، وتدوين مصنفات مستقلة فيهما، بيد أن ثمّة عوامل أخرى كانت بعيدة الأثر في ذلك أيضاً، من مثل : نشاط حركة الترجمة من علوم الحضارات السابقة والمعاصرة إلى العربية، وتطوّر علوم الرياضيات كالجبر والمقابلة والحساب، وازدهار علوم الإدارة كالإنشاء والدواوين، وشيوع الكتابة والقراءة في الحضارة العربية الإسلامية وارتباطهما بالقرآن الكريم وعلومه، إضافةً إلى ما تعرّض إليه العالم الإسلامي من هجمات المغول في الشرق، والحملات الصليبية في الغرب[1]. على أن هذا التأثير لم يكن في اتجاه واحد، بل كان تأثيراً متبادلاً، فقد أسهم علماء التعمية في إغناء جوانب مهمة من الدراسات اللسانية وتطويرها، كما سيرد بيانه لاحقاً.
2- الجمع بين علوم التعمية و علوم العربية :(105/2)
تقدّمت الإشارة في صدر البحث إلى ارتباط تطوّر التعمية بتقدم الدراسات اللسانية، وأن من أظهر الأدلة على ذلك جمعَ كثير من الأعلام بين علوم العربية والتعمية واستخراجها، وقد حفلت كتب التراجم على اختلاف مناهجها بأخبار أولئك العلماء، وسنورد فيما يأتي أشهر الأعلام الذين جمعوا في الاشتغال أو التصنيف بين علوم اللغة والتعمية، مقتصرين على إيراد أسمائهم مقرونةً بتواريخ وفياتهم، وموثّقةً بالعزو إلى مصادرها[2] :
- الخليل بن أحمد الفراهيدي : (100-170هـ / 718 – 786م)
نسب إليه الزبيدي قي (طبقات النحويين واللغويين) [ص51] كتاباً في المعمّى، ولا أثر له. ونقله عنه ابن نباتة في كتابه (سرح العيون في شرح رسالة ابن زيدون) وجعله أول من وضع علم المعمى. ثم نقله محمد بن الحنبلي عن ابن نُباتة في رسالته (شرح كنز من حاجى وعمّى في الأحاجي والمعمى) [ 3/ب – 4/أ ] مصورة عن نسخة المكتبة الظاهرية.
- ثوبان بن إبراهيم ذو النون المصري: (000-245هـ/000-859م)
له كتاب (حلّ الرموز وبرء الأسقام في أصول اللغات والأقلام). ذكره الدكتور رمضان ششن في كتابه (نوادر المخطوطات في مكتبات تركيا)[ 2/27 ].
- سهل بن محمد بن عثمان السجستاني : (000-248هـ/000-862م)
نقل ابن النديم في (الفهرست) [ ص92 ] عن ابن دريد أنه (كان يتبحر في الكتب، ويُخرج المعمى، حاذق بذلك، دقيق النظر فيه..).
- يعقوب بن إسحاق الكندي : (000-260هـ/000 – 873م)
له (رسالة في استخراج المعمى) وهي من رسائل الجزء الأول من كتاب (علم التعمية واستخراج المعمى عند العرب) [1/211-255 ].
- محمد بن أحمد بن كيسان : (القرن الثالث الهجري/القرن التاسع الميلادي)(105/3)
ذكر ياقوت في (معجم الأدباء) [ 17/137 ] في ترجمة سَمِيِّهِ محمد بن أحمد بن كيسان المتوفى سنة 299هـ نقلاً عن أبي بكر الزبيدي (وليس هذا بالقديم الذي له في العروض والمعمى كتاب). ولم نجد هذا النقل في كتاب أبي بكر الزبيدي (طبقات النحويين واللغويين) ولعلّه المذكور باسم كيسان [ ص 178].
- داود بن الهيثم بن إسحاق التنوخي : (228-316هـ/843-928م)
نقل ياقوت في (معجم الأدباء) [ 11/98 ] عن الخطيب البغدادي في (تاريخ بغداد) أنه (كان نحوياً لغوياً حسن المعرفة بالعروض واستخراج المعمى). ولم يخلّف شيئاً في التعمية.
- محمد بن أحمد بن محمد بن طباطبا : (000-322هـ /000-934م)
له (رسالة في استخراج المعمى) وهي من رسائل الجزء الثاني من كتاب (علم التعمية واستخراج المعمى عند العرب) [ 2/312-321 ].
- محمد بن سعيد البصير الموصلي : (القرن الرابع الهجري/القرن العاشر الميلادي)
ترجم له ياقوت في (معجم الأدباء)[ 18/203-204 ] وذكر أنه كان معاصراً لأبي علي الفارسي المتوفى (377هـ/987م) وأنه (كان ذكياً فهماً.. إماماً في استخراج المعمى والعروض). ولم نجد مصدراً يؤرخ لحياته بدءاً ونهاية.
- إسحاق بن إبراهيم بن وهب الكاتب : (حوالي القرن الرابع الهجري/حوالي القرن العاشر الميلادي) له رسالة مخطوطة تبيّن أنها في كتابه (البرهان في وجوه البيان) وهي من رسائل الجزء الثاني من كتاب (علم التعمية واستخراج المعمى عند العرب)[ 2/108-119 ].
أحمد بن عبد العزيز الشنتمري : (كان حياً 553هـ/1158م)
ذكر السيوطي في (بغية الوعاة) [ 1/325 ] نقلاً عن ابن عبد الملك أنه (كان متقدماً في العروض وفك المعمى).
- أسعد بن مهذّب بن ممّاتي : (544-606هـ/1149-1209م)
له كتاب (خصائص المعرفة في المعميات) ذكره ياقوت في ترجمته في (معجم الأدباء) [ 6/118 ] والبغدادي في (هدية العارفين) [ 1/205 ] باسم (خصائص المعروف في المعميات).(105/4)
- علي بن عَدْلان النحوي المُتَرْجِم : (583-666هـ/1187-1268م)
له كتابان :
الأول (المُؤَلَّف للملك الأشرف في حلِّ التراجم) وهي من رسائل الجزء الأول من كتاب (علم التعمية واستخراج المعمى عند العرب) [1/270-303 ].
الثاني (المُعْلَم) أحال عليه في رسالته الماضية [ 98/ب و 104/ب ]. ولم تذكره مصادر ترجمته.
- علي بن محمد بن الدُرَيْهِم : (712-762هـ/1312-1359م)
له عدة مؤلفات :
-(مفتاح الكنوز في إيضاح المرموز) وهي من رسائل الجزء الأول من كتاب (علم التعمية واستخراج المعمى عند العرب) [1/319-360 ].
-(إيضاح المُبْهَم في حَلّ المُتَرْجَم) ذكره في مقدمة رسالته (مفتاح الكنوز)[ علم التعمية1/321 ].
-(مختصر المُبْهَم في حلّ المُتَرْجَم) ذكره الصفدي في (أعيان العصر) [ 95/ب ].
-(نظم لقواعد فنِّ المُتَرْجَم وضوابطه) ذكره أيضاً في مقدمة رسالته (مفتاح الكنوز) [ علم التعمية1/322 ].
-(قصيدة في حل رموز الأقلام المكتوبة على البرابي) ذكرت في مقال (رسائل نادرة) لمحمد أحمد دهمان نُشر في مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق [ م 54، ع 2، ص360 ]. والقصيدة من رسائل المجموع رقم (139) وهو مما حوته مكتبة المرحوم أحمد تيمور باشا بالقاهرة التي زارها الأستاذ دهمان وأثبت في المقال بعض ما اختاره من مجاميعها. ولم نُصب للقصيدة ذكراً في أي مصدر آخر.
3- ما تحتاج إليه علوم التعمية من الدراسات اللغوية :
نص أكثر أعلام التعمية على ما يحتاج إليه مَنْ يعاني حلَّ المُعَمّى من صفات خاصة، ومعرفة جيدة بكثير من علوم اللغة والدراسات اللسانية، وذلك لأن استخراج المعمى يعتمد منهجيات محددة، أساسها معرفة دوران الحروف ومراتبها في اللسان المعمى، والعلم بقوانين الائتلاف والتنافر فيما بينها.(105/5)
وأجمع كلام في ذلك ما نصّ عليه ابنُ عَدْلان في فاتحة مقدمة رسالته (المُؤَلَّف للملك الأشرف) : ((أما الفاتحة فإن المُتَرْجَم يُستعان على حله بأمور منها : الذكاء، وجلاء الخاطر، والنشاط، واللغة، والنحو، والتصاريف، والتراكيب المستعملة في اللغة وغيرها، ومعرفة العروض والقوافي، وما يكثر استعماله من الحروف ويتوسط ويقلّ، وما يتنافر ويتوافق من تراكيب الحروف، ومعرفة كلمات يكثر استعمالها ويقلّ ويتوسط ثنائية وثلاثية، ومعرفة الفواصل والتمجيدات وكثرة الرياضة بحصول التمرين والدُّرْبة..))[3].
ويفصّل ابنُ دنينير في بيان ما يحتاج إليه المُسْتخرِجُ إن كان المعمى نثراً أو شعراً، فإن كان المعمى من الكلام المنثور، احتاج المُستنبِطُ- إضافةً إلى المعرفة بالحروف ودورانها ومراتبها وما يأتلف منها ويتنافر – إلى صفات خاصة، قال في كتابه (مقاصد الفصول المُتَرْجمة عن حلّ الترجمة) : ((وينبغي للرجل الطالب لهذا العلم أن يكون ذكياً، دقيق النظر، لطيف الحس، قوي الحدس، نقي الفكر، صائب الظن، وإن لم يكن على هذه الصفات المذكورة لم ينتفع بشيء من الطرق التي ذكرتها في الاستعانة على الاستنباط. وقد يكون من الناس مَنْ يكون أصل الترجمة بين يديه ولا يهتدي لقراءة ما عُمِّي فيها، وإذا كان كذلك فكيف يتهيأ له القدرة على أن يعمل شيئاً كما ذكرته، أو يفهم ؟))[4].
ويستكمل ابنُ دنينير حديثه في صدر القسم الثاني من كتابه تحت عنوان (في حلّ ما عُمّي من الكلام المنظوم) فيقول : ((وبعد ذلك فأقرب الدلائل على هذا العلم أن يكون المُستنبِطُ عالماً بالعروض والقوافي وعلم الشعر، بصيراً بالكتابة، كثير الحفظ للشعر، مكَّاراً بالمعمى، فإذا كان كذلك فلا يعسر عليه استنباطُ ما صعب منه))[5].(105/6)
ومثل ذلك ما أورده صاحب (أدب الشعراء) في مقدمة رسالته (في استخراج المعمى من الشعر) حيث نصّ على ما ينبغي أن يكون عليه مُستخرِجُ معمى المنظوم قال: ((يجب أن يكون المُخرِجُ له عروضياً، قافياً، بصيراً بالكتابة، شاعراً، لطيف الحس، ألمعي الحدس، كثير الحفظ للشعر، خداعاً للمعمى عليه، محاملاً عليه، رزّافاً، فإذا جمع ذلك لم يتعذر عليه إخراج صعبه وسهله..))[6]. ثم يتبع ذلك بما ينتج عنه إن نقص شيء مما سبق.
وجاء ابنُ الدُّرَيْهِم بعده فاقتصر - مما تقدم - على ضرورة معرفة اللغة، قال في رسالته (مفتاح الكنوز في إيضاح المرموز) : ((ولا بد لمن يعاني هذا العلم من معرفة اللغة التي يروم حلّ قلمها، أو ما يُتَرْجم بلسانها وقواعدها، وما هو من الحروف أكثر وقعاً ودوراناً منها كحروف المد واللين في سائر اللغات، وكالألف في العربي، والسين في الرومي والأرمني، والنون في المُغْلي..))[7].
على أن ما تقدم بيانه ليس منبتَّ الصلة عما سبق من مصنفات التعمية، فقد سبق الكندي إلى كثير منه، غير أنه جاء مفرّقاً في رسالته أثناء حديثه عن سبل استخراج المعمى[8].
وبنحوه ما ذكره صاحب المقالتين (مجهول) في رسالته الأولى، حيث صدّرها ببيان ما يحتاج إليه المُستخرِجُ من صفات خاصة، أكدت أهمية مراعاة الجانب النفسي في استخراج المعمى، أوفى فيه على الغاية تفصيلاً ودقّةً، ثم تحدث بعدها عن طرق الحلّ التي تعتمد على معارف لغوية، جاءت مفرّقة عليها[9].(105/7)
وقد ظهر مما تقدم أن تعمية المنظوم أو الشعر واستخراجه كان من الأهمية بمكان لدى أكثر أعلام التعمية، ولا عجب فالشعر أحد قسمي الكلام، وهو إلى ذلك ديوان العرب، ولذلك ما وجدنا اقترانَ علم العروض والقافية بعلم التعمية لدى كثير من اللغويين والنحاة كما تقدم. والحق أن أكثر ما وقفنا عليه من مصنفات التعمية تناول المعمى من الشعر، وطرقَ حلِّه، وما يحتاج إليه مُستخرِجُه مما تقدم بيانه ونقله، ووجدنا أمثلة ذلك في مؤلفات التعمية غير المفردة لمعمى الشعر. وأقدمهم في هذا الكنديُ الذي نصّ على ثلاثة مبادئ تستعمل في استخراجه إضافةً إلى المبادئ المستعملة في النثر وهي : معرفة القوافي، ومعرفة عدد حروف البيت وفق أوزان الشعر، ومعرفة الحروف الخُرْس (الصامتة) وما يليها من مصوتات[10].
وأما ابنُ عدلان فأفرد قاعدتين للأمور التي تعتمد في حلّ المعمى من الشعر، وذلك بعد أن استوفى معالجة الكلام المنثور، أهم ما فيهما : معرفة العروض والقافية، والتشاطير والروي، وعدد حروف كل بحر[11].
ومثل ذلك ما صنعه إسحاق بن وهب الكاتب، فقد تحدث عن حل المعمى من الشعر بعد فراغه من الكلام على استخراج المعمى من النثر، وهو في هذا لا يخرج عما تقدم[12].
وأما ابنُ دنينير فقد وقف القسم الثاني من كتابه على حلّ ما عُمِّي من الكلام المنظوم، وتناول جميع قضاياه بالتفصيل والشرح في ثلاثين فصلاً (ما بين 36-66)[13]. وهذا أوسع كلام وجدناه في مصنفات التعمية غير المفردة لتعمية الشعر.
على أن أظهر دليل على خطر شأن الشعر، وارتباط علم العروض والقافية بالتعمية، كان وجودَ كثير من مصنفات التعمية، أفردها أصحابها للشعر وحده مثل رسالة أبي الحسن ابن طباطبا في استخراج المعمى[14]، ورسالة استخراج المعمى من الشعر المجردة من أدب الشعراء[15]. وكذلك ما نقلناه من كتاب الجرهمي ورسالته[16].
4 - أبرز إسهامات أعلام التعمية في اللسانيات العربية :(105/8)
مضت الإشارة إلى العلاقة الوثيقة بين علوم التعمية وعلوم اللغة العربية كالنحو والصرف والأصوات والعروض والمعاجم وغيرها من الدراسات اللغوية اللسانية مثل إحصاء دوران الحروف ومراتبها وقوانين الائتلاف والتنافر فيما بينها. ولما كان استخراج المعميات يعتمد على الدراية الجيدة بجميع ما تقدم، فقد عُني أصحاب التعمية بجوانب من الدراسات اللغوية، وأغنوها بنتائج مهمة، وأوضح ما ظهر ذلك في المجالات التالية :
الدراسات الإحصائية للحروف :
تعود نشأة الإحصاء اللغوي إلى الصدر الأول من العلماء اللذين عُنوا بالقرآن الكريم فأحصوا حروفه وكلماته وآياته وسوره مستعينين بما رأوه مناسباً في ضبط حسابهم آنذاك، وانتهوا إلى معرفة دوران الحروف فيه ومراتبها. وطبيعي أن تكون نتائج تلك الإحصاءات من التباين بمكان، وذلك لجملة من الأسباب لا مجال لذكرها[17]. أمّا ما عني به أصحاب المعاجم من حساب مَبْلَغ ما يرتفع من أبنية كلام العرب : الثنائية والثلاثية والرباعية والخماسية، مهملها ومستعملها، وصحيحها ومعتلها، ومضاعفها فذلك قديم مبسوط في مقدمات كثير من المعاجم وغيرها[18]. بيد أنه على أهميته لا يندرج فيما نحن بصدده.
غير أن ما نريده هنا هو إحصاء دوران الحروف أو تواترها في نصوص مكتوبة ومعرفة مراتبها تبعاً لاستعمالها في النص. وهذا قد وجدناه لدى أعلام التعمية دون غيرهم، لأهمية ذلك في استخراج المعمى إمّا طال النص، ولعل أول إحصاء من هذا النوع في تاريخ الدراسات الكمّيّة اللسانية على اللغة العربية كان إحصاءَ الكندي (ت260هـ) في رسالته في استخراج المعمى، فقد تحدث في صدرها عن مراتب الحروف في الاستعمال، وضرورة معرفتها لاستنباط المعمى، وأنها تختلف من لسان لآخر، ثم ذكر مراتبها وفق إحصائية قام بها بنفسه[19] قال: ((فإذ قد أنبأنا عن ذلك فلنذكر الآن مراتب الحروف في الكثرة والقلة في اللسان العربي، فنقول :(105/9)
إنّ الألف أكثر ما استعمل في اللسان العربي من الحروف. ثم ل، ثم م، ثم هـ، ثم و، ثم ي، ثم ن، ثم ر، ثم ع، ثم ف، ثم ت، ثم ب، ثم ك، جميعاً فإنهما سواء، ثم د، ثم س، ثم ق، ثم ح، ثم ج، ثم ذ، ثم ص، ثم ش، ثم ض، ثم خ، ثم ث، ثم ز، ثم ط، والغين سواء، ثم ظ.
فإذا أصبنا في سبع ورقات من العربي :
600 ألفاً، 437 لاماً، 320 ميماً، 273 هاء، 262 واواً، 252 ياءً، 222 نوناً، 155 راء، 131 عيناً، 122 فاء، 120 تاء، 112 باء، 112 كافاً، 92 دالاً، 91 سيناً، 63 قافاً، 57 حاء، 46 جيماً، 35 ذالاً، 32 صاداً، 20 خاء، 17 ثاء، 15 طاء، 15 غيناً، وثماني ظاءات))[20].(105/10)
وجاء ابنُ دنينير بعد أكثر من ثلاثة قرون (ت 627هـ) فأفاد من إحصاء الكندي، وعمد إلى إجراء إحصاء للحروف في نصّ ما، فانتهى منه إلى إثبات صحة ما صنعه الكندي، قال في كتابه (مقاصد الفصول المترجمة عن حل الترجمة) : ((وقد اعتبرت مراتب الحروف على ما ذكره يعقوب الكندي رحمه الله، يقول : إنه عمد إلى سبعة أجلاد، فعدّ جميع مراتب الحروف منها، وذكر أنه وجد حرف الألف ستة آلاف، واللام ألفين وثلاثمئة وسبعة وتسعين، والميم ثلاثمئة وعشرين ثم على ما ذكر. فهجس في نفسي أن أعمد إلى أوراق وأعدها وأعلم مراتب الحروف منها. فعمدت إلى ثلاث أوراق من كلام منثور مشتمل على رسائل، فعددت ألفاتها فوجدتها خمسمئة وخمسة وسبعين ألفاً، وثلاثمئة وستين لاماً، ومئتين وخمسة وستين ميماً، وستين هاءً، ومئتين وخمسين واواً، ومئتين وثلاثين ياءً، ومئتين وخمسة وعشرين نوناً، ومئة وخمسة وتسعين راءً، ومئة وسبعين عيناً، ومئة وخمساً وأربعين فاءً، ومئة وخمسة عشر تاءً، ومئة وخمس باءات، وخمساً وتسعين كافاً، وثمانين دالاً، وخمسة وسبعين سيناً، واثنين وستين قافاً، وخمسين حاءً، وثلاثاً وأربعين جيماً، واثنين وثلاثين ذالاً، وثمانية وعشرين صاداً، وسبعة عشر شيناً، وثلاث عشر خاءً، وأحد عشر ثاءً، وتسع راءات، وثماني طاءات، وسبع ظاءات، وخمس غينات. فعلمت صحة ما قاله يعقوب بن إسحاق رحمه الله))[21].
وتبعه ابنُ عدلان (ت666هـ) الذي تحدث في القاعدة الأولى من مصنفه (المُؤَلّف للملك الأشرف) عن مراتب الحروف، وجعلها ثلاثة أقسام : كثيرة ومتوسطة وقليلة، وذكر مَبْلَغ دوران كلّ حرف منها ضمن مجموعته، وذلك وفق استعماله في نص قام بإحصائه، قال :(105/11)
((اعلم أن المراتب إمّا كثيرة، وهي سبعة يجمعها : (الموهين). فالألف إذا وقعت في كتابة ستمئة، كانت اللام أربعمئة ناقصاً أحرفاً يسيرة أو زائداً ذلك، والميم ثلاثمئة وعشرين كذلك، والهاء مئتين وسبعين كذلك، والواو مئتين وستين كذلك، والياء مئتين وخمسين كذلك، والنون مئتين وعشرين كذلك، هذا هو الغالب، وقد تتقلب المراتب.
وإمّا متوسطة، وهي أحد عشر يجمعها : (رعفت بكدس قحج)، فالراء أولها، فإذا وقعت الراء تبعاً لما ذكرنا تكون مئة وخمسة وخمسين ناقصاً فزائداً، والعين مئة وثمانية وثلاثين كذلك، والفاء مئة واثنين وعشرين، والتاء مئة وثماني عشرة، والباء مئة واثنتي عشرة، وكذلك الكاف، واثنين وتسعين دالاً، وستة وثمانين سيناً، وثلاثة وستين قافاً، وسبعة وخمسين حاء، وستة وأربعين جيماً.
والقليلة عشرة، يجمعها بيت من الشعر، كلّ حرف منها في أول كل كلمة منه، وهو :
ظلمٌ غزا طاب زوراً ثاويا خَوْفَ ضَنىً شِبْتَ صَبّاً ذاويا
فالظاء إذا وقعت تبعاً لما ذكرنا كانت ثماني ظاءات، واثنتي عشرة غيناً، وخمسة عشر طاء، وستة عشر زاياً، وسبع عشرة ثاء، وعشرين خاء، وثلاثة وعشرين ضاداً، وثمانية وعشرين شيناً، واثنتين وثلاثين صاداً، وخمسة وثلاثين ذالاً))[22].
وفيما يلي جدول يشتمل على دوران الحروف ومراتبها لدى كُلّ من : الكندي وابن دُنَيْنير وابن عَدْلان، تيسيراً للمقارنة، وجمعاً لشتات ما تفرّق آنفاً :
دوران الحروف ومراتبها لدى الكندي وابن دُنَيْنير وابن عَدْلان
... الكندي ... ابن دنينير ... ابن عدلان
الحروف ... مراتبها ... دورانها ... نسبتها ... مراتبها ... دورانها ... نسبتها ... مراتبها ... دورانها ... نسبتها
1 ... الألف ... 600 ... 16.63 ... الألف ... 575 ... 16.76 ... الألف ... 600 ... 16.54
2 ... اللام ... 437 ... 12.11 ... اللام ... 360 ... 10.50 ... اللام ... 400 ... 11.02(105/12)
3 ... الميم ... 320 ... 8.87 ... الميم ... 265 ... 7.73 ... الميم ... 320 ... 8.82
4 ... الهاء ... 273 ... 7.57 ... الهاء ... 260 ... 7.58 ... الهاء ... 270 ... 7.44
5 ... الواو ... 262 ... 7.26 ... الواو ... 250 ... 7.29 ... الواو ... 260 ... 7.17
6 ... الياء ... 252 ... 6.98 ... الياء ... 230 ... 6.71 ... الياء ... 250 ... 6.89
7 ... النون ... 221 ... 6.13 ... النون ... 225 ... 6.56 ... النون ... 220 ... 6.07
8 ... الراء ... 155 ... 4.30 ... الراء ... 195 ... 5.69 ... الراء ... 155 ... 4.27
9 ... العين ... 131 ... 3.63 ... العين ... 170 ... 4.96 ... العين ... 138 ... 3.80
10 ... الفاء ... 122 ... 3.38 ... الفاء ... 145 ... 4.23 ... الفاء ... 122 ... 3.36
11 ... التاء ... 120 ... 3.33 ... التاء ... 115 ... 3.35 ... التاء ... 118 ... 3.25
12 ... الباء ... 112 ... 3.10 ... الباء ... 105 ... 3.06 ... الباء ... 112 ... 3.09
13 ... الكاف ... 112 ... 3.10 ... الكاف ... 095 ... 2.77 ... الكاف ... 112 ... 3.09
14 ... الدال ... 092 ... 2.55 ... الدال ... 080 ... 2.33 ... الدال ... 092 ... 2.54
15 ... السين ... 091 ... 2.52 ... السين ... 075 ... 2.19 ... السين ... 086 ... 2.37
16 ... القاف ... 063 ... 1.75 ... القاف ... 062 ... 1.81 ... القاف ... 063 ... 1.74
17 ... الحاء ... 057 ... 1.58 ... الحاء ... 050 ... 1.46 ... الحاء ... 057 ... 1.57
18 ... الجيم ... 046 ... 1.27 ... الجيم ... 043 ... 1.25 ... الجيم ... 046 ... 1.27
19 ... الذال ... 035 ... 0.97 ... الذال ... 032 ... 0.93 ... الذال ... 035 ... 0.96
20 ... الصاد ... 032 ... 0.89 ... الصاد ... 028 ... 0.82 ... الصاد ... 032 ... 0.88
21 ... الخاء ... 020 ... 0.55 ... الشين ... 017 ... 0.50 ... الشين ... 028 ... 0.77(105/13)
22 ... الثاء ... 017 ... 0.47 ... الخاء ... 013 ... 0.38 ... الضاد ... 023 ... 0.63
23 ... الطاء ... 015 ... 0.41 ... الثاء ... 011 ... 0.32 ... الخاء ... 020 ... 0.55
24 ... الغين ... 015 ... 0.41 ... الزاي ... 009 ... 0.26 ... الثاء ... 017 ... 0.47
25 ... الظاء ... 008 ... 0.22 ... الطاء ... 008 ... 0.23 ... الزاي ... 016 ... 0.44
26 ... الزاي ... 000 ... 000 ... الظاء ... 007 ... 0.20 ... الطاء ... 015 ... 0.41
27 ... الشين ... 000 ... 000 ... الغين ... 005 ... 0.15 ... الغين ... 012 ... 0.33
28 ... الضاد ... 000 ... 000 ... الضاد ... 000 ... 000 ... الظاء ... 008 ... 0.22
... المجموع ... 3608 ... 100% ... المجموع ... 3430 ... 100% ... المجموع ... 3627 ... 100%
ب- ائتلاف الحروف وتنافرها في نسج الكلمة العربية :(105/14)
سبق الأقدمون من علماء العربية إلى دراسة أحكام نسج الكلمة العربية[23]، وذكروا قدراً متفاوتاً من قوانين اقتران الحروف وتنافرها في الثنائيات، وأرجعوا علة ائتلاف الحروف أو اقترانها أو مزجها إلى تباعد مخارج الحروف، وعلة تنافر الحروف إلى قرب مخارجها[24]، فالأولى تجعل التأليف حسناً، والثانية تجعله قبيحاً أو ممتنعاً. بيد أن أعلام التعمية لم يقتصروا في مؤلفاتهم على جهود من سبقهم، بل تعمقوا في دراسة القوانين الصوتية واللسانية التي تحكم بناء أو نسج الكلمة العربية، وعُنُوا باستقصائها، على نحوٍ لم نجده عند مَنْ سبقهم، وذلك لأن استخراج المعمى يتوقف على معرفتها إن كان النص قصيراً، لا يسمح بدوران الحروف مرات عدة، ولا ينفع في استخراجه استعمال الحيل الكمّيّة القائمة على معرفة دوران الحروف ومراتبها، بل يحتاج إلى معرفة بالحيل الكيفية القائمة على الدراية بالقوانين الصوتية الناظمة لائتلاف الحروف وتنافرها، ولكن استعمال هذه القوانين يكون مجدياً إن كان النصّ المعمى معروف الفواصل، أي فيه رمز للفراغ بين الكلمات، فإن كان النصّ المعمى مُدْمَجاً لا فاصل فيه فلا تكون هذه القوانين مجديةً في الاستخراج، لأن احتمال ورود حرفين متنافرين يكون وارداً في ثنائية حرفها الأول نهاية ثنائية، وحرفها الثاني بداية ثنائية. لذلك كان استخراج التعمية المُدْمَجَة (بلا فاصل) من أصعب أنواع التعمية البسيطة، لأن كثيراً من منهجيات الاستخراج لا تنفع قبل معرفة الفاصل[25].(105/15)
ويُعَدُّ الكنديُّ أسبقَ أهل التعمية في ذلك، وأكثرهم استقصاء، فقد شرح في رسالته[26] القواعد الأساسية في تحديد ما يقترن من الحروف وما لا يقترن، فقسم الحروف إلى أصلية (16 حرفاً) ومتغيرة زائدة (12 حرفاً) ثم يشرح قوانين التنافر مقصورةً على الحروف الأصلية مع السين من المتغيرة، ويستعرضها حرفاً حرفاً على الترتيب الهجائي، فيذكر مع كل حرف ما لا يقارنه من الحروف، فاجتمع له من حالات التنافر أو قوانينه (94 حالة) ولا نعلم أحداً سبقه إلى مثل ذلك. وفيما يلي خلاصة لما أورده الكندي في جدول يمثل ما لا يقترن من الحروف لديه[27].
جدول يمثل مالا يقترن من الحروف عند الكندي
الحرف
الرمز
مالا يأتلف معه
الثنائيات – عديمة الائتلاف
س
ث
ذ
ص
ض
ظ
س ث
س ذ
س ص
س ض
س ظ
ث س
ذ س
ص س
ض س
ظ س
ث
ذ
ز
ص
ض
ظ
س
ث ذ
ث ز
ث ص
ث ض
ث ظ
ث س
ذ ث
ز ث
ص ث
ض ث
ظ ث
س ث
ث
ش
ث ش
ذ
ز
ص
ض
ط
ظ
س
ذ ز
ذ ص
ذ ض
ذ ط
ذ ظ
ذ س
ز ذ
ص ذ
ض ذ
ط ذ
ظ ذ
س ذ
ذ
ش
غ
ذ ش
ذ غ
ز
ص
ظ
س
ز ص
ص ز
ز ط
ظ ز
ز س
س ز
ز
ش
ض
ز ش
ز ض
ز
ط
ط ز
ص
ض
ط
ظ
ص ض
ض ص
ص ط
ط ص
ص ظ
ظ ص
ص
ج
ش
ص ج
ص ش
ص
د
د ص
ض
ط
ظ
ش
ض ط
ط ض
ض ظ
ظ ض
ض ش
ش ض
ض
ق
ض ق
ض
د
د ض
ظ
ط
ج
د
ظ ط
ط ظ
ظ ج
ج ظ
ظ د
د ظ
ظ
ح
ق
ش
خ
ظ ح
ظ ق
ظ ش
ظ خ
ج
ط
غ
ق
ج ط
ج غ
ج ق
ط ج
غ ج
ق ج
ح
خ
ع
غ
ح خ
خ ح
ح ع
ع ح
ح غ
غ ح
خ
غ
خ غ
غ خ
خ
ع
ع خ
د
ز
ط
د ز
د ط
ش
س
س ش
ع
غ
ع غ
غ ع
غ
ق
ق غ(105/16)
وجاء ابنُ دنينير (ت627 هـ) بعد أربعة قرون من الكندي فأفاد من صنيعه، وعقد فصلين في كتابه لأقسام الحروف على اختلاف أوصافها، ولما يأتلف من الحروف وما يتباين، وقسم الحروف إلى أربعة أقسام هي : ما يأتلف بالتقدير والتأخير، وما لا يأتلف لا بالتقديم ولا بالتأخير، وما يأتلف بالتقديم دون التأخير، وما يأتلف بالتأخير دون التقديم. وفصّل في قسمة الحروف إلى أصلية ومتغيرة، ثم أتبع ذلك بإيراد جدول ضمنه أقسام الحروف المتقدمة : ما يقترن وما لا يقترن، والمتغير والأصلي، والمعمل والمهمل[28]. وفيما يلي خلاصة ما أورده ابن دُنَيْنير في كتابه :
جدول يمثل ما لا يأتلف من الحروف لدى ابن دُنَيْني
ث : لا تالف
غ : لا تألف
ج : لا تألف
خ : لا تألف
ح : لا تألف
ظ : لا تالف
ض : لا تألف
ص : لا تألف
ز : لا تألف
ذ : لا تألف
س : لا تألف
ذ
ج
ق
ح
خ
ث
ث
ث
ث
ث
ث
ز
ح
ط
غ
ع
د ذ
ذ
ذ
ذ
ز
ذ
ص
خ
ظ
بتقديم ولا تأخير
غ
ز
ص
ز
ص
ط
ز
ض
ع
غ
بتقديم ولا تأخير
ط
ط
ط
ظ
ظ
ص
ظ
بتقديم ولا تأخير
بتقديم ولا تأخير
ص
ظ
ظ
س
ص
ض
س
ض ج
س
س
بتقديم ولا تأخير
ض
ظ
بتقديم ولا تأخير
س
ش
ض
س
بتقديم ولا تأخير
بتقديم ولا تأخير
بتقديم ولا تأخير
بتقديم ولا تأخير
بتقديم ولا تأخير
وفي القرن الثامن يجيء اينُ الدُّرَيْهِم (ت 762 هـ) فيحذو حذو الكندي وابن دنينير فيستقصي في مؤلفه (مفتاح الكنوز في إيضاح الرموز) إيراد قوانين الاقتران والتنافر بين الثنائيات، فيورد الحروف موزعة على نوعين : ما لا يقارن بعضه بعضاً مطلقاً، يعني لا بتقديم ولا بتأخير، وما لا يقارن غيره من الحروف من جهة دون جهة، يعني بتقديم أو بتأخير. وفيما يلي خلاصة ما أورده ابن الدُّرَيْهِم في مصنفه[29]:
جدول ما لا يقارن غيره من الحروف عند ابن الدُّرَيْهِم
لحرف
الرمز
ما لا يقارنه
الثنائيات الناتجة – عديمة المقارنة
ث
ذ
ز
س
ص
ض
ث ذ
ث ز
ث س
ث ص
ث ض
ذ ث
ز ث
س ث
ص ث
ض ث
ج
ط
ظ
غ
ق
ك
ج ط
ج ظ
ج غ
ج ق
ج ك
ط ج(105/17)
ظ ج
غ ج
ق ج
ك ج
د
ظ
د ظ
ظ د
ذ
ز
ص
ض
ط
ظ
ذ ز
ذ ص
ذ ض
ذ ط
ذ ظ
ز ذ
ص ذ
ض ذ
ط ذ
ظ ذ
ز
س
ص
ض
ط
ظ
ز س
ز ص
ز ض
ز ط
ز ظ
س ز
ص ز
ض ز
ط ز
ظ ز
س
ص
ض
ظ
س ص
ص س
س ض
ض س
س ظ
ظ س
ص
ض
ظ
ص ض
ض ص
ص ظ
ظ ص
ض
ظ
ش
ض ظ
ظ ض
ض ش
ش ض
ط
ظ
ط ظ
ظ ط
ق
غ
ك
ق غ
غ ق
ق ك
ك ق
ك
خ
ك خ
خ ك
م
ب
ف
م ب
ب م
م ف
ف م
هـ
ح
ع
غ
خ
أ
هـ ح
هـ ع
هـ غ
هـ خ
هـ أ
ح
هـ
ع
غ
خ
أ
ح هـ
ح ع
ح غ
ح خ
ح أ
ع
ح
غ
خ
أ
ع ح
ع غ
ع خ
ع أ
غ
هـ
ح
ع
خ
أ
غ هـ
غ ح
غ ع
غ خ
غ أ
خ
هـ
ح
ع
غ
أ
خ هـ
خ ح
خ ع
خ غ
خ أ
ث
ش
ث ش
د
ز
ص
ط
د ز
د ص
د ط
ذ
ج
س
ش
غ
ذ ج
ذ س
ذ ش
ذ غ
ش
ز
س
ص
ش ز
ش س
ش ص
ط
ك
ط ك
أ
هـ
ع
ح
غ
خ
أ هـ
أ ع
أ ح
أ غ
أ خ
5 - مقارنة بين نتائج إحصائيات التعمية و الجذور العربية :(105/18)
إن ما تقدّم من نتائج إحصائية لاقتران الحروف وتنافرها لدى أعلام التعمية : الكندي وابن دُنَيْنير وابن الدُّرَيْهِم إنما قام على إحصاء دوران الحروف في نصوص من الكلام المستعمل أو المكتوب، بما فيه من مجرّد ومزيد، آية ذلك أنهم أحصوا بأنفسهم دوران الحروف المستعملة في نصوص مختارة بأطوال مختلفة، تقع في بضع أوراق أو بضعة أجلاد، وأنهم قسموا الحروف إلى أصلية لا تُزاد، ومتغيّرة تكون أصلية تارةً وزاوئد تارةً أخرى، وهي تتضمن حروف الزيادة (سألتمونيها) بالإضافة إلى الكاف والباء والفاء والسين. لكن ثمَّة إحصائية أخرى قامت على إحصاء دوران الحروف في الجذور العربية (الأصول المجرّدة) الواردة في خمسة معاجم قديمة، هي : جمهرة اللغة، وتهذيب اللغة، والمحكم، ولسان العرب، والقاموس المحيط[30]. وطبيعي أن تختلف النتائج الإحصائية للجذور على دوران الحروف ومراتبها، واقتران الثنائيات وتنافرها، عن النتائج الإحصائية لنصوص التعمية التي اعتمدت الكلام المكتوب المستعمل مجرّداً ومزيداً، وأهم نتائج المقارنة بين هذين النوعين من الإحصاء اللغوي أن حالات التنافر كثيرة في إحصاء الجذور، لأن الحروف المتنافرة تتسع رقعتها كلّما ضاق تصريف الكلمة، وتجرّدت من الزوائد، في حين تتناقص الحروف المتنافرة كلّما اتّسع تصريف الكلمة، واكتنفتها الزوائد، وأحاطت بها السوابق واللواحق[31].
وفيما يلي جدول يتضمّن ما لايقترن من الحروف في إحصاء الجذور العربية[32]:
جدول ما لا يقارن غيره من الحروف في إحصاء الجذور العربية :
لحرف
ما لا يأتلف معه تتابعاً
ء
ء
ع
ب
ف
ت
ظ
ذ
ص
ض
ط
ث
ذ
ز
س
ص
ض
ظ
ش
ج
ت
غ
ق
ظ
ح
ع
غ
هـ
خ
خ
ء
غ
هـ
ح
ك
د
ت
ط
ض
ظ
ذ
ت
ث
ز
س
ش
ص
ض
ظ
د
ط
ر
ظ
ز
ث
س
ش
ص
ض
ظ
ذ
س
ث
ز
ش
ص
ض
ظ
ش
ض
ص
ث
س
ش
ض
ظ
ذ
ز
ض
ذ
س
ص
ظ
ت
ث
ش
ق
ط
ت
ذ
ص
ض
ظ
ظ
ت
ث
ج
ح
خ
د
ذ
ز
س
ش
ص
ض
ط
غ
ق
ك
ع
ء
ح
خ
غ
غ
ء
ح
ج
خ
ع
ك
ف
ب
ق
ج
ك
ك
ط
ق
م
ب
ف
هـ
ح
خ
ظ
6 - الخاتمة :(105/19)
لم تقتصر إسهامات علماء التعمية في تطور اللسانيات العربية على ما تقدّم من عناية بالغة بالدراسات الكمّيّة الإحصائية لدوران الحروف في الكلام المستعمل مجرداً ومزيداً في نصوص مختارة، ومعرفة مراتبها، وانقسامها إلى ثلاث مجموعات : كثيرة الدوران (ا، ل، م، و، هـ، ي، ن) ومتوسطته (ر، ع، ف، ت، ب، ك، س، ق، ح، ج) وقليلته (ظ، غ، ط، ز، ث، خ، ض، ش، ص، ذ) ومن حرصٍ على استقصاء القوانين الصوتية الناظمة لائتلاف الثنائيات وتنافرها اعتماداً على الإحصاءات السابقة، بل تجاوز الأمر ذلك إلى دراسات لغوية أخرى، هي من تمام عُدّة المُتَرْجِم وصولاً إلى حلّ المُعَمّى، وقد ذكرها بعض أعلام التعمية كابن عَدْلان وابن الدُّرَيْهِم مثل : الدراية الجيدة باللغة، وأصول الكتابة، والنحو، والتصاريف، والتراكيب المستعملة في اللغة، والعروض والقوافي، وما يكثر استعماله ويقلّ ويتوسط، من كلمات ثنائية وثلاثية، والفواصل والتمجيدات، وأطوال الكلمات، ومبلغ نهاية المجرد من الأفعال والأسماء، ومنتهى تكرار الحرف الواحد في الكلمة الواحدة، وفي الكلام المتصل.
ولعلّ خير مثال لما تقدّم ما نجده في رسالة ابن الدُّرَيْهِم (مفتاح الكنوز في إيضاح المرموز) التي اشتملت على بيان عُدَّة المُتَرْجِم (معرفة اللغة التي يروم حلّها، وقواعدها الصرفية، وتواتر حروفها، ورسمها من حيث الفصل والوصل، وعددها، والألفبائيات والأبجديات). وبعد أن فصّل في ضروب التعمية أورد مقدّمة صرفية على غاية من الأهمية[33]، دلّت على تمكّنه من ناصية اللغة، ومعرفته بأسرارها، فقد تحدّث بإسهاب عن :(105/20)
أ – أطوال الكلمات : فأقلّها يكون على حرف واحد، مثل (فِ : أمر من المعتل اللفيف المفروق)، وأكثرها ينتهي إلى (14) حرفاً، مثل (أفَلِمُسْتَنْزَهاتِكُما أعْدَدْتُماها)، وأن نهاية الأسماء قبل الزيادة خمسة أحرف، ونهاية الأفعال قبل الزيادة أربعة أحرف، وأنه ليس في كلام العرب كلمة رباعية الأصل أو خماسيته ليس فيها حرف من حروف الذّلاقة (ل، ن، ر) أو الحروف الشفوية (ف، ب، م)، وأنه ليس في القرآن كلمة خماسية الأصل سوى الأعلام الأعجمية، مثل (إبراهيم).
ب – مبلغ تكرار الحرف الواحد : إذ لا يمكن أن يتكرر حرف واحد في كلمة واحدة أكثر من خمس مرات، مثل : (ما رأينا كُكَكاً كَكُكَكِكَ) والكُكَك : جمع كُكَّة مثل عُكَّة وعُكَك، وهي المركب الكبير. الأول للتشبيه، والآخر للخطاب[34]. وأما تكرار الحرف في الكلام المتصل فيبلغ تسع مرات، مثل:
ا تُرَدِّدْ دَدُ دَدْ دَدُ دَعْني مِنْ فَن
دَدُ : الأول اللعب، والثانية موضع، والثالثة اسم رجل منادى).
ج – اقتران الحروف وتنافرها: وقد مضى الحديث عنه مفصلاً مع جداوله التي تضمنت ما لا يقارن غيره من الحروف لدى كُلّ من : الكندي، وابن دُنَيْنير، وابن الدُّرَيْهِم، بما يغني عن إعادته هنا.
وقد ظهر مما مضى إسهامات أعلام التعمية في إغناء الدراسات اللغوية أو اللسانيات العربية وتطورها بعامة، وفي الدراسات الكمّيّة الإحصائية للكلام المستعمل، والدراسات الصوتية للقوانين الناظمة لائتلاف الثنائيات وتنافرها بخاصة.
المصادر والمراجع
- إحصاء الأفعال العربية في المعجم الحاسوبي، أ.مروان البواب، د.محمد مراياتي، د.يحيى ميرعلم، د.محمد حسان الطيان، مكتبة لبنان، بيروت، ط. أولى، 1996.
- إحصائيات جذور لسان العرب، د.علي حلمي موسى، جامعة الكويت، 1972.
- البرهان في وجوه البيان، إسحاق بن وهب الكاتب، تحقيق د.حفني محمد شرف، مكتبة الشباب القاهرة 1969.(105/21)
- بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز، الفيروزآبادي تحقيق محمد علي النجار، القاهرة 1383.
- بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة، جلال الدين السيوطي، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، المكتبة العصرية، بيروت، 1964.
- جمهرة اللغة، ابن دريد، دار صادر، بيروت، مصورة عن الطبعة الهندية، 1351هـ.
- الخصائص، عثمان بن جني، تحقيق محمد علي النجار، مصورة دار الكتب المصرية، دار الهدى، بيروت، ط. ثانية.
- دراسة إحصائية لجذور معجم تاج العروس، د.علي حلمي موسى و د.عبد الصبور شاهين، جامعة الكويت، 1973.
- دراسة إحصائية لجذور معجم تاج العروس، د.علي حلمي موسى، جامعة الكويت، 1973.
- رسالة الاشتقاق، ابن السراج، تحقيق محمد علي درويش ومصطفى الحدري، مجلة الثقافة بدمشق 1973.
- صبح الأعشى في صناعة الإنشا، القلقشندي، المؤسسة المصرية العامة، 1963.
- طبقات النحويين واللغويين، محمد بن الحسن الزبيدي، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف بمصر، القاهرة، 1973.
- علم التعمية واستخراج المعمى عند العرب، الجزء الأول، د.محمد مراياتي، محمد حسان الطيان، يحيى ميرعلم، مجمع اللغة العربية بدمشق، 1987.
- علم التعمية واستخراج المعمى عند العرب، الجزء الثاني، د.محمد مراياتي، د.يحيى ميرعلم، د.محمد حسان الطيان، مجمع اللغة العربية بدمشق، 1997.
- الفهرست، محمد بن النديم، مطبعة الاستقامة، القاهرة.
- كتاب العين، الخليل بن أحمد الفراهيدي، تحقيق د.مهدي المخزومي و د.إبراهيم السامرائي، دار الهجرة، إيران، ط.أولى، 1405هـ.
- معجم الأدباء، ياقوت الحموي، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
- المعجم العربي: دراسة إحصائية صوتية مخبرية، محمد حسان الطيان، أطروحة ماجستير، جامعة دمشق، 1984.
- المعجم العربي : دراسة إحصائية لدوران الحروف في الجذور العربية : يحيى ميرعلم، أطروحة ماجستير، جامعة دمشق، 1983.(105/22)
- المعرب من الكلام الأعجمي، الجواليقي، تحقيق أحمد محمد شاكر، دار الكتب، ط. ثانية، القاهرة 1969.
- نوادر المخطوطات العربية في مكتبات تركيا، رمضان ششن، دار الكتاب الجديد، ط.أولى، 1980.
