العنوان: 7 أسس تربوية للمرأة المسلمة
رقم المقالة: 789
صاحب المقالة: د. أحمد الشرقاوي
-----------------------------------------
دور الأسرة المسلمة في التربية دور أساسي لا يمكن إغفاله؛ فالأسرة المسلمة هي المحور العام والمنطلق الأساس للتربية، والأسرة هي المنسق والموثق بين الأولاد وجميع المؤسسات التربوية الأخرى، وهي المسؤولة عن متابعة الأولاد والإشراف عليهم.
وتربية الأولاد فريضة شرعية، وحق من حقوق الأولاد على الآباء والأمة، قال تعالى في سورة التحريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عليهَا مَلَائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6]
فالواجب على الإنسان أن يصلح نفسه وأهله، ولا يشغله إصلاح نفسه عن إصلاح أهله، ولا ينشغل بإصلاح أهله عن إصلاح نفسه، ولا ينشغل بعيوب غيره عن عيوب نفسه.
وتربية الأولاد أمانة ومسؤولية على عاتق الآباء والأمهات يسألهم الله عنها يوم القيامة قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: ((إن الله سائلٌ كلَّ راعٍ عما استرعاه حفظه أم ضيَّعه ويسأل الرجل عن أهل بيته)).
ضرورة عصرية:
لا سبيل إلى النهوض بالمجتمع المسلم علمياً وإيمانياً وخلقياً وثقافياً وسياسياً واقتصادياً إلا من خلال التربية الأسرية التي تسعى إلى إصلاح الفرد ليكون لبنةً صالحةً، وعنصراً نافعاً في المجتمع؛ فبصلاح الفرد يصلح المجتمع، ومن أهم أسباب تخلف العالم الإسلامي وتراجع حضارته وتفرق وحدته، غياب دور الأسرة التربوي في إعداد الجيل المسلم الذي يعيد للأمة مجدها ونهضتها وعزتها وكرامتها، وصلاحها وقوتها؛ فالتربية حصن مكين من مكائد أعداء الدين.(1/1)
وقد نتج عن غياب دور الأسرة، وتنحيته، إتاحةُ الفرصة لأهل الفسوق والانحلال والفساد والضلال كي يبثوا سمومهم، وينشروا ضلالهم من خلال سيطرتهم على كثير من وسائل الإعلام ومؤسسات التعليم.
من هنا كانت الأهمية البالغة للتربية الأسرية لتحصين الأجيال من تلك السموم التي صارت تُبَث من جهات شتى لإثارة الشبهات، وتهييج الشهوات من خلال الصحف والمجلات والفضائيات والكتب والمجلات والندوات والمؤتمرات.
هذا السيل العارم يحتاج إلى حصن منيع لاسيما وقد سقطت كثير من الحصون في أيدي أعداء الله، وصار الحِملُ ثقيلاً والعبء جسيماً على الأسرة المسلمة التي صارت مهددة ومستهدفة من أعداء الإسلام.
فما أحوجنا إلى أن نتمسك بهذا الحصن، وأن نتشبث به، وأن نعلم أنه لا سبيل لنا إلى استعادة حصوننا الأخرى إلا من خلاله؛ فهو المنطلق لنا إلى الإصلاح الشامل في شتى الجوانب.
التربية الإيمانية طريقك إلى الجنة:(1/2)
بالتربية الأسرية القويمة نخرج أجيال النصر والتمكين التي تحتاج إلى تربية راشدة، وللتربية الإيمانية ثمراتها الباقية للأسرة؛ حيث ينعم الأبوان ويتمتعان ببِرِّ أولادهما الصالحين الذين تربوا على الأخلاق والقيم الأصيلة، وينتفعان بصلاحهما بعد مماتهما؛ لأن الله - تعالى - ينفعهما بدعاء ولدهما الصالح، ويرفع درجتهما باستغفاره وصلاحه، وفي ذلك يقول رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله ليرفع الدرجة للعبد الصالح في الجنة فيقولُ يارب أنَّى لي هذه؛ فيقول باستغفار ولدك لك))، فمن أراد أن يُرزق ببر أولاده فليجتهد في تربيتهم تربية إيمانية؛ لأن المؤمن يعرف حق الله - تعالى - عليه وحق أبويه وحق زوجته وأولاده وسائر الحقوق، ومن أحب أن ينعم بصحبة أهله في جنات النعيم فإن الطريق إلى لَمِّ شمل الأسرة في الجنة يبدأ من التربية الإيمانية للذرية قال - تعالى - في سورة الطور: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ [الطور:21]، وقال - عز وجل - في سورة الرعد: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ على هِم مِّن كُلِّ بَابٍ * سَلاَمٌ عليكُم بِمَا صَبَرْتُم ْفَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد: 23،24].
ومن دعاء الملائكة - عليهم السلام - كما أخبر القرآن الكريم: {رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ التي وعدتهم وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [غافر8].(1/3)
ومن أعظم الخسران أن يخسر الإنسان نفسه وأهله قال - تعالى -: {قُلْ إن الخاسرين الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يوم القيامة أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الزمر15].
من هنا كانت أهمية التربية وثمراتها العاجلة والآجلة، وفوائدها الجمة للآباء والأبناء، للفرد والمجتمع، في الدنيا وفي الآخرة، والله أعلم.
المؤهلات التربوية للأسرة المسلمة:
إذا كان لا بد للمعلم والمعلمة من الحصول على مؤهل تربوي إضافة إلى التخصص العلمي، فما هي المؤهلات التربوية للأسرة المسلمة التي يُسنَد إليها القيام بالدور الرئيس في تربية الأبناء، ما هي التربة الصالحة، وأي بلد طيب، وأي بيئة سليمة نقية ينبغي أن ينشأ فيها فتياننا، أليست الأم أحوج إلى التأهيل والإعداد.
الأساس المتين:
لا بد لكل بناء مكين من أساس متين؛ فالأساس هو المعيار والمقياس لمدى متانة وصلابة وصلاحية أي بناء، والله - عز وجل - يقول في كتابه الكريم: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى َشَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللّهُ لا َيَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [التوبة: 109].
وأول المقومات الأساسية للأسرة الصالحة: قيامها على أساس متين، ومقياس دقيق، وعناصر صالحة؛ فأساس بنيانها هو الزواج الشرعي، وهو شرعة ربانية، ونعمة إلهية، وفطرة إنسانية، وسنة كونية، وحماية للأعراض، وهو السبيل الشرعي إلى تكثير النسل وحمايته، ومقياس انتقاء الزوجين: تقوى الله وحسن الخلق، وإذا كانت التربة نقية غنية، والبذرة صالحة، والشجرة طيبة كانت الفروع مخضرة مزهرة، مثمرة يانعة.
وحين يتربى النشأ في بيت أُسس على تقوى الله - تعالى - وتزوَّد وتجمَّل بالأخلاق الكريمة فإنه يستمسك ّبهذه المبادئ الكريمة.
إقامة حدود الله:(1/4)
من خصائص الأسرة المسلمة ومن أهم مقوماتها: حرصها على إقامة حدود الله؛ أي تطبيق شرعه - تعالى - في جميع شؤونها؛ فلقد قامت على تقوى من الله ورضوان، واجتمعت على هدف واحد هو الذي من أجله خُلقت وتكونت، إنه عبادة الله – تعالى - الهدف الأسمى والمقصد الأعلى لقيامها وتكوينها، وقيمة الحياة الزوجية بقدر تحقيقها لهذا الهدف، فإذا نكبت عنه، أو أهملته، فلا قيمة لها؛ لذا أعطى الإسلام المرأة الحق في الخلع إذا خافت عدم إقامة حدود الله فلم تجد لديها القابلية في استمرار حياتها الزوجية، قال - تعالى - في سورة البقرة: {الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بإحسان ولا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَإِنْ خفتم ألا يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة:229].
وأخرج ابن ماجة عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس: أن جميلة بنت سلول أتت النبي – صلى الله عليه وسلم – فقالت: ((والله ما أعيب على ثابت في دين ولا خلق ولكني أكره الكفر في الإسلام، لا أطيقه بغضاً فقال لها النبي: أتردين عليه حديقته؟ قالت: نعم، فأمره رسول الله أن يأخذ منها حديقته ولا يزداد))، ويقال: إنها كانت تبغضه أشد البغض، وكان يحبها أشد الحب، ففرق رسول الله بينهما بطريق الخلع، فكان أول خلع في الإسلام.(1/5)
وإذا كان الخوف من عدم إقامة حدود الله في الحياة الزوجية يعطي المرأة الحق في الخلع والرجل الحق في الطلاق، فإنه إن ظنَّا إمكانَ المعاشرة والاستمتاع مع رعاية الحقوق والواجبات، يجوز لهما الرجوع ما لم تكن متزوجة بغيره، أي إن طلق الرجل زوجته طلقة ثالثة فقد بانت منه وحرم عليه مراجعتها إلا إذا تزوجت زواجاً شرعياً من غيره وطُلِّقت منه قال - تعالى -: {فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [البقرة 230]، أي: فإن طلقها الزوج الثاني جاز لها الرجوع إلى الأول إن ظنَّا إمكان إقامة حدود الله في حياتهما الزوجية.
وهكذا ينشأ الولد ويترعرع في أحضان أسرة أقيمت على تقوى من الله ورضوان وتعاهدت وتعاونت على إقامة حدود الله، وفي هذا الجو العاطر، وفي هذه البيئة الصالحة، وفي هذا البيت العامر تتفتح الأذهان، وتتفتق المواهب، وتؤتي أشجار التربية أكلها، ولن تؤدي الأسرة دورها التربوي المنشود إلا إذا كانت مترابطة متعاونة متعاهدة متواصية على إقامة حدود الله.
الالتزام بآداب الإسلام:
لن تؤدي الأسرة دورها التربوي على الوجه الأمثل إلا إذا التزمت بالآداب الإسلامية في جميع شؤونها، في طعامها وشرابها، في نومها واستيقاظها، في مجالسها وأحاديثها، في جدِّها وهزلها، في أفراحها وأتراحها، وفي سائر شؤونها، وفي هذا الجو الإيماني، وفي هذا الرقي الأخلاقي ينشأ الجيل المسلم.
البعد عن التقاليد الجاهلية الراكدة والوافدة:(1/6)
من أهم مقومات الأسرة المسلمة ومؤهلاتها التربوية بعدها عن جميع العادات والتقاليد الجاهلية الراكدة، التي توارثتها الأجيال، خاصة ما يحدث في المناسبات كالأفراح والمآتم والموالد من بدع جاهلية، وتقاليد بالية، فالواجب على الأسرة المسلمة أن تحذر من تسرب هذه العادات الجاهلية الراكدة إلى الأجيال الصاعدة، وأن تحذر الأولاد من خطورتها وحرمتها.
وأيضاً بالنسبة إلى العادات والتقاليد الغريبة الوافدة التي شاعت في هذه الأيام وتسربت – لاسيما عن طريق وسائل الإعلام- كعادة التبرج حيث تخرج المرأة من بيتها متعطرة حاسرة عن شعرها،كاشفة ساقيها وذراعيها مبرزة لمحاسنها ومفاتنها، ومن العادات الخطيرة التي تسربت إلى بعض أسر المسلمين - عن طريق الغرب - عادة الاختلاط، تلك العادة التي تعد من أشد معاول هدم البناء الأسري، ومن أخطر التحديات التي تواجه تربية النشأ المسلم، فعلى الأسرة المسلمة الراشدة أن تحذر منه وأن تتجنبه ما أمكنها ذلك، وإذا اقتضت الضرورة ذلك فلابد من الالتزام بالأحكام والآداب الشرعية، حتى تحافظ الأسرة على عفتها وكرامتها وتصون عرضها ومروءتها.
تحري الحلال الطيب:(1/7)
قال - تعالى -: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاء وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [البقرة 168،169]، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً وإن الله - تعالى - أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين))، وقال - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عليمٌ}[المؤمنون51]، وقال - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة 172].
عن أبي عبد الله النعمان بن بشير - رضي الله تعالى عنهما - قال سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: ((إن الحلال بيِّن وإن الحرام بيِّن، وبينهما أمور مشتبهات، لا يعلمهنَّ كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه و عرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)).
فيجب على الأسرة المسلمة أن تتحرى الحلال الطيب، وأن تمتنع عن الحرام، وأن تتقي الشبهات حتى يبارك الله - تعالى في الذرية - قال بعض السلف: "لا يبلغ العبد حقيقة التقوى حتى يدع مالا بأس به حذراً مما به بأس"، وقال بعض الصحابة: "كنا ندع سبعين باباً من الحلال مخافة أن نقع في باب من الحرام"، وكان نساء السلف الصالح إذا خرج زوج إحداهن من بيته تقول له: "اتق الله فينا ولا تطعمنا حراماً؛ فإننا نصبر على الجوع، ولا نصبر على نار جهنم".(1/8)
رُوى أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وصله مسك من البحرين فقال: وددت لو أن امرأة وزنت حتى أقسمه بين المسلمين، فقالت: امرأته عاتقة أنا أجيد الوزن فسكت عنها، ثم أعاد القول فأعادت الجواب، فقال: لا. أحببت أن تضعينه بكفة ثم تقولي فيها أثر الغبار فتمسحي بها عنقك؛ فأصيب بذلك فضلاً على المسلمين.
ورُوى عن أخت بشر الحافي -وهو من الزهاد العباد - أنها سألت الإمام أحمد بن حنبل قائلة: إنا نغزل على سطوحنا فتمر بنا مشاعل الظاهرية ويقع علينا شعاعها، فهل يجوز لنا؟ فقال من أنت عافاك الله؟ قالت: أخت بشر الحافي: فبكي - رحمه الله – وقال: من بيتكم يخرج الورع.
الاقتصاد في المعيشة:
على الأسرة المسلمة أن تكون مقتصدة في مطعمها ومشربها ومسكنها وملبسها وسائر شؤونها؛ فإن الترف من أسباب الفساد والانحلال – وصدق من قال:
والنَّفْسُ كَالطِّفْلِ إِن تُهْمِلْهُ شَبَّ عَلَى حُبِّ الرَّضَاعِ وَإِن تَفْطِمْهُ يَنفَطِمِ
فلا إسراف ولا تقتير قال - تعالى - :{وَالَّذِين َإِذَا أَنفَقُوا لَم يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِك َقَوَاما} [الفرقان67] أي: ليسوا مبذرين في إنفاقهم ولا بخلاء على أهليهم بل معتدلون في الإنفاق، وخير الأمور أوسطها، وقد سأل عبد الملك بن مروان ابن أخيه عمر بن عبد العزيز ما نفقته؟ فقال: الحسنة بين السيئتين، ثم تلا هذه الآية {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} [الفرقان67]
وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "كفى بالمرء سرفاً ألا يشتهي شيئاً إلا اشتراه"
الترابط والمودة:(1/9)
من المقومات الأساسية للأسرة المسلمة الترابط الأسري بين جميع أفراد الأسرة، "فإذا اجتمع الزوجان على أساس من الرحمة والاطمئنان النفسي المتبادل، فحينئذ يتربى الناشئ في جو سعيد يهُبُّهَا الثقة والاطمئنان، والعطف والمودة، بعيداً عن القلق والعقد والأمراض النفسية التي تضعف شخصيته" ولقد أنشأ الله – تعالى - العلاقة الزوجية على أساس المودة والرحمة والسكينة والطمأنينة قال - تعالى –: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم21].
وما أحوج النشء إلى الحياة الهادئة الهانئة، الآمنة المطمئنة، التي تسودها روح المودة والرحمة بين جميع أفرادها، ثم إن الأسرة المسلمة تربطها بمن حولها علاقات طيبة وصلات وثيقة؛ فالأسرة المسلمة تراعي حق ذوي القربى، وحق الجوار، وسائر الحقوق، أَلا ما أحوج النشء إلى العيش في هذا الجو الإيماني؛ حتى يتعود منذ صغره على الفضائل والمكارم، والتواد والتراحم، والتآلف والتعاطف، والسكينة والطمأنينة.(1/10)
العنوان: 30 ثلاثون وسيلة للتأثير التربوي
رقم المقالة: 1617
صاحب المقالة: حسين بن مرتضى
-----------------------------------------
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد.
لا شك أن العملية التربوية عملية تراكمية، تحتاج إلى الكثير من الوقت والجهد، وقبلهما الإخلاص والصدق؛ لكي تؤتي ثمارها يانعة بإذن الله تعالى.
وأنا في هذا المقال أحاول أن أعدد أبرز عوامل التأثير التربوي، التي تنقل المتربي، وترفع من مستواه..
والآن مع هذه العوامل:
1- تفوق المربي في أكثر من جانب.
2- قوة الصلة بالله، (وهذا من أبرز العوامل).
3- اليقظة التربوية، (والمقصود أن يكون للمربي حِسٌّ؛ به يَعرِف ما يعتري المتربي من أحوال، ويستطيع تقييم المواقف التي تصدر عن المتربي، والتعاطي معها).
4- العلم الشرعي.
5- معايشة المتربي، (وهي مشاركة المتربي في بعض الجوانب الحياتية، ونقل القيم والمبادئ بهذه المعايشة).
6- القناعة بالفكرة.
7- حمل هم هذه التربية.
8- الانفتاح والمرونة.
9- البذل والعطاء.
10- مراعاة احتياجات المتربي، (النفسية - المالية - الاجتماعية).
11- استغلال الأحداث والمواقف، (والسيرة مليئة باستغلال الأحداث في التربية).
12- قاعدة التبادل (كلما اقتربت من المتربي اقترب منك، وكلما صارحته ببعض الأمور صارحك, وهكذا).
13- سَعَةُ ثقافة المربي.
14- حسن الإعطاء، ( لا يكفي أن تعطي؛ بل لابد من اختيار الطريق الأنسب والأفضل).
15- إيجاد الحوافز.
16- التجديد والتنويع.
17- وعي المربي، (فقه الواقع، وفقه الموازنة، وفقه الأولويات).
18- القدرة على اكتشاف الطاقات وتنميتها.
19- التخطيط والتنظيم.
20- قاعدة: (رأي المربي في المتربي له أثر كبير)، فإذا وصفته بوصف فإنه يتأثر بذلك الوصف سلباً أو إيجاباً.
21- سَعَةُ الأفق.
22- إتقان مهارات المتابعة.
23- التعزيز والثناء.
24- إيجاد وسائلَ مساعدةٍ للتربية.(2/1)
25- محاولة إزالة أو تقليل العوامل المؤثرة على المتربي سلباً.
26- التقييم المستمر.
27- الشمولية في البرامج، والتوازن فيها.
28- الاهتمام بالوسائل العملية في التربية، (العمرة - قيام الليل- زيارة المكتبات -...إلخ).
29- المشاركة الاجتماعية للمتربي؛ في أفراحه وأتراحه.
30- إشعاره بالنُقلة، (المقصود: أن يُشعَر المتربي بأنه انتقل من مرحلة إلى مرحلة أعلى وأفضل).(2/2)
العنوان: 48 سؤالا في الصيام
رقم المقالة: 1146
صاحب المقالة: سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
-----------------------------------------
شهر رمضان عظيم مبارك، أنزل الله فيه القرآن هُدًى للناس، وبيِّنات من الهُدَى والفرقان، وجعل صومه رُكنًا من أركان الإسلام، وقيامه نافِلَة تَزْداد بها الحسناتُ، وتكون سببًا في النَّجاة من النيران. ففي الصحيحين عن رسول الله - صلى الله عليه وسلّم – أن: ((مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، وَمَنْ قَامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ))[1]. مَن صام رمضان إيمانًا، أي إيمانًا بالله - عز وجل -، وإيمانًا بشريعة الله وقَبولاً لها، وإذْعانًا واحْتسابًا لثواب الله، الذي رتَّبه على هذا الصيام، وكذلك القيام، فمَنْ قام رَمَضان أو ليلة القدر مُتَّصِفًا بهذَيْن الوَصْفين - الإيمان والاحتساب - غَفَر الله له ما تقدم من ذنبه، وإننا إذا نظرنا إلى الماضي، وجدنا أن هذا الشهر المبارك صارت فيه مُنَاسبات عظيمة، يفرح المؤمن بذكراها، ونتائجها الحسنة.
المُناسبة الأولى: أن الله - تعالى - أنزل فيه القُرْآن؛ أي ابتدأ إنزاله في هذا الشهر، وجعله مُبَاركًا، فتح المسلمون به أقطار الأرض؛ شرقًا وغربًا، واعتزَّ المسلمون به، وظهرت راية الإسلام على كل مكان.
ولا يخفى علينا جميعًا أن الخليفة الراشد عُمَر بن الخطاب - رضي الله عنه -، أُتِيَ إليه بتاج كسرى من المدائن إلى المدينة محمولاً على جَمَلَيْنِ، كما ذُكِرَ ذلك في التاريخ، وضع بين يديه - رضي الله عنه -، لم ينقص منه خَرَزَة واحدة، كل هذا من عزَّة المسلمين، وذلة المشركين ولله الحمد، وإننا لواثقون أن الأمة الإسلامية سترجع إلى القرآن الكريم، وستحكم به، وستكون لها العزة بعد ذلك - إن شاء الله -.(3/1)
ولكن لابدَّ لجاني العسل من قرص النحل، ولجاني الورد من الشوك، لابد أن يتقدم النصرَ امتحانٌ لمن قاموا بالإسلام والدعوة إليه، لأن الله تعالى قال في كتابه: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ} [محمد: 31]، وقال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَآءُ وَالضَّرَّآءُ وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ } [البقرة: 214].
المناسبة الثانية في هذا الشهر المبارك: غزوة بدر، وكانت غزوة بدر في السنة الثانية من الهجرة، وكان سببها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلّم - سمع أن عيرًا لقريش، يقودها أبوسفيان قادمة من الشام إلى مكة، فلما علم بذلك ندب أصحابه السريع منهم أن يخرجوا إلى هذه العير؛ من أجل أن يأخذوها؛ لأن قريشًا استباحت إخراج النبي - صلى الله عليه وسلّم - وأصحابه من ديارهم وأموالهم، ولم يكن بينهم وبين النبي - صلى الله عليه وسلّم - عهدٌ ولا ذمة، فخرج - صلى الله عليه وسلّم - إلى عِيْرهم من أجل أن يأخذها، وخرج بعدد قليل، ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً؛ لأنهم لا يريدون الحرب، ولكنهم يريدون أخذ العير فقط، فلم يخرجوا إلا بهذا العدد القليل، ومعهم سبعون بعيرًا يعتقبونها وفَرَسَانِ فقط.
أما أبوسفيان الذي كانت معه العير، فأرسل إلى أهل مكة يستحثهم؛ ليحموا عيرهم ويمنعوها من رسول الله - صلى الله عليه وسلّم -، فخرج أهل مكة بحدِّهم؛ وحديدهم؛ وكبريائهم؛ وبَطَرهم، خرجوا كما وصفهم الله بقوله: {خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَرًا وَرِئَآءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } [الأنفال: 47].(3/2)
وفي أثناء الطريق بلغهم أن أباسفيان نجا بعيره من النبي - صلى الله عليه وسلّم -، فاستشار بعضهم بعضًا، هل يرجعون أو لا يرجعون، فقال أبوجهل - وكان زعيمهم - والله لا نرجع حتى نقدم بدرًا فنقيم عليها ثلاثًا، ننحر فيها الجزور، ونسقى فيها الخمور، وتعزف علينا القِيان، وتسمع بنا العرب فلا يزالون يهابوننا أبدًا.
فهذه الكلمات تدل على الكبرياء والغَطْرَسة، والثقة بالباطل ليدحض به الحق.. والْتَقَوا بالنبي - صلى الله عليه وسلّم - بحدِّهم وحديدهم وكبريائهم وبَطَرهم وقوتهم، وكانوا ما بين تسعمائة وألف، أما النبي - صلى الله عليه وسلّم - وأصحابه فكانوا ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً، والتقت الطائفتان: جنود الله - عز وجل -؛ وجنود الشيطان، وكانت العاقبة لجنود الله - عز وجل -، قُتِل من قريش سبعون رجلاً من عظمائهم وشرفائهم ووجهائهم، وأُسِرَ منهم سبعون رجلاً، وأقام النبي - صلى الله عليه وسلّم - ثلاثة أيام في عرصة القتال كعادته، بعد الغلبة والظهور، وفي اليوم الثالث ركب حتى وقف على قليب بدر، التي ألقي فيها من صناديد قريش أربعة وعشرون رجلاً، وقف على القليب يدعوهم بأسمائهم وأسماء آبائهم، يقول: ((يَا فُلان ُبنُ فُلانٍ، هَلْ وَجَدْتَ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا، إنِّي وَجَدْتُ مَا وَعَدَنِي رَبِّي حَقًّا)). فقالوا: يا رسول الله، كيف تكلم أناسًا قد جَيَّفُوْا؟ - أي صاروا جيفًا - قال: ((مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ لا يَسْتَجِيبُونَ))، أو قال: ((لا يَرْجِعُونَ قَوْلاً))[2].
ثم رجع النبي - صلى الله عليه وسلّم - إلى المدينة النبوية منتصرًا، ولله الحمد.(3/3)
المناسبة الثالثة: فتح مكة، كانت مكة قد استولى عليها المشركون، وخرَّبوها بالكفر والشرك والعصيان، فأذن الله - سبحانه وتعالى - لنبيه - صلى الله عليه وسلّم - أن يُقاتل أهلها، وأحلها له ساعة من نهار، ثم عادت حرمتها بعد الفتح؛ كحرمتها قبل الفتح، ودخلها النبي - صلى الله عليه وسلّم - في يوم الجمُعة في العشرين من شهر رمضان عام ثمانية من الهجرة، مظفرًا منصورًا حتى وقف على باب الكعبة، وقريش تحته ينتظرون ماذا يفعل بهم، فقال لهم: ((يَا قُرَيْشُ، مَا تَرَوْنَ أَنِّي فَاعِلٌ بِكُمْ؟» قالوا: خيرًا، أخٌ كريمٌ وابن أخٍ كريم. فقال النبي - صلى الله عليه وسلّم -: ((اذْهَبُوا فَأَنْتُمُ الطُّلَقَاء))[3]. فمَنَّ عليهم بعد القدرة عليهم، وهذا غاية ما يكون من الخُلُق والعَفْو.
وبعد عرض المناسبات في هذا الشهر لنا أن نقول: ما الذي ينبغي أن نفعله في شهر رمضان؟.. الذي نفعله في هذا الشهر المبارك: إما واجب؛ وإما مندوب، فالواجب هو الصيام، والمندوب هو القيام.
والصيام كلنا يعرف هو: الإمساك عن المُفْطِرات من طُلوع الفجر إلى غُروب الشمس تعبدًا لله، دليله قوله تعالى: {فَالانَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّيْلِ} [البقرة: 187].
والغرض من الصيام ليس ترويض البدن على تحمل العطش، وتحمل الجوع والمشقة؛ ولكن هو ترويض النفس على ترك المحبوب لرضا المحبوب. والمحبوب المتروك هو الأكل والشرب والجِماع، هذه هي شهوات النفس.
أما المحبوب المطلوب رضاه فهو الله - عز وجل -، فلابد أن نَسْتَحْضِر هذه النيَّة أننا نترك هذه المفطرات؛ طلبًا لرضا الله - عز وجل -.(3/4)
والحكمة من فرض الصيام على هذه الأمة قد بيَّنها الله - سبحانه وتعالى - في قوله: {يأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [البقرة: 183]، ولعلَّ هنا للتعليل، أي لأجل أن تتقوا الله، فتتركوا ما حرَّم الله، وتقوموا بما أوجب الله. وفي الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلّم - أنه قال: ((مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ، والعَمَل بِهِ وَالجَهْل، فَلَيْسَ للهِ حَاجةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهَ وَشَرَابَهَ))[4].
أي أن الله لا يريد أن ندع الطعام والشراب، إنما يريد منا أن ندع قول الزور، والعمل به والجهل؛ ولهذا يندب للصائم إذا سبَّه أحدٌ وهو صائم أو قاتله فليقل: إني صائم، ولا يرد عليه؛ لأنه لو ردَّ عليه لردَّ عليه الأول ثم ردَّ عليه ثانيًا، فيرد الأول، ثم هكذا يكون الصيام كله سبًّا ومقاتلة، وإذا قال: إني صائم، أعلم الذي سبَّه أو قاتله بأنه ليس عاجزًا عن مقاتلته؛ ولكن الذي منعه من ذلك الصوم، وحينئذٍ يكفُّ الأول ويخجل، ولا يستمر في السبِّ والمُقَاتلة.
هذه هي الحكمة من إيجاب الصيام، وإذا كان كذلك؛ فينبغي لنا في الصوم أن نحرص على فعل الطاعات من الذكر، وقراءة القرآن، والصلاة، والصدقة، والإحسان إلى الخلق، وبسط الوجه، وشرح الصدر، وحسن الخلق، كل ما نستطيع أن نهذِّب أنفسنا به فإننا نعمله.
فإذا ظلَّ المسلم على هذه الحالة طوال الشهر، فلابد أن يتأثر ولن يخرج الشهر إلا وهو قد تغيَّر حاله، ولهذا شُرع في آخر الشهر أن يُخْرِج الإنسان زكاة الفطر؛ تكميلاً لتزكية النفس؛ لأن النفس تزكو بفعل الطاعات، وترك المحرمات، وتزكوا - أيضًا - ببذل المال، ولهذا سُمِّي بذل المال زكاة.
س1: ما هي المفطرات التي تفطر الصائم؟(3/5)
ج1: المفطرات في القرآن ثلاثة: الأكل، الشرب، الجِمَاع، ودليل ذلك قوله تعالى: {فَالانَ بَشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّيْلِ} [البقرة: 187].
فبالنسبة للأكل والشرب سواء كان حلالاً أم حرامًا، وسواء كان نافعًا أم ضارًا أو لا نافعًا ولا ضارًا، وسواء كان قليلا أم كثيرًا، وعلى هذا فشُرب الدخان مُفْطِر، ولو كان ضارًا حرامًا.
حتى إن العلماء قالوا: لو أن رجلاً بلع خرزة لأفطر. والخرزة لا تنفع البدن؛ ومع ذلك تعتبر من المفطرات. ولو أكل عجينًا عجن بنجس لأفطر مع أنه ضار.
الثالث: الجِماع.. وهو أغلظ أنواع المفطرات. لوجوب الكفَّارة فيه، والكفارة: هي عتق رقبة، فإن لم يجد فصيام شَهْرَين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينًا.
الرابع: إنزال المني بِلَذَّة، فإذا أخرجه الإنسان بلذة فَسَد صومه، ولكن ليس فيه كفارة، لأنَّ الكفارة تكون في الجِمَاع خاصة.
الخامس: الإبر التي يُستغنى بها عن الطعام والشراب، وهي المغذية، أما الإبر غير المغذية فلا تفسد الصيام؛ سواء أخذها الإنسان بالوريد، أو بالعضلات؛ لأنها ليست أكلاً ولا شربًا، ولا بمعنى الأكل والشرب.
السادس: القيء عمدًا، فإذا تقيأ الإنسان عمدًا فسد صومه، وإن غلبه القيء فليس عليه شيء.
السابع: خروج دم الحيض أو النفاس، فإذا خرج من المرأة دم الحيض أو النفاس، ولو قبل الغروب بلحظة فَسَد الصوم.
وإن خرج دم النفاس أو الحيض بعد الغروب بلحظة واحدة صحَّ صَوْمها.(3/6)
الثامن: إخراج الدم بالحُجَامة، لقول الرسول - صلى الله عليه وسلّم -: ((أَفْطَرَ الحَاجِمُ والمَحْجُومُ))[5]، فإذا احتجم الرجل وظهر منه دم فسد صومه، وفسد صوم من حجمه إذا كانت بالطريقة المعروفة في عهد النبي - صلى الله عليه وسلّم -، وهي أن الحاجم يَمُص قارورة الدم، أما إذا حجم بواسطة الآلات المنفصلة عن الحاجم، فإن المحجوم يفطر، والحاجم لا يفطر، وإذا وقعت هذه المفطرات في نهار رمضان من صائم يجب عليه الصوم، ترتب على ذلك أربعة أمور: 1- الإثم. 2- فساد الصوم. 3- وجوب الإمساك بقية ذلك اليوم. 4- وجوب القضاء.
وإن كان الفطر بالجِماع ترتب على ذلك أمر خامس وهو الكفَّارة.
ولكن يجب أن نعلم أن هذه المفطرات لا تفسد الصوم إلا بشروط ثلاثة:
1- العلم. 2- الذِّكر. 3- الإرادة.
فإذا تناول الصائم شيئًا من هذه المفطرات جاهلاً، فصيامه صحيح، سواء كان جاهلاً بالوقت، أو كان جاهلاً بالحكم، مثال الجاهل بالوقت: أن يقوم الرجل في آخر الليل، ويظن أن الفجر لم يطلع، فيأكل ويشرب ويتبيَّن أن الفجر قد طلع، فهذا صومه صحيح؛ لأنه جاهل بالوقت.
ومثال الجاهل بالحكم: أن يحتجم الصائم، وهو لا يعلم أن الحُجَامة مُفْطِرة، فيُقال له صومك صحيح. والدليل على ذلك قوله تعالى: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَآ إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] هذا من القرآن.
ومن السنة: حديث أسماء بنت أبي بكر - رضي الله عنهما - الذي رواه البخاري في صحيحه[6]، قالت: "أفطرنا يوم غيم على عهد النبي - صلى الله عليه وسلّم -، ثم طلعت الشمس فصار إفطارهم في النهار، ولكنهم لا يعلمون؛ بل ظنوا أن الشمس قد غربت؛ ولم يأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلّم - بالقضاء، ولو كان القضاء واجبًا لأمرهم به، ولو أمرهم به لنُقل إلينا. ولكن لو أفطر ظانًّا غروب الشمس؛ وظهر أنها لم تغرب وجب عليه الإمساك حتى تغرب، وصومه صحيح.(3/7)
الشرط الثاني: أن يكون ذاكرًا، وضد الذكر النسيان، فلو نسي الصائم فأكل أو شرب فصومه صحيح؛ لقوله تعالى: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَآ إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286]، وقول النبي - صلى الله عليه وسلّم - فيما رواه أبوهريرة - رضي الله عنه -: ((مَنْ نَسِيَ وَهُوَ صَائِمٌ فَأَكَلَ أَوْ شَرِبَ، فَلْيُتِمُّ صَوْمَه فإنَّمَا أَطْعَمَهُ اللهُ وَسَقَاهُ))[7].
الشرط الثالث: الإرادة، فلو فعل الصائم شيئًا من هذه المفطرات، بغير إرادة منه واختيار، فصومه صحيح، ولو أنه تَمَضْمَضَ ونزل الماء إلى بطنه بدون إرادة، فصومه صحيح.
ولو أَكْرَه الرجلُ امرأته على الجماع، ولم تتمكن من دفعه، فصومها صحيح؛ لأنها غير مريدة، ودليل ذلك قوله تعالى فيمن كفر مكرهًا: {مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ}[النحل: 106].
فإذا أُكْرِه الصائم على الفطر، أو فعل مفطرًا بدون إرادة، فلا شيء عليه وصومه صحيح.
س2: هل لقيام رمضان عدد معين أم لا؟(3/8)
ج2: ليس لقيام رمضان عدد معين على سبيل الوجوب، فلو أن الإنسان قام الليل كله فلا حرج، ولو قام بعشرين ركعة أو خمسين ركعة فلا حرج، ولكن العدد الأفضل ما كان النبي - صلى الله عليه وسلّم - يفعله، وهو إحدى عشرة ركعة أو ثلاث عشرة ركعة، فإن أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - سُئِلت: كيف كان النبي يُصَلي في رمضان؟ فقالت: لا يزيد في رمضان، ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة[8]، ولكن يجب أن تكون هذه الركعات على الوجه المشروع، وينبغي أن يطيل فيها القراءة، والركوع، والسجود، والقيام بعد الركوع، والجلوس بين السجدتين، خلاف ما يفعله بعض الناس اليوم، يصليها بسرعة تمنع المأمومين أن يفعلوا ما ينبغي أن يفعلوه، والإمامة ولاية، والوالي يجب عليه أن يفعل ما هو أنفع وأصلح. وكون الإمام لا يهتم إلا أن يخرج مبكرًا؛ هذا خطأ، بل الذي ينبغي أن يفعل ما كان النبي - صلى الله عليه وسلّم - يفعله من إطالة القيام، والركوع، والسجود، والقعود حسب الوارد، ونكثر من الدعاء، والقراءة، والتسبيح، وغير ذلك.
س3: إذا صلى الإنسان خلف إمام يزيد على إحدى عشرة ركعة، فهل يوافق الإمام أم ينصرف إذا أتم إحدى عشرة؟
ج3: السُّنَّة أن يوافق الإمام؛ لأنه إذا انصرف قبل تمام الإمام لم يحصل له أجر قيام الليل. والرسول - صلى الله عليه وسلّم - قال: ((مَنْ قَامَ مَعَ الإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ كُتِبَ له قِيَامُ لَيْلَةٍ))[9]. من أجل أن يحثنا على المحافظة على البقاء مع الإمام حتى ينصرف.(3/9)
فإن الصحابة - رضي الله عنهم - وافقوا إمامهم في أمر زائد عن المشروع في صلاة واحدة، وذلك مع أمير المؤمنين عثمان بن عفان - رضي الله عنه - حين أتم الصلاة في مِنى في الحج، أي صلاَّها أربع ركعات، مع أن النبي - صلى الله عليه وسلّم – وأبا بكر وعمر وعثمان في أول خلافته، حتى مضى ثماني سنوات، كانوا يصلون ركعتين، ثم صلى أربعًا، وأنكر الصحابة عليه ذلك، ومع هذا كانوا يتبعونه يصلون معه أربعًا، فإذا كان هذا هدي الصحابة، وهو الحرص على مُتابعة الإمام، فما بال بعض الناس إذا رأى الإمام زائدًا عن العدد، الذي كان النبي - صلى الله عليه وسلّم - لا يزيد عليه وهو إحدى عشرة ركعة، انصرفوا في أثناء الصلاة؛ كما نشاهد بعض الناس في المسجد الحرام، ينصرفون قبل الإمام بحجة أن المشروع إحدى عشرة ركعة.
س4: بعض الأشخاص يأكلون والأذان الثاني يؤذن في الفجر لشهر رمضان، فما هي صحة صومهم؟
ج4: إذا كان المؤذن يؤذن على طلوع الفجر يقينًا، فإنه يجب الإمساك من حين أن يسمع المؤذن فلا يأكل أو يشرب.
أمَّا إذا كان يؤذن عند طلوع الفجر ظنًّا لا يقينًا؛ كما هو الواقع في هذه الأزمان فإن له أن يأكل ويشرب إلى أن ينتهي المُؤَذن من الأَذَان.
س5: كثير من الناس في رمضان أصبح همُّهم الوحيد هو جَلْب الطعام والنوم، فأصبح رمضان شهر كسل وخمول، كما أن بعضهم يلعب في الليل وينام في النهار، فما توجيهكم لهؤلاء؟(3/10)
ج5: أرى أن هذا - في الحقيقة - يتضمن إضاعة الوقت وإضاعة المال، إذا كان الناس ليس لهم هَمٌّ إلا تنويع الطعام، والنوم في النهار والسهر على أمور لا تنفعهم في الليل، فإن هذا لا شك إضاعة فرصة ثمينة، ربما لا تعود إلى الإنسان في حياته، فالرجل الحازم هو الذي يتمشى في رمضان على ما ينبغي من النوم في أول الليل، والقيام في التراويح، والقيام آخر الليل إذا تَيَسَّر، وكذلك لا يُسْرِف في المآكل والمشارب، وينبغي لمَن عنده القُدْرة أن يحرص على تفطير الصوام؛ إما في المساجد، أو في أماكنَ أخرى؛ لأنَّ مَنْ فطَّر صائمًا له مثل أجره، فإذا فطَّر الإنسان إخوانه الصائمين، فإن له مثل أجورهم، فينبغي أن ينتهز الفرصةَ مَن أغناه الله تعالى؛ حتى ينال أجرًا كثيرًا.
س6: بعض أئمة المَسَاجد في رمضان يُطيلون في الدعاء، وبعضهم يقصر، فما هو الصحيح؟
ج6: الصحيح ألا يكون غلوًّا ولا تقصيرًا، فالإطالة التي تشق على الناس مَنْهِيّ عنها، فإن النبي - صلى الله عليه وسلّم - لمَّا بَلَغَه أن معاذ بن جبل أطال الصلاة في قومه، غضب -صلى الله عليه وسلّم - غضبًا لم يغضب في مَوْعِظَة مثله قط، وقال لمعاذ بن جبل: ((أَفتَّانٌ أَنْتَ يَا مُعَاذ))[10]. فالذي ينبغي أن يقتصر على الكلمات الواردة، أو يزيد قليلاً لا يشق. ولا شك في أن الإطالة شاقة على الناس، وترهقهم ولاسيما الضعفاء منهم، ومن الناس من يكون وراءه أعمال، ولا يحب أن ينصرف قبل الإمام، ويشق عليه أن يبقى مع الإمام، فنصيحتي لإخواني الأئمة أن يكونوا بَيْنَ بَيْنَ، كذلك ينبغي أن يترك الدعاء أحيانًا؛ حتى لا يظن العامة أن القُنُوت واجب في الوِتْر.
س7: ما صحة حديث ((أَفْطَرَ الحَاجِمُ والمَحْجُومُ))[11] ؟(3/11)
ج7: هذا الحديث صحَّحه الإمام أحمد - رحمه الله -، وكذلك شيخ الإسلام ابن تيميَّة، وابن القيم، وغيرهم من المُحَقَِّقين، وهو صحيح، وهو أيضًا مُنَاسِب من الناحية النظرية؛ لأن المحجوم يخرج منه دمٌ كثير يُضْعِف البدن، وإذا ضعف البدن احتاج إلى الغذاء، فإذا كان الصائم محتاجًا إلى الحِجَامة وحجم، قلنا: أفطرت فَكُلْ واشْرَب؛ من أجل أن تعود قوة البدن، أما إذا كان غير مُحْتاجٍ، نقول له: لا تحتجم إذا كان الصيام فرضًا، وحينئذٍ نحفظ عليه قوَّته حتى يفطر.
س8: ما حكم ذهاب أهل جدة إلى مكة لصلاة التَّراويح؟
ج8: لا حَرَج في أن يذهب الإنسان إلى المسجد الحرام؛ كي يصلي فيه التراويح؛ لأن المسجد الحرام مما يُشدُّ إليه الرِّحال، ولكن إذا كان الإنسان موظفًا، أو كان إمامًا في مسجد، فإنه لا يدع الوظيفة أو يدع الإمامة، ويذهب إلى الصلاة في المسجد الحرام؛ لأن الصلاة في المسجد الحرام سُنَّة. وأما القيام بالواجب الوظيفي فإنه واجبٌ، ولا يمكن أن يُترك الواجب من أجل فِعْل السُّنَّة. وقد بَلَغني أن بعض الأئمة يتركون مساجدهم، ويذهبون إلى مكة من أجل الاعتكاف في المسجد الحرام، أو من أجل صلاة التراويح، وهذا خطأ؛ لأن القيام بالواجب واجبٌ. والذهاب إلى مكة لإقامة التراويح، أو الاعتكاف ليس بواجب.
س9: ما حكم تتبُّع الأئمة الذين في أصواتهم جمال؟(3/12)
ج9: أرى أنه لا بأس في ذلك، لكن الأفضل أن يُصَلِّيَ الإنسان في مسجده؛ لأجل أن يجتمع الناس حول إمامهم وفي مساجدهم؛ ولأجل ألا تخلو المساجد من الناس؛ ولأجل ألاَّ يكثر الزحام عند المسجد الذي تكون قراءة إمامه جيدة فيحدث من هذا ارتباكٌ، وربما يحدث أمر مكروه، ربما يأتي إنسان يتلقف امرأة خرجت من هذا المسجد الذي فيه الناس بكثرة، ومع كثرة الناس والزحام ربما يخطفها وهي لا تشعر إلا بعد مسافة، ولهذا نحن نرى أن الإنسان يبقى في مسجده؛ لِمَا في ذلك من عمارة المسجد وإقامة الجماعة فيه. واجتماع الجماعة على إمامهم، والسلامة من الزِّحام والمشَقَّة.
س10: هل سحب الدم بكثرة يُؤَدِّي إلى إفطار الصائم؟
ج10: سحب الدم بكثرة إذا كان يؤدي إلى ما تؤدي إليه الحِجَامة من ضعف البدن واحتياجه للغذاء، حكمه كحكم الحجامة، وأما ما يخرج بغير اختيار الإنسان مثل: أن تجرح الرجل فتنزف دمًا كثيرًا فإن هذا لا يَضُر؛ لأنه بغير إرادة الإنسان.
س11: بالنسبة لصلاة التراويح في ليلة العيد، هل تكمل أم لا؟
ج11: إذا ثبت الهلال ليلة الثلاثين من رمضان، فإنها لا تُقَام صلاة التراويح، ولا صلاة القيام؛ وذلك لأن صلاة التراويح، والقيام إنما هي في رمضان، فإذا ثبت خروج الشهر فإنها لا تقام، فينصرف الناس من مساجدهم إلى بيوتهم.
س12: هل للمُعْتكف في الحرم أن يخرج للأكل أو الشرب، وهل يجوز له الصعود إلى سطح المسجد لسَمَاع الدروس؟
ج12: نعم.. يجوز للمُعْتكِف في المسجد الحرام، أو غيره أن يخرج للأكل والشرب، إن لم يكن في إمكانه أن يحضرهما إلى المسجد؛ لأن هذا أمر لابدَّ منه، كما أنه سوف يخرج لقضاء الحاجة، وسوف يخرج للاغتسال من جنابة إذا كانت عليه الجنابة. وأمَّا الصعود إلى سطح المسجد فهو أيضاً لا يضر؛ لأن الخروج من باب المسجد الأسفل إلى السطح، ما هو إلا خُطُوات قليلة ويقصد به الرجوع إلى المسجد أيضاً، فليس في هذا بأس.(3/13)
س13: شاب استمنى في رمضان جاهلاً بأنه يفطر وفي حالة غلبت عليه شهوته، فما الحكم؟
ج13: الحكم أنه لا شيء عليه، لأننا قررنا - فيما سبق - أنه لا يفطر الصائم إلا بثلاثة شروط: العِلْم - الذِّكْر - الإرادة. ولكني أقول: إنه يجب على الإنسان أن يصبر عن الاستمناء لأنه حرام؛ لقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَآءَ ذلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ } [المؤمنون: 5 - 7].؛ ولأن النبي - صلى الله عليه وسلّم - قال: ((يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ البَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّج، فإنَّه أَغَضُّ للبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، ومَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ))[12].
ولو كان الاستِمْناء جائزًا لأرشد إليه النبي - صلى الله عليه وسلّم -؛ لأنه أيسر على المكلف، ولأنَّ الإنسان يجد فيه مُتْعَة، بخلاف الصَّوْم ففيه مَشَقَّة، فلما عَدَل النبي - صلى الله عليه وسلّم - إلى الصَّوْم، دلَّ هذا على أن الاستمناء ليس بجائزٍ.
س14: ما حكم الصوم مع ترك الصلاة في رمضان؟
ج14: إن الذي يصوم ولا يُصَلي لا ينفعه صيامه، ولا يُقْبَل منه ولا تبرَأ به ذمَّته. بل إنه ليس مُطَالبًا به مادَام لا يصلي؛ لأن الذي لا يصلي مثل اليهودي والنصراني، فما رأيكم أن يهوديًّا أو نصرانيًّا صام وهو على دينه، فهل يقبل منه؟ لا. إذن نقول لهذا الشخص: تب إلى الله بالصلاة وصُمْ، ومَن تَاب تاب الله عليه.
س15: يقول بعض الناس: إن الأشهُر جميعًا لا يُعْرَف دخولها كلها وخروجها بالرؤية، وبالتالي فإن المفروض إكمال عِدَّة شعبان ثلاثين، وكذا عدة رمضان.. فما حكم الشرع في مثل هذا القول؟(3/14)
ج15: هذا القول - من جهة - أن الأشهر جميعًا لا يُعرف دخولها كلها، وخروجها بالرؤية ليس بصحيح. بل إن رؤية جميع أَهِلَّة الشهور ممكنة، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلّم -: ((إِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَصُومُوا، وإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا))[13].
ولا يعلِّق النبي - صلى الله عليه وسلّم - شيئًا على أمر مستحيل، وإذا أمكن رؤية هلال شهر رمضان، فإنه يمكن رؤية هلال غيره من الشهور.
وأما الفقرة الثانية في السؤال، وهي أن المفروض إكمال عدة شعبان ثلاثين، وكذلك عدة رمضان.. فصحيح أنه إذا غُمَّ علينا ولم نرَ الهلال، بل كان محتجبًا بغيم أو قتر أو نحوهما، فإننا نكمل عِدَّة شعبان ثلاثين ثم نصوم، ونكمل عدة رمضان ثلاثين ثم نفطر. هكذا جاء الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلّم - أنه قال: ((صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ، وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فعدّوا ثَلاثِينَ يَوْمًا)). وفي حديث آخر: ((فَأَكْمِلُوا العِدَّة ثَلاثِينَ))[14].
وعلى هذا فإذا كانت ليلة الثلاثين من شعبان، وتراءى الناس الهلال ولم يروه، فإنهم يكملون شعبان ثلاثين يومًا. وإذا كانت ليلة الثلاثين من رمضان، فتراءى الناس الهلال ولم يروه، فإنهم يكملون عِدَّة رمضان ثلاثين يومًا.
س16: ما هي الطريقة الشرعية التي يثبت بها دُخُول الشهر؟ وهل يجوز اعتماد حساب المَرَاصِد الفَلَكِيَّة في ثبوت الشهر وخروجه؟ وهل يجوز للمسلم أن يستعمل ما يُسَمَّى بـ(الدربيل) في رؤية الهلال؟
ج16: الطريقة الشرعية لثبوت دخول الشهر أن يتراءى الناس الهلال، وينبغي أن يكون ذلك ممن يوثق به في دينه، وفي قوة نظره.(3/15)
فإذا رَأَوْه وجب العمل بمُقْتَضَى هذه الرؤية صَوْمًا إن كان الهلال هلال رمضان، وإفطارًا إن كان الهلال هلال شوال، ولا يجوز اعتماد حساب المراصد الفلكية إذا لم يكن رؤية. فإن كان هناك رؤية ولو عن طريق المراصد الفلكية، فإنها مُعْتَبَرة لعُموم قول النبي - صلى الله عليه وسلّم -: ((إِذَا رَأَيْتُمُوه فَصُومُوا، وإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا))[15]. أما مُجَرَّد الحساب فإنه لا يجوز العمل به، ولا الاعتماد عليه.
وأما استعمال ما يسمى بـ(الدربيل) وهو المنظار المُقرِّب في رؤية الهلال فلا بأس به، ولكن ليس بواجب؛ لأنَّ الظاهر من السنة أن الاعتماد على الرؤية المُعْتادة لا على غيرها، ولكن لو استعمل فرآه من يوثق به فإنه يعمل بهذه الرؤية، وقد كان الناس قديمًا يستعملون ذلك لمَّا كانوا يصعدون (المنابر) في ليلة الثلاثين من شعبان، أو ليلة الثلاثين من رمضان فيتراؤونه بواسطة هذا المنظار. على كل حال متى ثبتت رؤيته بأي وسيلة، فإنه يجب العمل بمُقْتَضَى هذه الرؤية؛ لعموم قوله - صلى الله عليه وسلّم -: ((إِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَصُومُوا، وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا))[16].
س17: هل يلزم المسلمين جميعًا في كل الدول الصيام برؤية واحدة؟ وكيف يصوم المسلمون في بعض بلاد الكفار التي ليس فيها رؤية شرعِيَّة؟(3/16)
ج17: هذه المسألة اختلف فيها أهل العلم؛ أي إذا رُئِيَ الهلال في بلد من بلاد المسلمين وثبتت رؤيته شرعًا، فهل يلزم بقيَّة المسلمين أن يعملوا بمقتضى هذه الرؤية؟ فمِنْ أهل العلم مَن قال: إنه يلزمهم أن يعملوا بمقتضى هذه الرؤية، واستدلوا بعموم قوله تعالى: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185]. ويقول النبي - صلى الله عليه وسلّم -: ((إِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَصُومُوا))[17]. قالوا: والخِطَاب عام لجميع المسلمين. ومن المعلوم أنه لا يُراد به رؤية كل إنسان بنفسه؛ لأن هذا مُتَعَذَّر، وإنما المراد بذلك إذا رآه مَن يثبت برؤيته دخول الشهر. وهذا عام في كل مكان. وذهب آخرون من أهل العلم إلى أنه إذا اختلفت المطالع فلكل مكان رؤيته، وإذا لم تختلف المطالع فإنه يجب على مَن لم يروه إذا ثبتت رؤيته بمكان يوافقهم في المطالع أن يعملوا بمقتضى هذه الرؤية. واستدلَّ هؤلاء بنفس ما استدلَّ به الأولون فقالوا: إن الله تعالى يقول: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}. ومن المعلوم أنه لا يُراد بذلك رؤية كل إنسان بمفرده. فيعمل به في المكان الذي رُئِيَ فيه، وفي كل مكان يوافقهم في مطالع الهلال. أما مَن لا يوافقهم في مطالع الهلال فإنه لم يره لا حقيقة ولا حُكْمًا.. قالوا: وكذلك نقول في قول النبي - صلى الله عليه وسلّم -: ((إِذَا رَأَيْتُمُوه فَصُومُوا، وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا))[18]. فإنَّ مَن كان في مكان لا يوافق مكان الرائي في مطالع الهلال لم يكن رآه لا حقيقة ولا حُكْمًا، قالوا: والتوقيت الشهري؛ كالتوقيت اليومي. فكما أن البلاد تختلف في الإمساك والإفطار اليومي، فكذلك يجب أن تختلف في الإمساك والإفطار الشهري، ومن المعلوم أن الاختلاف اليومي له أثره باتفاق المسلمين، فمن كانوا في الشرق فإنهم يمسكون قبل مَن كانوا في(3/17)
الغرب، ويفطرون قبلهم أيضًا.
فإذا حكمنا باختلاف المطالع في التوقيت اليومي؛ فإن مثله تمامًا في التوقيت الشَّهْرِيّ.
ولا يمكن أن يقول قائل: إن قوله تعالى: {فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187].
وقوله - صلى الله عليه وسلّم -: ((إِذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ مِنْ هَاهُنَا، وَأَدْبَرَ النَّهَارُ مِنْ هَاهُنَا، وَغَرُبَتِ الشَّمْسُ فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ))[19]. لا يمكن لأحد أن يقول: إنَّ هذا عامٌّ لجميع المسلمين في كل الأقطار.
وكذلك نقول في عُموم قوله تعالى: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}، وقوله - صلى الله عليه وسلّم -: ((إِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَصُومُوا، وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا))[20].
وهذا القول - كما ترى - له قوَّته بمقتضى اللفظ، والنظر الصحيح، والقياس الصحيح أيضًا، قياس التوقيت الشهري على التوقيت اليومي.
وذهب بعض أهل العلم إلى أن الأمر مُعلَّق بولي الأمر في هذه المسألة، فمتى رأى وجوب الصوم أو الفطر مستندًا بذلك إلى مستند شرعي، فإنه يعمل بمقتضاه؛ لئلا يختلف الناس ويتفرقوا تحت ولاية واحدة. واستدلَّ هؤلاء بعموم الحديث. ((الصَّوْمُ يَوْم يَصُومُ النَّاسُ، والفِطْرُ يَوْمَ يَفْطرُ النَّاسُ))[21].
وهناك أقوال أُخْرَى ذكرها أهل العلم الذين ينقلون الخلاف في هذه المسألة.(3/18)
وأمَّا الشق الثاني من السؤال وهو: كيف يَصُوم المسلمون في بلاد الكفار، التي ليس بها رؤية شرعية؟ فإن هؤلاء يمكنهم أن يثبتوا الهلال عن طريق شرعي، وذلك بأن يتراءوا الهلال إذا أمكنهم ذلك، فإن لم يمكنهم هذا، فإن قلنا بالقول الأول في هذه المسألة فإنه متى ثبتت رؤية الهلال في بلد إسلامي، فإنهم يعملون بمقتضى هذه الرؤية، سواء رأوه أو لم يروه.
وإذا قلنا بالقول الثاني، وهو اعتبار كل بلد بنفسه إذا كان يخالف البلد الآخر في مطالع الهلال، ولم يتمكنوا من تحقيق الرؤية في البلد الذي هُمْ فيه، فإنهم يعتبرون أقرب البلاد الإسلامية إليهم؛ لأنَّ هذا أعلى ما يمكنهم العمل به.
س18: إذا تيقن شخص من دُخُول الشهر برؤية الهلال، ولم يستطع إبلاغ المحكمة فهل يجب عليه الصيام؟
ج18: اختلف العلماء في هذا، فمنهم من يقول إنه يلزمه الصيام، ومنهم من يقول إنه لا يلزمه؛ وذلك بناءً على أن الهلال هو ما استهلَّ واشتهر بين الناس، أو أن الهلال هو ما رُئِيَ بعد غروب الشمس، سواء اشتهر بين الناس أم لم يشتهر.
والذي يظهر لي أن مَن رآه، وتيقَّن من رؤيته وهو في مكان ناءٍ لم يشاركه أحد في الرؤية أو لم يشاركه أحد في الترائي، فإنه يلزمه الصوم؛ لعموم قوله تعالى: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185]. وقوله - صلى الله عليه وسلّم -: ((إِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَصُومُوا))، ولكن إن كان في البلد، وشَهِدَ به عند المحكمة، وردت شهادته فإنه في هذه الحال يصوم سرًّا؛ لئلا يعلن مُخَالَفَة الناس.
س19: هل وَرَدَ عن الرسول - صلى الله عليه وسلّم - دعاءٌ خَاصٌّ يقوله مَنْ رَأَى الهلال؟ وهل يجوز لمن سمع خبر الهلال أن يدعو به ولو لم ير الهلال؟(3/19)
ج19: نعم يقول: ((اللهُ أَكْبَرُ.. اللَّهُمَّ أَهِلَّه عَلَيْنَا بِالأَمْنِ وَالإيمانِ.. والسَّلامَةِ والإِسْلامِ.. والتَّوْفِيقِ لما تُحِبُّه وتَرْضَاهُ. رَبِّي وَرَبُّكَ الله.. هِلال خَيْر ورُشْد)).
فقد جاء في ذلك حديثان عن رسول الله - صلى الله عليه وسلّم - فيهما مقال قليل. وظاهر الحديث أنه لا يُدْعَى بهذا الدعاء إلا حين رؤية الهلال. أما من سمع به ولم يره فإنه لا يشرع له أن يقول ذلك.
س20: إذا لم يعلم الناس دخول الشهر إلا بعد مُضِيّ وقت من النهار، فهل يجب عليهم إمساك بقية اليوم؟ أم قضاؤه؟
ج20: إذا علم الناس بدخول شهر رمضان في أثناء اليوم، فإنه يجب عليهم الإمساك؛ لأنه ثبت أن هذا اليوم من شهر رمضان فوجب إمساكه. ولكن هل يلزمهم القضاء؟ أي قضاء هذا اليوم؟ في هذا خلاف بين أهل العلم؛ فجمهور العلماء يَرَوْن أنه يلزمهم القضاء؛ لأنهم لم يَنْووا الصيام من أول اليوم؛ بل مضى عليهم جزء من اليوم بلا نِيَّة، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلّم -: ((إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى))[22].
وذهب بعض أهل العلم إلى أنه لا يلزمهم القضاء؛ لأنهم كانوا مُفْطِرين عن جَهْل، والجاهل معذور بجهله، ولكن القضاء أحوط وأَبْرأ للذِّمَّة. وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلّم -: ((دَعْ مَا يُريبُكَ إِلَى مَا لا يُرِيبُكَ))[23]، فما هو إلا يوم واحد وهو يسير لا مَشَقَّة فيه، وفيه راحةٌ للنفس وطُمأنينة للقلب.
س21: هل يأثم المسلمون جميعًا إذا لم يَتَراء أحدٌ منهم هلال رمضان دخولاً أو خروجًا؟
ج21: ترائي الهلال - هلال رمضان أو هلال شوال - أمر مَعْهود في عهد الصحابة - رضي الله عنهم -؛ لقول ابن عمر - رضي الله عنهما -: "تراءى الناس الهلال، فأخبرت النبي - صلى الله عليه وسلّم - أني رأيته فصامه، وأمر الناس بصيامه"[24].
ولا شك أن هدي الصحابة - رضي الله عنهم - أكمل الهدي وأتمه.(3/20)
س22: إذا أسلم رجل بعد مُضِيّ أيام من شهر رمضان، فهل يطالب بصيام الأيام السابقة؟
ج22: هذا لا يطالب بصيام الأيام السابقة؛ لأنه كان كافرًا فيها. والكافر لا يطالب بقَضَاء ما فاته من الأعمال الصالحة؛ لقول الله تعالى: {قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38]؛ ولأن الناس كانوا يُسْلِمون في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلّم - ولم يكن يأمرهم بقضاء ما فاتهم من صوم، ولا صلاة ولا زكاة. ولكن لو أسلم في أثناء النهار فهل يلزمه الإمساك والقضاء؟ أو الإمساك دون القضاء؟ أو لا يلزمه إمساك ولا قضاء؟
في هذه المسألة خلاف بين أهل العلم، والقول الراجح إنه يلزمه الإمساك دون القضاء، فيلزمه الإمساك؛ لأنه صار من أهل الوجوب ولا يلزمه القضاء، لأنه قبل ذلك ليس من أهل الوجوب. فهو؛ كالصبي إذا بلغ في أثناء النهار، فإنه يلزمه الإمساك ولا يلزمه القضاء؛ على القول الراجح في هذه المسألة أيضًا.
س23: هل يؤمر الصبيان دون الخامسة عشر بالصيام؛ كما في الصلاة؟
ج23: نعم يؤمر الصبيان الذين لم يبلغوا بالصيام إذا أطاقوه؛ كما كان الصحابة - رضي الله عنهم - يفعلون ذلك بصبيانهم.
وقد نصَّ أهل العلم على أن الولي يأمر مَن له ولاية عليهم من الصغار بالصوم؛ من أجل أن يتمرَّنوا عليه، ويألفوه وتتطبع أصول الإسلام في نفوسهم؛ حتى تكون كالغريزة لهم.(3/21)
ولكن إذا كان يشق عليهم أو يضرهم، فإنهم لا يلزمون بذلك. وإنني أُنَبِّهُ هنا على مسألة يفعلها بعض الآباء أو الأمهات، وهي منع صبيانهم من الصيام على خلاف ما كان الصحابة - رضي الله عنهم - يفعلونه. يدَّعون أنهم يمنعون هؤلاء الصبيان؛ رَحْمَةً بهم؛ وإشفاقًا عليهم. والحقيقة أن رحمة الصبيان بأمرهم بشرائع الإسلام، وتعويدهم عليها وتأليفهم لها. فإن هذا - بلا شك - من حُسن التربية وتمام الرعاية. وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلّم - قوله: ((إِنَّ الرَّجُلَ رَاعٍ فِي أَهْلِ بَيْتِهِ، وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ))[25] والذي ينبغي على أولياء الأمور بالنسبة لمن ولاهم الله عليهم من الأهل والصغار، أن يتقوا الله تعالى فيهم، وأن يأمروهم بما أُمروا أن يأمروهم به من شَرائع الإسلام.
س24: إذا برأ شخص من مرض سبق أن قرَّر الأطباء استحالة شفائه منه، وكان ذلك بعد مُضِيّ أيام من رمضان فهل يُطَالَب بقضاء الأيام السابقة؟
ج24: إذا أفْطَر شخصٌ رمضان أو من رمضان لمرض لا يُرْجَى زواله؛ إما بحسب العادة؛ وإما بتقرير الأطباء الموثوق بهم، فإنَّ الواجب عليه أن يطعم عن كل يوم مسكينًا، فإذا فعل ذلك وقدر الله له الشفاء - فيما بعد - فإنه لا يلزمه أن يصوم عما أطعم عنه؛ لأن ذمته بَرِئَتْ بما أتى به من الإطعام بدلاً عن الصَّوْم.
وإذا كانت ذمته قد برئت فلا واجب يلحقه بعد براءة ذمته. ونظير هذا ما ذكره الفقهاء - رحمهم الله - في الرجل الذي يعجز عن أداء فريضة الحج، عجزًا لا يُرْجَى زواله فيقيم من يحج عنه ثم يَبْرَأ بعد ذلك، فإنه لا تلزمه الفريضة مرة ثانية.
س25: بعض أئمة المساجد في صلاة التراويح يُقَلِّدون قراءة غيرهم، وذلك لتحسين أصواتهم بالقرآن.. فهل هذا عمل مشروع وجائز؟(3/22)
ج25: تحسين الصوت بالقرآن أمر مشروع أَمَر به النبي - صلى الله عليه وسلّم -، واستمع النبي - صلى الله عليه وسلّم - ذات ليلة إلى قِراءة أبي مُوسى الأشعري، وأعجبته قراءته حتى قال له: ((لَقَدْ أُوتَيْتَ مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ))[26] وعلى هذا، فإذا قلَّد إمام المسجد شخصًا حسن الصوت والقراءة؛ من أجل أن يحسن صوته وقراءته لكتاب الله - عز وجل - فإن هذا أمر مشروع لذاته ومشروع لغيره أيضًا؛ لأن فيه تنشيطًا للمصلين خلفه، وسببًا لحضور قلوبهم واستماعهم وإنصاتهم للقراءة، وفضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
س26: بعض أئمة المساجد يحاول ترقيق قلوب الناس، والتأثير فيهم بتغيير نبرة صوته أحيانًا أثناء صلاة التراويح وفي دعاء القنوت، وقد سمعت بعض الناس ينكر ذلك، فما قولكم - حفظكم الله - في هذا؟
ج26: الذي أرى أنه إذا كان هذا العمل في الحدود الشرعية بدون غلوّ، فإنه لا بأس به ولا حَرَج فيه. ولهذا قال أبو موسى الأشعري للنبي - صلى الله عليه وسلّم -: "لو كنت أعلم أنك تستمع إلى قراءتي لحبرته لك تحبيرًا" أي حسنتها وزيَّنتها، فإذا حسَّن بعض الناس صوته، أو أتى به على صفة ترقق القلوب فلا أرى في ذلك بأسًا، لكن الغلو في هذا؛ ككونه لا يتعدى كلمة في القرآن إلا فعل مثل هذا الفعل الذي ذُكر في السؤال، أرى أن هذا من باب الغلو ولا ينبغي فعله، والعلم عند الله.
س27: ما القول في قوم ينامون طول نهار رمضان، وبعضهم يصلي مع الجماعة، وبعضهم لا يصلي. فهل صيام هؤلاء صحيح؟
ج27: صيام هؤلاء مجزئ، تبرأ به الذمة ولكنه ناقص جدًّا، ومُخالف لمقصود الشارع في الصيام؛ لأنَّ الله - سبحانه وتعالى - قال: {يأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183].(3/23)
وقال النبي - صلى الله عليه وسلّم -: ((مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّوْرِ، والعَمَلَ بِهِ وَالجَهْلَ؛ فَلَيْسَ للهِ حَاجةٌ في أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ))[27].
ومن المعلوم أن إضاعة الصلاة، وعدم المبالاة بها ليس من تَقْوَى الله - عز وجل -، ولا من ترك العمل بالزور، وهو مخالف لمراد الله ورسوله في فريضة الصوم، ومن العجب أن هؤلاء ينامون طول النهار، ويسهرون طول الليل، وربما يسهرون الليل على لَغْو لا فائدة لهم منه، أو على أمر مُحَرَّم يكسبون به إثمًا، ونصيحتي لهؤلاء وأمثالهم: أن يتقوا الله - عز وجل -، وأن يستعينوه على أداء الصوم على الوجه الذي يرضاه، وأن يستغلوه بالذِّكْر، وقراءة القرآن، والصلاة، والإحسان إلى الخلق، وغير ذلك مما تقتضيه الشريعة الإسلامية. وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلّم - أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن، فرسول الله - صلى الله عليه وسلّم - أجود بالخير من الريح المُرْسَلَة[28].
س28: نلاحظ بعض المسلمين يتهاونون في أداء الصلاة خلال أشهر العام، فإذا جاء شهر رمضان بادروا بالصلاة والصيام وقراءة القرآن.. فكيف يكون صيام هؤلاء؟ وما نصيحتكم لهم؟
ج28: صيام هؤلاء صحيح؛ لأنه صيام صادر من أهله، ولم يقترن بمفسد فكان صحيحًا، ولكن نصيحتي لهؤلاء أن يتقوا الله - تعالى - في أنفسهم، وأن يعبدوا الله - سبحانه وتعالى - بما أوجب عليهم في جميع الأزمنة وفي جميع الأمكنة، والإنسان لا يدري متى يفاجئه الموت، فربما ينتظرون شهر رمضان ولا يدركونه، والله - سبحانه وتعالى - لم يجعل لعبادته أمدًا إلا الموت، كما قال تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ } [الحجر: 99]؛ أي حتى يأتيك الموت، الذي هو اليقين.
س29: هل نية صيام رمضان كافية عن نية صوم كل يوم على حِدَة؟(3/24)
ج29: من المعلوم أن كل شخص يقوم في آخر الليل، ويتسحر فإنه قد أراد الصوم ولا شك في هذا، لأن كل عاقل يفعل الشيء باختياره لا يمكن أن يفعله إلا بإرادة. والإرادة هي النية، فالإنسان لا يأكل في آخر الليل إلا من أجل الصوم، ولو كان مراده مجرد الأكل لم يكن من عادته أن يأكل في هذا الوقت. فهذه هي النية ولكن يحتاج إلى مثل هذا السؤال فيما لو قدر أن شخصًا نام قبل غروب الشمس في رمضان، وبقي نائمًا لم يوقظه أحد حتى طلع الفجر من اليوم التالي؛ فإنه لم ينو من الليل لصوم اليوم التالي؛ فهل نقول: إن صومه اليوم التالي صوم صحيح بناءً على النية السابقة؟
أو نقول: إن صومه غير صحيح؛ لأنه لم ينوه من ليلته؟ فنقول: إن صومه صحيح. فإن القول الراجح أن نية صيام رمضان في أوله كافية، ولا يحتاج إلى تجديد النية لكل يوم. اللهم إلا أن يوجد سبب يبيح الفطر فيفطر في أثناء الشهر، فحينئذٍ لابد من نية جديدة لاستئناف الصوم.
س30: ما حكم الأكل والشرب والمؤذن يؤذن أو بعد الأذان بوقت يسير ولاسيما إذا لم يعلم طلوع الفجر تحديدًا؟
ج30: الحد الفاصل الذي يمنع الصائم من الأكل والشرب هو طلوع الفجر؛ لقول الله تعالى: {فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ...} [البقرة: 187].
ولقول النبي - صلى الله عليه وسلّم -: ((كُلُوا واشْرَبُوا حَتَّى يُؤذِّن ابْنُ أُمِّ مَكْتُوم، فإنَّه لا يُؤَذِّنُ حتى يَطْلُعَ الفَجْرُ))[29].(3/25)
فالعبرة بطلوع الفجر.. فإذا كان المؤذن ثقة، ويقول إنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر؛ فإنه إذا أذَّن وجب الإمساك بمجرد سماع أذانه، وأما إذا كان المؤذن يؤذن على التحري، فإن الأحوط للإنسان أن يمسك عند سماع أذان المؤذن، إلا أن يكون في مرية ويشاهد الفجر، فإنه لا يلزمه الإمساك ولو سمع الأذان حتى يرى الفجر طالعًا إذا لم يكن هناك مانع من رؤيته؛ لأن الله - تعالى - علَّق الحكم على تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، والنبي - صلى الله عليه وسلّم - قال في أذان ابن أم مكتوم: ((فَإِنَّهُ لا يُؤَذِّنُ حَتَّى يَطْلُعَ الفَجْرُ..)).
وإنني أُنَبِّه هنا على مسألة يفعلها بعض المؤذنين، وهي أنهم يؤذنون قبل الفجر بخمس دقائق، أو أربع دقائق زعمًا منهم أن هذا من باب الاحتياط للصوم. وهذا احتياط نَصِفه بأنه «تنطع» وليس احتياطًا شرعيًا.. وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلّم -: ((هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ))[30] وهو احتياط غير صحيح؛ لأنهم إن احتاطوا للصوم أساءوا للصلاة. فإن كثيرًا من الناس إذا سمع المؤذن قام فصلى الفجر، وحينئذٍ يكون هذا الذي قام على سماع أذان المؤذن الذي أذَّن قبل صلاة الفجر، يكون قد صلَّى الصلاة قبل وقتها، والصلاة قبل وقتها لا تصح. وفي هذا إساءة للمصلين، ثم إن فيه أيضًا إساءة إلى الصائمين؛ لأنه يمنع من أراد الصيام من تناول الأكل والشرب مع إباحة الله له ذلك. فيكون جانيًا على الصائمين حيث منعهم ما أحل الله لهم، وعلى المصلين حيث صلوا قبل دخول الوقت، وذلك مبطل لصلاتهم.
فعلى المؤذن أن يتقي الله - عز وجل -، وأن يمشي في تَحَرِّيه للصواب على ما دلَّ عليه الكتاب والسُّنَّة.
س31: يطول النهار في بعض البلاد طولاً غير معتاد يصل إلى عشرين ساعة أحيانًا، هل يُطَالَب المسلمون في تلك البلاد بصيام جميع النهار؟(3/26)
ج31: نعم يطالبون بصيام جميع النهار؛ لقول الله تعالى: {فَالانَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] ولقول النبي - صلى الله عليه وسلّم -: ((إِذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ مِنْ هَاهُنَا، وَأَدْبَرَ النَّهَارُ مِنْ هَاهُنَا، وَغَرُبَتِ الشَّمْسُ فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ))[31].
س32: صاحب شركة لديه عُمَّال غير مسلمين، فهل يجوز له أن يمنعهم من الأكل والشرب أمام غيرهم من العمال المسلمين، في نفس الشَّرِكَة خلال نَهَار رمضان؟
ج32: أولاً: نقول إنه لا ينبغي للإنسان أن يستخدم عُمَّالاً غير مسلمين، مع تمكينه من استخدام المسلمين؛ لأنَّ المسلمين خير من غير المسلمين.. قال الله تعالى: {وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ} [البقرة: 221]، ولكن إذا دَعَتِ الحاجة إلى استخدام عمال غير مسلمين، فإنه لا بأس به بقَدْرِ الحاجة فقط.
وأما أكلهم وشربهم في نهار رمضان أمام الصَّائِمِين مِنَ المسلمين، فإنَّ هذا لا بأس به؛ لأنَّ الصائم المسلم يحمد الله - عز وجل - أن هَداه للإسلام الذي به سعادة الدنيا والآخرة، ويحمد الله - تعالى - أن عافاه الله مما ابْتَلَى به هؤلاء الذين لم يهتدوا بهدى الله - عز وجل -. فهو وإن حرم عليه الأكل والشرب في هذه الدنيا شرعًا في أيام رمضان، فإنه سينال الجزاء يوم القيامة حين يُقال له: {كُلُواْ وَاشْرَبُواْ هَنِيئًَا بِمَآ أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة: 24].. لكن يمنع غير المسلمين من إظهار الأكل والشرب في الأماكن العامة؛ لمنافاته للمظهر الإسلامي في البلد.
س33: هل الغيبة والنميمة تُفْطِرَان الصائم في نهار رمضان؟(3/27)
ج33: الغيبة والنميمة لا تفطران، ولكنهما تنقصان الصوم.. قال الله تعالى: {يأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [البقرة: 183].. وقال النبي - صلى الله عليه وسلّم -: ((مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّوْرِ وَالعَمَلَ بِهِ والجَهْلَ؛ فَلَيْسَ للهِ حَاجةٌ في أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وشَرَابَهُ))[32].
س34: إذا رُئِيَ صائم يأكل أو يشرب في نهار رمضان ناسيًا فهل يذكَّر أم لا؟
ج34: من رأى صائمًا يأكل أو يشرب في نهار رمضان، فإنه يجب عليه أن يذكِّره؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلّم - حين سَهَا في صلاته: ((فَإِذَا نَسِيتُ فَذَكِّرُونِي))[33].
والإنسان الناسي معذور لنسيانه. لكن الإنسان الذاكر الذي يعلم أن هذا الفعل مبطل لصومه، ولم يدل عليه يكون مُقَصِّرًا؛ لأن هذا هو أخوه فيجب أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه.
والحاصل أن من رأى صائمًا يأكل أو يشرب في نهار رمضان ناسيًا فإنه يذكِّره، وعلى الصائم أن يمتنع من الأكل فورًا، ولا يجوز له أن يتمادى في أكله أو شربه. بل لو كان في فمه ماء أو شيءٌ من طعام، فإنه يجب عليه أن يلفظه، ولا يجوز له ابتلاعه بعد أن ذُكِّر أو ذَكَر أنه صائم.
وإنني بهذه المناسبة أود أن أُبيِّن أن المفطرات التي تفطر الصائم، لا تفطره في ثلاث حالات:
- إذا كان ناسيًا.
- وإذا كان جاهلاً.
- وإذا كان غير قاصد.(3/28)
فإذا نسي فأكل أو شرب فصومه تام؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلّم -: ((مَنْ نَسِيَ وَهُوَ صَائِمٌ فَأَكَلَ أو شَرِبَ فَلْيُتِمّ صَوْمَه؛ فإنَّما أَطْعَمَهُ اللهُ وَسَقَاهُ))[34]. وإذا أكل أو شرب يظن أن الفجر لم يطلع، أو يظن أن الشمس قد غربت، ثم تبين أن الأمر خلاف ظنه، فإن صومه صحيح؛ لحديث أسماء بنت أبي بكر - رضي الله عنهما - قالت: "أَفْطَرْنَا فِي عَهْدِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلّم - في يوم غيم، ثم طلعت الشمس، ولم يأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلّم – بالقَضَاء"[35]. ولو كان القضاء واجبًا لأمرهم به، ولو أمرهم به لنقل إلينا؛ لأنه إذا أمرهم به صار من شريعة الله، وشريعة الله لابد أن تكون محفوظة بالغة إلى يوم القيامة.
وكذلك إذا لم يقصد فعل ما يفطر فإنه لا يفطر؛ كما لو تمضمض فنزل الماء إلى جوفه، فإنه لا يفطر بذلك؛ لأنه غير قاصد.
وكما لو احتلم، وهو صائم فأنزل فإنه لا يفسد صومه؛ لأنه نائم غير قاصد، وقد قال الله - عز وجل -: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزاب: 5].
س35: هل يعتبر ختم القرآن في رمضان للصائم أمرًا واجبًا؟
ج35: ختم القرآن في رمضان للصائم ليس بأمر واجب، ولكن ينبغي للإنسان في رمضان أن يُكثر من قراءة القرآن؛ كما كان ذلك سُنَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلّم -، فقد كان - عليه الصلاة والسلام - يدارسه جبريل القرآن كل رمضان.
س36: ما حكم صلاة التراويح، وما هي السنة في عدد ركعاتها؟(3/29)
ج36: صلاة التراويح سنة سنَّها رسول الله - صلى الله عليه وسلّم - لأمته، فقد قام بأصحابه ثلاث ليالٍ، ولكنه - صلى الله عليه وسلّم - ترك ذلك خَوْفًا من أن تُفرض عليهم، ثم بَقِي المسلمون بعد ذلك في عهد أبي بكر وصدر من خلافة عمر، ثم جمعهم أمير المؤمنين عمر - رضي الله عنه - على تميم الداري وأُبيّ بن كعب، فصاروا يصلون جماعة إلى يومنا هذا، ولله الحمد. وهي سُنَّة في رمضان.
وأما عدد ركعاتها فهي إحدى عشرة أو ثلاث عشرة ركعة، هذه هي السنة في ذلك. ولكن لو زاد على هذا فلا حرج ولا بأس به؛ لأنه روي في ذلك عن السلف أنواع مُتَعَدِّدَة في الزيادة والنقص، ولم ينكر بعضهم على بعض، فمن زاد فإنه لا يُنْكَر عليه، ومن اقتصر على العدد الوارد فهو أفضل، وقد دلَّت السنة على أنه لا بأس في الزيادة، حيث ورد في البخاري وغيره من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - أن رجُلاً سأل النبي -صلى الله عليه وسلّم - عن صلاة الليل، فقال: ((مَثْنَى مَثْنَى، مَثْنَى مَثْنَى فَإِذَا خَشِيَ أَحَدُكُمْ الصُّبْحَ صَلَّى وَاحِدَةً، فَأَوْتَرَتْ لَهُ مَا قَدْ صَلَّى))[36]. ولم يحدد النبي - صلى الله عليه وسلّم - عددًا مُعينًا يقتصر عليه، ولكن المهم في صلاة التراويح الخشوع والطُّمأنينة في الركوع والسجود والرفع منهما، وألا يفعل ما يفعله بعض الناس من العجلة السريعة التي تمنع المصلين فعل ما يُسَن، بل ربما تمنعهم من فعل ما يجب حرصًا منه على أن يكون أول مَن يخرج من المساجد؛ من أجل أن ينتابه الناس بكثرة، فإن هذا خلاف المشروع. والواجب على الإمام أن يتقي الله - تعالى - فيمن وراءه، وألا يطيل إطالة تشق عليهم خارجة عن السنة، ولا يخفف تخفيفًا يخل بما يجب، أو بما يسن على من وراءه.. ولهذا قال العلماء: إنه يكره للإمام أن يسرع سرعة تمنع المأموم فعل ما يسن، فكيف بمن يسرع سرعة تمنع المأمومين فعل ما يجب؟! فإن هذه السرعة حرام في حق هذا الإمام.(3/30)
فنسأل الله لنا ولإخواننا الاستقامة والسلامة.
س37: ما حكم جمع صلاة التراويح كلها أو بعضها مع الوتر في سَلام واحد؟
ج37: هذا عمل مفسد للصلاة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلّم - قال: ((صَلاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى)).. فإذا جمعها في سلام واحد لم تكن مَثْنَى مَثْنَى، وحينئذٍ تكون على خلاف ما أمر به الرسول - صلى الله عليه وسلّم-.. وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلّم -: «مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ))[37]. ونص الإمام أحمد - رحمه الله -: "على أن من قام إلى ثالثة في صلاة الليل، فكأنما قام إلى ثالثة في صلاة الفجر". أي أنه إن استمر بعد أن تذكَّر، فإن صلاته تبطل؛ كما لو كان ذلك في صلاة الفجر، ولهذا يلزمه إذا قام إلى الثالثة في صلاة التراويح ناسيًا، ثم ذكر أن يرجع ويتشهد، ويسجد للسهو بعد السلام.. فإن لم يفعل بطلت صلاته.. وهاهنا مسألة: وهي أن بعض الناس فَهِم من حديث عائشة - رضي الله عنها - حيث سُئِلَتْ: كيف كانت صلاة النبي - صلى الله عليه وسلّم - في رمضان؟ فقالت: "ما كان يزيد في رمضان ولا غيره، على إحدى عشرة ركعة، يصلي أربعًا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعًا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي ثلاثًا))، حيث ظُنَّ أن الأربع الأولى بسلام واحد، والأربع الثانية بسلام واحد، والثلاث الباقية في سلام واحد. ولكن هذا الحديث يحتمل ما ذكر، ويحتمل أن مرادها أنه يصلي أربعًا بتسليمَتَيْنِ، ثم يجلس للاستراحة واستعادة النشاط، ثم يُصَلِّي أربعًا كذلك، وهذا الاحتمال أقرب، أي أنه يصلي ركعتين ركعتين.. لكن الأربع الأولى يجلس بعدها؛ ليستريح ويستعيد نشاطه، وكذلك الأربع الثانية يصلي ركعتين ركعتين ثم يجلس.(3/31)
ويؤيد هذا قوله - صلى الله عليه وسلّم -: ((صَلاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى))[38]، فيكون في هذا جمع بين فعله، وقوله - صلى الله عليه وسلّم -، واحتمال أن تكون أربعًا بسلام واحد وارد؛ لكنه مرجوح لما ذكرنا من أن النبي - صلى الله عليه وسلّم - قال: ((صَلاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى)).
وأما الوتر؛ فإذا أوتر بثلاث فلها صفتان: الصفة الأولى أن يُسَلِّم بركعتين ثم يأتي بالثالثة، والصفة الثانية أن يسرد الثلاث جميعًا بتشهد واحد وسلام واحد.
س38: ما قولكم فيما يذهب إليه بعض الناس من أن دعاء ختم القرآن من البدع المُحْدَثة؟
ج38: لا أعلم لدعاء ختم القرآن في الصلاة أصلاً صحيحًا، يُعْتَمَد عليه من سنة الرسول - صلى الله عليه وسلّم -، ولا من عمل الصحابة - رضي الله عنهم -. وغاية ما في ذلك ما كان أنس بن مالك - رضي الله عنه - يفعله إذا أراد إنهاء القرآن، من أنه كان يجمع أهله ويدعو، لكنه لا يفعل هذا في صلاته.
والصلاة كما هو معلوم لا يشرع فيها إحداث دعاء في محل لم ترد السُّنَّة به؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلّم -: ((صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي))[39].
وأما إطلاق البدعة على هذه الخَتْمَة في الصلاة، فإني لا أحب إطلاق ذلك عليها؛ لأن العلماء - علماء السنة - مُخْتَلِفُون فيها. فلا ينبغي أن نُعَنِّفَ هذا التعنيف على ما قال بعض أهل السنة: إنه من الأمور المُسْتَحَبَّة، لكن الأَوْلى للإنسان أن يكون حريصًا على اتباع السنة.(3/32)
ثم إن هَاهُنَا مسألة يفعلها بعض الأخوة الحريصين على تطبيق السنة. وهي أنهم يصلون خلف أحد الأئمة الذين يدعون عند ختم القرآن، فإذا جاءت الركعة الأخيرة انصرفوا وفارقوا الناس بحجة أن الخَتْمَة بِدْعَة، وهذا أمر لا ينبغي لما يحصل من ذلك من اختلاف القلوب والتنافر؛ ولأنَّ ذلك خلاف ما ذهبت إليه الأئمة. فإن الإمام أحمد - رحمه الله - كان لا يرى استحباب القُنُوت في صلاة الفجر، ومع ذلك يقول: "إذا ائْتَمَّ الإنسان بقَانِت في صلاة الفجر فليتابعه، وليُؤَمِّن على دُعائه".
ونظير هذه المسألة أن بعض الأخوة الحريصين على اتباع السنة في عدد الركعات في صلاة التراويح، إذا صَلَّوا خلف إمام يُصَلِّي أكثر من إحدى عشر ركعة، أو ثلاث عشرة ركعة انصرفوا إذا تجاوز الإمام هذا العدد، وهذا أيضًا أمر لا ينبغي، وهو خلاف عمل الصحابة - رضي الله عنهم -؛ فإن الصحابة - رضي الله عنهم - لما أَتَمَّ عثمان بن عفان - رضي الله عنه - في مِنَى متأَوِّلاً أنكروا عليه الإتمام؛ ومع ذلك كانوا يصلون خلفه ويتمون. ومن المعلوم أن إتمام الصلاة في حال يشرع فيها القصر، أشد مخالفة للسُّنَّة من الزيادة على ثلاث عشرة ركعة، ومع هذا لم يكن الصحابة - رضي الله عنهم - يُفارِقُون عثمان، أو يَدَعون الصلاة معه. وهم بلا شك أحرص منا على اتباع السنة، وأسد منا رأيًا، وأشد منا تمسكًا فيما تقتضيه الشريعة الإسلامية.
فنسأل الله أن يجعلنا جميعًا ممن يرى الحق فيتبعه، ويرى الباطل باطلاً فيجتنبه.
س39: اعتاد بعض المسلمين وصف ليلة سبع وعشرين من رمضان بأنها ليلة القدر. فهل لهذا التحديد أصل؟ وهل عليه دليل؟(3/33)
ج39: نعم لهذا التحديد أصل، وهو أن ليلة سبع وعشرين أرجى ما تكون ليلة للقدر؛ كما جاء ذلك في صحيح مسلم من حديث أُبَيّ بن كعب - رضي الله عنه -. ولكن القول الراجح من أقوال أهل العلم، التي بلغت فوق أربعين قولاً أن ليلة القدر في العشر الأواخر؛ ولاسيما في السبع الأَوَاخر منها، فقد تكون ليلة سبع وعشرين، وقد تكون ليلة خمس وعشرين، وقد تكون ليلة ثلاث وعشرين، وقد تكون ليلة تسع وعشرين، وقد تكون ليلة الثامن والعشرين، وقد تكون ليلة السادس والعشرين، وقد تكون ليلة الرابع والعشرين.
ولذلك ينبغي للإنسان أن يَجْتهد في كل الليالي حتى لا يُحْرَم من فضلها وأجرها؛ فقد قال الله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ } [الدخان: 3].. وقال عز وجل: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ المَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ * سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ } [سورة القدر].
س40: إذا شقَّ الصيام على المرأة المرضع فهل يجوز لها الفطر؟
ج40: نعم يجوز لها أن تفطر إذا شق الصيام عليها، أو إذا خافت على ولدها من نقص إرضاعه، فإنه في هذه الحال يجوز لها أن تفطر، وأن تقضي عدد الأيام التي أفطرتها.
س41: في بعض الصيدليَّات (بخاخ) يستعمله بعض مرضى الربو، فهل يجوز للصائم استعماله في نهار رمضان؟
ج41: استعمال البخاخ جائز للصائم سواء كان صيامه في رمضان، أم في غير رمضان..؛ وذلك لأن هذا البخاخ لا يصل إلى المعدة، وإنما يصل إلى القصبات الهوائية، فتنفتح لِما فيه من خاصية، ويتنفس الإنسان تنفسًا عاديا بعد ذلك، فليس هو بمعنى الأكل ولا الشرب، ولا أكلاً ولا شُرْبًا يصل إلى المَعِدَة.(3/34)
ومعلوم أن الأصل صحة الصوم، حتى يوجد دليل يدل على الفساد من كتاب أو سنة أو إجماع أو قياس صحيح.
س42: ما حكم استعمال معجون الأسنان للصائم في نهار رمضان؟
ج42: استعمال المعجون للصائم في رمضان، وغيره لا بأس به إذا لم ينزل إلى معدته، ولكن الأولى عدم استعماله؛ لأن له نفوذًا قويًا قد ينفذ إلى المعدة، والإنسان لا يشعر به. ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلّم - للقيط بن صبرة: ((بالِغْ فِي الاسْتِنْشَاقِ إلاَّ أَنْ تَكُونَ صَائِمًا))[40]، فالأولى ألا يستعمل الصائم المعجون، والأمر واسع فإذا أخَّره حتى أفطر فيكون قد تَوَقَّى ما يخشى أن يكون به فَسَاد الصوم.
س43: هل صحيح أن المضمضة في الوضوء تسقط عن الصائم في نهار رمضان؟
ج43: ليس هذا بصحيح، فالمضمضة في الوضوء فرض من فروض الوضوء سواء في نهار رمضان، أو في غيره للصائم ولغيره، لعموم قوله تعالى: {فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6]، لكن لا ينبغي أن يبالغ في المضمضة أو الاستنشاق وهو صائم، لحديث لقيط بن صبرة أن النبي - صلى الله عليه وسلّم - قال له: ((أَسْبِغْ الوُضُوءَ، وخَلِّلْ بَيْنَ الأَصَابِعِ، وبَالِغْ فِي الاسْتِنْشَاقِ إلاَّ أَنْ تَكُونَ صَائِمًا)).
س44: هل يفطر الصائم بأخذ الإبر في الوريد؟
ج44: لا يفطر الصائم بأخذ الإبر في الوريد ولا في غيره. إلا أن تكون هذه الإبرة قائمة مقام الطعام بحيث يستغني بها الإنسان عن الأكل والشرب. فأما ما ليس كذلك فإنها لا تفطر مُطْلَقًا سواء أخذت من الوريد أو من غيره.. وذلك؛ لأن هذه الإبر ليست أكلاً ولا شربًا، ولا بمعنى الأكل والشرب.. وعلى هذا فينتفي عنها أن تكون في حكم الأكل والشرب.
س45: هل أخذ شيء من الدم بغرض التحليل أو التبرع في نهار رمضان، يفطر الصائم أم لا؟(3/35)
ج45: إذا أخذ الإنسان شيئًا من الدم قليلاً لا يؤثر في بدنه ضعفًا، فإنه لا يفطر بذلك سواء أخذه للتحليل أو لتشخيص المرض، أو أخذه للتبرع به لشخص يحتاج إليه.
أما إذا أخذ من الدَّم كَمية كبيرة يلحق البدن بها ضعف، فإنه يفطر بذلك قياسًا على الحِجَامة التي ثَبَت بالسنة بأنها مُفْطِرَة للصَّائم.
وبناءً على ذلك؛ فإنه لا يجوز للإنسان أن يتبرع بهذه الكَمية من الدم، وهو صائم صومًا واجبًا؛ كصوم رمضان إلا أن يكون هناك ضرورة، فإنه في هذه الحال يتبرع به لدفع الضرورة، ويكون مفطرًا يأكل ويشرب بقية يومه، ويقضي بدل هذا اليوم.
س46: ما حكم استعمال السِّوَاك للصائم بعد الزَّوال؟
ج46: استعمال السواك للصائم قبل الزوال وبعد الزوال سُنَّة؛ كما هو سنة لغيره؛ لأن الأحاديث عامة في استعمال السواك، ولم يستثن منها صائمًا قبل الزوال ولا بعده.
قال النبي - صلى الله عليه وسلّم -: ((السِّوَاكُ مَطْهَرَةٌ للفَم مَرْضَاة للرَّبِّ...))[41]. وقال - عليه الصلاة والسلام -: ((لَوْلا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلاةٍ))[42].
س47: ما توجيهكم - حفظكم الله - لبعض أئمة المساجد الذين يتركون مساجدهم في رمضان، ويذهبون إلى مكة للعمرة، والصلاة في الحرم خلال هذا الشهر؟(3/36)
ج47: توجيهنا لهؤلاء أن يعلموا أن بقاءهم في مساجدهم لاجتماع الناس فيها، وأداء واجبهم الذي التزموه أمام حكومتهم، أفضل من أن يذهبوا إلى مكة؛ ليقيموا فيها ويصلوا هناك. والنبي - عليه الصلاة والسلام - لم يذكر في رمضان في الذهاب إلى مكة إلا العمرة، فقال: ((عُمْرَةٌ فِي رَمَضَانَ تَعْدِلُ حِجَّةً ))[43] ولم يذكر النبي - صلى الله عليه وسلّم - الإقامة هناك.. ولكن - لا شك - أن الإقامة في مَكَّةَ أفضل من الإقامة في غيرها، لكن لغير الإنسان الذي له عمل مرتبط به أمام حكومته، وواجب عليه أن يقوم به، فنصيحتي لهؤلاء إذا شاءوا أن يُؤَدُّوا العمرة أن يذهبوا إليها، وأن يرجعوا منها بدون تأخُّر؛ ليقوموا بما يجب عليهم نحو إخوانهم، وولاة أمورهم.
س48: يعتقد بعض الناس أن العمرة في رمضان أمر واجب على كل مسلم، لابد أن يؤديه ولو مرة في العمر، فهل هذا صحيح؟
ج48: هذا غير صحيح. والعمرة واجِبَة مرة واحدة في العمر، ولا تجب أكثر من ذلك، والعمرة في رمضان مندوب إليها؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلّم - قال: ((عُمْرَةٌ فِي رَمَضَانَ تَعْدِلُ حِجَّةً )).
نسأل الله تعالى أن يوفقنا، وإخواننا المسلمين لما يُحبُّ ويرضى، إنه جَوَاد كريم، والحمد لله رب العالمين، وأُصلِّي وأُسلم على نبينا مُحمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[1] رواه البخاري 1901 ومسلم 1731.
[2] رواه مسلم بنحوه 2874 كتاب الجنة.
[3] رواه ابن إسحاق؛ كما في السيرة النبوية لابن هشام 4/78، ورواه ابن سعد في الطبقات 2/141،142.
[4] رواه البخاري 1903-6057.
[5] رواه أبو داود 2367.
[6] رواه البخاري 1959.
[7] رواه مسلم 2686.
[8] رواه البخاري 1147-3569، ومسلم 1670.
[9] رواه أبو داود 1375، والترمذي 806، وصححه الألباني.
[10] رواه البخاري 704، ومسلم 972
[11] سبق تخريجه.
[12] رواه البخاري 1905، ومسلم 3379.
[13] رواه البخاري 1900، ومسلم 2471.(3/37)
[14] رواه البخاري 1909، ومسلم 2481وما بعده.
[15] سبق تخريجه.
[16] سبق تخريجه.
[17] سبق تخريجه.
[18] سبق تخريجه.
[19] رواه البخاري 1954، ومسلم 2526.
[20] سبق تخريجه.
[21] رواه الترمذي 697، وصححه الألباني
[22] رواه البخاري 1، ومسلم 4962.
[23] رواه البخاري تعليقًا كتاب البيوع باب تفسير المشبهات.
[24] رواه أبو داوود 2342، وصححه الألباني في الإرواء 908.
[25] رواه البخاري 2409، ومسلم 1829.
[26] رواه البخاري 5048 كتاب فضائل القرآن، ومسلم 793 كتاب صلاة المسافرين.
[27] سبق تخريجه.
[28] رواه البخاري 1902 كتاب الصوم، ومسلم 2308 كتاب الفضائل.
[29] رواه البخاري 1918.
[30] رواه مسلم 6878.
[31] سبق تخريجه.
[32] سبق تخريجه.
[33] رواه البخاري 401 كتاب الصلاة، ومسلم 572 كتاب المساجد.
[34] سبق تخريجه.
[35] سبق تخريجه.
[36] رواه البخاري 990، ومسلم 1695.
[37] رواه مسلم 4514.
[38] سبق تخريجه.
[39] رواه البخاري 6008 كتاب الأدب
[40] رواه الترمذي 788 كتاب الصوم، والنسائي 87 كتاب الطهارة، وصححه الألباني.
[41] رواه أحمد 6/47-62-124، والنسائي 5 كتاب الطهارة، وصححه الألباني.
[42] رواه البخاري 887، ومسلم 510.
[43] رواه البخاري 1863 كتاب جزاء الصيد.(3/38)
العنوان: 70 مسألة في الصيام
رقم المقالة: 1147
صاحب المقالة: محمد صالح المنجد
-----------------------------------------
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أما بعد:
فإن الله قد امتن على عباده بمواسم الخيرات، فيها تضاعف الحسنات، وتُمحى السيئات، وتُرفع الدرجات، ومن أعظم هذه المواسم شهر رمضان الذي فرضه الله على العباد، ورغبهم فيه، وأرشدهم إلى شكره على فرضه.
ولما كان قدر هذه العبادة عظيماً كان لابدّ من تعلّم الأحكام المتعلقة بشهر الصيام، وهذه الرسالة تتضمن خلاصات في أحكام الصيام وآدابه وسننه.
تعريف الصيام:
1 - الصوم لغة: الإمساك، وشرعاً: الإمساك عن المفطّرات من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس بالنية.
حكم الصيام:
2 - أجمعت الأمة على أن صوم شهر رمضان فرض، ومن أفطر شيئاً من رمضان بغير عذر فقد أتى كبيرة عظيمة.
فضل الصيام:
3 - من فضائل الصيام: أن الصيام قد اختصه الله لنفسه وأنه يجزي به فيضاعف أجر صاحبه بلا حساب، وأن دعوة الصائم لا تُرد، وأن للصائم فرحتين، وأن الصيام يشفع للعبد يوم القيامة، وأن خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، وأن الصوم جُنّة وحصن حصين من النار، وأنّ من صام يوماً في سبيل الله باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفاً، وأنّ في الجنة باباً يُقال له الريان يدخل منه الصائمون لا يدخل منه أحد غيرهم.
وأما صوم رمضان فإنه ركن الإسلام، وقد أُنزل فيه القرآن، وفيه ليلة خير من ألف شهر، وإذا دخل رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب جهنم، وسلسلت الشياطين، وصيامه يعدل صيام عشرة أشهر.
من فوائد الصيام:(4/1)
4 - في الصيام حكم وفوائد كثيرة مدارها على التقوى، فالصيام يؤدي إلى قهر الشيطان وكسر الشهوة، وحفظ الجوارح، ويربي الإرادة على اجتناب الهوى والبعد عن المعاصي، وفيه كذلك اعتياد النظام ودقة المواعيد وفيه إعلان لمبدأ وحدة المسلمين.
آداب الصيام وسننه:
5 - ومنها ما هو واجب، ومنها ما هو مستحب، فمن ذلك:
الحرص على السحور وتأخيره.
تعجيل الفطر لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يزال الناس بخير ما عجّلوا الفطر)). وكان النبي – صلى الله عليه وسلم - يُفطر قبل أن يصلي على رطبات، فإن لم تكن رطبات فتميرات، فإن لم تكن تميرات حسا حسوات من ماء، ويقول بعد إفطاره { ذهب الظمأ، وابتلت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله }
البعد عن الرفث، والرفث هو الوقوع في المعاصي.
ومما أذهب الحسنات وجلب السيئات الانشغال بالفوازير والمسلسلات، والأفلام والمباريات، والجلسات الفارغات، والتسكع في الطرقات.
عدم الإكثار من الطعام، لحديث: ((ما ملأ ابن آدم وعاء شراً من بطنٍ..)).
الجود بالعلم والمال والجاه والبدن والخُلُق، فقد كان رسول الله أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في رمضان.
ومما ينبغي فعله في الشهر العظيم:
تهيئة الأجواء والنفوس للعبادة، والإسراع إلى التوبة والإنابة، والفرح بدخول الشهر، وإتقان الصيام، والخشوع في التراويح، وعدم الفتور في العشر الأواسط، وتحري ليلة القدر، والصدقة، والاعتكاف.
لا بأس بالتهنئة بدخول الشهر، وقد كان النبي يبشّر أصحابه بقدوم شهر رمضان ويحثّهم على الاعتناء به.
من أحكام الصيام:
6 - من الصيام ما يجب التتابع فيه كصوم رمضان، والصوم في كفارة القتل الخطأ، وصوم كفارة الظهار، وصوم كفارة الجماع في نهار رمضان وغيرها. ومن الصيام ما لايلزم فيه التتابع كقضاء رمضان وصيام عشرة أيام لمن لم يجد الهدي وغير ذلك.
7 - صيام التطوع يجبر نقص صيام الفريضة.(4/2)
8 - جاء النهي عن إفراد الجمعة بالصوم، وعن صيام السبت في غير الفريضة، وعن صوم الدهر، وعن الوصال في الصوم، ويحرم صيام يومي العيد وأيام التشريق.
ثبوت دخول الشهر:
9 - يثبت دخول شهر رمضان برؤية هلاله، أو بإتمام شعبان ثلاثين يوماً. وأما العمل بالحسابات في دخول الشهر فبدعة.
على من يجب الصوم:
10 - ويجب الصيام على كل مسلم بالغ عاقل مقيم قادر سالم من الموانع كالحيض والنفاس.
11 - يؤمر الصبي بالصيام لسبع إن أطاقه، وذكر بعض أهل العلم أنه يُضرب على تركه لعشر كالصلاة.
12 - إذا أسلم الكافر أو بلغ الصبي، أو أفاق المجنون أثناء النهار، لزمهم الإمساك بقية اليوم، ولا يلزمهم قضاء ما فات من الشهر.
13 - المجنون مرفوع عنه القلم، فإن كان يجنّ أحياناً ويُفيق أحياناً لزمه الصيام في حال إفاقته دون حال جنونه، ومثله في الحكم المصروع.
14- من مات أثناء الشهر فليس عليه ولا على أوليائه شيء فيما تبقى من الشهر.
15 - من جهل فرض الصوم في رمضان، أو جهل تحريم الطعام أو الوطء، فجمهور العلماء على عذره إن كان يُعذر مثله. أما من كان بين المسلمين ويمكنه السؤال والتعلم فليس بمعذور.
صيام المسافر:
16 - يُشترط للفطر في السفر: أن يكون سفراً مسافة أو عرفاً، وأن يُجاوز البلد وما اتصل به من بناء، وألا يكون سفره سفر معصية ( عند الجمهور )، وألا يكون قصد بسفره التحيّل على الفطر.
17 - يجوز الفطر للمسافر باتفاق الأمة، سواءً كان قادراً على الصيام أم عاجزاً، وسواءً شقّ عليه الصوم أم لم يشقّ.
18 - من عزم على السفر في رمضان فإنه لا ينوي الفطر حتى يسافر، ولا يُفطر المسافر إلا بعد خروجه ومفارقة بيوت قريته العامرة.
19 - إذا غربت الشمس فأفطر على الأرض، ثم أقلعت به الطائرة فرأى الشمس، لم يلزمه الإمساك لأنه أتمّ صيام يومه كاملاً.
20 - من وصل إلى بلد ونوى الإقامة فيها أكثر من أربعة أيام وجب عليه الصيام عند جمهور أهل العلم.(4/3)
21 - من ابتدأ الصيام وهو مقيم ثم سافر أثناء النهار جاز له الفطر.
22 - ويجوز أن يُفطر مَن عادته السفر إذا كان له بلد يأوي إليه، كصاحب البريد وأصحاب سيارات الأجرة والطيارين والموظفين ولو كان سفرهم يومياً، وعليهم القضاء، وكذلك الملاّح الذي له مكان في البرّ يسكنه.
23 - إذا قدم المسافر في أثناء النهار فالأحوط له أن يمسك مراعاة لحرمة الشهر، لكن عليه القضاء أمسك أو لم يمسك.
24 - إذا ابتدأ الصيام في بلد، ثم سافر إلى بلد صاموا قبلهم أو بعدهم فإن حكمه حكم من سافر إليهم.
صيام المريض:
25 - كل مرض خرج به الإنسان عن حدّ الصحة يجوز أن يُفطر به. أما الشيء الخفيف كالسعال والصداع فلا يجوز الفطر بسببه. وإذا ثبت بالطب أو علم الشخص من عادته وتجربته أو غلب على ظنّه أن الصيام يجلب له المرض، أو يزيده أو يؤخر البرء، يجوز له أن يُفطر، بل يُكره له الصيام.
26 - إن كان الصوم يسبب له الإغماء أفطر وقضى، وإذا أُغمي عليه أثناء النهار، ثم أفاق قبل الغروب أو بعده، فصيامه صحيح ما دام أصبح صائماً، وإذا طرأ عليه الإغماء من الفجر إلى المغرب، فالجمهور على عدم صحة صومه. أما قضاء المغمى عليه فهو واجب عند جمهور العلماء مهما طالت مدة الإغماء.
27 - ومن أرهقه جوع مفرط أو عطش شديد فخاف على نفسه الهلاك، أو ذهاب بعض الحواسّ بغلبة الظن لا الوهم، أفطر وقضى، وأصحاب المهن الشاقة لا يجوز لهم الفطر،فإن كان يضرهم ترك الصنعة، وخشوا على أنفسهم التلف أثناء النهار أفطروا وقضوا. وليست امتحانات الطلاب عذراً يبيح الفطر في رمضان.
28 - المريض الذي يُرجى بُرؤه ينتظر الشفاء ثم يقضي ولا يُجزئه الإطعام. والمريض مرضاً مزمناً لا يُرجى برؤه، وكذا الكبير العاجز، يُطعم عن كل يوم مسكيناً نصف صاع من قوت البلد.
29 - من مرض ثمّ شفي، وتمكن من القضاء فلم يقض حتى مات أُخرج من ماله طعام مسكين عن كل يوم. وإن رغب أحد أقاربه أن يصوم عنه فيصحّ ذلك.(4/4)
صيام الكبير والعاجز والهرم:
30- العجوز والشيخ الفاني الذي فنيت قوته لا يلزمهما الصوم، ولهما أن يفطرا مادام الصيام يُجهدهما ويشق عليهما. وأما من سقط تمييزه، وبلغ حدّ الخَرَف فلا يجب عليه ولا على أهله شيء لسقوط التكليف.
31 - من قاتل عدواً، أو أحاط العدو ببلده والصوم يُضعفه عن القتال، ساغ له الفطر ولو بدون سفر، وكذلك لو احتاج للفطر قبل القتال أفطر.
32 - من كان سبب فطره ظاهراً كالمريض فلا بأس أن يفطر ظاهراً، ومن كان سبب فطره خفياً كالحائض فالأولى أن يُفطر خفية خشية التهمة.
النية في الصيام:
33 - تُشترط النية في صوم الفرض، وكذا كل صوم واجب، كالقضاء والكفارة، ويجوز أن تكون في أي جزء من الليل ولو قبل الفجر بلحظة. والنية عزم القلب على الفعل، والتلفظ بها بدعة، وصائم رمضان لا يحتاج إلى تجديد النية في كلّ ليلة من ليالي رمضان، بل تكفيه نية الصيام عند دخول الشهر.
34 - النفل المطلق لا تُشترط له النية من الليل، وأما النفل المعيّن فالأحوط أن ينوي له من الليل.
35 - من شرع في صوم واجب كالقضاء والنذر والكفارة فلا بدّ أن يتمّه، ولا يجوز أن يُفطر فيه بغير عذر. وأما صوم النافلة فإن الصائم المتطوع أمير نفسه، إن شاء صام وإن شاء أفطر ولو بغير عذر.
36 - من لم يعلم بدخول شهر رمضان إلا بعد طلوع الفجر فعليه أن يمسك بقية يومه، وعليه القضاء عند جمهور العلماء.
37 - السجين والمحبوس إن علم بدخول الشهر بمشاهدة أو إخبار من ثقة، وجب عليه الصيام، وإلا فإنه يجتهد لنفسه، ويعمل بما غلب على ظنّه.
الإفطار والإمساك:
38 - إذا غاب جميع قرص الشمس أفطر الصائم، ولا عبرة بالحمرة الشديدة الباقية في الأفق.
39 - إذا طلع الفجر وجب على الصائم الإمساك حالاً سواء سمع الأذان أم لا. وأما الاحتياط بالإمساك قبل الفجر بوقت كعشر دقائق ونحوها فهو بدعة من البدع.(4/5)
40 - البلد الذي فيه ليل ونهار في الأربع والعشرين ساعة على المسلمين فيه الصيام ولو طال النهار.
المفطرات:
41 - المفطّرات ماعدا الحيض والنفاس لا يفطر بها الصائم إلا بشروط ثلاثة: أن يكون عالماً غير جاهل، ذاكراً غير ناس، مختاراً غير مضطر ولامُكْرَه. ومن المفطّرات الجماع والاستقاءة، والحيض، والاحتجام، والأكل والشرب.
42 - من المفطرات ما يكون في معنى الأكل والشرب، كالأدوية والحبوب عن طريق الفم، والإبر المغذية، وكذلك حقن الدم ونقله، وأما الإبر التي لا يُستعاض بها عن الأكل والشرب ولكنها للمعالجة فلا تضرّ الصيام، وغسيل الكلى لا يفطر. والراجح أن الحقنة الشرجية، وقطرة العين والأذن، وقلع السن ومداواة الجرح، كل ذلك لا يفطر. وبخاخ الربو لا يفطر. وسحب الدم للتحليل لا يُفسد الصوم، ودواء الغرغرة لا يبطل الصوم إن لم يبتلعه، ومن حشا سنّه بحشوة طبية فوجد طعمها في حلقه فلا يضر ذلك صيامه.
43 - من أكل أو شرب عامداً في نهار رمضان دون عذر فقد أتى كبيرة عظيمة من الكبائر، وعليه التوبة والقضاء.
44 - وإذا نسي فأكل و شرب فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه، وإذا رأى من يأكل ناسياً فعليه أن يذكّره.
45 - من احتاج إلى الإفطار لإنقاذ معصوم من مهلكة فإنه يُفطر ويقضي.
46 - من وجب عليه الصيام فجامع في نهار رمضان عامداً مختاراً فقد أفسد صومه، وعليه التوبة وإتمام ذلك اليوم والقضاء والكفارة المغلظة، هذا والحكم واحد في الزنا واللواط وإتيان البهيمة.
47 - لو أراد جماع زوجته فأفطر بالأكل أوّلاً فمعصيته أشدّ، وقد هتك حرمة الشهر مرتين، بأكله وجماعه، والكفارة المغلظة عليه أوكد.
48 - والتقبيل والمباشرة والمعانقة واللمس وتكرار النظر من الصائم لزوجته أو أمته إن كان يملك نفسه جائز، ولكن إن كان الشخص سريع الشهوة لا يملك نفسه، فلا يجوز له ذلك.(4/6)
49 - وإذا جامع فطلع الفجر وجب عليه أن ينزع، وصومه صحيح ولو أمنى بعد النزع، ولو استدام الجماع إلى ما بعد طلوع الفجر أفطر وعليه التوبة، والقضاء، والكفارة المغلّظة.
50 - إذا أصبح وهو جُنُب فلا يضرّ صومه، ويجوز تأخير غسل الجنابة والحيض والنفاس إلى ما بعد طلوع الفجر، وعليه المبادرة لأجل الصلاة.
51 - إذا نام الصائم فاحتلم فإنه لا يفسد صومه إجماعاً بل يتمّه.
52 - من استمنى في نهار رمضان بشيء يُمكن التحرز منه كاللمس وتكرار النظر وجب عليه أن يتوب إلى الله، وأن يُمسك بقية يومه وأن يقضيه بعد ذلك.
53 - ومن ذرعه القيء فليس عليه قضاء، ومن استقاء عمداً فليقض، ومن تقيأ عمداً فعليه القضاء، ولو غلبه القيء فعاد بنفسه لا يُفطر. وأما العلك فإن كان يتحلل منه أجزاء، أو له طعم مضاف أو حلاوة حرم مضغه، وإن وصل إلى الحلق شيء من ذلك فإنه يفطّر. أما النخامة والنخاعة فإن ابتلعها قبل وصولها إلى فيه فلا يفسد صومه، فإذا ابتلعها عند وصولها إلى فيه فإنه يُفطر عند ذلك. ويُكره ذوق الطعام بلا حاجة.
54 - والسواك سنّة للصائم في جميع النهار.
55 - وما يعرض للصائم من جرح، أو رعاف، أو ذهاب للماء أو البنزين إلى حلقه بغير اختياره لا يُفسد الصوم. وكذلك لايضره نزول الدمع إلى حلقه أو أن يدهن رأسه أو شاربه، أو يختضب بالحناء فيجد طعمه في حلقه، ولا يفطّر وضع الحنّاء والكحل والدّهن، وكذلك المراهم المرطّبة والمليّنة للبشرة، ولا بأس بشمّ الطيب ورائحة البخور، ولكن يحذر من وصول الدخان إلى الحلق.
56 - والأحوط للصائم أن لا يحتجم، والخلاف شديد في المسألة.
57 - التدخين من المفطّرات، وليس عذراً في ترك الصيام.
58 - والانغماس في ماء، أو التلفف بثوب مبتلّ للتبرد، لابأس به للصائم.
59 - لو أكل أو شرب أو جامع ظانا بقاء الليل، ثم تبين له أن الفجر قد طلع، فلا شيء عليه.(4/7)
60 - إذا أفطر يظن الشمس قد غربت وهي لم تغرب، فعليه القضاء عند جمهور العلماء.
61 - وإذا طلع الفجر وفي فيه طعام أو شراب فقد اتفق الفقهاء على أنه يلفظه ويصح صومه.
من أحكام الصيام للمرأة:
62 - التي بلغت فخجلت، وكانت تُفطر عليها التوبة وقضاء ما فات مع إطعام مسكين عن كل يوم كفارة للتأخير إذا أتى عليها رمضان الذي يليه ولم تقض. ومثلها في الحكم التي كانت تصوم أيام عادتها خجلاً ولم تقض.
63 - ولا تصوم الزوجة (غير رمضان) وزوجها حاضر إلا بإذنه، فإذا سافر فلا حرج.
64 - الحائض إذا رأت القصّة البيضاء - وهو سائل أبيض يدفعه الرّحم بعد انتهاء الحيض - التي تعرف بها المرأة أنها قد طهرت، تنوي الصيام من الليل وتصوم، وإن لم يكن لها طهر تعرفه احتشت بقطن ونحوه فإن خرج نظيفاً صامت. والحائض أو النفساء إذا انقطع دمها ليلاً فَنَوَت الصيام ثم طلع الفجر قبل اغتسالها فمذهب العلماء كافة صحة صومها.
65 - المرأة التي تعرف أن عادتها تأتيها غداً تستمر على نيتها وصيامها ولا تُفطر حتى ترى الدم.
66 - الأفضل للحائض أن تبقى على طبيعتها وترضى بما كتب الله عليها ولا تتعاطى ما تمنع به الدم.
67 - إذا أسقطت الحامل جنيناً بدأ بالتخلّق فإنها نفساء لا تصوم، وإلا فهي مستحاضة عليها الصيام إن استطاعت. والنفساء إذا طهرت قبل الأربعين صامت واغتسلت للصلاة، وإن تجاوزت الأربعين نوت الصيام واغتسلت وتعتبر ما استمر استحاضة.
68 - دم الاستحاضة لا يؤثر في صحة الصيام.
69 - الراجح قياس الحامل والمرضع على المريض، فيجوز لهما الإفطار وليس عليهما إلا القضاء، سواء خافتا على نفسيهما أو ولديهما.
70 - المرأة التي وجب عليها الصوم إذا جامعها زوجها في نهار رمضان برضاها، فحكمها حكمه، وأما إن كانت مكرهة فعليها الاجتهاد في دفعه ولا كفارة عليها.(4/8)
وفي الختام هذا ما تيسّر ذكره من مسائل الصيام، أسأل الله تعالى أن يُعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته، وأن يختم لنا شهر رمضان بالغفران، والعتق من النيران.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.(4/9)
العنوان: 1429هـ (قِطعة شعريّة)
رقم المقالة: 1916
صاحب المقالة: صهيب بن محمد خير يوسف
-----------------------------------------
عامٌ وَليدْ
يَأتيْ ..
لِيَطويَ صَفحةَ الذِّكرَى وأيَّامَ القُيودْ
.. تَمضيْ اللياليْ
والعَبيدُ همُ العَبيدْ !
والحُزنُ يَصحَبُنا لنَرسفَ في القُيودْ
وشِتاؤنا ظمَأٌ لآذارٍ جديدْ
اَلكُلُّ فينا خاسرٌ ..
إلاَّ رِجالاً أتقَنُوا لُغةَ الصُّمودْ
.. كُنْ في الرِّجالِ – أخيْ – وحَلِّقْ كالبُنودْ
كُن لي أخاً مُتجدِّداً ..
ويَداً تُطِلُّ ..
تَلُوحُ بالنَّبأ السَّعِيدْ(5/1)
العنوان: أبا خالد.. لا نعزيك
رقم المقالة: 1957
صاحب المقالة: زياد بن عابد المشوخي
-----------------------------------------
كشفَت القناةُ الثانية في التلفزيون الصهيوني صباحَ الاثنين 14/1/2008م أنَّ جهازَ الأمن الداخلي (الشاباك) قرَّر إقامةَ وحدة خاصة للحرب النفسية على حركة (حماس)، وذلك في برنامج "هذا الصباح"؛ إذ أكَّد المراسلُ العسكري للقناة أن الشاباك قرر إقامة وحدة خاصة للحرب النفسية ضد حماس، والتي هي قائمة بالفعل ومنذ مدة طويلة.
وأضاف مراسل القناة أن هذه الوحدة تتتبع المكالماتِ الهاتفيةَ والخلوية من قيادات حركة حماس، ومن زوجاتهم، ودراسة محتواها، ومن ثم الاستفادة منها في الحرب ضد الحركة. لافتًا إلى أن الشاباك سيقوم بنقل تلك الأخبار إلى الجهات الإعلامية في السلطة، لتنشرها على المحطات الإخبارية والتلفزيون الفلسطيني لإيصالها للجمهور بهدف زعزعة الثقة بين الجمهور الفلسطيني والعربي وقيادات الحركة.
وكانت قيادة رام الله قد أنشأت مكتباً إعلامياً بهدف التحريض على حركة حماس، بالإضافة إلى تهديد المراسلين والصحفيين، وبحسب ما ذكرت المصادر المقربة من قيادات في حركة فتح، فإن المكتب الجديد يهدُف إلى التشهير بحكومة هنية وبقيادات حركة حماس السياسية والعسكرية، وافتعال الأكاذيب الإعلامية، وتأليب الرأي العام الفلسطيني على حركة حماس، ونشر الشائعات التي تبين أن حركة حماس تعاني أزماتٍ داخليةً عميقة.
حقيقةً إنَّ هؤلاء القوم قد ضلوا ضلالاً مبيناً، فالأراجيفُ والأكاذيب لا يمكنها أن تمحو الحقائقَ على الأرض، فعندما كان الدكتور المجاهد محمود الزهار وزيراً للخارجية أشاع المرجفون نبأ تعيينِه ابنَه مديراً عاماً في الوزارة، وتدور الأيام لينال نجل الدكتور الزهار حسام (21 عامًا) الشهادةَ في سبيل الله إن شاء الله، ليلحق بشقيقه خالد الابن البكر للدكتور الزهار الذي اغتاله الصهاينة قبل زواجه بيوم.(6/1)
ليس أبلغ من دماء الشهداء بلونها الأحمر؛ إذ تسيل على ثرى تلك الأرض المباركة فلسطين، ليس أبلغ من الرسائل التي تحملها، ليس أبلغ منها كاشفة لسوءات الجالسين على طاولات المفاوضات، ليس أبلغ منها مدمرة كل المؤتمرات التآمرية على المقاومة، ليس أبلغ منها ماحية آثار كل قدم حاقدة وطئت الأرض المقدسة، ليس أبلغ منها تكذيباً لوسائل الإعلام المرجفة، ليس أبلغ منها وقوداً للمعركة، ليس أبلغ منها تحريضاً للمجاهدين على المضي في طريق ذات الشوكة، قال تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [سورة آل عمران: 169-170].
أبا خالد..!!
نحن لا نعزيك، بل نهنئك؛ فكما قلت يوم استشهاد خالد: "لقد زف إلى عروس خير من عروسه، ودار خير من داره"، فإنا نسأل الله أن يكون حسام كذلك، كما جاء في الأثر: "لِلشَّهِيدِ سِتُّ خِصَالٍ: يُغْفَرُ لَهُ فِي أَوَّلِ دَفْعَةٍ، وَيَرَى مَقْعَدَهُ مِن الْجَنَّةِ، وَيُجَارُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَيَأْمَنُ مِن الْفَزَعِ الْأَكْبَرِ، وَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ تَاجُ الْوَقَارِ الْيَاقُوتَةُ مِنْهَا خَيْرٌ مِن الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَيُزَوَّجُ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ زَوْجَةً مِنْ الْحُورِ الْعِينِ، وَيُشَفَّعُ فِي سَبْعِينَ مِنْ أَقَارِبِهِ".
أبا خالد..!!(6/2)
أنتم اليوم تكتبون التاريخ الناصع للأمة، وترسمون المستقبل المشرق لها، وتحيون الأمل في نفوسنا، وتقدمون الأمثلة العملية للقادة الذين يتقدمون الجند في الميدان، وأما المجاهدون فلم ينسوا شيخهم الياسين، ولا الرنتيسي ولا أبو شنب، ولا غيرهم من الشهداء والأرامل والأيتام، وأفعالهم هي التي ستشفي نفوسنا جميعاً، وتذهب غيظ قلوبنا، وتخزي القوم الفاسقين، قال تعالى: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ * وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [سورة التوبة:14-15].(6/3)
العنوان: ابتسامات بوش لا تخفي جراح الكونغرس الأمريكي
رقم المقالة: 595
صاحب المقالة: معمر الخليل
-----------------------------------------
لم يكن الرئيس الأمريكي جورج بوش يتوقع أن يقضي عاميه الأخيرين في البيت الأبيض محكوماً بغالبية ديموقراطية في الكونغرس، تجعله متَّهماً بعد سنوات ظنَّ فيها أنه تحوّل إلى بطل قومي، حمى الأمريكيين من هجمات الأعداء، ونشر الديموقراطية عَنوة بين أبناء وحكام الشرق الأوسط، وأمّن النِّفط العراقي الرخيص لملايين الأمريكيين المحتاجين له.
وإذا كانت الابتسامات التي يوزِّعها جورج بوش دائماً، وكلماته التي رحّب بها بالديموقراطيين الذين تحكموا بالكونغرس بعد طول تفرُّد للجمهوريين، جعلت البعض يعتقد أن وئاماً سياسيا سيدعم بوش؛ للمضي قدماً في سياساته الداخلية والخارجية، فإن الأخبار التي لم تستطع أن تختبئ طويلاً، كشفَت عن شرخ عميق يزداد يوماً بعد يوم، تحوَّل إلى عقبة حقيقية أمام الرئيس الذي لم يبق له إلا ربع مدة رئاسته.
كان بوش يحصل باستمرار على التمويل الكافي له؛ لإبقاء الحرب مشتعلة في العراق، على الرغم من الخسائر الفادحة التي تلحق بالجنود الأمريكيين، قتلاً، وإعاقة، وعقداً نفسية، فضلاً عن الخسائر في المعدات العسكرية، فالرِهان لم يكن للإطاحة بالنظام العراقي السابق، الذي قضى رئيسه شنقاً على يد الموالين للأمريكيين، بقدر ما هو رِهان على كسب الحرب ضد المقاومة السُّنيَّة، تلك التي امتدت من أفغانستان باسم "القاعدة" و"الجبهة الإسلامية".(7/1)
وتشاء الأقدار أن يتحول الدعم الذي استند إليه بوش في حربه على العراق، إلى مطبٍّ رئيسٍ هناك، فبوش الذي استفاد من هجمات سبتمبر 2001م لنشر أيديولوجية "الحرب ضد الإرهاب"، أو بتعبير أدق "الحرب ضد القوة الإسلامية المتنامية" بدعم جماهيري واسع، بات هو العقبة الرئيسة في طريقه، بعد أن أخفقت الجيوش الأمريكية في كسر شوكة القاعدة وطالبان في أفغانستان، والقضاء على المقاومة المسلحة في العراق، التي توصف على الدوام بأنها "مقاومة إسلامية".
الشعب الأمريكي لم يعد قادراً على تحمّل نفقات تلك الحرب، ولا خسائرها المستمرة، خاصَّة وأن أُسَر القتلى والجنود الأمريكيين، وبعض المنظمات التطوعية، والعديد من المؤسسات المدنية، استوحت من خسائر الأمريكيين في العراق معارضَ، ومسارحَ، وكتباً، وفنوناً، جسّدت كلَّ ذلك، كموقف يسجّل للتاريخ.
وكتعبير على هذا التململ الشعبي من سياسات بوش الخارجية بالدرجة الأولى، صوّت الأمريكيون لصالح الديموقراطيين، ليشكّلوا غالبية نيابية.
ويوم بعد يوم، باتت مواقف الديموقراطيين تتضح؛ لترسم ملامح خلاف عميق بين القسمين الرئيسين في السلطة، البيت الأبيض والكونغرس.
اعتمد بوش في بداية الأمر على محاولة كسب تعاطف ديموقراطيي الكونغرس، من خلال نفس الخطابات التي ألقاها على الشعب الأمريكي؛ لذلك أكد لهم في أول جِلسة برلمانية بعد فوزهم: إنه يأمُل بأن يعملوا سويَّا من أجل الاستمرار في تنفيذ المهام التي على عاتق الولايات المتحدة. قائلاً: "إنه سيعمل بالاشتراك مع السياسيين من كلا الحزبين الجمهوري والديموقراطي؛ لإيجاد طريق جديدة إلى الأمام في العراق".
ولكن التصفيق الذي لقيه بوش آنذاك ما لبث أن تبخّر، ليحُلَّ محلَّه مواقفُ أكثر تشدداً ضد السياسات الخاطئة.(7/2)
وما هي إلا أيام، حتى ظهرت بوادر الخلافات بين السلطة التنفيذية الممثلة بالرئيس الأمريكي والبيت الأبيض، وبين السلطة التشريعية، الممثلة بالكونغرس الأمريكي (مجلس الشيوخ والنواب)، الخلاف الذي نشأ بين الجانبين على خلفية تعيين جون بولتون سفيراً أمريكياً لدى الأمم المتحدة، حيث صوّت الكونغرس ضد ترشيح بوش له مرتين، إلا أن بوش اغتنم عُطْلَةَ الكونغرس؛ ليمارس حقاً قانونياً يجيز له سن بعض القوانين ومنها "التعيينات"؛ لأجل تكليف بولتون بهذا المنصب. واستطاع بوش - آنذاك - تعيين (المتطرف الموالي لبوش) في الأمم المتحدة.
وقد اختار بوش مؤخَّراً السياسة نفسها في تعيين بعض الأعضاء الذين لم يرض عن وجودهم الكونغرس، حيث أعلن البيت الأبيض قبل أيام تعيين سام فوكس - أحد جامعي الأموال للحزب الجمهوري - سفيرا لأمريكا في بلجيكا، وذلك خلال عُطْلَة للكونغرس، ما أثار سخط الديموقراطيين.
الصلاحية الدستورية التي لدى بوش قد لا تفيد كثيراً في استمرار فوكس في منصبه طويلاً، إلا أن هذه الالتفافة على الكونغرس أراد منها بوش إظهار "التحدي" الكامل للديموقراطيين، خاصة بعد أن سافَرتْ زعيمةُ الغالبية الديموقراطية نانسي بيلوسي إلى دمشق، كاسرة بذلك العزلة الأمريكية على سوريا التي استمرت أربع سنوات.
ولا يملك فوكس سجلاً نظيفاً أمام الكونغرس، خاصة وأنه قدّم 50 ألف دولار عام 2004 لمجموعة محافظة ساهمت في إلحاق الضرر بفرص المرشح الديمقراطي للانتخابات الرئاسية آنذاك جون كيري، من خلال التشكيك في إنجازاته العسكرية خلال حرب فيتنام.(7/3)
بيلوسي لم تأبه كثيراً بالتصريحات التي أعلنها البيت الأبيض، وجورج بوش شخصياً من "سلبية" الرسالة التي قد تحملها زيارة زعيمة أمريكية تحتل المكانة الرفيعة التي تحتلها بيلوسي لسوريا. بل إنها استطاعت أن تحرّك قسماً جامداً طالما بقي في المياه الجمهورية الراكدة، وهي إرسال رسائل "إيجابية" بين دمشق وتل أبيب، قد تحيي آمال البعض بوجود محادثات "سلام!" ستكون على أي حال من الأحوال في مصلحة الإسرائيليين.
ويرى بعض السياسيين أن بيلوسي اختارت توجيه "إهانة" لبوش، بعد أن تجاهل تقرير لجنة بيكر، الذي خلص إلى 79 توصية، وصفها وزير الخارجية الأمريكي السابق جيمس بيكر أنها "ليست سلطة فاكهة، يمكن اختيار ما يراد منها من قِبَل الإدارة، بل استراتيجية شاملة للتعامل مع جميع مشاكل الولايات المتحدة في العراق، ويجب قبولها ككلٍّ". خاصة وأن بوش أعلن فور إطلاق اللجنة المدعومة من قِبَل الغالبية الديموقراطية في الكونغرس أنه "يستبعد بعض التوصيات؛ مثل فتح حوار غير مشروط مع إيران وسورية"، واستبعد أيضا تقليص الدور القتالي للقوات الأمريكية في العراق.
وبطبيعة الحال، كان الملف العراقي حاضراً وبقوة وسط الأزمة بين الجانبين، إذ شكّلت قضية التمويل الضخم للحرب على العراق أزمة حقيقية.
بوش الذي اعتاد أن يحصل على التمويل اللازم له في العراق بتصويت غالبية الكونغرس (الجمهوري السابق) - واجه هذه المرة معارضةً من قِبَل الغالبية الديموقراطية الجديدة. وإذا كان بوش قد استخدم - ولعدة مرات - الحق القانوني له بأن تعرقل الأقليةُ الجمهورية قراراتِ الكونغرس غير المتلائمة مع سياساته (كوضع جدول زمني للانسحاب من العراق)، فإن الغالبية الجمهورية استطاعت من خلال الحق القانوني نفسه عرقلةَ إقرار مبلغ 120 مليار دولار، كميزانية طارئة لتمويل القوات الأمريكية في العراق وأفغانستان.(7/4)
العرقلة حصلت عندما أقر مجلس الشيوخ قرارا يدعو إلى سحب القوات الأميركية من العراق في غضون عام. وجاء التصويت الذي حدث نهاية شهر مارس 2007، بغالبية 51 صوتا مقابل 47 لصالح القرار، ليربط بين تمويل الحرب من جهة وسحب القوات من العراق مع حلول شهر مارس من العام المقبل.
وقد اشتكى بوش للصحفيين في مؤتمر بالبيت الأبيض من أن الكونجرس يخفق في "مسؤوليته الأولية" المتمثلة في منح القوات المعدات والتدريب اللازمين، حسب قوله. وأضاف بالقول " إن 57 يوما مرت منذ أن طلب إقرار مخصصات تمويل الحرب" مضيفاً أن أعضاء الكونجرس "ذهبوا إلى عطلة الربيع دون الانتهاء من عملهم".
النصر الذي حققه الكونغرس في حربه ضد البيت الأبيض جاء من خلال تفويت الفرصة على إدارة بوش التي حاولت حذف هذه الفِقرة من قانون تمويل القوات الأمريكية في العراق. إذ لا يزال بوش متمسكاً بعدم وجود أي جدول زمني للانسحاب من العراق.
وبالرغم من ذلك، لم تحسم هذه المسألة بعد، إذ هدد بوش بأنه سيستخدم حق الفيتو ضد هذا القرار، الذي يفرض على إدارته توقيتا لسحب القوات الأمريكية من العراق. مدَّعياً أن هذا التشريع ستكون له عواقب وخيمة.
وفي حال استخدم بوش حقه في تجميد هذا القرار، فإن القضية لن تنتهي أيضاً، وسيتعين على الكونغرس الحصول على أغلبية الثلثين من أجل مواجهة الفيتو الرئاسي، وإسقاط قرار الرئيس.
وهنا أيضاً لن تنهي القضية، إذ أن القرار يحتاج إلى توقيع الرئيس الأمريكي من أجل أن يتحوّل إلى قانون!(7/5)
ولم تنته المواجهات عند هذا الحد، بل حدثت العديد منها خلال الأشهر القليلة على تولي الديموقراطيين الأغلبية النيابية في مجلسي الكونغرس، منها إقرار اللجنة القضائية في مجلس الشيوخ استدعاء المستشار السياسي لدى البيت الأبيض، كارل روف، ومساعدين كبار آخرين متورطين بإقالة ثمانية مدعين عامين فيدراليين في البلاد. والمواجهة الدستورية على خلفية إرسال قوات إضافية إلى العراق، بعد أن أقر بوش إرسال 21 ألف جندي جديد إلى العراق، قبل أن يقدم السيناتور الديمقراطي إدوارد كينيدي مشروع قانون يحظر عمليا إرسال أي قوات إضافية إلى العراق من دون إذن صريح من السلطة التشريعية في البلاد.
بطبيعة الحال، لم يكن الرئيس الأمريكي يأمُل قط أن ينتهي به الحال إلى هذا المصير، وبالرغم من أنه حاول كثيراً إخفاء هوانه على الكونغرس، وضعفه أمام الغالبية الديموقراطية فيه، إلا أنه اضطر أخيراً للمجاهرة بذلك، وهو يرى أحلامه تتلاشى شيئاً فشيئاً. فالعراق لا يزال يملك المقاومة الكافية لإشعال المنطقة سنوات طويلة، والشعب الأمريكي سأم من الحرب التي تحوّلت إلى فيتنام أخرى، والتمويل الكافي لحربه المشتعلة منذ 6 سنوات قد تنطفئ جذوتها، والشعبية المتدنية جداً تهدد مستقبله السياسي، وفضائح المعتقلات والسجون السرية لا تزال تلوح في الأفق، أما الكونغرس الديموقراطي فبات يتصرّف بثقة من يملك الرئيس الأمريكي القادم.(7/6)
العنوان: أبحاث الهندسة الوراثية الدوائية
رقم المقالة: 2038
صاحب المقالة: د. رياض رمضان العلمي
-----------------------------------------
أبحاث الهندسة الوراثية الدوائية
(Genetic Engineering)
تمهيد:
خلق الله - سبحانه وتعالى - الإنسان وغيره من الكائنات الحية – حيوانيَّة كانت أو نباتية – وخلق معها جميعًا التباين والاختلاف. وهذه معجزة من معجزات الخالق - جل جلاله - التي لا تُعدُّ ولا تحصى، ففي كل إنسان سمات تميزه عن غيره بعضها ظاهر، وبعضها باطن.
هناك اختلاف طول القامة، ولون البشرة، ونوعية الشعر، ولون العينين، وتقاطيع الوجه، والملامح العامة، وحجم الأنف، وغير ذلك من الصفات الظاهرة الخارجيَّة. وفي الوقت نفسه هناك اختلافاتٌ باطنيَّة داخل الجسم، بيولوجية عميقة تميز الفرد عن أقرب المقربين إليه. فالتَّطابُق الكامل بين كائنين حيَّيْنِ نادرٌ لِلْغَايَةِ إنْ لَمْ يَكُنْ مُستحيلاً؛ حتَّى إنَّ التَّوائِمَ المتماثلة الناشئة من نفس البويضة المخصبة لا بدَّ من أن يكون بينها اختلافٌ – مَهْمَا صغُر شأْنُه – قد لا يكون واضحًا وكامنًا في الداخل.
ولكن ما السّرّ في هذه الاختلافات الشكليَّة؟ ولماذا يبدو شخصٌ ما طويلاً، وآخَرُ قصيرًا؟ ولماذا يُولَدُ طفل بشعرٍ مُجَعَّد، وآخَرُ بِشَعْر ناعم أملس؟ المعروف أنَّ كُلَّ جسم يتكون من بلايين الخلايا، وكل خلية تحتوي على نواة، وكل نواة فيها أجسام دقيقة هي الكروموسومات، وتمتاز هذه الأجسام بأن الله خلقها بأعداد وترتيب ثابتين بالنسبة لكل حيّ على حدة، وتختلف هذه الأجسام الدقيقة حسب اختلاف نوع الكائن الحي، فهي في الإنسان مثلاً 23 زوجًا ذات ترتيب وأشكال معينة معروفة.
ويوجد في الكروموسومات أجسام صغيرة تحدد الصفات الوراثية التي لا حصر لها تسمى الجينات، فهي التي تحدد طول القامة، ولون البشرة، وحمرة الدم، أو حتى ذكاء المرء.(8/1)
والكروموسومات لها خاصية الانقسام؛ ولكي يدرسها العلماء يعملون على إيقاف انقسامها أولاً، وذلك بحقن الإنسان أو الحيوان بقلويد نباتي معروف هو كولشيسين الذي يحصلون عليه من نبات اللحلاح، والمعروف بفائدتِه لمرضى النقرس. وهكذا نرى كيف يمكن أن نستفيد من الدواء في مجالاتٍ شتَّى ومتنوعة، لا يَرْبِطُها رابطٌ مع بعضها البعض، فأين النقرس من انقسام الكروموسومات؟
وتُوجد الكروموسومات في الخلايا على هيئة زوجية ثابتة العدد لكل من الكائنات الحية. ففي دودة الإسكارس يوجد زوج واحد فقط، بينما يوجد في الإنسان 23 زوجًا. كذلك تتكون الكروموسومات من مادة كروماتين التي يدخل في تركيبها أحماض ومواد أصبحت معروفة بأسمائها الرمزية (رانا RNA ) و (دانا DNA ).
إنَّ الكُروموسومات نوعان أساسيان، النوع الأول: ذاتي يحمل العوامل الوراثيَّة الخاصَّة بِالصّفات الجسمية، والثاني: جنسي يحمل العوامل الوراثية الخاصة بتحديد الصفات الجنسية والتكاثر، والأنْسَال.
تلعب النواة دورًا هامًّا وأساسيًّا في عمليات انقسام الخلايا، كما أنَّ لها دورًا حاسمًا وهامًّا في العمليات البيولوجية للخلية على اختلاف أنواعها، وتكاد تكون النَّواة العنصر الأساسي في حياة الخلية. فالخلية بدون النواة لا شيء، ويستدل على ذلك عندما نجد أنَّ الخلايا الخالية من النوى (ككرات الدم البيضاء) لا تعيش إلا فترة قصيرة تموت بعدها؛ كما وجد أنه عندما تنقسم الأميبا إلى جزأين أحدهما فيه النواة، والآخر لا نواة فيه، فإن الجزء الذي فيه النواة ينمو ويتطور ويعيشُ ويقوم بوظائفه كاملة، ويعيش حياة عادية. بينما ينكمش الجزء الخالي من النواة ويذوي تدريجيًّا، ويَمُوت وهكذا دواليك.(8/2)
كما يوجد داخل الكروموسومات أشرطةٌ تَحْتَوِي على جزيئات منتظمة. والإخصاب يعني خلط الأشرطة الوراثيَّة لخليَّتَيْنِ جِنسيتينِ واحدة ذكرية، والأخرى أنثوية. ومن هذا الاختلاط والتبادل بين المعلومات الكثيرة الَّتي لا حصر لها، والمسجَّلة على الأشرطة، يكون السّرّ الكامن في عدم إمكانيَّة تشابُه المخلوقات تشابهًا مطلقًا.
هذه الأشرطة تحتوي عادة على عدد هائل من المعلومات المسجلة، ففي البويضة البشرية الملقحة نجد ما بين 6 – 8 آلاف مليون معلومة أو شفرة وراثية مسجلة على أشرطتها الدقيقة. وهذه الأشرطة صغيرة بشكل لا يمكن رؤيتها حتى بالمجهر العادي، ويلزمها المجهر الإلكتروني الذي يكبرها عشرات الآلاف من المرات. ومن المعروف أن المادة الوراثية التي تحتوي عليها أشرطة الإنسان تتكون كيميائيًّا من أربع قواعد أساسية، هي مركبات كيميائية محددة معروفة وهي: سيتوسين، ثايمين، جوانين، أدينين، هذه هي الشفرة الأساسية التي كتب عليها الخالق - سبحانه وتعالى - كل صفات الكائنات الحية، ولا تختلف في ذلك من الإنسان إلى الباذنجان، أو الثعبان عن الفستق، أو عن دودة القز، أو عن سائر مخلوقاته فسبحان الخلاق العظيم.
من هنا انطلقت تقنية الهندسة الوراثية إلى الأمام بقوة، وتم تطبيقها عمليًّا بحيث تم استخدامها لمصلحة البشرية بما في ذلك إنتاج الأدوية، ومن الأمثلة الطليعية على الأدوية - التي أمكن إنتاجها حتى الآن بواسطة هذه الطريقة المبتكرة، أو التي ينتظرها مستقبل باهر - هي ما يلي - وقد سبق تناول بعضها في مواضيع أخرى من هذا الكتاب -: ثانماتين، سوماتوستاتين، الأضداد (الأجسام المضادة)، يوروكيناز، الأنسولين البشري، لقاح الأنفلونزا، الإنترفيرون، وأدوية وحيدة النسيلة، ولقاح التهاب الكبد... إلخ.
ثانماتين (Thanmatin ):(8/3)
هو بروتين بسيط يعتقد أنه أحلى من السكر بحوالي 3000 مرة، فحلاوته الزائدة في غاية الأهمية بالنسبة لمرضى البول السكري، ليس فقط لتحلية أطعمتهم وأشربتهم، بل ولكي يستغنوا أيضًا عن السكرين، الذي تدور حوله الشكوك، بالإضافة إلى أن ثانماتين مادة سهلة الهضم.
سوماتوستاتين (Somatostatin ):
لقد تمكنت شركة "جينيتك" المختصة بتقنية الهندسة الوراثية من إنتاج هذا الهرمون الموجود طبيعيًّا في مخ الإنسان، حتى قبل إنتاج الأنسولين البشري، ويعتبر هذا الدواء من الهرمونات البسيطة، إذ يتكون من 14 حامضًا أمينيًّا فقط. وهو هرمون تفرزه غدة الهيبوثلاموس (hypothalamus )، وهو يمنع إفراز هرمون النمو، وهرمونات الغدة النخامية، كما أنه يتدخل بتنظيم إفراز هرمونات البنكرياس، والمعدة والأمعاء.
الأضداد (Antibodies ):
العديد في شركات الأدوية الصناعية يعمل على رسم خطط المستقبل على أساس جني أرباح طائلة وسريعة من استعمال الهندسة الوراثية في إنتاج بعض المركبات الهامة، التي تصنعها خلايا الجسم بواسطة الجراثيم. مثال ذلك "الأضداد" أو الأجسام المضادة التي هي عبارة عن بروتينات خاصة تحارب الجراثيم، وتحمي الإنسان منها كأهم وسائل الطب الوقائي، كما تشمل هذه إنتاج أجسام مضادة تصلح لتحديد النسل، وذلك باستعمال بروتين مضاد لذيل الحيوان المنوي الذكري، الذي يتحول إلى كسيح عاجز على الضرب بذيله، والسباحة نحو البويضة فلا يتم التلقيح المتوقع. فإذا ما أصيب الذَّيل بالشلل فلا يحدث الإخصاب؟ هذا عقم مؤقت يزول بزوال السبب.
يروكيناز (Urokinase ):(8/4)
تمكنت شركة أبجون الدوائية الأمريكية من تخليق جرثومة جديدة، تحمل برنامجًا وراثيًّا لجينة من جينات الإنسان المتخصصة في صنع أنزيم يروكيناز، التي تذيب الجلطة الدموية. غير أن الكمية المنتجة من هذه المادة محدودة للغاية؛ ولذلك لا بد للعلماء من متابعة الأبحاث؛ لإيجاد طريقة اقتصادية لإنتاج هذه المادة. هذا خلافًا للأدوية الأخرى؛ كالأنسولين البشري، والإنترفيرون، ومضادات وحيدة النسيلة، وغيرها سبق ذكرها في مكان آخر.
لقاحات تصنع بواسطة تكنولوجيا الهندسة الوراثية:
لقاح التهاب الكبد الفيروسي (ب):
طالعتنا الأخبار خلال شهر سبتمبر من عام 1986 بأنباء مثيرة عن موافقة إدارة الأدوية والأغذية الأمريكية على السماح بتداول أول لقاح للاستعمال البشري، يتم صنعه بواسطة تكنولوجيا الهندسة الوراثية.
واللقاح الذي نحن بصدده يستعمل للوقاية من التهاب الكبد الفيروسي (ب)، والذي يصاب به سنويًّا ما لا يقل من 200.000 شخص في الولايات المتحدة الأمريكية وحدها، ويعتبر هذا المرض من الأمراض القاتلة التي لا شفاء منها إلا بالنادر.
لقد قامت شركة "ميرك" للأدوية - بمدينة نيوجرسي - بتصنيع هذا اللقاح الجديد بالتعاون مع شركة مختصة بالهندسة الوراثية هي شركة "شيرون" بكاليفورنيا. وقد اتبعت الشركة استعمال طريقة " المضادات وحيدة النسيلة Monoclinal Antibodies ، فكان لذلك وقع رائع في الأوساط الطبية والدوائية. وقد أطلقت شركة ميرك على المستحضر الصيدلي الجديد اسم "ريكومبيفاكس (هـ. ب)" Recombivax – HB ، وبذلك ينضم هذا الدواء إلى سلسلة الأدوية التي سبق أن صنعتْ بالطريقة نفسها؛ كالأنسولين البشري (1982)، وهرمون النمو البشري (1985)، وألفارانترفيرون (1986)، ويأمل العلماء بأن هذه الخطوة الرائدة ستفتح المجال لمزيد من المستحضرات واللّقاحات مستقبلاً؛ لتصنع بهذه الطريقة المبتكرة.(8/5)
ومن المعروف أنَّ الشَّركات المتخصّصة بالهندسة الوراثيَّة الأخرى عاكفة على أبحاث علمية يقصد منها تَحضير لقاحات وقائية عديدة منها: لقاح الإيدز، ولقاح الهربس، ولقاح التهاب الكبد، ولقاحات لبعض أنواع السرطانات.
ويصنع اللقاح الجديد بأخذ جينة من فيروس التهاب الكبد (ب)، وإضافتها إلى خلايا الخميرة. وعندما تتكاثَرُ هذه الخلايا يَنْتُج عن ذلك مادَّة بُروتينيَّة مشتقَّة من الفيروس، ويعتبر هذا البروتين أساسَ تصنيع اللقاح الجديد، الذي يكسب الإنسان الحصانة. ومن الجدير بالذكر أنَّ عملية تكاثر خلايا الخميرة هذه تتمُّ بِسُرْعة هائلة.
وهذا اللقاح هو ثاني لقاح تُنْتِجُه شركة ميرك في هذا المجال، فقد سبق أن أنتجت لقاحها الأول عام 1982 باستخدام طريقة استخراجه من دم الأشخاص المصابين بالمرض، مما ينطوي على بعض الأخطار، إذ يخشى أن يكون السبب في نقل مرض الإيدز، والتهاب الكبد الفيروسي من المريض إلى السليم، وهو أمر لا يحدث في حالة اللقاح الجديد الذي نحن بصدده الآن. وتأمل الشركة أن تجني ملايين الدّولارات من مبيعات اللقاح الجديد التي أخذت الشركة على عاتقها استعمالها في الصرف على مزيد من الأبحاث والاختراقات الهندسية الوراثية؛ للحصول على المزيد من الأدوية النافعة.
وهناك لقاحات أخرى ما زالت في طور التجربة والبحث؛ مثال ذلك:
لقاح الأنفلونزا:
رأينا كيف أن الهندسة الوراثية هي الطريقة العلمية الصناعية الجديدة المستخدمة في مجال التحكم في جينات الوراثة، ويعكف العلماء على تحضير لقاح للوقاية من مرض الأنفلونزا، الذي يصيب الملايين كل سنة في جميع أنحاء العالم. والدلائل تشير إلى احتمال نجاحهم في مهمتهم هذه.
واللقاح المنشود يفترض أن يكون مصنوعًا من جراثيم تكمن في الأمعاء، وقادرة على مقاومة فيروس الأنفلونزا. وتتطلَّب صناعته زراعة جزء من الرسالة الوراثية لفيروس الأنفلونزا في جرثومة غير ضارة.(8/6)
وينتظر هذا الاكتشاف أهميَّة بالغة في المستقبل، إذ إن الوراثة الهندسية سوف تتيح للإنسان "لقاحًا شاملاً" قادرًا على القضاء على جميع سلالات فيروسات الأنفلونزا؛ بفضل الجزء الخاص من الرسالة الوراثية للفيروس المنقول إلى الجرثومة التي يقع عليها الاختيار، وبذلك يمكنه أن يقضي على الفيروس ناقل المرض أيًّا كان نوعه.
تمكَّنت شركة "سيرل" الدوائيَّة أن تستنبط لقاحًا ضد الأنفلونزا من فيروسات كاملة، تمت زراعتها في المختبر ثم أبطل مفعولها مباشرة، حتى تصبح عاجزة عن نقل المرض، مع الإبقاء على هيكلها محتفظًا بالجزئيات البروتينية، وهي المواد التي يتعرف عليها الجسم المعرض لهجوم الفيروسات عليه، ويتعامل معها كأجسام غريبة، ولذا إذا تم حقن اللقاح لا يصاب الجسم بالعدوى طالما أن مفعول الفيروس كان قد أبطل، ويظل هيكله يحث الجسم الملقح على تكوين الأجسام المضادة، والتي ستعمل على مقاومة فيروس الأنفلونزا الموجودة على سطحه، وفي حالة أي غزو أو هجوم فيروس جديد تنبري الأجسام المضادة المختصة، والتي تكونت نتيجة للتلقيح، وتتصدى للهجوم، وتقضي عليه.
ومن المعروف أن الفيروسات التي تسبب الأنفلونزا عديدة ومتعددة، وليس من المنطقي أن يصنع لقاح لكل نوع منها؛ لأنَّ هذا مرهق ومكلف، ولذلك تسعى الشركة نفسها لإيجاد لقاح "شامل" ضد الأنفلونزا، وقد أصاب علماؤها النجاح بتحديد فيروس يسبب الأنفلونزا على جزيء من حامض الأدونزين، الذي يحتوي على "الكود"، أو الرمز الوراثي، والمتسبب في تكوين البروتينات التي تكون المادة المضادة للفيروسات منها بأسلوب يشبه جراحة الخلية، مستعملين أنزيمات وخمائر محددة للقيام بهذا العمل، وبعد ذلك تمكن فريق العلماء من تحويله إلى جراثيم غير ضارة هي إسكيركيا كولي، والتي توجد بشكل طبيعي في أمعاء الإنسان.(8/7)
هذه هي المرَّة الأولى التي تمكَّن بِها الإنسان من أن يتوصَّل إلى لقاح صالح للإنسان، عن طريق التَّناول الصناعي لعوامل الوراثة؛ ولذا قد تكفي زراعة هذه الجراثيم بالطرق العادية؛ من أجل الحصول على كميات هائلة من اللقاح النقي.
ويأمل العلماء أن يخطُوا خُطوة أخرى في المستقبل بفعل "الكود" الوراثي، الذي يتحكم بالتركيب الوقائي لجمع فيروسات الأنفلونزا المعروفة جميعها في جرثومة واحدة، ومن ثم استنباط لقاح شامل قادر على حماية الإنسان ضِدَّ جميع الفيروسات الموجودة، أو الجديدة منها، والتي يحتمل ظهورها مستقبلاً.
فالأنفلونزا أكثر الأمراض انتشارًا في هذا الكون، وأكثرها سببًا في العدوى، وهي المرض الوحيد الذي بقي حتَّى الآنَ لِيُحْدِثَ أوبئة على النطاق العالمي. والأمل في أن يتمكن الإنسان من تحقيق حلمه بالتخلص إلى الأبد من هذا الكابوس المزعج، مثلما تمكن من القضاء على الجدري. ومن الطريف أن بعض الأبحاث العلمية الأخرى قد أسفرت عن أنَّ خطر إصابة المدخنين بالأنفلونزا يزيد بنسبة 25 % عن إصابة غير المدخنين؛ كما تبين أنَّ خطر الإصابة بالمرض وحدته يتزايدان طرديًّا مع ازدياد عدد السجائر التي يدخنها الفرد، وبالذات لمن يدخن أكثر من 20 سيجارة في اليوم.
والخطر كذلك يشمل غير المدخنين الأبرياء الذين فرضت الظروف عليهم أن يعملوا، أو يعيشوا مع أناسٍ آخَرين منَ المُدَخّنين، فيتعرَّضون لاستنشاق الدخان الذي ينفثه زملاؤهم المدخنين. إن التدخين بحدّ ذاته عامل رئيس للإصابة بأمراض عديدة، ومن جملتها ازدياد التعرض للإصابة بالأنفلونزا بالذات.
لقاح الجذام:
يجري العلماء في خمسة بلدان غربية – هي هولندا، وإنجلترا، والنرويج، وأستراليا، والولايات المتحدة الأمريكية – أبحاثًا مستفيضة لإنتاج لقاح جديد للجذام، باستعمال تكنولوجيا الهندسة الوراثية.(8/8)
أمَّا اللقاح الحالي فهو يصنع عن طريق الاستفادة من دم حيوان "المدرع" (Armadillo )، وهو الحيوان الوحيد الَّذي تنمو في دِمائه جراثيم الجذام، خلافًا لدماء الإنسان، وبعض أنواع الفئران، وقد أخذت الترتيبات اللازمة لتجربته لمدة أربع سنوات على 100.000 شخص من سكان مالوي، وعدد مماثل من سكان القارة الهندية.
فإذا كانت النتائج ناجحة ومشجعة فمن المتوقع أنه خلال السنين الثماني القادمة، سيعمم استعمال هذا اللقاح على جميع المناطق الموبؤة بهذا المرض؛ ولكن يستحيل الاعتماد على حيوانات "المدرع" فقط للحصول على الكميات اللازمة من هذا اللقاح، فالهند وحدها وضعت خطة للقضاء على الجذام قبل حلول عام 2000، ولذلك عليها أن تحقن ملايين من السكان علمًا أنه يحدث فيها 300.000 إصابة جديدة كل سنة، ولذلك لا بد للعلماء من اللجوء إلى تكنولوجيا الهندسة الوراثية، واستعمال طريقة مضادات وحيدة النسيلة لإنتاج الكميات الكافية من هذا اللقاح. وينتظر أن يتم ذلك بأخذ الجينات اللازمة، وإلصاقها بجراثيم الإيشريكيا القولونية، بحيث أن يكون هناك معين لا ينضب من هذا اللقاح.
لقاح الكوليرا، ولقاح التيفوئيد:
أفادت الأخبار أن هناك جهودًا علمية حثيثة تجرى في أستراليا؛ من أجل تحضير لقاحات ضد الكوليرا وضد التيفوئيد بواسطة تكنولوجيا الهندسة الوراثية، بحيث تضفي على الإنسان الذي يحقن بها مناعة مدى الحياة. والعجيب في الأمر أن اللقاحين المذكورين سيُؤْخَذَان عن طريق الفم، ويعود الفضل في ذلك إلى الدكتور راولي من جامعة أديلاد الأسترالية، والذي بدأ هذه الأبحاث منذ عام 1980، وفي حالة نجاح هذه الأبحاث ستتم تجربة اللقاح في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1987، وفي بنجلاديش عام 1988م.
أمَّا مُضادات وحيدة النسيلة فلا تدمر الخلايا؛ بل تضع عليها علامتها؛ من أجل أن يقوم جهاز المناعة بعد ذلك بالإجهاز عليها.
أول لقاح للملاريا في التاريخ(8/9)
طالعتنا التقارير الصيدلية في أوائل عام 1985م عن إحراز النجاح في تصنيع لقاح جديد للملاريا، يعتبر أول لقاح من هذا النوع، ويصلح هذا اللقاح بالطبع للوقاية من الملاريا التي يسببها طفيلي بلازموديوم فالكيباروم المسؤول عن 85 % من حالات الملاريا في العالم.
وقدِ استطاع العلماء تحقيق ذلك بالاستفادة من تكنولوجيا الهندسة الوراثية، والاستعانة بمضادات وحيدة النسيلة. ومنَ المدهش حقًّا أن البروتين الذي تتكون منه أجسام طفيليات الملاريا تحتوي على جينات يبلغ طولها 412 حامضًا أمينيًّا.
وقدْ تَمَّ حتَّى الآن إيجاد خمسة أنواع من مضادات وحيدة النسيلة، بإمكانها التعامل مع أسطحة الطفيلي. وقد تمَّ تحضير لقاح للملاريا يستطيع أن يتصدى للطفيليات، ويلغي مفعولها لدى دخولها جسم الضحية بواسطة لدغة البعوضة، فتمنعها من الوصول إلى الكبد، وتحميه منها.
ويا حبذا لو يستطيع اللقاح أن يكون قادرًا على قتلها، إذ لو تمكن طفيلي واحد من الإفلات والوصول إلى الكبد، فإن بإمكانه أن يتكاثر هناك، ويسبب العدوى والمرض.
ويعتقد أنه ما زال أمام هذا اللقاح خمس سنوات؛ حتى يمكنه الوصول إلى رفوف الصيدليات.
لقاح جديد لمنع الحمل:
وما دمنا نتكلم عن اللقاحات يجدر بنا أن ننوّه عن اختراق علمي جديد ما زال في مهده، فالأبحاث الدوائية تبشرنا بقرب إنجازٍ (ليس قبل عام 1990) لقاح جديد لمنع الحمل، وهذا الاكتشاف أمريكي الأصل، ولكنَّه أثار اهتمام منظمة الصحة العالمية، فأخذتْ على عاتقها تجربته على نساء أستراليا. ويتكون اللقاح المنتظر من جزء من هرمون جونادوتروبين المشيمي الإنساني تحقن به السيدة، فينبري جهاز مناعتها بالتصدي له، وإنتاج أجسام مضادة لهذا الهرمون الدخيل، ومن ثم تقوم الأجسام المضادة بمهاجمة البويضة المخصَّبة وتدمرها، كما يفشل المبيض - في نفس الوقت – في إنتاج هرمون البروجسترون الذي يساعد على الحمل.(8/10)
وستكتَفِي المرأةُ بِحُقنة واحدة من هذا اللقاح في السنة، بدلاً من تناول قرص واحد كل يوم على مدار السنة. وليس للقاح الجديد آثار جانبية تذكر؛ كالتي تلازم عادة أقراص منع الحمل التقليدية. فلا تجلط للدم يحدث، ولا زيادة بالوزن، ولا غثيان، أو دوخة، أو قيء، كما أنه لا يسبب اضطرابًا بالطمث، وما علينا إلا أن ننتظر عام 1990 حتى نرى مدى فائدة هذا اللقاح الجديد.
الدواء والصيدلية عام (2000م)[1]
الدواء:
لم يبق بيننا وبين نهاية هذا القرن سوى ثلاثةَ عشَرَ عامًا، في الوقت الذي يشهد فيه العالم تقدمًا مطردًا في مجال صناعة الأدوية والعقاقير في أوضاع غير مستقرة.
ويأمل الإنسان بالتوصّل إلى اكتشاف دواء خارق لمرضى السرطان، وأمراض أوعية القلب حيث إنهما يتصدران قائمة قتلة بني البشر، غير أن القضاء على هذه الأمراض سيرفع من متوسط عمر الإنسان ربما إلى 85 عامًا. وهذا من شأنه أن يزيد من المراجعين للمستشفيات، والعيادات، والمستوصفات، والصيدليات. ويعتَبِرُ البعض أنَّ اكتشاف الأدوية الجديدة يشكل نعمة للبشرية؛ لاستيعاب الكهول، والمسنين، والعجائز.
غير أنَّ العِناية الصحية والأدوية ستزيد كلفتها، ويصبح متعذرًا على الشخص العادي تحمُّلُها، ولذا سيلجأ إلى العناية الصحية الذاتية، واستخدام الأدوية دون الرجوع إلى الطبيب، ويكتفي بالاتصال بالصيدلي، خصوصًا وأن الصيدلي هو أكثر محترفي العناية الصحية تواجدًا، وأكثرهم سهولة في الاتصال به، فلا يلزم موعد سابق، ولا وقوف في الدور؛ كي يصل إليه المرضى.
وقد تتمكَّن البحوث الطبية من حل بعض المعضلات الطبية، خصوصًا أنَّ العلماء يتعلَّمون يوميًّا أكثر وأكثر عن نظام جهاز المناعة في جسم الإنسان، مما سيجعل البشر أكثر أهلية للتعامل مع أمراض السرطان، مع إنتاج المزيد من أنواع الأدوية الأخرى المضادَّة لالتهابات الكبد والفيروسات، وتسوّس الأسنان، وأمراض اللثة، وغير ذلك.(8/11)
وستظلّ أبحاث الأدوية والعقاقير وعمليَّات تطويرها باهظة التكاليف، إذ قد تبلغ تكلفة دواء جديد ملايين الدولارات؛ كي يتم طرحه في الأسواق، ويستغرق ذلك ما لا يقل عن عشر سنوات؛ كما سيكون الحاسوب (الحاسب الآلي) مفيدًا للغاية في إنجاز أبحاث الأدوية، ويؤمن فرصًا أكثر للتقدم الواسع في مجال الصناعة الدوائية، كما سيكون الحاسوب ذا فائدة للمستهلك بشكل مباشر. فإن ظهور الحاسوب المنزلي، وهاتف الاستقبال والإرسال، سيزيد من استطاعة المستهلك استخدام برامج الرقابة الصحية، والارتقاء بالحالة الصحية الذاتية دون مغادرة المنزل.
وسيكون عدد أكبر من الأدوية في مُتَناوَل يد المستهلك بصورة مباشرة لأمراض؛ كالربو؛ والقرحة؛ والتهابات المفاصل، التي يمكن للمستهلك معالجتها ذاتيًّا دون اللجوء إلى الطبيب، كما سيتم بيع أشرطة فيديو مع الأدوية؛ لتوضيح كيفية عملها، وتأثيرها وآثارها الجانبية، وعدد الجرعات، وكيفية الاستعمال والمحاذير. وستتنافس الشركات على خدمة الجمهور بهذا الاتجاه؛ ولكن ما هو مستقبل الصناعة الدوائية؟
مع أنَّ العديد من الاكتشافات الدوائية قد تحقق وطُوِّرَ في مصانع الأدوية، خلال الخمس والعشرين سنة الماضية، إلا أنه أصبح من الواضح أن روتين الحصول على ترخيص مداولة أي دواء جديد، هو أمر غاية في الصعوبة والتعقيد، بحيث إنه عامل أساسي لتخفيض أعداد الأدوية الجديدة المصرح بها، ذلك لأن الهيئات الصحية في معظم البلدان تتشدد يومًا بعد يوم بالنسبة لشروط السلامة والأمان اللازمة للأدوية.(8/12)
ولذا فإن أمور السلامة وشروطها بالنسبة للأدوية تدفع البحاثة إلى اتباع أسلوب حذر، بالنسبة للأدوية بصفة خاصة. وحيث إن المجتمع يهدف بالدرجة الأولى إلى السلامة، والأمان فسيتخذ هذا المجتمع أو ذاك جانب الدفاع؛ بل ورفض الدواء الجديد. كما أن السلطات الصحية الرسمية نفسها ليست مستعدة لتحمل مسؤولية أيّ دواء جديد؛ خشية أن يتبيَّن بعد حين أن له أضرارًا لم تكن متوقعة، فتحاول هذه الجهات المماطَلة والتسويف.
أمَّا الصناعات الدَّوائيَّة وتقنيتها فقد تقدَّمَتْ في العصور الأخيرة تقدمًا ملموسًا في العلوم على مختلف أنواعها، فإنَّ أساليب التحليل المخبريّ أصبحتْ تُتِيح البحث في موادَّ موجودة بتركيزات غاية في الصغر لم يكن الوصول إليها سابقًا مُمْكنًا.
فعلم الفارماكولوجي يستطيعُ الآنَ أن يبحث في موضوع المستقبلات التي تشكل الأهداف الحقيقية للأدوية. أمَّا الأساليب الكيميائية الجديدة والمتقدمة فسوف تساعد الكيميائيين على صنع وتخليق مواد جديدة، حسب الرغبة بشكل لم يتصوَّرْهُ أيّ عقلٍ مِنْ قبل.
والحاسوب سَيَلْعَبُ دوْرًا فعَّالاً في الأبحاث الكيميائية أيضًا، إذ سيمكن من تخليق بعض الكيماويات بسرعة هائلة. أمَّا الهندسة الوراثيَّة فإنَّ فوائدها قد ثبتت قطعًا، وستعمل على نقل المعلومات من الخلايا المتخصّصة إلى الجراثيم البسيطة.
ولكنَّ الأبحاث العلميَّة لن تتمكَّنَ منَ التَّقدّم بدون وجود جهاز إداري منظم. فالمعروف أنَّ الأبحاث تمرّ بطُرُقٍ متعرّجة تملؤها الأشواك. ولذا فإنَّ نوع الإدارة المسؤولة عن الأبحاث الصناعية والصيدلية، يجب أن تتحلَّى بكثير من المزايا والصفات؛ كالنشاط، والاطلاع، والديناميكية العملية الممتازة.(8/13)
كما يجب أن تكون إدارات المستقبل أكثر مرونة وطموحًا من حيث الاستعداد للتعاون بين جميع التخصصات، بحيث يزدادُ وضوحًا وترسيخًا لا يمكن لأي من العلماء إنجاز أي تقدم دون الاستعانة بين الفينة والأخرى بزملائه المختصين بالعلوم الأخرى، فالعالم البحاثة لا يمكنه عمليًّا اتخاذ قرارات تصلح لعشر سنوات قادمة دون استشارة رجال الأعمال والاقتصاد، والتداول معهم.
أما المشكلة السكانية فحدث عنها ولا حرج، إذ من المشكوك فيه أن يتمكن الإنسان أن يحل مشكلة الانفجار السكاني بالشكل المرضي والمعقول. ففي عام 2000 سيكون سكان العالم 6 بلايين؛ منهم بليونان في البلدان الصناعية المنتجة للأدوية وأربعة بلايين في بلدان العالم الثالث. وستقوم الدول الصناعية - وهي الأقلية - بإنتاج المزيد من الأدوية وبيعها إلى الدول النامية - وهي الأكثرية - ولذلك سيرتفع معدل دخل الفرد في البلدان الصناعية ارتفاعًا حادًّا أكثر بكثير من زيادته بالنسبة لسُكَّان البلدان النامية، أو بلدان العالم الثالث. فالغني سيزداد غنى، والفقير سيزاد فقرًا، وتزداد الهوة بين العالمين اتّساعًا، ويزيد العنف والتوتّر بشكل متسارع.
وربَّما ستكون المشكلة خلال مطلع القرن الحادي والعشرين هي علاقة البلدان الصناعية بالبلدان النامية. فيجب إشراك الهيئات الدولية – لتقديم المشورة والمعونة وحل الإشكال – كمنظَّمة الصّحَّة العالميَّة، واليونيسيف، وهيئة الأمم المتحدة.
الصيدلة:(8/14)
مع أنَّ مِهْنَةَ الصَّيدلة تَعُودُ إلى ما قبل عام 4000 ق. م؛ لكنها كانتْ دائمًا تتطوَّر بشكل مذهل أيضًا، فالصيادلة في أيَّامنا هذه لا شكَّ في أنَّهم يختلفون عن الصيادلة من أجدادنا خلال العشرينيات من هذا القرن، والذين كان اعتمادهم الأساسي على الأدوية من مصادرها الطبيعية، ومن المؤكّد أنَّ مهنة الصيدلة سَتُواجِهُ المزيد من التغييرات الجمَّة لدى وصولها إلى مشارف القرن القادم، وأهم ما في ذلك بعض النقاط التالية:
- طرق جديدة مبتكرة وفريدة لإعطاء الدواء.
_ اختراقات دوائية سيكون لها أبلغ الأثر.
_ الاستفادة من تقنية الهندسة الوراثية في تحضير الدواء.
- تطور وتشعب نظرية المستقبلات الخلوية للأدوية.
- الحاسوب (الكمبيوتر) سيلعب دورًا أساسيًّا وكبيرًا في مهنة الصيدلة.
- المداواة الذاتية.
- مزيد من آفاق العبوات الدوائية.
لقد تعوَّدنا أن نسمع أنَّ الدواء يعطى إما عن طريق الفم، أو الشرج، أو الجلد، أو الحقن بأنواعها وأشكالها؛ ولكن لا بد من ظهور ابتكارات جديدة وأنواع فريدة من الأدوية؛ كي تستعملها الأجيال القادمة. سبق أن بحثنا نخبة من طرق الاستعمال الجديدة، التي أصبحت متوفرة ورخيصة أهمها:
الملصقات الجلدية المجموعية، نقط الأنف المجموعية، الحلقات المهبلية، الأوكيوسيرت العينية، الأوروس الفموية، والمضخات الدوائية، وغير ذلك.
ولكن لا بد من ظهور المزيد من طرق الاستعمال الجديدة التي لا تخطر على البال.
ومن المنتظر أن تفيد الفئات الدوائية الجديدة والمبتكرة في استعمال أدوية منع الحمل، ومعالجة أمراض السرطانات طويلة الأمد؛ أما الطموحون من العلماء فيأملون أن ينتجوا أنواعًا جديدة من الهيدروجيل بطيء المفعول للغاية، بحيث يخدم أسابيع وأسابيع، وقد يطبق ذلك على الأدوية الوقائية للملاريا وغيرها من الأمراض.(8/15)
ومن الطرق المبتكرة طريقة الكريات الحمراء، والتي يقصد بها كريات الدم الحمراء الموجودة في دم الإنسان، تفصل هذه الكريات عن البلازما، ويضاف إليها المادة الدوائية في أوعية مخصصة لذلك، ويتسرب إلى داخل الكريات ويستقر هناك مؤقتًا.
بعد ذلك تعطى هذه الكريات للمريض، فتجوب في جميع أنحاء جسمه متناسبة مع الدورة الدموية، وتتوزع المواد الفعالة فيها ببطء وسهولة مدة طويلة، مما يؤدي إلى الإقلال من الجرعات الدوائية المستعملة حسب الطريقة المألوفة.
ومن أهم الاختراقات الدوائية اكتشاف أدوية المستقبلات الخلوية، والمستقبلات عبارة عن جزئيات معقدة التركيب، كبيرة الحجم، تتكون من البروتينات، وتقع على سطح الخلية، أو ربما داخلها، ويعتمد عليها مفعول بعض المراسلات الدوائية – كالهرمونات – وتعمل المستقبلات الخلوية على تنظيم ومراقبة عمل الخلية، وتتحكم في صنع البروتينات فيها والبيبتيدات وغيرها من مشتقات الخلية ونواتجها؛ كما تساعد المستقبلات الخلية على إفراز منتجاتها المختلفة والتخلص منها؛ كما أنها تقرر مدى نفوذيَّة الأغشية، وشكل الخلية وحركتها ونموها.
واعتمادًا على المعلومات والصفات الكيميائية للمستقبلات الكامنة على سطح الخلية، يكون بإمكان العلم أن يصمم أدوية جديدة محددة مطابقة للمستقبلات المراد إصابتها، وكذلك إيقاف عمل الخلايا أو محاكاتها سواء بالتصرفات المرغوب فيها، أو غير المرغوب فيها حسب ما تمليه الظروف.
الحاسوب (الكمبيوتر):(8/16)
الحاسوب هو الكمبيوتر أو الحاسب الآلي، وهذا هو اسمه العلمي الصحيح. لقد أصبح الحاسوب جزءًا لا يتجزأ من جميع أوجه الحياة في الوقت الحاضر. فدخل جميع المرافق من اقتصادية وتجارية وطبية وصيدلية وعلمية وفنية وحربية وغير ذلك. كما أنه دخل مهنة الصيدلة فأصبحت لا تستغني عنه في كثير من الأعمال، ولذلك ينتظر - في خلال عقد أو عقدين من الزمن – أن يصبح الحاسوب أمرًا شائعًا شيوع جِهاز الهاتف، وسهلَ الاستعمال سهولة تحريك مؤشر جهاز المذياع.
إن المعلومات الخاصة بالدواء من مفعول، أو سمية، أو جرع، أو آثار جانبية، أو تنافر، أو توافر حيوي، أو أسعار، أو تغليف، كلها أصبحت معلومات لازمة، وصار ضروريًّا أن تكون جاهزة على أطراف أصابع الصيدلي، وذلك باستعمال الحاسوب، ولا شكَّ في أنَّ الحاسوب سيخفف من الزمن اللازم ليتعلم الصيادلة أمور مهنتهم وتدريبهم عليها، وبذلك سيتوفَّر نشء جديد من الصيادلة بأعداد كبيرة.
أهم المجالات العلاجية:
إن مجال المعلومات الدوائية سيكون مفيدًا للصيدلي؛ من أجل تطوير مهنته، وتوسيع أفقها ودورها الطليعي في المجتمع، والأخذ بيدها إلى الأمام، ومن أبسط الأمور ستكون عملية استبدال الأدوية بسرعة ومهارة. ولذلك يأمل العلماء أن يتمكنوا من إيجاد الأدوية التي بإمكانها إنجاز الأمور التالية الهامة في المجالات العلاجية المذكورة:
1 – بالنسبة للتصلب العصيدي: (تصلب الشرايين). Atherosclerosis ، إمكانية منع ترسّب اللويحات على جدران الأوعية الدموية من الداخل.
2 – بالنسبة لمرضَى البول السكري: المحافظة على مفعول خلايا بيتا بالبنكرياس، والحد من مضاعفات أمراض الأوعية الدموية.
3 – أمراض الرئتين المزمنة: أدوية لِمَنع إفراز المخاط بكثرة.
4 – السكتة القلبيَّة: أدوية تمنع تكدس الصفيحات الدموية ومنع حدوث السكتة.
5 – القرحة المعدية: إيقاف الإفرازات الحامضية.(8/17)
6 – ضغط الدم المرتفع: التمكن من الوصول إلى أسباب المرض الحقيقية؛ من أجل التوصل إلى كيفية مكافحته.
7 – السرطان: اكتشافه مبكرًا ومعالجته فورًا.
8 – وهناك مجالات أخرى كثيرة نذكر منها تطور المعالجة الذاتية بشكل آمن، تتوفر فيه السلامة وزيادة متوسط أعمار الناس، وزيادة في إحكام العبوات الدوائية وأمانها وسلامتها.
العبوات وسلامتها:
كان لكارثة كبسولات الثايلينول أثر عميق في نفوس الجماهير، مما أثر على نسب المبيعات بصفة عامة؛ سواء تلك المصروفة بموجب وصفة طبية أو بدونها، كما كان لذلك تأثير نفسي على الأفراد والجماعات، وأصبحت تلفهم الشكوك والمخاوف. تصور أن تدخل إلى صيدلية وتتناول دواء منها، ثم يخطر ببالك أن قد يكون شخص ما قد سبقك، وعبث بعبوته، وأضاف مواد سامة شديدة المفعول؛ كالسيانيد، وغير ذلك مثلما ما حصل مع الثايلينول، ماذا سيكون شعورك. وهل ستأخذ الدواء؟ وإن لم تفعل، ما هو الحل؟ هل تذهب إلى صيدلية أخرى؟ هناك سيواجهك الأمر نفسه، وتعاني من المشاعر نفسها.
ومع أن معظم الأدوية في الوقت الحاضر مغلفة تغليفا جيدًا في عبوات مزودة بسدادات محكمة، قد يكون من الصعب العبث والتلاعب بها، إلا أن الصيدلي قد يضطر إلى بيع بضعة أقراص من الزجاجة فيفتحها، بعد ذلك يصبح ما تبقى من ذلك عرضة للشكوك والريبة، فأي عبوة ناقصة تصبح لا فائدة منها. ويتعذر بيع أي من محتوياتها. ولذا سيكون لذلك تأثيرات نفسية واقتصادية عارمة تهدد حسن سير العمل.
رجال الصناعة يفكرون ليل نهار، ويشحذون أدمغتهم بجدية، في كيفية التوصل إلى حل مناسب وفعال لهذه المشكلة، التي طرأت من حيث لا تدري البشرية؛ نتيجة للضغوط النفسية التي يتعرض لها البشر، وتدفع البعض إلى ارتكاب مثل هذه الجرائم، والأعمال الوحشية، وبعض الأفكار التي لا بد من تطبيقها هي اللجوء إلى نظام الجرعة الموحدة التي تطبق في المستشفيات وبيعها كما هي في أوعية شديدة المقاومة.(8/18)
ولكن هذا سيرفع من تكلفة الأدوية، وأثمانها ستصل إلى مستويات يعجز البعض عن شرائها.
الطب الصيدلي: (Pharmaceutical Medicine )
من التطوّرات الصناعية الدوائية نشوء تخصص علمي جديد أطلق عليه "الطب الصيدلي"، وبالإمكان القول أيضًا بأنه "الصيدلة الطبية". أمَّا الشخص المتخصّص بهذا الفرع فهو الطبيب الصيدلي (Pharmaceutical Physician )، وهو طبيب مؤهل يجمع بين واجبات الصناعة الدوائية والاعتبارات السريرية؛ من أجل إيجاد أدوية جديدة.
ولم يمضِ على اختيار هذا التعبير سوى عشر سنوات، حتى احتل مكان التعبير القديم "المستشار الطبي للصناعة الدوائية"، وقد كان أول من اقترح هذه التسمية هو الدكتور سنيل ضمن بحث نشره في إحدى المجلات العلمية عام 1970م.
لم يكن قبل الحرب العالمية الثانية (1939 - 1945) سوى بضعة أدوية مؤثرة ونافعة. ولم تكن الصناعات الدوائية بحاجة لتعيين شخص متفرغ، ولذلك كانت تستشير بعض الأطباء – إذا احتاج الأمر – لدى قيامها بتصنيع دواء جديد، أو شكل جديد – ولم يكن هناك خبير دائم؛ بل لم يكن هناك وظيفة دائمة لذلك.
وعندما وضعت الحرب أوزارها وبدأت عجلة تطور الصناعة الصيدلية بالدوران بشكل مذهل – خصوصًا خلال الخمسينيات من هذا القرن – وجدت الشركات الصناعية الدوائية نفسها مضطرة لتعيين أطباء بصفة دائمة؛ للاستفادة من مشورتهم بما يتعلق بمعلوماتهم الطبية السريرية، التي قد تفيد في التغلب على المصاعب التي كانت الأبحاث الصيدلية تواجهها، وبالذات في مجال الأبحاث السريرية، وإجراء التجارب على الأدوية الجديدة، وتفسير نتائجها، مع تدعيم خطة الشركة المصنعة التسويقية، وبالتدريج أصبح عدد الأطباء العاملين بالصناعة الدوائية في إنجلترا وحدها لا يقل عن 500 طبيب في الوقت الحاضر.(8/19)
وهكذا تطورت مسؤوليات المستشار الطبي للشركة الصناعية خلال الخمس والعشرين سنة الماضية، وتركزت تلك المسؤوليات في برمجة وتصميم وتنفيذ التجارب السريرية الطبية في جميع مراحلها المتتابعة.
أصبح المستشار الطبي يسمى "الطبيب الصيدلي"، وقد ازدادت مسؤولياته خلال الاثنتي عشرة سنة الماضية (1977) بشكل مُلْفِت للنظر، ولذلك وجب أن تتوفر فيه دراية تامة للعلوم الأساسية، والعلوم الطبية، بالإضافة إلى علوم الاقتصاد، وإدارة الأعمال، والتسويق، وبعبارة أخرى نشأ كادر جديد من الأطباء المؤهلين المختصين بالنواحي الصيدلية. ونظرًا لأهمية هذه الفئة المبتكرة تكونت في بريطانيا جمعية جديدة تُدْعى "جمعية المستشارين الطبيين للصناعة الصيدلية" تعرف برمز (AMAPI )؛ كما تم إدخال تخصص جديد في كلية كارديف الطبية مدته سنتان دعي "الطب الصيدلي"، والغرض منه تخريج الأطباء الصيدليين. وفي عام 1976 تمت موافقة كلية الأطباء البريطانية على منح دبلوم جديد في الطب الصيدلي في مدن لندن، وأدنبرة، وجلاسكو، وقد تضاعف أعضاء جمعية المستشارين الطبيين المذكورة بشكل كبير في السنوات القليلة الماضية مما يدل على تزايد أهمية هذا التخصص.
ومما عزز هذا الاتجاه ظهور مجلة علمية دورية جديدة تدعى "مجلة الطب الصيدلي" عام 1984؛ كما ظهر كتاب قيم يبحث في موضوع الطب الصيدلي، ألفه مجموعة من المختصين على رأسهم الدكتور بيرلي.(8/20)
وينصب اهتمام الطبيب الصيدلي في مساعدة الصناعة الدوائية الصيدلية لإنتاج أدوية جديدة مفيدة وآمنة، كما يشمل البرنامج الدراسي لتخصص الطب الصيدلي مواضيع شتى في مجالات الأقربازين، والبيولوجيا، والكيمياء الصيدلية، والإحصائيات الحيوية، وتنافر الأدوية وتوافرها الحيوي، وفن تسويق الأدوية. وقد اشتهر هذا الفرع واتخذ حجمًا على مستوى بريطانيا، وأوروبا، والولايات المتحدة الأمريكية، ومن الجدير بالذكر أن البرنامج الدراسي يشمل أيضًا على مواضيع في الاقتصاد، وإدارة الأعمال، فأصبح ذا أهمية كبرى وحساسة.
وبالطبع إن العوامل التي أدت إلى هذا التطور هي الازدياد المضطرد في إنتاج الأدوية كمًّا ونوعًا، وظهور سيل جارف من الأدوية الجديدة خلال الثلاثين سنة الماضية، ومع أن الطب الصيدلي له علاقة مع الأقربازين السريري، والصناعة الدوائية، وتطوير الأدوية الجديدة، وما ينعكس من ذلك على الحالة الاجتماعية، والأمور القانونية والحكومية والتنظيمية، إلا أن حدود هذا التخصص لا تزال غير واضحة. ويكفي أن نقول إنها المرحلة الحاضرة التي تتخذ موقفًا متوسطًا بين مهنتي الطب والصيدلة الصناعية، مع الأخذ بعين الاعتبار الأمور الحكومية والمهنية والاقتصادية.
وفي كل شركة صناعية دوائية كبيرة لا بد من وجود دائرة خاصة بالطب الصيدلي، يرأسها طبيب صيدلي مؤهل ومتخصص.
الدائرة الطبية الصيدلية:
يعتمد التنظيم الأساسي للدائرة الطبية الصيدلية بأي شركة دوائية صناعية على حجم الشركة بالدرجة الأولى، وبالإمكان أن نتصور تلك الدائرة على النحو التالي:(8/21)
المديرالطبيأوالمستشارالطبي: هو رئيس الدائرة تتبعه أقسام مختلفة، يرأس كلاًّ منها نائب للرئيس. هذا ويجب أن يطلق على المدير لقب: "الطبيب الصيدلي"، ومن هذه الأقسام نذكر دائرة الأبحاث الأقربازينية، ودائرة التجارب السريرية، ودائرة الخدمات الطبية "التسويق والمباعة"، وكذلك قسم التسجيل والإحصاء. ومن أخطر واجبات الطبيب الصيدلي المدير هي متابعة الأبحاث العلاجية من خلال التجارب السريرية؛ للتأكد من جدوى الدواء أو عدمه. فإذا ثبتت فائدته وأهميته ندرس عوامل الموازنة بين فوائده الطبية، وبين آثاره الجانبية من حيث إبقاؤه أو إلغاؤه. ولذلك على المدير مراقبة الأبحاث، والسيطرة على مجراها أينما تجري من الأقسام، وإذا ظهرت مادة جديدة فعَّالة بريئة من السمية، بحيث تكون مرشحة لتصبح دواء مفيدًا وجديدًا، فعلى المدير أن يبدأ باتخاذ الخطوات اللازمة لتجربته على بني البشر الأصحاء منهم والمرضى. ويتطلب ذلك الاستعانة بالعلوم الصيدلية الجديدة ومنها: علم حرائك الدواء، وعلم مبحث تأثير الأدوية، وكذلك عليه أن يقوم بوضع تخطيط لبرامج الأبحاث السريرية بجميع مراحلها المتتابعة، وتقييم التساؤلات الواردة مع إيجاد الإجابات الصحيحة والمناسبة لها.
