ومنهم الحافظ أبو محمد بن علي البغدادي نزيل مكة حرسها الله، فإني شاهدت نسخة لكتاب (الإبانة) بخطه من أوله إلى آخره، وفي آخره بخطه ما تقدّم ذكره آنفًا، وهي بيد شيخنا الإمام رئيس العلماء الفقيه الحافظ العلامة أبي الحسن علي بن المفضل المقدسي، ونسخت منها نسخة وقابلتها عليها بعد أن كنت كتبت نسخة أخرى مما وجدته في كتاب الإمام نصر المقدسي ببيت المقدس حرسه الله، ولقد عرضها بعض أصحابنا على عظيم من عظماء الجهمية المنتمين افتراءً إلى أبي الحسن الأشعري ببيت المقدس، فأنكرها وجحدها، وقال: ما سمعنا بها قط، ولاهي من تصنيفه، واجتهد آخرًا في إعمال روايته ليزيل الشبهة فطنته، فقال بعد التحريك – تحريك لحيته -: لعله ألفها لما كان حشويًا، فما دريت من أي أمريه أعجب؟ أمن جهله بالكتاب مع شهرته وكثرة من ذكره في التصانيف مع العلماء، أو من جهله لحال شيخه الذي يفتري عليه بانتمائه إليه واشتهاره قبل توبته بالاعتزال بين الأمة عالمها وجاهلها؟ وشبهت لعزة [أمره] في ذلك بحكاية:
أنبأناها الإمام أبو طاهر أحمد بن محمد السلفي الحافظ رحمه الله قال:
فإذا كانوا بحال من ينتمون إليه بهذه المثابة يكونون بحال السلف الماضي وأئمة الدين من الصحابة والتابعين وأعلام الفقهاء والمحدثين، وهم لا يلوون على كتبهم ولا ينظرون في آثارهم، وهم والله بذلك أجهل وأجهل، كيف لا [و] قد قنع أحدهم بكتاب ألفه الجهمية بعض من ينتمي إلى أبي الحسن بمجرد دعواه، وهو في الحقيقة مخالفة لمقالة أبي الحسن التي رجع إليها واعتمد في تدينه عليها، قد ذهب صاحب [ذلك] التأليف إلى المقالة الأولى وكان خلال ذلك أحرى به وأولى، لتستمر القاعدة وتصير الكلمة واحدة.
والحمد لله رب العالمين وهو حسبنا ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين.(1/11)
سلسلة بحوث وتحقيقات مختارة من مجلة الحكمة (17)
الشيخ سعد المزْعِل
[المقدمة]
هذه هي القصيدة الميمية للإمام ابن القيم رحمه الله تعالى، وهي مطبوعة مع مجموعة قصائد بعنوان: مجموعة القصائد المفيدة، قمت بوضع شرح يسير مختصر لها، وذكرت معاني بعض المفردات التي تحتاج إلى بيان.
وبعد الشروع بالعمل وقفت على كتاب بعنوان (الرحلة إلى بلاد الأشواق شرح القصيدة الميمية)، عرض وتحليل مصطفى عراقي. وقد جاء في هذا الكتاب أبيات زائدة على ما في الكتاب المطبوع الذي اعتمدته، ولكي تكمل الفائدة ويعم النفع رأيت أن أذكر الأبيات الزائدة وأدمجها مع القصيدة.
وأسأل الله العلي القدير أن يوفقني للصواب، وأن يجنبني الزلل، وأن يجعل جميع أعمالي خالصة لوجهه، وأن يتقبلها إنه أكرم من سُئِل.
ترجمة الإمام ابن القيم(1)
1- اسمه ونسبه:
العلامة شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد بن حريز الزُّرعي، ثم الدمشقي، الفقيه الحنبلي.
2- ولادته:
ولد في دمشق سنة إحدى وتسعين وستمائة للهجرة.
3- كنيته:
اشتهر بلقبه (ابن القيم) أو (ابن قيم الجوزية)، أو (إمام الجوزية).
__________
(1) انظر ترجمته في: البداية والنهاية لابن كثير: 14/246، والدرر الكامنة لابن حجر: 3/400، وشذرات الذهب لابن رجب الحنبلي: 6/168، والبر الطالع للشوكاني: 2/143، ومعجم المؤلفين لعمر كحالة: 9/106، وجلاء العينين للآلوسي: ص44، ومذيل طبقات الحنابلة لابن رجب: 4/447، والأعلام للزركلي 6/56. وللمزيد انظر: الوافي بالوفيات للصفدي، وبغية الوعاة للسيوطي، والنجوم الزاهرة لابن تغري بردي، وهدية العارفين للبغدادي، والزيارات للعدوي، وكشف الظنون لحاجي خليفة، وإيضاح المكنون للبغدادي، والمجددون في الإسلام للصعيدي، وابن قيم الجوزية لعبد العظيم عبد السلام، وفهرس مخطوطات الظاهرية ليوسف العش، وفهرس الخديوي، والتيمورية، وآداب اللغة، والمنهج الأحمد، ومعجم المطبوعات.(1/1)
ونسبته إلى الجوزية ترجع إلى أن والده كان قيَّمًا على تلك المدرسة.
والقيِّم: الذي يقيم الأمر ويصلحه ويرعاه ويجعله مستقيمًا. فأبو الإمام كان يدير شؤون المدرسة التي اسمها الجوزية؛ فنسب إليها بابن قيم الجوزية.
المدرسة الجوزية:
يقول الحافظ ابن كثير: إن محي الدين يوسف بن عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي، هو الذي ابتنى هذه المدرسة بالنشابين بدمشق وأوقف لها(1).
أوقف لها يعني: خصص بعض العقارات وغيرها مما يدرَّ من الأموال، لكي ينتفع القائمون عليها، ولإصلاح شأن المدرسة وتأمين حوائجها.
4- شيوخه:
نشأ ابن القيم رحمه الله تعالى، في زمن يزخر بالعلماء البارزين.
ونشأ كذلك في بيت علم، فقد كان أبوه من فقهاء الحنابلة المشهورين، وكان له في الفرائض يدًا، فأخذها عنه.
وسمع على التقي سليمان، وأبي بكر بن عبد الدائم، والمطعَّم، وابن الشيرازي، وإسماعيل بن مكتوم.
وقرأ العربية ابن أبي الفتح، والمجد التونسي.
وقرأ الفقه على المجد الحراني، وابن تيمية. وقرأ في الأصول على الصفي الهندي(2). وسمع من الشهاب النابلسي وغيره(3).
ولما عاد الشيخ ابن تيمية من الديار المصرية في سنة 712هـ لازمه إلى أن مات الشيخ رحمه الله، فأخذ عنه علمًا جمًّا(4)، وسمع من فاطمة بنت جوهر(5).
5- علمه:
قال ابن كثير: برع في علوم متعددة لا سيما علم التفسير والحديث، ولازم ابن تيمية إلى أن مات الشيخ، فأخذ عنه علمًا جمًّا –مع ما سلف له من الاشتغال- فصار فريدًا في بابه في فنون كثيرة، مع كثرة الطلب ليلًا ونهارًا وكثرة الابتهال(6).
__________
(1) البداية والنهاية: 13/33.
(2) الدرر الكامنة: 3/400، 401.
(3) شذرات الذهب: 6/186.
(4) البداية والنهاية: 14/246.
(5) ذيل طبقات الحنابلة: 2/447.
(6) البداية والنهاية: 14/246.(1/2)
قال ابن رجب: شيخنا الفقيه الأصولي المفسر النحوي العارف، تفقه في المذهب وبرع وأفتى. وكان عارفًا بالتفسير لا يجاري فيه وبأصول الدين وإليه فيها المنتهى، والحديث ومعانبه وفقهه ودقائق الاستنباط منه؛ لا يُلحق في ذلك. وبالفقه وأصوله، وبالعربية، وله في اليد الطولى. قال القاضي برهان الدين الزرعي: ما تحت أديم السماء(1) أوسع علمًا منه.
وقال ابن كثير: وبالجملة كان قليل النظير في مجموعه وأموره وأحواله(2).
قال ابن رجب: ولا رأيت أوسع منه علمًا، ولا أَعْرَف بمعاني القرآن والسنة وحقائق الإيمان منه، وليس هو المعصوم؛ ولكن لم أرَ في معناه مثله(3).
6- خلقه:
قال ابن كثير: كان حسن القراءة، والخلق، كثير التودد، لا يَحسُدُ أحدًا ولا يؤذيه ولا يستعيبه، ولا يحقد على أحد. وكنت من أصحب الناس له وأحب الناس إليه(4).
7- عبادته:
قال ابن رجب: وكان رحمه الله ذا عبادة وتهجد وطول صلاة إلى الغاية القصوى، وتأله ولهج بالذكر وشغف بالمحبة والإنابة والاستغفار والافتقار إلى الله والانكسار له، والاطراح بين يديه على عتبة عبوديته؛ لم أشاهد مثله في ذلك. وكان في مدة حبسه مشتغلًا بتلاوة القرآن –بالتدبر والتفكر- ففتح عليه من ذلك خير كثير(5).
قال ابن كثير: كان كثير الابتهال، وذكر كلامًا، ثم قال: ولا أعرف في هذا العالم في زماننا أكثر عبادة منه. وكانت له طريقة في الصلاة؛ يطيلها جدًّا ويمد ركوعها وسجودها. ويلومه كثير من أصحابه في بعض الأحيان، فلا يرجع ولا ينزع عن ذلك، رحمه الله(6).
__________
(1) ذيل طبقات الحنابلة: 2/448 – 449.
(2) البداية والنهاية: 14/246.
(3) ذيل طبقات الحنابلة: 2/448.
(4) البداية والنهاية: 14/246.
(5) ذيل طبقات الحنابلة: 2/448.
(6) البداية والنهاية: 14/246.(1/3)
قال الحافظ: وكان إذا صلى الصبح جلس مكانه يذكر الله حتى يتعالى النهار، ويقول هذه غدوتي لو لم أقعدها سقطت قواي. وكان يقول: بالصبر والفقر ينال الإمامة في الدين. وكان يقول: لابد للسالك من همة تسيره وترقيه, وعلم يبصره ويهديه(1).
وقال ابن رجب: وحج مرات كثيرة, وجاور بمكة, وكان أهل مكة يذكرون عنه من شدة العبادة وكثرة الطواف أمرًا يتعجب منه(2).
8- محنته:
ليس غريبًا أن يتعرض ابن القيم, رحمه الله, إلى بعض الإهانات من السفهاء أو السجن أو الضرب أو غير ذلك من الابتلاءات؛ فهذا هو حال كل داعية حق, وهذا هو سبيل الأنبياء والصالحين. فأي إنسان يقوم ليحمل أعباء الدعوة إلى الله سبحانه, والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, والوقوف في وجه عادات الناس المخالفة للإسلام؛ لابد وأن يضع في حسابه أنه سوف يأتيه ما لا يحب. وهذا ما حدث للإمام, رحمه الله, فقد كان بصدع بما يرى أنه الحق؛ فيُهان أو يسجن. ويفتي بما يرى أنه الحق؛ فيضرب تارة أو يسجن أخرى.
قال الذهبي في المختصر: وقد حبس مدة لإنكاره شد الرحال إلى قبر الخليل. قلت (يعني ابن رجب): وقد امتحن وأوذي مرات, وحبس مع الشيخ تقي الدين في المرة الأخيرة بالقلعة, منفردًا عنه, ولم يفرج عنه إلا بعد موت الشيخ(3).
قال الحافظ: اعتقل مع بن تيمية بالقلعة بعد أن أهين وطيف به على جمل مضروبًا بالدرة, فلما مات ابن تيمية أفرج عنه, وامتحن مرة أخرى بسبب فتاوى ابن تيمية(4).
قال ابن كثير: وقد كان متصديًا للإفتاء بمسألة الطلاق التي اختارها الشيخ تقي الدين بن تيمية, وجرت بسببها فصول يطول بسطها مع قاضي القضاة تقي الدين السبكي وغيره(5).
__________
(1) الدرر الكامنة: 3/401.
(2) ذيل طبقات الحنابلة: 2/448.
(3) ذيل طبقات الحنابلة: 2/448.
(4) البدر الطالع: 3/401.
(5) البداية والنهاية: 14/246 – 247.(1/4)
والمقصود بمسألة الطلاق: أن الذي يطلق زوجته ثلاث تطليقات بلفظ واحد؛ هل يحسب عليه طلقة واحدة أم ثلاث؟ الذي يذهب إليه ابن تيمية – وكذلك تلميذه ابن القيم – أنها تقع طلقة واحدة؛ تبعًا للنص الوارد في هذه المسألة, وقد سبقهم إليها جمع من الصحابة والتابعين ومن بعدهم, وعمدتهم ما روى مسلم: (1473), عن بن عباس رضي الله عنهما: قال: كان الطلاق على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة, وانظر مزيدًا من البسط في (مجموع الفتاوى), وانظر (جلاء العينين في محاكمة الأحمدين للآلوسي) ص268 وما بعدها.
9- مؤلفاته:
قال ابن كثير: له من التصانيف الكبار والصغار شيء كثير, وكتب بخطه الحسن شيئًا كثيرًا, واقتنى من الكتب ما لا يتهيأ لغيره تحصيل عشره من كتب السلف والخلف(1).
قال ابن رجب: وصنف تصانيف كثيرة جدًا في أنواع العلم. وكان شديد المحبة للعلم و وكتابته و ومطالعته وتصنيفه, واقتناء الكتب(2).
قال الحافظ ابن حجر: وكل تصانيفه مرغوب فيها بين الطوائف. وهو طويل النفس فيها؛ يتعانى الإيضاح جهده؛ فيسهب جدًا. وكان مغرى بجمع الكتب؛ فحصل منها ما لا يحصر , حتى كان أولاده يبيعون منها بعد موته دهرًا طويلاً, سوى ما اصطفوه منها لأنفسهم(3).
10- من تصانيفه(4):
- روضة لمحبين ونزهة المشتاقين. (مطبوع).
- زاد المعاد في هدي خير العباد. (مطبوع بتحقيق شعيب أرناءوط في 5 أجزاء).
- إعلام الموقعين عن رب العالمين. (مطبوع في 4 أجزاء).
- تهذيب سنن أبي داود. (مطبوع مع مختصر الحافظ النذري وشرح معالم السنن للخطابي).
- الجيوش الإسلامية عل حرب المعطلة والجهمية. (مطبوع بتحقيق الدكتور عواد عبد الله المتق).
__________
(1) البداية والنهاية: 14/246.
(2) ذيل طبقات الحنابلة: 2/449.
(3) الدرر الكامنة: 3/402.
(4) ما بين القوسين ( ) إضافة من المجلة إتمامًا للفائدة واخترنا من التحقيقات أجودها.(1/5)
- الطرق الحكمية في السياسة الشرعية. (ويسمى الفراسة وقد طبع مرارًا ويقوم الشيخ مشهور حسن بتحقيقه).
- شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل. (مطبوع).
- كشف الغطاء عن حكم سماع الغناء. (طبع باسم الكلام على مسألة السماع بتحقيق راشد عبد العزيز).
_ أحكام أهل الذمة. (مطبوع في مجلدين بتحقيق صبحي الصالح رحمه الله).
- شرح الشروط العمرية. (لا نعلم عنه شيئًا ولعله الذي سبق).
- تحفة المودود بأحكام المولود. (مطبوع).
- مفتاح دار السعادة. (مطبوع مرارًا وحققه قريبًا الشيخ علي حسن الحلبي).
- شرح الشروط العمرية. (لا نعلم عنه شيئًا ولعله الذي سبق).
- تحفة المودود بأحكام المولود. (مطبوع).
- مفتاح دار السعادة. (مطبوع مرارًا وحققه قريبًا الشيخ علي حسن الحلبي).
- الصواعق المرسلة على الجمهية والمعطلة. (طبع المختصر وطبع قطعة منه بتحقيق في أربعة مجلدات).
- الكافية الشافية. (وتسمى القصيدة النونية طبعت مرارًا ولها شروح عدة).
- مدارج السالكين. (طبع بتحقيق محمد حامد الفقي في ثلاث مجلدات).
- رسالة في اختيارات تقي الدين ابن تيمية. (هذه لابنه وهي رسالة صغيرة مطبوعة).
- الفروسية. (طبعت مرارًا وأجودها ما حققه الشيخ مشهور حسن لسلمان).
- طب القلوب. (ادعى لويس معلوف أنه في برلين مخطوط على ما نقله الزركلي في الأعلام).
- الوابل الصيب من الكلام الطيب. (طبع مرارًا وبعدة تحقيقات).
- الروح. (مطبوع بتحقيق الدكتور بسام علي سلامة).
- الفوائد. (مطبوع وأجودها ما طبعته دار النفائس).
- حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح. (مطبوع بتحقيق عبد اللطيف أل محمد الفواغير).
- إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان. (مطبوع بتحقيق محمد عفيفي).
- الجواب الكافي. (مطبوع بتحقيق محمد عبد الرزاق الرعود).
- التبيان في أقسام القرآن. (مطبوع بتحقيق نبيل بن منصور بصارة).(1/6)
- طريق الهجرتين أو (طريق السعادتين) أو (سفر الهجرتين وباب السعادتين). (مطبوع بتحقيق عمر محمود).
- عدة الصابرين. (مطبوع).
- هداية الحيارى. (مطبوع).
- تفسير المعوذتين. (هذا جزء من كتاب بدائع الفوائد طبع مستقلًّا بعد تحقيقات).
- التفسير القيم. (هذا ليس تأليفًا وإنما جمع الشيخ ادريس الندوي من تفسير الإمام).
- بدائع الفوائد. (مطبوع).
- جلاء الأفهام في الصلاة والسلام على خير الأنام. (مطبوع بتحقيق شعيب ارناؤوط).
- رفع اليدين في الصلاة. (يوجد وخطوط في مكتبة السعودية بالرياض مخروم الأول في 161 ورقة).
- عقد محكم الأحقاء بين الكلم الطيب والعمل الصالح المرفوع إلى رب السماء. (لعله الوابل الصيب أو كتاب آخر).
- شرح أسماء الكتاب العزيز. (لا نعلم عنه شيئًا).
- بيان الدليل على استغناء المسابقة عن التحليل. (لا نعلم عنه شيئًا).
- نقد المنقول والمحك المميز بين المردود والمقبول. (طبع الكتاب بهذا الاسم وباسم المنار المنيف بتحقيق عبد الفتاح أبو غدة).
- نكاح المحرم. (لا نعلم عنه شيئًا).
- تفضيل مكة على المدينة. (لا نعلم عنه شيئًا).
- فضل العلم. (لا نعلم عنه شيئًا).
- حكم تارك الصلاة. (طبع باسم الصلاة وحكم تاركها).
- نور المؤمن وحياته. (لا نعلم عنه شيئًا).
- حكم إغمام هلال رمضان. (لا نعلم عنه شيئًا).
- التحرير فيما يحل ويحرم من لباس الحرير. (لا نعلم شيئًا).
- إغاثة اللهفان في طلاق الغضبان. (طبع بتحقيق العلامة جمال الدين القاسمي رحمه الله).
- جوابات عابدي الصلبان وأن ما هم عليه دين الشيطان. (لا نعلم عنه شيئًا).
- بطلان الكيمياء من أربعين وجهًا. (لا نعلم عنه شيئًا).
- الفرق بين الخلة والمحبة ومناظرة الخليل لقومه. (لا نعلم عنه شيئًا).
- الفتح القدسي والتحفة المكية. (لا نعلم عنه شيئًا).
- أمثال القرآن. (طبع كرسالة وهو جزء من كتاب أعلام المؤمنين).
- شرح الأسماء الحسنى. (لا نعلم عنه شيئًا).(1/7)
- أقسام القرآن.
- المسائل الطرابلسية. (لا نعلم عنه شيئًا).
- الصراط المستقيم في أحكام أهل الجحيم. (لا نعلم عنه شيئًا).
- الطاعون. (لا نعلم عنه شيئًا).
- الكبائر. (لا نعلم عنه شيئًا).
للمؤلف مصنفان آخرين لم يذكرهما الشيخ سعد نذكرها:
1- الرسالة التبوكية مطبوعة.
2- رسالة أحد إخوانه. (مطبوع عدة مرات).
القَصيدَة
1- ... إذا طلعَتْ شَمْسُ النَّهَار
فإنَّهَا أمَارَةُ تَسْلِيمي عَلَيْكُمْ فسَلموا(1)
يقول رحمه الله تعالى: في بداية كل يوم، وفي وقت الصباح، فإني أسلم عليكم، وعلامة هذا التسليم هو شروق الشمس. فعليكم أنتم أن تردوا عليَّ السلام؛ لأن وقت شروق الشمس هو وقت تسليمي عليكم.
2- ... سَلامٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فِي كُلِّ سَاعَة
وَرَوْحٌ وَرَيحَانٌ وَفَضْلٌ وَأَنْعُم(2)
وهذا السلام هو من الله سبحانه عليكم في كل وقت، ومع هذا السلام: ريح رائحة الريحان، أو يكون معه الراحة من تعب الدنيا ونصبها مع الريحان ورائحته الطيبة، ومع هذا السلام كذلك زيادة فرح ومسرة.
3- ... عَلى الصَّحْبِ وَالإِخْوَانِ والوِلدِ والألى
رَعَوْهُمْ بإحْسَانٍ فَجَادُوا وَأَنْعَمُوا(3)
الصاحب أخص من الأخ، والأخ أعم. وقد يكون لك أخ ولم تره بعينك. ولكن الصاحب لا بد له من أن يصحبك. يقول المولى جل ذكره: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ } قالوا: أولسنا إخوانك يا رسول الله؟ قال: «أنتم أصحابي، وإخواننا الذين لم يأتوا بعد». رواه مسلم (249)، والبخاري (136) مختصرًا.
وقد تعارف أن القائل إذا أطلق لفظ: الصحابة؛ فالمقصود بهم صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا إذا قيدها؛ كأن يقول: أصحابي، أو أصحابنا، أو أصحاب فلان.
__________
(1) أمارة: الموعد أو الوقت (القاموس المحيط).
(2) رَوح: نسيم الريح.
(3) الألى: الذين (المعجم الوسيط).
جادوا: أجاد: أتى بالجيد، والجواد: السخي (القاموس المحيط).
رعوهم: أحاطوهم وحفظوهم (لسان العرب).(1/8)
أما الوِلد بالكسر: جمع وَلد. فهو يزف هذا السلام من الله إلى الجميع: الأصحاب، والإخوان، والأولاد، وإلى الذين أحاطوهم وحفظوهم، وأحسنوا إليهم وأتوهم بالجيد من القول والفعل، وزادوا عليهم من الإنعام.
4- ... وَسَائِر مَنْ لِلسُّنَّةِ المَحْضَة اقتَفى
وَمَا زَاغَ عَنْهَا فهُوَ حَقٌّ مَقَّدَّمُ(1)
وكذلك سلامه على جميع من تتبع واقتفى بالسنة الخالصة، وهي طريقة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، ومن تبعهم وسار على نهجهم ولم يعدل عنها إلى غيرها؛ فهذا الصنف من الناس هو المقدم على غيره في كل شيء حتى في إلقاء التحية.
5- ... أولئِكَ أتْباعُ النَّبِيِّ وَحِزْبُهُ
وَلولاهُمُ ما كانَ في الأرْض مُسْلمُ
الذين ساروا على السنة الخالصة هم أتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - في الدنيا، وهم الذين يحشرون تحت لوائه يوم القيامة، وهم حزب الله وحزب رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، الذين أثبت الله سبحانه لهم الغلبة في الدنيا والفلاح يوم القيامة. فهم الذين أخذوا العلم، وجدُّوا في تعلمه وإتقانه، وتعليمه إلى مَن بعدهم، فلولاهم لذهب العلم ودرس، وضاع الدين، واختلط الحق بالباطل، وارتد الناس عن الإسلام.
6- ... ولولاهمُ كَادَتْ تَمِيدُ بِأهْلهَا
وَلَكِنْ رَوَاسِيهَا وَأوْتَادُهَا هُمُ(2)
إن هؤلاء الذين تمسكوا بالسنة الخالصة هم الذين بينوا للناس أمور دينهم؛ حتى لا يلتبس عليهم الحلال من الحرام؛ فتضطرب أمورهم، ولكن وجودهم بين الناس كالجبال للأرض، فهم يتصدون لكل حادثة، ويقدمون للناس من الكتاب والسنة ما يصلح لهم معاشهم وحياتهم.
7- ... ولوْلاهُمُ كَانَتْ ظلامًا بأهْلهَا
__________
(1) المحضة: الخالصة التي لم يخالطها غيرها.
زاغ: مال (مختار الصحاح).
(2) كادت: كاد: فعل ناقص يدل على قرب وقوع الخبر (معجم الشوارد النحوية).
تميد: تتحرك وتضطرب. رواسي: الجبال الثوابت الرواسخ.
أوتادها: الوتد: ما غزَّ في الأرض أو الحائط من خشب.(1/9)
وَلَكِنْ هُمُ فِيهَا بُدُورٌ وَأَنْجُمُ
يشبِّه أهل العلم المتبعين للسنة بالقمر الذي اكتمل كيف يزيح الظلام الدامس، وهم أيضًا كالنجوم يستدل بهم إلى معرفة أحكام الشرع، كالذي يسترشد بالنجوم إلى موضعه. فالناس يستنيرون طريقهم ويسترشدون بتوجيهاتهم ونصائحهم.
8- ... أولئِكَ أصْحَابِي فَحَيَّ هَلابِهِمْ
وَحَيَّ هَلا بِالطِّيبينَ وَأنْعِم(1)
أولئك الصنف من الناس الذين ذكرهم سابقًا؛ وهم أتباع السنة المحضة، هم أصحابه، فابدأ بهم بالترحيب والسلام، وعجل بهم، ثم ابدأ وعجل بذكر الطيبين بالفرح والمسرة.
9- ... لِكُلِّ امرُئٍ منْهُمْ سَلامٌ يَخُصُّهُ
يُبَلغُهُ الأدْنى إليْهِ وَيَنْعَمُ
لكل واحد من هؤلاء السابقين سلام من المصنف رحمه الله يخصه بنفسه، وهذا السلام يبلغه له الأدنى منه؛ أي: إن الذي سمع تسليم المصنف يبلغه إلى الأدنى منه، والثاني يبلغه إلى الأدنى منه، وهكذا.
وهذا السلام مصحوب بالترفه والفرح والمسرة.
10- ... فَيَا مُحْسِنًا بِلغْ سَلامِي وَقُلْ لهُمُ
مُحبُّكمُ يَدْعُو لكُمْ وَيُسَلمُ
فيا كل من يريد أن يفعل الفعل الجميل والفعل الحسن، بلغ سلامي إلى أولئك الذين سبقت الإشارة إليهم، وأخبرهم بأن المصنف من الذين يحبكم في الله، ويدعو لكم الله سبحانه بالتوفيق والثبات، ويتمنى لكم كل خير، وهو يسلم عليكم.
11- ... وَيَا لائِمِي فِي حُبِّهِمْ وَوَلائِهِمْ
تَأَمَّلْ هَدَاكَ اللهُ مَنْ هُوَ ألوَمُ(2)
__________
(1) حي هلا: هلم أو أقبل وعجل. حيَّ: بمعنى أعجل، وهلا: معناه حث واستعجال (معجم الشوارد النحوية).
(2) لائمي. اللوم: العذل.(1/10)
يخاطب من يلومه ويعاتبه وينكر عليه لأنه أحب أتباع السنة (المحضة)؛ فيقول له: لو تريثت قليلًا وتمهلت ثم بحثت عن الحق، سوف يتبين لك بعد التحري أن الذي يقع عليه اللوم هو أنت لا أنا؛ لأنني اتبعت سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - القائل: «المتحابون في الله على منابر من نور»، رواه أحمد: (5/237)(1).
فهل يلام من يتبع السنة أم الذي يخالفها هو أحق باللوم؟ وإذا كانت محبة الصالحين والأخيار ذنبًا يُلام عليه؛ إذن تكون محبة الأشرار والفجار خيرًا يسعى إليه. وهذا فاسد لا يخفى على أحد.
12- ... بِأيِّ دَليل أمْ بِأيَّةِ حُجَّةٍ
تَرَى حُبَّهُمْ عَارًا عليَّ وَتَنْقِمُ(2)
يقول: أنت الذي تنقم عليَّ وتكثر في لومي على حب أحبابي، وتظن أن حبهم ارتكاب معصية.
هل فعلك هذا لك فيه برهان أو نص من قرآن أو سنة؟
13- ... وَمَا العَارُ إلا بُغْضُهُمْ وَاجْتِنَابُهُمْ
وَحَبُّ عِدَاهُمْ ذَاكَ عَارٌ وَمَأَثَمُ(3)
العيب كل العيب هو مقتهم واجتنابهم، وتركهم وحب غيرهم ممن ناصبهم العداء؛ لا لسيء إلا لأنهم تمسكوا بدين الله، فحبُ غيرهم هو العار والوقوع في الإثم.
14- ... أمَا وَالذِي شَقَّ القُلوبَ
وَأَوْدَعَ المَحَبَّة فِيها حَيْثُ لا تَتَصَرَّمُ(4)
يقسم بالخالق سبحانه الذي فطر القلوب على المحبة، حيث أودع هذه الغريزة داخل القلوب الضعيفة، ثم جعلها قادرة على التحمل وعدم التقطع.
15- ... وَحَمَّلها قَلبَ المُحِبِّ وإنَّهُ
ليَضْعُفُ عن حِمْل القَميصِ وَيَألمُ
16- ... وَذَللهاَ حَتَّى اسْتكانتْ لِصوْلة
المَحَبَّة لا تَلوى وَلا تَتَلعْثَمُ(5)
__________
(1) وإسناده صحيح –المجلة-.
(2) تنقم. نقم عليه: عتب عليه. انتقم الله منه: عاقبه (مختار الصحاح).
(3) عداهم: عدا: جمع أعداء.
(4) تتصرم: تصرم: تجلد وتقطع.
(5) وذللها. ذلَّ: من اللين وهو ضد الصعوبة. تذلل: خضع.
استكان: خضع (نهاية).
لصولة. صال: استطال أو وثب. تلوى. لوى عن الأمر: تثاقل.
تلعثم: تمكث وتوقف وتأنى (القاموس المحيط).(1/11)
جعل الله سبحانه المحبة في قلب الحب، وجعله قادرًا على حملها مع ثقلها، بينما هو يستثقل حمل القميص أو الرداء الذي عليه ولا يقوى على حمله ويستثقل منه.
ومع هذا فهي خاضعة ذليلة قادرة على تحمل تطاول المحبة، فلم تتردد ولم تتباطئ في الاستجابة لندائها.
17- ... وَذَللَ فِيها أنفُسًا دُونَ ذُلَها
حِياضُ المََنَايَا فوْقَها وَهيَ حُوَّمُ(1)
وجعل سبحانه وتعالى النفوس التي تحمل هذه القلوب ذليلة خاضعة أكثر من خضوعها المعتاد، لأن النفوس التي تحمل هذه القلوب ذليلة خاضعة أكثر من خضوعها المعتاد؛ لأن النفوس التي تحمل القلوب المجروحة التي أصابتها سهام المحبة تكون دائًا مستكينة ليس لها هم إلا لقاء المحبوب. والموت فوقها وهي تدور تحته.
18- ... لأنْتُمْ عَلى قُرْبِ الدِّيارِ وبُعْدَهَا
أحبَّتُنا إن غبتُمُ أوْ حضرْتُمُ
الذي يكون ذكره في القلب ومحبته في الفؤاد فهذا هو الحبيب الذي يذكر دائمًا ولا يُنسى، سواء أكان قريب المنزل أو لم يكن، وسواء أكان حاضرًا أم غائبًا فإن طيفه لا يكاد يفارق الخيال.
19- ... سَلوا نَسَمَاتِ الرِّيح كمْ قَدْ تَحَمَّلتْ
مَحَبَةَ صَبٍّ شَوْقُهُ ليْسَ يُكْتَمُ(2)
20- ... َوَشَاهِدُ هَذا أنَّها فِي هُبُوبها
تَكادُ تَبُثُّ الوجدَ لوْ تتكلمُ(3)
يعبر، رحمه الله، عن شدَّة حبِّه، ويريد أن يبرهن على صدق ادِّعائه فيقول: سلوا نسمات الريح. أي كأن الهواء الذي يمر عليكم مشبع بالحب الذي يكنه قلبي. حب عاشق، أو تكتب حبهُ وشوقه ظاهر يشعر به الجميع، ولا يكتم عنه أحد. وعلاقة ذلك أن الريح التي تمر بكم تحمل معها شدة حبي وعظيم شوقي، فهي تريد أن تنشر هذا لكم، إلا أنها لا تتكلم.
__________
(1) حياض المنايا. حياض: جمع حوض. المنايا: جمع منية وهي الموت.
(2) صب: الصبابة: الشوق، أو رقته، أو رقة الهوى.
شوقه. الشوق: نزاع النفس، وحركة الهوى.
(3) تبث: تظهر وتنشر.
الوجد: الهوى والحب الشديد (تاج العروس).(1/12)
21- ... وكُنْتُ إذا اشْتَدَّ بِيَ الشَّوْقِ والجوى
وَكَادَتْ عُرَى الصَّبْرِ الجميل تَفصَّمُ(1)
22- ... أعللُ نَفْسِي بِالتَّلاقِي وَقُرْبه
وَأوهمُهَا لكِنَّهَا تَتَوَهَّمُ(2)
23- ... وأتْبِعُ طرْفِي وِجْهَةً أنتمُ بِها
فَلِي بِحِمَاهَا مَرْبَعٌ وَمُخَيَّمُ(3)
وكنت إذا اشتد بي ألم الهوى وشدة نزاع النفس إلى رؤياكم، وأصابني الحزن العميق على فراقكم، وأوشك أن تتقطع وتتكسر مقابض الصبر التي أتشبت بها؛ فإذا أصابني هذا الشعور (أعلل نفسي بالتلاقي).
وبعد أن يستحكم بي الشوق وألم الفراق فإني أشاغل نفسي وأحدثها بأن وقت اللقاء قد قرب، وأنا أعلة أنه وَهمٌ لا حقيقة له، ولكني أجلب هذا الظن لنفسي لكي تستقر وتسكن، وأجعل عيني دائمًا في ترقب إلى الجهة التي تسكنونها، وقلبي متوجه إليكم لعلي أفوز منكم بنظرة؛ لأن نفسي دائمًا تحدثني بقدومكم كلما غفلت، فتراني دائم التطلع إلى جهتكم لأن لي بها ديارًا ومنازل.
24- ... وأذْكُرُ بيتًا قالهُ بَعْضُ مَنْ خَلا
وَقَدْ ضَلَّ عَنْهُ صَبْرُهُ فَهْوَ مُغْرَمُ(4)
25- ... أسَائِلُ عَنْكُمْ كُلَّ غَادٍ وَرَائِح
وَأومِي إلى أوْطانِكُمْ وَأسلمُ(5)
__________
(1) الجوى: هوى باطن، أو الحزن، أو شدة الوجد (القاموس المحيط).
عرى: جمع عروة. والعروة من الدلو والكوز: المقبض. تفصم: تتكسر.
(2) أعلل: أشاغل. وأوهمها: الوهم: من خطرات القلب. تتوهم: تظن.
(3) طرفي: الطرف: العين، أو البصر (القاموس المحيط).
حماها: حمى: المكان الذي لا يقرب. مربع: منزل القوم في الربيع خاصة. الرَّبع: الدار بعينها حيث كانت. مخيم: خيَّم بالمكان: أقام به. تخيم: ضرب خيمة.
(4) خلا: مضى. ضل: الضلال ضد الهدى، يعني ضاع عنه صبره ولم يهتد إليه.
مغرم: أسير الحب، أو المولع بالشيء.
(5) غاد. الغدو: السير أول النهار. رائح: الرواح: السير آخر النهار.(1/13)
بعد أن يتجه إلى الجهة التي هم فيها بقلبه قبل بصره، فإن هذا لا يخفف لوعته ولا يسكن شيئًا من آلامه، فيتذكر ذلك البيت الذي قاله أحد الشعراء القدماء عندما اشتد عليه شوقه وضاع منه صبره فقال: «أسائل عنكم... » أي بعد أن انقطعت أسباب الوصال، ولا أمل في التلاقي، فإني أسأل عنكم الذاهب والقادم، وأتقصى أخباركم، وأحرك رأسي إيماءً إلى جهتكم، ومع هذه الحركة ألقي عليكم السلام.
26- ... وَكمْ يَصْبِر المُشْتَاقُ عَمَّن يُحِبُّهُ
وَفِي قلبِهِ نارُ الأسى تتضرَّمُ(1)
إن المحب الذي حرق الشوق قلبه، وألم الفراق يعصر فؤاده، فإنه يصبر على فراق محبوبه صبرًا مرغمًا عليه؛ فهو صابر، ولكن نار الحزن مشتعلة في قلبه ولا تكاد تهدأ.
27- ... أمَا وَالذِي حَجَّ المحبُّون بَيْتَهُ
وَلبُّوا لهُ عنْدَ المهَلِّ وَأحْرَمُوا(2)
يقسم بالله سبحانه، الذي جاءه الناس من كل فج عميق، قاصدين ذلك المكان الذي اختاره ليجعل في بيته الحرام، الذي جعله قبلة للناس، فهم يتوجهوا إليه بقلوبهم ووجوههم. وقد فرض الله سبحانه الحج على الناس في العمر مرة واحدة للمستطيع، ثم جعل التكرار سنة، ورغب فيه، كما روى الترمذي وغيره من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «تَابِعُوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب»(3).
__________
(1) الأسى: الحزن. تتضرم: تشتعل.
(2) لبوا: تلفظوا بالتلبية، وهي صيغة حددها الشرع، وستأتي.
المهل: المكان الذي يهل فيه الحاج أو المعتمر.
أحرموا: دخلوا في الإحرام، وهو التقيد بأمور حددها الشرع.
(3) رواه أحمد: 1/387، والترمذي: 810، والنسائي: 5/115، وابن خزيمة: 2512.
[ابن ماجه 2287 والحديث صحيح، السلسلة الصحيحة 1200، المجلة].(1/14)
يقول: «ولبوا له... » أي: إنهم عندما وصلوا إلى الميقات، وهو المكان الذي لا يتجاوزه أي إنسان يريد الحج أو العمرة إلا وهو قد لبس لباس الإحرام. فعند وصولهم ذلك المكان رفعوا أصواتهم مهللين له سبحانه وتعالى.
28- ... وَقَدْ كشَفُوا تِلك الرُّؤُوس تَواضُعًا
لِعزَّةِ مَنْ تَعْنُو الوُجُوهُ وَتَسلِمُ(1)
بعد أن يصل الحاج أو المعتمر إلى الميقات يستحب له أن يغتسل ويتنظف، وإذا احتاج إلى تقليم الأظافر أو حلق الشعر فعل ذلك، ثم يسرح شعره ويتطيب، ثم يتجرد من الملابس المخيطة ويلبس رداء وإزارًا. أما النساء فيحرمن في ملابسهن. ذكر المصنف أنهم كشفوا رؤوسهم تواضعًا لعظمة الله الذي تخضع الوجوه له وتذلُّ وتُسلِم.
وهذا من باب ذكر الحِكمة من ورود الحُكم، وهو أمر جيد أن يعرف الإنسان بعض الِكَم من ورود الأحكام، ولكن الأصل أن يأخذ الإنسان الحُكمَ على أنه حُكمٌ حَكَمَ الله به وقدَّره، ثم بعد ذلك يستنبط بعض الحِكَم إن استطاع، لا أن يُعلق الحُكْمَ على معرفة الحِكمة.
29- ... يُهلِونَ بالبيْدَاء لبَّيْك رَبَّنا
لكَ المُلكُ وَالحْمدُ الذِي أنْتَ تَعْلمُ(2)
بعد أن تجاوزوا الأماكن التي أحرموا من عندها وساروا في تلك الصحراء، فإن أصواتهم لا تفتر عن الذكر الذي سنه لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؛ ألا وهو رفع الصوت بالتلبية وهي: لبيك اللهم لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك. فهم يلهجون بهذا الذكر ولا تفتر ألسنتهم عنه.
__________
(1) تعنو: قال الحق سبحانه: { وَعَنَتْ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ } قال الفراء: عنت الوجوه: نصبت له وعملت له، (لسان العرب).
قال ابن الأثير في النهاية عن حديث (إنه دخل مكة عنوة): وهو من (عنا يعنو) إذا ذل وخضع.
(2) يهلون: أهل الملبي: رفع صوته بالتلبية.
البيداء: الصحراء.
لبيك: أي أنا مقيم على طاعتك إلبابًا بعد إلباب وإجابة بعد إجابة (القاموس).(1/15)
30- ... دَعَاهُمْ فلبَّوْهُ رضًا وَمَحَبَةً
فَلَمَّا دَعَوْهُ كَانَ أقْرَبَ منْهُمُ(1)
دعا ربُّنا سبحانه وتعالى عباده لزيارة بيته الحرام، حيث يقول مخاطبًا الخليل، عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: { وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً } (2)، ويقول سبحانه: { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً } (3).
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا»(4).
هذه دعوة من الله سبحانه وتعالى لعباده كي يزوروا بيته، فتقاعس من خذله الله، وانبرى لاستجابة هذه الدعوة من وفقه الله لطاعته. استجابوا له وقلوبهم يعصرها الشوق الذي تولد منه الحب والرضا؛ فهم راضون عنه، ويسألونه أن يرضى عنهم؛ فلما سألوه وألحوا عليه بالمسألة والإكثار من ذكره وتمجيده وتحميده، كانت استجابته لهم أسرع من استجابتهم له.
31- ... تَرَاهُمْ عَلى الأنْضَاِء شُعْثًا رُءوسُهُمُ
وغُبرًا وَهُمْ فِيهَا أسَرُّ وَأنْعَمُ(5)
تراهم قد ركبوا تلك الدواب التي أهزلتها الأسفار، وأذهبت لحمها، وهم علها في الصحراء المترامية الأطراف، وقد غيَّر التراب وجوههم، وأشعث رؤوسهم المكشوفة. ومع ما فيه من ضنك العيش وشدته؛ إلا أنهم في غاية الفرح والسرور، وكأنهم في رغد العيش ونعيمه؛ لأنهم يأملون من مولاهم سبحانه أن يجازيهم على ما لاقوه من نصب في سبيله؛ بأن يمنحهم رضوانه وأن يدخلهم جنته.
32- ... وَقَدْ فَارَقُوا الأوْطان وَالأهْل رَغْبَةً
__________
(1) لبَّوه: أجابوا الدعوة.
(2) سورة الحج:17.
(3) سورة آل عمران:97.
(4) رواه مسلم: 1337.
(5) الأنضاء: جمع نضو ونضوة وهو المهزول من الإبل (القاموس).
شعثًا: الأشعث: المغبر الرأس وكذلك الملبد الشعر.
غبرًا: ترى عليهم الغبار.(1/16)
وَلَم يُثْنِهمْ لذَّاتُهمْ والتَّنَعُّمُ(1)
33- ... يَسِيرونَ مِنْ أقطارِهَا وفجاجها
رجَالًا وَرُكْبانًا وَلله أسْلمُوا(2)
لقد تركوا الأهل وتحملوا ألم فراقهم، وتغربوا عن الأوطان وتحملوا ألم الحنين إليها. تركوا كل هذا رغبة بما عند الله سبحانه من النعيم المقيم، وتحملوا مشقة السفر وما به من مخاطر وعذاب، وآثروه على الملذات والنعيم والعيش الرغيد بين الأهل والإخوان، ولم يمنعهم من تحمل تلك المخاطر.
فجاءوا ملبين لدعوة الخالق سبحانه من جميع بقاع الأرض؛ منهم الماشي على رجليه، ومنهم الراكب على راحلته، والجميع قد أسلم وجهه وقلبه إلى المولى جل في علاه.
34- ... وَلَمَّا رأتْ أبصارُهمْ بَيْتهُ الذِي
قُلوبُ الوَرَى شَوْقًا إليْه تَضرَّمُ(3)
35- ... كأنَّهُمُ لمْ يَنْضبُوا قط قَبْلهُ
لأن شَقَاهُمْ قدْ تَرَحَّلَ عَنْهُمُ(4)
ولما وصلوا إلى البيت الحرام، ومتعوا أبصارهم برؤيته؛ هذا البيت الذي طالما اشتاقت إليه قلوب العباد، واحترقت من شدة الوجد لرؤيته.
وبعد الوصول والتمتع بالرؤية اطمأنت القلوب، واستقرت الأفئدة، واستراحت الأبدان، وذهب الألم؛ وكأن جميع ما لاقوه من وعثاء السفر وشدته ونصبه ومشقته قد ذهب كله عنهم؛ لأن السعادة التني غمرتهم قد أنستهم ذلك كله.
36- ... فللهِ كَمْ مِنْ عَبْرةٍ مُهْرَاقةٍ
وَأخْرى على آثارها لا تَقَدَّمُ(5)
__________
(1) رغبة: رغب فيه رغبة: أراده. لم يثنهم: لم يكفهم ولم يصرفهم.
(2) أقطارها: القطر: الناحية والجانب، وجمعه: أقطار.
فجاجها: الفج: الطريق الواسع بين الجبلين، والجمع فجاج.
رجالَا: الراجل: ضد الفارس، أي الذي يمشي على رجليه.
ركبانًا: الذين يركبون الدواب وغيرها.
(3) الورى: الخلق. تضرم: تشتعل.
(4) ينصب: يتعب. ترحل: ذهب.
(5) عبرة: الدمعة قبل أن تفيض، أو تردد البكاء في الصدر.
مهراقة: أهراقه يهريقه فهو مهريق ومهراق: يعني صبه (القاموس).
على آثارها: تأتي بعدها، كأنها تمشي على أثرها.(1/17)
37- ... وَقَدْ شَرَقتْ عَيْنُ المُحِبِّ بدَمْعِهَا
فيَنْظُرُ مِنْ بَيْن الدُّمُوع وَيَسْجمُ(1)
يتعجب من كثرة ما تذرفه العيون من الدموع السائلة على الخدود، وكلما خرجت دمعة تبعتها أخرى بعدها، مباشرة ودون انقطاع، وقد امتلأت عيونهم بالدموع، فأصبحوا لا يستطيعون مشاهدة البيت بوضوح، وإنما أصبح الدمع حاجزًا بين عيونهم وبين البليت؛ فهم ينظرون إليه من خلف الدموع التي قد ملأت العيون مستمرة في ذرف المزيد من الدموع.
38- ... إذا عَايَنْتهُ العَيْنُ زَالَ ظلامُهَا
وَزَالَ عَنِ القلبِ الكئِيبِ التَّألمُ(2)
إن بيت الله الحرام، جعل الله فيه خاصية جذب القلوب إليه، فهو يأسِرُ قلوب المحبين.
وكذلك لا تمل الأبصار من النظر إليه، فإذا أمعن فيه الناظر زال الظلام عن عينيه، وكذلك ينشرح صدره، ويطمئن قلبه، ويزول عنه همه وغمه.
39- ... وَلا يَعْرِفُ الطرْفُ المُعايِنُ حُسْنَهُ
إلى أنْ يَعُودَ الطرْفُ وَالشَّوْقُ أعْظم(3)
40- ... وَلا عَجَبُ منْ ذَا فحِينَ أضَافَهُ
إلى نَفْسِهِ الرَّحْمنُ فَهوَ المُعظمُ
إذا أبصر الإنسان الناظر إلى البيت مهابته وشرفه وحسنه وجماله فإنه يتعلق به، بحيث إذا صرف بصره عنه فإنه يعود لينظر إليه مرة أخرى؛ لما يصيبه من الشوق إليه ولا يستطيع أن يصبر على عدم النظر إليه.
وليس في هذا عجب، ولا هو بالأمر الغريب؛ وذلك لأن الله سبحانه هو الذي شرفه وأضافه إلى نفسه العلية؛ حيث قال: { وَطَهِّرْ بَيْتِي } (4).
وقال سبحانه: { أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي } (5)؛ فيقال: بيت الله.
41- ... كَسَاهُ مِنْ الإجْلالِ أعْظمَ حُلةٍ
__________
(1) شرقت: امتلأت حتى غصًّت، لأن الشَرَق: الغصة، والغصة: ما اعترض في الحلق فأشرق.
يسجم: يسيل.
(2) الكئيب: الحزين.
(3) يعرف: يصبر: (لسان العرب). الطرف: العين.
(4) سورة الحج: 26.
(5) سورة البقرة: 125.(1/18)
عَليْهَا طِرازٌ بِالمُلاحَةِ مَعْلمُ(1)
42- ... فمِنْ أجْل ذَا كُلُّ القُلوبِ تُحِبُّهُ
وَتَخْضَعُ إجلالًا لهُ وتُعظمُ
إن الله سبحانه وتعالى ألبس هذا البيت لباس تعظيم وإكرام، ومزجه بحسن لا نظير له، وجعل هذا علامة له؛ فلأجل هذا إن العيون إذا رأته انخلعت القلوب شوقًا له وانقيادًا إليه وتعظيمًا، ولا تصبر على فراقه.
43- ... وَرَاحُوا إلى التَّعريفِ يَرْجُونَ رَحْمةً
وَمَغْفِرةً ممَّنْ يَجُودُ وَيَكْرِمُ(2)
بعد ما وصف لنا حال المحبين حينما وصلوا على البيت الذي طالما منَّوا أنفسهم بمشاهدته والصلاة فيه. وها هو يصف لنا ذهابهم إلى عرفات حيث الاجتماع الكبير، وسؤال الجواد الكريم أن يمن عليهم بالرحمة والمغفرة.
44- ... فَلِلهِ ذاكَ المَوقِفُ الأعظْمُ الذي
كَمَوقف يَوْم العَرضِ بَلْ ذاكَ أعْظمُ(3)
تعجب من ذلك الموقف العظيم الذي يضم الناس من جميع أشكالهم وأجناسهم، وهو في بعض جوانبه قد يشبه يوم القيامة، إذ إن الناس على اختلاف مراتبهم في الدنيا قد اجتمعوا في مكان واحد، وفي زمن واحد، وكذلك لباسهم واحد، ولا يستطيع الناظر أن يميز بين الغني والفقير، ولا بين الشريف والوضيع، ولا شك في أن يشبهه في بعض الجوانب لا في جميعها، حيث إن يوم القيامة أعظم وأعظم.
45- ... وَيَدْنُو بِهِ الجَّبَارُ جَلَّ جلالهُ
يُبَاهِي بِهمْ أمْلاكَهُ فَهوَ أكْرمُ(4)
46- ... يَقُولُ عِبَادِى قدْ آتَوْنِي مَحَبَّةً
وَإنِّي بِهِمْ بَرُّ أجُودُ وَأرْحمُ
__________
(1) الإجلال: التعظيم. حلة: إزار ورداء، ولا تكون إلا من ثوبين.
الطراز: الهيئة. الملاحة: ملح الشيء فهو مليح أي: حسن.
مَعْلم: ما يستدل به. وقد تكون: مُعْلمُ: هو الذي يخبر بذلك.
(2) التعريف: عرفات، وهو موقف الحجاج يوم التاسع من ذي الحجة.
يجود: جاد وأجاد: أتى بالجَيِّد فهو مجواد.
(3) يوم العرض: يوم القيامة.
(4) يدنو: ينزل ويقرب، مع أنه قريب بعلمه في كل مكان وزمان.
يباهي: يفاخر.(1/19)
47- ... فأشْهِدْكُمْ أنِّي غفرْتُ ذُنوبَهُمْ
وَأعْطيْتَهُمْ مَا أملوهُ وأنْعَمُ(1)
يشير إلى حديث جابر رضي اله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «إذا كان يوم عرفة فإن الله ينزل من السماء الدنيا فيباهي بهم الملائكة فيقول:... أشهدكم أني قد غفرت لهم... الحديث»(2).
والحديث في سنده مقال، وانظر ابن حبان: 3853، والسلسلة الضعيفة للألباني: 679؛ ويشهد لبعض فقراته في الحديث المتقدم تحت البيت رقم: 45(3).
والحديث يشير إلى أن الله سبحانه وتعالى يشهد الملائكة على أنه غفر ذنوب جميع أهل الموقف، وأعطاهم جميع ما كانوا يطلبون ويرجون ويتمنون، وزادهم زيادة من فضله على طلباتهم.
48- ... فبُشْرَاكمُ يا أهْل ذا الموْقِفِ الذِي
بِه يَغْفِرُ اللهُ الذنوبَ وَيَرْحَمُ
المصنف، رحمه الله تعالى، يزفُّ البشرى العظيمة الحارة إلى أهل الموقف في عرفات، بأن الله تعالى غفر ذنوبهم وأدخلهم في واسع رحمته.
49- ... فَكَمْ مِنْ عَتِيق فِيهِ كُمِّلَ عتْقُهُ
وَآخَرُ يَسْتَسْعى وَربُّكَ أرْحَمُ(4)
__________
(1) أملوه: الأمل: الرجاء؛ يعني: ما كانوا يرجونه، ويتطلعون إليه.
أنعَم: فعل كذا، وأنعم: أي زاد (مختار الصحاح).
(2) رواه ابن خزيمة في صحيحه: 2840، والبغوي في شرح السنة: 1931.
[أشار ابن القيم للحديث الصحيح الذي رواه مسلم 1348، وغيره بلفظ: «ما من يوم أكثر من أن نُعْتقَ اللهُ فيه عبدًا من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة فيقول: ما أراد هؤلاء؟» المجلة].
(3) الشارح لم يشر إلى أي حديث، ولعله يقصد ما ذكرناه من حديث عائشة في مسلم، المجلة].
(4) عتيق: العتق: الحرية؛ يعني: قد فكّ أسره من ذنوبه.
يستسعى: استسعى العبدَ؛ يعني: كلفه من العمل ما يؤدي عن نفسه إذا أعتق بعضه ليعتق به ما بقي (القاموس المحيط).(1/20)
أناس كثيرون حررهم الله سبحانه في هذا اليوم من أسْر الذنوب والخطايا، وتجاوز عنهم وغفر لهم زلاتهم؛ لأنه جواد كريم رحيم بعباده.
وهناك آخرون لا يزالون يلحُّون على ربهم بالدعاء ويطلبون منه أن يغفر لهم ويتجاوز عن سيئاتهم، وهو سبحانه أرحم بعباده من أنفسهم على أنفسهم.
50- ... وَما رُئِيَ الشيْطانُ أغْيَظ فِي الوَرَى
وأحْقرَ مِنْهُ عِنْدَهَا وَهوَ الأمُ(1)
51- ... وَذَاكَ لأمْر قَدْ رَآهُ فغاظهُ
فأقْبَلَ يَحْثُو التُّرْبَ غيْظًا وَيلطِمُ(2)
52- ... لمِاَ عَاينَتْ عَيْنَاهُ مِنْ رَحْمَةٍ أَتَتْ
وَمَغْفِرةٍ مِنْ عِنْدَ ذِي العَرْشِ تُقْسَمُ(3)
لم يمر على الشيطان يوم هو أكثر وأشد غضبًا ولا أعمق حزنًا من يوم عرفة؛ فإنه –مع حزبه وغضبه- فهو حقير ذليل لئيم؛ وذلك لما يرى من إقبال العباد على ربهم، وكثرة دعائهم، وشدة تضرعهم، وكذلك ما يرى من تنزل رحمات الله على عباده.
عن طلحة بن عبيد الله بن كرز أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (ما رئي الشيطان يومًا هو أصغر ولا أدحر ولا أحقر ولا أغيض منه في يوم عرفة، وما ذاك إلا لما رأى من تنزل الرحمة وتجاوز الله عن الذنوب العظام..... الحديث)(4).
53- ... بَنى مَا بَنَى حَتَّى إذَا ظنَّ أنَّهُ
__________
(1) أغيظ: الغيظ شدة الغضب. الورى: الخلق.
ألأم: اللئيم: الدنيء الأصل الشحيح النفس.
(2) يحثوا التراب: يرمي التراب على نفسه (النهاية في غريب الحديث).
لطم: اللطم: الضرب على الوجه بباطن الراحة.
(3) تقسم: تجزأ وتوزع.
(4) رواه مالك في الموطأ، كتاب الحج، حديث: 245، 1/422، وهو مرسل. قال الزرقاني في شرح الموطأ 2/395: وصله الحاكم في المستدرك عن أبي الدرداء.
قال ابن عبد البر في التمهيد 1/116: هذا حديث حسن في فضل شهود ذلك الموقف المبارك، وفيه دليل على الترغيب في الحج، ومعنى هذا الحديث محفوظ من وجوه كثيرة، وفيه دليل على أن كل من شهد تلك المشاهد يغفر الله له، إن شاء الله.(1/21)
تَمَكَّنَ مِنْ بُنْيَانِهِ فَهوَ مُحْكَمُ(1)
54- ... أتَى اللهُ بُنْيَانًا لهُ مِنْ أَسَاسِهِ
فخَرَّ عَلَيْهِ سَاقِطًا يَتَهَدَّمُ
55- ... وَكَمْ قَدْرُ مَا يَعْلُو البِنَاءُ وَيَنْتَهِي
إذا كانَ يَبْنِيهِ وَذُو العَرْشِ يَهْدِمُ
إن الشيطان أفرغ كل ما يستطيع من طاقة في إضلال الناس، واستخدم جميع جنده، حتى ظن أن الناس قد هلكوا جميعهم؛ لما يرى من ارتكاب الفواحش، وإتيان المنكرات، وفرح بذلك، لكنه رأى رجوعهم إلى الله وكثرة دعائهم وتضرعهم إلى بارئهم، وكذلك ما يرى من رحمة الله بعباده، وقبولهم عنده، وغفرانه لذنوبهم جميعًا، وإرجاعهم كيوم ولدتهم أمهاتهم.
وبهذا يكون كل ما بناه الشيطان قد تهدم ولم يبقَ له أثر، وكيف للبنيان أن يرتفع إذا كان الشيطان يبني والله يهدم؛ فمهما سعى الشيطان في الإفساد بين عباد الله المؤمنين، فإن الله سبحانه جعل لهم مواسم ينزل عليهم فيها رحمته فإذا تعرض الإنسان إلى نفحات الله فلا يبقى عليه من الذنوب شيء.
56- ... وَرَاحُوا إلى جَمْع فبَاتُوا بمشْعَرِ
الحرَام وَصلوا الفجْرَ ثُمَّ تَقدَّموا(2)
57- ... إلى الجمرة الكبْرى يُريدُونَ رَمْيَها
لوَقْتِ صلاةِ العيدِ ثمَّ تيمَّموا(3)
58- ... مَنَازِلُهُمْ لِلنَّحر يَبْغُونَ فَضْلَهُ
وإحْياءَ نُسْكٍ مِنْ أبِيهِمْ يُعَظمُ(4)
__________
(1) محكم: متقن البناء.
(2) جمع مزدلفة: سميت به لاجتماع الناس بها.
المشعر الحرام: كل مزدلفة مشعر.
(3) الجمرة الكبرى: هي التى تكون الأولى من جهة الكعبة، والأخيرة من جهة مزدلفة.
رميها: ترمى بسبع حصيات مثل حصى الخذف. تيمموا: قصدوا.
(4) نسك: العبادة أو الذبح، وهو المقصود هنا.
أبيهم: أبو الأنبياء خليل الرحمن إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.(1/22)
ثم يتابع الإمام، رحمه الله تعالى، رحلة الحجاج بعد وقوفهم في عرفات، وبعد تحقق غروب الشمس، فإنهم ينفرون من عرفات إلى المزدلفة ويبيتون بها ويصلون صلاة الصبح، ثم الدعاء عند المشعر الحرام. قال عمرو بن ميمون: سألت عبد الله بن عمرو عن المشعر الحرام فسكت حتى هبطت أيدي رواحلنا بالمزدلفة قال: أين السائل عن المشعر الحرام؟ هذا المشعر الحرام. وقال ابن عمر: المشعر الحرام المزدلفة كلها(1).
فيبقى يدعو ويتضرع إلى العلي القدير حتى يسفر حدًّا وقبل شروق الشمس يتوجهون إلى الجمرة الكبرى. وأشار المصنف، رحمه الله، إلى أن وقت رمي الجمرة هو وقت صلاة العيد الذي لا يصلي إلا إذا ارتفعت الشمس، وهذا هو الصحيح في رمي الجمرة. على خلاف ما يفعله كثير من الناس؛ فإنهم يمكثون في المزدلفة إلى بعد نصف الليل ثم يذهبون إلى الجمرة فيرمونها قبل الفجر، وهذا خلاف السنة. ويحتج بعضهم بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - رخص للضعفة من الناس أن يتقدموا من مزدلفة إلى الجمرة بليل(2)، وهذا صحيح، إلا أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يأمرهم أن يرموا قبل الشروق. وإنما الصحيح أن يمكث الحاج في المزدلفة يدعو، وقبيل الشروق يتوجه إلى الجمرة الكبرى فيرميها بسبع حصيات التقطها من المزدلفة. وبعد الرمي يذهبون إلى منازلهم التي هي في منى، فينحروا هديهم، راجين من الله سبحانه أن يتقبل منهم وأن يمن عليهم من فضله العميم؛ فإنه سبحانه جواد كريم.
وهي (عملية النحر) إحياء وتعظيمًا لنسك الخليل إبراهيم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم التسليم.
59- ... فلوْ كان يُرْضِي اللهَ نَحرُ نُفُوسِهمْ
لدَانُوا بِهِ طوْعًا وَلِلأمْر سَلمُوا(3)
60- ... كما بَذلوا عِنْدَ الجِهَادِ نحُورَهُمْ
__________
(1) تفسير ابن كثير: 1/241، 242.
(2) انظر صحيح مسلم من حديث عائشة وابن عباس رضي الله عنهم.
(3) نحر: ذبح. دانو: ذلوا. طوعًا: انقياد.(1/23)
لأعْدَائِهِ حَتَّى جَرَى مِنْهُمُ الدَّمُ(1)
61- ... وَلَكِنَّهُمْ دَانُوا بِوَضْع رُءُوسِهم
وَذَلِك ذلُّ للعَبِيدِ وَمِيْسَمُ(2)
أمرهم الله سبحانه وتعالى بنحر الهدى فاستجابوا له ابتغاء مرضاته، ولو علموا أن مرضاته عنهم تكون بذبح أنفسهم لفعلوا ذلك طائعين مسرعين في التنفيذ، ومسلمين الأمر إليه سبحانه، ولم يكب هذا مجرد ظن أو كلام لا واقع له، بل هو حقيقة؛ وأدل دليل عليه أنهم بذلوا دماءهم وأرواحهم وأموالهم رخيصة في سبيله وفي قتال أعدائه من الكفار.
كما أطاعوه في القتل والقتال في المعركة، فإنهم أطاعوه هنا بحلق الرؤوس، وهذا هو غاية في الخضوع علامة على ذل العبد بين يدي سيده ومولاه. إذا حملنا معنى كلمة (ميسم) على الجمال فإن المعنى: إن عملية حلق الرؤوس هي الطريقة التي يبرهن العبد بها على ذله وخضوعه لربه سبحانه وتعالى.
62- ... وَلَمَّا تَقَضَّوْا ذَلِكَ التَّفث الذِي
عَلَيهمْ وأوْفوا نَذْرَهمْ ثُمَّ تَمَّمُوا(3)
بعد أن فعلوا الأمور التي على الحاج أن يقوم بها في ذلك اليوم من رمي الجمرة الكبرى ونحر الهدي وحلق الرؤوس. وفيه إشارة إلى قول الله سبحانه: { ثُمَّ لِيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ } (4).
63- ... دَعَاهُمْ إلى البَيْتِ العَتِيق زِيَارَةً
__________
(1) بذلوا: أعطوا وجادوا. نحورهم: النحر هو موضع القلادة من الصدر. وهو المكان الذي تذبح الذبيحة.
(2) ميسم: الجمال وكذلك المكواة.
(3) تقضوا: قاموا بما عليهم من الأعمال حتى فرغوا منها.
التفث: إما أن يكون وضع الإحرام عن حلق الرأس وفعل الأمور التي كانت محظورة حال الإحرام، وإما أن يكون هو المناسك نفسها، كما ذكر ابن كثير في تفسيره: 3/217.
النذر: إما أن يكون النذر الذي أوجبه الإنسان على نفسه، أو ذبائح الهدى، أو جميع أعمال الحج.
تمموا: أتوا بجميع الأعمال التي عليهم في ذلك اليوم تامة غير نقصان.
(4) سورة الحج:29.(1/24)
فَيَا مَرْحَبًا بِالزَّائِرِينَ وَأكْرم
64- ... فللهِ مَا أَبْهَى زيَارَتَهُمْ لَهُ
وَقَدْ حُصِّلتْ تِلكَ الجوائِزُ تُقْسَمُ(1)
65- ... وَللهِ أفْضَالٌ هُنَاكَ وَنِعْمَةٌ
وبرٌّ وَإحْسَانٌ وَجُودٌ وَمَرْحَمُ(2)
إشارة إلى قوله سبحانه: { وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ } (3)؛ وقوله جل في علاه: { ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ } (4).
يقول المصنف، رحمه الله: هي دعوة من الله سبحانه لعباده بزيارة بيته العتيق.
وسُمِّي البيت العتيق: إما لقدمه، حيث قال سبحانه: { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ } (5).
وإما لأن الله سبحانه وتعالى أعتقه من الجبابرة أن يُسَلطوا عليه. لأنه لم يُرده أحد بسوء إلا هلك، وإما لأنه أعتق يوم الغرق زمان نوح(6).
فلما دعاهم لزيارة بيته استجابوا له. فيا مرحبًا بهم من زوار، وأكرم بها من زيارة، وأعظم به من مزور.
(فلله ما أبهى) يتعجب من شدة حسن وجمال هذه الزيارة، وقد فازوا بالجوائز القيمة من المولى جل في علاه؛ فهو يقسمها عليهم كل بحسب ما قدم من إخلاص نية وحسن عمل وشدة تضرع وطول قيام وكثرة بكاء.
66- ... وَعادُوا إلى تلكَ الْمَنَازِلِ منْ منًى
وَنالوا مُناهُمْ عِنْدَها وَتَنَعَّمُوا(7)
__________
(1) أبهى: البهاء: الحسن.
(2) إفضال: إحسان، وأفضال: زيادة في العطاء والفضل.
نعمة: منة. بر: إحسان. جود: السخاء والكرم. مرحم: الرحمة: الرقة والمغفرة والتعطف.
(3) سورة الحج: 29.
(4) سورة الحج: 33.
(5) سورة آل عمران:96.
(6) انظر تفسير ابن كثير: 3/218.
(7) منى: قال ياقوت الحموي في معجم البلدان: 5/198: منى: في دَرَج الوادي الذي ينزله الحاج ويرمي فيه الجمار من الحرم. سمي بذلك لما يمنى به من الدماء، أي يراق. وقيل لأن آدم عليه السلام تمنى فيها الجنة. وقال ابن شميل: سمي منى لأن الكبش منى به، أي ذبح. أ. هـ.(1/25)
67- ... أقامُوا بِها يَومًا ويومًا وثالثًا
وَأذّن فِيهمْ بالرَّحيلِ وأعْلموا
68- ... وَرَاحُوا إلى رَمْي الجِمَارِ عَشِيَّةً
شِعَارُهُمُ التَّكْبِيرُ واللهُ مَعْهُمُ(1)
يقول: رحمه الله تعالى: إنهم أقاموا بمنى ثلاثة أيام، وبعدها أعلموا بالذهاب من منى؛ وفيه إشارة إلى قول الحق سبحانه: { فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنْ اتَّقَى } (2). وفي كل يوم من هذه الأيام يذهبون بعد الزوال لرمي الجمار.
ويصف حالهم وهم ذاهبون؛ بأن ألسنتهم لا تفتر من التكبير، مع استشعارهم معية الله سبحانه.
69- ... فلوْ أبْصَرتْ عَيْناكَ مَوْقِفَهُمْ بِهَا
وَقَدْ بَسَطوا تلكَ الأكُفِّ لِيرحمُوا
70- ... يُنَادُونَهُ يَا رَبِّ يَا رَبِّ إِنَّنَا
عَبِيدُكَ لا ندْعُو سِواكَ وَتعْلم
71- ... وَهَا نحْنُ نرْجُو منْكَ مَا أنْتَ أهْلهُ
فأنْتَ الذي تُعْطي الجزيلَ وَتُنْعِمُ(3)
لو رأيتهم بعد رمي كل جمرة قيامًا رافعي أيديهم، ووجوههم نحو القبلة، وقلوبهم نحو خالقه يلحون عليه بالمسألة ويتضرعون إليه بخشوع وتمسكن عساهم أن ينالوا رحمته ورضاه.
وألسنتهم تنطق ببعض ما في قلوبهم؛ لأن اللسان في كثير من الأحيان لا يستطيع أن يعبر بكل ما في القلب. ينادونه بالاعتراف بتقصيرهم في حقه، وذكر الضعف والحاجة؛ فهم عبيد وهو ربهم وهو أعلم بهم من أنفسهم.
ويقولون –بلسان الحال قبل المقال- إنهم يعبدونه ولا يشركون معه أحدًا.
ويطلبون من مولاهم سبحانه أن يتفضل عليهم ويعاملهم بما هو أهله، فإنه هو أهل التقوى وأهل المغفرة.
72- ... وَلَمَّا تقضَّوا مِنْ مِنى كُلِّ حَاجَةٍ
__________
(1) عشية: العشي: يبدأ بعد الزوال إلى المغرب (النهاية في غريب الحديث).
(2) سورة البقرة:203.
(3) الجزيل: العظيم الكثير.(1/26)
وَسَالتْ بِهِمْ تِلكَ البِطاحُ تقدَّمُوا(1)
73- ... إلى الكَعْبَةِ البَيْتِ الحَرَامِ عَشِيَّةً
وَطَافُوا بِهَا سَبْعًا وَصَلوا وَسَلمُوا
لما أتموا كل ما عيهم من الأعمال التي يقوم بها الحاج في أيام منى ارتحلوا منها متجهين إلى البيت الحرام، وذلك بعد الزوال، أي بعد رميهم الجمار؛ سواء أكان ذلك في اليوم الثاني من أيام التشريق لمن أراد أن يتعجل، أم في اليوم الثالث لمن أراد أن يتأخر، وهو الأفضل؛ لأنه فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - .
وقد تؤخذ الأفضلية أيضًا من قوله تعالى: { وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنْ اتَّقَى } (2).
وعندما وصلوا إلى الكعبة، شرفها الله، طافوا بها طواف الوداع، وصلوا في المسجد الحرام ما كتب الله لهم.
74- ... ولَمَّا دَنَا التَّودِيعُ مِنْهُمْ وأيقنُوا
بأنَّ التَّدَانِي حَبْلهُ مُتَصَرِّمُ(3)
75- ... وَلَمْ يبْقَ إلا وَقْفةٌ لِمُودِّع
فللهِ أجْفَانٌ هُنَاكَ تُسَجَّمُ(4)
وبعد أن تيقنوا أنهم عن قريب سوف يغادرون هذا المكان الطاهر الذي تعلقت به قلوبهم، واشتد إليه شوقهم، وأن القرب الذي يعيشونه هذه اللحظات لم يدم لأن حبله قد تقطع، ولم يبق بينهم وبين أن يغادروا إلا وقفة يقفها المحب، لينظر إلى البيت النظرة الأخيرة كي يودعه؛ ففي هذه اللحظات سالت الأجفان بالدموع المتتابعة التي لا انقطاع لها.
76- ... ولله أكْبَادٌ هُنَالِكَ أودِعَ
الغرَامُ بِهَا فالنَّارُ فِيهَا تَضَرَّمُ(5)
77- ... ولله أنفَاسٌ يَكَادُ بِحَرِّهَا
__________
(1) تقضوا: قاموا بما عليهم من الأعمال حتى فرغوا منها. البطاح: جمع أبطح، والأبطح: مسيل واسع فيه دقاق الحصى (القاموس المحيط).
(2) سورة البقرة: 203.
(3) التداني: القرب. متصرم: متقطع.
(4) تسجم: سال دمعها.
(5) أودع: جُعل الغرام فيها وديعة. تضرم: تشتعل.(1/27)
يَذُوبُ المُحِبُّ المُسْتَهَامُ المُتَيَّمُ(1)
78- ... فلمْ تَرَ إلا بَاهِتًا متحيِّرًا
وَآخَرَ يُبْدِي شَجْوَهُ يَتَرنَّمُ(2)
يتعجب من هذه الأكباد التي جُعل الغرام وديعة. والغرام هو شدة الألم الذي يجده المحب إذا فارق محبوبه؛ قال سبحانه: { إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً } (3).
فهذه الأكباد تتعذب عذابًا لا يطاق إذ النار تشتعل فيها على فراق الأحبة.
ويتعجب كذلك من تلك الأنفاس التي تزفر في الهواء الساخن، بسبب نار الفراق المستعرة في جوف المحبين الذين استولى عليهم الحب وشدة الوجد؛ فهذا حالهم بعد ما همُّوا بالرحيل: إما أن يكون أحدهم متحيرًا لا يدري كيف يتحمل ألم الفراق، وفريق آخر يبدي أحزانه بصوت حزين قد حسَّنه ليتلو به آيات من كتاب ربه أو كلمات يتضرع بها إلى سيده ومولاه. يفعل هذا كي يخفف ما به من ألم الفراق.
79- ... رَحَلتُ وأشْوَاقِي إليْكُمْ مُقِيمةٌ
وَنَارُ الأسَى منِّي تَشِبُّ وَتَضْرِمُ(4)
80- ... أوَدِّعُكُمْ وَالشَّوْقُ يَثْنِي أعِنَّتِي
وَقَلْبِي أمْسَى فِي حِمَاكُمْ مُخَيِّمُ(5)
81- ... هُنَالِكَ لا تَثْرِيبَ يَوْمًا عَلى امْرِئٍ
إذا مَا بَدَا مِنْهُ الذِي كَان يَكْتُمُ(6)
نعم، أنا انتقلت من تلك الديار بجسدي، أما قلبي وأشواقي ومشاعري فهي لا زالت مقيمة هناك في دار الحبين. أما الجسد، فهو وحده الذي غادر وارتحل. ارتحل والنار الملتهبة من شدة الحزن تشتعل وتوقد في داخله.
__________
(1) المستهام: هائم: الذي لا يدري أين يذهب. المتيم: الذي صيره الحب عبدًا ذليلًا.
(2) باهتًا: بَهِت: دهش وتحير. شجوه: همه وحزنه. يترنم: يُرجِّع صوته.
(3) سورة الفرقان: 65.
(4) الأسى: الحزن. تشب: توقد. تضرم: تُشعل.
(5) يثني: ثناه: كفه وصرفه عن حاجته. أعنة: جمع عنان وهو لجام الفرس.
(6) تثريب: التعبير والاستقصاء في اللوم.(1/28)
أريد أن أفارقكم، ولكن الاشتياق إليكم هو الذي يمنعني من الذهاب، ويحاول أن يرجعني إليكم؛ وكذلك قلبي، لا يريد أن يفارق المكان الذي أنتم به؛ لأنه حل وأقام في أرضكم.
أما في ساعة التوديع عن الذي في داخله من الشوق؛ لأنه لا يستطيع أن يكتمه.
82- ... فيَا سَائِقين العِيسَ بالله رَبكُمْ
قفُوا لِي عَلى تِلكَ الرُّبُوع وَسَلمُوا(1)
83- ... وَقولوا مُحِبٌّ قَادَهُ الشَّوْقُ نَحْوكُمْ
قضى نَحْبَهُ فِيكُمْ تعيشُوا وَتَسْلَمُوا(2)
يناشد الذين يقومون على قيادة القافلة، ويستحلفهم أن يقفوا قليلًا في ديار الأحبة؛ كي يسلموا على أهلها، ويخبروهم أن في القافلة من أسرهُ الشوق فيكم، وساقه إليكم، ثم ارتحل بعد ما قضى فيكم نحبه.
84- ... قضَى اللهُ رَبُّ العَرْشِ فيمَا قضَى بِهِ
بِأَنَّ الهَوى يُعْمِي القلوبَ ويُبكمُ(3)
85- ... وَحُبُّكُمُ أصْلُ الهَوَى وَمَدَارُهُ
عَلَيْهِ وَفوْزٌ للمُحِبِّ وَمَغْنَمُ
إن الله سبحانه وتعالى قدر وكتب أن من أحب أحدًا فإن قلبه يتعلق به، فلا يستطيع أن يرى شيئًا إلا عن طريقه، ولا يعقل إلا بوساطته؛ فما أحبه الحبيب فهو الحسن، وهو الحق، والصواب؛ وما خالفه فلا سبيل إلى قلبي إلا من قِبَلِكم. قال سبحانه: { وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ } (4).
ومن كان على هذه الشاكلة فهو الفائز الرابح في الدنيا والآخرة.
86- ... وَتَفْنَى عظامُ الصَّبِّ بَعْدَ مَمَاته
وأشْواقهُ وَقفٌ عَلَيْه مُحَرَّمُ(5)
__________
(1) العيس: الإبل البيض مع شقرة يسيرة (النهاية).
(2) قضى نحبه: أدرك ما تمنى، أو قضى نذره، أو هو الموت، (لسان العرب).
(3) الهوى: الميل والعشق، ويكون في الخير والشر.
يبكم: البكم: الخرس، أو أن يولد ولا ينطق ولا يسمع ولا يبصر (القاموس).
(4) سورة البقرة: 165.
(5) تفنى: تعدم وتبلى. الصب: المحب.(1/29)
كل ميت سوف تبلى عظامه وتصبح رميمًا، وكذلك المحب أيضًا، لكن أشواقه باقية لم تذهب كبقاء الوقف؛ فإنه لا يجوز لأحد أن يبيعه أو يفسده.
87- ... فيَا أيهَا القلبُ الذي مَلكَ الهَوَى
أزِمَّتهُ حَتَّى مَتى ذا التّلَوُّمُ(1)
88- ... وَحَتَّامَ لا تَصْحُو وَقَدْ قرُبَ المَدَى
وَدَنَتْ كُئُوسُ السَّيْر والنَّاسُ نُوَّمُ(2)
89- ... بَلى سَوْفَ تصْحُو حينَ يَنْكَشفُ الغطا
وَيَبْدو لكَ الأمْرُ الذي أنْتَ تكْتُمُ
يخاطب قلوب المؤمنين الذين أسرت في حب الله، واستولى عليها الشوق إلى لقائه. يقول لهم: لِمَ أنتم غافلون؟ وإلى متى هذه الغفلة؟ ألم يأن لكم أن تفيقوا؟ ألم تعلموا أن الحياة قصيرة؟ بل هي ساعات تُعَد، وقد قرب وقت الرحيل، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
نعم، سوف تعلم الحقيقة بعد أن تتضح لك الأمور، ولكن في وقت لا ينفع فيه الندم؛ كما يذكر عن علي رضي الله عنه: «الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا»(3). فسوف ترى في ذلك اليوم ما لم تره في الدنيا؛ قال تعالى: { لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ } (4).
90- ... وَيَا مُوقِدًا نارًا لغَيْركَ ضَوْءُهَا
وَحَرُّ لظاهَا بَيْنَ جنْبَيْك يَضْرِمُ(5)
91- ... أهذا جَنَى العلم الذي قدْ غَرسْتَهُ
وَهَذا الذي قدْ كُنْتَ تَرجُوهُ يُطعِمُ(6)
92- ... وَهذا هُوَ الحظُّ الذِي قدْ رَضِيتَهُ
لنَفْسِكَ في الدَّارَيْنِ جَاهٌ وَدِرْهَمُ(7)
__________
(1) أزمة: جمع زمام وهو ما يشتد به. زم البعير: خطمه. التلوم: الانتظار والتمكث.
(2) حتام: مكونة من (حتى) الجارة و(ما) الاستفهامية. المدى: الغاية.
دنت كؤوس السير: حان وقت الرحيل.
(3) انظر المقاصد الحسنة: 1240، والسلسة الضعيفة: 102.
(4) سورة ق: 22.
(5) لظاها: لهبها. يضرم: يشتعل.
(6) جنى: ما يلتقط من الثمر.
(7) الحظ: النصيب, الدارين: الدنيا والآخرة.
جاه: القدر والمنزلة.(1/30)
93- ... وَهَذا هُوَ الرِّبْحُ الذي قدْ كَسِبْتَهُ
لعَمْرُكَ لا رِبْحٌ وَلا الأصْلُ يَسْلمُ(1)
يضرب مثلاً لكل من يقدم للناس مل ينفعهم, سواء أكان ذلك في أمور الدين أم الدنيا, فإن كل إنسان قبل أن يفكر بنجاة غيره عليه أن يفكر بنجاة نفسه, لا أنْ يُنير للناس طريقهم ويمشي هو في الظلام.
إن العلم الذي تعلمته, وأتعبت نفسك في تحصيله, وضيعت الكثير من الوقت من أجله؛ هل أخلصت فيه النية لله؟
وهل كان كل ما رجوته من تعلمك للعلم هو أن تحصل على بعض المال؟ أو أن تكون لك الوجاهة عند الناس؟ أو أن تتصدر المجالس؟ أهذا هو حظك من العلم في الدنيا والآخرة؟
فإن هذا المكسب الذي حصلت عليه شيءُ فانِ سرعان ما يزول عنك بمجرد موتك, ولكن تبقى عليك تبعاته.
فلا شك في أن من تعلم العلم الشرعي لغير وجه الله فإنه سوف ينال العقاب الأليم من الله تبارك وتعالى. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (من تعلم علمًا مما يبتغي به وجه الله عز وجل, لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضًا من الدنيا؛ لم يجد عرف الجنة يوم القيامة)(2)؛ يعني ريحها.
قوله: (لا ربح ولا الأصل يسلم): يعني الذي تعلم لغير الله لا يؤجر يوم القيامة, ولا يسلم بنفسه من العذاب.
94- ... بَخِلتَ بِشَيْءٍ لا يضُرُّكَ بَذْلهُ
وَجْدْتَ بِشَيْءٍ مِثْلَهُ لا يُقَوَّمُ(3)
95- ... بَخِلتَ بِذا الحظ الخَسِيس دَناءَةً
__________
(1) لعمرك: مكونة من (لام الابتداء) ولفظ القسم الصريح (عمرك) ويعرب مبتدأ محذوف لخبر وجوبًا تقديره (قسمي). انظر معجم الشوارد النحوية, وإعراب القرآن لمحي الدين الدرويش.
(2) رواه أحمد: 2/338, وأبو داود: 3664, وانظر ابن ماجه وابن عبد البر, وهو صحيح [يراجع «اقتضاء العلم العمل» تحقيق الألباني رقم: 102, المجلة].
(3) بَذَله: جاد به وأعطاه. وجدت: الجواد: السخي. لا يُقوَّم: لا تحدد قيمته.(1/31)
وَجُدْتَ بِدَار الخُلدِ لو كُنْتَ تَفْهَمُ(1)
96- ... وَبِعْتَ نَعِيمًا لا انْقِضَاءَ لهُ ولا
نظِيرَ بِبَخْس عَنْ قليل سَيُعْدَمُ(2)
97- عكست الأمر إن كنت ... فهَلا عَكَسْتَ الأمْرَ إنْ كُنْتَ حَازِمًا
وَلكِنْ أضَعْتَ الحزْمَ لوْ كُنْتَ تَعلمُ(3)
المال الفاني الذي حرصت على جمعه وتخزينه ومنعت إنفاقه في وجوه الخير؛ لو أنفقته فلا يضرك إنفاقه, بل حسبه هو الذي يضرك, وهو من تزيين الشيطان؛ قال الله تعالى: { الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمْ الْفَقْرَ } (4). عن أبي هريرة رضي الله عنه, عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال, (ما نقصت صدقة من مال 000)(5).
ومقابل هذا البخل والحرص قد جدت وبذلت وزهدت بالجنة والنعيم الدائم, وما هذا إلا من قلة فهم وسوء تصرف؛ لأن نعيم الجنة ليس له شبيه ولا نظير, لأنه لا ينفد: { لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ } (6). فكيف يستبدل الإنسان الخسيس الحقير الفاني بالنفيس الباقي.
هذه عروض الدنيا التي فضلتها على نعيم الآخرة لا قيمة لها, ولا تنفع صاحبها بعد موته, بل تصبح ملكًا لغيره.
فإن كان كل ذي رأي صائب لا يتردد في أن يعكس الأمر؛ بأن يحتفظ بالنفيس الباقي, ويزهد ويترك الحقير الفاني.
98- ... وَتَهْدِمُ مَا تبْنِي بِكَفِّكَ جاهِدًا
فَأنْتَ مَدَى الأيَّام تَبني وَتَهْدِمُ
هذا النوع من الناس, وإن فعل بعض الطاعات وأتى ببعض القربات والأعمال الصالحة, فإنه سرعان ما يفسد عمله؛ إما بعدم إخلاص النية, وإما بالمن والأذى.
__________
(1) الخسيس: الدنيء الحقير. الدنيء: الخبيث.
(2) نظير: المثل. ببخس: بنقص. سيعدم: سيفقد.
(3) الحزم: ضبط الأمر, أو ضبط الرجل أمره وأخذه بالثقة.
(4) سورة البقرة: 268.
(5) رواه مسلم: 2588.
(6) سورة الواقعة: 33.(1/32)
قال الحق سبحانه: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى } (1), وإما أن يكون العمل على خلاف السنة. عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد)(2)؛ فإن أمثال هؤلاء يعملون, ولكنهم ينقضون أعمالهم بأيديهم, بل هي وبال عليهم يوم القيامة.
99- ... وَعندَ مُرادِ الله تفْنى كَميِّتٍ
وَعِنْدَ مُرادِ النَّفْس تُسْدي وَتُلحمُ(3)
إذا جاءك أمر الله بأن تفعل كذا أو أن تجتنب كذا يصيبك الذوبان, وتصبح كالميت تمامًا؛ لا تسمع ولا تعقل. أما إذا جاءت الشهوة ومراد النفس الأمارة بالسوء, فإنك تقبل عليها بشدة حتى لا تستطيع أن تميز بين الخير والشر.
100- ... وَعِنْدَ خِلافِ الأمْرِ تحْتجُّ بِالقَضَا
ظَهِيرًا عَلى الرَّحْمنِ للجَبرِ تزْعُمُ(4)
إذا خالفت أوامر الشرع, وفعلت المحظور, وارتكبت المحرمات, وتركت الواجبات؛ فإنك تزعم أن هذا قد كتبه الله عليك في الأزل, وأنك لا تستطيع أن تفعل غيره لأنك مسيّر لا إرادة لك, فأنت تعين بهذا أهل الباطل المخالفين لأوامر الله, وتنحاز إليهم, وتبني عقيدة الجبرية التي لا تُثبت للعبد فعلاً ولا قدرة على الفعل أصلًا(5).
__________
(1) سورة البقرة: 264.
(2) رواه مسلم: 1718. أما رواية: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد). فقد رواها البخاري ومسلم وغيرهما.
(3) مراد: المشيئة والطلب. تفنى: تعدم. تسدى: سدا: مدَّ يدهُ نحو الشيء.
تلحم: لَحم الأمر: أحكمه. ورجل اللحم: أكول اللحم. ورجل ملحم: إذا كثر عنده اللحم.
(4) خلاف الأمر: فعل ما يخالف الأوامر الشرعية.
ظهير: معين.
(5) قال الشهر ستاني في الملل والنحل: 1/85, والجبر هو نفي الفعل حقيقة عن العبد وإضافته إلى الرب تعالى؛ فالجبرية الخالصة: هي التي لا تثبت للعبد فعلاً وقدرة على الفعل أصلًا.(1/33)
أي إن كل ما يقوم به العبد من أعمال الخير والشر, وفعل الطيب والخبيث, وإتيان المباحات والمحرمات, ينسبون كل هذا إلى الله لأنه الذي كتبه على العبد؛ وإنما هو مسيّر تسييراً كاملًا. وهذا باطل واضح البطلان؛ لأن علم الله السابق بأن هذا العبد ماذا يختار فيعمل باختياره, فكتب الله سبحانه وتعالى أنه شقي أو سعيد وهو في بطن أمه؛ لأنه سبحانه وتعالى يعلم أن هذا العبد بعد ذلك أي الطريقين يسلك فكتبه عليه.
101- ... تُنَزِّهُ منْكَ النَّفْسَ عَنْ سُوء فعْلِهَا
وَتَعْتبُ أقْدارَ الإله وَتَظْلمُ(1)
إذا طلبت منك نفسك فعل القبيح وارتكاب ما حرم اللهو فإنك تلتمس الأعذار هنا وهناك؛ لكي تجد لنفسك مساغًا لفعلها، وأنها لم تفعل إلا ما فيه الخير والصلاح. وإذا وقعت في مكروه، فإن اللوم كل اللوم على القدر الذي كتبه الله عليك، ظلمًا لك، وهضمًا لحقوقك، واختصك أنت بالمكروه دون العباد.
102- ... تُحِلُّ أمُورًا أحْكَمَ الشَّرْعُ عَقْدَهَا
وتَقْصدُ مَا قدْ حَلهُ الشَّرْعُ تُبْرمُ(2)
103- ... وَتَفهَمُ مِنْ قَوْلِ الرَّسولِ خِلافَ مَا
أرادَ لأنَّ القلبَ مِنكَ مُعَجَّمُ(3)
__________
(1) تنزه: تباعدها عن كل مكروه.
تعتب: تنتقص (النهاية في غريب الحديث).
(2) تحل: حل العقدة: فتحها. تبرم: أبرم الشيء، أحكمه (مختار الصحاح).
(3) معجم: العجماء: البهيمة، سميت به لأنها لا تتكلم؛ وكل ما لا يقدر على الكلام فهو أعجم (النهاية في غريب الحديث).(1/34)
كثير من القضايا والأمور حكمها واضح في الإسلام، من حل وتحريم، فينبري أناس طمست بصائرهم، فيضعون أنفسهم في مقام الله جل وعلا، فيحلون للناس ويحرمون عليهم؛ متبعين أهواءهم وشهواتهم. ولا شك في سبحانه في أن الذي ينصب نفسه للتحليل والتحريم إما أن يكون من الكاذبين؛ لقول الله سبحانه: { وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمْ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ } (1).
وإما أن يكون قد نصَّب نفسه للألوهية؛ لأن التشريع من اختصاص الإله، قال الحق تبارك وتعالى: { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ } (2).
فإن صاحب القلب المعجَّم، الذي لا يفقه ولا يقدر على تمييز الأمور، يأتي إلى أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيفهمها على خلاف مرادها؛ فتجده يتخبط في أمور الشرع.
104- ... مُطِيعٌ لِداعِي الغَيِّ عَاص لِرُشده
إلى رَبِّهِ يَوْمًا يُرَدُّ وَيعْلمُ(3)
تجده مطيعًا لكل ناعق شر، متخذًا دعاة الباطل قدوة له. أما طريق الهداية والنور، طريق الخير والفلاح، فهو معرض عنه ولا يلتفت إليه.
ومع هذا؛ فهو لابد وأن يأتي اليوم الذي يموت فيه، ثم يرد إلى ربه؛ وسوف يعلم بعد ذلك أنه كان مخطئًا، ولكن لا فائدة حينئذ.
105- ... مُضِيعٌ لأمْرِ اللهِ قدْ غشَّ نَفْسَهُ
مُهِينٌ لهَا أنَّي يُحَبُّ وَيكرَمُ(4)
__________
(1) سورة النحل: 116.
(2) سورة الشورى: 21.
(3) الغي: الضلال والانهمال بالباطل (النهاية).
الرشد: ضد الغي.
(4) مضيع: مهمل. غش: غشه: لم يَمْحَضْهُ النصح، أو أظهر له خلاف ما أضمر.
مهين: مُذِل.(1/35)
لقد تركت أوامر الله سبحانه ولم تعمل بها، وكنت السبب في هلاك نفسك؛ لأنك لم تزجرها وتمنعها عن هواها، وإنما أطلقت لها العنان؛ وهذا هو الغش لها؛ يقول الحق تبارك وتعالى: { وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى } (1).
والذي يفعل كل ما تشتهي نفسه فإنه –ولا شك- سوف ينقاد لها، ويوردها موارد الرذيلة، ويكون عبدًا لهواه، فيكون قد أهان نفسه وسقط من أعين الناس؛ فلا يحبه تقي، ولا يكرمه مؤمن.
106- ... بَطِيءٌ عَن الطاعَاتِ أسْرَعُ لِلخَنَا
مِنَ السَّيْل في مَجْرَاهُ لا يَتَقَسَّمُ(2)
مقصر في فعل الطاعات، متكاسل في أدائها. أما للفواحش فهو مقدام أسرع من السيل إذا كان مجتمعًا ولم يتشعب.
107- ... وَتزعُمُ مَعْ هذا بأنَّكَ عَارِفٌ
كَذَبْتَ يَقِينًا في الذِي أنْتَ تَزْعُمُ
108- ... وَمَا أنتَ إلا جَاهِلٌ ثُمَّ ظَالمٌ
وإنَّكَ بَيْنَ الجاهلينَ مُقَدَّمُ
ومع ما أنت عليه من ترك الواجبات، وفعل المحرمات، والبطء بفعل الخيرات، والإسراع للفواحش، وما أنت عليه من الفهم السقيم لأحكام الشرع. مع هذا كله، تزعم أنك تعرف حقائق الأمور ومقاصد الشرع.
لا شك في أنك كاذب فيما ادعيت، وإنما هو زعم منك. وإنما الحقيقة الواضحة أنك تجهل الأمور التي يعلمها العامِّي من الناس، فضلًا عن الأمور التي تحتاج إلى بحث ودراسة. وما ذاك لاإلا لأنك لست من الجاهلين فحسب، وإنما من أجهل الجاهلين.
109- ... إذا كَانَ هذا نُصْحَ عَبْدٍ لِنفْسِه
فَمَن الذي منْهُ الهُدَى يُتَعَلمُ
__________
(1) سورة النازعات: 40، 41.
(2) للخنا. خنا خنوًا: أفحش.(1/36)
من الأمور البديهية أن الإنسان يقدم ما فيه مصلحة نفسه على مصلحة غيره. ومن هذا الباب؛ أن الذي يسعى في مصالح الناس وقضاء حوائجهم ويجهد نفسه في هذا –ولو على حساب مصالحه- أنه لو لم يعلم أن الله سبحانه سوف يعظم له الجزاء –سواء في الدنيا أو في الآخرة- لما عمل شيئًا من ذلك.
أما الظالم لنفسه، والغاش لها، إذا كان هذا تصرفه مع نفسه، فكيف يرجى منه النفع لغيره؟ وفاقد الشيء لا يعطيه.
110- ... وفِي مِثْل هذَا الحالِ قدْ قال مَنْ مَضَى
وأحْسَنَ فِيمَا قالهُ المتكلمُ
111- ... فإن كُنتَ لا تَدْرِي فتلك مُصيبَةٌ
وإن كُنتَ تدْري فالمصيبة أعظم
إن هذا الغاش لنفسه؛ ويظن أنه ناصح لها. والجاهل بالأمور؛ ويظن أنه عالم بها. عن مثل هذا الصنف من الناس قد قال الأولون هذه المقالة: (إن كنت لا تدري... ) يعني: إن كنت جاهلًا بأمور الشرع وأمور الحياة فهي مصيبة؛ لأن الجاهل عدو نفسه، والجهل ظلمات. هذا بالنسبة للجاهل الذي يعلم أنه لا يعلم، ويترك العمل لأنه لا يستطيع أن يعمل بغير علم.
أما الذي يعلم أنه لا يعلم، ويعمل بعد ذلك بغير علم، ويتخبط بجهله؛ فهذه أعظم من تلك.
112- ... وَلوْ تُبْصِرُ الدُّنْيَا وَرَاءَ سُتُورهَا
رَأَيْتَ خَيَالًا فِي مَنَام سَيُصْرَمُ(1)
113- ... كَحُلم بطيفٍ زارَ في النَّوم وانْقضَى
المنامُ وراحَ الطيْفُ والصَّبُّ مُغْرَمُ(2)
114- ... وَظلٍّ أرَتْهُ الشَّمْسُ عندَ طلوعِهَا
سَيقْلصُ في وَقْتِ الزَّوَالِ وَيُفْصَمُ(3)
115- ... وَمُزْنَة صَيْفٍ طابَ منْهَا مَقِيلهَا
__________
(1) ستورها: ستور جمع ستر، وهو ما يستر به ويغطي ويحجب (القاموس).
خيالًا: الخيال: الطيف، وهو من التخييل والوهم. سيصرم: سيُقطع.
(2) بطيف: الطيف: الخيال مجيئه في النوم.
صب: مشتاق، والصبابة: رقة الشوق وحرارته.
مغرم: أسير الحب، أو المولع.
(3) سيقلص: سينقبض ثم يذهب. الزوال: زالت الشمس: مالت عن كبد السماء.
يفصم: يقلع.(1/37)
فَوَلتْ سَرِيعًا والحَرور تَضَرَّمُ(1)
116- ... وَمطعَم ضَيْفٍ لذَّ منْهُ مساغُهُ
وَبَعْدَ قليل حَالهُ تلكَ تُعْلمُ(2)
الناظر الحقيقي لهذه الحياة، والذي ينظر بعين البصيرة، سوف يعلم أنها زائلة، بل هي مثل الخيال الذي يأتي للنائم ثم يذهب بعد ذلك.
ويذكر المصنف، رحمه الله، بعض الأمور ليمثل بها عن حقارة الدنيا وزوالها حيث يقول:
(كحلم بطيف...) مثلها كمثل عاشق محب مشتاق إلى محبوبه وفي أثناء نومه رأى محبوبه في المنام، ومن شدة فرحه فزع لذلك اللقاء، ومن فزعه استيقظ من نومه فلم ير شيئًا. هكذا الحياة، يعيش فيها الإنسان عمره، وعندما يحين وقت الوفاة كأنه لم يعش فيها إلا سويعات.
وقوله: (وظل أرته الشمس... )أي إن الدنيا كمثل الظل الذي تشاهده عندما تشرق الشمس، فإذا زالت زال الظل وذهب.
وقوله: (ومزنة صيف...) ومثل الدنيا –كذلك- كمثل سحابة في وقت الصيف، جاءت فحجبت الشمس، فانخفضت الحرارة وارتاح الناس في وقت الظهيرة وناموا، وماهي إلا لحظات حتى ذهبت السحابة وطلعت الشمس بحرارتها الملتهبة.
وقوله: ( ومطعم... ضيف) أيضًا ومثل الدنيا كمثل الطعام الطيب اللذيذ في طعمه الشهي وفي رائحته، وبعد الأكل بفترة قصيرة سوف يتغير ويصبح نتن الرائحة قبيح المنظر تعافه النفس.
117- ... كذا هذه الدُّنْيا كأحلام نائم
وَمَنْ بَعْدِهَا دَارُ البَقَاء سَتَقدمُ(3)
118- ... فجُزْها مُمِرًّا لا مُقرًّا وَكُنْ بِهَا
غَريبًا تعِشْ فيهَا حَميدًا وَتَسْلمُ(4)
119- ... أو ابنَ سبيل قالَ في ظلِّ دَوْحةٍ
__________
(1) مزنة: سحابة. مقيلها: المقيل: النوم في نصف النهار.
الحرور: الريح الحارة. تضرم: تلتهب.
(2) مساغه: ساغ الشراب: سهل مدخله في الحلق (مختار الصحاح).
(3) دار البقاء: يوم القيامة.
(4) فجزها: جاز الموضع: سلكه وسار فيه وخلفه.
مقرًا: القرار: المستقر من الأرض.(1/38)
وَرَاحَ وَخَلى ظلهَا يَتقسَّمُ(1)
120- ... أخَا سَفَر لا يَستقرُّ قرارُهُ
إلى أنْ يَرَى أوْطَانهُ وَيُسلَمُ
بعد أن ذكر المصنف، رحمه الله، أمثلة على تفاهة الدنيا وحقارتها وقصر مدتها، أردف ذلك بقوله: (كذا هذه كأحلام... ) أي إن بقاء الدنيا واستمتاع أهلها بها، كالنائم عند مل يرى في نومه يذهب كل شيء؛ كذلك الدنيا، فإنها تزول وتذهب بمجرد أن يموت. ولكن بعد زوال الدنيا فإن الآخرة سوف تأتي، ويُسأل العبد عن كل صغيرة وكبيرة.
فاستمع إلى المصنف حيث يقول: (فجزها ممرًا... ) أي اعبرها، كأنما هناك جسر وضع على حافتي نهر، وجاء الناس لكي يعبروا هذا النهر من على متن ذلك الجسر. وكذلك، على الإنسان أن يتخفف منها ما استطاع، ولا يثقل نفسه بها، ويجعل نفسه فيها كالغريب الذي لا يعرف أحدًا.
وأن يكون فيها كمثل المسافر الذي مر على شجرة عظيمة الظل، فأقام تحتها ليستريح من عناء السفر، ثم تركها ليواصل سيره؛ وفيه إشارة إلى قول ابن عمر رضي الله عنهما حيث قال: أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمنكبي فقال: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)؛ وكان ابن عمر يقول: (إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك)(2).
والمسافر لا يهدأ باله ولا تستقر نفسه حتى يرجع إلى وطنه، ويسلم على أهله ومعارفه ويطمئن على أحوالهم.
121- ... فيا عجبًا كم مَصْرع وَعظتْ بِهِ
بنِيها وَلكِنْ عَنْ مَصَارِعِها عَموا(3)
__________
(1) ابن سبيل: المسافر الكثير السفر، سُمي ابنًا لها لملازمته إياها (النهاية).
قال: نام في الظهيرة. دوحة: الشجرة العظيمة المتسعة من أي الشجر كانت.
يتقسم: يتجزأ.
(2) رواه البخاري: 6416، 11/233.
(3) مصرع: صرعه صرعًا: طرحه على الأرض، ويقال: صرعته المنية.
بنيها: أبنائها.(1/39)
يتعجب رحمه الله، من كثرة ما يرى الناس أمامهم من نهايات غيرهم، ولكن لا يتعظ إلا القليل منهم؛ لأنهم يملكون الأبصار ولا بصائر لهم، كما رُوي عن بعض الصحابة: _كفى بالموت واعظًا)(1)، وروى أبو هريرة رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (أكثروا من ذكر هاذم اللذات: الموت)(2).
122- ... سَقَتْهُمْ كُئوس الحُبِّ حَتى إذا نشوْا
سَقتْهُمْ كئوس السُمِّ والقوْمُ نوَّمُ(3)
أرضعتم الدنيا حبها فتنافسوا فيها وفي جمعها، فلا همَّ لهم الإكثار من حطامها. حتى إذا جمعوا ما استطاعوا جمعه أتاهم الموت وهم غافلون.
عن السور بن مخرمة رضي الله عنه، في حديثه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وفيه:
(... فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشى عليكم أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على ما كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلكهم كما أهلكتهم)(4).
123- ... وَأعْجَبُ مَا في العَبْدِ رُؤْيَةُ هذِهِ
العَظائم والمَغْمُورُ فيهَا مُتَيَّمُ(5)
124- ... وَمَا ذاكَ إلا أنَّ خَمْرة حُبِّهَا
لتسْلبُ عَقْلَ المَرْءِ منْهُ وَتصْلِمُ(6)
125- ... وأعْجَبُ منْ ذا أنَّ أحْبَابَهَا الأولى
تُهينُ وُللأعْدا تُراعِي وَتُكْرِمُ(7)
__________
(1) رواه أحمد في الزهد: ص176، عن عمار بن ياسر. انظر السلسلة الضعيفة للألباني رقم: 502.
(2) رواه الترمذي: 2307، والنسائي: 4/4، وابن ماجه: 4258. [وهو حديث حسن صحيح يراجع الإرواء، 682، المجلة].
(3) نشوا: سكروا.
(4) رواه البخاري: 2625، ومسلم: 2960، واللفظ له.
(5) المغمور: غمره الماء أي علاه، والانغمار: الانغماس.
متيم: ذليل. يقال: تامته المرأة أو العشق والحب تيما ويتمته: عبدته وذللته (القاموس).
(6) تسلب: تختلس، أو تأخذ خلسة. تصلم: تستأصل قطعًا.
(7) تراعي: تحسن، وراعيته: لاحظته محسنًا إليه.(1/40)
والعجب كل العجب أن الإنسان يرى ويستشعر الأمور العظيمة والمخاطر الجسيمة، ثم إن حب الدنيا قد أذهب عقله وسيطر على أحاسيسه؛ فانغمس فيها ولا يفكر في غيرها.
وسبب ذلك أن حلاوتها وزخارفها وجمالها (الظاهر فقط) قد ذهب بعقول من افتتن بها، فجلبتهم إليها وقطعتم فيها تقطيعًا.
وأكثر عجبًا مما تقدم! أن الدنيا تهين من تعلق بها وتُذل من أكرمها.
عن زيد بن ثابت رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من كانت الدنيا همه فرق الله عليه أمره، وجعل فقره عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له. ومن كانت الآخرة نيته جعل الله له أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة)(1).
فهذه الدنيا من جعلها همه لازمه الهم طوال حياته، ومن تركها وأشغل نفسه بالآخرة، أتته الدنيا رغم أنفها؛ فهي كمال المصنف: ترعى وتكرم من عاداها، وتذل وتهين من كان من أحبابها.
126- ... وَذلك بُرْهَانٌ عَلى أنَّ قدْرَهَا
جَنَاحُ بَعُوض أوْ أدَقُّ وألامُ(2)
إن فعل الدنيا بالناس –كما مر بنا- دليل واضح بيِّن على أن قدرها هو تركها، والزهد فيها، وعدم تعظيمها والاهتمام بها؛ لأنها حقيرة لا تساوي شيئًا، عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرًا منها شربة ماء)(3).
127- ... وَحَسْبكَ مَا قالَ الرَّسُولُ مُمَثِّلًا
لهَا وَلدَارِ الخلدِ وَالحَقُّ يُفهَمُ(4)
__________
(1) رواه أحمد: 5/183، وابن ماجه: 4105، وغيرهما. قال البوصيري في الزوائد: إسناده صحيح. [والحديث صحيح، يراجع السلسلة الصحيحة، 950، المجلة].
(2) برهان: حجة. قدرها: قدر الشيء: مبلغه. أدق: أقل، يقال أخذ جله ودقه: أي كثيرة وقليلة. الأم: أظهر خصال اللؤم (لسان العرب).
(3) رواه الترمذي: 2320، 4/560. انظر السلسلة الصحيحة للألباني: 943.
(4) حسبك: يكفيك. دار الخلد: الجنة.(1/41)
128- ... كَمَا يُدْلِي الإنْسَانُ فِي اليَمِّ إصْبَعًا
وَيَنْزعُهَا مِنْهُ فمَا ذَاكَ يُغْنَمُ(1)
يكفيك تمثيلًا للدنيا وحقارتها أمام الآخرة ما قاله الرسول - صلى الله عليه وسلم - مفاضلًا بينهما وممثلًا لهما، كما روي المستورد رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (والله ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه هذه (وأشار يحي بالسبابة) في اليم فلينظر بم يرجع(2).
قال النووي(3): ومعنى الحديث: ما الدنيا بالنسبة إلى الآخرة –في قِصَر مدتها وفناء لذاتها، ودوام الآخرة ودوام لذاتها ونعيمها –إلا كنسبة الماء الذي يعلق بالإصبع إلى باقي البحر.
129- ... ألا ليْتَ شِعْرِي هَلْ أبِيتَنَّ ليْلةً
عَلى حَذَرٍ مِنْهَا وَأَمْرِي مُبْرَمُ(4)
يتمنى أن تمر عليه ليلة واحدة وهو آمن من تقلبات الدنيا، ويكون حاله فيها محكمًا مستقرًا لا يخاف أن ينفرط عليه أمره.
130- ... وَهَلْ أرِدَنْ مَاءَ الحياةِ وَأَرْتَوِي
عَلى ظمَأ مِنْ حَوْضِهِ وَهْوَ مُفْعَمُ(5)
(ماء الحياة): هذه العبارة لها أكثر من معنى، منها: الوحي الذي أنزله الله سبحانه على نبيه - صلى الله عليه وسلم - ؛ لأنه حياة القلوب والأرواح؛ فيكون المعنى: إنه وبهذا يكون الضمير في حوضه عائدًا على الحي.
__________
(1) يدلي: دلا الدلو: نزعها، وأدلاها: أرسلها في البئر.
اليم: البحر. ينزعها: يخرجها. يغنم: يفوز ويظفر.
(2) رواه مسلم: 2858، والترمذي: 2323، وابن ماجه: 4108، وأحمد.
(3) في شرح مسلم: 17/192.
(4) ليت شعري: ايتني أعلم. مبرم: أبرم الأمر وبرمه: أحكمه.
(5) أردن: نون التوكيد الخفيفة دخلت على الفعل المضارع (أرد) ومعناه: أبلغ. مفعم: ممتلئ.(1/42)
ومنها: الدار الآخرة، لقوله سبحانه: { وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } (1)؛ فيتمنى أن يكون من السعداء يوم القيامة، ويعيش الحياة الحقيقية، ويتزود من الأحواض التي في الجنة ويرتوي منها.
ومنها: الماء الذي يكون في حوض النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي وصفه لهم. حيث يشتد العطش بالناس ثم ينعم الله على من يشاء من هذه الأمة فيشرب من الحوض؛ ومن شرب منه فإنه لا يظمأ أبدًا.
131- ... وَهَلْ تَبْدُوَنْ أعْلامُهَا بَعْدَمَا سَفتْ
عَلى رَبْعهَا تِلكَ السَّوَافِي فتُعْلمُ(2)
الديار التي هبت عليها الرياح المحملة بالغبر والأتربة فطمست معالمها. هل ستزول الأتربة بعد ذلك وتظهر المعالم من جديد؟
وربما يريد المصنف، رحمه الله تعالى، أن يقول: إن السنة الخالصة، والاتباع الكامل لما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - ، والتجرد الحقيقي لاتباع نهجه، قد هبت عليه رياح البدع والتقليد الأعمى لأشخاص بعينهم –وإن خالفوا الهدى الثابت بالأسانيد الصحيحة. يقول: فهل تزول هذه السواقي وتظهر معالم السنة ويرجع الناس إلى العمل بما صح عن نبيهم - صلى الله عليه وسلم - ؟
132- ... وَهَلْ أفْرِشنْ خَدِّي ثرى عَتَباتِهِم
خُضُوعًا لهُمْ كَيْمَا يَرِقُّوا وَيَرْحَمُوا(3)
وهل يتمكن من وضع خده على تراب عتبات الله سبحانه، في خضوع وتذلل، لعله ينال رحمة الله وعطفه؟
133- ... وَهَلْ أرْمِيَنْ نَفْسي طرِيحًا بِبَابِهمْ
__________
(1) سورة العنكبوت: 64.
(2) تبدون: بدا بَدْوا وبُدُوًّا: ظهر. سفت: سفت الريح التراب: ذرته أو حملته.
الربع: الدار بعينها، حيث كانت، والمحلة والمنزل (القاموس).
(3) أفرشن: فرش الشيء يفرشه: بسطه. ثرى: تراب. خضوعًا: تواضعًا.
كيما: لفظ مركب من (كي) الجارة التعليلية و(ما).
يرقوا: الرقيق ضد الغليظ.(1/43)
وَطَيْرُ مَنايَا الحُبِّ فوْقِي تُحَوِّمُ(1)
وهل أتمكن من أن ألقي بنفسي ببابكم؟ أما حبي العظيم فيكم، وشدة الشوق إليكم، ربما يكون سببًا في هلاكي.
134- ... فَيَا أَسَفى تفنَى الحَياةُ وتَنْقَضِي
وَذا العَتْبُ باقٍ مَا بَقِيتُمْ وعشْتُمُ(2)
يتأسف على انقضاء الحياة وذهابها، وهو ما يزال يجد اللوم والعتاب؛ لأنه مولع بحب ربه، وقد ألزم نفسه بطاعته وعدم مخالفة أمره؛ فهو لا يَسلم من عتاب المخالفين.
135- ... فَمَا مِنْكُمُ بُدٌّ وَلا عَنْكُمُ غِنً
ى
وَمَا لِيَ مِنْ صَبْر فأسْلوَ عَنْكُم(3)
إن قلبي قد تعلق بكم؛ فلا حب لي إلا أنتم. فلا محالة إنني باق على هذا، ولا أستطيع أن استغني بغيركم، ولا أن أصبر عنكم، ولا أنساكم أبدًا.
136- ... وَمَنْ شَاءَ فليَغْضَبْ سِوَاكُمْ فَلا أذى
إذا كُنْتُمُ عَنْ عَبْدِكُمْ قَدْ رَضِيتُمُ(4)
يا رب إن كنت قد رضيت عني فلا عليَّ بعد ذلك؛ فإن الخلق بأسرهم لو غضبوا لم أكترث لغضبهم؛ لأن الأصل عندي هو رضاك.
137- ... وَعُقْبَى اصْطبَاري فِي هَوَاكُمْ حَميدَةٌ
وَلَكنَّهَا عَنْكُمْ عقَابٌ وَمَأثمُ(5)
__________
(1) طريحًا: طرح الشيء: رماه. منايا: جمع منية وهي الموت.
تحوم: حام الطير على الشيء حومًا وحومانا: دوَّم (القاموس).
(2) العتب: اللوم.
(3) بد: لا فراق أو لا عوض أو لا محالة. أسلو: أنسى.
(4) أذى: مكروه.
(5) عقبى: جزاء الأمور.
اصطباري: يقال صبر من خصمه واصطبر: أي اقتص منه (نهاية)، أو شدة الصبر. قال في القاموس: صبر يصبر فهو صابر وتصبر واصطبر.(1/44)
إن عاقبة شدة صبري، وتحمل آلام شوقي في حبكم، نهايته التوصل إلى رضاكم؛ فهي محمودة، وأكرم بها نهاية؛ لأنكم سوف تجزونني أحسن الجزاء. أما الذي يصبر عنكم ويتحمل الأذى بمخالفة أمركم، ويتعب نفسه بالسعي وراء المنكرات وفعل المحرمات؛ فإنه سوف يجني لنفسه اآثام، وينال أشد العذاب. قال الحق تبارك وتعالى: { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً } (1).
138- ... وَمَا أنَا بِالشَّاكِي لِمَا تَرْضُونهُ
وَلكنَّني أرْضَى بِهِ وَأسَلمُ(2)
>
139- ... وَحَسبِي انْتِسَابِي منْ بَعيدٍ إليْكمُ
ألا إِنَّهُ حظ عَظِيمٌ مُفَخَّمُ(3)
140- ... إذا قيلَ هَذا عَبْدُهُمْ وَمُحِبهُمْ
تَهللَ بِشرًا وَجْهُهُ يَتَبَسَّمُ(4)
أنا لست من الذين يتشكون من أمور التشريع التي أنتم تحبونها وفرضتموها على عبيدكم، ولكنني في غاية السعادة وكمال الرضا بفعل كل ما يرضيكم؛ فأنا أفعله وأسلم أمري إليكم. ويكفيني فخرًا وعزة أن أنتسب –ولو من بعيد- إليكم فيقال عني: عبد الله، فهذه النسبة هي عندي عظيمة الشأن عالية القدر، وإذا ما سمعتها أسَرَّ بها كثيرًا، وتبدو آثار الفرح واضحة على وجهي.
141- ... وَهَا هُوَ قَدْ أبْدَى الضَّرَاعَةَ سَائِلًا
لكُمْ بِلِسَانِ الحَالِ والقَالُ مُعَلِمُ(5)
142- ... أحِبتُهُ عَطفًا عَلَيْهِ فإنَّهُ
لمظم وإنَّ المَوْرِدَ العذْبَ أنْتُمُ(6)
__________
(1) سورة الغاشية: 2- 4.
(2) الشاكي: شكا فلانًا: أخبر بإساءته إليه.
(3) حسبي: يكفيني. الحظ: النصيب.
مفخم: التفخيم: التعظيم، وفخم: عظيم.
(4) تهلل: تهلل الوجه: تلألأ.
(5) أبدى: أظهر. الضراعة: الذل والخضوع.
لسان الحال: هيئته وأفعاله. لسان القال: ما يصدر منه من لأقوال.
(6) لمظم: رجل مظماء يعني: معطاش.(1/45)
هذا العبد المحب قد أظهر لكم فقره وشدة حاجته إليكم، فهو إليكم ذله وخضوعه، ويطلب إليكم بلسان حاله؛ فإن حركاته وسكناته تعبر لكم عن مدى حبه لكم والتصاقه بكم؛ ودليل ذلك أن قوله يصدق فعله. هذا إذا كان ضبط الكلمة (معلِم) بكسر اللام. أما إذا كان بفتح اللام (معلَم) فيكون المعنى: إن هذا فعله، أما قوله فقد عرفه الجميع فلا يخفى على أحد.
فها هو يناجي ربه سبحانه وتعالى ويطلب إليه أن يعطف عليه؛ لأنه في عطش شديد؛ فلا يرويه ويُذهب عنه غليله إلا أنتم، فهو سعيد بقربكم، ويستوحش بفراقكم والبعد عنكم.
143- ... فَيَا سَاهِيًا في غمْرَةِ الجَهل والهَوَى
صرِيعَ الأمَانِي عَنْ قَريبٍ سَتَنْدَمُ(1)
144- ... أفِقْ قد دنا الوَقتُ الذِي ليْسَ بَعْدَهُ
سِوى جنةٍ أوْ حَرِّ نَارٍ تَضَرَّمُ(2)
يا من غلب عليه هواه وهو ساه يتخبط في جهل عميق، وكل بضاعته هي التمني على الله من غير أن يبذل أي عمل في تحقيقها، فإن العمر قصير، وسوف تعلم بعد ذلك أين أنت وماذا كنت تعمل.
ثم: { وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ } (3) لا ينفع الندم يومئذ؛ { يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً } (4).
فإن هذا الساهي الذي طالت غفلته، يقول له المصنف: ألم لك أن ترجع إلى صوابك وتنتبه إلى نفسك؟ ألم تخش أن يفاجئك الموت في أي ساعة من أيام عمرك؟ فمهما طال فإنه له نهاية، وأنت لا تعلمها، فإذا حان وقتها وانتقات من هذه الدار إلى دار القرار؛ فإما الجنة وإما النار.
__________
(1) ساهيًا: غافلًا، والسهو: الغفلة. غمرة: شدة.
صريع: صرعه صرعًا: ألقاه على الأرض. والمعنى: إن الأماني غلبته فلا يستطيع مقاومتها. والأماني: جمع أمنية، وهي البغية.
(2) أفق: ارجع إلى صوابك. أفاق: إذا رجع إلى ما كان قد شغل عنه، وعاد إلى نفسه. تضرم: تشتعل.
(3) سورة الفرقان: 27.
(4) سورة الفرقان: 27.(1/46)
إما أن تكون ممن دخل في رحمة الله ورضوانه، فهو قرير العين في جنات ونهر، وإما الأخرى فهي في نار مؤصدة.
145- ... وبالسُّنَّة الغَرَّاء كُنْ مُتمسكًا
هِيَ العُرْوَةُ الوثْقى التي ليْسَ تُفْصمُ(1)
146- ... تمَسكْ بها مَسْكَ البَخيل بِمَالِه
وَعَضَّ عَلَيْهَا بالنَّوَاجِذِ تَسْلمُ(2)
بالسنة البيضاء الصافية النقية، كن متمسكًا تمسكًا شديدًا؛ لأنها هي التي تنجيك من السقوط في الهاوية؛ لأنها العروة الوثقى التي لا تنفصم.
فالذي يعمل بما دلت عليه السنة، ولا يحيد عنها، فإنه على الصراط المستقيم، وإنه متمسك بالأسباب القوية التي قد أحكمت من لدن حكيم خبير، فهي محكمة، ولا يخاف أم تنقطع به. أما العروة الوثقى؛ فقيل هي: (لا إله إلا الله)؛ وقيل هي: القرآن؛ وقيل هي: كلمة الإخلاص؛ وقيل: (أبو بكر وعمر)؛ وقيل: إذا وحد الله وآمن بالقدر، فهي العروة الوثقى(3).
وعن عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال: رأيت رؤيا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، رأيت كأني في روضة خضراء وسطها عمود من حديد، أسفله في الأرض وأعلاه في السماء، في أعلاه عروة؛ فقيل لي: ارقه. فرقيت حتى كنت في أعلى العمود، فأخذت بالعروة، فقيل لي: استمسك،، فاستيقظت وإنها لفي يدي، فقصصتها على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: (تلك الروضة الإسلام، وذلك العمود عمود الإسلام، وتلك العروة عروة الوثقى، وأنت على الإسلام حتى تموت)(4).
فالعروة الوثقى هي الإسلام كله، فمن تمسك بكل ما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو المتمسك الذي لا يخاف على نفسه السقوط.
__________
(1) الغراء: البيضاء. متمسكًا: معتصمًا. تنفصم: تنكسر.
(2) عض عليها بالنواجز: أي تمسك بها كما تمسك العاض بجميع أضراسه (النهاية).
(3) ذكر ذلك السيوطي في الدر المنثور: 1/584.
(4) رواه البخاري: 3813، ومسلم: 2484.(1/47)
أما قوله: (تمسك بها مسك البخيل)؛ لأن البخيل لا تسمح له نفسه أن يفر" بشيء من ماله، ولو كان يسيرًا، وإنما همه الأعظم أن يضيف إليه حتى يزداد.
وقوله: (وعض عليها)؛ إذا أردت السلامة والنجاة والفوز في الدنيا والآخرة، فما عليك إلا أن تتمسك بالسنة، وكأنك تعض عليها بأسنانك الداخلية زيادة في التمسك. وفيه إشارة إلى حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه وفيه: (فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجز... )(1) الحديث.
147-- ... وَدَعْ عَنْكَ مَا قَدْ أحْدَثَ النَّاسُ بَعْدَهَا
فَمَرْتَعُ هَاتِيكَ الحَوادث أوْخَمُ(2)
يشير إلى حديث عائشة رضي الله عنها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)(3).
وكذلك حديث العرباض الذي تقدم فيه قبل هذا وفي آخره: (وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة).
اترك جميع هذه البدع، فإن مصادرها ومواضعها رديئة العاقبة لا خير فيها.
148- ... وهيِّئ جَوَابًا عِنْدَمَا تَسْمَعُ النِّدا
منَ اللهِ يَوْمَ العَرْض مَاذا أَجبتُمُ
149- ... بِهِ رُسُلِي لمَّا أَتَوْكُمُ فمَنْ يَكُنْ
أجَابَ سوَاهُمْ سَوْفَ يَخْزَى وَيَنْدَمُ(4)
__________
(1) رواه أحمد: 4/126، وأبو داود: 4607، والترمذي: 2676، وابن ماجه: 42. [والحديث صحيح يراجع "الإرواء" 2455ن المجلة].
(2) مرتع: موضع الرتع، ورتع رتعًا: أكل وشرب ما شاء في خصب وسعة.
أوخم: كثير الوخم، والوخم: الوباء (القاموس).
قال في النهاية: وَخُمَ الطعام، إذا ثقل فلم يستمر فهو وخيم، وقد تكون الوخامة في المعاني. يقال: هذا الأمر وخيم العاقبة: أي ثقيل رديء.
(3) رواه البخاري: 2697، 5/301، ومسلم: 1718.
(4) يخزي: يذل ويهان.(1/48)
يشير إلى قوله سبحانه: { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمْ الْمُرْسَلِينَ } (1)؛ عندما يسأل الله تبارك وتعالى العباد هذا السؤال يريد منهم جوابًا. فهل أعددت له جوابًا؟ فلا شك في لأن من اتبع رسوله سيكون جوابه حاضرًا، ويستطيع أن يجيب عن نفسه بأنه آمن وصدق واتبع. وأما من كذب وتولى؛ فما جوابه؟ وما حجته؟ بل لو أراد أن يعد جوابًا ما استطاع؛ لأن الله سبحانه يقول: { فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمْ الأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَسَاءَلُونَ } (2)؛ لا يستطيع أن يدلي بحجة، فما له إلا السكوت، فعندها سوف يجاوب عنهم غيرهم، ومن كانت هذه حاله فلا شك في أنه من الهالكين.
نسأل الله السلامة. وهذا هو قول المصنف: (فمن يكن أجاب سواهم).
150- وخذ من تُقَى الرَّحمنِ أعظمَ جُنَّةٍ
ليَوم به تَبْدُو عيانًا جَهَنَّمُ(3)
عليك أيها العبد أن تتخذ لنفسك وقاية وجُنة تجعلها بينك وبين النار، وهذه الوقاية هي تقوى الله سبحانه؛ باتباع أوامره، واجتناب نواهيه، ومراقبته في السر والعلن.
151-وَيُنْصَبُ ذاكَ الجسرُ من فَوْقِ مَتنها
فهاوٍ ومَخْدوشٌ وناج مُسَلمُ(4)
__________
(1) سورة القصص: 65.
(2) سورة القصص: 66.
(3) جنة: وقاية. عيانًا: رآه عيانًا لم يشك في رؤيته، ورأيت فلانًا عيانًا: أي مواجهة.
(4) متنها: ظهرها، هاو: سقط إلى أسفل. مخدوش: خدشه: خمشه، وخدش الجلد: مزقه.(1/49)
يوم القيامة يؤتى بجهنم تسحبها الملائكة، لها سبعون ألف زمام، لكل زمام سبعون ألف ملك(1)، ثم يوضع عليها جسر هو الصراط. لما روى أبو هريرة وحذيفة رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «يجمع الله تبارك وتعالى الناس... وترسل الأمانة والرحم، فتقومان جنبتي الصراط يمينًا وشمالاً، فيمر أولكم كالبرق، ثم كمرَّ الريح، ثم كمر الطير، وشد الرجال؛ تجري بهم أعمالهم، ونبيكم قائم على الصراط، يقول: رب سلم سلم حتى تعجز أعمال العباد، حتى يجيء الرجل فلا يستطيع السير إلا زحفًا، وفي حافتي الصراط كلاليب معلقة مأمورة بأخذ من أمرت به؛ فمخدوش ناج، ومكدوس في النار»(2).
فالذي كان يتقي ربه ويعمل بما أمره الشرع واتبع الرسول - صلى الله عليه وسلم - فإنه سوف يعبر، ولكن العبور هذا على حسب العمل؛ فمنهم من ينجو سليمًا، ومنهم من تخدشه هذه الكلاليب وينجو، ومنهم من يهوي في جهنم.
152- ويأتي إلهُ العَالمينَ لوَْعده
فَيفْصلُ مَا بَيْنَ العبَاد وَيَحْكُمُ(3)
(ويأتي إله العالمين) المجيء صفة من صفات الله تبارك وتعالى أثبتها لنفسه في كتابه؛ مثل قوله تعالى: { هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ } (4)؛ وقوله سبحانه: { وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا } (5). وأثبتها له رسوله - صلى الله عليه وسلم - (6) في سنته؛ فنقول: هو إتيان يليق به سبحانه لا يشبه إتيان المخلوقين؛ لأنه: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } (7).
__________
(1) الحديث رواه مسلم: 2842.
(2) رواه مسلم: 195، والحديث معناه عند البخاري: 706، وأحمد: 2: 534.
(3) يفصل: يقضي بينهم.
(4) سورة البقرة: 210.
(5) سورة الفجر: 22.
(6) انظر تفسير ابن كثير: 1: 248، تحت تفسير آية: 210، من سورة البقرة.
(7) سورة الشورى: 11.(1/50)
وإتمامًا للفائدة: أنقل لك بعض ما قال العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله(1):
(وهذه الآية، وما أشبهها، دليل لمذهب أهل السنة والجماعة المثبتين للصفات الاختيارية؛ كالاستواء، والنزول، والمجيء، ونحو ذلك من الصفات التي أخبر بها تعالى عن نفسه، وأخبر بها عنه رسوله - صلى الله عليه وسلم - .
فيثبتونها لمعانيها على وجه يليق بجلال الله وعظمته، من غير تشبيه ولا تحريف ولا تعطيل، خلافًا للمعطلة على اختلاف أنواعهم؛ من الجهمية، والمعتزلة، والأشعرية، ونحوهم، ممن ينفي هذه الصفات، ويتأول لأجلها الآيات، بتأويلات ما أنزل الله بها من سلطان؛ بل حقيقتها القدح في بيان الله وبيان رسوله، والزعم بأن كلامهم هو الذي تحصل به الهداية في هذا الباب) إلى آخر ما قال، رحمه الله تعالى.
قول المصنف: (لوعده): يعني الذي ذكره في كتابه في آيات عدة؛ أن الخلق سوف يبعثون يوم القيامة، وتنصب لهم الموازين، وتوضع الكتب، وتتطاير الصحف.
153- وَيَأخُذُ للمظلوم رَبُّكَ حَقه
فَيَا بُؤسَ عَبْد للخَلائق يظلمُ(2)
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «من كانت عنده مظلمة لأخيه فليتحلل منها؛ فإنه ليس ثم دينار ولا درهم، من قبل أن يؤخذ لأخيه من حسناته؛ فإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات أخيه فطرحت عليه»(3).
الله سبحانه هو أعدل من عدل، وأحكم من حكم، ومن عدله سبحانه أن يحكم بين البهائم.
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة، حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء»(4).
__________
(1) تفسير ابن سعدي الذي اسمه: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان: 1: 187.
(2) بؤس: بئس بؤسًا: اشتدت حاجته (القاموس).
(3) رواه البخاري: 6534، 11: 395، وأحمد: 2: 506.
(4) رواه مسلم: 2582، والترمذي: 2420، وأحمد: 2/ 235.(1/51)
154- وَيُنْشَرُ ديوَانُ الحساب وَتُوضَعُ الـ
مَوازينُ بالقسْط الذي ليْسَ يَظلمُ(1)
يشير إلى قول الله تبارك وتعالى: { وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ } (2).
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يد الله ملأى لا تغيضها نفقة... ثم قال: وكان عرشه على الماء وبيده الميزان يخفض ويرفع يقول سبحانه: { وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا } (3)»(4).
155- فلا مُجْرِمٌ يَخْشى ظلامَة ذَرَّةٍ
وَلا مُحْسنٌ منْ أجْره ذاكَ يُهْضَمُ(5)
المجرم الذي فعل المنكرات، وأتى بالطامات؛ فإنه سوف يعاقب على قدر جرمه؛ فليس لأنه أجرم تصب عليه التهم، ويرمى بما لم يفعل. كلا فإن هذا ليس من عدل الله سبحانه، بل كل يعاقب بقدر ما اقترفت يداه؛ يقول سبحانه: { وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلا مِثْلَهَا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ } (6).
وكذلك الذي عمل الصالحات، وأشغل نفسه بالقربات، فإن الله جل في علاه لا يضيع له شيئا من عمله، وإنما يضاعفه وينميه(7) له، لأنه جواد.
156- وَتشْهَدُ أعضاء المسيء بما جَنَى
كَذَاكَ على فيه المُهَيمنُ يَخْتمُ(8)
__________
(1) ينشر: يبسط، وهو خلاف الطي. القسط: العدل.
(2) سورة الأنبياء: 47.
(3) سورة الكهف: 49.
(4) الحديث رواه البخاري: 4684، 8: 352.
(5) ظلامة: ما تطلبه عند الظالم، وهو اسم ما أخذه منك (مختار الصحاح).
(6) سورة الأنعام: 160.
(7) انظر الحديث تحت البيت رقم : 159.
(8) جنى: جنى الذنب عليه يجنيه جناية : جره إليه.
المهيمن: من أسماء الله تعالى في معنى المؤمن مَن آمن غيره من الخوف (القاموس).
يختم: يطبع عليه فلا يستطيع الكلام.(1/52)
يقول الحق تبارك وتعالى: { الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } (1).
إن العاصي المجرم إذا أراد أن يكذب على نفسه كما تعود في الدنيا أن يكذب على عباد الله، فإنه يوم القيامة يغلق الفم ولا ينطق اللسان؛ وإنما الكلام يومئذ لبقية الجوارح والأعضاء التي كانت صامتة في الدنيا، أما اللسان الذي كان لا يتحرك بذكر الله، وإنما كانت حركته بالفاحش من القول؛ فإنه ليس له دور يذكر يوم القيامة.
157- فَيَا ليْتَ شعْري كَيْفَ حَالكَ عنْدَمَا
تَطايَرُ كُتْبُ العَالمينَ وَتُقْسَمُ
158- أتَأخُذُ باليُمْنَى كتَابَكَ أمْ تَكُنْ
بالأخْرَى وَرَاءَ الظَّهْر منْكَ تُسَلمُ
تمنٍّ ممزوج بإشفاق على هيئة استفسار عن حالك أيها العبد؛ يوم القيامة عندما تتطاير الكتب يوم العرض الأكبر وتوزع عليهم. هل أنت ممن عمل في الدنيا بطاعة الله سبحانه، واقتفى أثر الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، ووحد الله وأخلص له في كل شيء؟ فهذا سوف يأخذ كتابه بيمينه، ويكون فرحه هو الفرح الحقيقي الذي لا يوصف، بل ينادي على رءوس الأشهاد: { هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ } (2).
أما الفريق الآخر الذي لم يرفع لهذا الأمر رأسًا، بل كان همه أن يأكل ويتمتع وينام مثل البهائم، بل هو أضل؛ لأن البهائم خلقت لهذا، وهو خلق لشيء أعظم فضيعه. فهذا يُعطى كتابه بشماله من وراء ظهره؛ زيادة له في الإهانة والتنكيل: { وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا } (3).
ويقول سبحانه عن أولئك يوم القيامة: { وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ } (4).
159- وَتَقرأ فِيه كُلَّ شَيء عَملتَهُ
__________
(1) سورة يس: 65.
(2) سورة الحاقة: 19.
(3) سورة الانشقاق: 10- 11.
(4) سورة الحاقة: 25.(1/53)
فَيُشرقُ منكَ الوَجهُ أوْ هُوَ يُظلمُ
يقول الحق تبارك وتعالى: { هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } (1)، الذي عمل الصالحات سوف يرى أن الله سبحانه قد ضاعفها له أضعافًا كثيرة، ولم يتوقع أن له مثل هذه الحسنات، ولا أقل منها بكثير، فيسر عندئذ ويشرق وجهه فرحًا وبهجة. عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «ما تصدق أحدٌ بصدقة من طيب - ولا يقبل الله إلا الطيب- إلا أخذها الرحمن بيمينه - وإن كانت تمرة- فتربو في كف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل، كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله»(2).
وأما المكذب العاصي فلا يرى في صفحاته إلا الأعمال القبيحة التي اقترفها في الدنيا، عندها يحزن حزنًا عميقًا، وتأخذه الكآبة، ويظلم وجهه شفقة منه على نفسه من العذاب، وندمًا على ما صدر منه.
160- تَقُولُ كتَابي فاقْرَءوهُ فإنَّهُ
يُبَشّرُ بالفَوْز العَظِيم وَيُعلمُ(3)
161- فإنْ تَكُن الأخْرَى فإنَّكَ قَائلٌ
أَلا ليْتَني لَمْ أوتَهُ فَهو مُغْرَمُ(4)
يشير إلى قول الحق سبحانه في كتابه العزيز عن أصناف الخلق يوم القيامة: { فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ } (5)؛ ويقول الحق سبحانه وتعالى: { وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ } (6).
__________
(1) سورة الجاثية: 29.
(2) رواه البخاري: 1410، ومسلم : 1014.
(3) يعلم: يخبر.
(4) مغرم: قال في لسان العرب: وفي حديث معاذ: ضربهم الله بذل مغرم أي لازم دائم، يقال: فلان مغرم بكذا : أي لازم له مولع به.
(5) سورة الحاقة: 19.
(6) سورة الحاقة: 25.(1/54)
الذين يكرمهم الله يوم القيامة، ويدخلهم في رحمته، فإنهم يستلمون الكتاب باليمين ويفرحون به أشد الفرح؛ كيف لا ؟ وهو يبشرهم بالفوز العظيم، ويخبرهم أنهم من السعداء.
أما الذين خذلهم الله، فإنهم يستلمون الكتاب بالشمال، ويحزنون به أبلغ الحزن، ويتمنون أنهم لم يستلموه ولم يروه؛ لأنه يخبرهم بمصيرهم المشئوم في دركات الجحيم، ويحاولون أن يبتعدوا عنه، لكنه ملازم لهم لا يفارقهم، حتى يدخلهم النار.
162- فَبَادِر إذا مَا دَامَ في العُمرِ فُسْحَةٌ
وَعَدْلُكَ مقبولٌ وَصرْفُكَ قيِّمُ(1)
بعد أن عرفت أن الحياة جسر عبور للآخرة، وهي لحظات سوف تنقضي ثم ترد إلى الديان سبحانه لترى أمامك كل ما قدمت. وعرفت أن المقصر هنا كيف يندم هناك، ويتمنى أنه لو يُرد إلى الدنيا فيعمل من الطاعات كي ينال رضا الله سبحانه: { قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ } (2). إذا عرفت هذا وعقلته؛ تصور نفسك أنك من يقول هذا. فها أنت قد عدت إلى الدنيا، فبادر إلى مرضات الله سبحانه. بادر إلى فعل ما أمرت به، واجتنب كل ما نهيت عنه، ولا تحاول أن تلتمس لنفسك الأعذار من هنا وهناك، فلربما قبل منك العذر في الدنيا ويكون مردودًا يوم القيامة؛ لأن المؤاخذة في الدنيا على الظاهر، بينما في الآخرة يخبرك الله سبحانه بما يجول في خاطرك.
قوله: (وعدلك مقبول...) يعني: لو تبت ورجعت إلى الله سبحانه فسوف يقبلك ويتوب عليك.
163- وَجدَّ وَسَارِعْ وَاغْتَنمْ زَمَنَ الصَّبَا
فَفي زَمنِ الإمْكَان تَسْعَى وَتغنَمُ
__________
(1) فبادر: أسرع، فسحة: سعة، عدلك : رجل عدل: أي رضا ومَقنَع. صرفك: الصرف: التوبة.
(2) سورة المؤمنون: 99- 100.(1/55)
أكثر من الطاعات ما دمت تستطيع أن تفعلها؛ لأنك سوف تهرم ويصعب العمل؛ فتندم في شيخوختك وتقول: ليتني عملت قبل أن يضعف حالي وتذهب قوتي، وفيه إشارة إلى حديث ابن عباس رضي الله عنهما. قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لرجل وهو يعظه: «اغتنم خمسًا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك»(1).
164- وَسرْ مُسْرِعًا فَالموتُ خَلفَكَ مُسرعٌ
وَهَيْهَاتَ مَا مِنْهُ مَفرُّ وَمْهزَمُ
أسرع أنت في عمل الطاعات والإكثار منها؛ لأن الموت خلفك يطلبك، ولا محالة أنه لاحق بك، فلم ينجُ أحد قبلك، وهو شيء كتبه الله على الخلق؛ قال تعالى: { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ } (2).
165- فهُنَّ المَنَايَا أيَّ وَادٍ نزَلتَهُ
عَليْها القُدُومُ أوْ عَليكَ سَتُقْدمُ
يقول المولى جل في علاه: { أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ } (3). فالموت لا بد منه لكل حي، إلا الحي القيوم، فلِمَ يجبن الإنسان ويترك الصدع بالحق؟ أو يخاف الموت، ولا يذهب إلى الجهاد في سبيل الله ؟ فما دام الموت حالّ بك إن قدمت عليه. وإن تقاعست وجلست فإنه هو سوف يقدم عليك؛ يقول سبحانه: { قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ } (4).
166- وَمَا ذَاكَ إِلا غَيْرَةً أنْ يَنالهَا
سوى كُفْئها والرَّبُّ بالخلق أعلمُ(5)
167- وإنْ حُجبَتْ عَنَّا بكُلِّ كَريهَةٍ
__________
(1) رواه الحاكم: 4: 306، وقال: صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي.
(2) سورة الزمر: 30.
(3) سورة النساء: 78.
(4) سورة آل عمران: 154.
(5) غيرة: الغيرة: الحمية والأنفة (النهاية في غريب الحديث).
الكفء: المساوي، يعني: لا يحصل عليها غير الذي يستحقها.(1/56)
وَحُفَّتْ بِما يُؤْذي النُّفُوسَ وَيُؤْلِمُ(1)
إن الله سبحانه حف الجنة بالمكاره، وجعل ثمنها التضحية بالنفس، والمال، والوقت، وسهر الليل بالقيام، وظمأ الهواجر بالصوم؛ كل هذا حتى يدخلها من طلبها بصدق لا طلب ادعاء فقط، فكل يدعي وصلا بليلى.
168- فلله مَا فِي حَشوِها منْ مَسَرَّةٍ
وأصْناف لذَّاتِ بها يُتَنَعّمُ(2)
يتعجب المصنف، رحمه الله، مما أعد الله سبحانه بداخل الجنة من النعيم، ووسائل الراحة والبهجة.
169- وَلله بَرْدُ العَيْش بَيْنَ خِيامهَا
وَرَوضَاتها والثَّغْرُ في الرَّوْض يَبْسمُ(3)
ويتعجب كذلك من العيش الرغيد في خيامها وبساتينها، ومن الابتسامة التي تتولد من النظر إلى ما يريح النفس وينعشها.
170- وَلله وَاديهَا الذي هُوَ مَوعدُ الـ
مَزيد لوَفْد الحُبّ لوْ كُنْتَ منْهُمُ(4)
171- بذّيَّالكَ الوادي يَهيمُ صَبَابَةً
مُحبِّ يَرى أنَّ الصَّبابة مَغْنَمُ(5)
ويتعجب من الوادي الذي يجعله الله سبحانه المكان الذي يجتمع فيه أهل الجنة، ليوم المزيد، عندما يدعوهم الحق جل في علاه لزيارته.
فكل مسلم تتوق نفسه، ويتقطع شوقًا إلى ذلك الوادي، ويرى أن الشوق إليه والحب فيه غنيمة وفوز.
172- ولله أفْراحُ المحبِّين عندَما
__________
(1) حجبت: سترت. كريهة: الكره: المشقة، يعني جُعل بين الإنسان وبين الجنة سواتر من الأشياء التي لا ترغب النفس أن تفعلها.
(2) فلله: للتعجب. حشوها : الحشو: ملئ الوسادة، يعني: ما بداخلها (ترتيب القاموس).
(3) الثغر: الفم (ترتيب القاموس).
برد العيش: عيش بارد: هنيء (ترتيب القاموس).
(4) موعد المزيد : يأتي شرحه تحت البيت رقم 202.
(5) بذيالك: ذياك: تصغير (ذا) اسم الإشارة والكاف حرف خطاب، ويعرب اسم الإشارة (معجم الشوارد النحوية).
الصبابة: الشوق.(1/57)
يُخاطُبُهم منْ فوقهمْ وَيُسَلمُ(1)
من أشد فرحة المؤمنين وأعظمها بعد دخولهم الجنة؛ إذ يكلمهم ربهم سبحانه وتعالى ويسلم عليهم.
173- ولله أَبْصَارٌ تَرى الله جَهْرَةً
فلا الضَّيْمُ يَغْشَاهَا وَلا هي تَسْأمُ(2)
يتعجب من تلك الأبصار التي تنظر إلى الله سبحانه وتعالى. بالإضافة إلى ما لها من النعيم الذي لا يوصف ولا يتطرق إليه النقص ولا الفناء، وهم في العيش الرغيد الذي لا سآمة معه أبدًا.