---
[1] تفصيل ذلك وبيانه في كتاب علم التعمية 1/56-87.
[2] انظر كتاب علم التعمية 1/49-54.
[3] علم التعمية 1/270-271.
[4] علم التعمية 2/234.
[5] علم التعمية 2/267.
[6] علم التعمية 2/337.
[7] علم التعمية 1/322.
[8] علم التعمية 1/215-219.
[9] علم التعمية 2/68-71.
[10] علم التعمية 1/215-219.
[11] علم التعمية 2/295-300.
[12] علم التعمية 2/117-119.
[13] علم التعمية 2/267-290.
[14] علم التعمية 2/293-321.
[15] علم التعمية 2/336-355.
[16] علم التعمية2/381-390.
[17] هذا الموضوع كبير، صُنِّفَت فيه كثير من المؤلفات، مازال أكثرها مخطوطاً، وللاطلاع على نتائج مثل تلك الإحصائيات يُنظر كتاب (بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز) 1/558-556.
[18] انظر: معجم العين 1/53 وما بعدها، وجمهرة اللغة 3/513، والمزهر 1/73-76، ورسالة الاشتقاق لأبي بكر بن السراج ص 42-43 والخصائص 1/55، وأطروحة: المعجم العربي دراسة إحصائية لدوران الحروف في الجذور العربية ص 36-47. وثمَّة إحصائية للأفعال العربية بالمشاركة : أ. مروان البواب، و د. محمد مراياتي، و د. يحيى ميرعلم، و د. محمد حسان الطيان، صدرت في مكتبة المعاجم بلبنان 1996، وكذلك هناك ثلاث دراسات إحصائية للجذور في المعاجم : الصحاح، ولسان العرب، وتاج العروس، للدكتور علي حلمي موسى، والثالث منها بالاشتراك مع د. عبد الصبور شاهين، صدرت ضمن منشورات جامعة الكويت.
[19] علم التعمية 1/235-236.
[20] علم التعمية 1/235-236. وفيه تصحيح لما وقع في المخطوط من أخطاء إحصائية.
[21] علم التعمية 2/240-241.
[22] علم التعمية 1/274-275.(105/23)
[23] مثل الخليل بن أحمد الفراهيدي وسيبويه والجاحظ وابن السراج وابن دُرَيْد والأزهري والفارابي وابن جني وابن فارس والجواليقي والشهاب الخفاجي والقلقشندي وغيرهم من المعجميين والبلاغيين. انظر تفصيل ذلك وتوثيقه وتحليله في أطروحة (تنافر الحروف ودورانها في نسج الكلمة العربية) د.محمد حسان الطيان، جامعة دمشق 1983. وقد اعتمدت في مقارنتها بين نتائج القديم والحديث على أطروحة (المعجم العربي : دراسة إحصائية لدوران الحروف في الجذور العربية) د.يحيى مير علم، جامعة دمشق 1983.
[24] أقدم مَنْ نصّ على ذلك ابنُ السراج في رسالة الاشتقاق ص 34.
[25] كتاب علم التعمية 2 / 157.
[26] علم التعمية 1/238-254.
[27] علم التعمية 1/136.
[28] علم التعمية 2/242.
[29] علم التعمية 1/191.
[30] نتائج هذه الدراسة الإحصائية وجداولها وتحليلها في أطروحة (المعجم العربي : دراسة إحصائية لدوران الحروف في الجذور العربية) د.يحيى مير علم، جامعة دمشق 1983.
[31] تفصيل ذلك وأمثلته في كتاب علم التعمية 2 / 153-154.
[32] المعجم العربي : دراسة إحصائية ص 205، وكتاب علم التعمية 2 / 151.
[33] كتاب التعمية 1/341- 343.
[34] ليست في المعاجم، ولعلها من العاميات. ومثال ابن الدريهم في أبيات للمفشراني، وهو زجّال مصري، يقول فيها :
ا سابِحاً في بُرَكِكْ وصائِداً في شبَكِكْ
لا تَحْقِرَنَّ كُكَكيْ فَكُكَكيْ كَكُكَكِكْO??
من بحث (ابن الدريهم وجهوده في علم التعمية) للدكتور محمد حسان الطيان.(105/24)
العنوان: أسهم الشركات
رقم المقالة: 168
صاحب المقالة: د. علي بن سعيد الغامدي
-----------------------------------------
الحمدلله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فهذا بيان للناس حول التعامل بأسهم الشركات وهو يعبر عن رأيي الشخصي مع احترامي لآراء طلبة العلم المجتهدين في هذا الباب والخلاف لا يفسد للود قضية.
مقدمة في بيان نشأة الشركات في الغرب:
1) يهمنا هذا لأن نشأة الشركات في دول العالم الثالث تابع لنشأة الشركات في الغرب ولأن القانون الذي يحكم تلك الشركات هو المطبق الآن في العالم الإسلامي وغيره.
لقد نشأت الشركات في الغرب على أساس استعماري وأول ما يذكر في تاريخها شركة تسمى (شركة المغامرين المكتشفين الانجليز). ثم ظهرت بعد ذلك شركة (الهند الشرقية) شركة بريطانية احتكرت تجارة الهند. وكذلك شركة الهند الشرقية وهي شركة هولندية احتكرت التجارة في جزر الهند الشرقية (أندونيسيا وما جاورها).
ثم ظهرت الشركات التي نشأت في مصر من أجل الاستيلاء على خيراتها وخاصة تجارة القطن وطبق على تلك الشركات القانون الفرنسي وتبعتها جميع الدول التي تحتاج إلى الخبرة المصرية باعتبارها بوابة على العالم العربي والإسلامي.
واشتهر من القانونيين السنهوري فهو كما يقال أبو القانون وألف موسوعة ضخمة في القانون. وكل ذلك مبني على قانون نابليون أول قانون في العالم ينشأ ويأخذ صبغة النظام.
ثم نشأت شركات الرقيق التي كانت في أفريقيا والتي تبيع الرقيق لأمريكا وغيرها حتى ساد عند الناس أن كل أسود يعتبر رقيقًا ولو كان أصله حرًّا.
ثم نشأت شركات البترول وتمت سيطرتها على بترول العالم الإسلامي وتحكمت في إخراجه وتوزيعه وتسويقه بنسب محدودة مع الحكومات.
2) ارتباط الشركات بالاستعمار وآثاره:(106/1)
مما سبق تبين أن وجود الشركات المساهمة ارتبطت في نشأتها تاريخيًا بالاستعمار والاحتكار وما يعرف بالمذهب الرأس مالي الذي لا يحل حلالاً ولا يحرم حرامًا، وهدفه الوصول إلى أكبر قدر ممكن من المال بأقل كلفة.
ولما كان لهذه الشركات من الآثار السلبية والضغوط نشأ ما يعرف بالنظام الاشتراكي وظهر ما يعرف باسم المؤسسات العامة التي تدرأ عن الدول الغربية خطر الثورات والاضطرابات العمالية وتقبل مساهمات العمال في تلك الشركات لتظهر الدولة أيضًا بمظهر العدالة الاجتماعية ليبقى المحافظة على النظام الرأسمالي ولو لبس ثوبًا آخر.
ولقد نشأ مع الشركات نظامان خادعان:
1 – الانتخابات.
2 – مجلس الإدارة.
وهما أكذوبتان لا يدري عنها أكثر الناس، فهم يعتقدون في الديموقراطية أن الشعب يحكم نفسه بنفسه، والذي يحكمه في الحقيقة فئة متسلطة معينة مجهزة من وراء الكواليس لا يعلم عنها إلا من يدبر الأمر.
وكذلك أكذوبة مجلس الإدارة في الشركة المساهمة أو في المؤسسات العامة فهو الآمر الناهي المتصرف بما يشاء كيف شاء والمساهم لا يدري عن شيء أبدًا.
3) نظام الشركات المعمول به اليوم:
عند وضع النظام أُلغي الفصل الخاص بالشركات من نظام المحكمة التجارية وأُحل محله النظام المعمول به حاليًا وهو مأخوذ من القانون المدني المصري، جاء في مقدمته: "بالرغم من أن الشركات التي أسست في تلك الفترة القصيرة قد شملت في أعرافها كافة أوجه النشاط المالي والتجاري والصناعي وبلغت رؤوس الأموال المملوكة لها عدة مئات من الملايين وزاد إقبال الدوائر الحكومية والأفراد على التعامل معها.
فإن نصوص الأنظمة التي تحكمها لا تزيد حتى الآن على بضع مواد وردت في نظام المحكمة التجارية لم تكن كافية لمواجهة كافة المسائل المتعلقة بالشركات عند إنشائها أم خلال مزوالة نشاطها أم عند انقضائها وتصفيتها.(106/2)
وإزاء هذا القصور لجأ الأفراد لتأسيس شركاتهم ومعالجة أمورها إلى اقتباس القواعد المعمول بها في الدول الأخرى فاختلفت السبل واختلطت الأمور في كثير من الأحوال اختلاطًا جعل مهمة الوزارة في مراقبتها والإشراف عليها عسيرة، من هنا بدت الحاجة ملحة إلى وضع نظام شامل للشركات ينص على الأحكام الواجبة الإتباع في تأسيسها ومزاولتها نشاطها...أ.هـ".
وإذا فالمشكلة الشاخصة عن المقننين هي أنهم لم يجدوا عندنا تشريعًا يضبط الشركات مع تشعبها وكثرتها إلا بضع مواد في نظام المحكمة التجارية الذي كان في أصله امتدادًا للقانون العثماني المستمد من فرنسا.
والخلاصة التي نريد الوصول إليها أن نظام الشركات القائم الآن هو نظام قانوني مستمد من القانون المدني المصري المستمد من القانون الفرنسي.
والسؤال الذي يطرح نفسه عند وضع هذا النظام أين الشريعة الإسلامية؟؟ أين الفقه الإسلامي؟ أين علماء الشريعة وفقهاؤها وهم متوافرون وعلى رأسهم فضيلة العلامة سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ مفتي الديار السعودية آنذاك؟
وإذا ثبت أن في الشريعة الإسلامية والفقه الإسلامي ما يكفي لوضع نظام متكامل للشركات فترك واستمد نظام الشركات من القانون المدني المصري المستمد من القانون الفرنسي فكيف يجوز الدخول في أسهم الشركات بأي وجه من الوجوه؟.(106/3)
وقد عرض النظام على سماحة المفتي الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله عند صدوره عام 1369هـ للمرة الثانية وبعد دراسته قال رحمه الله: (وبعد دراسة النظام وجدناه نظامًا وضعيًا قانونيًا لا شرعيًا؛ فتحققنا بذلك أنه حيث كانت تلك الغرفة هي المرجع عند النزاع فإنه سيكون فيها محكمة وسيكون الحكام فيها غير شرعيين، بل نظاميون قانونيون ولا ريب أن هذه مصادمة لما بعث به الله نبيه صلى الله عليه وسلم من الشرع؛ الذي هو وحده المتعين للحكم به بين الناس، والمستضاء منه عقائدهم وعباداتهم، ومعرفة حلالهم وحرامهم وفصل النزاع عندما يحصل التنازع، واعتبار شيء من القوانين بالحكم بها ولو في أقل القليل لا شك أنه عدم رضا بحكم الله ورسوله، ونسبة حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم إلى النقص وعدم القيام بالكفاية في حل النزاع وإيصال الحقوق إلى أربابها).
بل مما ورد في كلامه رحمه الله أن من أعتقد في تلك الأنظمة والقوانين كفاية وغنية عن حكم الله ورسوله قال: (واعتقاد هذا كفر ناقل عن الملة).
وقال رحمه الله: (والأمر كبير مهم وليس من الأمور الاجتهادية وتحكيم الشرع وحده دون كل ما سواه شقيق عبادة الله وحده دون ما سواه، وقد قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَْمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَومِ الآْخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}.(النساء: 59).
وقال تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (النساء: 65).
والخلاصة أن أصل النظام واستمداده ثم واضعه وجهة التحاكم فيه؛ كلها مرجعها ومآلها إلى غير شرع الله هذا في الجملة.(106/4)
فحتى تصح المشاركة والمساهمة في الشركات القائمة لابد من إصلاح وضعها واستمداد نظامها من الشريعة الإسلامية وفق الضوابط الشرعية وحسبما نص على ذلك أهل العلم وقد أبلى علماؤنا وفقهاؤنا في كتاب الشركات بلاءً حسنًا حتى أن الموفق ابن قدامة رحمه الله كتب فيه أكثر من ثمانين صفحة (ويراجع المغني في طبعته الجديدة جزء 7 من ص108-195).
أما من حيث التفصيل:
أولاً: الأصل أن عقد الشراكة بين اثنين فأكثر عقد جائز بإجماع الفقهاء ولكل أحد من الشركاء أن يفسخ العقد متى شاء ويتخارج الشركاء بالطريقة التي نص عليها الفقهاء رحمهم الله.
وبالمقارنة بنظام الشركات يجعل عقد الشراكة إلزاميًا. بدليل أن المساهم في أي شركة لا يستطيع أن يبيع حصته على الشركاء بل لابد أن يكون عن طريق الشركة بواسطة البنوك فلو أراد شخص أن يتخلص من أسهمه في شركة بسبب تعاملها بالربا، أو لكونها تبيح بيع الأسهم وتداولها قبل أن يبدأ العمل بها فلا يجوز له إلا أن يأتي بمشترٍ يحل محله أو يصبر على الحرام فلو خرج مليون مشترك لابد أن يحل محله بعددهم، وهذا مخالف لنظام الشركات في الإسلام.
ثانيًا: الأصل أن الشركات تنبني على عقود مشاركات تضبطها، ولا تلزم بنمط معين بحيث تصبح وكأنها ليست عقودًا اتفاقية بين الشركاء.
أما في ظل النظام القائم فإن القانون هو الذي يحكم وليس العقد ومن يخرج عن القانون ولو ابتغاء التصحيح يدخل تحت طائلة العقوبات التي يقررها القانون.
ثالثًا: النقص الظاهر في القانون المنظم للشركات إذ لا يشمل في مواده إلا على نوعين من الشركات هما شركة الأموال والمضاربة؛ على نقص في النوع الثاني، أما شركة الأبدان والوجوه والمفاوضة فلا وجود لها في نظام الشركات القائم، لأن أعمال الشركات تدار من خلال البنوك وهي لا تعرف إلا المال.
رابعًا: المخالفة الشرعية فيما يصدر عن الشركات مما يتعلق بالصكوك وهي التي تصدرها الشركات المساهمة.(106/5)
جاء في نظام الشركات في الفصل الرابع منه ابتداء من المادة 98 تنص المادة المذكورة على الصكوك التي تصدرها الشركة المساهمة، تكون في شكل سندات أو حصص تأسيس أو أسهم.
فأما السندات فهي أن تطرح سندات يشتريها كبار المستثمرين بقيمة عاجلة مقابل زيادة تدفع مع قيمة السندات آجلاً.
وهذه العملية ربًا قطعًا باتفاق جميع المسلمين حتى القانونيين منهم.
وأما حصص التأسيس فيقول النظام عنها: هي براءة اختراع أو التزام حصل من شخص اعتباري عام يكون مشاركًا بحصة تأسيس أ.هـ.
وهذه الحصة قد تكون خدمة معنوية يقدمها أحد الناس فتسجل له حصة تأسيس ويصدر له صك مقابل ذلك، وهذا فيه من الجهالة والغرر الشيء الكثير، إذ ليس هناك ضابط يحدد الخدمة وما يقابلها.
وقد تكون رشوة كأن تكون الحصة مقابل تسهيل إجراءات إدارية أو جمركية.
ولا نشك أن الشركات العالمية والكل تبع لها يدخلها كثير من الغش والخداع والرشاوي باسم الإكراميات تارة وباسم غيرها تارات أخرى فهذا النوع أيضًا يلحق بالسندات فهو حرام.
وأكثر الشركات القائمة تتعامل بهذين النوعين من الإصدارات.
أما النوع الثالث وهو المهم فهو الأسهم، حيث أصبح حديث الناس واستولى على جل أوقاتهم وأموالهم وأشغلهم أيما إشغال، والأسهم نوعان: أسهم بالاسم، وأسهم لحامل السند:
فأما الأسهم لحامله؛ فهي حرام لما في ذلك من إضاعة الحقوق، ولأنها تعتريها الجهالة، حيث لا يعرف منه الشريك، ولو ضاعت الأوراق فوقعت بيد أي شخص لأصبح حاملاً له وهو غير مستحق له. فمن هنا نشأ التحريم.
أما الأسهم التي بالاسم؛ فهي نوعان أيضًا: أسهم عادية، وأسهم ممتازة، ومعنى الامتياز في الأسهم أن يكون لأصحابها ميزة وهي التي يبقى لأصحابها الحق عند إفلاس الشركة أو تصفيتها في أخذ حقوقهم كاملة.(106/6)
ومن المعلوم أن هذا التميز باطل؛ إذ أن الأصل التساوي بين الشركاء وعدم التمييز بأي وجه من الوجوه. فهم شركاء في الربح وفي الخسارة، أما إذا جعلنا لأحد المساهمين ميزة بأن نضمن له عدم الخسارة، أو أن له الحق أن يسحب ماله متى شاء دون غيره؛ فهذا حرام بلا شك.
ومن هذا التمييز نوع يسمى بأسهم التمتع، وهي التي يستحق أصحابها بعد بيع أسهمهم وسحب مالهم؛ أن يبقى لهم حق في الربح يعرف باسهم التمتع، وهذا حرام؛ لأنه لم يبق له حق في الشراكة، فعلى أي أصل يعطى مثل ما يعطى بقية الشركاء وقد سحب أسهمه.
أما الأسهم العادية: فلا تخلو من حالين:
الحالة الأولى: أن تقوم الشركة على أصول شرعية، وتمارس جميع أعمالها على نقاء وبُعد عن الربا والكذب والجهالة والغرر والنجش، وتطبق جميع الضوابط الشرعية التي نص عليها أهل العلم في كتبهم، فهذه تباح المشاركة فيها، بل يندب دعمها ولو قلّت أرباحها، لما في ذلك من إحياء سنة المشاركة، والتوحد على إقامة المشاريع المربحة والمنتجة، ولكونها تستوعب قدرًا كبيرًا من الطاقات الشابة فتقضي على البطالة ويكثر الإنتاج ويعم الخير.
لكن مثل هذه الشركات عزيزة الوجود لأن قيامها مرهون بوجود نظام إسلامي يحميها ويرعاها. ولكن إقامتها غير مستحيل وممكن إذا صلحت النيات واجتمعت الخبرات من علماء الشريعة وعلماء الاقتصاد المعاصر لبناء تلك الشركات على أصول شرعية في جميع أحوالها ونشاطها وقد تحقق أرباحًا تفوق الخيال بمباركة الله لها لكونها على أصول شرعية.(106/7)
الحالة الثانية: ماهو منتشر الآن من قيام شركات على نظم قانونية بحته، لا تحل حلالاً ولا تحرم حرامًا، تتعامل بالربا وتقترض بالربا وتأخذ الأرباح الربوية، فتسجل تحت بند أرباح بنكية أو يقال أرباح أخرى. فمتى عُرف هذا عن أي شركة من الشركات فيحرم المساهمة فيها أيا كانت نسبة الربا لأن الله تعالى قال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (البقرة: 278). و"ما" من ألفاظ العموم. وقال صلى الله عليه وسلم: ((وكل ربا موضوع تحت قدمي هاتين)). و"كل" أيضًا من ألفاظ العموم فيدخل الربا بكل صوره وأشكاله ونسبه. فهو حرام بتحريم الله له وتحريم رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تفريق بين نسبة وأخرى منه.
والشركات القائمة منها ماهو صريح في تعامله بالربا، فهذه لا يجوز الدخول في أسهمها لا مساهمة ولا بيعًا ولا شراءً ولا تداولاً ولا تورقًا، ومنها شركات لا تأخذ الربا والفوائد البنكية لكنها تعطيها حيث تقترض من البنوك لحاجتها إلى المال وتدفع لهم فوائد ربوية، ولا شك أنها كالمعطي له لقوله صلى الله عليه وسلم: ((الآخذ والمعطي فيه سواء)) ولا أظن شركة تسلم من هذا النوع فلو لم تكن آخذة للربا لكنها تكون معطية له.
ثم إن تجارة الأسهم يعتريها الكذب والمخادعة والجهالة بالحال فقد يعلن عن أسعار بعض أسهم الشركات بسعر وهي لم تصل إلى ذلك لإغراء الناس بالشراء ولا تكاد تستقر الأمور حتى يتراجع المؤشر وهكذا فهناك لعبة يمارسها المتنفذون مع الهوامير في تجارة الأسهم فإذا أرادوا بيع الأسهم رفعوا سعرها وإذا أرادوا الشراء خفضوا أسعارها وجمهرة المشاركين هم المتضرر الحقيقي في هذه اللعبة القذرة وهم لا يدرون.(106/8)
ومن العجيب أن بعض الشركات خسرت وكادت تعلن عن إفلاسها، حتى إن شركة مشهورة بلغت خسارتها أكثر من سبع مائة مليون ريال، وكانت الفكرة بدلاً من إعلان الإفلاس؛ طرحها مساهمة، فأقبل الناس عليها لشهرتها فغطت العجز وزاد ميزان الفائض.
بل إن بعض الشركات أعلنت عن تكبدها خسائر فادحة وطرحت أسهمًا فتنافس الناس عليها.
والأعجب من هذا كله أنك لا تكاد تسمع بمساهمة إلا وانكب الناس عليها دون دراسة لجدواها أو معرفة لكيفية ممارستها، والكثرة الكاثرة من المساهمين يقترضون بالآجل فيشترون الأسهم بزيادة ويبعونها بخسارة كبيرة للحصول على المال من أجل المضاربة في الأسهم، وبعضهم يبيع منزله أو سيارته ويغامر بماله، فربما ربح وقليل ما هم، ومثل هؤلاء يمدحون المتاجرة بالأسهم لأنه لا يمدح السوق إلا من ربح فيه.
والكثرة الكاثرة إما يخسرون أو يربحون ربحًا زهيدًا، فمثلاً تجد قيمة السهم في بعض الشركات مبلغ ألف وستمائة ريال، وعند توزيع الأرباح السنوية قد لا يحصل المساهم إلا على بضعة عشر ريالاً لمدة عام أو أكثر فهل هذا معقول؟
ثم إن بعض الشركات تبدأ في بيع وشراء الأسهم وهي لم تقمْ بعدُ على وجه الواقع، فهذا بيع وشراءٌ للمال بالمال وهو حرام.
ومما لا شك فيه أن طرح أسهم الشركات للاكتتاب من أعظم ما أشغل الناس حتى عن أداء الواجبات، فمنهم من أشغلته عن الصلاة، أو استولت على فكره فلا يدري كم صلى إمامه!
ومن الموظفين من يغلق بابه ويدخل عن طريق الإنترنت في عملية البيع والشراء ويستغرق ساعات ويضيع عمله وإذا سئل عنه قالوا لديه اجتماع بالداخل.(106/9)
ومن المعلمين والموظفين من يستأذن أو يخرج بغير إذن، ليذهب إلى صالة تداول الأسهم في البنوك تاركًا عمله مضيعًا لطلابه، ولو دخلت عليهم وهم محدقون بالشاشات ولا يدرون ما حولهم لعلمت كيف أشغلتهم الأسهم وتداولها حتى عن أنفسهم. وهذا من أهداف اليهود عليهم غضب الله. وما أدى إلى إضاعة الحقوق والواجبات فهو حرام.
كما أن الانشغال بالأسهم يعطل كثيرًا من الأعمال الإنتاجية كالتجارة الحلال والزراعة والصناعة نظرًا لاستيعاب السوق لرؤوس الأموال التي يمكن توظيفها في مشاريع إنتاجية تدر أرباحًا حلالاً وطيبة وتقضي على البطالة وتفتح بيوتًا وتسد كثيرًا من الحاجات.
ومما يجب التنويه عليه أن اليهود مسيطرون على إدارات البنوك العالمية الكبرى وغيرها تبع لها ومكاتب تجمع المال لها؛ ليكون تحت سمعهم وبصرهم وتحكمهم، فلا يكاد ينتهي الاكتتاب في شركة حتى تقوم أخرى وبهذا يضمنون سيطرتهم على المال، وأكثر الناس لا يدري عن اللعبة القذرة لليهود.
ولعل أهم الأسباب التي حملت أكثر الناس على الوقوع في المساهمات دون دراسة وتحقق ما يلي:
1 – الدعاية والإعلان وترغيب الناس في ارتفاع قيمة الأسهم فور بداية التداول.
2 – كثرة الطمع في الإثراء السريع بدون تعب.
3 – تقصير بعض المسلمين في أداء الزكاة والحقوق الواجبة عليهم؛ فسلط الله على أموالهم من يستنزفها ويضحك عليهم.
4 – سد باب القرض الحسن الذي جعله النبي صلى الله عليه وسلم في الأجر بثمانية عشر والصدقة بعشر حسنات وكون القرض مرتين يقوم مقام صدقة.
5 – التساهل في الفتوى، فهذه شركات نقية وأخرى مختلطة وثالثة محرمة، دون دراسة لواقع تلك الشركات ومخاطر المساهمات وما يقع فيها من الكذب والتحايل والجهالة والغرر ما الله به عليم.(106/10)
وكل يوم تسمع فتوى غير الأخرى فشيخ يقول ساهم في الشركات السعودية وقلبك مطمئن دون تفريق وآخر يفصل ويدخل بعض الشركات في النقية ثم لا يلبث أن يظهر له عدم نقائها فيلحقها إما بالمختلطة أو المحرمة. وقد أحدث هذا الاختلاف بلبلة بين الناس فلا يدرون من يصدقون.
إنني أدعو سماحة المفتي واللجنة الدائمة للفتوى أن تسعى عاجلاً غير آجل إلى تكوين لجنة من أهل الاختصاص الشرعي والاقتصادي يعكفون على دراسة أنظمة الشركات وطريقة المساهمات والتداول ويصدر عنهم فتوى قاطعة تريح المجتمع من هذه البلبلة والأمر جد خطير ومالا يدرك كله لا يترك جله.
والواجب إقامة الشركات على قواعد الشرع المنظمة لها وإذا طرأ جديد من الأنظمة فيدرس ويجتهد فيه وفق أصول الاجتهاد والنظر لا وفق تتبع الرخص في المذاهب فإن من تتبع الرخص تزندق.
ولا أشك أن نظام الشركات القائم مخالف للشريعة في أساسه وليس في جزئيات فقط فالأصل أن تقوم الشراكة على ما نص عليه الشرع وما بينه أهل العلم في كتبهم ويعمل بالاجتهاد بشرائطه فيما لا نص عليه، وعندئذ نكون قد قدمنا للأمة والشريعة الإسلامية خدمة عظيمة عملية، وليست مجرد تنظير أو أفكار بعيدة عن الواقع.
البدائل العملية للمساهمة القائمة على غير الشريعة الإسلامية:
1 – إيقاف الإعلان والدعاية للمساهمات في جميع الشركات حتى تصحح الأوضاع من جذورها وفق الشرع الحنيف.
2 – إصدار فتوى موحدة من أهل الاختصاص في أنظمة المشاركات القائمة ليعرف الناس الحلال من الحرام وإلغاء ما قام على الحرام.
3 – المسارعة في تكوين لجان من ذوي الاختصاص الشرعي والاقتصادي لحل الإشكال القائم، ومع صدق النية فلن يستغرق الأمر زمنًا طويلاً مع الدعم من الجهات المختصة.
4 – ومن المهم جدًا إلغاء المحاكم القانونية تمامًا وتحويل جميع القضايا إلى المحاكم الشرعية وديوان المظالم بعد إعادة النظر في لوائحه لتتفق مع أحكام الشريعة الإسلامية، ويوحد القضاء.(106/11)
5 – إحياء طريقة الجمعيات التعاونية بين الموظفين ووضع أنظمة لها واختيار من يديرها مع إخضاعها لرقابة شرعية ومتابعة لمنع التلاعب بأموال الناس، ويرخص لها من الجهة المسؤولة عن ذلك.
6 – إحياء سنة المضاربة وتشغيل الأموال في التجارة وإقامة المشاريع الزراعية الناجحة وحمايتها وتشييد المصانع وتشجيع الحرفيين على العمل والإنتاج بدلاً من المضاربات بالأسهم. فكم من خسائر مادية وصحية ونفسية تتكبدها الأمة بسبب تجارة الأسهم.
7 – إحياء سنة القرض الحسن ووضع نظام له يكفل سداد الحقوق واقتضائه من المقترضين منعًا للمماطلة عن طريق معاملة بنكية إسلامية وإحياء سنة الرهن الإسلامي، والاستقطاع من الراتب عن طريق المصارف الإسلامية ولها مقابل ذلك رسوم معقولة.
8 – توزيع الثروة توزيعًا عادلاً وخاصة أموال الزكاة فلو أخرجت الزكاة على وجهها الصحيح لقضي على الفقر والحاجة وفجرت الطاقات الكامنة حيث يعطى من لديه خبرة أو مهنة آلات من الزكاة يكتسب بها فيقضى على ما يسمى بالبطالة ويوكل بذلك رجال مخلصون لدينهم ووطنهم وأمتهم، ولا يمنع أن يكون للزكاة وزارة مستقلة تعنى بجمع أموال الزكاة على الوجه الحقيقي وتخرج في مصارفها المشروعة المنصوص عليها.
ومن الملحوظات على نظام الشركات:
خامسًا: اجتماع الأجرة مع نسبة الأرباح. وهذا مخالف للقول الصحيح وما عليه جمهور أهل العلم حيث إن القول المختار بالدليل أن لا يجمع العامل في المضاربة بين نسبة الربح والأجرة لأنه ربما استهلكت الأجرة كامل الربح فلم يبق لصاحب رأس المال شيئًا. ومن ذلك مكافأة مجلس الإدارة التي تستوعب أكثر عائد من الأرباح كما هو معلوم.
سادسًا: نسبة الخسارة إذا حصلت؛ في الشريعة الإسلامية متقرر أن الخسارة وتسمى بالوضيعة على قدر رأس المال، بخلاف النظام المعمول به فيه الشركات.(106/12)
ووجه المخالفة/ أن الشريعة تضع الخسارة على حسب رأس المال ما لم يحصل تعدي أو تفريط فيتحمل المتعدي والمفرط الخسارة. ففي العنان وهي الشراكة بالأموال من الأطراف المتشاركين لا يكون العدل إلا إذا كانت الخسارة حسب رأس المال. لأنه ليس أحد أولى من أحد، بخلاف نظام الشركات فالخسارة حسب الشروط.
وهذا بخلاف الربح فربما يتفقون على أن يكون لأحدهما نسبة أعلى نظرًا لما يقدمه من خبرة وهذا مقتضى العدل والإنصاف.
وفي المضاربة إذا خسر المضارب دون تعدي أو تفريط منه فيكفيه خسارة عمله بينما في نظام الشركات لو شرط صاحب رأس المال ألا خسارة عليه ضمنها العامل، وهذا ظلم ظاهر ومخالف للشريعة الإسلامية.
سابعًا: تقييد المعاملات وتسلط مجلس الإدارة ومن ذلك:
1 – تحويل الشركة الكبيرة إلى شركة مساهمة دون وجه حق، وهذا أشبه بنظام التأميم والمصادرة والمشاركة بالقوة لكن تبين لي أن الشركات الكبرى والتي أفلست تطرح مساهمات لأنهم يرون أن الأسهم كانت لخداع الناس فمجرد الإعلان عن طرح أسهم تلك الشركة ينكب عليها الناس فتغطي خسارتها وتزيد الضعف ولهذا فطن لذلك المتربصون ممن أفلست شركاتهم فاستغلوا جهل الناس بالوضع الاقتصادي وإدارة اللعبة، لكن إذا كانت الشركة رابحة فلا يجوز إلزامها بأن تطرح مساهمة لما في ذلك من الظلم.
2 – استغلال مجلس الإدارة واستئثاره بالأصوات مدعيًا أن لديه توكيلات أو تفويضات وهي في الحقيقة شراء أسماء ليس لها علاقة بالشراكة لا من قريب ولا من بعيد.
ثامنًا: دعوى التقادم: فنظام الشركات ينصُّ على أنه إذا مَرَّ سنة على حدوث خطأ في الشراكة ولم يتقدم المساهم بالشكوى خلال سنة مثلاً من وقوع ذلك الخطأ سقطت دعواه بدعوى التقادم. والحق لا يسقط في الشريعة الإسلامية إلا بالأداء أو الإبراء ولا دخل لمسألة التقادم في إسقاط الحقوق.(106/13)
تاسعًا: فيما يتعلق بإثبات الحق: الشريعة الإسلامية تعتبر البينة على المدعي وهي ما أبان الحق وأظهره من شهود أو اعتراف أو قرينة ظاهرة.
لكن نظام الشركات لا يعتد بالبينة إلا بما هو مكتوب بل يجعل ذلك ركنًا في عقد الشراكة ولا يعتد إلا بتوثيق ذلك كتابيًا من الشركة دون غيره من البينات ولو كانت البينة مائة شاهد لم ينظر إليها وينظر إلى ورقة معتمدة من الشركة ولو كانت مزورة.
عاشرًا: التذبذب في أسعار الأسهم بحيث لو استقال وزير من وزراء التجارة في الدول المشهورة أو أعتدي على وزير أو نحو ذلك فلا تسمع إلا ارتفعت الأسهم انخفضت الأسهم.
وهذا يدل على عدم الاستقرار ثم ثبت لدي أن بعض المتعاملين عن طريق شبكة الانترنت يخبرني أنه في حال ارتفاع الأسهم وإرادته البيع يقفل في وجهه الخط ولا يستطيع الوصول للبيع، فالأمر فيه تلاعب وسيطرة من متنفذين وراء الأكمة.
وكم من متعامل يدخل صالة التداول ويخرج فرحًا جذلاً يكاد يطير من الفرح وكم من باك شاك يعضّ أصابع الندم بسبب ما سبق من التذبذب والتلاعب وهذا يكفي في تحريم التعامل بالأسهم.
والله سبحانه وتعالى يعلم أنني لم أكتب هذه الأسطر إلا إعذارًا وإنذارًا وليس بيني وبين أحد عداء أو تقصد، وإنما هو رأيي أبديه فإن كان صوابًا فمن الله وحده، وإن كان خطأ فمن نفسي ومن الشيطان والله ورسوله منه بريئان.
وآخر دعوانا أن الحمدلله رب العالمين(106/14)
العنوان: اشتقاق أسماء المواضع والمدن العربية - عند متقدمي العلماء
رقم المقالة: 379
صاحب المقالة: حمد الجاسر
-----------------------------------------
كانت (سياحةً) ممتعةً ذِهْناً وثقافةً، في كتاب حافل بالمفيد الطَّريف من جوانب المعرفة العامة، فلقد حرص ياقوت بن عبدالله الحموي المتوفي سنة 626هـ (1228م) أن يودع كتابه ((معجم البلدان)) خلاصة ما اطلع عليه في مؤلفات من سبقه من العلماء، مما يتعلق بالبلدان والجبال والأودية والقرى والمحال والبحار والأنهار والأصنام وغيرها، فجمع من تلك المؤلفات ما كان مشتتاً، وأضاف إليها ما كان مهملاً، حتى أصبح هذا الكتاب (أَوْحَدَ في بابه) – كما وصفه مؤلفه[1].
وحلَّتِ (الدورة الرابعة والخمسون) من دورات المؤتمر السنوي لمجمع اللغة العربية، فكانت مناسبةً طيبةً أتاحتْ لي معاودة تتبع عدد من أسماء المواضع التي ورد ذكرها فيما سيعرض في تلك الدورة من مواد ((المعجم الكبير))، وهو معجم شرع المجمع بتأليفه منذ أكثر من نصف قرن، وأصدر عنه مجلدين ضخمين، بلغ فيهما إلى حرف الحاء، وهيأ للعرض في جلسة يوم الأحد السابع عشر من شهر رجب 1408هـ (6 آذار سنة 1988م) من مواد ذلك الحرف من (ح.د.ب) إلى آخر مادة (ح.ذ.ن) في نحو عشرين ومئة صفحة، ومن بينها أعلام من أسماء القبائل والأشخاص والمواضع مِمَّا جُلُّهُ – إن لم يكن كله – ذو ارتباطٍ وثيق بهذه البلاد الكريمة التي منها انبثق نور الهداية، فأضاء أقطار العالم، حتى انتشر فيها العلم والعدل والهدى.(107/1)
كان من بين أسماء المواضع التي وردتْ في تلك المواد: (حَدَد) الاسم القديم للجبل المطل على بلدة تيماء من الجنوب الغربي، المعروف الآن باسم (غُنيم) وكان مما قرأتُ عنه في أحد المؤلفات أنه مذكور في ((التوراة)) مقروناً بتيماء، باعتبارهما من أبناء إسماعيل[2] فحفزني هذا لمحاولة معرفة الطريقة التي سار عليها العلماء في تعليل أسماء المواضع القديمة التي سبقتْ تدوينَ اللغة العربية – في القرن الثالث الهجري فيما بعده – وهي التي يُعَبَّرُ عنها بأنها جامدة، أو مرتجلة – أي غير مشتقة، ولا شك أن ((معجم البلدان)) من أحفل المؤلفات وأشملها في هذا الباب، وقد جعل مؤلفه هذا الأمر نُصب عينيه منذ أن شرع في تأليف كتابه، فنص في مقدمته أنه ذكر اشتقاق الاسم إن كان عربياً، ومعناه – إن أحاط به – إن كان أعجمياً – فكان أن أمضيتها سويعاتٍ مفرقةً، في تصفح الصفحات الكثيرة في أجزائه الأربعة، حتى انتهتْ بي سياحتي إلى قناعةٍ بأن هذا الجانب من جوانب الدراسات الجغرافية المتعلق بتعليل أسماء المواضع القديمة لا يصحُّ الوقوف فيه عند ما خلفه لنا سلفنا الصالح من متقدمي العلماء، بل لا يزال في حاجة إلى دراساتٍ أكثر عمقاً، وأوسع أفقاً، فمجالات المعرفة قد اتسعت، وآفاق العلوم أصبحت غير محدودة بزمان أو مكان، فهي تزداد وتتجدد في كل لحظة. وأولئك العلماء – أسبغ الله على أجداثهم شآبيب العفو والرضوان – قد قدموا لنا ما استطاعوا تقديمه، من ضروب المعرفة التي أدركوها، فاستحقوا من الله عظيم الأجر، ومنا الاعتراف بفضل السبق مع إزجاء وافر الشكر.(107/2)
ولقد اتضح لي أن مؤلف ((المعجم)) – مع كثرة مصادره وتنوعها، مما سرد أسماء أكثرها في مقدمته، وذكر غيرها عند الرجوع إليه – قد بلغتْ به الثقة بابن الكلبي درجةً حملته على اعتماد آرائه أساساً في تعليل إطلاق الأسماء القديمة على مواضعها المعروفة، مع علمه بمنزلته عند علماء الحديث وغيرهم من مشاهير علماء عصره، ويبدو هذا جلياً في الدفاع عنه – ما وجد إلى ذلك سبيلاً – كقوله بعد إيراد كلام له[3]: ولله دَرُّهُ ما تنازع العلماء في شيء من أمور العرب إلا وكان قولُه أقوى حجةً، وهو مع ذلك مظلوم، وبالقوارص مكلوم. وقوله[4]: قال ابن الكلبي: إنما سمي دَيْرُ الجماجم لأن بني تميم وذبيان لما واقعت بني عامر، وانتصرت بنو عامر، وكثر القتلى في بني تميم، بنوا بجماجمهم هذا الدير، شكراً على ظفرهم – وهذا عندي بعيد من الصواب – وهو مَقُولٌ على ابن الكلبي، وليس يصح عنه، فإنه كان أهدى إلى الصواب من غيره في هذا الباب، لأن وقعة بني عامر وبني تميم وذبيان كانت بشعب جبلة، وهو بأرض نجدٍ وليس بالكوفة. انتهى.
وياقوت أجلُّ من أن يجهل أن ابن الكلبي كغيره من العلماء ليس معصوماً من الخطإ، وقد نقل عنه من ذلك أشياء كثيرة، كَعَدِّهِ رُهَاطَ – الوادي القريب من مكة – في بطن ينبع، وزعمه أنَّ الحمى مضافٌ إلى جُرَشَ الذي في الشام، لا جَرَش[5]، وغير ذلك مما ليس هذا موضع بسطه، ومع هذا فلا شك أن هشام ابن محمد بن السائب الكلبي (000/204) من أوسع متقدمي العلماء معرفةً في كل ما يتعلق بأحوال العرب قبل الإسلام، وله في ذلك مؤلفات تُعَدُّ أَهَمَّ ما ألف في موضوعها، ولولاها لفقد الباحثون أسساً لدراسات كثيرة من تلك الأحوال ككتاب ((الأصنام)) وكتاب ((الخيل)) وغيرهما مما يقارب مئة وخمسين مؤلفاً، وهو – بدون شك – إمام علم النسب بلا منازع، وعلى مؤلفاته المعوَّلُ في هذا العلم، ومن أهمها كتابا ((جمهرة النسب)) و((افتراق العرب))[6].(107/3)
أما ما يتعلق بالبلدان فقد اطلع ياقوت على كتابين له عنها هما: ((اشتقاق البلدان)) عَدَّهُ من مصادره في مقدمة كتابه – و((أنساب البلدان)) نقل كثيراً عن نسخة منه بخط أحد مشاهير العلماء[7]، وإن لم يصرح بمواضع النقل، وهو فيما نقل من الكتابين لا يميز بينهما إلا قليلاً.
ومعلومات ابن الكلبي مستمدة من روافد متعددة، ما يتعلق بأنساب العرب يظهر أنه اعتمد على مؤلفات أبيه محمد بن السائب المتوفي سنة 146، مع ما أضاف إليها مما وجد مسجلاً، أو تلقَّاه بالسماع عمن عاصرهم، وما يتعلق بالبلدان يعول كثيراً على الشرقي بن القُطَامِيَّ (الوليد بن الحصين، المتوفي في منتصف القرن الثاني) وهذا الرجل كانت له حظوة لدى الخليفة المنصور، بحيث كان يبعثه إلى بعض ملوك[8]، وقد أسند إليه تعليم ابنه المهدي الأدب، وهو من قبيلة كلب.
وقد أكثر ابن الكلبي النقل عن الشرقي مصرحاً باسمه[9]، كما نقل عن أبيه محمد بن السائب نصاً يظهر أنه من ((التوراة)) قائلاً: أخبرني أبي قال[10]: رومي وصقلب وأرميني وافرنجي إخوة، وهم بنو لنطي... بن يونان بن يافث، سكن كل واحد منهم بقعة من الأرض فسميت به. من هذا النص وأمثاله مما ورد في ((التوراة)) كما في الكلام على أبناء اسماعيل بعد ذكرهم قال: (هذه أسماؤهم بديارهم وحصونهم) – وَجَدَ ابنُ الكلبي المجالَ أمامه واسعاً لنسبة كثير من أسماء المواضع إلى شخص ورد له ذكر في الأخبار القديمة المدونة – كالتوراة وغيرها – أو المتداولة بين الأخباريين عن الأمم التي لا تاريخ لها.
وابن الكلبي على درجة من الذكاء، ومن سعة الاطلاع، مكَّنَاهُ أن يضع – غالباً – كل اسم فيما يناسب له من المواضع، وأن يحاول ربطَ تلك الأسماء ربطاً يتفق مع تقاربها في مواضعها، ووفق ورودها في النصوص أو الأخبار التي اعتمد عليها.
ويظهر من النصوص التي نقلها ياقوت عن كتابيه في البلدان أن يسير في تأويل أسمائها في اتجاهات خمسة:(107/4)
1 – اعتماده على نصوص قديمة – كالتوراة – وهو حينما يسلك هذا الاتجاه يسير سيراً متماسكاً، وإنْ لم يكن مستقيماً دائماً، ويتضح هذا في نظرته إلى أسماء المواضع الأعجمية الواقعة في شرق المعمور من العالم، فهو يراها منقولة عن أسماء أشخاص يرجعون إلى أصل واحد، ممن عاش في تلك المواضع، بل قد يحاول الربط بين اسمي موضعين متباعدين، زاعماً أنهما سُمِّيَا بشخصين أخوين، وأكتفي بسرد أسماء أورد ياقوت كلامه عنها في ((المعجم)) وترتيبه يغني عن الإحالة إلى مواضعها: أرَّان – في أرمينية – وأصبهان، وجرزان، وجيلان، والرِّيّ، والسُّوس في خوزستان – والصين، وفارس، وكرمان، وموقان، وهمذان – هاؤلاء كلهم يجمعهم نسب واحد، ويرجعون إلى أصل واحد هو يافث بن نوح، ومعروف ما ورد في ((التوراة)) عن انحصار سكان العالم بأبناء نوح الثلاثة: سَامٍ وحامٍ ويافثٍ.
وهناك أسماء مواضع واقعة في أطراف الجزيرة ونواحي العراق والشام، ومنها ما له ذكر في ((التوراة)) أو في شروحها، مثل آمد وأيلة والبلقاء، ودَومة الجندل، وعَدَن، وعُمَان – بضم العين وتخفيف الميم – وهِيْت، وتلك البلاد انتشر فيها أبناء إبراهيم الخليل، وإذن فتلك أسماء أشخاص منهم، سميت بها تلك المواضع، ودمشق سميت بدمشق بن قالي المتصل النسب بسام بن نوح الجد الأعلى لإبراهيم، وهذا لا ينفي وجود من لا ينتمي إلى إبراهيم قد عاش في هذه البلاد، كصيدون وهو من أبناء كنعان بن حام، وبه سميت صيداء، أما غزة التي سميت بها المدينة المعروفة فهي امرأة صور، الذي بنى مدينة صور، ولكن الذي لم يتضح ملمح ابن الكلبي فيه هو قوله عن (فلسطين): سميت بفليشين.. من بني يافث بن نوح، ثم عُرِّبَتْ، فلماذا نسب هذا الموضع إلى أحد بني يافث.