مسؤوليات الطبيب الصيدلي:
تتلخص مسؤوليَّات وواجبات الطبيب الصيدلي بصفته مديرًا للدائرة بما يلي:
1 – مستشار لدائرة الأبحاث الدوائية.
2 – النظر في الشكاوى الواردة.
3 – توثيق العلاقة مع السلطات الصحية.
4 – تنمية العلاقات العامة.
5 – مستشار للقوى التسويقية.
دوره في الأبحاث الدوائية:(8/22)
من أخطر مسؤوليات الطبيب الصيدلي - بصفته مستشارًا دوائيًّا للشركة - أن يقرر ما إذا كانت نتائج الأبحاث السريرية التي أجريت على أحد الأدوية تؤهله إلى أن يكون أحد منتجات الشركة؛ نظرًا لفوائده، وتدنّي آثاره الجانبية. وفي تلك الحالة يكون قد قام بموازنة الفوائد مقابل الآثار الجانبية، ووصل إلى قرار حاسمٍ على ضوء المعطيات الإحصائية والعلمية. عند ذلك يقرر تبني الدواء.
من أجل ذلك عليه أن يتعاون مع العلماء البحاثة كل في مجال اختصاصه، والاهتمام بصفة خاصة بسميته على الحيوان والإنسان، ومن ثم الوصول إلى قرار يسمح بطرحه في الأسواق مع القيام بحملة تسويقية دعائية لائقة. ولذلك فإن كل هذا يتطلب إلمامه - بصفة خاصة - إلمامًا جيدًا بعلوم الكيمياء، والصيدلة، والأقربازين، وعلم السموم، والتطبيقات السريرية، وغير ذلك، كما أنه ليس بالضرورة أن تقتصر علاقاته الجيدة على الأطباء والصيادلة فقط؛ بل يجب أن تمتد لبقية أعضاء الفريق من مساعدين، وموظفين، وإداريين.
علاقته مع الأبحاث المركزية:
إن الغرض من الأبحاث الصيدلية هو العثور على أدوية جديدة كيميائية مبتكرة؛ لتحويلها لأشكال صيدلية مناسبة، لها منافع علاجية تدر على الشركة الأرباح المجزية بعد تسويقها. لذلك يجب على الطبيب الصيدلي أن يكون مثالاً لحلقة الوصل الكفأة بين العيادات السريرية، ومختبرات الأبحاث المختلفة، ذلك أن البحاثة يرغبون في أن يتعاملوا مع طبيب صيدلي كفء أو مؤهل، مُلِم بمختلف العلوم الأساسية والتخصصية، وأن يكون متفهمًا مشاكلهم وأعمالهم.
دوره في التسويق:(8/23)
لدى قرب موعد طرح الدواء الجديد في الأسواق، وبدء الحملة الإعلامية التسويقية اللازمة، يرغب عادة مديرو التسويق في أن يتفاهموا مع الطبيب الصيدلي؛ ليزودهم بالمعلومات العلمية البارزة؛ لكي يركزوا عليها الأضواء وإبراز فوائدها ومزاياها، بمقارنتها بالمستحضرات المنافسة. فلا يمكن لقسم التسويق أن يحصل على هذه المعلومات دون وجود طبيب صيدلي متفهم على رأس دائرته يدرك الأمور جميعًا. ويحيط بها إحاطة كاملة. كما عليه أن يتحلى بالأخلاق الحميدة والسيرة المحمودة، فمن السهل هدم – خلال لحظات – ما بناه رجال التسويق في سنين. ولذلك عليه أن يحسن تصرفاته، بحيث تكون بعيدة عن الشبهات مع استقلالية الرأي والحزم والحياد وعدم التحيز.
النظر في الشكاوى:
لا بد عند ظهور أي دواء جديد أن يرد إلى الشركة المصنعة بعض التساؤلات والانتقادات وربما الشكاوى، وليس أنسب من الطبيب الصيدلي من ينظر في هذه الشكاوى، ويرد عليها بذكاء ومهارة، دون إثارة السائل، أو زيادة حنقه، ودون الإساءة إلى الشركة وسُمعتها، ويجب أن يتم ذلك بسرعة وعناية. وقد تتعلَّق تلك الشكاوى بالمفعول الدوائي أو بآثاره الجانبية، أو بالنسبة لتعبئته وتغليفه، والكتالوجات التسويقية، والتعليمات الموجودة داخل العبوة. فعلى الطبيب الصيدلي أن يتَّصل بصاحب الشكوى خلال مدة قصيرة؛ من أجل إعطاء الشاكي فكرة جيدة عن سياسة الشركة، وإبلاغه أنَّ المسؤولين فيها عاكفون على دراسة شكواه، وأنه سيستلم الإجابة خلال أيام قليلة؛ كما على الطبيب الصيدلي أن يستشير الجهة المختصة بموضوع الشكوى، وبصفة خاصة دائرة الرقابة ودائرة الأبحاث.
علاقته مع السلطات الصحية:(8/24)
يترتَّب على الطبيب الصيدلي المسؤول أن يقوم بالاتصالات اللازمة والواجبة بين العلماء الذين اكتشفوا الدواء الجديد، وبين الأطبَّاء الذين سيقومون بالتجارب الطبية السريرية على المرضى؛ كما عليه أن يكون حلقة اتصال بين السلطات الصحية التي من شأنها مراقبة عمليات الأبحاث الدوائية، حيث إنها المرجع الأخير الذي سيقدم إليها الطلب؛ من أجل تسجيل الدواء الجديد والسماح بتداوله. ويترتب على ذلك القيام بتجربته قبل قيام الشركة بتسويقه، فعليْه أن يقوم بشرحِ فوائد الدواء الجديد، ومزاياه، والأسباب الموجبة لاستعماله، وتفضيله على غيره من الأدوية الأخرى، بحيث يقنع السلطات الصحيَّة بجدواه على أن يكون ذلك مقرونًا بالوثائق والإثباتات الضروريَّة، وعليه أن يتسلَّح بالمعلومات العلمية، والبحثيَّة المدعمة بالأرقام والشواهد.
إن العلاقة الجيدة التي تسود بين الطبيب الصيدلي، وبين المسؤولين في السلطة الصحية تساعد إلى حَدّ بعيد في اتّخاذ القرارات، التي تكون لمصلحة الشركة المصنعة.
العلاقات العامَّة:
كان المستشار الفنّي للشركة الدوائية سابقًا لا يعتبر أنَّ له أي علاقة أو دور يلعبه من حيث إعلاء كلمة الشركة الصناعية، وإظهارها بالمظهر اللائق، والعمل على رفع شأنها وسمعتها. كان سابقًا يصبّ جامَ اهتمامه على الأمور العلمية والسمعة الطيبة لمهنته، فكانت علاقاته تقتصر على زملائه، وأبناء جلدته.
أمَّا خلال السنين القليلة الماضية، فقد أصبح الطبيب الصيدلي موضع المسؤولية من حيث التساؤلات الخاصة بالتطوير، والفحص والاختيار، والمراقبة والاستعمال، وسلامة المستحضرات الصيدلية. وقد أصبحت هذه الأمور جميعًا موضع اهتمام الصحافة، وأجهزة الإعلام المختلفة.(8/25)
وقد يتعرض الواحد منهم للانتقاد اللاذع، والمواقف الحرجة نظرًا لعدم دراية أفراد الجمهور، أو وسائل الإعلام بطبيعة العمل الطبي الصيدلي على حقيقته، وعليه عند ذلك أن يكظم غيظه، وأن يضع أعصابه في ثلاجة، وألا يثور. عليه أن يتحلى بالحلم والصبر؛ وإلا كان هو الخاسر. كما عليه أن يكون مسلحًا بالصبر والأناة وبالعلم والمعلومات، وأن يبذل جهده لشرح ما هو مبهم على الناس، ويعلل القرارات التي تتَّخذها الشركة واتجاهاتها.
دوره نحو أسواق العالم:
على الطبيب الصيدلي المسؤول في الشركة الدوائية أن يكون عالمًا بمشاكل بلدان العالم الأخرى، من النواحي الصحية، والاجتماعية، والاقتصادية، والسكانية، والوبائية، فهناك بلدان تكون عادة متعطشة لاستلام مختلف أدوية البلدان المتقدمة؛ لمكافحة ما يصيبها من أمراض وأوبئة، قد تكون نادرة، أو من فئة الأمراض اليتيمة؛ بحيث تشكل مركزًا تسويقيًّا هائلاً لتصريف الأدوية التي تنتجها الشركة، وحيث إننا على وشك الوصول إلى نهاية القرن الحالي، فعلى الطبيب الصيدلي أن ينظر إلى الأمور النظرة الخاصة لعام 2000 من حيث نوعيات الأدوية المتوقع الاحتياج إليها وكمياتها. واحتمالات ابتكار أدوية جديدة، كما عليه أن يفعل ذلك من خلال منظمة الصحة العالمية، التي لديها معلومات كافية عن جميع بلدان العالم واحتياجاتها، خصوصًا بالنسبة للأدوية اليتيمة التي ترفض معظم الشركات تبنيها. وعليه أن يلم بقائمة الأدوية الأساسية التي نشرتها منظمة الصحة العالمية. ويُوَجّه انتباه الصناعيين إلى احتمالات المستقبل بدلاً من أن يقوموا بإنتاج أدوية لا جدوى اقتصادية منها.(8/26)
ومن الطبيعي أن هناك منافسة شديدة تدور بين الشركات العالمية في مختلف أسواق بلدان العالم، وعلى الطبيب الصيدلي أن يضع نصب عينيه مساعدة شركته على إيجاد موطئ قدم في كل منها، وإلا انخفضت مبيعات الشركة، وبدأت تعاني من المشاكل المالية، التي قد تسبب - في النهاية - فصله من عمله.
نظرة للمستقبل:
شهدت العشرون سنة الماضية نموًّا وتطورًا هائلين في النشاطات التنظيمية الحكومية الرسمية والمهنية، على أثر عاصفة الثاليدوميد الهوجاء (1961 – 1962)، وكان الهدف الأساسي لهذه التنظيمات الحد من المخاطر الناجمة عن استعمال الأدوية الضارة، ومنع وصولها إلى الأسواق والصيدليات، أو على الأقل الإقلال من وطأة هذه المخاطر بقدر الإمكان.
وقد كان الاتجاه الذي اتبعته السلطات الصحية المبالغة في الحيطة والاشتراطات والتنظيمات منعًا لأي التباس، أو اختراق للقوانين، على أمل أن تنشط الشركات المصنعة، وتبدي اهتمامًا كاملاً بزيادة معلوماتها الفنية، والتقنية، وبشكل خاص ما يتصل بالاختبارات، والفحوص المخبرية.
وقد تبين مؤخرًا أن الاختبارات السمية التي تجرى على الحيوانات ليس بالضرورة أن تنطبق على الإنسان. إذ إن هناك أدوية آمنة بالنسبة للحيوانات، غير أنها تكون ضارة لبني البشر والعكس صحيح. يضاف إلى ذلك أنه ظهرت عدة تجمعات وجمعيات تهتم بالحيوانات، وتعارض استعمالها في مختبرات التجارب والأبحاث، مما يعيق الأبحاث الصيدلية ويؤخرها، وقد تضطر تلك الشركات لإجراء تجاربها الدوائية على المتطوعين من بني البشر بأجر، أو بدون أجر.(8/27)
ومع ازدياد كميات الأدوية ونوعياتها اهتمت التنظيمات الحكومية، والصحية بصفة خاصة بمفعول الأدوية الأقربازينية، وحالات السلامة والأمان والشفاء، وكذلك التكاليف. فإن موضوع التكاليف بالذات يزداد خطورة يومًا بعد يوم. ومن ناحية سلامة الأدوية وأمانها، فالأمر يتجه نحو مراقبة الأدوية بعد تواجدها في الأسواق، وبعد أن يكون عدد وفير من الناس قد استعملوها، ولاحظوا آثارها الجانبية عن كثب. ولذا لا بد من أن تمر عمليات المراقبة بفترات محددة بحيث يقتصر استعمال بعض الأدوية الجديدة في مستشفيات معينة؛ من أجل إحكام المراقبة عليها حتى تثبت فعاليتها وكفاءتها وآثارها الجانبية، بحيث لا تسبب الضرر إلا لأقل عدد ممكن من الناس، وكذلك من أجل الاستفادة من النظام الآلي – الحاسوب – للقيام بدوره الفعال في هذا الصدد.
ولا بد من الإشارة إلى أنه حصل انكماش في الصناعة الدوائية، وانخفض عدد الأدوية الجديدة المتوقعة، وذلك نتيجة للتكاليف الباهظة التي تواجهها الشركات، بالإضافة إلى المنافسة الشديدة التي تتصدى لها، فضلاً عن الاشتراطات القاسية – التي تفرضها السلطات الصحية – اللازمة للموافقة على أي دواء جديد.
قد تكون الجدوى الاقتصادية جيدة في حالة الأدوية المستعملة لعلاج الأوبئة والالتهابات، وأمراض القلب، وضغط الدم المرتفع. أما بالنسبة للأمراض المحدودة والنادرة والمعروفة باسم الأمراض اليتيمة، فقد لا يكون هناك مبرر اقتصادي كافٍ لإنتاجها؛ لكونها من ضمن الأدوية اليتيمة.
وقد يستغرب القارئ الكريم أن يسمع أنَّ هناك احتمالاً لقيام ثورة دوائية ثانية؛ نتيجة لظهور الهندسة الوراثية، والأدوية الموجهة، الَّتي تتقن إصابة الهدف وغير ذلك من التطورات التقنية المبتكرة. وقد يتمكن الإنسان من الوصول إلى أدوية جديدة تنفع لمكافحة أمراض الفيروسات السرطانية، والأمراض المنيعة للذات (Auto – immune Diseases ).(8/28)
ولهذا السبب ولغيره ينتظر أن يلعب المختصون بالأقربازين، والأقربازين السريري أدوارًا هامة في المستقبل لمواجهة مثل هذه المواقف الجديدة بما لهم من دراية عميقة، ولبراعتهم في استعمال الأجهزة الحديثة التي تعتمد على الكمبيوتر.
وعلى أي حال ينتظر أن تصبح التجارب السريرية التي تجرى على الأدوية الجديدة خلال العقدين القادمين – أي لدى دخول القرن الحادي والعشرين – أكثر كلفة، وأكثر تعقيدًا، ولذلك قد تضطر الشركات الصناعية والجامعات إلى إظهار تعاون أفضل بينها، خصوصًا تلك المعاهد المكرسة للأبحاث، وكل ذلك يوجب وجود طبيب صيدلي متخصص في كل شركة دوائية صناعية ذي كفاءة عالية ودراية؛ من أجل مواكبة التطورات الفنية والتقنية المقبلة. وقد يأتي يوم من الأيام يكون صاحب هذا المنصب، صيدليًّا صناعيًّا متخصصًا ببعض العلوم الطبية والسريرية.
دور الصيدلي السريري في الخدمات الصحية المستقبلية:
لقد أصبحت العناية الصحيَّة في كثير من بلدان العالم أمرًا مكلفًا للغاية، إذ إنها تعتمد على التكنولوجيا المكثفة، واستهلاك المصادر بشكل مريع. وقد يأتي يوم لا تستطيع المستشفيات العناية إلا بالحالات الحادة فقط.
ومن الأرجح أن مستقبل مهنة الصيدلة عام 2000 وما بعده سيرتكز بصفة رئيسة على المرضى الخارجيين في المستشفى. وكذلك المرضى الخارجيّين الذين يتردَّدون على المستوصفات والمراكز الصحية المنتشرة هنا وهناك. وسيكون هُنَاك قوتان أساسيتان تؤثران في هذا المجال؛ الأولى اقتصادية؛ والثانية تعتمد على مدى التطوير المستمر، وابتكار خدمات صيدلية وتكنولوجية فعالة يمكن تطبيقها، والاستفادة منها خارج المستشفى.(8/29)
ويحاول المسؤولون في الولايات المتحدة الأمريكية مثلاً التغلب على هذا الواقع، والقفز من فوقه باستنباط نظام جديد أقل كلفة، خصوصًا بالنسبة للعناية بمرضى المستشفيات، ومن ذلك تطوير البدائل للعناية بالمرضى الداخليين كمطلب عالمي، وليس محصورًا في دولة واحدة أو بضع دول.
فالانفجار السكاني والزيادة السكانية الرهيبة، بالإضافة إلى محدودية المصادر الطبيعية المختلفة جعل 20 % من المرضى – أو أكثر – الذين يراجعون المستشفى هم المرضى الخارجيين، فأعيد تنظيم المستشفيات بحيث تحولت عياداتها الخارجية إلى مراكز موسعة مزودة بكل الإمكانات الطبية الشاملة، فنشأ عن ذلك تجمعات طبية خارجية تابعة للمستشفى، بعد أن أضيف إليها مراكز جراحية خارجية.
ولقد صاحب ذلك تطوير لدور الصيدلي السريري في الطب الخارجي، إذ تمكن المسؤولون من تحقيق خطوات واسعة نحو تطوير ومزاولة الصيدلة السريرية بحمل المسؤولية كاملة لاستعمال الأدوية للمرضى الخارجيين. فقد آن الأوان لأن يصبح الصيادلة مسؤولين عن المعالجة الدوائية لتخفيف العبء عن الأطباء.
وبناء على ذلك فإن على الصيادلة العاملين في المستشفى عام 2000 أن يركزوا اهتمامهم على خدمة المرضى الخارجيين، الذين سيزداد عددهم بتسارع. أما صيادلة المجتمع فعليهم الاهتمام بكل ما عدا ذلك من الخدمات الصيدلية؛ حيث هناك فرص كبيرة مستقبلية لصيادلة المجتمع، وعليهم انتهاز الفرصة، والعمل على الاستفادة من هذه الفرص.
أمَّا من ناحية اهتمام الصيادلة بالعناية بالمرضى وهم في منازلهم، فإن ذلك يتطلب زيارتهم في منازلهم، وإعطاءهم المحاليل الوريدية، والمحاليل الغذائية، والمعالجات، والمضادات الحيوية، وغير ذلك، وهم في أسرتهم بمنازلهم، وبذلك يتم إرشاد النفقات التي قد يتكبدها المريض لو ذهب وأمضى عدة ليالٍ في المستشفى.(8/30)
طبعًا سيتبع ذلك تغييرات أساسية وجوهرية في البرامج الدراسية في كليات الصيدلة؛ بحيث تتلاءم مع الأوضاع الجديدة، ولذلك فإن مواضيع دراسية؛ كالصحة العامة، السلوك الصحي، الطب الوقائي، وغير ذلك عليها أن تضاف إلى البرامج الدراسية. وفي عام 2000 ستصبح مهنة الصيدلة بوضع أفضل بكثير من حيث علاقة الصيدلي بالمريض، ولذا سيلعب الصيدلي دورًا بارزًا في التثقيف الصحي، وفي الوقاية من الأمراض ومنعها.
ولابد أن تشمل مسؤوليات الصيدلي تقديم المشورة لأفراد الجمهور من حيث العناية بالحوامل، والأطفال الرضع، وتغذيتهم، وتحصينهم ضد الأمراض السارية. وكذلك يمكن للصيدلي أن يلعب دورًا رائدًا في اكتشاف مرضى ضغط الدم المرتفع، ومرضى البول السكري حتى لو تطلب الأمر منهم فحص البراز، أو البول، أو الدم الخفي، وغير ذلك.
الصيدلي والمستقبل:
لا بد من أن يكون صيدلي المستقبل فردًا أساسيًّا في المجتمع مسلحًا تسليحًا كاملاً علميًّا وفنيًّا ومهنيًّا؛ بحيث يستطيع القيام بجميع واجباته الملقاة على عاتقه بدقة متناهية، ومهارة فريدة، وذلك أنه ينتمي إلى فئة من المهنيين مزودين بأعلى الشهادات الأكاديمية، والمؤهلات المهنية.
ومع أن المؤهل العلمي للغالبية العظمى من الصيادلة هو شهادات البكالوريوس، إلا أن هناك مؤهلات أعلى قد ظهرت في العقود الأخيرة، وأصبحت تتمتع بأهمية كبرى وهي شهادة "دكتور صيدلي D. Pharm ".
ومن يحمل هذه الشهادة يتمتع بمستوى أعلى ومهارة أكبر، ويعتبر خبيرًا في الدواء ومختصًّا فيه، فهو مختص بالأقربازين الدوائي، والصيدلة السريرية في آن واحد؛ بحيث يعمل كالساعد الأيمن للطبيب الذي قد كثرت أشغاله هو الآخر، وأصبح من الصعب عليه اختيار الدواء المناسب من هذا السيل الجارف من الأدوية الجديدة، وليس أمامه إلا أن يعهد إلى المختص بهذا الأمر، وهو الصيدلي السريري المتبحر في علوم الدواء.(8/31)
والصيدلي الحاصل على شهادة دكتور صيدلي يمكنه أن يقوم بأعمال عديدة مجتمعة ومنفردة وأهمها:
1 – ممارسة صيدلة المستشفيات.
2 – ممارسة الصيدلة السريرية.
3 – التدريس في المعاهد والجامعات.
4 – المشاركة في الأبحاث الدوائية والسريرية.
5 – القيام بالتجارب الدوائية والصناعية.
ونظرًا لما يتحلى به من مؤهلات عليا، ومقدرة علمية؛ فإنه يستطيع أن يقدم للطبيب كل مساعدة ومؤازرة ممكنة فنية كانت أو مهنية، حتى إن مساعدته قد تمتد إلى طبيب الأسنان، والممرضة، وفني المختبر، وبالذات للمرضى أنفسهم. فهو قادر على أن يقوم بـ:
1 – تحضير الأدوية وصرفها، وشرح استعمالها، وتسليمها إلى المريض.
2 – تحضير الأمصال الوريدية والمغذيات.
3 – نصح المريض بكيفية استعمال الدواء بدقة، وكيف يحافظ عليه.
4 – إعداد سجل لتاريخ المريض الدوائي سواء كان مريضًا داخليًّا أو خارجيًّا؛ بحيث يكون مطلعًا على سير مداواته لإعطاء الرأي والمشهورة، والتنبيه إلى مخاطر الأدوية المحتملة وتنافراتها.
5 – وهو مصدر ثقة للمعلومات الدوائية والمشورة.
6 – عليه أن يراجع قائمة الأدوية المخصصة للمريض وتأثيرها عليه، واقتراح البدائل المناسبة إذا لزم الأمر.
7 – المرور على الأجنحة لمتابعة مسار مداواة المريض، والكشف عن الأدوية في الجناح من حيث صلاحيتها، وتاريخ نفاذها، وحسن حفظها، والعناية بها.
8 – تأمين جرعات فردية لبعض الأمراض بناء على معلومات حرائك الدواء، وتوافرها الحيوي وأقربازيناتها.
9 – تنوير الجمهور وتثقيفه وتعليمه وإرشاده عن فوائد الأدوية ومفعولها ومضارها.
10 – السيطرة على عمليات التخزين واستلام الأدوية وصرفها.
أمَّا الصيدلي السريري بالذات فسيصبح مؤهَّلاً للقيام بأعمال مختلفة تتعلق بالدواء وإعداده من أهمها:
1 – ملاحظة ومتابعة الآثار الجانبية والدوائية خصوصًا السيئة منها.(8/32)
2 – تنافر الأدوية مع الأدوية الأخرى ومع الأغذية، ومع المشروبات الكحولية، ومع التبغ، وغير ذلك.
3 – اكتشاف الأخطاء الدوائية في المستشفى.
4 – الاهتمام بأمور استعمال الدواء، وسوء استعماله.
ولا شكَّ في أنَّ الهيئات الطبية سترحب بكل هذه التطورات وتنوعها الهائل وكثرتها، وقد أصبح من المتعذر عليها الإلمام بكل ما يتعلق بها بالدقة اللازمة، مما يجعل لا مفرَّ لها إلا الاعتماد على المتخصص من حيث حصولها على المعلومات الدوائيَّة. والصيدلي هو ذلك الشخص المناسب الملائم لكل ذلك؛ بل هو الخبير الوحيد في الدواء.
المراجع العربية
1 - د. م ويزرول - منبر الصحة العالمي – العقاقير منظمة الصحة العالمية – جنيف (4) -1982.
2 – د. طالب علما – عالم الطب والصيدلة – آزار 1984.
3 – د. حسن خليفة – قاموس خليفة الطبي – النهضة المصرية العامة للكتاب 1977.
4 – نشرة منظمة الصحة العالمية – مارس 1983.
5 – منبر الصحة العالمي – المجلد السادس 1985.
6 – نشرة منظمة الصحة العالمية - أكتوبر 1985.
المراجع الأجنبية:
1 – Shier, T. Pharmacy International. sept. 1981.
2 – Duncan. D. et al – Drugs and the whole Person – John Wiley & Sons. New York. 1984.
3 – Taylor, S . Good General Practice – 1959.
4 – Grainger, H. et al – Drugs: Actions, Uses and Dosage – The Pharmaceutical Press, 1966.
5 – Weaver. L. – Al – Saidaly Journal . December 1984.
6 – Talalay . P . drugs in Our Society . Oxford University Press . 1964.
7- Hillier . K. drugs of the future . 1981.
8 – d . towards Better Safety of Drugs and Pharmaceutical Products . F. I. P – Elsevier , North Holland 1979.
9 – Colder, P – the Life Savers – 1961.
10 – Deno, Rowe and Brodie – The Profession of Pharmacy , 2nd . Ed . Lippincot Co.(8/33)
11 – Stanaszek, W. et al – American Pharmacy No 7 – July 1983.
12 – Layman & Sprowels – Textbook of Pharmaceutical Compounding and Dispensing , 2nd Ed . 1955.
13 – Breimer , D. Roles and Responsibilities of The pharmacist in , Primary Health Care, F. I . P – 24nd International Congress Denmark 1982.
14 – Snell , E. Medical News Tribune , 2 : 8 – 1970
15 – Wells . N . The Pharm. J . May 15th 1985 – London.
16 – Schmeck . H. Dialogue . Jan . 1985 .
17 – Langone . J. Discover . Sept. 1986.
---
[1] ملحوظة: [نشر الكتاب المقتبس منه المقالة سنة 87 19م، ضمن سلسلة عالم المعرفة].(8/34)
العنوان: إبراهيم السَّامَرَّائي.. علاَّمة العربيَّة والباحث الحجَّة
رقم المقالة: 1093
صاحب المقالة: أحمد بن محمود الداهن
-----------------------------------------
لَمَحَاتٌ من حياته
مولده ونشأته وتعلُّمه:
إبراهيم بن أحمد الرَّاشد السَّامرائي.
ولد في مدينة العمارة سنة 1923م، وهي حاضرة من حواضر جنوبي العراق، بين بغداد والبصرة، وكان أهله قد نزحوا من سامَرَّاء التي يُنسب إليها.
تعلَّم في العمارة، ودرَس في دار المعلِّمين الابتدائية في بغداد، وتخرَّج فيها، وحصل شهادته عام 1946م، ثم فاز ببعثة علميَّة إلى جامعة السوربون بباريس سنة 1948م، ونال شهادة الدكتوراه منها عام 1956م، في تخصُّص فقه اللُّغة والنَّحو المقارن.
أعماله:
اشتغل صاحب التَّرجمة بالتَّدريس، وكان ذلك عمله طول حياته، وكانت البداية مع التَّدريس في المدارس الابتدائية ببغداد، ثم التَّدريس في كليَّة الملك فيصل.
وعقب تخرجه في السوربون؛ عمل مدرِّساً في كلية الآداب والعلوم ببغداد، ثم انتُدب للتَّدريس في كلِّية الآداب بتونس، عاد بعدها إلى بغداد، ثم تنقَّل بين بيروت، وعمَّان، وبنغازي، والجزائر، والرَّباط، والكويت، والسُّودان، مدرِّساً في جامعاتها، بين عامي 1965م-1975م.
آبَ بعدها إلى كلِّية آداب جامعة بغداد حتى أُحيل إلى التقاعد سنة1980م، وبعدها عمل مدرِّساً في الجامعة الأردنية 1982- 1987م، فجامعة صنعاء حتى عام 1996م، وألقى عصا التَّرحال في عمَّان.
أساتذته:
تلمذ صاحب التَّرجمة لشيوخ اللُّغة في بلده الأمِّ، العراق، وهم:
- طه الرَّاوي: وهو أكبر مشايخ الأدب واللُّغة والنَّحو في العراق، تُعدُّ مكتبته الخاصَّة من خزائن الكتب الكبيرة المعدودة في بغداد، وله مؤلفات مطبوعة.(9/1)
- مصطفى جواد: عالم كبير في اللُّغة، واسع المعرفة بتاريخ الدَّولة العبَّاسية وما بعدها، شاعر وعضو في المجامع اللُّغوية العلمية ببغداد ودمشق والقاهرة. عُرف عنه الإصلاح اللُّغوي، وله جهود مشهودة في التَّحقيق والتَّأليف.
- عبد العزيز الدُّوري: مؤرِّخ عراقي، حائز على الدُّكتوراه من جامعة لندن، عمل رئيساً لجامعة بغداد، وانتُخب عضواً بمجامع اللُّغة العربية بدمشق والقاهرة وعمَّان، والمجمع العلمي العراقي، والمجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية بعمَّان، وله مؤلفات مطبوعة.
وفي فرنسا؛ تلمذ السَّامرائي لاثنين من المستشرقين، أشرفا على رسائله في السوربون، هما:
- جان كانتينو: مستشرق فرنسي، عُنِي باللَّهَجات العربية، ولا سيما لهجات بادية الشَّام، عُيِّن أستاذاً لفقه اللُّغات العام واللُّغات السَّامية في كلِّية الآداب في الجزائر، ثم مدرِّساً في مدرسة اللُّغات الشَّرقية بباريس، له عدَّة مؤلَّفات بالعربية.
- ريجنس بلاشير: مستشرق فرنسي، ضليع بالعربية، من أعضاء مجمع اللُّغة العربية بدمشق، تخرَّج في كلِّية الآداب بالجزائر، وعُيِّن أستاذاً في معهد الدِّراسات المغربية العليا في الرَّباط، وانتقل إلى باريس محاضراً في السوربون، فمديراً لمدرسة اللُّغات العليا العلمية. أشرف على مجلَّة المعرفة الفرنسية، وألَّف بالفرنسية كتباً كثيرة ترجم بعضها إلى العربية.
تلامذته:
- وليد خالص: أديبٌ وبحَّاثةٌ عراقي، تخرَّج في كلِّية الآداب بجامعة بغداد، ومنها نال شهادة الدكتوراه، عمِل مدرِّساً في عدد من الجامعات العربية، له عدَّة مؤلَّفات وتحقيقات.
- هاشم الطَّعَّان: لغويٌ أديبٌ شاعرٌ، مَوْصِلِّي المولد، درس في بغداد، ونال الدكتوراه في اللُّغة من جامعتها، اشتغل بالتَّدريس، وكان له عنايةٌ باللُّغة وتمكُّنٌ من العربية، له مؤلَّفات في اللُّغة وديوان شعر، كما حقَّق عدداً من الدواوين.(9/2)
- محمد ضاري الحمَّادي: لغويٌ باحثٌ، ولد في بغداد وتعلَّم فيها، وتخرَّج في قسم اللُّغة العربية بكلِّية الآداب في جامعة المستنصرية، وفاز بالدكتوراه من جامعة بغداد، وعمل فيها مدرِّساً، واختير عضواً في مجمع اللُّغة العربية العراقي، وله مؤلَّفات.
- حاتم الضَّامن: محقِّقٌ غزير التَّحقيق، ولد في بغداد وتعلَّم فيها، وتخرَّج في كلِّية آداب جامعتها، واشتغل بالتَّدريس، نال الدكتوراه، وعين مدرِّساً في جامعة بغداد، ثم رئيساً لقسم اللُّغة العربية فيها، ألَّف في اللُّغة، وحقَّق عدداً من الكتب.
- طالب التكريتي: ولد في بغداد، وبها نشأ وتعلَّم، تخرَّج في قسم اللُّغة العربية بكلِّية الآداب في جامعة بغداد، وفاز بالدكتوراه من جامعة سانت أندروز بأسكتلنده، وعمل بالتَّدريس في جامعتي الموصل وصنعاء، له مؤلَّفات.
ومن تلامذته أيضاً عدد غير قليل من طلبة العلم في العراق والأردن.
السَّامرائي لغوياً:
اشتهر السَّامرائي لغوياً ومعجمياً؛ فهو يؤمن بتطور اللُّغة وانتقالها من حالٍ إلى حال، وبأنها مجال درس وبحث، وكانت له وَقَفات طويلة مع المعاجم، فدرس قديمها وتعرَّف حديثها، فكان مدقِّقاً ومصحِّحاً، أضاف وأسهم إسهامات جمَّة في خدمة اللُّغة العربية، وكان له دراسات لغويَّة واسعة، في سَعة اللُّغة، وحيويَّتها، وقدرتها على التَّكيُّف.
ونظريَّته في ذلك: أن مفهوم الفصاحة القديم -الذي قدمته كتبُ اللُّغة والبلاغة- محتاجٌ إلى إعادةِ نظَرٍ، وتقديمِ بديلٍ يكون فصاحةً جديدةً؛ لا تَنسى الأصل من جهة، ولا تبقى حبيسةً بين جدرانه من جهةٍ أخرى، بل تقيم عليه بناءً متماسكاً يفي بأغراض العصر.
كما كان يرى صحَّةَ الاستشهاد بالعصور التي تلت العصر الأموي؛ إذ إن العربية بقيت سليمة في استعمال الشُّعراء والكتَّاب والخطباء، وسائر الفصحاء البلغاء، ومن هذا الباب؛ عمِل على تأليف كتابه (التَّكملة للمعاجم العربية من الألفاظ العباسية).(9/3)
ومن باب عنايته بالمعاجم؛ عَمَد إلى تصنيف معاجمَ فريدةٍ في موضوعاتها، وهي:
- (معجم الفرائد).
- و(الدخيل في الفارسية والعربية والتركية).
- و(المعجم الوجيز في مصطلحات الإعلام).
- و(معجم اللُّغة العربية المعاصرة).
كما عَمَد إلى صنع معاجم لغويَّة لكبار الكتَّاب والخطباء والشُّعراء، كعلي بن أبي طالب، والجاحظ، وابن المقفع، والمتنبي.
ولابدَّ من الإشارة في هذا الباب إلى دراساته المقارِنة للعربية بغيرها من اللُّغات السَّامية، وخصوصاً السريانية والعبرية.
السَّامرائي نحْوياً:
السَّامرائي من كبار نحاة عصره، والنَّحوُ عنده متطورٌ بتطور اللُّغة نفسها، شأنه في ذلك شأن اللُّغة الحيَّة، فلا يعجِز عن مجاراة ما يستجدُّ.
وكان لاتِّساع ثقافة السَّامرَّائي واطِّلاعه الشَّامل المتخصِّص على موادِّ النَّحو العربي -موروثِه ومولَّدِه- أثرٌ في تكوين منهجه في تناول مواد النَّحو وتحليلها. هذا المنهج الذي قام على تمازج منهجين يكمِّل أحدُهما الآخر:
- المنهج الوصفي: الذي يتبعه السامرائي منهجاً رئيساً في التَّحليل اللُّغوي، وهو المنهج الذي يقوم على وصف الظَّاهرة على واقعها، دون اللُّجوء إلى تقدير وتأويل.
- والمنهج التَّطوري التَّاريخي المقارن: الذي يقوم على ربط الظَّاهرة اللُّغوية -آنياً وزمانياً- تبعاً لبيئتها وموطنها، وعلاقة هذه الظَّاهرة بغيرها من الظَّواهر اللُّغوية.
وقد خالف السَّامرائي قولَ جمهرة الدَّارسين في نشأة النَّحو، الذين قالوا: إنَّ النَّحو إنَّما ُوضِع بسبب اللَّحْن، فرأى أنَّ النَّحو نشأ بسببٍ من الدَّرس القرآني، فكما ولَّدت العنايةُ بالقرآن طائفةً من العلوم؛ كذلك جاء النَّحو واحداً من هذه العلوم.
السَّامرائي أديباً وشاعراً:(9/4)
يتمثَّل أدب السَّامرائي في كتاباته كلِّها، حتى في كتاباته العلمية، فأسلوبه وما جادت به قريحته الصَّافية هو أسلوب العلماء المجيدين. أمَّا أدبه الخالص؛ فيتمثَّل في كتبه (في مجلس المتنبي)، و(لفيفٌ وأشتات)، و(من حديث أبي النَّدى).
أما الشِّعر؛ فكان له فيه صولاتٌ وجولاتٌ، وهو في شعره يُوضَع بين كبار شعراء عصره، فهو كما وُصِف: شاعرُ العلماء، وعالِم الشُّعراء!
وشعره كثيرٌ جيد، له موسيقى وعذوبة، وينحو فيه مَنحَى القدماء.
وقد تناول في شعره مواضيع شتى، منها: الشَّكوى من غدر الزَّمان، وهجر الخُلاَّن، وقسوة الغُربة، والتغنِّي بالعربية، والأحداث التي عصفت ببلاد العرب؛ كمحنة العراق، والانتفاضة في فلسطين، ومؤتمر السَّلام، وغيرها.
السَّامرائي ناقداً:
للسَّامرائي عشرات المقالات في نقد الكتب، وبيان عَوار مؤلِّفيها ومحقِّقيها، وهو لم يلجأ فيها إلى التَّلميح والموارَبة، شأن من يأخذ لنفسه الحيطة؛ بل التزم الصَّراحة في إقرار ما يَظنُّ أنه الحقُّ، وقُلْ مثلَ ذلك في المجالس والمحاضرات.
وقد جمع السَّامرائي شيئاً من مقالاته في النَّقد في كتبه: (مع المصادر في اللُّغة والأدب)، و(رحلةٌ في المعجم التَّاريخي)، و(في الصِّناعة المعجمية).
السَّامرائي محقِّقاً:
حققَّ السَّامرائي -منفرداً ومشاركاً- نحوَ ثلاثين كتاباً، منها ما حُقِّق لأول مرَّة، ومنها ما حُقَّق من قبل، وخاصَّة ما طُبع في أوربة قديماً، ورأى أن محقِّقيها لم يبذلوا الجهد في تحقيقها، وقسم ثالثٌ حقَّقه ولكنه لم يُغنِ عن الطَّبعات التي قبله، ورابعٌ حقَّقه دون الرجوع إلى مخطوط، وهو قليلٌ نادر.(9/5)
ومنهجه العامُّ في التَّحقيق: التَّقليل من التَّطويل بالحواشي ما أمكن، وعمله يشمل مقابلة النُّسخ المخطوطة، وإثبات الأصل وإثبات خلافه في حواشي الصفحات، ثمَّ توشية النَّص بالإضافات المفيدة، كضبط الآيات القرآنية بالشَّكل، وتخريج الأحاديث من كتب الصِّحاح، والتَّعريف الموجز بالأعلام الواردة في الكتاب، والإشارة إلى الكتب التي وردت في النص، وتخريج الشواهد الشعرية، وأخيراً صنع فهارس علمية للكتاب.
حبُّه للعلم:
قضى السَّامرَّائي أيَّامه بين الكتب؛ قارئاً، ومؤلِّفاً، ومحقِّقاً، ومدرِّساً، ومترجماً، استغرقه هوى الكتاب! فانصرف إليه بكلِّ همه، واكتفى به عن كلِّ ما يشغل النَّاس من فضول العيش، وجواذب النَّفس، فكان الكتابُ هواه الأول والأخير، واستمر -برغم بلوغه الثَّمانينَ من العمر- يتردَّدُ على خزانة كتب مجمع اللُّغة العربية الأردني، يقرأ ويكتب.
وتقديراً لعلمه وفضله؛ انتُخب عضواً بمجمع اللُّغة العربية بالقاهرة عام 1990م، ومجمع اللُّغة العربية الأردني، ومجمع اللُّغة العربية بدمشق، والمجمع العلمي الهندي، كما اختير ضمن نخبة من العلماء، للإشراف على تحقيق كتاب (تاج العروس)، ومراجعة تحقيقه، الذي اضطلعت وزارة الإعلام الكويتية بنشره في حُلَّة جديدة.
صفاته وأخلاقه:
السَّامرَّائي متوسِّط الطُّول، مائل إلى النَّحافة، وهو رجل دَمِثُ الأخلاق، كريمٌ مضيافٌ، بَرٌّ بإخوانه وأصدقائه، وهو كاظمُ غيظٍ، ورحيبُ صدرٍ، لطيفٌ شفافٌ.. إلا إذا مُسَّت كرامته؛ فهو كالرعد القاصف!
بل يبلغ به المدى أكثر من ذلك؛ فقد حدث أن تقدَّم باستقالته لكلية آداب جامعة بغداد عام 1980م حين شعر أنه قد تحكَّم فيها غيرُ أهل العلم.(9/6)
وحين سمع أن أولي الأمر في الجامعة الأردنية تحدَّثوا في التقشُّف، وأنهم ينظرون -في هذا- إلى التخفف من المسنِّين الوافدين، فما كان منه إلا أن خفف عنهم قبل أن يتخففوا منه!! ومع أنهم أكَّدوا له أنه لم يكن مقصوداً بذلك؛ إلاَّ أنه أمضى استقالته، وقصد صنعاء.
والسَّامرَّائي عفيف النَّفس أبيُّها؛ فحين قال له الدكتور شوقي ضيف مرَّة: "إنه في كلٍّ عامٍ تُفتتح جامعةٌ في الأردن؛ فلماذا لا تتقدَّم إليها بطلب للتَّدريس؟!".
أجابه السَّامرَّائي: "أنا لا أتقدَّم! إن رغبوا؛ فليأتوا إليَّ!!". ولا شكَّ أن هذه صفات العلماء الكرام.
هل أُعطي السامرائي المكانة اللائقة به؟
يأتيك الجواب سريعاً: "لا!!"، فلا بلدُه العراق كرَّمه واحتفى به، وأنزله منزلته؛ بل لم ينتخبه عضواً في المجمع العلمي العراقي، مع أنه عضوٌ في مجامع لغوية عديدة!
أما في الأردن؛ فلم يكن أسعد حالاً؛ فقد عانى ما عاناه في سبيل الحصول على الإقامة في هذا البلد، لَمَّا كان محاضراً في كلِّية الآداب في الجامعة الأردنية، وقد جسَّد ذلك في قصيدة بعنوان (مع التَّصريح بالعمل)، مطلعها:
أتظُّنها إشراقةَ الأمل أن نِلتَ تصريحاً إلى عملِ؟
لقد عاش السَّامرَّائي حياته غير متحيِّزٍ إلى فئةٍ أو منتصرٍ بجماعة، صلباً عنيداً، شديد الإحساس بكرامة العالم، زاهداً في الدُّنيا، وزاهداً في الألقاب والمناصب، صريحاً، ولم يحتمل النَّاسُ صراحتَه، وكان ما كان من إقصائه عن محافل الأدب وبريق الجوائز.
وقد رحل عن هذه الدُّنيا صباح يوم الأربعاء، الخامس والعشرين من الشهر الرابع، لعام ألفين وواحد.
تغمَّده الله -تعالى- بواسع رحمته، وأسكنه فسيح جنَّاته.
تعريف بمؤلَّفاته:
وللمترجَم من المؤلَّفات نحوٌ من خمسين كتاباً، ومن التَّحقيقات ما يربو على العشرين، أهمها:
المؤلَّفات:
1- الأب أنستاس ماريّ الكِرمَلي وآراؤه اللُّغوية.
2- الأعلام العربية.
3- إعلام الوَرَى فيما نُسب إلى سامَرَّا.(9/7)
4- "بناء المقالة"، لابن طاوس.
5- التَّطور اللُّغوي التَّاريخي.
6- التَّكملة للمعاجم العربية من الألفاظ العباسية.
7- التَّوزيع اللُّغوي الجغرافي في العراق.
8- حديث السنين (سيرة ذاتية).
9- حنينٌ إلى الكلم الضَّائع (ديوان شعر).
10- الدَّخيل في الفارسية والعربية والتركية.
11- دراسات في تراث أبي العلاء المعرِّي.
12- دراسات في اللغتين السريانية والعربية.
13- رحلةٌ في المعجم التَّاريخي.
14- رسائل ونصوص في اللغة والأدب والتاريخ.
15- السيد محمود شكري الألوسي وبلوغ الأَرَب.
16- العربية تاريخ وتطور.
17- الفعل.. زمانه وأبنيته.
18- فقه اللُّغة المقارن.
19- في الصِّناعة المعجمية.
20- في اللَّهَجَات العربية القديمة.
21- في مجلس أبي الطيب المتنبي.
22- في المصطلح الإسلامي.
23- لغة الشعر بين جيلين.
24- لفيفٌ وأشتات.
25- المجموع اللَّفيف.
26- المدارس النحوية.
27- مع المصادر في اللغة والأدب.
28- مع المعري اللغوي.
29- مع نهج البلاغة.
30- معجم الفرائد.
31- المعجم الوجيز في مصطلحات الإعلام.
32- معجم ودراسة في العربية المعاصرة.
33- المقترح في المصطلح.
34- من أساليب القرآن.
35- من بديع لغة التنزيل.
36- من سعة العربية.
37- من الضائع من معجم الشعراء.
38- من معجم الجاحظ.
39- من معجم عبد الله بن المقفع.
40- من معجم المتنبي.
41- النحو العربي نقد وبناء.
التَّحقيقات:
1 - "الأمكنة والمياه والجبال"، للزمخشري.
2 - ديوان الجواهري.
3 - ديوان القُطَامي.
4 - رحلة ابن عابد الفاسي.
5 - "الزهرة"، لمحمد بن داود الأصبهاني، بالاشتراك مع الدكتور نوري القيسي.
6- "فلك القاموس"، للكوكباني.
7 - في التَّعريب والمُعرَّب (حاشية ابن بَريّ على كتاب "المعرب"، لابن الجواليقي).
8- "كتاب العين"، المنسوب للخليل بن أحمد الفراهيدي، بالاشتراك مع الدكتور مهدي المخزومي.(9/8)
9 - "كتاب الكتَّاب"، لابن درستويه، بالاشتراك مع الدكتور عبد الحسين الفتلي.
10- "كتاب النخل"، لأبي حاتم السجستاني.
11- "كشف النِّقاب عن الأسماء والألقاب"، لابن الجوزي.
12- "المرصع في الآباء والأمهات والبنين والبنات"، لابن الأثير.
13- "نزهة الألِبَّاء في طبقات الأدباء"، لأبي البركات الأنباري.
14- "نهاية الإيجاز في دراية الإعجاز"، للفخر الرازي، بالاشتراك مع الدكتور محمد بركات أبو علي.
المرجع:
كتاب (إبراهيم السَّامرائي: علاَّمة العربيَّة الكبير والباحث الحجَّة)، تأليف: أحمد العلاونة، وهو الكتاب رقم (46) في سلسلة: (علماء ومفكرون معاصرون- لمحات من حياتهم وتعريف بمؤلفاتهم)، التي تصدرها دارُ القلم بدمشق، الطبعة الأولى، 1422هـ- 2001م.(9/9)
العنوان: ابن الجوزي.. والحنين إلى المشاعر
رقم المقالة: 1845
صاحب المقالة: صهيب بن محمد خير يوسف
-----------------------------------------
.. قبل ما يزيد على عشر سنوات، قرأت بعد أن ودّعتُ مكة، متجهاً إلى المنطقة الوسطى، كتاباً بعنوان (رقائق ونفحات من كتاب المدهش، لعبد الرزاق كوجك)..
وكتاب (المُدهش)، من أهمّ أدبيات الإمام ابن الجوزي.. وهو مزيج بديع، من النادر أن نراه لدى أقرانه من العلماء.
يتألف المدهش من هذه الأبواب:
الأول: في علوم القرآن، ومن نوادره الفصل الذي عقده لما ورد في القرآن من الألفاظ التي تتضمن أكثر من معنى.
الثاني: في اللغة ونوادرها.
الثالث: في الحديث والسيرة، وما يلزم من المعارف للتمييز بين الصحابة.
الرابع: في ذكر عيون التاريخ، ذكر فيه عجائب الاتفاقات والصدف، وضمنه قوائم للطواعين والزلازل، من بدء الإسلام وحتى عصره.
ومؤلفه هو الإمام الحافظ، والفقيه الحنبلي، والواعظ الأديب.. ابنُ الجوزيّ:
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد بن علي القرشي التيمي البكري؛ نسبة إلى أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه..
كان مثالَ المسلم في تنظيم أوقاته تنظيماً دقيقاً، منذ عهد صباه المبكر، لشعوره السليم بقيمة الوقت. وبتوفيق الله، ولهذا التنظيم، تشعّبت تآليف ابن الجوزي في مختلف العلوم، فكتب في التاريخ والتراجم والحديث والتفسير والوعظ وغيرها، وكان من أغزر علماء عصره إنتاجاً.
وتمرّ السنوات..
لتعود بي الذكرى إلى ذلك الكتاب، فأصحَبكم إلى جوّه الخاصّ، وإلى رائعة من روائع أدبيَّات الحج، مزج فيها ابن الجوزي دموع النثر بتباريح الشعر.. في لحظات الوداع والحنين إلى تلكم الديار. وكثيراً ما لم يكن يشير إلى قائلها، وإخال الكثير من أبيات المدهش التي لم يُشر ابن الجوزي إلى كاتبها، إخالها من نظمِه.. يرحمه الله:
لما رأيت مناديْهم ألمّ بنا شدَدْتُ ميزرَ إحراميْ ولبّيتُ(10/1)
وقلتُ للنفسِ جدِّي الآنَ واجتهدي وساعديني، فهذا ما تمنّيتُ
لو جئتُكم زائراً أسعى على بصري لم أقضِ حقاً.. وأي الحقِّ أديتُ
قطع القوم بِيدَ السفر "بشقِّ الأنفس"فوافقهم الركاب "وعلى كُلِّ ضامرٍ...":
دعِ المطايا تنسمُ الجنوبا إنّ لها لنبأً عجيبا
حنينُها وما تشكّتْ لُوبا يشهدُ أنْ قد فارقتْ حبيبا..
وا عجباً من حنين النوق، كأنها قد علمت وجْدَ الركاب، تارة تجد في السير، وتارة تتوقف، وتارة تذل وتطأطئ العناق، وتارة تمرح، كأنها قد استعارت أحوال العارفين:
.. أتُراها علمتْ مَن حملتْ ليتها قد عرفتْ مَن في ذُراها
أنْتَ إن لاحت لك الأعلامُ قف فهِيَ المقصودُ لا شيءَ سِواها
قفْ على الوادي وسَلْ عن كبديْ كبديْ.. واكبديْ! ماذا دهاها؟!
يا رفيقيَّ اهديانيْ دارَهُمْ ودِّعانيْ، ودَعاني وثَراها
أُمر المحرِمون بالتعري؛ ليدخلوا بزيّ الفقراء، فيبين أثر "وما أموالكُم...":
من أعلمَ السائقَ العنيفَ بهم بأنّ روحيْ تُساقُ معْ إبلِهْ
وأنّ دمعيْ يروّي ركائبهمْ لولا دم في انسكابِ مُنهملهْ
تالله لقد جمعوا الخير ليلة جمَع، ونالوا المُنى إذ دخلوا مِنى:
لله درُّ مِنًى وما جمعَتْ وبُكَا الأحبةِ ليلةَ النفْرِ
ثمّ اغتدوا فِرَقاً هنا.. وهُنا يتلاحَظون بأعيُن الذِّكْرِ
ما للمضاجِعِ لا تلائمُني وكأنّ قلبي ليسَ في صدري؟!
حج جعفر الصادق فأراد أن يلبي، فتغير وجهه، فقيل: مالك يا ابن رسول الله؟ فقال: أريد أن ألبي فأخاف أن أسمع غير الجواب.
وقف مطرّف وبكر، فقال مطرف: اللهم لا تردهم من أجلي!
وقال بكر: ما أشرفه مِن مقامٍ لولا أني فيهم!
وقام الفُضَيل بعرفة، فشغله البكاء عن الدعاء، فلما كادت الشمس تغرب، قال: وا سوأتاه منك وإن عفوت.
وقف بعض الخائفين على قدم الإطراق والحياء فقيل له: لم لا تدعو؟ فقال: ثَمّ وَحشة. قيل: فهذا يوم العفو عن الذنوب؟ فبسط يده فوقع ميتاً..:
وانزلِ الواديْ بأيْمَنهِ إنّه بالدمْعِ ملآنُ(10/2)
وارمِ بالطرفِ العقيقَ فليْ ثَمّ أوطارٌ وأوطانُ
وانشُدِ القلبَ المَشُوقَ عسى يرجعُ المفقودَ نُشْدانُ
وابكِ عنّي ما استطعتَ إذا ما بدا للطرف نعمانُ...
حجّ الشبلي.. فلما رأى مكة قال:
أبطحاءَ مكةَ، هذا الذي أراهُ عِياناً، وهذا أنا
ثم غشي عليه، فلما أفاق قال:
هذه دارُهمْ، وأنت مُحبٌّ .. ما بقاءُ الدموعِ في الآماقِ؟!
حج قومٌ من العباد فيهم عابدةٌ، فجعلت تقول: أين بيت ربي؟ أين بيت ربي؟
فيقولون ألا ترينه:
إذا دنَتِ المنازلُ زاد شوقيْ ولا سِيْما إذا دَنَتِ الخِيامُ
فلما لاح البيتُ، قالوا هذا بيتُ ربكِ.
فخرجت تشتدّ وتقول: بيت ربي، بيت ربي. حتى وضعت جبهتها على البيت، فما رُفعتْ إلا ميتة..!
هاتيكَ دارهمُ، وهذا ماؤهمْ فاحبسْ، ورِدْ.. وشرقت إن لمْ تسقِنيْ
.. إخواني، ذِكرُ تلك الأماكن يعمل في القلب قبل السمع، كأنها قد خلقت من طين الطبع..
لِسَلَعِ (سَلْعٍ) لَسْعٌ ليسَ لعسَلِ لعَسٍ!
وا خجلَ المتخلِّف، وا أسفَ المسوِّف. أين حسراتُ البُعد؟ أين لذعاتُ الوجد؟
للخفاجي:
أتظنُّ الوُرْقَ في الأيكِ تُغنِّي؟! إنها تضمِرُ حزناً مثلَ حُزنيْ
لا أراك الله نجداً بعدها أيُّها الحادي بنا؛ إنْ لم تُجِبنيْ
هلْ تُبارينيْ إلى بثِّ الجَوى -فيْ ديارِ الحيِّ- نَشوى ذاتُ غصنِ؟
هَبْ لها السبْقَ.. ولكنْ زادنا أننا نبكيْ عليها وتغنّي!
يا زمان الخيَفِ هل من عودةٍ يسمحُ الدهرُ بها مِن بعدِ ضَنِّ
أرَضِينا بثَنِيّات اللّوى عن زَرُوْدٍ ؟ يا لها صفقة غَبْنِ
سل أراك الجَِزْع: هل مرّتْ بهِ مُزنةٌ روّتْ ثَراهُ غيرَ جفْنيْ؟!
وأحاديثَ الغضا: هل علمَتْ أنها تملكُ قلبي قبلَ أذْنيْ؟
يا عجباً لمن يقطع المفاوزَ ليرى البيت فيشاهد آثار الأنبياء، كيف لا يقطع نفسه عن هواه؟ ليصل إلى قلبه فيرى آثار "ويسعني..".
لمحمد بن أحمد الشيرازي:
.. صفاءُ دمعيْ الصَّفا لي حين أعْبُرهُ وزمزَمي دمعةٌ تجري من البصرِ!(10/3)
عِرفانُكم عرَفاتي إذ منَى مننٌ وموقفيْ وقفةٌ في الخوفِ والحذَرِ
.. زاديْ رجائيْ لكمْ والشوقُ راحلَتي والماءُ مِن عَبَراتي.. والهوى سفري(10/4)
العنوان: (ابن باز) لا يرى جوازَ توليةِ (بناظير بوتو)
رقم المقالة: 1889
صاحب المقالة: د. سعد بن مطر العتيبي
-----------------------------------------
ردًّا على جمال خاشقجي
(ابن باز) لا يرى جوازَ توليةِ (بناظير بوتو) خلافًا لما زعمه بعضُ الكتاب
بسم الله الرحمن الرحيم
اتصل بي ملحقُ (الدين والحياة) يسألُ عن اللغَط الذي حدث عند بعض النّاس بشأن تصريح الكاتب (جمال خاشقجي) لجريدة الحياة عن انتخاب وتولي (بي نظير بوتو) رئاسة باكستان وما نسبه لابن باز -رحمه الله- بشأن صحة ولايتها! وطلبوا مني إجابة عن هذا السؤال:
هل صحيح أنَّ الشيخ ابن باز رحمه الله كان يرى صحة ولاية بناظير بوتو؟
وتريثتُ في الإجابة كي أطالع ما قيل نصًّا، وبالعودة إلى جريدة الحياة والموضوع المنشور فيها في 19/12/1428، العدد رقم (16338)، وجدتُ في أول الخبر في الصفحة الأولى ما نصّه: "لكن مفتي السعودية الراحل الشيخ عبد العزيز بن باز، الذي عُرِف باعتداله ووسطيته، لم يفهم من الحديث النبوي خلعَ (بوتو) عن كرسي الرئاسة..."
ويروي الكاتب السعودي (جمال خاشقجي) لـ"الحياة" أن قصة ابن باز مع بوتو (بدأت في عام 1988م عندما انتُخبت رئيسة وزراء لبلادها...)، وأضاف خاشقجي: "وبحكم أنني كنت في ذلك الوقت من ضمن فريق المتحمسين، اتجهتُ مع مجموعة من العلماء إلى الشيخ ابن باز، وسألتُه عما إذا كانت ولايةُ بوتو شرعية، وأنه يتعين على الباكستانيين خلعها، وحاولت دفعه لإصدار فتوى ضدها، لكنه رفض، وقال: إن الولاية المنهي عنها في الحديث هي الولاية العامة، وولاية بوتو ليست كذلك. وبذلك امتنع عن إصدار فتوى ضد الراحلة)، وعزا خاشقجي امتناع ابن باز عن ذلك إلى (بصيرته بخطورة الفتوى، ورفضه الدائم تسييسها، فالحرامُ عنده حرام مهما تذرع السائلون له بالمبررات)" انتهى.(11/1)
ولا شك أنَّ هذا الخبر الذي حكاه كاتبُ الجريدة (مصطفى الأنصاري) نقلا عن الكاتب المعروف (جمال خاشقجي) ليس دقيقًا، بل إنَّ فيه ما يتعارضُ صراحةً مع رأي الشيخ ابن باز -رحمه الله- في انتخاب المرأة سواء كانت رئيسة دولة أو رئيسة وزراء –حال بناظير بوتو– أو وزيرة؛ مستدلاً –رحمه الله- بالحديث المشار إليه في مقدمة خبر جريدة الحياة الذي أوردتُ نصه أعلاه؛ وقد بيّن الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله- هذا الحكم، جواباً عن سؤال عن ترشيحِ المرأة نفسَها لرئاسة الدولة أو رئاسة الحكومة والوزارة، وذلك في ظروف الانتخابات الباكستانية آنذاك، بعثه إلى سماحته، مديرُ تحرير مجلة المجتمع الكويتية ونشر في عددها (890) بتاريخ 28 ربيع الأول 1409 هـ، ونص السؤال:
"ما موقف الشرع الإسلامي الحنيف من ترشيح المرأة نفسها لرئاسة الدولة، أو رئاسة الحكومة والوزارة؟"
فأجاب رحمه الله:
"تولية المرأة واختيارها للرئاسة العامة للمسلمين لا يجوز، وقد دل الكتابُ والسنةُ والإجماعُ على ذلك، فمن الكتاب قوله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النساء: 34]، والحكم في الآية عام شامل لولاية الرجل وقوامته في أسرته، وكذا في الرئاسة العامة من باب أولى. ويؤكد هذا الحكمَ ورودُ التعليل في الآية وهو أفضلية الرجال على النساء، وهي أفضلية تدخل فيها أفضليةُ العقل والرأي وغيرهما من مؤهلات الحكم والرئاسة.
ومن السنة قوله -صلى الله عليه وسلم- لما ولَّى الفرسُ ابنةَ كسرى: (لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة) رواه البخاري، ولا شك أنَّ هذا الحديث يدل على تحريم تولية المرأة الإمرة العامة، وكذا توليتها إمرة إقليم أو بلد؛ لأن ذلك كله له صفة العموم، وقد نفى الرسول -صلى الله عليه وسلم- الفلاح عمن ولاَّها، والفلاح هو الظفر والفوز بالخير.(11/2)
وقد أجمعت الأمة في عهد الخلفاء الراشدين وأئمة القرون الثلاثة المشهود لها بالخير إجماعاً عملياً على عدم إسناد الإمارة والقضاء إلى امرأة، وقد كان منهن المثقفات في علوم الدين، اللاتي يُرجع إليهن في علوم القرآن والحديث والأحكام، بل لم تتطلع النساء في تلك القرون إلى تولي الإمارة، وما يتصل بها من المناصب، والزعامات العامة.
ثم إن الأحكامَ الشرعيةَ العامة تتعارضُ مع تولية النساء الولاياتِ العامّة؛ فإن الشأن في الإمارة أن يتفقدَ متوليها أحوالَ الرعية، ويتولى شؤونَها العامة اللازمة لإصلاحها؛ فيُضطر إلى الأسفار في الولايات، والاختلاط بأفراد الأمة وجماعاتها، وإلى قيادة الجيش أحياناً في الجهاد، وإلى مواجهة الأعداء في إبرام عقود ومعاهدات، وإلى عقد بيعات مع أفراد الأمة، وجماعاتها، رجالاً ونساءً في السلم والحرب ونحو ذلك، مما لا يتناسب مع أحوال المرأة وما يتعلق بها من أحكام شرعت لحماية عرضها، والحفاظ عليها من التبذل الممقوت".
إلى آخر ما جاء في فتوى سماحته –رحمه الله- من تأكيد عدم جواز تولية المرأة ولاية عامة، وهو الرأي الفقهي المشهور عند علماء المسلمين، ولم يستثن (بناظير) بحكم يتعارض مع الأدلة التي بنى عليها الفتوى؛ بل نصّ على أنَّ رئاسة الوزراء ولاية عامّة، وهو أمر معروف في النظم السياسية والقوانين الدستورية المعاصرة.(11/3)
وبحكم تتلمذي على سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله- في دروسه العلمية المعروفة؛ وبحكم تخصصي في السياسة الشرعية؛ ولعنايتي -مع عدد من المتخصصين- بالتراث السياسي الشرعي لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله!-؛ وبما أنَّ الكاتب المعروف (جمال خاشقجي) قد قال –بحسب ما ورد في الجريدة-: "وبحكم أنني كنت في ذلك الوقت من ضمن فريق المتحمسين، اتجهتُ مع مجموعة من العلماء إلى الشيخ ابن باز، وسألته عما إذا كانت ولاية (بوتو) شرعية..." إلخ.. ؛ ولكي نطمئن إلى دقة ما نسبه الكاتب جمال خاشقجي إلى الشيخ ابن باز -رحمه الله- وصحة فهمه لجوابه.. فإنني أطلب من الكاتب جمال خاشجقي -سلمه الله!- أن يذكر لنا أسماءَ هؤلاء العلماء أو من يتذكره منهم، إن لم يكن مدونًا لديه في مذكراته الخاصة بتلك الحقبة؛ وذلك ليتسنى للباحثين المتخصصين التحقُّقُ من دقة ما نسبه إلى الشيخ ابن باز -رحمه الله- مما هو مخالفٌ لفتواه المشهورة، التي ذكرتُ نصَّها أعلاه، وأثبَتَها عنه مِن قبلُ عددٌ ممن كتبوا في حكم تولية المرأة.
وأمَّا أن الشيخ -رحمه الله- لم يفت بخلع (بناظير بوتو)، فليس هذا لجواز تولية المرأة عنده كما ظن الكاتب، وإنَّما هو بناءً على أصل سياسي شرعي معروف لدى أهل العلم، وهو التفريق بين وجوب تحقق شروط الولاية عند الاختيار والتعيين الذي هو حكم ثابت؛ وبين العمل بمقتضى السياسة الشرعية في مراعاة المصالح والمفاسد، ودفع شرّ الشرين بارتكاب أدناهما في حال وجود حاكم –في واقع الحال- على خلاف الشروط؛ وهي قاعدةٌ معروفة عند طلاب العلم فضلا عن العلماء، وكم سمعتُها من الشيخ –رحمه الله- وقرأتُها له، ومن يقرأ فتاواه ورسائله يعلم أنها من الأصول التي يستندُ إليها الشيخُ كغيره من أهل العلم على مرّ العصور.(11/4)
فالحلال عنده حلال والحرام عنده حرام، وما كان له أن يفتي متعجلا أو متحمسًا إلا بما يدين الله به، والمسألةُ من مسائل السياسة الشرعية، فهي (تسييس!) شرعي؛ وجزء من حقيقة الإسلام، العقيدة والشريعة التي تتفرع عنهما السياسة الشرعية.
وإنَّا لمنتظرون لِما يُثبت صحةَ ما ذكره (جمال خاشقجي)، حتى يصح للباحثين نسبتُه إلى الشيخ باطمئنان، أو يبقى خبراً لا يتفق مع تراث الشيخ السياسي بل يعارضه، ولا يليق بباحثٍ يحترمُ العلمَ وأهلَه أن ينسبه للشيخ بمجرد ذكره في خبرٍ لمتحمِّسٍ -تذكَّرَه بعد حين، وتغيُّرُ الحال له أثرُه في علم الأسانيد والرجال- جاء يبتغي فتوى خَلعٍ لرئيسة وزراء! دون مراعاة لما يترتب على خلعها من مفاسدَ خطيرةٍ، وفسادٍ عريض.
نسأل الله لنا وله التوفيق للوسطية الشرعية.
ولقد بيّن الشيخُ عبد العزيز بن باز -رحمه الله- في غير موضع أن حديث (إلا أن تروا كفرًا بواحًا) على صراحته -وهو أشدّ من شرط الذكورة في الولاية- ليس على إطلاقه، بل هو مقيد بالقواعد الشرعية العامة التي تتطلبُ امتلاكَ قوة وشوكة تُؤمَن معها المفاسدُ والشرورُ التي تحصل بمثل هذه التصرفات.
نسأل الله -عز وجل- أن ييسر لتراث الإمام العلامة ابن باز -رحمه الله- لجنةً قوية تقوم بخدمة ذلك التراث العظيم، كما هو شأن مؤسسة الشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله، التي اعتنت بتراثه وحفظته ونشرته فعم نفعه بحمد الله.(11/5)
العنوان: ابن وحشية كاشف رموز الهيروغليفية
رقم المقالة: 940
صاحب المقالة: د. يحيى مير علم
-----------------------------------------
ابن وحشية النبطي
وريادته في كشف رموز هيروغليفية
في كتابه
(شَوْق المُسْتَهام في معرفة رموز الأقلام)
غايةُ هذا البحث بيانُ ريادة ابن وحشية في كشف بعض رموز اللغة المصرية القديمة الهيروغليفية قبل المستشرق الفرنسي شامبليون بأكثر من ألف عام، وذلك من خلال إيراد ترجمة موثَّقة له، ولشخصيته العلمية، ولآثاره التي خلّفها على كثرتها وتنوّعها وفقدان كثير منها، وكذلك من خلال عقد دراسة موجزة لكتابه (شوق المُسْتَهام في معرفة رموز الأقلام) الذي تضمّن نحواً من تسعين قلماً من أقلام اللغات القديمة وأقلام التعمية التي لغز أو رمز بها الأقدمون بعض علومهم، اشتملت على بيان موضوعه، ونُسَخه، وسبب تأليفه، ومادّته العلمية، ومنهجه في تصنيفه، وقيمته العلمية.
أولاً: شخصيته العلمية
هو أبو بكر أحمد بن علي بن قيس بن المختار[1] المعروف بابن وحشية النبطي[2] والكلداني[3] والكسداني (النبطي)[4]. مجهول المولد والوفاة، وإن كان بعضهم قدّر وفاته أنها بعد سنة 318هـ أو قريباً من سنة 350 هـ، غير أن الراجح بقرائن عدّة أنه عاش في النصف الثاني من القرن الثالث الهجري.
كان عالماً بالفلاحة والكيمياء والسموم والفلك والأقلام القديمة والسحر والحيل وغيرها. ولد في قُسِّين من نواحي الكوفة بالعراق، وقد وصفه ابن النديم بالساحر لعمله الطِّلَّسمات والصنعة، وترجم له في موضعين، أولهما: في تراجم أصحاب السحر والشعبذة والعزائم، وأخبر أنه كان له حظٌّ من ذلك، وثانيهما: في تراجم أهل الصنعة (الكيمياء)، وعدَّ له فيهما ما يزيد على ثلاثين مصنَّفاً[5].(12/1)
إن ما عدّه له ابنُ النديم في الموضعين المشار إليهما على أهميته واستقصائه، إذ كان أكثرَ مصادر ترجمته استيفاءً لآثاره فيما أعلم = لا يدلّ على حقيقة مجموع آثاره، بقدر ما يدلّ على ما انتهى علمُه إلى ابن النديم، فقد بلغت جملةُ آثاره المؤلَّفة والمترجمة الواردة في مجموع المصادر والمراجع، فيما وقفت عليه، اثنين وخمسين كتاباً، على اختلاف أحجامها، وتنوّع موضوعاتها مع تعذّر الفصل في تحديد بعضها، وعلى تعدّد مسميات بعضها، مع اعتماد الأشهر أولاً متبوعاً بغيره، أو الإحالة في غيره عليه.
بيد أن بعض مَنْ ترجم له أو درس بعض كتبه مثل (الفلاحة النبطية) من العرب والمستشرقين شكَّكوا في صحَّة نسبة قدرٍ منها إليه، وعدُّوها مترجمةً أو منقولةً عن البابلية القديمة[6]. لكن هذا لم يفُت على المتقدّمين، فقد نبَّه بعضُ مَنْ ترجم له منهم على قَدْرٍ منها[7]، ولم ينكر ابنُ وحشية نفسه ذلك، إذ نصَّ في بعض كتبه على ترجمته أو نقله لبعض الكتب عن اللغة النبطية التي صنَّفها قبل الإسلام أجدادُه الكلدانيون القدامى وعن غيرها من اللغات[8]، لذلك وجدنا بعض الباحثين[9] ينبِّه على خطأ بعض الدراسات الحديثة في نسبة تصنيف مثل تلك الكتب إلى ابن وحشية، أو إلى تلميذه أحمد بن الحسين بن علي بن أحمد الزيات. وهذا ليس على إطلاقه، لأن بعض المصادر القديمة نسبتها إلى ابن وحشية، وعدّتها من كتبه.
وقد اتهمه بعض الباحثين من مستشرقين وغيرهم بالشعوبية، أو بسوء العقيدة، أو بالتزييف لبعض الأسماء أو الكتب، أو بانتحال بعض الآثار التي نقلها عن غير العربية، مستدلّين على ذلك بكلام له ورد في بعض كتبه[10].
آثاره:(12/2)
مضت الإشارة قريباً إلى تفاوت المصادر والمراجع في مقدار ما أوردته من كتب ابن وحشية المُؤَلَّفة والمنقولة عن النبطية وغيرها من اللغات القديمة التي كان يعرفها، ولمّا كانت مُصَنَّفاتُه كثيرةً، وكان توثيقُ كلٍّ منها بالإحالة على الكتب التي أوردته لا يحتمله البحث، وقد لا ينطوي على كبير فائدة، فضلاً على ما سيكون فيه من تكرار، إذ كان مجموع آثاره لا يخرج عمّا جاء في تلك المصادر والمراجع أو في بعضها، مما ورد في توثيق ترجمته وآثاره في صدر الحواشي = رأيت مفيداً أن أقتصر فيما يأتي من الحواشي على الإشارة إلى ما دعت إليه الضرورة في توثيق بعض المصنّفات.
وهذه آثاره مرتبة على حروف الهجاء[11]:
1 – الأدوار، أو الأدوار الكبير على مذهب النبط: ويتألَّف من تسع مقالات، ترجمه ابن وحشية عن اللغة النبطية[12].
- الأسرار = طرد الشياطين.
2 – أسرار الشمس والقمر، أو التعفين، أو التعفينات: وهو من الكتب التي نقلها ابن وحشية.
3 – أسرار عُطارد: استشهد به أبو مسلمة المجريطي في كتابه (غاية الحكيم) فقد ذكّر ابنُ وحشية في كتابه (أسرار الفلك) تلميذَه ابن الزيات بأنه وعده أن يصنِّف كتاباً في أسرار عُطارد، وأنه بعد فراغه من الترجمة سيفي بوعده، ونبّهه على أهميته، وضرورة الحرص عليه[13].
4 – أسرار الفلك في أحكام النجوم، أو ذواناي: نصّ ابنُ وحشية في مقدمة (الفلاحة النبطية) أنه أول كتاب ترجمه من اللغة النبطية، وأنه كتاب ضخم في نحو ألفي ورقة أو ألف وخمس
مئة ورقة، مما اضطره إلى الاقتصار على ترجمة صَدْرٍ منه مع كتب أخرى[14]، ويستفاد مما أورده ثمَّة أن (ذواناي) هو الاسم الحقيقي لهرمس الثاني، ويعني منقذ الإنسانية، وهو ما يطلق عليه المصريون وأهل الشام هرمس البابلي.
5 – أسرار الكواكب.
6 – الأسماء.
7 – الإشارة: في السحر.
8 – الأصول الصغير: في الصنعة الشريفة (الكيمياء).(12/3)
9 – الأصول الكبير، أو أصول الحكمة: في الصنعة أيضاً، عن حجر الحكماء. ومنه نسخة محفوظة في دار الكتب الظاهرية ضمن مجموع رقمه (9769)[15].
10 – الأصنام.
11 - أفلاح الكرم والنخل: ذكره ابن وحشية في نهاية كتابه (شوق المستهام) ونصّ على أنه كان عنده بالشام مع كتاب (علل المياه) وأنه ترجمه من لسان الأكراد، من أصل ثلاثين كتاباً رآها في بغداد في ناووس، وذلك في تعقيبه على قلم قديم عجيب، فيه حروف زائدة عن القواعد الحرفية، نسب إلى الأكراد أنهم ادّعوا أن بينوشاد وماسي السوراتي كتبا فيه جميع علومهما وفنونهما[16].
12 – الأقلام التي يكتب بها كتب الصنعة والسحر: ذكره ابن النديم بعد الكتاب الذي يحتوي على عشرين كتاباً مصدَّراً بقوله: ((وعلى الولاء نسخة الأقلام التي يكتب بها كتب الصنعة والسحر)) ونصَّ على أن ابن وحشية ذكرها، وأنه قرأها بخطه، وأنه قرأ نسخة هذه الأقلام بعينها في جملة أجزاء بخطّ أبي الحسن بن الكوفي، فيها تعليقات مختلفة وقعت لأبي الحسن بن التنح من كتب بني الفرات، وأن هذا من أظرف ما رآه بخطّ ابن الكوفي بعد كتاب (مساوئ العوام) لأبي العنبس الصيمري، ثم يعدد بعض حروف الأقلام التي تُصاب بها العلوم القديمة في البرابي مثل حروف العنبث، وحروف المسند، وحروف الفاقيطوس. ونصّ على أن هذه الخطوط ربما وقعت في كتب العلوم التي ذكرها في الصنعة والسحر والعزائم باللغة التي يحدثها أهل العلم فلا تُفهم[17].
13 – بالينوس الحكيم:
- التعفين = أسرار الشمس والقمر.
14 – حنا طوثي أماعي الكسداني: اختلفت المراجع في كتابة اسم هذا الكتاب لعُجمته، وقد نقله ابن وحشية، وهو في النوع الثاني من الطِّلَّسمات، وسترد قريباً كتبٌ أخرى له في هذا العلم. والطِّلَّسمات نوع من السحر، يبحث عن كيفية تركيب القوى السماوية الفعالة مع القوى الأرضية المنفعلة في الأزمنة المناسبة للفعل والتأثير المقصود، والطِّلَّسم في الأصل: العقد الذي لا ينحلّ.(12/4)
- الحكمة في الكيمياء = كنز الأسرار، أو كنز الحكمة.
15 – الحياة والموت في علاج الأمراض: وهو مترجم عن كتاب لراهطا بن سموطان الكسداني.
16 – خواصّ النبات والأحجار المعدنية: كتاب لدوشام الكاهن ذكره ابن وحشية في كتابه (شوق المستهام) في صور الأشكال المعدنية التي اصطلح عليها الهرامسة الإشراقية والمشائية، ونصّ على أن دوشام الكاهن ذكرها في كتابه الذي وضعه في خواصّ النبات والأحجار المعدنية، وأنه جعله خاصّاً مكتوباً بهذا القلم، وحضّ على معرفته وكتمه، لأنه من الأسرار المخزونة في صور الأشكال المعدنية[18]. وعلى الرغم من أن ابن وحشية لم يصرّح بنقله للكتاب، فإنّ حديثه الدقيق عنه، وحضّه على معرفته وكتمه، ونقله عنه صور الأشكال المعدنية = يجعل ذلك وغيرُه من الممكن أن يكون الكتاب ممّا ترجمه ونسي الإشارة إليه، أو أشار إليه في كتاب لم يصلنا، إذ لم يصرّح بجميع الكتب التي نقلها من اللغات الأخرى، وكذلك لم يَسْتَوْفِ أيٌّ من المصادر إيرادَ جميع آثاره.
- ذواناي = أسرار الفلك في أحكام النجوم.
17 – رسالة في الصناعة أو الصباغة الكيمياوية.
18 – الرُّقى والتعاويذ.
19 – الرِّياسة في علم الفراسة.
20 – السحر الصغير.
21 – السحر الكبير.
22 – سِدْرة المُنْتَهى: عدّه المستشرق جوزيف همّر في مقدّمة تحقيقه لـ (شوق المستهام) مترجماً عن النبطية، ووصفه بروكلمان بأنه حديث مع المغربي القمري عن مسائل تتعلّق بالدين وفلسفة الطبيعة[19]، ونصَّ إسماعيل باشا على أنه في الكيمياء[20].
23 – سحر النبط.
24 – السموم، أو السموم والترياقات: ترجمه إلى الإنكليزية م. ليفي M.levey بعنوان (علم السموم عند العرب في القرون الوسطى) ونشرته الجمعية الفلسفية الأمريكية[21].
25 – شمس الشموس وقمر الأقمار في كشف رموز الهرامسة وما لهم من الخفايا والأسرار: نصّ ابن وحشية على ترجمته من لسان قومه، وأحال عليه للاطلاع على أسرار الهرامسة[22].(12/5)
26 – الشواهد في معرفة الحجر الواحد: لم ترد في تسميته عند بروكلمان كلمة (معرفة) وأحال على نسخة أخرى باسم (كتاب الهياكل والتماثيل)[23] مع أن غيره أورد الكتابين معاً.
27 – شوق المُسْتَهام في معرفة رموز الأقلام: وهو موضوع البحث وبيت القصيد، سيرد الحديث عنه مفصَّلاً.
28 – الطبيعة.
29 – طبقانا، أو طابْقانا: وهو في الطِّلَّسمات، ترجمه ابن وحشية بعنوان (كتاب طبقاني) وأصل الكلمة غير معروف، بيد أنه يُستفاد من حاشية لأبي مسلمة المجريطي الذي انتفع من الكتاب في مُصَنَّفه (غاية الحكيم) أنها تعني بالضرورة فعل صور الكواكب على الكون والفساد الأرضيين[24].
30 – طرد الشياطين، أو الأسرار.
31 – الطِّلَّسمات.
32 – علل المياه وكيفية استخراجها واستنباطها من الأراضي المجهولة الأصل: مضت الإشارة إلى أن ابن وحشية ذكره مع كتاب (أفلاح الكرم والنخل) وأنهما كانا عنده في الشام، وأنه ترجمهما من لسان الأكراد، وهما من أصل ثلاثين كتاباً رآها في ناووس في بغداد[25].
33 – غاية الأمل في التصريف والمعاناة.
34 – الفلاحة.
- الفلاحة الصغير: ذكره بعضهم[26]، ولعله كتاب الفلاحة المتقدّم.
- الفلاحة الكبير: ذكره بعضهم[27]، ولعله كتاب (الفلاحة النبطية) الآتي.(12/6)
35 – الفلاحة النبطية: وهو كتاب مشهور، ذاع صيتُه، وضخم حجمُه، وتعدّدت نسخُه، وكثُر اختلافُهم في تحديد مُؤَلِّف الأصل، وفي زمنه. له طبعة مشهورة حقّقها الدكتور توفيق فهد، صدرت عن المعهد الفرنسي للدراسات العربية بدمشق 1988م. ويتضمّن شرحاً لأساليب ونظريات الزراعة عند البابليين والآشوريين والمسلمين. أمّا مؤلّف الأصل فقد أرجعه أرنست رينان إلى توتامي الكوكاني خلال القرن الميلادي الأول، وأرجعه شورلستون في دراسته للكتاب سنة 1859م إلى القرن الثاني قبل الميلاد. وقد نصَّ ابن وحشية على أنه نقله من لسان الكسدانيين، وهي اللغة السريانية القديمة (الآرامية) إلى العربية سنة 291هـ، أي زمن الخليفة المكتفي العباسي (ت 295هـ)[28]، وأنه أملاه على تلميذه أبي طالب علي بن محمد الزيات عام 318هـ / 930م، وأنه وصّاه ألاَّ يمنعه أحداً يلتمسه، مع وصيَّته له بكتمان أشياء أُخَر غيره، وأنه وجد الأصل منسوباً إلى ثلاثة من الحكماء الكسدانيين، فقد ابتدأه ضغريث، ثم أضاف إليه بينوشار، ثم تمّمه قوثامي، وأن بين هؤلاء الثلاثة آماداً متطاولة، تبلغ آلاف السنين. وثمَّة رواية أخرى ذهب إليها نولدكه[29]، تشير إلى أن الكتاب لتلميذه السابق الزيات نقله إلى العربية في السنة المذكورة آنفاً. وقد سلف قريباً بيانُ غرضه من ترجمة هذا الكتاب وغيره من علوم أسلافه الأنباط. هذا واهتمَّ المتقدّمون بالكتاب لشهرته وكبير أهميته في بابه، فاختصره بعضهم، ووضع عليه آخرون تقييدات[30].
36 – الفوائد العشرون: وهو في الكيمياء.(12/7)
37 – في صور درج الفلك وما تدلُّ عليه من أحوال المولودين: وأصله لتنكلوشا البابلي القوقاني، وثمّة شكٌّ في صحّة نسبة الكتاب إلى مؤلّف الأصل، وفي الاسم المنسوب إليه، فقد ذكر بروكلمان أن هذا الكتاب من تزييف تلميذ ابن وحشية أحمد بن الحسين الزيات[31]، وانتهى إلى مثل ذلك الإيطالي كارلو نلِّينو في محاضراته التي ألقاها في الجامعة المصرية عن تاريخ علم الفلك عند العرب، وذلك بعد أن حكى اختلافَ علماء المشرقيات في (تنكلوش / تنكلوشا). فقد صدّق خولسن ما ذكره ابن وحشية من أن تنكلوشا أحد حكماء البابليين الأوائل، وأنكره كتشمند (جتشمند) متهماً ابنَ وحشية بوفرة الكذب، وجاء بعده ستينشنيدر فزعم أن تنكلوشا اسم اخترعه ابنُ وحشية، وأن كتاب توكرس الحقيقي نقل من اليونانية[32].
38 – في معرفة الأحجار أو الحجر.
39 – القرابين.
40 – كشف الرموز وإشارات الحكماء إلى الحجر الأعظم: وهو في الصنعة.
41 – كنز الأسرار، أو الحكمة في الكيمياء، أو كنز الحكمة: سمّاه بروكلمان (كنز الحكمة) أو (نواميس الحكيم) وأورد (كنز الأسرار) مسبوقاً بعلامتي = ؟ مما يشعر بأنه شكّك في كونهما كتابين أو كتاباً واحداً[33].
- كنز الحكمة = كنز الأسرار.
42 – ما يتصرَّف من علوم الرياضيات.
43 – المدرجة في الكيمياء.
44 – مذاهب الكلدانيين في الأصنام.
45 – المذاكرات في الصنعة.
46 – مطالع الأنوار في الحكمة: ذكر بروكلمان أن الإسماعيلية استعملوا هذا الكتاب كثيراً، وأن حسين بن نوح أفاد منه في كتاب (الأزهار)[34].
47 – مفاوضات، أو مفاوضة ابن وحشية مع أبي جعفر الأموي وسلامة بن سليمان الإخميمي في الصنعة والسحر.
48 – مفتاح الراحة لأهل الفلاحة: ذكره أحد الباحثين في مقال له[35]، ولم أجد غيرَه ذكره فيما رجعت إليه من المصادر والمراجع.
49 – مناظرات ابن وحشية مع عثمان بن سويد الإخميمي في الصنعة: مترجم إلى العربية.
50 – نزهة الأحداق في ترتيب الأوفاق.(12/8)
- نواميس الحكيم = كنز الأسرار.
51 – الهياكل والتماثيل: تقدّمت الإشارة إلى إيراد بروكلمان له في (الشواهد في معرفة الحجر الواحد) وإلى أن غيره أثبت الكتابين منفصلين معاً، وهو ما سوَّغ إفراده هنا.
52 – الواضح في ترتيب العمل الواضح.
ما سبق هو مجموع ما أوردته المصادر والمراجع من كتب منسوبة لابن وحشية تأليفاً أو ترجمةً، بغضّ النظر عن تشكيك بعضهم في تأليفه أو ترجمته لها عن اللغات القديمة، أو صحّة نسبتها إلى المؤلِّف الأصلي إن كانت مترجمة. على أنني لم أجد أحداً من الأقدمين أو المُحْدَثين من أوردها جميعاً أو استوفاها، وقد مضت الإشارة إلى أن ابن النديم زاد ما أورده منها على ثلاثين كتاباً، ومع ذلك لا يبعد أن تكون له كتبٌ أخرى، لم تسعفنا المصادرُ المتاحة بمعرفتها، قد تكشف عنها قادماتُ الأيام وجهودُ الباحثين.
ثانياً: كتابه (شوق المُسْتَهام في معرفة رموز الأقلام)[36]
1 – موضوعه:
يُعَدُّ كتابُ ابن وحشية (شوق المستهام) أشهرَ ما انتهى إلينا من كتب الأقلام وأقدمها. ولا يخفى ما لدراسة الأقلام من أهمية بالغة في مجالات عِدّة مثل: الكشف عن اللغات البائدة، ودراسة تاريخ اللغات، والآثار، والترجمة، والتاريخ، وغيرها. ومن المعلوم أن هذه الأقلام إمّا أن تكون أقلاماً للغات طبيعية، وهي رموز تصور اللغةَ المحكية مكتوبةً، كرموز الفينيقية والعربية والسريانية والعبرية والفهلوية والهيروغليفية وغيرها، وإمّا أن تكون أقلاماً للتعمية، كأقلام الحكماء والفلاسفة وذوي الصنعة (الكيمياء) والعلوم الخفية، وغيرهم من العلماء الذين رمزوا بها علومهم أو بعضها لدواعٍ عديدة معروفة.(12/9)
بدت الحاجة واضحة لقيام الدواوين بغيةَ الكتابة والتراسل فيما بين أطراف الدولة منذ قيام الخلافة الإسلامية، ثم بدأت الترجمة إلى العربية من اللغات السائدة والبائدة في دار الخلافة آنذاك مثل اليونانية والسريانية في بلاد الشام، والفهلوية الفارسية في العراق وإيران، واللغات الهندية المختلفة في الهند، والقبطية في مصر، والبربرية في شمال أفريقيا وغيرها. وكان بعض ما كتب في هذه اللغات مكتوباً بحروف معمّاة أو برموز بدل حروف اللغة، مما يعرفه الخاصة، وهذا ما سمي بالأقلام.
وتجدر الإشارة إلى أن العلماء العرب المسلمين قاموا بدراسات مهمّة للغات السائدة في عصرهم، وللغات القديمة التي اطلعوا عليها، فتحدّثوا عن مختلف نظم الكتابة اليونانية والسريانية والمصرية القديمة (الهيروغليفية) والهندية والفارسية وغيرها.
وكان مما دعا إلى نشأة علوم الكتابة ودراسة الأقلام لديهم: تعريب الدواوين، وازدهارحركة تعريب العلوم، وانتشار الكتابة والقراءة بسبب حضّ الإسلام عليهما، وتشجيع الخلفاء وغيرهم من أولي الأمر والأعيان للعلماء والمتعلّمين والمؤلّفين. كما درس العلماء العرب أقلام التعمية، ووضعوا مصنّفات فيها، وكان مما ساعد في ذلك:
أ - وجودُ نصوص معمّاة في الكتب المنقولة من اللغات الأخرى إبان حركة الترجمة إلى العربية، وعلى نحو خاصّ كتب الحكمة والصنعة والفلك والروحانيات وغيرها، مما اقتضى حلّ رموز تلك الأقلام.
ب - الحاجةُ إلى فهم المكتوب على المواقع الأثرية كالبرابي والأهرامات والنواويس والكنوز والخفايا والدفائن غيرها، ومعلوم أن بعضها كان مكتوباً بقلم معمّى.
2 - نُسَخُه:
تحتفظ عِدَّةُ مكتبات تتوزعها بعضُ الدول بنسخ مخطوطة من كتاب (شوق المستهام) منها: - نسخة المكتبة الوطنية في باريس برقم (6805/131).
- نسخة المكتبة الوطنية في النمسا برقم (68).(12/10)
- نسخة مكتبة عالي سبسهالار في إيران، نشرها مصوّرة عن الأصل الأستاذ إياد الطباع ملحقةً بكتابه (منهج تحقيق المخطوطات) وأثبت تحت عنوانه (ومعه كتاب شوق المستهام في معرفة رموز الأقلام)[37]، ولم يذكر رقمها فيها، وقد صدّرها بفهرسٍ للفصول والأبواب في ست صفحات (119- 124) شابَ آخره بعض الاضطراب والخطأ (ص 124) وأتبعه بمقدمة للمعتني بالكتاب في ست صفحات، تحدث فيها باختصار عن الكتاب والنسخة المصوّرة التي شغلت من صفحات الكتاب ما بين (ص 131 - 205).
- طبعة المستشرق النمساوي جوزيف همّر التي صدرت في لندن 1806م، وهي تعدّ أقدم طبعة للكتاب، تضمنت النصَّ العربي لمخطوط (شوق المستهام) في (ص136)، وترجمته إلى الإنكليزية في (54 ص) وقدّم لها بدراسة لابن وحشية ومصنفاته وكتابه (شوق المستهام) وقيمته العلمية والأدبية، وأثره فيمن بعده، والأبجديات القديمة والأقلام البائدة، جاءت في (ص20). وقد نص المستشرق همّر في مقدمته للطبعة على أنه وجد نسخة الأصل المعتمدة في القاهرة، وأنها سَلِمت من أيدي الفرنسيين الذين اشتهروا بجمع الكتب الشرقية والمخطوطات القيمة، وذلك خلال حملتهم المشهورة على مصر، وتحتفظ بأصل هذه النسخة مكتبةُ المتحف البريطاني تحت رقم 440.H.173[38]. ولا يخفى أن هذه الطبعة عزيزة نادرة الوجود لقدمها وأهميتها، إذ لا تكاد تقع على نسخة مطبوعة منها إلا في قليل من المكتبات العريقة، منها نسخة في مكتبة المتحف الوطني بدمشق (دار الآثار العربية).
- ثَمّة نُسَخٌ أخرى في مكتبات عامّة أو خاصّة، منها واحدة لدى خبير المخطوطات الأستاذ عدنان جوهرجي بدمشق.
وتجدر الإشارة إلى أن جميع النُّسَخ المتقدّمة تُعَدُّ متأخّرة، فقد نقلت عن نسخة كتبت سنة 1166هـ أو 1165هـ، وهي منقولة عن نسخة كتبت سنة 413هـ، وهذه منقولة عن نسخة أصل ابن وحشية المكتوبة سنة 241هـ.
3 - سبب تأليفه:(12/11)
قدّم ابنُ وحشية لكتابه (شوق المستهام) بمقدّمة موجزة نصّ فيها على السبب الذي دعاه لتأليف هذا الكتاب، وعلى الغاية التي رمى إليها من وضعه، وعلى منهجه الذي سلكه في إعداده، فقد ألفه نزولاً عند رغبة مَنْ لا تُرَدّ دعوته، وتغيّا منه انتفاع الطالبين والراغبين بالعلوم الحكمية والأسرار الربانية، والتزم إثبات كلّ قلم بقديم رسمه، ومشهور اسمه، وذكر تحته ما يقابله بالعربية بالحمرة، تمييزاً له من غيره، ورتّبه على أبواب، وختم مقدّمته بالنصّ على تسميته الكتاب. ولفظه في جميع ما سبق: ((... وبعد، فإنه لمّا سألني مَنْ لا تُرَدّ دعوته أن أجمع له أصول الأقلام التي تداولتها الأمم الماضية من الفضلاء والحكماء السالفين والفلاسفة العارفين، فيما رمزوا بها كتبهم وعلومهم، لينتفع بها الطالبون والراغبون للعلوم الحكمية والأسرار الربانية ذاكراً القلم برسمه القديم واسمه المشهور، وشرح حروفه، وسمّيته شوق المستهام في معرفة رموز الأقلام))[39].
4 - مادته العلمية:
مضت الإشارة إلى أن كتاب ابن وحشية (شوق المستهام) تضمّن نحواً من (90) قلماً، وهي في إحصائي (89) قلماً برسومها وصورها وما يقابلها في اللسان العربي إن كان، وجميعها من الأقلام القديمة التي استعملتها الأمم الماضية، أو ممّن غبر من الحكماء والفلاسفة والملوك وغيرهم، جُلُّها من الأقلام التي لغزوا أو رمزوا بها كثيراً من علومهم وفنونهم في الحكمة والعقائد والطب والفلك والكيمياء والعلوم الخفيّة مثل: السحر والطّلّسمات والحيل والأوفاق والسيمياء والنيرنجات والقلفطريات وغيرها، وما وضعوه أو صنعوه من كنوز وبرابٍ ونواويس ودفائن وتراكيب وأخلاط وترياقات وغيرها.
وقد جاء الكتابُ في مقدمة موجزة وثمانية أبواب، اشتمل كلٌّ منها على فصول تقلّ وتكثر وفق موضوع الباب الذي ينتظمها:(12/12)
فقد حوى البابُ الأول ثلاثةَ فصول جاءت موزّعةً على ثلاثة أقلام، هي: الكوفي السوري، والمغربي الأندلسي، والهندي بأنواعه الثلاثة.
وتضمن البابُ الثاني سبعةَ فصول، انفرد كلّ منها بأحد الأقلام السبعة المشهورة: السرياني، والنبطي القديم، والعبراني، والبرباوي، والقمّي، والمسند، وقلم الحكماء.
وأما البابُ الثالث فقد جعله لأقلام الحكماء السبعة المشهورين، فجاء في سبعة فصول، استقلّ كلّ منها بقلم حكيم منهم، وهم: هرمس، وأقليمون، وأفلاطون، وفيثاغورث، وأسقليبوس، وسقراط، وأرسطوس.
وأفرد الباب الرابع لأقلام الحكماء التي ظهرت بعد السبعة المتقدمة، مقرونةً بأسماء واضعيها من الحكماء المتقدمين المشهورين بالمعارف والعلوم، وقد جاء هذا الباب كبيراً في (24) فصلاً، توزّعت على أربعة وعشرين قلماً، هي أقلام: بليناس، والبرباوي، وفرنجيوش، والمعلّق، والمربوط، والجرجاني، والنبطي القديم، والأحمر، والطّلّسمي، والرمزي، وقسطوجيس، وهرمس أبوطاط، وسوريانيوس، وفيلاوس، والمشجر، والداودي، وديمقراطيس، وقفطريم، والفراقاني، وزوسيم العبري، ومارشول، وأفلاطون.
وأما البابُ الخامس فوقفه ابنُ وحشية على أقلام الكواكب السبعة: زحل، والمشتري، والمريخ، والشمس، والزهرة، وعطارد، والقمر.
وجعل البابَ السادس لأقلام البروج الاثني عشر بأصولها كما في كتبهم وذخائرهم: الحمل، والثور، والأسد، والسنبلة، وعطارد، والميزان، والعقرب، والقوس، والجدي، وزحل، والدلو، والحوت.
وعقد البابَ السابع لأقلام ملوك السريان والهرامسة والفراعنة والكنعانيين والكلدانيين والنبط والأكراد والكسدانيين والفرس والقبط، وهي أقلام: بروديس، ورسيوت، وكيماس الهرمسي، ومهراريش، وطبرينوسن، وريوس موسن المصري، وبرهيموس، وصاآا، وبلبيس، وقفطريم.(12/13)
وأما البابُ الثامن الأخير فجعله للمشهور من أقلام الهرامسة، وقد جاء هذا الباب في فصول، ومراتب ثلاث، وخاتمة، جعل أولها لقلم الحكيم هرمس الأكبر، ونبّه على أنه مرتب على رموز وإشارات لا تُعَدّ ولا تُحصى، وأن له قاعدة يُستدل بها على المطلوب، شرحها في ثلاث مراتب، بدأها بصور أشكال المراتب العلوية الهرمسية، وقد اشتملت المرتبة الأولى على الأسماء الحيوانية وأشكالها، والثانية على الأشكال النباتية، والثالثة على الأشكال المعدنية، وختم كتابه بمجموعة أقلام قديمة استعملت قبل الطوفان، وأخرى للكلدانيين وغيرهم.
5 - منهجه:
يرى القارئ لكتاب (شوق المستهام) أن مؤلِّفَه ابنَ وحشية كان بصيراً بمادته العلمية التي جمعها، دقيقاً في منهجه الذي التزمه، موضوعياً إلى حدٍ كبير فيما عرضه وناقشه وعالجه، ويمكن تلخيص أهمّ معالم منهجه في الملاحظات التالية:
أ - توزيعه لمادة الكتاب العلمية على الأبواب والفصول كان موفقاً ودقيقاً ومستوعباً، فقد وزع المادة – كما تقدّم - على ثمانية أبواب وخاتمة، ينتظم كلٌّ منها عدداً من الأقلام، أفرد كلاً منها بفصل، مراعياً في جمعها وتنظيمها التسلسلَ التاريخي، وما يجمع بينها من خصائص وروابط، حيث عقد الباب الأول لثلاثة أقلام، والثاني للأقلام السبعة المشهورة، والثالث لأقلام الحكماء السبعة المشهورين، والرابع للأقلام التي تلت السبعة المتقدمة، والخامس لأقلام الكواكب السبعة، والسادس لأقلام البروج الاثني عشر، والسابع لأقلام الملوك المتقدمين، والثامن لصور الآثار العلوية، تلتها ثلاث مراتب: للأسماء الحيوانية وأشكالها، ثم الأشكال النباتية، ثم الأشكال المعدنية، ثم الخاتمة التي ضمّت مجموعة أقلام قديمة.
ولا ريب أن مثل هذا التوزيع لمادة الكتاب يدلّ على منهج محكم، وعقل راجح، وخبرة مديدة بالأقلام بنوعيها: أقلام الأبجديات، وأقلام التعمية التي رمزوا أو لغزوا بها كثيراً من آثارهم.(12/14)
ب - وضعه عناوين للأبواب تدلّ على ما حوته، فقد اشتملت عناوين بعض الأبواب على أسماء الأقلام أو أصحابها مجموعةً، ثم جاءت مفصلةً موزعةً على الفصول، كما في الأبواب: الأول والثالث والخامس والسادس، وأما باقي الأبواب فقد اقتصرت على عناوين تشير بالإجمال إلى ما فيها من الأقلام، مثل الأبواب: الثاني والرابع والسابع والثامن.
ج - دقّته في التزامه منهجاً محدداً في توزيع المادة، وإيرادها مفصلةً أو مشروحةً أو مجملةً، والتعليق عليها تصحيحاً أو تضعيفاً أو تنبيهاً على قيمتها العلمية، أو توثيقاً وتفصيلاً بالإحالة على مصادر مهمّة مقرونة بأسماء مؤلّفيها، وكان إلى ذلك يذكّر القارئ بمنهجه في مواضيع من الكتاب، كما في فاتحة الباب الرابع.
د - استقصاؤه في الحديث عن أصحاب الأقلام من حكماء وفلاسفة وملوك وغيرهم، وذلك بإيراد أهم صفاتهم، وما اصطلحوا عليه في كتبهم من الأقلام، وما لغزوا بها من كتب الحكمة أو العقائد أو العلوم المختلفة كالكيمياء والسيمياء والطب والفلك وأسرار النجوم والكواكب والطّلّسمات والسحر والرَّصْد والشعبذة والدّكّ والقلفطريات وغيرها، وما صنعوه أو وضعوه بها من: الكنوز، والبرابي، والنواويس الكاهنية، والدفائن والمطالب والخبايا، والدخنات العجيبة، والتراكيب الغريبة، والنيرنجات، وخواتيم الكواكب وتسخير روحانيتها وجلبها ودعواتها، والترياقات الملوكية، والأدوية العجيبة، والأخلاط، وغيرها.(12/15)
هـ - حرصه على الاستيفاء في حديثه عن الأقلام، وذلك بعزوها إلى أصحابها أو مصادرها، وتحديد العلوم التي كُتبت أو رُمزت بها، وبيان خواصّها وشهرتها، وتداولها بين الحكماء والفلاسفة والأجناس والأمم والبلاد، وجُملة ما كُتب بها من العلوم، وما كُتب بها عليه من برابٍ وهرمات [جمع استعمله ابن وحشية في كتابه] ونواويس وأحجار وهياكل قديمة، ومنهج ترتيبها على الحروف أو على غيرها من رموز وإشارات قليلة أو كثيرة، والقاعدة في ذلك، وما كان منها مستعملاً قبل الطوفان، أو مهملاً أو منسيّاً. وكان إلى ذلك ينصّ على ما في الأقلام من آراء للمتقدمين، وكيفيةِ قراءتها، وقواعدِهم في ذلك، وعددِ حروفها، وما ليس في العربي منها، وترتيبها، معلّقاً عليها ببيان رأيه فيها وتصحيح ما شابها من أخطاء، وغير ذلك.(12/16)
فالقلم المُشَجَّر للحكيم ديسقوريدوس كتب به كتاب الأعشاب والنبات وخواصّها ومنافعها ومضارها وأسرارها، وقد تداولته الحكماء من بعده في الكتب[40]. والقلم الداودي كان كثير الاستعمال ببلاد الهند، استعمله الحكماء في الطب والحكمة والسياسة، وهو مشهور[41]. وقلم ديموقراطيس كان مقبولاً عند حكماء اليونان، يُلغزون ويرمزون به كتبهم، ويزعمون أن روحانية عُطارد أهدته له في السرب المظلم[42]. وقلم حكماء الأقباط أكثر ما رمزوا به كتب الدفائن والمطالب والكنوز والخبايا وكتب الصنعة الشريفة الإلهية[43]. والقلم الفرقاني اخترعه سبعة من حكماء الروم، وكتبوا به كتباً كثيرة في علم السيمياء والكيمياء والطب، وكان رئيسهم ديوجانس الأكبر ملك الروم، وقد اشتهر في زمانه ونسي[44]. وقلم زوسيم العبري اصطلح عليه حكماء العبرانيين من القدماء، ورمزوا به كتب الحكمة الشريفة، وكانت موجودة في القدس[45]. وقلم قلفطريوس تداولته الحكماء والفلاسفة في كتبها وعلومها دون غيره من الأقلام بكثرة خواصها[46]. وقلم قسطوجيس اليوناني كتب به ثلاثمئة وستين كتاباً في علم الصنعة الإلهية وعلم الطِّلّسم والنيرنج والسحر ودعوات الكواكب والنجوم وتسخير الروحانية[47]. والقلم المُشَجَّر الطبيعي لأفلاطون جرّبه فوجد لكلّ حرف خواصّ ومنافع لأمور شتى[48]. وقلم برج العقرب كان من جملة الأقلام المكتومة في ذخائر الكلدانيين، وقد رمزوا به كتب الأرصاد والأسرار[49]. وقلم برج الجدي وزُحَل ممّا اختصّ به حكماءُ بابل والفرس، أخفوه ثم ظهر بعد انقراضهم في كتب أسرارهم وخبايا كنوزهم التي نهبتها اليونانُ، ثم استعمله حكماءُ مصر في علم الفلك[50]. وقلم برج الدلو كان من جملة الأقلام المنسوبة للكلدانيين والصابئيين، وبه رتّبوا كتب صلواتهم ودعواتهم وأسرار نواميسهم الخاصة[51]. وقلم هرمس الأكبر مكتوبٌ على البرابي والهرمات والنواويس والأحجار والهياكل القديمة من زمن الفراعنة الأُوَل،(12/17)
وليس كغيره مرتباً على الحروف بل هو رموز وإشارات مستخرجة بحسب اصطلاحه، لا تُعَدّ ولا تحصى، ولها قاعدة[52]. وقلم الملك كيماس الهرمسي الذي كتب به نحو مئتي كتاب في الفلك والأسرار الطبيعية وخواصّ النباتات والعقاقير[53].
و - عنايته بالكشف عمّا في الأقلام من روابط النسب والقُربى، وما كان منها أصلاً أو فرعاً، أو مستنبطاً من غيره. فالقلم الكوفي تنوّع إلى تسعة أقلام، الأصل فيها المُسَمّى بالسوري[54]. والقلم الهندي على ثلاثة أنواع[55]. والقلم الكوفي مستنبط من السرياني، والعبراني من الكلداني، واللاتيني من اليوناني، وغيرها من الأقلام الأصلية والفرعية، فإنها في الغالب على هذا النمط[56].
ز - دقّته العلمية وأمانته، وقد تبدّى ذلك في صور عدَّة، أوضحها توثيقه المادّة العلمية بالإحالة على مصادرها التي استوفت الحديث عنها، وتعليله لهذا، وقد سلفت الإشارة إلى ما أحال عليه من مصادر تقدّمته، أو كتبٍ صنّفها أو ترجمها عن غير العربية. فقد أحال في كتابه (شوق المستهام) على:
- كتاب (حلّ الرموز ومفاتيح الكنوز) لجابر بن حيّان الصوفي، وذلك للاطلاع على حقائق فنّ الأقلام، فإنه استوفى ما يلزم هذه الصناعة من اللوازم تفصيلاً وإجمالاً[57].
- كتابه المترجَم من النبطية (شمس الشموس وقمر الأقمار في كشف رموز الهرامسة ومالهم من الخفايا والأسرار) وذلك للاطلاع على أسرار الهرامسة، لأنه جمع فيه ما لابدّ منه لمَنْ أراد الوقوف على أسرارهم[58].
- كتاب دوشان الكاهن في خواصّ النبات والأحجار المعدنية، وذلك عند حديثه عن صور الأشكال المعدنية. ولم يكتفِ ابن وحشية بذلك، بل نصّ على أن دوشان ذكرها في كتابه، وأنه جعله خاصّاً مكتوباً بهذا القلم، ويطلب من القارئ أن يعلم ذلك ويكتمه، ويعلل ذلك بأنه من الأسرار المخزونة في صور الأشكال المعدنية التي اصطلح عليها الهرامسةُ الإشراقية والمشائية[59].(12/18)
- مجموعة كتب ذكرها لدى حديثه عن أسلافه الكلدانيين الذين رفع من شأنهم، وحطّ من شأن مَنْ سمّاهم (الأكراد الأُوَل) الذين رأى أنهم تشبّهوا بهم فيما برعوا فيه، وقصره براعتهم على صناعة الفلاحة والنبات، ونفى عنهم ما ادّعوه أنهم من أولاد بينوشاد، وأنه وصل إليهم أسفار: الفلاحة لآدم، وضغريث، وقوثاي. ونفى عنهم كذلك صحّة ادّعائهم معرفة كلٍّ من الأسفار السبعة، ومصحف ذواناي، والسحر، والطلاسم. ثم عاد إلى انتقاصهم ثانيةً في كلامه على أحد الأقلام القديمة، يشتمل على حروف زائدة على القواعد الحرفية، فقد ذكر ادّعاءهم وزعمهم أنه القلم الذي كتب به بينوشاد وماسي السوراتي جميع علومهما وفنونهما وكتبهما بهذا القلم[60].
- جملة كتب بلغت ثلاثين كتاباً، صرّح باسمي اثنين منها، وذلك في تعقيبه على قلم آخر فيه حروفٌ زائدة على القواعد الحرفية، رآها في بغداد في ناووس من هذا الخطّ، وأنه كان عنده بالشام كتابان منها، هما: كتاب في (أفلاح الكرم والنخل)، وكتاب في (علل المياه وكيفية استخراجها واستنباطها من الأراضي المجهولة) ونصّ على أنه ترجمها من لسان الأكراد لينتفع بهما الناس[61].
6 - قيمته العلمية:
ينطوي الكتاب على قيمة علمية كبيرة تشمل عِدَّةَ مجالات أو ميادين علمية، يمكن إيجازها فيما يأتي:(12/19)
أ - الكشف عن أقلام الأبجديات القديمة واللغات البائدة، وأقرب مثال على ذلك أثرُ كتاب ابن وحشية (شوق المستهام) في كشف بعض رموز اللغة الهيروغليفية بعد أكثر من ألف عام على يد عالم المصريات الفرنسي جان فرانسوا شامبليون سنة 1822م الذي قام بفكّ رموز حجر رشيد الذي عُثر عليه في مدينة رشيد شمال مصر على بعد (65) كم شرق الإسكندرية، وتضمن نصوصاً بالهيروغليفية واليونانية القديمة. ولا ريب أنه أفاد من طبعة المستشرق النمساوي جوزيف همّر لهذا الكتاب التي صدرت في لندن عام 1806م، أي قبل اكتشافه بنحو (16) عاماً، وقد مضت الإشارة إلى بعض ميزات هذه الطبعة، وأهمية الدراسة التي صدّرها ناشرها بها، وبيّن فيها قيمة الكتاب العلمية، ووجوه الإفادة منه في الكشف عن اللغات القديمة وغيرها.
ب - الكشف عن أقلام التعمية التي لغز أو رمز بها الحكماءُ والفلاسفة وغيرهم بها علومَهم وفنونهم وآثارهم في الحكمة والطب والكيمياء والفلك والعقائد والعلوم الخفية كالتعمية واستخراجها والسيمياء والحيل والطّلّسمات والسحر والصنعة وغيرها.
ج - الكشف عن جوانب مهمة من تاريخ تلك الحضارات البائدة، وعن جوانب منسيّة من تاريخ العلوم القديمة لدى حضارات العالم القديم فضلاً عن تاريخ العلوم العربية والإسلامية.
د - ومما يزيد من قيمة الكتاب أن مؤلّفَه ابنَ وحشية كان مختصّاً بالأقلام، وممارساً للكتابة بها، ومطالعاً لها في أماكنها المكتومة وغير المكتومة. وقد مضت الإشارةُ إلى ما أورده في مقدّمة كتابه (الفلاحة النبطية) من كبير معاناته في محاولته إقناعَ مَنْ وجد عنده من قومه النبط كُتُبَهم المكتومة والمضنون بها، وصولاً إلى تمكينه من الاطلاع عليها خدمةً لقومه ومآثرهم، وبياناً لفضلهم على غيرهم، وتخليداً لهم.(12/20)
وممّا يدلّ على ذلك هنا ما ذكره في فاتحة الباب الثامن من كتابه (شوق المستهام) اطلاعه على أقلام الهرامسة في كتب القدماء، وأن لكلّ منهم قلماً، اصطلح عليه منعاً لغير أبناء الحكمة من معرفة ما فيها، وأنه قلّ في زمانه مَنْ يعرفها لاعتمادها هيئةَ الرسم والمثال، وأنها من الكثرة بمكان، كأقلام الهند والصين التي تختلف في ترتيبها واصطلاحاتها عمّا هو عليه الأمر لدينا[62].
ومن ذلك ما أورده في ختم الباب السادس من أن أقلام البروج التي ذكرها هي وَفْق ما اصطلح عليه القدماء، ممّا وجدناه في كتبهم وذخائرهم، ووضعناه في هذا الكتاب ليقتبس منه كلُّ طالب لبيب ما يخصّه من الأسرار والنكت[63].
ومن ذلك أيضاً ما ذكره عن أحد الأقلام القديمة أن فراعنة مصر كانت تزعم أنه استُعمل قبل الطوفان، وأنهم كانوا يتبرّكون به، ويكتبون به كتبَ دعواتهم المقررة أمام هياكل أصنامهم، وأنه رأى بأرض الصعيد نواويس وبرابي وأحجاراً مرقومة بهذا القلم، وأنه يحتمل أن يكون هذا رأي النبط والكلدانيين[64].
المصادر والمراجع:
أ - المطبوعة:
- أطوار الثقافة والفكر في ظلال العروبة والإسلام، علي الجندي ومحمد صالح سمك ومحمد أبو الفضل إبراهيم، مكتبة الأنجلو مصرية، القاهرة، ط. أولى 1959.
- الأعلام، خير الدين الزركلي، دار العلم للملايين، بيروت، ط. ثالثة 1969م، ط.خامسة.
- أعلام الحضارة العربية الإسلامية في العلوم الأساسية والتطبيقية، زهير حمدان، وزارة الثقافة، دمشق 1995 م.
- إيضاح المكنون في الذيل على كشف الظنون، إسماعيل باشا، دار الفكر، دمشق 1982 م.
- تاريخ الأدب العربي، كارل بروكلمان، ترجمة د.عبد الحليم النجار و د.السيد يعقوب بكر و د.رمضان عبد التواب، إشراف د.محمود فهمي حجازي، الهيئة المصرية العامة للكتاب 1993 م.
- تاريخ التراث العربي، د.فؤاد سزكين، جامعة الملك سعود، ترجمة عبد الله حجازي، مراجعة محمود فهمي حجازي.(12/21)
- تاريخ العرب والشعوب الإسلامية، كلود كاهن، ترجمة د.بدر الدين القاسم، دار الحقيقة، بيروت 1972 م.
- دائرة المعارف، أفرام البستاني، بيروت 1962 م.
- دائرة المعارف الإسلامية، ترجمة أحمد الشنتناوي وإبراهيم زكي خورشيد وعبد الحميد يونس ومحمد ثابت الفندي، مراجعة د. محمد مهدي علام، القاهرة 1933 م.
- دراسة ونصوص في الفلسفة والعلوم عند العرب، د. عبد الرحمن بدوي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط. أولى 1981 م.
- شوق المستهام في معرفة رموز الأقلام، ابن وحشية النبطي، نشر وترجمة جوزيف همّر، لندن 1806م، نسخة مكتبة المتحف الوطني بدمشق، دار الآثار العربية.
- صبح الأعشى في صناعة الإنشا، القلقشندي، وزارة الثقافة والإرشاد القومي، المؤسسة المصرية العامة، مصورة عن الطبعة الأميرية.
- علم التعمية واستخراج المعمى عند العرب، الجزء الأول، د. محمد مراياتي، محمد حسان الطيان، يحيى ميرعلم، مجمع اللغة العربية بدمشق، 1987.
- علم التعمية واستخراج المعمى عند العرب، الجزء الثاني، د.محمد مراياتي، د.يحيى ميرعلم، د. محمد حسان الطيان، مجمع اللغة العربية بدمشق، 1997.
- علم الفلك: تاريخه عند العرب في العصور الوسطى، كارلو نلّينو، ط. روما 1911 م.
- الفلاحة النبطية، ابن وحشية، تحقيق توفيق فهد، الجزء الأول، المعهد الفرنسي للدراسات العربية، ط. أولى، دمشق 1993م.
- الفهرست، ابن النديم، دار المعرفة للطباعة والنشر، بلا تاريخ. و ط. المطبعة التجارية الكبرى، القاهرة.
- فهرس مخطوطات دار الكتب الظاهرية: العلوم والفنون المختلفة عند العرب، مصطفى سعيد الصباغ، مجمع اللغة العربية بدمشق 1980 م.
- كشف الظنون، حاجي خليفة، دار الفكر، دمشق، 1982 م.
- مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق، المجلدات: 3 و5 و 7 و 11 و 17 و 21 و 27 و 34 و 35 و 38.
- معجم المؤلفين، عمر رضا كحالة، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط. أولى 1993 م.(12/22)
- معجم المطبوعات العربية والمعربة، جمع يوسف سركيس، مكتبة الثقافة الدينية، مصورة بلا تاريخ.
- منهج تحقيق المخطوطات ومعه كتاب شوق المستهام في معرفة رموز الأقلام لابن وحشية النبطي، إياد خالد الطباع، دار الفكر بدمشق، ط. أولى 1423هـ / 2003 م.
- موسوعة العلوم الإسلامية والعلماء المسلمين، مكتبة المعارف، بيروت.
- موسوعة المستشرقين، د. عبد الرحمن بدوي، دار العلم للملايين، بيروت، ط. أولى 1984.
- هدية العارفين، إسماعيل باشا، دمشق 1982 م.
ب - المخطوطة:
- شوق المستهام في معرفة رموز الأقلام، ابن وحشية النبطي، نسخة المكتبة الوطنية في باريس
رقم (1605 / 131).
- شوق المستهام في معرفة رموز الأقلام، ابن وحشية النبطي، نسخة المكتبة الوطنية في النمسا رقم (68).
جـ - المراجع الأجنبية:
- Ancient Alphabets and Hiroglyphic characters explained ، in Arabic language by Abu Beker Bin Wahshih and in English by Joseph Hammer ، London 1806.
- Series on Arabic origins of Cryptology ، volume One ، KFCRIS & KACST ، Riyadh 2003.
- Series on Arabic origins of Cryptology ، volume Two ، KFCRIS & KACST ، Riyadh 2003.
- Series on Arabic origins of Cryptology ، volume Three ، KFCRIS & KACST ، Riyadh 2004.
-The Encyclopaedia of Islam ، volume III. P. 963 – 965 ، London 1969 .
فهرس الموضوعات
أولاً: شخصيّته العلمية
- آثاره:
ثانياً: كتابه (شوق المستهام في معرفة رموز الأقلام)
1 – موضوعه:
2 – نُسَخُه:
3 – سبب تأليفه:
4 – مادّته العلمية:
5 – منهجه:
6 – قيمته العلمية:
الحواشي
المصادر والمراجع
ــــــــــــــــــــــــــــــ(12/23)
[1] ثمة خلاف بين المراجع في أسماء بعض أجداده العربية والنبطية ترتيباً وكتابةً. انظر بيان ذلك في الفهرست ص 433 و 504، والفلاحة النبطية 1/3و5، وتاريخ التراث العربي 7 /239، ومعجم المطبوعات العربية والمعربة 1/281 وغيرها.
[2] نسبة إلى النبط، وهم قوم من العجم سكنوا العراق، ثم استعملت الكلمة في أخلاط الناس وعوامّهم، ومنه كلمة نبطية أي: عامية، وشعر نبطي أي: عامي.
[3] نسبة إلى الكلدانيين، وهم من الأقوام الذين كانت لهم دولة في بابل بالعراق قبل الميلاد، وبعضها امتد إلى شمال سورية.
[4] مصادر ترجمته: الفهرست ص 433 و 504 – 505، هدية العارفين 1/55، إيضاح المكنون 4/59، تاريخ الأدب العربي لبروكلمان القسم الثاني 3-4 ص 728-731، تاريخ التراث العربي لسزكين 7/107-110، دائرة المعارف الإسلامية، الترجمة العربية 1/300-301، أعلام الحضارة العربية والإسلامية في العلوم الأساسية والتطبيقية 1/87-97، دائرة المعارف للبستاني 4/132-135، الأعلام 1 / 170 – 171، معجم المؤلفين 1/ 212 (1558)، معجم المطبوعات العربية والمعربة 1/281، علم الفلك: تاريخه عند العرب في القرون الوسطى ص 196- 210، مقدمة تحقيق الفلاحة النبطية 1/ م 7 – 8 و 3 – 9 وغيرها.
[5] الفهرست ص 433 و 504 - 505.
[6] تفصيل ذلك موثقاً مع بيان اختلاف علماء المشرقيات في ذلك في (الموسوعة الإسلامية) الترجمة العربية 1/300.
[7] مثل ابن النديم في الفهرست ص 433 و 504 – 505.
[8] مثل مقدمة (الفلاحة النبطية) 1/8، وتاريخ التراث العربي 7/108، وخاتمة (شوق المستهام في معرفة رموز الأقلام) ص 205 (ط. دار الفكر).
[9] مثل د. فؤاد سزكين في (تاريخ التراث العربي) 7/240.(12/24)
[10] لابن وحشية كلام صريح ومطوّل ورد في مقدمة كتابه (الفلاحة النبطية) 1 / 5 – 8 جلُّه في حواره مع مَنْ وجد عنده كتب أسلافه الأقدمين من بقايا الكسدانيين، كتبت بالسريانية القديمة (الآرامية) صرّح فيها غير مرّة بأن غرضه من ترجمة ما اندرس من آثارهم إلى العربية، ونشرها بين الناس لينتفعوا بما فيها من علوم، إنما هو لإظهار محاسنهم، وبيان فضلهم على غيرهم، وتقدمهم في تلك العلوم، وتعظيمهم في نفوس الآخرين، لما في ذلك من الفخر بهم، والتنبيه على فضلهم، إذ كانت هذه العلوم غير جارية مجرى الدين والشريعة، ولا داخلة في الوصية والكتمان، فهو على مذهبهم في كتمان الدين واستعمال الشريعة. وأما سوء عقيدته فهو يرى أن كافة الناس في زمانه على فرط من الجهل، وأن الشرائع والأديان الظاهرة فيهم أدخلت عليهم من العياء والغفلة حتى صاروا كالبهائم أو شراً منها في بعض الأحوال !؟(12/25)
[11] انظر آثاره في: الفهرست ص 433 و 504 – 505، هدية العارفين 1/55، إيضاح المكنون 4/59، تاريخ الأدب العربي لبروكلمان القسم الثاني 3-4 ص 728-731، تاريخ التراث العربي لسزكين 7/107-110، دائرة المعارف الإسلامية 3 / 963 – 965 (ط. لندن)، والترجمة العربية 1/300-301، أعلام الحضارة العربية والإسلامية في العلوم الأساسية والتطبيقية 1/87-97، دائرة المعارف للبستاني 4/132-135، الأعلام 1 / 170 – 171، معجم المؤلفين 1/ 212 (1558)، معجم المطبوعات العربية والمعربة 1/281، علم الفلك: تاريخه عند العرب في القرون الوسطى ص 196- 210، مقدمة تحقيق الفلاحة النبطية 1/ م 7 – 8 و 3 – 9، دراسة ونصوص في الفلسفة والعلوم عند العرب ص 36 – 37، مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق: م 3، ج 2، ص 365، و: م 5، ج 1، ص 55، و: م 7 ج 10 ص 104و 448، و: م 11، ج 9 ص 193 و 196، و: ج 10، ص 684، و: م 17، ج 1، ص 63، و: م 21، ج10، ص 464، و: م 27، ج 3، ص 372، و: م 34، ج4، ص 567، و: م 35، ج 4، 535، و: م 38، ج 1، ص 1. تاريخ العرب والشعوب الإسلامية 1 / 259، فهرس مخطوطات الظاهرية في العلوم والفنون المختلفة عند العرب ص 421 – 423، موسوعة العلوم الإسلامية والعلماء المسلمين 1 / 182، صبح الأعشى 1 / 475 – 476 وغيرها.
[12] انظر كلام ابن وحشية في مقدمة (الفلاحة النبطية) 1/ 8، ونحوه ما ورد في تاريخ التراث العربي 7/108 حاشية (1). وسيرد النص قريباً في الحاشية (13).
[13] انظر تاريخ التراث العربي 7 /240 حاشية (1)، ولفظه ثمَّة ((وقد كنت وعدتك يا بني أبا طالب أني أملي عليك كتاباً أسمِّيه بسرائر عطارد [كذا] أنا أفعل ذلك بعد فراغي من إملاء هذا الكتاب الذي هو أسرار الفلك لِذواناي، فاحتفظ بكتاب أسرار عطارد وعجائبه أكثر من احتفاظك بكلّ ما يحتفظ به...)).(12/26)
[14] مقدمة (الفلاحة النبطية) 1 / 8، وبنحوه ما جاء في تاريخ التراث العربي 7/ 108، ولفظه في الأول ((أول كتاب نقلته إلى العربية كتاب ذواناي البابلي في أسرار الفلك والأحكام على الحوادث من حركات النجوم، وهو كتاب عظيم المحلّ والقدر نفيس، ولم يستوِ لي نقله كلّه، بل نقلت منه صدرا ً ]كذا في الأصل [ ، لأنني وجدته في نحو ألفي ورقة فعجزت - والله - يابنيّ عن استتمام نقله لطوله فقط، لا لغير ذلك، ونقلت معه كتابهم في الأدوار، وهو الأدوار الكبير، ونقلت هذا الكتاب مع غيره بعد عِدَّة كتب، أعني بهذا الكتاب، كتاب الفلاحة ونقلته كلّه على تمامه وكماله)).
[15] فهرس مخطوطات دار الكتب الظاهرية في العلوم والفنون المختلفة عند العرب ص 321 – 323.
[16] كتابه: شوق المستهام (ط. دار الفكر) ص 205.
[17] الفهرست ص 504 – 505.
[18] شوق المستهام ص 188 (ط. دار الفكر).
[19] تاريخ الأدب العربي، القسم الثاني 3-4 ص 731.
[20] هدية العارفين 1/55.
[21] أعلام الحضارة العربية الإسلامية 1/ 93، ومقدمة تحقيق (الفلاحة النبطية) 1 / م 7.
[22] شوق المستهام ص 178 (ط. دار الفكر).
[23] تاريخ الأدب العربي، القسم الثاني 3-4 ص 731.
[24] تاريخ التراث العربي 7 / 110.
[25] شوق المستهام ص 205 (ط. دار الفكر).
[26] الفهرست 1/ 628، وهدية العارفين 1/ 55.
[27] الفهرست 1/ 628، وهدية العارفين 1/ 55.
[28] وهو الخليفة السابع عشر من خلفاء بني العباس، دامت خلافته ست سنوات (289هـ / 901م – 295هـ /907م).
[29] تاريخ الأدب العربي لبروكلمان، القسم الثاني 3-4 ص 729.(12/27)
[30] توثيقها مفصَّلة في مقدمة تحقيق الكتاب 1 / م 7 – 8، وأعلام الحضارة العربية الإسلامية 1/89-91، وتاريخ الأدب العربي لبروكلمان، القسم الثاني 3-4 ص 729-730. وانظر حول (الفلاحة النبطية) مقال (ابن وحشية وكتابه في الفلاحة وهو من أقدم الكتب في العربية) د. عبد الحليم منتصر، مجلة العربي،ع 200، ص 18 – 19، ومقال (كتب الفلاحة العربية وألفاظها المولّدة) الأمير مصطفى الشهابي، مجلة المجمع، م 35، ج 4، ص 529 – 540.
[31] تاريخ الأدب العربي، القسم الثاني 3-4، ص 730.
[32] علم الفلك: تاريخه عند العرب في القرون الوسطى ص 196- 199.
[33] تاريخ الأدب العربي، القسم الثاني 3-4، ص 731.
[34] تاريخ الأدب العربي، القسم الثاني 3-4، ص731.
[35] ورد الكتاب في مقال للمهندس الزراعي وصفي زكريا حول كتاب (الأشجار والأنجم المثمرة) لمصطفى الشهابي، مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق، المجلد 5، الجزء 1، ص 55.(12/28)
[36] تحقيق هذا الكتاب ودراسته دراسة علمية مفصّلة ستكون موضوع الجزء الثالث من كتابنا (علم التعمية واستخراج المُعَمّى عند العرب) تحقيق ودراسة: د. محمد مراياتي و د. يحيى مير علم و د. محمد حسان الطيان، وقد صدر ضمن مطبوعات مجمع اللغة العربية بدمشق، الجزء الأول في سنة 1987م، والثاني سنة 1997م، وقد تفضّل أستاذنا الدكتور شاكر الفحام رئيس المجمع بالتقديم للجزأين المتقدمين، والجزء الثالث في قيد الإنجاز. وتقوم مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية ومركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية بالرياض في المملكة العربية السعودية بإصدار ترجمة بالإنكليزية للجزأين الأول والثاني، وإصدارها في سلسلة علمية تتكون من تسعة أجزاء، يستقلّ كلٌ منها بترجمة تحقيق إحدى المخطوطات ودراستها. صدر منها ثلاثة أجزاء، الأول بعنوان (رسالة الكندي في استخراج المعمّى) ليعقوب بن إسحاق الكندي 2003م، والثاني (رسالة المُؤَلَّف للملك الأشرف في حلّ التراجم) لعلي بن عَدْلان 2003م، والثالث (مفتاح الكنوز في إيضاح المرموز) لعلي بن الدُّرَيْهِم 2004م، والثلاثة بتحقيق ودراسة كلّ من: د. محمد مراياتي و د. يحيى مير علم و د. محمد حسان الطيان، وترجمة الأستاذ سعيد الأسعد، ومراجعة كلّ من: د. محمد بن إبراهيم السُّويِّل، و د. إبراهيم بن عبدالرحمن القاضي، و الأستاذ مروان البواب. وأمّا باقي الأجزاء التسعة فستصدر تباعاً إن شاء الله.
[37] صدر الكتاب عن دار الفكر بدمشق، ط. أولى 1423 هـ / 2003 م.
[38] نصّ على ذلك د. موفق عبد القادر في كتابه (توثيق النصوص وضبطها عند المحدثين) ص 10، ونقله عنه المحقق الأستاذ إياد الطباع في كتابه (منهج تحقيق المخطوطات) ص 126، وإن كان المستشرق جوزيف همّر لم يذكر ذلك.
[39] شوق المستهام ص 132 (ط. دار الفكر).
[40] شوق المستهام ص 150 (ط. دار الفكر).
[41] شوق المستهام ص 150 (ط. دار الفكر).
[42] المرجع السابق ص 151.(12/29)
[43] المرجع السابق ص 152.
[44] المرجع السابق ص 152.
[45] المرجع السابق ص 153.
[46] المرجع السابق ص 148.
[47] المرجع السابق ص 146.
[48] المرجع السابق ص 155.
[49] المرجع السابق ص 162.
[50] المرجع السابق ص 163.
[51] المرجع السابق ص 164.
[52] المرجع السابق ص 172.
[53] المرجع السابق ص 167.
[54] المرجع السابق ص 133.
[55] المرجع السابق ص 134.
[56] المرجع السابق ص 172.
[57] المرجع السابق ص 172.
[58] المرجع السابق ص 178.
[59] المرجع السابق ص 188.
[60] المرجع السابق ص 204.
[61] المرجع السابق ص 204 – 205.
[62] المرجع السابق ص 171.
[63] المرجع السابق ص 165.
[64] المرجع السابق ص 193.
فهرس الموضوعات(12/30)
العنوان: أبناء الدعاة
رقم المقالة: 1654
صاحب المقالة: رفاعي سرور
-----------------------------------------
أبناءُ الدعاة.. مسألةٌ في التربية
لِمَ الكتابةُ عن أبناء الدعاة؟ (توصيف للمشكلة محل البحث)
كثيرٌ من أبناء الدعاة لا يكونون مثلَ آبائهم في عِلمهم وعَملهم، بل نرى حالات تكون على النقيض مما عليه الأب الداعية. وقد تفشى هذا الأمر حتى ضرب العامة له مثلا (تخلف النار الرماد).
لذا كان لا بد من رصد هذه الظاهرة وتحليلها وتقديم الحلول الممكنة لعلاجها، وهو ما سوف نحاوله -إن شاء الله تعالى وبحوله وقوته- في هذه الدراسة المختصرة.
سبب المشكلة:
غالبا -بل دائما- ما تكون شخصيةُ الداعية إلى الله قويةً ومؤثرة، ولهذه القوة -فيما يتعلق بالأسرة وهو موضوع البحث- جانب إيجابي وآخر سلبي.
أما الجانب الإيجابي فيتمثل في القدرة على التأثير في الأبناء وجميع من بالبيت.
وأما الجانب السلبي فيبرز في طغيان هذا التأثير على شخصية الأبناء المتكونة، بقصد أو بغير قصد.
وتكون النتيجة أن لا يجد الابنُ لنفسه مكانًا بجوار أبيه، أو تأخذه هيبةُ أبيه بعيدًا عن مواجهته أو حتى التفاهم معه، وغالبا ما يُؤثر السلامة وينقاد لما يمليه عليه الأب. ليكون الحقُ والواجبُ هو رأي الأب وتصرفاته.
هي حالة من السيطرة على سلوك (أفعال) الأبناء دون الالتفات كثيرا لمعالجة المفاهيم والتصورات، هي حالة من فرض شخصية الأب كأب وليس كداعية، وهي حالة من الغفلة عن مشاعر الأبناء وشخصيتهم المتكونة، وهي حالة من الإحساس بالتملك والأحقية في الانفراد بالقرار، أو هي حالة من الانشغال بأمور الدعوة وعدم وجود مساحة لممارسة الدعوة داخل البيت!
وينتج عن ذلك مشاكل أبرزها:
1. سلبية الابن في التفكير ومواجهة المشاكل.(13/1)
2. الانفصال والتمرد والانشقاق في أقرب فرصة يراها الابنُ مواتية ويرى نفسه قادرًا عليها، بحثا عن ذاته التي فقد الإحساسَ بها مع أبيه. وغالبا ما يأخذ اتجاهٌ معاكس أو مباعد عن اتجاه الأب الداعية.
3. ويتبع هذا تكلم عوام الناس عن نتاج بيوت الدعاة. وكيف أنهم يخفقون أحيانا في تربية أبنائهم.
ولتفادي هذه السلبيات طريقان:
الأول: ضبط المفاهيم لا ضبط السلوك (الأفعال).
الثاني: الموازنة بين الواجبات.
- الموارنة بين مقتضيات الدعوة وحق الزوجة والأبناء.
- الموازنة بين مقتضيات الدعوة وحق الطفولة.
- الموازنة بين آثار الدعوة في بيت الداعية.
ضبط المفاهيم لا ضبط السلوك:
عند التأمل نجد أن السبب الرئيس في هذه السلبيات هو أن الداعية -وكذا كل الشخصيات القوية- تتعامل مع السلوك لا مع المفاهيم والتصورات، تضبط السلوك بالأمر والنهي، والثواب والعقاب، فيبدو للناشئة أن الأمرَ أمرُ الأب، وأن الطاعة واجبة لأن الأمر من الأب، ولذا ما إن يجد الطفل فرصة للاستقلال إلا ويتمرد، وغالبا ما يسير في اتجاه معاكس أو مباعد لما عليه أبوه، أو يظل هادئا تحت أبيه قد ألِفَ الأمر والنهي، فلا يتحرك إلا بأمر أو نهي فيخرج للناس حين يشب مهزوزًا أو مهزومًا أو ضعيفًا لا يحرك ساكنا أو على غير درجة أبيه على الأقل.(13/2)
ولذا وجب على الأب -الداعية وكل أب- أن يستمد قوته ووجوب طاعة ولده له من الإسلام، فالأب يطاع لأن الله أمر بطاعة الأبوين، وهذا يُفعل لأن الله أمر به، وهذا يُترك لأن الله نهى عنه. وقد جعل الله للأبوين مزية {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً} [العنكبوت: من الآية 8]، {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً} [الأحقاف: 15]، {وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [النساء: 36]، {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} [الإسراء: 23- 24]، {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان: 14].
وكونه داعية يعطيه مزية أخرى؛ إذ إن الشرع قد جعل لأهل العلم فضلا بين الناس {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة: من الآية 11] {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} [الزمر: 9].
ثم هو بشر يخطئ ويصيب، والمرء بجملته، والماء إذا بلغ القلتين لم يحمل الخبث.(13/3)
- ويجب على الأب (الداعية وغير الداعية) أن يراعي مراحل النمو النفسي لدى الطفل، وأن لا يصادر على شخصية ولده، بل يكون هناك نوعُ مشاورة في البيت بين الأب وأبنائه وكذا زوجته.
مشاورة لأن الشرع أمر بها، ومشاورة تظل خياراتها مقيدة بالشريعة، مشاورة يتم بموجبها اتخاذ القرار الذي يلتزم به الجميع الأب والأبناء. مشاورة حتى ولو لم يكن من ورائها إلا إعطاء الحرية في إبداء الرأي وتدريب الأبناء على المشاركة في حل المشاكل والجرأة على إبداء آرائهم.
وفي هذا الإطار.. إطار التعامل مع القوة الضابطة للسلوك -وهي القلب- من خلال غرس المفاهيم والتصورات الصحيحة يجعل الأب (الداعية) ابنه يفهم أنه الامتداد الطبيعي له، وأن أي ميزة قد يراها الابن في أبيه هي ميزة له؛ ليتحقق التوافق بغير ذوبان لشخصية الابن في شخصية أبيه، وبغير طغيان شخص الأب (الداعية) على شخصية ابنه المتكونة.
الثاني: الموازنة بين الواجبات:
الموازنة بين مقتضيات الدعوة وحق الزوجة والأبناء:
حِمْلُ الدعوة ثقيل، ولا ينفك عن الداعية، فالناس ومشاكلهم، والمخالفون ومناوشتهم، ومسائل العلم وقد تعززت وأبت إلا على جَلِدٍ صبور، والزوجة والأولاد، والسعي على الرزق.... إلخ.
والداعية إنسان قد يجنح حينا إلى هذا أو ذاك، وغالبا ما يرفع عن البيت ويحل في الدعوة وبين مسائل العمل خوفًا من أن يكون المكث بين الأولاد وبجوار الزوجة ركونًا إلى الدنيا الدانية وانشغالا بما يظن أنه لا ينفع، أو أنه دون الأولى. وهذا تصور خاطئ، فقد رأينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يداعب الصغير[1] ويجلس للزوجة يسمع حديثها[2]، ويدعو ويجاهد ويتنسك. والأمر يسير لمن أسلم أمره لله وطرح نفسه بين يدي مولاه، يرجو منه العون والسداد والقبول والرشاد.
والمقصود أن:(13/4)
أمر الأبناء -وكذا الزوجة- واجب من الواجبات، وعلى الداعية الموازنة بينه وبين غيره من الواجبات. وإن كان ثم انشغال أو تقصير فعليه أن يبين لهم ما الذي شغله، ويشركهم معه في همِّه أو يزيح ما على صدورهم من انصراف أبيهم عنهم، فيتلو عليهم أن الاهتمام بأمر المسلمين واجب شرعي ((والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه))[3]، وهي لهم عاجلا أو آجلا؛ عاجلا بأن الله يعين من كان في عون عباده، وعاجلا وآجلا ببركه تصيبهم وأبناءهم في أرزاقهم {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً} [الكهف: 82]، {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} [الأعراف: 96].
ويجملُ أن يفسر الأب لأبنائه هذه الحقيقة الشرعية القدرية بصورة عملية، فإذا أكرمه الله في أمر فسَّر ذلك لأبنائه بأن ذلك كان بعد عونٍ قدَّمه لأحد إخوانه إذْ إن الله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه والله لا يخلف الميعاد.
هكذا يكون الكل تحت مظلة الشريعة، وتكون الشريعة هي الضابط للعلاقة بين أفراد الأسرة، وهذا مريح للجميع، ويسل سخيمة الصدور فلا تنتفخ وتضيق فتذهب تنفس عن نفسها هنا أو هناك.
الموازنة بين مقتضيات الدعوة وحق الطفولة:(13/5)
كلنا نريد أن يكون أبناؤنا نموذجا كاملا للشخصية المسلمة، نريدهم علماء عاملين.. دعاة.. مجاهدين..، نريدهم تجسيدًا للمفاهيم الإسلامية بين الناس. ويشتد بعض الدعاة في سبيل تحقيق هذا الأمر على أبنائه، وخاصة إذا كان الداعية يعاني الاستضعاف وقلة استجابة الناس لدعوته، فتجده يركز على أبنائه باعتبارهم في حالة استجابة طبيعية كأبناء؛ فيسعى الأب -وبكل قوته- في جعل أبنائه نموذجًا كاملاً لقضايا الدعوة، دون اعتبار للمرحلة الزمنية التي يمر بها الأبناء.. ويعمد إلى تلقينهم المصطلحات العلمية، ويربيهم التربية القاسية أملا في التنشئة القوية..
ويحدث بسبب هذا السلوك من الأب خطأ تربوي فادح، وهو عدم الموازنة بين مقتضيات الدعوة وحق الطفولة؛ إذ إنه يجب مراعاة السن في تأصيل منهج الدعوة عند الأبناء.
وأبناء الدعاة لهم سمات خاصة، أهمها أن العمر العقلي لأبناء الدعاة يكون سابقا للعمر الزمني بموجب الخبرة المكتسبة من الحياة داخل بيت الدعاة، والعمر العقلي السابق للعمر الزمني لأبناء الدعاة يتطلب مستوى خاصًّا من التعامل ليس كغيره من القرناء.
وغالبا ما يتعرض أبناء الدعاة لنوع من التعامل يكتنفه الاحترام والمحبة من الإخوة (طلبة العلم) المحيطين ببيت الداعية، وهؤلاء يؤثرون بشكل أو آخر في أبناء الداعية، أو يمكن الاستفادة منهم في التأثير في الأبناء على أن يوجهوا إلى مراعاة المستوى المطلوب من الطفل حين التعامل معه.
في الحديث عن ابن عباس قال: كنت خلف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يومًا، فقال: ((يا غلام، إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف))[4].(13/6)
ولعل أول كلمات الحديث "احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك" وآخر الكلمات "رفعت الأقلام وجفت الصحف" تدل علي المستوى الذي يمكن أن نتعامل به مع الأبناء.
وفي إطار التربية الفكرية للأبناء يجب الإقرارُ بأن الأب يحب أن يرى الناسُ ابنَه متميزًا؛ وفي الحديث عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إِنَّ مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَةً لاَ يَسْقُطُ وَرَقُهَا، وَهِىَ مَثَلُ الْمُسْلِمِ، حَدِّثُونِى مَا هي؟)) فَوَقَعَ النَّاسُ في شَجَرِ الْبَادِيَةِ، وَوَقَعَ في نفسي أَنَّهَا النَّخْلَةُ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَاسْتَحْيَيْتُ. فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخْبِرْنَا بِهَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ((هي النَّخْلَة)) .
قَالَ عَبْدُاللَّهِ: فَحَدَّثْتُ أَبِي بِمَا وَقَعَ في نفسي، فَقَالَ: لأَنْ تَكُونَ قُلْتَهَا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لي كَذَا وَكَذَا[5].
ولكن يجب الانتباه في ذلك إلى خطر الرياء. والحد الفاصل بين الرياء والمباهاة بالابن من ناحية وبين الفرح بما عليه الابن من الخير من ناحية أخرى هو الإخلاص، وذلك بأن نفرح بما يحبه الله في الابن، ونفرح لأن الله منَّ على ذريتنا بهذه الشمائل التي يحبها.
ومن أهم المفاهيم التي تساعد في استقلالية شخصية الابن وسيره على درب أبيه الداعية مفهومُ المفاصلة النفسية.. الشعورية مع المجتمع بعاداته التي لا يرضى عنها الإسلام.
وترسيخ مفهوم المفاصلة وعدم الرضى بما شذ من عادات الناس أمر ضروري؛ إذ كيف يكون الابن -أو المرء عمومًا- مُصلحًا وهو لا يرى خطأ ما عليه الناس من عادات وتقاليد جاهلية، وكيف يكون المرء مصلحًا وهو راض بما يفعله الناس ومتلبس به؟!(13/7)
وأنسب أسلوب لغرس هذا المفهوم هو دمج الابن في مجتمع (الإخوة.. الملتزمين.. المطاوعة) وخاصة الذين يحبونه، تبعا لحب أبيه الداعية، ووجود الابن بين الملتزمين بشكل طبيعى لا تكلف فيه يجعل الابن يوازن بين أخلاق المتدينين وأخلاق غيرهم ممن يخالطهم من الناس، والموازنة تلقائيا تكون في صالح المتدينين وتُثَبِّت مفهوم المفاصلة عند الناشئة والنكير على ما عليه الناس من أخطاء، وخاصة إذا صاحَبَ كلَّ موقف شرحٌ علمي من الكتاب والسنة، واستئناس ببعض ما كان عليه سلفنا الصالح رضوان الله عليهم.
وهنا يجب التنبه لعدم ذكر الإخوة أمامه بسوء، وأن يخفي عنه أي تصرف غير مرضي قد يصدر عن أحد الإخوة.
كما يجب التنبيه على أن حل مشاكل الإخوة في بيت الداعية قد يعطي انطباعًا بأن هذا هو الوضع الطبيعي للإخوة؛ لذا يجب الحرصُ على أن يرى الابنُ نماذجَ وأمثلة صحيحة وطبيعية وبلا مشاكل حتى لا يفقد الأبناءُ ثقتهم في حياة المتدينين.
ومن الحكمة في تحقيق المفاصلة تحديد علاقة الابن بأصدقائه الذين يعايشهم في المجتمع..
فالمفاصلة لا تعني قطع كل صلات الابن بالمجتمع، بل لابد أن يكون له أصدقاء، والصواب أن يكون أبناء الإخوة الآخرين هم أول أصدقائه؛ لأنهم يعيشون الظروف نفسها؛ أما بالنسبة لغير أبناء الإخوة فيجب دخول الأب كطرف ثالث مع الأبناء وأصدقائهم لضبط ما قد يتسرب إليه من مفاهيم خاطئة تورث سلوكا لا يرضي الله..
مع مراعاة أن اختيار الابن للأصدقاء أول مظاهر الإحساس بالذات عند الابن؛ فيجب مراعاة ذلك في معالجة المسألة بإقرار حق الابن في اختيار أصدقائه بعد توضيح أهمية التزام الشرع في اختيار الأصدقاء، ومتابعة تلك العلاقة، واعتبار واقع المجتمع الذي يعيشه الأبناء من حيث التأثر به ومن حيث التعامل معه..(13/8)
فيجب متابعة الابن لمعالجة أي أثر يحدثه المجتمع فيه، والانتباه لخطر إهمال هذه المتابعة. وهي متابعة وسطٌ بين المراقبة اللصيقة التي تورث النفرة والبغض من ناحية وبين الإهمال والترك بالكلية من ناحية أخرى.
ومن الخطأ منع الأب الداعية ابنَه من الاحتكاك بالمجتمع، حتى لا يعيش في أبراج صنعها لنفسه بخياله، وحتى لا يصطدم بواقع الحياة الذي يجب أن يعيشه.
والقاعدة في معالجة مشكلة احتكاك الأبناء بالمجتمع هي التكوين الفكري والوجداني قبل الخروج إلى المجتمع ومواجهته، أو التصدي لمشاكل المجتمع التي تتولد عند الطفل من خلال غرس المفاهيم والتصورات الإسلامية الصحيحة عند الطفل، حال حدوث هذه المشاكل أو بعدها.
وفي إطار إعداد الابن لمواجهة المجتمع تناقش مشكلة التسمية، فقد يتعلق الأب الداعية بشخصية أو كلمة قرآنية فينشأ في نفسه رغبة في تسمية أبنائه بمسميات تغذي هذا التعلق مثل أن يتعلق بشخص سيدنا يونس -عليه السلام- فيسمي ابنه "ذا النون" مما يكون سببًا في معاناة الولد مع قرنائه وهم يحاولون فهم اسم زميلهم، في الوقت الذي كان من الممكن أن يسميه "يونس" وهذا المثل المضروب، ومعاناة الابن منه حادث في الواقع فعلا.
والرسول -صلى الله عليه وسلم- يعلمنا مراعاة الآثار الواقعية المترتبة على التسمية؛ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَتْ جُوَيْرِيَةُ اسْمُهَا بَرَّةَ، فَحَوَّلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم اسْمَهَا- جُوَيْرِيَةَ، وَكَانَ يَكْرَهُ أَنْ يُقَالَ: خَرَجَ مِنْ عِنْدِ بَرَّةَ)[6].
والقاعدة في موضوع التسمية هي محاولة الاقتراب من التسميات القرآنية والسلفية، ولكن بدرجة فيها اعتبار رد فعل المحيطين بالابن لتنتشر هذه التسمية بصورة سهلة وآمنة.
الموازنة بين آثار الدعوة في بيت الداعية:
من فضل الله علينا أن جعَل الأبَ عند الابن أعظمَ الناس، لتسهل عملية التربية وغرس القيم السوية عند الأبناء.(13/9)
عَنْ مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ قَالَ: قُلْتُ لأَبِي: أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ أَبُو بَكْرٍ. قُلْتُ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: ثُمَّ عُمَرُ. وَخَشِيتُ أَنْ يَقُولَ عُثْمَانُ، قُلْتُ: ثُمَّ أَنْتَ، قَالَ: مَا أَنَا إِلاَّ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ.
وبعض الآباء (من الدعاة) ابتلاه الله بالشهرة وكثرة الأتباع، وأن يرى ثمرة دعوته وهو حي.
وبعض الآباء (من الدعاة) ابتلاه الله بالشدة من تسلط الظالمين عليه بتضيق في الرزق أو مداهمة البيت والحبس والاعتقال كما في البلاد التي تعاني غربة الإسلام فيها.
فمن منَّ الله عليه بكثرة الأتباع وبثمرة في حياته قد يكون لهذا أثر سلبي عند الطفل، إذ إنه يركن إلى نجاح أبيه، ويحسب أن الأب قام بما يجب ولم يعد الابن بحاجة إلى أن يرث علم أبيه ويسير بين الناس بسيرة أبيه.
أو يكون هذا الشعور من الداعية نفسه يحسب أن ما قام به يكفي عن أبنائه. وهنا لا بد من الالتفات للأبناء وغرس المسئولية في صدورهم، وأن المسئولية أمام الله فردية لا يغني فيها أب عن ابن؛ قال الله {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر: 38].
والأبناء في بيت من ابتلاه الله بالشدة والضيق وربما الحبس والتعذيب، قد يرون الأب -وهو قدوتهم، وهو رمز سامق في أعينهم- يُهان ويؤخذ من بيته ليلا، فيؤدي ذلك إلى إحباطٍ في نفس الطفل قد ينتج عنه سلبية مقيتة أو محاولة تفادي الوقوع في مثل ما وقع فيه الأبُ بالابتعاد عن طريق الدعوة إلى الله، وقد يؤدي إلى أثر سلبي في اتجاه معاكس بأن يولد رغبة في الانتقام عند الطفل.(13/10)
وهنا لا بد من الموازنة. لا بد من التفسيرات المنطقية -ويكون من الأم أو الأب- لحال الأب حين يغيب عن البيت، فيقال: إنه في سبيل الله وتطلق الكلمة على جملتها؛ إذ الطفل صغيرًا لا يفهم المعاني المجردة أو تفسر له بأنه في رحلةٍ لطلب الأجر من الله. وحين يهان أمام أطفاله فيقال: إن هذا من تبعات الدعوة إلى الله {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [ لقمان: 17].
والمطلوب هو السيطرة على مشاعر الطفل بحيث لا يجمح إلى انتقام ولا يجنح إلى سلبية وانهزام ومن ثَمَّ إلى خروج عن الصراط المستقيم أو ابتعاد عنه.
فلا تشكو الأم أمام أطفالها -أو الأب الداعية- ضيقَ الرزق وأنهم يعيشون على الصدقة، ويمدون أيديهم للناس؛ لأن المعاناة التي يسمعها من أمه سيكون لها وقع كبير على نفسيته باعتباره طفلا صغيرا لا يتحمل بسهولة أن يرى أمه تبكي.. أو تقبل صدقة فيشعر بمهانة آخِذِ الصدقة ومن يعيش عليها..
فقد تعطي الشكاية للابن مسوغًا للسلبية والانسحاب من طريق الدعوة إلى الله أو الحقد والجموح.
وغالبا ما يكون اتجاه التربية بعد أي محنة شديدة هو اتجاه الآباء إلي الابتعاد بالأبناء عن مشاكل الدعوة وأخطارها، مكتفين بعملهم ظنا منهم أن ما كان منهم سيرفع عن أبنائهم واجب الدعوة إلى دين الله، وهو اتجاه خاطئ وجزاؤه عند الله أن يحرم الآباء من قرة أعينهم بأبنائهم الذين بخلوا بهم على الدعوة.
والمطلوب من الأب -أو الأم عند غيابه- تعزيز معنى الاستعلاء بالإيمان عند الطفل، وتعزيز معنى استقلالية المسئولية، وأن مسئولية الأطفال ليست تابعة لآبائهم، ولكنها مسئولية مستقلة سيسأل عنها وحده أمام الله مما يجعله قادرًا علي مواجهة مثل هذه المواقف الخطيرة مثلما كان من فاطمة رضي الله عنها.(13/11)
عن عبد الله قال: بينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ساجد وحوله ناس؛ إذ جاء عقبة بن أبي معيط بسلى جزور، فقذفه على ظهر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلم يرفع رأسه، فجاءت فاطمة فأخذته من ظهره ودعت على من صنع ذلك[7].
وعلى أهل الداعية أن يخففوا من وطأة الاستضعاف بسرد بطولات الأب مع أبنائهم، فيجب أن يكون السرد واقعيًّا ومناسبًا للمرحلة التي يعيشها الابن حتى يستفيد منها الابن ولا يختل تصوره عن الواقع.
والأحاديث مع الأبناء عن بطولات الإخوة بصورة غير واقعية وقبل الوقت المناسب يجعل هذه البطولات في إحساس الابن مجرد خيالات ذهنية قد تدخله في حالة مرضية..
والصواب أن يكون ذكر هذه البطولات في وقت يستطيع فيه الطفل استيعابها؛ لتكون حساباته لها بواقعية، ويتكون عنده الدافع إلى ممارستها بنفس الواقعية التي أحس بها واستوعب هذه البطولات ابتداءً.
وفي إطار معايشة الأبناء للمحن تأتي مشكلة زواج بنات الداعية:
فعندما تكبر ابنة أحد الدعاة وخاصة من ابتلاه الله بالتضييق في المعيشة؛ فإن هذا التضييق سيجعل زواجها صعبًا؛ لأن الناس ستخاف من خطبتها والزواج منها حتى لا يصيبهم مكروه بسبب أبيها..
عندئذ تكون هذه الفتاة في حاجة إلى الإحساس المستمر بقيمة الدعوة التي كانت موضوعًا لهذا الخطر الذي أصبح مانعًا أو مؤخرًا لزواجها..
وفي إطار معالجة هذه المشكلة يجب أن يكون تفكير الدعاة الآباء متجهًا في تزويج أبنائهم وبناتهم إلى معالجة هذه المشكلة بأن يكون الاختيار من مجال الدعوة بين الأبناء والبنات، ولكن بشرط ألا يتم الزواج لمجرد علاقة شخصية بين الآباء في مجال الدعوة، وإنما يجب أن يكون الاختيار طبيعيًّا والقبول متحققا من الناحية النفسية والقلبية حتى يصير الزواج صحيحًا يؤتي ثماره المرجوة.
وختاما: قضية تربوية جامعة:(13/12)
الحقيقة أن كل الموضوعات في هذا المجال يمكن تحديد أساس عام لمناقشتها؛ وهو تربية الأبناء على حب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهذا الأساس ليس أساسًا عاطفيًّا بل تربويا وموضوعيا..
هذا الحب سيجعل الابن يدرك أن اتجاه أبيه في الحياة هو اتجاه سيد الخلق، وأن اتجاه الأب الداعية له جذوره العظيمة وليس اتجاهًا غامضًا هامشيًّا..
وعندما يكون الانتماء لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- يكون العز الذي لا ذل فيه، والعزيمة التي لا يشوبها وهن ولا ضعف ولا استكانة... في كل احتمالات وظروف الدعوة الصعبة.
وعندما يرى أباه يؤذى أمامه يتذكر ما حصل من الأذى لأفضل الخلق -صلى الله عليه وسلم- فيتحمل نتائج هذا الموقف باطمئنان..
وعندما يطمئن إلى الاقتداء برسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يكون لأي إنسان أي أثر على شخصيته ؛ فيتجاوز الابن خطر البحث عن قدوة إنسانية له بعيدًا عن شرع الله.
وعندما يمتلئ قلب الابن بحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تتأصل نظرتُه إلى الناس، فيحب من يحب الرسول -صلى الله عليه وسلم- ويكره من لا يوقر الرسول -صلى الله عليه وسلم- بل ويسعى في محاربة من يؤذي الرسول -صلى الله عليه وسلم- و يعادي شرعه ودينه مثلما كان في غزوة بدر:(13/13)
عن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ: بَيْنَا أَنَا وَاقِفٌ في الصَّفِّ يَوْمَ بَدْرٍ، فَنَظَرْتُ عَنْ يميني وشمالي فَإِذَا أَنَا بِغُلاَمَيْنِ مِنَ الأَنْصَارِ حَدِيثَةٍ أَسْنَانُهُمَا، تَمَنَّيْتُ أَنْ أَكُونَ بَيْنَ أَضْلَعَ مِنْهُمَا، فَغَمَزَنِي أَحَدُهُمَا فَقَالَ: يَا عَمِّ، هَلْ تَعْرِفُ أَبَا جَهْلٍ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، مَا حَاجَتُكَ إِلَيْهِ يَابْنَ آخي؟ قَالَ: أُخْبِرْتُ أَنَّهُ يَسُبُّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- والذي نفسي بِيَدِهِ لَئِنْ رَأَيْتُهُ لاَ يُفَارِقُ سوادي سَوَادَهُ حَتَّى يَمُوتَ الأَعْجَلُ مِنَّا! فَتَعَجَّبْتُ لِذَلِكَ، فَغَمَزَنِي الآخَرُ فَقَالَ لِى مِثْلَهَا، فَلَمْ أَنْشَبْ أَنْ نَظَرْتُ إِلَى أَبِى جَهْلٍ يَجُولُ فِى النَّاسِ، قُلْتُ: أَلاَ إِنَّ هَذَا صَاحِبُكُمَا الذي سألتماني. فَابْتَدَرَاهُ بِسَيْفَيْهِمَا فَضَرَبَاهُ حَتَّى قَتَلاَهُ، ثُمَّ انْصَرَفَا إِلَى رَسُولِ اللَّهُ -صلى الله عليه وسلم- فَأَخْبَرَاهُ فَقَالَ: ((أَيُّكُمَا قَتَلَهُ؟)) قَالَ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: أَنَا قَتَلْتُهُ. فَقَالَ: ((هَلْ مَسَحْتُمَا سَيْفَيْكُمَا؟)) قَالاَ: لاَ. فَنَظَرَ في السَّيْفَيْنِ فَقَالَ: ((كِلاَكُمَا قَتَلَهُ))، سَلَبُهُ لِمُعَاذِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوح. وَكَانَا مُعَاذَ ابْنَ عَفْرَاءَ وَمُعَاذَ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ.
وبذلك نعلم أن حب أبناء الدعاة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- قضية تربوية جامعة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ(13/14)
[1] عند البخاري ومسلم من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَحْسَنَ النَّاسِ خُلُقًا، وَكَانَ لِي أَخٌ يُقَالُ لَهُ أَبُو عُمَيْرٍ.. كَانَ فَطِيمًا.. فَكَانَ إِذَا جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَرَآهُ قَالَ: ((أَبَا عُمَيْرٍ! مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ؟)) قَالَ: فَكَانَ يَلْعَبُ بِه. والنغير: تصغير نغر، وهو طائر يشبه العصفور، أحمر المنقار.
[2] من ذلك حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في الصحيحين ((جلس إحدى عشرة امراة فتعاهدن أن لا يكتمن من أخبار أزواجهن شيئا...)) الحديث، وهو المعروف بحديث أم زرع. وهو حديث طويل. البخاري (5189)، ومسلم (4481).
[3] رواه مسلم.
[4] رواه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن صحيح.
[5] رواه البخاري في صحيحه.
[6] رواه مسلم في صحيحه.
[7] رواه البخاري في صحيحه.(13/15)
العنوان: أبو الحسن الندوي
رقم المقالة: 184
صاحب المقالة: مجلة الأدب الإسلامي
-----------------------------------------
اسمه ونسبه:
علي أبو الحسن بن عبدالحي بن فخر الدين الحسني، ينتهي نسبه إلى الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه هاجر جده الأمير السيد قطب الدين محمد المدني (م677هـ)، في أوائل القرن السابع الهجري.
أبوه علامة الهند ومؤرخها السيد عبدالحي الحسني رحمه الله، صاحب المصنفات المشهورة ((نزهة الخواطر وبهجة المسامع والنواظر في تراجم علماء الهند وأعيانها))، طبع باسم ((الإعلام بما في تاريخ الهند من الأعلام)) في ثمانية مجلدات، و((الهند في العهد الإسلامي))، و((الثقافة الإسلامية في الهند)).
وأمه رحمها الله كانت من السيدات الفاضلات المربيات النادرات والمؤلفات المعدودات، تحفظ القرآن وتكتب وتقول الشعر.
ميلاده ونشأته:
ولقد بقرية تكية بمديرية راي بريلي في الولاية الشمالية أوتار براديش بالهند، في 6 محرم 1333هـ الموافق 1914م.
حياته العلمية والعملية:
التحق بجامعة لكهنو في القسم العربي 1927م، وكان أصغر طلاب الجامعة سنا، عكف دراسة اللغة الإنجليزية في الفترة ما بين 1928م – 1930م، مما مكنه من قراءة الكتب المؤلفة بالإنكليزية في المواضيع الإسلامية والحضارة الغربية، والاستفادة منها.
عين مدرسًا في دار العلوم ندوة العلماء 1934م ودرس التفسير والحديث والأدب العربي وتاريخه والمنطق.
وقع عليه الاختيار أمينًا عامًا لندوة العلماء بعد وفاة أخيه د.السيد عبدالعلي الحسني 1961م.
أسس حركة رسالة الإنسانية 1951م، وأسس المجمع الإسلامي العلمي في لكهنو 1956م، وشارك في تأسيس هيئة التعليم الديني للولاية الشمالية 1960م، وفي تأسيس المجلس الاستشاري الإسلامي لعموم الهند 1964م، وفي تأسيس هيئة الأحوال الشخصية الإسلامية لعموم الهند 1972م، وفي تأسيس رابطة الأدب الإسلامي العالمية 1986م.(14/1)
نال عضوية عدد من المجامع العلمية والمؤسسات العالمية مثل رابطة العالم الإسلامي، والمجلس الأعلى العالمي للدعوة الإسلامية، ومركز أكسفورد للدراسات الإسلامية، ومجامع اللغة العربية في دمشق والقاهرة وعمان وغيرها.
نال العديد من الجوائز العالمية منها: جائزة الملك فيصل في الرياض 1400هـ، وجائزة الشخصية الإسلامية في دبي 1419هـ.
مؤلفاته:
تجاوزت مؤلفاته العربية والأوردية والإنجليزية سبعمائة عنوان، ومن أبرز المؤلفات العربية ((نظرات في الأدب))، ((روائع إقبال))، ((شخصيات وكتب))، ((في مسيرة الحياة))، قصص من التاريخ الإسلامي))، ((قصص النبيين))، ((روائع من أدب الدعوة)).. ((ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين)).
وفاته:
توفي رحمه الله يوم الجمهة 23 رمضان 1420هـ، الموافق 31 كانون الأول/ ديسمبر 1999م في راي بريلي بالهند*.
ــــــــــــــــــــــــ
* معجم الأدباء الإسلاميين، دار الضياء للنشر والتوزيع، عمان الأردن، ومجلة الأدب الإسلامي العدد الخاص بالشيخ أبي الحسن الندوي، 26-27.(14/2)
العنوان: أبو العباس بن الرومية
عالم الأعشاب والنباتات الطبية – حياته وتراثه 561 – 637هـ/ 1165 – 1239م
رقم المقالة: 556
صاحب المقالة: د. جزيل عبدالجبار الجومرد
-----------------------------------------
عصره:
عاش أبو العباس بن الرومية ستة وسبعين عاماً، وعلى الرغم من أن معظم حياته قد تقضّت في بلاد الأندلس، وبالأخص في مدينة إشبيلية ، إلا أن رحلته التي إستغرقت قرابة السنوات الثلاث، وكان لها ثقلها الكبير في تكوينه العلمي وشهرته، بالأخص بوصفه نباتياً ثم محدثاً، دارت وقائعها على مسرح جغرافي أوسع مدى، يتخطى حدود مدينته وبلاده الأندلس، إلى المغرب وشمال إفريقيا ومصر والحجاز والعراق وإقليم الجزيرة الفراتية وبلاد الشام، وربما صقلية أيضاً، كما سنأتي عليه تفصيلاً، ومن هنا فإن صورة عن أوضاع عصره بإختصار في هذه البقاع قد تجعل من فهم سياق سيرته وثقافته وعلمه شيئاً أكثر يسراً.(15/1)
كانت البلاد العربية والإسلامية في النصف الثاني من القرن السادس والنصف الأول من السابع الهجريين/ الثاني عشر والثالث عشر الميلاديين، تعيش إرهاصات ضعف منبيء بافول، فداخلياً كانت الإنقسامات الإقليمية والمحلية كثيرة ومنتشرة، والصراعات بين الدويلات والطوائف والفئات لا تعرف ركوداً، والتمردات والثورات على هذا أو ذاك من الأنظمة السياسية الإقليمية المستقلة أو شبه المستقلة ظاهرة متواصلة تأخذ بدايات بعضها بأعقاب بعض أما خارجياً فقد كانت حدود ((دار الإسلام)) تتعرض للغزو من جبهات عدة، فتتآكل مع ضراوته أطراف مغارب تلك الدار ومشارقها على حد سواء، في الأندلس، في زمن أبي العباس بن الرومية، كان الموحدون قد فرضوا سلطانهم على غالبية مدن تلك البلاد التي كانت لا تزال إسلامية، بعد أن كانوا قد تملكوا بلاد المغرب وشمال إفريقيا منذ سنة 541هـ/ 1146م[1]. وخلال مدة حكمهم للأندلس التي دامت قرابة عقوداً سبعة، وحدوا فيها، تقريباً، مدن تلك البلاد المسلمة، من كبريات المدن الوسطى والجنوبية كبلنسية ومرسية وغرناطة ومالقه وجيان وقرطبة وإشبيلية[2]. إلا أن هذه البلاد عانت في عهدهم من مشكلتين موهنتين، أولاهما: الإضطرابات وحركات التمرد الاسبلية المسيحية في بعض المدن من وقت لآخر. وثانيتهما: تنامي خطر الممالك الاسبلية المسيحية في النصف الشمالي من الأندلس، مملكة اركون، وقشتالة، والبرتغال، والتي إزدادت قوتها وتفاقم خطرها على مدن الأندلس الإسلامية، مع تزايد الانشقاقات والتمردات في داخل تلك المدن، وخاصة بعد موت رابع خلفاء الموحدين الكبار، محمد الناصر لدين الله بن يعقوب (595 – 611هـ/ 1199 – 1214م) وتفكك الأسرة الموحدية ذاتها وتناحر أمرائها وتمرد بعضهم على بعض[3]. ثم انفجرت حركة محمد بن يوسف بن هود في مرسية (625هـ/ 1228م) التي امتد أوارها لكي يأتي على الوجود الموحدي في مدن الأندلس المذكورة تباعاً[4]، بما في ذلك مدينة ابن(15/2)
الرومية، إشبيلية، سنة (626هـ/ 1229م)[5]. ولكن ابن هود عانى من نفس المشكلة، فقد شبت التمردات ضده[6]، مما فت عضده وأوهن الأندلس جملةً فسهل إبتلاع أجزائها عندما أعملت الممالك الإسبانية المسيحية أضراسها فيها. فبعد عهد من الإنتصارات التي حققها خلفاء الموحدين الأوائل، التي كان أكثرها حسماً إنتصار ثالثهم عبدالله بن يعقوب بن يوسف (580 – 595هـ/ 1184 – 1199م) على ملك قشتالة في موقعة الأرك (591هـ/ 1195م)[7] التي تركت موجة من التفاؤل العميق في نفوس مسلمي الأندلس وزودتها بمردود معنوي كبير، بعد ذلك بدأ التراجع وكثرت الإحباطات في آخر عهد الموحدين وفي زمن ابن هود كما ذكرنا، وكان أقساها سقوط قرطبة بيد القشتاليين بعد أن عجز ابن هود عن حمايتها (633هـ/ 1236م)[8]، فكان ذلك بمثابة النذير بأجل الأندلس المحتوم، فقد أخذت المدن الإسلامية الأخرى تسقط مع مرور الزمن، ومنها مدينة إشبيلية ، عقر دار ابن الرومية، حيث استولى عليها ملك قشتالة سنة (646هـ/ 1248م)[9]، أي بعد وفاة ابن الرومية بتسع سنوات، خلال الفترة نفسها، كان المغرب وشمال إفريقيا بيد الموحدين، ولم يخرج من يدهم إلا تونس وطرابلس سنة (625هـ/ 1248م) لتؤول إلى الحفصيين[10]، وذلك بعد أن كان ابن الرومية قد أنجز رحلته إلى الشرق وعاد إلى بلاده.(15/3)
أما إلى الشرق من الشمال الإفريقي، فمصر وبلاد الشام والحجاز واليمن، فإنها كلها كانت تحت حكم الأيوبيين، صلاح الدين (ت 589هـ/ 1193م) وخلفاؤه. فمنذ أن نجح صلاح الدين الأيوبي في إنهاء الدولة الفاطمية في مصر (567هـ/ 1171م) وإعلان ولائها للخلافة العباسية في بغداد[11]، فإنه سعى ضمن جهود حثيثة إلى توحيد تلك البلاد في جبهة واحدة تصدى بها للكيانات الصليبية التي كانت قد تأسست في بلاد الشام منذ نهاية القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي إثر الحملة الصليبية الأولى عليها، فتمكن من دحر الصليبيين الفرنجة في معركة حطين (583هـ/ 1187م) واسترد منهم بيت المقدس في السنة نفسها فضلاً عن معاقل أخرى كانت بأيديهم، كما تمكن من كبح جماح الحملة الصليبية الثالثة (585 – 588هـ/ 1189 – 1192م) وأفشل أهدافها الرامية إلى إعادة إحتلال بيت المقدس وسواه مما تم تحريره[12]. وقد خلف صلاح الدين أولاً بعض أبنائه ثم أخوه الملك العادل أبو بكر (596 – 615هـ/ 1199 – 1218م)[13]، الذي وصل في عهده أبو العباس ابن الرومية في رحلته إلى مصر وبلاد الشام، فالتقى به ورافقه مدة من الزمن في القاهرة سنة (613 – 614هـ/ 1216 – 1217م)[14]. ثم خلف العادل أبناؤه وكلهم سعى إلى الجهاد ضد الصليبيين[15]. وقد تميز عهد الأيوبيين في تلك البلاد، بعد حركة الجهاد ضد الصليبيين، برعاية العلم والعلماء ودعوتهم للقدوم إلى تلك البلاد لإعمار مدارسها ودور حديثها التي أكثروا من إنشائها في جميع المدن المهمة بحيث غدت مراكز إستقطاب علمية وثقافية لمفكري العصر ومثقفيه من أنحاء العالم الإسلامي كافة[16]، وقد عرف الأندلسيون ذلك وأشار إليه منذ مدة مبكرة أحد أشهر رحالتهم، ابن جبير[17]، وهو ممن التقى بابن الرومية في الإسكندرية عند وصوله إليها في رحلته سنة (613/ 1216م)[18] وممن كان قد دعا الأندلسيين والمغاربة منذ أن كتب رحلته (بعد 581هـ/ 1185م) للإرتحال إلى المشرق(15/4)
وطلب العلم فيه، وخاصة في بلاد الشام[19].
في محاذاة بلاد الشام إلى الشرق، في إقليم الجزيرة الفراتية، قامت دويلات المدن المتآلفة حيناً والمتناحرة حيناً آخر، كأتابكية الزنكيين في الموصل وأراتقة ديار بكر وأتابكية البكتكين في إربل، وسلاجقة الروم في آسيا الصغرى[20] وإلى الجنوب من كل هؤلاء دار الخلافة العباسية، في بغداد، التي كانت في زمن ابن الرومية قد بدأت تستعيد بعضاً من سابق مجدها بفضل جهود الخليفة الناصر لدين الله (575 – 622هـ/ 1179 – 1225م) بعد فترة من خضوع الخلافة للمتغلبين الديالمة البويهيين أو الترك السلاجقة، فإتسعت رقعة هيمنة الخلافة بعض الشيء بعد أن تقلصت وكادت تقتصر على بغداد، وامتدت هيمنتها المعنوية على بلاد الشام ومصر والحجاز والعراق وبلاد الإسلام إلى الشرق من دار الخلافة[21]. وفي عصر هذا الخليفة، وعصر خلفه وخلف خلفه المستنصر بالله (623 – 640هـ/ 1226 – 1242م) إزدادت بغداد نشاطاً من الناحية العلمية فاستعادت مركزها الثقافي إثر إعتناء الناصر بتطوير المدرسة النظامية وبذل العناية لها ولعلمائها[22] وكذلك عندما أسس المستنصر المدرسة المستنصرية الشهيرة فيها سنة (631هـ/ 1233م)[23] قبل مدة قصيرة من إجتياح المغول البلاد سنة (656هـ/ 1258م).
كان هذا هو وضع الأرض العربية الإسلامية التي نشأ عليها أبو العباس ابن الرومية. وتآثر تكوينه الثقافي بظروفها السياسية والثقافية، وجال في رحلته بين أرجائها فتفاعل معها بيئة وثقافة، فجاء تراثه الذي تركه خلاصة علمية لذلك التفاعل.
حياته:(15/5)
اتفق من عرف أبا العباس أو عاصره ممن ترجم له على أن إسمه هو أحمد بن محمد بن مفرج الأموي[24]. ويضيف الذهبي (ت 748هـ/ 1347م) بجعل مفرج ابنا لعبد الله[25]، وهو ما يكرره الذهبي نفسه في كتابين آخرين له وردت فيهما ترجمة أبي العباس[26]. بينما نجد المؤرخ المتأخر، المقري (ت 1041هـ/ 1631م) يجعل مفرجاً ابنا لأبي الخليل الأموي[27] ويبدو هنا أن المقري اخطأ عندما عد كنية مفرج، أبي الخليل[28]، إسماً لوالده.
يشير لقب مفرج، الأموي، إلى أنه كان من موالي بني أمية[29]، والذي نعرفه عن مولاه أنه كان قد تبناه وأنه أحد أطباء قرطبة[30]، ومن هنا فإن الجد مفرج هذا قرطبي وليس من إشبيلية التي صار حفيده أبو العباس ابن الرومية ينسب إليها فيما بعد[31]. وقد تعلم مفرج عن مولاه الطبيب علم الأعشاب الطبية والمعالجة بها[32]، وقد برز في هذا العلم بحيث غدا قدوة فيه[33]، ويبدو أنه لم يتعلم العلم ويجيده فقط بل مارس العشابة (الصيدلة) حرفة، وهو ما فعله أبو العباس، الحفيد، فيما بعد.
أما محمد بن مفرج، والد أبي العباس، والمكنى بأبي عبدالله[34]، فلا نعرف عنه سوى أنه أخذ علم النبات الطبي، العشابة، عن والده مفرج فكان قدوة فيه كأبيه[35].
ولا نعلم أكثر من هذا عن حياته وثقافته، ولكن يبدو أنه تزوج من امرأة رومية هي التي انجبت له ابنه أبا العباس، يدل على هذا تلقب أبي العباس ابن الرومية بوصفها أشهر كنية له[36]. ويستنتج كراتشكوفسكي من ذلك أن أمه كانت من نصارى الأندلس[37]. ولا نعرف لأبي العباس اخوة أو اخوات، إلا أن كنية الوالد، أبي عبدالله، قد توحي بأنه كان لأبي العباس أخ بهذا الإسم.(15/6)
ولد أبو العباس أحمد بن الرومية سنة (561هـ/ 1165م)[38] وبالتحديد في شهر محرم من تلك السنة[39]. ورغم أن المصادر المعاصرة له تشير إلى ((أنه من إشبيلية))[40]. أو ((من أهل إشبيلية))[41] فليس هناك ما يقطع بأن ولادته كانت فيها، وإن كنا نرجح ذلك مع من قال به من المحدثين[42]. فربما كانت أسرته قد استقرت في إشبيلية قبل ولادته.
تكوينه الثقافي والعلمي:
تابع أبو العباس أحمد والده في امتهان حرفة العشابة (الصيدلة)، فتعلم علم النبات والتطبيب به ((عن أبيه وعن جده))[43]، ويخبرنا من التقى به أنه كان له دكان متسع يجلس فيه لبيع الأعشاب والعلاج بها[44]، إلا أن أحداً لم يحدد لنا ما إذا كان قد ورث ذلك الدكان عن أبيه أم أنه افتتحه بعد إكتمال معرفته النباتية وشيوع أمر اتقانه لها. وعلى أية حال فالواضح أنه بدأ منذ مدة مبكرة بدراسة النباتات والأعشاب وقواها الطبية وفوائدها الصيدلانية. وإذا كان أبو العباس قد اشتهر بتبريزه في هذا العلم فإنه برز إلى جانب ذلك في علم الحديث وحفظه ومعرفة رجاله والتأليف فيه. فهذان هما العلمان، النبات والحديث النبوي الشريف، اللذان انصرف إلى تحصيلهما أكثر من غيرهما وقضى في البحث فيهما معظم عمره. وقد قدم لسان الدين ابن الخطيب تفسيراً لطيفاً في سبب إهتمام أبي العباس بهذين العلمين سوية بقوله: "قام – أبو العباس – على الصنعتين لوجود القدر المشترك بينهما وهما الحديث والنبات، إذ موادهما الرحلة والتقييد، وتصحيح الأصول، وتحقيق المشكلات اللفظية، وحفظ الأديان والأبدان، وغير ذلك"[45].(15/7)
وعلى الرغم من صحة هذا القول من حيث اتفاق العلمين في منهج تحصيلهما وضبطهما، إلا انه ليس هذا هو تماماً ما حدا بابن الرومية إلى الجمع بين هذين العلمين والتبريز فيهما دون سائر العلوم، بل هي ظروف أبي العباس الخاصة وظروف بلاد الأندلس والمغرب في وقته، فعلمه بالأعشاب والنباتات تأتى له بتوارث المهنة عن أبيه وجده، وكانت الصيدلة حرفة له ومصدر عيش[46] فهي لم تأت اتفاقاً أو عرضاً. أما دراسته للحديث والإنكباب على ضبطه وحفظه فقد تأتى من تقدم علم الحديث في عصره على ما سواه من علوم الدين بعد القرآن الكريم، دون غيرها من العلوم الدينية أو النقلية بحكم سببين رئيسيين. أولهما، أن الشيوخ في عصره اتجهوا إلى قراءة القرآن والسنة لأنهم وجدوا فيهما عزاءً عما صارت إليه البلاد نتيجة استقواء الممالك المسيحية الشمالية، فكانت السنة كالخيط يربطهم إلى أجيال الإسلام الأولى، ومن هنا الإهتمام بالسند في الحديث، ذلك الخيط المتصل بالرسول صلى الله عليه وسلم[47]. أما السبب الثاني: فهو ذلك الإتجاه الرسمي الذي تنامى بعد سيطرة الموحدين على الأندلس والقائم على رد الناس إلى القرآن أولاً ثم كتب الحديث، أي العودة إلى الأصول وترك فروع الفقه وإختلافات مسائله ونبذها[48] كما سيتضح لنا مع مسيرة البحث. وهكذا هيأت الظروف وجهة أبي العباس في تحصيل العلمين المذكورين.(15/8)
يبدو أن تحصيل أبي العباس لمادة العلمين المذكورين جاء متزامناً، أي أن إهتمامه في التحصيل لم ينصرف إلى أحدهما أولاً ثم إلى الآخر بعده، بل كان كلما واتته الفرصة تابع هذا العلم، فإذا ما حالفته الفرصة لجمع أطراف العلم الثاني في الوقت نفسه عاناه وجمعه، فهو تارة يجمع علم النبات، وينتقل بين المدن والريف مشاهداً للأعشاب على الطبيعة فإذا ما حل في إحدى الأماكن أو المدن ممن اشتهر بعض محدثيها لازمهم واستجازهم وحدث عنهم. ومن هنا فإن تحصيله للعلم يجب تتبعه على هذا الأساس وليس من خلال فصله عن بعضه.
لقد بدأ أبو العباس في تكوين نفسه ثقافياً في بلاده الأندلس، فاتصل بشيوخ عصره فيها، وقد عدَّد هو لنا مجموعة منهم كأبي البركات عبدالرحمن بن داود الزيزاري وابن عربي وابن الجد وآخرين[49]. وربما كان أشهر هؤلاء الذين أخذ عنهم العلم هو محمد بن عبدالله بن الجد الفهري (ت 586هـ/ 1190م) وهو ابن مدينته إشبيلية، الذي كان فقهياً متبحراً، وقد قيل عنه أنه انتهت إليه الرياسة في الحفظ والفتيا مما زاد من مكانته لدى حكام عصره فاستشاروه وكان كما قيل ((فقيه الأندلس، وحافظ المغرب لمذهب مالك غير مُدافع ولا مُنازع، لا يداينه أحد في ذلك ولا يجاريه..))[50]. وقد تنقل أبو العباس بين مدن الأندلس الإسلامية الأخرى يستمع الحديث ويحصل الإجازات عن الشيوخ، والإشارة إلى أنه ذهب إلى قرطبة لهذا الغرض واضحة[51]، أما غرناطة ((فقد دخلها غير ما مرّة لسماع الحديث وتحقيق النبات، ونقر عن عيون النبات بجبالها))[52]، وكذلك فعل في بقية المدن، ويتبدى أثر تجواله في مدى سعة إطلاعه على نباتات الأندلس من خلال ما ورد من إشارات فيما تبقى من نصوص كتابه (الرحلة)[53] إلى إقليم الشرف في ظاهر إشبيلية[54]، وجبل شلير (سيرانيفادا) عند غرناطة[55]، ومدن جيان ورندة وجبالها[56]، وجبال غلزا شرقي الأندلس[57].(15/9)
ثم كان توجه نظر أبي العباس إلى بلاد العرب والإسلام خارج الأندلس، فكانت له أول رحلة إلى المغرب، عندما كان عمره ما بين التاسعة عشر والتاسعة والعشرين من العمر، بعد سنة (580هـ/ 1184م) حيث جاز مضيق جبل طارق إلى عدوة المغرب، إلى مدينة سبتة، لكي يلتقي بأبي محمد بن محمد الحجري (512 – 592هـ/ 1118 – 1196م) الذي كان ((آيةًً في الحفظ والعلم والزهد في الوظائف والإجتهاد في الاقراء))[58] وكان قد حلّ بسبتة بعد سنين من التنقل في بلاد الأندلس، ولكن أبا العباس لم يحظ بلقائه عند عبوره إليه[59] فعاد أدراجه، وربما كان ذلك لأنه وصل في الوقت الذي كان فيها الحجري قد استدعي من قبل الخليفة الموحدي أبو يعقوب إلى مراكش لاسماع الحديث حيث بقي فيها فترة قبل أن يعود إلى سبتة لكي يقضي حياته فيها[60]. وخلال فترة عودته كتب إلى أبي العباس مجيزاً له[61].
صلته بالمذهب المالكي وتحوله إلى المذهب الظاهري:
يبدو جَليّاً أن أبا العباس نشأ على المذهب المالكي، وأنه إهتم بدراسته وتحصيله، كما اهتم بدراسة علم الحديث وعلم النبات وتحصيلهما، وربما كانت دراسته على العالم الشهير ابن الجد في الأغلب هي دراسة الفقه المالكي لما عرف عن هذا الشيخ من رسوخ باعه في الفقه المالكي دون الحديث كما يخبرنا ابن الابار بقوله عنه: "فقيه الأندلس، وحافظ المغرب لمذهب مالك غير مدافع ولا منازع لا يدانيه أحد في ذلك ولا يجاريه.. مع انشغاله بالتدريس والاسماع وانه لم يكن الحديث شأنه"[62].(15/10)
إلا أن دراسة أبي العباس للفقه المالكي كانت أكثر تركيزاً وأطول أمداً مع شيخ آخر من شيوخ عصره المبرزين في المذهب المالكي، المتبحرين فيه، وهو محمد بن محمد بن سعيد المعروف بابن زرقون (538 – 621هـ/ 1143 – 1224م) وكان ممن سكن إشبيلية ونسب إليها[63]. ومن هنا كانت فرصة أبي العباس في ملازمته والأخذ عنه مدة طويلة من الزمن[64]. وقد عرف عن هذا الشيخ أنه كان حافظاً مبرزاً، شديد التعصب للمذهب المالكي منافحاً عنه، إلا أنه لم يكن له بصر بالحديث بإعترافه هو[65]. ورغم أنه قد أشير إلى طول ملازمة أبي العباس له، إلا أن أياً من مصادرنا لم يحدد طول تلك المدة ولا زمن إنتهائها، إذا أننا نعلم بأن أبا العباس ترك أستاذه لينحاز إلى المذهب الظاهري، مذهب ابن حزم الأندلسي[66]، نائيا عن اتجاه أستاذه الذي يبدو من عنوان أحد مؤلفاته، وهو (المعلى في الرد على المحلى والمجلى لابن حزم)[67]، بأنه كان ناقداً للمذهب الظاهري ولابن حزم، ومع مرور الوقت ازداد إنحياز أبي العباس بن الرومية إلى المذهب الأخير[68]. وليس لدينا ما يبرر هذا الإنعطاف الجذري وهذا الإنفصال من قبل التلميذ عن أستاذه، فالمصادر القديمة ساكتةً تماماً عنه، إلا أن هناك أموراً تتعلق بتوجيهات السلطات الرسمية في الناحية الدينية مما يمكن أن يسهم في إلقاء بعض الضوء على هذا الموضوع. فمنذ تأريخ ولادة أبي العباس، بل وقبله بقليل، كان الموحدون قد بدأوا بالتأكيد على ضرورة العودة إلى الأصول في استخلاص الأحكام الفقهية، وترك الإجتهادات والفروع القائمة على القياس والرأي ضمن المذهب المالكي، وهو المذهب المعروف شيوعه في الأندلس والمغرب، بل كانت تلك الرغبة من قبل الموحدين صارمة جداً أحياناً، من ذلك انه في سنة (550هـ/ 1155م) أمر الخليفة الموحدي الأول، بإحراق كتب الفقه ورد الناس إلى كتب الحديث لإستنباط الأحكام[69]. ورغم أن ذلك لم يتم فإنه دونما شك أثر في توجه الدراسات(15/11)
الدينية بإتجاه الحديث والظاهر، خاصة أن الخليفة عمم تعليمات بهذا الخصوص إلى كل طلبة العلم في المغرب والأندلس[70]، وعلى الرغم من أن ابنه وخليفته، يوسف، تعصب لفكرة أبيه وحاول تنفيذها، إلا أنه لم ينه تماماً كتب الفقه المالكي[71]، حتى ليروى أنه قال للشيخ ابن الجد، الذي ذكرنا أخذ أبي العباس العلم عنه، في إحدى مناقشاته معه حول الفقه: "يا أبا بكر ليس إلا هذا، وأشار إلى المصحف، أو هذا، وأشار إلى كتاب سنن أبي داود – وكان عن يمينه، أو السيف"[72].