اعلم أن هذا البيت والذي قبله الذي يثبت فيهما المصنف بعض صفات الله سبحانه؛ كأن يراه المؤمنون بأبصارهم يوم القيامة، وتكليم أهل الجنة، وغيرها من الصفات الثابتة التي لم يتطرق إليها المصنف، هي على حقيقتها؛ كما هو مذهب أهل السنة والجماعة(3).
174- فَيَا نَظرَةً أهْدَتْ إلى الوَجْه نضْرَةً
أمنْ بَعْدها يَسْلو المحبُّ المُتَيمُ(4)
وهذه النظرة التي ينظرها العبد إلى ربه، تبارك وتعالى، تجعله يزداد حسنًا وبهاءً، ويزداد حبه لربه سبحانه؛ فلا يغفل عنه ولا ينساه.
175- وَلله كمْ من خَيرةٍ إنْ تَبَسَّمَتْ
أضَاءَ لهَا نُورٌ منَ الفَجْر أعظمُ(5)
__________
(1) مخاطبة الله لأهل الجنة: انظر شرح البيت رقم : 202- 207، أما التسليم : انظر شرح البيت رقم : 210.
(2) الضيم : النقص أو الظلم (ترتيب القاموس).
يغشاها: يأتيها (النهاية في غريب الحديث). تسأم: تمل.
(3) انظر شرح البيت رقم : (152).
(4) نظرة: من النظر بالأبصار. نضرة: النعمة والحُسْن (ترتيب القاموس).
يسلو: ينسى . المتيّم : استعبده الهوى حتى ذهب بعقله. لسان العرب.
(5) خيرة : كثيرة الخير، يعني من الحور العين.
تبسمت : التبسم أقل الضحك وأحسنه.(1/58)
يتعجب من الحور العين التي إذا تبسمت خرج منها نور أعظم من نور الفجر، وفيه إشارة إلى ما روى ابن مسعود - رضي الله عنه - ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «سطع نور في الجنة فرفعوا رءوسهم فإذا هو من ثغر حوراء ضحكت في وجه زوجها»(1).
وعن أنس - رضي الله عنه - ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لروحة في سبيل الله أو غدوة خير من الدنيا وما فيها، ولو أن امرأة من أهل الجنة اطلعت إلى أهل الأرض لأضاءت ما بينهما ولملأته ريحًا»(2).
176- فَيَا لذَّة الأَبْصَارِ إِن هي أقْبَلَتْ
وَيَا لَذَّةَ الأسمَاعِ حِين تَكَلَّمُ
الذي ينظر إليها يستمتع ويجد لذة، وكذلك يتلذذ بالحديث معها؛ فهي خيرة، وكلها خير.
177- وَيَا خجْلةَ الغُصْن الرَّطيب إذا انْثَنتْ
وَيَا خَجْلة الفَجْرَيْن حينَ تَبَسَّمُ(3)
إنها جميلة وطويلة، وإذا مشت تمايلت باسترخاء، وعندما تتبسم يسطع النور من وجهها كأنه نور الفجر.
178- فَإنْ كُنْتَ ذَا قلبٍ عَليل بِحُبّهَا
فَلمْ يَبْقَ إِلا وصْلها لكَ مَرهَمُ(4)
فإذا كان قلبك قد تعلق بها ومرض من شدة الشوق إليها، فليس لك دواء ولا حيلة إلا أن تسعى وتجد وتجتهد لكي تؤهل نفسك لنيلها والحصول عليها.
179- وَلا سِيَّمَا في لثْمها عند ضَمّها
__________
(1) رواه الخطيب في تاريخ بغداد : 8: 253، و 11: 163.
وذكره السيوطي في الجامع الصغير وعزاه إلى الحاكم في الكنى والخطيب في التاريخ ورمز له بالضعف.
قال المناوي في فيض القدير: 4: 105: وفيه حلس بن محمد، قال الذهبي في الضعفاء: مجهول، وقال في الميزان : إن الحديث باطل.
قال الألباني في ضعيف الجامع : موضوع.
(2) رواه البخاري : 2796، ورواه مسلم : 1880 مختصرًا.
(3) خجلة الغصن: خجل النبت: طال والتف.
والخَجَلُ: الاسترخاء من الحياء.
الغصن الرطيب: ناعم (لسان العرب).
(4) عليل: مريض (المعجم الوسيط).
مرهم: دواء مركب للجراحات (ترتيب القاموس).(1/59)
وَقَدْ صَارَ منها تَحتَ جيدكَ معْصمُ(1)
وأفضل من ذلك عندما تضمها إليك وتقبل فمها، وقد وضعت يدها أو ساعد يدها تحت عنقك.
180- تَراهُ إذا أَبْدَتْ لَه حُسْنَ وَجْهِهَا
يَلذُّ بهَا قبْل الوصَال وَيَنْعَمُ(2)
181- تَفَكَّهُ منْها العَيْنُ عندَ اجْتلائها
فَواكهَ شَتَّى طلعُها ليْسَ يُعْدَمُ(3)
تجده بمجرد أن تبدو له وتظهر، فإنه يتلذذ ويستمتع بالنظر إليها قبل أن تصل إليه، أما إذا تغشاها فتلك لذة أخرى.
182- عَناقيدَ منْ كَرْم وتُفَّاحَ جَنَّةٍ
وَرُمَّان أغْصَانٍ بها القَلبُ مُغرمُ(4)
183- وللوَرْد مَا قَد أَلبسَتْهُ خُدُودها
وَللخَمْر ما قَدْ ضَمَّهُ الرّيقُ والفمُ
184- تَقسَّمَ منْها الْحُسْنُ في جَمْع واحدٍ
فَيَا عَجَبًا مِن واحدٍ يَتقسَّمُ
185- لها فرَقٌ شَتَّى من الحُسن أجْمَعَتْ
بجُمْلتها أنَّ السُّلوَّ مُحرَّمُ(5)
ذكر المصنف، رحمه الله تعالى شيئًا يسيرًا من صفات نساء الجنة، ولا شك في أن حقيقة الأمر أكبر من ذلك بكثير، فمهما بالغ الإنسان في وصف الحور العين، فإنه لا يستطيع أن يعطي صورة كاملة عنهن، وإنما يقرب إلى الأذهان بعض صفاتهن.
__________
(1) سيمّا: سي: بمعنى مثل و(لا سيما) نستخدمه عند التعبير عن أن شيئا يفضُل الآخر في قدره (معجم الشوارد النحوية) . لثمها : لثم فاها: قبلها.
الجيد: العنق. المعصم : اليد، أو موضع السوار من اليد (ترتيب القاموس).
(2) أبدت: أظهرت . الوصل: ضد الهجران، ويكون في عفاف الحب ودعارته. (لسان العرب).
(3) تفكه : تتمتع. اجتلائها: عرضها عليه مجلوة، يعني واضحة.
المجلي: الواضح.
(4) عناقيد: جمع عنقود العنب (مختار الصحاح).
مغرم: أسير الحب (ترتيب القاموس).
(5) السلو: سلاه: هجره ونسيه.(1/60)
روى البخاري: (3245)، ومسلم: (2834) (17)، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «أول زمرة يدخلون الجنة.. ولكل واحد منهم زوجتان يرى مخ ساقهما من وراء اللحم من الحسن».
كيف تستطيع أن تصف مخلوقة من شدة حسنها يُرى مخ ساقها؟ وهذا مصداق لما أخرج البخاري: (3244)، ومسلم: (2824)، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «قال الله عز وجل: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر».
186- تُذكّرُ بالرَّحْمنِ مَنْ هُو ناظرٌ
فَيَنْطقُ بالتَّسْبيح لا يَتلعْثمُ(1)
من المعتاد عند أي إنسان أنه إذا رأى شيئًا فوق المعتاد، وقد أعجبه منظره، أن يقول: سبحان الله، وهذه العبارة تخرج منه تلقائيا من غير تكلف ولا إعداد، فالذي يرى الحورية وما هي عليه من حسن وجمال، بمجرد أن يقع عليها بصره تجده يقول: سبحان الله؛ منبهرًا مما يرى من عظمة ذلك الجمال.
187- إذا قابلتْ جَيشَ الهُمُوم بوَجْههَا
تَوَلى على أعْقَابه الَجْيُش يُهْزَمُ(2)
يقول المصنف رحمه الله تعالى، بأن الذي يجالس الحورية ويضاجعها، لو أنه هجمت عليه الهموم والأحزان كهجوم الجيش، فإن الهموم تنهزم وتذهب ولا يبقى لها أثر.
188- وَلمَّا جَرَى مَاءُ الشَّباب بِغصْنها
تَيَقَّنَ حقًّا أَنَّهُ لَيْسَ يَهْرَمُ(3)
لما خلقها الخالق سبحانه وتعالى، وأصبحت في ريعان شبابها، فإنها سوف تبقى على هذه الحالة أبد الدهر، ولا يعتريها الكبر ولا الشيخوخة.
189- فيَا خَاطبَ الحَسْنَاءِ إنْ كُنْتَ رَاغبًا
فَهَذا زَمانُ المَهْر فَهْوَ المُقَدَّمُ
__________
(1) يتلعثم: تلعثم : تمكَّث وتوقف وتأنى (ترتيب القاموس).
(2) تولى على أعقابه: رجع خاسرًا إلى الوراء.
(3) الهرم: أقصى الكبر (ترتيب القاموس).(1/61)
الذي يرغب بأن يكون من خطاب أولئك الكواعب الأتراب والحور العين، فلا بد له من تقديم المهر، والمهر لا بد أن يكون مقدمًا (عاجلاً) هنا في الحياة الدنيا؛ فيجعل له رصيدًا عند الله سبحانه، فيكثر من عمل الصالحات، وتقديم القربات؛ فإنه وقت تقديم المهر.
190- وَكُنْ مُبْغضًا للخَائنات لحبّها
فَتَحظى بِهَا مِنْ دُونهنَّ وَتَنْعمُ(1)
يحذرك من الوقوع في الزنى ويأمرك أن لا تحب التي تخون حبيبها وتأتيك، فعليك أن تبغضها وتبتعد عنها وعن كل ما يبعدك عن الله سبحانه؛ عسى أن تحظى بالحور الجميلات اللاتي لا يعرفن الخيانة؛ إذ هن: { قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ } .
191- وَكُنْ أيّمَا مِمَّنْ سوَاهَا فإنَّها
لِمثْلك في جَنَّات عَدْنٍ تَأيَّمُ(2)
هذا البيت والذي قبله، فيهما إشارة ولو من بعيد إلى الترغيب عن الزواج، وإذا حملناهما على هذا المحمل، ولا شك في أنه مخالف لمبادئ الإسلام الذي يحث على الزواج، وعلى كثرة الإنجاب، ولكن من الممكن حمل المعنى على ترك ذلك في الحرام، والإقبال عليه في الحلال، أي أن الذي لا يستطيع الحصول عليه من الحلال فلا بد له أن يئيم نفسه، لعل الله أن يرزقه من تأيمت له في الجنة.
192- وَصُمْ يَوْمَكَ الأدْنى لعَلكَ في غَدٍ
تَفُوز بعيد الفطر والنّاسُ صُوَّمُ
أكثر من صيام التطوع في الدنيا، فإنك اليوم تستطيع أن تقدم عملا صالحًا، أما يوم غدٍ فإنك لا تدري ما الله صانع به؛ قد يأتي وأنت من أصحاب القبور، فاغتنم يومك هذا، واظمأ في نهاره بالصوم، واسهر ليله بالقيام، لعلك تفوز يوم القيامة؛ حين يعطش الناس وأنت تشرب من الحوض، وأنت تتنعم في جنات ونهر، وغيرك يتحسر على قطرة ماء وما هو بمحصلها.
193- وأقْدمْ وَلا تَقْنَع بعْيش مُنَغَّص
__________
(1) لحبها: الحِب بكسر الحاء: الحبيب. فتحظى : حظيت المرأة عند زوجها: سعدت ودنت من قلبه وأحبها (لسان العرب).
(2) الأيم: الذي لا زوج له؛ رجلاً كان أو امرأة.(1/62)
فَمَا فازَ باللذَّات مَنْ لَيسَ يُقْدمُ(1)
كن شجاعًا في الإقدام على عمل الطاعات، وأكثر من فعل الطاعات والقربات، ولا تركن إلى الدنيا التي كل ما فيها منغص ممزوج بالأكدار والأحزان. وشمر عن ساعد الجد، واجعل الآخرة همك؛ لعلك إن فعلت هذا تنل رضوان الله سبحانه. أما القاعد المتكاسل المتخاذل فلم يكن من الفائزين، وإنما هو من النادمين.
194- وَإنْ ضَاقَت الدُّنْيا عَليْكَ بأسْرها
وَلَمْ يَكُ فِيها مَنْزلٌ لكَ يُعْلمُ
195- فَحَيَّ عَلَى جَنَّاتِ عَدْنٍ فَإنَّها
مَنَازلكَ الأولى وَفيها المُخَيَّمُ
روى مسلم (2956)، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر».
المؤمن في الحياة الدنيا مكلف بأوامر الشرع، لا يستطيع أن يخرج عنها؛ فلا يستطيع أن يفعل ما نهاه الشرع عن فعله، ولا يستطيع ألا يفعل ما أمره الشرع بفعله؛ فكأنه مقيد بحدود وضعها الشارع له لا يجوز له أن يتخطاها، فإنه في سجن؛ فإذا ضاقت عليه الأرض بما رحبت، وضاقت عليه نفسه، ما عليه إلا أن يتذكر أنه مخلوق له خالق، وأنه عبد له رب يأمره وينهاه، وجعل جزاء المطيع الفوز بالجنات وجزاء العاصي جهنم، فإنه يسلي نفسه بما أعد الله سبحانه لأهل طاعته، ويسلي نفسه بالمنزل الأول حينما أخرجه الله من صلب آدم وأشهده على نفسه.
ويأمرك المصنف أن تقبل على الجنات؛ والإقبال عليها يعني الإقبال على الأعمال التي يحبها الله سبحانه، لكي يقبلها منك، ثم يثيبك بعد ذلك الجنات التي وعدك إياها؛ وهي المنازل الحقيقية للإنسان؛ لأنها المكان الدائم الذي لا يزول.
196- وَلكنَّنا سَبْيُ العَدوّ فَهَلْ تَرى
نَعُودُ إِلى أوْطاننَا وَنُسَلمُ(2)
__________
(1) أقدم : الإقدام: الشجاعة . منغَّص: مكدَّر.
(2) السبي: الأسر.(1/63)
يمثل الناس في الدنيا كمثل شخص أخذه العدو أسيرًا وحبسوه عندهم، فهو يترقب الساعة التي يؤذن له فيها بالذهاب إلى وطنه والسلام على أهله؛ فالإنسان في الدنيا هكذا: وطنه الجنة، وأهله الحور العين. فهو يواصل عمل الليل بالنهار حتى يؤهل نفسه لكي يذهب إلى وطنه وأهله.
197- وَقَد زَعَموا أنَّ الغريبَ إذا نأى
وَشطتْ بِه أوطانُهُ فهوَ ُمؤْلِمُ(1)
198- وأيُّ اغْتِراب فَوْقَ غُرْبتنا التي
لها أَضْحَت الأعداءُ فينَا تَحكَّمُ(2)
قالوا: إن الإنسان إذا بعد عن وطنه وأهله، وأصبح غريبًا بين أناس لا يعرفهم، فإنه لا تطمئن نفسه، ولا يشعر بالراحة والاستئناس، بل إن فكره دائمًا مشغول في الرجوع إلى أهله.
إذا كان هذا حال الغريب، فأي غربة أعظم من غربة الإنسان في الدنيا التي ليس له فيها خلود، وهو فيها غريب؛ لأن أوطانه بعيدة عنه - ألا وهي الجنة - بالإضافة على أن من يتحكم فيه ويسيطر على كثير من تصرفاته هم الأعداء؛ ويقصد بهم: النفس، والشيطان؛ فهما قريبان منه؛ مع أنهما من ألدِّ أعدائه الذين تجب مخالفتهم لكي ينجو ويفوز: { وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى } (3) أما إذا أطاعهم فإن مصيره الهلاك.
199- وَحيَّ عَلى رَوضَاتها وخيامهَا
وَحيَّ على عَيش بها ليْسَ يُسْأمُ(4)
__________
(1) نأى : بعد. شطت: بعدت (ترتيب القاموس).
التألم : التوجع . الإيلام: الإيجاع (لسان العرب).
(2) أضحت: ظلت (مختار الصحاح).
(3) سورة النازعات: 40- 41.
(4) يسأم : يمل.(1/64)
أقبلوا على العمل الذي إن قبله الله منكم فسوف يدخلكم - برحمته- جنات؛ فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر؛ قال الحق سبحانه: { وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ } (1)، ويقول سبحانه: { فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ } (2).
وفيها من الخيام ما يعجز الوصف عنه؛ قال تعالى: { حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ } (3).
روى البخاري: (4879) 8: 624، ومسلم (2838)، عن عبد الله بن قيس - رضي الله عنه - ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن في الجنة خيمة من لؤلؤة مجوفة عرضها ستون ميلاً، في كل زاوية منها أهل ما يرون الآخرين، يطوف عليهم المؤمن».
والعيش في الجنة لا يمل؛ روى مسلم (2836) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من يدخل الجنة ينعم ولا يبأس»، أي لا يصيبه بؤس، وإنما يعيش في نعيم مقيم دائم لا ينقطع.
200- وَحَيَّ على السُّوق الذي فيه يلتقي
المحبون، ذاك السوق للقوم يعلم
201- فَمَا شئْتَ خُذْ مِنْهُ لا ثمََنَ لهُ
فَقَدْ أَسْلَفَ التُّجَّارُ فيه وأسْلَموا(4)
روى مسلم في صحيحه: (2833)، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن في الجنة لسوقًا يأتونها كل جمعة، فتهب ريح الشمال، فتحثو في وجوههم وثيابهم، فيزدادون حسنًا وجمالاً...» الحديث.
__________
(1) سورة الشورى : 22.
(2) سورة الروم: 15.
(3) سورة الرحمن : 72.
(4) أسلف: السَّلَفُ: السَّلمُ، اسم من الإسلاف، والقرض الذي لا منفعة فيه للمقرض، وعلى المقترض ردّه كما أخذه، وكل عمل صالح قدمته. (القاموس).(1/65)
ذكر المصنف، رحمه الله، في كتابه (حادي الأرواح) بابًا في ذكر سوق الجنة، وذكر فيه هذا الحديث الذي رواه مسلم، وذكر أحاديث غيره، منها:
حديث طويل يرويه أبو هريرة - رضي الله عنه - ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وفيه: «فيأتون سوقًا قد حفت به الملائكة، فيه ما لم تنظر العيون إلى مثله، ولم تسمع الآذان، ولم يخطر على القلوب، فيحمل لنا ما اشتهينا؛ ليس يباع ولا يشترى. وفي ذلك السوق يلقى أهل الجنة بعضهم بعضًا...» الحديث؛ رواه الترمذي (2549)، وقال: هذا حديث غريب، وابن ماجه: (4336)، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة: (1722).
وذكر حديثًا آخر عن علي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «إن في الجنة لسوقًا ما فيها شراء ولا بيع إلا الصُّوَرَ من الرجال والنساء، فإذا اشتهى الرجل صورة دخل فيها»؛ رواه الترمذي (2550)، وقال: هذا حديث غريب، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة: (1982).
يحث المصنف، رحمه الله، في هذين البيتين، على الإقبال إلى ذلك السوق الذي يقام في الجنة، حيث يلتقي فيه الأحباب، ويتزودون من نعم الله وعطاياه التي لا تنفذ. أما البضاعة التي فيها فليس للبيع بل هي للعرض وفيه كل ما يشتهي الإنسان، وله أن يأخذ ما أراد؛ لأنه قد دفع الثمن مقدمًا في الدنيا.
202- وحَيَّ عَلَى يَوْم المَزِيد الَّذِي بِه
زِيارَة رَبّ العَرشِ فاليَومُ مَوْسمُ(1)
203- وَحيَّ عَلَى وادٍ هُنَالِكَ أَفْيَح
وَتُرْبَتُهُ مِن أذْفَر المسْك أعْظَمُ(2)
204- مَنَابِرُ مِنْ نُورٍ هُناكَ وَفِضّةٍ
وَمِنْ خَالص العقْيَان لاَ تَتَقَصَّمُ(3)
__________
(1) موسم: مجتمع. موسم الحج: مجتمعه (القاموس المحيط).
(2) أفيح : واسع . الأفيح والفياح: كل موضع واسع (لسان العرب). ويمكن أن يكون : ذو رائحة طيبة. فهو وادٍ تفوح منه رائحة المسك.
(3) العقيان: ذهب ينبت. تتقصم : تتكسر (القاموس).(1/66)
205- وَمَنْ حَولها كُثْبِانُ مسْكٍ مَقاعدٌ
لِمَنْ دُونهمْ، هذا العَطاءُ المُفَخَّمُ(1)
206- يَرَوْنَ بِه الرَّحْمَنَ - جلَّ جَلالُهُ-
كَرُؤْيَة بدر التَّمّ لا يُتَوهَّمُ(2)
207-أو الشَّمس صحوًا ليْسَ منْ دُون أفْقها
سَحَابٌ وَلا غيْمٌ هُنَاكَ يُغيِّمُ
ذكر المصنف، رحمه الله تعالى، يوم المزيد الذي يزور فيه أهل الجنة ربهم تبارك وتعالى، حيث يجمعهم في ذلك الوادي الذي تفوح منه رائحة المسك، تلك الرائحة الزكية العطرة، ويجلسهم على حسب أعمالهم؛ بعضهم على منابر من نور، وبعضهم على كثبان المسك. ثم يتجلى لهم ربهم سبحانه وتعالى فيرونه بأبصارهم رؤية واضحة لا لبس فيها، ولا غموض.
__________
(1) هذا البيت جاء في حادي الأرواح هكذا (وكثبان مسك قد جعلن مقاعدًا لمن دون أصحاب المنابر يعلم).
وكثبان: تلال. لمن دونهم: لمن تحتهم منزلة وأقل منهم درجة.
المفخّم: الفخم: العظيم القدر. التفخيم: التعظيم.
(2) بدر التَّمِّ: القمر إذا امتلأ فبهر، فهو بدر تام . (القاموس).(1/67)
روى الإمام الشافعي في المسند: ص 70، وابن أبي شيبة في المصنف: 2: 150، وأبو يعلى في المسند: (4228)، عن أنس - رضي الله عنه - (1)، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «أتاني جبريل وفي يده كالمرآة البيضاء فيها كالنكتة السوداء، فقلت: يا جبريل، ما هذه؟ قال: الجمعة، قال: قلت: وما الجمعة ؟ قال: لكم فيها خير، قال: قلت: وما لنا فيها ؟ قال: يكون عيدًا لك ولقومك من بعدك... ثم قال: ونحن ندعوه يوم القيامة ويوم المزيد، قال: قلت: مم ذاك ؟ قال: لأن ربك تبارك وتعالى اتخذ في الجنة واديًا من مسك أبيض، فإذا كان يوم الجمعة هبط من عليين على كرسيه، تبارك وتعالى، ثم حف الكرسي بمنابر من ذهب مكللة بالجواهر، ثم يجيء النبيون حتى يجلسوا عليها، وينزل أهل الغرف حتى يجلسوا على ذلك الكثيب. ثم يتجلى لهم ربهم تبارك وتعالى، ثم يقول: سلوني...» الحديث.
أما رؤية الله جل وعلا؛ ففي هذا الحديث، وكذلك في قوله سبحانه: { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } (2).
وروى البخاري (4878)، ومسلم: (180)، عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداءُ الكبرياء على وجهه في جنة عدن».
وروى البخاري: (806)، ومسلم: (182)، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - ، الطويل الذي أوله: إن ناسًا قالوا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : يا رسول الله، هل نرى ربنا يوم القيامة ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «هل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر؟... فإنكم ترونه كذلك».
__________
(1) الحديث صححه البوصيري وأشار لجودة إسناده ابن حجر في المطالب العالية: 1: 157، وسند أبي يعلى جيد (المجلة).
(2) سورة القيامة: 22- 23.(1/68)
وروى مسلم: (181)، عن صهيب - رضي الله عنه - ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا دخل أهل الجنة الجنة، قال: يقول الله تبارك وتعالى: تريدون شيئًا أزيدكم؟ فيقولون: ألم تبيض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة وتنجينا من النار؟ قال: فيكشِفُ الحجابَ، فما أعطوا شيئًا أحب إليهم من النظر إلى ربهم عز وجل».
قال ابن القيم في حادي الأرواح ص 227: وإن سألت عن يوم المزيد، وزيارة العزيز الحميد، ورؤية وجهه المنزه عن التمثيل والتشبيه؛ كما ترى الشمس في الظهيرة والقمر ليلة البدر... إلى آخر ما قال من الكلام، فراجعه فإنه نفيس.
208- فَبَيْنا هُمُ في عَيْشهمْ وَسُرُورهمْ
وَأرْزَاقِهم تُجْرَي عَلَيهْم وَتُقْسَمُ(1)
210- إذا هُمْ بِنُورٍ سَاطع قَدْ بدا لهمْ
وَقَدْ رَفَعُوا أَبْصَارَهُمْ فَإذا هُمُ(2)
210- بِربهم من فوقهمْ قَائلٌ لَهم
سَلامٌ عَليْكمْ طبْتُم ونعمتُمُ(3)
211- يَقولُ: سَلوني ما اشتَهَيْتُم فَكلُّ مَا
تُريدُون عنُدي إنَّني أنا أرحَمُ
212- فَقالوا جَميعًا نَحنُ نَسألكَ الرِّضَا
فَأنت الَّذي تُولي الجَميلَ وَتَرحَمُ(4)
213- فَيُعْطيهمُ هَذا وَيُشْهدُ جَمعَهُمْ
عَليه تَعالى اللهُ فاللهُ أَكرْمُ
__________
(1) فبينا: بينا: مؤلفة من (بين) الظرفية الزمانية والألف الزائدة، وتختص بالزمان (معجم الشوارد النحوية).
(2) ساطع: سطع : ارتفع. بدا: ظهر (القاموس المحيط). ... بأقطارها الجنات لا يتوهم
هذا البيت - والبيتان بعده - جاء في كتاب حادي الأرواح هكذا.
0@إذا هم بنور ساطع أشرقت له
تجلى لهم رب السماوات جهرة ... فيضحك فوق العرش ثم يكلم
سلام عليكم يسمعون جميعهم ... بآذانهم تسليمه إذ يسلم
(3) طبتم : طهرتم . نعمتم : من المسرة والفرح والترفه (النهاية في غريب الحديث).
(4) تولي: تحب، أي تحب أن تعطي العطاء الكثير.(1/69)
يشير إلى ما أخرج ابن ماجه (184)، عن جابر - رضي الله عنه - ، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «بينا أهل الجنة في نعيمهم، إذ سطع لهم نور، فرفعوا رءوسهم، فإذا الرب قد أشرف عليهم من فوقهم، فقال: السلام عليكم يا أهل الجنة، قال: وذلك قول الله: { سَلامٌ قَوْلا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ } (1)، قال: فينظر إليهم وينظرون إليه...».
قال البوصيري في مصباح الزجاجة: 1: 86: هذا إسناد ضعيف، لضعف الفضل بن عيسى: قال الألباني في المشكاة: (5664): إسناده ضعيف. وذكره في ضعيف الجامع (2363). وذكره المنذري في الترغيب وعزاه إلى ابن أبي الدنيا. والحديث ذكره ابن كثير في تفسيره: 3: 575، من رواية ابن أبي حاتم، وقال عنه: وفي إسناده نظر.
أما قوله: (يقول سلوني...) فإنه يشير إلى الحديث المتقدم تحت البيت رقم: (207)، والذي يرويه ابن أبي شيبة، وفي الحديث: «ثم يتجلى لهم ربهم تبارك وتعالى، ثم يقول: سلوني أعطكم، قال فيسألونه الرضا، فيقول: رضائي أحلكم داري... قال: فيشهدهم أنه قد رضي عنهم...».
214- فَبالله ما عُذْرُ امرئ هُو مُؤْمنٌ
بِهَذا وَلا يَسْعَى لهُ وَيَقدّمُ
215- وَلكنَّما التَّوفيقُ بِالله إِنَّه
يَخُصُّ بِه مَنْ شَاءَ فضلاً وَيُنْعَمُ
بعد أن سمعت ما أعد الله سبحانه لأهل طاعته وأهل محبته، من النعيم المقيم الذي يعجز الوصف عنه، كيف لا ؟ وهو الذي لم تره العيون، ولم تسمع به الآذان، ولم يخطر على القلوب، أعده الله سبحانه؛ جزاءً، وتفضلاً، ومنَّة منه، وتكرمًا، لمن أحب لقاء الله، وعمل في دار العمل ليجزى به في دار الجزاء.
__________
(1) يس: 36.(1/70)
ثم يستدرك المصنف، رحمه الله تعالى، فيقول: (ولكنما التوفيق...) أي أن الله سبحانه يتكرم على عباده ويتفضل عليهم، حيث يهيئ الأسباب التي تساعد العبد على طاعة الله، وتهيئة الأسباب هذه تأتي من الله سبحانه إذا بذل العبد أولاً من نفسه من يؤهله لذلك؛ فالله يقول: { وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } (1). فذكر سبحانه المجاهدة من العبد أولاً، ثم ذكر هدايته له بعد ذلك.
216- فَيَا بَائعًا هَذا بِبِخْسٍ مُعَجَّل
كَأنَّكَ لا تَدْري، بَلَى سَوفَ تَعلمُ(2)
مر بك -فيما سبق- ما أعد الله سبحانه لأهل طاعته من النعيم في الجنات التي تجري من تحتها الأنهار، وفيها من الطيبات والثمرات والحور الحسناوات، وغير ذلك من الملذات، وفوق ذلك كله، رؤية الخالق جل وعلا، وسلامه وكلامه ورضوانه الأبدي.
فتجد الكثير من الناس من يبيع هذا كله، ويزهد فيه، ليشتري مكانه لذة فانية، ونعيمًا كاذبًا يزول بعد لحظات قلائل، فتذهب اللذة وتبقى التبعات؛ فالذي يفعل هذا كأنه لا يعلم حقيقة الأمر، ولكنه حتى لو تغافل في هذه الحياة الدنيا، فإنه سوف يأتيه علم اليقين، وتنكشف له الحقائق، ويعرف بعد ذلك أنه قد خدع نفسه.
217- فقدِّم فدَتْكَ النَّفسُ نَفْسَكَ إنَّها
هِي الثَّمَنُ المبذُول حِينَ تُسَلمُ
هذا الأجر العظيم الذي أعده الله لعباده، الذي يتمناه كل مخلوق، لا بد من ثمن؛ وثمنه هو طاعة الله سبحانه، وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - .
__________
(1) سورة العنكبوت: 69.
(2) بخس: الناقص القليل. معجل : العاجل نقيض الآجل (القاموس).(1/71)
بعد أن عرفت أن الله سبحانه أعد لعباده الطائعين ذلك النعيم العميم المقيم، وعرفت أن التوفيق على العمل لا بد له من بذل جهد منك، وأن نفسك هي أغلى شيء عندك في الحياة؛ فابذلها رخيصة في سبيل مرضات الله، عسى أن يتقبلها منك، ويجعلها ثمنًا لذلك النعيم؛ يقول المولى جل في علاه: { إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ } (1).
218- وَخُضْ غَمَرات الموْت وارْقَ مَعارجَ
المَحَبَّة فِي مَرْضاتهم تَتَسَنَّم(2)
إذا أراد الإنسان أن يجود بنفسه في سبيل الله، فإن الشيطان يقعد له في طريقه يثبطه ويثنيه عن عزمه، ليخذله ويصده عن طريق الخير.
فينصحك المصنف بأن تقتحم الموت؛ أي: تدخل عليه بكل قوتك. فإن فعلك هذا هو السلم الذي تصعد به وترتقي إلى محبة الله سبحانه، وإلى مرضاته.
219- وَسَلمْ لَهم مَا عَاقدُوكَ عَليْه إنْ
تُردْ منْهُمْ أنْ يَبْذلوا وَيُسَلموا(3)
إذا أردت أن يبذلوا لك ذلك النعيم، والعيش الرغيد في جنات النعيم، إذا أحببت أن يسلموا لك هذا فسلم أنت لهم أولاً؛ كما أخبر المولى جل في علاه: { إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ } (4)؛ ويقول سبحانه: { هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ إِلا الإحْسَانُ } (5).
220- فَمَا ظفرَتْ بالوصْل نفسٌ مَهينَةٌ
وَلا فازَ عَبْدٌ بالبطالة يَنْعَمُ(6)
__________
(1) سورة التوبة: 111.
(2) خض: اقتحم . غمرات الموت: شدته ومزدحمه . رقى: صعد.
معارج: المعراج: السلم والمصعد. تتسنم : ترتفع (القاموس المحيط).
(3) عاقدوك . العقد : الضمان والعهد.
(4) سورة التوبة: 111.
(5) سورة الرحمن: 60.
(6) ظفرت: فازت بالمطلوب. الوصل: ضد الهجران (القاموس).
مهينة: ذليلة. البطالة: التَّبطل: فعل البطالة، وهو اتباع اللهو والجهالة (لسان العرب). ينعم: التنعّم: الترفه.(1/72)
الذي يريد الفوز والفلاح فلا بد أن يجد ويعمل لكي يحصد ما زرع، يقول الحق سبحانه: { أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذينَ لاَ يَعلَمُونَ } (1)؛ ويقول جل في علاه: { أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ } (2).
فهل يصح أن يتساوى إنسان طائع لله، قد ألزم نفسه بعبادة الله في حركاته وسكناته، همه إرضاء ربه، يفعل ما أمِر وينزجر عمّا نُهي عنه وحذَّر- هل يستوي هو ومن أطلق لنفسه العنان، فهو غارق في شهواته وملذاته لا يردعه شيء؟
بقدر الجد تكتسب المعالي ... ومن طلب العلا سهر الليالي
ومن رام العلا من غير كد ... أضاع العمر في طلب المحال(3)
221- وَإن تَكُ قَدْ عَاقتْك سُعْدَى فَقَلبُك الـ
مُعَنَّى رَهينٌ فِي يَدَيْهَا مسلمُ(4)
222- وَقَدْ سَاعَدَتْ بالوَصْل غُيرَكَ فالهوىَ
لها مِنكَ وَالوَاشَي بِهَا يَتَنَعَّمُ
__________
(1) سورة الزمر: 9.
(2) سورة ص: 28.
(3) انظر ديوان الإمام الشافعي . تحقيق د . محمد عبد المنعم خفاجي.
(4) عاقتك : العَوْق: الحبس والصرف والتثبيط (القاموس).
المعنى : العاني : الأسير. عان : خاضع ومطيع (لسان العرب).
رهين: الرهن: ما وضع عندك لينوب مناب ما أخذ منك، يعني: أن قلبك عندها موضوع مقابل ما تحصل عليه من ملذاتها.(1/73)
يعبر المصنف، رحمه الله تعالى، عن الدنيا بكلمة (سعدى) فيقول: إذا كانت الدنيا قد وقفت حجر عثرة في طريقك إلى الله، وأعاقت سيرك، ومنعتك من العمل ومن التقرب إليه سبحانه. وقد أسرَ قلبك حبها والعمل لها، فتركت الآخرة ونسيتها؛ فأنت تعمل فيها وقلبك معلق بها، ولا هَمَّ لك إلا هي، بينما غيرك هو الذي يتنعم بها؛ لأن من خصائص الدنيا أن تذل من أكرمها، وترفع من أعرض عنها وتركها؛ فأنت تكدح وتتعب ولا يأتيك منها إلا ما كتب الله لك من الرزق. وكلما كثر مال الإنسان زاد همه وكثر تعبه وأشغل نفسه بالتفكير فيه، وكيف يحفظه وينميه. وربما يفتتن الإنسان ببهارج الدنيا وزخارفها، فيجد نفسه أسيرًا عندها. فالمصنف، رحمه الله تعالى، يعرض لك حلاً مناسبًا فيقول:
223- فَدَعْهَا وَسَلّ النَّفسَ عَنهَا بِجنَّةٍ
مِن العلم في رَوْضَاتها الحُّق يَبْسمُ(1)
>
اترك الدنيا وزينتها، وحاول أن تنساها وتصبر نفسك عنها بغيرها. يعني: أوجد لنفسك بديلاً، والبديل واضح وجليّ؛ ذكره من يقول الحق: { وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ } (2)، ألا وهي الجنة. نعم الجنة، التي مر بك النزر اليسير من وصفها، والتي يشتاق إليها المحبون؛ فإنهم في ضنك من العيش دونها، لا يقر لهم قرار حتى يدخلهم الله - برحمته- فيها؛ حيث النعيم السرمدي: { وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ } (3)؛ بالإضافة إلى رؤية العزيز الرحيم وهو يضحك.
224- وَقَد ذُللتْ فيها القُطوفُ فَمنْ يُردْ
جناها ينلهُ كَيفَ شاء وَيطعَمُ(4)
__________
(1) سل النفس : سلاه وسلا عنه : نسيه (لسان العرب).
(2) سورة الأحزاب: 4.
(3) سورة الحجر: 48.
(4) ذللت: دليت أو سويت. قطوف: القطف: العنقود.
جناها: التقط الثمر أو قطفه من الشجر (القاموس).(1/74)
الجنة دار قرار لا نصب فيها: { لا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ } (1)؛ فإذا أراد الإنسان أن يقطف ثمرة فإنه يقطفها وهو على هيئته؛ قائمًا، أو جالسًا، أو مستلقيًا على سريره، من غير أن يبذل أي جهد؛ قال سبحانه: { قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ } (2).
225- وَقَدْ فُتحتْ أَبوابُهَا وَتَزيَّنَتْ
لخِطابها فالحُسْنُ فِيهَا مُقسَّمُ
226- وَقَدْ طابَ مِنهَا نُزلها ونَزيلها
فَطُوبى لمنْ حَلوا بها وَتَنعَّموا(3)
قال الحق سبحانه: { حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ } (4).
الجنة خلقها الله سبحانه وتعالى قبل أن يخلق الخلق، فهي الآن موجودة، وقد دخلها النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ورأى قصر عمر، وسمع صوت مشي بلال، ورأى الرميصاء (أم سليم)، وغيرهم رضي الله عنهم، فهي جاهزة ومعدة لمن يدفع مهرها. ومن أن مهرها يسير؛ لأنه { لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا } (5)، فمن الممكن لكل إنسان أن يعمل لها، لكنها حفت بالمكاره. أما المشمرون؛ فإنهم جعلوها غايتهم، فلا يصرفهم عنها صارف. فهي طيبة وأعدت لكل طيب، فمن طيب نفسه في الدنيا وأكرمها وطهرها من الرذائل، فطوبى له، وهو فيها طيب مطيب.
227- أَقَامَ عَلَى أَبْوَابِهَا دَاعِي الهُدَى
هَلُمُّوا إِلِى دَارِ السَّعَادَةِ تَغْنَمُوا(6)
__________
(1) سورة الحجر: 48.
(2) سورة الحاقة: 23.
(3) طاب: لدَّ وزكى. نزلها: النزل: ما يهيأ للضيف أن ينزل عليه. نزيلها: النزيل: الضيف (مختار الصحاح).
طوبى: الطيب، وجمع الطيبة، والحسنى، وشجرة في الجنة (القاموس).
حلوا: حل: نزل.
(4) سورة الزمر: 73.
(5) سورة البقرة: 286.
(6) أقام: أقام الشيء أي أدامه (مختار الصحاح)، يعني أنه جعل مناديًا دائمًا يدعو إليها. داعي الهدى: النبي. هلموا: تعالوا.(1/75)
الله سبحانه وتعالى عندما خلق الخلق لم يتركهم، وإنما أرسل لهم الرسل؛ يدلونهم على الخير، ويرشدونهم إلى الحق، ويحذرونهم طرق الضلال، فكل رسول هو داعي هدى إلى قومه؛ فمن أطاعه فاز وغنم ونال السعادة الأبدية، وأما من كذبه وأعرض عنه فمآله إلى دار الشقاء.
روى البخاري: (6483)، ومسلم (2283)، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إنما مثلي ومثل الناس كمثل رجل استوقد نارًا فلما أضاءت ما حوله جعل الفراش وهذه الدوابّ التي تقع في النار يقعن فيها، فجعل الرجل يَزَعُهنّ ويغلبنه فيقتحمن فيها، فأنا آخذ بحجزكم عن النار، وأنتم تقحمون فيها».
228- وَقَدْ غَرَسَ الرَّحْمَنُ فِيَها غراسَه
مِنَ النَّاس والرَّحمنُ بالخلق ِأعْلمُ(1)
229- وَمَن يَغْرِس الرَّحمْنَ فِيها فَإنَّهُ
سَعِيدٌ وَإلا فَالشِّقَاءُ مُحَتَّمُ
روى البخاري: (4850)، ومسلم (2846) (36)، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : «تحاجت الجنة والنار، فقالت النار: أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين، وقالت الجنة: ما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم؟ قال الله تبارك وتعالى للجنة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي، وقال للنار: إنما أنت عذابٌ أعذب بك من أشاء من عبادي، ولكل واحدة منهما(2) ملؤها؛ فأما النار فلا تمتلئ حتى يضع رجله، فتقول: قط، قط، قط؛ فهنالك تمتلئ ويزوي بعضها إلى بعض، ولا يظلم الله عز وجل من خلقه أحدًا. وأما الجنة فإن الله عز وجل ينشئ لها خلقًا».
__________
(1) غِراسه: ما يغرس من الشجر. والمراد هنا: الذين خلقهم الله للجنة.
محتم: واجب ولازم، قضاء.
(2) هذه رواية البخاري، أما رواية مسلم (منكما).(1/76)
والشاهد من الحديث في قوله عليه الصلاة والسلام: «وأما الجنة فإن الله ينشئ لها خلقًا»؛ فالذي يكتب الله له أنه من أهل الجنة فإن السعادة الأبدية تلازمه؛ وأما من كان من أصحاب النار فإنه سوف يشقى: { لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا } (1).
__________
(1) سورة فاطر: 36.(1/77)
سلسلة بحوث وتحقيقات مختارة من مجلة الحكمة (27)
بقلم
Almodhe1405@hotmail.com
almodhe@yahoo.com
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
حَمْدًا لِرَبّي خَالِقِ الأَكْوَانِ ... حَمْدًا يَزِيدُ الثِّقْلَ في المِيزَانِ
ثُمَّ الصلاةُ والتَّحيَّاتُ عَلَى ... خَيْرِ العِبَادِ المُصْطَفَى العَدْنَانِي
كذَا عَلى الِ النَّبِيّ وصحْبِهِ ... ومَنِ اقْتَدَى بِهِمُ عَلَى الإيمانِ
يَا حَائِرًا في هَذِهِ الدُّنيَا وَمَنْ ... يَبْغِي نَجَاةً مِنء لَظَى النيرَانِ
أقْبِلْ عَلَى هَدْي النَّبِيِّ مُحمَّدٍ ... مَنْ خُصَّ بَيْنَ الخَلْقِ بالقُرْآنِ
فَهُوَ الّذي يُعْطِيكَ عِزًّا دَائِمًا ... لا سيَّمَا في حَضْرَةِ الرَّحْمنِ
في هَدْيِهِ سُبُلُ الحَيَاةِ كَرِيمَةٌ ... خُطَّتء لنَا مِنْ خالقٍ دَيَّانِ
هُوَ خَالِقٌ هُوَ مُبْدِعٌ هَوَ مَنْ لَنَا ... وَضَعَ السَّبِيلَ بأَحْسَنِ التِّبْيَانِ
مَنْ سَارَ مُقْتَفِيًا خُطَى سَلفٍ لَنَا ... قَدْ فَازُوا في الدَّارَيْنِ بِالرّضْوَانِ
أمِنَ العِثَارَ لأَنّهُ نَهْجٌ لَهُ ... ضُمِنَ الهُدَى مِنء مُبْدِعِ مَنَّانِ
فَعَلَيْكُمُ بِالسُّنَّة مَا إنْ تَمَـ ... ـسَّكتُمْ بِهَا نِلْتُمْ هُدَى الرَّحْمنِ
مَوْعِظَةٌ قَدْ قالَها خَيرُ الوَرَى ... فَامْسِكْ بِهَا بالأيْدِي وَالأسْنَانِ
أعْنِي كتَابَ رَبِّنَا فِيهِ الهُدَى ... والسُّنَّةَ القَويمَةَ البُنْيَانِ
سُنةُ خَيْرِ الخَلْقِ ظَلَّتْ تَوْأمًا ... لِكِتَاب رَبِّي الخَالِقِ الدَّيَّانِ
فَالسُّنَّةُ الْغَرَّاءُ لِلْقُرْآنِ كَالْـ ... ـمِفْتَاحِ لِلْكَنْزِ فَخُذْ تِبْيَاني
في آيهِ الْمُطْلَقُ وَالْمُجْمَلُ، فَا ... لتَّقْييدُ والتَّبْيِينُ كَالبُرْهَانِ
كَذَلِكَ الْمَنْسُوخُ وَالعَامُ وَمَا ... يَحْتَاجُ للتَّخصيص وَالإتْقانِ
كُونُوا حُمَاةَ السُّنَّةِ الْغَرَّاءِ لا ... تُلْقُوا بِهَا في عَالَم النسْيَانِ
فَالدينُ قالَ اللهُ قالَ رَسُولُهُ ... فَكِلاهُمَا مُستَوْجِبَا الإذْعانِ(1/1)
فافْهَمْ كِتَابَ الله فَهْمًا جَيْدًا ... واعْمَلْ بِمَا فيهِ بلا نُقْصَانِ
والسُّنَّةَ الغَرَّاءَ لا تُهمِلْ فَلِلْـ ... إسْلامٍ والدينِ هُمَا أصْلانِ
فصل
إيَّاكَ وَالآرَاءَ لا تَجْعَلْ لَهَا ... في الدِّينِ حُكْمًا دُونَما بُرْهَانِ
أنَّى تَحِلُّ دِمَاؤُنَا وَفُرُجُنَا ... بِمُجَرَّدِ الرَّأي بلاَ سُلطَانِ
أوْ تُؤْخَذُ الأَمْوَالُ وَالأَمْلاكُ بل ... أعْرَاضُنَا بِالرَّأْي مِنْ إِنْسَانِ
فصل
يَا سَالِكًا سُبلَ الغِوَايَةِ وَالرَّدَى ... مَهْلاً فَقَدْ أَسْرَفْتَ في النُّكْرَانِ
ارْجِعْ إلى رَبِّ كَرِيمٍ غَافِرٍ ... لِلذَّنْبِ ذِي فَضْلٍ وَذِي إحْسَانِ
كَمْ مَنْ صَرِيعٍ مَاتَ مُلْتَبِسًا بَمَا ... يَنْهَى الإلهُ وطاعَةِ الشّيْطَانِ
مِنْ تارِكٍ سُنَنَ الزَّوَاجِ وَحِصْنِهِ ... مُسْتَمْسِكِينَ بِوَصْمَةِ الأخْدَانِ
أوْ قاصِدٍ بُلْدَانَ كُفْرٍ رَاغبًا ... فِيمَا لَدَيْهِمْ مِنْ حُطَامٍ فَانِ
أَوْ تَارِكٍ حَتَّى الصَّلاةَ وَمَا دَرَوْا ... أنَّ الصلاةَ تَوْأمُ الإيمَانِ
فَإذَا نَصحْتَهُمُ بِأَنْ لا يَشْتَرُوا ... لَهُمُ فَسَادَ الكُفْرِ بِالإيمَانِ
أوْ قُلْتَ لا تَشْرُوا الْهِدَايَة بالرَّدَى ... رُدُّوا علَيْكَ بِمَنْطِقِ السَّكْرانِ
فَاحْذَرْ أَخِي مِنْ أنْ تَكُونَ كَمِثْلِهِم ... أوْ أَنْ تبيعَ الهَدْىَ بالخُسْ{انِ
مِنْهَاجُنَا هُوَ مَا عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ ... صَلى عَلَيْهِ مُنَزِّلُ الفُرْقَانِ
هُوَ مَا علَيْهِ الآلُ وَالأصْحَابُ مِنْ ... دِينٍ قَوِيمٍ ثَابِتِ الأرْكَانِ
فصل
وَاحْذَرْ أُنَسًا شيَّدُوا دُورًا لَهُمْ ... لا لِلْهِدَايةِ بَلْ لِشَيْءٍ ثَانِ
جَعَلُوا لَهَا قُبَبا مُزَخْرَفَةً وَكَمْ ... صَادُوا بِهَا الأمْوَالَ بِالبُهْتَانِ
يَا ليْتَهُمْ في الصَّيْدِ بِالْمَالِ اكْتَفَوْا ... بَلْ شَبَّهُوا الجُدْرَانَ بِالأوْثانِ
وتَوَسَّلُوا بِقُبُورِ مِنْ ظَنُّوا بِهِمْ ... قُرْبًا مِنَ الله العَظِيمِ الشَّانِ(1/2)
كَيْ يَشْفَعُوا لهُمُ وَينْجُوهُمْ غَدًا ... عِنْدَ الْحِسَابِ مِنْ لَظَى النِّيرَانِ
لَمْ يَعْلَمُوا أنَّ الأُلى يَدْعُونَهُمْ ... يَرْجُونَ أنهْ يَدْنُوا مِنَ الرَّحْمنِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
حَمْدًا لِرَبّي خَالِقِ الأَكْوَانِ ... حَمْدًا يَزِيدُ الثِّقْلَ في الْمِيزَانِ
ثُمَّ الصَّلاَةُ وَالتَّحِيَّاتُ عَلَى ... خَيْرِ العِبَادِ المُصْطَفَى العَدْنَاني
كَذَا عَلَى آلِ النَّبِيّ وَصَحْبِهِ ... وَمَنِ اقْتدَى بِهِمُ عَلَى الإيمَانِ
الحمد هو الثناء على الله تعالى بجميل صفاته على قصد التعظيم، فالله سبحانه وتعالى وهو المستحقُّ لجميع صفات الحمد؛ لأنه هو المنعم المتفضِّل على جميع الخلق، وهو المصدر لكل خير، فأيُّ حمد يصدر عن أية جهة، فالله سبحانه وتعالى يستحقه، فهو المربي للبشر، والمهذّب لهم بإنزال شرائعه عليهم، وبطبيعتهم التي طبعهم عليها ملهمة بالتفريق بين الفجور والتقوى، والباطل والحق، فقد هدى الناس النجدين وبيّن لهم السبيلين.
فاللهم لك الحمد حمدًا كثيرًا خالدًا مع خلودك، ولك الحمد لا منتهى له دون علمك، ولك الحمد حمدًا لا منتهى له دون مشيئتك، ولك الحمد حمدًا لا آخر لقائله إلا رضاك.
(حمدًا يَزيدُ الثِّقْلَ في المِيزَان) وذلك لما رواه أبو مالك الحارث بن عاصم الأشعري عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "الطَّهُورُ شَطْرُ الإِيمَانِ، وَالْحَمْدُ لله تَمْلأُ الميزَانَ، وَسُبْحَانَ اللهِ وَالْحَمْدُ لله تَمْلآنِ أَوْ تَمْلاُ ما بَيْنَ السّمَاءِ والأرْض، والصّلاةُ نُورّ، وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ، وَالصَّبْرُ ضِيَاءً، وَالقُرآنُ حُجَّةٌ لَكَ أوْ حُجَّةٌ عَلَيْكَ، كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو، فَبَائِعٌ نفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أوْ مُوبِقُهَا" (1).
__________
(1) رواه أحمد في المسند (5/ 432، 343، 344)، ومسلم (3/ 99) بشرح النووي، وابن ماجه (280)، والنسائي.(1/3)
والصلاة التي هي من الله سبحانه وتعالى الرحمة والمغفرةُ والثناء على نبيه عند الملائكة، ومن الملائكة الاستغفار والدعاءُ، ومن الجن والإنس التضرُّع والدعاء (والتحيات) وهو التسليم الذي هو تسليم الله سبحانه وتعالى، والذي أمرنا به في قوله تعالى: صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً } (الأحزاب: من الآية56).
(خَيْرِ الْعِبَادِ): أفضل خلقه بلا تردد، لأحاديث كثيرة دالة على ذلك، منها: قوله - صلى الله عليه وسلم - : "أَنَا سَيِّدُ وُلْدِ آدَمَ وَلاَ فَخْرَ" (1).
(عَلَى آلِ النَّبِيّ): اختلف في آل النبي - صلى الله عليه وسلم - ، مَنْ هُمْ؟
"قيل: إن آل النبي - صلى الله عليه وسلم - هم الأمة جميعًا، قال النووي في شرح مسلم: وهو أظهرها، قال: وهو اختيار الأزهري وغيره من المحققين" انتهى.
وإليه ذهب نشوان الحميري إمام اللغة، ومن شعره في ذلك:
آلُ النَّبيّ هُمْ أتْباعُ مِلَّتِهِ ... مِنَ الأعَاجِمِ وَالسُّودَانِ وَالْعَرَبِ
لَوْ لَمْ يَكُن آلُهُ إلا قَرَابَتَهُ ... صَلّى المُصَلّي عَلَى الطَّاغِي أبِي لَهَبِ
ويدل على ذلك أيضًا قول عبد المطلب من أبيات له:
"وَانْصُرْ عَلَى آلِ الصَلِيبٍ ... وَعَابِدِيهِ الْيَوْمَ آلَكَ"
__________
(1) أخرجه البخاري (8/ 300) في التفسير، باب { ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ } عن أبي هريرة بلفظ: "أنا سَيِّدُ النَّاسِ يَوْمَ القِيَامَةِ"، وهو حديث الشفاعة الطويل.
ومسلم (194) في الإيمان، باب أدنى أهل الجنة منزلة. ورواه مسلم أيضًا (2278) في الفضائل، باب تفضيل نبينا - صلى الله عليه وسلم - عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ: "أَنَ سَيِّيدُ وُلْدِ آدمَ يَومَ القيَامةِ، وَأَوَّلُ مَنْ يَنْشَقُّ عَنْهُ القَبْرُ، وَأَوَّلُ شَافِعٍ وَأوَّلُ مشفِّعٍ" وأخرجه أحمد والترمذي.(1/4)
والمراد بآل الصَّليب أتباعه، ومن الأدلة على ذلك قول الله تعالى: { أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ } لأن المراد بآله أتباعه... (1).
كما يدلُّ على ذلك أيضًا قوله سبحانه وتعالى: { وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} [البقرة: 50].
يَا حَائِرًا في هَذِهِ الدُّنْيَا وَمَنْ ... يَبْغِي نَجَاةً مِنْ لَظَى النِّيرَانِ
أقْبِلْ عَلَى هَدْيِ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ ... مَنْ خُصَّ بَيْنَ الخَلْقِ بِالْقُرْآنِ
فَهْوَ الذي يُعْطِيكَ عِزًّا دائِمًا ... لا سِيَّمَا في حَْرَةِ الرَّحْمنِ
(يا حَائِرًا): نداء لكل حائر يريد أن يجد له طريقًا يدخل به الجنة، وينجو من عذاب الله يوم القيامة، وهذا يجب أن يكون مبتغى كل مسلم يؤمن بالله واليوم والآخر، وهذا هو الذي دعا معاذ بن جبل رضي الله عنه أن يطلب من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يخبره بعمل يقربه من الجنة ويبعده من النار، كما سيأتي نص الحديث بتمامه إن شاء الله تعالى.
(أقبلْ علَى هَدْي النبيّ مُحَمَّدٍ): هديُ النبي - صلى الله عليه وسلم - هو السبيل الذي نجا به السابقون وينجو به اللاحقون { قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [الأنعام:161].
هذا هو السبيل الذي لا اعوجاج فيه ولا انحراف، هذا هو السبيل الذي اهتدى إليه إبراهيم عليه السلام وجميع الأنبياء والمرسلين سلام الله عليهم، الإسلام العظيم، سبيل الحنيفية السمحة التي ليلها كنهارها.
__________
(1) نيل الأوطار (2/ 301).(1/5)
فهدي النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - هو هدي جميع الأنبياء والمرسلين، حيث إن الله جلّ وعلا بعث جميع أنبيائه بالإسلام من لدن آدم عليه السلام إلى آخر الآنبياء نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - ، ولو أنهم متفاوتون بحسب شرائعهم الخاصة التي ينسخ بعضها بعضًا، إلى أن نسخت جميعها بشريعة نبيًا محمد - صلى الله عليه وسلم - التي لا تنسخ أبد الآبدين، ولا تزال قائمة منصورة، وأعلامها منشورة إلى قيام الساعة، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: "أنَا أوْلَى النَّاس بابْنِ مَرْيَمَ في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، لَيْسَ بَيني وَبَينَه نَبِيٌّ، وَالأَنْبِيَاءُ إخْوَةٌ، أبْنَاءُ عَلأاتٍ، أُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ" (1).
فإن أولاد العلات هم الإخوة من أب واحد وأمهات شتى، فالدين واحد، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، وإن تنوعت الشرائع التي هي بمنزلة الأمهات.
{ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [يوسف:108].
يقول سبحانه وتعالى لرسوله إلى الثقلين الجن والإنس آمِرًا له أن يخبر الناس، أن هذه سبيله، أن هذه سبيله، أي طريقته ومسلكه وسنته، وهي الدعوة إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يدعو إلى الله بها على بصيرة من ذلك ويقين وبرهان هو وكل من اتبعه يدعو إلى ما دعا إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على بصيرة ويقين وبرهان عقلي وشرعي.
(
__________
(1) رواه البخاري (6/ 353، 354) في الأنبياء، ومسلم رقم (2365) في الفضائل، وأبو داود (4675) باب التخيير بين الأنبياء.(1/6)
مَنْ خُصَّ بَيْنَ الخَلْقِ بِالقُرآنِ): لقد خص نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - من بين سائر الأنبياء بالقرآن العظيم. يقول عليه الصلاة والسلام، فيما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَا مِنء نَبِيٍّ مِنَ الأنْبِيَاءِ إلا قَدْ أُعْطِيَ مِنَ الآيَاتِ مَا آمَنَ عَلَى مِثْلِهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الذي أُوتِيتُهُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللهُ إِليِّ، فَأرجُو أَنْ أكونَ أكْثَرَهُمْ تَبَعًا يَوْمَ القِيَامَةِ"(1).
(فَهُوَ الذي يُعطيكَ عِزًّا دائمًا... إلخ): وذلك لقوله سبحانه وتعالى: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً * خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً) [الكهف: 107، 108] يخبر سبحانه عن عباده السعداء، وهم الذين آمنوا بالله ورسوله وصدقوا المرسلين فيما جاؤوا به، أن لهم جنات الفردوس، والفردوس أعلى الجنة وربوتها، كما جاء في الصحيحين: "إذَا سأَلْتُمُ اللهَ الجَنّةَ، فَاسْأَلُوهُ الفِرْدَوْسَ، فَإنّهث أَعْلَى الجَنّةِ، وَأَوْسطُ الجَنّةِ، وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أنهارُ الْجَنّةِ"(2).
وقال تعالى: { قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيراً * لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُولاً } [الفرقان:16].
__________
(1) أخرجه البخاري (9/ 5، 6) فضائل القرآن، ومسلم رقم (152) في الإيمان، باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - .
(2) رواه البخاري (2790) باب درجات المجاهدين في سبيل الله. ورواه الترمذي (2530، 2531) ولم أجده في صحيح مسلم.(1/7)
يقول الله تعالى: يا محمد، هذا الذي وصفناه لك من حال الأشقياء الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم فتلقاهم بوجه عبوس، وتغيظ وزفير، ويلقون في أماكنها الضيقة مقرنين لا يستطيعون حراكًا، ولا استنصارًا ولا فكاكًا مما هم فيه؟
أهذا خير أم جنة الخلد التي وعدها الله المتقين من عباده التي أعدها لهم، وجعلها لهم جزاءً ومصيرًا على ما أطاعوه في الدنيا، وجعل مآلهم إليها ولهم فيها ما يشاؤون من الملاذ من مآكل ومشارب، وملابس، ومساكن، ومراكب، ومناظر، وغير ذلك مما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب أحد، وهم في ذلك خالدون أبدًا، دائمًا سرمدًا، بلا انقطاع ولا زوال ولا انقضاء، ولا يبغون عنها حولاً، وهذا من وعد الله الذي تفضّل به عليهم وأحسن به إليهم، ولهذا قال: { كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُولاً } أي لا بد أن يقع وأن يكون، وأنه وعد واجب" (1).
عن أبي موسى، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَثَلث مَا بَعثَني الله بِهِ مِنَ الهُدَى والعِلْمِ كمَثَلِ الغيْثِ الكثيرِ، أصَابَ أرْضًا، فَكَانَ مِنهَا نَقيةٌ قَبِلَتِ المَاءَ فأنْبَتَتِ الْكلأَ وَالعُشْبَ الكَثِيرَ، وَكَانَتْ مِنْهَا أجَادِبُ أمْسَكَتِ المَاءَ فَنَفَعَ اللهُ بِهِ النّاسَ فِشَرِبُوا وَشَقَوا وَزَرَعُوا، وأصَابتْ مِنهَا طَائِفَةً أُخْرَى إِنّما هِيَ قِيعَانٌ لا تُمْسِكُ مَاءً وَلاَ تُنْبتُ كَلأً، فَذَلِك مَثَلُ مَنْ فَقِه فِي دين الله وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي الله بِهِ فَعَلِمَ وعَلَّمَ، وَمَثلُ مَنْ لم يَرْفَعْ بِذلك رأسًا ولَمْ يقْبَلْ هُدَى الله الذِي أرسلتُ بِهِ" (2).
في هَدْيهِ سُبُلُ الحيَاةِ كريمَةٌ ... خُطّتْ لَنَا مِنْ خَالِقٍ دَيَّانِ
هُوَ خالِقٌ هُوَ مُبْدعٌ هوَ مَنْ لَنَا ... وَضَعَ السَّبِيلَ بأحسَنِ التِّبْيَانِ
__________
(1) تفسير ابن كثير (3/ 311).
(2) رواه البخاري (79)، ومسلم (15/ 46) بشرح النووي.(1/8)
قال تعالى: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً}[المائدة: 3] هذه أكبر نعمه الله تعالى على هذه الأمة حيث أكمل تعالى لهم دينهم، فلا يحتاجون إلى دين غيره، ولا إلى نبي غير نبيهم صلوات الله وسلامه عليه، ولهذا جعله الله خاتم الأنبياء وبعثه إلى الإنس والجن، فلا حلال إلا ما أحلّه ولا حرام إلا ما حرّمه، ولا دين إلا ما شرعه، وكل شيء أخبر به فهو حق وصدق لا كذب فيه ولا خلف. كما قال تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً} أي صدقًا في الأخبار وعدلاً في الأوامر والنواهي، فلما أكمل لهم الدين تمت عليهم النعمة. ولهذا قال تعالى: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً } أي فارضوه أنتم لأنفسكم، فإنه الدين الذي أحبه الله ورضيه وبعث به أفضل الرسل الكرام، وأنزل به أشرف كتبه" (1).
أخرج السيوطي بسنده عن ابن وهب قال: كنا عند مالك بن أنس نتذاكر السنة، فقال مالك: "السُّنةُ سفينة نوح، من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرِق" (2).
__________
(1) تفسير ابن كثير (2/ 12).
(2) المفتاح للسيوطي ص 27.(1/9)
وعن العرباض بن سارية رضي الله تعالى عنه أنه قال: "صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم، ثم أقبل علينا بوجهه، فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقال رجل: يا رسول الله كأنّ هذه موعظة مودِّعٍ، فماذا تعهدُ إلينا؟ قال: "أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن عبدًا حبشيًا، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة" (1).
وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني عن النار، قال: "لقد سألتَ عن عظيم، وإنّه ليسيرٌ على من يسرَهُ الله تعالى علَيْه، تعبدُ الله ولا تُشركُ بهِ شيئًا، وتُقيمث الصلاةَ، وتُؤتي الزكاةَ، وتصومُ رَمضانَ، وتحجُّ البيتَ إنِ استطعتَ إليهِ سبيلاً" ثمّ قالَ له: "ألاَ أدلكَ على أبوابِ الخيرِ؟ الصَّومث جُنَّةٌ، والصدقةُ تُطفئ الخطيئَةَ كمَا يُطفئُ الماءُ النارَ، وَصلاة المَرْءِ في جَوْفِ الليل".
ثم تلا: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} حتى بَلغَ { يَعْمَلُونَ }.
__________
(1) أخرجه أبو داود في السنة (4607)، والترمذي في العلم (2676) وإسناده صحيح، وأخرجه أحمد في المسند (4/ 126، 127)، وابن ماجه في المقدمة (42).(1/10)
ثُم قال: "ألا أُخبركَ برأسِ الأمرِ وعمودِهِ وذَروةِ سَنَامهِ؟" قُلْتُ: بَلَى، يَا رسُولَ الله، قالَ: "رأسُ الأمرِ الإسلامُ، وَعَمُودُهُ الصلاةُ، وَذَرْوةُ سَنَامِهِ الجِهَادُ" ثُم قال: "ألا أُخْبِركَ بمِلاكِ ذَلِكَ كُلّهِ؟" قلتُ: بَلى، يَا رَسُولَ الله، فأخذَ بلسَانِهِ ثمّ قال: "كُفَّ عَلَيْكَ هَذا" قلتُ: يَا نبيَّ الله، وإنّا لمُؤَاخَذُونَ بمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟ فقَالَ: "ثَكِلَتْكَ أُمُّك يَا مُعَاذُ، وَهَلْ يَكُبُّ الناسَ في النارِ على وجوههِمْ – أوْ قالَ – علَى منَاخرِهِمْ إلا حَصائِدُ ألْسِنَتِهِمْ ؟!" (1).
مَنْ سَارَ مُقْتَفيًا خُطَى سَلَفٍ لَنَا ... قَدْ فَازُوا في الدَّارَيْنِ بِالرِّضْوَانِ
أَمِنَ العِثَارَ، لأنهُ نَهْجٌ لَهُ ... ضُمِنَ الهُدَى مِنء مُبْدعٍ مَنَّانِ
فَعَلَيْكُم بالسُّنَّةِ مَا إنء تَمَـ ... ـسَكْتُم بِهَا نِلْتُمْ هُدَى الرَّحْمنِ
مَوْعِظةٌ قَدْ قَالَهَا خَيْرُ الْوَرَى ... فَامْسِكْ بِهَا بِالأيْدِي والأسْنَانِ
أعْنِي كِتَابَ رَبِّنَا فِيهِ الهُدَى ... وَالسُّنَّةَ القَويمَةَ البُنْيَانِ
إن الله سبحانه وتعالى قد أثنى على الذين اتبعوا الصحابة بإحسان، فهذا دليل على أن اتباعهم صواب، وليس بخطأ، لأنه لو كان خطأً لكان غاية صاحبه أن يعفي له عنه، لا أن يجازى بالرضاء عنه، وإدخاله الجنة، فالرضوان عمن اتبعهم دليل على أن اتباعهم صواب.
وكذلك قال تعالى: { وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ } [لقمان: 15] وكل من الصحابة منهيب إلى الله تعالى فيجب اتباع سبيله.
وأقوالُه واعتقاداته من أكبر سبيله، والديل على أنهم منيبون إلى الله تعالى أن الله قد هداهم، وقال: { وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ } [الرعد: 27].
__________
(1) رواه الترمذي (2616) وقال: حديث حسن صحيح. ورواه أحمد في المسند (5/ 231)، وابن ماجه في سننه (3973) وهو حديث صحيح بطرقه. جامع الأصول (9/ 535) حاشية.(1/11)
وقال: { اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ } [الشورى: 13].
كما أن الله سبحانه وتعالى أمرنا بأن نكون معهم في قوله الكريم: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ } [التوبة:119].
قال ابن القيم رحمه الله: "قال غير واحد من السلف: هم أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - ولا ريب أنهم أئمة الصادقين، وكل صادق بعدهم، فبهم يأتمُّ في صدقه، بل حقيقة صدقه اتباعه لهم، وكونه معهم، ومعلوم أن من خالفهم في شيء وإن وافقهم في غيره لم يكن معهم فيما خالفهم فيه، وحينئذ فيصدق عليه أنه ليس معهم فتنتفي عنه المهعية المطلقة، وإن ثبت له قسط من المعية فيما وافقهم فيه، فلا يصدق عليه أنه معهم بهذا القسط" (1).
وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه وغيره: "بايعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أن نقول بالحق حيث كنا، ولا نخاف في الله لومة لائم، ونحن نشهد بالله أنهم وفوا بهذه البيعة، وقالوا بالحق، وصدعوا به، ولم تأخذهم في الله لومةه هلائم، ولم يكتموا شيئًا منه مخافة سوط ولا عصا ولا أمير ولا والٍ كما هو معلوم لمن تأمله من هديهم وسيرتهم، فقد أنكر أبو سعيد علي مروان وهو أمير على المدينة (وأنكر) عبادة بن الصامت على معاوية وهو خليفة، (وأنكر) ابن عمر على الحاج مع سطوته وبأسه، (وأنكر) على عمرو بن سعيد، وهو أمير على المدينة. وهذا كثير جدًا من إنكارهم على الأمراء والولاة إذا خرجوا عن العدل، لم يخافوا سطوتهم ولا عقوبتهم" (2).
__________
(1) إعلام الموقعين (3/ 387).
(2) إعلام الموقعين (3 396).(1/12)
وقال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: "إن الله نظر في قلوب عباده فوجد قلب محمد - صلى الله عليه وسلم - خير القلوب فاختاره لرسالته، ثم نظر في قلوب الناس بعده فرأى قلوب أصحابه خير قلوب العباد فاختارهم لصحبته، وجعلهم أنصار دينه ووزراء نبيّه، فما رآه المؤمنون حسنًا فهو عند الله حسن، وما رأوه قبيحًا فهو عند الله قبيح، وقد أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - باتباع سنة خلفائه الراشدين، وبالاقتداء بالخلفيتين" (1).
وقال سبحانه وتعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } [النساء:59].
هذا أمهر من الله سبحانه وتعالى للمؤمنين بإطاعة الله ورسوله وأولياء أمور المسلمين من المسلمين، كما هو أمر منه تعالى بأن كل شيء تنازع الناس فيه من أصول الدين وفروعه أن يردَّ التنازع في ذلك إلى الكتاب والسنة، كما قال سبحانه وتعالى: { وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ } فما حكم به الكتاب والسنة وشهدا له بالصحة فهو الحق، وماذا بعد الحق إلا الضلال، لذلك قال تعالى: { إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ } فدلَّ على أن من لم يتحاكم في محل النزاع إلى الكتاب والسنة، ولم يرجع إليهما فليس مؤمنًا بالله ولا باليوم الآخر.
(
__________
(1) المصدر السابق (2/ 345).(1/13)
أَمِنَ العِثَارَ): أي إن من يقتفي آثار السلف الصالح وفي مقدمتهم صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذين شهد لهم الرسول بالخير بقوله: "خير الناس قرني ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم"(1) (أمِنَ العِثَارَ) على الطريق، وتأكد بأن ما هو عليه هو الطريق المستقيم الذي عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصحابته الكرام، وجملة (أمن العثار) خبر المبتدأ (مَنْ)، وجملة (قدر فازوا) صفة لكلمة (سلف) المضاف إليه، وجملة (له ضمن الهدى) صفة لكلمة (نهج)، فالصحابي إذا قال قولاً، أو حكم بحكم أو أفتى بفتيا فله مدارك ينفرد بها عنا، ومدارك نشاركه فيها.
فأما ما يختص به، فيجوز أن يكون سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - شفاهًا، أو من صحابي آخر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنّ ما انفردوا به من العلم عناع أكثر من أن يحاط به، فلم يَزْوِ كلّ منهم كل ما سمع، وأين ما سمعه الصدِّيق رضي الله عنه، والفاروق وغيرهما من كبار الصحابة رضوان الله تعالى عليهم إلى ما رووه؟ فلم يَروِ عنه صديق الأمة مائة حديث، وهو لم يغب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في شيء من مشاهده، بل صحبه من حين مبعثه، بل قبل المبعث إلى أن توفي، وكان أعلم الأمة به - صلى الله عليه وسلم - وبقوله وفعله وهديه وسيرته. وكذلك أجلة الصحابة، روايتهم قليلة جدًا بالنسبة لما سمعوه من نبيهم، وشاهدوه، ولو رووا كلّ ما سمعوه وشاهدوه لزاد على رواية أبي هريرة أضعافًا مضاعفة، فإنه إنما صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوًا من أربع سنين، وقد روي عنه الكثير.
__________
(1) أخرجه أحمد في المسند (1 378، 418)، والبخاري (3/ 150)، ومسلم (7 184) (16/ 84) بشرح النووي.(1/14)
فقول القائل: "لو كان عند الصحابي في هذه الواقعة شيء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لذكره، قول مَن لم يعرف سيرة القوم، وأحوالهم، فإنهم كانوا يهابون الرواية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويعظمونها ويقلّلونها خوفًا من الزيادة والنقص، ويحدّثون بالشيء الذي سمعوه من النبي - صلى الله عليه وسلم - مرارًا، ولا يصرّحون بالسماع، ولا يقولون قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
فتلك الفتوى التي يفتي بها أحدهم لا تخرج عن أن:
1- يكون سمعها من النبي - صلى الله عليه وسلم - .
2- أو سمعها ممن سمعها منه.
3- أو يكون فهمها من آية من كتاب الله فهمًا خفي علينا.
4- أو يكون قد اتفق عليها ملؤهم ولم ينقل إلينا إلا قول المفتي بها وحده.
5- أو يكون لكمال علمه باللغة ودلالة اللفظ على الوجه الذي انفرد به عنا، أو لقرائن حالية اقترنت بالخطاب، أو لمجموع أمور فهموها على طول الزمان من رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ومشاهدة أفعاله، وأحواله، وسيرته، وسماع كلامه، والعلم بمقاصده، وشهود تنزيل الوحي، ومشاهدة تأويله بالفعل، فيكون فهم ما لا نفهمه نحن.
وعلى هذه التقادير الخمسة تكون فتواه حجة يجب اتباعها" (1).
(فضْلٌ): هذا فيما انفرد به عنا.
__________
(1) إعلام الموقعين (3/ 398، 399).(1/15)
أما المدارك التي شاركناهم فيها من دلالات الألفاظ والأقيسة، فلا ريب أنهم كانوا أبرَّ قلوبًا، وأعمق علمًا، وأقل قلوبًا، وأعمق علمًا، وأقلَّ تكلفًا، وأقرب إلى أن يوفقوا فيها لما لم نوفق له نحن، لما خصهم الله تعالى به من توقُّد الأذهان، وفصاحة اللسان، وسعة العلم، وسهولة الأخذ، وحسن الإدراك، وسرعته، وقلة المعارض أو عدمه، وحسن القصد، وتقوى الرب تعالى، فالعربية طبيعتهم وسليقتهم، والمعاني الصحيحة مركوزة في فطرهم وعقولهم، ولا حاجة بهم إلى النظر في الإسناد، وأحوال الرواة، وعلل الحديث، والجرح والتعديل، ولا إلى النظر في قواعد الأصول، أو أوضاع الأصوليين، بل قد اغتنوا عن ذلك كله، فليس في حقهم إلا أمران:
أحدهما: قال الله تعالى كذا، وقال رسوله كذا.
والثاني: معناه كذا وكذا، وهم أسعد الناس بهاتين المقدمتين، وأحظى الأمة بهما، فقواهم متوفرة مجتمعة عليها (1).
قال الشافعي رحمه الله: العلم طبقات:
الأولى: الكتاب والسنة.
الثانية: الإجماع فيما ليس كتابًا ولا سنة.
الثالثة: أن يقول صحابي فلا يعلم له مخالف من الصحابة.
الرابعة: اختلاف الصحابة.
الخامسة: القياس.
هذا كل كلامه في الجديد، قال البيهقي بعد أن ذكر هذا: وفي الرسالة القديمة للشافعي بعد ذكر الصحابة وتعظيمهم قال: "وهم فوقنا في كل علم واجتهاد وورع وعقل" (2) "عليكُم بِسُنَّتِي.. إلخ".
وقال سبحانه وتعالى: { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ) [آل عمران: 31، 32].
__________
(1) إعلام الموقعين (3/ 399، 400).
(2) المصدر السابق (3/ 380).(1/16)
هذه الآية الكريمة حاكمة على كل من ادَّعى محبة الله وليس هو على الطريقة المحمدية بأنه كاذب في نفس الأمر حتى يتبع الشرع المحمدي والدين النبوي في جميع أقواله وأفعاله، كما ثبت في الصحيح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "مَنْ عَمِلَ ليسَ عليهِ أمرُنَا فَهوَ رَدٌّ" ولهذا قال: { إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ } أي يحصل لكم فوق ما طلبتم من محبتكم إياه وهو محبته إياكم، وهو أعظم من الأول، كما قال بعض العلماء الحكماء: "ليس الشأن أن تُحب، إنما الشأن أن تُحَبَّ" (1).
وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "اتَّبِعُوا، ولا تَبْتدعوا، فقد كُفيتم، فإنَّ كل محدثةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ" وقال أيضًا: "إنَّا نَقْتدِي ولاَ نَبْتَدي، ونتَّبعُ ولاَ نبتدِعُ ولَنْ مَا تَمسَّكْنَا بالأثَرِ".
وقال أيضًا: "إياكُم والتَّبدعَ، وإيَّاكمْ والتَّنَطعَ، وإياكُمْ والتَّعَمُّقَ، وعليكُمْ بالدينِ العَتيقِ" (2).
وقال سبحانه وتعالى: { وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ } [لأنفال:46].
وقال تعالى: { قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ } [آل عمران:32].
__________
(1) تفسير ابن كثير (1/ 358).
(2) إعلام الموقعين (3/ 400، 401).(1/17)
قال تعالى آمرًا لكل أحد من خاص وعام: { قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا } أي تخالفوا عن أمره { فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ } فدلَّ على أن مخالفته في الطريقة كفر، والله لا يحب من اتصف بذلك، وإن ادعى وزعم في نفسه أنه محبٌّ لله، ويتقرّب إليه، حتى يتابع الرسول النبي الأمي خاتم الرسل ورسول الله إلى جميع الثقلين الجن والأنس، الذي لو كان الأنبياء بل المرسلون بل ِأولو العزم منهم في زمانه، ما وسعهم إلا اتباعه، والدخول في طاعته، واتباع شريعته (1)، وما أحسن قول القائل:
تَعْصي الإلهَ وِأَنْتَ تَزعمُ حُبَّهُ ... هَذَا لَعمْرِي في القيَاسِ بَديعُ
لَوْ كَانَ حُبُّك صَادِقًا لأطَعْتَهُ ... إنَّ المُحِبَّ لِمَنْ يُحِبُّ مُطِيعُ
فصل
سُنَّةُ خَيْرِ الخلْقِ ظلَّتْ تَوْأَمًا ... لِكِتَابِ رَبي الخَالِقِ الدَّيَّانِ
فالسنَّةُ الغَرَّاءُ للقُرْأنِ كَالْـ ... ـمِفْتَاحِ للْكَنْزِ فَخُذْ تِبْيَانِي
في آيهِ المُطْلَقُ والمُجْمَلُ فَا ... لتَّقْيِيدُ والتَّبْيِينُ كَالْبُرْهَانِ
كَذلِكَ المَنْسُوخُ والعَام وَمَا ... يَحْتَاجُ لِلتَّخْصِيصِ والإتْقَانِ
يقول ابن القيم رحمه الله: "السنة مع القرآن على ثلاثة أوجه:
أحدها: أن تكون موافقة له من كل وجه، فيكون توارد القرآن والسنة على الحكم الواحد من باب توارد الأدلة وتضافرها.
الثاني: أن تكون بيانًا لما أريد بالقرآن وتفسيرًا له.
الثالث: أن تكون موجبة لحكم سكت القرآن عن إيجابه، أو محرمة لما سكت عن تحريمه، ولا تخرج عن هذه الأقسام، فلا تعارض القرآن بوجه ما.
__________
(1) ابن كثير (1/ 358).(1/18)
فما كان منها زائدًا على القرآن فهو تشريع مبتدأ من النبي - صلى الله عليه وسلم - تجب طاعته فيه، ولا تحلّث معصيته، وليس هذا تقديمًا لها على كتاب الله، بل امتثال لِما أمر الله به من طاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، ولو كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يطاع في القسم هذا القسم لم يكن لطاعته معنى، وسقطت طاعته المختصة به، وأنه إذا لم تجب طاعته إلا فيما وافق القرآن لا فيما زاد عليه، لم يكن له طاعة خاصة تختص به، وقد قال الله تعالى: { مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ } [النساء: 80] (1).
وقد صرَّح النبي - صلى الله عليه وسلم - بوجوب طاعته، وأن طاعته هي طاعة الله بقوله الكريم: "مَنْ أطاعَنِي فقدْ أطَاعَ اللهَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى الله، وَمَنْ أطَاعَ الأميرَ فَقَدْ أطَاعَنِي، وَمَنْ عَصَى الأميرَ فقَدْ عَصَانِي" (2).
وعن المهقدام بن منعد يكرب رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "ألاَ هَلْ عَسَى رَجُلٌ يَبْلُغُهُ الحديثُ عَنِّي وهُوَ مُتَّكِيءٌ عَلَى أرِيكَتِهِ فيَقُول: بَينَنَا وبَينَكُمْ كِتابُ الله، فَمَا وَجَدْنَا فيهِ حَلالاً استَحْللْنَاهُ، ومَا وَجَدْنَا فِهيِ حَرَامًا حَرَّمْنَاهُ، وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ الله كَمَا حَرَّمَ الله" (3).
__________
(1) إعلام الموقعين (2/ 280).
(2) أخرجه البخاري (2957) (6/ 135) فتح الباري، وأخرجه مسلم (12/ 223) بشرح النووي.
(3) رواه الترمذي (2666) في العلم وقال: حديث حسن.(1/19)
وفي رواية: "ألاَ إِني أوتيتُ هَذَا الكتَابَ وَمثْلَهُ مَعَهُ، ألا يُوشِكُ رَجُلٌ شَبْعَانُ علَى أريكتِهِ يقُولُ: عليكُمْ بِهذَا القُرْآنِ فَمَا وَجَدْتمْ فيهِ منْ حلالٍ فأحلُّوهُ، وَمَا وجَدْتُمْ فيهِ مِنْ حَرَام فحَرِّمُوهُ، ألاَ لا يَحِلُّ لكُمْ الحِمَارُ الأهْلِيُّ، ولاَ كُل ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاع، ولا لُقْطَةُ مُعَاهَدٍ إلاَّ أنْ يَسْتَغْنِيَ عَنْهَا صَاحِبُهَا، وَمَنْ نَزَلَ بِقَوْمٍ فَعَلَيْهِمْ أنء يُقْرُوهُ، فإنْ لَمْ يُقْرُوهُ فَلَهُ أَنْ يُعْقِبَهُمْ بِمِثْلِ قِرَاهُ" (1).
وقد بيّن العلماء منزلة السنة من الكتاب فيما يأتي:
1- تفصيل مجمله، كبيان مواقيت الصلاة وكفيَّتها، وبيان أنصبة الزكاة، والمقدار الواجب في كل نصاب، وبيان مناسك الحج، وغير ذلك مما فصَّلته السنة من مجملات القرآن.
2- تحديد مطلقه، كتحديد القطع في السرقة باليمين، وبيان أنه من الكوع.
3- تخصيص عامّه، كتخصيص قوله تعالى: { يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ } الآية، الشامل للوالد الكافر، بحديث الصحيحين "لاَ يَرِثُ المُسْلِمُ الكَافِرَ، ولاَ الكَافِرُ الْمُسْلِمَ" (2).
__________
(1) رواه أبو داود (4604) وأخرجه أحمد في المسند (4/ 130، 132) وابن ماجه (12) في المقدمة، باب تعظيم حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
(2) رواه البخاري (6383)، ومسلم (1614)، ومالك (2/ 519)، وأبو داود (2909)، والترمذي (2108)، وابن ماجه (2329)، والحاكم (2/ 240)، وأحمد (5/ 200) وغيرهم.(1/20)
وكتخصيص الآية المذكورة، بالوارث القاتل في قوله عليه الصلاة والسلام: "لَيْسَ للْقَاتِلِ مِيرَاثٌ" (1) وفي رواية "لاَ يَرِثُ القَاتِلُ مِنَ المَقْتُولِ شيئًا" (2) وفي رواية: "لَيْسَ لِلْقَاتِلِ مِنَ المِيرَاثِ شَيْءٌ" (3).
وكتخصيص قوله تعالى: { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ } [النساء: 24] بنهيه - صلى الله عليه وسلم - أن يجمع بين المرأة وعمتها، وبين المرأة وخالتها، لقوله عليه الصلاة والسلام: "لا يُجْمَعُ بَيْنَ المَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا وَلاَ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَخَالَتِهَا" (4).
وكتخصيص عمومن قوله تعالى: { قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} [الأنعام: 145] بنهيهن عليه الصلاة والسلام "عَنْ أكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السَّبَاعِ" (5) "وَعَنْ أَكْلِ كُلِّ ذي مِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ" (6).
4- وتوضيح مشكله: كتفسيره - صلى الله عليه وسلم - المراد من الخيط الأبيض والخيط الأسود بأنهما بياض الصبح وسواد الليل.
5- وبيان معنى لفظ أو متعلقه، كبيان المغضوب عليهم باليهود، والضالين بالنصارى.
__________
(1) رواه الدارقطني (4 237).
(2) رواه أبو داود (4564) والبيهقي (6/ 220).
(3) رواه النسائي (8/ 42، 43) وابن ماجه (2646) وفي الزوائد، إسناده حسن، والبيهقي (6/ 220) وعزاه أيضًا في "تلخيص الحبير" إلى مالك الشافعي.
(4) رواه البخاري (4820) ومسلم (1408) ومالك (2/ 532) وأبو داود (2065 – 2066) والترمذي (1126) والنسائي (6/ 96، 98) وابن ماجه (1929) والبيهقي (7/ 165) وأحمد (2/ 462، 465).
(5) رواه البخاري (5210) ومسلم (1932) ومالك (2/ 496) وأبو داود (3802) والترمذي (1477) والنسائي (7/ 201) وابن ماجه (3232).
(6) رواه مسلم (1934) وأبو داود (3803/ 3805) والنسائي (7/ 206) وغيرهم.(1/21)
6- وبيان النسخ، كنسخ حديث "لا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ" (1) لقوله تعالى: { كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ } [البقرة: 180].
كما تنسخ السنة بالكتاب، كنسخ استقبال بيت المقدس الثابت بالسنة بقوله تعالى: { فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ } [البقرة: 144].
كُونُوا حُمَاةَ السُّنَّةِ الْغَرَّاءِ لاَ ... تُلْقُوا بِهَا في عَالَم النِّسْيَانِ
فَالدِّينُ قالَ اللهُ قَالَ رَسُولُهُ ... فِكِلاهُمَا مُسْتَوجِبا الإذْعَانِ
فَافْهَمْ كِتَابَ الله فَهْمًا جَيِّدًا ... وَاعْمَلْ بِمَا فِيهِ بِلاَ نُقْصَانِ
والسُّنَّةَ الغَراءَ لا تُهْمِلْ فَلِلْـ ... ـإسلامِ وَالدينِ هُمَا أصْلانِ
قال الشافعي رحمه الله: "فقد ضيّق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الناس أن يردوا أمره، بفرض الله عليهم اتباع أمره" (2).
"فقد أُمِرَ المسلمون أن يتبعوا سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وسنة خلفائه الراشدين، حيث إن سنتهم رضوان الله تعالى عليهم من سنته - صلى الله عليه وسلم - ، فسنته هو ما كان عليه هو وخلفاؤه الراشدون من الاعتقادات والأعمهال والأقوال، وهذه هي السنة الكاملة، ولهذا كان السلف قديمًا لا يطلقون اسم السنة إلا على ما يشمل ذلك كله.
وقد صحّ عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه قال: إِنَّكُمْ قد أصبحتُم اليومَ علَى الفِطرَة وإنكُمْ ستُحدِثُونَ، ويحدَثُ لكُمْ، فإذَا رأيتم مُحْدثَةً فَعَليْكُمْ بالعَهْدِ الأوَّلِ.
وابن مسعود قال هذا في زمن الخلفاء الراشدين.
__________
(1) رواه أحمد (4/ 186، 187) وأبو داود (2870) والترمذي (2120) وقال: حسن صحيح.
(2) رسالة الشافعي (1/ 226).(1/22)
وروى ابن حميد عن مالك قال: "لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الأَهْوَاءِ في عَهْدِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَأبي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ"، وكان مالك يشير بالأهواء إلى ما حدثَ من التفرُّق في أصول الديانات من أمور الخوارج والروافض والمرجئة، ونحوهم ممن تكلم في تكفير المسلمين، واستباحة دمائهم وأموالهم، أو في تخليدهم في النار، أو في تفسيق خواص هذه الأمة، أو عكس ذلك، من زعم أن المعاصي لا تضر أهلها، وأنه لا يدخل النار من أهل التوحيد أحد.
وأصعب من ذلك ما أحدث من الكلام في أفعال الله تعالى في قضائه، وقد مرد وكذب بذلك من كذب، وزعم أنه نزّه الله بذلك عن الظلم.
وأصعب من ذلك ما حدث من الكلام في ذات الله وصفاته مما سكت عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة والتابعون لهم بإحسان.
فقوم نفوا كثيرًا مما أورد في الكتاب والسنة من ذلك، وزعموا أنهم فعلوا تنزيهًا للهِ عما تقتضيه العقول بتنزيهه عنه، وزعموا أن لازم ذلك لمستحيل على الله عز وجل.
وقوم لم يكتفوا بإثباته حتى أثبتوا بإثباته ما يظن أنه لازم له بالنسبة إلى المخلوقين.
وهذه اللوازم نفيًا وإثباتًا درج صدر الأمة على السكوت عنها" (1).
(فالدِّينُ قالَ اللهُ قالَ رسُولهُ): قال ابن القيم رحمه الله: "من تأمَّل سيرة القوم – الصحابة – رأى أنهم كانوا إذا ظهرت لهم السنة لم يكونوا يدعونها لقول أحد كائنًا من كان، وكان ابن عمر يدع قول عمر إذا ظهرت له السنة، وابن عباس ينكر على من يعارض ما بلغه من السنة بقوله: قال أبو بكر وعمر، ويقول: يُوشكُ أن تَنزِلَ عليكُمْ حِجَارةٌ من السَّمَاءِ؛ أقولُ: قَالَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ، وتَقُولُونَ: قَالَ أبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ" (2).
__________
(1) جامع العلوم والحكم للحافظ ابن رجب ص 254.
(2) إعلام الموقعين (2/ 326).(1/23)
وقال أيضًا رحمه الله: (فصل): "وأما نقلهم لتركه - صلى الله عليه وسلم - فهو نوعان وكلاهما سنة:
أحدهما: تصريحهم بأنه ترك كذا وكذا، ولم يفعله، كقولهم في شهداء أحدٍ: ولم يغسلهم ولم يصلِّ عليهم، وغير ذلك.
الثاني: عدم نقلهمه لما لو فعله لتوفرت هممهم ودواعيهم أو أكثرهم أو واحدٍ منهم على نقله، فحيث لم ينقله واحد منهم البتة، ولا حدث به في مجمع أبدًا، علم أنه لم يكن. وهذا كتركه التلفظ بالنية عند دخوله في الصلاة، وتركه الدعاء بعد الصلاة مستقبل المأمومين، وهم يؤمنون على دعائه دائم"ًا بعد الصبح والعصر، أو في جميع الصلوات، وتركه رفع يديه كل يوم في صلاة الصبح بعد رفع رأسه من الركوع الثانية وقوله: اللهم اهدني فيمن هديت، يجهر بها ويقول المأمومون كلهم: آمين. ومن الممتنع أن يفعل ذلك ولا ينقله عنه صغير ولا كبير ولا رجل ولا امرأة البتة، وهو مواظب عليه هذه المواظبة لا يخل به يومًا واحدًا. وغير ذلك.
ومن هنا يعلم أن القول باستحباب ذلك خلاف السنة، فإن تركه - صلى الله عليه وسلم - سنة، كما أن فعله سنة، فإذا استحببنا فعل ما تركه كان نظير استحبابنا ترك ما فعله، ولا فرق" (1).
وما أحسن قول الحافظ الذهبي رحمه الله:
العِلْمُ قَالَ الله قَالَ رَسُولُهُ ... إن صَحَّ والإجْمَاعُ فَاجْتَهِدْ فِيهِ
وحَذَارِ مِنْ نَصْبِ الخِلافِ جهَالَةً ... بَيْنَ الرَّسُولِ وَبَيْنَ رَأْي فَقِيهِ (2)
وقول الشافعي رحمه الله:
كُلُّ الْعُلُومِ سِوَى القُرآنِ مَشْغَلَةٌ ... ِإلاَّ الحَدِيثَ وَإلا الْفِقْهَ فِي الدِّينِ
الْعِلْمُ مَا كَانَ فِيهِ قَالَ: حَدَّثَنَا ... وَمَا سِوَى ذَاكَ وِسْوَاسُ الشَّيَاطينِ (3)
فصل
__________
(1) المصدر السابق (2/ 440).
(2) جلاء العينين في محاكمة الأحمدين للألوسي البغدادي ص 33.
(3) شرح العقيدة الطحاوية للعلامة علي بن علي بن محمد بن أبي العز، ص 10.(1/24)
إيَّاكَ وْالآرَاءَ لاَ تَجْعَلْ لَهَا ... فِي الدِّينِ حُكْمًا دُونَما بُرْهَانِ
أَنّى تُحَلُّ دِمَاؤُنَا وَفُرُوجُنَا ... بِمُجَرَّدِ الرَّأْيِ بِلاَ سُلْطَانِ
أوْ تُؤْخَذُ الأَمْوَالُ والأمْلاكُ بَلْ ... أَعْرَاضُنَا بِالرَّأْيِ مِنْ إنْسَانِ
روى البخاري ومسلم عن أبي وائلة أنه قال: "لَمَّا قَدِمَ سَهْلُ بنُ حنيف من صفين أتيناه نستخبره، فقال: اتهمُوا الرَّأْي، فَلَقَدْ رَأَيْتُني يَوْمَ أبي جَنْدَلٍ، وَلَوْ أسْتَطِيعُ أنْ أرُدَّ علَى رسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أَمْرَهُ لَرَدَدْتُهُ، واللهُ وَرَسُولُه أَعلَمُ" (1).
وعن صالح بن مسلم قال: "سألت الشعب يعن مسألة من النكاح؟ فقال: إن أخبرتك برأيي فَبُلْ عليه. قالوا: فهذا قول الشعبي في رأيه، وهو من كبار التابعين، وقد لقي مائة وعشرين من الصحابة، وأخذ من جمهورهم" (2).
وعن حماد بن زيد قال: قيل لأيوب السختياني: ما لك لا تنظر في الرأي؟ فقال أيوب: قيل للحمار: ما لك لا تجتر؟ قال: أكره مضغ الباطل (3).
وقال معن بن عيسى القزاز: سمعت مالكًا يقول: "إنما أنا بشر أخطيءُ وأصيبُ، فانظروا في قولي، فَكلُّ ما وافق الكتابَ والسنَّةَ فخذوا به، ومَا لم يوافقِ الكتابَ والسنةَ فاتركُوهُ" (4).
قال ابن القيم رحمه الله: وأمها المتعصبون فإنهم عكسوا القضية، ونظروا في السنة، فما وافق أقوالهم منها قبلوه، وما خالفها تحايلوا في رده، أو رَدِّ دلالتهِ، وإذا جاء نظير ذلك أو أضعف منه سندًا ودلالةً، وكان يوافق قولهم قبلوه ولم يستجيزوا ردِّه، واعترضوا به على منازعيهم، وأشاحوا وقرروا الاحتجاج بذلك السند ودلالته، فإذا جاء ذلك السند بعينه أو أقوى منه، ودلالته كدلالة ذلك أو أقوى منه في خلاف قولهم دفعوه ولم يقبلوه" (5).
(
__________
(1) أخرجه البخاري (4189).
(2) إعلام الموقعين (1/ 84).
(3) إعلام الموقعين (1/ 86).
(4) المصدر نفسه (1/ 87).
(5) 1/ 87).(1/25)
والمقصود): أن أحدًا ممن بعد الصحابة، لا يساويهم في رأيهم، وكيف يساويهم؟ وقد كان أحدهم يرى الرأي فينزل القرآن بموافقته، كما رأى عمر رضي الله تعالى عنه.
1 - في أسارى بدر أن تضرب أعناقهم فنزل القرآن بموافقته.
2 – ورأى أن تحجب نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فنزل القرآن بموافقته.
3 – ورأى أن يتخذ من مقام إبراهيم مصلى، فنزل القرآن بموافقته.
4 – وقال لنساء النبي - صلى الله عليه وسلم - لما اجتمعن في الغيرة عليه: { عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ } فنزل القرآن بموافقته.
5 – ولما توفى عبد الله بن أبيّ، قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليصلي عليه، فقام عمر فأخذ بثوبه، فقال: يا رسول الله إنه منافق! فصلى عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فأنزل الله عليه: { وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ } (1).
وقال علي بن عبد العزيز البغوي: "ثنا أبو الوليد القرشي، أخبرنا محمد بن عبد الله بن بكار القرشي، ثنا سليمان بن جعفر، ثنا محمد بن يحيى الربعي عن ابن شبرمة قال: دخلت أنا وأبو حنيفة على جعفر بن محمد بن الحنفية فسلمت عليه، وكنت له صديقًا، ثم أقبلت على جعفر وقلت له: أمتع الله بك، هذا رجل من أهل العراق وله فقه وعقل، فقال جعفر: لعله الذي يقيس الدين برأيه، ثم أقبل علَيَّ فقال: أهو النعمان؟ فقال له أبو حنيفة: نعم، أصلحك الله، فقال له جعفر: اتفق الله ولا تقس الدين برأيك، فإنَّ أول من قاس إبليس إذ أمره الله بالسجود لآدم فقال: أنا خير منه خللقتني من نار وخلقته من طين.
__________
(1) إعلام الموقعين (1/ 93).(1/26)
ثم قال لأبي حنيفة: أخبرني عن كلمة أولها شرك وآخرها إيمان؟ فقال: لا أدري، قال جعفر: هي لا إله إلا الله، فلو قال: لا إله، ثم أمسك كان مشركًا، فهذه كلمة أولها شرك وآخرها إيمان، ثم قال له: ويحك، أيهما أعظم عند الله: قتل النفس التي حرم الله، أو الزنى؟ قال: بل قتل النفس، فقال له جعفر: إن الله قد قبل في قتل النفس شاهدين، ولم يقبل في الزنى إلا أربعة، فكيف يقومن لك قياس؟
ثم قال: أيهما أعظم عند الله: الصوم أو الصلاة؟ قال: بل الصلاة، قال: فما بال المرأة إذا حاضت تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ اتق الله يا عبد الله ولا تقس، فإنا نقف غدًا نحن وأنت بين يدي الله، فنقول: قال الله عز وجل، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وتقول أنت وأصحابك: قسنا ورأينا، فيفعل الله بنا وبكم ما يشاء" (1).
وقال ابن القيم رحمه الله: نقول لمن يفتي أو يحكم يقول من يقلِّده: هل تقول: إن هذا هو دين الله الذي أرسل به رسوله، وأنزل به كتابه وشرعه لعباده، ولا دين له سواه؟
أو تقول: إن دين الله الذي شرعه لعباده خلافه؟ أو تقول: لا أدري.
لا سبيل لك إلى الأول قطعًا، فإن دين الله الذي لا دين سواه لا تسوغ مخالفته، والثاني: لا تدَّعيه، فليس لك ملجأ إلا الثالث..
فيا لله العجب، كيف تستباح الفروج والدماء والأموال والحقوق، وتحلل، وتحرم، بأمر أحسن أحوالها وأفضلها، لا أدري؟؟
فَإنْ كُنتَ لا تَدْرِي فَتِلْكَ مُصِيبَةٌ ... وَإِنْ كنتَ تدْرِي فَالمُصِيبةُ أَعظَمُ" (2)
__________
(1) المصدر السابق (1/ 311).
(2) إعلام الموقعين (2/ 308).(1/27)
وقال الحافظ ابن رجب: "ومما حدث في الأمة بعد عصر الصحابة والتابعين، الكلامُ في الحلال والحرامه بمجرد الرأي، ورَدُّ كثيرٍ مما وردت به السنة في ذلك لمخالفته الرأي والأقيسة العقلية، ومما حدث بعد ذلك الكلام في الحقيقة بالذوق، والكشف، وزعم أن الحقيقة تنافي الشريعة، وأنالمعرفة وحدها تكفي مع المحبة، وأنه لا حاجة إلى الأعمال، وأنها حجاب، أو أن الشريعة إنما يحتاج إليها العوام، وربما انضَمَّ إلى ذلك الكلام في الذات والصفات بما يعلم قطعًا مخالفته الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم(1).
وقال الحافظ في الفتح عند الكلام على حديث الخضر عليه السلام: "ذهب قوم من الزنادقة إلى سلوك طريقة تستلزم هدم أحكام الشريعة، فقالوا: إنه يستفاد من قصة موسى والخضر أن الأحكام الشرعية العامة تختص بالعامة والأغبياء، وأما الأولياء والخواص فلا حاجة بهم إلى تلك النصوص، بل إنما يراد منهم ما يقع في قلوبهم، ويحكم عليهم بما يغلب على خواطرهم، لصفاء قلوبهم عن الأكدار، وخلوِّها عن الأغيار، فتنجلي لهم العلوم الإلهية والحقائق الربانية، فيقفون على أسرار الكائنات، ويعلمون الأحكام الجزئيات فيستغنون بها عن أحكام الشرائع الكليات، كما اتفق للخضر، فإنه استغنى بما ينجلي له من تلك العلوم عما كان عند موسى عليه السلام، ويؤيَّده الحديث المشهور: "اسْتَفْتِ قَلْبَكَ وَإِنْ أفْتَوْكَ".
__________
(1) جامع العلوم والحكم للحافظ ابن رجب ص 254.(1/28)
قال القرطبي: وهذا القول زندقة وكفر، لأنه إنكار لما علم من الشرائع، فإن الله قد أجرى سنته، وأنفذ كلمته، بأن أحكامه لا تعلم إلا بواسطة رسله السفراء بينه وبين خلقه، المبيِّنين لشرائعه وأحكامه، كما قال تعالى: { اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ } وقال: { اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } وأمر بطاعتهم في كل ما جاؤوا به، وحث على طاعتهم، والتمسك بما أمروا به، فإنَّ فيه الهدى، وقد حصل العلم اليقين وإجماع السلف على ذلك، فمن ادعى أن هناك طريقًا أخرى يعرف بها أمرُه ونهيه غير الطرق التي جاءت بها الرسل يستغني بها عن الرسول فهو كافر، يقتل، ولا يستتاب، قال: وهي دعوى تستلزم إثبات نبوة بعد نبينا، لأن من قال: إنه يأخذ من قلبه لأن الذي يقع فيه هو حكم الله، وأنه يعمل بمقتضاه، من غير حاجة منه إلى كتاب ولا سنة، فقد أثبت لنفسه خاصة النبوة كما قالن نبينا - صلى الله عليه وسلم - : "إنّ روحَ القدُسِ نفثَ في رُوعِي" قال: وقد بلغنا عن بعضهم أنه قال: أنا لا آخذ عن الموتى، وإنما آخذ عن الحي الذي لا يموت، وكذا قال آخر: "آخذ عن قلبي عن ربي" وكل ذلك كفر باتفاق أهل الشرائع" ونسأ الله الهداية والتوفيق" (1). انتهى.
فصل
يَا سَالِكًا سُبْلَ الغِوَايَةِ وَالرَّدَى ... مَهْلاً فقدْ أسْرفْتَ في النُّكْرَانِ
ارْجِعء إلى رَبٍّ كَريمٍ غَافرٍ ... لِلذَّنْبِ ذِي فَضْلٍ وَذِي إحْسَانِ
كَمْ مِنْ صَرِيعٍ ماتَ مُلْتَبِسًا بِمَا ... يَنْهَى الإلهُ، وَطَاعَةِ الشَّيْطانِ
مِنْ تَارِكٍ سُنَنَ الزَّوَاجِ وَحِصْنِهِ ... مُسْتَمْسِكينَ بِوَصْمَةِ الأخْدَانِ
أَوْ قَاصِدٍ بُلْدَانَ كُفْرٍ رَاغِبًا ... فيِيمَا لَدَيْهِمْ مِنْ حُطامٍ فَإنِ
أَوْ تَارِكٍ حَتّى الصَّلاةَ وَمَا دَرَوْا ... أنَّ الصلاةَ تَوْأَمُ الإيمَانِ
__________
(1) فتح الباري شرح صحيح البخاري (1/ 267) طبع المكتبة السلفية.(1/29)
فَإِذَا نَصَحْتَهُمُ بِأَنْ لا يَشْتَرُوا ... لَهُمْ فَسَادَ الكُفْرِ بالإيمَانِ
أَوْ قُلتَ لا تشرُوا الْهِدَايَةَ بِالرَّدَى ... رَدُّوا عَلَيْكَ بِمَنْطِقِ السَّكْرَانِ
هذا نداء لكل من ضلّ طريق الهدى، واتبع طريق الغواية والردى، ورزقه الله عقلاً، وفهمًا مميزًا أن يترك طريق الغواية، ويتوجه إلى ربه الغفور الرحيم الذي خلق الثقلين لعبادته، وخلق النوع الإنساني فصوّره وأحسن صوره، نداء إليه ليتوب إلى الله توبة نصوحًا، وذلك بأن يندم على ما اقترفت يداه في غوايته، ويصمم على أن لا يعود إلى ذلك، وإن كان عليه حق لآدمي ردَّه عليه إن استطاع إلى ذلك سبيلاً، وإن لم يستطع رَدّ ذتلك الحق دعا لصاحب الحق بعد أن يبذل كل ما في وسعه من إرجاع الحق إلى أهله، فإن التوبة النصوح تَجبُّ ما قبلها، كما جاء في الصحيح.
فارجع إلى ربك – أيها الغافل – قبل أن يفوت الأوان، وحين ذاك لا ينفع الندم، وقبل أن تقول: { رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ }.
فإنك لا تردي متى يحين أجلك، فتقف أمام ربك فيحاسبك على ما قدمت من عمل، فتَدَارَكْ نفسك قبل أن تندم حين لا ينفع الندم، وضعْ أمام عينيك حال الذين خرجوا عن الطريق المستقيم، وسلكوا السبل الملتوية المشبوهة، ثم انظر إلى عاقبة أولئك، حين يأتيهم هادم اللذات ومفرِّق الجماعات، فيصبحون كأن لم يغنوا بالأمس، ولا تلحقهم إلا لعنات المسلمين وغضب رب العالمين.(1/30)
ترى قسمًا منهم مضربًا عن الزواج الشرعي رغم أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالزواج لمن يستطيع ذلك، فقال عليه الصلاة والسلام: "يَا مَعْشَرَ الشَّبَاب، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُم البَاءَةَ فَلْيتَزَوَّجْ، فَإنَّه أغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ" (1).
فيترك ما أحله الله له، ويبحث عن دور المومسات الساقطات صباح مساء، حتى إذا أدركه المشيب، وأصبح عاجزًا عن كل شيء، هناك يظهر بؤسه وشقاؤه، فلا ولدَ يساعده، ولا عائلة تؤويه، فيصبح خاسرًا الدنيا والآخرة.
وترى قسمًا آخر يترك وطنه وأهله وأقرباءهُ، وحتى زوجته وأطفاله، قاصدًا بلدان الكفر لأجل حطام الدنيا، ناسيًا أن رزقه مقسوم ولن يموت حتى يستكمله سواء في وطنه أو في الغربة، فيترك دينه وشرفه وعزتهِ، فيغدوا غريبًا ذليلاً، ويعمل في شتى الأعمال الدنيئة الذليلة من غسل للمواعين وكنس للشوارع وخدمة على أبواب الحانات والمطاعم، وغيرها من الأعمال التي كان يستنكف عن ذكرها حينما كان في بلده، فيتركون واجباتهم الدينية، ويصبحون كأنهم مجردُ حيوانات، تأكل وتشرب وتنام، حتى إذا أحدهم الموت قال: { رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ } [المؤمنون: 100].
قال عليه الصلاة والسلام: "بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ فِتنًا كقِطعِ الليْلِ المُظلِم، يُصبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا، وَيُمْسي كافِرًا، وَيُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كافِرًا يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا" (2).
__________
(1) رواه البخاري (4/ 106) ومسلم (1400) وأبو داود (2046) والترمذي (1081) والنسائي (4/ 169).
(2) أخرجه مسلم (118) في الإيمان، والترمذي (2196) في الفتن.(1/31)
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن عَرْشَ إبْلِيسَ علَى البَحْرِ، فيَبْعثُ سَرَايَاهُ، فَيُفْتِنُونَ النَّاسَ، فأعْظَمُهُمْ عِندَهُ أعظَمُهُمْ فِتنَةً، يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيقُولُ: فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا، فَيَقُولُ: مَا صَنَعْتَ شَيئًا، ثُمَّ يَجيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: ما تَرَكْتُهُ حَتّى فَرَّقْتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ، فَيُدْنيهِ مِنْهُ وَيَلْتَزِمُهُ وَيَقُولُ: نِعْمَ أَنْتَ" (1).
وقال - صلى الله عليه وسلم - : "قَدْ أفْلَحَ مَنْ أسْلَمَ وَرُزِقَ كَفَافًا، وَقَّنَّعَهُ اللهُ بِمَا أَتَاهُ" (2).
وقال: "إنَّ أولَ مَا يُحاسَبُ بهِ العَبْدُ يَومَ القيَامَةِ مِنء عَمَلِهِ صَلاتُهُ، فَإن صَلُحَتْ فَقَدْ أَفْلَحَ وَأنْجَحَ، وَإِنْ فَسَدَتْ فَقَدْ خَابَ وَخَسِرَ، فَإِن انْتَقَصَ مِنْ فَرِيضَتِهِ شَيئًا، قالَ الرَّبُّ تَبَارَكَ وَتعَالَى: انْظُرُوا، هَلْ لِعَبْدِي مِنْ تَطَوُّعٍ؟ فَيُكْمَلُ بِهَا ما انْتَقَصَ مِنَ الفَرِيضَةِ، ثُمّ يَكُونُ سَائِرُ عَمَلِهِ مِثْلَ ذَلِكَ" (3).
فيا أيها الإنسان الذي زوّدك الله سبحانه وتعالى بالعقل، وبيّن لك سبيل الخير من سبل الشيطان، تفكَّر في أمر نفسك، واسأل عقلك: لماذا خلقك الله سبحانه وتعالى؛ أللأكل والشرب والنوبة كبقية الحيوانات؟ أم خلقك لعبادته وأرسل إليك رسوله وأنزل إليك كتابه ينطق بالحق ويهدي إلى سواء السبيل؟
__________
(1) أخرجه مسلم (2813) في صفات المنافقين.
(2) رواه مسلم (1054) في الزكاة، والترمذي (2349) في الزهد.
(3) رواه الترمذي (413) والنسائي (1/ 232) وأحمد في المسند/ 5/ 72، 377) والحاكم (1/ 263) وهو حديث صحيح بشواهده.(1/32)
فاختر لنفسك ما ينجيك غدًا من غضب الله وعذابه. فاللهَ اللهَ في نفسِك وأَهلك لئلا تُنسى يوم القيامة في النار وتخسر نفسكَ وأهلكَ، قال تعالى: { إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } [الزمر: 15].
وقال - صلى الله عليه وسلم - : "يُؤْتَى بِالْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُ اللهُ لَهُ: أَلَمْ أَجْعَلْ لكَ سَمْعًا وبَصَرًا ومَالاً وَوَلَدًا، وسَخَّرْتُ لَكَ الأنْعامَ والْحَرْثَ، وتَرَكْتُكَ تَرْأَسُ وَتَرْبَعُ فَكُنْتَ تَظُنُّ أنّكَ مُلاقي يَوْمَكَ هَذا؟ قَالَ: لاَ، فَيَقُولُ لَهُ: اليَوْمَ أنْسَاكَ كمَا نَسِيتَني" (1).
فَاحْذَرْ أَخِي مِنْ أن تَكُونَ كَمِثْلِهِمْ ... أَوْ أَنْ تَبِيعَ الهَدْيَ بالخُسْرَانِ
فحذار حذار أن تكون من هؤلاء يوم القيامة، فتخسر كل شيء، النفس والأهل.
مِنْهَاجُنَا هُوَ مَا عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ ... صَلَّى عَلَيْهِ مُنَزِّلُ الْفُرْقَانِ
هَوَ مَا عَلَيْهِ الآلُ والأصْحَابُ مِنْ ... دِينٍ قَوِيمٍ ثَابِتِ الأرْكَانِ
__________
(1) أخرجه الترمذي (2428) وإسناده حسن.(1/33)
قال ابن القيم رحمه الله: "كان السلف الطيب يشتد نكيرهم وغضبهم على من عارض حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برأي أو قياس أو استحسان، أو قول أحد من الناس كائنًا من كان، ويهجرون فاعل ذلك، وينكرون على من يضرب له الأمثال، ولا يسوغون غير الانقياد له والتسليم والتلقي بالسمع والطاعة، ولا يخطر في قلوبهم التوقف في قبوله، حتى يشهد له عمل أو قياس أو يوافق قول فلان وفلان، بل كانوا عاملين بقوله تعالى: { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ } وبقوله تعالى: { فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً }.
وبقوله تعالى: { اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} وأمثالها، فدفعنا ِإلى زمان إذا قيل لأحدهم: ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال كذا وكذا، يقول: مَن قال هذا؟ ويجعل هذا دفعًا في صدر الحديث، ويجعل جهله بالقائل حجة له في مخالفة الحديث، وترك العمل به، ولو نصح نفسه لعلم أن هذا الكلام من أعظم الباطل، وأنه لا يحلُّ له دفع سنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهذا الجهل" (1) وقد شهد الله سبحانه وتعالى بالعلم لمن يرى أن ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - من عند الله هو الحق، لا آراء الرجال، فقال تعالى: { وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ }.
وقال تعالى: { أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى }.
__________
(1) إعلام الموقعين (3/ 464، 465).(1/34)
فمن تعارض عنده ما جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وآراء الرجال، فقدمها عليه أو توقف فيه، أو قدحت في كمال معرفته فهو أعمى عن الحق.
وقد أخبر الله عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي } وأخبر تعالى عنه أنه سراج منير، وأنه هادٍ إلى صراط مستقيم، وبأن من اتبع النور الذي أنزل معه هو المفلح لا غيره، وأن من لم يحكِّمه في كل ما تنازع فيه المتنازعون وينقاد لحكمه، ولا يكون عنده حرج منه، فليس بمؤمن، فكيف يجوز على من أخبر الله تعالى عنه بما ذكر أن يكون قد أخبر عن الله (1) بما يكون الحق في غير ماأخبر به وأنه يجوز لمن يزعم أنه مؤمن به أن يخالفه في القول والعمل؟
"وقد كان السلف يشتد عليهم معارضة النصوص بآراء الرجال، ولا يقرُّون على ذلك.
وكان ابنعباس يحتج في متعة الحج بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وأمره لأصحابه بها، فيقولون له: إن أبا بكر وعمر قد أفردا الحجد ولم يتمتعا، فلما أكثروا عليه قال: "يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتقولون: قال أبو بكر وعمر؟".
__________
(1) الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة (1/ 6).(1/35)
ولما حدث حميد عن ثابت عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في تفسير قوله تعالى { فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ } قال: "وَضَعَ إصْبِعَهُ عَلَى طَرَفِ خُنْصُرِهِ فَسَاخَ الْجَبَلُ" أنكر عليه بعض الحاضرين وقال: أتحدّث بهذا؟ فضرب حميد في صدره وقال: أحدِّثك عن ثابت عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وتقول أتحدثَ بهذا؟ فكانت نصوص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجَلَّ في صدورهم وأعظم في قلوبهم من أن يعارضوها بقول أحد من الناس، ولا تثبت قدم أحد على الإيمان إلا على ذلك" (1).
وَاحْذَرْ أُنَاسًا شَيَّدُوا دُورًا لَهُمْ ... لاَ لِلْهِدَايَةِ بَلْ لأْمْرٍ ثانٍ
جَعَلُوا لَهَا قُبَبًا مُزَخْرَفَةً وَكَمْ ... صَادُوا بِهَا الأمْوَالَ بِالبُهْتَانِ
يَا لَيْتَهُمْ في الصِّيْدِ بِالْمَالِ اكْتَفَوْا ... بَلْ شَبَّهُوا الجُدْرَانَ بِالأَوْثَانِ
وَتَوَسَّلُوا بِقُبُورِ مَنْ ظَنُّوا بِهِمْ ... قُرْبًا مِنَ اللهِ العَظِيمِ الشَّانِ
كَيْ يَشْفَعُوا لَهُمُ وَيُنْجُوهُمْ غَدًا ... عِنْدَ الحِسَابِ مِنْ لَظَى النِّيرَانِ
لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ الألى يَدْعُونَهُمْ ... يَرْجُونَ أَنْ يَدْنُوا مِنَ الرَّحْمنِ
فصل
نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن البناء على القبور:
__________
(1) الصواعق المرسلة ص 146، والحديث أخرجه الترمذي (3076) وقال: هذا حديث حسن صحيح وهو كما قال، وأخرجه الطبري رقم (15087) و(15088) والحاكم (2/ 320) وقال: حديث حسن على شرط مسلم.(1/36)
1 – ففي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه قال: "نَهَى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يُجَصَّصَ الْقَبْرُ، وَأَنْ يُبْنَى عَلَيْهِ، وَأَنْ يُقْعَدَ عَلَيْهِ" وفي رواية: "نَهَى عَنْ تَقْصِيصِ الْقُبُورِ" (1) والتقصيص هو التجصيص.
2 – وأخرجه أبو يعلى (2) بسند رجاله ثقات كما في مجمع الزوائد، قال في المجمع (3/61): عن أبي سعيد قال: "نَهَى نَبيُّ الله - صلى الله عليه وسلم - أن يُبْنَى علَى القُبورِ، أوْ يقعَدَ عليهَا، أوْ يُصلَّى علَيْهَا".
3 – وأخرج ابن ماجه بسند رجاله رجال الصحيح عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نَهَى أَنْ يُبْنَى عَلَى القَبْرِ" (3).
هذه الأحاديث صريحة في النهي عن بناء الدور، والقباب على القبور، وأن البناء عليها خلاف سنّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، بل هي من سنن أهل الكتاب الذين لعنهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - على فراش موته بقوله الكريم: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" (4).
__________
(1) أخرجه مسلم (970) وأحمد في المسند (3/ 295، 232، 339) وأبو داود (3225) والترمذي (1052) والنسائي (4/ 86، 88) وابن حبان (3162/ 3164) والحاكم (1/ 370) وقال: صحيح على شرط مسلم، وأقره الذهبي.
(2) وأخرجه أبو يعلى في مسنده (1020) تحقيق حسين أسد.
(3) أخرجه ابن ماجه (1564).
(4) رواه البخاري (3/ 203) ومسلم (532).(1/37)
وخاصة عندما علمنا من صحابته الأمر بتسوية القبور المشرفة، وطمس التماثيل، كما جاء في حديث (أبي الهياج الأسدي رحمه الله) قال: قال لي علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "ألاَ أبْعثُكَ علَى مَا بعَثَنِي علَيْهِ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ اذْهَبْ، فَلا تَدَعْ تِمْثَالاً إلا طَمْستَهُ، ولاَ قبْرًا مُشْرِفًا إلا سَوَّيْتَهُ" (1).
فإذا كانوا يسوُّون القبور المشرفة فما بالك بالبناء عليها؟!
وقد حاول بعض المنتسبين إلى العلم من الذين يريدون أن يخالفوا ليعرفوا، أن يطعنوا في صحة هذه الأحاديث بالطعن في بعض رجال أسانيدها، فما مثلهم في ذلك إلا كمثل من يناطح الجبل ليوهنه برأسه:
كَنَاطِحٍ صَخْرَةً يومًا لِيُوهنَهَا ... فَلَمْ يَضِرْهَا وَأَوْهَى قَرْنَهُ الوَعِلُ
ولكن هيهات أن ينالوا من صحة هذه الأحاديث، فقد أجاب علماء الجرح والتعديل عن كل مطاعنهم في رجال هذه الأسانيد، وفنَّدوا مطاعنهم، فقد اتفقت الأمة على صحة ما في الصحيحين حيث جاء حديث جابر في صحيح مسلم.
قال الحافظ السيوطي في ألفيّته:
وَانْتَقَدُوا عَلَيْهِمَا يَسيرًا ... وَكَمْ نَرَى نَحْوَهُمَا نَصِيرَا
__________
(1) رواه مسلم (969) وأبو داود (3218) والترمذي (1049) والنسائي (4/ 88، 89).(1/38)
فقال شارحها العلامة محمد محيي الدين عبد الحميد رحمه الله: "وقد انتقد جماعة من الحفاظ منهم الدارقطني، وأبو ذر الهروي، وأبو على الغساني، وأبو سعد الدمشقي، بعض أحاديث الصحيحين... ولكن الكثير من الحفاظ المتقنين لم يوافقوا هؤلاء على نقدهم. وقالوا: إن الشيخين أسبق أهل عصرهما فمن بعده، إلى معرفةه الصحيح، والمُعَلِّ، وهما أقدر الناس على معرفة العلل القادحة، وغير القادحة، وقد ذكرا أنَّ ما في كتابيهما صحيح، فلا يخلو الحال من أن يكون ما فيهما لا علة له، أو له علة غير قادحة، وكلاهما صحيح، فإن كان المنتقد يدَّعي أن في بعضها علةً قادحةً، كان قوله هذا معارضًا لما تضمنه قولُهما: إن ما في كتابيهما صحيح من ادعاء سلامته من العلل القادحة، ومتى تعارض قول المنتقد وقولهما، رجح قولهما على قوله لأنهما من هذا الفن في المنزلة التي لا تدانيها منزلة، فهما مرجح القول فيه" (1).
ومن أراد التأكد من صحة هذه الأحاديث، وَرَدِّ انتقادات المنتقدين، فليراجع كتابَ (البناء على القبور) تأليف الشيخ عبد الرحمن بن يحيى المعلمي رحمه الله، تحقيق حاكم ابن عبيسان المطيري.
وقد اتخذ بعض المحتالين قُببًا جعلوها مصايد لأموال الناس وعقائدهم، فترى الجهلة من العوام يهبون أموالهم ومزارعهم وبساتينهم لهذه القُبب والتكايا التي يديرها هؤلاء المحتالون، ظنًا منهم بأن مَنْ فيها من المقبورين سوف ينجونهم يوم القيامة من عذاب الله، حتى حدا الأمر ببعضهم أنك إذا حلّفته بالله سبحانه وتعالى أو بكتابه أسرع إلى الحلف بهما، وإذا وجهته إلى قبة من تلك القبب، أو قبر من تلك القبور، تلكأ واصفرَّ وجهه وارتعدت فرائصه خوفًا، ثم امتنع عن الحلف به، وأقرَّ على نفسه بما حلف من أجله.
__________
(1) ألفية السيوطي في مصطلح الحديث ص26، 27.(1/39)
وأكبر من ذلك إذا دعوت بعضًا من أولئك المغفلين إلى المحافظة على واجباتهم الدينية من صلاة وصيام وغير ذلك، أجابك بجواب قد استقر مضمونه في عقله قائلاً: إذا حافظتُ على الواجبات فما هي وظيفة الشيخ إذًا؟!
حيث أُفهم أن شيخه سينحيه دون أن يقدِّم أي عمل لله تعالى.
وترى بعضًا منهم يفح له تكية مدعيًا أن فيها قبرَ وَلِيٍّ من الأولياء، ويصبح سادنًا لها، فتراه بعد بضع من السنين وهو أغنى أهل المنطقة دورًا وبساتين، وأثاثًا، وهو لا يعمل أي عمل غير سدانة التكية، لأن الجهلة المساكين يوقفون عند موتهم ما يملكون من بساتين ويبقون عوائلهم يتضوَّرون جوعًا، ويتكففون الناس، ناسين قوله عليه الصلاة والسلام لسعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه: "إِنَّك أَنْ تذَرَ ورَثَتَكَ أغْنِيَاء خَيرٌ مِنْ أن تَذَرَهُمْ عالَةً يتَكَفَّفُونَ النَّاسَ" (1).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فمن قصد بقعة يرجو الخير بقصدها، ولم تستحب الشريعة ذلك فهو من المنكرات، وبعضه أشد من بعض، سواء كانت البقعة شجرة أو غيرها أو قناة جارية، أو جبلاً، أو مغارة، وسواء قصدها ليصلِّي عندها، أو ليدعو عندها، أو ليقرأ عندها، أو ليذكر الله سبحانه وتعالى عندها، أو لينسك عندها، بحيث يخص تلك البقعة بنوع من العبادة التي لم يشرع تخصيص تلك البقعة به، لا عينًا ولا نوعًا.
__________
(1) رواه البخاري (2591) ومسلم (1628) ومالك (2/ 763) والترمذي (975) وأبو داود (2864) والنسائي (6/ 241، 243) وأحمد (1/ 172).(1/40)
وأقبح من ذلك أن ينذر لتلك البقعة دهنًا لتُنَوَّرَ بِهِ، ويقول: إنها تقبل النذور، كما يقوله بعض الضالين، فإن هذا النذرَ نذرُ معصية باتفاق العلماء لا يجوز الوفاء به، بل عليه كفارة يمين عند كثير من أهل العلم، منهم أحمد في المشهور عنه، وعنه رواية، هي قول أبي حنيفة والشافعي، وغيرهما: أنه يستغفر الله من هذا النذر، ولا شيء عليه، وكذلك إذا نذر طعامًا من الخبز أو غيره للحيتان التي في تلك العين أو البئر، وكذلك إذا نذر مالاً من النقد أو غيره للسدنة أو المجاورين العاكفين بتلك البقعة، فإن هؤلاء السدنة فيهم شبهة بالسدنة الذين كانوا للات والعزى ومناة، يأكلون أموال الناس بالباطل، ويصدُّون عن سبيل الله.
فالنذر لأولئك السدنة والمجاورين في هذه البقاع التي لا فضل في الشريعة للمجاورين بها نذرث معصيةٍ، وفيه شبه من النذر لسدنة الصلبان، والمجاورين عندها، أو سدنة (الأبداد) التي بالهند والمجاورين عندها" (1).
"ومن السدنة من يضلل الجهال فيقول: أنا أذكر حاجتك لصاحب الضريح، وهو يذكرها للنبي، والنبي يذكرها لله" (2).
ولا يعلم هؤلاء الجاهلون مَن المدفون في هذه القبور؟ ولا يعلمون أيضًا أن أصحاب تلك القبور – إن كان فيها صالح – يطلبون القرب من الله سبحانه وتعالى يرجون رحمته، ويخافون عذابه، قال تعالى: { أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً } [الاسراء:57].
نرجو من الله سبحانه وتعالى العافية في الدين والدنيا والآخرة، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، وسلم، آمين.
__________
(1) اقتضاء الصراط المستقيم (214/ 215).
(2) المصدر السابق (458).(1/41)
عُنْوَانِ الحِكَمِ
( النُّونِيَّةُ ) (1)
شَاعِرُ زَمَانِهِ , المُحَدِّثُ
أَبُو الفَتْحِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الحُسَيْنِ البُستِيُّ
(330 تَقْدِيراً ـ 400 هـ)
قام بنشرها على الشبكة
أبو مهند النجدي
Almodhe1405@hotmail.com
almodhe@yahoo.com
O
[ عدد الأبيات : 63]
[البحر : البسيط]
زِيَادَةُ المَرْءِ فِي دُنْيَاهُ نُقْصَانُ ... (1) ... وَرِبْحُهُ غَيْرَ مَحْضِ الْخَيْرِ خُسْرَانُ
وَكُلُّ وِجْدَانِ حَظٍّ لاَ ثَبَاتَ لَهُ ... (2) ... فَإِنَّ مَعْنَاهُ فِي التَّحْقِيقِ فِقْدَانُ
يَا عَامِراً لِخَرَابِ الدَّارِ مُجْتَهِداً ... (3) ... بِاللهِ هَلْ لِخَرَابِ العُمْرِ عُمْرَانُ ؟
وَيَا حَرِيصاً عَلَى الأَمْوَالِ تَجْمَعُهَا ... (4) ... أُنْسِيتَ أَنَّ سُرُورَ المَالِ أَحْزَانُ ؟
زَعِ الفُؤَادَ عَنِ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا ... (5) ... فَصَفْوُهَا كَدَرٌ وَالْوَصْلُ هِجْرَانُ(2)
وَأَرْعِ سَمْعَكَ أَمْثَالاً أُفَصِّلُهَا ... (6) ... كَمَا يُفَصَّلُ يَاقُوتٌ وَمَرْجَانُ
أَحْسِنْ إِلَى النَّاسِ تَسْتَعْبِدْ قُلُوبَهُمُ ... (7) ... فَطَالَمَا اسْتَعْبَدَ الإِنْسَانُ إِحْسَانُ
يَا خَادِمَ الجِسْمِ كَمْ تَشْقَى بِخِدْمَتِهِ ... (8) ... أَتَطْلُبُ الرِّبْحَ فِيمَا فِيهِ خُسْرَانُ ؟
أَقْبِلْ عَلَى النَّفْسِ وَاسْتَكْمِلْ فَضَائِلَهَا ... (9) ... فَأَنْتَ بِالنَّفْسِ لاَ بِالْجِسْمِ إِنْسَانُ
وَإِنْ أَسَاءَ مُسِيءٌ فَلْيَكُنْ لَكَ فِي ... (10) ... عُرُوضِ زَلَّتِهِ صَفْحٌ وَغُفْرَانُ
وَكُنْ عَلَى الدَّهْرِ مِعْوَاناً لِذِي أَمَلٍ ... (11) ... يَرْجُو نَدَاكَ فَإِنَّ الحُرَّ مِعْوَانُ
__________
(1) مِن كِتابِ (الْجامِعِ للمُتونِ العِلْمِيَّةِ) للشَّيخِ الفاضِلِ عبدِ اللهِ الشَّمرانِي - حَفِظَهُ اللهُ - [ ط : مَدارِ الوَطَنِ / ط3 - 1426 ] .
(2) قوله (زَعِ) ؛ كذا بالزاي , وهو فعل أمر , ومعناه : كُفَّ .(1/1)
وَاشْدُدْ يَدَيْكَ بِحَبْلِ اللهِ مُعْتَصِماً ... (12) ... فَإِنَّهُ الرُّكْنُ إِنْ خَانَتْكَ أَرْكَانُ
مَنْ يَتَّقِ اللهَ يُحْمَدْ فِي عَوَاقِبهِ ... (13) ... وَيَكْفِهِ شَرَّ مَنْ عَزُّوا وَمَنْ هَانُوا
مَنِ اسْتَعَانَ بِغَيْرِ اللهِ فِي طَلَبٍ ... (14) ... فَإِنَّ نَاصِرَهُ عَجْزٌ وَخِذْلاَنُ
مَنْ كَانَ للخَيْرِ مَنَّاعاً فَلَيْسَ لَهُ ... (15) ... عَلَى الْحَقِيقَةِ إِخْوَانٌ وَأَخْدَانُ
مَنْ جَادَ بِالمَالِ مَالَ النَّاسُ قَاطِبَةً ... (16) ... إِلَيْهِ وَالمَالُ للإِنْسَانِ فَتَّانُ
مَنْ سَالَمَ النَّاسَ يَسْلَمْ مِنْ غَوَائِلِهِم ... (17) ... وَعَاشَ وَهُوَ قَرِيرُ الْعَيْنِ جَذْلاَنُ
مَنْ كَانَ للْعَقْلِ سُلْطَانٌ عَلَيْهِ غَدَا ... (18) ... وَمَا عَلَى نَفْسِهِ للْحِرْصِ سُلْطَانُ
مَنْ مَدَّ طَرْفاً لِفَرْطِ الْجَهْلِ نَحْوَ هَوَىً ... (19) ... أَغْضَى عَلَى الْحَقِّ يَوْماً وَهْوَ خَزْيَانُ
مَنْ عَاشَرَ النَّاسَ لاَقَى مِنْهُمُ نَصَباً ... (20) ... لأَنَّ سُوْسَهُمُ بَغْىٌ وَعُدْوَانُ
وَمَنْ يُفَتِّشْ عَنِ الإِخْوَانِ يَقْلِهِمُ ... (21) ... فَجُلُّ إِخْوَانِ هَذَا العَصْرِ خَوَّانُ
مَنِ اسْتَشَارَ صُرُوفَ الدَّهْرِ قَامَ لَهُ ... (22) ... عَلَى حَقِيقَةِ طَبْعِ الدَّهْرِ بُرْهَانُ
مَنْ يَزْرَعِ الشَّرَّ يَحْصُدْ فِي عَوَاقِبِهِ ... (23) ... نَدَامَةً وَلِحَصْدِ الزَّرْعِ إِبَّانُ
مَنِ اسْتَنَامَ إِلَى الأَشْرَارِ نَامَ وَفِي ... (24) ... قَمِيصِهِ مِنْهُمُ صِلٌ وَثُعْبَانُ
كُنْ رَيَّقَ البِشْرِ إِنَّ الحُرَّ هِمَّتُهُ ... (25) ... صَحِيفَةٌ وَعَلَيْهَا البِشْرُ عُنْوَانُ
وَرَافِقِ الرِّفْقَ فِي كُلِّ الأُمُورِ فَلَمْ ... (26) ... يَنْدَمْ رِفيقٌ وَلَمْ يَذْمُمْهُ إِنْسَانُ
وَلاَ يَغُرَّنْكَ حَظٌّ جَرَّهُ خَرَقٌ ... (27) ... فَالخَرْقُ هَدْمٌ وَرِفْقُ الْمَرْءِ بُنْيَانُ
أَحْسِنْ إِذَا كَانَ إِمْكَانٌ وَمَقْدِرَةٌ ... (28) ... فَلَنْ يَدُومَ عَلَى الإِحْسَانِ إِمْكَانُ(1/2)
فَالرَّوْضُ يَزْدَانُ بِالأَنْوَارِ فَاغِمَةً ... (29) ... وَالحُرُّ بِالعَدْلِ وَالإِحْسَانِ يَزْدَانُ
صُنْ حُرَّ وَجْهِكَ لاَ تَهْتِكْ غِلاَلَتَهُ ... (30) ... فَكُلُّ حُرٍّ لِحُرِّ الْوَجْهِ صَوَّانُ
فَإِنْ لَقِيتَ عَدُواً فَالْقَهُ أَبَداً ... (31) ... وَالْوَجْهُ بِالبِشْرِ وَالإِشْرَاقِ غَضَّانُ
دَعِ التَّكَاسُلَ فِي الْخَيْرَاتِ تَطْلُبُهَا ... (32) ... فَلَيْسَ يَسْعَدُ بِالْخَيْرَاتِ كَسْلاَنُ
لاَ ظِلَّ لِلْمَرْءِ يَعْرَى مِنْ تُقَىً وَنُهىً ... (33) ... وَإِنْ أَظَلَّتْهُ أَوْرَاقٌ وَأَفْنَانُ
وَالنَّاسُ أَعْوَانُ مَنْ وَالَتْهُ دَوْلَتُهُ ... (34) ... وَهُمْ عَلَيْهِ إِذَا عَادَتْهُ أَعْوَانُ
"سَحْبَانُ" مِنْ غَيْرِ مَالٍ "بَاقِلٌ" حَصِرٌ ... (35) ... وَ "بَاقِلٌ" فِي ثَرَاءِ المَالِ "سَحْبَانُ"
لاَ تُوْدِعِ السِّرَّ وَشَّاءً يَبُوحُ بِهِ ... (36) ... فَمَا رَعَى غَنَماً فِي الدَّوِّ سِرْحَانُ
لاَ تَحْسَبِ النَّاسِ طَبْعاً وَاحِداً فَلَهُمْ ... (37) ... غَرَائِزٌ لَسْتَ تُحْصِيهِنَّ أَلْوَانُ
مَا كُلُّ مَاءٍ كَصَدَّاءٍ لِوَارِدِهِ ... (38) ... نَعَمْ وَلاَ كُلُّ نَبْتٍ فَهْوَ سَعْدَانُ
لاَ تَخْدِشَنَّ بِمَطْلٍ وَجْهَ عَارِفَةٍ ... (39) ... فَالْبِرُّ يَخْدِشُهُ مَطْلٌ وَلَيَّانُ
لاَ تَسْتَشِرْ غَيْرَ نَدْبٍ حَازِمٍ يَقِظٍ ... (40) ... قَدِ اسْتَوَى فِيهِ إِسْرَارٌ وَإِعْلاَنُ
فللتَّدَابِيرِ فُرْسَانٌ إِذَا رَكَضُوا ... (41) ... فِيهَا أَبَرُّوا كَمَا للحَرْبِ فُرْسَانُ
وَلِلأُمُورِ مَوَاقِيتٌ مُقَدَّرَةٌ ... (42) ... وَكُلُّ أَمْرٍ لَهُ حَدٌّ وَمِيزَانُ
فَلاَ تَكُنْ عَجِلاً بِالأَمْرِ تَطْلُبُهُ ... (43) ... فَلَيْسَ يُحْمَدُ قَبْلَ النُّضْج بُحْرَانُ
كَفَى مِنَ الْعَيْشِ مَا قَدْ سَدَّ مِنْ عَوَزٍ ... (44) ... فَفِيهِ للحُرِّ إِنْ حَقَّقتَ غُنْيَانُ
وَذُو الْقَنَاعَةِ رَاضٍ مِنْ مَعِيشَتِهِ ... (45) ... وَصَاحِبُ الحِرْصِ إِنْ أَثْرَى فَغَضْبَانُ(1/3)
حَسْبُ الْفَتَى عَقْلُهُ خِلاًّ يُعَاشِرُهُ ... (46) ... إِذَا تَحَامَاهُ إِخْوَانٌ وَخِلاَّنُ
هُمَا رَضِيعَا لَبَانٍ : حِكْمَةٌ وَتُقَىً ... (47) ... وَسَاكِنا وَطَنٍ : مَالٌ وَطُغْيَانُ
إِذَا نَبَا بِكَرِيمٍ مَوْطِنٌ فَلَهُ ... (48) ... وَرَاءَهُ فِي بَسِيطِ الأَرْضِ أَوْطَانُ
يَا ظَالِماً فَرِحاً بِالعِزِّ سَاعَدَهُ ... (49) ... إِنْ كُنْتَ فِي سِنَةٍ فَالدَّهْرُ يَقْظَانُ
مَا استَمْرَأَ الظُّلْمَ لَوْ أَنْصَفْتَ آكِلُهُ ... (50) ... وَهَلْ يَلَذُّ مَذَاقَ المَرْءِ خُطْبَانُ
يَا أَيُّهَا العَالِمُ المَرْضِيُّ سِيرَتُهُ ... (51) ... أَبْشِرْ فَأَنْتَ بِغَيْرِ المَاءِ رَيَّانُ
وَيَا أَخَا الْجَهْلِ لَوْ أَصْبَحْتَ فِي لُجٍَج ... (52) ... فَأَنْتَ مَا بَيْنَهَا لاَ شَكَّ ظَمْآنُ
لاَ تَحْسَبَنَّ سُرُوراً دَائِماً أَبَداً ... (53) ... مَنْ سَرَّهُ زَمَنٌ سَاءَتْهُ أَزْمَانُ
إِذَا جَفَاكَ خَلِيلٌ كُنْتَ تَألَفُهُ ... (54) ... فَاطْلُبْ سِوَاهُ فَكُلُّ النَّاسِ إِخْوَانُ
وَإِنْ نَبَتْ بِكَ أَوْطَانٌ نَشَأْتَ بِهَا ... (55) ... فَارْحَلْ فَكُلُّ بِلاَدِ اللهِ أَوْطَانُ
يَا رَافِلاً فِي الشَّبَابِ الرَّحْبِ مُنْتَشِياً ... (56) ... مِنْ كَأْسِهِ هَلْ أَصَابَ الرُّشْدَ نَشْوَانُ ؟
لاَ تَغْتَرِرْ بِشَبَابٍ رَائِقٍ نَضِرٍ ... (57) ... فَكَمْ تَقَدَّمَ قَبْلَ الشِّيبِ شُبَّانُ
وَيَا أَخَا الشَّيْبِ لَوْ نَاصَحْتَ نَفْسَكَ لَمْ ... (58) ... يَكُنْ لِمِثْلِكَ فِي اللَّذَّاتِ إِمْعَانُ
هَبِ الشَّبِيبَةَ تُبْدِي عُذْرَ صَاحِبِهَا ... (59) ... مَا عُذْرُ أَشْيَبَ يَسْتَهْوِيهِ شَيْطَانُ؟!
كُلُّ الذُّنُوبِ فَإِنَّ اللهَ يَغْفِرُهَا ... (60) ... إِنْ شَيَّعَ المَرْءَ إِخْلاَصٌ وَإِيمَانُ
وَكُلُّ كَسْرٍ فَإِنَّ الدِّينَ يَجْبُرُهُ ... (61) ... وَمَا لِكَسْرِ قَنَاةِ الدِّينِ جُبْرَانُ
خُذْهَا سَوَائِرَ أَمْثَالٍ مُهَذَّبَةً ... (62) ... فِيهَا لِمَنْ يَبْتَغِي التِّبْيَانَ تِبْيَانُ(1/4)
مَا ضَرَّ حَسَّانَهَا ـ وَالطَّبْعُ صَائِغُهَا ـ ... (63) ... إِنْ لَمْ يَصُغْهَا قَرِيعُ الشِّعْرِ "حَسَّانُ"(1/5)
سلسلة بحوث وتحقيقات مختارة من مجلة الحكمة (10)
فقه النصيحة
محمد أبو صعيليك
قام بنشره
أبو مهند النجدي
Almodhe1405@hotmail.com
almodhe@yahoo.com
المقدمة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد:
فقد سمي النبي صلى الله عليه وسلم النصيحة ديناً، وجعلها من حقوق المسلمين فيما بينهم، وبايع بعض صحابته على النصح لكل مسلم، وعدد جوانب النصح ومجالاته، ولكن بسبب قلة الإتباع، وقلة العلم، يرى الواحد منا تجاوزات على حقوق الناس باسم النصيحة، ويشاهد فظاظة وغلظة وشططاً دونما مراعاة لأحكام النصيحة، مع العلم بأن للنصيحة أحكاماً وآداباً تعرف عند أهل العلم.
ولهذا فقد رغبت في جميع أحكام النصيحة من كلام أهل العلم بقصد التعليم لنفسي أولاً، والنصح لإخوتي في الله ثانياً، وتقريب هذا الموضوع لطالبيه من طلبة العلم ثالثاً.
وقد يممت وجهخي شطر كتب أهل العلم أنهل من معينها، وأجول في رياضها، لأعد باقة يانعة ممتعة في موضوع النصيحة، ومن الله أرجو السداد والتوفيق.