هذا وأمثاله – مما لا يتسع المجال لذكره – مما تأثر به ابن الكلبي بما عَرَفَ أو نقل له عن ((التوراة)).(107/5)
2 – أما ما له صلة بأخبار القصَّاصين من أسماء المواضع مما يتعلق بتاريخ الأمم التي عاشت في الجزيرة ثم بادَتْ كالآراميين (بني إرم) والعمالقة وغيرهم ممن لم تُدَوَّنْ سيرهم وأخبارهم فلابن الكلبي – فيما يرويه عن أبيه أو غيره من شيوخ – طريقة تدلُّ على خصب قريحة، لا تقف عن حدِّ نسبة الاسم إلى شخص ينتمي إلى إحدى تلك الأمم، بل تحاول إيجاد تقارب بين الأشخاص يتفق مع تقارب المواضع المسميات، كما في هذا الخبر الطريف الذي أورده صاحب كتاب ((المناسك))[11]: هشام بن محمد عن أبيه قال: سُمِّيَ جَبَلاَ طَيِّءٍ أن سَلْمَى بنت حام بن حي، من بني عمليق عَلِقَها أجأْ بنُ عبدالحي من بني عمليق، وكان الرسول بينهما حاضنةً لها تدعى العوجاء، فهرب بها وبحاضنتها إلى موضع جبلي طيءٍ، وبالجبلين قوم من عاد، وكان لسلمى إخوة هم الغميم والمُضِلُّ وفَدَكُ وفائد، والحدثانُ، فخرجوا في طلبهم، فأخذوا سلمى فوضعوها على الجبل، وكُتِّفَ أَجَأ على الجبل الآخر، وقُطِعَتْ يدَا العوجاء ورجلاها فوضعت على جبل آخر، ثم قال الإخوة: والله لا نرجع إلى قومنا أبداً، فمضى الغَميم إلى ناحية الحجاز، وأقبل المضل إلى موضع القاع، واستنبط به بئراً وأقام حتى مات، ولحق فدك بموضع فدك فسمي به، ولحق فائد بالجبل الذي سمي فائد بطريق مكة[12]، ولحق الحدثان بحرَّة الحدثان فسميت هذه المواضع بهم، وهي منازل طيء بين الجبلين.
وكما نقل ياقوت[13] عنه عن الشرقي: الرَّبَذَةُ، وزَرُود والشُّقْرَةُ بنات يثرب بن قانية بن مهلائل بن إرم، ونقل عنه: سميت زبالة بزبالة بنت مسعر، امرأة من العمالقة نزلتها، وسميت طَمِيَّةُ بنت جام من بني عمليق، وأرض صُبْحٍ بناحية اليمامة سميت برجل من العماليق يقال له صبح.(107/6)
3 – ولملوك حِمْيَرَ قُبَيْلَ ظهور الإسلام من السيطرة والنفوذ بين سكان الجزيرة مَا دفع القصاصين ورواة الأخبار إلى التزيُّدِ فيما يروون عنهم، والاعتماد في كثير منه على الخيال، مما يجد الباحث نماذج منه في كثير من المؤلفات القديمة ككتاب ((أخبار عُبَيْدِ بن شَرْيَةَ الجرهمي)) وكتاب ((التيجان في ملوك حمير)) لابن هشام و((شرح القصيدة الحميرية)) لَنَشْوان وغيرها، ولهذا فقد وجد ابن الكلبي مرتعاً خصباً في تلك الأخبار، ولكونه يَمُتُّ بنسبه إلى أصحابها إذْ هو كلبي قُضَاعيٌّ حميري، قحطاني، وله في الأخبار والحكايات صولات وجولات – فقد صادفت هوى في نفسه.
فسلطان أولئك امتدَّ – على ما يرى ابن الكلبي ومن شايعه من مؤرخي اليمن – إلى جميع أرجاء العالم، إذ افريقس بن صيفي[14] – أحدهم – غَزَا المغرب فلما بلغ (افريقية) تلك البلاد الواسعة أمر أن تُبْنَى هناك مدينة اشتق اسمها من اسمه، ثم نقل إليها الناس، فنسبت تلك الولاية الواسعة بأسرها إلى هذه المدينة، ولا ينسى الراوي أن يوشِّحَ هذا الخبر بما يُحَلِّيْهِ من الشعر، وأغرب من هذا أنه – عفا الله عنه – لم يَعْدِمْ من مشاهير اللغويين والعلماء من يقفو أثره في تهويل أمر أولئك الملوك، ويرى أن نفوذهم بلغ أقصى المعمورة شرقاً بحيث ذكر عن أحدهم وهو شَمِر بن إفريقس أنه بلغ بلاد الصين في غزواته فَنُسِبَتْ إليه مدينة (سَمَرْقَنْدَ)[15]، ولا ينسى ابن الكلبي قُوَّادَ أولئك الملوك من نسبة بعض المواضع إليهم فالسَّلْمَان الموضع المعروف في شرق الجزيرة في حدود العراق سُمِّيَ باسم سَلْمَانَ الحميري مَرَّ بهذا الموضع حين بُعِثَ في جيش كثير يريد شَمِر يرعش بن ناشر النعم... الذي سمي به (سمرقند) لأنه كسر حائطها.(107/7)
وقد يَعْمَدُ للإِغرابِ – حين يَتَصَدَّى لبيان معاني أسماءِ بعض المواضع التي لا يستعصي إدراكُ اشتقاقها على من لديه أدنى إلمام بالاشتقاق اللغوي، فيحاول إيجاد صلة بين تلك المواضع وبين ذوي المجد التليد من أولئك الملوك الصناديد.
إن قصة الملك الحميري الذي غزا المدينة، وعلم من أخبارها قرب بعث النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، فسار إلى مكة حاجًّا، قصة لها شهرتها عند عامة المؤرخين، وابن الكلبي شيخ الأخباريين، وهاهو يدلي بدلوه في تعليل أسماء مناهل الطريق ومنازله التي مرَّ بها التُّبَّعُ الحميري، ولا تزال معروفة فيما بين المدينتين الكريمتين، مما نقله ياقوت عن ((اشتقاق البلدان)) فيما يظهر:
مَلَلُ: لما صدر تبع عن المدينة بعد قتال أهلها يريد مكة، نزل ملل، وقد أَعْيَا، فسماها مَلَل.
السيالة: مَرَّ بها تُبَّع – بعد رجوعه من قتال أهل المدينة – وواديها يسيل فسماها السيَالة.
الروحاء: نزل تُبَّعُ الرَّوْحَاءَ – بعد رجوعه من قتال أهل المدينة – فأقام بها وأراح، فسماها الروحاء.
الرُّوَيْثَةُ: نزل تُبَّع الرويثة، وقد أبطأ في مسيره، فسماها الرويثة، من راثَ يريث إذا أبطأ.
السقيا: لما رجع تبع.. فنزل السُّقْيَا يريد مكة، وقد عطش، فأصابه بها مطر، فسماها السقيا.
الْعَرْجُ: لما رجع تبع يريد مكة رأى دوابًّا تعرج، فسماها العرج.
قُدَيْدُ: نزل تُبع قديداً فهبَّتْ ريح قدَّتْ خيم أصحابه، فسمي قديداً.
إلى ما لا داعي للإطالة بذكره، وقد يحاول السير على هذه الطريقة حتى في الأسماء الأعجمية كأن يقول في اشتقاق اسم (قِنَّسْرِيْنَ) البلد الشامي –: مَرَّ ميسرة بن مسروق العبسي على هذه البلدة فقال ما هذه؟ فسميت له بالرومية، فقال: والله لكأنها قِنُّ نَسْرٍ، فسميت قنسرين. واعْجَبْ للزمخشري – العالم اللغوي – حين يوجه كلام ابن الكلبي أو يحذُوْ حذوه، فيقول: نقل من القنسر بمعنى القنسري وهو الشيخ المسن وجمع، وأمثاله كثيرة!!(107/8)
ألا يستظرف – بالظاء المعجمة – القارئ، وقد استطرف – بالطاء المهملة – تلك التأويلات الساذجة لأسماء المواضع – ما رُوي عن الشاعر المشهور كُثَيِّر بن عبدالرحمن الخزاعي (كثير عزة) ولعله أراد مجاراة ابن الكلبي في تعليل تلك الأسماء وأمثالها، قال[16]: سمي (ملل) لتململ الناس به، و(الروحاء) لكثرة أرواحها، و(العرج) لتعرُّجه، و(السقيا) لما سقوا من الماء العذب، و(الجحفة) لأن السيول قد جحفتها، (وقديد) لتقدد السيول بها، و(مر) لمرارة مائها.
4 – أما نسبة المواضع لأناس ينتمون إلى القبائل التي عرفت بعد بدء تدوين التاريخ العربي من القحطانيين أو العدنانيين، فهي فيما نقل عن ابن الكلبي قليلة، لأنه يدرك الفوارق الزمنية بين معرفة تلك المواضع والزمن الذي عاش فيه أولئك الأشخاص، وقد لا يلحظ في كثير من الأحيان ما ذكره هو وغيره فيما يتعلق بمواقع سكنى القبائل في الجزيرة، كأن ينسب الرُّها – في الجزيرة الفراتية – لرجل يدعى الرُّها، يوصل نسبه بخمسة آباء إلى لَخْمٍ القبيلة القحطانية التي عُرِفَ انتشارُها فيما بين أطراف الشام الغربية إلى مصر[17]، وينسب صَنْدُودَاء في شرق الشام لامرأة تدعى بهذا الاسم هي ابنة لخم، فكأنَّ لَخْماً الذي تنسب إليه القبيلة استقر أول ما أستقر في هذه الجهة ولما تنتقل القبيلة من الجنوب كأخواتها من القبائل اليمنية القحطانية، وينسبُ جَبَلَ البِشْرِ إلى رجل عاش في القرن الأول الهجري كان خفيراً لفارس، فقتله خالد بن الوليد، وليس مُبَرَّأً من تأثير العاطفة القبلية، ولهذا فنسبته خناصرة – من أعمال حلب – لخناصرة بن عمرو الكلبي الذي وصفه بأنه ملك الشام، تدعو للتأمل.
إن (الثَّعلبية) الماء الذي كان معروفاً في شرقي الدهناء في طريق الحج في رأي هشام بن محمد منسوبٌ لرجل من بني دُوْدَان بن أسد يقال له ثعلبة استنبط ماءها – في قصة طريفة[18].(107/9)
وجبل (ثور) في أسفل مكة المكرمة منسوب إلى ثور بن عبد مناة بن أُدِّ بن طابخة بن الياس بن مضر.
و(هَجَرُ) – الاسم الذي لا يزال يطلق على الأحساء – سميت عينُها بهجر بنت المكفف، من العرب المتعرية، وكان زوجها مُحَلَّمَ بنَ عبدالله، صاحب النهر الذي بالبحرين، يقال له نهر محلّم، وعين محلم[19].
و(ضَرِيَّةُ) الماء الذي أصبح قرية، في عالية نجد، سُمَّىَ بضرية بنت نزار، وهي أم عمران بن الحاف بن قضاعة، – والقاريء يدرك أن قبيلة كلب من قضاعة – أما الذي قد لا يدركه كل قاريء فهي المزية الخاصة بهذا الموضع عند الأخباريين، فقد رووا أن الله خلق جُؤَجُؤَ آدم من كثيب ضرية – ولعل هذا والله أعلم لنقاء تربة هذا الكثيب وصفائها من الشوائب!!
ويقرب من هذا قول صاحب ((معجم البلدان)) عن دَحْنا – أو دَجْنا الموضع المعروف بين مكة والطائف: دَحْنا أَرْضُ خلق الله منها آدم. ولعله تأثر بالحديث المنسوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم إن الله استخرج ذريَّة آدم من ظهره بِدَحنا – أو بنعمان الوادي القريب من دَحْنا – على ما ذكر الطبري في تفسير الآية الـ(172) من سورة الأعراف في تفسيره، وفي ذكر خلق آدم من تاريخه. ويبقى البحث عن وجه تخصيص هذا الموضوع بهذه المزِيَّة!!
5 – ويُجُرُّ ذكر آدم للإشارة إلى رفع نسبة كثير من المواضع التي ينظر إليها نظرة احترام أو تقديس إلى أبي البشر، فجبل (أبي قُبيس) المطل على الكعبة المشرفة، كنَّاه آدم عليه السلام بهذه الكنية – فيما ذكر هشام – حين اقتبس منه هذه النار التي بأيدي الناس اليوم، من مرختين نزلتا من السماء على أبي قُبَيس، فاحتكَّتَا فَأَوْرَتَا ناراً، فاقتبس منها آدم.
ولا داعي للإطالة بذكر أمثلة من هذا القبيل، تتعلق بتعليل أسماء مِنَى، وجَمْعٍ (مزدلفة) وعرفة[20]، وأمثالها من الأمكنة التي لها منزلة في النفوس، مما كان مروياً عن هشام أو عن علماء ساروا على نهجه.(107/10)
كما لا داعي للاسترسال في ذكر أقوال كثير من العلماء يظهر أنهم تأثروا بابن الكلبي أو من سار على نهجه أو أنهم اقتبسوا من مصادر ذات صلة بالكتب القديمة المحرفة كـ((العهد القديم)) وغيره.
ومجمل القول أن المتتبع لأقوال الذين تصدَّوْا لتعليل أسماء الأماكن العربية من الأخباريين ومن سار على نهجهم من المؤرخين يجد ذلك من شاكلة ما سلف إيراده.
أراني قد أَطلتُ السياحة في هذا الكتاب القيم، فأبعدتُّ النَّجْعَةَ عما أردتُّ قصده، ولكن لا يفوتني أن أقرر بأن كلَّ ما ذكرته عن ابن الكلبي أو غيره من العلماء الذين ساروا على نهجه – وما أكثرهم!! على تلك الطريقة من تعليل أسماء الأمكنة القديمة، لم أَرِدْ منه إلا تنبيه الأذهان إلى ضرورة التعمق بدراسة معاني أسماء المدن والمواضع القديمة في هذا العصر، الذي توافرت فيه وسائل المعروفة، وتنوعت، وأصبح لعلم الآثار منزلته في الدراسات الجغرافية والتاريخية مما لم يتهيأ لأولئك العلماء.
وليس من شك بارتباط أسماء المواضع بساكنيها الأقدمين، ارتباطاً ذا أثر لاحظه المتقدمون، ولكنهم توسعوا فيه وبنوا كثيراً منه على استنتاجات قد لا نجد لها أساساً تاريخياً، ولا ينفي هذا أن جل أسماء الأعلام في اللغة العربية سواءاً كانت أسماء مواضع أو أسماء أشخاص ذات اشتقاق لغوي من مصادر عربية، لوحظ في وضعها اتصاف الشخص أو الموضع بصفة مشتقة من مصدر اسمه، وهذا من الأمور البدهية، كما أن كثيراً من المواضع سميت بأسماءِ سكانها سواءاً كانت قديمة أو حديثة، إلا أن أسماء المواضع القديمة حين يتجه لدراستها ذوو الاختصاص من علماء الآثار والتاريخ القديم واللغويين، لا شك أنهم سيضيفون إلى ما أُثِرَ عن متقدمي العلماء في هذا الجانب المهم ما يمد ثقافتنا بروافد جديدة تقوم على أسس صحيحة من المعرفة.(107/11)
ولقد تمنيت قبل خمسة وثلاثين عاماً حين رأيت الأستاذ الشيخ عبدالله العلايلي في كتابه ((المعجم)) يتعرض لبعض تعليل أسماء المواضع بطريقة فيها من الجدة والطرافة ما ينأى بها عما عُرِفَ عن متقدمي العلماء تمنيت أن يتسع هذا الاتجاه فيقوم على أسس من الدراسات العميقة الشاملة التي لا ترتكز على الخيال فحسب، ومن أمثلة محاولة الشيخ العلايلي تعليل الأسماء قوله[21]: "واصل الْجَذْر (ابَنَ) تُرَّهِيٌّ (ميثولوجي) ومن البقايا الأثرية الدالة (الأبانان) وهما جبلان مُحَدَّدَا الرأس كالسِّنان، أحدهما أسود، والآخر أبيض، يمرُّ بينهما وادي الرُّمَةِ، وهو قاع عظيم، تنصب فيه جماعة أودية، وللعرب – كغيرهم كما هو معروف – بإجراء حكايات حول الأماكن والبقاع ذوات الصفة الفريدة، فيغلب في تقديري – من وراء هذه التسميات وتحليلها – أنَّ الجبلين يرمزان في الخيال العربي الأُسْطوري إلى الليل بالجبل الأسود، وإلى النهار بالجبل الأبيض، ومن بينهما وادي الرُّمَةِ الذي يرمز إلى مسرح الحياة، الماثل وشيكاً إلى مسرح صِنْوِهِ، تمشي الرمم فيه مَشْيَ السَّيْلِ، وكأن (لَمرِّ الغداةِ وكَرِّ العشيِّ) في تصور العربي شكلَ الطاحونة الرهيبة الدائرة بالموت على الحياة في غير انقطاع أو توقف. وهذا التصور نجدُ له نظيراً عند الإغريق في حكاية ربة الليل". انتهى.
أنا حقًّا لا أرتاح إلى التوغل في الخيال بتلك الصورة التي عبر عنها الشيخ العلايلي، بل لا أرى للخيال مدخلاً للدراسات التاريخية والجغرافية، ولكنني أُعْجبت بهذا الاتجاه الجديد، لأنه يعبر عن شدة الحاجة إلى تغيير ما رسخ في الأذهان من معلومات تلقيناها عن اطمئنان وثقة، وحسن ظن بسلفنا الصالح دون الاتجاه للبحث عن حقائقها اتجاهاً لا يقصد منه هضم حق أولئك السلف ولا انتقاصهم.(107/12)
وإنما يراد منها سلوك النهج العلمي الذي يفضي بالباحث إلى إدراك الحقائق الثابتة بيقينٍ واطمئنان، وإن كان أكثر ما توارثناه من معلومات عن ماضينا البعيد قد تراكم عليه غبار الزمن بصورة حجبت حقيقته.
وأَجتزيء القول بعرض عشرة أسماء من مئات أسماء المدن والمواضع القديمة التي استعصى عليَّ فَهْمُ معانيها واستغلق إدراك الأصول اللغوية التي اشْتُقَّتْ منها.
وما أسعدني حين أرى اتجاه طلاب المعرفة من أبنائنا إلى التعمق في دراسة ما يتصل ببلادنا وبحياتنا.
1 – أبها (قاعدة بلاد عسير):
لم يرد اسم هذه البلدة فيما اطلعت عليه من المؤلفات المشهورة، التي تعرضت للحديث عن عمران المدن، وتحديد مواقع المواضع، باعتبارها من المدن القديمة، وعدم ورود اسمها لا ينفي قِدَمَها.
ولعلَّ أقدم نصٍّ ورد فيه ذكرها – على ما أعلم – هو ما جاء في كتاب ((صفة جزيرة العرب))[22] للحسن بن أحمد الهمداني – الذي عاش عشرين عاماً من آخر القرن الثالث الهجري وبقية حياته في القرن الرابع – وهو نصٌّ يدل على قدم تلك البلدة – ففي الحديث عن (جُرَش وأحوازها) قال[23]: ويصالي قَصَبة جُرَش أوطانُ حَزِيمة من عَنْز، ثم يواطن حزيمة من شاميها عسير، قبائل من عنز، وعسير يمانية تَنَزَّرَتْ، ودخلتْ في عنز، فأوطان عسير إلى رأس تَيَّة، وهي عقبة من أشراف تهامة، وهي أبها، وبها قبر ذِي القرنين – فيما يقال – عُثِر عليه على رأس ثلاث مئة من الهجرة.
وأعاد ذكرها بقوله[24]: والدَّارة وأبها، والحللة والفتيحا، فَحَمَرة وطَبَب، فأتانة والمغْوَث فجرشة، فالأيداع، أوطان عسير من عنز، وتسمى هذه أرض طود. انتهى.
ولو عرف ياقوت الحموي – صاحب ((معجم البلدان)) اسم (أبها) – لما أعياه تعليله، فمادة (بهو) في الفصحى ذات مدلولات واسعة، واستعمالات كثيرة، ويبقى الاطمئنان بذلك التعليل.(107/13)
وقد لفت نظري الأستاذ محمد بن عبدالله بن حُمَيّد رئيس النادي الأدبي في أبها إذ نشر في ((المجلة العربية))[25] كلمة استوضح فيها عما ورد في كتاب ((كنوز مدينة بقليس))[26] تأليف وندل قيلبس منسوباً إلى سفر (أشعيا) من كتاب ((العهد القديم)) من (أن الهجن من مدينة إيفا (أبها) ستأتي جميعها من سبإ، وستجلب الذهب والبخور) إلى آخر ما ذكر، ويستوضح الأستاذ محمد: هل حقًّا كانت أبها تعرف باسم (إيفا) في الزمن القديم؟ وهل كانت مَعْبراً للرحلات التجارية وقت ازدهار حضارة سبإ ومعين وما تلاها من عصور جاهلية قبل الإسلام؟
ومع أنني ليس لي من الاطلاع على الكتاب الذي نقل عنه وندل فيلبس النصَّ ما يمكنني من أن تكون إجابتي مبنية على أسس قوية من المعرفة إلا أن تلك العبارة – كما يظهر قد تصرف المعرب فيها تصرفاً زاد اضطرابها – ونصها – كما في ((سفر اشعيا)) – 60/6 –: تغطيك كثرة الجمال – بكران – مديان وعيفة، كلها تأتي من شبا تحمل ذهباً ولباناً. ومع غموض العبارة إلا أن الاسم اتضح مغايراً لما في تعريب كلام وندل فيلبس، فهو في مصدره (عيفة) لا (إيفا) ثم قرأت في ((سفر التكوين)) نصًّا صريحاً هو كما في ((الاصحاح)) – 25/4 – حيث ذكر أبناء مديان وأنهم: عيفة وعفر وحنوك وأبيداع والدعة. وهذا النص يبطل ما توهمه (فيلبس) من أن (عيفة) هي أبها، وبصرف النظر عن التحريف الواقع في أسفار التوراة جميعها إلا أن (أبها) لا تقع في أحد الطرق الموصلة إلى شمال الجزيرة من بلاد سبإ، لارتفاعها عن الطريق العام المار بِجُرَش، وعن الطريق التهامي – وقد فصلت هذا في كلمة نشرت في إحدى الصحف، [وانظر ((العرب)) 525] وما أريد الوصول إليه هو أن اسم (أبها) من الأسماء التي لم يتضح لي معناها.
2 – تُنْغَةُ (في منطقة حائل):(107/14)
يصف متقدمو العلماء هذه المنطقة في العهود السابقة لتدوين التاريخ على ما وصل إليهم من الأخبار المتناقلة بأنها بلاد واسعة، كثيرة المياه والشجر والنخيل والريف، تسكنها بقايا من أمم بائدة كصحار وجديس[27]، فانتقلت إليها قبيلة طيء اليمنية القحطانية من وادي طرِيب – في منطقة عسير – فاستوطنتها قبل ظهور الإسلام.
وقد بقيت تلك القبيلة في هذه البلاد، حتى العصر الحاضر، حيث عرفت قديماً باسم جبلي طيء، وحديثاً بـ(جبل شَمَّر) وشمر اسم فرع صغير من فروع القبيلة طغى على أكثر الفروع.
ومن أبرز مواطن الاستقرار المعروفة قديماً في هذه المنطقة (تُنْغَة) – بعد التاء المثناة الفوقية المضمومة نون ساكنة فغين معجمة مفتوحة فهاء تنطق تاء في حالة الوصل –.
وقد عرفت تنغة بأن حاتماً الطائي قُبر فيها، وكانت تقع في موضع حصين من جبل أجإ، فقد أراد المحرق أحد ملوك الشام من آل جفنة أن يدين له حاتم فامتنع، فأقسم الملك: لَيَقْدِمَنَّ عليه قريته، ثم ليجللن مواسلاً – الرِّبَطَ[28] مصبوغات بالزيت، ثم ليشعلنَّها بالنار، ولكنه حُذِّر من ذلك وقيل له: إنْ تقدم القريةَ تهلِكْ، فانصرف[29].
وقد عرفت باسم القُرَيَّة فقال امرؤ القيس:
تَبِيتُ لبونِي بالْقُرَيَّةِ أُمَّناً وأَسْرَحُهَا غِبًّا بِأَكْنَافِ حَائِلِ
وكذا في صدر الإسلام، فقد اعترض أهلها للحسين بن علي أثناء توجهه إلى العراق[30]، فعرضوا عليه أن يقيم عندهم، وقال له الطَّرِمَّاحُ بن عَدِي الطائي: إنْ أردت أن تنزل بلداً يمنعك الله به فَسِرْ حتى أُنْزِلَكَ مَنَاعِ جَبَلَنا الذي يُدْعى أَجَإ امتنعنا به والله من ملوك غسان وحمير، ومن النعمان بن المنذر، ومن الأسود والأحمر، والله إن دخل علينا ذلٌّ قط، فأسير معك حتى أنزلك القُرَيَّة، ثم أَقِمْ فينا ما بدا لك، فأنا زعيم لك بعشرين ألف طائيٍّ يضربون بين يديك بأسيافهم، والله لا يوصل إليك.(107/15)
ويظهر أن (القرية) أصبح علماً بدل (تنغة) لغرابة هذا الاسم، وصعوبة نطقه، كما في شعر امريء القيس، ولقربه من الوادي الذي كان معروفاً باسم حائل كان يضاف إليه، لتمييزه عن قريات أخرى متعددة، ويبقى البحث في أصل الاسم القديم وهذا ما لم يتعرض له من عرفتُ من المتقدمين كنصر بن عبدالرحمن الاسكندري – مصدر ياقوت ومن جاء بعده كصاحب ((تاج العروس)) بل وقع من بعضهم اختلافٌ في ضبطه، هل هو بالغين المعجمة أم بالعين المهملة، وصحح صاحب ((التاج)) الأول، وخطأ صاحب ((القاموس)) واطلاق الاسم على موضع في حضرموت، ثم نسبة ذلك الموضع إلى شخص ذي عقب معروف النسبة[31] يوحي بأنه قد يكون ذَا صلة بلغةِ اليمنيين القدماء الذين ترجع إليهم قبيلة طيء في عصورها القديمة، وهناك أسماء مواضع في هذه المنطقة لا يرتاح الباحث لما يورده اللغويون عن اشتقاقها مثل: مَوْقَق، وغَضْوَر، ورَمَّان، وأجأ، وغيرها.
3 – تيماء:
ويحاول اللغويون إيجادَ صلة بين اسم تيماء البلدة هذه وبين مادة (ت.ى.م) في اللغة العربية الفصيحة، فيقول الأزهري: المتيَّمُ المضلل، ومنه قيل للفلاة تيماء لأنها يُضَلُّ فيها، وقال الأصمعي: التيماء الأرض التي لا ماء فيها، وقد يكون لهذا أصل من الناحية اللغوية، ولكن البلدة كانت معروفة قبل بَدْءِ تدوين اللغة العربية بأحقاب طويلة، فقد ذكرت في ((التوراة))[32] وفي أخبار حروب موسى – عليه السلام – للعمالقة[33].
ولكن الذي لا شك فيه أن نصوص التوراة التي وصلت إلينا محرقة، ولا يمكن الاطمئنان إلا إلى ما ثبتت لدينا صحته من قبل علماء ذوي اختصاص بالدراسات الأثرية واللغوية.
4 – جُرَشُ (قاعدة بلاد الأزد في صدر الإسلام):(107/16)
وفي منطقة عسير عرفت هذه المدينة في العهد الجاهلي ثم في صدر الإسلام، وصفها متقدمو المؤرخين بأنها مدينة عظيمة حصينة وولاية واسعة[34] ذات صناعة وزراعة، فقد أرسل أهل الطائف إليها من يتعلم صناعة المجانيق حين علموا أن الرسول صلى الله عليه وسلم عزم على غزوهم، وعُرِف بها نوع من أجود أنواع العنب يدعى (الجُرشي) وبجودة أُدُمِها.
وقد فتحت مدينة جرش في العهد النبويِّ صُلْحاً، وقدم وفد من أهلها على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلموا فقال لهم – فيما يرويه ابن سعد وغيره من أصحاب السير –: ((مرحباً بكم أحسن الناس وجوهاً، وأصدقه لقاء، وأطيبه كلاماً، وأعظمه أمانة، أنتم مني وأنا منكم)) وجعل شعارهم (مبروراً) وحمى لهم حول قريتهم. وبقيت معروفة في صدر الإسلام، حيث نسب إليها – في من نسب – السيدة الخيزران، زوجة الخليفة المهدي وأم ولده وصاحبة الآثار العمرانية في طريق الحج العراقي، وفي مكة حيث عمرت دار الأرقم التي كان يجتمع فيها المسلمون بالرسول صلى الله عليه وسلم في أول الإسلام، فعرفت الدار بها، وتوفيت سنة 173هـ[35].
وبقيت المدينة معروفة حتى القرن الرابع الهجري حيث وصفها الهمداني[36] بأنها كورة نجد العليا، واعتبرها قاعدة لما حولها من الأودية والقرى، يضيفها في التحديد إليها، ولكنها اختفت من الوجود في عصر متأخر مجهول، وانتقل سكانها المعروفون باسم (العواسج) إلى ثِنْيٍ من أثناء وادِي بيشة عرف باسم (وادي ابن هشبل).
ويرى أحد المتأخرين من الباحثين[37] أن زوال تلك المدينة بسبب ثورة بركان كان بقربها يعرب باسم (حَمُومة) حيث تبدو صخور تلك الأكمة سوداء، كأنها مصهورة، ومن ذلك اشتق اسم (حمومة) فهو كما قال الهمداني[38]: وجُرَشُ في قاع ولها أشرافٌ غربية منها تنحدر مياهها في مسيل يمر في شرقيها، وبينها وبين حَمومة ناصية تسمى الأكمة السوداء – حمومة وحمة وكولة –.(107/17)
ولا تزال آثار جرش معروفة جنوب شرق مدينة خميس مشيط بنحو خمسة عشر كيلاً[39]، أما اسم جُرَش الذي عُرِفتْ به المدينةُ فليس من المستبعد أن يكون اسم أول من سكنها، ككثير من المدن والأودية الواقعة في جنوب الجزيرة.
ولكن الطريف في ذلك ما جاء في كتاب ((أنساب البلدان)) لهشام بن الكلبي – كما نقل ياقوت[40]: جرش قبائل من أفناء الناس تَجَرَّشُوا، وكان الذي جرَّشَهُمْ رجل من حِمْيَرَ يقال له زيد بن أسلم، خرج بثور له عليه حمل شعير، في يوم شديد الحر، فشرد الثور، فطلبه فاشتد تعبه، فحلف لئن ظفر به ليذبحه، ثم ليجرشَنَّ الشعيرَ ولَيَدْعُوَنَّ على لحمه، فأدركه بذات القصص عند قلعة جراش، وكل من أجابه وأكل معه يومئذ كان جرشياً!!
ومع سذاجة هذا التعليل فإنه لا ينطبق على الواقع من حيث موقع جُرَش، فذات القصص – وهي جبال لا تزال معروفة تبعد عن جُرش جنوباً شرقياً بما يزيد على مئة كيل، وهي في أعالي وادي طريب[41]، ولكن أبا المنذر – والله يعفو عنه – يأتي بالعجائب الغرائب – ولعل منها ما ذكر في تعليل جَرَش – بفتح الجيم – الموضع الأثري القديم في الشام (الأردن) فقد نسبه لرجل يدعى جرش بن عبدالله، وصل نسبه بقبيلته كلب.
5 – حَجْرُ (قاعدة بلاد اليمامة):
المدينة التي قامت الرياض على انقاضها[42]، لقد كانت من أقدم المدن في قلب الجزيرة، وكانت تعرف باسم الخضراء خضراء حَجْرٍ، وهي حاضرة قبيلة طَسْمٍ، والخِضْرِمَةُ في الْخَرْجِ حاضرة جَدِيْسَ[43]، والقبيلتان من الأمم البائدة.
وبعد أن خلفتهما قبيلة بني حنيفة بقيت حَجْرُ قصبةَ اليمامة، ثم أصبحت في صدر الإسلام سُرَّة اليمامة، ومنزل السلطان والجماعة، ومنبرها أحد المنابر الأولية: مكة والمدينة واليمن ودمشق واليمامة والبحرين والكوفة، وجلُّ أهلها بنو عبيد من بني حنيفة، وبها من كل القبائل[44].(107/18)
ويعلل متقدمو العلماء اسم حَجْرٍ بأن عُبَيْدَ بن ثعلبة سيدَ بني حنيفة عثر على القصور والحصون، وحدائق الأشجار والنخيل، خالية بعد فناء طَسْم وجَدِيْسَ، فاحتجر ثلاثين قصراً، وثلاثين حديقة، وسماها حَجْراً ومنع النزول فيها إلا لمن كان من ولده لصلبه – في قصة طويلة معروفة[45] – إلا أن هذا التعليل أقرب إلى الخرافة منه إلى الواقع، فاسم (حجر) كان معروفاً في عهد طسم قبل سكنى بني حنيفة لهذه البلاد، الذي لا يسبق زمن ظهور الإسلام بأكثر من قرنين – في القرن الخامس الميلادي[46]، وكلمة (هجر) على ما ذكر بعض العلماء يقصد بها البلدة بلغة العرب العاربة فمنها هجر البحرين وهجر نجران، وهجر جازان[47]، وكل بلد تمتاره البادية فهو هجرهم[48]، والهاء والحاء حرفان حَلْقِيَّان يتعاقبان في كثير من الكلمات، وقد يقال: بأن المتكلم يؤثر التسهيل عند الإبدال وحرف الهاء في النطق أسهل من حرف الحاء، وهذا صحيح ولكن ليس قاعدة مطردة.
6 – خيبر:
اسم الواحة المعروفة الواقعة في الحرة المعروفة بها في الشمال الشرقي من المدينة المنورة، وقد اختلف المتقدمون في تعليل هذا الاسم فمنهم من يرى اشتقاقه من قولهم أرض خبرة أي طيبة الطين سهلة[49]، ومنهم من زعم أنه اسم رجل من العماليق هو أول من نزل هذه البلاد، وهو خيبر بن قانية بن عبيل بن مهلائل بن ارم[50]، وهناك من يرى أن الكلمة عبرية تعني الحصن، ولاشتمال هذه البلاد على حصون سموها (خيابر) واحدها خيبر، ويؤيد هذا بعض الباحثين في عصرنا.(107/19)
وأرى أن اسم (خيبر) من الأسماء الموغلة في القدم، ولما جهل اللغويون معناه تكلفوا لتأويله مختلفَ الأقاويل كعادتهم في أسماء المواضع القديمة، أما القول بأنه مأخوذ من لسان اليهود، وأن الخيابر فيه هي الحصون، فمن المعروف أن بلاد خيبر كانت معروفة قبل سكنى اليهود، ويمكن القول بأن كلمة (خيبر) مما وافقت فيه اللغة العبرية اللغة العربية، أو أن لهذه الكلمة من المعاني ما لم يدون في الكتب اللغوية التي وصلت إلينا كأسماء مواضع أخرى في هذه المنطقة، منها ما حاول المتقدمون تعليله، ومنها ما اعتبروه جامِداً مثل: (فدك) الواحة الواقعة شرق خيبر في حرَّتها، والمعروفة الآن باسم (الحائط) و(يَدِيع) الواحة الواقعة جنوب (فدك) والتي تعرف باسم (الحُوَيِّط).
و(ضَرْغد) البلد الواقع شرق (فدك).
وأكثر أسماء حصون خيبر القديمة.
7 – دَوْمة الجندل (قاعدة بلاد الجوف قديماً):(107/20)
اسم قاعدة إقليم الجوف حتى عام 1370هـ – وينطق بضم الدال وفتحها، وقد يقال دوماء الجندل[51]، وأصل هذا ما ورد عن ابن الكلبي: لما كثر ولد إسماعيل – عليه السلام – بتهامة خرج دَوماءُ بن إسماعيل حتى نزل موضع دومة، وبنى فيه حصناً، فقيل: دوماء، ونسب الحصن إليه مع الإختلاف في اسم ابن إسماعيل هذا هل هو دوماء أو دوم، أو دماً. ولكن الحمويَّ وقد ذكر كلام ابن الكلبي يورد خبراً يدل على تأخر حدوث التسمية عن عصر إسماعيل فيذكر أنه الأكيدر الملك الكندي كان منزله أولاً بالحيرة – في العراق – وكان يزور أخواله من قبيلة كلب، ويخرج معهم إلى الصيد، فعثروا على مدينة متهدمة لم يبق إلاَّ حيطانها، وهي مبنية بالجندل – الحجر – فأعادُوا بناءها، وغرسوا بها الزيتون وغيره، وسموها دومة الجندل، تفريقاً بينها وبين دومة الحيرة، والأكيدر أدرك ظهور الإسلام، وأجلاه عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – إلى الحيرة، وياقوت نفسه فاته أنه ذكر أنَّ إنشاء دومة الحيرة كان بعد إجلاء الأكيدر من دومة الجندل، إذ قال: دوماً بالكوفة، والنجف محلها، ويقال: اسمها دومة لأن عمر لما أجلى أكيدر دومة – صاحب دومة الجندل – قدم الحيرة فبنى بها حصناً، وسماه دومة أيضاً. ثم ذكر دومةَ من قرى غُوطة دمشق، المعروفة الآن والتي ينطق اسمها (دوماً)[52].
والواقع أن دومة الجندل من أقدم المدن عهداً، فقد ورد اسمها في ((التوراة))[53] وذكرت في الكتابات الأشورية باسم (ادومانو) وأن الملك الأشوري سَنْحَرِيب استولى عليها، وأسر ملكتها سنة 688[54] قبل الميلاد، ولقدم هذه المدينة تخبط المتقدمون في تعليل اسمها كأمثالها. وبقربها مواضع لا يجد الباحث لأسمائها في المؤلفات اللغوية ما يطمئن إليه في فهمها، وهي بدون شك مقتبسة من جذور لغوية لا تزال مجهولة.
ومنها سكاكة – اسم المدينة الثانية التي أصبحت قاعدة المنطقة منذ عام 1370هـ.(107/21)
وقارا – التي تنطق الآن القارة – ويطلق الاسم على بلدة في سورية.
وزعبل: اسم تل عظيم على مقربة من مدينة سكاكا – كان حصيناً، أو معبداً[55].
8 – مكة المكرمة:
البلدة التي قدسها الله بأن وضع فيها البيت العتيق، الذي جعل حجه أحدَ الأركان التي يقوم عليها الدين الإسلامي {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}[56] وشرفها بأن ذكرها في كتابه الكريم بأسماء متعددة، فلا غرو أن يحاول علماء اللغة – ما استطاعوا – في اختيار المعاني الملائمة لتلك الأسماء، بتأثير عواطف دينية سامية كقولهم:
1 - سميت مكة: من المُكَاكَةِ وهي اللُّبُّ والمخ الذي وسط العظم، سميت لأنها وسط الدنيا، ولُبُّها، وخالصها.
2 - سميت مكة: لأنها تنقص الذنوب وتنفيها.
3 - سميت مكة: لأنها تهلك من ظلم فيها.
4 - سميت مكة: لأنهم يمتكُّون الماء فيها – أي يستخرجونه –.
5 - سميت مكة: لأنها تجذب الناس إليها، والملك الجذب.
6 - سميت مكة: لأنها تمكُّ الجبارين – أي تُذْهِبُ نخوتهم –.
7 - سميت مكة: لاِزْدحام الناس بها، من قولهم: امتكَّ الفصيلُ ضَرْعَ أُمِّهِ إذا مَصَّهُ مَصًّا شديداً.
8 - سميت مكة: لأن العرب تَمُكُّ عند الكعبة – أي تُصْفِرُ صَفِير المُكَّاءِ الطائر المعروف – مع تصفيق بالأيدي في الطواف.
9 - سميت مكة: لأنها بين جبلين مرتفعين عليها، وهي في هَبْطَةٍ شبه المَكُّوكِ – وهو إناء معروف –.
10 - سميت مكة: لأنه لا يفجر فيها أَحَدٌ إلاَّ بُكَّتْ عنقه، فكان يصبح وقد التوت.
إلى أقوال أخرى لا تخرج عن هذه المعاني.(107/22)
وللمعاصرين من الباحثين من المستشرقين وغيرهم حول هذا الاسم من الأقوال ماهو أقرب إلى الخيال، ولعل من أطرفها رأيٌ لكاتب عراقي في بحث له عن مكة بعنوان (مكة وحمورابى)[57] حيث حاول إيجاد صلة بين (بكا BAGA ) إله بابلي كان معروفاً في القرن الثامن عشر قبل الميلاد، ومنه أُخِذَ اسم الإله الكنعاني (بَعْلَبَكَّ) ثم يخلص إلى القول بأنه يخمن أن (بك) أطلق أولاً على مكان المعبود في مكة، ولما كانت أسماء المواضع تؤنث أضيفت إليه علامة التأنيث، فصار (بكة)، ثم عرفت باسم مكة.
وكذلك اختلفوا في معنى اسم (بكة) من أسماء هذه المدينة الكريمة، ورد في القرآن الكريم {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ}[58] فبينما يرى بعض اللغويين أن الميم أبدلت باء، يرى آخرون تغايراً في المعنى بين الاسمين، ومن أمثلة الاختلاف:
1 - سميت بكة لأنها تبك أعناق الجبابرة.
2 - بكة اسم لبطن مكة لأنهم يتباكَّوْنَ فيه – أي يزدحمون –.
3 - بكة موضع القرية، ومكة موضع البيت.
4 - بكة الكعبة والمسجد، ومكة ذُو طوَى، وهو بطن مكة المذكور في الآية الكريمة من سورة الفتح.
ولعل أعدل الأقوال في هذا ما روي عن عالم مكة الإمام التابعي الجليل مجاهد ابن جبر من أن الميم يتعاقبان، وبه قال الإمام اللغوي ابن قتيبة[59] وغيره.
9 – وَجُّ (الطائف):
هناك ترادف بين كلمتي (وج) و(الطائف) في نصوص المتقدمين، بينما المعروف الآن إطلاق اسم (وج) على الوادي الذي يخترق مدينة الطائف، منحدراً من المرتفعات الواقعة جنوب غرب المدينة حول قرية (الوهط) متجهاً صوب الشمال الشرقي حيث يُدْعَى أسفله (العَرْج)، ثم يفيض في الأرض البراح.(107/23)
ومن ذلك الترادف قول ياقوت في ((معجم البلدان)): الطائف هو وادي وَج، وهو بلاد ثقيف[60]. وقوله – في موضع آخر –: في تفسير الخبر المنسوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم[61] –: آخر وطأة لله يوم وج، وهو الطائف، وغزوة الطائف آخر غزوات النبي صلى الله عليه وسلم، ولصاحب ((القاموس المحيط))[62] حول هذا القول اعتراض ليس هذا محل ذكره.
ويتضح مما أورده متقدمو العلماء من أخبار عمران الطائف قدم تسمية الموضع باسم وج، لنسبة هذا الإسم إلى العمالقة – إحدى الأمم المجهول عصرها – بخلاف اسم الطائف المنسوب حدوثه لمن عاش قبيل الإسلام بزمن يسير[63].
فما أصل تسمية ذلك البلد؟ يلجأ المتقدمون لبيان مثل هذا إلى ما يتناقله القصاصون من أخبار الأمم التي عاشت في الجزيرة في عصورها الأولى – ولا ملجأ لهم غير ذلك – فيجدون من الأسماء الشائعة بين تلك الأمم ما يتفق مع أسماء المواضع التي هم بحاجة إلى معرفة أصولها، فيرجعونها إليها، وليروح القاريء عن نفسه، هاهو أشهر أقوال رواة الأخبار منهم:
سُمِّيَ وَجُّ (الطائف) بِوجِّ بن عبدالحق من العمالقة (العماليق) وهو أخو (أجإ) الذي سمي به جبل طيء، وهو من الأمم البائدة[64].(107/24)
ولهذه الصلة بين اسم هذا الوادي الواقع في غرب الجزيرة وبين اسم ذلك الجبل المعروف الواقع في شمالها ما يربط الاسمين بأسماء مواضع أخرى هناك، لا يتورع ياقوت – أمطر الله على قبره شآبيب الرحمة والغفران – من نسبته إلى (العلماء بأخبار العرب) بدون تسمية أحد منهم، وهو لا يخرج عما هو معروف عن أبي المنذر هشام بن محمد بن السائب الكلبي في أحد كتابيه ((اشتقاق البلدان)) أو ((انساب البلدان)): ذكر العلماء بأخبار العرب[65] أن أجأ سمي باسم رجل وسمي سملى باسم امرأة، وكان من خبرهما أن رجلاً من العماليق يقال له أجأ بن عبدالحي عشق امرأة من قومه يقال لها سلمى، فكانا يجتمعان في منزل العوجاء حاضنة سَلْمَى، حتى علم بها اخوة سلمى وهم الغميم والمضل وفدك وفائد والحدثان، فخافت سَلْمَى وهربت هي وأجا والعوجاء، وتبعهم اخوتها فلحقوا سلمى على الجبل المسمى سلمى فقتلوها هناك فسمي الجبل باسمها، ولحقوا العوجاء على هضبة بين الجبلين فقتلوها هناك فسمي المكان بها ولحقوا أجأ بالجبل المسمى بأجإ فقتلوه فيه فسمي به، وأنفوا أن يرجعوا إلى قومهم فسار كل واحد إلى مكان فأقام به فسمي ذلك المكان باسمه[66] – وتقدم الخبر –.
10 – يَثْرب (المدينة المنورة):
من أسماء المدينة الشريفة طيبة الطيبة، الكثيرة الأسماء، مما يدل على شرف المسمى، وقد ورد في القرآن الكريم حكاية عن المنافقين في غزوة الأحزاب في التحريض على الانصراف عن القتال مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين: {وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَاأَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا}[67] ووردت آثار في النهي عن تسميتها بهذا الاسم[68].(107/25)
ويختلف المتقدمون من اللغويين وغيرهم في معنى هذا الاسم وأن يتفقوا على قدمه، ونسبته إلى إحدى الأمم البائدة، ويحاول بعضهم اعتباره مشتقاً من مصدر (ثرب) أو ذا صلة به، فيورد ابن الأثير في ((النهاية)): يثرب اسم مدينة النبي صلى الله عليه وسلم قديمة، فغيرها وسماها طيبة وطابة، كراهية التثريب، وهو اللوم والتعبير – انتهى. ويلمح ياقوت تكلف اللغويين وتمحُّلَهُمْ في محاولة تعليل الأسماء ومحاولة اشتقاقها من مصادر فيقول: ولو تكلف متكلف أن يقول في (يثرب) أنه (يفعل) من قولهم لا تثريب عليكم أي لا تعيير ولا عيب، ويقال أصل التثريب الافساد – إلى آخر ما ذكر –[69].
ولا شك بأن اسم (يثرب) من الأسماء الموغلة في القدم حتى جهل أصلها فعمد أولئك العلماء إلى القول بأن أول من سكن يثرب رجل من العمالقة[70] (العماليق) وقيل من أبناء إرم – (الآراميين) هو يثرب بن قانية بن مهلائل بن إرم ابن سام بن نوح – وذلك بعد تفرق أبناء نوح.
ومن الطريف أن يحاول ابن الكلبي – فيما يروي عن شيخه الشرقي بن القُطَامي – إيجاد صلة قرابة بين يثرب الارمي وبين مواضع تقع في طريق الحج في نجد[71] فيقول: زرود، والشقرة والربذة بنات يثرب بن قانية بن مهلائل بن رخام بن عبيل أخي عوض بن إرم بن سام بن نوح – على تباعد تلك المواضع.
فزرود – من المناهل المعروفة وهي واقعة في الجانب الغربي من الدهناء شرق بلدة الأَجْفُرِ بمنطقة حائل[72] (بقرب خط الطول: 18/43° وخط العرض: 50/27°).