أما الخليفة الثالث يعقوب فقد نفذ رغبة أبيه وجده، وأمر بإحراق كتب مذهب مالك، ويقول شاهد عيان: "لقد شهدت منها – أي تلك الكتب – وأنا يومئذ بمدينة فاس ما يؤتى منها بالأحمال، فتوضع ويطلق فيها النار"[73].
كما أنه أمر بترك الإشتغال بالرأي والخوض فيه، وتوعد بمعاقبة المخالفين[74]. ويبدو أن هذا كله دفع بالكثير من طلاب المعرفة عن سبيل دراسة الفروع الفقهية، ومن ثم التوجه إلى القرآن والسنة، أما انسجاماً مع التيار الرسمي الذي له بعض ما يبرره لتفشي الخلافات، كل ذلك في مدة شباب أبي العباس نفسه، الذي توجه للحديث والظاهر أكثر من الرأي والقياس بحكم أحد السببين المذكورين ككثيرين غيره. أما أولئك الذين لم ينسجموا مع الاتجاه الرسمي فقد نالتهم يد العقاب، ومنهم ابن زرقون نفسه، شيخ أبي العباس بن الرومية، حيث أنه كما يقول اليافعي (ت 768هـ/ 1366م): "كان من كبار المتعصبين للمذهب فأوذي من جهة بني عبد المؤمن – الموحدين – لما ابطلوا القياس والزموا الناس الأخذ بالأثر والظاهر"[75].(15/12)
وجرى إعتقاله في مدينة سبتة، ثم أطلق سراحه فعاد إلى إشبيلية، حيث توفي ودفن سنة (621هـ/ 1224م)[76]. ويظهر بأن الإفتراق بين التلميذ والشيخ حصل خلال فترة محنة الشيخ تلك[77]. ولم يعد أبو العباس إلى المذهب المالكي بعد ذلك التحول إذ ازداد اعتقاداً بالمذهب الظاهري حتى عد ((متعصباً له))[78]. بل كان، في عبارة أحدهم ((كان ظاهري المذهب، منحياً على أهل الرأي، شديد التعصب لأبي محمد ابن حزم))[79]. وبذل في سبيل إبراز المذهب الظاهري وأعمال ابن حزم – إذ كان قد عني بها كثيراً واستحسنها وانفق عليها أموالاً جسيمة حتى استوعبها جرماً فلم يشذ عنه منها إلا ما لا خطر له إن كان قد شذ، مقتدراً على ذلك معاناً عليه بجدته ويساره))[80].
رحلة أبي العباس بن الرومية إلى المشرق:
كلل أبو العباس تحصيله العلمي برحلته إلى المشرق، والرحلة من قبل الأندلسيين والمغاربة إلى المشرق ليست شأناً غريباً، بل أمر متكرر، وذلك سعياً منهم لأداء فريضة الحج إلى بيت الله أولاً، ولأخذ العلم من شيوخ المشرق ومدارسه ثانياً.(15/13)
بدأ أبو العباس رحلته من الأندلس سنة (612هـ/ 1215م) في وقت تعرضت فيه بلاده إلى هجمات عنيفة من قبل الممالك الاسبانية المسيحية، وهددت ضواحي مدينته إشبيلية نفسها[81]. لكن ذلك لا يعني إطلاقاً أن أبا العباس خرج من بلده إلى المغرب ثم إلى المشرق جرياً وراء حظوظ جديدة في أراض أكثر أمناً وأهنأ عيشاً، أو فارق فرقاً من مستقبل غامض في مدينته، ذلك أن فرصاً وافرة واتته في المشرق للبقاء والثراء[82] ولكنه آثر عليها العود إلى أهله وبلده بعد نيل بغيته من رحلته وتحقيق هدفه. والملاحظ بشكل عام فإن علماء الأندلس رغم محنة العدوان الاسباني المسيحي عليهم والإضمحلال السياسي في القرن السابع الهجري/ الثالث عشر الميلادي، فإنهم ظلوا عاكفين على الدراسة والسماع وتواتر العلم والإقراء والتأليف، يتنقلون بين المدن لسماع حديث أو نسخ كتاب وكأنهم في بلاد في غاية الاستقرار ولا تحوم حولها الأخطار[83].
استغرقت رحلة أبي العباس ثلاث سنوات[84]، كان هدفه الأساس من القيام بها هو أداء فريضة الحج[85]، ولكنها في الوقت نفسه كانت رحلة علمية قل نظيرها، فلقد لقي في رحلته تلك جملة كبيرة من أعلام علماء الحديث في كبريات مدن المغرب والمشرق في ذلك العصر من رجال ونساء، فأخذ عنهم واستجازهم، ثم أسمع بعضهم بدوره[86]، ودون تلك الأسماء في (برنامج) خاص[87]، وفي نفس الوقت اهتم بدراسة أعشاب المغرب والمشرق، فبحث عنها في أطراف المدن التي حل بها وبضواحيها، وكون ملاحظاته الخاصة عنها، وسأل سكان تلك البقاع عن تسمياتهم لها واستخداماتها الطبية عندهم، وناقش في أكثر من مناسبة علماء النبات في تلك البلاد فيما يتعلق بنباتات وأعشاب بلادهم وبلاده[88] ثم وضع حصيلة تلك التجربة مجتمعة في كتاب فريد في النبات أسماه (الرحلة)[89].(15/14)
عبر أبو العباس البحر إلى المغرب، في مبتدأ رحلته، سنة (612هـ/ 1215م) وأول الأماكن التي نعلم يقيناً أنه حل به هو بجاية[90]، وربما كان أول نزوله على الساحل الإفريقي في هذه الرحلة على ساحل هذه المدينة التي هي بمثابة ميناء حصين في لحف جبل تركب منها السفن إلى الجهات الساحلية المختلفة للبحر المتوسط[91]، وقد أخذ الحديث في هذه المدينة عن محدِّثين على الأقل[92]. كما يبدو أنه تجول في الريف الجبلي المحيط بالمدينة لذكره أسماء نباتين على الأقل مما ينبت بجبالها دون ذكرها يقطع برؤيته لها في مواضعها[93]، وينطبق هذا الشيء على ذكره لنباتات أو أعشاب في المغرب الأقصى وسبتة[94]، دون ذكر زيارة تلك الأماكن في هذه الرحلة. ويتضح بأنه تجول في أطراف الإقليم الذي تعد بجاية إحدى مدنه الغربية القصوى، وهو إقليم إفريقية، والذي يمتد من بجاية أو مليانة أو طنجة الخضراء غرباً إلى الإسكندرية شرقاً، عبر تونس والقيروان والمهدية وطرابلس وبرقة، هذا على السواحل أو قريباً منها، أما عمقاً فيمتد الإقليم من البحر إلى الرمال التي في أول بلاد السوادن في الداخل[95]، وفي تجواله في أطراف هذا الإقليم، من بواد وجبال، جمع معرفة طيبة عن أعشابها الطبية ذكرها في أكثر من موضع في (رحلته) بمسمياتها العربية أو البربرية[96]، وحل بمدينة تونس والتقى ببعض علمائها مجرد لقاء دون أن يستجيزهم بالتحديث عنهم[97]. كما أخذ عن أحد أهل تونس معلومات عن بعض أنواع الحجارة[98]. ثم كان مروره بالقيروان والمهدية وقابس وطرابلس وبرقة في طريقه إلى مصر، وشاهد ما ينبت فيها أو في أطرافها من أعشاب ونباتات وأشار إلى ذلك مراراً في (الرحلة)[99]. إلا أنه كما يبدو لم يلتق بمن يستحق الذكر من العلماء والمحدثين في هذه الأماكن بدليل عدم وجود ذكر لها أو لأحد من أهلها في (برنامج شيوخه).(15/15)
ثم كان وصول أبي العباس إلى أرض مصر، حيث دخل الإسكندرية سنة (613هـ/ 1216م)[100] وفيها التقى بجملة من العلماء والمحدثين، وبعض العلماء الأندلسيين، أشهرهم الرحالة محمد بن أحمد ابن جبير صاحب الرحلة المشهورة[101]، ولابد أنه أفاد منه ببعض ما يتعلق بأمور الرحلة وبعد حصوله على إجازات التحديث من علماء المدينة طوف في ضواحيها وأطرافها كعادته لمعاينة الأعشاب والنباتات، ورغم أنه لم يصل إلينا ما وصل من متبقيات نصوص (الرحلة) سوى إشارة واحدة إلى نبات من الإسكندرية[102] إلا أنه أشار كثيراً جداً إلى نباتات مصر بشكل عام[103].(15/16)
ويبدو أنه لم يطل المقام بالإسكندرية حيث يذكر بأنه لم يسعفه الوقت ليستجيز من كل من عرفه من محدثيها فأجاز له بعضهم كتابة بعد مغادرته[104]. وربما كان وراء عدم إطالته المقام بالإسكندرية، فضلاً عن ضيق الوقت أمامه للحاق بموسم الحج، دعوة الملك العادل أبي بكر ابن أيوب، أخي صلاح الدين وسلطان بلاد الشام ومصر له، للقدوم عليه في القاهرة، حيث صادف أنه كان موجوداً فيها أثناء قدوم أبي العباس إلى مصر[105]. وقد تلقاه في القاهرة وأكرمه، ويخبرنا المؤرخ الطبيب الثقة ابن أبي أصيبعة أن العادل ((رسم أن يقرر له – أي لأبي العباس – جامكية وجراية (راتباً ثابتاً) ويكون مقيماً عنده. فلم يفعل. وقال: إنما أتيت من بلدي لأحج إن شاء الله وأرجع إلى أهلي))[106]. وهذا العرض من قبل العادل إنما يدل على مكانة أبي العباس العلمية وذيوع شهرته، فقد كان للملك العادل الكثير من الأطباء والعشابين المشهورين ولم يكن ليطمح إلى مرافقه أبي العباس له مع وجودهم لولا إرتفاع قدر علمه.. خاصة إذا علمنا أن خير عشابي العصر في المشرق آنذاك وهو رشيد الدين أبو المنصور الصوري (573 – 639هـ/ 1177 – 1241م) كان في صحبته في مصر آنذاك، وهو ما عرف عنه من معرفته بأدوية وأعشاب لم يعرفها من قبله وبمنهجه المتميز بتصوير هيئات النباتات في بيئاتها في جبال لبنان وبلاد الشام، وبكونه أعلم أطباء الشام بالأدوية المفردة[107]. وطالما أن أبا العباس، رغم رفضه عرض الملك العادل، قد رافق الملك العادل هذا وأقام عنده مدة من الزمن وأعد له بعض الأدوية النادرة[108] ولابد أنه قد التقى بالعشاب الصوري المذكور وتداول معه في المعرفة النباتية والأعشاب، كما فعل في أماكن أخرى أثناء رحلته، رغم عدم وصول خبر لقاء الإثنين عن طريق أي من مصادرنا المتوفرة.(15/17)
ثم كان رحيل أبي العباس عن مصر ميمماً شطر مكة، ولا يظهر لنا أنه سلك الطريق البحري، ونعني به النزول مع مجرى نهر النيل إلى الجنوب من مصر حتى مدينة قوص، ثم التشريق عبر الصحراء الشرقية إلى ميناء عيذاب على ساحل البحر الأحمر ومنه إلى جدة عبر البحر وهو الطريق الذي سلكه ابن جبير قبل حوالي (35) عاماً[109]، ولكن يبدو أنه توجه براً من القاهرة إلى جنوب بلاد الشام، وإلى القدس بالذات حيث هناك ما يشير إلى وجوده فيها سنة (613هـ/ 1216م) ولابد أن ذلك كان قبل أدائه فريضة الحج في العام نفسه[110]. كما أن في إشاراته في العديد من المرات إلى بيت المقدس ونباتات ضواحيه وجباله وملاحظات أخرى له عنه[111] ما يدل على معرفة عيانية كانت من معايشة للمكان مدة ليست بالقصيرة. وفيها وصلته بعض الإجازات بالتحديث أرسلت إليه من أماكن أخرى[112]. غادر أبو العباس القدس نحو الجنوب إلى مكة، والأغلب أنه سلك طريق أيلة جنوباً إلى الحجاز على الطريق الساحلي للبحر الأحمر إلى هدفه، والذي يدفع إلى إعتقاد سلوكه هذا الطريق هو أنه الطريق التجاري وطريق الحج بين بلاد الشام ومدن الحجاز في ذلك العصر[113]. كما أن بعض الملاحظات التي قدمها أبو العباس نفسه في بعض شذرات (الرحلة) تؤكد هذا، وتوحي بأنه سلم ذلك الطريق إلى الحجاز، مكة والمدينة، ولم يكن بعيداً عن الساحل، فهو يقول عن أحد النباتات ((الإسرار.. وهو شجر ينبت في أقاصي البحر، وفي السواحل من بحر الحجاز، رأيته بمقربة من كفافة من طريق أيلة لمن يريد الخوزا (أو الحوزة).. سماه لي بعض أعراب الساحل بما سميته له))[114]. والخوزا أو الحوزة هي شعب أو واد في الحجاز[115]. وواضح أن أبا العباس قد أفاد من وجوده في الحجاز فتجول في انحائه وتعرف على العديد من أعشابه ونباتاته سائلاً الأعراب عن أسمائها واستخداماتها مقارناً إياها بما سبق له معرفته من أشباهها أو نظائرها في أماكن أخرى سبق بحثه عنها فيها[116]،(15/18)
فدخل الأودية والجبال هنا وهناك وبالأخص قرب مكة، فكثيراً ما نجد له إشارات يستشف منها ما ذكرناه، كقوله ((شجر معروف عند العرب بمكة))[117]. او كقوله ((رأيته بمقربة من قديد، وهو بجبال مكة كثير جداً))[118]. أو قوله عن نبات آخر وهو شجرة الزقوم ((وسماها لي بعض أعراب عرفه[119]. كما أشار إلى تجواله في ضواحي المدينة للغرض نفسه يختصر ذلك قوله عن نبات من النباتات ((رأيته بين المدينة والبقيع، وسألت عنه بعض الأعراب فسماه وعرفه..))[120]، أما الإشارات إلى ملاحظاته ومشاهداته للنبات في الحجاز بشكل عام فكثيرة مما يدل على ما بذله من جهد في البحث والتقصي والتجوال من أجل جمع المعلومات عن نباتات هذا الإقليم العربي. وكعادته فإن أبا العباس لم يقتصر جهده على تنمية معرفته النباتية وتوثيقها، بل أخذ الحديث عمن وجده في مكة من نزلائها، رغم أن عدد من ذكره منهم كان إثنين فقط[121].(15/19)
إثر إنتهاء أبي العباس من أداء فريضة الحج غادر الحجاز للتو متوجهاً إلى العراق، وقد مر وهو في طريقه إلى بغداد بالكوفة وبابل (الحلة)[122]، ثم كان وصوله إلى بغداد غرة صفر سنة (614هـ/ 1217م). وقد سارع بعد وصوله بثلاثة أيام إلى بدء سلسلة من اللقاءات مع رجال الحديث المشهورين في عاصمة الخلافة العباسية. وقد ورد ذكر العشرات منهم في (برنامجه) من رجال ونساء ممن سمع منهم أو حصل على إجازة بالتحديث عنهم[123] كما أنه اتصل بذوي المعرفة بالعقاقير والأعشاب في بغداد وأفاد من معرفتهم وخاصة بنباتات وأعشاب المشرق البعيد التي لم يتح له هو رؤيتها، وفي إشارة له إلى لقاء من هذا النوع يقول عن نبات التربد: ((التربد بالعراق على الصفة التي تجلب إلينا، وهو مجلوب إليهم أيضاً من وادي خراسان. وأخبرني الثقة العارف بالعقاقير أبو علي البلغاري ببغداد أنه بحث في البلاد الخراسانية عن صفته وهيئته وورقه فأخبره الجلابون له أن ورقه على هيئة ورق اللبلاب الكبير إلا أنه محدد الأطراف))[124]. أو يشير إلى نوع من الحجارة، وهو حجر البارقي فيقول ((هو حجر شكله شكل الحجارة المصرية. اخبرني الثقة عنه ببغداد، وهو من رآه ولم يعرفه حتى أخبر به وبخواصه العجيبة))[125].(15/20)
ترك أبو العباس بغداد مصعداً مع نهر دجلة بإتجاه الشمال، فحل في تكريت، وفيها سمع على اثنين من المحدثين[126]، ثم سار إلى الموصل وسمع الحديث فيها على جملة من رجاله، وصحب بعضهم، نخص بالذكر منهم المحدث والمؤرخ الشهير علي بن محمد بن عبدالكريم الجزري المعروف بابن الأثير (555 – 630هـ/ 1160 – 1233م)[127] ويبدو أنه تجول في أنحائها بحثاً عن نباتاتها كما أنه تحادث مع بعض أهلها بهذا الشأن، مثال ذلك ما أورده من حديث نبات العاقول: ((هو شوك معروف بالمشرق كله.. وهو كثير بالعراق.. وذكر لي بعض أهل الموصل ان عصارته عندهم تجلو بياض العين والظلمة عنها وهم يستعملونه أيضاً في برودات العين))[128].
وليس فيما تبقى من كتابات ابن الرومية، أو غيره ما يشير إلى ذهابه إلى إربل، رغم أننا نجد في برنامج شيوخه أنه حصل من كوكبوري بن علي ابن بكتكن صاحب اربل وأميرها (568 – 630هـ/ 1190 – 1232م)، على السماح بالتحديث عنه بعد أن طلب ذلك منه بوساطة بعض من تقدمه في الرحلة من أصدقائه[129].
سار أبو العباس من الموصل قاصداً بلاد الشام، وفي طريقه مر ببعض مدن الجزيرة الفراتية، ومما ورد ذكر مروره بها، مدينة ذُنيصر[130]، وهي مدينة على مسافة فرسخين (حوالي 12كم). إلى الجنوب الغربي من ماردين. والتي كانت في عهد مروره بها قد أصبحت مدينة واسعة كثر سكانها، وعظمت أسواقها، بعد أن كانت قبل بضعة عقود من الزمن لا تعدو كونها قرية إعتيادية[131]، وأخذ الحديث من أحد رجالها[132]. ثم مر بحران، وشاهد بها بعض النباتات[133]، ثم كان عبوره الفرات إلى مدينة حلب من بلاد الشام.(15/21)
لا غرابة في إتجاه أبي العباس إلى بلاد الشام، فلطالما استهوت بلاد الشام الأندلسيين والمغاربة ورحلة ابن جبير خير تعبير عن ذلك الغرام الذي حمله هؤلاء تجاه بلاد الشام[134]، وكما يقول المنجد: "وقل أن رحل الأندلسي إلى المشرق ولم يزر الشام، وحتى في أظلم عهودها، كعهد الفاطميين، وقد آثرها بعضهم على وطنه، فأقام بها وتزوج منها وتعلم بها، أو أفاد بعلمه أهلها، ومكث آخرون زمناً فيها ثم عادوا إلى بلادهم"[135].
ونضيف فنقول أنهم عادوا إلى بلادهم وفي ذاكرتهم من بلاد الشام أطيب ما فيها كما هو حال أبي العباس بن الرومية نفسه[136].(15/22)
حل أبو العباس بحلب، ولم يحصل له سماع للحديث بها لأن من سعى إلى لقائه كان مريضاً[137] ففاته ذلك. ولكنه اطلع على بعض نباتات المكان واستخداماتها الطبية. ويقول في حديث له يسوقه عن نبات المميثا: ((ورأيته بالشام على ما وصف. ورأيت منها نوعاً صغيراً جداً ينبت بين الصخور الجبلية، وأهل حلب يستعملونه في علاج العين ويسميها بعضهم بالحضض))[138]. على أن أطرف تجربة له في تلك المدينة هي لقاؤه هناك بالعالم الشهير ومؤرخ سير الحكماء والنحاة القاضي أبي الحسن علي بن يوسف الشيباني، المعروف بابن القفطي (568 – 646هـ/ 1172 – 1248م) ولم يخبرنا أبو العباس بذلك اللقاء، إنما القفطي هو الذي فعل ذلك. فقد دعا القفطي أبا العباس إلى داره. ويبدو أنهما تحادثا في أمور شتى، من بينها ما أخبر أبو العباس به صاحبه من أنه حمل معه في بداية رحلته من إشبيلية حتى تونس كتاب ((تعليم المتعلم)) في أربعين مجلداً، وهناك أخذه منه وزير الموحدين في تونس بطريقة فيها بعض العسف الشيء الذي أغضب ابن القفطي[139]. كما يقول ابن القفطي ((اجتمعت به وتفاوضنا في ذكر الحشائش))[140] وكلاهما ممن عرف بطول باعه في هذا العلم، ولا يتوفر لدينا، للأسف الشديد، ما ينبئنا بما دار بينهما عن هذا الموضوع[141]، إلا أن المقري يورد نصاً لحوار بين أحدهم وابن الرومية يمكن أن يكون الطرف المجهول فيه هو ابن القفطي ومفاده ((قال بعضهم: اجتمعت به، وتفاوضت معه في ذكر الحشائش، فقلت له: قصب الذريرة قد ذكر في كتب الطب، وذكروا أنه يستعمل منه شيء كثير، وهذا يدل على أنه كان موجوداً كثيراً، وأما الآن فلا يوجد، ولا يخبر عنه مخبر، فقال (أي أبو العباس): هو موجود، وإنما لا يعلمون اين يطلبونه، فقلت له: وأين هو. فقال: بالأحواز منه شيء كثير))[142] ويتضح بأن أبا العباس ترك لدى ابن القفطي انطباعاً جيداً عن علمه بحيث عده أعقل من رأى[143]، وهذا يزيد من استغرابنا عندما لا نجد ترجمة(15/23)
لأبي العباس بن الرومية في كتاب ابن القفطي المشهور بـ((تأريخ الحكماء)) فهو لا يمكن أن يكون قد تجاهله أو جهله، ولكن إما أنه نسيه أو ان ملخص الكتاب الزوزني، حيث إن الأصل لم يصل إلينا – هو المسؤول عن ضياع سيرة أبي العباس من الكتاب أثناء الإختصار، أو أن ابن القفطي كان قد انتهى من كتابه قبل لقائه بأبي العباس سنة 614هـ/ 1217م[144].
كانت المدينة التالية بعد حلب هي دمشق، وفيها سمع على العديد من المحدثين وأشهرهم ابن الحرستاني وابن ملاعب وابن العطار وهم من مشاهير محدثي العصر، ووصلت إلينا إشارته مرة واحدة إلى دمشق فيما يتعلق بنباتاتها عندما أخبرنا بأن أهل دمشق يسمون شجرة الغبيراء التي لا تثمر الزيزفون[145]. ولكنه ذكر بلاد الشام بشكل عام في أكثر من مناسبة في أحاديثه النباتية. ورغم أننا لا نملك تفاصيل من أي نوع عن إقامتة في هذه المدينة إلا أنها كما يبدو قد تركت في نفسه أثراً خالداً[146]، كما كانت قد فعلت بالنسبة لمن قبله من الأندلسيين الذين زاروها[147].(15/24)
لابد أن أبا العباس بعد تركه دمشق اتجه إلى القدس، لكي يزورها للمرة الثانية، والذي يجعلنا نعتقد هذا جملة أمور، أولها أننا نعلم أنه عاد إلى مصر ومنها غادر في طريق عودته إلى المغرب[148]، بمعنى أنه لم يغادر إلى وطنه عبر البحر من الساحل الشامي وبالتالي فإنه قد توجه براً إلى مصر. ثم ثانياً، فإنه طالما قد سلك الطريق البري فلا يعقل أن يكون قد سار بمحاذاة الساحل الشامي جنوباً إلى مصر لأن الصليبيين كانوا لا يزالون يسيطرون على كثير من المدن الساحلية المهمة، كما أنه في فترة وجود ابن الرومية في بلاد الشام كان الصليبيون يجرون استعدادات هائلة لغزو القدس من عكا بعد وصول قوات جديدة إليهم عبر البحر مما دفع بالملك العادل للعودة إلى بلاد الشام من مصر في شعبان من السنة للتصدي لهم[149]، أضف إلى كل ذلك فإن ذكر أبي العباس لمدينة القدس عدة مرات في نصوص رحلته ضمن أحاديثه النباتية فقط[150] يوحي بأنه لابد أنه قضى فيها مدة تتجاوز كونه قد مر بها مرة واحدة على عجل. من ذلك في قوله في نبات ذنب الخروف ((رأيته بالبيت المقدس كرمه الله تعالى ويسمونه بذنب الخروف وهو عندهم مجرب في عضة الكلب الكلب))[151]، ويقول عن نبات البلان ((واغصانه يتخذ منها المكانس للطرق ببلاد القدس ونواحيه))، وربما نستطيع أن نستشف من إشارة أخرى له أنه كان فيها وقد تهددها الهجوم الصليبي المحتمل ذلك العام عندما يقول في سياق حديثه عن نبتة معينة ((رأيت منها بجبال القدس أمنه الله تعالى))[152].(15/25)
نزل أبو العباس، وهو في طريق عودته إلى بلاده، من بلاد الشام إلى مصر ليحل بها بعض الوقت للمرة الثانية، وقد التقاه هناك أحد محدثي العصر وواحد من أشهر مترجمي رجال القرن، عبدالعظيم بن عبدالقوي المنذري (581 – 656هـ/ 1185 – 1258م)[153]، الذي أخبرنا بلقائه به في عودته من الرحلة، وفي هذه المرة قام هو بتحديث بعض العلماء وإجازاتهم في الحديث عنه[154]، وأشهر من أخذ عنه الحديث هناك هذه المرة أحد كبار محدثي العصر. محمد بن عبدالغني ابن نقطة (579 – 629هـ/ 1183 – 1231م)[155]، والذي بعد أن أخذ عنه وصفه بأنه كان ((ثقة حافظاً صالحاً))[156] ورغم أن المنذري لم يتفق له سماع الحديث عن أبي العباس، إلا أنه أخبرنا بأنه بعد إنتهائه من التحديث غادر متجهاً إلى المغرب[157].
إن نص المنذري الأخير يوحي ضمناً بأن أبا العباس عاد إلى المغرب، أي أنه سلك طريق قدومه إلى مصر نفسه في عودته، إلا أن كراتشكوفسكي ذهب إلى التخمين بأن أبا العباس ربما رجع إلى الأندلس عن طريق صقلية[158]، ولم يبين المصدر الذي دفعه إلى مثل هذا التخمين، واعتقد أنه أحد نصوص (الرحلة) الذي يصف فيه نبات البردي الموجود في صقلية بتفاصيل تمكننا من تصور مروره بها[159]، ولكنها لا تقطع بذلك وعلى أية حال فقد عاد أبو العباس ابن الرومية بعد رحلة طويلة استغرقت ((نحو ثلاثة أعوام))[160]، فتكون عودته إذاً بحدود عام (615هـ/ 1218م)، وهو في الثالثة والخمسين من العمر.
النشاطات العلمية لأبي العباس في الأندلس:(15/26)
اسهمت رحلة أبي العباس السابقة الذكر في تكوينه العلمي وإعداده إعداداً راسخاً. كما عبر عنه المراكشي، فإنه قد عاد ((برواية واسعة وفوائد جمة، وجلب كتباً نافعة وتصانيف غريبة))[161]. ومسألة جمعه للكتب وشرائها ونسخها على اختلاف مواضيعها وتنوعها مسألة معروفة عنه قبل رحلته، وقد ساعده على ذلك كونه موسعاً عليه في معيشته، بحكم حرفته المربحة، فإذا ما انضاف إليها زهده في الدنيا وحبه البالغ للعلم[162] أمكن أن نتصور ما يكون قد جمعه من تلك الكتب النفيسة.
انصرف أبو العباس قبل رحلته وبعدها إلى علومه، ينميها، ويعلمها، ويدونها، وإلى حرفته يمارسها ويرفدها بما يتراكم لديه من علم فيها، ويمكن أن نقسم مناشط الرجل العلمية إلى ثلاثة مجالات:
أ – ممارسة الصيدلة وما يلازمها من معرفة النبات الطبي. فقد عاد أبو العباس إلى دكانه ليمارس حرفته فيه وقد ذكر ذلك أكثر من معاصر له، كابن الأبار الذي التقى به في ذلك الدكان أكثر من مرة وجالسه فيه[163]، وأبي الحسن بن سعيد (610 – 685هـ/ 1213 – 1286م) الذي ذكر مجالسته له في إشبيلية بعد عودته[164]. وقد كان ناجحاً في حرفته رائج الشهرة فيها يذكر ذلك معاصره وأحد أصحاب ولده المراكشي، فيصف إقبال الناس عليه لحاجتهم إليه مما يستغرق معظم وقته ((إذ كان حسن العلاج في طبه، مورود الموضع لثقته ودينه، أمام أهل المغرب قاطبة في معرفة النبات، وتمييز الأعشاب وتحليتها وعلم منافعها ومضارها، غير مدافع عنه ولا منازع فيه))[165] وقد كرر آخرون من معاصريه من أهل المغرب هذه الشهادة[166]. بل وجاوز ذلك حدود المغرب إلى المشرق عندما ذكره مؤرخ الأطباء ابن أبي أصيبعة بأنه: ((اتقن علم النبات ومعرفة أشخاص الأدوية وقواها، ومنافعها واختلاف أوصافها، وتباين مواطنها، وله الذكر الشائع والسمعة الحسنة، كثير الخير.. محقق الأمور الطبية))[167].(15/27)
ب – التحديث والتدريس: فإلى جانب قيام أبي العباس بن الروميه بممارسة حرفته مسخراً علمه من أجل جعلها أكثر كفاءة ونجعاً فإنه قام بإعطاء الحديث لطالبيه، وعنه أخذ الكثيرون، فقد أخذ عنه جمع من أهل بلده، فضلاً عن كثيرين آخرين ممن أخذوا عنه أثناء رحلته في المغرب ومصر والحجاز والعراق والشام[168]. ولا عجب في ذلك فإن شهرته كمحدث ليست أقل كثيراً من شهرته عشاباً وقد وصفه مؤرخ عصر ابن الأبار بأنه ((بصير بالحديث ورجاله، كثير العناية به..))[169]. وسبق له ذكر ما قاله بحقه أشهر محدثي عصره في المشرق، ابن نقطة، عندما وصفه بالثقة الحافظ الصالح وذلك بعد أن سمع عليه الحديث[170]. ورغم أن ابن الأبار نفسه لم يسمع الحديث عن أبي العباس فقد أخبرنا بأن معظم أصحابه سمعوه عنه[171]. ونجد قائمة بأسماء عدد ممن أخذ عنه لدى آخرين[172]. وقد كان أبو العباس سمحاً مع طلبة العلم، يقدم لهم كتبه كي يفيدوا منها، بل ربما وهب لهم أو لمن طلب منه بعض الكتب النفيسة النادرة الوجود المرتفعة الثمن احتساباً وأملاً في إفادة العلم والمتعلمين، وله في هذا المجال أخبار كثيرة تدل على فضله وكرم طبعه[173]، ولهذا فقد أحبه تلامذته وخلدوا ذكره، كما امتدحوه فيما بعد أمام طلبتهم[174].(15/28)
لم يكتف أبو العباس بتدريس الحديث، بل درّس النبات والأعشاب الطبية، وقد وصل إلينا ذكر تلميذ واحد من تلامذته في هذا العلم، ولكن جهبذ من جهابذة الأطباء العشابين، ذلك هو عبدالله بن أحمد البيطار (ت 646هـ/ 1248م) صاحب كتاب (الجامع لمفردات الأدوية والأغذية) الشهير[175]. ولا نستطيع أن نحدد بدقة مقبولة مدى تأثير أبي العباس في تكوين العالم ابن البيطار، أكثر من أن نقول أن ربما كان يخرج معه إلى ضواحي إشبيلية وإلى إقليم الشرف المجاور لها يدرسون النبات على الطبيعة[176] وأنه ربما كان يحضر مع معلمه إلى دكانه. ولكن فقدان كتب المعلم أبي العباس ومعظم كتب ابن البيطار يجعل من الصعوبة بمكان تلمس أثر الأستاذ في تلميذه، وإن كان بالإمكان أن نحتمل أن أثره فيه كان من حيث إنضاج معرفة ابن البيطار وتطوير قابليته لفهم ونقد النتاج العلمي النباتي لقدماء اليونان كديسقوريدس وجالينوس[177]، وهما مما قيل أن ابن البيطار امتلك في معرفة نتاجهما في مجال النبات الطبي وفي نقدهما وشرح معطياتهما ما يتعجب منه[178]، ذلك أن أبا العباس بن الرومية نفسه كان قد اشتهر بدوره بإلمامه بتراث ديسقوريدس وجالينوس النباتي وتأليفه في شرح أعماله ونقد ترجمتهما إلى العربية[179] وربما كان أبو العباس هو الذي حفز ابن البيطار، تلميذه، للذهاب إلى مصر للإلتحاق بخدمة الأيوبيين فيها لكي يضمن مستقبله لديهم، بعد أن فضل هو العودة إلى بلده على عروضهم له، ففعل ابن البيطار عندما رحل بعد سنتين من عودة ابن الرومية، ثم كان التحاقه بخدمة الملك الكامل الأيوبي (615 – 635هـ/ 1218 – 1238م) ابن الملك العادل، في مصر، لكي يصبح هناك رئيساً للعشابين[180].
ولم ينس التلميذ أستاذه، فضلاً عن أنه اقتبس منه حوال الـ(85) مرة في كتابه (الجامع) فإنه أشار إليه بقوله ((شيخنا))[181] أو ((شيخنا ومعلمنا))[182].(15/29)
جـ – التأليف: كان التأليف من جملة أنشطة أبي العباس العلمية، وقد ألف عدة كتب ورسائل لم يصل إلينا منها شيء للأسف الشديد، سوى نقولات معدودة من كتاب (الرحلة) تضمنها كتاب (الجامع) لابن البيطار كما ذكرناه. ويغلب على مؤلفات أبي العباس طابع خاص، وهو أنها إما مختصرات أو تعليقات أو استدراكات أو تذييلات أو شروح أو نقد، وقد عبر المراكشي عن ذلك خير تعبير في جمل وجيزة عندما قال إن لأبي العباس ((فيما ينتحله من الفنين تصانيف مفيدة وتنبيهات نافعة واستدراكات نبيلة بارعة، وتعقبات لازمة))[183]. ولا مزيد على هذا وهو ما توحي به عناوين مؤلفاته الضائعة، وهي كما يأتي:
1 – في الحديث النبوي:
أ – المعلم بزوائد البخاري على مسلم[184].
ب – نظم الدراري فيما تفرد به مسلم عن البخاري[185].
جـ – اختصار (الكامل) في الضعفاء والمتروكين. في مجلدين[186].
والمقصود بـ(الكامل) الذي اختصره هنا هو كتاب (الكامل في معرفة الضعفاء والمتروكين من الرواة) لأبي أحمد عبدالله بن محمد المعروف بابن عدي الجرجاني (ت 365هـ/ 975م) الذي كان في ستين جزءاً واعتبر من أكمل كتب الجرح والتعديل الذي اعتمد عليه الأئمة[187].
د – الحافل في تذييل (الكامل). وهو تذييل على الكتاب الذي اختصره كما ذكرناه سابقاً، وقد كان في مجلد واحد ضخم[188].
هـ – توهين طرق حديث الأربعين. في أربعين باباً[189].
و – إختصار (غرائب حديث مالك)[190]. و(الغرائب) هذا هو من جمع أبي الحسن علي بن عمر البغدادي الدارقُطني (ت 385هـ/ 995م)[191].
ر – التذكرة، أو (برنامج شيوخه)[192]. ويفترض أن تكون هذه التذكرة بمثابة الجدول لأسماء الشيوخ الذين أخذ عنهم أبو العباس الحديث، ويصفها ابن الأبار بعد أن يسميها (فهرسة) بقوله:
"وله فهرسة حافلة أفرد فيها روايته بالأندلس من روايته بالمشرق"[193].(15/30)
ويبدو أنه توفي وقد ترك أكثر من نسخة من تذكرته تلك فيها تفاوت وأخطاء يدلنا على ذلك قول المراكشي الذي أوردها في كتابه (الذيل والتكملة) عندما تحدث عن أبي العباس ((هذا منتهى ما انتقاه أبو العباس النباتي من الشيوخ الذين استجيزوا له حسبما مر تفسيره وعلى ما ذكرهم في فهارس له منوعة بين بسط وتوسط وقفت منها كذلك على ما هو بخطه وبخط بعض أصحابه والآخذين عنه))[194].
فالمراكشي في الحقيقة وفر نسخة محققة من التذكرة في كتابه، عني بضبطها عناية كبيرة. وعندما يصف لسان الدين بن الخطيب بقوله ((وبرنامج مروياته وأشياخه مشتمل على مئين عديدة، مرتبة أسماؤهم على البلاد العراقية وغيرها))[195] فإنما يصف ما حققه المراكشي وصححه.
ح – أخبار محمد بن إسحاق[196].
وله في موضوع الصلاة والأذان.
ط – حكم الدعاء في إدبار الصلوات[197].
ي – كيفية الأذان يوم الجمعة[198].
2 – النبات:
ينطبق قول المراكشي سابق الذكر على نمطية أغراض مؤلفات أبي العباس ابن الرومية في النبات، وذلك من حيث كونها استدراكات أو نقوداً أو تعليقات، بإستثناء كتابه الأصيل (الرحلة) الذي سنفصل الحديث عنه بعض الشيء. وهذه المؤلفات هي:
أ – شرح (حشائش) ديسقوريدس و(أدوية) جالينوس والتنبيه على أوهام مترجميها[199].
والمعروف أن ديسقوريدس هو طبيب يوناني (40 – 90 ميلادية تقريباً) وهو أشهر العشابين في العالم القديم قبل الإسلام، وقد ألف كتابه (Materia Medica) بعد تجوال ودرس طويل للأعشاب وخواصها الطبية سنة (70م)[200]. وقد ترجم هذا الكتاب ثلاث مرات إلى العربية وسمي (بكتاب الأعشاب) وجرى شرحه عدة مرات كما فسر ونقد من قبل علماء النبات والأطباء المسلمين في أكثر من مناسبة قبل عهد أبي العباس بن الرومية[201].(15/31)
أما جالينوس فهو الطبيب اليوناني الشهير (129 – 199 ميلادية تقريباً) والذي اشتهر كأعظم أطباء العالم القديم قبل الإسلام والذي ترك عدداً كبيراً من المؤلفات في مختلف فروع الطب[202]، وقد قام العرب المسلمون بترجمة معظمها في بغداد وغيرها، بحدود القرنين الثالث والرابع الهجريين التاسع والعاشر الميلاديين، ومنها الكتاب المقصود هنا (كتاب الأدوية المفردة) وقد ترجمه حنين بن إسحاق العبادي (194 – 260هـ/ 810 – 873م) في بغداد[203] والواضح أن أبا العباس شرح في كتابه المذكور مادة الكتابين مجتمعة كما نقد بعض صيغ الترجمة والأخطاء التي وقع فيها المترجمون العرب عند محاولتهم إيجاد البدائل العربية للتسميات اليونانية.
ب – التنبيه على أغلاط الغافقي في أدويته[204].
جـ – الرحلة.(15/32)
يعد كتاب الرحلة أشهر كتب أبي العباس بن الرومية، وربما كان أحد مصادر شهرته الكبيرة. وقد ورد أسم الكتاب لدى من أشار إليه هكذا فقط (الرحلة)[205] دون إضافة. بإستثناء لسان الدين بن الخطيب فهو الوحيد الذي أسماه (الرحلة النباتية)[206] وربما كان هذا الكتاب هو آخر ما ألفه الرجل، ويقول ابن الخطيب: ((الرحلة النباتية))[207]، وهو الغريب الذي اختص به، إلا أنه عدم عينه بعده. وكان معجزة في فنه))[208]. وينتابنا الاستغراب كيف أن ابن أبي أصيبعة لم يذكر الكتاب عندما ترجم لأبي العباس، وهو المعروف أنه تلميذ ملازم لتلميذ أبي العباس ابن البيطار[209] بينما يذكر لنا ابن العديم، وهو معاصر شامي لأبي العباس (586 – 660هـ/ 1190 – 1261م) بأنه وقف على كتاب صنعه أبو العباس بن الرومية في الحشائش ورتب أسماءها على حروف المعجم ووصفه بأنه كتاب حسن كثير الفائدة[210]، وهذا الوصف ينطبق على كتاب (الرحلة) لابن الرومية، أما كيف وصل الكتاب إلى ابن العديم فهذا دليل على أن نسخاً منه وصلت إلى مصر قبل مرور وقت طويل على تأليف الكتاب، وربما كان ابن البيطار هو واسطة جلبه فلابد أنه حصل على نسخة منه عندما أعد كتابه (الجامع لمفردات الأدوية) بحكم كثرة اقتباسه منه.(15/33)
ضاع هذا الكتاب ولم يكن ليصلنا منه شيء لولا أن ضمن ابن البيطار في كتابه (الجامع) مقتبسات منه، حيث إن كتابه احتوى (85) اقتباسا من (الرحلة) ترد مبعثرة في أنحاء أجزاء كتابه الأربعة، مشاراً إليها بعبارات مثل ((وفي كتاب الرحلة لأبي العباس النباتي))[211] أو ((أبو العباس النباتي في كتاب الرحلة))[212]، أو ((كتاب الرحلة)) فقط إن لم يكتف بذكر إسم المؤلف دون إسم الكتاب. وليس من اليسير أن نشرح منهج الكتاب وبناءه ومحتواه طالما أننا لا نمتلك الكتاب بكامله، ولا نعلم كم تكون مقتبسات ابن البيطار من حجم الكتاب الأصلي، أضف أننا لا نعلم هل أن اقتباسات ابن البيطار كانت أجزاء من قطع أكبر حجماً أم أنها نصوص تمثل كل ما قاله أبو العباس بخصوص الموضوع المقتبس النص من أجله.
ومع ذلك يمكن إيجاز الملامح الرئيسة للكتاب كالآتي:
(الرحلة) هي خلاصة مشاهدات ومعاينات ودراسة أبي العباس للنباتات المختلفة التي مر بها في رحلته المذكورة سابقاً، كما أنها حصيلة حواره مع بعض علماء الأعشاب والعطارين في بعض المدن التي مر بها يضاف إليها ما جمعه من أفواه أعراب البوادي أو بربر الشمال الإفريقي أو بعض سكان المدن مما يتعلق بأسماء بعض الأعشاب وخواصها الطبية وأوجه إستخداماتها في الأقاليم التي تنبت فيها، يضاف إلى كل هذا وذاك القليل من معلوماته التي حصل عليها بالدرس في بلاده الأندلس أو قرأها في بعض كتب الصيدلة أو النبات[213]. وبذلك فالكتاب لا يمثل جملة معرفة أبي العباس بالأعشاب بل هو يمثل التفاصيل النباتية لرحلة علمية. فهو تماماً كما يقول كراتشكوفسكي: "إن الكتاب قد كرس فعلاً بتمامه للمسائل النباتية وحدها، وحفل بمعلومات جديدة في صددها، مثال ذلك ما يورده من نباتات سواحل البحر الأحمر"[214].(15/34)
أما منهج الكتاب، فإن مادته رتبت تحت أسماء النباتات، نباتاً نباتاً، مرتبة هجائياً. وجرى تناول كل نبتة على حده، ورغم أننا لا نستطيع أن نجد تناولاً منتظماً لجوانب بعينها في النبتة يجري تناولها في حال عرض المعلومات عن كل نبتة، إلا أنه يمكن القول أنه جرى التأكيد على نطق إسم النبات وتحريك حروفه، خاصة إن لم يكن الإسم عربياً مما قد ينتاب النطق باسمه اللبس[215]، كما يبين فيما إذا كان الإسم عربياً أم بربرياً أم يونانياً، وغالباً ما تذكر الأسماء المختلفة للنبات الواحد باختلاف الأمكنة[216]، من بواد ومدن وقرى، مما مر به أبو العباس في رحلته أو شاهده في بلاده وسمعه هناك، وكثيراً، وليس دائماً ما يرد، وصف أجزاء النبتة أو العشبة المذكورة، كجذورها أو سوقها أو أوراقها أو زهرها أو ثمرها[217]. وإذا ما شابهت النبتة نبتة أخرى ذكر ذلك من باب التمييز والتعريف للقارئ[218]، وزيادة على كل هذا حوت بعض النصوص، طرائف متفردة مما يتعلق بنبتة أو عشبة دون غيرها، أما من حيث تأثيرها، أو سبل استخدامها أو طرق نقلها بعد جنيها إلى الأسواق[219].
بجانب كل المؤلفات السابقة فإن المراكشي يذكر بأنه كان لابن الرومية مؤلفات أخرى صغيرة أو كبيرة لم يسمها[220]، وربما كان أحدها كتاب ((الأدوية المفردة)) الذي ذكره ابن أبي أصيبعة[221]، إلا إذا كان هذا هو كتاب (الرحلة) الذي ذكرناه.(15/35)
تقضت حياة أبي العباس بن الرومية في هذه المناشط العلمية المفيدة والتي توزعت على مساحة حياته جملة، وإلى جانبها كان له بعض الولع بنظم الشعر ولكنه لم يكن ممن يرغب في ذكر ما يؤلفه من شعر الآخرين، ربما حياءً أو لأنه لم يعد الشعر شيئاً جدياً مما يجب أن يشغل به العالم نفسه، يقول صاحبه ابن سعيد ((وكان غير متظاهر بقول الشعر، إلا أن أصحابه يسمعون منه ويروون عنه، وحملوه عنه في بعض الأوقات، فقال: تكفيك هذه الأبيات... [وهي في الثناء على مدينة دمشق التي كان يطنب في حديث الشوق إليها]:
خيم بجلق بين الكأس والوَترِ في جنة هي ملء السمع والبصر[222]
كما أنه كان كثير النسخ للكتب فإن لم يكن منصرفاً إلى التأليف أو علاج الناس في دكانه انصرف إلى النسخ، هذا رغم إفراط رداءة خطه[223]، والتي قد تكون أحد أسباب قلة انتشار كتبه ولكثرة اهتمامه بالنسخ والعلم وزهده بما سواه فإن رواية تروى عن مرور ابن هود حاكم الأندلس، وبلد إشبيلية من (626 – 635هـ/ 1228 – 1237م) به وهو ينسخ في دكانه، فوقف ابن هود بباب الدكان وسلم على ابن الرومية، الذي رد السلام دون أن يقوم للقائه، ثم سرعان ما انكب على كتاب ينسخه، فبقى ابن هود ((واقفاً منتظراً أن يرفع إليه رأسه ساعة (طويلة) فلما لم يحفل به ساق فرسه ومضى))[224].
وفاته وذكراه:
توفي أبو العباس بن الرومية في إشبيلية سنة (637هـ/ 1239م) بإجماع المؤرخين[225]، ورغم أن ابنه أبو النور محمد ذكر أن وفاته كانت منسلخ ربيع الأول من السنة[226]، بينما أشار ابن الأبار إلى أنها ليلة الإثنين مستهل ربيع الأول[227]، فلا يبدو أنهما مختلفان تماماً حيث وضح أبو جعفر بن الزبير فيما نقله المراكشي الغموض إذ بين أن أبا العباس توفي ((بين الظهر والعصر في يوم الأحد الموفي ثلاثين من ربيع الأول[228].(15/36)
لقد كانت وفاة أبي العباس قبل سقوط مدينته إشبيلية بيد ملك قشتالة بتسع سنوات. ويبدو أن من تبقى من أفراد أسرته هاجروا منها آنذاك، وإن كنا لا نعلم بالضبط عدد أفراد أسرته أو من بقي منهم بعده، إلا أننا نعلم بالتأكيد أن ابنه محمد أبا النور كان يعيش بعد ذلك في مراكش مجاوراً للمؤرخ المراكشي فيها[229]. وتوحي كنية أبي العباس، بأن له ابنا آخر هو عباس، ولكننا لم نسمع عنه شيئاً البتة[230].
انبرى تلامذة الشيخ بعد وفاته يعملون على تخليد ذكراه فرثاه بعضهم[231]. إلا أن أحدهم، وهو الأخص به، المحدث الناقد أبو محمد بن قاسم الحرار الجزيري، تهمم بجمع أخبار أبي العباس، وحشد مآثره وآثاره وتضمينها في مجلد واحد كبير[232]، وقد أنجز ذلك بالفعل، وخرج بسفر قيم في سيرة الرجل ومراثيه أطلق عليه عنوان ((نثر النور والزهر في نشر أحوال الشيخ أبي العباس النباتي))[233]. وتضمن بالإضافة إلى ما ذكرناه قصيدة جميلة في رثائه من (69) بيتاً نظمها القاضي إسماعيل بن سعد المسعود بن عفير، أحد أصدقاء أبي العباس، وكان الجزيري قد طلب منه نظمها ليضمنها في كتابه المذكور، الذي ضاع لسوء الحظ، وبقيت منه هذه القصيدة فقط[234]، وهي قصيدة جميلة تفوح بالثناء على الشيخ وتنتثر في أطرافها أسماء الورود والرياحين والأعشاب التي عاش معها أبو العباس، ويكتنف قافيتها الآس والأغراس، وربما تضمن كتاب الجزيري هذا ذكر ألقاب أبي العباس وكناه، وهي كثيرة تراصفت وراء اسمه كلما أورد أحدهم ترجمته، فقد كني أبا العباس، كما لقب نتيجة علمه وعمله بالنبات والأعشاب بجملة ألقاب ومنها النباتي، وهو اللقب الذي استخدمه الجزيري في عنوان كتابه المذكور، كما أنه أحد لقبين ذكرهما كثيراً تلميذه الآخر ابن البيطار عندما كان يشير إليه مقتبساً منه[235]. كما نعت بالزهري، نسبة إلى الزهر والزهور[236]، وبحكم قيامه بأخذ الحديث ورؤيته وحفظه وضبطه والإجازة فيه فقد لقب بالحافظ لدى(15/37)
الكثيرين، وهو اللقب الثاني الذي أورده ابن البيطار مراراً إلى جانب سابقه[237]، ولكن أبا العباس عرف بابن الرومية، أكثر مما عرف بأية كنية أخرى كما يشير إلى ذلك كل من ترجم له ممن ذكرناهم إلاّ أن المراكشي يقول بأن أبا العباس: "كان يكرهها ويقلق لها، فشهر بالعشاب والنباتي"[238].
وربما كان هذا هو السبب وراء عدم استخدام تلميذه ابن البيطار لهذه الكنية مطلقاً، ولا الجزيري، كما لحظنا من عنوان كتابه في سيرته، ولم يكن ذلك حتماً إلا من باب الوفاء للشيخ وما أحب، رغم أن الآخرين من معاصريه وأصدقائه كابن الأبار وابن سعيد كان قد غلب لديهم استخدامها. يبقى أخيراً لقب الحزمي الظاهري، وواضح أنه متأت من كونه على مذهب ابن حزم كما سبق وذكرناه.
لقد لف الزمن أعمال الرجل وطواها فضيعها، كما جنت الأيام على (سيرته) التي أعدها تلميذه فغيبتها، ومع هذا فإن النبذ اليسيرة عن حياته وأعماله نفذت عبر تراجم المترجمين كافية كي تؤبد له ذكراً في رقم الخالدين*.
ـــــــــــــــــــــ
[1] عبدالواحد بن علي المراكشي: المعجب في تلخيص أخبار المغرب، تحـ محمد سعيد العريان ومحمد العلمي، دار الكتاب، الدار البيضاء – المغرب، ط7، 1978، ص310 – 311. وكذلك.
Stanly Lane-Poole: The Muhamnadan Dynasties, Karachi, 1969, pp. 37-40.
[2] أنظر هاري. و، وهازارد: أطلس التاريخ الإسلامي. ترجمة إبراهيم زكي خورشيد مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، بلا. ت، ص19.
[3] محمد عبدالله عنان: عصر المرابطين والموحدين في المغرب والأندلس، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، 1964، ق2، ص328، 348 – 366.
[4] ابن عذارى المراكشي: البيان المغرب، قسم الموحدين، تحـ محمد إبراهيم الكناني وآخرين، دار المغرب الإسلامي، بيروت، 1985، ص276 – 290.
[5] المصدر نفسه، ص239.
[6] عنان: عصر المرابطين، ق2، ص414.(15/38)
[7] انظر التفاصيل لدى يوسف اشباخ: تاريخ الأندلس في عهد المرابطين والموحدين، ترجمة محمد عبدالله عنان، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، ط2، 1958، ص311، 317، 319 – 324.
[8] عنان: عصر المرابطين، ق2، ص424.
[9] المرجع نفسه، ص433.
[10] Lane-Poole: Op. cit. p. 44.
[11] بهاء الدين بن شداد: سيرة صلاح الدين، تحقيق جمال الدين الشيال، القاهرة، ط1، 1962، ص45.
[12] التفاصيل انظر عبدالله سعيد الغامدي: صلاح الدين والصليبيون، دار الندوة، بيروت، 1985، ص29 – 89. وحول الحملة الصليبية الثالثة وإفشال خططها انظر ابن شداد: سيرة صلاح الدين سيرة، ص103 – 234.
[13] السيد الباز العريني: الأيوبيين، دار النهضة العربية، مصر، 1967، ص114 – 118.
[14] موفق الدين ابن أبي أصيبعة: عيون الأنباء في طبقات الأطباء، دار مكتبة الحياة، بيروت، 1965، ص538.
[15] العريني: الأيوبيين، ص133 – 154.
[16] المرجع نفسه، ص318 – 229.
[17] محمد بن أحمد بن جبير: الرحلة، دار صادر، بيروت، 1964، ص245 – 451، كمثال.
[18] محمد بن محمد بن عبدالملك المراكشي: الذيل والتكملة، تحقيق محمد بن شريفة، دار الثقافة، بيروت، بلاد، ت. سفر أول، القسم الثاني، ص390.
[19] ابن جبير: الرحلة، ص258.
[20] Lane-Poole: Op. cit. p. 149, 153, 152, 142.
[21] انظر التفاصيل فيما كتبه الباحث مع خليل إبراهيم السامرائي وآخرين: تاريخ الدولة العربية الإسلامية في العصر العباسي، مطبعة جامعة الموصل، 1988، ص277 – 303، 333 – 340.
[22] محمد بن عمر الأيوبي: مضمار الحقائق وسر الخلائق، ترجمة حسن حبشي، عالم الكتب، القاهرة، 1968، ص170.
[23] للتفاصيل انظر ((المستنصرية في التاريخ))، ندوة، بغداد، 1986، وفيها العديد من البحوث.(15/39)
[24] محمد بن عبدالله بن الابار: تكملة الصلة، القاهرة، 1956، جـ1، ص121، والمراكشي: الذيل، س1، ق2، ص487. وعلي بن موسى بن سعيد: إختصار القدح المعلى في التاريخ المحلى، تح إبراهيم الأبياري، دار الكتاب اللبناني، بيروت، ط2، 1980، ص181. وعبدالعظيم بن عبدالقوي المنذري: التكملة لوفيات النقلة تح بشار عواد، مطبعة عيسى البابي، القاهرة، 1976، جـ6، ص335.
[25] محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز الذهبي: تذكرة الحفاظ، دائرة المعارف العثمانية، الهند، 1958، مجـ2، ص1225.
[26] محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز الذهبي: سير أعلام النبلاء، تح بشار عواد، مؤسسة الرسالة، بيروت ط3، 1986، جـ23، ص58.
والذهبي: المشتبه في الرجال، تح علي البجاوي، مطبعة عيسى البابى الحلبي، القاهرة، 1962، جـ1، ص339.
[27] أحمد بن محمد المقري: نفح الطيب في غصن الأندلس الرطيب، تح محمد محيي الدين عبدالحميد، المكتبة التجارية، القاهرة، ط1، 1949، جـ3، ص353.
[28] وردت الكنية هكذا لدى المراكشي: الذيل، س1، ق2، ص487. ومحمد بن عبدالله لسان الدين بن الخطيب: الإحاطة في أخبار غرناطة، تح محمد عبدالله عنان، دار المعارف مصر، 1955، مجـ1، ص215.
[29] المنذري التكملة، جـ6، ص335، والمراكشي: الذيل، س1، ق2، ص487.
[30] المراكشي: الذيل، س1، ق2، ص488.
[31] جميع المصادر الواردة في هامش(24).
[32] المراكشي: الذيل، س1، ق2، ص488.
[33] المصدر نفسه، ص512.
[34] المصدر نفسه، ص487.
[35] المصدر نفسه، ص512.
[36] ابن الابار: تكملة، جـ1، ص121. وابن سعيد: اختصار القدح، ص181، والمنذري: التكملة، جـ6، ص335.
[37] ا. كراتشكوفسكي: تاريخ الأدب الجغرافي العرب. ترجمة صلاح الدين عثمان هاشم، لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، 1963، ق1، ص347.
[38] ابن الابار: تكملة، جـ1، ص121، والمراكشي: الذيل، س1، ق2، ص513، والذهبي: سير، جـ23، ص58.
[39] المراكشي: الذيل، س1، ق2، ص513.(15/40)
[40] ابن الابار: تكملة، جـ1، ص121.
[41] ابن أبي أصيبعة: عيون الأنباء، ص538.
[42] كراتشكوفسكي: تاريخ الأدب، جـ1، ص347. وهو يستخدم عبارة ((على ما يظهر)) وانظر محمد عبدالله عنان، تراجم إسلامية شرقية وأندلسية، مكتبة الخانجي، القاهرة، ط2، 1970، ص338، وهو يقول ((وينتمي إلى اسرة قرطبية من موالي بني أمية، ونزحت فيما بعد إلى اشبيلية، وفي اشبيلية ولد أبو العباس..)).
[43] المراكشي: الذيل، س1، ق2، ص512.
[44] ابن الابار: تكملة، جـ1، ص121، وهو يقول ((وهناك قعد في دكان لبيعه – العشب الطبي – هناك رايته ولقيته غير مرة)) يجب التذكر بأن ابن الابار ولد سنة 595هـ/ 1199.
[45] ابن الخطيب: الاحاطة، جـ1، ص215.
[46] الذهبي: تذكرة الحفاظ، جـ2، ص1426.
[47] حسين مؤنس: شيوخ العصر في الأندلس، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1986، ص99.
[48] انظر التفاصيل لدى المراكشي: المعجب، ص400 – 402، وكذلك عبدالله علي علام: الدولة الموحدية بالمغرب، دار المعارف بمصر، القاهرة، 1971، ص308 – 309.
[49] انظر أسماء شيوخه كلهم لدى المراكشي: الذيل، س1، ق2، ص488 – 510.
[50] ابن الابار: التكملة، جـ2، ص542.
[51] المراكشي: الذيل، س1، ق2، ص488.
[52] ابن الخطيب: الاحاطة، جـ1، ص221.
[53] ضاع كتاب (الرحلة) لأبي العباس ابن الرومية كما ضاعت بقية كتبه، ولم يبق منه إلا مقتبسات ضمنها ابن البيطار، العشاب المشهور، في كتابه الشهير ((الجامع لمفردات الأدوية والاغذية)) وسنشير إليه بالتفصيل لاحقاً.
[54] ابن البيطار: الجامع، جـ4، ص32.
[55] المصدر نفسه، جـ4، ص7.
[56] المصدر نفسه، جـ3، ص137.
[57] المصدر نفسه، جـ3، ص16.
[58] مؤنس: شيوخ العصر، ص100.
[59] المراكشي: الذيل، س1، ق2، ص488 – 489.
[60] عنان: عصر المرابطين، ق2، ص653 – 654.
[61] المراكشي: الذيل، س1، ق2، ص488.
[62] ابن الابار: التكملة، جـ2، ص542.(15/41)
[63] عنان: عصر المرابطين، ق2، ص659. كذلك عمر رضا كحالة: معجم البلدان المؤلفين. مطبعة الترقي، دمشق، 1960، جـ11، ص219.
[64] ابن الابار: التكملة، جـ1، ص121. والمراكشي: الذيل، س1، ق2، ص512.
[65] ابن الابار: التكملة، جـ2، ص616.
[66] هو أبو محمد علي بن أحمد بن حزم (384 – 456هـ/ 994 – 1064م) فقيه وأديب ومؤرخ ولغوي وفيلسوف. ولد بقرطبة وتوفي في ليلة في الأندلس. كحالة: معجم البلدان، جـ7، ص16 – 17.
[67] انظر مؤلفاته الأخرى لدى كحالة: معجم المؤلفين، جـ11، ص219.
[68] ابن الابار: تكملة، جـ1، ص121.
[69] علام: الدول الموحدية، ص308.
[70] المرجع نفسه، ص308.
[71] نفس المرجع والصفحة.
[72] المراكشي: المعجب، ص402.
[73] المصدر نفسه، ص400 روى ذلك المراكشي نفسه صاحب المعجب.
[74] المصدر نفسه، ص401.
[75] عبدالله بن سعد اليافعي: مرآة الجنان وعبرة اليقظان في معرفة ما يعتبر من حوادث الزمان، مؤسسة الأعلمي، بيروت، ط2، 1970، جـ4، ص49.
[76] كحالة: معجم المؤلفين، جـ11، ص219.
[77] كي لا تلتبس الصورة على القاريء تجب الإشارة إلى أن ما ذكرناه لا يعني معاداة الموحدين وصيدلة..الخ، للتفاصيل انظر اشباخ: تاريخ الأندلس، ص495.
[78] ابن الابار: تكملة، جـ1، ص121.
[79] المراكشي: الذيل، س1، ق2، ص512.
[80] نفس المصدر والصفحة.
[81] عنان: عسر المرابطين، جـ2، ص354.
[82] انظر ابن أبي أصيبعة: عيون الأنباء، ص538. وسوف نفصل ذلك لاحقاً.
[83] مؤنس: شيوخ العصر، ص102.
[84] المراكشي: الذيل، س1، ق2، ص489.
[85] نفس المصدر والصفحة، وكذلك ابن أبي أصيبعة: عيون، ص538.
[86] المراكشي: الذيل، س1، ق2، ص489 – 512.
[87] نفس المصدر والصفحات.
[88] سوف نأتي على نماذج من ذلك أثناء البحث.
[89] سوف نتحدث عن هذا الكتاب بتفصيل أكبر عند الحديث عن أعمال أبو العباس.
[90] المراكشي: الذيل، س1، ق2، ص489.(15/42)
[91] ياقوت بن عبدالله الحموي: معجم البلدان، دار صادر، بيروت، 1955، جـ1، ص339.
[92] المراكشي: الذيل، س1، ق2، ص490.
[93] ابن البيطار: الجامع، جـ1، ص20، 134.
[94] المصدر نفسه، جـ1، ص5، 6.
[95] الحموي: معجم البلدان، جـ1، ص228.
[96] كأمثله أنظر ابن البيطار: الجامع، جـ1، ص15، جـ2، ص32، 124.
[97] المراكشي: الذيل، س1، ق2، ص490.
[98] ابن البيطار: الجامع، جـ2، ص8.
[99] انظر المصدر نفسه، جـ1، ص5، 52، 173، جـ3، ص148، جـ4، ص32، 110، 140، 210.
[100] ابن أبي أصيبعة: عيون، ص538.
[101] المراكشي: الذيل، س1، ق2، ص490.
[102] ابن البيطار: الجامع، جـ2، ص81.
[103] كأمثلة، المصدر نفسه، جـ1، ص5، 33، 159، جـ2، ص81، جـ4، 115، 140.
[104] المراكشي: الذيل، س1، ق2، ص490.
[105] ابن أبي أصيبعة: عيون، 538.
[106] نفس المصدر والصفحة.
[107] المصدر نفسه، ص700 – 701. كذلك كحالة: معجم المؤلفين، ص161.
[108] ابن أبي أصيبعة: عيون، ص538.
[109] ابن جبير: الرحلة، ص32 – 53.
[110] المراكشي: الذيل، س1، ق2، ص501.
[111] كأمثلة انظر ابن البيطار: الجامع، جـ1، ص113، 173، جـ2، ص12، جـ3، ص95..
[112] المراكشي: الذيل، س1، ق2، ص501.
[113] انظر Historical Atlas of the Muslim Peoples, Amsterdam, 1957. pp. 16-17.
[114] ابن البيطار: الجامع، جـ1، ص33.
[115] ياقوت الحموي: معجم البلدان، جـ2، ص319، 404.
[116] كأمثلة أنظر: ابن البيطار: الجامع، جـ1، ص33، 57، 107، جـ3، ص82.
[117] ابن البيطار: الجامع، جـ1، ص107.
[118] المصدر نفسه، جـ1، ص95.
[119] المصدر نفسه، جـ2، ص166.
[120] المصدر نفسه، جـ4، ص201.
[121] المراكشي: الذيل، س1، ق2، س1، ق2، ص490.
[122] ابن البيطار: الجامع، جـ2، ص19.
[123] المراكشي: الذيل، س1، ق2، ص490 – 496.
[124] ابن البيطار: الجامع، ص136.
[125] المصدر نفسه، جـ2، ص12.
[126] المراكشي: الذيل، س1، ق2، جـ496.(15/43)
[127] المصدر نفسه، س1، ق2، ص496 – 497. وبخصوص ابن الأثير انظر كحالة: معجم المؤلفين، جـ7، ص228 – 229.
[128] ابن البيطار: الجامع، جـ2، ص3.
[129] المراكشي: الذيل، س1، ق2، ص506.
[130] المصدر نفسه، س1، ق2، ص497.
[131] ياقوت الحموي: معجم البلدان، جـ2، ص478.
[132] المراكشي: الذيل، س1، ق2، ص497.
[133] ابن البيطار: الجامع، جـ3، ص85.
[134] ابن جبير: الرحلة، ص234 – 235.
[135] صلاح الدين المنجد: ((دمشق في نظر الأندلسيين))، صحيفة معهد الدراسات الإسلامية، 1958، مجـ6. ص85.
[136] انظر إنطباعات ابن الرومية لدى ابن سعيد: إختصار القدح، ص181.
[137] المراكشي: الذيل، س1، ق2، ص499.
[138] ابن البيطار: الجامع، جـ4، ص124.
[139] جمال الدين علي بن يوسف بن القفطي: انباه الرواة على انباه النحاة، تح محمد أبو الفضل إبراهيم، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1973. جـ4، ص186 – 187، وقد تضمنت الرواية تفصيلات أخرى طريفة.
[140] عمر بن أحمد بن القديم: بغية الطلب في تأريخ حلب، مخطوط، مجـ2، ورقة 4، نقلاً عن هامش رقم(1) لمحقق كتاب المنذري: التكملة، جـ6، ص336. لا يتمم المحقق نقل النص ويكتفي بهذا الجزء منه.
[141] يبدو أن هناك تتمة للحوار في بغية الطلب لم ينقلها المحقق كاملة في هامش التحقيق المذكور في (140).
[142] المقري: نفح، جـ3، ص354.
[143] ابن القفطي: انباه، جـ4، ص186. ويضيف في مكان آخر من نفس الكتاب، بقوله ((وهو أثبت من رأيت وأسكن)) جـ2، مطبعة دار الكتب المصرية، القاهرة، 1952، ص334.
[144] المصدر نفسه، جـ4، ص187.
[145] المراكشي: الذيل، س1، ق2، ص497 – 498. وعن نبات دمشق انظر ابن البيطار: الجامع، جـ3، ص148.(15/44)
[146] يقول ابن سعيد وهو أحد من صحب أبا العباس بن الرومية بعد عودته من رحلته بأنه ((كان كثيراً ما يطنب في الثناء على دمشق ويصف محاسنها، فلا انفصل عنه إلا وقد إمتلأ خاطري من شكلها فأتمنى أن أحل مواطنها..))، اختصار القدح، ص181.
[147] المنجد: ((دمشق في نظر الأندلسيين))، ص85.
[148] المنذري: التكملة، جـ6، 335 – 336.
[149] علي بن محمد بن الأثير: الكامل في التأريخ، مطبعة الإستقامة، القاهرة، بلا ت. جـ9، ص314.
[150] سبقت الإشارة إلى هذا الموضوع في هامش (111).
[151] ابن البيطار: الجامع، جـ2، ص126.
[152] المصدر نفسه، جـ2، ص12.
[153] كحالة: معجم المؤلفين، جـ5، ص264.
[154] المنذري: التكملة، جـ، ص335 – 336.
[155] كحالة: معجم المؤلفين، 10: 179.
[156] الذهبي: سير، جـ23، ص59.
[157] المنذري: التكملة، جـ6، ص336.
[158] كراتشكوفسكي: تأريخ الأدب الجغرافي، جـ1، ص347.
[159] ابن البيطار: الجامع، جـ1، ص347.
[160] المراكشي: الذيل، س1، ق2، ص489.
[161] المصدر نفسه، ص511.
[162] المصدر نفسه، ص512.
[163] ابن الابار: تكملة، جـ1، ص121.
[164] ابن سعيد: اختصار القدح، ص181.
[165] المراكشي: الذيل، س1، ق2، ص215.
[166] فهم على سبيل المثال ابن الابار: تكملة، جـ1، ص121.
[167] ابن أبي أصيبعة: عيون ، ص538.
[168] انظر أسمائهم لدى المراكشي: الذيل، س1، ق2 ، ص511.
[169] ابن الابار: تكملة، جـ1، ص121.
[170] الذهبي: تذكرة الحفاظ، جـ2، ص1426.
[171] ابن الابار: تكملة، جـ1، ص112.
[172] المراكشي: الذيل، س1، ق2، ص511.
[173] نفس المصدر والصفحة.
[174] كتب أحد تلامذته سيرته كما سنعرضه فيما بعد. وانظر ابن الابار: تكملة، جـ1، ص121، وكذلك المراكشي: الذيل، س1، ق2، ص511 حيث يقول ((حدثنا عنه شيوخنا.. وكان محدثاً حافظاً ناقداً)).
[175] كحالة: معجم المؤلفين، جـ6، ص22.(15/45)
[176] إبراهيم بن مراد: ((ابن البيطار))، مجلة المورد، وزارة الثقافة والفنون، بغداد، 1977، مجـ6، عدد4، ص129.
[177] انظر لاحقاً التعريف بهذين العالمين في الحديث عن مؤلفات أبي العباس.
[178] ابن أبي أصيبعة: عيون، ص601.
[179] انظر لاحقاً مؤلفات ابن الرومية في النبات.
[180] ابن أبي أصيبعة: عيون، ص601.
[181] ابن البيطار: الجامع، جـ4، ص209.
[182] المصدر نفسه، جـ2، ص122.
[183] المراكشي: الذيل، س1، ق2، ص513.
[184] نفس المصدر والصفحة. وكذلك الذهبي: تذكرة، جـ2، ص1426. وسير، جـ23، ص59. وكذلك ابن الخطيب: الإحاطة، جـ1، ص219. ويسميه (رجالة المعلم بزوائد البخاري على مسلم) ويبدو هذا العنوان أكثر تناسقاً في بنائه. وكذلك المقري: نفح، جـ3، ص353. وكذلك مصطفى بن عبدالله حاجى خليفة: كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون، طبعة الأوفست – طهران، ط3. 1947، جـ2، ص1741، وهو يسميه خطأ (المعلم بما رواه البخاري على مسلم).
[185] المراكشي: الذيل، س1، ق2، ص513، وابن الخطيب: الاحاطة، جـ1، ص219.
[186] ابن الابار: تكملة، جـ1، ص121، والمراكشي: الذيل، س1، ق2، ص513. وابن الخطيب: الاحاطة، جـ1، ص121. حاجي خليفة: كشف: جـ2، ص1382.
[187] حاجي خليفة: كشف، جـ2، ص1382.
[188] ابن الابار: تكملة، جـ1، ص121، ويقول ابن الابار أن شيخه أبا الخطاب بن واجب كان يستحسن هذا الكتاب ويثني عليه. والمراكشي: الذيل، س1، ق2، ص513، وقد ورد لديه (تدليل) بدل (تذييل). والذهبي: تذكرة، جـ2، ص1425، وابن الخطيب: الاحاطة، جـ1، ص219. وحاجي خليفة: كشف، جـ2، ص1382.(15/46)
[189] المراكشي: الذيل، س1، ق2، ص315 . وابن الخطيب: الاحاطة، جـ1، ص219. وحديث الأربعين هو ما ورد أن الرسول (ص) قال وهو ((من حفظ من أمتي أربعين حديثاً في أمردينها بعثه الله تعالى يوم القيامة في زمرة الفقهاء والعلماء)) ويقول حاجي خليفة ((واتفقوا على أنه حديث ضعيف وإن كثرت طرقه وقد صنف العلماء في هذا مالا يحصى من المصنفات)) وعد حوالي (68) كتاباً عدا شروحها والتعليق عليها، انظر كشف الظنون، جـ1، ص52 – 61.
[190] ابن الابار: تكملة، جـ1، ص121، والمراكشي: الذيل، س1، ق2، ص513، وابن الخطيب: الإحاطة، جـ1، ص219.
[191] انظر ترجمته لدى كحالة: معجم المؤلفين، جـ7، ص157 – 158.
[192] ليلاحظ أن تسمية برنامج أو فهرسة أو تذكرة تعني شيئاً واحداً ولكن الألفاظ اختلفت بإختلاف الأزمنة انظر أبا علي الحسن القلصادي: رحلة القلصادي، تحـ محمد أبو الأجفان، الشركة التونسية، 1978، من مقدمة المحقق، ص68.
[193] ابن الابار: تكملة، جـ1، ص121.
[194] المراكشي: الذيل، س1، ق2، ص510، والفهرس فيه من ص490 – 510، ولكن ينقص منه أسماء الشيوخ الأندلسيين وترد في صفحة أخرى من الترجمة نفسها.
[195] ابن الخطيب: الاحاطة، جـ1، ص218.
[196] المراكشي: الذيل، س1، ق2، ص513، وابن الخطيب: الاحاطة، جـ1، ص218، ولا ندري ما كنه هذا العمل.
[197] المراكشي: الذيل، س1، ق2، ص513.
[198] نفس المصدر والصفحة.
[199] نفس المصدر والصفحة، وكذلك ابن الخطيب: الاحاطة، جـ1، ص219. ويسميه ابن أبي أصيبعة (تفسير أسماء الأدوية المفردة من كتاب ديسقوريدس)، عيون، ص538.
[200] Encyclopaedia Britannica, Micropaedia, 15th .edition, U.S.A. 1979,. Vol. IV. p. 358.
[201] ابن أبي أصيبعة: عيون، ص493، 495.
[202] Ency . Brit, Vol. IV. p. 385.
[203] محمد بن اسحق بن النديم: الفهرست، مطبعة الاستقامة، القاهرة، بلا. ت، ص418.(15/47)
[204] لا نعرف شيئاً يذكر عن الغافقي هذا، وقد ترجم له ابن أبي أصيبعة ترجمة غاية في الايجاز، أغلبها مديح للرجل، دون ذكر تأريخ مولده أو وفاته أو إسم مؤلفه ويصف الكتاب هكذا ((وكتابه في الادوية المفردة لا نظير له في الجودة ولا شبيه له في معناه، قد استقصى فيه ما ذكره ديسقوريدس والفاضل جالينوس بأوجز لفظ وأتم معنى. ثم ذكر بعد قوليهما ما تجدد للمتأخرين من الكلام في الأدوية المفردة.. فجاء كتابه جامعاً))، عيون، ص500 – 501.
[205] المراكشي: الذيل، س1، ق2، ص513. وحاجي خليفة: كشف، جـ2، ص1419.
[206] ابن الخطيب: الاحاطة، جـ1، جـ1، ص219.
[207] يضيف المحقق كلمة (والمستدركة) بعد النباتية دون ذكر مصدره، فأثرنا تجاهلها.
[208] نفس المصدر والصفحة.
[209]
[210] ابن العديم: مخطوط البغية، نقلاً عن هامش محقق المنذري: التكملة، جـ6، ص336. هامش(1).
[211] ابن البيطار: الجامع، جـ2، ص14، 77.
[212] المصدر نفسه، جـ2، ص81. سيقوم الباحث بنشر النصوص المتبقية من الرحلة مع دراسة وافية.
[213] يذكر كتابين أو ثلاثة فيما تبقى لدينا من نصوص، منها كتاب ((فقه اللغة)) للثعالبي، أو ((النبات)) لأبي حنيفة الدينوري.
[214] كراتشكوفسكي: تأريخ الأدب الجغرافي، جـ1، ص347.
[215] كمثال انظر ابن البيطار: الجامع، جـ1، ص95.
[216] كأمثلة انظر المصدر نفسه، جـ1، ص86، جـ3، ص95.
[217] كمثال انظر المصدر نفسه، جـ2، ص12 حديث المؤلف عن نبات القرصعنة.
[218] كمثال انظر المصدر نفسه، جـ1، ص173.
[219] كأمثلة انظر المصدر نفسه، جـ2، ص19، جـ4، ص3 – 4، جـ1، ص73.
[220] المراكشي: الذيل، س1، ق2، ص513.
[221] ابن أبي أصيبعة: عيون، ص538.
[222] ابن سعيد: إختصار القدح، ص181.
[223] المراكشي: الذيل، س1، ق2، ص512.
[224] ابن الابار: تكملة، جـ1، ص122. والمراكشي: الذيل، س1، ق2، ص13، وقد ذكرتها كل المصادر الأخرى.(15/48)
[225] انظر جميع المصادر التي سبق إيرادها في ترجمة حياة أبي العباس بن الرومية.
[226] المراكشي: الذيل، س1، ق2، ص513.
[227] ابن الابار: تكملة، جـ1، ص122.
[228] المراكشي: الذيل، س1، ق2، ص513 – 514.
[229] المصدر نفسه، ص511.
[230] (كذا قال الكاتب، ويمكن أن يكون لهذا تفسير آخر، وهو أن ابنه محمد قد ولد له على كبر، وكان قد اشتهر بـ (أبي العباس)، وهي كنية من لم يولد له من الأحمدين)..
[231] وردت أسماؤهم لدى ابن الخطيب: الاحاطة، جـ1، ص221.
[232] المراكشي: الذيل، س1، ق2، ص513.
[233] ذكره ابن العديم: بغية، هامش المنذري: التكملة جـ6، ص335، هامش (1).
[234] المراكشي: الذيل، س1، ق2، ص514 – 517.
[235] ورد في أكثر من موضع في (الجامع) مثلاً، جـ1، ص81، 82، 86، 95..
[236] الذهبي: المشتبه، جـ1، ص339.
[237] كمثال انظر الجامع، جـ1، ص105، 178..
[238] المراكشي: الذيل، س1، ق2، ص487 – 488.
* يقدم الباحث جزيل شكره إلى الأستاذ الدكتور منجد مصطفى بهجت – قسم اللغة العربية ، كلية الآداب ، جامعة الموصل لحرصه على مساعدة الباحث ببعض المصادر التي لم تتيسر له عن طريق آخر.(15/49)
العنوان: أبو بكر والمرتدون
رقم المقالة: 1914
صاحب المقالة: د. أحمد عبدالحميد عبدالحق
-----------------------------------------
شهدت السنونُ الأخيرةُ موجةً من الردَّةِ ساعد على وجودها نظامُ التربية العقيم في عالمنا الإسلامي، وتخلي المؤسساتِ التعليمية عن عملها في غرس العقيدة الصحيحة في قلوب المتعلمين؛ مما كان سببًا في تنشئة الأجيال المسلمة الجديدة بعيدًا عن الإسلام، وفِقدانها من يقوم برعايتها من الدعاة، بعد أن صارت الدعوةُ إلى الله مهنةً يُتكسب بها، ووظيفة تُرحِّلُ إليها الحكوماتُ جزءًا من طلاب الوظائف دون النظر في قدراتهم أو استعداداتهم، في مقابل ذلك ازديادٌ لنشاط الدعوات التخريبية؛ من تنصيرٍ وإلحادٍ وغيره، وفي الوقت نفسه تشجيعٌ وتحريض من جهات خارجية لأصحاب تلك الدعوات، وتقديم الدعم المادي والمعنوي لهم، بل والتدخل لحمايتهم من تطبيق القوانين عليهم، حتى صار بعضُهم يجاهر بعد ردته بتسفيه الإسلام وأهله -دون بينة- والتطاول على أئمته بمن فيهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، بل وعلى ذات الله سبحانه وتعالى!..
فإذا ما سعى أحدٌ لمقاضاتهم أمام القانون هبَّ حماتُهم في الغرب والشرق للدفاع عنهم، وحضوا المسئولين على التدخل للضغط على المحاكم لإلغاء الأحكام التي تصدر عليهم، ثم قيام إعلامهم بعد إلغاء تلك الأحكام بالرفع من شأنهم، وتصويرهم على أنهم كانوا ضحايا لعدم تقدير الإنسانية وحريتها، وذلك لاستعطاف عوام الناس عليهم..
ومما زاد من الخطب سعيُ من تولى كِبرَ ذلك من هؤلاء لِجَرِّ مَنْ نصبتهم السلطاتُ علماءَ، وجعلت منهم المفتين والمتكلمين الرسميين باسم الإسلام دون سواهم - لأن يُلقوا جزافًا بالأحكام التي تؤيد مسعى هؤلاء، وتمنحهم الحق في ردتهم باسم حرية الاعتقاد وأنه لا إكراه في الدين..(16/1)
ولخطورة ذلك الأمر رأيتُ أن أعرض في هذه الصفحات التالية موقفَ أبي بكر الصديق من الطائفة المرتدة وكيفية تعامله معهم، على اعتبار أن عصره شهد أكبر فتنة تتعلق بهذا الأمر؛ لنكون على بينة من موقف الإسلام من تلك القضايا، والخطوات العملية التي اتخذها السلف في مجابهتها..
وقبل الخوض في الحديث لابد من الإشارة لعدة نقاط:
النقطة الأولى: أن أبا بكر الصديق بعد محاورته لكبار الصحابة لم يخالفه أحدٌ منهم في الإجراءات التي اتخذها بشأن المرتدة.
النقطة الثانية: أنه لم يصدر عن أي من علماء السلف المشهود لهم بالفضل على مر التاريخ رأيٌ أو اجتهادٌ يخالف ما ذهب إليه أبو بكر الصديق في هذه القضية.
النقطة الثالثة: أن تطبيق الأحكام الإسلامية يكون بحسب التمكين للمسلمين، بمعنى أن تطبيق بعض الأحكام الإسلامية قد يتوقف في البيئة التي تكون الهيمنةُ فيها لغيرهم، ولكن ذلك لا يغير من الحكم الثابت أو يبدله شيئًا..
وعليه فإن من فعل شيئا يخرج من الإسلام، ولم يرجع عنه فهو مرتد، ليس له مسمى غير ذلك، بغض النظر عن تطبيق الأحكام الشرعية عليه أو عدم تطبيقها، لتتصرف معه الجهات القضائية كيفما شاءت، تعاقبه أو تعفو عنه، أو تجعل فعله من مباحات القانون، فهي المسئولة عن ذلك أمام الله، ولكن يبقى حكمُه في الشرع ثابتًا، وهو المقاتلة حتى يرجع لدين الله، ولا يوصف بغير كونه مرتدًا عن الإسلام..(16/2)
النقطة الرابعة: أن أبا بكر قاتل المرتدين باعتبارهم خارجين على الإسلام، وليس على الدولة أو القانون كما زعم بعض المعاصرين، بدليل قوله -رضي الله عنه- معلقا على من جادله بشأنهم: "أينقص الدين وأنا حي..؟!" ولما قال له عمر رضي الله عنهما: "كيف تقاتلهم وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أُمرتُ أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمن قال: لا إله إلا الله، فقد عصم مني نفسه وماله إلا بحقه، وحسابه على الله، فقال أبو بكر: والله لأقاتلنّ من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عناقًا لقاتلتهم على منعهم".
وهذا الخبر أخرجه البخاري عن أبي هريرة -رضي الله عنه-؛ قال: "لما توفي رسولُ الله وكان أبو بكر -رضي الله عنه-، كفَر مَنْ كفَر من العرب، فقال عمر -رضي الله عنه-: كيف تقاتل الناس... (البخاري: 3/308) وذلك يعني أن الصحابة كانوا متفقين على ردتهم وكفرهم، وإنما كان الخلاف أولا حول إمكانية مقالتهم.
النقطة الخامسة: أن المرتدين الذين تظاهروا بالإسلام ومنعوا الزكاة كان في نيتهم أن يحاربوا أبا بكر قبل أن يحاربهم، بل قد حدث ذلك بالفعل، فقد استغلوا غياب جيش المسلمين مع أسامة وأغاروا على المدينة، هذا فضلا عن قتل بعضهم لمن ثبت على دينه من أهلهم، فقد وثبت بنو ذبيان وعبس على من فيهم من المسلمين فقتلوهم -كما قال الطبري- كل قتلة، وكذلك فعل مَن وراءهم فِعلَهم..(16/3)
وكل من ادعى النبوة شرع في تجييش الجيوش لمحاربة أبي بكر الصديق قبل أن يجيشها لهم، مثال ذلك ما حدث مع طليحة الأسدي، فقد حدث الطبري "عن القاسم بن محمد قال: مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- واجتمعت أسد وغطفان وطيء على طليحة إلا ما كان من خواص أقوام في القبائل الثلاث، فاجتمعت أسد بسميراء وفزارة ومن يليهم من غطفان بجنوب طيبة وطيء على حدود أرضهم، واجتمعت ثعلبة بن سعد ومن يليهم من مرة وعبس بالأبرق من الربذة، وتأشب إليهم ناس من بني كنانة فلم تحملهم البلاد فافترقوا فرقتين، فأقامت فرقة منهم بالأبرق، وسارت الأخرى إلى ذي القصة، وأمدهم طليحة بـ"حبال" فكان "حبال" على أهل ذي القصة من بني أسد ومن تأشب من ليث والديل ومدلج...".
وحتى من ذهبوا ليجادلوه في إقامة الصلاة والإمساك عن الزكاة كانوا قد اصطحبوا معهم الجيوش سرًّا، وجعلوها على مقربة منهم خارج المدينة يتحينون الفرصة لمباغتته..
النقطة السادسة: أن أبا بكر الصديق لم يفرق في قتاله للمرتدين بين من أعلنوا الحرب عليه أو من اكتفوا بردتهم؛ وذلك لأن قتاله لهم لم يكن لخروجهم على الدولة كما ذكرنا من قبل، وإنما لخروجهم على الإسلام، ولم نسمع أنه -رضي الله عنه- قبِل من أحد منهم غيرَ الإسلام، وكانت رسالتُه في ذلك لأمرائه صريحة "ولا يُقبلُ من أحد إلا الإسلام، فمن اتبعه فهو خير له، ومن تركه فلن يُعجِز الله، وقد أمرت رسولي أن يقرأ كتابي في كل مجمع لكم، والداعية الأذان، فإذا أذَّن المسلمون فأذِّنوا وكفوا عنهم، وإن لم يؤذنوا عاجلوهم، وإن أذّنوا اسألوهم ما عليهم، فإن أبوا عاجلوهم، وإن أقروا قُبل منهم، وحملهم على ما ينبغي لهم...".
بل إن أبا بكر رفض أن يقبل ممن عرض عليه أن يؤلف إليه قومه مقابل جُعْل من المال، فقد جاءه الزِّبْرِقانُ بنُ بدر والأقرعُ بنُ حابس وقالا: اجعل لنا خَرَاجَ البحرين ونضمن لك ألا يرجع من قومنا، فأبى..(16/4)
ونقول ذلك؛ لأن البعض الآن لا يرى عقوبةً على المرتدين إذا اكتفوا بردتهم ولم يخرجوا على الدولة، مع أن مرتدة العصر -وإن لم يحملوا السلاح- ما كفُّوا يومًا عن محاربة الإسلام والتطاول على شرعه وتعاليمه ورموزه، وما تركوا فرصة إلا وجَدُّوا في استفزاز المسلمين بالطعن في دينهم، هذا فضلا عن سعي الكثير منهم لوصل حبالهم بجهات خارجية تحميهم كما قلنا حتى من تطبيق القوانين المدنية عليهم..
النقطة السابعة: أن المرتدين شوكتُهم أشد على المسلمين عشرات المرات من شوكة الكافر والمشرك الذي لم يحتك بالإسلام من قبل، ومن شاء فليراجع تاريخ القرامطة وغيرهم من الفرق الخارجة على الإسلام، وكذلك تاريخ الأسر المرتدة التي أتيحت لها الفرصةُ لتهيمن على بعض ديار الإسلام كالهند وغيرها؛ لذا لا ينفع معهم غير سياسة الحزم المبكر كما فعل الصديق -رضي الله عنه-.
وقد تعايش المسلمون على مر التاريخ بسلام مع أصحاب الديانات الأخرى بينهم -قلة أو كثرة- ولم يستطيعوا أن يتعايشوا مع المرتدة؛ لامتلاء قلوبهم بالغيظ عليهم..
النقطة الثامنة: أن حركة الردة على عهد أبي بكر بدأت برموز من أصحاب الأهواء والطامعين، ثم تبعها جموعٌ غفيرة لا رأي لها من أبناء قبائلهم، ومن ثم كان التخلص من تلك الرموز يعني عودة تلك الجموع إلى دين الله أفواجًا، ولو بقيت تلك الرموزُ أو الرءوس لتأصَّل الكفرُ في قلوب تلك الجموع، والآن أيضا المرتدة ما هم إلا شراذم قليلة تنعق فيتبعها الأراذل من الناس، لكن إن تُرِكت عمَّت نارُها، واستفحل شرُّها وعظم..(16/5)
النقطة التاسعة: أن كل مسلم على عهد أبي بكر أحس بأنه مسئول أمام الله بما يلزم أبا بكر، وأن مدافعة المرتدين من باب الفروض عليه، لذا كان الواحدُ منهم يتحرك بدافع من نفسه، ولا ينتظر حتى يأتيه الأمر من الخليفة، فهذا (الجارود بن عمرو بن حنش)، وقد وفد على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قيبل وفاته، وكان من قبلُ على النصرانية فأسلم، وبقي بالمدينة حتى فقه في الدين، ثم رجع إلى قومه فلم يلبث إلا يسيراً حتى توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فارتد قومه (بنو عبد القيس)، وقالوا: لو كان محمد نبياً لما مات، وبلغ ذلك الجارود فجمعهم وقال لهم: يا معشر عبد القيس، إني سائلكم عن أمر فأخبروني به إن علمتموه، ولا تجيبوني إن لم تعلموا، قالوا: سل عمّا بدا لك، قال: تعلمون أنه كان لله أنبياء فيما مضى؟ قالوا: نعم، قال: تعلمونه أو ترونه؟ قالوا: لا بل نعلمه، قال: فما فعلوا؟ قالوا: ماتوا، قال: فإن محمداً -صلى الله عليه وسلم- مات كما ماتوا، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، فقالوا: ونحن نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، وأنك سيدنا وأفضلنا، وثبتوا على إسلامهم.
ثم صار يقاتل بقومه من ارتد من أهل البحرين حتى جاءه جيش أبي بكر الصديق..
وهذا (الطاهر بن أبي هالة) أيضا لما أحس بخطورة الأمر لم ينتظر الأمر من أبي بكر الصديق، وإنما تحرك بمن معه نحو تهامة اليمن، فقاتل من بها من المرتدين من أهل (عك) و(الأشعريين)، وانتصر عليهم قبل أن يصل إليه كتابُ أبي بكر الصديق.(16/6)
لذا لم يمض سوى عام على تولي أبي بكر الصديق الخلافة حتى عمت السكينة سائر الجزيرة العربية، وصارت أهدأ من حالها قبل وفاة رسول الله، والآن كل فرد مسلم مطالب بأن يقوم بعمله لحماية الإسلام من خطر الردة، وأن يعلم أن ذلك من باب الفروض عليه، ولا يعني ذلك أن نحمل السلاح في وجوه الناس، وإنما يشارك الواعظ بموعظته، والعالم بحجته، والمدرس بتربيته، وولي الأمر بتحصين من يعوله ضد فكر هؤلاء المنحرف، والمحامي بدفاعه، والقاضي بحكمه..
النقطة العاشرة: أن كثيرًا من القبائل العربية لما رأت الهزائم تتوالى على المرتدين أسرعت إلى العودة إلى الإسلام، كما حدث من بني عامر وبني سليم وهوازن، إذ أسرعوا إلى الإنابة إلى الله لما وجدوا الهزيمة قد حلت بطليحة الأسدي وعيينة بن حصن، وكانوا من قبل يخافون من شوكتهما، ويقولون: ننظر من تكون له الكرة فنتبعه، فهل يا ترى ما مصير هؤلاء لو تساهل أبو بكر الصديق مع المرتدين، ألم يكن ذلك سيجرئهم على الخروج على الإسلام هم أيضًا؟؟..
والآن ننظر كيف واجه أبو بكر -رضي الله عنه- هؤلاء:
قال عروة بن الزبير: لما بويع أبو بكر -رضي الله عنه- ارتدت العرب إما عامة (أي بإعلان الخروج من الإسلام) وإما خاصة (أي بالامتناع عن الزكاة) في كل قبيلة، ونَجَمَ النفاقُ، واشرأبت اليهودُ والنصارى، والمسلمون كالغنم في الليلة المطيرة الشاتية لفقد نبيهم -صلى الله عليه وسلم- وقلتهم وكثرة عدوهم..
بهذا الموقف استقبل أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- خلافته، ومع فداحته إلا أنه انتظر ما هو أشد فداحة منه، فقال لمن حوله لما جاءتهم هذه الأخبار: "لن تبرحوا حتى تجيء رسل أمرائكم وغيرهم بأدهى مما وصفتم وأمرُّ، فلم يلبثوا أن قدمت كتبُ أمراء النبي -صلى الله عليه وسلم- الذين أرسلهم قبيل وفاته من كل مكان بانتفاضة عامة أو خاصة، وتبسطهم بأنواع الميل على المسلمين..(16/7)
إذن فالأمرُ كان أصعبَ مما نعانيه الآن من هجوم شرس على الإسلام، والحال كان أظلمَ وأشدَّ قتامة، لكنّ أبا بكر لم يهن، ولم تَلِن له قناةٌ، وإنما أصر على تأمين حدود الدولة الإسلامية ضد أي خطر مرتقب من الخارج عن طريق بعث جيش أسامة، والضرب بيد من حديد على كل من سولت له نفسُه وشيطانه الخروجَ على الإسلام في الداخل..
ولما قال له الناس: إن هؤلاء (أي جيش أسامة) جُل المسلمين، والعربُ على ما ترى قد انتقضت بك، فليس ينبغي لك أن تفرق عنك جماعةَ المسلمين، رد عليهم: "والذي نفس أبي بكر بيده لو ظننتُ أن السباع تخطفني لأنفذتُ بعث أسامة كما أمر به رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولو لم يبق في القرى غيري لأنفذته"...
وما هي إلا ساعات حتى انتهت مناقشة هذا الأمر مع مجموع أهل الشورى الموجودين بالمدينة، فودع أسامة وجيشه إلى حيث أوصاهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالمسير، وجمع مَن عنده قدرة على حمل السلاح من الأعراب الذين كانوا يسكنون حول المدينة ليكوّن منهم جيشَ دفاع داخلي..
ثم جعل كبارَ الصحابة في نقاطِ مراقبة على منافذ المدينة إلى البادية، ومنهم علي بن أبي طالب، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف، وعبد الله بن مسعود..
جدد طلبه من أهل المدينة أن يكونوا في المسجد استعدادًا لكل طارئ، وقال لهم: "إن الأرض حولنا كافرة، وقد رأى وفدهم قلة، وإنكم لا تدرون أليلاً تؤتون أم نهاراً، وأدناهم منكم على بريد، وقد كان القوم يأمُلون أن نقبل منهم ونوادعهم، وقد أبينا عليهم، ونبذنا إليهم عهدهم، فاستعدوا وأعدّوا".(16/8)
ولم تمض سوى أيام ثلاثة على تشييع جيش أسامة حتى داهمت المدينةَ غاراتُ المرتدين ليلاً، وذلك بعد أن اطمأنوا إلى أن جيش أسامة قد ابتعد عن المدينة وأوغل في البعد، فأوصل المراقبون خبرَ زحفهم إلى أبي بكر الذي كان مرابطًا بمن معه في المسجد إلى الحراس على مداخل المدينة أن اثبُتوا لهم حتى يلحق بهم، ثم أسرع إليهم بمن معه، فانهزم المغيرون وولوا الأدبار، ولحقهم المسلمون على إبلهم حتى قابلوهم في مكان يسمى بـ(ذي حسى)..
لكن المسلمين فوجئوا بأن هؤلاء المغيرين ما هم إلا طليعة لجيش يختبئ خلف الجبال، فلما اشتبكوا معهم أخرجوا قِرَبًا لهم قد نفخوها كحيلة لتخويف الإبل، ودحرجوها بأرجلهم في وجه إبل المسلمين، فنفرت الإبل خوفًا منها حتى انقلبت بمن يركبها من المسلمين إلى المدينة واضطرب صفهم، فشق الأمر عليهم، وسعد المرتدون بذلك الحدث الذي كان من الممكن أن يكون بداية لتضييق الخناق على المدينة ومن فيها..
لكن أبا بكر -رضي الله عنه- لم يمهلهم، وإنما سابق بهم الزمن، وأعاد ترتيب جيشه صباح اليوم التالي بحيث يستغني عن الإبل تمامًا، ثم خرج إليهم ماشيًا في آخر الليل بجيشه مخليا الإبل بالمدينة، وعلى الميمنة النعمان بن مُقَرّن، وعلى الميسرة عبد الله بن مقرن، وعلى الساقة سويد بن مقرن، فما أصبح الصباح إلا والمسلمون يعجلونهم بالسيف، فولوا الأدبار، وتبعهم المسلمون إلى (ذي القصة)، وهناك ترك أبو بكر النعمان بن مقرن في عدد من المسلمين، ورجع هو بالناس إلى المدينة، بعد أن أمنها من الخطر مسافة أميال عدة.(16/9)
فارتفعت معنويات المسلمين بهذا النصر، وثبت مسلمو القبائل المحيطة بالمدينة على دينهم، ووافق ذلك وصول أموال الصدقات من عدة جهات، فقد جاء صفوان بن أمية بصدقات بني عمرو، وذلك في أول الليل، وجاء الزبرقان بن بدر في وسط الليل بصدقات بني عوف، وجاء عدي بن حاتم الطائي في آخر الليل بصدقات قومه، اجتمع كل ذلك ليكون منة من الله على المسلمين الذين ثبتوا مع أبي بكر في مواجهة هؤلاء المرتدين..
واكتملت الفرحة بعودة أسامة بجيشه منتصرًا غانمًا ظافرًا بعد شهرين كاملين من رحيله..
ومع أن نصره قد فتّ في عضد المرتدين والمنافقين، وجعلهم لا يفكرون بعدها في مهاجمة المدينة إلا أن الصديق -رضي الله عنه- لم يرض بنصر ناقص، لم يرض بأقل من أن تعود الجزيرة العربية إلى سالف عهدها قبيل وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم-، تكونُ فيها العزةُ لله ورسوله وللمسلمين دون سواهم، لم يرض أن يكون بجزيرة العرب مكانٌ يعبد فيه الشيطان، فاستخلف من توّه أسامة بن زيد على المدينة، وقال له ولمن معه: "أريحوا وأريحوا ظهركم"، ثم خرج بحامية المدينة التي خرج بها من قبل إلى (ذي القصة)، فقال له من حوله من المسلمين: ننشدك الله يا خليفة رسول الله أن تعرض نفسك، فإنك إن تصب لم يكن للناس نظام أبداً..
ولم يكن كلام الصديق -رضي الله عنه- عن الخروج بنفسه إلى من تبقى من المرتدين كلامًا يردد للدعاية كما يحدث من بعض الساسة الذين دأبوا على استغفال شعوبهم، ولذا قال: "لا والله لا أفعل، ولأواسينكم بنفسي"، ثم خرج إلى (ذي الحسى) و (ذي القصة) حيث يعسكر النعمان بن مقرن وأخواه، فضمهم إلى جيشه ثم توجه إلى الرَبَذة، وهناك التقى من تجمع فيها من المرتدين فقاتلهم حتى ولّوا الأدبار، وتفرق شملهم، وأقسم ليقتلن كل من تجرأ على قتل مسلم منهم إن وصلت إليه جيوشه قبل أن يعود إلى الإسلام؛ ليكون عبرة لغيره ممن تسول له نفسُه الاعتداءَ على المسلمين..(16/10)
ثم جاءته بعد ذلك رسلُ القبائل المحيطة بالربذة مُقرةً له بما أوجبه الإسلام من صلاة وزكاة و... إلى آخر أركان الإسلام وواجباته..
عاد أبو بكر بعدها إلى المدينة، وكان جندُ أسامة قد أخذوا حظهم من الراحة، وأضيف إليهم المزيدُ من الراغبين في الجهاد، فعقد -رضي الله عنه- أحد عشر لواءً للقضاء على من تبقى من المرتدين في كل أنحاء الجزيرة العربية، بقيادة خالد بن الوليد، وعكرمة بن أبي جهل، وشرحبيل بن حَسَنة، والمهاجر بن أبي أمية، وعمرو بن العاص، وخالد بن سعيد بن العاص، وحذيفة بن محصن، وعرفجة بن هرثمة، وطريفة بن حاجز، وسويد بن مُقَرن، والعلاء بن الحضرمي.
ولم يكتف بذلك بل بعث إلى أمرائه الذين ثبتت رعيتهم على الإيمان أن يجيشوا ما يستطيعون منهم، فأعد (عَتَّابُ بن أسيد) والي مكة أخاه خالد بن أسيد، وسيره إلى المرتدين في تِهامة فغلبهم، وبعث (عثمان بن أبي العاص) والي الطائف ابنه ربيعة إلى شنوءة فقهرهم أيضًا، وأرسل إلى (جرير بن عبد الله البجلي) أن يسير بمن معه من المؤمنين إلى (بجيلة) و (خثعم) فانتصر عليهم.
وتلك خطوة غير مسبوقة في التاريخ -حسب علمي- أن يقاتل رجل في أكثر من عشر جهات متفرقات، وما ذاك إلا لثقته -رضي الله عنه- في نصر الله، ولأنه كما قلنا كان يسابق الزمن، وكان حريصًا على أن ينقل نور الإسلام إلى خارج الجزيرة العربية قبل وفاته، كما كان يعلم أن تلك القبائل التي وجه لقتالها كان بينهم الكثير من المسلمين الذين أخفوا إسلامهم بين المرتدين، ويتحينون الفرصة للمجاهرة بإسلامهم...
ومع حزمه الشديد وحرصه على ألا يتسامح مع المرتدة قِيدَ أنملة، إلا أنه كان ينصح قادته أن يسيروا على مبدأ "وآخر الدواء الكي"؛ بمعنى أنه أمرهم أن يجعلوا القتال آخر وسيلة يلجئون إليها في مواجهة هؤلاء المرتدة، خاصة وأنهم قد اختلط بهم من أخفى إسلامه، أو أجبر على مسايرة زعمائهم..(16/11)
وأرسل مع كل قائد رسالة، وأمره أن يقرأه على كل قوم يمر عليهم، وقد جاء في تلك الرسالة "بسم الله الرحمن الرحيم، من أبي بكر خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى من بلغه كتابي هذا من عامة وخاصة، أقام على إسلامه، أو رجع عنه..
سلام على من اتبع الهدى، ولم يرجع بعد الهدى إلى الضلالة والعمى، فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، نقر بما جاء به، ونكفّر من أبى ونجاهده..
أما بعد.. فإن الله تعالى أرسل محمدًا بالحق من عنده إلى خلقه بشيرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا؛ لينذر من كان حيا؛ ويحق القول على الكافرين، فهدى الله بالحق من أجاب إليه، وضرب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بإذنه من أدبر عنه، حتى صار إلى الإسلام طوعًا وكرهًا، ثم توفي الله رسوله -صلى الله عليه وسلم- وقد نفذ لأمر الله، ونصح لأمته، وقضى الذي عليه..
وكان الله قد بين له ذلك، ولأهل الإسلام في الكتاب الذي أنزل فقال تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: 30] وقال: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [الأنبياء: 34] وقال للمؤمنين: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144]..(16/12)
فمن كان إنما يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان إنما يعبد الله وحده لا شريك له فإن الله له بالمرصاد، حي قيوم لا يموت، ولا تأخذه سنة ولا نوم، حافظ لأمره، منتقم من عدوه ويجزيه، وإني أوصيكم بتقوى الله وحظكم ونصيبكم من الله وما جاءكم به نبيكم -صلى الله عليه وسلم-، وأن تهتدوا بهداه، وأن تعتصموا بدين الله، فإن كل من لم يهده الله ضال، وكل من لم يعافه مبتلى، وكل من لم يعنه الله مخذول، فمن هداه الله كان مهتديًا، ومن أضله كان ضالا، قال الله تعالى: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا} [الكهف: 17] ولم يُقبل منه في الدنيا عمل حتى يقر به، ولم يُقبل منه في الآخرة صرف ولا عدل، وقد بلغني رجوع من رجع منكم عن دينه بعد أن أقر بالإسلام وعمل به؛ اغترارا بالله وجهالة بأمره، وإجابة للشيطان، قال الله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً} [الكهف: 50] وقال: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر: 6]..(16/13)
وإني بعثت إليكم فلانًا في جيش من المهاجرين والأنصار والتابعين بإحسان، وأمرته ألا يقاتل أحدًا، ولا يقتله حتى يدعوه إلى داعية الله، فمن استجاب له وأقر وكف وعمل صالحًا قبل منه، وأعانه عليه، ومن أبى أمرت أن يقاتله على ذلك، ثم لا يبقي على أحد منهم قدر عليه، وأن يحرقهم بالنار، ويقتلهم كل قتلة، وأن يسبي النساء والذراري، ولا يقبل من أحد إلا الإسلام، فمن اتبعه فهو خير له، ومن تركه فلن يعجز الله، وقد أمرت رسولي أن يقرأ كتابي في كل مجمع لكم، والداعية الأذان، فإذا أذن المسلمون فأذنوا كفوا عنهم، وإن لم يؤذنوا عاجلوهم، وإن أذنوا سألوهم ما عليهم، فإن أبوا عاجلوهم، وإن أقروا قُبل منهم، وحملهم على ما ينبغي لهم".
وأما وصيته للأمراء فجاء فيها:(16/14)
"بسم الله الرحمن الرحيم، هذا عهد من أبي بكر خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لفلان حين بعثه فيمن بعثه لقتال من رجع عن الإسلام، وعهد إليه أن يتقي الله ما استطاع في أمره كله سره وعلانيته، وأمره بالجد في أمر الله، ومجاهدة من تولى عنه، ورجع عن الإسلام إلى أماني الشيطان بعد أن يعذر إليهم، فيدعوهم بداعية الإسلام، فإن أجابوه أمسك عنهم، وإن لم يجيبوه شن غارته عليهم حتى يقروا له، ثم ينبئهم بالذي عليهم والذي لهم، فيأخذ ما عليهم، ويعطيهم الذي لهم، لا ينظرهم ولا يرد المسلمين عن قتال عدوهم، فمن أجاب إلى أمر الله عز وجل وأقر له قبل ذلك منه، وأعانه عليه بالمعروف، وإنما يقاتل من كفر بالله على الإقرار بما جاء من عند الله، فإذا أجاب الدعوةَ لم يكن عليه سبيل، وكان الله حسيبه بعدُ فيما استسَرَّ به، ومن لم يُجب داعيةَ الله قتل وقوتل، حيث كان وحيث بلغ مراغمه، لا يقبل من أحد شيئًا أعطاه إلا الإسلام، فمن أجابه وأقرّ قبل منه وعلمه، ومن أبى قاتله، فإن أظهره الله عليه قتل منهم كل قتلة بالسلاح والنيران، ثم قسم ما أفاء الله عليه إلا الخمس، فإنه يبلغناه، وأن يمنع أصحابه العجلة والفساد، وألا يدخل فيهم حشوًا حتى يعرفهم، ويعلم ما هم؛ لا يكونوا عيونًا، ولئلا يُؤتى المسلمون من قِبَلهم، وأن يقتصد بالمسلمين، ويرفق بهم في السير والمنزل، ويتفقدهم، ولا يعجل بعضهم عن بعض، ويستوصي بالمسلمين في حسن الصحبة ولين القول".....(16/15)
وسار الجيش الأول بقيادة خالد بن الوليد، وقصد طليحة الأسدي، وفي طريقه مر بقبيلة طيء، وكان أفرادها قد انحازوا إلى طليحة عصبية له، ولكن خالدًا لم يبدأ بمهاجمتهم، وإنما أخذ بنصيحة الصديق، وأبطأ في مهاجمتهم، وقد طلب منه عدي بن حاتم أن يمهله ثلاثة أيام يراجعهم فيها ففعل، وماطلوه أولا وقالوا: لا نبايع أبا الفصيل أبدًا (يقصدون أبا بكر)، فقال عدي مهددًا إياهم: لقد أتاكم قوم ليبيحُن حريمكم، ولتكنُنه بالفحل الأكبر، فشأنكم به! فقالوا له: فاستقبل الجيش فنهنهه عنا حتى نستخرج من لحق بالبزاخة (المكان الذي عسكر فيه طليحة) منا، فإنا إن خالفنا طليحة وهم في يديه قتلهم، أو ارتهنهم، فأجابهم إلى ذلك، ونجح في فصلهم عن طليحة، وعادوا مقرين بالإسلام، وبما أوجبه الله عليهم..
وأراد خالد أن يقصد قبيلة (جديلة) بعد ذلك، فقال له عدي: إن طيئا كالطائر، وإن جديلة أحد جناحي طيء فأجلني أيامًا لعل الله أن ينقذ جديلة كما أنقذ طيئًا، ففعل فأتاهم عدي فلم يزل بهم حتى بايعوه، فجاءه بإسلامهم، ولحق بالمسلمين منهم ألف راكب..
ثم صار خالد إلى (بُزاخة) فالتقى طليحة الأسدي ومن انحاز إليه من المرتدين، وكان معه عيينة بن حصن في سبعمائة من بني فزارة فقاتل قتالا شديدًا حتى إذا أحس بوطئة الحرب ذهب إلى طليحة، فقال: هل جاءك جبريل؟ فقال: نعم، قال عيينة فماذا قال لك؟ فقال طليحة: قال لي: إن لك رحا كرحاه وحديثا لا تنساه، فقال عيينة: أظن أن قد علم الله أنه سيكون حديث لا تنساه، يا بني فزارة انصرفوا فهذا والله كذاب، فانصرفوا، وانهزم باقي الناس فأتوا طليحة يقولون: ماذا تأمرنا، وقد كان أعد فرسه عنده وهيأ بعيرًا لامرأته، فوثب على فرسه، وحمل امرأته ثم نجا بها، وقال: من استطاع منكم أن يفعل مثل ما فعلت وينجو بأهله فليفعل، ثم تركهم للقتل وفر إلى الشام[1]، وهذا جزاء من يتبع كل ضال..(16/16)
فاجتمعت بعدَ فرارِه أسد وعامر وغطفان إلى خالد -رضي الله عنه-، وأعلنوا توبتهم، وليس هذا فقط، بل إن بني عامر وسائر القبائل من سليم وهوازن بعد أن رأوا هزيمتهم أقبلوا يقولون: ندخل فيما خرجنا منه، ونؤمن بالله ورسوله، ونسلم لحكمه في أموالنا وأنفسنا...
فبايعهم خالد على الإسلام وكانت بيعته: عليكم عهد الله وميثاقه لتؤمنن بالله ورسوله، ولتقيمن الصلاة، ولتؤتن الزكاة، وتبايعون على ذلك أبناءكم ونساءكم..
ولكنه لم يقبل من أحد منهم إلا أن يأتوه بالذين حرقوا ومثلوا وعَدَوْا على أهل الإسلام في حال ردتهم، فأتوه بهم فأوثقهم وأحرقهم بالنيران ورضخهم بالحجارة، ورمى بهم من الجبال، ونكسهم في الآبار؛ جزاء وفاقًا لما فعلوه بالمسلمين من قبل ليكونوا عبرة لغيرهم..
وكان ذلك عن أمر أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- فقد كتب إليه يقول: "ليزدك ما أنعم الله به عليك خيرًا، واتقِ الله في أمرك، فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، جد في أمر الله،.. ولا تظفرن بأحد قتلَ المسلمين إلا قتلته ونكَّلت به غيره..
وبعد انتهاء خالد من بني أسد وأحلافهم اتجه بأمر من الخليفة إلى بني يربوع في تميم وعليهم مالك بن نويرة، وكان قد تحالف من قبل مع سجاح التغلبية على المسلمين، ولكنها تخلت عنه لما شعرت بقوة المسلمين، وعادت إلى موطنها "الجزيرة" فتحير بنو تميم الذين حالفوها من قبل، وندموا على ما كان منهم، ولم يلبثوا طويلاً حتى وصلت إليهم جيوش خالد بن الوليد، فعندما جيء برؤسائهم إلى خالد جادلهم، وشهد جماعة على بني يربوع أنهم لم يؤذنوا فقتلهم، وقتل ضرار بن الأزور الذي كان على طليعة خالد مالك بن نويرة...
وحدثت خلافات في قتله، وذكر عوام القصاص في ذلك الأعاجيب، من ذلك أنه قتله وخلفه على امرأته دون أن تعتد، وأنه قطع رأسه وأوقد فيها النار حتى استوت عليها اللحم التي أعدها لطعامه..(16/17)
ومن العجب أن من يُسمُّون أنفسهم بالتنويريين في عصرنا صاروا يجمعون مثل تلك الروايات ليطعنوا بها في صحابة رسول الله، ولم يكلف الواحدُ منهم نفسَه ليُعمِل عقلَه في مثل تلك القصص، فأيُّ شعرِ رأسٍ هذا الذي تُوضع عليه اللحومُ فينضجها مهما كان كثيفًا؟! إننا لو أحضرنا قنطارًا من الشعر وأشعلنا فيه النار لاحترق قبل أن تنضج اللحوم التي توضع عليه، فما بالنا بفروة رأس؟!..
وعلى كل فإن أبا بكر الصديق قد عاتب خالدًا بعد عوده إلى المدينة؛ لأنه لم يتريث في قتلهم، فاعتذر لأبي بكر بأنه لم يصدر عنهم ما يدل على أنهم قد هموا بالإقدام على الإسلام فرضي عنه، ولم يكن أمام أبي بكر غير ذلك في مثل تلك الظروف، فالأمور مضطربة، والأحوال مختلة، والبعض يدعي ما ليس في قلبه، وقد شهد الأكثرية أن مالك بن نويرة ومن معه لم يسلموا، ومن سمعه يقول: صبأنا فسرها بأنه قالها والسيف على رأسه نجاة من الموت، ودرأً للشبهة دفع أبو بكر الصديق ديةَ مالك بن نويرة ومن قُتل معه، ورد على أهلهم سبيهم ومالَهم الذي أُخذ منهم كما ذكر الذهبي في كتابه "تاريخ الإسلام"..
وإذا كنا نرى أمريكا بجبروتها تبرّئ جنودها الآن من كل عملية تنسب إليهم ويروح فيها عشرات بل مئات الأبرياء من الأطفال والعجائز وهم آمنون في بيوتهم، فعلامَ يسعى أذيالها لكيل التهم لجيش خالد لأنه قتل قائد الجيش المحارب له؟!..(16/18)
ونعود إلى خالد بن الوليد فنقول: إن أبا بكر قد أمره بالمسير إلى مسيلمة الكذاب بعد الفراغ من مالك بن نويرة، فسار إلى البطاح والتقى جنده هناك، وانتظر حتى جاءه المدد، فقام إلى مسيلمة وأتباعه من بني حنيفة، وكان (عكرمة بن أبي جهل) قد قصده من قبل فُهزم على أيديه، فأمده أبو بكر الصديق بشرحبيل بن حسنة، ولكنه لما علم بهزيمة عكرمة طلب من شرحبيل ألا يتسرع في مصادمته قبل أن يزوده بمدد آخر عوضًا عمن فقد من جيش عكرمة، لكنه تعجل المواجهة، واستعان على قتالهم بمن ثبت على إسلامه من بني حنيفة بإمرة ثمامة بن أثال، فهُزم أيضا أمام مسيلمة لقلة عدد من معه، فلامه خالد عند وصوله على تسرعه؛ حتى حلت به الهزيمة..
أما مسيلمة فإنه استقوى بعد انتصاره على عكرمة وشرحبيل، وعسكر ببني حنيفة في منطقة تسمى "عقرباء" في أعلى وادي حنيفة، فسلك إليه خالد من ثنية في جبل اليمامة (طويق) وعلى مُجَنِّبَتيه زيد بن الخطاب أخو عمر، وأبو حذيفة بن عتبة، وكانت راية المهاجرين مع سالم مولى أبي حذيفة، وراية الأنصار مع ثابت بن قيس، ثم أمر ضرار بن الأزور أن يسير في قسم من الجند من ثنية أخرى من الشمال، وينزلوا من جهة منطقة تسمى (ملهم) إلى عقرباء..
وعند "عقرباء" جرت معركة حامية الوطيس بين الفئتين، تراجع المسلمون في أولها حتى دخل بنو حنيفة على خالد في فسطاطه، ثم حمل المسلمون حملة رجل واحد أزالت المرتدين عن مواقعهم، وأجبرت مسيلمة على الالتجاء إلى حديقة عرفت فيما بعد باسم حديقة الموت، وفيها صُرع مسيلمة الكذاب وعدد كبير من جنده، واستشهد من المسلمين عدد من القراء ووجهاء الناس، منهم زيد بن الخطاب، وثابت بن قيس، وانتهت المعركة بنصرة المسلمين، ثم دعا خالد الناجين من أهل اليمامة إلى الإسلام والبراءة مما كانوا عليه فأسلم سائرهم..(16/19)
أما عكرمة فقد أمره أبو بكر -رضي الله عنه- أن يلحق بحذيفة بن محصن وعرفجة بن هرثمة لقتال المرتدين في عمان حتى يلتقوا مع المهاجر بن أبي أمية الذي يكون قد فرغ من اليمن وسار إلى حضرموت، وقصد أبو بكر من ذلك ألا يُبقي جيشًا في مكان شعر فيه بالهزيمة فيضعف معنويًا، وألا تكون فكرةُ الهزيمة موجودة في معجم أي مسلم مجاهد.
اتجه عكرمة إذن في أثر حذيفة وعرفجة، فأدركهما قبل الوصول إلى عمان، وهناك راسلوا جيفرًا وعبادًا القائدين الذين سيرهما أبو بكر قبلهم لينضموا إليهم، ويقاتلوا المرتدين متحدين تحت لواء واحد، وكان مكان التجمع في منطقة "صحار" حيث جرت معركة بين الطرفين ("لقيط دبا" المرتدين، والمسلمين) كاد ينجح فيها "لقيط دبا" لولا النجدات التي وصلت للمسلمين من البحرين وغيرها، فانتصر المؤمنون..
وبعد الفراغ من المعركة أُرسل عرفجة إلى أبي بكر الصديق مهنئًا ومعه خُمس ما غنموه، وبقي حذيفة يدير شئون عمان، وأما عكرمة فسار بعد النصر إلى منطقة تسمى "مهرة " وكان القوم فيها قد ارتدوا، إلا أنهم اختلفوا فقسم منهم في السواحل مع رجل يسمى (شخريت) وهم أقل عدداً، فبدأ بهم عكرمة فدعاهم للإسلام فوافقوا، وأنابوا إليه مما أضعف القسم الثاني الذين كانوا في المناطق المرتفعة مع رجل يسمى (المصبح)، فهزموا أمام المسلمين، وأرسل عكرمة خبر هزيمتهم مع (شخريت) إلى المدينة المنورة.
بعد ذلك تابع عكرمة سيره حتى التقى في مأرب المهاجر بن أبي أمية الذي كان أبو بكر -رضي الله عنه- قد أرسله من قبل إلى اليمن، على أن يمر بمكة فيضم إليه خالد بن أسيد، وبالطائف فيضم إليه عبد الرحمن بن أبي العاص، وبالسراة فيضم إليه جرير بن عبد الله البجلي، وبتهامة فيضم إليه عبد الله بن ثور، وبنجران فيضم إليه فروة بن مسيك، ثم اصطحبهم جميعا إلى اليمن..(16/20)
وفي اليمن أسر المهاجرُ عمرَو بنَ معد يكرب وقيس بن عبد يغوث المكشوح، وكانا من قادة المرتدين الذين يؤلبون الناس، وأرسلهما إلى أبي بكر -رضي الله عنه- ثم واصل سيره إلى صنعاء فدخلها، ولاحق شُذَّاذ القبائل الذين هربوا إليها، واقتحم هو وعكرمة حضرموت..
وفي تلك الظروف حاول البعض أن يهيج فتنة يروح فيها الصالح والطالح كما يحدث في العراق الآن، فقد جاء رجل يسمى الفجاءة إياس بن عبد ياليل إلى أبي بكر فقال: إني مسلم وقد أردت جهاد من ارتد من الكفار فاحملني وأعني، فحمله أبو بكر على ظهر وأعطاه سلاحًا، فخرج يستعرض الناس المسلم والمرتد، يأخذ أموالهم ويصيب من امتنع منهم، فلما بلغ أبا بكر خبره كتب إلى طريفة بن حاجز: إن عدو الله الفجاءة أتاني يزعم أنه مسلم، ويسألني أن أقويه على من ارتد عن الإسلام فحملته وسلحته، ثم انتهى إليّ من يقين الخبر أن عدو الله قد استعرض الناس المسلم والمرتد، يأخذ أموالهم ويقتل من خالفه منهم، فسر إليه بمن معك من المسلمين حتى تقتله أو تأخذه فتأتيني به، فسار طريفة بن حاجز حتى أمسك به وجاء إلى أبي بكر، فأمر بطرحه في النار بمنطقة البقيع اقتصاصًا لمن قتل من أبرياء الناس...
وهكذا لم يهل شهر ربيع من العام التالي لخلافة الصديق إلا وقد قطع دابر المرتدين تمامًا، ونجح بسياسته الحازمة في أن يطهر الجزيرة العربية من كل رجس، وأن يجمعها على كلمة التوحيد لينطلق بعدها أبناؤها إلى الأقطار الأخرى مخرجين الناس من الظلمات إلى النور، من الشرك إلى التوحيد، من جور الأديان إلى عدل وسماحة الإسلام، من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، فليكن لنا في مواقفه رضي الله عنه وأرضاه الأسوة الحسنة.
ــــــــــــــــــــــــــــ(16/21)
[1] مضى طليحة إلى كلب على النقع فأسلم ولم يزل مقيما في كلب حتى مات أبو بكر وكان إسلامه هنالك حين بلغه أن أسدًا وغطفان وعامرًا قد أسلموا، ثم خرج نحو مكة معتمرًا في إمارة أبي بكر ومر بجنبات المدينة فقيل لأبي بكر: هذا طليحة، فقال: ما أصنع به خلوا عنه فقد هداه الله للإسلام، ومضى طليحة نحو مكة فقضى عمرته، ثم أتى عمر إلى البيعة حين استخلف، فقال له عمر: أنت قاتل عكاشة وثابت والله لا أحبك أبدًا، فقال يا أمير المؤمنين: ما تهم من رجلين أكرمهما الله بيدي ولم يهني بأيديهما، فبايعه عمر..(16/22)
العنوان: "أبو حصيرة" حائط مبكى اليهود في مصر
رقم المقالة: 859
صاحب المقالة: أحمد أبو زيد
-----------------------------------------
• القضاء المصري حسم القضية وأوقف حفلاتهم، والحكومة المصرية تسمح لليهود بإقامة الاحتفال للعام الثاني على التوالي!!
• الاحتفالات اليهودية تشمل ممارسة كافة صور الشذوذ، والفجور، والرقص، وتناول المخدرات، وشق الجيوب، والبكاء والصراخ!
• إسرائيل تستغل المقبرة للتطبيع السياحي مع مصر؛ حيث تتخذها ذريعةً لدخول آلاف اليهود سنوياً للأراضي المصرية، والتغلغل في إحدى قراها.
• أهالي (دميتوه) طالبوا بتغيير اسم قريتهم إلى (قرية الشهيد محمد الدرَّة)؛ لتُذَكِّر اليهود الذين يزورونها كل عام بجرائمهم في انتفاضة الأقصى.
* * *
للعام الثاني على التوالي، ومن 8 إلى 11 يناير الماضي، سمحت الحكومة المصرية لآلاف اليهود الذين يدخلون مصر للسياحة، وتحت ستار (التطبيع)، بإقامة مولد "أبي حصيرة"، في إحدى قرى محافظة البحيرة، رغم صدور عدة أحكام قضائية بمنع إقامة هذا الاحتفال!!
وقد أثار هذا الانتهاك الواضح لأحكام القضاء موجةً من الاستياء لدى جموع الشعب المصري الرافض للتطبيع مع اليهود، الذين يعتبرون ما يحدث مهزلةً كبيرةً، وتحدٍّ سافر لإرادة الشعب الرافض لهذه الممارسات من قِبَل قتلة الأنبياء ومغتصبي فلسطين والقدس والأقصى والمقدَّسات.
فإسرائيل تستغل المقبرة للتطبيع السياحي مع مصر، وتتخذها ذريعةً لدخول آلاف اليهود سنوياً للأراضي المصرية، ويعتبرها اليهود حائط مبكًى آخر لهم في بلد الأزهر!! بعد أن استولوا على حائط البراق في المسجد الأقصى، ويفدون إليه كل عام بالآلاف، على مرأى ومسمع من أهالي القرية؛ لإقامة الحفلات الماجنة على مدى أسبوع كامل، يتراقصون فيها ويشربون الخمور وهم عراة، في تحدٍّ سافر لمشاعر أهل القرية المسلمين.
القضاء حسم القضية(17/1)
وموافقة الحكومة على السماح لليهود بإقامه المولد هذا العام والعام الماضي تحت شعار تشجيع (التطبيع) مع اليهود يعدُّ تطوراً مهمّاً في قضية هذه المقبرة، التي نظرها القضاء المصري، وأصدر فيها عدة أحكام نهائية تقضي بمنع الاحتفال؛ فقد شهدت السنوات الأخيرة حسماً تاريخياً لهذه القضية الهامة، التي ظلت مثارةً لعدة سنوات على الساحة المصرية، عن مقبرة الحاخام اليهودي "أبي حصيرة"، المدفون وسط مجموعة من المقابر، في إحدى قرى مصر بمحافظة البحيرة؛ حيث أصدر القضاء المصري حكماً تاريخياً، أكَّد فيه أنَّ أبا حصيرة لا يعدو كونه شخصاً عاديّاً أقيم له مقام بقرية (دميتوه) في محافظة البحيرة، وسمِّي المكان باسمه، وأصبح له احتفالٌ سنويٌّ، يحضره عددٌ من الإسرائيليين، يمارسون خلاله الفجور، غير عابئين بعادات وتقاليد أهل القرية، فضلاً عن الحصار الأمني الذي يؤثِّر على الحياة اليومية للمواطنين.
وأعلنت المحكمة في حكمها: أنه لا يحقُّ لوزارة الثقافة المصرية إسباغ صفة الأثر التاريخي على مكان شخصي عادي لا تتوافر له مقومات هذا الوصف، وذلك ردّاً على وزير الثقافة المصري (فاروق حسني)، الذي طالب باعتبار المقبرة أثراً تاريخيّاً، وإدخال المنطقة المحيطة بمقام أبي حصيرة ضمن الأثر، وهو ما عارضته محكمة القضاء الإداري التي أصدرت الحكم التاريخي.(17/2)
ولكنَّ وزير الثقافة لم يعتدّ بهذا الحكم القضائي الذي يرفض اعتبار مقام "أبي حصيرة" اليهودي أثراً تاريخياً، مع عدم إقامة أيَّة احتفالات له، وقدَّم طعناً في حكم محكمة القضاء الإداري، ومازال يصرُّ علي تسجيل المقبرة كأثر، وهذا ما دفع المحامي (نبيه الوحش) إلى إقامة دعوى تحمل رقم (3687) لسنة (2003) بمحكمة إمبابة الجزئية، وجهها لشخص الوزير، للخضوع للحكم القضائي الحاسم، وإنهاء أكذوبة أبي حصيرة، وخَلْع آخر مسمار لليهود من مصر، وجاء حكم القضاء للمرة الثانية بتأييد الحكم السابق الذي ينهي أكذوبة أبي حصيرة، ورفض الطعن الوزاري.
ثم صدر بعد ذلك حكم المحكمة الإدارية العليا الحاسم، برفض زعم وزارة الثقافة، وإلغاء الاحتفال؛ حيث إن المحكمة لم يتوفر لها ما يثبت أن المقام لشخصية يهودية أو مسيحية أو إسلامية، وهو ما يترتب عليه منطقيّاً إيقاف الاحتفال السنوي به؛ لأن صاحب المقام شخصية وهمية.
شخصية مجهولة
"أبو حصيرة" شخصية مجهولة لا تاريخ لها، استغلها اليهود لإقامة هذا الحفل السنوي، مدَّعين أنه حاخام يهودي، كان يعمل إسكافيّاً، وله كراماتٌ.
ففي عام 1907م، كان يعيش في مصر قرابة عشرة آلاف يهودي، يتمركزون في القاهرة والإسكندرية، وكان عددٌ كبيرٌ منهم يعملون في تجارة المنسوجات والساعات، وتصليح الأحذية، ويتجولون في القرى المصرية في الشمال والصعيد؛ لبيع منتجاتهم.
وقد ادَّعى بعض هؤلاء اليهود أنه توجد في منطقة المقابر - التي تقع على ربوة عالية، وتضم رفات 88 من اليهود - مقبرةً لحاخام يهودي من أصل مغربي، يُدعَى "أبو حصيرة"، واسمه الأصلي "أبو يعقوب"، وأنه من أولياء الله - في زعمهم - وله "كرامات" مشهودة!!.
ومنذ ذلك العام بدأ يتوافد على القرية في المدة من أواخر (ديسمبر) وحتى أوائل (يناير) كل عام عددٌ لا يتجاوز أصابع اليد من اليهود؛ للتبرك بهذا الحاخام، الذي ذاع صيته بينهم.(17/3)
وعقب توقيع اتفاق "كامب ديفيد" بين مصر وإسرائيل عام 1978م؛ بدأ اليهود يطلبون رسميًّا تنظيم رحلات دينية إلى هذه القرية؛ للاحتفال بمولد "أبي حصيرة"، الذي يستمر قرابة 15 يومًا، وبدأ عددهم يتزايد من العشرات إلى المئات، ثم إلى الآلاف، حتى بلغ عددهم قبل عدة أعوام قرابة أربعة آلاف!!
ومع الزيادة العددية؛ توسَّع أسلوب الاحتفال من مجرد الجلوس عند المقبرة، وذِكْرِ بعض الأدعية اليهودية والتوسلات، إلى البكاء - لاسيما من العجائز - طالبات الشفاء من مرض ما، إلى ذبح ذبائح غالبًا ما تكون خرافًا أو خنازير، وشرب الخمور، أو سكبها فوق المقبرة ولعقها بعد ذلك!! والرقص على بعض الأنغام اليهودية بصورة ماجنة وهم شبه عراة، بعد أن يشقُّوا ملابسهم، إلى حركات أخرى غير أخلاقية.
وشهدت المقبرة بعض التوسعات مع تزايد عدد القادمين، وجرت كسوة (الضريح) بالرخام والرسوم اليهودية، لاسيما عند مدخل القبر، ثم بدأ ضم بعض الأراضي حوله، وبناء سور، ثم قيام منشآت أشبه بالاستراحات، وهي عبارة عن غرف مجهَّزة، واتَّسعت المقبرة من مساحة 350 مترًا مربعًا إلى 8400 متر مربع!! وبدأت التبرعات اليهودية تنهال لتوسيعها وتحويلها إلى "مبكى" جديد لليهود الطالبين الشفاء أو العلاج من مرض؛ لدرجة أن إسرائيل قدَّمت معونةً ماليةً للحكومة المصرية، ملتمسةً إنشاء جسر يربط القرية التي يُوجَد بها الضريح بطريق علوي موصل إلى مدينة دمنهور القريبة، حتى يتيسر وصول اليهود إليها، وأطلقوا على الجسر أيضاً اسم "أبي حصيرة"، ومع الوقت تحول "أبو حصيرة" إلى (مسمار جحا) اليهود في مصر.(17/4)
وقد حرص اليهود على لفت الأنظار إليهم، وتضخيم الاحتفال إلى درجة استقدام طائرة خاصة إلى مطار الإسكندرية، تحمل وفدًا كبيرًا من الحاخامات اليهود، ومعهم - أحياناً - (وزير الأديان والعمل)، وأعضاء من (الكنيست - البرلمان) الإسرائيلي، وسعوا - أيضاً - إلى شراء خمسة أفدنة مجاورة للمقبرة؛ بهدف إقامة فندق عليها؛ لينام فيه الإسرائيليون خلال أيام المولد، إلا أن هذه المساعي قوبلت بالرفض من أهالي القرية، الذين رفضوا بيع أرضهم لليهود.
مولد صهيوني
ووجود هذه المقبرة في مصر كان بمثابة ذريعة يهودية، تعتمد عليها الشركات السياحية الصهيونية في تنشيط السياحة الدينية إلى مصر؛ حيث ينظَّم مولد "أبي حصيرة" الذي يقيمه اليهود كل عام في قرية (دميتوه) بمدينة دمنهور، ويشارك فيه أكثر من ألفي يهودي، يحضرون من إسرائيل ومن المغرب سنوياً لحضور هذا الاحتفال، الذي يعدُّ صورةً صارخةً لما تفعله السياحة الصهيونية في مصر، تحت سمع وبصر المسؤولين المصريين، وبحراسة من الشرطة المصرية التي تحمي الاحتفال!!
وكانت الصحف المصرية قد أكَّدت في الأيام الأخيرة أن مجلس مدينة دمنهور قرَّر منع الاحتفالات التي تبدأ في ذكرى مولد الحاخام "أبي حصيرة"؛ بسبب معارضة أهالي المدينة لتصرفات اليهود في الحفل؛ وتناول الخمور؛ والرقص بصورة خليعة، ونقلت على لسان أهالي القرية أنهم سعداء لإلغاء الاحتفال بالمولد الذي قالوا عنه: إنه "حائط مبكى آخر" لليهود في قريتهم.
كما طالب أهالي قرية (دميتوه) عبر محامين من القرية أجهزةَ الحكم المحلي المصرية بتغيير اسم القرية إلى (قرية الشهيد محمد الدرَّة)؛ حتى تُذَكِّر اليهود الذين يزورونها كل عام بجرائمهم في انتفاضة الأقصى.(17/5)
وأكَّد محامون من القرية أنهم رفعوا قضايا لإزالة رُفات القبر، ونقله إلى إسرائيل، تنفيذًا للقانون الذي يقضي بأن تزال أيُّ جبَّانة (مقبرة) لا تُستخْدَم لمدة 15 عامًا، كما عارضوا إقامة طريق خاص للمقبرة سبق وأن طالب به اليهود.
وأذنت وزارة الخارجية المصرية للبرلمان المصري في ديسمبر عام 2000م بمناقشة الأمر في البرلمان المصري، في أعقاب إثارة نوابٍّ لهذا الأمر، معتبرةً أن اتفاقية السلام (المصرية – الإسرائيلية) لا تنصُّ على عقد الاحتفال بمولد "أبي حصيرة" كل عام.
مئتي ألف يهودي!
وكانت الاحتفالات السابقة التي تقام حول المقبرة، يشارك فيها قرابة ألفي يهوديٍّ سنويًّا أغلبهم قادمون من إسرائيل إلى مصر كسائحين، إضافةً إلى دول أجنبية أخرى، مثل: فرنسا، وأمريكا، وكذلك المغرب؛ حيث يحضرون بالطائرات في المولد السنوي، الذي يُقَام للاحتفال بـ "أبي حصيرة".
والمعروف أن الاحتفال كان يبدأ فوق قبر "أبي حصيرة" - الذي يعتبر حائط مبكى آخر لليهود في مصر - بمزاد على مفتاح المقبرة، الذي يؤمن بعض اليهود أن لصاحبها كرامات دينية، ولديه قدرة على شفائهم من أمراض معينة، ثم تبدأ عمليات شرب الخمور، وشيِّ اللحوم، والرقص، ثم البكاء بحرقة أمام القبر، وضرب الرؤوس في جدار المبنى؛ للتبرك وطلب الحاجات.
المطالبة بهدم المقبرة
وقد قام بعض المحامين المصريين - كما ذكرنا - برفع قضايا أمام المحاكم للمطالبة بهدم المقبرة وتسويتها بالأرض؛ باعتبار أن اليهود الذين يشاركون في الاحتفال قد حوَّلوا القبر لحائط مبكى، ويقومون بأداء طقوس تنطوي على مظاهر مبتذلة وغير أخلاقية، مثل الرقص بجنون، وشق الجيوب، والبكاء والصراخ، وسكب الخمور، وهي عاداتٌ تخالف الإسلام، كما تصدم مشاعر أهل القرية المصرية، لاسيما في رمضان؛ حيث كان يتصادف احتفالهم في السنوات الأخيرة مع حلول شهر الصيام.(17/6)
وقدم المحامي (مصطفى رسلان) - الذي رفع الدعوى منذ عدة سنوات - ما يؤكِّد للمحكمة أن "أبا حصيرة" المزعوم ما هو إلا رجل مسلم وليس يهوديًّا؛ وذلك بتقديمه شجرة عائلته، التي قدَّمها له بعض المسلمين من المغرب في موسم الحج؛ ولكن تأجَّلت القضية عدة مرات، ثم حُكِم فيها برفض الطلب؛ لتقديمه من غير ذي صفة! كما رفضت الطعن المقدَّم لمعارضة الحكم، ولكن السعي لوقف هذه المهزلة اليهودية التي تقام كل عام على أرض مصر، وتُتَّخذ ذريعةً لتدنيس الأرض المصرية الطاهرة بأقدام اليهود النجسة، ونشر فسادهم وفجورهم تحت شعارات السياحة و(التطبيع) وتبادل الثقافات، لم يتوقف حتى صدر حكم القضاء الذي حسم القضية.
تطبيع سياحي
وهذه المقبرة المشبوهة كانت تستغلها إسرائيل للتطبيع السياحي مع مصر؛ حيث تتخذها ذريعةً لدخول آلاف اليهود الصهاينة سنوياً للأراضي المصرية، والتغلغل في إحدى قراها، وممارسة كافة أشكال الشذوذ والفجور والرقص وتناول المخدرات، مما يسبب أضراراً كثيرة لأهالي القرية وشبابها، الذين يرفضون هذا (التطبيع) الصهيوني.
ومن المعروف أن السياحة الصهيونية نشطت في مصر عقب توقيع اتفاقية "كامب ديفيد" بين مصر وإسرائيل في عهد الرئيس السادات، فبعد التوقيع مباشرةً، قامت شركة (العال) الإسرائيلية بإعداد دراسة عن تطوير رحلاتها للشرق الأوسط، وخاصةً مصر، وذلك بالتعاون مع شركات في الولايات المتحدة، وقد ساهم ذلك في تنشيط حركة السياحة؛ حيث بلغ عدد الرحلات الجوية التي قامت بها شركة (العال) الإسرائيلية بعد سنة فقط من تشغيل خطِّها مع القاهرة حوالي 253 رحلة في الاتجاهين، ونقلت (34927) راكباً، في حين بلغت رحلات شركة (نفرتيتي) المصرية 117 رحلة في الاتجاهين، ونقلت (26354) راكباً، وبِيعَ 38% من التذاكر في إسرائيل، و33% في الولايات المتحدة، و19% في مصر.(17/7)
ولنفس الغرض حرصت إسرائيل على توقيع اتفاقية تعاون بين مطارَي (إيلات) و(عتسيون) كشرط لتسليمه لمصر في 25 أبريل 1982م، للسماح للطائرات المتجهة إلى (إيلات) و(رأس النَّقَب) باستخدام المطارَيْن بصورة متبادلة.
ولتنشيط حركة السياحة والمواصلات بين البلدين أيضاً، اتُّفقَ على تشغيل النقل البحري بين (أشدود) و(بورسعيد)؛ لنقل السياحة الشعبية بين البلدين، ووقع مديرو وزارات السياحة في كلٍّ من مصر وإسرائيل في فندق (هيلتون القدس) في 17 مايو 1981م على مذكرة تفاهم؛ استمراراً لاتفاق وُقِّعَ في 24 مارس 1980م بشأن تبادل المعلومات عن قوانين ومشاريع السياحة المستقبلية، مما سيتيح للشركات الإسرائيلية التدخل والاستفادة والمشاركة في المشروعات السياحية المصرية، ومن ثمَّ توسيع حصيلة الصادرات السياحية غير المنظورة.
وعلى الرغم من تحفظ الحكومة المصرية على السياحة البرية بين مصر وإسرائيل، التي تقتضي فتح الحدود؛ فإن الإصرار الإسرائيلي - وفق اتفاقية مارس 1980م - استطاع أن يحصل على حق دخول السيارات السياحية من إسرائيل إلى مصر، وفق المادة الثانية من الاتفاقية، والتي تنصُّ على ذلك.
وهناك العديد من المشروعات الإسرائيلية في هذا الصدد، مثل تنشيط السياحة العلاجية المصرية إلى إسرائيل، في منطقة (البحر الميت) و(بحيرة طبرية) على وجه التحديد.(17/8)
العنوان: أبو داود - حياته وسننه
رقم المقالة: 382
صاحب المقالة: د. محمد بن لطفي الصباغ
-----------------------------------------
مقدمة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين. أما بعد
فإن الشريعة المطهرة بنيت على المصدرين الخالدين: كتاب الله وسنة رسوله وفيهما الهدى والفلاح. من تمسك بها لم يضل، ولا يدعهما إعراضاً عنهما إلا زائغ هالك.
وقد حفظهما الله عز وجل من عدوان المعتدين، وتحريف المغرضين، فتكفل الله سبحانه بحفظ الذكر الحكيم {إنا نحن نزَّلنا الذكر وإنا له لحافظون}[1] وهيأ للسنة رجالاً يذبون عنها افتراء المفترين وينقونها عن الزيف والدخيل حتى استبان الصحيح من السقيم واتضحت معالم الطريق. ووصلت إلينا كتب السنة متواترة لأصحابها بعد أن استغرقوا وسعهم وبذلوا جهدهم ولم يدعوا وسيلة من وسائل التثبت والتيقن إلا سلكوها. فجزاهم الله خير الجزاء وأحسن مثوبتهم في دار كرامته.
وإن مما يحق لنا أن نفخر به أعظم الفخر تلك الانجازات العظيمة التي حققها أولئك العلماء في ميدان التحقيق والتنقيح حتى غدت قواعد المصطلح مثلاً يحتذى.
ومن أهم كتب السنة الكتب الستة، وهي: الصحيحان وسنن النسائي وسنن أبي داود وجامع الترمذي وسنن ابن ماجه.
وقد أصبح لهذه الكتب من المنزلة الرفيعة ما جعل بعض العلماء يطلق عليها اسم الصحاح[2] ولم يزاحم هذه الكتب إلا مسند أحمد وموطأ مالك وسنن الدارمي، ولكل منها مزية... ومهما يكن من أمر فقد غدت هذه الكتب التسعة من أشهر كتب السنة ومصادر لفهم الدين أصوله وفروعه، ومن أجل ذلك فقد حظيت بعناية المسلمين على مر العصور دراسة وشرحاً واستنباطاً وتخريجاً واختصاراً وفهرسة.... وبحثي المتواضع هذا محاولة في دراسة ((سنن أبي داود)) وبيان منزلة هذا الكتاب وذكر خصائصه والتعريف بمؤلفه.
وهو يقع في بابين:
الأول: في حياته.
الثاني: في سننه.(18/1)
وأرجو أن يكون كلامي تذكير لأهل العلم بواجب خدمة هذه الكتب وحثاً لأولي الأهلية على القيام بهذا الواجب، ولعل من أهم مجالات الخدمة التي تتطلبها تخريج أحاديث هذه الكتب وتحقيق الحكم عليها.
وأنا أعرف أن ذلك مطلب ليس يسيراً ولا هيناً، ذلك لأن الحديث الواحد قد يكون مروياً بأسانيد متعددة، فإذا كان سنده في كتاب ضعيفاً فليس ببعيد أن يكون وارداً في كتاب آخر معتمد بسند قوي.
من أجل ذلك ينبغي أن تقرر أن هذا الحديث بهذا السند يستحق هذا الحكم، والذي يخفف من الحرج أمران:
أولهما: عندما تحكم على حديث بأنه ضعيف بسبب ضعف سنده لا نكون قد أخطأنا.
هذا والمشكلة تكون كبيرة عندما تدخل في الدين ما ليس منه أن نحكم على حديث بالضعف بسبب ضعف سنده فهذا أمر طبيعي، ويبقى هذا الحكم سارياً حتى نقف على طريق آخر صحيح له. وإذا بذل جهده ومستطاعه كان مأجوراً ان شاء الله ولا يكلف الله نفساً إلى وسعها.
وثانيهما: أنه مما يخفف من الحرج والمشقة أننا إذا جرينا على هذا النهج في الكتب الأخرى نستطيع بوساطة الفهارس العديدة أن نتبين بسهولة بالغة ان كان هذا الحديث مثلاً مروياً في كتاب آخر بسند صحيح.
وأحسب أن العقل الالكتروني يساعد في هذا المجال إن استخدم مساعدة فعالة.
وأنا أسأل الله أن يشرفني بالانضواء تحت لواء الخادمين لسنة رسوله صلى الله عليه وسلم المدافعين عنها بها إنه سبحانه خير مسؤول.
{ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} وآخر دعوانا أن الحمد لله ر ب العالمين.
الرياض في 20 صفر سنة 1394هـ
الباب الأول: أبو داود حياته.
عصره:
ولد أبو داود في مطلع القرن الثالث الهجري وتوفي في أواخره.
والقرن الثالث هو العصر العلمي الذهبي في تاريخنا كله، وقد أتيح للمؤلف رحمه الله أن يشهد نضج الحضارة الاسلامية في هذا القرن، كما أتيح له أن يعيش هذا العصر الذي ازدحم بالعبقريات والموهوبين الافذاذ في شتى شؤون الفكر.(18/2)
ويكفينا للدلالة على ذلك أن نذكر من أعلام هذا القرن الأسماء الآتية:
ففي الحديث:
كان البخاري ومسلم ويحيى بن معين وأحمد بن حنبل والترمذي والنسائي.
وفي الفقه:
كان الربيع والمزني صاحبا الشافعي وداود الظاهري وغيرهم.
وفي الشعر:
كان علي بن الجهم وابن الرومي والبحتري وابن المعتز.
وفي العلم بالأدب:
كان المبرد وابن قتيبة والجاحظ وثعلب والفراء، وغيرهم كثير. وهكذا.. ولا شك في أنَّ أبا داود كان واحداً من هؤلاء العمالقة الأفذاذ في هذا العصر.
وكانت الحضارة قد بدأت تؤتي ثمارها وتنضج نضجاً رائعاً ترك أطيب الأثر في حياة المسلمين والدنيا كلها.
وما نزال معجبين بهذه الحضارة التي أينعت ثمارها وامتدت ظلالها في هذا القرن فكان هذا التراث العظيم الذي ما زالت الأجيال وستبقى تعيش مفيدة من مائدته.
ولد أبو داود سنة 202هـ في ظل الخليفة العباسي العالم المأمون، وإن استعراض أسماء الخلفاء الذين جاؤا إلى سدة الخلافة خلال حياة أبي داود ليشعرنا بفخامة العصر الذي كان فيه.
فبعد المأمون (ت218هـ) جاء للخلافة المعتصم (ت227هـ) ثم الواثق (ت232هـ) ثم المتوكل (ت247هـ) ثم المنتصر (ت248هـ) ثم المستعين (ت252هـ) ثم المعتز (ت255هـ) ثم المهتدي (ت256هـ) ثم المعتمد على الله (ت 279هـ).
وهذا الأخير حَجَر عليه أخوه الموفق واستبدّ بالأمر دونه، ولم يصبح خليفة، وللموفق مع أبي داود أخبار سنذكر طرفاً منها فيما بعد.
ومن المعروف أن اضطراب شؤون الدولة العباسية قد بدأ بمقتل المتوكل سنة 247هـ، فلقد أراد أن يكفكف من غلواء العسكريين الاتراك الذين بدأ تسلطهم أيام المعتصم فلم يفلح.
وإن عصراً هذا وزنه لا نستطيع أن نلم بجميع الجوانب فيه بكلمة مستعجلة.
ويكفينا أن نذكر بشأنه الأمور المقررة الآتية:
1 - التناحر بين أفراد الأسرة الحاكمة كان على أشده.
2 - سيطرة العناصر الأعجمية عموماً والتركية خصوصاً كان أمراً واضحاً.(18/3)
3 - الثورات في أطراف الدولة الاسلامية.
4 - الثورة في قلب الدولة وفي العراق بصورة خاصة.
5 - الصراع النصراني – الاسلامي في الحدود الشمالية الغربية.
6 - تسلط رجال الفرق الضالة على بعض الخلفاء وممارسة لون من الاستبداد الفكري ومقاومة العلماء وسجنهم.
7 - قيام نزعات فكرية متعددة، وبعضها هدام خطير.
ولولا أن الحياة الاجتماعية كانت تسير بوجه عام على سنن الاسلام العظيم وأن الحياة الفكرية والعلمية كانت تقوم بمهمتها في الهداية والارشاد وإقامة الحجة على أحقية الاسلام، لكانت الحياة السياسية تلقي لوناً قاتماً بعض الشيء على هذا العصر الموار.
اسمه . نسبه . نسبته
هو أبو داود سليمان بن الأشعث بن إسحاق بن بشير بن شداد بن عمرو بن عمران[3] الأزدي السجستاني.
وعمران هذا ذكر ابن عساكر وابن حجر أنه قتل مع علي بن أبي طالب بصفين[4]. وأبو داود عربي صميم من الأزد[5]، والأزد قبيلة معروفة في اليمن[6].
والسجستاني نسبة إلى بلد سجستان، وهي بكسر السين وفتحها، والكسر اشهر، والجيم مكسورة فيهما[7] ولم يذكر ياقوت في ((معجم البلدان)) إلا كسر السين[8].
وقد ذكرت الكتب التي ترجمت له أنه بلد يتاخم أطراف مكران والسند، وقررت أنه ما وراء هراة[9] وذكر ياقوت أنه ناحية كبيرة وولاية واسعة وأنها جنوبي هراة، ووصف حسن جوها وثمراتها وسكانها وعاداتهم[10] وقد وهم من زعم أنّ سجستان قرية من قرى البصرة[11].
وذكر الأستاذ محبّ الدين الخطيب رحمه الله في مقدمته لكتاب ((موارد الظمآن)) أن سجستان هي بلاد الأفغان الآن[12] وهي في الحقيقة القسم الجنوبي من بلاد الأفغان.
ويقال له السجستاني والسجزي وهي نسبة على غير القياس قال فيها المنذري: وهو من عجيب التغيير في النسب[13].
وقيل: السجزي إلى سجز وهي سجستان[14].
نشأته(18/4)
ولد أبو داود سنة 202هـ كما ذكرنا وتلقى العلم على علماء بلده، ثم ارتحل وطوّف بالبلاد في طلب العلم وتحصيل الرواية، فزار العراق والجزيرة والشام ومصر وكتب عن علماء هذه البلاد جميعاً. قال الخطيب: "وكتب عن العراقيين والخراسانيين والشاميين والمصريين والجزريين"[15].
وليس من شك في أنّ هذه الرحلات قد وسعت من افقه وأطلعته على ألوان الثقافة في عصره في كل أنحاء العالم الإسلامي.
والبلاد التي سكنها كثيرة نذكر منها ما وصل إليه علمنا وهي:
سجستان التي كانت بلده والتي نسب إليها، وخراسان، والري[16]، وهراة[17]، والكوفة التي دخلها سنة 221هـ كما ذكر الخطيب[18]، وبغداد التي قدم إليها مرات، وآخر مرة زارها كانت سنة 271هـ، وطرسوس التي أقام بها عشرين سنة[19]، ودمشق التي سمع الحديث فيها كما يذكر ابن عساكر[20]، ومصر أيضاً، والبصرة التي انتقل إليها بطلب من الأمير أبي أحمد الموفق[21] الذي جاء إلى منزله في بغداد واستأذن عليه ورجاه أن يتخذ البصرة وطناً ليرحل إليها طلبة العلم من أقطار الأرض فتعمر بسببه فإنه قد خربت وهُجرت وانقطع الناس عنها لما جرى عليها من فتنة الزنج[22].
وهذا الخبر يدل على أن شهرة أبي داود قد طبقت الآفاق، فالناس يعرفون له قدره وفضله وشهرته، وأحسّت الدولة بذلك فطلبت إليه أن يرحل إلى البصرة البلدة المنكوبة لتعود إليها الحياة ولتعمر من جديد. وفي هذا دلالة على طبيعة حضارتنا ومنزلة العلم والعلماء فيها، فإن سكنى مثل أبي داود فيها كان العلاج لردِّ العمران إلى بلد مخرّب مهجور. وهكذا فقد وفق الله أبا داود أن يكون شخصية علمية مرموقة في عصره كان لها أكبر الأثر على الناس في عصره والعصور التي تلت.
علمه
كان أبو داود أحد حفاظ الإسلام، وكان من أوسع العلماء معرفة بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وفقهه وعلله ومتونه ورجاله.(18/5)
ويبدو أن علماء عصره كانوا يعرفون مكانته العلمية الكبرى ويقدرونه حق قدره؛ يدل على ذلك عدد من الأخبار:
منها ما ذكروا من أنّ أحمد بن حنبل روى عنه حديثاً، وكان أبو داود شديد الاعتزاز به.
ومنها ما ذكروا من أن سهل بن عبدالله التستري جاء إلى أبي داود.
فقيل: يا أبا داود هذا سهل جاءك زائراً، فرحّب به وأجلّه.
فقال له سهل: يا أبا داود لي إليك حاجة.
قال: وما هي؟
قال: حتى تقول قد قضيتها مع الإمكان.
قال: قد قضيتها مع الإمكان.
قال: أخرج إلي لسانك الذي حدثت به أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أقبله، فأخرج إليه لسانه فقبله[23].
وكان علمه متعدد الجوانب، فهو – مع تخصصه في الحديث – فقيه عظيم، وقد عدّه الشيخ أبو الحسن الشيرازي في طبقات الفقهاء من جملة أصحاب أحمد بن حنبل، وكذا أبو يعلى في ((طبقات الحنابلة)) والعليمي في ((المنهج الأحمد))[24].(18/6)
وأبو داود ناقد كبير، وليس هذا غريباً على إمام من أئمة الحديث، لأن هذا العلم يربي في أتباعه حاسة النقد، وقد استطاع أن يبلغ مستوى راقياً من رهافة الحسّ ودقة النقد، وسنرى في دارستنا لكتاب ((السنن)) نماذج من نقده العميق، ولكنني هنا أود أن أشير إلى مجال سبق إليه أبو داود ويحسب بعض الباحثين أنه جديد وأنّ الأقدمين لم يعرفوه، وذلك هو نقد الكتابة وتقدير عمرها بالنسبة إلى الحبر القديم والحديث، يدل على ذلك خبر جاء في كتاب ((الميزان)) للحافظ الذهبي وهو: (قال زكريا بن يحى الحلواني: رأيت أبا داود السجستاني قد جعل حديث يعقوب بن كاسب وقايات[25] على ظهور كتبه، فسألته عنه فقال: رأيتنا في مسنده أحاديث أنكرناها، فطالبناه بالأصول، فدافعنا، ثم أخرجها بعد، فوجدنا الأحاديث في الاصول مغيرة بخط طري؛ كانت مراسيل فاسندها وزاد فيها)[26] وتقدير العمر بالنسبة للحبر أمر يتصل بتقدير العمر بالنسبة إلى الورق ولا أستبعد أن تكون هناك حوادث من هذا القبيل في حياة صاحبنا العلمية، والله أعلم.
ومما يدل على مكانته العلمية ثناء العلماء عليه وسنذكر بعضه في الفقرة الآتية:
ثناء العلماء عليه
كان الثناء عليه من قبل المعاصرين له والذين جاؤوا من بعده مُنصباً على ناحيتين:
سعة علمه ودقة تحقيقه.
وكرم أخلاقه وتقواه.
فلقد كان – رحمه الله – مثلاً عالياً في صفتي المحدث القوي وهما العدالة والضبط.
وسنورد شذرات من أقوالهم.
1 - قال أبو بكر الخلال[27]: "أبو داود سليمان الأشعث، الإمام المقدّم في زمانه رجلٌ لم يسبقه إلى معرفته بتخريج العلوم، وبصره بمواضعها أحدٌ في زمانه، رجل ورع مقدم"[28].
2 - وقال أحمد بن محمد بن ياسين الهروي[29]: "سليمان بن الأشعث أبو داود السجزي، كان أحد حفاظ الإسلام لحديث رسول الله وعمله وعلله وسنده، في أعلى درجة النسك والعفاف والصلاح والورع، كان من فرسان الحديث"[30].(18/7)
3 - وقال ابراهيم الحربي[31]: "ألين لأبي داود الحديث كما ألين لداود النبي عليه السلام الحديد"[32].
4 - وهذه الكلمة رويت أيضاً عن أبي بكر الصغاني[33].
5 - وقال موسى بن هارون الحافظ[34]: "خلق أبو داود في الدنيا للحديث، وفي الآخرة للجنة. ما رأيت أفضل منه"[35].
6 - وقال علان بن عبدالصمد: "كان من فرسان هذا الشأن"[36].
7 - وقال أبو حاتم بن حبان[37]: "كان أحد أئمة الدنيا فقهاً وعلماً وحفظاً ونسكاً وورعاً وإتقاناً، جمع وصنف وذبّ عن السنن"[38].
8 - وقال أبو عبدالله بن منده[39]: "الذين أخرجوا وميزوا الثابت من المعلول والخطأ من الصواب أربعة: البخاري ومسلم، وبعدهما أبو داود والنسائي"[40].
9 - وقال الحاكم[41]: "أبو داود إمام أهل الحديث في عصره بلا مدافعة"[42].
10 - وقال محمد بن مخلد[43]: "كان أبو داود يفي بمذاكرة مائة ألف حديث وأقرّ له أهل زمانه بالحفظ"[44].
11 - وقال ابن ماكولا[45]: "هو إمام مشهور"[46].
12 - وكان إبراهيم الأصبهاني وأبو بكر بن صدقة[47] يرفعان من قدره بما لا يذكران أحداً في زمانه مثله[48].
13 - وقال الذهبي[49]: "وبلغنا أنًّ أبا داود كان من العلماء حتى إن بعض الأئمة قال: كان أبو داود يشبه أحمد بن حنبل في هديه ودله وسمته، وكان أحمد يشبه في ذلك وكيع، وكان وكيع يشبه في ذلك بسفيان، وسفيان بمنصور ومنصور بإبراهيم، وإبراهيم بعلقمة، وعلقمة بعبدالله بن مسعود. وقال علقمة: كان ابن مسعود يشبه بالنبي صلى الله عليه وسلم في هديه ودله"[50].
ولم يرض السبكي في ((طبقاته)) أن يمضي بالسلسلة إلى نهايتها، بل اختار الوقوف عند ابن مسعود[51].
ونقل ابن العماد عن الذهبي أيضاً قوله في أبي داود: "كان رأساً في الحديث، رأساً في الفقه، ذا جلالة وحرمة وصلاح وورع حتى إنه كان يشبه بأحمد"[52].
14 - وقال ابن الجوزي[53]: "كان عالماً حافظاً عارفاً بعلل الحديث، ذا عفاف وورع وكان يشبه بأحمد بن حنبل"[54].(18/8)
وسيمر بنا عند الكلام على ((السنن)) مزيد من الثناء على أبي داود وشهادات أهل العلم بفضله.
أساتذته
إن الحديث عن أساتذته لا يتسع له صدر هذا المقال لأنَّ عددهم كبير، وقد ذكر ابن حجر أن شيوخه في ((السنن)) وغيرها من كتبه نحوٌ من 300 نفس[55].
وقد ألف العلماء في شيوخه المؤلفات، وكل كتب الرجال التي تحدثت عن رجال الكتب الستة تحدثت عن أساتذة أبي داود وسنورد أسماء بعضهم فيما يلي.
فمنهم: أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وعثمان بن أبي شيبة، واسحاق بن راهويه، وأبو عمرو الحوضي، ومسلم بن ابراهيم، وسليمان بن حرب، وأبو الوليد الطيالسي، وموسى بن اسماعيل المنقري التبوذكي، وعبدالله بن مسلمة القضبي، وهناد بن السري، ومخلد بن خالد، وقتيبة بن سعيد، ومسدّد بن مسرهد، ومحمد بن بشار، وزهير بن حرب، ومحمد بن المثنى، وعمرو بن محمد الناقد، وسعيد ابن منصور، وحميد بن مسعدة، وحفص بن عمر وهو أبو عمر الضرير[56]، وتميم بن المنتصر، وحامد بن يحيى، وإسحاق بن إسماعيل الطالقاني.
ولن نستطيع أن نترجم لهؤلاء جميعاً وقد تعمدت أن أذكر المشهورين لتغني شهرتهم عن التعريف بهم.
وليس غريباً أن يكون عدد من أساتذته عمالقة علماء أفذاذاً لأن طبيعة العصر الذي كان فيه أبو داود تقتضي أن يكون هناك نماذج من هذا النوع، كما سبق أن أشرت إلى ذلك عند حديثي عن عصره. وكثرة الأساتذة أمر معروف معهود في تاريخنا الفكري[57].
وينبغي أن نخص واحداً من اساتذته بإشارة لابدَّ منها وهو الامام أحمد بن حنبل، فقط تكرر ذكره كثيراً في اخبار أبي داود، وقد اتصل به ورافقه، وعَرَض عليه ((سننه)) فاستجادها، وكان يسأله أبو داود كثيراً عن أمور الدين وشؤون الحديث، وقد بلغ من اهتمام أبي داود بأجوبة شيخه أحمد أنْ ألّف كتاباً جمع فيه الأسئلة التي ألقيت على الإمام أحمد وأجوبته عليها. وقد طبع هذا الكتاب بعنوان ((مسائل أحمد)).(18/9)
وذكر العلماء في ترجمة أبي داود كثيراً من هذه الأسئلة التي كان أبو داود نفسه يتوجه بها إلى الإمام أحمد، أو الأسئلة التي كانت تطرح عليه بحضوره. فمن ذلك ما ذكره أبو يعلى أن أبا داود قال:
سمعت أحمد سئل عن القراءة في فاتحة الكتاب: (مَلِك) أو (مالكِ)؟ يعني: أيهما أحب إليك؟ قال: (مالك) أكثر ما جاء في الحديث[58] فهذا سؤال سمعه فحفظه ورواه.
ونجده يصرح أحياناً بأنه هو الذي سأل الإمام أحمد كما في المثال الآتي:
قال أبو داود: قلت لأبي عبدالله أحمد بن حنبل: أرى رجلاً من أهل السنة مع رجل من أهل البدعة أترك كلامه؟
قال: لا، أو تُعلَمهُ أنَّ الرجل الذي رأيته معه صاحب بدعة. فإن ترك كلامه فكلّمه، وإلاّ فألحقه به.
قال ابن مسعود: ((المرء بخدنه))[59].
وكثيراً ما يذكر في كتابه ((السنن)) مثل هذه الأسئلة التي كان يتوجه بها الإمام أحمد[60].
وقد ينقل قوله دون أن يكون هذا القول جواباً لسؤال سائل كما ذكر أبو يعلى:
قال أبو داود: سمعت أبا عبدالله يقول: من قال إنّ الله لا يُرى في الآخرة فهو كافر[61].
وهذا كثير الورود في ((السنن)) أيضاً.
ويظهر أن إعجابه البالغ بأحمد وحُبّه الكبير له كان يحمله على أن يتشبّه به حتى رأينا بعض العلماء يذكر تشبهه بأحمد، وهذا مشاهد عند الطلبة المعجبين بأستاذهم، فتراهم يقلدونه حتى في نبرات صوته وسلوكه ومظهره.
تلاميذه
روى عنه خلقٌ كثير من العلماء الأئمة؛ نذكر المشهورين منهم، من أمثال الامام أحمد بن حنبل الذي روى عنه حديثاً واحداً كان أبو داود يعتزُّ بذلك جداً[62].(18/10)
ومنهم الامام أبو عيسى محمد بن عيسى الترمذي، والامام أبو عبدالرحمن أحمد بن شعيب النسائي، والامام أبو بكر أحمد بن محمد بن هارون الخلال، ومنهم اسماعيل بن محمد الصفار، وأبو بكر بن داود الأصفهاني، وحرب بن إسماعيل الكرماني، وأبو عوانة الاسفراييني، وزكريا الساحبي، وأبو بشر محمد بن أحمد الدولابي، ومحمد بن نصر المروزي، وأبو بكر محمد يحيى الصولي.
ومن تلامذته رواة السنن عنه وعددهم تسعة ذكر الذهبي[63] والسبكي[64] سبعة منهم. وزاد ابن حجر راويين هما أبو الطيب أحمد بن إبراهيم بن عبدالرحمن الأشناني، وأبو عيسى اسحاق بن موسى بن سعيد الرملي ورَّاقه. أما الرواة السبعة الذين ذكرتهم معظم المصادر فهم:
– أبو علي محمد بن أحمد بن عمرو اللؤلؤي.
– وأبو بكر محمد بن بكر بن عبدالرزاق بن داسة التمار.
– وأبو سعيد أحمد بن محمد بن زياد الأعرابي.
– وأبو الحسن علي بن الحسن بن العبد الأنصاري.
– وأبو أسامة محمد بن عبدالملك الرؤامي.
– وأبو سالم محمد بن سعيد الجلودي.
– وأبو عمرو أحمد بن علي بن الحسن البصري.
وضعه الاجتماعي والمنزلي
كان الرجل يتمتع بمنزلة اجتماعية مرموقة، وقد اكتسب شهرة قليلة النظير، وشاع كتابه في حياته، وكان الطلبة يؤمّون منزله من كل مكان.
وكانت له مخالطة طيبة للعلماء في كل الأمصار، ويكفينا في الدلالة على ذلك ما ذكرناه في مبحث أساتذته، كما كانت له صلة قائمة على الاحترام مع الحكام، ويكفينا في الدلالة على ذلك أن يقوم رجل الدولة الأول الموفق بزيارته وأن يطلب منه ما يطلب لعمارة البصرة كما أشرنا. وكان الرجل متزوجاً وله أولاد من أشهرهم ابنه عبدالله.
ويبدو أنه كان حريصاً على أن يطلب أولاده العلم في وقت مبكر، ولذلك فقد كان يأخذهم معه ليحضروا مجالس العلم وليسمعوا.(18/11)
نقل ياقوت عن ابن عساكر خبراً يرويه عن الحسن بن بندار قال: (كان أحمد بن صالح[65] يمتنع على المرد من رواية الحديث لهم تعففاً وتنزهاً ونفياً للمظنة عن نفسه. وكان أبو داود يحضر مجلسه ويسمع منه، وكان له ابنٌ أمرد يحبُّ أن يسمع حديثه، وعرف عادته في الامتناع عليه من الرواية، فاحتال أبو داود بأن شدّ على ذقن ابنه قطعة من الشعر ليتوهم أنه ملتحٍ، ثم احضره المجلس وأسمعه جزءاً.
فأخبر الشيخ بذلك، فقال لأبي داود: أمثلي يعمل معه هذا؟
فقال له: أيها الشيخ لا تنكر عليَّ ما فعلته واجمع أمردي هذا مع شيوخ الفقهاء والرواة فإن لم يقاومهم بمعرفته فاحرمه حينئذٍ من السماع عليك.
قال: فاجتمع طائفة من الشيوخ، فتعرض لهم هذا الأمرد مطارحاً، وغلب الجميع بفهمه، ولم يرو له الشيخ مع ذلك من حديثه شيئاً. وحصل له ذلك الجزء الأول)[66].
وذكروا في بعض أخباره ما ينبئ عن اتخاذه بعض الخدم، ومنهم أبو بكر بن جابر خادمه الذي روى حديث مقابلة الموفق له[67].
أخلاقه وصفاته
كان أبو داود رجلاً كبيراً ذا خلق كريم. كان صالحاً عابداً ورعاً، وكان ذكياً مجداً دؤوباً كثير الاحتمال لمشاق الارتحال وطلب العلم، وكان يقظاً شديد الانتباه يعرف الناس على حقيقتهم ولا تنطلي عليه وسائل الخداع، وكان أبياً كريم النفس، وكان جريئاً في الحق أميناً على رسالة العلم قائماً بحق الدين. وسأورد فيما يلي أخباراً تدل على صراحته في الحق وجرأته في قوله، لا يخاف في ذلك لومة لائم، وسيمر بنا أيضاً في دراسة ((السنن)) أمثلة عديدة على ذلك في موضوع جرح الرجال.
وقد خصصت هذا الخلق بالبيان لأنه الخلق الذي اعتقد أنه من أهم صفات العلماء، ولأنّ الناس يعانون الكثير من فقد هذا الخلق في حياتهم وعند نفر من العلماء، ويشهدون كم تجر المجاملة التي يتصف بها كثير من الناس من الويلات على الدين والعلم والحق.(18/12)
والعلماء يمثلون القيادة الفكرية للأمة، والقوة الموجهة التي تحول بين الجماهير والانحراف والفساد، فإذا فقدوا فضيلة الصراحة في الحق والجرأة في القاء الكلمة المؤمنة الصادقة كان إيذاء ذلك شديداً.
وكانت عاقبة ذلك دماراً للأمة ولكل معاني الخير فيها.
فمن أجل ذلك رأيت أن أضرب بعض الأمثلة على أصالة هذا الخلق العظيم في سيرة هذا الإمام العظيم: ذكر أبو يعلى (أنّ محمد بن علي الآجري قال:
قلت لأبي داود: أيهما أعلى عندك: علي بن الجعد أو عمرو بن مرزوق؟
قال: عمروٌ أعلى عندنا. عليُّ بن الجعد وُسِمَ بميسم سوء قال: ((وما يسؤوني أن يعذب الله معاوية)) وقال: ((ابن عمر ذاك الصبي)) )[68].
فأبو داود يعلن رأيه بصراحة، ويجرح علي بن الجعد ويذكر سبب الجرح وهو وقوعه في الصحابة، إذ أن كلمته في معاوية تدل على شيء من الكراهية لبعض الصحابة أو عدم اهتمام على أقل تقدير، وذلك عندما يقرر أنه لا يسؤوه أن يعذب الله معاوية رضي الله عنه، وكذلك فإنّ قوله عن ابن عمر إنه صبي فيه ما يدل على قلة احترام للصحابة وعلى التهوين من شأنهم.
ومن الأمثلة الرائعة على جرأته في الحق ومواجهته الحكام بما يعتقد سواء وافق رغبتهم أم لم يوافق ما رواه خادمه أبو بكر بن جابر الذي قال:
كنت معه ببغداد، فصلينا المغرب إذ قرع الباب، ففتحتُه فإذا خادم يقول: هذا الأمير أبو أحمد الموفق يستأذن. فدخلت إلى أبي داود فأخبرته بمكانه، فإذن له، فدخل، وقعد، ثم أقبل عليه أبو داود وقال:
– ما جاء بالأمير في مثل هذا الوقت؟
– فقال: خلال ثلاث.
– فقال: وما هي؟
– قال: تنتقل إلى البصرة فتتخذها وطناً ليرحل إليك طلبة العلم من أقطار الأرض فتعمر بك، فإنها قد خربت، وانقطع عنها الناس لما جرى عليها من محنة الزنج.
– فقال: هذه واحدة. هات الثانية.
– قال: وتروي لأولادي كتاب ((السنن))؟
– قال: نعم. هات الثالثة.
قال: وتفرد لهم مجلساً للرواية، فإنَّ أولاد الخلفاء لا يقعدون مع العامة.(18/13)
فقال: أما هذه فلا سبيل إليها، لأنَّ الناس شريفهم ووضيعهم في العلم سواء.
قال ابن جابر: فكانوا يحضرون بعد ذلك ويقعدون وبينهم وبين الناس ستر فيسمعون مع العامة[69].
ومن الأمثلة التي تدل على جرأته وقوله الحق دون مراعاة لقرابة أو صلة موقفه من ابن أبي بكر عبدالله صاحب التصانيف.
فقد قال عنه: ((ابني عبدالله كذَّابٌ))[70].
طلابه
يبدو أنّ الرجل كان يخترع في كيفية خياطة الملابس ما يتلاءم وحياته، فهو قد وقف نفسه على العلم، فكل ما يساعده من اللباس على حمل الكتب واصطحابها فهو اللباس الجيد، لأن العلم أضحى عنده كل شيء؛ ذكروا أنه كان له كم واسع وضيق، ولما سئل قال: الواسع للكتب والآخر لا نحتاج إليه[71].
وما سأله السائل عنه إلا لأنه شيء غريب لم يؤلف.
أقواله
كان الرجل حكيماً، وليس ذلك بمستغرب على من اجتمعت فيه هذه الأوصاف التي أشرنا إليها آنفاً، وصاحب حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم جدير بأن تفيض الحكمة على لسانه.
وقد ذكرت الكتب التي ترجمت له بعض هذه الجمل المأثورة الجميلة. فمن ذلك قوله: الشهوة الخفية حب الرئاسة"[72].
وقوله: "خير الكلام ما دخل الأذن بدون أذن"[73].
وقوله: "من اقتصر على لباس دونٍ ومطعم دونٍ اراح جسده"[74].
وهذه الأقوال وغيرها مما يدل على حكمة رصينة انتهى إليها المؤلف بعد علم ونظر وتمرس بالحياة الفاضلة.
ومما يدل على سيرته وعلى بصره بالعلم العملي وفقهه الحق في الدين قوله متحدثاً عن كتابه السنن (جمعت فيه أربعة آلاف وثمانمائه حديث، ذكرت الصحيح وما يشبهه وما يقاربه. ويكفي الإنسان لدينه من ذلك أحاديث أحدها قوله صلى الله عليه وسلم: ((الاعمال بالنيات)).
وقوله صلى الله عليه وسلم ((من حسن اسلام المرء تركه ما لا يعنيه)).
والثالث قوله صلى الله عليه وسلم ((لا يكون المؤمن مؤمناً حتى يرضى لأخيه ما يرضاه لنفسه)).(18/14)
والرابع قوله صلى الله عليه وسلم ((الحلال بين والحرام بين وبين ذلك أمور مشتبهات))[75].
وفاته
توفى أبو داود رحمه الله يوم الجمعة 15 شوال من سنة 275هـ بالبصرة، ودفن إلى جانب قبر سفيان الثوري بعد أن قدّم خدمات جليلة لدينه وأمته وللثقافة الاسلامية.
كتبه:
1 - المراسيل:
وقد طبع في القاهرة سنة 1310هـ.
ومخطوطاته موجودة في تركيا ومصر وغيرهما، وقد ذكرها سزكين في ((تاريخ التراث العربي))[76].
2 - مسائل الامام أحمد:
وهي مرتبة على أبواب الفقه، يذكر فيها أبو داود السؤال الموجّه لأحمد وجوابه عليها، وهو كتاب جليل من الناحية الفقهية ينقل لنا بدقة وأمانة آراء الامام أحمد بن حنبل، وطبع في القاهرة بتحقيق السيد رشيد رضا، وأعيد تصويره في بيروت مؤخراً.
وقد ذكرته معظم الكتب التي ترجمت لأبي داود أو عنيت باحصاء تراثنا الاسلامي[77] وذكر ابن حجر ان أبا عبيد محمد بن علي بن عثمان الآجري الحافظ هو راوي المسائل عنه[78].
3 - الناسخ والمنسوخ:
ذكر ابن حجر أن راوي هذا الكتاب عنه[79] أبو بكر أحمد بن سليمان النجار. ونقل السيوطي عن هذا الكتاب[80] وذكره اسماعيل البغدادي بعنوان ((ناسخ القرآن ومنسوخه))[81].
4 - إجاباته عن سؤالات أبي عبيد محمد بن علي بن عثمان الآجري:
قال ابن كثير: ولأبي عبيد الآجري عنه ((أسئلة في الجرح والتعديل والتصحيح والتعليل)) كتاب مفيد[82] وذكرها سزكين بعنوان: ((سؤالات أجاب عنها أبو داود في معرفة الرجال وجرحهم وتعديلهم)) وذكر أنها موجودة في كوبريلي وباريس[83]. وذكر أن ابن حجر استخدم هذه الرسالة كثيراً في ((تهذيب التهذيب))[84].
5 - رسالته في وصف كتاب ((السنن)):
وحققتها ونشرتها في مجلة أضواء الشريعة في الرياض العدد الخامس سنه 1394هـ ثم نشرتها مفردة دار العربية في بيروت، وقد سبق أن نشرت في مصر سنة 1369هـ ومخطوطتها في المكتبة الظاهرية في دمشق[85].
6 - كتاب الزهد:(18/15)
وتوجد منه نسخة بالقرويين بفاس كما أشار إلى ذلك الأستاذ سزكين[86].
7 - تسمية الاخوة الذين روي عنهم الحديث:
وهي رسالة من ثماني ورقات محفوظة في المكتبة الظاهرية بدمشق، وهي من رواية السّلفي، ومكتوبة بخط مغربي كما ذكر ذلك الأستاذ ناصر الدين الألباني[87] وذكر الأستاذ أكرم العمري هذه الرسالة بعنوان ((تسمية الأخوة من أهل الأمصال)) وقال: "وقد استفاد أبو داود في تصنيف رسالته ((تسمية الأخوة)) مما قرأه في كتاب علي بن المديني بخطه، كما استفاد من طريقته في تنظيم المادة، فنجده يرتب الاخوة الذين روي عنهم الحديث على المدن، وقد اكتفى أبو داود بتجريد الأسماء ولم يقتصر على ذكر الصحابة، بل ذكر من تلاهم أيضاً"[88].
وذكر الاستاذ العمري في تعليقه في الصفحة نفسها[89] أن الرسالة تقع في 7 ورقات وأن الورقة 24 سطراً وأنها مكتوبة بخط ناعم، وذكر سزكين أنها مكتوبة في القرن السادس الهجري[90].
8 - أسئلة لأحمد بن حنبل عن الرواة والثقات والضعفاء:
قال الأستاذ الشيخ محمد ناصر الدين الألباني: "رتبت أسماؤهم على أسماء بلادهم، ثقات مكة، ثقات المدينة...، وينتهي بضعفاء المدينة"[91].
وهي نسخة ناقصة من أولها، وموجودة في الظاهرية[92].
9 - كتاب القدر:
وذكر ابن حجر في ((تهذيب التهذيب)) باسم ((الردّ على أهل القدر)) وذكر أن راوي هذا الكتاب عنه أبو عبدالله محمد بن أحمد بن يعقوب المتوثي البصري[93].
وقال سزكين: اقتبس منه ابن حجر في كتابه ((الاصابة))[94].
10 - كتاب البعث والنشور:
ذكره بروكلمان وذكر أنه موجود في دمشق[95].
11 - المسائل التي حلف عليها الامام أحمد:
ذكره سزكين وقال: إنه موجود في دمشق[96].
12 - دلائل النبوة:
ذكره إسماعيل البغدادي[97] وابن حجر في ((تهذيب التهذيب))[98].
13 - التفرد في السنن:
ذكره اسماعيل البغدادي[99].
14 - فضائل الأنصار:
ذكره ابن حجر في مقدمة كتابه ((تقريب التهذيب))[100].
15 - مسند مالك:(18/16)
ذكره ابن حجر في مقدمة كتابه ((تقريب التهذيب))[101].
16 - الدعاء: ذكره ابن حجر في مقدمة ((تهذيب التهذيب))[102].
17 - ابتداء: ذكره ابن حجر في مقدمة ((تهذيب التهذيب)).
18 - أخبار الخوارج: ذكره ابن حجر في مقدمة ((تهذيب التهذيب)).
الباب الثاني: سنن ابي داود.
هذا الكتاب من أهم كتب الإسلام كما أسلفنا، وهو أحد الكتب الستة التي تقبلتها الأمة بقبول حسن، وسنحاول في هذا الباب دراسته والتعرف لأهم خصائصه وشروحه ومختصراته، ومن ثم نتعرف إلى منزلته.
اسم الكتاب
الاسم المعروف به هو ((السنن)) ويبدو أنَّ المؤلف نفسه سمّاه بهذا الاسم، نستدلّ على ذلك من قوله في رسالته إلى أهل مكة.
(فإنكم سألتم أن أذكر لكم الأحاديث التي في كتاب ((السنن)) أهي أصح ما عرفت في الباب؟)[103].
وقوله في الرسالة المذكورة أيضاً: (وإن من الأحاديث في كتابي ((السنن)) ما ليس بمتصل، وهو مرسل...)[104].
وكذلك فإنّ العلماء على مرّ العصور كانوا يدعون كتابه بالسنن.
ومن المفيد أن نتعرف إلى مدلول كلمة ((السنن)):
السنن جمع سنة وهي لغة: الطريقة المسلوكة المتبعة. والسنة عند جمهور العلماء ترادف الحديث وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم وفعله وتقريره وصفته، وقد ذهب بعضهم إلى أن هناك فرقاً بين الكلمتين، وهو أن السنة هي الواقع العملي لمجتمع الاسلام في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة، ويتضح هذا التفريق في مثل قول عبدالرحمن بن مهدي عندما سئل عن سفيان بن عيينة ومالك والأوزاعي.
فقال: الأوزاعي إمام في السنة وليس بإمام في الحديث، وسفيان إمام في الحديث وليس بإمام في السنة ومالك إمام فيهما[105].
وقد فرق بعضهم بين الكلمتين تفريقاً قريباً من هذا فذهب إلى أن الحديث قول النبي وفعله وتقريره ووصفه.
أما السنة فهي التي تعني حكماً تشريعياً سواء روي فيه كلام أم لا.(18/17)
وهناك استعمال خاص للسنن وهو أوثق صلة بموضوع بحثنا، وقد ذكره الكتّاني في كتابه القيم ((الرسالة المستطرفة)) فقال: "وهي في اصطلاحهم الكتب المرتبة على الابواب الفقهية من الايمان والطهارة والصلاة والزكاة، وليس فيها شيء من الموقوف، لأن الموقوف لا يسمى في اصطلاحهم سنة، ويسمى حديثاً"[106].
وهكذا فإن كتب السنن ينبغي أن تتوافر فيها الأمور الآتية:
1 - أن تكتفي بذكر الأحاديث والا يذكر فيها شيء من الآثار.
2 - أن تكون هذه الأحاديث متعلقة بالأحكام.
3 - أن ترتب الأحاديث على أبواب الفقه[107].
ومن هنا يتضح لنا لماذا سمّى كتابه السنن، فذلك لأنه جمع أحاديثه من وجهة فقهية فلم يضمنه غير أحاديث الفقه والتشريع، مما ورد في الأخلاق والأخبار والزهد ونحو ذلك[108]. قال في ((رسالته إلى أهل مكة)): "وإنما لم أصنف في كتاب السنن إلا الأحكام، ولم أصنف كتب الزهد وفضائل الأعمال وغيرها"[109].
ونقل بعضهم ممن لا علم لديهم ولا تحقيق عن القرطبي أنه سمّى كتاب أبي داود في تفسيره ((مصنف أبي داود)) وما أظنه إلا أنه يريد بذلك كتابه وليست تلك تسمية جديدة.
وقد يطلقون على كتاب أبي داود ونحوه لفظ الصحاح، قال حاجي خليفة ينقل عن ابن السبكي قوله في ((سنن أبي داود)): "وهي من دواوين الإسلام، والفقهاء لا يتحاشون من اطلاق لفظ الصحاح عليها وعلى سنن الترمذي، ولا سيما سنن أبي داود"[110].
وقد جاء في كلام لأبي داود نقله محمد بن صالح الهاشمي ما قد يفيد أنه سمّاه ((المسند)) قال أبو داود: "أقمتُ بطرسوس عشرين سنة أكتب المسند، فكتبتُ أربعة آلاف حديث"[111].