النصيحة
في اللغة والاصطلاح
النصيحة في اللغة: النصيحة مأخوذة من قولهم: نصح الخياط الثوب إذا أنعم خياطته، ولم يترك فيه فتقاً ولا خللاً (1)، وقيل: مأخوذ من نصحت العسل، إذا صفيته من الشمع (2).
أما النصيحة في الاصطلاح، فلها معان:
1- قال الإمام الخطابي: (( النصيحة كلمة يعبر بها عن جملة هي إرادة الخير للمنصوح له )) (3).
2- وقال الإمام الراغب: (( النصح تحري فعل أو قول فيه صلاح صاحبه )) (4).
3- وقال الإمام محمد بن نصر المروذي: (( قال بعض أهل العلم: هي عناية القلب للمنصوح له كائناً من كان )) (5).
العلاقة بين المعنيين:
__________
(1) أساس البلاغة: (ص 635).
(2) شرح صحيح مسلم: (2/37).
(3) معالم السنن: (4/125).
(4) المفردات: (ص 494).
(5) جامع العلوم والحكم: (ص 111).(1/1)
إذا نظرت في المعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي، وجدت أن العلاقة بينهما هي في سد النقص، وتخليص النفس من الشوائب، فكما أن نصح الثوب هو خياطته، ونصح العسل هو تخليصه مما يشوبه، كذلك فإن نصح المرء في تكميل نقصه، وتصفية نفسه مما علق بها من الشوائب والذنوب.
وإذا نظرت إلى حقيقة النصيحة وجدت أنها على ضربين:
1- تكميل نقص: وهذا في حق العباد الذين يصيبهم النقص، وتقع منهم الأخطاء والذنوب والآثام ، ويتصور منهم التقصير.
2- وصف بالكمال: وهذا في حق الله تبارك وتعالى، وفي حق كتابه الكريم، وفي حق النبي - صلى الله عليه وسلم - .
حكم النصيحة
عند البحث في حكم النصيحة عند أهل العلم وجدت فيها الأقوال التالية:
1- أنها فرض عين: يقول في هذا المقام الإمام ابن حزم: (( النصيحة لكل مسلم فرض )) (1).
2- أنها فرض كفاية: قال ابن بطال: (( والنصيحة فرض يجزي فيه من قام به ويسقط عن الباقين )) (2).
3- إن النصيحة قد تكون فرضاً، وقد تكون نافلة، فالنصيحة المفروضة: (( هي شدة العناية من الناصح باتباع محبة الله في أداء ما افترض، ومجانية ما حرم)) (3).
والنصيحة التي هي نافلة: (( إيثار محبته على محبة نفسه)) (4).
ويفسر ابن رجب هذا فيقول:
(( فالفرض منها مجانبة نهيه، وإقامة فرضه بجميع جوارحه ما كان مطيقاً له)) (5).
ويقول أيضاً: (( وأما النصيحة التي هي نافلة لا فرض، فبذل المجهود بإيثار الله تعالى على كل محبوب بالقلب وسائر الجوارح، حتى لا تكون في الناصح فضلاً عن غيره، لأن الناصح إذا اجتهد لم يؤثر نفسه عليه، وقام بكل ما كان في القيام به سروره ومحبته، فكذلك الناصح لربه))(6).
__________
(1) رسالة الجامع لابن حزم: (2/56).
(2) شرح صحيح مسلم للنووي: (2/39).
(3) جامع العلوم: (ص111).
(4) جامع العلوم: (ص111).
(5) جامع العلوم: (ص111).
(6) جامع العلوم: (ص112).(1/2)
أقول: ولا شك أن أولى هذه الأقوال بالقبول قول: من قال إن النصيحة فرض عين على كل مسلم، ولا أرى منافاة بين هذا، وبين ما نقلناه عن ابن رجب رحمه الله.
أركان النصيحة
إذا نظرت في النصيحة وجدت أن أركانها ثلاثة هي:
1- الناصح: وهو الذي ينصح غيره.
2- المنصوح: وهو الذي ينصحه غيره.
3- المنصوح به: وهو الأمر الذي ينصح به الناصح المنصوح.
شروط النصيحة
لابد أن تتوفر في الناصح والمنصوح الشروط التالية:
1- الإسلام: فالأصل في الناصح أن يكون مسلماً، وأما بالنسبة للمنصوح، فيرى بعض أهل العلم أنه لابد أن يكون مسلماً، وفي هذا يقول الإمام أحمد: (( ليس على المسلم نصح الذمي)) (1). وحجة من اشترط الإسلام حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه وفيه: (( والنصح لكل مسلم))
(2).
ويرى آخرون عدم اشتراط الإسلام، وأن التقييد بالإسلام للأغلب، وفي هذا يقول ابن حجر: (( والتقييد بالمسلم للأغلب، وإلا فالنصح للكافر معتبر بأن يدعى إلى الإسلام، ويشار عليه بالصواب)) (3).
2- البلوغ: فيتشرط فيهما أن يكونا بالغين؛ لأن البلوغ مناط التكليف، ومن لم يكن بالغاً فليس عليه تكليف، وفي هذا يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( رفع القلم عن ثلاثة: الصبي حتى يحتلم ) (4).
3- العقل: فلابد أن يكونا عاقلين؛ لأن العقل مناط التكليف، وقد رفع القلم عمن ليس بعاقل، وفي الحديث: ( وعن المجنون حتى يفيق) (5).
يشترط في الأمر الذي ينصح به ما يلي:
__________
(1) جامع العلوم: (ص114).
(2) رواه البخاري: (رقم 57).
(3) فتح الباري: (1/140).
(4) رواه أبو داود : (رقم 4398)، والنسائي: (2/100)، وابن ماجة: (رقم 2041)، وأحمد: (6/100، 101) والحديث صحيح [المجلة].
(5) هو جزء من سابقه.(1/3)
1- أن يكون داخلاً تحت الأمر الشرعي، بأن يكون إما طلباً لفعل مطلوب فعله شرعاً، أو طلباً لترك أمر مطلوب تركه شرعاً، وعلى هذا فإن النصح بترك المأمور به شرعاً لا يسمى نصيحة، وكذا النصح بفعل المحرم شرعاً لا يعد نصحاً شرعياً يحتم على المنصوح قبوله، وعلى الناصح إسدائه، كأن ينصح أحد آخر بحلق لحيته، أو ترك الصلاة، أو نصح المرأة بالتبرج وخلع اللباس الشرعي، أو ترك الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فهذه أمور لا تبعد من باب النصيحة التي جعلها النبي - صلى الله عليه وسلم - ديناً.
2- أن يكون الأمر المنصوح به قد اتفق أهل العلم على طلب فعله أو تركه، ولا يكون أمراً خلافياً بين أهل العلم يبيحه قوم، ويمنعه آخرون، وهذا أمر متفرع على قاعدة العلماء في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، في أنه لا إنكار على مجتهد، ولا إنكار في أمر مختلف فيه.
وفي هذا المقام يقول سفيان الثوري رحمه الله: (( إذا رأيت الرجل يعمل العلم الذي اختلف فيه، وأنت ترى غيره فلا تنهه )) (1)، ويقول أيضاً: (( ما اختلف فيه الفقهاء، فلا أنهي أحداً من إخواني أن يأخذ به)) (2).
ويقول الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى: (( لا ينبغي للفقيه أن يحمل الناس على مذهب، ولا يشدد عليهم)) (3).
ولكن يستثنى من هذه القاعدة حالتان ذكرهما القاضي أبو يعلى الحنبلي حيث يقول: (( ما ضعف الخلاف فيه، و كان ذريعة إلى محظور متفق عليه كربا النقد فيدخل في إنكار المحتسب بحكم ولايته )) (4).
هذه في تصوري شروط وأركان النصيحة، ومن الله أرجو العون والسداد، إنه على كل شيء قدير.
آداب النصيحة
لابد أن يتحلى بآداب النصيحة حتى تقع نصيحته من المنصوح موقع القبول، ومن هذه الآداب:
1- أن يقصد وجه الله عز وجل:
__________
(1) الحلية لأبي نعيم: (6/368).
(2) الفقيه والمتفقه: (2/69).
(3) الآداب الشرعية: (1/186).
(4) الآداب الشرعية: (1/186).(1/4)
لابد للناصح من أن يقصد بنصحه وجه الله عز وجل؛ إذ بهذا القصد يستحق الثواب والأجر من الله تعالى، ويستحق القبول لنصحه من العباد، نفهم هذا من حديث النية المشهور.
فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ( إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه) (1).
وبتخلف هذا القصد ينال السخط والعقاب من ربه سبحانه وتعالى، ويوغر صدور الناس عليه، ومنهم المنصوح، ويبعد الناس عن نفسه.
2- أن لا يقصد التشهير:
لابد أن يحرص الناصح على عدم التشهير في نصحه بالمنصوح له، وهذا آفة يقع فيها كثير من الناس، تراه يخرج النصيحة في ثوب خشن،ولكن إذا دققت فيها وجدت أنه يقصد التشهير بالمنصوح، وهذا ليس من أدب النصيحة في شيء، وليس من أخلاق المسلمين، وربما أفضى ذلك إلى حصول سوء، أو زيادة شر، ولم تؤت النصيحة ثمرتها المرجوة.
3- أن يكون النصح في السر:
ذلك لأن المنصوح امرؤ يحتاج إلى جبر نقص وتكميله، ولا يسلم المرء بذلك من حظ نفسه إلا لحظة خلوة وصفاء، وهذه اللحظة تكون عند المسارة في السر، وعندها تؤتي النصيحة ثمرتها، ولا يكون الناصح عوناً للشيطان على أخيه، فإن الناصح في ملأٍ يعين الشيطان على صاحبه، ويوقظ في نفسه مداخل الشيطان، ويغلق أبواب الخير، وتضعف قابلية الانتفاع بالنصح عنده.
__________
(1) رواه البخاري (رقم1)، ومسلم بشرح النووي: (13/ 53)، وأبو داود: (رقم 2115) ، والترمذي: (_رقم: 1698)، والنسائي: (1/59 – 60)، وابن ماجة: (رقم 4227).(1/5)
ولهذا المعنى فقد حرص سلفنا الصالح رضوان الله عليهم على النصح في السر دون العلن، وفي هذا المقام يقول الحافظ ابن رجب رحمه الله: (( وكان السلف إذا أرادوا نصيحة أحد، وعظوه سراً، )) حتى قال بعضهم: (( من وعظ أخاه فيما بينه وبينه، فهي نصيحة، ومن وعظه على رؤوس الناس فإنما وبخه )) (1).
وقال الفضيل بن عياض رحمه الله: (( المؤمن يستر وينصح، والفاجر يهتك ويعير)) (2)، ويعقب الحافظ ابن رجب على كلمة الفضيل هذه بقوله: (( فهذا الذي ذكره الفضيل من علامات النصح، وهو أن النصح يقترن به الستر، والتعيير يقترن به الإعلان)) (3).
ويقول الإمام أبو حاتم بن حبان البستي رحمه الله تعالى: (( النصيحة تجب على الناس كافة على ما ذكرنا قبل، ولكن ابداءها لا يجب إلا سراً، لأن من وعظ أخاه علانية فقد شانه، ومن وعظه سراً فقد زانه، فإبلاغ المجهود للمسلم فيما يزين أخاه أحرى من القصد فيما يشينه)) (4).
ويقول الإمام أبو محمد ابن حزم الظاهري رحمه الله: (( وإذا نصحت فانصح سراً لا جهراً، وبتعريض لا تصريح، إلا أن لا يفهم المنصوح تعريضك، فلابد من التصريح)) (5).
وإذا نظرت فيما نقلناه هنا، ثم قارنت ذلك بما يقع فيه أولئك الذين يرفعون أصواتهم بنصح الناس على الملأ، ثم سألتهم: ما الثمرة التي تحققت من النصح في الجهر والعلن؟ إنها إصرار المنصوح على الخطأ والتقصير، وإيغار الصدور على الناصح، وسوء الظن بالناس، وقطع الروابط والعلاقات بين الناصح والمنصوح، وكل هذا يقع تحت لائحة عريضة هي: إعانة الشيطان على أخيك.
4- أن يكون النصح بلطف وأدب ورفق:
__________
(1) جامع العلوم: (ص:77).
(2) جامع العلوم: (ص:77).
(3) الفرق بين النصيحة والتعيير: (ص36).
(4) روضة العقلاء: (ص196).
(5) الأخلاق والسير: (ص44).(1/6)
لابد للناصح من أن يكون لطيفاً رقيقاً أدبياً في نصحه لغيره، وهذا يضمن استجابة المنصوح للنصيحة، ذلك لأن قبول النصح كفتح الباب، والباب لا يفتح إلا بمفتاح مناسب، والمنصوح امرؤ له قلب قد أغلق عند مسألة قصر فيها، إن كانت أمراً مطلوباً للشارع، أو وقع فيها، إن كانت أمراً منوعاً من الشارع.
وحتى يترك المنصوح الأمر أو يفعله لابد له من انفتاح قلبه له، ولابد لهذا القلب من مفتاح، ولن تجد له مفتاحاً أحسن ولا أقرب من لطف في النصح، وأدب في الوعظ، ورفق في الحديث، كيف لا والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ( ما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه ) (1).
ويقول عبد العزيز بن أبي داود رحمه الله: (( كان من كان قبلكم إذا رأى الرجل من أخيه شيئاً يأمره في رفق، فيؤجر في أمره ونهيه، وإن أحد هؤلاء يخرق بصاحبه، فيستغضب أخاه، ويهتك ستره)) (2).
فانظر عبد الله حال من نصح من نصح بشدة وغلظة وفظاظة، كم من باب للخير قد أغلق؟ وكم من منصوح قد صد عن باب الله؟ وكم م صديق قد أوغر صدره على نفسه، وكم من أذى قد أوقع على أخيه في الله؟ وكم من الأجر قد فاته؟ وكم قد أعان الشيطان على إخوانه؟
وانظر في الجهة المقابلة إلى حسن الرفق في النصيحة، فكم من قلب مغلق قد فتح؟ وكم من حق مضاع قد حفظ؟ وكم من نقص قد استكمل؟ وكم من أخوة قد روعيت؟ وكم من تأخر عن الركب قد أدرك؟ وكم من الأجر قد تحصل؟ وكم من إرغام للشيطان قد كان؟ قارن عبد الله بين الحالتين لترى الفرق، والله يرعاك.
5- عدم الإلزام:
من واجب الناصح أن ينصح غيره، ولكن ليس من حقه أن يلزم غيره بما ينصحه به؛ لأن هذا ليس من حقه، بل هو حق للحاكم في رعيته، والناصح دال على الخير، وليس بآمر بفعله.
__________
(1) رواه مسلم: (16/146).
(2) جامع العلوم: (ص77).(1/7)
أما الحاكم فهو آخر بفعل الخير، ناه عن فعل الشر، وفي هذا المعنى يقول الإمام ابن حزم الظاهري رحمه الله تعالى: (( ولا تنصح على شرط القبول منك، فإن تعديت هذه الوجوه، فأنت ظالم لا ناصح، وطالب طاعة وملك، لا مؤدي حق أمانة وأخوة، وليس هذا حكم العقل، ولا حكم الصداقة، لكن حكم الأمير مع رعيته، والسيد مع عبده)) (1).
ويقول أيضاً: (( فإن خشنت كلامك في النصيحة فذلك إغراء وتنفير، وقد قال الله تعالى: { فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً } (طه: من الآية44). وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( ولا تنفروا) (2)، ون نصحت بشرط القبول منك، فأنت ظالم، أو لعلك مخطئ في وجه نصحك، فتكون مطالباً بقبول خطئك، وبترك الصواب)) (3).
مما نقلنا لك تعرف أن للناصح أن يقول للكلمة، ويصدر التوجيه فقط، وليس له أن يلزم غيره بالأخذ بما قال، فإن ذلك واجب القاضي والحاكم، والقاضي والحاكم قلة في المجتمع لطلبهما الإلزام، والناصح لفرد مكلف في المجتمع، فإذا كان لكل ناصح أن يلزم غيره بقوله، أصبح كل المجتمع حكاماً وقضاة، وعندها فمن يكون المحكوم والرعية؟
6- اختيار الوقت المناسب للنصيحة:
لابد للناصح من اختيار الوقت المناسب الذي يسدي فيه النصيحة للمنصوح، لأن المنصوح لا يكون في كل وقت مستعداً لقبول النصيحة، فقد يكون مكدراً في نفسه بحزن أو غضب أو فوات مطلوب، أو غير ذلك مما يمنعه من الاستجابة لنصح الناصح.
__________
(1) الأخلاق والسير: (ص44).
(2) رواه البخاري في صحيحه: (8/60). ومسلم: (3/1358-1359).
(3) الأخلاق والسير: (ص48).(1/8)
وفي هذا المعنى يقول الأستاذ عبد الحميد البلالي: (( فاختيار الوقت المناسب والظرف المناسب من أكبر الأسباب لقبول النصيحة وإزالة المنكر، وكان ابن مسعود رضي الله عنه يقول: (( إن للقلوب شهوة وإقبالاً، وفترة وإدباراً، فخذوها عند شهوتها وإقبالها، وذروها عند فترتها وإدبارها)) (1)، فهنيئاً لذلك الداعية الذي يعرف متى تدبر القلوب، ومتى تقبل، فيحسن الإنكار، ويجيد مخاطبة القلوب )) (2).
حقاً إنه لابد للناصح من تخير الوقت المناسب لقبول النصيحة عند إسدائها، طالما أن الناصح رجل يتعامل مع القلوب والأحاسيس والمشاعر، فرب وقت لا يكون فيه المرء مهيئاً لقبول النصح تعرض له أحمق بدعوى النصح، فأغلق قلبه وعقله أمام نصحه وإرشاده وكان الناصح الجاهل هو السبب في ذلك.
هذه في تصوري الآداب التي يجب أن يتحلى بها الناصح في نصحه حتى يكون النصح في ثوبه المطلوب، وحتى تقع النصيحة من المنصوح موقع قبول لا رد، مما يجعلها مثمرة تجبر النقص، وتسد الخلل، ولا توغر الصدور وتفرق الجماعات، ولا تكون عوناً للشيطان على المنصوحين. والله أعلم.
الفرق بين النصح والتعيير
قد يلبس بعض الناس الذم والتعيير لغيرهم لبوس النصيحة، فيخدع بذلك من لا يعرفه، وربما أفضى به ذلك إلى الوقوع في أعراض الناس ونهشها، ولذا فقد عقدت هذا المبحث للتفريق بين النصح والتعيير مقتبساً ذلك من كتب ثقات علمائنا رحمهم الله، ولقد تبدي لنا أن الفرق بين النصح والتعيير يكون كما يلي:
1- النصيحة تكون في السر، والتعيير يكون في العلن: وفي هذا يقول ابن رجب: (( فهذا الذي ذكره الفضيل، (مقولتنا التي نقلناها في موضع النصح في السر) من علامات النصح، فالنصح يقترن به الستر، والتعيير يقترن به الإعلان)) (3).
__________
(1) الآداب الشرعية لابن مفلح: (2/109).
(2) فقه الدعوة في إنكار المنكر: (ص114-115).
(3) الفرق بين النصيحة والتعيير: (ص36).(1/9)
2- يقوم بالنصح المؤمن، ويقوم بالتعيير الفاجر: ونعيد هنا مقولة الفضيل بن عياض رحمه الله: (( المؤمن يستر وينصح، والفاجر يهتك ويعير)) (1).
وحول تحديد غرض كل من الناصح والفاضح، يحدثنا الحافظ ابن رجب فيقول: (( فلهذا كان إشاعة الفاحشة مقترنة بالتعيير، وهما من خصال الفجار، لأن الفاجر لا غرض له في زوال المفاسد، ولا في اجتناب المؤمن للنقائص والمعايب، إنما غرضه في مجرد إشاعة العيب في أخيه المؤمن، وهتك عرضه، فهو يعيد ذلك ويبيده، ومقصوده تنقصة أخيه المؤمن في إظهار عيوبه ومساويه للناس، ليدخل عليه الضرر في الدنيا. وأما الناصح، فغرضه بذلك إزالة عيب أخيه المؤمن باجتنابه له )) (2).
3- غرض الناصح الإصلاح وغرض المعير الإفساد: وقد مر في النقطة السابقة أن مقصود الناصح من نصحه الإصلاح وتسديد المسار، وتكميل النقص، وهذا بلا شك قصد شريف يشكر صاحبه عليه عند الناس، ويؤجر عليه عند الله.
وعلى العكس من ذلك، فإن مقصد المعير هتك الأعراض، وإشاعة الفساد والإفساد، وإيغار الصدور،ه وتتبع العورات، ولاشك أن هذا من أقبح الذنوب والأعمال عند الله وعند الناس.
4- الناصح يؤدي حقاً واجباً عليه لأخيه المؤمن: فهو مأجور على نصحه لأخيه، وأما المعير، فهو مهتك لحقوق عباد الله مفرق لجماعتهم، مفسد لدينهم، وبالتالي فهو آثم عند الله جزاء إيذاء عباد الله بإشاعة الأذى والفاحشة بينهم، والله سبحانه يقول: { إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ } (النور: من الآية19).
__________
(1) المصدر نفسه: (ص36).
(2) المصدر نفسه: (ص37).(1/10)
5- الناصح يخلو من حظ النفس في الغالب، وأما المعير فغير خال من حظ نفسه ومرض قلبه: ذلك لأن الناصح يحب لمنصوحه ما يحبه لنفسه من أفعال الخير، وبالتالي يحرص على ازدياده منها، ولو كان فيها حظ نفس لما أقدم على النصيحة. وأما المعير فلا يحب من يريد تعييره، ولا يحب له الخير، بل يرجو له الشر، ولا تخلو مقولته من حظ نفس يدفعه إلى الأذى والإفساد.
هذه في تصوري أهم الفروق بين النصح والتعيير، وقد استفدتها من رسالة لابن رجب في هذا، كما استفدت من كلام غيره، والله أعلم، ومن الله أرجو العون والسداد.
العوامل المؤثرة في قبول النصيحة
هناك عوامل مؤثرة في قبول النصيحة، وقد تؤخرها أحياناً، وقد تصد المنصوح عن الأخذ بالنصح أحياناً، وهذه العوامل اذكرها كما يلي:
1- التزام آداب النصيحة:
من راعى في نصحه آداب النصيحة، التي سبق بيانها، رجونا قبول نصحه، ومن لم يلتزم بها، ففي الغالب لا تعطي نصيحته ثمرتها، ولا يتحقق لها القبول عند الناس.
ولذا فكم ردت نصيحة لكون صاحبها لم يراع فيها ما يليق بالنصح وأهله.
وكم من ناصح ألقى نصحه لغيره بغير أدب ولا ملاطفة، فانقلب أمره من صورة الناصح إلى صورة الشامت المبغض المعادي، الذي لا يرغب الناس في سماع كلامه، ولا مجالسته، ولا الوقوف عند نصحه، وكم أثمر التزام أداب النصيحة، أخوة صادقة، ووداً متبادلاً، وقرباً دائماً، ودلالة من الخير لا تنكر.
2- الكبر:
فمن وجد فيه الكبر منعه من قبول النصح والأخذ به، ومن خلا قلبه من الكبر رجي منه قبول النصيحة، ذلك لأن الكبر هو (بطر الحق وغمط الناس) (1) كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - .
__________
(1) رواه مسلم بشرح النووي: (2/89).(1/11)
والنصح من الحق، والناصح من الناس، والمتكبر قد بطر الحق وغمط الخلق، فهو يغر قابل لا بالنصيحة ولا بالناصح، ولذا فقد صده ذلك عن قبول النصح، وعلى العكس من ذلك فلو كان متواضعاً لقبل نصح غيره بصدر رحب، ولما استهان بنصح من نصحه، كائناً هذا الناصح من كان؛ لأنه يرى فيه تأدية الواجب، والعمل بحقوق المؤمنين بعضهم على بعض.
3- الإعجاب بالنفس:
فمن كان معجباً بنفسه، لا يرجى منه قبول النصح، لأنه لا يرى رأياً ولا فضلاً لغيره عليه، فما دام قد انتفخ وأعجب بنفسه فأنى له قبول نصح غيره.
وفي هذا المقام يحدثنا الإمام أبو حاتم محمد بن حبان البستي رحمه الله فيقول: (( وأكثر ما يوجد ترك قبول النصيحة من المعجب برأيه )) (1) واستشهد رحمه الله على هذا المعنى بقول الأبرش:
إذا نصحت لذي عجب لترشده ... فلم يطعك، فلا تنصح له أبدا
فإن ذا العجب لا يعطيك طاعته ... ولا يجيب إلى إرشاده أحدا
وما عليك، وإن غوى حقبا ... إن لم يكن لك قربى أو يكن ولدا
4- صفاء النفس:
فإن المرء إذا رزقه الله صفاء نفس أورثه ذلك الإنصاف للناس من نفسه، وأحوج الناس إلى الإنصاف المنصوح، لأنه إذا لم ينصف ناصحه لا يقبل نصحه، ولا يسمع لإرشاده، ولا يعمل على ترك ما طلبه منه تركه، والحق أن صافي النفس محكم لقياد نفسه، منتصر على شهواتها وأهوائها، فإذا جاءه من يعينه، على هذا استبشر به، أو عمل بمراده.
ولكن وجود هذا الوصف في الناس قليل، فأين هم الصافون في نفوسهم الذين يسمعون لقول الناصحين؟
لكأنك عندما تتحدث عن صفاء النفس تصف قوماً آخرين بينك وبينهم بعد المشرقين، أو أنهم في عالم آخر لسنا من أهله.
وبعد، فهذه في حدود اطلاعي أهم الأمور المؤثر في قبول النصيحة سلباً وإيجاباً، والله المستعان.
ثمار النصيحة
__________
(1) روضة العقلاء: (ص196).(1/12)
النصيحة بذرة طيبة يبذرها الناصح، ولابد للبذرة السليمة التي روعي فيها ما يصلح الزرع من ثمرة، وكذا النصيحة، فإذا روعيت آدابها وشروطها رجونا أن تتحصل منها الثمار الطيبة، والآثار الخيرة، ويمكن إجمال ثمار النصيحة في الأمور التالية:
1- تنقية المنصوح من الشوائب:
فإن الناصح عندما يرى من منصوحه غفلة عن خير، أو وقوعاً في شر، فيعمد إلى تقوية وتنقية نفسه من الشوائب سيراً بها إلى التقليل من القصور في حق الله أولاً، ثم في حق عباده ثانياً، وهذا مكسب كبير للإنسان لو تمعن فيه، وهذا تكميل لنقص وقع فيه المرء من حيث لا يدري أو لا يدري، فإذا بمتطوع يذب عنه النقص، ويخلصه من الذنب، وأي شائبة أشد من التقصير في حق ذي الحق؟ وأي نقاء أكرم وأبرك من حرص أخيك عليك؟
2- دوام المحبة والألفة:
فإن المنصوح إذا نصحه الناصح بما يسدد خطأه، ويكمل نقصه، كان ذلك طريقاً لدوام الألفة بين الاثنين، ذلك لأن الناصح محب لمنصوحه، ويحب لأخيه ما يحب لنفسه، ولابد أن يقابله صاحبه بمثل ذلك إن كان عاقلاً، وعليه فكم من نصيحة صادقة أدامت بين الأحبة وداً، وسدت في شخصية أحدهم نقصاً، وأبعدت عن النفس غوائل الشيطان، وألحقت من تأخر وتلكأ بالركب!!
ومن الجميل أن نسمع كلاماً دقيقاً لابن حزم في حد النصيحة، لنرى من خلاله هذه الثمرة من ثمار النصيحة. يقول الإمام علي بن حزم رحمه الله تعالى: (( وحد النصيحة أن يسوء المرء ما ضر الآخر، ساء ذلك الآخر أم لم يسؤه، وأن يسره ما نفعه، سر الآخر أو ساءه، فهذا شرط في النصيحة زائد على شروط الصداقة )) (1).
3- أداء حق الأخوة:
إن الناصح حين ينصح غيره إنما يؤدي ما لأخيه من حق عليه، وهذا الحق يتعلق بحب المرء لغيره مثل ما يحبه لنفسه، وهذا الأمر يؤدى بطرق منها النصيحة.
__________
(1) الأخلاق والسير: (41).(1/13)
ذلك لأنك لا تحب لنفسك النقص ولا ترضاه، بل تعمل على إزالته وتلافيه، وواجب الأخوة يفرض عليك أن تعامل أخاك المنصوح بمثل ما تعامل به نفسك، وطالما أنك لا ترضى لنفسك النقص، فأنت لا ترضى لأخيك النقص، لذا تقوم بنصحه وإرشاده وإعانته على الخير، وإبعاده عن الشر.
وهذه أمور لابد لمن تآخيا من تحقيقها، وعنوان تحقيق ذلك بذل النصح لمن احتاج إليه ليكون علامة للأخوة، وطريقاً لقرب القلوب، وسداً أمام الضغائن والمحن.
وفي هذا الباب يحدثنا أبو حاتم محمد بن حبان البستي فيقول: (( النصيحة إذا كانت على نعت ما وصفنا تقييم الألفة وتؤدي حق الأخوة)) (1). وفي هذا يقول الخليفة عمر بن عبد العزيز: (( من وصل أخاه بنصيحه له في دينه، ونظر له في صلاح دنياه، فقد أحسن صلته، وأدى واجب حقه...)) (2).
ولعل سائلاً يسأل هناك كيف تكون النصيحة من حقوق الأخوة مع أن فيها ذكر العيوب وهذا يوحش القلب؟
ويجيب عن هذا السؤال الإمام الغزالي فيقول: (( فاعلم أن الإيحاش إنما يحصل بذكر عيب يعلمه أخوك من نفسه، فأما تنبيه على ما لا يعلمه، فهو عين الشفقة، وهو استمالة القلوب، أعني قلوب العقلاء، وأما الحمقى فلا يلتفت إليهم، فإن من ينبهك على فعل مذموم تعاطيته، أو صفة مذمومة اتصفت بها لتزكي نفسك عنها، كان كمن ينبهك عن حية أو عقرب تحت ذيلك، وقد همت بإهلاكك، فإن كنت تكره ذلك فما أشد حمقك، والصفات الذميمة عقارب وحيات، وهي في الآخر مهلكات)) (3).
4- حصول الأجر:
الناصح إذا أسدى لغيره نصحاً استحق عليه الأجر العظيم من الله سبحانه وتعالى، على حرصه على إخوانه، وحبه لهم.
هذه في تصوري الثمرات التي تستفاد من النصحية.
شرح حديث النصيحة
__________
(1) روضة العقلاء: (ص197).
(2) تاريخ الطبري: (6/572).
(3) الإحياء: (2/182).(1/14)
بعد هذه الجولة في كتب علمائنا عليهم رحمة الله نعود إلى حديث تميم الداري في النصيحة من أجل توضيح معانيه بما يقرب فهمه لطالبه، ومن الله نرجو العون والقبول.
1- نص الحديث:
عن أبي رقية تميم بن أوس الداري رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( الدين النصيحة) ثلاثاً قلنا : لمن يا رسول الله؟ قال: ( لله عز وجل، ولكتابه ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم).
2- تخريجه:
روى هذا الحديث كل من:
1- الإمام مسلم في صحيحه: 2/37.
2- والإمام أحمد في مسنده: 4/102، 103.
3- والإمام أبو داود في سننه: كتاب الأدب، باب النصيحة. برقم: 4944.
4- والإمام النسائي في السنن الصغرى: كتاب البيعة، باب النصيحة للإمام: 7/156.
5- والإمام أبو بكر عبد الله بن الزبير الحميدي في مسنده، برقم: 837.
6- ومحمد بن نصر المروزي في كتاب: تعظيم قدر الصلاة.
7- وابن خزيمة في كتاب السياسة. انظر عمدة القارئ: 1/321.
8- والإمام أبو عوانة الأسفرائيني في مسنده: 1/36، 37.
9- والإمام الطبراني في المعجم الكبير: رقم 1260 – 1268.
10- وابن حبان البستي في كتاب روضة العقلاء: ص 149.
11- والبيهقي في كتاب الآداب. رقم: 226.
12- وعلقة البخاري في صحيحه: كتاب الإيمان، باب الدين النصيحة: 1/137.
13- وأبو الشيخ في التوبيخ رقم: 3.
وبعد، فهذا ما وقفت عليه من تخريج لحديث تميم الداري في النصيحة مما تايسر لنا الاطلاع عليه من مصنفات أئمة الحديث المسندة، والله المستعان.
لماذا علق البخاري الحديث؟
قدمنا أن الإمام البخاري رحمه الله قد علق هذا الحديث، بمعنى أنه رواه في كتابه بغير سند(1)، فما سر ذلك الصنيع؟
أجاب أهل العلم بالحديث عن ذلك بأجوبة نذكر منها:
__________
(1) هذا ليس تعريفاً صحيحاً للتعليق إذ أن المعلق اصطلاحاً هو ما حذف أول سنده، سواء أكان المحذوف واحداً أو أكثر على التوالي، ولو إلى أخر السند. [المجلة].(1/15)
1- هذا الحديث ليس على شرط البخاري، بمعنى أن البخاري لم يخرج لأي من رجال هذا الحديث، وفي هذا يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: (( ولم يخرجه مسنداً في الكتاب لكونه على غير شرطه)) (1).
2- الاختلاف على سهيل بن أبي صالح فيه، فقد روي عنه عن أبيه عن أبي هريرة، وقد روي عنه عن عطاء عن تميم، ولهذا فإن البخاري لم يخرجه في صحيحه، وفي هذا يقول الحافظ بن حجر: (( ولهذا الاختلاف على سهيل لم يخرجه في صحيحه، بل لم يحتج به أبداً)) (2).
3- شواهد الحديث:
لا يفوتنا أن نشير إلى أن حديث النصيحة بتمامه قد ورد من طريق عدة من الصحابة سوى تميم، وهذا ما سنعمد إلى إثباته هنا من طريق الصحابة الذين رووه مع تخريج هذه الطرق:
أ- طريق ابن عمر:
1- رواه الإمام الدارمي في سننه، كتاب الرقاق، باب الدين النصيحة (3).
وقال الألباني عن سند الدارمي: (( وهذا سند حسن، وهو على شرط مسلم)) (4).
2- الطبراني في كتاب مكارم الأخلاق (5).
3- والبزاء في مسنده كما في مختصر زوائده لابن حجدر (6)، وقال البزار: (( وهذا لا نعلم يروي عن ابن عمر – رضي الله عنهما – إلا من هذا الوجه، ولا نعلم أحداً جمع بين يزيد ونافع إلا جعفر بن عون عن هشام (7). وقال الهيثمي عن رواية البزار هذه: (( ورجاله رجال الصحيح)) (8).
4- وأبو الشيخ في كتاب التوبيخ(9).
ب- طريق ابن عباس: وقد رواها:
1- الإمام أحمد بن حنبل في مسنده (10).
2- والطبراني في المعجم الكبير (11).
3- والبزار في مسنده كما في المجمع (12).
4- وأبو يعلى الموصلي في مسنده.
5- وأبو الشيخ في كتاب التوبيخ: رقم 12.
__________
(1) فتح الباري: (1/137).
(2) فتح الباري: (1/138).
(3) 2/311).
(4) الأرواء (1/63).
(5) رقم: (66).
(6) رقم: (38).
(7) مختصر زوائد البزار رقم: (38).
(8) مجمع الزوائد: (1/87).
(9) رقم: (8).
(10) 1/351).
(11) رقم: (11198).
(12) 1/87).(1/16)
وقال الهيثمي عن رواية أحمد: فمقتضى رواية أحمد الانقطاع بين عمرو وابن عباس، ومع ذلك فيه عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان، وقد ضعفه أحمد، وقال: أحاديثه مناكير (1/87). وقال أيضاً عن رواية أبي يعلى: ورجاله رجال الصحيح (المجمع: 1/87).
6- والبخاري في التاريخ الكبير (المجتمع: 6/461).
7- وابن أبي حاتم الرازي في العلل( 2/176).
8- والضياء المقدسي في المختار (77/100/1..) كما في الإرواء: (1/63).
9- والديلمي في مسند الفردوس رقم: 6584.
ج- طريق أبي هريرة، وقد رواها:
1- الإمام أحمد في مسنده: 2/297.
2- والترمذي في سننه، كتاب البر والصلة، باب ما جاء في النصيحة رقم: 1926.
3- والإمام النسائي في السنن الصغرى، كتاب البيعة، باب النصيحة الإمام: 7/157.
4- وابن نصر المروزي في كتاب تعظيم قدر الصلاة.
5- وأبو نعيم في كتاب الحلية (1).
6- وأبو الشيخ في كتاب التوبيخ (2).
وقال الترمذي: حديث حسن صحيح (3).
د- طريق ثوبان: وقد رواها:
1- الطبراني في المعجم الأوسط، كما في المجمع (4). وقال الهيثمي: وفيه أيوب بن سويد، وهو ضعيف لا يحتج به (5).
2- والبخاري في التاريخ الكبير (6).
وبعد، فهذا ما وقعت عليه من طرق لحديث النصيحة بتمامه، ولم أعرج هنا على كل حديث في موضع النصيحة خشية الإطالة، ولكونه ليس مقصودنا، والله تعالى أعلم.
تواتر حديث النصيحة
__________
(1) الحلية: (6/242، 7/142).
(2) التوبيخ برقم: (7).
(3) سنن الترمذي: (4/374).
(4) مجمع الزوائد: (1/87).
(5) المجمع: (1/87).
(6) التاريخ: (6/461).(1/17)
هذا ولا يفوتنا أن نذكر أن حديث النصيحة قد بلغ مبلغ التواتر، وفي هذا المقام يقول العلامة محمد بن جعفر الكتاني رحمه الله تعالى: أحاديث بذل النصيحة للأئمة وغيرهم من المسلمين متواترة (1)، ويقول الشيخ صديق حسن خان رحمه الله: والأحاديث الواردة في مطلق النصيحة متواترة وأحق الناس بها الأئمة (2).
ورد حديث (الدين النصيحة) بتمامه من طريق خمسة من الصحابة: هم تميم، وابن عمر، وابن عباس، وأبي هريرة، وثوبان.
ووردت أحاديث أخرى في النصيحة عن عدة من الصحابة هم:
1- جرير.
2- حذيفة.
3- أنس بن مالك.
4- أبو أمامة.
5- أبو أيوب.
6- أبو زيد. وغيرهم.
وبهذا تعلم أن حديث النصيحة متواتر، والله أعلم.
كيف كانت النصيحة هي الدين؟
سمى النبي - صلى الله عليه وسلم - النصيحة ديناً، وعبر بها عن الدين، مع أن تكاليف الدين كثيرة، وليست محصورة في النصح وحده، ولذا فما مراد النبي - صلى الله عليه وسلم - من ذلك؟ أجاب أهل العلم عن ذلك بأجوبة منها:
1- قال الحافظ ابن حجر: يحتمل أن يحمل على المبالغة؛ أي معظم الدين النصيحة كما قيل في حديث: (الحج عرفة) (3).
2- قال أيضاً: (( ويحتمل أن يحمل على ظاهره؛ لأن كل عمل لم يرد به عامله الإخلاص فليس من الدين)) (4).
3- يقول الحافظ ابن رجب: (( فهذا يدل على أن النصيحة تشمل خصال الإسلام والإيمان والإحسان التي ذكرت في حديث جبريل عليه السلام، وسمى ذلك كله ديناً)) (5).
كيف تكون النصيحة لله؟
قدمنا فيما سبق أن النصيحة إما وصف بكمال، أو إتمام النقص، والنصيحة لله هي وصف بالكمال، ويندرج تحتها ما يلي:
__________
(1) نظم المتناثر: (ص160).
(2) العبرة بما جاء في الغزو والشهادة والهجرة.
(3) فتح الباري: (1/138)، وحديث (( الحج عرفة)) رواه أبو داود، رقم: (1949)، والنسائي: (2/45 – 46)، والحديث صحيح [المجلة].
(4) فتح الباري: (1/138).
(5) جامع العلوم: (ص110).(1/18)
1- (( القيام بأداء واجباته على أكمل وجوهها، وهو مقام الإحسان)) (1).
2- (( الإيمان به، ونفي الشيك عنه، وترك الإلحاد في صفاته، ووصفه بجميع صفات الكمال والجلال، وتنزيهه عن جميع النقائص، وما لا كمال فيه من الأوصاف)) (2).
3- (( القيام بطاعته، وتجنب معصيته)) (3).
4- (( الحب والبغض فيه، وموالاة من أطاعه، ومعاداة من عصاه، والرغبة في محابه، والبعد عن مساخطه)) (4).
5- (( الاعتراف بنعمته، وشكره عليها)) (5).
6- (( الدعاء إلى جميع ذلك (( أي ما سبق)) وتعليمه، والإخلاص فيه لله)) (6).
كيف تكون النصيحة لكتاب الله ؟
والنصيحة لكتاب الله هي أيضاً وصف بالكمال، ويندرج تحتها ما يلي:
1- (( الإيمان بأنه كلام الله تعالى وتنزيله، لا يشبهه شيء من كلام الخلق، ولا يقدر على مثله أحد من الخلق )) (7).
2- تعظيمه (8).
3- تعلمه، وتعليمه، وإقامة حروفه في التلاوة، وتحريرها في الكتابة، وتفهم معانيه، وحفظ حدوده، والعمل بما فيه، وذب تحشير المبطلين عنه(9).
كيف تكون النصيحة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟
والنصيحة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصف بالكمال؛ لأنه معصوم بعصمة الله عن الوقوع في المعصية، ويمكن أن يندرج تحت نصح المؤمن للنبي - صلى الله عليه وسلم - ما يلي:
1- تصديقه على الرسالة.
2- الإيمان بجميع ما جاء به، وطاعته في أمره ونهيه.
3- نصرته حياً وميتاً، ومعاداة من عاداه، وموالاة من والاه.
4- إعظام حقه وتوقيره، وإحياء طريقته وسنته.
5- بث دعوته، ونشر شريعته، ونفي التهمة عنها (10).
__________
(1) جامع العلوم: (ص100).
(2) فتح المبين: (ص124).
(3) فتح المبين: (ص124).
(4) فتح المبين: (ص124).
(5) نفسه.
(6) نفسه.
(7) شرح صحيح مسلم: (2/38).
(8) نفسه.
(9) فتح الباري: (1/138).
(10) شرح صحيح مسلم: (2/38).(1/19)
6- إحياء سنته بنشرها وتصحيحها، ونفي التهم عنها، وانتشار علومها، والتفقه في معانيها، والإمساك عن الخوض فيها بغير علم، والدعاء إليها، والتلطف في تعاليمها، وإظهار تعظيمها، وإجلالها، وإجلال أهلها من حيث انتسابهم إليها، والتأدب بآدابه عند قراءتها (1).
محبة أهل بيته وأصحابه، ومجانبة من ابتدع في سنته، أو تعرض لأحد من أصحابه، ونحو ذلك(2).
كيف تكون النصيحة لأئمة المسلمين؟
والنصح واجب لأئمة المسلمين، وهو تكميل نقص؛ لأنه يجري عليهم القصور، فليسوا بمعصومين من الزلل، والخطأ، ولكن ما المقصود بأئمة المسلمين؟
لعلمائنا في هذه مذهبان هما:
1- أنهم الخلفاء وغيرهم ممن يقوم بأمر المسلمين من أصحاب الولايات، وهذا هو المشهور(3)
2- أنهم علماء الدين وأئمة الاجتهاد (4).
أما النصيحة لولاة الأمور من الحكام، فيندرج تحتها ما يلي:
1- معاونتهم على الحق، وطاعتهم فيه.
2- تنبيههم عند الغفلة.
3- سد خلتهم عند الهفوة.
4- جمع الكلمة عليهم.
5- رد القلوب النافرة إليهم.
6- دفعهم عن الظالم بالتي هي أحسن (5).
وأما النصيحة لأهل العلم، فيندرج تحتها الأمور التالية:
1- بث علومهم.
2- نشر مناقبهم.
3- تحسين الظن بهم (6).
4- قبول ما رووه (7).
5- إجلالهم، وتوقيرهم، والوفاء بما يجب لهم على الكافة من الحقوق التي لا تخفى على الموفقين (8).
كيف تكون النصيحة لعامة المسلمين ؟
وأما نصح عامة المسلمين وهم من عدا ولاة الأمر (9)، فهي أيضاً تكميل نقص، ويمكن أن يندرج تحت هذا الأمور التالية:
1- إرشادهم لمصالحهم في أخرتهم ودنياهم.
2- كف الأذى عنهم (10).
__________
(1) فتح المبين: (124).
(2) شرح صحيح مسلم: (2/38).
(3) شرح صحيح مسلم/ (2/38- 39).
(4) نفسه.
(5) فتح الباري: (1/138).
(6) الفتح: (1/138).
(7) شرح صحيح مسلم: (2/39).
(8) فتح المبين: (ص125).
(9) شرح صحيح مسلم: (2/39).
(10) شرح صحيح مسلم: (2/39).(1/20)
3- تعليمهم ما ينفعهم.
4- أن يحب لهم ما يحب لنفسه، ويكره لهم ما يكره لنفسه(1).
5- دفع المضار عنهم، وجلب المنافع لهم.
6- أمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر برفق وإخلاص.
7- الشفقة عليهم، وتوقير كبيرهم، ورحمة صغيرهم.
8- تخولهم بالموعظة الحسنة.
9- ترك غشهم وحسدهم.
10- الذب عن أموالهم وأعراضهم(2).
هذا ما أردت أن يقف عليه القارئ هنا من شرح حديث النصيحة، عل في ذلك ما يدفع كاتبه وقارئه وسامعه إلى تمام النصح لمن طلب الله منا نصحهم، ولكن هذا الذي ذكرناه كلام نظري يعوزه التطبيق والامتثال، ذلك لأن الكلام النظري لابد له من أمثلة تطبيقية في الواقع حتى يمكن للسامع وغيره أن يمتثلوا، وهذا يحوجنا إلى ذكر نماذج لنصائح السلف، وهذا ما تقف عليه في المبحث القادم بعون الله تعالى.
نماذج من نصائح السلف
ولا يكمل ما نريد إيصاله في موضوع النصيحة إلا بذكر أمثلة حية للنصيحة عند سلفنا الصالح رضوان الله عليهم، إذ هم أقرب إلى عصر النبوة، وأسلم ديناً، وأصفى نفوساً، وأرق قلوباً، وأعمق أخوة، وأكثر ألفة، وأقل حظاً للشيطان، ولذا فقد اخترت نماذج من نصح هؤلاء، عل في ذلك ما يدفع الناصح فينا إلى تحريك النصيحة الصحيحة التي يؤجر المرء بها.
النصيحة الأولى
نصيحة جرير بن عبد الله لمن أراد بيع فرسه
__________
(1) الفتح: (1/138).
(2) شرح صحيح مسلم: (2/39).(1/21)
أخرج الإمام الطبراني في المعجم الكبير بسند صحيح عن إبراهيم بن جرير البجلي عن أبيه قال: غدا أبو عبد الله (( أي جرير)) إلى الكناسة ليبتاع منها دابة، وغدا مولى له فوقف في ناحية السوق، فجعلت الدواب تمر عليه، فمر به فرس فأعجبه، فقال لمولاه، انطلق فاشتر ذل الفرس، فانطلق مولاه، فأعطى صاحبه به ثلاثمائة درهم، فأبى صاحبه أن يبيعه، فماتحه (1)، فأبى صاحبه أن يبيعه، فقال: هل لك أن تنطلق إلى صاحب لنا ناحية السوق؟
قال: لا أبالي، فانطلقا إليه، فقال له مولاه: إني أعطيت هذا بفرسه ثلاثمائة درهم، فأبى، وذكر أنه خير من ذلك، قال صاحب الفرس: صدق، أصلحك الله، فترى ذلك ثمناً؟ قال: لا، فرسك خير من ذلك تبيعه بخمسمائة حتى بلغ سبعمائة درهم أو ثمانمائة، فلما أن ذهب الرجل أقبل على مولاه فقال له: ويحك انطلقت لتبتاع لي دابة، فأعجبتني دابة رجل، فأرسلتك تشتريها، فجئت برجل من المسلمين تقوده، وهو يقول: ما ترى ما ترى؟ وقد بايعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على النصح لكل مسلم (2).
فقه نصيحة جرير بن عبد الله
إذا أجلنا النظر في هذه القصة، وجدنا فيها دلالات عظيمة نذكرها كما يلي:
1- لم يقبل جرير، رضي الله عنه، غبن الرجل بشراء فرسه بأقل مما يستحق، وإن كان في ذلك زيادة ثمن يدفعها هو، وهذا جانب من جوانب النصح لعامة المسلمين بعدم الغبن والغش لهم في البيع والشراء.
2- مع زيادة حرصه على غيره أنه أنب مولاه على فعله، ولم يغض طرفه عن الموضوع، ولم يترك القضية لمولاه ليظهر هو بمظهر البريء أمام الناس.
__________
(1) ماتحه: هو من المماسكة: وهي المكالمة في النقص من الثمن. انظر تهذيب الأسمار: (3/141).
(2) المعجم الكبير برقم: (2395)، والمحلي: (8/440 – 441).(1/22)
3- يقول ابن حزم: (( والخديعة في البيع جملة بلا شك يدري الناس كلهم أن من أخذ من آخر فيما يبيع منه أكثر مما يساوي بغير علم المشتري ولا رضاه، ومن أعطاه آخر فيما يشتري منه أقل مما يساوي بغير علم البائع ولا رضاه، ومن أعطاه آخر فيما يشتري منه اقل مما يساوي بغير علم البائع ولا رضاه، فقد غشه، ولم ينصحه، ومن غش ولم ينصح فقد أتى حراماً)) (1).
4- وقال ابن حزم أيضاً: (( فهؤلاء عمر وابنه، والعباس ، وعبد الله بن جعفر، وأبي، وجرير، ولا مخالف لهم من الصحابة رضي الله عنهم يرون رد البيع من الخديعة في نقصان الثمن عن قيمة المبيع)) (2).
النصيحة الثانية
نصيحة الحسن والحسين
رأى الحسن والحسين ابنا علي بن أبي طالب، رضي الله عنهما، رجلاً كبيراً في السن يتوضأ، وكان لا يحسن الوضوء، فأرادا تعليمه، فذهبا إليه، فادعيا أنهما قد اختلفا أيهما حسن الوضوء، أكثر من أخيه؟ وأرادا منه أن يحكم بينهما، فأمر أحدهما بالوضوء، ثم أمر الآخر بالوضوء، ثم قال لهما: أنا الذي لا أعرف الوضوء، فعلماني إياه (3).
فقه نصيحة الحسن والحسين
في هذه القصة دلالات طيبة في موضوع النصيحة نذكرها كما يلي:
1- تحلي الحسن والحسين بلطف الأسلوب في النصيحة حتى إنهما اتخذا وسيلة يمكنهما بها إيصال النصيحة لهذا الرجل، وهي التحاكم إليه في موضوع الوضوء، ولو أتياه بطريقة أخرى لربما تأخرت استجابته لنصيحتهما.
2- لم يشعرا الرجل بشخصيتهما أو نسبهما، ليكون ذلك مدخلاً لقبول النصح منهما.
3- لم يؤنبا الرجل على عدم معرفته بالوضوء رغم كبر سنه، ولم يجعلا من ذلك طريقاً للازدراء بالرجل رغم كبر سنه.
4- لم يعيبا الرجل بالجهل، بل اتجها إلى طريقة يمكنهما بها تعليمه الوضوء دون إحراج له، ودون إساءة له.
__________
(1) المحلي: (8/44).
(2) المحلي: (8/441).
(3) لم يسند المؤلف رعاه الله هذه الحكاية، ولم نعثر لها على سند، ومعناها صحيح والله أعلم. [المجلة].(1/23)
5- كانا دقيقين مع الرجل في حوارهما معه، ونصحهما له، مما جعله يقبل نصحهما، ويدرك أنه أحوج إلى تعلم الوضوء بدل أن يقوم بوظيفة الحكم بين هذين الشابين.
6- طبقا سنة جدهما - صلى الله عليه وسلم - في احترام الكبير والعطف على الصغير.
النصيحة الثالثة
نصيحة الإمام مالك بن أنس لأحد خلفاء عصره
تكلمنا سابقاً عن النصيحة ومجالاتها، ولقد كان من تكلم المجالات الحكام، ولقد حرص علماؤنا على نصح الحكام بما يسدد مسيرة الدولة، ويبرئ ذمة العلماء، وهذا كان منهجاً لعلمائنا رحمهم الله تعالى، وقد كان من أولئك الناصحين إمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس رحمه الله، فقد كتب إلى الخليفة هارون الرشيد رسالة ينصحه فيها، ويقول:
أما بعد، فإني كتبت إليك بكتاب لم آلك فيه رشداً، ولم أدخر فيه نصحاً، تحميداً لله وأدباً عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فتدبره بعقلك، وردد فيه بصرك، وأرعه سمعك، ثم أعقله قلبك، وأحضر فهمك، ولا تغيبن عنه ذهنك، فإن فيه الفضل في الدنيا وحسن ثواب الله في الآخرة.
اذكر نفسك في غمرات الموت وكربه ما هو نازل بك منه، وما أنت ىموقوف عليه بعد الموت من العرض على الله سبحانه، ثم الحساب، ثم الخلود بعد الحساب.(1/24)
وأعد لله – عز وجل – ما يسهل عليك أهوال تلك المشاهد، وكربها فإنك لو رأيت سخط الله تعالى، وما صار إليه الناس من ألوان العذاب، وشدة نقمته عليهم، وسمعت زفيرهم في النار، وشهيقهم مع كلوح (1) وجوههم، وطول غمهم، وتقلبهم في دركاتها (2) على وجوههم، لا يسمعون، ولا يبصرون، ويدعون بالويل، والثبور، وأعظم من حسرة إعراض الله عنهم، وانقطاع رجائهم، وإجابته إياهم بعد طول الغم بقوله: { اخْسَأُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ } (المؤمنون: من الآية108).
ثم قال له: لا تأمن على شيء من أمرك من لا يخاف الله، فإنه بلني عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: (( شاور في أمرك الذين يخافون الله)).
احذر بطانة السوء وأهل الردى على نفسك، فإنه بلغني عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنه قال: ( ما من نبي ولا خليفة إلا وله بطانتان، بطانة تأمره بالمعروف، وتنهاه عن المنكر، وبطانة لا تألوه خبالاً) (3).
ثم قال: لا تجر ثيابك، فإن الله لا يحب ذلك، فقد بلغني عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ( من جر ثيابه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة) (4).
اطع الله في معصية الناس، ولا تطع الناس في معصية الله، فقد بلغني عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (( لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)) (5).
فقه نصيحة الإمام مالك
__________
(1) الكلوح: تكشر في عبوس. انظر مختار الصحاح: (ص576).
(2) دركاتها: أي منازل أهلها. انظر مختار الصحاح: (ص203). الدركات عكس الدرجات، فالدركات هو التدرج إلى الأسفل، والدرجات هو التدرج إلى الأعلى لذا فالجنة درجات والنار دركات. [المجلة].
(3) رواه البخاري: برقم: (7198)، والترمذي برقم: 2369. والخبال: الفساد، انظر مختار الصحاح: (ص168).
(4) رواه البخاري برقم: (5784)، وأبو داود برقم: 40845).
(5) رواه أحمد في مسنده: (1/409)، والحديث صحيح في [المجلة].(1/25)
تلكم هي فقرات من نصيحة الإمام مالك لهارون الرشيد، والناظر فيها يجد أن ثمة دلالات يمكن أن تلمح في هذه النصيحة، ومن هذه الدلالات نذكر ما يلي:
1- كانت النصيحة المسداة هنا شاملة تحوي كل معاني الإيمان، وفي هذا يقول الأستاذ عبد العزيز البدري رحمه الله: (( احتوى هذه الرسالة على كل معاني الإيمان، والدعوة إلى التمسك بأحكام الإسلام وحدوده وآدابه)) (1).
2- هذه النصيحة خالصة لله صادقة خرجت من قلب صادق، يقول البدري في وصفها:
(( وهي موعظة حقاً تجل منها القلوب، ونصيحة صادقة تذرف منها العيون، وتقرب المسلم من ربه لتنال رضاه، إن انتصح بها، واستمع إليها، وجعلها موضع التطبيق والتنفيذ)) (2).
3- قوبلت هذه النصيحة بالقبول من المنصوح وهو هارون الرشيد، وهذه ثمرة النص المرجوة منه.
4- نصيحة الحاكم أعمق أثراً، وأشد خطراً من نصيحة أفراد الرعية، وبخاصة إذا صدرت من عالم ورع تقي، وفي هذا يقول الأستاذ البدري: (( وكانت النصيحة وانتصاحهم للحاكم في مقدمة المنتصحين؛ لأن نصيحتهم فيها الخير كل الخير لهم، ولمن يتولون أمرهم (3).
5- جوانب النصح للحاكم عند مالك متعددة، وفي هذا يقول العلامة محمد أبو زهرة رحمه الله: (( ولم يقتصر في نصائحه على المخاطبة، بل ينصحهم أيضاً بالمكاتبة برسائل يرسلها إليهم)) (4).
النصيحة الرابعة
رسالتان متبادلتان بين الإمامين مالك والليث بن سعد
كان مالك عالم أهل الحجاز، وكان الليث بن سعد عالم أهل مصر، وقد كان في درجة مالك في العلم، حتى قال فيه الشافعي: (( الليث أفقه من مالك غير أن أصحابه لم يقوموا به)) (5).
__________
(1) الإسلام بين العلماء والحكام لعبد العزيز البدري رحمه الله: (ص106 – 107).
(2) نفسه: (ص107).
(3) نفسه: (ص104).
(4) مالك: (ص66).
(5) تهذيب التهذيب: (8/415).(1/26)
ولقد تبادل الإمام مالك النصح مع الليث، فكتب مالك إلى الليث رسالة ينصحه فيها، ورد عليه الليث برسالة كذلك، ولذا فمن الأمانة العلمية أن نثبت نص رسالة مالك أولاً على طولها، ثم رسالة الليث كذلك، ثم نعقب بعد ذلك بذكر دلالات هاتين النصيحتين المكتوبتين.
نص رسالة الإمام مالك
بسم الله الرحمن الرحيم
من مالك بن أنس إلى الليث بن سعد، سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد، عصمنا الله وإياك بطاعته في السر والعلانية، وعافانا وإياك من كل مكروه.
كتبت إليك وأنا ومن قبلي من الولدان والأهل على ما تحب، والله محمود، أتانا كتابك، تذكر من حالك، ونعمة الله عليك الذي أنا به مسرور، أسأل الله أن يتم علي وعليك صالح ما أنعم علينا وعليك، وأن يجعلنا له شاكرين.
وفهمت ما ذكرت في كتب بعثت بها لأعرضها لك، وأبعث بها إليك، وقد فعلت ذلك وغيرت منها ما غيرت حتى صح أمرها على ما يجب، وختمت على كل قنداق(1)، ( أو قال يحي: غنداق) منهال بخاتمي ونقشته حسبي الله ونعم الوكيل، وكان حبيباً إلي حفظك، وقضاء حاجتك، وأنمت لذلك أهل وجيرة، وصرت لك نفسي في ساعة لم أكن أعرض فيها لأن أنجح ذلك، فتأتيك مع الذي جاء في بها، حتى دفعتها إليه، وبلغت من ذلك الذي رأيت أنه يلزمني لك في حقك وحرمتك، وقد نشطني ما استطلعت مما قبلي من ذلك في ابتدائك بالنصيحة لك، ورجوت أن يكون لها عندك موضع، ولم يكن منعني من ذلك قبل اليوم إلا أن يكون رأيي لم يزل فيك جميلاً، إلا أنك لم تذاكرني شيئاً من هذا الأمر، ولا تكتب فيه لي.
__________
(1) القنداق: صحيفة الحساب. انظر تاج العروس: (7/51).(1/27)
واعلم، رحمك الله، أنه بلغني أنك تفتي بأشياء مخالفة لما عليه جماعة الناس عندنا، وببلدنا الذي نحن فيه، وأنت في إمامتك وفضلك ومنزلتك من أهل بلدك وحاجة من قبلك إليك، واعتمادهم على ما جاء منك حقيق بأن تخاف على نفسك، وتتبع ما ترجو النجاة باتباعه، فإن الله – عز وجل – يقول في كتابه { وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } (التوبة:100). وقال تعالى: { الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ } (الزمر:18).
فإنما الناس تبع لأهل المدينة، إليها كانت الهجرة، وبها نزل القرآن، وأحل الحلال، وحرم الحرام، إذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أظهرهم يحضرون الوحي والتنزيل، ويأمرهم فيتبعونه، ويسن لهم فيتبعونه، حتى توفاه الله، واختار له ما عنده - صلى الله عليه وسلم - .
ثم قام من بعده أتبع الناس له من أمته، ممن ولي الأمر من بعده، فما نزل بهم مما علموا أنفذوه، وما لم يكن عندهم علم فيه سألوا عنه، ثم أخذوا بأقوى ما وجدوا في ذلك اجتهادهم، وحداثة عهدهم، فإن خالفهم مخالف، أو قال امرؤ: غيره أقوى منه وأولى، ترك قوله، وعمل بغيره)).(1/28)
ثم كان التابعون من بعدهم يسلكون تلك السبل، ويتبعون تلك السنن، فإذا كان الأمر بالمدينة ظاهراً معمولاً به، لم أر خلافه للذي في أيديهم من تلك الوراثة، التي لا يجوز لأحد انتحالها ولا ادعاؤها، ولو ذهب أهل الأمصار يقولون: هذا العمل ببلدنا، وهذا الذي مضى عليه من مضى منا، لم يكونوا من ذلك على ثقة، ولم يجز لهم من ذلك مثل الذي جاز لهم، فانظر رحمك الله فيما كتبت إليك فيه لنفسك، واعلم أني لأرجو ألا يكون دعاني إلى ما كتبت إليك إلا النصيحة لله، والنظر إليك، والضن بك، فأنزل كتابي منك منزله، فإنك إن تفعل تعلم أني لم آلك نصحاً، وفقنا الله وإياك بطاعته، وطاعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في كل أمر، وعلى كل حال، والسلام عليك ورحمة الله (1).
نص رسالة الليث بن سعد
بسم الله الرحمن الرحيم
(( من الليث بن سعد إلى مالك بن أنس: سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد،
عافانا الله وإياك، وأحسن العاقبة في الدنيا والآخرة، وقد بلغني كتابك، تذكر فيه من صلاح حالك الذي يسرني، فأدام الله ذلك لكم، وأتمه بالعون على الشكر له وبه، والزيادة في أحسنه، وذكرت نظرك في الكتب التي بعثت إليك بها، وإقامتك إياها، وختمك عليها بخاتمك.
وقد أتتنا فآجرك الله فيما قدمت منها، فإنها كتب انتهت إلي عنك، فأحببت أن أبلغ تحقيقها بنظرك فيها.
__________
(1) تاريخ ابن معين: (4/498، 501)، وترتيب المدارك: (1/64)، والمعرفة والتاريخ للبسوي.(1/29)
وذكرت أنه قد نشطك ما كتبت إليك فيه من تقويم ما أتاني عنك إلى ابتدائي بالنصيحة، وأنك ترجو أن يكون لها عندي موضع، ( أو قال يحي: موقع)، وأنه لم يمنعك من ذلك فيما خلا إلا أن يكون رأيك فينا جميلاً، إلا أني لم أذاكرك مثل هذا، وأنه بلغك أني أفتي بأشياء مخالفة لما عليه جماعة الناس عندكم، وأنه يحق علي الخوف على نفسي، لاعتماد من قبلي على ما أفتيهم به، وأن الناس تبع لأهل المدينة، إليها كانت الهجرة، وبها نزل القرآن.
وقد أصبت بالذي كتبت به من ذلك، إن شاء الله، ووقع مني بالموقع الذي تحب، وما أجد أحداً ينسب إليه العلم أكره لشواذ الفتيا، ولا أشد تفضيلاً، (أو قال : تفصيلاً) لعلم أهل المدينة الذين مضوا، ولا أخذا بفتياهم فيما اتفقوا عليه مني والحمد لله.
وأما ما ذكرت من مقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ونزول القرآن عليه بين ظهراني أصحابه، وما علمهم الله منه، وأن الناس صاروا تبعاً لهم، فكما ذكرت، وأما ما ذكرت من قول الله تبارك وتعالى: { وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } (التوبة:100).(1/30)
فإن كثيراً من أولئك السابقين الأولين خرجوا إلى الجهاد في سبيل الله ابتغاء مرضاة الله، فجندوا الأجناد، واجتمع إليهم الناس، وأظهروا بين ظهرانيهم كتاب الله وسنة رسوله، ولم يكتموهم شيئاً علموه، فكان في كل جند منهم طائفة يعملون بكتاب الله، وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - ولم يكتموهم شيئاً علموه ويجتهدون رأيهم فيما لم يفسره لهم القرآن والسنة، ويقومهم عليه أبو بكر وعمر وعثمان، الذين اختارهم المسلمون لأنفسهم، ولم يكن أولئك الثلاثة مضيعين لأجنادهم ولا غافلين عنهم، بل كانوا يكتبون في الأمر اليسير لإقامة الدين، والحذر من الخلافة لكتاب الله، وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - ، فلم يتركوا أمراً فسره القرآن، أو عمل به النبي - صلى الله عليه وسلم - أو ائتمروا فيه، إلا علموهموه، فإذا جاء أمر عمل به أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمصر والشام والعراق على عهد أبي بكر وعمر وعثمان، لم يزالوا عليه حتى قبضوا لم يأمروهم بغيره.
فلا نراه يجوز لأجناد المسلمين أن يحدثوا اليوم أمراً لم يعمل به سلفهم من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتابعين لهم، حتى ذهب أكثر العلماء، وبقي منهم من لا يشبه من مضى، مع أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد اختلفوا بعده في الفتيا في أشياء كثيرة، لولا أني عرفت أن قد علمتها، كتبت إليك بها.
ثم اختلف التابعون في أشياء بعد أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سعيد بن المسيب ونظراؤه، أشد الاختلاف.
ثم اختلف الذين كانوا بعدهم، حضرناهم بالمدينة، وغيرها، ورأيتهم يومئذ في الفتيا: ابن شهاب، وربيعة بن أبي عبد الرحمن – رحمة الله عليهما – فكان من خلاف ربيعة – تجاوز الله عنه – لبعض ما مضى، وحضرت وسمعت قولك فيه، وقول ذوي السن من أهل المدينة: يحي بن سعيد، وعبيد الله بن عمر، وكثير بن فرقد، وغير كثير، وممن هو أسن منه، حتى اضطرك ما كرهت من ذلك إلى فراق مجلسه.(1/31)
وذاكرتك أنت وعبد العزيز بن عبد الله بعض ما نعيب على ربيعة من ذلك، فكنتما موافقين فيما أنكرت، تكرهان منه ما أكره، ومع ذلك بحمد الله عند ربيعة خير كثير، وعقل أصيل، ولسان بليغ، وفضل مستبين، وطريقة حسنة في الإسلام، ومودة صادقة لإخوانه عامة، ولنا خاصة، رحمه الله، وغفر له، وجزاه بأحسن عمله (1).
وكان يكون من ابن شهاب اختلاف كثير إذا لقيناه، وإذا كاتبه بعضنا، فربما كتب في الشيء الواحد – على فضل رأيه وعلمه – بثلاثة أنواع، ينقض بعضها بعضاً، ولا يشعر بالذي مضى من رأيه في ذلك الأمر، فهو الذي يدعوني إلى ترك ما أنكرت تركي إياه.
وقد عرفت أن مما عبت إنكاري إياه أن يجمع أحد من أجناد المسلمين بين الصلاتين ليلة المطر، ومطر الشام أكثر من مطر المدينة، بما لا يعلمه إلا الله عز وجل، ولم يجمع إمام منهم قط في ليلة المطر، وفيهم خالد بن الوليد، وأبو عبيدة بن الجراح، ويزيد بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص، ومعاذ بن جبل، وقد بلغنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( أعلمكم بالحلال والحرام معاذ) (2). ويقال: يأتي معاذ يوم القيامة بين يدي العلماء برتوة (3)، وشرحبيل بن حسنة، وأبو الدرداء، وبلال بن رباح.
__________
(1) انظر إلى خلاف الأكابر وتعلم منه، فلم يمنع خلاف الليث لربيعة من ذكره بالخير بما يحسن، وحفظ عرضه، والثناء عليه، ماذا يقال لأولئك الذين يقعون في عرض غيرهم، إذا خالفوهم.
(2) رواه الترمذي برقم: (3790)، وقال حسن غريب.
(3) الرتوة: مسافة بعيدة قدر مد البصر، انظر أساس البلاغة: (ص220). أخرجه ابن أبي شيبة في تاريخه، وابن عساكر، كما في الإصابة : (3/437)، والأثر في فضل معاذ ثابت صحيح [المجلة].(1/32)
وقد كان أبو ذر بمصر، والزبير بن عوام، وسعد بن أبي وقاص، وبحمص سبعون من أهل بدر، وبأجناد المسلمين كلها، وبالعراق ابن مسعود، وحذيفة، وعمران بن حصين، ونزلها علي بن أبي طالب سنتين، بمن كان معه من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فلم يجمعوا بين المغرب والعشاء قط (1).
ومن ذلك القضاء بشهادة الشاهد ويمين صاحب الحق، وقد عرفت أنه لم يزل يقضى به بالمدينة، ولم يقض به أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالشام ولا مصر ولا العراق، ولم يكتب به إليهم الخلفاء المهديون الراشدون: أبو بكر، وعمر وعثمان.
ثم ولي عمر بن عبد العزيز، وكان كما قد علمت في إحياء السنن، وقطع البدع، والجد في إقامة الدين، والإصابة في الرأي، والعلم بما مضى من أمر الناس، فكتب إليه رزيق بن الحكيم: إنك تقضي بذلك بالمدينة بشهادة الشاهد، ويمين صاحب الحق، فكتب إليه عمر: إنا قد كنا نقضي بذلك في بالمدينة، فوجدنا أهل الشام على غير ذلك، فلا نقضي إلا بشهادة رجلين عدلين، أو رجل وامرأتين (2). ولم يجمع بين المغرب والعشاء قط في المطر، والسماء تسكب عليه في منزله الذي كان يكون فيه بخناصره (3) سكباً.
__________
(1) يرى مالك وأهل المدينة الجمع بين المغرب والعشاء بعذر المطر، وقد وافقهم على ذلك سواهم، فهو قول الفقهاء السبعة، والأوزاعي، وأحمد، ومنع الليث من الجمع بين الصلاتين لأجل المطر، وهو مذهب أصحاب الرأي، انظر في هذه المسألة المغني: (2/116)، والزرقاني على الموطأ: (1/12631). وبداية المجتهد.
(2) اختلف العلماء في القضاء بالشاهد واليمين، فيرى الجمهور جوازه، ويرى أهل الرأي ومعهم الليث منعه، ولهم تفصيلات وأدلة تنظر في مظانها. وانظر ما يلي: المغني: (12/11). أعلام الموقعين: (3/185). سنن البيهقي: (10/175).
(3) خناصرة: بليدة بالشام من أعمال حلب. انظر معجم البلدان: (3/467).(1/33)
ومن ذلك أن أهل المدينة يقضون في صدقات النساء أنها متى شاءت أن تكلم في مؤخر صداقها تكلمت، يدفع ذلك إليها، وقد وافق أهل العراق أهل المدينة على ذلك. وإن أهل الشام وأهل مصر لم يقض أحد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا من بعدهم – لا امرأة بصادقها المؤخر، إلا أن يفرق بينهما الموت أو الطلاق، فتقوم على حقها.
ومن ذلك قولكم في الإيلاء: إنه لا يكون عليه طلاق حتى يوقف، وإن مرت الأربعة أشهر، وقد حدثني نافع عن عبد الله، وعبد الله الذي كان يروي عنه ذكر التوقف بعد الأربعة أشهر، أنه كان يقول في الإيلاء الذي ذكر الله في كتابه: لا يحل للمولى، إذا بلغ الأجل، إلا أن يفي كما أمره الله، أو يعزم الطلاق، وأنتم تقولون: وإن لبث شهراً بعد الأربعة أشهر التي سمى الله، ولم يوقف لم يكن عليه طلاق.
وقد بلغنا عن عثمان بن عفان، وزيد بن ثابت، وقبيصة بن ذؤيب، وأبي سلمة بن عبد الرحمن أنهم قالوا: في الإيلاء إذا مضت الأربعة أشهر فهي تطليقة بائنة (1)، وقال سعيد بن المسيب، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وابن هشام، وابن شهاب: إذا مضت الأربعة فهي تطليقة، وله الرجعة في العدة(2).
__________
(1) المحلي: (10/45، 46)، والمغني مع الشرح: (8/467).
(2) المحلي: (10/46)، المغني: (8/528)، وبداية المجتهد: (82).(1/34)
ومن ذلك أن زيد بن ثابت كان يقول: إذا ملك الرجل امرأته، فاختارت زوجها، فهي تطليقة، وإن طلقت نفسها ثلاثاً فهي تطليقة (1)، وقضى به عبد الملك بن مروان وكان ربيعة بن أبي عبد الرحمن يقول: وقد كان الناس يجتمعون على أنها إن اختارت زوجها، لم يكن فيه طلاق، وإن اختارت نفسها واحدة أو اثنتين، كانت له عليها رجعة، وإن طلقت نفسها ثلاثاً بانت منه، ولم تحل له حتى تنكح زوجاً غيره، فيدخل بها، ثم يموت عنها، أو يطلقها، إلا أن يردعها في مجلسه فيقول: إنما ملكك واحدة، فيستخلف، وخلى بينه وبين امرأته(2).
ومن ذلك أن عبد الله بن مسعود كان يقول: إيما رجل تزوج أمة، ثم اشتراها زوجها، فاشتراؤه إياها ثلاث تطليقات، وكان ربيعة يقول ذلك، وإن تزوجت الحرة عبداً، فاشترته فمثل ذلك(3).
وقد بلغتنا عنكم أشياء من الفتيا، فاستنكرناها، وقد كتبت إليك في بعضها، فلم تجبني في كتابي، فتخوفت أن تكون قد استثقلت ذلك، فتركت الكتاب إليك في شيء مما أنكرت، وفيما اردت فيه علم رأيك، وذلك أنه بلغني أنك أمرت زفر بن عاصم الهلالي (4)، حين أراد أن يستسقي أن يقدم الصلاة قبل الخطبة، فأعظمت ذلك، لأن الخطبة في الاستسقاء قبل الصلاة، كهيئة يوم الجمعة، إلا أن الإمام إذا دنا فراغه من الخطبة حول وجه إلى الخطبة، فدعا، وحول رداءه ثم نزل فصلى.
وقد استسقى بين ظهرانيكم عمر بن عبد العزيز، وأبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وغيرهما (5)، فكلهم يقدم الخطبة والدعاء قبل الصلاة، فاستهتر الناس الذي صنع زفر بن عاصم من ذلك واستنكروه.
__________
(1) انظر شرح الزرقاني على الموطأ: (3/36).
(2) انظر المصادر السابقة.
(3) المغني: (7/402).
(4) ولاه المهدي على المدينة سنة 106هـ، روى عنه مسالك، وروايته عن عمر بن عبد العزيز منقطعة. انظر التاريخ الكبير: (3/430)، والجرح: (3/607).
(5) الفتح: (2/499)، والمغني: (2/287).(1/35)
ومن ذلك أنه ذكر لي أنك تقول: إن الخليطين في المال لا يجب عليهما الزكاة، حتى يكون لكل واحد منهما ما يجب فيه الصدقة، وفي كتاب عمر بن الخطاب أنه يجب عليهما الصدقة، ويتزادان بالسوية(1)، وقد كان ذلك الذي يعمل به في ولاية عمر بن عبد العزيز قبلكم، والذي حدثنا به يحي بن سعيد، ولم يكن بدون أفاضل العلماء في زمانه، فرحمه الله، وغفر له، وجعل الجنة مصيره.
ومن ذلك أنه بلغني أنك تقول: إذا أفلس الرجل، وقد باعه رجل سلعة، فتقاضى طائفة من ثمنها شيئاً، أو أنفق المشتري طائفة منها، أنه يأخذ ما وجد من متاعه، وكان الناس على أن البائع إذا تقاضى من ثمنها شيئاً أو أنفق المشتري منها شيئاً، فليست بعينها(2).
ومن ذلك يذكر أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يعط الزبير إلا لفرس واحد، والناس كلهم يحدثون أنه أعطاه أربعة أسهم لفرسين، ومنعه سهم الفرس الثالث، والأمة كلهم على هذا الحديث: أهل الشام، وأهل مصر، وأهل أفريقية، وأهل العراق، ولا يختلف فيه اثنان، فلم يكن ينبغي، وإن كنت سمعته من رجل مرضي، أن يخالف الأمة أجمعين (3).
وقد تركت أشياء كثيرة من أشباه هذه، وأنا أحب توفيق الله إياك، وطول بقائك لما أرجو للناس في ذلك من المنفعة، وما أخاف أن يكون من المضيعة، إذا ذهب مثلك، مع استثنائي بمكانك، وإن نأت الدار، فهذه منزلتك عندي، ورأيي فيك، فاستيقنه، والسلام)) (4).
فقه الرسالتين المتبادلتين بين الإمامين
هذه رسالة الإمام الليث إلى الإمام مالك بن أنس، وقد سقنا قبلها رسالة الإمام مالك إلى الإمام الليث، وبعد هذا نعرض لبعض دلالات هاتين الرسالتين فنقول:
__________
(1) بداية المجتهد: (1/258).
(2) المغني: (4/456).
(3) المغني: (10/443)، والمحلي: 7/231.
(4) تاريخ ابن معين: (4/487 – 497)، وأعلام الموقعين: (3/83 – 88).(1/36)
1- تجلت في الرسالتين مظاهر الأخوة الصادقة والمحبة العظيمة المتبادلة، التي تبدو في السؤال عن حال الأهل والولد، والاستعداد لبذل المعونة، وتنمي دوام السلامة، والثناء الطيب المتبادل بما يشعر القارئ بأنها أقرب إلى رسائل الأخوة المتحابين المتصافين من كونها نصيحة علمية متبادلة بين إمامين عظيمين، لهما المكانة الكبيرة عند أهل بلديهما.
2- في الرسالتين نفحة صادقة من فقه النصح عند السلف الصالح رضوان الله عليهم، فالمحبة للطرف الآخر من كل منهما أساس، والتواضع، والثناء الطيب، وإنزال الناس منازلهم، طريق ميسر موصل إلى القلوب.
وترك الشدة والغلظة والمخاصمة والمجادلة معالم أخوة، وحسن الظن. وعدم اتهام النوايا، والتماس الأعذار الحسنة، وعدم التشهير، ضوابط عظيمة تضبط النصيحة، وتوقعها الموقع الصحيح. كل هذه الأمور وسواها معالم بارزة في النصح، تساق في هاتين الرسالتين لتكونا نموذجاً يحتذى في نصح المتناصحين، وأدب العلماء المختلفين في المسائل العلمية.
3- يصف العلامة محمد أبو زهرة هاتين الرسالتين وصفاً جامعاً، فيقول: (( والرسالتان فوق ذلك أدب جم، وبحث قيم، ومودة صادقة، ومخالفة في طلب الحق هادية، لا لجاج فيها ولا خصام، بل محبة وولاء ووئام)) (1).
4- الرسالتان تحملان في ثناياهما توجيهاً نبيلاً لأولئك الناصحين في زماننا، الذي يعوزهم فقه السلف في النصح للآخرين، ولأولئك الصغار الذين يقحمون أنفسهم في خلافات أكبر منهم؛ ليعلم أولئك كيف يكون خلاف الأكابر في العلم، ولأولئك المدعين للأخوة والصفاء كيف يكون الود والصفاء بين الرجال على تباعد الأقطار، ونأي الأمصار (( ولأولئك المتعلمين كيف يكون التعلم والتعليم والمعرفة على أصولها)).
النصيحة الخامسة
نصيحة الإمام البيهقي للجويني
__________
(1) مالك: (ص111).(1/37)
كان الحافظ البيهقي معاصراً لأحد أئمة مذهب الشافعية الكبار، وهو والد إمام الحرمين الجويني، وقد بدأ هذا بتصنيف كتاب في الفقه، سماه المحيط، وكان هذا الرجل عالماً بالفقه والأصول وعلم الكلام، ولم يكن عالماً بالحديث، فوقع في الأجزاء التي ألفها من هذا الكتاب أحاديث ضعيفة، ووصل خبر هذا الكتاب إلى الإمام البيهقي، واطلع على ما فيه، فبعث إلى إمام الحرمين ينصحه برسالة قال فيها:
أما بعد، سلام الله ورحمته على الشيخ الإمام، وإني أحمد إليه الله الذي لا إله إلا هو وحده لا شريك له، وأصلي على رسوله صلى الله عليه وسلم، عصمنا الله بطاعته، وأكرمنا بالاعتصام بسنة خيرته من بريته - صلى الله عليه وسلم - ، وأعاننا على الاقتداء بالسلف الصالحين من أمته، وعافانا في ديننا ودنيانا، وكفانا كل هول دون الجنة بفضله ورحمته، إنه واسع المغفرة والرحمة، وبه التوفيق والعصمة.
فقلبي للشيخ أدام الله عصمته، وأيد أيامه مقتد، ولساني له بالخير ذاكر، ولله تعالى على حسن توفيقه إياه شاكر، والله جل ثناؤه يزيده توفيقاً وتأييداً وتسديداً.
وقد علم الشيخ، أدام الله توفيقه، اشتغالي بالحديث، واجتهادي في طلبه، ومعظم مقصودي منه في الابتداء بالتمييز بين ما يصح الاحتجاج به من الأخبار، وبين ما لا يصح، حتى رأيت المحدثين من أصحابنا (1) يرسلونها في المسائل على ما يحضرهم من ألفاظها من غير تمييز منهم بين صحيحها وسقيمها.
ثم إذا احتج عليهم بعض مخالفيهم بحديث شق عليهم تأويله، أخذوا في تعليله بما وجد في كتب المتقدمين من أصحابنا تقليداً، ولو عرفوه معرفتهم، لميزوا بين صحيح ما يوافق أحوالهم من سقيمه، ولأمسكوا عن كثير مما يحتجون به، وإن كان يطابق آراءهم، ولاقتدوا في ترك الاحتجاج برواية الضعفاء، والمجهولين بإمامهم(2).
__________
(1) يعني الشافعية، لأن البيهقي، والجويني على مذهب الشافعي رحمه الله.
(2) يعني الإمام الشافعي رحمه الله تعالى.(1/38)
فشرطه فيمن يقبل خبره عند من يعتني بمعرفته مشهور، وهو بشرحه في كتاب الرسالة مسطور(1)، وما ورد من الأخبار بضعف روايته، أو انقطاع سنده كثير، والعلم به على من جاهد فيه سهل يسير.
وقد احتج في ترك الاحتجاج بالمجهولين بما أنبأنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحافظ قال: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، قال: حدثنا الربيع بن سليمان، قال: حدثنا الشافعي قال: حدثنا سفيان عن محمد بن عمر عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، وحدثوا عني، ولا تكذبوا علي) (2).
قال الشافعي: (( أحاط العلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يأمر أحداً بحال أبداً (3) أن يكذب على بني إسرائيل، ولا على غيرهم، فإذا أباح الحديث عن بني إسرائيل، فليس أن يقبلوا الكذب (4)على بني إسرائيل (5)؛ لأنه يروى عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ( من حدث بحديث، وهو يراه كذباً، فهو أحد الكاذبين) (6)، وإنما أباح قبول ذلك عمن حدث به ممن يحتمل صدقه وكذبه(7).
قال(8): (( وإذا فرق بين الحديث عنه، والحديث عن بني إسرائيل فقال: حدثوا عني، ولا تكذبوا علي: فالعلم، إن شاء الله، يحيط أن الكذب الذي نهاهم عنه هو الكذب الخفي، وذلك الحديث عمن لا يعرف صدقه)) (9).
ثم حكى الشافعي في رد حديث الضعفاء عن ابن عمر، وعن عروة بن الزبير، وسعد بن إبراهيم.
__________
(1) الرسالة الشافعية: (ص 370 – 272).
(2) رواه أحمد في مسنده: (2/474 – 502)، والحديث صحيح [المجلة].
(3) ليست في الطبقات، وقد استدركناها من الرسالة للشافعي.
(4) في الطبقات: الحديث الكذي، وما أثبتناه في الرسالة.
(5) الرسالة: (ص398/399).
(6) رواه مسلم في صحيحه: (1/5).
(7) الرسالة: (ص399)، وفيه يجهل بدل يحتمل.
(8) أي الشافعي.
(9) الرسالة: (400).(1/39)
وحكاه في كتاب (( العمري)) عن عطاء بن أبي رباح وطاووس، وابن سيرين، وإبراهيم النخعي، ثم قال: (( ولا لقيت، ولا علمت، أحداً من أهل العلم بالحديث يخالف هذا المذهب)).
قال الشيخ الفقيه أحمد: وإنما يخالفه بعض من لا يعد من أهل الحديث، فيرى قبول رواية المجهولين، ما لم يعلم ما يوجب رد خبرهم.
وقد قال الشافعي رضي الله عنه في أول كتاب الطهارة، حين ذكر ما تكون به الطهارة من الماء، واعتمد فيه على ظاهر القرآن، وقد روي فيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثاً يوافق ظاهر القرآن: في إسناده من لا أعرفه (1)، ثم ذكر حديثه عن مالك، عن صفوان بن سليم، عن سعيد بن سلمة، عن المغيرة بن أبي بردة، عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في البحر (2)، وعسى لم يخطر ببال فقيه من فقهاء عصرنا ريب في صحة هذا الحديث، وإمامه يقول: في إسناده من لا أعرفه، وإنما قال ذلك؛ لاختلاف وقع في اسم المغيرة بن أبي بردة، ثم وصله بذكر أبي هريرة مع إيداع مالك بن أنس إياه كتابه الموطأ (3)، ومشهور فيما بين الحفاظ أنه لم يودعه رواية من يرغب عنه إلا رواية عبد الكريم بن أبي أمية (4)، وعطاء الخرساني (5)، فقد رغب عنهما غير مرة.
__________
(1) الأم: (1/3).
(2) الأم: (1/3).
(3) الموطأ: (1/52 – 53) بشرح الزرقاني.
(4) عبد الكريم بن أبي المخارق أبو أمية، المعلم البصر، نزيل مكة، واسم أمية طارق، وقيل فيه: ضعف. انظر التقريب: (1/516)، والميزان: (2/646 – 647).
(5) عطاء بن أبي مسلم الخرساني، واسم أمية ميسرة، وقيل عبد الله، صدوق، يهم كثيراً، أو يرسل ويدلس، من الخامسة، مات سنة خمس وثلاثين لم يصح أن البخاري أخرج له. انظر التقريب: (2/22). والتهذيب: (7/190/192).(1/40)
وتوقف الشافعي في إيجاب الغسل من غسل الميت، واعتذر بأن بعض الحفاظ أدخل بين أبي صالح وأبي هريرة إسحاق مولى زائدة، وأنه لا يعرفه (1). ولعله ن يكون ثقة، وتوقف في إثبات الوقت الثاني لصلاة المغرب مع أحاديث صحاح، رويت فيه (2) بعد إمامة جبريل عليه الصلاة والسلام النبي - صلى الله عليه وسلم - حين لم يثبت عنده من عدالة رواتها ما يوجب قبول خبرهم.
وكأنه وقع لمحمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله بعده ما وقع له، حتى لم يخرج شيئاً من تلك الأحاديث في كتابه (3)، ووقف مسلم بن الحجاج على ما يوجب قبول خبرهم، ووثق بحفظ من رفع المختلف في رفعه منها فقبله، وأخرجه في الصحيح(4)، وهو في حديث أبي موسى وبريدة وعبد الله بن عمرو (5). واحتج الشافعي في كتاب (( أحكام القرآن)) برواية عائشة في: أن زوج بريرة كان عبداً، وإن بعض من تكلم فيه قال له هل يروون عن غير عائشة أنه عبد؟ قال الشافعي في المعتقة: وهي أعلم به من غيرها.
__________
(1) الأم: (1/266).
(2) الأم: (1/73/74).
(3) لم يخرج البخاري شيئاً من أحاديث صلاة جبريل بالنبي صلى الله عليه وسلم.
(4) صحيح مسلم: (5/107 – 108).
(5) الأحاديث في صلاة جبريل بالنبي صلى الله عليه وسلم وردت من طريق أكثر من صحابي كما يلي:
1- عن جابر عند ابن حبان والحاكم وأحمد والنسائي.
2- عن ابن عباس عند الترمذي وأحمد وأبو داود وابن خزيمة.
3- وعن أبي هريرة عند الترمذي والنسائي.
4- وعن بريدة عن الترمذي.
5- وعن أبي موسى عند مسلم وأبي داود.
6- وعن أبي مسعود عند مالك.
7- وعن أبي سعيد الخدري عند أحمد في مسنده.
8- وعن البراء ذكره ابن أبي خيثمة.
9- وعن أنس عند الدارقطني.
10- وعن ابن عمر عند الدارقطني.
11- وعن مجمع ابن جارية عند أبي حاتم.
انتهى من نيل الأوطار: (1/300 – 302).(1/41)
وقد روي من وجهين قد أثبت أنت ما هو أضعف منهما، ونحن إنما نثبت ما هو أقوى منهما، فذكر حديث عكرمة عن ابن عباس، وحديث القاسم العمري، عن عبد الله بن دينار، عن أبي عمرو: أن مزوج بريرة كان عبداً وحديث عكرمة عن ابن عباس قد أخرجه البخاري في الصحيح(1) إلا أن عكرمة مختلف في عدالته (2)، كان مالك بن أنس رحمه الله تعالى وأبان لا يرضاه، وتكلم فيه سعيد بن المسيب وعطاء وجماعة من أهل العلم بالحديث (3)، ولذلك ترك مسلم بن الحجاج الاحتجاج بروايته في كتابه، والقاسم العمري ضعيف عندهم.
قال الشافعي لخصمه: نحن إنما نثبت ما هو أقوى منهما، وقال في أثرين ذكرناهما في كتاب الحدود (4): (( وهاتان الروايتان، وإن لم يخالفانا، غير معروفتين، ونحن نرجو أن لا نكون ممن تدعوه الحجة على من خالفه إلى قبول خبر من لا يثبت خبره بمعرفته عنده)). وله من هذا أشياء كثيرة يكتفى بأقل من هذا من سلك سبيل النصفة، فهذا مذهبه في قبول الأخبار، وهو مذهب القدماء من أهل الآثار.
__________
(1) رواه البخاري برقم: (5280).
(2) انظر في الكلام فيه: التقريب: (2/30). والتهذيب.
(3) انظر المصادر آنفة الذكر على سبيل المثال لا الحصر.
(4) الأم: (6/140).(1/42)
قال البيهقي رضي الله عنه: وكنت أسمع رغبة الشيخ رضي الله عنه في سماع الحديث، والنظر في كتب أهله، فاشكر إليه، وأشكر الله تعالى عليه، وأقول في نفسي، ثم فيما بين الناس: قد جاء الله – عز وجل – بمن يرغب في الحديث، ويرغب فيه من بين الفقهاء، ويميز فيما يرويه ويحتج به الصحيح من السقيم من جملة العلماء، وأرجو من الله أن يحيي سنة إمامنا المطلبي في قبول الآثار، حيث أماته أكثر فقهاء الأمصار بعد من مضى من الأئمة الكبار، الذين جمعوا بين نوعي علمي الفقه والأخبار، ثم لم يرضى بعضهم بالجهل به، حتى رأيته حمل العامل به في الوقوع فيه، والازدراء به، والضحك منه، وهو مع هذا يعظم صاحب مذهبه، ويجله ويزعم أنه لا يفارق في منصوصاته قوله، ثم يدع في كيفية قبول الحديث ورد طريقته، ولا يسلك فيها سيرته، لقلة معرفته بما عرف، وكثرة غفلته عما عليه وقف، هلا نظر في كتبه، ثم اعتبر باحتياطه في انتقاده لرواة خبره، واعتماده فيمن اشتبه عليه حاله على رواية غيره، فترى سلوك مذهبه مع دلالة العقل والسمع واجباً على كل من انتصب للفتيا(1)، فإما أن يجتهد في تعلمه، أو يسكت عن الوقوع فيمن يعلمه، ولا يجتمع عليه وزران حيث فاته الأجران، والله المستعان وعليه التكلان.
__________
(1) إن كان المقصود باتباع طريقته في التحري والتوثيق، فنعم، وإن كان المقصود تقليده في الفروع فليس هناك في السمع ولا العقل ما يوجب تقليده. والله أعلم.(1/43)
ثم إن بعض أصحاب الشيخ أدام الله عزه وقع إلى هذه الناحية، فعرض علي أجزاء ثلاثة مما أملاه من كتابه المسمى بالمحيط، فسررت به، ورجوت أن يكون الأمر فيما يورده من الأخبار على طريقة من مضى من الأئمة الكبار، لائقاً، بما خص به من علم الأصل والفرع، موافقاً لما ميز به من فضل العلم والورع، فإذا أول حديث وقع عليه بصري الحديث المرفوع في النهي عن الاغتسال بالماء المشمس (1)، فقلت في نفسي: يورده ثم يضعفه، ويضعف القول فيه، فرأيته قد أملى (2): (( والخير فيه ما روى مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة)).
فقلت: هلا قال: روي عن عائشة، أو روي عن ابن وهب عن مالك، أو روي عن مالك، أو روي عن إسماعيل بن عمرو الكوفي عن ابن وهب عن مالك؟ أو روى خالد بن إسماعيل أو وهب بن وهب أبو البحتري عن هشام بن عروة، أو روى عمرو بن محمد الأعسم عن فليح عن الزهري عن عروة، ليكون الحديث مضافاً إلى ما يليق به مثل هذه الرواية، ولا يكون في مثل هذا على مالك بن أنس ما أظنه يبرأ إلى الله تعالى من روايته ظناً مقروناً بعلم.
ثم إني رأيته، أدام الله عصمته، أول حديث البسلمة (3)، وضعف ما روي عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن في تأويله بحديث شهد به على الأعمش أنه رواه عن شقيق بن سلمة عن ابن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيمن توضأ وسمى، وفي من توضأ ولم يسم(4).
__________
(1) رواه الدارقطني. والبيهقي: (1/6). وقال: هذا لا يصح. وله طرق عن عائشة انظر إرواء الغليل: (1/50-54).
(2) كذا في الطبقات والرسائل المنبرية، ولعل فيها سقطاً. والله أعلم.
(3) يشير إلى حديث أبي سعيد، (( لا صلاة لمن لا وضوء له، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه)). وقد رواه أحمد: (2/418)، وأبو داود برقم: (101). وابن ماجة برقم: (399)، والبيهقي: (1/43).
(4) رواه المصنف في السنن الكبرى: (1/44). وقال: وهذا ضعيف.(1/44)
وهذا حديث تفرد به يحي بن هاشم السمسار (1) عن الأعمش، ولا يشك أحد في ضعفه، ورواه أيضاً عبد الله بن حكيم عن أبي بكر الزاهري عن عاصم بن محمد عن نافع عن ابن عمر مرفوعاً (2)، وأبو بكر الزاهري ضعيف لا يحتج بخبره (3). وروي من وجه آخر مجهول عن أبي هريرة ولا يثبت (4).
وحديث التسمية قد روي من أوجه، ما وجه من وجوهها إلا وهو مثل إسناد من أسانيد ما روى في مقالته، ومع ذلك فأحمد بن حنبل يقول: لا أعلم فيه حديثاً ثابتاً (5).
فقلت في نفسي: قد ترك الشيخ، حرس الله مهجته، القوم فيما أحدثوا من المساهلة في رواية الأحاديث، وأحسبه سلك هذه الطريقة فيما حكي له عند مسح وجهه بيديه في قنوت صلاة الصبح، وأحسن الظن برواية من روى مسح الوجه باليدين بعد الدعاء (6)، مع ما أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، قال: أخبرنا أبو بكر الخراجي، قال: حدثنا سارية، حدثنا عبد الكريم السكري، قال: حدثنا وهب بن زمعة، أخبرنا علي النسائي قال: سألت عبد الله بن المبارك عن الذي إذا دعا مسح وجهه، فلم يجب قال علي: ولم أره يفعل ذلك، قال: وكان عبد الله يقنت بعد الركوع في الوتر، وكان يرفع يديه في القنوت.
__________
(1) أشار إلى هذا المصنف في السنن الكبرى، ويحي هذا: كذبه ابن معين، وقال النسائي: متروك. انظر الميزان: (4/412).
(2) رواه المصنف في الكبرى: (1/44). وقال: وهذا أيضاً ضعيف.
(3) أبو بكر الزاهري، عبد الله بن حكيم قال أحمد: ليس بشيء، وقال الجوزجاني كذاب. انظر الميزان: (2/410 – 411).
(4) رواه المصنف في الكبرى: (1/45)، وقال عنه. روي من وجه ضعيف عن أبي هريرة مرفوعاً.
(5) انظر اختصار السنن للمنذري: (1/88). ونيل الأوطار: (1/135).
(6) رواه أبو داود برقم: (1485- 1486).(1/45)
وأخبرنا أبو علي الروذباري، حدثنا أبو بكر بن داسة قال: قال أبو داود السجستاني: روي هذا الحديث من غير وجه عن محمد بن كعب، وهذا الطريق أمثلها، وهو ضعيف (1) أيضاً، يريد به حديث عبد الله بن يعقوب عمن حدثه عن محمد بن كعب القرظي عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : (سلوا الله أكفكم، ولا تسألوه بظهورها، فذا فرغتم، فامسحوا بها وجوهكم) (2).
وروي ذلك من أوجه أخر كلها أضعف من رواية من رواها عن ابن عباس، وكان أحمد بن حنبل ينكرها (3)، وحكى عنه أنه قال في الصلاة: ولا بأس به في غير الصلاة.
قال الفقيه: وهذا لما في استعماله في الصلاة من إدخهال عمل عليها لم يثبت به أثر، وقد يدعو في آخر تشهده ثم لا يرفع يديه، ولا يمسحهما بوجهه، إذ لم يرد بهما أثر، فكذا في دعاء القنوت يرفع يديه لورود الأثر (4) به، ولا يمسح بهما وجهه؛ إذ لم يثبت فيه أثر، وبالله التوفيق.
__________
(1) سنن أبي داود: (2/78).
(2) رواه أبو داود برقم: (1485)، والحاكم: (1/526)، وابن ماجة برقم: (1181، 3866)، والطبراني في الكبير برقم: (10779).
(3) انظر مختصر كتاب الوتر لابن نصر: (ص152)، والمغني، (1/449)، ومسائل أحمد لأبي داود: ص(71).
(4) يريد لثبوت هذا في الصحابة، وانظر في هذا مختصر الوتر: ص (139 – 140). والمغني: (1/449)، وابن أبي شيبة: (2/307، 316).(1/46)
وعندي أن من سلك من الفقهاء هذه الطريقة في المساهلة أنكر عليه قوله، مع كثير ممن روى هذه الأحاديث في خلافه، وإذا كان هذا اختياره، فسبيله أدام الله توفيقه يملي في مثل هذه الأحاديث روي عن فلان، ولا يقول روي فلان؛ لئلا يكون شاهداً على فلان بروايته من غير ثبت، وهو إن فعل ذلك وجد لفعله متبعاً، فقد أخبرنا أبو عبد الله الحافظ قال: سمعت أبا الوليد الفقيه يقول: لما سمع أبو عثمان الحيري (1) من أبي حنيفة أن كتابه المخرج على كتاب مسلم كان يديم النظر فيه، فكان إذا جلس للذكر يقول في بعض ما يذكر من الحديث: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ويقول في بعضه: روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال: فنظرنا فإذا به قد حفظ ما في الكتاب، حتى ميز بين صحيح الأخبار وسقيمها.
وأبو عثمان الحيري يحتاط في هذا النوع من الاحتياط فيما يورد من الأخبار في المواعظ وفي فضائل الأعمال، فالذي يوردها في الفرض والنفل، ويحتج بها في الحرام والحلال، أولى بالاحتياط وأحوج إليه، وبالله التوفيق.
__________
(1) أبو عثمان سعيد بن إسماعيل بن منصور السابوري الحيري، ولد بالري سنة (230هـ) وسمع من محمد بن مقاتل، وموسى بن نصر، وغيرهما، روى عنه الرئيس أبو عمر بن نصر، مات سنة (298). انظر السير (14/63-66).(1/47)
قال الفقيه(1): قد رأيت بعضاً ما أوردت عليه شيئاً من هذه الطريقة فزع في ردها إلى اختلاف الحفاظ في تصحيح الأخبار وتضعيفها، ولو عرف اختلافهم، لعرف أنه لا فرج له في الاحتجاج به، كما لا فرج لمن خالفنا في أصول الديانات في الاحتجاج علينا باختلافنا في المجتهدات، واختلاف الحفاظ في ذلك لا يوجب رد الجميع، ولا قبول الجميع، وإن من سبيله أن يعلم أن الأحاديث المروية على ثلاثة أنواع(2):
1- نوع اتفق أهل العلم به على صحته.
2- ونوع اتفقوا على ضعفه.
3- ونوع اختلف في ثبوته، فبعضهم يضعف بعض رواته بجرح ظهر له، وخفي على غيره، أو لم يظهر له من عدالته ما يوجب قبول خبره، وقد ظهر لغيره، أو عرف منه معنى يوجب عنده رد خبره، وذلك المعنى لا يوجبه عند غيره، أو عرف أحدهما علة (3) حديث ظهر بها انقطاعه، أو انقطع بعض ألفاظه، أو إدراج (4) لفظ من ألفاظ من رواه في متنه (5)، أو دخول إسناد حديث في إسناد غيره، خفيت تلك العلة على غيره، فإذا علم هذا، وعرف بمعنى رد منهم خبراً أو قبول من قبله منهم هذا الوقوف عليه، والمعرفة به إلى اختيار أصح القولين.
__________
(1) أي البيهقي نفسه.
(2) هذا التقسيم قد تابع فيه المصنف شيخه الحاكم، ففي (( المدخل إلى الإكليل)) تقسيم للحديث بما يقارب ما هنا، وانظر المدخل إلى الإكليل: (ص33-50).
(3) العلة: هي الأمر الخفي القادح الذي يمنع من صحة الحديث. انظر تدريب الراوي: (1/252)، والباعث الحثيث: (ص65).
(4) الإدراج: هو أن تزاد لفظة في متن الحديث في كلام الراوي. انظر الباعث: (ص73).
(5) المتن هو: ألفاظ الحديث الذي تقوم بها معانيه. انظر أصول الحديث لعجاج: (ص32).(1/48)
قال الفقيه: وكنت أدام الله عز الشيخ انظر في كتب بعض أصحابنا، وحكايات من حكى منهم عن الشافعي رضي الله عنه نصاً، فانظر اختلافهم في بعضها، فيضيق قلبي حكى منهم عن الشافعي رضي الله عنه نصاً، فانظر اختلافهم في بعضها، فيضيق قلبي بالاختلاف مع كراهة الحكاية من غير ثبت، فحملني ذلك على نقل مبسوط ما اختصره المزني (1) على ترتيب المختصر، ثم نظرت في كتاب التقريب (2)، وكتاب جمع الجوامع (3)، وعيون المسائل (4) وغيرها، فلم أر أحداً منهم فيما حكاه أوثق من صاحب التقريب، وهو في النصف الأول من كتابه أكثر حكاية لألفاظ الشافعي منه في النصف الأخير، وقد غفل في النصفين جميعاً مع اجتماع الكتب له، أو أكثرها، وذهاب بعضها في عصرنا، عن حكاية ألفاظ لابد لنا من معرفتها، لئلا نجري على تخطئة المزني في بعض ما يخطئه فيه، وهو منه بريء، ونتخلص بهذا من كثير من تخريجات أصحابنا.
__________
(1) المزني هو إسماعيل بن يحي المزني، ولد سنة 175، وتوفي سنة 264، وكتابه مطبوع متداول، انظر مفتاح السعادة: (3/27 – 271).
(2) كتاب التقريب. انظر طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة: (1/183 – 189).
(3) جمع الجوامع. انظر طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة: (1/138 – 139).
(4) كتاب عيون المسائل لأبي بكر أحمد بن الحسين الفارسي، انظر طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة: (1/123 – 124).(1/49)
ومثال ذلك من الأجزاء التي رأيتها من كتاب المحيط من أوله إلى مسألة التفريق: أن أكثر أصحابنا والشيخ، أدام الله عزه، معهم يوردون الذنب في تسمية البحر بالمالح إلى أبي إبراهيم المزني. ويزعمون أنها لم توجد للشافعي، رحمه الله تعالى (1). وقد سمى الشافعي البحر مالحاً في كتابين، قال الشافعي في أمالي الحج في مسألة كون المحرم في صيد البحر كالحلال: والبحر إما العذب وإما المالح. قال الله تعالى: { هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ }(الفرقان: من الآية53)(2).
وقال في كتاب المناسك الكبير: في الآية دليل على أن البحر العذب والمالح(3).
وذكر الشيخ أبقاه الله (4)، حدثنا الشيخ أبو بكر رحمه الله قول الشافعي، في أكل الجلد المدبوغ على ما بني عليه، ثم ذكر الشيخ حفظه الله تصحيح القول بمنع الأكل من عند نفسه بإيراد حجته.
وقد نص الشافعي في القديم، وفي رواية حرملة (5) على ما هداه إليه خاطره المتين، قال الزعفراني: قال أبو عبد الله الشافعي في كلام ذكره: يحل أن يتوضأ في جلدها إذا دبغ، وذلك الذي أباحه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منه، فأبحناه كما أباحه، ونهينا عن أكله بحمله أنه ميتة، ولم يرخص في غير ما رخص فيه خاصة، ثم قال: وليس ما حل لنا الاستمتاع ببعضه بخبر الذي يبيح لنا ما نهينا عنه من ذلك الشيء بعينه بخبر: ألا ترى أنا لا نعلم اختلافاً في أنه يحل شراء الحمر والهر، والاستمتاع بها، ولا يبيح أكلها، وإنما نبيح ما يبيح، ونحظ ما حظر.
وقال في رواية حرملة: يحل الاستمتاع به بالحديث، ولا يحل أكله بأصل إنه ميتة.
__________
(1) أضفتها ليتم السياق.
(2) الأم: (2/181 – 182).
(3) الأم: (2/203).
(4) يعني والد إمام الحرمين.
(5) انظر مذهبه في الاقناع: (1/24).(1/50)
ورأيته أدام الله عصمته، اختار في تحلية الدابة بالفضة جوازها، وأظنه علم كلام الشافعي في كتاب مختصر البويطي والربيع، ورواية موسى ابن أبي الجارود حيث يقول: وإن اتخذ رجل أو امرأة آنية من فضة أو من ذهب، أو ضبباً بهما آنية، أو ركباه على مشجب (1). أو سرج فعليهما الزكاة، وكذلك اللجم والركب، هذا مع قوله في روايتهم: لا زكاة في الحلي المباح، وحيث لم يخص به الذهب بعينه، فالظاهر أنه أراد به كليهما جميعاً، وإن كانت الكناية بالتذكير يحتمل أن تكون راجعة إلى الذهب دون الفضة كما قال الله عز وجل: { وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ } (التوبة: من الآية34).
فالظاهر عند أكثر أهل العلم أنه أراد به كليهما معاً، ون كانت الكناية بالتأنيث يحتمل أن تكون راجعة إلى الفضة دون الذهب.
وقد علم الشيخ أبقاه الله ورود التحريم في الأواني المتخذة من الذهب والفضة عامة (2)، ثم وردت الإباحة في تحلية النساء بهما، وتختم الرجال بالفضة خاصة، ووقف على اختلاف الصدر الأول رضي الله عنهم في حلية السيوف، واحتجاج كل فريق منهم بقوله بخبر، فنحن، وإن رجحنا قول من قال بإباحتها بنوع من وجوه الترجيحات، ثم حظرنا تحلية السيف، والسرير وسائر الآلات، ولم نقسها على التحريم بالفضة، ولا على حلية السيوف، فتصحيح إباحة تحلية الدابة بالفضة من غير ورود أثر صحيح مما يشق ويتعذر، وهو أدام الله توفيقه أهل أن يجتهد ويتخير.
__________
(1) المشجب: حشيات موثقة تنصب، فينثر عليها الثياب. انظر (( المصباح المنير)): (2/305).
(2) يشير إلى حديث أم سلمة: الذي يشرب ويأكل في آنية الذهب والفضة فكأنما يجرجر بطنه في نار جهنم، وهو في صحيح مسلم : (14/ 27 – 30).(1/51)
وما استدل به من الخبر بأن أبا سفيان أهدى إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعيراً برته (1) من فضة فغير مشتهر، وهو إن كان فلا دلالة له في فعل أبي سفيان؛ إذ لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه تركه ثم ركبه، أو أركبه غيره، وإنما الحديث المشهور عندنا ما رواه محمد بن إسحاق بن يسار، عن عبد الله بن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: أهدى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هديه جملاً لأبي جهل في أنفه برة فضة ليغيظ به المشركين (2).
أخبرنا أبو عبد الله الحافظ: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا ابن عبد الجبار، حدثنا يونس بن بكير، عن ابن اسحاق، الحديث(3).
وكان علي بن المديني يقول: كنت أرى هذا من صحيح حديث ابن إسحاق، فإذا هو قد دلسه.
حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن محمد بن إسحاق قال: حدثني من لا أتهم عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس فإذا الحديث مضطرب.
__________
(1) البرة: حلقة تجعل في أنف البعير ليذل ويأتلف، انظر (( شرح الخشني)): (3/444).
(2) رواه أبو إسحاق في (( السيرة)): (3/444)، وأحمد في مسنده)): (1/234)، وأبو داود: (رقم 1749)، والطبري في (( المعجم الكبير)): (11/ 91/ 92).
(3) المستدرك: (1/467)، فقال: صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه.(1/52)
أخبرنا بهذه الحكاية محمد بن عبد الله الحافظ، أخبرني محمد بن صالح الهاشمي، حدثنا أبن جعفر السبيعي، حدثنا عبد الله بن علي المديني قال: حدثني أبي فذكرها. وقد روي الحديث عن جرير بن حازم، عن ابن أبي نجيح، ورواه محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن الحكم، عن مقسم عن ابن عباس، وليس بالقوي (1)، وقد أخبرنا محمد بن موسى بن الفضل، أخبرنا أبو عبد الله الصفار، حدثنا أحمد بن محمد المزني القاضي، حدثنا محمد بن المنهال، حدثنا يزيد بن زريع، حدثنا محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهدى جملاً لأبي جهل يوم الحديبية كان استلبه يوم بدر، وفي أنفه برة من فضة، وكذلك رواه أبو داود السجستاني في كتاب السنن عن محمد بن المنهال: برة من ذهب(2).
أخبرنا أبو علي الروذباري، أخبرنا أبو بكر بن داسة، حدثنا أبو داود فذكره، وقال: عام الحديبية، ولم يذكر قصة بدر(3).
وقد أجمعنا على منع تحلية الدابة بالذهب، ولم ندع فيه ظاهر الكتاب بإيجاب الزكاة فيه، وعده إذا لم يخرجها من الكنوز بهذا الخبر، وكذلك لا ندعه في الفضة، وليس في الحديث، إن ثبت في الفضة، صريح دلالة في المسألة، وبالله التوفيق والعصمة.
وقد حكى لي عن الشيخ أدام الله عزه أنه اختار جواز المكتوبة على الراحلة الواقفة، إذا تمكن من الإتيان بشرائطها مع ما في النزول للمكتوبة في غير شدة الخوف من الأخبار والآثار الثابتة، وعدم ثبوت ما روي في مقابلتها دون الشرائط التي اعتبرها.
__________
(1) صدوق سيئ الحفظ جداً، قال شعبة: ما رأيت أسوأ من حفظه، وقال ابن معين، ليس بذاك. انظر التقريب: (2/184). والمغني في الضعفاء: (2/603).
(2) سنن أبي داود: (2/145).
(3) انظر معالم السنن للخطابي: (2/151)، والخطابي تلميذ ابن داسة، وراوي نسخته.(1/53)
وقد قال الشافعي رضي الله عنه في الإملاء: (( ولا يصلي المسافر المكتوبة بحال أبداً إلا حالاً واحداً إلا نازلاً في الأرض، أو على ما هو ثابت على الأرض، لا يزول بنفسه مثل البساط والسرير والسفينة في البحر)) (1).
فلما وصلت الرسالة إلى أبي محمد قال: هذه بركة العلم ودعا للبيهقي، وترك إتمام ذلك التصنيف(2)، وقال في البيهقي: ما من شافعي إلا وللشافعي عليه منة إلا البيهقي فإنه ناصر مذهبه
(3).
فقه نصيحة البيهقي
بعد ذكر هذه النصيحة المطولة بتمامها نورد بعض دلالاتها كما يلي:
1- حوت هذه النصيحة معالم أدب التعامل بين العلماء، مع ذكر حسن بينهم، إلى مودة صادقة، إلى حرص على توالي التوفيق والخير، إلى دعاء بالتوفيق للمنصوح، بما يجعلها معلمة نصح وإرشاد للناصحين.
2- جرت النصيحة في مسائل علمية بين عالمين فحلين من فحول المذهب، وإمامين من أئمة ذلكم الزمان بكل أريحية وتقبل.
3- يلحظ في الرسالة حرص البيهقي على إصابة أبي محمد للصواب، وتحريه للدقة.
4- كان جواب النصيحة جميلاً، اعترافاً بفضل، ودعوة صالحة، والإقلاع عما نصح فيه.
5- لقد كانت النصيحة شهادة حق حفظت لهذين الإمامين، فما ذكر النصح إلا ذكرا معه، وما ذكر الوقوف عن الحق إلا تعلم الناس منهما.
6- النصيحة مملوءة تواضعاً وخضوعاً وذلاً للمؤمنين، وعدم تعال، ولا تهجم على شخص المنصوح وعلمه، وهذا من الأمور المفقودة عند الناصحين في زماننا هذا.
النصيحة السادسة
نصيحة الإمام الغزالي لأحد حكام عصره
الإمام أبو حامد الغزالي أحد علماء زمانه، ولقد نصح أهل زمانه عامة وخاصة، ولقد كان من نصحه رسالة بعث بها إلى أحد حكام عصره، وهو فخر الملك، قال فه فيها:
((
__________
(1) الطبقات: (3/210 – 217)، مجموعة الرسائل المنبرية.
(2) طبقات الشافعية للسبكي: (3/210 – 217).
(3) الطبقات: (3/210).(1/54)
اعلم أن هذه المدينة (مدينة طوس) خراباً بسبب المجاعات والظلم، ولما بلغ الناس توجهك من أسفرائين ودامغنان خافوا، وبدأ الفلاحون يبيعون الحبوب، واعتذر الظالمون إلى المظلومين واستسمحوهم، لما كانوا يتوقعون من إنصاف منك، واستطلاع للأحوال، ونشاط في الإصلاح.
أما وقد وصلت إلى طوس، ولم ير الناس شيئاً، فقد زال الخوف، وعاد الفلاحون والخبازون إلى ما كانوا عليه من الغلاء الفاحش والاحتكار، وتشجيع الظالمون، وكل من يخبرك من أخبار هذا البلد بخلاف ذلك، فاعلم أنه عدو دينك.
واعلم أن دعاء أهل طوس بالخير والشر مجرب، وقد نصح للعميد كثيراً، ولكنه لم يقبل النصيحة، وأصبح عبرة للعاملين، ونكالاً للآخرين، واعلم يا فخر الملك، أن هذه الكلمات لاذعة مرة قاسية لا يجرؤ عليها إلا من قطع أمله من جميع الملوك والأمراء، فاقدرها قدرها، فإنك لا تسمعها من غيري، وكل من يقول غير ذلك، فاعلم أن طمعه حجداب بينه وبين كلمة الحق)) (1).
فقه نصيحة الغزالي
هذه نصيحة الغزالي تتجلى فيها الدلالات التالية:
1- الحرص الشديد على إيصال الصورة الحقيقية للبلاد إلى فخر الملك دونما تقصير أو مداهنة أو نفاق.
2- القوة في الخطاب، وقد وقعت موقعها، وجاءت في موعدها.
3- الحرقة على أحوال الناس في زمانه من شدة المعاش، إلى مظالم تترى، مما ألزم الغزالي أن يبعث بهذه الرسالة تتضمن هذه النصيحة الصادقة.
الخاتمة
هذه كلمات في فقه النصيحة التي ألزمنا الله بها، وجعلها رسوله - صلى الله عليه وسلم - ديناً، وبايع عليها أصحابه، وعليها تعاقدت مواكب المؤمنين، ولانت جوانب الصالحين، وليس لكتابه فيه إلا الجمع والترتيب، ويرجو به حسن الثواب من الله سبحانه وتعالى، وأن يجعل العمل خالصاً لوجهه الكريم، ويرجو من نظر فيه تطبيق مفرداته على أخطائه إن كانت، إنه على ما يشاء قدير.
والحمد لله رب العالمين
__________
(1) رجال الفكر والدعوة: (ص 238 – 239)، نقلاً عن رسائل الغزالي بالفارسية.(1/55)
سلسلة بحوث وتحقيقات مختارة من مجلة الحكمة (22)
تحقيق
إياد بن عبد اللطيف بن إبراهيم القيسي
وقمتُ بمقابلتها على طبعة دار عالم الفوائد
بتحقيق : محمد عزير شمس
Almodhe1405@hotmail.com
almodhe@yahoo.com
l
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله وعبده الصادق الأمين، وعلى آله الطيبين، وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فإنه ليشرفني أن أقدم للقراء هذه المبحث المهم القيم من مباحث شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله، وهي رسالة صغيرة مما لم ينشر من كتابات هذا الإمام، متبعاً خطي من سار هذا الركب والذين بذلوا جهداً طيباً لإخراج درره وكنوزه.
فأهل الخير والصلاح يعلمون أن من أوجب الواجبات على العلماء وطلبة العلم العناية بتراث هذه الأمة مما أؤتمنوا عليه، هذا التراث الثمين الرصين الذي تركه لنا أئمة الإسلام الأماجد في شتى صنوف العلم وألوانه.
والحقيقة التي يدركها الكل أن كثيراً من هذا التراث لا يزال حبيس الخزائن، مكنوزاًً في خبايا المكتبات في البلاد العربية والإسلامية، بل في شتى أرجاء المعمورة.
والأمة اليوم بحاجة شديدة وماسة إلى هذا التراث والعناية به إخراجاً وتحقيقاً مبتعدة عن العبث والتلاعب، مما يفعله البعض، جرياً وراء الكسب المادي الرخيص.
ومن أجدر تلك المخطوطات بالرعاية والاهتمام، وأجودها بل وأكثرها نفعاً للمسلمين كتابات هذا الإمام لما حولته من علم محقق ونقل مصدق.(1/1)
وقد حظيت كتب هذا العلم – وبحمد الله ومنته – بعناية طيبة، فانبرى نفر ممن وفقه الباري عز وجل لخدمة شرعية ودينه لإخراج هذه الكنوز، من أمثال الشيخ محب الدين الخطيب، ومحمد رشيد رضا، ومحمد حامد الفقي، ومحمد رشاد سالم، وعبد الرحمن بن قاسم النجدي وغيرهم رحمهم اله رحمة واسعة، وأرجو أن يكون إنتسابي في خدمة هذا الشيخ من توفيق الله لي، ومنذ فترة ليست بالقصيرة يممت شطر كتب الإسلاف همتي؛ لنشرها وإخراجها والاعتناء بنسبتها إليهم ودفع ما ينسب لهم، وجمع شتات أقوالهم في الموضوع الواحد، وقد وفقت لنشر بعضها وأنا أطمع بالمزيد.
وأكرر ما أذكره دائماً أن الأمة بقدر ما هي بحاجة إلى كتابات معاصرة ميسرة فهي بحاجة أشد لنشر كتب علماءها السابقين، وليس إحياء مثل هذه المخطوطات ترفاً علمياً أو عملاً كمالياً.
وعلى صفحات مجلة الحكمة الغراء، أسطر ما وفقني مولاي جل وعلا لتحقيقه من كلام شيخ الإسلام وبقية السلف الكرام في الأموال السلطانية.
والله أسأل أن يجعل القصد خالصاً لوجهه الكريم وأن ينفع به من قرأه وأنا على يقين أن العبد إذا أخلص عمله لله كانت له هذه الأعمال ذخراً بعد الموت ونجاة من عذاب النار والقبر. والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
إثبات
نسبة هذه القاعدة لشيخ الإسلام
كل من بحث في مؤلفات شيخ الإسلام يدرك بأن حصر مؤلفاته أمر متعذر، وقد صرح تلامذته بذلك، فلا شيخ الإسلام ولا تلامذته يستطيعون جمعها لأسباب نذكر منها:
- سرعة كتابته وردائه خطه.
- أنه كان يملي للسائل ويعطيه إياه.
- عجز تلامذته عن النقل، كما ذكر ذلك ابن عبد الهادي في العقود الدرية.
- حرص البعض على اقتناء مؤلفاته وعدم نشرها.
- تفرق تلامذته ومحبيه بسبب المحن.
- إتلاف أعداءه شيئاً من مؤلفاته.(1/2)
هذه بعض الأسباب، كما أن الشيخ رحمه الله لم يكن من عادته أن يسمي مؤلفاته إلا نادراً وكتاباته رسائل وفتاوى وقواعد وردود ويبدأ بها بـ (فصل في ....) ( قاعدة في ....) وأحياناً يباشر في الموضوع أو يذكر سبب كتابته، وعندما يحيل عليه يقول: ( وقد بسطنا ذلك في موضع آخر ....) وهكذا.
ذكرت هذه المقدمة لأنه تعذر علي أن أجد في قوائم شيخ الإسلام اسماً لهذه القاعدة، وهذا لا يشكك أبداً في صحة هذه الرسالة ولي في إثباتها نقاطاً منها:
الأولى: تصريح ناسخ المخطوطة أنه نقلها من خط شيخ الإسلام.
الثانية: أسلوب شيخ الإسلام في الاستطراد والتفصيل، واستخدام ألفاظ وعبارات معينة، ومن عرف أسلوب شيخ الإسلام يميز كلامه من غيره.
الثالثة: كثير من مادة هذه القاعدة ذكر مثله أو قريباً منه في رسائله وفتاويه، وقد أشرت له في الهامش.
الرابع: إحالته على مواضع أخرى مثل:
قوله: ( ولهذه القاعدة فروع في جواباتي في الفتاوى..).
وقوله: ( بأسباب وليس هذا موضع تفصيل ذلك ...).
وقوله: ( وقد ذكرت هذه المسألة في هذا الموضع وذكرت فيها روايتين ..).
وقد أشرت بالهامش إلى أماكنها المحال عليها.
وبالجملة فمن قرأ مؤلفات شيخ الإسلام وأمعن النظر طويلاً مع بدائعه أدرك بسهولة ويسر أن هذه القاعدة من مؤلفات شيخ الإسلام رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته.
وصف
النسخة الأصلية
هذه النسخة من مصورات مركز المخطوطات العربية الكائن في الجامعة الأردنية بعمان، صورت من جامعة برنستون، رقم 1521، مجموعة جاريت، رقم الشريط 275، وهي في 6 ورقات من صفحة 24 – 30، في كل صفحة 19 سطراً، وكل سطر 11 كلمة تقريباً.
نسخت في 25 شعبن سنة 814هـ، وخطها واضح مقروء.
وهذه المجموعة من المخطوطات احتوت على رسائل لشيخ الإسلام منها:
صفحة 1- 5 لمحة المختطف بين الطلاق والحلف.
صفحة 6- 16 تفسير المعوذتين.
صفحة 24 – 30 رسالتنا هذه.(1/3)
صفحة 30 – 37 فتيا في الركعتين اللتين يقال فيهما سنة الجمعة.
صفحة 38 – 46 قاعدة في تخريب القرآن.
صفحة 46 – 52 مسائل في الإجازة ...
صفحة 53 – 60 فيمن أوقع العقود المحرمة ثم تاب.
كتب الناسخ أنه نقلها من نسخة المؤلف، أي شيخ الإسلام رحمه الله.
أما تاريخ النسخ فهو كما مثبت في نهاية النسخة في 15 شعبان سنة 814هـ أي بعد وفاة شيخ الإسلام بـ 86 سنة.
عملي في الرسالة
1- قام أحد الأخوة الأكارم بنسخ الرسالة ثم راجعتها وعدلت بعض المنسوخ، وقمت بضبط النص جهد الإمكان وتصحيح الخطأ.
2- خرجت الأحاديث والآثار وترجمت للأعلام المذكورين.
3- نقلت وأحلت في الهامش على كتب الشيخ لأثبت أن هذه الرسالة له، وإتماماً للفائدة.
وهذا وأني لأطمع أن أجد نسخاً خطية أخرى لأضبط النص أكثر فلا تزال تراودني في بعض الأماكن شكوكاً في ضبط النص والله الميسر.
وكتبه
إياد بن عبد اللطيف بن إبراهيم القيسي
23/صفر / 1420هـ
قاعدة
في الأموال السلطانية
فصل
نقلتها من النسخة التي نقلت من خط شيخ الإسلام ابن تيمية ... بعد أن قوبلت عليّ.
الأموالُ السلطانية والأموالُ العقدية من وقفٍ ونذورٍ ووصيةٍ ونحو ذلك، الأصلُ في ذلك مبنيُّ على شيئين:
أحدهما: أن يعمل المسلم بما دلَّ عليه كتابُ الله وسنةُ رسولِه وإجماعُ المؤمنين نصّاً واستنباطاً ويَعلم الواقعَ من ذلك في الولاةِ والرعيَّةِ؛ ليعلمَ الحقَّ من الباطل؛ ويعلمَ مراتبَ الحقِّ ومراتبَ الباطلِ ليستعملَ الحقَّ بحسب الإمكان وَيَدَعَ الباطلَ بحسب الإمكان، ويُرجِّحَ عند التعارضِ أحقَّ الحقَّينِ ويَدع أبطلَ الباطلَيْنِ.(1/4)
فنقول: إن الأموال المشتركة السلطانيةَ الشرعية ثلاثةٌ: الفَيء والمغانمُ والصدقةُ، وإذا صَنَّف العلماءُ كُتُبَ الأموالِ ككتاب " الأموال " لأبي عُبيد، ولحُمَيْد بن زَنْجويه (1)، و " الأموال " للخلاَّل (2) من جوابات أحمد، وغير ذلك فهذه هي الأموالُ التي يتكلَّمون فيها، وكذلك من العلماء مَن يَجمع الكلامَ فيها في الكُتُبِ المصنَّفةِ في رُبُع
الأموال، كما في " المختصر " للمُزَني (3) و " مختصرِ " الخِرَقي (4) وغيرِهما، كتابُ قَسْمِ الفَيء والغَنانم والصدقة، يَذكُرونَه قبلَ قَسْمِ الوصايا والفرائض، بعد قَسْم الوقوف ومنهم من يذكر قَسْمِ الصدقة في كتاب الزكاة، وقَسْمِ المغانم والفيء والجهاد، وكما هي طريقة كثير من الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرِهم، ومنهم من يذكر الخراجَ والفيءَ في كتاب الإمارة كما فعل أبو داود في السنن في كتاب الخراج والإمارة.
__________
(1) كتاب الأموال لأبي عبيد طبع أكثر من مرة بعد تحقيقات أقدمها بتحقيق محمد خليل هراس، وكتاب حميد بن زنجوبه طبع في ثلاث مجلدات بتحقيق الدكتور شاكر ذيب فياض.
(2) الخلال هو أحمد بن هارون أبو بكر الخلال: مفسر عالم بالحديث واللغة من كبار الحنابلة، من أهل بغداد جامع علم أحمد ومرتبه كما قال الذهبي، له مؤلفات شتى منها: تفسير الغريب وطبقات أصحاب أحمد والسنة، والعلل وغيرها، توفي سنة 311هـ.
(3) المزني هو إسماعيل بن يحي بن إسماعيل المزني أبو إبراهيم المصري، ولد سنة 175هـ صاحب الإمام الشافعي، زاهداً عالماً مجتهداً، قوي الحجة من مصفناته مختصره الذي طبع بهامش الأم للشافعي والجامع الكبير والجامع الصغير وغيرها توفي سنة 264هـ.
(4) الخرقي العلامة شيخ الحنابلة عمر بن الحسين بن عبد الله البغدادي الخرقي، صاحب المختصر المشهور، وشروحه أشهر من أن تذكر، منها المغني لابن قدامة وغيرها، توفي سنة 330هـ.(1/5)
وهذه الأموالُ الثلاثة ثابتةٌ مُستَخْرَجُها ومَصروفُها بكتابِ الله وسنةِ رسولِه، وأكثرُها مُجتَمعٌ عليه وفيها مواضعُ مُتنازعٌ فيها بين العلماء، فإن الله فرضَ الزكاةَ في الأموال وذكرَ أهلَها في كتابِه بقوله: { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ } (التوبة: من الآية60) والنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - قد بيَّن من ذلك ما أجملَه الكتابُ بما سَنَّه من نُصُبِ الزكاةِ وفَرائضِها وفَسَّرَ من مواضعِها، وعَمِلَ به خلفاؤُه من بعدِه، وكذلك المغانم قد أحلَّها الله بكتابِه وسنَّةِ رسولِه وقَسَمَها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وخلفاؤه الراشدون، وهي المالُ المأخوذُ من الكفّارِ بالقتال، وما أُخِذَ من المرتدّين والخارجين عن شريعةِ الإسلام فتفصيلُه ليس هذا موضعَ ذِكرِه، ويُسمَّى أيضاً فَيْئاً وأنفالاً.(1/6)
وكذلك الفَيءُ الخاصّ: وهو ما أُخِذَ من الكفّارِ بغيرِ قتالٍ، ذكره الله في سورة الحشر (1)، وجَرَى قَسْمُه في سنة رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وسنَّةِ خلفائه الراشدين على الوجهِ الذي جَرى عليه، ويَلتحِقُ به الأموالُ المشتركةُ التي لم تُؤخَذْ من الكفّار كالمواريثِ التي لا وارثَ لها، والأموالِ الضائعةِ التي لا يُعلَم لها مُستحِقٌّ معيَّنٌ، ونحو ذلك من الأموال المشتركة.
ثُمَّ خلفاءُ الرسولِ أهلُ العدل من العلماءِ والأمراءِ الجامعين بين العلم والإمارة مع العدل ـ كالخلفاءِ الراشدين ـ قد يجتهدون في كثيرٍ من هذه الأموالِ قبضاً وصَرْفاً، كما يجتهدون في الأحكامِ والولاياتِ والأعمالِ والعقوباتِ، واجتهادُهم سائغٌ، والأموالُ المأخوذةُ بمثل هذا الاجتهادِ سائغةٌ، وإن اعتقَد الرجلُ تحريمَ بعضِ ذلك فليس له أن يُنكِرَ على الإمام المجتهد في ذلك، ولا على من أخذَ باجتهادِه، كما لا ينُكِرُ على ما أعطاه الحاكمُ بحكمِه في الفرائضِ والوقوفِ ونحوِ ذلك، ولكن هل يُباحُ له بالحكم ما اعتَقَدَ تحريمَه قبل الحكم؟ على روايتين .
__________
(1) قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (28/ 274 – 276): " وأما الفيء، فأصله ما ذكره الله تعالى في سورة الحشر، التي أنزلها الله في غزوة بني النضير، بعد بدر، من قوله تعالى:{ وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ .... إلى قوله ....إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ } (الحشر: من الآية 6 – 10)". إلى أن قال: " ثم إنه يجتمع من الفيء جميع الأموال السلطانية التي لبيت مال المسلمين: كالأموال التي ليس لها مالك معين، مثل من مات من المسلمين وليس له وارث معين؛ وكالغصوب، والعواري والودائع: التي تعذر معرفة أصحابها، وغير ذلك من أموال المسلمين، العقار والمنقول. فهذا ونحوه مال المسلمين" اهـ.(1/7)
وكذلك يُخَرَّجُ في القَسْم، فإن قَسْمَ الإمامِ المالَ يَجِبُ عليه قَسْمُه هو كحكمِه، وأما قِسْمَتُه لغير ذلك فهي بمنزلةِ فِعْلِ الحاكم، كتزويج الأيامَى وبيعِ أموال اليتامِى، وهل فِعْلُ الحاكمِ حُكمٌ فلا يَسُوغُ نَقضُه ؟ أم هو كفعلِ غيرِه فيجوزُ نقضُه حتى يُنَفِّذَه أو غيرُه من الحكام؟ فيها وجهان.(1/8)
ثمَّّ إذا قلنا: هو حرامٌ عليه، فليس حراماً على غيرِه، ويَحِلُّ له ـ إذا أخذَه غيرُه بتأويلٍ ـ أن يأخذَه منه بابتياعٍ واتِّهاب (1) ونحوِ ذلك من العُقود، هذا هو الصواب؛ فإنَّ ما قَبَضَه المسلمُ بالتأويل أولَى بالإباحةِ مما يَقبِضُه الكفّار من أهلِ الحربِ والذِّمَّةِ بالتأويل. وإذا كان الكفّارُ فيما يعتقدون حِلَّه إذا أسلموا لو تحاكموا إلينا بعد القبضِ حَكَمنا بالاستحقاقِ لمن هو في يدِه، وحَلَّلْناه لمن قَبَضَه من المسلمين منه بمعاوضةٍ، وحَلَّلناه بعد إسلامِه؛ فالمسلم فيما هو متأوِّلٌ في حُكمِه باجتهادٍ وتقليد إذا قَبَضَه أولَى أن تَحِلَّ معاملتُه فيه، وأن يكونَ مباحاً له إذا رَجَعَ بعدَ ذلك عن القولِ الذي اعتقدَه أوَّلاً، وأن يُحكَمَ له به بعدَ القبضِ كما لو حَكَمَ له به حاكمٌ، وقد ذكرتُ هذه المسألةَ في غيرِ هذا الموضع وذكرتُ فيها روايتين أصحُّهما ذلك (2)؛ بناءًا على أنَّ حُكْمَ الإيجاب والتحريم لا يَثبُتُ في حق المكلف إلا بعدَ بلوغِ الخطابِ، وأنَّه لا (3)،
__________
(1) هكذا في الأصل، والإتهاب: قبول الهدية، كما في لسان العرب.
(2) ذكر ذلك شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى في قاعدة رائعة له في هذا الموضوع، يراجع المجموع (22/11 – 13).
(3) في المخطوط: ( وأنه يجب عليه قضاء) وهذا خطأ واضح والصحيح ما ذكرناه، يؤيد ذلك ما ذكره شيخ الإسلام في المجموع (22/11): " ولهذا لم يأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالقضاء لأبي ذر لما مكث مدة لا يصلي مع الجنابة بالتيمم، ولا أمر عمر بن الخطاب في قضية عمار بن ياسر، ولا أمر بإعادة الصوم من أكل حتى يتبين له العقال الأبيض من الأسود، ونظائره متعددة في الشريعة" أهـ..(1/9)
يَجِبُ عليه قضاءُ ما تَرَكَه من الواجبات بتأويلٍ، ولا رَدُّ ما قَبَضَه من المحرَّماتِ بتأويلٍ، كالكفَّار بعد الإسلام و أولَى فإنَّ المسلم في ذلك أّعذَرُ، وتنفيرُ الكفّارِ عن الإسلام كتنفيرِ أهلِ التأويل عن الرجوعِ إلى الحقّ والتوبةِ من ذلك الخطأ (1)، وهذا في الأنكحة والمعاوضات والمقاسمات، وكذلك ما أتلَفَه أهلُ البَغْي [على أهلِ العدلِ من النفوسِ والأموال , لا يَجِبُ عليهم ضمانُه في ظاهرِ المذهبِ ] (2)الموافق لقول جمهورِ العلماء وهو قولُ أبي حنيفة والشافعي في أحدِ قولَيْهِ (3)، كما أ جمعَ عليه السلفُ من الصحابة والتابعين قال الزهري: ( وَقعتِ الفتنةُ وأصحاب رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - متوافرون فأجمعوا: أن كلَّ دمٍ أو مال أو فرجٍ أُصِيْبَ بتأويل القرآن فإنه هَدَرٌ) (4)؛
__________
(1) قال ابن قدامة في " المغني" (8/113): " .. ولأن تضمينهم يفضي إلى تنفيرهم عن الرجوع إلى الطاعة فلا ...) أ.هـ.
(2) زيادة من نسخة محمد عزير شمس .
(3) قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (8/334): " وكذلك قتال البغاة المتأولين حيث أمر الله بقتالهم إذا قاتلهم أهل العدل فأصابوا من أهل العدل نفوساً وأموالاً لم تكن مضمونة عند جماهير العلماء: كأبي حنيفة ومالك والشافعي في أحد قوليه، وهذا ظاهر مذهب أحمد " اهـ.
(4) بهذا اللفظ ذكره شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (8/334) ، وذكره في (22/14) بنفس اللفظ مع اختلاف في آخره ولفظه " .. أصيب بتأويل القرآن فلا ضمان فيه – وفي لفظ – ألحقوهم في ذلك بأهل الجاهلية" والأثر ذكره ابن قدامة في المغني (8/13) بلفظ مختلف..(1/10)
وذلك لأنهم متأوِّلون وإن كان ما فعلوه حراماً في نفسِ الأمر، وفي أهل الرِّدَّة أيضاً (1)،
__________
(1) الكلام على أهل الردة ذكره شيخ الإسلام في المجموع (8/334) قال: " وكذلك المرتدون إذا صار لهم شوكة فقتلوا المسلمين، وأصابوا من دمائهم وأموالهم كما اتفق الصحابة في قتال أهل الردة أنهم لا يضمنون بعد إسلامهم ... " وفي المجموع (35/158): " فمذهب أكثرهم أن من قلته المرتدون المجتمعون المحاربون لا يضمن، كما اتفقوا عليه آخراً ..." أ.هـ.
وفي المستدرك على مجموع الفتاوى (5/131) نقل صاحب المستدرك عن الاختيارات (317) فقال: " ولا يضمن المرتد ما أتلفه بدار الحرب، أو في جماعة مرتدة ممتنعة، وهو رواية عن أحمد اختارها الخلال وصاحبه " أهـ.(1/11)
روايتان أصحُّهما أنهم لا يَضمَنُون كأهلِ الحرب (1)، كما أشارَ به عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - على أبي بكر - رضي الله عنه - لمَّا قالَ لأهل الردَّةِ: ( تَدُوْا قَتْلاَنا ولا نَدِيْ قَتْلاَكم، فقال عمر: لا؛ لأنهم قومٌ قُتِلُوا في سبيل اللهِ واستُشْهِدوا ) (2)،
__________
(1) تكلم شيخ الإسلام عن أهل الكفر والحرب في المجموع (8/334) وكذا في " الصارم المسلول" بتفصيل رائع مع أدلته (2/ 298 – فما بعدها).
(2) هذه الحادثة ذكرها شيخ الإسلام في المجموع (35/157) ولفظه: " قال لهم الصديق: اختاروا إما الحرب المجلية، وإما السلم المخزية، قالوا: يا خليفة رسول الله ! هذه الحرب المجلية عرفناها فما السلم المخزية؟ قال: تدون قتلانا، ولا ندي قتلاكم، وتشهدون أن قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار، ونقسم ما أصبنا من أموالكم، وتردون ما أصبتم من أموالنا، وتنزع منكم الحلقة والسلاح، وتمنعون من ركوب الخيل، وتتركون تتبعون أذناب الإبل حتى يرى الله خليفة رسوله والمؤمنين أمراً بعد ردتكم، فوافقه الصحابة على ذلك؛ إلا في تضمين قتلى المسلمين فإن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال له: هؤلاء قتلوا في سبيل الله فأجورهم على الله، يعني هم شهداء فلا دية لهم، فاتفقوا على قول عمر في ذلك" اهـ.
وهذا الأثر أخرجه الطبراني في الأوسط (1974) من طريق سفيان بن عيينة عن أيوب بن عائذ عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب، وأورده الذهبي في تاريخه (3/32) وابن كثير في البداية (6/359) من طريق الثوري عن قيس عن طارق، قال ابن كثير: رواه البخاري من حديث الثوري بسنده مختصراً، وأخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (8/574) من طريق آخر مرسلاً، والأثر صحيح ثابت ولفظ قول عمر في هذه الروايات : " فقال عمر: أما قولك: تدرون قتلانا، فإن قتلانا قتلوا على أمر الله لا ديات لهم " وفي رواية : " فقال عمر: يا خليفة رسول الله، القول كما قلت، غير أن قتلانا قتلوا في سبيل الله، لا دية لهم".(1/12)
دَلَّ على ذلك كتابُ الله في عَفْوِه عن الخطأ وسُنَّةُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - في قصّةِ أسامةَ بن زيدٍ وقصّةِ عمّار بن ياسرٍ وعديّ بن حاتم وأبي ذَرٍّ (1)،
__________
(1) كل هؤلاء الصحابة ذكرهم شيخ الإسلام في المجموع (22/11، 15). فأما حادثة أسامة فمعروفة في استحلاله قتل الذي قتله بعدما قال: لا إله إلا الله.
وأما عمار فقضيته مع عمر بن الخطاب في التيمم معروفة أيضاً.
وأما أبو ذكر فعندما مكث مدة لا يصلي مع الجنابة بالتيمم.
وأما عدي بن حاتم فحادثة في تبين العقال الأبيض من الأسود.
وكلها أحاديث صحيحة ثابتة.(1/13)
وغير ذلك، فما قَبَضَه المسلم بعَقْدٍ متأوِّلاً فيه مَلَكَه، ولو تَحاكَمَ اثنانِ في عَقْدٍ اعتقَدا صِحَّتَه بعد القبض فينبغي للحاكمِ أن يُقِرَّهما على ذلك التقابُضِ، ويجوز معاملةُ المسلم فيما قبضَه بهذا الوجه ولهذا أمرَ أحمد لمن يُعامِلُ السلطانَ في وقتِه أن يكون بينه وبينه آخر، وكلَّما بَعُدَ كان أجودَ؛ لأنَّ المباشرَ لهم قد يَستحِلُّ من المعاملةِ باجتهادٍ أو تقليدٍ ما لا يَستحِلُّه المستفتي، فإذا قَبَضَه المباشرُ بتأويله حَلَّ للمستفتي حينئذٍ. ونظيرُ هذا قولُ عمر في الخمر والخنزير (1): " [ وَلُّوهُم بَيْعَها وخُذُوا أثمانَها ولا تَبِيعُوها أنتم فإن المسلمَ لا يَحِلُّ له بيعُ الخمرِ والخنزيرِ ] (2) ويَحِلُّ له قَبْضُ ثمنِ ذلك ممن باعَه" بتأويله في دينه، فالمسلم الذي قَبَضَ بتأويلٍ أولَى، فهذا مأخذٌ لقولِ أحمد، وله مأخذٌ ثانٍ: أنَّ الظالمَ إذا باعَ المغصوبَ فالمشتري قَبَضَ عِوَضَ مالِه، والأموالُ التي بأيديهم مجهولةُ الملكِ، فالعِوَضُ فيها كالمعوَّض ، فالمستفتي قَبَضَ ممن قَبَضَ عِوَضَ مالِه ولم يَقبِضْ ممن قَبَضَ نفسَ مالِ الغير، ولهذه القاعدة فروعٌ في جواباتي في الفتاوى.