والشقرة – وهي أيضاً معروفة كانت من المناهل فأصبحت الآن قرية تقع غرب الحناكية (نخل قديماً) بنحو ثلاثين كيلاً، ووادي الشقرة يجتمع بوادي الحناكية في حَضَوْضَا[73].
والرَّبَذَة: الموضع الأثري المعروف في عالية نجد[74].(107/26)
ومَلْمَحُ ابن الكلبي – أو شيخه – في محاولته تلك قد يكون مبنياً على إدراك كون بني ارم (الآراميين) قد انتشروا في البلاد من أعلاها إلى أسفلها، قبل وجود القبائل العربية المعروفة أخيراً، مع جهل زمانهم وانفرادهم بلغة خاصة، منها أسماء هذه المواضع التي يحمل الجهل بمعانيها على اعتبارها أسماء جامدة، والملاحظ أن المواضع كثيراً ما تضاف إلى سكانها، ومن ثم تعلق بها أسماء أولئك السكان، وليس معنى هذا مطابقة قول ابن الكلبي – أو غيره من المتقدمين – في تعليل كل الأسماء القديمة للواقع، ولكنه محاولة لتوجيه آراء أولئك الأجلة من العلماء الذين لا يجد الباحث في هذه النواحي سوى تعليلاتهم، حتى يفتح العلم آفاقاً أخرى من المعرفة.
ـــــــــــــــــــــ
[1] مقدمة ((معجم البلدان)).
[2] ((قاموس الكتاب المقدس)) 1/36: (ا.اي: 1 – 30 حدد (حدة) أحد أولاد اسماعيل (ا.اي: (30) ويدعى أيضاً حدار (تك: 15:25). وانظر ((تاريخ العرب قبل الإسلام)). 1/292 وقد وهم مؤلفه حين قال: يعرف حدد في الكتب العربية بأدد.
[3] ((معجم البلدان)) رسم (جوف) و(دير الجماجم).
[4] ((معجم البلدان) رسم (جوف و(دير الجماجم).
[5] المصدر رسم (سواع) و(جرش).
[6] الأول طبع القسم الأول منه والثاني نقل البكري في مقدمة ((معجم ما استعجم)) وفي مواضع أخرى وكذا ياقوت فأكثر النقل.
[7] رسم (الرُّها).
[8] ((معجم البلدان)) رسم (الغريين).
[9] المصدر رسم (اران – البلقاء – الربذة – زرود – الصين – هجر).
[10] المصدر رسم (صقلب).
[11] ((الاصحاح)) 25/24 ونصه: (وهذه أسماء بني اسماعيل حسب مواليدهم: نبايوت – بكر إسماعيل – وقيدار، وإدَبْئِيل، ومِبْسَام، ومشماع، ودومة، ومسا، وحدار، وتيما، ويطُّور، ونافيش، وقدمة، وهاؤلاء بنو اسماعيل وهذه أسماؤهم بديارهم وحصونهم اثنا عشر رئيساً حسب قبائلهم).
[12] 305.
[13] وفيه ص306: عن هشام بن محمد عن أبيه سميت فيد بفائد بن حام من بني عمليق.(107/27)
[14] ((معجم البلدان)) كل اسم في موضعه من الكتاب.
[15] ((معجم البلدان)) رسم (افريقية) و(سمرقند).
[16] كتاب ((المناسك)) 441 وما بعدها.
[17] ((جمهرة أنساب العرب)) لابن حزم.
[18] ((المناسك)) 293 و((معجم البلدان)) وتجد فيه نصوص كلام ابن الكلبي عند ذكر أسماء المواضع.
[19] انظر عن (عين محلّم) قسم المنطقة الشرقية من ((معجم الجغرافي للبلاد العربية السعودية)) رسم (محلم).
[20] ((صفة جزيرة العرب)) – 387 و((معجم البلدان)).
[21] ((المعجم)) 1/47 طبعة 1373هـ (1954م).
[22] 256/257 – طبع ((دار اليمامة)) في الرياض سنة 1394هـ (1974م).
[23] 256/257 – طبع ((دار اليمامة)) في الرياض سنة 1394هـ (1974م).
[24] 256/257 – طبع ((دار اليمامة)) في الرياض سنة 1394هـ (1974م).
[25] جزء رجب 1408هـ، ص115.
[26] حـ123.
[27] ((معجم البلدان)) رسم أجا.
[28] مواسل قمة من قمم أجا مطلة على قرية حاتم، انظر (قسم شمال المملكة) من ((المعجم الجغرافي للبلاد العربية السعودية)). والرَّبَط: جمع رَبْط وهي الثياب المنسوجة شرائح.
[29] ((الأغاني)): 16/105 ط الساسي بمصر.
[30] ((تاريخ ابن جرير)) 2/304ط أوربة.
[31] ((تاريخ العروس)) تنع وتنغ.
[32] ((سفر التكوين)) 25/14 و((سفر أيوب)) 6/19 و((شمال الحجاز)) 100.
[33] ((تاريخ ابن خلدون)): 2/48 و595.
[34] ((طبقات ابن سعد)) 1/337 و((السيرة النبوية)) لابن هشام 4/232 و((تاريخ ابن جرير)) 1/729 و((معجم البلدان)) و((تاج العروس)) رسم (جرش).
[35] ((تاريخ بغداد)) 14/431.
[36] ((صفة جزيرة العرب)) 255.
[37] مذكرات سليمان شفيق باشا مجلة ((العرب)) س6، ص706.
[38] ((صفة جزيرة العرب)) 256.
[39] في مجلة ((العرب)) س6، ص241/247 – بحث مفصل عن موقع جرش للأستاذ الشيخ سعيد بن عياش الغامدي رئيس محكمة خميس مشيط.
[40] ((معجم البلدان)) رسم (جرش).
[41] ((صفة جزيرة العرب)) 253 ومجلة ((العرب)) س18، ص90.(107/28)
[42] قرأت في أحد المؤلفات الحديثة أن الرياض كانت حمة لخيل الامير مقرن بن أجود الجبري في القرن العاشر وكانت تسمى (رياض مقرن) ثم عرفت فيما بعد باسم (الرياض) ولا أدري من أي مصدر هذا إلا أن وجود قصر قديم عرف اسم (مقرن) قد يؤيد ذلك القول.
[43] ((صفة جزيرة العرب)) 284.
[44] ((بلاد العرب)).
[45] ((معجم البلدان)) رسم (حجر).
[46] ((مدينة الرياض عبر أطوار التاريخ)) 41.
[47] ((صفة جزيرة العرب)) 170.
[48] ((أبو علي الهجري)) 386.
[49] ((جمهرة اللغة)) 3/356 لابن دريد.
[50] ((معجم البلدان)) و((معجم ما استعجم)) و((تاج العروس)) رسم (خيبر).
[51] ((في شمال غرب الجزيرة)) 528.
[52] ((معجم البلدان)) رسم (دومة).
[53] ((سفر التكوين)) 25/214 و((سفر اشعيا)) 21/11.
[54] ((لمحات عن بعض المدن القديمة)) للدكتور عبدالرحمن الأنصاري، مجلة ((الدارة)) ج1، ص82 ففي ((سفر التكوين)) الاصحام الـ25.
[55] ((في شمال غرب الجزيرة)) 147.
[56] سورة آل عمران الآية 97.
[57] كتاب ((تاريخهم من لغتهم)) عبدالحق فاضل. 7/21 وزارة الإعلام العراقية سلسلة دراسات (177) سنة 1977م.
[58] سورة آل عمران الآية 97.
[59] ((معجم البلدان)) رسم (بكة).
[60] ((تاج العروس)) رسم (بك).
[61] رسم (الطائف).
[62] رسم (وج).
[63] انظر الخبر مفصلاً في المؤلفات المخصصة لتاريخ الطائف لابن فهد والعجيمي والفاكهي.
[64] ((معجم البلدان)) رسم الطائف و((تاج العروس)) رسم (أجأ).
[65] المصدر سم (أجأ).
[66] الخبر مفصل في كتاب ((المناسك)) 305 وهو مما رواه ابن الكلبي عن أبيه.
[67] سورة (الأحزاب) الآية الـ(13).
[68] ((وفاء الوفاء)): 1/11.
[69] ((معجم البلدان)) رسم (يثرب).
[70] ((تاج العروس)) رسم (ثرب).
[71] ((معجم البلدان)) رسم (زرود).
[72] ((المعجم الجغرافي للبلاد العربية السعودية ((قسم شمال المملكة)) رسم (زرود).
[73] كتاب ((المناسك)) 521.(107/29)
[74] للدكتور سعد الراشد الباحث الأثري المعروف في كلية الآداب جامعة الملك سعود مؤلف عن هذا الموضع، من منشورات الجامعة.(107/30)
العنوان: أشجان فلسطين في ديوان (أول الغيث) لأحمد بهكلي
رقم المقالة: 927
صاحب المقالة: محمد شلال الحناحنة
-----------------------------------------
أشجان فلسطين في ديوان: (أوَّلُ الغَيْث) للشاعر السعودي: أحمد بهكلي
(أوَّلُ الغَيْث) هو الديوان الشعري الثالث للشاعر السعودي أحمد بن يحيى بهكلي، وصدر في طبعته الثانية عام 1425هـ، من إصدارات مركز البحوث التربوية، التابع لكلية المعلِّمين بـ(جازان)، ويقع في مئة صفحة تقريبًا من القطع المتوسط، وضمَّ ثماني عشرة قصيدة، وثلاث دراسات أدبية.
السلام المفقود:
أشجان فلسطين في ديوان (أوَّل الغَيْث) تتلظَّى في عدَّة قصائد؛ لأن الشاعر أحمد البهكلي شاعرُ المواقف والرُّؤى الإسلامية السَّديدة، ولم تخرج فلسطين في شعره وذاكرته عن الهمِّ الدَّائم الذي يُلازمه؛ لأنه يتألم ويحزن لحزن إخوانه، ففي قصيدة: (رُؤى في نيويورك) يوقظ أرواحَنا في تصوير أشجان أرض الرِّباط:
وتذكَّرتُ ديرَ ياسينَ لا ما ءَ يروِّي ولا تزولُ السُّدودُ
وَالْتَظَتْ في الجفون أشجارُ قُدْسِي لا ظلالَ بها ولا اخْضرَّ عودُ
واحتواني نَشِيجُ لُبنانَ حيث السْ سُوسُ خَيْلٌ كما البُغَاثُ أُسودُ
أَرِنِي أيُّها الدَّليلُ دَليلاً واحداً فيه للسَّلامِ وجودُ
أَرِني أيُّها الدَّليلُ شريداً واحداً أوَّبَتْهُ هَذِي الوُفودُ
ها هنا مَجلسٌ لأمنِ البَرايا خائفٌ في قَرارِه رِعْدِيدُ
ما عَرَفناه غيرَ لُعْبَةِ طفلٍ ليس يُبدي وليس قطُّ يُعيدُ
كَمْ خَبَرْناهُ يا صديقي ولكِنْ حَظُّنا منه حِصْرِمٌ ووُعودُ(108/1)
تتفتَّح الدلالة المكانيَّة في قصيدة أحمد بهكلي على نافذة الذِّكريات المؤلمة، وتأوي إلى ظلالٍ حزينةٍ من أشجان فلسطين ولُبنان معًا، ولو لم تكن هذه المواجعُ الروحية المتنامية في نفسه، لما كانت هذه الحسراتُ تشجيه من خلال أشجار القدس اليابسة، ودير ياسين الظامئة، وهو هنا يمضي إلى الفعل السَّاطع بأنواره، لا الكلام الزَّائف الذي لا وزن له، فتقرأ: (وتذكَّرتُ ديرَ ياسينَ، والتَظَتْ في الجفون أشجار قُدْسِي، واحتواني نَشِيجُ لُبنانَ، أَرِنِي أيها الدَّليلُ دليلاً، أَرِنِي أيها الدَّليلُ شريداً).
وتنمو القصيدةُ إلى ذروة توتُّرها حين يغدو (مجلس الأمن) مجلسَ خوفٍ واندحارٍ، ويغدو (لُعْبَةَ طفلٍ) بِيَد (نيويورك)!! نيويورك الظُّلم والوعود الكاذبة والخداع والسلام المفقود.
ويستثمر شاعرُنا عنصر السخرية متهكِّماً لما يراه في (مجلس) الأمن من بُهتان وكذب، وهَضم لحقوق الشعب الفلسطيني، فهو مجلس أمنٍ الأصلُ فيه أن يؤمِّن الناسَ على حياتهم وحقوقهم وعَيْشهم، ولكنه يرتجف خوفاً ورعباً من الدُّول الكبرى المهيمنة على قراراته! فَلَم يُعِِدْ أرضاً ولا شريداً، ولم يَرُدَّ معتدياً؛ بل هذا المجلس لا حظَّ لنا فيه - بعد أن خَبَرْناهُ - غيرُ (الحِصْرِم) والزَّيف؛ فيغدو فيه المجرمُ ضحيةً، والضحيةُ مجرمًا!
سيِّد العزم:
وإن كانت الدَّلالة المكانية في قصيدة (رُؤى في نيويورك) تُفضي إلى تلك الأشجان الفلسطينية، فإن حِسَّ الزمان ودَلالته تَجُوبُ بنا في فضاءٍ يَعْبَقُ بأريج الحاضر وشَذى المستقبل، كما نجد في قصيدة (عامان) التي أهداها إلى البطل الفلسطيني الذي تصدَّى للاحتلال بجسده وبالحجارة:
عامانِ مرَّا كأنْ ما مرَّ عامانِ وأنتَ تُحْصِبُنا قَسْرًا كبُرْكانِ
عامانِ يا سيِّدي ما رفرفتْ شَفةٌ إلا جَرَيْتَ عليها نهرَ ألحانِ
عامانِ يا سيِّدي كفَّاكَ ما وَهَتا من كَسْرِ صخرٍ ومن تحطيمِ صوَّانِ(108/2)
عامانِ عامانِ كم من نَاعقٍ صَمَتتْ أَبْوَاقُهُ مُذْ تعالى صوتُكَ الحاني!
وأنتَ يا سيِّدَ العَزْمِ الأكيدِ يدٌ طَويلةٌ ما ثَناها عن مدًى ثانِ
أنْعَشْتَ رُوحَ الإبا والرَّفْضِ في جَسَدٍ واهٍ وأيقظتَها في جَفْنِ وَسْنانِ
ولم يكنْ لكَ فيما جِئتَ من مَدَدٍ إلا خُلاصةُ إقدامٍ وإيمانِ
لقد وُفِّق شاعرنا أحمد بن يحيى البهكلي في حُسْن المطلع، من خلال سَلاسَة الألفاظ وشُموخ المعاني: (عامانِ مرَّا كأنْ ما مرَّ عامانِ)، إلا أنني أرى أن لفظ (تُحْصِبُنا) لم ينسجم مع هذا الحُسْن، في حين أتت الأبياتُ التالية متناغمةً، باستثناء لفظ (الحاني) في البيت الرابع، فصوت أطفال الانتفاضة وشبابها لم يكن حانياً؛ بل جاء قوياً كالصخر، كما أكَّد شاعرنا في عدَّة معانٍ في أبياته، ولعل القافية نَحَتْ بالشاعر إلى ذلك.
كما أثرى التكرارُ (عامانِ) القصيدةَ لتُجدِّف في خضمِّ المعاناة التي يعيشها البطل المقاوِم للاحتلال، والذي رمز له بـ(سيِّد العزم)، وهي استعارةٌ مَكْنِيَّةٌ، تعاضدت لإبرازها صورٌ حسيَّةٌ ومعنويَّةٌ في معظم أبياته: (كفَّاك ما وَهَتا من كسر صخرٍ)، (وأنت كبُرْكان)، (أنْعَشْتَ رُوحَ الإبا والرَّفْض)، (وأنت يَدٌ طويلةٌ)، (ما رفرفَتْ شفةٌ).
كما جاءت إضافة (السيِّد) إلى ياء المتكلم لتَهَبَ القصيدةَ خصوصيةَ المشاركة الوجدانية (يا سيِّدي .. يا سيِّدي)؛ إذ لم يكن الشاعر إلا ذاك الفتى الذي يتواصل مع إخوانه المسلمين المجاهدين في فلسطين، وهي تبقى قبل ذلك وبعده شهادةً دامغةً لرؤية البهكلي في مضمونه المشرق، وفنِّيَّته الرَّاقية، وهذه الرؤية لن نستطيع تهجِّيها إلا من خلال قوله عن سيِّده البطل:
(ولم يكنْ لكَ فيما جئتَ من مَدَدٍ إلا خُلاصةُ إقدامٍ وإيمانِ)
التمرُ أوَّله البَلَح:(108/3)
وتظلُّ أشجان فلسطين تحرِّك شاعرَنا السعودي البهكلي؛ فهو يرى أنها قضيتُه الأولى؛ بل هي قضية المسلمين جميعًا، ويرى أن فتيةَ فلسطين هم أمل الأمَّة، ويدعوهم أن يهزُّوا ببأسهم منَّا ذوي خَوَرٍ، وهو يَلْمَحُ النصرَ القادم على الرغم من التخاذل والمواجع.
هكذا تأتي قصيدة: (أقولُ) لتقول أكثر مما قد يقال:
يا فِتْيَةً في رُبا أَرضِ السَّلامِ بَخٍ بَخٍ لكُم أنتمُ الآمالُ والفَرحُ
يا ليتَني إذْ نَأَتْ عنِّي عزيمتُكُمْ غَدَوتُ صَخراً حَوَتهُ القُدْسُ أو رَفَحُ
ما لي إليكُم طَريقٌ يا رفاقُ ولا لكُم إليَّ تَمادتْ بيننا الفُسَحُ
لأَنتمُ البُرْءُ ما أَخْنَى بِرَوْعَتِهِ زَيْفُ السِّياسةِ أو قانونُها الوَقِحُ
مُسْتَنْقَعُ السِّلْمِ لم يَسْبَحْ بهِ أحدٌ مِنكُمْ إذِ الواهمونَ الخُرْقُ قد سَبَحُوا
آمَنتمُ بسَبيلِ الله لا بِيَدٍ للشَّرقِ تمتدُّ أو للغَرب تَنفَتِحُ
هُزُّوا إليكُم بجِذعٍ يَنتثرْ ثَمرٌ أَشهى، ولا تَيْأسوا فالصُّبْح يَنشرحُ
النصرُ أَلْمَحُهُ من ذا العذابِ بَدَا والتَّمْرُ أوَّلُهُ يا إخوَتي البَلَحُ
ليس لدي الشاعر أحمد بهكلي تَرَفٌ في لغته أو معانيه أو صوره، لكنه يرسم لوحةَ البطولة بريشةٍ شاعريةٍ حاضرةٍ، إنها بطولةُ فلسطين الأرض المقدسة، أرض مَسرى نبيِّنا محمد -صلى الله عليه وسلم- وإذا كانت هذه القصيدة تُبنى مَواجدُها على الحكمة الآسرة، والمفارقات بين (الأنا الشاعر) وضمير (المخاطَبين)، بأسلوب النداء والتمنِّي - والأمر أحياناً - فإنها لم تُغفِل الواقع الجارح بكلِّ آفاقه ولوعته، وهي تنهل في دفقاتها الشعورية ومضمونها من قَبَس القرآن الكريم وسُنَّة المصطفى صلى الله عليه وسلم: (هزُّوا إليكُم بجِذعٍ)، (فالصُّبْحُ ينشرحُ)، (بخٍ بخٍ).(108/4)
كما ستظلُّ هذه القصيدة تَدْمَغُ كلَّ المتخاذلين أمام مدِّ يد العون للحَجَر الفلسطيني، الذي سيَنطِق - إن عاجلاً أو آجلاً - كما أخبرنا الصادقُ المصدوق قبل أكثرَ من أربعةَ عَشَرَ قرنًا، فهل أيقظَنا شاعرُنا السعوديُّ أحمدُ البهكلي على نبض إيقاعاته المضيئة؟!(108/5)
العنوان: أشكال وألوان تدفئ منزلك
رقم المقالة: 519
صاحب المقالة: سناء موسى
-----------------------------------------
برودة الشتاء تعصف بالمنزل وتحوله إلى كيانٍ متجمد أحياناً، وتفقده عناصر الحيوية والنشاط، بل حتى الجمال يبدو عديم المعنى، وتصبح الحاجة إلى الوسائل والأدوات التي تجلب الدفء إلى المنزل أكثر إلحاحاً، وتفرض على الأسرة جملة من الالتزامات تجعل جُلَّ تفكيرها في مهارات عملية وجمالية تنفذها بين الحين والآخر في أجزاء مختلفة من المنزل، فتؤدي بذلك إلى ولادة حالة من الدفء والراحة وسط اختيارات مهمة من إبداع ومن أفكار مصممي (الديكورات) الحديث.
ويطول النهار في هذا الفصل وسط أجواء غائمة وباردة من جهة، تخبو فيها الشمس وتظهر أحياناً، لذا يجب استغلال الطاقة الشمسية أفضل استغلال، مع الحفاظ على التناسق والانسجام بين (الديكورات) والألوان وبقية العناصر الأخرى في المنزل. فاللون الأبيض يعد أكثر الألوان عكساً للأشعة الضوئية، ويملك قدرة هائلة على بعث الدفء في المكان، فيكون اختيارنا لهذا اللون هو الغالب. أما الستائر التي تكسو النوافذ فألوانها البيض تسمح بدخول أشعة الشمس إلى الداخل بيُسر و بقَدر كبير، فتجلب معها شعوراًً بالراحة تضفي على النوافذ بهاءً مميزاً.
ولا ننسى هنا دور الإضاءة الصناعية في إحداث أجواء حيوية، حيث لابد من إنارة الزوايا المظلمة في المنزل، واستخدام المصابيح القاعدية وتلك التي تلون باللون الأبيض ومصابيح الطاولات. ويجب تغيير ألوان المصابيح مع تغيير الفصل، فاللون الزهري مثلاً يعطي إحساساً بالحرارة في المكان.
دور الألوان:(109/1)
في هذا الفصل الذي يتميز بأجوائه المتناقضة من حيث الأثر والتأثير مقارنة بالفصول الأخرى في السنة يبرز دور الألوان الذي يتمثل في طلاء الجدران والأثاث وزينة المنزل.. إذ لابد أن ننسى الألوان المرافقة للفصول الأخرى كالأخضر واللون الترابي ونلجأ إلى الألوان الساخنة، فوضع اللمسات باللون الأحمر والأصفر واللون البرتقالي، من شأنه أن يعطي إحساساً بالدفء والراحة. هذه الاختيارات من الألوان تشمل ألوان المفارش والوسائد ومناشف الحمام، والمفروشات والإضاءة في غرفة النوم، وتنتقى من الألوان الساطعة والساخنة. ثم إن مزجَ الألوان على إيقاعات متعددة يترك أثراً كبيراً يوحي بالتجديد في المكان.
ورود البهجة:
الأزهار التي تبعث على البهجة والفرح داخل المنزل تولِّد هذا الشعور في جميع الأجزاء لاسيما في فصل الشتاء، حيث يغطي اللون الأبيض جميع المستويات والأسطح، ويوصِي مهندسو (الديكور) بصناعة طاقات من الورود الطبيعية والمميزة بألوان حية وتثبيتها على الأطراف والزوايا والفراغات في المنزل، وتحاشي الورود المجففة، ويُنصَح بانتقاء أنواع مختلفة من الورود في هذا الفصل وتغييرها من أسبوع إلى آخر. ولابد أن تكون الأواني الحاضنة لهذه الورود من الألوان الساخنة.
تبديل أماكن الأثاث:(109/2)
يترك الأثاث المنظم بطريقة ما بعد مرور أزمنة عديدة نوعاً من الرتابة في المنزل، إضافة إلى عدم ملاءمة نموذج واحد من الترتيب لجميع فصول السنة، لذا وجب إجراء عملية التبديل في مواقع الأثاث بين الحين والآخر، فإذا كانت هناك طاولة وإناء زينة ومصباح قاعدي، فلابد من إعادة تنظيمها وترتيبها بالطريقة التي تعيد الحيوية للمكان، أو نقلها إلى جزء آخر في المنزل مع إضافة لمسات جمالية أخرى كتثبيت لوحات جدارية بطرق مختلفة عمَّا كانت عليه، وتبديل مواقع الكراسي و المقاعد و الزينة ليكون لها معنى آخر وتبعث الانتعاشة فيها من جديد. وهكذا سوف تفاجأ لاحقاً بالأثر الذي يتركه التبديل في المكان.
محيط المدفأة:
لاشيء يبدو أكثر بهاءً مما يولده ترتيب الأثاث حول المدفأة التي تصنع مع نيران هذا المكون الصغير أجواء جمالية فيه متعة السهرات الشتوية الدافئة التي تبقى ذكرياتها مصاحبة لجميع أفراد الأسرة.
وأخيراً إذا كان لديك إحساس بطول أمد فصل الشتاء، وبتأثيراته السلبية على محيط المنزل وأجوائه، ما عليك إلا إخراج بعض أدوات الزينة العائدة لفصل الربيع وتنفيذ بعض الأعمال والتغييرات على مستوى المكونات ومفردات الزينة الداخلية، للمنزل ذلك من شأنه إعطاء النتائج الباهرة والموحية بقدوم الربيع فهو ليس ببعيد.(109/3)
العنوان: إشكالات مقرر الثقافة الإسلامية
رقم المقالة: 1033
صاحب المقالة: د. صالح بن عبدالله الفريح
-----------------------------------------
إشكالات مقرر الثقافة الإسلامية
في البناء والأداء
المقدمة:
المتأمل لواقع العالم اليوم من الناحية الثقافية والفكرية المتمثل في ظهور الكثير الكثير من الرؤى والأفكار في مختلف الاتجاهات وما يصاحب ذلك من تطورات سريعة ومتلاحقة في الجانب الإعلامي يعلم يقينًا أن العالم الإسلامي لن يصمد طويلًا أمام ذلك السيل الجارف في ظل واقعه الفكري وحراكه الثقافي البطيء للغاية الذي لا يواكب بحال تلك التطورات، لاسيما في مجال توظيف الإعلام ووسائله الحديثة في خدمة الأفكار والثقافة والسعي في نشرها بل وفرضها على بقية الأمم؛ إذ لا مقارنة بين انطلاقة العالم الغربي وسكون العالم الإسلامي وعدم فاعليته في حماية تراثه الثقافي والفكري فضلًا عن نشر ثقافته وأفكاره.
ما سبق من تشخيص للحال وبيان لخطورة الموقف يدفع كل غيور على أمته ودينه ومجتمعه إلى السعي فيما يحقق الحفاظ على هوية الأمة وكيانها الحقيقي والمتمثل في ثقافتها وفكرها، إذ لا شك أن الأمم إنما تحافظ على بقائها، وتعلوا مكانتها بين الأمم بحفاظها على ما لديها من مبادئ ومعتقدات تميّزها عن غيرها من أمم الأرض، تلك المبادئ والمعتقدات التي تنطلق من قيمها وثوابتها، وليس المراد من هذا الانفصال عن بقية البشر أو الدعوة إلى ذلك إذ لا تعارض بين الحفاظ على مكتسباتنا الثقافية والفكرية المنطلقة من ثوابتنا وبين تعاطينا مع بقية البشر من خلال الاستفادة من مكتسباتهم الفكرية والثقافية التي لا تتعارض مع ثوابتنا الفكرية.(110/1)
ولعلّ السعي في هذا المضمار سعي شاق ومرهق ومكلف ويحتاج إلى مجهودات فكرية تنظيرية قبل المجهودات المادية، وأهم ما في هذا الباب السعي للحفاظ على هوية الأمة من خلال منبرين عظيمين لهما اليوم أكبر الأثر في تغيير الأفكار والرؤى لدي المتلقين لهما ألا وهما:
التعليم والإعلام:
ولن يكون الحديث هنا عن أهمية الإعلام وخطورة الغفلة عنه لأن له مجالًا آخر إنما سيقتصر الحديث على التعليم لتعلق موضوع الندوة بها:
أهمية التعليم في غرس الثقافة الإسلامية:
لا بدّ عند الحديث عن التعليم في المملكة العربية السعودية إلى الإشارة إلى نقاط غاية في الأهمية منها:
أن التعليم في المملكة العربية السعودية يُعنى بشكل جيد بالتعليم الديني إذ يتلقى الطالب في مراحله الدراسية المختلفة في التعليم العام كمًّا لا بأس به من المعلومات الدينية المتميّزة التي لا يحصل على مثلها قرينة في البلدان الأخرى، وذلك في المراحل المختلفة في التعليم العام (الابتدائية، المتوسطة، الثانوية).
أما المرحلة الجامعية فتوجه الطالب للتخصص يحدّ نوعًا ما من استمرار ذلك الضخ للمعلومات والمعارف الدينية لكنه لا يعدم شيئًا منها؛ إذ تفرض عليه عدة مقررات تعنى بمضامين الثقافة الإسلامية وتكون دراستها إلزامية حيث يدرس جميع طلاب الجامعة وطالباتها بل جميع طلاب التعليم العالي في مختلف الكليات والمعاهد والجامعات، وهنا أشير إلى أمرين هامين:(110/2)
الأمر الأول: أن التعليم في المراحل الأولية من الابتدائية إلى الثانوية يعتمد اعتمادًا كبيرًا على التلقين والحفظ، حيث يقل الاعتماد على الفهم والإدراك الواعي لتلك المعلومات، أو محاولة إكساب الطالب القدرة على توظيف تلك المعلومات في واقع الحياة، وهو الدور الذي ينبغي أن يضطلع به التعليم الجامعي، حيث لا بد من أن يتركز على الاهتمام بكيفية إكساب الطالب المنهجية الصحيحة في الفهم والإدراك للحقائق الإسلامية، وحمايتها من الشبهات التي قد تعرض لها من خلال الزخم الإعلامي والطرح الثقافي العالمي الذي يحمل في طياته الكثير من الشبه والافتراءات المضللة عن الفكر الإسلامي لدى الشباب والناشئة.
الأمر الثاني: تنوع التخصصات واختلافها يفرض على القائمين على التعليم الجامعي مراعاة ذلك من خلال الموضوعات التي تدرس في مادة الثقافة الإسلامية في كل اختصاص بحيث تنبع من اهتمامات ذلك التخصص وما قد يعرض للدارسين فيه من أفكار أو ما يتعلق به من أطروحات فكرية أو ثقافية أو ما يستجد من قضايا فكرية تحتاج إلى مزيد بيان وإيضاح، والمراد أن يكون الطرح الثقافي والفكري يسعى إلى مواكبة النماء الفكري للدارسين وواقع الحياة التي يعيشونها وأن لا تغيّب الثقافة الإسلامية عن واقعهم لا عمدًا ولا جهلًا.
المبحث الأول: بناء مادة الثقافة الإسلامية
لا شك أن مادة الثقافة الإسلامية ليست تكرارًا لما سبق أن درسه الطالب في مراحل التعليم العام، وكذلك لا يمكن أن تكون تكرارًا لبعض المفردات التي درسها أو سيدرسها الطالب في المرحلة الجامعية؛ ولكن هي -من وجهة نظري- مادة لا بدّ أن يُستفاد منها في محاولة جعل الطالب يستثمر ما سبق أن درسه ويوظفه في حياته من خلال ما يواجهه في حياته العلمية والفكرية والثقافية من إشكالات، ولأجل ذلك لا بد أن تكون المراحل التعليمية السابقة عبارة أسس ينطلق منها الطالب في حياته الثقافية والعلمية.(110/3)
ولعلّ مما تجدر الإشارة إليه هنا -والحديث عن بناء مادة الثقافة الإسلامية- الأهداف التي يجب أن تراعي عند وضع تلك المناهج وذلك ليتم السعي في تحقيقها ومن أبرزها:
تزويد الطالب الجامعي في أي فرع من الفروع الجامعية بالمبادئ والنظم وكليات المعارف الإسلامية الأساسية التي من شأنها أن تحميه من التيارات الفكرية الغازية المعارضة لمفاهيم الإسلام وتنظيمه.
إيضاح واقع التفكير العلمي والعقلي في الإسلام من خلال دراسة المبادئ والنظم وكليات المعارف الإسلامية النظرية والعملية.
تسليح الأجيال المثقفة بما يستطيعون به الدفاع عن دينهم، ومبادئهم، وأمتهم وتاريخهم المجيد، وبما يستطيعون به العمل على نشر الإسلام، والتبشير به ضمن الأوساط العلمية التي يتاح لهم الدخول فيها في مستقبل حياتهم، وضمن زوايا اختصاصهم.
حل كبريات المشكلات التي آثارتها النظريات العلمية المعاصرة، وذلك عن طريق عرض مفاهيم الإسلام عرضًا علميًا معاصرًا كنظام الاقتصاد الإسلامي ومفاهيمه السليمة من عيوب النظم الأخرى، وكنظام الأسرة، ونظام الحكم والأخلاق الإسلامي، وأسس ذلك الفكرية والفلسفية والإيمانية وفوائدها وثمراتها الفردية والاجتماعية.
والسعي في تحقيق ذلك من خلال:
أ) عرض عام للقواعد الإسلامية الكبرى الاعتقادية والعملية؛ عرضًا علميًا منطقيًا مقتبسًا من المصادر الأساسية للإسلام (القرآن والسنة).
ب) تعريف عام بمنهج الإسلام العملي ونهجه العلمي للفرد المسلم والجماعة الإسلامية.
ج) بيان المسائل الكبرى التي وضعها الإسلام في منهجه لإقامة بناء الأمة الإسلامية وبناء حضارتها وعلاقتها مع الأمم الأخرى[1].. وغيرها.(110/4)
ما سبق من أهداف أعتقد أنه لا بدّ من العناية بها والسعي في تحقيقها من خلال: وضع المفردات لمناهج مقرر الثقافة الإسلامية بمختلف مستوياته التي يُراعى فيها الأهداف العامة للمقرر، ومن المعروف عند علماء المناهج الدراسية والتربويون أن الأهداف هي العنصر الأول من عناصر المنهج الدراسي[2]؛ هذا من جانب، ومن جانب آخر لا بدّ أن يكون المقرر الدراسي إذا أُلِّف واعيًا لأهمية المقرر وخطورة الأهداف التي يسعى إلى تحقيقها، فلا يصح أن يكون المؤلف ضعيفًا لا يحتوي على القيمة العلمية التي تساهم في بناء الطالب بشكل علمي ومتميز، كأن تكون عبارة عن محاضرات مكتوبة ليس فيها أي مقدمات البحث العلمي الرصين المتميّز[3].
كما أنه يجب الحذر من أن تكون ذات طابع فلسفي جامد يصعب فهمها على الطالب الجامعي ولا يستطيع استخلاص ما يريده المؤلف مما كتبه[4].
كما لا بدّ من الحذر من أن يكون المؤلف عبارة عن كتّاب ينحو منحى الكتب العلمية؛ التي تهتم بالسرد العلمي الذي يأخذ من كل علم من علوم الشريعة شيئًا ثم يكون كالجامع لها دون منهجية في الطرح تستطيع أن ترتقي بالمتلقي وتعطيه القدرة على البحث والارتقاء الفكري المنهجي[5].
ولعلّي أشير هنا إلى شيء من واقع مناهج مادة الثقافة الإسلامية التي واجهته خلال العشر سنوات الماضية التي عملت فيها في أكثر من موقع ويتلخص ذلك في ما يلي:
أ) في بعض المواقع التعليمية لا يوجد منهج معتمد لمقرر الثقافة الإسلامية؛ لا كمفردات مقرر، ولا كتاب مؤلف له، وتدريس المقرر عائد إلى أساتذة القسم كل بحسبه، يدرس ما شاء؛ ولأجل ذلك يوجد تباين بينهم، واختلاف في مقرراتهم، ومناهجهم التي يدرسونها.(110/5)
ب) هناك مواقع أخرى لديهم في قسم الثقافة الإسلامية مفردات ومنهج معتمد، لكن ليس هناك التزام من قبل مدرسي المقرر بذلك المنهج، وبتلك المفردات، بل قد يدرس أحدهم المقرر بناءً على مرجع اعتمده أحد زملائه في القسم، أو قد يضرب عرض الحائط بمفردات المنهج ويدرس للطالب شيئًا بعيدًا كما هو مقرر عليهم، وليس هناك رقابة أو متابعة بدرجة كافية.
ج) في بعض المواقع يوجد كتاب مؤلف ومعتمد في إحدى الجامعات، فنجد أن هناك من أخذ به، واعتمده كمرجع أساسي للمقرر، وألزم به الطلاب على الرغم من جملة من الأخطاء والهنات التي اشتمل عليها المرجع، سواء في أسلوب الطرح، أو منهج التأليف، أو بعض المعلومات، ما ينعكس أحيانًا سلبًا على النتائج لمثل تلك المفردات.
المبحث الثاني: أداء مادة الثقافة الإسلامية
لا شكّ أن القيمة الحقيقية لجودة المناهج والمفردات والمقررات تتجلى في أوضح صورها من خلال جودة إيصال تلك المعلومات، إذ أنها بدون أداء متقن تفقد الكثير من جمالها ورونقها، وفائدتها الحقيقية، ولأجل ذلك كان من الضروري العناية بأداء المعلم والأستاذ الجامعي، وتطويره في هذا الجانب بشكل يحقق الهدف الذي يسعى إليه في إيصال المعلومات والمعارف للطلاب بصورة متميزة وطريقة حسنة.
ولعلّ من أهم الإشكالات التي تواجهها مادة الثقافة الإسلامية ما يتعلق بالأداء؛ والمراد طريقة إيصالها للطلاب والدارسين، حيث ينحو جملة من مدرسي هذا المقرر إلى التعاطي معه مثل بقية المواد العلمية بطريقة التلقين المغرق في الخمول، ولعلّ ذلك يرجع إلى طبيعة المفردات التي يدرسها في حال كونها غير متوافقة مع طبيعة المادة التي يفترض أن تكون عليها.(110/6)
والواجب أن يعني مدرس هذا المقرر بأن يخرج في تدريسه عن الرتابه التي تنتاب مدرسي كثير من المواد العلمية، من خلال الخروج من النمطية المعهودة إلى التعامل مع عقلية المتلقي، ومحاولة غرس مبادئ التفكير، وتنمية القدرة على الفهم، والخروج من حالة الجمود الفكري التي تمنع العقل من التعاطي بصورة إيجابية مع واقع الحياة ومعارفها، من خلال إكساب الدارس العديد من المهارات المهمّة كالتحليل والتعليل، ومحاولة الفهم والإدراك، والتفاعل الإيجابي مع كافة الأسئلة والاستفسارات الملحة التي قد تعرض للمرء في حياته.
ولعلّ من أبرز إشكالات هذا المقرر هذه الإشكالية، ويبدو أن لها أسبابًا بدهيًا يدركه السابرون لحال هذه المادة وواقعها وكذا واقع الجامعات في المملكة العربية السعودية؛ إذ إن مجال الدراسات العليا الوحيد في القسم المختص بهذا المقرر -قسم الثقافة الإسلامية- لا يوجد إلا في جامعة واحدة فقط، فانظر وتأمل كم عدد خريجه الذين يعملون في تدريس الثقافة الإسلامية في الجامعات والكليات والمعاهد العسكرية والمدنية في المملكة، بالتأكيد أن العدد سيكون ضئيلًا جدًّا.
ومن هنا يأتي الخلل حيث يضطر كثير مِن مَن يتولون تدريس هذه المادة إلى أن يواصلوا دراساتهم العليا في أقسام علمية أخرى، كالفقه، أو القرآن وعلومه، أو العقيدة، أو غير ذلك، إما برغبة لديهم في تلك التخصصات أو اضطرارًا إليها لئلَّا يتأخروا عن الحصول على الدرجة العلمية، ثم يبقى أحدهم أسيرًا لتخصصه، شعر بذلك أو لم يشعر، ومع تواصل أبحاث الترقية نجد أنه يبتعد عن المادة حتى وإن درسها، ومرادي هنا بقاؤه على خط معين في التلقين مع الابتعاد عن النمط الخاص، الذي يتميّز به هذا المقرر؛ من حيث منهجية الأداء، وكذلك من حيث الإدراك الواعي لموضوعاتها ومفرداتها.(110/7)
كل ما سبق لا يعني بحال أنه لا يتقن تدريس هذا المقرر إلا فئة محددة دون غيرها؛ لا، بل قد يوجد من خريجي التخصصات العلمية الدقيقة غير الثقافة الإسلامية من يبدعون في تدريسها وإيصال فكرتها إلى الطلاب، لاسيّما من لديهم اهتمامات ثقافية وفكرية مختلطة بالواقع الثقافي والفكري المعاش، ولكن الحديث هنا عن الأعم الأغلب.
ولعلي هنا أشيد بمثل هذه الندوة التي نحن في أمس الحاجة إليها في الواقع اليوم ليتم اللقاء وتتلاقح الأفكار وتعرض التجارب في هذا الباب، لاسيّما مع تباين تلك التجارب واختلافها من خلال اختلاف واقع كل تجربة، ولعلنا نخرج منها بنتائج تتعلق بمنهجية أداء هذا المقرر وكيف يمكن تطويره لدى أعضاء هيئة التدريس في الجامعة، وما هي التجارب التي مرت بها الأقسام المماثلة في الجامعات الأخرى مما يمكن تطبيقه والاستفادة منه، و الآليات المستخدمة في ذلك.
المقترحات والتوصيات:
لا شكّ أن هناك خللًا كبيرًا وظاهرًا في تفاعل الأقسام المعنية بتدريس هذا المقرر معه حيث انعكس القصور الحاصل على واقع المقرر من حيث أصبح ضعيفًا وغير مرغوب لدى فئات من الطلاب؛ ولأجل ذلك كان من الضروري أن يسعى المعنيون بتدارك الوضع، ومحاولة السعي الجاد في النهوض به والعمل على أن يحقق أهدافه السامية، لاسيّما وشباب الأمة اليوم في أمسّ الحاجة إليه لما له من آثار إيجابية جيّدة لو استفيد منه على الوجه الأكمل.
ولعلي هنا أختم ورقتي هذه بجملة من المقترحات والتوصيات التي أرى أنها تحقق النجاح لهذا المقرر، فمن ذلك:
لا بدّ من إعادة النظر في المفردات المعتمدة لهذا المقرر ومحاولة صياغة المفردات الجديدة بما يتوافق مع أهداف المقرر بصورة دقيقة.
العناية فتح المجال من خلال المفردات بدراسة ما يستجد من قضايا حيوية معاصرة معاشة في واقع الحياة، بحيث يواكب هذا المقرر تطورات الحياة، ويتحرّر من الجمود.(110/8)
السعي بشكل عاجل وجاد لتطوير أداء أعضاء هيئة التدريس في الأقسام التي تتولى تدريس هذا المقرر وعدم التهاون في هذا الأمر وجعل تطوير الأعضاء هدفًا استراتيجيًا للأقسام المعنية، وربط بعض الترقيات به أو وضع بعض العلاوات والمكافآت للساعين في تطوير أنفسهم.
لا بدّ من تفعيل دور القسم المعني في متابعة تدريس هذا المقرر والنظر فيما يتعلق بذلك، حتى لا يتمّ أي نوع من أنواع القصور لا في الالتزام بالمفردات والمنهج ولا في طريقة الأداء، لتتحقق الفائدة المرجوة من هذا المقرر على الوجه الأكمل.
العناية باختيار أعضاء هيئة التدريس الذين يتولون تدريس هذا المقرر بشكل دقيق بحيث لا يخوض غمارها إلا من كان لديه الأهلية الكاملة، والرغبة الصادقة.
الدعوة وبكل جدية إلى فتح باب الدراسات العليا في أقسام الثقافة الإسلامية (الماجستير، والدكتوراه)، بحيث تكون قنوات لتخريج المؤهلين لتولي تدريس هذا المقرر المهم.
الاستمرار في عقد مثل هذه الندوات العلمية النافعة والمفيدة في ظل الأقسام العلمية المعنية بتدريس مادة الثقافة الإسلامية والسعي الجاد في إنشاء جمعية علمية تعنى بخدمة هذا التخصص المهم والفاعل لتقوم بدورها أيضًا في خدمة هذا المقرر.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] انظر: كتاب الثقافة الإسلامية المستوى الأول (101) الذي طبعته جامعة أم القرى بمكة وهو لمجموعة مؤلفين هم: الشيخ عبدالرحمن حبنكة، والشيخ محمد الغزالي، د.ط، 1418هـ: 5-7.
[2] أسس المناهج وتنظيماتها، د. حلمي الوكيل ود. محمد المفتي، د.ط، د.ت: 127.
[3] انظر: كتاب الثقافة الإسلامية الذي طبعته جامعة أم القرى وهو يدرس فيها.
[4] انظر: كتاب لمحات في الثقافة الإسلامية -على سبيل المثال-.
[5] انظر: كتاب نحو ثقافة إسلامية أصيلة -مثلاً-.(110/9)
العنوان: إشكالية النموذج (1)
رقم المقالة: 422
صاحب المقالة: إبراهيم العسعس
-----------------------------------------
"قُلْ سُبحانَ ربِّي هَلْ كُنْتُ إلا بَشَراً رسُولاً؟"
بكلِّ حرارةٍ وانفعال، قال الشيخُ الداعيةُ المشهور، صاحبُ الجمهور العريض: "... وكان الإمامُ أحمدُ رحمهُ اللهُ يقومُ في الليلة مئتي ركعة"!! استوقفتني هذه العبارةُ وقلتُ في نفسي: قطعاً يريدُ الشيخُ رفعَ معنوياتِ المشاهدين، وشحذَ إيمانهم، من خلال سَوْق مثل هذا السلوك عن الإمام أحمد رحمه الله. فنيةُ الشيخ حسنةٌ بإذن الله تعالى، لا شكَّ عندي في ذلك، بل لا علاقة لي بنيته، فكم من مُريدٍ للخير لا يُصيبه! وعلى كلِّ حال فالشيخُ لا يُغرِّدُ خارجَ السِّرْب، بل هو نَغمةٌ من لحنٍ ضاربٍ في الزمن، مُمتدٍ إلى يوم الناس هذا. ومن يقرأ في كتب التراجم، وكتب الرقاق والمواعظ القديمة، ويستمع لكثيرٍ من المحاضرات، والدروس الحديثة، يجد عجباً في خطاب الدعاة والمشايخ والكتاب! وفي هذه المقالة لا أريد أن أشير إلى كل ذاك العجب، بل سأكتفي "بإشكالية النموذج" الذي يَرِد في كلامهم ومواعظهم ومحاضراتهم، فهم رحمهم الله جميعاً - الغائب منهم والحاضر - من باب حبهم لمن سلف من العلماء والصالحين أولاً، ورغبةً في حَفْز الهِمم للطاعة والخشوع ثانياً، يسوقون كلَّ ما يقع تحت أيديهم دون تمييز بين الثابت وغيره ! أو بين ما تحتمله الطاقةُ البشرية وما لا تحتمله! أو بين ما يقبله المنطق وما لا يقبله!....