ولعله لا يريد بالمسند الاسم الخاص المصطلح عليه.
هل هو أول من صنف السنن
ذهب بعضهم إلى أنّ أبا داود هو أول من صنف في السنن قال الأستاذ الكتاني: "وهو أول من صنف في السنن، وفيه نظر يتبيّن مما يأتي"[112].(18/18)
ومهما يكن من أمر فإن من المؤكد أن أبا داود كان من السابقين إلى التأليف في هذا المجال؛ ذلك لأن مجرد اختلاف العلماء في كونه أول من صنّف في السنن يدل بوضوح على سبقه في ذلك الصدد.
ومن الصعب دائماً الجزم بالأوليات، ويغلب على من يتشدد ويذهب مذهباً معيناً في الجزم يغلب عليه أنه يقع في الغلط.
ويذهب الخطابي إلى أن أبا داود لم يُسبَق إلى الإجادة في جمع السنن فقال: "فأما السنن المحضة فلم يقصد واحد منهم جمعها واستيفاءها ولم يقدر على تخليصها واختصار مواضعها من أثناء تلك الاحاديث الطويلة ومن أدلة سياقها على حسب ما اتفق لأبي داود"[113].
وقال الخطابي أيضاً: "وقد جمع أبو داود في كتابه هذا من الحديث في أصول العلم وأمهات السنن وأحكام الفقه ما لا نعلم متقدماً ما، سبقه إليه ولا متأخراً لحقه فيه"[114].
ثناء العلماء على السنن
لن أستطيع الحصر ولا الاستقصاء لو أردت أن أذكر كل ما قيل في الثناء على هذا الكتاب العظيم ولذلك فسأكتفي بإيراد بعض الكلمات لأشهر العلماء:
- قال أبو زكريا الساجي: "كتاب الله أصل الإسلام، وكتاب ((السنن)) لأبي داود عهد الاسلام"[115].
- وقال محمد بن مخلد: "لما صنف أبو داود ((السنن)) وقرأه على الناس صار كتابه لأهل الحديث كالمصحف يتبعونه، وأقرّ له أهلُ زمانه بالحفظ فيه"[116].
- وقال ابن الأعرابي وأشار إلى النسخة وهي بين يديه: "لو أن رجلاً لم يكن عنده من العلم إلى المصحف الذي فيه كتاب الله ثم هذا الكتاب لم يحتج معهما إلى شيء من العلم بته"[117].
وعلق الخطابي على كلمة ابن الأعرابي هذه فقال:
(وهذا – كمال قال – لا شكّ فيه، لأن الله تعالى أنزل كتابه تبياناً لكل شيء وقال: {ما فرطنا في الكتاب من شيء} فأخبر سبحانه أنه لم يغادر شيئاً من أمر الدين لم يتضمن بيانَه الكتابُ، إلا أن البيان على ضربين:(18/19)
بيان جلي تناوله الذكر نصاً، وبيان خفي اشتمل عليه معنى التلاوة ضمناً؛ فما كان من هذا الضرب كان تفصيل بيانه موكولاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو معنى قوله سبحانه {لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون} من جمع بين الكتاب والسنة فقد استوفى وجهي البيان، وقد جمع أبو داود في كتابه هذا من الحديث في أصول العلم وأمهات السنن وأحكام الفقه ما لا نعلم متقدماً سبقه إليه ولا متأخراً لحقه فيه)[118].
- وقال الخطابي أيضاً: "كتاب السنن لأبي داود كتابٌ شريف لم يصنف في علم الدين كتاب مثله، وقد رزق القبول من الناس كافة فصار حكماً بين فرق العلماء وطبقات الفقهاء على اختلاف مذاهبهم فلكل فيه وِرْدٌ ومنه شِرْبٌ، وعليه معول أهل العراق وأهل مصر وبلاد المغرب وكثير من مدن أقطار الأرض. فأما أهل خراسان فقد أولع أكثرهم بكتابي محمد بن إسماعيل ومسلم بن الحجاج[119] ومن نحا نحوهما في جمع الصحيح على شرطهما في السبك والانتقاد، إلا أن كتاب أبي داود أحسن رصفاً وأكثر فقهاً"[120].
وقال الخطابي أيضاً:(18/20)
(اعلموا أن الحديث عند أهله على ثلاثة أقسام: حديث صحيح، وحديث حسن، وحديث سقيم. فالصحيح عندهم ما اتصل سنده وعدلت نَقَلَتَه، والحسن منه ما عرف مخرجه واشتهر رجاله، وعليه مدار أكثر الحديث وهو الذي يقبله أكثر العلماء، ويستعمله عامة الفقهاء، وكتاب أبي داود جامع لهذين النوعين من الحديث، فأما السقيم منه فعلى طبقات شرُّها الموضوع ثم المقلوب – أعني ما قلب اسناده – ثم المجهول، وكتاب أبي داود خلّي منها بريء من جملة وجوهها، فإن وقع فيه شيء من بعض أقسامها لضرب من الحاجة تدعوه إلى ذكره فإنه لا يألو أن يبين أمره ويذكر علته ويخرج من عهدته. وحكي لنا عن أبي داود أنه قال: ما ذكرت في كتابي حديثاً اجتمع الناس على تركه. وكان تصنيف علماء الحديث – قبل زمان أبي داود – الجوامع والمسانيد ونحوهما، فتجمع تلك الكتب إلى ما فيها من السنن والأحكام أخباراً وقصصاً ومواعظ وآداباً، فأما السنن المحضة فلم يقصد واحدٌ منهم جمعها واستيفاءها ولم يقدر على تخليصها واختصار مواضعها من أثناء تلك الأحاديث الطويلة ومن أدلة سياقها على حسب ما اتفق لأبي داود، ولذلك حلّ هذا الكتاب عند أئمة الحديث وعلماء الأثر محل العجب فضربت فيه أكباد الابل ودامت إليه الرحل)[121].
- وقال أبو حامد الغزالي عن ((سنن أبي داود)): "إنها تكفي المجتهد في أحاديث الأحكام"[122].
- وقال ابن القيم: "لما كان كتاب ((السنن)) لأبي داود رحمه الله من الاسلام بالموضع الذي خصه الله به، بحيث صار حكماً بين أهل الإسلام، وفصلاً في موارد النزاع والخصام، فإليه يتحاكم المنصفون، وبحكمه يرضى المحققون، فإنه جمع شمل أحاديث الأحكام، ورتبها أحسن ترتيب ونظمها أحسن نظام، مع انتقائها أحسن انتقاء، واطراحه منها أحاديث المجروحين والضعفاء"[123].
تآليفه
ألّف أبو داود كتابه ((السنن)) في وقت مبكر، وعني بتأليفه وترتيبه عناية بالغة، وأعاد النظر فيه مرات متعددة. هذا أمرٌ لا شك فيه.(18/21)
أما كونه ألفه في وقت مبكر فيدلنا على ذلك ما ذكره مترجمو أبي داود من أنّ المؤلف روى كتابه ((السنن)) ببغداد ونقله عنه أهلها، ويقال: إنه صنفه قديماً وعرضه على أحمد بن حنبل فاستجاده واستحسنه[124] والإمام أحمد متوفى سنة 241هـ.
وقد يمكننا هذا النص أن نفهم أنه ألف الكتاب قبل أن يأتي بغداد، ولعلّه ألفه في طرسوس، لأنه جاء في أخباره أنه ألف المسند بطرسوس ومكث في ذلك مدة طويلة يبذل جهده في الاختيار والانتقاء والتبويب والترتيب. قال محمد بن صالح الهاشمي[125].
(قال أبو داود: أقمت بطرسوس عشرين سنة أكتب المسند، فكتبت أربعة آلاف حديث، ثم نظرت فإذا مدار الأربعة آلاف على أربعة أحاديث لمن وفقه الله) ثم ذكر الأحاديث.
وواضح أنه يريد بالمسند كتابه ((السنن)) لأن قريباً من هذا النصّ نقله عنه ابن داسة مصرحاً فيه بذكر السنن[126]، وعدد أحاديث كتاب ((السنن)) قريب من هذا الرقم.
ومما يؤكد لنا أن تأليفه كان في وقت مبكر من حياته النظر في مجموع أخباره فهناك ما يدل على أن الرجل بذل به عناية فائقة وأنفق في ذلك مدة طويلة وأنه عرض هذا الكتاب بعد تمامه على الإمام أحمد المتوفى سنة 241هـ فإذا كان أبو داود قد ولد سنة 202هـ استغرق مدة عشرة سنوات في تأليفه وافترضنا أنه عرضه عليه قبل وفاته بخمس سنوات، فيكون عمر المؤلف عند ذلك بضعاً وعشرين سنة، أي في وقت النشاط والقدرة. وهذا وقت مبكر جداً.
وأما كونه عني به عناية بالغة فهذا أمر تدل عليه دلائل كثيرة كلها تقطع بأن المؤلف بذل مجهوداً كبيراً وأنه نظر فيه ونقحه وقرأه مرات وكان يزيد فيه وينقص.(18/22)
من هذه الدلائل ما ذكره راوي هذا الكتاب الإمام الحافظ أبو علي محمد بن أحمد اللؤلؤي الذي قال بعد أن روى الحديث 911 ما يلي: (هذا الحديث لم يقرأه أبو داود في العرضة الرابعة)[127] وقال صاحب ((عون المعبود)) في شرح ذلك: (أي لما حدّث وقرأ أبو داود هذا الكتاب في المرة الرابعة لم يقرأ هذا الحديث)[128].
ومن هذه الدلائل قول علي بن الحسن بن العبد: (سمعت كتاب السنن من أبي داود ست مرار بقيت من المرة السادسة بقية)[129] وفي تتمة الخبر أنه قرأها في السنة التي مات فيها وهي سنة 275هـ.
أي أن المؤلف ظل يقرأ الكتاب ويذيعه في الناس مدة تقرب من أربعين سنة فلا عجب أن يكون واحد كعلي بن الحسن قد سمع منه هذا ست مرات.
ومن هذه الدلائل ما نقله أبو بكر بن داسة عن أبي داود حيث يقول:
(كتبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسمائة ألف حديث، انتخبت منها ما ضمنته هذا الكتاب – يعني كتاب السنن – جمعت فيه أربعة آلاف وثمانمائة حديث ذكرت فيها الصحيح وما يشبهه ويقاربه، وما فيه وهن شديد بينته، ويكفي الإنسان لدينه من ذلك أربعة أحاديث:
أحدها: قوله صلى الله عليه وسلم: ((الأعمال بالنيات)).
والثاني: قوله صلى الله عليه وسلم: ((من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)).
والثالث: قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يكون المؤمن مؤمناً حتى يرضى لأخيه ما يرضاه لنفسه)).
والرابع: قوله صلى الله عليه وسلم: ((الحلال بين والحرام بين، وبين ذلك أمور مشتبهات))[130].
ومما يدل على عنايته وإجادته لهذا الكتاب تعليق الذهبي على كلام أبي داود الذي نقله ابن داسة والمتضمن وعداً بتبين الضعيف الظاهر. قال الذهبي: "وقد وفى بذلك فإنه بيّن الضعيف والظاهر، وسكت عن التضعيف المحتمل"[131].
رواياته
نتوقع أن يكون هذا الكتاب قد روي من طرق كثيرة، غير أنَّ الرواة الذين ذكرهم العلماء تسعة وقد أوردنا أسماءهم في كلامنا على تلامذته.(18/23)
والحق أنّ هؤلاء الرواة الذين عرفناهم – وغيرهم كثير ممن لم نقف على أسمائهم – قد أدوا خدمة جليلة لكتاب أبي داود، وللسنة بوجه عام، فجزاهم الله عن ذلك خير الجزاء.
وقد انتهيت من بحثي إلى أن كتاب ((السنن)) متواتر إلى صاحبه دون شك. وأن أولئك الدساسين الذين يريدون أن يشككوا المسلمين بكتب ثقافتهم الدينية وبالأصول الإسلامية قوم دفعهم إلى ذلك التعصب الأعمى والحقد الدفين.
ذكر العلماء أن الروايات عن أبي داود بكتابه ((السنن)) كثيرة جداً وهذا أمر طبيعي، لأن رجلاً ظلَّ يقرئ كتابه مدة تقرب من أربعين سنة لابد أن يكون عدد الذين رووه عنه كبيراً، لا سيما أن أبا داود – كما سبق أن أشرنا إلى ذلك في ترجمة حياته – محدث مشهور يقصده الناس لعلمه وفضله حتى إن الدولة رأت في سكناه بالبصرة سبباً لإحياء المدينة الميتة وعمارة القرية الخربة. ومن عادة المؤلفين أنهم دائماً في تنقيح مستمر لكتبهم، يقدمون ويؤخرون ويزيدون وينقصون، وكلما نظروا في أثر من آثارهم رأوا أنّه بحاجة إلى تعديل.
ومن أجل ذلك كان كلام الحافظ ابن كثير عن روايات سنن أبي داود هو الكلام الطبيعي الذي جاء نتيجة لما ذكرنا. قال في ((مختصر علوم الحديث)): "الروايات عند أبي داود بكتابه السنن كثيرة جداً، ويوجد في بعضها من الكلام بل والأحاديث ما ليس في الاخرى"[132].
ولذلك كان أبو داود يحذف بعض الأحاديث ويزيد بعضاً في محاولات تنقيح الكتاب وإحكام ترتيبه، وقد مر معنا كلام اللؤلؤي الذي يذكر فيه أنّ أبا داود في المرة الرابعة لم يقرأ حديثاً – ذكره – ويحسن بنا أن نتعرف إلى أصحاب هذه الروايات وهم:
1 - أبو علي محمد بن أحمد بن عمرو اللؤلؤي:
وهذه النسبة تتصل بالمهنة، فهي نسبة إلى اللؤلؤ لأنه كان يبيعه وقد توفي[133] سنة 333هـ.
وروايته من أصح الروايات لأنه من آخر ما أملى أبو داود فقد سمع السنن مرات عديدة كانت آخرهن في السنة التي توفي فيها أبو داود: سنة 275هـ.(18/24)
وقد روى عن اللؤلؤي هذه السنن القاسم بن جعفر بن عبدالواحد الهاشمي أبو عمر، وهو ممن ترجم له الخطيب[134] وذكر أنه من أهل البصرة وعدّد أساتذته فذكر منهم اللؤلؤي وعبدالفاخر بن سلامة الحمصي ومحمد بن أحمد الأثرم وعلي بن إسحاق المارديني ويزيد بن إسماعيل الخلال ومحمد بن الحسين الزعفراني الواسطي، وأثنى عليه الخطيب[135] فقال: (كان ثقة أميناً، ولي القضاء بالبصرة، وسمعتُ منه بها ((سنن أبي داود)) ) وذكر أنه ولد سنة 322هـ وتوفي سنة 414هـ.
وقد روى عن القاسم الهاشمي هذه السنن الخطيب البغدادي المتوفى سنة 463هـ والخطيب البغدادي إمام ثقة ذائع الصيت[136].
ورواية الخطيب هي التي اعتمدت بالنسبة للشائع من نسخ أبي داود برواية اللؤلؤي.
ومن المفيد أن نذكر أن ابن عساكر المتوفى سنة 571هـ قد ألف كتاب ((الإشراف على معرفة الأطراف))[137] الذي جمع فيه أطراف ((سنن أبي داود)) معتمداً على رواية اللؤلؤي[138]. أما المزي المتوفى سنة 742هـ فقد جمع في كتابه ((تحفة الاشراف بمعرفة الأطراف)) أطراف أحاديث ((سنن أبي داود)) من الروايات الأربعة وهي روايات: اللؤلؤي، وابن داسة، وابن العبد، وابن الأعرابي، بحيث يورد حديث السنن ثم يقول: أخرجه أبو داود في باب كذا، فإن كان ذلك الحديث موجوداً في رواية اللؤلؤي يسكت عنه ولا يقول: إن هذا الحديث من رواية اللؤلؤي سواء كان ذلك الحديث في باقي الروايات الثلاثة موجوداً أم لا. وإن لم يكن الحديث من رواية اللؤلؤي، بل من رواية الثلاثة الآخرين أو من رواية واحد منهم فيقول بعد إخراجه: حديث أبي داود في رواية ابن داسة مثلاً أو رواية ابن العبد مثلاً أو في رواية ابن الأعرابي مثلاً أو في رواية هؤلاء الثلاثة أو اثنين منهم[139].
2 - أبو بكر محمد بن بكر بن عبدالرزاق بن داسة التمار:(18/25)
المتوفى سنة 346هـ. وروايته مشهورة ولا سيما في بلاد المغرب وتقارب رواية اللؤلؤي. والاختلاف بينهما غالباً بالتقديم والتأخير[140].
وقد وصلت إلينا بعض المخطوطات برواية ابن داسة وقد اعتمد على واحدة منها صاحب عون المعبود[141] ونقل عن السيوطي قوله فيها: وروايته أكمل الروايات[142] وقال: إن كثيراً من الروايات موجودة في رواية ابن داسة وليس هو في رواية اللؤلؤي كما نبهت على ذلك في مواضعها من هذا الشرح[143] كما سنشير إلى ذلك في موضعه إن شاء الله. وقد أتيح لي أن أقف على نسخة مصححة على مخطوطة أثبتت الفروق بين رواية ابن داسة واللؤلؤي.
3 - أبو سعيد أحمد بن محمد بن زياد بن بشر بن درهم البصري المعروف بابن الأعرابي[144]:
صاحب التصانيف، الإمام الزاهد الحافظ شيخ الحرم. كان أبو داود أحد أساتذته وقد سمع منه ((السنن)).
ومن شيوخه أيضاً الحسن بن محمد الزعفراني ومحمد بن عبدالملك الدقيقي. وروى عنه ابن المقرئ وابن منده وأحمد بن محمد بن مفرج القرطبي.
ولد ابن الأعرابي سنة 246هـ وتوفي 340هـ.
وقد سقط من نسخته كتاب الفتن والملاحم والحروف والقراءات والخاتم ونحو النصف من كتاب اللباس، وفاته أيضاً من كتاب الوضوء والصلاة والنكاح أوراق كثيرة[145].
4 - أبو الحسن علي بن الحسن بن العبد الأنصاري المتوفى سنة 328هـ:
ويعرف بأبي الحسن الوراق سمع أبا داود السجستاني وعثمان بن خرزاذ الأنطاكي، روى عنه الدارقطني[146].
وهذه الرواية فيها من الكلام على جماعة من الرواة والأسانيد ما ليس في رواية اللؤلؤي[147].
وقد جاء في آخر مخطوطة الرسالة التي في وصف السنن نص ينقل عن هذا الراوي (علي بن الحسن بن العبد) وهو قوله:
(سمعت كتاب السنن من أبي داود ست مرار بقيت من المرة السادسة بقية) وقد سبق أن أوردت هذا الكلام[148].
5 - أبو أسامة محمد بن عبدالملك الرؤاسي[149].
6 - أبو سالم محمد بن سعيد الجلودي[150].(18/26)
7 - أبو عمرو أحمد بن علي بن الحسن البصري[151].
8 - أبو الطيب أحمد بن إبراهيم بن عبدالرحمن الأشناني[152].
9 - أبو عيسى إسحاق بن موسى بن سعيد الرملي الوراق المتوفى سنة 320هـ وقالوا: إنه وراق أبي داود[153].
تجزئة الكتاب
ذكر أبو داود في ((رسالته إلى أهل مكة)) أن عدد كتب هذه السنن 18 جزءاً مع المراسيل، منها جزء واحد مراسيل. ويبدو أنّ النساخ والرواة جزؤوا الكتاب إلى أجزاء، ومن أجل ذلك فهذه التجزئة من إنسان لآخر.
أما تجزئة الخطيب البغدادي وهو الذي روى سنن أبي داود برواية اللؤلؤي فتبلغ تقديراً حوالي 30 جزءاً لأنه يفهم من تعليقات المحقق الأستاذ محمد محيي الدين عبدالحميد أن عدد أجزاء المقدار المطبوع في الجزأين الأولين بلغ 14 جزءاً من تجزئة الخطيب البغدادي[154].
وقد استعرضت الجزأين الثالث والرابع فلم أجد المحقق ذكر شيئاً عن هذه التجزئة.
وفي عصر الطباعة رأينا كتاب أبي داود مطبوعاً في جزء مرة، ورأيناه مرة أخرى مطبوعاً في جزأين، ورأيناه مطبوعاً مرة ثالثة بأربعة أجزاء.
أقسام الكتاب وتبويبه
خلا الكتاب من المقدمة، وهذا موضع تعجب، ذلك لأنّ مؤلفه كتب رسالة في وصف سننه وهي أحسن ما تكون توضيحاً لعمله وعرضاً لخطته ووضعاً للأمور في نصابها، ولو أن قائلاً ذهب إلى أنها تصلح أن تسدّ مسدّ المقدمة لما كان مخطئاً.
وليس أبو داود وحده الذي خلا كتابه من المقدمة، بل شاركه في ذلك غيره، فالبخاري أيضاً لم يكتب لجامعه الصحيح مقدمة، لكنَّ الفرق بينهما أن البخاري رحمه الله لم يتح له النظر في كتابه بعد تأليفه[155]، أما أبو داود فقد بقي يقرأ ((السنن)) ويذيعها بين الناس أربعين سنة كما أسلفنا.
ولعلّ الأمر يتعلق بأطوار التأليف، إذ ليس البخاري وأبو داود وحدهما لم يكتبا مقدمات لكتبهما، بل نجد كذلك الامام أحمد لم يكتب مقدمة لمسنده وابن المبارك لم يكتب مقدمة لكاتبيه: الزهد، والجهاد.(18/27)
2 – ينقسم كتاب ((السنن)) إلى كتب كبيرة بلغت 36 كتاباً هي:
1) الطهارة، 2) الصلاة، 3) الزكاة، 4) اللقطة، 5) المناسك، 6) النكاح، 7) الطلاق، 8) الصوم، 9) الجهاد، 10) الضحايا، 11) الصيد، 12) الوصايا، 13) الفرائض، 14) الخراج والإمارة والفيء، 15) الجنائز، 16) الأيمان والنذور، 17) البيوع، 18) الإجارة، 19) الأقضية، 20) العلم، 21) الأشربة، 22) الأطعمة، 23) الطب، 24) العتق، 25) الحروف والقراءات، 26) الحمام، 27) اللباس، 28) الترجل، 29) الخاتم، 30) الفتن، 31) المهدي، 32) الملاحم، 33) الحدود، 34) الديات، 34) السنة، 36) الأدب.
3 – وكل كتاب من هذه الكتب ينقسم إلى أبواب، باستثناء ثلاثة كتب لم نجد فيها أبواباً هي:
كتاب اللقطة – وكتاب الحروف والقراءات – وكتاب المهدي. ولا يستوي عدد أبواب الكتب، فبينما نجد كتاباً يشتمل على أكثر من مائة باب ككتاب الصلاة – الذي يشتمل على ثلاثمائة باب وسبعة وستين باباً – نجد كتاباً لا تتجاوز أبوابه الثلاثة ككتاب الحمام الذي اشتمل على ثلاثة أبواب فقط.
4 – وقد نجد باباً كبيراً تحته أبواب كثيرة، وذلك كالباب الذي جاء بعنوان ((باب تفريع أبواب الجمعة))[156] وقد جاء تحت 38 باباً.
وكالباب الذي جاء بعنوان ((جماع أبواب الاستسقاء وتفريعها))[157] وقد جاء تحته ثلاثة أبواب.
5 – هذا وليست الأبواب متساوية في حجمها وإن كان يغلب على معظمها القصر، فقلما نجد باباً يجاوز الصفحة. بل أكثر الأبواب قصيرة قصراً واضحاً، وربما لا يكون في الباب إلا أثر، كما في الباب الآتي: (باب إخفاء التشهد
حدثنا عبدالله بن سعيد الكندي، ثنا يونس – يعني ابن بكير – عن محمد بن إسحاق، عن عبدالرحمن ابن الأسود، عن أبيه، عن عبدالله قال: من السنة أن يخفى التشهد)[158].(18/28)
وقد صرح أبو داود في ((رسالته إلى أهل مكة)) أنه يعتمد قلة الأحاديث في الباب فقال: "ولم أكتب في الباب إلا حديثاً أو حديثين، وإن كان في الباب أحاديث صحاح؛ لأنه يكبر، وإنما أردت قرب منفعته"[159].
وهذه الخاصة من أبرز خصائص السنن، وكأن أبا داود استخرج من الحديث أو الحديثين أبرز ما فيهما فجعله عنوان الباب، أو كانه أدخل تحت العنوان أبرز الأحاديث عليه، ولذا يستطيع المرء أن يعثر على الحديث المطلوب بسهولة؛ لأن الباب قليل الأحاديث، ومن هنا قربت منفعته على حدّ تعبير أبي داود.
وأكد أبو داود حرصه على قلة الأحاديث في الباب فقال في ((رسالته إلى أهل مكة)): (وأذا أعدت الحديث في الباب من وجهين أو ثلاثة فإنما هو من زيادة كلام فيه)[160] أي من أجل زيادة كلام فيه؛ على أننا قد نقف على بعض الأبواب الطويلة، وذلك كباب صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم الذي استغرق سبع صفحات[161]. ولعل السبب يعود إلى موضوع الباب نفسه.
6 – وأخيراً فإنّ مجموع عدد أبواب كتاب ((السنن)) حسب إحصاء الأستاذ محمد محيي الدين عبدالحميد هو 1889 باباً.
درجات أحاديث الكتاب وأنواعها
يذكر العلماء كتاب ((السنن)) لأبي داود على أنّه من مظانّ الحديث الحسن[162].
قال ابن الصلاح: "رُوِّينا عنه – أي عن أبي داود – أنه قال: ذكرتُ الصحيح وما يشبهه ويقاربه، وما كان فيه وهن شديدٌ، وما لم أذكر فيه شيئاً فهو صالحٌ، وبعضها أصحُّ من بعض"[163].
وعقب ابن الصلاح على ذلك بقوله: "فعلى هذا ما وجدناه في كتابه مذكوراً مطلقاً وليس في واحد من الصحيحين ولا نصّ على صحته أحدٌ عرفنا أنه الحسن عند أبي داود"[164].
وسنرى بعد قليل أن هذا الرأي موضع نظر لدى المحققين. هذا وقد حلّل البقاعي في ((حاشية على الألفية)) كلام أبي داود المتقدم وانتهى إلى أن هناك – على قول أبي داود – ستة أنواع من الأحاديث في كتابه وهي:
1 - الأول الصحيح: ويجوز أن يريد به الصحيح لذاته.(18/29)
2 - الثاني شبهه: ويجوز أن يريد به الصحيح لغيره.
3 - الثالث مقاربه: ويجوز أنه يريد به الحسن لذاته.
4 - الرابع الذي فيه وهن شديد.
5 - وقوله (وما لم أذكر فيه شيئاً فهو صالح) يفهم منه الذي فيه وهن ليس بشديد فهو قسم خامس، فإن لم يعتضد كان قسماً صالحاً للاعتبار فقط.
6 - وإن اعتضد صار حسناً لغيره، أي للهيئة المجموعة وصلح للاحتجاج وكان قسماً سادساً[165].
وكذلك فإن للذهبي ذكر في ((سير أعلام النبلاء)) أن الأحاديث في ((سنن أبي داود)) ستة أنواع فقال:
1 - إنَّ أعلى ما في كتاب أبي داود من الثابت ما أخرجه الشيخان وذلك نحو شطر الكتاب.
2 - ثم يليه ما أخرجه أحد الشيخين ورغب عنه الآخر.
3 - ثم يليه ما رغبا عنه وكان إسناده جيداً سالماً من علة شذوذ.
4 - ثم يليه ما كان إسناده صالحاً وقبله العلماء لمجيئه من وجهين لينين فصاعداً.
5 - ثم يليه ما ضعف إسناده لنقص حفظ راويه، فمثل هذا يسكت عنه أبو داود غالباً.
6 - ثم يليه ما كان بيّن الضعف من جهة راويه، فهذا لا يسكت عنه بل يوهنه غالباً، وقد يسكت عنه بحسب شهرته ونكارته[166].
والحق أن أحاديث أبي داود متفاوتة المراتب ومثل هذا التصنيف يعطي فكرة مناسبة عن أحاديث الكتاب، هذا وقد شهد العلماء بأنّ أبا داود قد وفى بوعده بتبيين ما فيه وهن شديد.
نقل السبكي عن الذهبي قوله الآتي: "وقد وفى بذلك فإنه بيّن الضعيف الظاهر وسكت عن الضعيف المحتمل، فما سكت عنه لا يكون حسناً عنده ولابدّ، بل قد يكون مما فيه ضعف"[167].
وبالغ الحافظ السَّلَفيُّ فَزَعم أنَّ ما في سنن أبي داود صحيح، فقد ذكر الكتب الخمسة وقال: "اتفق على صحتها علماءُ المشرق والمغرب".
فردّ عليه ابن الصلاح وقال: "وهذا تساهل، لأن فيها ما صرحوا بكونه ضعيفاً أو منكراً أو نحو ذلك من أوصاف الضعيف، وصرّح أبو داود فيما قدمنا روايته عنه بانقسام ما في كتابه إلى صحيح وغيره"[168].(18/30)
وكلام ابن الصلاح هذا صحيح، وإن كان المحققون من العلماء – كما رأيت – لا يوافقونه على رأيه الذي ورد آنفاً من أن الأحاديث التي سكت عنها أبو داود حسنة. ومن هؤلاء المحققين الذهبي والحافظ العراقي وغيرهما.
والسبب في موقف ابن الصلاح أنه كان يرى أن ليس للمتأخر أن يجرؤ على الحكم بصحة حديث ليس في أحد الصحيحين أو لم ينصّ على صحته أحد من أئمة الحديث السابقين.
قال الأستاذ أحمد شاكر: "إنَّ ابن الصلاح يحكم بحسن الأحاديث التي سكت عنها أبو داود ولعله سكت عن أحاديث في السنن، وضعّفها في شيء من أقواله الأخرى كأجاباته للآجري في الجرح والتعديل، والتصحيح والتعليل، فلا يصح إذن أن يكون ما سكت عنه في ((السنن)) وضعفه في موضع آخر من كلامه حسناً، بل يكون عنده ضعيفاً. وإنما لجأ ابن الصلاح إلى هذا اتباعاً لقاعدته التي سار عليها من أنه لا يجوز للمتأخرين التجاسر على الحكم بصحة حديث لم يوجد في أحد الصحيحين أو لم ينص أحدٌ من أئمة الحديث على صحته"[169].
وقال في موضع آخر: "وقد رد العراقي وغيره قول ابن الصلاح هذا، وأجازوا لمن تمكن وقويت معرفته أن يحكم بالصحة أو بالضعف على الحديث بعد الفحص عن اسناده وعلله، وهو الصواب. والذي أراه أن ابن الصلاح ذهب إلى ما ذهب إليه بناء على القول بمنع الاجتهاد بعد الأئمة، فكما حظروا الاجتهاد في الفقه أراد ابن الصلاح أن يمنع الاجتهاد في الحديث، وهيهات فالقول بمنع الاجتهاد قولٌ باطل لا برهان عليه من كتاب ولا سنة ولا تجد له شبه دليل"[170].
الضعيف في سنن أبي داود
في كتاب ((السنن)) كما اتضح لنا أحاديث ضعيفة، صرّح أبو داود نفسه بضعف بعضها، ولم يصرح بتضعيف بعضها الآخر؛ إمّا لأن ضعفها محتمل عنده وليس بشديد، وإما لأنه صرح في غير ((السنن)) بضعفها كما ذكر ذلك الاستاذ أحمد شاكر في النص الذي أوردناه قبل قليل[171].(18/31)
فالأحاديث التي صرّح بضعفها أمرها هيّن، وكذلك الأحاديث التي سكت عنها وأخرجها الشيخان أو أحدهما فهي صحيحة، أما الأحاديث التي سكت عنها وليست من هذا القبيل ولا ذاك فإننا نستطيع أن نحكم عليها بالنظر في أسانيدها، فما حكم له سنده بالصحة كان صحيحاً وما حكم له سنده بالضعف كان ضعيفاً.
ومن الجدير بالذكر أن ننوه هنا بأن المنذري وابن الصلاح وغيرهما ذكروا أن محمد بن اسحاق بن منده الحافظ حكى أن شرك أبي داود والنسائي إخراج حديث أقوام لم يجتمع على تركهم، ويحكون عن أبي داود أنه قال: (ما ذكرت في كتابي حديثاً اجتمع الناس على تركه)[172].
وهذا الذي يحكونه عن أبي داود أدق من كلمته الواردة في رسالته إلى أهل مكة وهي (وليس في كتاب السنن عن رجل متروك الحديث شيء) إذ قد أخرج عن أبي جناب الكلبي[173] ومحمد بن عبدالرحمن البيلماني[174] وهما من المتروكين وإن وجد من يزكيهما، فلا يعد أمثالهما من المجتمع على تركهم.
وروي عن جابر الجعفي فقد أخرج له الحديث رقم 1036 ونصّه ((إذا قام الامام في الركعتين فإن ذكر قبل أن يستوي قائماً فليجلس فإن استوى قائماً فلا يجلس، ويسجد سجدتي السهو)) ثم قال عقبه: (وليس في كتابي عن جابر الجعفي إلا هذا الحديث)[175].
وقد ترجم الذهبي في ((الميزان)) لجابر هذا وذكر ما يدل على ضعفه واتهامه[176] وذكر أبو داود في كتابه السنن عمرو بن ثابت[177] وهو رافضي، وقد قرر ذلك أبو داود نفسه فقال بعد أن أورد الحديث رقم 287: (ورواه عمرو بن ثابت عن ابن عقيل...) ثم قال: (قال أبو داود: وعمرو بن ثابت رافضي رجل سوء ولكنه كان صدوقاً في الحديث)[178].
وروى أيضاً عن الحارث الأعور[179] الحديث رقم 908 وفي الحارث ما فيه[180].
لماذا أورد في كتابه الضعيف
أورد أبو داود بعض الأحاديث الضعيفة في كتابه للأمور الآتية:
1 - لأن طريقته في التصنيف هي أن يجمع كل الأحاديث التي تتضمن أحكاماً فقهية ذهب إلى القول بها عالم من العلماء.(18/32)
2 - لأنه كان يرى أن الحديث الضعيف إن لم يكن شديد الضعف أقوى من رأي الرجال ومن القياس (حكى ابن منده أنه سمع محمد الباوَرْدي يقول: كان من مذهب النسائي أن يخرج عن كل من لم يجمع على تركه قال ابن منده: وكذلك أبو داود السجستاني يأخذ مأخذه ويخرج الاسناد الضعيف إذا لم يجد في الباب عيره لأنه أقوى عنده من رأي الرجال)[181].
وحكى ابن العربي عن أبي داود أنه قال لابنه: "إن أردت أن أقتصر على ما صحّ عندي لم أر من هذا المسند إلا الشيء بعد الشيء، ولكنك يا بني تعرف طريقي في الحديث أني لا أخالف ما يضعف إلا إذا كان في الباب ما يدفعه"[182].
3 - أما إذا كان الحديث شديد الضعف فإنما يورده ليدل على عدم تبنيه لمضمونه، وكأنه بذلك يرد على الآخرين به قائلاً: ليس لكم دليل بهذا الحديث على رأيكم لأن الحديث شديد الضعف. ومثال ذلك ما جاء في باب النهي عن التلقين[183] حيث عقد الباب على حديث ضعيف ولم يورد في الباب غيره، فقد جاء بالحديث رقم 908 فقط وهو: (عن أبي اسحاق، عن الحارث، عن علي رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا عليّ! لا تفتح على الامام في الصلاة)) قال أبو داود: أبو اسحاق لم يسمع من الحارث إلا أربعة أحاديث ليس هذا منها)[184].
أي أن الحديث منقطع، فإذا أضفنا إلى ذلك أن الحارث نفسه متهم بالكذب عرفنا أن الحديث شديد الضعف.
موازنة بين سنن أبي داود والصحيحين(18/33)
هذا الموضوع وحده يصلح أن يكون محل دراسة خاصة وعناية تامة ويمكن أن تؤلف فيه رسالة كبيرة، غير أني أرمي من وراء ذكرها هنا أن أشير فقط إلى أن كتاب السنن جليل الشأن عند كثير من العلماء المتقدمين فهو يأتي بعد الصحيحين مباشرة، بل إن الخطابي رحمه الله قدّم السنن عليهما كما مر معنا في مبحث (ثناء العلماء على السنن) ويحسن أن ورد قول الخطابي مرة أخرى؛ قال: (فأما أهل خراسان فقد أولع أكثرهم بكتابَيْ محمد بن اسماعيل ومسلم بن الحجاج ومن نحا نحوهما في جمع الصحيح على شرطهما في السبك والانتقاد إلاّ كتاب أبي داود أحسن رصفاً وأكثر فقهاً)[185].
وقد أقام عدد من العلماء[186] موازنة بين سنن أبي داود وصحيح مسلم وذكروا أوجه الاتفاق وأوجه الاختلاف، ومنهم من رجّح عمل هذا، ومنهم من رجح عمل ذاك، والذي يهمني من هذه الموازنة أن طائفة من العلماء ترى أنّ ((سنن أبي داود)) في درجة تقارب درجة الصحيحين أو تفوقها.
زوائد أبي داود
يظهر أن زوائده عمّا في الكتاب الخمسة الأخرى[187] قليلة فقد سبق أن أوردنا أن الذهبي ذكر أن ما في ((السنن)) مما يوافق ما أخرجه الشيخان يبلغ شطر الكتاب[188].
وإذا تتبعنا تعليقات الحافظ المنذري تبيّن أنّ زوائده عما في الكتب الخمسة قليلة جداً، فما أقل الأحاديث التي لا يذكر المنذري أنها وردت في بعض هذه الكتب.
وقد ألّف بعضهم في شيء من ذلك فجمع زوائد أبي داود على الصحيحين وشرحها[189] ويحسن أن نشير هنا إلى أن كتاب أبي داود أجمع هذه الكتب، نعم ليست فيه زيادات كثيرة على ما في هذه الكتب بمجموعها غير أن فيه كثيراً مما ليس في واحد منها على انفراد، هذا وزوائده أحسن حالاً من زوائد غيره كابن ماجه مثلاً.
خصائصه
يحسن أن نورد بعض الخصائص المهمة التي نستطيع أن نلمسها في ((السنن)).
تعدد الطرق:(18/34)
هناك أحاديث كثيرة في ((السنن)) مروية بطريقين أو أكثر، وهو يورد هذين الطريقين أو هذه الطرق في الاسناد قبل أن يأتي بمتن الحديث غالباً، وإذا أراد التحويل من طريق إلى آخر رمز إلى ذلك بالحرف (ح) على عادة المحدثين[190] قال في ((رسالته)): (وإذا أعدت الحديث في الباب من وجهين أو ثلاثة فإنما هو من زيادة كلام فيه وربما تكون فيه كلمة زيادة على الأحاديث)[191].
تكرار الحديث:
في الحديث الواحد من المعاني والأحكام الشيء الكثير، فلقد أوتي صلى الله عليه وسلم جوامع الكلم[192]. فإذا أورد المؤلف الحديث في باب من الأبواب من أجل معنى وارد فيه، اضطر إلى اعادته في باب آخر من أجل معنى آخر تضمنه الحديث، ومن هنا كان لا مفر من تكرار الحديث في الكتب المصنفة على الأبواب[193].
وهذا هو السبب الذي جعل أبا داود يكرر الحديث أحياناً. ولكنه لا يبلغ في تكراره مبلغ البخاري في صحيحه. ولا يقطِّعه تقطيعه.
الدقة في إيراد الروايات
الدقة ظاهرة واضحة تمام الوضوح في ((كتاب السنن)) ونضرب على ذلك بعض الأمثلة:
– فهو إذا روى الحديث عن طريق رجلين يثبت الرواية التي يرى أنها الصواب ثم يورد رواية الرجل الآخر كما فعل في الحديث رقم 20 الذي رواه عن زهير بن حرب وهنّاد بن السري وفيه: (أما هذا فكان لا يستنزه من البول) وبعد أن انتهى من رواية الحديث قال: (قال هناد: ((يستتر)) مكان ((يستنزه)) ).
ومما يدلنا على أن أبا داود يرى الصواب رواية زهير أن عنوان الباب الذي ورد هذا الحديث فيه هو باب الاستبراء من البول[194].
– وقد يقتصر على رواية أحدهما دون أن يشير إلى الرواية الأخرى، ولكنه ينبه على أنه إنما أورد رواية فلان كما في الحديث 938 قال: (حدثنا الوليد بن عتبة الدمشقي ومحمود بن خالد قالا:..) وبعد نهاية الحديث قال: (وهذا لفظ محمود)[195].(18/35)
– وقد يروي الحديث عن أربعة رجال ولا يثبت واحدة يرجحها ثم ينبه على الروايات الأخرى، وإنما يورد الروايات الأربع مرة واحدة مجموعة على وجه يدل على الدقة والاختصار كالحديث 992 في باب كراهية الاعتماد على اليد في الصلاة قال:
– (حَدَّثَنَا أحمد بنُ حَنْبل، وأحْمدُ بنُ مُحمّد بن شَبُّويهْ وَمُحمّد بن رافع وَمُحَمّدُ بن عبدالملِكِ الغزَّال قالوا:
– حَدَّثَنَا عبدُالرزَّاقِ عَنْ مَعْمرٍ عَن إسْماعيلَ عن أبيه عَنْ نَافِع عنِ ابنِ عُمَر قال: نَهَى رسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم.
قالَ أحمدُ بنُ حَنْبَل: أنْ يَجْلِسَ الرَّجُلُ في الصَّلاةِ وهُو مَعْتمدٌ عَلى يدِهِ.
قال ابنُ شَبُّويْه: نَهى أنْ يَعْتمِدَ الرَّجُلُ على يَدِهِ في الصَّلاةِ.
وقالَ ابنُ رَافِع: نَهى أنْ يُصَلّي الرَّجُلُ وَهُوَ مُعْتمِدٌ على يَدِهِ وذَكَره في بابِ الرفع من السُّجُود.
وقال ابنُ عبدالملِكِ: نَهَى أنْ يَعْتَمدَ الرَّجُلُ عَلى يَديْهِ إذَا نَهَضَ في الصَّلاة)[196].
ولم يرجح المؤلف رواية على رواية.
وقد يأتي بالحديث عن طرق بينها فروق طفيفة لا تؤثر في المعنى، ومع ذلك فهو حريص على ذكر هذه الفروق، كما فعل في الحديث رقم 4 الذي رواه عَنْ مُسَدّدْ بن مُسَرْهدٍ عَن حَمّادِ بن زَيْدٍ وعبدالوارِث (عَنْ عَبْدِالعزيز بن صُهَيّبٍ عَنْ أنَس بنِ مالِك قالَ: كانَ رسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إذا دَخَلَ الخلاء قَال:
عَن حمّادٍ – قالْ: ((اللّهمَُّ إنِّي أعُوذُ بِكَ)).
وَقَالَ – عن عبدِالوَارثِ قالَ – ((أعُوذُ باللهِ من الخُبثِ وَالْخَبَائِث)) )[197].
– ومن الأمثلة على ذلك – وهي كثيرة جداً – حديث البول في المستحمّ رقم 27 الذي رواه من أحمد بن حنبل والحسن بن علي وهو:
((لاَ يَبُولنَّ أحَدُكُمْ في مُسْتَحمِّه ثُمَّ يَغْتَسِل فِيه – قال أحْمَدُ: ثُمَّ يََتَوضأ فيهِ فإنَّ عَامّةَ الوَسْواسِ مِنه))[198].(18/36)
والمؤلف هنا بيّن الفرق بين الروايتين أثناء الحديث. وهذه الدقة دليلٌ على مدى الحرص في نقل حديث النبي بالتحري الخالص والأداء الأمين. وتلك خصيصة خص الله بها أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فوق مجرد نقل أخبار النبي صلى الله عليه وسلم وأحاديثه..
الاختصار
وفي كتاب أبي داود الاختصار الموفّق لأننا نجده مقترناً بالدقة البالغة والوضوح البيّن، وهذه خاصة من أهمّ الخصائص التي يمتاز بها كتاب ((السنن)).
- ومن مظاهر الاختصار ما مرَّ بنا في تبويب الكتاب من قلة الأحاديث في الباب الواحد.
- ومن أنواع هذا الاختصار أنه يعمد إلى الحديث الطويل فيختصره فلا يورد منه إلا موضع الفقه منه، وقد أشار أبو داود نفسه إلى هذه الخاصة فقال في رسالته:
(وربما اختصرت الحديث الطويل، لأني لو كتبته بطوله لم يعلم بعض من سمعه ولا يفهم موضع الفقه منه فاختصرته لذلك)[199].
- ومن أنواع هذا الاختصار أنه يأتي بحديث، ثم بعد ذلك يأتي بسند آخر ويقول: (بمعناه) كما في الحديث[200] رقم 34 فهذه الكلمة أغنته عن إعادة الحديث، ولكي يكون كلامه دقيقاً قال: (بمعناه) منبهاً على أنّ هناك فرقاً لفظياً بين الروايتين لا يؤثر في المعنى.
- ومن أنواع هذا الاختصار أنه إذا وجد روايتين في إحداهما زيادة جاء بالأولى، ثم أورد سند الثانية وجاء بالزيادة ولا يعيد ما سبق ذكره، وإنما يكتفي بقوله: (وذكر الحديث) ومثل هذا كثير الورود في كتابه، فمن ذلك الأحاديث 111 – 112 – 113 – 114...
ففي الأول منها يذكر أبو داود حديث عبد خير الذي يصف وضوء عليّ رضي الله عنه كما يلي:(18/37)
(حَدَّثَنَا مُسَدَّد. حَدَّثنَا أبو عوانَة. عَن خَالِدِ بنِ عَلْقَمَةَ عَنْ عبدِ خيرٍ قالَ: أتَانا عليٌ رضي اللهُ عَنْهُ وَقَدْ صَلّى فَدَعا بطَهُورٍ فَقُلْنَا: مَا يَصْنَعُ بالطّهورِ وَقَدْ صَلّى؟ مَا يُريدُ إلاَّ ليُعَلِّمنَا فَأتِيَ بإنَاءٍ فِيهِ مَاءٌ وَطَسْت، فأفْرَغَ مِن الإنَاء عَلى يميْنِهِ فَغَسَل يَدَيْهِ ثَلاثاً ثُمَّ تَمَضْمَضَ وَاسْتَنْثَرَ ثَلاثَاً فَمَضْمَضَ وَنَثَرَ منَ الكفِّ الذِي يأخُذُ فيهِ ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلاثاً ثمَّ غَسَلَ يَدَهُ اليمْنى ثَلاثَاً وَغَسَلَ يَدَهُ الشِّمال ثَلاثاً، ثمَّ جَعَلَ يَدَهُ في الاناء فَمَسَحَ بِرأسِهِ مَرَّةً واحدَة ثمَّ غَسَلَ رِجْلهُ اليُمْنى ثَلاثاً وَرِجْلَهُ الشِّمَال ثَلاثاً، ثُمَّ قَالَ: مَن سَرَّهُ أنْ يَعْلَمَ وُضُوء رسولِ اللهِ فَهُوَ هَذَا)[201].
- وبعد ذلك أورد أبو داود رواية أخرى بسند آخر عن عبد خير هي: (صلّى عَليَّ رَضَي اللهُ عَنْهُ الغَداةَ ثمَّ دَخَلَ الرَّحْبَةَ[202] فَدَعَا بماءٍ فأتاهُ الغُلامُ بإناءٍ فيهِ مَاءٌ وَطَسْت قَالَ: فَأخَذَ الانَاء بيدِهِ اليُمْنَى فأفْرَغَ عَلى يدِهِ اليُسْرى وَغَسَلَ كفّيْهِ ثَلاثاً ثُمَّ أدْخَلَ يَدَهُ اليُمْنَى في الإناء فَمَضْمَضَ ثَلاثاً واسْتَنْشَقَ ثَلاثاً. ثم ساق قريباً من حديث أبي عوانة قَالَ ثمَّ مَسَحَ رَأسَهُ مُقَدّمَه وَمُؤخّرَه مَرَة ثم ساق الحديث نحوه)[203].
- ثم أورد الرواية الثالثة بسند ثالث عن عبد خير أيضاً وفيها زيادة: (رأيت علياً رضي الله عنه أتى بكرسي فقعد عليه، ثم أتي بكوز من ماء فغسل يديه ثلاثاً ثم تمضمض مع الاستنشاق بماء واحد وذكر الحديث)[204].(18/38)
ثم أورد الرواية الرابعة عن زر بن حبيش: أنّهُ سَمعَ علياً رضيَ اللهُ عَنْهُ وسُئل عَنْ وُضُوء رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فذكر الحديث. وقالَ: مَسَحَ على رأسِهِ حَتّى لمّا يَقْطُر، وَغَسَلَ رِجْلَيْهِ ثَلاثَاً ثمَّ قَالَ: هَكَذا كَانَ وضُوءُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم)[205].
- وإذا روى حديثاً مختصراً نقل قول الراوي باختصاره، كما في الحديث 49 فقد قال بعد أن أورده: (قال أبو داود: قال مسدّد: فكان حديثاً طويلاً ولكني اختصرته)[206].
طريقته واستقصاؤه
كان أبو داود – كما أسلفنا – يريد جمع أحاديث الأحكام التي يحتج بها الفقهاء وكان ذلك همه الأول، وقد استطاع أن يبلغ أكثر ما يريد، وهذا واضح من استعراض كتابه وهذا ما قرره العلماء أيضاً.
قال الدهلوي في ((حجة الله البالغة)): "كانت همة أبي داود جمع الأحاديث التي استدل بها الفقهاء ودارت فيهم، وبَنى عليها الأحكام علماءُ الأمصار فصنّف ((سننه)) وجمع فيها الصحيح والحسن واللين والصالح للعمل"[207].
وقال الدهلوي أيضاً في صدد حديثه عن الترمذي وأنه جمع بين طريقة الشيخين اللذين بيّنا وطريقة أبي داود الذي جمع كل ما ذهب إليه عالم من العلماء فقال: "كان استحسن طريقة الشيخين حيث بيّنا وما أبهما، وطريقة أبي داود حيث جمع كل ما ذهب إليه ذاهب، فجمع كلتا الطريقتين وزاد"[208].
ويدلك على ذلك أنه يعقد باباً في جواز الشي وكراهته، وهذا كثير جداً، مثل: (باب كراهة استقبال القبلة عن الحاجة) والباب الذي يليه (باب الرخصة في ذلك)[209] ومثل (باب الوضوء من مسّ الذكر) والباب الذي يليه (باب الرخصة في ذلك)[210].
وفي جمعه لكل ما ذهب إليه العلماء فوائد منها:
– بيان أنّ بعض الأحاديث أقوى من بعض، لا سيما عندما يعلق على واحدٍ مضعفاً إياه ويسكت عن آخر.
– ومنها بيان أنّ الأمر جائز مع الكراهة وليس حراماً، أو هوَ رخصة.(18/39)
– ومنها إتاحة الفرصة للانسان لكي يوازن بين أقوال العلماء ويرجح ما ينصره الدليل ويعضده.
- وقد ذكر هو في ((رسالته إلى أهل مكة)) أنه قصد جمع أكبر قدر ممكن من السنن التي عليها مدار الأحكام فقال: "فإنْ ذكر لك عن النبي صلى الله عليه وسلم سنة ليس مما خرجته فاعلم أنه حديث واهٍ إلاّ أن يكون في كتابي من طريق آخر، فإني لما أخرج الطرق لأنه يكبر على المتعلم ولا أعرف أحداً جمع على الاستقصاء غيري"[211].
- ومن حرصه على الاستقصاء في جمع الأحاديث المتصلة بالأحكام أنه قد يورد الحديث دون سند بعد أن يكون قد أورد حديثاً مسنداً، كما في الحديث 16 وهو:
(حدثنا عثمان وأبو بكر قالا: حدثنا عمر بن سعد عن سفيان عن الضحاك بن عثمان عن نافع عن ابن عمر: مَرَّ رَجُلٌ عَلى النَبيِّ صلى الله عليه وسلم وَهوَ يَبُول، فَسَلّمَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ. قَالَ أبُو دَاوُد: وَرُوي عن ابنِ عُمَر وَغَيْرِه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم تَيَمّمَ ثمَّ رَدَّ عَلى الرَّجُلِ السّلام)[212].
فالزيادة التي في الرواية الثانية قد أوردها هنا دون سند وبصيغة التمريض رغبة منه في الاستقصاء مع الاختصار؛ وذلك لأنه أوردها في باب التيمم بالسند وذلك في الحديث[213] رقم 330، ولكنه ذكر هناك ما يدل على ضعف هذا الحديث.
– ومن طريقته أنه كثيراً ما يروي الحديث عن أكثر من شيخ وتارة عن ثلاثة وتارة عن أربعة.
ففي الحديث 188 روى الحديث عن شيخين وكذا في 1365.
وفي الحديث 185 روى الحديث عن ثلاثة شيوخ.
وفي الحديث 992 روى الحديث عن أربعة شيوخ.
عناوينه
للعناوين قيمة كبرى في كتب الحديث، ففيها يتجلّى فقه المؤلف وعلمه واستنباطه الدقيق وفهمه، ذلك لأن جهده مقصور على تبويب هذه الأحاديث ووضع عنوان لكل طائفة منها والتعليق على بعضها، إذ كتابه في جمع الأحاديث وليس في شرحها.(18/40)
وسنذكر بعض الملاحظات حول عناوين أبي داود كما انتهينا إليها بعد شيء من الدراسة والتأمل:
1 - الناحية الفقهية بادية في عناوين أبي داود، وهذا أمر طبيعي، لأن الكتاب مؤلف على أساس فقهي واضح، وهذه العناوين رؤوس مسائل فقهية بحثها الفقهاء. قال الدهلوي في ((حجة الله البالغة)): "وترجم[214] على كل حديث بما قد استنبط منه عالم وذهب إليها ذاهب"[215].
وقد يجد الانسان في هذه العناوين من المسائل الفقهية ما لا يكاد يجده في مطولات كتب الفقه.
2 - عناوينه يغلب عليها الايجاز، وتبدو هذه الخاصة واضحة إذا قارنّا عناوين ((السنن)) بعناوين صحيح البخاري.
3 - عناوين ((السنن)) مصوغة صياغة تغري قارئها وسامعها بقراءة أحاديث الباب التي تندرج تحته، ولنضرب بعض الأمثلة للتوضيح، فعناوين الكتاب كلها تصلح للتمثيل. لنأخذ العنوان الآتي: (باب الرجل ينعس والامام يخطب) هذا العنوان لا يبيّن لنا مضمون الباب، ولابُدَّ للإنسان من قراءة ما جاء في هذا الباب حتى يعرف: ما بال هذا الرجل الذي ينعس أثناء خطبة الامام، والحديث برقم 1119 وهو: ((إذا نعسَ أحَدُكُمْ وَهُوَ في المسْجِدِ فَلْيَتَحوَّلْ مِن مجْلِسِهِ ذَلِكَ إلى غَيْرِه))[216].
- ولنأخذ العنوان الآتي: (باب من أدرك من الجمعة ركعة) كذلك هذا العنوان لا ينبئ عن مضمونه، ولابُدَّ للراغب في المعرفة من قراءة الباب، والحديث برقم 1121 وهو: ((مَنْ أدْرَكَ منَ الجُمْعَةِ رَكْعَة من الصَّلاةِ فَقَدْ أدْرَكَ الصَّلاة))[217].
- وكذلك العنوان: (باب الرد على الامام) لا يدري قارئ العنوان: أيجوز الرد أم لا يجوز. حتى إذا قرأ ما جاء في الباب عرف، والحديث برقم 1001 وهو (عَن سُمرََةَ: أمَرَنَا النّبيُّ صلى الله عليه وسلم أنْ نَرُدَّ عَلى الامامِ وأنْ نَتَحابَّ وَأنْ يُسلّمَ بَعْضُنَا عَلى بَعْض)[218].(18/41)
1 - وقد يأتي بعنوان كبير يسميه (جماع أبواب..) أو (باب تفريع أبواب..) وذلك كما في (باب تفريع أبواب الجمعة)[219] وتحته 38 باباً، و(جماع أبواب صلاة الاستسقاء وفروعها)[220] وتحته ثلاثة أبواب.
2 - وقد يأتي الباب خالياً من العنوان، ويقتصر المؤلف فيه على ذكر (باب) كما في كتاب الصلاة[221].
3 - وقد يأتي بالعنوان بصيغة الاثبات، والحديث يدل على النفي. كما في الحديث 616 فالعنوان: باب الامام يتطوع في مكانه. والحديث هو: (لا يُصَلِّ الإمامُ في الموضِعِ الّذي صَلى فيهِ حَتّى يَتحوَّل).
وربما كان ذلك على تقدير (حكم الامام...) وجرى على طريقته في إغراء قارئ العنوان بقراءة ما ورد في الباب، وربما كان ذلك عندما يكون الحديث ضعيفاً، فالحديث المثال ضعيف بسبب الانقطاع، بيّنه أبو داود بقوله: (عطاء الحرساني لم يدرك المغيرة بن شعبة)[222].
4 - قد يأتي بالعنوان بصيغة استفهام، من ذلك مثلاً قوله (باب أيصلي الرجل وهو حاقن؟)[223] وقوله (كيف التكشف عند الحاجة؟)[224] وقوله (إذا خاف الجنب البرد أيتيممم؟)[225] وتختلف دلالة هذا الاستفهام من عنوان إلى عنوان. فهو يدل أحياناً على عدم جزم المؤلف بالحكم، وأحياناً أخرى يدل على الكيفية. وهو كثير جداً[226].
5 - وربما لا ينطبق العنوان على المضمون أو لا يدل على المقصود إلا بعد طول تأمل: فمن ذلك عنوان (من جهر بها) أي بالبسملة. ففي هذا الباب ثلاثة أحاديث: أولها في عدم وجود البسملة في سورة براءة وثانيها في أن النبي صلى الله عليه وسلم قبض ولم يبين لنا أنها منها وثالثها في أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعرف فصل السورة حتى تنزل عليه بسم الله الرحمن الرحيم[227].
وقال صحاب ((عون المعبود)): "والاستدلال بهذا الحديث وكذا بكل حديث يدل على أن البسملة من القرآن على الجهر بها ليس بصحيح"[228].
وكأنه بذلك يقول: إن حجة القائلين بذلك واهية ولا دليل لهم؛ لأن هذه الأحاديث لا تدل على رأيهم.(18/42)
6 - وقد يجيء حديث لا يناسب عنوان الباب الذي هو فيه، بينما هو يناسب عنوان الباب الذي قبله. كما في الحديث (887) الوارد في باب مقدار الركوع والسجود[229]، وليس فيه ما يتصل بموضوع الباب بل هو في موضوع الدعاء في الصلاة لأن فيه ((مَنْ قَرأ مِنْكُمْ (والتينِ والزَّيْتونِ) فانْتَهى إلى آخِرِها (أليْسَ اللهُ بأحْكمِ الحاكمينْ) فَلْيَقُل: بَلى وَأنَا على ذَلِك مِن الشّاهِدِين)).
وهذا الموضوع يناسب موضوع الباب السابق وهو (باب الدعاء في الصلاة)[230].
وفي مثل هذه الحالة قد يكون هذا الترتيب المغلوط عائداً إلى أن النساخ نقلوا حديثاً أو عنواناً من موضع إلى موضع.
تعليقاته
سبق أن تحدثت عن تبويب الكتاب وعن عناوينه وعن المنهج الذي انتهجه أبو داود في اختياره وأود فيما يأتي أن أتحدث عن تعليقاته، وهذه الأمور – كما أسلفت – هي التي تمثل جهد المؤلف وعلمه. ويحسن أن أبادر إلى بيان أني لا أعني بالتعليقات هنا المصطلح الحديثي لها وإنما أريد بها ما يورد أبو داود من كلام له علاقة بالحديث.
مواضعها ومقدارها:
– أما مواضعها فهي إما أن تكون خلال إيراده الحديث، ومن ذلك الحديث رقم 980 فقد مرّ رجلٌ اشتهر أبوه بحادثة مهمة فعرّف بأبيه حرصاً على الفائدة: (حدثنا القعنبي عن مالك عن نعيم بن عبدالله المجمر أن محمد بن عبدالله بن زيد – وعبدالله بن زيد هو الذي أٌري النداء بالصلاة – أخبره عن أبي سعود...)[231] فالتعليق هنا كان في جملة اعتراضية حرصاً على إفادة القارئ والسامع. وقد يعترض بجملة معترضة ليزيل الالتباس، كما لو جاء اسم أحد الرواة كنية فيذكر لنا اسم هذا الراوي كما في الحديث 32 ففيه: (حدثني أبو أيوب – يعني الافريقي – عن عاصم)[232].
– وإما أن تكون التعليقات بعد إيراده الحديث. وهذا الغالب عليها. ولا حاجة للتمثيل عليها لأنّ كل الأمثلة القادمة هي من هذا النوع.(18/43)
– وأما مقدارها، فهو يتفاوت من حديث إلى آخر. فبينما يكون التعليق جملة مختصرة إذا بنا نراها تبلغ أحياناً ما يقرب من صفحة.
مضمونها:
يمكن أن تصنف هذه التعليقات حسب الموضوع الذي تدور حوله، وسنورد ما وفقنا عليه من دراستنا لكتاب ((السنن)):
1 – كلامه حول الرجال:
تعتبر هذه التعليقات من الملاحظات الحديثية بوجه عام، ومقدارها في ((السنن)) لا بأس به، ولو جمعت هذه الملاحظات في الرجال والمتون ونسقت لتكوّن منها بحث لطيف.
ونستطيع أن نصنف كلامه في الرجال في زمرتين:
الأولى:
كلامه في التعريف بهم وذكر أنسابهم والتحقيق في المختلف فيه منها وتبيان ما اعتراها من تصحيف وغلط.
والثانية:
كلامه في جرحهم وتعديلهم.
التعريف
من الأمثلة على التعريف بالرجال أنه أورد الحديث 1067 وهو عن الصحابي طارق بن شهاب فقال: (قال أبو داود: طارق بن شهاب قد رأى النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسمع منه شيئاً)[233].
ومن ذلك تعريفه قعنب أحد رواة الحديث 2496 فقد عرّفه تعريفاً مفصلاً فقال: (قال أبو داود: كان قعنب رجلاً صالحاً، وكان ابن أبي ليلى أراد قعنباً على القضاء فأبى عليه، وقال: أنا أريد الحاجة بدرهم فاستعين عليها برجل قال: وأينا لا يستعين في حاجته؟ قال: أخرجوني حتى أنظر، فأخرج، فتوارى. قال سفيان: بينما هو متوارٍ إذ وقع عليه البيت فمات)[234].
ومن ذلك تعريفه بأبي العباس أحد رواة الحديث 2529 وهو (مُحَمّد بنُ كثيرٍ، حَدَّثنَا سُفْيَانُ – عَن حَبيبِ بن أبي ثَابِتْ عَن أبي العبّاسِ عَنْ عَبْدالله بن عمرْ وقَالَ: جَاء رَجُلٌ إلى النّبي صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أجَاهِدُ؟ قَالَ: ألَكَ أبوانِ؟ قَالَ: نَعمْ. قَالَ: ((فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ)).
قال أبو داود: أبو العباس هذا: الشاعر، اسمه السائب بن فروخ)[235].(18/44)
ومن ذلك تعريفه سليمان أحد رواة الحديث 975 فقد قال بعد أن أورد الحديث: (قال أبو داود: سليمان بن موسى كوفيّ الأصل كان بدمشق)[236].
ومن ذلك تفسيره نسبة أبي مصبح المقرائي أحد رواة الحديث 938 فقد قال بعد أن أورد الحديث يفسر هذه النسبة: (قال أبو داود: المقراء قبيلٌ من حمير)[237].
ومن ذلك تعريفه بأبي زيد أحد رواة الحديث رقم 10 فقد رأى أن ذكر الكنية وحدها لا يكفي فقال بعد أن أورد الحديث: (قال أبو داود: وأبو زيد هو مولى بني ثعلبة)[238].
ومن ذلك تبيينه المراد من أبي شجرة أحد رواة الحديث رقم 666 فقد قال بعد أن أورد الحديث: (قال أبو داود: أبو شجرة كثير بن مرة)[239].
وقد يبين بالتعليق بلد الراوي كما فعل في جعفر بن يحيى بن ثوبان أحد رواة الحديث 672. فقد قال (قال أبو داود: جعفر بن يحيى من أهل مكة)[240].
وقد يكون حديثه عن الرجل في هذه التعليقات تصويباً لخطأ وتصحيف أو تحقيقاً لاسم اختلف فيه:
فمن ذلك تصويبه لاسم أحد رواة الحديث 2522 وهو رباح بن الوليد الذي ورد مقلوباً مغلوطاً كما يلي: (حدثنا أحمد بن صالح، ثنا يحيى بن حسان، ثنا الوليد بن رباح الذماري حدثني عمي نمران ابن عتبة الذماري قال: دخلنا على أم الدرداء...) فقد قال مصوباً هذا الخطأ: (قال أبو داود: صوابه رباح بن الوليد)[241].
ومن ذلك اشارته إلى قول آخر في اسم الرجل الوارد في الحديث وقد يكون أحدهما تصحيفاً للآخر، كما في الحديث 1007 الذي جاء فيه: (صلى بنا إمام لنا يكنى أبا رِمْثَه فقال: صليت هذه الصلاة أو مثل هذه الصلاة مع النبي صلى الله عليه وسلم..) قال أبو داود عقب الحديث:
(قال أبو داود: وقد قيل (أبو أمية) مكان (أبي رمثة)[242].(18/45)
ومن ذلك تحقيقه اسم أحد الرواة الحديث 63 وهو محمد بن عباد بن جعفر فقد ورد في رواية مغلوطاً فذكر القولين ثم رجح الصواب. وهذا الحديث رواه عن ثلاثة شيوخ وهم محمد بن العلاء، وعثمان بن أبي شيبة والحسن بن علي. وجاء اسم الراوي في سنده هكذا (محمد بن جعفر بن الزبير) ثم قال: (قال أبو داود: وهذا لفظ ابن العلاء. وقال عثمان والحسن بن علي: عن محمد بن عباد بن جعفر. قال أبو داود: وهو الصواب)[243].
وقد يورد أقوالاً مختلفة في اسم راوٍ ولا يرجح. كما في الحديث 888 فقد جاء في سنده اسم أحد الرواة: وهب ابن فانوس. وبعد أن أورد الحديث قال: (قال أبو داود: قال أحمد بن صالح: قلت له: مأنوس أو مأبوس. قال: أما عبدالرزاق فيقول: مأبوس، وأما حفظي فمأنوس)[244] ولم يرجح.
الجرح والتعديل
إن تعليقات أبي داود التي تتناول الرجال جرحاً وتعديلاً كثيرة لن نستطيع استقصائها وسترد أمثلة كثيرة منها الفقرة الآتية التي نتحدث فيها عن كلامه في تضعيف الحديث، ومن أجل ذلك فسأورد بعض الأمثلة هنا اكتفاء بما سيمر بنا في تضعيفه الحديث.
وهو – في جرحه للرجال – إما أن يورد قوله فيهم فقط دون أن ينقل عن بعض العلماء وإما أن يكون الحكم عليهم منقولاً عن الأئمة الذين تقدموه.
فمن الأمثلة على جرحه الرجال قوله في (عبدالسلام بن حرب) أحد رواة الحديث رقم 14: (وهو ضعيف)[245].
ومن ذلك قوله في (أبان بن طارق) أحد رواة الحديث رقم 3741: (إنه مجهول)[246].
وقد يورد الحكم على الرجال منقولاً عن العلماء كما فعل في الحكم على (عبدالرحمن بن اسحاق) أحد رواة الحديث 758 فقد نقل عن الامام أحمد تضعيفه إياه قال: (قال أبو داود: سمعت أحمد بن حنبل يضعف عبدالرحمن بن اسحاق الكوفي)[247].
2 – كلامه في تضعيف الحديث
لو ذهبت أستقصي تعليقاته في تضعيف الحديث لخرجت عن حدود البحث التي رسمتها لكثرتها مع تنوعها، ولكنني أذكر ما يعطي الفكرة النيرة عن تعليقاته في هذا الموضوع.(18/46)
فمن الأمثلة على تضعيفه للحديث وبيانه سبَب الضعف ما رواه عن شيخه محمد بن اسماعيل بن أبي سمينة البصري في الحديث رقم 704 وَنصُّه:
(عن ابن عباس – قال أحسبه – عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذَا صَلّى أحَدُكُمْ إلى غَير سترةٍ فإنّهُ يَقْطٌَعُ صَلاتَهُ الكلبُ والحمارُ والخنزيرُ واليَهُوديُّ والمجُوسِيُّ والمرأة، ويُجزِئ عَنْهُ إذا مَرّوا بينَ يديهِ على قَذْفَةٍ بحجَرْ))[248].
ثم قال المؤلف معلقاً:
قال أبو دواد: في نفسي من هذا الحديث شيء، كنتُ أذاكر به إبراهيم وغيره، فلم أر أحداً جاء به عن هشام ولا يعرفه، ولم أر أحداً جاء به عن هشام. وأحسب الوهم من ابن أبي سمينة يعني محمد بن اسماعيل البصري مولى بني هاشم. والمنكر فيه ذكر المجوسي، وفيه: على قذفة بحجر، وذكر الخنزير. وفيه نكارة قال أبو داود: ولم أسمع هذا الحديث إلا من محمد بن اسماعيل بن أبي سمينة، وأحسبه وهم؛ لأنه كان يحدثنا من حفظه)[249].
ومن الأمثلة على ذلك تعليقه على الحديث 19 فقد بين درجته ثم ذكر سبب الضعف ونصه: (عن همام، عن ابن جريج عن الزهري عن أنس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء وضع خاتمه). قال: (قال أبو داود: هذا حديث منكر) ثما قال ذاكراً سبب الضعف: (وإنما يعرف عن ابن جريج عن زياد بن سعد عن الزهري عن أنس أنّ النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتماً من ورق ثم ألقاه. والوهم فيه من همام، ولم يروه إلا همام)[250].
ومن الأمثلة على ذلك تعليقه على الحديث رقم 132 فقد نقل إنكار أحمد وابن عيينة للحديث؛ وفي سنده (عن طلحة بن مصرف عن أبيه عن جده) (قال أبو داود: قال مسدّد: فحدثت به يحيى فأنكره، وقال أبو داود: وسمعت أحمد يقول: إن ابن عيينة زعموا أنه كان ينكره ويقول: إيش هذا: طلحة عن أبيه عن جده)[251].(18/47)
ومن الأمثلة على ذلك تضعيفه للحديث ببيان انقطاعه أي أن أحد الرواة لم يدرك الآخر، وهذا ما يعبر عن علماء الحديث بالانقطاع كما في الحديث 616 الذي جاء في سنده: (..عبدالعزيز بن عبدالملك ثنا عطاء الخراساني، عن المغيرة بن شعبة).
قال أبو داود في تعليقه عليه: (قال أبو داود: عطاء الخراساني لم يدرك المغيرة بن شعبة)[252].
ومن ذلك تعليقه على الحديث 1978 وقد جاء في سنده أن الحجاج يروي عن الزهري فقال في نقده: (قال أبو داود: هذا حديث ضعيف، الحجاج لم ير الزهري ولم يسمع منه)[253].
ومن ذلك تعليقه على الحديث رقم 165 وفي سنده (.. أخبرنا ثور بن يزيد عن رجاء بن حيوة..) فقال أبو داود يضعفه (وقال أبو داود: وبلغني أنه لم يسمع ثورٌ هذا الحديث من رجاء)[254].
ومن ذلك تضعيفه للحديث بنقل أقوال بعض العلماء في توهين الحديث كما في الحديث 1004 وهو: ((حذف السلام سنة)) فقد قال عقبه:
(قال عيسى: نهاني ابن المبارك عن رفع هذا الحديث. قال أبو داود: سمعتُ أبا عمير عيسى بن يونس الفاخوري الرملي قال: لما رجع الفرياني (وهو أحد رواة الحديث) من مكة ترك رفع هذا الحديث وقال: نهاه أحمد بن حنبل عن رفعه)[255].
ومن تضعيفه للحديث نقلاً عن بعض العلماء تعليقه على الحديث رقم 202 فقد قال عقبه: (قال أبو داود: قوله: الوضوء على من نال مضطجعاً هو حديث منكر لم يروه إلاّ يزيد أبو خالد الدالاني عن قتادة) ثم قال: (قال أبو داود: وذكرت حديث يزيد الدالاني لأحمد بن حنبل فانتهرني استعظاماً له وقال: ما ليزيد الدالاني يدخل على أصحاب قتادة؛ ولم يعبأ بالحديث)[256].
وقد يضعف الحديث بالحكم عليه بأنه وهم دون أن يذكر سبب حكمه كما في فعل في الحديث 944 ((التّسْبيحُ لِلرِّجالِ والتّصْفِيقُ للنِسّاء، مَنْ أشار في صَلاتِهِ إشَارَةً تُفْهَمُ عَنْهُ فَلْيُعِدلَها)). يعني الصلاة قال أبو داود: هذا الحديث رقم)[257].(18/48)
وقد يضعف الحديث والحكم عليه بأنه ليس بالقوي، كما فعل في الحديث 158 فقد قال في عقبه: (قال أبو داود: وقد اختلف في إسناده، وليس هو بالقوي. ورواه ابن ابي مريم ويحيى بن اسحاق والسليمي عن يحيى بن أيوب، وقد اختلف في إسناده)[258].
وكما في الحديث رقم 159 فقد قال عقبه:
(قال أبو داود: وروي هذا أيضاً عن أبي موسى الأشعريب عَن النّبيِّ صَلى اللهُ عَليهِ أنّهُ مَسَحَ عَلى الْجَوْرَبَين وليس بالمتصل ولا بالقوي)[259].
3 – فوائد حديثية
في تعليقات أبي داود فوائد حديثية أخرى ليست مقصورة على مبحث التصحيح والتضعيف، وسنذكر بعضاً منها:
فمن هذه الفوائد تعليقه على بعض الأحاديث بأن ينبه بأن رواة هذا الحديث كلهم مثلاً من بلد معين، وهذه مزية خاصة للسند ويدعو بعضهم الحديث الذي يكون سنده كذلك بالحديث المسلسل[260] فمن ذلك تعليقه على الحديث رقم 91 حيث قال:
(قال أبو داود: هذا من سنن أهل الشام لم يشركهم فيها أحد)[261].
ومن ذلك تعليقه على الحديث رقم 155 حيث قال:
(قال أبو داود: هذا مما تفرد به أهل البصرة)[262].
ومن ذلك تعليقه على الحديث رقم 870 حيث قال بعده:
(قال أبو داود: وهذه الزيادة تخاف ألاّ تكون محفوظة. قال أبو داود انفرد أهل مصر باسناد هذين الحديثين: حديث الربيع وحديث أحمد بن يونس)[263].
ومن هذه الفوائد الحديثية: إشارته إلى أنَّ هذا الحديث لم يسند إلا من هذا الطريق كما جاء في تعليقه على الحديث رقم 15 حيث قال: (قال أبو داود: هذا لم يسنده إلا عكرمة بن عمار)[264].
ومن الفوائد الحديثية ما يجريه من الموازنة بين روايتين يوردهما.
فقد أورد الحديثين 1053 و 1054؛ أحدهما في أنّ كفارة من ترك الجمعة دينار، وهو عن همّام. وثانيهما في أن كفارة من ترك الجمعة درهم – وهو عن أبي العلاء أيوب. وقال بعد أن أوردهما:(18/49)
(قال أبو داود: سمعت أحمد بن حنبل يُسأل عن اختلاف هذا الحديث فقال: همّامٌ عندي أحفظ من أيوب يعني أبا العلاء)[265].
وكذلك فقد أورد الحديث 1024 وهو:
(حَدَّثَنَا مُحَمّدُ بنُ العَلاء، ثنا أبو خالِدٍ، عَن ابنِ عَجْلانَ، عَنْ زَيْد بنِ اسْلَم، عَنْ عَطَاء بنِ يَسَارٍ، عَنْ أبي سَعيد الخُدريّ قالَ: قَالَ رسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((إذاً شَكَ أحَدُكُمْ في صَلاتِهِ فَلْيُلْقِ الشَكَّ وليبن على اليقين، فإذَا اسْتَيْقَنَ التّمامَ سَجَدَ سَجْدَتَينِ فإن كانت صَلاتُهُ تَامّةً كانَتْ الركْعَةُ نافِلَة والسّجْدتَان. وإنْ كَانَتْ نَاقِصَة كَانت الركعةُ تماماً لِصلاتِهِ وكانَت السّجْدتَانِ مُرْغمتيْ الشّيْطَان)).
قال أبو داود: رواه هشام بن سعد ومحمد بن مطرف عن زيد عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم، وحديث أبي خالد أشبع)[266].
واكتفى بهذه الموازنة ولم يورد حديث ابن سعد ولا ابن مطرف.
وقد يعبر عن تفضيله لاحدى الروايتين بأن حديث فلان أتم، كما صنع في الحديث رقم 45 حيث قال:
(قال أبو داود: وحديث الأسود بن عام أتم)[267] وكما صنع في الحديث رقم 62 فقد رواه عن محمد بن يحيى عن عبدالله بن يزيد ثم أورد تحويلاً فقال: (ح وحدثنا مسدد، ثنا عيسى بن يونس قالا: ثنا عبدالرحمن ابن زياد. قال أبو داود: وأنا لحديث ابن يحيى أتقن) وبعد أن أورد الحديث قال:
(قال أبو داود: وهذا حديث مسدد وهو أتم)[268].(18/50)
ومن الفوائد الحديثة التي نجدها في التعليقات ما يتصل بمفهوم المصطلحات كالمرسل، فإنّ المرسل عند جمهور العلماء هو الحديث الذي سقط منه الصحابي ومنهم من يعم فيطلق المرسل على كل حديث سقط منه راو، ويبدو أن أبا داود من هؤلاء؛ يدل على ذلك تعليقه على الحديث 886 وسنده: (حدثنا عبدالملك بن مروان الأهوازي، ثنا أبو عامر وأبو داود عن ابن أبي ذئب عن اسحاق بن يزيد الهذلي، عن عون بن عبدالله عن عبدالله بن مسعود... الخ..).
قال أبو داود: (هذا مرسل: عونٌ لم يدرك عبدالله)[269].
ومن الفوائد الحديثية أنه يذكر أحياناً أنّ هذا الراوي لم يخرج له في كتابه إلا هذا الحديث كما صنع في الحديث 1036 فقد أخرجه عن جابر الجعفي وهو رافضي كذاب، فقال بعد أن أورده:
(قال أبو داود: وليس في كتابي عن جابر إلا هذا الحديث)[270].
وكأنه يعتذر بذلك لضعف جابر، وأظنُّ أن مثل هذا التعليق إنما كان من أبي داود في قراءاته المتأخرة للكتاب وليس من تأليفه الأول.
4 – التعريف بالأمكنة
ويشغل هذا المقصد حيزاً ليس بالقليل من التعليقات، ويبحث أبو داود في هذا الأمر بحثاً موضوعياً ميدانياً – على التعبير الشائع – فيقوم بنفسه بقياس الأمكنة المذكورة في الحديث ورؤيتها والبحث في التطورات التي حصلت عليها ويصفها كما رآها.
وهذا تفكير علمي صحيح وأسلوب من التحقيق اليقيني في مثل هذه الموضوعات، ومن الأمثلة على ذلك تحقيقه لموضع (بئر بُضاعة) وقياسها ووصفها؛ فهو بعد أن أورد الحديث المشهور عن هذه البئر التي سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الوضوء فيها على الرغم مما يطرح فيها من الفضلات فقال صلى الله عليه وسلم: ((الماءُ طهورٌ لا ينجسه شيء)). وبعد أن أورد المؤلف روايتين للحديث قال:
(قال أبو داود: وسمعت قتيبة بن سعد قال: سألتُ قَيِّمَ بئر بضاعة عن عمقها. قال: أكثر ما يكون فيها الماء إلى العانة. قلت: فإذا نقص؟ قال: دون العورة.(18/51)
قال أبو داود: وقدرت أنا بئر بضاعة بردائي مددته عليها ثم ذرعته، فإذا عرضها ستة أذرع. وسألت الذي فتح لي باب البستان فأدخلني إليه: هل غُيّر بناؤها عما كانت عليه؟ قال: لا. ورأيت فيها ماء متغير اللون)[271] فهو أولا يروي ما سمعه عن قتيبة بن سعد ويقره عليه؛ لأنه بعد أن زار البئر لم يذكر لنا خلاف ما روى.
ثم يذكر أنه هو بنفسه قاسها فوجد عرضها ستة أذرع، ويحكي لنا الطريقة التي استخدمها في هذا القياس وهي مدّ ردائه ثم ذرعه، ويحكي لنا أنه خشي أن يكون بناؤها قد غير عما كان عليه زمن الرسول، فسأل المشرف عليها الذي فتح له باب البستان الذي يضمها. فتأكد من أنها على حالها ثم وصف الماء الذي فيها بأنه متغير اللون.
وهذا صنيع علمي دقيق محمود.
وكذلك فقد عرَّف المكان الوارد في الحديث 37 وهو حصن باب أليون فقال: (قال أبو داود: حصن أليون بالفسطاط على جبل)[272].
5 – ذكر مناسبة ورود الحديث
من التعليقات إيراده مناسبة الحديث وغالباً ما يفعل ذلك إذا كان فيه تعارض مع حديث آخر. مثال ذلك أنه أورد حديثاً يمنع الالتفات في الصلاة[273] وهو برقم 909 ثم جاء بحديث آخر برقم 916 يرخص في ذلك، وفيه (فَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ يُصَلَّي وَهُوَ يَلتفِتُ إلى الشَّعبْ)[274].
قال أبو داود: (وكان أرسل فارساً إلى الشعب من الليل)[275] وقد أورد الحديث مفصلاً[276] برقم 2501 وكأني به يريد أن يقول إن الأصل عدم الالتفات إلا أن يكون هناك داعٍ تحتمه المصلحة كما في هذا الحديث؛ إذ أن الرسول صلى الله عليه وسلم أرسل فارساً إلى الشعب ليلاً يحرس، فلما وقف صلى الله عليه وسلم لصلاة الصبح جعل يلتفت، لهذا الاعتبار.(18/52)
ومن المفيد أن نشير إلى أن هناك كتباً ألفت في بيان مناسبات الحديث من أشهرها كتاب ((البيان والتعريف في أسباب ورود الحديث الشريف))[277] للعلامة المحدث السيد إبراهيم بن محمد كمال الدين نقيب مصر ثم الشام الشهير بابن حمزة الحسيني المتوفى سنة 1120هـ.
6 – شرح الكلمات
من أكثر التعليقات وروداً شرحه الكلمات الواردة في الأحاديث وهو على أنواع: فمنها شرحه المفردة دون أن يذكر في الشرح أحداً من العلماء والشرح كما فعل في الحديث 132 حيث قال: (حَتّى بَلَغَ القَذَالَ وَهُو أوَّلُ القَفَا)[278] وكذلك فعل في الحديث 142 قال: (فأتينَا بِقِنَاعٍ والقِنَاعُ الطّبَقُ فِيهِ تَمْر)[279] ومن الملاحظ أنّ هذه الشروح وردت خلال النصّ، وأحياناً يكون الشرح عقبه، وهكذا فعل في الحديث 947 وهو: (عَنْ أبي هُرَيْرَةَ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَن الاخْتِصَار في الصَّلاة، قَالَ أبو داوُد يَعني يَضعُ يَدَهُ عَلى خَاصِرتِه)[280].
وكذلك فعل في الحديث 3715 وهو: (قَالَت سَوْدَة: بَل أكَلْتَ مَغَافِير. قَالَ: بل شَرِبْتُ عَسَلاً سَقَتْني حَفْصَةُ، فقُلْتُ: جَرَسْتُ نحُله العُرْفُطَ. (قال أبو داود: المغافير: مقلة، وهي صمغة. وجرست: رعت العرفط: نبت من نبت النحل)[281].
وقد ينقل هذا الشرح عن عالم من علماء غريب الحديث:
كما في الحديث 3685 وهو: نَهَى صلى الله عليه وسلم عَنِ الحمْرِ والمَيْسِر والغُبَيراء وَقَالَ: ((كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَام)). قال أبو داود: (قال ابن سلام أبو عبيد: الغبيراء السكركة تعمل من الذرة، شراب يعمله الحبشة)[282].
وقد تكون الكلمة واضحة المعنى في ذاتها غير أن المراد منها يحتاج إلى إيضاح فيتولى شرح ذلك.(18/53)
كما في الحديث 666 الذي ورد فيه قوله صلى الله عليه وسلم: ((وَلِينُواْ بأيْدي إخْوانِكُم)) فقال في شرحها: (قال أبو داود: ومعنى ((وَلِينُواْ بأيْدي إخْوانِكُم)). إذا جاء رجل إلى الصف فذهب يدخل فيه، فينبغي أن يلين له كل رجل منكبيه حتى يدخل في الصف)[283].
وكما في حديث أنس برقم 413 الذي فيه (حتى إذا اصفرت الشمس) فقد أورد بعد ذلك شرحاً لهذه الجملة مسبوقاً بسند ينتهي إلى الأوزاعي صاحب الشرح فقال:
(حدثنا محمود بن خالد، ثنا الوليد، قال: قال أبو عمرو – يعني الأوزاعي –: وذلك أن ترى ما على الأرض من الشمي صفراء)[284].
وقد يكون شرحه للكلمة بياناً للحكم الفقهي. مثال ذلك شرحه لكلمة (عجماء) الواردة في الحديث 4593 من قوله صلى الله عليه وسلم: ((الْعَجْماءُ جرْحُها جُبَار)). فقال:
(قال أبو داود: العجماء: المنفلتة التي لا يكون معها أحد وتكون بالنهار لا تكون بالليل)[285].
فهو في هذا الشرح إنما يبين المراد من كلمة العجماء في الحديث ممزوجاً بالحكم الفقهي ولا يشرح الكلمة من الناحية اللغوية، فبيّن أنّ جرحها جبار عندما تكون منفلتة ليس معها أحد، وهذا خاص بالنهار. أما في الليل فلابد من مسؤولية تترتب على صاحبها إن فرط[286].
7 – آراء فقهية
سبق أن رأينا أن آراء الرجل الفقهية نستطيع أن نجدها في عناوين الأبواب من كتابه ونود هنا أن نتحدث عن الآراء الفقهية الكثيرة التي نقف عليها خلال تعليقاته على الأحاديث في كتاب السنن. ويمكن أن تصنّف آراؤه أنواعاً عدة:
فمن هذه الآراء الفقهية آراء ينسبها لجماعة من الصحابة أو التابعين.
فهو يقول بعد الحديث 159:
(قال أبو داود: ومَسَح على الجوربين عليُّ بن أبي طالب وابن مسعود، والبراء بن عازب، وأنس بن مالك وأبو أمامة، وسهل بن سعد وعمرو بن حريث، وروي ذلك عن عمر بن الخطاب وابن عباس)[287] وهو في هذا يؤيد القول بالمسح على الجوربين بنقله عن هؤلاء الصحابة الذين يرون هذا الرأي.(18/54)
ويقول في باب سجود السهو تعليقاً على الحديث 1035 (قال أبو داود: وكذلك سجدهما ابن الزبير قام من ثنتين قبل التسليم، وهو قول الزهري)[288].
وفي باب الاحتباء والامام يخطب أورد حديثين:
أولهما: برقم 1110
عَن مُعَاذِ بنِ أنَس أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهى عنِ الحبْوَةِ يَوْمَ الجُمْعَةِ والإمَامُ يَخْطُبْ، وفي سند هذا الحديث سهل بن معاذ وأبو مرحوم، وقد تكلم فيهما.
ثانيهما: برقم 111
عَن يَعْلى بن شَدَّاد قالَ: شَهدتُّ مَع مُعاوِيةَ بَيْتَ المقْدِسِ فَجَمّعَ بِنَا، فَنَظَرْتُ فَإذا جُلُّ مَنْ في المسْجِدِ أصحَابُ النَبيِّ صلى الله عليه وسلم فَرَأيْتُهُمْ مُحْتَبينَ والإمامُ يخطُبُ قال أبو داود: كان ابن عمر يحتبي والامام يخطب وأنس بن مالك وشريح وصعصعة بن صوحان، وسعيد بن المسيب وابراهيم النخعي، ومكحول، واسماعيل بن محمد بن سعد، ونعيم بن سلامة قال: لا بأس بها.
قال أبو داود: ولم يبلغني أنّ أحداً كرهها إلا عبادة بن نُسَيّ)[289].
وكأن إيراده ذلك عنهم بعد أن أورد حديثين متعارضين تأييد لأحدهما ورد للآخر، وقد رأينا أنّه ردّ حديث النهي عن الحبوة بأن في سنده رجلين تكلم فيهما.
وكذلك فعل بعد الحديث 152 قال:
(قال أبو داود: أبو سعيد الخدري وابن الزبير وابن عمر يقولون من أدرك الفرد من الصلاة عليه سجدتا السهو)[290].
وقد يورد آراء بعض التابعين، والأمثلة كثيرة يطول ذكرها.
وقد ينقل آراء العلماء التي تتضمن آراء فقهية، فمن ذلك نقله أقوال العلماء في تحديد بعض المقادير.
كما فعل بعد أن أورد حديث اغتسال النبي صلى الله عليه وسلم بالصاع ووضوئه بالمدّ رقم95 قال:
(قال أبو داود: وسمعت أحمد بن حنبل يقول: الصاع خمسة أرطال، وهو صاع ابن أبي ذئب وهو صاع النبي صلى الله عليه وسلم)[291].
ومن أمثلة نقله آراء العلماء الفقهية تعليقه على الحديث 884 قال:(18/55)
(قال أبو داود: قال أحمد: يعجبني في الفريضة أن يدعو بما في القرآن)[292].
وقد وجدت أبا داود في نقله آراء العلماء الفقهية يغلب عليه الاختصار والايجاز، وقد وجدته مرة يطيل في نقل ذلك إطالة تلفت النظر، وذلك في باب (من قال إذا أقبلت الحيضة تدع الصلاة)[293].
ومن هذه الآراء الفقهية آراء اجتهادية تثبت لنا مقدرته الفقهية ووزنه الراجح في ذلك هذا كثير ونكتفي بالاشارة إلى بعض الأمثلة.
علق على الحديث رقم 342 التعليق الآتي:
(قال أبو داود: إذا اغتسل الرجل بعد طلوع الفجر أجزأه من غسل الجمعة وإن أجنب)[294].
وأورد حديثين في قراءة صلاة المغرب أحدهما يدل على الاطالة وهو برقم 812 والآخر يدل على التخفيف وهو برقم 813 ثم ذهب إلى أن حديث التخفيف في القراءة نسخ حديث الاطالة فقال: (قال أبو داود: هذا يدل على أن ذاك منسوخ وهذا أصح)[295].
وأورد عدداً من الأحاديث الصحيحة عن عثمان رضي الله عنه في مسح الرأس فقال:
(قال أبو داود: أحاديث عثمان رضي الله عنه الصحاح كلها تدل على مسح الرأس أنه مرة، فإنهم ذكروا الوضوء ثلاثاً، وقالوا فيها: (ومسح رأسه) ولم يذكروا عدداً كما ذكروا في غيره)[296].
ففي هذا التعليق رأي أبي داود الفقهي في مسألة مسح الرأس في الوضوء وأنه مرة واحدة.
وفيه طريقة الاستنتاج وهي المقارنة بين المغسول والممسوح، فقد ذكروا العدد في غير المسح ولم يذكروه في المسح.
ومن هذه التعليقات تعليقات أصولية كما ترى في تعليقه على الحديث رقم 720 فقد أورد أبو داود أحاديث متعارضة في قطع الصلاة، وذكر عقب ذلك الخطة التي ينبغي أن تنتهجها إزاء ذلك فقال:
(قال أبو داود: إذا تنازع الخبران عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نظر إلى ما عمل به أصحابه بعده)[297] وفي التعليقات روايات عن بعض التابعين يعلل فيها حكماً منقولاً عن النبي صلى الله عليه وسلم.(18/56)
فقد جاء بحديث عبدالله بن سرجس وهو برقم 29 أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى أن يُبالَ في الجُحْر. قال[298]: قالوا لقتادة: ما يكره[299] من البول في الجحر؟
قال: كان يقال: إنها مساكن الجن[300].
فنحن نرى أنّ أبا داود يورد كلام قتادة كتعليل للحكم، وقتادة يورده على صيغة لا تدل على الجزم: (كان يقال...).
8 – المصطلحات
في تعليقات أبي داود عدد من المصطلحات نذكر منها ما يلي:
(وذكر الحديث) (ساق قريباً من حديث فلان) (ساق الحديث نحوه) (باسناده ومعناه) (بمعناه).
وانظر الأحاديث 111 – 112 – 113 – 183 – 34 ويبدو أنّ مقتضى الاختصار مع الدقة والوضوح هو السبب في استعمال المؤلف لهذه المصطلحات، لأن هذه المصطلحات أنما يوردها أبو داود بعد أن يأتي بحديث ويريد أن يأتي بآخر.
ورأيته مرة استعمل كلمة (مقصور) بدل كلمة (موقوف) وكلمة (أسنده) بدل (رفعه).
وذلك في الحديث 1056 وهو: (حدثنا مُحَمْد بن يَحيى بن فارس، ثنا قَبِيصَه، ثنا سُفْيانُ، عن مُحَمّد بن سَعيد، عن أبي سَلمَة بن نبيه عن عَبدالله بن هارُون عن عَبدالله بن عَمْرو، عَنِ النَبيِّ صلى الله عليه وسلم قَال: ((الجُمعةُ على كُلِّ مَنْ سَمعَ النّداء)). ثم قال: (قال أبو داود: روى هذا الحديث جماعة عن سفيان مقصوراً على عبدالله بن عمرو. ولم يرفعوه وإنما أسنده قبيصة)[301].
تعليقات غامضة
وهناك بعض التعليقات الغامضة التي لا تفهم إلا بعد طول نظر وتأمل، ومن ذلك التعليق الآتي مع سند الحديث رقم 975.(18/57)
(حَدَّثَنَا مَحْمُود بنُ دَاود بن سُفْيَان، ثَنَا يحيى بن حَسّان ثَنَا سُليْمان بن موسى أبو داود، ثنا جعفر بن سعد بن سمرة بن جندب، حدثني خبيب بن سُلَيمانَ بنِ سَمُرة عَنْ أبيهِ سُليمَانَ بن سَمُرة. عَنْ سَمُرةَ بن جُنْدُبْ أمّا بَعْدُ أمَرنَا رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم إذا كانَ في وَسَطِ الصَّلاةِ أو حِين انقِضَائِها فابدؤوا قَبْل التّسْليمِ فقُولُوا: التّحِيّاتُ الطّيِّبَاتُ والصَّلَواتُ والمُلْكُ للهِ ثم سَلِّموا عَلى اليَمين ثمَّ سَلِّموا عَلى قَارِئِكُمْ وعَلى أنْفُسِكُمْ.
قال أبو داود: سليمان بن موسى كوفي الأصل كان بدمشق.
قال أبو داود: دلت هذه الصحيفة على أن الحسن سمع من سمرة)[302].
وغموض التعليق جاء من أنه لم يرد للحسن ولا للصحيفة ذكر.
وشرح هذا التعليق كما يأتي: قال في ((عون المعبود)):
(وفي سنن أبي داود في باب اتخاذ المساجد في الدور: عن سمرة بن جندب أنه كتب بنيه: (أما بعد فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم...) الحديث أنه كان عند أبناء سمرة صحيفة من سمرة، وأنهم جمعوا ما كتب إليهم سمرة فصارت هذه المكاتيب بمنزلة الصحيفة والكتاب.
وأما قول المؤلف: (دلت هذه الصحيفة...) فوجه دلالتها وتعلقها بالباب أن هذا اللفظ الذي رواه سليمان بن سمرة عن أبيه بقوله (أما بعد فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم..) من ألفاظ الصحيفة التي أملاها سمرة ورواها عنه ولده سليمان، فأراد أبو داود أن سليمان بن سمرة كما صح سماعه من أبيه بهذه الصحيفة وغيرها كذلك الحسن البصري صح سماعُه بهذه الصحيفة وغيرها من سمرة لأن كلاً منهما أي سليمان ابن سمرة وكذا الحسن بن يسار من الطبقة الثالثة، فدل ذلك أن الحسن سمع من سمرة كما أن سليمان بن سمرة سمع من أبيه سمرة لأنهما من الطبقة الثالثة فلما سمع سليمان من أبيه سمرة فلا مانع أن يكون الحسن سمع منه وأن أبا داود من القائلين بأن الحسن البصري ثبت سماعه من سمرة..)[303].(18/58)
مخطوطات كتاب سنن أبي داود
ذكر بروكلمان وفؤاد سزكين مواضع وجود مخطوطات كاملة ومخطوطات ناقصة من هذا الكتاب، وقد كدت أنقل ذلك بأرقامه وعدد صفحات الموجود منه، ولكني لم أجد في ذلك كبير فائدة فرأيت أن أشير إلى أماكن وجودها، وبإمكان الراغب في الاطلاع عليها أن يرجع إلى هذين الكتابين:
برلين – ميونخ – باريس – بني جامع – أيا صوفيا – نور عثمانية – كوبريلي – مراد ملا – سليم آغا – شهيد علي – حكيم – الفاتم – جار الله – حسن حسني – الحميدية – خالد أفندي – مهرشاه – لاله لي – فيض الله رئيس الكتاب – مكتبة جامعة استامبول – عاطف – أنقرة صائب الرباط – تشستربيتي – منجانا – تيمور – طلعت – بلدية الاسكندرية – الأوقاف ببغداد – عليكرة – سبحان – بريل – بودليانا – الجزائر – دمشق – حلب – داماد زاده – سليمانية – يوسف آغا – تلممسان – مكتبة القرويين بفاس – مكتبة جامع الزيتونة – بنيكيبور – آصفية – رامبور – المتحف البريطاني.
وكنت أتمنى لو أنه كان بإمكاني أن أتعرف إلى كل من هذه المخطوطات وبأية رواية هي؟ وهناك مخطوطات أخرى في غير هذه الأمكنة ولكننا لم نقف عليها.
ولعلّ من أهمها تلك المخطوطة النفيسة التي وقف عليها الصديق العلامة الزميل الدكتور محمد مصطفى الأعظمي وقد أخبرني أنها موجودة في المكتبة المحمودية في المدينة المنورة، وقد ابتدأت بأحاديث من الباب الذي يسبق باب (من ترك القراءة في صلاته) وانتهت بباب (صوم الدهر تطوعاً). وهي برواية أبي بكر محمد بن بكر.. ابن داسة وعليها سماعات وقراءات، وعورضت النسخة بأصل الشيخ أبي الحسن ماسرجي رحمه الله وذكر الاختلاف بهامش النسخة.(18/59)
ولعلّ من أهم هذه المخطوطات مخطوطة نفيسة لا أدري مكان وجودها على وجه اليقين وإن كنت أظن أنها موجود في مكة وقد وقفت على أمرها من نظري في نسخة سنن أبي داود المطبوعة التي كان يملكها الشيخ عبدالظاهر أبو السمح. إمام الحرم المكي رحمه الله، فقد قابل بعض طلبة العلم نسخة السنن المطبوعة بإشراف محمد محيي الدين عبدالحميد على هذه المخطوطة وقد نظرت فيها وافدت منها كثيراً.
طبعاته
طبع هذا الكتاب مرات عديدة، ولكنه لم يطبع حتى الآن طبعة محققة. ونورد فيما يأتي الطبعات التي ذكرها سركيس وبروكلمان وسزكين ونزيد عليها ما وقفنا عليه. وكنت أود أن أتكلم على كل طبعة بكلمة وصفية نقديه، غير أن ذلك لم يتيسر لي الآن لأنني لم أستطع رؤية جميع هذه الطبعات وقد تتهيأ لي فرصة في المستقبل لذلك:
1 - طبع بجزأين في المطبعة الكاستيلية بمصر سنة 1280هـ بعناية الشيخ نصر الهوريني رحمه الله[304].
2 - وذكر بركلمان[305] أنه طبع سنة 1271 – 1272م في دهلي بالهند.
3 - وطبع بجزأين مع شروح على الهامش في الهند بدهلي سنة 1283.
4 - وطبع جزء واحد منه مع شروح على الهامش في دهلي سنة 1890م وعدد صفحاته 168.
5 - وطبع بجزء واحد في لكناو سنة 1840م.
6 - وطبع في لكناو سنة 1877 – 1888م.
7 - وطبع في لكناو سنة 1305هـ.
8 - وطبع بجزء واحد في حيدر آباد سنة 1321هـ وصفحاته 393.
9 - وطبع بجزأين مع شرح لأبي الحسنات محمد الفنجاني وذلك في لكناو سنة 1318هـ.
10 - وذكر بروكلمان أنه طبع أيضاً بهامش شرح الموطأ للزرقاني سنة 1310هـ – 1320هـ في القاهرة.
11 - وطبع بأربعة أجزاء مع شرح واسع جيد وهو ((عون المعبود)) في الهند سنة 1323هـ، وسنتحدث عن هذا الشرح فيما بعد، والذي يهمنا هنا هو متن أبي داود، وأستطيع أن أقرر أن هذه الطبعة هي أصح ما رأيت من الطبعات وأفضلها وأكثرها تحقيقاً.(18/60)
فقد ذكر الشارح الأستاذ العظيم الأبادي أنه ظفر بإحدى عشرة نسخة من سنن أبي داود وكلها من رواية اللؤلؤي إلا نسخة واحدة فهي من رواية ابن داسة.
فقابل هذه النسخ بعضها على بعض ورجع إلى عشرات الكتب الأمهات من كتب الأئمة المتقدمين، واستطاع أن يميز رواية اللؤلؤي وأن يورد كل الروايات التي وصلت إليه وقال: "فصار هذا المتن والشرح جامعاً لرواية ابن داسة وابن العبد وابن الأعرابي أيضاً، بل فيه بعض رواية الرملي أيضاً لكنه قليل جداً"[306].
ويبدو أنه قد بذل غاية الجهد، ولولا أنّ هذه الطبعة حجرية على الطريقة التي لا يزال إخواننا الهنود يجرون عليها الطباعة وأنها خالية من الترقيم لكان ينبغي أن يعتمد عليها جل الاعتماد.
12 - وطبع في مصر سنة 1371هـ – 1952م طبعة سقيمة تجارية في مطبعة مصطفى البابي الحلبي وكتب على هذه الطبعة: (تعليقات لفضيلة الأستاذ الشيخ أحمد سعد علي من علماء الأزهر الشريف) كذا كتب على الورقة الغلاف.
والجدير بالذكر أن التعليقات نادرة وهي قليلة القيمة العلمية، والأستاذ المذكور وقّع بلقب (رئيس التصحيح بمطبع مصطفى البابي الحلبي) وهذه الطبعة جمعت مساوئ عدة من رداءة الورق وسوء الحرف وازدحام الصفحات وخلوها من الترقيم والتنقيط وقد ظهرت في جزأين صفحات الأول 595 وصفحات الثاني 680.
13 - طبعة محمد محيي الدين عبدالحميد:
طبع هذا الكتاب على ورق صقيل وبحرف جميل بتحقيق الاستاذ محمد محيي الدين عبدالحميد رحمه الله.(18/61)
وكانت طبعته الأولى سنة 1354هـ – 1935م. وذكر في المقدمة أنه رجع إلى مخطوطات ومطبوعات ولكنه لم يذكر بالتفصيل ماهي هذه المخطوطات التي رجع إليها وأين مكان وجودها، ويبدو أنّه بالغ في ذلك مبالغة ظاهرة، ويكاد يظن المرء أنّ الرجل لم يرجع إلا إلى مطبوعة اعتمدها وأدخل فيها شيئاً من التعديلات التي أخذها عن مطبوعة أخرى. لأن الجهد الذي يبذله الانسان لابُدَّ أن يظهر له أثر ولا سيما بالنسبة لمن عانى أمور التحقيق وقد صدرت هذه الطبعة في أربعة أجزاء مرقمة الأحاديث واستعمل المحقق فيها علامات الترقيم.
ولكننا لا نجد في حواشيها إلا تعليقات يسيرة جداً وليس في هذه التعليقات تخريج للأحاديث النبوية لأنه فيما يبدو لم يكلف نفسه في الطبعة الأولى عناء الرجوع إلى كتاب المنذري الذي أتيح له فيما بعد أن ينقل منه ثم صدرت الطبعة الثانية سنة 1369هـ – 1950م.
وفي هذه الطبعة أضاف إلى متن الكتاب إضافات كان يضعها بين معقوفتين ولم يذكر عنها شيئاً في المقدمة كما أضاف إلى تعليقاته تخريجاً للأحاديث وهو مأخوذ بحذافيره من كتاب المنذري ولم يذكر عنه شيئاً في المقدمة، والحق أنني وقفت على كثير من سرقات الأستاذ محمد محيي الدين عبدالحميد وادعائه كلام غيره لنفسه وظلم العلماء الأقدمين وكتبت ما واجهته من ذلك في دراسة كنتُ أعددتها لكتاب شرح قطر الندى لابن هشام من نحو عشرين سنة سقت الأدلة الكثيرة، وما كنت أحب أن أذكر ذلك بعد أن توفي إلى رحمة الله غفر الله لنا وله، ولكن الشيء الذي راعني هو أن ينقل تعليقات الحافظ المنذري بكاملها وبحروفها دون أن يشير إلى ذلك في المقدمة.(18/62)
ولو أنه فعل ذلك لأعطى لهذه التخريجات من القوة والرجحان والتوثيق شيئاً كثيراً ذلك لأن المنذري حافظ عظيم ومن المشتغلين بالسنة فعندما يكون تخريج الحديث منسوباً إليه فإن ذلك ادعى لأن يقبله القارئ ويتبناه عن قناعة لا تتوافر إلا للقلة من العلماء المحققين أمثال المنذري رحمه الله.
ويفيد في هذا المجال أن نقرر أن المنذري رحمه الله ذكر في مقدمة ((مختصره)) نهجاً علمياً دقيقاً فقال: "واذكر عقيب كل حديث من وافق أبا داود من الأئمة الخمسة على تخريجه بلفظه أو نحوه"[307].
ولم يذكر الأستاذ المحقق مثل ذلك، فأوهم بإغفاله ذلك أن الحديث مخرج عند من ذكرهم المنذري ونقلهم عنه المحقق مخرّج بلفظه وربما لا يكون كذلك أما الشروح التي ذكرها الأستاذ المحقق رحمه الله فعلى الرغم من أنها في غاية الانجاز فإنها كذلك مأخوذة غالباً من شرح الخطابي بالحرف الواحد ولم ينسبها إليه، فأوهم أنها من عنده.
أما تعليقاته بشأن الرجال فليس هناك نهج يحكمه، فبينما هو يذكر لك في بعض الحالات الرأي في بعض الرجال إذا هو يسكت في الغالب ولا يورد شيئاً، ويبدو أنه لم يكن يكلف نفسه عناء التنقيب في بطون الكتب، بل كان إذا صادفه شيء في أقرب شرح له ذكره.
ومن ملاحظاتنا أنه لم يلتزم نهجاً واضحاً في الترقيم.
فقد يعطي الخبر المنقول عن عالم من العلماء رقماً كما في الحديث 769 وقد نقل فيه رأياً لمالك وهو: (لا بأس بالدعاء في الصلاة في أوله وأوسطه وآخره في الفريضة وغيرها)[308] والنهج السليم في نظري أن لا يعطي لآراء العلماء أرقاماً يدخلها في أرقام الأحاديث، وأن يقتصر في الترقيم على الأحاديث. وكذلك فإن ترقيم الأحاديث ينبغي أن يراعى فيه واحد من أمور ثلاثة: فإن أن يكون الترقيم تابعاً لمتن الحديث، وإما أن يكون تابعاً للصحابي الذي أخرجه وإما أن يكون تابعاً لشيخ المؤلف الذي تلقى عنه الحديث، والغالب أن المحقق استخدم الأخير ولكنه لم يلتزم ذلك بدقة.(18/63)
ففي صفحة 60 أحاديث عدة عن عليّ رضي الله عنه أعطاها أرقاماً لاختلاف شيخ المؤلف ولكنه في صفحة 248 لم يعط رواية اختلف فيها والصحابي عن الرواية المتقدمة ولم يعط الثانية رقماً، ومهما يكن من أمر هذه الطبعة فقد أدت خدمة وسدّت ثغرة فجزى الله ناشرها ومحققها خيراً.
الكتب التي ألفت حول السنن
وقفت على أسماء عدد كبير من الكتب التي ألفت حول السنن وقد اتيح لي أن أطلع على بعض ما وصل إلينا منها، أما الباقي فبين مخطوط ومفقود.
ونستطيع أن نصنف الكتب التي ألفت حول السنن في زمر ثلاث:
1 - شروح.
2 - مختصرات.
3 - دراسات.
الشروح: شَرحَ السنن كثيرون نذكر أهمهم فيما يأتي:
1 - شرح الخطابي: من أنفع الشروح وأقدمها وعنوانه (معالم السنن) لأبي سليمان حَمْد بن محمد بن إبراهيم بن خطاب البستي الخطابي المتوفى سنة 388هـ وهو منسوب إلى زيد بن الخطاب.
وهو يشرح المفردات الغربية والكلمات التي تحتاج إلى شرح شرحاً لغوياً واسعاً يدل على معرفة متبحرة باللغة وقد يستشهد لشرحه بأبيات أو جمل مأثورة عن العرب. ويشرح المراد من الجملة، ثم يشرح الحديث ويوفق بينه وبين ما روي على وجه قد يُظنُّ أن فيه خلافاً.
ثم يتحدث عن فقه الحديث ويذكر آراء العلماء في موضوع الحديث، ويرجح الرأي الذي يرتضيه من هذه الآراء.
ثم يذكر ما في الحديث من الفوائد والاستنباطات الأخرى مما قد لا يتصل بعنوان الباب.
طبع هذا الكتاب في حلب بأربعة أجزاء بتحقيق العلامة الشيخ محمد راغب الطباخ رحمه الله سنة 1920 – 1924، 1932 – 1950م.
كتب على الأجزاء الثلاثة الأولى أنّها بتحقيقهما. وأما الجزء الرابع فما بعده حتى الثامن فقد كتب عليها أنها بتحقيق محمد حامد الفقي فقط، وقد أثبت في الأعلى من هذه الطبعة تهذيب المنذري ثم تحته معالم السنن وفي الأسفل تهذيب ابن القيم.(18/64)
وقد لخص المعالم الحافظ شهاب الدين أحمد بن محمد بن ابراهيم المقدسي المتوفى سنة 765هـ وسمّاه (عجالة العالم من كتاب المعالم)[309].
2 - العدد المودود في حواشي سنن أبي داود للحافظ المنذري المتوفى سنة 656هـ وقد ذكر سزكين[310] مكان وجود مخطوطته.
3 - وشرح ((السنن)) أيضاً شهاب الدين أحمد بن حسين بن ارسلان الرملي المتوفى سنة 744هـ[311] ومخطوطاته موجودة في تركيا.
4 - وشرح ((السنن)) قطب الدين أبو بكر بن أحمد بن دعين اليمني الشافعي المتوفى 752هـ في أربع مجلدات كبار في آخر عمره ومات عنه وهو مسوّدة[312].
5 - وشرح هذا الكتاب أيضاً مغلطاي بن فليج المتوفى سنة 762هـ ولم يكمله[313].
6 - وشرح هذا الكتاب أيضاً شهاب الدين أبو محمد أحمد بن محمد بن ابراهيم بن هلال المقدسي من أصحاب المزي. المتوفى بالقدس سنة 765هـ ويبدو أنه هو الذي لخص المعالم المذكور آنفاً. وسمّى شرحه ((انتحاء السنن واقتفاء السنن))[314] ومخطوطته محفوظة في مكتبة لاله لي في أربعة مجلدات تحت رقم 498 – 501.
7 - وشرحه أيضاً عمر بن رسلان بن نصر البلقيني المتوفى سنة 805.
8 - وشرح السنن أيضاً أبو زرعة العراقي ولي الدين أحمد بن عبدالرحيم المتوفى سنة 826هـ وأطال في شرحه جداً[315].
9 - وشرح قطعة منه محمود بن أحمد العيني الحنفي المتوفى سنة 855هـ.
10 - وشرحه السيوطي المتوفى سنة 911هـ وسمّاه ((مرقاة الصعود إلى سنن أبي داود)) وتوجد منه مخطوطات عدة ذكرها سزكين[316].
11 - وشرحه أبو الحسن محمد بن عبدالهادي السندي المتوفى سنة 1138هـ بعنوان ((فتح الودود على سنن أبي داود.
12 - ((عون المعبود شرح سنن أبي داود)).(18/65)
تأليف العلامة الشيخ شمس الحق العظيم أبادي، ويقع في أربع مجلدات كبيرة وقد طبع في الهند في دهلي سنة 1322هـ وقد أثبت في أعلى الصفحات سنن أبي داود بعد أن بذل جهداً مشكوراً في تحقيقه؛ فقد استطاع أن يميز بين رواية اللؤلؤي وغيره من الروايات ورجع في هذه الطبعة إلى إحدى عشرة مخطوطة.
أما شرحه فهو من أفضل الشروح وأكثرها استيعاباً لما قاله العلماء من قبله.
وهو لا يترك في الحديث شيئاً من ترجمة الرجال أو شرح للمفردات أو ذكر لآراء العلماء في المسألة لا يدع من ذلك شيئاً.(18/66)
وقال في التنبيه الأول: أكثرت النقل من كلام الحافظ المنذري حتى قلت تحت كل حديث: (قال المنذري كذا وكذا) لأن الامام المنذري قد اختصر كتاب ((السنن)) من رواية اللؤلؤي فأحسن في اختصاره وذكر عقيب كل حديث من وافق أبا داود من الأئمة الخمسة على تخريجه ثم بين ضعف الحديث وعلته إن كان الحديث ضعيفاً ومعلولاً وإن كان الحديث مما اتفق عليه الشيخان أو أحدهما أو أهل السنن الثلاثة أو واحد منهم وليس فيه ضعف فيقتصر على قوله أخرجه فلان وفلان، وهذا تصحيح من المنذري رحمه الله لذلك الحديث، وإن كان الحديث مما تفرد به أبو داود وليس فيه ضعف فيسكت عنه المنذري، وسكوته أيضاً تصحيح منه لذلك الحديث وأقل أحواله أن يكون حسناً عنده، وإني نقلت سكوته أيضاً ملتزماً به، فقلت: والحديث سكت عنه المنذري، إلا في بعض المواضع في أول الكتاب، فقد فاتني هذا الأمر، ومع ذلك فإني نقلت قدراً كثيراً من كلام أئمة الحديث في تنقيد أحاديث الكتاب من الصحة والضعف وبيان عللها وجرح الرواة وعدالتهم ما يشفي الصدور وتلذ الأعين فصار هذا الشرح بحمد الله تعالى مع اختصاره وايجازه مغنياً عما سواه، فكل حديث الكتاب فرداً فرداً من أول (باب التخلي عند قضاء الحاجة) إلى آخر باب (الرجل يسب الدهر) بينت حاله من القوة والضعف إلا ما شاء الله تعالى في أحاديث يسيرة مع أنه ليس في سنن أبي داود حديث اجتمع الناس على تركه)[317].
ويقول في آخر التنبيه الخامس: "فصار هذا المتن والشرح جامعاً لرواية ابن داسة وابن العبد وابن الأعرابي أيضاً، بل فيه بعض رواية الرملي ولكنه قليل"[318].
طبع هذا الشرح كما أشرنا في الهند في دهلي سنة 1322هـ طبعة حجرية منقحة وفي كل جزء تصحيحات للأغلاط المطبعية بحيث أضحت هذه الطبعة إن صححت من أجود الطبعات.
وأعيد تصوير هذا الكتاب بالأوفست في بيروت.(18/67)
ثم نشره محمد عبدالرحمن السلفي صاحب المكتبة السلفية في المدينة المنورة وطبعه في مصر وذكر أنه ضبط وتحقيق عبدالرحمن محمد عثمان، ونشر في الأعلى ((سنن أبي داود)) ويليه شرح ((عون المعبود))، ثم نشر في هامش الصفحات تهذيب ابن القيم وصدر الكتاب في أربعة عشر جزءاً، بدأ بطباعته سنة 1388هـ 1968م وانتهى 1389هـ (1969)م في مطابع المجد بالقاهرة.
ويبدو أن هذه الطبعة المتأخرة لا تمتاز إلا بكونها على ورق أبيض وبحرف مألوف.
13 - وكذلك فقد شرح كتاب ((سنن أبي داود)) عالم معاصر هو الشيخ محمود محمد خطاب السبكي وسمّى كتابه:
((المنهل العذب المورود شرح سنن الامام أبي داود)) وذكر في المقدمة أنه شرع في سنة 1343هـ بقراءة سنن أبي داود مع نفر من الطلبة، فكانت نسخ الكتاب نادرة وقد صعب على الطلبة اقتناؤها، فأراد طبعه ليسهل الحصول عليه وكتب عليه شرحاً، وذكر أنه عني ببيان تراجم رجال الحديث وشرح ألفاظه وبيان معناه وما يستفاد منه من الأحكام، وأنه بيّن أوجه الخلاف وأدلته وذكر من خرّج الحديث سواء كان من الأئمة الستة أم غيرهم وبيّن حال الحديث من صحة أو حسن أو غيرهما وأورد مقدمة تشتمل على نبذة من مصطلح الحديث وترجمة المؤلف كما أورد في المقدمة طرفاً من رسالته إلى أهل مكة.
أصدر الشيخ محمود هذا الكتاب في عشرة أجزاء كبيرة وطبعت في مطبعة الاستقامة بمصر سنة 1351هـ وقد توفى سنة 1352هـ وكان وصل إلى باب الهدي من مناسك الحج. ولم يكمل الكتاب.
وقد قام مصطفى علي البيومي بوضع مفتاح لهذه الأجزاء العشرة واحتوى هذا المفتاح على الفهارس الآتية:
1 - فهرس الكتب والأبواب.
2 - فهرس أوائل الأحاديث القولية.
3 - فهرس أوائل الأحاديث الفعلية.
4 - فهرس الألفاظ.
5 - فهرس الموضوعات والأعلام والأحكام المستنبطة من الأحاديث.
6 - فهرس جوامع الأعداد.
طبع هذا المفتاح عام 1356هـ (1937م).(18/68)
إذن فكتاب ((المنهل العذب المورود)) شرح لقطعة من السنن ولم يتح للمؤلف أن يكمله فقام ابنه الشيخ أمين محمود خطاب السبكي بمحاولة إكمال الكتاب، فأصدر منه أربعة أجزاء وسمّاه ((فتح الملك المعبود تكملة المنهل العذب المورود شرح سنن أبي داود)).
طبع الجزء الأول عام 1375هـ (1955م) في مطبعة الاعتصام بالخيمية.
وطبع الجزء الثاني عام 1375هـ (1956م) في مطبعة الاستقامة بالقاهرة.
وطبع الجزء الثالث عام 1379هـ (1959م) في مطبعة الاستقامة بالقاهرة.
وطبع الجزء الرابع عام 1383هـ (1963م) في مطبعة السعادة بمصر.
وانتهى بباب في تعظيم الزنا. أي ما يعادل قريباً من آخر الجزء الثاني (صفحة 394) من طبعة محيي الدين ورقم الحديث الأخير الذي شرحه في طبعة محيي الدين هو 2312.
14 - وهناك شروح أخرى ذكرتها الكتب التي تعني باحصاء التراث، وأتوقع أن تكون هناك كتب أخرى لم نعرف من خبرها شيئاً.
المختصرات
1 – مختصر المنذري:
وهو أهم المختصرات التي اختصرت سنن أبي داود، والمنذري هو زكي الدين عبدالعظيم عبدالقوي المنذري المتوفى سنة 656هـ وعرف مختصره باسم ((مختصر سنن أبي داود)) للمنذري غير أن حاجي خليفة[319] زَعَم أنّ المنذري قد سمّاه ((المجتبى)) وذهب إلى أن السيوطي ألف عليه كتاباً سمّاه ((زهر الربى على المجتبى)) وتابع حاجي خليفة في هذا الزعم الأستاذ الخولي في كتابه ((مفتاح السنة))[320] والأستاذ سزكين في ((تاريخ التراث))[321] وبروكلمان في ((تاريخ الأدب))[322] والذي أراه أنّ حاجي خليفة وهم في هذا الزعم ويؤيد هذا الاتجاه أن كتاب السيوطي ((زهر الربى)) هو كتاب ألفه على سنن النسائي[323] وليس على مختصر المنذري.
وكذلك فإن مما يؤيد هذا الاتجاه أن المنذري لم يصرح بهذه التسمية في المقدمة ولا لوّح بها، وكذلك لم يشر ابن القيم إلى هذه التسمية مع العلك أنه صرح بأن كتابه مبني على كتاب المنذري الاستاذان أحمد شاكر وحامد الفقي إلى هذه التسمية.(18/69)
ومن نظرنا في الكتاب نجد أنه اختصر كتاب السنن على ما رتبه مصنفه من الكتب والأبواب أي لم يرتب الأحاديث ترتيباً جديداً كما فعل في كتاب مختصر مسلم الذي قال في مقدمته (ورتبته ترتيباً يسرع بالطالب إلى وجود مطالبه في مظنته)[324].
وذكر عقيب كل حديث من وافق أبا داود من الأئمة الخمسة على تخريجه بلفظه أو نحوه.
ويلاحظ أنه حذف الأسانيد وكثيراً من تعليقات أبي داود وقد يثبت بعضها كما فعل في تعليقه على بئر بضاعة[325].
والحق أن كتاب المنذري له وجهان وجه يلحقه بالمختصرات ووجه يلحقه بالشروح فهو مختصر وشرح بآن.
قال ابن القيم في وصفه: "وكان الإمام العلامة الحافظ زكي الدين المنذري قد أحسن في اختصاره وتهذيبه وعزو أحاديثه وإيضاح علله وتقريبه فأحسن حتى لم يكد يدع للاحسان موضعاً وسبق حتى جاء من خلفه له تبعاً"[326].
وقال صاحب ((عون المعبود))[327]: "اختصر الامام المنذري كتاب السنن من رواية اللؤلؤي فأحسن في اختصاره وذكر عقيب كل حديث من وافق أبا داود من الأئمة الخمسة البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه على تخريجه. ثم بيّن ضعف الحديث وعلته إن كان الحديث ضعيفاً أو معلولاً، وإن كان الحديث مما اتفق عليه الشيخان أو أحدهما أو أهل السنن الثلاثة[328] أو واحد منهم وليس فيه ضعف فيقتصر على قوله أخرجه فلان وفلان. وهذا تصحيح من المنذري رحمه الله لذلك الحديث، وإن كان الحديث مما تفرد به أبو داود وليس فيه ضعف فيسكت عنه المنذري، وسكوته أيضاً تصحيح منه لذلك الحديث وأقل أحواله أن يكون حسناً عنده".
وقد طبع هذا الكتاب – على ما يذكر بروكلمان[329] في حيدر آباد عام 1342هـ وطبع في دهلي عام 1891م.(18/70)
وطبع في القاهرة كما ذكرنا قبل في مطبعة أنصار السنة المحمدية منشوراً مع كتابي الخطابي وابن القيم وصدر في ثمانية أجزاء كتب على الثلاثة الأولى أنها بتحقيق أحمد شاكر وحامد الفقي وكتب على الخمسة الباقية أنها بتحقيق حامد الفقي، وهي طبعة جيدة مشكولة مرقمة الأحاديث[330].
2 – مختصر محمد بن الحسن بن علي البلخي:
وقد اختصره أيضاً محمد بن الحسن بن علي البلخي من رجال القرن السابع[331].
3 – تهذيب ابن القيم:
وابن القيم هو محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد الزرعي الدمشقي المتوفى سنة 751هـ.
وتهذيبه أشبه بالحاشية منه بالتهذيب، فهو قد سكت عن أحاديث عديدة.
ثم تراه يفصل القول في شرح حديث وبيان فقهه وقد يفصل تفصيلاً لا تراه في المطولات. وقد ذكر في مقدمته خطته فقال: (فهذبته نحو ما هذب هو به الأصل وزدت عليه من الكلام على علل سكت عنها أو لم يكملها والتعرض إلى تصحيح أحاديث لم يصححها والكلام على متون مشكلة لم يفتحُ مْغَلقَها وزيادة أحاديث صالحة في الباب لم يشر إليها وبسطت الكلام على مواضع قليلة لعل الناظر المجتهد لا يجدها في كتاب سواه)[332] وقد طبع في دهلي[333] سنة 1891م، كما طبع في الطبعة التي أشرت إليها قبل قليل وهي طبعة أحمد شاكر ومحمد حامد الفقي.
دراسات عنه[334]:
لن أستطيع الاستقصاء في مجال الدراسات وسأقتصر على ذكر أسماء بعض هذه الدراسات:
1 - جمع زكريا الساجي المتوفى[335] سنة 307هـ للسنن ما يوافق معانيها من آيات القرآن الكريم[336].
2 - ألف أبو علي حسين بن محمد بن أحمد الجياني المتوفى سنة 498هـ كتاباً بعنوان ((تسمية شيوخ أبي داود))[337].
3 - وشرح سراج الدين عمر بن علي بن الملقن الشافعي المتوفى سنة 804هـ زوائد السنن على الصحيحين وتقع في مجلدين[338].
خاتمة(18/71)
وبعد فهذا جهدٌ متواضع بذلته في دراسة هذا الكتاب العظيم من كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن أحسنت فبفضل الله وتوفيقه وكرمه وإن أخطأت فهذا شأن البشر (رَبّنا لاَ تُؤَاخِذنا إنْ نَسينا أوْ أخْطَأنَا) وحسبي أنني كنت جاداً في هذه الدراسة التي كانت على زحمة المشاغل وضيق الوقت، ولو لم يكن فيها إلا أنها أطلعت القراء الكرام على صفحة مشرقة وضاءة من تاريخ رجل من رجالاتنا، وذكرتهم بقيمة كتاب ((السنن))، لو لم يكن فيها إلاّ هذا فقط لكان فيها خير إن شاء الله. جعل الله أعمالنا خالصة لوجهه، ووفقنا للعمل بما نعلم، وأعاذنا من الفتن التي كقطع الليل المظلم تصدُّ الناس عن سبيل الله ولا سيما في زماننا هذا الذي تكالبت فيه قوى الشر والبغي على بلاد المسلمين وتداعت أمم الكفر إليهم تداعي الأكلة إلى قصعتها، وجعلنا ممّن يحيون على شريعة الاسلام ويموتون في سبيل الذود عنها لا تنحرف بهم السبل ولا تغويهم المخاوف ولا المطامع، وممّن يكونون واعين متيقظين لما يحاك للإسلام وأهله وبلاده من كيد ماكر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
(رَبّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعدَ إذْ هَديتَنَا وَهَبْ لَنا من لّدُنْكَ رَحْمَةً إنّكَ أنْتَ الوهّاب)(ربّنَا آتِنَا من لدنْكَ رَحْمَةً وَهَيئ لَنَا منْ أمْرِنَا رَشَدَا).
وصلى الله علي سيدنا وحبيبنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً والحمد لله رب العالمين.
مراجع البحث
1 - الاصابة في تمييز الصحابة لأحمد بن علي.. ابن حجر مطبعة مصطفى محمد بمصر سنة 1358هـ – 1939م.
2 - الاعلام لخير الدين الزركلي مطبعة كوستا تسبو ماس بمصر سنة 1373هـ – 1378م.
3 - أمراء البيان لمحمد كرد علي. مطابع دار الكتب بيروت ط3 سنة 1388هـ – 1969م.
4 - ايضاح المكنون في الذيل على كشف الظنون طبعة الأوفست طهران سنة 1387هـ.(18/72)
5 - الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث مطبعة محمد علي صبيح بمصر ط3 سنة 1377هـ – 1958م.
6 - الباعث على الخلاص من حوادث القصاص لعبدالرحيم العراقي تحقيق محمد الصباغ نشر في العدد الرابع من مجلة اضواء الشريعة بالرياض سنة 1393هـ.
7 - بحوث في تاريخ السنة المشرفة لأكرم ضياء العمري مطبعة الارشاد ببغداد سنة 1392هـ – 1972م.
8 - البداية والنهاية لاسماعيل بن عمر بن كثير مطبعة السعادة بمصر سنة 1351هـ – 1358م.
9 - تاج العروس في شرح القاموس لمحمد مرتضى الزبيدي المطبعة الخيرية بمصر سنة 1306هـ.
10 - تاريخ الادب العربي لبروكلمان ترجمة د. عبدالحليم نجار دار المعارف بمصر سنة 1959م.
11 - تاريخ آداب اللغة لجرجي زيدان دار الهلال بمصر سنة 1957م.
12 - تاريع بغداد لأحمد بن علي الخطيب البغدادي مطبعة السعادة بمصر سنة 1931م.
13 - تاريخ الخلفاء لعبدالرحمن بن أبي بكر السيوطي مطبعة الفجالة الجديدة سنة 1389هـ – 1969م.
14 - تاريخ التراث العربي لفؤاد سزكين ترجمة فهمي أبو الفضل المطبعة الثقافية بمصر سنة 1971م.
15 - تاريخ الطبري لمحمد بن جرير تحقيق محمد أبو الفضل ابراهيم دار المعارف بمصر.
16 - تحذير الخواص من أكاذيب القصاص لعبدالرحمن أبي بكر السيوطي تحقيق محمد الصباغ المكتب الاسلامي بدمشق سنة 1392هـ سنة 1972م.
17 - تحفة الأحوذي لمحمد بن عبدالرحمن المباركفوري طبع الهند سنة 1343هـ.
18 - تحفة الاشراف ليوسف بن عبدالرحمن المزي عبدالصمد شرف الدين طبع بمباي الهند سنة 1384هـ – 1965م.
19 - تدريب الراوي لعبدالرحمن بن أبي بكر السيوطي نشر المكتبة العلمية بالمدينة سنة 1379هـ – 1959م.
20 - تذكرة الحفاظ لمحمد بن أحمد الذهبي طبع حيدر آباد الهند 1376هـ – 1959م.
21 - ترتيب المدارك للقاضي عياض.
22 - التقريب مطبوع أعلى تدريب الراوي نشر المكتبة العلمية بالمدينة سنة 1376هـ – 1959م.(18/73)
23 - التقييد والايضاح لما اطلق وأغلق من مقدمة ابن الصلاح للحفاظ العراقي تحقيق راغب الطباخ المطبعة بحلب سنة 1350هـ – 1931م.
24 - تهذيب ابن عساكر لعبدالقادر بدران طبع دمشق.
25 - تهذيب الأسماء واللغات ليحي بن شرق النووي – المطبعة المنيرية بمصر.
26 - تهذيب التهذيب لأحمد بن علي بن حجر طبع حيدر أباد الهند سنة 1325هـ.
27 - توجيه لطذاهر بن صالح الجزائري طبع مصر وأعيد تصويره بالأوفست في بيروت.
28 - جامع الأصول لمبارك بن محمد بن الأثير مطبعة السنة المحمدية في مصر سنة 1368هـ – 1949هـ.
29 - الجرح والتعديل لابن أبي حاتم طبع حيدر آباد الهند سنة 1371هـ.
حجة الله البالغة للدهلوي.
30 - الحديث النبوي لمحمد بن لطفي الصباغ المكتب الاسلامي ببيروت سنة 1392هـ – 1972م.
31 - الخلاصة لأحمد بن عبدالله الخزرجي المطبعة الخيرية بمصر سنة 1322هـ.
32 - الدرر الكامنة لأحمد بن علي بن حجر مطبعة المدني بمصر سنة 1385هـ – 1966م.
33 - رسالة أبي داود تحقيق محمد الصباغ طبع دار العربية ببيروت سنة 1394هـ – 1974م.
34 - الرسالة المستطرفة لمحمد بن جعفر الكتاني دار الفكر بدمشق سنة 1383هـ.
35 - سنن ابن ماجه لمحمد بن يزيد بن ماجه تحقيق محمد فؤاد عبدالباقي دار احياء الكتب العربية 1372هـ – 1952م.
36 - سنن أبي داود لسليمان بن الأشعث تحقيق محيي الدين عبدالحميد مطبعة السعادة بمصر سنة 1369هـ – 1950م.
37 - سنن الترمذي لمحمد بن عيسى الترمذي المطبوع في أعلى تحفة الاحوذي طبع الهند سنة 1343هـ.
38 - سنن الدارمي لعبدالله بن عبدالرحمن تحقيق محمد أحمد دهمان مطبعة الاعتدال بدمشق سنة 1349هـ.
39 - سنن النسائي لأحمد بن شعيب المطبعة المصرية بالازهر بمصر.
40 - سير أعلام النبلاء.
41 - شذرات الذهب لعبدالحي بن أحمد بن العماد مكتبة القدسي بمصر سنة 1350هـ.
42 - شروط الأئمة الخمسة لمحمد بن موسى الحازمي مكتبة القدسي بمصر سنة 1357هـ.(18/74)
43 - شروط الأئمة الستة لمحمد بن طاهر المقدسي بمصر سنة 1357هـ.
44 - صحيح ابن خزيمة لمحمد بن اسحاق تحقيق د. محمد مصطفى الأعظمي مطابع دار القلم سنة 1391هـ – 1971م.
45 - صحيح البخاري لمحمد بن اسماعيل مطبعة الفجالة الجديدة سنة 1376هـ.
46 - صحيح مسم لمسلم بن الحجاج طبعة محمد علي صبيح.
47 - الضوء اللامع لمحمد بن عبدالرحمن السخاوي مطبعة القدسي مصر سنة 1352هـ.
48 - طبقات الحنابلة لمحمد بن أبي يعلى محمد حامد الفقي مطبعة السنة المحمدية.
49 - طبقات الشافعية للسبكي تحقيق الحلو والطنامي مطبعة عيسى البابي بمصر سنة 1383هـ.
50 - علوم الحديث لعثمان بن عبدالرحمن بن الصلاح تحقيق العتر مطبعة الاصيل حلب سنة 1386هـ – 1966م.
51 - عون المعبود للعظيم أبادي طبع دهلي في الهند سنة 1343هـ.
52 - فتح المغيث لمحمد بن عبدالرحمن السخاوي مطبعة العاصمة بمصر سنة 1388هـ.
فتح الملك المعبود تكملة المنهل العذب المورود لأمين محمود خطاب السبكي مطبعة الاعتصام بالقاهرة سنة 1375هـ – 1955م.
53 - فهرست ابن خير لابي بكر محمد بن خير لمكتبات المثنى والخانجي والمكتب التجاري سنة 1963م.
فهرس مخطوطات الظاهرية لمحمد ناصر الدين الالباني طبع دمشق.
54 - القاموس المحيط لمحمد بن يعقوب الفيروز أبادي مطبعة دار المأمون بمصر سنة 1357هـ – 1938م.
55 - قواعد التحديث لجمال الدين بن محمد القاسمي مطبعة ابن زيدون دمشق سنة 1353هـ – 1935م.
56 - كشف الظنون لمصطفى بن عبدالله حاجي خليفة طهران سنة 1387هـ.
57 - الكني والاسماء للدولابي طبع حيدر أباد سنة 1322هـ.
58 - لسان الميزان لأحمد بن علي بن حجر طبع حيدر آباد الهندسة 1325هـ
59 - مختصر سنن أبي داود لعبدالعظيم بن عبدالقوي المنذري مطبعة السنة المحمدية بمصر سنة 1366هـ.
60 - مختصر صحيح مسلم لعبدالعظيم بن عبدالقوي تحقيق الالباني طبع وزارة الأوقاف الكويتية.(18/75)
61 - المستدرك لمحمد بن عبدالله الحاكم النيسابوري طبع حيدر آباد الهند سنة 1333هـ.
62 - المسند لأحمد بن حنبل المطبعة الميمنية بمصر سنة 1313هـ.
63 - معالم السنن للخطابي تحقيق أحمد شاكر وحامد الفقي مطبعة السنة المحمدية بمصر سنة 1366هـ.
64 - معجم الأدباء لياقوت الحموي مطبعة دار المأمون مصر.
65 - معجم البلدان لياقوت الحموي دار صادر ودار بيروت سنة 1374هـ – 1955م.
66 - معجم المطبوعات العربية والمصرية ليوسف البيان سركيس مطبعة سركيس سنة 1346هـ – 1928م.
67 - المعجم المفهرس لألفاظ الحديث لمجموعة من المستشرقين طبع مكتبة بريل في لبدن.
68 - المعجم المفهرس لألفاظ القرآن لمحمد فؤاد عبدالباقي مطابع الشعب بمصر سنة 1378هـ.
69 - مفتاح السنة لمحمد عبدالعزيز الخولي مطبعة الاستقامة بالقاهرة.
مفتاح المنهل العذب المورود لمصطفى علي البيومي.
70 - المنتظم لعبدالرحمن بن علي بن الجوزي مطبعة دائرة المعارف العثمانية حيدر آباد سنة 1358هـ.
71 - المنهج الأحمد في تراجم أصحاب الامام أحمد لعبدالرحمن بن محمد العليمي تحقيق محمد محيي الدين عبدالحميد مطبعة الدني بالقاهرة سنة 1393هـ – 1963م.
72 - المنهل العذب المورود. لمحمود خطاب السبكي مطبعة الاستقامة بمصر سنة 1351هـ.
73 - موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان لعلي بن أبي بكر الهيثمي بتحقيق محمد عبدالرزاق حمزة المطبعة السلفية بمصر ميزان الاعتدال لمحمد بن أحمد الذهبي تحقيق البجاوي دار احياء الكتب العربية بمصر.
74 - ميزان الاعتدال لمحمد بن أحمد الذهبي تحقيق البجاوي دار احياء الكتب العربية بمصر.
75 - هدية العارفين لاسماعيل بن محمد البغدادي طهران سنة 1387هـ.
ـــــــــــــــــــــ
[1] سورة الحجر الآية: 9.
[2] ((كشف الظنون)) 1/1004.(18/76)
[3] هذا هو الصواب في نسبه: وهكذا ورد في معظم الكتب التي ترجمته غير أن بروكلمان في ((تاريخ الأدب العربي)) 3/185 قال: (سليمان بن الجارود بن الاشعث) وهو غلط وأورد النووي في (تهذيب الاسماء واللغات 2/224 قول ابن ابي حاتم أنه: (سليمان بن الاشعث ابن شداد: سيرة صلاح الدين بن عمرو بن عامر) وقول محمد بن عبدالعزيز الهاشمي أنه (سليمان بن بشير بن شداد) ثم أورد القول الذي رجحه والذي اعتمدناه. ونقل عن الحافظ أبي طاهر السلفي أنه قال فيه (وهذا القول أمثل والقلب إليه أميل).
[4] انظر ((تهذيب تاريخ ابن عساكر)) للأستاذ عبدالقادر بدران 6/244 و((تهذيب التهذيب)) لابن حجر 4/169.
[5] انظر في ((امراء البيان)) لمحمد كرد على ص503 تحقيقاً في هذا الموضوع.
[6] جاء في ((القاموس)): الازد أبو حي باليمن، ومن أولاده الانصار كلهم.
[7] انظر ((تهذيب الأسماء واللغات)) للنووي القسم الأول 2/224.
[8] انظر ((معجم البلدان)) لياقوت 3/190.
[9] انظر ((تذكرة الحفاظ)) للذهبي ص591.
[10] انظر ((معجم البلدان)) 3/190 – 192.
[11] انظر ((وفيات الأعيان)) و((تذكرة الحفاظ)) و((معجم البلدان)).
[12] انظر ((موارد الظمآن إلى زوائد بن حبان)) للهيثمي من 18 3/191 – 192.
[13] ((مختصر المنذري لسنن أبي داود)) 1/12.
[14] ((تهذيب الاسماء واللغات)) للنووي 2/224.
[15] ((تاريخ بغداد)) 9/55.
[16] ((تهذيب الاسماء واللغات)) 2/224.
[17] ((تهذيب تاريخ ابن عساكر)) 6/244.
[18] ((تاريخ بغداد)) 9/55.
[19] ((تهذيب الاسماء)) 2/224.
[20] ((تهذيب ابن عساكر)) 6/244.
[21] اخطاء بروكلمان حيث دعاه خليفة 3/186. ووهم سزكين فدعاه (الخليفة الواثق) ص382، والموفق هو طلحة بن جعفر المتوكل امير مظفر وقائد محنك حجر على أخيه الخليفة المعتمد واستبد بالامر دونه وتوفي خلال خلافة المعتمد سنة 278: وانظر ((تاريخ الخلفاء)) للسيوطي ص366.(18/77)
[22] ((طبقات الحنابلة)) 1/162، و((طبقات الشافعية)) 2/293 و((معالم السنن)) 1/12 وانظر خبر فتنة الزنج وتدمير البصرة سنة 257 في ((تاريخ الطبري)) 9/481 وما بعدها، وفي خراب البصرة ورثائها أنشأ ابن الرومي قصيدته المشهورة التي يقول في مطلعها:
ذاد مقلتي لذيذ المنام
شغلها عنه بالدموع السجام
[23] ((مختصر المنذري)) 1/7 – 8 و((تهذيب التهذيب)) 4/172 ((ووفيات الأعيان)) 7/404.
[24] ((طبقات الحنابلة)) 1/162 و((المنهج الأحمد)) 1/175 و((معجم سركيس)) 309.
[25] أي أغلفة يغلف بها الكتب.
[26] ((الميزان)) للذهبي 4/451.
[27] هو أحمد بن محمد بن هارون البغدادي الحنبلي له كتب كثيرة وقد جمع علم أحمد توفي سنة 311هـ انظر ترجمته في ((تذكرة الحافظ)) 785 و((المنهج الأحمد)): 2/5 وطبقات الحنابلة 2/12 و((البداية والنهاية)) 11/148.
[28] ((تاريخ بغداد)) 9/57 و((تهذيب التهذيب)) 4/172 ((تهذيب ابن عساكر)) 6/244.
[29] هو أحمد بن محمد بن ياسين الهروي الحداد ابو اسحاق توفي سنة 334 انظر ترجمته في ((شذرات الذهب)) 2/325.
[30] ((تاريخ بغداد)) 9/57 ((ومختصر المنذري)) 1/7 و((تهذيب التهذيب)) 4/172 و((تهذيب ابن عساكر)) 6/244.
[31] هو ابراهيم بن اسحاق الحربي البغدادي كان حافظاً فقيهاً زاهداً توفي ببغداد سنة 285 (انظر ((معجم الادباء)) 1/37 و((المنهج الاحمد)) 1/196 ((وتاريخ بغداد)) 6/27 و((طبقات الحنابلة)) 1/86 و((شذرات الذهب)) 2/190 و((تذكرة الحفاظ)) 584).
[32] ((البداية والنهاية)) 11/55 ((طبقات الشافعية)) 2/293 ((تذكرة الحفاظ)) 591 ((تهذيب التهذيب)) 4/172 ((مختصر المنذري)) 1/5 ((معالم السنن)) 1/12 و((المنهج الأحمد)) 1/175.
[33] هو الحافظ محمد بن اسحاق بغداد الامام الثقه توفي سنة 270هـ وانظر ((تاريخ بغداد)) 1/241 و((تذكرة الحفاظ)) 573.(18/78)
[34] هو الحافظ موسى بن هارون الحمال البغدادي البزاز توفي سنة 294هـ وانظر ((تذكرة الحفاظ)) 669.
[35] ((طبقات الشافعية)) 2/293 ((تهذيب التهذيب)) 4/172 ((تهذيب ابن عساكر)) 6/244.
[36] ((تهذيب التهذيب)) 4/172 ((تهذيب الاسماء واللغات)) 2/224.
[37] هو أبو حاتم محمد بن حيان البستي الشافعي صاحب ((الصحيح)) توفي سنة 354هـ.
[38] ((تهذيب التهذيب)) 4/172 و((الخلاصة)) للخزرجي ص127.
[39] هو أبو عبدالله محمد بن اسحاق بن منده الحافظ المتوفي سنة 396هـ.
[40] ((تهذيب التهذيب)) 4/172.
[41] هو محمد بن عبدالله بن محمد الحاكم النيسابوري صاحب ((المستدرك)) ولد سنة 231 وتفقه على مذهب الشافعي توفي سنة 405.
[42] ((تهذيب التهذيب)) 4/172.
[43] هو محمد بن مخلد بن حفص الامام مسند بغداد، عاش 98 سنة وتوفي سنة 331هـ (انظر ((تذكرة الحفاظ)) 828).
[44] ((تهذيب التهذيب)) 4/172.
[45] هو الامير الحافظ ابو نصر على بن هبة الله مصنف ((الاكمال)) ولد سنة 422 وقتله مماليكه الاتراك سنة 486 وقيل: سنة 475.
[46] ((تهذيب ابن عساكر)) 6/244.
[47] هو الامام الحافظ أبو بكر أحمد بن محمد بن عبدالله بن صدقه البغدادي توفي سنة 292.
[48] ((تهذيب ابن عساكر)) 6/244 و((تهذيب التهذيب)) 4/171.
[49] هو الامام الحافظ مؤرخ الاسلام الناقد محمد بن عثمان الذهبي الشافعي الدمشقي توفي سنة 748هـ.
[50] ((تذكرة الحفاظ)) ص592.
[51] ((طبقات الشافعية)) 2/296.
[52] ((شذرات الذهب)) 2/167.
[53] هو عبدالرحمن بن علي امام مشهور كثير التصنيف توفي سنة 597.
[54] ((المنتظم)) 5/97.
[55] ((تهذيب التهذيب)) 4/172.
[56] ذكر الخطيب البغدادي أن أبا داود قال: صليت على عفان ببغداد سنة 220 وسمعت من أبي عمر الضرير مجلساً واحداً ( ((تاريخ بغداد)) 9/55).
[57] انظر كلامي في فائدة تعدد الاساتذة في مقدمة ((الباعث على الخلاص)) ص92، 93.
[58] ((طبقات الشافعية)) 1/161.(18/79)
[59] ((طبقات الحنابلة)) 1/160 و((المنهج الاحمد)) 1/175.
[60] انظر فصل تعليقات أبي داود في دراستنا هذه.
[61] ((طبقات الحنابلة)) 1/161.
[62] ((تاريخ بغداد)) 9/55 و((الخلاصة)) ص127.
[63] ((طبقات الحفاظ)) 591.
[64] ((طبقات الشافعية)) 2/293.
[65] هو الامام الحافظ أبو جعفر أحمد بن صالح الطبري ثم المصري أحد الاعلام، حديث عن البخاري وأبو داود توفي سنة 248 وانظر ترجمته في ((تذكرة الحفاظ)) 2/495.
[66] ((معجم البلدان)) 3/192 طبعة بيروت سنة 1376هـ – 1957م.
[67] ((طبقات الحنابلة)) 1/162 و((طبقات الشافعية)) 2/293 و((معالم السنن)) 1/10: و((تهذيب ابن عساكر)) 6/244.
[68] ((طبقات الحنابلة)) 1/159.
[69] ((طبقات الحنابلة)) 1/162 ((طبقات الشافعية)) 2/293 و((معالم السنن)) 1/10 و((تهذيب ابن عساكر)) 6/244.
[70] ((الميزان)) 2/433.
[71] ((وفيات الاعيان)) 2/404 و((تهذيب ابن عساكر)) 6/244.
[72] ((تاريخ بغداد)) 9/58 و((المنتظم)) 5/97 و((وفيات الاعيان)) 2/404 و((تهذيب ابن عساكر)) 6/244.
[73] ((تذكرة الحفاظ)) ص591.
[74] ((تهذيب ابن عساكر)) ص 6/44.
[75] وسيمر بنا هذا القول ص238: والحقيقة أن هذه الاحاديث من النصوص الثابتة التي جمعت صنوف الخير وأصول الأحكام واسباب السعادة الدينية والدنيوية.
[76] انظر ((تاريخ التراث العربي)) ص288.
[77] انظر: ((هدية العارفين)) 1/395.
[78] ((تهذيب التهذيب)) 4/170.
[79] ((تهذيب التهذيب)) 4/170.
[80] ((تحذير الخواص)) ص191.
[81] ((هدية العارفين)) 1/295.
[82] ((مختصر علوم الحديث)) لابن كثير ص41.
[83] ((تاريخ التراث العربي)) لسزكين ص417.
[84] ((تاريخ التراث العربي)) لسزكين ص417.
[85] ((فهرس مخطوطات الظاهرية)) للشيخ محمد ناصر الدين الألباني ص161.
[86] ((تاريخ التراث العربي)) ص388.
[87] ((تاريخ التراث)) ص388.
[88] ((فهرس مخطوطات الظاهرية)) ص161.
[89] ((فهرس مخطوطات الظاهرية)) ص161.(18/80)
[90] ((تاريخ التراث العربي)) ص388.
[91] ((فهرس مخطوطات الظاهرية)) ص161.
[92] ((فهرس المخطوطات الظاهرية)) ص161.
[93] ((تهذيب التهذيب)) 4/170.
[94] ((تاريخ التراث العربي)) ص389.
[95] ((تاريخ الادب العربي)) 3/189.
[96] ((تاريخ التراث العربي)) ص388.
[97] ((هدية العارفين)) 1/390.
[98] ((تهذيب التهذيب)) 1/6.
[99] ((هدية العارفين)) 1/390.
[100] ((تقريب التهذيب)) 1/7.
[101] ((تقريب التهذيب)) 1/7.
[102] ((تهذيب التهذيب)) 1/6.
[103] انظر ((رسالة أبي داود)) بتحقيقنا ص22 نشر دار العربية بيروت.
[104] ((رسالة أبي داود)) ص30.
[105] انظر ((ترتيب المدارك للقاضي عياض 1/132 و((الزرقاني على الموطأ)) 1/44 و((الحديث النبوي)) لمحمد الصباغ 17.
[106] ((رسالة المستطرفة)) ص32.
[107] ((الحديث النبوي)) ص199.
[108] ((تاريخ الأدب العربي)) 3/186.
[109] رسالة أبي داود)) ص34.
[110] ((كشف الظنون)) 2/1004 و((طبقات الشافعية)).
[111] ((تهذيب الاسماء واللغات)) للنووي 2/224 وقد سبق أن ورد هذا الخبر ص228 وسيرد ص238.
[112] ((الرسالة المستطرفة)) ص11.
[113] ((معالم السنن)) 1/11.
[114] ((معالم السنن)) 1/13.
[115] ((تهذيب ابن عساكر)) 6/244 ((طبقات الشافعية)) للسبكي.
[116] ((تهذيب الاسماء واللغات)) 2/224.
[117] ((معالم السنن)) 1/12.
[118] ((معالم السنن)) 1/12 – 13.
[119] وهما البخاري ومسلم.
[120] ((معالم السنن)) 1/10 – 11.
[121] ((معالم السنن)) 1/11.
[122] ((البداية والنهاية)) /55 ((وحجة الله البالغة)) وانظر ((قواعد التحديث)) ص322 و((مفتاح السنة))، للخولي ص85.
[123] ((تهذيب ابن القيم)) 1/8.
[124] ((تاريخ بغداد)) 9/55 و((تهذيب التهذيب)) 4/171 و((مختصر سنن أبي داود)) 1/5 و((جامع الاصول)) 1/111.
[125] ((تهذيب الاسماء واللغات)) للنووي 2/224.
[126] انظر خبر ابن داسة فيما يأتي ص238 وقد سبق أن وردت هذه الأحاديث ص228.(18/81)
[127] ((سنن أبي داود)) 1/331.
[128] ((عون المعبود)) 1/343.
[129] انظر ((رسالة أبي دواد)) بتحقيقنا ص13.
[130] ((تاريخ بغداد)) 9/57 ((المنتظم 5/97 ((طبقات السبكي)) 2/293 ((وفيات الاعيان)) 2/404 ((كشف الظنون)) 2/1004 ((مختصر المنذري)) 1/5 ((المنهج الأحمد)) 1/175 ((جامع الاصول)) 1/11.
[131] ((طبقات السبكي)) 2/293.
[132] ((الباعث الحثيث)) ص41.
[133] ((تذكرة الحفاظ)) 3/845.
[134] ((تاريخ بغداد)) 12/451.
[135] ((تاريخ بغداد)) 12/451.
[136] انظر ترجمته في ((طبقات الشافعية 2/12 و((وفيات الأعيان)) و((معجم الادباء)) 1/248.
[137] ومخطوطته موجودة في مصر في دار الكتب المصرية (انظر ((تحفة الاشراف)) 1/4 تعليق رقم 5).
[138] ((عون المعبود)) 4/548.
[139] ((عون المعبود)) 4/548.
[140] ((المنهل العذب المورود)) لمحمود خطاب السبكي 1/19 و((عون المعبود)) 4/547.
[141] ((عون المعبود)) 4/547.
[142] انظر ((تذكرة الحفاظ)) 3/852.
[143] ((المنهل العذب المورود)) 1/19 وهذا الذي سقط هو من نسخته الاصلية في الغالب والله أعلم.
[144] انظر ((تذكرة الحفاظ)) 3/852.
[145] ((عون المعبود)) 4/547.
[146] ((تاريخ بغداد)) 11/382.
[147] ((المنهل العذب)) 1/19.
[148] انظر ص237 من هذا البحث وانظر ((رسالة أبي داود إلى أهل مكة)) ص13 طبع دار العربية بيروت.
[149] لم أجد لهؤلاء الرواة تراجم مفصلة تنقع الغلة، ولعلي أجد ذلك أو شيئاً منه في المستقبل.
[150] لم أجد لهؤلاء الرواة تراجم مفصلة تنقع الغلة، ولعلي أجد ذلك أو شيئاً منه في المستقبل.
[151] لم أجد لهؤلاء الرواة تراجم مفصلة تنقع الغلة، ولعلي أجد ذلك أو شيئاً منه في المستقبل.
[152] لم أجد لهؤلاء الرواة تراجم مفصلة تنقع الغلة، ولعلي أجد ذلك أو شيئاً منه في المستقبل.
[153] لم أجد لهؤلاء الرواة تراجم مفصلة تنقع الغلة، ولعلي أجد ذلك أو شيئاً منه في المستقبل.(18/82)
[154] انظر ((السنن)) 2/362.
[155] انظر كتابي ((الحديث النبوي)) ص216.
[156] ((السنن)) 1/277.
[157] ((السنن)) 1/412.
[158] ((السنن)) 1/356.
[159] انظر ((رسالة أبي داود)) س23.
[160] انظر ((رسالة أبي داود)) ص23.
[161] ((السنن)) 2/248 حتى صفحة ص254.
[162] ((علوم الحديث)) لابن الصلاح من 33، ((تدريب الراوي)) ص96 ((الباعث الحثيث)) ص41، توجيه النظر، ص150.
[163] ((علوم الحديث)) لابن الصلاح ص33.
[164] ((علوم الحديث)) لابن الصلاح ص33.
[165] ((كشف الظنون)) لحاجي خليفة 2/1005.
[166] ((قواعد الحديث)) ص232.
[167] ((طبقات الشافعية)) 2/295.
[168] ((علوم الحديث)) 36 – 37.
[169] ((الباعث الحثيث)) ص42.
[170] ((الباعث الحثيث)) ص29.
[171] وانظر ايضاً كلام الحافظ الذهبي الذي أوردته في ص245.
[172] ((مختصر المنذري)) 1/8 ((علوم الحديث)) 33 ((تدريب الراوي)) 97 ((توجيه النظر)) 150 ((قواعد التحديث)) 331.
[173] انظر ((الميزان)) 4/371.
[174] انظر ((الميزان)) 3/617.
[175] انظر ((سنن أبي داود)) 1/373 – 374.
[176] انظر ((الميزان)) 1/379.
[177] انظر ترجمته في ((الميزان)) 3/249.
[178] انظر ((السنن)) 1/330.
[179] انظر ((ترجمته في الميزان)) 1/435.
[180] انظر ((السنن)) 1/330.
[181] ((علوم الحديث)) 33 – 34 تدريب الراوي 97 ((توجيه النظر)) 150.
[182] ((المنهل العذب المورود)) للشيخ محمود خطاب السبكي 1/18.
[183] انظر ((السنن)) 1/330.
[184] انظر ((السنن)) 1/330.
[185] ((معالم السنن)) 1/11.
[186] انظر كلام ابن الصلاح وابن سيد الناس والعراقي في ((علوم الحديث)) ص34 – 226 و((تدريب الراوي)) ص97 وما بعدها و((توجيه النظر))، ص150 وما بعدها.
[187] وهي ((صحيح البخاري)) و((صحيح مسلم)) و((جامع الترمذي)) و((سنن النسائي)) و((سنن ابن ماجه)).
[188] طبقات الشافعية، 2/293.
[189] انظر مبحث: دراسات عن سنن أبي داود في آخر هذا المقال.(18/83)
[190] والامثلة على ذلك كثيرة لا يفيد حصرها وانظر مثلاً على ذلك الحديث رقم 42 في ((السنن)) 1/41.
[191] انظر ((رسالة أبي داود)) ص23.
[192] انظر كتابي ((الحديث النبوي)): الفني في المعاني ص47 والايجاز ص85.
[193] وكذا الكتب المرتبة على الرجال، أعنى المسانيد فإن التكرار وارد فيها لسبب آخر لا يخفى، وهو أن الحديث الواحد يروى عن أكثر من صحابي.
[194] ((السنن)) 1/34.
[195] ((السنن)) 1/340.
[196] ((السنن)) 1/358.
[197] ((السنن)) 1/29.
[198] ((السنن)) 1/36.
[199] انظر ((رسالة أبي داود))، ص24.
[200] ((السنن)) 1/38.
[201] انظر ((سنن أبي داود)) 1/62.
[202] جاء في ((عان المعبود)) 1/42 الرحبة بفتح الراء وسكون الحاء محلة بالكوفة. كذا في ((القاموس)).
[203] انظر ((سنن أبي داود)) 1/62.
[204] انظر ((سنن أبي داود)) 1/63.
[205] ((السنن)) 1/63.
[206] ((السنن)) 1/44.
[207] ((قواعد التحديث)) ص331.
[208] ((قواعد التحديث)) ص332.
[209] انظر ((السنن)) 1/30 – 31.
[210] انظر ((السنن)) 1/84 – 85.
[211] ((رسالة أبي داود)) ص26.
[212] ((السنن)) 1/33.
[213] ((السنن)) 1/138.
[214] أي عنوان.
[215] ((قواعد التحديث)) ص331.
[216] ((السنن)) 1/400.
[217] ((السنن)) 1/400.
[218] ((السنن)) 1/361.
[219] ((السنن)) 1/377.
[220] ((السنن)) 1/412.
[221] ((السنن)) 1/160.
[222] ((السنن)) 1/237.
[223] ((السنن)) 1/55.
[224] ((السنن)) 1/32.
[225] ((السنن)) 1/141.
[226] انظر ((السنن)) 1/33 – 44 – 78 – 107 – 109.
[227] ((السنن)) 1/290.
[228] ((عون المعبود)) 1/289.
[229] ((السنن)) 1/324.
[230] ((السنن)) 1/322.
[231] ((السنن)) 1/354.
[232] ((السنن)) 1/38.
[233] ((السنن)) 1/384.
[234] ((السنن)) 3/12.
[235] ((السنن)) 3/25.
[236] ((السنن)) 1/253.
[237] ((السنن)) 1/340.
[238] ((السنن)) 1/31.
[239] ((السنن)) 1/252.
[240] ((السنن)) 1/253.(18/84)
[241] ((السنن)) 3/23.
[242] ((السنن)) 1/363.
[243] ((السنن)) 1/48.
[244] ((السنن)) 1/325.
[245] ((السنن)) 1/32.
[246] ((السنن)) 3/467.
[247] ((السنن)) 1/280 – 281.
[248] ((السنن)) 1/263.
[249] ((السنن)) 1/263.
[250] ((السنن)) 1/34.
[251] ((السنن)) 1/68.
[252] ((السنن)) 1/237.
[253] ((السنن)) 2/273.
[254] ((السنن)) 1/79.
[255] ((السنن)) 1/361 – 362.
[256] ((السنن)) 1/91 – 92.
[257] ((السنن)) 1/342.
[258] ((السنن)) 1/77.
[259] ((السنن)) 1/77.
[260] ((الحديث النبوي)) ص192.
[261] ((السنن)) 1/56.
[262] ((السنن)) 1/76.
[263] ((السنن)) 1/319.
[264] ((السنن)) 1/32.
[265] ((السنن)) 1/380.
[266] ((السنن)) 1/370 قال في ((عون المعبود)) 1/392: أشبع أي وأكمل.
[267] ((السنن)) 1/42.
[268] ((السنن)) 1/48.
[269] ((السنن)) 1/324.
[270] ((السنن)) 1/373 – 374.
[271] ((السنن)) 1/49 – 50.
[272] ((السنن)) 1/40.
[273] ((السنن)) 1/331.
[274] ((السنن)) 1/332.
[275] ((السنن)) 1/332.
[276] ((السنن)) 3/14.
[277] وقد طبع هذا الكتاب بمطبعة البهاء بحلب سنة 1329هـ بمجلدين.
[278] ((السنن)) 1/68.
[279] ((السنن)) 1/71.
[280] ((السنن)) 1/343.
[281] ((السنن)) 3/458.
[282] ((السنن)) 3/449.
[283] ((السنن)) 1/252.
[284] ((السنن)) 1/168.
[285] ((السنن)) 4/273.
[286] جاء في ((عون المعبود)) 4/323 قال النووي: أجمع العلماء على أن جناية البهائم لا ضمان فيها، فإن كان معها راكب أو سائق أو قائد فجمهور العلماء على ضمان ما اتلفته وأما إذا أتلفت ليلاً فقال مالك: يضمن صاحبها ما أتلفته وقال الشافعي وأصحابه يضمن أن فرط في حفظها وإلا فلا.
[287] ((السنن)) 1/78.
[288] ((السنن)) 1/373.
[289] ((السنن)) 1/397.
[290] ((السنن)) 1/75.
[291] ((السنن)) 1/57.
[292] ((السنن)) 1/323.
[293] ((السنن)) 1/118.
[294] ((السنن)) 1/144.(18/85)
[295] ((السنن)) 1/299.
[296] ((السنن)) 1/61.
[297] ((السنن)) 1/268 وهذا شبيه بالأصل الذي يقولون أن الإمام مالكاً يأخذ به وهو عمل أهل المدينة.
[298] أي الراوي.
[299] أي لم يكره كما في ((عون المعبود))، 1/112.
[300] ((السنن)) 1/37.
[301] ((السنن)) 1/381.
[302] ((السنن)) 1/353.
[303] ((عون المعبود)) 1/369 – 370.
[304] انظر ((مقدمة محيي الدين عبدالحميد)) ص19.
[305] انظر ((تاريخ الأدب العربي)) 3/187.
[306] ((عون المعبود)) 4/549.
[307] ((مختصر المنذري)) 1/13.
[308] ((السنن)) 1/284.
[309] ((كشف الظنون)) 1/1004.
[310] ((تاريخ التراث)) 1/385.
[311] ((تاريخ التراث)) 1/386.
[312] ((كشف الظنون)) 2/1004.
[313] ((كشف الظنون)) 2/1004.
[314] ((كشف الظنون)) 2/1004.
[315] ((كشف الظنون)) 2/1004.
[316] تاريخ التراث 1/386.
[317] ((عون المعبود)) 4/544 – 545.
[318] ((عون المعبود)) 4/549.
[319] ((كشف الظنون)) 2/1004.
[320] ((مفتاح السنة)) ص86.
[321] ((تاريخ التراث)) ص387.
[322] ((تاريخ الادب العربي)) 3/188.
[323] انظر ((تاريخ التراث)) 1/424 و((تاريخ الادب العربي)) 3/197.
[324] ((مختصر صحيح مسلم)) 1/5.
[325] ((مختصر المنذري)) 1/74.
[326] ((تهذيب ابن القيم)) 1/9.
[327] ((عون المعبود)) 4/545.
[328] أي النسائي والترمذي وابن ماجه.
[329] ((تاريخ الأدب)) 3/188.
[330] أنظر ((حديثاً عن هذه الطبعة عن كلامنا على معالم السنن للخطابي.
[331] ((تاريخ التراث)) لسزكين ص387.
[332] ((تهذيب ابن القيم)) 1/9 – 10.
[333] ((تاريخ التراث)) لسزكين ص388.
[334] أي عن السنن، أما الدراسات عن أبي داود فليس هذا مجالها ويحسن أن نذكر أن الجلودي ألف كتاباً في أخبار أبي داود.
[335] انظر ترجمته في ((تذكرة الحفاظ)) 2/709.
[336] ((تاريخ الأدب العربي)) لبروكلمان 3/186.
[337] ((تاريخ التراث)) لسزكين ص388.
[338] ((كشف الظنون)) 2/1004.(18/86)
العنوان: أبيات: ((ولما قضينا من منى كل حاجة...)) بين النقد العربي القديم والحديث
رقم المقالة: 453
صاحب المقالة: د. عبدالرحمن بن محمد القعود
-----------------------------------------
مقدمة:
لفت انتباهي في التراث الأدبي والنقدي القديم كثرةُ تناول النقاد أبياتَ كُثَير المشهورة:
ولما قضينا من منى كل حاجةٍ ومسَّح بالأركان من هو ماسحُ
وشُدَّتْ على حُدْب المهارى رحالنا ولم ينظر الغادي الذي هو رائح
أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا وسالت بأعناق المطيّ الأباطح
لقد شغلتهم الأبيات، وأفرزت ما يشبه الجدل النقدي بينهم. جُلّهم مجمعون على جمالها، لكنهم يختلفون في تقويم هذا الجمال وفي مصدره أو سببه. بعبارة أخرى وربما أدق، بعضهم يرى أنها جميلة من ناحية الألفاظ في حين قصَّر معناها عن درجة هذا الجمال اللفظي، بينما يرى بعض ثانِ أن وراء جمال ألفاظها معاني جديرة بهذه الألفاظ الجميلة التي عبرت عنها، في حين يرى ثالث أن سر هذا الجمال إنما هو في ((النظم)) اللفظ والمعنى معاً، ملتحمين أحدهما بالآخر. فالقضية إذن تدور غير بعيدة عن إطار اللفظ والمعنى عند النقاد مفصولين أحدهما عن الآخر منتصراً لأحدهما على الآخر من ناحية، أو متلاحمين أحدهما مع الآخر من ناحية أخرى. وكما شغلت هذه الأبيات النقاد العرب القدماء واقتطعت لها مساحة غير صغيرة في خريطة النقد العربي القديم، تناولها غير واحد من النقاد المعاصرين في ظروف نقدية مختلفة، وبوجهات نظر نقدية لا يخلو أقلها من تميز، أما أكثرها فيعد امتداداً أو تنويعاً لما قاله الأقدمون. لقد تكونت من هؤلاء وهؤلاء مادة مغرية بالبحث والتتبع والدراسة والمقارنة. والهدف أن نقف على توجهات هؤلاء النقاد من خلال مواقفهم نحو الأبيات، وأن نتعرف الأدوات النقدية التي كانوا يشتغلون بها وأيها أكثر عطاء، وأبلغ فعلاً، وأين يقف نقدنا المعاصر من نقدنا القديم ؟ وكيف ؟(19/1)
من هنا تبدت لي جدوى أن أنهض بهذا العمل في فصلين رئيسين، يتناول أولهما نظرة النقاد القدماء إلى الأبيات ويتناول الثاني تناول المعاصرين. ولأن القدماء أرجعوا جمال الأبيات إما إلى الألفاظ وحدها، وإما إلى المعاني التي وراء الألفاظ، وإما إلى اللفظ والمعنى معاً. فقد قسمنا الفصل الأول تبعاً لهذا.
ولا نعتقد أن رواية الأبيات وتوثيق نسبتها تهمنا كثيراً في هذا المجال فما يهمنا هو النقد المحيط بهذه الأبيات وما كان له من توجهات. ومع هذا ولتوسيع دائرة المعرفة حول أبيات كُثير نحب أن نوضح أن الأبيات رُويت إما غير منسوبة إلى قائل معين وإما مختلفة النسبة، رواها غير منسوبة ابن الأثير في المثل السائر (جـ2 ص66) وأبو هلال العسكري في كتاب الصناعتين (ص73) وابن طباطبا في عيار العشر (ص84) والباقلاني في إعجاز القرآن (ص221- 222) والجرجاني عبدالقاهر في أسرار البلاغة (ص16) وابن قتيبة في الشعر والشعراء (ج1 ص66) وابن جني في الخصائص (ج1 ص28) والقلقشندي في صبح الأعشى (جـ2 ص211) وياقوت الحموي في معجم البلدان في ((باب الميم والنون وما يليهما)) والقالي البغدادي في كتاب ذيل الأمالي والنوادر (ص166) وأحمد بن الحسين السراج في مصارع العشاق (مجلد 2 ص211) والربعي في كتاب نظام الغريب (ص136) وابن منظور في لسان العرب ((مادة طرف)) والزبيدي في تاج العروس ((فصل الطاء من باب الفاء)) ورواية هؤلاء اقتصرت على الأبيات الثلاثة التي ذكرناها في البداية أو الأول والثالث منها أو الثالث فقط كما فعل صاحب تاج العروس ربما لأن فيه الشاهد الذي يطلبه. أما روايتها منسوبة فالقاضي الجرجاني في الوساطة (ص34- 35) يروي منها البيت الأخير فقط وينسبه إلى ابن الطثرية. وربما اكتفى القاضي بالبيت الأخير لاستشهاده بما فيه من استعارة كان يتحدث عنها. والشريف المرتضى علي بن الحسين في أماليه (غرر الفوائد ودرر القلائد) (ص457- 458) ينسبها إلى المضرَّب: عقبة بن(19/2)
كعب بن زهير بن أبي سلمى، ويرويها ضمن أبيات أخرى على هذه النحو:
وما زلت أرجو نفع سلمى وودها وتبعدُ حتى ابيضَّ مني المسائح[1]
وحتى رأيت الشخص يزداد مثله إليه؛ وحتى نصف رأسي واضح
علا حاجبَيَّ الشيب حتى كأنه ظباء جرت منها سنيح وبارح
وهَزَّة أظعان عليهن بهجة طلبتُ، وريعان الصبا بي جامح
فلما قضينا من منى كل حاجة ومسح بالأركان من هو ماسح
أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا وسالت بأعناق المطي الأباطح
وشُدتْ على حدب المهاري رحالنا ولا ينظر الغادي الذي هو رائح
قفلنا على الخوص المراسيل وارتمت بهن الصحاري والصفاح الصحاصح[2]
أما العباسي صاحب ((معاهد التنصيص)) (ص134)، فقد نسب ثلاثة الأبيات المشهورة إلى كثير عزة. وذكر أنها نسبت أيضاً إلى ابن الطثرية، كما نقل عن أمالي المرتضى الأبيات الثمانية التي ذكرناها، وذكر أن المرتضى نسبها إلى المُضرب. وأما القيرواني في الجزء الأول من ((زهر الآداب)) (ص404- 405) فينسب الأبيات إلى كُثير ويرويها هكذا:
ولما قضينا من منى كل حاجة ومسح بالأركان من هو ماسحُ
وشُدَّتْ على حُدْب المطايا رحالنا ولا يعلم الغادي الذي هو رائح
أخذنا بأطراف الأحاديث واشتفت بذاك صدور مُنْضَجَات قرائح
ولم نخش ريب الدهر في كل حالة ولا راعنا منه سنيح وبارح
وفي هذه الرواية الأخيرة تظهر وحدة الأبيات النفسية والأسلوبية، كما يظهر انسجامها بعضها مع بعض أكثر مما هي عليه في روايتهما ثمانية كما مر.
ولا نعتقد أن في نسبة الأبيات إلى كثير أو غيره ما يسبب أو يستدعي تحولاً في مسار البحث، فسيبقى كما هو سواء تحققنا من قائل الأبيات أو افترضنا مجهوليَّته. مع هذا سننسبها إلى كثير انتهاجاً للأشهر، ثم لأنها – كما يبدو – تلتقى مع أسلوبه الشعري.
الفصل الأول: في النقد القديم
أولاً: جمال في اللفظ (الشكل).(19/3)
(1) تظهر أول إشارة نقدية لهذه الأبيات – حسب علمي – عند ابن قتيبة (ت276) في الجزء الأول من كتابه ((الشعر والشعراء)) والأبيات وردت شاهداً على أحد أضرب الشعر الأربعة التي اهتدى إليها بعد تدبر منه – كما يقول – لهذا الفن: ((تدبرت الشعر فوجدته أربعة أضرب))[3] وهذا النوع الذي استشهد عليه بهذه الأبيات (ولما قضينا) هو ما ((حسن لفظه وحلا، فإذا أنت فتشته لم تجد هناك فائدة في المعنى))[4]. وبعد أن يورد الأبيات يعلق عليها أو ينقدها بقوله: ((هذه الألفاظ كما ترى، أحسن شيء مخارج ومطالع ومقاطع، وإن نظرت إلى ما تحتها من المعنى وجدته: ولما قطعنا أيام منى، واستلمنا الأركان، وعالينا إبلنا الأنضاء، ومضى الناس، لا ينتظر الغادي الرائح، ابتدأنا في الحديث، وسارت المطيُّ في الأبطح))[5].
فابن قتيبة يقر لهذه الأبيات بحسن اللفظ وحلاوته، وبأن هذا الحسن شمل حتى مخارج حروفها وحتى مطالعها ومقاطعها[6]. بتعبير آخر، يرى ابن قتيبة أن هذه الأبيات بلغت ما يمكن أن نعبر عنه بالجمال المطلق للصياغة اللفظية، غير أن ذلك – في رأيه – لم يكتمل لسبب واحد هو أنها لا تشي له بأي معنى أو بمعنى واضح مفيد على الأقل.(19/4)
وهنا نقف مضطرين عند قضيتين نقديتين لا مفر من الوقوف عندهما والتحاور مع ابن قتيبة فيهما: أولاهما قضية اللفظ والمعنى، أو الشكل والمضمون – حسب المصطلح النقدي الحديث – بوصفهما عنصرين متكاملين ومتلاحمين في النص لا ينبغي الفصل بينهما عند تحليله ودراسته ونقده اللهم إلا في بعض الدراسات النقدية التي تهدف إلى تعرُّف ما بين هذين العنصرين من صلة أو ترابط تعبيريي وشيج، أو توضيح خصائص أحدهما، أما خلاف هذا فإن قيمة النص الجمالية تقضي بأن تتداخل عناصره وألا تتزايل لحساب قيمة أخرى ولو فكرية، وإلا انطمست شعريته وامحت ملامح جماله مثله مثل العينين الجميلتين تخسران جمالهما إذا نظر إليهما منفردة إحداهما عن الأخرى. فحتى لا يتشرذم النص وتتفتت وحدته التي نفضل أن نراه عليها جسداً واحداً وكلاً متكاملاً ينبغي أن نتعامل مع اللفظ والمعنى على أنهما ذلك الكل الذي لا يتجزأ وغير أننا من هذا المنطلق أو المرصد نرى ابن قتيبة انزلق إلى ما ينبغي الحذر من الوقوع فيه وهو الفصل بين الشكل والمضمون، ليس بسبب هذا القسم من الشعر الذي تناول فيه ((ولما قضينا من منى كل حاجة...)) وإنما بسبب التقسيم نفسه؛ فقد أدار هذا التقسيم حول محوري المعنى واللفظ رداءة وجودة، أو رداءة بأحدهما وجودة في الآخر. ومن الواضح أن هذا التقسيم تقريري صارم يقدم اللفظ والمعنى وحدهما – بل ومفصولين أحدهما عن الآخر – معياراً نقدياً أو حد للشعر، ولو قبلنا لكانت جناية منا على النص والشعر معاً. نعم، المعنى واللفظ بوصفهما عنصرين متلاحمين، واحد من المعايير النقدية ولكنهما ليسا الوحيدين.
ولم يبد من ابن قتيبة تمييز لواحد من هذين المحورين أو انتصار لأحدهما على الآخر. ولم يَسْتَيِنْ سواء من خلال تقسيمه الشعرَ أو في ثنايا مقدمته لكتابه (الشعر والشعراء) ميله، أهو إلى جانب المعنى أم إلى جانب اللفظ ؟(19/5)
فما أرجحه أنه سوى بينهما[7]. ودليل آخر نستنتجه استنتاجاً على مذهب التسوية هو أن ابن قتيبة لو كان يميل إلى جانب اللفظ لأورد الأبيات وغيرها مما استشهد به في موضعه – من طريق البرهنة والتدليل المشوبة بالإِشادة والإِعجاب كما صنع أبو هلال العسكري وهو يحاول إقناعنا بسلامة موقفه المنتصر للألفاظ[8]، ولو كان ينتصر للمعنى ويهتم به أكثر من اللفظ – كما يرى محمد مصطفى هدارة[9] – لاجتهد في أن يكشف للأبيات عن معنى لائق بحلاوة ألفاظها من ناحية، ويعزز به موقفه من ناحية أخرى، كما فعل ابن جني في استحلاب معانٍ للأبيات يدعم بها قوله بأهمية المعنى وأحقيته بخدمة اللفظ له. لهذا وذاك فإني مطمئن إلى القول بتسوية ابن قتيبة بين اللفظ والمعنى، ولا فيما يذهب إليه من أنه (ابن قتيبة) ((يريد أن يجعل بين اللفظ والمعنى علاقة قوية وارتباطاً وثيقاً لخلق العمل الفني الجميل))[10]، فلم تظهر لنا هذه الإِرادة أو العلاقة القوية التي أراد ابن قتيبة أن يجعلها بين اللفظ والمعنى، لم تظهر لا في أقسام الشعر عنده ولا في طبيعة تعليقه على الأشعار التي استشهد بها. وإذا نظرنا فيما يدعم به هدارة رأيه بأنّ ابن قتيبة يهتم بالمعنى أكثر من اهتمامه باللفظ وجدناه يقول: "ودليلنا على اهتمام ابن قتيبة بالمعنى أكثر من اهتمامه باللفظ أنه يجعل من المسلمات ضرورة حمل البيت لمعنى من المعاني"[11].(19/6)
لكني لا أعتقد أن التسليم بضرورة حمل الشعر معنىً ما يعني التسليم بأهمية المعنى مقابل اللفظ؛ فالشعر لابد أن يحمل معنى في إطار الدائرة الواسعة والشمولية التي ترسمها للمعنى الشعري سواء كان هذا المعنى جيداً أم مقارباً، واضحاً أم غامضاً، وإلا عُد كلاماً فارغاً بله أن يكون شعراً. وما يبدو هو أن قضية اللفظ والمعنى واختلافهم حولها لم تنطلق من هذا المفهوم، وإنما من تساؤل عن مدار بلاغة القول، وعن سر ما يعجبهم ويسحرهم ويطربهم منه، أهو الألفاظ ؟ أم المعاني ؟ فمن هذا التساؤل عن سر جمال المبدَع شعراً كان أم نثراً انطلقوا مفكرين مختلفين فبعض يرى أنه في الألفاظ وجمالها وحلاوتها، وبعض يرى أنه في المعنى بشرفه وصحته وإصابته إلى أن جاء عبدالقاهر الجرجاني فحسم القضية بنظرية النظم التي جعلت من عنصري المعنى واللفظ كلاً متكاملاً ومتلاحماً هو الذي جعل بين اللفظ والمعنى علاقة قوية وارتباطاً وثيقاً لخلق العمل الفني الجميل.
أما أخرى القضيتين التي أراني مضطراً للوقوف عندها فهي المعنى نفسه: هويته، ومفهومه عند ابن قتيبة صحيح أن الرجل لم ينته – بشكل واضح ومحدد – إلى مفهوم للمعنى الشعري سواء بالتحليل أو التنظير، ولكنا نستطيع أن نستبين ما يدور حوله هذا المفهوم من خلال طبيعة الأبيات التي استشهد بها على أقسام الشعر التي قسمه إليها وخاصة قسم ((ما حسن لفظه وجاد معناه)) وقسم ((ما جاد معناه وقصرت ألفاظه)) فللقسم الأول استشهد بهذه الأبيات[12].
في كفه خيزران ريحه عبق من كف أروع في عرنينه شمم
يُغضِي حياء ويُغضَى من مهابته فما يكلم إلا حين يبتسم
ثم علق بقوله: ((لم يُقَل في الهيبة شي أحسن منه)).
وقول أوس بن حجر:
أيتها النفس أجملي جزعاً إن الذي تحذرين قد وقعا
ثم يعلق عليه بقوله: ((لم يبتدئ أحد مرثية بأحسن من هذا)).
وقول أبي ذؤيب:
والنفس راغبة إذا رغبتها وإذا تُرد إلى قليل تقنع(19/7)
ثم يعلق قائلاً: ((حدثني الرياشي عن الأصمعي، قال: هذا أبدع بيت قاله العرب)).
وقول حميد بن ثور:
أرى بصري قد رابني بعد صحة وحسبك داءً أن تصح وتسلما
ويعلق: ((ولم يُقل في الكِبرَ شيء أحسن منه)).
وأخيراً بقول النابغة:
كليني لِهمٍّ يا أميمة ناصب وليلٍ أقاسيه بطيء الكواكب
ثم يعلق عليه بقوله: ((لم يبتدئ أحد من المتقدمين بأحسن منه ولا أغرب)).
أما للقسم الآخر ((ما جاد معناه وقصُرت ألفاظه)) فقد استشهد بقول لبيد بن ربيعة)).
ما عاتب المرءَ الكريم كنفسه والمرء يصلحه الجليس الصالح
ثم يعلق بقوله: ((هذا وإن كان جيد المعنى والسبك، فإنه قليل الماء والرونق)).
ويقول النابغة للنعمان:
خطاطيف حجنٌ في حبال متينة تُمد بها أيد إليك نوازع
ثم يعقب أو يعلق قائلاً: ((قال أبو محمد – يعني نفسه -: رأيت علماءنا يستجيدون معناه، ولست أرى ألفاظه جياداً ولا مبينة لمعناه لأنه أراد: أنت في قدرتك على كخطاطيف عقُف يُمدُّ بها، وأنا كدلو تُمد بتلك الخطاطيف، وعلى أني أيضاً لست أرى المعنى جيداً)).
وأخيراً يستشهد بقول الفرزدق:
والشيب ينهض في الشباب كأنه ليل يصيح بجانبيه نهار(19/8)
هذه وتلك كانت شواهد أبي محمد. وقد نقلناها هي وتعليقاته عليها لنبين أنه لم يضع أيدينا من خلال هذه التعليقات على مفهوم واضح تماماً للمعنى في الشعر، لكنا نستطيع من طبيعة هذه الشواهد نفسها أن نستدل على دائرة هذا المفهوم عنده، بل على موقفه من المعنى والكيفية أو الدرجة التي ينبغي أن يبرز الشاعر هذا المعنى عليها، فمن طبيعة هذه الشواهد يبدو أن ابن قتيبة في مفهومه أو تأطيره للمعنى الشعري لا يذهب بعيداً عن حدود الخبر، والفكرة، والمعلومة أيضاً كانت هويتها، والحكمة، والموعظة، والقيمة الخُلقية، والمعنى المشترك المتداول ذي المنحى أو المغزى الاجتماعي، وإذا كان هذا هو ما تدلنا عليه أو على بعضه شواهد الشعر التي أوردها، فإنه أو نحوه هو ما يراه عدد من الدارسين المعاصرين[13]، وهو ما اتفق معهم عليه بعد استقرائي شواهد ابن قتيبة الشعرية، بل إنه ذكر هذا في مقدمته قائلاً: "وكان حق هذا الكتاب أن أودعه الأخبار عن جلالة قدر الشعر وعظيم خطره، وعمن رفعه الله بالمديح، وعمن وضعه بالهجاء وعما أودعته العرب من الأخبار النافعة، والأنساب الصحاح، والحكم المضارعة لحكم الفلاسفة، والعلوم في الخيل، والنجوم وأنوائها والاهتداء بها، والرياح وما كان منها مبشراً أو جائلاً، والبروق وما كان منها خُلَّباً أو صادقاً، والسحاب وما كان منه جهاماً أو ماطراً، وعما يبعث منه البخيلَ على السماح، والجبانَ على اللقاء، والدني على السمو"[14].(19/9)
فمقياس جودة المعنى الشعري – إذاً – عنده. هو أن يكون الشعر مفيداً أي أن يحمل معلومة ما في التاريخ أو الأنساب أو الأخلاق أو النجوم والأرصاد الجوية ونحوه، غير أننا نضيف شيئاً آخر يبدو أنه يدخل في إطار مفهوم ابن قتيبة للمعنى وهو تطلبه الوضوح في المعنى الشعري بدليل ما انتقاه من أمثلة وشواهد شعرية تدل على أنه يريد أن يضع يده على معنى واضح يتأثر ويسترشد ويتعظ به ويستفيد من حكميَّته. لابد من وضوح الفكرة في النص الشعري إلى درجة التجسد في حكمة تجريبية أو في معنى ذي منحى خلقي أو اجتماعي وإلا خلا معناه من الفائدة عند ابن قتيبة مثل شواهد أوردها في أحد أقسام الشعر التي قسمه إليها وهو ما ((حسن لفظه وحلا، فإذا أنت فتشته لم تجد هناك فائدة في المعنى)) مثل أبيات ((ولما قضينا.....)) نفسها، فهي أبيات إيحائية أكثر منها تقريرية تسجل معنى مفيداً. ومثل قول المعلوط[15]:
إن الذين غدو بلبك غادروا وشلاً بعينك ما يزال معيناً
غَيَّضن من عبراتهن وقُلْنَ لي ماذا لقيتَ من الهوى ولقينا ؟!