وما قَبَضَه الإمامُ من الحقوقِ ـ الزكَوات والخراج وغير ذلك ـ بتأويلٍ من اجتهادٍ أو تقليدٍ، وَجَبَتْ طاعتُه فيه كما يَجِبُ طاعةُ الحاكمِ في الحكم المتنازع فيه، فإذا طلبَ أخْذَ القيمةِ، أَو أَخْذَ ما فَضَلَ عن الفرائضِ ونحو ذلَك أُطِيعَ في ذلك وتَبْرَأ ذِمَّةُ المسلمِ بما يَدفَعُه من ذلك.
وهل يُجزِئُه ذلك إذا كان يعتقد أنه لا يُجزِئه لو فعلَه؟
__________
(1) أثر عمر أخرجه أبو عبيد في الأموال (رقم 129)، وابن أبي شيبة (10799) وسنده صحيح. وأفتى به أحمد ، راجع أحكام أهل الذمة للخلال (ص 174).
(2) زيادة من نسخة محمد عزير شمس .(1/14)
الصواب أنه يُجزِئُه كما ذكر أصحابُنا في الخلطة أنه لو أخذ القيمة أو الكبير عن الصغير، فإنه يَرجِعُ أحدُ الخليطينِ على الآخر بذلك، وإطلاقُهم يَقتضي أنه يُجزِيءُ .
ونظيرُ هذا من مسائل العبادات البدنية، الصلاةُ فإن المأمومَ يجب عليه متابعةُ الإمام فيما يَسُوغُ فيه الاجتهادُ، وإن كان المأموم لا يراه؛ كما لو قَنتَ الإمامُ في الفجر، أو زاد في تكبيرة الجنازة إلى سبعٍ؛ لكن لو أخلَّ في الصلاة بركنٍ أو شرطٍ في مذهب المأموم دون مذهبه فهذهِ فيها الخلاف، وهو يُشبِه إجزاءَ إخراجِ الزكاة من بعض الوجوه (1)، لكن إن كان الإمامُ لا يطلبُ منه الزكاةَ وإنما هو بَذلَها له فقبضها الإمام باجتهاده فهذا نظيرُ صلاتِه خلفَه، وإن كان الإمام يطلب منه الزكاة بحيث يجب طاعتُه، فهذا نظيرُ أن يُصلِّي خلفَه ما لا يُمكِنُه فِعلُه خلفَ غيرِه، كالجمعة والعيدين ونحوهما، ولهذا إذا قلنا لا تَصِحُّ الصلاةُ خلفَ الفاسق؛ فإنه يجب فعلُ هذه الصلوات خلفَه (2)، وفي الإعادة روايتان فالأمرُ بفعل الصلاةِ خلفَه وبالإعادةِ يُشبِه الأمرَ بإيتاء الزكاة وبالإعادة .
[ومع هذا فمذهب أهل السنة المأثور عن الصحابة أنه يُجزِئ دفعُ الزكاة] (3) إلى الإمام الذي يَجُورُ في قَسْمِها، فإجراؤها مع أخذِها بالاجتهاد، أولى وإن كان ربُّ المال لا يُجزِئُه صَرفُها في غيرِ المصارف، لكن المأثور عن الصحابة الأمرُ بدفع الزكاة إليهم وبالصلاةِ خلفَهم.
والمفسدةُ في الزكاةِ أشدُّ ,فإذا ساغ ذلك فهذا أسوغُ .
__________
(1) تكلم شيخ الإسلام عن دفع الزكاة للسلطان في المجموع (25/81) (28/ 267).
(2) تكلم شيخ الإسلام عن الصلاة خلف الفاسق والمبتدع والفاجر في مجموع الفتاوى (3/280 – 281) (3/286) (23/ 344 – 345) (23/ 358) (23/ 341).
(3) زيادة من نسخة محمد عزير شمس .(1/15)
والسلف لم يأمروا مَن صلى خلفهم بإعادة ولا من دفع الزكاة إليهم بإعادة، ولهذا قال أحمد في رسالته في " السنة " : ( أن من أعاد الجمعة فهو مبتدع) (1)، لكن المسألتان واحدة، فالمتفق عليه حجةٌ على المختلَف فيه، وتخرج في صورة الوفاقِ ما في صورة النزاع، فإن طائفة من السلف ذهبوا إلى أنه لا يدفع إليهم الزكاة كعبيد بن عمير (2)، وغيره، وكان عمر بن الخطاب وهو أمير المؤمنين - رضي الله عنه - الذي انتشرت الرعيةُ في زمنه وكثرت الأموالُ فعدلَ فيها صادقاً بارّاً راشداً تابعاً للحق فوضعَ الخراجَ على ما فتحَه عَنْوةً كأرضِ السوادِ ونحوِها، ووَضع ديوانَ العطاء للمقاتِلة وللذُّرِّيَّة، وكان عثمان بن حُنَيف (3)، على الخراج ,[ وزيد بن ثابت ـ فيما أظن ـ على ديوان العطاء وما زالت هذه التسميةُ معروفةً : " ديوان الخراج " ] (4)وهو المستخرَج من الأموالِ السلطانية، و " ديوان العطاء " كديوان الجيش وديوان النفقات ونحو ذلك.
ولِوُلاَةِ الأمور من الملوك ودُوَلِهم في ذلك عاداتٌ واصطلاحاتٌ، بعضها مشروعٌ وبعضُها مجتهَدٌ فيه وبعضُها محرَّم، كما للقضاة والعلماء والمشايخ منهم من هو من أهل العلم والعدلِ كأهل السنة فيتبعون النصَّ تارةً والاجتهادَ أُخرى، ومنهم أهل جهلٍ وظلمٍ كأهل البدعِ المشهورة من ذوي المقالات والعبادات، وذوي الجهل والجور من القضاة والولاة.
__________
(1) قال شيخ الإسلام في المجموع (3/286): " حتى إن المصلي خلف الفاجر اختلف الناس في إعادته الصلاة، وكرهها أكثرهم؛ حتى قال أ؛مد بن حنبل في رواية عبدوس: من أعادها فهو مبتدع ..." أ.هـ.
(2) التابعي عبيد بن عمير بن قتادة بن سعد، قاص أهل مكة، مات 68هـ.
(3) عثمان بن حنيف بن واهب الأنصاري ال,سي، أبو عمر المدني صحابي شهير، استعمله عمر على مساحة أرض الكوفة وعلي على البصرة قبل الجمل، مات في خلافة معاوية.
(4) زيادة من نسخة محمد عزير شمس .(1/16)
وكانت سيرة أبي بكر وعمر - رضي الله عنه - ما في غاية الاستقامة والسَّداد , بحيث لم يُمكِن الخوارجَ أن يَطعنوا فيهما، فضلاً عن أهل السنة، وأما عثمان وعلي - رضي الله عنه - فهما من الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين وسيرتهما سرة العمل والعدل والهدى والرشاد والصدق والبر؛ لكن فيها نوعٌ مجتهَدٌ فيه، والمجتهِد فيه إن أصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر وخطؤُه مغفورٌ له، فاجتهد الخلفاءِ أعظمُ وأعظمُ.
وأما عثمان فحصلَ منه اجتهادٌ في بعضِ قَسْمِ المال والتخصيص به، وفي بعض العقوبات هو فيها - رضي الله عنه - مجتهد والعلماءُ منهم من يَرى رأيَه ومنهم من لا يراه.
وعلي - رضي الله عنه - حصل منه اجتهادٌ في محاربة أهل القبلة، والعلماء منهم من يرى رأيَه ومنهم من لا يراه ، وبكل حالٍ فإمامتُهما ثابتةٌ , ومنزلتُهما من الأمة منزلتُهما؛ لكن أهل البدع الخوارج الذين خرجوا على عثمان وعلى علي جعلوا آرائهم وأهواءَهم حاكمةً على كتاب الله وسنة رسولِه وسيرةِ الخلفاءِ الراشدين؛ فاستحلُّوا بذلك الفتنةَ وسفكَ الدِّماءِ وغيرَ ذلك من المنكرات.
وأما مَن بعد الخلفاء الراشدين، فلهم في تفاصيل قبضِ الأموالِ وصَرْفِها طرقٌ متنوعة:
(القسم الأول) (1): منها ما هو حق منصوص موافق للكتاب والسنة والخلفاء الراشدين.
(القسم الثاني): ومنها ما هو اجتهادٌ يَسُوغُ بين العلماء، وقد يسقط الوجوب بأعذارٍ ويباحُ المحظورُ بأسباب، وليس هذا موضع تفصيل ذلك.
(القسم الثالث): ومنها ما هو اجتهادٌ لكن صدوره بسبب العدوان من المجتهد وتقصيرٍ منه شابَ الرأي فيه الهوى، فاجتمعت فيه حسنة وسيئة وهذا النوع كثير جدّاً.
(القسم الرابع): ومنه ما هو معصية محضة لا شبهة فيه، بتركِ واجبٍ أو فعلِ محرَّمٍ.
__________
(1) كلمة (القسم الأول والثاني والثالث والرابع) من وضعنا وليست من المخطوط.(1/17)
وهذه الأنواع الأربعة موجودة في عامة تصرفاتهم من: الحكم والقَسْم والعقوبات وغير ذلك، إما أن يوافق سنة الخلفاء، أو لا يوافق.
والذي لا يوافق: إما أن يكون معذوراً فيه كعذر العلماء المجتهدين أو لا يكون كذلك ,
والذي لا يكون معذوراً فيه عذراً شرعيّاً:
إما أن يكون فيه شبهة واجتهاد مع التقصير والعدوان.
أو لا يكون فيه شبهةٌ ولا تأويلٌ.(1/18)
ولم أعلم أن في الدولة الأموية وصدر الدولة العباسية وظفوا على الناس وظائف تُؤخذ منهم غير الوظائف التي هي مشروعة في الأصل، وإن كان التغيير قد وقع في أنواعِها وصفاتِها ومصارفِها، نعم كان السواد مخارجه عليه الخراج العُمَرِيّ، فلما كان في دولة المنصور (1) – فيما أظن – نقله إلى المقاسمة ودخل المقاسمة بعدل المخارجة، كما فعلَ النبي - صلى الله عليه وسلم - بخيبر، وهذا من الاجتهادات السائغة، وأما استئثارُ وُلاةِ الأمور بالأموالِ والمحاباةُ بها، فهذا قديم؛ بل قال النبي للأنصار: " إنكم ستَلْقُون بعدي أثرةً فاصبروا حتى تَلْقَوني على الحوض " (2). وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بحالِ الأمراء من بعده في غيرِ حديثٍ، وكان الخلفاءُ المُطَاعِين في أمرِ الحرب والقتال وأمرِ الخراج والأموال , ولهم عُمَّالٌ ونُوَّاب على الحروب، وعُمَّال ونُوَّاب على الأموال، ويُسمُّون هذه ولاية الحرب وهذه ولاية الخراج، ووزراؤهم الكبار ينوبون عنهم في الأمرين إلى أثناء الدولة العباسية بعد المئة الثالثة، فإنه ضَعُفَ أمرُ خلافةِ بني العباس وأمرُ وزرائهم، بأسباب جَرتْ وضُيِّعَتْ بعضُ الأموال، وعَصَى عليهم قومٌ من النوّاب بتفريطٍ جرى في الرجال والأموال، فذكر ثابت بن سنان بن ثابت بن قُرَّة(3)
__________
(1) المنصور هو أبو جعفر عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس، أخو السفاح عمره 63 سنة خلافته من 136 – 158هـ.
(2) الحديث رواه البخاري (3163)، مسلم (132، 139) عن ابن مسعود.
(3) هو ثابت بن سنان بن ثابت بن قرة الحراني الصابئ، أبو الحسن: طيب مؤرخ خدم الخليفة الراضي بالله العباسي، ثم المقتضي بالله والمستكفي والمطيع وألف تاريخاً، ذكر فيه ما كان في أيامه، ابتدأه بسنة 295هـ وختم بوفاته سنة 365هـ وله كتاب في أخبار الشام ومصر، وهو خال هلال بن المحسن الصابئ..(1/19)
فيما علمتُه من التاريخ: أنه في سنة أربع وعشرين وثلاثمائة فوَّض الراضي الخليفةُ (1) الإمارةَ ورئاسةَ الجيش وأعمالَ الخراج وتدبيرَ شأن المملكة إلى مُقدَّمٍ اسمُه محمد بن رائق (2)، وجعلَه أمير الأمراء وأمرَ بأن يُخطَب له على سائر منابر المملكة، ولم يكن قبل ذلك شيء من ذلك.
قال: وبَطَلَ قبل ذلك أمرُ الوزارة ولم يكن الوزير ينظر في شيء من النواحي ولا الدواوين، ولا كان له اسمٌ غيرُ اسمِ الوزارة فقط، وأن يحضرَ في أيام المواكب دار السلطان بسوادٍ وسيفٍ ومنطقةٍ، ويقفَ ساكناً، وصار ابنُ رائقٍ وكاتبُه ينظران فيما كان الوزراءُ ينظرون فيه، وكذلك كلُّ من تقلَّد الإمارةَ بعد ابن رائق، وصارت أموالُ النواحي تُحمل إلى خزائن الأمراء فيأمرون ويُنفِقون منها ويُطلِقون لنفقاتِ السلطان ما يريدون، وبطلت بيوتُ الأموال، ثم إنه بعد ذلك حدثَتْ دولة بني بُوية (3)،
__________
(1) الراضي بالله أبو العباس أحمد بن عبد المقتدر بن المعصم بن طلحة بن المتول عمره 32 سنة خلافته من سنة 322 – 329هـ.
(2) هو أبو بكر محمد بن رائق أمير من الدهاة الشجعان له شعر وأدب، كان أبوه من مماليك المعتضد العباسي ولي أمر شرطة بغداد للمقتدر سنة 317هـ ثم إمارة واسط والبصرة، ولاه الراضي إمرة الأمراء والخراج ببغداد سنة 324هـ وأمر أن يخطب له على المنابر، مات مقتولاً سنة 330هـ.
(3) دولة بني بويه نسبة إلى بويه بن فناخسرو والملقب بأبي شجاع، أسس إبنه علي الدولة البوهية في بلاد فارس قرب همذان سنة 330هـ، وسيطروا على بغداد سنة 334هـ وأبقوا الخليفة العباسي كرمز شكلي فحسب، فقد استبد البوهيون بالسلطة دون الخليفة العباسي، فاستولوا على جميع أملاكه وذخائره وخصصوا له راتباً يومياً وكان لهم كل شيء وجعلوا وظيفة أمير الأمراء وراثية في الأسرة البوهية.
وهناك خلاف، هل البوهيون شيعة زيدية أم اثنا عشرية إمامية؟
والبوهيون لم يتورعوا عندما دخلوا بغداد أن يكتبوا على مساجدها: لعن معاوية بن أبي سفيان، ولعن من غصب فاطمة رضي الله عنها فدكا – يعنون أبا بكر – ومن منع أن يدفن الحسن عند قبر جده عليه السلام، ومن نفى أبا ذر الغفاري – أي عثمان – ألخ من الكتابات التي تعبر عن تشيع ورفض واضحين في عقيدة هؤلاء، ولم يكتفوا بهذا بل أمروا النسا في عاشوراء بإغلاق محلاتهم وأن يلبسوا قبية سوداء، والنساء يخرجن منثورات الشعر، مسودات الوجوه، مشقوقات الثياب نائحات، لاطمات الوجوه، وفي الثامن عشر من ذي الحجة أمروا أن يظهر الناس في أحسن لباس احتفالاً بغدير خم، وسياسة التشيع هذه سهلت للدعوة الفاطمية من النشاط في بلاد العراق وفارس، انتهت الدولة البوهية سنة 447هـ.(1/20)
الأعاجم وغَلبوا على الخلافة، وازداد الأمرُ عما كان عليه وبَقُوا قريباً من مئةِ عام إلى بعد المئة الرابعة بنحو من ثلاثين سنة أو نحوها، حدثت دولة السلاجقة (1)، الأتراك، وغلبوا على الخلافة أيضاً وكان أحياناً تقوى دولةُ بني العباس بحسن تدبير وزرائهم كما جرى في وزارة ابن هبيرة (2)، بما يفعلونه من العدل وإتباع الشريعة، وينهضون به من الجهاد، وكان ملوك النواحي يعطونهم السّكة والخطبة وطاعةً يسيرة تُشبِه قبول الشفاعة، فأما الولايات وإمارة الحروب وجباية الأموال وانفاقها، فكانوا خارجين فيه على أمر الخلفاء، وكانت سيرة الملوك تختلف: فمنهم العدل المتبع للشريعة ذي القوة والأمانة المقيم للجهاد والعدل كنور الدين محمود بن زنكي(3)، بالشام والجزية ومصر، ومنهم الملك المسلم المعظِّم لأمرِ الله ورسولهِ كصلاح الدين(4)،
__________
(1) السلاجقة حكموا محل البوهيين من سنة 447هـ إلى سنة 590هـ وشهد عهد طغرلبك وألب أرسلان وملكشاه استقراراً وإحياء للجهاد ضد البيزنطيين وإنعاشاً لحركة المدارس للرد على الزندقة والباطنية.
(2) هو يحي بن هبيرة الدوري الذهلي الشيباني أبو المظفر من كبار الوزراء في الدولة العباسية ولد سنة 499هـ كان حنبلياً عالماً بالفقه والأدب، ولد في العراق وكان يقال عنه: ما وزر لبني العباس مثله، قام بشئون الدولة حكماً وسياسة وإدارة أفضل قيام، توفي ببغداد سنة 560هـ، وله مؤلفات منها الإفصاح عن معاني الصحاح مطبوع وغيرها مخطوط.
(3) محمود بن زنكي نور الدين الملقب بالملك العادل، ملك الشام ومصر وديار الجزيرة أعدل ملوك زمانه وأفضلهم، كان من المماليك (جده من موالي السلجوقيين) ولد سنة 511هـ توفى سنة 569هـ وقبره بالمدرسة النورية.
(4) هو يوسف بن أيوب بن شادي المعروف بصلاح الدين الأيوبي بطل الإسلام ومن سادات المجاهدين أشهر من أن يترجم له، ولد سنة 532هـ وتوفى سنة 589هـ وقبره بالشام معروف..(1/21)
ومنهم غير ذلك أقسامٌ يطول شرحُها.
وهكذا هم في وضع الوظائف، فمن الملوك والوزراء من يُسرِف فيها وضعاً وجبايةً، ومنهم من يَستَنُّ بما فُعِل قبله ويجري على العادة، فيجري هو والذي قبلَه على القسم الرابع، ومنهم من يجتهد في ذلك اجتهاداً ملكيّاً يُشبِه القسم الثالث، ومنهم من يقصد اتباعَ الشريعة وإسقاطَ ما يخالفُها كما فعلَ نور الدين لما أسقطَ الكُلَفَ السلطانية المخالفة للشريعة التي كانت توجد بالشام ومصر والجزيرة وكانت أموالاً عظيمةً جداً وزاد الله البركات وفَتحَ البلادَ وقَمعَ العدوَّ بسبب عدلِه وإحسانِه.
ثمَّ هذه الوظائف السلطانية التي ليس لها أصلٌ في سنةِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وسنةِ خلفائه الراشدين ولا ذكرها أهل العلم المصنِّفون للشريعة في كتب الفقه من الحديث والرأي هي حرامٌ عند المسلمين، حتى ذكر ابن حزمٍ إجماعَ المسلمين على ذلك فقال(1)، ومع هذا فبعض من وضعَ بعضَها، وَضَعه بتأويل واجتهاد علمي ديني، واتفق على ذلك الفتوى والرأي من بعض علماء ذلك الوقت، ووُزَرائِه، فإنه لمّا قامت دولة السلاجقة ونصروا الخلافة العباسية وأعادوا الخليفة القائم إلى بغداد بعد أن كان أمراءُ مصر من أهل البدع أولئك الروافض قد قهروه وأخرجوه من بغداد، وأظهروا شعارَ البدع في بلاد الإسلام وهي التي تُسمَّى فتنة البساسيري(2)،
__________
(1) كذا في الأصل , ولم ينقل المؤلف النّص . وانظر " مراتب الإجماع " (ص121) من نسخة محمد عزير شمس .
(2) البساسيري هو أرسلان بن عبد الله أبو الحارث البساسيري تركي الأصل، كان من مماليك بني بويه قلده القائم العباسي مناصب، وخطب له في المنابر في العراق وعظم أمره وهابته الملوك، خرج على القائم وأخرجه من بغداد وخطب للمستنصر الفاطمي صاحب مصر الرافضي سنة 450هـ، وأخذ له بيعة القضاة والإشراف ببغداد قسرا، تغلب عليه أعوان القائم من عسكر السلطان طغرالبك فقتلوه والحمد لله سنة 451هـ.
وقد ذر شيخ الإسلام فتنة البساسيري في المجموع (35/137-138).(1/22)
في نصف المئة الخامسة حدثت أمورٌ: منها بناء المدارس والخوانق(1)، ووقفُ الوقوف عليها وهي المدارس النظاميات بالعراق وغيره، والرباطات كرباط شيخ الشيوخ وغير ذلك، ومنها ذهاب الدولة الأموية من المغرب وانتقال الأمر إلى ملوك الطوائف.
وصنّف أبو المعالي الجويني(2)، كتاباً للنظام سماه ”غياث الأُمَم في التياث الظُّلم” وذكر فيه قاعدة في وضع الوظائف عند الحاجة إليها للجهاد، فإن الجهاد بالنفوس والأموال واجب، بل هو من أعظم واجبات الدين، ولا يمكن حصولُ الجهاد إلا بأموالٍ تُقَام بها الجيوش، إِذْ أكثرُ الناس لو تُرِكُوا باختيارهم لما جاهدوا بأنفسهم ولا بأموالهم، وإن تُرِكَ جمعُ الأموال وتحصيلُها حتى يحدث فتقٌ عظيم في عدوّ أو خارجي كان تفريطاً وتضييعاً، فالرأي أن تُجمعَ الأموالُ ويُرصَدَ للحاجة.
__________
(1) جمع خانقاه: حكمة فارسية (خانكاه) ومعناها بيت، ثم جعلت علما على المكان الذي يتخلى فيه الصوفية لعبادة الله تعالى الفرق بينها وبين الرباط، أن الرباط لفقراء الصوفية، أما الخوانق فهو على شكل مدرسة يعين لها شيخ ومدرسون فلا يدخلها إلا من قبل فيها، انظر (الخطط) (2/414) ومنادمة الأحلال (272).
(2) هو عبد الملك بن يوسف بن عبد الله الجويني النيسابوري أبو المعالي إمام الحرمين ولد في سنة 419هـ وتوفى سنة 478هـ، ومؤلفاته الورقات في أصول الفقه والإرشاد، الكافية في الجدل وغيرها من الكتب المطبوعة.
أما كتابه ”غياث الأمم بالتياث الظلم” ويسمى بالغياثي فقد نشره مصطفى حلمي وفؤاد عبد المنعم أحمد وطبع طبعة جيدة بتحقيق الدكتور عبد العظيم ديب.(1/23)
وطريق ذلك أن توظَّف وظائفُ راتبةٌ لا يَحصُل بها ضررٌ، ويَحصُل بها المصلحة المطلوبةُ، من إقامة الجهاد، والوظائف الراتبة لابدّ أن تكون على الأمور العادية فتارةً وظَّفوها على المعاوضات والأملاك مثل أن يضعوا على البائع والمشتري في الدواب والحبوب والثمار وسائر الأطعمة والثياب مقداراً إما على مقدار المبيع وإمّا على مقدار الثمن، ويضعوا على الجعالات والإجارات، ويضعوا على العَقار من جنس الخراج الشرعي، وكان ما وضعوه تارةً يُشبِه الزكاة المشروعة من كونه يُوجَد في العام على مقدار، وتارةً يُشبِه الخراج الشرعي، وتارةً يُشبِه ما يُؤخَد من تجار أهل الذمة والحرب.(1/24)
ومنهم من يَعتدي فيضع على أثمان الخمور ومهور البغايا ونحو ذلك مما أصلُه محرَّم بإجماع المسلمين، ومنهم من يضع على أجور المغاني من الرجال والنساء فإن الأثمان والأجور تارةً تكون حلالاً في نفسها، وإنما المحرَم الظلم فيها كغالب الأثمان والأجور، وتارةً تكون في نفسها حراماً كأثمان الخمور ومُهُور البغايا، وكان بعد موت الملك العادل (1)، بالشام قد وضعه ابنه(2)، ذلك على دار الخمر والفواحش فَبَقِيَ غيرَ ممنوعٍ من جهة سلطان لما له عليه من الوظيفة وكان ذلك سنة خمس عشرة وست مئة وفي ذلك الوقت ظهرت دولة المغل جنكسخان(3)، بأرض المشرق واستولى على أرض الإسلام، وظهرت النصارى بمصر في مملكة الأفرون ، وظهرت بدعٌ في العلماء والعُبَّاد كبحوث ابن الخطيب(4)، وجست(5)،
__________
(1) هو الملك العادل أبو بكر بن أيوب أخو صلاح الدين وأصغر منه بسنتين، ولد سنة 534هـ وتوفى سنة 615هـ.
(2) المقصود حفيده.
(3) جنكيز خان هو تيموجين بن يسوكاي بهادر، ولد سنة 545هـ، ومعنى جنكيز خان (الملك القاهر) استولى على الصين وبكستان الصينية وأقام دولة، وكان له مراسلات مع ملك خوارزم علاء الدين محمد بن تكش ولكن علاء الدين قتل رسله فقرر جنكيز خان الانتقام وقضى على الدولة الخوارزمية وعاد إلى موطنه ومات سنة 625هـ ومن أولاده امتد الغزو المغولي وسقطت بغداد وغيرها من بلاد الإسلام.
(4) ابن الخطيب هو الرازي فخر الدين محمد بن عمر بن الحسن التميمي البكري ولد سنة 544هـ وتوفى سنة 606هـ، من أئمة الأشاعرة الذين خلطوا المذهب الأشعري بالاعتزال والفلسفة.
(5) جست: كلمة فارسية معناها البحث وقد أصبحت تطلق على نوع من أنواع الخلاف، هامش وفيات الأعيان (4/257)..(1/25)
العميدي(1)، وتصوّف ابن العربي وخِرقة اليونسية وبعض الأحمدية والعَدَوية(2)، وغير ذلك وحقيقة الأمر في ذلك أن هذا من القسم الثالث أو الرابع فإن هذا إذا صدر باجتهادٍ، فهو في الأصلِ مشوبٌ بهوىً ومقرونٌ بتقصيرٍ أوعدوان، وإن التقصير أو العدوان صادرٌ أيضاً من أكثر الرعية، فإن كثيراً منهم أو أكثرهم لو تُرِكوا لما أدَّوا الواجبات التي عليهم من الزكوات الواجبة والنفقات والواجبة والجهاد الواجب بالأنفس والأموال، كما أنه صادرٌ من كثير من الولاة أو أكثرهم بما يقضونه من الأموال بغير حق ويَصرِفونه في غير مَصرِفِه، ويتركون أيضاً ما يجب من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
فجمعُ هذه الأموال وصرفُها هي من مسائلِ الفتن، مثل الحروب الواقعة بين الأمراء بآراءٍ وأهواءٍ، وهي مشتملة على طاعاتٍ ومعاصِي وحسناتٍ وسيئاتٍ، وأمورٍ مجتَهدٍ فيها تارةً بهوىً وتارةً بغير هوىً اجتهاداً اعتقاديّاً أو عمليّاً، نظير الطرائق والمذاهب من الاعتقادات والفتاوى والأحكام وأنواع الزهادات والعبادات والأخلاق، وما في ذلك من مسائل النزاع بين أهل العلم والدين في الأصول والفرع والعبادات والأحوال، فإنها أيضاً مشتملةٌ على حسناتٍ وسيئاتٍ وطاعاٍت ومعاصي وأمورٍ مجتهدٍ فيها، تارةً بهوىً وتارةً بغير هوىً اجتهاداً اعتقاديّاً أو عمليّاً .
__________
(1) هو محمد بن محمد العميدي السمرقندي أبو حامد كان إماما في فن الخلاف والجدل وخصوصا "الجست" وهو نوع من أنواع الخف والجدل وهو – أول من أفرده بالتصنيف، كان يمزجه بخلاف المتقدمين، توفى سنة 615هـ.
(2) الأحمدية وهم البطائحية فرقة صوفية منحرفة تنتهي إلى الشيخ أحمد الرفاعي.
والعدوية فرقة صوفية منحرفة تنتمي إلى الشيخ عدي بن مسافر.
واليونسية فرقة إباحية نسبة إلى يونس القيسي أو القيسني. وفي كل هؤلاء تكلم شيخ الإسلام وبالأخص الأحمدية فله معهم مناظرات.(1/26)
فالواجب أن ما شهد الدليلُ الشرعي بوجوبه أو تحريمه أو إباحتِه عُمِل به، ثم يُعامَل الرجال والأموالُ بما تُوجِبُه الشريعةُ فيُعفَى عما عَفَتْ عنه، وأن تضمن تركَ واجبٍ أو فعلَ محرَّمٍ، ويُثنَى على ما أثنت عليه وإن كان فيه سيئات ومفاسد مرجوحةً.
وهذه المشتبهات في الأقوال والأعمال والأموالِ داخلةٌ في الحديث الذي هو أحد مباني الإسلام حديث النعمان بن المشهور في الصحاح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: الحلال بَيِّنٌ والحرام بَيِّنٌ وبين ذلك أمورٌ مشتبهات لا يَعلمهنَّ كثيرٌ من الناس فمن تَرك الشبهاتِ استبرأ لدينِه وعِرضِه ، ومن وقع في الشبهاتِ وَقَعَ في الحرام كالراعي يَرعَى حولَ الحِمَى يُوشِك أن يَقَع فيه، ألا وإن لكلِّ مَلِكٍ حِمىً وإن حِمَى الله محارمُه ألا وإن في الجسد مُضْغَةً إذا صَلَحَتْ صَلَحَ لها سائر الجَسَد وإذا فَسَدتْ فَسَدَ لها سائر الجسد ألا وهي القلب(1) فإنه ضمن هذا الحديث الأكل والشرب من الطيبات والعمل الصالح , كما أمر به في قوله : { كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } (المؤمنون: 51) إذ أمر به المرسلين والمؤمنين كما في حديث أبي هريرة(2)
__________
(1) الحديث متفق عليه .
(2) وحديث أبي هريرة هو : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " يا أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين , فقال : { يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } وقال { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } ثم ذكر الرجل يطيل السفر , أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء , يا رب , يا رب , ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام , فأنى يستجاب له " رواه مسلم (1015) ..(1/27)
المخرج في صحيح مسلم , وذكر فعل المعروف وترك المنكر الذي هو صلاح القلب والجسد والحلال والحرام كما قال تعالى { يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ } (الأعراف: 157) وذكر أن الشبهات لا يعلمها كثير من الناس فدلَّ ذلك على أنَّ من الناس من يعلمها فمن تبيَّنت له الشبهاتُ لم يبقَ في حقِّه شبهةٌ , و من لم تتبيَّنْ له فهي في حقِّة شبهةٌ , إذ التبيُّن والاشتباه من الأمور النسبية فقد يكون الذي متبيناً لشخصٍ , مشتبهاً على الآخر .
وبيَّن أن الحَزْمَ تركُ الشبهات والشبهات قد تكون في المأمور به وقد تكون في المنهي عنه فالحزْمُ في ذلك الفعلُ وفي هذا التركُ فإذا شك في الأمر هل هو واجبٌ أو محرَّمٌ ؟ فهنا هو المشكلُ جداً كما في الاعتقادات فلا يحكم بوجوبه إلاّ بدليل و لا نحرمه إلا بدليل فقد لا يكون واجباً ولا محرماً وإن كان اعتقاداً إذْ ليس كلُّ اعتقادٍ مطلقٍ أوجبَه الله على الخلق بل الاعتقاد إمّا صواب وإمّا خطأ وليس كلُّ خطأ حرَّمَه الله بل قد عفا الله عن أشياءَ لم يُوِجْبها ولم يُحرِّمْها والله أعلم .
تم بحمد الله وعفوه وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم .
في خامس عشر من شعبان المكرم من سنة أربع عشرة وثمان مئة , ( بمدرسة أبي عمر قدَّس الله تعالى روحه ونوَّر ضريحه ) (1)
__________
(1) زيادة من نسخة محمد عزير شمس .(1/28)
سلسلة بحوث وتحقيقات مختارة من مجلة الحكمة (14)
كشف الستارة
عن صلاة الإستخارة
بقلم : أبي عمرو عبدالله بن محمد الحمادي
قام بنشره
أبو مهند النجدي
Almodhe1405@hotmail.com
almodhe@yahoo.com
بسمِ اللهِ الرَّ حمنِ الرَّحيمِ
مقدمة
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شري له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله - صلى الله عليه وسلم - .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } (آل عمران:102).
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً } (النساء:1).
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً } (الأحزاب:70- 71).
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
فهذه رسالة لطيفة، وصفحات أنيقة، فيها مسائل عزيزة، حول سنة مهمة في حياة المسلم، لا يستغنى عنها، لأنها تشمل كثيراً من أمور حياته اليومية، أعني صلاة الاستخارة.(1/1)
فنظراً لأهمية هذه العبادة ومكانتها المرموقة بين السنن، وعلاقتها الوطيدة بالعقيدة، قررت أن أفردها في رسالة مستقلة، سهلة التداول والحمل والتناول، تحتوي على مسائلها المهمة والخافية، مع توضيحها بأسهل عبارة، وأوجز إشارة دون تنطع ولا غزارة، فيسهل على كل مسلم فهمها، وتطبيقها في كل شؤون حياته.
وسميتها بعون الله وتيسيره: كشف الستارة عن صلاة الاستخارة وعلاقتها بالعقيدة الصحيحة المختارة.
* مادة البحث: حيث إن الرسالة قليلة المحتوى، رفيعة المستوى، حصرت بحثي فيها في أبحاث ومطالب ومسائل جزأتها كما يلي:
* المقدمة: وقد احتوت على خطبة الحاجة، وسبب تأليف الرسالة واسمها وعنوانها.
* المبحث الأول: وفيه تعريف الاستخارة لغة وشرعاً، وأهميتها والأدلة على مشروعيتها.
وقيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: في تعريف الاستخارة لغة وشرعاً.
المطلب الثاني: في أهمية الاستخارة في حياة المسلم وتوصية العلماء بها.
المطلب الثالث: فيه بيان نص دعاء ودليل الاستخارة من السنة وتخريجه وشرح معانيه الغريبة.
أولاً: نص دعاء الاستخارة.
ثانياً: تخريج النص.
ثالثاً: شرح معاني غريب الحديث.
المطلب الرابع: في مسائل حول صلاة الاستخارة من حديث جابر السابق.
المسألة الأولى: حكم صلاة الاستخارة.
المسألة الثانية: فيم تكون الاستخارة؟
المسألة الثالثة: ما الحكمة من تشبيه صلاة الاستخارة بالسورة من القرآن؟
المسألة الرابعة: متى تشرع صلاة الاستخارة؟ أو متى يبدأ وقتها؟
المسألة الخامسة: هل لابد من تخصيص ركعتين لصلاة الاستخارة أم تحصل مع النوافل؟
المسألة السادسة: من عزم على الاستخارة بعد الانتهاء من صلاة النافلة وأراد أن يأتي بدعاء الاستخارة بعد الصلاة فهل يستخير أم يعيد الصلاة؟
المسألة السابعة: أين يقال دعاء الاستخارة أقبل السلام أم بعده؟
المسألة الثامنة: هل هناك آيات أو سور معينة مخصوصة لصلاة الاستخارة؟(1/2)
المسألة التاسعة: هل تجوز قراءة صلاة الاستخارة من كتاب أم لابد من حفظه.
المسألة العاشرة: هل تجزئ صلاة الاستخارة بعد الفريضة؟
المسألة الحادية عشرة: ما حكم صلاة الاستخارة في أوقات النهي؟
المسألة الثانية عشرة: ماذا يفعل المستخير بعد الاستخارة؟
المسألة الثالثة عشرة: هل يصح الفصل بين الصلاة ودعاء الاستخارة؟
المسألة الرابعة عشرة: ما حكم تكرار صلاة الاستخارة؟
المسألة الخامسة عشرة: من لم يتمكن من الصلاة فهل يجوز له أن يقتصر على دعاء الاستخارة فقط دون أن يصلي ركعتين قبله؟
المسألة السادسة عشرة: ما الحكمة من تقديم صلاة ركعتين على دعاء الاستخارة؟
* المبحث الثاني: في الجمع بين الاستخارة والاستشارة، وبيان خصال من يلجأ إليه المشورة.
* المبحث الثالث: في بيان وذكر بعض الاستخارات المبتدعة.
* المبحث الرابع: في الاستخارة وعلاقتها بالتوحيد من جميع الجهات، وبيان ذلك تفصيلاً.
وفيه خمسة مطالب:
المطلب الأول: تحقيق التوحيد سبب للنصر، وفشو الشرك والبدع سبب للذل والهزائم.
المطلب الثاني: بيان تحريم إتيان الكهان والعرافين والمنجمين.
المطلب الثالث: في بيان معنى التطير وكيفية منافاته للتوحيد وصورته في الوقت الحاضر.
المطلب الرابع: في صلة الاستخارة بالتوحيد مباشرة.
* المبحث الخامس: حول بيان ضعف بعض الأحاديث في الاستخارة.
هذا ما تيسر جمعه والحديث عنه حول هذه السنة العظيمة، أسأل الله سبحانه الإخلاص في القول والعمل وأن يحيي بها سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - ، وأن ينفع بها المسلمين بمنه وكرمه.
المبحث الأول
فيه تعريف الاستخارة لغة وشرعاً
وأهميتها والأدلة على مشروعيتها
وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول
في تعريف الاستخارة لغة وشرعاً
1- الاستخارة لغة: " طلب الخيرة في الشيء. وخار الله لك؛ أي أعطاك ما هو خير لك، واستخار الله: طلب منه الخيرة والاختيار: الاصطفاء وكذلك التخير، ويقال: استخر الله يخر لك"(1/3)
(1).
2- والاستخارة في الاصطلاح الشرعي: طلب الاختيار؛ أي طلب صرف الهمة لما هو المختار عند الله والأولى، بالصلاة والدعاء الوارد في الاستخارة " (2).
وبعبارة أوضح هي عبارة عن دعاء معين ورد في السنة يقوله المسلم ويدعو به أو يأتي به بعد صلاة ركعتين من غير الفريضة، إذا عزم على فعل شيء ما من زواج أو تجارة أو سفر أو نحو ذلك، فيطلب من الله سبحانه وتعالى أن يختار له الخير ويعينه عليه، وييسره له، ويطلب منه سبحانه أن يصرفه عما يريد إذا كان فيه شر له، وسيأتي ذكر هذا الدعاء ومزيد من التفصيل فيه.
المطلب الثاني
في أهمية الاستخارة في حياة المسلم وتوصية العلماء بها
إن الإنسان مخلوق ضعيف، بحاجة إلى إعانة الله تعالى في أموره كلها؛ وذلك لأنه لا يعلم الغيب، فلا يدري أين موطن الخير والشر فيما يستقبله من حوادث ووقائع؟
لذا كان من حكمة الله سبحانه ورحمته بعباده أن شرع لهم هذا الدعاء، لكي يتوسلوا بربهم ويستغيثوا به في توجيه السير نحو الخير والنفع.
وإن العبد المسلم على يقين لا يخالطه شك أن تدابير الأمور وصرفها بيد الله سبحانه وتعالى وأنه يقدر ويقضي بما شاء، في خلقه.
قال تعالى: { وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ - وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ - وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } (القصص:68-70).
قال العلامة محمد بن أحمد القرطبي المالكي – رحمه الله - : (( قال بعض العلماء: لا ينبغي لأحد أن يقدم على أمر من أمور الدنيا حتى يسأل الله الخيرة في ذلك، بأن يصلي ركعتين صلاة الاستخارة)) (3).
__________
(1) لسان العرب (4/259) مادة خير.
(2) الموسوعة الكويتية (2413).
(3) الجامع لأحكام القرآن (13/202).(1/4)
ولقد فهم السلف الصالح هذا المعنى فكانوا يستخيرون ربهم في أمورهم كلها.
ومن الأدلة على ذلك قصة زينب رضي الله عنها في زواجها من النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقد استخارت ربها في ذلك.
عن أنس رضي الله عنه قال: (( لما انقضت عدة زينب قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لزيد: ( فاذكرها علي). قال زيد: فانطلقت فقلت: يا زينب أبشري أرسلني إليك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذكرك فقالت: ما أنا صانعة شيئاً حتى أتسأمر ربي، فقامت إلى مسجدها ونزل القرآن. وجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدخل بغير أمر)) (1).
ومعنى قول زينب: (( حتى أستأمر)) أي: حتى أستخير.
ومعنى قوله: (( إلى مسجدها)) أي: موضع صلاتها من بيتها.
ومعنى قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( اذكرها علي) أي: اخطبها لي من نفسها (2).
قال محي الدين النووي الشافعي رحمه الله مبيناً ما في هذا الحديث من حكم وفقه قال: (( وفيه – أي في الحديث – استحباب صلاة الاستخارة لمن هم بأمر، سواء كان ذلك الأمر ظاهر الخير أم لا)) (3).
وقال النووي أيضاً: (( ولعلها استخارت لخوفها من تقصير في حقه - صلى الله عليه وسلم - )) (4).
والنووي رحمه الله قال هذه العبارة الأخيرة ليرفع الإشكال الذي قد يرد وهو أن الاستخارة تكون في الأمر الذي لا يعرف أهو خير أم شر؟ وأما زواج المرأة من النبي - صلى الله عليه وسلم - فخير لها، أي خيره ظاهر فكيف تستخيره؟ فبين ذلك رحمه الله.
هكذا كان حرصهم رضي الله عنهم على تطبيق هذه السنة في حياتنا، ونتوكل على ربنا سبحانه، فهو نعم المولى ونعم الوكيل.
ولقد أحسن من قال:
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب النكاح، باب: زواج زينب بنت جحش ونزول الحجاب برقم (3488)، والنسائي واللفظ له (6/387) برقم (3251).
(2) حاشيتا السندي والسيوطي على سنن النسائي (6/387 – 388).
(3) شرح مسلم للنووي (9/229 – 230).
(4) شرح مسلم للنووي (9/229 – 230).(1/5)
توكل على الرحمن في كل حاجة ... أردت فإن الله يقضي ويقدر
إذ ما يرد ذو العرش أمراً بعبده ... يصبه وما للعبد ما يتخير
وقد يهلك الإنسان من وجه حذره ... وينجو بحمد الله من حيث يحذر(1).
المطلب الثالث
في بيان نص دعاء ودليل صلاة الاستخارة
من السنة وتخريجه وشرح معانيه الغريبة
* أولاً: نص دعاء الاستخارة:
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: ( كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كما يعلمنا السورة من القرآن، يقول: (إِذَا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِالْأَمْرِ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الْفَرِيضَةِ ثُمَّ لِيَقُلْ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلَا أَقْدِرُ وَتَعْلَمُ وَلَا أَعْلَمُ وَأَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ اللَّهُمَّ فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ هَذَا الْأَمْرَ ثُمَّ تُسَمِّيهِ بِعَيْنِهِ خَيْرًا لِي فِي عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ قَالَ أَوْ فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي فَاقْدُرْهُ لِي وَيَسِّرْهُ لِي ثُمَّ بَارِكْ لِي فِيهِ اللَّهُمَّ وَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ شَرٌّ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي أَوْ قَالَ فِي عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ فَاصْرِفْنِي عَنْهُ وَاقْدُرْ لِي الْخَيْرَ حَيْثُ كَانَ ثُمَّ رَضِّنِي بِهِ) (2).
* ثانياً: تخريج النص:
__________
(1) ذكر هذه الآيات القرطبي في تفسيره (13/202).
(2) ونص الحديث نقلته من كتاب صحيح الكلم الطيب لشيخ الإسلام ابن تيمية، بتحقيق العلامة الألباني (ص 47 – 48) لأنه أسهل في الحفظ والفهم.(1/6)
الحديث: أخرجه أحمد في مسنده (11/520) (4642) والبخاري في عدة مواضع من صحيحه، فقد أخرجه في كتاب التهجد باب: ما جاء في التطوع مثنى مثنى، برقم (1162) ، الفتح (3/61 – 62) وأخرجه أيضاً في الدعوات، باب: الدعاء عند الاستخارة، برقم (6382)، الفتح (11/218، 219).
وأخرجه أيضاً في كتاب التوحيد، باب: قول الله تعالى: { قُلْ هُوَ الْقَادِرُ } (الأنعام: من الآية65) برقم (7390)، الفتح (13/464).
وأخرجه أبو داود في سننه، في كتاب الصلاة، باب: في الاستخارة، برقم (1583) (2/91).
وأخرجه الترمذي في سننه، في أبواب الوتر، ما جاء في صلاة الاستخارة، برقم (480) (2/345).
وأخرجه النسائي في سننه، في كتاب النكاح، باب: كيفية الاستخارة، برقم (3253) (3/3389). وأخرجه أبو يعلى في مسنده (2/411) (2082)، وابن حبان في صحيحه (3/169) (887).
* ثالثاً: شرح معاني غريب الحديث:
وبعد
أن بينا بعض من أخرجه لكي تطمئن النفوس على صحة الحديث نشرع الآن في بيان ما يشكل من بعض معانيه الغريبة.
قوله: ( إذا هم)، أي إذا قصد.
قوله: ( بالأمر) أي: بأمر من الأمور.
قوله: ( فليركع ركعتين): أي: ليصل، وقد يذكر الركوع ويراد به الصلاة كما يذكر السجود ويراد به الصلاة، من قبل ذكر الجزء وإرادة الكل.
قوله: ( من غير الفريضة) يعني: النوافل: أي تكون تلك الركعتان من النافلة.
قوله: ( أستخيرك ) أي: أطلب الخير، أن تخير لي أصلح الأمرين؛ أي تختاره، لأنك عالم به وأنا جاهل.
قوله: ( وأستقدرك): أي: أطلب أن تقدرني على أصلح الأمرين، إذ أطلب منك القدرة على ما نويته، فإنك قادر على إقداري عليه، أو أن تقدر لي الخير بسبب قدرتك عليه.
قوله: ( تسميه باسمه) أي: تسمي أمرك وحاجتك التي قصدت الاستخارة لها في هذا الموضع.
مثلاً تقول: اللهم إن كنت تعلم أن هذا السفر خير لي، أو هذا الزواج، أو هذا النوع من التجارة، أو هذه السيارة، ونحو ذلك مما تريد.(1/7)
قوله: ( في ديني ومعاشي وعاقبة أمري وعاجله وآجله) يعني: إن كان فيه خير يرجع لديني ولمعاشي وعاقبة أمري. وإنما ذكر عاقبة الأمر، لأنه رب كل شيء يهمه الرجل يكون فيه خير في ذل الحال، ولكن لا يكون خيراً في آخر الأمر، بل ينقلب إلى عكسه، فزاد - صلى الله عليه وسلم - في الدعاء بقوله: ( وعاقبة أمري).
قوله: ( فاقدره) بضم الدال، أي: اقض لي به وهيئه.
قوله: (فاصرفه عني)، أي: لا تقض لي به، ولا ترزقني إياه.
قوله: ( واصرفني عنه) أي: لا تيسر لي أن أفعله وأقلعه من خاطري، أي لا أهتم به ولا أهمه بعد ذلك.
قوله: ( حيث كان) أي: اقض لي بالخير حيث كان الخير.
قوله: (ثم رضني به) أي: اجعلني راضياً بذلك، أي: بخير المقدور (1).
المطلب الرابع
في بيان مسائل حول صلاة الاستخارة
من حديث جابر السابق
المراد بهذه المسألة: بيان الحكم الشرعي للاستخارة، فهل هي واجبة أم سنة؟
لا خلاف بين العلماء أن صلاة الاستخارة سنة وليست بواجبة، ومعنى ذلك أن من عزم على فعل أمر ما كسفر أو زواج أو تجارة يسن له أن يصلي الاستخارة قبل أن يفعل ولا يجب عليه، ولكن لا يترك هذه السنة لأن فيها خيراً كثيراً، والله يعلم الغيب والعبد لا يعلمه. فالحاصل أنها سنة مع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " فليركع ركعتين" ومع ذلك حكم العلماء أنها سنة.
قال العلامة زين الدين العراقي الشافعي – رحمه الله - : ( ولم أر من قال بوجوب الاستخارة) (2).
__________
(1) انظر شرح ما سبق في: فتح الباري (11/220 – 223)، نيل الأوطار (3/88 – 90). عون المعبود (4/277)، شرح الطيبي على المشكاة (4/1245)، مرقاة المفاتيح (3/401 – 406)، عارضة الأحوذي (2/262 – 265)، تحفة الأحوذي (2/482 – 484)، العلم الهيب في شرح الكلم الطيب (ص 232 – 334).
(2) فتح الباري (11/221 – 222).(1/8)
وقال الحافظ ابن حجر الشافعي – رحمه الله - : ( فكأنهم فهموا أن الأمر فيه للإشارة فعدلوا به عن سنن الوجوب، ولما كان مشتملاً على ذكر الله والتفويض إليه كان مندوباً والله أعلم) (1).
وقال محي الدين النووي الشافعي – رحمه الله -: ( صلاة الاستخارة سنة) (2).
وقال العلامة عبد العزيز ابن باز – رحمه الله -: ( صلاة الاستخارة سنة) (3).
ومما يدل على أنها سنة حديث الأعرابي الذي أتى يسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يجب عليه من الفرائض، وهو الحديث الذي من مسند طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه قال: ( جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أهل نجد ثائر الرأس نسمع دوي صوته ولا نفقه ما يقول، حتى دنا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فإذا هو يسأل عن الإسلام، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( خمس صلوات في اليوم والليلة) فقال: هل علي غيرهن؟ قال: (لا، إلا أن تطوع، صيام شهر رمضان ) قال: هل علي غيره؟ فقال: ( لا إلا أن تطوع) قال: وذكر له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الزكاة، فقال: هل علي غيرها؟ قال: ( لا، إلا أن تطوع). قال: فأدبر الرجل وهو يقول: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص منه. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (أفلح إن صدق) (4).
والشاهد من الحديث قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : (خمس صلوات في اليوم والليلة).
فدل على أن الفرض من الصلاة انحصر في هذه الفروض الخمس، وما سواها نفل.
__________
(1) فتح الباري (11/221 – 222).
(2) المجموع (3/546).
(3) مجموع فتاوى ابن باز (3/546).
(4) أخرجه البخاري في كتاب الإيمان برقم (46 ) الفتح (2/142)، ومسلم واللفظ له في كتاب الإيمان برقم (100) مسلم – النووي (1/119 – 120)، وأبو داود في سننه (391) (1/104)، والنسائي برقم (457) (1/246).(1/9)
قال بدر الدين العيني الحنفي – رحمه الله - : ( فأما الاستخارة فدل على عدم وجوبها للأحاديث الصحيحة الدالة على انحصار فرض الصلاة في الخمس) (1).
وقال العراقي: (( ودل على عدم وجوب الاستخارة ما دل على عدم وجوب صلاة زائدة على الخمس في حديث: هل علي غيرها؟ قال: ( لا إلا أن تطوع) )) (2).
ولكن هذا الدليل يصلح للاستدلال به على عدم وجوب ركعتي الاستخارة، فهو صرف الأمر في حديث جابر إلى الندب، وبقي الأمر في الدعاء على ظاهره يدل على الوجوب يحتاج إلى صارف.
وبين الحافظ رحمه الله كيف أن الدعاء مندوب أيضاً وليس بواجب وذلك كما في قوله السابق قبل قليل وهو قوله: (( فكأنهم فهموا أن الأمر فيه للإشارة فعدلوا به عن سنن الوجوب، ولما كان مشتملاً على ذكر الله والتفويض إليه كان مندوباً والله أعلم)) (3) اهـ.
ومعنى كلام الحافظ رحمه الله أن الصارف للأمر شيئان.
الأول منهما: أن العلماء فهموا أن الأمر في قوله: " فليركع ركعتين من دون الفريضة ثم يقول" فهموا أن الأمر فيه من باب المشورة، لا من باب الإلزام، أي: يشير عليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الأفضل، وذلك كأن ننصح رجلاً ما يريد وجهة ما فنقول له: اذهب من ذاك الطريق الغربي فهو أيسر لك، فالمشورة هنا واضحة أنها للإلزام والوجوب؛ فكأن النبي - صلى الله عليه وسلم - يشير عليهم وينصحهم بالاستخارة.
والثاني منهما: حيث إن الأمر هنا في باب الدعاء، وأصل الدعاء من باب الندب والاستحباب كان هذا كذلك.
وحيث إن هذا الدعاء فيه تفويض الأمر لله، وترك الأمر له كان ندباً والله أعلم.
المسألة الثانية: فيم تكون الاستخارة؟
__________
(1) عمدة القارئ (7/233).
(2) الفتح (11/221).
(3) الفتح (11/222).(1/10)
تكون الاستخارة في الأمور المباحة كالزواج والتجارة المباحة وغيرها. وكذلك تكون الاستخارة في المندوبات إذا حصل للمرء بينها تعارض، كأن يحتار الرجل بين أمرين فيختار الأصلح منهما والأقرب نفعاً ثم يستخير الله فيه. ولا تكون الاستخارة في ترك المحرمات والمكروهات، فلا يستخير أحد هل يسر أو لا؟
كما أنها لا تكون في الواجبات وصنائع المعروف، مما هو معروف خيره ونفعه، فلا يستخير أحد هل يصلي الظهر و لا؟ لأن ذلك واجب عليه، فهي إذن في الأمور التي لا يدري العبد وجه الصواب والخير والنفع فيها، أما الواجبات وصنائع المعروف كالعبادات فلا حاجة للاستخارة فيها.
وقد يستخير الإنسان في شيء يتعلق بالعبادة، وذلك مثل السفر للحج، فيستخير الله هل يسافر هذه السنة؛ وذلك لاحتمال عدو أو فتنة؟ واختيار الرفقة هل يرافق فلاناً أم لا(1).؟
قال الحافظ ابن حجر: ( قال ابن أبي جمرة: فإن الواجب والمستحب لا يستخار في فعلهما، والحرام والمكروه لا يستخار في تركهما، فانحصر في الأمر المباح، وفي الأمر المستحب إذا تعارض منه أمران أيهما يبدأ به ويقتصر عليه ) (2).
ولا تحتقرن شيئاً في الأمر فاستخر الله في الأمر الصغير والكبير، والعظيم والحقير مما يشرع الاستخارة فيه (فرب حقير يترتب عليه الأمر العظيم) (3).
المسألة الثالثة: ما الحكمة من تشبيه صلاة الاستخارة بالسورة من القرآن؟
المراد بهذه المسألة معرفة الحكمة التي قال لأجلها جابر رضي الله عنه: ( كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعلما الاستخارة في الأمور كلها كالسورة من القرآن).
__________
(1) انظر هذه المسألة في: كشاف القناع (1/419)، الأذكار للنووي (ص 112)،عمدة القارئ (7/233 – 234)، نيل الأوطار (3/88)، تحفة الأحوذي (2/482)، غاية المرام (5/528)، الفتح الرباني (5/52).
(2) فتح الباري (11/220).
(3) فتح الباري (11/220).(1/11)
فشبه جابر رضي الله عنه تعليمهم النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاة الاستخارة والدعاء كما كان يعلمهم السورة من القرآن. وقيل: ( وجه التشبيه عموم الحاجة في الأمور كلها إلى الاستخارة كعموم الحاجة إلى القراءة في الصلاة) (1).
أي كما أنه يحتاج إلى قراءة القرآن في الصلاة، فكذلك يحتاج إلى الاستخارة في الحياة.
هذا ( فيه إشارة إلى الاعتناء التام البالغ بهذا الدعاء، وهذه الصلاة لجعلها تلوين للفريضة والقرآن) (2).
ولعل هناك حكمة أكبر ومعنى أغزر في هذا التصوير والتشبيه وهي: عدم جواز الابتداع في صلاة الاستخارة وهيئتها بشكل عام، وألفاظ دعائها بشكل خاص، فلا تدخل الألفاظ المستحدثة، والأفعال المبتدعة فيها، ويجب الاقتصار على ما ورد النص به من قول وفعل.
فيكون المعنى والحكمة: كما أنه لا يجوز التغيير في القرآن عموماً ومطلقاً، فلا يزاد فيه، ولا ينقص منه، كذلك صلاة الاستخارة وألفاظها لا يزاد فيها ولا ينقص منها كالسورة من القرآن تماماً، والله أعلم.
وهذا من معجزاته - صلى الله عليه وسلم - ، فقد حذر من ذلك بإشارة لطيفة، ومع ذلك فقد استحدثت اليوم أنواع مبتدعة وجديدة للاستخارة، كاستخارة الكف والفنجان والأبراج وغير ذلك كما سيأتي طرحه في مبحث مستقل من هذه الرسالة.
__________
(1) الفتح (11/220).
(2) المصدر السابق.(1/12)
قال العلامة محمد بن عبد الله بن الحاج المالكي رحمه الله وهو يتحدث عن عدم جواز إضافة شيء إلى الاستخارة ليس منها، فبعد أن منع ذلك ونبه عليه قال: ( فيا سبحان الله ! صاحب الشرع اختار لنا ألفاظاً منتقاة جامعة لخيري الدنيا والآخرة حتى قال الراوي للحديث في صفتها على سبيل التخصيص والحض على التمسك بألفاظها وعدم العدول إلى غيرها ( كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كما يعلمنا السورة من القرآن ) والقرآن قد علم أنه لا يجوز أن يغير ولا يزاد فيه ولا ينقص منه، وإذا نص فيه على الحكم نصاً لا يحتمل التأويل لا يرجع لغيره) (1). اهـ.
المسألة الرابعة: متى تشرع صلاة الاستخارة؟ ( أو متى يبدأ وقتها؟):
المراد بهذه المسألة: تحديد الوقت الذي تشرع في الاستخارة.
يبدأ وقت الاستخارة عند العزم على فعل شيء من الأشياء، والإقدام على أمر من الأمور المباحة.
ويدل على ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث السابق من رواية جابر رضي الله عنه حيث جاء فيه: ( إذا هم ) ؛ أي: إذا قصد وعزم.
وقيل: إذا ورد على قلبه الخاطر للفعل أو فعل الشيء فإنه يستخير فيظهر له ببركة الدعاء والصلاة ما هو خير له.
ولكن الاستخارة عند العزم على الأمر والتصميم على فعله وقبل الشروع أرجح؛ لأن الخواطر التي ترد على القلب كثيرة، فلو استخار في كل ما بدا له وخطر على قلبه لضاعت عليه أوقاته(2).
ومما ينبغي التنبه له أن المستخير حال استخارته ينبغي أن يكون خالي الذهن غير متعص لأمر بعينه؛ أي: لا يميل لهواه ورغبته، بل يتجرد من ذلك ويكل الأمر لله سبحانه ليظهر له الخير فيما عز وأراد.
المسألة الخامسة: هل لابد من تخصيص ركعتين لصلاة الاستخارة أم تحصل مع النوافل؟
__________
(1) المدخل (4/37 – 38).
(2) الفتح (11/220).(1/13)
المراد بهذه المسألة: هل إتيان دعاء الاستخارة دبر النوافل وذلك كالرواتب مثلاً؛ كأن يصلي المرء راتبة الظهر، وهي: أربع ركعات قبل الظهر، وركعتان بعدها أو راتبة المغرب وهي ركعتان بعد صلاة المغرب، فلو صلى المسلم راتبة المغرب واستخار بعدها، فهل ذلك كاف ومجزئ أم لابد من أن يصلي ركعتين خاصتين لكي يستخير بعدهما؟
الصحيح الراجح في هذه المسألة – والله أعلم – أنه إن صلى نافلة من النوافل مع نية الاستخارة أجزأه ذلك بإذن الله تعالى، ولكن عليه أن يعقد العزم والنية على أنه يريد بهذه الصلاة النافلة والاستخارة معاص، قبل الشروع في النافلة.
قال محي الدين النووي – رحمه الله - : (والظاهر أنها تحصل بركعتين من السنن الرواتب، وبتحية المسجد وغيرها من النوافل).
وقال زين الدين العراقي – رحمه الله- : ( إن كان همه بالأمر قبل الشروع في الراتبة ونحوها ثم صلى من غير نية الاستخارة وبدا له بعد الصلاة الإتيان بدعاء الاستخارة فالظاهر حصول ذلك).
وقال الحافظ ابن حجر – رحمه الله -: ( إن نوى تلك الصلاة بعينها وصلاة الاستخارة معاً أجزأ بخلاف ما إذا لم ينو) (1).
والدليل على جواز ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( من غير الفريضة) فهذا المنطوق مفهومه أنها تحصل بعد النافلة، أما بعد الفرض فلا تجزئ، فلو صلى فريضة الصبح – مثلاً – واستخار بعدها لم يكن عمله صحيحاً.
المسألة السادسة: من عزم على الاستخارة بعد الانتهاء من صلاة النافلة، وأراد أن يأتي بدعاء الاستخارة بعد الصلاة فهل يستخير أم يعيد الصلاة؟
المراد بالمسألة: من صلى نافلة من النوافل ثم عرض له طلب الاستخارة لأمر من الأمور وهو ممن يقصد الاستخارة بعد صلاة ركعتين، فهي يكفيه صلاة النافلة التي صلاها أم يعيد صلاة أخرى؟
__________
(1) الأذكار: (ص 112)، نيل الأوطار (3/88)، الفتح (11/221).(1/14)
الظاهر – والله أعلم – أنه يعيد ركعتين لأجل الاستخارة غير التي صلاها منذ قليل؛ وذلك لأنه لابد من وجود الإرادة والنية؛ أي نية الاستخارة قبل الشروع أو الانتهاء من الصلاة؛ وذلك لعموم حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى).
قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله - : ( ويبعد الإجزاء لمن عرض له الطلب بعد فراغ الصلاة لأن ظاهر الخبر أن تقع الصلاة والدعاء بعد وجود إرادة الأمر) (1).
المسألة السابعة: أين يقال دعاء الاستخارة قبل السلام أم بعده؟
المقصود بهذه المسألة: أن دعاء الاستخارة الذي جاء في حديث جابر رضي الله عنه يقال بعد السلام والانتهاء من الصلاة أم قبل السلام؟
الأمر في هذه المسألة فيه سعة، فمن ذكر الدعاء بعد التشهد وقبل السلام فذلك جائز وهو ترجيح شيخ الإسلام أحمد بن عبد السلام بن تيمية رحمه الله حيث قال: ( يجوز الدعاء في صلاة الاستخارة وغيرها قبل السلام وبعده، والدعاء قبل السلام أفضل؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أكثر دعائه كان قبل السلام، والمصلي قبل السلام لم ينصرف، فهذا أحسن، والله تعالى أعلم) (2).
ومن أتى بالدعاء بعد السلام – أيضاً – جاز له ذلك، والأرجح والأقرب والله أعلم أن الدعاء يكون بعد السلام والانتهاء من الصلاة، وذلك ظاهر في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - كما مر في حديث جابر حيث قال: ( فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم يقول: اللهم إني أستخيرك ...).
فقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( ثم يقول) يدل على تأخير الدعاء عن الصلاة؛ لأن ثم في اللغة تفيد الترتيب مع التراخي، أي: يصلي أولاً ثم يذكر الدعاء.
قال الشوكاني – رحمه الله -: ( والحديث – أي حديث جابر – يدل على مشروعية صلاة الاستخارة والدعاء عقيبها، ولا أعلم في ذلك خلافاً) (3).
__________
(1) فتح الباري (11/221).
(2) مجموع فتاوى شيخ الإسلام (23/177).
(3) نيل الأوطار (3/89).(1/15)
وقال الحافظ ابن حجر: (هو ظاهر في تأخير الدعاء عن الصلاة، فلو دعا به أثناء الصلاة احتمل الأجزاء، ويحتمل الترتيب على تقديم المشروع في الصلاة قبل الدعاء فإن موطن الدعاء في الصلاة السجود أو التشهد) (1).
وقال الشيخ العلامة عبد العزيز ابن باز رحمه الله لما سئل عن موضع دعاء الاستخارة ومتى يكون قال: (والدعاء فيها – أي في صلاة الاستخارة – يكون بعد السلام كما جاء بذلك الحديث الشريف) (2).
وقال فضيلة الشيخ محمد بن عمر بازمول حفظه الله تعالى: (محل الدعاء – دعاء الاستخارة – يكون بعد السلام لقوله عليه الصلاة والسلام: ( إذا هم أحدكم بالأمر؛ فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل.....) إذ ظاهره أنه بعد الركعتين؛ يعني بعد السلام) (3).
وبأرجحية وقوع دعاء الاستخارة بعد السلام أفتى أعضاء اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء – وفق الله القائمين عليها – برئاسة الشيخ الوالد عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى حيث ورد على اللجنة العلمية للإفتاء السؤال الآتي:
(س): هل دعاء الاستخارة يكون قبل التسليم أم بعد التسليم والخروج من الصلاة؟
(ج): (دعاء الاستخارة يكون بعد التسليم من صلاة الاستخارة) (4).
المسألة الثامنة: هل هناك آيات أو سور معينة مخصوصة لصلاة الاستخارة؟
لا يوجد دليل ما يدل على قراءة سور أو آيات معينة مخصوصة بصلاة الاستخارة؛ لذا فالصحيح في المسألة أن المسلم إذا صلى الاستخارة يقرأ الفاتحة في الركعتين ثم ما تيسر له من القرآن. فيقرأ ما يحفظ من كتاب الله دون تحديد أو تقييد لشيء معين فيه، فهذا هو الصواب. وإن استحب بعض أهل العلم آيات أو سور معينة فلا يلتفت إليه؛ لأنه لا يجوز تقييد ما أطلقه الشرع، ولا تخصيص العموم إلا بدليل، والاستحباب حكم شرعي يحتاج لدليل.
__________
(1) الفتح (11/222).
(2) مجموع فتاوى ابن باز (2/236).
(3) بغية المتطوع (ص 106).
(4) فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء (8/162).(1/16)
قال العلامة زين الدين العراقي – رحمه الله -: ( لم أجد في شيء من طرق أحاديث الاستخارة تعيين ما يقرأ فيها) (1).
ولما سئل العلامة عبد العزيز بن باز رحمه الله عن صفة صلاة الاستخارة قال: ( وصفتها أنها تصلى ركعتين مثل بقية صلاة النافلة، يقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب وما تيسر من القرآن ثم يدعو) (2).
تأمل قوله – رحمه الله-: ( فاتحة الكتاب وما تيسر من القرآن) فإنه في غاية الأهمية والحكمة.
وقال أعضاء اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء برئاسة العلامة عبد العزيز بن باز رحمه الله وقد سئلوا: هل تقرأ سور أو آيات معينة في صلاة الاستخارة قالوا: ( أما القراءة فيها بالفاتحة وما تيسر بعدها من القرآن سورة كاملة أو بعض سورة) (3).
وأقول: إن عدم تقييد صلاة الاستخارة بسورة أو آيات معينة – سوى الفاتحة – هو الذي يناسب حكمة الشرع وسهولته ويسره؛ وذلك لأن هذه الصلاة مطلوب تطبيقها والاعتناء بها من كل الناس، والناس درجات: منهم من يحفظ القرآن ومنهم من يحفظ آيات أو سوراً معينة من قصار السور، فلو حددها الشرع وقيدها بسور معينة قد لا يكون كل الناس يحفظون هذه الآيات أو السور المخصوصة بهذه الصلاة، وحينئذ يحرم كثير من الناس تطبيق هذه السنة العظيمة والتي يوفق الله بها كثيراً من البشر إلى الخير، ولكن لما شرعت هذه الصلاة وترك أمر القراءة فيها مفتوحاً للناس دل على تيسير الأمر لهمن فكل منهم يقرأ ما يحفظ ليمكنه تطبيق هذه السنة واستخارة الله عز وجل في شؤون الحياة.
__________
(1) عمدة القارئ (7/235).
(2) مجموع فتاوى ابن باز(2/236).
(3) فتاوى اللجنة الدائمة (8/161)، واللجنة الدائمة هي: اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالمملكة العربية السعودية.(1/17)
فتقييد صلاة الاستخارة بآيات معينة فيه نوع تضييق على المسلمين، والدين العبادات فيه مبناها على اليسر والسهولة، فالله عز وجل الذي أوحى إلى نبيه تشريع هذه الصلاة والدعاء كان قادراً على تقييدها بآيات معينة لكنه سبحانه بحكمته وتيسيره للناس، ورحمة بهم ترك الأمر لهم يختارون ما يشاءون من كتابه، فلله الحمد والمنة، فتأمل.
المسألة التاسعة: هل تجوز قراءة دعاء الاستخارة من كتاب أم لابد من حفظ هذا الدعاء؟
إن بعض الناس قد يحتج لتركه صلاة الاستخارة بعدم حفظه لدعائها وأنه لا يستطيع حفظه لطوله.
ويقال لمثل هذا: إن استطعت أن تحفظ الدعاء فذلك خير لك وأنفع، وإن لم تستطع حفظه، فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها، ويجوز لك أن تقرأ الدعاء من كتاب مفتوح من كتب الأدعية وهي متوفرة، أو تكتبه في ورقة تقرأ منها بعد الصلاة، فالأمر فيه سعة ولله الحمد على تيسيره.
ومع كثر تطبيق هذه السنة وتكرارها يحفظ الدعاء تلقائياً مع مرور الأيام.
وبجواز قراءة دعاء الاستخارة من كتاب ما، أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، فقد سئلت اللجنة سؤالاً نصه:
(س): بالنسبة إلى صلاة الاستخارة لعمل ما، أو حاجة ما أو أي شيء؛ هل يشترط أن أحفظ الدعاء الوارد عن النبي محمد عليه الصلاة والسلام (دعاء الاستخارة) أم يمكن قراءته في الكتاب فقط وبعد أداء الصلاة؟
فكان الجواب كما يلي: ( إن حفظت الدعاء للاستخارة أو قرأته من الكتاب فالأمر في ذلك واسع، وعيك الاجتهاد في إحضار قلبك والخشوع لله، والصدق في الدعاء..) (1).
المسألة العاشرة: هل تجزئ صلاة الاستخارة بعد الفريضة؟
المراد بهذه المسألة: إن صلى الفرض كصلاة الفجر مثلاً ثم دعاء بدعاء الاستخارة فهل يجزئ ذلك ويجوز أم لا؟
__________
(1) فتاوى اللجنة الدائمة (8/161).(1/18)
ويقال في تفصيل هذه المسألة: إن دعا بدعاء الاستخارة بعد أداء صلاة الفرض فلا يجزئه ذلك، ومعنى لا يجزئ: أي: لم يقع منه الفعل الصحيح للعبادة، فلم تقبل منه.
والدليل على ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في صفة صلاة الاستخارة: ( فليركع ركعتين من غير الفريضة).
فقوله: ( من غير الفريضة) قال بدر الدين العيني – رحمه الله -: ( دليل على أنه لا تحصل سنة صلاة الاستخارة بوقوع الدعاء بعد صلاة الفريضة لتقييد ذلك في النص بغير الفريضة) (1).
وقال العلامة محمد بن عبد الرحمن المباركفوري رحمه الله في شرح قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : (من غير الفريضة):
( في دليل على أنه لا تحصل سنة صلاة الاستخارة بوقوع الدعاء بعد صلاة الفريضة) (2).
وقال الحافظ ابن حجر: ( فيه احتراز عن صلاة الصبح مثلاً) (3).
المسألة الحادية عشرة: ما حكم صلاة الاستخارة في أوقات النهي؟
هناك أوقات معينة نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة فيها، فهل يجوز أداء صلاة الاستخارة في مثل هذا الوقت المنهي عنه؟
__________
(1) عمدة القارئ (1/233).
(2) تحفة الأحوذي (2/482).
(3) فتح الباري (11/221)، وانظر مرقاة المفاتيحة (3/402).(1/19)
وجاءت هذه الأوقات الثلاثة في حديث عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه قال: ( ثلاث ساعات كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهانا أن نصلي فيهن، أو أن نقبر فيهن موتانا: حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل الشمس، وحين تضيف الشمس للغروب حتى تغرب) (1).
ومعنى قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : (حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع) أي: أول ما تطلع، فالوقت وقت نهي إلى أن ترتفع قيد رمح، وكذلك بعد صلاة الفجر وقت نهي عن الصلاة إلى أن ترتفع قيد رمح، حينها يجوز التنفل كصلاة الضحى والاستخارة.
ومعنى قوله: (حين يقوم قائم الظهيرة) أي: حين تكون الشمس في كبد السماء أي وسطها عند الظهيرة حتى تزول وتميل بعدها يدخل وقت الظهر.
ومعنى قوله: (حين تضيف الشمس للغروب) أي: تميل للغروب (2). فبعد صلاة العصر وقت منهي عنه، وكذلك حين تبدأ الشمس في الغروب يكون النهي ساعتها آكد.
فهذه الأوقات نهي عن الصلاة فيها إلا لضرورة، كمن نام عن صلاة العصر أو الفجر واستيقظ في هذه الأوقات المنهي عنها جاز له أن يصلي لأن هذا الوقت بالنسبة له وقت أداء الصلاة المفروضة عليه.
__________
(1) أخرجه مسلم واللفظ له في كتاب الصلاة، باب صلاة المسافرين برقم (1926)، وأبو داود في كتاب الجنائز باب الدفن عند طلوع الشمس وعند غروبها (2192)، والترمذي في كتاب الجنائز، باب ما جاء في كراهية الصلاة على الجنائز عند طلوع الشمس وعند غروبها برقم (1030)، والنسائي في كتاب المواقيت، باب الساعات =التي نهي عن الصلاة فيها برقم (559)، وابن ماجة في كتاب الجنائز، باب ما جاء في الأوقات التي لا يصلى فيها على الميت ولا يدفن (1519).
(2) شرح النووي على مسلم (6/354). المعنى الأخير فقط.(1/20)
فالأفضل للمسلم أن لا يؤدي صلاة الاستخارة في هذه الأوقات المنهي عنها كبعد العصر أو الفجر، ولكن إن اضطر إلى صلاة الاستخارة بأن كان الأمر عاجلاً لا يمكن ولا يحتمل التأخير جاز له الاستخارة وإن كان الوقت وقت نهي؛ كأن يحتاج إلى شراء سيارة بعد صلاة العصر ولا يستطيع التأجيل إلى بعد غروب الشمس فحينئذ يجوز له الاستخارة لأنها تكون حينئذ من ذوات الأسباب التي يشرع فعلها في وقت النهي مثل تحية المسجد وصلاة الجنازة، وكسوف الشمس، فلو مات ميت واحتجنا إلى الصلاة عليه بعد العصر ودفنه حينئذ جاز الصلاة عليه، ولو كسفت الشمس بعد صلاة العصر جازت صلاة الكسوف وإن كان الوقت وقت نهي؛ لأن هذه الصلوات من ذوات الأسباب؛ أي: التي لها سبب يدفع لفعلها في وقت النهي؛ وكذلك صلاة الاستخارة إذا كان الذي يستخير لأجله يفوت بانتهاء وقت الكراهة.
فذوات الأسباب من الصلاة يجوز فعلها في وقت الكراهة أو النهي لأنها تفوت إذا أخرت عن وقت النهي، وتنتهي بانتهاء وقت الكراهة.
ولأنه أيضاً من المستقر والمعروف في الشرع أن الصلاة والعبادات إذا أخرت لسبب ما ويفوت وقتها تفعل حسب الإمكان والقدرة، فالمريض الذي لا يستطيع الوضوء لمرض ألم به يتيمم، وإن لم يستطع التيمم صلى على حاله التي هو عليها ولا يؤخر الصلاة عن وقتها، والمريض الذي لا يستطيع استقبال القبلة صلى ولو إلى غير القبلة ولا ينتظر ولا يؤخر الصلاة عن وقتها، وقس على ذلك الكثير، فاعتبار الوقت في الصلاة مقدم على بقية الواجبات وكذلك الأمر في التطوع.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -: (ذوات الأسباب تفعل في وقت النهي، فقد كتبنا فيما تقدم في الإسكندرية وغيرها كلاماً مبسوطاً في أن أصح قولي العلماء وهو مذهب الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين عنه، اختارها أبو الخطاب).(1/21)
ثم ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية الأدلة على جواز فعل الصلوات ذوات الأسباب في وقت النهي ثم قال: ( فالشرع قد استقر على أن الصلاة بل العبادة التي تفوت إذا أخرت تفعل بحسب الإمكان والوقت ولو كان في فعلها من ترك الواجب، وفعل المحظور ما لا يسوغ عن إمكان فعله في الوقت، مثل الصلاة بل قراءة، وصلاة العريان، وصلاة المريض، وصلاة المستحاضة، ومن به سلس البول، والصلاة مع الحديث بلا اغتسال ولا وضوء، والصلاة إلى غير القبلة، وأمثال ذلك من الصلوات التي يحرم فعلها، إذا قدر أن يفعلها على الوجه المأمور به في الوقت.
ثم إنه يجب عليه فعلها في الوقت مع النقص لئلا يفوت، وإن أمكن فعلها بعد الوقت على وجه الكمال.
فعلم أن اعتبارات الوقت في الصلاة مقدم على سائر واجباتها، وهذا في التطوع كذلك فإنه إذا لم يمكنه أن يصلي عرياناً، أو إلى غير القبلة أو مع سلس البول، صلى كما الفرض؛ لأنه لو لم يفعل إلا مع الكمال تعذر فعله فكان فعله مع النقص خيراً مع تعطيله.
وإن كان كذلك فذوات الأسباب إن لم تفعل وقت النهي فاتت وتعطلت، بطلب المصلحة الحاصلة به، بخلاف التطوع المطلق، فإن الأوقات فيها سعة، فإذا ترك في أوقات النهي حصلت حكمة النهي، وهو قطع للتشبه بالمشركين الذين يسجدون للشمس في الوقت (1)، وهذه الحكمة لا يحتاج حصولها إلى المنع من جميع الصلوات كما تقدم، بل يحصل المنع فيكفي التطوع المطلق).
ثم قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -: ( وذوات الأسباب كلها تفوت إذا أخرت عن وقت النهي مثل: سجود التلاوة، وتحية المسجد وصلاة الكسوف، ومثل الصلاة عقب الطهارة كما في حديث بلال، وكذلك صلاة الاستخارة إذا كان الذي يستخير له يفوت إذا أخرت الصلاة (2). انتهى.
__________
(1) يعني: عند طلوع الشمس وعند غروبها.
(2) مجموع فتاوى شيخ الإسلام (23/210، 213 – 214، 215).(1/22)
إذن فإذا كان الذي يستخير له يفوت عليه إن أخرت الصلاة حتى ينتهي وقت النهي جاز له الاستخارة في وقت النهي، والله أعلم.
المسألة الثانية عشرة: ماذا يفعل المستخير بعد الاستخارة؟
إذا صلى المسلم الاستخارة واستمر أقدم على ما ينوي فعله، فإن كان خيراً يسره الله له، وإن كان شراً صرفه الله عنه وأبعده منه.
ويعتقد كثير من الناس أو بعضهم أن المستخير إذا استخار ربه في شيء عليه أن ينتظر حتى يرى مناماً في نومه، وبناء على الرؤيا التي يراها يفعل أو لا يفعل، وهذه خرافة لا اصل لها من الدين، ولا تبنى الأحكام الشرعية على المنامات، فمتى استخرت الله لعمل ما، تول عليه واستمر وأقدم على ما تريد، ولا تنتظر مناماً ولا انشراح صدر، لأن انشراح الصدر لا ضابط له، فقد ينشرح الصدر لهوى في النفس داخلها قبل الاستخارة.
قال عز الدين بن عبد السلام – رحمه الله -: ( يفعل ما اتفق) (1).
وقال محمد بن علي كمال الدين الزملكاني – رحمه الله- : (إذا صلى الإنسان ركعتي الاستخارة لأمر، فليفعل بعدها ما بدا له، سواء انشرحت نفسه له أم لا، فإن فيه الخير وإن لم تنشرح نفسه ) قال: ( وليس في الحديث انشراح النفس) (2).
وينبغي على المستخير أن يجرد نفسه من الهوى، فلا يتبع هواه وما تميل إليه نفسه، بل يخلع ذلك كله ثم يستخير ويتوكل على الله سبحانه.
قال القرطبي المالكي – رحمه الله -: ( قال العلماء: وينبغي له أن يفرغ قلبه من جميع الخواطر حتى لا يكون مائلاً إلى أمر من الأمور) (3).
وقال الحافظ ابن حجر – رحمه الله -: (والمعتمد أنه لا يفعل ما ينشرح به صدره مما له فيه هوى قوي قبل الاستخارة) (4).
المسألة الثالثة عشرة: هل يصح الفصل بين الصلاة ودعاء الاستخارة؟
__________
(1) الفتح (11/223).
(2) طبقات الشافعية الكبرى (9/206).
(3) الجامع لأحكام القرآن (13/206).
(4) الفتح (11/223).(1/23)
والمراد بالمسألة أن من صلى صلاة الاستخارة ثم فصل بينها وبين الدعاء بفاصل قليل (1). أو ذكر الله وحمده قبل الشروع في الدعاء فهل جائز وتصح به الاستخارة أم لا؟
أهل العلم قالوا: إن كان الفاصل قليلاً ولم يطل لا يضر ذلك، كما أن الفصل بين الصلاة والدعاء بحمد الله والثناء عليه والصلاة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا إشكال فيه، أيضاً لأنه دعاء والدعاء يفتح بحمد الله والثناء عليه قبل الشروع فيه قال محي الدين النووي – رحمه الله-: ( ويستحب افتتاح الدعاء المذكور (2) وختمه بالحمد لله والصلاة والتسليم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) (3).
وقال بدر الدين العيني رحمه الله مبيناً قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في دعاء الاستخارة: ( ثم ليقل اللهم ...).
قال: (دليل على أنه لا يضر تأخير دعاء الاستخارة عن الصلاة ما لم يطل الفصل) (4).
وقال الشوكاني – رحمه الله -: (قوله: "ثم ليقل" فيه أنه لا يضر تأخير دعاء الاستخارة عن الصلاة ما لم يطل الفصل، وأنه لا يضر الفصل بكلام آخر يسير خصوصاً إن كان من آداب الدعاء لأنه أتى بثم المقتضية للتراخي) (5).
المسألة الرابعة عشرة: ما حكم تكرار صلاة الاستخارة؟
قد يستخير المسلم ربه في أمر ما، ثم يشعر أن الأمور لم تنجل جيداً، ولم تتضح له الصورة ولا وجه الخير فيما عزم عليه، فيحتاج إلى تكرار وإعادة الاستخارة مرة أخرى فهل يشرع له ذلك؟
__________
(1) مثل أن يناديه أحد فيرد عليه بقوله: لحظة سآتيك بعد قليل.
(2) يعني: دعاء صلاة الاستخارة الذي جاء في حديث جابر رضي الله عنه.
(3) الأذكار (ص 112)، حاشية ابن عابدين (2/28).
(4) عمدة القارئ (7/234).
(5) نيل الأوطار (3/89).(1/24)
قال بدر الدين العيني – رحمه الله -: ( فإن قلت: هل يستح تكرار الاستخارة في الأمر الواحد إذا لم يظهر له وجه الصواب في الفعل أو الترك ما لم ينشرح صدره لما يفعل. قلت: بلى، يستحب تكرار الصلاة والدعاء لذلك) (1).
وقال علي القاري – رحمه الله -: ( ويمضي بعد الاستخارة لما ينشرح له صدره انشراحاً خالياً عن هوى النفس، فإن لم ينشرح لشيء فالذي يظهر أن يكرر الصلاة حتى يظهر له الخير) (2).
وقال الشوكاني (3) – رحمه الله -: ( وهل يستحب تكرار الصلاة والدعاء؟ قال العراقي: الظاهر يستحب) (4).
إذن من أهل العلم من قال إنه يستحب فضلاً عن الجواز، مما يؤكد جواز تكرار الاستخارة. وبجوز التكرار – أيضاً – أي: تكرار صلاة الاستخارة أفتى سماحة الشيخ العلامة عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى وسماحة الشيخ المحدث العلامة محمد ناصر الدين الألباني (5)، وقيد التكرار بقيد من لم تطمئن نفسه لصلاته الأولى).
والدليل على جواز تكرار الاستخارة ما يلي:
أولاً: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا دعا دعا ثلاثاً، والاستخارة دعاء بصورة مخصوصة فهي صلاة ثم دعاء، بمعنى أنها إلى الدعاء أقرب.
__________
(1) عمدة القارئ (7/235).
(2) مرقاة المفاتيح (3/406). وبينت آنفاً أنه يستخير ويمضي فيها عزم ولا ينتظر انشراح الصدر.
(3) هو العلامة القاضي محمد بن علي بن محمد الشوكاني، من علماء اليمن رحمه الله تعالى.
(4) نيل الأوطار (3/89).
(5) نقل ترجيحهما عدنان عرعور في كتابه: ثلاث صلوات مهجورة (ص33).(1/25)
ثانياً: ما أخرجه مسلم في صحيحه، في قصة غزو أهل الشام الكعبة واحتراقها في زمن معاوية، وأراد عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما أن ينقض بناءها قبل إصلاحها ثم يبنيها على قواعد إبراهيم عليه السلام فقال ابن الزبير: (يا أيها الناس أشيروا علي في الكعبة: أنقضها ثم ابني بناءها، أو أصلح ما وهي منها؟) قال ابن عباس: فإني قد فرق لي رأي فيها، أي أن تصلح ما وهي منها، وتدع بيتاً أسلم الناس عليه، وأحجاراً أسلم الناس عليها، وبعث عليها النبي - صلى الله عليه وسلم - . قال ابن الزبير: ( لو كان أحدكم احترق بيته ما رضي حتى يجده (1) فكيف بيت ربكم؟ إني مستخير ربي ثلاثاً ثم عازم على أمري ...) (2).
والشاهد من الأثر والقصة قول الزبير: (إني مستخير ربي ثلاثاً) فهو دليل على جواز تكرار صلاة الاستخارة لأنه قول وفعل صحابي، فهو حجة إذا لم يعارض بل الأدلة العامة في مشروعية تكرار الدعاء والإلحاح فيه تؤيد هذا العمل.
ثالثاً: ( إن صلاة الاستخارة أشبه ما تكون بصلاة الاستسقاء من حيث إنها صلاة حاجة، وتشابهاً من حيث ارتباط الصلاة بالدعاء، وهذا النوع من الصلاة أشبه ما يكون دعاء بصورة مخصوصة، فإذا انضم إلى هذا المعنى اللغوي للصلاة – وهو الدعاء وكان الإكثار من الدعاء مطلوباً – فلا نرى مانعاً من تكرارها.....
ومهما قيل فهي دعاء، والدعاء يستحب تكراره، والإلحاح فيه، سواء كان مخصوصاً أو غير مخصوص) (3).
__________
(1) يجده: يجدده، انظر شرح مسلم للنووي (5/105).
(2) أخرجه مسلم في الشواهد والمتابعات (1333/402) في كتاب الحج، باب: نقض الكعبة.
(3) ثلاث صلوات مهجورة (ص 32-33) عدنان عرعور، وأثر ابن الزبير استفدته من كتابه.(1/26)
وأما حديث أنس رضي الله عنه الذي فيه تكرار الاستخارة سبع مرات فلا يصح ولا يجوز الاحتجاج به على أنها تكرر سبع مرات (1).
المسألة الخامسة عشرة: من لم يتمكن من الصلاة فهل يجوز له أن يقتصر على دعاء الاستخارة دون أن يصلي ركعتين قبله؟
معلوم أن الاستخارة تكون بركعتين، ثم الدعاء بعد الصلاة، ولكن إن لم يستطع المسلم الصلاة فهل يستخير بالدعاء الوارد فقط دون الصلاة؟
وذلك كالمرأة الحائض مثلاً، إذا طرأت لها حاجة وأرادت أن تستخير فهي لا تستطيع الصلاة، فهل يشرع لها الاستخارة بالدعاء فقط؟
__________
(1) وهو حديث ضعيف جداً، وأشبه بالموضوع، أخرجه ابن السني في عمل اليوم والليلة (ص281-282) (598). من طريق: إبراهيم بن البراء بن النضر بن أنس بن مالك حدثنا أبي عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( يا أنس إذا هممت بأمر فاستخر ربك فيه سبع مرات، ثم انظر إلى الذي يسبق إلى قلبك فإن الخير فيه).
وآفة هذا الحديث إبراهيم بن البراء بن النضر بن أنس بن مالك.
قال عنه ابن حبان في كتاب المجروحين (1/118): (شيخ كان يدور بالشام ويحدث عن الثقات بالأشياء الموضوعة وعن الضعفاء والمجاهيل بالأشياء المناكير لا يجوز ذكره في الكتب إلا على سبيل القدح فيه).
وقال عنه العقيلي: ( يحدث عن الثقات بالبواطيل).
وقال ابن عدي: (ضعيف جداً حدث بالبواطيل، ومن اعتبر حديثه علم أنه ضعيف جداً وهو متروك الحديث).
انظر الكامل لابن عدي (1/411 – 412)، الميزان للذهبي (1/139).
والحديث قال عنه النووي في الأذكار (ص 113): ( إسناده غريب فيه من لا أعرفهم).
وقال الحافظ عن هذا الحديث في الفتح (11/223): (سنده واه جداً).(1/27)
الجواب: نعم تجوز الاستخارة بالدعاء دون الصلاة لمن لا يمكنه الصلاة، وهو مذهب الحنفية والمالكية والشافعية، حيث أجازوا الاستخارة بالدعاء فقط من غير صلاة إذا تعذرت الاستخارة بالصلاة والدعاء معاً(1).
قال محي الدين النووي رحمه الله تعالى: " ولو تعذرت عليه الصلاة استخار بالدعاء"(2).
المسألة السادسة عشرة: ما الحكمة من تقديم صلاة ركعتين على دعاء الاستخارة؟
إن الله سبحانه وتعالى موصوف بالحكمة، وديننا الإسلامي دين حكمة وتدبر. وقد يحاول الإنسان التوصل إلى شيء من الحكم التي في النصوص الشرعية، فيعرف حكمة التشريع فيزداد إيماناً وثباتاً، وإن لم تظهر لنا الحكمة قلنا. سمعنا وأطعنا.
ودعاء الاستخارة مسبوق بصلاة ركعتين، فحاول بعض أهل العلم معرفة الحكمة من ذلك.
فقالوا: إن الهدف من الاستخارة أن يجمع بين خيري الدنيا والآخرة، وأن يبعد الله عنه شر ما يريد الإقدام عليه، فهذا الطلب نوع دعاء يحتاج إلى مقدمة فيها ذل وخشوع ومناجاة واعتراف يقرع بها باب الملك قبل الشروع في الطلب وليس أفضل وأنجح لذلك من الصلاة.
قال الحافظ ابن حجر: " قال ابن أبي جمرة: " الحكمة في تقديم الصلاة على الدعاء أن المراد بالاستخارة حصول الجمع بين خيري الدنيا والآخرة فيحتاج إلى قرع باب الملك، ولا شيء لذلك أنجح من الصلاة لما فيها من تعظيم الله والثناء عليه والافتقار إليه مآلاً وحالاً" "(3).
وقال العلامة ابن الحاج المالكي – رحمه الله -: " ثم انظر رحمنا الله وإياك إلى حكمة أمره عليه الصلاة والسلام المكلف بأن يركع ركعتين من غير الفريضة، وما ذاك إلا لأن صاحب الاستخارة يريد أن يطلب من الله قضاء حاجته.
__________
(1) الموسوعة الفقهية الكويتية (3/243).
(2) الأذكار (ص 112)، حاشية ابن عابدين ( 2/28).
(3) فتح الباري (11/222).(1/28)
وقد قضت الحكمة أن من الأدب قرع باب من تريد حاجتك منه، وقرع باب المولى سبحانه وتعالى إنما هو بالصلاة...، ولأنها جمعت بين آداب جملة (1) فمنها خروجه عن الدنيا كلها وأحوالها بإحرامه بالصلاة، ألا ترى إلى الإشارة برفع اليدين عند الإحرام إلى أنه خلف الدنيا وراء ظهره، وأقبل على مولاه يناجيه، ثم ما فيها من الخضوع والندم والتذلل بين يدي المولى الكريم بالركوع والسجود؟ إلى غير ذلك مما احتوت عليه من المعاني الجليلة ليس هذا موضع ذكرها.
فلما أن فرغ من تحصيل هذه الفضائل الجمة حينئذ أمره صاحب الشرع عليه الصلاة والسلام بالدعاء"(2).
المبحث الثاني
الجمع بين الاستخارة والاستشارة
وبيان خصال من يلجأ إليه للمشورة
إن الله سبحانه بكرمه وحكمته امتن على بعض عباده بعقل راجح، ونظر ثاقب وحكمة بليغة، وتجارب في الحياة كبيرة، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، لذا كان الأسعد للمسلم أنه إذا اختار ربه في أمر ما، استشار ذوي العقول الناصحة فالجمع بين الاستخارة والاستشارة من كمال الحكمة والفهم والسلامة.
ومن أحسن ما قيل:
شاور سواك إذا نابتك نائبة ... يوماً وإن كنت من أهل المشورات
فالعين تلقى كفاحاً من نأى ودنا ... ولا ترى نفسها إلا بمرآة(3).
وقال ابن الحجاج المالكي – رحمه الله-: " والجمع بين الاستخارة والاستشارة من كمال الامتثال للسنة، فينبغي للمكلف أن لا يقتصر على إحداهما، فإن كان ولابد من الاقتصار فعلى الاستخارة لما تقدم من قول الراوي: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها ما يعلمنا السورة من القرآن). والاستخارة والاستشارة بركنهما ظاهرة بينة لما تقدم ذكره من الأمثال للسنة والخروج عما يقع في النفوس من الهواجس والوساوس وهي كثيرة متعددة.
__________
(1) هكذا في المطبوع عندي ولعله تصحيف والصواب جمة.
(2) المدخل (4/38 – 39) بتصرف يسير.
(3) انظر كشف الخفا للعجلوني (2/185 – 186).(1/29)
وقال بعض السلف: ( من حق العاقل أن يضيف إلى رأيه آراء العلماء ويجمع إلى عقله عقول الحكماء، فالرأي الفذ ربما زل، والعقل الفرد ربما ضل) (1).
وقال أبو الحسن المارودي الشافعي – رحمه الله -: (ومن الحزم لكل ذي لب أن لا يبرم أمراً ولا يمضي عزماً إلا بمشورة ذي الرأي الناصح ومطالعة ذي العقل الراجح؛ فإن الله أمر بالمشورة نبيه - صلى الله عليه وسلم - مع ما تكفل به من إرشاده وعونه وتأييده فقال تعالى: { وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ } ) (2).
وقال النووي – رحمه الله-: ( يستحب أن يستشير قبل الاستخارة من يعلم من حاله النصيحة والشفقة، والخبرة، ويثق بدينه ومعرفته... وإذا استشار وظهر أنه مصلحة، استخار الله في ذلك)
(3).
وقال ابن حجر الهيثمي: ( حتى عند التعارض – ( أي تقدم الاستشارة) – لأن الطمأنينة إلى قول المستشار أقوى منها إلى النفس لغلبة حظوظها وفساد خواطرها.
وأما لو كانت نفسه مطمئنة صادقة إرادتها متغلبة عن حظوظها قدم الاستخارة) (4). اهـ.
وقال شيخ الإسلام: (ما ندم من استخار الخالق، وشاور المخلوقين، وتثبت في أمره).
وقال تعالى: { وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ } (آل عمران: من الآية159) (5).
وقال قتادة: ( ما تشاور قوم يبتغون وجه الله إلا هدوا إلى أرشد أمرهم) (6).
* خصال من يُستشار:
فإذا علمت أهمية الاستشارة فالعم أن من يستشار وتطلب منه المشورة له خصال وصفات حميدة، ذكرها بعض أهل العلم، فرأيت نقلها إتماماً للفائدة، وليعلم المسلم على من يطرح أمره، ولمن يفشي سره.
__________
(1) المدخل (4/40 – 41) بتصرف يسير.
(2) نقله ابن الحاج في المدخل (4/41).
(3) الموسوعة الكويتية (3/243).
(4) الموسوعة الكويتية (3/243).
(5) الوابل الصيب (ص247).
(6) المصدر السابق.(1/30)
قال ابن الحاج المالكي رحمه الله في هذا الصدد: ( فإذا عزم على المشورة ارتاد لها من أهلها من استكملت فيه خمس خصال:
إحداهن: عقل كامل مع تجربة سابقة، فإن بكثرة التجارب تصح الروية، وقال عبد الله بن الحسن لابنه محمد: احذر مشورة الجاهل وإن كان ناصحاً كما تحذر عداوة العاقل إن كان عدواً، فإنه يوشك أن يورطك بمشورته فيسبق إليك مكر العاقل وتوريط الجاهل.
وكان يقال: إياك ومشاورة رجلين: شاب معجب بنفسه قليل التجارب في غرة، وكبير قد أخذ الدهر من عقله كما أخذ من جسمه، وقيل في منثور الحكم: كل شيء محتاج إلى العقل، والعقل محتاج إلى التجارب.
وقال الشاعر:
ألم تر أن العقل زين لأهله ... ولكن تمام العقل طول التجارب
والخصلة الثانية: أن يكون ذا دين وتقى فإن ذلك عماد كل صلاح وباب كل نجاح، ومن غلب عليه الدين فهو مأمون السريرة موفق العزيمة.
والخصلة الثالثة: أن يكون ناصحاً ودوداً فإن النصح والمودة يصدقان الفكرة ويمحصان الرأي.
وقال بعض الحكماء: لا تشاور إلا الحازم غير الحسود، واللبيب غير الحقود، وإياك ومشاورة النساء فإن رأيهم إلى الأفن (1)، وعزمهن إلى الوهن.
وقال بعض الأدباء: مشورة المشفق الحازم ظفر، ومشورة غير الحازم خطر.
وقال بعض الشعراء:
أضف ضميراً لمن تشاوره ... واسكن إلى ناصح تشاوره
وارض من المرء في مودته ... بما يؤدي إليك ظاهره
والخصلة الرابعة: أن يكون سليم الفكر من هم قاطع وغم شاغل. فإن من عارضت فكرته شوائب الهموم لم يسلم له رأي ولم يستقم له خاطر. وقد قيل في منثور الحكم: بترداد الفكر ينجاب لك العكر.
__________
(1) الأفن: بالفتح ضعف الرأي، حاشية المدخل (4/43).
وهذا الكلام ليس على إطلاقه بل ينطبق على بعض النساء فقط. فكم من نساء مؤمنات مشورتهن فلاح، وأكبر دليل على ذلك خديجة رضي الله عنها، وقصة النبي - صلى الله عليه وسلم - مع أم سلمة حين أشارت عليه بحلق رأسه في قصة الحديبية.(1/31)
والخصلة الخامسة: أن لا يكون له في الأمر المستشار فيه غرض يتابعه ولا هوى يساعده، فإن الأغراض جاذبة، والهوى صاد، والرأي إذا عارضه الهوى وجاذبته الأغراض فسد.
وقال الفضل بن العباس:
وقد تحكم الأيام من كان جاهلاً ... ويردي الهوى ذا الرأي وهو لبيب
ويحمد في الأمر الفتى وهو مخطئ ... ويعذل في الإحسان وهو مصيب
فإذا استكملت هذه الخصال الخمس في رجل كان أهلاً للمشورة، ومعدناً للرأي فلا تعدل عن استشارته اعتماداً على ما توهمه من فضل رأيك وثقة بما تستشعره من صحة رويتك، فإن رأي غير ذي الحاجة أسلم، وهو من الصواب أقرب؛ لخلوص الفكر وخلو الخاطر مع عدم الهوى وارتفاع الشهوة (1).
وقال بعض الحكماء: " الناس ثلاثة: فواحد كالغذاء لا يستغنى عنه، وواحد كالدواء يحتاج إليه في بعض الأوقات، وواحد كالداء لا يحتاج إليه أبداً" (2).
ونقل الخطيب في تلخيص المتشابه عن قتادة قال: " الرجال ثلاثة: رجل، ونصف رجل، ولا شيء. فأما الذي هو رجل فرجل له عقل ورأي يعمل به وهو يشاور، وأما الذي هو نصف رجل؛ فرجل له عقل ورأي يعمل به وهو لا يشاور، وأما الذي هو لا شيء: فرجل له عقل وليس له رأي يعمل به وهو لا يشاور" (3).
* الذي يترك الاستخارة والاستشارة يخاف عليه من الخطأ والتعب:
فإذا علمت أهمية الاستخارة وبركتها وضرورة الاستشارة والاستعانة بآراء الرجال فإن الذي يدعهما يخاف عليه من الخطأ ومجانبة الصواب والزلل في متاعب لا طاقة له بها، ومصائب لا حل لها.
__________
(1) المدخل (4/42 – 43) بتصرف يسير.
(2) انظر كشف الخفاء للعجلوني (2/186).
(3) المدخل (2/43).(1/32)
قال ابن الحاج المالكي – رحمه الله -: " فمن ترك الاستخارة والاستشارة يخاف عليه من التعب فيما أخذ بسبيله لدخوله في الأشياء بنفسه دون الامتثال للسنة المطهرة، وما أحكمته في ذلك، إذ أنها لا تستعمل في شيء إلا عمته البركات، ولا تترك من شيء إلا حصل فيه ضد ذلك، نسأل الله السلامة بمنه " (1). اهـ.
المبحث الثالث
بيان وذكر الاستخارات المبتدعة
مع أن دعاء صلاة الاستخارة نطق به خير البشر بوحي من رب البشر والعالم بأحوالهم وما يصلحهم، ومع أن ألفاظ حديثه مانعة جامعة، مع ذلك اختار بعض الناس استخارة لنفسه مبتدعة بعيدة كل البعد عن الصحة والصواب، فحرم نفسه الخير، بل ربما أوقعها في الشرك والخرافة.
قال العلامة أبو عبد الله محمد العبدري الشهير بابن الحاج – رحمه الله -: " وليحذر مما يفعله بعض الناس ممن لا علم عنده أو عنده علم وليس عنده معرفة بحكمة الشرع الشريف في ألفاظه الجامعة للأسرار العلية؛ لأن بعضهم يختارون لأنفسهم استخارة غير الاستخارة المتقدمة الذكر، وهذا فيه ما فيه من اختيار المرء لنفسه غير ما اختار له من هو أرحم به وأشفق عليه من نفسه ووالديه، العالم بمصالح الأمور المرشد لما فيه الخير والنجاح والفلاح صلوات الله عليه وسلامه"
(2).
ومن تلك الاستخارات المبتدعة المصنوعة:
1- اشتراط الرؤية المنامية: " كأن يشترط فيها: أن يرى المستخير في منامه ما نواه، أو يرى خضرة أو بياضاً إن كان ما يقصده خيراً، ويرى حمرة أو سواداً إن كان ما يقصده لا خير فيه"(3).
__________
(1) المدخل (2/43).
(2) المدخل (4/37).
(3) القول المبين في أخطاء المصلين (ص 409) مشهور حسن.(1/33)
قال ابن الحاج المالكي – رحمه الله - : " وبعضهم يستخير الاستخارة الشرعية ويتوقف بعدها حتى يرى مناماً يفهم منه فعل ما استخار فيه أو تركه، أو يراه غيره له. وهذا ليس بشيء؛ لأن صاحب العصمة - صلى الله عليه وسلم - قد أمر بالاستخارة والاستشارة لا بما يرى في المنام "(1).
2- استخارة السبحة: وصورتها: " أن يأخذ الشخص مسبحة فيتمتم عليها بحاجته، ثم يحصر بعض حباتها بين يديه، ويعدها، فإن كانت فردية عدل عما نواه، وإن كانت زوجية، اعتبر ما نواه خيراً وسار فيه".
3- استخارة الفنجان: " يعملها عادة غير صاحب الحاجة، ويقوم بعلمها رجل أو امرأة، وطريقتها، أن يشرب صاحب الحاجة القهوة المقدمة إليه، ثم يكفئ الفنجان، وبعد قليل، يقدمه لقارئه، فينظر فيه، [ بعد أن أحدثت فضلات القهوة به رسوماً وأشكالاً مختلفة، شأنها في ذلك شأن كل راسب في أي إناء إذا انكفأ ]، فيتخيل ما يريد، ثم يأخذ في سرد حكايات كثيرة لصاحب الحاجة، فلا يقوم من عنده إلا وقد امتلأت رأسه بهذه الأسطورة".
4- استخارة المندل: " وطريقتها: أن يوضع الفنجان مملوءاً ماء على كف شخص مخصوص في كفه تقاطيع مخصوصة، ويكون ذلك في يوم معلوم من أيام الأسبوع، ثم يأخذ صاحب المندل (العراف) في التعزيم والهمهمة بكلام غير مفهوم وينادي بعض الجن ليأتوا بالمتهم السارق".
5- استخارة الرمل: " وطريقتها أن يخطط الشخص في الرمل خطوطاً متقطعة ثم يجري بعدها طريقة حسابية معروفة لديهم، فينتهي منها إلى استخراج برج الشخص فيكشف عنه في كتاب استحضره لهذا الغرض، فيسرد عليه حياته الماضية والمستقبلية بزعمه، وهذا الكلام بعينه الذي قيل له، يقال لغيره ما دام برجاهما قد اتفقا".
__________
(1) المدخل (4/37).(1/34)
6- استخارة الكف: " لا تخرج عما مضى، فيعمل قارئ الكف مستعملاً قوة فراسته مستعيناً – بزعمه – باختلاط خطوط باطن الكف على سرد حياة الشخص المستقبلية"(1).
وهذا يدخل في الكهانة والتنجيم والعرافة المنهي عنها، وسيأتي بيان ذلك.
7- استخارة المصحف: وصورتها أن يفتح المستخير المصحف مباشرة دون تخير أو انتقاء ثم ينظر ما نوع الآية التي فتح عليها، فإن كانت آية رحمة ونعمة استمر فيما عزم ومضى، وإن كانت آية عذاب أو نقمة أو نار ترك وأحجم عما نواه.
8- استخارة الورق: وهي لعبة الورق وتسمى " البلوت أو الكوتشينة" فهي أيضاً من المبتدعات.
9- الاستخارة المعتمدة على اسم الداخل: وطريقتها انتظار من يدخل ليشتق من اسمه الفعل أو الترك، فإن كان الداخل حسن الاسم فعل ما أراد ونواه، وإن كان فيه شدة أو غلظة كحرب أو جمر ترك ولم يقدم على ما نوى (2).
10- الاستخارة بواسطة الأبراج: وقد انتشرت هذه الطريقة في آخر الزمان، لأن هذه الأبراج تعرض على صفحات الجرائد، ويقوم كل شخص بمعرفة برجه ويومه الذي ولد فيه، ثم ينظر ماذا مكتوب فيه، فيجد مثلاً: ستواجه مشاكل وحوادث وصعوبات، لا تفعل كذا أو لا تسافر، وهكذا إلى غير ذلك من المحرمات والخرافات التي تتعلق بالكهانة والتنجيم، وإلى الله المشتكى.
قال ابن الحاج المالكي – رحمه الله -: " ومن الناس من هو أسوأ حالاً من هذا، وهو ما يفعله بعضهم من الرجوع إلى قول المنجمين والنظر في النجوم، إلى غير ذلك مما يتعاطاه بعضهم"(3).
__________
(1) انظر ما سبق نقله من الرقم واحد إلى ستة في كتاب القول المبين (ص 409 –410) قال الشيخ مشهور.
(2) انظر الاستخارات المبتدعة أيضاً في: المدخل (4/37 – 38). الفتح الرباني للساعاتي (5/25) القول المبين (ص 409 – 410) للشيخ مشهور.
(3) المدخل (4/37).(1/35)
فالذي يفعل ما ذكر من الاستخارات المبتدعة ويترك ما شرعه الله على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - لاشك أنه محروم، حرم نفسه بركة هذا الدعاء، وحرم نفسه التوفيق ودفع الضر الذي يلحق به، ولاشك في بطلان هذا الصنيع.
قال ابن الحاج رحمه الله مبيناً فساد رأي من جنح إلى الاستخارة المبتدعة: " فمن فعل شيئاً مما ذكره أو غيره، وترك الاستخارة الشرعية فلاشك في فساد رأيه، ولو لم يكن فيه من القبح إلا أنه من قلة الأدب مع صاحب الشرع صلوات الله عليه وسلامه؛ لأنه عليه الصلاة والسلام اختار للمكلف ما جمع له فيه بين خيري الدنيا والآخرة بلفظ يسير وجيز، واختار هو لنفسه غير ذلك، فالمختار في الحقيقة إنما هو ما اختاره المختار صلوات الله عليه وسلامه.
فعلى هذا لا يشك ولا يرتاب في أن من عدل عن تلك الألفاظ المباركة إلى غيرها فنه يخاف عليه من التأديب أن يقع به وأنواعه مختلفة إما عاجلاً وإما آجلاً في نفسه أو ولده أو ماله إلى غير ذلك"(1).
والاستخارة المبتدعة مردودة، غير مقبولة، لحديث النبي - صلى الله عليه وسلم - : " من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد" (2). أي مردود على صاحبه، وهذا كل بدعة، ولا يكون فيها خير، لأن كل بدعة ضلالة، والعجب كيف استبدل الناس الذي هو أدنى بالذي هو خير.
__________
(1) المدخل (4/38).
(2) متفق عليه.(1/36)
قال ابن الحاج المالكي – رحمه الله -: [" ولا يضيف إلى الاستخارة الشرعية غيرها؛ لأن ذلك بدعة، ويخشى من أن البدعة إذا دخلت في شيء لا ينجح أو لا يتم؛ لأن صاحب الشرع - صلى الله عليه وسلم - إنما أمر بالاستخارة والاستشارة (1) فقط فينبغي له أن لا يزاد عليهما ولا يعرج على غيرهما، فيا سبحان الله، صاحب الشرع صلوات الله وسلامه عليه اختار لنا ألفاظاً منقاة جامعة لخيري الدنيا والآخرة، حتى قال الراوي للحديث في صفتها على سبيل التخصيص والحض على التمسك بألفاظها وعدم العدول إلى غيرها: " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كما يعلمنا السورة من القرآن" والقرآن قد علم أنه لا يجوز أن لا يغير ولا يزاد فيه ولا ينقص منه، وإذا كان ذلك كذلك فلا يعدل عن تلك الألفاظ المباركة التي ذكرها عليه الصلاة والسلام في الاستخارة إلى غيرها من الألفاظ التي يختارها المرء لنفسه ولا غيرهما من منام يراه هو، أو يراه له غيره، أو انتظار فأل أو نظر في اسم الأيام، قال مالك رحمه الله: الأيام كلها أيام الله"](2).
المبحث الرابع
في الاستخارة وعلاقتها بالتوحيد
من جميع الجهات وبيان ذلك تفصيلاً
وفيه خمسة مطالب:
المطلب الأول
تحقيق التوحيد سبب للنصر
وفشو الشرك والبدع سبب للذل والهزائم
إن التوحيد معناه كمال العدل والإنصاف، والعدل يساوي النصر والعلو؛ وذلك لأن التوفيق بيد الله سبحانه فمن وحده كان عادلاً في جانب حق الله، ومن أشرك ظلم نفسه، ولم ينصف مع ربه الذي خلقه ورزقه وسخر له كل شيء؛ لذا كان الهم والغم والخذلان والذل حليفه طول حياته.
__________
(1) لعله يشير بذلك إلى حديث يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " ما خاب من استخار ولا ندم من استشار" وهو حديث موضوع، وسيأتي تخريجه في آخر هذه الرسالة.
(2) المدخل (4/37 – 38).(1/37)
يتساءل كثير من الناس عن سبب ذلك وهوان العالم الإسلام، ويسعون جاهدين في البحث عن الأسباب، والسعي على بث روح الجهاد والنضال في الشعوب الإسلامية، وهذا جيد، لكن السبب الرئيسي للهزيمة لم يلتفتوا إليه ولم يسعوا لإصلاحه.
إن انتشار الشرك والبدع في الأمم المسلمة، لو سعى الدعاة اليوم لمحاربته وجاهدوا لنشر التوحيد، وإحياء السنن، وإخماد البدع، لظفروا بالورقة الرابحة التي بها يحصلون على النصر والفوز.
وإذا قيل لهم: جاهدوا على إزالة الشر والبدع من المجتمعات، أجابوا قائلين: ليس هذا وقته، إن الدعوة إلى التوحيد وإخماد البدع تؤدي إلى التفرقة ونحن نريد النصر، ولم الشمل، ونسوا أو تناسوا أن وجود الناس بهذه الصورة المخزية وانغماسهم في مستنقعات الشرك والخرافات هو السبب الرئيسي للتفرقة والهزيمة، ولو عادوا لطريقة نبيهم في الدعوة لانتصروا ولكنهم وقعوا فيما فروا منه، وتشتتوا أكثر فأكثر من حيث لا يشعرون.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -: فلما ظهر النفاق والبدع والفجور المخالف لدين الرسول - صلى الله عليه وسلم - سلطت عليهم الأعداء فخرجت الروم النصارى إلى الشام والجزيرة مرة بعد مرة، وأخذوا الثغور الشامية شيئاً بعد شيء إلى أن أخذوا بيت المقدس في أواخر المائة الرابعة، وبعد هذا بمدة حاصروا دمشق، وكان أهل الشام بأسوأ حال بين الكفار النصارى والمنافقين الملاحدة، إلى أن تولى نور الدين الشهيد، وقام بما قام به من أمر الإسلام والطهارة والجهاد لأعدائه، ثم استنجد به ملوك مصر بنو عبيد على النصارى فأنجدهم، وجرت فصول كثيرة إلى أن أخذت مصر من بني عبيد، أخذها صلاح الدين يوسف بن شاذي، وخطب بها لنبي العباس، فمن حينئذ ظهر الإسلام بمصر بعد أن مكثت بأيدي المنافقين المرتدين عن دين الإسلام مائة سنة.(1/38)
فكان الإيمان بالرسول والجهاد عن دينه سبباً لخير الدنيا والآخرة، وبالعكس فإن البدع والإلحاد ومخالفة ما جاء به سبب لشر الدنيا والآخرة.
فلما ظهر في الشام ومصر والجزيرة الإلحاد والبدع سلط الله عليه الكفار، ولما أقاموا ما أقاموه من الإسلام وقهر الملحدين والمبتدعين نصرهم الله على الكفار تحقيقاً لقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ - تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ - يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ - وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ } (الصف: 10-13). وكذلك لما كان أهل المشرق قائمين بالإسلام وكانوا منصورين على الكفار المشركين من الترك والهند والصين وغيرهم، فملا ظهر منهم ما ظهر من البدع والإلحاد والفجور سلط عليهم الكفار.
قال تعالى:{ وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً - فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَفْعُولاً - ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً } (الاسراء:4-6).
وكان بعض المشايخ يقول: هولاكو ملك التتار الذي قهر الخليفة بالعراق وقتل ببغداد مقتلة عظيمة جداً، يقال: قتله منهم ألف ألف وكذلك قتل بحلب دار الملك حينئذ.(1/39)
كان بعض المشايخ يقول: هو للمسلمين بمنزلة بختنصر لبني إسرائيل.
وكان من أسباب دخول هؤلاء ديار المسلمين ظهور الإلحاد والنفاق والبدع حتى إنه صنف الرازي كتاباً في عبادة الكواكب والأصنام وعمل السحر وسماه : " السر المكتوم ومخاطبة النجوم".
ويقال: " إنه صنفه لأم السلطان علاء الدين محمد بن لكش بن جلال الدين خوارزم شاه وكان من أعظم ملوك الأرض، وكان للرازي به اتصال قوي حتى أنه وصى إليه أولاده، وصنف له كتاباً سماه: " الرسالة العلائية في الاختيارات السماوية" (1) انتهى كلام شيخ الإسلام رحمه الله.
قلت: تدبر كلام هذا الإمام الجهبذ، وما تراه من حال المسلمين اليوم تعرف بوضوح الداء والدواء، كما ستعرف من أين تؤكل الكتف.
المطلب الثاني
بيان تحريم إتيان الكهان والعرافين والمنجمين
الكهان جمع كاهن، ويجمع أيضاً على كهنة: " وهم قوم يكونون في أحياء العرب يتحاكم الناس إليهم، وتتصل بهم الشياطين وتخبرهم عما جاء في السماء، تسترق السمع من السماء، وتأتي وتخبر الكاهن ثم الكاهن يضيف إلى هذا الخبر ما يضيف من الأخبار الكاذبة"(2).
والعرافون جمع عراف: " والعراف قيل هو الكاهن، وهو الذي يخبر عن المستقبل، وقيل: هو اسم عام للكاهن والمنجم والرمال ونحوهم ممن يستدل على معرفة الغيب بمقدمات يستعملها، وهذا المعنى أعم ويدل عليه الاشتقاق إذ هو مشتق من المعرفة، فشمل كل من تعاطى هذه الأمور وادعى بها المعرفة"(3).
وقال الخطابي – رحمه الله -: " الكهنة قوم لهم أذهان حادة ونفوس شريرة وطباع نارية، فألفتهم الشياطين لما بينهم من التناسب في هذه الأمور وساعدتهم بكل ما اتصل قدرتهم إليه"(4).
__________
(1) انظر الفرقان: (ص115 – 116).
(2) القول المفيد (2/47) للعلامة ابن عثيمين.
(3) المصدر السابق (2/48).
(4) نقله الحافظ في الفتح (10/266).(1/40)
ولقد انخدع البسطاء من الناس في هذا الزمان بمثل هؤلاء الدجالين من الكهان والمشعوذين الذي يدعون معرفة الغيب وأخبار المستقبل، فإذا أراد الواحد منهم الشروع في أمر ما، أو السفر أو خسر تجارة، أو غير ذلك من المعاناة كالمرض والعقم، وأراد الحل والدواء بادر في الذهاب إليهم والاستعانة بهم.
ولهؤلاء الكهان والمنجمين والعرافين أسلوب ماكر في جلب الانتباه وزرع الدهشة والعجب في نفوس الناس؛ وذل بأن يخبروا القادم لهم عما حصل له من أمور ومعاناة وما سيحصل له من أمور ومعاناة وما سيحصل له في المستقبل القريب، كما أنهم عند العلاج والمداواة يتظاهرون بقراءة القرآن ليقنعوا من أمامهم أن علاجهم شرعي لا شائبة فيه، ولا غبار عليه، ولكن ما تخفي صدورهم أكبر؛ فإن ما يفعلونه من شرك وكفر خلال استعانتهم بالجن لا يعلمه الناس، إذ أنهم لا يظهرونه ولا يبدو جلياً لكل من وفد عليهم.
ولا تعجب يا أخي مما تسمع من هؤلاء الكذابين من بعض أسرارك الخاصة وكيفية معرفتهم لها، إذ أن كل إنسان له قرين من الجن يعرف عنه الشيء الكثير الذي لا يعرفه غيره، وهذا المشعوذ يستعين بقرينه وغيره من أعوانه من مردة الجن فيأتو قرينك فيخبرهم بما حصل لك ثم يخبر هؤلاء الأعوان بدورهم المشعوذ والكاهن، وبذلك تحصل له المعرفة، فلم تكن إذا معرفته بطريق الغيب، وإنما بسبب آخر كما رأيت، إذ أن الغيب لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى: { قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ } (النمل: من الآية65).
وإذا علمت ذلك يا أخي زال عجبك من معرفتهم لشؤونك الخاصة، وقديماً قيل: إذا عرف السبب بطل العجب.
واعلم يا موفق لكل خير أن الإسلام حرم عليك إتيان هؤلاء، وسؤالهم والاستعانة بهم، وقد ثب في ذلك عدة نصوص، منها:(1/41)
1- عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " من أتى عرافاً أو كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - " (1).
2- وأخرج مسلم في صحيحه (2) عن معاوية بن الحكم السلمي قال: قلت: يا رسول الله أموراً كنا نصنعها في الجاهلية، كنا نأتي الكهان قال: " فلا تأتوا الكهان".
قال أبو عبد الله المازري المالكي – رحمه الله -: " وأما الكهان فهم قوم يزعمون أنهم يعلمون الغيب بأمور تلقى في نفوسهم، وقد كذب الشرع من ادعى علم الغيب ونهى عن تصديقهم"
(3).اهـ.
وقال أيضاً – رحمه الله -: " وأما التنجيم: فمن اعتقد اعتقاد كثير من الفلاسفة في كون الأفلاك فاعلة لما تحتها، وكل فلك يفعل فيما تحته حتى ينتهي الأمر إلينا وسائر الحيوان والمعادن والنبات، ولا صنع للباري سبحانه وتعالى في ذلك، فإن ذلك مروق في السلام"(4) اهـ.
وقال القاضي عياض بن موسى المالكي رحمه الله معرفاً العراف قال: " هو الذي يستدل على الأمور بأسباب ومقدمات يدعي معرفته بها. وقد يعتقد بعض أهل هذا الفن في ذلك بالرجز والطرق والنجوم وأسباب معتادة، وهذا الفن هي القيافة بالياء، وكلها ينطلق عليها اسم الكهانة عندهم، ويعلمها في أكثر كتبهم" (5) اهـ.
__________
(1) أخرجه أبو داود في سننه (4/14) (3904)، والترمذي (4/243) (135)، وابن ماجة (1/354) (639)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (2/473).
(2) برقم (537) في السلام باب: تحريم الكهانة وإتيان الكهان.
(3) المعلم بفوائد مسلم (2/275).
(4) المعلم بفوائد مسلم (2/275).
(5) إكمال المعلم (7/153).(1/42)
قلت: ومن أنواع العرافة، ما يدعيه بعضهم من معرفة مكان الدابة إذا ضلت أو معرفة الشيء المسروق وكذا السارق، حيث يذهب من ضلت دابته أو سرق متاعه إلى العراف ليخبره عن مكانها، وهو نوع من الاستعانة بالجن لاشك في تحريمه، فالعراف هذا يستخدم نوعاً من الرموز والطلاسم التي ينادي بها أعوانه من الجن يرسلهم للبحث فيخبرونه؛ لذا تجد غالب العرافين لا يخبرون من يأتيهم عن ضالتهم إلا بعد يوم أو يومين.
وهكذا يدجلون على الناس ويخدعونهم، ويتلفظون لهم بألفاظ تغريهم بهم كقول العراف أو الكاهن: سنستعين بالله على العثور على ما فقدت، وهم أبعد الناس عن الاستعانة بالله سبحانه.
ولقد فضح النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر هؤلاء وكشف زيغهم وكذبهم، وذلك فيما رواه مسلم في صحيحه (1) عن عائشة رضي الله عنها قالت: سأل أناس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الكهان؟ فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "ليسوا بشيء" قالوا: يا رسول الله فإنهم يحدثون أحياناً الشيء يكون حقاً، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " تلك الكلمة من الجن يخطفها الجني فيقرها في أذن وليه قر الدجاجة، فيخلطون فيها أكثر من كذبة".
ومعنى قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " فيقرها في أذن وليه" قال المازوري المالكي رحمه الله في بيان هذه العبارة: "والمعنى أن الجني يقذف بالكلمة إلى وليه الكاهن فيتسامع بها الشياطين، كما تؤذن الدجاجة بصوتها صواحبها فتتجاوب"(2).
وقال النووي – رحمه الله-: " قال أهل الغريب واللغة: القر ترديد الكلام في أذن المخاطب حتى يفهمه"(3).
__________
(1) في الشواهد والمتابعات (2228/ 123) في كتاب السلام، باب: تحريم الكهانة وإتيان الكهان.
(2) المعلم (2/280).
(3) شرح مسلم للنووي (7/486).(1/43)
وفي بيان قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " ليسوا بشيء" قال القاضي عياض المالكي – رحمه الله-: " وقوله فيهم ليسوا على شيء، دليل على بطلان قولهم، وأنه لا صحة ولا حقيقة له"(1).
وقال الحافظ ابن حجر: " أي ليس قولهم بشيء يعتمد عليه، والعرب تقول لمن عمل شيئاً ولم يحكمه: ما عمل شيئاً"(2).
فإذا علمت ما سبق يا أخي المسلم فلا تنخدع بما يفعل ويقول أولئك السحرة، وتزداد يقيناً بكذبهم إذا علمت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يعلم الغيب فكيف يعلمه هؤلاء، فقد بين الله ذلك في خطابه لنبيه ليخطب به أمته فقال سبحانه وتعالى: { قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } (الأعراف:188).
ولقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يستخير ربه في الأمور الغيبية كما مر في دعاء الاستخارة ومنه قوله: " وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب".
وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: كنت خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - يوماً فقال: " يا غلام إني أعلمك كلمات؛ احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفع الأقلام وجفت الصحف"(3).
__________
(1) إكمال المعلم (7/145 – 155).
(2) الفتح (10/269).
(3) أخرجه أحمد في مسنده (3/195) (2669)، والترمذي في سننه (2516) واللفظ له وقال: " هذا حديث حسن صحيح"، وصححه الألباني في صحيح الترمذي (2/610).(1/44)
نعم يا أخي في الله ... إذا عزمت على أمر فاستعن بالله وحده وكفى به ولياً وناصراً لك، وإن تحيرت في أمر فاستخر ربك فإنه سبحانه لا تخفى عليه خافية يختار لك الخير ويدفع عنك الشر، ولا تلجأ للكهان ولا العرافين ولا المنجمين فإنهم لا يعلمون شيئاً وإنما يكذبون ويفترون.
توكل على الرحمن في كل حاجة ... أردت فإن الله يقضي ويقدر
إذا ما يرد ذو العرش أمراً بعبده ... يصبه وما للعبد ما يتخير
وقد يهلك الإنسان من وجه حذره ... وينجو بحمد الله من حيث يحذر
المطلب الثالث
في بيان معنى التطير وكيفية منافاته
للتوحيد وصورته في الوقت الحاضر
كان العرب إذا رغبوا في عمل ما أو على فعل شيء ما اعتمدوا على الطير، فإذا خرج أحدهم وسار إن رأى الطير طار يمنة وسار عن يمينه استمر في عزمه، وإن رآه طار عن شماله يسرة تشاءم به وعاد ورجع عما نواه.
قال العلامة أحمد بن حجر الشافعي – رحمه الله -: " وأصل التطير أنهم كانوا في الجاهلية يعتمدون على الطير فإذا خرج أحدهم لأمر فإن رأى الطير طار عن يمينه تيمن به واستمر، وإن رآه طار يسره تشاءم به ورجع، وربما كان أحدهم يهيج الطير ليطير فيعتمدها، فجاء الشرع بالنهي عن ذلك، وكانوا يسمونه السانح بمهملة ثم نون ثم حاء مهملة، والبارح بموحدة وآخره مهملة، فالسانح ما ولاك ميامنه بأن يمر عن يسارك إلى يمينك، والبارح بالعكس، وكانوا يتيمنون بالسانح ويتشاءمون بالبارح، لأنه لا يمكن رميه إلا بأن ينحرف إليه"(1).
__________
(1) الفتح (10/261).(1/45)
وقال العلامة محي الدين النووي الشافعي – رحمه الله-: "والتطير التشاؤم، وأصله الشيء المكروه من قول أو فعل أو شيء، وكانوا يتطيرون بالسوانح والبوارح، فينفرون الظباء والطيور، فإن أخذت ذات اليمين تبركوا به ومضوا في سفرهم وحوائجهم، وإن أخذت ذات الشمال رجعوا عن سفرهم وحاجتهم، وتشاءموا بها، فكانت تصدهم في كثير من الأوقات عن مصالحهم، فنفي الشارع ذلك وأبطله ونهى عنه، وأخبر أنه ليس له تأثير بنفع ولا ضر"(1).
وقد يتساءل الإنسان لماذا نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الطيرة؟ وما العلة في ذلك؟ الجواب على هذا بأن يقال: إن الامتناع عن المضي والفعل نتج عن أمر غيبي لا يدل عليه دليل ناطق، وإنما هي مجرد حركة لطير لا حول له ولا قوة، كما لا تدل حركته على خير أو شر فهو نوع استنباط غيبي، والأمور الغيبية لا تدخل للكائنات فيها وإنما هي من خصائص الخالق سبحانه علام الغيوب.
قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله - : " وليس في شيء من سنوح الطير وبروحها ما يقتضي ما اعتقدوا وإنما هو تكلف بتعاطي ما لا أصل له، إذ لا نطق للطير ولا تميز فيستدل بفعله على مضمون معنى فيه، وطلب العلم من غير مظانه جهل من فاعله، وقد كان بعض عقلاء الجاهلية ينكر التطير ويمتدح بتركه"(2).
ومعلوم أن الفأل الحسن أفضل من الطيرة؛ لما أخرجه البخاري في صحيحه(3) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: " سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " لا طيرة، وخيرها الفأل"، قالوا: وما الفأل؟ قال: " الكلمة الصالحة يسمعها أحدكم" .
__________
(1) شرح مسلم للنووي (7/480).
(2) الفتح (10/261 –262).
(3) برقم [(5756) الفتح (10/264)].(1/46)
وبين الخطابي سبب هذا التفضيل فقال – رحمه الله -: " وإنما كان ذلك لأن مصدر الفأل عن نطق وبيان، فكأنه خبر جاء عن غيب بخلاف غيره فإنه مستند إلى حركة الطائر أو نطقه وليس فيه بيان أصلاً، وإنما هو تكلف ممن يتعاطاه"(1).
وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - أن مثل التشاؤم لا يصد المسلم عن عزمه وقصده؛ وذلك فيما أخرجه مسلم في صحيحه(2) عن معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله أموراً كنا نصنعها في الجاهلية، كنا نأتي الكهان قال: " فلا تأتوا الكهان" قال: قلت: كنا نتطير، قال: " ذاك شيء يجده أحدكم في نفسه فلا يصدنكم".
تأمل أخي كيف نسب هذا الصحابي الجليل هذين الأمرين، أي: إتيان الكهان والتطير نسبهما إلى زمن الجاهلية وأفعال أصحابها، والمسلم يترفع عن ذلك كله.
وأمعن النظر في قوله - صلى الله عليه وسلم - : " فلا يصدنكم " قال القاضي عياض – رحمه الله- :" أي لا يصدنكم عما كنتم تريدون فعله، قيل: دل من هذا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما نهى عن الطيرة أن تعتقد أن لها تأثيراً، وأن من يصمم على العمل بها عمل عمل أهل الجاهلية، وأن نفيه لها نفي لحكمها لا نفي لوجودها إذا كانت الجاهلية تعتقدها، وتدين بها، ويجدون تأثيرها مما يقع في أوهامهم وتصادف قدر الله وما أمر الكهان" (3).
وقال الحافظ ابن حجر – رحمه الله -: " وإنما جعل ذل شركاً لاعتقادهم أن ذلك يجلب نفعاً أو يدفع ضراً، فكأنهم أشركوه مع الله تعالى"(4).
__________
(1) نقله الحافظ في الفتح (10/264).
(2) برقم (537) في السلام، باب: تحريم الكهانة وإتيان الكهان.
(3) إكمال المعلم (7/152).
(4) الفتح (10/262).(1/47)
2- وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا عدوى ولا طيرة، ولا هامة ولا صقر"(1).
3- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا عدوى ولا طيرة ولا صقر ولا هامة"(2).
* وجه كون التطير ينافي التوحيد:
واعلم أن التطير ينافي التوحيد الذي مقتضاه التوكل على الله سبحانه، ولكن كيف ذلك؟
قال العلامة محمد بن صالح العثيمين حفظه الله: " التطير ينافي التوحيد ووجه منافاته له من وجهين:
الأول: أن المتطير قطع توكله على الله واعتمد على غيره.
الثاني: أنه متعلق بأمر لا حقيقة له، فأي رابطة بين هذا الأمر، وبين ما يحصل لك، وهذا لاشك أنه يخل بالتوحيد؛ لأن التوحيد عبادة واستعانة قال تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } (الفاتحة:5) (3).
* أنواع أحوال المتطير:
وقال ابن عثيمين حفظه الله: " والمتطير لا يخلو من حالين:
الأول: أن يحجم ويستجيب لهذه الطيرة ويدع العمل، وهذا من أعظم التطير والتشاؤم.
الثاني: أن يمضي لكن في قلق وهم وغم يخشى من تأثير هذا المتطير به، وهذا أهون.
وكلا الأمرين نقص في التوحيد وضرر على العبيد، بل انطلق إلى ما تريد بانشراح صدر وتيسير واعتماد على الله عز وجل ولا تسئ الظن بالله"(4).
* صورة التطير في الزمن الحالي:
وقد يعترض علينا معترض بقوله: ما قلته في زمن قد مضى حيث كان التطير بالطيور، أما اليوم فلا وجود لمثل هذا.
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه (2220) في السلام، باب: لا عدوى ولا طيرة، ولا هامة وزاد " ولا نوء" من مسند أبي هريرة وجابر رضي الله عنهما، وأخرجه ابن ماجة في سننه واللفظ له (4/3539)، وانظر الصحيحة (782).
(2) أخرجه البخاري [(5756) الفتح (10/265)]، مسلم (2220)، وأبو داود في سننه (4/16) (3911).
(3) القول المفيد (2/77-78).
(4) القول المفيد (1/78).(1/48)
وأقول: إن التطير يوجد اليوم بين أفراد المجتمع ولكن بصورة غير مباشرة، وقد يسمونها بغير اسمها، فكثير من الناس في بعض البلاد إذا اخرج ورأى شيخاً كبيراً في السن أو عجوزاً عاد ورجع عما عزم عليه وتشاءم بما رآه في أول خروجه صباحاً ولسان حاله يقول: طالما رأينا العجوز في الصباح فلن نوفق في هذا اليوم، وإن لم ينطق بذلك، وأحياناً لسان الحال أبلغ من لسان المقال.
وفي بعض البلاد الإسلامية، أقول: مع الأسف الشديد في بعض البلاد الإسلامية بعض الباعة أصحاب المحلات والمتاجر إذا كان أول زبائنهم أو أول من يدخل عليهم صباحاً أعور العين فإنهم يغلقون دكانهم ويعودون أدراجهم من حيث قدموا زاعمين أنهم لن يوفقوا أو يربحوا في يوم صباحه استفتحهم فيه أعور فقد إحدى عينيه.
وبعضهم إذا خرج ورأى طائر البوم أو الغراب عاد ولم يمض فيما عزم لأنه يتشاءم من هذين الطيرين، إلى غير ذلك من الغرائب والعجائب.
وهذا الذي يصنعه أهل الزمن الحاضر كان يتركه ويفتخر بتركه أهل الزمن الغابر حتى قال شاعرهم في الجاهلية قبل الإسلام:
الزجر والطير والكهان كلهم ... مضللون ودون الغيب أقفال
وقال آخر:
لعمرك ما تدري الطوارق بالحصى ... ولا زاجرات الطير ما الله صانع
وقال آخر:
تخير طيرة فيها زياد ... لتخبره وما فيها خبير
تعلم أنه لا طير إلا ... على متطير وهو الثبور
بلى شيء يوافق بعض ... شيء أحاييناً وباطله كثير(1).
هكذا كان يقول بعض عقلاء الجاهلية فما بال أهل الإسلام يقعون فيه؟
أيها المسلم لقد من الله عليك بصلاة الاستخارة التي تدل على كمال التوحيد في قلبك، فإذا عزمت على أمر استخر الله فيه وامض فيه إذا كان مما يجوز الاستخارة فيه كما سبق بيانه، ولا يصدنك عجوز لا ذنب لها في كبر سنها ولا طير ولا نوء ولا غير ذلك.
المطلب الرابع
في صلة الاستخارة بالتوحيد مباشرة
__________
(1) نقل هذه الأبيات الحافظ ابن حجر في الفتح (1/262).(1/49)
إن للاستخارة صلة قوية بالتوحيد، وذلك أن الإنسان عادة – ولله المثل الأعلى – لا يستشير إلا من يحب، ولا يشاور إلا من له مكانة في القلب، ومنزلة في النفس، وتعظيم لرأيه وتوجيهه.
فالعبد الذي يستخير ربه في أموره كلها، ويناديه بتلك الكلمات الجليلة، ويناجيه بألفاظها الغزيرة، هذا العبد قد عظم مولاه، وعرف مكانته، وعلمه الذي لا حدود له.
فالاستخارة توحيد خالص، فيها التسليم لله، واليقين بتوفيقه، والاعتراف بعلمه للمغيبات، والتصريح بتصرفه سبحانه في الأقدار كما شاء، ومن خلال طرح النقاط التالية تنجلي لك الصلة بينهما أكثر فأكثر.
* الاستخارة بديل لما كان عليه العرب من الأزلام، والتنجيم والتكهن:
قال الله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } (المائدة:3).
والأزلام هي: قداح الميسر واحدها زَلَم وزُلم(1).
__________
(1) الجامع لأحكام القرآن (6/40).(1/50)
وكانت الأزلام والاستقسام – وهو طلب القسم والنصيب – عند العرب على ثلاثة أنواع، ومنها: " التي كان يتخذها كل إنسان لنفسه، على أحدها: افعل، وعلى الثاني: لا تفعل، والثالث: مهمل لا شيء عليه، فيجعلها في خريطة معه، فإذا أراد فعل شيء أدخل يده – وهي متشابهة – فإذا خرج أحدها ائتمر وانتهى بما يخرج له، وغن خرج القدح الذي لا شيء عليه أعاد الضرب.
وإنما قيل هذا الفعل استقسام لأنهم كانوا يستقسمون به الرزق وما يريدون.
ونظير هذا الذي حرمه الله تعالى قول المنجم: لا تخرج من أجل نجم كذا، واخرج من نجم كذا، وقال عز وجل: { وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً } (لقمان: من الآية34).
هكذا كانت العرب تفعل في الجاهلية، وهو عمل محرم وصفه الله سبحانه بالفسق كما قال سبحانه في ختام تلك المحرمات: { ذَلِكُمْ فِسْقٌ } (المائدة: من الآية3) (1).
وحرمه الله لأنه نوع من التعرض لدعوى علم الغيب، كما أنه ليس للأزلام في معرفة علم الغيب والمستقبل أي أثر، ما هي إلا أقداح من خشب وغيره لا حول لها ولا قوة.
قال العلامة أبو عبد الله القرطبي – رحمه الله-: "قال الكيا الطبري:
وإنما نهى الله عنها فيما يتعلق بأمور الغيب، فإنه لا تدري نفس ماذا يصيبها غداً، فليس للأزلام في تعريف المغيبات أثر"(2).
ولما جاء الإسلام أبطل هذا العمل الذي لا ينفع ولا يضر، وخطأ هذه العقيدة الباطلة ووصفها بالفسق، وشرع لنا الاستخارة التي فيها النفع والخير الكثير.
قال العلامة ابن القيم الجوزية – رحمه الله -: " وأغنانا عن الاستقسام بالأزلام طلباً لما هو خير وأنفع لنا بالاستخارة التي هي توحيد وتفويض، واستعانة وتوكل"(3).
__________
(1) قاله القرطبي في تفسيره (6/40).
(2) الجامع لأحكام القرآن (6/41).
(3) إغاثة اللهفان (2/70)، ومعنى قوله: أغنانا أي: أغنانا الله سبحانه.(1/51)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله-: " وأهل النجوم لهم اختيارات إذا أراد أحدهم أن يفعل فعلاً أخذ طالعاً سعيداً فعمل فيه ذلك العمل لينجح بزعمهم، وقد وصف الناس كتباً في الرد عليهم وذكروا كثرة ما يقع من خلاف مقصودهم فيما يخبرون به ويأمرون به، وكم يخبرون من خبر فيكون كذباً، وكم يأمرون باختيار فيكون شراً"(1).
وقال أيضاً – رحمه الله -: وهذه الاختيارات لأهل الضلال بدل الاستخارة التي علمها النبي - صلى الله عليه وسلم - المسلمين كما أخبر جابر في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري وغيره"(2).
* الاستخارة فيها التسليم لما يختاره الله، والاعتراف الكامل بأن الله علام الغيوب:
إن المؤمن يؤمن إيماناً جازماً أن الله تعالى يختار لعباده ما يشاء، وسبحانه المتصرف في الكون والأقدار بعلمه وحكمته.
قال تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } (القصص:68).
وقال الشاعر:
العبد ذو ضجر والرب ذو قدر ... والدهر ذو دول والرزق مقسوم
والخير أجمع فيما اختار خالقنا ... وفي اختيار سواه اللوم والشوم
فإذا تقرر ذلك، فن الاستخارة خير ما يوكل فيها العبد أمره إلى مولاه ليختار له خيري الدنيا والآخرة.
ويبدو ذلك جلياً واضحاً في لفظ دعاء الاستخارة عند قوله: " اللهم إني أستخيرك بعلمك" والباء في قوله: " بعلمك" سببية؛ أي: بسبب علمك بالغيب والخير.
__________
(1) الفرقان بين الحق والباطل (ص 117).
(2) الفرقان (ص 116).(1/52)
" والمعنى: أطلب منك أن تشرح صدري لخير الأمرين بسبب علمك بكيفيات الأمور وجزئياتها، وكلياتها، إذ لا يحيط بخير الأمرين على الحقيقة إلا من هو كذلك كما قال تعالى: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ } (البقرة: من الآية216) (1).
ويعترف العبد بقدرة الله سبحانه وعلمه بالأمور، ويقر بعجزه وقلة علمه وانعدامه في الأمور الغيبية.
حيث يقول العبد في لفظ الدعاء: [" فإنك تقدر ولا أقدر" أي: لا أقدر على شيء إلا بقدرتك وحولك وقوتك].
وتقول: " وتعلم ولا أعلم" أي: وتعلم بالعلم المحيط بجميع الأشياء خيرها وشرها كليها وجزئيها وغيرها؛ ولا أعلم أي: لا أعلم شيئاً منها إلا بإعلامك وإلهامك.
وتقول: " وأنت علام الغيوب" وهذا من الاكتفاء أو من طريق البرهان؛ أي: أنت كثير العلم بما يغيب عن السوى، فإنك تعلم السر وأخفى، فضلاً عن الأمور الحاضرة والأشياء الظاهرة في الدنيا والآخرة] (2).
أرأيت أخي كيف أن النطق بهذه العبارات اعتراف بالعقيدة الصحيحة، ووصف لله سبحانه بصفات الكمال والتعظيم؟
__________
(1) قاله علي القاري في المرقاة شرح المشكاة (3/402).
(2) انظر ما سبق في المرقاة (3/403).(1/53)
وقال العلامة بدر الدين العيني الحنفي رحمه الله وهو يذكر ما في حديث جابر من الفوائد: [" وفيه أنه يجب على المؤمن رد الأمور كلها إلى الله تعالى وصرف أزمتها والتبرؤ من الحول والقوة إليه، وأن لا يروم شيئاً من دقيق الأمور ولا جليلها حتى يسأل الله فيه، ويسأله أن يحمله فيه على الخير، ويصرف عنه الشر إذعاناً بالافتقار إليه في كل أمره، والتزاماً لذاته بالعبودية له، وتبركاً لاتباع سنة سيد المرسلين في الاستخارة، وربما قدر ما هو خير ويراه شراً نحو قوله تعالى: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ } (البقرة: من الآية216) (1).