فالإمام أبو حنيفة رحمه الله صلَّى الفجرَ بوُضوء العشاء أربعين سنة! ويُروى مثله عن غيره كذلك! فهل يُعقل أنَّ أبا حنيفة أو غيرَه استمر على هذا طوال هذه المدة، أو حتى أغلبها؟! تُرى، ألم تخذلْه بطنُه ليلةً ما؟!(111/1)
والإمام أحمدُ رحمه الله وكثيرٌ مثلُه كانوا يقومون الليل بمئتي ركعة!! هذا إضافةً لانكبابهم على العلم، وتدريسهم طلبةَ العلم، وغير ذلك من الواجبات! وقد حَسبْتُها فلم ينفعْهم الحساب، فَضممْتُها إلى الغُول والعنقاء والخِلِّ الوفيِّ!
وقد يتعدَّى النقلُ هذه الأمورَ فيقول لك المالكيةُ - مثلاً - إنَّ إمامَنا بقي في بطن أمِّه ثلاثَ سنوات!!! وكأنَّه يُريد أنْ تفهم أنَّ مالكاً رحمه الله نزلَ من بطن أمِّه ناضجاً عالماً، خارقاً لعادة البشر حتى قبل أنْ يُولد!! وغير هذا وذاك كثير من اللامعقول! والسؤال الذي يفرِضُ نفسه: هل يؤدي هذا الخطابُ هدفَه في التنشيط والتحفيز وبعث الهمم فعلاً؟! أم يفعل في النفس عكسَ ما أُريد منه؟! ألا يُصاب المستمعُ بالإحباط عندما تُعرض عليه هذه النماذجُ التي لم تكن ولا يمكن تقليدها؟! والحقيقة أنَّ الخطاب يأخذُ شكلَ الأزمةِ عندما يُعرَضُ النموذج لا على أنَّه حالةٌ أو عدةُ حالاتٍ فريدة، لكنَّه يُعرَضُ على أنَّه ظاهرةٌ عامةٌ! فيقول لك: كان الصحابةُ، كان السلف.... فتتخيلُ أنَّ الحديث عن قوم ليسوا كالبشر، وأنَّهم جيلٌ لا يُمكن أن يتكرر، وأنَّ هذا الدين إنَّما جاء لظرفٍ استثنائي زمناً، ومكاناً، وشُخوصاً، وأنَّنا في الظرف الحالي "بشرٌ شيطانيٌّ" شُكراً لنا إنْ صلَّينا الخَمْسَ وصُمنا الشهر!
لقد لبثتُ حِيناً من الدهر، نتيجةً لمثل هذا الخطاب، وأنا أعتقدُ أنَّ الصحابة في المدينة المنورة صلاةُ ربي وسلامُه على من ضمَّتْهُ تُربتُها، لا عمل لهم إلا التحلُّق حول رسول الله صلى الله عليه وسلم يُحدِّثهم ويستمعون، ثم يدعو داعي الجهاد أنْ هيَّا إلى غزوة كذا فيَهبُّون مُلبِّين، ثمَّ يعودون غانمين سالمين، فيوزع عليهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الغنائم، فيذهبون إلى بيوتهم فيقومون الليل، ثمَّ يأتون إلى الفجر، وهكذا تمضي بهم الحياةُ! لاحظ أنَّ التعبير دائماً بصيغة الجمع!!(111/2)
ويتخيَّلُ المسلم، نتيجةً لهذا الخطاب، أنَّ مجتمع المدينة كان مجتمعاًَ جاداً، مُقطِّباً، طحنَ خوفُ النارِ قلوبَ أفرادِه، فلا يضحكون ولا يمزحون! وإذا تكلم الواحدُ منهم فإنَّه يتكلم بِمسْكنةٍ وانكسار، تكاد العَبْرَةُ تخنق عِبارَتَه! والمجتمعُ المدنيُّ في نظر هذا الخطاب لا مشاكل فيه، ولا معاصيَ، ولا خصومات!
إنَّهم لا يتحدثون عن بشر، هكذا تظهر الصورة، وهكذا يستقبلها المستمع، بل عن ملائكة فهيهات هيهات أنْ نكون مثلهم!
ومن يشتغل في الدعوة إلى الله، ويعاني نصح الناس يدرك ما فعل هذا الخطابُ في المسلمين، فلم نعد نعجبُ إذا نَصحْنا أحدَهم مُستندين إلى سلوك الصحابة رضي الله عنهم أنْ نسمع منه: أتُشبهنا بهم؟! إنَّهم الصحابة!! ويُكمل: لقد اختلفت الدنيا، فهناك العمل، وهناك العلاقات المُعقدة، وهناك، وهناك مِمَّا لم يكن في زمانهم!!
أمَّا عن : كان السلف! فحدِّث ولا حرج، من التعميم، والمثالية غير الواقعية، والانتقائية التي تُكبِّر نقطةً بيضاء لتملأ بها المشهد! إنَّ هذا الخطابَ يختزلُ تاريخاً كاملاً، وحياةً بشريةً مُتنوعةً في: (كان السلف الصالح)، كلُّ ذلك من خلال مثال - سنفترضُ صحته - واحد! واستمع معي لتعليقٍ على قصة المأمون مع خادِمه، وكيف أنَّه سامحَهُ، وأعتقَهُ، وأحسنَ إليه بعد أنْ أخطأ الخادمُ في عملٍ ما. يقول المُعلِّق: هذا هو تاريخُنا وهذه هي مآثِرُنا، وهذه هي أخلاقُ سلفِنا، فلتسمع الدنيا... "لكنَّه لم يقل لنا أنَّ المأمونَ نفسَه قتل أخاه الأمين من أجل الحُكم، لم يقل لنا هذه القصة، وتركنا نتقلبُ على فراش الرضا ليفاجئنا مُستشرِقٌ أو عَلْمانيٌّ من بعدُ بقصته مع أخيه فتغصُّ الكلماتُ في حلوقنا، وتخنقنا الحقيقةُ، فينتكسُ منا من ينتكس ، ويهربُ بعضنا إلى ليتَ ولعلَّ ... ، ولقد رأيتُ من هؤلاء وأولئك الكثير .. ويُثبِّتُ اللهُ من يَرْكَنُ إلى التوازن ، ويُرجِعُ المواعظَ إلى الأُصول.(111/3)
أمَّا عمَّا ينبغي فلنا لقاءٌ وتتمَّةٌ...(111/4)
العنوان: إشكالية النموذج (2)
رقم المقالة: 516
صاحب المقالة: إبراهيم العسعس
-----------------------------------------
إنَّ الأفكار العظيمة لا تنجح وتثمر إلا إذا تمثَّلت في عالم الناس من خلال رمز - أو رموز - يتحرك بين الناس، مطبقاً هذه الأفكار.
ولا بد أن يكون هذا الرمز صالحاً للاقتداء به، فهو وإن كان لا بد أن يكون مثالاً عالياً في القمّةِ من الكمال البشري، يجب ألا يكون خارجاً عن إطار البشرية، إلا ما يكون من معجزات يجريها الله سبحانه على أيدي رسله لتكون حجَّة على الخلق.
ولقد شكَّلت هذه المعادلة أصلاً من أصول ظاهرة النبوة.
فالنبوَّة وإن كانت ربّانية المصدر، ربّانية المنهج، إنَّها لتؤكّد أنَّ حركة النبي في الحياة حركةٌ متفقة ومنسجمة مع طبيعة البشر.
إن هذه المعادلة من أهمِّ عوامل منطقيةِ ظاهرةِ النبوة، فالنبي من حيث هو نموذج لابد أن يستوفيَ الشرطين اللذين أشرنا إليهما آنفاً، وإلا لما صلح أن يكون قدوة، وإذن لانهدم أصل النبوة، ولفقدت مسوِّغَ وجودها في عالم النّاس!
والنصوص التي عالجت هذه القضية، ووضعتها في نقطة الوسط، وعند حدِّ التوازن كثيرة، خاصَّة في حوار الأنبياء مع أقوامهم. وقد عالجت هذه النصوصُ القضيةَ من زاويتين:
الأولى: تأكيد بشرية الرسول أمام من رفضوا أن يكون من يقوم بهذه المهمة العظيمة بشراً! إنهم يستكثرون على بشر أن يحمل أعباء هذه الوظيفة العظيمة: {أكان للنَّاسِ عَجَباً أن أَوحَينا إلى رَجُلٍ منهُم أَن أَنذِرِ النَّاسَ} (يونس: 2). وقد صدَّتهم هذه الشُّبهة عن الإيمان وحالت بينهم وبينه: {وما مَنَعَ الناسَ أن يُؤمِنوا إذ جاءهُمُ الهُدى إلا أن قالوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً} (الإسراء: 94).(112/1)
إنهم يرَوْن، بحسب تفكيرهم المحدود، أنَّ مصدرَ الرسالة يقتضي أن يُبلِّغها ويتمثَّلها جنسٌ راقٍ من المخلوقات لا يَحملُ ضعفَ البشر. وقد ردَّ اللهُ عليهم بقوله: {وما قدَروا اللهَ حقَّ قَدْرِهِ إذْ قالوا ما أَنزَلَ اللهُ على بَشَرٍ مِن شَيءٍ..} (الأنعام: 91). إنَّ من يُبْعِدُ أن يكون الرسولُ من البشر لم يُعظِّم اللهَ حقَّ التعظيم، إذ قدح في حكمته، وزعم أنَّ البشر لا يَصلحون لتبليغ رسالته، والله يعلم أنهم الأصلحُ لتبليغها ليتحقَّق النموذجُ والقدوة، ولِتتمَّ غايةُ بعثة الرسل.
وكلما كان الأقوام يَستنكِرون بشريَّةَ الرُّسل، كان الرّسل يردّون عليهم بتأكيد بشريتهم: {... قالوا إن أنتُم إلا بَشَرٌ مِثلُنا تُريدونَ أن تَصُدُّونا عمَّا كان يَعبُدُ آباؤنا فَأتُونا بسُلطان مُبين. قالت لَهُم رُسُلُهُم إنْ نحنُ إلا بَشَرٌ مِثلُكُم...} (إبراهيم: 10 ,11).
لقد ردَّ القُرآن طلبهم قائلاً: {قُل لَو كانَ في الأَرضِ مَلائِكَةٌ يَمشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لنزَّلنا عَلَيهِم مَلَكًا رَسُولاً} (الإسراء: 95).
هم يريدون توْعِير " النموذج القدوة"، ليضربوا بذلك أصل الرسالة، فلو أرسله ملكاً لقالوا: هو مَلكٌ ولا قدرةَ لنا على الاقتداء به! وإذ كان بشراً قالوا: إنَّه بشرٌ وكيف يُرسِل اللهُ لحمل رسالته وتحقيقها في الأرض من تَكدَّر بنقص البشر؟! والآيات كثيرةٌ ولا مجال لسردها جميعاً، لكنَّها كلَّها تؤكد وجوبَ بشريةِ الرسول لأنَّها من حكمة الله عز وجل، لتحقيق غاية الرسالة من خلال "الرمز الإنسان"، الذي يستطيع كلُّ الناس أن يُقلِّدوه، وأن يهتدوا بهداه.
أما الأخرى: فهي تخصُّ من آمنَ بالرسول، ولم يستكثر أن يكونَ بشراً من حيثُ المبدأ، كما كان مَنطقُ خصومِ الرسالة.
لكنَّ المشكلة هنا في أنَّ هذا المؤمنَ قد تختلُّ لديه موازينُ الاقتداء، مما يُشوِّش عنده صورة "النموذج"، فيحار كيف يتعامل معه.(112/2)
ولتحصين هؤلاء من الوقوع في هذا الخطأ، جاءت النُّصوص الكثيرة التي تؤكد أولاً بَشريَّة الرسول صلى الله عليه وسلم، والتحذير من وضعه فوق مكانةِ البشر.
ولتؤكِّد ثانياً أنَّ الأصل في كلِّ ما يصدر عنه صلى الله عليه وسلم، وفي كلِّ خِطاب وُجِّه إليه العموم، فهو تشريع لكل المسلمين، ولذلك فإن كل ما صدر عنه صلى لله عليه وسلم لا يخرج عن وُسع الجميع من حيثُ القدرةُ الأصلية، نعم هو بلا شكٍّ صعب، لكنَّه ليس مستحيلاً.
والأحاديثُ التي تَنهى عن إطراء الحبيب صلى الله عليه وسلم، وعن كلِّ ما يَدور في هذا الإطار عديدة، ولست أرى أن سببَ هذه الكثرة والتشديد في النهي الحذرُ من الوقوع في الشِّرك وحسب، مع أهميَّته وخُطورته، ودخوله في النهي من باب الأولية، ولكنني أرى علَّة أخرى لا تقلُّ عن ذاك أهميَّة، قلَّ من نبَّه عليها، وهي المحافظةُ على النموذج من أن يدخل عليه ما يَقدح في صلاحيَّته للاقتداء.
وسأكتفي بمثالٍ واحد يبيِّن المقصود، ويدلِّل عليه:
ما الذي أغضبَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم؟
لعل أغلبَ القُراء يعرفون حديثَ النفر الثلاثة الذين تقالُّوا عبادةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي وجدوها قليلةً، بعد أن أُخبروا عنها! وكيف أنَّ كلَّ واحدٍ منهم قرَّر أن يقوم بما يظنُّه قربةً إلى الله! وكيف أنَّه صلى الله عليه وسلم غضبَ عندما سمعَ ما حدث، وجمع الناسَ وأخبرهم الخبرَ، وصوَّب لهم التصوُّر، وختم قائلاً عليه الصلاة والسلام: "فمَنْ رَغِب عَن سُنَّتي فليسَ مِنِّي". (البخاري: ح 5063).
كنتُ أقفُ كثيراً عند هذا الحديث، وأعجَبُ من ردَّة فعل النبي صلى الله عليه وسلم الغاضبة، ودعوته الناس للاجتماع، وإلقائه خطبة فيها بيانٌ واضحٌ هامٌّ! فلمَ كان هذا الغضب؟!
ولئلا أطيلَ في مناقشة الإجابات أكتفي بما أراه السببَ الرئيس في غضبه صلى الله عليه وسلم.(112/3)
إنَّ الذي أغضبه صلى الله عليه وسلم هو تعدِّيهم على فكرة النموذج، فقد قالوا: "وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم؟!، قد غُفر له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر".
قد يقرِّر أحد الناس ألا يتزوَّج، وقد يقرِّر آخر بأن يكثرَ من الصوم، وقد يقرِّر ثالث أن يقوم الليل كلَّه، وقد يسمع عنهم صلى الله عليه وسلم فيدعوهم وينبِّههم على أنَّ ما قرَّروه مخالفٌ لهديه، وأنهم بهذا يشقُّون على أنفسهم،... قد يفعل كلَّ هذا، وينهى بحزم، وينتهي الأمر.
لكن هنا يوجد تصريح خطير، لعله هو ما أغضب رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، لقد قالوا: إنه صلى الله عليه وسلم يختلفُ عن الناس، فهو قد غُفرت ذنوبه، وهذا صحيح، لكنه قد يهدم - في رأيي - كلَّ ما بناه صلوات ربي وسلامه عليه، فإذا كان قد غُفر له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر، فمعنى هذا عدم صلاحيته ليكون نموذجاً لنا، وهي قضية حَرَصَ صلى الله عليه وسلم على تأكيدها طَوال مدة نبوَّته، فهل يرضى أن يأتيَ بعد كل هذا الجهد من ينقُضُها له؟!
ولذلك لاحِظوا ما قاله صلى الله عليه وسلم: " والله إني لأخشاكُم لله وأتقاكُم له... " لقد ردَّهم إلى القاعدة، وهي أنَّ حركتَه صلى الله عليه وسلم داخل إطار البشريَّة، فسلوكُه منبثقٌ من الخشية والتقوى، يعني أنَّه في الدائرة وليس بخارج منها!
وقد نبَّه مرةً من قال له: أليس غُفر لك ما تقدَّم من ذنبك وما تأخَّر؟!.. فقال: "أفلا أكونُ عبداً شكوراً؟!" (البخاري: 4837). يعني أنه إن لم يكن في دائرة الواجب، فهو في دائرة الشُّكر، وكلاهما مرتبتان لا تَخرُجان عن صلاحية "النموذج".
إنها بحق قضيةٌ خطيرة، وأيُّ خطأ فيها قد يؤدِّي إلى انحراف هائل في حمل الدين، والدعوة إليه، وتمثُّل مفاهيمه.(112/4)
العنوان: أشهر المدافعين عن الإسلام في الغرب زيغريد هونكة..
رقم المقالة: 1081
صاحب المقالة: نعيمة عبد الفتاح ناصف
-----------------------------------------
أشهر المدافعين عن الإسلام في الغرب
زيغريد هونكة.. مستشرقة من الطراز الفريد
• أحبت الإسلام، وواجهت التهم الملفقة التي يلصقها الغرب بالعرب والمسلمين.
• كشفت زيف الأحكام الأوربية المسبقة عن اضطهاد الإسلام للمرأة.
• أبرزت دور الحضارة العربية الإسلامية في نهضة أوربا التي عاشت قرونا طويلة في ظلمات من الجهل والتخلف.
• كتابها الشهير "شمس الإسلام تسطع على الغرب" ترجم إلى 17 لغة، وهو رسالة لكل أوربي حر يسعى لمعرفة حقيقة الإسلام التي شوهها الإعلام الغربي.
• الرازي أحد أعظم أطباء الإنسانية، وقد خلف 230 عملا ضخما وترجمات ومخطوطات في الطب والفلسفة والفيزياء والرياضيات.
• • • •
تعد المستشرقة الألمانية "زيغريد هونكة" من أشهر المدافعين عن الإسلام في الغرب، فهي أول باحثة أوروبية تفند الأحكام المغلوطة والتهم الملفقة التي يلصقها الغرب بالعرب والمسلمين، ولهذا حرص المسلمون على تكريمها كلما زارت دولة إسلامية، وصار لها مكانة كبيرة في نفوس العرب والمسلمين.(113/1)
فهي من المستشرقين المنصفين الذين درسوا الحضارة العربية والإسلامية، وفهموا حقيقة الإسلام، وأشادوا به كدين عالمي صالح لكل زمان ومكان، وقد أصدرت عام 1960م كتابها الشهير "شمس الإسلام تسطع على الغرب"، دفاعا عن الحضارة الإسلامية، وبيانا لتأثيرها في العالم الغربي، وترجم هذا الكتاب إلى 17 لغة، وبيعت منه مليون نسخة، ثم نشرت كتابا آخر بعنوان "ليس الله كما يزعمون" دفاعا عن العرب والمسلمين، كشفت فيه عن كل الأحكام المسبقة والمغلوطة، التي روجت فى الغرب ضد الإسلام وأهله، وجاء كتابها الثالث "التوجه الأوربي إلى العرب والإسلام.. حقيقة قادمة وقدر محتوم"، ليبرز دور الحضارة العربية الإسلامية في نهضة أوربا التي عاشت قرونا طويلة في ظلمات من الجهل والتخلف، كانت فيها الحضارة الإسلامية في أوج تقدمها وازدهارها.
وقد نالت هونكة عددا من الأوسمة والأنواط، ومنحتها مصر وسام النجمة الكبرى تقديرا لجهودها فى الدفاع عن القضايا الإسلامية، وكان لها تقدير كبير في العالم الإسلامي، وتلقت أكثر من عشرين دعوة من رؤساء دول وحكومات وجامعات عربية وإسلامية، وكانت معروفة لدى وسائل الإعلام والهيئات والمؤسسات الإسلامية، وتستقبل وتودع بحفاوة أينما حلت.
• دراسات منصفة:
بدأت هونكة -التي توفيت فى نوفمبر 1999م عن عمر يناهز 83 عاما- رحلتها المنصفة للإسلام بدراسة الفلسفة والأدب وعلم النفس وعلم الأديان المقارن، وتعمقت فى هذه العلوم وبرزت فيها، وانطلقت فى دراسة الإسلام من منابعه، وليس مما يروجه الغرب عن هذا الدين الحنيف.
وعندما تعرفت حقيقة الإسلام، أوضحت هونكة لغير المسلمين الصورة الحقيقية للإنسان المسلم، وكشفت زيف الأحكام الأوربية المسبقة عن اضطهاد الإسلام للمرأة، وبينت للأوربيين التأثير الواضح للحضارة العربية الإسلامية فى التطور والنهضة الأوربية في كل المجالات كالطب والهندسة والعلوم والثقافة.
• شمس الإسلام:(113/2)
والذى يطالع ما كتبته هونكة يدرك مقدار إنصافها للإسلام وحضارته، فى زمن قل فيه المنصفون، حتى من أبناء الإسلام، فنجدها فى كتاب "شمس الإسلام تسطع على الغرب" تدلل على فضل العرب على حضارة الغرب، وتذكر أمثلة لأربع وأربعين كلمة عربية تشمل ألفاظ التحضّر، وتشير إلى عام 751م عندما توسع العرب الذين استعانوا ببعض العمال الصينيين في صناعة ورق رخيص لأول مرة من الكتان والقطن، وبانتشار الورق نشطت الكتابة والتأليف، كما أدى هذا فيما بعد إلى اختراع فن الطباعة، وتؤكد أن العلماء العرب وضعوا نظرية تركيب البارود المندفع "الصواريخ" في القرن الثاني عشر، كما أن الأرقام العربية -بما فيها الصفر- انتقلت إلى بلاد الغرب، وقامت بدورها في العلوم والرياضة والاقتصاد، وكذلك الدنانير الفضية والذهبية العربية سالت في الأسواق الأوربية بكميات كبيرة نتيجة التبادل التجاري بين المسلمين والأوربيين، وكانت هذه الدنانير العملة الأساسية لقرون عديدة في كل العالم المتحضر آنذاك.
• العرب وعلوم الفلك:
وتتحدث عن فضل العرب في علوم الفلك، وتستدل بقول البتاني (877-918م): "إن الإنسان ليصل عن طريق علم النجوم إلى برهان وحدة الله ومعرفة عظمته الهائلة وحكمته السامية وقوته الكبرى وكمال خلقه".
وفي عصر الخليفة الرشيد وضع العرب كل أسماء النجوم والكواكب لدى ترجمتهم لأعمال كبار الفلكيين اليونانيين والبطالمة، وقد احتضن ابنه الخليفة المأمون موسى أحد كبار الفلكيين، وعندما توفي أمر برعاية أولاده الثلاثة، وأنشأ لأكبرهم محمد دارًا في أعلى ضاحية في بغداد لرصد النجوم، ولم يلبث محمد وأخواه أن قاموا بإجراء قياسات فلكية فاقت ما قام به بطليموس وفلكيو القصر المروزي.(113/3)
وفي مرصد سامراء رأى الطبيب "ابن ربان الطبري" آلة بناها الأخوان محمد وأحمد ابنا موسى، تديرها قوة مائية، وتحمل صور النجوم، وكلما غاب نجم في قبة السماء اختفت صورته في اللحظة نفسها في الآلة، وإذا ظهر نجم في قبة السماء ظهرت صورته في الخط الأفقي من الآلة. وقد ترجم "ثابت بن قرة" لبني موسى عددًا كبيرًا من الأعمال الفلكية والرياضية والطبية لأبولوينوس وأرشميدس وإقليدس وغيرهم..
وتتحدث هونكة عن دور العرب في علوم الطيران، ففي عام 880م بنى الطبيب عباس بن فرناس في إسبانيا أول طائرة صنعها من النسيج والريش، ثم صعد بها مرتفعا وترك نفسه للهواء يحمله فطار قليلا، ووفق إلى بعض تجارب الانزلاق بها، ثم وقع أرضا فتحطم وتحطم معه حلم الإنسانية القديم.
وتصف هونكة الرازي المتوفي في عام 925م بأنه أحد أعظم أطباء الإنسانية إطلاقا، وقد خلف 230 عملا ضخما وترجمات ومخطوطات صغيرة تبحث، ليس في الطب فحسب، بل أيضا في الفلسفة وعلوم الدين والفيزياء والرياضيات.
• الحضارة الإسلامية:
وتعقد المستشرقة الألمانية موازنة بين المستشفيات التي أنشأتها الحضارة الإسلامية وبين مستشفيات الفرنجة فتقول: عندما أراد السلطان عضد الدولة (936-982م) أن يبني مستشفى حديثا فى بغداد أوكل إلى الطبيب الذائع الشهرة أبي بكر الرازى، بالبحث عن أفضل مكان للمستشفى، وكذلك فعل السلطان صلاح الدين الأيوبى (1138-1191م) فى القاهرة، إذ اختار أحد قصوره الفخمة وحوله إلى مستشفى ضخم كبير أسماه (المستشفى الناصرى)، وقد توافرت فى مستشفيات الخلفاء والسلاطين كل أسباب الرفاهية والراحة، وكانت تفتح أبوابها للفقراء ولكل أبناء الشعب دون تمييز.
أما في الغرب فإن مستشفى (ستراسبورج) هو أول مستشفى التحق به طبيب رسمى، وكان ذلك عام 1500م، أى بعد ثمانمائة عام من تأسيس أول مستشفى عربي إسلامي، كان قد أنشأه الوليد بن عبد الملك الخليفة الأموي وعين فيه الأطباء والممرضين.(113/4)
وفى عام 1517م أنشأت مدينة ليبزج مستشفى بها أسوة بـ (ستراسبورج)، ثم حذت باريس حذوهما فأنشأت مستشفى (أوتيل ديو) عام 1536م
• المستشفيات الإسلامية:
وتصف هونكة هذه المستشفى الباريسية وما كان فيها من إهمال وقلة عناية موازنة بالمستشفيات الإسلامية فتقول: كان المبنى الذي يضم المرضى يزدحم بأخطر الحشرات، وهم يتزاحمون عليه، وأقدام بعضهم إلى جانب رءوس بعض، والأطفال قرب الشيوخ، والرجال بجانب النساء بشكل يدعو للعجب، والطعام يقدم لهم فى ندرة، وأما كمية الطعام فقليلة جدا، أضف إلى ذلك فساد الهواء فى الداخل لدرجة لا تطاق ولا تحتمل، وكانت جثث الموتى من المرضى تترك مدة أربع وعشرين ساعة، وفى الغالب أكثر من ذلك قبل أن تنقل فيضطر المرضى الآخرون خلال ذلك الوقت أن يشاطروا الجثث هذا المكان.
فأين هذه المستشفيات من المستشفيات الإسلامية التي نشأت قبلها بقرون، وقد وصلت إلى قمة العناية والرعاية، وأوقف لها الحكام والسلاطين والأمراء أوقافا خيرية تضمن بقاءها واستمرار رسالتها ورقى خدماتها.
وهكذا كان العلماء العرب والمسلمون موسوعيين، ومنهم من أثر في علماء أوروبا الذين قرأوا لهم كما تدلل المؤلفة في أماكن عديدة من كتابها الفريد.
• التوجه الأوربي إلى الإسلام:
وإذا انتقلنا إلى كتاب آخر من كتبها التي أنصفت بها الإسلام والحضارة العربية الإسلامية، وهو كتاب "التوجه الأوربي إلى العرب والإسلام.. حقيقة قادمة وقدر محتوم"، نجدها تحاول بيان حقيقة الإسلام واضحة في مواجهة الضباب الذي يسود النظرة الأوربية للعرب والإسلام، فهي ترى أن هذه النظرة السوداوية قد ساعد في بلورتها عواملُ يأتي على رأسها مناهج التعليم الأوربية، فمنذ الصغر تُشحن ذاكرة التلميذ الغربي بكل ما هو مسيء للإسلام، وبفعل هذه المغالطات أصبحت المغالطاتُ مسلّمات، والافتراءاتُ وقائع، والأكاذيب حقائق.(113/5)
وتقول: "العرب شعب يؤمن بالتسامح في السجايا والطباع والمعتقدات الدينية، وذلك عكس الدعايات الخاطئة التي تحيط بهذا الشعب"، ولم تأل في كتابها جهدا في التأكيد على دور حضارتنا العربية الإسلامية في تطور البشرية وإخراجها من عتمة الجهل إلى نور المدنية والتحضر، فالإسلام هو المحرك للمسلمين للخلق والإبداع، والدافع للبذل والعطاء، فدان لهم العالم، فأناروه بنور الحضارة الساطع، وأظلوه بظل المدنية الوارف.
وتؤكد هونكة في كتابها أن العرب كانوا أصحاب أفكار ومبتكرات كثيرة في مجال الاختراعات الميكانيكية كتصميم الساعات المختلفة وأجهزة الرصد الفلكية والبوصلة، وكذلك ابتكروا تقنيات صناعية جديدة وكثيرة في مجالات عديدة ومختلفة منها تصنيع الورق والمعادن والجلود والزجاج، وصناعة الفخار والخزف وتحويلها إلى منتجات جاهزة للتسويق، وقد وجدوا في أوربا أسواق عطشى متلهفة للحصول على هذه المنتجات.
• المسلمون ومعاملة الأسرى:(113/6)
وتبرز هونكة في كتابها موقفا من المواقف الفريدة للتسامح العربي والإسلامي، وهو موقف المسلمين من أسرى الحروب الصليبية وما تلقاه هؤلاء الأسرى من حسن المعاملة، فتقول: "على العكس من الفظاعة المسيحية، اتسمت معاملة العرب للأسرى المسيحيين بالحسنى والنبل والشهامة، وقد كان ذلك محط تقدير واحترام ألمانيين؛ فهذا "أوليفيروس" الواعظ والمعلم الكنسي والمكلف بالدعاية للحملات الصليبية يكتب رسالة إلى السلطان الكامل عام 1221م يقول فيها: "منذ أقدم العصور لم نسمع بمثيل لذلك، جموع من الأعداء تتحلى بمثل تلك الأخلاق الكريمة تجاه أسراهم.. لا أحد يجرؤ على الشك بأن تلك الأخلاق النبيلة واللطف والرحمة والشفقة هي هبة الله لك. أولئك الرجال الذين قتلنا آباءهم وأمهاتهم وأبناءهم وبناتهم وإخوتهم شر قتلة، وجلبنا لهم اللوعة والحرقة، كانوا هم الذين أقروا عيوننا وأنعشونا وأحيونا بطعامهم وشرابهم بعد أن شارفنا على الموت جوعا، وغمرونا بعد ذلك كله بجميل صنائعهم، وقد كنا تحت سيطرتهم وفي قبضتهم".
وتعلق هونكة على الرسالة قائلة: "هذه الشهامة وروح الفروسية لم تكن استثناء وحيدا، إذ طالما أخجلت السماحة العربية أولئك المسيحيين الذين يسعون بلا شفقة ولا رأفة لهدم الإسلام وتقويض بنيانه. لقد فتح أبناء الغرب أعينهم بعد عصور من أساطير الرعب القاتمة حول هؤلاء العرب المسلمين ليروا ما يخطف أبصارهم، ويبهر أنظارهم من ذلك الأسلوب العربي في الحياة بأناقته وظرافته وبهائه وبهجته، ومن تلك الحضارة المثيرة بغرابتها، المتفوقة على حضارة الغرب آنذاك بكل نواحيها".
وهكذا كانت زيغريد هونكة منصفة كل الإنصاف للإسلام وحضارته في كل ما كتبت من كتب وأبحاث ولم يمنعها انتماؤها للغرب وحضارته أن تقول كلمة الحق وتعلي من شأن الإسلام دون محاباة أو تحيز.(113/7)
العنوان: أشهر عمليات القتل في المدارس الأمريكية
رقم المقالة: 604
صاحب المقالة: خاص: الألوكة
-----------------------------------------
أثار حادث إطلاق النار الأخير الذي وقع في جامعة فرجينيا للتكنولوجيا بولاية فرجينيا (شرق الولايات المتحدة) موجة استنكار واسعة في الأوساط الأمريكية الشعبية والسياسية والإعلامية، وهي تراقب المدارس وقد تحوّلت إلى مسارح للعنف والقتل والتهديد، حصدت الأسلحة النارية فيها أرواح المئات من الطلبة خلال تواجدهم في الفصول الدراسية أو أماكن سكن الطلاب في الجامعات.
الحادثة الجديدة أعادت للأذهان العديد من عمليات القتل التي شهدتها المدارس الأمريكية خلال السنوات السابقة، والتي شكّلت إحدى خصائص تلك المدارس، فعلى خلاف الهجوم الذي وقع في مدرسة (غوتنبرغ) بألمانيا في 26 إبريل 2002، والذي أسفر عن مقتل 18 شخصاً، فإن المدارس الأمريكية تعتبر بامتياز، نموذجاً متفرداً في العنف والقتل والتمييز العنصري في المدارس الغربية للدول التي تدعي التحضّر والرقي.
الحادثة ليست الأولى، ولن تكون الأخيرة طالما أن القانون الأمريكي يسمح بامتلاك أسلحة بيد المواطنين الأمريكيين حماية لأرواحهم (!) إلا أن هذه الواقعة هي الأعنف حتى الآن منذ تأسيس الولايات المتحدة.
مجريات الواقعة المجزرة:
وقعت حادثة إطلاق النار الأخيرة عند الساعة السابعة والنصف من صباح يوم الاثنين 16 إبريل 2007، قام خلالها مسلح يحمل معه مسدسان ومخازن كافية من الرصاص، بإطلاق النار على إحدى عنابر النوم الخاصة بطلاب كلية التكنولوجيا في ولاية فرجينيا، مما أدى إلى مقتل طالبين على الأقل، قبل أن يختفي عن الأنظار، ما جعل الشرطة التي طوّقت المكان تعتقد أنه تمكن من الهرب والقفز خارج أسوار الجامعة.(114/1)
إلا أن المسلح الذي كشفت السلطات عن هويته لاحقاً، تمكن من الاختباء فترة، قبل أن يتوجه إلى إحدى قاعات الدراسة في نفس الجامعة، وعند الساعة 9:20 دقيقة صباحاً، أطلق النار باتجاه طلاب الفصل في عدة قاعات وفصول دراسية، ما أدى إلى مقتل 27 طالباً وطالبة فضلاً عن مقتل اثنين من حملة درجة البروفيسور، كما أصيب عدد آخر بجراح، قبل أن يلقى المسلح حتفه برصاصة من نفس المسدس الذي قتل به الطلاب، مما يشير إلى قيامه بالانتحار!
المسلح الذي لم تعرف بعد دوافعه لهذا الهجوم، استطاع التنقّل داخل الحرم الجامعي الذي يضم نحو 25 ألف طالب وطالبة، فيما كانت الشرطة تختبئ خلف الأشجار والمباني، ولم تتمكن من الوصول إليه _رغم استمرار الهجوم مدة ساعتين- إلا بعد أن أصبح جثة هامدة!
يقول أحد الشهود العيان: "إنه سمع صوت إطلاق نحو 100 طلقة خلال المواجهات المسلحة"، كانت غالبيتها العظمى من مسدس المهاجم الذي قالت الشرطة فيما بعد "إنه كوري جنوبي، يدرس في السنة الأخيرة بقسم اللغة الإنكليزية في الجامعة".
العديد من التقارير الإعلامية تحدثت عن فشل السلطات المختصة وخاصة الإدارة الجامعية في إرسال معلومات أولية لطلاب الجامعة بوجود خطر على حياتهم، حيث كان بالإمكان إخلاء بعض أقسام الجامعة التي يشتبه في وجود المسلح فيها خلال الساعتين اللتين تفصلان واقعتي إطلاق النار. وقد اتهم الطلاب إدارة الجامعة بالتقصير في ذلك، إلا أن تشارلز ستيجر (مدير الجامعة) قال: "إن الجامعة أغلقت العنبر بعد حادثة إطلاق النار الأولى، وقررت الاعتماد على البريد الإلكتروني والوسائل الإلكترونية الأخرى لإخطار أعضاء الجامعة وطلابها بالحادثة، ولكن مع وجود 11،000 شخص في الحرم الجامعي في ذلك الوقت، بات من الصعب إيصال الخبر لهم". مؤكداً أن إدارة الجامعة اتصلت بالمستشارين المقيمين في العنابر، الذين أُرسلوا لنشر الخبر شفهيا بين الطلاب والطالبات في عنابر نومهم!(114/2)
تسلسل لأشهر عمليات العنف في المدارس الأمريكية:
لم تكن هذه الحادثة هي الأولى من نوعها، إذ يزخر تاريخ المدارس الأميركية بمئات عمليات القتل والعنف، وفيما يلي أشهرها:-
3 يناير 2007: أطلق مسلح النار على طالب في مدرسة هنري فوس الثانوية في بلدة تاكوما بولاية واشنطن الأمريكية، مما أسفر عن مقتل أحد الطلاب، قبل أن تقوم الشرطة باعتقال المهاجم بعد هروبه من المكان.
وتضم المدرسة الثانوية 1700 طالباً، شاهد بعضهم عملية القتل بأعينهم، مما أثار موجة من الذعر بين الطلاب الذين أمضوا يومهم في المنازل.
أكتوبر 2006: قام رجل يدعى تشارلز كارل روبيرتس، يبلغ من العمر 32 عاماً، باقتحام مدرسة لطائفة الاميش (طائفة مسيحية بروتستانتية محافظة) في مقاطعة لانكستر بولاية بنسلفانيا الأمريكية. وفي إحدى الفصول الدراسية أمر جميع التلاميذ الذكور وبعض البالغين بمغادرة المكان، ثم أوثق مجموعة من الفتيات، وحاول اغتصابهن، إلا أن وصول الشرطة إلى المكان أفقده صوابه، فقام بإطلاق النار على الطالبات الواحدة تلو الأخرى، قبل أن يطلق النار على نفسه وينتحر.
إطلاق النار أسفر عن مقتل خمس تلميذات وإصابة ستة أخريات، عانين من جراح بليغة وعمليات.
الكولونيل جيفري ميلر في شرطة الولاية قال: "إن المسلّح قتل ضحاياه بأسلوب الإعدام." وخلال التحقيقات اللاحقة، تبين أن روبيرتس هو أب لثلاثة أطفال، وقد قام بعمله بشكل طبيعي في الليلة السابقة للهجوم.
وأشار ميلر إلى أن جميع الضحايا كنّ من الفتيات الصغيرات بين السادسة والـ13 من العمر.
سبتمبر 2006: قام رجل مسلح باحتجاز رهائن في مدرسة "بلات كانيون" العليا بمدينة "بايلي" في ولاية كلورادو الأمريكية، انتهت بمقتل إحدى طالبات المدرسة، وانتحار منفذ العملية.
وحسب المصادر الأمنية فإن منفذ الهجوم، قام باحتجاز 6 طالبات كرهائن بأحد الفصول في المدرسة، ثم قام بإطلاق النار على إحدى الرهائن، ثم أطلق رصاصة على رأسه.(114/3)
وفيما سقط منفذ الهجوم قتيلاً على الفور، تم نقل الفتاة المصابة (16 عاماً) إلى مستشفى "سانت أنطوني" المركزية في مدينة دنفر، حيث لفظت أنفاسها الأخيرة بعد قليل من وصولها.
وفي حيثيات العملية، قالت السلطات الأمنية: "إن المختطف منحهم مهلة حتى الرابعة من بعد الظهر للاستجابة إلى مطالبه، ثم قام بقطع الاتصالات مع الشرطة قبل هذا الموعد بنحو 30 دقيقة". وخلال المفاوضات أفرج المسلح عن أربع رهائن، ولكن الشرطة اقتحمت الغرفة، ما جعل المسلح يطلق الرصاص على إحدى الرهينتين قبل أن يقتل نفسه.
مارس 2005: أطلق طالب في مدرسة أمريكية بولاية مينسوتا النار على زملائه ما أدى إلى مقتل تسعة أشخاص وجرح عشرة آخرين، قبل أن يطلق الرصاص على نفسه وينتحر.
المدرسة التي تضم نحو 300 طالبا وتقع على الحدود الأمريكية الكندية عاشت لحظات ذعر كبيرة، أدت إلى حالات هستريا بين الطلاب، حيث فرّ غالبيتهم من المدرسة خلال إطلاق النار.
وقالت السلطات الأمنية المحلية في ذلك الوقت: " إن الشاب الذي كان مسلحا بعدة أسلحة، دخل إلى المدرسة ثم بدأ في إطلاق النار فقتل عددا من زملائه الطلاب وحارس أمن ومدرّس". مؤكدة أنه كان قد قتل شخصين على الأقل قبل اقتحامه المدرسة هما جده وجدته!!
28 أكتوبر، 2002: أطلق طالب فاشل سابق يدعى روبرت فلور (40 عاماً) النار داخل مدرسته السابقة في مدرسة التمريض بجامعة أريزونا الأمريكية، ما أسفر عن مقتل ثلاثة من مدرسيه السابقين، قبل أن يطلق النار على نفسه وينتحر.
وحسب المعلومات التي توفرت آنذاك، فإن الطالب السابق كان يتسلح بخمس مسدسات(!) عندما دخل إحدى فصول مدرسة التمريض، وقام بإطلاق النار على مدرسيه السابقين، في عملية وصفتها السلطات الأمنية بأنها "انتقامية"!!(114/4)
16 يناير، 2002: اقتحم طالب سابق في الدراسات العليا بكلية (ابلاتشين) لدراسة القانون في ولاية فرجينيا الجامعة، وأطلق النار على مجموعة من الطلاب والمدرسين، مما تسبب في مقتل عميد الكلية وأستاذ وطالب، كما جرحت 3 طالبات.
المهاجم الذي كان قد فصل من الكلية في وقت سابق يدعى بيتر أوديهيزوا، (42 عاماً)، ويبدو أنه قام بالهجوم انتقاماً لطرده من الكلية، الأمر الذي كلّف حياة عميدها وأحد أساتذتها.
28 أغسطس، 2000: قام طالب مسلح في جامعة (أركانساس) للدراسات العليا، بإطلاق النار على أستاذه المشرف جون لوك (67 عاماً) مما أدى إلى مقتله، قبل أن يطلق النار على نفسه وينتحر.
الطالب الذي يدعى جيمس كيلي (36 عاماً) كان يدرس الدكتوراه، إلا أن أستاذه المشرف أنقص من درجاته، ما حدا به للانتقام بهذه الصورة!
مارس 2001: قام مسلح بفتح نيران مسدسه على طلاب في مدرسة (سانتانا) الثانوية في سانتي بولاية كاليفورنيا الأمريكية، مما أسفر عن مقتل شخصين وإصابة ثلاثة عشر آخرين على الأقل غالبيتهم من الطلبة.
وحسب تصريحات الشرطة، فإن المهاجم ليس إلا طالباً في المدرسة التي تضم نحو ألفي طالب وطالبة، كان يعاني من عقدة بين زملائهم بسبب السخرية المستمرة من قبلهم تجاهه، ما حداه إلى استعمال مسدس من عيار 22 ملم، أفرغه في أجساد زملاءه.
إحدى الطالبات في المدرسة قالت: "إن المتهم كان يتفاخر في وقت سابق بامتلاكه سلاحا لكن لم يصدقه أحد".
أبريل 1999: قام طالبان بفتح النيران على مجموعة من زملائهم في إحدى مدارس دينفر بولاية كولورادو، مما أدى إلى مقتل 12 طالباً على الأقل، فضلاً عن مقتل أحد مدرسي المدرسة.
وتعتبر هذه الحادثة من أشهر حوادث القتل في المدارس الأميركية، بسبب عدد الطلاب الذين قتلوا وجرحوا خلالها، حيث أكد الطلاب أن المهاجمين قاما بفتح النيران بشكل عشوائي على الطلاب، بشكل جنوني وبلا مبالاة.(114/5)
مارس 1998: أطلق طالبان أيضاً النار على الطلاب في مدرسة ويستسايد المتوسطة في مدينة جونزبورو بولاية اركنساس الأمريكية، مما تسبب في مقتل 4 طلاب على الأقل ومدرّس، خلال خروجهم من المدرسة بعد الظهر. المثير للغرابة أن أحد الطالبين المهاجمين عمره (13 عاماً) أما الآخر فعمره (11 عاماً)!!
أغسطس 1996: فتح مارتن دفيدسون -طالب الهندسة في الدراسات العليا- النار على طلاب كليته في ولاية سان ديجو، مما أدى إلى مقتل 3 من أساتذته.
وحسب المعلومات التي نشرت آنذاك، فإن الطالب الذي يبلغ من العمر (36 عاماً) كان على وشك مناقشة رسالته، إلا أنه أخرج مسدساً من جيبه وأفرغه في الأساتذة الثلاثة.
أغسطس 1966: قام طالب تشارلز وايتمان بتسلق قمة مبنى في جامعة تكساس في مدينة أوستن، وبدأ بإطلاق النار على طلاب الجامعة بشكل دقيق ومتكرر، ما أدى إلى مقتل 16 طالباً، كما أصاب 31 آخرين بجروح، قبل أن تتمكن الشرطة التي طوّقت المكان من إصابته وقتله.
وقد سجّل هذا الحدث كأشهر حادثة إطلاق في الجامعات الأمريكية لسنوات طويلة، قبل أن يفوز الطالب الجديد الذي يدعى شو سونغ-هوي (الكوري الجنوبي) بهذه الشهرة، بعد أن قتل 32 شخصاً في جامعة فرجينيا للتكنولوجيا!!
وبانتظار طالب آخر يحتل هذا المنصب (!!!) لا تزال الأوساط السياسية والإعلامية والشعبية الأمريكية تعيش حالة من القلق والمخاوف من استمرار وجود الأسلحة بين أيدي المواطنين الأميركيين، حسبما ينص التعديل الثاني في الدستور الأمريكي!(114/6)
العنوان: أشواقُ الأبحدية... وهُتاف الدموع
رقم المقالة: 1857
صاحب المقالة: بدر بن محمد عيد الحسين
-----------------------------------------
غرّدَ بُلبلُ نفسي الحبيس، وراحَ يتنقّل من حسّ إلى حسّ ، ففاحت ورود الرحمة و الجمالِ في جوانحي، وأيقظت الشرايينَ الوسنى والأخيلة الناعسة، فتحفّزت مشاعرُ الفرح في أرجاء كياني، صارت كفراشةٍ تائهة تلاحقُ خيوط الضياء ....وكعينٍ عاشقة انسربت روعة الطبيعة في أهدابها، وتغلغلت في أحداقها. كبرادة حديدٍ تنجذبُ نحو مغناطيس
مشيتُ إلى هناكَ حيثُ أرادَ البلبل الجريح...جلستُ فوق مرج العشب الأخضر، وفتحتُ شبابيك نفسي، ونزعتُ القيود عن لغتي فراحت الحروف تتقافز كالعصافير، يُضاحكُ بعضها الآخرَ فتارةً تُنشدُ شعراً، وتارة أخرى تُبوحُ نثراً، وترتفع في الأفق، وترتفع حتى لتكادُ أجنحتها تلامسُ السّحب البيض فتسبّحُ الخالق وتعود...
كانت لغتها ساحرة وهي تحلّقُ في الفضاء، وتغتسلُ بنسائم المساء، وتتندّى برحيق السّحاب..