فالشطر الأخير من البيت الثاني وبتساؤله الواسع الفضفاض يُخفي الكثير من المعاني، ولكن ابن قتيبة يريدها ليس بينه وبينها حجاب. ثم مثل قول جرير[16]:
يا أخت ناجية السلام عليكم قبل الرحيل وقبل يوم العُدَّلِ
لو كنت أعلم أنّ آخر عهدكم يوم الرحيل فعلت مالم أفعل
فقوله ((فعلت مالم أفعل)) تعبير موحٍ يتحرش بالمتلقي كما هو محرض على التأمل ومحرك للفكر باحتمالاته الدلالية المتعددة، ولكن ابن قتيبة – كما قلنا – ينحو إلى الوضوح بكل ألوانه كأنما بيِّنة ظاهرة يُصدر في ضوئها حكمه، ومما يعزز ما ذهبتُ إليه تعليق له على أحد الأبيات الشواهد، وهو قول النابغة:
خطاطيف حجنٌ في حبال متينة تَمُدّ بها أيدٍ إليك نوازع(19/10)
فقد علق بقوله: ((رأيت علماءنا يستجيدون معناه، ولست أرى ألفاظه جياداً ولا مبينة لمعناه، لأنه أراد: أنت في قدرتك على كخطاطيف عقف يُمد بها، وأنا كدلو تمد بتلك الخطاطيف))[17].
فهو يرى المعنى غامضاً عجزتْ ألفاظه عن أن توضح معناه، ولهذا فهي – عنده – ليست جياداً.
اتضح الآن مفهوم المعنى الشعري عند ابن قتيبة، وكيف كان يتوجه به، غير أن هذا المفهوم وهذا التوجه ضيَّقا من دائرة المعنى الشعري؛ فقد حُصر في مجالات لا تنسجم – مُوَصَّلةً بطريقة ابن قتيبة – وطريقة في الخطاب متميزة. لقد أخرج هذا التضييق وهذا الحصر من مفهوم المعنى الشعري ما يمكن أن نسميه بالتعبيرية والتصويرية أي التعبير الموحي عن الشاعر، والتصوير – وإن كان خاطفاً رامزاً – للحس والوجدان بما يمكن أن يُحس ويُتذوق فقط لا أن يُمعنى (بضم الياء) ولا نقصد بهذه العبارة ((لا أن يُمعنى)) استحالة شرح النص واستخراج معناه، وإنما نقصد أن الإِصرار على تضمنه أو تضمينه معاني أو أفكاراً لا مشاعر أو إحساسات يعني تفريغه من شعريته، لذلك كله بدت نظرة ابن قتيبة إلى الأبيات نظرة ضيقة لا تتسع للأبعاد النفسية في النص، ولا لاستشرافه واستحلاب تعبيراته الإِيحائية، وهي توجهات تثري النقد وتعين الناقد، لكن ابن قتيبة لايبدو مقتنعاً بهذه التوجيهات أو مدركاً لها لا في النقد ولا في الشعر، ولهذا كان نفيه للأبيات من الدائرة التي رسمها للمعنى المفيد. ونقول المفيد لأن أبا محمد لا ينكر أن هذه الأبيات تحمل معنى، ولكنه معنى لا فائدة ((ملموسة)) فيه. ويبدو أن ابن قتيبة هو ممن يرون الشعر للفائدة والمتعة معاً، ولا يقبل لهاتين أن تنفصلا أو تتخلف إحداهما عن الأخرى. لقد امتدح أبو محمد حلاوة ألفاظ هذه الأبيات وحسنها وحسن صياغتها ولكن هل استمتع بها؟ ربما، ولكن ما نرجحه هو أن عدم إدراكه لمعنى مفيد ونافع فيها قد قلل من استمتاعه بما كان أشاد به فيها من ألفاظ حلوة وصياغة حسنة. ولقد(19/11)
قلت من قبل؛ إن تعمد تحويل النص الشعري إلى معان أو أفكار فقط يعني تفريغه من شعريته، وإذا فرغ الشعر من الشعر خلت القلوب والأنفس والأخيلة من أي استمتاع به. وابن قتيبة قد أفسد على نفسه اكتمال المتعة بهذه الأبيات مرتين: مرة حين ألحّ على طلب فكرة أو معنى متجسد وراءها، ومرة أخرى حين سطح معانيها تماماً بهذا اللون من الشرح أو النثر الذي لا رواء فيه ولا ضياء، أو ((بهذه العبارات المنطفئة)) كما يقول وليد قصاب[18]. ولو كان ((كُثير)) يريد أن يقول كما نثر ابن قتيبة تماماً فما حاجته إلى أن يقوله شعراً؟ كُثيِّر أراد أن يُعبر، أراد أن يقول شعراً لا كلاماً، أراد أن يوصل مشاعر لا أفكاراً وأراد أن يمتع سواء صحب هذه المتعة منفعة حكمية أم لا، ثم إنه في المتعة الفنية فائدة ومنفعة بشكل ما. وما دمنا في مجال الحديث عن فائدة الشعر ومعناه فإننا نعتقد أن ابن عبد ربه في تمثيله للشعر عديم المعنى والفائدة يقول القائل[19]:
الليل ليل، والنهار نهار والأرض فيها الماء والأشجار
كان موفقاً في محاولته أكثر مما فعل ابن قتيبة، ومع هذا فإننا نتحفظ تجاه حكم ابن عبد ربه لأنه ربما كان هذا البيت منزوعاً من أبيات أخرى تضفي عليه بسياقها معنى ذا فائدة.
وقبل أن أصل بالحديث عن رؤية ابن قتيبة تجاه ((ولما قضينا)) إلى نهايته أحب أن أسجل أن رؤيته إلى الأبيات تبدو مختلفة مع موقفين له أحدهما نظري والآخر تطبيقي. أما النظري فهو ما ذكره في مقدمة (الشعر والشعراء) من أن من الشعر ما يبعث البخيل على السماح، والجبان على اللقاء، والدنيَّ على السمو، وما نفهمه من هذا هو أن للشعر قيمة أو وظيفة أخرى غير الفائدة وهي التأثير مالم يكن ابن قتيبة أراد من قوله هذا أن الشعر يحفز إلى القيم والمعاني الأخلاقية بوجه خاص مثل الكرم والشجاعة والنبل ولم يرد التأثير بمفهومه الشامل. أما التطبيقي فهو تضمين شواهده الشعرية أبياتاً تقوم على الصورة مثل قول الفرزدق:(19/12)
والليل ينهض في الشباب كأنه ليل يصيح بجانبيه نهار
ومثل قول النابغة:
كِليني لِهَمٍّ يا أميمة ناصب وليلٍ أقاسيه بطيء الكواكب
بل إن استشهاده ببيت النابغة هذا ونعته بالأحسن والأغرب يكاد يشير إلى أن الصورة المحشوة بالانفعالات النفسية، أي تداخل الواقع النفسي واتحاده مع الواقع الخارجي – هي من أجَل المعاني الشعرية عنده. وعلى هذا هل نعود فنقول إن مقياس جودة المعنى الشعري عند ابن قتيبة ليس أن يكون الشعر مفيداً فحسب وإنما أن يكون مفيداً بما فيه من حكمة أو معلومة أو معنى أخلاقي، أو مؤثراً بما فيه من صور فنية أو تصوير للمشاعر ؟ ولكن أبيات كُثير تنهض على التصوير الفني والتصوير الشعوري معاً ولم تعجب ابن قتيبة معنوياً، فلماذا ؟ والجواب هو – مرة أخرى – أن أبا محمد يطلب الفكرة والمعنى الواضحين المتجسدين سواء بالتقرير أو بالصورة. في بيت الفرزدق تبرز فكرة الكبر واضحة ومجسدة، وفي بيت النابغة تبرز فكرة الهَمِّ المؤرق. أما أبيات كثير فإنها لا توضح أو تجسد فكرة أو معنى محددين وإنما هي إيحائية مؤثرة ولكن نفسياً. ولهذا خلت في رأي ابن قتيبة من أي معنى مفيد.
(2) وابن طباطبا (ت322هـ) له – أيضاً – رؤية نقدية تجاه أبيات كُثير هذه، غير أن هذه الرؤية – وإن كان فيها شيء من التميز – لا تخرج عن إطار رؤية ابن قتيبة. ذلك لأن ابن طباطبا قسم الشعر كما قسمه ابن قتيبة، ثم صنف هذه الأبيات في قسم يقابل القسم الذي صنفها ابن قتيبة فيه، وهو ((الشعر الحسن اللفظ الواهي المعنى)) يقول ابن طباطبا تحت هذا القسم: "ومن الأبيات الحسنة الألفاظ المستعذبة الرائقة سماعاً، الواهية تحصيلاً ومعنى، وإنما يستحسن منها اتفاق الحالات التي وضعت فيها، وتذكُّر اللذات بمعانيها، والعبارة عما كان في الضمير منها، وحكايات ما جرى من حقائقها دون نسج الشعر وجودته، وإحكام رصفه وإتقان معناه".(19/13)
ثم شرع في سرد الأبيات الشواهد على ما قال ومنها الأبيات الثلاثة المشهورة[20]:
ولما قضينا من منى كل حاجة ومسَّح بالأركان من هو ماسحُ
وشُدّت على حُدب المهاري رحالنا ولم ينظر الغادي الذي هو رائح
أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا وسالت بأعناق المطي الأباطح
وعلى هذا فابن طباطبا معجب بهذه الأبيات من حيث هي حسنة الألفاظ مستعذبة رائقة، لكن إعجابه لا يستمر ليشمل المعنى لأنه في رأيه واهٍ يفتقر إلى قوة الفائدة والمنفعة. ومن هنا حكمت على رؤيته النقدية لهذه الأبيات بأنها لا تخرج عن إطار رؤية سلفه ابن قتيبة، ولا أتفق مع محمد زغلول سلام فيما ذهب إليه من أن ابن طباطبا رفض ما ادعاه ابن قتيبة من أن قول الشاعر ((ولما قضينا...)) من الشعر الحسن اللفظ الواهي المعنى[21]؛ ذلك لأن ابن طباطبا حين أورد بعض الشواهد تحت قسم ((الشعر الحسن اللفظ الواهي المعنى)) علق عليها قائلاً: ((فالمستحسن من هذه الأبيات حقائق معانيها الواقعة لأصحابها الواصفين لها دون صنعة الشعر وأحكامه))[22].
وحين أورد أبيات كثير علق عليها قائلاً: ((هذا الشعر هو استشعار قائله لفرحة قفوله إلى بلده وسروره بالحاجة التي وصفها... فهو معنى مستوفى على قدر مراد الشاعر))[23].(19/14)
فظاهر أن التعليقين ذوا اتجاه واحد بعبارتين مختلفتين. ومن هنا القول بأنه يُدخِل ((ولما قضينا...)) تحت قسم ((الشعر الحسن اللفظ الواهي المعنى))، ولعل الدكتور محمد زغلول سلام بما ذهب إليه قد ظن أن ابن طباطبا – عندما قال: ((فأما قول القائل)) ثم أورد أبيات ((ولما قضينا)) وعلق عليها – أراد استثناء ما سيورده من حكمه السابق، لكن هذا لايبدو لنا استثناء، وإنما هو نقلة أراد منها توضيح غرض الأبيات ومعناها. مرة أخرى نعود إلى القول بأن ابن طباطبا لم يبتعد عن ابن قتيبة في رؤيته إلى الأبيات فقد فصل بين المعنى واللفظ، وفهم المعنى على نحو يتوخى به الحصول على شيء متجسد وملموس لمحتوى الشعر، ثم إنه تردد في توسيع دائرة المعنى الشعري لتشمل أكثر من الوعظية والأخلاقية والمعاني المشتركة المتداولة التي تشي بتجربة يسترشد بها سامعها. يقول في كتابه (عيار الشعر): "فمن الأشعار أشعار مُحكمة متقنة أنيقة الألفاظ حكيمة المعاني"[24].
ويقول أيضاً: "وللأشعار الحسنة على اختلافها مواقع لطيفة عند الفهم لا تحد كيفيتها... فهي تلائمه إذا وردت عليه – أعني الأشعار الحسنة للفهم – فيلتذها ويقبلها، ويرتشفها كارتشاف الصديان للبارد الزلال؛ لأن الحكمة غذاء الروح"[25].
فنصه على الحكمة في هذين الاستشهادين يُظهر شيئاً مما يتوجه بالمعاني الشعرية نحوه، ثم إنه عقد فصلاً خاصاً عن ((المثل الأخلاقية عند العرب وبناء المدح والهجاء عليها)) قال فيه: "وأما ما وجدته في أخلاقها وتمدحت به ومدحت به سواها، وذمت من كان على ضد حاله فيه فخلال مشهورة كثيرة"[26].(19/15)
ثم أورد كثيراً من هذه الخلال مثل السخاء والشجاعة والحلم والحزم، والعزم، والوفاء، والأمانة، والقناعة. فواضح أن هذه قيم أخلاقية، وواضح أيضاً أنه يرمي إلى أن تكون هذه القيم مستودعاً أو ينبوعاً أصيلاً للمعاني الشعرية. هذا هو بعض ما يسعف به تنظير ابن طباطبا برهاناً على مفهومه للمعنى الشعري، فإذا التفتنا إلى التطبيق رأينا أن طبيعة الشواهد أو الأبيات التي ساقها تقف هي الأخرى برهاناً، وسنكتفي منها ببعض ما جاء تحت قسم ((الشعر الحسن اللفظ الواهي المعنى)) وقسم ((الشعر الصحيح المعنى الرث الصياغة)) فمن شواهد القسم الأول قول جميل[27]:
عشية قالت في العتاب قتلتني وقتلي بما قالت هناك تحاول
وقول جرير:
إن الذين غدوا بلبك غادروا وشلا بعينك لا يزال معيناً
غيضن من عبراتهن وقلن لي ماذا لقيت من الهوى ولقينا !؟
هذا إلى جانب أبيات (ولما قضينا من منى كل حاجة...) فأجواء هذه الشواهد ومساراتها النفسية، وطبيعتها – كما سبق القول – لا تجسد منها فكرة واعظة أو حكمة مرشدة أو قيمة أخلاقية قَر عليها العرف، لهذا سارع ابن طباطبا بالحكم عليها بضعف المعنى وإن كانت حسنة الألفاظ جميلة الصياغة.
ومن شواهد القسم الثاني قول أحدهم[28]:
نُراع إذا الجنائز قابلتنا ونسكن حين تمضي ذاهبات
كروعة ثلةٍ لمغار ذئب فلما غاب عادت راتعات
وقول الآخر:
وما المرء إلا كالشهاب وضوؤه يحور رماداً بعد إذ هو ساطعُ
وما المال والأهلون إلا وديعة ولابد يوماً أن ترد الودائع
ثم اقرأ هذه الأبيات من شواهده أيضاً:
من يَلُم الدهر ألا فالدهر غير مُعتبهْ
أو يتعجب لصرو ف الدهر أو تقلبه
ومن يصاحب صاحباً ينسب إلى مصطحبه
بزائنات رشده أو شائنات ريبه
وربما غرَّ صحيحاً جَرِبٌ بحربه
تعرف ما حال الفتى في لبسه ومركبه
وفي شمأزيزته عنك وفي توثَبه
عليك أو إصغائه إليك أو تحببه
والمرء قد يدركه يوماً خمول منصبه(19/16)
فطبيعة هذه الأبيات كما هو واضح طبيعة حكْمية بل إن بعضها تقريري عادي الصياغة رثُّها، ولكن هذه الحكمية جعلتها راقية المعنى عنده وإن هبطت أسلوباً، أو كما قال هو مقدماً لتلك الشواهد: ((ومن الحكم العجيبة والمعاني الصحيحة الرثة الكسوة)) لاحظ قوله: ((ومن الحكم العجيبة)).
ورغم وصم ابن طباطبا لأبيات: ((ولما قضينا....)) بضعف المعنى، إلا أن ظننا الغالب هو احتفاظه لها بشيء من الشعرية لا ((مما يحسب على الشعر وليس بشعر)) نَسْتَبين هذا من قوله: "والشعر هو ما إن عري من معنى بديع لم يعر من حسن الديباجة. وما خالف هذا فليس بشعر"[29].
فكان الشعر الجدير بهذه التسمية عنده هو ما جاء بديعاً قوياً مفيداً في معناه جميلاً في صياغته، أو جميلاً في صياغته على الأقل مثل أبيات كثير هذه في رأيه، هذا إذا جارينا ابن طباطبا وابن قتيبة قبله وآخرين بعدهما، ولكننا هنا نقف مع ابن طباطبا نفسه عند تعليق منه على هذه الأبيات، فهو في هذا التعليق يبدي رؤية نقدية جيدة حين لم يشرح الأبيات وينثرها نثراً يفتقر إلى روح الفن ونبضه كما فعل ابن قتيبة، وإنما اخترق بعض طبقاتها بتأويلها أو تفسيرها تفسيراً كشف عن شيء من أبعادها الشعورية والتصويرية حين قال: "هذا الشعر هو استشعار قائله لفرحة قفوله إلى بلده وسروره بالحاجة التي وصفها من قضاء حجه وأنسه برفقائه ومحادثتهم، ووصفه سيل الأباطح بأعناق المطي كما تسيل بالمياه. فهو معنى مستوفى على قدر مراد الشاعر"[30].(19/17)
فابن طباطبا بهذا التعليق أو التفسير انتبه إلى حالات وأوضاع نفسية كانت وراء الأبيات منها حالة التوتر النفسي بسبب الاغتراب عن الوطن والحنين إليه ثم زوال هذا التوتر أو خفة حدته بفرحة العودة، ومنها الانتشاء الروحي بقضاء واجب ديني، ومنها الأنس بالرفاق وأخذه معهم بأطراف الحديث. والغريب أن ما انتبه إليه ابن طباطبا هو كله معانٍ حقها ألا توصف بالضعف إلا أن يكون قد نظر إليها على أنها تجارب نفسية شخصية وليس عليها للحكمة أو العرف أو القيم الأخلاقية بصمات واضحة كما سنذكر بعد قليل. مع هذا فمن حق ابن طباطبا أن نسجل له هذه الرؤية النقدية التي تدرك وظيفة الشعر في التعبير عن المشاعر ورسم المواقف النفسية، كما نسجل له – أيضاً – عبارة واضحة في هذا الاتجاه قالها أثناء حديثه عن ((الشعر الحسن اللفظ الواهي المعنى)) وهي قوله: "ومن الأبيات الحسنة الألفاظ المستعذبة الرائقة سماعاً، الواهية تحصيلاً ومعنى، وإنما يستحسن منها اتفاق الحالات التي وضعت فيها وتذكر اللذات بمعانيها، والعبارة عما كان في الضمير منها"[31].
فالعبارات الثلاث الأخيرة ((وإنما يستحسن الخ...)) في سياقها لا تترك مجالاً للشك في أن ابن طباطبا يستجيد الأشعار التي تلامس وتراً ما في نفس المتلقي فيتفاعل معها لما يجده فيها من تعبير عن تجربة أو موقف أو إثارة لذكرى. وهاتان وظيفتان من وظائف الشعر، ومما يُفسَّر به تفاعل المتلقى مع الأثر الأدبي كما يقول شكري فيصل في معرض إعجابه بعبارة ابن طباطبا السابقة: "وهي – يقصد عبارة ابن طباطبا – عبارة نقدية دقيقة من أدق ما يقع عليه الإِنسان في النقد القديم في تفسير التفاعل مع الأثر الأدبي"[32].(19/18)
والحق أن المضمون النقدي النظري لعبارة ابن طباطبا تلك جدير بالتقدير، ولكنا نتساءل: طالما أنه يستحسن هذا في الشعر، وأن أبيات: ((ولما قضينا)) كما فسرها هو هي تعبير عن مواقف نفسية وتجارب إنسانيه، فكيف تهيأ له وصم معناها بالضعف؟! وما يبدو هو إما أن ابن طباطبا وقع في تناقض دون أن يدري، وإما أن الأمر ببساطة هو ما انتهيت إليه من أنه يفضل – قبل كل شيء – المعاني الشعرية في إطار من الحكمة والقيم الأخلاقية ونحوها، وهو ما أرجحه خاصة وأنه لم يستسغ صياغات جميلة معينة لا لشيء إلا لكونها وضعت إطاراً لمشاعر نفسية شخصية؛ ففي رأيه أن هذه الصياغات قد ابتذلت على مالا يشاكله من المعاني))[33] ثم أورد أمثلة منها قول كثير[34]:
فقلت لها يا عَزّ كل مصيبة إذا وطنت يوماً لها النفس ذلَّت
ثم علق عليه بقوله: ((قد قالت العلماء لو أن كثيراً جعل هذا البيت في وصف حرب لكان أشعر الناس))..
وقول كثير أيضاً:
أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة إلينا ولا مقلية إن تقلَّت
ثم علق عليه بقوله: ((قالت العلماء لو قال هذا البيت في وصف الدنيا لكان أشعر الناس)).(19/19)
3- ثم نلتقي مع قدامة بن جعفر (ت337هـ) بوصفه واحداً من النقاد الذين تعرضوا لأبيات كثير. وما هو واضح أن ابن جعفر يمتدح ألفاظ هذه الأبيات بالسماحة، وسهولة مخارج الحروف، ويأن عليها رونق الفصاحة مع الخلو من البشاعة. وما هو واضح أيضاً أنه لم يصنف هذه الأبيات تحت قسم: حلاوة اللفظ وضعف المعنى أو عدم فائدته كما فعل سابقاه (ابن قتيبة وابن طباطبا) وإنما ساقها تحت فصل ((نعت اللفظ)) فقط وهذا قد حيرنا قليلاً، لكننا إذا قرأنا كلامه عن نعت اللفظ ((أن يكون سمحاً، سهل مخارج الحروف من مواضعها، عليه رونق الفصاحة، مع الخلو من البشاعة، مثل أشعار يؤخذ فيها ذلك وإن خلت من سائر النعوت للشعر))[35]. بدت حيرتنا تتبدد فآخر كلامه يدل على أنه أراد أن كل ما مثل به في هذا الفصل ومنه أبيات كثير[36] يخلو من سائر نعوت الشعر ما عدا نعت اللفظ. قدامة إذَنْ جرد الأبيات من كل الخصائص إلا جمال اللفظ وحلاوة الوقع. وعلى هذا، فهو يلتقي في موقفه تجاه هذه الأبيات مع سلفيه ابن قتيبة وابن طباطبا، غير أننا نود مناقشة قدامة في تناقض يبدو لنا أنه وقع فيه حين طرح تنظيراً يبدو أنه لا يتفق مع موقفه من أبيات كثير. يقول في تنظيره هذا: "ومما يجب تقدمته وتوطيده قبل ما أريد أن أتكلم فيه أن المعاني كلها معرضة للشاعر، وله أن يتكلم منها في ما أحب وآثر، من غير أن يُحظر عليه معنى يروم الكلام فيه، إذ كانت المعاني للشعر بمنزلة المادة الموضوعة، والشعر فيها كالصورة، كما يوجد في كل صناعة، من أنه لابد فيها من شيء موضوع يقبل تأثير الصور منها، مثل الخشب للنجارة، والفضة للصياغة، وعلى الشاعر إذا شرع في أي معنى – كان – من الرفعة والضعة، والرفتْ والنزاهة، والبذخ والقناعة، والمدح وغير ذلك من المعاني الحميدة أو الذميمة، أن يتوخى البلوغ من التجويد في ذلك إلى الغاية المطلوبة"[37].(19/20)
فابن جعفر هنا يرى أن المعاني كلها معرضة للشاعر أو هو معرض لها. له الحرية كاملة في أن يتناول منها ما يحب دون أن يُحظر عليه منها شيء. وهنا نتساءل: ناقد يذهب في حرية الشاعر مع معانيه – سواء كانت رفيعة أو ضعيفة، حميدة أو ذميمة – إلى هذا الحد أحرى أن يقف من أبيات كُثيِّر موقفاً ينسجم مع مذهبه، لأن كثيراً عبر عن معنى – مهما يكن نوع هذا المعنى على حسب مفهوم قدامة نفسه. فأجاد، أي أنه حقق الشرط الذي اشترطه قدامة في توصيل المعنى ((وعلى الشاعر إذا شرع في أي معنى.. أن يتوخى البلوغ من التجويد في ذلك إلى الغاية المطلوبة))[38] من هذه الزاوية نرى أن قدامة وقع في شيء من التناقض لا يخرجه منه إلا كون هذه الأبيات تعبر عن مشاعر وتجارب نفسية أقرب إلى الذاتية وأن قدامة – مثل بعضهم – لا يعد هذه ضمن المعاني الشعرية، بقي أن نذكر أن موقف قدامة من أبيات كُثير كان أقل دقة وتحديداً من موقف ابن قتيبة وابن طباطبا حين حكم عليها بأنها خلت من سائر النعوت للشعر باستثناء نعت اللفظ دون أن يوضح هذه النعوت التي خلت منها هذه الأبيات، ويحدد كيفية خلوها منها ولو بإضاءات نقدية بسيطة نستطيع في سناها تحسس الطريق إلى مناقشته والتحاور معه. إنَّ نقد قدامة لأبيات كُثير نقد تعميمي وغير منطقي رغم طغيان المنطق على رؤيته النقدية في كتابه ((نقد الشعر)) ونحن لا نتفق معه في أن الأبيات تخلو من كل نعوت الشعر سوى اللفظ، ولكنها التعميمية في النقد، هذه الجناية التي كثيراً ما عانى منها الشعر والشعراء..(19/21)
(4) ربما لا يبدو أبو هلال العسكري (ت395هـ) – وهو ممن تناول أبيات كثير – ذا نظرة نقدية متميزة وأصيلة تجاه الأبيات إذ إن نظرته – للوهلة الأولى – لا تخرج عن أفق رؤية سابقيه الذين تحدثنا عنهم. فهو معجب بالأبيات من حيث حلاوة لفظها وعذوبته، ومن حيث سلاستها وسهولتها، أما معناها فوسط. وليس تحت ألفاظها كبير معنى[39]، لكننا محتاجون إلى التفصيل لجلاء المسألة من ناحية، ولوضوح موقف أبي هلال من قضية اللفظ والمعنى من ناحية أخرى، ثم لأن رؤيته لأبيات ((ولما قضينا...)) مرتبطة بشكل واضح وصريح بموقفه هذا.(19/22)
موقف العسكري من قضية اللفظ والمعنى هو انتصاره الواضح للفظ ((وليس الشأن في إيراد المعنى، لأن المعاني يعرفها العربي والعجمي والقروي والبدوي، وإنما هو في جودة اللفظ وصفائه، وحُسنه وبهائه، ونزاهته ونقائه،. وكثرة طلاوته ومائه، مع صحة السبك والتركيب، والخلو من أود النظم والتأليف. وليس يطلب من المعنى إلا أن يكون صواباً))[40] وواضح أنه يكرر قول الجاحظ: ((والمعاني مطروحة في الطريق... الخ))[41]، ولكنْ ما هو مفهوم أبي هلال للفظ الذي ينتصر له ؟ وما هو مفهومه للمعنى الذي يؤخره ؟ يبدو أن العسكري لا يقف بمفهوم اللفظ عند الألفاظ في ذاتها مجردة، لقد ابتعد به وتوسع فيه إلى حد يَدخُل فيه نحو من الصياغة والتركيب، أو كما قال: ((مع صحة السبك والتركيب، والخلو من أود النظم والتأليف))[42]، كما يدخل فيه إحكام الصنعة، وجودة المطالع، وحسن المقاطع، وبديع المبادئ وغريب المباني، ولعله بهذا ممن مهدوا – بشكل ما – لتبلور نظرية النظم عند عبدالقاهر الجاجاني. أما المعنى فقد أورد له نعوتاً مثل الصواب، والبعد عن المحال[43]، وعن الاستكراه والسخف[44]، ومع أن هذه أوصاف يصعب الاتفاق على وضع مقاييس لها، كما يصعب معرفة مفهومه الدقيق لها، فسنقف بعض الوقت عند أول النعوت وهو الصواب خاصة وقد ألح عليه في أكثر من مكان مثل قوله: "وليس بطلب من المعنى إلا أن يكون صواباً"[45].
وقوله: "فيحتاج صاحب البلاغة إلى إصابة المعنى كحاجته إلى تحسين اللفظ، إن المدار بعد على إصابة المعنى"[46].
خاصة وقد قرنه – كما نلاحظ في الاستشهاد الأخير – بتحسين اللفظ كأنهما الوجهان المختلفان لعملية الإِبداع الواحدة. ووقوفنا يتحدد عند فصل خصصه أبو هلال للتنبيه على خطأ المعاني وصوابها بإيراد أبيات بَيَنْ خطأها وصوابها من وجهة نظره مثل قول امرئ القيس:
أغرك مني أن حبك قاتلي وأنك مهما تأمري القلب يفعل(19/23)
فهو في رأيه خطأ، وعلق عليه بقوله: ((وإذا لم يغررها هذه الحال فما الذي يغرها؟!))[47].
فللسوط ألهوب وللساق درة وللزجر منه وقع أخرج مُهذِبِ[48]
وقد علق عليه قائلاً: ((فلو وصف أخس حمار وأضعفه ما زاد على ذلك. والجيد قوله))[49].
على سابح يعطيك قبل سؤاله أفانين جريٍ غير كزولا واني
ومثل قول كُثير في المدح:
وإن أمير المؤمنين برفقه غزا كامنات الود مني فنالها
وعلق بقوله: ((فجعل أمير المؤمنين يتودد إليه... وإنما تُمدح الملوك بمثل))[50]:
فإنك كالليل الذي هو مدركي وإن خلت أن المنتآي عنك واسع
ومثل قول المرّار:
وخال على خديك يبدو كأنه سنا البدر في دعجاء بادٍ دجونها
فقد عاب معنى هذا البيت لمخالفته العرف والعادة، إذ ((المعروف – كما يقول – أن الخيلان سود أو سمر والخدود الحسان إنما هي البيض، أفتى هذا الشاعر بقلب المعنى))[51].
ومثل قول الكميت[52]:
كأن الغُطامط في غيها أراجيز أسلم تهجو غفارا
إذا ما الهجارس غنينها تجاوين بالفلوات الوبارا[53]
وقد أورد انتقاد نصيبٍ الكميتَ بأنّ أسلم لم تهج غفاراً قط، ولأنه لا يكون بالفلوات وبار. كما غلط أبا تمام في قوله:
رقيق حواشي الحلم لو أن حلمه بكفيك ما ماريت في أنه برد
وعلق عليه قائلاً: ((وما وصف أحد من أهل الجاهلية ولا أهل الإِسلام الحلم بالرقة، وإنما يصفونه بالرجحان والرزانة))[54] فهذه بعض من أمثلة كثيرة أوردها أبو هلال العسكري في موضع الصواب والخطأ في المعاني الشعرية. وبعد نظر في هذه الشواهد ننتهي بانطباع عن أن أهم ما يقصده بصواب المعنى هو اتفاقه مع الواقع والتاريخ ومع العرف الاجتماعي والأخلاقي وحتى مع العرف الأدبي. وهو ما يحمل فكرة أو حكمة، وهو أيضاً ما يمكن أن تعلق عليه بـ((صَدَقَ)) كما يقول حسان:
وإن أشعر بيت أنت قائله بيت يقال إذا أنشدته صدقا[55](19/24)
وهنا نتذكر أبيات ((ولما قضينا...)) ونتذكر أن أبا هلال انتقد معناها بأنه وسط مرة وبأنه ليس كبيراً مرة أخرى. ترى لماذا تدنى مستوى معنى أبيات كُثير في نظر أبي هلال؟ هل نقول: لأنها لا تسجل شيئاً مما يتوجه نحوه بمعاني الشعر، ولأننا لا يمكن أن نعلق عليها بكلمة ((صَدَقَ)) إذ هي لا تهدف إلى التقرير أو الإِخبار وإنما إلى التعبير ومبدعها لم يرد لها أن تحمل أفكاراً أو معاني بقدر ما تحمل عواطف وتجارب مرسومة بالكلمة ؟ أم نقول: إن ما أنقصه من معاني الأبيات أضافه إلى كفة ألفاظها ليزيد من تعزيز موقفه مع الألفاظ مقابل المعاني ؟ الواقع أنه هذا وذاك. أما ذاك فقد عرفناه، وأما هذا فإن أبا هلال عندما حدد موقفه بانتصاره الواضح للفظ لم يشأ أن يترك الأمر دون أن يورد ما يراه دليلاً يسند به هذا الموقف وفي هذا الإِطار أعطانا دليلين نرجئ أحدهما إلى حينه. أما الآخر فهو قوله: ((ودليل آخر (أي على أن مدار البلاغة على تحسين اللفظ. أن الكلام إذا كان لفظه حلواً عذباً، وسلساً ومعناه وسطاً، دخل في جملة الجيد، وجرى مع الرابع النادر كقول الشاعر))[56] ثم أورد الأبيات ((ولما قضينا)) وعلق عليها بقوله: ((وليس تحت هذه الألفاظ كبير معنى، وهي رائقة معجبة))[57] فإلى ماذا يهدف العسكري بهذا الدليل ؟ يهدف إلى أكثر من شيء: يريد – أولاً – أن يبرهن على أهمية اللفظ المحسَّن وأوَّليته مقابل المعنى بدليل هذه الأبيات النادرة الرائقة وما تملكه من روعة وسحر على تأخر في معناها، فلم يقف معناها الوسط دون إعجاب المتلقين بها وسيرورتها في لهواتهم. ويريد – ثانياً – أن يشيد بها ويضعها من الشعر في جيده. هذان شيئان يظهران بوضوح في دليل أبي هلال، غير أن هناك بُعدين آخرين نلمحهما لمحاً في هذا الدليل. أما أحدهما فهو أن قيمة المعنى الثانوية عنده ليست قيمة وجوده في القصيدة أو في النص الإِبداعي شعراً كان أم نثراً وإنما هي قيمة ثانوية من حيث(19/25)
المعاناة الإِبداعية، أي إن الحصول على المعنى لا يحتاج إلى معاناة ومجاهدة المعاني مطروحة في الطريق كما يقول، وإنما تكون المجاهدة والمعاناة في صياغة هذا المعنى بطريقة فنية جمالية تتجاوز وظيفة الإِفهام والتوصيل، يقول: "ومن الدليل (وهو دليله الذي أرجأناه) على أن مدار البلاغة على تحسين اللفظ أن الخطب الرايعة، والأشعار الرايقة، ما عملت لإِفهام المعاني، لأن الرديء من الألفاظ يقوم مقام الجيدة منها في الإِفهام"[58].(19/26)
فلاحظ كلمة ((تحسين)) وإيحاءها بما أشرت إليه. وأما الآخر من البعدين – وفي ما يضيء أيضاً البعد الأول – فهو أن أبا هلال العسكري لا يرى أن المهم في النص ما تقوله وإنما كيفية القول، ليس المهم أن توصل فكراً وإنما المهم أن تقيم معادلاً فنياً لهذا الفكر، إذ ((لو كان الأمر في المعاني – كما يقول العسكري – لطرحوا (يقصد المبدعين من كتاب وخطباء وشعراء) أكثر ذلك (يشير إلى ما ذكره من تأنق هؤلاء المبدعين وحرصهم على التجويد والترتيب) فربحوا كداً كثيراً، وأسقطوا عن أنفسهم تعباً طويلاً))[59] على أني لا أزال ألمح بُعداً ثالثاً لتنظيرات أبي هلال ورؤيته لأبيات كثير في إطار السياق الذي تناولها فيه، وهذا البعد هو أنه ليس من الضروري أن تحتوي القصيدة على معنى محدد، أو بتعبير أدق، ليست المعاني ((المحددة)) شرطاً ملازماً للصفة الشعرية في الشعر إذ هو قائم بذاته وبالنسق البنائي فيه. والدليل – في رأيه – هو أبيات كُثير فهي لا تحمل كبير معنى ((وإنما هي: ولما قضينا الحج ومسحنا الأركان وشدت رحالنا على مهازل الإِبل، ولم ينتظر بعضنا بعضاً جعلنا نتحدث وتسير بنا الإِبل في بطون الأودية))[60] ومع أن نثر الأبيات على هذا النحو الذي يظهر أنها لا تحمل معنى محدداً ذا شأن، يخدم البعد الثالث الذي ذكرنا آنفاً إلا أنه نثر سلب الأبيات طاقاتها الانفعالية والفنية، كما جردها من القيمة الجمالية اللغوية التي أشاد بها فطفا بها هذا النثر أو طفت به وانتحت نحو السذاجة والسماجة والفتور والركود. ولقد أغضب هذا النثر أحد النقاد المعاصرين[61] لأنه – بما فيه من جفاف – وَأدَ الأبيات وذبحها من الوريد إلى الوريد، ولأنه قتل فيها حس الحركة. ويبدو هذا من أبي هلال خطيئة نقدية لا تنسجم مع المسار النقدي الذي تتبعناه له ولا مع المكانة الفنية التي اجتهد في أن يضع فيها الأبيات.(19/27)
ملخص ما نحصل عليه الآن هو أن رؤية أبي هلال العسكري لأبيات كثير هي رؤية المعجب بها وبما فيها من شعرية، وأن هذا الإِعجاب إنما كان بسبب اللفظ أو الشكل رغم وسطية المعنى أو المحتوى. فهي رؤية تذوقية أولاً، ورؤية تخدم موقفه من قضية اللفظ والمعنى ثانياً حين عزز بها انتصاره للفظ. ثم إن هذه الرؤية تأتي خارج إطار ثنائية تحسين اللفظ وإصابة المعنى، هذه بالتحفظ[62]، غير أنني أعود مؤكداً – من خلال أقواله – أن هذه الثنائية غير متعادلة الطرفين إذْ المقدم والأهم فيها هو اللفظ، كما أنها – أيضاً – غير متلازمة الطرفين إذْ قد يغيب المعنى بدرجة أو بشكل من الأشكال، ومع هذا يبقى الشعر متألقاً أو – كما يقول هو – رائعاً نادراً ورائقاً معجباً.
هذه رؤية أبي هلال لأبيات كثير، وهي رؤية اعترف أن الرواية التي أخذت منها، والأفق الذي جالت فيه كانا مبعث نشاط لي وإعجاب مني خاصة وقد لمحت في أفقها أبعاداً ونقاطاً تُذكر ببعض الاتجاهات في النقد الأدبي الحديث. إن ما بدا لي من أن العسكري لا يحفل كثيراً بالمحتوى، وإنما بلغة النص، وبالنص من حيث هو بناء، وأنه يرى الكتابة الإِبداعية نسقاً لا يهدف إلى مجرد التوصيل، حتى ليذكرنا هذا بما سماه (رولان بارت) بالكتابة اللازمة، يكان يغرى بأنه نعده (العسكري) سابقة بنيوية في النقد العربي القديم.
(5) وبعد هؤلاء نلتقي بالباقلاني أبي بكر محمد بن الطيب (ت403هـ) ونظرته إلى الأبيات لا تخرج عن أفق رؤية أسلافه ممن يفصلون بين اللفظ والمعنى ويقصرون فضيلة الأبيات على ألفاظها منتقصين شعريتها بسبب ضعف معناها. ولم ترد الأبيات عند الباقلاني تحت قسم من أقسام الشعر، ولا تحت فصل يعالج إحدى قضاياه كما فعل الذين تناولنا رؤيتهم، وإنما وردت الأبيات خلال حديثه عن قصيدة البحتري: ((أهلاً بذلكم الخيال المقبل)) وتحديداً وهو يشرح البيت الثاني من هذه القصيدة وهو:(19/28)
برق سرى في بطن وجرة فاهتدت بسناه أعناق الركاب الضُّلل
ومما علق به على هذا البيت قوله: ((فهو ذو لفظ محمود، ومعنى مستجلب غير مقصود، ويُعلم بمثله أنه طلب العبارات، وتعليق القول بالإِشارات))[63]، ثم قال: ((وهذا من الشعر الحسن، الذي يحلو لفظه، وتقل فوائده، كقول القائل، ثم أورد الأبيات الثلاثة المشهورة:
ولما قضينا من منى كل حاجة ومسح بالأركان من هو ماسح
وشدت على حدب المهارى رحالنا ولا ينظر الغادي الذي هو رائح
أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا وسالت بأعناق المطي الأباطح
وعلق عليها بقوله: ((هذه ألفاظ بديعة المطالع والمقاطع، حلوة المجاني والمواقع، قليلة المعاني والفوائد))[64]. هذا هو تعليق الباقلاني على أبيات كُثير. وتلك كانت مناسبة استحضاره للأبيات واستشهاده بها. ومن خلال التعليق اتضحت لنا نظرته النقدية للأبيات وهي نظرة متأثرة بابن قتيبة بدليل التشابه في التعليق، ولم ألاحظ ما هو جدير بالتسجيل، اللهم إلا حين نقرأ قوله عن بيت البحتري السابق: ((ويُعلم بمثله أنه طلب العبارات وتعليق القول بالإِشارات)) ثم يقول بعده مباشرة: ((وهذا من الشعر الحسن الذي يحلو لفظه، وتقل فوائده، كقول القائل)) ثم يورد أبيات كُثير، فنفهم منه بعد أن نسحب عبارة: وتعليق القول بالإِشارات على أبيات كثير – أنه انتبه إلى ما في أبيات: ((ولما قضينا)) من إشارات وعبارات إيحائية انتبه إليها ابن جني بشكل واضح فتحدث عنها. أما غير هذا فلا شيء يستحق المناقشة.(19/29)
(6) ثم ينضم أبو العباس أحمد بن علي القلقشندي (ت821هـ) إلى القافلة، ويقف من الأبيات موقف كل من ابن قتيبة وابن طباطبا وقدامة بن جعفر والباقلاني بوجه عام، وأبي هلال العسكري بوجه خاص. لكنا لا نجد في موقف صاحب صبح الأعشى تميزاً لأنه نقل رأي أبي هلال العسكري حول الأبيات. وكذا حديثه قبلها وبعدها نقلاً حرفياً سوى كلمة أو اثنتين[65]. وما تُمكن إضافته هو أن القلقشندي ذهب في الانتصار للألفاظ ليس إلى حد التقرير فقط وإنما إلى حد التمثيل والمقارنة حين يقول تحت (فضل الألفاظ وشرفها): "إن الألفاظ من المعاني بمنزلة الثياب من الأبدان فالوجه الصبيح يزداد حسناً بالحلل الفاخرة والملابس البهية، والقبيح يزول عنه بعض القبح.
كما أن الحسن ينقص حسنه برثاثة ثيابه وعدم بهجة ملبوسه، والقبيح يزداد قبحاً إلى قبحه، فالألفاظ ظواهر المعاني، تحسن بحسنها، وتقبح بقبحها"[66].
وعلى هذا فأبيات كثير عنده جميلة جمالاً مطلقاً بسبب ألفاظها وبصرف النظر عمّا وراء هذه الألفاظ من معنى صواباً كان هذا المعنى أم خطأ، جميلاً أم قبيحاً كبيراً أم وسطاً. وهذا ما يمكن أن يختص به عن سلفه أبي هلال العسكري.
وبالقلقشندي نأتي إلى آخر من نعلم من النقاد القدامى الذين يُرجعون جمال أبيات كثير إلى شكلها. ولا نريد أن نكرر ما قلناه في حينه وفي موضعه، لكن ما نرغب توضيحه هو أن أخطر شيء في موقف جُل هؤلاء هو طلبهم في المعنى أن يكون محدداً متجسداً واضحاً من ناحية، وأن يكون متفقاً مع العرف والعادة والقيم السائدة أو متلفعاً بالحكمة من ناحية أخرى. وهذه نظرة ضيقة تخنق المعنى لافتقارها إلى الشمولية سواء بالنسبة إلى تجربة الشعر مع نفسه وغيره من البشر أم بالنسبة إلى تجربته مع الكون والحالة بأوسع تداعياتها وأعقدها. لكن هذه النظرة لها ما يصححها أو يعدل شيئاً في مسارها عن نقاد آخرين تناولوا أبيات كثير برؤية أكثر انفتاحاً وأرهف حساً.(19/30)
ثانياً: - جمال في المعنى (والألفاظ).
(1) يبدو أن نظرة ابن قتيبة – ومن تابعه في هذه النظرة من النقاد – إلى أبيات كثير كانت نظرة استفزازية لآخرين مثل ابن جني (ت392هـ) الذي تناول الأبيات تناولاً من الواضح أنه يرد به على ابن قتيبة ومن يرى رأيه. وتناول ابن جني لهذه الأبيات جاء في ((باب الرد على من ادّعى على العرب عنايتها بالألفاظ واغفالها المعاني)) من كتابه الخصائص[67]. فهو من المنتصرين للفكر أو المضمون (المعاني). ولا يرى عناية العرب بألفاظها إلا دليلاً على أن المعاني عندها أقوى، وعليها أكرم، وفي نفوسها أفخر قدراً[68]. وعنده أن ما يبدو عناية بالألفاظ إنما هو في الحقيقة عناية بالمعاني وخدمة لها، ((فإذا رأيت العرب قد أصلحوا ألفاظها وحسنوها، وحموا حواشيها وهذبوها، وصقلوا غروبها وأرهفوها، فلا تريَنّ أن العناية إذ ذاك إنما هي بالألفاظ، بل هي عندنا خدمة منهم للمعاني، وتنويه بها وتشريف منها))[69]. هذا هو رأي ابن جني في قضية اللفظ والمعنى وموقفه منها. وهذا – أيضاً – هو السياق الذي تناول فيه أبيات كثير، ولكنا نقرأ بين أسطر السياق هذا أو نستقرئ، منه يقينه بأن وراء كل شكل جميل مضموناً جميلاً، ظاهراً كان هذا المضمون أم خافياً. وإذا ما بدا خلاف ذلك لِناقدٍ ما، فإنما ذلك لعلة في الناقد نفسه أو لأسباب فنية تتعلق بالنص. ورداً على من يخالفونه وفي إطار التطبيق لنظريته يشرع في تحليل أبيات كثير وتفسيرها (أورد منها بيتين فقط) ممهداً بعرض وجهة نظر الآخر: ((فإن قلت: فإنا نجد من ألفاظهم ما قد نمقوه، وزخرفوه، وَوَشَّوْه، وَدَبَّجوه، ولسنا نجد مع ذلك تحته معنى شريفاً، بل لا نجده قصداً ولا مقارباً؛ ألا ترى إلى قوله:
ولما قضينا من منى كل حاجة ومسح بالأركان من هو ماسح
أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا وسالت بأعناق المطي الأباطح(19/31)
فقد ترى إلى علو هذا اللفظ ومائه، وصقاله وتلامح أنحائه، ومعناه مع هذا ما تحسه وتراه إنما هو: لما فرغنا من الحج ركبنا الطريق راجعين، وتحدثنا على ظهور الإِبل. ولهذا نظائر كثيرة شريفة الألفاظ رفيعتها، مشروفة المعاني خفيضتها))[70]، هذه هي وجهة نظر الآخر أوردها ابن جني ونقلناها لنوضح أنه يعي هذه الوجهة وعياً تاماً، بل إنه بسبب هذا الوعي، ولأن هذه الرؤية لا تَدَّغِم في نظريته التي ذكرناها تَصدَّى لدحضها بتعمق الأبيات واستشراف أبعادها واعتصار مدلولاتها، وتوظيف ألفاظها مستفيداً في هذا من معرفته وذائقته اللغويتين. والحق أنني أعجبت مثلما مُتِّعِت برؤية ابن جني النقدية لأبيات ((ولما قضينا)) وبطريقة تأوله لها في معرض رده على من قالوا بامتلائها جمالاً من حيث الألفاظ والصياغة، وفراغها من حيث المعنى ففي هذه الرؤية وفي طريقة عرضها ما يظهر ذكاء وحساً نقدياً واحتفاء بالنص وعشقاً له. يرى ابن جني في البداية أن سبب رؤية أحد وجهي الأبيات (وهو الألفاظ) مشرقاً والآخر (المعاني) معتماً إنما كان بسبب عدم إنعام نظرهم في الأبيات وفي موقفهم منها؛ أي بهذه النظرة التي قرت على السطح فتسطح المعنى بسببها عندهم. وذلك في قوله: "هذا الموضع (يشير إلى رؤية ابن قتيبة ومن وافقه) قد سبق إلى التعلق به من لم ينعم النظر فيه، ولا رأى ما رآه القوم منه"[71].(19/32)
كأنه ينتقد الآخر بالتسرع في إطلاق الأحكام النقدية نتيجة لعدم التحبب إلى النص، والدنو منه دنواً تتضح به أبعاده، وتنكشف طيّاته وأطواؤه. وإذا كان هذا الآخر لم يوفق في رؤيته النقدية بسبب فشله في مقاربة النص، أو عدم إدراكه لأهمية هذه المقاربة فإن مما أعان على عدم التوفيق افتقاره إلى رهافة الحس النقدي من ناحية، واتجاه الشاعر بتعبيراته إلى الإِيحاء والرمز من ناحية أخرى كما يرى ابن جني: ((وإنما ذلك لجفاء طبع الناظر، وخفاء غرض الناطق))[72] هذه هي الأسباب التي يراها ابن جني قد حالت دون إدراك معاني أبيات كُثير من قِبل بعض النقاد. ثم بعد ذكره هذه الأسباب التي تضمنت رؤيته النقدية للأبيات نظرياً، يدخل في مرحلة التطبيق محللاً ومفسراً ومحاولاً إثبات أن وراء ألفاظها معاني تستحق الإِكبار. وأن في عباراتها إيحاءات خفية، ورموزاً حلوة، وإيماءات معبرة فيقول: ((ذلك أن في قوله ((كل حاجة)) ما يفيد منه أهل النسيب والرقة، وذوو الأهواء والمقة مالا يفيده غيرهم، ولا يشاركهم فيه من ليس منهم، ألا ترى أن من حوائج (منى) أشياء كثيرة غير ما الظاهر عليه، والمعتاد فيه سواها، لأن منها التلاقي، ومنها التشاكي، ومنها التخلي، إلى غير ذلك مما هو تالٍ له، ومعقود الكون به. وكأنه صانع عن هذا الموضع الذي أومأ إليه، وعقد غرضه عليه، بقوله في آخر البيت:
ومسح بالأركان من هو ماسح(19/33)
أي إنما كانت حوائجنا التي قضيناها، وآرابنا التي أنضيناها[73]، من هذا النحو الذي هو مسح الأركان وما هو لاحق به، وجارٍ في القربة من الله مجراه؛ أي لم يتعد هذا القدر المذكور إلى ما يحتمله أو البيت من التعريض الجاري مجرى التصريح))[74] هذه رؤية ابن جني لهذا البيت؛ رؤية نافذة حاول بها اختراق قلب الشاعر ليعرض معناه على شاشة لغوية أسلوبية. وعبارة ((كل حاجة)) – عنده – عبارة مكثفة إيحائية، بإحدى سياقاتها ومتعلقاتها ((مِنَى)) تبث معاني ذات نكهة خاصة لفئة معينة. ولكن الشاعر لا يريد أن تظن به الظنون، ولهذا خادع المتلقى عما أوما إليه، بقوله في الشطر الثاني: ومسح بالأركان من هو ماسح)) ليوهمه أن كل حاجة قضاها من مِنَى إنما كانت في مجال التقرب من الله. ثم بعد هذا ينتقل إلى البيت الثاني قائلاً:
((وأما البيت الثاني فإن فيه:
أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا
وفي هذا ما أذكره؛ لتراه فتعجب ممن عجب منه ووضع من معناه. وذلك أنه لو قال: أخذنا في أحاديثنا، ونحو ذلك لكان فيه معنى يكبره أهل النسيب، وتعنو له ميعة الماضي الصليب[75]. وذلك أنهم قد شاع عنهم واتسع في محاوراتهم علو قدر الحديث بين الأليفين، والفكاهة بجمع شمل المتواصلين))[76]، يريد ابن جني أن يقول إن مجرد ذكر كلمة ((أحاديث)) في هذا البيت على افتراض أن الشاعر أوردها مرسلة غير مقيدة بكلمة ((أطراف)) إنها وحدها تثير شجوناً، وتستدعي ذكريات، وتحرك مشاعر يُكبرها العشاق وتخفق لها قلوبهم، كلمة ((حديث)) تمردت على جذرها اللغوي وخرجت على المعجم ودخلت في معجم أهل العشق والنسيب فأصبحت مصطلحاً من مصطلحاتهم الشعرية يكبرونها ويطعمون حلاوتها لما تحمله من معاني الوصال والعتاب والتشاكي وكل ما يتبادله المحبان إذا التقيا. ثم يورد ابن جني أبياتاً يدعم بها رؤيته إذا يقول: ألا ترى إلى قول الهذلي[77].
وإن حديثاً منك – لو تعلمينه – جَنى النحل في ألبان عوذٍ مطافل[78].(19/34)
وقول الآخر[79]:
وحديثها كالغيث يسمعه راعى سنين تتابعت جدباً
فأصاخ يرجو أن يكون حياً ويقول من فرحٍ هيا ربا
وقول الآخر[80]:
وحدثتني يا سعد عنها فزدتني جنوناً فزدني من حديثك يا سعد
وقول المولد[81]:
وحديثها السحر الحلال لو أنه لم يجن قتل المسلم المتحرز
هكذا فَسَّر ابن جني كلمة ((أحاديث)) في قول كثير: ((أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا)) مفترضاً فصل هذه الكلمة عن سابقتها ((أطراف)) مرة، وناظراً إلى واقع العلاقة بينهما مرة أخرى حين يقول: "فإذا قدر الحديث – مرسلاً – عندهم هذا، على ما ترى فكيف به إذا قيده بقوله (بأطراف الحديث) وذلك أن في قوله (أطراف الأحاديث) وحياً خفياً، ورمزاً حلواً، ألا ترى أنه يريد بأطرافها ما يتعطاه المحبون، ويتفاوضه ذوو الصبابة المتيمون، من التعريض والتلويح، والإِيماء دون التصريح، وذلك أحلى وأدمث، وأغزل وأنسب، من أن يكون مشافهة وكشفاً، ومصارحة وجهراً، وإذا كان كذلك فمعنى هذين البيتين أعلى عندهم، وأشد تقدماً في نفوسهم من لفظهما وإن عذب موقعه، وأنق له مستمعه"[82].(19/35)
وهنا، في هذه النقطة، يكون ابن جني قد أدرك بحاسة نقدية لغوية دقيقة أحد الأبعاد الجمالية والمعنوية لعلاقات الألفاظ بعضها مع بعض، وما قد ينبعث من تجاورها من حوار هامس أو همس متحاور. ولم يكتف ابن جني بتوظيف العلاقات والتجاور بين الكلمات في التفسير الشعري، وإنما استثمر صيغة الجمع حين تناول بيتي كُثير في موضع آخر من كتابه هو ((القول على الفصل بين الكلام والقول)) فقد نبه إلى أن الشاعر إنما استعمل ((أحاديث)) بصيغة الجمع ولم يستعمل ((حديث)) بصيغة المفرد لغرض معنوي. ذلك أنه إذا كانت كلمة ((حديث)) مفردة ذات إيحاء خاص، وطعم متفرد، فإنها مجموعة تزيد تلك الإِيحاءات وتكشف هذه الطعوم[83]. كلمة ((أحاديث)) وفق استثمار ابن جني لها ملمح جمالي، ورامز معنوي في الوقت نفسه. ولم يرد ابن جني بعد هذا أن يقف طويلاً عند قول كثير: ((وسالت بأعناق المطي الأباطح)) إذ فيه – كما يرى – ((من الفصاحة مالا خفاء به. والأمر في هذا أسير، وأعرف، وأشهر))[84].(19/36)
الآن يكتمل موقف ابن جني من أبيات كثير، وتتكامل رؤيته لها فيتضحان، ويتضح لنا منهما إعجابه بمعناها أكثر من إعجابه بلفظها؛ أي إنه – بعبارة أخرى – يرى أن سر جمال هذه الأبيات هو في معانيها قبل أن يكون في ألفاظها ((وإذ كان كذلك فمعنى هذين البيتين أعلى عندهم، وأشد تقدماً في نفوسهم، من لفظهما وإن عذب موقعه، وأنق له مستمعه))[85]. وإذا كان ابن قتيبة والذين معه قد أعجبوا بألفاظها ووضعوا من معانيها، فابن جني معجب بالعنصرين معاً، فالبيتان عنده جميلان شكلاً ومعنى، غير أنه – كما أوضحت – يرفع من قدر المعنى ولكن ليس على حساب اللفظ إذ لم نلحظ شيئاً من ذلك في أثناء تناوله وتحليله للبيتين. ولقد سبق أن قلت إنني معجب برؤية ابن جني للأبيات، وبطريقة تناوله إياها. ولست أعني أن ما انتهى إليه صحيح ومنطقي فالأدب لا يعرف هذا النوع من الأحكام، ولكن إعجابي يأتي من أن رؤيته رؤية جمالية، وطريقته طريقة اختراقية، وتناوله تناول ودي يحتفي بالنص ويتحبب إليه ليستدر معانيه، ويعتصر مدلولاته، ويظهر أن كل هذا هو مما يَسر لابن جني خطوات نقدية ناجحة مثل قدرته على تجاوز طريقة الشرح العقيم للنص إلى طريقة التفسير والتأويل اللذين ينطلقان بالمعنى إلى آفاق أرحب لا يحدها عرف أو واقع، ولا حتى دلالات أخلاقية أو حِكْميَّة، أو معجمية جامدة. ثم مثل إدراكه للأبعاد الإِيحائية في النص، وما فيه – كما يقول – من وحي خفي. ورمز حلو[86]. وكما يتضح، فابن جني يستجيد ويستعذب هذا المنحى من التعبير الذي يدخل في إطار الغموض الفني، بل إني أرجح أن هذا الجانب الإِيحائي الجميل في بيتي كثير هو مما أغرى ابن جني بهما، على أن هذا لا يصرفنا في الجانب الآخر عن التساؤل عما إذا كان موقف ابن جني من المعنى وانتصاره له – في إطار قضية المعنى واللفظ في النقد العربي القديم – قد دفعه إلى أن يذهب بعيداً في تأويل أبعاد لمعنى هذين البيتين، لولا أن نتذكر أن المعنى –(19/37)
كما يقول روبرت شولز – لا ينتشر في العمل ببساطة، وإنما يفسر على أيدي خبير في العمليات اللغوية[87]. وابن جني – دون شك – هو من خبراء اللغة وعملياتها. وما نخلص إليه مطمئنين هو أن هذا الخبير (ابن جني) نجح في استعمال ذائقتيه: الفنية واللغوية أداتين نقديتين وظفهما لاستعادة شعرية نص كُثيرِّ وقد كان أفرغ منها من قِبل بعض النقاد، بل إنه بطريقة تناوله قد أعاد كتابة هذا النص، أو اشترك فيها. وإن قراءته له (النص) هي من نوع القراءة المنتجة لا الاستهلاكية العابرة.
(2) وفي اتجاه ابن جني يسير ابن الأثير (ت637هـ) فموقفه من قضية اللفظ والمعنى هو موقف سلفه حين يحفل بالمعاني ولكن ليس على حساب الألفاظ. ثم إنه في هذا المجال أو السياق تناول ((ولما قضينا من منى كل حاجة)) غير أن تناوله لم يكن أكثر من إعادة وتكرار لما قاله ابن جني، بل إن مقارنة بين نصي الرجلين تظهر أن ابن الأثير قد أخذ كثيراً من نص ابن جنى فنقله بمعناه وبأكثر عباراته دون أن يشير إلى مرجعه. وربما يُعد ذلك إحدى السرقات في النقد العربي القديم، ولكنا نترفق بابن الأثير ونخفف قسوتنا في الحكم عليه إذا ما التمسنا عذراً له في رأي أن رؤية ابن جني للأبيات هي الرؤية التي تتفق مع ذائقته، وتعبر عن موقفه فلم ير حرجاً في نقلها، خاصة وأن المنهجية العلمية في النقد لم تتأصل بعد في زمنه. ولا يعني التماسنا عذراً له اعترافنا له باستقلالية النظرة النقدية للأبيات، مع أن من الإِنصاف أن نذكر له التفاتة نقدية مستقلة تجاه أحد أشطر الأبيات هذا:
ومالت بأعناق المطي الأباطح(19/38)
فقد ذكرنا أن ابن جني لم يقف طويلاً عند هذا الشطر. وربما لهذا أراد ابن الأثير أن يتم مالم يكمله سلفه حتى تكتمل تلك الإِضاءة التي نشرها الأول حول أبيات كثير والالتفاته النقدية التي نقصدها لابن الأثير هي في قوله بأن في هذا الشطر: ((من لطافة المعنى وحسنه مالا خفاء به))[88]. وتخريجه هذا المعنى اللطيف على أن لذة الحديث شغلت القوم عن إمساك الأزِمَّة فاسترخت عن أيديهم فأسرعت المطايا في المسير حتى تراءت أعناقها كأنها السيل في الأباطح، ولكنا ننقل نصه لاكتمال الصورة: "إن هؤلاء القوم لما تحدثوا وهم سائرون على المطايا شغلتهم لذة الحديث عن إمساك الأزمة، فاسترخت عن أيديهم، وكذلك شأن من يشره وتغلبه الشهوة في أمر من الأمور، ولما كان الأمر كذلك، وارتخت الأزمة عن الأيدي أسرعت المطايا في المسير، فشبهت أعناقها بمرور السيل على وجه الأرض في سرعته، وهذا موضع كريم حسن، لا مزيد على حسنه، والذي لا ينعم نظره فيه لا يعلم ما اشتمل عليه من المعنى"[89].
هذا هو ما أضافه ابن الأثير إلى رؤية ابن جني. وهي إضافة تستحق التنويه؛ ذلك أنه أدرك، بل ابتدع بعداً معنوياً للاستعارة في ((وسالت بأعناق المطي الأباطح)) وهذا البعد المعنوي المبتدع هو تعليله لسرعة الإِبل باسترخاء الأزمة عن الأيدي بسبب نشوة الحديث. فمن حق ابن الأثير أن نسجل له هذا التسلل الدقيق والرشيق إلى حمى هذا الشطر واقتناص هذا المعنى منه، بل إنه نوع من الهجوم الصعب على المعاني المحمية بحجب الخواطر كما يقول هو: "وللهجوم على عذارى المعاني المحمية بحجب البواتر أيسر من الهجوم على عذارى المعاني المحمية بحجب الخواطر"[90].
ويظهر أن إنعامه الدقيق للنظر قد ساعده على إدراك محتوى هذا الشطر كما قال: "والذي لا ينعم نظره فيه (أي في هذا الشطر) لا يعلم ما اشتمل عليه من المعنى"[91].(19/39)
وبابن الأثير نأتي إلى نهاية رؤيتين نقديتين متضادتين لأبيات كثير، إحداهما لا ترى لمعناها كثير فائدة بالقياس إلى ما فيها من ألفاظ حلوة وصياغة جميلة، فسر جمالها عند أصحاب هذه الرؤية هو في ألفاظها. وفي هؤلاء من ينتصر – بوضوح – للألفاظ. وأخراهما ترى سر جمالها ليس في ألفاظها فقط، وإنما في المعاني التي وراء هذه الألفاظ. وأصحاب هذه الرؤية يجنحون إلى المعاني في إطار الخلاف حول قضية اللفظ والمعنى في النقد العربي. ومن خلال المبحث السابق عرفنا أن هؤلاء نجحوا بطرق فنيه في اكتشاف معانٍ للأبيات غير أنها ليست من جنس تلك المعاني التي ترضي أذواق أولئك الذين ضيقوا دائرة المعاني وهي دائرة رحبة.
ثالثاً: جمال في البناء والنظم والتصوير.
(1) في التناولات النقدية التي مرت بنا حتى الآن، يبرز الفصل بين الشكل والمضمون أداةً أو وسيلة نقدية متسوِّدة إلى درجة شوشت على أذهان بعض النقاد الذين تعرفنا مواقفهم فانحجبت دونهم أكثر من نقطة مضيئة في أبيات كثير كان ينبغي ألا تخطئها عين النقد. ولهذا سنتوقف عند تناول نقدي بالغ الأهمية. ذلك أنه يتناول الأبيات ليس من زاوية الفصل بين لفظها ومعناها وإنما عن طريق الربط بينهما ربطاً وثيقاً محكماً.
يرفض عبدالقاهر الجرجاني (ت471 أو 474هـ) وهو من نعنيه بهذا التناول النقدي الذي أشرنا إليه – يرفض أساساً فكرة الفصل بين المعنى واللفظ ويتجسد رفضه في فكرة النظم التي بلورها خاصة في كتابه ((دلائل الإِعجاز)) وفكرة النظم بإِيجاز تُرجع سر جمال القول إلى النص بوصفه بناء فنياً متكامل الشكل والمضمون متلاحمهما.(19/40)
وليس من صميم البحث أن نتحدث عن نظرية النظم عند عبدالقاهر، ولا أن نتقصى أبعادها إلا بمقدار ما يفيدنا هذا عند تقويم موقفه النقدي من أبيات كُثير. وما نرى أنه يهمنا الآن هو كون نظريته قضاءً على ثنائية اللفظ والمعنى، وأنه في ضوء هذه النظرية عرض بنقد من ((يفردون اللفظ عن المعنى))[92]، أو من على أساسهما ((قسموا الشعر فقالوا إن منه ما حسن معناه دون لفظه))[93] معرضاً بابن قتيبة ومن يقف موقفه، كما أنه انتقد من يقدمون الكلام من أجل معناه فقط. ذلك لأن هذا التقديم في حقيقته فصل لشيئين من طبيعتهما الاتصال والتداخل والتلاحم،. بل إن هذا الفصل – كما يرى – يزيل أدبية النص وشعريته. ولهذا فحق النص أن ينظر إليه شكلاً ومضموناً لا شكلاً فقط أو مضموناً فقط. يقول في هذا الصدد: "واعلم أنهم لم يعيبوا تقديم الكلام بمعناه من حيث جهلوا أن المعنى إذا كان أدباً وحكمة وكان غريباً نادراً فهو أشرف مما ليس كذلك، بل عابوه من حيث كان من حكم من قضى في جنس من الأجناس بفضل أو نقص ألا يعتبر في قضيته تلك إلا الأوصاف التي تخص ذلك الجنس وترجع إلى حقيقته وألا ينظر فيها إلى جنس آخر وإن كان من الأول بسبيل أو متصلاً به اتصال مالا ينفك منه. ومعلوم أن سبيل الكلام سبيل التصوير والصياغة وأن سبيل المعنى الذي يعبر عنه سبيل الشيء الذي يقع التصوير والصوغ فيه كالفضة والذهب صياغ منهما خاتم أو سوار، فكما أن محالاً إذا أنت أردت النظر في صوغ الخاتم وفي جودة العمل ورداءته أن تنظر إلى الفضة الحاملة لتلك الصورة أو الذهب الذي وقع فيه العمل وتلك الصفة – كذلك محال إذا أردت أن تعرف مكان الفضل والمزية في الكلام أن تنظر في مجرد معناه. وكما أنا لو فضلنا خاتماً على خاتم بأن تكون فضة هذا أجود أو فصه أنفس لم يكن ذلك تفضيلاً له من حيث هو خاتم، كذلك ينبغي إذا فضلنا بيتاً على بيت من أجل معناه ألا يكون تفضيلاً له من حيث هو شعر[94] وكلام وهذا قاطع(19/41)
فاعرفه"[95].
ففي نصه الذي نقلناه – على طوله – أراد الجرجاني أن يؤكد ترابط اللفظ والمعنى، وأن يقرب لنا صورة هذا الترابط بمشاكلته بين الكلام والتصوير والصياغة حين قال: إن الكلام بما فيه من شكل ومضمون هو مثل التصوير والصياغة بما فيهما من شكل ومضمون. وعلى هذا فالمعنى من الكلام هو كالفضة أو الذهب من الصياغة. قد نفضل خاتماً على خاتم لأن فضة ذلك أجود أو فصه أنفس لكن هذا لا يعد تفضيلاً له من حيث هو خاتم، على هذا يقيس الجرجاني الشعر، فقد نفضل بيتاً على بيت من أجل معناه لكن هذا لا يعد تفضيلاً له من حيث هو شعر وكلام إبداعي. قد نسمي هذا نظماً أو نحوه، أم أن ندخله في إطار الشعر فلا، إذ الشعرية – كما يراها الجرجاني – تلاقً متفاعل بالجمالية والفنية بين المعنى واللفظ بما لهما عنده من مفهومات شاملة.
على هذا، هل نقول: إن الجرجاني – في إطار قضية اللفظ والمعنى – لا ينتصر للمعنى على اللفظ ولا للفظ على المعنى، وإنما ينتصر لفكرة النظم التي تلقفها أو استوحاها ممن سبقه (كالجاحظ (ت255)، والواسطي (ت307) صاحب كتاب ((إعجاز القرآن في نظمه)) وكأبي هلال العسكري) فبلورها في شكل الربط بين الاثنين أي بين الشكل والمضمون؟ إننا نجابه حقاً – في تناول عبدالقاهر لقضية اللفظ والمعنى غموضاً وإيهاماً بالتناقض كما رأى ذلك محمد خلف الله[96]، ومحمد مصطفى هدارة[97]. ففي مواضع من كتاب دلائل الإِعجاز وأسرار البلاغة يبدو كأنه ينتصر للمعنى، وفي موضع آخر يظهر كأنه ينتصر للفظ، ذلك أنه رأى أن الألفاظ تابعة للمعاني[98]، وأنها خدمها، والمصرفة في حكمها، المالكة سياستها[99]، بل إنه يقول بعبارة صريحة: "فمن نصر اللفظ على المعنى كان كمن أزال الشيء عن جهته وأحاله عن طبيعته"[100].(19/42)
كما يقرر في موضع آخر أن المزية للمعنى دون اللفظ: ((قد فرغنا الآن من الكلام على جنس المزية وأنها من حيز المعاني دون الألفاظ))[101] فظاهر ما نقلناه من نصوص لعبدالقاهر لا تترك مجالاً للشك في أنه من أنصار المعاني لا الألفاظ، لكنه في مواضع أخرى يرى ((أن الداء الدويّ... غلط من قدم الشعر بمعناه وأقل الاحتفال باللفظ وجعل لا يعطيه من المزية – إن هو أعطى – إلا ما فضل عن المعنى))[102] بل إنه يخطئ أنصار المعنى تخطيئاً عظيماً، ويرى أن موقفهم هذا يفضي بهم إلى إنكار الإِعجاز وأن فيه إلغاء جميع ما قاله الناس في الفصاحة والبلاغة وفي شأن النظم والتأليف ((اعلم أنهم لم يبلغوا في إنكار هذا المذهب (تقديم الكلام بمعناه) ما بلغوه إلا لأن الخطأ فيه عظيم وأنه يفضي بصاحبه إلى أن ينكر الإِعجاز ويبطل التحدي من حيث لا يشعر، وذلك أنه إن كان العمل على ما يذهبون إليه من أن لا يجب فضل ومزية إلا من جانب المعنى وحتى يكون قد قال حكمة أو أدباً، واستخرج معنى غريباً أو شبيهاً نادراً فقد وجب اطراح جميع ما قاله الناس في الفصاحة والبلاغة وفي شأن النظم والتأليف وبطل أن يجب بالنظم فضل وأن تدخله المزية وأن تتفاوت فيه المنازل))[103]، وقبل هذا علق على كلام الجاحظ (والمعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجمي والعربي، والقروي والبدوي، وإنما الشأن في إقامة الوزن، وتخير اللفظ، وسهولة المخرج، وصحة الطبع، وكثرة الماء وجودة السبك، وإنما الشعر صياغة وضرب من التصوير) علق بقوله: ((فقد تراه كيف أسقط أمر المعاني وأبى أن يجب لها فضل.. فأعلمك أن فضل الشعر بلفظه لا بمعناه وأنه إذا عدم الحسن في لفظه ونظمه لم يستحق هذا الاسم بالحقيقة))[104]، أفليست هذه النصوص التي نقلناها لا تترك هي الأخرى مجالاً للشك في أن عبدالقاهر ينتصر للفظ على حساب المعنى خلافاً لما توحي به أقواله السابقة والتي يبدو فيها منتصراً للمعنى ؟! الأمر في ظاهره تناقض أو موهم(19/43)
بالتناقض على الأقل، لكننا حين نمعن النظر ونتروى ونستجلي أبعاد نصوص عبدالقاهر وأقواله في إطار القضية – وفي أذهاننا استبعاد أن يقع مثل هذا الناقد العظيم في تناقض خطير مثل هذا – نخرج برؤية تحل مشكل ظاهرية التناقض، وتبعد ما اكتنف الموقف (موقف عبدالقاهر) من غموض إزاء مسألة اللفظ والمعنى. ولعل الخطوة الأولى في الطريق إلى التوفيق بين أقوال عبدالقاهر وزحزحة التناقض عن موقفه هي إدراكنا بأنه في إطار القضية تحدث عن نوعين من اللفظ قدّم أحدهما مقابل معنى وأخَّر الآخر، وعن نوعين من المعنى قدم أحدهما مقابل لفظ وأخر الآخر ومهمتنا الآن هي تعرف ما يقدم وما يؤخر من لفظ أو معنى. أما اللفظ الذي يؤخره فهو اللفظ من حيث هو لفظ ومجرد صوت لا يحمل أية دلالة معنوية، وأيضاً من حيث هو لفظ مجرد ومفرد عن جيرانه من الألفاظ، وعلى هذا فالألفاظ – عنده – بدون دلالات لا تتفاضل، وإنما تتفاضل بمالها من دلالات معنوية تلائم بها معاني جاراتها.
ويبدو أن الجرجاني حريص على ترسيخ هذا المفهوم بدليل إيراده أكثر من مرة فهو في دلائل الإِعجاز يقول: "فقد اتضح إذن اتضاحاً لا يدع للشك مجالاً أن الألفاظ لا تتفاضل من حيث هي ألفاظ مجردة ولا من حيث هي كلم مفردة، وأن الألفاظ تثبت لها الفضيلة وخلافها في ملائمة معنى اللفظة لمعنى التي تليها أو ما أشبه ذلك مما لا تعلق له بصريح اللفظ[105] وللمزيد من التأكيد على أن اللفظة لا قيمة لها في ذاتها منفردة وإنما بتفاعلها الدلالي مع جاراتها يستشهد الجرجاني ببعض الأبيات ويعلق عليها"[106].
ثم يضيف: "فلو كانت الكلمة إذا حسنت من حيث هي لفظ، وإذا استحقت المزية والشرف استحقت ذلك في ذاتها وعلى انفرادها، دون أن يكون السبب في ذلك حال لها من أخواتها المجاورة لها في النظم، لما اختلف بها الحال ولكانت إما أن تحسن أبداً أو لا تحسن أبداً"[107].(19/44)
لكن الأمر خلاف هذا، فالألفاظ لا تأخذ أمكنتها أو منازلها إلا بهذه المعاني التي تسكنها ((ولو خلت (هذه الألفاظ) من معانيها حتى تتجرد أصواتاً وأصداء حروف لما وقع في ضمير ولا هجس في خاطر أن يجب فيها ترتيب ونظم، وأن يجعل لها أمكنة ومنازل))[108]، ((ولو فرضنا أن تنخلع من هذه الألفاظ التي هي لغات دلالتها لما كان شيء منها أحق بالتقديم من شيء ولا ينصور أن يجب فيها ترتيب ونظم))[109].
هذه هي الألفاظ التي يؤخرها عبدالقاهر، والألفاظ من حيث هي ألفاظ مفردة عن أخواتها ومن حيث هي أصوات مجردة من الدلالة. وفي مقابل هذه الألفاظ التي يؤخرها تأتي معانيها، ليست معانيها الذاتية فحسب وإنما معانيها المتولدة من تلاؤمها بعضها مع بعض أي المعنى الذي أفرزه بناء العبارة ونظمها أو ((كل ما نتج عن السياق من فكر وإحساس وصورة وصوت)) كما يقول محمد زكي العشماوي[110]. هذا جانب، وجانب آخر هو أن عبدالقاهر حين يقدم هذا النوع من المعنى على ذاك النوع من الألفاظ يريد أن يقرر لذاك المعنى أسبقية وأولوية بالنظم والترتيب قبل الألفاظ، وهذه الأسبقية أو الأولوية هي بعض مما عبر عنه بالفضل أو المزية حينما قال؛ إن المزية من حيز المعاني دون الألفاظ كما ذكرنا قبل. ((فأما أن تتصور في الألفاظ أن تكون المقصودة قبل المعاني بالنظم والترتيب، وأن يكون الفكر في النظم الذي يتواصفه البلغاء فكراً في نظم الألفاظ.. فباطل من الظن ووهم يتخيل إلى من لا يوفي النظر حقه))[111] والمعنى من هذا المنظور هو ما تنهض عليه نظرية النظم التي تبلورت على يديه وترسخت نظريةً نقديةً لها أهميتها، هذه النظرية التي نلمس منه صدقاً ونشاطاً في الدفاع عنها، وفي شرحها وإيضاحها. عملية النظم عنده أبعد وأعمق من كونها عملية رَص للألفاظ وضمها بعضها إلى بعض؛ إذ هي اقتضاء لآثار معاني هذه الألفاظ وترتيب لها على حسب ترتيب المعاني في النفس[112]، وبدون هذا الترتيب تنعدم الصورة التي(19/45)
يتوخاها المبدع لنصه والتي تحصل له من معاني الألفاظ[113] – كما يقرر عبدالقاهر – لا من الألفاظ في أنفسها. بقى الآن أن نعرف نوع اللفظ الذي يقدمه أو ينتصر له عبدالقاهر على المعنى، ونوع المعنى الذي يؤخره وينتصر للفظ عليه. فأما اللفظ الذي قصده بالتقديم فهو لفظ يحمل مفهوم المصطلح – عنده – وليس هو اللفظ بوصفه كلمة صوتيه لها معناها اللغوي. اللفظ عنده ذو مفهوم واسع يستوعب أكثر من طريقة فنية للتعبير، يستوعب الصياغة والنظم والتأليف والبناء وكل ما يخدم وشائج عناصر النص وتفاعلها.
واللفظ عنده هو النظم الذي به تتناسق دلالات الألفاظ، وتتلاقى معانيها وتتلاءم. لنقرأ قوله: "واعلم أن الداء الدوي والذي أعيى أمره في هذا الباب غلط من قدم الشعر بمعناه وأقل الاحتفال باللفظ.. فإن مال إلى اللفظ شيئاً ورأى أن ينحله بعض الفضيلة لم يعرف غير الاستعارة"[114].
ولننظر كيف أدخل الاستعارة في مفهوم اللفظ الذي يعنيه بالتقديم. ولنقرأ – أيضاً – قوله: "إن كان العمل على ما يذهبون إليه من أن لا يجب فضل ولا مزية إلا من جانب المعنى.. فقد وجب اطراح جميع ما قاله الناس في الفصاحة والبلاغة وفي شأن النظم والتأليف وبطل أن يجب بالنظم فضل وأن تدخله المزية"[115].(19/46)
ولننظر – أيضاً – كيف أدخل (تقنيات) الفصاحة والبلاغة وما هو من شأن النظم والتأليف في مفهوم اللفظ هذا، وكيف أعاد في تساؤله ذكر النظم مستنكراً ألا يجب له فضل ومزية كأنه يشير إلى أنه (النظم) يحتل مساحة كبيرة في مصطلح اللفظ المعنى بالتقديم. لقد قلت قبل قليل: إن للفظ عند عبدالقاهر مفهوماً واسعاً، غير أن هذا المفهوم لا يخرج عن مفهوم الصورة التي يبرز فيها المعنى ملتحماً بها، ولهذا نجد عبدالقاهر نفسه يقرر أن ما يراد باللفظ هو الصورة، وأن الناس إنما ((حملوا كلام العلماء، في كل ما نسبوا فيه الفضيلة إلى اللفظ على ظاهره وأبو أن ينظروا في الأوصاف التي أتبعوها نسبتهم الفضيلة إلى اللفظ مثل قولهم: لفظ متمكن غير قلق ولا ناب[116] به موضعه: إلى سائر ما ذكرناه قبل فيعلموا أنهم لم يوجبوا للفظ ما أوجبوه من الفضيلة وهم يعنون نطق اللسان وأجراس الحروف، ولكن جعلوا كالمواضعة فيما بينهم أن يقولوا اللفظ وهم يريدون الصورة التي تحدث في المعنى والخاصة التي حدثت فيه))[117]. وبهذا يكون انتصار عبدالقاهر الجرجاني – في إطار قضية اللفظ والمعنى – إنما هو في حقيقته انتصار ضمني للصورة الشعرية[118] كما يرى محمد مصطفى هدارة[119]. والجرجاني نفسه انتقد أولئك الذين ((جهلوا شأن الصورة... فقالوا إنه ليس إلا المعنى واللفظ ولا ثالث))[120]، وهو في الحقيقة انتقاد ضمني لمن يفصل بين اللفظ والمعنى. وأما المعنى الذي يؤخره عبدالقاهر وينتصر للفظ – بمعنى الصورة – عليه فهو المعنى مجرداً من الشكل، ومن هنا رأيه استحالة معرفة مكان الفضل والمزية في الكلام الأدبي إذا كانت نظرتنا فيه إلى مجرد معناه[121] إذ المعول عليه في أدبية النص أو شعريته ليس المعنى كما يرى عبدالقاهر، وإن كان هذا المعنى أدباً وحكمة وغريباً نادراً مع شرف هذه المعاني. المعول عليه هو الإِطار أو القالب الذي قدم فيه المعنى ملتحماً به ومنسجماً معه هو الصورة: صورة العمل(19/47)
الأدبي المتخلقة من ألفاظه ومعانيه ومن أدوات هذا التخلق وطرقه الفنية، هو الصورة التي انتهى إليها النص الشعري بعد أن انصهرت أشياؤه في مُفاعَل التكوين الإِبداعي العجيب.
بعد هذه الجولة التي نعدها ضرورية لتفهم رؤية عبدالقاهر الجرجاني إلى أبيات كثير، ومعينة – أيضاً – على تصور أبعاد تناوله إياها – نصل الآن إلى تتبع هذا التناول وتفحص تلك الرؤية. ونعتقد أنهما تناول ورؤية يقفان في مستوى مقاربات النص الجادة، هذه المقاربات التي تحترم النص ولا تقنع منه بالمرور العابر أو بالنظرة العجلى التي لا تخترقه وتجسه في كل جوانبه. وإذا كانت مقاربة النص تتحقق – كما يقول تودوروف[122] – بعدة طرق منها البقاء داخله، ومنها قراءته باعتباره نظاماً تسعى هذه القراءة إلى توضيح علائق شتى أجزائه، ومنها استغلاليته فإن عبدالقاهر سعى قريباً جداً من هذه المقاربات التي نرجو أو تتكشف من خلال وقوفنا على بعض لمساته النقدية للأبيات، لكنا نشير الآن إلى مقاربة استغلالية النص لنقرر في البداية أن عبدالقاهر استغل نص كثير من أكثر من شيء حتى في الانتفاع به وتوظيفه في خدمة ((نظرية النظم)) التي ينتصر لها في العمل الأدبي، فتناوله لهذا النصر جاء في أعقاب حديثه عن بيت الفرزدق:
وما مثله في الناس إلا مملكاً أبو أمه حيُّ أبوه يقاربه[123](19/48)
والذي يُضرب به المثل – كما يقول – في تعسف اللفظ. وتعسف اللفظ هذا في رأي الجرجاني لم يكن بسبب لفظه مجرداً ((من حيث أنك أنكرت شيئاً من حروفه أو صادفت وحشياً غريباً، أو سوقياً ضعيفاً))[124] وإنما كان ((لأنه لم يرتب الألفاظ في الذكر على موجب ترتيب المعاني في الفكر، فكد وكدر، ومنع السامع أن يفهم الغرض إلا بأن يقدم ويؤخر، ثم أسرف في إبطال النظام، وإبعاد المرام، وصار كمن رمى بأجزاء تتألف منها صورة، ولكن بعد أن يراجع فيها باباً من الهندسة، لفرط ما عادى بين أشكالها، وشدة ما خلف بين أوضاعها))[125]، فواضح أنه نظر إلى بيت الفرزدق هذا في ضوء نظرية النظم وفي إطارها الذي أشرنا إلى أنه يستوعب صورة العمل الأدبي المتخلقة من ألفاظه ومعانيه ومن أدوات هذا التخلق وطرقه الفنية، إن توعر اللفظ أو تعسفه في بيت الفرزدق لا تكمن أسبابه في ألفاظ البيت من حيث هي ألفاظ مجردة إذ لا غرابة فيها ولا وحشية ولا ضعف أو سوقية، السبب هو في تهافت البناء الفني وفي تباعد أجزاء الصور وعلائق النظم، ولهذا نجده بعد بيت الفرزدق يعرض من ناحية تعارضية أبيات ((ولما قضينا)) ليصحح النظرة النقدية الأخرى تجاه هذه الأبيات، تلك النظرة التي ترى جمال الأبيات في ألفاظها فحسب، ففي رأيه أن من أثنوا على الأبيات واستحسنوها بسبب ألفاظها، كانوا واهمين بسبب تسرعهم في الحكم، ولو تأملوا وروّوا لأدركوا أن هذا الجمال يكمن في شيء آخر وراء هذه الأبيات، يكمن في النظم أو الصورة في أوسع معنى لهما وأشمله عنده.(19/49)
وأول ما يستهل به عبدالقاهر رؤيته للأبيات[126] هو التأكيد على قاعدة نقدية لابد من الإِيواء إليها في نقد العمل الأدبي، وهي التفكير، وحسن التأمل، وعدم التسامح أو التساهل في إطلاق الأحكام ((راجع فكرتك، واشحذ بصيرتك، وأحسن التأمل، ودع عنك التجوز في الرأي))[127]. وهذه قاعدة تجعلنا نعد عبدالقاهر – دون شك – من هؤلاء النقاد الذين دعوا إلى مقاربة النص بمعايشته وتعمقه دليلاً على احترامه وربما عشقه. ثم بعد هذا يلفت الأنظار إلى أن جمال الأبيات يعود – في جوهره – إلى جملة أشياء أجملها في الاستعارة الصائبة، والترتيب الحسن، والسلامة من الحشو ومن التقصير[128]، كأن يريد أن يقول هنا: إن هذه الأبيات تلبست بالجمال ولبست الحسن بتكاملها المنتظم أو انتظامها المتكامل. وبعد هذا الإِجمال يشرع في التعليل لما أطلقه من أحكام فيبدأ بالبيت الأول:
ولما قضينا من منى كل حاجة ومسح بالأركان من هو ماسح
وما في شطره الأول من بعد عن التقريرية والحشو والتفاصيل التي تفسد الشعر، وذلك أنه ((عبر عن قضاء المناسك بأجمعها، والخروج من فروضها وسننها، من طريق أمكنه أن يقصر معه اللفظ، وهو طريقة العموم))[129]، باستعماله عبارة ((كل حاجة)) فلم يحتج إلى سرد هذه المناسك ومالها من فروض وسنن. ورغم استفادة الجرجاني النقدية الجيدة من عبارة ((كل حاجة)) إلا أنها استفادة محدودة مقارنة بما فعله ابن جني، فالفضاء الذي غزاه ابن جني بهذا الشطر أرحب وأطرف ألواناً. ثم ينتقل الجرجاني إلى الشطر الثاني:
ومسح بالأركان من هو ماسح(19/50)
محاولاً تبصيرنا بطريقة التعبير الفنية التي اكتسب بها شعريته وهي الإِشارية والإِيحائية، فالمسح بالأركان هو إشارة إلى طواف الوداع وهو في الوقت نفسه إشارة إلى المسير وإيحاء به[130]، أو هو كما عبر ابن طباطبا ((استشعار قائله لفرحة قفوله إلى بلده وسروره بالحاجة التي وصفها، من قضاء حجه وأنسه برفقائه ومحادثتهم))[131]، وقد يكون الجرجاني اطلع على ما قاله سلفه، ومهما يكن فقد أدرك البعد النفسي في مضمون الأبيات. ويبدو أن الجرجاني هو من هؤلاء النقاد الذين يحاولون استنزاف طاقات النص التعبيرية فقد استوقفه قول كثير:
أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا
وخاصة منه لفظة ((أطراف)) ومالها أو فيها من إيحاءات دلالية، يقول في هذا الصدد: ((ثم دل بلفظة)) ((الأطراف)) على الصفة التي يختص بها الرفاق في السفر، من التصرف في فنون القول وشجون الحديث، أو ما هو عادة المتطرفين من الإِشارة والتلويح والرمز والإيحاء، وأنبأ بذلك عن طيب النفوس، وقوة النشاط، وفضل الاغتباط، كما توجبه ألفة الأصحاب، وأنسة الأحباب، وكما يليق بحال من وفق لقضاء العبادة الشريفة ورجا حسن الإِياب، وتنسم روائح الأحبة والأوطان، واستماع التهاني والتحايا من الخلان والإِخوان))[132] ومع أننا لا نستبعد أن يكون الجرجاني قد استفاد – أيضاً – مما قاله ابن جني في هذا إلا أنه قد اعتصر هو الآخر الأبعاد الدلالية لكلمة الأطراف في إطار علاقات النص، وفي إطار مرجعيته المضمونية أو الظرفية التي قيل فيها وأيضاً في إطار مرجعيته النفسية التي عايشها مُنشؤه سواء في شكل رغبة شريفة تحققت أو آمال يحلم بتحققها من مثل ما ذكره الجرجاني نفسه عن كلمة ((أطراف)).(19/51)
ويظهر أن الجرجاني مأخوذ ومعجب إعجاباً واضحاً بالصورة الاستعارية أو الاستعارة التصويرية في قول كثير: ((وسالت بأعناق المطي الأباطح)) فعنده أن هذه الاستعارة كمثل التاج للأبيات، وأن كُثيراً أضاف بها إلى نصه حسناً وجمالاً بسبب ما وفق إليه من دقة وإحكام في تأليفها ((ثم زان ذلك كله باستعارة لطيفة طبق فيها مفصل التشبيه))[133] ولعل إعجاب الجرجاني بهذه الاستعارة هو ما دفعه إلى تناولها بالتحليل ليس في أثناء تناوله أبيات كثير في كتابه (أسرار البلاغة) فقط، وإنما في كتابه الآخر (دلائل الاعجاز)[134]، ففي هذه التناولات لم يكتف عبدالقاهر بإطلاق حكمه، وإنما سعى بثقة إلى كشف الأسرار الجمالية في هذا الاستعارة، وهو سعي نكبر من أجله الجرجاني وأمثاله من رواد النقد القدامى الذين أدركوا قيمة التعليل في الأحكام النقدية، فعدا ما ذكرناه من دقة التأليف وإحكامه بوصفهما أحد الأسرار وراء جمال تلك الاستعارة، ينبهنا الجرجاني إلى سر آخر يكمن في الترابط بينها وبين الشطر السابق ((أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا)) فقول الشاعر: وسالت بأعناق المطي الأباطح)) تأكيد – في رأيه – وتوضيح لقوله: ((أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا)) ذلك أنه يرى أن السير السهل السريع (الذي توحيه الاستعارة) زاد في نشاط الركبان فأخذوا بينهم بأطراف الأحاديث[135] بخلاف ابن الأثير الذي رأى – كما عرفنا في موضع سابق - أن لذة الحديث هي ما شغل الركبان عن إمساك الأزِمَة فاسترخت عن أيديهم فأسرعت المطايا. ومهما يكن السبب والمسبَّب فالرجلان قد نجحا في إدراك إحدى علائق النص المهمة. والفرق بينهما هو أن عبدالقاهر جعل شطر الاستعارة ((وسالت بأعناق المطي الأباطح)) هو المحور الرئيس في النص في حين أن ابن الأثير يرى أن ((أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا)) هو ذلك المحور. لقد حرص كل منهما أن ينطلق في تعليله من منطلق واقعي إضافة إلى الذوقي دون شك غير أنني أحس ميلاً إلى توجه(19/52)
ابن الأثير لإِحساس آخر بأن ((أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا)) تبدو هي بؤرة الاستقطاب والانطلاق في الوقت نفسه لعلاقات النص أو هي بنية النص الكبرى المسؤولة – فيما يبدو – عن تماسكه. ثم إن السياق التعاقبي لأحداث النص تُرجح هذا التوجه. وسر ثالث يأتي وراء إعجاب الجرجاني باستعارة كثير وهو هذه الخصوصية[136]، أو الخاصية[137] التي يرى الجرجاني – بأن أسند الفعل ((سال)) إلى الأباطح لا إلى المطي ثم بتعدية هذا الفعل بالباء لا بفي، ثم بإدخال هذه الباء على الأعناق التي أدخلها في البيت. ولو لم ينهج الشاعر هذا (التكتيك) الفني واكتفى بقوله: سالت المطي في الأباطح، لفارقت الاستعارة – في رأي عبدالقاهر – دقتها ولطفها وخصوصيتها وغرابتها[138]. ولعل من أهم أسباب جمالية هذه الاستعارة رمزيتها للحركة وإيحائيتها بها. ويَعد عبدالقاهر كلمة ((أعناق)) في قول الشاعر ((بأعناق المطي)) دون قوله ((بالمطي)) الرمز الأقوى لحركية الصورة لأن السرعة والبطء – كما يقول – يظهران غالباً في الأعناق[139] وإذا كانت كلمة ((أعناق)) رمزاً لحركية الصورة وإيحاء بها، فإن هناك كلمة أخرى يراها عبدالقاهر تولت وظيفة التحديد لنوعية هذه الحركة وكيفيتها وهي كلمة ((سالت)) فهي رمز آخر ولكن لسرعة الحركة (السير) مصحوبة بالسهولة والليونة والسلاسة، أو كما يقول الجرجاني نفسه: ((وأخبر بعد بسرعة السير، ووطاءة الظهر، إذا جعل سلاسة سيرها بهم كالماء تسيل به الأباطح))[140].(19/53)
يبدو أن رحلتنا مع عبدالقاهر الجرجاني قد طالت، لكن إحساسنا بهذا الطول لم يكن حاداً ولا مملاً، ففي الرحلة متعة النقد وفائدته اللتان أفدناهما منه، إلى جانب الصبر عند النقد والإِخلاص فيه، وإلى جانب ما لمسناه عنده من مجاهدة نقدية تطبيقية حاول بها ومن خلال أبيات كثير التدليل على ما يذهب إليه من أن سر جمال النصوص الأدبية إنما يكمن في النظم، في انصهار الشكل والمضمون والتحامهما بعضهما مع بعض، في أبيات كثير لا وجود مستقلاً للمعنى كما لا وجود مستقلاً للفظ، وهؤلاء الذين أرجعوا جمالها إلى اللفظ إنما هم – في رأيه – متسرعون واهمون. ولهذا تساءل – في استغراب وإنكار – بعد تحليله النقدي للأبيات قائلاً: ((هل بقيت عليك حسنة تحيل فيها على لفظة من ألفاظها[141]؟!)) بل إنه يرفض أن يُجعل من الألفاظ وحسنها قياساً أوحدَ لمثل أبيات كثير، إذ من حق هذا اللون من الشعر – كما نفهم من قول الجرجاني[142] – أن يتخذ دليلاً على تناصر المعاني، وتفاعلها بعضها مع بعض، ودليلاً على تزايد حسنها بتناسق أشكالها، وبالبراعة في صياغتها على نسق خاص طبقاً لما بينها من تقارب فكري ساعة الإِبداع، وتجاور أو تجانس ساعة التلقي.
ونود أن نذكر – قبل الفراغ من هذا المبحث – أن من النقاد القدامى من تناول الصورة الاستعارية في ((وسالت بأعناق المطي الأباطح)) مثل القاضي الجرجاني (ت366هـ) في الوساطة[143]، ومثل العباسي (ت963هـ) في معاهد التنصيص[144] لكن تأول هذين جاء محصوراً في إطار الصورة الاستعارية كما أشرنا حين اجنزأا البيت المشتمل على الاستعارة فتحدثا عنها. هذا من جانب، ومن جانب آخر فقد كان حديث القاضي الجرجاني عنها من جنس النقد الوصفي المفتقر إلى التحليل والتعليل إذ قال: ((فإذا جاءتك الاستعارة كقول ابن الطثرية))[145].
أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا وسالت بأعناق المطي الأباطح(19/54)
فقد جاءك الحسن والإِحسان، وقد أصبت ما أردت من إحكام الصنعة وعذوبة اللفظ))[146] ولعل القاضي الجرجاني أراد أن يشير بقوله ((إحكام الصنعة)) إلى سلامة البيت وخلوه من حشو الكلام ومما لا فائدة للشعر في ذكره، فقد أدرج البيت في قسم ((الحشو في الشعر)) وما أشار إليه الجرجاني القاضي هو ما نص عليه صراحة الجرجاني عبدالقاهر كما مر بنا، أما حديث العباسي عن الاستعارة فلا نلمس فيه جديداً غير ما قاله عبدالقاهر فيها، أي إن ما قاله العباسي هو ما قاله عبدالقاهر إما بحرفه وإما بمعناه، تلك كانت طريقة العباسي والقاضي الجرجاني في تناولهما استعارة كثير، وتلك كانت رؤيتهما إليها: رؤية مجتزئة في بعضها لم تحلل ولم تعلل، ومكررة لم تضف في بعضها الآخر. ولقد ذكرنا ما قاله هذان الناقدان ليتضح لنا ما تميز به تناول عبدالقاهر لاستعارة كثير تلك، وهو أن تناوله هذا جاء امتداداً لرؤيته الأبيات في إطار الصورة بمفهومها الشامل عنده، وفي شكل متكامل البناء والنظم. ونرجح أن هذا قد أتى متوافقاً مع إحدى رؤاه النقدية التي يتجاوز فيها في بعض الحالات حدود البيت إلى النص كاملاً متكامل الإِبداع، أو ما يمكن أن نسميه وحدة النص الإِبداعية، هذه الوحدة التي لا تتيسر إلا بتلاحق أجزائها وانضمام بعضها إلى بعض كما يرى عبدالقاهر: ((واعلم أن من الكلام ما أنت ترى المزية في نظمه والحسن كالأجزاء من الصبغ تتلاحق وينضم بعضها إلى بعض حتى تكثر في العين، فأنت لذلك لا تكبر شأن صاحبه ولا تقضي له الحذق والأستاذية وسعة الذرع وشدة المنة (القوة) حتى تستوفي القطعة وتأتي قدمها. وكون عبدالقاهر لم يعتمدها قاعدة نقدية في جميع الحالات لا يقلل من قيمتها، فهو واقع كثيره في أسر وحدة البيت وتكفيه هذه الإِضاءة التي أحدث بها انفراجاً في هذا الأسر وإرخاءً له[147].(19/55)
(2) وممن وقفوا عند الأبيات ابن رشد (ت595هـ) في تلخيص كتاب أرسطو في الشعر. ولم يكن وقوفه طويلاً، ولكنه وقوف يشكل رؤية نقدية أو تذوقية جديرة بالتسجيل. والمناسبة هي قول أرسطو – كما لخصه ابن رشد: "والقول إنما يكون مختلفاً، أي مغيراً عن القول الحقيقي، من حيث توضع فيه الأسماء متوافقة في الموازنة والمقدار، وبالأسماء الغريبة وبغير ذلك من أنواع التغيير. وقد يستدل على أن القول الشعري هو المغير أنه إذا غير القول الحقيقي سمي شعراً أو قولاً شعرياً، ووجد له فعل الشعر"[148].
ثم مثل (ابن رشد) لذلك ببيتي كثير:
ولما قضينا من منى كل حاجة ومسح بالأركان من هو ماسح
أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا وسالت بأعناق المطي الأباطح
وعلق على البيتين بقوله: ((وإنما صار شعراً من قبل أنه استعمل قوله: أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا وسالت بأعناق المطي الأباطح، بدل قوله: تحدثنا ومشينا))[149].(19/56)
ابن رشد يقر لأبيات كثير بالشعرية وبأن لها فعل الشعر وأنها من الأشعار المحركة ((وأنت إذا تأملت الأشعار المحركة وجدتها بهذه الحال – يشير إلى حالة الأبيات التي استشهد بها، وأبيات كثير من ضمنها – وما عدا من هذه التغييرات فليس فيه من معنى الشعرية إلا الوزن فقط))[150] فمن أين اكتسبت ((ولما قضينا)) شعريتها؟؛ كما نلحظ من رؤية ابن رشد، لم تتلبس الشعرية هذه الأبيات بسبب معنى مفيد تحويه أو فكر تتضمنه، وهذا يلفت الانتباه، فابن رشد يُحسب من المفكرين الذين يُتوقع تَطلُّبهم في الشعر فكراً أو معنى مفيداً. وإنما اكتسبت الأبيات شعريتها عنده بابتعادها عن المباشرة التعبيرية. نفهم هذا من تعليقه السابق: ((وإنما صار شعراً من قبل أنه استعمل قوله: أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا وسالت بأعناق المطي الأباطح، بدل قوله: تحدثنا ومشينا)) فالعبارة الأولى ((أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا)) ابتعدت عن المباشرة بإيحائيتها، وابتعدت الثانية باستعارتها. الأبيات عند ابن رشد لا تختزن معنى محدداً مفيداً ولكنها محركة تخلق انطباعات وأحاسيس مما يذكرنا بواحد من مبادئ الرمزيين في الشعر. وابن رشد لم يتناول الأبيات في إطار قضية اللفظ والمعنى كما فعل كثير من القدامى. وشعريتها عنده لم تكن بسبب لفظ أو معنى وإنما بسبب أسلوبية تعبيرية خاصة نقلتها عن القول الحقيقي إلى الشعري وأوجدت لها فعل الشعر. وهذا مقياس يقربه من ميدان عبدالقاهر الجرجاني الذي لا يرى جمال الشعر في الألفاظ فقط أو في المعاني فقط وإنما في تلك الطريقة التعبيرية الخاصة التي يطلق عليها ((النظم)).(19/57)
بهذا نصل إلى نهاية رؤية النقد العربي القديم إلى أبيات كثير. ونقر أن ما يثير الإِعجاب منها موقفان لا يخلوان من تشابه وهما موقفا ابن جني وعبدالقاهر الجرجاني من الأبيات وطريقة تناولهما إياها. هذا التناول الذي يدفعنا إلى الزعم بأن هذين الناقدين يلتقيان مع الأسلوبيين أو يلتقي معهما الأسلوبيون في غير واحدة من سمات النقد الأسلوبي[151]، فكلاهما استفاد كثيراً من توظيفه أو عدّه اللغة أحد الأبعاد المثرية والمثمرة لدراسة النص. وكلاهما أخضع الأبيات للتحليل، والبحث عن العلاقات بين الدوال والمدلولات بعيداً عن الوصف والمعيارية الجامدة. كلاهما بحث عن المعنى، بل درس ((طريقة التعبير)) عن الفكر من خلال اللغة. وكلاهما قام برصد انحراف عن المألوف في التعبير: ابن جني رصد لنا انحرافاً في ((أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا)) عما هو مألوف في ذكر الحديث مرسلاً لو قال: ((أخذنا في أحاديثنا)) فقد قيد الأحاديث بأطراف، وهو مما جسد للنص معنى عالياً متقدماً في النفوس كما يقول ابن جني[152]. والجرجاني رصد لنا انحرافاً في ((سالت بأعناق المطي الأباطح)) حين أسند الفعل ((سال)) إلى الأباطح لا إلى المطي لو قال ((سالت المطي في الأباطح)) إذ لو فعل لكانت استعارة عادية مألوفة. وإذا كان النحو عملية أساسية في الرسالة الإِبداعية كما يرى الأسلوبيون[153]. وفإن عبدالقاهر يتخذ من النحو متكأً رئيساً لنظريته في النظم وكلاهما اعتصر إمكانات النص التعبيرية مقدمةً وتفسيراً في الوقت نفسه لجمالياته، وفاعلياته ووظائفه، وهذا شيء حفظ له (النص) رواءه ونضارته. وأخيراً فكلاهما اندمج في النص وأبدى معه تعاطفاً واضحاً سهل لهما الولوج إلى أعماقه واكتشاف كثير من أسراره. ولا أنسى أن أنوِّه – أيضاً – ببعضٍ من تناول أبي هلال العسكري الأبيات؛ فقد أجالها في أفق نقدي دفعني إلى التساؤل عما إذا كان هذا الناقد العباسي يُعد سابقة بنيوية[154] في النقد العربي(19/58)
القديم، بل إنني أتساءل أمام رؤى هؤلاء النقاد الثلاثة مجتمعين عما أبقوه في أبيات كثير لنقادنا بعدهم في العصر الحديث.
الفصل الثاني – في النقد الحديث
لم تشغل أبيات ((ولما قضينا...)) نقاد العرب المتقدمين وحدهم، فقد انشغل بها أيضاً النقاد العرب المحدثون. ولولا موقف عبدالقاهر الجرجاني المضيء لقلنا إن تناول القدماء للأبيات كان واقعاً كله في دائرة قضية اللفظ والمعنى وأيهما يكمن وراء الأعمال الأدبية. أما تناول المحدثين من نقادنا فقد جاء إما في سياق التأريخ للنقد الأدبي وإما من خلال بحوث ودراسات لقضايا هذا النقد، ولست أزعم أني أحيط بكل هؤلاء النقاد الجدد الذين تناولوا أبيات كُثَير، أو أني قد اطلعت على كل ما كتب عنها في النقد الحديث فربما فاتني منه شيء. لكن ما اطلعت عليه في الموضوع شيء لافت للنظر، ومثير للتساؤل، ومغرٍ بالبحث مثله مثل ما وقع تحت عيني في النقد القديم.
ولأن رؤية النقد الحديث تبدو متشابهة ومتداخلة ويصعب بسبب هذا تقسيمها تحت عناوين أو مسميات محددة مثل ما فعلنا مع النقد القديم – فإنني سأتناول رؤية أو تناول كل ناقد حديث على حدة للسبب الذي ذكرته، وحتى تسهل متابعة هذا التناول ومناقشته والتحاور مع صاحبه إن رأيت لذلك حاجة.
ولأني لست متأكداً من النسق الزمني الذي ينتظم هذه التناولات الحديث فسأعول على ما أرجح أسبقيته استئناساً بتاريخ طبعات المراجع. وأحمد الشايب – فيما يبدو – هو أول هؤلاء الكوكبة من النقاد ولهذا سنستهل به هذا المبحث.(19/59)
1- تعرض الشايب لأبيات كُثَير في كتابه (أصول النقد الأدبي) ثلاث مرات: مرة في فصل عن الذوق الأدبي وأخرى في فصل عن العاطفة وأخرى عن الحقيقة كموضوع للأدب. ولم يشأ أن يقف طويلاً في المرة الأولى عند الأبيات فقد اقتصر على القول بأن ابن قتيبة عجز عن تبين أسرار جمالها الأدبي، وأنه غفل عن العاطفة الصادقة والخيال الجميل[155]. وقد كرر في وقفته الثانية ما قاله في الأولى من أن الأبيات تختزن عاطفة قوية وشعوراً صادقاً وخيالاً بارعاً، غير أنه أضاف إلى هذا شيئاً آخر هو قوة الأسلوب، وأن هذا كله وخاصة قوة الشعور يعوض ما تفتقده الأبيات من المعاني الفلسفية أو المبتدعة[156]. أما في وقفته الثالثة فقد كرر – أيضاً – ما قاله في وقفتيه الأولى والثانية وهو توافر صدق الشعور وحسن الخيال في الأبيات، كما كرر انتقاده لابن قتيبة بأنه ((لم يحسن تحليل هذه الأبيات فمسخها مسخاً شنيعاً وذهب بأصل جمالها الذي تراءى منه شيء في الألفاظ وغفل عن باقيه))[157] غير أنه أطال في هذه الوقفة شيئاً ما حين وضح بعض مظاهر النص العاطفية والخيالية.(19/60)
أحمد الشايب إذن، أي من خلال هذه الوقفات الثلاث يرى أن سر جمال الأبيات يتركز في عنصرين اثنين هما العاطفة والخيال، فعنده ((أن الجديد في الشعر هو التصوير الخيالي للعواطف لا التعبير اللغوي عن الفلسفات وليس الغرض منه التعليم بل التأثير))[158] وفي مجال تدليله على توافر هذين العنصرين ((العاطفة والخيال)) في الأبيات ذكر أشياء أشار إليها ثلاثة من النقاد القدماء أنفسهم وهم ابن جني وابن طباطبا وعبدالقاهر الجرجاني مثل أمل الحاج في المغفرة بعد أداء الحج، والشوق إلى الوطن، والتآلف الذي يجمع بين المسافرين ومثل الكناية أو الرمز بمسح الأركان للانتهاء من المناسك، ويشد الرحال على متون الإِبل للاستعداد للعودة[159]، وأحسب أن الأستاذ الشايب أراد أن يؤكد – بما قاله – شعرية الأبيات التي تعرضت للانتقاص من قبل بعض النقاد الأقدمين، إذ الشعرية – كما نفهم من كلامه – لا تجسدها المعاني الذهنية. ومعنى الشعر ليس بالضرورة ذهنياً فهناك النفسي والشعوري بل إنه بهذين ألصق وأليق. ولا يبدو أن هذا الناقد الحديث رغم هذه الإِدراكات الجيدة التي نسجلها له قد أضاف شيئاً ذا قيمة نقدية إلى ما قاله القدامى خاصة الثلاثة الذين ذكرناهم قبل قليل. وهو نفسه – بمنهجيته العملية – يرى ذلك ويقره حين قال: إن عبدالقاهر الجرجاني جاء فتعقب ابن قتيبة ((وبين ما في الأبيات من صدق الشعور وقوته التي أثمرت جمال التعبير وروعة الخيال وإن لم تشتمل على حقائق حكمية كما يود ابن قتيبة))[160]. وحين قال بعد أن أشار إلى مظاهر العاطفة والخيال في الأبيات: ((وهذه هي الحقيقة الأدبية التي غفل عنها ابن قتيبة وأدركها الجرجاني))[161].(19/61)
(2) كما وقف – دون إطالة – عند الأبيات محمد مندور في كتابه (النقد المنهجي عند العرب) وذلك في معرض حديثه عن ابن قتيبة، وتحديداً في الموضع الذي يبين فيه ما يقصده ابن قتيبة بالمعنى. يقول مندور: ((وبمراجعة الأمثلة التي أوردها (ابن قتيبة) يظهر أنه يقصد بالمعنى إلى أحد أمرين:
1- فكرة.
2- معنى أخلاقي.
فأما الفكرة فبدليل أنه ينتقد الأبيات الآتية (ولما قضينا) لخلوها فيما يقول من كل معنى مفيد)) ثم يورد مندور الأبيات ويتابع قائلاً: ((إذ من الواضح أن هذه الأبيات الجميلة التي نثرها ابن قتيبة... لا تحمل أية فكرة، وإنما هي تصوير فني رائع استطاع عبدالقاهر الجرجاني أن يدرك جماله فيما بعد، ويدل على ما فيه من صور أخاذه وخصوصاً في الشطر الأخير)) وسالت بأعناق المطي الأباطح))[162].(19/62)
هذا هو كل ما قاله مندور عن الأبيات. ولا أعتقد أن الموضع الذي تناولها فيه يستدعي التحليل أو الإِطالة، لكن شيئاً يلفت الانتباه في كلامه، وهو موافقته ابن قتيبة في أن الأبيات لا تحمل أية فكرة! ففي مثل هذا مزلق إلى الفصل بين الشكل والمضمون، وفيه ما يوهم بأنه (مندور) غفل عما في الأبيات من معنى نفسي خاصة أنه في تعليقه على الأبيات ركز على ما فيها من جانب تصويري ولم يشر إلى تلك المضمونات أو الأفكار النفسية أو الشعورية التي أدركها كل من ابن طباطبا وابن جني والجرجاني عبدالقاهر. فهل نقول بسبب هذا: إن مندوراً – من ناحية معاكسة وقع فيما وقع فيه ابن قتيبة من تحديد للمعنى الشعري وتضييق له؛ أما ابن قتيبة فحين حصر معاني الشعر في الحكمة والأخلاق ونحوهما. وأما مندور فحين جرد الأبيات من أية فكرة ناسياً أو غافلاً عما تفيض به من معانٍ عن مثل هذه البدهيات النقدية، ثم أن ما نرجحه هو أنه لم يعنِ بالفكرة التي جرد أبيات كُثَيِّر منها الفكرةَ على إطلاقها، وإنما عنى الفكرة الذهنية أو الفلسفية. أما الشيء الذي نؤكده مطمئنين فهو أن الدكتور مندوراً في تناوله الأبيات لم يضف جديداً نقدياً، وهو ما يقرره نفسه عندما أكد أن ما في الأبيات من تصوير فني رائع أخاذ – استطاع عبدالقاهر الجرجاني أن يدرك جماله فيما بعد[163].
(3) وممن تناولوا أبيات ((ولما قضينا...)) سيد قطب في كتابه (النقد الأدبي: أصوله ومناهجه) وكان تناوله في مبحث عن ((القيم التعبيرية)) وعلى الرغم من أنه لم يطل وقفته عند الأبيات ذاتها تحليلاً أو تقويماً إلا أن السياق الذي تناولها فيه يختزن من الرؤى النقدية والفنية ما يسم هذه الوقفة بالعمق والثراء والمردودية. كل هذه أشياء تنقل صاحبها إلى صف أولئك النقاد الذين يحتفلون بالنص، ويحتفون به، ويؤانسونه، ويتنسمون معناه حتى يبوح بمكنونه وسره.(19/63)
أبيات كُثَيِّر في رأي قطب ذات مضمون شعوري لا ذهني. ولكل من هذين تعبيره الخاص؛ ينفرد الأول بتعبيره الأدبي والثاني بتعبيره العلمي ((وإذا كانت ميزة التعبير العلمي والتعبير الفلسفي هي دقة الدلالة الذهنية للعبارة، فميزة التعبير الأدبي هي الظلال التي يخلفها وراء المعاني، والإِيقاع الذي يتسق مع هذه الظلال، ويتفق في الوقت ذاته مع لون التجربة الشعورية التي يعبر عنها، ومع جوِّها العام))[164]. ومن هذا المنطلق يذهب قطب إلى أن الدلالة المعنوية للعبارة ما هي إلا عنصر واحد من عناصر دلالتها، بل كثيراً ما تكون أصغر عنصر في العمل الأدبي، ولهذا لا يجوز أن نكتفي بها[165] عند تقويم نص ما. ومن هنا جاء نقده لابن قتيبة وأبي هلال العسكري بسبب طريقتهما في نثر الأبيات – لأنها – في رأيه – ألغت قيماً تعبيرية مهمة مثل التناسق والإِيقاع والظلال والصور ولم تُبق سوى المعنى الذهني العام[166]، في حين أن هذه القيم مؤثرات يكمل بها الأداء الفني[167]. ولا يريد قطب لهذه القيم أن تنفصل أو تتجزأ في العمل الأدبي فهي ((كلها وحدة في العمل الأدبي يصعب انفصالها)). وهذا القول يذكرنا بالمنهج الإِجرائي الذي سلكه عبدالقاهر الجرجاني في نقده التطبيقي للأبيات والذين قلنا عنه إنه يطبق ما أسميناه بالوحدة الابداعية للنص. ومع أن سيد قطب قد التقى الجرجاني بشكل ما أو في منعطف ما إلا أننا لا نحس أن سيداً كرر سلفه، فلسيد قطب رؤيته المستقلة تجاه الأبيات، تلك الرؤية المتكئة إلى نظرية نقدية تثري العمل الأدبي وتستدره بتوظيفها كل جزئياته في كشفه وإدراك سر جماله.(19/64)
لم يحدثنا سيد قطب حديثاً صريحاً عن سر جمال الأبيات لكنا نستشف أن القيم التعبيرية ومجيئها معادلاً فنياً للقيم الشعورية في أبيات كُثَيِّر هي السبب الرئيس لجمالها عنده، خاصة إذا عرفنا أن بيان قيم العمل الأدبي التعبيرية والشعورية هو – عند – واحدة من وظائف النقد كما يقول في مقدمة كتابه[168].
(4) ونلتقي ناقداً وأديباً آخر من هؤلاء الذين استوقفتهم الأبيات وهو إبراهيم العريض، فقد تناولها مرة في كتابه (الأساليب الشعرية) في فصل بعنوان (بين الحكمة والفن) ومره أخرى في كتابه (الشعر والفنون الجميلة) في فصل بعنوان (الألفاظ رموز).(19/65)
في التناول الأول خطأ العريض من النقاد القدامى من قال عن الأبيات بأنه ليس تحت ألفاظها كبير معنى، ومشيراً إلى أن الشعر ليس حكمة أو معنى ذهنياً فقط إذ قد يكون فناً يحفل بالوصف والصور والعواطف ويزخر بالحياة ((وأي معنى تراهم كانو ينشدون وراء هذه الأبيات أكثر مما هي حافة به من براعة الوصف إلى افتنان في التصوير إلى حرارة في الشعور؟ إنها لوحة تكاد تنبض بالحياة))[169] ولأن الأبيات قطعة فنية تحمل معنى شعورياً أكثر مما تحمل حكمة أو معنى ذهنياً، فإن السبيل الوحيد لتقديرها وتذوقها – كما يرى – هو ((القلب بالتجاوب الشعوري لا ما يشعه العقل بالتجرد الذهني))[170]. هكذا كان تناول إبراهيم العريض لأبيات كُثَير: نقد لرؤية النقاد القدامى إليها. وإشادة بما فيها من فنية جسدتها بارعة الوصف، وروعة التصوير وحرارة الشعور، لكن شيئاً يلفت النظر في حديث العريض عن الأبيات وهو تركيزه على نبض الحياة في الأبيات؛ فقد قال مرة: ((إنها لوحة تكاد تنبض بالحياة))[171]. وقال ثانية: ((هذا الإِحساس الناعم بالحياة التي تفيض به القطعة فيضاً))[172]، وقال ثالثة: ((إنها – قيل كل شيء قطعة فنية لا تستهدف غاية أبعد من الحياة))[173]. وأعترف أنني أكاد أقف عاجزاً عن استبانة ما يقصده بمثل هذه التعبيرات فهي – في رأيي – من التعبيرات النقدية الغامضة التي لا تضع أيدينا على شيء واضح أو موحٍ على الأقل، إلا أن يكون قد قصد بهذه الحياة تلك الحركة التي تسري في الأبيات، وفي الحركة – على أية حال – حياة ورمز لهذه الحياة، وإلا أن يكون قد عنى هذا الأمل المعانق للمستقبل والذي تومض به الأبيات بما إيماضاً،. والأمل في جوهره إحساس بالحياة بل حياة، ومتى فقد الإِنسان الأمل وتسلط عليه اليأس فقد الحياة في حقيقتها، ألم يقولوا: لا يأس مع الحياة ولا حياة مع اليأس؟! فعلى هذا وذاك، أي بما يدب في الأبيات من حركة، وبما يشع فيها من أمل – جاء إحساس العريض بما(19/66)
تفيض وتنبض به من حياة.
هذا عن تناوله الأول، أما في تناوله الثاني عبر كتابه (الشعر والفنون الجميلة) فيقول في سياق هذا التناول: إن اللفظة تستطيع على يد الشاعر ((أن تنقلنا بمجرد تداعي الصور الذهنية الناشئة عنها كلمح البصر في الأذهان إلى أحاسيس لا نتبينها بوضوح ولكنها على غموضها تبعث في النفس إشراقاً وروعة))[174]، ونحسب أن الإِحساس بالحياة الذي ركز عليه في تناوله الأول هو واحد من هذه الأحاسيس التي ذكرها هنا. وإلى جانب تلك الصور وهذه الأحاسيس التي تنقلنا إليها الألفاظ على يد الشاعر وبطريقة خاصة – هناك أيضاً ما يتراءى في أفقها من أشعة وظلال ((ونجد – كما يقول العريض – مصداق ذلك في هذه القطعة الجميلة لكثير عزة، التي وقف منها النقاد حائرين وزماناً طويلاً، فلم يستطيعوا تعليل ما فيها من موطن الفتنة والجمال على وجهه الصحيح إلا منذ قريب))[175]. ونريد أن نقف عند رأيه بأن هؤلاء القدامى لم يستطيعوا تعليل ما في الأبيات من موطن الفتنة والجمال على وجهه الصحيح إلا منذ وقت قريب أي في العصر الحديث فإني لا أميل إلى إطلاق هذا الحكم سواء فيما يتعلق بالقدماء. أما بالمحدثين من النقاد؛ أولاً لأن من القدماء من وضع أيدينا على أكثر من موطن جمالي للأبيات وخاصة ابن جني وعبدالقاهر الجرجاني، ولعل الأستاذ العريض لم يطلع على ما كتباه عن الأبيات. وثانياً لأنا لا نعتقد أن المحدثين قالوا الكلمة الأخيرة والصحيحة في الأبيات، لأن ما قالوه لم يذهب بعيداً عما قال القدماء، ثم إن لكل ناقد رؤيته المستقلة ولكل عصر ذوقه. بقيت نقطة أخرى نضيفها وهي رأيه بأن النقاد الأقدمين لم يفطنوا إلى رمزية الألفاظ في الأبيات[176]، فهذا أيضاً مالم نوافقه عليه فابن جني والجرجاني فطنا إلى هذا وأوضحاه.(19/67)
(5) ثم نلتقي بدوي طبانة الذي تناول الأبيات في كتابه (دراسات في نقد الأدب العربي من الجاهلية إلى غاية القرن الثالث) وتناوله يأتي في معرض حديثه عن كتاب (الشعر والشعراء) لابن قتيبة.
وطبانة ينضم هو الآخر إلى هؤلاء النقاد – قدماء ومحدثين – الذين انتقدوا ابن قتيبة ومن وافقه في الغض من شأن معاني الأبيات أو توهينها، وفي الغفلة عن نظرتها ((التصويرية التي يحتل الشعر بها منزلته بين الفنون))[177]. ثم يستدرك على هؤلاء بقوله: "ولكنا نرى في ناحية أخرى من يتصدى للدفاع عن هذا الشعر، ويضعه موضعه من الصور الفنية الرائعة التي ازدانت صورها بمحتواها. وفي طليعة هؤلاء أبو الفتح عثمان بن جني"[178].(19/68)
ويعد أن ينقل بعضاً من أقوال ابن جني عن الأبيات يعلق عليها بقوله: ((وهذا دفاع جيد عن معاني الشعر، وأن جودة مبانيه لا تمنع جودة معانيه...))[179] ونريد أن نقف عند شيئين من تعليقات الدكتور بدوي، أحدهما أنه لم يلفت أنظارنا إلى مظاهر جمالية في الأبيات سوى ما فيها من تصوير انتبه إليه الأقدمون كما يقول بدوي نفسه. وأما الآخر فهو تعليقه على موقف ابن جني من الأبيات بأنه ((دفاع جيد عن معاني الشعر، وأن جودة مبانيه لا تمنع جودة معانيه)). وما نريد أن نقف عنده هو الجزء الأخير من عبارته هذه فصحيح أن ابن جني دافع دفاعاً جيداً بل رائعاً عن معاني الأبيات، كما جاهد بذائقته اللغوية والنقدية في التفتيش عن دقائقها،. لكنا لا نذهب – كما جاهد الدكتور بدوي – إلى أن هذا الدفاع كان في بعض مناحيه دفاعاً عن أن جودة مباني الشعر لا تمنع جودة معانيه إذا العبارة لا تستقيم – في رأينا – منطقياً، ثم إن تتبعنا نقد ابن جني الأبيات لا ينتهي بنا إلى هذه النتيجة بل إلى أن ما كان يدافع عنه هو أن جودة مباني ((ولما قضينا)) وجمال شكلها يشيان بمعانٍ جميلة، فهما مؤشران إلى ما يحويه هذا المبنى من مضمونات تليق به ويليق بها وعلى هذا فعبارة بدوي طبانة تستقيم إذا استبدلنا كلمة ((دليل)) بقوله ((لا تمنع)) فنقول: ((وهذا دفاع جيد عن معاني الشعر، وأن جودة مبانيه دليل جودة معانيه)).
ثم ينهي طبانة وقفته عند الأبيات بالإِشادة بتحليل عبدالقاهر الجرجاني للأبيات وبفهمه العميق لروح الأدب إذ دلّ على وجوه الجمال ومواضع الحسن فيها. وما بفهمه من هذا هو أن رؤيته تتفق مع رؤية الجرجاني وابن جني قبله، ولأننا لم نلمح أية إضاءات نقدية منه فهو كآخرين غير من المعاصرين لم يتجاوزهما.(19/69)
(6) والعقاد هو – أيضاً – من هؤلاء النقاد المعاصرين الذين تعرضوا لأبيات كُثير، وذلك في مقالة له بعنوان ((في الأساليب)) ولأنه في هذه المقالة يتحدث عن موقفه من السهولة في الأدب والفن، وعن مفهومه لهذه السهولة وأبعادها فقد انتقد من النقاد من أرجع جمال الأبيات إلى سهولتها وصياغتها اللفظية ((بيد أن السهولة – يقول العقاد – لا تجد لها نصيراً أسوأ من أولئك الذين يجعلونها وحدها أساس البلاغة ومحورها ويقولون إنها هي دون المعنى كل ما يطلب من الشعر الرائق والنثر المستعذب، ويوردون على ذلك أبياتاً اتفقت الأذواق على استحسانها والإِعجاب بها ولكنها في زعمهم خلت من المعاني ولا فضل فيها لغير ((الصياغة اللفظية)) وطلاوة العبارة، وأشهر ما يوردون من ذلك قول كُثير))[180] ثم يورد خمسة الأبيات كما هي مروية في (زهر الآداب) ونحسب العقاد ينتقد بهذا أبا هلال العسكري بشكل خاص، فهو أبرز من استشهد بالأبيات على أن جمال الشعر في ألفاظه.
ويرى العقاد أن أبيات كُثير ((من أعذب الشعر وأسلسه، وأنها خلو مما تعود النقاد أن يسموه ((بالمعاني)) في الشعر[181]. لكنه يرى أن موطن استحسانها والإِعجاب بها يتجاوز الألفاظ ((والمعاني)) الذهنية إلى الصور والشعور حين يقول: "فإن في الشعر شيئاً غير الألفاظ ((والمعاني)) الذهنية وهو ((الصور)) الخيالية وما تنطوي عليه من دواعي الشعور"[182].(19/70)
ثم يشرع في تتبع مظاهر تلك الصور ودواعي هذا الشعور أو بعضها، وإن كانت لا تبتعد في حقيقتها عما أشار إليه ابن جني وعبدالقاهر الجرجاني وابن طباطبا، اللهم إلا ما يراه أن مما يدل على هذه الصور هو ((رائحة السآمة التي تَنَسَّم عليك من قوله ((ومسح الأركان من هو ماسح))... كأنما تمسيح الأركان لم يكن همه الذي يعنيه من تلك الرحلة وكأنه يتوسل به إلى مأرب يشغله عن الأركان ومن يمسحها من الماسحين))[183]. هذا ما يراه العقاد، لكنا لا نحس أن طبقات جو الأبيات تنسم علينا رائحة من هذا النوع، قد تَنَسَّم شجناً واغتراباً وشوقاً أما أن تنسم سآمة فلا شيء في الأبيات – في رأيي – يوحي به.
وإذا كان قول كُثير ((ومسح بالأركان من هو ماسح)) قد تنسمَ على العقاد رائحة من التناقض تتنسم علينا من المقابلة بين عبارتين له في تلك المقالة التي تناول فيها ((ولما قضينا...)) ففي إحدى العبارتين – وهي التي يدافع بها عن الأبيات – قوله الذي سبق أن نقلناه وهو ((فإن في الشعر شيئاً غير الألفاظ ((والمعاني)) الذهنية وهو ((الصور)) الخيالية وما تنطوي عليه من دواعي الشعور)) فواضح أنه في هذه العبارة لا يعد المعاني الذهنية أصلاً في جمال الأدب أو أساليبه، لكنا نقرأ عبارته الثانية وهي ((وفحوى ما تقدم أن الصور الخيالية والمعاني الذهنية هي الأصل في جمال الأساليب في الأدب والفنون))[184] فنحس بانحراف عما قد قرره سابقاً خاصة وأنه يرى أن الأبيات من أعذب الشعر وأسلسه رغم خلوها مما تعود النقاد أن يسموه بالمعاني، وهذا ما جعلنا نحس بهذا التناقض الذي أشرنا إليه. وعلى أية حال، فأهم ما نلحظه في وقفة العقاد عند الأبيات أنه – كما قلنا – لم يبتعد عما قاله الأولون فيها.(19/71)
(7) وفي فصل بعنوان (بين اللفظ والمعنى) من كتاب (أسس النقد الأدبي عند العرب) تناول – أيضاً – أحمد أحمد بدوي أبيات كُثير، وبدوي لا يتفق مع ابن قتيبة ((في الاستهانة بهذه الأبيات))[185] فمثله مثل عبدالقاهر الجرجاني الذي ((بين – كما يقول بدوي – وجه الجمال فيها[186]. كما يقرر (بدوي) أنها ((لوحة فنية لقوم عائدين إلى أوطانهم))[187]. وفي هذه اللوحة تصوير لتحركات هؤلاء القوم ونشاطهم وشعورهم، كما فيها تصوير للإِبل وسيرها. هذا ما قاله أحمد بدوي عن الأبيات، وهو قول لا نرى فيه أي انحراف عن مسار النقاد المعاصرين الذين لم نجد حتى الآن في وقفاتهم عند الأبيات إلا القليل من الاضافات النقدية المتميزة.(19/72)
(8) وفي كتاب ((نظرية المعنى في النقد العربي)) تناول الأبيات أيضاً الدكتور مصطفى ناصف. وفي بداية تحليله الأبيات انتقد موقف النقد العربي الحديث منها وذلك في نقطتين رئيسيتين أولاهما هروب أصحاب هذا النقد من صعوبات المعنى إلى لفظ الصورة، وأخراهما هي أن موقفهم هو الموقف القديم نفسه، وإذا كان ثمة فرق فهو في استعمال المصطلحات[188]. وبعد هذا النقد الذي أرى أنه محق فيه يشرع في الحديث عن الأبيات فيرى أن ((من الجائز أن تكون الاستعارة في البيت الأخير (وسالت بأعناق المطي الأباطح) ذات دلالة أسطورية غائرة بحيث تعنى توزع النفس خروج العواطف عند (لعلها عن) حدود الضبط والنظام التام، ومسيل الماء الذي استخدم في التعبير عن العودة، وهي من التصورات الأساسية الثرية في العقل البشري، يصحبه قدر من الإِحساس الكامن بالتوتر))[189]. لم يقطع ناصف بأن الاستعارة ذات دلالة أسطورية فهو يقول ((من الجائز)) ورغم هذا فهو لم يكشف الصلة بين الأبيات ودلالتها الأسطورية المحتملة كشفاً واضحاً يومئ على الأقل إلى هذه الأسطورة. وإذا كان ناصف قد انتقد النقاد المحدثين بهروبهم من صعوبات المعنى إلى الصور فإني أخشى أن يكون قد هرب هو من الصور نفسها مللاً وسأماً أو إحساساً منه بابتذالها في النقد الحديث إلى هذه الدلالة الأسطورية ولا نستبعد أن يكون خروج العواطف عن حدود الضبط والنظام التام بعضاً من توجهات معنى الأبيات وإحدى ثمرات نشاطه، كما إن الإِحساس بقدر من التوتر هو مما توحي به، غير أنه ليس توتراً مأساوياً وإنما هو من نوع التوتر الذي يتنفس معه الشاعر متعة ويتأوه تلذذاً. ولهذا لا نجدنا مرتاحين إلى رأيه بأن في الأبيات رنة حزن وألم.(19/73)
لقد أهَمَّتْ الاستعارة في قول كُثَير ((وسالت بأعناق المطي الأباطح)) مصطفى ناصف. وكان ينطلق في تحللها من نظرية التفاعل التي يلخصها في ((أن الاستعارة عبارة عن فكرتين اثنتين عن شيئين مختلفين تعملان خلال كلمة أو عبارة واحدة تساندهما معاً، ومعنى هذه الكلمة أو العبارة هو الناتج عن تفاعلهما))[190]، ولهذا فهو يرى أنه ((حينما نقول إن الأباطح سالت بأعناق المطي وننظر – ملياً – في فكرة التفاعل التي أهمتنا... نشفق – إلى حد ما – على الإِبل – بعبارة أخرى بدت الأباطح أو لِنَقل الأرض أقوى من المطي. المطي أعناقها تعلو تهبط وتسير على هذا النحو، ولكن الحركة تذوب أو تتلاشى في الأرض. هذا التلاشي لا يظهر في ضوء فكرة المقارنة[191] ظهوره في ضوء فكرة التفاعل))[192] فهو الاستعارة في ضوء نظرية التفاعل هذه جعلت ناصفاً يستشعر الشفقة على الإِبل فالتعبير أو التركيب الأسلوبي يوحي إليه بأن الأباطح أو الأرض أقوى منها. هل كان هذا بسبب أن الأرض احتوت المطي فضعفت بسبب عملية الاحتواء هذه ؟ ربما. ولن يحول تحريك الإِبل أعناقها أو تحركها بأعناقها دون القول بضعفها ما قبل الأرض لأن هذه الحركة أسيرة إطار أرضي تذوب وتتلاشى فيه. ولا نلوم ناصفاً إذا أمن جانب تحليل الاستعارة في ضوء فكرة التفاعل واطمأن إليه وفضله، فهذا التحليل فيما يبدو أكرم باطلاق الرموز وبث الإِشارات للمعاني الإِنسانية، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى نعتقد أنه في إطار فكرة التفاعل تلك ينشط المعنى ويتنامى بقدر أكثر، وربما لهذا علل هو تحليله أو رؤيته للاستعارة في بيت كُثير بقوله ((ومغزى هذا كله أن مسيل أعناق الإِبل أصبح صورة من التطلع المستمر للإِنسان وما يصاحبه من تقدم وتراجع وبدء وإعادة))[193]. لم يقل كُثير بعبارة مباشرة: إن الإِنسان متطلع باستمرار، ولكن هذا التطلع مصحوب باحتمالات النجاح والفشل، والأمل والإِحباط، لم يقل كُثير هذا ولكن مصطفى ناصف عن طريق(19/74)
فكرة التفاعل في الاستعارة تأوله. أفِّق ناصف أم لا ؟ دار ذلك بخلد كُثير أم لا ؟ شيء لا يعنينا كثيراً المهم أننا بهذه الطريقة ننقذ المعنى من قالب الحذاء الصيني الذي يحرمه من جمالية التنامي والنشاط والتجدد.
لم نلحظ أن ناصفاً كان يهرب من صعوبة المعنى مثلما فعل بعضهم. ما كان يهرب منه هو الوقوع في تفسيرات أو تأويلات يقتفي فيها أثر القدماء، وربما لهذا انطبعت تحليلاته بشيء من الصعوبة وعدم الوضوح ومهما يكن فرؤيته للأبيات تظل متميزة عن غيرها سواء في القديم أو الحديث.
(9) وفي مبحث عن ((أساليب التقويم الفني للصورة، واختلافه بين البلاغيين العرب)) من كتاب ((الصورة البلاغية عند عبدالقاهر الجرجاني)) تناول أبيات كُثير كذلك الدكتور أحمد علي دهمان، ولكن تناوله لم يفرده برؤية مستقلة عن القدامى، اللهم إلا اختلاف المصطلحات والألفاظ. يرى (دهمان) – مثلاً – أن الأبيات ((تشكل صورة لموقف وجداني، أو تجربة تسير في موكب متحرك يؤثر في المتلقى، ويعبر عن انفعال نفسي عند الشاعر، فهي وصف لحالة شعورية))[194] هذا نموذج أو شيء مما قاله عن الأبيات. وبقية ما قاله لم يخرج به بعيداً عن هذا فهو يركز على ما في الأبيات من صور خيالية وحركة ومعانٍ شعورية، وكل هذه كما قلنا صرح بها أو أشار إليها النقاد الأقدمون. وعلى هذا نستطيع أن نكرر القول بأن أحمد دهمان – مثله مثل بعض المعاصرين – اقتفى أثر القدامى في النظر إلى أبيات كُثير.(19/75)
(10) وربما يكون الدكتور شكري فيصل هو آخر من أعلمه تناول أبيات كُثير في النقد الحديث وتناوله جاء في إطار محاضرة[195] استعرض فيها مواقف بعض النقاد القدامى والمعاصرين منها. ومن تقويمه للأبيات وأحكامه عليها أنها أبيات ((مثيرة للوجدان ومثيرة للأذهان... وأنها رسمت موقفاً إنسانياً خالداً))[196] أو أن تجربتها (كما قال في موضع لاحق) ((تجربة إنسانية رفيعة))[197] وأن قراءتها كاملة (على أنها خمسة أبيات كما رواها صاحب زهر الآداب) ((لا تترك مجالاً للشك في أن صاحبها لم يكن يفكر في أهل ووطن بقدر ما كان يفكر في غزل وأحبة))[198].(19/76)
شكري فيصل في هذه الأحكام أو هذا النوع من التقويم لا يبتعد عن أجواء النقد الانطباعي. ومهما تكن درجة انطباعية هذا النقد، فهي لا تخدش شيئاً من صدقه فجل ما قاله فيصل عن الأبيات حق وصائب غير أن ملاحظتنا الرئيسة هي أن النقاد والقدماء قالوا هذا أو نحواً منه،. وإن كان بعبارات ومصطلحات مختلفة. ولا يضير النقاد المحدثين أو كرروا هذه الأحكام فهي من نوع الانطباعات النقدية المشتركة لكن ما يضير هو أن نكرر هذا ثم لا نضيف إليه رؤى نقدية أخرى،. لهذا فمن حق ناقدنا أن نسجل له لفته نقدية جيدة أضافها وهو ينتقد موقف ابن قتيبة من الأبيات ونثره وإياها نثراً ((قتل به – كما يقول فيصل – حس الحركة حين قال (ابن قتيبة) ولم ينظر بعضنا بعضاً، مقابل قولة الشاعر: ولم ينظر الغادي الذي هو رائح))[199] ونقول لفتة نقدية جيدة لأننا حين نقارن بين عبارة؛ لم ينظر بعضنا بعضاً (نثر ابن قتيبة) وعبارة: ولم ينظر الغادي الذي هو رائح (شعر كُثير) نلاحظ – حقاً – انطفاء الحركة في عبارة ابن قتيبة بل انطفاء الحركة حتى من العيون. ابن قتيبة قيد القوم وشل أبصارهم إطلاقاً. أما عبارة كُثير فالحركة فيها متقدمة ونشطة في صورة أو بسبب صورة الغادي والرائح، كما احتفظت العيون أيضاً بحركتها فالنظر لم يتوقف إلا من الغادي إلى الرائح، أما إلى بقية القوم فبث النظرات أو إرسالها مستمر. وغير هذه اللفتة هناك تأكيده (فيصل) – كما ذهب بعض النقاد القدامى والمعاصرين – بأن المعاني لا ترد مجسمة دائماً فقد تأتي في شكل إيحاءات ورموز وهالات وظلال[200] فهذه وجهة نقدية تثري المحتوى الشعري وتوسع دائرته.
خاتمة ورؤية:(19/77)
لعل ما انتهينا إليه تتبع لا يخلو من التحليل والتقويم لنظرة النقاد العرب القدماء والمعاصرين إلى أبيات كثير. عند القدماء تعرفنا نظرتين نقديتين متضادتين تجاه هذه الأبيات. إحداهما – كما قلت – لا ترى لمعناها كبير فائدة بالقياس إلى ما فيها من ألفاظ. وفي هؤلاء من ينتصر – بوضوح – للألفاظ ويرى أنها وراء العمل الأدبي المعجب الجميل مثلما صنع أبو هلال العسكري حين استشهد بالأبيات. وأخراهما ترى سر جمالها ليس في ألفاظها فقط وإنما في المعاني التي وراء هذه الألفاظ. وأصحاب هذه يجنحون إلى المعاني في إطار الخلاف حول قضية اللفظ والمعنى في النقد العربي. ولقد نجح هؤلاء بطرق فنية في اكتشاف معانٍ للأبيات غير أنها ليست من جنس تلك المعاني التي ترضي أذواق أولئك الذين ضيقوا دائرتها رغم رحابتها المتسعة كل نبضة أو خلجة في قلب الحياة. كلتا هاتين الرؤيتين – على ما لاحداهما من إضاءات نقدية لافته – تفصلان بين الشكل والمضمون في العمل الشعري حتى لقد شوش هذا الفصل على أذهان بعض النقاد الذين تعرفنا مواقفهم فانحجبت دونهم أكثر من نقطة مضيئة في أبيات كثير كان ينبغي ألا تخطئها عين النقد. ولهذا رحبنا بتلك النظرة النقدية القديمة الثالثة، فقد جاءت متميزة برفضها الفصل بين اللفظ والمعنى عند تناولها أبيات كُثير، ونعني نظرة عبدالقاهر الجرجاني الذي يُرجع سر جمال القول إلى النص بوصفه بناء فنياً يتكامل فيه الشكل والمضمون ويتلاحمان وذلك تحت مظلة نظرية النظم التي تبلورت عنده. ورغم اختلاف هذا الناقد مع ابن جني في محط الانطلاق نحو رؤية الأبيات فإن بينهما بَعْد هذا المحط اتفاقات من خلالها يلتقيان مع الأسلوبيين أو يلتقي معهما الأسلوبيون في غير واحدة من سمات النقد الأسلوبي. ولقد وقفنا فيما مضى على نقاط من هذا التشابه بين هذين الناقدين إلا أن محاورة نص كثير استهدافاً لاكتشاف مكوناته وعلاقته تبقى إحدى النقاط الفاعلة، بل لعلها المحط(19/78)
الرئيس الذي انطلقت منه رؤاهما النقدية. أما عند المعاصرين فقد بدأ في رؤيتهم الأبياتَ كثير من التشابه والتداخل. ولم يتجل فيها شيء من التميز والتفرد سوى عند القليل منهم. وقد وقفنا عند هؤلاء وأبرزنا ما رأيناه تفرداً وتميزاً في تناولهم. أما الباقون فقد تحدثوا عن أشياء مثل العواطف والصور والحركة وهذه أشياء تحدث عنها القدماء بشكل ما.
هذا ملخص نظرة النقاد العرب معاصرين وقدماء إلى أبيات كثير. وهي نظرة تشكلت عمقاً وشمولاً وتنوعاً بقدر ما لدى كل ناقد من ذوق وفكر وذكاء، ورغم ما فيها عند بعض النقاد من هنات إلا أن فيها إثراء واضحاً للتجربة النقدية العربية. فيها دليل مسار للناشئين، وفيها استخلاص نتائج للآخرين.(19/79)
لم يختلف النقاد إطلاقاً حول جمال أبيات كثير. نقطة الخلاف هي منشأ هذا الجمال، ولا نريد أن نكرر شيئاً قلناه في حينه، لكنا نحب أن نوضح، أو نؤكد على أشياء ربما أشار إلى بعضها المعاصرون والأقدمون. فالأبيات جميلة لأنها تعبر عن تجربة، ولأنها تثير انفعالات وتداعب مشاعر وتلمس برفق أكثر من جانب للذكريات. والأبيات جميلة لأن في عفويتها وبساطتها من العمق ما جعل لسان أكثر من متلق وناقد رطباً بذكرها وما أغرى بها أكثر من ناقد لتجسيد أسرار هذا الجمال، لكن بعض النقاد – مثل ابن قتيبة ومن وقف موقفه – تخدعهم هذه البساطة وهذه العفوية عن ما في الأبيات من مضمونات وتجارب فيرجعون سر جمالها إلى اللفظ. وهي هذه البساطة التي تجعل الأبيات تعانق المتلقي بلباقة متناهية إلى حد إمحاء سلطة كاتبها. والأبيات مجرى لأكثر من لون في حياة العربي: فمِنَى والأركان – كما أشار بعض النقاد القدامى – لفظتان ذواتا بُعدٍ روحاني مريح، كما أن لمِنَى بُعداً آخر ذا مشاعر من نوع خاص. والمهاري أو المطي: كلمتان غارقتان في نهر الحياة الاجتماعية والاقتصادية والاتصالية. بل إنهما رمز للترحال الذي يقف معلماً من معالم حياة العربي ونقطة في خريطة همومه. وسالت والأباطح: لفظتان شهيتان. بل إنهما يفتحان شهية الحياة بالمطر الذي ترمزان إليه، والمطر دون شك ذو شأن خطير وجليل ولطيف في حياة العربي أما أطراف الأحاديث فهي عبارة ودية حنون ابتعدت عن الرسمية فاكتسبت نكهة خاصة وطعماً فريداً ينعشان الجو النفسي ويشيعان فيه غير قليل من النداوة ويكفي أن قلوباً أنضجتها القروع نقعت بهذه الأحاديث فاشتفت.(19/80)
في أبيات كثير الخمسة حسب رواية ((زهر الآدب))[201] يجيء الفعل مقابل الصفة أحد المظاهر التعبيرية الرئيسة بل إن الأبيات – إما بوصفها جملاً شعرية أو بما فيها من جمل شعرية – تتكئ على الفعل والصفات لم تَرِدْ فيها إلا مرتين (منضجات قرائح) وهذا يبدو انحرافاً جديراً بأن يُعد خاصة أسلوبية لأنه كثَّفَ أدبية النص وبالتالي شعريته إذا نحن استأنسنا بمعادلة بوزيمان (نسبة إلى العالم الألماني أ. بوزيمان a.busemann) وأساس هذه المعادلة هو أن تمييز العددية للفعل مقابل الصفة تُعد ((دالاً على أدبية الأسلوب؛ فكلما زادت كان طابع اللغة أقرب إلى الأسلوب الأدبي))[202] لأن الفعل (الحدث) رامز إلى تفاعل الشاعر مع مضامين النص وانفعاله بها، وإلى درامية النص نفسه. وغير هذه القيمة العددية للفعل نلاحظ مجيئه في جميع الأبيات في صورة الماضي إما مباشرة أو بإدخال لم على الفعل المضارع لم تختلط الأزمنة بشكل عشوائي في النص. ولم يحدث ما يمكن أن يعد تحولاً زمنياً من الماضي إلى الحاضر مثلاً. ومهما تكن المصادفة أو متطلبات الإِيقاع قد أسهمت في هذه الخاصة، فإن شيئاً ما في إطار تفاعل الشاعر مع تحربته قد أسهم هو الآخر فيها. تَحرُّك الزمن على هذه الصورة يأتي واضحاً إلى درجة نتخيل عندها أن الشاعر. يلح عليه إلحاحاً. فهل هو إشارة إلى تعلق الشاعر أو إحساسه أكثر بهذا الزمن الماضي وارتباطه به؟ ربما، فهو يقص تجربة حلوة الأحداث والذكريات لكن في قص التجربة والتلذذ بذكرها – أحياناً – شيئاً غير هذا هو التطلع والتوق إلى تكرارها، أي إلى المستقبل. ومن هنا لا تبدو ((ولما قضينا)) حاملة أشياء الأمس فقط وإنما ظلال الغد أيضاً.(19/81)
وكلمة أحاديث بمتعلقاتها تبدو إحدى الكلمات المضيئة في النص وإحدى شفراته. وتكرارها في البيت الرابع ((نقعنا قلوباً بالأحاديث)) يعطي مؤشراً إلى أخذها دور المنَفَّس لتراكمات عاطفية. إنها البلسم الشافي، ومن هنا انتقاء كلمة ((نقعنا)) المضيئة أيضاً. فالقلوب منضجات قرائح لا يُجدي فيها إلا النقع في الأحاديث حتى تتشربها ثم لا يُخشى بعد هذا ريبُ الزمان. الأحاديث هنا لقاح ضد أي اعتلال عاطفي.
شيء آخر نلحظه في هذه الأبيات الخمسة، وهو هذه الحاءات التي تفرش أرضيتها، نجدها في الصدور كلها وفي الأعجاز، فهل ساهم هذا في خلق توازن إيقاعي متموج في الأبيات؟ نعم. والحاء حرف هادئ ونحسب أنه بانتشاره في الأبيات ساعد على أن يكون وقعها على المتلقي وتقبله إياها حسناً. إن انتشار حرف الحاء. وإن انتشار الأفعال في صورة الماضي منحت الأبيات غير قليل من موسيقاها الداخلية التي ألقت كثيراً من ظلالها على موسيقاها الخارجية فانسابتا هادئتين.(19/82)
ثم إن الأبيات تتحرك في فضاء قصصي يقترب كثيراً من الحكاية؛ فالإِشارة العابرة، واللمحة السريعة، والرمز الخفي، والخصائص الدرامية المتمثلة في الحركة المنتشرة في رقعة الأبيات، كل هذه أشياء تعطي طعم الحكاية ونكهتها. وأحسب هذا إحدى بُنى النص أو وحداته التي منحته بساطته اللاذَّة، وعفويته الجميلة المريحة، وأحسب – أيضاً – أن تحرك الأبيات في فضاء كهذا هو مما قادها إلى صيغة الإِخبار؛ إذ الملاحظ أن الفعل الدال على الزمن الماضي هو المستخدم في الأبيات، فالحكاية هنا سردية لا يتردد فيها إلا صوت واحد ولكنه ليس صوت المتكلم وإنما المتكلمين ((نا)) وأحسب هذا – مرة ثالثة – أكسب الأبيات ((شعبيتها)) ومنحها ألفة واقتراباً لدى متلقيها حين لم يلحظ ذاتية متمركزة تخلق تزايلاً من نوع ما. والحكاية (هنا ليست من ذوات الحبكة والتأزم، ومع هذا نجد إحساساً بأن ((أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا)) قامت بفعل انفراجي لتأزم نفسي ليس حاداً وليس مَرَضياً، ولا تقوله الأبيات ولكنها توحي به..
المصادر والمراجع
1 - الأساليب الشعرية. إبراهيم العريض. دار مجلة الأديب 1950م.
2 - الأسلوب. دراسة لغوية إحصائية. د/ سعد مصلوح. دار الفكر العربي ط2 – 1404هـ - 1984م.
3 - الأسلوبية.. والبيان العربي. د. محمد عبدالمنعم خفاجي وآخرون – الدار المصرية اللبنانية. الطبعة الأولى 1412هـ - 1992م.
4 - أسرار البلاغة. الإِمام عبدالقاهر الجرجاني. دار المعرفة. بيروت – لبنان 1402هـ - 1982م.
5 - أسس النقد الأدبي عند العرب. د. أحمد بدوي. مكتبة نهضة مصر الطبعة الثالثة 1964م.
6 - أصول النقد الأدبي. أحمد الشايب. مكتبة النهضة المصرية – القاهرة الطبعة الخامسة 1374هـ - 1955م.
7 - إعجاز القرآن. لأبي بكر محمد بن الطيب الباقلاني. تحقيق السيد أحمد صقر، دار المعارف الطبعة الخامسة.
8 - البلاغة والأسلوبية. د/ محمد عبد المطلب. الهيئة المصرية العامة للكتاب – 1984م.(19/83)
9 - بناء القصيدة في النقد العربي القديم. د/ يوسف حسين بكار. دار الأندلس للطباعة والنشر والتوزيع الطبعة الثانية 1403هـ - 1983م.
10 - البنيوية في الأدب. روبرت شولز. ترجمة: حنا عبود. اتحاد الكتاب العرب 1984م.
11 - تاريخ النقد الأدبي عند العرب (نقد الشعر من القرن الثاني حتى القرن الثامن الهجري) د/ إحسان عباس. دار الأمانة – مؤسسة الرسالة. الطبعة الأولى 1391هـ - 1971م.
12 - تاريخ النقد العربي إلى القرن الرابع الهجري جـ1، د/ محمد زغلول سلام. دار المعارف بمصر.
13 - تلخيص كتاب أرسطو طاليس في الشعر. أبي الوليد بن رشد. تحقيق وتعليق الدكتور محمد سليم سالم. القاهرة 1391هـ - 1971م.
14 - الحيوان جـ3.. لأبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ. تحقيق فوزي عطوي. دار صعب، بيروت – الطبعة الثالثة 1402هـ - 1982م.
15 - الخصائص جـ1. لأبي الفتح عثمان بن جني. دار الهدى للطباعة والنشر، بيروت - الطبعة الثالثة.
16 - الخصومة بين القديم والجديد في النقد العربي القديم. د/ البسيوني أحمد منصور مكتبة الفلاح الطبعة الأولى 1401هـ - 1983م.
17 - دراسات في النقد العربي. د/ وليد قصاب. دار العلوم للطباعة والنشر – الرياض الطبعة الأولى 1403هـ - 1983م.
18 - دراسات في نقد الأدب العربي من الجاهلية إلى غاية القرن الثالث. د/ بدوي طبانة دار الثقافة – بيروت، الطبعة السادسة 1394هـ - 1974م.
19 - دلائل الإِعجاز. الإِمام عبدالقاهر الجرجاني. دار المعرفة للطباعة والنشر. بيروت – لبنان 1402هـ - 1981م.
20 - ديوان حسان جـ1 ص430 تحقيق د/ وليد عرفات. دار صادر – بيروت 1974م.
21 - الشعر والشعراء جـ1. أبي محمد عبدالله مسلم بن قتيبة تحقيق أحمد محمد شاكر، دار المعارف بمصر 1966م.
22 - الشعر والفنون الجميلة. إبراهيم العريض، دار المعارف بمصر.(19/84)
23 - شكل القصيدة العربية في النقد العربي حتى القرن الثامن الهجري. د/ جودت فخر الدين، دار الأدب، الطبعة الأولى نوفمبر 1984م.
24 - صبح الأعشى جـ2. أبي العباس أحمد بن علي القلقشندي.
25 - الصورة البلاغية عند عبدالقاهر الجرجاني جـ2. د/ أحمد علي دهمان. دار طلاس للدراسات والترجمة والنشر. الطبعة الأولى 1986م.
26 - العقد الفريد جـ6. الفقيه أحمد بن محمد بن عبد ربه الأندلسي. تحقيق د/ عبدالمجيد الترحيني. دار الكتب العلمية – بيروت. الطبعة الأولى 1404هـ - 1983م.
27 - علم الأسلوب: مبادئه وإجراءاته. د/ صلاح فضل. دار الآفاق الجديدة – بيروت. الطبعة الأولى 1405هـ - 1985م.
28 - العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده جـ1. لأبي الحسن بن رشيق القيرواني الأزدي. تحقيق محمد محي الدين عبدالحميد. دار الجبل – بيروت - لبنان الطبعة الرابعة 1972م.
29 - عيار الشعر. محمد بن أحمد بن طباطبا العلوي. تحقيق د/ طه الحاجري ود/ محمد زغلول سلام المكتبة التجارية الكبرى – القاهرة 1956م.
30 - كتاب الصناعتين. لأبي هلال الحسن بن عبدالله بن سهل العسكري. تحقيق د/ مفيد قميحة. دار الكتب العلمية – بيروت. لبنان جـ2 الطبعة الأولى 1401هـ - 1981م.
31 - المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر. تحقيق د/ أحمد الحوفي ود/ بدوي طبانة مكتبة نهضة مصر الطبعة الأولى 1379هـ - 1959م.
32 - محاضرات النادي الأدبي الثقافي بجدة – المجموعة الثالثة. الطبعة الأولى 1407هـ - 1986م.
33 - مراجعات في الأداب والفنون. عباس محمود العقاد. دار الكتاب العربي – بيروت الطبعة الأولى 1966م.
34 - مشكلة السرقات في النقد العربي. محمد مصطفى هدارة. مكتبة الأنجلو المصرية – 1958م.
35 - من الوجهة النفسية في دراسة الأدب ونقده. محمد خلف الله. مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر سنة 1947م.
36 - نظرية المعنى في النقد العربي د/ مصطفى ناصف. دار الفكر العربي. الطبعة الثالثة 1959م.(19/85)
37 - نقد الشعر. لأبي الفرج قدامة بن جعفر. تحقيق وتعليق د/ محمد عبدالمنعم خفاجي. مكتبة الكليات الأزهرية. الطبعة الأولى 1400هـ - 1980م.
38 - النقد المنهجي عند العرب. د/ محمد مندور. دار نهضة مصر – القاهرة.
39 - الوساطة بين المتنبي وخصومه. القاضي علي بن عبدالعزيز الجرجاني. تحقيق وشرح محمد أبي الفضل إبراهيم وعلي محمد البجاوي. مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه.
ــــــــــــــــــــــ
[1] المسائح: شعر جوانب الرأس.
[2] الخوص: الابل الغائرة العيون. والمراسيل: المسرعات. والصفاح: جمع صفح، وهو مضطجع الجبل، والصحاصح: جمع صحصح، وهو المكان المستوي الواسع.
[3] المذكور ص64.
[4] السابق ص66.
[5] السابق ص66، 67.
[6] يكاد النقاد العرب القدامى يتفقون على أن المطالع هي أوائل الأبيات وأن المقاطع أواخرها ولمزيد من المعرفة يرجع إلى العمدة لابن رشيق جـ1 ص215 تحقيق: محمد محي الدين عبدالحميد ط4 – 1972م.
[7] يرى هذا – أيضاً – الدكتور إحسان عباس في (تاريخ النقد الأدبي عند العرب)، ص107.
[8] انظر كتاب الصناعتين ص73- 74.
[9] انظر مشكلة السرقات في النقد العربي ص197.
[10] السابق ص197.
[11] السابق، ص197.
[12] في الشواهد والتعليقات عليها يرجع إلى الصفحات: 64، 65، 66، 68 من كتاب الشعر والشعراء. جـ1.
[13] يرجع إلى:
- محمد مندور في (النقد المنهجي عند العرب ص33).
- البسيوطي أحمد منصور في (الخصومة بين القديم والجديد في النقد العربي القديم ص282).
- يوسف حسن بكار في (بناء القصيدة في النقد العربي القديم ص129).
- جودت فخر الدين في (شكل القصيدة العربية في النقد العربي ص85).
[14] الشعر والشعراء جـ1 ص63، 64.
[15] المصدر السابق، ص67.
[16] المصدر السابق، ص67.
[17] الشعر والشعراء، جـ1 ص68.
[18] دراسات في النقد الأدبي، ص54.
[19] العقد الفريد جـ6 ص240.
[20] عيار الشعر/ ص83.
[21] انظر تاريخ النقد العربي جـ1 ص173.(19/86)
[22] عيار الشعر، ص84.
[23] السابق ص84، 85.
[24] السابق، ص7.
[25] المصدر السابق، ص15.
[26] المصدر السابق، ص12.
[27] يرجع في هذه الشواهد إلى ص: 83، 84، من المرجع السابق.
[28] في هذه الشواهد، يرجع إلى ص88، 89، من المصدر السابق.
[29] السابق، ص17.
[30] السابق ص84، 85.
[31] السابق، ص83.
[32] محاضرات النادي الأدبي الثقافي بجده – المجموعة الثالثة – 1407هـ/ 1986م. محاضرة أدب ونقد، ص35.
[33] السابق، ص85.
[34] في الشواهد يرجع إلى السابق، ص85.
[35] نقد الشعر، ص74.
[36] انظر السابق، ص77.
[37] السابق، ص65، 66.
[38] انظر السابق ص65- 66.
[39] انظر الصناعتين، ص73.
[40] السابق، ص72.
[41] الحيوان، جـ3، ص444.
[42] الصناعتين، ص82.
[43] انظر السابق، ص72.
[44] انظر السابق، ص75.
[45] السابق، 72.
[46] السابق، ص84.
[47] السابق، ص89.
[48] الألهوب: شدة الجري، والدرة: شدة الدفع، والأخرج: الظليم، والمهذب: المسرع.
[49] السابق، ص89.
[50] المصدر السابق، ص90.
[51] المصدر السابق، ص112.
[52] المصدر السابق، ص112، 113.
[53] الغطامط: الصوت، والهجارس جمع هجرس، وهو القرد والثعلب، وقيل ولده والدب، وقيل: كل ما يعسعس بالليل دون الثعلب وفوق اليربوع. والويار: جمع وبرة، حيوان كالسنور.
[54] الصناعتين، ص135.
[55] الديوان، جـ1، ص430، تحقيق د. وليد عرفات. دار صادر، بيروت، 1974م.
[56] الصناعتين، ص73.
[57] السابق، ص73.
[58] السابق، ص73.
[59] السابق، ص73.
[60] السابق، ص73، 74.
[61] شكري فيصل في ((محاضرات النادي الأدبي الثقافي بجدة)) المجموعة الثالثة، ص40.
[62] انظر الصناعتين ص69.
[63] إعجاز القرآن ص221.
[64] المصدر السابق، ص222.
[65] ينظر في هذا ((صبح الأعشى))، جـ2، ص210. وما بعدها.
[66] المصدر السابق ص210.
[67] انظر الجزء الأول ص215.
[68] انظر السابق، ص215.
[69] المصدر السابق، ص217.
[70] المصدر السابق، ص217، 218.(19/87)
[71] السابق، ص218.
[72] السابق، ص218.
[73] أنضيناها: فرغنا منها.
[74] السابق، ص219.
[75] ميعة: يريد قوته. والصليب: الشديد.
[76] السابق والصفحة.
[77] انظر لهذه الشواهد. ص219- 220، من المصدر السابق.
[78] عوذ، مفردها عائذ: الحدثة النتاج. ومطافل، مفردها مطفل: ذات الولد.
[79] نسبها أحدهم إلى الراعي. انظر هامش (3)، ص29، ن المصدر السابق.
[80] هو العباس بن الأحنف.
[81] هو ابن الرومي.
[82] الخصائص، جـ1، ص220.
[83] انظر في هذه النقطة ص28 وما بعدها، من المصدر السابق.
[84] السابق، ص220.
[85] السابق، ص220.
[86] انظر السابق، ص220.
[87] انظر البنيوية في الأدب، ترجمة: حنا عبود، ص167.
[88] المثل السائر، ص69.
[89] السابق، ص69.
[90] السابق، ص20.
[91] السابق، ص69.
[92] دلائل الإعجاز، ص279.
[93] السابق والصفحة.
[94] نستطيع أن نستقرئ من قوله هذا أنه لا يعد الوزن معياراً جوهرياً لشعرية الشعر. ويعزز ما استقرأناه ما جاء في دلائل الاعجاز أيضاً ص20، فقد قال في فصل عقده للكلام على من زهد في رواية الشعر وحفظه، وذم الاشتغال بعمله وتتبعه: ((فإن زعم أنه إنما كره الوزن لأنه سبب لأن يُغنَّى في الشعر ويتلهى به، فإنا إذا كنا لم ندعه إلى الشعر من أجل ذلك وإنما دعوناه إلى اللفظ الجزل، والقول الفصل، والمنطق الحسن... فلا متعلق له علينا بما ذكر، ولا ضرر علينا فيما أنكر. فيقل في الوزن ما شاء، وليضعه حيث أراد فليس يعنينا أمره، ولا هو مرادنا من هذا الذي راجعنا القول فيه))...
[95] السابق، ص196، 197.
[96] انظر من الوجهة النفسية في دراسة الأدب والنقد، ص77.
[97] انظر مشكلة السرقات في النقد الأدبي، ص1، 2، 2، 2.
[98] انظر دلائل الإعجاز، ص43.
[99] انظر أسرار البلاغة، ص5.
[100] السابق، ص5.
[101] دلائل الإعجاز، ص51.
[102] السابق، ص194.
[103] السابق، ص198.
[104] السابق، ص198.
[105] انظر دلائل الإعجاز، ص38.(19/88)
[106] يقول: ومما يشهد لذلك أنك ترى الكلمة تروقك وتؤنسك في موضع، ثم تراها بعينها تثقل عليك وتوحشك في موضع آخر، كلفظ الأخدع في بيت الحماسة:
تلفَّتَّ نحو الحي حتى وجدتني
وجعت من الإِصغاء ليتاً وأخدعا
الليت: صفحة العنق، والأخدعان: عرقان في جانبي العنق قد خفيا) وفي بيت البحتري:
وإني وإن بَلّغتني شرف الغنى
وأعتقت من رق المطامع أخدعي
فإن لها في هذين المكانين مالا يخفى من الحسن. ومن أعجب ذلك لفظة (( الشيء )) فإنك تراها مقبوله حسن في موضع وضعيفة مستكرهة في موضع، وإن أردت أن تعرف ذلك فانظر إلى قول عمر بن أبي ربيعة المخزومي:
ومن ماليء عينيه من شيء غيره
إذا راح نحو الجمرة البيض كالدمُّى
وإلى قول أبي حية:
إذا ما تقاضى المرء يوم وليلة
تقاضاه شيء لا يمل التقاضيا
فإنك تعرف حسنها ومكانها من القبول.
[107] دلائل الإِعجاز، ص39، 40.
[108] السابق، ص45.
[109] السابق، ص41.
[110] قضايا النقد الأدبي المعاصر ص325.
[111] دلائل الإعجاز ص43.
[112] انظر السابق، ص40.
[113] انظر السابق، ص378.
[114] السابق، ص194.
[115] السابق، ص198.
[116] شرح هذا في موضع دلائل الاعجاز ص51، فقال: ((لفظ متمكن)) يريدون أنه بموافقة معناه لمعنى ما يليه كالشيء الحاصل في مكان صالح يطمئن فيه ((ولفظ قلق ناب)) يريدون أنه من أجل أن معناه غير موافق لما يليه كالحاصل في مكان لا يصلح له فهو لا يستطيع الطمأنينه فيه – إلى سائر ما يجيء صفة في صفة اللفظ مما يعلم أنه مستعار له من معناه، وأنهم نحلوه إياه بسبب مضمونه ومؤاده.
[117] دلائل الإعجاز. ص368.
[118] الصورة الشعرية والنظم والصياغة تعني – فيما يبدو – شيئاً واحداً عند عبدالقاهر، وانظر: دراسات في النقد الأدبي، الحلقة الأولى، ص292، لمحمد عبدالمنعم خفاجي، ط1.
[119] انظر مشكلة السرقات في النقد العربي، ص203.
[120] دلائل الإِعجاز، ص368.
[121] انظر السابق، ص197.(19/89)
[122] انظر البنيوية في الأدب لروبرت شولز، ترجمة: حنا عبود، ص163، 164.
[123] وصمه ابن عبد ربه – قبل الجرجاني – في العقد الفريد، جـ6، ص238، بسوء النظم والتأليف، ثم شرحه بقوله: ((معناه: ما مثل هذا الممدوح في الناس إلا الخليفة الذي هو خاله، فقال:
أبو أمه حي وأبوه يقاربه
فبعد المعنى القريب، ووعر الطريق السهل، وليس المعنى بتوعر اللفظ وقبح البنيه حتى ما يكاد يُفهم)).
[124] أسرار البلاغة، ص15.
[125] السابق، ص15.
[126] أورد منها ثلاثة الأبيات المشهورة، انظر ص16 من أسرار البلاغة.
[127] أسرار البلاغة، ص16.
[128] انظر أسرار البلاغة، ص16.
[129] السابق، ص16.
[130] انظر السابق، ص17.
[131] عيار الشعر، ص84.
[132] السابق، ص17.
[133] السابق، ص17.
[134] انظر الصفحات: 60، 228، 229.
[135] انظر أسرار البلاغة، ص17.
[136] انظر دلائل الإِعجاز، ص60.
[137] انظر السابق، ص229.
[138] انظر السابق، ص60.
[139] انظر أسرار البلاغة، ص17.
[140] السابق، ونفس الصفحة.
[141] السابق، ونفس الصفحة.
[142] انظر السابق، ص18.
[143]
[144] انظر ص35، 39.
[145] تعرضنا للاختلاف في نسبة الأبيات في أول البحث.
[146] الوساطة: ص35، 39.
[147] دلائل الاعجاز، ص70.
[148] تلخيص كتاب أرسطو في الشعر ص149.
[149] السابق، ص150.
[150] السابق، ص151.(19/90)
[151] استخدم عبدالقاهر لفظة ((الأسلوب)) في موضوع واحد – حسب علمي – من كتابه (دلائل الإِعجاز ص361) ويُعَرِّفه بأنه ((الضرب من النظم والطريقة فيه)) وما يبدو هو أن عبدالقاهر في الجزء الأول من التعريف يُقرِّب مفهوم الأسلوب من مفهوم النظم، ولهذا ربط الدكتور شفيع السيد بينهما وقال في كتابه (الاتجاه الأسلوبي في النقد الأدبي ص22): ((فالأسلوب إذن عنده (عبدالقاهر) بمعنى النظم، وما يصدق على أحدهما يصدق على الآخر، وكلاهما يحل محل صاحبه، ويتبع ذلك بالضرورة أن ما قاله عبدالقاهر بشأن ((النظم)) التي آثرها في الاستخدام)) هذا ما يراه الدكتور شفيع وما يوحي به الجزء الأول من تعريف عبدالقاهر للأسلوب لكن الجزء الثاني من التعريف بعد الأسلوب هو الطريقة التي توصل إلى النظم بوصفه الصورة النهائية للنص المبدع. وسواء فهمنا الأسلوب – هنا – على أنه النظم أو طريقته – فلن يؤثر هذا على ما يبدو أنه معالم أسلوبية في نقد عبدالقاهر.
[152] انظر الخصائص، جـ1 ص220.
[153] انظر البلاغة والأسلوبية، ص49. وفي بعض ما أشرت إليه من سمات أسلوبية استفدت – أيضاً – من:
- الاتجاه الأسلوبي في النقد الأدبي/ شفيع السيد.
- الأسلوبية.. والبيان العربي/ محمد عبدالمنعم خفاجي وآخرون.
- علم الأسلوب/ صلح فضل.
[154] يُرجع إلى آخر المبحث الخاص به رقم (4).
[155] انظر ص124، من المرجع المذكور.
[156] انظر السابق، ص195.
[157] السابق، ص195.
[158] السابق، ص229.
[159] انظر السابق، ص229.
[160] السابق، ص195.
[161] السابق، ص229.
[162] ص33، 34، من المرجع المذكور.
[163] انظر السابق، ص34.
[164] المرجع المذكور ص43.
[165] انظر السابق، ص43.
[166] انظر السابق، ص44.
[167] انظر السابق، ص33.
[168] انظر السابق، ص5.
[169] الأساليب الشعرية، ص21.
[170] السابق، ص21.
[171] السابق، ص21.
[172] السابق، ص21.
[173] السابق، ص21.
[174] الشعر والفنون الجميلة، ص10، 11.(19/91)
[175] السابق، ص11.
[176] انظر السابق، ص11.
[177] المرجع المذكور، ص221.
[178] السابق، ص222، 223.
[179] السابق، ص224، 225.
[180] مراجعات في الآداب والفنون ص77.
[181] انظر السابق، ص78.
[182] السابق، ص79.
[183] السابق، ص79، 80.
[184] السابق، ص81.
[185] المرجع المذكور ص370.
[186] انظر المرجع نفسه ص370.
[187] المرجع نفسه ص370.
[188] انظر المرجع المذكور، ص95.
[189] السابق، ص96.
[190] السابق، ص86.
[191] يقصد فكرة فهم الاستعارة على أساس المقارنة والمشابهة أو التناسب بين الأطراف.
[192] نظرية المعنى في النقد العربي، ص86.
[193] السابق، ص97.
[194] المرجع المذكور، ص696، جـ2.
[195] يرجع إلى محاضرات النادي الأدبي الثقافي بجدة ((المجموعة الثالثة))، ص7، والمحاضرة بعنوان ((أدب ونقد)).
[196] السابق، ص13.
[197] السابق، ص20.
[198] السابق، ص54، 55.
[199] السابق، ص40.
[200] انظر السابق، ص39.
[201] سبق ذكرها في المقدمة.
[202] الأسلوب. دراسة لغوية إحصائية. ص60.(19/92)
العنوان: (أبيار علي) هل أنشأها سلطان دارفور علي دينار؟
رقم المقالة: 823
صاحب المقالة: د. حيدر عيدروس علي
-----------------------------------------
بكى سيف الله خالد بن الوليد - رضي الله عنه - لما حضره الموت، وقال: لقيت كذا وكذا زحفا، وما في جسدي شبرٌ إلا وفيه ضربةٌ بسيف، أو طعنةٌ برمح، وها أنا أموت على فراشي حتف أنفي، كما يموت العير، فلا نامت أعين الجبناء[1].اهـ. هكذا غادر سيف الله هذه الدنيا، بعد أن محا الإسلام ظلام الجاهلية في فكره، ولم يكن يهمه كيف يعيش، بقدر ما كان يهمه كيف يموت، وفي أي الفريقين يبعث؟ وتلك هي بذرة الحياة الخالدة التي غرسها الصالحون من أمثاله، ورعاها أولو الألباب من التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، والعاقل لا يبالي حين يقتل مسلما على أي جنب كان في الله مصرعه.
وقد نبتت هذه البذرة نباتا حسنا، أينع ثمره في حياة الأبطال من هذه الأمة، الذين بحرصهم على الموت وهبت لهم الحياة بعده، فكان من بين أولئك النفر الكريم السلطان علي دينار بن زكريا بن محمد فضل، سلطان دارفور، فقد مات تلك الميتة التي بذر سيف الله - ورفاقه الأبرار - بذرة حبها في قلوب المسلمين، إذ انتقل السلطان علي دينار إلى الدار الآخرة مقتولا برصاص المستعمر الانجليزي، في فجر الحادي عشر من شهر الله المحرم في سنة خمس وثلاثين وثلاث مئة وألف من الهجرة المباركة، وهو في صلاة الفجر، ولما كانت العبرة بالنهايات والخواتيم فبمقتله بدأتُ، فأسأل الله أن يحشره في زمرة الشهداء، وإذا كان سُلطانُنا - رحمه الله - قد جاهد في الله إلى أن مات في سبيله، في أعز وقت من الأوقات، فستصغر أمام ذلك جلائل أعماله مهما عظمت، لأنه قد صعد على ذروة سنام الأمر؛ الجهاد في سبيل الله.(20/1)
ولد السلطان علي دينار في قرية (شوية) بدارفور، ولم تسعفني المصادر بتاريخ ولادته، وعاش حميدا، رفع الله قدره، لارتفاع الفضيلة في وجدانه، إذ لم تكن دارفور هي همه الوحيد، بل لم يكن قلبه على السودان فحسب، إنما كان قلبه على المسلمين كافة، فقد مهد طريق الحجاج القادمين من بلدان إفريقيا الغربية، القاصدين لبيت الله الحرام والأراضي المقدسة، وجعل من مَلِّيطَ[2]، والفاشر[3]، وغيرهما من المحطات رحابا آمنة يجد فيها الحاج من الراحة، والمتعة، والجمال ما يسر به، وذلك هو ما عبَّر عنه الشاعر الفحل محمد سعيد العباسي - رحمه الله - فقال في مليط:-
حياكِ مَلِّيطُ صَوْبُ العارضِ الغادي وكم جادَ واديكِ ذا الجناتِ من وادي
كم جلوتِ لنا من مَنظرٍ عَجَبٍ يُشْجي الخَلِيَّ ويَروي غُلَّةَ الصادي
وهي قصيدة من عيون الشعر السوداني، تصور روعة الجمال في السودان؛ قلب إفريقيا النابض، ذلك الجمال الذي استمتع به أهل دارفور، والواردون إليها من حجاج بيت الله الحرام، وغيرهم، وهو ما رعاه آنذاك السلطان علي دينار، ورفاقه من أصحاب السلطة والنفوذ، من سلاطين القبائل، وأعوانهم من أهل تلك الرحاب.
وقد اتسع تفكير السلطان علي دينار ليحمل هم المسلمين الأكبر في تحقيق الوحدة الإسلامية، فلم ييأس - على الرغم من ضعف الخلافة العثمانية في أيامها الأخيرة - أن يقف معها، ويجتهد في مؤازرتها، ولم يهن، لأن وجودها - على ما يبدو فيها من ضعف في النفوذ، وانحراف عن الجادة - كان يمثل وحدة المسلمين، وقد تضافرت جهوده في هذا الشأن مع جهود السنوسيين، ولكن الآلة العسكرية للمستعمر كانت أشد فتكا.
حاول السلطان علي دينار أن يبسط سلطانه على دارفور، وعلى غيرها من ربوع السودان كافة، وهذه الثقابة في الذهن، والتقدم في التفكير، هو الذي حفَز الإنجليز للتصدي له، من أجل تحطيم هذه الأفكار المتقدمة، فسعوا للقضاء عليه.(20/2)
وللسلطان علي دينار مآثر جمة، مما صحت نسبتها إليه، لا يسع المجال لذكرها، بيد أنني كنت فرحا مسرورا بإحدى تلك المآثر، وهي التي تذكر بأن آبار علي - في ميقات ذي الحليفة، بقرب المدينة المنورة - منسوبة إليه، وللتحقق من ذلك فقد حاولت أن أوثق هذه المعلومة حتى أقدمها لمن يطلبها، من المصادر التي ذكرتها.
ولكنني وجدت أن هذه التسمية تقدمت كثيرا على التاريخ الذي عاش فيه السلطان المجاهد علي دينار رحمه الله، مما جعلني أقطع بأن نسبتها إليه غير صحيحة، فقد ورد ذكرها بهذا الاسم قبل ولادة السلطان بقرون عديدة، وذكرتها الكتب الآتية، التي رتبتها حسب تواريخ وفيات مؤلفيها، وهي:-
1 - مجموع الفتاوى (26/99-100)، لشيخ الإسلام أبي العباس أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية، المتوفى سنة ثمان وعشرين وسبع مئة من الهجرة المباركة، وجاء فيه: فذو الحليفة هي أبعد المواقيت، بينها وبين مكة عشر مراحل، أو أقل، أو أكثر؛ بحسب اختلاف الطرق، فإن منها إلى مكة عدة طرق، وتسمى وادي العقيق، ومسجدها يسمي مسجد الشجرة، وفيها بئر تسميها جُهَّال العامة: بئر علي، لظنهم أن عليا قاتل الجن بها، وهو كذب، فإن الجن لم يقاتلهم أحد من الصحابة، وعلي أرفع قدرا من أن يثبت الجن لقتاله، ولا فضيلة لهذه البئر، ولا مذمة.اهـ.
وورد نحو هذا الكلام في الكتب الآتية:-
2 - فتح الباري بشرح صحيح البخاري (3/385)، للحافظ شهاب الدين أحمد بن علي بن حجر العسقلاني المتوفى سنة اثنتين وخمسين وثمان مئة.
3 - عمدة القاري في شرح صحيح البخاري (25/62)، لبدر الدين محمود بن أحمد العيني، المتوفى سنة خمس وخمسين وثمان مئة.
4 - أسنى المطالب في شرح روض الطالب (1/459)، لشيخ الإسلام زكريا الأنصاري، المتوفى سنة ست وعشرين وتسع مئة.
5 - مواهب الجليل بشرح مختصر خليل (3/30)، لأبي عبد الله محمد بن عبد الرحمن المغربي المالكي.(20/3)
6 - البحر الرائق شرح كنز الدقائق (2/341)، لزين الدين ابن نجيم الحنفي، المتوفى سنة سبعين وتسع مئة.
7 - الأسرار المرفوعة في الأخبار الموضوعة(1/416)، للملا نور الدين علي بن سلطان محمد الهروي القارئ المكي، المتوفى سنة أربع عشرة وألف. وقد تكرر كلامه في كتابيه: مرقاة المفاتيح (3/381)، والمصنوع في معرفة الحديث الموضوع (1/272).
8 - الفواكه الدواني من رسالة ابن أبي زيد القيرواني (1/353)، للعلامة أحمد بن غنيم النفرواي، المتوفى سنة خمس وعشرين ومائة وألف.
9 - كشف الخفاء ومزيل الإلباس عم اشتهر من أحاديث على ألسنة الناس (2/564) للعلامة إسماعيل بن محمد العجلوني المتوفى في سنة اثنتين وستين ومئة وألف من الهجرة المباركة.
هذا وقد ورد نحو ذلك في سائر شروح رسالة ابن أبي زيد القيرواني سوى الفواكه الدواني، وكذلك في سائر شروح مختصر العلامة خليل المالكي سوى مواهب الجليل، وفي كتب أخرى كثيرة، وهو ما يثبت أن هذه التسمية تقدمت كثيرا على الفترة التي عاش فيها السلطان الشهيد - بإذن الله - علي دينار، كما أسلفت.
ومع ذلك فلا يبعد أن يكون السلطان علي دينار قد أسهم في إعادة تأهيل هذه الآبار وتجديدها، بعد أن تعطلت في فترة من الفترات، إذ اشتهر السلطان بحبه الفياض للأراضي المقدسة، وثبت أنه كان يكسو الكعبة في سنوات كثيرة، ولا منة لنا نحن أحباب السلطان في ذلك، إذ هو فضل الله الذي تفضل به علينا أن جعل أحد قادتنا الكرام ممن يفعل ذلك، فرحم الله السلطان، وأجزل له الثواب على ما قدم.
إن العمل على توثيق المعلومة قبل تصديقها، وبثها للمتلقي مطلب شرعي ينبغي أن يحرص عليه القائمون على الإعلام الإسلامي، وقد وجدتُ هذه المعلومة مبثوثة في مواقع إسلامية كثيرة على الشبكة الأثيرية، وهي مواقع يرتادها الناس لأخذ المعرفة، فهل حرص القائمون عليها على تمحيص الأخبار، قبل عرضها؟ فقديما قيل: وما آفة الأخبار إلا رواتها.(20/4)
ـــــــــــــــــــــــــ
[1] تهذيب الكمال للحافظ المزي (8/189).
[2] مليط بلدة جميلة طيبة الهواء، تقع إلى الشمال من مدينة الفاشر.
[3] الفاشر من المدن السودانية العريقة، وهي الآن حاضرة دارفور الأولى.(20/5)
العنوان: أتباع محمد صلى الله عليه وسلم بين إيران وأمريكا
رقم المقالة: 635
صاحب المقالة: أسامة إبراهيم سعد الدين
-----------------------------------------
إن هذه المنطقة لهي لبُّ كل صراع بين الشرق والغرب، فعندما يحتدم الصراع بينهما، نجده على أرضنا، تلك البقعة العربية من العالم الإسلامي.
لم يكن لهذه المنطقة كيان مستقل وقوة رادعة إلا بظهور الإسلام، ونشر دعوته في كل مكان؛ ففتحت بلاد فارس والروم، ودخل الناس من هنا وهناك في دين الله أفواجاً، ومع ذلك؛ فقد ظل الحقد دفيناً في صدور بعض القوم، فنرى حقداً فارسيّاً مجوسيّاً، وآخر روميّاً صليبيّاً يتطلَّعان إلى المنطقة، ويريدان الاستيلاء عليها، فما نراه هذه الأيام ما هو إلا تجسيد لهذه الحالة؛ فالذئب الإيراني يعوي على الخليج، يريد أن يكون له نصيبٌ في تلك البقعة التي يُعاد رسمها أمريكياً، تحت مسمى: (الشرق الأوسط الجديد)!
وإيران تعلن اليوم عن نفسها كقوة إقليمية فاعلة في منطقتنا، ترعى الأقليات الشِّيعية الموجودة في العالم الإسلامي؛ في أفغانستان، باكستان، العراق، مصر، اليمن... وغيرها، تريد أن تجعل منها قنابل موقوتة، تنفجر في الوقت المحدد للانفجار.
أما أمريكا؛ فهي ترعى الأقلية اليهودية - إسرائيل - الموجودة داخل الأكثرية - العالم الإسلامي - وتدعمها ماليّاً واقتصاديّاً وعسكريّاً، علاوة على النصارى في البلاد الإسلامية؛ وكفى بنصارى مصر دليلاً على ذلك!!(21/1)
ثم نجد السياسة التوسعية - إيران وأمريكا - لكل منهما متشابهة ومتداخلة أحياناً؛ فإيران تريد رسم حدود الدولة الشِّيعية الكبرى، معيدةً بذلك (مجد الأكاسرة الغابر)؛ فتمتد غرباً جهة العراق ولبنان، وجنوباً جهة البحرين وقطر والإحساء، فلها أيدولوجية توسعية على حساب جيرانها، وأمريكا، ذلك القادم من أقصى الغرب، ليهبط علينا بطائراته وصواريخه، ويحطَّ على أرضنا بمعداته وجنوده، وفي مياهنا بسفنه وبوارجه؛ ليعيد رسم المنطقة، ويتيح للكيان الصهيوني التوسع من النيل للفرات. ولكن هيهات!!!
وهذا الواقع البائس للأمة الإسلامية - (أتباع محمد - صلى الله عليه وسلم -) - بين إيران وأمريكا - (أتباع ابن سبأ، وأتباع بولس) - ليذكرنا بتاريخنا وماضينا، وما تعرَّض له من تحريف وتزييف تارةً، وقتل ووأد تارةً أخرى.
فالتحريف والتزييف كانا على يد هؤلاء (المستشرقين والرواة الشيعة)؛ فلكل منهما مشروعه العقدي والفكري.
فنرى المستشرقين يفدون إلينا لدراسة تاريخنا وحضارتنا، وفي جعبتهم التنصير، فيعملون على نشره في البلاد الإسلامية بلا رحمة ولا هوادة، مستغلِّين الكوارث والحوادث والحروب، ثم نجدهم يكتبون كتابات عديدة حول التاريخ والحضارة الإسلامية، تتفق وأهوائهم الضالة؛ فيصغِّرون ما يستحق التكبير، ويكبِّرون ما يستحقُّ التصغير، ويتجرؤون على النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، فيصفونه وإياهم بكلمات لا تليق بهم؛ فكَبْرَتْ كلمات تخرج من أفواههم، وتكتب بأقلامهم؛ إن يقولون ويكتبون إلا زوراً.
أما الرواة والمؤرخون الشِّيعة؛ فليسوا أقل شأناً ولا خِسَّةً من المستشرقين، فيكفيهم عاراً وضع روايات خاطئة لا أساس لها من الصحة، يطعنون بها في كبار الصحابة, وللشيعة مشروعهم العقدي الهادف إلى نشر التشيُّع بين طوائف المسلمين الأخرى، مستغلِّين - أيضاً - الكوارث والحوادث فيهم، فإن لم يصلوا إلى التشيُّع الديني، ووصلوا إلى التشيع السياسي، وهذا كافٍ.(21/2)
يكفي أن ترى إيران - (راعية الشيعة) - مَنْ يتعاطف معها من أهل السنة,كما حدث للبعض بعد حرب حزب الله مع إسرائيل, أو كما يحدث الآن بعد أيٍّ من التصريحات النارية لأحمدي نجاد ضد إسرائيل.