المبحث الخامس
حول بيان ضعف بعض الأحاديث في الاستخارة
إن الأحاديث الضعيفة قد دخلت في جوانب كثيرة من جوانب هذا الدين، وغزت الكتب بألوانها وعلومها من فقه وعقائد ووعظ وتاريخ وسير وتفسير وغير ذلك.
والله سبحانه قيض لهذه الأمة من يحفظ لها أمر دينها، فيتصدون لما أدخل فيه فينفقون عنه تأويل الجاهلين، وانتحال المبطلين، وكذب الوضاعين.
ولما قيل للإمام عبد الله بن المبارك: هذه الأحاديث الضعيفة من لها؟ قال – رحمه الله -: يعيش لها الجهابدة.
فالدين بحاجة إلى تصفية، تصفية من البدع والخرافات، والأحاديث الضعيفة والموضوعة التي أدخلها ضعفاء النفوس والإيمان والحفظ والإتقان.
لهذا وذاك جعلت آخر بحث لي في هذه الرسالة بخصوص هذا الشأن لعلي أشارك ولو بالنزر اليسير في التصفية والتربية، وأحذر من شيء قد انتشر بين الناس، أسأل الله سبحانه القبول والتوفيق.
__________
(1) عمدة القاري (2/235).(1/54)
فجمعت بعض الأحاديث الضعيفة في الاستخارة، وبينت وجه الضعف فيها ونقلت تضعيف العلماء لها حتى تطمئن القلوب، ويحذر من روايتها الناس، ويأبوا قبولها والعمل بها إن سمعوها من جهول أو مجهول يروي ما هب ودرج، فإن القصاص قد كثروا في آخر الزمان، والله المستعان وعيه التكلان.
1- " ما خاب من استخار، وما ندم من استشار، ولا عال من اقتصد" [موضوع].
أخرجه القضاعي في مسند الشهاب (2/7) (774). والطبراني في الصغير (2/175) برقم (980 – الروض الداني ). وفي الأوسط (6/365) (6627) من طريق عبد السلام بن عبد القدوس عن أبيه عبد القدوس بن حبيب عن الحسن عن أنس بن مالك به.
وهذا إسناد تالف. عبد القدوس وابنه متهمان.
أما عبد
السلام بن عبد القدوس، فقد ضعفه أبو حاتم، وقال أبو داود: ليس بشيء. وقال ابن حبان: يروي الموضوعات.
وقال ابن عدي: " عامة ما يرويه ير محفوظ"(1).
وأما عبد القدوس بن حبيب فهو الكلاعي الشامي أحد المشاهير بالكذب.
قال ابن حبان فيه: " كان يضع الحديث على الثقات، لا يحل كتابة حديثه ولا الرواية عنه، وكان ابن المبارك يقول: لأن أقطع الطريق أحب إلي من أن أروي عن عبد القدوس الشامي".
وقال عبد الرزاق: ما رأيت ابن المبارك يفصح بقوله كذاب إلا لعبد القدوس.
وقال الفلاس: أجمعوا على ترك حديثه.
وقال النسائي: ليس بثقة.
وقال ابن عدي: " له أحاديث غير محفوظة، وهو منكر الحديث إسناداً ومتناً"(2).
وللحديث طرق أخرى أخرجها الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد (3/266) من طريق أبي جعفر محمد بن موسى عن أبيه علي، عن أبيه موسى عن آبائه عن علي قال: بعثني النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن فقال لي وهو يوصيني: " يا علي ما خاب من استخار، ولا ندم من استشار، يا علي عليك بالدلجة، فإن الأرض تطوى بالليل ما لا تطوى بالنهار، يا علي اغد باسم الله، فإن الله بارك لأمتي في بكورها".
__________
(1) الميزان (4/349).
(2) عمدة القاري (2/235).(1/55)
وهذا إسناد مظلم أوهى من السابق وفيه انقطاع ظاهر آباء موسى هذا، فلا يصلح هذا الإسناد، ولا تقوم به حجة:
و الحديث ضعفه أهل العلم وإليك البيان:
قال الهيثمي في المجمع (8/99): " رواه الطبراني في الأوسط والصغير من طريق عبد السلام بن عبد القدوس وكلاهما ضعيف جداً".
وقال الحافظ في الفتح (11/220): " أخرجه الطبراني في الصغير بسند واه جداً".
وقال العجلوني في الكشف له (2/185): " ضعيف جداً".
وقل محمد الطرابلسي السندروسي في الكشف الإلهي (2/618): " ضعيف جداً".
وقال الحوت في أسنى المطالب (ص 247): " سنده واه".
وقال العلامة ناصر الدين الألباني في الضعيفة (2/78): "موضوع".
2- " يا أنس إذا هممت بأمر فاستخر ربك فيه سبع مرات ثم انظر إلى الذي يسبق إلى قلبك فإن الخير فيه" [ضعيف جداً].
أخرجه ابن السني في عمل اليوم والليلة (ص 362) (598) من طريق إبراهيم بن البراء ثنا أبي عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " يا انس ..." فذكره.
وآفة هذا الحديث إبراهيم بن البراء هذا وهو: إبراهيم بن البراء بن النضر بن أنس بن مالك. قال عنه العقيلي في ضعفائه (1/45): " يحدث عن الثقات بالبواطيل".
وقال ابن حبان في المجروحين (1/118): " شيخ كان يدورالشام لا يجوز ذكره في الكتب إلا على سبيل القدح فيه".
وذكر له ابن عدي في الكامل (1/412) عدة أحاديث ثم قال فيه: " وإبراهيم بن البراء هذا أحاديثه التي ذكرتها وما لم أذكرها كلها مناكير موضوعة، ومن اعتبر حديثه علم أنه ضعيف جداً، وهو متروك الحديث".
والحديث تناوله أهل العلم بالضعف:
قال النووي في الأذكار (ص 113): " إسناده غريب فيه من لا أعرفهم". ومعنى غريب؛ أي ضعيف، فإن أهل الحديث يعبرون عن الضعف بالغرابة أحياناً، كما يفعل ذلك الترمذي كثيراً في سننه.(1/56)
وقال العراقي متعقباً النووي فيما قاله سابقاً: " كلهم معروفون ولكن بعضهم معروف بالضعف الشديد"(1).
وقال العراقي أيضاً: " فالحديث على هذا ساقط لا حجة فيه"(2).
وقال الحافظ في الفتح (11/223): " وهذا لو ثبت لكان هو المعتمد لكن سنده واه جداً".
3- " اللهم خر لي واختر لي" [ضعيف].
أخرجه الترمذي في سننه (5/250) (3516)، والبزار في مسنده (1/129)، برقم (59)، البحر الزخار) ، وأبو يعلى في مسنده (1/53) (40)، وابن السني في عمل اليوم والليلة (ص360) (597). والسهمي في تاريخ جرجان (ص 444) (843)، والبيهقي في الشعب (1/219) (204)، والعقيلي في الضعفاء (2/97)، وابن عدي في الكامل (4/208). والمزي في تهذيب الكمال (9/395)، والذهبي في السير (13/183).
كلهم من طريق زنفل بن عبد الله عن أبي مليكة عن عائشة عن أبي بكر الصديق أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أراد أمراً قال: ... فذكر الحديث، وزنفل هذا تفرد بهذا الحديث فلا يعرف لا من طريقه، وهو: زنفل بن عبد الله ويقال ابن شداد العرفي، أبو عبد الله المكي.
ضعفه أهل العلم وأجمعوا على ضعفه.
قال عنه ابن معين: ليس بشيء.
وقال النسائي: ليس بثقة.
وقال الحميدي: كان يلعب مع الصبيان.
وقال أبو زرعة: فيه ضعف ليس بشيء.
وقال أبو داود: ضعف تجئ عنه مناكير.
وقال ابن عدي: لا يتابع على ما يرويه.
وضعفه أبو حاتم وزكريا الساجي والدارقطني والحافظ في التقريب (3).
__________
(1) نقل كلامه الشوكاني في النيل (3/89).
(2) المصدر السابق.
(3) ضعفاء العقيلي (2/97)، الكامل (4/209)، تهذيب الكمال (9/394)، التقريب ص(34) والعلل لابن أبي حاتم (2/204) (2101).(1/57)
والحديث سأل عنه ابن أبي حاتم أبا زرعة كما في العلل له (2/204): فقال أبو زرعة: " هذا حديث منكر وزنفل فيه ضعف ليس بشيء" وضعفه الترمذي في سننه بعد إخراجه له (5/500) فقال: " هذا حديث غريب، لا نعرفه إلا من حديث زنفل... وتفرد بهذا الحديث ولا يتابع عليه".
وضعفه الحافظ ابن حجر في الفتح (11/220) وقال: " سنده ضعيف".
وأورده العجلوني في الكشف له (1/188) وأعله بزنفل هذا وقال الشوكاني في النيل (3/87): " في إسناده ضعف".
وضعفه العلامة محمد ناصر الدين الألباني في ضعيف الترمذي (ص385) (3516)، وفي السلسلة الضعيفة له (4/25) (1515).
4- " من سعادة ابن آدم استخارته الله، ومن سعادة ابن آدم رضاه بما قضاه الله، ومن شقوة ابن آدم تركه استخارة الله، ومن شقوة ابن آدم سخطه بما قضى الله" [ضعيف].
أخرجه أحمد في مسنده (2/209) (1444) واللفظ له، والترمذي في سننه (4/396) (2151)، والبزار في مسنده (4/18)، برقم 1178 البحر الزخار) إلا أنه قال: " من سعادة المرء" والحاكم في مستدركه (1/706) (1955)، والبيهقي في الشعب (1/203). من طريق محمد بن أبي حميد عن إسماعيل بن محمد بن سرور بن أبي وقاص عن أبيه عن سعد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .... فذكره.
وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، وحسن إسناده الحافظ في الفتح (11/220) ولكن الحديث ضعيف لضعف محمد بن أبي حميد هذا وهو: محمد بن أبي حميد إبراهيم الأنصاري الزرقي أبو المدني، لقبه حماد.
قال عنه أحمد: أحاديثه مناكير.
وقال ابن معين: ليس حديثه بشيء.
وقال الجوزجاني: واهي الحديث ضعيف.
وقال البخاري: منكر الحديث، ومعناه: لا تحل الرواية عنه.
وقال النسائي: ليس بثقة.
وقال أبو زرعة: ضعيف الحديث.
وهذا سند عليل كسابقه آفته عبد الرحمن بن أبي بكر وهو: عبد الرحمن بن أبي بكر بن عبيد الله بن أبي مليكة التيمي المدني.
قال عنه ابن معين: ضعيف.
وقال النسائي: ليس بثقة، وقال مرة: متروك الحديث.(1/58)
وقال أحمد: منكر الحديث.
وقال البخاري: منكر الحديث.
وقال أبو حاتم: ليس بقوي في الحديث.
وقال ابن عدي: لا يتابع في حديثه.
وقال ابن حبان: ينفرد عن الثقات ما لا يشبه حديث الإثبات.
وقال ابن خراش: ضعيف الحديث ليس بشيء.
وقال الحافظ ابن حجر: ضعيف، وقال البزار: لين الحديث" (1).
وضعف الحافظ العراقي رحمه الله هذين الطريقين اللذين أخرجهما البزار وهما: طريق محمد وعامر عن أبيهما سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، وكلاهما يرويه عنهما عبد الرحمن بن أبي بكر وهو الضعيف الذي مر، فمدار الإسناد عليه ولذا قال الحافظ العراقي عن هذين الطريقين:
" وكلاهما لا يصح إسناده" (2).
5- " إذا أراد أحدكم أمراً فليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب. اللهم إن كان كذا وكذا – للأمر الذي يريده – خيراً لي في ديني ومعيشتي وعاقبة أمري، فاقدره لي ويسره لي وأعني عليه، وإن كان كذا وكذا – للأمر الذي يريد – شراً لي في ديني ومعيشتي وعاقبة أمري، فاصرفه عني، ثم اقدر لي الخير أينما كان، لا حول ولا قوة إلا بالله" [ضعيف بزيادة الحوقلة في آخره].
أخرجه أبو يعلى في مسنده (2/115 – 116) (1337)، ابن حبان في صحيحه (3/167) (885). والطبراني في الدعاء (3/1408) (1304)، والبيهقي في الشعب (1/220) (206) من طريق عيسى بن مالك عن محمد بن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول ... فذكره.
قال الهيثمي في الجمع (2/284): " رواه أبو يعلى ورجاله موثوقون".
وقال العراقي: " إسناده قوي" نقله الشوكاني في النيل (3/87).
قلت: لكن في إسناده: عيسى بن عبد الله بن مالك الدار.
__________
(1) ضعفاء العقيلي (2/424)، تهذيب التهذيب (5/59)، التقريب (ص 571)، مسند البزار (3/305).
(2) نقله الشوكاني في نيل الأوطار (3/88).(1/59)
لم يوثقه غير ابن حبان على قاعدته المشهورة، واعتمد عليه الهيثمي فوثق رجال إسناده كما سبق.
وقل عنه علي ابن المديني: مجهول لم يرو عنه غير محمد بن إسحاق.
قلت: لكن المزي ذكر في تهذيبه خلقاً رووا عنه؛ لذا تعقب الحافظ ابن حجر كلام ابن المديني هذا فقال: روى عنه جماعة.
وقال الحافظ في التقريب: مقبول، أي: إذا تابعه أحد وإلا فلين الحديث.
فالظاهر أنه خرج من جهالة العين لأنه روى عنه جماعة، لكن الأظهر أنه بقى على جهالة الحال؛ لذا كان ابن القطان رحمه الله منصفاً في حقه لما قال عنه: مجهول الحال(1).
قلت: وحديث الاستخارة جاء من عدة طرق عن بعض الصحابة رضي الله عنهم، ولم تأت هذه الزيادة أعني قوله: " لا حول ولا قوة إلا بالله" إلا عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه من طريق عيسى بن عبد الله.
وحاله كما رأيت، فتفرده بهذه الزيادة لا يسعفه حاله لإثباتها وقبولها في باب العبادات.
وكثرة شواهد الحديث تقوي رواية جابر رضي الله عنه وتدل على نكارة هذه الزيادة لأنها من طريق مجهول.
وسبق ذكر حديث جابر ومن أخرجه في بداية الكتاب، كما جاء الحديث من مسند أبي هريرة رضي الله عنه عن ابن حبان في صحيحه (3/168) (886)، والطبراني في الدعاء (3/1409) (1306)، وكذلك جاء من مسند ابن عمر رضي الله عنهما عند الطبراني في الأوسط (1/286 – 287 ) (935)، ومن مسند ابن مسعود رضي الله عنه عند الطبراني في الأوسط (4/106) (3723) (3724)، وفي الكبير (10/78) (10/91) (10012، 10052) ، وكذل من مسند أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه عند الطبراني في الدعاء (3/1410) (1307).
وهذه الشواهد تدعم حديث جابر رضي الله عنه وفي كثير منها ضعف، ولكنها تعتضد ببعضها البعض، والملاحظ أنهم كلهم رووا الحديث دون الزيادة الأخيرة، فالحاصل أن حديث الاستخارة صحيح ولله الحمد لكن دون لفظ الحوقلة.
__________
(1) عمدة القاري (2/235).(1/60)
وضعف الحديث بهذه الزيادة العلامة ناصر الدين الألباني في الضعيفة (5/330) (305). والله أعلم.
والحمد لله وصلى الله على محمد وصحبه ومن اتبع هداه(1/61)
سلسلة بحوث وتحقيقات مختارة من مجلة الحكمة (13)
مئة فائدة حديثية من كتاب التنكيل للمعلمي اليماني
جمع : هشام البغدادي
قام بنشره
أبو مهند النجدي
Almodhe1405@hotmail.com
almodhe@yahoo.com
المقدمة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبي الرحمة محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد:
فهذه مجموعة من المعارف والفوائد تنفع طالب الحديث بعد دراسته لعلم المصطلح وتعينه على البحث العلمي في هذا العلم الشريف.
وعسى الله أن يجد طلاب العلم والمعرفة في هذا البحث ضالتهم المنشودة وعلى الله قصد السبيل ومنه الهداية والتوفيق "رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ } [آل عمران:8]
وقد احتوت هذه الرسالة (مئة فائدة) من الفوائد الحديثية لذهبي العصر العصر اليماني –رحمه الله- جمعتها من كتابه (التنكيل)، اتسمت هذه الفوائد بالمادة العلمية ذات الاستقراء العام والنظر الدقيق، المعروفين عن هذا العالم الجليل، وفي أسلوبه الأدبي الجميل في صياغة تلك الفوائد بدون تكليف أو تنطع فضلاً عن الإيجاز والسهولة في الطرح، اللذان يسهلان لطلاب العلم من الحفظ والإتقان لمثل هذا الكلام السلفي، وكذا اتسم أسلوبه بالبيان الشافي مع المثال الذي يمنع الاحتمال. وسوف يلتمس القارئ ذلك إن شاء الله من خلال قراءته لهذا الموجز.
1- من الذي تحتمل غرائبه؟
"أقول: ومن كثر حديثه لابد أن تكون عنده غرائب وليس ذلك بموجب للضعف، وإنما الذي يصر أن تكون تلك الغرائب منكرة" (1/33).
2- ما هو الخطأ الذي يضر؟
"أقول: الخطأ الذي يضر الراوي الإصرار عليه هو ما تخشى أن تترتب عليه مفسدة ويكون الخطأ من المصرّ نفسه، وذلك كمن يسمع حديثاً بسند صحيح فيغلط فيركب على ذلك السند متناً موضوعاً فينبهه أهل العلم فلا يرجع" (1/37).
3- في حال نسخة الحافظ من ثقات ابن حبان:(1/1)
"وكانت عند الحافظ ابن حجر من (ثقات ابن حبان) نسخة يشكو في كتبه من سقمها، قال في (تهذيب التهذيب) (8/203) "... ذكره ابن حبان في (الثقات ... وقال: روى عنه حبيب، كذا في النسخة وهي النسخة وهي سقيمة" وقال في (لسان الميزان) (2/442): "رافع ابن سلمان ... ذكره ابن حبان في (الثقات)، لكن وقع في النسخة –وفيها سقم ... رافع بن سنان" (1/39).
4- معنى قولهم في خلق فلان زعارة:
"ومعروف في اللغة ومتكرر في التراجم أن يقال في خلق فلان زعارة أي شراسة، وهذا وإن كان غير محمود فليس مما يقدح في العدالة أو يخدش في الرواية" (1/40).
5- تبرير نوم بعض المحدثين عند الشيوخ:
"وكان من عادة المكثرين أن يترددوا إلى كبار الشيوخ ليسمعوا منهم، فربما جاء أحدهم إلى شيخ قد سمع منه الكثير يرجوا أن يسمع منه [ما] لم يسمعه من قبل، فيتفق أن يشرع الشيخ يتحدث لجزء قد كان ذاك المكثر سمعه منه قبل ذلك فلا يعتني باستماعه ثانياً أو ثالثاً لأنه يرى ذلك تحصيل حاصل" (1/45).
6- الفرق بين قولهم يروي مناكير وفي حديثه نكارة:
"وبين العبارتين فرق عظيم "يروي مناكير" يقال في الذي يروي ما سمعه مما فيه نكارة ولا ذنب له في النكارة، بل الحمل فيها على من فوقه، فالمعنى أنه ليس من المبالغين في التنقي والتوقي الذين لا يحدثون مما سمعوا لا بما لا نكارة فيه، ومعلوم أن هذا ليس بجرح، وقولهم "في حديثه مناكير" كثيراً ما تقال فيمن تكون النكارة من جهته جزماً أو احتمالاً فلا يكون ثقة" (1/47).
7- معنى قول ابن معين ليس بشيء:(1/2)
"أن ابن معين قد يقول: "ليس بشيء" على المعنى قلة الحديث، فلا تكون جرحاً، وقد يقولها على وجه الجرح كما يقولها غيره فتكون جرحاً، فإذا وجدنا الراوي الذي قال فيه ابن معين: "ليس بشيء" قليل الحديث وقد وثق، وجب حمل كلمة ابن معين على معنى قلة الحديث لا الجرح، وإلا فالظاهر أنها جرح، فلما نظرنا في حال ثعلبة وجدناه قليل الحديث، ووجدنا ابن معين نفسه قد ثبت عنه أنه قال في ثعلبة: لا بأس به. وقال مرة: ثقة، كما في (التهذيب).
وممن قال ابن معين فيه: "ليس بشيء" أبو العطوف الجراح بن المنهال فنظرنا ف حاله فإذا له أحاديث غير قليلة ولم يوثقه أحد بل جرحوه، قال ابن المديني: "لا يكتب حديثه" وقال النسائي في "التمييز": "ليس بثقة ولا يكتب حديثه" وقال البخاري ومسلم: "منكر الحديث" وقال النسائي والدارقطني: "متروك" وقال أبو حاتم والدولابي الحنفي: "متروك الحديث ذاهب لا يكتب حديثه" وذكره البرقي فيمن اتهم بالكذب ، وقال ابن حبان: "كان يكذب في الحديث ويشرب الخمر ..." والكلام فيه أكثر من هذا فعرفنا أن قول ابن معين فيه: "ليس شئ" أراد بها الجرح كما هو المعروف عند غيره في معناها" (1/52).
8- هل الأمية قادحة في الضبط؟
"أما الأمية فليست مما يوجب قلة الضبط، وإنما غايتها أن يكون في رواية صاحبها كثير من الرواية بالمعنى، وليس ذلك بقادح" (1/67).
9- أين تخشى الرواية بالمعنى؟
"وأما الرواية بالمعنى فإنما تخشى في الأحاديث القولية" (1/67).
10- حكم الراوي الذي يكذب في حديث الناس:
"أن الكذب في الكلام ترد به الرواية مطلقاً وذلك يشمل الكذبة الواحدة التي لا يترتب عليها ضرر ولا مفسدة" (1/34).
11- "لا يلزم من التسامح في الشاهد أن يتسامح في الراوي" (1/34).
12- الفرق بين الشهادة والرواية:(1/3)
"الأول: أن الرواية أقرب إلى حديث الناس من الشهادة فإن الشهادة تترتب على خصومة ويحتاج الشاهد إلى حضور مجلس الحكم ويأتي باللفظ الخاص الذي لا يحتاج إليه في حديث الناس ويتعرض للجرح فوراً، فمن جربت عليه كذبة في حديث الناس لا يترتب عليها ضرر فخوف أن يجره تساهله في ذلك إلى التساهل في الرواية أشد من خوف أن يجره إلى شهادة الزور.
الثاني: أن عماد الرواية الصدق معقول أن يشدد فيها يتعلق به ما لم يشدد في الشهادة وقد خفف في الرواية في غير ذلك ما لم يخفف في الشهادة، ثم تقوم الحجة بخبر الثقة ولو واحداً أو عبد أو امرأة أو جالب منفعة إلى نفسه أو أصله أو فرعه أو ضرر على عدوه كما يأتي بخلاف الشهادة، فلا يليق بعد ذلك أن يخفف في الرواية فيما يمس عمادها.
الثالث: أن الضرر الذي يترتب على الكذب في الرواية أشد جداً من الضر الذي يترتب على شهادة الزور فينبغي أن يكون الاحتياط للرواية آكد ...(1)
الرابع: أن الرواية يختص لها قوم، محصورون ينشأون على العلم والدين والتحرز عن الكذب، والشهادة يحتاج فيها إلى جميع الناس لأن المعاملات والحوادث التي يحتاج إلى الشهادة عليها تتفق لكل أحد ولا يحصرها غالباً إلا أوساط الناس وعامتهم الذين ينشأون على التساهل، فمعقول أنه لوردت شهادة كل من جربت عليه كذبة لضاعت حقوق كثيرة جداً، ولا كذلك الرواية؛ نعم الفلتة والهفوة التي لا ضرر فيها ويعقبها الندم، وما يقع من الإنسان في أوائل عمره ثم يقلع عنه ويتوب منه وما يدفع به ضرر شديد ولا ضرر فيه وصاحبه مع ذلك مستوحش منه ربما يغتفر ... والله أعلم" (1/34-35).
13- ما كان ظاهراً في حق بعض الرواة كان محتملاً في حق غيرهم:
__________
(1) هنا كلام محذوف للاختصار.(1/4)
"ليس من الكذب ما يكون الخبر ظاهراً في خلاف الواقع محتملاً للواقع احتمالاً قريباً وهناك قرينة تدافع ذاك الظهور بحيث إذا تدبر السامع صار الخبر عنده محتملاً للمعنيين على سواء كالمجمل الذي له ظاهر ووقت العمل به لم يجيء، وكالكلام المرخص به في الحرب، وكالتدليس فإن المعروف بالتدليس لا يبقى قوله: "قال فلان" ويسمي شيخاً له ظاهراً في الاتصال بل يكون محتملاً، وهكذا من عرف بالمزاح إذا مزج بكلمة يعرف الحاضرون أنه لم يرد بها ظاهرها وإن كان فيهم من لا يعرف ذلك إذا كان المقصود ملاطفته أو تأديبه على أن ينبه في المجلس، وهكذا فلتات الغضب، وكلمات التنفير عن الغلو" (1/36).
14- أشد موجبات رد الراوي:
"كذبه في الحديث النبوي، ثم تهمته بذلك، وفي درجتها كذبه في غير الحديث النبوي فإذا كان في الرواية والجرح والتعديل بحيث يترتب عليه من الفساد نحو ما يترتب على الكذب في الحديث النبوي فهو في الدرجة الأولى، فالتهمة به في الدرجة الثانية أو الثالثة" (1/37).
15- كيف تقال التهمة بالكذب في حق الراوي:
"وينبغي أن يعلم أن التهمة تقال على وجهين:
الأول: قول المحدثين: "فلان متهم بالكذب" وتحرير ذلك أن المجتهد في أحوال الرواة قد يثبت عنده بدليل يصح الاستناد إليه أن الخبر لا أصل له وأن الحمل فيه على هذا الراوي، ثم يحتاج بعد ذلك إلى النظر في الراوي أتعمد الكذب أم غلط؟ فإذا تدبر وأمعن النظر فقد يتجه له الحكم بأحد الأمرين جزماً، وقد يميل ظنه إلى أحدهما إلا أنه لا يبلغ أن يجزم به، فعلى هذا الثاني إذا ظنه على أن الراوي تعمد الكذب قال فيه: "متهم بالكذب" أو نحو ذلك مما يؤدي هذا المعنى ... (1)
__________
(1) كلام محذوف للاختصار.(1/5)
الوجه الثاني: مقتضى اللغة، والتهمة عند أهل اللغة مشتقة من الوهم وهو كما في (القاموس) "من خطرات القلب أو مرجوح طرفي المتردد فيه" ولا تهمة بهذا المعنى تعرض في الخبر إذا كان فيه إثبات ما يظهر أن المخبر يجب أن يعتقد السامع ثبوته وذلك كشهادة الرجل لقريبه وصديقه وعلى من بينه وبينه نفرة، وكذلك إخباره عن قريبه أو صديقه بما يحمد عليه واخبراه عمن هو نافر عنه بما يذم عيه وقس على هذا كل ما من شأنه أن يدعو إلى الكذب .. وتلك الدواعي تخفي وتتفاوت آثارها في النفوس وتتعارض وتعارضها الموانع من الكذب، فلذلك اكتفى الشارع في باب الرواية بالإسلام والعدالة والصدق، فمن ثبتت عدالته وعرف بتحري الصدق من المسلمين فهو على العدالة والصدق في أخباره لا يقدح في أخباره أن يقوم به بعض تلك الواعي ولا أن يتهمه من لا يعرف عدالته أو لا يعرف أثر العدالة على النفي أو من له هوى مخالف لذلك الخبر" (1/38-39).
16- متى لا يقبل الجرح؟
"كل من ثبت عدالته لا يتهمه عارفوه الذين يعدلونه ولا الواثقون بتعديل المعدلين، فإن اتهمه غيرهم كان معنى ذلك أنه غير واثق بتعديل المعدلين، ومتى ثبت التعديل الشرعي لم يلتفت إلى من لا يثق به" (1/41).
17- شروط قبول الرواية:
"لا شبهة أن المبتدع إن خرج ببدعته عن الإسلام لم تقبل روايته لأن من شرط قبول الرواية الإسلام. وإنه إن ظهر عناده أو إسرافه في اتبع الهوى والإعراض عن حجج الحق ونحو ذلك مما هو أدل على وهن التدين من كثير من الكبائر كشرب الخمر وأخذ الربا فليس بعدل، فلا تقبل روايته لأن من شرط قبول الرواية العدالة. وإنه استحل الكذب، فإما أن يكفر بذلك، وإما أن يفسق، فإن عذرناه فمن شرط قبول الرواية الصدق فلا تقبل روايته، وإن من تردد أهل العلم فيه لفم يتحه لهم أن يكفروه أو يفسقوه ولا أن يعدلوه فلا تقبل روايته لأنه لم تثبت عدالته" (1/44).
18- شرح قبول الجوزجاني:(1/6)
"قال –الجوزجاني- في مقدمة كتابه في الجرح والتعديل ومنهم زائغ عن الحق، صدوق اللهجة، قد جرى في الناس حديثه، لكنه مخذول في بدعته، مأمون في روايته، فهؤلاء ليس فيهم حيلة إلا أن يؤخذ من حديثهم ما يعرف وليس بمنكر إذا لم تقو به بدعتهم فيتهمونه بذلك".
قال المعلمي: "فكأن الجوزجاني لما علم أنه سبيل إلى الطعن في هؤلاء وأمثالهم مطلقاً حاول أن يتخلص مما يكرهه من مروياتهم وهو ما يتعلق بفضائل أهل البيت، وعبارته المذكورة تعطى أن المبتدع الصادق اللهجة المأمون في الرواية المقبول حديثه عند أهل السنة إذا روى حديثاً معروفاً عند أهل السنة غير منكر عندهم إلا أنه مما قد تقوي به بدعته فإنه لا يؤخذ وأنه يتهم، فأما اختبار أن لا يؤخذ فله وجه رعاية للمصلحة كما مر، وأما أنه يتعم فلا يظهر له وجه بعد اجتماع تلك الشرائط إلا أن يكون المراد أن قد يتهمه من عرف بدعته ولم يعرف صدقه وأمانته، ولم يعرف أن ذاك الحديث معروف غير منكر فيسئ الظن به وبمروياته، ولا يبعد من الجوزجاني أن يصانع عما في نفسه بإظهار أنه إنما يحاول هذا المعنى فبهذا تستقيم عبارته" (1/47-48).
19- حكم رواية المبتدع ما يقوي بدعته:(1/7)
"أن من لا يؤمن منه تعمد التحريف والزيادة والنقص على أي وجه كان فلم تثبت عدالته، فإن كان كل من اعتقد أمراً ورأي أنه الحق وأن القربة إلى الله تعالى في تثبيته لا يؤمن منه ذلك فليس في الدنيا ثقة، وهذا باطل قطعاً، فالحكم به على المبتدع إن قامت الحجة على خلافه بثبوت عدالته وصدقه وأمانته فباطل، وإلا وجب أن لا يحتج بخبره البتة، سواء أوافق بدعته أم خالفها، والعدالة: "ملكة تمنع من اقتراف الكبائر ...(1/8)
" وتعديل الشخص شهادة له بحصول هذه الملكة، ولا تجوز الشهادة بذلك حتى يغلب على الظن غلبة واضحة حصولها له، وذلك يتضمن غلبة الظن بأن تلك الملكة تمن من تعمد التحريف والزيادة والنقص، زمن غلب على الظن غلبة يصح الجزم بها أنه لا يقع منه ذلك فكيف لا يؤمن أن يقع منه؟ ومن لا يؤمن أن يقع منه ذلك فلم يغلب على الظن أن له ملكة تمنعه من ذلك، ومن خيف أن يغلبه ضرب من الهوى فيوقعه في تعمد الكذب والتحريف لم يؤمن أن يغلبه ضرب آخر وإن لم نشعر به، بل الضرب الواحد من الهوى قد يوقع في أشياء يتراءى لنا أنها متضادة، فقد جاء أن موسى بن طريف الأسدي كان يرى رأي أهل الشام في الانحراف عن علي - رضي الله عنهم - وروي أحاديث منكرة في فضل علي ويقول: "إني لأسخر بهم" يعني بالشيعة، [إلى أن قال] هذا وقد مر تحقيق علة رد الداعية، وتلك العل ملازمة أتن يكون بحيث يحق أن لا يؤمن منه ما ينافي العدالة فهذه العلة إن ورجت في كل مبتدع روى ما يقي بدعته ولو لم يكن داعية وجب أن لا يحتج بشيء من مرويات من كان كذلك ولو فيما يوهن بدعته،/ وإلا –وهو الصواب- فلا يصح إطلاق الحكم بل يدور مع العلة،فذاك المروي المقوي لبدعة راويه إما غير منكر فلا وجه لرده فضلاً عن رد راويه، وإما منكر، فحكم المنكر معروف،وهو أنه ضعيف، فأما راويه فإن اتجه الحمل ليه بما ينافي العدالة كرميه بتعمد الكذب أو اتهامه به سقط البتة ون اتجه الحمل على غير ذلك كالتدليس المغتفر والوهم والخطأ لم يجرح بذلك، وإن تردد الناظر وقد ثبتت العدالة وجب القبول، وإلا أخذ بقول من هو أعرف منه أو وقف" (1/48) (53) مختصراً.
20- كلام العالم غي غيره على وجهين:
"الأول ما يخرج مخرج الذم بدون قصد الحكم".(1/9)
الوجه الثاني: ما يصدر على وجه الحكم فهذا إنما يخشى فيه الخطأ، وأئمة الحديث عارفون متبحرون متيقظون يتحرزون من الخطأ هدهم لكنهم متفاوتون في ذلك، ومهما بلغ الحاكم من التحري فإنه لا يبلغ أن تكون أحكامه كلها مطابقة لما في نفس الأمر" (1/54) (1/65).
21- ما هو مستند الأحكام:
"وغالب الأحكام إنما تبنى على غلبة الظن، والظن قد يخطئ، والظنون تتفاوت، فمن الظنون المعتد بها ماله ضابط شرعي، كمخبر الثقة، ومنها ما ضابطه أن تطمئن إليه نفس العارف المتوقي المتثبت بحيث يجزم بالأخبار بمقتضاه طيب النفس منشرح الصدر، فمن الناس من يغتر بالظن الضعيف فيجزم، وهذا هو الذي يطعن أئمة الحديث في حفظه وضبطه فيقولون: "يحدث على التوهم –كثير الوهم- كثير الخطأ- يهم- يخطئ" ومهم المعتدل، ومنهم البالغ التثبت" (1/56-57).
22- ما يخشى في الجرح يخشى في التعديل:(1/10)
"هذا وكل ما يخشى في الذم والجرح يخشى في الثناء والتعديل، فقد يكون الرجل ضعيفاً في الرواية لكنه صالح في دينه كأبان بن أبي عياش، أو غيور على السنة كمؤمل بن إسماعيل، أو فقيه كمحمد بن أبي ليلى، فتجد أهل العلم ربما يثنون على الرجل من هؤلاء غير قاصدين الحكم له بالثقة في روايته، وقد يرى العالم أن الناس بالغوا في الطعن فيبالغ هو في المدح كما يروي عن ماد بن سلمة أنه كذكر له طعن شعبة في أبان بن أبي عياش فقال: أبان خير من شعبة، وقد يكو العالم واداً لصاحبه فيأتي فيه نحو ما تقدم فيأتي كلمات الثناء التي لا يقصد بها الحكم ولاسيما عند الغضب كأن تسمع رجلاً يذم صديقك أو شيخك أو إمامك فإن الغضب قد يدعوك إلى المبالغة في إطراء من ذمه، وكذلك يقابل كلمات التنفير بكلمات الترغيب، وكذلك تجد الإنسان إلى تعديل من يميل إليه ويحسن به الطن أسرع منه إلى تعديل غيره، واحتمال التسمح في الثناء أقرب من احتماله في الذم، فإن العالم يمنعه من التسمح في الذم الخوف على دينه لئلا يكون غيبة، والخوف على عرضه فإن من ذم الناس دعاهم إلى ذمه.
ومن دعا الناس إلى ذمه ... ذموه بالحق والباطل
ومع هذا كله فالصواب في الجرح والتعديل هو الغالب، وإنما يحتاج إلى التثبت والتأمل فيمن جاء فيه تعديل وجرح، ولا يسوغ ترجيح الجرح مطلقاً بأن الجارح كان ساخطاً على المجروح، ولا ترجيح الجرح مطلقاً بأن المعدل كان صديقاً له، وإنما يستدل بالسخط والصداقة على احتمال الخطأ إذا كان محتملاً، فأما إذا لزم من اطراح الجرح أو التعديل نسبة من صدر منه ذلك إلى افتراء الكذب أو تعمد الباطل أو الغلط الفاحش الذي يندر وقوع مثله فهذا يحتاج إلى بينة أخرى، لا يكفي فيه إثبات أنه كان ساخطاً أو محباً" (1/58-59).
23- حال ابن خراش:
"عبد الرحمن بن يوسف بن خراش المحدث الحافظ فإنه من غلاة الشيعة بل نسب إلى الرفض فيتأتى في جرحه لأهل الشام للعداوة البينة في الاعتقاد" (1/59).(1/11)
24- حال الجوزجاني:
"وقد تتبعت كثيراً من كلام الجوزجاني في المتشيعين فلم أجده متجاوزاً الحد، وإنما الرجل لما فيه من النصب يرى التشيع مذهباً سيئاً وبدعة ضلالة(1) وزيغاً عن الحق وخذلاناً، فيطلق على المتشيعين ما يقتضيه اعتقاده كقوله: "زائغ عن القصد –سيئ المذهب" ... [إلى أن قال] وغاية الأمر أن الجوزجاني هَوّلَ، وعلى كل حال فلم يخرج من كلام أهل العلم" (1/60).
25- حكم الجرح المجمل:
"فالتحقيق أن الجرح المجمل يثبت به جرح من لم يعدل نصاً ولا حكماً، ويوجب التوقف فيمن قد عدل حتى يسفر البحث عما يقتضي قبوله أو رده" (1/64).
26- أمور لابد من اتباعها عند البحث في كتب الرجال:
"من أحب أن ينظر في كتب الجرح والتعديل للبحث عن حال رجل وقع في سند فعليه أن يراعي أموراً:
الأول: إذا وجد ترجمة بمثل ذاك الاسم فليثبت حتى يتحقق أن تلك الترجمة هي لذاك الرجل فإن الأسماء كثيراً ما تشتبه ويقع الغلط والمغالطة فيها.
والثاني: ليستوثق من صحة النسخة وليراجع غيرها إن تيسر له ليتحقق أن ما فيها ثابت عن مؤلف الكتاب. راجع (الطليعة) (ص55-59).
الثالث: إذا وجد في الترجمة كلمة جرح أو تعديل منسوبة إلى بعض الأئمة فلينظر إثباته هي عن ذاك الإمام أم لا؟ راجع (الطليعة) (ص78-86).
الرابع: ليستثبت أن تلك الكلمة قيلت في صاحب الترجمة فإن الأسماء تتشابه، وقد يقول المحدث كلمة في راو فيظنها السامع في آخر، ويحكيها كذلك وقد يحكيها السامع فيمن قيلت فيه ويخطئ بعض من بعده فيحملها على آخر.
الخامس: إذا رأى في الترجمة "وثقه فلان" أو "ضعفه فلان" أو "كذبه فلان" فليبحث عن عبارة فلان، فقد لا يكون قال: "هو ثقة" أو "هو ضعيف" أو "هو كذاب".
السادس: أصحاب الكتب كثيراً ما يتصرفون في عبارات الأئمة بقصد الاختصار أو غيره وربما يخل ذلك بالمعنى فينبغي أن يراجع عدة كتب فإذا وجد اختلافاً بحث عن العبارة الأصلية ليبني عليها.
__________
(1) كذا في الأصل والصواب "زيغاً".(1/12)
السابع: قال ابن حجر في (لسان الميزان) (ج1 ص17).
"وينبغي أن يتأمل أيضاً أقوال المركزين ومخارجها، ... فمن ذلك أن الدوري قال عن ابن معين أنه سُئل عن محمد بن إسحاق بمفرده فقال: "صدوق وليس بحجة، ومثله أن أبا حاتم قيل له: أيهما أحب إليك يونس أو عقيل؟ فقال: عقيل لا بأس به، وهو يريد تفتضيله على يونس، وسُئل عن عقيل وزمعة بن صالح فقال: عقيل ثقة متقن، وهذا حكم على اختلاف السؤال، وعلى هذا يحمل أكثر ما ورد من اختلاف أئمة الجرح والتعديل ممن وثق رجلاً في وقت وجرحه في وقت آخر..."(1).
الثامن: ينبغي أن يبحث عن معرفة الجارح أو المعدل بمن جرحه أو عدله، فإن أئمة الحديث لا يقتصرون على الكلام فيمن طالت مجالستهم له ومكنت معرفتهم به، بل قد يتكلم أحدهم فيمن لقيه مرة واحدة وسمع منه مجلساً واحداً، أو حديثاً واحداً، وفيمن عاصره ولم يلقه ولكنه بلغه شئ من حديثه وفيمن كان قبله بمدة قد تبلغ مئات السنين إذا بلغه شئ من حديثه، ومنهم من يجاوز ذلك، فابن حبان قد يذكر في (الثقات) من يجد البخاري سماه في (تاريخه) من القدماء. وإن لم يعرف ما روى وعمن روى ومن روى عنه، ولكن ابن حبان يشدد وربما تعنت فيمن وجد في روايته واستنكره وإن كان الرجل معروفاً مكثراً؟ والعجلي قريب منه في توثيق المجاهيل من القدماء، وكذلك ابن سعد، وابن معين والنسائي وآخرون غيرهما يوثقون من كان من التابعين أو أتباعهم إذا وجدوا رواية أحدهم مستقيمة بأن يكون له فيما يروي متابع أو شاهد، وإن لم يروا عنه إلا واحد ولم يبلغهم عنه إلا حديث واحد، فممن وثقه ابن معين من هذا الضرب الأسقع بن الأسلع والحكم بن عبد الله البلوي ووهب بن جابر الخيواني وآخرون، وممن وثقه النسائي رافع بن إسحاق وزهير بن الأقمر وسعد بن سمرة وآخرون.
__________
(1) في مقدمة رجال البخاري للباجي باب في هذا المعني.(1/13)
التاسع: ليبحث عن رأي كل إمام من أئمة الجرح والتعديل واصطلاحه مستعيناً على ذلك بتتبع كلامه في الرواة واختلاف الرواية عنه في بعضهم مع مقارنة كلامه بكلام غيره" (1/64-71) مع حذف الأمثلة.
27- طريقة ابن معين في الجرح والتعديل:
"وكان ابن معين إذا لقي في رحلته شيخاً فسمع منه مجلساً، أو ورد بغداد شيخ فسمع منه مجلساً فرأى تلك الأحاديث مستقيمة ثم سئل عن الشيخ؟ وثقه، وقد يتفق أن يكون الشيخ دجالاً استقبل ابن معين بأحاديث صحيحة ويكون قد خلط قبل ذلك أو يخلط بعد ذلك، ذكر ابن الجنيد أنه سأل ابن معين عن محمد بن كثير القرشي الكوفي فقال: "ما كان به بأس" فحكى له عنه أحاديث تُستنكر، فقال ابن معين: "فإن كان هذا الشيخ روى هذا فهو كذاب وإلا فإني رأيت حديث الشيخ مستقيماً" وقال ابن معين في محمد بن القاسم الأسدي: "ثقة وقد كتبت عنه" وقد كذبه أحمد وقال: "أحاديثه موضوعة" وقال أبو داود: "غير ثقة ولا مأمون، أحاديثه موضوعة".
وهكذا يقع في التضعيف ربما يجرح أحجمهم الراوي لحديث واحد استنكره وقد يكون عذر" (1/70).
28- معنى قولهم ليس بثقة وليس بثقة ولا مأمون والفرق بينهما:
"وكلمة "ليس بثقة" حقيقتها اللغوية نفي أن يكون بحيث يقال له "ثقة" ولا مانع من استعمالها بهذا المعنى، وقد ذكرها الخطيب في (الكفاية) في أمثلة الجرح غير المفسر... نعم إذا قيل: "ليس ثقة ولا مأمون" تعين الجرح الشديد، وإن اقتصر على "ليس بثقة" فالمتبادر جرح شديد، ولكن إذا كان هناك ما يشعر بأنها استعملت في المعنى الآخر حملت عليه، وهكذا كلمة ثقة معناها المعروف التوثيق التام، فلا تصرف عنه إلا بدليل، إما قرينة لفظية كقول يعقوب: "ضعيف الحديث فهو ثقة صدوق" وبقية الأمثلة السابقة، وإما حالية منقولة أو مستدل عليها بكلمة أخرى عن قائلها" (1/73).
29- متى يطالب بالتفسير؟ وأحوال الرجال الذين في الصحيحين:(1/14)
"فالتحقيق أن كلا من التعديل والجرح الذي لم يبين سببه يحتمل وقوع الخلل فيه، والذي ينبغي أن يؤخذ به منهما هو ما كان احتمال الخلل في أبعد من احتماله في الآخر، وهذا يختلف ويتفاوت باختلاف الوقائع والناظر في زماننا لا يكاد يتبين له الفصل في ذلك إلا بالاستدلال بصنيع الأئمة، كما إذا وجدنا البخاري ومسلماً قد احتجا أو أحدهما براو سبق ممن قبلهما فيه جرح غير مفسر، فإنه يظهر لنا رجحان التعديل غالباً، وقس على ذلك... لكن ينبغي النظر في كيفية رواية الشيخين عن الرجل فقد يحتجان أو أحدهما بالراوي في شيء دون شئ وقد لا يحتجان به، وإنما يخرجان له ما توبع عليه، من تتبع ذلك وأنعم ليه النظر علم أنهما في الغالب لا يهملان الجرح البتة بل يحملانه على أمر خاص، أو على لين في الراوي لا يحطه عن الصلاحية به فيما ليس مظنة الخطأ أو فيما توبع عليه ونحو ذلك" (1/77).
30- للعدالة جهتين:
"الأولى: استقامة السيرة، وثبوت هذا بالنظر إلى هذه القاعدة تظهر فيمن تظهر عدالته ويعدل تعديلاً معتمداً وتمضي مدة ثم يخرج، فأما ماعدا ذلك فالمدار على الترجيح وقد مر في القاعدة السابقة.
الجهة الثانية: استقامة الرواية وهذا يثبت عند المحدث بتتبعه أحاديث الراوي واعتبارها وتبين أنها كلها مستقيمة تدل على أن الراوي من أهل الصدق والأمانة، وهذا لا يتيسر لأهل عصرنا لكن إذا كان القادحون في الراوي قد نصوا على ما أنكروه من حديثه بحيث ظهر أن ماعدا ذلك من حديثه مستقيم فقد يتيسر لنا أن ننظر في تلك الأحاديث فإذا تبين أنلها مخارج قوية تدفع التهمة عن الرواي فقد ثبتت استقامة روايته... فأما ماعدا هذا فإننا نحتاج إلى الترجيح، فقد يترجح عندنا استقامة رواية الرجل باحتجاج البخاري به في صحيحه لظهور أن البخاري إنما احتج به بعد أن تتبع أحاديثه وسبرها وتبين له استقامتها، وقد علمنا مكانة البخاري وسعة اطلاعه ونفوذ نظره وشدة احتياطه في (صحيحه) (1/80).(1/15)
31- عادة ابن حجر في التهذيب واللسان:
"وعادة مؤلفها أن لا يجزم بالنقل فيما لم يثبت عنده" (1/88).
32- اصطلاح أبو نعيم في أخبرنا:
"أبا نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني ربما تكون له إجازة عامة من شيخ ثم يسمع الشيء ويرويه رجل عن ذاك الشيخ فيرويه أبو نعيم عن الشيخ نفسه بلفظ (أخبرنا) على اصطلاحه في الإجازة فيكون البلاء في هذا الحديث من الرجل الذي بين أبي نعيم وابن شاهين ويبرأ غيره. والله أعلم" (1/91-92).
33- حال ابن قتيبة وابن النديم:
"ابن قتيبة وابن النديم لا شأن لهما بمعرفة الرواية والخطأ والصواب فيها وأحوال الرواة ومراتبهم وإنما فن ابن قتيبة معرفة اللغة والغريب والأدب، وابن النديم رافضي وراق، فنه معرفة أسماء الكتب التي كان يتجر بها" (1/99-100).
34- حال ابن سعد في النقد:
"فليس ابن سعد في معرفة الحديث ونقده ومعرفة درجات رجاله في حد أن يقبل منه تليين من ثبته غيره على أنه في أكثر كلامه إنما يتابع شيخه الواقدي، والواقدي تالف، وفي (مقدمة الفتح) في ترجمة عبد الرحمن بن شريح: "شذ ابن سعد فقال منكر الحديث، ولم يلفت أحد إلى ابن سعد في هذا فإن مادته من الواقدي في الغالب والواقدي ليس بمعتمد [إلى أن قال ابن حجر]، إن تضعيف ابن سعد فيه نظر لاعتماده على الواقدي" (1/100-101).
35- متى تضر كثرة الغرائب؟
"وكثرة الغرائب إنما تضر الراوي في أحد حالين:
الأولى: أن يكون مع غرابتها منكرة عن شيوخ ثقات بأسانيد جيدة.(1/16)
الثانية: أن يكون مع كثرة غرائبه غير معروف بكثرة الطلب. ففي الحال الأولى تكون تبعة النكارة على الراوي نفسه لظهور براءة من فوقه عنها، وفي الحال الثانية يقال من أين له هذه الغرائب الكثيرة مع قلة طلبه؟ فيتهم بسرقة الحديث كما قال ابن نمير في أبى هشام الرفاعي: "كان أضعفنا وأكثرنا غرائب". وحفاظ نيسابور كانوا يعرفون صاحبهم بكثرة الطلب والحرص عليه وطول الرحلة وكثرة الحديث، ولازم ذلك كثرة الغرائب، وعرفوه مع ذلك بالأمانة والفضل والتثبت فلم يشكوا فيه، وهم أعرف به" (1/104).
36- حال الجوزجاني في أهل الكوفة:
"فأما حط الجوزجاني على أهل الكوفة فخاص بمن كان شيعاً يبغض بعض الصحابة أو يكون ممن يظن به ذلك" (2/106).
37- سبب اختيار الناس رواية القطيعي للمسند والزهد:
"وكتب الإمام أحمد كـ (المسند) و (الزهد) كانت نسخها مشهورة متداولة قد رواها غير القطيعي وإنما اعتنوا بالقطيعي واشتهرت رواية كالكتب من طريقه لعلو السند" (1/109).
38- سبب رواية الأكابر للموضوعات والمناكير:
"أقول: مدار التشديد في هذا الحديث الصحيح: "من حدث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكذابين" ومن تدبر علم أنه إنما يكون كاذباً على أحد وجهين:
الأول: أن يرسل ذاك الحديث جازماً كأن يقول: "قال النبي صلى الله عليه وسلم ...".(1/17)
الثاني: أن يكون ظاهر حاله في تحديثه أن ذاك الخبر عنده صدق أو محتمل أن يكون صدقاً فيكون موهماً خلاف الواقع فيكون بالنظر إلى ذلك الإيهام كاذباً، وقد علمنا أن قول من صحب أنساً: "قال أنس ..." موهم بل مفهم إفهاماً تقوم به الحجة أنه سمع ذلك من أنس إلا أن يكون مدلساً معروفاً بالتدليس، فإذا كان معروفاً بالتدليس فقال فيما لم يسمعه من أنس: "قال أنس..." إلا فيما سمعه من أنس، وبذلك زال الإفهام والإيهام فزال الكذب فهكذا، وأولى منه من عرف بأنه لحرصه على الجمع والإكثار والإغراب وعلى الإسناد يروي ما سمعه من الأخبار وإن كان باطلاً ولا يبين، فإنه إذا عرف بذلك لم يكن ظاهر حاله أنه لا يحدث غير مبين إلا بما هو عنده صدق أو محتمل الصدق، فزال الإيهام فزال الكذب، فلا يجرح ولكن يلام على شرهه ويذكر بعادته لتعرف، وكما يكفي المدلس أن يعرف عادته أهل العلم وإن جهلها غيرهم فكذلك هذا، لأن الفرض على غير العلماء مراجعة العلماء" (1/120-121).
39- حال أبو نعيم:
"والحق أن أبا نعيم نوضع من نفسه ومن كتبه فجزاؤه أن لا يعتد بشيء من مروياته إلا ما صرح فيه بالسماع الواضح" (1/123).
40- حال الذهبي في النقد:
"والذهبي معروف بالميل إلى الحنابلة" (1/124).
41- موقف المتحري من المجهول:
"فإن المتحري مثل الخطيب لا يطلق كلمة "مجهول" إلا فيمن يئس من أن يعرفه هو أو غيره من أهل العلم في عصره، وإذا لم ييأس فإنما يقول: "لا أعرفه" (1/126).
42- طريقة البخاري في انتقاء الرواة:(1/18)
"في باب: الإمام ينهض بالركعتين مع (جامع الترمذي): قال محمد بن إسماعيل البخاري: ابن أبي ليلى هو صدوق، وأروي عنه لأنه لا يدري صحيح حديثه من سقيمه، وكل من كان مثل هذا فلا أروي عنه شيئاً" والبخاري لم يدرك ابن أبي ليلى، فقوله: "لا أروي عنه" أي بواسطة، وقوله: "وكل من كان مثل هذا فلا أروي عنه شيئاً" يتناول الرواية بواسطة وبلا واسطة أولى، لأن المعروف عن أكثر المتحفظين أنهم إنما يتقون الرواية عن الضعفاء بلا واسطة، وكثيراً ما يروون عن متقدمي الضعفاء بواسطة.
وهذه الحكاية تقتضي أن يكون البخاري لم يرو عن أحد إلا وهو يرى أنه يمكنه تمييز صحيح حديثه من سقيمه، وهذا يقتضي أن يكون الراوي على الأقل صدوقاً في الأصل فإن الكذاب لا يمكن أن يعرف صحيح حديثه، فإن قيل: قد يعرف بموافقته الثقات، قلت: قد لا يكون سمع وإنما سرق من بعض أولئك الثقات، ولو اعتد البخاري بموافقة الثقات لروى عن ابن أبي ليلى ولم يقل فيه تلك الكلمة فإن ابن أبي ليلى عند البخاري وغيره صدوق، وقد وافق الثقات في كثير من أحاديثه، ولكنه عند البخاري كثير الغلط بحيث لا يؤمن غلطه حتى فيما وافق عليه الثقات، وقريب منه من عرف بقبول التلقين، فأنه قد يلقن من أحاديث شيوخه ما حدثوا به ولكنه لم يسمعه منهم، وهكذا من يحدث على التوهم فإنه قد يسمع من أقرانه عن شيوخه ثم يتوهم أنه سمعها من شيوخه فيرويها عنهم.
فمقصود البخاري من معرفة صحيح حديث الراوي من شيوخه لا تحصل بمجرد موافقة الثقات، وإنما يحصل بأحد أمرين إما يكون الراوي ثقة ثبتاً فيعرف صحيح حديثه بتحديثه، وإما أن يكون صدوقاً يغلط ولكن يمكن معرفة ما لم يغلط فيه بطريق أخرى كأن يكون له أصول جيدة، وكأن يكون غلطه خاصاً بجهة كيحيى بن عبد الله بن بكير روى عنه البخاري، وقال في (التاريخ الصغير) ما روى يحيى بن عبد الله بن بكير عن أهل الحجاز في التاريخ فإني اتقيه" ونحو ذلك.(1/19)
فإن قيل قضية الحكاية المذكورة أن يكون البخاري التزم أن لا يروي إلا ما هو عنده صحيح، فإنه كان يروي ما لا يرى صحته فأي فائدة في تركه الرواية عمن لا يدري صحيح حديثه من سقيمه؟ لكن كيف تصح هذه القضية مع أن في كتب البخاري –غير الصحيح- أحاديث غير صحيحة، وكثير منها يحكم هو نفسه بعدم صحتها؟ قلت: أما ما نبه على عدم صحته فالخطب فيه سهل وذلك بأن يحمل كونه لا يروي ما لا يصح على الرواية بقصد التحديث أو الاحتجاج فلا يشمل ذلك ما يذكره ليبين عدم صحته، ويبقى النظر فيما عدا ذلك، وقد يقال إنه إذا رأى أن الراوي لا يعرف صحيح حديثه من سقيمه تركه البتة ليعرف الناس ضعفه مطلقاً، وإذا رأى أنه يمكن معرفة صحيح حديثه من سقيمه في باب دون باب ترك الرواية عنه في الباب الذي لا يعرف فيه كما في يحيى بن بكر، وأما غير ذلك فإنه يروي ما عرف صحته وما قاربه أو أشبهه مبيناً الواقع بالقول أو الحال. والله أعلم" (1/129-130) مختصراً.
43- حال الأبَار:
"والأبار ناقل لا ناقد" (1/130).
44- حال سبط ابن الجوزي:
"السبط ليس بعمدة" (1/135).
45- حكم الاختلاف في وفاة راوٍ:
"وقوع الاختلاف في ذلك في الجملة إنما هو بمنزلة وقوعه في أدلة الأحكام لا يبيح إلغاء الجميع جملة بل يؤخذ بما لا مخالف له وينظر في المتخالفين فيؤخذ بأرجحهما، فإن لم يظهر الرجحان أخذ بما اتفقا عليه، مثال ذلك ما قيل في وفاة سعد بن أبي وقاص سنة 51، 54، 55، 56، 57، 58، فإن لم يترجح أحدهما أخذ بما دل عليه مجموعها أنه لم يعش بعد سنة 58. فإن جاءت رواية عن رجل أنه لقي "سعداً" بمكة سنة (65) مثلاً استنكرها أهل العلم، ثم ينظرون في السند فإذا وجدوا فيه من لم تثبت ثقته حملوا عليه" (1/183-184).
46- عادة للحفاظ في ترجمة الراوي:
"أن من عادتهم أنهم يحرصون على أن يذكروا في ترجمة الرجل أقدم شيوخه وأجلهم" (1/201).
47- ما الذي يمنع الكذاب الرواية عن المشهور وروايته عمن دونه:(1/20)
"قلت: منعه علمه بأن الكذب على المشاهير سرعان ما يفتضح لإحاطة أهل العلم بما رووه، بخلاف المغمورين الذين لم يرغب أهل العلم في استقصاء ما رووه" (1/201).
48- طريقة المتقدمين والمتأخرين في نقد الراوي:
"واعلم أن المتقدمين كانوا يعتمدون على الحفظ فكان النقاد يعتمدون في النقد عدالة الراوي واستقامة حديثه، فمن ظهرت عدالته وكان حديثه مستقيماً وثقوه، ثم صاروا يعتمدون الكتابة عند السماع فكان النقاد إذا استنكروا شيئاً من حديث الراوي طالبوه بالأصل، ثم بالغوا في الاعتماد على الكتابة وتقييد السماع فشدد النقاد فكان أكثرهم لا يسمعون من الشيخ حتى يشاهدوا أصله القديم الموثوق به المقيد سماعه فيه، فإذا لم يكن للشيخ أصل لم يعتمدوا عليه وربما صرح بعضهم بتضعيفه، فإذا ادعى السماع ممن يستبعدون سماعه منه كان الأمر أشد.
ولا ريب أن في هذه الحال الثالثة احتياطاً بالغاً لكن إذا عرفت عدالة الرجل وضبطه وصدقه وفي كلامه، وادعى سماعاً محتملاً ممكناَ، ولم يبرز به أصلاًَ واعتذر بعذر محتمل قريب ولم يأت بما ينكر فبأي حجة يرد خبره؟" (1/208).
49- من الذي يقبل فيه الجرح ومن لا يقبل؟
"ومن ثبت عدالته لم يقبل فيه الجرح بحجة وبينة واضحة" (1/228-229).
50- حال ابن الجوزي:
"ولا نعلم ابن الجوزي التزم الصحة فيما يحكيه بغير سند، ولو التزم لكان في صحة الاعتماد على نقله نظر لأنه كثير الأوهام، وقد أثنى عليه الذهبي في (تذكرة الحفاظ) كثيراً ثم حكى عن بعض أهل العلم أنه قال في ابن الجوزي: "كان كثير الغلط فيما يصنفه فإنه كان يفرغ ن الكتاب ولا يعتبره" قال الذهبي: "نعم له وهم كثير في تواليفه يدخل عليه الداخل من العجلة والتحويل إلى مصنف آخر ومن أجل أن علمه من كتب صحف ما مارس فيها أرباب العلم كما ينبغي " وذكر ابن حجر في (لسان الميزان) (3/84) حكاية عن ابن الجوزي ثم قال: "دلت هذه القصة على أن ابن الجوزي حاطب ليل لا ينقد ما يحدث به" (1/229).(1/21)
51- حكم من كان الرواة يدلسون اسمه:
"وساق الخطيب في (الموضح) فصلاً في ابن زنبور فذكر أن الرواة عنه غيروا اسمه على سبعة أوجه وهذا يشعر بأن الناس كانوا يستضعفونه لذلك كان الرواة عنه يدلسونه" (1/231).
52- إذا ثبت أن حديث ما هو خطأ فعلي من يعمل الخطأ قاله في حديثه استنكره الحفاظ من طريق محمد بن زنبور عن الحارث بن عمير:
"قال المعلمي: لو كان لابد من جرح أحد الرجلين لكان ابن زنبور أحق بالجرح، لأن عدالة الحارث أثبت جداً وأقدم، لكن التحقيق ما اقتضاه صنيع النسائي من توثيق الرجلين، ويحمل الإنكار في بعض حديث ابن زنبور عن الحارث على خطأ ابن زنبور، وقد قال فيه ابن حبان نفسه في (الثقات): "ربما أخطأ" (1/231).
53- بعض الروايات الخاصة:
"وقد وثق الأئمة جماعة من الرواة ومع ذلك خالفوهم فيما يروونه عن شيوخ معينين منهم عبد الكريم الجزري فيما يرويه عن عطاء، ومنهم عثمان بن غياث وعمرو بن أبي عمرو وداود ابن الحصين فيما يروونه عن عكرمة، ومنهم عمر بن أبي سلمة فيما يرويه عن زهير بن محمد، ومنهم هشيم فيما يرويه عن الزهري، ومنهم ورقاء فيما يرويه عن منصور بن المعتمر، ومنهم الوليد بن مسلم فيما يرويه عن مالك، فهكذا ينبغي مع توثيق ابن زنبور تضعيفه فيما يرويه عن الحارث بن عمير" (1/232).
54- الفرق بين التغيير والاختلاط:
"لأن التغيير أعم من الاختلاط" (1/234).
55- سبب إطلاق الأئمة التوثيق فيمن ذكرانه اختلط:
"وسكوت الحفاظ الأيقاظ كابن معين وأحمد وأبي خيثمة وكلهم بغداديون عن نقل اختلاط حجاج وبين تاريخه وبيان من سمع منه فيه مع إطلاقهم توثيق حجاج وتوثيق كثيرين ممن روى عن حجاج يدل حتماً على أحد أمرين: إما أن لا يكون حجاج اختلط، وإنما تغير تغيراً يسيراً لا يضر، وإما أن لا يكون سمع منه أحد في مدة اختلاطه" (1/234).
56- حكم التلقين والملقن:(1/22)
"التلقين القادح في الملقن هو أن يوقع الشيخ في الكذب ولا يبين، فإن كان إنما فعل ذلك، امتحاناً للشيخ وبين ذلك في المجلس لم يضره، وأما الشيخ فإن قبل التلقين وكثر ذلك منه فإنه يسقط" (1/236).
57- حال عثمان بن أبي شيبة:
"وعثمان على قلة كلامه في الرجال يتعنث" (1/240).
58- الفرق بين قول النسائي ليس بقوي وليس بالقوي:
"أقول: عبارة النسائي: "ليس بالقوي" وبين العبارتين فرق لا أراه يخفى على الأستاذ ولا على عارف بالعربية، فكلمة "ليس بقوي" تنفي مطلقاً وإن لم تثبت الضعف مطلقاً، وكلمة "ليس بالقوي" إنما تنفي الدرجة الكاملة من القوة، والنسائي يراعي هذا الفرق فقد قال هذه الكلمة في جماعة أقوياء منهم عبد ربه بن نافع وعبد الرحمن بن سليمان بن الغسيل فبين ابن حجر في ترجمتيهما من (مقدمة الفتح) أن المقصود بذلك أنهما ليسا في درجة الأكابر من أقرانهما، وقال في ترجمة الحسن بن الصباح: "وثقه أحمد وأبو حاتم، وقال النسائي: صالح، وقال في الكني: ليس بالقوي. قلت: هذا تليين هين، وقد روى عنه البخاري وأصحاب (السنن) إلا ابن ماجه ولم يكثر عنه البخاري" (1/240).
59- معنى قول الحفاظ زور:
"جرت عادتهم بكتابة السماع وأسماء السامعين في كل مجلس فمن لم يسمع له في بعض المجالس دل ذلك على أنه فاته فلم يسمعه، فإذا أدعى بعد ذلك أنه سمعه ارتابوا فيه لأنه خلاف الظاهر فإذا زاد فألحق اسمه أو تسمعيه بخط يحكي به خط كاتب بالتسميع الأول قالوا: زور" (1/242).
60- معنى قولهم فلان عسر:
"والعسر في الرواية هو الذي يمتنع من تحديث الناس إلا بعد الجهد وهذه الصفة تنافي التزيد ودعوى سماع ما لم يسمع، إنما يدعي سماع من لم يسمع من له شهادة شديدة في ازدحام الناس عليه وتكاثرهم حوله، ومن كان هكذا كان من شأنه أن يتعرض للناس يدعوهم إلى السماع منه ويرغبهم في ذلك" (1/243).
61- معنى قول الخطيب ليس بمحل للحجة:(1/23)
"فحاصله أنها لا تقوم الحجة بما يتفرد به، وهذا لا يدفع أن يعتمد عليه في الرواية عنه من مصنف معروف كـ (المسند) و (الزهد) (1/243).
62- ما هي الأصناف والتخريج والتحويل:
"فالذي يظهر لي أن ابن المذهب كان يتعاطى التخريج من أصول بعض الأحاديث فيكتب الحديث من طريق شيخ من شيوخه ثم يتصفح أصوله فإذا وجد ذاك الحديث قد سمعه من شيخ آخر بذاك السند كتب اسم ذاك الشيخ مع اسم الشيخ الأول في تخريج وهكذا، وهذا الصنيع مظنة للغلط: أن يريد أن يكتب اسم الشيخ على حديث فيخطئ فيكتب على حديث أخر، أو يرى السند متفقاً فيتوهم أن المتن متفق، وإنما هو متن آخر، وأشباه ذلك، وقد قال ابن معين: "من سمع من حماد بن سلمة الأصناف ففيها اختلاف ومن سمع منه نسخاً فهو صحيح" وقال يعقوب بن سفيان في سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي: "كان صحيح الكتاب إلا أنه كان يحول، فإن وقع فيه شئ فمن النقل وسليمان ثقة" والمراد بأصناف حماد وتحويل سليمان نحو ما ذكرت من التخريج" (1/244).
63- معنى قول أبو حاتم "يكتب حديثه ولا يحتج به":
"وهذه الكلمة يقولها أبو حاتم فيمن هو عنده صدوق ليس بحافظ يحدث بما لا يتقن حفظه فيغلط ويضطرب كما صرح بذلك في ترجمة إبراهيم بن مهاجر" (1/246).
64- في كيفية تحديد النكارة في إسناد ما:(1/24)
"والطريق العلمي في هذا اعتبار نما رواه غير خالد من الثقات عن هياج، وما رواه خالد عن الثقات غير هياج، وما رواه الحسين عن الثقات غير خالد، وبذلك يتبين الحال، فإذا وجدنا غير خالد من الثقات قد رووا عن هياج مناكير يتجه الحمل فيها عليه، ووجدنا خالداً قد روى عن الثقات أحاديث عديدة كلها مستقيمة، ووجدنا الحسين قد روي عن الثقات غير خالد أحاديث كثيرة كلها مستقية، سقط هياج وبرئ خالد وحسن، وهذا هو الذي تبين لابن حبان فذكر هياجاً في (الضعفاء) وقال: "كان مرجئاً يروي الموضوعات عن الثقات"، وذكر خالداً في (الثقات) وكذلك ذكر الحسين وقال: "كان ركناً من أركان السنة في بلده" وأخرج له في (صحيحه) وقد عرف حق المعرفة، وتوثيق ابن حبان لمن عرفه حق المعرفة من أثبت التوثيق" (1/247).
65- متى يشدد ابن معين:
"كان يحيى بن معين ينتقد على الرواة منا يراهم تفردوا به وربما شدد" (1/248).
66- السبب الباعث على سرقة الحديث:
"والباعث على سرقة الحديث هو الغرم بدعوى العلو" (1/281).
67- حال صالح جزرة في النقد:
"كلامه في الرواة جرحاً وتعديلاً فأكثر من أن يحصى وهو في قبول ذلك منه كغيره من أئمة الحديث بإجماع أهل العلم" (2/285).
68- ضعف الواقعة لا يدل على أنه ليس لها أصل:
"وإن دلت الشواهد على أن لها أصلاًَ في الجملة فإن ذلك لا يثبت من تفاصيلها ما لا شاهد له" (2/301).
69- في بيان أن كتب الرجال لم يستوعب:(1/25)
"وكتب الرجال التي بين أيدينا لم تستوعب الرواة، نعم يظهر من كلام الذهبي في خطبة (الميزان) أنه استوعب المتكلم فيهم، وإن من لم يذكره فهو إما ثقة وإما مستور، ومعلوم أن ذلك بحسب ما وقف عليه ولم يغلف عنه، وقد استدرك عليه من بعده جماعة وقفت أنا في الكتب الأخرى على أفراد مضعفين لم يذكروا في (لسان الميزان) وحاول جماعة استيعاب الثقات، والموجود بين أيدينا من كتاب ابن حبان وهو مختص بالقدماء هارون بن إسحاق وطبقته ومن قبلهم، وكثيراً ما يوجد في أسانيد كتب الحديث التي لم يعتن أهل العلم باستيعاب درواتها وكتب التاريخ وغيرهما مما تذكر فيه الأخبار بأسانيدها أسماء رواة لا نجدهم في الكتب التي بأيدينا ومنها أسماء تشبه الموجدين في الكتب ولكن تقوم القرائن على أن المذكور في السند رجل آخر" (2/320).
70- حال الحاكم:
"والحاكم إمام مقبول القول في الجرح والتعديل ما لم يخالفه من يرجح عليه" (2/325).
71- حال ابن بطة:
"فالذي يتحصل أن ابن بطة مع علمه وزهده وفضله وصلاحه البارع كثير الوهم في الرواية فلا يتهم بما ينافى ما تواتر من صلاحه ولا يحتج بما ينفرد بروايته ولا يشنع على الخطيب فيما صنعه وفاء واحب فنه وإظهار لمقتضى نظره" (2/358).
72- معنى قول ابن حبان (يغرب):
"وابن حبان قد يقول مثل هذا لم يستغرب له حديثاً واحداً أو زيادة في الحديث" (2/366).
73- حال السلمي:
"فأما السلمي فأراهم يحتملون حكاياته عن الدارقطني مع أنه على يدي عدل، راجع ترجمته في (لسان الميزان) (5/140) و (2/349).
74- متى يسلم المدلس من الجرح بالتدليس:
"والمدلس إنما يسلم من الجرح بالتدليس إذا كان قد عرف عنه أنه يدلس، فإن ذلك يكون قرينة تخلصه من أن يكون تدليسه كذباً" (2/387-388).
75- حكم رواية المحتاط عن غيره:(1/26)
"والحكم فيمن روى عنه أحد أولئك المحتاطين أن يبحث عنه فإن وجد أن الذي روى عنه قد جرحه تبين أن روايته عنه كانت على وجه الحكاية فلا تكون توثيقاً، وإن وجد أن غيره قد جرحه جرحاً أقوى مما تقتضيه روايته عنه ترجح الجرح، وإلا فظاهر روايته عنه التوثيق" (2/424).
76- درجات توثيق ابن حبان:
"والتحقيق أن توثيقه على درجات:
الأولى: أن يصرح به كأن يقول "كان متقناً" أو "مستقيم الحديث" أو نحو ذلك.
الثانية: أن يكون الرجل من شيوخه الذين جالسهم وخبرهم.
الثالثة: أن يكون من المعروفين بكثرة الحديث بحيث يعلم أن ابن حبان وقف له على أحاديث كثيرة.
الرابعة: أن يظهر من سياق كلامه أنه عرف ذلك الرجل معرفة جيدة.
الخامسة: ما دون ذلك.
فالأولى لا تقل عن توثيق غيره من الأئمة بل لعلها أثبت من توثيق كثير منهم، والثانية قريب منها، والثالثة مقبولة، والرابعة صالحة، والخامسة لا يؤمن فيها الخلل والله أعلم" (2/450-451).
77- حال ابن عقدة:
"وابن عقدة ليس بعمدة كما تقدم في ترجمته وقد تعقب الخطيب حكايته هذه في التاريخ (ج2 ص237) فقال: "في الجرح بما يحكيه أبو العباس بن سعيد (ابن عقدة) نظر، حدثني علي بن محمد بن نصر قال: سمعت حمزة السهمي يقول: سألت أبا بكر ابن عيدان عن ابن عقدة إذا حكى حكاية عن غيره من الشيوخ في الجرح فهل يقبل قوله أم لا؟ فقال: لا يقبل" (2/453-454).
78- حال مسلمة بن قاسم في النقد:
"حده أن يقبل منه توثيق من لم يجرحه من هو أجل منه ونحو ذلك، فأما أن يعارض بقوله نصوص جمهور الأئمة فهذا لا يقوله عاقل" (2/457).
79- أسباب الخلل الواقع في المستدرك:
والذي يظهر لي في ما وقع في (المستدرك) من الخلل أن له عدة أسباب:(1/27)
الأول: حرص الحاكم على الإكثار وقد قال في خطبة (المستدرك): "قد نبغ في عصرنا هذا جماعة من المبتدعة يشتمون برواة الآثار بأن جميع ما يصح عندكم من الحديث لا يبلغ عشرة آلاف حديث وهذه الأسانيد المجموعة المشتملة على ألف جزء أو أقل أو أكثر كلها سقيمة غير صحيحة" فكان له هوى في الإكثار للرد على هؤلاء.
والثاني: أنه قد يقع له الحديث بسند عال أو يكون غريباً مما يتنافس فيه المحدثون فيحرص على إثباته...
الثالث: أنه لأجل السببين الأولين ولكي يخفف عن نفسه من التعب في البحث والنظر لم يلتزم أن لا يخرج ماله علة وأشار إلى ذلك، قال في الخطبة: "سألني جماعة ... أن أجمع كتاباً يشتمل على الأحاديث المروية بأسانيد يحتج محمد بن إسماعيل ومسلم بن الحجاج بمثلها إذ لا سبيل إلى إخراج ما لا علة له فإنهما رحمهما الله لم يدعيا ذلك لأنفسهما" ولم يصب في هذا فإن الشيخين ملتزمان أن يخرجا إلا ما غلب على ظنهما بعد النظر والبحث والتدبر أنه ليس له علة قادحة، وظاهر كلامه أنه لم يلتفت إلى العلل البتة وأنه يخرج ما كان رجاله مثل رجالهما وأن لم يغلب على ظنه أنه ليس له علة قادحة.
الرابع: أنه لأجل السببين الأولين توسع في معنى قوله: "بأسانيد يحتج .. بمثلها" فبنى على أن في رجال الصحيحين من فيه كلام فأخرج عن جماعة يعلم أن فيهم كلاماً. ومحل التوسع أن الشيخين إنما يخرجان لمن فيه كلام في مواضع معروفة.
أحدهما: أن يؤدي اجتهادهما إلى أن الكلام لا يضره في روايته البتة، كما أخرج البخاري لعكرمة.
الثاني: أن يؤدي اجتهادهما إلى أن ذاك الكلام إنما يقتضي أنه لا يصلح للاحتجاج به وحده، ويريان أنه يصلح لأن يحتج به مقروناً أو حيث تابعه غيره ونحو ذلك.(1/28)
ثالثها: أن يريا: أن الضعف الذي في الرجل خاص بروايته عن فلان من شيوخه، أو برواية فلان عنه، أو بما يسمع منه من غير كتابه، أو بما سمع منه بعد اختلاطه، أو بما جاء عنه عنعنة وهو مدلس ولم يأت عنه من وجه آخر ما يدفع ريبة التدليس. فيخرجان للرجل حيث يصلح ولا يخرجان له حيث لا يصلح. وقصر الحاكم في مراعاة هذا وزاد فأخرج في مواضع لمن لم يخرجا ولا أحدهما له بناء على أنه نظير من قد أخرجا له، فلو قيل له: كيف أخرجت لهذا وهو متكلم فيه؟ لعله يجيب بأنهما قد أخرجا لفلان وفيه كلام قريب من الكلام في هذا ولو وفي بهذا لها الخطب، لكنه لم يف به بل أخرج لجماعة هلكى.
الخامس: أنه شرع في تأليف (المستدرك) بعد أن بلغ عمره اثنتين وسبعين سنة وقد ضعفت ذاكرته كما تقدم عنه وكان يظهر تحت يده كتب أخرى يصنفها مع (المستدرك) وقد استشعر قرب أجله فهو حريص على إتمام (المستدرك) وتلك المصنفات قبل موته، فقد يتوهم في الرجل يقع في السند أنهما أخرجا له، أو أنه فلان الذي أخرجا له، والواقع أنه رجل آخر، أو أنه لم يجرح أن نحو ذلك، وقد رأيت له في (المستدرك) عدة أوهام من هذا القبيل يجزم بها فيقول في الرجل: قد أخرج له مسلم مثلاً، مع أن مسلماً إنما أخرج لرجل آخر شبيه اسمه باسمه ويقول في الرجل: فلان في السند هو فلان بن فلان والصواب أنه غيره" (2/471-472).
80- حال الحاكم:
"لكنه مع هذا كله لم يقع خلل ما في روايته لأنه إنما كان ينقل من أصوله المضبوطة، وإنما وقع الخلل في أحكامه، فكل حديث في (المستدرك) فقد سمعه الحاكم كما هو، هذا هو القدر الذي تحصل به الثقة، فأما حكمه بأنه على شرط الشيخين، أو أنه صحيح، أو أن فلاناً المذكور فيه صحابي، أن أنه هو فلان بن فلان، نحو ذلك فهذا قد وقع فيه كثير من الخلل.(1/29)
هذا وذكرهم للحاكم بالتساهل إنما يخصونه بـ (المستدرك) فكتبه في الجرح والتعديل لم يغمزه أحد بشيء مما فيها أعلم، وبهذا يتبين أن التشبث بما وقع له في (المستدرك) وبكلامهم فيه لأجله إن كان لا يجاب التروي في أحكامه التي في (المستدرك) فهو وجيه، وإن كان للقدح في روايته أو في أحكامه في غير (المستدرك) في الجرح والتعديل ونحوه فلا وجه لذلك، بل حاله في ذلك كحال غيره من الأئمة العارفين، إن وقع له خطأ فنادر كما يقع لغيره، والحاكم في ذلك إطراح ما قام الدليل على أنه أخطأ فيه، وقبول ماعداه. والله الموفق" (2/472-473).
81- معنى قول ابن معين لم يكن من أهل الحديث:
"أقول: هذه كلمة مجملة، وقد فسرها الخطيب بقوله: "يعني لم يكن بالحافظ للطرق والعلل، وأما الصدق والضبط فلم يكن مدفوعاً عنه" (2/474).
82- حال العقيلي:
"قد كان في العقيلي تشدد ما ينبغي التثبت فيما يقول من عند نفسه في مظان تشدده، فأما روايته فهي مقبولة على كل حال" (2/479).
83- في بيان اصطلاح للباغندي:
"أنه كان يطلق فيما أخذه من ثقة عن أبي بكر بن أبي شيبة مثلاً "حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة" وإذ قد عرف اصطلاحه في هذا فليس بكذب، [إلى أن قال] وقد دلت استقامة حديث الباغندي وخلوه عن المناكير على أنه كان لا يدلس إلا فيما لا شبهة في صحته عمن يسميه فلا يقول مثلاً: "حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة" إلا فيما يستيقن أن أبا بكر ابن أبي شيبة حدث به فهذا تحقيق حاله" (2/484-485).
84- سبب إعراض الأئمة الستة على بعض الثقات في كتبهم:
"أقول: قد قدمنا مراراً أن كونهم لم يخرجوا للرجل ليس بدليل على وهنه عندهم ولاسيما من كان سنه قريباًً من سنهم وكان مقلاً كهذا الرجل فإنهم كغيرهم من أهل الحديث إنما يعنون بعلو الإسناد ولا ينزلون إلا لضرورة" (2/486).
85- معنى قول ابن حبان "ربما أخطأ":
"وقوله: "ربما أخطأ" لا ينافي التوثيق، وإنما يظهر أثر ذلك إذا خالف من هو أثبت منه" (2/712).(1/30)
86- ما هو شرط الثقة:
"فليس من شرط الثقة أن يتابع في كل ما حدث به، وإنما شرطه أن لا ينفرد بالمناكير عن المشاهير فيكثر" (2/490).
87- حكم كثرة الغلط وكيف يحكم به على الراوي:
"يرد رواية من كان الغالب عليه الغلط، ومن يغلط في حديثه مجتمع عليه فينكر عليه فلا يرجع. ومعلوم من تصرفاتهم ومن مقتضى أدلتهم أن هذا حكم الغلط الفاحش الذي تعظم مفسدته فلا يدخل ما كان يقع من شعبة من الخطأ في الأسماء وما كان يقع من وكيع وأشباه ذلك، وكما وقع من مالك كان يقول في عمرو بن عثمان: "عمر بن عثمان" وفي معاوية بن الحكم "عمر بن الحكم" وفي أبي عبد الله الصنابحي "عبد الله الصنابحي" وقد جاء عن معن بن عيسى أنه ذكر ذلك لمالك فقال مالك: "هكذا حفظنا وهكذا وقع في كتابي، ونحن نخطئ، ومن يسلم من الخطأ؟" فلم يرجع مالك مع اعترافه باحتمال الخطأ، فكلمة أبي حاتم في المسيب لا تدل على أنه كان في الغالب عليه، ولا إن خطأه كان فاحشاً، ولا أنه بين له في الحديث اتفاق أهل العلم في تخطئته فلم يرجع" (2/491-492).
88- حكم "صدوق يخطئ":
"حده أن لا يحتج بما ينفرد به" (2/493).
89- متى يقبل الجرح الغير مفسر ومتى لا يقبل؟
"والجرح غير المفسر قد تقدم في القواعد البحث فيه وأن التحقيق أنه مقبول من أهله إلا أن يعارضه توثيق أثبت منه، وبالجملة فالذي يخشى من جرح المخالف ومن الجرح الذي لم يفسر هو الخطأ، فمتى تبين أو ترجح أنه أخطأ لم يؤخذ به" (2/498).
90- حكم من كان سيئ الحفظ كثير الغلط:
"فحده أن لا يحتج به إلا فيما توبع فيه، وفيما ليس من مظان الخطأ" (2/500).
91- ما هو الراجح عند الخطيب؟
"روى ابن الأبنوسى عن الخطيب: "كل من ذكرت فيه أقاويل الناس من جرح أو تعديل فالتعديل على ما أخرت" كما في (تذكرة الحافظ) (3/315) (2/502).
92- حال نعيم بن حماد:
"كان شديداً على أهل الرأي" (2/508).
93- حال الأزدي:(1/31)
"وأما أبو الفتح محمد بن الحسين الأزدي فهو نفسه على يدي عدل" (2/509).
94- حكم النسيان والوهم:
"أما النسيان فلا يلزم منه خلل في الضبط لأن غايته أنه كان أولاً يحفظ أحاديث فحدث بها ثم نسيها فلم يحدث بها.
وأما الوهم، فإذا كان يسيراً يقع مثله لمالك وشعبة وكبار الثقات فلا يستحق أن يسمى خللاً في الضبط ولا ينبغي أن يسمى تغيراً غاية الأمر أنه رجع عن الكمال الفائق" (2/517).
95- منزلة طعن أهل البلد:
"أقول: الراوي الذي يطعن فيه محدثو بلده طعناً شديداً لا يزيده ثناء بعض الغرباء عليه إلا وهناً، لأن ذلك يشعر بأنه كان يتعمد التخليط فتزين لبعض الغرباء واستقبله بأحاديث مستقيمة فكن أن ذلك شأنه مطلقاً فأثنى عليه، وعرف أهل بلده حقيقة حاله، وهذه حال المغيرة هذا فإنه جزري أسقطه محدثو الجزيرة فقال أبو جعفر العقيلي: لم يكن مؤتمناً، وقال علي بن ميمون الرقي: كان لا يسوي بعرة، وأبو حاتم وأبو زرعة رازيان كأنهما لقياه في رحلتهما فسمعا منه فتزين لهما كما تقدم فأحسنا به الظن، وقد ضعفه ممن جاء بعد ذلك الدارقطني ابن عدي لأنهما اعتبرا أحاديثه، وحسبك دليلاً على تخليطه هذا الحديث".
96- الحكم بالتواتر أمر نسبي:
"فإنه من المعلوم أنه قد يحصل لشخص دون آخر وقد جاء عن ابن مسعود أنه كان يقول أن المعوذتين ليستا من القرآن واعتذر أهل العلم عنه بأنه لم يسمع من النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يصرح بقرآنيتهما ولا نواتر ذلك عنده مع أن من المقطوع به تواتر ذلك عند غيره".
97- "أن أئمة الحديث قد تبين لهم في حديث من رواية الثقة الثبت المتفق عليه أنه ضعيف وفي حديث من رواية من هو ضعيف عندهم أنه صحيح، والواجب على من دونهم التسليم لهم".
98- التفصيل في المختلف فيه:(1/32)
"إذا اختلفوا في راوٍ فوثقه بعضهم ولينه بعضهم ولم يأت في حقه تفصيل فالظاهر أنه وسط فيه لين مطلقاً وهذه حال النهشلي وإذا فصلوا، أو أكثرهم، الكلام في راوٍ فثبتوه في حال وضعفوه في أخرى قالوا يجب أن لا يأخذ حكم ذاك الراوي إجمالاً إلا في حديثه لم يتبين من أي الضربين هو، فإما إذا تبين فالواجب معاملته بحسب حاله".
99- عادة غير محكمة:
"الخطأ في الأسانيد أغلب ما يقع بسلوك الجادة فهشام بن عروة غالب رويته عن أبيه عن عائشة، وقد يروي عن وهب بن كيسان عن عبيد بن عمير، فقد يسمع الرجل من هشام خبراً بالسند الثاني ثم يمضي على السامع زمان فيشتبه عليه فيتوهم أنه سمع ذاك الخبر من هشام بالسند الأول على ما هو غالب المألوف، ولذلك تجد أئمة الحديث إذا وجدوا راويين اختلفا بأن رويا عن هشام خبراً واحداً جعله أحدهما عن هشام عن وهب عن عبيد، وجعله الآخر عن هشام عن أبيه عن عائشة، فالغالب أن يقدموا الأول ويخطؤوا الثاني، هذا مثال ومن راجع كتب علل الحديث وجد من هذا ما لا يحصى".(1/33)
سلسلة بحوث وتحقيقات مختارة من مجلة الحكمة(34)
تأليف
حققه وعلق عليه
Almodhe1405@hotmail.com
almodhe@yahoo.com
إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسوله.
أما بعد..
فإن مِنْ دواعي سرور العبدِ وفرحهِ توفيق الله له سبحانه أنْ يستخدمه لخدمة كتابات علماء الأمة ونشر تراث سَلَفها الأوائل، ومن حذا حذوهم وسلك منهجهم، فإني أرى أن نَشر كُتب الأسلاف، وأهل العلم خيرٌ من التأليف والجمع، لأسباب يطول ذكرها، ولا تحتمل هذهِ الديباجة سطرها، ورسالتنا اليوم للإمام المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، حُبست نسخها الخطية سنين طويلة في خزائن العراق مع أن كتابات الشيخ انبرى لها رجال في المملكة العربيةَ السعودية لإخراجها، فأخرجوا ولله الحمد كل ورقة من كتاباته، وهذا فضل من الله عليهم أن يستعملهم لمثل هذا العمل الجليل.
وبركة دعوة الشيخ يدركها من له أدنى حض من البصيرة، وما يعيش مسلم في عصرنا هذا سليم العقيدة إلا ولدعوة الإمام نصيب طيب عليه، والحقيقة أنه ما من حركة إصلاحية ظهرت في العالم الإسلامي إلا وتأثير حركة الشيخ عليها أمرٌ لا يكاد ينكره منصف، وكذا كل مصلحي الأمة الإسلامية ومجددي أمر دينها، بل إن كتابات شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه الإمام ابن القيم كادت أن تتلف من قبل أعداء الدعوة لولا فضل الله ثم أتباع هذه الدعوة، وكان لعلماء نجد – الذين هم ثمار الشيخ – فضل واضح في نشرها وذيوعها من جديد بعد أن آلت للدورس، وهذه الرسالة إحدى مختصرات الشيخ لكتب ابن القيم رحمه الله، وما هو بجديد على الشيخ فله ديدن في اختصار الكتب فله مختصرات عديدة نذكر منها:
(1) مختصر الصواعق.
(2) مختصر العقل والنقل.
(3) مختصر منهاج السنة.
(4) مختصر فتح الباري.
((1/1)
5) مختصر زاد المعاد.
(6) مختصر الشرح الكبير والإنصاف.
ويعد هذا الكتاب من سلسلة هذه المختصرات، وهو كتاب آخر لابن القيم يختصره الشيخ للإمام ابن القيم بعد "زاد المعاد".
والجدير بالذكر أن للمختصرات أثرًا كبيرًا في الدعوة، فما من دعوة إصلاحية تبرز إلا وتظهر معها الحاجة لرسائل صغيرة مختصرة تُبَث بين أبناء، الأمة تسهيلاً للعلم، وتذليلاً لصعابه على قلوب العامة ومحاكات لمداركهم، وإنزالاً للناس منازلهم والتدرج معهم، فالعلم مراتب ودرجات، لا بدَّ للداعية الفطن من خطوات أولية لتقريب هذا الدين للناس، فالناس ليس لكلهم القدرة والقابلية على قراءة المطولات وكتب أهل العلم، سيما كتابات شيخ الإسلام وتلميذه الإمام ابن القيم التي تتسم بالطول وكثرة الشجون والتفرعات والردود، فيشعر القارئ بتشابك في المعلومات وبُعد عن الغاية المطلوبة فيضل السبيل بين التفرعات والاستطرادات، لذا برزت أهمية الاختصار والتهذيب، وإنها لمهمة دعوية قيمة، فليس كل من اختصر أجاد، فإن تقدير التقديم والتأخير والحذف أمرٌ لا يقدّره إلا أهله.
ولله الحمد فإن رسالتنا المختصرة هذه حسبها أن يختصرها إمام من الأئمة وفحل من الفحول، وتلك هي وأيم الله منّة على الأمة أن يختصر أهل العلم بعضهم لبعض.
وقد اكترث من الكلام على المختصرات؛ لأننا نسمع بين الحين والآخر نقد للمختصرات المبثوثة في المكتبات، ولعل كلام الناقد البصير محمول على ما يفعله بعض التجار، أو حتى طلبة العلم أحيانًا من إخلال في مختصراتهم وعبث في كتابات علماء الأمة.(1/2)
وللشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله قدرة عجيبة في تيسير العلوم الشرعية للناس، فقد يسّر أمر التوحيد والعقيدة الإسلامية برسائله الصغيرة، وكتاباته التي بارك الله فيها فكانت سببًا لإنقاذ الأمة من دياجير الظلمات، وأوحال الشرك التي تلطخت به فكانت كتاباته بحق من قبيل السهل الممتنع، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
الطبعة السابقة للكتاب :
نشر الدكتور الفاضل فهد بن عبد الرحمن الرومي، الأستاذ المشارك ورئيس قسم الدراسات القرآنية بالكلية المتوسطة لإعداد المعلمين بالرياض هذا الكتاب وجعله قسمين الأول سماه "تفسير سورة الفلق" والثاني "تفسير سورة الناس".
نشر الرسالة الأولى في "مجلة البحوث الإسلامية" التي تصدر عن الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد في العدد "27"، ثم نشرتها مكتبة التوبة سنة (1410 هـ)، أما الثانية فقد نشرته نفس الدار سنة (1413 هـ)، والحقيقة أن طبعة الدكتور جزاه الله خيرًا للكتاب خدمة للعلم، ولنا عليه ملاحظات كانت وراء إعادة نشر هذه الرسالة:
الأولى: نشر الدكتور الرسالة بعنوان "تفسير سورة الفلق" تأليفل شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، وهذا خطأ فالكتاب مختصر لتفسير المعوذتين، وليس تأليفًا والفرق واضح بين الاختصار والتأليف.
الثانية: فَصْل المخطوطة برسالتين أمرٌ لا يقبله البحث العلمي فالمخطوطة واحدة في جميع نسخها والموضوع مترابط فالمعوذتان جمعهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله: (ما تعوذ المعوذون بمثلها)، وكذا أفعال الصحابة والسلف، وابن القيم سمي تفسيره المعوذتين، وكذا ابن تيمية وغيره فالفصل مرفوض من الناحية العلمية والموضوعية.
الثالثة: هناك في طبعة الدكتور إضافات على النص لا يوجد في مخطوطته التي اعتمدها، وقد أشرت لها في الهوامش.(1/3)
الرابعة: اعترض الدكتور على الإمام ابن القيم عدّة مرات، استعجل فيها بالنقد على ابن القيم وكان الحق مع ابن القيم.
الخامس: أكثر الدكتور من التعليقات حتى كادت تعليقاته أن تفوق حجم الرسالة.
السادسة: أن الدكتور اعتمد على مخطوطة واحدة في حين اعتمدت على ثلاث مخطوطات، ولله الحمد.
وأخيرًا فإن للدكتور جزاه الله خيرًا تعليقات قيّمة، والتفاتات رائعة استفدت منها ومن لا يشكر الناس لا يشكر الله.
النسخ المعتمدة في تحقيق الرسالة :
اعتمدت في تحقيق هذه الرسالة على ثلاث مخطوطات، واستفدت من الأصل المطبوع في بدائع الفوائد والذي طُبع مُستقلاً عدة مرات، والحقيقة أني حققت الرسالة كاملاً ثم رأيت طبعة الدكتور فهد الرومي جزاه الله خيرًا وعندما راجعت مطبوعة الدكتور تبين أنه أضاف أشياء من عنده وهذا أمرٌ مؤسف للغاية في التحقيق.
النسخة الأولى:
أثناء بحثي في مخطوطات شيخ الإسلام لإكمالي مشروع "المستدرك على مجموع الفتاوى" (1) عثرت على رسالة منسوبة لشيخ الإسلام ابن تيمية عدد صحفاتها (9) قطعها متوسط، وراودني شك أنها لشيخ الإسلام لأن الناسخ لم يكتب أنها لشيخ الإسلام، وفي نهاية الرسالة ذكر صاحب الرسالة قال: شيخنا قدس الله روحه وتذكرت أنه كلام لابن القيم في "التفسير المعوذتين"، وذهب ظني إلى أنه التفسير الصغير لابن القيم المسمى "الشافية الكافية في أحكام المعوذتين"، والذي ذكره الصفدي في كتابه "الوافي بالوفيات" (2/ 271)، وابن تغري بردي في "المنهل الصافي" (3/ 263) ولكن الأمر استقر عندما رأيت مخطوطة وزارة الأوقاف ببغداد، والنسخة الأخرى النجدية وسيأتي الكلام عن هاتين النسختين.
__________
(1) سينشر المجلد الأول منه في دار العاصمة بالرياض وأنا في طور إعداد المجلد الثاني.(1/4)
أما النسخة المنسوبة لشيخ الإسلام في وزارة الأوقاف ببغداد فكنت قد اطلعت عليها وأردت تصويرها إلا أن مكتبة الأوقاف أغلقت منذ سنة (1990 م)، والحمد لله فقد عثرت على نسخة مصورة منها في المكتبة القادرية ببغداد، والمخطوطة ضمن مجاميع تحمل رقم (8/ 1389)، وأغلب هذه المجاميع لشيخ الإسلام ابن تيمية والحافظ ابن رجب، وهذا الذي دفع صاحب الفهرس إلى نسبتها لشيخ الإسلام، صفحاتها تسعة، ومسطرتها (18) سطر وخطها واضح جدًا ورمزت لها في التحقيق النسخة (أ).
النسخة الثانية:(1/5)
وهي نسخة وزارة الأوقاف في بغداد أيضًا ولها نسخة في المتحف العراقي مصورة، وهي النسخة التي اعتمدها الدكتور فهد الرومي تحمل الرقم (4767) مجاميع مسطرتها (29 – 33) في سبعة صفحات قطعها كبير كتبت الآيات باللون الأصفر، وناسخها هو الشيخ نعمان الآلوسي أو محمود شكري الآلوسي (1)، وأما تملكها فهي لمفتي العراق إبراهيم بن صبغة الله الحيدري علامة العراق صاحب كتاب (عنوان المجد في أخبار بغداد وبصرة ونجد) وهذه المجاميع القيمة احتوت على رسائل لشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم والحافظ ابن رجب الحنبلي ومحمد بن عبد الوهاب، وبعض علماء نجد وهو مجموع قيّم كتب في القرن الثالث عشر للهجرة، وأحب أن أذكر أن هناك تفسيرًا آخر صغير للشيخ محمد بن عبد الوهاب (تفسير الإخلاص والفلق والناس)، وهو الذي طبع ضمن مؤلفات الشيخ محمّد بن عبد الوهاب وهو من تأليفه وليس هذا المختصر وإني – ولله الحمد – لي عناية طيبة بمؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأولاده في العراق، وقد جردتها من كل مكتبات العراق المعروفة وكنت قد حققت رسائل منها (الفواكه العذاب في معتقد الشيخ محمد عبد الوهاب) (2) (وتوحيد الخلاق)(3)، وكل ذلك اعتمادًا على النسخ الموجودة في العراق، ورمزت للنسخة الثانية بـ (ب).
النسخة الثالثة:
لا أعرف للآن إلى أي مكتبة تعود هذه النسخة إذ أن صاحبها أخبرني أنها صورت له من المملكة العربية السعودية فحسب، والحقيقة أن هذه لم تفدني سوى النسبة للإمام محمد بن عبد الوهاب فهي طبق النسخة (أ).
ويبدو أنها حديثة جدًا كتبت في أواخر القرن الثالث عشر، والله أعلم.
__________
(1) كلاهما تُرجم له في مجلة الحكمة الغراء.
(2) كنت أتمنى أن أطبع هذا الكتاب منذ سنين إلا أني وجدته مطبوعًا مؤخرًا فلله الحمد والمنة والكتاب نشر بتحقيق خيرٍ من تحقيقي فالحمد لله.
(3) لا تزال نسخته المحققة في بغداد والله الميسر.(1/6)
وأحب أن أنوه إلى أني أشرت للأصل المطبوع لابن القيم في بدائع الفوائد بكلمة (الأصل).
وأخيرًا فإني لم أترجم للشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله ولا للإمام ابن القيم رحمه الله فهمًا أجل من أن يخفيا على الناس.
منهجي في التحقيق يتمثل في:
(1) المقارنة بين النسخ المخطوطة والأصل المطبوع وإثبات الاختلافات.
(2) عزو الآيات لمواطنها من كتاب الله عز وجل.
(3) تخريج الأحاديث وبيان درجتها وضعفًا وكذا تخريج الآثار وعزوها.
(4) الترجمة والتعليق على ما تمس إليه الحاجة.
هذا وعسى أن يوفقني مولاي لهذا العمل، وأن يوزعني أن أشكر نعمته عليّ وعلى والدي، وأن أعمل صالحًا يرضاه.. اللهم سدّد وأرشد عبدك الفقير اللهم آمين.. آمين..
الفقير إلى عفو ربه
أبو معاذ
إياد بن عبد اللطيف بن إبراهيم القسي
النص المحقق
بسم الله الرحمن الرحيم
قل أعوذ برب الفلق: معنى أعوذ التجئ وأعتصم وأنحرز.
والفلق: هو نور الفجر الذي يطرد الظلام، وتضمنت هذه السورة:
المستعاذ به
المستعاذ منه
المستعيذ(1/7)
والمستعاذ به هو: الله رب الفلق ورب الناس الذي لا ينبغي الاستعاذة إلا به ولا يستعاذ بأحد من خلقه، وقد قال الله في كتابه (1) عمن استعاذ بخلقه استعاذته زادته رهقًا (2) وهو الطغيان (3)، واحتج أهل السنّة على المعتزلة في أن كلمات الله مخلوقة بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - استعاذ بقول قل أعوذ برب الفلق (4)، وأعوذ بكلمات الله التامات (5)،
__________
(1) يشير إلى قوله في سورة الجن: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً}.
(2) الرهق: قال ابن كثير في تفسيره (4 429): خوفًا وإرهابًا وذعرًا، وقال آخرون: الرهق وهو الاثم، وقال مجاهد: زاد الكفار طغيانًا، وقال أبو عبيدة صاحب ((مجاز القرآن)) (2/ 272): رهقًا سفهًا وطغيانًا. ونقل الزمخشري في ((كشافه)) (4/ 167) وقيل: أن الأنس زادوهم كبرًا وكفرًا، أو فزاد الجن الأنس رهقًا بإغوائهم وإضلالهم لاستعاذتهم بهم.
(3) في تفسير سورة الفلق المطبوع لمحققه الدكتور فهد بن عبد الرحمن الرومي كتب التالي (أن استعاذته زادته رهقًا وهو الطغيان فقال: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} واحتج أهل السنة...) وهذه إضافة من الدكتور الرومي حفظه الله لا داعي لها.
(4) استعاذ النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمعوذتين في مواطن متعددة نُجملها بالتالي:
(أ) دبر الصلاة.
(ب) أثناء النوم.
(ج) في الصباح والمساء.
(د) كان يعيذ بها الأطفال من العين والحسد.
وكل الذي ذكرناه وردت فيه أحاديث صحيحة ثابتة.
(5) احتج أهل السنّة بهذا الحديث، ومن ذلك ما ذكره البخاري رحمه الله في كتابه ((خلق أفعال العباد)) عن شيخه نعيم بن حماد. وللحديث ورايات كثيرة نذكر منها:
(أ) حديث خولة بنت حكيم:
رواه أحمد في ((مسنده)) (6/ 377) ومسلم (4/ 2080) والترمذي (3437) وابن خزيمة في صحيحه (4/ 150) والنسائي في ((عمل اليوم والليلة)) (560، 561) وابن ماجة (3547) قال الترمذي حديث حسن صحيح غريب وفي الحديث كلام لا يقدح بصحته.
(ب) حديث أبي هريرة:
رواه الإمام مالك في الموطأ (2/ 951) وأحمد في ((مسنده)) (2/ 375) ومسلم (4/ 2081) والنسائي في ((عمل اليوم والليلة) (585 – 589، 591 – 592) وابن ماجة (2/ 58) والبيهقي في ((الأسماء والصفات)) (170) والبخاري في ((خلق أفعال العباد)) (445) وهو حديث صحيح.
(ج) حيدث ابن عباس:
رواه الإمام أحمد في ((مسنده) (2112، 2434، ط أحمد شاكر) والبخاري في ((صحيحه)) (6/408) وأبو داود (4737) والترمذي (2060) والنسائي في ((عمل اليوم والليلة))، (1006، 1007) وابن ماجة (3525) والحاكم (3/ 167)، وابن السني في ((عمل اليوم والليلة)، (634)، والطحاوي في ((مشكل الآثار)) (4/ 72) وأبو نعيم في ((حلية الأولياء))، (12271)، ((والطبراني في الصغير)) (729) وابن حبان (2/ 254 – الإحسان).(1/8)
وهو لا يستعذ بمخلوق أبدًا والمستعيذ هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (1)، وكل من اتبعه إلى يوم القيامة.
وأما المستعاذ منه فهو أربعة أقسام:
الأول:
الشر العام في قوله { مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ } وهذا يعم كل شر في الدنيا والآخرة وشر الشياطين من الإنس والجن وشر السباع والهوام وشر النار وشر الذنوب والهوى وشر النفس وشر العمل وقوله: { مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ }، أي من شر كل مخلوق فيه شر وليس المراد الاستعاذة من كل ما خلق الله فإن الجنة وما فيها ليس فيها شر، وكذلك الملائكة والأنبياء فإنهم خير محض (2).
والشر الثاني:
شر الغاس إذا وقب وهذا خاص بعد عام والغاسق الليل، إذا أقبل ودخل في كل شيء، والغسق الظلمة والوقوب الدخول؛ والسبب الذي لأجله أمر الله بالاستعاذة من شر الليل هو الليل: محل سلطان الأرواح الشريرة وفيه تنشر الشياطين، والشياطين إنما سلطانهم في الظلمات والمواضع المظلمة، ولهذا كانت القلوب المظلمة هي محل (3) الشياطين وبيوتهم.
وذكر سبحانه في هاتين الكلمتين الليل والنهار والنور والظلمة فأمر الله عباده أن يستعيذوا بربّ النور الذي يقهر الظلمة ويزيلها وهو سبحانه يدعي بأسمائه الحسنى فيسأل لكل مطلوب بإسم يناسبه.
والشر الثالث:
__________
(1) الخطاب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بـ (قل) لأمته فلأن المقصود في كل خطاب بالقرآن هو الشمول والعموم الاّ ما خصصه الشارع.
(2) استثناء الإمام ابن القيم دقيق، ذاك أن ألفاظ القرآن يفهم من بعضها العموم والإطلاق وهي ليست كما يفهم في الظاهر كقوله تعالى: { تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ }، والريح لم تدمر إلا قرية واحدة، وكذلك هنا فالاستعاذة من كل مخلوق له شر وليس من كل مخلوق، كما ذكر ابن القيم الأنبياء، والملائكة وكذلك الجنة ليس فيها شر.
(3) في [أ] وما أثبتناه من [ب] [ج] والأصل المطبوع لابن القيم.(1/9)
شر النفاثات في العقد وهذا الشر هو شر السحر فإن النفاثات هنّ السواحر اللاتي يعقدن الخيوط، وينفثن على كل عقدة حتى ينعقد ما يريدون من السحر، والنفث هو النفخ مع ريق، وهو دون التفل وهو مرتبة بينهم والنفث فعل الساحر، فإذا تكيفت نفسه بالخبث والشر الذي يريده بالمسحور، واستعان بالأرواح الخبيثة نفث في تلك العقد نفخًا معه ريق فيخرج من نفسه الخبيثة نَفَس ممازج للشر مقترن بالريق الممازج، وقد تساعد (1) الروح الشيطانية على أذى المسحور؛ فيقع فيه السحر بإذن الله الكوني القدري.
ولما كان تأثير السحر من جهة الأنفس الخبيثة والأرواح الشريرة قال سبحانه: من شر النفاثات، بالتأنيث دون التذكير، وقد دلّ قوله تعالى: { وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ } على تأثير السحر وأن له حقيقة وقد أنكر ذلك طائفة من أهل الكلام (2)، وقالوا: أنه لا تأثير للسحر لا في مرض ولا في قتل ولا حل ولا عقد قالوا: وإنما ذلك تخييل لأعين الناظرين لا حقيقة له سوى ذلك وهذا خلاف ما تواترت به الآثار عن الصحابة والسلف واتفق عليه الفقهاء.
__________
(1) في [ب] وتساعد هو والروح.
(2) حكى الرازي في تفسيره عن المعتزلة أنهم انكروا وجود السحر وربّما كفرّ بعضهم من اعتقد وجوده. وقال القرطبي: وعندنا أن السحر حق وله حقيقة يخلق الله عنده ما يشاء خلافًا للمعتزلة وأبو إسحاق الإسفراييني من الشافعية.
وذكر الوزير أبو المظفر يحيى بن محمد بن هبيرة رحمه الله في كتابه (الإشراف على مذاهب الإشراف) بابًا من السحر فقال: اجمعوا على أن السحر له حقيقة إلا أبا حنيفة فإنه قال: لا حقيقة له عنده، وذكر ابن كثير في تفسيره (1/ 138 – 141) وقد ردّ على هؤلاء جمع من الأئمة كالباقلاني كما ذكر ابن تيمية في ((النبوات) والرازي في تفسيره والقرطبي وابن كثير والنووي والمازري والشنقيطي في تفسيره وكثير من أهل العلم.(1/10)
والسحر يؤثر مرضًا وثقلاً (1) وحلاً وقتلاً وحبًا وبغضًا وغير ذلك من الأثار موجود (2)، يعرفه الناس وكثير منهم قد علمه ذوقًا بما أصيب به وقوله: { وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ }، دليل على أن النفث يضر المسحور في حال غيبته عنه، ولو كان الضرر لا يحصل إلا بمباشرة البدن ظاهرًا، كما يقوله هؤلاء لم يكن للنفاثات شر يستعاذ منه، وأيضًا فإذا جاز على الساحر أن يسحر أعين جميع الناظرين مع كثرتهم حتى يروا الشر بخلاف ما هو به مع أن هذا تغيّر في إحساسهم، فما الذي يحيل تأثيره في تغير بعض أعراضهم وطباعهم وقواهم فإذا غيّر إحساسًا حتى يحصل المحبوب إليه بغيضًا والبغيض محبوبًا وغير ذلك من التأثيرات، وقد قال الله عن سحره فرعون أنهم { سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ } (لأعراف: 116)، فبين سبحانه أن أعينهم سُحرت، وذلك إما أن يكون لتغيّر حصل في المرى وهو الحبال والعصي (3)، مثل أن يكون السحرة استعانت بأرواح حركتها وهي الشياطين، فظنوا أنها تحركت بأنفسها وهنا كما إذا جرّ من لا تراه (4) حصيرًا أو بساطًا فترى الحصير والبساط يَنْجَرَّ ولا ترى (5) الجار، فهكذا حال الحبال والعصي قلبتها الشياطين فظن الرائي أنها انقلبت بأنفسها، والشياطين وهم الذي يقبلونها.
وأما أن يكون التغيير حدث في الرائي حتى رأى الحبال والعصي تتحرك وهي ساكنة في أنفسها ولا ريب أن الساحر يفعل هذا وهذا..
__________
(1) في جميع المخطوطات (وقتلاً) وما أثبتناه من تفسير ابن القيم الأصل. راجع بدائع الفوائد (2/227).
(2) في المخطوطات (موجودة) ولعل ما أثبتناه أصوب راجع بدائع الفوائد (2/227).
(3) في المخطوطات ((عصا)) والصحيح ((العصيّ)) لأنه أمر يعود لعصي السحرة وقد نبه على ذلك الدكتور الرومي رعاه الله.
(4) في المخطوطات ((يراه)).
(5) في المخطوطات ((يرى)).(1/11)
وأما ما يقوله المنكرون في أنهم فعلوا في الحبال والعصي ما أوجب حركتها ومشيها مثل الزيبق وغيره حتى سعت فهذا باطل من وجوه كثيرة (1).
الشر الرابع:
شر الحاسد إذا حسد، وقد دلّ القرآن والسنة على أن نفس حسد الحاسد يؤذي المحسود فنفس حسده شر يتصل بالمحسود في نفسه وعينه، وإن لم يؤذه بيده ولا لسانه، فإن الله تعالى قال: { وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ }، فحقق الشر منه عند صدور الحسد، والقرآن ليس فيه لفظة مهملة لكن قد يكون الرجل في طبعه الحسد وهو غافل عن المسحود ولاهٍ عنه فإذا خطر على قلبه انبعث نار الحسد من قلبه فيتأذى المحسود بمجرد ذلك، فإن لم يستعِذْ بالله ويتحصن به ويكون له أوراد في الأذكار والدعوات، والتوجه إلى الله والإقبال عليه بحيث يدفع عنه من شره بمقدار توجهه وإقباله على الله وإلا ناله شر الحاسد ولا بد، وفي الحديث الصحيح رقية جبريل النبي - صلى الله عليه وسلم - وفيها: (بسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك من شر كل نفس أو عين حاسد الله يشفيك) (2)، فذكر شر عين الحاسد ومعلوم أنها لا تؤثر بمجردها إذ لو نظر إليه نظر لاهٍ ساهٍ، كما ينظر إلى الأرض والجبل وغيره لم يؤثر فيه شيء وأما إذا نظر إليه نظر من قد تكيّفت نفسه الخبيثة وانسمت فصارت نفسًا غضبية [خبيثة] (3) حاسدة، أثمرت بها تلك النظرة فأثرت في المسحود بحسب ضعفه وقوة نفس الحاسد، فربما أمرضه، وربما قتله، والتجارب بها عند الخاصة والعامة أكثر من أن تذكر.
__________
(1) مسألة ((الزيبق)) أوردها الرازي في تفسيره بلفظ ((وقد قيل)) ((أحكام القرآن)) (1/43).
(2) الحديث رواه مسلم (2185).
(3) زيادة من [أ] ولا توجد في [ب].(1/12)
وهذه العين إنما تؤثر بواسطة النفس الخبيثة، وهي بمنزلة الحية إنما يؤثر سمها إذا عضت؛ فإنها تتكيف بكيفية الغضب فتحدث فيها تلك الكيفية السم فتؤثر في الملسوع، وربما قويت حتى تؤثر بمجرد النظر وذلك في نوع منها حتى يؤثر بمجرد النظر فتطمس البصر وتسقط الحَبلَ، كما ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - في أبتر وذي الطُّفتين (1) منها اقتلوهما، وهذا علم لا يعرفه إلا خواص الناس. وهل الانفعال والتأثير وحدوث ما يحدث في الأجسام للأرواح والأجسام آلتها بمنزلة الصانع فالصنعة في الحقيقة له والآلات وسائط. ومن له فطنة وتأمل أحوال الأرواح وتأثيراتها وتحريكها الأجسام رأي عجائب وآيات دالة على وحدانية الله وعظم ربوبيته، وأن ثم عالمًا آخر يجري عليه أحكام أخر يشهد آثارها وأسبابها غيب عن الأبصار فتبارك الله رب العالمين وأحسن الخالقين (2).
والعائن والحاسد يشتركان في شيء ويفترقان في شيء، فيشتركان في أن كل منهما تتكيف نفسه وتوجه نحو من تقصده أذاه.
والعائن تتكيف نفسه عند مقابلة العين ومعاينته.
__________
(1) الحديث المتفق عليه رواه البخاري (6/248) ومسلم (2233).
ولفظ البخاري ((اقتلوا الحيات واقتلوا ذا الطفتين والأبتر، فإنهما يطمسان البصر ويستسقطان الحبل)).
ولفظ مسلم: (فإنهما يسقطان الحبل ويلتمسان البصر)).
الطفيتان: الخطّان الأبيضان على ظهر الحيّة.
الأبتر: قصير الذنب.
قال الخطابي في معنى التماس البصر كما نقله ابن القيم عنه في ((زاد المعاد)) (4/ 166): ((يلتمسان البصر. فيها معنيان:
الأول: يخطفان البصر ويطمسانه يمجرد نظرها إليه بخاصة جعلها الله في بصريهما إذا وقع على بصر الإنسان.
الثاني: أنهما يقصدان البصر باللسع والنهش)) أ. هـ.
(2) هذا أحد الأسباب وقد ذكر ابن القيم في الأصل أسباب أخر مثل: شدة العداوة، (بدائع الفوائد) (2/ 232).(1/13)
والحاسد يحصل حسده في الغيبة والحضور ويفترقان في أن العائن قد يعين من لا يحسده من حيوان أو زرع فإذا كان لا ينفك من حسد صاحب، بل ربما أصاب نفسه وسببه الإعجاب بالشيء واستعظامه (1)، فإن رؤيته للشيء رؤية تعجب وتحديق مع تكيف نفسه بتلك الكيفية يؤثر في العين وقوله: { وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ } يعم الحاسد من الجن والإنس، فإن الشيطان وحزبه يحسدون المؤمنين على ما أتاهم الله من فضله، ولكن الوسواس بشياطين الجن.
والحسد أخص (2) بشياطين الإنس والوسواس يعمهما أيضًا، فكلا الشيطانين حاسد موسوس فالاستعاذة من شر الحاسد يعمهما جميعًا، فقد اشتملت السورة على الاستعاذة من كل شر في العالم، وتضمنت شرور أربعة يستعاذ منها شرًا عامًا وهو شر ما خلق، وشر غاسق إذا وقب، فهذا نوعان.
__________
(1) لابن القيم كلام موسع قريب من هذا في ((زاد المعاد)) (4/ 165) فليراجع فإنه نفيس وكذا له كلام في كتاب ((الروح)).
(2) في المخطوطات [أعم] وهذا خطأ وما أثبتناه يوافق الأصل ويتناسب مع المعنى الصحيح.(1/14)
ثم ذكر شر الحاسد والحاسد وهما نوعان أيضًا لأنهما من شر النفس الشريرة وأحدهما يستعين بالشيطان ويعبده، وهو الساحر، وقل ما يأتي (1) السحر بدون نوع عبادة الشيطان وتقرب إليه إما يذبح باسمه أو يذبح يقصد به هو، فيكون ذبحًا لغير الله وبغير ذلك من أنواع الشرك، والساحر وإن لم يسم هذا عبادة للشيطان فهو عبادة له وإن سمّاه بما سمّاه به (2)، فإن الشرك والكفر هو شرك وكفر لحقيقته ومعناه لا لاسمه ولفظه، فمن سجد لمخلوق وقال: ليس هذا سجود له هذا خضوع، ويقبل الأرض بالجبهة كما قبلها بالفم (3)، أو هذا إكرام، لم يخرج بهذه الألفاظ عن كونه سجود لغير الله فليسمه بما شاء، وكذلك من ذبح للشيطان ودعاه واستعاذ به وتقرب إليه، فقد عبده وإن لم يسم ذلك عبادة، بل يسميه استخدامًا وصدق هو من استخدام الشيطان له فيصير من خدم الشيطان وعابديه، وبذلك يخدمه الشيطان لكن خدمة الشيطان ليست [خدمة] (4) عبادة فإن الشيطان لا يخضع له ويعبده كما يفعل هو به، والمقصود أن هذا عبادة منه للشيطان وإن سماه استخدامًا.
__________
(1) في [أ] (يأتي) والصواب من بقية المخطوطات والأصل.
(2) هذا كلام نفيس فالعبرة بحقيقة الأشياء لا بمسمياتها، ألا ترى أن إبليس وصف شجرة الهلاك لآدم بأنها { شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى } واليوم يسمي أهل الباطل الخمر بأسماء أخرى خبيثة كالمشروبات الروحية، والدياثة فنًا وأدبًا، ويعكسون الأمر على أهل الحق فيَسِمُون أهل الدين والإيمان بالتعصب والإرهاب والأصولية والتطرف والله المستعان على ما يصفون وقد نبه لذلك شيخ الإسلام ابن تيمية وللصنعاني إشارة لطيفة في كتابه البديع ((تطهير الاعتقاد)).
(3) في المخطوطات [النعم] والصواب ما أثبتناه وقد أشار مصحح النسخة [ب] إلى ذلك في الهامش.
(4) ما بين [ ] من [أ].(1/15)
وتأمل تقييده سبحانه شر الحاسد بقوله: { إِذَا حَسَدَ } لأن الرجل قد يكون عنده حسد، ولكن لا يرتب عليه أذى لا بقلبه ولا بلسانه ولا بيده، بل يجد في قلبه شيئًا من ذلك ولا يعامل أخاه إلا بما يحبه الله، فهذا لا يكاد يخلو منه أحد إلا من عصمه الله، وقيل للحسن البصري: ((أيحسد المؤمن؟ قال: ما أنساك إخوة يوسف" (1)، فالرجل إذا كان في قلبه حسن لكن يخفيه ولا يترتب عليه أذى بوجهه ما لا بقلبه ولا بلسانه وبيده بل لا يعامل أخاه إلا بما يحب الله، فهو لا يطيع نفسه، بل يعصيها خوفًا من الله وحياءً منه أن يكره نعمة على عباده، فيرى ذلك مخالفة لله وبغضًا لما يحب الله فهو يجاهد نفسه على دفع ذلك، ويلزمها الدعاء للمحسود بخلاف ما إذا حقق ذلك وحسد ورتب على حسده مقتضاه من الأذى بالقلب واللسان والجوارح، فهذا الحسد المذموم، هذا كله حسد تمني الزوال.
وللحسد ثلاث مراتب:
أحدهما هذه وهي تمني زوال النعمة.
الثانية:
تمني استصحاب عدم النعمة فهو يكره أن يُحدث الله لعبده نعمة، بل يحب أن يبقى على حاله من جهله أو فقره أو قلة دينه، فهو يتمنى دوام ما هو فيه من نقص أو عيب، فهذا حسد على شيء معدوم (2)، والأول حسد على شيء محقق وكلاهما حاسد عدو نعمة الله، وعدو عباده محقوق عند الله وعند عباده.
الثالثة:
حسد الغبطة: وهو تمني أن يكون له مثل حال المحسود من غير أن تزول النعمة عنه فهذا لا بأس به ولا يعاب صاحبه، بل هذا قريب من المنافسة وقد قال تعالى: { وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ } [المطففين: 26].
__________
(1) كلام الحسن البصري رحمه الله ذكره هنّاد في ((الزهد)) [1418] وابن حبّان في ((روضة العقلاء) [36] وذكره ابن الجوزي في تفسيره ((زاد المسير)) [4/ 190] وسنده صحيح مع خلاف يسير في الألفاظ.
(2) في الأصل [مقدر] وهي أصوب من المخطوطات.(1/16)
وفي الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (لا حسد إلا في اثنتين رجل أتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها للناس) (1).
فهذا حسد غبطة، الحامل لصاحبه عليه حبُّ خصال الخير والتشبه بأهلها والدخول في جملتهم، فيحدث له المنافسة والمسارعة مع محبته لمن يغبطه وتمني دوام نعمة الله [عليه] (2)، فهذا لا يدخل في الآية بوجه ما وهذه السورة من أكبر أدوية المحسود. فإنها تتضمن التوكل على الله والالتجاء إليه والاستعاذة به من شر حاسد النعمة، والله تعالى أعلم (3).
وأما سورة الناس فقد تضمنت أيضًا مستعاذ به ومستعاذ منه ومستعيذًا.
فأما المستعاذ به: فهو الله رب الناس ملك الناس إله الناس، فذكر ربوبيته للناس وملكه إياهم وإلهيته لهم ولا بد من مناسبة في ذكر ذلك في الاستعاذة من الشيطان، فأضافهم في الكلمة الأولى إلى ربوبيته المتضمنة لخلقهم وتربيتهم وتدبيرهم وإصلاحهم (4) مما يفسدهم.
__________
(1) الحديث رواه البخاري (73) ومسلم (815) وغيرهم.
(2) ما بين [ ] سقطت من النسخة [أ].
(3) إلى هنا انتهى ما نشره الدكتور فهذا الرومي حفظه الله، والذي سماه ((تفسير سورة الفلق)).
(4) في [أ] (لن)، وما أثبتناه في بقية المخطوطات ويوافق الأصل.(1/17)
هذا (1) معنى ربوبيته لهم وذلك يتضمن قدرته التامة ورحمته الواسعة، وعلمه بتفاصيل أحوالهم وبإجابة دعواتهم وكشف كرباتهم، وأضافهم في الكلمة الثانية إلى ملكة فهو ملكهم الحق الذي إليه مفزعهم في الشدائد والنوائب، فلا صلاح ولا قيام إلا به وأضافهم في الكلمة الثالثة ِإلى إلهيته، فهو إلههم الحق ومعبودهم الذي لا إله سواه (2)، ولا معبود لهم غيره فكما أنه وحده هو ربهم ومليكهم لم يشاركه في ربوبيته ولا في ملكه أحد، فكذلك هو وحده إلههم (3) ومعبودهم، فلا ينبغي أن يجعلوا معه شريكًا في إلهيته، كما لا معه شريك في ربوبيته وملكه، وهذه طريقة القرآن يحتج عليهم بإقرارهم بهذا التوحيد على ما أنكروه من توحيد الإلهية والعبادة، فإذا كان هو ربنا ومليكنا فلا مفزع لنا في الشدائد سواه، ولا ملجأ لنا منه إلا إليه ولا معبود لنا غيره فلا ينبغي أن يدعي ولا يخاف ولا يرجى ولا يحب سواه، ولا يذل لغيره ولا يخضع لسواه، ولا يتوكل إلا عليه؛ لأن من ترجوه وتخافه وتدعوه أما أن يكون مربيك والقيم بأمورك، فهو ربك فلا رب لك سواه أو تكون مملوكه وعبده الحق، فهو ملك الناس حقًا وكلهم عبيدهم ومماليكه، أو يكون معبودك وإلهك الذي لا تستغني عنه طرفة عين بل حاجتك إليه أعظم من حاجتك إلى روحك وحياتك، وهو الإله إله الناس الذي لا إله لهم سواه فهم جديرون أن لا يستعيذوا بغيره، ولا يستنصروا بسواه فظهرت مناسبة هذه الإضافات الثلاث للاستفادة من أعدى الأعداء (4)
__________
(1) في طبعة فهد الرومي [وهذا] بزيادة واو، ولا توجد في جميع المخطوطات.
(2) في طبعة فهد الرومي [لا إله لهم سواه] بإضافة [لهم] والمعنى يستقيم بدونها ولا توجد في جميع المخطوطات.
(3) في الأصل [لا شريك معه] وهي أصوب أشار لذلك الدكتور فهد الرومي جزاه الله خيرًا.
(4) في المخطوطات عبارة [أعدى العدو]، والتصليح من الأصل..(1/18)
وأعظمهم عداوة، ثم أنه سبحانه كرر الاسم الظاهر ولم يوقع المضمر موقعه (1)، فيقول رب الناس وَمَلِكَهُم وإلههم تحقيقًا بهذا المعنى، فأعاد ذكرهم عند كل اسم من أسمائه ولم يعطف بالواو، لما فيها معنى الإيذان بالمغايرة وقدّم الربوبية؛ لعمومها وشمولها لكل مربوب وأخَّر الألهية لخصوصها؛ لأنه سبحانه إنما هو إله من عبده ووحده، واتخذ إلهًا دون غيره فمن لم يعبده ويوحده فليس بإلهه، وإن كان في الحقيقة لا إله سواه ولكن ترك ِإلهه(2) الحق واتخذ إلهًا غيره.
ووسط صفة الملك بين الربوبية والإلهية؛ لأن الملك هو المتصرف بقوله وأمره المطاع إذا أمر فملكه لهم تابع لخلقه إياهم، فملكهم من كمال ربوبيته وكونه إلههم الحق من كمال ملكه فربوبيته تستلزم ملكه، وملكه يستلزم إلهيته فهو الرب الملك الإله خلقهم بالربوبية وقهرهم بالملك واستعبدهم بالإله8ية، فتأمل هذه الجلالة وهذه العظمة التي تضمنتها هذه الألفاظ الثلاث على أبدع نظام، وأحسن سياق رب الناس ملك الناس، إله الناس وقد اشتملت هذه الإضافات الثلاث على جميع قواعد الإيمان، وتضمنت معنى جميع أسمائه الحسنى (3)، أما تضمنها لمعاني أسمائه الحسنى فإن الرب هو القادر الخالق البارئ المصور الحي القيوم العليم السميع البصير المحسن المنعم الجواد المعطي (4) النافع الضار المقدم (5)
__________
(1) في المخطوطات [وقعه] التصليح من الأصل.
(2) أضاف الدكتور كلمة [المشرك] فأصبحت العبارة [لكن المشرك ترك] والمعنى يستقيم بدونها.
(3) تكلم ابن القيم في ((مدارج السالكين)) عن هذا الأمر، وأناط أسماءه وصفاته بالله عز وجل والرب والملك والرحمن.
(4) أضاف الدكتور الرومي اسم [المانع] نقلاً عن الأصل.
(5) يجب ملاحظة أنه ليس كل ما ذكر هو من أسماء الله الحسنى:
فالقادر مثبت من قوله تعالى: { قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً } [الأنعام: 65].
أما الخالق البارئ المصور مثبت من قوله تعالى: { هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ } [الحشر: 24].
أما الحي القيوم مثبت من قوله تعالى: { اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } [البقرة: 255].
أما العليم مثبت من قوله تعالى: { إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ } [الذريات: 30].
أما السميع البصير مثبت من قوله تعالى: { وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ } [الحج: 61].
أما المحسن فقد تردد أهل العلم من قبول اسم ((المحسن)) في أسماء الله الحسنى فقال الشيخ الفاضل ابن عثيمين رعاه المولى في كتابه ((القواعد المثلى)) (ص 16):
(لأننا لم نطلع – أي الحديث الذي ذكر اسم المحسن – في الطبراني وقد ذكره شيخ الإسلام من الأسماء) أفاد هذه المعلومات الدكتور الرومي فجزاه الله خيرًا.
والصواب أن الحديث ثبت بذلك فقد رواه الطبراني في الكبير (7/ 332)، وعبد الرازق في مصنفه (8603)، ورجال الحديث ثقات، ولفظه ((إن الله محسن يحب الإحسان)) وقد ذكر الشيخ ناصر في صحيح الجامع (1/ 374) وهناك حديث آخر ذكره في صحيح الجامع (1/ 374) بلفظ: ((إن الله محسن فأحسنوا)) وهناك لفظة أخرى ذكرها في سلسلته الصحيحة (1/ 761) تحت رقم (470) ولفظه: ((إن الله محسن يحب المحسنين)) وقد أثبته ابن القيم في ((مختصر الصواعق)) (ص 314).
أما المنعم فلم يذكره أحد ممن ألف في أسماء الله الحسنى.
أما الجواد فقد ثبت بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ((إن الله جواد يحب الجواد)) والحديث أخرجه أبو نعيم في الحلية (5/ 29) وصححه الشيخ ناصر في جميع الجامع (1/ 359).
أما المعطي: فقد ورد في رواية ابن ماجة لحديث أسماء الله الحسنى رقم (3861) وفي الحديث عبد الملك بن محمد الصفاني قال عنه ابن حبان: كان يجيب فيما يسأل عنه وينفرد في الموضوعات، ولا يجوز الاحتجاج بروايته، وكذا فيه زهير بن محمّد التميمي، رواية أهل عنه غير مستقيمة؛ فضعف بسببها. قال أبو حاتم: حدث بالشام من حفظه فكثر غلطه والحديث لا يثبت وقد ضعف الحديث البوصيري في ((مصباح الزجاجة)).
وكذا ذكر الاسم في رواية الوليد بن مسلم برواية ابن منده في كتاب توحيد حديث رقم (157) والحديث لا يثبت أيضًا لا سندًا ولا متنًا، وكذا ذكره ابن حزم في إحصاء أسماء الله الحسنى والبيقهي في الأسماء والصفات وابن عثيمين في إحصائه.
أما النافع: فقد ذكر في رواية الوليد بن المسلم المشهورة والتي لا تثبت لأن أهل العلم ذكروا أن أسماء الله الحسنى في روايته مدرجة في بعض السلف، وكذا في رواية عبد الملك الصنعاني وذكره ابن منده في روايته عن عبد الملك وكذا أبو الشيخ الأصبهاني من طريقة روايته عن الوليد بن مسلم كما في فتح الباري (11/ 219) وذكرها البيهقي في الأسماء والصفات.
أما الضار: فقد ذكر في رواية الوليد بن المسلم وعبد الملك الصنعاني والبيهقي في الأسماء والصفات.
أما المقدم والمؤخر: فهما من رواية الوليد بن المسلم وذكرها ابن حزم والبيهقي وابن عثيمين في إحصائهم لذا فالمنعم والمعطي والنافع والضار والمقدم والمؤخر لم تثبت كأسماء حسنى لأنها لم تأت بروايات صحيحة.
بقي أن يقال: إن أسماء الله توقيفية فلا يسمى الله إلا بما سمى به نفسه في كتابه، أو سماه به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، أما الخبر فهو أوسع من الاسم ولا يلزم أن يكون توقيفيًا إذا احتيج إليه وقد فصل ذلك شيخ الإسلامه في مجموع الفتاوى (9/ 301) (6/ 142) ودرء التعارض (1/ 297، 298)، وبدائع الفوائد (1/ 162) ومدارج السالكين (3 415).(1/19)
المؤخر يهدي ويضل ويُسعد ويشقي ويعز ويذل إلى غير ذلك من معاني الربوبية، وأما الملك فهو الآمر الناهي المعز المذل الذي يصرف أمر عباده، كما يجب ويقلبهم كما يشاء فهو العزيز الجبار المتكبر الحافظ الرافع المعز المذل العظيم الجليل الوالي المتعالي الملك المقسط الجامع إلى غير ذلك من الأسماء العائدة إلى الملك، وأما الإله فهو الجامع لصفات الكمال ونعوت الجلال فيدخل في هذا الاسم جميع الأسماء الحسنى ولهذا كان القول الصحيح:
إن الله أصله الإله (1)، وأن اسم الله تعالى هو الجامع لجمع معاني الأسماء الحسنى والصفات العليا، وأسرار كلام الله تعالى أجل وأعظم من أن تدركها عقول البشر، وإنما غاية أولى العلم الاستدلال بما يظهر منها على ما وراه.
وهذه السورة مشتملة على الاستعاذة من الشر الذي هو سبب الذنوب والمعاصي وهو الشر الداخل في الإنسان الذي هو منشأ العقوبات في الدنيا والآخرة، فسورة الفلق تضمنت الاستعاذة من ظلم الغير بالسحر والحسد وهو شر [من] (2) خارج وسورة الناس تضمنت الاستعاذة من الشر الذي هو سبب ظلم العبد نفسه، وهو شر من داخل، فالشر الأول لا يدخل تحت التكليف ولا يطلب منه الكف عنه؛ لأنه ليس من كسبه.
والشر الثاني الذي في سورة الناس يدخل تحت التكليف، ويتعلق به النهي فهذا شر المعائب، والأول شر المصائب والشر كله يرجع إلى العيوب والمصائب ولا ثالث لهما.
فتضمنت سورة الناس الاستعاذة من شر العيوب كلها؛ لأن أصلها كلها الوسوسة وِأصل الوسوسة الحركة، أو الصوت الخفي الذي لا يحس فيتحرز منه.
__________
(1) قال ابن القيم في كتابه البديع ((بدائع الفوائد)):
(القول الصحيح أن الله أصله الإله كما هو قول سيبويه وجمهور أصحابه إلا من شذّ منهم وأن اسم الله تعالى هو الجامع لجميع معاني الأسماء الحسنى والصفات العلى) ثم شرع ابن القيم بالردّ على من قال بعدم الاشتقاق بكلام جميل.
(2) ما بين [ ] سقط من [ب].(1/20)
والوسواس (1): الإلقاء الخفي في النفس أما بصوت خفي لا يسمعه إلا من ألقي إليه وأما بغير صوت كما يوسوس الشيطان العبد.
والوساوس الخناس: وصفان لموصوف محذوف، وهو الشيطان، فالوسواس الشيطان؛ لأنه كثير الوسوسة وأما الخناس: فهو فعّال من خنس يخنس إذا توارى واختفى.
فإن العبد إذا أغفل عن ذكر الله جثم على قلبه الشيطان، وبذر فيه الوسواس التي هي أصل الذنوب كلها، فإذا ذكر العبد ربه واستعاذ به انخنس والانخناس تأخر ورجوع معه اختفاء.
قال قتادة (2): "الخناس له خرطوم كخرطوم الكلب في صدر الإنسان، فإذا ذكر العبد ربه خنس (3).
__________
(1) في مطبوعةه الدكتور الرومي [فالوسواس] وهذا خلاف جميع المخطوطات.
(2) قول قتادة ذكره بهذا اللفظ القرطبي في تفسيره (20/ 262)، ولم أجده في كتب التفسير بالمأثور، ولكني وجدت آثارًا عن ابن عباس وبعض التابعين كما في تفسير ابن جرير وابن كثير والدر المنثور للسيوطي وغيرها، وذُكر هذا القول كحديث مرفوع ولكن بسند لا تقوم فيه حجة رواه أبو يعلى عن أنس في ((مسنده)) (4301) وأبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (6/ 268) والبيهقي ((شعب الإيمان)) (540) وابن عدي في ((الكامل)) (3/ 186) في ترجمة ((زيادة النميري)) وذكره الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (7/ 149) وأعله بضعف ((عدي بن أبي عمارة))، وذكره البوصيري في ((الإتحاف)) وضعفه بسبب ((زياد بن عبد الله النميري)) ورواه ابن أبي الدنيا في ((مكائد الشيطان)) وابن شاهين في ((الترغيب والترهيب)) وأبو بكر بن أبي داود في ((ذم الوسوسة)) ذكر ذلك السيوطي في ((الدر المنثور)) (6/ 420) والزبيدي في ((إتحاف السادة المتقين)) (7/ 269) والحديث ضعفه ابن حجر في الفتح (8/ 742) وذكر ابن كثير طريق أبي يعلى ورماه بالغرابة، والحديث وقفه أصح من رفعه والله تعالى أعلم.
(3) في نسخة [أ] عبارة (انخنس) وما أثبت يوافق بقية المخطوطات ورواية القرطبي عن قتادة.(1/21)
ويقال (1): رأسه كرأس الحية وهو واضع رأسه على ثمرة القلب يمنيّه ويحدثه، فإذا ذكر الله خنس وإذا لم يذكره عاد ووضع رأسه يوسوس إليه، وجيء بلفظ الفعّال دون الفاعل، إعلامًا بشدة هروبه ورجوعه وعظم نفوره عند ذكر الله وأن ذلك دأبه فذكر الله يقمع الشيطان ويؤمله ويؤذيه ولهذا كان شيطان المؤمن هزيلاً لأنه يعذبه بذكر الله وطاعته.
وفي أثر عن بعض السلف: ((أن المؤمن ينضي شيطانه كما ينضي الرجل بعيره في السفر (2)))؛ لأنه كلما اعترضه صبَّ عليه سياط الذكر والتوجه والاستغفار والطاعة، فشيطانه معه في عذاب شديد.
وأما شيطان الفاجر فهو معه في راحة ودعة، ولهذا يكون قويًا عاتيًا شديدًا فمن لم يعذب شيطانه في هذ هالدار بذكر الله وتوحيده وطاعته، عذبه شيطانه في الآخرة بعذاب النار، فلا بد لكل أحد أن يعذب شيطانه أو يُعذبه شيطانه، وتأمل كيف جاء بناء الوسواس مكررًا لتكريره(3) الوسوسة الواحدة مرارًا، حتى يعزم عليها العبد. وجاء بناء الخناس على وزن الفعّال الذي يتكرر منه نوع الفعل؛ لأنه كلما ذكر الله انخنس فإذا غفل العبد عاد بالوسوسة فجاء بناء اللفظين مطابقًا لمعنييهما.
__________
(1) ذكر ذلك ابن أبي الدنيا في ((مكائد الشيطان)) من قول المسيح عليه الصلاة والسلام كما في ((الدر المنثور)) (6/ 420).
(2) بل ورد مرفوعًا بسند صحيح كما أشار العلامة أحمد محمد شاكر في تعليقه على ((المسند)) (17/57) وهو كما قال: لأن الحديث من رواية ابن لهيعة من طريق قتيبة بن سعيد وروايته عن ابن لهيعة صحيحة والله أعلم. والذي لهم خبرة ومعرفة بإخراج الجانّ من الممسوسين يدركون هذه الحقيقة باعتراف مردة الجان، فالذي يذكر الله عند الأكل والجماع ودخول المنزل وغير ذلك شيطانه ضعيف وعكس ذلك صحيح.
(3) في جميع المخطوطات (لتكرره) وما أثبتناه من الأصل.(1/22)
وقوله: { الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ }، صفة ثالثة للشيطان فذكر وسوسته أولاً، ثم ذكر محلها ثانيًا وأنها في صدور الناس.
وقد جعل الله للشيطان دخولاً في جوف العبد ونفوذًا إلى قلبه وصدره، فهو يجري منه مجرى الدم وقد وكل بالعبد فلا يفارقه إلى الممات.
ومن وسوسته أنه يشغل القلب بحديثه حتى ينسيه ما يريد أن يفعله، ولهذا يضاف النسيان إليه كما قال تعالى عن صاحب موسى: { فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ} [الكهف: 63].
وتأمل حكمة القرآن وجلالته كيف أوقع الاستعاذة من شر الشيطان الموصوف، بأنه الوسواس إلى أخر السورة، ولم يقل من شر وسوسته لتعم الاستعاذة جميع شره، فإن قوله الوسوسة يعم كل شر، ووصفه بأعظم صفاته وأشدها شرًا، وهي الوسوسة التي هي مبادئ الإرادة فإن القلب يكون فارغًا من الشر فيوسوس إليه، ويخطر الذنب بباله فيصوره لنفسه ويشهيه فيصير شهوة ويزينها ويحسنها له فتصير إرادة، ثم لا يزال يمثل ويشهي وينسي ضررها ويطوي عنه سوء عاقبتها، فلا يرى إلا التذاذه بالمعصية فقط وينسي ما وراء ذلك، فتصير الإرادة (1) جازمة فيشتد الحرص من القلب، فلا يزال الشيطان بالعبد يقوده إلى الذنب وينظم شمل الاجتماع بألطف حيلة وأتم مكيدة.
__________
(1) في نسخة [ب] عبارة (الإرادة) وأضاف الدكتور كلمة (عزيمة) نقلاً عن الأصل.(1/23)
فأصلُ كل معصية وبلاء إنما هو الوسوسة فلهذا وصفه بها؛ ليكون الاستعاذة من شرها أهم، وإلا فشره بغير الوسوسة حاصل أيضًا فمن شره أنه لص سارق لأموال الناس فكل طعام أو شراب لم يذكر اسم الله عليه فله فيه حَظًا بالرسقة والخطف وكذلك يبيت في البيت الذي لم يذكر فيه اسم الله فيأكل طعام الإنس بغير إذنهم ويبيت في بيوتهم بغير أمرهم ويدل على عوراتهم فيأمر العبد بالمعصية ثم يلقي في قلوب أعدائه يقظة ومنامًا أنه فعل كذا وكذا، ومن هذا أن العبد يفعل الذنب لا يطلع عليه – إلا الله – أحدٌ من الناس فيصبح والناس يتحدثون به، وما ذاك إلا لأن (1) الشيطان يجهده في كشف سرّه (2) وفضيحته فيغترّ العبد ويقول هذا ذنب لم يره إلا الله ولم يشرع بأن عدوه ساع في إذاعته، وقل من يتفطن من الناس لهذه الدقيقة. ومن شره أنه يعقد على رأس العبد إذا نام عقدة (3) تمنعه من اليقظة كما في صحيح البخاري: (يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد) (4) الحديث، ومن شره أنه يبول في أذن العبد حتى ينام إلى الصباح (5).
ومن شره أن قعد لابن أدم بطرق الخير كلها فما من طريق من طرق الخير إلا والشيطان مرصد عليه يمنعه أن يسلكه، فإن خالفه وسلكه ثبطه وعوقه فإن عمله وفرغ منه سعى فيما يبطله. ويكفي من شره أنه أقسم ليأتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم، وعن أيمانهم وعن شمائلهم.
__________
(1) في نسخة [ب] عبارة (إلا أن الشيطان).
(2) في نسخة (ب) عبارة [ستره].
(3) هكذا في جميع المخطوطات وفي الحديث [عقدًا].
(4) الحديث رواه البخاري (1142) ومسلم (776) وغيرهم.