وكانت تنتظمُ الخميلةَ رهافةُ الإحساس وتناغمُ الأجناس فكلّما غرّدت البلابل فوق الأفنان عبّرت الزهور عن فرحها، وراحت تُحمّل أشواقها أريجاً مندّى...فتصفّقُ الغصون وتطرب، وتَأنسُ السّاقية الحالمة فتضمّ رسالةَ الأصيل، وتُرسلها قصيدةَ عشق عبرَ خريرها المتناغم.....
يا للهِ ما أحلى تلكم الحروف التي تبرُق كاللآلىء، وتسبَحُ كالأفلاك، وتطيرُ كالكناري، وتفوحُ كأوراق الياسمين، وتُمتّع الناظَر كأوراق الزنابق ذات الخضرة الداكنة....وأنا أتساءل كيف أنّ هذه الحروف لم تبرُق ولم تَسْبَح في كياني... هل تحوّل جسدي إلى زنزانةٍ مُخيفة ؟..هل عَقِمَت أفكاري عن بثّ الفرح في ثنايا تلكم الحروف ؟ أم أَنَّ مرآة فكري صَدِئت فلم تَعُد قادرة على تمييز الحُسن الذي يتهلل من قسمات وجهها، وينسابُ روعة من ضفائرها...؟(115/1)
قرأتُ عشراتِ اللغات في الخميلة فكانت كلّها لغات عَذبة حروفها واحدة ولكنّ معانيها مختلفة، فلغة الضياء هي ذاتها لغة السّحاب ..ولكنّ الأولى توقظُ العيون والثانية توقظ الغصون....
ولغةُ الورد هي ذاتها لغةُ الفراش... لكنّ الأولى تكتبُ العطر والثانية تعشقُ العطر..
ولغة النّسيم هي ذاتها لغة القمر فالأولى ترسمُ الأشواق والثانية تلوّنها بالنور..
وهنا هتفَ الأصيلُ، وأسفرَت الشمس عن وجه حزين، وراحت تُلقي نظرات الوداع الأخيرة على الخميلة الباسمة...
الخميلة بدأت تتوشّحُ بالسّواد، وبدّلَ سكانُها مشاعرَ الأمان بأُخرى من حَذَر، أوت الأطيار إلى الأغصان، وكأنّي بالأغصان تَسعدُ بإيواء الأطيار، والأزهار تأنسُ برفقة الفراش، والساقية ترحّب بغناء الكروان.... والأوكارُ تُخبّىء الأرانب والغزلان....
كانت الخميلة قصّة سلام، وموكبَ محبّة، وآيةَ حُسن بديعة من آيات الله...وقصيدةَ شعرٍ مكتوبةٍ بلغة المحبّة ومداد الطّهر.... موزونة على بحر الصّفاء، قافيتها خدود الزّهر ورويّها جداول ندى الصّباح المتدفّقة....
كانت جلسةً ماتعة، وساعةً روحانيّة وشاعريّة في عالمٍ ليس فيه تنافس ولا تناهب، أحسستُ أنّ نفسي صارت أنقى من حبّات البَرد، وأصفى من البِلّور، زالَ عنها الصّدأ، وتحوّلت خدودها الذابلة إلى أخرى متورّدة، كانت الشرايين تنسابُ في جسمي انسيابَ الفرح في الشفاه، و نبضات قلبي تدقّ بصوت ذي إيقاعٍ شجيّ أشبه برنّة الحُداء....
كانت لحظاتٍ امتزجَ فيها الخيال مع الواقع فازدادَ الخيالُ واقعيّةً، والتقى الحزن مع الفرح فازدادُ الحزنُ نُبلاً، والحَذر مع الأمان فاكتسى الحذرُ بأثواب السّكَن...(115/2)
وعندما أردتُ العودة، طفقتُ أبحث عن حروفي المتناثرة هنا وهناك، أنزعُ حرفاً تعلّق بضفّة ، وآخرَ ارتمى في حضنِ فراشة، وثالثٌ هاجرَ مع سنا الأصيل... وعندما لم أتمكّن من العثور إلا على بضعة أحرف، ضممتها إليّ و قبّلتها، ثمّ نثرتُها بين ذرات النسيم العليلة.. لعلّها تجدُ لساناً أكثر وفاءً، وقلباً أكثر ذكاءً، وصدراً أكثر اتّساعاً، ونفساً أكثر شفافيةً...
وهأنذا أعودُ بلغة جديدة...لغةٌ شَرود، حروفُها من أسى، ونقاطها من ألم... إنها لغة الدموع ؟؟!!!(115/3)
العنوان: أشواق الحجاز
رقم المقالة: 228
صاحب المقالة: إبراهيم طوقان
-----------------------------------------
بِلادَ الحِجَازِ إِلَيْكِ هَفا فُؤادِي وَهَامَ بِحُبِّ النَّبِي
وَيا حَبَّذا زَمْزَمٌ والصَّفَا ويَا طِيبَ ذَاكَ الثَّرى الطَّيِّبِ
ذِكْرَى الهَادِي والأمْجَادِ مِلءُ الوَادِي والأنْجَادِ
أثَرُ الهِمَمِ مُنْذُ القِدَمِ حَوْلَ الحَرَمِ أبَدًا بَادِ
بِلادَ الكِرامِ شُموسِ الهُدَى
عَلَيْكِ سَلامِي مَدًى سَرْمَدا
هَنيئًا لِمَنْ حَضَرَ المَشْهَدا وَطَافَ بِكَعْبَةِ ذَاكَ الحَرَمْ
وَمَنْ قَبَّل الحَجَرَ الأسْوَدا وَظَلّلَهُ الرُّكْنُ لما اسْتَلَمْ
بِروحِي رُبُوعَ النَّبِيّ الأمِينْ وَصَحْبَ النَّبِيِّ هُدَاةَ الملا
وَمَشْرِقَ نُورِ الكِتابِ المبينْ عِمادَ الحَياةِ وَرُكْنَ العُلا
ذِكْرَى الهَادِي والأمْجَادِ مِلءُ الوَادِي والأنْجَادِ
أثَرُ الهِمَمِ مُنْذُ القِدَمِ حَوْلَ الحَرَمِ أبَدًا بادِ
بِلادَ الكِرَامِ شُموسِ الهُدى
عَليكِ سَلامِي مدًى سَرْمَدا(116/1)
العنوان: أصحابُ الأحذية الضيقة!
رقم المقالة: 1875
صاحب المقالة: طارق حسن السقا
-----------------------------------------
"إذا ذهب الفقرُ إلى بلد، قال له الكفرُ: خذني معك". عبارة قالها منذ قرون بعض الحكماء، وكأنه أراد أن يَلفِت أنظارَ الخاصة والعامة -في كل زمان ومكان- إلى الأضرار الماحقة التي تتولدُ من تفشي ظاهرة الفقر وانتشارها في مجتمعاتنا. تلكم الظاهرة التي يجب ألا نتغافل عن انتشارها. فالسكوتُ على انتشار تلك الظاهرة وتناميها، وعدم التصدي لها أشبهُ ما يكون بالانتحار البطيء.
إن المجتمعَ الذي يديرُ ظهرَه لمشكلة الفقر، ويتساهلُ في علاجها من جذورها، أشبهُ بمن يكنس التراب تحت السجادة؛ فالفقرُ لا يؤذي الفقراءَ فقط، إنما يؤذي المجتمعَ كله بكل طبقاته وطوائفه، فالمجتمع حينما يتغافل عن تفشي هذه الظاهرة، فهو بذلك يساعد على تغذية حقد العاطلين، وتشجيع رُوح الانتقام عند المحتاجين، ويساعد في تنامي رغبة المُعْوِزين في الاستحواذ والسيطرة علي أموال الأغنياء بكل السبل الملتوية، أو الحيل الجنونية. وهذا كله يؤدي إلى تنامي معدلات الجرائم، والسرقات، والاختلاسات، و(البلطجة)، والعنف، وقد يصل الأمر في بعض الأحايين إلى نشوب حروب مدمرة.
لذا -ونحن نتكلم عن مخاطر تفشي ظاهرة الفقر في مجتمعاتنا- يجب ألا تغيبَ عن أذهاننا حقيقةٌ مفادها أنه "لا فائدة من هذه الدنيا الواسعة في نظر المرء إذا كان حذاؤه ضيقًا". حقا فلا فائدة من هذه الدنيا الواسعة في نظر أي شخص ما دام محرومًا من أيسر مقومات الحياة. فمهما قال القائلون، ومهما وعظ الواعظون، ومهما خطط السياسيون، ومهما وضع المخططون من برامج، وبذلوا من جهود صوبَ تغيير تفكير هذه الطبقة، فلن يرى هؤلاء في هذه الدنيا لا فسحةً ولا رحابةً؛ لأن ما يشغلهم فقط هو الهمُّ الشخصي، والاحتياجاتُ الأساسية، والحذاءُ الضيّق.(117/1)
إن المشكلةَ تكمن في أنه ما دام الحذاءُ ضيقا، فلا تنتظرْ من هؤلاء لا تفكيرًا في انتماء، ولا في ولاء، ولا في عطاء، ولا في زيادة إنتاج، ولا في دفاع عن مقدسات، ولا في تطبيق سياسات، ولا تفاعل مع توجهات المجتمع، ولا........، ولا........ إلى آخر هذه المعاني السامية التي يعدونها -من وجهة نظرهم- مجردَ شعارات، أو على أقل تقدير (كلام فاضي). فإذا أردت أن تجعلني أشعرُ بالعالم من حولي، وأتفاعل مع قضاياه، وهمومه، ومشاكله، فخَلِّصني أولاً من حذائي الضيق، وبعدها اطلُب منى ما تشاء.
ودعنا ننتقل معا -أنا وأنت- إلي القرن الثالث الهجري، ونتوجه سريعًا إلى بغداد، وبالتحديد إلى قصر المأمون (170هـ: 218هـ)، في اليوم الذي كان فيه ينظر من شرفة قصره، فرأى رجلا قائمًا وبيده فحمةُ يكتب بها على حائط قصره. فنادى المأمونُ خادمَه، وطلب منه أن يأتي بالرجل، ولينظر ماذا كتب. فبادر الخادمُ إلى الرجل مسرعًا، فقبض عليه، ونظر إلي ما كتبه، فإذا ما كتب على الجدار: بيتان من الشعر فيهما يتمنى خرابَ قصر المأمون العامر.
ولما علم المأمونُ بما كتبه الرجل، سأله عما دفعه لكتابة ما كتب، وتمني ما تمنى. فقال له الرجل: يا أمير المؤمنين، لا يخفى عليك ما حواه قصرُك من خزائن الأموال، والحلي، والطعام، والشراب، والفرش، والأواني، والأمتعة، والجواري، والخدم، وغير ذلك مما يقصُرُ عنه وصفي، ويعجز فهمي. وإني يا أمير المؤمنين مررتُ على قصرك وأنا في غاية الجوع والفاقة. فوقفتُ مفكراً في أمري، وقلتُ في نفسي: هذا القصر عامر عال، وأنا جائع، ولا فائدة لي فيه، فلو كان خرابًا ومررتُ به لم أعدَم منه رخامة، أو خشبة، أو مسمارًا، أبيعُه لأتقوّت بثمنه.(117/2)
إن الإنسان -كما يقول أنيس منصور- أمام الأوضاع التي لا يريدها يمر بأربع مراحل: مرحلة الغضب، مرحلة السخط، مرحلة التمرد، مرحلة الثورة. إن هذا الرجل وأمثاله -وهم بيننا كثرة- تمنى خرابَ قصر الحاكم كله، لينعم منه فقط بخشبة أو بمسمار ليتقوت بثمنه. ولكن الخطر لا يكمن هنا في مرحلة التمني، ولكنه يكمن في مرحلة ما بعد التمني. وهذا ما يجب أن يشغلنا جميعا. إن أمثال هؤلاء إن لم يتكاتف المجتمعُ بكل طوائفه (وخاصة رجال المال، والأعمال، والتجار، والميسورين) في حل مشكلاتهم، وتخليصهم من الحذاء الضيق، فقد يكون البديل إما مرحلة التمرد، وإما مرحلة الثورة. وعندها لن يأمن صاحبُ مال على ماله، ولا صاحبُ أعمال على أعماله، ولا صاحبُ ملك على أملاكه، أمام جوع الجائعين، وفقر العاطلين، وحاجة المحتاجين من أصحاب الأحذية الضيقة.
إن الإسلام لما فرض على المسلمين فريضةَ الزكاة، إنما أراد أن يقر في المجتمع مبدأ، به يأمنُ الغني، وينعم الفقير. فالزكاة تهدُف إلى تحقيق مبدأ سامٍ في مجتمعاتنا الإسلامية ألا وهو: (اكسب ويكسب معك الآخرون، لتنعم وينعم معك الآخرون، ولتأمن وليأمن معك الآخرون). لذلك من الحكمة أن ينظر كل منا إلى أمواله على أنها ملكية عامة وليست ملكية خاصة؛ وذلك ليسهل على النفس الإنفاقُ منها، والتصدق بها، عن طيب نفس وقت الحاجة دون تلكؤ أو تسويف. ومن الحكمة أيضا ألا نغلِّبَ الإيمانَ بالميزان التجاري على الإيمان بالميزان الإلهي. صحيح أن الميزان التجاري يقول إن (3-1 = 2)، ولكن الميزان الإلهي يقول: (يا ابن آدم أَنفق أُنفق عليك). دقق في المُحصلتين سترى عجبًا.(117/3)
إن سلعة القادة العظام –كما يقول أنطوني روبنز– هي الأفعال وليست الأقوال. وما نحن مطالبون به الآن أن نبدأ على الفور؛ نبدأ بطَرْق باب جار، أو بالبحث عن فقير، نبدأ بفعل شيء، أو باتخاذ قرار، أو بالتفكير في (سيناريوهات) بها يساعدُ كل قادر في تحويل أحد العاطلين من دائرة الفقر إلى دائرة الاكتفاء؛ ومن ثم إلي دائرة الإنتاج.
إن أفضل طريقة لمساعدة الفقير ليست هي أن نعطيه سمكة، ولكن أن نعلمه كيف يصيد السمكة -كما تقول الحكمة الصينية القديمة-. إن أفضل طريقة لمساعدة الفقراء ليست أن نعطيهم مالا، إنما أن نبين لهم أنَّ أمامهم مجموعةً من الاختيارات والبدائل يمكن أن تساعدهم في تنمية مواردهم حتى يصلوا إلى الاكتفاء، ومن ثم الانتقال إلي دائرة العطاء.
هذه هي الثقافة التي يحب أن نتحلى بها، وننشرها في مجتمعاتنا، هذه هي الثقافة التي يجب أن يتبناها رجالُ الأعمال يدًا بيد مع المؤسسات الرسمية في الدولة إذا أردنا تحقيق معدلات إيجابية في تقليص أعداد أصحاب الأحذية الضيقة في مجتمعاتنا.(117/4)
العنوان: اصطلاحات الحج
رقم المقالة: 1693
صاحب المقالة:
-----------------------------------------
* الأشهر الحُرُم: وهي ذو القَعْدَة، وذو الحجة، والمحرَّم، ورجب، قال – تعالى -: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} [التوبة: 36]، وفي الحديث قوله: ((الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، السَّنة اثنا عشر شهرًا؛ منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرَّم، ورجب مضر، الذي بين جمادى وشعبان)).
* الإهلال: وأَهَلَّ المُحرِمُ بالحج إذا لَبَّى ورفَع صوتَه؛ فالإهْلالُ بالحج: رَفْعُ الصوت بالتَّلْبية؛ وأَهَلَّ المُعْتَمِرُ: إذا رفع صوتَه بالتَّلْبِية. والمُهَلُّ، بضم الميم: موضعُ الإهْلال، وهو الميقات الذي يُحْرِمون منه، ويقع على الزمان والمصدر. والمُحرِمُ يُهِلُّ بالإِحْرام: إِذا أَوجب الحُرْم على نفسه. وإنما قيل للإحرام إهْلال؛ لرفْع المُحرِمِ صوتَه بالتَّلْبية؛ وفي حديث عائشة - رضي الله عنها - في حجة الوداع، قالت: "خرجنا مع النبي في حجة الوداع، فمِنَّا مَن أهلَّ بعمرة، ومنا مَن أهلَّ بحج".(118/1)
* أيام التشريق: وهي ثلاثة أيام بعد يوم النحر، يعني من ثاني أيام عيد الأضحى إلى الرابع، وسُمِّيت هذه الأيام بذلك؛ لأنهم كانوا يُشرِّقون فيها لحوم الأضاحي في الشمس، وتشريقُ اللحم: تقطيعه، وتقديده، وبسطه، قال أبو عبيد: "سميت أيام التشريق؛ لأنهم كانوا يُشرِّقون فيها لحوم الأضاحي؛ أي: يقطعونها، ويقددونها؛ أو لأنها كلها أيام تشريق لصلاة يوم النحر، فصارت تبعًا ليوم النحر"، كما في "فتح الباري"، وهي الأيام المعدودات، الواردة في قوله - تعالى -: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَات} [البقرة: 203]، وتسمى أيضًا: أيام مِنًى؛ لأن الحاجَّ يكون موجودًا فيها تلك الأيام.
* أيام مِنى: هي أيام التشريق، وأضيفت إلى مِنًى؛ لإقامة الحاج بها لرمي الجمار.
* الحج الأكبر: يوم النحر.
* الحج الأصغر: يطلق على العمرة، وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: "الحج الأكبر يوم النحر، والحج الأصغر العمرة".
* المِيقاتُ: موضع الإهلال بالحج أو العمرة، فميقاتُ أهل الشام موضعُ إحرامهم، وميقات الحج: وقت الإحرام به، وموضعه.
*يوم التروية: اليوم الثامن من ذي الحجة، ويُستحب أن يذهب الحجيج فيه إلى مِنى، سُمي بذلك لأن الناس كانوا يرتوون فيه من الماء تزودًا للخروج لمنًى وعرفة، وهو اليوم الذي يخرج فيه الحجيج إلى منًى للمبيت فيها؛ ويسمى أيضًا يوم النَّقْلة، لانتقالهم فيه من مكة إلى مِنًى.
* جبل الرحمة: جبل بوادي عرفات، ألقى فيه رسولُ الله خطبةَ حجة الوداع، ويقال له: جبل الدعاء؛ وفي حديث جابر في صفة حجة رسول الله: "... فجعل بطن ناقته القصواء على الصخرات، وجعل حَبْل المشاة بين يديه، واستقبل القبلة... " ولا يُشرع صعوده إجماعًا؛ بل عَدَّ بعضُ أهل العلم تحري الصعود عليه من البدع.(118/2)
* الجمرات: الجمرة الحصاة، وهي في الحج موضعُ رمي الجمار بمِنى، وهي ثلاث جَمَرات يُرمين بالجِمَار، الجمرة الأولى والوسطى، وهما قرب مسجد الخيف مما يلي مكة، والجمرة الكبرى، وتسمى جمرة العقبة، وهي في آخر منًى مما يلي مكة.
* التعْريفُ: الوقوف بعرفات؛ وعَرَّف القومُ: وقفوا بعرفة؛ ويقع جبل عرفة على الطريق بين مكة والطائف، شرقي مكة بنحو اثنين وعشرين كيلو مترًا، وعلى بُعْد عشرة كيلو مترات من مِنى، وعلى بُعْد ستة كيلو مترات من المزدلفة، وهي سهل منبسط محاط بقوس من الجبال، ووقر هذا القوس وادي عرفة، وعرفة كلها موقف، كما جاء في الحديث، والوقوف بها بعد صلاة الظهر من يوم التاسع من ذي الحجة، وعرفة هو المَشعَر الحلال.
* المُزْدَلِفة: وتسمى مزدلفة، وقُزَح، وجَمْع، والمَشعَر الحرام، وهي مكان بين بطن مُحَسِّر والمأزِمين، تقع في منتصف الطريق الموصلة بين منى وعرفات، على بُعد نحو 5،5 خمسة كيلو مترات ونصف من مِنى، سميت بذلك إما من الاجتماع، أو الاقتراب؛ لأنها مقربة من الله، وإما لازدلاف الناس إليها بعد الإفاضة من عرفات، وإما لاقتراب الناس إلى منى بعد الإفاضة من عرفات، وهي مبيت للحاج، ومجمع الصلاة بعد الإفاضة من عرفات.
* المَشْعَر الحرام: يطلق على مزدلفة كلها، وهو مصلى الناس بعد الإفاضة من عرفات، يصلُّون فيه المغرب والعشاء جمع تأخير، ويصلُّون فيه فجر أول أيام الأضحى قبل التوجه إلى الرمي، والمبيت فيه واجب؛ كما يُطلق "المشعر الحرام" على "قُزَح" بضم القاف، وفتح الزاي، وهو جبل معروف في المزدلفة، وقف عليه النبي فجر يوم النحر، فدعا الله وكبره وهلَّله، فلم يزل واقفًا حتى أسفر جدًّا، ثم توجه تلقاء مِنًى.
* مقام إبراهيم: هو الحَجَر الذي قام عليه إبراهيم - عليه السلام - حين رفع بناء البيت. وهو المشار إليه في قوله – تعالى -: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125].(118/3)
* المُلْتَزم: بضم الميم وسكون اللام وفتح التاء، وموضعه ما بين الحجر الأسود والباب، سمي بذلك لالتزامه الدعاء والتعوذ؛ ويقال له: المَدْعَى والمتعوَّذ، روى البيهقي عن ابن عباس أنه كان يقول: "ما بين الركن والباب يُدعى الملتزم، لا يلزم بينهما أحد يسأل الله شيئًا إلا أعطاه إياه"، وورد عن النبي أنه كان يضع صدره ووجهه وذراعيه وكفيه بين الركن والباب.
* وادي عُرَنة: هو وادٍ في عرفات، ويُسمى بطن عُرَنَة، ولا يجزئ الوقوف فيه عن الوقوف في عرفات؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((كل عرفات موقف، وارفعوا عن بطن عرنة)).
* الإحرام: هو نية الدخول في نُسك الحج أو العمرة، فمَن أهلَّ بالحج أو العمرة، وباشر أسبابهما وشروطهما؛ تجنَّبَ لبْسَ المخيط، والأشياء التي منعه الشرعُ منها؛ كالطيب والنكاح والصيد، وغير ذلك.
* الإحصار: هو كل حابسٍ من عدوٍّ أو مرض أو غير ذلك، يمنع الحاج من إتمام نُسكه.
* الإزار: هو الملحفة التي يلفُّها المُحرِم من الحِقْوَين إلى الكعبين؛ ويقابله الرِّداء.
* الرداء: هو الملحفة التي يرتديها الرجل على كتفه، وظهره، وبطنه.
* الاستطاعة: هي قدرة المُكلَّف على القيام بما كُلِّف به بنفسه، من غير افتقار إلى غيره، وهي شرط لوجوب الحج، ويقصد بها: مِلك الزاد والراحلة.
* الاضطباع: إدخال الرداء تحت الإبط الأيمن، ورَدُّ طرفيه على الكتف الأيسر، فيكشف المنكب الأيمن، ويغطي المنكب الأيسر؛ سُميَ بذلك لإبداء أحد الضَّبْعَين، ويكون حال الطواف فقط.
* إفاضة: أفاض الناس من عرفات إلى منًى، إذا دفعوا منها بعد انقضاء الموقف؛ يعني: انصراف الحجيج بعد انقضاء الموقف في عرفات، قال - تعالى -: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ} [البقرة: 198].
* البَدَنة: تطلق عند جمهور أهل اللغة على الناقة أو البقرة تُنحر بمكة قربانًا، قال – تعالى -: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [الحج: 36].(118/4)
* التَّحَلُّل: الخروج من الإحرام، وحِلُّ ما كان محظورًا على المُحرِم قبل التحلل، وهو قسمان:
1- التحلُّل الأصغر: أو التحلل الأول، ويكون بفعل اثنين من ثلاثة أمور: رمي جمرة العقبة، والنحر، والحلق أو التقصير، ويُباح به كل ما حُرِّم على المُحرِم عدا قربان النساء.
2- التحلُّل الأكبر: أو التحلل الثاني، ويكون بعد إتيان الحاج بطواف الإفاضة، وبعد فعل أعمال التحلل الأول؛ ويُباح به جميع المحظورات.
* تقليد الهدي: أن يُعلَّق في عنق الهدي قطعةٌ من جلد وغيره؛ لِيُعْلَم أنه هدي.
* التلبية: أن يقول الحاج: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك. ويُشْرَعُ للحاج أن يقولها في سائر أحواله، ويقطعها بعد الزوال من يوم عرفة.
* التَّمَتُّع: هو الإحرام في أشهُر الحج بعُمرة، فإذا وصل إلى البيت، وأراد أن يُحِلَّ ويستعمل ما حَرُم عليه، فسبيلُه أن يطوف ويسعى ويُحِلَّ، ويُقيم حلالاً إلى يوم الحج، ثم يُحْرِم من مكة بالحج إحْرامًا جديدًا، ويقف بعرفة، ثم يطوف ويسعى ويُحِل من الحج، فيكون قد تمتَّع بالعُمرة في أيام الحج؛ أي: انتفع؛ لأنهم كانوا لا يَرَون العمرة في أشهُر الحج، فأجازها الإسلام، وفيه قوله – تعالى -: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} [البقرة: 196]، والمتعة بهذا المعنى تقابل القِرَان والإفراد من أنواع الحج.
* قِرَان: والقِران في الاصطلاح: الجمْع بين الحج والعمرة بإحرام واحد، في سفرة واحدة؛ أو أن يُهِلَّ بالحج والعمرة من الميقات.
* الثَّجُّ: سيلان دماء الهدي والأضاحي، وفي الحديث: ((أفضل الحج: العَجُّ والثَّجُّ)).
* الجدال: المراد به الجَدَلُ على الباطل، وطَلَبُ المغالبة به، لا إظهار الحق. وقوله – تعالى -: {وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197] معناه: لا ينبغي للرجل أن يجادل أخاه، فيخرجه إلى ما لا ينبغي.(118/5)
* دم ترْك الواجب: هو الدم الواجب لترْك واجب من واجبات الحج؛ كترك الإحرام من الميقات، وترك المبيت بمزدلفة، وترك الرمي، وترك المبيت ليالي مِنى بها. والواجب في هذه التروك ذبحُ شاة، أو سُبْع بدنة، فمن لم يجد فصيام عشرة أيام.
* دم التمتع: هو الدم الواجب جرَّاء الجمْع بين الحج والعمرة، والتحلُّل بينهما؛ وأقلُّه شاة، أو سُبْع بدنة، وهذا الدم لازم، لا يجوز العدول إلى غيره، إلا إذا عجز عنه.
* دم القِران: هو الدم الواجب جرَّاء الجمْع بين الحج والعمرة، وقضاء النسكين في سفر واحد؛ وهذا الدم لازم، لا يجوز العدول إلى غيره، إلا إذا عجز عنه.
* دم جزاء الصيد: هو الدم الواجب جرَّاء قتل المُحرِم للصيد؛ ويُقدَّر بمثل ما قتل من الصيد، لقوله – تعالى -: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَم} [المائدة: 95]، وهذا الدم يجوز العدول إلى غيره، بحسب القيمة المقدرة لما صاده، وذلك للآية: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَم} [المائدة: 95]، وقوله – سبحانه -: {أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} [المائدة: 95].
* دم الحلق (فدية الأذى): هو الدم الواجب على مَن حَلَق شيئًا من شَعر رأسه، ويُلحق به فِعْلُ كلِّ محظور يُتَرَفَّهُ به؛ كتقليم الأظافر، وهذا الدم واجب على التخيير، لقوله – تعالى -: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196]، فمَن فعَل ذلك، فإما أن يذبح شاة، وإما أن يُطعم ستة مساكين، كل مسكين نصف صاع، أو يصوم ثلاثة أيام.
* دم الفوات: هو الدم الواجب جرَّاء ترك ركن من أركان الحج؛ كترك الوقوف بعرفة؛ والفوات يكون بفوات ليلة النحر (ليلة العيد)، وأقلُّه شاة أو سُبْعُ بدنة. وهذا الدم لازم، لا يجوز العدول إلى غيره، إلا إذا عجز عنه.(118/6)
* الرَّمَل - بفتح الراء والميم -: المشي في الطواف سريعًا، مع مقاربة الخُطا من غير وثب، ويسمى الخَبَب.
* الرَّفَثُ: اللغو في الكلام، وأَرْفَثَ: أَفْحَشَ، وتكلم بالقبيح؛ ثم جُعل كناية عن الجِماع، وعن كل ما يتعلق به. والرَّفَثُ: التعريض بالنكاح؛ وقيل: الرَّفَثُ كلمة جامعة لكل ما يريده الرجلُ من المرأة، وقوله – تعالى -: {فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197]: الجِماع، وإتيان ما كان من دواعيه؛ كتقبيل، ولمس، ومغازلة، وتعريض بالنكاح، ونحو ذلك.
* رَفْضُ الإحرام: هو ترك المُضيِّ في النسك، بزعم التحلل منه، قبل إتمامه؛ وهو لغو باتفاق أهل العلم، ولا يبطل به الإحرام، ولا يخرج به عن أحكامه.
* رمي الجمار: الحصى التي يُرمى بها، أو اسم للمكان الذي تُرمى فيه الجمار، سُمي بذلك لاجتماع الحصى فيه؛ ورمي الجمار هو ما يفعله الحاج يوم النحر وأيام التشريق، من رمي سَبع حصيات، على صفة مخصوصة.
* طواف الإفاضة: هو الطواف الذي يؤدَّى بعد الإفاضة من عرفة، ويكون يوم النحر، وهو ركن أساس من أركان الحج؛ وله خمسة أسماء: طواف الإفاضة، وطواف الزيارة، وطواف الفرض، وطواف الركن، وطواف الصَّدر.
* طواف القدوم: هو الطواف الذي يؤديه الحاج عند قدومه لأداء فريضة الحج؛ وله خمسة أسماء: طواف القدوم، والقادم، والورود، والوارد، وطواف التحية وطواف اللقاء.
* طواف الوداع: هو الطواف الذي يؤديه الحاج بعد أدائه مناسك الحج، واستعداده للرجوع إلى موطنه.
* كفارات الحج: هي الجزاء المرتب على تَرْك بعض مناسك الحج؛ كترك المبيت بمزدلفة، وترك طواف الوداع؛ أو هي الجزاء المرتب على فعل محظور من محظورات الحج، كحلْق الشعر، وقص الأظافر، ونحوهما.
* المخيط: هو ما خِيط على هيئة العضو؛ كالسراويل والقميص والجورب وغيرها، ولُبْس المَخِيطُ مما يُحظر فِعلُه على المُحْرِم.(118/7)
* يوم عرفة: هو يوم التاسع من ذي الحجة، سُمي بذلك لأن الوقوف بعرفة يكون فيه.
* يوم النحر: هو اليوم الأول من أيام عيد الأضحى المبارك، العاشر من ذي الحجة، سمي بذلك لأن الأنعام تُذبح وتُنحر فيه تقربًا إلى الله.
* يوم النفر: هو يوم الثاني عشر من ذي الحجة، وهو اليوم الذي ينفر الناس فيه من منًى، ويُسمى يوم النفر الأول، ويوم النفر الثاني: هو يوم الثالث عشر من ذي الحجة.
* يوم القر: هو يوم الحادي عشر من ذي الحجة.(118/8)
العنوان: أصل كلمة "إعراب"
رقم المقالة: 1610
صاحب المقالة: حضارة الكلمة
-----------------------------------------
"الإعراب" .. كثيراً ما تمرّ علينا هذه الكلمة، فهل حاولنا أن نتأمل معناها أو نبحث عنه؟
الإعراب: مصدر أَعْرَبَ. وذكر النحاة في أصله أربعة أوجه؛ أحدها: أنه من أعرب الرجلُ عن حاجته، إذا أبان عنها؛ كما في الحديث النبوي: ((والأيّم تُعْرِبُ عن نفسها))، وثانيها: أنه من (أعرب) إذا تكلم بالعربية، قال الأندلسي في شرح "المفصل":
ومن هذا الوجه قول الكميت:
وَجَدْنَا لَكُمْ فِي آلِ حَامِيمَ آيَةً تَأَوَّلَهَا مِنَّا تَقِيٌّ وَمُعْرِبُ
أي متكلِّم بالعربية، وأقول: الأَوْلى أن يكون "مُعرب" في بيت الكميت بمعنى: مبين، ويوضح ذلك تفسيرهم "التقي" بأنه الذي يكتم ما عنده ولا يظهره، فيكون حينئذ قد قابل "التقي" "بالمعرب" مقابلة حسنة، ولا يبعد ما ذكره؛ لأن المتكلم بالعربية مبين أيضًا، فإن قيل: فالمتكلم بالبناء أيضًا متكلّم بالعربية؛ لأنَّ البناء من جملة لُغَتِهم، قيل: البناء لا يخصُّ لُغَة العرب؛ بل هو موجود في كل لغة، بخلاف الإعراب فإنَّه مخصوصٌ بِلُغَتها.
وثالثها: أنه من عرِبَتْ مَعِدَتُه، إذا تغيَّرت وفسدتْ، في معنى أعرب الكلمة: أزال عَرَبَها؛ أي فسادها وذلك نحو: أشكيته: أَزَلْتُ شكاته.
ورابعًا: أنه من قولهم: امرأة عروب، إذا كانت متحبّبة إلى زوجها متحسنة؛ لأنَّ الكلام إذا فُهِم قَرُبَ من قلب سامعه، وإذا لم يُفْهَم نفر عنه، والمختار هو الأول؛ إذِ العرب لم تَقْصِد بإعراب كلمها تحسينًا ولا تغييرًا.
المصدر: المعنى والإعراب عند النحويين ونظرية العامل
المؤلف/ د. عبدالعزيز عبده أبو عبدالله.
منشورات الكتاب والتوزيع والإعلان والمطابع - طرابلس، ليبيا.(119/1)
العنوان: إصلاح ذات البين فضله وفقهه وآدابه
رقم المقالة: 525
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله...
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:71].
أما بعد: فإن خير الكلام كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.(120/1)
أيها الناس: من هداية الله تعالى للمؤمنين، ورحمته بهم، أن وحد كلمتهم بالإسلام، وجمع قلوبهم بالإيمان، فلمّ به شعثهم، وأزال ضغائنهم، وشفى صدورهم، فكانوا إخوة في دين الله تعالى متحابين متجالسين متباذلين، كالبنيان يشد بعضه بعضا {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران:103] وفي الآية الأخرى {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:63].
وما من سبيل يزيد من لُحْمَة المؤمنين، ويؤدي إلى ترابطهم وتآلفهم إلا جاءت به الشريعة وجوبا أو ندبا، وما من طريق تؤدي إلى التفرق والاختلاف، والضغينة والشحناء، والقطيعة والبغضاء إلا حرمتها الشريعة، وأوصدت طرقها، وسدت سبلها؛ ولذلك أمرت الشريعة بالبر والصلة، وحرمت العقوق والقطيعة. وأمرت بإفشاء السلام، وإطعام الطعام، والحب في الله تعالى، والزيارة فيه، وإجابة الدعوة، وتشميت العاطس، وعيادة المريض، واتباع الجنازة، وحفظ حقوق الأهل والقرابة والجيران، وجعلت للمسلم على أخيه المسلم حقوقا يحفظها له، فيؤجر عليها، وأرشدت إلى كثير من الآداب والأخلاق التي من شأنها أن تقوي الروابط، وتديم الألفة، وتزيد في المودة والمحبة بين الناس.
وحرمت الشريعة الهمز واللمز والسخرية، والغيبة والنميمة، والقذف والبهتان، والشتم والسباب، والكذب والمراء، والفجور والجدال، وغير ذلك من الأقوال والأفعال التي من شأنها أن تسبب الضغائن والخصومات، وتؤجج نيران الأحقاد والعداوات.(120/2)
ومع كل هذه الاحترازات الشرعية التي يربي الإسلام أهله عليها فإن الإنسان وهو يعيش صخب الحياة ومشكلاتها لا بد أن يعتريه غضب وسهو وغفلة فيعتدي على أخيه بقول أو فعل في حال ضعف منه عن كبح جماح نفسه، وتسكين سورة غضبه، وحتى لا يتسبب هذا الخطأ منه في الخصومة والقطيعة التي يغذيها الشيطان، وينفخ في نارها؛ رتب الإسلام أجورا عظيمة على الحلم وكظم الغيظ والعفو عن الناس، ووعد الله سبحانه وتعالى الكاظمين الغيظ والعافين عن الناس جنةً عرضها السموات والأرض، وأُمر المعتدي برفع ظلمه، والرجوع عن خطئه، والاعتذار لمن وقع عليه اعتداؤه.
إنها تشريعات ربانية عظيمة جليلة لو أخذ الناس بها لما وجد الشيطان عليهم سبيلا، ولما حلَّت في أوساطهم القطيعة والخصومة، ولكن الشيطان وإن أييس أن يعبده المصلون فإنه لم ييأس من التحريش فيما بينهم، وبث الفرقة والاختلاف فيهم، والنيل منهم بالعداوة والخصومة؛ ولذا فهو يزين للمعتدي سوء عمله، وإصراره على خطئه، وتماديه في جهله، ويحرض المعتدى عليه على الانتصار لنفسه، وأخذ حقه، والنيل ممن اعتدى عليه وعدم العفو عنه، وحينئذ تدب الخصومة والفرقة التي تتولد عنها الضغينة والقطيعة، وقد يصل ذلك إلى الاعتداء والاقتتال.
من أجل ذلك شرع الإسلام إصلاح ذات البين، وأمر الله تعالى به، وأباح للمصلحين ما حرَّم على غيرهم، ورتب أعظم الأجور على هذه المهمة العظيمة.
والأمر بإصلاح ذات البين جاء في قول الله تعالى {فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال:1] وفي الآية الأخرى {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات:10] وفي آية ثالثة {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء:128].(120/3)
والاشتغال بالصلح بين المتخاصمين أفضل من الاشتغال بنوافل العبادات؛ لما في الإصلاح بين الناس من النفع المتعدي الذي يكون سببا في وصل أرحام قطعت، وزيارة إخوان هُجِروا، ونظافة القلوب مما علق بها من أدران الحقد والكراهية، وذلك يؤدي إلى متانة المجتمع وقوته بتآلف أفراده وتماسكهم، روى أبو الدرداء رضي الله عنه فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ قالوا: بلى، قال: إصلاح ذات البين، وفساد ذات البين الحالقة) رواه أبو داود وصحح ابن حبان.
والإصلاح بين الناس معدود في الصدقات بقول النبي صلى الله عليه وسلم (كل سلامى من الناس عليه صدقة، كل يوم تطلع فيه الشمس تعدل بين الاثنين صدقة) رواه الشيخان. قال النووي رحمه الله تعالى (ومعنى تعدل بينهما تصلح بينهما بالعدل).
ولعظيم أمر الإصلاح بين الناس أبيح للمصلحين ما حُرِّم على غيرهم؛ فلا يتناجى اثنان دون الثالث إلا إذا كان غرض المناجي لأحدهما الإصلاح بينهما، وقد ذم الله تعالى كثيرا من التناجي إلا ما كان للإصلاح {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء:114]. وفي الآية الأخرى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المجادلة:9] ومن أعظم التناجي بالبر والتقوى ما كان للإصلاح بين مسلمين قد فسد ما بينهما.(120/4)
وقد يحتاج المصلح إلى بعض الكذب ليُقَرِّب بين المتخاصمين، ويزيل ما بينهما من الضغينة، ويهيئ قلبيهما لقبول الصلح والعفو؛ وذلك كأن يخبر أحد الخصمين بأن صاحبه لا يذكره إلا بخير، وأنه متشوف لمصالحته، حريص على قربه ومودته مع عدم حقيقة ذلك، أو يسأله أحد الخصمين إن كان خصمه ذكره بسوء عنده فينفي ذلك مع وقوعه منه، وما قَصَدَ بكذبه إلا إطفاء نار الخصومة، وإزالة أسباب الشحناء، فَرُخِّص له في ذلك مع قبح الكذب، وعموم المنع منه؛ كما جاء في حديث أم كلثوم بنت عقبة رضي الله عنها أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فَيَنْمِي خيرا أو يقول خيرا) متفق عليه.
وقال نعيم بن حماد: ( قلت لسفيان بن عيينة: أرأيت الرجل يعتذر إليَّ من الشيء عسى أن يكون قد فعله ويحرف فيه القول ليرضيه، أعليه فيه حرج؟ قال: لا، ألم تسمع قوله (ليس بكاذب من قال خيرا أو أصلح بين الناس) وقد قال الله عز وجل {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء:114] فإصلاحه فيما بينه وبين الناس أفضل إذا فعل ذلك لله وكراهةِ أذى المسلمين، وهو أولى به من أن يتعرض لعداوة صاحبه وبغضته؛ فإن البغضة حالقة الدين، قلت: أليس من قال ما لم يكن فقد كذب، قال: لا، إنما الكاذب الآثم، فأما المأجور فلا، ألم تسمع إلى قول إبراهيم عليه السلام {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصَّفات:89] و{بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء:63] وقال يوسف لإخوته {إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} [يوسف:70] وما سرقوا وما أَثِمَ يوسف؛ لأنه لم يرد إلا خيرا، قال الله عز وجل {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ} [يوسف:76]، وقال الملكان لداود عليه السلام {خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ} [ص:22] ولم يكونا خصمين وإنما أرادا الخير والمعنى الحسن.....).(120/5)
بل إن المصلح بين الخصمين منهي عن الصدق إذا كان صدقه يشعل نار الفتنة بينهما، ويزيد فرقتهما. والذي ينقل الكلام بين الناس على وجه الإفساد يسمى نماما ولو كان صادقا فيما ينقل، والنميمة من كبائر الذنوب، ولا يدخل الجنة نمام كما جاء في الحديث المتفق عليه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلربما نُهِي المصلح عن الصدق إن كان يضر بمهمته كمصلح بين خصمين، ويُرَخَّصُ له في الكذب إن كان الكذب يؤدي إلى إصلاح ذات البين، وفي هذا المعنى يقول ابن بابويه رحمه الله تعالى (إن الله تعالى أحب الكذب في الإصلاح، وأبغض الصدق في الإفساد).
والمتصدي لفض الخصومات، وقطع النزاعات، والإصلاح بين الناس قد يحتاج إلى مال ليدفعه تعويضا أو دية أو إرضاء لأحد الخصمين، فيغرم بسبب ذلك من ماله، فأبيح له أن يأخذ ما غرم من الزكاة؛ إذ إن من أهل الزكاة المنصوص عليهم في كتاب الله تعالى: الغارمين، سواء غرموا لِحَظِ أنفسهم أم لحق غيرهم.
إن الإصلاح بين المتخاصمين مهمة جليلة قد فرط فيها كثير من الناس مع قدرتهم عليها، وكثير من الخصومات تكون أسبابها تافهة، وإزالتها يسيرة، وقد توجد رغبة الصلح عند كلا الخصمين، ولكن تمنعهما الأنفة والعزة من التنازل مباشرة، أو المبادرة إلى الصلح بلا وسيط، فإذا ما جاء الوسيط سهل الإصلاح بينهما؛ لرغبة كل واحد منهما في ذلك، فينال الوسيط أجرا عظيما على عمل قليل، ويؤلف بين قلبين متنافرين. وما من أسرة أو قبيلة بين بعض رجالها خلاف وقطيعة إلا وفيها رجال عقلاء يستطيعون السعي في إزالة الخلاف والقطيعة، ولكن التقصير والغفلة تحول دون ذلك.(120/6)
وما من حارة أو دائرة حكومية أو شركة أو مؤسسة بين بعض أفرادها خصومة إلا وفيها من الرجال الأكفاء من هو قادر على الإصلاح بين المتخاصمين، ولا سيما ذوي الجاه والغنى والمناصب، ولكنهم يقصرون في ذلك من باب عدم التدخل فيما لا يعني حسب ظنهم، وقد صلحت لهم دنياهم فما عليهم لو اختصم الناس، وأكل بعضهم بعضا!! وهذه أنانية مفرطة، وأثرة بغيضة، وحرمان من خير عظيم قد رتبه الشارع الحكيم على إصلاح ذات البين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الأنفال:1].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [البقرة:281].
أيها المسلمون: من تصدى للإصلاح بين الناس فعليه أن يخلص نيته لله تعالى، ولا ينشد ثناء الناس وشكرهم؛ فإن هذه المهمة الجليلة مظنة للسؤدد والرفعة والثناء، وقد يدخل الشيطان من خلالها على العبد فيفسد نيته، والله تعالى يقول في الإصلاح بين الناس: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ الله فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:114].
وعليه أن يستعين بالله سبحانه على مهمته، ويسأله تأليف قلبي صاحبيه، وإلانتهما لقبول مبادرته؛ فإن القلوب بيده عز وجل يقلبها كيف يشاء، وهو يقربها ويباعدها، ولا عون له في صلحه إلا بالله تعالى.(120/7)
وعلى الساعي بالإصلاح أن يتحرى العدل في صلحه؛ فلا يميل لأحد الخصمين لقوته ونفوذه، أو لإلحاحه وعناده، فيظلم الآخر لحسابه، فيتحول من مصلح إلى ظالم، ولا سيما إذا ارتضاه الخصمان حكما بينهما فمال إلى أحدهما، وقد أمر الله تعالى بالعدل بين الخصوم في قوله سبحانه {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ} [الحجرات:9].
وليتسلح في إصلاحه بالعلم الشرعي، أو سؤال أهل العلم ما يحتاج إلى سؤال؛ فإن كان الخلاف على مال أو إرث أو أرض فلا بد أن يعرف حكم الشريعة في ذلك قبل أن يُقْدِم على الصلح، وله أن يُقَرِّب بين الخصمين، ويقنعهما بالصلح، ثم يختار لهما حكما من أهل العلم يرضيانه. وإن كان الخلاف بين زوجين فلا بد أن يعلم بالحقوق الشرعية للزوجين؛ ليتبين الظالم من المظلوم، والمخطئ من المصيب، فينبه الظالم على ظلمه، ويدل المخطئ على خطئه.
ومن فقه المصلح أن يختار الوقت المناسب للصلح، فلا يبادر إلى الصلح عقب التشاتم والتعارك والتقاتل، بل يتربص بقدر ما يسكن الخصمان، ويعودان إلى رشدهما، وتذهب سورة الغضب، وتضعف دواعي الانتقام، فيلقي بمبادرته إليهما.