ونعود لوقائع تاريخنا، لنرى صور الخيانة والقتل والوأد لطاقاتنا البشرية، كنتيجة طبيعية للارتباط الشِّيعى الصليبي, والتي نذكر بعضاً منها على سبيل الإيجاز:
1- احتل العُبَيْدِيُّون (الفاطميون) مدينة صور عام 1097م، إبَّان حصار الصليبيين لأنطاكيا, وعرضوا عليهم التحالف معاً ضد السلاجقة المسلمين، وسهِّلوا للصليبيين دخول بيت المقدس, وراح ضحية تلك الحروب سبعين ألف مسلم!!
2- خيانة ابن العلقمي وابن أبى الحديد ونصير الدين الطوسى - محور الشر - للأمة الإسلامية، والتحالف مع التتار الكفَّار؛ لدخول بغداد، واستباحة أهلها وأموالها، وعندما يخاف هولاكو من إراقة دم الخليفة العباسي؛ لأنه من آل محمد - صلى الله عليه وسلم - يبادره الطوسي بفتوى غريبة! فيوضع الخليفة فى جِوَال، ويُرفس حتى يموت، دون أن تسيل منه قطرة دم واحدة!! لقد أحلَّ للكافر ما رآه الكافر حراماً!! ومن جراء تلك الخيانة قتل مابين ثمان مئة ألف إلى مليون نفس!! إنه الإنسان المسلم يدفع ثمن عقيدته بسبب خيانة الجبناء!
3- الدولة الصَّفَويَّة: تدخل بغداد، وتبيد السنَّة فيها، وتمتد إلى حدود الدولة العثمانية؛ فيتعطَّل الحصار العثمانى لأسوار فيينا! وتعود الجيوش العثمانية قافلةً إلى تركيا؛ لتحارب الدولة الصَّفَويَّة، وتنتصر عليها فى موقعة (جالديران - 1514م)، إلا أن تلك الدولة اللعينة قد عطَّلت المد الإسلامي نحو وسط أوروبا.
ثم يتحالف الصَّفَويُّون مع البرتغاليين، على أن يحتل الصَّفَويُّون البحرين والقطيف والإحساء، ويحتل البرتغاليون فلسطين!! وكانت هذه أول صفقة لبيع فلسطين!(21/3)
وفى واقعنا المعاصر: أليست إيران هي مَنْ سهَّلت دخول القوات الأمريكية أفغانستان للقضاء على طالبان، وقتل الآلاف من مجاهدي الشعب الأفغاني وعامَّته؟ أليست هي مَنْ أدخلت الشيعة الفرس العراق، بُعَيْد سقوطها في يد الأمريكيين؛ لتغيير الهويَّة من السنِّية العربية إلى الشيعية، والاشتراك في قتل وسَحْل ثمان مئة ألف مسلم، ولايزال العدد في زيادة؟! أليس الشيعة هم مَنْ باع العراق لأعدائها، ودنس أرضها بدماء أهلها؟
فما نعيشه اليوم ما هو إلا مرحلة من مراحل الاتفاق الشيعي الصليبي على أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - فنرى القتل والسَّحْل من هنا تارةً، ومن هناك تارةً أخرى؛ فهذان الخطران هما عدوَّا الإسلام الحقيقيان، بأطماع توسعية في جغرافيا بلادنا، وأخبار كاذبة موضوعة في تاريخنا، وقتل وإهلاك لطاقاتنا البشرية.
وكلمة أخيرة:
لن تتغلب أمتنا على هذين الخطرين إلا بالعودة إلى كتاب الله وسنَّة رسوله - صلى الله عليه وسلم - والتمسك بهما؛ فتكون لها عقيدةً راسخةً، وأيدولوجيا ثابتة واضحة، تعمل بها، فتتخطى سقطات الماضي وعثرات الحاضر بوثبات المستقبل.
من كتاب "عودة الصفويين"؛ للشيخ: عبدالعزيز بن صالح المحمود.(21/4)
العنوان: آثار فتنة مقتل عثمان رضي الله عنه ونتائجها
رقم المقالة: 797
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
الحمد لله رب العالمين؛ كلف عباده إقامة الدين، ودلهم على الحق المبين، بما أرسل إليهم من الرسل، وما أنزل عليهم من الكتب؛ ليهتدي من أراد هدايته، ويعمى عن الحق من عمل بجهله، أو اتبع هواه {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الكِتَابَ بِالحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ البَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة:213] نحمده على نعمه وآلائه، ونشكره على إحسانه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله كان إذا قام من الليل افتتح صلاته قائلًا: اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه؛ أكثر هذه الأمة علمًا وعملًا، وأشدُّ الناس اتباعًا للحق، وتمسكًا بالدين، ونبذًا للبدع والهوى، من سار على هديهم فلن يضل أبدا، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.(22/1)
أما بعد: فاتقوا الله -أيها المسلمون- فإنه كلما تخلف الناس عن هدي نبيهم عليه الصلاة والسلام، وابتعدوا عن منهج سلفهم الصالح؛ عظمت مصيبتهم، واشتدت محنهم، وكثرت فتنهم، واختلفت قلوبهم، والناجي منهم من بقي على الطريق الأول وإن قلَّ السالكون، وتمسك بالشريعة وإن كثر المنحرفون والزائغون {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُون} [الزُّخرف:43-44]
أيها الناس: هذه الأمة أمة مباركة، معصومة من الإجماع على ضلالة، قد جعل الله تعالى عافيتها في أولها، وجُعل بلاؤها وفتنتها في آخرها، ومن سمات فتنها ومحنها أن بعضها يرقق بعضا، وأن عظيمها يخلف صغيرها، وأن شديدها ينسي خفيفها إلى أن يأذن الله تعالى بخروج آخر فتنة فيها وأكبرها وهي فتنة المسيح الدجال.
ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم من شدة نصحه لنا، ورحمته بنا، وشفقته علينا؛ ذكر لنا الفتن، ووصفها لنا، وحذرنا من شرها، وبين سبل النجاة منها. (استيقظ صلى الله عليه وسلم ليلة فزعا يقول: سبحان الله، ماذا أنزل الله من الخزائن؟ وماذا أنزل من الفتن ....)رواه البخاري من حديث أم سلمة رضي الله عنها.
وذات مرة أشرف عليه الصلاة والسلام على أُطُم من آطام المدينة فقال:(هل ترون ما أرى؟ قالوا: لا، قال: فإني لأرى الفتن تقع خلال بيوتكم كوقع القطر)رواه الشيخان من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما.
وفي حديث آخر قال عليه الصلاة والسلام:(ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، من تشرف لها تستشرفه، ومن وجد فيها ملجأ فليعذ به)رواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.(22/2)
قال العلماء:شبه عليه الصلاة والسلام سقوط الفتن وكثرتها بسقوط القطر في الكثرة والعموم ....وإنما اختصت المدينة بذلك لأن قتل عثمان رضي الله عنه كان بها، ثم انتشرت الفتن في البلاد بعد ذلك، فالقتال بالجمل وبصفين كان بسبب قتل عثمان، والقتال بالنهروان كان بسبب التحكيم بصفين، وكل قتال وقع في ذلك العصر إنما تولد من شيء من ذلك، أو من شيء تولد منه، ثم إن قتل عثمان كان أشدَّ أسبابه الطعنُ على أمرائه ثم عليه بتوليته لهم.
كان مقتل عثمان رضي الله عنه أعظم مصيبة أصيبت بها الأمة بعد موت نبييها صلى الله عليه وسلم، وإن كان الفاروق عمر رضي الله عنه قد قتل وهو أفضل من عثمان فإن قاتله كان علجا واحدا من المجوس لم يركع لله تعالى ركعة، ولا ادعى بقتله إصلاحا، بل إنه قتل نفسه على إثر ذلك لعلمه بشناعة ما فعل.
وأما قتلة عثمان رضي الله عنه فجماعة وليس واحدا، قد دانوا بالإسلام، وأظهروا التنسك والصلاح، وزعموا بقتله الخير والإصلاح، وهي أول فتنة سياسية في هذه الأمة افتات مشعلوها على أميرهم، ونازعوه في سلطانه، وأعلنوا الخروج عليه ثم قتلوه، ففتحوا باب الفتن السياسية، وسنوا في الأمة شق عصا الطاعة، ومفارقة الجماعة، ومنازعة الأمر أهله، ومضت سنتهم السيئة في الناس جيلا بعد جيل إلى يومنا هذا، فكان ذلك أعظم أثر لفتنتهم، وأكبر نتيجة لها.
وظلت الفتن في الأمة كحلقات سلسلة متصلة، كلما فصمت منه حلقة تبعتها أختها منذ مقتل عثمان رضي الله عنه إلى يومنا هذا، وهي فتن متشابهة، ونتائجها واحدة، تتمثل في نفرة القلوب وتباعدها، واختلاف الناس وتفرقهم، ثم يعقب الاختلاف السباب والتلاسن، فالمحاربة وسفك الدماء، فلا يأمن الناس على أنفسهم ولا أعراضهم ولا أموالهم، ولا يعبدون الله تعالى كما ينبغي له أن يعبد، وهكذا تعطل شعائر الدين وأحكامه بسبب اشتعال الفتن واشتغال الناس بها.(22/3)
ولما قتل عثمان رضي الله عنه، وانعقدت البيعة لأبي الحسن علي بن أبي طالب رضي الله عنه كانت الفتنة لا تزال مشتعلة، فاختلفت الأمة من جديد في أمر قتلة عثمان وماذا يفعل بهم، فقوم رأوا وجوب المسارعة بالاقتصاص منهم، والقضاء عليهم، وآخرون رأوا أنه لا يمكن ذلك في ظل اشتعال الفتنة، وهيجان الناس، ولا بد من تسكينهم حتى إذا استقرت الأمور، وانكشفت الفتنة أخذوا بجرمهم، وكاد الفريقان أن يصطلحا، ولكن مشعلي الفتنة يعلمون أنهم إن اصطلحوا حوكموا بقتل عثمان، فما زالوا يوسعون دائرة الخلاف، ويزيدون الفرقة بين الطائفتين، حتى بلغوا ما أرادوا من اقتتال الطائفتين، فنتج عن ذلك حربان كبيرتان قتل فيهما خلق كثير من المسلمين في الجمل وصفين.
وقد شخص الصحابي الجليل طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه ما وقع بينهم من الفرقة والاختلاف، والحيرة والأسى، وهم لا يملكون في هذه الفتنة العظيمة من أمرهم شيئا، بل يدورون معها حيث دارت، ويسكنون إذا سكنت، فروى علقمة الليثي رضي الله عنه فقال:(لما خرج طلحة والزبير وعائشة رضي الله عنهم رأيت طلحة وأحب المجالس إليه أخلاها، وهو ضارب بلحيته على زوره، فقلت: يا أبا محمد، أرى أحب المجالس إليك أخلاها، وأنت ضارب بلحيتك على زورك، إن كرهت شيئا فاجلس. قال: فقال لي: يا علقمة بن وقاص، بينا نحن يد واحدة على من سوانا إذ صرنا جبلين من حديد يطلب بعضنا بعضًا)
ويبين رضي الله عنه كيف طاشت عقولهم من عظم هذه الفتنة وشدتها فيقول:(إن هذه لهي الفتنة التي كنا نُحدَّث عنها، فقال له مولاه: أتسميها فتنة وتقاتل فيها؟ قال: ويحك إنا نبصر ولا نبصر، ما كان أمرٌ قط إلا علمت موضع قدمي فيه غير هذا الأمر؛ فإني لا أدري أمقبل أنا فيه أم مدبر)(22/4)
لقد أكلت هذه الفتنة العمياء جملة من عظماء الرجال، وسادة الناس، على رأسهم علي بن أبي طالب ، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وعمار بن ياسر، قتلهم من أثاروا الفتنة، وأججوا الخلاف، من الخوارج والدهماء والرعاع، وهم رضي الله عنهم من السابقين إلى الإسلام، ومن المشهود لهم بالجنة، فكيف يقتلهم من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان، ويقتلونهم تقربا إلى الله تعالى بزعمهم ولكنها الفتن تعمي القلوب والأبصار، نعوذ بالله تعالى منها.
ونجم عن هذه الفتن العظيمة اختلال أمن المسلمين آنذاك، وظهور اللصوص، وقطاع الطريق؛ لأن الحدود لا تقام إلا حيث تكون دولة وولاية، ولا دولة إلا بإمام يجتمع الناس عليه، فيقيم العدل، ويرفع الظلم، وقد شَغَل سادةَ الناس وأئمتَهم آنذاك ما هم فيه من الفرقة والخلاف.
وتوقفت الفتوح التي كانت في عهد الخلفاء الثلاثة رضي الله عنهم؛ لأن الجيوش تحولت من الثغور إلى مناصرة إحدى الطائفتين؛ ولذلك لم يكن هناك فتوح تذكر لا في آخر خلافة عثمان ولا في خلافة علي رضي الله عنهما. وقوي النفاق، وكثر المنافقون وطلاب الدنيا، وشمتت الفرس والروم وكل عدو بالمسلمين.
وما عادت الأمور إلى نصابها، ولا سكنت الفتنة إلا لما كانت البيعة للحسن بن علي رضي الله عنهما، فآثر مصلحة الأمة على مصلحته، ورأى أن حقن دماء المسلمين أولى بالرعاية من حقه في الخلافة، وما تركها رضي الله عنه لعجزه أو لقلة من يعينه وينصره!! كلا، بل تركها لله تعالى، وحقنا لدماء المسلمين، فمن يفعل فعل أمير المؤمنين أبي محمد الحسن بن علي رضي الله عنهما، وقد جمع الله تعالى به كلمة المسلمين بعد تفرقها، وألف به بين قلوبهم بعد تنافرها واختلافها؟! فكان سيدا من سادة هذه الأمة، وحقَّ فيه قول النبي صلى الله عليه وسلم:(إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين)رواه البخاري.(22/5)
فاجتمع سواد الأمة على معاوية بعد تنازل الحسن رضي الله عنهما، فأُغمد السيف، وسكنت الفتنة، وعادت مهابة الأمة، وتوارى أهل النفاق والشقاق، فهم لا يظهرون إلا في أحوال التفرق والاختلاف، وأقيمت الحدود، وحُميت الثغور، وانطلقت جيوش أهل الإسلام تفتح البلدان، وتمصر الأمصار، وتنشر الإسلام، حتى حوصرت القسطنطينية في خلافة معاوية، ومات أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه تحت أسوارها، وبنيت مدينة القيروان، وعظمت الفتوح في خراسان والسند وسجستان وما وراء النهر، واتسعت رقعة الدولة الإسلامية، وفاضت الخيرات، وازدهرت العلوم.
والفتوح التي وقعت في العهد الأموي كانت من أوسع الفتوح وأكثرها في تاريخ أمة الإسلام كلها، وكل ذلك كان ببركة الاجتماع على إمام واحد، والائتلاف بعد الاختلاف، وكان الفضل في ذلك بعد الله تعالى للحسن بن علي رضي الله عنهما.
وما اشتعلت بعد ذلك فتنة في قطر من أقطار المسلمين، فتفرق الناس فيها عن إمامهم إلا فرق الله تعالى قلوبهم، وصدع صفهم، وشتت كلمتهم، وأطمع فيهم أعداءهم، فحل فيهم الخوف، ورفع منهم الأمن، وعطلت الحدود، وظهر أهل الشر والفساد.
وما اجتمع الناس على إمام إلا اجتمعت قلوبهم، ورفع خوفهم، وزادت خيراتهم، وكل الدول القديمة والحديثة تشهد لهذه الحقيقة، ومن قرأ التاريخ استبان له الأمر، وعرف أن مواضع عزة الأمة ونصرها تكون حيث يجتمع أبناؤها، وأن ضعفهم وهوانهم يكون حيث يتفرقون {وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال:46] {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران:105] .
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
الخطبة الثانية(22/6)
الحمد لله حمد الشاكرين، ونستغفره استغفار المذنبين، ونسأله من فضله العظيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، {وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [البقرة:203]
أيها المسلمون: كان أعلم الصحابة رضي الله عنهم بما سيئول إليه حال الناس من الفتنة والتفرق إن قتل عثمان رضي الله عنه: حذيفة بن اليمان، وعبد الله بن سلام.
أما حذيفة رضي الله عنه فكان أعلم هذه الأمة بعد رسولها صلى الله عليه وسلم بالفتن وبالمنافقين، وكان يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الشر في حين أن الناس يسألونه عن الخير، ولما بلغه مقتل عثمان رضي الله عنه قال: (اعتبروا ما أقول لكم: والله إن كانت العرب أصابت بقتلها عثمان لتحتلبن به لبنا، ولئن كانت العرب أخطأت بقتلها عثمان لتحتلبن به دما) فوقع ما قال حذيفة رضي الله عنه فاحتلبت الأمة بمقتل عثمان رضي الله عنه دما كثيرا، ولا زالت تحتلب دما إلى يومنا هذا، وستظل تحتلب بقتله دما كثيرا إلى قيام الساعة.
وعن ميمون بن مهران رحمه الله تعالى قال: لما قتل عثمان قال حذيفة: فتق في الإسلام فتق لا يرتقه جبل.
وأما عبد الله بن سلام رضي الله عنه فكان من علماء أهل الكتاب، وقد آتاه الله تعالى في الإسلام علما وحكمة، فحذر أشد التحذير من قتل عثمان رضي الله عنه، وقال لما حصروا عثمان في الدار:(لا تقتلوه فإنه لم يبق من أجله إلا قليل، والله لئن قتلتموه لا تصلون جميعا أبدا) وحذر من الاقتتال فقال رضي الله عنه:(لا تسلوا سيوفكم فلئن سللتموها لا تغمدُ إلى يوم القيامة) ولما بلغه مقتل عثمان جعل يبكي ويقول:( اليوم هلكت العرب).(22/7)
وكان عثمان رضي الله عنه يعلم ما سيئول إليه حال رعيته إن هم قتلوه، فحذرهم وأنذرهم وقال لهم:(لا تقتلونني فو الله لئن قتلتموني لا تقاتلون عدوا جميعا، ولا تقتسمون فيئا جميعا أبدا، ولا تصلون جميعا أبدا، قال الحسن البصري رحمه الله تعالى: فو الله إن صلى القوم جميعا فإن قلوبهم لمختلفة)
ووقع ما خافه عثمان وحذيفة وابن سلام رضي الله عنهم، ولا يزال يقع إلى يومنا هذا.
ومن كان له علم وعقل علم أن الخروج على السلاطين من أعظم الفتن التي تبتلى بها الأمة، وأن ذلك يجر إلى فتن ماحقة من أهمها:سفك الدماء، ورفع الأمن، وحلول الخوف والجوع، والإفساد في الأرض، وأن النصح والدعاء والصبر والطاعة خير من نكث البيعة، ومفارقة الجماعة، وقد تضافرت نصوص الكتاب والسنة على ذلك {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59] وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر عليه فإنه من فارق الجماعة شبرًا فمات إلا مات ميتة جاهلية)متفق عليه. وفي حديث آخر قال عليه الصلاة والسلام: (من خلع يدا من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية) رواه مسلم.
ومما يأسى عليه المسلم ما وقع فيه بعض أبناء هذه البلاد من التدبير والتخطيط والجمع والعزم على التخريب والتفجير بعد أن فعل بعض أسلافهم ما فعلوا مما هو من الفساد في الأرض باجتهادات خاطئة، وتأويلات فاسدة، وشبهات فاتنة، والفساد في أرض فاسدة لا يحل، فكيف بالفساد في أرض آمنة؟! والله تعالى يقول {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا} [الأعراف:56] .(22/8)
وأي فساد أعظم من إفساد في بلاد قد أنعم الله تعالى عليها بالأمن والاستقرار، وهي مهوى أفئدة المسلمين في كل مكان، فإذا اختل أمنها كيف يحج الناس وكيف يعتمرون؟!
أوليسوا بأعمالهم الخاطئة، وتأويلاتهم الفاسدة قد أشمتوا بالمسلمين الكفار والمنافقين، ومهدوا الطرق للمنحرفين والشهوانيين أن يطعنوا في شريعة الله تعالى وأحكامها، وفي الدعوة والدعاة، وفي الحسبة والمحتسبين، وفي التعليم والمتعلمين وفي المناهج الدراسية التي بنيت عليها، وكم تأخرت الدعوة والإغاثة والإصلاح بسبب هذه الأعمال؟!
أليست أفعالهم المشينة كانت سببا في تسلق المرتزقة وذوي الأهواء ليتأكلوا بالأحداث، ويرتزقوا بأمن البلاد والعباد، ويقتاتوا على المصائب والنكبات؛ ليحوزوا مالا أو جاها أو ليُصَفُّوا حساباتهم مع الدين وحملته وأهله، ويسعوا بجد ونشاط في نشر الفساد والانحلال. وما رأينا إصلاحا من وراء ذلك.
فحري بكل عاقل أن يحذر الفتن وأهلها، وأن لا يسلم قلبه للشبهات، فإنها تفتك بالقلوب فتكا، وحري بكل من عرضت له شبهة في هذا الباب أن يسأل أهل العلم فيها، وأن لا يُقدم على قول أو فعل ليس عنده فيه من شريعة الله تعالى حجة ظاهرة؛ فإن الحساب عسير، وإن حرمة الدماء المعصومة عظيمة، ولعظمتها عند الله تعالى كانت أول شيء يقضى فيه بين العباد يوم القيامة، ولا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دما حراما؛ كما صح ذلك عن النبي عليه الصلاة والسلام.
ولما ثارت الفتنة الأولى اعتزلها سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه فجاءه ابنه عمر، فلما رآه سعد قال: أعوذ بالله من شر هذا الراكب، فنزل فقال له: أنزلت في إبلك وغنمك وتركت الناس يتنازعون الملك بينهم؟ فضرب سعد في صدره فقال: أسكت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي)رواه مسلم.(22/9)
ولما قيل له رضي الله عنه:(ألا تقاتل فإنك من أهل الشورى وأنت أحق بهذا الأمر من غيرك؟ قال رضي الله عنه:لا أقاتلُ حتى يأتوني بسيف له عينان ولسانٌ وشفتان يعرف الكافر من المؤمن، قد جاهدت وأنا أعرف الجهاد)رواه الحاكم:وقال صحيح على شرط الشيخين.
ولما جاء الخواج إلى مطرف بن عبد الله وهو من كبار التابعين، ومن أعلمهم بالفتن، جاءوه يدعونه إلى رأيهم فقال رحمه الله تعالى:(يا هؤلاء، لو كان لي نفسان بايعتكم بإحداهما وأمسكت الأخرى فإن كان الذي تقولون هدى أتبعتها الأخرى وإن كان ضلالة هلكت نفس وبقيت لي نفس ولكن هي نفس واحدة لا أغرر بها) فخذوا رحمكم الله تعالى من سير من سبقوكم عظات وعبرا؛ فإن القوم أتقى لله تعالى منا، وأعلم بالشريعة، وأسدُّ رأيا، وأحكم عقلا، والسعيد من لقي الله تعالى وليس لأحد عليه شيء، والشقي من تشربته الفتن فلقي الله تعالى يوم القيامة مفلسا بما عليه من حقوق العباد.
هذا وصلوا وسلموا على نبيكم.....(22/10)
العنوان: أثر الإيمان في إشاعة الاطمئنان
رقم المقالة: 362
صاحب المقالة: د. محمد بن سعد الشويعر
-----------------------------------------
توطئة
الحمد لله رب العالمين، القائل في محكم التنزيل: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى ءَامَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ والأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ}[1].
والصلاة والسلام على من سماه قومه قبل البعثه الأمين: فكان أميناً على أموالهم، وأميناً على أسرارهم، ثم أميناً على رسالة ربه بعد أن حمل أعباءها.
وبعد: –
فإن أثر الإيمان في إشاعة الأمن والاطمئنان من منظور القرآن والسنة.
موضوع واسع ومتشعب، وتتبع النصوص من الكتاب الكريم، وهدى المصطفى صلى الله عليه وسلم يستوجب حيزاً أكبر، ومجالاً أوسع. وكنت أتمنى الحصر في جانب من جوانب الأمن الاجتماعي، أو بعض التشريعات التي فرضت على المسلمين وأثرها في إشاعة الاطمئنان في حياتهم. أو عن الحدود ودورها في استتباب الأمن.
لأن راحة النفس لا تكون إلا بالإيمان، ورخاء المجتمع لا يكون إلا بالأمان. والأمان ثمرة من ثمار الإيمان، وحصيلة من حصائل العقيدة الصافية.
والإيمان والعقيدة الصافية لا يكونان إلا بعد الدخول في الإسلام وفهمه جيداً، وتطبيقه عملاً.
نفس... بلا إيمان
ونفس بلا إيمان فيها تبقى مضطربة وقلقة، وتائهة وخائفة: –
فأما اضطرابها فلأنها كالسفينة التي تتقاذفها الرياح في البحر. فتموج بها تقلبات الجو يميناً وشمالاً، وتتقاذفها العوامل المؤثرة التي تطغى عليها. فهي لم تجد ما يرسيها، أو يوصلها لبرّ الأمان، لأن كل نفس تأخذ مصدراً تشريعياً في سلوكها، أو منهجاً عقدياً في تصرفاتها. غير المصدر أوجده الله للمؤمنين، وارتضاه سبحانه لعباده وبعث به رسله، فإنه لا يلبي رغبة، ولا يريح نفساً، ولا يحقق هدفاً.(23/1)
والمصدر الذي ارتضاه الله هو كتابه القويم، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه لأنه تنزيل من عزيز حكيم، ثم ما بلّغ به المصطفى من وحي عن ربه أو أوضحه من شرع لصالح الأمة وإنقاذهم من الضلالة، مما يعالج ما يختلج في النفوس، ويؤرق الضمائر.
وبهذين المصدرين تسكن النفس من اضطرابها. وترتاح في مسيرتها، وتطمئن على حاضر أمرها ومستقبله.
أما كونها فلسفة: فإن من الغرائز التي أودعها الله في النفوس حب استجلاء المستقبل والتخوّف من العواقب، ولكي تسير في اتجاهها: تلجأ يميناً وشمالاً للبحث عما يحقق قبساً من أملها أو راحة من ضمير، ولا يمحو هذا القلق والحيرة من النفوس، إلا يقين يزيل دواعي هذا القلق، ويقضى على مسبباته، والإيمان بالقدر خيره وشره، واليقين بأن ما قدّره الله كائن لا محالة والرضا بما قسم الله: من أقوى دعائم هذا اليقين كما في حديث ابن عباس.
وأما كونها تائهة: فإن من يسير بغير هدى، أو معرفة لشرع الله الذي شرع لعباده: فإنه كالمسافر في طريق لا يعرف اتجاهه. وطرق المسالك في العبادة والعقيدة: كالطرق الموصلة من مكان لمكان، فالذي يأخذ المعروف منها بعلاماته وإرشاداته، فإنه قد سلك الآمن الموصل، أما غيره من الطرق فإنها تؤدى للضياع والاضطراب النفسي، وتدعو للخوف على النفس من المخاطر العديدة، وعلى المال والممتلكات، ألم يقل سبحانه: {وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَالِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[2].
ويقترن بتلك الأمور كلها الخوف، فهو مصاحب للاضطراب، بل هو المحرك له وهو المؤثر في القلق، كما أنه هو الذي يثير التيهان، ويدعو لعدم الاطمئنان.
فالخوف على المصير، والخوف من المستقبل، والخوف من النتائج، والخوف مما يحيط بالإنسان: على نفسه وولده وماله، وكل عزيز لديه، لأن أنواع الخوف كثيرة، ودواعيها عديدة القياس لكن منهجها واحد.
طريق الأمان(23/2)
وقد رسم رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه بوسيلة إيضاح جيدة، ما يؤكد طريق الأمان، ويزيل المخاوف عنهم، وذلك باتباع ما جاء به من عند ربه: فقد خط خطاً مستقيماً في التراب، وأفهمهم أن: هذا الطريق الموصل إلى الله، وهو ما بعثه الله به، ثم خط خطوطاً جانبية متفرعة منه، وبين أن: هذه السبل، من اتبعها ضل وغوى وابتعد عن طريق الرشاد ثم قرأ الآية السابقة. وفي كتاب الله جل وعلا علاج سهل المأخذ لمن وفقه الله، يريح القلوب، ويطمئنها من كل أمر مؤرق قال تعالى: {أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}[3] أي ترتاح وتهدأ، ويسهل الأمر الصعب، وهذا هو الأمن النفسي، الذي لا يكون إلا بتذكر عظمة الخالق سبحانه واستصغار ما دونه، فلا إله إلا الله: كلمة صغيرة في حروفها. سهلة في نطقها، لكنها عظيمة في مدلولها، كبيرة في معناها، عميقة في تأثيرها: فهي مطمئنة للنفس، ومهدئة للأعصاب، ومسكّنة للجيشان.
ومادة أمن، قد جاءت في كتاب الله هي ومشتقاتها أكثر من ثمانمئة مرة ((800)): فالمؤمنون والإيمان والأمانة، والذين آمنوا، كلها من الأمور المرتبطة حساً ومعنى بالإيمان والأمانة، والأمين، والذين آمنوا، كلها من الأمور المرتبطة حساً ومعنى بالإيمان ونتائجه. وكلها تؤدّى برابطة قوية مع الله، ومن منطلق التمسك بشرعه.
كما أن الكلمات التي تدل على معنى الراحة والسكينة، وتوفير السعادة للنفس وتذكيرها بالله وعقابه لمن عصى وانحرف، والنعيم والفوز لمن أطاع واستجاب كثيرة في كتاب الله.
وما ذلك الاهتمام الكثير في كتاب الله بهذا الجانب، إلا لما يوليه التشريع الإسلامي من عناية فائقة بالنفس البشرية، وعناية بتوجيهها، مع كفل ما يريحها ويؤمّنها من المخاطر حتى تعمل وهي مطمئنة على النتيجة، مع راحة بال بالوصول لثمرة ما كلفت به، لأن العمل قد حداه يقين وصدق.(23/3)
والنسة النبوية قد اهتمت في هذا الجانب بترسيخ ما جاء في القرآن الكريم، لزيادة تمكينه، بزيادة الدلالة اللفظية والمعنوية، لأن الزيادة تأكيد المبني، زيادة في تمكين المعنى، كما يقول بذلك البلاغيون.
التعريف اللغوي لكلمة أمن
والتعريف اللغوي لكلمة أمن أمناً وأماناً وأمَناً وإمْناً وأمنة: اطمأن ولم يخف، فهو آمن وأمِنْ وأمين يقال: لك الأمان أي قد آمنتك. والبلد: اطمأن أهله فيه، وأمن الشر ومنه: سليم، وأمّن فلاناً على كذا: وثق به واطمأن إليه، أو جعله أميناً، وفي التنزيل العزيز: {هَلْ ءَامَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَا أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِن قَبْلُ}[4].
وأَمُنَ أمانة: كان أميناً، وآمن إيماناً: صار ذا أمن، وآمن به: وثق وصدّقه، وفي التنزيل العزيز: {وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ}[5]، وأمّن فلاناً: جعله يأمن.
وأمّن على دعائه: قال: آمين، وأمّن على ماله وعلى الشئ: دفع مالاً منجّماً لينال هو أو ورثته قدراً من المال متفقاً عليه، أو تعويضاً عما فقد. يقال: أمّن على حياته أو على داره أو سيارته، وأمّن فلاناً: جعله في أمن. وأمّن فلاناً على كذا: أمنه والأمانة الوفاء والوديعة، والأَمَنَة، والأُمَنَة: من يؤْمِن بكل ما يسمع، ويطمئن إلى كل أحد[6].
الأمن الذي تبحث عنه النفوس
والأمن الذي تبحث عنه النفوس في كل شأن من شئون الحياة، هو جزء من هذه المشتقات التي جاء به اللغويون وأوضحوها، وقد جعل القرآن الكريم، وهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم محور هذا الأمن الإيمان الذي مقره القلب، سواء كان ذلك فيما يتعلق بالنفس ومتطلباتها، كالأمن الصحي، والأمن النفسي، والأمن الغذائي، والأمن الاقتصادي والأمن الأخلاقي، وغيرها.
أو ما يتعلق بالمجتمع وترابطه: كالأمن في الأوطان، والأمن على الأعراض، والأمن على الأموال والممتلكات وغيرها.(23/4)
أو ما يتعلق بالأمن على النفس من عقاب الله ونقمته بامتثال أمره، وطاعة رسوله، واتخاذ طريق المتقين مسلكاً لكي تُنْقَذْ النفس بكسب رضا الله، واستجلاب رحمته والأمن من عذابه في نار جهنم وغيرها.
وكل هذه الأنواع من الأمن مطالب ملحة تسعى إليها البشرية في كل عصر، وفي كل مكان، وكل من حمل راية الزعامة في أي مجتمع وبيئة يدعو إليها، لأنها هي التي تلامس أوتار الخاصة والعامة. ذلك أن النفس البشرية تبحث عن ذلك. ولا تدرك مدى الحاجة له والضرورة الملحة إليه، إلا بفقدانه، أو انتقاص مرتبة من مراتبه.
ويؤصل هذا المدلول ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول: ((نعمتان مجحودتان وفي رواية مغبون فيهما كثير من الناس – الصحة في الأبدان، والفراغ)) رواه البخاري عن ابن عباس[7] ولئن كانت الزعامات البشرية تغفل عن الأمن الأخروي، والأمن من عقاب الله، فإنما هذا عائد لنقص الإيمان لديها.
أما نظرة القرآن الكريم، وتوجيهات رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإنها تؤصل الإيمان، الذي يجعل النفس البشرية مطمئنة، تؤمن بما قدر الله، وتستسلم لقضائه، وتحتسب ذلك عنده أجراً مدخراً.
ومن هنا فسوف نمر عرضاً ببعض من المطالب البشرية، للاطمئنان على شئون الحياة، ليبرز من ذلك اهتمام التشريع الإسلامي بذلك في مصدريه: كتاب الله وسنة رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم. ليتضح لنا اهتمام القرآن الكريم بالعلاج النفسي المريح، قبل اهتمام علماء ومفكري العالم به.
والفرق بين الاهتمامين أن الإسلام جاء لمصلحة النفس البشرية، وتوجيهها لما يسعدها، وأن المصلحة عائدة لهذه النفس في الأول والآخر، أما ما يضعه البشر من أنظمة، يخاطب بها ألباب الجماهير، وما تحمل من وعود ومطالب وخيالات، فإن هذه الأمور تتبدد كالسراب، لأن الواحد يسعى لنفسه حتى يحقق ما يطلب، ويصل إلى بغيته، حيث يتجاهل بعد ذلك وعده للآخرين بالسعي لمصالحهم، ويتنكر لما يطمئنهم.(23/5)
ورسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه الله رحمة للعالمين، قد كان قدوة صالحة في نفسه أولاً، بمنهج السلوك والعمل، وبدعوته لتأصيل الإيمان، وتمكين العقيدة في الفئة المؤمنة، لأن ذلك مما يطمئن النفس ويريحها.
ومن هنا ندرك أهمية ما جاء في القرآن الكريم، وسيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم من آيات وعبر تقويِّ دعائم الإيمان، وتمكِّنه من النفوس، في كل أمر يعترض الإنسان في أمور حياته وآخرته.
الإيمان لغة وشرعاً
وهذا يدعونا إلى إيراد تعريف للإيمان لغة وشرعاً. ولأن من التعريف يرسخ المفهوم المراد، على ضوء ما يستعرض من أدلة.
فالإيمان لغة: هو التصديق والاطمئنان. وقد مرّ بنا جزء من تعريفات مادة أمن في اللغة والتي توسعت فيها كتب اللغة توسعاً يشبع فهم الباحث، وهي سهلة ميسرة لمن يريدها.
أما في الاصطلاح الشرعي: فهو الإيمان بالله، والإيمان بملائكته، والإيمان بكتبه. والإيمان برسله، والإيمان باليوم الآخر، والإيمان بالقدر خيره وشره.
فهذه الأمور الستة هي التي عليها مدار النفس وتفكيرها، في حاضرها ومستقبل أمرها، في شئون الحياة الدنيا، وما يصلح الأموال فيها، وفي المستقبل المنتظر حدوثه في هذه الحياة الدنيا، أو ما يحصل بعد الموت وعند البعث والنشور.
القرآن الكريم وأثره في توطين النفس
فالقرآن الكريم قد أعطى هذا الجانب اهتماماً كبيراً، لما له من أثر في توطين النفس البشرية على الرضى والاستسلام، والترقب والاهتمام، وفق منطلق عقدي، جعل له التوجيه الإسلامي قاعدة متينة يرتكز عليها. وسنداً قوياً يدعمه، لتشد بذلك جوانب النفس حتى لا تنحرف أو تزيغ.(23/6)
وإذا كانت النفس البشرية في عصرنا الحاضر الذي تقاربت فيه الشعوب، وتداخلت الثقافات، وقد دهمها الاضطراب، بحيث أصبح القلق يؤرقها في كل شيء: فهي تخاف من بعضها البعض، وهي تخاف من كوارث الحياة، ريحاً أو مطراً أو أعاصير أو ثلوج، وهي تخاف من الأمراض المتعددة والأوبئة، وخاصة ما يظهر جليًّا في وسائل الإعلام منذ عامين عن المرض القاتل ضعف المناعة المسمى ((الأيدز)) كما كانت تخاف من السرطان وغيره، وهي تخاف وتضطرب من أمور كثيرة ومتعددة لا يمكن حصرها، حتى أصبح الخوف والقلق سمة من سماتهم، وانتشر تبعاً لذلك الانتحار. والرغبة من الخلاص من هذه الحياة. وما ذلك إلا من نقص الإيمان في قلوبهم، وضعف الوازع العقدي المرتبط بالله وبدينه الذي رضيه لعباده، ذلك الوازع الذي يجعل النفس تؤمن بقضاء الله وقدره، بدون تسخط أو تأفف وتحتسب الأجر فيما تتحمله النفس عند الله مدّخراً في يوم الجزاء والنشور، عندما يحصَّل ما في الصدور، ويؤكد هذا المعنى رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث رواه ابن عباس رضي الله عنهما قال: كنت رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فقال: ((يا غلام!!. احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، وأعلم أنما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك)) رواه الترمذي.(23/7)
والله سبحانه وتعالى يسوق الكوارث على البشر في حياتهم الدنيا، لينبه النفوس من غفلتها، وليعيدها إلى خالقها، ويربطها بموجدها، ويذكرها به كلما بعدت، وهذا هو الإيمان بالله وبكتبه وبرسله، وهو معرفة الحق المطمئن. الذي جاء من عند الله، إيماناً به، واعتقاداً بأنه من عند الله قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيءٍ مِّنَ الخَوْفِ والْجُوعِ وَنَقْص مِّنَ الأَمْوَال وَالأَنفُس وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ، الَّذِينَ إذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ، أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}[8].
فإذا كانت هذه البلوى في نزول المصائب على النفوس المؤمنة. من أجل أن يقوى إيمانها، وتستعين به على الصبر والتحمل في مجابهة ما ينزل من بلوى، فإن هذا من ترسيخ الإيمان، والاطمئنان بتمكينه، ذلك أن تسليم الأمور لله، وعدم الجزع مما حلّ لا يتحمله بصبر وثبات، ورضى واطمئنان، إلا النفوس المؤمنة المحتسبة، وقد سماهم الله في آخر الآيات بالمهتدين السائرين على الدرب المستقيم.
والصبر يأتي على ضربين: صبر المؤمن الذي يرجو أجر الله ويخاف عقابه، فيتحمل في سبيله باطمئنان ورضا أموراً كثيرة وهذا هو الذي حث عليه القرآن الكريم في أكثر من ستين موضعاً، وهذا أول نوع من الجهاد فرض في الإسلام. فقد مكث صلى الله عليه وسلم في مكه ثلاث عشرة سنة، يرسخ في أصحابه عقيدة التوحيد، ويأمرهم بالصبر على أذى قريش حتى يجعل الله لهم مخرجاً، ويطمئنهم بنصر الله وتأييده، وأن الغلبة لله ولرسوله وللمؤمنين.
وصبر الكافر على ما ينزل عليه من مصائب وكوارث، فهو إن صبر فبغير احتساب وصبره كصبر البهائم لما يحمل عليها من أثقال، أو تلقى من أصحابها في مشقة، وهو إن جزع فإنما يجزع بتسخّط على الله الذي قدّر الأشياء لحكمة وعبرة، فحياته قلق وضجر.(23/8)
والقاسم المشترك ما بين المؤمن والكافر في تحمل المصائب والكوارث، والاستسلام للأمر وتطبيقه أو النكوص عنه، هو العامل الإيماني، الذي تتفتح عنه النفوس، وتتقبله القلوب كما توضحه الآية الكريمة: {وَلََنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَاْ أَخْبَارَكُمْ}[9].
والقرآن الكريم يربط كل عامل من عوامل الدنيا التي تجعل الإنسان قلقاً بشأنها، بقوة العقيدة، وسلامة الإيمان ونقاوته، وبذلك تخف الوطأة، وتهون المصيبة. فهو يخاطب النفس بما يطمئنها ويريحها، ويهدئ ثائرتها، ولن يمر بالقارئ لكتاب الله آية إلا ويلمس فيها سراً عجيباً، وعلاجاً مريحاً، يزيل عن النفس كابوس القلق ومؤثر الاضطراب.
وهذا هو أقوى علاج نفسي للخروج من ذلك المحيط، الذي لم يعرف وجوده لدى المسلمين، إلا بعد ضعف الوازع الإيماني، والتساهل في أمور الدين، والبعد عن كتاب الله الذي هو أكبر مؤثر يريح النفوس، وتطمئن به لما فيه من عظات وعبر، ووعد ووعيد، وهدي المصطفى الذي يعطي حديثاً لكل حادثة، ويجعل لكل حالة مخرجاً.
وليس هذا المفهوم منا معاشر المسلمين الذين نجد العلاج ماثلاً قولاً وعملاً فقط، ولكن رجال الغرب المهتمين بالنفس البشرية، وما تعانيه في مجتمعاتهم في قرننا الحاضر من قلق واضطراب، وأزمات عديدة، قد جاءت دراسات منهم تقول: إن المسلمين لا يعرفون الانتحار المنتشر في بلاد الغرب، وإن المسلمين لا يعيشون الاضطرابات المتعددة التي وقع فيها أبناء الغرب. وبعضهم يطلق على أجيال ما بعد الحرب العالمية الأولى، والحرب العالمية الثانية أجيال القلق والضياع الفكري.
ومن هنا نلمس في ديارهم كثرة المصحّات النفسية، وانتشار شركات التأمين على كل شيء يخشون ضياعه أو حلول كارثة فيه.(23/9)
فاستغلت شركات التأمين التي أسسها ودعا إليها بوسائل إعلامه المختلفة مصاصوا دماء الشعوب وهم اليهود، عندما استغلوا القلق الذي يعيشه أولئك الذين فرغت قلوبهم من الإيمان بالله، فسهل عليهم جذبهم إلى مصائدهم، واستغلال نقطة الضعف فيهم، ومن هنا ندرك بعضاً من سر عداوة اليهود للإسلام وأهله حسبما أوضح الله عنهم في القرآن الكريم: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِلَّذِينَ ءَامَنُوا الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنّهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ، وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا ءَامَنَّا فَاكتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ، وَمَا لَنا لاَ نُؤْمِنُ بِاللهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقُوْمِ الصَّالِحِينَ}[10].
فاليهود وصفهم الله بشدة العداوة لأهل الإيمان، لأنهم يعرفون الله، ويعرفون الحق الذي أنزل على عباده، ويتركون العمل به وأتباعه قصداً، وبسابق إصرار وعن علم ودراية، فلذلك كانوا أعداء لله، ولأهل الإيمان، وأخذوا الأسبقية في هذا قبل المشركين عبدة الأصنام للمعاندة والمخالفة مع العلم، فقلوبهم قاسية وحاقدة.
أما النصارى ففيهم رقة تقرّبهم من المؤمنين فإذا وضح لهم الحق استجابوا لندائه، فهم أقرب للإيمان بأيات الله كما وصفتهم الآية الكريمة.
وما يحصل من قساوة قادة النصارى، ورجال الكنيسة ضد الإسلام فهو لأحد سببين:
– إما مصالح قيادية يخشى عليها.
– وإما بتحريض من اليهود الذين يوالون النصارى ليجتمعوا سوياً في محاربة الإسلام.(23/10)
ولذا امّتن الله على أمة محمد صلى الله عليه وسلم بطريقة وسط بين غلوّ النصارى، وجحود اليهود فالمؤمنون من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، والمصدقون بشرع الله الذي جاءهم من عند الله، والمطمئنة قلوبهم بمصدري التشريع في الإسلام عن عقيدة ويقين، يدعون الله بالاستقامة على الطريق المستقيم الذي يمثل عقيدة وسطاً، وعملاً لا مشقة فيه فلا تكليف للنفس فوق طاقتها فتملّ. يقول الله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ}[11].
فالمغضوب عليهم هم اليهود الذين عصوا الله عن علم ومعرفة، والضالون هم النصارى الذين يعبدون الله عن جهل وضلال.
وقد قال سفيان الثوري رحمه الله: من فسد من عباد أمة محمد صلى الله عليه وسلم ففيه شبه بالنصارى، ومن فسد من علمائهم ففيه شبه باليهود.
الإيمان الذي تطمئن به القلوب(23/11)
فالإسلام هو دين الحق المطمئن بتعاليمه، المريح بمنهجه، وهو دين إبراهيم الخليل عليه السلام أب الأنبياء الذي عرف آيات الله في حداثة عمره، ففي حواره عليه السلام مع قومه عندما دعاهم للإيمان بعدما تبدّت له الآيات، نراه عليه السلام يدعوهم لترك الأصنام، ويخوفهم بها، لأن قلوبهم متعلقة بها، لاعتقادهم النفع والضر منها، أما هو فلا يرى غير الله جالباً للنفع أو دافعاً للضر، فهو سبحانه الذي يجب أن تؤمن به القلوب، وتسلم أمرها إليه لتهتدي وتطمئن، فتأمن وتستقر، ويبرز هذا العامل الإيماني في هاتين الآيتين الكريمتين اللتين حكاهما الله على لسان إبراهيم عليه السلام: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنُ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ، الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ}[12].
فكان هذا الحوار الكريم من نبي الله عليه السلام دعوة قوية للإيمان الذي تطمئن القلوب به، كما أنها حجة قاطعة تسكت من يناقش، فإذا كان الإيمان غريزة في القلوب والتعلق فطرة فطر الناس عليها، فما هو الطريق الأفضل، وما هو الشئ الذي يريح النفس، ويهدئ من ثائرتها، ويقضى على المشكلات التي تعترضها؟؟
إن ذلك لابد أن يكون شيئاً عملياً تتجاوب فيه الأحاسيس مع الوجدانيات، وتتعاطف فيه الحواس مع الأعمال، ويكون فيه انسجام بين المعقول والمنقول، وبين الأخذ والمأخوذ منه.
وهذا كله لا يتأتى في علاقته بأوهام، ولا بمعبودات، غير مستقرة لا تنفع أو تدفع عن نفسها شيئاً.(23/12)
ولذا جاء وصف الله جل وعلا لحوار إبراهيم الذي يدعو للإيمان عقيدة وعملاً، بمقارنته بين آلهتهم التي أشركوها مع الله، في عمل لم ينزل الله به سلطاناً، وبين الرابطة مع الله الذي تطمئن بذكره القلوب، وترتاح بالتوكل عليه هواجس النفس، بحيث تبتعد عن المؤثرات عليها. جاء الوصف لذلك بأن هذه حجة قوية على قومه، حيث لم يجدوا لذلك جواباً، إذْ لا شك أن الأمن مع الإيمان بالله، وراحة الضمير مع عقيدة الوحدانية به سبحانه فقال تعالى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا ءَاتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ}[13].
والإيمان الذي تطمئن به القلوب، وترتاح به النفوس، يدخل في كل شأن من شئون الإنسان فالأعمال لابد أن تنبثق عن الإيمان وترتبط به، لأن الإيمان بالنسبة للعمل بمثابة المرشّح للماء، فالمرشح يصفي الماء، ويمسك الرواسب فيه، فلا يخرج إلا ماء صافياً، ونقياً صالحاً للشرب، يحافظ على الصحة.
وكذلك الإيمان بالنسبة للأعمال قد أوضحه القرآن الكريم، والسنة المطهرة، لأن الأعمال الصالحة مهما كانت والخصال الحميدة التي ترنو إليها الأفئدة، وتفاوة النفس من الموبقات والمحضورات كل ذلك ثمرة الإيمان، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الإيمان بضع وسبعون شعبة، فأعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان))[14].
فإذا كان إماطة الأذى عن طريق الناس حتى لايؤذيهم إذا مروا به أو وقعت عليه أقدامهم وهو من أبسط الأعمال، يعتبر من الإيمان الذي يطمئن القلوب، لوجود رابطة تضم شمل المؤمنين. وعاطفة تجعل بعضهم يهتم بالآخرين، ولو في الشيء البسيط من الأعمال والأقوال.(23/13)
فإن دين الإسلام كما هي نصوص تعليماته، تتمكن فيه عقيدة الإيمان بأعمال أخرى، منها ما هو عائد للنفس وحدها كالحياء الذي أخبر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه شعبة من شعب الإيمان الكثيرة، التي حدد عددها في هذا الحديث[15].
والإيمان لا يكون قوياً إلا إذا وقر في القلب، وسيطر على المشاعر، وقد أوضح هذا المدلول رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول: ((ذاق طعم الإيمان من رضي الله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد رسولاً))[16].
وكان من دعاء مالك بن دينار رحمه الله: اللهم أذقني حلاوة الإيمان.
ذلك أن للإيمان مذاقاً مميزاً يحس به من تمكن من قلبه، وارتبطت به حواسه.
والعلم إذا اقترن بالإيمان صار درجة مرغوبة، ويحث عليها الإسلام، وهذا هو العلم الذي ينفع صاحبه، وينفع الآخرين، لأن الإيمان يرشد العالم لطريق الصواب، ويوجهه لما فيه الخير.
وهذا مشهد من مشاهد يوم القيامة يوضح فيه أهل العلم الذين آمنوا بالله: حقيقة معرفتهم ما أوجبه الله عليهم، بما عملوه من العلم النافع المفيد، فطبقوه في حياتهم، واطمأنت به قلوبهم في يوم الفزع الأكبر، والخوف الشديد، فهم يقولون ذلك وبراحة نفس، واطمئنان قوي، حيث أَمَّن الله روعهم، وسكّن قلوبهم بعقيدة الإيمان، يحكي الله جلّ وعلا هذا المشهد بقوله: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ العِلْمَ وَالإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللهِ إلَى يَوْمِ البَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ البَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}[17].(23/14)
فأصبحت علومهم الدنيوية، ومقدرتهم في اللجاج والحجج لم تنفعهم، ولم يعتبر ذلك علماً لأنه لم ينقذهم من أهوال ذلك اليوم، ولمْ يوصلهم لباب من أبواب الاطمئنان والهدوء النفسي، عندما وقعوا في الأمر، ووصلوا إلى يوم البعث والجزاء، يوم القلق النفسي، أو الراحة أو الاطمئنان والنتيجة هذه لا تتأتى إلا بالعمال وفق منهج كتاب الله، وهدي رسوله، اللذين فيهما الدواء لكل داء. ولذا قال بعض العارفين من علماء الإسلام في صدره الأول: إذا سمعت في كتاب الله: يا أيها الذين آمنوا. فأصغ إليها سمعك، فهو إما خير يأمرك الله به، أو شر يحذرك الله منه.
الإيمان وقته الحياة الدنيا
وموقف يوم القيامة يختلف عن المواقف الدنيوية، بل إن الإيمان في ذلك الموقف بعد أن تذهل النفوس، وتضطرب القلوب من هول ما ترى: لا ينفع لأن وقت الإيمان والتبصر قد انتهى، فالإيمان وقته الحياة الدنيا، حيث الفسحة من العمر، وحيث الابتلاء والاختبار، وحيث موطن الصراع بين الخير والشر، بين الشيطان وأعوانه، وبين الإستجابة للحق وهو اتباع دين الله، وما جاء في كتبه، وأنزل على رسله.
وهذا يؤصله القرآن الكريم والسنة المطهرة، بأن موطن الاستجابة في الدنيا حيث تصارع النفس هواها، ويدعوها الهدي الشرعي للوقوف باطمئنان دون نوازع الشر المخالفة له.(23/15)
فالتوبة التي جعلها الله تطهيراً للنفوس، ما هي إلا عودة للإيمان بإطمئنان وراحة عندما تسرف النفوس في الابتعاد عن أوامر الله وتعاليم شرعه. وهي مدخل إيماني واسع تحث عليها المصادر الشرعية في مواطن كثيرة، وبترغيبات أوضحها رسول الله صلى الله عليه وسلم تشد النفوس، وتقويها في الاستجابة، وتطمعها برجاء وخوف في الفضل العظيم المحسوس والملموس، استمع مثلاً إلى قول الله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى أَنفُسِهِم لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ}[18].
وباب التوبة مفتوح إلى يوم القيامة، كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم[19].
وبالنسبة للنفس البشرية فمما يطمئنها أن التوبة مقبولة ما لم تغرغر الروح، وهذه بشارة مريحة تبعث الأمل.
وعلامة إقفال باب التوبة في هذه الحياة الدنيا خروج الدابة التي تسم الكافر والمؤمن بعقيدة كل منها، فلا يخفى بعضهم عن بعض كما قال تعالى: {وَإِذَا وَقََعَ القَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الأَرْضِ تُكِلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُواْ بِئَايَاتِنَا لاَ يُوقِنُونَ}[20].
ذلك أن الخير في الإيمان وأن النجاة في التمسك به، فظواهره في الدنيا بارزة في أمور من حياة الفرد والجماعة، سنمر ببعضها عرضاً، أما الحديث عنها فيطول.(23/16)
وفي الآخرة بالفوز والنجاة بما تجده النفس مدّخراً، يتمثل أمامها عيناً بارزة، بعد أن كان أمراً مخفياً فتتمنى العودة للإيمان، ولكن لا مجال لذلك يقول عز وجل في تخويف المكذبين المعاندين: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلاَئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ ءَايَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ ءَايَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ ءَامَنَت مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً قُلِ انتَظِرُواْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ}[21].
وكنموذج واقع يجب أن تأخذ منه النفوس عبرة يحكي الله قصة فرعون الذي طغى وتجبّر فبعد أن أدركه الغرق، وعاين العقاب، ضاع عنه عزه وسلطانه، ودب فيه الخوف لأنه لم يستطع أن يدفع عن نفسه شيئاً، فأراد أن يرجع للإيمان لعله ينقذه مما حلّ به، فقال الله جل وعلا موضحاً هذه الحالة: {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الغَرَقُ قَالَ ءَامَنتُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الذِي ءَامَنَتْ بِهِ بَنُواْ إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، ءَالْئَانَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ، فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ ءَايَةً}[22].
فإيمان فرعون الذي تلفظ به: يريد به الأمان والاطمئنان من عذاب الله وعقابه، بعد أن عاين المصير، الذي سيؤل إليه كما جاء في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه: [بأن الإنسان إذا مات فإن كان محسناً قال: عجلوني عجلوني. وإن كان مسيئاً يصيح يا ويلتاه أين تذهبون بي، فيسمعه كل شيء إلا الثقلين الإنس والجن، ولو سمعوه لصعقوا][23].
وما ذلك إلا أن الأول قد أُري منزلته جزاء إحسانه فاطمأنت نفسه، واحب الإسراع بالوصول إليها، لأنها تفضّل من الله عليه.(23/17)
وأما الثاني فلأنه أُري منزلته السيئة جزاء تفريطه وإساءته العمل، فخاف من ذلك المصير فهو يريد الابتعاد عنها، ولكن لا مناص من ذلك. وأشد ما يستطيع الخائف التعبير عنه هو الصراخ، والدعوة بالويل والثبور، والرغبة في عدم مواجهة الأمر.
وفي عصرنا الحاضر تكونت أجهزة عديدة للمحافظة على المجتمعات، وتأمين سلامة الفرد، والجماعة، على أنفسهم وذويهم وممتلكاتهم، وسمي بعض هذه الأجهزة بالأمن.
وحرصت أجهزة الأمن هذه في كل دولة ومجتمع أن تأخذ بالأسباب التي تطمئن الفرد، وتشعره بالاهتمام به، بحسب متطلبات هذا الأمن، فوضعت النصائح، واتخذت الحيطة وتكونت الأجهزة، والأعمال السرية والعلنية،
وابتكرت النماذج للمحافظة والاهتمام، مع الحيطة في محاربة الطرق المؤدية لذلك.
فهذا هو الأمن الاجتماعي، والأمن الصناعي، الذي يدخل تحته: –
حفظ المجتمع من انتشار الجريمة بالقتل، حتى لا يطغي قوي على ضعيف، وحتى لا يسفك دم مسلم بغير حق، لأن المجتمع الإسلامي قد حفظ بالقصاص والحدود، في مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا ألا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله تعالى))[24]. وقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة))[25].
فالإسلام الذي اختاره الله دين آخر خير أمة أخرجت للناس، يؤمن النفس، ويحافظ عليها، ويعصمها من التعدي على غيرها، ويحفظ حقها من التعدي عليها بغير حق.
أهمية النفس في الإسلام
فالنفس في الإسلام ملك لله، لابد أن تعيش آمنة مطمئنة وفق شرع الله، فلا يحق لصاحبها أن يوردها المهالك، أو يحملها فوق طاقتها، ولا أن يقتل المرء نفسه للخلاص من قلق حلّ به في الدنيا، لأي سبب من الأسباب.(23/18)
فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا يتمنينَّ أحدكم الموت لضر أصابه فإن كان لابد فاعلاً فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي))[26] ويقول صلى الله عليه وسلم في توعّد لمن قتل نفسه. ((من قتل نفسه بشيء فهو يجؤها به في نار جهنم))[27] وقاتل نفسه في النار وحتى يأمن المسلم من أخيه المسلم، ويطمئن إلى عدم إلحاق ضرر به منه، يقول صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع: ((أي يوم هذا؟ قلنا الله ورسوله أعلم: فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه قال: أليس هذا يوم النحر؟ قلنا: بلى قال: فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم))[28].
فرسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يجهل اليوم والشهر والبلد، ولكنه سألهم سؤالاً تقريرياً ليمكن الجواب من نفوسهم، ويثبت ما سوف ينبنى عليه من حكم، كما يقول بذلك البلاغيون. وكجزاء لعقاب تخويف المسلم. وزعزعة الأمن من نفسه، بالاعتداء عليه، جاء العقاب الشديد الذي جعله الله زاجراً لمن يقتل نفساً بغير حق فقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً وَمَنَ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إلى أهله}.
إلى أن يقول سبحانه في عقاب العمد الذي أزال الاطمئنان من النفوس: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً}[29].
القصاص من أسباب الاطمئنان في المجتمع
وأنواع العقوبات المفروضة تطمئن المجتمع، وتزيل الحقد من النفوس، وتردع من تسول له نفسه الإقدام على أمر فيه جناية، وإخلال للمجتمع حيث يقول سبحانه: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِى الأَلْبَابِ لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ}[30].(23/19)
فالقصاص من أسباب الاطمئنان في المجتمع والقضاء على الجريمة، لأنه يقضي على الفئات الفاسدة في المجتمع، حتى لا يتوسع نطاق عملها في أجزاء أخرى منه، حسبما نرى في المجتمعات الغربية، التي رأفت بالمجرم لأنه في نظرهم يحتاج إلى الرعاية والعطف، فهو لم يرتكب الإجرام في نظر المهتمين بأمره، إلا من مؤثرات تحيط به من صحية أو اجتماعية أو أسرية أو غيرها.. فماذا كانت النتيجة؟؟
إنها بالنسبة للمجتمع حسبما هو واقع الحال: خوف واضطراب، وقلق مستمر.
وبالنسبة للأفراد: انتهاك أعراض، وقتل أنفس بريئة، وتشويه بعمل إجرامي متعمد وبالنسبة للأموال: نهب واعتداء وتسلط.
أما بالنسبة للمجرم نفسه: فسجن محدود، وغرامة مالية قليلة، ثم يخرج للمجتمع من جديد وبفن جديد في عالم الجريمة، وهكذا تستمر الحلقة.
لكن شرع الله الذي شرع لعباده في القرآن الكريم، هو الذي يصلح المجتمعات، ويقضي على جذور الاعتداء، والاستخفاف بالنفوس، وإخافة الآمنين، لما فيه من جزاء رادع يقضي بتطبيقه على الشر، لأنه لا يصلح النفوس، ويردها عن ذلك إلا هذا الأسلوب قال تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالعَيْنَ بِالْعَيْنِ والأَنفَ بِالأَنْفِ والأُذُنَ بِالأُذُنِ والسِّنِّ بالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ}[31].
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى}[32].(23/20)
وهذا هو حكم الله الذي فيه طمأنينة المجتمع، وإخافة الفاعل، والردع عن التمادى في العمل الضار، قد أنزله سبحانه على بني إسرائيل في توراتهم، فخالفوا وعاندوا، وبدّلوا، فكانت النتيجة جرائم متتالية، واضطرابات تزعزع النفوس، وسار على منوالهم النصاري فحلّ بهم ما لحق بسابقيهم، حسبما نلمسه اليوم في قوانينهم الوضعية من امتداد لذلك العمل حيث تجني الثمرات السيئة، فما يطفح على الصحافة من أخبار، وما يبرز من تقارير الجريمة من أرقام.
واختار الله هذه الأمة لتطبيق ذلك فأمن مجتمعهم، واطمأن الناس على أنفسهم وأعراضهم وأموالهم عند الامتثال، ثم دب القلق في بعض المجتمعات الإسلامية، لأن أقواماً استبدلوا بحكم الله قانوناً بشرياً، وغيروا ما أراده الله، بما أخذوه عن غيرهم تقليداً، واستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير.
ولا شيء يؤمن المجتمع، ويحفظ الأمة، ويقضي على أسباب الخوف، إلا بتطبيق ما ارتضاه الله في شرعه، وأكده رسوله الكريم، بحماية الأفراد، والمحافظة على الجماعات، لأن الله بعباده رؤوف رحيم.
حفظ الأموال من التعدي، والحقوق من التطاول، فالإسلام قد جعل لكل مال حرزه المعتاد حفظه فيه، فمن أخذ شيئاً من حرزه اعتبر سارقاً، والسارق أعطي جزاؤه بقطع يده، التي تطاولت على ما ليس لها، لضياع الأمانة في القلب، وضعف الإيمان في النفس، قال تعالى: {وَالسَّارِقُ والسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاءَ بِمَا كََسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللهِ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[33].(23/21)
فقطع اليد ليس عدواناً، أو بقصد التشويه للسارق أو السارقة، ولكنه جزاء لهما باستخفافهما بالأمن، وترويعهما الناس الآمنين، واعتدائهما على ما ليس لهما، وعدم احترامهما لشرع الله الذي يصون الحقوق، ويؤمن الناس بالمحافظة على الأنفس والأموال، من التعدي والتطاول بغير حق، ونكالاً من الله لعدم الوقوف عند حدوده التي شرع لعباده، لأن التعدي استخفاف بذلك، والله عزيز في ملكه، حكيم في إرادته وتشريعه.
وقد يعتبر اللصوص بتنظيمهم وقدراتهم في إخافة الناس، وسطوهم هنا وهناك على ممتلكات الآخرين، فيقطعوا السبل، ويفسدوا في الأرض، ويعلنوها حرباً على الله بامتهان شرعه، وتسلطاً على المجتمع بقطع الطرق وإخافة الآمنين، والاعتداء على الأموال والأعراض، والإفساد في الأرض، حيث يضطرب ميزان العدل، وتتخلخل أركانه، فإذا نشأ شيء من ذلك في مجتمع من المجتمعات أزعج السلطة، وضعف كيانها، وضاعت الحيلة لتهدئة المجتمع وإعادة الهدوء والأمن إليه، فيأتي شرع الله العزيز الحكيم، ليحل هذه المشكلة، فالله يقضي على هذه المعضلة، بحل قاطع حسبما يقول سبحانه: {إِنَّمَا جَزَاؤُاْ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلاَف أَوْ يُنفَواْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الأَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ، إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عََلَيْهِمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَابْتَغُواْ إِلَيْهِ الوَسِيلَةَ وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[34].(23/22)
وقد قال الباحثون في أصول الجريمة، المهتمون بطمأنينة المجتمعات، إن الإسلام قد وضع قاعدة قوية في القضاء على الجريمة، في تحريمه الأمور التي تتسبب عنها، أو تدعو إليها: كالخمر والزنا والربا والميسر، ثم بوضعه قواعد تريح العالمين بها وفق منهج سليم يرضي النفوس، ويعطى كل ذي حق حقه، ويمنع التعدي، ثم يفرض جزاءات تجتث الشرور من المجتمع، لأن من فيه نزعة شر لا يرتاح، إلا بإزعاج الآخرين، ومثل هؤلاء كالجرثومة التي لابد أن تكافح، أو كالعضو الفاسد لابد من بتره، وإلا استشرى الداء في الجسد كله.
وإن من تمعن في مدلول الآيات الكريمة الآنفة الذكر، يدرك الإسلام الصارم في القضاء على الأمور التي يترتب عليها إخلال بالأمن، وإزعاج للبشر، وإضرار بالأمة. ومعلوم كما يقول علماء الاقتصاد: "بأن رأس المال جبان لا يطمئن إلا بالأمان، ولا يتحرك وينمو إلا مع الأمن الوطني، والقضاء على مثيري القلاقل الآخذين بجهد الآخرين، المخيفين للسبيل، وذلك بسلطة تجازيهم في الدنيا، وتقطع دابرهم من المجتمع، وعمل هذه السلطة يدعمه تشريع قوي، ولا أقوى من حكم الله ورسوله وتطبيقهما يخيف من تسوّل له نفسه العمل بمثل عملهم".
الإيمان مقترن بالأمان
وفي المجتمع الغربي والأمريكي بصفة خاصة الذي أزعجته الجريمة، وأقلقت مواطنيه وسائل الاستخفاف بالحياة، من فئة معنية من البشر، ضج الناس هناك، وتأثرت كثير من مصالحهم، فرأى بعض رجال الأمن عندهم أن الحل الوحيد في تخليص المجتمع الأمريكي مما يؤرقه، وتخفيف ما يسببه المجرمون للمجتمع من أمور كثيرة، يكمن في تعاليم الإسلام، الذي يجعل على النفس رقابة قوية، أقوى من رقابة البوليس وأنظمته.
وقد جاؤا بأمثلة: أن مجرمين متأصلين في الإجرام، ومن أصحاب السوابق، قد أسلموا في داخل السجن، فصلحوا، ولم يعودا للسجن بعد ما خرجوا منه، أما من خرج منه وهو على ديانته السابقة، فإنه لا يلبث حتى يعود للسجن مرة ومرات.(23/23)
ومن هذه الدعوة بدأت كثير من الولايات تدعو المشرفين الاجتماعيين والدعاة من المسلمين لتأدية محاضرات وزيارات منتظمة للسجون التي أصبحت أوسع ميدان للدعوة الإسلامية. وقد قال بعض المسئولين في الأمن عندهم إن الخلاص من الجريمة لا يكون إلا على الإسلام والعمل وفق منهجه.
وهذا أكبر برهان محسوس على أن الإيمان يقترن بالأمن والاطمئنان وراحة النفس.
المال موطن الأثرة لدى النفس ونظرة الإسلام إليه
ولما كان المال من أعز ما يملك الإنسان وهو الذي يسيّر الحياة في المجتمعات، فإن سبل الخوف عليه ساقت عبّاده اليهود ومن يشايعهم إلى ابتكار أساليب للمحافظة عليه وكنزه، وكان مما فرضوه على المجتمعات التي يعيشون فيها: الربا. وهو زيادة المال بدون جهد، فلا يحصل النفع من المال بالتداول، ولا يزداد الفقير، إلا فقراً وحقداً على الغني، الذي تتضاعف أرباحه بجهد هذا الفقير.
ومن هنا جاء تشديد الإسلام في الربا، واعتباره محاربة لله، ومن ذا الذي يستطيع محاربة الله، ومحاربة رسوله.
وقد قرن الإيمان، وطمأنينة القلب على النفس، وعلى المال، بترك هذا الربا، وطرقه المتعددة، التي أخبر صلى الله عليه وسلم بأنها ثمانون باباً، أدناها أن ينكح الرجل أمه علانية[35] وهي كلها أمور مخيفة، تبعث القلق والقشعريرة في الإنسان وحواسه، ومن ذا الذي يجابه ربه، ويعاند رسوله في حرب معلنة. استمع إلى قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللهِ وَذَرُواْ مَا بَقِىَ مِنَ الرِّبَى إِن كُنتمُ مُّؤْمِنِينَ، فَإِن لَّمْ تَفْعَلْواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ}[36].(23/24)
وحتى يرتاح المدين وتطمئن نفسه إلى وجود قلوب رحيمة ترق له، وتهتم به، ولا تقسو عليه، وتراعي حالته التي حلّت به، من عسر أو فقر أو كارثة، فقد أمر الله صاحب المال بمراعاة الموقف، وطمأنة إخوانه المسلمين، وعدم التضييق عليهم في المطالبة فقال تعالى موجهاً لهذا الأمر: {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرةٌ إِلَى مَيْسَرةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}[37].
ويقول صلى الله عليه وسلم في حكاية الرجل الذي كان له ديون على الناس، فكان يرسل غلمانه فيقول لهم: إذا رأيتم المعسر فتجاوزوا عنه لعله الله أن يتجاوز عنّا، فلقي الله وقد تجاوز عنه [لفظه في تفسير ابن كثير جـ1 ص232].
وبعكس ذلك، فقد اعتبر صلى الله عليه وسلم: مطل الغني ظلم. لأنه قادر على الوفاء ويمنع الناس حقوقهم الواجبة.
وآيات الربا التي نزلت في تحريمه في سورة البقرة، وتأكيدات رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع، وفي توضيحاته لأنواع الرباء، كل هذا من أجل تكوين مجتمع صالح، ومتماسك، لا يتسلط فيه قوي على ضعيف، أو يستغله من أجل ضعفه، ولا يكنز صاحب مال ماله لمنفعته الخاصة، أو لتحكم في قوت خلق الله.
بل لابد أن يعمل فيه ما يسعد المجتمع، ويحقق الرخاء والنماء فيه، وليفتح مجالات العمل لفئات عديدة من البشر، هم في حاجة إليه ليقتاتوا بعمل شريف، وجهد حلال.
وحتى لا يترك أمر البيع أو الشراء بدون قيود، أو التدابير بدون محافظة، نظم القرآن الكريم كما في آية الدين في آخر سورة البقرة[38]، ما يجعل صاحب المال متوثقاً على ماله، مطمئناً على حقه بأنه سوف يأتي إليه عند حلول أجله، فيحصل بذلك النفع للأخذ والمعطى. واطمئنان كل منهما على الذي له والذي عليه.
وهذا ما يتحقق أمناً اقتصادياً، لأنهم يقولون رأس المال جبان، لا يتحرك إلا في الأمن والطمأنينة.(23/25)
ولأن المال هو موطن الأثرة لدى البشر، وانتظام الحياة في المجتمعات، وموطن الشحّ للنفوس، فقد روعي فيه أمور تطمئن وتريح، وتنظم الحياة مثل:
– كتابته والاستشهاد عليه: برجلين ثقتين، أو رجل وامرأتين ممن ترضى شهادتهم.
– تحديد الأجل.
– عدالة الكاتب والشهود.
– مراقبة الله بالنسبة للدائن والمدين، وأن تقواه سبحانه هي المحرك لكل منهما لأنها تردع عن الظلم والجور.
– الوصاية على من كان عليه الحق، إن كان سفيهاً أو ضعيفاً... أو لا يستطيع الإملاء في هذا الدين بأن يتولى ذلك عنه وليه العدل.
– عدم الإضرار بالكاتب أو الشهود، أو إخافتهم حتى لا يوجد حجاب دون التعاون بالخير وعليه.
– التأكيد على الاهتمام بالمعروف والتفضل من القادر على أخيه، وأن يكون التعامل حسناً، وعدم الإضرار بمن عليه الحق.
ثم تزيد تعاليم القرآن الأمر تمكيناً بالترغيب في البذل والصدقة والإحسان في أوجه الخير التي تريح أبناء المجتمع الإسلامي، وتزيل عنهم أسباب البغضاء والقلق والحقد والكراهية، وذلك في مثل قوله تعالى: {وَءَاتُوهُم مِّن مَّالِ اللهِ الَّذِي ءَاتَاكُمْ}[39].
وقوله: {وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخَلَفِينَ فِيه}[40].
وقوله سبحانه: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا ءَاتَواْ وقُلُوبُهُمْ وَجِلةٌ}[41].
أي ينفقون بسخاء ويخافون ألا يقبل منهم، فهم لا يريدون السمعة والجاه، بل يمتثلون أمر الله. وقوله: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌ مَّعْلُومٌ، لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ}[42].
وفي سبيل الإنفاق والحث على عدم البخل بالمال وتوضيح أوجه الخير التي يبذل المال فيها ومقارنة ذلك بالجزاء الذي يريح النفوس، وتطمئن به الأفئدة، جاء حث كثير في كتاب الله الكريم على ذلك، مما يستوجب دراسة مستفيضة، وتأليفاً واسعاً.(23/26)
ورسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي بلّغ شرع الله، واجتمعت القلوب نحوه قد زاد الأمر توضيحاً بثروة كبيرة تعين الباحث، وتريح المتلقي في مثل قوله: ((ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً ويقول الآخر اللهم أعط ممسكاً تلفا))[43] وقول صلى الله عليه وسلم: ((والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه))[44]. وقوله: ((من ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة... ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة))[45].
فالشحناء والبغضاء يقضى عليها الإسلام بالقضاء على مسبباتها، بحيث وضع حلولاً تطمئن إليها الفئات المؤمنة، وترضى عنها لأن هذا هو حكم الله، ومن لم يرض بحكم الله ويأتمر بأمره فقد وصف بأنه كافر وظالم وفاسق[46].
لذا تولى رب العزة والجلال تنظيم ما يتعلق بحياة الناس في الأموال لأنها مبعث القلق النفسي في كل مجتمع: –
– فالتركات وزعت وأعطي كل فرد نصيبه ذكراً كان أو أنثى كما في سورة النساء.
– والمتوفى حدد له رسول الله صلى الله عليه وسلم مقدار ما يتصرف فيه بماله وهو الثلث والثلث كثير.
– ومنع الإنسان أن يوصي بشئ من ماله لأحد أنبائه حتى لا يفضل إخوته واعتبره الرسول ظلماً كما في قصة بشير بن سعد مع ابنه النعمان.
– والغنائم حددت أنصبة كل من يستحقها، وحرّم الغلول وهو الأخذ من مال الغنيمة قبل أن يقسم كما في سورة الأنفال.
– والمستحقون للزكاة وهم أهلها الثمانية الذين تدفع إليهم ولا يجوز دفعها إلى غيرهم حددتهم سورة التوبة.
– والربا ومداخله حرّم كما في سورة البقرة.
– والبيع والمداينة أحلت ونظمت كما في سورة البقرة، لأن فيها قوام المجتمع بالتعامل والتسهيلات.
– والصدقة على المحتاج واليتيم والقريب والإحسان إليهم. والإنفاق على الأولاد والزوجة نظمت ذلك آيات كثيرة في سور من كتاب الله الكريم.(23/27)
كل هذا حرص عليه الإسلام لتسيير الحياة في المجتمع وإشعار أفراده بالراحة والاطمئنان على معاشهم، وانتظام أحوالهم، والتعاطف فيما بينهم.
فالنفس لا تنتج عملاً في جو مضطرب، أو إذا كانت غير مرتاحة، ولذا جاءت تعاليم الإسلام لتريح النفوس بما شرع أمامها، فيتهيأ الجول للعمل والإنتاج، وجوهر ذلك العلاقة مع الله، فيوصل ذلك العمل لرضاه وجنته في الأخرى، مع الثمرة المفيدة التي تعود على الفرد نفسه وعلى مجتمعه بالفائدة الظاهرة. وفي هذا يقول صلى الله عليه وسلم: ((رحم الله امرأً صنع صنعة فأتقنها))[47].
فمن تعاليم الإسلام التي جاءت في كتاب الله الكريم، أو في سنة رسوله المصطفى صلى الله عليه وسلم وهي تخاطب أهل الإيمان، وتطمئنهم بنتيجة ما يعملون، وتريح نفوسهم بما تقوم به من عمل، يلمس المستقريء نظاماً متكاملاً للناحية المالية، التي هي محك الأمور، وسبب المشكلات في المجتمعات في كل عصر.
وإذا كان أصحاب الأموال في المجتمعات غير الإسلامية – وخاصة اليهود منهم – قد حرصوا على زيادة أموالهم بأساليب الربا، فإنهم في هذا العصر قد ابتكروا أساليب جديدة من باب أخذ أموال الناس بالباطل، وأكلها بالإثم، لأن مبدأهم الحلال ما حلّ في يدك، وذلك بابتكار شركات التأمين المتعددة حيث نسمع ونقرأ عن: –
– شركات التأمين على الحياة بأنواعها لمن حياتهم وأعمالهم في الأرض أو البحر أو الجو.
– وشركات التأمين على الممتلكات من سيارات ومتاجر وبيوت ومزارع ومصانع وغيرها.
– وشركات التأمين ضد الأعاصير – كما هو الحال في أمريكا ضد الترنادو وغيره.
– وشركات التأمين على الحنجرة للمغنيين.
– والتأمين على الساقين للفتيات اللواتي يباهين بسيقانهن ويدخلن مسابقات تقام لهذا الغرض.
– والتأمين على العينين والعنق والذراعين والوجه ضد التشويه.
– والتأمين ضد السرطان، والتأمين على الكلاب والقطط.
– والتأمين ضد الحريق والكوارث الأخرى والأضرار المختلفة.(23/28)
وغير هذا من أساليب التأمين التي حركتها دعاياتهم وإعلامهم لإخافة الناس، وجعل القلق يسيطر عليهم، فحياتهم في جحيم مستمر، وأعمالهم في بلبلة دائمة، لأن قلوبهم خالية من الإيمان، وقلب خلا من الإيمان أصبح نهباً للنوازع المختلفة، وقد وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم: بأنه كالبيت الخرب.
وإذا كان المسيطرون في مجتمعاتهم يعملون لهم تلك الأمور للسيطرة على عقولهم، والتحكم في مقدرات أمورهم، لسلب أموالهم واستعبادهم.
فإن الإسلام قضى على ذلك بحسن التوكل على الله، وملء القلب إيماناً بخشيته ومراقبته، فقد جاء في حديث ابن مسعود رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات: يكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد، فوالله الذي لا إله غيره: إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها))[48].
ويقول صلى الله عليه وسلم في حسن التوكل، وتسليم الأمر لله: ((لو تتوكلون على الله حق التوكل لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً وتروح بطاناً))[49].
وحسن التوكل على الله لا يكون إلا مع كمال الإيمان، ذلك العمل الذي يطمئن النفوس ويزيل عن القلوب القلق والضجر.(23/29)
وفي سبيل المحافظة على المال، والاهتمام بأداء حق الله فيه يقول صلى الله عليه وسلم: ((ما نقص مال من صدقة أو ما نقصت صدقة من مال – وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً، وما تواضع عبدالله إلا رفعه الله))[50] وتحصين المال وحراسته والاطمئنان عليه، ليست بدفع أقساط لشركات التأمين، ولكن بالزكاة التي تذهب للفقراء والمحتاجين، فتحسن من حالهم وتريح ضمائرهم كما جاء في الأثر: (حصنوا أموالكم بالزكاة).
الفرق بين المؤمن وغيره
والاعتماد على الله، وحسن التوكل عليه، مدخل إيماني قوي للنفوس ومبعث على الاطمئنان والراحة، كما في وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن عباس رضي الله عنهما، قال: كنت رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً. فقال: ((يا غلام إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجمعوا على أن يضروك بشئ لم يضروك إلا بشئ قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف))[51].
والأمن من الكوارث لا يكون إلا بقوة الإيمان وسلامة العقيدة ومراقبة الله دائماً، فالمؤمن يدرك من نصوص كتاب الله، وهدي رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم: أن الكوارث تساق للعبرة والعظة، وتنبيه الغافلين، ومعاقبة العاصين المعاندين، وأن الخير الذي ينزل على النفوس ماهو إلا من عند الله، أما الشر فمما كسبت أيدي الناس قال الله تعالى: {مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ}[52].
وأن المؤمن هو الذي يتعظ ويرتبط بالله، أما غيره فتمر عليه الأحداث كما تمر على الجمادات بل إن من الجمادات ما يحس ويخاف قال تعالى: {وَمَا تُغْنِي الأَيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ}[53].(23/30)
وفرق بين المؤمن وغيره، بأن المؤمن يتحمل ما ينزل به في نفسه أو ماله أو ولده، أو ما يحيط به بصبر وطمأنينة ورضا، فيؤجر على ذلك، أما غيره فيتسخَّط ويجزع، فلا يدفع عنه ذلك شيئاً، وإنما يزداد مع وقوع النازلة. ألماً نفسياً، فيسخط ربه، ويبطل عمله، وتبقى نازلته عليه – كما قال بذلك بعض العارفين.
يقول صلى الله عليه وسلم: ((أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل))[54].
ويقول صلى الله عليه وسلم: ((لا يزال البلاء بالمؤمن حتى يلقى الله وليس عليه ذنب))[55].
ولذا قيل: المؤمن مبتلى، ليكون في ذلك محك لإيمانة، وميزان لدرجة صبره واطمئنان قلبه.
ومكر الله وعقابه، وغيرته سبحانه على نعمه، تكون دائماً نصب عيني المؤمن، فهو يخشى ويخاف على نفسه أولاً، وهل هو من المقبولين أم لا؟ كما جاء في الأثر: (المؤمن بين مخافتين: أجل قد مضى لا يدري ما الله صانع فيه، وأجل قد بقي لا يدري ما الله قاضٍ فيه).
فهو يخشى من عقابه، ويخاف من مكره سبحانه ونقمته، قال تعالى: {أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلاَّ القَوْمُ الخَاسِرُونَ}[56].
وخوف من نقمة عامة تصيب الجميع بعمل البعض قال تعالى: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ القُرَى أَن يَأْتَيهُم بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُم نَائِمُونَ، أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا ضُحىً وَهُمْ يَلْعَبُونَ}[57].
أو قوله تعالى: {ءَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ، أَمْ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِير}[58].
وما سياق ما حصل للأمم السابقة التي عاندت شرع الله، وكذبت كتبه، ولم تؤمن برسله إلا عبر وعظات للقلوب المؤمنة، لتدرك أن الراحة والاطمئنان في أمور الحياة وبعد الممات في طاعة الله، واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم، وما جاء به من شرع من عند الله.(23/31)
لكن من هو هذا المؤمن الذي تساق له التوجيهات، ويبلّغ بالأوامر؟؟.
إن مبعث الأمن في المجتمع هو الاعتقاد الجازم بسلامة الأوامر والتصديق بها، وتطبيقها، وجعلها منهج حياة يقول صلى الله عليه وسلم: ((والله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن، قيل من هو يا رسول الله؟؟. قال: من لا يأمن جاره بوائقه))[59].
فهنا قرن الإيمان بتأمين الجار والمحافظة عليه وهذا هو أدب من آداب الإسلام العالية، وكل آدابه عالية، لأنها مبعث للأمن، فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه))[60].
وقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه))[61].
والإيمان يهذب الطباع، ويزكي النفوس، ويعطيها نظاماً يؤلف بين القلوب فقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله في حديث رواه أبو هريرة: ((لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ولا بيع بعضكم على يبع بعض، وكونوا عباد الله إخواناً المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره، التقوى ها هنا – ويشير إلى صدره ثلاث مرات – بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه))[62] متفق عليه.
الإيمان - والإسلام(23/32)
فالإيمان مرتبة أعلى من الإسلام، لأنه أمكن في النفس، وأثبت للجنان قال تعالى: {قَالَتِ الأَعْرَابُ ءَامَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَكِن قُولُواْ أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيَمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ لاَ يَلِتْكُم مَّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيم، إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ}[63].
فالإيمان الذي يلامس بشاشة القلب، ليبعث الاطمئنان فيها، حيث يوجد مجتمعاً مثالياً في نظامه وتسييره للحياة، وأفراداً متميزين في أعمالهم وتصرفاتهم، واهتمامهم بغيرهم، ويراقبون الله في كل عمل، ويخشونه ويخافون عقابه، فتطمئن قلوبهم، ويطمئنوا غيرهم.
هذا الإيمان الذي جاءهم هو منّة من الله، ونعمة كبيرة، لا يحس بدورها إلا من ذاق طعمها، لأن لها تأثيراً في تخفيف المصاب، وتحمّل الصعاب، والتبصر في الأمور، والصير على كل نازلة، والرضى بقدر الله، والإنفاق في سبيله والطمع في جنته، والخوف من عقابه، والتعلق به في كل أمر، لأن له سبحانه الحكمة ويفعل ما يريد، قال الله تعالى: {قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللهُ بِكُلِّ شَئٍ عَلِيمٌ، يَمُنَّونَ عَلَيْكَ أَنْ أسْلَمُواْ قُل لاَّ تَمُنُّواْ عَلَيَّ إِسْلاَمَكُم بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}[64].(23/33)
وحقيقة هذا الإيمان هو الاستجابة لأمر الله طاعة لله، واستجابة لرسوله، وطاعة لولاة الأمور الذين سلمهم الله أمر قيادة الأمة، والنصح لهم، ما أطاعوا الله فينا، ولم يأمروا بمعصية تخالف شرع الله، قال تعالى مخاطباً الفئة المؤمنة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَئٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ والِيُوْمِ الأَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}[65].
والإيمان إذا استقر في القلوب، يشيع الأمن في المجتمع، ويدعو بوازع باطني كل فرد من أفراد هذا المجتمع – مهما كانت مسئوليته إلى إيجاد رقابة على نفسه واهتمامه بكل ما وكل إليه، ليعمل بهدوء، واطمئنان، رأفة بمن يتعلق به أمره من أبناء المجتمع احتساباً للنتيجة عند الله أجراً مدخراً، وائتماراً بهذا الدين وشرائعه. وهذا هو أكبر مهدئ للنفوس، وأقوى منشط يدفعها للعمل ونكران الذات ويطمئنها على النتائج، يلمس القارئ مثل هذا في نصوص كثيرة مثل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه مسلم في صحيحه: ((سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل معلق قلبه بالمساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا فيه وافترقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فاخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه))[66].
أثر الإيمان في أمن المجتمع
وأثر الإيمان حسب النصوص الشرعية، يطمئن النفوس، ويهدئ المجتمعات من القلاقل، والفتن والأزمات، في أمور كثيرة، اضطربت فيها أنظمة الأمم، وتباينت فيها الآراء رغبة في وجود حل، والقضاء على مشكلة، أجد أن هذا الحيز لا يفيها كلها، ولكن حسبنا الإشارة إلى نماذج منها مثل:(23/34)
– الأمن الزراعي وتوفير الغذاء: نجد هذا في آيات كثيرة في كتاب الله الكريم مثل سورة يوسف[67] والنحل[68] وغيرهما.
– الأمن الصحي والاهتمام بالمريض، كوصايا رسول الله صلى الله عليه وسلم بزيارة المريض وهدية في العلاج الطبي حسبما ذكر ابن القيم في كتابه: زاد المعاد في هدي خير المعاد.
– الأمن الأسري ورباط الزوجية، كما في قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ}[69].
وقوله تعالى: {وَمِنْ ءَايَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لأَيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}[70].
– الأمن العائلي والاهتمام بالأولاد، كما جاء في سورة النساء في تقسيم التركات، وفي قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((إنك أن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس))[71].
وفي منعة صلى الله عليه وسلم الوصية للولد وقوله: ((لا وصية لوارث))[72].
– الأمن التربوي وتعليم الأبناء، يوضح مثل هذا وصية لقمان لابنه[73] وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في تعليم الأولاد الصلاة: ((مروا أبناءكم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر وفرقوا بينهم في المضاجع))[74].
– الأمن في الأوطان وحمايتها كما جاء في الأثر: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الأمن في الأوطان والصحة في الأبدان)[75] والبلد الآمن هو مكة التي جاء ذكرها في سورة البقرة، وسورة إبراهيم وغيرها.
– الأمن الأخلاقي وتهذيب النفوس، كما جاء في آيات من سورة النور في تحريم الزنا ومنع الخوض في أعراض الناس[76] وفي آداب الاستئذان[77] وفي فرضية الحجاب وآياته في سورة الأحزاب[78].(23/35)
– أمن العقيدة وسلامة القلوب لارتباطها بالله وحده ونبذ كل ما سواه يقول تعالى في هذا: {الَّذِينَ ءَامَنَواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ القُلُوبُ}[79].
وآيات من سورة الروم[80] وسورة الواقعة[81]، تربط الإنسان بخالقه المتصرف سبحانه في جميع الأمور.
– أمن المسكن وتوفير المعيشة وتوضح ذلك آيات متعددة من كتاب الله الكريم كما في سورة النحل[82].
– الأمن الاقتصادي وحرية الحركة في الأموال بيعاً وشراء، بعد أداء حق الله فيها بالزكاة والصدقة، وقد حظيت الزكاة والصدقة بتوجيهات كبيرة من القرآن الكريم والسنة المطهرة، لتهذيب النفوس وتعويدها على البذل والعطاء براحة نفس واطمئنان خاطر، وفي السر آكد لأنها أبعد عن المراءاة.
– تأمين الجار ورعايته في أهله حيث كان جبريل يوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجار حتى ظن أنه سيورثه.
– الأمن بالهجرة لمكان آخر، إذا كان المرء لا يستطيع أداء شعائر دينه، أو يجد مضايقات من أعداء دينه، وهذا هو الأمن على العبادة، وقد حكى الله عمن لم ينج بدينه وهو قادر: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُواْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً}[83].(23/36)
ولكي يجعل الله مأمناً ومخرجاً لهؤلاء المستضعفين غير القادرين على الهجرة والنجاة بأنفسهم، فإنما مما يطمئنهم أن الفئة المؤمنة مأمورة بالجهاد لتخليصهم ونصرتهم قال تعالى: {وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالوِلْدَانِ الَّذِينَ يُقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيراً}[84].
– الأمن بالتوبة، وهذا هو أمن المصير، وراحة النفس في الدنيا بالابتعاد عن أمر يؤرق النفس ويخيفها التلبس به، وآيات التوبة في كتاب الله الكريم كثيرة ومتعددة[85].
ويوضح نماذج من ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: ((لله أشد فرحاً بتوبة أحدكم من صاحب راحلة ضاعت منه في أرض فلاة وعليها طعامه وشرابه، فلما أيس منها نام، فاستيقظ فإذا هي واقعة بجانبه فقال من شدة الفرح اللهم أنت عبدي وأنا ربك)) ((أو كما قال))[86].
– أمن النفوس بمجاهدة الكفار، لإظهار دين الله، ولإسعاد البشرية بتبليغه، كما توضح ذلك سورة الأنفال، وسورة التوبة، وسورة البقرة وغيرها. في مواطن كثيرة من كتاب الله[87]، لأن قمع أعداء الله وأعداء رسالاته، لا يكون إلا بقوة السلاح ودفاع المجاهدين المتحمسين لإظهار دينه، يقول صلى الله عليه وسلم: ((ما ترك قوم الجهاد إلا عمهم الله بالعذاب))[88].
– تأمين النفوس من التأثيرات الخفية، وحفظها من أثر ذلك كالسحر ونفثات الشيطان كما جاء في المعوذتين وقل هو الله أحد، وآية الكرسي. ففي هذا حرز للنفس وأمان لها من المؤثرات النفسية ووساوس الشيطان واتباعه.(23/37)
– الرضا والقناعة بما قسم الله، حتى لا تتطلع النفس إلى ما في أيدي الناس فيكون ذلك من دواعي كفر النعم فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا رأى أحدكم من فضل عليه بمال أو سلطان، فلينظر إلى من هو أسفل منه، ولا ينظر إلى من هو فوقه فإن ذلك أجدر بشكر نعمة الله عليه))[89].
– راحة النفس بالعبادة وفي مقدمتها الصلاة فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حز به أمر أو أهمه قال: ((يا بلال أرحنا بالصلاة))[90].
كما كان من قوله عليه الصلاة والسلام: ((.... وجعلت قرة عيني في الصلاة))[91].
– والأمن بالمشورة في كل أمر حتى يخف ما على كاهل الإنسان بإعطائه للآخرين فيشاركون في الرأي: كما في قوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}[92].
وغير هذا من الأمور التي جعلت الشريعة الإسلامية فيها حلولاً لكل ما يعترض الإنسان في هذه الحياة، حيث يجد المرء في المخارج ما يريح نفسه، ويعينه على التغلب على المشكلة التي اعترضته لأن في كتاب الله، وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام ما ينير الطريق، ويوضح المعالم، ويهدئ النفوس.(23/38)
وصدق الله إذْ يقول: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَئٍ}[93]، وقد وصف الله الفئة المؤمنة بآيات كريمات في مطلع سورة سميت باسمهم، أعطتهم صفاتاً مطمئنة ومريحة، لأنهم في يقين ورضا قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ، الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ، والَّذِينَ هُمْ عَنِ الَّلغْوِ مُعْرِضُونَ، والَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ، والَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ، إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِم أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ، فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ، والَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِم يُحَافِظُونَ، أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ، الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}[94].
أما رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد ترك أمته على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك. وترك فيهم وصية خالدة تريح النفوس، وتهدئ المجتمعات وتضمن العدالة وسمو المكانة والاستقرار لمن اتّبع ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: ((تركت فيكم أمرين لن تظلوا بعدي ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنتي)). ففيهما المخرج من كل معضلة، وفيهما الحل لكل مشكلة، وفيهما هدوء البال، وراحة الضمير، والراحة من كل قلق، وفيهما الرابطة القوية بالله عملاً وبشرعه منهجاً وسلوكاً.
فقد قال بعض العارفين: كنت كلما ألم بي مشكلة، أو ضجرت من أمر يقلقني، ألجأ لكتاب الله، فأفتحه وينفتح معه الهدوء والاطمئنان لنفسي، لأنني أجد فيه حلاً لكل أمر، وخروجاً من كل مصيبة.(23/39)
نسأل الله أن يعيننا على فهم كتاب الله وسنة رسوله الكريم عليه الصلاة والسلام، وامتثالهما عملاً وتطبيقاً، والسير وفق شرعهما باستحضارهما في كل وقت، والاهتمام بهما في كل مناسبة، والرضا بما فيهما، والعمل بهما فهماً وتحقيقاً. والله الموفق لكل خير...
ــــــــــــــــــــــ
[1] سورة الأعراف آية 96.
[2] سورة الأنعام آية 153.
[3] سورة الرعد آية 28.
[4] سورة يوسف الآية 64.
[5] سورة يوسف آية 17.
[6] راجع المعجم الوسيط جـ1 ص28 وفيه تفاصيل لمعاني أمن، وكلها ترجع للاطمئنان، وهذه التعريفات لا تخرج عما جاء في كتب اللغة كلها، بل فيها شمول لما جد في الحياة الحاضرة كالتأمين الذي يشعر النفس بالاطمئنان، ولم يعرف من قبل لدى اللغويين. لكنه شعور غير صادق.
[7] وجاء في الأثر الصحة في الأبدان والأمن في الأوطان.
[8] سورة البقرة الآيات 155 – 157.
[9] سورة محمد الآية 31.
[10] سورة المائدة الآيات 82 – 84.
[11] سورة الفاتحة الآيات 5 – 7.
[12] سورة الأنعام الآيتان 81 – 82.
[13] سورة الأنعام الآية 83.
[14] رواه مسلم.
[15] البضع ما بين الثلاثة والعشرة كما في سورة الروم التي اطمأن بها قلب أبي بكر الصديق رضي الله عنه. وخبر بها قريشاً، وفي بعض الروايات أنه راهنهم عليها. "المصدر نفسه، غُلِبَتِ الرُّوم، فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيغْلِبوُنَ، فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِن قَبْلُ ومِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ، بِنَصْرِ اللهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ العَزِيزُ الرَّحِيمُ" الآيات من [1 – 5] من سورة الروم.
[16] رواه مسلم.
[17] سورة الروم الآية 56.
[18] سورة الزمر آية 53.
[19] راجع أحاديث التوبة في صحيح البخاري ومسلم وهي كثيرة في بابها.
[20] سورة النمل آية 82.
[21] سورة الأنعام آية 158.
[22] سورة يونس الآيات 90 – 92.
[23] رواه مسلم.
[24] رواه مسلم جـ1 ص210.(23/40)
[25] رواه البخاري ومسلم.
[26] أخرجه الجماعة إلا الموطأ جامع الأصول 2: 554.
[27] جزء من حديث رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن أبي هريرة جامع الأصول 10: 216.
[28] متفق عليه.
[29] اقرأ الآيات 92، 93 من سورة النساء.
[30] سورة البقرة آية 179.
[31] سورة المائدة الآية 45.
[32] سورة البقرة الآية 178.
[33] سورة المائدة آية 38.
[34] سورة المائدة الآيات 33 – 35.
[35] نص الحديث في الترغيب والترهيب.
[36] سورة البقرة الآيتان 278 – 279.
[37] سورة البقرة الآية 380.
[38] هي الآية رقم 282. من سورة البقرة.
[39] سورة النور آية 33.
[40] سورة الحديد آية 7.
[41] سورة المؤمنون آية 60.
[42] سورة المعارج الآيتان 24 – 25.
[43] متفق عليه (باب الزكاة).
[44] رواه مسلم.
[45] متفق عليه.
[46] اقرأ الآيات 44 – 45 – 47 من سورة المائدة.
[47] رواه مسلم.
[48] رواه البخاري ومسلم.
[49] رواه الترمذي.
[50] رواه مسلم والترمذي.
[51] رواه الترمذي.
[52] سورة الناس الآية (79).
[53] سورة يونس الآية (101).
[54] رواه البخاري وأحمد في مسنده.
[55] رواه مسلم.
[56] سورة الأعراف آية 99.
[57] سورة الأعراف الآيتان 97 – 98.
[58] سورة الملك الآيتان 16 – 17.
[59] رواه مسلم.
[60] متفق عليه.
[61] متفق عليه.
[62] متفق عليه.
[63] سورة الحجرات الآيتان 14 – 15.
[64] سورة الحجرات الآيتان 16 – 17.
[65] سورة النساء آية 59.
[66] رواه مسلم.
[67] اقرأ الآيات 47، 48، 49 وغيرها من سورة يوسف.
[68] اقرأ الآيات 66 إلى 78. من سورة النحل.
[69] سورة الفرقان الآية 74.
[70] سورة الروم الآية 21.
[71] رواه الترمذي في الجامع الصحيح ص430.
[72] رواه الترمذي في الجامع الصحيح ص434.
[73] اقرأ الآيات 13 – 19. من سورة لقمان.
[74] رواه أبو داود والترمذي وأحمد عن عبدالله بن عمرو وسبرة.
[75] أما الحديث الذي رواه البخاري فلفظه... الصحة في الأبدان والفراغ.(23/41)
[76] أقرأ أول سورة النور.
[77] سورة النور الآيات 58، 59، 60، 61.
[78] الآيات: 32، 33، 53، 59. من سورة الأحزاب.
[79] سورة الرعد آية 28.
[80] الآيات 19 – 27. من سورة الروم.
[81] الآيات 58 – 73. من سورة الواقعة.
[82] الآيتان 80 – 81. من سورة النحل.
[83] سورة النساء الآية 97.
[84] سورة النساء الآية 75.
[85] اقرأ مثلاً النحل الآية 72.
[86] أحاديث التوبة في البخاري ومسلم.
[87] اقرأ مثلاً الآية 72 من سورة النحل.
[88] رواه الطبراني بإسناد حسن.
[89] رواه مسلم.
[90] رواه أحمد ك5 رقم الحديث 264.
[91] رواه النسائي كتاب النساء الحديث 1.
[92] سورة آل عمران آية 159.
[93] سورة الأنعام الآية 38.
[94] سورة المؤمنون الآيات 1 – 11.(23/42)
العنوان: أثر البيئة الاجتماعية على الدعوة
رقم المقالة: 1974
صاحب المقالة: مسفر بن حسن القحطاني
-----------------------------------------
أثر البيئة الاجتماعية على الدعوة إلى الله تعالى
بحث ماجستير للباحث: مسفر بن حسن القحطاني
أعد الملخص / محمد بن سالم بن علي جابر
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على عِبَاده الذين اصطفى وبعد:
فإنَّ للبيئة الاجتِماعيَّة أثرًا واضِحًا على الدعوة الإسلامية انتشارًا وانْكِمَاشًا، وسَعَةً وضِيقًا عند دراستنا لأثرها؛ فقد تُؤَثِّر البيئة الاجتماعية على الدعوة آثارًا عكسية مِثْلَما حَدَثَ مع رُسل الله الذين واجهوا بيئاتِهمُ الاجتماعيةَ بكل ما فيها من أمراض اجتماعية، اعْتَرَضَتْ مسيراتِ دَعْوَتِهم وقاموا - عليهمُ الصلاة والسلام - بِمُعَالجة تلك البيئات الاجتماعية، وقد عَرَضَ القُرآن الكريم ذلك أثناءَ حديثِه عن دعوة الرسل، لذا ظهر أثر البيئة الاجتماعية، وظهرت أهميَّتُها للدعوة في كل زمان ومكان؛ ففي دعوة الرسول - صلى الله عليه وسلم- كان أثر البيئة الاجتماعية إيجابيًّا على الدعوة في المدينة النبوية، وذلك خِلافًا لِمَا كانت عليه البيئة الاجتماعية في مكة.
وبين أيدينا الآن دراسة قيمة بعُنْوان (أثر البيئة الاجتماعية على الدَّعْوة) للباحث: مسفر بن حسن القحطاني، ويَسُرُّنا أن نستعرض تلك الدراسةَ عبر المحاور التالية:
التعريف بمصطلحات عنوان البحث:
عند النظر إلى عنوان البحث (أثر البيئة الاجتماعية على الدعوة إلى الله تعالى)، نجد أن هناك بعضَ المصطلحات التي تحتاج إلي بيان؛ وهي على وجه الإجمال:
(أ) تعريف الأثر:
أولاً: الأثر في اللُّغة:
قيل: إنه (بَقِيَّةُ الشيء، وقال بعضهم: الأثر ما بقي من رسم الشيء)[1].
ثانيًا: الأثر في الاصطلاح:
قيل: (أثر الشيء: حصولُ ما يَدُلُّ على وجودِهِ؛ يُقَال: أَثَرٌ وإِثْرٌ والجمع: آثار.(24/1)
قال تعالى: {ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا}[2]،[3].
(ب) تعريف البيئة:
أولاً: البيئة في اللغة:
قيل: "هي من بَوَّأَ، والباءة والمباءة: المنزل، وقيل: منزل القوم حيث يتبوؤون من قِبَلِ وادٍ أو سَنَد جبلٍ"، وفي "الصحاح" "المباءة: منزل القوم في كل موضوع، ويقال كل منزل ينزله القوم"[4].
وقيل هي: "بوأ فيه، وبوأ له بمعنى هيأ له منزله، قال أبو زيد: أَبَأْتُ القومَ منزلاً وبَوَّأْتُهُمْ منزلاً، إذا نزلتُ بهم إلى سند جبل أو قِبَلَ نهر.
والاسم البِيئة بالكسر، وبَوَّأَ المكان: حَلَّهُ وأقام؛ كأَبَاءَ به وتَبَوَّأَ - عن الأخفش – به؛ قال تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآَ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}[5][6].
ثانيًا: البيئة في الاصطلاح:
قيل: إنها "المحيط أو الوسط الذي يولد فيه الإنسان، وينشأ فيه ويعيش خلاله حتى تنتهي حياته"[7].
وقيل إنها: "المجال الذي تَحدث فيه الإثارة والتفاعل لكل وَحْدَةٍ حَيَّةٍ، وهي كلُّ ما يُحِيطُ بالإنسان من: طبيعة مجتمعاتٍ بشريَّةٍ، ونُظُمٍ اجتماعيةٍ، وعلاقاتٍ شخصيةٍ"[8].
وقيل إنها: "الإطار الطبيعيُّ والاجتماعيُّ الذي يعيش فيه الفرد بما يتضمَّنه من تكنولوجيا يخترعها الإنسان"[9].
(ج) الاجتماعية:
أولاً: التعريف اللُّغوي:
من جَمَعَ: "وهو جَمْعُ الشيء المتفَرِّق، وتَجَمَّعَ القومُ: اجتمعوا من هنا وهنا، والجميع: الحيُّ المجتمِعُ"[10].
ثانيًا: التعريف الاصطلاحي:
يمكن تعريف الاجتماع أنه: "مجموعة قواعدَ وقيودٍ تُفْرَضُ على الأفراد في مجتمَع معيَّنٍ، حيث من المهم معرفة أصولها ونتائجها"[11].
(د) تعريف الدعوة:
أولاً: الدعوة في اللغة:(24/2)
قيل: "الدعوة - بفتح الدال -: الدعاءُ إلى الشيء، ودعاء صاحبه، ومنه الدعاء والأدعية، والدعوة هي الطلب؛ يُقَال: دعا بالشيء: طلب إحضاره، ودعا إلى الشيء: حثه على قصده، ويقال: دعاه إلى القتال، ودعاه إلى الصلاة، ودعاه إلى الدين"[12].
ثانيًا: الدعوة اصطلاحًا:
إذا أُطْلِقَ مصطلح الدعوة فإنه يراد به في الغالب معنيان:
الأول: الإسلام والرسالة.
الثاني: عملية نشر الإسلام وتبليغه.
والمعنى الثاني هو المقصود في البحث، وأَوَدُّ أن أُذَكِّرَ ببعض التعريفات الاصطلاحية للدعوة وهي كالتالي:
قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة - رحمه الله -: "الدعوة إلى الله هي: الدعوة إلى الإيمان به بما جاءت به رُسُلُهُ، بتصديقهم فيما أَخْبَرُوا به، وطاعتِهِم فيما أمروا، وذلك يتضمن الدعوة إلى الشهادتين، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت، والدعوة إلى الإيمان بالله، وملائكته وكتبه ورسله"[13].
وقيل: "السَّعْي لدعوة الناس بالقول والعمل إلى الإسلام، وإلى تطبيق منهجه واعتناق عقيدته وتنفيذ شريعته"[14].
وقيل: "تبليغ الإسلام للناس، وتعليمُهُ إيَّاهُمْ[15]، وتطبيقُهُ في واقع الحياة"[16].
وبعدَ ذِكْر هذه التعريفات السابقة لمفردات عُنوان البحث، أودُّ أن أَذْكُرَ المعنى المقصود من عُنوان الدراسة ومفهوم البيئة الاجتماعية ومكوناتها:
وسيتناول الباحث - بإذن الله - أَثَرَ أفْرَاد الأسرة والمُجْتَمَعِ المحليِّ، والمجتمَع العامِّ على الدعوة.
وقبل ذلك سوف أُبَيّن – بإذن الله - مفهوم البيئة الاجتماعية ومكوناتها، والمعنى المقصود من عُنوان الدراسة.
مفهوم البيئة الاجتماعية:
هي المحيط الذي تحدث فيه الإثارة والتفاعل لمن يعيش في ظله من أفراد المجتمع[17].
مكونات البيئة الاجتماعية:
يمكن بيان مكونات البيئة الاجتماعية من خلال أقوال علماء الاجتماع والتربية:(24/3)
1- يقول د. عمر أحمد همشري: "وتشمل البيئةُ المؤسساتِ الاجتماعيةَ على اختلافها؛ كالأسرة، ودُور العبادة، والإدارات الحكومية"[18].
2- يقول د. جابر عوض سيد، و د.حاتم عبدالمنعم أحمد: "إن مكونات البيئة الاجتماعية هي أشخاص وجماعات ومجتمعات متفاعلة"[19].
3- يقول د. عبدالله الرشدان، د. نعيم جعنيني: "إن البيئة الاجتماعية تشمل المؤسسات الاجتماعية المختلفة، والجماعات المختلفة، والجماعات والتجمعات والهيئات والمشاريع المختلفة[20].
ونظرًا لتنوُّع مكونات البيئة الاجتماعية، فإن الباحث سوف يقتصر في دراسته على أثر أفراد الأسرة، وأثر أفراد المجتمع المحلي على الدعوة.
المعنى المقصود من عنوان الدراسة:
وهو دراسة أثر أفراد الأسرة والمجتمع على تبليغ الدين الإسلاميّ، وكيفية العلاج على ضوء ما ورد في القرآن الكريم، والسُّنَّة النبوية المُطهَّرَة.
- أهمية الموضوع وأسباب اختياره:
(أ) أهمية الموضوع:
إن تأثير البيئة الاجتماعية يظهَرُ واضِحًا في ميادين الدعوة الإسلامية، حيث إن البيئة تُؤَثِّر على الدّاعي؛ من حيثُ قبولُ دعوتِهِ، أو رَدُّها، وعلى المدعوِّ من حيث التأثيرُ على حياته، وسلوكه، سواء أكان هذا التأثير من قِبَل الأسرة، أمِ الجيرانِ، أم الأصدقاء، أم بقية المجتمع، ولها أيضًا أثر على موضوع الدعوة من حيث رَدُّهُ، أو قَبُولُهُ، أو رَدُّ البعض وقَبُولُ البعض الآخَر، ولها تأثير واضح في تطبيق وسائلَ وأساليبَ تُناسِبُ واقعَ كل بيئة من حيث نجاحُ بعض الوسائل والأساليب في بيئة معيَّنَةٍ دون الأخرى.
وتبرز أهمية هذا الموضوع من خلال الآتي:
1- ارتباط الموضوع بالكتاب والسنة.
2- دراسة هذا الموضوع لكونه مَيْدانًا من أهم ميادين الدعوة.
3- ارتباط البيئة الاجتماعية بالدعوة ارتباطًا وثيقًا في جميع المراحل والعصور.
(ب) أسباب اختيار الموضوع:
يمكن أن نُجْمِل الأسباب التي دَعَتْ إلى اختيار هذا الموضوع في النّقاط التالية:(24/4)
1- دراسة الموضوع للوَاقِع المُعاصر مما شجَّع الباحث على اختياره.
2- تناوُل الموضوع للجوانب التربوية والاجتماعية والدعوية، مما يعود بالفائدة على الباحث والقَارِئ.
3- قراءة موضوع الرَّوَاسب الفكرية للدكتور/ زيد عبد الكريم الزيد، العدد الثاني عشرة، مجلة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
4- عدم وجود دراسة علميَّة أكاديميَّة – حَسَبَ عِلْمِ الباحث - تَطَرَّقَتْ لهذا الموضوع.
- أهداف الموضوع:
1- بيان أثر البيئة الاجتماعية على دعوة الفرد والمُجتمع.
2- إبراز مُعالجة الإسلام للتغيِّرات والسلبيات الاجتماعية.
3- الاستفادة من الأُسلوبِ القرآنيِّ في دعوة الأمم السابقة، ذات البيئات الاجتماعية المختلفة، وعِلاج القرآن لتلك البيئات الاجتماعية.
4- الاستفادة من تَنوُّع البيئات الاجتماعية في دعوة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه.
5- بيان العوائق التي تُواجه الداعية في بيئته، وسُبُل علاجها.
6- إيجاد الحُلول لعوائق البيئة الاجتماعية المُعاصرة على الدعوة من خلال الوَحْي.
7- السَّعْي لمعالجة واقع البيئة الاجتماعية في العصر الحاضر على ضوء ما ورد في القرآن الكريم، والسنة المطهرة.
8- بيان أنَّ فَهْم الداعية لأحوال بيئته الاجتماعية من أسباب نجاح الدعوة بعد توفيق الله.
استعراض الدراسات السابقة:
بعد البحث في عدد من المصادر والرسائل العلمية[21]، ظهر عدم تسجيل الموضوع في رسائل سابقة، وإنما هناك دراسات غير دعوية تَناوَلَتْه من جوانب أخرى منها:
الرسالة الأولى؛ رسالة دكتوراه بعنوان: "الحياة الاجتماعية في مكة منذ ظهور الإسلام إلى نهاية العصر الأموي" للدكتورة/ إلهام أحمد البابطين:
وصف الرسالة:(24/5)
كانت هذه الرسالة دِرَاسة مُستقلة لنواحي الحياة الاجتماعية من جامعة أم القرى عام 1414هـ في الفترة منذ ظهور الإسلام، إلى نهاية العصر الأموي، وقد تطرقت الباحثة – وفقها الله تعالى - في رسالتها إلى التركيب السكاني في مكة قبل ظهور الإسلام، وبعد ظهوره، وتقدير حجم السكان، والأنشطة التي مارسها أهل مكة في تلك الفترة، ثم قامت بدراسة الأسرة في مكة ومراحل تكوينها، وأساليب معيشتها وأساليب التربية.
أوجه الاختلاف بين الرسالة ودراسة الباحث:
يمكن إيضاح ذلك من خلال دراسة الرسالة للحياة الاجتماعية في مكة، منذ ظهور الإسلام حتى نهاية العصر الأموي، بأسلوب تاريخي حَسَبَ تخصُّص الباحثة، ولم تتطرق الدراسة لأثر البيئة الاجتماعية على الدعوة إلى الله تعالى.
جوانب الاستفادة من الرسالة:
سوف يستفيد الباحث – إن شاء الله- من هذه الرسالة فوائد تاريخية تظهر من خلال الأنشطة التي مارسها أهل مكة عند ظهور الإسلام، كما في الفصل الأول من الرسالة، ومعرفة الروابط الأسرية في البيئة الاجتماعية في مكة، كما في الفصل الثاني، وأساليب المعيشة كما في الفصل الرابع.
الرسالة الثانية:
"منهج الدعوة الإسلامية في البناء الاجتماعي على ضوء ما جاء في سورة الحجرات": للباحث/ محمد بن محمد الأنصاري.
وهي رسالة مكملة لمتطلبات الحصول على درجة الماجستير من المعهد العالي للدعوة الإسلامية جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية عام 1402هـ.
وصف الرسالة:(24/6)
وقد تحدث الباحث – وفقه الله تعالى - عن مُناسبة السورة، وعلاقتها بما قبلها وموضوعاتها، ثم تحدث عن دَلالة بعض الآيات في السورة الكريمة, وبَيَّنَ فيها وحدانية الخالق، وبين آراء بعض المُشكّكينَ في إقرار الفطرة، والرد عليهم مثل النمرود، وفرعون، والدهريين، ثم بَيَّنَ دور الإيمان في بناء المجتمع المسلم، وأثر العمل بالكتاب والسنة، والأدب مع الرسول – صلى الله عليه وسلم- حيًّا وميتًا، وتحدث عن الفُرْقة وعلاجها، وكيف يُربَّى المجتمع على لزوم الصدق والتثبت، وأثر التدابير الواقية لبقاء الروابط بين أفراد المجتمع المسلم.
أوجه الاختلاف بين الرسالة ودراسة الباحث:
يتضح من دراسة الباحث - وفقه الله - أنه قام بدراسة سورة الحجرات من الجانب الاجتماعي، وبين أقوال المُفَسّرين في ذلك، ولم تتطرق الرسالة لبيان أثر البيئة الاجتماعية على الدعوة إلى الله تعالى.
أوجه الاستفادة من الرسالة:
يمكن الاستفادة من هذه الرسالة من خلال الفصل الخامس الذي يُبَيّن تربية المجتمع الإسلامي على لزوم الصدق والتثبت، ومن خلال الفصل السادس الذي يبين الطرق الوقائية لحفظ روابط المجتمع.
التراكمات العلمية:
(أ) "التربية الرُّوحية والاجتماعية في الإسلام"[22].
وصف الكتاب:
تحدث فيه الكاتب عن التربية الروحية، وأشار إلى أنها تكون بالعبادات وبالعقيدة والاقتداء، ثم تحدث عن التربية الاجتماعية، وأشار فيها إلى الفرد والأسرة، وكيف يُربى الفرد، وكيف يتم دعم أَوَاصِر الأسرة، وكيفية تحقق الأمن الاجتماعي.
أوجه الاختلاف بين الكتاب ودراسة الباحث:
تحدث الكاتب عن التربية الاجتماعية، والروحية في نطاق الأسرة، ولم يتعرض لما أراده الباحث من دراسة أثر البيئة الاجتماعية على الدعوة إلى الله تعالى.
أوجه الاستفادة من الكتاب:
يتم ذلك - بإذن الله - من خلال ما كَتَبَهُ المؤلف عن الأسرة والفرد، وكيفية التربية لهما.
(ب) الحياة الاجتماعية في صدر الإسلام[23].(24/7)
وصف الكتاب:
رَكّز الكاتب في دراسته على حياة الفرد والأسرة في صدر الإسلام، والمظاهر التي كونت الصورة المشتركة، ثم تحدَّث عن بعض هذه المظاهر الاجتماعية؛ مثل الألبسة، وأدوات الزينة، والأطعمة، والأشربة، والقِيَم، والأخلاق، والعادات.
أوجه الاختلاف بين الكتاب ودراسة الباحث:
حيث إن الكاتب بَيَّنَ بعض المظاهر الاجتماعية للأسرة والفرد في صدر الإسلام من ألبسة، وأطعمة، وعادات، وتقاليد، ولم يُشِر إلى ما يُريده الباحث من دراسة أثر البيئة الاجتماعية على الدعوة إلى الله تعالى.
أوجه الاستفادة من الكتاب:
يُمْكِن الاستفادة من الكتاب بمعرفة أشكال الأسرة في ذلك الوقت، وكذلك معرفة التقاليد والأعراف السائدة، بحيث يستنبط الباحث أثرها على الدعوة.
(ج) التَّنْشِئة الاجتماعية في الإسلام[24].
وصف الكتاب:
تَحدّث فيه الكاتب عن التنشئة الاجتماعية من مَنْظُور إسلامي، وذكر مُرتكزات النظرية التربوية الإسلامية في التنشئة الاجتماعية، وهي التوحيد، والعبادة وإعداد الإنسان الصالح، والتوازن، ثم تحدث عن خصائص الإنسان في الفكر الإسلامي، وذكر من خصائص التربية الإسلامية الشمول، والتكامل، والتسلسل، وعدم التناقض، وتحدث عن الطفولة في الإسلام، ودور الأسرة في تنشئة الطفل.
أوجه الاختلاف بين الكتاب ودراسة الباحث:
قام الكاتب بالحديث عن النظرية التربوية في الإسلام، وما تقوم عليه، وخصائص هذه التربية، ثم تحدث عن نظرة الإسلام للطفل، ولم يتعرض الكاتب إلى ما يريده الباحث من دراسة أثر البيئة الاجتماعية على الدعوة إلى الله تعالى.
أوجه الاستفادة من الكتاب:
يمكن الاستفادة من الكتاب من خلال معرفة الظروف المُحِيطة بالطفل في الأسرة، بحيث يستنتج الباحث أثر هذه الأسرة على الطفل في كونه مدعوًّا.
وخلاصة القول:(24/8)
إن الدراساتِ السابقةَ، والتراكماتِ العلميَّةَ لم تتناول موضوع (أثر البيئة الاجتماعية على الدعوة إلى الله تعالى) الذي ينوي الباحث دراسته حيث سيقوم الباحث – بإذن الله- بدراسة البيئة الاجتماعية وأثرها على الداعي والمدعو، وموضوعات الدعوة ووسائلها وأساليبها.
تساؤلات الدراسة:
يمكن لنا إثارة التساؤلات التالية:
- ما مفهوم البيئة الاجتماعية؟
- ما أهمية البيئة الاجتماعية في الدعوة؟
- ما أثر البيئة الاجتماعية على دعوة أولي العزم من الرسل عليهم الصلاة والسلام؟
- ما أثر البيئة الاجتماعية على الداعية في العصر الحاضر؟
- ما أثر البيئة الاجتماعية على المدعو في العصر الحاضر؟
- ما أثر البيئة الاجتماعية على موضوعات الدعوة في العصر الحاضر؟
- ما أثر البيئة الاجتماعية على وسائل الدعوة وأساليبها وميادينها في العصر الحاضر؟
- ما معوقات الدعوة في البيئة الاجتماعية؟
- ما سبل علاج معوقات الدعوة في البيئة الاجتماعية؟
منهج الباحث في هذه الدراسة:
(أ) المنهج التاريخي: هو عبارة عن إعادة للماضي بواسطة جمع الأدلَّة وتقويمها، ومن ثم تمحيصها، وأخيرًا تأليفها ليتم عرض الحقائق أوَّلا عرضًا صحيحًا في مدلولاتها وفي تأليفها حتى يتم التوصل حينئذ إلى استنتاج مجموعة من النتائج ذات البراهين العلمية الواضحة[25].
(ب) المنهج الاستقرائي: هو تتبّع الجزئيَّات كلها أو بعضها للوصول إلى حكم عامٍّ يشملها جميعًا[26].
وسيعتمد الباحث إن شاء الله - على منهج الاستقراء الناقص وهو حصر المعلومات حول موضوع الدراسة، وتنظيم هذه المعلومات في قالب معيّن يستنْبِطُ منها نتائج صحيحة تزود الباحث بالمقترحات والحلول.
(ج) المنهج الاستنباطي: والاستنباط هو: استنتاج قضيَّة مجهولة من قضيَّة أوْ عِدَّة قضايا معلومة (1).(24/9)
سيعتمد الباحث – إن شاء الله - على هذه المناهج في دراسة النصوص دراسةً دَعَوِيَّةً مدعمة بالأدلة لاستنباط المبادئ والأفكار المتعلقة بأثر البيئة الاجتماعية على الدعوة إلى الله.
منهجه في جمع المادة العلمية:
1- اجتهد الباحث في توثيق المعلومات الواردة من مصادرها الأصلية ما أَمْكَن، وقد يرجع أحيانًا لأكثر من مرجع في المسألة الواحدة رغبةً منه في إثراء معلومات الدراسة، وزيادة توثيقها.
2- تَفَاوَتَ تناوُل الباحث لمباحث هذه الدراسة، ومطالبها طولاً وقصرًا؛ وفقًا لِمُتطلبات البحث وقوة ارتباطه بموضوع الدراسة.
3- قام الباحث بكتابة الآيات الكريمة من القرآن الكريم بالرسم العثماني، وعَزْوها إلى مواضعها في القرآن الكريم في الحاشية، وذلك ببيان اسم السورة، ورقم الآية.
4- بَذَلَ الباحث وُسْعَهُ في تخريج الأحاديث النبوية الكريمة من مصادرها المعروفة في كُتُب السنة، وقد سلك في هذا التخريج المنهج الآتي:
ما كان من الأحاديث الكريمة في صحيحَيِ الإمامين البخاريِّ ومسلمٍ – رحمهما الله تعالى - أو أحدهما فيكْتفي بإيراده دون الحكم عليه لإجماعِ الأُمَّة على صِحَّتهما، وأمَّا ما كان في كتب السُّنَّة الأُخْرَى فإنَّ الباحث يجتهد في تخريجها من كتب السنة الأخرى التي اعتنت بالتصحيح، ثم يذكر اسم المرجع، ثم المجلد، ورقم الصفحة، ويجتهد في ذكر الكتاب، ثم الباب، ورقم الحديث، وحُكْم العلماء على الحديث.
5- اعتمد البحث عند نقل الآيات الكريمات على القَوْسَيْنِ المزهرين، والنقل من المصحف حسب الرسم العثماني، وعند نقل الأحاديث وسائر الأقوال في متن الدراسة على القوسين الآتية: ( )، وعند نقل نص الحديث الشريف يُميز خطه عن بقية الكتابة. وعند نقل أقوال الصحابة الكرام أو من جاء بعدهم يتم تحبير اسم العلم قبل قوله.
6- لم يترجم الباحث للأعلام، حيث إن ذلك يزيد من حجم البحث، والدراسة ليست مُتخصّصة في ذلك.(24/10)
7- يكرّر الباحث أحيانًا الشاهد في أكثر من موضع؛ لاشتماله على أكثر من وجه للاستشهاد.
8- اختار الباحث عند النقل بأن يذكر الكتاب، ثم المؤلف، ثم دار النشر، ومكانها إن وجد، ثم الطبعة، ثم السنة، ثم المجلد، ثم رقم الصفحة، ثم المُحقّق إن وجد.
9- اختار الباحث في وضع خاتمة للدراسة اشْتملَتْ على نتائجها، والتوصيات التي يراها وفق اجتهاده.
10- اختار الباحث في وضع فهارس تفصيلية في آخر هذه الدراسة تكون عونًا -بعد عون الله تعالى- للقارئ عند رغبته الرجوع إلى ما يريد من هذه الدراسة بسهولة ويسر.
وجاءت هذه الفهارس على النحو التالي:
- فهرس الآيات.
- فهرس الأحاديث.
- فهرس المصادر والمراجع.
- فهرس محتويات الدراسة.
تقسيم الدراسة:
المقدمة: وتشمل ما يلي:
1- التعريف بمصطلحات عنوان الدراسة.
2- أهمية الموضوع وأسباب اختياره.
3- أهداف البحث.
4- الدراسات السابقة.
5- تساؤلات الدراسة.
6- منهج البحث.
7- خطة البحث.
8- الشكر والتقدير.
الفصل التمهيدي: مفهوم البيئة الاجتماعية، وأهميتها، وأنواعها، وعلاقتها بالدعوة.
المبحث الأول: مفهوم البيئة الاجتماعية وأهميتها[27].
المبحث الثاني: أنواع البيئة الاجتماعية.
المبحث الثالث: علاقة البيئة الاجتماعية بالدعوة.
الفصل الأول: أثر البيئة الاجتماعية على دعوة أولي العَزْم من الرسل – عليهم الصلاة والسلام -.
المبحث الأول: أثر البيئة الاجتماعية على دعوة نوح عليه السلام[28].
المبحث الثاني: أثر البيئة الاجتماعية على دعوة إبراهيم عليه السلام[29].
المبحث الثالث: أثر البيئة الاجتماعية على دعوة موسى عليه السلام[30].
المبحث الرابع: أثر البيئة الاجتماعية على دعوة عيسى عليه السلام[31].
المبحث الخامس: أثر البيئة الاجتماعية على دعوة محمد صلى الله عليه وسلم[32].
الفصل الثاني: أثر البيئة الاجتماعية على الدعوة في العصر الحاضر:(24/11)
المبحث الأول: أثر البيئة الاجتماعية على الداعية في العصر الحاضر[33].
المبحث الثاني: أثر البيئة الاجتماعية على المدعو في العصر الحاضر[34].
المبحث الثالث: أثر البيئة الاجتماعية على موضوعات الدعوة في العصر الحاضر[35].
المبحث الرابع: أثر البيئة الاجتماعية على وسائل الدعوة وأساليبها وميادينها في العصر الحاضر[36].
الفصل الثالث: معوقات الدعوة في البيئة الاجتماعية وسبل علاجها.
المبحث الأول: معوقات الدعوة في البيئة الاجتماعية[37].
المبحث الثاني: سبل علاج معوقات الدعوة في البيئة الاجتماعية[38].
الخاتمة وأهم النتائج والتوصيات.
الملاحق
الفهارس.
الخاتمة: وتشمل أهم النتائج والتوصيات:
الحَمْدُ للهِ عَلَى تَقْدِيرِهْ وَحُسْنِ مَا صَرَّفَ مِنْ أُمُورِهِ
الحَمْدُ للهِ لِحُسْنِ صُنْعِهْ شُكْرًا عَلَى إِعْطَائِهِ وَمَنْعِهِ
وأصلي وأسلم على سيد الأنام، وعلى آله وصحبه، ومن سار على نهجه إلى يوم الدين؛ أما بعد:
فقد انتهيتُ بفضل الله ومَنِّهِ في هذا البحث إلى بيان آثار البيئة الاجتماعية على الدعوة، ويَطِيبُ لي هنا أن أَذْكُرَ أهمَّ النتائج، ثم أُتْبِعَهَا بالتَّوْصِيَاتِ، التي قد تُسهِم في الاستفادة من هذه الدراسة الدَّعَوِيَّة:
أولاً: أهم النتائج:
1- أنَّ مُكَوّنات البيئة الاجتماعية - من أسرة ومجتمع - هي المَيْدان الأوَّل لدعوة الأنبياء - عليهم السلام - إلى أقوامهم.
2- أن صلاح البيئات الاجتماعية له آثار معينة على الدعوة.
3- أن عناد البيئات الاجتماعية له آثار معيقة على الدعوة.
4- أن وسائل وأساليب الدعوة تختلف باختلاف حالات البيئة الاجتماعية والاقتصادية، والاجتماعية، والعلمية.
5- أن أعظم نزاع وقع بين الأنبياء – عليهم السلام - وبين بيئاتهم كان بسبب توحيد الألوهية.
6- تأثر المَدْعُوِّينَ داخل الأسرة، أو المجتمع بالوسط الذي يعيشون فيه، وظهور ذلك في مدى قَبولهم للدعوة.(24/12)
7- انتشار الجهل بين أفراد البيئات الإسلامية، من أعظم أسباب بُعد تلك البيئات عن تعاليم الدين.
8- قوَّة تأثير الإعلام في العصر الحاضر على أفراد البيئات الاجتماعية، وانتشار كثير من الشهوات والشبهات بسبب هذا التأثير.
9- بروز ظاهرة الفُرْقَةِ والاختلاف في العصر الحاضر بين أفراد البيئة الاجتماعية خصوصًا بين كثير من العاملين في مجال الدعوة.
ثانيًا: التوصيات:
1- إعطاء الدراسات الدَّعَوِيَّة لعناصر البيئة الاجتماعية، الأسرة، المجتمع، المؤسسات الاجتماعية المختلفة (المدرسة، المسجد، الإعلام، ... إلخ) -: أهميةً؛ لكونها تلامس واقع المجتمع.
2- الاهتمام بالدراسات المَيْدانيَّة؛ لتقديم أَدَقِّ النتائج عند دراسة مكونات البيئة الاجتماعية.
3- الاستفادة من نصوص الوحي التي تُبيِّنُ دعوة الأنبياء – عليهم السلام - لبيئاتهم الاجتماعية.
4- الاهتمام بنشر العلم الشرعيِّ بكل وسيلة حديثةٍ مُبَاحةٍ؛ من أَجْلِ مَنْع انتشار الجهل داخل البيئات الإسلامية.
5- الاستفادة من وسائل الإعلام، والتَّقْنِيَةِ الحديثة للردِّ على الشُّبُهاتِ والشهوات، التي يثيرها أعداء الدعوة.
6- إبراز دور الأسرة وأهميته، ونشر الوعي التَّرْبَوِيِّ الصحيح في التعامل مع الأولاد، وتربيتهم في العصر الحاضر.
7- الحاجة إلى إيجاد البدائل لوسائل الإعلام الوَافِد، والتقنية الحديثة الضارَّة؛ من خلال زيادة عدد القنوات الفضائية الإسلامية، والإذاعات الدينية، والموادِّ التربويَّة الهادفة خُصوصًا لفئة الشباب والأطفال داخل الأسرة.
8- ضرورة نشر عقيدة السلف الصالح من خلال فهم العلماء لها لصدِّ الأفكار المخالفة.
9- على الأئمة والوُعَّاظ والمصلحين داخل البيئات الإسلامية تكثيفُ الجهود في كشف خفايا وضرر الغزو الأخلاقي والفكري لأفراد الأمة.(24/13)
10- السَّعْي لمُضاعفة الجهود في تفعيل وزيادة نشاط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الرسميِّ، والتطوعيِّ من أجلِ الحدِّ منَ انتشار المنكَرَاتِ داخلَ البيئات الإسلامية.
وصلى الله على نبيّنا مُحمَّد وعلى آله وصحبه وسلم
ــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] "تاج العروس من جواهر القاموس"، الإمام محمد مرتضى الزبيدي، دار الفكر، بيروت، ط1، 1414هـ، ج1، ص12، تحقيق علي شيري، مادة (أثر).
[2] سورة [الحديد: 27].
[3] "مفردات ألفاظ القرآن"، الحسين بن مفضل المعروف بالراغب الأصفهاني، دار القلم، دمشق - دار الشامية، بيروت، ط2، 1410هـ، ص62، تحقيق صفوان عدنان داودي، مادة (أثر).
[4] "لسان العرب"، محمد بن مكرم بن منظور، دار صادر، بيروت، ط1، بدون تاريخ، ج1، ص39، مادة (بوأ).
[5] سورة [يونس: 87].
[6] "تاج العروس"، مادة (بوأ) (مرجع سابق).
[7] "المداخل المعاصرة للخدمة الاجتماعية في مجال البيئة"، د. عبد الكريم عفيفي، دار المعرفة، مصر، ط1، بدون تاريخ، ص1.
[8] "البيئة والتنمية والخدمة الاجتماعية"، د. عوض سيد. د. حاتم أحمد. دار المعرفة الجامعية، مصر، بدون رقم، طبعة 1994م، ص23.
[9] المرجع السابق، ص25.
[10] "مختار الصحاح"، محمد بن أبي بكر الرازي، مكتب لبنان ناشرون، بيروت، بدون رقم طبعة، 1415هـ، ج1، ص47، حققه محمود خاطر.
[11] "بناء علم الاجتماع"، جان ميشال برتيلو، دار عوينات للنشر والطباعة، بيروت، ط1، 1999م، ص7، تعريب د. جورجيت الحداد.
[12] انظر: "الصحاح" (تاج اللغة العربية وصحاح العربية)، إسماعيل بن حماد الجوهري، دار العلم للمَلايين، بيروت، ط4، 1990م، ج6، ص2326 و 2338، تحقيق أحمد عبد الغفور عطار، "مختار الصحاح"، ص205، 206 (مرجع سابق)، انظر: "المعجم الوسيط"، إعداد: مجمع اللغة العربية، القاهرة، ط2، بدون تاريخ، ج1، ص268.(24/14)
[13] انظر: "مجموعة فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية" – رحمه الله تعالى - جمع وترتيب الشيخ/ عبد الرحمن بن قاسم، وابنه الشيخ/ محمد، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف، المدينة النبوية، بدون رقم طبعة، 1412هـ، ج15، ص157.
[14] انظر: "الدعوة إلى الله، الرسالة، الوسيلة، الهدف"، د. توفيق الواعي، مكتبة الفلاح، الكويت، ط1، 1406هـ، ص17.
[15] أرى تحوير التعريف ليكون (وتعليمهم إياه). لأجل أن يستقيم المعنى.
[16] "المدخل إلى علم الدعوة"، د. محمد أبو الفتح البيانوني، بيروت، مؤسسة الرسالة، ط3، 1415هـ، ص40.
[17] انظر: "المدخل إلى التربية والتعليم"، د. عبد الله الرشدان، ونعيم جعنيني، دار الشروق، الأردن، بدون رقم الطبعة، 1999م، ص179، "البيئة والتنمية والخدمة الاجتماعية"، د. عوض سيد، د. حاتم أحمد، ص23، (مرجع سابق).
[18] "مدخل إلى التربية"، د. عمر أحمد همشري، دار صفاء للنشر والتوزيع، عمان، ط1، 1421هـ، ص181.
[19] انظر: "البيئة والتنمية والخدمة الاجتماعية"، د. جابر عوض، د. حاتم عبد المنعم، ص22، (مرجع سابق).
[20] انظر: "المدخل إلى التربية والتعليم"، د. عبد الله الرشدان، د. نعيم جعنيني، ص179، (مرجع سابق).
[21] "دليل الرسائل الجامعية" لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية من عام 1389-1413هـ:
- "دليل رسائل الماجستير والدكتوراه" لمكتبة مركز البحوث من عام 1406-1417هـ.
- "الرسائل الجامعية المناقشة" بجامعة أم القرى إلى نهاية 1419هـ.
- "عناوين رسائل الماجستير والدكتوراه" بكليات البنات حتى نهاية 1416هـ.
- الحاسب الآلي لمركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية.
- مخاطبة الجهات العلمية التالية:
أ- كلية الدعوة وأصول الدين جامعة أم القرى.
ب- كلية الدعوة بالجامعة الإسلامية في المدينة المنورة.
ج- كلية الدعوة بالمدينة المنورة التابعة لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
د- عمادة البحث العلمي.(24/15)
[22] "التربية الروحية والاجتماعية في الإسلام"، د. أكرم ضياء العمري، طبع دار إشبيليا، الرياض، ط1، 1417هـ.
[23] "الحياة الاجتماعية في صدر الإسلام"، د. محمد ضيف الله بطانية، مكتبة دار التراث، المدينة النبوية، ط1، 1419هـ.
[24] "التنشئة الاجتماعية في الإسلام"، د. مصطفى محمود حوامدة، دار الكندي، الرياض، ط1، 1415هـ.
[25] التنشئة الاجتماعية في الإسلام، د. مصطفى محمود حوامدة، دار الكندي، الرياض، ط1، 1415هـ.
[26] المدخل إلى البحث في العلوم السلوكية، د. صالح العساف، مكتبة العبيكان، الرياض، ط1، 1406هـ، ص282.
[27] مثال ذلك: قول الرسول – صلى الله عليه وسلم - في تربية الوالدين؛ كما في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: (كل مولود يولد على الفطرة: فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه)؛ صحيح البخاري، محمد بن إسماعيل البخاري، دار ابن كثير، اليمامة، بيروت، ط3، بدون تاريخ، كتاب الجنائز، باب إذا أسلم الصبي فمات حتى يصلى عليه، ج1، ص465، ح1292، تحقيق مصطفى ديب البغا.
[28] مثال ذلك: قول الله - تعالى - في سورة نوح: {قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا} سورة نوح الآية (21). قال الإمام الشوكاني: (أي اتبع الأصاغر رؤساءهم وأهل الرزق منهم)؛ "فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير"، محمد بن علي الشوكاني، دار الفكر، بيروت، بدون رقم طبعة، بدون تاريخ، ج5، ص300.(24/16)
[29] مثال ذلك: انتقام عبدة الأصنام لأصنامهم واتفاقهم على إحراقه، قال العلامة ابن سعدي: (فحين أقحموا ولم يبينوا حجة استعملوا قوتهم في معاقبته: {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آَلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} الأنبياء آية (66) "تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان" للشيخ عبد الرحمن بن سعدي، مؤسسة الرسالة، ط5، 1417هـ، تفسير سورة الأنبياء الآية (86) ص476.
[30] مثال ذلك: نشأة موسى – عليه السلام - وتربيته في بيئة فرعون له أثر في معرفة الداعي للبيئة الاجتماعية، قال د. نواف الحليسي: (وتلك الحكمة لا يعلمها إلى الله، حيث نشأ موسى – عليه السلام - في بيئة لها طابع مميز، لكي يعرف أسلوب تعليمهم ونظامهم وتحايلهم)؛ "منهج التخطيط الإداري في قصة موسى"، د: نواف الحليسي، مطابع التقنية، الرياض، ط1، بدون تاريخ، ص40.
[31] مثال ذلك: امتنان الله - سبحانه وتعالى - على عيسى – عليه السلام - أن جعل له أتباعًا يساعدونه على نشر الدين في بيئته، قال تعالى: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آَمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آَمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ}؛ المائدة الآية (111).
[32] مثال ذلك: ما كان في بيئة مكة من إيذاء للرسول – صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، ومنعهم من الجَهْر بالحق واضطهادهم وحبسهم في شعب أبي طالب من قبل مجتمع مكة.
[33] مثاله: انصراف كثير من المدعوين إلى وسائل الترف والملهيات التي كثرت في العصر الحديث مما أثر على نفسية الداعي وأدائه.
[34] مثاله: التغريب الاجتماعي في العالم الإسلامي الذي أثر على المدعوين.
[35] مثاله: العلل والأمراض الاجتماعية التي تتطلب معالجة دعوية، سواء ما يتعلق منها بالجانب العقدي، أم بالجانب الشرعي، أم بالجانب الأخلاقي.
[36] على سبيل المثال: اتساع البيئات الاجتماعية أدّى إلى الحاجة إلى وسائل وأساليب وميادين دعوية أخرى.(24/17)
[37] مثاله: محاولات الصَّدِّ عن دعوة الأنبياء في العصر الحاضر؛ كالتقليد، والغزو الثقافي، وكل ما يُعد من معوقات البيئة الاجتماعية.
[38] على سبيل المثال: استعمال القرآن الكريم للمنهج العقلي والمنهج الحسي والمنهج العاطفي، في تفنيد شبهات خصوم الدعوة، وكذلك في إقناعهم بالأسلوب العقلي، وهذا على سبيل المثال، وليس على سبيل الحصر، قال تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} قال – تعالى -: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} سورة الأحقاف، الآية 4.(24/18)
العنوان: أثر الشعر العربي في الأدب التركي
رقم المقالة: 951
صاحب المقالة: د. حسين مجيب المصري
-----------------------------------------
من المعلوم على وجه اليقين أنَّ الأدب التركي القديم هو الأدب الإسلامي في أوْج كماله، واتساق معالمه، فقد نهج التركُ سبيل الفرس في ذلك التراث الإسلامي الذي تلقَوه عن العرب من قبل، فتحصَّل لديهم بذلك تراثٌ إسلاميٌّ تعددت معالمه، وتبدَّت سماته. وقد زاد الترك في هذا التراث الإسلامي، وطبعوه بطابَعهم، فبلغوا به ما لم يبلغ غيرهم.
ولم يَعزُب عن بال العلماء والأدباء من الترك هذا التنوعُ في خلفيتهم الثقافية التراثية، فنهلوا من مواردها المختلفة، وأخذ شُدَاةُ الأدب منهم في إرساء ثقافتهم على هذا التراث الإسلامي. ولم يخفَ عليهم أن هذا التراثَ - في أعماقه وأبعاده - بلغة (الضاد) التي جمعت هذا التراث، وهي لغة القرآن الكريم، والحديث الشريف، والشرع الحكيم؛ فرأوا من أوجب الواجب أن يُحيطوا علماً بالعربية؛ كيما يفهَموا آيات الذكر الحكيم، وأحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأحكام الشرع.
وهنا وقفةٌ لابد منها؛ لنظرة تأمُّل فيها: هي أن الأدبَ التركي القديم انبثق في الوجود أدباً دينياً محضاً؛ نثره وشعره، وحسبُنا قولنا: إن بواكيرَ النثر التركي إنما كانت شرحاً وتفسيراً لقِصار سور القرآن المجيد، كما أن الشعرَ التركي القديم جرى أولَ ما جرى على ألسنة الوعَّاظ، الذين جمعوا حولهم المريدين؛ ليسمعوا منهم ويأخذوا عنهم، وهذا قاطعُ الدلالة على أن الدينَ الحنيف في لغته - وهي لغة القرآن - كان ذلك الأساسَ الرصين الذي أرسى عليه الأتراك العثمانيون ثقافتَهم الإسلامية، العريقة في إسلاميتها.
كما أن هذا الأدبَ التركي الذي نشأ في الأناضول إنما تأثَّر واستمدَّ كيانه - أو كاد - من الأدب الفارسي عموماً، والشعر الفارسي خصوصاً.(25/1)
ولقد تأثر هذا الأدب الفارسي في عموم وشمول بالأدب العربي في لغته العربية.
وهنا نلحظ كيف انسرب ما لا يُحصى من ألفاظ عربية في الشعر الفارسي؛ بل نتجاوز ذلك لنقول إن الرجحان كان للألفاظ العربية في لغة الأدب الفارسي، ويُبنى على ذلك أن ندرك - فيما لا يحتمل شكّاً ولا تأويلاً - أن العربية وجدت سبيلها إلى تراث الترك، وإلى دين الترك جميعاً.
وعليه؛ كانت اللغة العربية في نظر الترك لغة من الأهمية بمكانة، وحسبها أنها لغةُ الدين والأدب في وقت معاً. ولكن لابد من التحفُّظ لنقول: إن من كان يحذق العربية من علماء وأدباء الترك إنما كان قلة ضئيلة؛ لذلك التغاير بين العربية والتركية، مما جعل العلم بها أمراً ليس على التركي بيسير.
وهنا نُفسح المجال لشاعر تركي هو (نابي) المتوفى عام 1712م، لنصغيَ إليه متحدثاً في هذا الصدد؛ فهو القائل ما ترجمته:
"ما أكثرَ أشعارَ العرب، ومصدرها الشام وحلب! لا تقل: إنها من الأوزان تجردت؛ فإن لها أوزاناً خاصة على حِدَة، وهي عامرة بالمعاني المرقِصَة! وما أشبهَها بالمِشعل اللماع، إذا ألقى بالشرر في الأسماع! وما أكثرَ ما فيها من مُطْرِبٍ مُعْجِب، الذي يجلو مرآة القلب! وكم فيها من نعوت شريفة نبوية، ومدائح للمعجزات المصطفوية! وكلٌّ منها جوهر ثمين ودر موضون. أنعم في تلك الأشعار نظرَك، وابذُل في تفهُّمها جهدك. لا يصلح الأمر إلا بالعربية، ولن تكفيَ وحدها الفارسية. وفي العربية شتَّى أنواع العلوم، والعلم بدونها غير مفهوم".
هذه الأبيات من شعر هذا الشاعر - الذي وجَّه فيها الخطاب إلى ولده؛ ينصحه ويعلِّمه - واضحة الدلالة على منزلة العربية لدى القوم آنئذ، كما أنها تُرشد إلى أهمية تعلمها، والنظر فيما تحوي من علوم وفنون.(25/2)
وهذا الشاعر ضمناً يهيب بأهل العلم والأدب أن يلقوا بالاً إلى اللغة العربية، وأن يحرصوا كل الحرص على تعلُّمها، والإفادة مما حوته، وهو يعود بجزيل النفع على كل مَنْ كان صاحب عبادة، وله بالعلم والشعر ولوع.
أما أشهر من نظم شعراً بالعربية من الترك: فشاعرٌ من أهل القرن السادس عشر، سكن بغداد في عهد السلطان سليمان القانوني؛ فنُسب إليها، وعُرف بـ (فضولي البغدادي)، وهو في رأينا (أمير الشعر التركي القديم)، وكان ينظم وينثر بالتركية والفارسية والعربية.
وها هو ذا يقول في مقدمة ديوانه التركي إنه نظم الأراجيز بالعربية! كما يقول في مقدمة ديوانه الفارسي إنه أتحفَ فصحاء العرب بفنون شعره العربي!!
ويقول مؤلفٌ تركيٌّ قديمٌ؛ يسمى (صادقي)، في كتاب له بعنوان "كُنْهُ الأخبار"، وقد جمع فيه تراجمَ الشعراء الترك: إن لـ (فضولي) ديواناً بالعربية، يتألَّف من غزليات وقصائد، ولقد اطَّلع على قرابة ثلاثين ألف بيت كتبها (فضولي) بخطه.
ونحن نقع على أبيات متفرقة من الشعر العربي في دواوين وكتب له، وهو يتأسى بشعراء الترك والفرس الذين يوردون البيت والبيتين في كلامهم؛ لتأييد الغاية التي يسعون إلى بلوغها، واستخلاص المعنى من كلامهم، وهذا مثالٌ من شعر (فضولي) العربي:
نُسَبِّحُ مَنْ أَهْدى النُّفُوسَ إِلى المُنى وَقَدَّرَ أَشْكالَ الأُمُورِ وَحَلَّها
نُقَدِّسُ مَنْ لَوْلا إِعانَةُ فَضْلِهِ لَما عَلَّمَ آدَمَ الأَسْماءَ كُلَّها
وبعد هذين البيتين في التوحيد، يمدح فضولي خير البرية - صلى الله عليه وسلم - قائلاً:
أُثْنِي عَلى خَيْرِ الأَنامِ مُحمَّدٍ كَشَفَ الدُّجَى بِضِياءِ بَدْرِ جَمالِهِ
بِثَنائِه رُفِعَتْ مَدارِجُ قَدْرِنا خُصَّتْ تَحِيَّتُه عَلَيْهِ وَآلِهِ
وحسبنا بالنظر في هذا الشعر أن نوقنَ باقتران الإيمان بهذا الشعر العربي، الذي فاضت به قريحةُ شاعر تركي.(25/3)
العنوان: أثر العوامل الإقتصادية في سقوط الدولة الأموية
رقم المقالة: 364
صاحب المقالة: د. سليمان بن ضفيدع الرحيلي
-----------------------------------------
تألفت الدولة الأموية من عدة أقاليم عرفت بغناها، وقد ساهم فيه نصيبها الجيد من الأمطار، وكثرة أنهارها، وخصب أرضها، وتوسط موقعها، وخبرة أهلها الزراعية والتجارية، ويساعد على تحقيقه ويزيد فيه إذا ما استقر أمنها، وقلت ثوراتها وأمنت فتنتها وحسنت إدارتها ودق نظام جبايتها. ويظهر أن هناك تلازماً بين العوامل البشرية والطبيعية في حياة الدول، فإذا اختلت العلاقة بين هذه العوامل – والخلل يأتي في الغالب من قبل العوامل البشرية – فإن حياة تلك الدول تؤذن بالخطر فيعتري استقامة حالها اعوجاج وأمنها خوف وثباتها تغير إلى أن يطول بقاءها الزوال ونجمها الأفول وتصبح ذكراً بعد عين.
ودراسة أثر العوامل الإقتصادية في سقوط الدولة الأموية هنا ليست باعتبارها العامل الرئيسي في السقوط، بل ولا تتصدر عوامله أو تتبدل مكانها وإنما ساهمت فيه، وكانت من أسبابه في مرحلة النهاية، عندما اشتركت معها عوامل مختلفة، إلا أنها أيضاً لا يمكن أن تكون السبب المباشر الذي أنذر بالنهاية لأن غيرها تكون له الصدارة في مثل هذه الأحوال في تحديد سنوات سقوط الدول أو ميلاد قيامها، كالأسباب السياسية، ونشوب الحروب والنصر والهزيمة فيها، إلا أنها يكون لها أثر في الأرهاص له والمساعدة في تدعيم أسبابه الأخرى وتجيء هذه الدراسة لتتبع هذا الأثر ودراسته، مثلما عنيت دراسات كثيرة بتتبع الأسباب الأخرى وإبرازها. ذلك أن العوامل التي كانت تعمل عملها سراً وتحدث أثرها بالتدريج نحو النهاية متعددة ومختلفة.(26/1)
وتشمل عناصر هذا الموضوع أثر جباية الخراج والجزية وسياسة الخلفاء الأمويين المتأخرين، وسياسة بعض الولاة وطرقهم في الجباية، وكثرة القطائع وجمع الأموال ومركز الدولة المالي* وهي عناصر بالغة الأثر في حياة الدول ومجتمعاتها في كل وقت، وتؤثر في معايشها ومصائرها بما يعتريها من إصلاح ونجاح في إدارتها واستقرار أحوالها في الداخل والخارج، وتؤثر فيها سياسة الدول إزدهاراً أو كساداً. وقد اعترى تلك العناصر خلل أختلف في التطبيق والوسيلة عنه في صدر الدولة على الأقل فما مظاهر هذا الخلل وآثاره؟
أثر إدارة الخراج والجزية:
لقد ساءت إدارة جباية الخراج والجزية في بعض أقاليم الدولة الأموية مثل خراسان ومصر والمغرب، وكان لذلك آثار على إقتصاد الدولة وعلى ولاء سكان تلك الأقاليم لها في فترات مختلفة من عهدها الأخير.(26/2)
ويمثل إقليم خراسان نموذجاً لما جرت عليه، وجرّت عليه سوء الإدارة المالية من قبل عمال الولاة وممثليهم قبل سياسة عمال الدولة وولاتها هناك حتى يرقى إلى سياسة بعض الخلفاء الأمويين أنفسهم، فالجباة المحليون في أقاليم خراسان وبلاد ما وراء النهر لم يكونوا من موظفي الدولة الرسميين، بل لم يكونوا من العرب، وإنما هم من الرؤساء والأمراء والنبلاء وغيرهم من عظماء العجم ممن كان لهم جاه وسلطان في تلك المناطق، وعرفوا باسم الدهاقين والمرازبة[1]. وقد كان هؤلاء متمكنين في مدنهم وأقاليمهم فصالحوا عمال الدولة على أموال يدفعونها لهم، وفي سبيل توفير ذلك يقوم الدهاقين بجبايتها من الناس هناك جزية عن الرؤوس وخراجاً عن الأرض التي تحت سلطتهم، وبطبيعة الحال وضع هؤلاء في إعتبارهم مصلحتهم في الجباية[2]. وكلفوا الناس أضعاف ما صولحوا عليه من أموال ليعود الباقي إلى القائمين عليها، أما الدولة أو عمالها فلا يعطون إلا ما صولحوا عليه وبالتأكيد أقل مما جبي جزية وخراجاً، وبالتالي فإن دور هؤلاء الجديد لم يتغير في نظر عامة الناس عن دورهم في النظام الساساني القديم[3].(26/3)
وفي سبيل جباية أكبر قدر ممكن، وذهان قدر مناسب لأولئك الدهاقين فسروا أي دخول جديد في الإسلام بأنه ليس بحقيقي وإنما هو هروب من دفع الأموال وإسقاط بعض بنوده وهو الجزية، ولهذا قاوم هؤلاء الدخول في الإسلام وحاربوا انتشاره في تلك الأقاليم، ويفسر (فلهوزن) هذه الحقيقة على أسس مالية محضة[4]. هذا إن لم تكن تلتقي مع ميلهم الكامن في بقاء بني جلدتهم على معتقداتهم الفارسية السابقة، وأنه خير لهم من الدخول في الإسلام، لا سيما أن هذا البقاء يضمن للطبقة الجابية مالاً أكثر على عكس التحول إلى الوضع الجديد الذي يفقدها كثيراً من ذلك المال، إذا ما قيس بعدد الأفراد وكثافة السكان هناك ثم ما يتبع الغنى من جاه وسلطان وسوف تسهم قلته في ضعف النفوذ والسلطان عند تلك الطبقة، وفي سبيل هذا لجأت أحياناً إلى رفع الجزية والضرائب عن الأتباع والمحيطين من أهل ملتهم السابقة بالدفع عنهم، أو إثقال المسلمين في مناطقهم أو الجدد منهم بالجزية، وجبي الأموال للتعويض وتغطية تلك السياسة وتحقيق النفوذ[5]، وتكررت الشكوى من الدهاقين وإلحاحهم في فرض الجزية على من أسلم[6]، وكان منهم يرى أن تحول أتباعه إلى الإسلام يفقده وسيلة إستنزاف أموالهم بحكم توليه الجباية لها منهم[7]. حتى وصف بعض الناس عمالهم في خراسان بأنهم سلطوا عليهم الدهاقين في الجباية، وسواء اشتدوا في أخذها من الكافة حتى من الضعفاء وهم معفون منها أصلاً أم أنهم أسقطوها عن الأغنياء والصنائع فقد بقيت ربقة في عنق الضعفاء ولم ينجهم منها حتى إسلامهم[8].
ونتيجة لذلك هجر الناس قراهم إلى المدن، وتركوا أراضيهم الزراعية ذات الدخل الخراجي الهام في إيرادات الدولة، أما أهل الذمة فبالإضافة إلى ذلك فقد دخل كثير منهم في الإسلام إما عن تمكن وإقتناع أو لإسقاط الجزية عن رؤوسهم، وكانت التهمة الأخيرة هي الشائعة.(26/4)
وأدت سياسة الحجاج والي العراق وخراسان المتشددة في مختلف المجالات إلى سوء في الأحوال الإقتصادية آنذاك بإغضاب الناس – وهم العنصر الفعال فيها – وقسرهم أحياناً وزادت في تذمرهم من عمالهم ودهاقينهم الآخرين، وزادت هجرتهم نحو المدن وتناقص عدد أهل الذمة، وكتب العمال له ((عن الخراج قد أنكسر وإن أهل الذمة قد أسلموا ولحقوا بالأمصار، فكتب الحجاج إلى عماله ليبلغوا الناس ((أن من كان له أصل في قرية فليخرج إليها))[9]. ولكن إنتقال كثير من الفلاحين وهم في الغالب من الموالي من قراهم إلى المدن كان لعاملين:
أولهما: جاء استجابة طبيعية لحاجة المدن وبدء غنى سكانها في هذا الوقت، ولا سيما عواصم الأقاليم والمدن التجارية، وظهور كثير من فرص العمل فيها المناسب لهؤلاء لا سيما عندما انشغل أهلها بالوظائف والجيش والتجارة وأصبحوا قادرين على تشغيل هؤلاء في أعمال ثانوية يحتاجها أهل المدن ويقبل هؤلاء بعائدها.(26/5)
وثانيهما: أن النظام الإسلامي في الدولة يجيز لمن أسلم أن يبقى على أرضه ويدفع عنها الخراج فإذا انتقل منها يعفى منه[10]، ومع هذا – فيما يظهر – لم يكن دافعاً قوياً وراء إنتقال الفلاحين إلى المدن، إلا أن جذب المدن لهم كان أقوى، فضلاً عن ظهور ملكيات زراعية كبيرة تملك مساحات واسعة وقدرة مالية تستطيع مد الجسور وشق القنوات ورم البثوق وسحب مياه الأنهار، وبالتالي أدرك صغار الفلاحين – وهم سواد كبير – أنهم لا يستطيعون المنافسة، ومن ثم فإن الإتجاه للمدن يكون أحسن مردوداً عليهم. وعندما حاول الحجاج مواجهة هذه الظاهرة ورد كل أناس إلى قراهم التي جاءوا منها كما وضح من قبل كانت العوامل التي دفعت هؤلاء إلى الإنتقال لا تزال قائمة، وتزداد وضوحاً مع الوقت وبالتالي فإن الرغبة في العودة إلى أعمالهم السابقة لم تعد معهم وهي روح مهمة لنجاح العمل الزراعي ولكنها في هذه المرة كانت مفقودة، وهو ما أثر على إقتصاد الدولة فيما بعد عندما عمل هؤلاء فيه مكرهين أو بدون رغبة، أو عادوا للمدن بطرق وأوقات مختلفة.
وزيادة على ذلك فرض بعض الولاة ضرائب جديدة مثل تحصيل ثمن أدوات الكتابة في دواوين الدولة، وكذلك بعض هدايا النيروز والمهرجان[11] التي كانت معروفة من قبل عند دولة الفرس[12]. وقد عمد لها الدهاقنة أحياناً لتعويض ما يفقدون نتيجة الدخول المتزايد في الإسلام، ومخافة رفع الجزية أو ضريبة الرأس عن الداخلين فيه[13]. وقد استمر هذا حتى جاء الخليفة عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه فأبطل هذه الضرائب في وقته[14]، وذم ولاة العهد السابق في العراق والشام ومصر ومكة والمدينة وقال في مناسبة ذكرهم: ((اللهم قد امتلأت الدنيا ظلماً وجوراً فأرح الناس))[15].(26/6)
ولما كان بعض الولاة قد جبى الخراج والجزية مجتمعة سواء كانت جزية عن الرؤوس أو خراجاً عن العمل والمهنة، فقد أدت هذه السياسة إلى تذمر أهل خراسان الذين أنفوا أن يدخلوا في الإسلام وتبقى الجزية في أعناقهم، ولهذا جاءت إصلاحات عمر بن عبدالعزيز برفعها، وكتب الجراح بن عبدالله الحكمي أمير خراسان ((أنظر من صلى قبلك فضع عنه الجزية))[16] وتأكدت هذه السياسة عندما أشخص أشرس بن عبدالله والي خراسان فيما بعد أبا الصيداء إلى بلاد ما وراء النهر فقام بدعوة أهل سمرقند ومن حولها إلى الإسلام على أن توضع عنهم الجزية[17]، وقد نتج عن هذه السياسة أن خراسان شهدت كفايتها المالية على الفور خلال هذا العهد، حتى أن خراجها فاض عن عطائها على الرغم من أن الخليفة كان مستعداً لبعث الأموال إليها لو حدث فيها عجز عن الوفاء بسداد العطاء، لكن واليه عقبة بن زرعة الطائي كتب له أن خراج خراسان يفضل ويزيد من الأعطيات فيها[18].(26/7)
وبالفعل أدت هذه السياسة والرخاء الذي شهدته خراسان إلى دخول كثير من سكانها في الإسلام طواعية في ظل إصلاحات الخليفة السابقة، وهذا أمر يغيض أنصار الوضع السابق على هذا العهد، ومنهم (غوزك) أحد الأمراء المحليين الدهاقين فقد سارع بمكاتبة أشرس بن عبدالله السلمي أمير خراسان فيما بعد يخبره بدعوى إنكسار الخراج[19]. وتأثر أشرس برأيه فكتب إلى عماله أن خذوا الخراج ممن كنتم تأخذونه فأعادوا الجزية على من أسلم، فامتنع الناس عن دفعها وبرز سبعة آلاف من أهل الصغد بالقرب من سمرقند للقتال والإعتراض على قرار إعادة الجزية عليهم بعد أن أسلموا[20]. ولما زاد القصد في تطبيق هذه السياسة إزاءهم استجاروا في مرحلة تالية هم وأهل بخارى بالترك[21]. وغاب عن الوالي أن (غوزك) كان يطمع في مزيد من السلطة والنفوذ، أو حتى الإستقلال وأن إجراءات أشرس سوف تؤدي إلى إنتشار الإسلام وكثرة أتباعه، وهذا يقوض طموحه ويقضي على آماله[22]. والمعروف أن عهد الخليفة عمر بن عبدالعزيز كان قصيراً وتبعه بذلك عمر إصلاحاته، وبالتالي قصوراً في فهم معنى الخراج وهل يشمل الجزية أو ضريبة الأرض حتى يزول اللبس ويستقيم المفهوم، ويستمر التطبيق سليماً، وإنما ذلك ينسجم مع سياسة الخلفاء الذين تلوا عمر بن عبدالعزيز، ومظهر من مظاهر إضطراب أحوال الدولة في عهودهم. فقد جاء بعده الخليفة يزيد بن عبدالملك (101 – 105هـ) فأمر بنقض ما أبرم عمر وعزل ولاته، وعمد إلى كل ما صنعه مما لم يوافق هواه فرده ولم يخف شناعة عاجلة[23]. ومن مظاهر عدوله عن سياسة سلفه تعيينه ولاة كانوا من بطانة الحجاج متشربين بمنهجه العنيف، متأثرين بشدة سياسته مثل محمد بن يوسف الثقفي أخ الحجاج الذي عين على اليمن من قبل فكان من سياسته فيها زيادة الخراج على أهلها[24]. ومثل تعيينه ليزيد بن أبي مسلم كاتب الحجاج على ولاية أفريقية سنة101هـ فلما حاول الوالي إبقاء الجزية على من أسلم في المغرب ثار(26/8)
عليه أهله فقتلوه، وعينوا الوالي السابق محمد بن مسلمة وكتبوا إلى الخليفة بذلك فأقرهم وأنكر بالطبع ما فعل واليه[25] كذلك أعاد الخليفة نفسه في مصر ما رفع من جزية عن كنائسها وأساقفها[26].
كذلك تتبع بعض الولاة السابقين بالقتل والتضييق والمصادرة، فقد أمر بقتل يزيد بن المهلب ومصادرة أموال آله[27] إلى غير ذلك من الإجراءات المالية التي أغضبت شرائح مختلفة من المجتمع منها المسلم، ومنها الذمي، ومنها المشرقي، ومنها المغربي، ومنها ذو الجاه، ومنها العادي، وكلها تدل على سوء في الأوضاع المالية في الدولة واضطراب في إدارتها في عهد هذا الخليفة، وسيكون لها آثارها في موقف الناس من الدولة وإنصرافهم عنها في المستقبل، يعضدها بعض المشكلات الأخرى التي عصفت بالبيت الأموي في أواخر حكمه حتى تعقدت هذه الآثار وعزت عن الإصلاح.
وجاء بعد يزيد الخليفة هشام بن عبدالملك (105 – 125هـ) وأعياه إصلاح سياسة سلفه على الرغم مما عرف عنه من أنه أحزم بني أمية[28]. ويكره أن يدخل بيت المال مالاً لم يؤخذ بوجه حق، وقد كان في بعض الأحيان إذا ما أراد توزيع مال يشهد أربعين رجلاً على حلاله، وأنه أعطى قبل ذلك كل ذي حق حقه[29].
وهذا التحرز من قبل الخليفة في جمع المال وتوزيعه قد يعكس ما وقع فيه سلفه واجتناب ثورة الناس وعنتهم وسخطهم عليه، والتأكيد لهم بنهج سياسة مختلفة محاطة بتدابير تحاول الإصلاح بوضوح.
وحاول في أواخر خلافته إصلاح الوضع الضرائبي في خراسان بواسطة واليه الحاذق نصر بن سيار حين أعلن أنه سوف يكون مانح المسلمين الذي يدفع عنه ويحمل أثقالهم وأعباءهم المالية إذ يقول: "فأيما رجل منكم من المسلمين كان يؤخذ منه جزية من رأسه أو ثقل عليه في خراجه، وخفف مثل ذلك عن المشركين فليرفع ذلك إلى المنصور بن عمر يحوله عن المسلم إلى المشرك"[30].(26/9)
وتوافد عليه أكثر من ثلاثين ألفاً كانوا يؤدون الجزية عن رؤوسهم خلال أسبوع بعد سماعهم إجراءات نصر، وتصنيف الخراج وإسقاط الجزية[31]، وهذا يدل على الإجحاف والتذمر الذي كان يعانيه الناس من قبل في هذا المجال، حيث كان الولاة مطالبين بتقديم مبالغ معينة وثابتة للدولة، وأوقعتهم وسيلة جمعها في بعض الأخطاء التي نتج عنها بعض الإضطرابات والثورات[32]. وكان من مظاهر سوء إدارة بعض العمال وقصور فهمهم هو إسناد جمع الضرائب في هذا الوقت إلى رؤساء الجماعات من يهود ونصارى ومجوس فانحازوا إلى بني ملتهم، وأثقلوا سواهم بها، وعجل نصر بن سيار بعلاج الموقف وتغيير الحال وروايات المصادر الإسلامية واضحة في هذا المجال[33] وإن حاول (فلهوزن) عدم فهمها ومال إلى عدم تصديقها[34].
ووصف المؤرخون إصلاحات نصر بن سيار في خراسان بأنها عمرت الأقاليم عمارة لم يعمر مثلها من قبل، فقد أحسن الولاية والجباية فيه[35]. إلا أن إصلاحات نصر جاءت في إقليم عانى من سوء الإدارة المالية منذ وقت حتى كثرت فتنة أهله وثوراتهم، مما جعله مناخاً مناسباً لنجاح الدعوة العباسية وانتشارها فيها مما أثر في جدوى كل إصلاح هناك وأخذ الناس يتطلعون إلى الحكم الموعود. كذلك جاءت هذه الإصلاحات في أواخر الدولة الأموية أي في وقت كثرت فيه المشكلات ليس فقط في النظم المالية وإنما في سدة الحكم والسياسة وفي أقاليم متعددة على رأسها إقليم الشام مركز ثقل الدولة نفسها لتشهد السقوط بحاله بعد سبع سنوات فقط من آخر استتباب للأمر لها في المشرق.(26/10)
ويشير الطبري إلى حدوث إنكسار في خراج العراق إبان ولاية خالد بن عبدالله القسري (105 – 120هـ) التي بلغت خمسة عشر عاماً بلغ مجموع ما إنكسر فيها مائة (مليون) درهم أي بمعدل ستة ملايين تقريباً عن كل سنة من ولايته[36] وساهم في ذلك عدة عوامل من أهمها أن أملاك الوالي نفسه وابنه كانت معفاة من الخراج، وكذلك ضياع الخليفة نفسه الذي أمر في وقت من الأوقات ألا يباع شيء من الغلال حتى تباع غلات أمير المؤمنين فتدنت الأسعار هناك إلى حد كبير[37]. وهذا – إن ثبت – يناقض ما روي عن الخليفة من قبل أنه يشهد أربعين رجلاً على حال المال الذي يوزعه.(26/11)
ولهذا فإن الوالي الجديد يوسف بن عمر فرض على سلفه خالد القسري غرامات كبيرة قريبة من مبلغ الإنكسار في الخراج الذي حدث في عهده إذ ألزمه وابنه وعماله بدفع تسعين مليون درهم، ووصلت المصادرات في سبيل جمعه إلى حد بيع متاع خالد ومطاردة عماله وضربهم[38]. إلا أن إجراءات يوسف بن عمر لم تحسن من مركز ولايته الإقتصادي وبالتالي دعم بيت المال في الدولة فقد كان يوسف يختزل بعض تلك الأموال لنفسه، ويقدم أخرى هدايا للحكام ومن حولهم من أصحاب النفوذ في البلاد للمحافظة على مركزه، أو يدفعها لمن يمكنه من التشفي من منافسيه فقد وعد الخليفة الوليد بن يزيد بدفع خمسين مليون درهم، في مقابل إطلاق يده في تعذيب خصمه خالد القسري وهنا يتضح الهدف من إجراءات يوسف الآنفة بأنها لم يقصد بها الصالح العام، وإنما تحقيق أغراضه ومطامعه الشخصية، وإذا عرفنا أن المصادر لا تذكر لنا أملاكاً كبيرة ليوسف بن عمر تفي بمثل هذه المبالغ، وتحقيق تلك المطامح أدركنا أن جزءاً كبيراً منها كان يقتطع من أموال الخراج فإذا اتضح النقص فيه وسئل عنه اعتل ((بتخريب ابن النصرانية[39] البلاد))[40]. وعلى أية حال فإن سياسة العاملين خالد القسري ويوسف بن عمر لم تؤد إلى تحسن أو ارتفاع إيرادات الدولة من العراق فقد كانت تتلقى منه ما بين 60 إلى 70 مليون درهم في العام وهو مبلغ يقل عما كان يرسله سلفهما ابن هبيرة، ويعود ذلك لسوء تصرف الرجلين وتبذيرهما لكثير من الأموال على الرغم من أنها جمعت بطريقة لم تعرف التساهل[41]. إلا أنه لا يخرج عن مؤشر الدولة الذي كانت تعيشه منحدرة نحو السقوط.(26/12)
وفي مصر انتكست إصلاحات الخليفة هشام بسبب سياسة واليه المالية عبيدالله بن الحبحاب والي مصر أولاً والمغرب ثانياً، عندما حاول زيادة الخراج واشتد في معاملة أهل الذمة فيها عندما كتب للخليفة أن أرض مصر تحتمل الزيادة في الجزية وذلك بزيادة كل دينار قيراطاً. وهذا معناه فرض أعباء مالية جديدة عليهم واستمرار لسياسة ولاة الخليفة السابق فيهم فقابلوا هذا الإجراء بالثورة أيضاً في سنة 107هـ[42].
لا سيما أنه حتى من أسلم منهم في هذا الوقت لم ترفع الجزية عنه، إذ نجد عامل خراج مصر في عهد عمر بن عبدالعزيز يخاطبه في أن الإسلام أضر بالجزية وأنه يرى أن تبقى ولكن الخليفة الصالح يقبح رأي العامل ويأمره بوضع الجزية ويذكره بأن الرسول عليه السلام بعث هادياً ولم يبعث جابياً[43].
ولكن يظهر أن هذا لم يراع دائماً بعد الخليفة عمر بن عبدالعزيز حتى أننا نجد أن والي مصر حفص بن الوليد فيما بعد يؤكد في سنة 127هـ إعفاء من يسلم من أهل مصر من الجزية فاعتنق الإسلام 24 ألفاً من أقباطها في تلك السنة[44]، حتى أن الخليفة العباسي الأول أبا العباس أكد – بعد هذا الوقت بقليل – أهمية تقرير هذا المبدأ في بداية قيام الدولة العباسية[45]. وأمتدت سياسة ابن الحبحاب المتشددة فأغضبت البربر في شطر ولايته بالمغرب وثاروا سنة 117هـ وقاتلوا ابن الوالي وعامله على طنجة[46] نتيجة للأسباب المشار إليها أعلاه. وهذه الثورات كان الدافع لها مجابهة بعض الإجراءات المالية والعسف فيها في تلك الأقاليم، وعلى الرغم من أن هشاماً كان جاداً في إصلاح الأحوال المالية والقضاء على التذمر والشكوى في الأمصار في مجالها إلا أن سياسة بعض ولاته فتت في عضده وأججت هذه المشكلات ضد الدولة[47]. وقد توفى الخليفة دون حل لها ولم يكن الخلف بخير من السلف في مواجهتها فازدادت أوارا واستفحلت أكثر من ذي قبل.(26/13)
وواضح أن المشكلات الإقتصادية كانت من أمور الدولة الأموية الخطيرة في أواخر حياتها، وكان جمع الأموال وتنظيم إدارتها وحسن تصرفها محور إهتمام الخلفاء الأمويين المتأخرين، وبدأ ذلك منذ عهد الخليفة عمر بن عبدالعزيز، وقد عرفنا جهود يزيد بن عبدالملك في تنظيم الأمور المالية وضعف إدارته لها، وجهود خلفه هشام ومحاولته تلافي أخطاء سلفه فيها فلما جاء بعده الوليد بن يزيد أعاد سياسة والده المالية فأخذ يوزع الأموال دون نظام فزاد في أعطيات الناس جميعاً عشرة دراهم وميز أهل الشام بعشرة أخرى[48]. كما ضاعف الأعطيات لأهل بيته الذين وفدوا عليه في بداية عهده، كما استرضى أهل مكة والمدينة وأعاد ما قطعه عنهم هشام من قبل من عطائهم بسبب ميلهم لزيد بن علي في ثورته ضد الدولة الأموية[49]. فقد أنفق في هذه الوجوه والسبل ما وجده حتى أفلس ووقع في ضائقة مالية[50] حتى بدد بيت المال وما جمعه سلفه له بل أتهم هشاماً بالجفوة للبيت الأموي وإضراره ببيت المال حتى أظهر أن سياسته سوف تكون إصلاحاً لسياسة هشام المالية[51]. وكانت هذه السياسة أحد مظاهر ضعف حكمه العام في الدولة حين أعطى المال ليغطي هذا الضعف وليجمع به الأتباع حوله ويرضي العامة ويسكت المعارضين إن أمكن.(26/14)
وعلى رأس من نقم عليه سياسته عامة أفراد بيته الأموي فثاروا عليه وذهب مقتولاً على يد ابن عمه يزيد بن الوليد بن عبدالملك الذي ركز في خطبته الأولى على أهمية نجاح السياسة المالية في الدولة، وضرورة جمع المال من وجوهه الحقة وتصريفه في قنواته الصحيحة إذ يقول: "أيها الناس إن لكم علي ألا أضع حجراً على حجر ولا لبنة على لبنة ولا أكري نهراً ولا أكثر مالاً ولا أعطيه زوجة ولا ولداً ولا أنقل مالاً من بلدة إلى بلدة حتى أسد ثغر ذلك البلد الذي يليه وخصاصة أهله بما يعينهم، فإن أفضل فضل نقلته إلى البلد الذي يليه ممن هو أحوج إليه، ولا أجمركم في ثغوركم فأفتنكم وأفتن أهليكم ولا أغلق بابي دونكم فيأكل قويكم ضعيفكم، ولا أحصل على أهل جزيتكم ما يجليهم عن بلادهم فيأكل قويكم ضعيفكم ويقطع نسلهم وإن لكم أعطياتكم عندي في كل سنة وأرزاقكم في كل شهر حتى تستدر المعيشة بين المسلمين فيكون أقصاهم كأدناهم..."[52].(26/15)
ثم أخذ يلغي إجراءات الخليفة السابق المالية ويعيد من تقييم الأموال وتنظيم جمعها وصرفها حتى ألغى كثيراً من الأعطيات، المزيدة، وأنقص الأخرى فلقبه المستفيدون من قبل بيزيد الناقص لإنقاصه العطاء تمشياً مع سياسته المالية المغايرة لسياسة الوليد، ولكن هذا المصلح لم يمهله الأجل فقد توفي بعد ستة أشهر من ولايته الخلافة والأوضاع المالية عادة تحتاج إلى عهد أطول من ذلك لأصلاحها. فلما جاء الخليفة التالي والأخير في عمر الدولة مروان بن محمد كانت كل المشكلات السياسية والحربية والمالية قد استفحلت وطر ناب الفتن المختلفة في كل مكان فانشغل بإعادة تنظيم الجيش الدعامة الأولى في مواجهة الأعداء في الداخل والخارج، ثم ليتفرغ لمواجهة بقية المشكلات الإدارية والمالية لكن كانت الأخطار واختلاف مشاربها وطبيعتها السياسية والعسكرية والإدارية والإقتصادية أكبر من جهود الخليفة وأصبح منحدر السقوط حاداً في كل مجال ولا يمكن عزوه إلى عامل أو قصره على جانب واحد.
كثرة القطائع:
كما أن هناك عاملاً واضحاً أثر على الحياة الإقتصادية في أواخر الدولة الأموية وهو كثرة الضياع الكبيرة وإمتلاكها من علية القوم، خاصة فقد أدى مع الوقت إلى وجود أراضي كثيرة تعرف بالقطائع، وفي العصر الأموي كَثُرتْ القطائع ويعيد الماوردي ذلك إلى إحتراق وثائق ديوان الدولة أثناء فتنة ابن الأشعث عام 72هـ حيث أخذ كل قوم ما يليهم من القطائع[53].(26/16)
وكان بعض الخلفاء ورجال بيتهم وبعض ولاتهم على رأس من امتلكوا الضياع وتحدثنا المصادر – كما سيتضح بعد قليل – عن ضياع عدد من أولئك وأماكنها وأسمائها مثل ضياع الوليد وسليمان وهشام ومسلمة أبناء عبدالملك ومروان بن محمد ويزيد بن المهلب وخالد القسري بالشام والعراق والأردن وأرمينية، ووصلت غلات بعضها إلى ثلاثة عشر مليون درهم سنوياً[54]. فمسلمة بن عبدالملك له أملاك وقطائع كثيرة توزعت في أقاليم البطائح والجزيرة والثغور وقد أثرت ملكياته الكبيرة على أحوال صغار المزارعين في تلك المناطق، وفي فترة من الفترات احتموا به وألجأوه أراضيهم مخافة تعدي الجباة عليهم[55]. وكان هو يخشى إصلاحات عمر بن عبدالعزيز مخافة أن تطوله، وظل قلقاً حتى وفاة الخليفة[56].
ويذكر الطبري أن عمر بن عبدالعزيز كان يعجب كيف يتولى يزيد بن المهلب أمراً للمسلمين وهو يعطي الجارية من جواريه مثل سهم ألف رجل، وإذا ما ذكر آل المهلب عنده يقول عنهم: ((هؤلاء جبابرة الأرض ولا أحب مثلهم))[57]. وبالغ يزيد بن عبدالملك في الحصول على القطائع وأخذ يكاتب واليه على العراق عمر بن هبيرة بأن يبحث عن كل أرض لم تقطع من قبل ويضمها للخليفة حتى ضج الناس من ذلك فأمسك الوالي[58].
واشتهر هشام بن عبدالملك بكثرة ضياعه وتعدد أملاكه في الشام والجزيرة والثغور والأردن، وكان يتعزز به بعض الناس مخافة الجباة نظراً لغناه وقوة نفوذه كما فعل أهل بالس[59] عندما شق لهم نهراً مقابل ثلث النتاج[60]، كما أن أنهاراً أخرى تنسب إليه مثل الهني والمري كانت تروي أملاكه الواسعة في أرض الجزيرة[61]. وبلغت غلات إحدى ضياع خالد القسري عشرين مليون درهم، وحفر نهراً لضيعة أخرى بمبلغ خمسة ملايين درهم[62].(26/17)
وعلى هذا النحو توسع الأمويون – ولا سيما المتأخرين – في القطائع والأملاك الكبيرة، وكان أغلب المالكين لها هم من أفراد البيت الأموي وقوادهم وولاتهم وإشراف العرب المؤيدين لهم[63]. وهذا يشجع على سيادة الملكيات الكبيرة وتركزها في أيد قلائل واستمرار ذلك بالوراثة[64]، وهو ما لم يألفه الناس في صدر الإسلام، وحذر منه الخليفة الراشد عمر بن الخطاب مخافة أن يأتي الناس – والفقراء منهم خاصة – في المستقبل فيجدون الأرض قد قسمت وحيزت فلا يجدون لهم شيئاً[65].
ويظهر أنه مع الوقت تحول كثير من أراضي الدولة الصالحة للزراعة إلى قطائع، وبناء عليه تحول كثير أيضاً من أراضي الخراج التي يعود ريعها إلى بيت المال إذا استصلحت أو وزعت من قبل الدولة أو من تنبيه بمقابل تحول إلى أراضي عشرية يعود ريعها إلى أصحابها، ويدفعون للدولة عنها العشر فقط. وعلى الرغم من أن الخليفة عمر بن عبدالعزيز منع هذا الإتجاه ومحاولة الخليفة هشام الإبقاء عليه[66] إلا أن الأمور انتكست، واستمر التصرف في الأرض والتوسع في الأراضي العشرية حتى قيام الدولة العباسية، وكان لهذا التحول أثره في الخراج وكسره[67]، فلما جاء أبو جعفر المنصور أمر بإبطال ما حدث من تحول أراضي الخراج إلى أراضي عشرية منذ عام مائة[68]. وقد أدى هذا الإجراء إلى زيادة إيراد الدولة بعكس ما كان الحال عليه من قبل[69].(26/18)
ويرتبط بهذا ما ثبت من إنشاء قصور في ضواحي المدن والصحاري مثل قصري الرصافة والزيتونة[70] لهشام بن عبدالملك، وقصري الطوبة[71] والمشتي للوليد بن يزيد[72]. وقد استنفدت جهداً ومالاً كبيراً بحكم مقام أصحابها والتأنق في إنشائها وموقعها النائي، وكذلك ترف بلاط بعض الخلفاء المتأخرين واتساع ضياعهم وولاتهم ونفاسة هداياهم وكثرة هباتهم، وقد كان بعض الولاة يقوم بمدِّ الموائد كل يوم حول داره، فقد كان الحجاج بن يوسف الثقفي يمد كل يوم ألف مائدة[73]، وكان كل من عبدالعزيز بن مروان في مصر ويزيد بن المهلب في العراق يتخذ ألف خوان وجفنة لإطعام الناس[74] وقد تطلب هذا مبالغ إضافية لتغطية هذه النفقات عدا راتب الوالي نفسه. وهذا كله له أثره في إنفاق المال دون رجوع عائد له، وقد يرتبط الحصول على هذه الثروة أصلاً بسبب أو طريقة من بيت مال الدولة، بعد غياب سياسة المكاشفة، أو من أين لك هذا العمرية[75].
أثر الفتن والثورات:(26/19)
ومما أدى إلى استنفاد أموال الدولة في أواخر عهدها كثرة الفتن والثورات، فقد كانت متعددة الظهور مختلفة الأهواء ظهرت في أقاليم عدة، ونشبت لأسباب عديدة مثل ثورة الأزارقة في العراق، التي استمرت سنوات طويلة وثورة الضحاك ابن قيس في الجزيرة التي انضم إليها بعض الأمويين أنفسهم، وثورة زيد بن علي العلوية في الكوفة سنة 122هـ في عهد هشام فقد جرد لها والي العراق يوسف بن عمر جيشاً أموياً تمكن من هزيمته وقتله بعد أن بايع له جمع كبير من أهل الكوفة، حتى أن الوالي الأموي تهدد أهل الكوفة بقطع أعطياتهم وأرزاقهم، وهدم دورهم ووصفهم بأنهم أهل بغي وخلاف[76]. وكذلك الخلاف بين الوليد بن يزيد وابن عمه يزيد بن الوليد بن عبدالملك فقد كلف الأخير أكثر من مائة وخمسين ألف درهم، وعندما تباطأ الناس في الإنضمام إلى صفه ومنازلة الوليد بعث مناديه يمنيهم بألف درهم حتى إذا تلكأوا زادهم إلى ألف وخمسمائة درهم فخرج منهم هذا العدد أيضاً[77]. وكذلك منى الوليد بن يزيد عبدالعزيز بن الحجاج قائد يزيد بخمسين ألف درهم إن هو إنصرف عنه، ولكن السيف حسم الأمر قبل أن يتم الإتفاق[78]، وفي رواية أن يزيد كافأ قتلة الوليد العشرة بمائة ألف درهم[79]. والأزمات في الحكم والثورات ضده تحرق الأموال بمثل هذه الصورة.
وأشد الثورات والإضطراب في أمر الدولة الأموية ما أحدثه مقتل الخليفة الوليد بن يزيد من إنقسام بين أفراد البيت الأموي نفسه بين مؤيد للخليفة المقتول ومؤيد للخليفة الجديد يزيد بن الوليد، وتبعهم أكثر أقاليم الدولة فقد ثار أهل حمص غضباً لمقتل الوليد وثار أهل عمان تأييداً للخليفة الجديد وشغب أهل فلسطين لإضطراب الأمر كله.(26/20)
وقد أرهقت هذه الثورات بيت مال الدولة بإعداد الجيوش وتزويدها بما يلزمها من عدة ومال، كذلك فإن هذه الثورات أهلكت الزرع والضرع في المناطق التي نشبت فيها، وهي مناطق زراعية هامة في دعم موارد الدولة مثل إقليم الجزيرة وإقليم خراسان وغوطة دمشق وأدت إلى قلة سكانها ولا سيما المشتغلين منهم بالزراعة خاصة، إما بسبب القتل أو الإنضمام إلى جيش أحد الطرفين أو النزوح إلى مناطق أخرى بعيداً عن مسرح الفتن والثورات. ففي خراسان مثلاً نجد أن كثيراً من الفلاحين هجروا أراضيهم بسبب الفتن والثورات، وكسدت التجارة وانشغل الكسبة والصناع بغير مهنهم، حتى حدثت فيها مجاعة سنة 115هـ بلغ سعر الرغيف خلالها درهماً[80].