(5) ورد هذا في حديث صحيح رواه البخاري ومسلم عندما ذكر رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه نام ليلة حتى أصبح فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (ذاك رجل بال الشيطان في أذنيه).(1/24)
فإذا كان هذا شأنه وهمته في الشر فلا خلاص منه إلا بمعونة الله وتأييده، ولا يمكن حصر أجناس شرّه فضلاً عن آحادها إذ كل شر في العالم فهو السبب فيه، ولكن ينحصر شره في ستة (1) أجناس.
الشر الأول: الكفر والشرك ومعاداة الله ورسوله، فإذا ظفر بذلك بابن آدم استراح، وهو أول ما يريد من العبد فإن يأس منه من ذلك، وكان ممن سبق له الإسلام في بطن أمه نقلة إلى المرتبة من الشر وهي:
البدعة: وهي أحب إليه من الفسوق والمعاصي (2) لأن ضررها متعد وهو ذنب لا يتاب منه، وهي مخالفة لدعوة الرسل ودعاء إلى خلاف ما جاءوا به، فإذا نال منه البدعة وجعله من أهلها صار نائبًا له وداعيًا من دعاغته فإن (3) أعجز من هذه المرتبة نقله إلى المرتبة الثالثة وهي:
الكبائر على اختلاف أنواها فهو أشد حرصًا على أن يوقعه فيها ولا سيما إن كان عالمًا متبوعًا فهو حريص على ذلك لينفر الناس عنه، ثم يشيع من ذنوبه في الناس ويستنيب منهم من يشيعها تقربًا بزعمه إلى الله وهو نائب إبليس ولا يشعر فإن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم، هذا إذا أحبوا إشاعتها فكيف إذا تولوا هم إشاعتها، فإن عجز عن هذه المرتبة نقله إلى المرتبة الرابعة وهي:
__________
(1) هذا في جميع المخطوطات أما الأصل ستة أجناس.
(2) هذا القول مأثور عن سفيان الثوري رحمه الله وغيره من السلف: (البدعة أحب إلى إبليس من المعصية).
(3) في نسخة (ب) عبارة (وأن).(1/25)
الصغائر التي إذا اجتمعت فربما أهلكت صاحبها كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (إياكم ومحقرات الذنوب فإن مثل ذلك مثل قوم نزلوا بفلاة من الأرض) (1)، وذكر حديثًا معناه أن كل أحد منهم جاءَ بعود حطب حتى أوقدوا نارًا عظيمة فطبخوا. ولا يزال يسهل عليهم أمر الصغائر حتى يستهينوا (2) بها، فيكون صاحب الكبيرة الخائف أحسن حالاً منه، فإن عجزه العبد في هذه المرتبة نقله إلى المرتبة الخامسة وهي:
اشتغاله بالمباحات التي لا ثواب فيها ولا عقاب، بل عاقبتها فوات الثواب الذي ضاع عليه باشتغاله بهات، فإن أعجزه العبد في هذه المرتبة، وكان حافظًا لوقته شحيحًا به يعلم أنه مقدار أنفاسه وانقطاعها، وما يقابلها من النعيم والعذاب نقله إلى المرتبة السادسة وهي:
أن يشغله بالعمل المفضلوعن ما (3) هو أفضل منه ليفوته ثواب العمل الفاضل فيأمره بفضل الخير المفضول ويحضه عليه إذا تضمن ترك ما هو أفضل منه، وقلَّ من يتنبه لهذا من الناس فإنه إذا رأى فيه داعيًا قويًا إلى نوع من الطاعة فإنه لا يكاد يقول هذا المدعي من الشيطان، فإن الشيطان لا يأمر بخير، ويرى أن هذا خير ولم يعلم أن الشيطان يأمره بسبعين بابًا من أبواب الخير (4)، إما ليتوصل بها إلى باب واحد من الشر، وأما ليفوت بها خيرًا أعظم من تلك السبعين بابًا وأجل وأفضل.
__________
(1) هذا الحديث من ثلاثيات مسند الإمام أحمد (5/ 331) وسنده صحيح، وصححه الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/ 190)، وقال: [رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح]، وكذا صححه الشيخ ناصر في ((سلسلته الصحيحة)) برقم [389].
(2) في نسخة (ب) عبارة (يستهين بها).
(3) في نسخة (ب) (عمّا).
(4) ذكر هذا القول عن السلف رضوان الله عليهم.(1/26)
وهذا لا يتوصل إلى معرفته إلا بنور من الله يقذفه في قلب العبد؛ يكون سببه تجريد متابعة الرسول وشدة عنايته بمراتب الأعمال عند الله وأحبها لله وأنفعها للعبد، وأعمها نصيحة لله ورسوله ولكتابه ولعباده المؤمنين خاصتهم وعامتهم وأكثر الخلق محجوبون.
وذلك لا يخطر بقلوبهم فإذا أعجزه العبد في هذه المراتب سلط عليه حزبه من الإنس والجن بأنواع الأذى والتكفير والتبديع والتحذير منه؛ ليشوش عليه قلبه وليمنع الناس من الانتفاع به، فحينئذ يلبس المؤمن لامة الحرب ولا يضعها عنه إلى الموت ومتى وضعها أسر وأصيب فلا يزال في جهاد حتى يلقي الله. فتأمل هذا الفصل وتدبره واجعله ميزانًا لك (1)، تزن به نفسك وتزن به الناس والله المستعان.
وتأمل السر في قوله تعالى: { الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ }. ولم يقل قلوبهم والصدر هو ساحة القلب، وهو بمنزلة الدهليز (2) وبيته، فمنه يدخل الواردات إليه فيجتمع في الصدر، ثم يلج في القلب وفي القلب يخرج الأوامر والإرادات إلى الصدر، ثم تتفرق على الجنود ومن فهم هذا فهم قوله: { وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ } [آل عمران: 154].
فالشيطان يدخل إلى ساحة القلب وبيته ويلقي ما يريد القاءه إلى القلب، فهو موسوس (3) في الصدر وسوسة واصلة إلى القلب، ولهذا قال تعالى: { فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ } [طه: 120]. ولم يقل فيه لأن المعنى أنه ألقى إليه ذلك وأوصله إليه فدخل في قلبه.
__________
(1) في نسخة (ب) عبارة (ميزانك).
(2) الدّهليز: هو الممر الواصل بين الباب والدار.
(3) في نسخة (ب) عبارة (فهو سوس).(1/27)
وقوله تعالى: { مِنَ النَّاسِ } اختلف الناس في هذا الجار والمجرور، بم يتعلق فقال الفرَّاء(1)، وجماعة هو بيان للناس الموسوس في صدورهم أي أن الموسوس في صدورهم قسمان: أنس وجن، فالوسواس يوسوس للجني، كما يوسوس للإنسي وهذا القول ضعيف جدًا لوجوه منها:
أنه لم يقم دليل على أن الجني يوسوس في صدر الجني ويدخل فيه كما يدخل في الإنس، والناس [اسم] (2) لبني آدم فلا يدخل الجن في مسماهم.
__________
(1) هو يحيى بن زياد بن عبد الله بن منظور الديلمي إمام الكوفيين وأعلمهم بالنحو واللغة وفنون الأدب، وكان يقال له أمير المؤمنين في النحو: وكان ثعلب يقول لولا الفرَّاء ما كانت اللغة. ولد بالكوفة وسكن بغداد، وله مؤلفات جمّة توفي سنةه (207 هـ) في طريق مكة.
((وفيات الأعيان)) [2/ 228]، ((ونزهة الأولياء)) (126)، ((تاريخ بغداد)) [14/ 149] ((الأعلام)) [9/ 178].
(2) ما بين [ ] ساقط من نسخة (أ).(1/28)
والصواب القول الثاني وهو: أن قوله من الجنة والناس بيان للذي يوسوس، وأنهم نوعان: إنس وجن [فالجني يوسوس في صدر الإنسي والإنسي يوسوس إلى الإنسي فالموسوس نوعان: إنسي وجني] (1)، فإن الوسوسة هي الإلقاء الخفي في القلب وهذا مشترك بين الجن والإنس وإن كان إلقاء الإنسي ووسوسته إنما هي بواسطة الأذن، والجني لا يحتاج إلى الواسطة؛ لأنه يدخل في ابن آدم ويجري منه مجرى الدم، على أن الجني قد يتمثل ويوسوس إليه في أذنه كالإنس كما روى البخاري عن عائشة [رضي الله عنها] عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (إن الملائكة تحدث (2) في العنان (والعنان الغمام) بالأمر يكون في الأرض فتسمع الشياطين الكلمة، فيقرها في أذن الكاهن، كما يقر القارورة، ويزيدون معها مائة كذبة من عند أنفسهم(3)، فهذه (4) وسوسة وإلقاء من الشيطان بواسطة الأذن، ونظير اشتراكهما في هذه الوسوسة اشتراكهما في الوحي الشيطاني قال تعالى: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً } [الأنعام: 112].
ونختم الكلام على السورتين في ذكر قاعدة نافعة فيما يعتصم به العبد من الشيطان، ويحترز به منه وذلك عشرة أسباب:
أحدها:
الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم، قال تعالى: { وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [الأعراف:200].
والمراد بالسميع هنا سميع الإجابة لا السمع العام.
الحرز الثاني:
قراءة هاتين السورتين، فإن لهما تأثيرًا عجيبًا في الاستعاذة بالله من شره ودفعه، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - .
(ما تعوذ المعوذون بمثلهما).
__________
(1) ما بين [ ] ساقط من نسخة (أ).
(2) في نسخة (ب) عبارة (تحدر).
(3) الحديث رواه البخاري في صحيحه (4701 – الفتح).
(4) في نسخة (ب) عبارة (فهذا).(1/29)
وكان يتعوذ بهما كل ليلة عند النوم، وأمر عقبة بن عامر أن يتعوذ بهما دبر كل صلاة(1).
وذكر - صلى الله عليه وسلم - : (أن من قرأهما مع سورة الإخلاص ثلاثًا حين يمسي وثلاثًا حين يصبح كفته من كل شيء) (2).
الحرز الثالث:
قراءة آية الكرسي (3).
الحرز الرابع:
قراءة سورة البقرة.
ففي الصحيح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (إن البيت الذي تقرأ فيه البقرة لا يدخله الشيطان) (4).
الحرز الخامس:
خاتمة البقرة.
فقد ثبت في الصحيح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه) (5).
الحرز السادس:
أول سورة حم المؤمن إلى قوله: {إِلَيْهِ الْمَصِيرُ}.
__________
(1) حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه رواه أبو داود (1463)، والطحاوي في ((مشكل الآثار)) (1/36) والطبراني في ((المعجم الكبير)) (17 رقم 943) البيهقي في ((السنن الكبرى)) (2/3949)، والحديث صحيح وله ألفاظ أخرى كثيرة.
(2) الحديث رواه أبو داود (5082)، والترمذي (3750)، وقال حديث حسن صحيح غريب، والنسائي (8/250): والحديث حسن، والله أعلم.
(3) آية الكرسي فضلها معروف عظيم، وورد فيها أنها حرز من الشيطان عند المنام أحاديث صحيحة، وفي قراءتها بعد الانتهاء من الصلاة المفروضة، والله أعلم.
(4) الحديث رواه مسلم (780) والترمذي (2877) واللفظ له، وأحمد (2/ 284، 337، 378، 388) والبغوي في ((شرح السنة)) (4/ 456).
(5) متفق عليه، رواه البخاري (4008)، ومسلم (808) وغيرهما.(1/30)
ففي الترمذي في حديث عبد الرحمن بن أبي بكر بن أبي مليكة (1) : عن زرارة بن مصعب عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (2) (من قرأ حم المؤمن إلى قوله إليه المصير وآية الكرسي حين يصبح حُفظَ بهما حتى يمسي ومن قرأهما حين يمسي حُفِظَ حتى يصبح).
__________
(1) في المخطوطات "عبد الرحمن بن أبي بكر بن أبي ليلى" وهو خطأ.
(2) حديث "حم المؤمن" رواه الترمذي (2879)، وكذا البزار بنفس السند وقال الترمذي: (تكلم فيه – عبد الرحمن بن أبي بكر المليكي – بعض أهل العلم من قبل حفظه) ونص الرواية "من قرأ آية الكرسي وأول حم الرحمن بن أبي بكر المليكي – بعض أهل العلم من قبل حفظه) ونص الرواية "من قرأ آية الكرسي وأول حم المؤمن عصم ذلك اليوم من كل سوء" وعَلة الحديث: عبد الرحمن بن أبي بكر المليكي، ضعفه ابن معين، وقال المؤمن عصم ذلك اليوم من كل سوء" وعَلة الحديث: عبد الرحمن بن أبي بكر المليكي، ضعفه ابن معين، وقال عنه أبو حاتم: ليس بالقوي في الحديث، وكذا نقل العقيلي عن البخاري، وقال ابن سعد: له أحاديث ضعيفة، وقال ابن عدي: لا يتابع في حديثه وهو في جملة من يكتب حديثه، وقال ابن خراش: ضعيف الحديث ليس بشيء، وقال البزّار: ليّن الحديث، وقال ابن حيّان: ينفرد عن الثقات مالا يشبه حديث الإثبات، وحكم ابن حجر عليه بالضعف في "تقريبه" ومثل هذا حديثه يضعّف سيما مع عدم وةجود المتابع، والحديث قال الترمذي فيه: غريب: وما حكم عليه الترمذي بالغرابة فهو ضعيف كما أشار لذلك العراقي فيء "التقييد والإيضاح"، أما قول ابن القيم: أن له شواهد فمقصوده والله أعلم آية الكرسي ولأنه قال أن الحديث محتمل على غرابته أي أنه أقرّ بضعفه ولكنه احتمل معناه.(1/31)
وعبد الرحمن المليكي (1) ، وإن كان قد تكلم فيه من قبل حفظه، فالحديث له شواهد في قراءة آية الكرسي وهو محتمل على غرابته.
الحرز السابع:
... لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، مائة مرة ففي الصحيحين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، في اليوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب، وكتبت له مائة حسنة ومحيت عنه مائة سيئة وكانت حرزًا له من الشيطان يومه ذلك) (2) .
فهذا حرز عظيم النفع جليل الفائدة يسير سهل على من يسره الله عليه.
الحرز الثامن:
وهو من أنفع الحروز من الشيطان: كثرة ذكر الله عز وجل، وهذا بعينه هو الذي دلت عليه سورة الناس، فإنه وصف الشيطان فيها بأنه الخناس والخناس الذي إذا ذكر العبد ربه انخنس، فإذا غفل عن ذكر الله التقم القلب وألقى إليه الوساوس، فما أحرز العبد نفسه من الشيطان بمثل ذكر الله عز وجل.
الحرز التاسع:
__________
(1) قوله – ابن القيم – عبد الرحكمن المليكي دليل على أن الخطأ من النساخ وليس من الإمام الجليل فتنبه!!.
(2) متفق عليه، رواه البخاري [3293]، ومسلم [2691]، وغيرهم.(1/32)
الوضوء والصلاة وهذا من أعظم ما يتحرز العبد به، ولا سيما عند الغضب والشهوة، فإنها نار تصلي في قلب ابن آدم كما روى الترمذي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (ألا وإن الغضب جمرة في قلب ابن آدم فما أطفأ العبد جمرة الغضب بمثل الوضوء والصلاة فإن الصلاة إذا وقعت بخشوعها والإقبال على الله فيها اذهبت أثر ذلك جملة) (1) ، وهذا أمر تجربته تغني عن إقامة الدليل.
الحرز العاشر:
إمساك فضول النظر والكلام والطعام ومخالطة الناس، فإن الشيطان إنما ينال غرضه من ابن آدم في هذه الأبواب الأربعة، فإن فضول النظر يدعو إلى استحسان وقوع المنظور إليه في القلب والاشتغال به.
وفي المسند عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (النظر سهم مسموم من سهام إبليس فمن غض بصره أورثه الله حلاوة يجدها في قلبه إلى يوم يلقاه)(2)
__________
(1) أشار ابن القيم إلى الحديث الذي رواه الإمام أحمد في "مسنده" (3/19، 16)، والترمذي (2191)، وهو جزء من حديث طويل قال فيه الترمذي: حسن صحيح، قلت: ليس كما قال الترمذي إذ أن فيه" علي بن زيد بن جدعان" وهو ضعيف، وقول ابن القيم (أمر تجربته تُغني عن إقامة الدليل) فيه إشارة لضعف الحديث لعدم اعتباره دليلاً كافيًا، بل يستأنس به.
(2) رواه الحاكم (4/314 ومن طريقه القضاعي (1/195) عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، ورواه الطبراني في الكبير (10362)، ولفظ ابن القيم هي روايته، ورواه القضاعي (1/196) عن ابن عمر رضي الله عنهما، وعلّه هذهِ الطرق "عبد الرحمن بن إسحاق الواسطي" متفق على ضعفه، ورواه الإمام أحمد (5/264)، والطبراني (7842) عن أبي أمامة، وفيه عبيد الله بن زحر وعلي بن زيد الألهاني وهما ضعيفان جدًا.
وروي عن ابن عمر رضي الله عنهما رواه أبو نعيم في "الحلية" (6/101) والديلمي "زهر الفردوس" (4/126) وفيه سعيد بن سنان الحمصي أبو المهدي، قال عنه الحافظ ابن حجر: متروك ورماه الدارقطني وغيره بالوضع وضعفه الإمام أحمد، وقال ابن معين: ليس بثقة، وقال أبو حاتم: منكر الحديث، ومثله البخاري، والنسائي قال عنه: متروك، وقال أبو زرعة: ضعيف، وقال الجوزجاني: أحاديثه أخاف أن تكون موضوعة لا تشبه أحاديث الناس، ثم سرد الجوزجاني في كتابه (ص168) قصة روايته عن أبي اليمان وبيان بطلانها، وهذه الرواية عن أبي اليماني والحديث رواه ابن النجار كما في الجامع الكبير (1/ 212) عن أبي هريرة ولكنه سند ضعيف والحديث كما قال الشيخ الألباني رعاه الباري في "سلسلته الضعيفة" (1064، 1065) ضعيف جدًا.
ملاحظة: قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (8/63) رواه الطبراني وفيه عبد الله بن إسحاق الواسطي وأظنه وهم من الناسخ أو من طابع المجمع فالرجل هو عبد الرحمن الواسطي ويؤيد لذلك الطبراني المطبوع.(1/33)
أو كما قال - صلى الله عليه وسلم - .
وأما فضول الكلام فإنها تفتح للعبد أبوابًا من الشر كلها مداخل للشيطان فإمساك فضول الكلام يسد عنه تلك الأبواب وكم من حرب جرتها كلمة واحدة [وقد] (1) قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (وهل يكب الناس على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم) (2).
وفي الترمذي أن رجلاً من الأنصار، توفي فقال بعض الصحابة: "طوبى له". فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (فما يدريك لعله تكلم بما لا يعنيه أو بخل بما لا ينقصه) (3).
__________
(1) ما بين [ ] زيادة من [ب].
(2) الحديث رواه الترمذي (2619)، وقال حسن صحيح، وابن ماجة (3973)، وأحمد (5/231)، وعبد الرزاق (20303)، والطبراني (20/ رقم 116، 258، 200، 266)، والحاكم (2/412 – 413)، وقال هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي، والنسائي في "الكبرى" وابن أبي الدنيا في "الصمت" وغيرهم والحديث ليس كما قال الترمذي ولا الحاكم فإن فيه كلامًا فصّل عليه القول الإمام الحافظ ابن رجب الحنبلي في "جامع العلوم والحكم" والحديث مرتبته إلى الحسن وبذا حكم عليه محمد ناصر الدين الألباني في "إرواء الغليل" (2/138).
(3) الحديث رواه الترمذي (2316)، وقال: غريب، وعلّته أن الأعمش لم يسمع أنسًا إنما له رؤية فقط، ورواه أبو يعلى في "مسنده"، وابن أبي الدنيا في "الصمت"، وفيه نفس علّة الترمذي إضافة إلى "يحيي بن يعلى الأسلمي "ضعيف" وكذا حكم عليه "الهيثمي" في "مجمعه" (10/ 303)، أما المنذري في "ترغيبه" (3/541) فقال: رواته ثقات وصدق فإن رواته ثقات لكن الأعمش لم يسمع أنسًا، يراجع تحفةت الأحوذي (6/606).
ملاحظة: في المطبوع من الترمذي حديث غريب، وفي الترغيب: حسن غريب ولعله وهم من ناسخ الترغيب أو طابعه، فقد نقل صاحب التحفة عن الترغيب أنه غريب فقط، والله أعلم.(1/34)
وأكثر المعاصي إنما تولد من فضول الكلام والنظر وهما أوسع مداخل الشيطان، فإن جارحتيهما لا يملاّن ولا يسأمان بخلاف البطن، فإنه إذا امتلى لم يبقَ فيه إرادة للطعام.
وأما العين واللسان فلو تركا لم يفترا، وكان السلف يحذرون من فضول النظر (1)، وكانوا يقولون ما من شيء أحوج إلى طول السجن من اللسان (2).
وأما فضول الكلام (3) فهو داع إلى أنواع كثيرة من الشر، فإنه يحرك الجوارح إلى المعاصي ويثقله عن الطاعات وحسبك بهذا (4) شرًا فكم من معصية جلبها الشبع وفضول الطعام، ولهذا جاء في بعض الآثار: "ضيقوا مجاري الشيطان بالصوم" (5).
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (ما ملأ آدمي وعاء شرًا من بطنه) (6).
ولو لم يكن في الآمتلاء من الطعام إلا أنه يدعو إلى الغفلة عن ذكر الله، فإذا غفل القلب عن الذكر ساعة واحدة غلبه الشيطان، وشهاه وهام به في كل واد فإن النفس إذا شبغت تحركت، وطافت على أبواب الشهوات فإذا جاعت سكنت وذلت.
__________
(1) هكذا في جميع المخطوطات والصواب [الكلام].
(2) هذا ورد عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه بسند صحيح كما في "الصمت" لابن أبن أبي الدنيا وغيره.
(3) هكذا في جميع المخطوطات والصواب [الطعام].
(4) في نسخة (ب) عبارة (بهذين) والذيب أثبتناه مناسب لما بعده؛ لأنه قال (لشبع وفضول الطعام)، ولو قال الشيخ وفضول الكلام لكان مناسبًا ذكره عبارة (هذين).
(5) الرواية الصحيح’: (أن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم)، أما هذه الزيادة فقد أوردها الغزالي في إحيائه، وأشار العراقي إلى أنه لا أصل لها، وكذا قال الشيخ الألباني في تعليقه على كتاب "حقيقة الصيام" لشيخ الإسلام ابن تيمية، وقد أحسن ابن القيم إذْ قال: "وفي بعض الآثار".
(6) الحديث رواه الترمذي (2380)، وقال: حسن صحيح، والحاكم (4/121)، وصححه ووافقه الذهبي، والإمام أحمد (4/132)، وحسنه الألباني كما في "إرواء الغليل" (7/41).(1/35)
وأما فضول المخالطة فهي الداء العضال الجالب لكل شر وكم سلبت المخالطة والمعاشرة من نعمة، وكم زرعت من عداوة، وكم غرست في القلب من حزازة ففضول المخالطة بمقدار الحاجة، ويجعل الناس فيها أربعة أقسام متى خلط أحد الأقسام بالآخر، ولم يميز بينهما دخل عليه الشر.
أحدهما:
من مخالطته كالغذاء ولا يستغنى عنه في اليوم والليلة، فإذا أخذ حاجته منه ترك الخلطة، ثم إذا احتاج إليه خالطه هكذا على الدوام، وهذا الضرب أعز من الكبريت الأحمر وهم العلماء بالله وأمره ومكائد عدوه وأمراض القلوب، وأدويتها الناصحون لله ولكتابه ولرسوله ولخلقه، فهذا الضرب من مخالطتهم الربح كله.
القسم الثاني:
من مخالطتهم كالدواء تحتاج إليه عند المرض فإذا كنت (1) صحيحًا فلا حاجة لك في خلطته، وهم من لا تستغني عن مخالطتهم في مصلحة المعاش، وقيام ما أنت تحتاج إليه في أنواع المعاملات والمشاركات والاستشارة.
القسم الثالث:
في مخالطتهم كالدواء على اختلاف أنواعه وقوته وضعفه فمنهم من مخالطته كالداء العضال، وهو من لا تربح عليه في دين، ولا دنيا ومع ذلك فلا بد أن تخسر عليه الدين والدنيا أو أحدهما، فهذا إذا تمكنت مخالطته واتصلت، فهي مرض الموت المخوف. ومنهم من مخالطته كوجع الضرس فإذا فارقك سكن الألم. ومنهم من مخالطته حمى الربع وهو الثقيل البغيض الذي لا يحسن أن يتكلم فيضيرك ولا يحسن أن ينصت فيستفيد منك ولا يعرف منزلته فيضعها في منزلتها بل إن تكلم فكلامه كالعصى تنزل على قلوب السامعين مع إعجابه بكلامه، وإن سكت فاثقل من نصف الرحى العظيمة التي لا يطاق حملها.
ويذكر عن الشافعي رحمه الله أنه قال: "ما جلس إلى جنبي ثقيل إلا وجدت الجانب الذي هو فيه أثقل من الجانب الآخر".
__________
(1) هذا في (أ) والعبارة في (ب) [فما دمت].(1/36)
ورأيت يومًا عند شيخنا (1) قدس الله روحه رجلاً من هذا الضرب والشيخ يحمله وقد ضعفت القوى عن حمله فالتفت إلي وقال:
مجالسة الثقيل حمى الرِبْع (2)، ثم قال: ولكن أدمنت أرواحنا على الحمل (3)، فصارت لها عادة أو كما قال.
وبالجملة فمخالطة كل مخالف حمى الربع، ومن نكد الدنيا على العبد أن يبتلى بواحد من هذا الضرب، وليس له بد من معاشرته ومخالطته، فليعاشره بالمعروف حتى يجعل الله فرجًا ومخرجًا.
القسم الرابع:
من مخالطته الهلك كله(4) ومخالطته بمنزلة أكل السم، فإذا اتفق لأكله ترياق وإلا فأحسن الله فيه العزاء.
وما أكثر هذا الضرب في الناس – لا كثّرهم الله – هم أهل البدع والضلالة الصادّون عن سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الداعون إلى خلافها، فيجعلون البدعة سنة والسنة بدعة إن جردت التوحيد، قالوا: تنقصت الأولياء الصالحين وإن جردت المتابعة للرسول، قالوا: أهدرت الأئمة المتبوعين وإن وصفت الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله من غير غلو ولا تقصير، قالوا: أنت من المشبهين وإن أمرت بما أمر الله ورسوله من المعروف ونهيت عن المنكر، قالوا: أنت من المفتين وإن اتبعت السنّة وتركت ما خالفها قالوا: أنت من الملبسين وإن تركت ما أنت عليه واتبعت
__________
(1) هو شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
(2) وهي حمى تأخذ صاحبها يومًا وتدعه يومين ثم تجيء في اليوم الرابع، وهي نوع من أنواع الملاريا.
(3) في نسخة (أ) عبارة (الحمى).
(4) في نسخة (ب) عبارة (هلكه).(1/37)
سلسلة بحوث وتحقيقات مختارة من مجلة الحكمة (3)
مسألة في الصفات
تأليف : الحافظ أبي بكر الخطيب البغدادي
تحقيق
عبدالله بن يوسف الجديع
نُشر هذا التحقيق في العدد الأول (ص 281)
قام بنشره
أبو مهند النجدي
Almodhe1405@hotmail.com
almodhe@yahoo.com
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه , ونعوذ بالله من شرور أنفسنا , ومن سيئات أعمالنا من يهد الله , فلا مضل له , ومن يضلل فلا هادي له , وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له , وأشهد أن محمداً عبده ورسوله , صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً .
أمابعد :
فهذه الرسالة ( مسألة في الصفات ) تضمنت حكاية مسألتين :
الأولى : رواية للحفاظ الخطيب , مسألة من مسائل الإمام أبي عبد الله أحمد ابن حنبل في العقيدة في كلام الله عز وجل وإنكار قول الجهمية .
والثانية : فتوى للخطيب في مسألة الصفات , ذكر فيها جملة عقيدة السلف في صفات الله عز وجل , وقرر فيها أن طريقة السلف هي الطريقة الوسط , كما قرر القاعدة السلفية :
الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات , فأثبت الصفات مع التنزيه , وأبطل التأويل .
وأنكر على أهل البدع طعنهم على أهل السنة والأثر بسبب روايتهم الأحاديث في الصفات , وبيَّن وجوب رد المتشابه إلى المحكم , والإيمان جملة بكل ذلك , والتسليم له .
ثم أتى على تقسيم الأحاديث الواردة في الصفات إلى ثلاثة أقسام , من جهة القبول والرد , وبيَّن أن ما ثبت منها يجري مجرى ما ورد في القرآن من ذلك , على الإثبات , ونفي التشبيه .(1/1)
وهذه الصفة تثبت كون الحافظ الخطيب على اعتقاد السلف , أهل السنة والحديث ,لا كما زعم بعضهم , فألحقه بأصحاب الأشعري , وإن كان قوله في الإثبات إجمالاً يوافق قول الأشعري في " الإبانة " , حيث جرى فيها على ذلك , فهذا لا يصلح أن يكون حجة على إلحاقه به , فالإثبات مذهب السلف قبل وجود الأشعري , والخطيب إمام أهل الحديث في وقته , فإلحاقه بهم هو الواجب الذي لا ينبغي سواه .
بل إنك ترى في المسألة الأولى في هذه الرسالة ما يبرئ الخطيب كلية من كونه على مذهب الأشعري , من أجل كون قضية اللفظ بالقرآن من أبرز ما خرجت به الأشعرية عن عقيدة السلف , أهل السنة والحديث .
أسأل الله عز وجل لي ولك العصمة من الضلالة , ولا حول ولا قوة إلا به .
وكتبه أبو محمد عبد الله بن يوسف الجديع
***
هذه الرسالة
النسخة المعتمدة في التحقيق :
اعتمدت في تحقيق هذه الرسالة النسخة الوحيدة المحفوظة في دار الكتب الظاهرية بدمشق , ضمن مجموع رقم : (16) .
تحقيق القول في نسبة الرسالة للخطيب :
تضمّنت الرسالة مسألتين ـ كما ذكرت في الافتتاح ـ
الأولى : من رواية الحافظ ابن ناصر السلامي بإسناده إلى الخطيب رواية , والثانية : من رواية أبي طالب الصيرفي بإسناده على الخطيب من كلامه , وراوي النسخة التي اعتمدتها عنهما لم يتعين لي ؛ لأنها اتصلت برسالة (اعتقاد السنَّة ) للإسماعيلي , وكانت تلك من رواية الإمام موفق الدين ابن قدامة
ضمن جماعة آخرين من الأئمة , وقد وقعت رواية ابن قدامة للمسألة الثانية من هذه الرسالة في كتابه " ذم التأويل " (النص :15) كما رواه من طريقه الذهبي في " العلو "(ص: 185) عن أبي طالب الصيرفي بإسناده , وذكر جزءاً منها .
فاحتمل أن تكون من روايته احتمالاً قوياً .
وفي السماعات المثبتة ما يبين هذه الرسالة من رواية أبي الحسن علي بن أبي عبد الله بن علي المقَيَّر البغدادي , بإجازته من الحافظ ابن ناصر , ومن أبي طالب الصيرفي .(1/2)
وابن المقَيَّر هذا مسند مكثر صالح .
وقد سمع الرسالة عليه جماعة بتاريخ : السابع من شعبان سنة ( 633 هـ )
ولا بن المقَيَّر بالرسالة إجازة أيضاً عن ابن المعالي الفضل بن سهل الإسفراييني , بإجازته عن الخطيب , كما في السماع آخر النسخة .
قلت : وأبو المعالي هذا صحيح السماع , لكنه اتهم بالكذب في لهجته(1) .
وهناك سماع آخر لجماعة , مؤرخ في : يوم السبت تاسع وعشرين من ذي الحجة سنة (730 هـ )
على الشيخة الصالحة أم عبد الله زينب بنت أحمد بن عبد الرحيم الصالحية , بإجازتها من الشيخة المسندة الفاضلة عجيبة بنت محمد بن أبي غالب الباقداري البغدادية , بإجازتها من أبي الفرج مسعود بن الحسن الثقفي , بإجازته من الخطيب .
وهذا إسناد ثالث للرسالة , لكنه ضعيف ؛ لأنهم تكلموا في إجازة الخطيب للثقفي ووهنوها (2) .
وفيما تقدم غنية في إثبات صحة هذه الرسالة عن الخطيب .
وقد تابع الحافظ أبو طاهر السلفي أبا طالب الصيرفي , فروى المسألة الثانية عن الزعفراني .
أخرج ذلك الذهبي في " سير أعلام النبلاء " : (18/283 ـ 284) و " تذكرة الحفاظ " : (3/1142 ـ 1143) وذكر المسألة إلى قوله { كُفُوًا أَحَدٌ } .
اسم الرسالة :
لم تسم الرسالة في أصلها المعتمد , فسميتها بمضمونها وابتداء جواب الخطيب : " أما الكلام في الصفات ... " .
التعليق على الرسالة :
لم أخل حواشي الرسالة من تعليق اقتضاه المقام , من تعريف برواتها وحكم على إسناد وتنبيه على فائدة , وإليك نصها .
***
نص الرسالة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
__________
(1) سبر أعلام النبلاء : (20/226) .
(2) انظر سير أعلام النبلاء :(18/285, 30/470) .(1/3)
أخبرنا الحافظ أبو الفضل محمد بن ناصر بن محمد بن علي البغدادي(1) , قال : أخبرنا أبو الحسين المبارك بن عبد الجبار بن أحمد الصيرفي(2) قراءة عليه , وأنا اسمع , في شوال سنة أربع وتسعين وأربع مئة , أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب :
أخبرنا أبو منصور محمد بن عيسى البزار(3) ـ بهمذان ـ حدثنا صالح بن أحمد الحافظ (4) , قال : سمعت عبد الله بن إسحاق بن سيامرد (5) يقول :
التقيت مع المروذي (6) لي بطرسوس , فقلت له : يا أبا بكر , كيف سمعت أبا عبد الله يقول في القرآن ؟ .
قال : سمعت أبا عبد الله (7) يقول :
القرآن كلام الله غير مخلوق , فمن قال : ( مخلوق ) , فهو كافر.
قلت : كيف سمعته يقول فيمن وقف ؟
__________
(1) المعروف بـ " السلامي " : (467 ـ 550 هـ) ثقة حافظ متقن , صاحب سنة , زاهد , وقد كان أشعرياً أول مرة , ثم انتقل إلى مذهب أهل السنة والحديث . ترجمته في سير أعلام النبلاء : (20/265) .
(2) يعرف بـ " ابن الطيوري " (411 ـ 500 هـ ) بغدادي ثقة ثبت , صحيح الأصول , مع استقامة في الدين , وحسن خلق , ترجمته في : سير أعلام النبلاء : (19/213) .
(3) الهمذاني : (354 ـ 431 هـ) صدوق ثقة , رجل صالح , ترجته في سير أعلام النبلاء : (17/563) .
(4) التميمي الهمذاني: (303 ـ 384 هـ ) ثقة حافظ ثبت مصنف , ترجمته في : سير أعلام النبلاء : (16/518) .
(5) النهاوندي , أبو عبد الرحمن قال الحافظ صالح بن أحمد : " سمعت منه مع أبي , وكان ثقة هيوباً ذا سنة , يحفظ ويذاكر , قدم علينا في سنة ثمان عشرة وثلاث مئة " .
(6) هو أحمد بن محمد بن الحجاج , أبو بكر , (000 ـ 275 هـ ) بغدادي إمام قدوة , رأس في الذب عن السنة والدعوة إليها, وهو أخص أصحاب الإمام أحمد به , ورأس طبقتهم , ولم يكن أحمد يقدم عليه أحداً . ترجمته في : سير أعلام النبلاء : (13/173) .
(7) يعني أحمد بن حنبل .(1/4)
قال : هذا رجل سوء , وأخاف أن يدعو إلى خلق القرآن .
قلت له : يا أبا بكر , كيف سمعت أبا عبد الله يقول في اللفظ ؟
قال : من قال : لفظه في القرآن مخلوق فهو جهمي .
قلت أنا له : وأيش الجهمي (1) ؟ .
قال : شك في الله أربعين صباحاً (2) .
قلت : من شك في الله فهو كافر .
قال : نعم (3).
__________
(1) أي : من الجهمي الذي تنسب إليه هذه المقالة ؟ .
(2) روى عبد الله بن أحمد في " السنة " : (رقم 189 ) , بإسناد صحيح عن يزيد بن هارون قال :
" لعن الله الجهم ومن قال بقوله , كان كافراً جاحداً ترك الصلاة أربعين يوماً , يزعم أنه يرتاد ديناً وذلك أنه شك في الإسلام " .
قلت : والجهم بن صفوان رأس البدعة وإمام الضلالة , قبحه الله .
(3) إسناد هذه المسألة صحيح عن الإمام أحمد وأراد بمن وقف من يقول : ( القرآن كلام الله ) ويسكت , فلا يقول ( مخلوق) ولا (غير مخلوق) , وقد كان هذا يغني قبل ظهور بدعة القرآن , أما بعد ظهورها وانتشارها فلا يجوز السكوت , لما يجب من رد البدعة , وإظهار السنة , كما أن الساكت ربما أضمر اعتقاد الجهمية , فإنهم يقولون : ( القرآن كلام الله ) , وبدعتهم إنما هي بقولهم ( مخلوق ) , فإذا لم ينفها , فما الذي يميزه عنهم ؟ .
وأما قضية اللفظ , فإنما جهّم الإمام أحمد من يقول بها ؛ لأن أصحاب الضلالة بعد أن كشف الله عز وجل باطلهم فروا من القول ( القرآن مخلوق ) , يريدون به القرآن , وهو الإعتقاد الذي صارت إليه الأشعرية , حيث فروا من بدعة المعتزلة الصريحة إلى بدعة موهمة خلافاً لغيرهم , ذلك لأن الأشعرية يوافقون المعتزلة في أن القرآن العربي الذي يعرفه الخاصة والعامة , المؤلف من الحروف , المفتتح بالفاتحة والمختتم بالناس مخلوق , وهو مرادهم باللفظ , وغير المخلوق إنما هو معنى قائم في نفس الله , ليس بحروف وآيات .
وأنت ترى الإمام أحمد رحمه الله أنكر هذه البدعة , وهي في مهدها , قبل أن يوجد الأشعري .
وقد فصلت ذلك وبينته في كتابي " العقيدة السلفية في كلام رب البرية " فارجع إليه .(1/5)
***
أخبرنا الشيخ أبو طالب المبارك بن علي الصيرفي (1) ـ إذناً ـ قال : أخبرنا أبو الحسن محمد بن مرزوق بن عبد الرزاق الزعفراني (2) لي ـ قراءة عليه ـ وأنا اسمع في ربيع الأول من سنة ست وخمس مئة , قال : أخبرنا الخطيب الحافظ أبو بكر أحمد بن علي البغدادي قال :
كتب إلي بعض أهل دمشق يسألني عن مسائل ـ ذكرها , ـ فأجبته عن ذلك ـ وقرأه لنا في جواب ما سئل عنه ـ فقال :
وقفت على ما كتب به الشيخ الفاضل , أدام الله تأييده وأحسن توفيقه وتسديده , وسكنت إلى ما تأدى إلي من علم أخباره , أجراها ... (3) لي على آثاره , وأجيبه بما أرجو أن يقع وفاق اختياره , وأسأل الله العصمة من الزلل والتوفيق , لإدراك صواب القول والعمل , بمنه ورحمته .
أما الكلام في الصفات :
فإن ما رُوي منها في السنن والصحاح مذهب السلف ـ رضوان الله عليهم ـ إثباتها , وإجراؤها على ظواهرها , ونفي الكيفية والتشبيه عنها .
وقد نفها قوم , فأبطلوا ما أثبته الله سبحانه , وحققها من المثبتين قوم ,فخرجوا في ذلك إلى ضرب من التشبيه والتكييف .
والقصد إن ما هو سلوك الطريقة المتوسطة بين الأمور , ودين الله بين الغالي فيه والمقصر عنه .
والأصل في هذا :
أن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات , ويحتذي في ذلك حذوه ومثاله , فإذا كان معلوماً أن إثبات رب العالمين عز وجل هو إثبات وجود ,لا إثبات كيفية , فكذلك إثبات صفاته , إنما هو إثبات وجود , لا إثبات تحديد وتكييف .
__________
(1) يعرف بـ " ابن خضير " (483 ـ 517 هـ ) . بغدادي صدوق مكثر , رجل صالح . ترجمته في : سير أعلام النبلاء : (20/487) .
(2) الجلاب (442 ـ 517 هـ ) . بغدادي فقيه , محدث ثبت , ترجمته في : سير أعلام النبلاء : (19/471) .
(3) قدر كلمة لم أتمكن من قراءته .(1/6)
فإذا قلنا : لله تعالى يد , وسمع وبصر , فإن ما هي صفات أثبتها الله تعالى لنفسه , ولا نقول : إن معنى اليد : القدرة , ولا معنى السمع والبصر : العلم , ولا نقول : إنها جوارح , ولا نشبهها بالأيدي والأسماع والأبصار التي هي جوارح , وأدوات للفعل .
ونقول : إنما وجب إثباتها ؛ لأن التوقيف (1) ورد بها , ووجب نفي التشبيه عنها ,لقوله تبارك وتعالى: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } [ الشورى : 11] وقوله عز وجل : { وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ } [الإخلاص : 4] .
ولما تعلق أهل البدع على عيب أهل النقل برواياتهم هذه الأحاديث , ولبسوا على من ضعف علمه , بأنهم يروون ما لا يليق بالتوحيد , و لا يصح في الدين , ورموهم بكفر أهل التشبيه , وغفلة أهل التعطيل , أجيبوا بأن في كتاب الله تعالى آيات محكمات , يفهم منها المراد بظاهرها , وآيات متشابهات , لا يوقف على معناها إلا بردها إلى المحكم , ويجب تصديق الكل والإيمان بالجميع , فكذلك أخبار الرسول - صلى الله عليه وسلم - جارية هذا المجرى , ومنزلة على هذا التنزيل , يرد المتشابه منها إلى المحكم , ويقبل الجميع .
فتنقسم الأحاديث المروية في الصفات ثلاثة أقسام :
منها : أخبار ثابتة أجمع أئمة النقل على صحتها ؛ لاستفاضتها وعدالة نقلتها , فيجب قبولها والإيمان بها , مع حفظ القلب أن يسبق إليه اعتقاد ما يقتضي تشبيه الله بخلقه , ووصفه بما لا يليق به من الجوارح والأدوات , والتغير والحركات .
والقسم الثاني :أخبار ساقطة بأسانيد واهية , وألفاظ شنيعة , أجمع أهل العلم (بـ) النقل على بطولها , فهذه لا يجوز الاشتغال بها , ولا التعريج عليها .
__________
(1) أي : نصوص الكتاب والسنة الصحيحة .(1/7)
والقسم الثالث : أخبار اختلف أهل العلم في أحوال نقلتها , فقبلها البعض دون الكل , فهذه يجب الاجتهاد والنظر فيها ؛ فإني لم أشتغل بها , ولا تقدم مني جمع لها , و لعل ذلك يكون فيما بعد , إن شاء الله (1) .
***
__________
(1) إسناد هذه المسألة صحيح إلى الحافظ الخطيب .(1/8)
سلسلة بحوث وتحقيقات مختارة من مجلة الحكمة (28)
بقلم
Almodhe1405@hotmail.com
almodhe@yahoo.com
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد ومن يضلل فلا هادي له.
أما بعد؛ فإني أضع بين يدي أخي القارئ ما وقفت عليه من مصنفات حذر منها الإمام الذهبي في كتابه الماتع النافع "سير أعلام النبلاء" هذا السفر العظيم الذي ضمنه دررًا ثمينة من استدراكات واستطرادات وتنبيهات على أمور مهمات في أمور كليات، من مسائل عقدية ونصائح ذهبية.
وإن هذه المصنفات التي حذر منها الإمام الذهبي بمثابة الإشارات لطلبة العلم الشرعي، وفيها لفت نظر لهم لمسائل كليات، وضوابط مهمات، فيما يخص هذا الكم الهائل من المؤلفات والمصنفات(1) فإن المكتبة الإسلامية قد امتلأت بالكتب والأبحاث، وفيها اختلط الغث بالسمين، والخرز بالدر الثمين.
وقد حذر الذهبي من كتب ومصنفات أهل البدع والضلال، فقال في ترجمة أبي حامد الغزالي في "السير" (19/ 328 – 329): "فالحذر الحذار من هذه الكتب، واهربوا بدينكم من شبه الأوائل، وغلا وقعتم في الحيرة، فمن رام النجاة والفوز، فليلزم العبودية، وليدمن الاستعانة بالله، وليبتهل إلى مولاه في الثبات على الإسلام، وأن يتوفى على إيمان الصحابة، وسادة التابعين، والله الموفق، فحسن قصد العالم يغفر له، وينجو إن شاء الله".
__________
(1) كتب حذر منها العلماء (1/6).(1/1)
وقد زجر الذهبي من تعلم بعض العلوم لأنه يفضي بصاحبه إلى الإلحاد والكفر، فقال في "السير" (1ذ0/ 604): "والعلم الذي يحرم تعلمه ونشره علم الأوائل وإلهيَّات الفلاسفة، وبعض رياضتهم بل أكثره، وعلم السحر، والسيمياء، والكيمياء، والشعبذة والحيل، ونشر الأحاديث الموضوعة، وكثير من القصص الباطلة أو المنكرة، وسيرة البطَّال المختلفة، وأمثال ذلك، ورسائل إخوان الصفا، وشعر يعرِّض فيه إلى الجانب النبوي، فالعلوم الباطلة كثيرة جدًا فلتحذر، ومن ابتلي بالنظر فيها للفرجة والمعرفة من الأذكياء، فليقلل من ذلك، وليطالعه وحده، وليستغفر الله تعالى، وليلتجيء إلى التوحيد، والدعاء بالعافية في الدِّين، وكذلك أحاديث كثيرة مكذوبة وردت في الصفات لا يحل بثها إلا التحذير من اعتقادها، وإن أمكن إعدامها فَحَسنٌ، اللَّهم فاحفظ علينا إيماننا، ولا قوة إلا بالله" أ.هـ. كلامه رحمه الله تعالى.
ولا يلزم – أخي القارئ – من التحذير من الكتاب القدح في صاحبه، فإن العلم بحث لا يقبل الجمود والوقوف، وكما قال الذهبي في "السير" (12/500 – 501): "وما زال العلماء قديمًا وحديثًا يرد بعضهم على بعض في البحث وفي التواليف، وبمثل ذلك يتفقه العالم، وتتبرهن له المشكلات..".
وأود في هذا المقام ذكر أقوال بعض العلماء في عدم التلازم بين القدح في الكتاب والقدح في صاحبه، ففي طيات هذا التجميع بعض المصنفات التي حذر الذهبي منها لعلماء جلّة وقعوا في زلات في بعض كتبهم أمثال، أبي إسماعيل الهروي وغيره.
قال الإمام ابن القيم في "إعلام الموقعين" (3/ 283) (1):
__________
(1) نقلته من مقدمة "كتب حذر منها العلماء" (1/ 12 – 13)(1/2)
"معرفة فضل أئمة الإسلام ومقاديرهم وحقوقهم ومراتبهم، وأن فضلهم وعلمهم ونصحهم لله ورسوله لا يوجب قبول كل ما قالوه، وما وقع في فتاويهم من المسائل التي خفي عليهم فيها ما جاء به الرسول فقالوا بمبلغ علمهم والحق في خلافها لا يوجب إطراح أقوالهم جملة وتنقصهم والوقيعة فيهم، فهذان طرفان جائران عن القصد، وقصد السبيل بينهما، فلا نؤثم، ولا نعصم، ولا نسلك بهم مسلك الرافضة في علي، ولا مسلكهم في الشيخين، بل نسلك مسلكهم في أنفقسهم فيمن قبلهم من الصحابة، ومن له في الإسلام قدم صالح وآثار حسنة وهو من الإسلام وأهله بمكان قد تكون من الهفوة والزلة هو فيها معذور، بل ومأجور لاجتهاده، فلا يجوز أن يتبع فيها، ولا يجوز أن تهذر مكانته وإمامته ومنزلته في قلوب المسلمين" أ.هـ. بتصرف يسير.
وقال ابن رجب الحنبلي في "الفرق بين النصيحة والتعيير" (ص 10 – 12) "فردُ المقالات الضعيفة وتبيين الحق في خلافها بالأدلة الشرعية ليس هو مما يكرهه أولئك العلماء، بل مما يحبونه ويمدحون فاعله، ويثنون عليه، فلا يكون داخلاً في باب الغيبة بالكلية"، إلى أن قال: "وهذا من النصيحة لله ولكتابه ورسوله ودينه وأئمة المسلمين وعامّتهم، وذلك هو الدين كما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - " وقال أيضًا: "وقد بالغ الأئمة الورعون في إنكار مقالات ضعيفة لبعض العلماء وردِّها أبلغ الرد، كما كان الإمام أحمد ينكر علي أبي ثور وغيره مقالات ضعيفة تفردوا بها، ويبالغ في ردها عليهم، هذا كله حكم الظاهر " (1).
__________
(1) نقلاً عن مقدمة "كتب حذر منها العلماء".(1/3)
وقال الإمام ابن قتيبة في مقدمة كتابه "إصلاح غلط أبي عُبيد" (ص 46 – 47) قال: "وقد يظن من لا يعلم من الناس، ولا يضع الأمور مواضعها أن هذا اغتياب للعلماء وطعن على السلف، وذكر للموتى، وكان يقال: اعف عن ذي قبر، وليس كما ظنوا لأن الغيبة سب الناس بلئيم الأخلاق، وذكرهم بالفواحش والشائنات، وهذا هو الأمر العظيم المشبه بأكل لحوم الموتى، فأما هفوة في حرف أو زلة في معنى أو إغفال أو وهم ونسيان، فمعاذ الله أن يكون هذا من هذا الباب"(1)أ.هـ.
وقد ذكر الذهبي أسماء بعض المصنفات صراحة محذّرًا منها، ولم يذكر بعضها ولكنه أشار إليها في تراجم مؤلفيها أو جامعيها، وقد قمت بما يلي:
1- قسمت تلك المصنفات جميعًا إلى قسمين:
* الأول: المصنفات التي ذكرها الذهبي بأسمها صراحة مرتبةً على حروف المعجم، ونقلت كلامه وكلام العلماء في هذه المصنفات وأصحابها.
* الثاني: المصنفات التي لم يذكرها صراحة، وأشار إليها إشارة في تراجم أصحابها أو جامعيها، إلى أنهم وضعوا في تواليفهم أكاذيب ينبغي الانتباه إليها، وقد رتبت أسماء المترجمين أصحاب تلك المصنفات على حروف المعجم أيضًا.
2- ذكرت تحت عنوان فائدة: بعض المصنفات التي حث الذهبي على قراءتها وإدمان النظر فيها حتى يتسنى لطالب العلم معرفة الحق وأهله، ونَصرِه، ومعرفة الباطل ودفعه.
وإليك أخي القارئ هذه المادة.
القسم الأول: ذكر مصنفات بأسمائها حذر منها الذهبي:
1- إحياء علوم الدين للغزالي:
قال الذهبي في تحذيره من "الإحياء" قال أبو بكر الطرطوشي: شحن أبو حامد "الإحياء" بالكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا أعلم كتابًا على بسيط الأرض أكثر كذبًا منه، ثم شبكه بمذاهب الفلاسفة، ومعاني "رسائل إخوان الصفا"، وهم قوم يرون النبوة مكتسبة، وزعموا أن المعجزات حيل ومخاريق أ.هـ.
__________
(1) نقلاً عن مقدمة "كتب حذر منها العلماء".(1/4)
ثم أوصى الطرطوشي بإحراق مثل هذه الكتب إذا انتشرت بين من لا معرفة له بسمومها القاتلة.
وذكر الذهبي ايضًا كلام أبي بكر الطرطوشي في رسالة له إلى ابن مظفر – وهو عبد الله بن مظفر- ، إنصف فيها أبا حامد الغزالي، وحذر من كتابه "الإحياء"، فقال الطرطوشي: فأما ما ذكرت من أبي حامد، فقد رأيته، وكلّمته، فرأيته جليلاً من أهل العلم، واجتمع فيه العقل والفهم، ومارس العلوم طول عمره، وكان على ذلك طول عمره، وكان على ذلك معظم زمانه، ثم بدا له عن طريق العلماء، ودخل في غمار العمال، ثم تصوف وهجر العلوم وأهلها، ودخل في علوم الخواطر، وأرباب القلوب، ووساوس الشيطان، ثم شابها بآراء الفلاسفة، ورموز الحلاج، وجعل يطعن على الفقهاء والمتكلمين، ولقد كاد أن ينسلخ من الدين، فلما عمل "الإحياء" عمد يتكلم في علوم الأحوال، ومرامز الصوفية، وكان غير أنيس بها، ولا خبير بمعرفتها، فسقط على أم رأسه، وشحن كتابه بالموضوعات أزهـ.
وذكر الطرطوشي في غير هذه الرسالة كتاب "الإحياء" وقال: وهو – لعمرو الله – أشبه بإماتة علوم الدين.(1/5)
وقال الذهبي: وقال أبو عمرو بن الصلاح: فصل لبيان أشياء حول أبي حامد ومعتقده، ثم قال – أي ابن الصلاح – "وقد رأيت كتاب "الكشف والأنباء عن كتاب الإحياء" للمازري، أوله: الحمد لله الذي أنار الحق وأحاله، وأبار الباطل وأزاله، ثم أورد المازري أشياء مما نقده على أبي حامد، يقول: ولقد أعجب من قوم مالكية يرون مالكًا الإمام يهرب من التحديد، ويجانب أن يرسم رسمًا، وإن كان فيه أثر ما، أو قياس ما، تورعًا وتحفظًا من الفتوى فيما يحمل الناس عليه، ثم يستحسنون من رجل فتاوى مبناها على ما لا حقيقة له، وفيه – أي الإحياء – كثير من الآثار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لفق فيه الثابت بغير الثابت، وكذا ما أورد عن السلف لا يمكن ثبوته كله، وأورد من نزغات الأولياء ونفثات الأصفياء ما يجلُّ موقعه، لكن مَزَج فيه النافع بالضار، كإطلاقات يحكيها عن بعضهم لا يجوز إطلاقها لشناعتها، وإن أخذت معانيها على ظواهرها، كانت كالرموز إلى قدح الملحدين".
ونقل الذهبي شيئًا من كلام الإمام المازري في نقده كتاب "الإحياء" للغزالي، فقال المازري،: قال أبو الفرج ابن الجوزي: صنف أبو حامد "الإحياء" وملأه بالأحاديث الباطلة، ولم يعلم بطلانها، وتكلم على الكشف، وخرج عن قانون الفقه، وقال: إن المراد بالكوكب والقمر والشمس اللواتي رآهنَّ إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - أنوار هي حجب الله عز وجل، ولم يرد هذه المعروفات، وهذا من جنس كلام الباطنية، وقد رد ابن الجوزي على أبي حامد في كتاب "الإحياء" وبين خطأه في مجلدات، سماه كتاب "الأحياء".
وقال – أي المازري- أيضًا: وفي "الإحياء" من الواهيات كثير.
قال الذهبي: وللمازري تأليف في الرد على "الإحياء" وتبيين ما فيه من الواهي والتفلسف – أنصف فيه – رحمه الله.(1/6)
ولأبي الحسن ابن سكَّر ردُّ على الغزالي في مجلد سماه "إحياء ميت الأحياء في الرد على كتاب الإحياء" وفي معجم أبي علي الصدفي، تأليف القاضي عياض له: قال: والشيخ أبو حامد ذو الأنباء الشنيعة، والتصانيف العظيمة، إلا في طريقة التصوف، وتجرد لنصر مذهبهم، وصار داعية في ذلك، وألف فيه تواليفه المشهورة، أُخِذَ عليه منها مواضع، وساءت به ظنون أمة، والله أعلم بسرِّه، ونفذ أمر السلطان عندنا بالمغرب وفتوى الفقهاء بإحراقها والبعد عنها، فامتُثل ذلك أ.هـ.
قلت [أي الذهبي]: أما "الإحياء" ففيه من الأحاديث الباطلة جملة، وفيه خير كثير لولا ما فيه من آدابٍ وزهد من طرائق الحكماء ومنحرفي الصوفية، نسأل الله علمًا نافعًا.. إلخ كلامه رحمه الله.
2- كتاب "الأربعون الودعانية"/ لأبي نصر محمّد بن علي بن ودعان(1)
قال الذهبي: قال السلفي: قرأت عليه (أي ابن ودعان) "الأربعين جمعه، ثم تبين لي حين تصفحت كتابه تخليط عظيم يدل على كذبه، وتركيبه الأسانيد على المتون.
- وقال ابن ناصر – في ابن ودعان هذا - : رأيته ولم أسمع منه، لأنه كان متهمًا بالكذب، وكتابه في الأربعين سرقه من زيد بن رفاعة (2)، وزيد وضعه أيضًا، وكان كذابًا، ألف بين كلمات قد قالها النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وبين كلمات من كلام لقمان والحكماء وغيرهم، وطول الأحاديث.
__________
(1) وقال الذهبي في "الميزان" (3/657) عن ابن ودعان: صاحب تلك "الأربعين الودجعانية" الموضوعة.
وقال ابن حجر في "لسان الميزان" (5/306): وقد سئل المزي عنها فأجاب بما ملخصه: "لا يصح منها على هذا النسق بهذه الأسانيد شيء، ...، وهي مع ذلك مسروقة سرقها ابن ودعان من زيد بن رفاعة" ثم قال – أي المزي -: "والحاصل أنها فضيحة مفتعلة وكذبة مؤتفكة".
(2) هو الهاشمي معروف بوضع الحديث له "أربعون" موضوعة سرقها ابن ودعان كذا قال الذهبي في "الميزان" (2/ 103).(1/7)
3- كتاب بهجة الأسرار/ لابن جهضم علي بن عبد الله الهمذاني.
لم يصرح الذهبي في "سيره" بالتحذير من الكتاب، لكنه قال في ترجمة ابن جهضم، ليس بثقة بل متهم يأتي بمصائب قال ابن خيرون: قيل: إنه يكذب.
قلت: "أي الذهبي": سقت أخباره في "التاريخ" (1) و"الميزان " (2)
4- كتاب "التاجي في أخبار بني بويه" / لإبراهيم بن هلال الصابئ.
? قال الذهبي في ترجمة الصابئ هذا: الحراني المشرك.
? وقال أيضًا: ولما تملك عضد الدولة هم بقتله وسجنه، ثم أطلقه في سنة (371هـ) فألف له كتاب "التاجي في أخبار بني بويه".
? وقال الذهبي أيضًا: ويقال: قتله – أي عضد الدولة – لأنه أمره بعمل التاريخ التاجي، فدخل عليه رجل، فسأله: ما تؤلف؟ فقال: أباطيل ألفقَّها، وأكاذيب أنمقها، فتحرك عليه عضد الدولة وطرده، ومات.
5- كتاب "تفسير القزويني"/ لأبي يوسف، عبد السلام بن محمّد القزويني، (شيخ المعتزلة).
? قال الذهبي: قال السمعاني: كان أحد الفضلاء المقدمين، جمع "التفسير" الكبير الذي لم ير في التفاسير أكبر منه، ولا أجمع للفوائد، لولا أنه مزجه بالاعتزال، وبث فيه معتقده، ولم يتبع منهج السلف، وقال: وكان داعية إلى الاعتزال.
6- "جزء في مثالب أبي الحسن الأشعري" / الأهوازي.
? قال الذهبي في ترجمة الأشعري: وقد ألف الأهوازي جزءًا في مثالب ابن أبي بشر فيه أكاذيب أزهـ. وقد جمع أبو القاسم ابن عساكر في مناقبه فوائد بعضها أيضًا غير صحيح.
وابن أبي بشر هو أبو الحسن الأشعري – رحمه الله -
7- "حقائق التفسير" / لأبي عبد الرحمن السلمي
__________
(1) قال المصنف في "التاريخ" لقد أتى بمصائب في كتاب "بهجة الأسرار" يشهد القلب ببطلانها، وروي عن أبي النجاد، عن أبن العوام عن أبي بكر المروذي في محنة أحمد، فأتى فيها بعجائب وقصص لا يشك من له أدنى ممارسة ببطلانها.
(2) قال في الميزان (3/ 142): ومصنف كتاب "بهجة الأسرار" متهم بوضع الحديث.(1/8)
قال الذهبي في ترجمة الحكيم الترمذي: وقال السلمي: هُجر – أي الحكيم الترمذي – لتصنيفه كتاب "ختم الولاية" و"علل الشريعة"، وليس فيه ما يوجب ذلك، ولكن لبعد فهمهم عنه.
? ثم قال – أي الذهبي – قلت: كذا تُكُلِّم في السلمي من أجل تأليف كتاب: "حقائق التفسير" فياليته لم يؤلفه، فنعوذ بالله من الإشارات الحلاجية، والشطحات البسطامية، وتصرف الاتحادية، فواحزناه على غربة الإسلام والسنة، قال الله تعالى: { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ } [الأنعام: من الآية153]
? وقال الذهبي أيضًا وفي الجملة، ففي تصانيفه أحاديث وحكايات موضوعة، وفي "حقائق تفسيره" أشياء لا تسوغ أصلاً، عدها بعض الأئمة من زندقة الباطنية، وعدها بعضهم عرفانًا وحقيقة، نعوذ بالله من الضلال ومن الكلام بهوى، فإن الخير كل الخير في متابعة السنة والتمسك بهدي الصحابة والتابعين رضي الله عنهم.
? ثم نقل الذهبي كلام ابن الصلاح في "فتاويه"؛ قال وجدت عن الإمام أبي الحسن الواحدي المفسر رحمه الله أنه قال: صنف أبو عبد الرحمن السلمي: "حقائق التفسير"، فإن كان اعتقد أن ذلك تفسير فقد كفر.
8- كتاب "الدافع" ، و"الزمردة"، و"قضيب الذهب" و"نعت الحكمة" / كلها للرِّيوندي.
? قال فيه الذهبي: الملحد، عدو الدين، أبو الحسن أحمد بن يحيى بن إسحاق الريوندي، صاحب التصانيف في الحطِّ على الملة وكان يلازم الرافضة والملاحدة فإذا عوتب قال: إنما أريد أن أعرف أقوالهم.
? نقل الذهبي كلام العلماء في وصفه ووصف كتابه "الدافع" و"الزّمردة"، و"نعت الحكمة"، و"قضيب الذهب" فقال: قال ابن الجوزي: كنت اسمع عنه بالعظائم، حتى رأيت له ما لم يخطر على قلب، ورأيت له كتاب "نعت الحكمة"، وكتاب "قضيب الذهب"، وكتاب "الزّمردة"، وكتاب "الدافع" الذي نقضه عليه الجبائي، ونقض عبد الرحمن بن محمّد الخياط عليه كتاب "الزّمردة".(1/9)
? وقال ابن عقيل: عجبي كيف لم يقتل: وقد صنف "الدافع" يدفع به القرآن، و"الزّمردة" يزري فيه على النبوات.
? وقال ابن الجوزي أيضًا: فيه أي كتاب "الزّمردة" هذيان بارد، لا يتعلق بشبهة، يقول فيه: إن كلام أكثم بن صيفي فيه ما هو أحسن من سورة الكوثر، وإن الأنبياء وقعوا بطلاسم، وألف لليهود والنصارى يحتج لهم في إبطال نبوة سيد البشر.
? وذكر الذهبي عن أبي علي الجبائي أن الرِّيوندي وضع كتاب "الدافع" لابن لاوي اليهودي، وأن ابن الجوزي سرد من بلايا هذا الكتاب ثلاث أوراق.
9- كتاب "درر السِّمط في خبر السبط عليه السلام"/ لأبي عبد الله ابن الآبّار.
? قال الذهبي: وقد رأيت لأبي عبد الله الأبار جزءًا سماه "درر السِّمط في خبر السِّبط عليه السلام" يعني الحسين، بإنشاء بديع يدل على تشيع فيه ظاهر، لأنه يصف عليًا رضي الله عنه بالوصي، وينال من معاوية وآله.
10- كتاب "الديباج"/ للخُتَليُّ.
قال الذهبي في ترجمته: وفي كتابه "الديباج" أشياء منكرة.
11- ديوان ابن هانئ/ لابن هانئ
قال الذهبي: وديوانه كبير، وفيه مدائح تفضي به إلى الكفر (1).
12- "رحلة الشافعي" / ساقها عبد الله بن محمّد البلوي الشافعي.
? قال الذهبي: سمعنا جزءًا من رحلة الشافعي، فلم أسق منه شيئًا لأنه باطل لمن تأمله (2) وكذلك عزى غليه – أي الإمام الشافعي – أقوال وأصول لم تثبت عنه، ورواية ابن عبد الحكم عنه في محاشِّ النساء منكرة (3)، ونصوصه في تواليفه بخلاف ذلك.
? وكذا "وصية الشافعي" من رواية الحسين بن هشام البلدي غير صحيحة.
13- "رسائل إخوان الصفا".
__________
(1) من ذلك قوله – قبّحه الله – في مدح المعز الفاطمي:
ما شئت لا ما شاءت الأقدار ... ... فاحكم فأنت الواحد القهار
(2) انظر هامش "السير" (10/50 – 51 ، 78 – 79).
(3) انظر هامش "السير" (10/ 50 – 51، 78 – 79).(1/10)
? قال الذهبي في ترجمة الغزالي: وحبب إليه إدمان النظر في كتاب "رسائل إخوان الصفا"، وهو داء عضال، وجَرَبٌ مُرْدٍ، وسمٌ قاتل، ولولا أن أبا حامد من كبار الأذكياء لتلف.
? ولما ترجم الذهبي لأبي بكر الطرطوشي وذكر كلامه عن "الإحياء" لأبي حامد الغزالي، ذكر "رسائل إخوان الصفا" وقال في مؤلفيها: وهم يرون النبوة اكتسابًا، فليس النبي عندهم أكثر من شخص فاضل، تخلق بمحاسن الأخلاق، وجانب سفاسفها، وساس نفسه حتى لا تغلبه شهوة، ثم ساق الخلق بدّلك الأخلاق، وأنكروا أن يكون الله يبعث إلى الخق رسولاً، وزعموا أن المعجزات حيل ومخاريق" إلخ ما ذكر رحمه الله.
14- "رسالة الغفران" و"رسالة الملائكة" و"الطير" / جميعها لأبي العلاء المعري.
قال الذهبي: ومن أراد تواليفه – أي المعري – "رسالة الغفران" ي مجلد، قد احتوت على مَزْدكة وفراغ، و"رسالة الملائكة"، ورسالة "الطير" على ذلك الأنموذج.
15- كتاب "الرواة عن أهل البيت" وكتاب "المسترشد في الإمامة" / كلاهما لمحمد بن جرير الطبري (1)
__________
(1) نبه الدكتور ناصر القفاري في كتابه "أصول مذهب الشيعة الإمامية الأثنا عشرية" على أن الطبري هذا هو ليس الإمام أبو جعفر محمّد بن جرير الطبري صاحب التفسير والتاريخ بل هو أحد علماء الشيعة فقال: "بل إن الروافض استغلوا التشابه في أسماء بعض أعلامهم مع بعض أعلام أهل السنة وقاموا بدس فكري رخيص يضلل الباحثين عن الحق.. حيث ينظرون في أسماء المعتبرين عند أهل السنة فمن وجدوه موافقًا لأحد منهم في الاسم واللقب أسندوا حديث رواية ذلك الشيعي أو قوله إليه.
ومن ذلك محمّد بن جرير الطبري الإمام السني المشهور صاحب التفسير والتاريخ، فإنه يوافقه في هذا الاسم محمّد ابن جرير بن رستم الطبري من شيوخهم، ولاهما في بغداد، وفي عصر واحد، بل كانت وفاتهما في سنة واحدة، وهي سنة (310هـ). وقد استغل الروافض هذا التشابه فنسبوا للإمام ابن جرير بعض ما يؤيد مذهبهم مثل: كتاب المسترشد في الإمامة مع أنه لهذا الرافضي، وهم إلى اليوم يسندون بعض الأخبار التي تؤيد مذهبهم إلى ابن جرير الطبري الإمام.
ولقد ألحق صنيع الروافض هذا – ايضًا – الأذى بالإمام الطبري في حياته وقد أشار ابن كثير إلى أن بعض العوام اتهمه بالرفض، ومن الجهلة من رماه بالإلحاد. وقد نسب إليه كتاب عن حديث غدير خم يقع في مجلدين، ونسب إليه القول بجواز المسح على القدمين في الوضوء.
ويبدو أن هذ المحاولة من الروافض قد انكشف أمرها لبعض علماء السنة من قديم، فقد قال ابن كثير: ومن العلماء من يزعم أن ابن جرير اثنان أحدهما شيعي وإليه ينسب ذ1لك، وينزهون أبا جعفر من هذه الصفات.
وهذا القول الذي نسبه ابن كثير لبعض أهل العلم هو عين الحقيقة كما تبين ذلك من خلال كتب التراجم، ومن خلال آثارهما، وأين الثري من الثريا.. فالفرق بين آثار الرجلين لا يقاس، وعقيدة الإمام ابن جرير لا تلتقي مع الرفض بوجه، فهو أحد أئمة الإسلام علمًا وعملاً بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - " أ.هـ. [المجلة].(1/11)
أبي جعفر.
قال الذهبي: قال عبد العزيز الكتاني: هو "أي الطبري" من الروافض، صنف كتبًا كثيرة في ضلالتهم، له كتاب "الرواة عن أهل البيت"، "المسترشد في الإمامة".
16- كتاب "زاد الرفاق"/ لمحمد بن أحمد الأبيوردي
قال الذهبي: قال ابن الخنشاب: قرأت على عبد الرحيم بن الأخوة، الثلاثة أجزاءً من أول كتاب "زاد الرفاق" للأبيوردي، وهذا الكتاب – نعم والله – بارد الوضع، مشوب أدبه بفضول من علوم لا تعد في الفضل، دالة على أن الأبيوردي، كان مُمَخْرِقًا محبًا لأن يرى بعين مُفْتَنَّ، متشبعًا بما لم يُعْطَ.
17- كتاب "الزيج" وكتاب "المواليد" وكتاب "القرانات" وكتاب "طبائع البلدان" / جميعها لأبي معشر البلخي.
? لم يصرح الذهبي في ترجمة أبي معشر بالتحذير حول كتبه تلك لكنه قال: وصنف كتاب "الزيج"، وكتاب "المواليد"، وكتاب "القرانات"، وكتاب "طبائع البلدان"ن وأشياء كثيرة من كتب الهذيان.
18- كتاب "سرّ العالمين وكشف ما في الدارين"/ لأبي حام دالغزالي.
? قال الذهبي: ولأبي المظفر يوسف سبط ابن الجوزي في كتاب "رياض الأفهام" في مناقب أهل البيت قال: ذكر أبو حامد في كتابه "سرّ العالمين وكشف ما في الدارين" فقال في حديث: "من كنت مولاه، فعلي مولاه"، أن عمر قال لعلي: بخٍ بخٍ، أصبحت مولى كل مؤمن ومؤمنة.
قال أبو حامد: وهذا تسليم ورضى، ثم بعد هذا غلب عليه الهوى حبًا للرياسة، وعقد البنود، وأمر الخلافة ونهيها، فحملهم على الخلاف، فنبذوه وراء ظهورهم، واشتروا به ثمنًا قليلاً، فبئس ما يشترون، وسرد كثيرًا من هذا الكلام الفَسْلِ الذي تزعمه الإمامية، وما أدري ما عذره في هذا؟ والظاهر أنه رجع عنه، وتبع الحق، فإن الرجل من بحور العلم، والله أعلم.
- هذا إن لم يكن هذا وضع هذا وما ذلك ببعيد، ففي هذا التأليف بلايا لا تتطيب، وقال في أوله: إنه قرأه عليه محمّد بن تومرت المغربي سرًا بالنظامية، قال: وتوسَّمْتُ فيه الملك.(1/12)
19- "شفاء الصدور" في التفسير/ لأبي بكر النَّقَّاش.
قال الذهبي – بعد ذكره توهين العلماء للنقاش – وقال الحافظ هبة الله اللالكائي: تفسير النقاش أشقى الصدور لا شفاء الصدور.
20- "الفاروق في الصفات"/ لأبي إسماعيل الهروي.
قال الذهبي في ترجمة أبي إسماعيل: ".. وكان طودًا راسيًا في السنة، لا يتزلزل ولا يلين، لولا ما كدر به كتابه "الفاروق في الصفات" بذكر أحاديث باطلة يجب بيانها وهتكها، والله يغفر له بحسب قصده.
ولكن قال الذهبي في هذا الكتاب: قلت: غالب ما رواه في كتاب: "الفاروق" صحاح وحسان.
21- كتاب "الفتن"/ لنعيم بن حمّاد.
قال الذهبي فيه: لا يجوز لأحد أن يحتج به، ثم قال: وقد صنف كتاب "الفتن" فأتى به بعجائب ومناكير.
22- كتاب "الفصوص" /لمحي الدين ابن عربي.
قال الذهبي: ومن أردئ تواليفه كتاب "الفصوص"، فإن كان لا كفر فيه، فما في الدنيا كفر. نسأل الله العفو والنجاة، فواغوثاه بالله.
? وقال في موطن آخر: ولا ريب أن كثيرًا من عباراته له تأويل، إلا كتاب "الفصوص".
23- كتاب "الفصول والغايات في محاذاة السور والآيات": لأبي العلاء المعري.
? بعد أن ذكر الذهبي شيئًا من شعره مما يدل على شقاوته إن كان معتقدًا معناه، قال الذهبي: هذا إلى ما يحكي عنه في كتاب "الفصول والغايات" فقيل له: أنَّ هذا من القرآن؟ فقال: لم تصقله المحاريب أربع مائة سنة.
? وقال الذهبي أيضًا: قال الباخرزي: ".. وإنما تحدثت الألسن بكتابه الذي عارض به القرآن، وعنونه "الفصول والغايات في محاذاة السور والآيات".
24- "قوت القلوب" / لمحمد بن علي بن عطية (أبي طالب المكي).
? أشار الذهبي إلى ما في "القوت" من شرِّ وبلايا، فقال في ترجمة ابن سالم شيخ الصوفية السالمية: للسالمية بدعة لا أتذكرها الساعة قد تفضي إلى حلول خاص، وذلك في "القوت" (1).
__________
(1) قال الذهبي في "الميزان" (3/ 655) قال الخطيب: ذكر في "القوت" أشياء منكرة في الصفات.(1/13)
25- "كيمياء السعادة والعلوم"/ الغزالي.
? قال الذهبي نقلاً عن عبد الغافر صاحب "السياق": ومما نقم عليه – أي الغزالي – ما ذكر من الألفاظ المستبشعة بالفارسية في كتاب "كيمياء السعادة والعلوم" وشرح بعض الصور والمسائل بحيث لا توافق مراسم الشرع وظواهر ما عليه قواعد الملة، وكان الأولى به – والحق أحق ما يقال – ترك ذلك التصنيف، والإعراض عن الشرح له.
? قال الذهبي: قلت: ما نقمه عبد الغافر على أبي حامد في الكيمياء، فله أمثاله في غضون تواليفه، حتى قال أبو بكر بن العربي: شيخنا أبو حامد بلع الفلاسفة، وأراد أن يتقيأهم، فما استطاع.
26- كتاب "المبتدأ" / لأبي حذيفة إسحاق بن بشر.
? قال فيه الذهبي: الشيخ العالم القصاص الضعيف التالف.
? وقال في كتابه هذا: هو كتاب مشهور في مجلدتين، ينقل منه ابن جرير فمن دونه حدث فيه ببلايا وموضوعات.
27- كتاب "المنخول" / للغزالي.
- قال الذهبي: وفي أواخر "المنخول" للغزالي كلام فجُّ في إمام، لا أرى نقله هنا.
* قلت: والمراد بالإمام: أبو حنيفة رحمه الله، فالكتاب ليس فيه أثارة من علم، وقد صدر عنه حين كان متلبسًا بعلوم الجدل، ومعظم ما فيه مأخوذ من كتاب شيخه إمام الحرمين "مغيث الخلق في ترجيح القول الأحق" الذي الفه في ترجيح مذهب الشافعي على غيره من المذاهب، وفيه من التعصب الشنيع على الإمام أبي حنيفة رحمه الله ما تصم عنه الأسماع، وتنبوا عنه الأذواق (1) حتى أن الجويني دهش لما رأى "المنخول" للغزالي فقال الإمام الذهبي: قال ابن النجار في الغزالي: إنه ألف "المنخول" فرآه أبو المعالي – هو الجويني – فقال: دفنتني وأنا حي، فهلا صبرت، الآن، كتابك غطى على كتابي.
28- "المستخرجة" / لأبي عبد الله العتبي.
__________
(1) انظر هامش "السير" (19/ 344).(1/14)
? قال الذهبي: قال أسلم بن عبد العزيز: أخبرني ابن عبد الحكم، قال: أتيت بكتب حسنة الخط، تدعي "المستخرجة" من وضع صاحبكم محمّد بن أحمد العتيبي، فرأيت جلها كَذُوبًا.
? وقال الذهبي ايضًا: وقال ابن الفَرَضي عن العتبي: جمع "المستخرجة" وأكثر فيها من الروايات المطروحة، والمسائل الشاذة.
29- كتاب "المناقب" / لأبي سعيد عباد بن يعقوب الأسدي الرَّواجِني الكوفي المبتدع.
? قال الذهبي: ورأيت له جزءًا من كتاب "المناقب" جمع فيه أشياء ساقطة، قد أغنى الله أهل البيت عنها، وما أعتقده يتعمد الكذب أبدًا (1).
30- كتاب "نهج البلاغة" / لعلي بن حسين المرتضى.
? قال الذهبي في المرتضى: هو جامع كتاب "نهج البلاغة" المنسوبة ألفاظه إلى الإمام علي رضي الله عنه، ولا أسانيد لذلك، وبعضها باطل، وفيه حق، ولكن فيه موضوعات حاشا الإمام من النطق بها، ولكن أين المنصف؟ وقيل: بل جمع أخيه الشريف الرضي.
القسم الثاني: ذكر أسماء أشخاص أو فرق حذر الذهبي من مصنفاتهم ولم يصرح باسم المصنفات
1- أبو حيان التوحيدي/ وضع رسالة نسبها إلى أبي بكر وعمر مع أبي عبيدة إلى علي رضي الله عنهم جميعًا.
? قال الذهبي: وقال أبو نصر السجزي الحافظ فيما يأثروه عنه – جعفر الحكاك – سمعت أبا سعد الماليني يقول: قرأت الرسالة – يعني المنسوبة إلى ابي بكر وعمر مع أبي عبيدة إلى علي رضي الله عنهم – على أبي حيان، فقال: هذه الرسالة عملتها ردًا على الرافضة، وسببه أنهم كانوا يحضرون مجلس بعض الوزراء، وكان يغلون في حال علي، فعملت هذه الرسالة.
__________
(1) قال الذهبي في "الميزان" (2/379) في ترجمة عباد بن يعقوب هذا هو من غلاة الشيعة ورؤوس البدع، لكنه صادق الحديث، قال: وقال ابن خزيمة عنه: حدثنا الثقة في روايته، المتهم في دينه عباد، وكان عباد هذا يتعصب لعلي رضي الله عنه وآله.(1/15)
? قال الذهبي: قد باء بالاختلاف على الصفوة، وقد رأيتها، وسائرها كذب بين (1).
2- "الأستاذ"/ أبو محمّد عبد الله بن محمّد البخاري الحنفي.
? قال الذهبي: قد ألف "مسندًا" لأبي حنيفة الإمام، وتعب عليه، ولكن فيه أوابد ما تفوّه بها الإمام راجت على أبي محمد.
3- "الأهوازي"/ أبو علي الحسن بن علي
? قال الذهبي: جمع سيرة لمعاوية، و"مسندًا" في بضعة عشر جزءًا، حشاه بالأباطيل السمجة.
? وقال: وألف كتابًا طويلاً في الصفات (2)، فيه كذب، ومما فيه حديث عرق الخيل، وتلك الفضائح، فسبه علماء الكلام وغيرهم.
ثم نقل الذهبي كلام ابن عساكر في "تبيين كذب المفترى" عن الأهوازي وكتابه،
قال : لا يستعبرن جاهل كذب الأهوازي فيما أورده من تلك الحكايات، فقد كان أكذب الناس فيما يدَّعي من الروايات في القراءات.
4- "البكري القصاص"
? قال الذهبي فيه: القصاص الكذاب.
? وقال لا يستحيي من كثرة الكذب الذي شحن به مجاميعه وتواليفه (3)،
__________
(1) قال الذهبي في "الميزان" (4/518) في ترجمة أبي حيان هذا بعد أن ذكر تلك الرسالة: قلت: قد اعترف بوضعها، وقد نفاه الوزير المهلبي عن بغداد لسوء عقيدته، وكان يتفلسف.
(2) ذكره ابن عساكر باسم "البيان في شرح عقود أهل الإيمان" وقال فيه: الذي صنفه في أحاديث الصفات، واطلع على ما فيه من الآفات، ورأى ما فيه من الأحاديث الموضوعة، والروايات المستنكرة المدفوعة، والأخبار الواهية الضعيفة، والمعاني المتنافية السخيفة كحديث ركوب الجمل، وعرق الخيل، قضى عليه في اعتقاده بالويل أ.هـ.
(3) قال الذهبي في "الميزان" (1/112) في ترجمة البكري هذا: فما أجهله وأقل حياه! ما روى حرفًا واحدًا من العلم بسند، ويُقرأ له في سوق الكتبيين كتاب "ضياء الأنوار" و"رأس الغول" و"شر الدهر" وكتاب "كلندجة"، و"حصن الدولاب"، وكتاب "الحصون السبعة" وصاحبها هضام بن الحجاف، وحروب الإمام علي معه وغير ذلك.
وقال في هامش السِّير: ومن مشاهير كتبه "الذروة" في السيرة النبوية، ما ساق منها غزوة على وجهها، بل كل ما يذكره لا يخلو من بطلان إمّا أصلاً، وإما زيادة (انظر هامش السير) (19/36).(1/16)
هو أكذب من مسيلمة.
5- "الحرالي"/ أبو الحسن علي بن أحمد الأندلسي.
? قال الذهبي وعمل تفسيرًا عجيبًا ملأه باحتمالات لا يحتمله الخطاب العربي أصلاً، وتكلم في علم الحروف والأعداد، وزعم أنه استخرج منه وقت خروج الدجال، ووقت طلوع الشمس من مغربها.
6- "الرافضة" / لهم نسخ موضوعة على عليّ بن موسى الرِّضى، كذبوا فيها عليه وفيه.
? فقال الذهبي في تلك النسخ (1): فمنها عن أبيه عن جده عن آبائه مرفوعًا:
السبت لنا، والأحد لشيعتنا، والإثنين لبني أمية، والثلاثاء لشيعتهم، والأربعاء لبني العباس، والخميس لشيعتهم، والجمعة للناس جميعًا".
وبه: "لما أسري بي، سقط عرقي، فنبت منه الورد".
وبه: " ادهنوا بالبنفسج، فإنه بارد في العين حار في الشتاء".
وبه: "من أكل رمانة بقشرها، أنار الله قلبه أربعين ليلة"
وبه: "الحناء بعد النورة أمان من الجذام".
وبه: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا عطس، قال له علي: رفع الله ذكرك، وإذا عطس علي، قال له النبي - صلى الله عليه وسلم - أعلى الله كعبك".
فهذه أحاديث أباطيل من وضع الضُّلاّل.
7- "عبد المغيث بن زهير بن زهير بن عَلَوي"/ له جزء في فضائل يزيد بن معاوية.
? قال الذهبي في ترجمته: وقد ألف جزءًا في فضائل يزيد (2) – أي ابن معاوية – أتى فيه بعجائب وأوابد، لو لم يؤلفه لكان خيرًا، وعمله ردًا على ابن الجوزي، ووقع بينهما عداوة.
__________
(1) وقال في "الميزان" (3/158): "قد كذب عليه، ووضع عليه نسخة سائرها الكذب، كُذب على جدّه جعفر الصادق، فروى عنه أبو الصلت الهروي أحد المتهمين، ولعلي بن مهدي القاضي عنه نسخة، ولأبي أحمد بن عامر بن سليمان الطائي عنه نسخة كبيرة، ولداود بن سليمان القزويني عنه نسخة".
(2) قال في "الميزان" (4/440) في ترجمة يزيد: مقدوح في عدالته، ليس بأهل أن يروى عنه، وقال أحمد بن حنبل: لا ينبغي أن يروى عنه، وانظر هامش "السير" (21/ 160).(1/17)
8- "الفارابي" / أبو نصر محمّد بن محمّد التركي الفارابي المنطقي.
? قال الذهبي: له تصانيف مشهورة، من ابتغى الهدى فيها ضل وحار، ومنها تخرج ابن سينا، نسأل الله العافية.
9- "الفاطميون" : (أصحاب الدولة العبيدية)
الباطنية الذين قلبوا الإسلام وأعلنوا بالرفض، وأبطنوا مذهب الإسماعيلية، وبثوا الدعاة، يستغوون الجبليَّة والجهلة.
? قال الذهبي: ولهم "البلاغات السبعة": فالأول للعوام، وهو الرفض، ثم البلاغ الثاني للخواص، ثم البلاغ الثالث لمن تمكن، ثم الرابع لمن استمر سنتين، ثم الخامس لم ثبت في المذهب ثلاث سنين ثم السادس لمن أقام أربعة أعوام، ثم الخطاب بالبلاغ السابع، وهو الناموس الأعظم.
? وقال الذهبي: قال محمّد بن إسحاق النديم: قرأته (1) فرأيت فيه أمرًا عظيمًا من إباحة المحظورات، والوضع من الشرائع وأصحابها وكان في أيام معز الدولة ظاهرًا شائعًا، والدعاة منبثُّون في النواحي، ثم تناقض (2).
10- "فخر الدين" / محمّد بن عمر بن الحسين القرشي البكري الطبرستاني.
قال الذهبي: وقد بدت منه في تواليفه بلايا وعظائم وسحر وانحرافات عن السنة، والله يعفو عنه.
هذا آخر ما جمعته من المصنفات التي حذّر مننها الذهبي في سير أعلام النبلاء وصلى الله على نبينا محمّد - صلى الله عليه وسلم - ، والحمد لله أولاً وآخرًا.
فائدة:
? بعد أن ذكرنا المصنفات التي حذر الذهبي منها في كتابه العظيم "سير أعلام النبلاء" تصريحًا وتلميحًا، يجدر بنا لإتمام الفائدة ذكر ما وقفنا عليه من كلامه – رحمه الله – حول المصنفات التي نصح باقتنائها وقراءتها.
? وقبل كل شيء، لا ننسى أن نذكر إخواننا بتدبر كتاب الله وتأمله وحفظه والعمل به، فهو حبل الله المتين، ونوره المبين، ما فرّط عز وجل فيه من شيء، قال تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ } [الأنعام: من الآية38] .
__________
(1) أي البلاغ السابع.
(2) أي تناقض أمر مذهب العبيدية، وقل الدعاة فيه.(1/18)
? فاسمع ما قاله الذهبي حول بعض المصنفات التي رغب في قراءتها.
قال رحمه الله: تدري ما العلم النافع؟ هو ما نزل به القرآن، وفسره الرسول - صلى الله عليه وسلم - قولاً وفعلاً، ولم يأت نهي عنه، قال عليه السلام: "من رغب عن سنتي فليس مني" فعليك يا أخي بتدبر كتاب الله، وبأدمان النظر في "الصحيحين" وسنن النسائي، ورياض النواوي واذكاره، تفلح وتنجح، وإياك وآراء عباد الفلاسفة، ووظائف أهل الرياضات، وجوع الرهبان، وخطاب طيش رؤوس أصحاب الخلوات، فكل الخير في متابعة الحنيفية السمحة، فواغوثاه بالله، اللهم أهدنا إلى صراطك المستقيم.
? وقد سرد الذهبي بعضًا من تصانيف البيهقي رحمه الله، وعظم قدرها، وكأنه يشير إلى طالب العلم بقراءتها وتأملها فقال رحمه الله: قلت: فتصانيف البيهقي عظيمة القدر، غزيرة الفوائد، قل من جوّد تواليفه مثل الإمام أبي بكر، فينبغي للعالم أن يعتني بهؤلاء سيما "سننه الكبير"، وقد قدم قبل موته بسنة أو أكثر إلى نيسابور، وتكاثر عليه الطلبة، وسمعوا منه كتبه، وجلبت إلى العراق والشام والنواحي، واعتني بها الحافظ أبو القاسم الدمشقي، وسمعها من أصحاب البيهقي، ونقلها إلى دمشق هو وأبو الحسن المرادي.
? وقد ذكر كلام الشيخ عز الدين بن عبد السلام وكان أحد المجتهدين قال [أي العز]: ما رأيت في كتب الإسلام في العلم مثل "المحلى" لابن حزم، وكتاب "المغني" للشيخ موفق الدين.
قال الذهبي: قلت: لقد صدق الشيخ عز الدين، وثالثهما "السنن الكبير" للبيهقي ورابعها "التمهيد" لابن عبد البر، فمن حصل هذه الدواوين وكان من الأذكياء المفتين، وأدمن المطالعة فيها فهو العالم حقًا، وذكر الذهبي مصنفات جليلة لابن حزم في أربع ورقات تقريبًا.
? وأثنى الذهبي على "موطأ" الإمام مالك فقال: رتبة "الموطأ" أن يذكر تلو "الصحيحين" مع "سنن" أبي داود والنسائي، وإن للموطأ لوقعًا في النفوس، ومهابة في القلوب لا يوازنها شيء.(1/19)
? وقد نصح الذهبي أيضًا بكتاب "دلائل النبوة" للبيهقي، وقال: فإنه شفاء لما في الصدور وهدى ونور. مع أنه يحتوي على أحاديثه واهية، وعذره أنه ساقها بأسانيدها أ.هـ.
? فانظر أخي القارئ كيف كان علماؤنا يحثون على قراءة النافع من المصنفات ويحذّرون من المصنفات التي تكثر فيها الواهيات لا سيما كتب أهل البدع والضلالات، فاختر لنفسك كتبًا سليمة من الشوائب، واسأل العلماء عن النافع منها، تنجو بدينك ودنياك، وادع الله في السر والعلن أن يهديك سبل الرشاد وأن يُجنِّبْكَ المنكرات، فإنه ولي ذلك والقادر عليه.
هذا والحمد لله رب العالمين(1/20)
سلسلة بحوث وتحقيقات مختارة من مجلة الحكمة (15)
منظومةٌ في وجوب التمسك
بالكتاب والسنة
نظمها وعلق عليها:
محمود مصطفى رشيد اليوسفي
قام بنشره
أبو مهند النجدي
Almodhe1405@hotmail.com
almodhe@yahoo.com
منظومة في وجوب التمسك
بالكتاب والسنة
بسم الإله خالق الأكوان ... والأرض والسماء والأزمان
الحمد لله الكريم الهادي ... من أرسل النبي بالرشاد
وأفضل الصلاة والسلام ... على النبي أفضل الأنام
وآله وصحبه الكرام ... من زينوا الأخلاق بالإسلام
وبعد فالإسلام والإيمان ... من ربنا إلى الورى أركان
فديننا إذاً هو الإسلام ... شعاره التوحيد والسلام
دستوره الحديث والقرآن ... منهاجه الأعمال والإيمان
فالدين: قال الله والرسول ... وهو الذي من حقه القبول
فلا تقدم أي قول كانا ... وتهمل الحديث والقرآنا
علمنا الأئمة الأخيار ... وأرشدتنا السادة الأبرار
بأن من قدم قول الناس ... على حديث المصطفى النبراس
فما له في الدين من نصيب ... وهو من الإسلام كالغريب
الشافعي: إذا يصح الخبر ... فمذهبي في حكمه منحصر
فن يكن ما قلته بعكسه ... فاضرب به الجدار لا تعبأ به
بمثل هذا القول قد قال الأولى ... وصرحوا للناس أجمعونا
فأحمد كذا أبو حنيفة ... ومالك أقوالهم شريفه
فكلهم قد أجمعوا إجماعاً ... وأوجبوا على الورى اتباعاً
لله والرسول أينما ظهر ... نص كتاب أو حديث أو أثر
(فلا تَقَدَّموا) جاء بها القرآن ... نذارة من ربنا الرحمن
كذا { وَمَا كَانَ } لنا إيذان ... بأننا واجبنا الإذعان
إذا قضى الله أو الرسول ... أمراً فإن ديننا القبول
كذا { فَلا وَرَبِّكَ } البرهان ... بأن فرض المسلم الإذعان
إذا اختلفنا في قضاء كان ما ... قضى به الرسول حكماً لازماً
دون انزعاج أو توان أو حرج ... مما قضاه بعد الحق انبلج
وهكذا { فَلْيَحْذَرِ الْذِينَ ... } ... تبين للعاملين الدين
بأن من يخالف الرسولا ... ويرفض الإذعان والقبولا
مصيره الفتنة والهوان ... وحقه الخيبة والخسران
(عليكم بسنتي ) دليل ... مقولة قد قالها الرسول(1/1)
فإن تمسكنا بما فينا ترك ... فزنا.. ومن لم يلقه بالاً هلك
فإنه سفينة النجاة ... فيها فقط بشائر الحياة
بسم الله الرحمن الرحيم
1- بسم الإله خالق الأكوان ... والأرض والسماء والأزمان
2- الحمد لله الكريم الهادي ... من أرسل النبي بالرشاد
3- وأفضل الصلاة والسلام ... على النبي أفضل الأنام
4- وآله وصحبه الكرام ... من زينوا الأخلاق بالإسلام
5- وبعد: فالإسلام والإيمان ... من ربنا إلى الورى أركان
اعلم هدانا الله وإياك إلى الصراط المستقيم بأن لكل من الإسلام والإيمان أركاناً. بتطبيقها يكون المرء مسلماً مؤمناً. وقد بينها الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح الذي رواه سيدنا عمر بن الخاب رضي الله عنه، قال: بينما نحن جلوس عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه وقال: يا محمد، أخبرني عن الإسلام، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً)، قال : صدقت، قال: فعجبنا له يسأله ويصدقه، قال: فأخبرني عن الإيمان، قال: ( أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره)، قال: صدقت..) الحديث (1).
فبين الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن أركان الإسلام خمسة، هن:
1- شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
2- إقامة الصلوات الخمس التي فرضها الله سبحانه وتعالى على المسلمين كل يوم وليلة.
__________
(1) رواه الإمام مسلم في صحيحه (1/157) والترمذي (2738) وأبو داود (4695) والنسائي (8/97).(1/2)
3- إيتاء الزكاة التي بين الرسول - صلى الله عليه وسلم - نصابها والأصناف التي تجب فيها الزكاة، ومقدار ما يؤخذ من الأموال، بأحاديث صحيحة مما لم يدع فيها مجالاً للاستفهام.
4- صوم شهر رمضان.
5- حج البيت من استطاع إليه سبيلاً.
كما بين عليه الصلاة والسلام بأن أركان الإيمان ستة بالتصديق بها يكون المرء مؤمناً:
1- الإيمان بالله، بأنه هو المستحق وحده للعبادة بأنواعها، من الدعاء والاستعانة فيما لا يقدر عليه إلا الله، والاستغاثة والنذر، والحلف، وكل ما هو من خصائص الألوهية والربوبية.
2- الإيمان بالملائكة، بأنهم عباد مكرمون لا يعصون فيما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون.
3- الإيمان بالكتب السماوية التي أتت بالتوحيد الخالص، آمرة بالمعروف ناهية عن المنكر، موجهة إلى الخير، محذرة من الشر.
4- الإيمان بالرسل جميعاً، بأنهم رجال مرسلون من قبل الله، وقد أمروا بأن يعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، ويبلغوا ذلك إلى أقوامهم الذين أرسلوا إليهم.
5- الإيمان باليوم الآخر – يوم القيامة - ، بأنه يوم يحاسب المرء فيه على ما قدمت يداه في الدنيا من أعمال وأقوال، إن خيراً فخير وإن شراً فشرن إلا أن يتغمده الله برحمته وعفوه فإنه لا راد لفضله يفعل ما يشاء.
6- الإيمان بالقدر خيره وشره، بأن الله خالق جميع أفعال العباد، ولكنهم المباشرون لتلك الأعمال، فأثابتهم وعقابهم إنما تكون حسب مباشرتهم لتلك الأعمال بعد أن هداهم الله النجدين وبين لهم الطريقين، فمن اختار برضا نفسه طريق الخير وفقه الله لذلك ومن اختار غير مجبر طريق الشر وفق إلى ذلك قال تعالى: { فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى } (الليل: 5-10).
الإسلام ديننا
6- فديننا إذن هو الإسلام ... شعاره التوحيد والسلام(1/3)
7- دستوره الحديث والقرآن ... منهاجه الأعمال والإيمان
قال تعالى: { وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } (الأنعام:155) وقال تعالى: { اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ } (الأعراف:3).(1/4)
قال الإمام الشافعي رحمه الله: (( ففرض الله على الناس اتباع وحيه، وسنن رسوله فقال في كتابه: { لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ } (آل عمران:164)، وقال: { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ } (الجمعة:2)، وقال: { وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ } (البقرة: من الآية231) مع آي سواها. ذكر فيهن الكتاب والحكمة، قال: (( فذكر الله الكتاب وهو القرآن وذكر الحكمة، فسمعت من أرضى أهل العلم بالقرآن يقول: الحكمة سنة رسول الله. وهذا يشبه ما قال والله أعلم، لأن القرآن ذكر، واتبعته الحكمة. فلم يجز – والله أعلم – أن يقال الحكمة ها هنا إلا سنة رسول الله، وذلك أنها مقرونة مع كتاب الله، وإن الله افترض طاعة رسوله، وحتم على الناس اتباع أمره – فلا يجوز أن يقال القول: فرض. إلا لكتاب الله ثم سنة رسوله، لما وصفنا من أن الله جعل الإيمان برسوله مقروناً بالإيمان به، وسنة رسول الله مبينة عن الله معنى ما أراد. دليل على خاصة وعامة، ثم قرن الحكمة بها بكتابه فأتبعها إياه، ولم يجعل هذا لأحد من خلقه غير رسوله)) (1). ثم قال الشافعي رحمه الله: (( باب فرض الله طاعة رسول الله مقرونة بطاعة الله ومذكورة وحدها (2)
__________
(1) " رسالة الشافعي" بتحقيق أبي الأشبال أحمد محمد شاكر رحمه الله (1/21).
(2) المصدر السابق (ص79) و " مفتاح الجنة" للإمام السيوطي (ص 4-5)..(1/5)
قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ... } (النساء: من الآية59) الآية، وقال: { مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ } (النساء:80) ، فأعلمهم أن طاعتهم رسوله طاعته.
وقال تعالى: { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } (الحشر: من الآية7)، تدل هذه الآيات وغيرها مما ورد في القرآن الكريم على اتباع أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولزوم طاعته، فلا يسع أحداً رد أمره لفرض الله طاعة نبيه)) انتهى.
وقولي: (( منهاجه الأعمال والإيمان)) أعني أن أحدهما لا يغني عن الآخر.
قال تعالى: { وَالْعَصْرِ إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ } (العصر:1-4)، وقال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ } (البينة:7)، وقال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً } (الكهف:107)، وقال تعالى: { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ } (النور: من الآية55).
8- فالدين: قال الله والرسول ... وهو الذي من حقه القبول
9- فلا تقدم أي قول كانا ... وتهمل الحديث والقرآن(1/6)
قال الشافعي رحمه الله: (( فليست تنزل بأحد من أهل دين الله نازلة إلا وفي كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها، قال الله تبارك وتعالى: { كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ } (ابراهيم: من الآية1)، وقال تعالى: { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } (النحل: من الآية44)، وقال جل ذكره: { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ } (النحل: من الآية89)، وقال تعالى:{ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } (الشورى:52) "(1).
وقال الشافعي رحمه الله في بيان فرض الله في كتابه إتباع سنة نبيه: (( وضع الله رسوله من دينه وفرضه وكتابه، الموضع الذي أبان جل ثناؤه أنه جعله علماً لدينه، بما افترض من طاعته، وحرم من معصيته، وأبان من فضيلته بما قرن من الإيمان برسوله مع الإيمان به، فقال تبارك وتعالى: { فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ } (النساء: من الآية171)، وقال:{ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ } (النور: من الآية62).
__________
(1) " رسالة الشافعي" (1/20).(1/7)
فجعل كمال ابتداء الإيمان الذي ما سواه تبع له الإيمان بالله ثم برسوله، فلو آمن عبد به ولم يؤمن برسوله لم يقع عليه اسم كمال الإيمان أبداً، حتى يؤمن برسوله معه (1).
10- علمنا الأئمة الأخيار ... وأرشدتنا السادة الأبرار
11- بهن من قدم قول الناس ... على حديث المصطفى النبراس
12- فما له في الدين من نصيب ... وهو من الإسلام كالغريب
وقد استنكر أئمة هذا الدين على التقليد الأعمى الذي يضر بصاحبه ولا ينفعه قال ابن القيم رحمه الله: " وقد نهى الأئمة الأربعة عن تقليدهم، وذموا من أخذ أقوالهم بغير حجة، قال الشافعي: مثل الذي يطلب العلم بلا حجة كمثل حاطب ليل يحمل حزمة حطب فيها أفعى تلدغه وهو لا يدري" (2) ذكره البيقهي.
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " فقد ضيق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الناس أن يردوا أمره بفرض الله عليهم اتباع أمره" (3).
__________
(1) " رسالة الشافعي" (1/73 - 75).
(2) " رسالة الشافعي" (2/301).
(3) " الرسالة" (1/226).(1/8)
وقال رحمه الله تعالى: (( وهكذا يجب على من سمع شيئاً من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو ثبت له عنه شيء، أن يقول منه بما سمع حتى يعلم غيره (1). فلا عذر في خلاف حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمقلد ولا لغيره )) قاله أحمد محمد شاكر، وقال رحمه الله تعالى: (( وإذا ثبت عن رسول الله الشيء فهو اللازم لجميع من عرفه، لا يقويه ولا يوهنه شيء غيره بل الفرض الذي على الناس اتباعه، ولم يجعل الله لأحد مع أمراً يخالف أمره)) (2)، وقال رحمه الله: (( وبالتقليد أغفل من أغفل منهم، والله يغفر لنا ولهم)) (3)، فقال أحمد محمد شاكر تعليقاً على كلام الشافعي رحمه الله: (( الشافعي لا يرضى لأهل العلم أن يكونوا مقلدين، وكان رضي الله عنه حرباً على التقليد، وداعياً إلى الاجتهاد، والأخذ بالأدلة الصحيحة، ومن هذا قال تلميذه أبو إبراهيم المزني المتوفى سنة 264هـ في أول مختصره الذي أخذه من فقه الشافعي : (( اختصرت هذا الكتاب من علم محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله، ومن معنى قوله لأقربه على من أراده مع إعلامه نهيه عن تقليده وتقليد غيره، لينظر فيه لدينه ويحتاط فيه لنفسه)).
__________
(1) "الرسالة " (1/238).
(2) " الرسالة " (1/230).
(3) " الرسالة " (1/42).(1/9)
وقال الشافعي في صدد وجوب العمل بحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعدم جواز تقديم أي قول عليه: (( أخبرني أبو حنيفة بن سماك بن الفضل الشهابي، قال: حدثني ابن أبي ذئب عن المقبري عن أبي شريح الكعبي: (( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال عام الفتح: ( من قتل له قتيل فهو بخير النظرين، إن أحب أخذ العقل، وإن أحب فله القول) قال أبو حنيفة: فقلت لابن أبي ذئب: أتأخذ بهذا يا أبا الحارث؟ فضرب صدري وصاح علي صياحاً كثيراً ونال مني، وقال: أحدثك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتقول: تأخذ به؟ نعم، آخذ به، وذلك الفرض علي وعلى من سمعه. إن الله اختار محمداً من الناس فهداهم به وعلى يديه، واختار له، وعلى لسانه، فعلى الخلق أن يتبعوه طائعين أو داخرين لا مخرج لمسلم من ذلك، قال: وما سكت حتى تمنيت أن يسكت)) (1) واستدل الشافعي رحمه الله بحديث، فقال خصمه، كرهه ابن مسعود، فقلنا، وفي أحد مع النبي حجة؟ قال: لا، إن ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (2). وقال الربيع: قال الشافعي: (( ما كان الكتاب والسنة موجودين، فالعذر على من سمعهما مقطوع إلا باتباعهما، فإذا لم يكن ذلك صرنا إلى أقاويل أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - )) (3)
__________
(1) " الرسالة " (2/450).
(2) " الرسالة " (2/544).
(3) "تحكيم الناظر فيما جرى من الاختلاف بين أمة أبي القاسم" (ص89)..(1/10)
وقال الشافعي رحمه الله تعالى: (( فيما وصفت من هذا وأشباهه كما وصفت، يعلم أن الحديث إذا رواه الثقات عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذلك ثبوته، وأن لا نعول على حديث ليثبت إن وافقه بعض أصحاب رسول الله، ولا يرد لأن بعض أصحاب رسول الله عمل عملاً يخالفه، لأن أصحاب رسول الله والمسلمين كلهم بحاجة إلى أمر رسول الله، وعليهم اتباعه، لا أن شيئاً من أقاويلهم تبع ما روى عنه ووافقه يزيد قوله شدة، ولا شيئاً خالفه من أقاويلهم يوهن ما روى عنه الثقة لأن قوله المفروض اتباعه عليهم وعلى الناس وليس هكذا قول بشر غير رسول الله )) (1).
وقال الشافعي رحمه الله تعالى: (( لم أسمع أحداً نسبه الناس أو نسب نفسه إلى علم يخالف في أن فرض الله عز وجل اتباع أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتسليم لحكمه بأن الله عز وجل لم يجعل لمن بعده إلا اتباعه، وأنه لا يلزم قول بكل حال إلا بكتاب الله أو سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، وأن ما سواهما تبع لهما وأن فرض الله تعالى علينا وعلى من بعدنا وقبلنا في قبول الخير عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واحداً لا يختلف في أن الفرض والواجب قبول الخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا فرقة سأصف قولها إن شاء الله تعالى )) (2).
الشافعي: إذا يصح الخبر ... فمذهبي في حكمه منحصر
فإن يكن ما قلته بعكس ... فاضرب به الجدار لا تعبأ به
بمثل هذا القول قد قال الأولى ... وصرحوا للناس أجمعونا
فأحمد كذا أبو حنيفة ... ومالك أقوالهم شريفه
فكلهم قد أجمعوا إجماعاً ... وأوجبوا على الورى اتباعا
لله والرسول إينما ظهر ... نص كتاب أو حديث أو أثر
__________
(1) كتاب " اختلاف الحديث" على هامش الأم للإمام الشافعي رحمه الله (7/138).
(2) كتاب " الأم" للإمام الشافعي رحمه الله (7/250).(1/11)
يسرني أيها القارئ المسلم أن أقدم إليك نبذة من كلام الأئمة الأعلام رحمهم الله في صدد وجوب تقديم قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - على كل قول خالفه، إذا ثبت لدينا صحة الحديث فأقول وبالله التوفيق:
أ- الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت رحمه الله :
قد روى عنه أصحابه رحمه الله عبارات شتى تدل على وجوب الأخذ بالحديث الصحيح وترك الأقوال المخالفة له:
1- فقد أخرج البيهقي عن ابن المبارك قال: سمعت أبا حنيفة يقول: " إذا جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعلى الرأس والعين، وإذا جاء من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - نختار من قولهم، وإذا جاء عن التابعين زاحمناهم " (1).
2- " إذا صح الحديث فهو مذهبي" (2).
3- " لا يحل لأحد أن يأخذ بقولنا ما لم يعلم من أين أخذناه " وفي رواية: " حرام على من لم يعرف دليلي أن يفتي بكلامي " زاد في رواية: " فإننا بشر، نقول القول اليوم، ونرجع عنه غداً" وفي أخرى: " ويحك يا يعقوب – هو أبو يوسف تلميذه – لا تكتب كل ما تسمع فإني قد أرى الرأي اليوم وأتركه غداً، وأرى الرأي غداً وأتركه بعد غد" (3).
ب - الإمام مالك بن أنس رحمه الله تعالى:
__________
(1) " مفتاح الجنة" للسيوطي (27).
(2) ذكره ابن عابدين في " الحاشية" (1/63) وفي رسالة " رسم المفتي" (1/4) من مجموعة رسائل ابن عابدين والشيخ صالح الغلاني في " إيقاظ الهمم" (ص62) وغيرهم " صفة صلاة النبي " للشيخ الألباني رحمه الله " (ص22).
(3) ذكره ابن عبد البر في " الانتقاء في فضائل الثلاثة الفقهاء" (ص 145) وابن القيم في " أعلام الموقعين" (2/309) وابن عابدين في حاشيته على البحر الرائق (6/293) وغيرهم، " صفة الصلاة" (ص 22) رواه ابن عبد البر في " الجامع" (2/91)، وابن حزم في " أصول الأحكام " (6/145 – 179)، " صفة الصلاة" (ص22).(1/12)
1- أخرج السيوطي بسنده عن ابن وهب قال: كنا عند مالك بن أنس نتذاكر السنة، فقال مالك، " السنة سفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق"(1).
2- " إنما أنا بشر أخطئ وأصيب، فانظروا في رأيي فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه" (2).
3- " ليس أحد بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا ويؤخذ من قوله، ويترك إلا النبي - صلى الله عليه وسلم - "(3).
جـ - الإمام الشافعي رحمه الله:
ما أكثر ما قاله الإمام الشافعي رحمه الله في الدفاع عن السنة المطهرة، فمما يروي عنه رحمه الله:
1- أخرج أبو نعيم في الحلية بسنده عن الحميدي قال " كنت بمصر، فحدث محمد بن إدريس الشافعي بحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال له رجل: يا أبا عبد الله أتأخذ بهذا؟ فقال: أرأيتني خرجت من كنيسة؟ ترى علي زناراً حتى لا أقول به؟ " (4).
2- وأخرج أبو نعيم عن الربيع بن سليمان – وهو الذي روى الرسالة عن الشافعي – قال: سأل رجل الشافعي عن حديث، فقال: هو صحيح، فقال الرجل: فما تقول؟ فارتعد الشافعي، وانتفض وقال: " أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني إذا رويت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقلت بغيره"(5).
3- وأخرج عن الربي أيضاً قال: ذكر الشافعي حديثاً، فقال له رجل: أتأخذ بالحديث؟ فقال: " اشهدوا أني إذا صح عندي الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم آخذ به، فإن عقلي قد ذهب"(6).
__________
(1) " مفتاح الجنة" للسيوطي (ص46).
(2) ذكره ابن عبد البر في " الجامع" (2/32) والفلاحي (ص 72) " صفة الصلاة " للألباني رحمه الله (ص 22)، وابن القيم في " أعلام الموقعين" (1/87).
(3) رواه عبد البر في " الجامع " (2/91)، وابن حزم في " أصول الأحكام" (6/145 – 179) صفة الصلاة (ص22).
(4) "مفتاح الجنة" للسيوطي (46)، " أعلام الموقعين" (2/363).
(5) " أعلام الموقعين" (2/364).
(6) " أعلام الموقعين" (2/363).(1/13)
4- وأخرج عن الوليد بن أبي الجارود قال الشافعي: " إذا صح الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقلت قولاً، فأنا راجع عن قولي، وقائل بذلك"(1).
5- وأخرج عن الزعفراني قال: قال الشافعي: " إذا وجدتم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - سنة فاتبعوها ولا تلفتوا إلى قول أحد" (2).
6- أجمع المسلمون على أن من استبان له سنة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يحل له أن يدعها لقول أحد (3).
7- أنتم أعلم بالحديث والرجال مني – والخطاب للإمام أحمد بن حنبل رحمه الله – فإذا كان الحديث صحيح فأعلموني به أي شيء يكون، كوفياً أو بصرياً، أو شامياً، حتى أذهب إليه إذا كان صحيحاً (4).
د- الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى:
1- أخرج اللالكائي بسنده عن أحمد بن حنبل رحمه الله أنه قال: " السنة عندنا آثار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، والسنة تفسر القرآن، وهي دلائل القرآن" (5).
2- " لا تقلدني، ولا تقلد مالكاً، ولا الشافعي، ولا الأوزاعي ولا الثوري وخذ من حيث أخذوا" (6).
3- " من قلة فقه الرجل أن يقلد دينه الرجال "(7).
4- " رأى الأوزاعي ورأي مالك، ورأي أبي حنيفة، كله رأي، وهو عندي سواء وإنما الحجة في الآثار"(8).
5- " من رد حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو على شفا هلكة "(9).
__________
(1) " أعلام الموقعين" (2/363).
(2) ذكره الهروي في " ذم الكلام" (3/147) والنووي في " المجموع" (1/63) وابن القيم (2/361)، صفة صلاة النبي (ص26).
(3) ابن القيم (2/361)، والفلاني (ص68)، صفة صلاة النبي (ص26).
(4) ابن القيم في "أعلام الموقعين" (2/325).
(5) " مفتاح الجنة" للسيوطي (39).
(6) ذكره الفلاني (ص113) وابن القيم في " أعلام الموقعين" (2/302).
(7) " أعلام الموقعين" (2/302).
(8) ابن عبد البر في " الجامع" (2/149)، صفة الصلاة (328).
(9) ابن الجوزي (ص182)، صفة الصلاة، (ص29).(1/14)
هذه كانت بعض أقوال الأئمة الكرام في وجوب التمسك بما يصدر عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وترك كل ما يخالفه.
عن أبي وائلة أنه قال: لما قدم سهل بن حنيف من صفين، أتيناه نستخبره، فقال:
" اتهموا الرأي، فقد رأيتني يوم أبي جندل ولو أستطيع أن أرد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمره لرددته والله ورسوله أعلم"(1).
سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ثلاثة أوجه
قال البيهقي في باب بيان وجوه السنة: قسم الشافعي رحمه الله سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى ثلاثة أوجه:
أحدها: ما أنزل الله فيه نص كتاب، فسنة رسول الله صلى الله عيه وسلم بمثل نص الكتاب.
والثاني: ما أنزل الله فيه جملة كتاب، فبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معنى ما أراد بالجملة، وأوضح كيف فرضها، عاماً أو خاصاً وكيف أراد أن يأتي به العباد.
__________
(1) أخرجه البخاري (4189) في المغازي والإمام مسلم (12/140) في صلح الحديبية.(1/15)
والثالث: ما سن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مما ليس فيه نص كتاب، فمنهم من قال: جعله الله له بما افترض من طاعته، وسبق في علمه من توفيقه لرضاه أن يسن فيما ليس فيه نص كتاب، ومنهم من قال: لم يسن سنة قط، إلا ولهذا أصل في الكتاب كما كانت سنته، كتبيين عدد الصلاة عملها على أصل جملة فرض الصلاة، وكذلك ما سن في البيوع وغيرها من الشرائع، لأن الله تعالى ذكره، قال: { لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } (النساء: من الآية29)، وقال { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا } (البقرة: من الآية275)، فما أحل وحرم فإنما بين فيه عند الله، كما بين في الصلاة، ومنهم من قال: بل جائته به رسالة الله فأثبتت سنته بفرض الله تعالى،، ومنهم من قال ألقي في روعه كل ما سن، وسنته الحكمة التي ألقيت في روعه عن الله تعالى. انتهى (1).
كما قال الشافعي رحمه الله: " وليس تعدو السنن كلها واحداً من هذه المعاني التي وصفت باختلاف ما حكيت عنه من أهل العلم، وكل ما سن فقد ألزمنا الله تعالى اتباعه، وجعل في اتباعه طاعته وفي العنود عن اتباعه معصيته التي لم يعذر بها خلقاً، ولم يجعل له من اتباعه سنن نبيه مخرجاً " (2).
وقال رحمه الله: " ولا أعلم من الصحابة ولا من التابعين أحداً أخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا قبل خبره، وانتهى إليه وأثبت ذلك سنة " (3).
__________
(1) " مفتاح الجنة" للسيوطي (ص8-9).
(2) " مفتاح الجنة" للسيوطي (ص10).
(3) " مفتاح الجنة " للسيوطي (ص 20 – 21).(1/16)
ثم أخرج البيهقي عن سالم بن عبد الله: أن عمر بن الخطاب نهى عن الطيب قبل زيارة البيت وبعد الجمرة، قال سالم: فقالت عائشة: " طيب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيدي لإحرامه قبل أن يحرم، ولحلة قبل أن يطوف بالبيت، وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحق" قال الشافعي: فترك سالم قول جده عمر في إمامته وعمل بخبر عائشة، وأعلم من حدثه أنه سنة، وأن سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحق، وذلك الذي يجب عليه.
قال الشافعي: وصنع ذلك الذين بعد التابعين، والذين لقيناهم كلهم يثبت الأخبار ويجعلها سنة، يحمد من تبعها، ويعادي من خالفها، فم فارق هذا المذهب كان عندنا مفارق سبيل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأهل العلم بعدهم، إلى اليوم، وكان من أهل الجهالة.انتهى (1). وهذا معنى قولي في الأرجوزة: " فما له في الدين من نصيب" وإلا كيف يعتبر نفسه مسلماً من يتبع غير سبيل المؤمنين، وقد قال تعالى: { وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً } (النساء:115).
وللسلف الصالح في ذلك أقوال كثيرة لكها تؤكد بأن المسلم الصادق إيمانه، إذا وصله حديث عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يجب عليه أن يقف عنده ولا يخالفه. فقد صرح الإمام مالك رحمه الله: بأن من ترك قول عمر بن الخطاب لقول إبراهيم النخعي أنه يستتاب، فكيف بمن ترك قول الله ورسوله من دون إبراهيم النخعي (2).
__________
(1) " مفتاح الجنة" (20- 21).
(2) أعلام الموقعين (2/302).(1/17)
وأخرج البخاري عن مروان بن الحكم قال: " شهدت علياً وعثمان بين مكة والمدينة وعثمان ينهي عن المتعة وأن يجمع بينهما، فلما رأى ذلك علي أهلّ بهما جميعاً فقال: لبيك حجاً وعمرة معاً، فقال عثمان: تراني أنهى الناس عن شيء وأنت تفعله؟ فقال: ما كنت لأدع سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقول أحد من الناس" (1).
وأخرج الترمذي (824) عن ابن شهاب أن سالم بن عبد الله حدثه أنه سمع رجلاً من أهل الشام وهو يسأل عبد الله بن عمر عن التمتع بالعمرة إلى الحج: فقال عبد الله بن عمر: " أرأيت إن كان أبي نهى عنها وصنعها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ أأمر أبي نتبع، أم أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ فقال الرجل: بل أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال: لقد صنعها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (2).
19- ( فلا تقدموا) جاء بها القرآن ... نذارة من ربنا الرحمن
20- كذا { وَمَا كَانَ } لنا إيذان ... بأننا واجبنا الإذعان
21- إذا قضى الله أو الرسول ... أمراً فإن ديننا القبول
القول الأول إشارة إلى قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } (الحجرات:1).
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رصي الله عنهما: { لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة، وقال العوفي عنه: نهوا أن يتكلموا بين يدي كلامه، وقال مجاهد: لا تفتاتوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشيء حتى يقضي الله تعالى على لسانه.
__________
(1) أخرجه البخاري (1563- 1569)، فتح الباري (3/493).
(2) حسنه الترمذي (3/185) وقال في حاشية جامع الأصول (3/116) وإسناده صحيح.(1/18)
وقال الضحاك: لا تقضوا أمراً دون الله ورسوله من شرائع دينكم، قال ابن كثير: أي لا تسرعوا في الأشياء بين يديه أي قبله، بل كونوا تبعاً له في جميع الأمور حتى يدخل في عموم هذا الأدب الشرعي حديث معاذ رضي الله عنه حيث قال له النبي - صلى الله عليه وسلم - حين بعثه إلى اليمن: ( بم تحكم؟) قال بكتاب الله تعالى، قال - صلى الله عليه وسلم - ( فإن لم تجد؟) قال : بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال - صلى الله عليه وسلم - : ( فإن لم تجد؟) قال رضي الله عنه اجتهد رأيي، فضرب في صدره وقال: ( الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما يرضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) فالغرض منه أنه أخر رأيه ونظره واجتهاده إلى ما بعد الكتاب والسنة، ولو قدمه قبل البحث عنهما لكان من باب التقديم بين يدي الله ورسوله" (1).
والبيت الثاني إشارة إلى قوله تعالى: { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ } (الأحزاب: من الآية36)، قال ابن جريج: أخبرني عامر بن مصعب عن طاوس قال: أنه سأل ابن عباس عن ركعتين بعد العصر فنهاه، وقرأ ابن عباس رضي الله عنه: { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ } فهذه الآية عامة في جميع الأمور، وذلك أنه إذا حكم الله ورسوله بشيء فليس لأحد مخالفته ولا اختيار لأحد ها هنا ولا رأي ولا قول كما قال تبارك وتعالى: { فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً } (النساء:65)،
__________
(1) " تفسير ابن كثير" (4/205) وحديث معاذ رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجة.(1/19)
وفي الحديث: (والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به) (1).
لهذا شدد في خلاف ذلك فقال: { وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً } (الأحزاب: من الآية36)، كقوله تعالى: { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } (النور: من الآية63).
قال ابن القيم رحمه الله: " فقطع سبحانه وتعالى التخيير بعد أمره وأمر رسوله فليس لمؤمن أن يختار شيئاً بعد أمره - صلى الله عليه وسلم - بل ذا أمر فأمره حتم، وإنما الخيرة في قول غيره إذا خفي أمره، وكان ذلك الغير من أهل العلم".
__________
(1) قال الإمام النووي بعد ذكره هذا الحديث: " حديث حسن صحيح رويناه في كتاب الحجة بإسناد صحيح" وقال الحافظ ابن رجب في " جامع العلوم والحكم" (ص 364 – 365) ما ملخصه: قال الحافظ أبو موسى المدني: هذا الحديث مختلف فيه على نعيم بن حماد، وقيل فيه: حدثنا بعض مشيختنا مثل هشام وغيره، قلت: تصحيح هذا الحديث بعيد جداً من وجوه:
منها: أنه حديث ينفرد به نعيم بن حماد المروزي وهو لما كثر عثور أئمة الحديث على مناكيره حكموا عليه بالضعف، قال أبو داود: عن نعيم نحو عشرين حديثاً عن النبي صص ليس لها أصل. وقال النسائي: ضعيف، قال أبو زرعة الدمشقي: يصل أحاديث يوقفها الناس، ونسبه آخرون إلى أنه كان يضع الحديث.
ومنها: أنه قد اختلف على نعيم في إسناده، فروى عنه عن الثقفي عن هشام، وروى عنه عن الثقفي: حدثنا بعض مشيختنا حدثنا هشام أو غيره.
ومنها : أن في إسناده عقبة بن أوس السدوسي البصري ويقال فيه: يعقوب بن أوس أيضاً قال ابن عبد البر هو مجهول، وقال الفلاني في تاريخه: يزعمون أنه لم يسمع من عبد الله بن عمر، وإنما يقول: قال عبد الله بن عمر، فعلى هذا تكون روايته عن عبد الله بن عمر منقطعة والله أعلم.(1/20)
فبهذه الشروط يكون قول الغير سائغ الاتباع، لا واجب الاتباع، فلا يجب على أحد اتباع قول أحد سواه، بل غايته أنه يسوغ له اتباعه، ولو ترك الأخذ بقول غيره لم يكن عاصياً لله ورسوله.
فأين هذا مما يوجب على جميع المكلفين اتباعه، ويحرم عليهم مخالفته، ويوجب عليهم ترك كل قول لقوله؟ فلا حكم لأحد معه، ولا قول لأحد معه، ولك ما سواه فإنما يجب اتباعه على قوله إذا أمر بما أمر به، ونهى عما نهى عنه، فكان مبلغاً محضاً ومخبراً لا منشئاً ومؤسساً.
فمن أنشأ أقوالاً وأسس قواعد بحسب فهمه وتأويله لم يجب على الأمة اتباعها ولا التحاكم إليها حتى تعرض على ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - فإن طابقته ووافقته وشهد لها بالصحة، قبلت حينئذ، وإن خالفته وجب ردها وإطراحها، فإن لم يتبين فيها أحد الأمرين جعلت موقوفة، وكان أحسن أحوالها أن يجوز الحكم والإفتاء بها وتركه، وأما أنه يجب ويتعين فكلا، ولما" (1).
وقال ابن القيم في أعلام الموقعين (2/308): " نقول لمن يفتي أو يحكم بقول من يقلده: هل تقول: إن هذا هو دين الله الذي أرسل به رسوله، وأنزل به كتابه، وشرعه لعباده ولا دين له سواه؟ أو تقول: إن دين الله الذي شرعه لعباده خلافه؟ أو تقول: لا أدري؟ لا سبيل لك إلى الأول قطعاً فإن دين الله الذي لا دين سواه لا تسوغ مخالفته، والثاني لا تدعيه، فليس لك ملجأ إلا الثالث".
فيا الله العجب كيف تستباح الفروج والدماء والأموال والحقوق، وتحلل وتحرم بأمور أحسن أحوالها وأفضلها (لا أدري)
فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة ... وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم(2).
22- كذا { فلا وربك } كان ما ... بأن فرض المسلم الإذعان
23- إذا اختلفنا في قضاء كان ما ... قضى به الرسول حكماً لازماً
24- دون انزعاج أو توان أو حرج ... مما قضاه بعد الحج انبلج
__________
(1) " زاد المعاد" (1/38).
(2) " أعلام الموقعين" (2/308).(1/21)
قال الحافظ: ابن رجب رحمه الله تعالى: " فالواجب على من بلغه أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - وعرفه أن يبينه للأمة وينصح لهم، ويأمرهم باتباع أمره، وإن خالف ذلك رأي عظيم من الأمة، فإن أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحق أن يعظم ويقتدى به من رأي أي معظم قد خالف أمره في بعض الأشياء خطأ، ومن هنا رد الصحابة ومن بعدهم على كل مخالف سنة صحيحة، وربما غلظوا في الرد، لا بغضاً له بل هو محبوب عندهم معظم في نفوسهم، لكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحب إليهم وأمره فوق أمر كل مخلوق، فإذا تعارض أمر الرسول وأمر غيره فأمر الرسول أولى أن يقدم ويتبع، ولا يمنع من ذلك تعظيم من خالف أمره، وإن كان مغفوراً له، بل ذلك المخالف المغفور له لا يكره أن يخالف أمره إذا ظهر أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بخلافه "(1).
قال الشيخ الألباني رحمه الله: " قلت: كيف يكرهون ذلك وقد أمروا به أتباعهم كما مر، وأوجبوا عليهم أن يتركوا أقوالهم المخالفة للسنة، بل إن الشافعي رحمه الله أمر أصحابه أن ينسبوا السنة الصحيحة إليه ولو لم يأخذ بها، أو أخذ بخلافها، ولذلك لما جمع المحقق ابن دقيق العيد رحمه الله المسائل التي خالف مذهب كل واحد من الأئمة الأربعة الحديث الصحيح فيها انفراداً واجتماعاً في مجلد ضخم قال في أوله:
" إن نسبة هذه المسائل إلى الأمة المجتهدين حرام، وأنه يجب على الفقهاء المقلدين لهم معرفتها لئلا يعزوها إليهم فكذبوا عليهم"(2).
__________
(1) نقله في التعليق على " إيقاظ الهمم" (ص92) " صفة صلاة النبي " (ص30).
(2) الفلاني (ص99)، " صفة صلاة النبي " (ص30).(1/22)
وقولي: " كذا { فَلا وَرَبِّكَ } إشارة إلى قوله تعالى: { فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً } (النساء:65)، قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره لهذه الآية (1/520) : " يقسم الله تعالى بنفسه الكريمة المقدسة أنه لا يؤمن أحد حتى يحكم الرسول - صلى الله عليه وسلم - في جميع الأمور فما حكم به فهو الحق الذي يجب الانقياد له، باطناً وظاهراً، ولهذا قال: " ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما حكمت به وينقادون له في الظاهر والباطن فيسلمون لذلك تسليماً كلياً من غير ممانعة ولا مدافعة ولا منازعة كما ورد في الحديث: ( والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به) (1).
فقال البخاري: حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا معمر عن الزهري عن عروة قال: خاصم الزبير رجلاً في شراج الحرة، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك) فقال الأنصاري يا رسول الله أن كان ابن عمتك؟ فتلون وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: اسق يا زبير ثم احبس الماء إلى الجدر ثم أرسل الماء إلى جارك فاستوعى النبي - صلى الله عليه وسلم - للزبير حقه في صريح الحكم حين أحفظه الأنصاري. وكان أشار عليهما - صلى الله عليه وسلم - بأمر لهما فيه سعة، قال الزبير: فما أحسب هذه الآية إلا نزلت في ذلك: { فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } الآية. انتهى.
فيجب على المسلم أن يقف حيث أوقفه الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وأن يعلم أن الدين هو ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - .
__________
(1) تقدم تخريجه في (ص13).(1/23)
قال الشافعي رحمه الله: يجب على كل من سمع شيئاً من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو ثبت له عنه، أن يقول فيه بما سمع حتى يعلم غيره، أي فلا يجب عليه البحث عن مخصص غيره، وعلى هذا جرى الصحابة ومن بعدهم، والكلام في الظهور والاحتمال لا يعارضه، والعمل تابع للعلم، أي يجب العمل به، ومن العجب أن ابن سريج كيف خالف؟ وابن الحاجب كيف ادعى نقل الإجماع على منع العمل بالعموم قبل البحث عن المخصص؟ (1). قال ابن القيم رحمه الله:" كان السلف الطيب يشتد نكيرهم وغضبهم على من عارض حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برأي أو قياس أو استحسن أو قول أحد من الناس كائناً من كان، ويهجرون فاعل ذلك وينكرون على من يضرب له الأمثال، ولا يسوغون غير الانقياد له والتلقي بالسمع والطاعة، ولا يخطر في قلوبهم التوقف في قبوله حتى يشهد له عمل أو قياس أو يوافق قول فلان، بل كانوا عاملين بقوله: { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ } (الأحزاب: من الآية36) وبقوله تعالى: { فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً } (النساء:65)، وبقوله تعالى: { اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ } (الأعراف:3) وأمثالها.
__________
(1) " المصقول في علم الأصول" لمحمد جلبي زادة (ص 56).(1/24)
فدفعنا إلى زمان، إذا قيل لأحدهم: ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال كذا وكذا، يقول: من قال هذا؟ ويجعل هذا دفعاً في صدر الحديث، أو يجعل جهله بالقائل حجة له في مخالفة الحديث وترك العمل به، ولو نصح نفسه لعلم أن هذا الكلام من أعظم الباطل، وأنه لا يحل له دفع سنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمثل هذا الجهل وأقبح من ذلك عذره في جهله، إذ يعتقد أن الاجماع منعقد على مخالفة تلك السنة، وهذا سوء ظن بجماعة المسلمين، إذ ينسبهم إلى اتفاقهم على مخالفة سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأقبح من ذلك عذره في دعوى هذا الإجماع وهو جهله وعدم علمه بمن قال بالحديث فعاد الأمر إلى تقديم جهله على السنة والله المستعان.
ولا يعرف إمام من أئمة المسلمين البتة قال: لا نعمل بحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى نعرف من عمل به، فن جهل من بله الحديث من عمل به لم يحل له أن يعمل به كما يقول هذا القائل" (1).
فسنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليست في الفعل فحسب بل هي في الترك أيضاً كما هي في الفعل.
قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: " قف حيث وقف القوم، وقل كما قالوا واسكت كما سكتوا، فإنهم على علم وقفوا، وببصر نافذ كفوا، وهم على كشفها كانوا أقوى وبالفضل لو كانوا فيها أحرى، أي فلإن كان الهدى ما أنتم عليه فلقد سبقتموهم إليه، ولإن قلتم: حدث بعدهم، فما أحدثه إلا من سلك غير سبيلهم، ورغب بنفسه عنهم، وأنهم لهم السابقون ولقد تكلموا منه بما يكفي، ووصفوا منه ما يشفي، فما دونهم مقصر، وما فوقهم مجسر، ولقد قصر عنهم قوم فجفوا وطمح آخرون عنهم فغلوا، فإنهم فيما بين ذلك لعلى هدى مستقيم" (2).
__________
(1) " أعلام الموقعين" (3/464 – 465).
(2) " أعلام الموقعين" (401 – 402).(1/25)
قال في كتاب الإبداع في مضار الابتداع: (ص25-26): " وأما ما تركه الرسول - صلى الله عليه وسلم - فاعلم أن سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - كما تكون بالفعل تكون بالترك، فكلما كلفنا الله تعالى باتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - في فعله الذي يتقرب به إذا لم يكن من باب الخصوصيات، كذلك طالبنا باتباعه في تركه فيكون الترك سنة.
وكما لا نتقرب إلى الله بترك ما فعل، لا نتقرب إليه بفعل ما ترك، فلا فرق بين الفاعل لما ترك، والتارك لما فعل، لا يقال: كيف ذلك وقد ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - أموراً فعلها الخلفاء بعده. وهم أعلم الناس بالدين وأحرصهم على الاتباع؟ فلو كان الترك سنة كما تقول لما فعلت الخلفاء أموراً تركها النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟ لأن الكلام مفروض في ترك شيء لم يكن في زمنه - صلى الله عليه وسلم - مانع منه، وتوفرت الدواعي على فعله، كتركه الآذان للعيدين والغسل لكل صلاة، وصلاة ليلة النصف من شعبان، والأذان للتراويح، والقراءة على الموتى، فهذه أمور تركت في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - السنين الطوال مع عدم المانع من فعله، ووجود مقتضيها لأنها عبادات والمقتضي لها موجود وهو التقرب إلى الله تعالى والوقت وقت تشيع وبيان للأحكام. فلو كانت ديناً وعبادة يتقرب بها إلى الله تعالى ما تركها السنين الطوال مع أمره بالتبليغ وعصمته من الكتمان، فتركه - صلى الله عليه وسلم - لها ومواظبته على الترك مع عدم المانع ووجود المقتضي ومع أن الوقت وقت تشريع دليل على أن المشروع فيها هو الترك. وأن العمل خلاف المشروع فلا يتقرب به لأن القرب لابد أن تكون مشروعة.(1/26)
وأما ما فعله الخلفاء ولم يكن موجوداً قبل فهو لا يخرج عن أمور، إما أنه لم يوجد لها المقتضي في عهد الرسول بل في عهد الخلفاء كجمع المصحف، أو كان المقتضي موجوداً في عهد الرسول ، ولكن كان هناك مانع كصلاة التراويح في جماعة، فإن المانع من إقامتها جماعة والمواظبة عليها خوف الفريضة، فلما زال المانع بانتهاء زمن الوحي صح الرجوع فيها إلى ما رسمه النبي - صلى الله عليه وسلم - في حال حياته، وبهذا الأصل يسهل التوفيق بين الأدلة المتعارضة"(1).
وقال العلامة القسطلاني الشافعي في المواهب ما نصه: " وتركه - صلى الله عليه وسلم - سنة كما أن فعله سنة، فليس لنا أن نسوي بين فعله وتركه، فنأتي من القول في الموضع الذي تركه بنظير ما أتى به الموضع الذي فعله " انتهى (2).
وقال ملا أحمد رومي الحنفي صاحب " مجالس الأبرار" ما ملخصه : " .. لأن عدم وقوع الفعل في الصدر الأول إما:
1- لعدم الحاجة إليه.
2- أو لوجود مانع.
3- أو لعدم تنبه.
4- أو التكاسل.
5- أو الكراهة وعدم مشروعية.
والأولان منتفيان في العبادات الدينية المحضة لأن الحاجة إلى التقرب إلى الله تعالى لا تنقطع، وبعد ظهور الإسلام لم يكن منها مانع، ولا يظن بالنبي - صلى الله عليه وسلم - عدم التنبه والتكاسل فذاك أسوأ الظن المؤدي إلى الكفر، فلم يبقى إلا كونها سيئة غير مشروعة، وكذلك يقال لكل من أتى في العبادات البدنية المحضة بصفة لم تكن في زمن الصحابة فمن أحدث شيئاً يتقرب به إلى الله تعالى من قول أو فعل فقد شرع من الدين ما لم يأذن به الله تعالى، فعلم أن كل بدعة في العبادات البدنية المحضة لا تكون إلا سيئة" (3).
25- وهكذا { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ ...} ... تبين للعالمين الدين..
26- بأن من يخالف الرسولا ... ويرفض الإذعان والقبولا
__________
(1) " الإبداع في مضار الابتداع" للشيخ علي محفوظ (ص 25-26).
(2) المصدر السابق (ص29).
(3) " الإبداع في مضار الابتداع" (ص 30-31).(1/27)
27- مصيره الفتنة والهوان ... وحقه الخيبة والخسران
إشارة إلى قوله تعالى { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } (النور: من الآية63).
قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ } : أي عن أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وهو سبيله ومنهاجه وطريقته وسنته وشريعته، فتوزن الأقوال والأعمال بأقواله واعماله، فما وافق ذلك قبل، وما خالفه فهو مردود على قائله وفاعله كائناً من كان، كما ثبت في الصحيحين وغيرهما عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) أي فليحذر وليخش من خالف شريعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - باطناً وظاهراً { أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ ٌ } أي في قلوبهم من كفر ونفاق أو بدعة { أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي في الدنيا بقتل أو حد أو حبس ونحو ذلك" (1).
قال الإمام مالك رحمه الله عند موته: " وددت أني ضربت بكل مسألة تكلمت فيها برأيي سوطاً على أنه لا صبر لي على السياط" (2). فتدبر كلامه وهو مجتهد غير مقلد رحمه الله.
وقال أيضاً رحمه الله: " من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمداً لم يبلغ الرسالة أو خان الرسالة". اقرأوا قول الله: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً } (المائدة: من الآية3) قال: فما لم يكن يومها ديناً لا يكون اليوم ديناً، ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها" (3).
28- ( عليكم بسنتي) دليل ... مقولة قد قالها الرسول
29- فإن تمسكنا بما فينا ترك ... فزنا، ومن لم يلقه بالاً هلك
__________
(1) " تفسير ابن كثير" (3/307).
(2) " إرشاد الفحول" للشوكاني (ص 349).
(3) " فتاوى الألباني الجزء الثاني" (ص 347).(1/28)
30- فإنه سفينة النجاة ... فيها فقط بشائر الحياة
إشارة إلى حديث العرباض بن سارية الذي أتى فيه: " أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن عبداً حشياً، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة" (1).
__________
(1) أخرجه أحمد في " المسند" (4/126/127) وأبو داود (4607) والترمذي (2678).(1/29)
سلسلة بحوث وتحقيقات مختارة من مجلة الحكمة (23)
بقلم
مجيد خلف منشد
Almodhe1405@hotmail.com
almodhe@yahoo.com
l
تمهيد:
من المهم أن نوضح الأسس التي اعتمدها ابن حزم لتقسيم كتابه وكيفية ترتيب العقائد المختلفة، لأن هذه النقطة ضرورية إذا ما علمنا أن ما يميز كتاب الفصل، من حيث التصميم، أنه يعتمد على العقائد في تبويب مادته أكثر ما اعتماده على الفرق، بعبارة أخرى أنه درس الفرق المختلفة من خلال عقائدها. وهذا منهج جمع فيه ابن حزم بين منهجين مختلفين، الأول منهج كتاب الملل والنّحَل، والثاني منهج المتكلمين في بحثهم مختلف المسائل الكلامية. وعلى هذا الأساس يمكن أن نحدد خطة كتابه وفق هذه المحاور.
المحور الأول: مبحث التوحيد، وقد تضمن هذا المحور مبحث نفي التشبيه(1)، والصفات واعتنى اعتناءً شديداً بالأخيرة(2)، كما أنه يبحث أسماء الله تعالى والتي لا تفرق عن الصفات شيئاً بنظره
(3)، وهو في كل ذلك يذكر مقالات الفرق المختلفة مركزاً على الصفات التي هي مثار نزاع بين المتكلمين، ويهتم على الأخص بصفتين الأولى الرؤية(4) والثانية كلام الله تعالى(5).
المحور الثاني: مبحث القدر، وهو من المسائل المعقدة، والكثيرة التداخل عند المتكلمين، وبعد أن ينهي الكلام فيه يدخل إلى أمور عديدة تابعة له ومتداخلة معه مثل الاستطاعة، ثم الهدى والتوفيق ويبحث أيضاً الكلام في خلق أفعال العباد مثل التعديل والتجوير منبهاً على مسائل مهمة مثل قوله على المسألة الأخيرة: "وهذا الباب هو أصل ضلال المعتزلة نعوذ بالله من ذلك"(6)، ونجده يهتم بهذا الباب اهتماماً خاصاً يستغرق بحثه كلاماً طويلاً(7).
__________
(1) الفصل، (2/277- 281).
(2) الفصل، (2/283- 330).
(3) الفصل، (3/7).
(4) الفصل، (3/7- 10).
(5) الفصل، (3/11- 30).
(6) الفصل، (137).
(7) الفصل، (3/137- 179).(1/1)
المحور الثالث: مبحث الإدارة: ويحمل في كتاب ابن حزم عنواناً مطولاً هو: "الكلام في هل شاء الله عز وجل كون الكفر والفسق، وأراده تعالى من الكافر والفاسق أم لم يشأ ذلك ولا أراد كونه"
(1)، وبطبيعة الحال نجده كما عهدنا في السابق، يطيل الكلام في هذه المسألة معرجاً في النهاية على ذلك المبحث الذي اشتهرت به المعتزلة وهو القول بالأصلح(2).
المحور الرابع: مبحث الإيمان ويحمل عنواناً مستقلاً هو: "كتاب الإيمان والكفر والطاعات والمعاصي والوعد والوعيد"(3). ويعتني ابن حزم اعتناءً خاصاً بهذا المحور من كتابه ويبحثه من مختلف الجوانب وتدل الصفحات الكثيرة التي كتبها على هذه العناية(4). وهو لا ينتهي من هذا المحور حتى يجعل الكلام في عصمة الأنبياء من ضمن مباحثه(5)، وأخيراً يصل إلى الكلام في الوعد والوعيد وهذه هي نهاية هذا المحور.
المحور الخامس: مبحث السمعيات، وهي المسائل الكلامية الفرعية والتي كان لكل طائفة من المتكلمين نصيب فيها، مثل عذاب القبر(6)، ومستقر الأرواح(7)، وبعث الأجساد وغيرها(8) .
المحور السادس: مبحث الإمامة، وقد أدرج فيه كلام على مواضيع كثيرة أهمها مسألة المفاضلة بين الصحابة، وما يتعلق بالإمامة من أمور مثل: الكلام في إمامة المفضول(9)، وعقد الإمامة(10).
المحور السابع: المبحث الكلامي، وفيه اعتنى بالمسائل الكلامية المعقدة مثل الكلام في الاسم والمسمى(11) والمعاني والجواهر(12) والأعراض(13) وغيرها من المسائل الكلامية الدائرة على ألسنة الفلاسفة.