وعلى المصلح أن يَجِدَّ في قطع الطريق على النمامين ونقلة الكلام الذين يعجبهم أن تسود البغضاء بين الناس؛ فإنهم ينشطون في الأزمات لبث الشائعات، ونقل الكلام، فَيُحَذِّر الخصمين من الاستماع إلى أراجيفهم، ويثبت لهما كذبهم، وما يريدونه من الإفساد والوقيعة بينهما.(120/8)
وعليه أن يختار من الكلام أحسنه، ويرقق قلبيهما، ويبين لهما حقارة الدنيا وما فيها فلا تستحق أن يتعادى الإخوان من أجلها، ولا أن تقطع القرابة بسببها، ويذكرهما بالموت وما بعده من الحساب، وعليه أن يعظهما بنصوص الكتاب والسنة فإنهما أعظم زاجر للمؤمن، فيذكرهما بأن أعمالهما الصالحة موقوفة عن العرض على الله تعالى، وأنه سبحانه يُنْظرُهما إلى أن يصطلحا؛ كما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين ويوم الخميس فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئا إلا رجلا كانت بينه وبين أخيه شحناء فيقال: انظروا هذين حتى يصطلحا، انظروا هذين حتى يصطلحا، انظروا هذين حتى يصطلحا) رواه مسلم.
فإن كانت الخصومة بينهما قد أدت إلى قطيعة رحم بيَّن لهما عظيم ما وقعا فيه من القطيعة، وأن الجنة لا يدخلها قاطع، وأن الرحم شجنة من الرحمن فمن وصلها وصله الله تعالى، ومن قطعها قطعه الله عز وجل كما جاء في الأحاديث.
وإن تهاجرا بسبب خصومتهما ذكرهما بخطر هجر المسلم، وأنه لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام.
وإن كانت الخصومة بين زوجين بيَّن لكل واحد منهما حقوق الآخر عليه، وذكرهما بقول الله تعالى {إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُمَا} [النساء:35].(120/9)
فإن احتج أحد الخصمين بأنه نذر أن لا يتنازل، أو حلف على أن لا يصالح، وهذا يقع كثيرا بين الغرماء والمتخاصمين، فيدعوه إلى أن يُكِّفرَ عن يمينه، ويصالِحَ أخاه، ويحتجُ عليه بقول الله تعالى {وَلَا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:224] قال ابن عباس رضي الله عنهما: ( هو الرجل يحلف أن لا يصل قرابته فجعل الله له مخرجا في التكفير، وأمره أن لا يعتل بالله وليكفر عن يمينه) وروى أبو هريرة رضي الله عنه فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه) رواه مسلم.
ولا شك في أن الصلح خير من الشقاق، والصلة أفضل من القطيعة، والمودة أولى من الكراهية.
ومن سعى بإصلاح ذات البين فإنه يجب على الناس تأييده وتشجيعه بالقول والفعل، ومعونته بما يحتاج من الجاه والمال؛ فإن إصلاح ذات البين يعود على الجميع بالخير والمحبة والألفة، كما أن فساد ذات البين يضر المجتمع عامة بما يسود فيه من الأحقاد والضغائن والجرائم والانتقام.
ومن سعى إليه أخوه بالإصلاح فليقبل منه، وليعنه عليه، وليكن خير الخصمين، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام.
{رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10].
وصلوا وسلموا على نبيكم كما أمركم بذلك ربكم.....(120/10)
العنوان: إصلاح ذات البين
رقم المقالة: 1673
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
مجالات الصلح
الحمد الله؛ شرح قلوب من شاء من عباده بالإسلام، وألف بينهم بالإيمان، فكانوا إخوة في الله تعالى {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران:103] نحمده على ما هدانا، ونشكره على ما أعطانا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ امتن على رسوله عليه الصلاة والسلام بإزالة الشحناء من قلوب أصحابه، وملئها محبة ومودة ووئاما {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:63] وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ أمر بالصلح بين الناس، ودعا إليه، ورغب فيه، وبين ما رتب عليه من عظيم الأجر والثواب؛ حتى أخبر عليه الصلاة والسلام أن السعي في إصلاح ذات البين أفضل من نوافل الصلاة والصدقة والصيام، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وطَيِّبُوا قلوبكم على إخوانكم، ولينوا لهم، واحذروا الخصومة والشحناء فإنها الحالقة التي تحلق الدين {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات:10].
أيها الناس: الاختلاف من سجايا البشر، والتنازع من عاداتهم؛ وذلك لاختلاف أخلاقهم وطباعهم؛ ولتنافسهم في حظوظ الدنيا من المال والشرف وغيرهما {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ* إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} [هود:119].(121/1)
وأكثر الناس يغضبون لأجل الدنيا ولا يغضبون للدين، وتنتهك حرمات الله تعالى فلا يتحرك قلب أحدهم، ولكنه يغضب أشد الغضب إذا انتقص شيء من دنياه، أو اعتدي على كرامته، ولأجل ذلك تكثر الخصومة فيما بينهم، بل قد تكون الخصومة على أمور حقيرة، وأسبابها تافهة ولكن الشيطان ينفخ فيها حتى تعظم في نفوس المتخاصمين، وقديما اشتعلت حرب البسوس بين بكر وتغلب فدامت أربعين سنة أكلت القبيلتين من أجل ناقة عقرت!! واشتعلت حرب داحس والغبراء في خيل سُبقت!! وليس ثمن الناقة أو الخيل أعلى من ثمن الرجال والقبائل حتى تُسَعَّر الحروب في سبيلها، ولكنه الشيطان الذي يُشعل الفتن الكبيرة من مستصغر شررها، فإن قضي على أسبابها في بادئها وإلا نفخ الشيطان في نارها حتى تُفنى قبائل فيها، وكم من قتيل ذهبت روحه في خصومة بدأت صغيرة فكبرت حتى فقدته أسرته؟! وكم من رحم قُطِعت سنوات طويلة بسبب كلام قيل فيه أو نقل عنه؟! وكم من إخوان تهاجروا في وشاية سرت بينهم؟!
إن الإسلام جاء بإصلاح ذات البين، وأوصد الطرق المؤدية إلى فسادها، وأمر المسلمين بالإصلاح بين المتخاصمين، كما حث المتخاصمين على قبول أيِّ مبادرة للصلح وفض النزاع والشقاق، وإنهاء القطيعة.(121/2)
والخصومة قد تقع بين زعماء الدول حتى تصل إلى حروب يكتوي بنارها شعوب لا ذنب لها، وقد تقع الخصومة بين طائفتين من المسلمين: قبيلتين أو أسرتين أو جماعتين أو حزبين، فَتُفَرِّق أفرادَهما الخصومةُ وقد جمعهم الإسلام، وقد يوالون أعداء الله تعالى من الكفار والمنافقين في سبيل النيل من خصومهم وهم مسلمون مثلهم، وقد وقع ذلك كثيرا في القديم والحديث، ويعظم الإثم إن قطعت أرحامٌ بسبب ذلك، فإن نتج عن الخصومة اقتتال فالأمر أشد؛ لأنه عَوْدٌ إلى أمر الجاهلية التي أنقذنا الله تعالى منها بالإسلام، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم للناس في حَجَّةِ الْوَدَاعِ: (لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ) متفق عليه.
من أجل ذلك جاء الأمر الرباني بقطع دابر الخصومة، والسعي بين المتقاتلين من المسلمين بالإصلاح، وردع الفئة الباغية حتى تستكين إلى الصلح {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ الله فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ} [الحجرات:9].(121/3)
روى أَنَس رضي الله عنه قال: (قِيلَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: لو أَتَيْتَ عَبْدَ الله بنَ أُبَيٍّ، فَانْطَلَقَ إليه النبي صلى الله عليه وسلم وَرَكِبَ حِمَارًا فَانْطَلَقَ الْمُسْلِمُونَ يَمْشُونَ معه وَهِيَ أَرْضٌ سَبِخَةٌ فلما أَتَاهُ النبي صلى الله عليه وسلم قال: إِلَيْكَ عَنِّي، والله لقد آذَانِي نَتْنُ حِمَارِكَ، فقال رَجُلٌ من الْأَنْصَارِ منهم: والله لَحِمَارُ رسول الله صلى الله عليه وسلم أَطْيَبُ رِيحًا مِنْكَ فَغَضِبَ لِعَبْدِ الله رَجُلٌ من قَوْمِهِ فَشَتَمَهُ، فَغَضِبَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَصْحَابُهُ، فَكَانَ بَيْنَهُمَا ضَرْبٌ بِالْجَرِيدِ وَالْأَيْدِي وَالنِّعَالِ، فَبَلَغَنَا أنها أُنْزِلَتْ: وَإِنْ طَائِفَتَانِ من الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا) متفق عليه.
وحاز الحسن بن علي رضي الله عنهما فضيلةَ حقنِ دماء المسلمين، وأخمد الله تعالى نار الفتنة على يديه، حين صالح معاويةَ رضي الله عنه، وتنازل عن الخلافة له، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيه: (إِنَّ ابْنِي هذا سَيِّدٌ وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بين فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ من الْمُسْلِمِينَ) رواه البخاري.
ووقعت خصومةٌ بين حيين من الأنصار فسعى النبي صلى الله عليه وسلم للصلح بينهما؛ كما روى سَهْلِ بنُ سَعْدٍ رضي الله عنه: (أَنَّ أَهْلَ قُبَاءٍ اقْتَتَلُوا حتى تَرَامَوْا بِالْحِجَارَةِ فَأُخْبِرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ فقال: اذْهَبُوا بِنَا نُصْلِحُ بَيْنَهُمْ) رواه البخاري.
وفي رواية لأبي داود: (فقال لِبِلَالٍ: إن حَضَرَتْ صَلَاةُ الْعَصْرِ ولم آتِكَ فَمُرْ أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ).
فَهَمَّ عليه الصلاة والسلام بترك إمامة الناس في الصلاة مع عظيم شأنها من أجل الإصلاح بين المتخاصمين.(121/4)
وقد تقع الخصومة بين الزوجين، وتشتد حتى يكون الطلاق نتيجتها، ويكون الأولاد ضحيتها. ولئلا تبلغ الخصومة بين الزوجين هذا المبلغ فإن الشارع الحكيم سبحانه شرع الصلح بين الزوجين، وأمر بتحكيم حكمين من أهلهما للقضاء على الخصومة، وإزالة أسباب التوتر والشقاق، والحفاظ على استقرار الأسرة، وسلامة الأولاد {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا} [النساء:35].
وروى سَهْلُ بنُ سَعْدٍ رضي الله عنه قال: (جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بَيْتَ فَاطِمَةَ فلم يَجِدْ عَلِيًّا في الْبَيْتِ فقال: أَيْنَ ابنُ عَمِّكِ؟ قالت: كان بَيْنِي وَبَيْنَهُ شَيْءٌ فَغَاضَبَنِي فَخَرَجَ فلم يَقِلْ عِنْدِي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لِإِنْسَانٍ: انْظُرْ أَيْنَ هو، فَجَاءَ فقال: يا رَسُولَ الله، هو في الْمَسْجِدِ رَاقِدٌ، فَجَاءَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وهو مُضْطَجِعٌ قد سَقَطَ رِدَاؤُهُ عن شِقِّهِ وَأَصَابَهُ تُرَابٌ فَجَعَلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يَمْسَحُهُ عنه وَيَقُولُ: قُمْ أَبَا تُرَابٍ، قُمْ أَبَا تُرَابٍ) متفق عليه.
لاحظوا -أيها الإخوة- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة: أين ابنُ عمك، ولم يقل:أين ابنُ عمي، أو أين زوجُك، أو أين علي؛ لأنه عليه الصلاة والسلام فهم أنه جرى بينهما خصومة فأراد استعطافها عليه بذكر القرابة النسبية التي بينهما، ثم تلطف النبي صلى الله عليه وسلم مع علي ومسح التراب عنه ومازحه ليطيب خاطره، ويلين قلبه على زوجه، وهذا من الأسلوب الحسن في الإصلاح بين الزوجين.(121/5)
وقد تكون الخصومة بسبب الأموال -وهي أكثر أنواع الخصومة وقوعا- إما في دينٍ لم يقضه صاحبه، أو في شركة اختصم الشركاء بسببها، أو في إرث تأخر الورثة في قسمته، أو وقف اختلفوا في فهم مراد الواقف، أو وصية لوارث أخطأ فيها الموصي، أو غير ذلك.
وحري بمن هو قريب من المتخاصمين أن يسعى بالصلح فيما بينهم، ولو أن يقترح وضع بعض الدين أو تأجيله أو تقسيطه، فإن كانت الخصومة بين شركاء أزال أسبابها، أو سعى في فض شراكتهما بالعدل، فإن كانت الخصومة بسبب إرث سعى في قسمته وفق شرع الله تعالى، وإن كانت وصية جور رفع الظلم وصحح الخطأ {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:182] وما من خصومة إلا لها أسبابٌ إن سعى المصلح في إزالتها زال الشقاق، وحلَّ مكانه الوفاق.
روى كَعْبُ بنُ مَالِكٍ رضي الله عنه: (أَنَّهُ تَقَاضَى ابنَ أبي حَدْرَدٍ دَيْنًا له عليه في عَهْدِ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الْمَسْجِدِ، فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا حتى سَمِعَهَا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بَيْتِهِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمَا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حتى كَشَفَ سِجْفَ حُجْرَتِهِ وَنَادَى: يا كَعْبَ بن مَالِكٍ، يا كَعْبُ، قال: لَبَّيْكَ يا رَسُولَ الله فَأَشَارَ بيده أَنْ ضَعْ الشَّطْرَ من دَيْنِكَ، قال كَعْبٌ: قد فَعَلْتُ) متفق عليه.
وروت عَائِشَةُ رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع صَوْتَ خُصُومٍ بِالْبَابِ عَالِيَةٍ أَصْوَاتُهُمَا وإذا أَحَدُهُمَا يَسْتَوْضِعُ الْآخَرَ وَيَسْتَرْفِقُهُ في شَيْءٍ -أي دينٍ- وهو يقول: والله لَا أَفْعَلُ فَخَرَجَ عَلَيْهِمَا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أَيْنَ الْمُتَأَلِّي على الله لَا يَفْعَلُ الْمَعْرُوفَ؟ فقال: أنا يا رَسُولَ الله وَلَهُ أَيُّ ذلك أَحَبَّ) متفق عليه.(121/6)
أسأل الله تعالى أن يهدينا صراطه المستقيم، وأن يجعلنا هداة مهتدين، صالحين مصلحين، لا ضالين ولا مضلين، إنه جواد كريم.أقول ما تسمعون....
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله ربكم، واعملوا صالحا تجدوه أمامكم {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزَّلزلة:7-8].
أيها المسلمون: من أشد أنواع الخصومة ضررا وإثما ما يكون بين القرابة فتقطع بسببه الأرحام، ويتهاجر الإخوان والأعمام والأخوال، وربما مكثوا سنواتٍ عدة على حال لا ترضي الله عز وجل، ولا ترضيهم وهم يؤمنون بالله تعالى، ويعلمون عظيم حق الرحم عليهم، ولكنه الشيطان الذي يئس أن يعبده المصلون ولكن في التحريش بينهم، فيوهم كل واحد من الخصمين أن كرامته تقتضي الإصرار على رأيه، والبقاء على قطيعته لرحمه، وهجرانه لقريبه، وهذه نقطة الضعف التي يتسلل الشيطان منها إلى قلوب المتخاصمين.
ألا وإن القوة كل القوة، وإن منتهى الشجاعة والجرأة في دحر الشيطان، والانتصار على النفس، والمبادرة إلى الصلح، والسابق من الخصمين هو المنتصر، والمسبوق منهما يود بعد الصلح لو كان هو السابق، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام.
وواجب على كبراء الأسر، ووجهاء القبائل، ومديري الدوائر أن يصلحوا بين المتخاصمين في أسرهم وقبائلهم وإداراتهم، وكل ذي مال وجاه يقبل المتخاصمون منه ما لا يقبلون من غيره؛ فليزك ما أنعم الله تعالى عليه من المال والجاه بالصلح بين الناس؛ فينال رضوان الله تعالى، ومحبة الناس له.(121/7)
عن عَائِشَةَ رضي الله عنها حُدِّثَتْ: (أَنَّ عَبْدَ الله بنَ الزُّبَيْرِ قال في بَيْعٍ أو عَطَاءٍ أَعْطَتْهُ عَائِشَةُ: والله لَتَنْتَهِيَنَّ عَائِشَةُ أو لَأَحْجُرَنَّ عليها، فقالت: أَهُوَ قال هذا؟ قالوا: نعم، قالت: هو لله عَلَيَّ نَذْرٌ أَنْ لَا أُكَلِّمَ ابن الزُّبَيْرِ أَبَدًا -وكانت خالته رضي الله عنهما- فَاسْتَشْفَعَ ابنُ الزُّبَيْرِ إِلَيْهَا حين طَالَتْ الْهِجْرَةُ فقالت: لَا والله لَا أُشَفِّعُ فيه أَبَدًا، ولا أَتَحَنَّثُ إلى نَذْرِي، فلما طَالَ ذلك على ابنِ الزُّبَيْرِ كَلَّمَ الْمِسْوَرَ بنَ مَخْرَمَةَ وَعَبْدَ الرحمنِ بنَ الْأَسْوَدِ بنِ عبد يَغُوثَ وَهُمَا من بَنِي زُهْرَةَ، وقال لَهُمَا: أَنْشُدُكُمَا بِاللَّهِ لَمَّا أَدْخَلْتُمَانِي على عَائِشَةَ فَإِنَّهَا لَا يَحِلُّ لها أَنْ تَنْذِرَ قَطِيعَتِي، فَأَقْبَلَ بِهِ الْمِسْوَرُ وَعَبْدُ الرحمن مُشْتَمِلَيْنِ بِأَرْدِيَتِهِمَا حتى اسْتَأْذَنَا على عَائِشَةَ، فَقَالَا: السَّلَامُ عَلَيْكِ وَرَحْمَةُ الله وَبَرَكَاتُهُ، أَنَدْخُلُ؟ قالت عَائِشَةُ: ادْخُلُوا، قالوا: كُلُّنَا؟ قالت: نَعَم ادْخُلُوا كُلُّكُمْ، ولا تَعْلَمُ أَنَّ مَعَهُمَا ابنَ الزُّبَيْرِ، فلما دَخَلُوا دخل ابنُ الزُّبَيْرِ الْحِجَابَ فَاعْتَنَقَ عَائِشَةَ وَطَفِقَ يُنَاشِدُهَا وَيَبْكِي، وَطَفِقَ الْمِسْوَرُ وَعَبْدُ الرحمن يُنَاشِدَانِهَا إلا ما كَلَّمَتْهُ وَقَبِلَتْ منه، وَيَقُولَانِ: إِنَّ النبي صلى الله عليه وسلم نهى عَمَّا قد عَلِمْتِ من الْهِجْرَةِ فإنه لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ، فلما أَكْثَرُوا على عَائِشَةَ من التَّذْكِرَةِ وَالتَّحْرِيجِ طَفِقَتْ تُذَكِّرُهُمَا وَتَبْكِي وَتَقُولُ: إني نَذَرْتُ وَالنَّذْرُ شَدِيدٌ، فلم يَزَالَا بها حتى كَلَّمَتْ ابنَ الزُّبَيْرِ، وَأَعْتَقَتْ في نَذْرِهَا ذلك(121/8)
أَرْبَعِينَ رقبةً وَكَانَتْ تَذْكُرُ نَذْرَهَا بَعْدَ ذلك فَتَبْكِي حتى تَبُلَّ دُمُوعُهَا خِمَارَهَا) رواه البخاري.
ألا فاتقوا الله ربكم -أيها المسلمون- واسعوا في الصلح بين المتخاصمين من إخوانكم وقرابتكم وجيرانكم وزملائكم؛ فإن في ذلك خيرا عظيما {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ الله فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:114].
وليعلم كل مخاصم لأخيه المسلم أن عمله الصالح وعمل خصمه لا يرفع إلى الله تعالى حتى يصفو قلباهما على بعض، ويزيلا الشحناء بينهما؛ كما روى أبو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: (تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يوم الاثنين وَيَوْمَ الْخَمِيسِ فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شيئا إلا رَجُلًا كانت بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ فَيُقَالُ: انظروا هَذَيْنِ حتى يَصْطَلِحَا، انظروا هَذَيْنِ حتى يَصْطَلِحَا، انظروا هَذَيْنِ حتى يَصْطَلِحَا) رواه مسلم.
وصلوا وسلموا....(121/9)
العنوان: أصول التصحيح والتضعيف
رقم المقالة: 386
صاحب المقالة: د. عبدالغني بن أحمد جبر مزهر
-----------------------------------------
المقدمة:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فهذا بحث في موضوع من أهم موضوعات علم الحديث، وهو ما يتعلق بتصحيح الحديث أو تحسينه أو تضعيفه، متى يكون ذلك حقاً، ومتى يكون باطلاً، ومتى يسلك فيه المصحح أو المضعف الجادة وفق القواعد والضوابط العلمية ومتى ينحرف عن ذلك فيطيش قلمه، وتزل قدمه، ويُرد عليه قوله.
ولم أجد للعلماء في هذا الموضوع مصنفاً مستقلاً مرتباً، ومفصلاً لمسالك في هذا الشأن، لذا فقد بذلت الجهد في تتبع أقوال أئمة هذا الشأن، من كتب علوم الحديث، وكتب الرجال وشروح الحديث وغيرها. واستخلصت من ذلك كثيراً من القواعد الهامة التي تلزم معرفتها لمن توخّى الحق، وعدم الوقوع في الخطأ والزلل، لتكون معياراً لتصحيح وتحسين وتضعيف الأخبار، ورددت بعض الأمور التي يعدها بعض من لا علم عنده قواعد للتصحيح أو التضعيف كالكشف والذوق وموافقة الحديث لعقله أو عدم موافقته إلى غير ذلك، وأسأل الله تعالى أن يجنبني الزلل، وأن يجعل هذا من صالح العمل، وأن ينفع به المسلمين والله حسبي عليه توكلت، وعليه فليتوكل المتوكلون.
أصول التصحيح والتضعيف
التصحيح والتضعيف نوع الإجتهاد قائم على البحث والنظر، واستقصاء أقوال الأئمة، والتوفيق بين المتعارض منها وترجيح الراجح، ومعرفة المتابعات والشواهد، والنظر في العلل وغير ذلك.(122/1)
ومثل هذا يجب أن يكون من يتصدى له على جانب من العلم والمعرفة والإطلاع على أنواع من العلوم، كقواعد الجرح والتعديل وما يتعلق بذلك، ومعرفة أحوال الرواة، واصطلاحات المحدثين، وألفاظهم، ومسالكهم في الحكم على الرواة والأحاديث، والعلم بطرق التخريج، ودراسة الأسانيد، وكيفية النظر في العلل مع الإلمام بأصول الفقه وخاصة ما يتعلق بالتعارض والترجيح ونحوه.
ومن الأمور التي توجب الإمعان والتحري في أحوال الرواة، وعدم المسارعة إلى تصحيح حديثهم أو تحسينه أو تضعيفه، ما يلي:
1 - قد يوصف الثقة بأنه يغرب أو يهم، أو يخطيء في أحاديث أو لا يتابع على بعض حديثه[1].
2 - قد يحتج بالراوي في جانب من جوانب العلم دون الآخر كالاحتجاج به في المغازي أو القراءات ونحوها دون الحديث.
قال ابن معين في زياد بن عبدالله البكائي: "لا بأس به في المغازي، وأما في غيره فلا".
وقال صالح جزرة: "هو على ضعفه أثبتهم في المغازي"[2].
3 - ربما وصفوا الراوي بأنه ثقة لكنه يرسل أو أرسل عن فلان وفلان، فحديثه عنهما ليس متصلاً.
4 - قد يطلقون المنكر على الحديث الفرد، ولو كان راويه مقبولاً، وهذا اصطلاح لبعض المتقدمين من المحدثين كأحمد والنسائي، وعليه بعض المتأخرين عنهم كالبرديجي (م301هـ)[3] فليس كل حديث يقال فيه: منكر، يعد مردوداً حتى يعلم اصطلاح من وصفه بذلك.
قال ابن حجر في سياق شرحه لحديث أنس رضي الله عنه: "كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم فجاءه رجل فقال: يا رسول الله أصبت حداً فأقمه عليّ" (الحديث).
عمرو بن عاصم هو الكلابي وهو من شيوخ البخاري أخرج عنه بغير واسطة في الأدب وغيره، وقد طعن الحافظ أبو بكر البردجي – في الأصل البرزنجي وهو خطأ – في صحة هذ الخبر مع كون الشيخين اتفقا عليه فقال: هو منكر وهم فيه عمرو بن عاصم، مع أن هماماً – أي ابن يحيى – كان يحيى بن سعيد لا يرضاه ويقول: أبان العطار أمثل منه.(122/2)
قلت – القائل ابن حجر – لم يبين وجه الوهم، وأما إطلاق كونه منكراً فعلى طريقته في تسمية ما ينفرد به الراوي منكراً إذا لم يكن له متابع[4]. أهـ. هذا وغيره من الأمور الواردة على حديث الثقة، وعلى حديث الضعيف المتكلم فيه تجعلنا نستغرب أشد الاستغراب تسرّع بعض طلبة العلم في الحكم على الحديث لمجرد نظره لترجمة الراوي في كتاب التقريب أو الكاشف دون الرجوع إلى المطولات التي بسطت الكلام في ترجمته ودون تتبع لأقوال الأئمة فيه جرحاً وتعديلاً.
وقد ذكر الشيخ عبدالرحمن المعلمي أموراً هامة إضافة إلى ما تقدم لابد من مراعاتها قبل الحكم على الراوي، ليكون الحكم على حديثه صواباً وتتلخص هذه القواعد فيما يلي:
1 - إذا وجدت في ترجمة الراوي ((وثَّقه فلان)) أو ((ضعفه فلان)) أو ((كذبه فلان)) فلتبحث عن عبارته فقد تكون نقلت عنه بالمعنى، ولم يذكر ذلك في الراوي نصاً.
2 - تراجع لذلك عدة كتب فإن وجدت اختلافاً بينها بحثت عن العبارة الأصلية.
3 - ينبغي تأمل عبارة المزكي ومخارجها، ومناسبة ذكرها، فربما سئل المحدث عن رجل فيحكم عليه بحسب ما عرف من مجموع حاله، ثم يسمع له حديثاً فيحكم عليه حكماً مناسباً لحاله في ذلك الحديث، ثم يسمع له حديثاً فيعطيه حكماً آخر.
4 - ربما يجرح أحدهم الراوي لحديث واحد يستنكر له.
5 - لابد من التوثق والبحث عن رأي كل إمام من أئمة الجرح والتعديل واصطلاحه مستعيناً على ذلك بتتبع كلامه في الرواة، واختلاف الرواية عنه في بعضهم مع مقارنة كلامه بكلام غيره.
وقد اختلف كلام ابن معين مثلاً في جماعة يوثق أحدهم تارة، ويضعفه أخرى، وهذا يشعر بأنه ربما كان يطلق كلمة ((ثقة)) لا يريد بها أكثر من أن الراوي لا يتعمد الكذب، وقد يطلق كلمة ((ليس بثقة)) على معنى أن الراوي ليس بحيث يقال فيه ثقة على المعنى المشهور لكلمة ثقة[5]. وقد يُجرح الراوي بما لا يعد جارحاً على التحقيق.
الفرق بين الحسن والضعيف:(122/3)
من الأمور التي تحتاج إلى تحرير في مجال التصحيح والتضعيف: موضع الفرق بين الحديث الحسن والحديث الضعيف، ولا يخفى أن تحرير هذا الموضع يحتاج إلى تدقيق وإمعان نظر، إذ ليس هناك ضابط لأوصاف الحسن التي لا يمكن تداخل بعضها في بعض أوصاف الضعيف.
ومن الضعيف كذلك ما هو متردد بين الحُسن والضعف، ولذا نرى أن بعض المحدثين كثيراً ما يتردد في الحكم على الحديث بأحد الوصفين فنجد في كلامهم: ((حديث حسن إن شاء الله))، ((حديث محتمل للتحسين))، ((إسناده مقارب))، وغير ذلك من العبارات التي تدل على عدم الجزم في الحكم على الحديث، وذلك بناء على التردد في بعض أوصاف الرواة أو غير ذلك.
قال الذهبي: لا تطمع بأن للحسن قاعدة تندرج كل الأحاديث الحسان فيها فإنا على إياس من ذلك، فكم من حديث تردد فيه الحفاظ هل هو حسن أو ضعيف أو صحيح – بل الحافظ الواحد يتغير اجتهاده في الحديث الواحد، فيوماً يصفه بالصحة ويوماً يصفه بالحسن ولربما استضعفه.
وقال: الحسن لا ينفك عن ضعف ما، ولو انفك عن ذلك لصح باتفاق.
وقال أيضاً: الضعيف الذي يعد من آخر مراتب الحسن، وهو الضعيف الذي في السنن وفي كتب الفقهاء، ورواته ليسوا بالمتروكين كابن لهيعه[6].
وقال ابن الجوزي في تعريف الحديث الحسن: ما به ضعف قريب محتمل[7].
وإنما سقت هذا لا ليظن أن الحديث الحسن غير صالح للاحتجاج به، بل لبيان أن التمييز بينه وبين الضعيف يتطلب مزيداً من التحقيق والممارسة، ومراعاة أقوال الأئمة، وتحرير عباراتهم في الجرح والتعديل، إضافة إلى التيقظ والفهم.(122/4)
قال الشيخ ناصر الدين الألباني: إنه مما ينبغي ذكره بهذه المناسبة أن الحديث الحسن لغيره وكذا الحسن لذاته، من أدق علوم الحديث، وأصعبها، فلا يتمكن من التوفيق بينها أو ترجيح قول على الأقوال الأخرى، إلا من كان على علم بأصول الحديث وقواعده، ومعرفة قوية بعلم الجرح والتعديل، ومارس ذلك عملياً مدة طويلة من الزمن، مستفيداً من كتب التخريجات، ونقد الأئمة النقاد وعارفاً بالمتشددين منهم والمتساهلين، ومن هم وسط بينهم حتى لا يقع في الإفراط والتفريط، وهذا أمر صعب قل من يصبر له، وينال ثمرته[8].
التضعيف بالنسبة للمتأخرين:
إذا وثق الراوي بعض الأئمة المتقدمين ممن عاصره أو كان قريب العهد بعصره فهل يلتفت إلى تضعيف من ضعفه من المتأخرين؟!
لا يخفى أن الراوي أعرف بمشايخه ومعاصريه، وأدرى بأحوالهم وحديثهم وكذلك كلما قرب زمن الراوي من شيخه كلما كان حكمه في ذلك أقرب إلى الحق، فإن طول العهد، وتباعد الزمان أدعى لاحتمال ضعف النقل، وكثرة الوسائط، وعليه فإن توثيقه إذا كان من أهل الخبرة، والدراية، والاعتدال، مقدم على تضعيف المتأخر.
قال ابن حجر: القسم الثاني فيمن ضعف بأمر مردود كالتحامل أو التعنت أو عدم الاعتماد على المضعف لكونه من غير أهل النقد.. أو لتأخر عصره[9].
وقال في ترجمة إسرائيل بن يونس: وبعد ثبوت واحتجاج الشيخين به لا يجمل من متأخر لا خبرة له بحقيقة حال من تقدمه أن يطلق على إسرائيل الضعف، ويرد الأحاديث الصحيحة التي يرويها دائماً لإسناده إلى كون القطان كان يحمل عليه من غير أن يعرف وجه ذلك الحمل[10].
صحة السند أو ضعفه لا تستلزم صحة الحديث أو ضعفه:
مما تقرر في علوم الحديث أن صحة سند الحديث لا تستلزم صحة الحديث وذلك لاحتمال وجود علة أو شذوذ في متنه، وكذلك فإن ضعف السند لا يلزم منه ضعف الحديث لاحتمال أن يكون المتن قد صح من طريق أخرى.(122/5)
وإذاً فمن التسرع وعدم التثبت أن ينظر طالب العلم إلى إسناد الحديث فإذا وجده متصلاً ووجد رجاله موثقين حكم بصحة الحديث قبل أن يمعن النظر جيداً في متنه، أو شواهده ومتابعاته.
ولكن يسوغ الحكم على الحديث بناء على صحة إسناده بشروط ثلاثة وهي:
1 - أن يكون هذا الحكم صادراً من حافظ متأهل لذلك.
2 - أن يبذل الجهد والوسع في التفتيش وتتبع الطرق والشواهد.
3 - أن الحكم مع ذلك يكون ظنياً.
قال السخاوي: إذا بلغ الحافظ المتأهل الجهد، وبذل الوسع في التفتيش على ذلك المتن من مظانه فلم يجده إلا من تلك الطرق الضعيفة ساغ له الحكم بالضعف بناء على غلبة الظن[11].
التصحيح والتضعيف أمر اجتهادي:
التصحيح أو التضعيف حكم، وهذا الحكم يصل إليه المصحح أو المضعف بعد استكمال البحث والنظر، وبعد الاطلاع والاستقراء والتتبع، ثم جمع أقوال الأئمة في الراوي، وجمع طرق الحديث، فإن غلب على ظنه بعد ذلك صحة الحديث حكم بصحته، وإن غلب على ظنه ضعفه حكم بذلك، والمقصود هنا أن هذا المجال يدخله الاجتهاد، وتتباين فيه أنظار المجتهدين، وتختلف أحكامهم، وتتعارض أقوالهم، وليس بمرضيّ أن يجرّ ذلك إلى التعصب الذميم للرأي، والتنازع والشقاق والتنابز بالألقاب، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: والمقصود هنا التمثيل بالحديث الذي يروى في الصحيح، وينازع فيه بعض العلماء، وأنه قد يكون الراجح تارة وتارة المرجوح، ومثل هذا من موارد الاجتهاد في تصحيح الحديث كموارد الاجتهاد في الأحكام[12].
وقال الصنعاني: التصحيح والتضعيف من المسائل الاجتهادية النظرية[13].
وإذا كان الأمر كذلك فيجب أن تتوافر فيمن يتصدى له شروط الاجتهاد في بابه، وهذا قول وسط بين القول بغلق باب الحكم على الأحاديث وبين فتح الباب مطلقاً.
تصحيح المعنى:(122/6)
من الأمور الشائعة تصحيح معنى الحديث مع كونه واهياً أو لا أصل له، ولا يعرف له سند، فيقولون أحياناً: حديث ضعيف لكن معناه صحيح، أو حديث موضوع لكن معناه صحيح، أو يشهد لمعناه كذا ونحو هذا[14].
وهذا التصحيح للمعنى غلط من وجوه:
الأول: أننا لسنا في حاجة إلى هذا الحديث الموضوع أو الضعيف جداً أو الضعيف إذا كان ثم ما يغنينا عنه من الأحاديث الصحيحة. فإذا كان المتن ثابتاً من وجه آخر فلابد من البيان فنقول متن مشهور وإسناد ضعيف أو ضعيف جداً، فنفصّل الكلام في ذلك ونوضحّه[15].
الثاني: أن قولهم: حديث ضعيف، أو حديث موضوع لكن معناه صحيح غلط ظاهر، لأن الحكم على الحديث هنا حكم على إسناده ومتنه، فكيف يحكم عليه بمجموع الأمرين بالوضع، ثم يحكم على المتن بالصحة، فهل يكون موضوعاً صحيحاً، أو ضعيفاً صحيحاً في آن معاً؟
الثالث: أن هذا القول فتح باب التساهل في رواية الأحاديث الواهية والموضوعة، وتناقلها وتداولها بين العامة، وبين طلبة العلم مع نوع من التأييد لها بحجة صحة معناها، وإذا كان المعنى صحيحاً فهذا يعني التساهل والتسامح في ذكر الألفاظ المشتملة على المعنى الصحيح، ولقد جرّ هذا بلاء وفتنة[16].
الرابع: أنه غالباً ما يكون هناك فرق دقيق في المعنى بين ما اشتمل عليه الحديث الموضوع، أو الحديث الواهي وبين ما أشتمل عليه الحديث الصحيح، ولكن للاغترار بهذا القول، أغفل هذا الفرق أو ظن أنه غير مؤثر في المعنى تأثيراً ذا أهمية، ولعمري أي فرق أجل مما بين ما نطق به الوحي، وبين ما قاله المتقولون والواهمون.
الخامس: هذا القول لا يعلم له مستند من دليل، والقول البديل عنه أن يقال: هذا حديث موضوع، أو باطل، أو واهٍ، ويغني عنه الحديث الصحيح وهو كذا وكذا.(122/7)
السادس: لسنا ملزمين بأن نقيم نسباً بين كل قول جميل، أو حكمة، أو مثل، وبين الوحي، وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم لنثبت أنه أفصح الناس وأحكمهم، فإن هذه الحقيقة أنصع من أن تحتاج إلى مثل هذا الإثبات، وكأننا حين نفعل ذلك نكافيء الكذاب، أو المبتدع أو المخطيء بالعناء الذي نبذله لتمرير عمله.
بعض القرائن التي تراعى في المصححين والمضعفين:
ليس كل إمام من أئمة الجرح والتعديل يعتمد قوله في كل راوٍ، فقد قلنا إن التصحيح والتضعيف أمر اجتهادي، ولذلك فإن الاختلاف في جرح الراوي وتعديله، يوجب التثبت في ترجيح أحد الأمرين على الآخر، وإلى اتباع القواعد العلمية الدقيقة في تقديم أحد الأمرين على الآخر، فإنه قد وقع الطعن من بعض المجرحين في بعض الرواة، وعند التأمل تبين أن هذا الطعن لا يلتفت إليه، ولا يعول عليه.
وهذه أهم أسباب الطعن التي لا يعول عليها، وإن صدرت من أئمة من أهل الرسوخ في هذا الشأن:
1 - الطعن بسبب الدخول في أمر الدنيا، كولاية الحسبة أو القضاء ونحوه.
2 - الطعن بسبب التحامل الواقع بين الأقران والتعاصر كطعن مالك في ابن اسحق مثلاً.
3 - الطعن بسبب اختلاف العقائد والرأي كطعن نعيم بن حماد والجورقاني في بعض أهل الرأي والبدعة.
4 - الطعن في راوٍ توهما أن الحمل عليه لتفرد أو نكارة في حين أن الحمل يكون فيه على غيره.
5 - الطعن ممن هو ليس أهلاً لذلك لضعف فيه، كالكديمي، والأزدي.
6 - الطعن في راوٍ متوهماً أنه راوٍ آخر.
7 - الطعن فيه من قبيل التشدد والتعنت.
8 - الطعن لعداوة دنيوية كطعن ربيعة بن عبدالله بن ذكوان (أبي الزناد).
9 - الطعن للجهل بحال الراوي أو عينه كما يقع لابن حزم وابن القطان.
10 - الطعن بغير طاعن.(122/8)
قال ابن حجر رحمه الله: وأعلم أنه قد وقع من جماعة الطعن في جماعة بسبب اختلافهم في العقائد، فينبغي التنبه لذلك وعدم الاعتداد به إلا بحق، وكذا عاب جماعة من الورعين جماعة دخلوا في أمر الدنيا فضعفوهم لذلك ولا أثر لذلك التضعيف مع الصدق والضبط، وأبعد ذلك كله من الاعتبار تضعيف من ضعف من الرواة بأمر يكون الحمل فيه على غيره، أو للتحامل بين الأقران، وأشد من ذلك تضعيف من ضعف من هو أوثق منه، أو أعلى قدراً، أو أعرف بالحديث فكل هذا لا يعتبر به[17].
مراعاة السند والمتن في التصحيح والتضعيف:
لا يخفى أن الحكم على الحديث يجب أن يكون عن دراسة لسنده ومتنه وأنه لا يحكم عليه بالصحة أو الضعف حكماً نهائياً حتى يجمع شروط ذلك سنداً ومتناً.
ولكن قد يحكم عليه حكماً جزئياً باعتبار:
1 - طريق أو إسناد له بخصوصه.
2 - لفظ أو سياق له معين.
ومن هنا انبرى المحدثون لنقد السند والمتن على حد سواء ووضعوا القواعد والمعايير العلمية الثابتة للحكم على ذلك ولم يتركوا الأمر هملاً.
الراوي المختلف فيه:
إذا اختلفت أقوال المحدثين في الراوي، منهم من يوثقه، ومنهم من يجرحه ويطعن فيه، فما حكم حديثه؟
هل نغلب جانب الجرح احتياطاً فنعد حديثه مردوداً، أو نغلب جانب التعديل فنعده صحيحاً؟ أو نتوسط في ذلك فنجعل حديثه من نوع الحسن؟
اعلم أن هذه المسألة من أهم مسائل التصحيح والتضعيف إذ أن الرواة من حيث القبول والرد ينقسمون إلى ثلاثة أقسام:
الأول: متفق على جلالتهم وإتقانهم، أو على توثيقهم جمهور الأئمة جهابذة هذا الشأن وفرسانه، فلا يلتفت إلى ما فيهم من جرح عام، وإنما ينظر إلى ما جرحوا فيه من جرح خاص يتعلق بالطعن في بعض حديثهم أو في روايتهم عن بعض شيوخهم، أو ما ثبت أنهم وهموا فيه من وهم يسير لا يضر في جانب إتقانهم وضبطهم.(122/9)
الثاني: قسم متفق على ضعفهم، أو على تضعيفهم جمهور أئمة هذا الشأن فلا يتلفت إلى توثيق من وثقهم توثيقاً عاماً، وينظر في ذلك إذا كان التوثيق خاصاً كتوثيقه في الرواية عن شيخ معين أو روايته لصحيفة معينة، أو ضبطه لحديث بعينه.
القسم الثالث: وهم الرواة المختلف فيهم، وهنا مربط فرس المحققين، ومناخ رواحلهم، وهنا يجب تحرير عبارات الأئمة، ومعرفة مناهجهم في الحكم على الرواة تساهلاً وتشدداً واعتدالاً، ومعرفة سياق كلامهم في الراوي، وقرائن التجريح والتعديل.
ومن ذلك أيضاً اختلاف قول الإمام الواحد في الراوي الواحد يوثقه مرة ويطعن فيه أخرى، ويحسن حاله مرة ثالثة، فيتعين معرفة عادة ذلك الإمام أو معرفة آخر أقواله في الراوي أو أضبط الروايات عنه، أو سياق كلامه وغير ذلك من القرائن.
ومما ينبغي أن يعلم في هذا الشأن أنه لا يصلح أن يطرح حديث الراوي أو يتوقف فيه، للاختلاف فيه، أو لإطلاق الكلام فيه، وإلا للزم تضعيف آلاف الأحاديث وردّها.
ولذا فقد ذهب عدد من المحدثين كأحمد في مسنده، والنسائي في سننه وغيرهما إلى أنه لا يترك حديث الرجل حتى يجمع الجميع على تركه[18].
وصرح جمع من العلماء سيأتي ذكرهم إن شاء الله قريباً أن حديث المختلف فيه يعد من الحسن وبتأمل أقوالهم في هذه المسألة نجد أن لا يصار لهذا الحكم إلا بشروط وهي:
1 – أن لا يكون هناك قرينة قوية ترجح أحد الجانبين أي الجرح والتعديل على الآخر، كأن يكون المعدلون أشهر أو أكثر عدداً، أو أن يكون الجرح صادراً من غير عدل متيقظ، أو أن يجرح بما لا يعد جارحاً، أو غير ذلك من أسباب الطعن غير المعتبرة المتقدمة.
2 – أن لا يكون للراوي أحاديث تستنكر عليه، وهي التي طعن فيه بسببها فإن هذا يرجح القول بتضعيفه.(122/10)
قال الذهبي في جزء ((من تكلم فيه وهو ثقة)) هذا فصل نافع في معرفة ثقات الرواة الذين تكلم فيهم بعض الأئمة بما لا يرد أخبارهم، وفيهم بعض اللين، وغيرهم أتقن منهم واحفظ، فهؤلاء إن لم يكن حديثهم في أعلى مراتب الصحيح فلا ينزل عن رتبة الحسن، اللهم إلا أن يكون للرجل منهم أحاديث تستنكر عليه، وهي التي تكلم فيه من أجلها[19].
3 – أن يكون هذا الراوي مشهوراً بالصدق أو الستر، وهذا يعني المتهم بالكذب أو فاحش الخطأ لا يكون حديثه حسناً، ولو وثق، إلا أن يكون اتهامه من قبيل التحامل أو من غير متقن أو متعنت.
قال ابن الصلاح: إذا كان الراوي متأخراً عن درجة أهل الحفظ والإتقان غير أنه من المشهورين بالصدق والستر، وروي مع ذلك حديثه من غير وجه فقد اجتمعت له القوة من الجهتين وذلك يرقى حديث من درجة الحسن إلى درجة الصحيح.
ومثل ابن الصلاح لذلك بمحمد بن عمرو بن علقمة فهو من المشهورين بالصدق والصيانة ولكنه لم يكن من أهل الإتقان حتى ضعفه بعضهم من جهة سوء حفظه، ووثقه بعضهم لصدقه وجلالته قال: فحديثه من هذه الجهة حسن[20].
وقال المنذري في مقدمة الترغيب: وقد لا أذكر الراوي المختلف فيه فأقول إذا كان رواة إسناد الحديث ثقات وفيهم من اختلف فيه: إسناده حسن أو مستقيم أو لا بأس به ونحو ذلك حسبما يقتضيه حال الإسناد والمتن وكثرة الشواهد[21].
وقال الحافظ ابن حجر: لا يحكم على رواية مختلف في توثيقه بالصحة بل غايته أن يكون حسناً[22].
وقد فصل القول في هذه المسألة العلامة المعلمي فقال:
إذا اختلفوا في راوٍ فوثقه بعضهم ولينه بعضهم، ولم يأت في حقه تفصيل فالظاهر أنه وسط فيه لين مطلقاً، وإذا فصلوا أو أكثروا الكلام في راوٍ فثبتوه في حال، وضعفوه في أخرى فالواجب أن لا يؤخذ حكم ذاك الراوي إجمالاً إلا في حديث لم يتبين من أي الضربين هو، فأما إذا تبين فالواجب معاملته بحسب حاله[23].(122/11)
وعلى ذلك فإن من يريد الحكم على الحديث بالتضعيف أو التحسين أو التصحيح لابد له من جمع ما قيل في الراوي من جرح وتعديل، ثم الموازنة بين الأقوال، والنظر إلى قرائن الترجيح بينها، فإن كان الراوي ممن يوصف بأنه مختلف فيه فإن حديثه يعد من الحسن بالشروط المتقدمة، وإلا فيعطي الحكم الذي ترجح لديه.
ومما يجدر ذكره هنا أنه لا يعد من التوثيق للراوي وصفه بكثرة العبادة من صلاة وصيام وغيرهم، وكذلك في عدله في ولاية المظالم، أو زهده وتخشنه في العيش، واشتهاره بالصلاح والورع كما ذهب إليه بعض العلماء[24] لأن توثيق الراوي يشمل عدالته، وصدقه، وضبطه وحفظه لما يروي، فذكره بالصلاح والعبادة ونحو ذلك يثبت الأمر الأول، ولا يثبت الثاني، فإن الضبط يعرف بأمور أخرى، بل قد يكون الراوي مبتدعاً، أو سيء الرأي في بعض أمور الدين، لكن يقبل حديثه إذا كان ضابطاً لما يروي، غير متهم بكذب، فقد كان ابن خزيمة رحمه الله إذا حدث عن شيخه عباد بن يعقوب الكوفي يقول: حدثنا الثقة في روايته المتهم في رأيه.