ويظهر وضوح تدهور الأحوال الإقتصادية في الدولة من خلال محاولة ولاتها مثل نصر بن سيار إصلاح نظام الضرائب في خراسان، ورفع الجزية عمن أسلم وبث روح المساواة بين أهلها في العطاء ولا سيما العرب منهم.(26/21)
وكذلك من خلال مطالب بعض الثورات ضد خلفاء الدولة المتأخرين مثل ثورة زيد بن علي في الكوفة، والحارث بن سريح في خراسان التي غلبت على مطالبهما الإصلاح المالي مثل إسقاط الجزية عمن أسلم، والمساواة بين الناس في التعامل وإشراك الموالي في العطاء. ونلمس هذا العامل أيضاً في ثورة البربر في المغرب ضد واليهم في بداية عهد هشام كما مر من قبل[81]. وكثرة الثورات ووضوح مطالبها في هذا المجال ومحاولة الولاة الإصلاح له دلالته في حدوث خلل في سياسة الدولة المالية وإضطراب اقتصادها في عهدها الأخير. وقد كانت إصلاحات الخليفة عمر بن عبدالعزيز ونصر بن سيار بعد ذلك محاولتين جادتين لإصلاح ذلك الخلل والإضطراب ولكن ليس كل الخلفاء المتأخرين مثل عمر وليس كل ولاة الأقاليم وجباتها مثل نصر. ولدينا هنا مؤشران يندرجان تحت مفهوم تدهور موارد الدولة في هذا الوقت الأول، إن البون شاسع بين موارد الدولة الأموية في عهدها المتأخر وبين موارد الدولة العباسية في صدر عهدها، إذ بلغت في الأول أكثر من 250 مليون درهم وبلغت في الثاني 500 مليون درهم[82]، والفرق بين الرقمين يصل إلى الضعف وهو فرق كبير بدون شك.
أما المؤشر الثاني فهو أن فترة أواخر الدولة الأموية تشابه فترة الصراع بين الأمين والمأمون في تاريخ الدولة العباسية، إذ لأول مرة يقتل الخليفة في تاريخ الدولتين فضلاً عما جرى خلال الفترتين من إضطراب الأمور وسوء الأوضاع المختلفة وقد انحدرت موارد الدولة العباسية خلال تلك المرحلة بمقدار مائة مليون درهم لتبلغ إجمالاً خلال هذا الوقت 400 مليون درهم، في حين بلغت في عصر الرشيد 500 مليون درهم[83]. ولا شك أن موارد الدولة الأموية في السنوات الأخيرة من عهدها انحدرت وإن لم تقدم لنا المصادر حساباً لمجمل إيراداتها بعد عصر هشام، وهو أيضاً مظهر من مظاهر اضطراب الأمور وقتذاك.
مركز الدولة المالي:(26/22)
ومن أهم العوامل التي كان لها أثر في الحياة الإقتصادية في الدولة الأموية ضعف مركزها المالي، فمنذ تعريب العملة في عهد الخليفة عبدالملك بن مروان أصبح للدولة الإسلامية مركز مالي متميز وثقل مستقل عن العملة البيزنطية التي كان مرتبطاً بها من قبل، وأصبح الدينار والدرهم الإسلاميان هم العملة السائدة في أراضي دولتهما، ومعروف أن الأول سك من الذهب والثاني من الفضة، وساد استخدام الدينار في المناطق الوسطى والغربية كبلاد الشام ومصر والمغرب والأندلس، في حين ساد استخدام الدرهم في المقاطعات الشرقية كالعراق وفارس وبلاد ما وراء النهر، ويرتبط هذا بماضي استخدام كل من الذهب والفضة في هذه المناطق قبل الفتح الإسلامي، كما دعمه بعد علاقات تلك الأقاليم بما يليها من أسواق العالم آنذاك وقبولها للذهب أو الفضة[84].
ولهذا مثلاً أدى إنفتاح الدولة نحو الشرق ووصول حدودها إلى بلاد الصين وتوثق علاقاتها التجارية مع أسواقه مثل بلاد الهند وسيلان والصين أن تعتمد في جهاتها الشرقية على الفضة وهي أقل قيمة وتداولاً من الذهب ولا سيما في الأسواق البيزنطية المجاورة التي قد لا يقبلها تجارها ثمناً لسلعهم، بل جذبت الدينار الإسلامي وهو الذي كان سائداً في وسط الدولة وغربها وانتشر هناك على نطاق واسع بعد أن عرفت الدرهم فقط من قبل[85].(26/23)
كذلك أدى توقف تلك الصلات التجارية وتدفق سلع المشرق نحو الأسواق الإسلامية إلى أن ذهب كثير من النقد الإسلامي في هذا العصر عن طريق صلاته بالشرق[86] وهو تسرب أثر مع الوقت في مركز الدولة المالي لأن تعويضه العائد لها كان قليلاً بسبب عدم استيراد تلك البلدان السلع الإسلامية في المقابل فقد كانت أسواق خام وليست أسواق استهلاك، تكتفي بالتصدير عن الإستيراد فهي منطقة جذب للنقد الإسلامي واعتمد التعويض عنه فقط على مدى تصريف تلك السلع ومردودها في الأسواق الإسلامية وما وراءها من أسواق في الغرب ولكن هذا لم يتم كما ينبغي في الدولة الأموية أو على الأقل بالصورة التي كانت عليها في العصر العباسي بعد ذلك ووضوح الوساطة التجارية فيه بين الشرق والغرب براً وبحراً.
وأمر آخر في هذا المجال هو أن كثيراً من سلع الشرق والشمال كالأطايب والكافور والفراء كانت غالية الثمن، وأقبل علية القوم على إقتنائها حيث أقدم بعض الخلفاء وأبناؤهم ورجالهم وأغنياء المجتمع على شراء نفائس الأشياء والمقتنيات وتأنقهم في ذلك وصل إلى درجة المبالغة أحياناً.
وأدى كل ذلك إلى تسرب الذهب والفضة إلى أسواق تلك السلع وفقدت السوق الداخلية بذلك كثيراً من النقد المتداول دون أن يكون لذلك عائد مالي أو عيني يدعم بيت مال الدولة أو يوفر سلعة هامة يستفيد منها عامة الناس في أسواقهم ومعايشهم.(26/24)
ومما أثر في مركز الدولة الأموية المالي في عهدها الأخير أن العملة البيزنطية قوي مركزها في هذا الوقت بسبب حركة تحطيم الأيقونات في بيزنطة في الفترة 108 – 228هـ/ 726 – 842م، حيث أعادت هذه الإجراءات جزءاً كبيراً من ممتلكات الكنائس والأديرة الذهبية إلى التداول بعد سكها من جديد[87]، وبالتالي انتعش الإقتصاد البيزنطي وأصبحت العملة البيزنطية (النوميزما) لقوتها ووفرتها ثمناً مناسباً للسلع المجلوبة للأسواق هناك، ومن الممكن أن تدفع مباشرة إلى مصادر تلك السلع دون الحاجة إلى وسطاء مسلمين أو غيرهم، وهذا بدوره أثر في العائد المالي بالنسبة للمسلمين آنذاك من جراء قيامهم بدور الوسيط التجاري من قبل.
كما أن تجارة الغرب الأوربي الخارجية كثرت في هذا الوقت نتيجة لغزوات البرابرة وطبيعة حياتهم ومتطلباتهم البسيطة، وكذلك لإضطراب أوضاع البحر المتوسط وعدم استقراره بسبب الصراع بين المسلمين والبيزنطيين في عرضه حول السيطرة على موانئه وجزره وهو المعبر الهام لتجارة الشرق نحو الغرب حتى أصلح الإقتصاد الأوربي ريفي الطابع كما يقول إدوارد بروي[88].
وأثرت تلك الأوضاع الجديدة في أوربا في إقتصاد الدولة الأموية عندما فقدت الأرباح التي كانت تعود عليها من جراء جلب سلعها أو السلع الأخرى التي تمر عبر أراضيها إلى أوربا. وأخيراً فإن مركز الدولة الأموية المالي تأثر بثلاثة أمور هي أن تعريب النقد يحتاج إلى وقت طويل حتى يستقر وتجنى فوائده ويعترف به في أسواق التجارة في الخارج وقد قصر عمر الدولة قبل أن يتحقق ذلك تماماً.
الأمر الثاني أن السلع القادمة إلى أسواق الدولة استنفدت كثيراً من نقدها لا سيما تلك الغالية الأثمان من نفائس الشرق والشمال كالأطايب والفراء.(26/25)
أما الثالث فهو أوضاع أسواق بيزنطة وما اعتراها من إكتفاء واعتماد في تجارتها على غير المسلمين وطرق التجارة عبر بلادهم، وكذلك بالنسبة لأوربا التي غلب على إقتصادها الطابع المحلي آنذاك مما أثر في إقتصاد الدولة الأموية نتيجة إلى إنقطاع صادراتها إلى هناك على نحو ما سبق إذ من المعروف أن إقتصاد أي دولة يتأثر بأوضاع الأسواق التجارية في الدول المجاورة لها.
وخلاصة القول أن عناصر مختلفة في الحياة الإقتصادية في أواخر الدولة الأموية تبلورت لغير صالحها وأثرت بوضوح في تحديد نهايتها وأدى سوء إدارتها وآثارها في الداخل والخارج إلى تعدد مشكلات الدولة، وتنوع جوانبها حتى تشابكت وتعقدت الأوضاع وظهر التذمر في كل مكان وفشلت الدولة في المواجهة وأفلت شمسها ويمكننا القول أن لذلك الأفول أسباباً سياسية تتعلق بنظام الحكم والإدارة وأخرى إقتصادية تتعلق بالخراج والجزية وإدارتهما وبالسلع والطرق التجارية وأسواق العملة ومركزها والقطائع وأثرها، والأولى أظهر وأوضح والثانية مؤثرة وفاعلة وقد لا يستويان في الأهمية ولكن يشتركان في النهاية.
المصادر والمراجع
ابن الأثير: عز الدين علي بن محمد:
الكامل في التاريخ. دار صادر ودار بيروت. بيروت 1965م.
البلاذري: أبو العباس أحمد بن يحيى:
فتوح البلدان، تحقيق عبدالله الطباع وأخيه. دار النشر للجامعيين. بيروت 1957م.
بروي: إدوارد:
تاريخ الحضارات العام. العصور الوسطى. ترجمة يوسف وفريد داغر:
منشورات عويدات. بيروت 1965م.
ابن تغرى بردى: جمال الدين أبو المحاسن:
النجوم الزاهرة تقي ملوك مصر والقاهرة. القاهرة 1963م.
الجهشياري: أبو عبدالله محمد بن عيدوس:
كتاب الوزراء والكتاب. تحقيق مصطفى السقا وزملائه. مطبعة البابي الحلبي. القاهرة 1357هـ.
حسين عطوان:
الوليد بن يزيد. دار الجيل. بيروت 1981م.
ابن خرداذبة: عبيدالله بن عبدالله:
المسالك والممالك. نشر دي غويه. ليدن 1989م.
خليفة بن خياط:(26/26)
تاريخ خليفة بن خياط. تحقيق سهيل زكار. منشورات وزارة الثقافة السورية. دمشق 1968م.
داينال داينيت:
الجزية والسلام. ترجمة د.فوزي جاد الله. نشر دار مكتبة الحياة ببيروت 1959م.
ساويرس بن المقفع:
سير الآباء البطاركة. باريس 1907م.
السيوطي: جلال الدين عبدالرحمن بن أبي بكر:
تاريخ الخلفاء. تحقيق محمد محيى الدين عبدالحميد. المكتبة التجارية الكبرى. القاهرة 1371هـ.
صالح العلي:
التنظيمات الإجتماعية والإقتصادية في البصرة في القرن الأول الهجري ط2، دار الطليعة. بيروت 1969م.
الطبري: أبو جعفر محمد بن جرير:
تاريخ الرسل والملوك. تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم. ط4. دار المعارف. القاهرة 1979م.
ابن عبدربه: أحمد بن محمد:
كتاب العقد الفريد. تحقيق أمين وزميليه. لجنة التأليف والترجمة والنشر. القاهرة 1944م.
عبدالعزيز الدوري:
نظام الضرائب في خراسان في صدر الإسلام. مجلة المجمع العلمي العراقي. المجلد الحادي عشر. بغداد 1964م.
عبدالله بن محمد السيف:
الحياة الإقتصادية والإجتماعية في نجد والحجاز في العصر الأموي. الرياض 1403هـ.
ابن عساكر: الحافظ علي بن الحسن:
تاريخ مدينة دمشق. تحقيق صلاح المنجد. دمشق 1951م.
عواد مجيد الأعظمي:
– الأمير مسلمة بن عبدالملك، إتحاد المؤرخين العرب. بغداد 1980م.
– الزراعة والإصلاح الزراعي في عصر صدر الإسلام. بغداد 1978م.
فالح حسين:
حول الخراج والجزية بمصر في القرن الأول الهجري. مجلة العلوم الإنسانية. عدد 30، الكويت 1988م.
فان فلوتن:
السيادة العربية. ترجمة حسن إبراهيم ومحمد زكي إبراهيم. ط2، نشر مكتبة النهضة المصرية. القاهرة 1965م.
فرج الهوني:
النظم الإدارية والمالية. الشركة العربية للنشر والتوزيع. بنغازي 1976م.
فلهوزن: يوليوس:
تاريخ الدولة العربية. ترجمة محمد عبدالهادي أبو ريدة. لجنة التأليف والترجمة. القاهرة 1968م.
فواز طوفان:(26/27)
الحائر. بحث في القصور الأموية في البادية. وزارة الثقافة والشباب الأردنية. عمان 1979م.
قدامة بن جعفر:
الخراج وصناعة الكتابة. تحقيق محمد الزبيدي. وزارة الثقافة والإعلام العراقية. بغداد 1979م.
الكبيسي: عبدالمجيد محمد:
عصر هشام بن عبدالملك. بغداد 1975م.
لمبار: موريس:
الذهب الإسلامي منذ القرن الثامن إلى القرن الحادي عشر الميلادي. بحوث في التاريخ الإقتصادي. ترجمة توفيق اسكندر. نشر الجمعية التاريخية المصرية. القاهرة 1961م.
الماوردي: أبو الحسن علي بن محمد:
الأحكام السلطانية، ط3. مكتبة البابي الحلبي. القاهرة 1979م.
ماهر محمد حمادة:
الوثائق السياسية والإدارية العائدة للعصر الأموي. مؤسسة الرسالة ببيروت 1974م.
المبرد: أبو العباس محمد بن يزيد:
الكامل في اللغة والأدب. دار الكتب العلمية. القاهرة 1987م.
محمد ضياء الدين الريس:
الخراج والنظم المالية للدولة الإسلامية. ط4. دار الأنصار القاهرة 1977م.
المقريزي: تقي الدين أبو العباس أحمد بن علي:
الخطط المقريزية. دار صادر. بيروت (بدون تاريخ).
هايد: ف:
تاريخ التجارة في الشرق الأدنى في العصور الوسطى. ترجمة أحمد محمد رضا. الهيئة المصرية العامة للكتاب. القاهرة 1985م.
ياقوت الحموي:
معجم البلدان. دار صادر ودار بيروت. بيروت 1979م.
يحيى بن آدم:
كتاب الخراج. دار المعرفة. بيروت 1979م.
اليعقوبي: أحمد بن أبي يعقوب:
تاريخ اليعقوبي. دار صادر ودار بيروت. بيروت 1960م.
أبو يوسف: يعقوب بن إبراهيم:
كتاب الخراج. ط2. المطبعة السلفية. القاهرة 1382هـ.
Gibb, H:
The Arab Conquest in Central Asia, London 1952.
ــــــــــــــــــــــ
* هناك عناصر أخرى في هذا المجال مثل العطاء وأثر التجارة وطرقها والوساطة فيها وسوف يفرد لها بحث مستقل فيما بعد.
[1] الطبري جـ7، ص56.
[2] الدوري نظام الضرائب في خراسان في صدر الإسلام. مجلة المجمع العلمي العراقي – بغداد – 1964م – مجلد 11، ص80.(26/28)
[3] داينل دينيت: الإسلام والجزية، ص185.
[4] فلهوزان: تاريخ الدولة العربية، ص440.
[5] داينل دينيت: الإسلام والجزية، ص191، ص195، الدوري: نظام الضرائب في خراسان في صدر الإسلام، مجلة المجمع العلمي العراقي، بغداد 1964م مجلد 11، ص87.
[6] الدوري: المرجع السابق مجلد 11، ص80.
[7] فان فلوتن: السيادة العربية، ص56.
[8] الطبري، جـ7، ص56.
[9] الماوردي: الأحكام السلطانية، ص143، ماهر حمادة: الوثائق، ص355.
[10] الماوردي: الأحكام السلطانية، ص143 – 144.
[11] النيروز هو دخول فصل الصيف والمهرجان هو دخول فصل الشتاء وكان يحتفل بهما عند الفرس. أنظر نجدة خماش: الإدارة في العصر الأموي ص208.
[12] أبو يوسف: كتاب الخراج ص130، أبو عبيد القاسم بن سلام: كتاب الأموال، ص58.
[13] داينل دينيت: الإسلام والجزية، ص183.
[14] أبو يوسف: كتاب الخراج، ص130، أبو عبيد القاسم بن سلام: كتاب الأموال، ص58.
[15] ابن تفري بزدي: النجوم الزاهرة، جـ1، ص218.
[16] الطبري، جـ6، ص559.
[17] المصدر السابق، جـ7، ص55.
[18] المصدر السابق، جـ6، ص568 – 569.
[19] المصدر السابق، جـ7، ص55.
[20] المصدر السابق، جـ7، ص55 – 56
[21] نفسه.
[22] Gibb: The Arab Conquest in Central Asia, p.69.
[23] الجهشياري: الوزراء والكتاب، ص56، ابن الأثير: الكامل في التاريخ، جـ5، ص67.
[24] خليفة بن خياط: تاريخ خليفة، جـ2، ص485، ابن الأثير: الكامل في التاريخ، جـ5، ص68، 78.
[25] الطبري: جـ6، ص617، الجهشياري: الوزراء والكتاب، ص56.
[26] سيدة كاشف: مصر في فجر الإسلام، ص232.
[27] الطبري: جـ6، ص597 – 603.
[28] اليعقوبي: تاريخه، جـ2، ص328.
[29] السيوطي: تاريخ الخلفاء، ص247.
[30] الطبري: جـ7، ص173.
[31] نفسه.
[32] الكبيسي: عصر هشام بن عبدالملك، ص314.
[33] الطبري: جـ7، ص173، ابن الأثير، جـ5، ص236.
[34] تاريخ الدولة العربية، ص454.(26/29)
[35] الطبري: جـ7، ص158، ابن الأثير، جـ5، ص227.
[36] جـ7، ص149، 151.
[37] المصدر السابق، جـ7، ص154.
[38] المصدر السابق، جـ7، ص151، الجهشياري: الوزراء والكتاب، ص64، ابن الأثير، جـ5، ص225.
[39] ابن النصرانية لقب أطلق على خالد بن عبدالله القسري نسبة إلى أمه لأنها كانت نصرانية، وقد عيره بعض خصومه بها ومنهم مسلمة بن عبدالملك. انظر ابن الأثير، جـ5، ص217، 224.
[40] الطبري: جـ7، ص233.
[41] الكبيسي: عصر هشام بن عبدالملك، ص176.
[42] الكندي: كتاب الولاة والقضاة، ص73، المقريزي: الخطط، جـ1، ص79.
[43] المقريزي: الخطط، جـ1، ص78.
[44] ساويرس: سير الآباء البطاركة، ص116 – 117.
[45] المصدر السابق، ص189 – 190.
[46] ابن الأثير: جـ5، ص191.
[47] فرج الهوني: النظم الإدارية والمالية، ص273.
[48] الطبري: جـ7، ص217.
[49] نفسه.
[50] حسين عطوان: الوليد بن يزيد، ص360.
[51] الطبري: جـ7، ص233.
[52] المصدر السابق، جـ7، ص269.
[53] الماوردي: الأحكام السلطانية، ص193.
[54] الجهشياري: الوزراء والكتاب، ص61.
[55] الأعظمي: الأمير مسلمة بن عبدالملك، ص120.
[56] ابن عبدربه: العقد الفريد، جـ4، ص437.
[57] الطبري: جـ6، ص528، 557.
[58] البلاذري: فتوح البلدان، ص510.
[59] بالس: بلدة تقع بالقرب من مدينة الرقة في أرض الجزيرة على نهر الفرات فتحها أبو عبيدة بن الجراح في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنهما وكانت فيها أملاك لمسلمة بن عبدالملك وحفر فيها إحدى الترع فعرفت باسم نهر مسلمة.
انظر: ياقوت معجم البلدان، جـ1، ص328.
[60] البلاذري: فتوح البلدان، ص206.
[61] ياقوت: معجم البلدان، جـ5، ص419.
[62] الطبري: جـ7، ص151 – 152.
[63] فالح حسين: حول الجزية والخراج بمصر في القرن الأول الهجري، مجلة العلوم الإنسانية، العدد 30، سنة 1988م، ص60، 62.
[64] عواد الأعظمي: الزراعة والإصلاح الزراعي، ص72.
[65] يحيى بن آدم: الخراج، ص44 – 45.(26/30)
[66] ابن عساكر: تاريخ مدينة دمشق، جـ1، ص587.
[67] المصدر السابق، جـ1، ص596.
[68] المصدر السابق، جـ1، ص596 – 597.
[69] محمد ضياء الريس: الخراج والنظم المالية، ص390.
[70] يقع قصر الزيتونة غربي مدينة تذمر في سوريا بحوالي 35 ميلاً، ويقع قصر الرصافة شرقها بحوالي ستين ميلاً. فواز طوقان: الحائر بحث في القصور الأموية في البادية، ص95 – 96.
[71] يقع قصر الطوبة في وادي الغدف شمالي العقبة بالأردن، المرجع السابق، ص61 – 62.
[72] فواز طوقان: الحائز في القصور الأموية في البادية، ص57 – 90.
[73] المبرد الكامل في اللغة والأدب، جزء 1، ص251.
[74] الطبري: جزء 6، ص524.
[75] اشتهر عن الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه مساءلته لولاته ومراقبتهم ومحاسبتهم ومقاسمتهم أموالهم عند انتهاء ولايتهم، وكثيراً ما كان يسأل الواحد منهم من أين لك هذا؟ وقد حاول الخليفة عمر بن عبدالعزيز التأسي به ومن ثم أصبحت هذه السياسة منهجاً يتبع وينادى المخلصون في التاريخ بتطبيقه في الإدارة والحكم.
[76] الطبري: جـ7، ص191.
[77] المصدر السابق، جـ7، ص243، 246.
[78] المصدر السابق، جـ7، ص249.
[79] المصدر السابق، جـ7، ص252.
[80] المصدر السابق، جـ7، ص92.
[81] الجهشياري: الوزراء والكتاب، ص56، فإن فلوتن: السيادة العربية، ص65 – 66.
[82] محمد ضياء الريس: الخراج والنظم المالية، ص258، 493.
[83] قدامة بن جعفر: الخراج، ص163 – 168، الجهشياري: الوزراء والكتاب، ص281، 288، محمد ضياء الريس: الخراج والنظم المالية، ص492، 493، 498.
[84] محمد ضياء الريس: الخراج والنظم المالية، ص224، عبدالله محمد السيف: الحياة الإقتصادية والإجتماعية في نجد والحجاز في العصر الأموي، ص140.
[85] موريس لمبار: الذهب الإسلامي منذ القرن السابع إلى القرن الحادي عشر. بحوث في التاريخ الإقتصادي، ص67.
[86] صالح العلي: التنظيمات الإجتماعية والإقتصادية في البصرة، ص244.(26/31)
[87] موريس لمبار: المرجع السابق، ص68.
[88] تاريخ الحضارات العام، العصور الوسطى، جـ3، ص97.(26/32)
العنوان: أثر القرآن الكريم في لغة النصارى العرب
رقم المقالة: 424
صاحب المقالة: أحمد العلاونة
-----------------------------------------
أثر القرآن الكريم في لغة النصارى العرب
ناصيف اليازجي - النموذج العالي
كان الدكتور إبراهيم السامرائي والأستاذ ظافر القاسمي رحمهما الله قد عرضا لاقتباس العلامة ناصيف اليازجي من القرآن الكريم ، فأطال الأول ( انظر مجلة جامعة أم القرى، العدد16 ، 1418هـ ص157ـ193)) وأوجز الثاني( أنظر فصول في اللغة والأدب ً25ـ32)، وكلاهما اكتفى بما قدم، ولم يكن قصدهما ذكر جميع اقتباساته، وأنا ذاكر في مقالتي هذه مزيداً من اقتباساته ليكون الموضوع أوسع وأنفع، فأقول :
لما سمع الوليد بن المغيرة النبي صلى الله عليه وسلم يرتل القرآن سُئل عن رأيه في القرآن، فقال: " إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة، وإن له لصولة في القلوب ليست بصولة مبطل" . وأعجبني قول الأستاذ ظافر القاسمي في كتابه (فصول في اللغة والأدب25) في القرآن : "وما وقع لكاتب على مدى العصور أن اقتبس منه بعض آياته إلا ورأيتها تقفز وحدها من بين السطور تعلن عن نفسها أنها لا تشبه ما قبلها ولا ما بعدها، وتبدو كاللؤلؤة الفريدة تبهر الأعين، وتحلو في السمع وترنّ في الآذان وتدخل إلى القلب" .
ولا غرو إذاً أن يعمد بعض المسيحيين إلى الإقبال على القرآن الكريم كي يصقلوا لغتهم وأسلوبهم وينسجوا على منواله. وأنا قاصر قولي في أثر القرآن في لغة ناصيف اليازجي على كتابه (مجمع البحرين) وقاصره على ما فيه من اقتباس، وهو حلية حلّى بها كتابه فإذا هو فتنة للقارئ ، وقبل أن أذكر ما جمعت من اقتباساته أشير إلى أمور وجدتها وأنا أقرأ كتابه، وهي :(27/1)
أن اليازجي حفظ معظم القرآن الكريم فمكّنه ذلك من كثرة الاقتباس منه، وهو أحياناً يقتبس بعض الآية ، وأحياناً يقتبس الآية كلها، أو يحذف منه شيئاً يسيراً ليحل محله شيئاً من عنده يقتضيه سياق قوله، وربما قدم وأخر في بعض ألفاظ الآية، وربما زاد عليها أو نقص منها، وذلك حين يكون قصده تأليف كلام جديد موافق لفكرته.
أما ذكري لاقتباساته فأنا جاعل رقماً مسلسلاً لكل صفحة من كتابه فيها اقتباس ، وأذكر أولاً اقتباس اليازجي ثم تعليقي عليه وفيه إشارة إلى الآية المقتبس منها، وهذا موضع عملي:
· ص12 " واتركوا ما رأيتم نسياً منسياً" وفي هذا إيماء لقول الله"... وكنت نسياً منسياً" (مريم23).
· ص13"وغفل عن يوم يجعل الولدان شيباً" وهذا من قوله تعالى"فكيف تتقون إن كفرتم يوماً يجعل الولدان شيباً" (المزمل 17)
وجاء فيها أيضاً " ثم أقبلوا يهرعون إليه" وفي هذا إشارة إلى قول الله "وجاءه قومه يهرعون إليه" (هود78) .
· ص17 "وإن لك لأجراً غير ممنون" وفي هذا اقتباس من قول الله " وإن لك لأجراً غير ممنون" (القلم3) .
· ص26 "لقد جمعت فأوعيت" وفي هذا إيماء لقول الله " وجمع فأوعى" (المعارج18) .
· ص27 " فضاق الرجل ذرعاً في الجواب" تلمح فيه قول الله " وضاق بهم ذرعاً" (هود77) و(العنكبوت33) .
· ص30 " فأخذت الشيخ الحمية حمية الجاهلية" وهذا شيء من قول الله " إذ جعل في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية" (الفتح 26) .
· ص32 " أنه أطغى من فرعون ذي الأوتاد" يشير إلى قول الله" وفرعون ذي الأوتاد" (ص12) .
· ص35 " .. لات حين مناص" وقوله هذا مأخوذ من قوله تعالى " ولات حين مناص" (ص3) .
· ص36 " فقال صبر جميل" وقي هذا إيماء لقول الله" قال بل سولت لكم أمراً فصبر جميل .." (يوسف18 و83) .
· ص37 ط فبتناها ليلة كأنها ليلة القدر، وأحييناها بالحديث حتى مطلع الفجر" وهذا شيء من قوله تعالى" سلام هي حتى مطلع الفجر" (القدر5) .(27/2)
· ص42" وإن كنت ممن عبس وتولى" إشارة إلى قوله تعالى" عبس وتولى" (عبس1) . وجاء فيها أيضاً " والشيخ ينظر من طرف خفي" كأن اليازجي نظر إلى قوله تعالى" ينظرون من طرف خفي" (الشورى45) .
· ص44" علم الله أن سيكون" تلمح فيه قول الله" علم أن سيكون منكم مرضى" (المزمل20) .
· ص51" وقد قدرنا المنازل حتى عاد كالعرجون القديم" . وهو مأخوذ من قوله تعالى" والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم" (يس39) . وورد أيضاُ :" حتى تبين لنا الخيط الأبيض من الخيط الأسود" إيماءً لقوله تعالى" وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود" (البقرة187) .
· ص52" فأوحى إلي ما أوحى" يومئ إلى قوله تعالى"فأوحى إلى عبده ما أوحى". (النجم10) . وجاء أيضاً :" وإلا فقد يئست منها كما يئس الكفار من أصحاب القبور". وهذا من قوله تعالى"قد يئسوا من الآخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور". (الممتحنة13). وورد فيها:" فكم ركب هنا طبقاً عن طبق". يومئ إلى قوله تعالى:"لتركبن طبقاً عن طبق". (الانشقاق19).
· ص53 " ليحق الله الحق ويبطل الباطل" وهذا من الآية الثامنة من سورة الأنفال" ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون" .
· ص54" هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظلمات والنور". وهو من الآية 16 من سورة الرعد:" هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظلمات والنور" .
· ص55" وأنا لم تأخذني سنة ولا نوم" إشارة إلى قوله تعالى" لا تأخذه سنة ولا نوم". (البقرة255) .
· ص56"كأنه من آيات ربه الكبرى" إيماءً لقوله تعالى"لقد رأى من آيات ربه الكبرى".(النجم18).
· ص58" وبهم يشد أزري" إشارة إلى قوله تعالى"اشدد به أزري". (طه31).
· ص61" فلا جرم أنك من صميم العرب" تلمح فيه قوله تعالى" لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون". (هود22).
· ص62" وأنوح بكرة وأصيلاً" وهذا إيماء لقوله تعالى" وسبحوه بكرة وأصيلا".(الأحزاب42).(27/3)
· ص64" قد شغفتك حباً" وهذا شيء من قوله تعالى" قد شغفها حباً".(يوسف30).
· ص65" إنا لله وإنا إليه راجعون" وهذا مأخوذ من قوله تعالى"الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون". (البقرة156).
· ص68"ذات الشمال وأخرى ذات اليمين". يشير إلى قول الله" ونقبهم ذات اليمين وذات الشمال". (الكهف18). وجاء فيها من شعره" وبعلم السر وأخفى في الورى" يومئ لإلى قول الله" فإنه يعلم السر وأخفى". (طه7).
· ص78" يكظم الغيظ" إيماءً لقوله تعالى" والكاظمين الغيظ". (آل عمران134).
· ص79" فيا ليتني مت قبل هذا البلاء العظيم" . وهذا من قوله تعالى" يا ليتني مت قبل هذا". (مريم23).
· ص80" لكنني ضربت عنه صفحاً" . إشارة إلى قوله تعالى" أفنضرب عنكم الذكر صفحاً" . (الزخرف5).
· ص81" وانتشروا مثنى وثلاث ورباع". يومئ إلى قوله تعالى" فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع". (النساء3).
· ص82" وإن مسه الضر". وهذا شيء من قوله تعالى" فإذا مس الإنسان ضر دعانا". ( الزمر49).
· ص83" واستعذ بالله من الشيطان الخناس، الذي يوسوس في صدور الناس. فلما استتم كلامه قال: إنه من سليمان". وجملة هذا إشارات واقتباسات من آيات عدة. فقوله:" واستعذ بالله من الشيطان الرجيم" إيماء إلى قوله تعالى" فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم". (النحل98). وقوله:" الذي يوسوس في صدور الناس" هو آية معروفة من سورة الناس4، وقوله:" إنه من سليمان" اقتباس من قوله تعالى" إنه من سليمان" . (النمل30).
· ص85" ثم ولوا الأدبار" مأخوذ من قوله تعالى" .. لولوا الأدبار". (الفتح22).
· ص87" لا أملك نفعاً ولا ضراً" هو من قوله تعالى " قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً". (الأعراف188).
· ص91" تعالوا أتل عليكم ما يبقى ذكره". مأخوذ من قوله تعالى" قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم". (الأنعام121).(27/4)
· ص94" فحدث بنعمة ربك" يشير إلى قوله تعالى" وأما بنعمة ربك فحدث". (الضحى11).
· ص96" فكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين" وهذا من الآية 249 من سورة البقرة:" كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين".
· ص106" وماءً ثجاجاً" وفي هذا اقتباس من قوله تعالى" وأنزلنا من المعصرات ماءً ثجاجاً". (النبأ14).
· ص107" قد أحصينا كل شيء عدداً، ولو جئنا بمثله مدداً". إن الشق الأول مأخوذ من قوله تعالى" .. وأحصى كل شيء عدداً".(الجن28). وأما الشق الآخر فإشارة إلى قوله تعالى" .. ولو جئنا بمثله مدداً" (الكهف109).
· ص110" جُعل مباركاً أينما كان" وهذا مأخوذ من قوله تعالى"وجعلني مباركاً أينما كنت" (مريم31).
· ص113" واسترق السمع، وإذا هو قد بسط ذراعيه". إن الشق الأول مأخوذ من قوله تعالى" إلا من استرق السمع" (الحجر18). وأما الشق الثاني فمأخوذ من قوله تعالى" وكلبهم باسط ذراعيه" (الكهف18).
· ص114" وجعلهم الهر هباءً منثوراً" وهذا إيماء لقوله تعالى" فجعلهم هباءً منثوراً" (الفرقان23). وجاء فيها" وأصبحوا لا تُرى إلا مساكنهم" وهذا إيماء أيضاً لقوله تعالى" فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم" ( الأحقاف25).
· ص115" إننا ممن يطعم الطعام على حبه" وفي هذا إشارة إلى قوله تعالى" ويطعمون الطعام على حبه مسكيناًً وفقيراً" (الإنسان8).
· ص120" فقد يسرتك لليسرى" وفي هذا إيماء لقوله تعالى" ونيسرك لليسرى" (الأعلى8).
· ص123" إن الله يهدي من يشاء ويضل من يشاء" يشير إلى قوله تعالى" إن الله يهدي من يشاء ويهدي من يشاء" (فاطر8).
· ص126" وكن من الشاكرين" وقوله هذا من قوله تعالى " وكن من الشاكرين" (الزمر66).
· 128" وهو يطعمني ولا يسقين" وهذا إيماء لقوله تعالى" والذي يطعمني ويسقين" ( الشعراء79).(27/5)
· ص130" كأنني شهاب ثاقب، وكأنها توارت بالحجاب" في الشق الأول إيماء لقوله تعالى" فأتبعه شهاب ثاقب" (الصافات10) . وأما الشق الآخر فإيماء لقوله تعالى" إنني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب" (ص32). وجاء فيها:" وهو يقسم تارة بالخنس، وطوراً بالجوار الكنس ، ويلهج مرة بمواقع النجوم" وجملة هذا الذي ذكره اليازجي اقتباس من آيات محكمات، يقرؤها القارئ فيقف على مكانها من لغة التنزيل، فقوله "يقسم تارة بالخنس" غير بعيد من قوله تعالى" فلا أقسم بالخنس" (التكوير15). وقوله " بالجوار الكنس" مأخوذ من قوله تعالى" الجوار الكنس" (التكوير16) . وقوله " بمواقع النجوم" مأخوذ من قوله تعالى " فلا أقسم بمواقع النجوم" (الواقعة75).
· ص132" فنظر نظرة في السماء" وهذا غير بعيد عن قوله تعالى" فلا أقسم بمواقع النجوم" (الصافات88).
· ص133" فلما رأوه عارضاً مستقبل أوديتهم" وهذا اقتباس من قوله تعالى" فلما رأوه ارضاً مستقبل أوديتهم" (الأحقاف24). وقال اليازجي فيها " إنما يخشى الله من عباده العلماء" وهذا اقتباس أيضاً من قوله تعالى" إنا يخشى الله من عباده العلماء" (فاطر28). وقول اليازجي" حتى خيل للقوم أن عنده علم الغيب فهو يرى" غير بعيد عن قوله تعالى"أعنده علم الغيب فهو يرى" (النجم35). وقوله" وأنه يعلم ما في السماء وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى" إيماء لقوله تعالى" له ما في السموات والأرض وما بينهما وما تحت الثرى" (طه6).
· ص137" انقلب على عقبيه" وهذا شيء من قوله تعالى" ومن ينقلب على عقبيه" (آل عمران144).
· ص139" وأرهقني صعدا" وهذا مأخوذ من قوله تعالى" سأرهقه صعوداً" (المدثر17). وقال اليازجي" أحسبها خيراً من ألف شهر" تلمح فيها قوله تعالى"ليلة القدر خير من ألف شهر" (القدر3).
· ص140" فأوثقوا جيده بحبل من مسد" وهذا مأخوذ من قوله تعالى" في جيدها حبل من مسد" (المسد5).(27/6)
· ص149" فإنه يهديك الصراط المستقيم" وهو من قول الله " اهدنا الصراط المستقيم" (الفاتحة5). وقال اليازجي:" ولا تحسب ان الإنسان يترك سدى" وهذا من قول الله" أيحسب الإنسان أن يترك سدى" (القيامة36).
· ص155" حتى لم نبق ولم نذر" إشارة إلى قول الله" لا تبقي ولا تذر" (المدثر28).
· ص156" فأوجسنا خيفة في أنفسنا" وهذا من قوله تعالى" فأوجس في نفسه خيفة موسى" (طه67).
· ص158" وأذاقني ببعاده عذاب الحريق" . تلمح فيه قوله تعالى" ذوقوا عذاب الحريق" (أل عمران181).
· ص159" إن هذا بعلي شيخ عَلَندي" وهو من قوله تعالى" وهذا بعلي شيخاً" (هود72).
· ص161" هذه بضاعتنا رُدت إلينا" وهذا اقتباس من قوله تعالى" هذه بضاعتنا ردت إلينا" (يوسف65).
· ص163" كأنهم على نصب يوفضون" وهذا اقتباس من قوله تعالى" كأنهم إلى نصب يوفضون (المعارج43). وجاء فيها أيضاً" الذين أوتوا الحكمة وفصل الخطاب" يشير إلى قوله تعالى" وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب" (ص20).
· ص164" حتى وهن العظم مني" وهذا من الآية الرابعة من سورة مريم" قال ربي إني وهن العظم مني" .
· ص167" قد جئناك ببضاعة مزجاة" وهذا من قوله تعالى" وجئنا ببضاعة مزجاة" يوسف88.
· ص170" إلى أن صرت أوهن من بيت العنكبوت" يومئ إلى قوله تعالى" وغن أوهن البيوت لبيت العنكبوت" (العنكبوت41).
· ص176" أعوذ بالله من شر حاسد إذا حسد" وهذا من قوله تعالى" ومن شر حاسد إذا حسد" (الفلق5).
· ص181" سبحان من يحيي العظام وهي رميم". وهذا إشارة إلى قوله تعالى" قال من يحيي العظام وهي رميم" (يس78). وجاء فيها" فسُقط في يد الرجل" وهذا إيماء لقوله تعالى" سُقط في أيديهم" (الأعراف149).
· ص182" أن المال زينة الحياة الدنيا". وهذا مأخوذ من قوله تعالى" المال والبنون زينت الحياة الدنيا" (الكهف46).(27/7)
· ص183" الذين كانت مفاتيح كنوزهم تنوء بالعصبة الأقوياء" كأن اليازجي نظر إلى قوله تعالى" ما إن مفاتحه لتنوء بالعصية أولي القوة" (القصص76).
· ص187" .. اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى". وهذا من قوله تعالى" أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى" (النجم20). وورد فيها" ولا فرعون ذي الأوتاد" وهذا مأخوذ من قوله تعالى" وفرعون ذي الأوتاد" (الفجر10). وجاء فيها: "كإرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد" . وهذا الآية السابعة والثامنة من سورة الفجر" إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد". وقال اليازجي:" وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعيذوا بالله إنه هو السميع العليم، ومن عمل منكم سوءاً بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فأن الله غفور رحيم". إن الشق الأول مأخوذ من قوله تعالى" وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم" (الأعراف200). وأما الشق الثاني فمأخوذ من قوله تعالى"من عمل منكم سوءاً بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم" (الأنعام54).
· ص188" والسلام على من ذكر اسم ربه فصلى، والويل لمن كذب وتولى". والشق الأول منتزع من قوله تعالى" وذكر اسم ربه فصلى" (الأعلى15). وأما الشق الثاني ففيه شيء من قوله تعالى" الذي كذب وتولى" (الليل16).
· ص190" فلا تؤاخذونا إن نسينا أو أخطأنا" وهذا من الآية الأخيرة من سورة البقرة " ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا" وورد فيها" فصل لربك وانحر" وهذا هو الآية الثانية من سورة الكوثر" فصل لربك وانحر".
· ص196" ولا أخاف بخساً ولا رهقاً" وهذا من قوله تعالى" فلا يخاف بخساً ولا رهقاً" (الجن13).
· ص200" اللهم اهدنا سواء السبيل" تلمح فيه قول الله" عسى ربي أن يهديني سواء السبيل" (القصص22).
· ص207" غشيتنا ظلمات بعضها فوق بعض" وهذا من قوله تعالى" ظلمات بعضها فوق بعض" (النور40).(27/8)
· ص208" وأكلنا هنيئاً مريً" يشير إلى قوله تعالى"فكلوه هنيئاً مريئاً" (النساء4).
· ص212" ترى الناس سكارى" وهو مأخوذ من قوله تعالى" وترى الناس سكارى" (الحج2).
· ص217" فأسر إلي النجوى" وهذا شيء من قول الله" وأسروا النجوى" ( طه62).
· ص219" نسترق السمع" نلمح فيه قوله تعالى"استرق السمع" (الحجر18).
· ص223" سيماهم في وجوههم من أثر السجود" وهذا من الآية 29 من سورة الفتح. وقال اليازجي:" أقبلوا بوجوه ناضرة إلى ربها ناظرة" وهذا اقتباس من قوله تعالى"وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة" (القيامة22). وقال أيضاً :" يسبحون بحمد ربهم" وهذا من قوله تعالى" يسبحون بحمد ربهم" (غافر7). وقال:" ويستغفرون لما تقدم وما تأخر من ذنبهم" وهذا شيء من قول الله" ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر" (الفتح2). وجاء فيها" أعوذ برب الناس" وهذا من الآية الأولى من سورة الناس. وجاء فيها أيضاً" عزمت أن أنتبذ مكاناً قصياً ولا أكلم اليوم إنسياً". إن الشق الأول من قول اليازجي مأخوذ من قول الله" فانتبذت به مكاناً قصياً" (مريم22). والشق الآخر مأخوذ من قوله تعالى" فلن أكلم اليوم إنسياً" ( مريم22).
· ص224" واستقم ولا تتبع سبيل الذين لا يعلمون، فإن الله إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون" . وهذا الكلام ذو شقين، أما الأول فمأخوذ من قوله تعالى" واستقيما ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون" (يونس89". وأما الشق الآخر فمأخوذ من قول الله" إنما إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون" (يس82" . وجاء فيها أيضاً " إني وإياكم لعلى هدىً أو في ضلال مبين" وهذا اقتباس من قول الله" وإنا أو إياكم لعلى هدىً أو في ضلال مبين" (سبأ24).(27/9)
· ص225" وستعلمون غداً من الكذاب الذي يُراغُ عليه ضرباً باليمين" وكلام اليازجي هذا ذو شقين، الأول هو من قول الله" وستعلمون غداً من الكذاب الأشر" (القمر26). والثاني هو من قول الله" فراغ عليهم ضرباً باليمين" (الصافات93). وكتب فيها" فيه حق معلوم للسائل والمحروم" يشير إلى قول الله" والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم" (المعارج24ـ25).
· ص228" وإن كنتم في ريب من ذلكم " وفي هذا شيء من قول الله" إن كنتم في ريب من البعث" (الحج5).
· ص237" فلما انسلخ النهار من الليل" وفي هذا شيء من قول الله" وآية لهم الليل نسلخ منه النهار" (يس37). وجاء فيها" ولا يعصي لي أمراً" يومئ إلى قول الله" ولا أعصي لك أمراً" (الكهف69).
· ص238" إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً" وهذا الذي ذكره اليلزجي هو الآية 36 من سورة الإسراء" إن السمع والصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً" وورد فيها" أو يسلكني عذاباً صعداً" وهذا إيماء لقول الله" يسلكه عذاباً صعداً" (الجن17). وورد فيها أيضاً" فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله" وهذا اقتباس من قول الله" فتحرير رقية مؤمنة، وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة" (النساء92).
· ص241" فلما آنست منهم أُنساً" وفي هذا شيء من قول الله" فإن آنستم منهم رشداً" (النساء92). وجاء فيها" نور على نور" وهذا من قول الله" نور على نور" (النور35).
· ص243" فإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار" وهذا اقتباس من قول الله" وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار" (البقرة74).
· ص248" وقل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا" وهذا من قول الله" قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا" (التوبة51).(27/10)
· ص250" كان ذلك في الرق المنشور" وفي هذا شيء من قول الله" في رق منشور" (الطور3). وجاء فيها" وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور" وهذا من الآية 22 من سورة الرعد، والآية20 من سورة الحديد.
· ص256" قد كتب ربك على نفسه الرحمة" وهذا إيماء لقوله تعالى" كتب على نفسه الرحمة" ( الأنعام12).
· ص257" فأنخنا كهشيم المحتظر، وإذا الناس كالجراد المنتشر" وكلام اليازجي ذو شقين، الأول " كهشيم المحتظر" وهذا من قوله تعالى" كهشيم المحتظر" (القمر31). والثاني" كالجراد المنتشر" وهو من قوله تعالى" كأنهم جراد منتشر" (القمر7).
· ص259" فاخلع إذن ما عليك حتى نعليك" كأن اليازجي نظر إلى قوله تعالى" فاخلع نعليك" (طه12).
· ص260" والله لا يضيع مثقال ذرة" تلمح فيه قول الله" فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره" (الزلزلة7).
· ص262" في ناشئة الليل" وهذا شيء من قول الله" إن ناشئة الليل" (المزمل6). وجاء فيها:" قد أًذّن في الناس بالحج فأتوا رجالاً وعلى كل ضامر من كل فج عميق" وهذا إشارة إلى قوله تعالى" وأذّن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق" (الحج27). وجاء فيها أيضاً" فلبثنا يوماً أو بعض يوم" وهذا مأخوذ من قول الله" لبثت يوماً أو بعض يوم" (الكهف19) و(المؤمنون113).
· ص264" يضحكون فليلاً ويبكون كثيراً" تلمح فيه قوله تعالى" فليضحكوا قليلاً وليبكوا كثيراً" (التوبة82). وقال اليازجي:" برحمتك يا أرحم الراحمين" وهذا شيء من قول الله" وأنت أرحم الراحمين" (الأعراف151). وقال أيضاً :" إني إلى ما تريدون أقرب من حبل الوريد" وهذا شيء من قول الله" ونحن أقرب إليه من حبل الوريد" (ق16).(27/11)
العنوان: أحب رسولي
رقم المقالة: 148
صاحب المقالة: ولاء حمود الراسبي
-----------------------------------------
أحب رسولي لأنه يحبني ويهتم بي.
لقد تعلقت به منذ أن كنت صغيرة.
لقد كانت أمي تحكي لي عن سيرته الكريمة عندما أذهب للنوم.
إنه يرحم الإنسان والحيوان فتعلمت منهُ الرحمة.
إنه يحترم الناس كلهم فتعلمت منه بر الوالدين، واحترام كل الناس.
كما عودتني أمي أن أقرأ أذكار الصباح كل يوم قبل أن أذهب للمدرسة.
أنا أذهب إلى مدرسة إنجليزية لأنني أعيش في بريطانيا،
أشعر بالفرح عندما أقرأ أذكار الصباح قبل وصول المدرِّسة.
لي رسولٌ طيب ورحيم علمني كل الخير.
أنا أتمنى أن يكون زملائي من غير المسلمين في مدرستي مثلي،
فأنا أملك كنزًا غاليًا وهو سنة رسولي الكريم .
أريدهم أن يتعرفوا عليه ليسعدوا به مثلما أسعد أنا به.
بريشة ولاء الراسبي(28/1)
العنوان: أحببته .. ومن أول نظرة
رقم المقالة: 1373
صاحب المقالة: مروة يوسف
-----------------------------------------
لم أكن أعلم أني على موعد معه..!
فذلك اليوم كان يومًا عاديًا تماما كباقي الأيام، وكانت لحظاته طبيعية.. إلى أن وصلت مع أختي إلى ذلك المركز التجاري لنشتري أغراضا لنا.. هناك فقط، ومن تلك اللحظة فقط.. تحول كل شيء في ذلك اليوم.. نعم..! تحول كل شيء في حياتي, بل انقلبت حياتي كلها, حدث هذا فقط عندما رأيته..!
ولما رأيت -يا إلهي!- نظراته, شكله, هندامه, أظنه يتبسم لي..!! أيقنت فقط وقتها ومن أول نظرة أن هذا هو الذي كنت أبحث عنه.. بل لم أكن أعلم أني أبحث عنه إلا عندما رأيته.. لأول وهلة تجمدت أطرافي، ووقفت مبهوتة مذهولة, شعرت بضربات قلبي تتسارع، وكأن جميع من حولي يسمعها!
بل مضى قلبي إلى حيث لا أدري..
لا أعلم لماذا شعرت بكل هذا تجاهه؟! لا بد إذن أن يكون هو.. نعم هو.. الحب الحقيقي الذي كنت أسمع عنه ولا أعرفه.. لا بد أني كبرت وكبرت مشاعري ولم أكن أشعر بها..
لا بد إذن أن يحدث شيء.. لا يعقل أن يمر الموقف هكذا ليصبح ذكرى تطوى تحت صحائف النسيان القاسية..
لا بد أن أشعره بي.. لا بد.. لا بد أن......
تمهلي يا غالية..!!
أيعقل أن يحدث لكِ هذا من نظرة واحدة؟!!!
لا والله! هذا خداع يخدعكِ به الشيطان، ويزينه لكِ، فتتصورينه أكمل الناس وأجملهم وأرقهم وأنه مبتغاكِ وأنه...
اعلمي يا غالية أنه لا يوجد حب من أول نظرة، فما رأيتِ إلا صورة خارجية لا تمت للجوهر بصلة..
اعلمي أنها بداية النهاية..
وما تشعرين به هو مجرد إعجاب, إعجاب فقط بالمظهر الخارجي لا علاقة له بالجوهر الذي لا تعلمين عنه شيئا.
أختي الحبيبة!
يصور لنا الإعلام الخدّاع أن هناك شيئًا اسمه (حب من أول نظرة)، وهذا غير صحيح،(29/1)
أنتِ فقط أعجبتكِ الصورة الخارجية، ولأنكِ أطلقتِ لنظركِ العنان فقد تماديتِ في خيالكِ وأحلامكِ التي نسجتِها لنفسكِ في دقائق بل ثوانٍ.. لهذا فقط صدقتِ تلك الأكذوبة التي يسمونها الحب من أول نظرة!
واعلمي أن أغلب تلك الزواجات التي تتم بعد قصة حب لا يكتب لها النجاح؛ لأن كل واحد من الزوجين يكون قد رسم في مخيلته للآخر صورة خيالية كالتي رآها أول مرة، وقرر أن ذلك حبه الذي لن ينساه, ثم بعد ذلك يرى منها ما لم يكن يحسبه، وترى منه غير الذي رأت في ذلك السوق أو في ذلك المركز التجاري أو غيره، فيصاب كل منهما بالإحباط ويشعر أنه كان يجري وراء السراب .
لعلكِ تقولين: وإن لم يكن هو زوج المستقبل, ما المانع أن أعيش مع عواطفي وأتمتع بها, فأنا لم أفعل شيئا من الخطأ، نعم! فلم أكلمْه، ولم ألتقِ معه في خلوة ولا شيء, مجرد نظرات ومشاعر بريئة !
وأقول لكِ: هل يسركِ أن يعلم الناس بذلك؟
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((الإِثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ))، رواه مسلم.
واسمعي رعاكِ الله لحديث المصطفى صلى الله عليه وسلم في نصيحته العظيمة: ((لا تتبع النظرة النظرة؛ فإنها لك الأولى وليست لك الثانية)).
فما النظرة الأولى؟
أهي التي يتعمدها المرء ويديمها لدقائق أو ثوانٍ أو غير ذلك؟
لا يا حبيبة.. النظرة الأولى هي التي تقع عن غير قصد مع محاولة صرف النظر وغض البصر قدر المستطاع.
ثم بعد ذلك يصرف البصر تماما عن الحرام.
تيقني أنكِ لو فعلتِ ذلك فلن تتعبي من تلك الأكاذيب إن شاء الله تعالى، وحتى لو زين لكِ الشيطان شيئا فسوف تنسين الأمر بكل سهولة معتمدة عل ربكِ متوكلة عليه سبحانه, كيف لا وقد ملأت قلبكِ وعمرتيه بذكر الله..
ونصيحة من أختكِ المحبة لكِ بصدق كخطوة أولى لتفادي ذلك المنكر، عليكِ بالآتي:(29/2)
- تعمير القلب بحب الله، وملؤه بهذا الحب بحيث لا يدع مكانا لغيره، إلا أن يكون حبا في الله ولله.
- غض البصر, والمجاهدة في ذلك ليست بالأمر الصعب؛ يقول ربنا عز وجل: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 30-31].
- الابتعاد عن قراءة القصص والروايات التي تكثر الحديث عن الحب، وتغرق قارئها في تلك الأوهام، حتى يصبح كأنه يعيشها, وعدم متابعة مواقع الإنترنت المهتمة بذلك.
- تنشئة الفتاة نشأة صالحة، وتقوية إيمانها، وتحذيرها من إغواء الشيطان في مرحلة المراهقة وبداية مرحلة الشباب، وتحصينها قبل أن تقع فريسة لذلك الوهم, فالوقاية خير وأنفع وأيسر من العلاج.
- شغل الوقت بالأمور المفيدة؛ لأن الفراغ قد يقود إلى الوقوع في الحرام, ومعرفة أهمية الوقت والمحافظة عليه.
- التقليل من الذهاب للأماكن العامة التي يختلط فيها الشباب بالفتيات.
- الصيام، وقد أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء).
- التأمل في سير الصالحات وكثرة القراءة في أحوالهن وما كن عليه من حرص وطاعة ومعرفة بحقيقة الدنيا.
- معرفة أحوال الفاجرات، وما يؤول إليه في الغالب مصيرهن، وكيف يختم لهن بخاتمة السوء، وأخذ العبرة من أحوال أولئك النسوة.
- اختيار صحبة صالحة، تقضين وقتكِ معهن، ويعين بعضكن بعضا على طاعة الله تعالى فالإنسان ضعيف بنفسه قوي بإخوانه, والذئب إنما يأكل من الغنم القاصية.(29/3)
وأذكركِ بقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [النور: 21].(29/4)
العنوان: أحبك يا رسول الله
رقم المقالة: 116
صاحب المقالة: أحمد بن أيمن ذوالغنى
-----------------------------------------
1 – أحبُّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لأنه علَّمنا الإسلام، وعلَّمنا كلَّ خير، وكلَّ ما فيه السعادة والوئام.
وعندما رأى طفلاً يأكل قال له: ((يا غلام، سَمِّ الله، وكل بيمينك، وكل ممَّا يليك)).
2 – أحبُّ رسول الله لأنه كان يلاعب الأطفال ويلاطفهم ويحبُّهم ويعطف عليهم.
يقول: ((ليس منَّا من لم يرحم صغيرنا...)).
3 – أحبُّ رسول الله لأنه كان يشجِّع الأطفال ولا يحبِّطهم.
4 – أحبُّ رسول الله لأنه أمر الآباء أن يسمُّوا أولادهم بأسماء حسنة.
5 – أحبُّ رسول الله لأنه لم يسمح بضرب الأولاد قبل أن يبلغوا العاشرة على أمر مهمٍّ جدًّا هو ترك الصلاة.
6 – أحبُّك يا رسول الله حبًّا جمًّا، وأسأل الله أن يجمعني بك في الجنَّة.
محبُّك أحمد بن أيمن ذو الغنى
العمر 7 سنوات ونصف، الصف الثاني(30/1)
العنوان: احترام الكبير
رقم المقالة: 1854
صاحب المقالة: الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ
-----------------------------------------
احترام الكبير
ملخص الخطبة:
1- غفلة المسلمين عن أخلاق دينهم.
2- حثُّ الإسلام على احترام الكبار.
3- تحذير الشابّ من الاغترار بقوته وفتوَّته.
4- صور من ازدراء الصغار للكبار.
5- تأكد احترام ذي الشيبة من ذوي الأرحام.
6- تربية الأبناء على احترام الكبير.
7- خُلُق النبي صلى الله عليه وسلم.
ــــــــــــــــــــ
الخطبة الأولى
أمّا بعد: فيأيُّها الناس، اتقوا الله - تعالى - حقَّ التقوى.
عبادَ الله، في شريعتِنا الحنيفيّة السَّمحة أخلاقٌ عالية، وأدَبٌ عظيم، وفضائلُ عِدّة، لكنّ المصيبةَ غفلةُ كثيرٍ من المسلمين عن هذه الأخلاقِ والِقيَم، وتناسيهم لها، وعدم عَمَلهم بها، فينشأ النشءُ من غير أن يقيمَ لتلك الأخلاق وزنًا، وكان المطلوبُ منا جميعًا أن نربِّيَ نشْأنَا التربيةَ الإسلاميّة الصحيحة على الأخلاقِ الإسلامية والقِيَم الإسلامية، التي يسعدُ بها الفَرد في حياته وآخرته.
شريعةُ الإسلام جاءت بِما يُقوِّي الرَّوابطَ بين أفراد المجتمَعِ صغيرِه وكبيره، غنيِّه وفقيره، عالِمِه وجاهِله. جاءت بما يقوِّي تلك الأواصرَ؛ حتَّى يكون المجتمع المسلِم مجتمعًا مثاليًّا في فضائلِه وقِيَمه، وفي شريعة الله كلُّ خير وهدًى، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 57].(31/1)
أيّها المسلم، من تِلكُم الآدابِ العظيمة ما جاءت به الشريعةُ مِن حثِّ الصغار على احترامِ الكِبار، وأمْرِ الصّغار بإجلالِ الكِبارِ وتعظيمِهِم، والرِّفقِ بهم وعَدمِ التّطاوُل عليهم أقوالاً وأفعالاً. هذه شريعةُ الإسلام تدعو المسلمَ إلى أن يُكرِمَ أخاه المسلمَ الذي تقدَّمَه سِنًّا، وسبقه في هذه الحياةِ، تدعوه إلى أن يحترمَه ويكرِمَه، ويراعيَ له كِبَرَه وسابِقَتَه في الإسلام، فيجِلّ الكبيرَ ويحترمه، ويعرِف له قدرَه ومكانته، والكبيرُ مأمورٌ برحمةِ الصِّغار، والعطفِ عليهم، والرِّفق بهم، والإحسانِ إليهم. هذه المنافعُ المتبادَلَة بين أفرادِ المجتمَعِ المسلِم تثبِّتُ أواصِرَ الحبِّ والوِئام بين الجماعةِ المسلمة.
أيّها المسلم، إنَّ نبيَّنا محمَّدًا - صلى الله عليه وسلم - حثَّنا على هذا الخلقِ الكريم، ورَغَّبنا فيه، فأوَّلاً: يبيِّن لنا نبيُّنا - صلى الله عليه وسلم - أنَّ مَن أحسن إلى الكبيرِ في الدنيا هيَّأ الله لذلك المحسِنِ عند كِبَر سنِّه، ورقَّةِ عَظمه مَن يجازيه بهذا العمَلِ الصّالح، فيقول - صلى الله عليه وسلم -: ((مَا مِن مسلمٍ يكرِم ذا الشَّيبةِ؛ إلاَّ قيَّض الله له من يكرِمه في سِنِّه))[1]، فإذا أكرمتَ ذا الكِبَر لسنِّه قيَّض الله لك في حياتِكَ من يجازيك بمثلِ ما عمِلتَ، فيكرمُك ويحسِن إليك.(31/2)
ونَبيُّنا - صلى الله عليه وسلم - يخبرنا أنّ إكرامَنا لمن هو أقدمُنا سِنًّا أنّ ذلك من تعظيمنا لربِّنا وإجلالِنا لِربِّنا، يقول - صلى الله عليه وسلم -: ((إنَّ مِن إجلالِ الله إكرامَ ذي الشَّيبةِ من المسلمين، وحامِلِ القرآن غيرِ الغالي فيه والجافي عنه، وذي السلطانِ المقسِط)) [2]، فمن إجلال الله أن تكرمَ هؤلاء الثلاثة: ذو الشيبةِ من أهل الإسلام، تكرِمه، ترحَم كِبَره، تخاطبه بخطابٍ ليِّن، تقضي حاجتَه، تعينه على نوائِبِ الدنيا، تعرِف له كِبَره وضعفَ قوّته وعجزه عن التصرُّف، فكلُّ هذه الأمور تكون في فِكرِك، فتعامِل ذا الشّيبةِ المعاملةَ الطيّبة، التي تنمّ عن رحمةٍ وأدَب حسَن. ثانيًا: من كان حامِلاً لكتابِ الله الحمل الشرعيَّ، ليس غاليًا فيه، فإنّ الغاليَ في القرآنِ يخرج به غلوُّه عن المنهَج والطريق السويِّ؛ كما خرج بفرقةِ الخوارج، الذين ساءَ فَهمُهم للقرآن، وقَلَّ وعيُهم وإدراكهم؛ حتى استحلُّوا دِماءَ المسلمين، كفَّروهم واستحلّوا دماءَهم وأموالهم، والغالي في القرآن تراه متكبِّرًا على غيره، مكفِّرًا لغيره، معتقِدًا ضلالَ غيره بلا فِكرٍ ولا رَأيٍ مُصيب، أو الجافي عنه الذي حمَله فعطَّل العملَ به، ولم يَقُم بحقوقِه، عافانا الله وإيّاكم من ذلك. وذُو السلطان المقسِط العادِل، تكرمه لإمامتِه وقيامِه بشأن رعيَّته.
أيّها الشابّ المسلم، في شبابِك حيويّة وقوّةٌ شبابيّة، ترى نفسَك وأنت ممتَّع بسمعك وبصرِك وسائرِ قوَّتك، يمرُّ بك ذو الشّيبة من المسلمين فما ترعى له حقًّه، لا تسلِّم عليه أحيانًا، ولا تقدر له قدرَه، وربما ضايقتَه في الطريق، وربما سخِرتَ منه، وربما استهزأتَ به، وربما عِبتَه، وربما قلْتَ وقلت.(31/3)
أيّها الشابّ المسلم، ولئن كنتَ ممتَّعًا الآن بقوَّتك، فتذكَّر بعد سنين وقد ضعُفت تلك القوّة، وعُدتَ إلى ضعفِك القديم، {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} [الروم: 54]، لئن كان هذا المارُّ بك شيبةً قد أمضى سنينَ عديدة، فاعلم أنّك بمضيِّ السنين ستكون حالُك مثلَ حالِه؛ إذًا فأكرِم ذا الشيبةِ، واعرف له قيمتَه ومكانته، إيّاك أن تستطيلَ عليه بلسانك احتقارًا له وسخريةً به، إيّاك أن تترفَّع عليه لكونِك ذا علمٍ وفِقه وثقافة، فترى ذا الشيبةِ أقلَّ شأنًا من ذلك؛ بل تزدريه وتحتقِره لعلمك وحيويَّتك، ولكِبَره وقد يكون لجهله، إيَّاك أن يغُرَّك جاهُك، أو يخدعَك منصِبك، أو يغرّك كثرةُ مالك، فارفق بمن هو أكبرُ منك سنًّا؛ ليدلَّ على الأدبِ الرفيع في نفسك.
الأدبُ إخوتي الشباب - الأدبَ الإسلاميّ - خُلُق يتخلَّق به المسلم، يقودُه لكلِّ فضيلة، وينأى به عن كلِّ رذيلة.(31/4)
أيّها الشاب المسلم، إنَّ نبيَّنا - صلى الله عليه وسلم - يُروَى عنه أنّه أخبر أنّ إهانةَ الشيخ الكبيرِ، والعالِمِ، وذِي السلطان، أنَّ إهانتَهم وعدَمَ احترامهم دليلٌ على ما في القلبِ من نفاق [3]، فارفق بذي السِّنّ أيّها الشابّ المسلم، وأكرم ذا السّنّ، أكرمه واحترِمه وأعطِه قدرَه، ألا ترى اللهَ - جلّ وعلا - يرغِّبك في أبويْك عند كِبَر سنِّهما؛ فيقول لك: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء: 23 - 24]؟! كم من شيخٍ كبيرٍ إن تحدَّث في مجلِسٍ نظر إليه الشّباب نظرةَ الازدِراء والاحتقارِ، يرَونَ كلامَه غيرَ صحيح، ويرَونَ رأيَه غيرَ صائب، ويعدّونه عِبئًا وثقلاً عليهم، وما علِموا أنَّ هذا الذي أمضى عمرًا في طاعةِ الله، وفي القيامِ بما أوجب الله أنّه أفضلُ وأعلى منهم منزلةً!
أيّها الشابّ المسلم، نبيّنا - صلى الله عليه وسلم - يقول لنا: ((ليس منَّا من لم يوقِّر كبيرَنا، ويرحَم صغيرَنا)) [4]، ونبيّنا - صلى الله عليه وسلم - إذا تحدّث عنده اثنان في أمرٍ ما يبدَأ بأكبَرهما بالحديث، ويقول: ((كبِّر كبِّر)) [5]، يبدأ الأكبرُ قبلَ أن يبدأَ الأصغر. هكذا خلُق الإسلام، وهكذا رُبِّي المسلمون على هذه التربيةِ العظيمة؛ أن يحترِمَ صغارهم كبارَهم، وأن يرحَمَ كبارهم صغارَهم، وأن تتبادلَ المنافع بين الجميع؛ ليكون المجتمع المسلم مجتمعًا مترابِطًا، متعاونًا على الخير والتقوى.(31/5)
أيّها المسلم، لا سيّما رحمك، فالرّحِم لهم حقُّ الصِّلة، فكبارهم يجب أن تحترِمَه لرَحمِه أوّلاً، ثم لكِبَر سِنّه ثانيًا، تقدِّره وتقدِّمُه، وتربِّي الصغارَ على احترامِ الكبار، لا تدَعِ الصغيرَ يتخطَّى حدَّه، ولا تدع الصغيرَ يبسط لسانَه بالبذاءةِ أو السخرية، ولا تدع الصغيرَ يتقدَّم على الكبير؛ بل ألزِمهم الأدبَ الحسَن؛ ليعرفَ بعضهم قدرَ بعض، وهكذا الأبناءُ أيضًا، أبناؤُك تربِّيهم على هذَا؛ ليكونَ صغيرهُم محترِمًا لكبيرهم، وليكون كبيرهم رفيقًا بصغيرهم، فإذا علِم الأبناء منك أنَّك تقدِّم الأكبرَ فالأكبر، وتربّيهم على هذا الخُلُق نشؤوا وقد ألِفوا تلكمُ الأخلاقَ العالية، لكن مصيبتنا للأسفِ الشّديد أنَّ كثيرًا من مجالِسِنا نرى صِغارًا في صدورِ المجالس، وكِبارًا في أقصاها، ونرى شبابًا تستطيلُ ألسنتهم على الكبار، ونرى شبابًا لا يعرِف للكبير أيَّ قدرٍ ولا أيَّ مكانة، لا يرى له قدرًا، قد يلمِزه بجهله، وقد يلمزه بضَعف رأيه، وقد يلمزه بقِلّة علمه، وقد يلمِزه بعدَم نظافةِ ملبَسه، وقد وقد... كلُّ هذه التُّرَّهات لا يجب أن تحمِلك على إهانةِ الكبير، بل قدِّر الكبير وعظِّمه، وأظهر لأولادك عندما يزورون معك رحِمًا أنّك تقدِّم الأكبرَ فالأكبر. وكم سلك هذا المسلكَ بعضُ من أريدَ لهم خيرٌ مِن أُسَرٍ كريمة، فلا تكاد تعرِف أعمارهم إلاَّ إذا رأيتَ الكبير متقدِّمًا على من دونه، ولو كان الكبير أقلَّ مرتبةً ممن هو دونه، لكن يعرِفون للكِبَر حقَّه، ويجلّون الكبيرَ، ويتربَّى النشءُ على هذه الفضائلِ العظيمة.
فكونوا - إخوتي - على هذا الأدبِ العظيم، ربُّوا أولادَكم على احترام الكبار، سواء من ذوي الرحم أو من غَيرهم، وعلِّموهم الأدَبَ الحسن، والقولَ الطيِّب في التعامل مع الآخرين، فتلك أخلاقُ الإسلام التي إنِ اعتنينا بها حقًّا نِلنا السعادةَ في الدنيا والآخرة.(31/6)
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21].
بارَكَ الله لي ولَكم في القرآنِ العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيهِ منَ الآياتِ والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفِر الله العظيمَ الجليل لي ولَكم ولسائِرِ المسلمينَ من كلِّ ذنب، فاستغفروه وتوبُوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمدُ لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مُباركًا فيهِ كَمَا يحِبّ ربّنا ويَرضَى، وأَشهَد أن لاَ إلهَ إلاَّ الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهَد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وصَحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فيأيّها النّاس، اتَّقوا الله - تعالى - حقَّ التَّقوى.
عباد الله، محمّدٌ - صلى الله عليه وسلم - سيِّد الأوّلين والآخرين كان في تعامُله مع أهله وغيرِهم على أكمَلِ خُلُقٍ، وأعلى أدَب، وأشرف معاملة، فصلوات الله وسلامه عليه، وصدق الله: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4].
تذكُر عائشة أمُّ المؤمنين - رضي الله عنها - شيئًا من هذا فتقول: "ما رأيتُ أحدًا أشبَهَ برسول الله - صلى الله عليه وسلم - سَمتًا ولا هَديًا مِن ابنتِه فاطمة - رضي الله عنها –"، قالت: "وكانت إذا دَخَلت على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قام لها وقبَّلها، وأخذ بيدِها وأجلسَها مجلِسَه، وكان إذا دَخَل عليها تقوم لأبيها النبيّ - صلى الله عليه وسلم - وتُقبِّله وتُقعِده في مجلسها - رضي الله عنها وأرضاها –" [6].
ونبيُّنا - صلى الله عليه وسلم - يعلِّمنا أيضًا في أهمِّ شيء، وهي الصلاة؛ فيقول: ((ليَلِنِي منكم أولو الأحلام والنُّهى، ثم الذين يلونهم)) [7]؛ أي: ليكن من يلِي الإمامَ ذا الأحلام والنهى، ذا العلم والكِبَر في السن.(31/7)
أحَدُ الصحابة كان يصلِّي، فرأى مع أحدِ الصحابة ابنًا له فأخَّره عن الصفِّ الأول، وكأنّه رأى الأبَ قد تغيَّر، فقال: "يا أخي، هذه سنّة محمّد - صلى الله عليه وسلم -" [8].
إنَّ هذا الاحترامَ الصادِر من المسلمين بعضهم لبعض دليلٌ على الخيرِ في نفوسهم، ودليلٌ على التربيةِ والتنشئَة الصالحة التي ترَبَّى عليها الأجيال التربيةَ النافعة، وما أحوَجَنا لهذه التربية النافِعَة، التي تسود مجالسَنا وأماكنَ تجمُّعاتنا، أن يكونَ الصغار يعرفون قدرَ الكبار، ويجلّون الكبار، يقدِّمونهم مجلِسًا، ويقدِّمونهم جلوسًا، ويبدَؤون بِهم، ويستشيرونهم، ويُصغون إليهم، ويرونهم التقديرَ والإجلال، هكذا أدَبُ الإسلام الرَّفيع، الذي إن تمسَّكنا به نِلنَا السعادةَ في الدنيا والآخرة.
واعلَموا - رحمكم الله - أنَّ أحسَنَ الحديث كتابُ الله، وخيرَ الهديِ هَدي محمّد - صلى الله عليه وسلم - وشرَّ الأمور محدَثاتها، وكلّ بدعةٍ ضلالة، وعليكم بجماعةِ المسلمين، فإنّ يدَ الله على الجماعةِ، ومن شذَّ شذَّ في النّار.
وصلّوا - رحمكم الله - على نبيكم محمّد - صلى الله عليه وسلم - كما أمَرَكم بذلك ربّكم، قال - تعالى -: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىِّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56].
اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدِك ورسولِك محمّد، وارضَ اللهمّ عن خلفائه الراشدين.
ـــــــــــــــــــــــ
[1] رواه الترمذي في البر (2022)، والعقيلي في "الضعفاء" (4/375)، والطبراني في "الأوسط" (5903)، وابن عدي في "الكامل" (3/27، 7/279)، و"البيهقي" في "الشُّعب" (7/461) من حديث أنس - رضي الله عنه - بمعناه، وقال الترمذي: "هذا حديث غريب، لا نعرفه إلا من حديث هذا الشيخ يزيد بن بيان"، وضعَّفه أيضًا الذهبي في "السير" (15/31)، وهو في "السلسلة الضعيفة" (304).(31/8)
[2] أخرجه أبو داود في الأدب (4843)، ومن طريقه البيهقي في "الكبرى" (8/163) عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - وحسنه النووي في "رياض الصالحين" (173)، وابن حجر في "التلخيص الحبير" (2/118)، والألباني في "صحيح الترغيب" (98). وقد أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" (357)، وابن أبي شيبة (6/421) عن أبي موسى موقوفًا، قال ابن عبدالبر في "التمهيد" (17/430): "وقد روي مرفوعًا من وجوه فيها لين".
[3] رواه الطبراني في "الكبير" (8/202) عن أبي أمامة بلفظ: ((ثلاثة لا يَستخفُّ بحقهم إلا منافقٌ: ذو الشيبة في الإسلام، وذو العلم، وإمام مقسط))، قال الهيثمي في "المجمع" (1/127): "رواه الطبراني في "الكبير" من رواية عبيدالله بن زحر عن علي بن يزيد، وكلاهما ضعيف"، وضعفه الألباني في "السلسلة الضعيفة" (7/245).
[4] رواه أحمد (1/257)، والترمذي في البر (1921)، وعبد بن حميد (586)، والطبراني في "الكبير" (11/72، 449)، والقضاعي في "مسند الشهاب" (1203) من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب"، وصححه ابن حبان (458، 464). وفي الباب عن عبدالله بن عمرو، وأبي هريرة، وأنس بن مالك، وأبي أمامة، وعبادة بن الصامت، وجابر، وواثلة بن الأسقع رضي الله عنهم.
[5] رواه البخاري في الجزية (3173)، ومسلم في القسامة (1669) من حديث سهل بن أبي حَثْمَةَ رضي الله عنه.
[6] رواه البخاري في "الأدب المفرد" (971)، وأبو داود في الأدب (5217)، والترمذي في المناقب (3872)، والنسائي في الكبرى (5/96، 392)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (2969)، والبيهقي في "الكبرى" (7/101)، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه"، وصححه ابن حبان (6953)، والحاكم (4732، 7715)، وهو في "صحيح سنن أبي داود" (4347).(31/9)
[7] أخرجه مسلم في الصلاة (432) عن أبي مسعود البدري، وعن ابن مسعود رضي الله عنهما، وهما حديثان، وقد عُدّا في طبعة محمد فؤاد عبدالباقي - رحمه الله - حديثًا واحدًا.
[8] يُنظر من أخرجه.(31/10)
العنوان: احتساب النبي عليه الصلاة والسلام (1)
رقم المقالة: 1348
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
تقرير الحسبة بأقواله (أ)
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله...
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإن خير الكلام كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.(32/1)
أيها الناس: أرسل الله تعالى رسوله محمدا عليه الصلاة والسلام بالهدى ودين الحق؛ ليخرج به الناس من الظلمات إلى النور، ومن الضلال إلى الهدى، ومن الجور إلى العدل، ومن الجهل إلى العلم، ومن الإساءة إلى الإحسان، ومن دركات الإثم والشر والذل والضعف إلى درجات البر والخير والعز والقوة {لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى المُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [آل عمران:164] وفي الآية الأخرى {رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِ الله مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [الطَّلاق:11].
وكانت رسالته عليه الصلاة والسلام كرسالات من سبقوه من إخوانه المرسلين متضمنة للأمر والنهي: الأمر بكل معروف يحبه الله تعالى ويرضاه من الأقوال والأفعال والمقاصد، والنهي عن كل منكر يبغضه الله تعالى من القوال والأفعال والمقاصد.
والمشركون كانوا يعرفون أن كلمة التوحيد المتضمنة لشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله تعني الخضوع والتسليم والانقياد للأمر والنهي الشرعيين؛ ولذلك عارضوها وقالوا {أَجَعَلَ الآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5].(32/2)
وسيرة النبي عليه الصلاة والسلام منذ بعثته وحتى وفاته تدل على أن حياته كلها كانت احتسابا على الناس لإصلاح عقائدهم وعباداتهم ومعاملاتهم وأخلاقهم، كما تدل على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو الركن الأساس لتبليغ هذا الدين، والحكم بشريعته بين الناس، وقد أُمر النبي عليه الصلاة والسلام بالبلاغ في كثير من آي القرآن كقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة:67] وفي آية أخرى {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البَلَاغُ المُبِينُ} [النحل:82].
وما الدعوة إلى الله تعالى التي بعث بها النبي صلى الله عليه وسلم إلا أمر بمعروف، أو نهي عن منكر؛ لأن المباحات لا أمر فيها ولا نهي، بل سُكت عنها تخفيفا على العباد، وما بعث الرسل عليهم السلام لبيان المباحات للناس، وإنما بعثوا لبيان المأمورات ليمتثلها الناس، والمنهيات ليجتنبوها.
وما الجهاد في سبيل الله تعالى الذي هو ذروة سنام الإسلام إلا وسيلة من وسائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لبسط سلطان الإسلام على الناس، وتخليصهم من أنظمة الجور والعبودية لغير الله تعالى.
والحديث عن احتساب النبي عليه الصلاة والسلام على أمته هو الحديث عن سيرته وأقواله وأفعاله منذ أن بعثه الله تعالى رسولا للعالمين إلى أن قبضه إليه سبحانه وتعالى، وأنَّى لمقام كهذا أن يأتي على ذلك، بيد أن النبي عليه الصلاة والسلام قد حث أمته على إحياء شعيرة الاحتساب بينهم، ورغبهم في ذلك، وبين لهم مخاطر تعطيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الأفراد والأمم، وقد كثرت أقواله عليه الصلاة والسلام في هذا الباب العظيم من أبواب الشريعة.(32/3)
فأمر عليه الصلاة والسلام بإنكار المنكر، وبيّن أن من أنكر فقد أدى ما عليه، وبرئت ذمته، ومن رضي بالمنكر أو وافق أهله فهو الآثم فقال عليه الصلاة والسلام: (من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان) رواه مسلم من حديث أبي سعيد رضي الله عنه، وفي رواية له من حديث أم سلمة رضي الله عنها قال عليه الصلاة والسلام: (فمن كره فقد بريء، ومن أنكر فقد سلم، ولكن من رضي وتابع)
ولأهمية هذه الشعيرة العظيمة في إصلاح الناس، ولمكانتها من دين الإسلام؛ فإن النبي عليه الصلاة والسلام بايع أصحابه رضي الله عنهم على قول الحق، وأوصاهم بذلك.
أما البيعة على قول الحق ففي حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال:(بايعنا سول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في المنشط والمكره وأن لا ننازع الأمر أهله وأن نقوم أو نقول بالحق حيثما كنا لا نخاف في الله لومه لائم)رواه الشيخان.
والصدعُ بالحق إما أن يكون في معروف قد عُطل، أو في منكر قد أُظهر.
قال النووي رحمه الله تعالى: قوله (وعلى أن نقول بالحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم) معناه: نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر في كل زمان ومكان، الكبار والصغار لا نداهن فيه أحدا، ولا نخافه هو، ولا نلتفت إلى الأئمة، ففيه القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأجمع العلماء على أنه فرض كفاية فإن خاف من ذلك على نفسه أو ماله أو على غيره سقط الانكار بيده ولسانه ووجبت كراهته بقلبه.أهـ
وأما وصيته عليه الصلاة والسلام بهذا الأمر العظيم به فقد جاءت في حديث أبي ذر رضي الله عنه قال:(أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بخصال من الخير ...وذكر منها: وأوصاني أن أقول الحق وإن كان مُرَّا) رواه أحمد.(32/4)
ومعلوم أن البيعة لا تكون على الأمر العظيم الكبير، وكذا الوصية لا تكون إلا بما هو مهم، وهذا يدل على مكانة قول الحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في شريعة الله تعالى؛ إذ وصى النبي عليه الصلاة والسلام به، وبايعه الصحابة رضي الله عنهم عليه.
وكانت هذه البيعة مع البيعة على السمع والطاعة؛ مما ينقض رأي من يرى أن الصدع بالحق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيه خروج على السلاطين، أو يؤدي إلى الخروج عليهم، ولازم هذا القول تعطيل هذه الشعيرة العظيمة، وهذا الحديث ينقض هذا الرأي الفاسد.
بل إن الاحتساب على كبار القوم، ورؤوس الناس، والصدع بالحق أمامهم مما ينفعهم؛ لئلا يتركوا معروفا، أو يتمادوا في منكر، وهذا من أعظم النصح لهم الذي جاء الأمر الشرعي به في حديث تميم الداري رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الدين النصيحة، قلنا: لمن؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولائمة المسلمين وعامتهم) رواه مسلم.
ومن أعظم الغش لكبار القوم، وسراة الناس ترك مناصحتهم، وعدم الصدع بالحق أمامهم، والتهاون في أمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر.
وقد فهم كبار العلماء في مختلف العصور ذلك فأنكروا على السلاطين مخالفاتهم، ولم يخرجوا عليهم، ولا رأوا أن الإنكار يؤدي إلى الخروج عليهم كما يزعمه من يعطلون الأمر والنهي الشرعيين، ولا جعلوا ظهور المنكرات مسوغا للخروج، وكان سفيان الثوري من أشهر أهل عصره في شدة الإنكار على بني العباس، حتى إنه ليبول الدم إذا رأى منكرا فلم يستطع إنكاره كما قال رحمه الله تعالى، ومع ذلك كان سيء القول في الحسن بن صالح بن حي مع أن الحسن من الأئمة الكبار في العلم والزهد، وما سبب ذلك إلا لأن الحسن كان يرى الخروج، ولذا قال الثوري فيه: ذاك رجل يرى السيف على أمة محمد صلى الله عليه وسلم.(32/5)
فكان منهج الإمام سفيان الثوري رحمه الله تعالى الإنكار على من وقع في المنكر صغيرا كان أم كبيرا، وأمره بالمعروف، والنصح له، مع التزام الطاعة، ولزوم الجماعة، وهكذا كان دأب السلف الصالح عليهم رحمة الله تعالى، إلى أن نبت في المسلمين طائفتان مخطئتان، إحداهما عطلت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ بحجة السمع والطاعة، ولكيلا يكون الاحتساب على الولاة ذريعة للخروج عليهم، وطائفة أخرى استحلت الخروج عليهم لمجرد ظهور المنكرات في دولهم، وكان الصواب وسطا بين الطائفتين.
ومن أبين الأدلة على أهمية إحياء شعيرة الحسبة بين الناس أن النبي عليه الصلاة والسلام بيّن أن قول الحق أعظم الجهاد، وأن سيد الشهداء من قتل في سبيل كلمة الحق؛ كما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر)رواه أبو داود، وعن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله) رواه الحاكم وصححه.
جعلنا الله تعالى من أهل الحق والعدل، وكفانا شرور أنفسنا وشرور أعدائنا {وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة:71].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.....
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.(32/6)
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- وأطيعوه، واعملوا لآخرتكم، ولا تغرنكم دنياكم {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآَخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا} [النساء:77 ].
أيها المسلمون: من قرأ سيرة النبي عليه الصلاة والسلام، ووقف على أحاديثه في شعيرة الاحتساب علم أنه عليه الصلاة والسلام قد أولى هذا الجانب من الدين أهمية كبرى, وكيف لا يكون ذلك وأول وَصْفٍ وُصِفَ به عليه الصلاة والسلام في الكتب السابقة كونه محتسبا على الناس، يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} [الأعراف:157].
فمن أسباب الفلاح المذكور في هذه الآية الكريمة اتباع النور الذي أنزل مع النبي عليه الصلاة والسلام، ومن أعظم أفراد هذا النور الذي أنزل معه ما جاء به من الاحتساب على الناس بأمرهم بالمعروف، ونهييهم عن المنكر.
كما أن هذه الآية العظيمة تفيد بوجه المخالفة أن ترك هذا النور سبب للخسران والبوار للأفراد والأمم، وتعطيل الحسبة سبب لترك هذا النور الذي أوصينا باتباعه.(32/7)
وما كان النبي عليه الصلاة والسلام محييا لشعيرة الحسبة، معتنيا بها، داعيا إليها، ناهيا عن تعطيلها، محذرا من تركها؛ إلا لأنها من أسباب بقاء دين الإسلام الذي قضى الله تعالى قدرا أن يبقى إلى آخر الزمان، فأمر شرعا بما يكون سببا لذلك، وهو الأمر بالاحتساب على الناس بأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر، ودعوتهم إلى الخير الذي جاء به الإسلام.
فكان من خيرية هذه الأمة أن تُحيا هذه الشعيرة العظيمة فيهم، وأن يتواصوا فيما بينهم بها، ويتعاونوا على أدائها، ويحاربوا من حاربها من الكفار والمنافقين والشهوانيين {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِالله} [آل عمران:110].
إن الذين يحاربون الحسبة والمحتسبين، ويرون أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تدخل في الخصوصيات، ويدعون الناس إلى رفض ذلك، إنما هم يريدون نزع الخيرية عن هذه الأمة؛ لتكون كأمم اليهود والنصارى والوثنية والمادية التي ضلت طريقها، وأفسدت أخلاقها، وأضاعت دينها، وأسخطت ربها، فسُلبت منها الخيرية إلى هذه الأمة المباركة.
إن هذه الفئة المنحرفة تريد تعطيل أعظم وَصْف وُصِف به رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة والإنجيل وأجله وأكبره، قد نوه الله تعالى بذكره في القرآن، وقدمه على غيره من الأوصاف {يَأْمُرُهُمْ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المُنْكَرِ} [الأعراف:157] يريدون تعطيله بحجة أن الاحتساب تدخل في الخصوصيات، وهو كذلك لأن دين الإسلام الذي ارتضاه الله تعالى لعباده لا يفرق بين الدين والدنيا، ولا يفصلهما عن بعض كما في ديانات اليهود والنصارى والوثنيين، وينظم علاقات الإنسان كلها، ويتدخل في خصوصياته، ويأمر أفراد المجتمع أن يأخذوا على أيدي المفسدين، ويأطروهم على الحق أطرا، ويقصروهم على الحق قصرا، فمن رفض ذلك فهو يرفض دين الإسلام.(32/8)
وليس الإسلام أجزاء يسوغ للناس أن يأخذوا منه ما يشتهون، ويتركون ما لا يريدون، بل هو كل متكامل من رفض شعيرة محكمة من شعائره فهو يرفضه كله، ولا ينفعه ما أخذ من بعضه؛ إذ رفض بعضه كرفض جميعه.
وما الذي أضل اليهود والنصارى، وقد كانوا على الحق وأوتوا الكتاب قبلنا إلا أنهم كانوا يأخذون من دينهم ما يشتهون، ويتركون ما لا يريدون، وكان أحبار السوء، ورهبان الضلالة يحرفون كتبهم لأجل ذلك، فأنكر الله تعالى ذلك منهم وغضب عليهم ولعنهم، وخاطبهم بقوله سبحانه {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ القِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ العَذَابِ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآَخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} [البقرة:85-86].
فالمحاربون للحسبة، الداعون إلى إبطالها لا يريدون إلا أن يسلكوا بنا مسالك من غضب الله تعالى عليهم ولعنهم وتوعدهم بنار جهنم من اليهود والنصارى الذين تركوا دينهم، وحرفوا كتبهم، فهل يُعَطِّل المؤمنون شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر طاعة للمنافقين والمرجفين والذين في قلوبهم مرض، فَيُحرموا الخيرية التي خصت بها هذه الأمة؟!
ليس هذا الظن بمن أخلصوا دينهم لله تعالى، وقرءوا كتابه، وقبلوا عنه شريعته، كيف! والله تعالى قد أمرنا بالتزام بشريعته، ونهانا عن اتباع أهوائهم {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ الله شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللهُ وَلِيُّ المُتَّقِينَ} [الجاثية:18-19].(32/9)
ألا فاتقوا الله ربكم، وأحيوا شعيرة الحسبة فيكم، وأعينوا عليها من قام بها من إخوانكم؛ فإنها من أسباب الفلاح والنجاة للأفراد وللأمة.
وصلوا وسلموا على نبيكم...(32/10)
العنوان: احتساب النبي عليه الصلاة والسلام (2)
رقم المقالة: 1349
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
تقرير الحسبة بأقواله (ب)
الحمد لله رب العالمين؛ خلق خلقه فدبرهم، وشرع لهم من الدين ما يصلحهم {صِبْغَةَ الله وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ} [البقرة:138] نحمده على هدايته، ونشكره على رعايته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وصفيه وخليله؛ اصطفاه الله تعالى للعالمين رسولا، وزاده رفعة وتفضيلا، فهو صاحب الحوض والفضيلة والشفاعة والوسيلة، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، خير صحب وآل، والتابعين لهم بإحسان.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة:35].
أيها الناس: دين الإسلام دين له حدود، وفيه حلال وحرام، وحقوق وواجبات {تِلْكَ حُدُودُ الله فَلَا تَقْرَبُوهَا} [البقرة:187] وفي آية أخرى {تِلْكَ حُدُودُ الله فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة:229] وفي ثالثة {تِلْكَ حُدُودُ الله وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ * وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} [النساء:14].
وهذه الحدود التي يجب الوقوف عندها، ولا يحل لمسلم أن يتعداها منها ما هو لحق الله تعالى وحده كالعبادات المحضة، ومنها ما هو لحق الله تعالى ولحق البشر وهو ما يتعلق بأنواع المعاملات والأخلاق والقصاص ونحو ذلك.(33/1)
ولما كان العصيان من طبيعة البشر، والخطأ من سجاياهم؛ كان لابد من الاحتساب عليهم، ورد الظالم عن ظلمه، والعاصي عن عصيانه؛ طاعة لله تعالى، وغيرةً على حرماته، وحفظا للأفراد والأمم من كل أسباب الهلاك والعذاب في الدنيا والآخرة.
وبهذا كان الاحتساب على الناس واجبا على آحادهم كل بحسب موقعه وقدرته؛ لأن الأمر يعنيهم واحدا واحدا، ولأن العذاب إن وقع بسبب أهل المعاصي لم يستثن منهم أحدا، وتلك سنة الله الماضية في الأمم الغابرة، وهذا ما قرره النبي عليه الصلاة والسلام لأمته، وأوجبه عليهم، وحذرهم من التهاون به، وأكثر القول فيه:
فتارة يأمرهم بالاحتساب على الناس بأمرهم بالمعروف ونهييهم عن المنكر، بل ويوصيهم بذلك، ويبايعه أصحابه رضي الله عنهم عليه، وتارة أخرى يخبر أن سيد الشهداء من قتل بسبب احتسابه وقوله للحق، كما يخبر عليه الصلاة والسلام أن كلمة الحق عند السلطان الجائر من أعظم الجهاد في سبيل الله تعالى.
بل إنه عليه الصلاة والسلام عد الاحتساب على الناس من الصدقات، وذلك في حديث أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:(يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة ...وذكر منها: وأمر بالمعروف صدقة ونهي عن المنكر صدقة...)رواه مسلم.
وجعل عليه الصلاة والسلام من حق الطريق لمن جلس فيه أن يحتسب على الناس، ولا يسكت إذا رأى المنكرات، وإلا لم يكن مؤديا لحق الطريق، وذلك في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:( إياكم والجلوس على الطرقات، فقالوا: ما لنا بد، إنما هي مجالسنا نتحدث فيها، قال: فإذا أبيتم إلا المجالس فأعطوا الطريق حقها، قالوا: وما حق الطريق؟ قال: غض البصر وكف الأذى ورد السلام وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر)رواه البخاري.(33/2)
والأسواق كالطرقات، وتكثر فيها المنكرات، ويرتادها كثير من الناس، وقل فيهم من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وهذا من تقصيرهم في هذا الباب العظيم من الدين.
ومن أساليبه عليه الصلاة والسلام في تقرير الحسبة أنه ضرب مثلا عظيما بين فيه ضرر المفسدين على المجتمع، ونفع المصلحين الذين يأخذون على أيديهم؛ ليدل الناس على أهمية الحسبة في نجاتهم، ورفع العذاب عنهم، فلا يتهاونوا بها، أو يقعدوا عن الأخذ على أيدي المفسدين والسفهاء منهم؛ لأنهم إن لم يأخذوا على أيديهم أهلكوهم معهم؛ كما روى النعمان بن بشير رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا)رواه البخاري.
وبين عليه الصلاة والسلام أن الهلاك الذي يصيب من تركوا الاحتساب، وعطلوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يكون خاصا وعاما؛ فالخاص يكون للأفراد بإلفهم للمنكرات، واعتيادهم مشاهدتها، وعدم إنكار قلوبهم لها، وهذا هو موت القلوب، ومن مات قلبه هلك.
وجاء معنى ذلك في حديث حذيفة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:(تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودا عودا، فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير على قلبين: على أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مربادا كالكوز مجخيا لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا إلا ما أشرب من هواه)رواه مسلم.(33/3)
فذكر عليه الصلاة والسلام أن من صفات القلب السليم إنكار الفتن، والإعلان بالمعاصي من أعظم الفتن، كما ذكر أن من صفات القلب الفاسد تشرب الفتن، التي من أعظمها ظهور المنكرات، فعدم الاحتساب على أصحابها، وعدم إنكار القلب لها هو الإصابة بموت القلوب وفتنتها، فلا تعرف معروفا ولا تنكر منكرا، إلا ما أشربت من هواها.
وأما العقاب العام، والعذاب الشامل إذا قدره الله تعالى على أمة من الأمم قد استوجبت ذلك بانتهاك حرماته جل وعلا فإنه لا يخص أهل المعصية وحدهم، بل يكون عاما عليهم وعلى غيرهم كما في قول الله تعالى {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ} [الأنفال:25] .
وسبب ذلك انتشار المنكرات وظهورها، مع عدم النكير على أصحابها؛ لضعف أهل الحق واستكانتهم وتقصيرهم، وقوة أهل الباطل وعتوهم وعنادهم، وقد جاء معنى ذلك في حديث زينب بنت جحش رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها فزعا يقول: (لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا، وحلق بإصبعه وبالتي تليها، فقالت زينب: فقلت: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث) متفق عليه.
والخبث لا يكثر إلا بتوافر أسبابه ودواعيه، التي منها جلد المفسدين في نشر فسادهم، وقوة نفوذهم، مع تقاعس المصلحين عن مدافعة المفسدين، ورد إفسادهم عن الناس.
وإذا وقع ذلك في أمة من الأمم كانت حرية بعقوبة الله تعالى كما في حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا منه ثم تدعونه فلا يستجاب لكم) رواه الترمذي وحسنه.(33/4)
وفي حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:(ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي يقدرون أن يغيروا عليهم ولا يغيروا إلا أصابهم الله بعقاب قبل أن يموتوا) رواه أبو داود وصححه ابن حبان.
والمتأمل للنصوص الواردة عن النبي عليه الصلاة والسلام في تقرير الحسبة، وأنها من شعائر الدين يجد أنها متنوعة؛ فتارة يأمرهم عليه الصلاة والسلام بالاحتساب على الناس، ويوصيهم بذلك، ويبايعهم عليه، ويعده في الصدقات، ويذكر أنه من الجهاد، وأنه نجاة للمجتمع، ويضرب الأمثلة على ذلك.
وتارة أخرى يرهبهم من التفريط فيه، ويذكر لهم ما يترتب على ترك الاحتساب من فساد القلوب، وحلول العقاب والهلاك.
وكل ذلك يدل على ما للاحتساب على الناس من أهمية كبرى في دين الله تعالى، وهذه الأمة الخاتمة تلازمها الخيرية ما قامت فيهم هذه الشعيرة العظيمة، فإذا ماتت فيهم لم يكونوا أحسن حالا من الأمم التي عذبت من قبل {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَوْ آَمَنَ أَهْلُ الكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ المُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الفَاسِقُونَ} [آل عمران:110].
بارك الله لي ولكم ....
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما أمر، والشكر على نعمه فقد تأذن بالزيادة لمن شكر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إرغاما لمن جحد به وكفر، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الشافع المشفع في المحشر، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله ربكم، وأقيموا على طاعته دهركم {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ اليَقِينُ} [الحجر:99].(33/5)
أيها المسلمون: من يحاربون الحسبة والمحتسبين من الصحفيين والإعلاميين ومن يسمون أنفسهم بالمفكرين والمثقفين يبنون فكرتهم في محاربة الحسبة والمحتسبين على مذهب غربي مفاده أن البشرية بعد الثورتين الصناعية والتجارية قد بلغت سن الرشد، وآن للإنسان أن يتحرر من أي وصاية عليه وبالأخص وصاية الدين؛ فله الحرية في أن يقول ما يشاء، ويفعل ما يشاء، ولا رقيب عليه ولا حسيب إلا نفسه وضميره كما يقولون.
ثم بعد ثورة الاتصالات والمعلومات التي نتج عنها مئات القنوات المرئية الفضائية، وملايين المواقع الألكترونية على الشبكة العالمية زاد إلحاح المفسدين في الأرض مطالبين بإلغاء الحسبة، ونشطوا في محاربة المحتسبين عبر وسائل الإعلام، بحجة أن العالم قد أصبح قرية واحدة، وأن منع الفساد أو تحجيمه لن يغني شيئا أمام طوفان عولمة الاتصالات، ويزعمون أنه من الخير للناس أن يتعايشوا مع الانفتاح الذي منه الفساد العقائدي والأخلاقي، ويعتادوا عليه، ويسارعوا إليه، قبل أن يفاجئوا به.
وكل هذه المسوغات التي يذكرونها ما هي إلا من حيل المفسدين، ووحي الشيطان لهم، وصدق لله تعالى إذ يقول {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام:121].
أما دعوى أن البشرية قد بلغت سن الرشد، ويجب أن ترفع الوصاية عن أفرادها فهي كذبة صدقوها ولم يطبقوها لا في الشرق ولا في الغرب؛ إذ يوجد في كل دول العالم قوانين وأنظمة، وعقوبات لمن ينتهكها، ومقتضى بلوغ البشرية سن الرشد أن تلغى جميع الأنظمة والقوانين والعقوبات؛ لأنها وصاية على البشر، ولا وصاية على من بلغوا سن الرشد، ولا يقول بهذا عاقل إلا ما كان من بعض منظري ما يسمى بالمذاهب الفوضوية التي ظلت كتاباتهم نظريات غير قابلة للتطبيق العملي.(33/6)
وإذا كان الأمر كذلك فلماذا يقبل المحاربون للحسبة وصاية بشر مثلهم عليهم في سائر الأنظمة والقوانين، ولا يقبلون وصاية شرع الله تعالى عليهم المتمثل في شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ وهل هم يعبدون بشرا مثلهم ويستنكفون من العبودية الله تعالى؟ ويطالبون الناس برفضها والتمرد عليها؟ وأما دعوى المسارعة إلى الانفتاح، وقبول ما عند الآخرين ولو كان فسادا لئلا نفاجأ به فهي دعوى مردودة بشرع الله تعالى الذي أمرنا بمدافعة الفساد، ومحاربة أزلامه، وتحذير الناس منهم {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الكُفَّارَ وَالمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المَصِيرُ} [التوبة:73] وفي آيات أخرى {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا * فَلَا تُطِعِ الكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} [الفرقان:52].
هذا؛ والأمم الأخرى من كتابية ووثنية تدافع عن أفكارها وأديانها وثقافاتها أمام غزو الأمم الأخرى لها، وتفرض وصاية على أفرادها في هذا السبيل، فما بال أقوامنا يرفضون الحق الذي لديهم، ويسارعون في باطل غيرهم، بل ويفرضون وصايتهم علينا بقسرنا على باطلهم؟!
إن الذين يرفضون شعيرة الحسبة ما هم إلا منحرفون متسلطون يريدون فرض وصايتهم على الناس، ويحولون بينهم وبين دينهم وشعائره، ويسعون في نقلهم من أشرف المقامات وهو مقام عبوديتهم لله تعالى، والرضا بدينه، والتزام أحكامه إلى عبودية أفكارهم الضالة، ومذاهبهم المنحرفة. كفى الله تعالى المسلمين شرهم، وردهم على أعقابهم خاسرين. آمين.(33/7)
{المُنَافِقُونَ وَالمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ المُنَافِقِينَ هُمُ الفَاسِقُونَ * وَعَدَ اللهُ المُنَافِقِينَ وَالمُنَافِقَاتِ وَالكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} [التوبة:68].
وصلوا وسلموا على نبيكم....(33/8)
العنوان: احذروه فإنَّه خائن.. بل عميل!
رقم المقالة: 986
صاحب المقالة: خباب بن مروان الحمد
-----------------------------------------
الجماعاتُ الإسلاميَّة جزءٌ من المجتمعات الإسلاميَّة، يعتريها بعضُ مظاهرِ الخلل والخلط والغلط بحكم البشريَّة التي لا تنفصم عن الخطأ، إلاَّ أنَّ هناك أموراً من المهم بمكان أن تكون على قمَّة الإحساس وتحري المسؤوليَّة، وأن يتعامل المرءُ المسلم معها بالميزان والقسط، وبالعلم والعدل، الذي ينبغي أن ينتهجه الإنسان الموصوف من عند الله تعالى بقوله: {إنَّه كان ظلوماً جهولاً} [الأحزاب: 73].
ونقد تصرُّف جماعة ما - دون أن يكون هناك تتبُّع لزلاَّتها - لا يعني أبداً أن يكون الناقدُ لها حاقداً عليها، أو متحاملاً كما يظن بعضُهم، فليس هذا من دين الحق الذي أَمَرَ بالنصح للمسلمين، وحب الخير لهم، وقد قيل: صديقُك من صَدَقَك لا من صدَّقك، وكما جاء في الحديث: ((المؤمن مرآة أخيه)) أخرجه أبو داود والترمذي من حديث أبي هريرة، وصحَّحه الألباني والصنعاني.
هناك مشكلة أجدُها - مع الأسف - تنتشر في أوساط بعض الحركات الإسلاميَّة؛ فحين يأتي أحدُهم لمجالسة حدهم للمجالسأحد المنتمين لجماعة أخرى لها جهودُها العلميَّة والفكريَّة التي لا تُنكر، يأتي آتٍ من جماعة إسلاميَّة أخرى ويقول لذلك المرء: إيَّاك أن تجالس هذا الشخص؛ فإنَّه (عميل - خائن - جاسوس – مخابرات!) إلى غير ذلك من التهم التي تحتاج لتوثيق وبيِّنة وبرهان!
وقد يُصاب هذا الشخص بنوع من الصدمة والوعكة النفسيَّة، ويتساءل متحيراً: يا ألله! كيف يكونُ هذا الشخص عميلاً وخائناً، وقد حدَّثتُه بأحاديث، وأفضيت له بأسرار، ويفتأ يعاتب نفسه ويحاسبها كيف تكلَّمت مع ذلك الرجل (العميل)!(34/1)
وقد يقول: لقد وقعت في الفخ! ووقعت في شباك ذلك الخائن! كم أنا غبي حين وثقت بهذا أو ذاك! ويبقى قائماً بعمليَّة (جلد الذات) وعتابها، التي قد تنعكس عليه سلباً بل رفضاً للعمل الدعوي الذي تُوجد فيه مثلُ تلك المآخذ، وهذا جزءٌ من سلبيات تلك الدعاوى القائمة على الظن والافتراء!
وقد تملي عليه نفسُه الحائرة حلاَّ تراه الأفضلَ في تجاوز تلك الأزمة؛ بأن يتنحَّى عن هذا الشخص (العميل) و(الخائن) و(المخابراتي) وأن يجانبه ويحذره، ولعلَّ الحكمة تقضي عليه بأن لا يسلِّم على ذلك الرجل؛ قياساً على الداعي للبدعة وهجره في كلام أهل العلم، وحتى لا يظن الظان بذلك المرء أنَّ له ارتباطاتٍ مع جهات مشبوهة.
ويأتي الأخ الذي قام بعضُ شباب تلك الجماعة بالتحذير منه إلى صاحبه من تلك الجماعة الذي دامت بينهما العشرة عمرا، فيكفَهِرُّ وجه الصديق بوجه صاحبه المتَّهم بالعمالة! ويبقى ذلك المتَّهم يعيش في صدمة الاستغراب!
تلك مشكلة أيها الكرام لها وجودُها في واقعنا الإسلامي، وظاهرة التصنيف الظالم والتخوين والاتهام بالعمالة والخيانة صارت ظاهرةً تتضاعف من بعض المنتمين للجماعات الإسلاميَّة، الذين يستهينون بمدلولاتها، وخطورة اتهام الشخص بتلك الأوصاف دون برهان أو دليل يوثق به.
سيقول قائل: وهل تنفي أن يكون بين الجماعات الإسلاميَّة خونة وعملاء لدهاقنة الشرق والغرب والطغاة؟
فأجيب: لست أنكر ذلك البتة، وكم قفزَ هؤلاءِ العملاءُ فوق رؤوسنا يوم كنَّا سذَّجاً، وقاموا بثوراتهم ومخطَّطاتهم ونحن مبهورون من تلك التصرفات!
وأرجو ألاَّ يزايد المزايدون على كلامي، فإنَّ الخونة والعملاء والجواسيس معروف خطرهم، ونحن مأمورون بالحذر منهم، حتَّى لا يميلوا علينا ميلة واحدة!(34/2)
لكنَّ الذي أقصده ذلك الوله العجيب من بعض الفئات (المتطرفة) من بعض المنتسبين للجماعات الإسلاميَّة - سدَّدها الله - حين يقوم أحدُهم، سواء كان قائداً أو عضواً بإطلاق تلك الدعاوى التي لم تثبت على ذلك الرجل الذي وُصِمَ بتلك الشناعات ظلماً وعدوانا!
ثمَّ يسري الكلام كما تسري النار في حرق السعفة من النخل، دون حجة أو برهان، بل بالشبهة المحضة أو حتى الدعاية المغرضة، بل ربما يكون الأمر خلافاً شخصياً، ويتسامع أعضاء هذه الجماعة بأنَّ فلاناً من تلك الجماعة الأخرى، أو ممَّن يجالس بعض شبابنا رجل (خائن وعميل)، حتَّى تبدو التهمةُ على ذلك المسكين كأنَّها ثابتة، وإذا شكَّك أحد المشكِّكين في هذا الخبر يعارضه المتحذلقون قائلين: ما من دخان إلاَّ وله نار، والحيطة أولى، والحذر متحتِّم، والهجر أفضل وأسلم وأحكم!
ويذهب الدليل القاطع في إثبات تلك التهمة أدراج الرياح، بل قد يُشكَّك في ذلك الرجل المشكِّك في تلك الرواية (المكذوبة) التي تتحدث عن ذلك العميل، وقد يلقى من بعض أصحابه تقريعاً وتوبيخاً؛ إذ كيف تشكك في تلك الرواية التي لقيت قبولاً واسعاً!
إنَّ ظاهرة كهذه - وأقولها بكل أسف - تحتاج لعلاج حاسم لقطع دابرها، حفاظاً على أمانة الكلمة، ونصحاً للنفوس، وتيقناً قبل بثِّ الخبر ونشره.
لقد جاء القرآن الكريم بآيتين عظيمتين جدا ، كثير من يحفظهما، وقليل من يطبقهما:
(1) في قوله - تعالى -: {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإٍ فتبيَّنوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين} [الحجرات: 6]، وفي قراءة (فتثبَّتوا).
(2) في قوله - تعالى -: {إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم} [النور: 15].(34/3)
إنَّ آيتين عظيمتين كهاتين ينبغي أن نتخذهما قاعدةً نلتئم عليها، ونعَضّ عليهما بالنواجذ، ونتعامل على ضوئهما مع الأراجيف والأكاذيب والشبهات والشائعات، وخصوصاً على عباد الله المؤمنين، فما بالك بمن عداهم!
إنَّ اتهام أحد بوصف شائن ليس عليه بيِّنة أو دليل وبرهان داخل في الغِيبة المحرَّمة، المعدودة عند أهل العلم من كبائر الذنوب، وقد أخرج الإمام مسلم - رحمه الله - في صحيحه، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((أتدرون ما الغيبة؟)) قالوا : الله ورسوله أعلم، قال:((ذكرُك أخاك بما يكره))، قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: ((إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهته)).
وإن من تصحيح المسيرة الدعويَّة للعاملين في الحقل الإسلامي أن يراجعوا الكلمة التي تخرج من أفواههم، أو من ادِّعاءات بعضهم، وأن يعلموا أنَّه {ما يلفظ من قول إلاَّ لديه رقيب عتيد} [ق: 18]، وأنَّ الله - تعالى - سيقف مع كل فرد يسأله، وليس بينه وبينه ترجمان!
ومن المهم أن يكون لدى عقلاء الجماعات وحكمائها مساءلةٌ لهؤلاء المذيعين لتلك الدعوى، من أين أخذتم تلك الدعوى؟ وما دليلُكم القاطع عليها؟
وذلك لئلاَّ يكون هناك استهانة بقدر تلك الدعاوى وحرمتها عند الله تعالى، والتي يكون غالبها ادعاءات تهدف في الغالب للإساءة والهدم فقط، لمجرَّد المخالفة في الرأي!
كما ينبغي أن يعلم أنَّ هذا الاتهام المرسل من الدليل أو البرهان يتناقض مع مقتضيات الأخوة الإسلامية التي منها أن لا يظن المسلم بأخيه إلا خيرا، وتتعارض كذلك مع القاعدة التى تنص على أن الأصل في المسلم براءة الذمة.(34/4)
إنَّها مفاهيم بحاجة لأن تنتشر في أوساطنا نحن الإسلاميين والعاملين لهذا الدين، وأن يكون لنا موقف تُِجاه ظاهرة التخوين للأشخاص ما لم يقم عليها دليل أو برهان، يكون موقفنا الحسم تجاه من قال ذلك، وتذكيره بالله تعالى، ومطالبته بالحجَّة والدليل، أمَّا من يُلقي الكلام على عواهنه ويطلقه جزافاً بلا قيد ولا خيط فإنَّه متعرض لعقوبة الله تعالى.
نعم! للفرد منَّا إن شعر من شخص معيَّن ريبةً - وربما لا يكون كذلك - أن يستيقن منه الخبر، وأن يصارحه؛ فإن شعر بغموض ينافي الثوابت الإسلاميَّة؛ فللمرء أن يحتاط لنفسه، مع أهميَّة استشعار القاعدة المعروفة عند أهل العلم بأن نعامل الناس بظواهرهم وندع سريرتهم إلى الله تعالى، خصوصاً وأنَّ الموضوع قد يكون نتيجة سوء في علاقة شخصيَّة، ويكون غلواً حزبياً وتعصباً مذموماً، أو تناكراً في الأرواح وتقاربها، وهذا قد يحصل بين القريب وقريبه، فليس ذلك أمراً مستنكراً، وقد قال - صلَّى الله عليه وسلَّم - فيما روته عنه أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها -: ((الأرواح جنود مجنَّدة؛ فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف)) أخرجه البخاري ومسلم.
ولو بحثنا في آثار تلك المشكلة في صفاء العلاقات بين المسلمين بعامة والجماعات الإسلامية بخاصة فسنجد ما يعكر الأجواء، ويبث الشكوك والاتهامات المضادة أحيانا، الأمر الذي قد يَحُولُ دون تضافر الجهود والتوحد حول الأهداف التي تشغل بال الجميع.
غير أنَّ الخطير أن تبني فوق تلك النظرة لذلك الرجل تصورا معينا، أو من خلال نظرة وجدت لم يرتح قلبك له في تصرفها، فحاولت أن تبني عليها قلاعاً من مفاهيم ومواقف، إلى أن يصل الأمر إلى الاتهام بالعمالة والخيانة لذلك الرجل لموقف رأيته ربما لا ينمُّ عن حقيقة ما تقول، وحقاً إنَّها مشكلة تحتاج لتقوى الله فحسب، وكفى بالله حسيباً ورقيبا!
{وتحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم} [النور: 15](34/5)
العنوان: احذري!!!
رقم المقالة: 1016
صاحب المقالة: أسماء عبدالرازق
-----------------------------------------
• احذري أيتها المسلمة مما يسمونه "مدنية!"، وبالغي في الحذر!
احذري من دعوات الحرية التي يزوقونها؛ لتتهافت النساء عليها.. تهافت الفراش على النار!! إنكِ لو نظرت بعين بصيرتك إلى هذه التي يسمونها "حرية"؛ لأدركت أنه ليس فيها من الحرية إلا اسمها!
أما حقيقتها فهي:
- "إما شرود المرأة لالتماس الرزق؛ حين لم تجد الزوج الذي يكفيها، أو الأب الذي يعولها، أو الأخ الذي يقيم لها ما تحتاج إليه؛ فهذا نكد في العيش! وليس هذا بحرية، إنما هو الاستعباد للعمل شر ما تستعبد امرأة"(1). وإلاّ فمتى كان فقد الزوج الكافل، والأب العائل، والأخ الباذل؛ حرية؟!
- "وإما انطلاق المرأة في عبثاتها، وشهواتها؛ تخالط الرجال، وتتمادى في الطيش والتهتك، ولا تتقيد إلا بحرام المدنية وحلالها، ولا تأبه بخزي ولا عار ما دام القانون المدني لا يحاسبها عليه، فهذه ليست بحرية، إنما تستعبدها الشهوات، شر ما يستعبد آدمي"(1)، وأي حرية تلك التي تطلق لكِ العِنانَ من أجل السقوط في الهاوية؟!
- "وإما غطرسة المرأة المتعلمة، وتعاليها، على الرجال والنساء معاً؛ فلا ترضى بالرجل قيِّماً عليها، فهي من أجل ذلك مُطْلَقَةٌ مُخلاَّةٌ؛ كيلا يكون عليها سلطان ولا إمرة، فمثل هذه حرة بانقلاب طبيعتها وزيغها، وهي مستعبدة ،لهوسها وشذوذها وضلالها، شرَّ ما يكون الاستعباد.
حرية المرأة -في هذه المدنية- أَوَّلُها ما شئتِ من أسماء وأوصاف، ولكن آخرها دائماً: إما ضياع المرأة، أو سقوط المرأة"[1]!!
• احذري أيتها المسلمة مما يسمونه "مدنية!"، وبالغي في الحذر!(35/1)
احذري مما يسمونه دعوات القضاء على التمييز بين الرجال والنساء، والمطالبة بالمساواة التامة بينهما في الحقوق والواجبات؛ لأن ذلك -أولاً- لا يمكن أن يكون، وثانياً؛ لأن العاقل يطالب بما يناسبه، لا بما يناسب غيره. ولو اطلعتِ على جانب من واقع تلك المجتمعات، التي تخدع المرأة عن حقوقها، وتُلزِمها بما يجب على الرجل؛ لأيقنت أن كلمة (القضاء على التمييز!) إنما هو خطأ (طَبعي)، صوابه: (القضاء على تميُّز المرأة!!).
• احذري أيتها المسلمة مما يسمونه "مدنية!"، وبالغي في الحذر!
احذري أن تستبدلي عباءتك الواسعة السابغة بتلك العباءة الحديثة (المودرن)، التي ما ابتكروها؛ إلا لتكشف أكثر مما تستر!!
احذري، ولا تصدقي الذين يدَّعون أن الفضيلة في القلب! وما دامت المرأة عفيفة فاضلة؛ فلا يضرها بعد ذلك شيء، سواء استترت، أو مشت قريباً من حالها يومَ وُلدت، في قعر بيت رذيلة!!!
احذري، ولا تركني لمن يدَّعون أن المدنية والتحضر كفيلان بتهذيب النفوس وتطهيرها، وتحصين الشهوات وكبتها، فالواقع يقول: إن طبيعة الوقود والنار لا تسلبها مدنية!
ثم "لأيهما يجب التحصين: أللصاعقة المنقضة؟ أم للمكان الذي يُخشى أن تنقض عليه؟! لقد أجابت الشريعة الإسلامية: حصنوا المكان، ولكن المدنية صاحت: حصنوا الصاعقة"[2]!!
إن المرأة بغير حجاب مثل الكنز الثمين المعروض لأعين اللصوص، تحوطه الغفلة لا المراقبة! هَبي أن الناس جميعاً شرفاءُ، متعففون، متصاونون؛ فإن (الكنز) متى تُرِك مكشوفاً، وأُغفل عن الحراسة؛ أَوجَدَ انكشافُه هذا نفسُه (اللص)!
واعلمي أن الحجاب إنما هو الستر الذي يخفي ذلك الكنز عن أعين اللصوص، والدين هو الحارس الذي لا يجرؤ مخلوق على الاقتراب من حماه.(35/2)
تذكري دائماً أن عفاف المرأة -كسائر ممتلكاتها الثمينة- لا تحفظه المرأةُ بنفسها ما لم تتهيأ لها الوسائل والأسباب التي تعينها على ذلك، وأهمها وأقواها تلفُّعُها بحجابها، وقرارُها في بيتها، واستمساكها بدينها.
• احذري أيتها المسلمة مما يسمونه "مدنية!"، وبالغي في الحذر!
احذري أن تظني أن المرأة لا يمكن أن تتمدن وتتحضر ما لم تتخلَّ عن دينها وأخلاقها، وتعُبَّ من كأس الرجس، الذي تطالعنا به الفضائيات الساقطة، والمواقع المتحللة.
احذري أن تظني أن غاية التحضر ثياب رقاق، ووجه مصبوغ، وقَصَّة غربية، ولُكْنَةٌ أعجمية، ومِشية متكسرة، ونفسٌ مستكبرة، فتكوني كتلك المستغربة، المخدوعة، التي تشمخ بأنفها حتى تكاد تلصقه بالسماء كلما نظر إليها الناظرون!! تظن أنها عند الناس أرقى الناس، وهي في حقيقة الأمر مثار سخرية السفهاء، وسبب أسف العقلاء.
احذري أن تستخفك المظاهر الخداعة، والكلمات المنمقة، واعلمي أن أعقل النساء من تضن بدينها وأخلاقها ضنَّها بنفسها وذويها، واستيقني أن المرء كالدار المبنية؛ لا يسهل تغيير حدودها إلا إذا كانت خراباً.
• احذري أيتها المسلمة مما يسمونه "مدنية!"، وبالغي في الحذر!
احذري دعوات المُنادين بحق المرأة في الترفيه والرياضة، ولا تصدقي أن غاية همهم أن تكوني رشيقة أنيقة، راضية النفس، هادئة البال.
لقد اغترت الغربية -قبلك- بذات الدعوات، فجربتِ الرياضات الخفيفة، التي قيل لها: إنها تناسب النساء! وتهافتت على الانضمام إلى النوادي النسائية المغلقة، ثم زينوا لها التقيد بالثياب الرياضية، التي لا تعوق حركتها! ثم أغروها بالاشتراك في المنافسات الرياضية النسائية، ثم دعوها للمطالبة بالمساواة الكاملة مع الرجال؛ لأنها ليست أقل منهم شأناً! فجربت كل أنواع الرياضات، حتى الملاكمة، وحمل الأثقال!!! واشتركت في بعض المنافسات جنباً إلى جنب مع الرجال..
ثم ماذا؟؟!!(35/3)
ثم اكتشفت أنها بدلاً من أن تكون امرأة رشيقة؛ صارت خَلقاً غريباً؛ فلا هي امرأة، ولا هي رجل!!
واكتشفت أن جبلتها -وحدها- لا تضمن لها التفوق في الرياضة؛ فاستعملت المنشطات!!
ولما أرهقت المنافسات أعصابها؛ لجأت إلى المهدئات!!
ثم لما انقضى شبابها؛ أفاقت فاكتشفت أنها كانت واحدة من جملة قرود (السيرك)، تقضي جل وقتها في التدريب، ثم تستعرض ما تعلمته أمام المتفرجين!!
ثم لما أعياها الاستمرار في التدريب والاستعراض؛ تركوها واستبدلوا بها غيرها، فإذا هي قد خسرت ماضيها ومستقبلها، وليس لها في حاضرها إلا الحسرة والندامة.
• احذري أيتها المسلمة مما يسمونه "مدنية!"، وبالغي في الحذر!
احذري ولا تصدقي أنك عاطلة؛ لأنك لا تعملين في المكاتب، والدكاكين، والشوارع، وفوق أسطح البنايات!!!
احذري أن تصدقي أنك لن تحققي ذاتك، وتضمني استقلالك؛ إلا إذا خرجت، وكدحت، وحصلت على ما يغنيك عن الحاجة إلى أبيك أو ذويك، ويفك عنك قيد التبعية لهم، والاعتماد عليهم.
احذري أن يخدعوك بالاستقلال، فتتخلَّي عن حقك في النفقة، وعن مال الله الذي آتاك، فتُجهدي نفسك وأعصابك بما لا يجب عليك، أو تتخلي عن حقك في الحماية والرعاية، فتضيعي بين هؤلاء الماكرين، الذين يريدون اضطرارك إلى الخروج، وتجريدك من النصير، فلا تجدين من تفزعين إليه، ولا من تحتمين به، وأنت -بالغةً ما بلغتِ- امرأةٌ بطبيعتك؛ تحتاجين إلى الرعاية والحماية حاجتَك للطعام والشراب.
احذري، ولا تصدقي أنك لن تكوني عصرية (فاعلة)؛ ما لم تستبدلي دورك النمطي التقليدي بدور عصري حديث؛ فتشتغلي في الحياة العامة، وتؤثّري في المجالات الاقتصادية والسياسية والتقنية، وتساهمي في تقدم بلادك، وارتقاء مجتمعك، وتتركي تلك المهام المتواضعة لمن هن دونك في العلم والمقدرات!!(35/4)
واعلمي أن قرارك في بيتك، ورعايتك لأبنائك، وقيامك بشؤون زوجك، وقايةٌ لمجتمعك من بلايا كثيرة؛ أولها الأمراض النفسية، وآخرها الانتحار والمخدرات.
واعلمي أن تربية الأولاد، وحسن تعهدهم وتنشئتهم؛ أثمن من أي عمل آخر، وأن دورك هذا لن يستطيع أن يقوم به غيرك، فلا تَدَعي ما تقدرين عليه، من الأمور الخطيرة الجليلة، لما سواها من المهام التي يمكن أن يؤديها آخرون.
احذري! واعتبري بالمخدوعات، في الغرب والشرق، فإنك إن سلكت طريقهن؛ فلن تصلي إلا للهُوَّةِ التي تَرَدَّيْنَ فيها.
فاحذري أيتها المسلمة مما يسمونه "المدنية!"، واحذري، واحذري، وبالغي في الحذر!
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] (من وحي القلم)، مصطفى صادق الرافعي، (1/294-295) بتصرف.
[2] مقتبسة من قصة بعنوان: "عربة اللقطا"ء، (من وحي القلم)، الرافعي.(35/5)
العنوان: احفظِ اللهَ يحفظْك
رقم المقالة: 1815
صاحب المقالة: إبراهيم الأزرق
-----------------------------------------
قال علماؤنا: "مَنْ حفظ الله في صباه وقوَّته، حفظه الله في حال كِبَرِه وضعفِ قوّته، ومتَّعه بسمعه وبصره وحولِه وقوَّته وعقلِه"[1]، واستُدِل لذلك بقوله -صلى الله عليه وسلم-: "احفظ الله يحفظك".
قال ابنُ الجوزي: "وقرأت بخط الشيخ أبي الوفا بن عقيل، قال: حكى لي بعضُ أهل العلم أن القاضي أبا الطيب [طاهر بن عبدالله بن طاهر الطبري]، صعد من سميرية [ضرب من السفن]، وقد تم له عشر المائة، فقفز منها إلى الشطِّ، فقال له بعض من حضر: يا سيدنا لا تفعل هذا فإن أعضاءك تضعف وربما أورثت مثل هذه الطفرة فتقاً في المعى. فقال: يا هذا إن هذه أعضاءنا حفظناها من معاصي الله فحفظها الله علينا"[2].
قال ابن رجب: "وعكس هذا أنَّ بعض السَّلف رأى شيخاً يسأل الناسَ، فقال: إنَّ هذا ضيَّع الله في صغره، فضيَّعه الله في كبره"[3].
وهذا أمر مشهود؛ فقد عاصرنا بل جالسنا من المشايخ من جاوز التسعين وعقلُه وافر حاضر، وقد حفظ الله عليه قواه إلى حين أن توفاه، وبعضهم بحمد الله لا يزال على قيد الحياة، وقد ذكر لي من صلى في رمضان المنصرم خلف أحد المشايخ العالمِين وقد أشرف على عشر التسعين أنه ختم بهم في أول ليالي العشر، وكاد يختم بعدها لولا أن تعجل انصرام الشهر.(36/1)
وتأمل حال السلف رضوان الله عليهم، عاش أنس بن مالك مائة، فقد قيل: إنه لم يجاوز المائة، وقيل: بل جاوزها بثلاث سنين، وهو لا يزال يحدث ويروي أخبار النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو وافر العقل، وقد كان في عصره من قومه وغيرهم من عاش فوق ذلك، فبلغ حسان بن ثابت مائة وعشرين سنة ولم يتغير له عقل، وكان سويد بن غفلة -رحمه الله- يؤم الناس في قيام رمضان وقد أتى عليه مائة وعشرون سنة، ثم عاش حتى تم له مائة وثلاثون سنة، وبلغ أبو رجاء العطاردي -رحمه الله- مائة وسبعاً وعشرين سنة وهو من الثقات الأثبات، وبلغ أبو عمرو سعد بن إياس الشيباني مائة وعشرين سنة، وبلغ المعرور بن سويد مائة وعشرين سنة، وبلغ زر بن حبيش مائة وسبعاً وعشرين سنة، وبلغ أبو عثمان النهدي مائة وثلاثين وقيل مائة وأربعين سنة، قال العلامة المعلمي اليماني بعد أن ذكر هؤلاء: "وحسان صحابي من قوم أنس، والستة الباقون كلهم ثقات أثبات مجمع على الاحتجاج بروايتهم مطلقاً، ولم يطعن أحد في أحد منهم بأنه تغير بأَخَرَة. وأما من جهة قوة البدن فلم يزل أنس صالحاً حتى مات لم يعرض له وهن شديد، وأما من جهة كمال العقل وحضور الذهن فلم يزل أنس كامل العقل حاضر الذهن حتى مات".
فاحفظ الله في صغرك، يحفظك الله يا عبد الله حال كبرك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] جامع العلوم والحكم ص186.
[2] صفة الصفوة 2/493.
[3] جامع العوم والحكم ص186.(36/2)
العنوان: أحكام زكاة الفطر
رقم المقالة: 710
صاحب المقالة: سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
-----------------------------------------
الحمد لله الذي من علينا بشريعة الإسلام، وشرع لنا ما يقرب إليه من صالح الأعمال، والحمد لله الذي أنعم علينا بتيسير الصيام والقيام، وجعل ثواب من فعل ذلك تكفير الخطايا والآثام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو الجلال والإكرام، وأشهد أن محمداًً عبده ورسوله أفضل من صلى، وزكى، وحج، وصام صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان، وسلم تسليماً.
أما بعد أيها الناس: اتقوا الله تعالى، وفكروا في أمركم ماذا عملتم في شهركم الكريم، فإنه ضيف كريم قارب الزوال، وأوشك على الانتهاء والارتحال، وسيكون شاهداً لكم، أو عليكم بما أودعتموه من الأعمال، فابتدروا أيها المسلمون ما بقي منه بصالح الأعمال والتوبة إلى الله والاستغفار لعل ذلك يجبر ما حصل من التفريط والاهمال لقد كانت أيام هذا الشهر الكريم معمورة بالصيام والذكر والقرآن ولياليه منيرة بالصلاة والقيام وأحوال المتقين فيه على ما ينبغي، ويرام، فمضت تلك الأيام الغرر، وتلك الليالي الدرر كالساعة من نهار، فيا أسفا على تلك الليالي والأيام لقد مضت أوقات شهرنا سراعا، وكان كثير منها في التفريط مضاعاً، فنسأل الله تعالى أن يخلف علينا ما مضى منها، وأن يبارك لنا فيما بقي منها، وأن يختم لنا شهرنا بالعفو والغفران والقبول والعتق من النار وبلوغ المأمول، وأن يعيد أمثاله علينا في خير وأمن وإيمان.(37/1)
أيها المسلمون: لقد شرع لنا ربنا الكريم في ختام هذا الشهر عبادات جليلة يزداد بها إيماننا، وتكمل بها عباداتنا، وتتم بها علينا نعمة ربنا شرع لنا ربنا في ختام هذا الشهر زكاة الفطر والتكبير وصلاة العيد، فأما زكاة الفطر فهي صاع من طعام صاع من البر أو الرز أو التمر أو غيرها من قوت الآدميين، قال أبو سعيد رضي الله عنه: فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زكاة الفطر صاعا من طعام، وكلما كان من هذه الأصناف أطيب وأنفع للفقراء، فهو أفضل وأعظم أجراً، فطيبوا بها نفسا، وأخرجوها من أطيب ما تجدون، فلن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون، وهي ولله الحمد قدر بسيط لا يجب في السنة إلا مرة واحدة، فكيف لا يحرص الإنسان على اختيار الأطيب مع أنه الأفضل عند الله وأكثر أجرا. ويجوز للإنسان أن يوزع الفطرة الواحدة على عدة فقراء، وأن يعطي الفقير الواحد فطرتين، فأكثر؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قدر الفطرة بصاع، ولم يبين قدر من يعطي، فدل على أن الأمر واسع، وعلى هذا لو كال أهل البيت فطرتهم، وجمعوها في كيس واحد، وصاروا يأخذون منها للتوزيع من غير كيل، فلا بأس لكن إذا لم يكيلوها عند التوزيع، فليخبروا الفقير بأنهم لا يعلمون عن كيلها خوفاً أن يدفعها عن نفسه، وهي أقل من الصاع.(37/2)
وزكاة الفطر فرض على جميع المسلمين على الصغير والكبير والذكر والأنثى، فأخرجوها عن أنفسكم، وعمن تنفقون عليه من الزوجات والأقارب، ولا يجب إخراجها عن الحمل الذي في البطن، فإن أخرج عنه فهو خير، والأفضل إخراج الفطرة يوم العيد قبل الصلاة، ويجوز إخراجها قبل العيد بيومين فقط، ولا تجزئ بعد صلاة العيد إلا إذا كان الإنسان جاهلا لا يدري مثل أن يأتي العيد بغتة، ولا يتمكن من أدائها قبل الصلاة أو يظن أنه لا بأس بتأخيرها عن الصلاة، فهذا تجزئه بعد الصلاة، ولا يجزئ دفع زكاة الفطر إلا للفقراء خاصة، والواجب أن تصل إلى الفقير، أو وكيله في وقتها، ويجوز للفقير أن يوكل شخصاً في قبض ما يدفع إليه من زكاة، فإذا وصلت الزكاة إلى يد الوكيل، فكأنها وصلت إلى يد موكله، فإذا كنت تحب أن تدفع فطرتك لشخص، وأنت تخشى أن لا تراه وقت إخراجها، فمره أن يوكل أحداً يقبضها منك، أو يوكلك أنت في القبض له من نفسك، فإذا جاء وقت دفعها، فخذها له بكيس أو غيره، وابقها أمانة عندك حتى يأتي، وأما التكبير فقد أمر الله به تعالى في كتابه، فقال: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ}. أي: على ما وفقكم له من الصيام، والقيام وغيرهما من الطاعات في هذا الشهر، فكبروا أيها المسلمون من غروب شمس ليلة العيد إلى الصلاة قولوا: الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد، قولوا: ذلك جهرا في المساجد، والأسواق، والبيوت، إلا النساء، فإنهن يكبرن سراً لا جهرا.(37/3)
وأما الصلاة فقد أمر بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى النساء، فاخرجوا رحمكم الله إلى الصلاة رجالاً ونساء كباراً وصغاراً، ولتخرج النساء غير متجملات، ولا متطيبات، وتعتزل الحائض المصلى؛ لأن مصلى العيد مسجد، أما الرجال، فالسنة أن يخرجوا متطيبين لابسين أحسن ثيابهم بعد الاغتسال والتنظيف، والسنة أن يأكل الإنسان قبل خروجه إلى الصلاة تمرات وتراً ثلاثاً أو خمساً أو سبعاً أو نحوها من الوتر، وسمعت أن بعض النساء يخرجن بالتمر معهن إلى مصلى العيد يفطرن فيه، وهذا بدعة لا أصل له، وبعضهن يفعل ذلك إذا جاء خبر العيد بعد الفجر يقلن: ما نفطر إلا بالمصلى وهذا أيضاًً لا أصل له بل الواجب أن ينوي الإنسان الفطر من حين أن يثبت العيد؛ لأن إمساك يوم العيد حرام. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى}. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.. الخ.(37/4)
العنوان: أحكام عشر ذي الحجَّة
رقم المقالة: 1771
صاحب المقالة: عبدالله بن راضي المعيدي الشمري
-----------------------------------------
أحكام عشر ذي الحجَّة
ملخص الخطبة
1- فضل الأيام العَشْر من ذي الحجَّة.
2- ما يُشرع في هذه الأيام من الأعمال.
3- صفة العمرة.
• • • • •
الخطبة الأولى
أما بعد:
أيها الناس، اتقوا الله تعالى، واعلموا أنكم في هذه الدنيا في دار ممرٍّ، وما زلتم في سفر، وأن إلى ربكم المستقر، وأنها تمرُّ بكم مواسم عظيمة تُضاعف فيها الحسنات وتكفَّر فيها السيئات. ومن هذه المواسم أيام عَشْر ذي الحجَّة التي دخلتموها بفضل ربِّكم ونعمته، وهذه الأيام من أعظم الأيام عند الله يا عباد الله، ولا يخفى فضلها وشرفها إلا على أهل الغفلة والإعراض، أيامٌ عظَّم الله فيها العمل وأجزل فيها الأجر، ولكن أكثر الناس لا يشكرون.
فهذه الأيام أيامٌ مباركةٌ شريفةٌ، قد نوَّه الله بها في كتابه الكريم؛ حيث قال سبحانه: {وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر: 1-2]، والمراد باليالي العشر: عَشْرُ ذي الحجَّة، أقسم الله بها تعظيمًا لشأنها وتنبيها على فضلها.
ومما ورد في فضلها: ما أخرج البخاريُّ من حديث ابن عباس - رضيَ الله عنهما - عن النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((ما من أيام العمل الصالح فيها أحبُّ إلى الله من هذه الأيام))؛ يعنى: العشر. قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ((ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجلاً خرج بنفسه وماله، ثم لم يرجع من ذلك بشيءٍ)).
وهذه الأيام - يا عباد الله - يُشرَع فيها للمسلم أعمالٌ ينبغي أن يحافظ عليها، ومن هذه الأعمال:
أولاً: أداء الحجِّ والعمرة، وهو أفضل ما يعمل، ويدلُّ على فضله عدَّة أحاديث؛ منها قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((العمرة إلى العمرة كفارةٌ لما بينهما، والحج إلى الحج المبرور ليس له جزاءٌ إلا الجنة)).(38/1)
ثانيًا: من الأعمال المشروعة في هذه العَشْر صيام هذه الأيام أو ما تيسَّر منها، وبالأخصّ يوم عرفة، والصيام عملٌ مبرورٌ وسعيٌ مشكورٌ، أهمله كثيرٌ من الناس، فتجد بعضًا من المسلمين قد تهاون في هذه السُّنة العظمة، لا يصوم إلا شهر رمضان، أما صيام الإثنين والخميس أو الأيام البِيض أو يوم عرفة - فلا يصومها إلا مَنْ رحم ربي، وهذا جهلٌ بعظيم الفضل ووافر الأجر.
اسمعوا ماذا قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - في فضل الصيام، قال: ((ما من عبدٍ يصوم يومًا في سبيل الله - إلا باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفًا))؛ متَّفقٌ عليه. الله أكبر يا عباد الله.
أما صوم يوم عرفة؛ ففضله عظيمٌ وأجره كبيرٌ؛ روى مسلمٌ - رحمه الله - عن أبي قتادة، عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((صيام يوم عرفة أحتسِبُ على الله أن يكفِّر السنة التي قبله والتي بعده)).
فأنت - أيها المسلم - إذ لم يتيسَّر لك الحجُّ فعندك يوم عرفة، جعله الله لمَنْ لم يحجَّ غنيمةً باردةً، فلا يفوتنَّكم هذا اليوم يا عباد الله. أما الحاجُّ فلا يصوم هذا اليوم كما ثبت في الحديث.
ثالثًا: من الأعمال المشروعة التَّكبير والتَّهليل والتَّحميد؛ لقوله تعالى: {وَيَذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ} [الحج: 27]، والأيام هنا العَشْر.
وعن ابن عمر - رضيَ الله عنهما - عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنه قال: ((ما من أيامٍ أعظم عند الله سبحانه ولا أحبُّ إليه العمل فيهنَّ من هذه الأيام العَشْر؛ فأكثروا فيهنَّ من التَّهليل والتَّكبير والتَّحميد))؛ رواه الإمام أحمد.
وذكر البخاري - رحمه الله - أن ابن عمر وأبا هريرة - رضيَ الله عنهما - كانا يخرجان إلى السوق في أيام العَشْر، يكبِّران ويكبِّر الناس بتكبيرهما. واليوم تدخل السوق والمسجد والدُّور والطُّرقات ولا تجد مَنْ يكبِّر أبدًا، وهذا جهلٌ بالسُّنة وزهدٌ في الأجر.(38/2)
والتكبير - يا عباد الله - نوعان: مطلقٌ يبدأ من دخول العَشْر إلى آخِر أيام التشريق، ومقيَّدٌ وهو الذي بعد الصلوات، يعني بعدما تصلِّي تكبِّر، وهذا يبدأ يوم عرفة بعد صلاة الفجر.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
الخطبة الثَّانية
عباد الله:
سنذكر كيفية الإحرام: فإذا أراد المسلم أن يُحْرِمَ بعمرة أو حجٍّ؛ فالمشروع له إذا وصل الميقات أن يتجرَّد من ثيابه، ويغتسل كما يغتسل للجنابة، ويتطيَّب بأطيب ما يجد من دهن وعود أو غيره، في رأسه ولحيته، لا في لباسه، ولا يضرَّه بقاء ذلك بعد الإحرام؛ لما في "الصحيحين" من حديث عائشة - رضيَ الله عنها - قالت: كان النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - إذا أراد أن يُحْرِمَ تطيَّب بأطيب ما يجد، ثم أرى وَبِيصَ المِسْك في رأسه ولحيته بعد ذلك.
والاغتسال عند الإحرام سنَّةٌ في حقِّ الرجال والنساء، حتى النُّفساء والحائض؛ لأن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أمر أسماء بنت عُمَيْس حين نفست أن تغتسل عند إحرامها وتَسْتَثْفِر بثوبٍ وتُحْرِم.
ثم بعد الاغتسال والتطيُّب يلبس ثياب الإحرام، ثم يصلي - غير الحائض والنفساء - الفريضة إن كان في وقت فريضة، أو يصلِّي نافلةً كوِتْرٍ أو الضحى، وإلا صلى ركعتين ينوي بهما سنَّة الوضوء، فإذا فرغ من الصلاة أَحْرَمَ، فإن كان عمرةً قال: لبَّيْك عمرة، وإن كان حجًّا قال: لبَّيْك حجًّا، وإن كان متمتِّعًا قال: لبيك عمرة ممتَّعًا بها إلى حجٍّ. وذهب البعض إلى أن الإحرام يكون بعد ركوب الدابَّة واستوائه عليها، وهذا هو اختيار شيخنا ابن عثيمين - رحمه الله.(38/3)
وإذا كان مَنْ يريد الإحرام خائفًا من عائقٍ يعوقه عن إتمام نسكه؛ فإنه ينبغي أن يشترط عند الإحرام؛ فيقول عند عَقْدِه: إن حبسني حابسٌ فمحلِّي حيث حبستني؛ أي: إن منعني مانعٌ عن إتمام نُسُكي؛ من مرضٍ أو تأخُّرٍ أو غيرهما؛ فإني أحلُّ من إحرامي؛ لأن النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - أمر ضُباعَة بنت الزُّبير حين أرادت الإحرام وهي مريضة أن تشترط، وقال: ((إنَّ لكِ على ربِّكِ ما استثنيتِ)). فمتى اشترط وحصل له ما يمنعه من إتمام نسكه - فإنَّه يحلُّ ولا شيءَ عليه.
وأما مَنْ لا يخاف من عائقٍ يعوقه من إتمام نسكه؛ فإنه لا ينبغي له أن يشترط؛ لأن النبي لم يشترط ولم يأمر بالاشتراط كلَّ أحد، وإنما أمر به ضُباعَة بنت الزُّبير لوجود المرض بها.
وينبغي للمُحْرِم أن يكثر من التَّلْبية، خصوصًا عند تغيُّر الأحوال والأزمان، مثل أن يعلو مرتفعًا، أو ينزل منخفضًا، أو يقبل الليل أو النهار، وأن يسأل الله بعدها رضوانه والجنة، ويستعيذ برحمته من النار.
والتَّلْبية مشروعةٌ في العمرة من الإحرام إلى أن يبتدئ بالطواف، وفي الحج من الإحرام إلى أن يبتدئ برمي جمرة العقبة يوم العيد، ولفظها: ما رواه البخاري وغيره عن ابن عمر - رضيَ الله عنهما - أنَّ تلبية رسول الله - عليه الصَّلاة والسَّلام -: ((لبَّيْك اللهم لبَّيْك، لبَّيْك لا شريك لك لبَّيْك، إنَّ الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك)). وله أن يزيد على ذلك مما ورد عن الصحابة – رضوان الله عليهم - ومن ذلك ما نقله نافع قال: كان عبدالله بن عمر – رضيَ الله عنهما - يزيد فيها: "لبَّيْك لبَّيْك، لبَّيْك وسعديك، والخير في يديك، لبَّيْك والرَّغباء - أي: المسألة - إليك والعمل". وهناك صفات أخرى.(38/4)
فإذا دخل المُحْرِم المسجد الحرام قدَّم رِجْلَه اليُمْنى، وقال: "بسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله، اللهم اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب رحمتك، أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، وبسلطانه القديم، من الشيطان الرجيم". ثم يقدِّم رِجْلَه اليمنى ليبتدئ الطواف فيستلم الحَجَر بيده اليمنى ويقبِّله ويسجد عليه، فإن لم يتيسَّر تقبيله استلمه بيده وقبَّلها، فإن لم يتيسَّر استلمه بشيءٍ معه وقبَّله بيده، فإن لم يتيسَّر؛ فإنه يستقبل الحجر ويشير إليه بيده ولا يقبِّلها، والأفضل ألا يزاحم فيؤذي الناس ويتأذَّى بهم؛ لما في الحديث عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنه قال لعمر – رضيَ الله عنه -: ((يا عمر، إنك رجلٌ قويٌّ، لا تزاحم الناس على الحَجَر فتؤذي الضعيف، إن وجدت خلوةً فاستلمه، وإلا فاستقبله وهلِّل وكبِّر)).
ويقول عند استلام الحَجَر: "بسم الله والله أكبر، اللهم إيمانًا بك، وتصديقًا بكتابك، ووفاءً بعهدك، واتِّباعًا لسنة نبيِّك محمد". ثم يأخذ ذات اليمين، ويجعل البيت عن يساره، فإذا بلغ الرُّكن اليمانيَّ استلمه من غير تقبيل، فإن لم يتيسَّر فلا يزاحِم عليه، ويقول بينه وبين الحَجَر الأسود: "ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخِرة حسنة، وقِنا عذاب النار". ولا يصحُّ من الدعاء الثابت عن رسول الله في الطواف غير هذا، وأمَّا تلك الكتب التي يدعو بها بعض الحجَّاج ويشترونها، والتي فيها تحديدُ دعاءٍ لكلِّ شوْط فهي لا تجوز؛ بل بدعة؛ فإن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - حجَّ وحجَّ معه جمعٌ غفيرٌ، ولم يحدِّد لهم مثل هذا.
وكلما مرَّ بالحجر الأسود كبَّر، ويقول في بقية طوافه ما أَحَبَّ من ذِكْر ودعاء وقراءة القرآن، فإنما جعل الطواف بالبيت وبالصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذِكْر الله.
وفي هذا الطواف – أعني: الطواف أول ما يقدم - ينبغي للرجل أن يفعل شيئين:(38/5)
أحدهما: الاضطباع من ابتداء الطواف إلى انتهائه، وصفة الاضطباع أن يجعل وسط ردائه داخل إبطه الأيمن، وطرفيه على كتفه الأيسر، فإذا فرغ من الطواف أعاد رداءه إلى حالته التي قبل الطواف؛ لأن الاضطباع محلُّه طواف القدوم فقط.
الثاني: الرَّمَل في الأشواط الثلاثة الأولى فقط، والرَّمَل: إسراع المشي مع مقاربة الخطوات، وأما الأشواط الأربعة الباقية فليس فيها رَمَلٌ، وإنما يمشي كعادته.
فإذا أتمَّ الطواف سبعة أشواط تقدَّم إلى مقام إبراهيم فقرأ: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125]، ثم صلى ركعتين خلفه، يقرأ في الأولى بعد الفاتحة بقل يا أيها الكافرون، وفي الثانية بقل هو الله أحد بعد الفاتحة.
فإذا فرغ من صلاة الركعتين رجع إلى الحجر الأسود، فاستلمه إن تيسَّر له.
ثم يخرج المُحْرِم إلى المسعَى، فإذا دنا من الصفا قرأ قوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 158]. ثم يرقى الصفا حتى يرى الكعبة، فيستقبلها ويرفع يديه على هيئة الدُّعاء، فيكبِّر ثلاثاً ويحمد الله، ثم يقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كلِّ شيءٍ قدير، أنجز وعده، ونَصَر عبده، وهزم الأحزاب وحده، يكرِّر ذلك ثلاث مرات، ويدعو بين ذلك بما شاء.(38/6)
ثم ينزل من الصفا إلى المروة ماشيًا، فإذا بلغ العَلَم الأخضر ركض ركضًا شديدًا بقدر ما يستطيع ولا يؤذي، فقد روي عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنه كان يسعى حتى تُرَى ركبتاه من شدَّة السعي، ويدور به إزاره، وفي لفظ: وإن مئزره ليدور من شدَّة السَّعي. فإذا بلغ العَلَم الأخضر الثاني مشى كعادته حتى يصل المروة، فيرقى عليها ويستقبل القبلة، ويرفع يديه ويقول ما قاله على الصفا، ثم ينزل من المروة إلى الصفا، فيمشي في موضع مَشْيِه، ويسعى في موضع سَعْيِه، فإذا وصل الصفا فعل كما فعل أوَّل مرة، وهكذا المروة، حتى يكمل سبعة أشواط، ذهابه من الصفا إلى المروة شوط، ورجوعه من المروة إلى الصفا شوطٌ آخَر.
ويقول في سعيه ما أحبَّ من ذِكْر ودعاء وقراءة، فإذا أتمَّ سعيه سبعة أشواط حلق رأسه أو قصَّر إن كان رجلاً، وإن كانت امرأة فإنها تقصُّ من كلِّ قرنٍ أنملة. ويجب أن يكون الحلق شاملاً لجميع الرأس، وكذلك التقصير يعمُّ به جميع جهات الرأس، والحلق أفضل من التقصير؛ لأن النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - دعا للمحلِّقين ثلاثًا وللمقصِّرين مرة، إلا أن يكون وقت الحج قريبًا بحيث لا يتَّسع لنبات شعر الرأس؛ فإن الأفضل التقصير ليبقى الرأس للحلق في الحج، بدليل أن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أمر أصحابه في حجَّة الوداع أن يقصِّروا للعمرة؛ لأن قدومهم كان صبيحة الرابع من ذي الحجَّة.
وبهذه الأعمال تمَّت العمرة؛ فتكون العمرة: الإحرام، ثم الطواف، ثم السعي، ثم الحلق أو التَّقصير، ثم بعد ذلك يحلُّ منها إحلالاً كاملاً، ويفعل كما يفعله المحلُّون من اللِّباس والطِّيب وإتيان النساء وغير ذلك.(38/7)
العنوان: أحكام وجوب الصيام ومفسداته
رقم المقالة: 1471
صاحب المقالة: الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ
-----------------------------------------
ملخص الخطبة
1- شروط وجوب الصوم. 2- ترغيب الصغير في الصوم. 3- لا صوم على الجنون وفاقد الذاكرة. 4- حكم العاجز عن الصوم. 5- صوم المسافر. 6- صوم المريض. 7- وجوب الفطر على الحائض. 8 صوم الحامل والمرضع. 9- الصيام أمانة. 10- مفسدات الصيام. 11- ما لا يفسد الصوم. 12- ما يخصّ المرأة من أحكام الصيام.
-------------------------
الخطبة الأولى
إن الحمد لله نستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل الله فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70-71]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} . اعلموا أن أحسن الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد بن عبد الله، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أما بعد:
فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، تفقه المسلم في دينه أمر مطلوب، ليعبد الله على بصيرة، ((من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين))[1].(39/1)
أيها المسلم، إن الله جل وعلا قال في كتابه العزيز: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّامًا مَّعْدُوداتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة:183، 184]، وقال: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185].
أيها المسلم، في هذه الآيات بيان أحوال الناس في رمضان، وأنهم متفاوتون في ذلك.
فأولاً: المسلم البالغ العاقل القادر على الصيام السالم من كل الموانع المقيم أوجب الله عليه صيام رمضان أداءً، وهو أحد أركان الإسلام، فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ، وهذا بإجماع أهل الإسلام.
ثانياً: إن الله تعالى لم يطالب بهذه العبادة إلا من التزم شريعة الإسلام، فمن لم يكن موحِّداً لله فإنه لا يطالب بأركان الإسلام، حتى يعبد الله حقاً، وينقاد لشريعة الإسلام.
وأما الصغير غير البالغ فإنه لا يطالب به فرضاً، ولكنه يُرغّب فيه، ويُحث عليه، حتى ينشأ محباً للصيام، عارفاً للصيام، فلقد كان أصحاب محمدٍ يُصوِّمون صبيانهم ويعطونهم اللعب من العهن، لكي يشتغلوا به عن طلب الطعام والشراب[2].
فإذا لم يكن الصوم يشق عليه، ويضرّ به، فكونه يُعوَّد على الصيام ترغيباً فيه، ولذا قال: ((مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر))[3].
وفاقد العقل لا يخاطب به، لأن القلم رفع عن المجنون حتى يفيق، وعن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ.(39/2)
وأما الذي فقد ذاكرته، بأن أصابه الهرم سريعاً، ففقد ذاكرته، وأصبح يذري بما لا يدري، ولا يتصوّر الواقع، ولا يعلم في أي حال، فقد ذاكرته وعظم نسيانه، وقل ذكره، وأصبح لا يعرف شيئاً، ولا يميّز بالأحوال، سواء كان عن كبر أو كان لغير ذلك، إنما هو ذو هذيان لا يعقل ولا يدري، وفاقد الذاكرة، فهذا لا شيء عليه، لا إطعام ولا صيام، لأنه فاقد الذاكرة، وقلم التكليف مرفوع عنه.
وأما الذي يعجزه الصيام لكبر سنه، أو أنه مصاب بمرض أعجزه عن الصيام، فإن الله يقول: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة:183، 184]، فهذا يُطعم عنه عن كل يوم مسكيناً، أفطر أنس بن مالك رضي الله عنه لما جاوز المئة قبل موته بسنتين، وكان يطعم عن كل يوم بُراً ولحماً عن كل يوم مسكيناً[4].
وهذا من سعة الله وتيسيره، {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي الدّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78].(39/3)
وأما المسافر، فالله يقول: فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ، وأجمع المسلمون على أن للمسافر أن يفطر في سفره، هذا حُكم الله الذي دل عليه كتابه العزيز، وسنة محمد، فله أن يفطر في سفر ولا يستطيع أحد أن ينكر عليه، لأن هذا حكم الله الذي نطق به القرآن: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [البقرة:184]. ولكن من صام في سفره فلا ينكر عليه، قال أنس بن مالك رضي الله عنه: كنا نسافر مع رسول الله فلم يعب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم[5]، وسأل حمزة الأسلمي النبي قائلاً: يا رسول الله، إن لي جملاً أعالجه، أسافر عليه وأكريه، وإنه يدركني هذا الشهر وأنا شاب أجد القوة على الصيام، وإني لو أفطرت شق علي القضاء، أفأصوم؟ قال: ((كل ذلك لك يا حمزة))[6]، فخيّره بين الصيام والفطر. ولكن قال العلماء رحمهم الله: إن مجموع الأدلة تدل على أن المسافر الأصل جواز الفطر له، ولكن يستحب أن يفطر إن شق عليه الصوم في السفر أخذاً برخصة الله، يقول: ((إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته))[7].
فإذا شق الصوم عليه في السفر جاز له الفطر بلا إشكال، وإن تساوى الأمران عنده، ورأى أن الصوم أولى له حتى يسلم من تبعات القضاء فله ذلك، ولهذا النبي صام في السفر وأفطر[8]، ولما دنا من عدوه أمر الصحابة أن يفطروا، وقال: ((إنكم ملاقو عدوكم غداً والفطر أقوى لكم))[9].(39/4)
وأما المريض فإن المريض لا يخلو من أحوال: إما أن يكون هذا المرض يسيراً، لا يؤثر عليه في صيامه، ولا يضعف نشاطه، فإن الواجب عليه أن يصوم، لأنه لا عذر له، وهي أمراض يسيرة، صداع، وجع في الضرس، وغير ذلك من الأمور اليسيرة، فإن هذا يصوم ولا إشكال، ولكن لو كان الصوم مع المرض يُتعبه ويشق عليه من غير أن يُخاف عليه من الهلكة فإن السنة له أن يفطر أخذاً برخصة الله فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ أي إذا أفطر.
وأما إن كان الصوم مع هذا المرض يُهدد حياته، وقيل: إن الصوم مع هذا المرض سبب للهلاك ولا يمكن أن يكون الصوم مع هذا المرض فإن الواجب عليه أن يفطر، لأن الله يقول: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ} [النساء:29]، ويقول: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195]، والرسول يقول: ((إن هذا الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه))[10].
أيها المسلم، والمرأة المسلمة إذا طرقها الحيض وجب عليها الفطر، ولو كان قبل الغروب بنصف ساعة ونحو ذلك، لأنه يحرم عليها الصوم وقت خروج الحيض، ولو كان خروجه قبل المغرب بدقائق، أفسد صومها ووجب عليها الفطر وقضاء ذلك اليوم الذي أفطرته.
والحامل إذا شق عليها الصوم، وكان الصوم سبباً لضعف الحمل ونحو ذلك أو ضعفها هي، أو كانت مُرضعة إذا صامت ضعف إدرار الثدي للطفل، فإنها تفطر وتقضي يوماً مقامه، فإن كان لأجل الطفل قضت ويستحب أن تطعم مع القضاء إن كان فطرها لأجل طفلها، وإن كان لأجل ذاتها فإنها تقضي فقط.
وأبيح الفطر لمن احتاج إليه، لإنقاذ معصوم من هلكة، ومساعدة في كوارث ونحو ذلك، لأن هذا الدين جاء بكل يسر وكل خير.
أيها الصائم المسلم، إنك مؤتمن على صيامك، كما أنت مؤتمن على طهارتك وصلاتك وزكاتك وحجك، فالصوم أمانة عندك، وسرّ بينك وبين ربك، لا يطّلع عليه إلا الله، ولذا عظم جزاؤه وكثر خيره، فالصوم أمانة بينك وبين ربك.(39/5)
أجمع المسلمون على أن من تعمد الأكل في نهار رمضان، أو تعمد الشرب في نهار رمضان، أو تعمد إتيان زوجته بعد طلوع الفجر الثاني فإن صومه فاسد، وهذا أمر مجمع عليه بين المسلمين.
فيا أيها المسلم، اتق الله في صيامك، وصنه عن المفسدات والمنقصات. اعلم - أخي - أن إتيان المرأة في رمضان أمر محرم شرعاً، إتيان الرجل امرأته في نهار رمضان أمر محرم شرعاً، لأن الله جل وعلا قال لنا: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ [البقرة:187]، فأباح ذلك في الليل، وحرم على المسلم ذلك في النهار، فمن اقترف هذه الجريمة، فقد عصا الله على بصيرة، فواجبه التوبة إلى الله، وقضاء ذلك اليوم، والإتيان بالكفارة المغلظة، قال أبو هريرة رضي الله عنه: بينما النبي بمسجده إذ جاءه رجل فقال: يا رسول الله هلكت، قال: ((ما ذاك؟)) قال: أصبت امرأتي في رمضان، قال: ((هل تجد أن تعتق رقبة؟)) قال: لا، قال: ((هل تستطيع صيام شهرين متتابعين؟)) قال: لا، قال: ((هل تستطيع أن تطعم ستين مسكيناً؟)) قال: لا، فسكت النبي، ثم جيء بمكتل فيه تمر يسع قريب خمسة عشر صاعاً، تصدق به رجل من المسلمين في المسجد، فقال: ((أين السائل؟)) قال: ها أنا، قال: ((خذ وتصدق به)) قال: أعلى أفقر مني يا رسول الله؟! والله ما بين لابتي المدينة أهل بيت أفقر من أهل بيتي، فضحك حتى بدت نواجذه[11]، ضحك لأن الرجل جاء أولاً يريد الخلاص، والآن طمع في ذلك الطعام لنفسه، ولكنه أمام الرؤوف بأمته، الشفيق على أمته، الحريص على هدايتهم بالأخلاق العالية الكاملة، {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4]، {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ(39/6)
بِالْمُؤْمِنِينَ رَءوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة:128]، جاء سائلا فما أنّبه، وجاء مريداً للخلاص فما أنّبه، صلوات الله وسلامه عليه أبداً دائماً إلى يوم الدين.
إذاً فيا أخي المسلم، اعلم أن هذا من كبائر الذنوب، فابتعد عن كل ذلك وما يفضي إليه من الوسائل، حفاظاً على صومك الذي ائتمنك الله عليه.
أيها المسلم، ما يقوم مقام الأكل والشرب من تلك المغذيات التي توضع على المريض لتعوضه عن طلب الطعام والشراب فتلك أيضاً مفطّرة للصائم.
أيها المسلم، إن حقن الدم في المريض في نهار رمضان هذا يفطر صومه إذ الدم غذاءٌ للإنسان، أما إخراج الدم من طريق الحجامة فإن النبي قال: ((أفطر الحاجم والمحجوم)) [12]، فإخراج الدم من طريق الحجامة أو سحب دم كثير لإسعاف المريض مضطر إليه، اضطررت إلى إسعافه بالدم، فأسعفته بدم كثير، فإنك تقضي هذا اليوم لأن ذلك يضعفك عن مواصلة الصيام.
أخي المسلم، إن محاولة إخراج المادة المنوية من الإنسان في نهار رمضان بسبب منه، هذا مفطر لصيامه، وهي العادة المستهجنة القبيحة، ما يسمونها بالعادة السرية، فإنها ضارة ومع ضررها فهي مفطرة للصائم إذا استعملها.
أما خروج المني من طريق احتلام في النوم، أو تفكير عرض له فإن ذلك معفو عنه، لأن الاحتلام بغير اختياره، والنبي يقول: ((عفي لأمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه))[13].
خروج الدم من طريق الفم بالسعال، أو الأنف بالرعاف، أو الناسور أو جروح حصلت لك من غير اختيارك، فكل ذلك لا يؤثر على صيامك.(39/7)
استعمالك القطرات في العين والأذن لا يُؤثر على صيامك، استعمال التحليل اليسير لا يؤثر على صيامك، استعمالك الإبر في العضل أو الوريد لا يؤثر على صيامك، قلع السن في رمضان لا يؤثر على صيامك، أما طلبك القيء ومحاولتك أن تستقيء فهذا يفسد صيامك، والنبي يقول: ((من استقاء فعليه القضاء، ومن ذرعه القيء فلا قضاء عليه))[14]، فأوجب على المسلم إذا طلب القيء لأمر ما عرض له أن يقضي هذا اليوم، وأما إن خرج القيء من غير اختياره وطلبه، فأمرٌ غالب عليه، فلا يلزمه القضاء.
فتفقهوا - إخواني - في دينكم، واعبدوا ربكم على بصيرة، واحفظوا صيامكم من كل ما يفسده وينقّص ثوابه.
أسأل الله لي ولكم التوفيق والسداد، والعون على كل خير إنه على كل شيء قدير.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً منه، كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أيتها الأخت المسلمة، إن أحكام الشرع عام للمسلمين ذكورهم وإناثهم، ولكن هناك أشياء قد تكون متعلقة بالمرأة تخصها دون الرجال، وهذا من حكمة الله.
فأولاً: يعمد كثير من النساء في رمضان على تعاطي الحبوب المانعة للعادة الشهرية، وتعاطيها بسبب حرصهن على استكمال رمضان، أو أداء العمرة في شهر رمضان، هو مقصد حسن بلا شك.(39/8)
لكن يعكر على هذا أن تعاطي هذه الحبوب بلا سبب يقتضيه، فيها ضرر على المرأة، وإضرار بها في صلاتها وصومها وحجها، لأن كثيراً من الأخوات قد يتعاطين هذه الحبوب من غير روية ومن غير استشارة طبيب مختص يقدر الأمور حق قدرها، وإنما تكون خبط عشواء، من غير روية وتأمل، فكم تضر وتحدث من الضرر ما لا يحصى، فعلى الأخت المسلمة أن تتبصر في أمر دينها، وأن لا تقدم على شيء قد يؤثر عليها.
أيتها المرأة المسلمة، إن بعض الأخوات قد يتعرضن في نهار رمضان إلى ما يسمونه بالتنظيف وهو إسقاط الجنين قبل أن يبْلغ الثمانين يوماً، إسقاط الجنين قبل أن يبلغ ثمانين يوماً لأسباب عرضت اقتضت ذلك، فإنا نقول: هذا لا يسمى نفاساً، ولا يمنع ذلك الدم الخارج الذي لم تجاوز المرأة ثمانين يوماً، هذا الدم نعتبره دم فساد، فعليها أن تصوم، ولو كان هذا الدم الفاسد معها.(39/9)
ثالثاً: بعض أخواتنا المسلمات بأسباب تعاطي هذه العقاقير اضطربت عليهن عادتهن الشهرية، ما بين زيادة ونقصان، وأمور كثيرة، وهذا كله بأسباب هذا الأمر، فنقول أولاً: إن الشرع جعل الحيض مانعاً للصيام وللصلاة، وموجباً لقضاء الصوم دون الصلاة، قالت امرأة لأم المؤمنين: يا أم المؤمنين، ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ قالت: كان يصيبنا ذلك في عهد النبي، فنؤمر بقضاء الصوم ولا يؤمر بقضاء الصلاة[15]، لتكرر الصلاة كل شهر، فمن رحمة الله أن أسقط عن المرأة قضاء الصلاة، ولكن عند اضطراب العادة زيادةً ونقصاناً وخفاء ذلك على المرأة المسلمة، فالواجب عليها في أول الشهر أن تنظر، فإن تكن هذه العادة جاوزت خمسة عشر يوماً، فنحن على يقين أن هذا ليس بحيض، لأن أكثر الحيض عند العلماء أن يبلغ مع المرأة خمسة عشر يوماً، فإذا كان في الشهور الباقية أمر مضطرب عليها بين زيادة أو نقصان، فترجع إلى عادتها السابقة قبل الاختلاف، ففي ذلك احتياط لها، وإذا طهرت المرأة من حيضها قبل طلوع الفجر الثاني قبل أذان الفجر للصلاة، فعليها أن تمسك، وعليها الغسل ولو بعد طلوع الفجر، المهم أنها أصبحت ممن شهد شهر الصيام، فوجب عليها الإمساك، ولو جاءها الحيض بعد غروب الشمس ولو بدقيقة، فإن صومها ذلك اليوم صحيح ولا إشكال في ذلك.
نسأل الله للجميع التوفيق والهداية، والعون على كل خير، وأن يوفقنا جميعاً لصالح الأقوال والأعمال، إنه على كل شيء قدير.
واعلموا - رحمكم الله - أن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد...
---
[1] أخرجه البخاري في فرض الخمس [3116]، ومسلم في الزكاة [1037] من حديث معاوية رضي الله عنه.
[2] أخرجه البخاري في الصوم [1960]، ومسلم في الصيام [1136] عن الربيِّع بنت معوِّذ رضي الله عنها بنحوه.(39/10)
[3] أخرجه أحمد [6689، 6756]، وأبو داود في الصلاة [495] من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وله شاهد من حديث سبرة بن معبد رضي الله عنه بإسناد حسن، أخرجه أحمد [15339]، وأبو داود في الصلاة [494]، والترمذي في الصلاة [407] وقال : "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن خزيمة [1002]، والحاكم (1/258)، ووافقه الذهبي، وانظر تخريج الحديث في الإرواء [247].
[4] علقه البخاري في كتاب التفسير، باب: أياما معدودات فمن كان منكم مريضاً... بنحوه بصيغة الجزم، ووصله عبد الرزاق في المصنف [7570] عن معمر عن ثابت قال : كبر أنس بن مالك حتى كان لا يطيق الصيام فكان يفطر ويطعم، ووصله أيضاً ابن سعد في الطبقات (7/18-19)، والطبراني في الكبير (675) من طريق هشام الدستوائي عن قتادة بنحوه، قال الهيثمي في المجمع (3/164) : "رجاله رجال الصحيح".
[5] أخرجه البخاري في الصوم [1947]، ومسلم في الصيام [1118].
[6] أخرجه أبو داود في الصوم [2403]، والحاكم (1/598)، والبيهقي (4/241)، وفي سنده حمزة بن محمد بن حمزة بن عمرو الأسلمي مجهول الحال كما في التقريب، لكن يشهد له ما أخرجه البخاري في الصوم [1942]، ومسلم في الصيام [1121] عن عائشة رضي الله عنها أن حمزة الأسلمي سأل رسول الله فقال: يا رسول الله، إني رجل أسرد الصوم، أفأصوم في السفر ؟ قال: ((صم إن شئت، وأفطر إن شئت)).
[7] أخرجه أحمد [5866]، والبيهقي (3/140) من حديث ابن عمرو رضي الله عنهما، وصححه ابن حبان (2742)، وقال المنذري في الترغيب : "رواه أحمد بإسناد صحيح، والبزار والطبراني في الأوسط بإسناد حسن . وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما". وصححه الألباني على شرط مسلم. انظر: الإرواء [564].
[8] أخرجه البخاري في المغازي [4279]، ومسلم في الصيام [1113] عن ابن عباس رضي الله عنهما.
[9] أخرجه مسلم في الصيام [1120] عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه بنحوه.(39/11)
[10] أخرجه البخاري في الإيمان [39] من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[11] أخرجه البخاري في الصوم [1936]، ومسلم في الصيام [1111].
[12] أخرجه أحمد [15857]، والترمذي في الصوم [774]، والطبراني في الكبير [4257] من حديث رافع بن خديج رضي الله عنه، وقال الترمذي : "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن خزيمة [1964]، وابن حبان [3535]، والحاكم (1/428)، وقال الترمذي : "وفي الباب عن علي وسعد وشداد بن أوس وثوبان وأسامة بن زيد وعائشة ومعقل بن سنان ويقال : ابن يسار وأبي هريرة وابن عباس وأبي موسى وبلال... وذكر عن أحمد بن حنبل أنه قال : أصح شيء في هذا الباب حديث رافع بن خديج".
[13] أخرجه ابن ماجه في الطلاق [2045] من حديث ابن عباس رضي الله عنهما بلفظ: ((إن الله وضع عن أمتي...)) قال البوصيري في الزوائد : "إسناده صحيح إن سلم من الانقطاع، والظاهر أنه منقطع بدليل زيادة عبيد بن نمير في الطريق الثاني، وليس ببعيد أن يكون السقط من جهة الوليد بن مسلم فإنه كان يدلس"، والطريق المتصل أخرجه الدراقطني [497]، وصححه ابن حبان [1498]، والحاكم (2/198)، ووافقه الذهبي، وحسنه النووي في أربعينه، وصححه الألباني في الإرواء [82].
[14] أخرجه أحمد [10463]، وأبو داود في الصوم [2380]، والترمذي في الصوم [720]، والنسائي في الكبرى [3130]، وابن ماجه في الصيام [1676] من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه ابن الجارود [385]، وابن خزيمة [1960، 1961]، وابن حبان [3518]، والحاكم (1/426)، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في الإرواء [923].
[15] أخرجه البخاري في الحيض [321] ، ومسلم في الحيض [335] واللفظ له.(39/12)
العنوان: أحكام يوم عرفة
رقم المقالة: 1706
صاحب المقالة:
-----------------------------------------
أحكام يوم عرفة
فيوم عرفة، وهو يوم من أعظم أيام الله، تغفر فيه الزلاّت، وتجاب فيه الدعوات، ويباهي الله بعباده أهل السماوات.
ويوم عرفة يوم إكمال الدين وإتمام النعمة على المسلمين؛ ففي الصحيحين عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أن رجلاً من اليهود قال له: يا أمير المؤمنين، آية في كتابكم تقرؤونها لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً، قال أي آية؟ قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]، قال عمر: قد عرفنا ذلك اليوم والمكان الذي نزلت فيه على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو قائم بعرفة يوم الجمعة.
وهو من مفاخر المسلمين وأعيادهم، ولذا قال - صلى الله عليه وسلم -: ((يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق عيدنا أهل الإسلام، وهي أيام أكل وشرب))؛ رواه الترمذي.
وهو يوم مغفرة الذنوب، والعتق من النار والمباهاة بأهل الموقف، فما أجلّه من يوم، وما أعظمه من موقف؛ قال عليه الصلاة والسلام: ((ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدًا من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة فيقول: ما أراد هؤلاء))؛ رواه مسلم، وقال في حديث آخر: ((إن الله يباهي بأهل عرفات أهل السماء، فيقول لهم: انظروا إلى عبادي جاؤوني شعثًا غبرًا))؛ رواه أحمد.(40/1)
جعله الله كالمقدمة ليوم النحر، ففيه يكون الوقوف والتضرع، والتوبة والمغفرة، وفي يوم النحر تكون الوفادة والزيارة؛ ولذا سمي طوافه طواف الزيارة، فبعد أن يَطْهُر الحجاج من ذنوبهم عشية عرفة، يأذن لهم ربهم ومولاهم يوم النحر في زيارته والدخول إلى بيته، فيوم عرفة كالطهور بين يدي يوم النحر، وفي الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لبلال: أنصت الناس ثم قال لهم: ((إن الله تَطَوَّلَ عليكم في جَمعكم هذا فوهب مُسيئكم لمحسنكم، وأعطى محسنكم ما سأل، ادفعوا باسم الله))؛ رواه ابن ماجه وصححه بعض العلماء.
فعلى كل من يطمع في العتق من النار، ومغفرة ذنوبه في هذا اليوم العظيم أن يحافظ على الأسباب التي يرجى بها العتق والمغفرة، وأول هذه الأسباب:
حفظ الجوارح عن المحرمات؛ فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان فلان رديف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم عرفة؛ فجعل الفتى يلاحظ النساء وينظر إليهن، وجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصرف وجهه بيده من خلفه مرارًا، وجعل الفتى يلاحظ إليهن، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ((ابن أخي إن هذا يوم من ملك فيه سمعه وبصره ولسانه غُفِر له))؛ رواه أحمد، وفي إسناده مقال.
ومنها الصيام، قال - صلى الله عليه وسلم -: ((صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يُكَفِّر السنة التي قبله، والسنة التي بعده))؛ رواه مسلم.
وصيام يوم عرفة إنما يشرع لغير الحاج، أما الحاج فلا يشرع له ذلك اقتداءً بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فقد شرب - صلى الله عليه وسلم - بعرفة والناس ينظرون إليه، وما ذلك إلا ليتقوى الحاج على الذِّكر والدُّعاء عشية عرفة.
الدعاء يوم عرفة:(40/2)
ومن أسباب الرحمة والمغفرة الإكثار من الذكر والدعاء في يوم عرفة وخصوصًا شهادة التوحيد؛ فإنها أصل دين الإسلام الذي أكمله الله تعالى في هذا اليوم، قال - صلى الله عليه وسلم -: ((خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير))؛ رواه الترمذي.
فعلى الحاج أن يكثر من الدعاء بالمغفرة والعتق من النار في ذلك الموقف؛ فإنه من أرجى مواطن الإجابة، وعليه أن يلتزم بآداب الدعاء وأن يستقبل القبلة في دعائه رافعاً يديه متضرعًا مُبتهِلاً مقتدياً بأفضل الخلق عليه الصلاة والسلام، الذي ما إن فرغ من الصلاة حتى أتى الموقف، فوقف عند الصخرات، واستقبل القبلة، وأخذ في الدعاء والتضرع والابتهال إلى أن غربت الشمس.
ولتحذر - أخي الحاج - من الذنوب والمعاصي التي تحول بينك وبين المغفرة كالكبر والاختيال والإصرار على الكبائر، وادخل على مولاك من باب الذل والانكسار والإخبات حتى يقبلك، فإنه خير مأمول، وأكرم مسؤول سبحانه وتعالى.
أخي الحاج، موقف عرفة موقف مهيب عظيم تنوعت فيه مشاعر الصالحين، وتعددت فيه مواقفهم، فمنهم من غلب عليه الخوف والحياء، كما فعل مطرف بن عبد الله بن الشخير وبكر المزني حين وقفا بعرفة فقال أحدهما: "اللهم لا ترد أهل الموقف من أجلي"، وقال الآخر: "ما أشرفه من موقف وأرجاه لولا أني فيه"، ووقف الفضيل بن عياض بعرفة والناس يدعون، وهو يبكي بكاء الثكلى، قد حال البكاء بينه وبين الدعاء، فلما كادت الشمس أن تغرب رفع رأسه إلى السماء وقال: "واسوأتاه منك وإن عفوت".(40/3)
ومنهم من تَعَلَّقَ بأذيال الرجاء طمعًا في رحمة الله وكرمه، يقول ابن المبارك: "جئت إلى سفيان الثوري عشية عرفة، وهو جاث على ركبتيه وعيناه تهملان، فقلت له: من أسوأ هذا الجمع حالاً؟ قال: الذي يظن أن الله لا يغفر له، ونظر الفضيل بن عياض إلى تسبيح الناس وبكائهم عشية عرفة فقال: أرأيتم لو أن هؤلاء صاروا إلى رجل فسألوه دانقاً، يعني سدس درهم، أكان يردهم؟ قالوا: لا، قال: والله للمغفرة عند الله أهون من إجابة رجل لهم بدانِق".
فينبغي لك - أخي الحاج - أن تجمع في هذا الموقف العظيم بين الخوف والرجاء، فتخاف من عقاب الله وعذابه، وترجو مغفرته وثوابه.
ولتتذكر بوقوفك في عرفات يومًا تشيب لهوله الولدان، يوم يقف العباد بين يدي الله حفاة عراة غرلاً لتجزى كل نفس بما كسبت وهم لا يُظلمون، فاحرص على ما ينجيك من هول ذلك الموقِف، واستعد له ما دمت في زمن الإمكان، وقبل فوات الأوان.(40/4)
العنوان: أحمد راتب النفَّاخ شيخ العربيَّة في بلاد الشام في ذكراه العاشرة
رقم المقالة: 425
صاحب المقالة: د. محمد حسان الطيان
-----------------------------------------
{مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً}
مرت على وفاة شيخنا النفّاخ[1] سنوات عشر كأنها دقائق عشر، فلم يزل الرجل ماثلاً في الأذهان، حاضراً في الكِيان بما حواه من علم، وما زرعه من مُثُل، وما خلّفه من آثار، وما بناه من رجال، وما وقف من مواقف، بل لن يزال كذلك ما بقي لساننا يلهج بالعربية، وما بقي قلبنا يخفق بحب العربية.
فقد عاش ما عاش لهذه اللغة، لا يكاد يخرج منها إلا إليها، ولا يرى نفسه إلا فيها، ولا ينقلب عنها أو يلتفت عن محبتها’, أو يتقاعس عن الجهاد في سبيلها.
حمل رايتها رَدَحاً من الدهور هو كل ما كتب له أن يعيش في دنيا الناس، وتولّى الذود عن حياضها، والبحث في دقائقها، واكتناه أسرارها وخباياها، واجتلاء معانيها ومبانيها. لم يصرفه عنها صارف، ولم يلتوِ له فيها طريق، ولم يلذَّ له دونها مطعم ولا مشرب، ولم يبال ما أصابه من أذيةٍ في سبيلها. فهو هي، وهي هو، إنها قضيته التي عاش لها ومات لها، ولقي ما لقي من أجلها، وتلبّس بعزّتها وشموخها ولسان حاله يردد قول القاضي الجرجاني:
يقولون لي فيك انقباضٌ وإنما رأوا رجلاً عن موقف الذلِّ أحجما
أرى الناس مَنْ داناهمُ هانَ عندهم ومن أكرمتْهُ عزّةُ النفس أُكرِما
إذا قيل هذا مشربٌ قلتُ قد أرى ولكن نفسَ الحرِّ تحتملُ الظما
ولم أبتذِل في خدمة العلم مهجتي لأخدمَ من لاقيتُ لكنْ لأُخدَما
ولو أنّ أهل العلم صانوه صانهم ولو عظّموه في النفوس لعُظِّما
ولكن أذلّوه جهاراً ودنَّسوا محيَّاه بالأطماع حتى تجهَّما
ترفع وشموخ:(41/1)
لم يكن أستاذنا النفاخ - أعلى الله مقامه - يلتفت إلى شيء من مباهج الدنيا، وكأنه رجل من رجال السلف، يخالُهُ المرء منتسباً إلى القرون الأولى التي وصفها سيد البرية بالخيرية: ((خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم))[2] لهذا ما كنت تراه يترفّع عن كثير مما يتهافت خاصّة الناس عليه بلْهَ عامَّتهم، وقد وصف يوماً صديقاً له اعتذر عن تسنّم مقاليد وزارة في الدولة بقوله: ((إن هذا الرجل يترفّع أن يضع رجله حيث يضع الكثيرون جباهَهم)) ويقيني أن أحقَّ الناس بهذا الوصف هو شيخنا النفاخ، فقد كان حقًّا من هذا الصنف الذي لا تستهويه الأهواء، ولا تعصف به الرغائب، ولا تثنيه المكاره.
قلت له مرة، وقد رأيت ما يعانيه في تنقلاته بين البيت والجامعة: ((لم لا تتخذ لنفسك سيارة؟)) فنظر إليَّ شزراً ثم قال: ((وهل تريد أن أضع على رأسي قرنين؟!)).
وطلب إليه أستاذ كبير أن يدرِّس في جامعة تُجزل العطاء لأساتذتها فرد بأنه لو قيِّض له أن يدرِّس ثَمَّةَ لأبى أن يتقاضى فلساً واحداً مقابل تدريسه، فهو أكبر من أي مال مبذول، وعلمه أعظم من أيِّ عَرَض من أعراض الدنيا، من أجل هذا كان يبذله لبعض طلاب العلم الفقراء، ويضنَّ به على كثير من طلاب السمعة والجاه الأغنياء.(41/2)
ومن هنا كان الأستاذ - عليه رحمة الله - قاسياً على نفسه أولاً، قاسياً على من حوله ثانياً، ولم تكن قسوته على الناس إلا فرعاً من قسوته على نفسه وجزءاً يسيراً منها، فقد حرم نفسه متاعاً كثيراً، ونعيماً موصولاً، ومراتب تتقطع دونها الرقاب، وقنع بأن يقبعَ في كِسْر بيته على حين ينعم الآخرون بما حصّلوه من غزير علمه، وبما نالوه من عظيم فوائده، وهو في هذا أشبه الناس بالخليل بن أحمد حين قال في حقِّهِ تلميذه النضر: ((أكلنا الدنيا بعلم الخليل وهو في خُصٍّ بالبصرة لا يُشعر به)) ولئن صدقت هذه الكلمة في رجل بعد الخليل لتصدقَنَّ على شيخنا النفاخ فقد أكلنا الدنيا بعلمه وهو قابع في كِسْر بيته، رحمه الله وعوضه خيراً.
صلابة في الحق:
وقد عرف الأستاذ النفاخ بمواقفه الصُّلبة، وإرادته القوية، لا يداهن صاحباً، ولا يجامل جليساً، ولا ينحني لكبير، ولا يخشى في الله لومة لائم، وإذا ما رأى الرأيَ مضى دونه مجاهداً، لا تلين له قناة، ولا يثنيه هوى، ولا يؤثر فيه ترغيب ولا ترهيب.
كنت عنده مرة فزاره وزير كبير له شأن خطير في دنيا السياسة والرئاسة، فرحب به وأكرم وفادته، وأسمعه من صنوف العلم وأفانين القول ما ملك به فؤاده، وانتزع منه إعجابه، ثم كالَ له من صنوف النقد والتعريض ما لا يقوى عليه أحد في ذلك الزمان، حتى لقد أشفق بعض أهل المجلس على صحة الأستاذ لما اعتراه من حِدّة، وما بدا عليه من أمارات الانفعال، وكأني به الصورة الحية لمقولة الرسول الكريم: ((ألا لا يمنعَنَّ رجلاً هيبةُ الناسِ أن يقول بحقٍّ إذا علمَهُ))[3]. فقد أعلن الحق الذي علمه، ولم يخشَ صولة الحاكم، ولا بأسَ المتحكِّم، وإنما قال: ((لا)) بملءِ فيه، فكان رجلاً، والرجال قليل، وما أصدق ما قاله الأول فيه وفي أمثاله: ((يعجبني من الرجل إذا سيمَ خسفاً أن يقول لا بملء فيه)).
جبل علم هوى:(41/3)
وكان الشيخ النفاخ - برَّد الله مضجعه - جبلاً من جبال العلم الراسخة، وبحراً من بحور الفهم العميقة، بَرَعَ في علوم العربية المختلفة، فأصبح حجةً في كل فن من فنونها، فما شئت من بصر باللغة، وعلم بالنحو، وفهم بالصرف، وتذوق للبلاغة، وإتقان للعروض، ورواية للشعر، ودراية بالأدب والنقد، ومَكِنَةٍ في الأصول، وتضلّع من القراءات القرآنية صحيحها وشاذِّها، ومعرفة بالأحرف السبعة تاريخها وأسرارها، وخبرة بالتراث العربي مخطوطه ومطبوعه، وقدرة على تحليل النصوص والنفاذ إلى خباياها، ودقة في تحقيق المخطوطات واستدرار عطاياها.
ولو شئتُ أن أمضي فيما افْتَنَّ فيه الشيخ لمضيتُ، ولم وسعَتْني هذه الكُلَيمة.. فما كان النفاخ رجلاً كسائر الرجال.. ولكنه أمّةٌ في رجل:
وقالوا الإمامُ قضى نحبَهُ وصيحةُ مَنْ قد نعاهُ عَلَتْ
فقلتُ: فما واحدٌ قد مضى ولكنَّهُ أمّةٌ قد خَلَتْ
وقد عرفته الجامعة ( جامعة دمشق ) محاضراً في غير ما فن من فنون العربية..
حاضر في الأدب الجاهلي فكان أصمعيَّ عصرِهِ، ودرّس المكتبة العربية والمعجمات فكان جوهريَّ دهره، وقرَّر مادة العروض فكان خليلَ وقتِهِ، وأقرأَ الكتابَ القديم فكان مبرّدَ زمانِهِ، وتصدَّى للنحو والصرف فكان سيبويهِ أوانِهِ، وتناول الدراسات اللغوية فكان ابنَ جني عهدِهِ.