__________
(1) الفصل، (3/179).
(2) الفصل، (3/201).
(3) الفصل، (3/227).
(4) الفصل، (3/227- 302).
(5) الفصل، (4/5- 60).
(6) الفصل، (4/117).
(7) الفصل، (4/121).
(8) الفصل، (4/137).
(9) الفصل، (5/5- 12).
(10) الفصل، (5/ 13- 18).
(11) الفصل، (5/135).
(12) الفصل، (5/161).
(13) الفصل، (5/193).(1/2)
والملاحظ على هذه المحاور، أن ابن حزم قد اتخذ فيها مساراً محدداً يعتمد بالدرجة الأولى على أهمية المبحث، فنرى مبحث التوحيد على رأس القائمة، وهو يشكل أبرز المسائل الكلامية التي دارت على ألسنة الكثير من أهل العقائد الإسلامية، ثم يتدرج في الأهمية حتى يصل إلى المسائل الأقل تداولاً، والأكثر تعقيداً بحيث اختصر الجهد على القارئ ولم يحمله عنائها في بداية كتابه، وقد حدد لنا ابن حزم منهجه ذلك واضحاً منذ بحثه للعقائد، فجعل الكلام في المعاني والتي يعدها عمدة ما اقترن عليه أهل الإسلام: "وهي التوحيد، القدر، الإيمان، والوعيد والإمامة، ثم أشياء يسميها المتكلمون اللطائف"(1).
وقد راعى في بحث هذه المسائلة عدة اعتبارات، والتزم بعدد من المبادئ وهي تشكل عناصر منهجه في بحثه للعقائد الإسلامية، وتتمثل بما يأتي:
اللغة:
لقد اعتنى ابن حزم اعتناءً شديداً باللغة، وجعلها من أدوات منهجه، وهو يؤكد عدة مرات على أن الباحث الذي لا يمتلك مقدرة التكلم بمرونة باللغة التي يبحث بها هو شخص قليل الفهم ضعيف الحجة، ولذلك لا يعجب القارئ عندما يجد هذه العناية منه بكل جوانب اللغة بألفاظها وتراكيبها وبلاغتها وسبل الاشتقاق فيها مقارنة بغيرها من اللغات(2).
__________
(1) الفصل، (2/275).
(2) عمر فروخ، "ابن حزم الكبير" (ص64).(1/3)
ويعرف ابن حزم اللغة بأنها: "ألفاظ يعبر بها عن المسميات وعن المعاني المراد إفهامها"(1)، ولا غرو في ذلك لأن النص الذي يحرص عليه حرصاً شديداً يدل على هذا كما قال تعالى: "وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ" [إبراهيم: 4]، ومن هنا على كل باحث يريد الحق والوصول إليه أن يحرص على هذه الوسيلة أشد الحرص، فبدونها يصبح علمه ناقصاً، ويفتقر إلى الدقة، يقول ابن حزم بهذه الخصوص: "وإنما يلزم كل مناظر يريد معرفة الحقائق، أو التعريف بها أن يحقق المعاني التي يقع عليها الاسم ثم يخبر بها أو عنها بالواجب، وأما مزج الأشياء وقلبها عن موضوعاتها في اللغة، فهذا فعل السوفسطائية(2) الوقحاء بالجهال العابثين بعقولهم وأنفسهم"(3)، وهكذا تراه يشن هجوماً على أولئك المتكلمين الذين يتلاعبون بالألفاظ، ويدلسون على العوام والجهال من الناس، ولا تستغرب من ذلك، فقد كانت من أهدافه الرئيسة لتأليف كتابه هو: "المبالغة في بيان اللفظ وترك التعقيد"(4).
ويبقى ابن حزم ملخصاً في منهجه هذا، ويذكر القارئ به، فهو عندما يبدأ بالحديث عن الاستطاعة يصرح قائلاً: "أن الكلام على حكم لفظ الاستطاعة قبل تحقيق معناها، ومعرفة ما المراد بها؟ وعن أي شئ يعبر بذكرها؟ فينبغي أولاً أن يوقف على معنى الاستطاعة، فإذا تكلمنا عليه وقربناه بحول الله وقوته، سهل الإشراف على صواب هذه الأقوال من خطئها بعون الله وتأييده(5).
__________
(1) "الأحكام"، (م1)، (ص42)، "الرسائل" (4/411)، وينظر محلق رقم (3).
(2) يعرف ابن حزم السفسطة: تمويه بحجة باطلة بقضية أو قضايا فاسدة، تقود إلى الباطل، وينظر محلق رقم تحث مصطلح الشغب.
(3) الفصل، (2/279) وينظر كذلك (4/183).
(4) الفصل، (1/36) .
(5) الفصل، (3/39) .(1/4)
ولكن بقيت حدود هذه الألفاظ واضحة المعالم عنده، لأن أكثرها بنظره: "موضوعة من عند الله تعالى على مسميات لم يعرفها العرب قط، هذا أمر لا يجهله أحد من أهل الأرض ممن يدري اللغة العربية، ويدري الأسماء الشرعية(1)،فحدودها عند ابن حزم هي مذهبه الظاهري، لأنه حريص جداً على هذا الأمر، وينبه القارئ مراراً عدة بإقرار المطلق: "بما جاء به القرآن والسنن كما جاء، ولا نزيد فيه ولا ننقص منه ولا نحليه فنؤمن به بخلاف المعهود فيما يقع عليه اللفظ من خلقه"(2).
واللغة عنده وسيلة إيضاح وتقريب، والعلوم النظرية أحوج إلى سهولة اللفظ وبيان العبارة (3). على أن الذي أوجد الخلاف في فهم التعابير بنظره تحميل اللفظ أكثر مما يقتضيه، وهذه عنده بديهة نكاد نجدها في معظم اللغات المعروفة والمتداولة بين الناس(4).
وعند أخذ نموذج لهذا الجانب، يتبين لنا اهتمام ابن حزم الواضح فيه، فهو عندما يبحث مسألة القدر، يبدأ بتعريفه لغوياً، فيقول: "والقدر في اللغة العربية الترتيب والحد الذي ينتهي إليه الشيء
(5)، والأمثلة على ذلك قوله تعالى: "إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ "[القمر:49]، يريد تعالى: برتبة وحد"(6).
__________
(1) الفصل، (3/235) ، وينظر ملحق رقم (3) من هذا البحث.
(2) الفصل، (2/337، 368)، (3/9).
(3) سعيد الأفغاني، نظرات في اللغة عند ابن حزم (دمشق، 1963)، (ص23).
(4) الفصل، (1/195)، (3/126).
(5) الفصل، (3/77).
(6) الفصل، (3/77- 78).(1/5)
وهكذا يحدد مفهوم هذه اللفظة ليصل إلى تعريف سرعان ما يسيطر به على فكر القارئ: "ومعنى القضاء والقدر حكم الله تعالى في شئ بحمده أو ذمه أو تكوينه أو ترتيبه على صفة كذا إلى وقت كذا"(1)، وأنت ترى في هذا بحثاً لغوياً لا ينسى فيه أن يرد شبه الخصوم، لأنه ينبه على أن البعض ظنوا أن كثرة استعمال المسلمين هاتين الفظتين، بأنها تعي معنى الإكراه والإجبار وهذا –بنظره- هو الباطل عينه(2).
لأن المجبر في اللغة: "هو الذي يقع منه الفعل بخلاف اختياره وقصده فأما من وقع فعله باختياره وقصده فلا يسمى في اللغة مجبراً"(3)، وهكذا يتضح بجلاء أن مهمته لم تكن مقتصرة على عرض آراء العقائد ومقالات الفرق، بل إنه حريص على توضيح الحقيقة كاملة للقارئ، لكي يتبين له ماهية هذه الألفاظ ومدلولها اللغوي مما قاده إلى الاستعانة بلعوم اللغة المختلفة والمتشبعة، ونرى ذلك واضحاً، على سبيل المثال، عند مناقشته مسألة: "تكوين الكفر والفسق" فهو يستشهد بقوله تعالى:{ فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ } [التوبة:55]، فابن حزم باستناده لهذه الآية يقول بأن الله عز وجل أراد أن يموتوا وهم كافرون، ودليله عليه بحث لغوي وهو أن "القاف في "تَزْهَق"َ مفتوحة بلا خلاف من أحد من القراء، معطوفة على ما أراد الله عز وجل "أن يعذبهم بها في الدنيا، والواو تدخل معطوف في حكم المعطوف عليه بلا خلاف من أحد في اللغة التي خاطبنا بها الله تعالى"(4)، ونحن نجده هنا يستخدم اللغة كوسيلة مهمة من وسائل الإقناع بصواب قوله.
__________
(1) الفصل، (3/78).
(2) الفصل، (3/77).
(3) الفصل،(3/35).
(4) الفصل، (3/188).(1/6)
وربما فاجأنا ابن حزم ببحث لغوي مقارن، فهو عندما يناقش مسائل مثل الجسم أو العقل أو الجوهر، وغيرها من الألفاظ الدائرة بين المتكلمين، يتبين أن هناك مصطلحات تختلف باختلاف اللغات: "فإن لفظة العقل غريبة أتى بها المترجمون، عبارة عن لفظة أخرى يعبر بها في اليونانية أو في غيرها من اللغات، عما يعبر بلفظة العقل عنه في اللغة العربية، هذا ما لا خفاء به عند أحد، ولفظة العقل في لغة العرب إنما هي موضوعة لتمييز الأشياء واستعمال الفضائل فصح ضرورة أنها معبر بها عن عرض، وكل مرع خلاف ذلك رديء العقل عديم الحياء مباهت بلا شك"(1)، ونرى من هذا أنه يحاول تمييز المدلول بين اللفظتين في العربية واليونانية، واحتمال التطابق الحرفي بين اللفظتين باختلاف اللغات أمر مستعبد وقع فيه بعض الناس فولد لهم ذلك تخبطاً، وأوقعهم في التباس كبير لم يستطيعوا الخروج منه(2).
إضافة إلى مبحثه في العقل، بحث ابن حزم مصطلحات أخرى منها الخليفة والشرك والكفر وغيرها من المصطلحات(3). ومما تقدم يتضح بجلاء الجهود الطيبة التي بذلها في هذا المجال، حيث أنه استفاد استفادة عظيمة من اللغة لبيان قيمة منهجه العلمي في مناقشة العقائد المختلفة، التي سادت الساحة الفكرية الإسلامية آنذاك،وبذلك يكون ابن حزم أول من اهتم بهذه النقطة من العلماء المسلمين فيما وصل إلينا من مصادر، الأمر الذي يعطينا تقييماً حقيقياً لنتاجه هذا وإبداعه فيه(4).
__________
(1) الفصل، (5/200)، وينظر: س. بينس مذهب الذرة عند المسلمين وعلاقته بمذاهب اليونان والهنود، ترجمة محمد عبد الهادي أبو ريدة (القاهرة، 1946)، (ص5).
(2) أبو زهرة، ابن حزم، (ص225).
(3) ينظر محلق (3) من هذا البحث.
(4) للمزيد من التفاصيل ينظر:
Roger Arnaldez, Grammaire et Theologic Chez Ibn Hazm de cordoue, Paris, pp. 37-87.
علي محمد فرغلي، ابن حزم الأندلسي وأثره في الفكر الإسلامي، مجلة الحضارة الإسلامية (1996) (ع2) (ص236- 239).(1/7)
الأسلوب
قبل الحديث عن توظيف ابن حزم للأسلوب في منهجه العلمي بدارسة العقائد بالإمكان تثبيت الأمور الآتية:
1- كان له أسلوب واضح مميز يستطيع أن يعرفه كل من قرأ كتبه.
2- الإطناب في البحث وكثرة الاستشهاد.
3- سهولة اللفظ، وانسياب العبارة من دون أن تحس بعناء كبير وأنت تقرأ نتاجه.
والأمثلة على ذلك كثيرة، منها مناقشته المعتزلة في مسألة خلق أفعال العباد، من جميع الوجوه وتستغرق صفحات كثيرة(1). وعند انتهائه من هذه المهمة يقول ابن حزم: "قد أبطلنا بحول الله وقوته كل شغب المعتزلة في أن أفعال العباد غير مخلوقة لله عز وجل فنأت ببرهان ضروري إن شاء الله تعالى على صحة القول أنها مخلوقة لله تعالى(2)، وهكذا يبدأ بإيراد الأدلة على ذلك، والملاحظ على أسلوبه، الوضوح في اللفظ، والابتعاد عن التعقيد، الأمر الذي لا نجده عند معظم الكتاب الآخرين في هذا المجال، فعلى سبيل المثال عند مقارنة ما كتبه الشهرستاني حول موضوع "هل المعدم سيئ أم لا(3)، وبين ما كتبه ابن حزم في الموضوع نفسه نرى بوضوح الفرق في الأسلوب عند كلا المفكرين.
__________
(1) الفصل، (3/82- 132).
(2) الفصل، (3/ 132).
(3) الشهرستاني، نهاية الإقدام في علم الكلام تحقيق: الفرد جيوم (بغداد مكتبة المثنى، بلا. ت) (ص 150- 163) ويقارن ذلك بما في الفصل (5/155- 159).(1/8)
وقد يزاوج بين أسلوب المحدثين والمتكلمين في سبيل إيضاح الفكرة، فعند بحثه مسألة الاستطاعة يلجأ إلى الحديث النبوي لتوضيح معان غامضة - صلى الله عليه وسلم – قال: (فإذا أمرتكم بشيء فخذوا منه ما استطعتم)(1)، ويعلق ابن حزم على هذا الحديث: "فلو لم يكن هاهنا استطاعة لشيء مما أمرنا به قبل أن نفعل لما أمرنا به ولما لزمنا شئ من ذلك، ولكنا غير عصاة بالترك لأننا لم نكلف بالنص إلا ما استطعنا"(2)، ونجده هنا يقرب مفهوم الاستطاعة للقارئ بأسلوب قريب الشبه بما يفعله المحدثون في كتبهم وربما لجأ إلى أسلوب الفقهاء للغرض نفسه فهو عندما يصل إلى قول بعض المعتزلة –وهو قول الإسكافي-(3)، بأن الله تعالى لم يخلق العيدان ولا الطنابير ولا المزامير يرد ابن حزم، من ضمن ما يرد به عليه، هذا الافتراض: " ... فلو حلف إنسان أنه لا يشتري طنبوراً، فاشتري خشباً لم يحنث ولو حلف أن يشتري خشباً فاشتري طنبوراً لم يقع عليه حنث لأن الطنبور في اللغة يقع على اسم الخشبة"(4)، وهو بهذا يضع خصمه بزاوية ضيقة ثم يأتيه بدليل شرعي وهو قوله تعالى: { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ } [السجدة: من الآية4]. وبهذا يثبت ابن حزم كون الأشياء مخلوقة بنص القرآن(5).
__________
(1) الحديث رواه البخاري، الصحيح، (9/117)، مسلم الصحيح، (2/975)، ابن ماجه، السنن، (1/5)، النسائي، السنن (5/ 110- 111).
(2) الفصل، (3/44).
(3) هو محمد بن عبد الله الإسكافي (ت24هـ) من أئمة المعتزلة ومتكلميهم وأصله من سمرقند، سكن بغداد، وكان المعتصم معجباً به إعجاباً شديداً، اشتهرت عنه هذه المقولة التي ذكرها ابن حزم، ترجمته عند ابن النديم، الفهرست (ص231)، الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد، (5/416)، الشهرستاني، المِلَل والنحل، (1/94).
(4) الفصل، (3/188).
(5) الفصل، (3/86).(1/9)
وربما لجأ ابن حزم في نهاية كلامه على بعض المسائل إلى تلخيص رأيه على شكل خلاصة مركزة وتقديمها للقارئ، فهو في بحثه لمسألة تكوين الكفر يستغرق صفحات فيها(1). ويختمها بقوله: "فإذا جاءت النصوص كما ذكرنا متظاهرة لا تحتمل تأويلاً(2) بأن الله عز وجل أراد ضلال من ضل وشاء، وكفر من كفر، فقد علمنا أن كلام الله تعالى لا يتعارض، فما أخبر عز وجل أنه لا يرضى لعباده الكفر، فبالضرورة علمنا أن الذي نفى عز وجل هو غير الذي أثبت، فإذن لاشك في ذلك، فالذي نفى تعالى هو الرضا بالكفر، والذي أثبت هو الإدارة لكونه والمشيئة لوجوده، وهما معنيان متغايران بنص القرآن وحكم اللغة"(3).
__________
(1) الفصل، (3/179- 188).
(2) ينظر معنى هذه الكلمة عند ابن حزم في ملحق (3) من هذا البحث.
(3) الفصل، (3/118).(1/10)
على أنه يستخدم الحدة التي عابها عليه الكثيرون، وهذا واضح في كتابه الذي جر إليه كثيراً من النقد، والأمثلة على ذلك كثيرة، نأخذ مثلاً قوله: " .... وتباً لكل قول أدى إلى هذا الهوس البارد" (1)، عند كلامه على الفرق بين الاسم والمسمى أو قوله لأحد خصومه بعد أن رد مقالته: "ولقد كان ينبغي لمن هذا مقداره من الجهل أن يتعلم قبل أن يتكلم!" (2)، حتى أنك لتجد في بعض الأحيان عبارات فيها نوع من التجاوز ففي رده على بعض المسائل التي طرحها الأشاعرة يستطرد بهذا الكلام: "ولا ضلال ولا حياء أعدم ولا مجاهرة أطم، ولا تكذيب لله تعالى أعظم...(3) وربما يعود سبب هذه الحدة في أسلوبه إلى ما ذكرناه سابقاً في تحليل شخصيته حتى وسمه البعض بكونه ذا مزاج ناري، وعبارات صافية(4)، ولعل سبب هذه الحدة، هو حرصه على الحق، مع مقدار من الاعتزاز بالنفس، مما ولد فيه مثل هذه الصفة حتى أصبحت من أكبر المآخذ على كتابه الفصل، وفي هذا الخصوص يقول السبكي: "وفيه من الحط على أئمة السنة"(5)، وفي كلام السبكي وجه حق، خصوصاً موقف ابن حزم من أئمة الأشاعرة، وربما تكون للنقاشات التي دارت بين ابن حزم وكبير الأشاعرة بالأندلس أبي الوليد الباجي أثر في هذا، وكذلك إلى مذهبه الظاهري الذي يجعل النص حداً لكل حكم، وبعد هذا فلا تستغرب عندما تقرأ في كتابه الفصل، وهو يوسم بعض رؤساء المعتزلة بـ(الخلعاء العارين)(6).
__________
(1) الفصل، (5/137).
(2) الفصل، (2/331).
(3) الفصل، (3/12).
(4) جورج شحاته قنواتي، مادة الفسلفة وعلم الكلام والتصوف، تراث الإسلام، تحرير شاخت وبوزورت، ترجمة حسين مؤنس، إحسان صدقي العمد (الكويت 1978) (ق2) (ص218).
(5) طبقات الشافعية الكبرى، (6/129).
(6) الفصل، (3/70).(1/11)
ولم تقف هذه الحدة عند هذا الحد، بل إننا نجدها تنعكس على جوانب أخرى من أسلوبه، خاصة في صياغة الأحكام واستخلاص النتائج، مثل استخدامه "وثبت يقيناً"(1)، أو قوله ناكراً إدعاء البعض: "وهذا محال(2)، وقوله أيضاً: "فبطل قولهم وعادت الحجة عليهم(3)، ولم يكن ابن حزم يفرق في جدله بين عالم مشهور من أئمة المسلمين وبين رجل تطرف باعتزاله، بل عباراته الشديدة القاسية لم تكن في بعض الأحيان في موضعها وربما تجاوزت الحدود المعقولة في النقد (4).
ويمتاز ابن حزم في أسلوبه باستخدامه لفظ: "قال: أبو محمد" كثيراً لتنبيه القارئ إلى أمور من ضمن ذلك:
1- تكون بداية فقرة جديدة يعلم القارئ بها(5).
2- قد يستخدمها لإيراد المصدر الذي يأخذ معلوماته منه(6).
3- في بعض الأحيان ينقل آراء العلماء من خلالها(7).
4- لنقل أدلة الخصوم وحججهم(8).
5- إبطال أدلة الخصوم عن طريق إيراده لحججه(9).
6- يورد بعدها آراء الناس في مسألة معينة(10).
7- وسيلة لإيراد بعض المناظرات التي تحصل بينه وبين بعض المناظرين(11).
8- يستخدمها في الربط بين موضوعين، مثل ربطه الكلام على الهدى والتوفيق بالاستطاعة بهذه اللفظة(12).
9- ينبه القارئ أن ما سيورده بعدها هو رأيه وقوله(13).
__________
(1) الفصل، (1/103) (3/254) (4/134).
(2) الفصل، (3/233).
(3) الفصل، (5/138).
(4) أبو زهرة، ابن حزم، (ص201).
(5) ينظر على سبيل المثال، الفصل، (3/63).
(6) ينظر على سبيل المثال، الفصل، (4/157).
(7) ينظر على سبيل المثال، الفصل (4/209).
(8) ينظر على سبيل المثال، الفصل، (4/127).
(9) ينظر على سبيل المثال، الفصل، (4/128).
(10) ينظر على سبيل المثال، الفصل، (4/101، 121).
(11) ينظر على سبيل المثال، الفصل، (4/196).
(12) ينظر على سبيل المثال، الفصل، (3/63).
(13) ينظر على سبيل المثال، الفصل، (2/339).(1/12)
ومن خلال ما مر نستطيع أن نقول أن ابن حزم قد أوجد لنفسه أسلوباً مميزاً، استطاع من خلاله أن يبين الحقائق بوضوح رغم كون الإسهاب والإطناب في بعض المواضيع من مميزات كتابه إلا أنه حافظ على نفسٍ طويل في إدارة دفة النقاش بالرغم من اتسامه بالحدة التي ربما تجعلنا نقلل من موضوعيته الأسلوبية لا من موضوعيته العلمية، وأوجد لنفسه نظاماً عن طريق استخدام كنيته، حيث جعلها على ما يبدو، في كثير من الأماكن وكأنها علامات التنقيط المتداولة بين الباحثين في عصرنا الحالي.
الاستشهاد:
امتاز منهج ابن حزم بالاستشهاد، بأنواع كثيرة من الأدلة الشرعية أو التاريخية أو الأدبية أو الجغرافية وغيرها، والقارئ لكتاب الفصل تلفت نظره تلك النصوص الكثيرة التي ساقها، إما لكي يستشهد بها، أو يستبدل بها على ناحية معينة، ويمكن أن نتعرض لأهم أنواع هذه الاستشهادات:(1/13)
1- القرآن الكريم: وهو المصدر الأول عنده، وترد منه أكثر الاستشهادات مقارنة بالأنواع الأخرى. فمثلاً عند مناقشة محور الإيمان يبدأ بإيراد الأمثلة على ذلك من كتاب الله كقوله تعالى: { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ } [الفتح:4] (1)، وقوله تعالى: { الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً } [آل عمران: 173]، وقوله تعالى: { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } [البقرة: 143]، يقول ابن حزم: "فصح يقيناً أن الإيمان الذي زادتهم الآيات إنما هو العمل بها الذي لم يكونوا عملوه ولا عرفوه ولا صدقوا به قسط، ولا كان جائزاً لهم أ، يعتقدوه ويعملوا به بل كان فرضاً عليهم تركه والتكذيب بوجوبه والزيادة لا تكون إلا في كمية عدد لا فيما سواه ..." (2) وأنت ترى في هذا الاستشهاد القرآني، كيف استطاع أ، يبرهن بالاعتماد على هذه الآيات بأن الإيمان يزيد وينقص، وليس هو اعتقاداً فقط، والأمثلة على الاستشهاد القرآني كثيرة وعديدة(3).
__________
(1) الفصل، (3/232).
(2) الفصل، (3/233).
(3) ينظر على سبيل المثال استفادة ابن حزم من الاستشهاد القرآني: الفصل (3/303)، (4/81- 82)، (ص84- 87).(1/14)
2- الحديث النبوي: يأتي اهتمامه بالحديث النبوي، في إيراد الأمثلة والشواهد، بالدرجة الثانية، ودراسة نموذج لهذا الاستشهاد مهمة في بيان كيفية استفادته من الحديث لتدعيم وجهة نظره، فهو عندما يتكلم حول الوعد والوعيد يبين للقارئ بأن: "كل كافر عمل خيراً وشراً ثم أسلم فإن كل ما عمل من خير يكون له مجازى به في الجنة، وأما ما عمل من شر فإن تاب عنه مع توبته من الكفر سقط عنه وإن تمادى عليه أخذ بما عمل في كفره وبما عمل في إسلامه وبرهان ذلك: حديث حكيم ابن حزام عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم – أنه قال: (يا رسول الله أشياء كنت أتحنث بها في الجاهلية من عتق وصدقة وصلة رحم، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم – أسلمت على ما سلف لك من خير)(1)، فأخبر أنه خير، وأنه له إذا أسلم وقالت عائشة رضي الله عنها: (يا رسول الله أرأيت ابن جدعان فإنه يصل الرحم ويقري الضيف، أينفعه ذلك؟ قال: لا؛ لأنه لم يقل يوماً رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين)(2). فاتفقت الأخبار كلها على أنه لو أسلم لنفعه ذلك(3) وهكذا نجد ابن حزم كيف وظف الحديث الشريف لخدمة منهجه في إبراز الحقيقة، وبرهن بذلك على أن النص مهم في مجال البحث العقائدي(4).
__________
(1) أحمد، المسند، (3/434)، البخاري، الصحيح، (2/141)، مسلم، الصحيح، (1/113).
(2) مسلم: الصحيح، (1/196).
(3) الفصل، (4/95).
(4) ينظر أمثلة لهذا الاستشهاد في الفصل، (3/243- 144)، (167- 168)، (246- 247).(1/15)
3- الاستشهاد بالتاريخ: يلاحظ على ابن حزم أنه استشهد بالتاريخ ولكن في هذا المجال نجده أقل استعمالاً عنده قياساً بالاستشهاد بالقرآن الكريم والحديث النبوي، وهذا ناتج من اهتمامه بالشريعة وإعطائها على غيرها إلا أن موسوعيته وثقافته الواسعة جعلت اختياره للأمثلة التاريخية ظاهرة في منهجه أيضاً، فعلى سبيل المثال نجد دليله على أن الله عز وجل قد يسلط الكافر على المؤمن أمثلة تاريخية كما سلط: "الكفار على من سلطهم من الأنبياء وعلى أهل بئر معونة(1)، ويوم أحد"(2)، وبهذا يثير ابن حزم الحس التاريخي لدي القارئ ويجعله يسلم له طائعاً لأنه يقدم حقيقة تاريخية واضحة ومعروفة. وتجده يستشهد بفشل كل من: "المأمون والمعتصم والواثق – على سعة ملكهم لأقطار الأرض – قطع القول بأن القرآن مخلوق فما قدروا على ذلك"(3)، فحرصه على إقناع المقابل، قاده للاستعانة عدة مرات بأنواع الأمثلة التاريخية(4)، وميزة ابن حزم في كتاباته التاريخية، في الاختصار والمقارنة بل إنه يلجأ في أحيان كثيرة إلى الاستشهاد بالتاريخ على التاريخ، وهذا يصبح أمراً ضرورياً في مسائل الخلاف خاصة المسائل التي لها علاقة بالتاريخ(5)، فمن تلك: المقارنة الذكية بين مقتل كل من عثمان بن عفان وعمار بن ياسر (رضي الله عنهما)(6).
__________
(1) بئر معونة: هي أرض بين أرض عامر وحرة بني سليم، فيها قتلت بالبعثة التي أرسلت بأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صفر سنة (4هـ) إلى أهل نجد وقتلت بتآمر المشركين ضدهم، وكانت تضم أربعين رجلاً من المسلمين، ينظر ابن هشام، السيرة (ص183- 189)، الحموي، معجم البلدان، (5/159).
(2) الفصل، (3/198).
(3) الفصل، (1/144).
(4) ينظر على سبيل المثال، الفصل، (4/233- 244).
(5) إحسان عباس، مقدمة الرسائل، (2/26).
(6) الفصل، (4/181- 244).(1/16)
يقول: "وعمار رضي الله عنه قتله أبو العادية يسار بن سبع السلمي(1)، شهد بيعة الرضوان فهو من شهداء الله له بأنه علم ما في قلبه وأنزل السكينة عليه ورضي عنه، فأبو العادية رضي الله عنه متأول مجتهد مخطئ فيه، باغ عليه، مأجور أجراً واحداً، وليس هذا كقتلة عثمان - رضي الله عنه – لأنهم لا مجال لهم للاجتهاد في قتله لأنه لم يقتل أحداً ولا حارب ولا قاتل... فيسوغ لمحاربة تأويل، بل هم فساق محاربون سافكون دماً حراماً عمداً بلا تأويل(2).
إن هذه المشاهدة التاريخية، والمقارنة بين حادثين، يكون أمراً ضرورياً عند حدوث خلاف في مسببات وقوعهما، وكأن الحادثة التاريخية يمكن أن تعطي بعداً حقيقياً لتصورات المؤرخ من أجل حل الخلاف القائم بين المتكلمين في هذا الحادث(3).
__________
(1) كذا أورده ابن حزم في الطبعة التي تحت يدي: " أبو العادية" بعين مهملة والأصح كما عند ابن سعد وابن عبد البر: "أبو غادية" بعين معجمة يسار بن سبع الجهني ويقال المزني قال العقيلي وهو الأصح، واختلف في اسمه واسم أبيه قبل اسمه مسلم وقيل يسار بن سبع، يقال أنه قاتل عمار سكن واسطاً وكان يفرط في حب عثمان، ابن سعد، محمد بن سعد الزهري، الطبقات الكبرى، (بيروت، 1957)، (3/262)، ابن عبد البر، الاستيعاب، (4/1582).
(2) الفصل، (4/242).
(3) ينظر للفائدة: سعيد الأفغاني، ابن حزم، ورسالة المفاضلة بين الصحابة، (ص158- 161).(1/17)
4- الاستشهاد بالجغرافية: إن ابن حزم لم يهمل الجانب الجغرافي من أجل الاستفادة منه في إسناد وجهة نظره، ويدل بحثه فيه على أنه يمتلك معلومات جغرافية جيدة، فلرد دعوى البعض: يكون عقد الإمامة لا يصح إلا بعقد فضلاء الأمة، يثبت بأن هذا الأمر يكاد يكون مستحيلاً إذ: "لا حرج ولا تعجيز أكثر من أن تعرف إجماع فضلاء الأمة مَنْ في المولتان(1)، والمنصورة(2) إلى بلاد مهرة(3) إلى عدن، إلى أقاصي بلاد المصامدة(4)، إلى طنجة إلى الأشبونة(5)، إلى جزائر البحر، إلى سواحل الشام إلى أرمينية(6)..."(7). ولا يستطيع أحد إلا أن يقول بأن هذا الأمر يبدو مستحيلاً في مثل ذلك العصر، ويعترف في الوقت نفسه لابن حزم بذكائه وفطنته في استفادته من هذه النقطة الجغرافية، وتؤكد القيمة الحقيقية لبحث ابن حزم في العقائد(8).
__________
(1) المولتان: هي بلدة في بلاد الهند على سمت غزنة، فتحت في عهد الوليد بن عبد الملك، ياقوت الحموي، معجم البلدان، (5/227- 228).
(2) المنصورة: وهي بأرض السند سميت نسبة إلى المنصور بن جهور عامل بني أمية مؤسسها، وقيل أنها سميت نسبة إلى الخليفة العباسي المنصور، ياقوت الحموي، معجم البلدان، (5/211- 212).
(3) مهرة: مدينة في جنوب شبه الجزيرة العربية، بينها وبين عمان شهر وكذلك بينها وبين حضرموت، ومهرة من قبائل اليمن، ياقوت الحموي، معجم البلدان (5/234).
(4) المصامدة: نسبة إلى قبيلة بالمغرب الأقصى، فيه موضع يعرف بهم، الحموي، معجم البلدان، (5/136).
(5) الأشبونة: وهي مدينة بالأندلس، قريبة من المحيط اشتهرت في العصور الإسلامية بالعنبر، ياقوت الحموي، معجم البلدان، (1/195).
(6) أرمينية: اسم لأقليم عظيم في شمال العراق وخراسان، كانت بلاد واسعة تضم مدن وقرى عديدة، ياقوت الحموي، معجم البلدان، (1/159- 161).
(7) الفصل، (5/ 13- 14).
(8) ينظر: على سبيل المثال، الفصل، (4/213)، (ص217)، (5/93).(1/18)
5- الاستشهاد بالشعر: لم يكن ابن حزم ليدع وسيلة –وفق منهجه- ليدافع بها عن وجهة نظره في بحثه للعقائد الإسلامية، ويحاول إيصال رأيه للقارئ وإقناعه بالأمثلة التي يوردها، حتى لو أداه ذلك إلى الابتعاد عن موضوع كتابه، والاتجاه إلى الشعر، فقد استعار قول جرير:
ألا رب سامي الطرف من آل مازنٍ ... إذا شمرت عن ساقها الحرب شمراً(1)
ليبين أن قوله تعالى: { يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ } [القلم: 42]، هو لبيان شدة الأمر يوم القيامة، وليس غرضنا هنا البحث عن مسائل الصفات عند ابن حزم ولكن نريد أن نبين مهارة ابن حزم في سرد الأمثلة، ونجده يستعين عدة مرات بالشعر في مبحث الصفات كالاستشهاد بقول الشماخ:
إذا ما راية رفعت لمجد ... تلقاها عرابة باليمين(2)
لأنه هنا ينبه القارئ إلى أن اليمين في لغة العرب تعني الحظ والأفضل. وعند كلامه على الطبائع، يستشهد لبيان معناها الحقيقي في الجاهلية، مثل قول النابغة الذبياني:
لهم شيمة لم يعطها الله غيرهم ... من الجود والأحلام غير عوازب(3)
وأنت ترى من خلال ذلك كيف أن ابن حزم يمتلك مقدرة كبيرة على إيراد الشواهد بمختلف أشكالها، والتنوع فيها، وانتقاله من جانب لآخر، وكل هذا يدل على حرصه الشديد في اثبات الحق، ودحض الباطل، وكذلك علينا أن نعترف أن كثرة الأمثلة والشواهد تزيد من قوة الحجة ووضوح الفكرة، وهذا ما كان قصد ابن حزم فيه واضحاً وصريحاً.
العلوم العقلية (4):
__________
(1) الفصل، (2/351- 352)، والبيت في ديوان جرير، (بشرح لمحمد بن حبيب)، (م1)، (ص112). وينظر ترجمة جرير من هذا البحث.
(2) الفصل، (2/249)، والبيت في ديوان الشماخ، (ص97).
(3) الفصل، (5/ص116)، والبيت عند النابغة، الديوان، (ص52).
(4) سنعتمد في تحديدها في هذا البحث على تعريف ابن خلدون لها في المقدمة والتي يسميها: ( علوم الفلسفة والحكمة ) وذلك من أجل الإيجاز، ينظر مقدمة ابن خلدون، ( ص 478).(1/19)
شكلت هذه العلوم أهمية خاصة عند ابن حزام، وهي عنده من أدوات البحث المهمة، وأكثر ما اشتهر به هو دراسته للمنطق، والتي استفاد منها كثيراً في بحثه هذا الجانب، بل ، بل إنه يصرح أن المنطق هو الوسيلة: (( إلى معرفة الأشياء على ما هي عليه، وإلى إمكان التفهم الذي به ترتقي درجة الفهم، ويتخلص من ظلمة الجهل، وفيها تكون معرفة الحق من الباطل (1) ، فإذن هذه الأدلة العقلية مهمة في تمحيص الحقائق وبطلان الزائف منها، ونحن نجد ابن حزم يكثر من استعمالها. فقد اعترض عليه يوماً من له علم بالفلسفة فقال له: (( ليس للعقل ضد لكن وجوده ضد وهو عدمه. فقلت للذي ذكر لي هذا القول أن هذه سفسطة وجهل، ولو جاز له هذا التخليط لجاز لغيره أن يقول ليس للعلم ضد لكن لوجوده ضد وهو عدمه. فيبطل التضاد من جميع الكيفيات، وهذا كلام يعلم فساده بضرورة العقل(2) ، فالبديهيات المنطقية عنده هي ما انتقلت عليه الحواس وبرهن عليه العقل، وبهذا نستطيع أن نثبت المثبت وننفي المنفي(3) .
__________
(1) ابن حزم، الأحكام، ( م1)، (ص6).
(2) الفصل ( 5/199).
(3) أبوزهرة، ابن حزم، ( ص 153).(1/20)
ونجد ابن حزم يستدرك على من ادعى الإصلاح بالفعل وحده: (( ولا يمكن إصلاح أخلاق النفس بالفلسفة دون طاعة غير الخالق عز وجل لا تلزم(1) ، وهكذا نجد أن ابن حزم يحسم ذلك الصراع المستمر بين العقل والدين، باستنتاج ذكي وهو أن يتخذ طريقاً وسطاً بينهما مما يطابق تمام المطابقة لمذهبه الظاهري الذي انتهجه(2) ويحارب ابن حزم الخرافات التي ترد على ألسنة العوام، أو يقول بها بعض الجهال، مثل كون الكواكب هي المدبرة، أو المؤثرة، ووسيلته في ذلك معلومات علمية ذات قيمة علمية مهمة وهي: (( أن المد والجزر يتولد بطلوع القمر وغروبه )) (3) وهذا شئ يلفت الانتباه لكونه يشير إلى حقيقة علمية ثابتة، حتى أنه لا يتردد في إثبات كروية(4) الأرض من أجل الرد على دعوى البعض من كون الكواكب هي المدبرة الفاعلة بسبب حركتها المستمرة (5) ، وعند بحث ابن حزم لمسائل الألوان، يعطينا معلومات علمية صحيحة، منها إثباته أن الظلمة ليست بلون، وأن النور هو اللون، أو بتعبير علمي الشعاع المنعكس من الجسم، وغيرها من المعلومات العلمية(6) .
__________
(1) الرسائل ( 3/134).
(2) بالنثيا، تاريخ الفكر الأندلسي ، ( ص 222).
(3) الفصل، ( 4/16).
(4) الفصل، (2/241).
(5) الفصل، (2/239).
(6) أبو عبد الرحمن بن عقيل الظاهري، مقدمة رسالة الألوان، الرياض، (1979)،( ص16ـ 17).(1/21)
أما العلوم الرياضية فقد كان لابن حزم نصيب منها بالرغم من أنه صرح بأنه ليس ممن باع في هذا العلم(1)، وربما يكون هذا تواضعاً منه رحمه الله، والدليل عليه هذا البحث، في نظرية الجزء الذي لا يتجزأ أو بتعبير المتكلمين نظرية الجوهر الفرد(2)، يفترض ابن جزم الافتراض الآتي: (( نعلم أن الخطين المستقيمين المتوازيين ( أب، ج د) لا يلتقيان أبداً، ولو مدا عمر العالم أبداً بلا نهاية، وإذ لا شك في هذا، فإنك إن مددت من الخط الأعلى إلى الخط المقابل له خطين مستقيمين متوازيين (أجـ ،ب د) قام منهما مربع بلا شك، فإذا أخرجت من زاوية تمر مع الخطين الأعلى أبداً، لأنها غير متوازية له إذ ذلك كذلك، فذلك الضلع منقسم أبداً لا بد ما أخرجت الخطوط بلا نهاية)) (3) إن هذه المعلومات التي قدمها ابن حزم لنا توضح حقيقة علمية معروفة، في كون الخطوط المتوازية لا تلتقي، بينما الخط الذي يفترضه وهو ( أجـ ) لا يمكن أن يكون موازياً لهما، وبهذا يتبين كيف وظف لنا هذا العلم لخدمة منهجه العلمي، ولا بأس من أن نأخذ أنموذجاً آخر لذلك، وهو الافتراض الآتي: (( دائرة قطرها أحد عشر جزءاً ( 11سم ) لا يتجزأ كل واحد منها عندهم، أو أي عدد شئت على الحساب، فأردنا أن نقسمها بنصفين على السواء ولا خلاف في أن هذا ممكن، فبالضرورة ندري أن الخط القاطع على قطر الدائرة من المحيط إلى ما قابله من المحيط (أ ب) ماراً على مركزها (م) لا يقطع ألبته إلا في نصفين، وبالله تعالى التوفيق )) (4) ،
__________
(1) ابن حزم، الرسائل، ( 21/185).
(2) نظرية الجوهر الفرد، أو الجزء الذي لا يتجزأ، نقول هذه النظرية بأن هناك أجسام مخلوقة لا طول لها ولا عرض ولا عمق ولا اجتماع ولا اقتران، ينظر ا|لأشعري مقالات الإسلاميين، ( 2/10ـ18)، بينس، مذهب الذرة عند المسلمين (ص3ـ 27).
(3) الفصل، ( 5/234) وينظر شكل (1).
(4) الفصل، ( 5/235)..(1/22)
إن هذه المعلومات الرياضية الصحيحة التي نقلها ابن حزم للقارئ، وتبدو فيه ثقافته الواسعة وجهوده العلمية القيمة التي سلكها في بحثه للعقائد، مستعيناً بالعلوم الرياضية والهندسية من أجل خدمه البحث، إضافة إلى عنايته العظيمة بإثبات الحقائق العلمية ودحض الخرافات .
الاستدلال:
يعرف ابن حزم الاستدلال بأنه: (( طلب الدليل من قبل معارف العقل ونتائجه أو من قبل معلم (1)، ومسألة الاستدلال من الأمور التي كثر النقاش فيها عند المتكلمين(2)، وابن حزم لا ينكر الاستدلال (( بل هو فعل حسن مندوب إليه محضوض عليه كل من أطاقه، لأنه تزود من الخير، وهو فرض على كل من لم تسكن نفسه إلى التصديق ـ نعوذ بالله عز وجل من البلاء ـ وإنما ننكر كونه فرضاً على كل أحد لا يصح إسلامه،هذا هو الباطل المحض )) (3) وهو في بحثه هذا ينتهج منهج الجدل والتسلسل المنطقي للشواهد التي يعبر عنها بلفظ الأدلة، وإننا نجد عندما يجادل من قال: بأن الباري خلق العالم جملة كما هو بجميع أحواله بلا زمان، نجده يتساءل لماذا تختفي بعض العلوم في بعض بلاد السودان أو البوادي التي: (( في خلال المدن ـ أي بين المدن ـ ليس يوجد فيها أبداً أحد يدري شيئاً من العلوم والصناعات حتى يعلمه معلم، وأنه لا ينطق أحد حتى يعلمه معلم)) (4) ولا غرابة في ذلك فالاستدلال المنطقي يقتضيه،لأن حصول شئ من المعارف لا بد أن يكون بواسطة؛ إلا أن يأتي من العدم، وقد انتقد بعض علماء الأندلس الأسلوب المنطقي في كتابات ابن حزم حيث اتهموه بأنه: ((...
__________
(1) الأحكام ، ( م1)،( ص37)، الرسائل، ( 4/ 413) وينظر ملحق (3).
(2) البغدادي، عبد القاهر بن ظاهر، أصول الدين ( استنبول، 1928 )، ( ص24ـ 28)، عبد الرحمن بدوي، مذاهب الإسلاميين، ( 1/397).
(3) البغدادي، عبد القاهر بن ظاهر، أصول الدين ( استنبول، 1928 )، ( ص24ـ 28)، عبد الرحمن بدوي، مذاهب الإسلاميين، ( 1/397).
(4) الفصل، ( 1/ 136).(1/23)
يرد على المنطقي بالشرعي )) (1) وقد نفى ابن حزم هذه التهمة عنه، والحق أنه كان يميل إلى هذه العلوم، ونجده يكرر استعانته بها ليؤيد وجهة نظر لا لرد حقيقة شرعية، وإنما لإبراز صحة وجهة نظره للقارئ، وصدق دعواه، فمن ذلك قوله: (( وأما من طريق النظر والمصلحة، فلو جاز أن يكون في العالم إمامان لجاز أن يكون فيه ثلاثة، وأربعة وأكثر، فإن منع من ذلك مانع كان متحكماً بلا برهان، ومداعياً بلا دليل )) (2) وهذا المثال يوضح بدقة الجانب العقلي النظري في منهجه، والذي من خلاله نستطيع أن نقرر، أن بن حزم قد أدخل أدوات الاستدلال النظرية في مناقشة الآراء المختلفة.
وقد استعان ابن حزم أيضاًُ بالبحث النفسي والسلوكي للفرد، حتى أنه ليبين ذلك واضحاً من خلال أسلوب التحليل لسلوك كل من المؤمن والكافر، لأن أفعال النفي جارية: (( على ما رتب الله تعالى فيها تمييزها من فعل الطاعات، وهذا هو الذي يسمى العقل، وإذا خذل الله تعالى النفس أمد الهوى بقوة هي الإضلال، فجرت أفعال النفس على ما رتب الله تعالى في هواها من الشهوات وحب الغلبة والحرص والبغي والحسد. وسائر الأخلاق الرذيلة والمعاصي......)) (3)، إن هذه المعالجة الفريدة من نوعها لمسألة الضلال التي شغلت ألسنة المتكلمين، تعطينا صورة لعمق المسائل التي طرحها ابن حزم أمام القارئ، وفيها تلك الروح التي تميز كتاباته، وهو طرح الحقيقة بأسلوب علمي مبتكر، في خطوة جريئة تبين لنا موهبة ابن حزم في الغوص في النفس والكشف عن أسرارها.
المقارنة والمناظرة:
__________
(1) ابن حزم ، الرسائل ( 3/ 73).
(2) الفصل، ( 4/ 151).
(3) الفصل، ( 3/ 74).(1/24)
لقد ساق لنا ابن حزم مقارنات بين أصحاب العقائد والملل المختلفة، حاول خلالها إبراز جهوده العلمية في تحليل الآراء من خلال مقارنتها مع بعضها وخصوصاً الاعتقادات المتشابهة، على أن الفكرة التي يركز عليها ابن حزم هنا هي تلك الآراء المتشابهة التي قد تردد عبر مدد زمنية مختلفة حيث قال: (( إن الناس قسمان: قسم لم تسكن نفوسهم إلى الإسلام ولا دخلها التصديق فطلبوا منه عليه السلام البراهين فأراهم المعجزات فانقسموا قسمين، طائفة آمنت وطائفة عندت وجاهرت وكفرت وأهل هذه الصفة اليوم هم الذين يلزمهم طلب الأدلة فرضاً ولا بد )) (1)، إن هذه المقارنة بين دعاة الاستدلال وكونه شرطاًُ للإيمان في زمن ابن حزم، وبين الكفار في عصر الرسالة فيه ميزة تظهر واضحة للقارئ، وهي ذلك الشك الذي تتنازعه كلا الطائفتين من أجل الإيمان. وقد تتخذ المقارنة عنده مسارات متعددة، ومن ذلك انتقاد بعض المعتزلة، بسبب قياسهم العقلي، ويقارنهم بأقوام آخرين من ملل آخرى، وذلك لأنهم حكموا على: (( الباري تعالى بمثل ما يحكم به بعضنا على بعض، وهذا بين له أصل عند الدهرية، وعند المنانية(2) ، وعند البراهمة(3) ، وهو أن الدهرية قالت: لما وجدنا الحكيم فيما بيننا لا يفعل إلا لاجتلاب منفعة أو لدفع مضرة، ووجدنا من فعل لا فائدة فيه فهو عابث، هذا الذي لا يعقل غيره)) (4)
__________
(1) الفصل، ( 4/77).
(2) المنانية: نسبة إلى ماني بن فاتك، القائل بالنور والظلمة، ظهرت مقالته أيام سابور بن اردشير ملك الفرس، وقد تبعه خلق كثير من المجوس، قتله سابور بن بهرام ، وقيل بهرام بن هرمز، ينظر: الفصل، (1/0) الشهرستاني الملل والنحل ( 2/ 72ـ 83).
(3) البراهمة: نسبة إلى قبيله في الهند، اشتهروا بنفي النبوات رغم اقرارهم بالتوحيد الذي جعلوا العقل هو الموصل إليه بلا رسل، الفصل، ( 1/ 136ـ 140)، الشهرستاني، الملل والنحل (3/ 342ـ 348).
(4) الفصل، ( 3/ 138)..(1/25)
فهو هنا يشبه مقالة المعتزلة بما قالته كل من المنانية والبراهمة، وكأنه ينسب قولهم الفاسد إلى أصل اعتمدوا عليه وتأثروا به. والنقطة المهمة التي وظفها ابن حزم في هذا الاتجاه هي ثقافته الواسعة خصوصاً باليهودية والنصرانية، حيث استفاد منها في عرض صور مزدوجة ومتشابهة عند كل من المسلمين وغيرهم من أهل الملل الأخرى، فهو يعتقد أن المعجزة التي ادعاها البعض للحلاج(1) ، أو لبعض الصالحين مثل إبراهيم بن أدهم (2) لا تختلف عن دعوى النصارى المعجزات للحواريين من أصحاب عيسى عليه السلام(3). ونحن نرى من ذلك كيف خدمت ثقافة ابن حزم الواسعة منهجه في مقارنة مقالات كثير من الناس رغم اختلافهم في المعتقد والزمان والمكان، فعنده تستوي دعوة المعجزة لماني ودعوتها للحلاج وغيرهم، ذلك أن مجرد المقارنة توصلنا إلى مسألة مشتركة، وهي المبالغة في نسب المعجزات لأصحابها وربما يكون في هذا إشارة المعجزة لا تكون إلا بنص كما يؤمن بذلك ابن حزم نفسه.
__________
(1) الحلاج : هو الحسين بن منصور، قال عنه ابن النديم : (( كان محتالاً يتعاطى مذاهب الصوفية ويدعى كل علم ( ت 309هـ ) الفهرست، (ص 241ـ242)، الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد، (8/ 112)، وقد اعتنى لويس ماسينون بدراسة الحلاج ونشر كتابه (( الطوسين)) في باريس سنة ( 1913)، وقدم له مقدمة وافية، وأعيد طبعه بالقاهرة سنة (1970) مع كتاب أخبار الحلاج باعتناء عبد الحفيظ محمد مدني هاشم
(2) إبراهيم بن أدهم بن منصور التميمي البلخي، زاهد مشهور، تفقه وجال في العراق والشام والحجاز، أخباره كثيره فيها مبالغات عظيمة( ت 161هـ ) .
(3) إبراهيم بن أدهم بن منصور التميمي البلخي، زاهد مشهور، تفقه وجال في العراق والشام والحجاز، أخباره كثيره فيها مبالغات عظيمة( ت 161هـ ) .(1/26)
أما فيما يخص المناظر فنحن نجد صوراً كثيرة لها والغرض من إيرادها عند ابن حزم هو كونها تمثل وسيلة مهمة من الوسائل العلمية المعروفة والمنتشرة في عصره في الوقت نفسه الذي تمثل فيه التفاعل العلمي بمختلف الأفكار في ذلك العصر. خاصة وأنه يصرح بحدوث الكثير منها فمن ذلك قوله: (( وقد ناظرت بعض المنكرين لهذا المذهب، إلى أن الهم بالسيئة الإصرار عليها. فقلت له: هذا خطأ لأن الإصرار لا يكون إلا على ما قد فعله المرء بعد تمام على نية أن يفعله، وأما من هم بما لم يفعل بعد فليس إصراراً)) (1) ، ونجد يكثر من هذه المناظرات، وهي وسيلة مهمة في منهجه لا سيما المباحث الكلامية التي كانت مدار نقاش في المجالس العلمية بالأندلس، ويمكن أن نعد بعض هذه المناظرات من الشواهد المهمة على الآراء التي ناقشها، حيث يقول: ((وقد ألزمت بعض الملحدين وهو ثابت بن محمد الجرجاني(2) ، في هذا البرهان، فأراد أن يعكسه على بقاء الباري عز وجل ووجودنا إياه، فأخبرته بأن هذا شغب ضعيف مضمحل ساقط)) (3) ، إن المناظرات تشكل في أجزاء منها محاور أتت متفرقة في كتاب الفصل، ومثلث إحدى المصادر التي اعتمدها ابن حزم في كتابه، ويبدو أن غرض ابن حزم من إيرادها كان لبيان مقدرته في المناظرة، وابتكار وسائل عديدة تخدم المنهج العلمي من حيث المحتوى والأسلوب. ثم إن له طريقة أخرى تتمثل بإفتراض المناظرات من ذلك قوله: (( فإن قال قائل: إذا قلتم : ان النار دار جزاء فالجنة كذلك، ولا جزاء للصبيان)).
__________
(1) الفصل، ( 4/ 91).
(2) تقدمت ترجمته (ص 46) من هذا الحديث.
(3) الفصل، ( 1/ 61).(1/27)
قلنا وبالله تعالى التوفيق: (( إنما نقف عندما جاءت به النصوص في الشريعة وقد جاء النص بأن النار دار جزاء فقط، وأن الجنة دار جزاء وتفضيل فهي لأصحاب الأعمال دار جزاء بقدر أعمالهم )) إن افتراض الأقوال نجدها في بعض الأحيان وسيلة لعرض وجهات نظر صادفته خلال حياته الفكرية،وهذه نقطة تستحق منا الاهتمام.
عرض الآراء:
يبدأ ابن حزم عادة عند عرضه لمبحث معين بإيراد أراء المسلمين بمختلف اتجاهاتهم في هذه القضية، ويعطي للقارئ مقدمة مركزة يعرض بها قصده من ذكر هذه المسألة، فمن ذلك قوله عند مناقشة مسألة الشفاعة: (( اختلف الناس في الشفاعة، فأنكرها قوم وهم المعتزلة والخوارج، وكل من منع أن يخرج أحد من النار بعد دخوله فيها، وذهب أهل السنة والأشعرية (1) والكرامية(2)، وبعض الروافض إلى القول بالشفاعة)) (3) ، ثم يورد أدلة المنكرين للشفاعة، وهي آيات عديدة منها قوله تعالى: {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً} (الجن:21) . وقوله تعالى: {يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} (الانفطار:19) . وغيرها من الآيات (4) ، بعدها يبين وجهة نظره في أدلة الخصم، وهم هنا المنكرون للشفاعة، راداً عليها، موضحاً بطلانها، فيقول بهذا الخصوص:
((
__________
(1) لابد من التنبيه إلى أن ابن حزم يفرق بين أهل السنة والأشعرية، ويعرف أهل السنة بأنهم الصحابة والتابعون وأهل الحديث ومن تبعهم إلى يوم الدين . أنظر الفصل الثالث، المبحث الأول من هذا البحث( ص90).
(2) نسبة إلى محمد بن كرام السجستاني، كان مؤسسها يقول في الله تعالى: (( أنه من جسم لا كالأجسام)) وسجن لمقالته هذه ثمانية أعوام بنيسابور توفي سنة(255هـ )، الأشعري، مقالات الإسلاميين، ( جـ 1) (ص 205)، الفصل (5/ 73ـ 74)، الشهرستاني، الملل والنحل ، ( 1/ 159ـ 169).
(3) الفصل، ( 3/111).
(4) الفصل، (4/111).(1/28)
لا يجوز الاقتصار على بعض القرآن دون بعض ولا على بعض النص دون بعض )) (1) ، وهنا تكون براعة ابن حزم في إيراده لأدلته بمهارة وغالباً ما تكون من جنس أدلة الخضم، فيستعرض لنا الآيات التي دلت على الشفاعة منها قوله تعالى: {لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً} (مريم:87). وقوله تعالى: {لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} (سبأ: من الآية23). وغيرها من الآيات الدالة على الشفاعة وحينئذ يقول: (( فقد صحت الشفاعة التي أبطلها عز وجل هي غير الشفاعة للكفار الذين هم مخلدون في النار)) (2) ثم يبين لنا ابن حزم أنواع الشفاعة، ويعرضها للقارئ لغرض التوضيح والكشف عن مفهومها،وهي قسمان: (( الأولى عامة وهي لكل محسن ومسيء في تعجيل الحساب يوم القيامة، وإراحة الناس مما هم فيه من هول الموقف وشنعة الحال....)) (3) ، والثانية: (( في إخراج أهل الكبائر من النار، طبقة على ما صح في ذلك الخبر)) (4) ، وقد تكون هناك بعض الاعتراضات التي لا ينسى ابن حزم أن يعرج عليها، وقصده من ذلك عدم ترك فجوة يمكن أن تخل بمادة كتابه، مثل: ادعاء البعض: (( أن الشفاعة ليست إلا في المحسنين)) (5) ، ويرد هذا الادعاء بقوله: (( وهذا لا حجة لهم فيه، لأن من أذن الله في إخراجه من النار وإدخاله إلى الجنة، وأذن للشافع في الشفاعة له في ذلك فقد ارتضاه)) (6) ،
__________
(1) الفصل، (4/111ـ 112).
(2) الفصل، (4/ 112).
(3) الفصل، (4/ 113).
(4) الفصل، (4/ 113).
(5) الفصل، (4/ 113).
(6) الفصل، (4/ 113)..(1/29)
فمن هنا يتبين أن ابن حزم أول ما يبدأ بحثه في أي مسألة كلامية يقرر آراء مختلف النحل الإسلامية فيها على اختلافها، ثم يستعرض أدلة كل فريق على سبيل التفصيل، حتى إذا فرغ من ذلك بدأ عمله في تفنيد الأدلة التي لا توافق معتقده، وقد يشير إلى وجه التناقض بينها ثم يبين وجهة نظره التي يتبناها مع الأدلة التي تدعم ذلك، ومن ثم بعد وصوله لهذه النقطة يطرح بعض الاعتراضات للخصم، يردها بمهارة لا تقل عن المهارة التي رد بها الأدلة الأولى، والتي استعرضنا صورة منها قبل قليل. وهكذا نجد أسلوبه هذا في معظم العقائد التي يستعرضها، فأنت إن قرأت المسائل الأكثر تعقيداً، رأيت أقوال النحل تكثر وأدلتهم تتعدد، افتراضاتهم تتشعب ويستمر ابن حزم على منهجه هذا في تناول الآراء فنفسه يطول في ردها وإقناع القارئ بوجهة نظره بعبارة موجزة:
(( أن طريقته في ترتيب موضوعه تتمثل في تقرير الأسس للعقيدة قيد الحث، ثم بسط للدعوى ، ثم استعرض آراء الخصوم وأدلتهم، ثم دفعه للشبه وبرهان للحق الذي ينتصرله، وهي طريقة محكمة متكاملة)) (1) .
__________
(1) سعيد الأفغاني، ابن حزم ورسالة المفاضلة ( ص 158ـ 159).(1/30)
إلا إن هناك بعض المآخذ على ابن حزم في هذا الجانب،منها عدم تصريحه في بعض الأحيان بنسبة المقالة إلى صاحبها، فيضطر الباحث إلى العودة إلى الكتب التي تناولت الموضوع نفسه ليرى من قال هذا الكلام مثال ذلك قوله: ((وقالت طائفة أن علة الباري تعالى لما فعل هو: جودة وحكمته وقدرته، وهو تعالى لم يزل جواداً حكيماً قادراً فالعالم لم يزل، إذ علته لم تزل)) (1) ، وهذا هو القول نفسه الذي قالت به طائفة من المعتزلة (2) . والمآخذ الثاني هو: تشعب الآراء وتداخلها حيث تتخذ مسارات مختلفة في مسألة معينة تجهد القارئ وتبعده عن صلب الموضوع. فعند كلامه عن خلق أفعال العباد يتطرق إلى مسألة التعديل والتجوير في أفعال الله تعالى، ولم يكف بذلك بل إنه يقحم القارئ في موضوع النفس وصور تعلقها بالجسد وعذاب القبر وغيرها من الأمور السمعية،ويستطرد فيها صفحات عديدة(3) .
ويبدو أن مسألة تشعب الآراء في كتابات ابن حزم لم تسترع الانتباه هنا فقط بل إنها واجهت ابن تيمية عندما تعرض بالنقد لإحدى مؤلفات ابن حزم(4) ، مما يدل على أن هذه المسألة هي من المميزات البارزة لنتائج هذا الفكر على العموم، ومع ذلك فإن تشعب الآراء تقوم دليلاً واضحاً على نفسه الطويل في الكتابة، وثقافته الواسعة في مختلف المعارف والفنون.
منهج ابن حزم في دراسة الفرق الإسلامية
تقسيمه للفرق:
اعتمد كثير من مؤرخي الفرق الإسلامية في تحديدهم على الحديث المشهور الذي ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في افتراق هذه الأمة، أما عن ابن حزم فإننا نجده من الذين ذهبوا إلى أن هذا الحديث ضعيف من طريق الإسناد فلا حجة فيه (5) .
__________
(1) الفصل، ( 1/71).
(2) الشهرستاني، نهاية الإقدام، ( ص397).
(3) الفصل، ( 3/ 167ـ174)، وينظر كذلك الفصل، ( 5/ 243ـ 252).
(4) ابن تيمية، نقد مراتب الإجماع، منشور ملحقاً بمراتب الإجماع لابن حزم(بيروت،1978)،(ص217).
(5) الفصل، ( 3/ 292).(1/31)
ومن ذلك نجده يقسم المسلمين إلى خمس فرق: (( أهل السنة والمعتزلة والمرجئة والشيعة والخوارج، ثم افترقت كل من هذه على فرق)) (1) ، ثم يبين بعرض سريع المسائل الكلامية التي جعلت كلاً من هذه الفرق تتشعب وتتفرق إلى فرق عديدة فمعظم اختلاف أهل السنة، وهي الفرقة الأولى الرئيسية عنده، كان: (( في الفتيا وشئ يسير من الاعتقادات)) (2) ، أما باقي الفرق فإنه يقومها على أساس قربها أو بعدها من أهل السنة، ويفصل في الأمر على النحو الآتي:
1- المرجئة: (( يرى ابن حزم أن أقرب فرقها إلى أهل السنة هم أصحاب أبي حنيفة (3) وأبعدهم أصحاب جهم بن صفوان(4) ، ومحمد بن كرام السجستاني)) (5) .
__________
(1) الفصل، ( 2/ 256).
(2) الفصل، ( 2/ 266).
(3) في قول ابن حزم انظر لأن أبا حنيفة لم يكن من هذه الفرفة في نسبة الإرجاء إليه خلاف معروف ،ونحن لا نوافق ابن حزم فيما ذهب إليه ، ينظررسالة أستاذنا خليل إبراهيم الكبيسي، المرجئة نشأتها، عقائدها، فرقها وموقفها السياسي، رسالة ماجستير غير منشورة ( جامعة بغداد 1975) (ص110ـ 119).
(4) هو جهم بن صفوان: أبو محرز السمرقندي، رأس الطائفة الجهمية، أشهر مقالاته ( القول بخلق القرآن) وأن الإيمان الإقرار باللسان فقط( ت 128هـ ) الأشعري، ( مقالات الإسلاميين) ( 1/197ـ198)،الفصل(5/73ـ74)، خالد العسلي ( جهم بن صفوان ومكانته في الفكر الإسلامي) ( بغداد 1965)،(ص 61ـ68).
(5) الفصل، ( 2/265).(1/32)
2- المعتزلة: وأقرب فرقها إلى أهل السنة أصحاب الحسين بن محمد النجار(1) ، وبشر بن غياث المريسي(2) ، وأبعدهم أصحاب أبي الهذيل العلاف(3) .
3- الشيعة: أقربها في نظره إلى أهل السنة هم: (( أصحاب الحسن بن صالح حي الهمداني الفقيه(4) ، القائلون بأن الإمامة في ولد علي ( رضي الله عنه) الثابت عن الحسن بن صالح رحمه الله كما حقق ذلك بن حزم، أنه كان يعتقد بأن الإمامة في قريش، ويتولى جميع الصحابة، إلا أنه يفضل عليا - رضي الله عنه - على جميعهم، أما أبعدهم في نظره عن أهل السنة فهم الإمامية(5) .
__________
(1) هو الحسين بن محمد بن عبد الله النجار، كان من أشهر المجبرة ومتكلميهم وله مع النظام مجالس ومناظرات، ذكر له ابن النديم كتباًَ عديدة(ت220هـ ) ترجمته عند: ابن النديم، ( الفهرست) (ص299) الشهرستاني، (( الملل والنحل)) (1/116ـ 120).
(2) هو بشر بن غياث المريسي، فقيه معتزلي، يرمي بالزاندقة، وإليه تنسب الطائفة المريسية قال عنه ابن حجر: (مبتدع ضال لا ينبغي أن تروى عنه ولا كرامة)، ( ت 218هـ ) ترجمته عبد الخطيب البغدادي (تاريخ بغداد) ( 7/ 56ـ67)، الذهبي ( ميزان الاعتدال) ( 1/322ـ323)،ابن حجر: ( لسان الميزان) ( 2/29ـ31).
(3) الفصل، ( 2/ 265ـ 266)، والعلاف هو محمد بن الهذيل بن عبد الله العلاف شيخ المتزلة، كان خبيث المذهب، جحد صفات الله تعالى، كان كذاباً ( ت 227هـ ) ترجمته عند الخطيب البغدادي، ( تاريخ بغداد)(3/366)، ابن حجر: ( لسان الميزان)( 5/413).
(4) هو الحسن بن صالح: أحد فقهاء الكوفة المشهورين في عصره كان متكلماً ورعاً قال عنه الذهبي: (فيه بدعة تشيع قليل) بينما رد عنه ابن حزم هذه التهمة ( ت 168هـ ) ترجمته عند: أبي نعيم الأصفهاني ( حلية الأولياء) ( 7/327ـ335)، والذهبي، ( ميزان الاعتدال) (1/ 496ـ 499) .
(5) الفصل، (2/ 266).(1/33)
4- الخوارج: ويرى أن أقرب فرقها لأهل السنة هم: أصحاب عبد الله بن عبيد الأباضي الفزاري الكوفي(1) ، وأبعدهم الأزارقة(2).
إن هذا التقييم لمقالات الفرق يوضح وجهة نظر ابن حزم تجاه مقالات، وفيه يبدو تقديره الخاص لهذه المسألة، والتي اتخذت عند كثير من مؤرخي الملل والنحل مسلكاًًِ مخالفاً لمسلكه، وهي على كل تقدير لا يمكن إلا أن تكون ابتكاراًَ موضوعاً يوضح أن ابن حزم يريد من خلاله فرض رأيه وتقييمه الذي يرتضيه على القارئ. أما من حيث التقسيم العام لهذه الفرق فإن له منهجاً مستقلاً في ذلك حيث أنه حددها وذكر: (( ما اعتمدت عليه كل من هذه الفرق فيما اختصت به )) (3).
__________
(1) لم يذكره من المتقدمين إلا ابن حزم، ونقل ابن حجر كلامه في لسان الميزان، ( 3/ 378).
(2) الفصل، ( 2/266).
(3) الفصل، ( 2/269).(1/34)
إن هذا المنهج في التقسيم هو الغالب في كتاب ابن حزم في بحثه للفرق الإسلامية حيث أنه يحدد مسبقاً ذلك وينبه القارئ إلى أنه سيبحث الأمر وفق ما يقرره هو: (( أما المرجئة فعمدتهم التي يتمسكون بها، الكلام في الإيمان والكفر، ما هما؟ والتسمية بهما، والوعيد، واختلفوا فيما عدا ذلك كما اختلف غيرهم)) (1) ، إن هذه النقطة دقيقة في تحديد عدد محدد لفرق المرجئة. والكلام نفسه يمكن أن يتمسكون بها: الكلام في التوحيد وما يوصف به الباري تعالى، ثم يزيد بعضهم الكلام في القدر والتسمية بالفسق والإيمان والوعيد (2) ، وهذا مشهور عن فرق المعتزلة، خصوصاً خوضها في باب التوحيد إلا أن هذا لا يمنع من مشاركة آخرين لها في هذا المبحث: (( وقد شارك المعتزلة بما يوصف به الباري تعالى جهم بن صفوان ومقاتل بن سليمان(3) .
والأشعرية وغيرهم من المرجئة)) (4) ، وهذا تقسيم جيد واستدراك لطيف منه، ذلك أن أول من فتح هذا الباب هم المعتزلة وقد أخذه عنهم الآخرون، ولا يترك ابن حزم الأمر مهملاًَ، بل أنه يعلل ذلك بقوله: (( إلا أنا اختصصنا المعتزلة بهذا الأصل لأن كل من تكلم في هذا الأصل فهو غير خارج عن مذهب أهل السنة أو قول المعتزلة)) (5) .
__________
(1) الفصل، ( 2/265).
(2) الفصل، ( 2/265).
(3) مقاتل بن سليمان بشر الأزدي الخرساني، كان مشهوراً بوضع الحديث مشبهاً لله تعالى بالمخلوقين، وعده ابن النديم من الزيدية له كتب عديدة أشهرها ( تفسير القرآن) (ت150هـ ) ينظر: ( الفهرست)، (ص277)، الشهرستاني ( الملل والنحل)، (1/ 228).
(4) الفصل، ( 2/265).
(5) الفصل، ( 2/265ـ266).(1/35)
ومعلوم أن فرق الشيعة تجمعها مسألة كلامية مشهورة، استغلها ابن حزم ويوضح لنا منهجه: (( وأما الشيعة، فعمدة كلامهم في الإمامة والمفاضلة بين أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ، واختلفوا فيما عدا ذلك كما اختلف غيرهم)) (1) ، وهذه خطوة موفقة في تمييز فرق الشيعة عن غيرهم، لأنها أصل يجتمعون عليه، ويختصون به، أما الخوارج فتقسيمهم يعتمد على أساس: (( الكلام في الإيمان والكفر ما هما؟ التسمية بهما والوعيد، والإمامة)) (2) .
من كل هذا يتضح أن ابن حزم اعتمد في تقسيمه للفرق الإسلامية على أساس ماهية المباحث الكلامية التي غلبت عليها، وميزت كل فرقة عن الفرق الأخرى، وهو في هذا يضع منهجاً محدداً تحديداً واسعاًُ والهدف منه كما يبدو هو جعل مساحة البحث والعرض واسعة تمكنه من الحركة بيسر وسهولة، وهذه الميزة لا نجدها في الكتب المشابهة.
ثم ينتقل ابن حزم للفرق الغالية، ويبين منهجه في تقسيمها، وهي عنده لا تحمل من الإسلام إلا الاسم: (( وقد أجمع جميع فرق أهل الإسلام على أنه ليس مسلماًَ، مثل طوائف من الخوارج غلو فقالوا: إن الصلاة ركعة بالغداة وركعة بالعشي فقط وآخرون استحلوا نكاح بنات البنين وطوائف كانوا من الشيعة ثم غلو، فقالت بعضهم بإلهية علي بن أبي طالب والأئمة بعده)) (3) ، فهذه طوائف من الغالية وسيفرد لها ابن حزم في نهاية بحثه مبحثاُ خاصاً يحدد فيه مقالات يحمل عنوان: (( ذكر العظائم المخرجة إلى الكفر أو إلى المحال من أقوال أهل البدع )) (4) .
__________
(1) الفصل، ( 2/266).
(2) الفصل، ( 2/266).
(3) الفصل، ( 2/267).
(4) الفصل، ( 5/33).(1/36)
والملاحظة التي تسترعي الانتباه في المبحث الذي خص فيه ابن حزم عرض الآراء الغالية لبعض الفرق الإسلامية، أنه أعطى لعقيدة الأشاعرة حصة الأسد في الباب لذا ذكر فيه (( شنع المرجئة)) وفق تعبيره(1) ، فشن فيه هجوماً قاسياً على عقيدة الأشاعرة بصورة عامة، وبعض آرائهم التي أخذها عن الباجي بصورة خاصة، ويستغرق ذلك صفحات كثيرة(2) . وهذا يجعلنا نتساءل عن أسباب ذلك، وربما يكون عداء فقهاء الأندلس الأشاعرة أثراً في دفعه بهذا الاتجاه، خاصة وقد تعرض لإحراج شديد في مناظرتة مع الباجي، وكان رأساً من رؤوس الأشاعرة(3) ، وبذلك يمكن القول أنه كانت لابن حزم أهداف مذهبية في هذا الكتاب بحيث أنه أخل بمنهجه، على الأقل، وعلى العموم نصل إلى نتيجة خلاصتها أن الفرق عند ابن حزم تقسم إلى قسمين رئيسين، القسم الأول: الفرق التي تنتمي لأهل الإسلام ولم تخرج من إطاره، بحثها في المسائل الكلامية ، القسم الثاني: التي تنتمي لأهل الإسلام ولكنها برأيه ليست من الإسلام في شئ وهم الغلاة، ونجد من المناسب أن نعرض أنموذجاً للقسم الأول لأهميته في إبراز منهجه، وتحديد سماته في تناوله للفرق:
كلام في الرؤية:
إن اختيارنا لهذه المسألة، وجعلها أنموذجاً للداسة يعود إلى أنها كانت مختصرة عند
ابن حزم ولكون النزاع فيها معروفاً ومشهوراً.
يبدأ ابن حزم بإيراد أقوال الفرق بهذه المسألة، وعادة ما يكون التقسيم من فريقين: (( قال أبو محمد: ذهبت المعتزلة وجهم بن صفوان، إلى أن الله عز وجل يرى في الآخرة...... وذهب المجسمة إلى أن الله تعالى يرى في الدنيا والآخرة.
__________
(1) الفصل، ( 5/73).
(2) الفصل، ( 5/73ـ 96).
(3) ابن حزم، الفصل، ( 5/ 74ـ75).(1/37)
وذهب جمهور أهل السنة والمرجئة، وضرار بن عمرو(1) ، من المعتزلة إلى أن الله يرى في الآخرة، ولا يرى في الدنيا وقال الحسين بن محمد النجار هو جائز لم يقطع به (2) ، وهكذا يورد ابن حزم آراء المتكلمين في مسألة الرؤية على شكل ملخص موجز، ثم يبدأ بعد ذلك بتفنيد أقوال المخالفين وهم المجسمة والمعتزلة مبيناً إلى أن الله تعالى يرى في الآخرة: (( بقوة غير القوة الموضوعة في العين الآن، لكن بقوة موهوبة من الله عز وجل )) (3) ، ثم يورد حجة المعتزلة في ذلك وهي قوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (الأنعام:103)، حيث يقول: (( وهذا لا حجة لهم فيه لأن الله تعالى إنما نفى الإدراك عندنا في الله زائد على النظر والرؤية)) (4) ، ثم يبين معنى الإدراك والرؤية والفرق بينهما، وهذا مبحث لغوي قد أوضحنا أسلوب ابن حزم فيه، وبعد أن ينتهي من ذلك يورد بعض الاعتراضات للمعتزلة منها قول الجبائي(5)
__________
(1) هو ضرار بن عمرو القاضي معتزلي جلد، له مقالات خبيثة، شهد عليه أحمد بن حنبل فأمر القاضي بضرب عنقه فهرب وأخفاه يحيي بن خالد، ويعد من رجال منتصف القرن الثالث الهجري، ترجمته عند ابن النديم، ( الفهرست) ( ص 214ـ 215)، ابن حجر: ( لسان الميزان)،(3/203).
(2) الفصل، (3/7).
(3) الفصل، (3/8).
(4) الفصل، (3/8).
(5) هو أبو علي محمد بن عبد الوهاب الجبائي، أحد أعلام المعتزلة،كان إماماً في علم الكلام،رئيس المعتزلة بالبصرة(ت 303هـ ) ترجمته عند ابن خلكان، ( وفيات الأعيان)، ( 4/ 267ـ296)..(1/38)
أن (( إلى )) في قوله تعالى:{ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} (القيامة:22ـ23)، ليست حرف جر لكنها اسم وهي: ( واحدة الآلاء وهي النعم، وهي في موضع مفعول ومعناه نعم ربها منتظرة) (1) يقول ابن حزم راداً هذه الدعوى: ( هذا بعيد لوجهين ....إلخ) ثم يورد رده المحبك المدعوم بالأدلة، حتى إذا انتهى من ذلك كله بدأ بتقرير الرؤية ورؤية الله تعالى يوم القيامة كرامة للمؤمنين لا حرمنا ذلك الله من فضله ) (2) إن هذا العرض السريع لمبحث الرؤية يعطينا تصوراً لمنهج ابن حزم في دراسته للفرق من خلال عقائدها، والمسائل الكلامية التي بحثها، وقد قدمنا فيما سلف الأدوات التي يستخدمها أهل العقائد
وبهذا تقرر أن منهجه إلى حد ما منهج محدد له خطوط واضحة سار بها. إلا أن هذا لم يكن ليعصم ابن حزم من إهمال كثير من الفرق الإسلامية مركزاً على أساس الفرق كما فعل الأشعري والبغدادي والشهرستاني، بل إنه اعتمد منهجاً آخر يرتكز على الأعلام في تحديد المقالات وتقسيمها، وهذا ما سنبينه إن شاء الله تعالى بالمبحث الآتي:
الأعلام:
__________
(1) الفصل، (3/ 8ـ10) ومن المناسب إيراد ابن حزم، وهو ( أن الله تعالى أخبر أنهما تنتظر بعد النضرة وهي النعمة الأول نعمة أخرى لم تقع بعد.. والأمر الثاني أن الأخبار قد تواترت في إثبات هذه الرؤية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .
(2) الفصل، ( 3/ 10).(1/39)
إن مؤرخ الملل والنحل عادة ما يتعامل مع عدد كبير من الأعلام التي لها أهميتها في بيان جذور كثير من الفرق، حيث جعلها علامة بارزة في منهجه، الذي يعتمد عليها في تحديد مسار بحثه أكثر من اهتمامه بأسماء الفرق، وجعلهم من أسس تحديد الآراء والمقالات. والمطالع لمبحث المعتزلة في كتاب الفصل يجد ما قررناه واضحاً فالمنهج الذي يختطه ابن حزم في إيراد مقالات المعتزلة، يستند على أعلام متكلميهم، ومثال ذلك: (( وقالت المعتزلة بأسرها حاشا ضرار بن عبد الله الغطفاني الكوفي، ومن وافقه كحفص الفرد(1) أن جميع أفعال العباد من حركاتهم وسكونهم في أقوالهم التي ذكرها ابن حزم عنه، وأشار كذلك إلى الرأي نفسه من كون حفص الفرد قد تبع ضرار بن عمرو في مقالته هذه. وهذه يدل على أن ابن حزم لم يرتئ التقسيم الذي اتبعه التغدادي لأن طريقتة أيسر وأسهل منه.
__________
(1) هو حفص بن أبي المقدام، كان ـ بالإضافة إلى قول ابن حزم فيه ـ كان ينفى صفات الباري عز وجل، ويشك في عامة المسلمين ويقول: ( لا أدري لعل سرائر العامة كلها شرك وكفر) ، ترجمته عند ابن النديم، الفهرست، ( 229ـ 230) البغدادي، أبو منصور عبد القاهر بن طاهر التميمي، الفرق بين الفرق ( بيروت، 1997)، (ص202).(1/40)
وقد يهتم ابن حزم بذكر معلومات تدور حول العلم، وتعد مهمة بالنسبة له، ومثال ذلك عندما يتحدث عن أبي الهذيل العلاف يقول: (( أبو الهذيل بن مكحول العلاف مولي عبد القيس، بصرى، أحد رؤساء المعتزلة ومتقدميهم )) (1) ، فهو يذكر هنا أنه من الموالي، بصري بالسكن معتزلي العقيدة، وكأنه يلفت انتباه القارئ إلى هذه الصفات التي يلحقها والشئ نفسه يفعله مع آخرين مثل الجاحظ(2) وغيره، وابن حزم يدرس أيضاً التنشئة الاجتماعية للمفكر، وينبه على مكانتها وإن كان هذا بصورة موجزة مختصرة: (( ورأيت لأبي بكر أحمد بن علي بن بيغجور المعروف بابن الأخشيد، وهو أحد أركان المعتزلة، وكان أبوه من أبناء ملوك فرغانة )) (3)، من الأتراك وولي أبوه (4) الثغور وكان هذا أبو بكر ابنه يتفقه للشافعي (5) ، فهو هنا يهتم بذكر أصول هذا الرجل وعائلته ونسبه ومذهبه، وهي مهمة بنظره تستحق أن يطلع عليها القارئ.
أما فيما يخص الفرق الشيعية، فإن الاهتمام بالأعلام يأخذ إطاراً أكبر ويحتل مساحة أوسع، وعادة ما يقسمهم بحسب الإمام الذي دعيت إليه واعتقدت رجعته كقول طائفة منهم: ”أن محمد بن القاسم بن علي بن عمر بن الحسين بن الحسين بن علي بن أبي طالب” (6) حي لم يمت ويفعل الشيء نفسه مع معظم الفرق الشيعية (7)، إن ابن حزم يركز على ذكر أسماء الأئمة كاملة عند تقسيمه لفرق الشيعة حتى لا يقع اللبس بين الأسماء خاصة وأن كثير من الأسماء متشابهة.
__________
(1) الفصل، (5/ 57)،ويقارن بما عند البغدادي، الفرق بين الفرق، (202).
(2) الفصل، (5/ 62).
(3) فرغانة: بالفتح ثم السكون، وعين معجمة، مدينة واسعة بما وراء النهر متاخمة لبلاد تركستان، بينها وبين سمرقند خمسون فرسخاً، الحموي: معجم البلدان،( 4/ 253).
(4) لم أقف على ترجمته.
(5) الفصل، (4/ 107).
(6) لم أقف على ترجمته.
(7) الفصل (4/107).(1/41)
والملاحظ على منهجه هنا أنه عادة ما يكون انتقائيا في ذكر الأعلام، وليس هدفه التحديد والحصر، ولذلك قد لا تكون الاستفادة طيبة عند البحث في تحديد دقيق للفرق الإسلامية في كتاب ابن حزم، هذا في حين أن القارئ يحصل على مبتغاه من فوائد كثيرة إن أراد أن يبحث عن علم من أعلام المعتزلة والمرجئة وغيرها من الفرق وآراءه الكلامية وحججه، ورد ابن حزم عليه، وهذه هي ميزة ابن حزم في كتابه مقارنة بما كتبه الشهرستاني الذي كان هدفه عكس هدف ابن حزم فاهتم بذكر الفرقة وخصائصها، ولم يكن مهتما كثيرا بأعلامها(1).
ولم يكن ابن حزم ليعصم نفسه من الوقوع في بعض الهفوات، والتي هي من سبيل السهو وسبق القلم في إيراده لهذه الأعلام، فعند ذكره لرأس طائفة النجدات لدى فرق الخوارج يسميه نجدة بن عويمر الحنفي (بالتصغير) (2)، بينما تذكره المصادر الباقية باسم نجدة بن عامر(3).
ورغم أنه يصرح في مكان آخر بأن نقل هذه المعلومة من خط الحكم المستنصر (4)، فإن هذا لا يعفيه من مسئوليتها أيضا. وقد يطلق لقبا غربيا على اسم اشتهر بلق آخر مثل لا تسميته أبا مسلم الخراساني (5)، بأبي مسلم السراج(6)، وأنه يذكر أعلاما مبهمة مثل قوله: ”ورأيت رجل يعرف بابن شمعون” (7)،
__________
(1) الفصل (5/35) وينظر: ابن حزم، الجمهرة، (53-54).
(2) الفصل (5/35-40).
(3) مكي خليل حمود، الملل والنحل للشهرستاني، (ص 178).
(4) الفصل، (5/35).
(5) الطبري، محمد بن جرير، "تاريخ الأمم والملوك”، تحقيق: أبو الفضل إبراهيم (القاهرة، 1966)،/ (6/174)، الأشعري، ”مقالات الإسلاميين”، (1/162)، البغدادي، "الفرق بين الفرق"، (66/96).
(6) ابن حزم، الجمهرة، (ص310).
(7) هو عبد الرحمن بن مسلم، واشتهر بكنيته، أحد دعاة بني العباسي، ثم ولي خراسان في عهد الخليفة العباسي الأول، قتله المنصور سنة (137هـ) ينظر أخباره عند: الطبري، التاريخ، (7/377-392)، (448-450).
الفصل، (5/36، 49)، الرسائل، (2/68، 95).
الفصل، (5/97).(1/42)
وهذا يولد تساؤلا لدى القارئ عن أصول هؤلاء الأعلام.
المصطلحات
نجد من المناسب هنا، وقد تطرقنا للأعلام وأهميتها في منهج ابن حزم أن نعرج على بعض المصطلحات التي كانت مثار نزع عند كثير من أصحاب الفرق، وتنازعوا فيها نزاعاً شديداً، ونبين موقف ابن حزم منها، والقيمة المنهجية لها عنده.
الأمر المهم الذي يجب أن نضعه أمام القارئ أن ابن حزم غالباً ما يحاول أن يكون خلفية لكثير من التعابير المتداولة على ألسنة المتكلمين، لأنها باعتقاده ليس لها أصول شرعية، وهذا يعود بالدرجة الأولى إلى مذهبه الظاهري وأثره في نتاجه الفكري بصورة عامة، فنجده يعترض على مصطلح " الصفة" ويتهم المعتزلة باختراع هذه اللفظة: " وسلك سبيلهم قوم من أصحاب الكلام، سلكوا غير مسلك السلف الصالح ليس فيهم أسوة ولا قدوة وحسبنا الله ونعم الوكيل"ز ولكن ابن حزم نفسه يحاول أن يؤول في هذه الصفات والتي هي عنده أسماء وقد يلتقي مع بعض آراء المعتزلة في هذا الاتجاه (1)، واتهمه ابن تيمية بنفي الصفات لهذا السبب وعلل تخبط ابن حزم في ذلك: " بسبب أنه أخذ أشياء من أقوال الفلاسفة والمعتزلة عن بعض شيوخه ولم يتفق له من بين لهم خطأهم" (2)، ويمكن أن نلتمس لابن حزم العذر في ذلك، كما التمسه له ابن تيمية، إذ أنه بالإضافة إلى عدم وجود من يبين خطأ الفلاسفة له، إنه لم يكن ينفي الصفات بل أنه اعترض على هذا المصطلح فقط، وكان مذهبه الظاهري سبباً قوياً لذلك (3).
__________
(1) الفصل، (2/363 – 385)، أبو زهرة، ابن حزم، (221).
(2) ابن تيمية: منهاج السنة النبوية، تحقيق محمد رشاد سالم (الرياض، 1986)، (2، 584).
(3) ينظر للتفاصيل: مهدي طه مكي الصالحي، آراه ابن حزم فيما بعد الطبيعة رسالة ماجستير غير منشورة (جامعة بغداد، كلية الآداب، 1987)، (175 – 179).(1/43)
وعند نقاشه أوجه المفاضلة بين الصحابة، يكثر من الاهتمام بهذا الجانب ويعده أساساً منهجياً مهماً، فلابد أن يعرف الخليفة قبل أن يخوض في مسألة الخلافة فيقول: " الخليفة في اللغة: هو الذي يستخلفه المرء لا الذي يخلفه دون أن يستخلفه هو" (1)، وهو هنا يلجأ إلى تعريف هذا المصطلح عند مناقشة أمر الخلافة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والأمر فيها مشهور، في حين نجده ينبه إلى أن بعض المصطلحات تحتاج إلى تفصيل، وما زلنا في باب المفاضلة بين الصحابة، واحتجاج البعض بأن علياً - رضي الله عنه - كان أكثر الصحابة جهاداً وطعناً في الكفار وضرباً والجهاد أفضل الأعمال: " قال أبو محمد: هذا خطأ لأن الجهاد ينقسم أقساماً ثلاثة: أحدها: الدعاء إلى الله عز وجل باللسان، والثاني: الجهاد عند الحرب بالرأي والتدبير، والثالث: الجهاد باليد في الطعن والضرب"(2)، إن هذا المنهج في بيان المصطلحات يقوده إلى رسم خطوط واضحة لمسار فقرات كثيرة من كتابه، ويتخذه طريقة للتعبير، وفي الوقت نفسه الذي تكون للبيان والتدليل، وفي هذا المقام لا ينسى أن ينبه على مسألة في غاية الأهمية وهي التي اصطلح عليها: " التدليس" ويحذر القارئ منها قبل أن يدخل إلى مبحث الفرق الإسلامية: ولكن ربما دلسوا المعنى الفاحش بلفظ ملتبس ليسهلوه على أهل الجهل، ويحسن الظن بهم من أتباعهم" (3)، وبذلك يحدد ابن حزم مصطلح خاص به ويحذر القارئ منه. فقط تختلط بعض المصطلحات على من لا علم له بالأمر، مما قد يسبب فهماً خاطئاً، ويمثل لنا في ذلك: " كقول طوائف من أهل البدع والضلال: لا يوصف الله تعالى بالقدرة على المحال وعلى الظلم ولا على الكذب، ولا على غير ما علم أنه يكون، فأخفوا عظيم الكفر في هذه القضية لما ذكرنا من تلبيس الأغمار من اتباعهم. وتسكين الدهماء من مخالفيهم ... "(4)،
__________
(1) الفصل، (4/176).
(2) الفصل، (4/183- 184).
(3) الفصل، (5/33).
(4) الفصل، (5/33)..(1/44)
وفي هذا إشارة واضحة من قبله على ضرورة الموضوعية في مثل هذه الكتابات، خصوصاً وأن لها دوراً أساسياً في بيان الخلاف وأصله بين الفرق المختلفة.
على أننا إن تتبعنا إطلاق ابن حزم التسميات على الفرق التي نسب إليها المقالات، لا يهتم كثيراً بذكرها على حسب ما اشتهرت به كما فعل الشهرستاني من بعده (1)، ونجده انتقائياً في ذلك، فأول الطوائف الرئيسية التي يتناولها هم الشيعة بفرقها المتعددة، ويذكر أسماء عدد كبير منها (2)، في حين أنه لا يذكر إلا النزر اليسير من فرق المعتزلة، والمرجئة، وهذا الأمر يجعلنا نتساءل، لماذا أورد بعض المصطلحات وغض النظر عن البعض الآخر؟ وهنا لا نستطيع إلا أن نقول: أنه لم يبر مبرراً لتحديدها وفق المصطلحات المتداولة بين المؤرخين، لأن هذه المصطلحات في الأساس غير ثابتة المفهوم، وكأنه يعني ذلك عندما يصرح بأنه يعتقد أن الكيسانية شعبة من الزيدية (3)، رغم أن كلاً من البغدادي (4)، والشهرستاني (5)، عدها صنفاً مستقلاً عن الزيدية.
من خلال ما مر، نستطيع أن نرسم خطوط عامة لاستخدام ابن حزم للمصطلح وتوظيفه لخدمة منهجه العلمي، بالرغم من أنه لم يستطع أن يحدد لنا كثير من تلك المصطلحات التي اعتاد كثير منا أن يجدها على شكل قائمة طويلة في كتب الملل والنحل، ولكن غرض ابن حزم كان واضحاً هو: عدم التقييد بمصطلحات سرعان ما تكون مثار نزاع بين أهل هذا الفن نفسه من أهل الكلام.
أسباب نشوء الفرق عند ابن حزم:
__________
(1) مكي خليل حمود، الملل والنحل للشهرستاني (177- 178).
(2) الفصل، (5/35 – 49).
(3) الفصل، (5/35).
(4) الفرق بين الفرق ، (ص 15).
(5) الملل والنحل، (1/235).(1/45)
لقد اعتنى ابن حزم بأسباب نشوء الفرق الإسلامية، والبحث في أصولها، وقدم لنا أسباباً هي في نظرهن رئيسية تتمثل في الكيد بالإسلام بعد أن سيطر على العالم حسداً من بعض، وحقداً من البعض الآخر ويمكن أن نحدد نشوء الفرق الإسلامية بنظره إلى الأسباب الآتية:
1- الأسباب السياسية: وفيه يتضح جلياً أن ابن حزم يركز فيه على دور بعض الفرس الذين مثلوا هذا الاتجاه أبرز تمثيل بقوله: " إن الفرس، كانوا من سعة الملك وعلو اليد على جميع الأمم، وجلالة الخطر في أنفسهم حتى أنهم كانوا يسمون الأحرار الأبناء، وكانوا يعدون سائر الناس عبيداً لهم، فلما امتحنوا بزوال الدولة عنهم على أيدي العرب، وكان العرب أقل الأمم عند الفرس خطراً تعاظم الأمر، وتضاعفت لديهم المصيبة وراموا يد الإسلام بالمحاربة في أوقات شتى، ففي كل ذلك يظهر الله الحق .... " (1)، فوضوح هذا النص، وصدق تفسيره، لا يحتاج إلى أي تحليل، وهو لا يكتفي بهذا الجانب بل إنه يبين الوسائل التي اتخذها هؤلاء من أجل الوصول إلى مآربهم وهي:
__________
(1) الفصل، (2/273).(1/46)
أ- الخروج عن السلطة المركزية الإسلامية، ومحاربتها وعلناً بواسطة دعوة الناس إلى حركات هدامة ظاهرة الإلحاد مثل حركة بابك الخرمي (1)، والمقنع (2)، وغيرهما (3).
ب- محاولة الالتفاف حول السلطة المركزية الإسلامية عن طريق أعوان يتظاهرون بالولاء لها، والطعن بظهرها، مثل دعوة أبي مسلم السراج (الخراساني) (4).
جـ- اتخاذ التشيع لآل البيت رضي الله عنهم وسيلة لاستمالة قوم من أهل الإسلام " ثم سلكوا بهم مسالك شتى حتى أخرجوهم من السلام"(5).
__________
(1) بابك الخرمي، إليه تنسب الطائفة الخرمية، وقد أحدث مذهبهم: القتل والغصب والحروب والمثلة، وقاد حرباً عنيفة ضد الدولة العباسية، ذكره الطبري لأول مرة في حوادث سنة (201هـ) واستمرت حركته حتى سنة (223هـ) حينما حمل رأسه إلى المعتصم. ينظر: الطبري، " تاريخ الأمم والملوك"، (8/556)، (9/11 – 16)، (23-55)، ابن النديم: الفهرست، (406، 407)، قحطان عبد الرحمن الدوري، " الحركات الهدامة في الإسلام" (بغداد 1989)، (85 – 184).
(2) ظهر أول مرة سنة (161هـ) في مرو بخراسان، وكان يقول بتناسخ الأرواح، واستدرج بشراً كثيراً، قتل (سنة 163هـ). ينظر الطبري،، التاريخ (8/35، 144).
(3) الفصل، (2/273).
(4) الفصل، (2/273).
(5) الفصل، (2/273).(1/47)
د- محاولة إحياء المعتقدات المجوسية من مزدكية ومانوية وغيرهما، وتمريرها إلى بعض الفرق الإسلامية مثل الإسماعيلية (1)، والقرامطة (2)، وهذا ما أشار إليه بقوله: إن سر هاتين الطائفتين يعود إلى المزدكية (3).
وهكذا نجده يحلل مقاصد أعداء الإسلام وينبه المسلمين إلى الخطر المحدق بهم، سابقاً بذلك كثير من العلماء قدامى ومحدثين وقد وجدنا في عصرنا الحاض من يتبنى هذا الراي ويدافع عنه منهم على سبيل المثال عبد الفتاح المغربي (4)، وأحمد شلبي (5)، وقحطان الدوري (6) من المسلمين، ودوزي وملر (7) من المستشرقين.
__________
(1) الإسماعيلية: طائفة من الشيعة قالت بإمام إسماعيل بن جعفر الصادق، واختلفوا فيه، فمنهم من قال أنه مات ومنهم من قال بل أظهر موته تقية، واشتهرت هذه الفرقة أيضاً باسم الباطنية، ينظر معتقداتهم عند: البغدادي: "الفرق بين الفرق" (265 – 299)، الشهرستاني، " الملل والنحل"، (1/330- 345)، وقد اعتنى بدراسة هذه الفرقة برناردلويس، أصول الإسماعيلية، ترجمة خليل أحمد جلو، جاسم محمد رجب (القاهرة 1962).
(2) القرامطة: نسبة إلى رجل من سواد الكوفة يقال له قرمط، لهم مذهب مذمومة وظهروا سنة (281هـ) في خلافة المعتضد، وطالت أيامهم وعظمت شوكتهم، انظر: ابن خلكان، وفيات الأعيان، (2/146 – 150).
(3) الفصل، (1/87)، (2/274).
(4) عبد الفتاح المغربي، الفرق الكلامية الإسلامية (القاهرة 1988)، (ص 147).
(5) أحمد شلبي، حركات فارسية مدمرة ضد الإسلام والمسلمين عبر العصور (القاهرة، 1988)، (ص 57).
(6) الدوري، الحركات الهدامة، (ص 26).
(7) بوليوس فلهاوزن، أحزاب المعارضة السياسية في صدر الإسلام، الخوارج والشيعة، ترجمة عبد الرحمن بدوي (القاهرة 1958)، (ص 240 – 241).(1/48)
2- الأسباب الاجتماعية: نبه ابن حزم مبكراً إلى العوامل الاجتماعية التي أسهمت في ظهور بعض الفرق، فالخوارج بنظره: " كانوا أعراباً قرأوا القرآن قبل أن يتفقهوا في السنة الثابتة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يكن فيهم أحد من الفقهاء ولا الصحابة" (1)، فهم حاولوا نقل جفاء البادية إلى سماحة الإسلام فوقعوا فيما وقع فيه: " ولهذا تجدهم يكفر بعضهم بعضاً عند أقل نازلة تنزل بهم من دقائق الفتيا وصغارها"(2).
وهذا يدل على النظرة الشمولية التي نظر بها ابن حزم لهذا الفرقة، بحيث استطاع أن يقدم لنا تعليلاً مقنعاً لسبب ظهورها، وهذا يدل على عمق تفكيره، وصدق حدسه.
__________
(1) الفصل، (4/237).
(2) الفصل، (4/237).(1/49)
3- الأسباب الفكرية: ومن الأسباب المهمة التي أدت إلى ظهور الفرق في نظره في الناحية الفكرية، ونجده على هذا يعد اليهود على رأس هذا الاتجاه، ويرجع إليهم نشوء بعض مذاهب الباطنية في الإسلام، كما فعلوا ذلك في النصرانية، فدسوا فيهم من حرف دينهم وشوه عقيدتهم (1)، وفي رأيه يرجع سبب ظهور الغلاة من الشيعة إلى كيد عبد الله بن سبأ اليهود (2) الذي تظاهر بالسلام ليضل من يستطيع إضلاله من المسلمين (3)، وقد ناقش كلام ابن حزم هذا عدد من الباحثين المعاصرين (4)، ولم يكتف اليهود (بنظره – بسلك هذا الجانب فقط، بل اتخذوا سلاح الفكر وسيلة لبث سمومهم في جسد الإسلام، وعلى وجه الخصوص علمائهم منهم: الفيومي (5) المغمر داود بن قزوان وغيرهم من مفكري اليهود (6)، وشاركهم في ذلك أيضاً بعض مفكري النصارى، وأشد الناس تأثراً بهذا الجانب هم المعتزلة(7)،
__________
(1) الفصل، (2/89 – 90).
(2) هو من يهود اليمن، وقد أظهر الإسلام لغرض الكيد بأهله، رحل إلى الحجاز والبصرة والكوفة ودمشق، وأظهر مقالات خبيثة منها القول برجعة النبي - صلى الله عليه وسلم - وألوهية علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - إليه تنسب الطائفة السبائية، وهم من غلاة الشيعة، ينظر ابن حزم، الفصل، (5/36) ، الشهرستاني الملل والنحل، (1/289 – 291). وقد اعتنى بدراسة هذه الشخصية وأثبتت بكونها حقيقة: محمد سليمان العودة، عبد الله بن سبأ واثره في إحداث الفتنة في صدر الإسلام (الرياض، 1985)، (38 – 52).
(3) الفصل، (1/ 325 – 326).
(4) ينظر بهذا الخصوص ما كتبه العودة، عبد الله بن سبأ، (53 – 104).
(5) هو سعيد بن يوسف الفيومي من متكلمي اليهود وعلمائهم، قال ابن النديم " وقد أدركه جماعة في زماننا" الفهرست، (ص 25).
(6) لم أقف على ترجمته.
(7) الفصل، (3/207)..(1/50)
كما أن بعض الفرس قد سلكوا هذا السبيل أيضاً فقاموا بتمويه الكلام بأصول فلسفية وإلحادية وتمريرها بمعتقدات المسلمين عن طريق إحياء الفكر المجوسي القديم، بالترجمة والحرص على نشره بين الناس (1).
ونرى من ذلك الاهتمام الشديد الذي يوليه ابن حزم لأسباب ظهور الفرق في التاريخ الإسلامي، ويشكل بحثه في هذا المضمار عنصراً بارزاً من عناصر منهجه، ولا بد من الشارة إلى أمور أعانته وهي في حقيقتها أداوته الخاصة في هذا الاتجاه وتتمثل فيما يأتي:
1- الخبر:
إن دراسة طبيعة تعامل ابن حزم مع الخبر مهمة في بيان قيمة منهجه العلمي خاصة وهو يبدأ دراسته للفرق الإسلامية بهذا القول الذي يدل على الأمانة العلمية: " وليعلم من قرأ كتابنا هذا أننا لا نستحل ما يستحله من لا خير فيه من تقويل أحد ما يقله نصاً" (2)، ولابن حزم نظرة شمولية للخبر التاريخي، لأنه لا يفرق بين الكافة من الناس سواء كانت كافرة أم مسلمة: " ومن قال لا أصدق لا ما نقلته كتاب المسلمين فإننا نسأله: بأي شيء صح عنده موت ملوك الروم ولم يحضره مسلم أصلاً، وإنما نقلته إلينا يهود عن نصارى" (3)، وبطبيعة الحال فإنه يعد تاريخ الملة الإسلامية أصح شيء عنده (4).
__________
(1) الفصل، (3/207).
(2) الفصل، (5/33).
(3) الفصل، (4/23).
(4) الرسائل، (4/79).(1/51)
ويختصر ابن حزم الطريق مع مناظريه في مناقشه الأخبار، فهو عند مناقشة الأخبار بين أهل السنة والشيعة يختصر الأمر فيقول: " فلا معنى لاحتجاجنا عليهم برواياتنا فهم لا يصدقونها، ولا معنى لاحتجاجهم علينا برواياتهم فنحن لا نصدقها" (1)، فيبدأ بمناقشة الأخبار التي اتفق الجانبان عليها مثل احتجاجهم بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعلي - رضي الله عنه - : " أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي " (2)، وهنا يثير حس القارئ ويبين له مغزى الحادثة بأسلوب علمي رصين حيث يقول: " إنما قاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا استخلف علياً - رضي الله عنه - على المدينة في غزوة تبوك، فقال له المنافقون استثقله فخلفه، فلحق علي برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فشكى إليه ذلك، فقال له ما قال" (3)، إن هذا البرهان الذي يقدمه لنا يدل على تمكنه من الإحاطة بالحادثة التاريخية، في الوقت نفسه الذي يدل على علمه الواسع بالسيرة، والذي أعانه أكثر على فرض وجهة نظره تلك الثقافة الجيدة التي تمتع بها، وهو لا يتردد حتى في طرح أصل هذا الاستخلاف في التوراة نفسها وهو أن: " هارون لم يل أمر بني إسرائيل بعد موسى عليهما السلام، وإنما ولي الأمر بعد موسى عليه السلام يوشع بن نون
__________
(1) الفصل، (4/159).
(2) مسلم، الصحيح، (4/1870 – 1871) ، الترمذي، السنن، (5، 638).
(3) الفصل، (4/159 – 160)، وينظر: ابن هشام، السيرة، (2/519 – 520).(1/52)
(1)، فتى موسى وصاحبه الذي سافر معه في طلب الخضر عليهما السلام، كما ولي الأمر بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صاحبه في الغار الذي سافر معه إلى المدينة " (2)، من هذا الأنموذج الذي قدمناه يتضح بجلاء توظيف ابن حزم للخبر التاريخي لدراسة مسائل الخلاف عند الفرق، وفيه يتجلى لنا أصالة بحثه وسعة ثقافته، وهذه المسابقة التي تميز بها، هي مهمة لبيان موقفه من مختلف المسائل الخلافية التي ترد في كتابه.
وهو يخضع الخبر لميزان العقل ولا يسلم به على عيوبه، لأن تمحيص الخبر التاريخي من أهم مهام المؤرخ، فعند مناقشته لقول من ادعى أن وفاة عثمان - رضي الله عنه - : " أقام مطروحاً على مزبلة ثلاثة أيام فكذب بحث، وإفك موضوع، وتوليد من لا حياء في وجهه، شهد دفنه طائفة من الصحابة هذا ما لا يتمارى فيه ممن له علم بالأخبار" (3)، من خلال هذا يمكن القول أن فهم ابن حزم للخبر التاريخي، كان مدخلاً أساسياً لعرض وجهات النظر عند الفرق الإسلامية، وفي الصورة التي قدمناها نرى الجهود الطيبة لهذا المفكر الذي حاول حل هذه المسائل بالاعتماد على الخبر وجعله وسيلة من وسائل المؤرخ لفرق المسلمين، وفي تتبع ظهورها، وبيان حججهم وأقوالهم، في الوقت نفسه الذي يوضح لنا مكانة ابن حزم كمؤرخ للفرق الإسلامية، وقيمة نتاجه في هذا الميدان.
2- النقد:
__________
(1) ورد في التوراة: " وكان بعد موت موسى عبد الرب أن الرب كلم يوشع بن نون خادم موسى قائلاً، فالآن قم اعبر هذا الأردن أنت وكل هذا الشعب إلى الأرض التي أنا معطيها لهم أي لبني إسرائيل " سفر يوشع. الإصحاح الأول، (1-3).
(2) الفصل، (4/159).
(3) الفصل، (3/239).(1/53)
ينبع اهتمام العلماء المسلمين بعلم الجرح والتعديل لسند الحديث النبوي الشريف من مكانة هذا العلم في نفوس المسلمين، وكثرة أهل البدع والضلال من أصحاب الفرق ممن كانوا ينتحلون الحديث لنصرة مذهبهم ومعتقدهم، فتصدى لهؤلاء العلماء المخلصون لهذا الدين ووضعوا القواعد لنقد الحديث النبوي (1).
__________
(1) الخطيب البغدادي، الكفاية، (ص 105 – 106).(1/54)
وبقدر تعلق الأمر بابن حزم، الذي يعد من حفاظ الحديث ونقاده، فقد أعطى نصيباً لهذا الجانب، واهتم به، والملاحظ عليه بصورة عامة أنه من المتشددين في نقد الرجال (1)، وكذلك أنه أطلق على عدد من الرواة المشهورين لفظ "مجهول"(2)، وأشهر هؤلاء محمد بن عيسى الترمذي صاحب السنن (3)، وأشار ابن حجر إلى ذلك وتتبع بعض الهفوات التي وقع فيها في هذا الجانب (4). أما مسألة تشدده في نقد الرجال، فقد أشار إليها السخاوي، وعدت هذه النقطة من المآخذ عليه، إذ هو يجر الرجل لأدنى حجة، مثل تضعيفه رواية المنهال بن عمرو (5)، وأسقط روايته حيث يقول عنه: " تركه شعبه وغيره"(6)، وتعقب ابن القيم كلام ابن حزم في هذا الرجل ورده حيث قال: " وتضعيف ابن حزم له لا شيء فإنه لم يذكر موجباً لتضعيفه غير تفرده بقوله فتعاد روحه إلى جسده، ولم يتفرد بها بل رواها غيره"(7)، ومن هذا المثال يتضح أن ابن حزم كان متشدداً في نقد الرجال، ولذلك لم يأخذ معظم علماء الحديث كلام ابن حزم إذا انفرد بترجيح رجل، كما هي القاعدة عند أئمة هذا الفن " لا يؤخذ من المتشدد إذا خالف الآخرين"(8)،
__________
(1) السخاوي، الإعلان بالتوبيخ، (722 – 723).
(2) ويعني عند أهل الحديث: " هو الرجل الذي لم يشتهر بطلب العلم في نفسه، ولا عرفه العلماء، ومن لا يعرف حديثه إلا من وجهة راو واحد" الخطيب البغداي، الكفاية، (ص 88).
(3) ابن حجر، تهذيب التهذيب، (9/388).
(4) ابن حجر، لسان الميزان، (1/432).
(5) المنهال بن عمرو، وثقه ابن معين والعجلي والكوفي، وقد روى عن أنس وغيره وتركه شعبة لأنه سمع في بيته صوت طنبور، ينظر: الخطيب البغدادي، " الكفاية" (ص 112)، ابن حجر: " تهذيب التهذيب"، (10/318 – 321).
(6) الفصل، (4/119).
(7) ابن قيم، محمد بن أبي بكر الجوزية، الروح (بيروت، 1975)، (ص 48).
(8) محمد ناصر الدين الألباني، سلسلة الأحاديث الصحيحة، (دمشق، بلات). (1/1/140)..(1/55)
على أن هذا لا يقلل من جهوده في هذا المجال، بل إنه أجاد في معظم الأماكن في هذا الشأن مثل قوله عن أبي الحمراء(1): " لا يعرف من هو في الخلق"(2)، وبهذا أدخل ابن حزم علم الجرح والتعديل في دراسته لحجج وأدلة الفرق الإسلامية، وهي ميزة تكاد تختفي عند مؤرخي الملل والنحل الآخرين، وفيها تصور واضح عن أساس آخر من الأسس التي اعتمدها.
__________
(1) أبو الحمراء: له صحبة إلا أنه لا يصح حديثه كما ذهب إلى ذلك ابن حجر، تهذيب التهذيب، (121/78).
(2) الفصل، (4/161)(1/56)
وقد يحذر القارئ من الرواية عن بعض الإخباريين الذين اشتهروا بكثرة الرواية عن أهل الكتاب مثل روايات الكلبي (1)، وكعب الأحبار (2)، ووهب بن منبه (3)، ويتضح لنا بذلك المنهج النقدي عنده ودقته، حيث كان هدفه أن يطبق منهج المحدثين على الخبر التاريخي، ولم يكتف بنقده السند أو كما يسمى بالنقد الخارجي، بل إنه كان له أسلوبه في النقد الداخلي مثل ادعاء البعض بأن علي - رضي الله عنه - لم يكن له سمي وينتقد هذا الادعاء معتمداً على ثقافته العالية في النسب فيقول: " بل كان في العرب من يسمون هذا الاسم كعلي بن وائل (4)، إليه يرجع كل بكري في العالم نسبة، وفي الأزد علي، وفي بجليلة علي وغيرها، وكل ذلك في الجاهلية مشهور، وأقرب من كل ذلك عامر بن الطفيل يكنى أبا علي (5)، ومجاهرتهم أكثر مما تذكر"(6). إن هذا يوضح الأساس في مناقشة ابن حزم للخبر التاريخي، الذي يمثل في كثير من الأحيان سبب لإثارة الخلاف بين الفرق الإسلامية.
3- الإحصاء:
__________
(1) الفصل، (2/238)، والكلبي هو هشام بن محمد بن السائب، عالم بالكتب وأخبار العرب له قائمة طويلة من المؤلفات ذكرها ابن النديم (ت204 هـ)، ينظر ابن النديم، الفهرست، (ص 108 – 118)، ابن حجر، لسان الميزان، (6/169 – 170).
(2) كعب الأحبار، هو كعب بن ماتع الحميرين من مسلمة أهل الكتاب، كان كثير الرواية عن الكتب السماوية القديمة (ت32هـ)، ترجمته عند: أبي نعيم الأصفهاني، حلية الأولياء، (5/364 – 391)، (6/48).
(3) وهب بن منبه هو أبو عبد الله الصنعاني مؤرخ كثير الأخبار عن الكتب القديمة عالم بالأساطير لا سيما الاسرائيليات (ت110هـ) ترجمته عند: ابن سعد ، الطبقات، (5/543)، ابن حجر: تهذيب التهذيب، (11/166 – 168).
(4) ينظر: ابن حزم، الجمهرة، (ص 309).
(5) ينظر: ابن حزم، الجمهرة، (ص 285).
(6) الفصل، (5/41).(1/57)
اهتم ابن حزم بلغة الأرقام، وجعلها من أدوات بحثه التاريخية في سابقة لا نظير لها بين المؤرخين في كتب العقائد والفرق الذين وصلت إلينا كتبهم. وهو بمنهجه هذا يحاول أن يثبت صدق برهانه، وسعة اطلاعه، ولا يغفل عن ربطه بباقي البراهين الأخرى التي اتبعها، وأوضح أنموذج لدراسة هذا الجانب هو عند بحثه مسألة المفاضلة بين الصحابة التي يعتمد فيها من ضمن ما يعتمد على أمور إحصائية ففي تقييمه لشخصية أبي بكر - رضي الله عنه - ، يبين أنه أفقه الصحابة وأكثرهم رواية، إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار: " أنا أبا بكر - رضي الله عنه - لم يعش بعد رسول الله إلا سنتين وستة أشهر"(1)، وهو أيضاً لم يكن قد غادر المدينة في خلافته إلا حاجاً أو معتمراً، ومع ذلك فقد: " روى عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مائة حديث واثنان وأربعون حديثاً مسندة "(2)، كما أنه كان ورعاً في مدة خلافته فلم يستعمل أحداً من أقربائه في الأعمال والأمصار، بالرغم من أنه كان له أقرباء من خيار الصحابة (3). كما أنه كان أول الناس إسلاماً برأيه، وذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث وعمره ثمان وثلاثين سنة مقارنة بغيره من الصحابة وهذا السن فيه كمال العقل والمكانة الاجتماعية فكانت قوة معنوية للنبي عليه الصلاة والسلام (4)، وحتى بعد أن تولى الخلافة - رضي الله عنه - كان زاهداً في المعيشة متكففاً بها: " فما اتخذ جاريه ولا توسع في مال، وعد عند موته ما أنفق على نفسه وولده من مال الله عز وجل الذي لم يستوف منه إلا بعض حقه وأمر بصرفه إلى بيت المال من صلب ماله الذي حصل له من سهامه في المغازي "(5).
__________
(1) الفصل، (4/213).
(2) الفصل، (4/213).
(3) الفصل، (4/217).
(4) الفصل، (1/218).
(5) الفصل، (1/216).(1/58)
وقد اقتصرنا على ذكر هذه الأمور التي لها علاقة بالإحصاء أما وجوه المفاضلة الباقية، فيكفي أن نحيل القارئ إلى الكتاب ليرى ذلك بنفسه (1)، المهم هنا أن ابن حزم يحاول أن يبرهن لنا أن الإحصاء مهم في عملية الاستدلال، وقدمنا صورة واضحة هنا، وتدل هذه الصفة فيه على حسن اختياره لوسيلة البحث إضافة إلى سعة وسائل الإقناع الأخرى، وهي مكملة للموضوع وساندة له، وهذه هي نقطة الإبداع في نتاجه.
__________
(1) الفصل، (4/164 ، 211)، (5/204).(1/59)
سلسلة بحوث وتحقيقات مختارة من مجلة الحكمة (23)
بقلم
مجيد خلف منشد
Almodhe1405@hotmail.com
almodhe@yahoo.com
l
تمهيد:
من المهم أن نوضح الأسس التي اعتمدها ابن حزم لتقسيم كتابه وكيفية ترتيب العقائد المختلفة، لأن هذه النقطة ضرورية إذا ما علمنا أن ما يميز كتاب الفصل، من حيث التصميم، أنه يعتمد على العقائد في تبويب مادته أكثر ما اعتماده على الفرق، بعبارة أخرى أنه درس الفرق المختلفة من خلال عقائدها. وهذا منهج جمع فيه ابن حزم بين منهجين مختلفين، الأول منهج كتاب الملل والنّحَل، والثاني منهج المتكلمين في بحثهم مختلف المسائل الكلامية. وعلى هذا الأساس يمكن أن نحدد خطة كتابه وفق هذه المحاور.
المحور الأول: مبحث التوحيد، وقد تضمن هذا المحور مبحث نفي التشبيه(1)، والصفات واعتنى اعتناءً شديداً بالأخيرة(2)، كما أنه يبحث أسماء الله تعالى والتي لا تفرق عن الصفات شيئاً بنظره
(3)، وهو في كل ذلك يذكر مقالات الفرق المختلفة مركزاً على الصفات التي هي مثار نزاع بين المتكلمين، ويهتم على الأخص بصفتين الأولى الرؤية(4) والثانية كلام الله تعالى(5).
المحور الثاني: مبحث القدر، وهو من المسائل المعقدة، والكثيرة التداخل عند المتكلمين، وبعد أن ينهي الكلام فيه يدخل إلى أمور عديدة تابعة له ومتداخلة معه مثل الاستطاعة، ثم الهدى والتوفيق ويبحث أيضاً الكلام في خلق أفعال العباد مثل التعديل والتجوير منبهاً على مسائل مهمة مثل قوله على المسألة الأخيرة: "وهذا الباب هو أصل ضلال المعتزلة نعوذ بالله من ذلك"(6)، ونجده يهتم بهذا الباب اهتماماً خاصاً يستغرق بحثه كلاماً طويلاً(7).
__________
(1) الفصل، (2/277- 281).
(2) الفصل، (2/283- 330).
(3) الفصل، (3/7).
(4) الفصل، (3/7- 10).
(5) الفصل، (3/11- 30).
(6) الفصل، (137).
(7) الفصل، (3/137- 179).(1/1)
المحور الثالث: مبحث الإدارة: ويحمل في كتاب ابن حزم عنواناً مطولاً هو: "الكلام في هل شاء الله عز وجل كون الكفر والفسق، وأراده تعالى من الكافر والفاسق أم لم يشأ ذلك ولا أراد كونه"
(1)، وبطبيعة الحال نجده كما عهدنا في السابق، يطيل الكلام في هذه المسألة معرجاً في النهاية على ذلك المبحث الذي اشتهرت به المعتزلة وهو القول بالأصلح(2).
المحور الرابع: مبحث الإيمان ويحمل عنواناً مستقلاً هو: "كتاب الإيمان والكفر والطاعات والمعاصي والوعد والوعيد"(3). ويعتني ابن حزم اعتناءً خاصاً بهذا المحور من كتابه ويبحثه من مختلف الجوانب وتدل الصفحات الكثيرة التي كتبها على هذه العناية(4). وهو لا ينتهي من هذا المحور حتى يجعل الكلام في عصمة الأنبياء من ضمن مباحثه(5)، وأخيراً يصل إلى الكلام في الوعد والوعيد وهذه هي نهاية هذا المحور.
المحور الخامس: مبحث السمعيات، وهي المسائل الكلامية الفرعية والتي كان لكل طائفة من المتكلمين نصيب فيها، مثل عذاب القبر(6)، ومستقر الأرواح(7)، وبعث الأجساد وغيرها(8) .
المحور السادس: مبحث الإمامة، وقد أدرج فيه كلام على مواضيع كثيرة أهمها مسألة المفاضلة بين الصحابة، وما يتعلق بالإمامة من أمور مثل: الكلام في إمامة المفضول(9)، وعقد الإمامة(10).
المحور السابع: المبحث الكلامي، وفيه اعتنى بالمسائل الكلامية المعقدة مثل الكلام في الاسم والمسمى(11) والمعاني والجواهر(12) والأعراض(13) وغيرها من المسائل الكلامية الدائرة على ألسنة الفلاسفة.
__________
(1) الفصل، (3/179).
(2) الفصل، (3/201).
(3) الفصل، (3/227).
(4) الفصل، (3/227- 302).
(5) الفصل، (4/5- 60).
(6) الفصل، (4/117).
(7) الفصل، (4/121).
(8) الفصل، (4/137).
(9) الفصل، (5/5- 12).
(10) الفصل، (5/ 13- 18).
(11) الفصل، (5/135).
(12) الفصل، (5/161).
(13) الفصل، (5/193).(1/2)
والملاحظ على هذه المحاور، أن ابن حزم قد اتخذ فيها مساراً محدداً يعتمد بالدرجة الأولى على أهمية المبحث، فنرى مبحث التوحيد على رأس القائمة، وهو يشكل أبرز المسائل الكلامية التي دارت على ألسنة الكثير من أهل العقائد الإسلامية، ثم يتدرج في الأهمية حتى يصل إلى المسائل الأقل تداولاً، والأكثر تعقيداً بحيث اختصر الجهد على القارئ ولم يحمله عنائها في بداية كتابه، وقد حدد لنا ابن حزم منهجه ذلك واضحاً منذ بحثه للعقائد، فجعل الكلام في المعاني والتي يعدها عمدة ما اقترن عليه أهل الإسلام: "وهي التوحيد، القدر، الإيمان، والوعيد والإمامة، ثم أشياء يسميها المتكلمون اللطائف"(1).
وقد راعى في بحث هذه المسائلة عدة اعتبارات، والتزم بعدد من المبادئ وهي تشكل عناصر منهجه في بحثه للعقائد الإسلامية، وتتمثل بما يأتي:
اللغة:
لقد اعتنى ابن حزم اعتناءً شديداً باللغة، وجعلها من أدوات منهجه، وهو يؤكد عدة مرات على أن الباحث الذي لا يمتلك مقدرة التكلم بمرونة باللغة التي يبحث بها هو شخص قليل الفهم ضعيف الحجة، ولذلك لا يعجب القارئ عندما يجد هذه العناية منه بكل جوانب اللغة بألفاظها وتراكيبها وبلاغتها وسبل الاشتقاق فيها مقارنة بغيرها من اللغات(2).
__________
(1) الفصل، (2/275).
(2) عمر فروخ، "ابن حزم الكبير" (ص64).(1/3)
ويعرف ابن حزم اللغة بأنها: "ألفاظ يعبر بها عن المسميات وعن المعاني المراد إفهامها"(1)، ولا غرو في ذلك لأن النص الذي يحرص عليه حرصاً شديداً يدل على هذا كما قال تعالى: "وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ" [إبراهيم: 4]، ومن هنا على كل باحث يريد الحق والوصول إليه أن يحرص على هذه الوسيلة أشد الحرص، فبدونها يصبح علمه ناقصاً، ويفتقر إلى الدقة، يقول ابن حزم بهذه الخصوص: "وإنما يلزم كل مناظر يريد معرفة الحقائق، أو التعريف بها أن يحقق المعاني التي يقع عليها الاسم ثم يخبر بها أو عنها بالواجب، وأما مزج الأشياء وقلبها عن موضوعاتها في اللغة، فهذا فعل السوفسطائية(2) الوقحاء بالجهال العابثين بعقولهم وأنفسهم"(3)، وهكذا تراه يشن هجوماً على أولئك المتكلمين الذين يتلاعبون بالألفاظ، ويدلسون على العوام والجهال من الناس، ولا تستغرب من ذلك، فقد كانت من أهدافه الرئيسة لتأليف كتابه هو: "المبالغة في بيان اللفظ وترك التعقيد"(4).
ويبقى ابن حزم ملخصاً في منهجه هذا، ويذكر القارئ به، فهو عندما يبدأ بالحديث عن الاستطاعة يصرح قائلاً: "أن الكلام على حكم لفظ الاستطاعة قبل تحقيق معناها، ومعرفة ما المراد بها؟ وعن أي شئ يعبر بذكرها؟ فينبغي أولاً أن يوقف على معنى الاستطاعة، فإذا تكلمنا عليه وقربناه بحول الله وقوته، سهل الإشراف على صواب هذه الأقوال من خطئها بعون الله وتأييده(5).
__________
(1) "الأحكام"، (م1)، (ص42)، "الرسائل" (4/411)، وينظر محلق رقم (3).
(2) يعرف ابن حزم السفسطة: تمويه بحجة باطلة بقضية أو قضايا فاسدة، تقود إلى الباطل، وينظر محلق رقم تحث مصطلح الشغب.
(3) الفصل، (2/279) وينظر كذلك (4/183).
(4) الفصل، (1/36) .
(5) الفصل، (3/39) .(1/4)
ولكن بقيت حدود هذه الألفاظ واضحة المعالم عنده، لأن أكثرها بنظره: "موضوعة من عند الله تعالى على مسميات لم يعرفها العرب قط، هذا أمر لا يجهله أحد من أهل الأرض ممن يدري اللغة العربية، ويدري الأسماء الشرعية(1)،فحدودها عند ابن حزم هي مذهبه الظاهري، لأنه حريص جداً على هذا الأمر، وينبه القارئ مراراً عدة بإقرار المطلق: "بما جاء به القرآن والسنن كما جاء، ولا نزيد فيه ولا ننقص منه ولا نحليه فنؤمن به بخلاف المعهود فيما يقع عليه اللفظ من خلقه"(2).
واللغة عنده وسيلة إيضاح وتقريب، والعلوم النظرية أحوج إلى سهولة اللفظ وبيان العبارة (3). على أن الذي أوجد الخلاف في فهم التعابير بنظره تحميل اللفظ أكثر مما يقتضيه، وهذه عنده بديهة نكاد نجدها في معظم اللغات المعروفة والمتداولة بين الناس(4).
وعند أخذ نموذج لهذا الجانب، يتبين لنا اهتمام ابن حزم الواضح فيه، فهو عندما يبحث مسألة القدر، يبدأ بتعريفه لغوياً، فيقول: "والقدر في اللغة العربية الترتيب والحد الذي ينتهي إليه الشيء
(5)، والأمثلة على ذلك قوله تعالى: "إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ "[القمر:49]، يريد تعالى: برتبة وحد"(6).
__________
(1) الفصل، (3/235) ، وينظر ملحق رقم (3) من هذا البحث.
(2) الفصل، (2/337، 368)، (3/9).
(3) سعيد الأفغاني، نظرات في اللغة عند ابن حزم (دمشق، 1963)، (ص23).
(4) الفصل، (1/195)، (3/126).
(5) الفصل، (3/77).
(6) الفصل، (3/77- 78).(1/5)
وهكذا يحدد مفهوم هذه اللفظة ليصل إلى تعريف سرعان ما يسيطر به على فكر القارئ: "ومعنى القضاء والقدر حكم الله تعالى في شئ بحمده أو ذمه أو تكوينه أو ترتيبه على صفة كذا إلى وقت كذا"(1)، وأنت ترى في هذا بحثاً لغوياً لا ينسى فيه أن يرد شبه الخصوم، لأنه ينبه على أن البعض ظنوا أن كثرة استعمال المسلمين هاتين الفظتين، بأنها تعي معنى الإكراه والإجبار وهذا –بنظره- هو الباطل عينه(2).
لأن المجبر في اللغة: "هو الذي يقع منه الفعل بخلاف اختياره وقصده فأما من وقع فعله باختياره وقصده فلا يسمى في اللغة مجبراً"(3)، وهكذا يتضح بجلاء أن مهمته لم تكن مقتصرة على عرض آراء العقائد ومقالات الفرق، بل إنه حريص على توضيح الحقيقة كاملة للقارئ، لكي يتبين له ماهية هذه الألفاظ ومدلولها اللغوي مما قاده إلى الاستعانة بلعوم اللغة المختلفة والمتشبعة، ونرى ذلك واضحاً، على سبيل المثال، عند مناقشته مسألة: "تكوين الكفر والفسق" فهو يستشهد بقوله تعالى:{ فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ } [التوبة:55]، فابن حزم باستناده لهذه الآية يقول بأن الله عز وجل أراد أن يموتوا وهم كافرون، ودليله عليه بحث لغوي وهو أن "القاف في "تَزْهَق"َ مفتوحة بلا خلاف من أحد من القراء، معطوفة على ما أراد الله عز وجل "أن يعذبهم بها في الدنيا، والواو تدخل معطوف في حكم المعطوف عليه بلا خلاف من أحد في اللغة التي خاطبنا بها الله تعالى"(4)، ونحن نجده هنا يستخدم اللغة كوسيلة مهمة من وسائل الإقناع بصواب قوله.
__________
(1) الفصل، (3/78).
(2) الفصل، (3/77).
(3) الفصل،(3/35).
(4) الفصل، (3/188).(1/6)
وربما فاجأنا ابن حزم ببحث لغوي مقارن، فهو عندما يناقش مسائل مثل الجسم أو العقل أو الجوهر، وغيرها من الألفاظ الدائرة بين المتكلمين، يتبين أن هناك مصطلحات تختلف باختلاف اللغات: "فإن لفظة العقل غريبة أتى بها المترجمون، عبارة عن لفظة أخرى يعبر بها في اليونانية أو في غيرها من اللغات، عما يعبر بلفظة العقل عنه في اللغة العربية، هذا ما لا خفاء به عند أحد، ولفظة العقل في لغة العرب إنما هي موضوعة لتمييز الأشياء واستعمال الفضائل فصح ضرورة أنها معبر بها عن عرض، وكل مرع خلاف ذلك رديء العقل عديم الحياء مباهت بلا شك"(1)، ونرى من هذا أنه يحاول تمييز المدلول بين اللفظتين في العربية واليونانية، واحتمال التطابق الحرفي بين اللفظتين باختلاف اللغات أمر مستعبد وقع فيه بعض الناس فولد لهم ذلك تخبطاً، وأوقعهم في التباس كبير لم يستطيعوا الخروج منه(2).
إضافة إلى مبحثه في العقل، بحث ابن حزم مصطلحات أخرى منها الخليفة والشرك والكفر وغيرها من المصطلحات(3). ومما تقدم يتضح بجلاء الجهود الطيبة التي بذلها في هذا المجال، حيث أنه استفاد استفادة عظيمة من اللغة لبيان قيمة منهجه العلمي في مناقشة العقائد المختلفة، التي سادت الساحة الفكرية الإسلامية آنذاك،وبذلك يكون ابن حزم أول من اهتم بهذه النقطة من العلماء المسلمين فيما وصل إلينا من مصادر، الأمر الذي يعطينا تقييماً حقيقياً لنتاجه هذا وإبداعه فيه(4).
__________
(1) الفصل، (5/200)، وينظر: س. بينس مذهب الذرة عند المسلمين وعلاقته بمذاهب اليونان والهنود، ترجمة محمد عبد الهادي أبو ريدة (القاهرة، 1946)، (ص5).
(2) أبو زهرة، ابن حزم، (ص225).
(3) ينظر محلق (3) من هذا البحث.
(4) للمزيد من التفاصيل ينظر:
Roger Arnaldez, Grammaire et Theologic Chez Ibn Hazm de cordoue, Paris, pp. 37-87.
علي محمد فرغلي، ابن حزم الأندلسي وأثره في الفكر الإسلامي، مجلة الحضارة الإسلامية (1996) (ع2) (ص236- 239).(1/7)
الأسلوب
قبل الحديث عن توظيف ابن حزم للأسلوب في منهجه العلمي بدارسة العقائد بالإمكان تثبيت الأمور الآتية:
1- كان له أسلوب واضح مميز يستطيع أن يعرفه كل من قرأ كتبه.
2- الإطناب في البحث وكثرة الاستشهاد.
3- سهولة اللفظ، وانسياب العبارة من دون أن تحس بعناء كبير وأنت تقرأ نتاجه.
والأمثلة على ذلك كثيرة، منها مناقشته المعتزلة في مسألة خلق أفعال العباد، من جميع الوجوه وتستغرق صفحات كثيرة(1). وعند انتهائه من هذه المهمة يقول ابن حزم: "قد أبطلنا بحول الله وقوته كل شغب المعتزلة في أن أفعال العباد غير مخلوقة لله عز وجل فنأت ببرهان ضروري إن شاء الله تعالى على صحة القول أنها مخلوقة لله تعالى(2)، وهكذا يبدأ بإيراد الأدلة على ذلك، والملاحظ على أسلوبه، الوضوح في اللفظ، والابتعاد عن التعقيد، الأمر الذي لا نجده عند معظم الكتاب الآخرين في هذا المجال، فعلى سبيل المثال عند مقارنة ما كتبه الشهرستاني حول موضوع "هل المعدم سيئ أم لا(3)، وبين ما كتبه ابن حزم في الموضوع نفسه نرى بوضوح الفرق في الأسلوب عند كلا المفكرين.
__________
(1) الفصل، (3/82- 132).
(2) الفصل، (3/ 132).
(3) الشهرستاني، نهاية الإقدام في علم الكلام تحقيق: الفرد جيوم (بغداد مكتبة المثنى، بلا. ت) (ص 150- 163) ويقارن ذلك بما في الفصل (5/155- 159).(1/8)
وقد يزاوج بين أسلوب المحدثين والمتكلمين في سبيل إيضاح الفكرة، فعند بحثه مسألة الاستطاعة يلجأ إلى الحديث النبوي لتوضيح معان غامضة - صلى الله عليه وسلم – قال: (فإذا أمرتكم بشيء فخذوا منه ما استطعتم)(1)، ويعلق ابن حزم على هذا الحديث: "فلو لم يكن هاهنا استطاعة لشيء مما أمرنا به قبل أن نفعل لما أمرنا به ولما لزمنا شئ من ذلك، ولكنا غير عصاة بالترك لأننا لم نكلف بالنص إلا ما استطعنا"(2)، ونجده هنا يقرب مفهوم الاستطاعة للقارئ بأسلوب قريب الشبه بما يفعله المحدثون في كتبهم وربما لجأ إلى أسلوب الفقهاء للغرض نفسه فهو عندما يصل إلى قول بعض المعتزلة –وهو قول الإسكافي-(3)، بأن الله تعالى لم يخلق العيدان ولا الطنابير ولا المزامير يرد ابن حزم، من ضمن ما يرد به عليه، هذا الافتراض: " ... فلو حلف إنسان أنه لا يشتري طنبوراً، فاشتري خشباً لم يحنث ولو حلف أن يشتري خشباً فاشتري طنبوراً لم يقع عليه حنث لأن الطنبور في اللغة يقع على اسم الخشبة"(4)، وهو بهذا يضع خصمه بزاوية ضيقة ثم يأتيه بدليل شرعي وهو قوله تعالى: { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ } [السجدة: من الآية4]. وبهذا يثبت ابن حزم كون الأشياء مخلوقة بنص القرآن(5).
__________
(1) الحديث رواه البخاري، الصحيح، (9/117)، مسلم الصحيح، (2/975)، ابن ماجه، السنن، (1/5)، النسائي، السنن (5/ 110- 111).
(2) الفصل، (3/44).
(3) هو محمد بن عبد الله الإسكافي (ت24هـ) من أئمة المعتزلة ومتكلميهم وأصله من سمرقند، سكن بغداد، وكان المعتصم معجباً به إعجاباً شديداً، اشتهرت عنه هذه المقولة التي ذكرها ابن حزم، ترجمته عند ابن النديم، الفهرست (ص231)، الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد، (5/416)، الشهرستاني، المِلَل والنحل، (1/94).
(4) الفصل، (3/188).
(5) الفصل، (3/86).(1/9)
وربما لجأ ابن حزم في نهاية كلامه على بعض المسائل إلى تلخيص رأيه على شكل خلاصة مركزة وتقديمها للقارئ، فهو في بحثه لمسألة تكوين الكفر يستغرق صفحات فيها(1). ويختمها بقوله: "فإذا جاءت النصوص كما ذكرنا متظاهرة لا تحتمل تأويلاً(2) بأن الله عز وجل أراد ضلال من ضل وشاء، وكفر من كفر، فقد علمنا أن كلام الله تعالى لا يتعارض، فما أخبر عز وجل أنه لا يرضى لعباده الكفر، فبالضرورة علمنا أن الذي نفى عز وجل هو غير الذي أثبت، فإذن لاشك في ذلك، فالذي نفى تعالى هو الرضا بالكفر، والذي أثبت هو الإدارة لكونه والمشيئة لوجوده، وهما معنيان متغايران بنص القرآن وحكم اللغة"(3).
__________
(1) الفصل، (3/179- 188).
(2) ينظر معنى هذه الكلمة عند ابن حزم في ملحق (3) من هذا البحث.
(3) الفصل، (3/118).(1/10)
على أنه يستخدم الحدة التي عابها عليه الكثيرون، وهذا واضح في كتابه الذي جر إليه كثيراً من النقد، والأمثلة على ذلك كثيرة، نأخذ مثلاً قوله: " .... وتباً لكل قول أدى إلى هذا الهوس البارد" (1)، عند كلامه على الفرق بين الاسم والمسمى أو قوله لأحد خصومه بعد أن رد مقالته: "ولقد كان ينبغي لمن هذا مقداره من الجهل أن يتعلم قبل أن يتكلم!" (2)، حتى أنك لتجد في بعض الأحيان عبارات فيها نوع من التجاوز ففي رده على بعض المسائل التي طرحها الأشاعرة يستطرد بهذا الكلام: "ولا ضلال ولا حياء أعدم ولا مجاهرة أطم، ولا تكذيب لله تعالى أعظم...(3) وربما يعود سبب هذه الحدة في أسلوبه إلى ما ذكرناه سابقاً في تحليل شخصيته حتى وسمه البعض بكونه ذا مزاج ناري، وعبارات صافية(4)، ولعل سبب هذه الحدة، هو حرصه على الحق، مع مقدار من الاعتزاز بالنفس، مما ولد فيه مثل هذه الصفة حتى أصبحت من أكبر المآخذ على كتابه الفصل، وفي هذا الخصوص يقول السبكي: "وفيه من الحط على أئمة السنة"(5)، وفي كلام السبكي وجه حق، خصوصاً موقف ابن حزم من أئمة الأشاعرة، وربما تكون للنقاشات التي دارت بين ابن حزم وكبير الأشاعرة بالأندلس أبي الوليد الباجي أثر في هذا، وكذلك إلى مذهبه الظاهري الذي يجعل النص حداً لكل حكم، وبعد هذا فلا تستغرب عندما تقرأ في كتابه الفصل، وهو يوسم بعض رؤساء المعتزلة بـ(الخلعاء العارين)(6).
__________
(1) الفصل، (5/137).
(2) الفصل، (2/331).
(3) الفصل، (3/12).
(4) جورج شحاته قنواتي، مادة الفسلفة وعلم الكلام والتصوف، تراث الإسلام، تحرير شاخت وبوزورت، ترجمة حسين مؤنس، إحسان صدقي العمد (الكويت 1978) (ق2) (ص218).
(5) طبقات الشافعية الكبرى، (6/129).
(6) الفصل، (3/70).(1/11)
ولم تقف هذه الحدة عند هذا الحد، بل إننا نجدها تنعكس على جوانب أخرى من أسلوبه، خاصة في صياغة الأحكام واستخلاص النتائج، مثل استخدامه "وثبت يقيناً"(1)، أو قوله ناكراً إدعاء البعض: "وهذا محال(2)، وقوله أيضاً: "فبطل قولهم وعادت الحجة عليهم(3)، ولم يكن ابن حزم يفرق في جدله بين عالم مشهور من أئمة المسلمين وبين رجل تطرف باعتزاله، بل عباراته الشديدة القاسية لم تكن في بعض الأحيان في موضعها وربما تجاوزت الحدود المعقولة في النقد (4).
ويمتاز ابن حزم في أسلوبه باستخدامه لفظ: "قال: أبو محمد" كثيراً لتنبيه القارئ إلى أمور من ضمن ذلك:
1- تكون بداية فقرة جديدة يعلم القارئ بها(5).
2- قد يستخدمها لإيراد المصدر الذي يأخذ معلوماته منه(6).
3- في بعض الأحيان ينقل آراء العلماء من خلالها(7).
4- لنقل أدلة الخصوم وحججهم(8).
5- إبطال أدلة الخصوم عن طريق إيراده لحججه(9).
6- يورد بعدها آراء الناس في مسألة معينة(10).
7- وسيلة لإيراد بعض المناظرات التي تحصل بينه وبين بعض المناظرين(11).
8- يستخدمها في الربط بين موضوعين، مثل ربطه الكلام على الهدى والتوفيق بالاستطاعة بهذه اللفظة(12).
9- ينبه القارئ أن ما سيورده بعدها هو رأيه وقوله(13).
__________
(1) الفصل، (1/103) (3/254) (4/134).
(2) الفصل، (3/233).
(3) الفصل، (5/138).
(4) أبو زهرة، ابن حزم، (ص201).
(5) ينظر على سبيل المثال، الفصل، (3/63).
(6) ينظر على سبيل المثال، الفصل، (4/157).
(7) ينظر على سبيل المثال، الفصل (4/209).
(8) ينظر على سبيل المثال، الفصل، (4/127).
(9) ينظر على سبيل المثال، الفصل، (4/128).
(10) ينظر على سبيل المثال، الفصل، (4/101، 121).
(11) ينظر على سبيل المثال، الفصل، (4/196).
(12) ينظر على سبيل المثال، الفصل، (3/63).
(13) ينظر على سبيل المثال، الفصل، (2/339).(1/12)
ومن خلال ما مر نستطيع أن نقول أن ابن حزم قد أوجد لنفسه أسلوباً مميزاً، استطاع من خلاله أن يبين الحقائق بوضوح رغم كون الإسهاب والإطناب في بعض المواضيع من مميزات كتابه إلا أنه حافظ على نفسٍ طويل في إدارة دفة النقاش بالرغم من اتسامه بالحدة التي ربما تجعلنا نقلل من موضوعيته الأسلوبية لا من موضوعيته العلمية، وأوجد لنفسه نظاماً عن طريق استخدام كنيته، حيث جعلها على ما يبدو، في كثير من الأماكن وكأنها علامات التنقيط المتداولة بين الباحثين في عصرنا الحالي.
الاستشهاد:
امتاز منهج ابن حزم بالاستشهاد، بأنواع كثيرة من الأدلة الشرعية أو التاريخية أو الأدبية أو الجغرافية وغيرها، والقارئ لكتاب الفصل تلفت نظره تلك النصوص الكثيرة التي ساقها، إما لكي يستشهد بها، أو يستبدل بها على ناحية معينة، ويمكن أن نتعرض لأهم أنواع هذه الاستشهادات:(1/13)
1- القرآن الكريم: وهو المصدر الأول عنده، وترد منه أكثر الاستشهادات مقارنة بالأنواع الأخرى. فمثلاً عند مناقشة محور الإيمان يبدأ بإيراد الأمثلة على ذلك من كتاب الله كقوله تعالى: { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ } [الفتح:4] (1)، وقوله تعالى: { الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً } [آل عمران: 173]، وقوله تعالى: { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } [البقرة: 143]، يقول ابن حزم: "فصح يقيناً أن الإيمان الذي زادتهم الآيات إنما هو العمل بها الذي لم يكونوا عملوه ولا عرفوه ولا صدقوا به قسط، ولا كان جائزاً لهم أ، يعتقدوه ويعملوا به بل كان فرضاً عليهم تركه والتكذيب بوجوبه والزيادة لا تكون إلا في كمية عدد لا فيما سواه ..." (2) وأنت ترى في هذا الاستشهاد القرآني، كيف استطاع أ، يبرهن بالاعتماد على هذه الآيات بأن الإيمان يزيد وينقص، وليس هو اعتقاداً فقط، والأمثلة على الاستشهاد القرآني كثيرة وعديدة(3).
__________
(1) الفصل، (3/232).
(2) الفصل، (3/233).
(3) ينظر على سبيل المثال استفادة ابن حزم من الاستشهاد القرآني: الفصل (3/303)، (4/81- 82)، (ص84- 87).(1/14)
2- الحديث النبوي: يأتي اهتمامه بالحديث النبوي، في إيراد الأمثلة والشواهد، بالدرجة الثانية، ودراسة نموذج لهذا الاستشهاد مهمة في بيان كيفية استفادته من الحديث لتدعيم وجهة نظره، فهو عندما يتكلم حول الوعد والوعيد يبين للقارئ بأن: "كل كافر عمل خيراً وشراً ثم أسلم فإن كل ما عمل من خير يكون له مجازى به في الجنة، وأما ما عمل من شر فإن تاب عنه مع توبته من الكفر سقط عنه وإن تمادى عليه أخذ بما عمل في كفره وبما عمل في إسلامه وبرهان ذلك: حديث حكيم ابن حزام عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم – أنه قال: (يا رسول الله أشياء كنت أتحنث بها في الجاهلية من عتق وصدقة وصلة رحم، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم – أسلمت على ما سلف لك من خير)(1)، فأخبر أنه خير، وأنه له إذا أسلم وقالت عائشة رضي الله عنها: (يا رسول الله أرأيت ابن جدعان فإنه يصل الرحم ويقري الضيف، أينفعه ذلك؟ قال: لا؛ لأنه لم يقل يوماً رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين)(2). فاتفقت الأخبار كلها على أنه لو أسلم لنفعه ذلك(3) وهكذا نجد ابن حزم كيف وظف الحديث الشريف لخدمة منهجه في إبراز الحقيقة، وبرهن بذلك على أن النص مهم في مجال البحث العقائدي(4).