الراوي المجهول:
جهالة الراوي لا تعني رد حديثه مطلقاً فإن الرواة يتفاوتون في ذلك، تبعاً لعصورهم، فجهالة الراوي المعدود من كبار التابعين ليست كجهالة الراوي المتأخر عن ذلك كأن يكون من صغارهم أو ممن بعد عصرهم، كما أن الحال يختلف باختلاف الأمر من روى عن هذا المجهول هل هو من أهل الإتقان والتحري أولاً ويختلف الأمر أيضاً بالنسبة لمن روى عنه البخاري ومسلم فإنه لا يوصف بالجهالة إذا كان ممن تلقى حديثه بالقبول.
قال الذهبي: وأما المجهولون من الرواة فإن كان الرجل من كبار التابعين أو أوساطهم احتمل حديثه، ويتلقى بحسن الظن إذا سلم من مخالفته الأصول، وركاكة الالفاظ.
وإن كان الرجل منهم من صغار التابعين فيتأنى في رواية خبره، ويختلف ذلك باختلاف جلالة الراوي عنه، وتحريه، وعدم ذلك.(122/12)
وإن كان المجهول من أتباع التابعين فمن بعدهم فهو أضعف لخبره سيما إذا انفرد به[25] قلت: وهذا هو مذهب الكثير من المحدثين.
قال المعلمي: وكذلك ابن سعد وابن معين والنسائي وآخرون غيرهم يوثقون من كان من التابعين أو أتباعهم إذا وجدوا رواية أحدهم مستقيمة بأن يكون له فيما يروى متابع أو شاهد[26].
وقال ابن حجر: لا يضعف بالجهالة من روى عنه البخاري[27].
وقال السخاوي: بل صرح بعضهم باستلزام القول بالقطع بصحة ما لم ينتقد من أحاديثهما القطع بعدالة رواتهما يعني فيما لم ينتقد[28].
وعليه فليس كل إسناد يقال في أحد رواته مجهول فهو إسناد ضعيف ولا كل راوٍ يوصف بالجهالة يعد ضعيف الحديث، فضلاً عن عدم قبول حديثه بحال.
تصحيح الحديث إذا جمع سنده شروط الصحة:
ذهب جماعة من المحدثين والفقهاء إلى أن الحديث يحكم عليه بالصحة إذا اتصل سنده بنقل العدل الضابط، ثم إن ظهر بعد ذلك شذوذ أو علة تغير الحكم عليه تبعاً لذلك.
وهذا مذهب غريب ضعيف فمن المعلوم أن الحكم على الحديث لا يتأتى إلا بدراسة سنده ومتنه وتوفر شروط الصحة فيهما – فكيف يحكم له بالصحة لصحة سنده دون التأكد من خلو متنه من علة أو شذوذه.
ويحسن التنبيه إلى أن بعض المتأخرين قد يغتر بتصحيح بعض المحدثين ممن يرى هذا الرأي فيحتج بذلك، فيرد به على من يذهب إلى تضعيفه.
قال السخاوي: وأما من لم يتوقف من المحدثين والفقهاء في تسمية ما يجمع شروط الصحة الثلاثة – أي في سنده – صحيحاً، ثم إن ظهر شذوذ أو علة ردّه، فشاذ، وهو استرواح حيث يحكم على الحديث بالصحة قبل الإمعان في الفحص، وتتبع طرقه التي يعلم بها الشذوذ أو العلة نفياً وإثباتاً، فضلاً عن أحاديث الباب كله التي ربما احتيج إليها في ذلك.
قال: وكذا لا ينبغي الحكم بالانقطاع، ولا بجهالة الراوي المبهم بمجرد الوقوف على طريق، كذلك لابد من الإمعان في التفتيش لئلا يكون متصلاً ومعيناً في طريق آخر، فيعطل بحكمه الاستدلال به[29].(122/13)
التصحيح والتضعيف العقلي:
إذا تأملنا بعض ردود الصحابة ومناقشاتهم، واستدراك بعضهم على بعض فإننا نرتضي القول بأن (الصحابة فسحوا الطريق للعقل، للنظر في الحديث، ولكن هذا النظر لم يكن نظر عقلياً مجرداً، بل كان مستنداً إلى اعتبار الأصول والأحكام الثابتة بالأدلة القاطعة)[30].
وكانوا ينكرون أشد الإنكار على من يرد الحديث دون استناد إلى الأصول والقواعد الثابتة أو لمجرد مخالفته لعقله ورأيه[31].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "لا يعلم حديث واحد يخالف العقل، أو السمع الصحيح، إلا وهو عند أهل العلم ضعيف، بل موضوع، بل لا يعلم حديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم في الأمر والنهي أجمع المسلمون على تركه إلا أن يكون له حديث صحيح يدل على أنه منسوخ".
قال: والنصوص الثابتة في الكتاب والسنة لا يعارضها معقول بين قط، ولا يعارضها إلا ما فيه اشتباه واضطراب[32].
إن دور العقل يجب أن يكون في تأصيل القواعد العلمية الصحيحة للنقد والجرح والتعديل، والترجيح والتعليل والحكم على الراوي، وغير ذلك. فإذا ثبت الحديث بحسب القواعد العلمية، ونقله إلينا العدل الضابط، وليس في سنده أو متنه ما يخالف أصلاً ثابتاً، فليس لأحد رده لمظنه احتمال الخطأ على روايه، أو لظن مخالفته للعقل.
قال الشيخ المعلمي رحمه الله: ولقد راعى المحدثون العقل في أربعة مواطن:
1 - عند السماع.
2 - عند التحديث.
3 - عند الحكم على الرواة.
4 - عند الحكم على الحديث.
وبسط الحكم على الحديث.
وبسط ذلك بسطاً شافياً في أنواره الكاشفة[33].
ثم إن أصحاب هذا الاتجاه من العقلانيين لم يتفقوا على قاعدة واحدة في هذه المسألة، ومن تأمل آراءهم، واتجاهاتهم وجد تخبطاً واضطراباً عند متقدميهم ومتأخريهم من المتكلمين أو من المستشرقين أو من لف لفهم في ذلك.
فأي قاعدة يرجع إليها في تصحيح الحديث أو تضعيفه، أم أن عقل كل واحد منهم يجعله هو القاعدة في ذلك؟!
التصحيح والتضعيف بالكشف:(122/14)
ذهب بعض المتصوفة إلى الإعتماد على المعرفة القلبية، والعلم الباطن في التمييز بين الحق والباطل وتصحيح الحديث، أو الحكم عليه بالضعف أو بالوضع.
يقول ابن عربي: رب حديث يكون صحيحاً من طريق رواته يحصل لهذا المكاشف أنه غير صحيح لسؤاله (للرسول) صلى الله عليه وسلم فيعلم وضعه ويترك العمل به، وإن عمل به أهل النقل لصحة طريقه، ورب حديث ترك العمل به لضعف طريقه من أجل وضاع في رواته يكون صحيحاً في نفس الأمر لسماع المكاشف له من (الروح) حين إلقائه على رسول الله صلى الله عليه وسلم[34].
معنى الكشف عندهم:
وقد عرف أهل التصوف الكشف بأنه: (الإطلاع على ما وراء الحجاب من المعاني الغيبية والأمور الحقيقية وجوداً وشهوداً).
أو (العلم الباطن المتفجر من داخل القلب).
أو (إدراك الأمور بنور إلهي لا بالسماع)[35].
ولا يخفى بطلان هذا المسلك، فهو قول محدث لم يعرفه سلف الأمة، وفيه إبطال لقواعد الجرح والتعديل، وهدم لمنهج المحدثين، فوق أن الكشف مضطرب لا قاعدة له ولا انضباط.
قال ابن القيم رحمه الله: ومن أحالك على غير (أخبرنا) و(حدثنا) فقد أحالك إما على خيال صوفي، أو قياس فلسفي، أو رأي نفسي فليس بعد القرآن وأخبرنا إلا الشبهات، ومن فارق الدليل ضل عن سواء السبيل[36].
الحديث الضعيف المتلقى بالقبول:
مما اشتهر عند بعض العلماء أن الحديث الضعيف الذي لا يعرف له إسناد ثابت إذا تلقاه العلماء بالقبول فإنه يعمل به، ويقوى من أجل هذا التلقي.
وقد نظرت أقوال أهل العلم في هذه المسألة فتبين لي فيها ما يلي:
1 - أن القول بأن العلماء تلقوه بالقبول، المقصود به جمهور العلماء فلا يعد إجماعاً.
2 - أن أكثر الأحاديث التي وصفت بهذا الوصف مختلف في تصحيحها وتضعيفها.
3 - أن تلقي معنى الحديث بالقبول لا يلزم منه تصحيح الحديث.(122/15)
4 - أن هذه الطريقة لا تعرف لتصحيح الحديث عند المحدثين، فلا تعتمد لتصحيح إسناد الحديث، والإحتجاج به على قواعد المحدثين ومنهجهم.
تصحيح الحديث لموافقته الأصول وتضعيفه لمخالفته لها:
أما تصحيح الحديث لموافقته للأصول فقد تقرر أن من قواعد المحدثين أن الحديث يتقوى إذا تأيد بظاهر القرآن أو موافقة شاهد صحيح له، وهذا إذا كان الحديث مما يتقوى مثله فإنه لا يصحح ولا يحسن بهذا التأييد.
ودعوى معارضة الحديث للأصول دعوى عريضة يدعيها المتسرعون إلى إسقاط الحديث أو الحكم بضعفه لتوهم معارضته للأصول، وما ذكروه من أمثلة يصلح أن يكون برهاناً على هذا التسرع وسوء الفهم للحديث.
قال ابن القيم رحمه الله في رد الدعوى بمخالفة حديث المصراة للأصول: والحديث موافق لأصول الشريعة وقواعدها، ولو خالفها لكان أصلاً بنفسه، كما أن غيره أصل بنفسه، وأصول الشرع لا يضرب بعضها ببعض، بل يجب اتباعها كلها، ويقر كل منها على أصله، وموضعه، فإنها كلها من عند الله الذي أتقن شرعه وخلقه[37].
ولسنا ننكر على المؤهل علماً وديناً أن يعمل عقله عند توهم التعارض، ويرجح ما يغلب على ظنه ترجيحه وفق القواعد العلمية، ولكننا ننكر أشد الإنكار إطلاق القول برد السنة الصحيحة الثابتة بنقل العدول بحجة كونها آحاداً، أو بحجة معارضتها للقرآن الكريم أو السنة المتواترة حتى يصبح ذلك أصلاً مسلماً يسارع إليه المؤهل وغير المؤهل.
ومن نظر في صناعة هؤلاء القوم، وتأمل ما أوردوه من أمثلة مزعومة على التعارض وجد خبطاً وخلطاً كثيراً، وأدرك تجنياً على الحق ملبساً ثوب المنهج العلمي، والموضوعية، وتحري الإنصاف. وإنما هم يحكمون في الحقيقة بوهم الثقات الضابطين بل يتهمونهم في نقلهم، بل أكثر من ذلك هم يحكمون على جماهير ومحدثي الأمة وعلمائها بالجهل والغباء، حيث قبلوا هذه الأحاديث دون فقه أو نظر في متونها ليتبينوا ما تبين هؤلاء.
عرض الحديث على القرآن:(122/16)
ومما جعل سبباً لرد الحديث عند البعض أن المحدثين كانوا أو جلهم – زعموا – رواة نقله، لم يعتنوا بفقه الحديث، ولم يهتموا بتحقيق معناه، وإنما كانت همتهم منصرفة لبيان الأسانيد، وأحوال الرواة، وصيغ الأداء، وربما استدلوا لما زعموا بحديث:
(ما جاءكم عني فاعرضوه على كتاب الله، فما وافقه فأنا قلته، وما خالفه فلم أقله).
والجواب على هذا من وجوه:
1 – هذا الحديث موضوع على النبي صلى الله عليه وسلم لا يصح أن ينسب إليه، فقد وضعه أبو جعفر المدائني عبدالله بن المسور، وكان كذاباً يضع الحديث على النبي صلى الله عليه وسلم، وله طرق أخرى كلها ضعيفة وقد أنكره الأئمة ابن معين، والشافعي، وابن حزم، وابن تيمية وغيرهم[38].
2 – أما من حيث المتن فهو مردود من وجهين:
الأول: هو كما قال البيهقي رحمه الله ينعكس على نفسه بالبطلان، فليس في القرآن دلالة على عرض الحديث على القرآن[39].
الثاني: أنه صح خلافه كما قال الفيروز آبادي يرحمه الله، وهو حديث: ((ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه))[40].
وهذا الحديث يلقم حجراً كل من حاول الدس والطعن في السنة الصحيحة أو حاول أن يفتعل التعارض بينها وبين الظاهر القرآن، ولله الحمد كله.
تضعيف الحديث لمخالفته للأمور الطبيعية والعلمية:
من العلوم أن لا تعارض بين حقيقة جاء الشارع بها سواء أكان ثبوتها بآية من كتاب الله، أم بحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبين حقيقة علمية أو طبيعية ثابتة لا يتطرق إليها احتمال الخطأ لكن يأبى بعض مرضى القلوب إلا أن يفتعل التعارض بين الحديث، وبين بعض الفروض أو النظريات والآراء العلمية أو الكشوف الطبية.
ويشغبون لذلك برد أحاديث ثابتة لا يتطرق أدنى احتمال، لصحتها مما اتفق عليه الشيخان وتلقته الأمة بالقبول، ويسخرون من الأئمة العدول الضابطين، جبال العلم والحفظ، وجهابذة النقد.(122/17)
فالحديث إذا ثبت عندنا وصح بحسب القواعد العلمية المؤصلة، فلا قدر عندنا بعد ذلك لتجربة أو تحليل مختبري، أو غيره، فإننا على يقين أن ما لم يتأهل له الأطباء اليوم فقد يتأهلون له غداً، وليس هناك عامل يجزم أن عصرنا هذا أو أطباءنا وخبراءنا اليوم هم نهاية مطاف الدنيا في البحوث والمكتشفات العلمية والتجارب الطبية، فما من يوم يبزغ فجره إلا ويكشف لنا عن جهلنا في يوم غربت شمسه، ولله تعالى في خلقه شئون، وفوق كل ذي علم عليم.
تضعيف الحديث لمخالفته للواقع الاجتماعي، والظروف الاجتماعية والنفسية:
زعم بعض الباحثين إهمال المحدثين لدراسة الواقع الاجتماعي والنفسي والسياسي للراوي، وأثر ذلك على الرواية، ولم يدرسوا – بزعمه – كثيراً بيئة الراوي الشخصية وما قد يحمله على الوضع[41]. إن من يعلم واقع المحدثين ويطلع على دقة منهجهم في تمحيص الروايات، وتتبع أحوال الراوي وظروف الرواية، ومعرفة كل دقيق وجليل، ومدخل الرواة ومخرجهم، وتلاميذهم وشيوخهم، وسيرتهم الخاصة والعامة، ورحلاتهم، وضبطهم، ووهمهم، وما خالفوا فيه حتى إنهم أسقطوا رواية الراوي إذا (هم أن يكذب في الحديث ولو هما)[42].
كل من يعلم ذلك ولو بإلقاء نظرة على كتب الرجال يدرك أن الزعم المتقدم محض افتراء على المحدثين مع خلوه من الأمانة والموضوعية.
قال شيخنا محمد أبو شهبة رحمه الله في رده على أبي رية: وما يتراءى لبعض الناس أنه مخالف الكونية – من الأحاديث – قد لا يكون مخالفاً عند التحقيق والتدقيق، وما يعتبره البعض مخالفاً للقطعي أو للحسي قد لا يعتبره الآخر كذلك، فمن ثم دخلت المغالط الكثيرة على المؤلف وغيره ممن عرضوا لنقد الحديث، وذلك لأنهم جعلوا غايتهم التزييف والهدم، فمن ثم تلمسوا أوهى الأسباب، وركبوا كل صعب في سبيل إظهار بعض الأحاديث بمظهر المخالف لما ذكر[43].
تضعيف الحديث لكونه لم يروه أصحاب الكتب المعتمدة:(122/18)
إذا لم يرد الحديث في كتب السنة المعتمدة، ولم يروه أحد من أصحاب المصنفات الحديثية المشهورة المعروفة، فهل يحكم لذلك على الحديث بالضعف، وذلك بأن يروى في جزء من الأجزاء، أو الفوائد أو الأمالي أو المجالس، أو المشيخات أو غيرها من المصنفات، ولم يخرج في شيء من الكتب المعتمدة.
ونعني بكون الكتاب معتمداً أن يكون من كتب الحديث ويجمع بين صفتي التقدم والشهرة، أي التداول في أوساط العلماء، ويكون معروفاً مشهوراً لديهم، متقدماً في التصنيف، لا شك أن الحديث إذا كان مما يحتاج إلى مثله ولم يعرف لدى المصنفين المشهورين الذين قاموا بجمع الأحاديث وتصنيفها، أو يكون معروفاً لكن يعرضون عن إخراجه، فإنه مما يغلب على الظن عدم صحته، إذ لو كان صحيحاً لعرفه وخرجه بعض هؤلاء الحفاظ المتقدمين.
قال ابن الجوزي: (الموضوعات 1/99): فمتى رأيت الحديث خارجاً عن دواوين الإسلام كالموطأ، ومسند أحمد، والصحيحين، وسنن أبي داود ونحوها فانظر فيه فإن كان له نظير من الصحاح والحسان قرب أمره، وإن ارتبت فيه ورايته يباين الأصول فتأمل رجال إسناده.. إلخ.
قال الزيلعي: يكفينا في تضعيف أحاديث الجهر بالبسملة إعراض أصحاب الجوامع الصحيحة، والسنن المعروفة، والمسانيد المشهورة المعتمدة عليها في حجج العلم ومسائل الدين عنه.
وقال صاحب ((التنقيح)) كيف يكون هذا الحديث – أي حديث رخصة الحجامة للصائم – صحيحاً، سالماً من الشذوذ والعلة، ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة، ولا هو في المصنفات المشهورة، ولا في السنن المأثورة، ولا في المسانيد المعروفة، وهم يحتاجون إليه أشد احتياج[44].
وقد كثر هذا في كلام العلماء كابن تيمية، وابن عبدالهادي، وغيرهما[45].
قال ابن جماعة: مع غلبة الظن أنه لو صح لما أهمله أئمة الأعصار المتقدمة لشدة فحصهم واجتهادهم[46].(122/19)
ولا عبرة هنا بالأحاديث المنقولة في كتب الفقه المبسوطة، أو كتب التاريخ والتصوف ونحوها ما لم يظهر سندها، أو يعلم اعتماد أرباب الحديث عليها، وإن كان مصنفها فقيهاً جليلاً يعتمد عليه في نقل الأحكام، وعلم الحلال والحرام[47].
تصحيح الحديث المضطرب إذا لم يكن له مخالف:
الحديث المضطرب: هو الذي تختلف الرواية فيه فيروى على أكثر من وجه يخالف بعضها بعضاً وتكون متساوية في القوة، وقد يكون الراوي نفسه هو الذي روى هذه الوجوه، وقد يرويه بعض الرواة على وجه، وبعضهم على وجه آخر.
وإنما يحكم بضعف الحديث المضطرب؛ لأنه دال على عدم ضبط الراوي أو الإخلال بضبطه.
ولا يتحقق الاضطراب إلا بأن تتساوى الوجوه المتعارضة في القوة أما إذا ترجحت إحداها بحيث لا تقاومها الأخرى فالحكم للراجحة، ولا اضطراب حينئذ في الحديث[48].
وقال ابن التركماني: إذا أقام ثقة إسناداً اعتمد ولم يبال بالاختلاف[49].
قال الخلال في جامعه في حديث ابن عباس في كفارة وطء الحائض قال: كأنه يعني الإمام أحمد – أحب أن لا يترك الحديث وإن كان مضطرباً لأن مذهبه في الأحاديث إذا كانت مضطربة ولم يكن لها مخالف قال بها[50].
وإذا فلا تنافي بين الصحة والاضطراب في الرواية دائماً فقد تجمتعان، وقد يوصف المضطرب بالصحة أو بالحسن، وذلك بأن يقع الاختلاف في اسم رجل واحد وأبيه ونسبته ونحو ذلك، يكون ثقة، فيحكم للحديث بالصحة ولا يضر الاختلاف فيما ذكر مع تسميته مضطرباً، بل جزم بعض العلماء كالزركشي بذلك أيضاً في المقلوب والشاذ بأن يدخل القلب والشذوذ والاضطراب في قسم الصحيح والحسن[51].
ما سكت عنه أبو داود:
قال أبو داود في بيان حال الأحاديث التي اشتمل عليها كتابه: ما كان في كتابي من حديث فيه وهن شديد فقد بينته.. وما لم أذكر فيه شيئاً فهو صالح، وبعضها أصح من بعض[52].(122/20)
وقد اختلف في مقصود أبي داود من كلمة ((صالح)) هل تعني أنه صالح للاحتجاج، أو صالح للاعتبار، أو حديث. قال ابن الصلاح بعد ذكره كلام أبي داود المتقدم:
فعلى هذا ما وجدناه في كتابه مذكوراً مطلقاً، وليس في واحد من الصحيحين ولا نص على صحته أحد ممن يميز بين الصحيح والحسن عرفنا بأنه من الحسن عند أبي داود، وقد يكون في ذلك ما ليس بحسن عنده، ولا مندرج فيما حققنا ضبط الحسن به.
وقال ابن منده: وكذلك أبو داود السجستاني يأخذ مأخذه – أي مأخذ النسائي – ويخرج الإسناد الضعيف إذا لم يجد في الباب غيره، لأنه أقوى عنده من رأي الرجال[53].
وقسم الحافظ ابن حجر ما سكت عليه أبو داود إلى أربعة أقسام:
1 - ماهو في الصحيحين أو على شرط الصحة.
2 - ما هو من قبيل الحسن لذاته.
3 - ما هو من قبيل الحسن إذا اعتضد.
4 - ما هو ضعيف لكنه من رواية من لم يجمع على تركه غالباً.
وكل هذه الأقسام عنده تصلح للاحتجاج[54].
وقال ابن عبدالبر: كل ما سكت عليه أبو داود فهو صحيح عنده لا سيما إن كان لم يذكر في الباب غيره[55].
قال العراقي: إن كان أبو داود يرى الحسن رتبة بين الصحيح والضعيف فالاحتياط بل الصواب ما قاله ابن الصلاح، وإن كان رأيه كالمتقدمين أن الحديث ينقسم إلى صحيح وضعيف، فما سكت عنه فهو صحيح، والاحتياط أن يقال فهو صالح كما عبر أبو داود.
قال: وهكذا رأيت الحافظ أبا عبدالله بن المواق[56] يفعل في كتابه (بغية النقاد) يقول في الحديث الذي سكت عليه أبو داود: هذا حديث صالح[57].
فالخلاصة: أن ما سكن عليه أبو داود في سننه ليس نوعاً واحداً ولا يحكم عليه بحكم واحد، فمنه ما هو صحيح، ومنه ما هو حسن، ومنه ما هو ضعيف هذا من حيث الواقع، أما عند أبي داود فما سكت عنه يعني أنه صالح للاحتجاج عنده، ولا يخفى أنه ليس كله على درجة واحدة.
تصحيح الحديث أو تضعيفه للحب والبغض:(122/21)
وهذا لون من ألوان التعصب الأعمى، وضرب من ضروب الهوى لا يستند إلى دليل، ولا يتحاكم إلى حق، وإنما هو محض الهوى.
وهو منهج يتبعه الرافضة وغيرهم من الطوائف الزائغة عن الحق، فما وافق من ذلك هواهم، ونصر بدعتهم صححوه وإن كان بأوهى الأسانيد، وما خالفهم ضعفوه ولو كان بأصح الأسانيد.
وهؤلاء الرافضة من أجهل الناس بالسنة، وأبعد عن معرفة صحيحها من سقيمها، وهم كما وصفهم ابن تيميه رحمه الله: "وأما الحديث فهم من أبعد الناس عن معرفته، لا إسناده، ولا متنه، ولا يعرفون الرسول صلى الله عليه وسلم وأحواله، ولهذا إذا نقلوا شيئاً من الحديث كانوا من أجهل الناس به، وأي كتاب وجدوا فيه ما يوافق هواهم نقلوه من غير معرفة بالحديث"[58].
ولسنا نتجنى عليهم، فهذه أحاديث البخاري ومسلم التي تلقتها الأمة بالقبول، وسلم بصحتها ألوف المحدثين جيلاً بعد جيل، قد رموها بالكذب وحكموا عليها بالوضع والتلفيق إلا بعض الأحاديث التي توافق ما عندهم من هوى.
وقد صححوا آلاف الأحاديث الواهية والمنقطعة، التي لا يقوم لها إسناد، ولا يعرف لها أصل، وما ذلك إلا لغلبة الهوى، واستحكام العمى، والبغض المقيت الذي يملأ قلوبهم على السنة وأهلها، وحملتها الذابين عنها.
قال العلامة محب الدين الخطيب في بيان موقف الشيعة من الحديث: "لا يعتمدون إلا الأحاديث المنسوبة لآل بيت الرسول صلى الله عليه وسلم، وبعض الأحاديث لمن كانوا مع علي رضي الله عنه في معاركه السياسية ويرفضون ما سوى ذلك".
ولا يهتمون بصحة السند، ولا الأسلوب العلمي فكثيراً ما يقولون مثلا: ((عن محمد بن إسماعيل، عن بعض أصحابنا، عن رجل، عنه أنه قال)) وكتبهم مليئة بعشرات الآلاف من الأحاديث التي لا يمكن إثبات صحتها، وقد بنوا عليها دينهم.
وبذلك أنكروا أكثر من ثلاثة أرباع السنة النبوية، وهذه من أهم نقط الخلاف بينهم، وبين سائر المسلمين[59].(122/22)
وقال الدكتور موسى الموسوي: ولا أعتقد أن زعيماً دينياً واحداً من زعماء المذهب الشيعي قديماً وحديثاً قد قام بغربلة الكتب الشيعية من الروايات التي تنسب زوراً إلى الأئمة في تجريح الخلفاء، وغيرها من الروايات التي يحكم العقل السليم ببطلانها، وعدم صدورها من الإمام مع أن علماء المذهب كلهم مجمعون أيضاً بأن الكتب التي يعتمدون عليها في الشئون المتعلقة بالمذهب فيها روايات باطلة غير صحيحة، وهم يذعنون بأن هذه الكتب تجمع بين طياتها الصدف والخزف والصحيح والسقيم، ومع ذلك لم يسلك هؤلاء الزعماء طريق إصلاح مثل هذه الروايات.
فإذا كانت زعاماتنا الشيعية تتصف بالشجاعة وتؤمن بالمسئولية الملقاة على عاتقها في رفع الخلاف لتحمل مسئولية الخلاف بكاملها، ولعملت على إزالة مثل هذه الروايات من بطون الكتب، وعقول الشيعة، ولفتحت صفحة جديدة، ولعم الخير على جميع المسلمين[60].
تضعيف الحديث لمخالفته للقياس الجلي:
إذا خالف الحديث القياس فلا يجوز أن يرد الخبر، أو يضعف أو يترك العمل به؛ لأننا مأمورون بالرجوع إلى الكتاب والسنة، والتحاكم إليهما.
وقد ذهب بعض أهل الرأي إلى أن ما وافق القياس الجلي يجوز أن يعزى إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولو كان لا سند له[61].
وذهب بعض المالكية إلى عدم جواز العمل بالخبر إذا كان القياس مخالفاً له.
قال الخطيب: وأما إذا ورد مخالفاً للقياس أو انفرد الواحد برواية، ما تعم به البلوى لم يردّ، وقال قوم ممن ينتحل مذهب مالك بن أنس إذا كان مخالفاً للقياس لم يجز العمل به، والقياس مقدم عليه[62].
واختار ابن الحاجب أن العلة إن كانت ثابتة بنص راجح على الخبر، سواء كان ذلك النص قطعياً أو ظنياً ووجودها في الفرع قطعياً فالقياس مقدم.
وإن كان وجود العلة في الفرع ظنياً فالتوقف، وإن لم تكن العلة ثابتة بنص راجح على الخبر فالخبر مقدم[63].
وقد أوضح الخطيب وجوب تقديم الخبر على القياس بأمور ملخصها كما يأتي:(122/23)
1 - حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم يثبت بنفسه لا بعمل غيره بعده.
2 - الخبر يدل على قصد صاحب الشريعة بصريحه، والقياس يدل على ذلك بالاستدلال، والتصريح أقوى فوجب أن يكون التقديم أولى.
3 - القياس يفتقر إلى الاجتهاد في موضعين:
أحداهما: ثبوت العلة في الأصل.
والثاني: الحكم في الفرع، لأن من الناس من قال إذا ثبت العلة في الأصل لا يجب الحكم بها في الفرع إلا أن يحصل الأمر بالقياس.
والاجتهاد في خبر الواحد إنما هو في ثبوت صدق الراوي، فإذا ثبت صدقه من طريق يوجب الظن لزم المصير إلى خبره، ولم يبق موضع آخر يحتاج إلى الاجتهاد فيه.
4 - ثبوت صدق الراوي في الظاهر أجلى من طريق ثبوت العلة[64].
وهذا هو الذي يتعين القول به، وأن الحديث إذا ثبت بحسب قواعد المحدثين المعروفة فلا محيد عن تصحيحه، ووجوب العمل به.
قال الشافعي رحمه الله: لا يحل القياس والخبر موجود[65].
قال الشيخ ناصر الدين الألباني: إن رد الحديث الصحيح لقياس أو غيره من القواعد مثل رده بمخالفة أهل المدينة له، لهو مخالفة صريحة لتلك الآيات والأحاديث القاضية بوجوب الرجوع إلى الكتاب والسنة عند الاختلاف والتنازع. ومما لا شك فيه عند أهل العلم أن رد الحديث لمثل ما ذكرنا من القواعد ليس مما اتفق عليه أهل العلم كلهم، بل إن جماهير العلماء يخالفون تلك القواعد ويقدمون عليها الحديث الصحيح اتباعاً للكتاب والسنة[66].
وكيف نكون مأمورين عند التنازع والاختلاف بالرجوع إلى أمر متنازع فيه، غير متفق عليه؟
وكذلك إذا وافق الحديث الضعيف أو ما لا أصل له القياس فإنه لا يحكم بصحته لموافقته القياس.
تضعيف الحديث إذا وقع واحداً فيما تعم به البلوى:
قال ابن الحاجب في مختصره: خبر الواحد فيما تعم به البلوى مقبول عند الأكثر خلافاً لبعض الحنفية.(122/24)
وقال شارحه شمس الدين الأصفهاني (م749هـ): إذا وقع خبر الواحد فيما تعم به البلوى أي فيما يحتاج إليه عموم الناس من غير أن يكون مخصوصاً بواحد دون آخر فهو مقبول عند الأكثر خلافاً لبعض الحنفية، وحجة الأكثر أن الأئمة أجمعوا على قبول خبر الواحد في تفاصيل الصلاة.
وأيضاً جاز قبول القياس فيما تعم به البلوى، والقياس أضعف من خبر الواحد[67].
وأما القول بأنه إذا عمت البلوى كثر السؤال، وإذا كثر السؤال كثر الجواب، ويكون النقل على حسب البيان، فإذا نقل خاصاً علم أنه لا أصل له.
فالجواب عنه من وجوه:
1 - لا يجب أن يكون النقل على حسب البيان، لأن الصحابة كانت دواعيهم مختلفة، وكان بعضهم لا يرى الرواية، ويؤثر عليها الاشتغال بالجهاد.
قال السائب بن يزيد: صحبت سعد بن أبي وقاص من المدينة إلى مكة فلم أسمعه يروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً، ورُوي: إلا حديثاً، حتى رجع[68].
2 - يجوز أن يُتعبد الله تعالى فيما تعم به البلوى بالظن، ورجوع العامة إلى اجتهاد أهل العلم، فيلقى الرسول صلى الله عليه وسلم الحكم إلقاءً خاصاً فلا يظهر، ويكون من بلغه خبره يلزمه حكمه، ومن لم يبلغه خبره يكون مأموراً بالاجتهاد[69].
ومن ذلك لو تفرد صحابي برواية حديث فإن عدم رواية الصحابة له لا يطعن في صحته، ولو كان مما يحتاج إلى نقله.
وكذلك فإن خبر الواحد مقبول في الحدود خلافاً لمن منعه.
وكذا إذا عمل أكثر الأمة بخلاف خبر الواحد، فالعمل بخبر الواحد لا بعمل أكثر الأمة، لما علم أن قول الأكثر لا يكون حجة فضلاً عن أن يكون راجحاً على خبر الواحد[70].
وكما لا يعد عمل أكثر الأمة بخلاف الحديث تضعيفاً له، لا يعد عملهم وفقاً للحديث تصحيحاً له.
وكذلك إذا روى الصحابي حديثاً وعمل بخلافه، فإنه ينبغي الأخذ بروايته وترك ما روي عنه من فعل أو فتيا، لأن الواجب علينا قبول نقله وروايته عن النبي صلى الله عليه وسلم لا قبول رأيه.(122/25)
ولا يعد هذا تضعيفاً للحديث، ولا يصح أن ترد به رواية الثقات الأثبات.
هذا ما وفق الله تعالى إليه من قواعد متعلقة بالتصحيح والتضعيف، وبعض هذه القواعد اختصرتها وهي مما يحتمل البسط والإسهاب وذلك رغبة في الايجاز وعدم الإطالة.
والله تعالى أسأل أن يجعله من خالص العمل، ونافع العلم والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
ــــــــــــــــــــــ
[1] انظر مثلاً: الكاشف الذهبي (1/327)، التقريب (1/87، 88، 90).
[2] انظر تاريخ ابن معين، رواية الدارمي (114)، الضعفاء للعقيلي (1/270)، الكاشف (1/332)، التقريب (1/172).
[3] فتح الباري (12/134).
[4] المصدر نفسه.
[5] وانظر التنكيل (67 – 75).
[6] انظر الموقظة (9).
[7] الموضوعات (1/35).
[8] إرواء الغليل (3/363).
[9] هدي الساري (460).
[10] هدي الساري (390) وانظر (392) تهذيب التهذيب (1/82) ترجمة أبان بن صالح.
[11] فتح المغيث (1/287) وانظر توجيه النظر (ص74).
[12] الفتاوى (18/22).
[13] إرشاد النقاد (ص2).
[14] انظر مثلاً: جامع البيان العلم (1/9) الفتاوى للنووي (179).
[15] انظر مثلاً شعب الإيمان للبيهقي (1/298/1).
[16] انظر الروض الباسم في الذب عن سنة أبي القاسم (1/120).
[17] هدي الساري (385).
[18] انظر نخبة الفكر (73).
[19] من تكلم فيه وهو ثقة (ص27).
[20] علوم الحديث (ص11).
[21] مقدمة الترغيب (ص37).
[22] الفتح (13/187).
[23] التنكيل (2/35).
[24] انظر تحقيق سنن الترمذي للشيخ أحمد شاكر (2/389).
[25] ديوان الضعفاء (374).
[26] التنكيل (1/69).
[27] الفتح (11/341).
[28] فتح المغيث، (1/300) وقد تقدم عند الكلام على تضعيف المتأخرين.
[29] انظر فتح المغيث (1/3).
[30] انظر مقاييس نقد السنة د. مسفر الدميني (ص261).
[31] وانظر للأمثلة على ذلك المصدر نفسه (ص55 – 60)، الإجابة لما استدركه عائشة على الصحابة للزركشي.
[32] درء تعارض العقل والنقل (1/124، 126).(122/26)
[33] الأنوار الكاشفة ص6 وما بعدها.
[34] انظر: كشف الخفاء (1/10)، كشف المخبوء (ص54).
[35] معجم المصطلحات الصوفية (ص225)، إحياء علوم الدين (1/19، 104).
[36] انظر: تهذيب مدارج السالكين (ص484)، درء تعارض العقل والنقل (5/353)، قطف الثمر (ص105).
[37] إعلام الموقعين (2/38).
[38] انظر مفتاح الجنة للسيوطي (10)، سفر السعادة (259)، الميزان (1/163)، التحديث بما قيل لا يصح فيه حديث (124)، التنكيت والإفادة (192)، كشف الخفاء (83).
[39] مفتاح الجنة (10).
[40] انظر التنكيت والإفادة (192)، والحديث أخرجه أحمد (4/131)، وأبو داود (4/279) بإسناد صحيح.
[41] ضحى الإسلام (2/130).
[42] الضعفاء والمجروحون، ابن حبان (1/21).
[43] دفاع عن السنة (ص196 – 197).
[44] نصب الراية (1/355، 356)، (2/480)، تحقيق الغاية (55).
[45] انظر مثلاً منهاج السنة (4/286، 483، 495، 495، 561)، الصارم المنكي (31، 40).
[46] المنهل الروي.
[47] انظر الأجوبة الفاضلة (29)، قواعد التحديث (179، 182).
[48] انظر المقدمة (44)، المنهل الروي (52)، اختصار علوم الحديث (41)، تدريب الراوي (93)، فتح المغيث (1/237).
[49] الجوهر النقي (1/143).
[50] الآداب الشرعية (2/306).
[51] انظر تدريب الراوي (173)، قواعد في علوم الحديث (166).
[52] رسالة أبي داود لأهل مكة ص(27).
[53] المقدمة (18)، الحطة في ذكر الصحاح الستة (213).
[54] النكت (1/435).
[55] المصدر نفسه.
[56] محمد بن يحيى المواق (م721هـ).
[57] التقييد والإيضاح (53).
[58] منهاج السنة (3/246).
[59] الخطوط العريضة (ص49).
[60] الشيعة والتصحيح (ص58).
[61] انظر توجيه النظر (ص75).
[62] الفقيه والمتفقه (1/133).
[63] المختصر (1/752).
[64] الفقيه والمتفقه (1/136).
[65] الرسالة (ص423).
[66] الحديث حجة بنفسه (ص15 – 17).
[67] المختصر (1/746 – 748).
[68] الفقيه والمتفقه (1/137).(122/27)
[69] انظر الفقيه والمتفقه (1/138).
[70] انظر المختصر لابن الحاجب (1/752).(122/28)
العنوان: أصول الفقه ومدارس البحث فيه
رقم المقالة: 283
صاحب المقالة: د. وهبة بن مصطفى الزحيلي
-----------------------------------------
إنفرد المسلمون بعلمين أساسيين في التوثيق والإبداع النظري وهما علم أصول الفقه، وعلم مصطلح الحديث وأصوله، فالأول لضبط مناهج الاستنباط والاجتهاد ومعرفة الحكم الشرعي بنحو صحيح، والثاني لغربلة الحديث المروي والتعرف على الحديث النبوي الثابت الصحيح والحسن والضعيف والموضوع، سواء من طريق المتن أو المادة والموضوع، أو عن طريق السند المنقول والرواية الصادرة من الراوي والمنسوبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وأقصر بحثي هنا على أصول الفقه مبيناً تعريفه وموضوعه، ومصادر استمداده وتاريخ نشأته وتدوينه، والغرض أو الفائدة من دراسته، وبيان مدارس الأصوليين والمؤلفين المتقدمين فيه، ومدى تطور أسلوب أو طريقة التأليف فيه لدى المتأخرين.
1 – تعريف أصول الفقه وموضوعه:
للعلماء تعريفان لعلم أصول الفقه، فقال علماء الأصول من الشافعية: هو معرفة دلائل الفقه إجمالاً، وكيفية الاستفادة منها، وحال المستفيد[1]. والمقصود بمعرفة الأدلة: أن يعرف العالم أن القرآن والسنة والإجماع والقياس أدلة يحتج بها، وأن الأمر للوجوب والنهي للتحريم ما لم يصرفه عن ذلك قرينة، وأن العام يدل على جميع أفراده ما لم يخصص، ونحو ذلك، والمعتبر في حق الأصولي إنما هو معرفة الأدلة من حيث الإجمال لا التفصيل، ككون الإجماع حجة قطعية يقينية، والقياس حجة ظنية غالبة الظن الذي يكفي في مجال العمل.
ومعرفة كيفية الاستفادة من تلك الأدلة يراد بها استفادة الفقه العملي من دلائله، أي استنباط الأحكام الشرعية منها، وذلك يتطلب معرفة شرائط الاستدلال، كتقدم النص على الظاهر والمتواتر على الآحاد ونحوه.(123/1)
ومعرفة حال المستفيد، أي طالب حكم الله تعالى، وهو المجتهد والمقلِّد، ففي هذا العلم نتعرف على شروط الاجتهاد وشروط التقليد، لمعرفة ضوابط المجتهد الذي يقبل قوله حين استنباطه الأحكام الشرعية من الأدلة، والاستنباط فن دقيق جداً يتطلب أهلية عالية وكفاءة متميزة في مصادر التشريع ومقاصده واللغة العربية وقواعدها، لأن دلالة الأدلة ظنية غالباً، ومعرفة الظن ومدلوله يحتاج إلى الاجتهاد. ثم يأتي دور المقلِّد المجتهد، فهو الذي يستفيد الأحكام من طريق المجتهد؛ إذ لا يحسن استنباط الحكم لعدم تخصصه، فيحتاج إلى من يرشده إلى الطريق الأقوم، والمنهج الأسلم لمعرفة حكم الشرع في مسألة من المسائل.
يتبين من هذا التعريف أن أصول الفقه معناه معرفة دلائل الفقه معرفة إجمالية مبدئية، وكيفية استنباط الحكم الشرعي منها، وأحوال المجتهد والمقلد، وبإيجاز يكون معنى أصول الفقه: أدلة الفقه وجوباً وحرمة وغيرها.
والفقه كما عرفه الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: هو العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية، أو هو مجموعة الأحكام الشرعية المكتسبة من أدلتها التفصيلية[2]، وهي طوائف الأحكام من وجوب وندب وحرمة وكراهة وإباحة أو تخيير التي تغص بها كتب الفقهاء في الطهارات والعبادات والمعاملات والعقود والعقوبات الشرعية والجهاد وأحكام الشخص والأسرة والوصية والوقف والميراث. والفقيه يُعْنى يتطبيق القاعدة الأصولية على الجزئيات، فهو الذي يستنبط حكم وجوب الصلاة من قوله تعالى: {أقيموا الصلاة} ويستنبط حكم تحريم الزنى من قوله تعالى: {ولا تقربوا الزنى..} وهكذا يبحث في أحكام العبادات والمعاملات والعقود والجنايات، والمعاهدات وأوضاع السلم والحرب وآثارهما، وغير ذلك من أفعال المكلفين التي هي موضوع الفقه من حيث ما يثبت لها من الأحكام الشرعية.(123/2)
والحكم الشرعي: هو خطاب الله تعالى المتعلِّق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير أو الوضع[3]، فقوله تعالى: {وأقيموا الصلاة}[4] هو حكم الشرع الدال على فرضية الصلاة، وقوله تعالى: {ولا تقتلوا النفس التي حرّم الله إلا بالحق}[5] هو حكم الشرع الدال على تحريم القتل، وقوله سبحانه: {ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم...}[6] هو حكم الشرع الدال على إباحة التجارة في الحج، وقوله عز وجل: {أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غَسَق الليل وقرآنَ الفجر، إن قرآنَ الفجر كان مشهوداً}[7] هو حكم الشرع الدال على جعل الدلوك أو الزوال علامة أو سبباً لوجوب صلاة الظهر.
وعرّف علماء الأصول من المالكية والحنفية والحنابلة علم أصول الفقه بأنه: هو القواعد التي يوصل البحث فيها إلى استنباط الأحكام من أدلتها التفصيلية، أو هو العلم بهذه القواعد[8]. وهذا يعني أن الأصولي لا يبحث عن الأدلة الجزئية ولا عن دلالتها، كالاستدلال على إباحة البيع وحرمة الربا بقول الله تعالى: {وأحل الله البيع وحرَّم الربا..}[9] والاستدلال على فرضية الصيام بقوله تعالى: {فمن شَهِد منكم الشهر فليصمه}[10] وإنما يبحث في الأدلة الكلية ودلالتها لوضع أي صياغة القواعد الكلية، مثل الكتاب والسنة أدلة يحتج بها، والنص مقدم على الظاهر، والمتواتر مقدم على الآحاد، والمطلق يحمل على المقيد، وكل ما أمر به الشارع فهو واجب، ونحو ذلك من المبادئ أو القواعد العامة.
والأدلة التفصيلية: هي الأدلة الجزئية وهي ما تتعلق بمسألة بخصوصها، ويدل كل واحد منها على حكم بعينه، كقول الله تعالى: {حُرّمت عليكم أمهاتكم وبناتُكم..}[11] الآية، وقوله سبحانه: {ولا تقربوا الزنى..}[12] الآية فالأول يدل على حكم بعينه هو حرمة الزواج بالأم أو البنت وغيرهما من المحارم، والثاني يدل على حرمة الزنى.(123/3)
وأما الأدلة الكلية أو الإجمالية: فهي لا تتعلق بمسألة بخصوصها، ولا تدل على حكم بعينه، كمصادر الأحكام الشرعية الأربعة: الكتاب والسنة والإجماع والقياس وما يتعلق بها، مثل: الأمر للوجوب، والنهي للتحريم، وهذه كما تقدم محل بحث الأصولي، وأما الأدلة التفصيلية فهي محل بحث الفقيه.
وموضوع أصول الفقه عند الحنفية هو الأحكام من حيث ثبوتها بالأدلة، وهي الأحكام التكليفية من وجوب وندب وحرمة وكراهة وإباحة[13]. ويرى بعض الحنفية أن موضوع الأصول هو الأدلة، لأنها التي تثبت بها الأحكام، والأحكام ثمرة الأدلة[14].
ويرى جمهور الأصوليين أن موضوع أصول الفقه: الأدلة الشرعية من حيث بيان أقسامها، واختلاف مراتبها، وكيفية استثمار الأحكام الشرعية منها على وجه كلي[15].
وهذا هو الراجح، فموضوع علم الأصول: هو الأدلة الشرعية الكلية من حيث ما يثبت بها من الأحكام الكلية، والأحكام الشرعية من حيث ثبوتها بالأدلة. فيكون بحث كل من الأدلة والأحكام في ميدان الأصول أمراً أصيلاً وضرورياً واختصاصياً، لأن بحث أحدهما هو الأصل والآخر تابع له. والأمثلة على موضوع الأصول: قولهم: الأمر مثل {وأقيموا الصلاة} للإيجاب ما لم يصرف إلى الندب أو الإباحة بقرينة، والنهي مثل {ولا تقتلوا النفس} للتحريم ما لم يصرف إلى الكراهة بقرينة، والعام كلفظ المؤمنين ينتظم جميع أفراده قطعاً، والمطلق كلفظ ((رقبة)) يدل على الفرد الشائع من دون قيد يقيده بشيء كالإيمان وغيره، وهذه كلها قواعد على عكس القواعد الجزئية التي يبحثها الفقيه، كما تقدم بيانه.(123/4)