مُلقّنٌ مُلْهَمٌ فيما يحاولُهُ جمٌّ خواطرُهُ جَوَّابُ آفاقِ
وكان من جميل صنع الله بي أن درست عليه هذه الموادّ جميعاً في سني الدراسة الجامعية العادية والعليا، فتقلَّبت في نُعْمى اختصاصاته، وتدرجت في معارج علومه، ورأيت منه كل عجيبة وغريبة، ورويتُ عنه كل شاذّة وفاذّة، فلا تعجب إن تمثّلت فيه بما أنشده أبو العباس اليشكري في محاسن أبي عمر اللغوي المعروف بغلام ثعلب:
فلو أنني أقسمتُ ما كنت حانثاً بأن لم ير الراؤون حَبراً يُعادِلُهْ
هو الشَّخْتُ[4] جسماً والسَّمين فضيلةً فأعجِبْ بمهزولٍ سمينٍ فضائلُهْ(41/4)
تضمّن من دون الحناجر زاخراً تغيبُ على من لجَّ فيه سواحلُهْ
إذا قلتُ: شارفنا أواخر علمِهِ تفجّر حتى قلتُ: هذي أوائلُه[5]
بناء الرجال:
وكان له من وراء هذه الجامعة جامعة أخرى تضمه مع النخبة من صحبه ومريديه’, تلكم هي بيته الذي أصبح مثابة لطلاب العلم وقبلة للباحثين، يؤمونه من كل مكان، ويقصدونه في كل وقت وحين، فلم يكن - رحمه الله - يخصص يوماً لندوة أسبوعية أو شهرية، وإنما كانت ندوته تنعقد يوميًّا، لا تكاد تطرق بابه إلا وجدت عنده ضيوفاً تعمر بهم الدار، ويلتئم بهم المجلس، ويدور الحديث في كل علم وفن ومعرفة، والشيخ يزينه ويتوِّجه بعلمه الجمِّ، وتواضعه المحبَّب، وصوته المجلجل، وحديثه المفعم بالحبِّ والعطاء ((إن الكلام يزين ربَّ المجلس)).
ومن الوفاء لذلك المجلس وصاحبه أن نذكر أسماء بعض رواده الذي أفادوا منه، وأصبحوا ملء السمع والبصر، من مثل الأستاذ الدكتور محمود ربداوي، والأستاذ الدكتور رضوان الداية، والأستاذ الدكتور مسعود بوبو - رحمه الله - والأستاذ الدكتور وهب رومية، والأستاذ الدكتور عز الدين البدوي النجار، والأستاذ محسن الخرابة، والأستاذ الدكتور مصطفى الحدري - رحمه الله -، والأستاذة الدكتورة منى إلياس، والأستاذ مطيع الببيلي، والأستاذ الدكتور عدنان درويش، والأستاذ بسام الجابي، والأستاذ نعيم العرقسوسي، والأستاذ إبراهيم الزيبق، والأستاذ الدكتور عبد الله النبهان، والأستاذ الدكتور إبراهيم عبد الله، والأستاذ الدكتور أحمد راتب حموش، والأستاذ الدكتور طاهر الحمصي، والأستاذ الدكتور محمد الدالي، والأخ الدكتور يحيى مير علم، والدكتور عبد الكريم حسين، والدكتور نبيل أبو عمشة, وكاتب هذه السطور.. وغيرهم كثير.
ترنو إليه الحدَّاث غاديةً ولا تملُّ الحديث من عجبِهْ
يزدحمُ الناس كلَّ شارقةٍ ببابِهِ مُشرِعين في أدبِهْ(41/5)
والحقُّ أن الشيخ - رحمه الله - بنى رجالاً، وخلَّف جيلاً من الباحثين يدينون له بالكثير، حتى لقد أصبح شكره لازمةً لا تكاد تخلو منها رسالة جامعية، أو كتاب محقق، أو بحث علمي لغوي في جامعة دمشق، بل لقد تعدى أثر ذلك إلى جامعات أخرى، وإلى مواطن أخرى
يبني الرجالَ وغيرُهُ يبني القرى شتّانَ بينَ قرًى وبينَ رجالِ
صنو النفاخ وقرينه:
وإذا ذكرنا مجلس الأستاذ راتب فلا بد أن نذكر عَلَماً كبيراً وعالماً وزيراً كان يؤمُّهُ، وقد عرفناه فيه قبل أن نعرفه أستاذاً في كلية الآداب، ومشرفاً على رسائل الماجستير والدكتوراه، ومديراً للموسوعة العربية الكبرى، ورئيساً لمجمع اللغة العربية بدمشق، إنه أستاذنا الدكتور شاكر الفحام صِنْوُ النفاخ وقرينُهُ، وأخو الصدق الذي ما انفكَّ يشدُّ من أزره ويدفع عنه، ويحُوطُهُ بعين عنايته في الحِلِّ والسفر والإقامة والغربة، والسرّاء والضرّاء، آسياً ومؤاسياً، وراعياً ومنافحاً.
ما أعرف نفسي دخلتُ المجمع مرةً إلا رأيتهما معاً، وإن أنسَ لا أنسَ موقفين شهدتهما لهذين العالمين المتحابَّين يدلاَّن على العروة الوثقى بينهما:
الأول: دخولهما معاً قاعة المحاضرة على طلبة الدراسات العليا، في أول عام تفتتح فيه الدراسات العليا في جامعة دمشق، إذ أسند تدريس مادة الدراسات اللغوية إلى الأستاذ الدكتور شاكر فكان يصحب معه الأستاذ راتب ليقرئا الطلاب فصولاً من كتاب الخصائص لابن جني.
والثاني: رِباط الأستاذ راتب بجوار غرفة العناية المركزة التي عولج فيها الدكتور شاكر على أثر أزمة قلبية ألمّت به، فلم يبرحها إلا معه، فأيّ محبة هذه؟! وأيُّ وفاءٍ هذا؟! إنه العلمُ الرّحِمُ بين أهله.
آثاره:
ويأخذ بعض الناس على الأستاذ النفّاخ قلة ما خلفه من آثار، وندرة ما صنعهُ من أعمال، وما أحسن ما قيل في ذلك[6]:
بغاثُ الطيرِ أكثرُها فِراخاً وأمُّ الصَّقرِ مقلاتٌ نزورُ(41/6)
فأعمال النفاخ بلغت الغاية دقة وإتقاناً، وفصاحة وبياناً، بدءاً من دراسته لابن الدمينة وتحقيقه ديوانه، ومروراً بصنعه فهارس شواهد سيبويه، واختياراته في الأدب الجاهلي، وانتهاءً بتحقيقه قوافي الأخفش. دع عنك ما حبَّره من مقالات غدت نموذجاً فريداً ومثالاً يحتذى في البحث العلمي، والتحقيق المستقصي، والنقد المحكم، والاطلاع الواسع[7].
ومن اطَّلع على مكتبة الشيخ رأى عجباً فيما سطّره على هوامش كتبه من استدراكات وتحقيقات ونقدات لم يكد يخلو منها كتاب قرأ فيه، أو اطّلع عليه، أو عرض له. وكان - رحمه الله - كثيراً ما يقول لنا: إنه ما يكاد يفتح كتاباً حتى تقع عينه على مواطن الخطأ والتصحيف والتحريف فيه، وكأنه موكّلٌ بعثرات المحققين والناشرين، والمؤلفين والباحثين، والسوأة السوآء لمن يقرأ الشيخ عمله على سبيل التتبع والنقد والتعقب والتقويم، إنك عند ذلك لن تجد بياضاً في الكتاب، لا في الهامش ولا في الأعلى ولا في الأسفل، فخط الشيخ يُحدِقُ بالكتاب من كلِّ جانب، بل هو يخالط السطور والأحرف ويدخل فيما بينها معلقاً ومدقّقاً’, ومخرجاً ومحيلاً.. ومقوماً ومعقباً ومُدلّلاً ومستشهداً. وإذا رأيت ثَمَّ رأيتَ علماً غزيراً وفهماً عظيماً.
وقد يُحوجه الأمر إلى إضافة أوراق يودعها الكتاب الذي يتعقبه ليستكمل مسألة يحققها، أو تخريجاً يتتبَّعُهُ، أو إحالة يستوفيها. ولهذا ما كان يبقي على حجم الكتاب كما أخرجته المطبعة لا يقصُّ منه جانباً، ولا ينقص منه هامشاً. وإن أنس لا أنسَ أسفه وحزنه على كتاب تطوَّع أحد أصحابنا بتجليده، فأعمل المجلَّد مقصَّه فيه، فجاء على غير ما يحبُّ الشيخ ويرضى. وإن تعجب فعجب أمر القصاصات التي يجعلها الأستاذ بين صفحات الكتاب ليستدل على مواطن فيه، إذ لا يكاد يخلو منها سفر من أسفار المكتبة.(41/7)
والحق أن من رواء هذا كله أعمالاً جليلة، كان الأستاذ قد أنجزها أو كاد، ثم حالت حوائل دون إخراجها للناس، على رأسها عمله في القراءات القرآنية والأحرف السبعة، ذلك العمل الذي أكل سني عمره، وكان يعدّه لنيل درجة الدكتوراه، ثم لما بلغ فيه الغاية استنكف أن يتقدم به لنيل الدرجة، وقد حدثني الأستاذ الدكتور عبد الصبور شاهين[8] أنه قدم دمشق فزار الأستاذ النفاخ، وأخبره أن أستاذه الدكتور شوقي ضيف - وكان المشرف على رسالته - يطلب إليه أن يكتب ولو ورقة واحدة يلخص فيها نتائج بحثه ليمنحه عليها درجة الدكتوراه، فما كان جواب الأستاذ إلا أن أبى مترفعاً - وأكاد أقول مستنكراً - لأنه كان يرى نفسه فوق تلك الدرجة، بل فوق كثير ممن كان يمنحها.
ومن أعماله الأخرى التي توفّر عليها زمناً طويلاً، وأخذت منه كلّ مأخذ ولكنه لم يخرجها، تحقيقه معاني القرآن للأخفش، ومعرفة القراء الكبار للذهبي، ورسالة الإدغام الكبير المنسوبة إلى أبي عمرو بن العلاء[9], وكان الأستاذ يعتزم أن يشارك بها في تكريم شيخه أديب العربية الكبير محمود محمد شاكر، رحمه الله. ومن هذه البابة أيضاً مراجعته تحقيق كتاب ((الصاهل والشاحج لأبي العلاء المعري)) وهو تحقيق كان قد نهض به الأستاذ الدكتور أمجد طرابلسي - رحمه الله - ثم رغب إلى الأستاذ أن يراجعه، فأعمل الأستاذ فيه فكره وعلمه وقلمه، وامتدت المراجعة نحواً من خمسة عشر عاماً شهدتها عاماً عاماً، والشيخ يعيد التحقيق من جديد، يبدي ويعيد في مسائل، ويتوقف عند مسائل، ويرجئ النظر في مسائل على عادته في إتقان العمل وتجويده وتحكيكه وتثقيفه، وطلب وجه الكمال فيه، وأنّى يُدرك الكمال وهو لله وحده سبحانه.(41/8)
وتحسن الإشارة هنا إلى أن شيخنا النفاخ راجع الكثير مما أخرجه المجمع من كتب التراث المحققة، أذكر من ذلك على سبيل التمثيل كتاب شرح ما يقع فيه التصحيف والتحريف لأبي أحمد العسكري بتحقيق الدكتور السيد محمد يوسف، وكان الأستاذ يُشركني والأخ الدكتور يحيى مير علم بمعارضته بأصوله، ومن ذلك أيضاً كتاب الأزهية في حروف المعاني للهروي بتحقيق الأستاذ عبد المعين الملوحي، وكتاب شرح أرجوزة أبي نواس لابن جني بتحقيق العلامة الأستاذ محمد بهجة الأثري، وكتابا الإتباع والإبدال لأبي الطيب اللغوي بتحقيق الأستاذ عز الدين التنوخي، ورسالة أسباب حدوث الحروف لابن سينا بتحقيقي مع الدكتور يحيى مير علم.
من ذلك كله يتبدّى أنَّ ما أنجزه الرجل كثير كثير، ولكنه موزّع في بطون الكتب، وحواشي التحقيق، وعقول الطلبة، إذ لم يكن - رحمه الله - يردُّ طالب علم، أو سائل حاجة، أو ملتمس عون في أي شأن من شؤون العلم، وما أكثر ما كان يُقصَد، وما أعظم ما كان يرفِد:
يسقط الطير حيث ينتثر الحَ بُّ وتغشى منازلُ الكرماءِ
((ومن قصد البحر استقلَّ السواقيا)).
صفحة مطوية:
ويقودني حديث ما أنجزه من أعمال إلى نشر صفحة مطوية من تاريخه العلمي، تلك هي مرحلة عمله في مركز الدراسات والبحوث العلمية، حيث خطط لمشروع علمي رصين، وأسس بنيانه على قواعد متينة، ثم تخيَّرني مع الأخ الدكتور يحيى مير علم للعمل معه، ذلك المشروع هو إحصاء جذور العربية في خمسة من أمّات المعجمات هي تهذيب الأزهري ومحكم ابن سيده وجمهرة ابن دريد ولسان ابن منظور وقاموس الفيروزآبادي، وقد بدأ الأستاذ المشروع، ثم أتممنا العمل بإشرافه، وكان لتوجيهاته وملاحظاته أثر كبير في استدراك ما فات غيرنا ممن قام بأعمال إحصائية شبيهة.(41/9)
وشرع معنا أيضاً بعمل آخر يتصل بعلم التعمية واستخراج المعمى ( الشيفرة وكسر التشفير ) إذ استقدم من صديقه الأستاذ الدكتور فؤاد سزكين مجموعاً مهمًّا في هذا العلم، وقام بنسخه بخطه، وأشرف على تحقيقنا رسالة أسباب حدوث الحروف لابن سينا، ورسالة اللثغة للكندي، وكتب توصيفاً دقيقاً لمخارج الحروف وصفاتها من منظور تراثي.
وبهذا يكون نشاط النفاخ قد توزع على أماكن أربعة: جامعة دمشق، ومجمع اللغة العربية، ومركز الدراسات والبحوث العلمية، وبيته.
وما من شكٍّ في أن هذا الأخير - أعني البيت - لم يكن يقل أهمية عن الأماكن الأخرى، بل هو يجمع بينها، وينظم ما انفرط من حلقاتها. قلت له مرة، وقد بلغني أنه وَجَدَ عليَّ إثر تكليفي بتدريس مادة العروض في جامعة دمشق بعد أن نُحِّيَ عنها: ((لأن أكونَ تلميذاً صغيراً في بيتك أحبُّ إليَّ من أن أكون أستاذاً كبيراً في الجامعة)) فقد كان بيته بحق جامعة لطلاب العلم، ومجمعاً لرواد المعرفة، ومركزاً للعطاء والإبداع.. إنه بيتٌ دعائمُهُ أعزُّ وأطولُ.
سأشكرُ ما أوليتَ من حسنِ نعمةٍ ومثلي بشكر المنعمين خليقُ
ولا أودُّ أن أدع القلم قبل أن أتمنّى على ابن شيخنا - عبد الله أحمد راتب النفاخ - وطلابه ومحبيه أمنيتين:
الأولى: أن يسارعوا إلى تراث الشيخ فينشروه، سواء ما كان منه أعمالاً منجزة، تحقيقاً وتأليفاً، أو ما كان هوامش علمية انطوت عليها أسفار مكتبته، ففي هذا نشر للعلم، ووفاءٌ لأصحابه، ونفع للناس عميم.(41/10)
والثانية: أن يبادروا إلى تكريم الشيخ فيسهموا في نشر كتاب يحمل اسمه، وينشر فضله، ويدرس آثاره، ويعلي ذكره، ففي هذا إحياء لذكراه، ووفاء بحقه، وردٌّ لبعض جميله على أهل هذا اللسان العربي، وأرجو أن تتحول هذه الأماني إلى حقائق ملموسة، وألا تكون مجرد أمانٍ نعيش بها زمناً رغداً، بعد أن صار الشيخ النفاخ - أحسن الله إليه - ((ميراثاً نتوارثه، وأدباً نتدارسه، وحناناً نأوي إليه)) كما قال أديب العربية الكبير محمود شاكر في شيخه الرافعي، عليهما رحمة الله.
من شعر النفاخ:
ولعل خير ما أختم به هذه الكلمة أبيات كان الشيخ النفاخ ينشدها في بعض مجالسه الخاصة، وهي من نظمه، وفيها دلالة على مبلغ فصاحته، وجزالة عباراته، وأصالة انتمائه، وصدق عاطفته، وقد كتبتها من فِلْقِ فيهِ:
جحَّافُ يا ابنَ الأكرمي نَ من الغطارفةِ الأماجِدْ
لا زالَ ذكرُكَ عالياً ينثو المكارمَ والمحامِدْ
لمّا تطاولَ دوبَلٌ واختالَ تِيهاً شِبهَ ماردْ
أرسلتَها في مسمع ال أيامِ صَيحاتٍ رَواعِدْ
وشَدَخْتَ أنفَ الشركِ مُصْ طَلِماً لكلِّ عَمٍ مُعانِدْ
أكرِمْ بها من فَتكَةٍ تمَّتْ بها فتكاتُ خالِدْ[10]
وأما أنت يا أبا عبد الله فسلام عليك في الأولين الذين عشتَ معهم بقلبك وفكرك، وسلام عليك في الآخِرين الذي عشت معهم بعطائك وعلمك، وسلام عليك في الملأ الأعلى يوم الدين.
أسأل الله أن يجزيك عن العربية وأهلها خير ما جزى عالماً عن قومه ولغته، وشيخاً عن طلابه وتلامذته، ومجاهداً عن دينه وأمته، وأن يجعل ما قدمت للغة القرآن ذخراً لك وزلفى عند ربك { يَوْمَ لاَ يَنْفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ }.(41/11)
[شرعت في كتابة هذه الكلمة بعد فجر يوم عرفة (9 ذو الحجة 1422 الموافق لـ 21 شباط 2002) في الكويت بمناسبة مرور عشر سنوات على وفاة شيخنا النفاخ رحمه الله, ثم قرأتها في عدة مجالس علمية في البحرين والكويت, ودفعتها لتنشر في مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق حيث حظيت بالقبول, ولكن لما طال عليها الأمد نشرتها في مجلة الفيصل العدد 330 (1424هـ - 2004م)].
ـــــــــــــــــــــ
[1] الأستاذ أحمد راتب النفاخ, ولد في دمشق عام 1927م, من أجلِّ أساتذة جامعة دمشق. درِّس في قسم اللغة العربية. كلية الآداب بين عامي 1953 و1955م, وبين عامي 1962 و1979م. وانتخب عضواً في مجمع اللغة العربية بدمشق عام 1976م. وتفرغ للعمل به منذ عام 1979م إلى وفاته.
[2] أخرجه البخاري ومسلم من حديث ابن مسعود.
[3] رواه أحمد في المسند من حديث أبي سعيد الخدري 3/19.
[4] الشَّخْتُ’: (بفتح الخاء وسكونها) الدقيق من الأصل لا من الهزال, والدقيق الضامر لا عن هزال. والسمين: نقيض المهزول, والفضيلة: المزية والدرجة الرفيعة في الفضل (اللسان: شخت).
[5] تذكرة الحفاظ للذهبي 3/873’, ومعجم الأدباء لياقوت 18/233. وإنباه الرواة 3/174.
[6] تمثل بهذا البيت الأستاذ عبد الهادي هاشم - رحمه الله - في كلمته التي استقبل بها شيخنا النفاخ عضواً عاملاً في مجمع اللغة العربية بدمشق. انظر مجلة المجمع مج53, ج1/1978م ص215.
[7] من ذلك على سبيل التمثيل مقالاته الثلاث التي حملت عنوان نظرات في نظرات, ونشرتها مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق مج 59, ج3/1984م، ومج 60, ج2, ج3/1985م.
[8] عندما لقيته في ندوة تاج العروس التي أقيمت في الكويت احتفاءً باكتمال طبع التاج في أربعين مجلداً في المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب (الكويت 9 - 10 فبراير 2002).(41/12)
[9] كان من سوالف الأقضية أن الشيخ كلفني والأخ الدكتور يحيى مير علم بجلب مصورة لهذه المخطوطة من مكتبة شهيد علي في تركيا فجلبناها في رحلتنا إلى إصطنبول عام 1981م وجلبنا له أيضاً مصورة عن تعليقة أبي علي الفارسي على كتاب سيبويه وكان يعتزم تحقيقها مع الدكتور شاكر الفحام أمتع الله به’.
[10] انظر خبر وقعة الجحاف والبشر في ديوان الأخطل عند قصيدته التي مطلعها:
لقد أوقع الجحاف بالبشر وقعةً إلى الله منها المشتكى والمعوّل
ومن طريف ما يروى أنه بلغ من فتك الحجاف أن قيل فيه: إنه لا تقبل له توبة, ثم إنه رُئي في آخر عمره يطوف حول البيت قائلاً: اللهم اغفر لي وما أُراك تفعل! فعجب من كلامه رجل إلى جانبه وقال: يا هذا كيف تقول هذا الكلام لأرحم الراحمين؟! والله لو كنت الجحافَ لغفر لك, فقال: أنا هو, فقال الرجل: أنت الجحاف؟ والله لا يغفر لك أبداً.(41/13)
العنوان: أحوال السابقين في الورع ونماذج من المعاملات المحرمة
رقم المقالة: 746
صاحب المقالة: سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
-----------------------------------------
الحمد لله الذي أنعم علينا بما أعطانا من الأموال ووفق من شاء من خلقه لاكتسابها من طريق حلال وصرفها فيما يوجب رضى الكبير المتعال، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو العظمة والجلال، وأشهد أن محمداًً عبده ورسوله المبعوث بأكمل الشرائع وأفضل الخصال صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم لا بيع فيه ولا خلال وسلم تسليماً.
أما بعد، أيها الناس: اتقوا الله تعالى، واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة وأن الله عنده أجر عظيم. عباد الله، الأموال فتنة في تحصيلها فتنة في تصريفها، لقد شرع الله وهو العليم الحكيم لعباده طرقاً لتحصيلها مبنية على العدل والقصد فلا ظلم ولا تفريط ولا إفراط، وشرع لعباده طرقاً لتصريفها على الوجه النافع للعبد في دينه ودنياه، فانقسم الناس في ذلك أشتاتاً، وأسعد الناس بها من اكتسبها من طرقها المشروعة ثم بذلها فيما ينفعه في دينه ودنياه، وأشقى الناس بها من اكتسبها على غير الوجه الشرعي ثم أمسكها عن بذلها فيما ينفع أو بذلها فيما هو ضار، وبين هاتين المنزلتين منازل.(42/1)
أيها المسلمون: لقد كان إخوانكم الأولون الذين ملكوا زمام الدنيا ومفاتيح الآخرة يعرفون قدر هذه الأموال، فكانوا لا يحصلونها إلا عن طريق مباح ولا يصرفونها إلا في طريق نافع سلكوا في تحصيلها سبيل الورع وفي تصريفها سبيل الكرم والبذل المحمود، كان لأبي بكر غلام فجاء يوماً بشيء فأكل منه أبو بكر فقال له الغلام: تدري ما هذا؟ تكهنت في الجاهلية لإنسان وما أحسن الكهانة ولكني خدعته فلقيني فأعطاني بذلك، فهذا الذي أكلت منه، فأدخل أبو بكر يده في فمه فقاء كل شيء في بطنه. وشرب عمر بن الخطاب لبناً فأعجبه فقال للذي سقاه: من أين لك هذا؟ قال مررت بإبل الصدقة وهم على ماء فأخذت من ألبانها، فأدخل عمر يده فاستقاء. هكذا أيها المسلمون كان سلفنا يخرجون الحرام من بطونهم بعد أكله وهم جاهلون به حين أكلوه وما ضرهم ذلك، بل ملكوا به خزائن الدنيا ومفاتيح الآخرة وكانت حياتهم طيبة وعاقبتهم حميدة. أيها المسلمون، الله أكبر ما أعظم الفرق بيننا وبين هؤلاء ما أعظم الفرق بين قوم يرون الحرام عياناً فيتجرؤون عليه ويأكلونه لا يبالون من أين أخذوا المال أمن حلال أم من حرام، فالحلال ما حل بأيديهم، والطريقة المباحة للكسب ما أملته عليهم أهواؤهم وشهواتهم سواء وافق ما في كتاب الله وسنة رسوله أم خالفه، يأكلون أموال الناس بالباطل بالكذب بالغش بالخيانة لا يتورعون ولا يتنزهون إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون. أيها المسلمون، إن من البياعين من يظهر السلعة على أعلى ما يكون من الأصناف الطيبة وهي في باطنها معيبة، يجعل الطيب في أعلاها والرديء في أسفلها، يغش الناس بذلك ومن غش فليس من أمة محمد تبرأ منه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من البياعين من يكذب في ثمن السلعة يقول اشتريت السلعة بكذا أو تسام كذا وهو كاذب، فيأخذ بذلك زيادة في الثمن لكنها تمحق بركته ويأكلها سحتاً، ومن المستأجرين من لا يوفي الأجير حقه يأتي(42/2)
الأجير فيعمل عنده العمل ولكنه يماطله بالأجرة، ولقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه))، وقال: ((مطل الغني ظلم)). ومن الأجراء من لا يعطي العمل حقه يتأخر في بدء العمل ثم يعمل ببطء وتأن وتأخر كأنما يساق سوقاً وهو يريد أجرته كاملة، كيف تريد الأجرة كاملة وأنت لا تعمل العمل كاملاً أليس هذا من الظلم أليس هذا من أكل المال بالباطل؟ إن أجيراً كهذا لا يستحق في دين الله تعالى من أجرته إلا بمقدار عمله، وما زاد من الأجرة فحرام عليه. فاتقوا الله أيها المسلمون وعاملوا الناس بالعدل عاملوهم بما تحبون أن يعاملوكم به، حللوا مكاسبكم اجعلوها غنيمة لكم تعينكم على طاعة الله، لا تجعلوها غرماً عليكم فتفقدوا بركتها وتستحقوا عقوبة الله. وفي الحديث: ((لا يكسب عبد مالا من حرام فيتصدق به فيقبل منه فيبارك له فيه ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار، إن الله لا يمحو السيئ بالسيئ ولكن يمحو السيئ بالحسن، إن الخبيث لا يمحو الخبيث إنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب)). أعوذ بالله من الشيطان الرجيم قال الله تعالى {وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة.188] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم... إلخ.(42/3)
العنوان: أحوال الناس يوم القيامة
رقم المقالة: 655
صاحب المقالة: سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
-----------------------------------------
الحمد لله جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله على كل شيء قدير ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة إن الله سميع بصير وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وهو اللطيف الخبير وأشهد أن محمداًً عبده ورسوله البشير النذير والسراج المنير المبعوث بأسس الحق وأصول الإيمان والخضوع للملك الديان صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليماً.(43/1)
أما بعد أيها الناس: اتقوا ربكم واعلموا أنه ما خلقكم عبثاً ولن يترككم سدى وإنما خلقكم لتعبدوه وتقدموا بدينه وتطيعوه وتقدموا لليوم الآخر فلا بد أن تلاقوه.: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:1،2] : {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يوماً لاَ يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شيئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [لقمان:33] في ذلك اليوم تندك الأرض وتسير الجبال وفي ذلك اليوم تشتد الأمور وتعظم الأهوال وفي ذلك اليوم ينزل للقضاء بين عباده الحكم العدل المتعال في ذلك اليوم تحشرون حافية أقدامكم عارية أجسامكم شاخصة أبصاركم واجفة قلوبكم في ذلك اليوم يجمع الله الأولين والآخرين من الإنس والجن والدواب في صعيد واحد يسمعهم الداعي وينفذهم البصر في ذلك اليوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه في ذلك اليوم يقبض الله الأرض بيده ويطوي السماوات بيمينه ثم يقول أنا الملك أين الجبارون أين المتكبرون وفي ذلك اليوم تدنو الشمس من رءوس الخلائق حتى تكون قدر ميل فيعرق الناس على قدر أعمالهم فمنهم من يبلغ العرق إلى كعبيه ومنهم من يبلغ إلى حقويه ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً فعند ذلك يبلغهم من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون فيقول الناس ألا ترون إلى ما أنتم فيه وإلى ما بلغكم ألا تنظرون إلى من يشفع لكم إلى ربكم فيذهبون إلى آدم فيعتذر ويقول اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى نوح فيأتون فيعتذر ويقول اذهبوا(43/2)
إلى غيري اذهبوا إلى إبراهيم فيأتون إبراهيم فيعتذر ويقول اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى موسى فيذهبون إلى موسى فيعتذر ويقول اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى عيسى فيذهبون إلى عيسى فيعتذر ويقول اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - فيأتون نبي الله محمداًً - صلى الله عليه وسلم - فيشفع في الناس ليقضي بينهم وهذا من المقام المحمود الذي وعده الله نبينا - صلى الله عليه وسلم - في قوله: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً} [الإسراء:79]. وفي هذا اليوم يحاسب الله الخلائق على أعمالهم فأول ما يحاسب عليه العبد صلاته فإن كانت صالحة أفلح ونجح وإن كانت فاسدة خاب وخسر. ويقضي بين الخلائق فترد المظالم إلى أهلها من حسنات الظالم فإن لم يبق شيء من حسناته أخذ من سيئات المظلوم فطرحت عليه ثم طرح في النار في ذلك اليوم ينصب الميزان فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون. في ذلك اليوم تنشر الدواوين وهي صحائف الأعمال فيأخذ المؤمنون كتابهم بأيمانهم مستبشرين مغتبطين ويأخذ الكافرون كتابهم بشمائلهم أو خلف ظهورهم حزنين خاسرين ويوضع الصراط على متن جهنم فيمر الناس عليه على قدر أعمالهم فمنهم من يمر كالبرق ومنهم من يمر كالريح ومنهم من يمر كالطير وكأشد الرجال تجري بهم أعمالهم ونبيكم - صلى الله عليه وسلم - قائم على الصراط يقول يا رب سلم سلم حتى تعجز أعمال العباد حتى يجيء الرجل فلا يستطيع المشي إلا زحفاً وفي يوم القيامة الحوض المورود للنبي - صلى الله عليه وسلم - طوله شهر وعرضه شهر عليه ميزابان أحدهما ذهب والآخر فضة يصبان فيه من الكوثر وهو النهر الذي أعطيه النبي - صلى الله عليه وسلم - في الجنة وماؤها أشد بياضاً من اللبن وأحلى من العسل وأطيب من المسك وأبرد من الثلج آنيته كنجوم السماء في كثرتها وحسنها من شرب منه(43/3)
شربة لم يظمأ بعدها أبداً فيرد عليه المؤمنون من أمته - صلى الله عليه وسلم - غراً محجلين من آثار الوضوء ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائم عليه ينظر من يرد عليه من أمته فيقتطع أناس دونه فيقول يا رب أمتي فيقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ما زالوا يرجعون على أعقابهم أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً} [الإسراء:79].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم... الخ.(43/4)
العنوان: إحياء الحديث وأثره في حَرَكَةُ الْفِقْهِ التّحرريَّة في القَارَّةِ الْهِنْدِيَّة
رقم المقالة: 384
صاحب المقالة: الحافظ إحسان ظهير
-----------------------------------------
كان الجمود سائداً على القارة الهندية ولم يجترئ أحد أن يتقدم ويكسر هذا الجمود الذي جمد الاسلام وثلج أذهان الناس وأوقعهم في مرض نفسي بأنه لا يقدر أحد بعد القرون الأولى أن يفتح كتاب الله وسنة رسوله العظيم عليه الصلاة والسلام لأن معاني القرآن ومفاهيمه خارجة عن فهم الرجال المتأخرين زمناً وهكذا السنة فلذلك ينبغي أن يقتصروا على مفاهيم الأولين ويكتفوا بأقاويلهم وآرائهم فترك الكتاب والسنة وراء الأظهر وحفظ في خزائن مكنونة أو مكاتب محجوبة وما كان هذا الاكتناز والاحتفاظ إلا للتبرك فحسب حتى أفتى بعض علماء المسلمين بأن الذي ترجم معاني القرآن إلى لغة يفهمها العوام فقد كفر وخرج عن الملة الاسلامية ووجب قتله لأن ترجمة معاني القرآن يدعو إلى أن يفهم القرآن من ليس أهلاً أن يفهمه أو بتعبير أكثر وضوحاً أنه يؤدي إلى تحطيم مراكزهم ولا تبقى لهم ميزة يفتخرون بها على الناس فتكاثفت الظلمات بعضها فوق بعض وفي هذه الظلمات بدت لمعة بريق ولكن سرعان ما انطفأت وكان ذلك في القرن الحادي عشر بسنة 1034هـ حينما قام الشيخ الجليل عبدالأحد الفاروقي وهجم على هذا الركود وتكلم خلاف البدع التي راجت وصرت جزء من الدين الحنيف الخالص من الخرافات والزيغ والبدع ولكن الظروف لم تساعد هذا الإمام ولم تمكنه من النجاح الذي كان يريده ولكنه استطاع أن يشعل في هذا الليل القاتم شعلة من نار فاستنار من هذه الشعلة الشيخ القاضي ثناء الله صاحب تفسير مظهري واستنكر العصبية والجمود المذهبي كما رد على المبتدعين والخرافيين وهناك قدر الله لرجل أن يرفع على رأسه تاج التجديد والنهضة في بلاد الهند فولد هذا العبقري في جو رهيب مملوء بالعصبية المذهبية والجمود المهلك فنشأ نشأة(44/1)
الرجال وتربى تربية صالحة وشب بشباب غيور فأطل يميناً ويساراً وما رأى إلا المساند العالية يتربع عليها ذوو عمائم ضخمة وحلقات يتوسطها ذوو عباءات مزركشة كأنهم هم الآمرون والناهون وهم المحللون والمحرمون ولا يسمح لأحد أن يرد على كلمة قالوها، أو ينكر أمراً ذكروه، وإن طولبوا بدليل ترفعوا، وإن ردوا تمسكوا، فما استساغ هذا ولي الله وأنكر أي إنكار، إنكار حكيم، واستنكر ولكن استنكاراً لطيفاً فأبى الأبي أن يسلم بكل ما يقوله أصحاب الجبب والعمائم ولكن يقدم قبل كل انكار تمهيداً وقبل كل استنكار مقدمة يفهمهم فيها مرة ويراودهم فيها مرة أخرى كما لا يخطئ أن يطعنهم بعض الأحيان طعناً خفياً وجلياً ثم تقدم بخطوة أخرى وأخرج القرآن من الطيات اللامحدودة ففتحه أمام الناس ودعاهم بأن لا يقتصروا على تقبيله فقط بل يأخذوا منه الأنوار والرشد والهداية وما فعل هذا حتى ثارت ثورة وبخاصة حينما أعلن أنه يستطيع رجل هذا العصر أن يفهم القرآن العظيم كما فهمه الأولون كما أنه يستطيع أن يستنبط منه المسائل ويعرف معانيه ومقاصده وسرعان ما صدرت الفتوى بقتل هذا (المجرم الكبير!.) الذي يريد أن يهدم هذا الجمود الذي بناه آباؤهم وأجدادهم ويريد أن يرفع الحجاب بين الله وبين عباده، فهجموا عليه ولكنه كان غازياً وما كتبت الشهادة إلا لحفيده فجرح، ونجا فابتسم، وقال كما قال سيده ((اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون)) وواصل عمله وترجم معاني القرآن إلى الفارسية لأول مرة كما بدأ يدرس حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ويضرب ضربات قوية على التقليد ولكن بأسلوب رفيع وطريقة حكيمة فالشعلة التي كانت شرارة في القرن الحادي عشر تحولت إلى قنديل بعد مائتي سنة فقط، في القرن الثالث عشر فأشعل الشاه ولي الله هذا القنديل بجده وجهده حتى أبقاه منيراً ولو باحراق دمه فأول مرة بعد قرون درس الحديث في القارة الهندية بعد أن كان مطوياً ومرمياً وراء كتب الفقه ثم جاء بعد ذلك(44/2)
بنوه أئمة الهداية وأنوار الرشد، عبدالغني، وعبدالعزيز، وعبدالقادر، ورفيع الدين، فقاموا بهذه الحركة، وحملوا هذا اللواء، وأشعلوا من قنديله قناديل وشموعاً ونشروا الدعوة وأدوا الواجب فعبدالقادر ترجم معاني القرآن إلى الأردية وفسره، وعبدالغني ترجم معاني القرآن وعلق عليها ورفيع الدين ترجم معاني القرآن وفسره، وعبدالعزيز ترجم معاني القرآن وبين مقاصده، وكانوا كما قال الشاعر:
إنا بني نهشل لا ندعى لأب عنه ولا هو بالابناء يشرينا(44/3)
وانتشرت الدعوة وعمت، وذاع صيتها وما كان هؤلاء حتى الآن إلا رجال درس وتدريس، وذكر وعمل، ثم تطورت الظروف، وتقلبت الأحوال، ودخل أهل الحديث الذين أحيوا الحديث في الهند في ساحة القتل والقتال وراء رائدهم وقائدهم، الإمام المجتهد الشهيد إسماعيل رحمه الله الذي نشأ في أحضان ولي الله، وأعمامه الأجلاء نشأة حر، وأتى في هذه الدنيا بذكاء خارق وشجاعة نادرة فما خلقه الله إلا لمقصد عظيم ولهدف هام، فاقتحم الميدان، وخاض المعركة، وقمع الشرك والبدع بقلمه المتدفق، ولسانه المنطلق، وكسر الجمود والتقليد بضرباته العنيفة المتوالية، وهو أول من رفع يديه في الهند قبل الركوع وبعد رفع رأسه من الركوع مع أنه كان يعد رفع اليدين آنذاك من أفجر الفجور، وحينما اشتكى إلى عمه بعض الناس بأن ابن أخيه يرفع يديه وهو تلميذ له ابتسم عمه وقال: ناد إسماعيل وناقشه فإن غلبت فأنا أمنعه من رفع اليدين، وإن غلب فلا أجبرك أن ترفع، ثم بعد ذلك كتب الإمام في ذلك كتاباً مستقلاً، ورد الشرك وكتب كتاباً سماه ((تقوية الإيمان)) بيّن فيه أنواع الشرك والاجتناب لها وكتباً أخرى وصار مناراً للمهتدين والآن انتقلت المعركة من ساحة العلم إلى ساحة الجهاد ضد الاستعمار وأعوانه السيخ والهندوكيين، وبدأت دروس الحديث تحت ظلال السيوف يصبحون ويصقلون الأسلحة، ويمسون ويحفظون أقوال الرسول، ويتناقشون ويبحثون، والدعوة جارية، والعمل مستمر، ثم يقومون ليلاً وفقاً لقوله تعالى "تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفاً وطمعاً"، وصباحاً صورة حية من قول الله "يجاهدون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون"، فاليوم كانوا ينيرون ساحة القتال كما كانوا بالأمس ينيرون المنابر والمساجد، وتوسع المجال، وتفسحت الطرق، وتجدد الفكر، وتقطع الجمود.
وما كان من حق أتوه فإنما توارثه أباء أبائهم قبل
وهل ينبت الحظى إلا وشيجة وتغرس إلا في منابتها النخل(44/4)
وقتل زعيم هذه الأسرة شهيداً في ميدان القتال واختفى تحت التراب بعد أن أضاء الهند كلها بحديث الرسول عليه السلام وبتجدد الفكر فأخذ لواءه بعد ذلك الشيخ العلامة الشاه إسحاق رحمة الله عليه وتولى منصبه وجلس على مسنده وكان كما قال الشاعر:
إذا مات منا سيد قام سيد قؤول لما قال الكرام فعول
ولما انتقل الشاه إسحاق إلى رحمة الله قام بعده الرجل الذي جمع صفات الأولياء والمجاهدين في وقت واحد فكان رحمه الله من أرق الناس حينما يقوم أمام الله عز وجل يناديه ويناجيه وأخشنهم حينما يتكلم على الشرك والبدع والجمود وألينهم لرفقائه وتلامذته حتى يقول أحد تلامذته إني صاحبت الإمام عشرات السنين فما سمعت منه طوال صحبته كلمة توجعني، فهذا الإمام جاء وعمل لا في ميدان واحد بل في ميادين مختلفة فكان يدرس الجامع الصحيح للإمام البخاري والصحيح للإمام مسلم وباقي الكتب الصحاح من الفجر إلى الظهر، ومن الظهر إلى العصر، ثم بعد العصر كان يزكي الطلبة بتزكية روحانية، وينصحهم ويعظهم ويعلمهم الدعوة وطريقها ويفهمهم العقبات والعوائق في سبيل الدعوة ويشجعهم وبعد المغرب يجلس للتأليف وحينما جنح سواد الليل ذهب إلى العمل، نعم إلى العمل، لكسب المعاش وأي العمل، يذهب إلى المحطات لكي يحمل أثقال الناس ويحصل على قوت يقتاته هو وأهله، وهذا هو الإمام الذي يصدق فيه قول القائل:
مضت الدهور وما أتين بمثله ولقد أتى فعجزن عن نظراته(44/5)
وقد يروي أحد تلامذته الكبار أنه سمع صيت الشيخ وجاء إليه ليدرس عليه الحديث ولكنه مع ذلك كان يكره الشيخ في نفسه ويبغضه لأجل الجمود المذهبي الذي ورثه من آبائه فلما وصل إلى محطة دهلي ونزل عن القطار وفتش عن حمال، فوجد شيخاً مسنا فسأله عن مدرسة الشيخ ولما أخبره الحمال أنه يعرف المدرسة، حمله أمتعته وفراشه، ورأى في الطريق أن لسان حماله ما انقطع عن ذكر الله ولا لحظة، وسأله الحمال عن قصده للمدرسة، فأجاب بأنه سمع حديث الشيخ الإمام وشهرته وجاء ليطلب منه العلم، علم الحديث النبوي، فمدحه الحمال لحسن نيته ولخروجه لطلب العلم الشريف وحينما وصلا إلى المدرسة وكان الوقت منتصف الليل أنزل الحمال فراشه وأمتعته، وأراد أن يرجع إلا أن الطالب أمسكه وقدم له أجرته، ولكن الحمال العجوز أبى أن يأخذ أجرة الحمولة من إنسان ما خرج من بيته إلا إبتغاء مرضاة الله، ومع شدة إصراره ظل العجوز مصراً وذهب، ويقول الطالب أنا ما زلت بعد إنصرافه أتفكر في هذا العجوز المجاهد الذي يأبى أن يأخذ أجر خدمته من طالب يخرج في سبيل الله، وعلى معاني هذه الأفكار نمت فلما أصبحت، وجاء وقت الدراسة ذهبت لأحضر وأسمع درس الشيخ، وما أن وصلت إلى مسند ولي الله وإسماعيل وإسحاق، حتى دهشت وكاد يغمى علي لفرط لهفتي لأني رأيت ذلك الشيخ الذي حمل فراشي وأمتعتي، وأبى أن يأخذ مني أجرته، نعم رأيت ذلك الإمام جالساً على مسند يدرس صحيح البخاري، وعلى جبينه نور يتلألأ، وفي عينه دموع تترقرق، وأمامه طلاب، لا من أطراف الهند فقط بل من أفغانستان، وإيران، وبورما، والصين، وسمرقند، وبخارى، كلهم يستفيدون من هذا المنبع الصافي الرقراق الدفاق، وبمجرد رؤية هذا المنظر صرت من أخلص مخلصيه مع التعصب الموروث والحقد الكامن، وكان هذا الرجل الذي سماه أهل زمانه شيخاً في الكل الإمام العلامة السيد نذير حسين المحدث الدهلوي رحمه الله وطيب ثراه فكتب شرح صحيح البخاري كما ألف عدة كتب في(44/6)
رد البدع والتقليد وترويج التوحيد والحديث، والتمسك بالقرآن والسنة، ونشر الدعوة الخالصة، فنشر العلم، وبدد غيوم الجهالة، وشتت تكاثف الظلمات، وكان من تلامذته من اشتغل بالدرس والتدريس ومنهم بالكتابة والتأليف ونشروا المجلات والجرائد، وأحقوا الحق وأبطلوا الباطل وأوضحوا الطريق إلى الكتاب والسنة، فبدأ المتعصبون من المذهبين يهجمون عليهم بالطعن والتشنيع وبالإشاعات والإذاعات فتهيأت جماعة الخطباء منهم الذين ليس لهم شغل إلا أن يتجولوا في كل قرية من قرى الهند وبلدة من بلادها فبرزوا في الخطابة كما قامت هنالك فئة أخرى ودخلت في الجهاد ضد الاستعمار البريطاني وكافحوا مكافحة حسنة أثرت في نفوس الناس، وكم من عالم قائم الليل شنق، وعامل صائم الدهر أجلى ولكنهم تجلدوا، وصبروا، وأثبتوا أنهم أهل للجهاد ولا تبلى بسالتهم، وما زالوا رافعين علم الجهاد حتى اضطر الانكليز أن يخرج من الهند وكتب أحد زعمائهم لولا كان الوهابيون (يريد بهم أهل الحديث) في الهند لما خرجنا.
فالعمل الذي ما نجحوا فيه بالخطابة والكتابة في قرون نجحوا فيه بأيام لكن بتقديم دمائهم وبتضحية نفوسهم وبقولهم:
ولسنا على الأعقاب تدمى كلومنا ولكن على أقدامنا تقطر الدما(44/7)
ومع ذلك ما زالوا مشتغلين بالحديث فلما شرح الإمام العارف الرباني السيد نذير حسين المحدث، صحيح البخاري شرح تلميذه الكبير الشيخ العلامة شمس الحق ((سنن أبي داود)) وسماه ((عون المعبود)) وهو موجود في أيدي العرب والعجم ثم بعد ذلك تلاه تلميذه الشهير العلامة عبدالرحمن المباركفوري وشرح جامع الترمذي وسماه ((تحفة الأحوذي)) وقد طبع مرات والآن يطبع في مصر بعشرة مجلدات وظهر منه عدة أجزاء ثم جاء بعد ذلك تلميذه الشيخ المحدث العلامة عبيدالله المباركفوري وشرح ((مشكاة المصابيح)) وسماه ((مرعاة المفاتيح)) الذي ظهر منه أربع مجلدات في حجم ضخم وهناك أيضاً ظهرت شخصية عظيمة صاحبة مال وعز وجاه السلطان صديق حسن خان طيب الله مثواه فصرف ماله وعزه وجاهه لنشر دعوة التجدد ولانتشار الكتاب والسنة فطبع جميع كتب الإمام المجتهد المفسر الشوكاني وجل كتب ابن تيميه وابن القيم وابن كثير كما كتب هو بنفسه عدة كتب في التفسير والحديث والأصول والأدب والمعاني، وشرح وعلق بضعة كتب كما تولى هذه الحركة بالقلم واللسان، ثم تلاه العلامة بشير أحمد السهواني والشيخ الأستاذ الحافظ عبدالله الغازي بوري والعلامة النواب وحيد الزمان شارح صحاح السنة في اللغة الأردية ورجال لا يعدون ولا يحصون فكانوا خلقاء بأن يتمثلوا بقول الشاعر:
إذا بلغ الفطام لنا صبي تخر له الجبابرة ساجدينا
ومرة أخرى تطورت الأحوال وانقلبت الظروف وأفتى المتعصبون للمذهبية الضيقة والخرافيون ممن ادعوا أنهم من أهل السنة بأنه لا يجوز أن يجالس ويصاحب رجل من هذه الفئة كما أنه لا يجوز البيع والشراء منهم وإن على المسلمين أن يمنعوهم من أداء الصلوات في مساجدهم وهكذا أرادوا أن يقضوا على هؤلاء، ولكن الله يفعل ما يريد.(44/8)
ومهما ازداد هؤلاء تشدداً ازداد هؤلاء عدداً وانتشاراً وأرادوا أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره، فأوذي هؤلاء أشد إيذاء وأخرجوا من المساجد حتى حفر بعض الأحيان الموضع الذي صلى فيه أحد من أهل الحديث، والذين تساهلوا اقتصروا فقط على احراق الصف أو المصلى الذي صلى عليه، ثم بعد ذلك اجتمعت لجنة من هؤلاء وأصدرت فتواها الشهيرة بأن أهل الحديث جميعهم مرتدون ومن شك في ارتدادهم فهو أيضاً مرتد ففهم الحقيقة الذين لم يفهموها حتى الآن، ومع صدور مثل هذه الفتاوى بدأ الكفار من البوذيين والهندوكيين، والنصارى، والسيخ، والقاديانية، والبهائية يغتنمون الفرص وبدأوا بالهجوم على الاسلام نفسه فتنبه علماء الهند لهذا وكان في صفوفهم الأولية
رجال يرون الذل عاراً وسبة ولا يرهبون الموت والموت مقدم
رجال إذا جاش الردى فهم هم
لأنهم كانوا يفهمون أن المسؤولية على رأسهم وكانت عقيدتهم:
لو كان في الألف منا واحد فدعوا من فارس خالهم إياهم يعنونا
فرأت الدنيا ورأى المخالفون والمعاندون أن الخائض في معركة البحث والجدال والمناظرات والمناقشات إما الشيخ محمد حسين البتالوي وإما رجل الهي (كما سماه الشيخ رشيد رضا في مجلته المنار) الشيخ ثناء الله الأمر تسري ومرة الشيخ الكبير إبراهيم السيالكوتي وهم ثلاثة من قواد حركة أهل الحديث في الهند فهزموا جيوش الكفار وكسروا قواتهم وطاقاتهم فكان كل واحد منهم مستعداً في أي مكان وفي أي زمان أن يدافع عن الملة الحنيفية البيضاء وهكذا حين جاء المناظر النصراني أو القادياني، أو البوذي، وغيرهم هاجماً على الإسلام ومنازلاً المسلمين أسرع كل واحد منهم قائلاً:
فدعوا نزال فكنت أو نازل فعلام أركبه إذا لم أنزل(44/9)
وسرعان ما عاد المهاجمون خائبين خاسرين وكم من مرة نازل كافر واحداً من الخرافيين، فما استطاع أن يناظره، فأرسل البرقية إلى الشيخ ثناء الله، وثناء الله لم يتفكر أنه هو الذي كفره لا بل كان يقول دائماً أنه على الأقل مسلم وإن فاز الكافر يفهم الناس أنه غلب المسلمين وهزم الإسلام وهذا مالا يرضاه ثناء الله فهكذا إبراهيم وغيرهم حتى صاروا تفسيراً لقول الشاعر:
لا يسألون أخاهم حين يندبهم في النائبات على ما قال برهانا
حتى تمنى المكفرون أن يكونوا منهم:
فليت لي بهم قوماً إذا ركبوا شنوا الاغارة فرساناً وركبانا
قوم إذا الشر أبدى ناجذيه لهم طاروا إليه زرافات ووحدانا
فدافعوا عنهم وهزموا عدوهم وعدو الاسلام وكانوا جديرين بأن يقال فيهم بلسان الشاعر:
فدت نفسي وما ملكت يميني فوارس صدقوا فيهم ظنوني
فوارس لا يملون المنايا إذا دارت رحى الحرب الزبون
فنكب عنهم درء الأعادي وداووا بالجنون من الجنون
هم منعوا حمى الوقبا بضرب يؤلف بين أشتات المنون
ولا يرعون إكناف الهوينا إذا حلوا ولا أرض الهدون(44/10)
وبعد ذلك انقسمت الهند وخرج الاستعمار الانكليزي الخبيث مبيحاً دماء المسلمين ووقعت كارثة كبيرة وقتل آلاف من المسلمين في الهند وأحرقت بيوتهم ونهبت أموالهم وفي ما نهب كانت مكاتب كبرى ومدارس عالية لأهل الحديث لأن أكثرهم كانوا مع القائد الأعظم محمد علي جناح في فكرته بانشاء دولة إسلامية ((باكستان)) وكان عددهم آنذاك يتجاوز الخمسة عشر مليوناً وبعد انقسام القارة الهندية إلى دولتين الهند والباكستان تجمعوا وتكتلوا مرة أخرى وبدأوا بالنشاط وأقاموا مدارس وجامعات دينية كما كونوا جمعياتهم في كل بلدة وقرية من قرى الباكستان وبلادها وأنشؤوا هيئات للتأليف والتصنيف، كما أصدروا مجلات وجرائد من كراتشي ولاهور ولا تلفور ودهاكه وشيتاغانغ وأيضاً قرروا بأن يكون هناك مؤتمر سنوي يجتمع فيه جميع علماء باكستان ليبحثوا القضايا التي تهم الاسلام والمسلمين وليجدووا النشاط ضد البدع والخرافات فكان لهم أثر كبير في الدعوة والارشاد والآن وهم ماضون إلى الأمام بتذكر الماضي المشرق فقد نشرت جمعية أهل الحديث عدة كتب في العربية والأردية ومنها تعليقات على سنن النسائي في العربية، للشيخ عطاء الله صنيف عضو المجلس الاستشاري للجمعية حالياً وشرح بلوغ المرام وتفسير القرآن في الأردية للشيخ ثناء الله في ثماني مجلدات وتفسير بعض الأجزاء للشيخ إبراهيم كما نشروا كتباً أخرى في العبادات والأخلاق والفلسفة الاسلامية والتمسك بالقرآن والسنة والرد على الشرك والبدع والجمود كما طبعوا عدة مؤلفات في المناظرات والمناقشات ضد القاديانية والبهائية والنصرانية، ومذاهب باطلة أخرى ومع فساد الزمان هم عاملون لاحياء السنة المحمدية على صاحبها السلام وإحياء علوم الحديث:
فلو سألت سراة الحي سلمى على أن قد تلون بي زمان
لخبرها ذوو أحاب قومي وأعدائي فكل قد بلاني
وفقنا الله وإياهم لما يحب ويرضى.(44/11)
ومما تقدم يتضح للقارئ عظم الدور الذي نهض به أهل الحديث في خدمة الاسلام وتجديد الفكر الاسلامي وتكسير الجمود والعصبية المذهبية ونحن حين نستعرض هذه الصفحات اليسيرة من جهادهم الضخم لا يسعنا إلا أن ننحني إجلالاً لذكرى تلك الثلة من السابقين الآخرين... سائلين الله عز وجل أن يرزق الاسلام مثلهم في كل مكان وفي كل زمان وبخاصة في هذه الأيام:
وفيهم مقامات حسان وجوهها وأندية ينتابها القول والفعل
وإن جئتهم ألفيت حول بيوتهم مجالس قد يشفى بأحلامها الجهل
على مكثريهم رزق من يعتريهم وعند المقلين السماحة والبذل(44/12)
العنوان: اختطاف حركة فتح
رقم المقالة: 1005
صاحب المقالة: خليل محمود الصمادي
-----------------------------------------
لا شك أن حركة (فتح) من أول الحركات النضالية الفلسطينية التي حازت إعجاب الكثيرين؛ من فلسطينيين وغيرهم، في فلسطين وخارجها، ومن غير الفلسطينيين ممن كانوا يعشقون النضال الفلسطيني أو الثوري أو الإنساني، وقد انفردت حركة (فتح) عن باقي الحركات الفلسطينية بأنها حركة جامعة للشعب الفلسطيني ضمت في صفوفها تيارات عديدة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، وربما كان هذا التنوع من صالحها في بداية الانطلاق حتى غدا عبئا عليها فيما بعد كما يرى بعض المحللين.
وقد لاقت حركة (فتح) منذ انطلاقتها تأييدا قلَّ مثيلُه لحركة نضالية عربية، ولكن يبدو أن الرياح ما جرت كما تشتهي السفن، فحدثت بعضُ الانشقاقات عكَّرت صفوَ الحركة، وانقسم المناضلون شيعا وجماعات، ولا سيما بعد الخروج من بيروت، وكلٌّ يدعي وصلا بليلى، ففي السنوات الأولى لانشقاق "فتح الانتفاضة" صدرت مجلة للمنشقين تحمل الاسم نفسه لمجلة (فتح) الأساسية باسم "فلسطين الثورة"، وكل مجلة تعد نفسها الناطق الرسمي باسم (فتح) والثورة، ولكن بعد مرور سنوات اعترف المنشقون بانفصالهم، وتبنوا برامجَ واضحة وافق عليها بعضُ المناضلين، وناوأها آخرون.(45/1)
ظلت حركة (فتح) الحركة الأم تمثل شرعية النضال الفلسطيني بسبب حنكة (ياسر عرفات)؛ إذ عزل المنشقين، وفرض على أغلب دول العالم الاعتراف بحركته، كما ظلت تمثل حركة التحرر الوطني الفلسطيني دون منازع، ومثوى أفئدة المناضلين حتى مؤتمر أوسلو، عندما وافقت الحركة أو منظمة التحرير - سيان في تسميتها - على دخول اللعبة السياسية بسبب تغيرات الوضع العالمي الجديد لا سيما بعد أفول القوة السوفياتية العظمى وقوى أوروبا الشرقية التي كانت تقدم دعما ماديًّا ومعنويًّا للمنظمات الفلسطينية، مما أدى إلى تفرد أمريكا بالعالم وتأييدها المطلق لإسرائيل، عندها رأى (عرفات) وتنظيم (فتح) ومنظمة التحرير الفلسطينية الدخول في اللعبة السياسية فلعلهم يحصلون على شيء ذي قيمة كما وعدوا.
عندها بدأ المناضلون الثوريون ينفضون من حول (فتح)، ويتجهون إلى التنظيمات المناوئة لأوسلو ولا سيما الحركات الإسلامية كـ(حماس) والجهاد الإسلامي، وقد ساعد الحركتين الأخيرتين في استقطاب الجماهيرِ المدُّ الإسلامي الذي لا ينكره أي باحث منصف في العالم أجمع.(45/2)
كان من استحقاقات أوسلو السلطة الفلسطينية التي كانت سلطة (فتحاوية) بامتياز بسبب إحجام حركتي (حماس) و(الجهاد) عن سلطة منبثقة من أوسلو، ففي بداية الحكومة الفلسطينية في غزة حافظت حركة (فتح) على تماسكها عدة سنوات بسبب حنكة (ياسر عرفات) الذي تم حصاره وعزله ثم اغتياله بسبب مراوغته للقوى العظمى بتعطيل استحقاقات أوسلو، وبعد رحيل (عرفات) أصبح اللعب على المكشوف، وأصرت إسرائيل والدول الداعمة لأوسلو على الاستحقاقات المترتبة على السلطة، وتباينت في (فتح) تيارات عديدة ما بين اليمين واليسار وما بين المقاومة والتعاون مع العدو المحتل، ويبدو أن استحقاقات أوسلو باهظة الثمن فصعب على ما تبقى من الثوار البوح بها، لا سيما في عصر الفضاء المفتوح والإنترنت حتى غدت الأسباب والمسوغات الواقعية مضحكة في كثير من الأحيان كمن يقول: "يجب أن نتعاون مع العدو الإسرائيلي الشقيق، وإنها لثورة حتى النصر"!! أو "يجب تصدير الإسمنت لإسرائيل لبناء الجدار العازل لتخفيف البطالة في فلسطين".
وزاد الطينَ بلةً - أو الأمر سوءا - اعتلاءُ (حماس) سُدة الحكم بعد انتخابات وصفها المراقبون الفلسطينيون وغير الفلسطينيين بالنزيهة، وما رافقها من زلزال عميق أثر في الساحة (الفتحاوية) تأثيرا عميقا نتج عنه تداعيات كثيرة أهمها الاقتتال الدائر في أيامنا هذه بين الفصيلين الكبيرين، (حماس) و(فتح).(45/3)
يدعي الفريق أو التيار المناوئ للحكومة الفلسطينية أو لـ(حماس) بأنه تيار (فتح) الشرعي، وأن المؤسسة الأمنية حق مكتسب له لحماية الثورة و(فتح)، وأن أوامره تأتي من رأس التنظيم مباشرة، وليس من وزارة الداخلية الفلسطينية، ذكرتني هذه الدعاوى ما قاله رئيس وزراء تركيا (طيب رجب أوردغان) عندما هدد الجيش التركي بالتدخل في الانتخابات الرئاسية: إن الجيش يتبع الحكومة، وليس الحكومة تتبع الجيش، فهل الأجهزة الأمنية الفلسطينية - أو قل (الفتحاوية) - تبع الحكومة أو أنه يتعين على الحكومة أن تتبعها!!
لا شك أن الاقتتال معضلة، وأنه أحدث شرخا عميقا في المجتمع الفلسطيني، وما نراه على شاشات التلفزة من أخبار تدمي القلوب، لا من قصف إسرائيل لغزة؛ فإسرائيل عدوة للفلسطينيين وللإنسانية جمعاء، وإن الذي يدمي القلب ما يحدث من اقتتال داخلي وخطف وتعذيب وترويع للآمنين بين الإخوة الأعداء!!
الحكومة الفلسطينية إن كانت من (فتح) أو من (حماس) أو حكومة وحدة وطنية من واجبها أن تفرض هيبتها على الجميع، وألا تكون هناك مرجعيات مسلحة أخرى، وهذه من البدهيات السياسية في العالم أجمع.(45/4)
من حق أي تنظيم فلسطيني أن يتبنى الرؤية السياسية التي يؤمن بها، وليس من حقه أن يخطف تنظيما كبيرا ويدعي أنه الحامي والمدافع عنه، أعرف أنَّ هناك مناضلين شرفاء - ولا سيما في (فتح) - لم يرق لهم ما يقوم به العابثون في شوارع غزة من تحد سافر للسلطة الشرعية نهارا جهارا وادعاءً بالوطنية والمصلحة العامة تحت اسم (فتح)، ربما تكون (فتح) قد رضيت باللعبة السياسية في أوسلو من أجل تحقيق بعض المصالح الوطنية للشعب الفلسطيني اجتهادا منها ، وأما ما نقرأ من بيانات وتصريحات في يومنا هذا والتي تعد حركة (حماس) عدوة للشعب الفلسطيني، وأنها عميلة لإيران وسورية، أو أنها شيعية أو صفوية أو مجوسية وغير ذلك، في الوقت الذي تنشر فيه الصحف العالمية فضائح تقشعر منها الأبدان كالذي يطالب إسرائيل بالسماح بدخول قاذفات الصواريخ والعربات العسكرية وآلاف البنادق وملايين الطلقات من أجل التصدي لـ(حماس)، فهذا لا يرضى به أي مُنتمٍ لهذه الأرض المباركة، ولا أظن أنَّ من تربى في فتح يجرؤ أن يطالب بمثل هذه المطالب المخزية، والغريب أنه أو أنهم يدعون انتمائهم لـ(فتح)!!
دعوا حركةَ (فتح) للمخلصين من أبناء (فتح)، وإن أردتم أن تنشقوا فانشقوا، واختاروا أي اسم تختارونه عدا (فتح)، ولا حتى بإضافة (فتح) لكلمة أخرى، فقد يُساء فهمكم كما حصل مع "فتح الإسلام"، وأرجو أن تعلنوا سياستكم بوضوح كوضوح الشمس، وألا تكيلوا بمكيالين؛ مكيال للشعب الساذج لخداعه، ومكيال لإسرائيل وأمريكا لدعمكم وإمدادكم بالمال والسلاح لتنفيذ مآرب في أنفسكم، وفي نفس من يدعي وصلا بيعقوب، ويعقوب منهم براء.(45/5)
لقد أساء هؤلاء المتآمرون لـ(فتح) أكثر من غيرها؛ فقد مل الناس في فلسطين منهم ومن أعمالهم المخزية؛ إنهم يراهنون على الانتخابات المبكرة، وأظن أن لو أجريت في أيامنا هذه دون تزوير لما حصل تيار (فتح) على نصف المقاعد التي حصل عليها في الانتخابات السابقة، هذا في الداخل، أما في الخارج فقد أعطى المتأمرون ما تبقى لـ(فتح) من رصيد للتيارات الأخرى، فعلى سبيل المثال لا الحصر سئم الناس من حض الحكومة اللبنانية من قبل تيار (فتح) على الحسم العسكري والاشتراك في اقتحام مخيم نهر البارد للتصدي لفتح الإسلام في الوقت الذي يرى فيه كثير من اللبنانيين أن اقتحام المخيمات خط أحمر لا ينبغي تجاوزُه، ويقدمون مبادرات ترضي الجميع، فلو كانت (فتح) تتمتع بشعبية كبيرة في أوساط المخيمات الفلسطينية كما كانت من قبل، لما تجرأ تنظيم فتح الإسلام على التغلغل في مخيم نهر البارد والسيطرة عليه، أما في عين الحلوة - وبعيدا عن المهاترات الإعلامية والادعاءات الفضائية - فقد دهش كثير من المراقبين عندما رأوا تنظيما مثل "عصبة الأنصار" الذي لم يسمع به الكثير من قبل بيده مفاتيح التهدئة في أكبر مخيم فلسطيني في لبنان!!(45/6)
وفي المقابل نجد أن حركة (حماس) نالت ثقة الناس في فلسطين، ولا دليل أكبر من الأصوات التي حصدتها في الانتخابات البلدية والتشريعية، وفي التعاطف الذي حظيت به بسبب الإخلاص في العمل والصدق في البرامج التي طرحتها، أما في الخارج فلا شك أنها تحظى بشعبية واسعة، ليس في العالم العربي فحسب، بل في العالم الإسلامي كله، فالمتابع لجولة رئيس الوزراء الفلسطيني الأخيرة لعدد من الدول الإسلامية يجد الاهتمام الكبير الذي حظي به، ولا سيما عند زياراته للأوساط الشعبية في المخيمات والمساجد والمراكز الدعوية، ولا غرابة عندما نجد أن حركة مجتمع السلم في الجزائر والتي تعد ثاني أو ثالث أقوى حركة سياسية هناك اختارات لاسمها اسم "حماس" تيمنا باسم حركة المقاومة الإسلامية في فلسطين كما صرح مؤسسها (محفوظ النحناح)، وفي العراق ربما دهش المشاهدون مثلي قبل أيام عندما اختار أحد التنظيمات التي تُنازِل الأمريكان اسمَ حماس العراق علها تأمُل من ذلك فتحا مبينا.(45/7)
العنوان: اختلاط النساء بالرجال (نتائجه وآثاره)
رقم المقالة: 480
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
الحمد لله؛ ضرب للخلق آجالهم، وكفل لهم أرزاقهم، وشرع لهم دينهم، نحمده على نعمته وهدايته، ونشكره على رعايته وكفايته، فما من نعمة إلا وهو مسديها، ولا منحة إلا وهو معطيها {وما بكم من نعمة فمن الله} وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ الخلق خلقه، والأمر أمره، والشرع شرعه، والعباد عباده، لا يسع أحدا الخروج عنه، أو إبدال غيره به {ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين} وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وصفيه وخليله؛ لا خير إلا دل أمته عليه، ولا شر إلا حذرهم منه؛ رحمة بهم، وشفقة عليهم، وإحسانا إليهم، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه؛ أسرع الناس التزاما بأمره، وأبعدهم عن نهيه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى ربكم، والتزموا شريعته، وارجوا رحمته، واحذروا معصيته، وخافوا نقمته، ولا تأمنوا مكره؛ فإنه لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون.
أيها الناس: من رحمة الله تعالى بعباده رفعه الحرج عنهم، وتكليفهم بما يطيقون، والتخفيف عنهم فيما يرهقهم ويشق عليهم {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} وفي الآية الأخرى {وما جعل عليكم فى الدين من حرج} ولما ذكر سبحانه التخفيف في أحكام الصيام قال عز من قائل {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} وفي شرعية التيمم عند عدم الماء قال تعالى {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون} ووصف رسوله عليه الصلاة والسلام بأنه {يضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم}.
ومن مظاهر الرحمة واليسر في شريعة الله تعالى: أن كلف العباد بما يطيقون من الواجبات، وخفف عنهم ما لا يطيقون، وهذا المظهر من مظاهر التخفيف بَيِّنٌ واضح لكل من يقرأ القرآن، ويعرف الأحكام.(46/1)
وثمة مظهر آخر للتيسير يغفُل عنه أكثر الناس وهو لا يقل أهمية عن الأول؛ ذلكم - يا عباد الله - أن الله تعالى لما حرم المحرمات على العباد أوصد سبلها، ومنع وسائلها، وسد الطرق المفضية إليها؛ رحمة بالعباد، وعونا لهم؛ وذلك لئلا توجد في نفوسهم دواعيها، وقد حرمت عليهم فيرهقهم الامتناع عنها.
فالزنا حرمه الله تعالى في كل شرائع الرسل عليهم السلام؛ لما فيه من انتهاك العرض، وتدمير النسل، والشرائع الربانية جاءت بحفظ الضرورات التي منها العرض والنسل.
ولما كان من فطرة الإنسان وجبلته التي خلقه الله تعالى عليها ميل كل جنس من الرجال والنساء للجنس الآخر، ومحبته له، والأنس به، وتمني معاشرته؛ فإن الشرائع الربانية نظمت ذلك بالزواج، وحرمت السفاح، وأوصدت الطرق المسببة للزنا، فأمرت الشريعة السمحة بغض البصر، ومنعت الخلوة بالنساء، وسفرهن بلا محارم، كما منعت سفورهن وتبرجهن واختلاطهن بالرجال.
ولو كانت هذه الأسباب والوسائل مباحة مع تحريم ما تفضي إليه من الزنا لكان في ذلك من الرهق والعسر على العباد ما لا يعلمه إلا الله تعالى، ولكان حالهم كحال الجائع الذي يوضع أمامه ما لذَّ من الطعام ثم يقال له لا تأكل، والجائع يصبر عن الطعام إذا كان لا يراه ولا يَشْتَمُه، ولكن إذا رآه أو اشتمه لم يصبر عنه، والرجل يصبر عن المرأة في حال غيابها وتسترها، ولكنه لا يصبر عنها في حال سفورها وتبرجها واختلاطها به.
وحيثما كثر الاختلاط والعري والتفسخ في بلد من البلدان؛ مرضت القلوب، وفسدت الأخلاق، وازداد السعار الجنسي، وانتشرت جرائم الزنا والاغتصاب وأنواع الشذوذ.
وإذا أوصدت أبواب الفتنة والشر والفساد، وفصل النساء عن الرجال؛ صلحت القلوب، واستقامت الأخلاق، وانتشر في الناس الطهر والعفاف، والواقع يشهد لتلك الحقائق.(46/2)
إن اختلاط النساء بالرجال هو البوابة التي ما فتحتها أمة من الأمم إلا ولجت إليها الجرائم الأخلاقية، وانتشر فيها الشذوذ الجنسي، وصارت عرضة للطاعون والأوبئة الفتاكة.
إن الاختلاط يفتح أنواعا من البلاء والشرور على الناس؛ فحياء المرأة الذي لا زينة لها إلا به يضعف شيئا شيئا كلما اقتربت من الرجال، وعاملتهم وخالطتهم.. تكلم الواحد منهم وتضاحكه وتمازحه أشد مما تفعل ذات المحرم مع محارمها، وما كانت بجاحتها وجرأتها إلا بسبب قلة حيائها.
والمرأة تعتني بحجابها لئلا يراها من لا يحل لهم رؤيتها من الرجال، فإذا كانت تقيم الساعات الطوال أمامهم، وتعايشهم في أماكنهم ومقرات أعمالهم فإنها تتخفف من حجابها الشيء بعد الشيء لأنها ألفتهم، ولا تراهم في منزلة من لا تعرفهم من الرجال، ومع كثرة المخالطة لا ترى حرجا في إلقاء حجابها أمامهم بحجة الزمالة، وقدم المعرفة، وثقتها بأخلاقهم، وغير ذلك من الحجج الواهية التي يزينها الشيطان لها، وتعصي بها ربها الذي أمرها بالحجاب {وليضربن بخمرهن على جيوبهن}.
والمرأة تعتني أبدا بزينتها، ويهمها شكلها ومظهرها، وتضعف أمام المادحين لها، فإذا اختلطت بالرجال أبدت لهم ما يثنون به عليها، وتنافست هي وزميلاتها في هذا المجال، حتى يخيل لبعض من يراهن أنهن في دور عروض الأزياء، من كثرة أصباغهن، وعري ملابسهن، فيخالفن أمر الله تعالى {ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها}.
ولضعف المرأة أمام عواطفها فقد تعلق في مجال عملها برجل لجمال خلقته، أو حسن معاملته، أو قوة نفوذه، وهو لا يحل لها لأنها ذات زوج، أو لا تستطيع الوصول إليه، فتكون بين نارين: إما أن تشبع عواطفها ورغباتها بما حرم الله تعالى عليها، أو تكبت مشاعرها فتشقى بها.
ولا تسلم المرأة العاملة في مجالات مختلطة من الخلوة بزميل أو مدير لأي ظرف كان؛ فتقع بذلك في مخالفة النبي صلى الله عليه وسلم وقد قال (لا يخلون رجل بامرأة إلا مع ذي محرم).(46/3)
وأخطر ما في الاختلاط ما تتعرض له المرأة من الإغراء والإغواء، والمراودة والابتزاز، وقد يصل ذلك إلى التحرش والاعتداء بالقول أو بالفعل من زملائها أو أساتذتها أو رؤسائها، ولا سيما إذا كانت درجاتها وترقياتها بأيديهم، ولا دين يردعهم، ولا خلق يمنعهم، وفي الدول التي سبقت في الاختلاط، وزاحمت المرأة فيها الرجال تكثر الفضائح والمشكلات بين العاملين والعاملات، والطلاب والطالبات. حتى وصلت نسبة الاعتداءات والتحرشات إلى تسعين في المئة في بعض البلاد الغربية. وكم من فتاة عفيفة تركت دراستها، أو غيرت تخصصها، أو نقلت وظيفتها؛ لما تلقاه من ابتزاز في عرضها وعفافها؟!
والاختلاط سبب للعزوف عن الزواج؛ لأن الرجل إذا قدر على إرواء غريزته بغير زواج ولا نفقة ولا بيت ولا مسئوليات فلماذا إذا يتزوج؟! وعزوف الشباب عن الزواج في المجتمعات المختلطة من أبين الدلائل على ذلك، وفي البلاد الغربية أرقام مخيفة في ذلك.
والاختلاط من أكبر أسباب الخيانات الزوجية، وهو يوقد نار الخصام والجدال بين الزوجين؛ فلا الرجل يقنع بزوجته وهو في كل صباح يجالس الجميلات ويمازحهن، ولا المرأة تقنع بزوجها وهي ترى من زملائها من هم أجمل خلقة، وأرقى تعاملا من زوجها.
والاختلاط سبب لكساد المرأة، وعزوف الرجال عنها، وعدم رغبتهم فيها؛ لأن غيرتهم تمنعهم من قبول امرأة تعامل الرجال وتحادثهم وتجالسهم، فالرجل السوي يريدها له وحده ولا يريد أن يشاركه فيها أحد. وعزوف الشباب عن الزواج بالعاملات في المجالات الطبية المختلطة دليل على ذلك.(46/4)
والاختلاط سبب لانشغال كل جنس بالآخر عن العمل أو الدراسة؛ فهو أبدا يفكر فيه، ويكرس عقله وجهده في كيفية الوصول إليه، وقد أثبتت كثير من الدراسات الحديثة أن من أهم أسباب ضعف التحصيل الدراسي في المدارس المختلطة انشغال كل جنس بالجنس الآخر.يقول أحد الأطباء الغربيين: عندما تتحرك الغريزة الجنسية لدى الإنسان تفرز بعض الغدد هرمونات تتسرب في الدم إلى أن تصل إلى الدماغ فتخدره فلا يصبح قادراً على التفكير والتركيز الصافي.
والغرائز الجنسية تتحرك بشكل أكبر حين يجتمع الرجال بالنساء في مكان واحد.
فعلم بذلك أن الاختلاط داء وبيل، وشر مستطير، لا يفتح على أمة من الأمم إلا أصاب دينها وأخلاقها في مقتل، وكان سببا لانتشار الرذائل والفواحش التي تنتج أولاد الحرام، وتسبب كثرة الإجهاض، وتنشر الطواعين والأمراض، وتفكك روابط الأسر، وتوجد الشكوك بين الزوجين.
والمفسدون في الأرض من المنافقين والشهوانيين يسعون جهدهم في توسيع مجالات الاختلاط في بلادنا؛ فبعد أن فرضوه واقعا في كليات الطب والمستشفيات والمراكز الصحية، ثم في البنوك وكثير من الشركات والمؤسسات؛ يريدون توسيعه في مجالات أخرى، ويعقدون المؤتمرات والمنتديات المختلطة لا لشيء إلا لتكريس هذه الصورة المنحرفة في أذهان الناس، والتقرب إلى الدول المستكبرة بالجهر بمعصية الله تعالى، وتعدي حدوده، وانتهاك حرماته. وود المفسدون في الأرض لو اجتاحت حمى الاختلاط كل المجالات حتى تصل إلى المدارس والجامعات!! وما يصيحون به في صحفهم وفضائياتهم يشي بما في نفوسهم نحو البلاد والعباد من محاولة الفساد والإفساد، وفرض المناهج الغربية المنحرفة على المجتمع، وقسر الناس عليها بالقوة والإرهاب، ولن يستكينوا أو يتوقفوا عن فسادهم وإفسادهم حتى يروا الحرائر العفيفات يبذلن أعراضهن بالمجان وبأبخس الأثمان.(46/5)
ومن حق الناس أن يغاروا على نسائهم وبناتهم، وأن يقفوا في وجوههم، وينكروا على المفسدين خطواتهم المستفزة التي هي من خطوات الشيطان، ولا سيما أنهم في كل يوم يأتون بقارعة جديدة، ويجسون نبض الناس بخطوة يقدمون عليها في باب الاختلاط.
فإذا لم ينكر الناس عليهم كل منكر في حينه تقدموا خطوة أخرى، وهكذا.. حتى يصلوا إلى مرادهم من إفساد البلاد والعباد، وخلط النساء بالرجال.
رد الله تعالى عليهم كيدهم ومكرهم، وحفظ العباد والبلاد من إفكهم وشرهم إنه سميع قريب.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم....
الخطبة الثانية
الحمد لله حمد الشاكرين، ونستغفره استغفار المذنبين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا، يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما}.
أيها المسلمون: يرى المتبصر أن العالم بشرقه وغربه قد تجرع الآم الاختلاط ومفاسده، وأثبتت الدراسات تلو الدراسات أن عزل النساء عن الرجال، والطلاب عن الطالبات، خير للنساء وللرجال وللمجتمع بأسره، ونادى كثير من الباحثين والباحثات في الدول التي شرعت للاختلاط، نادوا بعزل النساء عن الرجال، وقام بعض الزعماء وأصحاب القرار في البلاد الغربية بخطوات عملية في هذا السبيل، إلا أن كثيرا من بني قومنا لا زالوا متخلفين، يعيشون بعقليات ما قبل مئة سنة من الآن، حين اجتاحت موجات الاختلاط كثيرا من الدول، وقامت كثير من الحركات التحررية النسوية بالمطالبة به وتشريعه، ولما بانت لهم أضراره بعد قرن رجع كثير من مفكريهم إلى مقاومته، والمطالبة بإلغائه، وتغير العالم ولم يتغير بنو قومنا، فهم أحق بوصف التخلف والرجعية من غيرهم.(46/6)
لقد افترى المنافقون والشهوانيون فرية صدقوها ثم نشروها فانطلت على بعض الناس، وهذه الفرية هي قولهم: إن عزل الرجال عن النساء سبَّبَ سُعارا جنسيا في المجتمعات المنغلقة فأصبح الرجل لا يرى في المرأة إلا المعاني الجنسية، بخلاف المجتمعات المنفتحة المتحررة التي يختلط فيها الرجال بالنساء، وتتعرى النساء كما يحلو لهن، وتصاحب المرأة فيها من تشاء لا يوجد فيها هذا السُعَارُ لأن الرجل قد تعود على المرأة وألفها. هكذا يقولون!!
والسؤال هنا: إذا كان الأمر كما يقول المفترون فلماذا يكثر اغتصاب النساء بل الأطفال في المجتمعات المنحلة؟! أليس الوصول إلى المرأة سهلا؛ فالبغايا يملأن الحانات والخمارات، وينتظرن زبائنهن على نواصي الطرقات؟!
أليس الحصول على المتعة في بلادهم أسهل من شراء الخبز؟! فما على الرجل إلا أن يصادق من تعجبه فيأخذ منها ما يريد!! إذا فلماذا يكثر الاغتصاب في بلادهم؟! حتى إن الواحدة من نسائهم لا تخلو حقيبة يدها من سلاح تدافع به عن نفسها، وترد عدوان المعتدين عليها، ولماذا تظهر الفضائح تلو الفضائح للسياسيين وأصحاب النفوذ في بلادهم بتحرشاتهم بنساء يعملن عندهم، أو يتدربن في مكاتبهم؟!
بل لماذا يكثر الشذوذ والزواج المثلي وأنواع التقليعات الجنسية التي تأبها الحيوانات ويرضاها بشرهم؟ أليسوا غير معقدين ولا مكبوتين جنسيا كما يقول بنو قومنا، ومن قرأ أرقام الاغتصاب والشذوذ علم أن مجتمعاتهم تسير إلى الهاوية، وسبب ذلك هو الاختلاط، ولو قال المنافقون والشهوانيون غير ذلك. وكل الدراسات الاجتماعية، والإحصاءات الجادة في كل البلاد التي ينتشر فيها الاختلاط سواء كانت بلادا غربية أم شرقية، وسواء كانت بلادا مسلمة أم غير مسلمة تجمع على حقيقة مفادها: أن خلط الرجال بالنساء شر على الرجال والنساء والمجتمع بأسره، ويخلف كثيرا من المشكلات والأمراض الجنسية والاجتماعية التي تستعصي على العلاج.(46/7)
فمتى يترك الكذابون كذبهم، ويتوقفوا عن افترائهم، ويقلعوا عن إفسادهم، ويقفوا موقف صدق مع أنفسهم، ونصح لمجتمعهم وأمتهم فيسألوا أنفسهم: لماذا ينشرون الفساد والاختلاط في بلاد حفظت منه طيلة العقود الماضية، وقد غرقت أكثر البلدان في مصيبته، وتجرعت مرارته، ورأى القريب والبعيد ما خلفه الاختلاط فيها من آثار سلبية، ومشكلات كثيرة مستعصية؟ ولم يعد ذلك خافيا على أحد فهل هم ناصحون غافلون؟ أم فاسدون مفسدون؟ أم تراهم أجراء حاقدون على مجتمعاتهم، لهم مهمة محددة في إفساد البلاد والعباد بأجر يقبضونه من منظمات مشبوهة، ودول متنفذة طامعة في المنطقة، لها مشاريعها وخططها؟!
وإلى متى يقف العقلاء والحكماء والصالحون، وأولو النصح لبلادهم وولاتهم، وأهل الغيرة على نسائهم وبناتهم، إلى متى يقفون مواقف المتفرجين السلبيين، الذين يتربصون وينتظرون حتى تحل القوارع بمجتمعاتهم، ويتمكن أهل الفساد والإفساد من بيوتهم ونسائهم؟! فلا هم ينكرون عليهم، ولا يناصحونهم، ولا يحولون بينهم وبين إفسادهم، ولا يبينون للناس خطر الاختلاط وقد فتك بكثير من الدول التي انتشر فيها.
ألا فاتقوا الله ربكم، وانصحوا لولاتكم، وأخلصوا لمجتمعاتكم، وخذوا على أيدي المفسدين منكم، وقفوا دون إفسادهم لنسائكم وبناتكم، وأطروهم على الحق أطرا، واعلموا أن السفينة إذا خُرقت غرق كل من كان فيها.
وصلوا وسلموا على نبيكم كما أمركم بذلك ربكم...(46/8)
العنوان: اختلاط النساء بالرجال
رقم المقالة: 189
صاحب المقالة: الشيخ إبراهيم الحقيل
-----------------------------------------
الحمد لله العليم الخبير ؛ شرع لعباده من الدين أحسنه ، واختار لهم من الشرائع أكملها ، فأكمل لهم دينهم ، وأتم عليهم نعمته ، ورضي لهم الإسلام دينا ، نحمده على ما شرع وأوجب ، ونشكره على ما أعطى وأنعم ، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ؛ خلق فأتقن الخلق ، وحكم فأحسن الحكم ( ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون ) ( ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين ) وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ؛ أنصح الخلق للخلق، وأتقاهم لله تعالى ، لا خير إلا دلنا عليه ، وأمرنا به ، ولا شر إلا حذرنا منه، ونهانا عنه ، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ؛ أسرع هذه الأمة استجابة للأوامر الربانية ، وأشدهم التزاما بالأحكام الشرعية ، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد : فاتقوا الله - أيها الناس - وأطيعوه ، واعملوا في دنياكم ما يكون زادا لكم في أخراكم ، واعلموا أن الدنيا إلى زوال ، وأن الآخرة هي دار القرار ، وأن الموت حق ، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور ( يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم ).
أيها الناس: من دلائل صدق إيمان العبد ، وسلامة قلبه لله تعالى: الاستسلام لأمره سبحانه في الأمور كلها ، وتعظيم نصوص الشريعة ، والوقوف عندها ، وتقديمها على أقوال الرجال مهما كانوا (إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون، ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون).(47/1)
وإنما تقع الردة والضلال ، ويتأصل الزيغ والنفاق في قلب العبد إذا عارض شرع الله تعالى ؛ تقليدا لغيره ، أو لرأي أحدثه ، متبعا فيه هواه ، معرضا عن شرع الله سبحانه (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم ) ومع عظيم الأسى ، وشديد الأسف فإن الإعلام المعاصر في أكثر فضائياته وإذاعاته ، وصحفه ومجلاته ، يربي المتلقين عنه على التمرد على أوامر الله تعالى ، وانتهاك حرماته والاجتراء على شريعته ، في كثير من القضايا التي يلقيها على الناس من سياسية واقتصادية ، واجتماعية وثقافية ، ولا سيما إذا كان الحديث عن المرأة وقضاياها.
لقد اعتاد المتلقون عن الإعلام وبشكل يومي ، بل وفي كل ساعة ولحظة ، اعتادوا على مشاهدة سفور النساء ، وظهورهن بأبهى حلة ، وأجمل زينة، متكشفات مبتسمات ، مختلطات بالرجال ، تجلس المرأة بجوار الرجل وتمازحه وتضاحكه ، أمام ملايين المشاهدين والمشاهدات ، ولا هي قريبته ، ولا هو محرم لها ، وليس بينهما رباط إلا رباط الإعلام والشيطان ، ولا يكاد يخلو برنامج أو فقرة من رجل وامرأة في الأخبار والحوار والرياضة والسياسة ، والأزياء والطبخ ، بل حتى برامج الأطفال لا بد فيها من فتى وفتاة ، وهذه الصورة المتكررة في كل لحظة تهون هذا المنكر العظيم في نفوس المشاهدين ، وتحوله من معصية وعيب إلى لا شيء ؛ وتلك والله من الفتن التي يرقق بعضها بعضا كما جاء في الحديث ، واعتياد الناس لهذه المشاهد الآثمة يجعل إنكارهم لها ، وانصرافهم عنها ضعيفا جدا ، بل لربما أنكر أكثرهم على من ينكرها ، أو ينكر على من يشاهدها ، فانقلبت من كونها منكرا وباطلا إلى معروف وحق لا يجوز أن يجادل فيه أحد.(47/2)
وهذا التهوين للمنكر بالفعل والصورة الذي يتكرر في كل ساعة ولحظة ، يصاحبه تسويغ له بالكلمة والمقالة ؛ فينبري أجهل الناس بالشريعة ، وأضعف الخلق ديانة لمناقشة مسائل الحجاب والسفور والخلوة والاختلاط ، وسفر المرأة بلا محرم ، وليس نقاشهم علميا موضوعيا لإحقاق حق ، وإبطال باطل ، وإنما هو نسف للشريعة ، وإبطال للقرآن والسنة ، وإلغاء لما سارت عليه الأمة المسلمة في قرونها السالفة ، وإحلال للقوانين والعادات الغربية محل شريعة الله تعالى في التعظيم والطاعة والامتثال باسم الانفتاح والرقي والتقدم.
ومن آثار هذا التجييش الإعلامي للباطل ، ونشر تلك الرذائل على أوسع نطاق نرى تغيرا مستمرا في كثير من بيوت المسلمين ، يتجلى في مظاهر عدة ، وأخلاق بديلة لم يكن المسلمون يعرفونها قبل هذا الغزو الإعلامي ، من التساهل بالحجاب ، وسفر الفتاة للدراسة بلا محرم ، ومزاحمة المرأة للرجال في العمل ، واختلاطها بهم في كثير من المجالات والأعمال ، بلا خجل ولا حياء ، وأهل الفساد يوسعون دائرة الإفساد ليجتاح الأمة بأكملها ، ويأتي على البيوت والأسر كلها ، وإذا لم يسع المسلمون لإيقاف هذه الأمراض التي تفتك بالمجتمعات ، ولم يأخذوا على أيدي دعاة الرذيلة وناشري الفساد ؛ فإنه سيأتي اليوم الذي يفقد فيه الرجل سلطانه على نسائه وبناته ، فيخرجن متى أردن ، ويصاحبن من شئن ، ويفعلن ما يحلو لهن ، كما وقع في كثير من بلاد المسلمين التي غزاها شياطين الإنس بأفكارهم ، ودمروها بمشاريعهم التغريبية التخريبية ، وحينها لا ينفع ندم ولا بكاء على عفة فقدت ، وقد كانت من قبل تستصرخ أهل الغيرة ولا مجيب لها ، ونعيذ بالله تعالى بلادنا وبلاد المسلمين إن يحل بها ذلك.(47/3)
إن الخطأ خطأ ولو كثر الواقعون فيه ، وإن المنكر لا ينقلب إلى معروف بمجرد انتشاره ، وهكذا الباطل يبقى باطلا ولو زينه المزورون بزخرف القول، وروجوه بالدعاية ، والواجب على أهل الإسلام إنكار المنكر ولو كان المتجافي عنه غريبا في الناس، كما يجب عليهم إحقاق الحق ولو أعرض عنه أكثر الناس ، فانتشار الباطل وانتشاء أهله ، وغربة الحق وضعف حملته لا يسوغ السكوت والتخاذل.وإلا غرق المجتمع كله في حمأة الباطل ، وطوفان الرذائل.
واختلاط المرأة بالرجال هي القضية الأساس التي يسعى المفسدون لنشرها في المجتمع ، ويستميتون في إقناع الناس بها ، ويوجدون لها المسوغات ، ويجعلونها من الضرورات ، ويعزون كل بلاء في الأمة وتخلف وانحطاط إلى ما ساد من عزل المرأة عن الرجل في التعليم والعمل وغير ذلك.
ويعلم المفسدون في الأرض أنهم إن نجحوا في نشر الاختلاط وقهر الناس عليه بقوة القرارات الدولية ، والتخويف بالدول المستكبرة ، واستغلال نفوذهم في بلاد المسلمين ، والتفافهم على أصحاب القرارات والتوصيات ، مما يجعلهم قادرين على إلجاء الناس إليه عمليا في العمل والدراسة ، وفرضه بقوة النظام - وهو ما يسعون إليه بجد وقوة - فإن ما بعد الاختلاط من الإفساد يكون أهون ، والنساء إليه أسرع كالخلوة المحرمة ، وسفر المرأة بلا محرم ، وسفورها وتبرجها ، وعرض زينتها وغير ذلك من الإثم والضلال ، وانتهاك حرمات الكبير المتعال.
ولن يوقف ذلك إلا إنكار الناس عليهم ، ورفضهم لمشاريعهم التغريبية ، وكشف خططهم ومآربهم لعامة الناس ، والأمر يعني الجميع ، ولا يختص بأحد دون أحد ، ومن حق الناس أن يسعوا إلى ما فيه حفظ بيوتهم وأسرهم ، وبناتهم ونسائهم من أسباب الفساد والانحراف ، وأن يأخذوا على أيدي المفسدين والمفسدات ، من أتباع الغرب وعباد الشهوات.(47/4)
ومن نظر في شريعة الله تعالى يجد أنها أوصدت كل الأبواب المؤدية إلى الاختلاط ، وسدت الذرائع لذلك ، وحمت المجتمع من الفاحشة والرذيلة بتشريعات ربانية تبقي على المجتمع عفته وطهارته ونقاءه ، واستقامة أسره ، وصلاح بيوته ما دام أفراده قائمين بأمر الله تعالى ، ممتثلين لشرعه ، مستسلمين لنصوص الكتاب والسنة ، ولم يسمحوا للمفسدين أن ينخروا ذلك السياج الرباني بين الرجال والنساء.
يقول الله تعالى قوله سبحانه :( وإذا سألتموهن متاعاً فاسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن) وهذا الخطاب الربانيلأطهر هذه الأمة قلوبا وهم الصحابة رضي الله عنهم ، وفي أعف النساء وهن أمهات المؤمنين رضي الله عنهن ، فما بالكم بمن هم دونهم من الرجال ، ودونهن من النساء ؟ ( فاسألوهن من وراء حجاب ) فالخالق الرازق سبحانه يأمر في كتابه بالحجاب بين الرجال والنساء والمفسدون يريدون تحطيمه وإزالته.
وفي خطاب رباني آخر( قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ثم قال سبحانه( وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن) فلو كان الاختلاط سائغا في الشرع لكان في هذه الأوامر الربانية تكليف بما لا يطاق ؛ إذ كيف تختلط المرأة بالرجل ، وتجلس بجواره في العمل أو الدراسة ، ولا ينظر كل واحد منهما للآخر وهما يتبادلان الأعمال والأوراق والدروس.
وذكر النبي عليه الصلاة والسلام أن من حق الطريق: غض البصر ، فإذا كان غض البصر واجبا على الرجال إذا مرت بمجلسهم في الطريق امرأة ، فكيف يسوغ للمزورين أن يزعموا أن شريعة الله تعالى لا تمانع من اختلاط الرجال بالنساء. وفي حديث آخر قال عليه الصلاة والسلام: (إياكم والدخول على النساء ) رواه الشيخان. فكيف إذا بالمكث عندهن وأمامهن وبجوارهن في ساعات العمل كل يوم.(47/5)
بل إن النبي صلى الله عليه وسلم عمل على منع الاختلاط في الطريق أثناء الخروج من المسجد ، وما هو إلا لحظات ، وعقب عبادة عظيمة ، والرجال فيه والنساء من المصلين والمصليات ، وهم وهن أقرب للتقوى ، وأبعد عن الريبة ، فكيف بغير ذلك ؟ روت أم سلمة رضي الله عنها: (أن النساء في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كن إذا سلمن من الصلاة قمن وثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن صلى من الرجال ما شاء الله فإذا قام رسول الله صلى الله عليه وسلم قام الرجال ) رواه البخاري والنسائي.
وذات مرة وقع في الخروج من المسجد اختلاط غير مقصود فبادر عليه الصلاة والسلام إلى إنكاره ، وأوصى بما يزيله؛ كما روى أبو أسيد الأنصاري رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو خارج من المسجد فاختلط الرجال مع النساء في الطريق فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للنساء: استأخرن فأنه ليس لكن أن تحققن الطريق عليكن بحافات الطريق فكانت المرأة تلتصق بالجدار حتى إن ثوبها ليتعلق بالجدار من لصوقها به) رواه أبو داود.
وفي المسجد منع النبي صلى الله عليه وسلم الاختلاط ؛ كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها) رواه مسلم.
والمسجد أجل مكان وأشرفه ، والقلوب فيه متعلقة بالله تعالى، بعيدة عن الفساد والشر ، ومع ذلك حسمت فيه مادة الشر ، وسدت فيه ذرائع الفساد.
وفي الطواف بالبيت وهو من أجل العبادات وأشرفها منع الاختلاط ؛ كما أخبر التابعي الجليل عطاء بن أبي رباح رحمه الله تعالى أن النساء فيه لم يكن يخالطن الرجال وقال:(كانت عائشة رضي الله عنها تطوف حجرة من الرجال لا تخالطهم)رواه البخاري.
ولما وقع في عهد عمر رضي الله عنه شيء من اختلاط الرجال بالنساء في الطواف نهى أن يطوف الرجال مع النساء ، فرأى رجلا معهن فضربه بالدرة.(47/6)
تلك هي شريعة الله تعالى في قضية الاختلاط التي يسعى المنافقون والشهوانيون لإقناع الناس أن الاختلاط لا يعارض الدين ، وأنه من أسباب الرقي والتقدم ، كذبوا والله وضلوا وأضلوا.
أفبعد هذه النصوص المحكمة الواضحة يليق بالمؤمنين والمؤمنات أن يصدقوا أكاذيبهم ، ويرضوا بمشاريعهم ويستسلموا لإفسادهم ، وإخراجهم لنساء المسلمين وبناتهم ، وقتلهم لحيائهن وإحصانهن وعفافهن ، ويتركوهم ينخروا في المجتمع ، ولا ينكرون ذلك عليهم؟! وقد استبان لهم الحق بأدلته ، وبان لهم الباطل بدجله وعورته ، وماذا بعد الحق إلا الضلال.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ( يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه ، ونشكره على فضله وإنعامه ، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة نرجو بها النجاة يوم لقائه ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه ( واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون ).
أيها الناس: عزل الرجال عن النساء ، واختصاصهن بأعمال المنزل وحضانة الأطفال ، واختصاص الرجال بالعمل والاكتساب هي الفطرة التي فطر الله تعالى الناس عليها ، وسارت عليها البشرية طوال تاريخها في الشرق والغرب ، وعند سائر الأمم ، قبل أن تأتي الحضارة المعاصرة بهذا الضلال ومن قرأ تواريخ الحضارات والأمم السالفة أيقن بحقيقة ذلك.(47/7)
ونزلت شرائع الله تعالى على أنبيائه ورسله عليهم السلام بما يوافق هذه الفطرة ، وقد أجمعت الشرائع كلها حفظ النسل من الاختلاط ، وعلى حفظ المجتمعات من الفساد والانحلال ؛ ولذا كان الزنى محرما على لسان كل المرسلين عليهم السلام، ويجمع كل العقلاء من البشر على أن الاختلاط أكبر سبب للزنى ، كما يجمع البشر على أن الزنى سبب للأمراض والطواعين التي تفتك بالناس ، والواقع يدل على هذه الحقائق. ولا يماري في شيء من ذلك إلا جاهل أو مكابر ، فمن دعا للاختلاط ورضيه فهو يدعو للزنى وانتشار الفواحش ، وهو يدعو كذلك لنشر الطاعون في الناس ، وإهلاكهم به ، شاء ذلك أم أبى ؛ إذ إن هذه الأمراض الخبيثة هي نتاج دعوته الخبيثة.
وإن تعجب فعجب لأناس يدعون للاختلاط ، وينشرون الرذيلة في الناس ، ثم يحذرون من انتشار مرض الإيدز ، فهل هم صادقون في تحذيرهم ؟ وهل يعقلون ما يقولون وما يفعلون؟ وهل هم إلا كمن يسقي الإنسان سما ثم يصيح به محذرا إياه أن يموت مما سقاه.
إنه لن تجدي المؤتمرات والندوات والتوعية الصحية والاجتماعية في التخفيف من الأمراض المستعصية ، الناجمة عن الممارسات الجنسية المحرمة إذا كان المفسدون يخلطون بين الرجال والنساء ، ويوسعون دائرة الاختلاط يوما بعد يوم ؛ وينشرون في إعلامهم ما يسعر الشهوات ، ويدعو إلى الرذيلة؛ ولذا نوصيهم ألا يكذبوا على الناس ويخدعوهم ، ويحذروهم من انتشار الإيدز ؛ لأنهم أكبر سبب من أسبابه حين شرعوا للاختلاط ، وأفسدوا الإعلام ، وفرضوا على الناس آراءهم الفكرية الشهوانية.(47/8)
يقول العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى : ولا ريب أن تمكين النساء من اختلاطهن بالرجال أصل كل بلية وشر، وهو من أعظم أسباب نزول العقوبات العامة، كما أنه من أسباب فساد أمور العامة والخاصة.. وهو من أسباب الموت العام والطواعين المهلكة. ولما اختلط البغايا بعسكر موسى عليه السلام، وفشت فيهم الفاحشة أرسل الله عليهم الطاعون فمات في يوم واحد سبعون ألفاً، والقصة مشهورة في كتب التفسير ، فمن أعظم أسباب الموت العام: كثرة الزنا بسبب تمكين النساء من اختلاطهن بالرجال، والمشي بينهم متبرجات متجملات.
وكلام ابن القيم رحمه الله تعالى لا يعجب أهل الشر والفساد ،ودعاة الرذيلة والانحلال ؛ لأنهم مستعبدون في أفكارهم لما يمليه عليهم أهل الحضارة المعاصرة ، ومشربون بحب كتابات الغربيين ، فلا بأس من نقل شيء من أقوال الغربيين من باب قول الله تعالى ( وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين).
وحيث إن المفسدين يزعمون أنهم بمشاريعهم التغريبية التخريبية ينصرون المرأة ويدافعون عن حقوقها في الاختلاط والفساد فإنني سأنقل بعض أقوال النساء الغربيات حتى نعرف رأيهن في الاختلاط وقد جربنه ، وسبقن نساء العالمين إليه ، ولسن متهمات بأنهن مؤدلجات أو متطرفات ، أو يعشن عصور الظلام والحريم كما يقول المنافقون والمنافقات.
تقول الصحفية الأمريكية هيليان ستانبري (أنصحكم بأن تتمسكوا بتقاليدكم وأخلاقكم ، امنعوا الاختلاط ، وقيدوا حرية الفتاة ، بل ارجعوا لعصر الحجاب ، فهذا خير لكم من إباحية وانطلاق ومجون أوربا وأمريكا ، امنعوا الاختلاط ، فقد عانينا منه في أمريكا الكثير ، لقد أصبح المجتمع الأمريكي مجتمعًا مليئًا بكل صور الإباحية والخلاعة ، إن ضحايا الاختلاط يملأون السجون ، إن الاختلاط في المجتمع الأمريكي والأوروبي قد هدد الأسرة وزلزل القيم والأخلاق ).(47/9)
وتقول كاتبة أخرى: إنه لعار على بلاد الإنجليز أن تجعل بناتها مثلاً للرذائل بكثرة مخالطة الرجال . وفي بريطانيا حذرت الكاتبة الإنجليزية " الليدي كوك " من أخطار وأضرار اختلاط النساء بالرجال فقالت: على قدر كثرة الاختلاط تكون كثرة أولاد الزنى وقالت: علموهنَّ الابتعاد عن الرجالف
فهل يبقى لدعاة الاختلاط والفساد قول وقد عارضوا شريعة الله تعالى ، وخالفوا الفطرة التي فطر الله الناس عليها، وكذبوا على الناس فزوروا الحقائق ، وأخفوا النتائج المخزية للاختلاط في البلاد التي اكتوت بذلك.
حمى الله تعالى بلادنا وبلاد المسلمين من المفسدين والمفسدات ، والمنافقين والمنافقات ، وردهم على أعقابهم خاسرين ، إنه سميع قريب.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد....(47/10)
العنوان: اختياراتُ العلامةِ الفقيهِ الشيخِ عبدالرحمن السَّعْدِي في بابِ الحجِّ والعمرةِ
رقم المقالة: 1696
صاحب المقالة: أبو تميم الرائد
-----------------------------------------
الحمدُ للهِ، والصلاةُ والسلامِ على رسولِ اللهِ وبعد:
فهذه اختياراتُ العلامة الفقيه الشيخ عبد الرحمن السِّعدي في باب الحجِّ والعمرةِ، فيها خلاصةُ أراءِ الشيخِ في بعض المسائلِ الخلافيَّة، والقضايا المُشْكِلَةِ.
1-منْ كان حياً قادرًا على الحجِّ لم يَجُز أن يَحُجَّ عنه غيرُه.
2- النائبُ يجوزُ له أن يَحُجَّ عن المُنِيبِ عنه من بلده، وأقرب منه، بل من مكَّةَ، وهذا مقتضى الأدلَّةِ الشرعيَّةِ.
3- ليس للشخصِ أن يسْتَنِيبَ من يُكْمِلُ الحجَّ عنه إذا طَرأَ له عَارضٌ.
4- إذا عُوفِيَ المُستَنِيبُ قبلَ إحرامِ النَّائب، وقعت الحجَّةُ للمستنيب نفلاً، والنفقةُ للنائب، وهنا يَصدُقُ على المستنيب أنه حلَّ نفلَ حجِّهِ قبل فرضهِ؛ إذ لا يَصحُّ أن تقعَ عنه فرضاً، بل لابد أن يحجَّ بنفسه، وهذه الحجَّةُ تكون نافلةً له.
5- إذا استأْجرَ من يحج عنه وقعت الحجَّةُ للأجِير، ولو نواها للمستأجر؛ لأن الحجَّ يُخَالفُ غيرَه من حيث عدمِ اعتبار نيَّةِ من باشرَ الحجَّ إذا لم يكن حجَّ عنْ نفسه، حيث تقعُ الحجَّةُ عنه ولو نواها لغيره.
6- إذا حملَ صبيٌ أجزءَ الطواف والسعي عن الحامل والمحمول
7- له أن يرميَ الجَمْرةَ عن نفسه وعمَّنْ أنابه في موقفٍ واحدٍ.
8- إذا طاف الشخصُ أو سعى محمولاً، صحَّ الطوافُ والسعي عن الحامل والمحمول، سواءً كان المحمول معذورًا أو غير معذورٍ.
9- طواف الراكب وسَعيُه صحيحٌ، سواءً كان معذورًا أو غير معذورٍ.
10-لا يجب الإحرام على من قصدَ مكَّةَ لغير الحجِّ أو العمرة، بل يُسْتَحَبُ له ذلك.(48/1)
11- إذا غلط وتلفظ بغير ما أراده من نيَّة الحجِّ؛ كأن ينوي التمتعَ، ولكنه غَلطَ وتلفظ بالقَران أو الإفْرَادِ، فهنا المرجع والمَدَار على النيَّةِ، ولا يُلْتَفتُ لنطقه.
12- أهلُ جِدَّةَ حكمهم حكم أهلِ مكةَ، ليس عليهم دمُ تمتعٍ وقَرانٍ؛ لأنه يلزم القادمين من مسافةِ قَصْرٍ، وأما المقيمون في جِدة- من غير أهلها- فإذا أحرموا بالتمتع أو القَرانِ، فالاحتياط أن يذبحوا هدياً.
13- من طاف وسعى للقُدُوم وهو مُفرِدٌ أو قارنٌ، وأراد أن يتمتعَ فله ذلك، ويُجزي طوافُه وسعيُه عن العمرة، وهذه صورةٌ غريبةٌ حيث تحولت النيَّةُ بعد الفَراغِ من العمل.
14- يجوز إدخال الحجِّ على العمرة الفاسدة.
15- الذي يُفسِدُ حجُّه وعمرتُه من وَطَأَ متعمدًا، أما الناسي والجاهل فلا شيءَ عليه، وكذا من وطأ بين حجٍّ وعمرةٍ أدَّاها على غير طهارة، و لم يتبيَّنْ له عدمُ الطهارة إلا بعد الوطْءِ فهوـ من باب أولى وأحرىـ معفيٌ عنه- إن شاء الله.
16- من لبس ثيابه بعد الطواف والسعي للعمرة، ثم حلقَ فلا شيءَ عليه إذا كان ناسيًا أو جاهلاً، و إن كان متعمدًا؛ فعليه فديةُ أذًى: صيام ثلاثة أيامٍ، أو إطعام ستة مساكين، أو ذبح شاةٍ فديةُ تَخَيُّرٍ.
17- الاحتياط ألا يستظلَ بشمسيَّةٍ ونحوها.
18- إذا كرَّرَ النظرَ فأمْنَى، فالصحيح أن عليه فديةَ أذًى، وليس عليه بَدَنَةٌ، وقياسه على الوطء غير صحيحٍ.
19- من قصد مكة لغير الحجِّ والعمرة، فلا يجب علية إحرامٌ، بل الإحرام خاصٌّ لمن رغب في الحج أو العمرة كما هو منصوصٌ عليه.
20- إذا طاف الشخصُ للوداعِ، ثم أقامَ قريبًا من مكَّةَ كمِنًى أو غيرها، فلا وداعَ عليه؛ لأنه سافر بالفعل، وترك مكة.
21- جميعُ مَحظُوراتِ الحجِّ والعمرة يُعفى فيها عن الناسي والجاهل؛ لأن ذلك حقُ الله- سبحانه وتعالى- وقد عفا عن الجهل والنسيان.(48/2)
22- لا يُأكلُ من الفِديةِ التي سببها ترك مأمورٍ أو فعل محظورٍ، أمَّا هديُ التطوع، وهديُ التمتع والقَرانِ فيجوز الأكل منه، وكذلك الأُضْحِيَةُ والعَقِيقَةُ.
23- إذا حجَّ الرقيق أَجْزَأتْهُ عن حجة الإسلام، فلا يلزمه الحجّ إذا أُعتقَ.
24- ليس للإحرام من المِيزَابِ خصوصيةٌ، بل الصحيح أنه يُحرم من منزله كما فعل الصَّحابةُ- رضي الله عنهم.
25- ليس للحاجِّ تأخيرُ طواف الإفَاضَةِ عن أيامِ الحجِّ.
26- الأوْلَى ألا يستقبلَ القبلةَ عند رمي الجَمَرَاتِ, بل يجعل البيتَ عن يمينِهِ، ومِنًى عن يساره عند الصغرى، وأما الوسطى والكبرى فيجعلُ البيتَ عن يسارهِ ومِنًى عن يمينهِ، فالصغرى يأتيها من الشمال، والوسطى والكبرى يأتيهما من الجنوب.
27- يَصحُّ الحجُّ والعمرةُ من الصبيِّ غيرِ المُمَيِّزِ دون سائرِ العباداتِ.
المَرْجِعُ / كتاب فقه الشيخ ابن سعدي- رحمه الله تعالى.
للشيخين
د.عبدالله الطَّيَار، و د. سليمان أبو الخيل.
أخوكم /أبو تميم الرائد.(48/3)
العنوان: آخر أبطال غرناطة
رقم المقالة: 1935
صاحب المقالة: الشيخ علي الطنطاوي
-----------------------------------------
آخر أبطال غرناطة
لم تشهد شمس اليوم الواحد والعشرين من المحرَّم سنة 897 هـ حينما أَطَلَّتْ على غرناطة تلك المدينةُ الضاحكة للحياة، الساكنةُ إلى النعيم، السابحةُ في جوِّ النَّغَمِ العَذْب، والعِطْر الأريج، بل رأت مدينةً واجمةً حَيْرَى، قد أَقْفَرَتْ منَ الرجال إلا قبضةً منَ الأبطال، رابَطَتْ حيال الأسوار، هي بقيَّة ذلك الجيش الذي دانت له إسبانيا كلها، وأظلت أَلْوِيَتُهُ فرنسا وإيطاليا، قَدْ وَقَفَتْ تُدافِعُ عَنْ آخِرِ حِصْنٍ لِلإسلام في هذا القطر المُمَزَّع، تَذُودُ عن بيوت الله، ومقابر الأجداد.
ولقد جازت غرناطةُ أيَّامًا سُودًا عوابِسَ، ورأتْ مصائبَ ثِقالاً متتابعات؛ ولكنها لم تجد مثل هذه الليلة التي قَضَتْها مُسهِدَةً مذعورَةً، تنظر حَوالَيْها فلا تُبْصِرُ إلا مُدُنًا خضعت للعدو، فجاسَ خلالها، واستقرَّ فيها، وقد كانت أرضَ العروبة، وكانت ديارَ الإسلام، وأُمَّةً استُذِلَّتْ واستُعْبِدَتْ، وقدْ كانتْ أعَزَّ منَ النُّسور، وأَمْنَعَ منَ العُقْبَانِ؛ وبقيتْ هي وحدَها تحمي الحِمَى وتدافع عن الأرض والعِرض والدين، وتحمل وَحْدَها أوزار الماضي وما كان فيه من تخاذُل وأَثَرَةٍ وانقسام؛ وتؤدي وحدَها الدَّيْن، دَين الجهاد، الذي كان في أعناق مُدُن الأندلس كلِّها والمسلمين أجمعين، فنامتْ عنها مُدُن الأندلس، وشغلتها خيالاتُ الإمارة، وألقاب مملكة في غير موضعها.(49/1)
وجعلتْ تنظُرُ غرناطةُ إلى القصر البَهِيِّ العظيمِ، وهو آخِرُ هاتِيكَ القُصور، التي شغل رُوَاؤُها الأمراءَ، وأنْسَتْهُم سُكْناها أخلاقَ صحرائِهِم الأُولَى، فكانت مقابرَ لأمجادهم طَفِقَتْ تنظر إليه فلا ترى من بُناةِ الحمراء إلاَّ الرَّجُلَ الضَّعيفَ، المرأةَ الملتَحِيَةَ التي اسمُها أبو عبدالله الصغير، وأُمُّهُ الشَّريفةُ الأَبِيَّةُ؛ الرَّجُل الذي خُلِق في جسم امرأة: عائشة، فحوَّلَتْ وَجْهَهَا عنِ القصر إلى جِهَةِ السُّورِ تسأل: هل عاد موسى؟
ولقد كان "موسى" أَمَلَ هذا الشعبِ، وإليه مَفْزَعُهُ، وعليه - بعدَ الله - اعتمادُهُ، بدا له في ساعة الخطر كما يبدو النَّجْمُ الهادي للضالِّ الآيِسِ.
لقد طلع فجأة منَ الظلام؛ ظلامِ الدهماء، فإذا هو يلمع في لحظة واحدة الْتِمَاعَ البدر المنير – وكذلك يَقْذِفُ هذا الشعبُ العربِيُّ بالأبطال كلَّمَا حاقت الشدائدُ، وادلهمَّت الخُطوب – وإذا هو أَمَلُ أُمَّة، وإذا هو مِلْءُ السمع والبصر، وملء السَّهْلِ والجَبَل، وإذا هو بطل المعركة المُكْفَهِرَّةِ، دعا إلى القتال شَعْبًا كَلَّ مِنَ القتال، فَلَبَّاهُ على كَلاَلِهِ، هذا الشعب الذي عَلَّمَهُ محمدٌ كيف يُلَبِّي كُلَّما دُعِيَ إلى التضحية والجهاد، لبَّاه وتشقَّقَتْ أَسْمَالُهُ البَالِيَة عن أُسُودِ غَابٍ، وسِبَاعِ عَرِين. ووقف بهؤلاءِ الأسودِ في وجه السيل الإسبانيِّ الطَّامِي، وما زال ثابتًا، ولكنَّ أُسُودَه قد سقطوا صَرْعَى في ميادين الشَّرَف.
خرج موسى منذ إحدى عَشْرَةَ ساعَةً يَضْرِبُ الضَّرْبَةَ الأخيرة ينالُ بِها إِحْدَى الحُسْنَيَيْنِ، إمَّا النصر وإما الشهادة، ويَرُدُّ العَدُوَّ الذي أبقى عليه حِلم المسلمين حتى قَوِيَ بضَعْفِهِم، واشتدَّ بِلِينِهِمْ. وانتزع منهمُ الأرض قَرْيَةً قريةً، وبَلَدًا بلدًا، حتَّى أقبل يَطْرُدُهُم من آخِرِ منزل لهم في الأندلس، من غرناطة.(49/2)
وعلتْ غرناطةَ فترةُ الجَزَعِ، من خَوْفِها على (موسى)؛ لقدْ جَعَلَتْهُ قائِدَها، وسلَّمَتْهُ الدَّفَةَ، لِيقودَ السفينة الهائمة على وَجْهِها وسطَ الأعاصير والزوابع إلى الشاطئ الآمن، فإذا عجز موسى عن نَجاتها، لم يُنجِها أحدٌ من بعدِهِ، وقد كان موسى آخِرَ خيط من خيوط الرجاء، وآخِرَ شعاعة من هذه الشَّمْسِ الَّتي سَطَعَتْ فملأتِ الأرض نورًا وهُدًى، ثم أدركها المَغِيبُ، فإذا انقطع هذا الخيط عمَّ ظلامُ اليأس وانتشر، وقد كان موسى آخِرَ مَقْطَع من هذا النشيد الذي أَلَّفَ مَطْلَعَهُ طارق، ثم توالى على نَظْمِهِ (شعراءُ...) البطولة عبدالرحمن وعبدالرحمن وعبدالرحمن؛ الغافقيُّ والداخلُ والناصرُ. فحَمَلَهُ الأبطال المساعير إلى الأقاصي والأداني، وتجاوبت بأصدائه صُهُولُ فرنسا، وبِطاح إيطاليا، ثم ضَعُفَ وتَخافَتَ، ولم يَبْقَ منه إلا هذا المَقْطَع، فَإذا انْقَضَى جَفَّ النشيد على الشفاهِ، وانقطع ومات.
وقد كان موسى آخِرَ سَطْرٍ في سِفر الحقِّ والبطولة والمجد؛ ذلك الذي كَتَبَهُ العرب المسلمون في ثمانمائة سنة، فمحاه الإسبانُ في سنوات، ولم يبق إلا هذا السطر، فإذا طُمِسَ ذَهَبَ السِّفْرُ وباد، وقد كان موسى آخِرَ نَفَسٍ من أنفاس الحياة في الأندلس المسلمة؛ فإذا وقف هذا النَّفَسُ الواحد، وسكن هذا الذَّماءُ الباقي، صارت الأندلسُ المسلمةُ أثرًا بعد عين، وصارت ذكرى عزيزةً في نَفْسِ كلِّ مسلم، وأمانةً في عُنُقِهِ إلى يوم القيامة.(49/3)
وانطلقتْ من أعالي الأسوار؛ أنْ "لَقَدْ عَادَ مُوسَى". فتقاذَفَتْها الألْسُنُ وتناقَلَتْها الآذانُ، فطارت في أرجاء المدينة، وسارت في جوانبها مَسِيرَ البَرْقِ، فَبَلَغَتِ السَّاحاتِ والدُّروب، ووَلِجَتِ الدُّور والمنازل، وأوْغَلَتْ خلال البُيوت والسَّراديب؛ فَلَمْ تَلْبَثْ أن نَفَضَتْها نَفْضًا فَأَلْقَتْ بِأَهْليها إلى الأَزِقَّةِ والشوارع، فإذا هي ممتلئةٌ بِالنَّاس من كلِّ جنس وسِنٍّ ومنزلة. وإذا هي تَزْخَرُ بهذا النهر الإنسانيِّ الذي يجري صَوْبَ الأسوار، صَخَّابًا جَيَّاشًا مُزْبِدًا، يَتَحَدَّر ويُسْرِعُ مَجْنونًا، كأنَّما تَدْفَعُه قُوَّةٌ خفِيَّة هائلةٌ احتوتْها هذه الكلماتُ السحريةُ (المُكَهْرَبَة) الثلاث: "لقد عاد موسى"!
لقد كان يومًا من الأيام الغُرِّ التي تضيء الطريقَ لمن يَسْلُكُ فِجاجَ التاريخ، وتجيء في الليالي كالعبقريِّ في الناس، وتصنع العجائبَ لتكون معجزة في الزمان؛ ما شهدت مِثْلَهُ غرناطة، ولا أبصرت منه (إلا قليلاً) عينُ الوجود! يومَ أضاع فيه الناسُ غريزة المحافظة على الذات، في غِمار غريزة النَّوع، ونسُوا نفوسهم ليذكروا الدِّين والوطن، وانْبَتُّوا منَ الحاضر المَقِيتِ، ليعيشوا في الماضي الفَخْم، فماجَ في سوح غرناطة بحرٌ منَ الأجسام البشرية حَمَلَ أصحابُها أرواحَهُم على أَكُفِّهِم، وقدموا بين أيديهم دماءهم، التي غَضِبَ فيها ميراثُ ثمانية قُرون كلُّها مجدٌ وعزٌّ، ونفوسهم التي عصفت فيها ذكرياتُ أَلْفِ معركة منصورةٍ؛ فمشتْ في الأعصاب النار، واستعدَّ كُتَّاب التاريخ ليكتبوا أَعْجَبَ موقف للشعب إذا هَبَّ.
ووصل موسى، ذلك البطلُ البَدْرِيُّ الذي أخطأ طريقَهُ في الزمان، فلم يَأْتِ في سنوات الهجرة الأُولَى، بل جاء في الأَوَاخِرِ من القرن التاسع، ولم يَطْلُعْ في الحجاز التي كانت تَبْتَدِئُ تاريخها المَجيدَ، بل في الأندلس التي كانت تَخْتم تاريخها.(49/4)
وكانت تعلوه كآبةٌ، فأنْصَتَ الشعب واحترم كآبةَ هذا الرجل الذي لو سَبَقَ به الدهر لَصَنَعَ يَرْمُوكًا أُخرى أو قَادِسِيَّةً ثانية، ولكنَّ الله الذي فتح تاريخنا في الأندلس بموسى، قد خَتَمَهُ الآن بموسى!
ونظر موسى حولَه، فإذا حولَه شيوخٌ قد أراق الكَرَمُ على شَيْباتهم بهاءه ونورَهُ، وأطفالٌ كالزَّهْر فتحوا عُيونهم على الدنيا فوجدوها غارقةً في بِركة منَ الدم، ونِسْوَةٌ تفتحتِ الأكمام عن زهراتها، فَرَأَتِ الطُّرقات مَنْ لم تكنِ الشمس تَرَاهُنَّ صِيانَةً وتَعَفُّفًا، قد بَرَزْنَ يَسِرْنَ إلى المعركة ويُزاحِمْنَ الرجال، ولم يكنَّ يَخْشَيْنَ على جَمَالِهِنَّ، فقد غَطَّتْ عاطفةُ الجِهاد على عاطفة الجنس، فكان كل رجل أخًا فيه لِكلِّ امرأة؛ فأَحْنَى رأسَهُ، ورأى الناسُ في عَيْنَيِ البطلِ دمعة تَتَرَقْرَقُ، وفَتَحَ فَمَهُ فحَبَسَ الناس أنفاسهم.
فإِذا هو يُعْلِنُ النَّبأَ المَهُولَ، نبأ تسليم أبي عبدالله الصغير مفاتيحَ غِرناطة! نبأٌ بدأ صغيرًا كما تبدو المصائب، فلم يَدْرِ الناس لهول المفاجأة ما أَثَرُ هذا وما خَطَرُهُ، ولكن القرونَ الآتياتِ دَرَتْ ما أَثَرُ هذا النبأ، ولم تفرغ إلى اليوم من وَصْفِ فواجعه وأهواله.
ونظر موسى فإذا الصَّرْح الذي أَنْفَقَ في إقامته الدَّهْرَ الأطولَ، قدِ انهار في دقائق، وإذا هذه الديارُ التي سُقِيَتْ بدم الجدود، وامتزجت برُفَاتِهِمْ، وقامتْ على أيديهم، يُسْلِمُها جبانٌ مَأْفونٌ للعدو المُغِير، وإذا السادة صاروا خولاً، والملوكُ عَبِيدًا، وجعل يفكِّر في هذه الفئة التي حولَه، في أكرم زَهرات غرناطة وأزكاها، هل يُجَنِّبُها الموتَ الحاصِرَ ويَرُدُّها إلى حيث وَجَدَتِ الراحة والدَّعة، أم يُخَلِّصُها من حياة كلُّها ذُلٌّ وأَلَمٌ، ويَسُوقُها إلى موت شريف؟(49/5)
وإنه لَفِي تفكيره وإذا بأطفال غرناطة يُنْشِدُونَ ذلك النشيدَ الذي لا يُعرَفُ مَنْ نَظَمَهُ لهم، فيُصغِي الناسُ ويستَمِعُ الفَلَكُ الدَّائِر:
"لا تَبْكِ يا أُمَّاهُ، إنَّا ذاهبون إلى الجنَّة.
إنَّ أرض غرناطة لن تَضِيقَ عن لَحْدِ طفل صغيرٍ مات في سبيل الله.
إن أزهار غرناطة لن تَمْنَعَ عِطرَها قَبْرًا لم يُمَتَّعْ صاحبُهُ بعِطْرِ الحياة.
إن ينابيعَ غرناطة لن تَحْرِمَ ماءَها ثَرَى لَحْدٍ، ما ارتَوَى صاحبُهُ من مائها.
أنتِ يا أرضُ غرناطة أُمُّنَا الثانيةُ فضُمِّينَا إلى صَدْرِكِ الدافئ الذي ضَمَّ آباءنا الشُّهَدَاء.
لا تَبْكِ يا أُمَّاهُ بلِ اضْحَكِي، واحفظي لِعَبَنَا، سيأتي إخوتنا فيلعبون بها.
فذَكِّرِيهِمْ بأنَّنا تركناها من أجل هذا الوطن، سنلْتَقِي يا أُمَّاهُ! إنَّكِ لن تُؤْثِرِي الحياة في ظلال الإسبان على الموت تحت الراية الحجازيَّة.
ولن تَضِيقَ عَنَّا أرض غرناطة؛ ما ضاقت أرضُنَا بشهيد".
ولم يَعُدْ يُطيقُ مُوسى أكثرَ من ذلك، فلَكَزَ فَرَسَهُ، وانطلق إلى حيث لا يدري أحدٌ، كما جاء من حيث لم يَدْرِ أحد.
وكَذَلِكَ ذَهَبَ آخِرُ أبْطَال الأندلس، لم يُخْلِفْ له قَبْرًا في الأرض، ولا سِيرَةً واضحةً في التاريخ، بل مرَّ على الدنيا كأنه حُلْمٌ بهيج!
رحمةُ الله على موسى بن أبي الغَسَّانِ، وعلى أولئك الأبطال.(49/6)
العنوان: أخطاء الإحرام
رقم المقالة: 1723
صاحب المقالة:
-----------------------------------------
أخطاء الإحرام
الخطأ الأوَّل:
تجاوز الحاجِّ أو المُعْتَمِر الميقاتَ المكانيّ دون أن يُحْرِم:
والصواب: الإحرام من الميقات، أو قبله إذا لم يُعلَم الميقات تحديدًا، ويكون هذا الأمر آكدُ بالنسبة للذين يسافرون بالطائرة؛ فمنهم مَنْ يتهاون في الإحرام عند مروره على الميقات، أو أن يُحْرِم عند نزوله في أرض المطار.
- قال ابن باز – رحمه الله: "القادم عن طريق الجو أو البحر يُحْرِمُ إذا حاذى الميقات، أو قبله بيسير؛ حتى يحتاط لسرعة الطائرة أو السفينة، فإذا تجاوز مَنْ أراد الحجَّ أو العمرة الميقاتَ فعليه أن يرجع ويعود للميقات - أو لأقرب ميقاتٍ - ويُحْرِم منه، وإن لم يرجع إليه وأحرم من مكانه فعليه فديةٌ، يذبحها في مكة ويطعمها كلها للفقراء.
- والمواقيت المكانية معروفةٌ، حدَّدها الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - بخمسة مواقيت، وهي:
1- ميقات أهل المدينة: ذو الحُلَيْفَة، وبينه وبين مكة 540 كم، ويُعرف اليوم بـ(أبيار علي).
2- ميقات الشام ومصر: وهو الجُحْفَةُ، وبينها وبين مكة 204 كم.
3- ميقات نجد: وهو قرْنُ المنازل، وبينها وبين مكة 94 كم.
4- ميقات اليمن: وهو يَلَمْلَم، وبينها وبين مكة 54 كم.
5- ميقات العراق: وهو ذاتُ عِرْقٍ، وبينها وبين مكة 94 كم.
الخطأ الثاني:
اعتقاد بعضهم أن ركعتَي الإحرام واجبةٌ:
ليس للإحرام صلاةٌ مخصوصةٌ، وإنما يستحبُّ فِعْله بعد صلاةٍ، سواءٌ كانت هذه الصلاة فريضة أو صلاة مسبَّبة؛ كسنَّة الوضوء، وهي إن كانت من الآداب المستحبَّة في الإحرام - إلاَّ أنَّ الإحرام يصحُّ بدونها.
الخطأ الثَّالث:
تأخير إحرام المرأة لعدم طهارتها من الحيض أو النفاس:
والصواب: أنها تُحْرِم كغيرها وتعمل كلَّ شيءٍ مع الحجَّاج، غير أنها لا تطوف بالبيت، فإذا ما طَهْرُت اغتسلت وطافت بالبيت.(50/1)
- أخرج الإمام مسلم من حديث عائشة – رضي الله عنها - أن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - دخل عليها وهي تبكي؛ فقال: ((أَنَفِسْتِ؟)) - يعني الحَيْضَة - قالت: نعم. قال: ((إن هذا شيءٌ كتبه الله على بنات آدم؛ فاقضي ما يقضي الحاجُّ، غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تغتسلي)).
وقد أجاز بعض فقهاء الحنابلة والشافعية للحائض دخولَ المسجد للطواف بعد إحكام الشدِّ والعَصْب وبعد الغسل؛ حتَّى لا يسقط منها ما يؤذي الناس ويلوِّث المسجد، ولا فدية عليها.
وقد أفتى كلٌّ من ابن تيمية وابن القيِّم بصحَّة طواف الحائض طوافَ الإفاضة إذا اضطرَّت للسَّفر مع صُحبتها، بشرط أن تَعْصُبَ موضعَ خروج دم الحيض؛ حتى لا ينزل منها شيءٌ في المسجد وقت الطواف.
الخطأ الرَّابع:
اعتقاد النساء أنَّ لبس البياض أفضل للإحرام أو لبسهنَّ ملابسَ تشفُّ أو تَصِفُ أجسامهنَّ:
والصواب: أنه ينبغي للمرأة عند تلبُّثها بالإحرام أن تكون ثيابها مما لا يشفُّ ولا يَصِف، حتى لا يُظْهِرَ جِسْمها، وليس معنى أنها تحجُّ في ملابسها العادية أنها تُظْهِر شيئًا من جسمها؛ كما يحدث من بعض الحاجَّات، وخاصةً الإفريقيَّات.
وكذلك اعتقاد البعض أن ثوب الإحرام لابدَّ له من لون خاصٍّ؛ كالأخضر أو الأبيض مثلاً، وهذا خلافُ الصواب؛ لأنه لا يتعيَّن لونٌ خاصٌّ للنساء، وإنما تُحْرِم في ثيابها العادية.
الخطأ الخامس:
اعتقاد بعض الحجَّاج أن معنى أنه لا يلبس المَخِيط أنه لا يخيِّط ملابس الإحرام إن انقطعت، أو يصل الرِّداء بخيط، أو غير ذلك:
والصواب: جواز وَصْل الرِّداء بالخيط أو تخييط ما انقطع من الرِّداء أو الإزار، ولا يُعَدُّ ذلك مخالفةً؛ لأن العبرة بالمَخِيط ما كان مُحيطًا بالجسم عن طريق الخياطة، أو لاصقاً بالجسم من غير تخييطٍ كالجورب.(50/2)
- يقول الشيخ عبدالعزيز عيسى: "المراد بالمَخِيط الممنوع: الثياب المفصَّلة على البدن، التي تحيط به وتستمسك بنفسها، ولو لم تكن بها خياطةٌ، كالجوارب والفانلات والكلسونات والشروز ونحوها"؛ (كيف تحج وتعتمر، للشيخ: عبدالعزيز عيسى).
- يقول الشيخ الأفريقي - كما في كتاب "حجَّة النبي" للشيخ ناصر الدين الألباني -: "المَخِيط الممنوع: هو كلُّ ثوبٍ على صورة عضو الإنسان؛ كالقميص و(الفنيلة) والجُبَّ والصَّدريَّة والسراويل، وكل ما على صفة الإنسان محيطٌ بأعضائه".
الخطأ السَّادس:
الحج بالملابس العادية لغير عذر:
والصواب: ضرورة الحج بملابس الإحرام إلا لعذر، وملابس الإحرام من الواجبات عند أكثر المذاهب التي تُجْبَر بدمٍ، وذلك بالنسبة للرجل.
أما المرأة فتُحْرِم في ثيابها العادية التي لا تشفُّ ولا تَصِف - ولها أن تضع علي وجهها ما يستره - وفي ملابس الإحرام مظهر الحجِّ، بما يوحيه من التساوي بين الناس في الثياب، والتشبه بالخروج من الدنيا في قطعة من القماش، والملابس العادية لا تعبِّر عن هذا المعنى ولا تدلُّ عليه.
الخطأ السَّابع:
اعتقاد بعض الحجَّاج أنه لا يجوز تغيير ملابس الإحرام أو تنظيفها:
والصواب: جواز التغيير والتنظيف عند الحاجة، على أن يكون تغيير ملابس الإحرام بمثلِها.
الخطأ الثَّامن:
كشف بعض الرجال أكتافهم على هيئة الاضطباع عند الإحرام:
وهذا غير مشروع إلا في حالة الطواف، وطواف القدوم أو العمرة خاصةً، وما عدا ذلك يكون الكتف مستورًا بالرِّداء في كلِّ الحالات.
- ملحوظة: والاضطباع هو أن يدخل المُحْرِم الرَّداء من تحت إبطه الأيمن، ويردَّ طرفه على يساره، ويُظْهِرَ منكبه الأيمن ويغطي الأيسر، ولا يكون هذا الاضطباع إلاَّ في طواف القدوم أو العمرة، كما مرَّ معنا.
الخطأ التَّاسع:
اعتقاد بعض الناس جوازَ لبس النقاب والقفَّاز مع الإحرام وبعده:(50/3)
والصواب: أنه لا يجوز للمرأة المُحْرِمة أن تلبس النقاب والقفَّاز؛ وذلك لما أخرجه البخاري من حديث ابن عمر – رضيَ الله عنهما - أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((لا تنتقب المرأة المُحْرِمة، ولا تلبس القفَّازَيْن)).
- وأخرج الإمام أحمد من حديث عائشة – رضي الله عنها – أنها قالت: "كان الرُّكبان يمرُّون بنا ونحن مع رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فإذا حاذوا بنا سَدَلَتْ إحدانا جلبابها على وجهها، فإذا جاوزوا بنا كشفناه".
- ملحوظة: ويستدلُّ بهذا الحديث أن للمرأة المنتقبه أن تُسْدِلَ علي وجهها ما يستره في الحج والعمرة، وذلك في وجود الرجال الأجانب.
الخطأ العاشر:
رفع بعض النساء أصواتهنَّ بالتَّلْبية كالرجال:
والصواب: أن المرأة تُسْمِع نفسها فقط أثناء التَّلْبية، ولا ترفع صوتها؛ لأن أمر النساء مبنيٌّ على الستر، وليس على الإعلان والإشهار.
الخطأ الحادي عشر:
إهمال التَّلْبية بعد الإحرام:
والصواب: مداومتها في كلِّ الأحوال، إلا بعد وصول المُعْتَمِر إلى الكعبة ورؤيتها وبدء الطواف؛ لقول النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((يلبِّي المُعْتَمِرُ حتى يستلِمَ الحَجَر))؛ أبو داود عن ابن عباس.
وتتوقف التَّلْبية كذلك عند وصول الحاج إلى جمرة العقبة وبدء الرمي؛ وذلك لما أخرجه البخاري عن الفضل بن عباس: كنتُ رديفَ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - إلى منى؛ فلم يزل يلبِّي حتى رمى جمرة العقبة".
وأخيراً:
ينبغي أن يتجنَّب فعل أيٍّ من المحظورات التي سبق ذكرها من محظورات الإحرام؛ مثل حلق الرأس، أو تغطيتها بعمامة أو كلنسوة، أو لبس ثوب مَخِيط، أو مسِّ طيب؛ فمن فعل شيئًا من ذلك فعليه فديةٌ من صيام أو صدقة أو نُسُك؛ فإمَّا أن يذبح شاةً، أو يصوم ثلاثة أيامٍ، أو يطعم ستَّة مساكين؛ لكلِّ مسكين نصفُ صاعٍ من الطعام.
الخطأ الثَّاني عشر:(50/4)
تعمُّد البعض الإحرام للحج من المسجد الحرام في اليوم الثامن من ذي الحجة أو يُحْرِم من التَّنْعيم:
والصواب: أن الذي يريد الإحرام للحج بعد أدائه للعمرة قبل ذلك - وهو ما يُعرف بحج التمتُّع - يُحْرِم للحجِّ من مكانه الذي هو فيه، وليس من المسجد الحرام؛ كالمكِّيِّ - المقيم بمكة - تمامًا.
وأما الإحرام من أحد الأماكن التي هي حدود الحرم وأدني في الحَلِّ، وهي:
التنعيم: وبينه وبين مكة 6 كيلو مترات، ويسمَّى اليوم (مسجد عائشة).
أضاه: وبينها وبين مكة 12 كم.
الجعرانه: وبينها وبين مكة 16 كم، وسمِّيت باسم امرأةٍ كانت ساكنةً فيها.
وادي نخلة: وبينه وبين مكة 14 كم.
الحُديبية: وبينه وبين مكة 15 كم، ويسمَّى اليوم (الشُّمَيْس).
فإحرام العمرة وإحرام المكيِّ يكون من هذه المواقيت في العمرة، وأما إحرامه بالحجِّ فمن مكانه الذي هو فيه كما أسلفنا بيانه.(50/5)
العنوان: أخطاء الطَّواف
رقم المقالة: 1720
صاحب المقالة:
-----------------------------------------
أخطاء الطَّواف
فإذا كنتَ - أخي الحاج أو المُعْتَمِر - استعنتَ بالله وتخلَّصت من أخطاء الإحرام، ونجوت منها، فعليك بمعرفة الأخطاء التي تقع منك عند القيام بالحجِّ والعمرة.
الخطأ الأول:
صلاة الحاجِّ ركعتَيْن تحية المسجد حين دخوله إلى المسجد الحرام:
والصواب: أن تحية المسجد الحرام هي الطَّواف بالكعبة، وليس الصلاة كبقيَّة المساجد.
قال الزَّرْكشي كما في كتابه "إعلام السَّاجد بأحكام المساجد": "التحيات خمسٌ: أحدها: تحية المسجد بالصلاة. ثانيها: تحية البيت بالطَّواف. ثالثها: تحية الحرم بالإحرام بالحج والعمرة. رابعها: تحية مِنى بالرَّمْي. خامسها: تحية المسجد بالنسبة للخطيب يوم الجمعة قبل الخطبة".
الخطأ الثاني:
اعتقاد بعض الحجَّاج أنَّ الملتزَم هو باب الكعبة:
والصواب: أن الملتزَم هو ما بين باب الكعبة والرُّكن الأسود، فوق الحجر الأسود والشاذروان - جدار الكعبة - وليس باب الكعبة كما هو اعتقاد بعض الحجَّاج.
الخطأ الثالث:
الطَّواف من داخل حِجْر إسماعيل:
والصواب: أن الحِجْر من الكعبة، فلابدَّ من الطَّواف من خارجه وليس من داخله؛ لقول الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - فيما أخرجه البخاري ومسلم: ((الحِجْر من البيت)).
وعند البخاري ومسلم أيضاً من حديث عائشة – رضي الله عنها – قالت: ((ألم ترى أنَّ قومكِ لما بنوا الكعبة اقتصروا عن قواعد إبراهيم)).
فلو طاف الحاجُّ أو المُعْتَمِر من داخل حِجْر إسماعيل؛ فإنه لا يُعْتَدُّ بذلك الشوط؛ لأنه بطل حينئذٍ.
الخطأ الرابع:
الطَّواف من غير وضوء:
وهذا يُبْطِل الطَّواف؛ فإن الطهارة شرطٌ من شروط صحة الطَّواف؛ فهي واجبةٌ فيه.(51/1)
فمن طاف بالبيت يجب عليه أن يكون متوضِّأً، فإذا انتقض وضوءه أثناء الطَّواف فليذهب وليتوضأ، وعندما يرجع فليكمل طوافه، وليبنِ على ما مضى من غير أن يطيل الفصل.
الخطأ الخامس:
الرَّمَل في جميع مرات الطَّواف:
والرَّمَل: هو الإسراع في المشي مع تقارب الخطا وهزِّ الكتفَيْن، ولا يكون الرَّمَل إلاَّ في المرَّات الثلاث الأولى في الطَّواف، ويكون في طواف القدوم فقط.
ملحوظة: الاضطباع والرَّمَل خاصَّان بالرِّجال دون النِّساء؛ لقول عائشة – رضي الله عنها – كما عند البيهقي: ((يا معشر النساء، ليس عليكنَّ رَمَلٌ بالبيت، لكُنَّ فينا أُسْوَة)).
وعند أبي شيبة في "مصنَّفه" عن ابن عمر: ((ليس على النساء رَمَلٌ، ولا بين الصفا والمروة)). وعند أبي شيبة في "مصنَّفه" عن ابن عباس: ((ليس على النساء رَمَلٌ)).
الخطأ السادس:
المزاحمة على الحجر الأسود وإيذاء الضعفاء:
والصواب:
أ – أن تقبيل الحجر الأسود في حالة عدم الزحام، أما مع الزحام في موسم الحج - فلا ينبغي المزاحمة عليه وإيذاء الضعفاء والمرضى؛ حتى لا يكون الحاجُّ ارتكب إثماً محقَّقًا ووزرًا أكيدًا من أجل الوصول إلى تحصيل سُنَّة؛ إنما يكفي الإشارة فقط مع التكبير.
بل هناك ما هو أشدُّ من ذلك: وهو أن بعض النساء تقوم بمزاحمة الرجال بجسمها، فيلتصق بها الرجال، وهنا مَكْمَن الشرِّ والفتنة، فترتكب المحرَّم، وتتسبَّب في فتنة الآخَرين في تحصيل أمرٍ مسنون؛ بل تَرْكُه في حقِّها - والحال كما تقدَّم – واجبٌ، ودَرْءُ المفاسد مقدَّمٌ على جَلْب المصالح.
ب – التمسُّح بالحجر الأسود أثناء التَّقبيل التماسًا للبركة بدعةٌ لا يجوز فعلها، وإنما السُّنة تقبيله فقط إن تيسَّر، من غير مزاحَمة.
الخطأ السابع:
تقبيل الرُّكن اليماني والمزاحمة عليه:
والسنة مَسْحُهُ إن تيسَّر ذلك، ولا يُسَنُّ تقبيله كالحجر الأسود، وعند المزاحمة عليه لا يُشار إليه كما يُفْعَل مع الحجر الأسود.(51/2)
بل يصل الشَّطَطُ بالبعض أنه لا يكتفي بأن يستلم جميع أركان الكعبة؛ بل يتمسَّح البعض بأي جزءٍ منها، وهذا يخالف السُّنة.
الخطأ الثامن:
التزام أدعية خاصَّة في الطَّواف، وأحيانًا يردِّدونها بصوتٍ جماعيٍّ:
وهو خطأٌ من ناحيتَيْن:
الأولى: أنه التزامُ دعاءٍ لم يؤمَر بالتزامه في هذا الموطن؛ لأنه لم يَرِدْ عن النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - في الطَّواف دعاءٌ خاصٌّ.
الثانية: أنَّ الدُّعاء الجماعي بدعةٌ، وفيه تشويشٌ على الطَّائفين، والمشروع أن يدعوَ كلُّ شخصٍ لنفسه، وبدون أن يرفع صوتَه.
وهناك مَنْ يلتزم بعض الأوراد المعيَّنة، والتي فيها دعاءُ الشَّوْط الأول ودعاء الشَّوْط الثاني وهكذا، ولم يَرِدْ شيءٌ من ذلك عن النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وإنما الذي وَرَدَ فقط أثناء الطَّواف دعاءٌ بين الرُّكن اليمانيِّ والحجر الأسود، وهو: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة: 201].
والأفضل أن يدعو بما يتيسر من حفظه؛ فإن ذلك أخشع له.
الخطأ التاسع:
اعتقاد بعض الحجَّاج أن كلَّ طوافٍ يَعْقُبُه سعيٌ:
والصواب أنَّ الطَّواف ينقسم إلى عدَّة أنواع:
1- طواف القدوم: ويسمَّى كذلك طواف القادم والورود والوارد والتحية؛ ودليل هذا النوع ما أخرجه مسلم من حديث جابر: أن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - لمَّا قدم مكة أتى الحجر - الحجر الأسود – فاستلمه، ثم مشى على يمينه - جاعلاً الكعبة عن يساره - فرَمل ثلاثًا ومشى أربعًا.
2- طواف التطوُّع: وهو ما يفعله الحاجُّ على سبيل التقرُّب إلى الله، ومن هذا النوع طواف التحية.
3- طواف الإفاضة: ويسمَّى طواف الزِّيارة والفرض والرُّكن والصَّدر، وهو المقصود بقوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29]، وإذا لم يفعله الحاجُّ بَطَلَ حجُّه بإجماع العلماء.(51/3)
4- طواف الوداع: ويكون آخِر عهد الحاجِّ بالبيت، وهو على غير الحائض والنفساء، ومن فات حجُّه أو فسد، وكذلك غير المكي.
والسَّعي يكون بعد طواف القدوم أو طوف الإفاضة إذا لم يكن الحاجُّ سعى في طواف القدوم، وما عدا ذلك ليس فيه سعيٌ.
الخطأ العاشر:
الإصرار على أداء ركعتين خلف مقام إبراهيم:
من المعلوم أنَّ من السُّنة الصلاة خلف مقام إبراهيم بعد الطَّواف إن تيسَّر ذلك، وإن لم يتيسَّر ذلك ففي أيِّ مكانٍ من المسجد الحرام يصلِّي هاتين الركعتَيْن، ولتحرص النساء على عدم المزاحمة على هذه الأمكنة.
وهناك من الحجاج مَنْ يتمسَّح بمقام إبراهيم عند المرور عليه أثناء الطَّواف، وهذا لا يجوز.
ملحوظة: من الأخطاء الجهر بالنيَّة عند بدء الطَّواف والسَّعي.(51/4)
العنوان: أخطاءٌ عامَّةٌ وشائعةٌ في الحجِّ
رقم المقالة: 1716
صاحب المقالة:
-----------------------------------------
أخطاءٌ عامَّةٌ وشائعةٌ في الحجِّ
1- التمسُّح بكِسْوة الكعبة وجدرانها وحِلَق الأبواب؛ فإنه لا يجوز التبرُّك بالشجر أو بالحجر.
2- وقوف البعض تحت ميزاب الكعبة عند نزول المطر؛ للتبرُّك بالماء النازل منه.
3- استباحة المرور بين يَدَي المصلِّي في المسجد الحرام، ومقاومتهم للمصلِّي الذي يحاول دفعهم.
4- تلاوة بعض الحجَّاج أذكار خاصَّة عند تقبيل الحجر الأسود، وكذا عند دخول حِجْر إسماعيل.
5- اتِّباع الحجَّاج وتوديعهم عند السفر إلى الحج بآلات اللهو والموسيقى، أو استقبالهم بها عند عودتهم، وتعليق الزينة والأنوار وغيرها.
6- يقوم البعض بدهان واجهة بيت الذي سافر للحج ونقشه بالصُّور، وكتابة اسم الحاجِّ عليه وبعض آيات القرآن، والمراءة بذلك.
7- والبعض يتفاخر على أقرانه أنَّه حجَّ حجًّا سياحيًّا أو حجًّا سريعًا أو حجًّا ممتازًا، فأين الحج المبرور؟!
والرسول – صلَّى الله عليه وسلَّم - حجَّ عام الحجِّ على رَحْلٍ رثٍّ، عليه قطيفةٌ لا تساوي أربعة دراهم، وكان يخاف من الرِّياء والسُّمعة؛ فكان النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم - يدعو ويقول: ((اللهم اجعله حجًّا لا رياء فيه ولا سُمْعَة))، وقال أنسٌ – رضيَ الله عنه -: حجَّ النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم - على رَحْلٍ رَثٍّ عليه قطيفةٌ لا تساوي أربعة دراهم، وقال: ((اللهم اجعله حجًّا لا رياء فيه ولا سُمْعَة)).
فأين هذا ممَّن يتفاخر على أقرانه بأنه حجَّ حجًّا سياحيًّا أو سريعًا أو ممتازًا! فأين الحج المبرور الذي ذكره الرسول – صلَّى الله عليه وسلَّم - الذي هو مطلب المسلم حتى يُغْفَر له ما تقدَّم من ذنبه؟!(52/1)
8- زيارة بعض الآثار على سبيل التعبُّد؛ مثل غار حراء وغيره، قد قال عمر بن الخطاب – رضيَ الله عنه – والأثر ذكره سعيد بن منصور – رحمه الله -: "إنما هلك مَنْ كان قبلك بمثل هذا؛ يتَّبعون آثار أنبيائهم".
9- التقاط الصور التذكارية وسط الحَمام أو عند الأماكن المقدَّسة، وقد لعن الله المصوِّرين، والملائكة لا تدخل بيتًا فيه تصاويرٌ، والتصوير حرامٌ إلا لمصلحةٍ راجحة، والحُرْمَة أشدُّ في هذه البقاع المباركة.
10- استعمال المعازف والملاهي في الحجِّ وغيره، وكذلك مشاهدة الأفلام وسماع الأغاني، وسائر مظاهر الفُحْش والتفحُّش.
11- اعتقاد بعض الحجَّاج أنَّ كلمةَ (حاجٍّ) أصبحت حقًّا مكتسبًا لهم عند عودتهم من أداء هذه الفريضة، ولا ينبغي أن يُنادَوا إلاَّ بها، ولا يلقَّبوا بدونها، وهذا خطأٌ في الفَهْم لهذه الفريضة؛ بل ولأمور الدِّين عامَّة؛ فلم يشتهر أنه خوطب بها رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم - بعد حجَّته التي حجَّها، والتي عُرِفَت بحجَّة الوداع، كما لم يشتهر عن سلفنا الصالح – رضوان الله عليهم – أنه لقَّبوا أحدًا بـ (الحاجّ فلان).
فالحج فريضةٌ كالصلاة والزكاة، وكما أنه لا يُقال للمصلِّي: يا مصلِّي، ولا يُقال للمزكِّي: يا مزكِّي - فكذلك لا يُقال للحاجِّ: يا حاجُّ.
وأما إن قيلت على سبيل التوقير والإجلال – وخاصةً أنَّ مَنْ يحجَّ في الغالب كبار السن - فلا بأس في ذلك؛ بل هذا الأمر من إعظام واحترام الصغير للكبير، وتصديقًا لحديث النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إن من إجلال الله - عزَّ وجلَّ - إكرام ذي الشَّيْبَة المسلم))، وقوله – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ليس منَّا مَنْ لم يرحمنا صغيرنا ويوقِّر كبيرنا، ويعرف لعالِمنا حقَّه)).(52/2)
العنوان: أخطاء ما قبل الإحرام
رقم المقالة: 1721
صاحب المقالة:
-----------------------------------------
أخطاء ما قبل الإحرام
وهذه الأخطاء لا ترتبط بأعمال الحج والعمرة مطلقًا، ولكن قد تكون مخلَّةً بشرط صحَّتِهما أو قادحةً فيها، وهي ثمانية أخطاء؛ فقبل أن تلْبَس لباسَ الإحرام أخي - تعرَّف عليها، واستعن بالله على التخلُّص منها، وهي كالتالي:
الخطأ الأول:
إهمال التوبة النصوح قبل السفر للحج أو العمرة.
ومن المعروف أنَّ من شروط التوبة الإقلاع عن المعصية، والندم على فعلها، والعزم الأكيد على عدم العودة إليها، ثم إذا كانت هذه المعصية تتعلَّق بحقِّ آدميٍّ يزيد شرطٌ رابعٌ؛ وهو التحلُّل من هذا الحقِّ واسترضاء صاحبه.
والصواب: أنَّ التوبة من أوائل ما يحرص عليه الحاج والمعتمر قبل سفره لأداء هذه العبادة.
الخطأ الثاني:
استهانة بعض الحجاج بحقوق العباد.
وذلك نتيجة خطأ في فهم النصوص الواردة في فضل الحج؛ كقول الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - الذي أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة – رضيَ الله عنه -: ((مَنْ حجَّ فلم يَرْفُث ولم يَفْسُق؛ رجع كيوم ولدته أمُّه))، وكقول الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - الذي أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة – رضيَ الله عنه -: ((العمرة إلى العمرة كفَّارةٌ لما بينهما، والحجُّ المبرور ليس له جزاءٌ إلاَّ الجنة)).
وغير ذلك من النصوص الذي يُوهِمُ ظاهرها أنَّ الحج والعمرة يُسقِطان حقوقَ العباد.
والصواب: أنَّ الحجَّ والعمرة - مع فضلهما - لا يُسقِطان حقوقَ العباد؛ والدليل على ذلك أمران:
أ – الحج والعمرة ثوابُهما يُسقط الأوزار والذنوب، ولا يُسقِط حقوقَ العباد:(53/1)
قال الإمام الترمذي تعليقاً على حديث رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ((مَنْ حجَّ فلم يَرْفُث ولم يَفْسُق؛ رجع كيوم ولدته أمُّه)): "هو مخصوصٌ بالمعاصي المتعلِّقة بحقوق الله خاصةً دون حقوق العباد، ولا تَسقط الحقوقُ أنفسها؛ فمن كانت عليه صلاةٌ أو كفَّارةٌ ونحوهما من حقوق الله تعالى لا تسقط عنه؛ لأنها حقوقٌ لا ذنوب، إنَّما الذنوب تأخيرها، فنَفْسُ التأخير يُسْقَطُ بالحج لا هي أنفسها؛ فالحج المبرور يُسْقط إثمَ المخالفة لا هيَ"؛ (إرشاد الساري: 3/97).
ب – القتل في سبيل الله لا يُسقِط حقوقَ العباد:
أخرج الإمام أحمد والبيهقي من حديث عبدالله بن مسعود – رضيَ الله عنه - أن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((القتل في سبيل الله يكفِّر الذنوبَ كلَّها إلاَّ الأمانة)). قال: ((يُؤتَى بالعبد يوم القيامة – وإن كان قُتِلَ في سبيل الله – فيُقال: أدِّ أمانتك. فيقول: أي ربِّ، كيف وقد ذهبت الدنيا؟!! فيقال: انطلقوا به إلى الهاوية. فيُنطَلق به إلى الهاوية، وتُمثَّل له أمانته كهيئتها يوم دُفِعَتْ إليه، فيراها فيعرفها، فيهوي في أَثَرِها حتى يدركها، فيحملها على منكبيه، حتى إذا ظنَّ أنه خارجٌ زلَّت عن منكبه، فهو يهوي بها أبد الآبدين)). ثم قال: ((الصلاة أمانةٌ، والوضوء أمانةٌ، والوزن أمانةٌ، والكَيْل أمانةٌ))، وأشياء عدَّدها ((وأشدُّ ذلك الودائع)).
ومن هذا يتَّضح بما لا يدع مجالاً للشكِّ: أنَّ الحجَّ والعمرة وإن كانا من الأعمال العظيمة، التي تجعل المسلم بعد أدائها كيوم ولدته أمُّه - إلا أنها لا تُسقِط حقوقَ العباد كما يظنُّ بعض الناس، ومنشأ ذلك من فَهْمهم الخاطئ للنصوص.
الخطأ الثالث:
عدم استرضاء مَنْ يجب عليهم استرضاؤه؛ كالوالدين والزَّوج (بالنسبة للزوجة):(53/2)
والصحيح: أن الحاجَّ أو الحاجة ينبغي لهما أن يسترضيا الوالدَيْن وغيرهما ممن يجب عليهما استرضاؤه؛ حتى لا يكون في نفوس أقربائهم منهم شيءٌ، فلا يدري الحاجُّ والُمعتَمِر: هل يعود إلى بلاده فيُرضي مَنْ أساء إليه أم لا. فينبغي له أن يبادر بذلك قبل سفره للحج.
الخطأ الرابع:
التهاون في توخِّي الحلال في النَّفَقة، بحجَّة أنَّ الحجَّ سيمحو كلَّ ذلك!:
والصحيح: أنَّ الحجَّ والعمرة وإن كان ثوابهما عظيمٌ وفضلهما جزيلٌ - فلا يمكن أن يمحوا الحرامَ الذي اكتسبه الحاج أو المُعْتَمِر.
ويَصْدُقُ ذلك على حجِّ الفنانين والفنانات؛ فمهما حجُّوا أو حَجَجْنَ بالمال الذي اكتسبوه من الرقص والغناء والتمثيل - فإنَّه لا يمكن أن يكون حجُّهم مقبولاً ولا مبروراً؛ لأن النفقة فيه ليست من الحلال، وشرط الحجِّ المقبول أن تكون النفقة من الحلال.
- أخرج الطبرانيُّ بسنده أن النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((إذا خرج الحاجُّ حاجاً بنفقةٍ طيبة، ووضع رِجْلَه في الغَرْز فنادى: لبَّيْك اللهم لبَّيْك - ناداه مُنادٍ من السماء: لبَّيْك وسعدَيْك، زادُك حلالٌ، وراحِلتُك حلالٌ، وحجُّك مبرورٌ غير مأزور. وإذا خرج بالنفقة الخبيثة، فوضع رجله في الغَرْزِ فنادى: لبَّيْكَ - ناداه مُنَادٍ من السماء: لا لبَّيْك ولا سعدَيْك، زادُك حرامٌ، ونفقتُك حرامٌ، وحجُّك مأزورٌ غير مبرور)).
فعلى الحاجِّ أو المُعْتَمِر أن يطيب نفقته؛ فإن الله طيِّبٌ لا يَقبل إلا طيِّبًا.
إِذَا حَجَجْتَ بِمَال ٍ أَصْلُهُ سُحْتٌ فَمَا حَجَجْتَ وَلَكِنْ حَجَّتِ الْعِيرُ
لا يَقْبَلُ اللهُ إلاَّ كُلَّ طَيِّبَةٍ مَا كُلُّ مَنْ حَجَّ بَيْتَ اللهِ مَبْرُورُ
الخطأ الخامس:
عدم طلب الدُّعاء ممَّن يُرجى إجابة دُعائهم:(53/3)
والحقُّ: ينبغي للحجَّاج أن يطلبوا ممَّن يُعتقَد أو يُظَنُّ فيه الصلاح والتقوى أن يدعو لهم بالسلامة في الوصول، والتَّوفيق في أداء المناسك؛ فقد روى أبو داود والترمذي عن عمر بن الخطاب – رضيَ الله عنه – أنه استأذن النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - في العمرة فإذِنَ له، وقال: ((يا أخي، لا تَنْسَنا من دعائك)). فقال كلمةً ما يسرُّني بها الدنيا.
فينبغي للحاجِّ والمُعْتَمِر أن يطلب من غيره أن يدعو له، كما ينبغي من الغير أن يطلب من الحاجِّ والمُعْتَمِر أن يدعو له عند الأماكن التي يُستجاب فيها الدعاء.
الخطأ السادس:
عدم كتابة الحاجِّ والمُعْتَمِر وصيَّتَه بما له وما عليه عند سفره:
والصواب: أنه ينبغي كتابة وصيته عند السفر، وذلك لقول رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - الثابت في صحيح البخاري ومسلم من حديث عبدالله بن عمر: ((ما حقُّ امرئٍ مسلمٍ له شيءٌ يوصي به، يبيت ليلتَيْن - إلاَّ ووصيَّتُه مكتوبةٌ عنده)).
فإذا كانت الوصية مستحبَّةً في كلِّ الأوقات؛ فقبل السَّفر للحجِّ والعمرة تستحبُّ من باب أوْلى، لما يترتَّب على السَّفر من المخاطر والمتاعب، ولا يدري الإنسان ماذا يلقى في هذا السفر، وهل سيعود سالماً منه أم لا.
الخطأ السابع:
وصية بعض الحججاج لأولادهم وذويهم عند السفر أو عند المجيء بزخرفة البيت أو الكتابة عليه بعبارات معينة:
مثل: (سفرٌ سعيد، وعَوْدٌ حميد)، أو: (حجٌّ مبرور، وذنبٌ مغفور)؛ فإن هذا قد يتنافى مع الإخلاص؛ فينبغي للعبد ألاَّ يقصد بحجِّه رياءً ولا سمعةً ولا مباهاةً ولا فخرًا ولا خُيَلاء، ولا يقصد به إلا وجهَ ربِّه ورضوانه، ويتواضع ويستكين ويخشع لربِّه، ويجعل عمله خالصًا لوجهه.
قال بعضُهم: الرَّكْبُ كُثْرٌ. فردَّ عليه الآخَر: ولكنَّ الحجَّاج قليلٌ.(53/4)
قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162].(53/5)
العنوان: أخطاء ومخالفات في الخطوبة
رقم المقالة: 1873
صاحب المقالة: الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ
-----------------------------------------
أخطاء ومخالفات في الخطوبة
ملخص الخطبة:
1- اشتراط رضا الطرفين في عقد النكاح.
2- مشروعية النظر إلى المخطوبة.
3- ضوابط النظر إلى المخطوبة.
4- مفاسد التحدُّث ومبادلة الرسائل مع المخطوبة.
5- تحذير الفتيات من تغرير الشباب الفاسد.
6- تحذير الزوجين من فتح سِجِلاَّت الماضي.
ـــــــــــــــــــــ
الخطبة الأولى
أمّا بعد: فيأيُّها الناس، اتَّقوا الله - تعالى - حقَّ التقوى.(54/1)
عبادَ الله، إنَّ من شرطِ صِحّةِ النكاح رضَا كلٍّ من الزّوجين بصاحبِه، ومِن أسبابِ هَذا الرّضا عِلمُ كلٍّ مِنَ الزوجَين بحقيقةِ صاحِبِه فيما يَظهَر من تصرُّفاتِه، وحتَّى في شَكلِه الظّاهريِّ، ولذا جَاءَت سنّةُ محمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - تبيحُ للخاطِبِ نظرَه إِلى مخطوبَتِه، وتُبيح لها نَظرَها إلى خَاطبِها، فنظرُ الخطِيبِ إلى مَخطوبتِه، ونظرُها إليه - أمرٌ أرشَدَ إليهِ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، وبيَّن علَّةَ ذلك وسببَه، وأنّ النّظرَ يؤدِّي إلى تكوينِ فِكرةٍ في قَلبِ ذلك الخاطب، فيكون سببًا لالتِئامِ الزوجَين بتوفيقٍ منَ اللَّه. وهذَا النظرُ الشرعيُّ أمْرٌ مُرَغَّبٌ فيه، فلا يَجوزُ لِلأب أن يمنعَ الخاطبَ منَ النّظر إلى مَن خطب؛ لأنَّ هذا ليسَ مِن شأنِه، فرسولُ الله - صلى الله عليه وسلم – رغّب، وأمَر أمْرَ استحبابٍ بذلك؛ روى المغيرةُ بن شعبةَ أنّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال له: ((إذا خَطَبتَ امرأةً فانظُر إليها؛ فلعلَّه أن يُؤدَم بَينَكما))[1]، يعني أنّ نظرَك إليهَا سَبَبٌ لأن يجعلَ الله بينك وبينها مودّةً ومحبّة، وقال لرجلٍ من أصحابِه وقد خطَبَ امرَأةً: ((انظر إليها فإنّ في أعيُنِ الأنصَارِ شيئًا))[2]، وأخبَرَ - صلى الله عليه وسلم - أنّ الخاطِبَ إذا نظَر إلى بعضِ ما يدعوه إلى الزواج بمخطوبتِه، ولو لم تعلَم المرأةُ بذلك فلا جناحَ عليه[3]. هذا إذا كانتِ النظرةُ آتِيةً لأجلِ الخطبة، لا نظرة تَشَهٍّ وتطلُّعٍ على عوراتِ الآخرين.
أيّها المسلم، وهَذِه النظرةُ الشّرعيّة إنما تَكون بحضُورِ وَليِّ المرأةِ، سواءٌ كان الأب أو أيّ محرمٍ لها؛ لأنَّ حضورَها مَعَ خاطبها الذِي لم يتمَّ عقد النّكاح له عليها يعتَبَر خلوةً بأجنبيَّة بعيدةٍ عنه، فلا بدَّ في هذه النظرةِ أن تَكونَ نظرةً بحضورِ محرَمِ المرأة؛ حتى نَأمَنَ مِنَ الخلوةِ بالأجنبيّة.(54/2)
أيّها المسلم، هذه السّنّةُ النبويّة الدالةُ على الترغيبِ في نَظَر الخاطبِ لمخطوبَتِه سنّةُ خيرٍ وهُدى، والتِزام المسلمِ لها مع الضوابطِ الشرعيَّة؛ بِعَدَمِ الخلوة، وبحضورِ محرَمها، هذه هي السُّنَّة، ولذا دلّت سنّةُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على تحريمِ خَلوةِ الرجل بالمرأةِ التي ليست مِن محارمِه إذا لم يحضُرهما محرَم، يقول - صلى الله عليه وسلم -: ((ما خَلا رجلٌ بامرأة إلاَّ كانَ ثالثهما الشّيطان))[4]، وحذّر من الدُّخولِ على النّساء فقال: ((إيّاكم والدّخولَ على النّساء))، فقال رجلٌ: "أرأيتَ الحَموَ يا رسول الله؟!"، قال: ((الحَموُ الموتُ))[5]، وحذَّر المرأةَ أن تسافرَ بلا محرَم، وناشدها إيمانَها بالله واليومِ الآخر أن لا تسافرَ إلاَّ بمحرَم يصحَبُها[6]؛ حفظًا لكرامتها، وصيانةً لأخلاقها.
أيّها المسلم، ولكن للأسفِ الشديد يغلط البعضُ من المسلمين ممّن اغترّوا بتقليد الأعداءِ، وانساقوا وراءَ تلكَ الشّعارات الزائفةِ والأفكار المنحرفةِ، حيث إنّ الخطيب ربما التَقَى بمخطوبتِه لُقيا غيرَ شرعيّة، سببُها الاتِّصال الهاتفيّ، الرسائل الجوالة، وأمثال ذلك، فبمجرَّدِ الخطبة يتَّخذ بعضُ ضعفاءِ الإيمان ذلك وسيلةً إلى الاتصالِ بالمرأة المخطوبةِ، والتحدُّث معها عبرَ الجوال أو الهاتف، وتبادُل الرّسائل، وذا منكَر يا أخي المسلم، فإنّ هذه الاتصالاتِ والرسائلَ ربما تقرِّب بعضَهم إلى بعض، فيجري اتِّصالٌ ولِقاء وخَلوَة، وربّما وقع المحذور، والعياذ بالله.(54/3)
أختي المسلمة، قد يخدَعُك بعضُ الشباب، فيذكُرُ أنّه يريد خطبَتَك، وسيتقدَّم لخطبَتِك لوليِّك، فيُكثِر الاتصالَ، ويُكثِر التحدّث، ويكثِر بَعثَ الرسائل، وما قصدُه إلاَّ خِداعٌ ومَكر وتضلِيل وتغرير، فإن تكن الفتاةُ فتاةً مؤمنة حقًّا، ذات دينٍ واستقامة، ومحافظةً على دينها وشرفِها لم تمكِّن هذا المتطفِّل منَ الاتصالِ بها، وتقول: الأمورُ تُؤتَى من أبوابها، والسنّةُ أباحتِ النظرَ عندما تدعو الحاجةَ إليه، أمّا اتصالاتٌ وأحاديثُ يوميّة، يعلِّل بعضُ أولئك أنّه يريدُ أن يكشِفَ أخلاقَها، ويريدُ أن يسبُر العلاقَةَ النفسيّة، ويريد ويريد، ويتشاوَرَان في تأثيثِ المسكَن، أو المشترياتِ للزواج، إلى غيرِ ذلك من هذه العِلَل الواهية، فهذا من تزيينِ الشيطان وتحسينِه الباطلَ لبعضِ ضُعفاءِ الإيمان. فلا يخدعنَّك - أختي المسلمة - ممارِسٌ في الشّرِّ، ومتردِّد في الفسادِ، وساعٍ في الشرّ والبلاء، إن تقدَّم خاطبًا نظَر، وتكفيه النظرةُ الأولى، وأما الأحاديثُ ومبادلَة الأحاديث فذا أمرٌ ينبغي إغلاقُ بابِه إلاَّ بعد العقدِ الشرعيّ الذي يستبيح به المرأةَ المسلمة.
أيّتها المرأةُ المسلمة، كم من شبابٍ خدَعوا بعضَ الفتيات، وغرّروا ببعضِ الفتيات، وتجرَّؤوا على بعض الفتيات، حتّى حمَلهم ذلك الباطلُ على التقاطِ صورٍ لتلك الفتاة وهي تحادِثُ هذا الرجل وتلتقي به، ثمّ يجعلها وسائلَ ضغطٍ على هذهِ الفَتاةِ ليقتَنِصَها ويدمِّر أخلاقَها وفضائلها.(54/4)
فيا أختي المسلمة، احذَري من هذا الضَّربِ من الناس، وأغلِقِي بابَ الاتصال، واجعلي الأمرَ يأخُذ قنواتِه المعروفةَ، ويأخُذ طُرُقَه الشرعيّة، أمّا اتصالاتٌ ولقاءاتٌ مشبوهَة.. فإنّ ذلك خداعٌ لك من أولئك القوم؛ لأنّ بعضَهم لا يهدِف من ذلك سوى الإفساد، هو فاسِد في نفسِه فيريد أن ينقُلَ الفسادَ والشرَّ إلى غيره، ويفرَح مع عُشَراء السّوء بإفسادِ فتَياتِ المسلمين، وإيقاعهنّ في البلاء حتى يقضِيَ غَرضَه المحرَّم بأسباب هذه الاتّصالاتِ المشبوهَة.
أختي المسلِمَة، أخي المسلِم، لا بدَّ من تقوَى اللَّه للجميع، وأن نكونَ صادقين في إخبارِنا، فإن تكن صادِقًا فقدِّم الخِطبةَ لأبي المرأة، واجعَل حَديثَك مع وليِّ أمرها، وابتعِد عن هذه اللقاءاتِ والأحاديث المشبوهَة، فبإمكانِك عقدُ الزّواج وتعجيل الدخولِ؛ فتكون على طريقةٍ واضحةٍ، ومنهَج سليم، بعيدٍ عن الحرام قليلِه وكثيرِه.
أيّتها المسلمة، لا بُدَّ من تَقوى الله ومراقبتِه، لا بدّ من أخذِ الحيطة والحذر من بعضِ أولئك الفاسقين الفاسِدين، أن لا نمكِّنَ لَهم الأمرَ، وأن نَحُولَ بينهم وبين إجرامِهم، وأن نردَعَهم ونوقِفهم عند حدِّهم، فوليُّ الفتاةِ المسلمة يجِب أن يُشعِرَها بعد الخِطبة أنّ هذا الخاطبَ لا يزال أجنبيًّا عنها إلى أن يَتِمَّ العقدُ الشرعيّ، وأنَّ اتّصالَها به، واتّصالَه بها، والتحدُّثَ بينهما لا يؤدِّي إلى نتائجَ طيّبة.(54/5)
أخي المسلم، أختي المسلمة، كم مِن محادَثةٍ أفسدت حتَّى الخِطبة، وجَلَبت على المرأةِ وأوليائِها العار! وكم محادَثةٍ جَلبَت المصائبَ والبلايا! أقوامٌ هم فاسِدون في أنفسِهم، متمرِّسون في الفساد، مجرِّبون لطُرُق الغواية والإفسادِ والإضلال، فيأخُذ بالهاتِف هذه الفتاةَ بأسلوبٍ معسول، ثم يقلِب المِجنَّ عليها ويبتعِد عنها، وربما تعلَّق قلبُها به، فأصابها ما أصابها. إذًا فلا تعطِي الانقيادَ إلى أولئك، ودعُوا الأمورَ الشرعيَّة تأخُذ مَجراها، بعدَ العقدِ الشرعيِّ يبادَر بالدخول حتى تُغلَق أسباب الشرّ، ويحرِص المسلم على الامتناع عن الشرّ والفساد، ويكون زواجُه زواجًا شرعيًّا قائمًا على أسسٍ ثابتة، بعيدًا عن هذه الغواياتِ والتضليل.
فلتتَّقي اللهَ الفتاةُ المسلمة في نفسها، وليتّقِ اللهَ الشابُّ المسلم في نفسه، وليتّقِ الله أولياءُ الرجل وأولياء المرأة، ولتكن البيوتُ مبنيّةً على زواجٍ شرعيّ بعيدٍ عن هذه التّرّهات، وعن هذهِ الخداعات والأباطيل. أسأل اللهَ أن يوفِّق الجميع لما يُحبّه ويرضاه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33].
بارَك الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآياتِ والذكر الحكيم، أقول قولي هذَا، وأستغفر اللهَ العظيمَ الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبُّ ربنا ويرضَى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمَّدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبِه، وسلّم تَسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدِّين.
أمّا بعد: فيَأيُّها الناس، اتقوا الله - تعالى - حقَّ التّقوَى.(54/6)
عبادَ الله، إنَّ هُناك فِئةً من الأزواجِ - هدانا الله وإياهم - طِباعُهم سيِّئة وماضيهم سيِّئ، وقد تردَّدوا في الفسادِ وطرُقه؛ لهذا تَرَى بعضَهم عندما يخطب الفتاةَ ويدخل بها، يحاوِل فتحَ ملفٍّ عن الماضي؛ فيقول لها: أخبريني عن ماضيكِ السابِق؛ ماذا حصل؟ التقيتِ بمَنْ؟ ماذا عملتِ؟ مَنِ الصاحب؟ مَنِ الصديقة؟ إلى آخره، ويبني على هذا الشكوكَ في المرأةِ، وكراهيتها، وربما أضرَّ بها.
يا أخي المسلم، ما مضى من ماضٍ فلستَ مسؤولاً عنه، وفتحُ الماضي والتحدُّث عن الماضِي لستَ مسؤولاً عنه، أنتَ مسؤولٌ عن المرأةِ مِن أوّل يومٍ انتقلتْ إليك وخلوتَ بها، فالماضي بما مضى لستَ مسؤولاً عنه، ومحاولةُ إرغامُ المرأة على أنْ تتحدَّثَ، وربَّما يحمِلها على الكذب؛ ليتَّخِذ ذلك ذريعةً للإضرارِ بها، أو إيذاءِ أهلها، أوِ استرجاعِ المهرِ من أهلها، ويكون ذا بذاءةٍ في اللسان وفجورٍ في القول، وأضرُّ الناسِ من يُكرمه الناسُ اتّقاءَ شرِّ لسانِه.
يا أخي المسلم، لستَ مسؤولاً عن الماضي، لنَكُن جادّين في إصلاح حاضِرنا ومستقبَلنا إن شاء الله، أمَّا أمورٌ مضَت فإنّ التحدّثَ فيها، ومحاولة البحثِ لا جدوى له، ولا مصلحةَ منه.(54/7)
يا أخي، وُجِد عند بعضِ هؤلاء الأزواجِ مَن يقول لها بعدَ مضيِّ سنين معها: إن لم تخبريني بماضيك فأنت طالق! إلى آخره، ويهدِّدها بالطلاق، لماذا؟! لأنَّ شلّتَه الفاسدة أوحَوْا إليه بأكاذيبَ وأباطيل أرادوا بها التفريقَ بينه وبين امرأته، ربما يكون صدقٌ في شيء، لكن الكذب والباطل هو المسيطِرُ على هذه الآراءِ الخطيرة. كريمُ النَّفسِ طيِّبُ الخلُق يعامِل المرأةَ بالحُسنَى، ويسوسُها السياسةَ الشرعيّة، ويتّقي اللهَ فيها، وأمّا فتحُ بابِ الشكوكِ والوساوسِ والأوهامِ الماضِية، وأنتَ لا تعلم ولا علاقةَ لك به، لكنَّ شيطانًا أراد أن يفرِّقَ بينك وبينَ امرأتِك، فرُبَّما أتى بأمرٍ يصدُق في واحدةٍ ويكذب في مائة؛ ليُفرِّقَ بينك وبين امرأتك، ويُحدثَ شرخًا بينكما، ويهدِمَ البيتَ، ويقضي على الحياةِ الزوجية السعيدة.
فليتَّقِ اللهَ شبابُنا، وليبتعِدوا عن هذه التّرّهات، وليستقيموا على الطَّاعة، وكلُّ ظنونٍ وشكوك مبنيّة على غير أساسٍ كلُّها ضلالٌ وخطأ، وكلّها مبنيّة على باطل، واعلَم أن قذفَ المرأة المسلمة بما هي بريئةٌ منه كبيرةٌ من كبائرِ الذنوب؛ {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 4 - 5].
أخِي المسلم، شلَل الفسادِ وعُشَراء الباطل احذرهم على نفسِك، واحذرهم على أهلِك وولدك، احذَرهم أن يدمِّروا منزلَك، احذرهم أن يفرِّقوا أسرتك؛ لأنهم قومٌ لا خلاقَ لهم، يحبّون الفسادَ والإفساد، ولا تهنأ نفوسُهم إلاَّ إذا فرَّقوا بين الرجل وبين امرأتِه، وربما يتَّخذونها وسائلَ ضغط على تلك المرأة؛ ليوقِعوها في شَبَكات الفسادِ والعُهر والعياذ بالله.(54/8)
فلنتّقِ الله في أنفسنا، وفي عوراتِ المسلمين عمومًا، وأن لا نسعَى بالفساد والإفساد، فلَعَنَ الله من خبَّب امرأةً على زوجها! فمَنْ أفسَدَ الحياةَ الزوجية بالأكاذيب والأباطيل؛ فإنّه مستحقٌّ للعنة الله؛ لأنه شيطان من الشياطين لا خيرَ فيه، إذِ المؤمِنُ يسعَى في الخير جُهدَه، ويسعى في التأليف {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء: 128]، أمّا أولئك الهادِمون للبيوتِ، المفرِّقون بين الأزواج، هؤلاء فِئةٌ ماردة، وفئة فاسِدة.
أسأل الله أن يردَّ ضالَّ المسلمين للهداية، وأن يوفِّقَنا وإياكم لصالح القول والعمل، ويجنّبَنا وإياكم طريق الزّلل، إنه على كلّ شيء قدير.
واعلموا - رحِمكُم اللَّه - أنّ أحسنَ الحديث كتاب الله، وخيرَ الهدي هدي محمّد صلى الله عليه وسلم، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعةٍ ضلالة، وعليكم بجماعةِ المسلمين، فإنّ يدَ الله على الجماعة، ومن شذَّ شذَّ في النار.
وصلُّوا - رحمكم الله - على نبيّكم محمّد - صلى الله عليه وسلم - كما أمركم بذلك ربّكم، قال - تعالى -: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56].
اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدِك ورسولِك محمّد، وارضَ اللهمّ عن خلفائه الراشدين.
---
[1] أخرجه أحمد (4/244)، والترمذي في النكاح (1087)، والنسائي في النكاح (3235)، وابن ماجه في النكاح (1688) نحوه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن"، وصححه ابن الجارود (675)، وابن حبان (4043)، وهو مخرَّج في "السلسلة الصحيحة" (96).
[2] أخرجه مسلم في النكاح (1424) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - نحوه.(54/9)
[3] أخرجه ابن أبي شيبة (4/21)، وأحمد (3/334)، وأبو داود في النكاح (2082) عن جابر بن عبدالله - رضي الله عنهما – قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا خطب أحدكم المرأةَ، فإن استطاع أن ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل))، وصحَّحه الحاكم (2696)، وحسن إسناده ابن حجر في "الفتح" (9/181)، والألباني في "الإرواء" (1791).
[4] أخرجه أحمد (1/18)، والترمذي في الفتن (2165)، والنسائي في الكبرى (9219) من حديث عمر - رضي الله عنه - نحوه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه"، وصححه ابن حبان (5586)، والحاكم (387)، والضياء في "المختارة" (98)، والذهبي في "السير" (7/102، 103)، وهو في "صحيح سنن الترمذي" (1758).
[5] أخرجه البخاري في النكاح (5232)، ومسلم في السلام (2172) عن عقبة بن عامر رضي الله عنه.
[6] روى البخاري في الجمعة (1088)، ومسلم في الحج (1339) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا يحلّ لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر مسيرةَ يوم إلا مع ذي محرم)).(54/10)
العنوان: أخطاء يرتكبها الصائمون
رقم المقالة: 1185
صاحب المقالة: نادر بن حمد المزيني
-----------------------------------------
هناك الكثير من الأخطاء التي يرتكبها بعض الصائمين، مخالفين في ذلك ما ورد في كتاب الله - عز وجل -، أو صح من سنة المصطفى - صلوات الله وسلامه عليه -، ونحن إذ نبين بعضًا من هذه الأخطاء، همُّنا أن يعود المسلمون إلى الهدي الصحيح، والمسار السليم في حياتهم. والسعيد مَن وُعظ فاتعظ، ونُبِّه فانتبه. فما من خير إلا وديننا يأمر به، ولا من شر في العاجل أو في الآجل إلا وينهى عنه.
ومن هذه الأخطاء التي يرتكبها الصائمون ما يلي:
1 - استقبال هذا الشهر الكريم شهرِ رمضان باللهو والطرب والمعازف والأغاني بدلاً من ذكر الله، وشكره أن بلَّغهم هذا الشهر الكريم، وبدلاً من اتباع ما ورد عن نبي الهدى والرحمة أنه كان يستقبل هلال رمضان بقوله: ((اللَّهُمَّ أَهِلَّهُ عَلَيْنَا بِالأَمْنِ وَالإِيمَانِ، وَالسَّلاَمَةِ وَالإِسْلاَمِ، رَبِّي وَرَبُّكَ اللهُ، هِلاَلَ رُشْدٍ وَخَيْرٍ))؛ رواه الترمذي وقال حديث حسن.
2 - اعتقاد البعض أن شهر رمضان فرصةٌ للنوم والكسل في النهار، والسهر في الليل، وفي الغالب يكون هذا السهر على ما يغضب الله عز وجل.
3 - استياء البعض من دخول شهر رمضان؛ لأنهم يرون فيه حرمانًا من ممارسة شهواتهم؛ فيصومونه مجاراة للناس، ويفضلون الأشهر الأخرى عليه، مع أن شهر رمضان يعتبر موسمًا من مواسم الخير والفضل والرحمة والمغفرة والعتق من النار للمسلمين.
4 - تعجيل السحور، وتأخير الفطور، وهذا خلاف هدي المصطفى - صلى الله عليه وسلم – في السحور وأمره بتأخيره؛ لأن تقديمه كما يفعل بعض الناس؛ يؤدي إلى عدم حضور الفجر مع الجماعة؛ لأنه سينام بعده.(55/1)
5 - ترك الصلاة أو تأخيرها عن وقتها، حيث إن بعض الصائمين يضيع نهاره في النوم، وليله في السهر. وقد كان السلف يهتمون بالصلاة اهتمامًا عظيمًا؛ فلا تفوتهم مع الجماعة في رمضان وفي غيره، لكنهم يجتهدون في نهار رمضان وليله أكثر من غيره من الشهور، ويعتبرونه موسم ربح، يتسابقون فيه إلى كل ما يقربهم من ربهم.
6 - التحرز من المفطِّرات الحسية كالأكل والشرب والجماع، فتجد البعض يهتم بتلك الأمور اهتمامًا عظيمًا، ولكنه لا يتحرز من المفطِّرات المعنوية؛ كالغِيبة والنميمة والكذب والسباب والشتم ومشاهدة النساء، اللاتي يحرم النظر إليهن، سواء في الشوارع أو في المحلات التجارية أو المجلات أو الأفلام أو غير ذلك. فيجب على كل إنسان أن يهتم بأمر هذه المفطِّرات؛ فرُبَّ صائمٍ ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش، وربَّ قائمٍ ليس له من قيامه إلا التعب والسهر، يقول - صلى الله عليه وسلم -: ((مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ للهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ))؛ رواه البخاري.(55/2)
7 - ترك صلاة التراويح، فالكثير من المسلمين لا يؤديها، وربما أدى منها ركعتين أو أربعًا، وحجَّتُه في ذلك أنها سُنَّة. ونحن نقول نَعَمْ هي سنة من سنن المصطفى - صلى الله عليه وسلم -؛ فقد كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يحافظ عليها، وهي لا تتجاوز ثلاثين مرة في السنة كلها، وهي تقرب إلى الله - عز وجل -، وتوجب محبته ففي الحديث: ((وَلاَ يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِه،ِ وَبَصَرهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ)). وإنَّ ترْكَها لَيعتبر من الحرمان العظيم، نعوذ بالله من ذلك! وربما وافق ليلة القدر، التي هي خير من عبادة ألف شهر؛ فغُفر له ما تقدم من ذنبه، والسنن شُرعت لسد النقص في الفرائض، والقليل مِن المسلمين مَن يؤدي فريضته كاملة.
8 - الإسراف في المأكولات والمشروبات في رمضان، فالصوم لم يشرع إلا لحكمة عظيمة، وفوائد نافعة تعود على الإنسان في دنياه وآخرته. فإذا صام الإنسان في النهار، وأخذ يملأ معدته من أنواع الأطعمة والأشربة في الليل؛ فإنه لم يتغير في وضعه شيئًا، فالطعام الذي كان يأكله نهارًا صار يأكله ليلاً، بل أزيد منه بكثير، ومعلوم أن الشبع الكثير يوهن البدن، ويضعف القُوى، ويثقل النفس؛ فتثقل عليها العبادات، وهذا أمر مشاهد، فالذين يتناولون طعام العشاء بعد صلاة المغرب، تجد أنهم يؤدون صلاة التراويح بتعب ومشقة، وربما عجزوا عن إتمامها، أما الذين يتناولون شيئًا قليلاً عند أذان المغرب، فإنهم يؤدون التراويح براحة تامة.
9 - إنشاء الأسفار من أجل الفطر، وفي هذا تحايل على ترك العبادات، بل إن العلماء قالوا: إن مَن سافر من أجل الفطر؛ فإنه يحرم عليه السفر والفطر.(55/3)
عدم التواصل بين الأقارب والجيران في رمضان، فعلى كل مسلم أن يصل أقاربه وجيرانه ويتفقد أحوالهم؛ فإن كانوا محتاجين، فعليه مساعدتهم إن كان يستطيع ذلك، وإن لم يستطع فيبحث لهم عمَّن يستطيع مساعدتهم. فبالتواصل تتآلف القلوب، وتتوحد الكلمة، وتنتشر المحبة والإخاء بين المسلمين.
10 - أن بعض الموظفين يقلُّ عطاؤهم في رمضان؛ فتتعطل عنده المعاملات، بحجة الصوم، بل إن البعض يترك الأعمال المكلَّف بها؛ ليقرأ القرآن، وهذا من الخطأ؛ لأن قراءة القرآن سُنة، والعمل المكلَّف به الإنسان واجبٌ، فكيف يقدم ما هو سنة على ما هو واجب؟ مع أن هناك أوقاتًا كثيرة غير وقت العمل يمكن للإنسان أن يقرأ فيها القرآن. لكن بعض الموظفين لا يتذكر قراءة القرآن إلا في وقت العمل!! نسأل الله - عز وجل - أن يوفق المسلمين لتدارك أخطائهم؛ إنه سميع مجيب.(55/4)