__________
(1) أحمد، المسند، (3/434)، البخاري، الصحيح، (2/141)، مسلم، الصحيح، (1/113).
(2) مسلم: الصحيح، (1/196).
(3) الفصل، (4/95).
(4) ينظر أمثلة لهذا الاستشهاد في الفصل، (3/243- 144)، (167- 168)، (246- 247).(1/15)
3- الاستشهاد بالتاريخ: يلاحظ على ابن حزم أنه استشهد بالتاريخ ولكن في هذا المجال نجده أقل استعمالاً عنده قياساً بالاستشهاد بالقرآن الكريم والحديث النبوي، وهذا ناتج من اهتمامه بالشريعة وإعطائها على غيرها إلا أن موسوعيته وثقافته الواسعة جعلت اختياره للأمثلة التاريخية ظاهرة في منهجه أيضاً، فعلى سبيل المثال نجد دليله على أن الله عز وجل قد يسلط الكافر على المؤمن أمثلة تاريخية كما سلط: "الكفار على من سلطهم من الأنبياء وعلى أهل بئر معونة(1)، ويوم أحد"(2)، وبهذا يثير ابن حزم الحس التاريخي لدي القارئ ويجعله يسلم له طائعاً لأنه يقدم حقيقة تاريخية واضحة ومعروفة. وتجده يستشهد بفشل كل من: "المأمون والمعتصم والواثق – على سعة ملكهم لأقطار الأرض – قطع القول بأن القرآن مخلوق فما قدروا على ذلك"(3)، فحرصه على إقناع المقابل، قاده للاستعانة عدة مرات بأنواع الأمثلة التاريخية(4)، وميزة ابن حزم في كتاباته التاريخية، في الاختصار والمقارنة بل إنه يلجأ في أحيان كثيرة إلى الاستشهاد بالتاريخ على التاريخ، وهذا يصبح أمراً ضرورياً في مسائل الخلاف خاصة المسائل التي لها علاقة بالتاريخ(5)، فمن تلك: المقارنة الذكية بين مقتل كل من عثمان بن عفان وعمار بن ياسر (رضي الله عنهما)(6).
__________
(1) بئر معونة: هي أرض بين أرض عامر وحرة بني سليم، فيها قتلت بالبعثة التي أرسلت بأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صفر سنة (4هـ) إلى أهل نجد وقتلت بتآمر المشركين ضدهم، وكانت تضم أربعين رجلاً من المسلمين، ينظر ابن هشام، السيرة (ص183- 189)، الحموي، معجم البلدان، (5/159).
(2) الفصل، (3/198).
(3) الفصل، (1/144).
(4) ينظر على سبيل المثال، الفصل، (4/233- 244).
(5) إحسان عباس، مقدمة الرسائل، (2/26).
(6) الفصل، (4/181- 244).(1/16)
يقول: "وعمار رضي الله عنه قتله أبو العادية يسار بن سبع السلمي(1)، شهد بيعة الرضوان فهو من شهداء الله له بأنه علم ما في قلبه وأنزل السكينة عليه ورضي عنه، فأبو العادية رضي الله عنه متأول مجتهد مخطئ فيه، باغ عليه، مأجور أجراً واحداً، وليس هذا كقتلة عثمان - رضي الله عنه – لأنهم لا مجال لهم للاجتهاد في قتله لأنه لم يقتل أحداً ولا حارب ولا قاتل... فيسوغ لمحاربة تأويل، بل هم فساق محاربون سافكون دماً حراماً عمداً بلا تأويل(2).
إن هذه المشاهدة التاريخية، والمقارنة بين حادثين، يكون أمراً ضرورياً عند حدوث خلاف في مسببات وقوعهما، وكأن الحادثة التاريخية يمكن أن تعطي بعداً حقيقياً لتصورات المؤرخ من أجل حل الخلاف القائم بين المتكلمين في هذا الحادث(3).
__________
(1) كذا أورده ابن حزم في الطبعة التي تحت يدي: " أبو العادية" بعين مهملة والأصح كما عند ابن سعد وابن عبد البر: "أبو غادية" بعين معجمة يسار بن سبع الجهني ويقال المزني قال العقيلي وهو الأصح، واختلف في اسمه واسم أبيه قبل اسمه مسلم وقيل يسار بن سبع، يقال أنه قاتل عمار سكن واسطاً وكان يفرط في حب عثمان، ابن سعد، محمد بن سعد الزهري، الطبقات الكبرى، (بيروت، 1957)، (3/262)، ابن عبد البر، الاستيعاب، (4/1582).
(2) الفصل، (4/242).
(3) ينظر للفائدة: سعيد الأفغاني، ابن حزم، ورسالة المفاضلة بين الصحابة، (ص158- 161).(1/17)
4- الاستشهاد بالجغرافية: إن ابن حزم لم يهمل الجانب الجغرافي من أجل الاستفادة منه في إسناد وجهة نظره، ويدل بحثه فيه على أنه يمتلك معلومات جغرافية جيدة، فلرد دعوى البعض: يكون عقد الإمامة لا يصح إلا بعقد فضلاء الأمة، يثبت بأن هذا الأمر يكاد يكون مستحيلاً إذ: "لا حرج ولا تعجيز أكثر من أن تعرف إجماع فضلاء الأمة مَنْ في المولتان(1)، والمنصورة(2) إلى بلاد مهرة(3) إلى عدن، إلى أقاصي بلاد المصامدة(4)، إلى طنجة إلى الأشبونة(5)، إلى جزائر البحر، إلى سواحل الشام إلى أرمينية(6)..."(7). ولا يستطيع أحد إلا أن يقول بأن هذا الأمر يبدو مستحيلاً في مثل ذلك العصر، ويعترف في الوقت نفسه لابن حزم بذكائه وفطنته في استفادته من هذه النقطة الجغرافية، وتؤكد القيمة الحقيقية لبحث ابن حزم في العقائد(8).
__________
(1) المولتان: هي بلدة في بلاد الهند على سمت غزنة، فتحت في عهد الوليد بن عبد الملك، ياقوت الحموي، معجم البلدان، (5/227- 228).
(2) المنصورة: وهي بأرض السند سميت نسبة إلى المنصور بن جهور عامل بني أمية مؤسسها، وقيل أنها سميت نسبة إلى الخليفة العباسي المنصور، ياقوت الحموي، معجم البلدان، (5/211- 212).
(3) مهرة: مدينة في جنوب شبه الجزيرة العربية، بينها وبين عمان شهر وكذلك بينها وبين حضرموت، ومهرة من قبائل اليمن، ياقوت الحموي، معجم البلدان (5/234).
(4) المصامدة: نسبة إلى قبيلة بالمغرب الأقصى، فيه موضع يعرف بهم، الحموي، معجم البلدان، (5/136).
(5) الأشبونة: وهي مدينة بالأندلس، قريبة من المحيط اشتهرت في العصور الإسلامية بالعنبر، ياقوت الحموي، معجم البلدان، (1/195).
(6) أرمينية: اسم لأقليم عظيم في شمال العراق وخراسان، كانت بلاد واسعة تضم مدن وقرى عديدة، ياقوت الحموي، معجم البلدان، (1/159- 161).
(7) الفصل، (5/ 13- 14).
(8) ينظر: على سبيل المثال، الفصل، (4/213)، (ص217)، (5/93).(1/18)
5- الاستشهاد بالشعر: لم يكن ابن حزم ليدع وسيلة –وفق منهجه- ليدافع بها عن وجهة نظره في بحثه للعقائد الإسلامية، ويحاول إيصال رأيه للقارئ وإقناعه بالأمثلة التي يوردها، حتى لو أداه ذلك إلى الابتعاد عن موضوع كتابه، والاتجاه إلى الشعر، فقد استعار قول جرير:
ألا رب سامي الطرف من آل مازنٍ ... إذا شمرت عن ساقها الحرب شمراً(1)
ليبين أن قوله تعالى: { يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ } [القلم: 42]، هو لبيان شدة الأمر يوم القيامة، وليس غرضنا هنا البحث عن مسائل الصفات عند ابن حزم ولكن نريد أن نبين مهارة ابن حزم في سرد الأمثلة، ونجده يستعين عدة مرات بالشعر في مبحث الصفات كالاستشهاد بقول الشماخ:
إذا ما راية رفعت لمجد ... تلقاها عرابة باليمين(2)
لأنه هنا ينبه القارئ إلى أن اليمين في لغة العرب تعني الحظ والأفضل. وعند كلامه على الطبائع، يستشهد لبيان معناها الحقيقي في الجاهلية، مثل قول النابغة الذبياني:
لهم شيمة لم يعطها الله غيرهم ... من الجود والأحلام غير عوازب(3)
وأنت ترى من خلال ذلك كيف أن ابن حزم يمتلك مقدرة كبيرة على إيراد الشواهد بمختلف أشكالها، والتنوع فيها، وانتقاله من جانب لآخر، وكل هذا يدل على حرصه الشديد في اثبات الحق، ودحض الباطل، وكذلك علينا أن نعترف أن كثرة الأمثلة والشواهد تزيد من قوة الحجة ووضوح الفكرة، وهذا ما كان قصد ابن حزم فيه واضحاً وصريحاً.
العلوم العقلية (4):
__________
(1) الفصل، (2/351- 352)، والبيت في ديوان جرير، (بشرح لمحمد بن حبيب)، (م1)، (ص112). وينظر ترجمة جرير من هذا البحث.
(2) الفصل، (2/249)، والبيت في ديوان الشماخ، (ص97).
(3) الفصل، (5/ص116)، والبيت عند النابغة، الديوان، (ص52).
(4) سنعتمد في تحديدها في هذا البحث على تعريف ابن خلدون لها في المقدمة والتي يسميها: ( علوم الفلسفة والحكمة ) وذلك من أجل الإيجاز، ينظر مقدمة ابن خلدون، ( ص 478).(1/19)
شكلت هذه العلوم أهمية خاصة عند ابن حزام، وهي عنده من أدوات البحث المهمة، وأكثر ما اشتهر به هو دراسته للمنطق، والتي استفاد منها كثيراً في بحثه هذا الجانب، بل ، بل إنه يصرح أن المنطق هو الوسيلة: (( إلى معرفة الأشياء على ما هي عليه، وإلى إمكان التفهم الذي به ترتقي درجة الفهم، ويتخلص من ظلمة الجهل، وفيها تكون معرفة الحق من الباطل (1) ، فإذن هذه الأدلة العقلية مهمة في تمحيص الحقائق وبطلان الزائف منها، ونحن نجد ابن حزم يكثر من استعمالها. فقد اعترض عليه يوماً من له علم بالفلسفة فقال له: (( ليس للعقل ضد لكن وجوده ضد وهو عدمه. فقلت للذي ذكر لي هذا القول أن هذه سفسطة وجهل، ولو جاز له هذا التخليط لجاز لغيره أن يقول ليس للعلم ضد لكن لوجوده ضد وهو عدمه. فيبطل التضاد من جميع الكيفيات، وهذا كلام يعلم فساده بضرورة العقل(2) ، فالبديهيات المنطقية عنده هي ما انتقلت عليه الحواس وبرهن عليه العقل، وبهذا نستطيع أن نثبت المثبت وننفي المنفي(3) .
__________
(1) ابن حزم، الأحكام، ( م1)، (ص6).
(2) الفصل ( 5/199).
(3) أبوزهرة، ابن حزم، ( ص 153).(1/20)
ونجد ابن حزم يستدرك على من ادعى الإصلاح بالفعل وحده: (( ولا يمكن إصلاح أخلاق النفس بالفلسفة دون طاعة غير الخالق عز وجل لا تلزم(1) ، وهكذا نجد أن ابن حزم يحسم ذلك الصراع المستمر بين العقل والدين، باستنتاج ذكي وهو أن يتخذ طريقاً وسطاً بينهما مما يطابق تمام المطابقة لمذهبه الظاهري الذي انتهجه(2) ويحارب ابن حزم الخرافات التي ترد على ألسنة العوام، أو يقول بها بعض الجهال، مثل كون الكواكب هي المدبرة، أو المؤثرة، ووسيلته في ذلك معلومات علمية ذات قيمة علمية مهمة وهي: (( أن المد والجزر يتولد بطلوع القمر وغروبه )) (3) وهذا شئ يلفت الانتباه لكونه يشير إلى حقيقة علمية ثابتة، حتى أنه لا يتردد في إثبات كروية(4) الأرض من أجل الرد على دعوى البعض من كون الكواكب هي المدبرة الفاعلة بسبب حركتها المستمرة (5) ، وعند بحث ابن حزم لمسائل الألوان، يعطينا معلومات علمية صحيحة، منها إثباته أن الظلمة ليست بلون، وأن النور هو اللون، أو بتعبير علمي الشعاع المنعكس من الجسم، وغيرها من المعلومات العلمية(6) .
__________
(1) الرسائل ( 3/134).
(2) بالنثيا، تاريخ الفكر الأندلسي ، ( ص 222).
(3) الفصل، ( 4/16).
(4) الفصل، (2/241).
(5) الفصل، (2/239).
(6) أبو عبد الرحمن بن عقيل الظاهري، مقدمة رسالة الألوان، الرياض، (1979)،( ص16ـ 17).(1/21)
أما العلوم الرياضية فقد كان لابن حزم نصيب منها بالرغم من أنه صرح بأنه ليس ممن باع في هذا العلم(1)، وربما يكون هذا تواضعاً منه رحمه الله، والدليل عليه هذا البحث، في نظرية الجزء الذي لا يتجزأ أو بتعبير المتكلمين نظرية الجوهر الفرد(2)، يفترض ابن جزم الافتراض الآتي: (( نعلم أن الخطين المستقيمين المتوازيين ( أب، ج د) لا يلتقيان أبداً، ولو مدا عمر العالم أبداً بلا نهاية، وإذ لا شك في هذا، فإنك إن مددت من الخط الأعلى إلى الخط المقابل له خطين مستقيمين متوازيين (أجـ ،ب د) قام منهما مربع بلا شك، فإذا أخرجت من زاوية تمر مع الخطين الأعلى أبداً، لأنها غير متوازية له إذ ذلك كذلك، فذلك الضلع منقسم أبداً لا بد ما أخرجت الخطوط بلا نهاية)) (3) إن هذه المعلومات التي قدمها ابن حزم لنا توضح حقيقة علمية معروفة، في كون الخطوط المتوازية لا تلتقي، بينما الخط الذي يفترضه وهو ( أجـ ) لا يمكن أن يكون موازياً لهما، وبهذا يتبين كيف وظف لنا هذا العلم لخدمة منهجه العلمي، ولا بأس من أن نأخذ أنموذجاً آخر لذلك، وهو الافتراض الآتي: (( دائرة قطرها أحد عشر جزءاً ( 11سم ) لا يتجزأ كل واحد منها عندهم، أو أي عدد شئت على الحساب، فأردنا أن نقسمها بنصفين على السواء ولا خلاف في أن هذا ممكن، فبالضرورة ندري أن الخط القاطع على قطر الدائرة من المحيط إلى ما قابله من المحيط (أ ب) ماراً على مركزها (م) لا يقطع ألبته إلا في نصفين، وبالله تعالى التوفيق )) (4) ،
__________
(1) ابن حزم، الرسائل، ( 21/185).
(2) نظرية الجوهر الفرد، أو الجزء الذي لا يتجزأ، نقول هذه النظرية بأن هناك أجسام مخلوقة لا طول لها ولا عرض ولا عمق ولا اجتماع ولا اقتران، ينظر ا|لأشعري مقالات الإسلاميين، ( 2/10ـ18)، بينس، مذهب الذرة عند المسلمين (ص3ـ 27).
(3) الفصل، ( 5/234) وينظر شكل (1).
(4) الفصل، ( 5/235)..(1/22)
إن هذه المعلومات الرياضية الصحيحة التي نقلها ابن حزم للقارئ، وتبدو فيه ثقافته الواسعة وجهوده العلمية القيمة التي سلكها في بحثه للعقائد، مستعيناً بالعلوم الرياضية والهندسية من أجل خدمه البحث، إضافة إلى عنايته العظيمة بإثبات الحقائق العلمية ودحض الخرافات .
الاستدلال:
يعرف ابن حزم الاستدلال بأنه: (( طلب الدليل من قبل معارف العقل ونتائجه أو من قبل معلم (1)، ومسألة الاستدلال من الأمور التي كثر النقاش فيها عند المتكلمين(2)، وابن حزم لا ينكر الاستدلال (( بل هو فعل حسن مندوب إليه محضوض عليه كل من أطاقه، لأنه تزود من الخير، وهو فرض على كل من لم تسكن نفسه إلى التصديق ـ نعوذ بالله عز وجل من البلاء ـ وإنما ننكر كونه فرضاً على كل أحد لا يصح إسلامه،هذا هو الباطل المحض )) (3) وهو في بحثه هذا ينتهج منهج الجدل والتسلسل المنطقي للشواهد التي يعبر عنها بلفظ الأدلة، وإننا نجد عندما يجادل من قال: بأن الباري خلق العالم جملة كما هو بجميع أحواله بلا زمان، نجده يتساءل لماذا تختفي بعض العلوم في بعض بلاد السودان أو البوادي التي: (( في خلال المدن ـ أي بين المدن ـ ليس يوجد فيها أبداً أحد يدري شيئاً من العلوم والصناعات حتى يعلمه معلم، وأنه لا ينطق أحد حتى يعلمه معلم)) (4) ولا غرابة في ذلك فالاستدلال المنطقي يقتضيه،لأن حصول شئ من المعارف لا بد أن يكون بواسطة؛ إلا أن يأتي من العدم، وقد انتقد بعض علماء الأندلس الأسلوب المنطقي في كتابات ابن حزم حيث اتهموه بأنه: ((...
__________
(1) الأحكام ، ( م1)،( ص37)، الرسائل، ( 4/ 413) وينظر ملحق (3).
(2) البغدادي، عبد القاهر بن ظاهر، أصول الدين ( استنبول، 1928 )، ( ص24ـ 28)، عبد الرحمن بدوي، مذاهب الإسلاميين، ( 1/397).
(3) البغدادي، عبد القاهر بن ظاهر، أصول الدين ( استنبول، 1928 )، ( ص24ـ 28)، عبد الرحمن بدوي، مذاهب الإسلاميين، ( 1/397).
(4) الفصل، ( 1/ 136).(1/23)
يرد على المنطقي بالشرعي )) (1) وقد نفى ابن حزم هذه التهمة عنه، والحق أنه كان يميل إلى هذه العلوم، ونجده يكرر استعانته بها ليؤيد وجهة نظر لا لرد حقيقة شرعية، وإنما لإبراز صحة وجهة نظره للقارئ، وصدق دعواه، فمن ذلك قوله: (( وأما من طريق النظر والمصلحة، فلو جاز أن يكون في العالم إمامان لجاز أن يكون فيه ثلاثة، وأربعة وأكثر، فإن منع من ذلك مانع كان متحكماً بلا برهان، ومداعياً بلا دليل )) (2) وهذا المثال يوضح بدقة الجانب العقلي النظري في منهجه، والذي من خلاله نستطيع أن نقرر، أن بن حزم قد أدخل أدوات الاستدلال النظرية في مناقشة الآراء المختلفة.
وقد استعان ابن حزم أيضاًُ بالبحث النفسي والسلوكي للفرد، حتى أنه ليبين ذلك واضحاً من خلال أسلوب التحليل لسلوك كل من المؤمن والكافر، لأن أفعال النفي جارية: (( على ما رتب الله تعالى فيها تمييزها من فعل الطاعات، وهذا هو الذي يسمى العقل، وإذا خذل الله تعالى النفس أمد الهوى بقوة هي الإضلال، فجرت أفعال النفس على ما رتب الله تعالى في هواها من الشهوات وحب الغلبة والحرص والبغي والحسد. وسائر الأخلاق الرذيلة والمعاصي......)) (3)، إن هذه المعالجة الفريدة من نوعها لمسألة الضلال التي شغلت ألسنة المتكلمين، تعطينا صورة لعمق المسائل التي طرحها ابن حزم أمام القارئ، وفيها تلك الروح التي تميز كتاباته، وهو طرح الحقيقة بأسلوب علمي مبتكر، في خطوة جريئة تبين لنا موهبة ابن حزم في الغوص في النفس والكشف عن أسرارها.
المقارنة والمناظرة:
__________
(1) ابن حزم ، الرسائل ( 3/ 73).
(2) الفصل، ( 4/ 151).
(3) الفصل، ( 3/ 74).(1/24)
لقد ساق لنا ابن حزم مقارنات بين أصحاب العقائد والملل المختلفة، حاول خلالها إبراز جهوده العلمية في تحليل الآراء من خلال مقارنتها مع بعضها وخصوصاً الاعتقادات المتشابهة، على أن الفكرة التي يركز عليها ابن حزم هنا هي تلك الآراء المتشابهة التي قد تردد عبر مدد زمنية مختلفة حيث قال: (( إن الناس قسمان: قسم لم تسكن نفوسهم إلى الإسلام ولا دخلها التصديق فطلبوا منه عليه السلام البراهين فأراهم المعجزات فانقسموا قسمين، طائفة آمنت وطائفة عندت وجاهرت وكفرت وأهل هذه الصفة اليوم هم الذين يلزمهم طلب الأدلة فرضاً ولا بد )) (1)، إن هذه المقارنة بين دعاة الاستدلال وكونه شرطاًُ للإيمان في زمن ابن حزم، وبين الكفار في عصر الرسالة فيه ميزة تظهر واضحة للقارئ، وهي ذلك الشك الذي تتنازعه كلا الطائفتين من أجل الإيمان. وقد تتخذ المقارنة عنده مسارات متعددة، ومن ذلك انتقاد بعض المعتزلة، بسبب قياسهم العقلي، ويقارنهم بأقوام آخرين من ملل آخرى، وذلك لأنهم حكموا على: (( الباري تعالى بمثل ما يحكم به بعضنا على بعض، وهذا بين له أصل عند الدهرية، وعند المنانية(2) ، وعند البراهمة(3) ، وهو أن الدهرية قالت: لما وجدنا الحكيم فيما بيننا لا يفعل إلا لاجتلاب منفعة أو لدفع مضرة، ووجدنا من فعل لا فائدة فيه فهو عابث، هذا الذي لا يعقل غيره)) (4)
__________
(1) الفصل، ( 4/77).
(2) المنانية: نسبة إلى ماني بن فاتك، القائل بالنور والظلمة، ظهرت مقالته أيام سابور بن اردشير ملك الفرس، وقد تبعه خلق كثير من المجوس، قتله سابور بن بهرام ، وقيل بهرام بن هرمز، ينظر: الفصل، (1/0) الشهرستاني الملل والنحل ( 2/ 72ـ 83).
(3) البراهمة: نسبة إلى قبيله في الهند، اشتهروا بنفي النبوات رغم اقرارهم بالتوحيد الذي جعلوا العقل هو الموصل إليه بلا رسل، الفصل، ( 1/ 136ـ 140)، الشهرستاني، الملل والنحل (3/ 342ـ 348).
(4) الفصل، ( 3/ 138)..(1/25)
فهو هنا يشبه مقالة المعتزلة بما قالته كل من المنانية والبراهمة، وكأنه ينسب قولهم الفاسد إلى أصل اعتمدوا عليه وتأثروا به. والنقطة المهمة التي وظفها ابن حزم في هذا الاتجاه هي ثقافته الواسعة خصوصاً باليهودية والنصرانية، حيث استفاد منها في عرض صور مزدوجة ومتشابهة عند كل من المسلمين وغيرهم من أهل الملل الأخرى، فهو يعتقد أن المعجزة التي ادعاها البعض للحلاج(1) ، أو لبعض الصالحين مثل إبراهيم بن أدهم (2) لا تختلف عن دعوى النصارى المعجزات للحواريين من أصحاب عيسى عليه السلام(3). ونحن نرى من ذلك كيف خدمت ثقافة ابن حزم الواسعة منهجه في مقارنة مقالات كثير من الناس رغم اختلافهم في المعتقد والزمان والمكان، فعنده تستوي دعوة المعجزة لماني ودعوتها للحلاج وغيرهم، ذلك أن مجرد المقارنة توصلنا إلى مسألة مشتركة، وهي المبالغة في نسب المعجزات لأصحابها وربما يكون في هذا إشارة المعجزة لا تكون إلا بنص كما يؤمن بذلك ابن حزم نفسه.
__________
(1) الحلاج : هو الحسين بن منصور، قال عنه ابن النديم : (( كان محتالاً يتعاطى مذاهب الصوفية ويدعى كل علم ( ت 309هـ ) الفهرست، (ص 241ـ242)، الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد، (8/ 112)، وقد اعتنى لويس ماسينون بدراسة الحلاج ونشر كتابه (( الطوسين)) في باريس سنة ( 1913)، وقدم له مقدمة وافية، وأعيد طبعه بالقاهرة سنة (1970) مع كتاب أخبار الحلاج باعتناء عبد الحفيظ محمد مدني هاشم
(2) إبراهيم بن أدهم بن منصور التميمي البلخي، زاهد مشهور، تفقه وجال في العراق والشام والحجاز، أخباره كثيره فيها مبالغات عظيمة( ت 161هـ ) .
(3) إبراهيم بن أدهم بن منصور التميمي البلخي، زاهد مشهور، تفقه وجال في العراق والشام والحجاز، أخباره كثيره فيها مبالغات عظيمة( ت 161هـ ) .(1/26)
أما فيما يخص المناظر فنحن نجد صوراً كثيرة لها والغرض من إيرادها عند ابن حزم هو كونها تمثل وسيلة مهمة من الوسائل العلمية المعروفة والمنتشرة في عصره في الوقت نفسه الذي تمثل فيه التفاعل العلمي بمختلف الأفكار في ذلك العصر. خاصة وأنه يصرح بحدوث الكثير منها فمن ذلك قوله: (( وقد ناظرت بعض المنكرين لهذا المذهب، إلى أن الهم بالسيئة الإصرار عليها. فقلت له: هذا خطأ لأن الإصرار لا يكون إلا على ما قد فعله المرء بعد تمام على نية أن يفعله، وأما من هم بما لم يفعل بعد فليس إصراراً)) (1) ، ونجد يكثر من هذه المناظرات، وهي وسيلة مهمة في منهجه لا سيما المباحث الكلامية التي كانت مدار نقاش في المجالس العلمية بالأندلس، ويمكن أن نعد بعض هذه المناظرات من الشواهد المهمة على الآراء التي ناقشها، حيث يقول: ((وقد ألزمت بعض الملحدين وهو ثابت بن محمد الجرجاني(2) ، في هذا البرهان، فأراد أن يعكسه على بقاء الباري عز وجل ووجودنا إياه، فأخبرته بأن هذا شغب ضعيف مضمحل ساقط)) (3) ، إن المناظرات تشكل في أجزاء منها محاور أتت متفرقة في كتاب الفصل، ومثلث إحدى المصادر التي اعتمدها ابن حزم في كتابه، ويبدو أن غرض ابن حزم من إيرادها كان لبيان مقدرته في المناظرة، وابتكار وسائل عديدة تخدم المنهج العلمي من حيث المحتوى والأسلوب. ثم إن له طريقة أخرى تتمثل بإفتراض المناظرات من ذلك قوله: (( فإن قال قائل: إذا قلتم : ان النار دار جزاء فالجنة كذلك، ولا جزاء للصبيان)).
__________
(1) الفصل، ( 4/ 91).
(2) تقدمت ترجمته (ص 46) من هذا الحديث.
(3) الفصل، ( 1/ 61).(1/27)
قلنا وبالله تعالى التوفيق: (( إنما نقف عندما جاءت به النصوص في الشريعة وقد جاء النص بأن النار دار جزاء فقط، وأن الجنة دار جزاء وتفضيل فهي لأصحاب الأعمال دار جزاء بقدر أعمالهم )) إن افتراض الأقوال نجدها في بعض الأحيان وسيلة لعرض وجهات نظر صادفته خلال حياته الفكرية،وهذه نقطة تستحق منا الاهتمام.
عرض الآراء:
يبدأ ابن حزم عادة عند عرضه لمبحث معين بإيراد أراء المسلمين بمختلف اتجاهاتهم في هذه القضية، ويعطي للقارئ مقدمة مركزة يعرض بها قصده من ذكر هذه المسألة، فمن ذلك قوله عند مناقشة مسألة الشفاعة: (( اختلف الناس في الشفاعة، فأنكرها قوم وهم المعتزلة والخوارج، وكل من منع أن يخرج أحد من النار بعد دخوله فيها، وذهب أهل السنة والأشعرية (1) والكرامية(2)، وبعض الروافض إلى القول بالشفاعة)) (3) ، ثم يورد أدلة المنكرين للشفاعة، وهي آيات عديدة منها قوله تعالى: {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً} (الجن:21) . وقوله تعالى: {يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} (الانفطار:19) . وغيرها من الآيات (4) ، بعدها يبين وجهة نظره في أدلة الخصم، وهم هنا المنكرون للشفاعة، راداً عليها، موضحاً بطلانها، فيقول بهذا الخصوص:
((
__________
(1) لابد من التنبيه إلى أن ابن حزم يفرق بين أهل السنة والأشعرية، ويعرف أهل السنة بأنهم الصحابة والتابعون وأهل الحديث ومن تبعهم إلى يوم الدين . أنظر الفصل الثالث، المبحث الأول من هذا البحث( ص90).
(2) نسبة إلى محمد بن كرام السجستاني، كان مؤسسها يقول في الله تعالى: (( أنه من جسم لا كالأجسام)) وسجن لمقالته هذه ثمانية أعوام بنيسابور توفي سنة(255هـ )، الأشعري، مقالات الإسلاميين، ( جـ 1) (ص 205)، الفصل (5/ 73ـ 74)، الشهرستاني، الملل والنحل ، ( 1/ 159ـ 169).
(3) الفصل، ( 3/111).
(4) الفصل، (4/111).(1/28)
لا يجوز الاقتصار على بعض القرآن دون بعض ولا على بعض النص دون بعض )) (1) ، وهنا تكون براعة ابن حزم في إيراده لأدلته بمهارة وغالباً ما تكون من جنس أدلة الخضم، فيستعرض لنا الآيات التي دلت على الشفاعة منها قوله تعالى: {لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً} (مريم:87). وقوله تعالى: {لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} (سبأ: من الآية23). وغيرها من الآيات الدالة على الشفاعة وحينئذ يقول: (( فقد صحت الشفاعة التي أبطلها عز وجل هي غير الشفاعة للكفار الذين هم مخلدون في النار)) (2) ثم يبين لنا ابن حزم أنواع الشفاعة، ويعرضها للقارئ لغرض التوضيح والكشف عن مفهومها،وهي قسمان: (( الأولى عامة وهي لكل محسن ومسيء في تعجيل الحساب يوم القيامة، وإراحة الناس مما هم فيه من هول الموقف وشنعة الحال....)) (3) ، والثانية: (( في إخراج أهل الكبائر من النار، طبقة على ما صح في ذلك الخبر)) (4) ، وقد تكون هناك بعض الاعتراضات التي لا ينسى ابن حزم أن يعرج عليها، وقصده من ذلك عدم ترك فجوة يمكن أن تخل بمادة كتابه، مثل: ادعاء البعض: (( أن الشفاعة ليست إلا في المحسنين)) (5) ، ويرد هذا الادعاء بقوله: (( وهذا لا حجة لهم فيه، لأن من أذن الله في إخراجه من النار وإدخاله إلى الجنة، وأذن للشافع في الشفاعة له في ذلك فقد ارتضاه)) (6) ،
__________
(1) الفصل، (4/111ـ 112).
(2) الفصل، (4/ 112).
(3) الفصل، (4/ 113).
(4) الفصل، (4/ 113).
(5) الفصل، (4/ 113).
(6) الفصل، (4/ 113)..(1/29)
فمن هنا يتبين أن ابن حزم أول ما يبدأ بحثه في أي مسألة كلامية يقرر آراء مختلف النحل الإسلامية فيها على اختلافها، ثم يستعرض أدلة كل فريق على سبيل التفصيل، حتى إذا فرغ من ذلك بدأ عمله في تفنيد الأدلة التي لا توافق معتقده، وقد يشير إلى وجه التناقض بينها ثم يبين وجهة نظره التي يتبناها مع الأدلة التي تدعم ذلك، ومن ثم بعد وصوله لهذه النقطة يطرح بعض الاعتراضات للخصم، يردها بمهارة لا تقل عن المهارة التي رد بها الأدلة الأولى، والتي استعرضنا صورة منها قبل قليل. وهكذا نجد أسلوبه هذا في معظم العقائد التي يستعرضها، فأنت إن قرأت المسائل الأكثر تعقيداً، رأيت أقوال النحل تكثر وأدلتهم تتعدد، افتراضاتهم تتشعب ويستمر ابن حزم على منهجه هذا في تناول الآراء فنفسه يطول في ردها وإقناع القارئ بوجهة نظره بعبارة موجزة:
(( أن طريقته في ترتيب موضوعه تتمثل في تقرير الأسس للعقيدة قيد الحث، ثم بسط للدعوى ، ثم استعرض آراء الخصوم وأدلتهم، ثم دفعه للشبه وبرهان للحق الذي ينتصرله، وهي طريقة محكمة متكاملة)) (1) .
__________
(1) سعيد الأفغاني، ابن حزم ورسالة المفاضلة ( ص 158ـ 159).(1/30)
إلا إن هناك بعض المآخذ على ابن حزم في هذا الجانب،منها عدم تصريحه في بعض الأحيان بنسبة المقالة إلى صاحبها، فيضطر الباحث إلى العودة إلى الكتب التي تناولت الموضوع نفسه ليرى من قال هذا الكلام مثال ذلك قوله: ((وقالت طائفة أن علة الباري تعالى لما فعل هو: جودة وحكمته وقدرته، وهو تعالى لم يزل جواداً حكيماً قادراً فالعالم لم يزل، إذ علته لم تزل)) (1) ، وهذا هو القول نفسه الذي قالت به طائفة من المعتزلة (2) . والمآخذ الثاني هو: تشعب الآراء وتداخلها حيث تتخذ مسارات مختلفة في مسألة معينة تجهد القارئ وتبعده عن صلب الموضوع. فعند كلامه عن خلق أفعال العباد يتطرق إلى مسألة التعديل والتجوير في أفعال الله تعالى، ولم يكف بذلك بل إنه يقحم القارئ في موضوع النفس وصور تعلقها بالجسد وعذاب القبر وغيرها من الأمور السمعية،ويستطرد فيها صفحات عديدة(3) .
ويبدو أن مسألة تشعب الآراء في كتابات ابن حزم لم تسترع الانتباه هنا فقط بل إنها واجهت ابن تيمية عندما تعرض بالنقد لإحدى مؤلفات ابن حزم(4) ، مما يدل على أن هذه المسألة هي من المميزات البارزة لنتائج هذا الفكر على العموم، ومع ذلك فإن تشعب الآراء تقوم دليلاً واضحاً على نفسه الطويل في الكتابة، وثقافته الواسعة في مختلف المعارف والفنون.
منهج ابن حزم في دراسة الفرق الإسلامية
تقسيمه للفرق:
اعتمد كثير من مؤرخي الفرق الإسلامية في تحديدهم على الحديث المشهور الذي ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في افتراق هذه الأمة، أما عن ابن حزم فإننا نجده من الذين ذهبوا إلى أن هذا الحديث ضعيف من طريق الإسناد فلا حجة فيه (5) .
__________
(1) الفصل، ( 1/71).
(2) الشهرستاني، نهاية الإقدام، ( ص397).
(3) الفصل، ( 3/ 167ـ174)، وينظر كذلك الفصل، ( 5/ 243ـ 252).
(4) ابن تيمية، نقد مراتب الإجماع، منشور ملحقاً بمراتب الإجماع لابن حزم(بيروت،1978)،(ص217).
(5) الفصل، ( 3/ 292).(1/31)
ومن ذلك نجده يقسم المسلمين إلى خمس فرق: (( أهل السنة والمعتزلة والمرجئة والشيعة والخوارج، ثم افترقت كل من هذه على فرق)) (1) ، ثم يبين بعرض سريع المسائل الكلامية التي جعلت كلاً من هذه الفرق تتشعب وتتفرق إلى فرق عديدة فمعظم اختلاف أهل السنة، وهي الفرقة الأولى الرئيسية عنده، كان: (( في الفتيا وشئ يسير من الاعتقادات)) (2) ، أما باقي الفرق فإنه يقومها على أساس قربها أو بعدها من أهل السنة، ويفصل في الأمر على النحو الآتي:
1- المرجئة: (( يرى ابن حزم أن أقرب فرقها إلى أهل السنة هم أصحاب أبي حنيفة (3) وأبعدهم أصحاب جهم بن صفوان(4) ، ومحمد بن كرام السجستاني)) (5) .
__________
(1) الفصل، ( 2/ 256).
(2) الفصل، ( 2/ 266).
(3) في قول ابن حزم انظر لأن أبا حنيفة لم يكن من هذه الفرفة في نسبة الإرجاء إليه خلاف معروف ،ونحن لا نوافق ابن حزم فيما ذهب إليه ، ينظررسالة أستاذنا خليل إبراهيم الكبيسي، المرجئة نشأتها، عقائدها، فرقها وموقفها السياسي، رسالة ماجستير غير منشورة ( جامعة بغداد 1975) (ص110ـ 119).
(4) هو جهم بن صفوان: أبو محرز السمرقندي، رأس الطائفة الجهمية، أشهر مقالاته ( القول بخلق القرآن) وأن الإيمان الإقرار باللسان فقط( ت 128هـ ) الأشعري، ( مقالات الإسلاميين) ( 1/197ـ198)،الفصل(5/73ـ74)، خالد العسلي ( جهم بن صفوان ومكانته في الفكر الإسلامي) ( بغداد 1965)،(ص 61ـ68).
(5) الفصل، ( 2/265).(1/32)
2- المعتزلة: وأقرب فرقها إلى أهل السنة أصحاب الحسين بن محمد النجار(1) ، وبشر بن غياث المريسي(2) ، وأبعدهم أصحاب أبي الهذيل العلاف(3) .
3- الشيعة: أقربها في نظره إلى أهل السنة هم: (( أصحاب الحسن بن صالح حي الهمداني الفقيه(4) ، القائلون بأن الإمامة في ولد علي ( رضي الله عنه) الثابت عن الحسن بن صالح رحمه الله كما حقق ذلك بن حزم، أنه كان يعتقد بأن الإمامة في قريش، ويتولى جميع الصحابة، إلا أنه يفضل عليا - رضي الله عنه - على جميعهم، أما أبعدهم في نظره عن أهل السنة فهم الإمامية(5) .
__________
(1) هو الحسين بن محمد بن عبد الله النجار، كان من أشهر المجبرة ومتكلميهم وله مع النظام مجالس ومناظرات، ذكر له ابن النديم كتباًَ عديدة(ت220هـ ) ترجمته عند: ابن النديم، ( الفهرست) (ص299) الشهرستاني، (( الملل والنحل)) (1/116ـ 120).
(2) هو بشر بن غياث المريسي، فقيه معتزلي، يرمي بالزاندقة، وإليه تنسب الطائفة المريسية قال عنه ابن حجر: (مبتدع ضال لا ينبغي أن تروى عنه ولا كرامة)، ( ت 218هـ ) ترجمته عبد الخطيب البغدادي (تاريخ بغداد) ( 7/ 56ـ67)، الذهبي ( ميزان الاعتدال) ( 1/322ـ323)،ابن حجر: ( لسان الميزان) ( 2/29ـ31).
(3) الفصل، ( 2/ 265ـ 266)، والعلاف هو محمد بن الهذيل بن عبد الله العلاف شيخ المتزلة، كان خبيث المذهب، جحد صفات الله تعالى، كان كذاباً ( ت 227هـ ) ترجمته عند الخطيب البغدادي، ( تاريخ بغداد)(3/366)، ابن حجر: ( لسان الميزان)( 5/413).
(4) هو الحسن بن صالح: أحد فقهاء الكوفة المشهورين في عصره كان متكلماً ورعاً قال عنه الذهبي: (فيه بدعة تشيع قليل) بينما رد عنه ابن حزم هذه التهمة ( ت 168هـ ) ترجمته عند: أبي نعيم الأصفهاني ( حلية الأولياء) ( 7/327ـ335)، والذهبي، ( ميزان الاعتدال) (1/ 496ـ 499) .
(5) الفصل، (2/ 266).(1/33)
4- الخوارج: ويرى أن أقرب فرقها لأهل السنة هم: أصحاب عبد الله بن عبيد الأباضي الفزاري الكوفي(1) ، وأبعدهم الأزارقة(2).
إن هذا التقييم لمقالات الفرق يوضح وجهة نظر ابن حزم تجاه مقالات، وفيه يبدو تقديره الخاص لهذه المسألة، والتي اتخذت عند كثير من مؤرخي الملل والنحل مسلكاًًِ مخالفاً لمسلكه، وهي على كل تقدير لا يمكن إلا أن تكون ابتكاراًَ موضوعاً يوضح أن ابن حزم يريد من خلاله فرض رأيه وتقييمه الذي يرتضيه على القارئ. أما من حيث التقسيم العام لهذه الفرق فإن له منهجاً مستقلاً في ذلك حيث أنه حددها وذكر: (( ما اعتمدت عليه كل من هذه الفرق فيما اختصت به )) (3).
__________
(1) لم يذكره من المتقدمين إلا ابن حزم، ونقل ابن حجر كلامه في لسان الميزان، ( 3/ 378).
(2) الفصل، ( 2/266).
(3) الفصل، ( 2/269).(1/34)
إن هذا المنهج في التقسيم هو الغالب في كتاب ابن حزم في بحثه للفرق الإسلامية حيث أنه يحدد مسبقاً ذلك وينبه القارئ إلى أنه سيبحث الأمر وفق ما يقرره هو: (( أما المرجئة فعمدتهم التي يتمسكون بها، الكلام في الإيمان والكفر، ما هما؟ والتسمية بهما، والوعيد، واختلفوا فيما عدا ذلك كما اختلف غيرهم)) (1) ، إن هذه النقطة دقيقة في تحديد عدد محدد لفرق المرجئة. والكلام نفسه يمكن أن يتمسكون بها: الكلام في التوحيد وما يوصف به الباري تعالى، ثم يزيد بعضهم الكلام في القدر والتسمية بالفسق والإيمان والوعيد (2) ، وهذا مشهور عن فرق المعتزلة، خصوصاً خوضها في باب التوحيد إلا أن هذا لا يمنع من مشاركة آخرين لها في هذا المبحث: (( وقد شارك المعتزلة بما يوصف به الباري تعالى جهم بن صفوان ومقاتل بن سليمان(3) .
والأشعرية وغيرهم من المرجئة)) (4) ، وهذا تقسيم جيد واستدراك لطيف منه، ذلك أن أول من فتح هذا الباب هم المعتزلة وقد أخذه عنهم الآخرون، ولا يترك ابن حزم الأمر مهملاًَ، بل أنه يعلل ذلك بقوله: (( إلا أنا اختصصنا المعتزلة بهذا الأصل لأن كل من تكلم في هذا الأصل فهو غير خارج عن مذهب أهل السنة أو قول المعتزلة)) (5) .
__________
(1) الفصل، ( 2/265).
(2) الفصل، ( 2/265).
(3) مقاتل بن سليمان بشر الأزدي الخرساني، كان مشهوراً بوضع الحديث مشبهاً لله تعالى بالمخلوقين، وعده ابن النديم من الزيدية له كتب عديدة أشهرها ( تفسير القرآن) (ت150هـ ) ينظر: ( الفهرست)، (ص277)، الشهرستاني ( الملل والنحل)، (1/ 228).
(4) الفصل، ( 2/265).
(5) الفصل، ( 2/265ـ266).(1/35)
ومعلوم أن فرق الشيعة تجمعها مسألة كلامية مشهورة، استغلها ابن حزم ويوضح لنا منهجه: (( وأما الشيعة، فعمدة كلامهم في الإمامة والمفاضلة بين أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ، واختلفوا فيما عدا ذلك كما اختلف غيرهم)) (1) ، وهذه خطوة موفقة في تمييز فرق الشيعة عن غيرهم، لأنها أصل يجتمعون عليه، ويختصون به، أما الخوارج فتقسيمهم يعتمد على أساس: (( الكلام في الإيمان والكفر ما هما؟ التسمية بهما والوعيد، والإمامة)) (2) .
من كل هذا يتضح أن ابن حزم اعتمد في تقسيمه للفرق الإسلامية على أساس ماهية المباحث الكلامية التي غلبت عليها، وميزت كل فرقة عن الفرق الأخرى، وهو في هذا يضع منهجاً محدداً تحديداً واسعاًُ والهدف منه كما يبدو هو جعل مساحة البحث والعرض واسعة تمكنه من الحركة بيسر وسهولة، وهذه الميزة لا نجدها في الكتب المشابهة.
ثم ينتقل ابن حزم للفرق الغالية، ويبين منهجه في تقسيمها، وهي عنده لا تحمل من الإسلام إلا الاسم: (( وقد أجمع جميع فرق أهل الإسلام على أنه ليس مسلماًَ، مثل طوائف من الخوارج غلو فقالوا: إن الصلاة ركعة بالغداة وركعة بالعشي فقط وآخرون استحلوا نكاح بنات البنين وطوائف كانوا من الشيعة ثم غلو، فقالت بعضهم بإلهية علي بن أبي طالب والأئمة بعده)) (3) ، فهذه طوائف من الغالية وسيفرد لها ابن حزم في نهاية بحثه مبحثاُ خاصاً يحدد فيه مقالات يحمل عنوان: (( ذكر العظائم المخرجة إلى الكفر أو إلى المحال من أقوال أهل البدع )) (4) .
__________
(1) الفصل، ( 2/266).
(2) الفصل، ( 2/266).
(3) الفصل، ( 2/267).
(4) الفصل، ( 5/33).(1/36)
والملاحظة التي تسترعي الانتباه في المبحث الذي خص فيه ابن حزم عرض الآراء الغالية لبعض الفرق الإسلامية، أنه أعطى لعقيدة الأشاعرة حصة الأسد في الباب لذا ذكر فيه (( شنع المرجئة)) وفق تعبيره(1) ، فشن فيه هجوماً قاسياً على عقيدة الأشاعرة بصورة عامة، وبعض آرائهم التي أخذها عن الباجي بصورة خاصة، ويستغرق ذلك صفحات كثيرة(2) . وهذا يجعلنا نتساءل عن أسباب ذلك، وربما يكون عداء فقهاء الأندلس الأشاعرة أثراً في دفعه بهذا الاتجاه، خاصة وقد تعرض لإحراج شديد في مناظرتة مع الباجي، وكان رأساً من رؤوس الأشاعرة(3) ، وبذلك يمكن القول أنه كانت لابن حزم أهداف مذهبية في هذا الكتاب بحيث أنه أخل بمنهجه، على الأقل، وعلى العموم نصل إلى نتيجة خلاصتها أن الفرق عند ابن حزم تقسم إلى قسمين رئيسين، القسم الأول: الفرق التي تنتمي لأهل الإسلام ولم تخرج من إطاره، بحثها في المسائل الكلامية ، القسم الثاني: التي تنتمي لأهل الإسلام ولكنها برأيه ليست من الإسلام في شئ وهم الغلاة، ونجد من المناسب أن نعرض أنموذجاً للقسم الأول لأهميته في إبراز منهجه، وتحديد سماته في تناوله للفرق:
كلام في الرؤية:
إن اختيارنا لهذه المسألة، وجعلها أنموذجاً للداسة يعود إلى أنها كانت مختصرة عند
ابن حزم ولكون النزاع فيها معروفاً ومشهوراً.
يبدأ ابن حزم بإيراد أقوال الفرق بهذه المسألة، وعادة ما يكون التقسيم من فريقين: (( قال أبو محمد: ذهبت المعتزلة وجهم بن صفوان، إلى أن الله عز وجل يرى في الآخرة...... وذهب المجسمة إلى أن الله تعالى يرى في الدنيا والآخرة.
__________
(1) الفصل، ( 5/73).
(2) الفصل، ( 5/73ـ 96).
(3) ابن حزم، الفصل، ( 5/ 74ـ75).(1/37)
وذهب جمهور أهل السنة والمرجئة، وضرار بن عمرو(1) ، من المعتزلة إلى أن الله يرى في الآخرة، ولا يرى في الدنيا وقال الحسين بن محمد النجار هو جائز لم يقطع به (2) ، وهكذا يورد ابن حزم آراء المتكلمين في مسألة الرؤية على شكل ملخص موجز، ثم يبدأ بعد ذلك بتفنيد أقوال المخالفين وهم المجسمة والمعتزلة مبيناً إلى أن الله تعالى يرى في الآخرة: (( بقوة غير القوة الموضوعة في العين الآن، لكن بقوة موهوبة من الله عز وجل )) (3) ، ثم يورد حجة المعتزلة في ذلك وهي قوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (الأنعام:103)، حيث يقول: (( وهذا لا حجة لهم فيه لأن الله تعالى إنما نفى الإدراك عندنا في الله زائد على النظر والرؤية)) (4) ، ثم يبين معنى الإدراك والرؤية والفرق بينهما، وهذا مبحث لغوي قد أوضحنا أسلوب ابن حزم فيه، وبعد أن ينتهي من ذلك يورد بعض الاعتراضات للمعتزلة منها قول الجبائي(5)
__________
(1) هو ضرار بن عمرو القاضي معتزلي جلد، له مقالات خبيثة، شهد عليه أحمد بن حنبل فأمر القاضي بضرب عنقه فهرب وأخفاه يحيي بن خالد، ويعد من رجال منتصف القرن الثالث الهجري، ترجمته عند ابن النديم، ( الفهرست) ( ص 214ـ 215)، ابن حجر: ( لسان الميزان)،(3/203).
(2) الفصل، (3/7).
(3) الفصل، (3/8).
(4) الفصل، (3/8).
(5) هو أبو علي محمد بن عبد الوهاب الجبائي، أحد أعلام المعتزلة،كان إماماً في علم الكلام،رئيس المعتزلة بالبصرة(ت 303هـ ) ترجمته عند ابن خلكان، ( وفيات الأعيان)، ( 4/ 267ـ296)..(1/38)
أن (( إلى )) في قوله تعالى:{ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} (القيامة:22ـ23)، ليست حرف جر لكنها اسم وهي: ( واحدة الآلاء وهي النعم، وهي في موضع مفعول ومعناه نعم ربها منتظرة) (1) يقول ابن حزم راداً هذه الدعوى: ( هذا بعيد لوجهين ....إلخ) ثم يورد رده المحبك المدعوم بالأدلة، حتى إذا انتهى من ذلك كله بدأ بتقرير الرؤية ورؤية الله تعالى يوم القيامة كرامة للمؤمنين لا حرمنا ذلك الله من فضله ) (2) إن هذا العرض السريع لمبحث الرؤية يعطينا تصوراً لمنهج ابن حزم في دراسته للفرق من خلال عقائدها، والمسائل الكلامية التي بحثها، وقد قدمنا فيما سلف الأدوات التي يستخدمها أهل العقائد
وبهذا تقرر أن منهجه إلى حد ما منهج محدد له خطوط واضحة سار بها. إلا أن هذا لم يكن ليعصم ابن حزم من إهمال كثير من الفرق الإسلامية مركزاً على أساس الفرق كما فعل الأشعري والبغدادي والشهرستاني، بل إنه اعتمد منهجاً آخر يرتكز على الأعلام في تحديد المقالات وتقسيمها، وهذا ما سنبينه إن شاء الله تعالى بالمبحث الآتي:
الأعلام:
__________
(1) الفصل، (3/ 8ـ10) ومن المناسب إيراد ابن حزم، وهو ( أن الله تعالى أخبر أنهما تنتظر بعد النضرة وهي النعمة الأول نعمة أخرى لم تقع بعد.. والأمر الثاني أن الأخبار قد تواترت في إثبات هذه الرؤية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .
(2) الفصل، ( 3/ 10).(1/39)
إن مؤرخ الملل والنحل عادة ما يتعامل مع عدد كبير من الأعلام التي لها أهميتها في بيان جذور كثير من الفرق، حيث جعلها علامة بارزة في منهجه، الذي يعتمد عليها في تحديد مسار بحثه أكثر من اهتمامه بأسماء الفرق، وجعلهم من أسس تحديد الآراء والمقالات. والمطالع لمبحث المعتزلة في كتاب الفصل يجد ما قررناه واضحاً فالمنهج الذي يختطه ابن حزم في إيراد مقالات المعتزلة، يستند على أعلام متكلميهم، ومثال ذلك: (( وقالت المعتزلة بأسرها حاشا ضرار بن عبد الله الغطفاني الكوفي، ومن وافقه كحفص الفرد(1) أن جميع أفعال العباد من حركاتهم وسكونهم في أقوالهم التي ذكرها ابن حزم عنه، وأشار كذلك إلى الرأي نفسه من كون حفص الفرد قد تبع ضرار بن عمرو في مقالته هذه. وهذه يدل على أن ابن حزم لم يرتئ التقسيم الذي اتبعه التغدادي لأن طريقتة أيسر وأسهل منه.
__________
(1) هو حفص بن أبي المقدام، كان ـ بالإضافة إلى قول ابن حزم فيه ـ كان ينفى صفات الباري عز وجل، ويشك في عامة المسلمين ويقول: ( لا أدري لعل سرائر العامة كلها شرك وكفر) ، ترجمته عند ابن النديم، الفهرست، ( 229ـ 230) البغدادي، أبو منصور عبد القاهر بن طاهر التميمي، الفرق بين الفرق ( بيروت، 1997)، (ص202).(1/40)
وقد يهتم ابن حزم بذكر معلومات تدور حول العلم، وتعد مهمة بالنسبة له، ومثال ذلك عندما يتحدث عن أبي الهذيل العلاف يقول: (( أبو الهذيل بن مكحول العلاف مولي عبد القيس، بصرى، أحد رؤساء المعتزلة ومتقدميهم )) (1) ، فهو يذكر هنا أنه من الموالي، بصري بالسكن معتزلي العقيدة، وكأنه يلفت انتباه القارئ إلى هذه الصفات التي يلحقها والشئ نفسه يفعله مع آخرين مثل الجاحظ(2) وغيره، وابن حزم يدرس أيضاً التنشئة الاجتماعية للمفكر، وينبه على مكانتها وإن كان هذا بصورة موجزة مختصرة: (( ورأيت لأبي بكر أحمد بن علي بن بيغجور المعروف بابن الأخشيد، وهو أحد أركان المعتزلة، وكان أبوه من أبناء ملوك فرغانة )) (3)، من الأتراك وولي أبوه (4) الثغور وكان هذا أبو بكر ابنه يتفقه للشافعي (5) ، فهو هنا يهتم بذكر أصول هذا الرجل وعائلته ونسبه ومذهبه، وهي مهمة بنظره تستحق أن يطلع عليها القارئ.
أما فيما يخص الفرق الشيعية، فإن الاهتمام بالأعلام يأخذ إطاراً أكبر ويحتل مساحة أوسع، وعادة ما يقسمهم بحسب الإمام الذي دعيت إليه واعتقدت رجعته كقول طائفة منهم: ”أن محمد بن القاسم بن علي بن عمر بن الحسين بن الحسين بن علي بن أبي طالب” (6) حي لم يمت ويفعل الشيء نفسه مع معظم الفرق الشيعية (7)، إن ابن حزم يركز على ذكر أسماء الأئمة كاملة عند تقسيمه لفرق الشيعة حتى لا يقع اللبس بين الأسماء خاصة وأن كثير من الأسماء متشابهة.
__________
(1) الفصل، (5/ 57)،ويقارن بما عند البغدادي، الفرق بين الفرق، (202).
(2) الفصل، (5/ 62).
(3) فرغانة: بالفتح ثم السكون، وعين معجمة، مدينة واسعة بما وراء النهر متاخمة لبلاد تركستان، بينها وبين سمرقند خمسون فرسخاً، الحموي: معجم البلدان،( 4/ 253).
(4) لم أقف على ترجمته.
(5) الفصل، (4/ 107).
(6) لم أقف على ترجمته.
(7) الفصل (4/107).(1/41)
والملاحظ على منهجه هنا أنه عادة ما يكون انتقائيا في ذكر الأعلام، وليس هدفه التحديد والحصر، ولذلك قد لا تكون الاستفادة طيبة عند البحث في تحديد دقيق للفرق الإسلامية في كتاب ابن حزم، هذا في حين أن القارئ يحصل على مبتغاه من فوائد كثيرة إن أراد أن يبحث عن علم من أعلام المعتزلة والمرجئة وغيرها من الفرق وآراءه الكلامية وحججه، ورد ابن حزم عليه، وهذه هي ميزة ابن حزم في كتابه مقارنة بما كتبه الشهرستاني الذي كان هدفه عكس هدف ابن حزم فاهتم بذكر الفرقة وخصائصها، ولم يكن مهتما كثيرا بأعلامها(1).
ولم يكن ابن حزم ليعصم نفسه من الوقوع في بعض الهفوات، والتي هي من سبيل السهو وسبق القلم في إيراده لهذه الأعلام، فعند ذكره لرأس طائفة النجدات لدى فرق الخوارج يسميه نجدة بن عويمر الحنفي (بالتصغير) (2)، بينما تذكره المصادر الباقية باسم نجدة بن عامر(3).
ورغم أنه يصرح في مكان آخر بأن نقل هذه المعلومة من خط الحكم المستنصر (4)، فإن هذا لا يعفيه من مسئوليتها أيضا. وقد يطلق لقبا غربيا على اسم اشتهر بلق آخر مثل لا تسميته أبا مسلم الخراساني (5)، بأبي مسلم السراج(6)، وأنه يذكر أعلاما مبهمة مثل قوله: ”ورأيت رجل يعرف بابن شمعون” (7)،
__________
(1) الفصل (5/35) وينظر: ابن حزم، الجمهرة، (53-54).
(2) الفصل (5/35-40).
(3) مكي خليل حمود، الملل والنحل للشهرستاني، (ص 178).
(4) الفصل، (5/35).
(5) الطبري، محمد بن جرير، "تاريخ الأمم والملوك”، تحقيق: أبو الفضل إبراهيم (القاهرة، 1966)،/ (6/174)، الأشعري، ”مقالات الإسلاميين”، (1/162)، البغدادي، "الفرق بين الفرق"، (66/96).
(6) ابن حزم، الجمهرة، (ص310).
(7) هو عبد الرحمن بن مسلم، واشتهر بكنيته، أحد دعاة بني العباسي، ثم ولي خراسان في عهد الخليفة العباسي الأول، قتله المنصور سنة (137هـ) ينظر أخباره عند: الطبري، التاريخ، (7/377-392)، (448-450).
الفصل، (5/36، 49)، الرسائل، (2/68، 95).
الفصل، (5/97).(1/42)
وهذا يولد تساؤلا لدى القارئ عن أصول هؤلاء الأعلام.
المصطلحات
نجد من المناسب هنا، وقد تطرقنا للأعلام وأهميتها في منهج ابن حزم أن نعرج على بعض المصطلحات التي كانت مثار نزع عند كثير من أصحاب الفرق، وتنازعوا فيها نزاعاً شديداً، ونبين موقف ابن حزم منها، والقيمة المنهجية لها عنده.
الأمر المهم الذي يجب أن نضعه أمام القارئ أن ابن حزم غالباً ما يحاول أن يكون خلفية لكثير من التعابير المتداولة على ألسنة المتكلمين، لأنها باعتقاده ليس لها أصول شرعية، وهذا يعود بالدرجة الأولى إلى مذهبه الظاهري وأثره في نتاجه الفكري بصورة عامة، فنجده يعترض على مصطلح " الصفة" ويتهم المعتزلة باختراع هذه اللفظة: " وسلك سبيلهم قوم من أصحاب الكلام، سلكوا غير مسلك السلف الصالح ليس فيهم أسوة ولا قدوة وحسبنا الله ونعم الوكيل"ز ولكن ابن حزم نفسه يحاول أن يؤول في هذه الصفات والتي هي عنده أسماء وقد يلتقي مع بعض آراء المعتزلة في هذا الاتجاه (1)، واتهمه ابن تيمية بنفي الصفات لهذا السبب وعلل تخبط ابن حزم في ذلك: " بسبب أنه أخذ أشياء من أقوال الفلاسفة والمعتزلة عن بعض شيوخه ولم يتفق له من بين لهم خطأهم" (2)، ويمكن أن نلتمس لابن حزم العذر في ذلك، كما التمسه له ابن تيمية، إذ أنه بالإضافة إلى عدم وجود من يبين خطأ الفلاسفة له، إنه لم يكن ينفي الصفات بل أنه اعترض على هذا المصطلح فقط، وكان مذهبه الظاهري سبباً قوياً لذلك (3).
__________
(1) الفصل، (2/363 – 385)، أبو زهرة، ابن حزم، (221).
(2) ابن تيمية: منهاج السنة النبوية، تحقيق محمد رشاد سالم (الرياض، 1986)، (2، 584).
(3) ينظر للتفاصيل: مهدي طه مكي الصالحي، آراه ابن حزم فيما بعد الطبيعة رسالة ماجستير غير منشورة (جامعة بغداد، كلية الآداب، 1987)، (175 – 179).(1/43)
وعند نقاشه أوجه المفاضلة بين الصحابة، يكثر من الاهتمام بهذا الجانب ويعده أساساً منهجياً مهماً، فلابد أن يعرف الخليفة قبل أن يخوض في مسألة الخلافة فيقول: " الخليفة في اللغة: هو الذي يستخلفه المرء لا الذي يخلفه دون أن يستخلفه هو" (1)، وهو هنا يلجأ إلى تعريف هذا المصطلح عند مناقشة أمر الخلافة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والأمر فيها مشهور، في حين نجده ينبه إلى أن بعض المصطلحات تحتاج إلى تفصيل، وما زلنا في باب المفاضلة بين الصحابة، واحتجاج البعض بأن علياً - رضي الله عنه - كان أكثر الصحابة جهاداً وطعناً في الكفار وضرباً والجهاد أفضل الأعمال: " قال أبو محمد: هذا خطأ لأن الجهاد ينقسم أقساماً ثلاثة: أحدها: الدعاء إلى الله عز وجل باللسان، والثاني: الجهاد عند الحرب بالرأي والتدبير، والثالث: الجهاد باليد في الطعن والضرب"(2)، إن هذا المنهج في بيان المصطلحات يقوده إلى رسم خطوط واضحة لمسار فقرات كثيرة من كتابه، ويتخذه طريقة للتعبير، وفي الوقت نفسه الذي تكون للبيان والتدليل، وفي هذا المقام لا ينسى أن ينبه على مسألة في غاية الأهمية وهي التي اصطلح عليها: " التدليس" ويحذر القارئ منها قبل أن يدخل إلى مبحث الفرق الإسلامية: ولكن ربما دلسوا المعنى الفاحش بلفظ ملتبس ليسهلوه على أهل الجهل، ويحسن الظن بهم من أتباعهم" (3)، وبذلك يحدد ابن حزم مصطلح خاص به ويحذر القارئ منه. فقط تختلط بعض المصطلحات على من لا علم له بالأمر، مما قد يسبب فهماً خاطئاً، ويمثل لنا في ذلك: " كقول طوائف من أهل البدع والضلال: لا يوصف الله تعالى بالقدرة على المحال وعلى الظلم ولا على الكذب، ولا على غير ما علم أنه يكون، فأخفوا عظيم الكفر في هذه القضية لما ذكرنا من تلبيس الأغمار من اتباعهم. وتسكين الدهماء من مخالفيهم ... "(4)،
__________
(1) الفصل، (4/176).
(2) الفصل، (4/183- 184).
(3) الفصل، (5/33).
(4) الفصل، (5/33)..(1/44)
وفي هذا إشارة واضحة من قبله على ضرورة الموضوعية في مثل هذه الكتابات، خصوصاً وأن لها دوراً أساسياً في بيان الخلاف وأصله بين الفرق المختلفة.
على أننا إن تتبعنا إطلاق ابن حزم التسميات على الفرق التي نسب إليها المقالات، لا يهتم كثيراً بذكرها على حسب ما اشتهرت به كما فعل الشهرستاني من بعده (1)، ونجده انتقائياً في ذلك، فأول الطوائف الرئيسية التي يتناولها هم الشيعة بفرقها المتعددة، ويذكر أسماء عدد كبير منها (2)، في حين أنه لا يذكر إلا النزر اليسير من فرق المعتزلة، والمرجئة، وهذا الأمر يجعلنا نتساءل، لماذا أورد بعض المصطلحات وغض النظر عن البعض الآخر؟ وهنا لا نستطيع إلا أن نقول: أنه لم يبر مبرراً لتحديدها وفق المصطلحات المتداولة بين المؤرخين، لأن هذه المصطلحات في الأساس غير ثابتة المفهوم، وكأنه يعني ذلك عندما يصرح بأنه يعتقد أن الكيسانية شعبة من الزيدية (3)، رغم أن كلاً من البغدادي (4)، والشهرستاني (5)، عدها صنفاً مستقلاً عن الزيدية.
من خلال ما مر، نستطيع أن نرسم خطوط عامة لاستخدام ابن حزم للمصطلح وتوظيفه لخدمة منهجه العلمي، بالرغم من أنه لم يستطع أن يحدد لنا كثير من تلك المصطلحات التي اعتاد كثير منا أن يجدها على شكل قائمة طويلة في كتب الملل والنحل، ولكن غرض ابن حزم كان واضحاً هو: عدم التقييد بمصطلحات سرعان ما تكون مثار نزاع بين أهل هذا الفن نفسه من أهل الكلام.
أسباب نشوء الفرق عند ابن حزم:
__________
(1) مكي خليل حمود، الملل والنحل للشهرستاني (177- 178).
(2) الفصل، (5/35 – 49).
(3) الفصل، (5/35).
(4) الفرق بين الفرق ، (ص 15).
(5) الملل والنحل، (1/235).(1/45)
لقد اعتنى ابن حزم بأسباب نشوء الفرق الإسلامية، والبحث في أصولها، وقدم لنا أسباباً هي في نظرهن رئيسية تتمثل في الكيد بالإسلام بعد أن سيطر على العالم حسداً من بعض، وحقداً من البعض الآخر ويمكن أن نحدد نشوء الفرق الإسلامية بنظره إلى الأسباب الآتية:
1- الأسباب السياسية: وفيه يتضح جلياً أن ابن حزم يركز فيه على دور بعض الفرس الذين مثلوا هذا الاتجاه أبرز تمثيل بقوله: " إن الفرس، كانوا من سعة الملك وعلو اليد على جميع الأمم، وجلالة الخطر في أنفسهم حتى أنهم كانوا يسمون الأحرار الأبناء، وكانوا يعدون سائر الناس عبيداً لهم، فلما امتحنوا بزوال الدولة عنهم على أيدي العرب، وكان العرب أقل الأمم عند الفرس خطراً تعاظم الأمر، وتضاعفت لديهم المصيبة وراموا يد الإسلام بالمحاربة في أوقات شتى، ففي كل ذلك يظهر الله الحق .... " (1)، فوضوح هذا النص، وصدق تفسيره، لا يحتاج إلى أي تحليل، وهو لا يكتفي بهذا الجانب بل إنه يبين الوسائل التي اتخذها هؤلاء من أجل الوصول إلى مآربهم وهي:
__________
(1) الفصل، (2/273).(1/46)
أ- الخروج عن السلطة المركزية الإسلامية، ومحاربتها وعلناً بواسطة دعوة الناس إلى حركات هدامة ظاهرة الإلحاد مثل حركة بابك الخرمي (1)، والمقنع (2)، وغيرهما (3).
ب- محاولة الالتفاف حول السلطة المركزية الإسلامية عن طريق أعوان يتظاهرون بالولاء لها، والطعن بظهرها، مثل دعوة أبي مسلم السراج (الخراساني) (4).
جـ- اتخاذ التشيع لآل البيت رضي الله عنهم وسيلة لاستمالة قوم من أهل الإسلام " ثم سلكوا بهم مسالك شتى حتى أخرجوهم من السلام"(5).
__________
(1) بابك الخرمي، إليه تنسب الطائفة الخرمية، وقد أحدث مذهبهم: القتل والغصب والحروب والمثلة، وقاد حرباً عنيفة ضد الدولة العباسية، ذكره الطبري لأول مرة في حوادث سنة (201هـ) واستمرت حركته حتى سنة (223هـ) حينما حمل رأسه إلى المعتصم. ينظر: الطبري، " تاريخ الأمم والملوك"، (8/556)، (9/11 – 16)، (23-55)، ابن النديم: الفهرست، (406، 407)، قحطان عبد الرحمن الدوري، " الحركات الهدامة في الإسلام" (بغداد 1989)، (85 – 184).
(2) ظهر أول مرة سنة (161هـ) في مرو بخراسان، وكان يقول بتناسخ الأرواح، واستدرج بشراً كثيراً، قتل (سنة 163هـ). ينظر الطبري،، التاريخ (8/35، 144).
(3) الفصل، (2/273).
(4) الفصل، (2/273).
(5) الفصل، (2/273).(1/47)
د- محاولة إحياء المعتقدات المجوسية من مزدكية ومانوية وغيرهما، وتمريرها إلى بعض الفرق الإسلامية مثل الإسماعيلية (1)، والقرامطة (2)، وهذا ما أشار إليه بقوله: إن سر هاتين الطائفتين يعود إلى المزدكية (3).
وهكذا نجده يحلل مقاصد أعداء الإسلام وينبه المسلمين إلى الخطر المحدق بهم، سابقاً بذلك كثير من العلماء قدامى ومحدثين وقد وجدنا في عصرنا الحاض من يتبنى هذا الراي ويدافع عنه منهم على سبيل المثال عبد الفتاح المغربي (4)، وأحمد شلبي (5)، وقحطان الدوري (6) من المسلمين، ودوزي وملر (7) من المستشرقين.
__________
(1) الإسماعيلية: طائفة من الشيعة قالت بإمام إسماعيل بن جعفر الصادق، واختلفوا فيه، فمنهم من قال أنه مات ومنهم من قال بل أظهر موته تقية، واشتهرت هذه الفرقة أيضاً باسم الباطنية، ينظر معتقداتهم عند: البغدادي: "الفرق بين الفرق" (265 – 299)، الشهرستاني، " الملل والنحل"، (1/330- 345)، وقد اعتنى بدراسة هذه الفرقة برناردلويس، أصول الإسماعيلية، ترجمة خليل أحمد جلو، جاسم محمد رجب (القاهرة 1962).
(2) القرامطة: نسبة إلى رجل من سواد الكوفة يقال له قرمط، لهم مذهب مذمومة وظهروا سنة (281هـ) في خلافة المعتضد، وطالت أيامهم وعظمت شوكتهم، انظر: ابن خلكان، وفيات الأعيان، (2/146 – 150).
(3) الفصل، (1/87)، (2/274).
(4) عبد الفتاح المغربي، الفرق الكلامية الإسلامية (القاهرة 1988)، (ص 147).
(5) أحمد شلبي، حركات فارسية مدمرة ضد الإسلام والمسلمين عبر العصور (القاهرة، 1988)، (ص 57).
(6) الدوري، الحركات الهدامة، (ص 26).
(7) بوليوس فلهاوزن، أحزاب المعارضة السياسية في صدر الإسلام، الخوارج والشيعة، ترجمة عبد الرحمن بدوي (القاهرة 1958)، (ص 240 – 241).(1/48)
2- الأسباب الاجتماعية: نبه ابن حزم مبكراً إلى العوامل الاجتماعية التي أسهمت في ظهور بعض الفرق، فالخوارج بنظره: " كانوا أعراباً قرأوا القرآن قبل أن يتفقهوا في السنة الثابتة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يكن فيهم أحد من الفقهاء ولا الصحابة" (1)، فهم حاولوا نقل جفاء البادية إلى سماحة الإسلام فوقعوا فيما وقع فيه: " ولهذا تجدهم يكفر بعضهم بعضاً عند أقل نازلة تنزل بهم من دقائق الفتيا وصغارها"(2).
وهذا يدل على النظرة الشمولية التي نظر بها ابن حزم لهذا الفرقة، بحيث استطاع أن يقدم لنا تعليلاً مقنعاً لسبب ظهورها، وهذا يدل على عمق تفكيره، وصدق حدسه.
__________
(1) الفصل، (4/237).
(2) الفصل، (4/237).(1/49)
3- الأسباب الفكرية: ومن الأسباب المهمة التي أدت إلى ظهور الفرق في نظره في الناحية الفكرية، ونجده على هذا يعد اليهود على رأس هذا الاتجاه، ويرجع إليهم نشوء بعض مذاهب الباطنية في الإسلام، كما فعلوا ذلك في النصرانية، فدسوا فيهم من حرف دينهم وشوه عقيدتهم (1)، وفي رأيه يرجع سبب ظهور الغلاة من الشيعة إلى كيد عبد الله بن سبأ اليهود (2) الذي تظاهر بالسلام ليضل من يستطيع إضلاله من المسلمين (3)، وقد ناقش كلام ابن حزم هذا عدد من الباحثين المعاصرين (4)، ولم يكتف اليهود (بنظره – بسلك هذا الجانب فقط، بل اتخذوا سلاح الفكر وسيلة لبث سمومهم في جسد الإسلام، وعلى وجه الخصوص علمائهم منهم: الفيومي (5) المغمر داود بن قزوان وغيرهم من مفكري اليهود (6)، وشاركهم في ذلك أيضاً بعض مفكري النصارى، وأشد الناس تأثراً بهذا الجانب هم المعتزلة(7)،
__________
(1) الفصل، (2/89 – 90).
(2) هو من يهود اليمن، وقد أظهر الإسلام لغرض الكيد بأهله، رحل إلى الحجاز والبصرة والكوفة ودمشق، وأظهر مقالات خبيثة منها القول برجعة النبي - صلى الله عليه وسلم - وألوهية علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - إليه تنسب الطائفة السبائية، وهم من غلاة الشيعة، ينظر ابن حزم، الفصل، (5/36) ، الشهرستاني الملل والنحل، (1/289 – 291). وقد اعتنى بدراسة هذه الشخصية وأثبتت بكونها حقيقة: محمد سليمان العودة، عبد الله بن سبأ واثره في إحداث الفتنة في صدر الإسلام (الرياض، 1985)، (38 – 52).
(3) الفصل، (1/ 325 – 326).
(4) ينظر بهذا الخصوص ما كتبه العودة، عبد الله بن سبأ، (53 – 104).
(5) هو سعيد بن يوسف الفيومي من متكلمي اليهود وعلمائهم، قال ابن النديم " وقد أدركه جماعة في زماننا" الفهرست، (ص 25).
(6) لم أقف على ترجمته.
(7) الفصل، (3/207)..(1/50)
كما أن بعض الفرس قد سلكوا هذا السبيل أيضاً فقاموا بتمويه الكلام بأصول فلسفية وإلحادية وتمريرها بمعتقدات المسلمين عن طريق إحياء الفكر المجوسي القديم، بالترجمة والحرص على نشره بين الناس (1).
ونرى من ذلك الاهتمام الشديد الذي يوليه ابن حزم لأسباب ظهور الفرق في التاريخ الإسلامي، ويشكل بحثه في هذا المضمار عنصراً بارزاً من عناصر منهجه، ولا بد من الشارة إلى أمور أعانته وهي في حقيقتها أداوته الخاصة في هذا الاتجاه وتتمثل فيما يأتي:
1- الخبر:
إن دراسة طبيعة تعامل ابن حزم مع الخبر مهمة في بيان قيمة منهجه العلمي خاصة وهو يبدأ دراسته للفرق الإسلامية بهذا القول الذي يدل على الأمانة العلمية: " وليعلم من قرأ كتابنا هذا أننا لا نستحل ما يستحله من لا خير فيه من تقويل أحد ما يقله نصاً" (2)، ولابن حزم نظرة شمولية للخبر التاريخي، لأنه لا يفرق بين الكافة من الناس سواء كانت كافرة أم مسلمة: " ومن قال لا أصدق لا ما نقلته كتاب المسلمين فإننا نسأله: بأي شيء صح عنده موت ملوك الروم ولم يحضره مسلم أصلاً، وإنما نقلته إلينا يهود عن نصارى" (3)، وبطبيعة الحال فإنه يعد تاريخ الملة الإسلامية أصح شيء عنده (4).
__________
(1) الفصل، (3/207).
(2) الفصل، (5/33).
(3) الفصل، (4/23).
(4) الرسائل، (4/79).(1/51)
ويختصر ابن حزم الطريق مع مناظريه في مناقشه الأخبار، فهو عند مناقشة الأخبار بين أهل السنة والشيعة يختصر الأمر فيقول: " فلا معنى لاحتجاجنا عليهم برواياتنا فهم لا يصدقونها، ولا معنى لاحتجاجهم علينا برواياتهم فنحن لا نصدقها" (1)، فيبدأ بمناقشة الأخبار التي اتفق الجانبان عليها مثل احتجاجهم بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعلي - رضي الله عنه - : " أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي " (2)، وهنا يثير حس القارئ ويبين له مغزى الحادثة بأسلوب علمي رصين حيث يقول: " إنما قاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا استخلف علياً - رضي الله عنه - على المدينة في غزوة تبوك، فقال له المنافقون استثقله فخلفه، فلحق علي برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فشكى إليه ذلك، فقال له ما قال" (3)، إن هذا البرهان الذي يقدمه لنا يدل على تمكنه من الإحاطة بالحادثة التاريخية، في الوقت نفسه الذي يدل على علمه الواسع بالسيرة، والذي أعانه أكثر على فرض وجهة نظره تلك الثقافة الجيدة التي تمتع بها، وهو لا يتردد حتى في طرح أصل هذا الاستخلاف في التوراة نفسها وهو أن: " هارون لم يل أمر بني إسرائيل بعد موسى عليهما السلام، وإنما ولي الأمر بعد موسى عليه السلام يوشع بن نون
__________
(1) الفصل، (4/159).
(2) مسلم، الصحيح، (4/1870 – 1871) ، الترمذي، السنن، (5، 638).
(3) الفصل، (4/159 – 160)، وينظر: ابن هشام، السيرة، (2/519 – 520).(1/52)
(1)، فتى موسى وصاحبه الذي سافر معه في طلب الخضر عليهما السلام، كما ولي الأمر بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صاحبه في الغار الذي سافر معه إلى المدينة " (2)، من هذا الأنموذج الذي قدمناه يتضح بجلاء توظيف ابن حزم للخبر التاريخي لدراسة مسائل الخلاف عند الفرق، وفيه يتجلى لنا أصالة بحثه وسعة ثقافته، وهذه المسابقة التي تميز بها، هي مهمة لبيان موقفه من مختلف المسائل الخلافية التي ترد في كتابه.
وهو يخضع الخبر لميزان العقل ولا يسلم به على عيوبه، لأن تمحيص الخبر التاريخي من أهم مهام المؤرخ، فعند مناقشته لقول من ادعى أن وفاة عثمان - رضي الله عنه - : " أقام مطروحاً على مزبلة ثلاثة أيام فكذب بحث، وإفك موضوع، وتوليد من لا حياء في وجهه، شهد دفنه طائفة من الصحابة هذا ما لا يتمارى فيه ممن له علم بالأخبار" (3)، من خلال هذا يمكن القول أن فهم ابن حزم للخبر التاريخي، كان مدخلاً أساسياً لعرض وجهات النظر عند الفرق الإسلامية، وفي الصورة التي قدمناها نرى الجهود الطيبة لهذا المفكر الذي حاول حل هذه المسائل بالاعتماد على الخبر وجعله وسيلة من وسائل المؤرخ لفرق المسلمين، وفي تتبع ظهورها، وبيان حججهم وأقوالهم، في الوقت نفسه الذي يوضح لنا مكانة ابن حزم كمؤرخ للفرق الإسلامية، وقيمة نتاجه في هذا الميدان.
2- النقد:
__________
(1) ورد في التوراة: " وكان بعد موت موسى عبد الرب أن الرب كلم يوشع بن نون خادم موسى قائلاً، فالآن قم اعبر هذا الأردن أنت وكل هذا الشعب إلى الأرض التي أنا معطيها لهم أي لبني إسرائيل " سفر يوشع. الإصحاح الأول، (1-3).
(2) الفصل، (4/159).
(3) الفصل، (3/239).(1/53)
ينبع اهتمام العلماء المسلمين بعلم الجرح والتعديل لسند الحديث النبوي الشريف من مكانة هذا العلم في نفوس المسلمين، وكثرة أهل البدع والضلال من أصحاب الفرق ممن كانوا ينتحلون الحديث لنصرة مذهبهم ومعتقدهم، فتصدى لهؤلاء العلماء المخلصون لهذا الدين ووضعوا القواعد لنقد الحديث النبوي (1).
__________
(1) الخطيب البغدادي، الكفاية، (ص 105 – 106).(1/54)
وبقدر تعلق الأمر بابن حزم، الذي يعد من حفاظ الحديث ونقاده، فقد أعطى نصيباً لهذا الجانب، واهتم به، والملاحظ عليه بصورة عامة أنه من المتشددين في نقد الرجال (1)، وكذلك أنه أطلق على عدد من الرواة المشهورين لفظ "مجهول"(2)، وأشهر هؤلاء محمد بن عيسى الترمذي صاحب السنن (3)، وأشار ابن حجر إلى ذلك وتتبع بعض الهفوات التي وقع فيها في هذا الجانب (4). أما مسألة تشدده في نقد الرجال، فقد أشار إليها السخاوي، وعدت هذه النقطة من المآخذ عليه، إذ هو يجر الرجل لأدنى حجة، مثل تضعيفه رواية المنهال بن عمرو (5)، وأسقط روايته حيث يقول عنه: " تركه شعبه وغيره"(6)، وتعقب ابن القيم كلام ابن حزم في هذا الرجل ورده حيث قال: " وتضعيف ابن حزم له لا شيء فإنه لم يذكر موجباً لتضعيفه غير تفرده بقوله فتعاد روحه إلى جسده، ولم يتفرد بها بل رواها غيره"(7)، ومن هذا المثال يتضح أن ابن حزم كان متشدداً في نقد الرجال، ولذلك لم يأخذ معظم علماء الحديث كلام ابن حزم إذا انفرد بترجيح رجل، كما هي القاعدة عند أئمة هذا الفن " لا يؤخذ من المتشدد إذا خالف الآخرين"(8)،
__________
(1) السخاوي، الإعلان بالتوبيخ، (722 – 723).
(2) ويعني عند أهل الحديث: " هو الرجل الذي لم يشتهر بطلب العلم في نفسه، ولا عرفه العلماء، ومن لا يعرف حديثه إلا من وجهة راو واحد" الخطيب البغداي، الكفاية، (ص 88).
(3) ابن حجر، تهذيب التهذيب، (9/388).
(4) ابن حجر، لسان الميزان، (1/432).
(5) المنهال بن عمرو، وثقه ابن معين والعجلي والكوفي، وقد روى عن أنس وغيره وتركه شعبة لأنه سمع في بيته صوت طنبور، ينظر: الخطيب البغدادي، " الكفاية" (ص 112)، ابن حجر: " تهذيب التهذيب"، (10/318 – 321).
(6) الفصل، (4/119).
(7) ابن قيم، محمد بن أبي بكر الجوزية، الروح (بيروت، 1975)، (ص 48).
(8) محمد ناصر الدين الألباني، سلسلة الأحاديث الصحيحة، (دمشق، بلات). (1/1/140)..(1/55)
على أن هذا لا يقلل من جهوده في هذا المجال، بل إنه أجاد في معظم الأماكن في هذا الشأن مثل قوله عن أبي الحمراء(1): " لا يعرف من هو في الخلق"(2)، وبهذا أدخل ابن حزم علم الجرح والتعديل في دراسته لحجج وأدلة الفرق الإسلامية، وهي ميزة تكاد تختفي عند مؤرخي الملل والنحل الآخرين، وفيها تصور واضح عن أساس آخر من الأسس التي اعتمدها.
__________
(1) أبو الحمراء: له صحبة إلا أنه لا يصح حديثه كما ذهب إلى ذلك ابن حجر، تهذيب التهذيب، (121/78).
(2) الفصل، (4/161)(1/56)
وقد يحذر القارئ من الرواية عن بعض الإخباريين الذين اشتهروا بكثرة الرواية عن أهل الكتاب مثل روايات الكلبي (1)، وكعب الأحبار (2)، ووهب بن منبه (3)، ويتضح لنا بذلك المنهج النقدي عنده ودقته، حيث كان هدفه أن يطبق منهج المحدثين على الخبر التاريخي، ولم يكتف بنقده السند أو كما يسمى بالنقد الخارجي، بل إنه كان له أسلوبه في النقد الداخلي مثل ادعاء البعض بأن علي - رضي الله عنه - لم يكن له سمي وينتقد هذا الادعاء معتمداً على ثقافته العالية في النسب فيقول: " بل كان في العرب من يسمون هذا الاسم كعلي بن وائل (4)، إليه يرجع كل بكري في العالم نسبة، وفي الأزد علي، وفي بجليلة علي وغيرها، وكل ذلك في الجاهلية مشهور، وأقرب من كل ذلك عامر بن الطفيل يكنى أبا علي (5)، ومجاهرتهم أكثر مما تذكر"(6). إن هذا يوضح الأساس في مناقشة ابن حزم للخبر التاريخي، الذي يمثل في كثير من الأحيان سبب لإثارة الخلاف بين الفرق الإسلامية.
3- الإحصاء:
__________
(1) الفصل، (2/238)، والكلبي هو هشام بن محمد بن السائب، عالم بالكتب وأخبار العرب له قائمة طويلة من المؤلفات ذكرها ابن النديم (ت204 هـ)، ينظر ابن النديم، الفهرست، (ص 108 – 118)، ابن حجر، لسان الميزان، (6/169 – 170).
(2) كعب الأحبار، هو كعب بن ماتع الحميرين من مسلمة أهل الكتاب، كان كثير الرواية عن الكتب السماوية القديمة (ت32هـ)، ترجمته عند: أبي نعيم الأصفهاني، حلية الأولياء، (5/364 – 391)، (6/48).
(3) وهب بن منبه هو أبو عبد الله الصنعاني مؤرخ كثير الأخبار عن الكتب القديمة عالم بالأساطير لا سيما الاسرائيليات (ت110هـ) ترجمته عند: ابن سعد ، الطبقات، (5/543)، ابن حجر: تهذيب التهذيب، (11/166 – 168).
(4) ينظر: ابن حزم، الجمهرة، (ص 309).
(5) ينظر: ابن حزم، الجمهرة، (ص 285).
(6) الفصل، (5/41).(1/57)
اهتم ابن حزم بلغة الأرقام، وجعلها من أدوات بحثه التاريخية في سابقة لا نظير لها بين المؤرخين في كتب العقائد والفرق الذين وصلت إلينا كتبهم. وهو بمنهجه هذا يحاول أن يثبت صدق برهانه، وسعة اطلاعه، ولا يغفل عن ربطه بباقي البراهين الأخرى التي اتبعها، وأوضح أنموذج لدراسة هذا الجانب هو عند بحثه مسألة المفاضلة بين الصحابة التي يعتمد فيها من ضمن ما يعتمد على أمور إحصائية ففي تقييمه لشخصية أبي بكر - رضي الله عنه - ، يبين أنه أفقه الصحابة وأكثرهم رواية، إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار: " أنا أبا بكر - رضي الله عنه - لم يعش بعد رسول الله إلا سنتين وستة أشهر"(1)، وهو أيضاً لم يكن قد غادر المدينة في خلافته إلا حاجاً أو معتمراً، ومع ذلك فقد: " روى عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مائة حديث واثنان وأربعون حديثاً مسندة "(2)، كما أنه كان ورعاً في مدة خلافته فلم يستعمل أحداً من أقربائه في الأعمال والأمصار، بالرغم من أنه كان له أقرباء من خيار الصحابة (3). كما أنه كان أول الناس إسلاماً برأيه، وذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث وعمره ثمان وثلاثين سنة مقارنة بغيره من الصحابة وهذا السن فيه كمال العقل والمكانة الاجتماعية فكانت قوة معنوية للنبي عليه الصلاة والسلام (4)، وحتى بعد أن تولى الخلافة - رضي الله عنه - كان زاهداً في المعيشة متكففاً بها: " فما اتخذ جاريه ولا توسع في مال، وعد عند موته ما أنفق على نفسه وولده من مال الله عز وجل الذي لم يستوف منه إلا بعض حقه وأمر بصرفه إلى بيت المال من صلب ماله الذي حصل له من سهامه في المغازي "(5).
__________
(1) الفصل، (4/213).
(2) الفصل، (4/213).
(3) الفصل، (4/217).
(4) الفصل، (1/218).
(5) الفصل، (1/216).(1/58)
وقد اقتصرنا على ذكر هذه الأمور التي لها علاقة بالإحصاء أما وجوه المفاضلة الباقية، فيكفي أن نحيل القارئ إلى الكتاب ليرى ذلك بنفسه (1)، المهم هنا أن ابن حزم يحاول أن يبرهن لنا أن الإحصاء مهم في عملية الاستدلال، وقدمنا صورة واضحة هنا، وتدل هذه الصفة فيه على حسن اختياره لوسيلة البحث إضافة إلى سعة وسائل الإقناع الأخرى، وهي مكملة للموضوع وساندة له، وهذه هي نقطة الإبداع في نتاجه.
__________
(1) الفصل، (4/164 ، 211)، (5/204).(1/59)
سلسلة بحوث وتحقيقات مختارة من مجلة الحكمة (26)
بقلم
Almodhe1405@hotmail.com
almodhe@yahoo.com
ربما يحمل هذا الموضوع حساسية خاصة بسبب الاختلاف القائم بني بعض أعلام الدعوة إلى منهج السلف رضوان عليهم في مفهومه والعمل به، وإني إذْ أبحث فيه فإني لا أقصد أن أنتصر لطرف على آخر، بل أقصد المساهمة في الإصلاح ما استطعت، فكل المختلفين هم من رجال الدعوة الأفاضل وأعلامها، وكل له من الفضل والسبق ما يزكيه بإذن الله عن التعصب والانتصار للنفس، وإنما هو اجتهاد العلماء وهم مأجورون جميعًا رغم اختلافهم، وإن كان الاختلاف مذمومًا.
ولا بد من الإشارة إلى أنَّ هذا المبحث (الموازنة بين الحسنات والسيئات في الحكم على الأشخاص) مرتبط بشكل حتمي بما سبق نشره في (الحكمة: العدد السابق: تزاحم الأحكام الشرعية عند شيخ الإسلام ابن تيمية) وقد سبقت الإشارة والتعليق على الموضوع في حينه. ولكن لما كان لهذا الموضوع خصوصيته وأهميته أفردته في هذا المبحث.
كما لابد من الإشارة أيضًا إلى أن (الحكمة) نشرت في العدد التاسع بحثًا يرتبط بهذا الموضوع وهو (القواعد العلمية في النقد عند شيخ الإسلام) للأخ الباحث عبد الله بن محمد الحيالي.
مواضع النزاع الواقعة بسبب الحكم إلى الأعيان
من المشاكل القائمة في وقاعنا المعاصر والتي تسبب توهينًا للصف الإسلامي: مشكلة التطرف في تقييم كثير من الشخصيات الإسلامية التي ساهمت بقدر أو بآخر في بذل ما تملك من الفضل والخير في إصلاح واقع الأمة، ممن يعدون رموزًا وأعلامًا عند طوائف من المسلمين.(1/1)
وابتداء لا بدّ من معرفة أن كثير من هؤلاء الأعلام ليسوا علماء، بل هم دعاة برزوا في ظروف معينة صعبة – وما أكثر المصاعب في واقع الأمة – قلّ فيها العلماء، وزاد في الأمة البلاء فعظمت الحاجة إلى الجهود والفضل الذي قدمه هؤلاء الرجال ضمن تلك الظروف الزمانية والمكانية. وبالتالي فإن وقوع هؤلاء الأعلام في أنواع من الأخطاء والبدع والشطحات، أمر متوقع ليس بغريب، وتبرز هنا مشكلة أن هذه البدع قد يقتدي بها اتباعهم ظنًا منهم أنها من الدين، فتعين التنبيه عليها تحذيرًا وتنبيهًا لهم من الوقوع بها. وهنا لا بد من بذل الحكمة في النصح، فإن واقع الأمة لم يتحرر بعد من الجهل والتعصب والحزبية ونحوها من الموروثات السيئة التي خلفتها قرون السبات المظلم. ولكن بوادر الصحوة الإسلامية المعاصرة تنبيء عن نور ساطع ينير للبشرية سبيل الرشاد بإذن ربهم، بتوظيف جوانب الخير والقوة عند كل المسلمين، وتضعيف جوانب الجهل والتعصب بالتناصح الأخوي والتدرج المتفاعل مع الواقع.
ولغرض البدء الصحيح في معالجة الإختلافات القائمة في هذا الباب يمكن تحليل الموضوع إلى الآتي:
1- موضع الخطأ (اجتهاد أو بدعة أو معصية).
2- حكم الشرع في من وقع بهذا الخطأ على وجه الإطلاق.
3- حكم الشرع على الشخص المعين الذين وقع بهذا الخطأ.
4- تقدير المصلحة الشرعية في الإعلان عن الشخص المعين الذي قارف الخطأ تحذيرًا ونصحًا للأمة.
ولو اكتفينا بهذا القدر من التحليل، فإن المتتبع ليدرك بيسر أن المتنازعين من أهل العلم متفقون على تقرير موضع الخطأ وحكم الشرع فيمن وقع فيه على الإطلاق، ولكن يقع الاختلاف في الحكم على المعين من جهة، ثم تقدير المصلحة في إظهار هذا الحكم للعامة من جهة أخرى.
وعلى هذا فإن الاختلاف في الحقيقة ليس اختلافًا منهجيًا، بل هو اختلاف محتمل، انحصر في موضعين هما من أصعب المواضع من جهة تحديد الحكم:(1/2)
الأول: الحكم على الأعيان حيث يشترط فيه ثبوت الشروط وانتفاء الموانع.
والثاني: تقرير المصلحة حيث يرتبط تقريرها بالموازنة بين المصالح والمفاسد، وكلما تقاربت كلما زادت صعوبة تقرير أي الأمرين أرجح، فيتسع بذلك الإعذار للمختلفين.
الردُّ على أهل البدع إذا لم يقصد به بيان الحق وهدي الخلق لم يكن عملاً صالحًا(1/3)
إنّ من أهم المقاصد الشرعية للبيان والدعوة هو هداية الخلق جميعًا لعبادة الله تعالى وفق شرعه، وصيانة الدين مما يعبث به الجهلة من أبنائه، وحمايته مما يكيد به أعدائه، وهذا معلوم من الدين بالضرورة. ثم إن الشريعة نصبت لهذه المقاصد وسائل لتحقيقها كاللين بالقول والفعل أو الشدة فيهما أو الثواب أو العقاب أو الاختصار أو التفصيل أو السكوت أو التأخير وغير ذلك من الوسائل. إن هذه الوسائل غير مقصودة لذاتها، بل هي مقصودة لغيرها فهي حتى للمقصد الواحد متنوعة من جهة ومتفاوتة من جهة ثانية، ثم إنها منضبطة بضوابط شرعية من جهة ثالثة، ومحكومة بالمقصد من جهة رابعة. وبالتالي فلا يباشر بتلك الوسائل إلا مقترنة باستحضار المقاصد والضوابط، فهي لا تستقل بنفسها البتة. فإن تمت مباشرتها مستقلة لم تكن مما أمر الله ولم تكن من الأعمال الصالحة، فإن أصبحت هي المقصودة لذاتها كانت ظلمًا، لأن الظلم وضع الشيء في غير موضعه. فإن اقترن بها ما يشينها من تعصب أو مقصد دنيوي لم تنصب له، كانت فسادًا. ذلك لأن المقصد الأسمي هو الإصلاح وهداية الناس إلى ما يحبه الله تعالى وبرضاه، كما قال تعالى على لسان شعيب عليه السلام: {إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله} [هود/ 88]، وقال على لسان إبراهيم عليه السلام: {فاتبعني أهدك صراطًا سويا} [مريم/43]، وقال على لسان مؤمن آل فرعون: {يا قوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد} [غافر/38]، بل أن الله تعالى قد وصف كتابه الكريم بالهدى: {ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين} [البقرة/2]،: {وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون} [النحل/64]، : {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق} [الفتح/28] ، وغير ذلك من الآيات الكريمات.(1/4)
والدعوة إلى الله تعالى وبيان دينه من أعظم الوسائل لأعظم المقاصد، وبالتالي فالحفاظ عليها وعلى مقصدها الذي هو هداية الخلق من أعظم الطاعات لله تعالى.
وبيان الحق لأهل البدع لا يخرج عن ذلك، فإن مقصد الدعوة في أهل البدع والضلال أولى منها في أهل الحق بل وأعظم أجرًا عند الله تعالى، ولذلك قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعلي بن أبي طالب - رضي الله عنهم - حين أعطاه الراية يوم خيبر (انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم، فو الله لئن يهدي الله بك رجلاً واحدًا خير لك من أن تكون لك حمر النعم) (البخاري في الجهاد 143 عن سهل بن سعد).
قال شيخ الإسلام في (منهاج السنة 5/239): "الرد على أهل البدع من الرافضة وغيرهم إن لم يَقْصُد فيه بيان الحق وهدي الخلق ورحمتهم والإحسان إليهم، لم يكن عمله صالحًا. وغذا غلّظ في ذم بدعة ومعصية كان قصده بيان ما فيها من الفساد ليحذرها العباد، كما في نصوص الوعيد وغيرها. وقد يهجر الرجل عقوبة وتعزيرًا والمقصود بذلك ردعه وردع أمثاله، للرحمة والإحسان، لا لتشفي والانتقام" أز÷ـ.
ولكي لا يفهم من كلام شيخ الإسلام أن مجرد حسن القصد يسوغ الغلظة والشدة فقد بين أن القصد يجب أن يكون الرحمة والإحسان، حيث يكون المقصود رجحان كون تلك الغلظة والشدة مظنة الصلاح والإصلاح لذلك الشخص بعينه وفي ذلك الوقت وفي تلك الحال، إذ الأصل عدم الغلظة والشدة في الدعوة بل اللين والرحمة كما في قوله تعالى: {اذهبا إلى فرعون إنه طغى فقولا له قولاً لينا} [طه/44]، وقوله تعالى: {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظًا غليظ القلب لانفضوا من حولك} [آل عمران/159]، ولا يعدل عن الأصل إلا في حال معين عارض يكون فيه هذا العدول أرجح.
ولهذا نقل عن علي رضي الله عنه أنه قال: "حدثوا الناس بما يعرفون أتحبون أن يكذب الله ورسوله". (رواه البخاري تعليقًا في العالم 49).(1/5)
الخطأ في الاجتهاد في مسائل العقيدة
قد يظن البعض أنه لا يمكن وقوع الاجتهاد في مسائل العقيدة، وأن من أخطأ في مسألة من مسائل العقيدة فإنه لا يتصور أن يكون معذورًا أو مأجورًا، لأن حديث أجر المجتهد المخطئ لا ينطبق إلا على من اجتهد في مسائل الفقه العملية. إن هذا التصور في الحقيقة ليس له سند شرعي وأنه لا فرق في العذر والأجر في كل مجتهد ممن هو معدود في العلماء الذين اجتهدوا في مسائل الدين فأخطأوا قبل أن يظهر لهم الحق فيها. وقد أكد شيخ الإسلام عدم الفرق هذا في مواضع عدة:
فقال في كلامه على اختلاف اجتهادات الصحابة في المسائل الشرعية في المجموع (19/123): "وتنازعوا في مسائل علمية اعتقادية، كسماع الميت صوت الحي، وتعذيب الميت ببكاء أهله، ورؤية محمد - صلى الله عليه وسلم - ربه قبل الموت، مع بقاء الجماعة والألفة.
وهذه المسائل منها ما أحد القولين خطأ قطعًا، ومنها ما المصيب في نفس الأمر واحد عند الجمهور اتباع السلف والآخر مؤد لما وجب عليه بحسب قوة إدراكه" أ.هـ.(1/6)
وقال في كلامه على الاجتهاد في المسائل الأصولية العلمية وغيرها ناقلاً مذاهب المختلفين فيها في المجموع (19/206 – 207): "والقول المحكي عن عبيد الله بن الحسن العَنْبَري (1) هذا معناه: أنه كان لا يؤثم المخطيء من المجتهدين من هذه الأمة لا في الأصول ولا في الفروع، وأنكر جمهور الطائفتين من أهل الكلام والرأي على عبيد الله هذا القول، وأما غير هؤلاء فيقول: هذا قول السلف وأئمة الفتوى كأبي حنيفة والشافعي، والثوري وداود بن علي وغيرهم، لا يؤثمون مجتهدًا مخطئًا في المسائل الأصولية ولا في الفروعية، كما ذكر ذلك عنهم ابن حزم وغيره، ولهذا كان أبو حنيفة والشافعي وغيرهما يقبلون شهادة أهل الأهواء إلا الخطابية ويصححون الصلاة خلفهم.
والكافر لا تقبل شهادته على المسلمين ولا يصلي خلفه، وقالوا هذا هو القول المعروف عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة الدين أنهم لا يكفرون ولا يفسقون ولا يؤثمون أحدًا من المجتهدين المخطئين، لا في مسألة عملية ولا علمية، قالوا: والفرق بين مسائل الفروع والأصول إنما هو من أقوال أهل البدع من أهل الكلام والمعتزلة والجهمية ومن سلك سبيلهم، وانتقل هذا القول إلى أقوام تكلموا بذلك في أصول الفقه، ولم يعرفوا حقيقة هذا القول ولا غيره.
قالوا: والفرق بين ذلك في مسائل الأصول والفروع، كما أنها محدثة في الإسلام لم يدل عليها كتاب ولا سنة ولا إجماع، بل ولا قالها أحد م السلف الأئمة" أ.هـ.
__________
(1) هو عبيد الله بن الحسن بن الحصين العَنْبَري، من تميم: قاض، من الفقهاء العلماء بالحديث من أهل البصرة ومن ساداتها فقهًا وعلمًا، ولي القضاء سنة 157هـ وتوفي سنة 166هـ.(1/7)
ثم قال شيخ الإسلام مؤكدًا وناصرًا هذا الأصل فقال في المجموع (19/216 – 217): "وهذا فصل الخطاب في هذا الباب، فالمجتهد المستدل من إمام وحاكم وعالم وناظر ومفت وغير ذلك إذا اجتهد واستدل فاتقى الله ما استطاع كان هذا هو الذي كلفه الله إياه، وهو مطيع لله مستحق للثواب إذا اتقاه ما استطاع، ولا يعاقبه الله البتة خلافًا للجهمية المجبرة، وهو مصيب، بمعنى أنه مطيع لله. لكن قد يعلم الحق في نفس الأمر وقد لا يعلمه، خلافًا للقدرية والمعتزلة في قولهم: كل من استفرغ وسعه علم الحق، فإن هذا باطل كما تقدم، بل كل من استفرغ وسعه استحق الثواب" أ.هـ.
وقال شيخ الإسلام في المجموع (20/33 – 36): "والخطأ المغفور في الاجتهاد هو في نوعي المسائل الخبرية والعلمية كما بسط في غير [هذا] الموضع. كمن اعتقد ثبوت شيء لدلالة آية أو حديث، وكان لذلك ما يعارضه ويبين المراد ولم يعرفه، مثل من اعتقد أن الذبيح اسحق لحديث اعتقد ثبوته، أو اعتقد أن الله لا يُرى، لقوله: {لا تدركه الأبصار} [الأنعام/ 103]، ولقوله: {وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيًا أو من وراء حجاب} [الشورى/ 51]، كما احتجت عائشة بهاتين الآيتين على انتفاء الرؤية في حق النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وإنما يدلان بطريق العموم.
وكما نقل عن بعض التابعين أن الله لا يُرى، وفسروا قوله: {وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة} [القيامة/22]، بأنها تنتظر ثواب ربها، كما نقل ذلك عن مجاهد وأبي صالح.
أو من اعتقد أن الميت لا يعذب ببكاء الحي، لاعتقاد أن قوله تعالى: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} [فاطر/18] يدل على ذلك، وأن ذلك يقدم على رواية الراوي لأن السمع يغلط، كما اعتقد ذلك طائفة من السلف والخلف.
أو أعتقد أن الميت لا يسمع خطاب الحي، لاعتقاده أن قوله: {إنك لا تسمع الموتى} [النمل/80] يدل على ذلك.(1/8)
أو اعتقد أن الله لا يعجب، كما اعتقد ذلك شريح، لاعتقاده أن العجب إنما يكون من جهل السبب، والله منزه عن الجهل.
أو اعتقد أن الله لا يعجب، كما اعتقد ذلك شريح، لاعتقاده أن العجب إنما يكون من جهل السبب، والله منزه عن الجهل.
أو أعتقد أن عليا أفضل الصحابة لاعتقاده صحة حديث الطير، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (اللهم أئتني بأحب الخلق إليك، يأكل معي من هذا الطائر) (1).
أو أعتقد أن من جبس للعدو وعلمهم بغزو النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو منافق، كما اعتقد ذلك عمر في حاطب، وقال: دعني اضرب عنق هذا المنافق.
أو أعتقد أن من غضب لبعض المنافقين غضبة فهو منافق، كما أعتقد ذلك أسيد بن حضير في سعد بن عبادة، وقال: إنك منافق تجادل عن المنافقين.
أو أعتقد أن بعض الكلمات أو الآيات أنها ليست من القرآن، لأن ذلك لم يثبت عنده بالنقل الثابت، كما نقل عن غير واحد من السلف أنهم أنكروا ألفاظًا من القرآن، كإنكار بعضهم: {وقضى ربك} [الإسراء/23]، وقال: إنما هي (ووصى ربك). وأنكر بعضهم قوله: {وإذ أخذ الله ميثاق النبيين} [آل عمران /81]، وقال: إنما هو ميثاق بني إسرائيل، كذلك هي في قراءة عبد الله. وإنكار بعضهم: {أفلم ييأس الذين آمنوا} [الرعد/ 31]، إنما هي (أو لم يتبين الذين آمنوا). وكما أنكر عمر علي هشام بن الحكم، لما رآه يقرأ سورة الفرقان على غير ما قرأها. وكما أنكر طائءفة من السلف على بعض القراء بحروف لم يعرفوها، حتى جمعهم عثمان على المصحف الإمام.
__________
(1) شيخ الإسلام بتفصيل عن هذا الحديث في "منهاج السنة" (4/ 76، 77، 99، 100).(1/9)
وكما أنكر طائفة من السلف والخلف أن الله يريد المعاصي، لاعتقادهم أن معناه أن الله يحب ذلك ويرضاه ويأمر به. وأنكر طائفة من السلف والخلف أن الله يريد المعاصي، لكونهم ظنوا أن الإرادة لا تكون إلا بمعنى المشيئة لخلقها، وقد علموا أن الله خالق كل شيء، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، والقرآن جاء بلفظ الإرادة بهذا المعنى وبهذا المعنى، لكن كل طائفة عرفت أحد المعنيين وأنكرت الآخر.
وكالذي قال لأهله إذا أنا مت فأحرقوني، ثم ذروني في اليم فو الله لئن قدر الله علي ليعذبني عذابًا لا يعذبه أحد من العالمين.
وكما قد ذكره طائفة من السلف في قوله تعالى: {يظن أن لن يقدر عليه أحد} [البلد/ 5]، وفي قول الحوارين: {هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء} [المائدة/112]، وكالصحابة الذين سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - : هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فلم يكونوا يعلمون أنهم يرونه. وكثير من الناس لا يعلم ذلك، إما لأنه ظن أنه كذب وغلط" أ.هـ.
يتبين من كلام شيخ الإسلام أن الأصل العام في مذهب السلف رضوان الله عليهم عدم التفريق في جواز الاجتهاد بين المسائل الفقهية والمسائل العقائدية التي لا تعلم من الدين بالضرورة، ثم أن هناك سعة وتنوعًا في الاختلاف في هذه المسائل العقائدية. وأكد شيخ الإسلام على بقاء الأخوة والألفة عند سلف الأمة الصالح ولو مع وقوع مثل هذا الاختلاف.
فضرب أمثلة لبيان جواز وقوع الأخطاء الإٌعتقادية اجتهادًا تتنوع كالتالي:(1/10)
1- عدم اعتقاد صحة حديث هو في الحقيقة صحيح أو اعتقاد صحة حديث هو في الحقيقة غير صحيح. كمن فضل عليًا رضي الله عنه لاعتقاده صحة حديث الطير. ويلاحظ أنه أطلق الفاعل ولم يقيده بكونه صحابي أو غير صحابي، أو تابعي أو غير تابعي. حيث قد يحتج البعض بأن وقوع الخطأ من الصحابي لا حجة فيه، من جهة أن الدين لم يكتمل وأن القرآن ينزل، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - يعلّم الصحابة ما يجب عليهم اعتقاده، بخلاف من بعدهم ممن ولد بعد اكتمال الدين.
2- اعتقاد تعارض آية مع حديث، كما وقع مع عائشة رضي الله عنها في الرؤية، وكما وقع عند طائفة من السلف والخلف في تعذيب الميت ببكاء الحي. وكما ذكره مطلقًا عند من أنكر سماع الميت للحي استدلالاً بالآية.
3- اجتهاد في تأويل النص، كما وقع لمجاهد وأبي صالح في الرؤية، وكما وقع لشريح في صفة العجب، وكما وقع لطائفة من السلف والخلف في إنكار الإرادة.
إقامة الحجة
من المعلوم أن العذاب أو العقاب لا يكون إلا بعد إقامة الحجة الشرعية؛ ولكن قد يعتقد البعض إنَّ ذلك يتحقق بتلاوة آيات من القرآن الكريم أو ذكر أحاديث نبوية أو أقوال لعلماء معينين، ثم يحق له بعد ذلك أن يباشر إطلاق أحكام التكفير والتبديع والتفسيق على من ألقى إلى أسماعهم تلك النصوص.
ولا شك أن الأمر أعظم من ذلك وأنه لو ساغ ذلك لاضطرب أمر الأمة ولقاتل بعضها بعضًا، وكل من القاتل والمقتول يتدين إلى الله بهذا القتال لتطبيق حكم الله على الكفار والمبتدعة والفساق، على حسب ظنهم واعتقادهم، وهم جميعًا صادقون مع أنفسهم في هذا الظن الذي هو باطل في الحقيقة.
ومع أن هذا المبحث لا يتسع لاستيفاء مثل هذا الموضوع الخطير، فإنه لا بد من ذكر بعض الضوابط العامة التي تنفع الداعية المسلم في ضبط الأحكام المتعلقة بالأعيان في تعامله مع المجتمع:
1- ما هي مهمة المسلم؟(1/11)
إن المهمة الأساس للداعية بعد العبادة هي بيان الحق والدعوة إليه، كما قال تعالى: {وما على الرسول إلا البلاغ المبين} [النور/54]. وأن العبد مسؤول يوم القيامة عن التبليغ دون الحكم على الأعيان. وإن اهتمام الداعية المسلم بأحكام التكفير أو التبديع ونحوها على الأعيان المسلمين سيوقعه في التقصير في أمرين: الأول: المهمة الأساس، مهمة الدعوة والبيان، ذلك لأنه سينشغل بإثبات تلك الأحكام والتحقيق عن أفعال المعينين ومدى انطباقها عليهم من جهة إثبات الشروط وانتفاء الموانع. والثاني: وقوعه عمليًا بالخصام مع المسلمين الملتزمين إجمالاً دون غيرهم من أعداء الدين. وفي هذا إضعاف للألفة الواجبة بين المسلمين أمام أعدائهم.
2- الحكم على الأعيان من مهام القضاء الشرعي.
إن الحكم على الأعيان المظهرين للإسلام – على وجه العموم – هو من مسائل القضاء الشرعي الذي يختص به العلماء الذين ينتصبون للقضاء دون غيرهم. وأما بالنسبة للحكام التي تستوجب الاستتابة والتعزير فلا بد من التعزير بالسلطان. فإن أكثر هذه الأحكام تستلزم الإستتابة مع استيفائها ثبوت الشروط وانتفاء الموانع، حيث تكون الإستبانة أعظم فسادًا من التائب منها؛ وبالتالي يكون استحقاقه للحكم ظاهر. ولا شك أن فقد الإستتابة يضيع هذا الضابط.
أما تصدي غير العلماء والقضاة لهذه المهام فإن فيه فسادًا عظيمًا، من حيث عدم الضابط في تحديد وحصر من يقوم بذلك من جهة، ثم إن القصور القائم في هؤلاء سينتج عنه باطل ظاهر فيما يخرجونه من الأحكام، يزيد الفرقة والبغي بين المسلمين من جهة أخرى.
3- أحكام التبديع والتفسيق على المعينين مثل أحكام التكفير لا تكون إلا بعد إقامة الحجة وثبوت الشروط وانتفاء الموانع:(1/12)
قال في المجموع (10/372): "فإن نصوص الوعيد التي في الكتاب والسنة ونصوص الأئمة بالتكفير والتفسيق ونحو ذلك لا يستلزم ثبوت موجبهًا في حق المعين إلا إذا وجدت الشروط وانتفت الموانع، لا فرق في ذلك بين الأصول والفروع، هذا في عذاب الآخرة فإن المستحق للوعيد من عذاب الله ولعنته وغضبه في الدار الآخرة خالد في النار أو غير خالد، وأسماء هذا الضرب من الكفر والفسق يدخل في هذه القاعدة سواء كان بسبب بدعة اعتقادية أو عبادية أو بسبب فجور في الدنيا وهو الفسق بالأعمال" أ.هـ.
وقال في (المجموع): "والصحيح أن هذه الأقوال التي يقولونها التي يعلم أنها مخالفة لما جاء به الرسول كفر، وكذلك أفعالهم التي هي من جنس أفعال الكفار بالمسلمين هي كفر أيضًا. وقد ذكرت دلائل ذلك في غير هذا الموضع، لكن تكفير الواحد المعين منهم والحكم بتخليده في النار موقوف على ثبوت شروط التكفير وانتفاء موانعه. فإنا نطلق القول بنصوص الوعيد والتكفير والتفسيق، ولا نحكم للمعين بدخوله في ذلك العام حتى يقوم فيه المقتضى الذي لا معارض له. وقد بسطت هذه القاعدة في (قاعدة التكفير)" أ.هـ.
4- ما الفرق بين تبليغ النبي - صلى الله عليه وسلم - وتبليغ الدعاة اليوم؟(1/13)
إن الفرق بين تبليغ النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحابته رضوان الله عليهم وبين تبليغ الدعاة المعاصرين فرق ظاهر، من حيث إثبات حقيقة نسبة المسألة المراد تبليغها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - دلالة ونقلاً، فليس هناك إشكال في إثبات ذلك بالنسبة لعصر الصحابة والتابعين، في حين لا يكون هذا سهلاً كلما زاد البعد عن العصور الأولى بسبب كثرة الاختلاف في الاجتهادات الفقهية وغيرها على مرّ الزمن من قبل العلماء والمنسوبين إلى العلم عند عوام الناس، هذا من حيث الدلالة، أما من حيث ثبوت النقل فقد نسبت كثير من النصوص غير الصحيحة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - إما وضعًا أو ضعفًا، وكما هو معلوم إن العامي الذي يقتدي بعالم أو مذهب ما: لا يمكن أن يثبت له صاحب السنة الصحيحة بسهولة أن ما يقوله أصدق نسبة؛ وذلك من حيث الدلالة والنقل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - مما يقول له من يتبعه أو يقلده، فضلاً عن إنه غير مستعد أصلاً للخوض في تفاصيل الأدلة على إثبات ذلك بسبب قصوره في إدراك تفاصيل الاستدلال والأدلة، وبالتالي يبقى معذورًا إذا لم يظهر له أن الحق عندك وليس عند عالمه وإمامه.
5- الإعذار وتعسر حصر الموانع للشخص المعين:(1/14)
وهذا ضابط في غاية الأهمية، ذلك لأن كثيرًا ممن يتصدى للحكم على أعيان المسلمين يحاول أن يختصر هذه الموانع ويحصرها، ثم يعمد إلى إثبات عدمها في هذا المعين لم يحكم عليه بما شاء، ظانًا أنه قد استوفى تحقيق إثبات الشروط وانتفاء الموانع. وهو في الحقيقة مخطئ، ذلك لأن الموانع أمر نسبي يختلف من شخص لآخر كما يختلف باختلاف الأحوال، فما يمكن أن يفهمه شخص معين، قد لا يفهمه شخص آخر لاختلاف المدارك واختلاف البنية العلمية السابقة، وهذا لا يمكن ضبطه البتة. كما إن كثيرًا من الناس يُعلم أنهم صادقون مع أنفسهم في ردهم الحق ظنًا منهم أنه خطأ وأن ما عندهم هو الحق الذي جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، ولكن تعرض عليهم شبه لا يمكن ضبطها، يعجزون معها على فهم الحق. فهؤلاء لا يمكن أن يقال عنهم أن الحجة أقيمت عليهم حتى لو بذل الداعي لهم عظيم وسعه في إفهامهم والنصح لهم بما يمليه عليه واجب الدعوة والبيان. وإذا كان هذا صحيحًا عند المخالفين، فإن ضبط الصدق أمر غيبي متعسر ليس هو مما كلف الله به العباد أن ينقبوا عنه في قلوب بعضهم، وإنما يتولى الله تعالى وحده سرائر الناس، ولأن الله تعالى يعلم أن العباد عاجزون عن ضبط ذلك، وأنهم إذا أصابوا في البعض فإنهم سيخطئون في البعض الآخر.
ونذكر أدناه أهم الموانع التي من شأنها أن تكون عذرًا للمسلم في عدم المؤاخذة بما فعل من باطل:
الجهل:(1/15)
الجهل هو من أعظم أسباب التخلف والضعف في الأمة، كما قال تعالى: {إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلومًا جهولا} [الأحزاب/ 72]. وقد أرسل الله تعالى الرسل مبلغين ومبشرين ومنذرين؛ ليخرج الناس من الظلمات إلى النور معبدين لله تعالى كما أمر، مقيمين لشرعه كما حكم. ولكن، من رحمة الله تعالى على عباده أن جعل الجهل عذرًا في عدم العذاب كما قال تعالى: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} [الإسراء/ 15]، ولكنه عذر قدري، لا يجوز التمسك به أو إبقائه إن أمكن رفعه بالعلم، وغلا ما أرسل الله رسله، ولا أنزل كتبه، ولا أمر بالدعوة إلى سبيله، ولأعذر الناس بجهلهم وأدخلهم الجنة.
وقد يحصل الجهل مع عدم التمكن من العلم، وقد يحصل مع التمكن من العلم بسبب هوى أو تقصير أو انشغال بالدنيا، فيؤاخذ المرء بقدر ذلك الهوى والتقصير، لا يؤاخذ كمن هو عالم غير جاهل، وتفصيل هذا في غير هذا الموضع.
وقد يعلم المرء مقدمات يجهل لوازمها الشرعية بسبب دقة تلك اللوازم أو العجز عن فهمها فيحصل جهل بالكثير من تلك اللوازم الشرعية، وهذا النوع كثير الوقوع.
قال في المجموع (7/ 538): "الجهل ببعض أسماء الله وصفاته لا يكون صاحبه كافرًا إذا كان مقرًا بما جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولم يبلغه ما يوجب العلم بما جهله على وجه يقتضي كفره إذا لم يعلمه" أ.هـ.
وقال في الرد على البكري (ص 259): "كنت أقول للجهمية من الحلولية والنفاة الذين نفوا أن الله فوق العرش لما وقعت محنتهم: أنا لو وافقتكم كنت كافرًا؛ لأني أعلم أن قولكم كفر، وأنتم عندي لا تكفرون لأنكم جهال. وكان هذا خطابًا لعلمائهم وقضاتهم وشيوخهم وأمرائهم" أ.هـ.(1/16)
وقال في كلامه على مذهب وحدة الوجود (2/367): "وأما الجهال الذين يحسنون الظن بقول هؤلاء ولا يفهمونه، ويعتقدون أنه من جنس كلام المشايخ العارفين، الذين يتكلمون بكلام صحيح لا يفهمه كثير من الناس، فهؤلاء تجد فيهم إسلامًا وإيمانًا ومتابعة للكتاب والسنة بحسب إيمانهم التقليدي، وتجد فيهم إقرارًا لهؤلاء وإحسانًا للظن بهم وتسليمًا لهم بحسب جهلهم وضلالهم، ولا يتصور أن يثني على هؤلاء إلا كافر ملحد أو جاهل ضال" أ.هـ.
ثم قال (2/379): "ولكن لقولهم سر خفي وحقيقة باطنة لا يعرفها إلا خواص الخلق، وهذا السر أشد كفرًا وإلحاحًا من ظاهره، فإن مذهبهم فيه دقة وغموض وخفاء قد لا يفهمه كثير من الناس.
ولهذا تجد كثيرًا من عوام أهل الدين والخير والعبادة ينشد قصيدة ابن الفارض ويتواجد عليها ويعظمها، ظانًا أنها من كلام أهل التوحيد والمعرفة وهو لا يعلم مراد قائلها، وكذلك كلام هؤلاء يسمعه طوائف من المشهورين بالعلم والدين، فلا يفهمون حقيقته" أ.هـ.وقال في كلامه على مباينة الله تعالى للعالم (5/306): "ويقول المثبت نفي مباينته للعالم وعلوه على خلقه باطل، بل هذه الأمور مستلزمة لتكذيب الرسول فيما أثبته لربه وأخبر عنه، وهو كفر أيضًا، لكن ليس كل من تكلّم بالكفر يكفر، حتى تقوم عليه الحجة المثبتة لكفره؛ فإذا قامت عليه الحجة كفر حينئذ؛ بل نفي هذه الأمور مستلزم للتكفير للرسول فيما أثبته لربه وأخبر به عنه؛ بل نفي للصانع وتعطيل له في الحقيقة.
وإذا كان نفي هذه الأشياء مستلزمًا للكفر بهذا الاعتبار وقد نفاها طوائف كثيرة من أهل الإيمان، فلازم المذهب ليس بمذهب، إلا أن يستلزمه صاحب المذهب، فخلق كثير من الناس ينفون ألفاظًا أو يثبتونها بل ينفون معاني أو يثبتونها ويكون ذلك مستلزمًا لأمور هي كفر، وهم لا يعلمون بالملازمة بل يتناقضون، وما أكثر تناقض الناس لا سيما في هذا الباب، وليس التناقض كفرًا" أ.هـ.
الخطأ في الاجتهاد:(1/17)
الخطأ في الاجتهاد من أوسع أبواب الموانع الشرعية إذا اتقى المستدل الله تعالى وبذل ما يستطيع من العلم. والتوكيد هنا على التقوى أمر هام، فإن المرء المسلم لا ينبغي أن يعمد إلى الاستدلال من نفسه إذا كان جاهلاً وهو يقدر على سؤال من يعتقد علمه من العلماء، إلا إذا اضطر لذلرك لظرف ما، وإلا حصل فساد عظيم، كما يوجد شيء من ذلك في واقعنا المعاصر.
قال شيخ الإسلام في المجموع (19/316): "فالمجتهد المستدل من إمام وحاكم وعالم وناظر ومفت وغير ذلك إذا اجتهد واستدل فاتقى الله ما استطاع كان هذا هو الذي كلفه الله إياه، وهو مطيع لله مستحق للثواب إذا اتقاه ما استطاع، ولا يعاقبه الله البتة خلافًا للجهمية المجبرة، وهو مصيب، بمعنى أنه مطيع لله. لكن قد يعلم الحق في نفس الأمر وقد لا يعلمه، خلافًا للقدرية والمعتزلة في قولهم: كل من استفرغ وسعه علم الحق، فإن هذا باطل كما تقدم، بل كل من استفرغ وسعه استحق الثواب" أ.هـ.
وقال في المجموع (10/546): "وهذا من أسباب فتن تقع بين الأمة، فإن أقوامًا يقولون ويفعلون أمورًا هم مجتهدون فيها، وقد أخطئوا فتبلغ أقوامًا يظنون أنهم تعمدوا فيها الذنب، أو يظنون أنهم لا يعذرون بالخطأ، وهم أيضًا مجتهدون مخطئون، فيكون هذا مجتهدًا مخطئًا في فعله، وهذا مجتهدًا مخطئًا في إنكاره، والكل مغفور لهم، وقد يكون أحدهما مذنبًا، كما قد يكونان جميعًا مذنبين" أ.هـ.
التأويل:
التأويل هو نوع من الاجتهاد الخاطئ مبني على مقدمات يعتقد المتأول صحتها مع أنها في نفس الأمر ليست صحيحة.(1/18)
قال في المجموع (3/ 283 – 284): "وإذا كان المسلم متأولاً في القتال أو التكفير لم يكفر بذلك كما قال عمر ابن الخطاب لحاطب بن أبي بلتعة: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : إنه قد شهد بدرًا، وما يدريك أن الله اطلع على أهل بدر، فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم؟، وهذا في الصحيحين، وفيهما أيضًا من حديث الإفك: أن أسيد بن الحضير قال لسعد بن عبادة: إنك منافق تجادل عن المنافقين، واختصم الفريقان فأصلح النبي - صلى الله عليه وسلم - بينهم، فهؤلاء البدريون فيهم من قال لآخر منهم: إنك منافق، ولم يكفر النبي - صلى الله عليه وسلم - لا هذا ولا هذا، بل شهد للجميع بالجنة.
وكذلك ثبت في الصحيحين عن أسامة بن زيد أنه قتل رجلاً بعد ما قال لا إله إلا الله وعظم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لما أخبره وقال: يا أسامة أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله؟ وكرر ذلك عليه حتى قال أسامة: تمنيت أني لم أكن أسلمت يومئذ. ومع هذا لم يوجب عليه قودًا، ولا دية، ولا كفارة، لأنه كان متأولاً ظن جواز قتل ذلك القائل لظنه أنه قالها تعوذًا" أ.هـ.
وقال في المجموع (12/ 494): "فمن كان قد آمن بالله ورسوله ولم يعلم بعض ما جاء به الرسول فلم يؤمن به تفصيلاً، إما أنه لم يسمعه أو سمعه من طريق لا يجب التصديق بها، أو اعتقد معنى آخر لنوع من التأويل الذي يعذر به، فهذا قد جعل فيه من الإيمان بالله وبرسوله ما يوجب أن يثيبه الله عليه، وما لم يؤمن به فلم تقم عليه به الحجة التي يكفر مخالفها"أ.هـ.
قال في المجموع (22/23): "فالأحوال المانعة من وجوب القضاء للواجب والترك للمحرم: الكفر الظاهر والكفر الأصلي وكفر الردة والجهل الذي يعذر به لعدم خطاب أو لمعارضة تأويل باجتهاد أو تقليد" أ.هـ.(1/19)
قال في كلامه على وجوب الصلاة في المسجد في المجموع (23/ 231): "فإن قيل فأنتم اليوم تحكمون بنفاق من تخلف عنها وتجوزون تحريق البيوت عليه إذا لم يكن فيها ذرية.
قيل له: من الأفعال ما يكون واجبًا ولكن تأويل المتأول يسقط الحد عنه، وقد صار اليوم كثير ممن هو مؤمن لا يراها واجبة عليه، فيتركها متأولاً، وفي زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - لبم يكن لأحد تأويل، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد باشرهم بالإيجاب" أ.هـ.
قد يكون التأويل الذي قصده شيخ الإسلام في عدم شهود الجماعة في المسجد، هو البعد والاتساع مثلاً أو الجهل أو التقليد لمن لا يذهب إلى وجوبها، ونحو ذلك.
تفاوت قدرة الناس من جهة، ودقة وظهور العلم من جهة أخرى.
من الموانع المهمة التي تؤثر في قبول ورد المسائل الشرعية، لا سيما المسائل العلمية التي وقع فيها الخلاف بين الأمة: التفاوت الواقع في أمرين مترابطين:
الأول: في قابلية استيعاب العوام لفهم دلالة تلك المسائل وأدلتها والتمييز بين الاختلاف الواقع بين هذه الدلالات والأدلة .
والثاني: في دقة المسائل الشرعية نفسها، حيث يتفاوت ذلك تفاوتًا كبيرًا بين مسائل ظاهرة الوضوح دلالة وأدلة، ومسائل خفية دقيقة دلالة، وأدلة لا يهتدي إلى الحق فيها إلا من آتاه الله تعالى نظرًا محققًا ونقلاً مصدقًا وتوفيقًا من عند الله مباركًا.
من الواضح أن التفاوت الأول هو تفاوت فطري، والثاني هو تفاوت قدري، وبالتالي فلا لوم على أحد فيهما. إن اجتماع هذين التفاوتين سبب معتبر للخلاف، لا سيما في المسائل العلمية الدقيقة. ولكن هل يسلم لمثل هذا الخلاف؟ لا شك أنه لا يسلم إلا للحق من حيث هو حق، ولكن يراعى هذا التفاوت من جهة زيادة البيان إيضاحًا ومن جهة الرفق فيه، ثمّ من جهة إعذار المخالف بعدم رميه بأحكام التكفير والتبديع ونحوها.(1/20)
قال في المجموع (3/312): لا ريب أنه يجب على كل أحد أن يؤمن بما جاء به الرسول إيمانًا عامًا مجملاً، ولا ريب أن معرفة ما جاء به الرسول على التفصيل فرض على الكفاية فإن ذلك داخل في تبليغ ما بعث الله به رسول، وداخل في تدبر القرآن وعقله وفهمه، وعلم الكتاب والحكمة وحفظ الذكر، والدعاء إلى سبيل الرب بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن، ونحو ذلك مما أوجبه على المؤمنين فهو واجب على الكفاية منهم.
وأما ما يجب على أعيانهم فهذا يتنوع بتنوع قدرهم ومعرفتهم وحاجتهم، وما أمر به أعيانهم فلا يجب على العاجز عن سماع بعض العلم أو عن فهم دقيقه ما يجب على القادر على ذلك، ويجب على من سمع النصوص وفهمها من علم التفصيل ما لا يجب على من لم يسمعها، ويجب على المفتي والمحدث والمجادل ما لا يجب على من ليس كذلك" أ.هـ.
وقال في المجموع (3/314): "فإذا كان كثير مما تنازعت فيه الأمة – من هذه المسائل الدقيقة – فقد يكون عند كثير من الناس مشتبهًا لا يقدر فيه دليل يفيد اليقين، لا شرعي ولا غيره، لم يجب على مثل هذا في ذلك مالا يقدر عليه، وليس عليه أن يترك ما يقدر عليه من اعتقاد قوي غلب على ظنه لعجزه عن تمام اليقين، بل ذلك الذي يقدر عليه، لا سيما إذا كان مطابقًا للحق فالاعتقاد المطابق للحق ينفع صاحبه ويثاب عليه ويسقط به الفرض إذا لم يقدر على أكثر منه.
لكن ينبغي أن يعرف أن عامة من ضل في هذا الباب، أو عجز فيه عن معرفة الحق فإنما لتفريطه في اتباع ما جاء به الرسول، وترك النظر والاستدلال الموصل إلى معرفته، فلما أعرضوا عن كتاب الله ضلوا، كما قال تعالى: {فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى} [طه/ 123] قال ابن عباس: تكفل الله لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة ثم قرأ هذه الآية" أ.هـ.(1/21)
وقال في المجموع (20/165 – 166): "ولا ريب أن الخطأ في دقيق العلم مغفور للأمنة وإن كان ذلك في المسائل العلمية، ولولا ذلك لهلك أكثر فضلاء الأمة، وإذا كان الله يغفر لمن جهل تحريم الخمر لكونه نشأ بأرض جهل؛ مع كونه لم يطلب العلم، فالفاضل المجتهد في طلب العلم بحسب ما أدركه في زمانه ومكانه إذا كان مقصوده متابعة الرسول بحسب إمكانه هو أحق أن يتقبل الله حسناته ويثيبه على اجتهاداته، ولا يؤاخذه الله بما أخطأ تحقيقًا لقوله:{ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} [البقرة/ 286].
قال أيضًا في المجموع (2/379): "ولكن لقولهم سر خفي وحقيقة باطنة لا يعرفها إلا خواص الخلق، وهذا السر أشد كفرًا وإلحادًا من ظاهره، فإن مذهبهم فيه دقة وغموض وخفاء قد لا يفهمه كثير من الناس.
ولهذا تجد كثيرًا من عوام أهل الدين والخير والعبادة ينشد قصيدة ابن الفارض ويتواجد عليها ويعظمها، ظانًا أنها من كلام أهل التوحيد والمعرفة وهو لا يعلم مراد قائلها، وكذلك كلام هؤلاء يسمعه طوائف من المشهورين بالعلم والدين، فلا يفهمون حقيقته" أ.هـ.
وقال في المجموع في كلامه على الآمدي والرازي (5/563): "لكن لم يعرف هؤلاء حقيقة ما جاء به الرسول، وحصل اضطراب في المعقول به، فحصل نقص في معرفة السمع والعقل، وإن كان هذا النقص هو منتهى قدرة صاحبه لا يقدر على إزالته، فالعجز يكون عذرًا للإنسان في أن الله لا يعذبه إذا اجتهد الاجتهاد التام. هذا على قول السلف والأئمة في أن من اتقى الله ما استطاع إذا عجز عن معرفة بعض الحق لم يعذب به" أ.هـ.
شيوع البدع:(1/22)
من الموانع المهمة لقبول الحق أو الصواب هو شيوع الباطل أو الخطأ، حيث يكون هذا الشيوع عند عوام المسلمين مظنة إلى كون الحق معه لشيوعه وانتشاره عند علمائهم وأئمتهم. ومن المعلوم أن العامي لاحظ له ولا خبرة بالأدلة والاستدلال، وبالتالي فلا بد من التدرج والتبسط والرفق في البيان، حتى يحصل المقصود من البيان وإظهار الحجة وإقامتها، ومن ثم يترتب العقاب على من خالفها بلا مانع معتبر في الشرع.
قال في المجموع (3/239): "والذي على السلطان في مسائل النزاع بين الأمة أحد أمرين: إما أن يحملهم كلهم على ما جاء به الكتاب والسنة، واتفق عليه سلف الأمة، لقوله تعالى: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول } [النساء/ 59]. وإذا تنازعوا فهم كلامهم (أي كلام السلف): إن كان ممن يمكنه فهم الحق فإذا تبين له ما جاء به الكتاب والسنة دعى الناس إليه، وأن يقر الناس على ما هم عليه، كما يقرهم على مذاهبهم العلمية.
فأما إذا كانت البدعة ظاهرة – تعرف العامة أنها مخالفة للشريع – كبدعة الخوارج والروافض والقدرية والجهمية فهذه على السلطان أن ينكرها، لأن علمها عام، كما عليه الإنكار على من يستحل الفواحش والخمر وترك الصلاة، ونحو ذلك.
ومع هذا فغقد يكثر أهل الأهواء في بعض الأمكنة والأزمنة حتى يصير بسبب كثرة كلامهم مكافئًا – عند الجهال – لكلام أهل العلم والسنة حتى يشتبه الأمر على من يتولى أمر هؤلاء فيحتاج حينئذ إلى من يقول بإظهار حجة الله وتبيينها حتى يكون العقوبة بعد الحجة.(1/23)
وإلا فالعقوبة قبل الحجة ليست مشروعة: قال تعالى: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً} [الإسراء/ 15]. ولهذا قال الفقهاء في البغاة إن الإمام يراسلهم فإن ذكروا شبهة بينها، وإن ذكروا مظلمة أزالها، كما أرسل علي ابن عباس إلى الخوارج فناظرهم حتى رجع منهم أربعة آلاف، وكما طلب عمر بن عبد العزيز دعاة القدرية والخوارج فناظرهم حتى رجع منهم أربعة آلاف، وكما طلب عمر بن عبد العزيز دعاة القدرية والخوارج فناظرهم حتى ظهر لهم الحق، وأقروا به، ثم بعد موته نقض غيلان القدري التوبة فصلب" أ.هـ.
شيوع شبه أهل البدع:
إن الشبهة سبب عظيم لشيوع كثير من الباطل بين العوام لكونها مركبة من حق مع ما فيها من الباطل وإزالة الشبهة أمر واجب، ولكنه ليس بالسهل مثل إزالة البدع الظاهرة أو المعاصي المعلومة، وإن أمكن إزالتها من البعض فإنه لا يتوقع الداعي أن تزول من العموم بسبب تفاوت الفهم والظهور والقناعة بين الناس، فتعد بذلك عذرًا معتبرًا ومانعًا مهما في الحكم على الأعيان.
قال في المجموع (5/483): "وقل طائفة من المتأخرين إلا وقع في كلامها نوع غلط لكثرة ما وقع من شبه أهل البدع، ولهذا يوجد في كثير من المصنفات في أصول الفقه وأصول الدين والفقه والزهد والتفسير والحديث من يذكر في الأصل العظيم عدة أقوال ويحكي من مقالات الناس ألوانًا، والقول الذي بعث الله به رسوله لا يذكره لعدم علمه به لا لكراهته لما عليه الرسول" أ.هـ.(1/24)
وقال في المجموع في كلامه على مقالات الكفر (3/355): أنهم يخالفون ما اتفقت عليه الملل كلها وأهل الفطر السليمة كلها؛ لكن مع هذا قد يخفي كثير من مقالاتهم على كثير من أهل الإيمان حتى يظن أن الحق معهم، لما يوردونه من الشبهات، ويكون أولئك المؤمنون مؤمنين بالله ورسوله باطنًا وظاهرًا؛ وإنما التبس عليهم واشتبه هذا كما التبس على غيرهم من أصناف المبتدعة، فهؤلاء ليسوا كفارًا قطعًا، بل يكون منهم الفاسق والعاصي؛ وقد يكون منهم المخطئ المغفور له؛ وقد يكون معه من الإيمان والتقوى ما يكون معه به من ولاية الله بقدر إيمانه وتقواه" أ.هـ.
عذر عن غلبة:
قال في كلامه على بدعة ذكر الاسم المجرد مكررًا دون الكلمة التامة (10/567): "وما نقل عن أبي يزيد والنوري والشبلي وغيرهم من ذكر الاسم المجرد، فمحمول على أنهم مغلوبون، فإن أحوالهم تشهد بذلك، مع أن المشايخ الذين هم أصح من هؤلاء وأكمل لم يذكروا إلا الكلمة التامة، وعند التنازع يجب الرد إلى الله والرسول، فليس فعل غير الرسول حجة على الإطلاق والله أعلم" أ.هـ.
التقليد :
لما كان غالب عوام المسلمين مقلدين لأئمة المذاهب واتباعهم، فإن البدع والأخطاء التي يقع بها هؤلاء الاتباع المنتسبين إلى المذهب المعين تنعكس بشكل عادي على من يقلدونهم ويأتمون بهم، وبالتالي فإن مهمة نشر العلم الشرعي الصحيح بين هؤلاء المشايخ أمر في غاية الأهمية لإصلاح المجتمع من جهة، ثم إعذار الناس بتقليدهم عند وقوعهم بتلك البدع، مع نصحهم ودعوتهم إلى اتباع الحق بالحكمة والموعظة الحسنة هو كذلك من الواجبات الشرعية التي لا ينبغي أن يغفل عنها الداعية إلى الله تعالى.(1/25)
قال في كلامه على ترك المسلم للواجبات (22/10): "بل إذا عفى للكافر بعد الإسلام عما تركه من الواجبات لعدم الإعتقاد وإن كان الله قد فرضها عليه وهو معذب على تركها، فلأن يعفو للمسلم عما تركه من الواجبات لعدم اعتقاد الوجوب، وهو غير معذبه على الترك لاجتهاده أو تقليده أو جهله الذي يعذر به أولى وأحرى، وكما أن الإسلام يجب ما كان قبله فالتوبة تجب ما كان قبله فالتوبة تجب ما كان قبلها لا سيما توبة المعذور الذي بلغه النص أو فهمه بعد أن لم يكن تمكن من سمعه وفهمه، وهذا ظاهر جدًا للغاية" أ.هـ.
وقال (10/ 371): إن ما ثبت قبحه من البدع وغير البدع من المنهي عنه في الكتاب والسنة أو المخالف للكتاب والسنة إذا صدر عن شخص من الأشخاص فقد يكون على وجه يعذر فيه، إما لاجتهاد أو تقليد يعذر فيه، وإما لعدم قدرته كما قررته في غير هذا الموضع" أ.هـ.
إعذار عام:
هناك موانع متداخلة مع ما سبق من الموانع، وقد تكون مركبة مع بعضه يرجع تقديرها إلى الشخص نفسه، يصعب على الناظر تحديدها وضبطها، ولكن يمكن تقدير وجودها عند من تصدر منه الشطحات إعذارًا له ما أمكن إلى ذلك من سبيل، مع وجوب النصح والبيان.
قال في كلامه على نزول الرب جل وعلا (5/ 243) : "وأما من يتوهم أن السموات تتفرج ثم تلتحم فهذا من أعظم الجهل، وإن وقع فيه طائفة من الرجال" أ.هـ.
5- إن المظهر للإسلام لا يكون إلا واحدًا من اثنين لا ثالث لهما: مؤمن أو منافق.
هذا ضابط كلي يجعل المسلم ينظر إلى المجتمع الإسلامي وأفراده نظرة أخوة ومحبة ونظرة حذر وتوقف م الوقوع في المسلم بتكفير أو تفسيق أو تبديع أو نحو ذلك، فإن أمامنا إما مؤمنين أو منافقين مظهرين للإسلام لا يمكن التنقيب عن قلوبهم، وبالتالي يعاملون معاملة المسلمين.(1/26)
وأهل البدع لا يخرجون عن ذلك فيهم المنافق، وفيهم المؤمن المتأول المعذور ببدعته، ويدخل في ذلك كل المتنازعون في الصفات والقدر على اختلاف عقائدهم؛ وقد يكون فيهم أيضًا ظلم وعدوان، مثلما يكون من عوام المسلمين، فيعاملون بقدر ذلك ومقتضاه: وقد يكون في أهل البدع أيضًا من الإيمان والتقوى ما يرفع منزلته عند الله تعالى، وأيضًا يقال هنا إن هذا لا يصير بدعته حسنة أو مقبولة، بل تبقى قبيحة مذمومة، وإنما الكلام في الأعيان وأعذارهم.
قال في كلامه على الكافر من أهل القبلة (3/352): " وفصل الخطاب في هذا الباب بذكر أصلين:
أحدهما: أن يعلم أن الكافر في نفس الأمر من أهلب الصلاة لا يكون إلا منافقًا، فإن الله بعث محمدًا - صلى الله عليه وسلم - وأنزل عليه القرآ وهاجر إلى المدينة صار الناس ثلاثة أصناف: مؤمن به وكافر به مظهر الكفر ومنافق مستخف بالكفر. ولهذا ذكر الله هذه الأصناف الثلاثة في أول سورة البقرة، وذكر أربع آيات في نعت المؤمنين وآيتين في الكفار ويضع عشر آية في المنافقين".
ثم قال: وإذا كان كذلك فأهل البدع فيهم المنافق الزنديق فهذا كافر، ويكثر مثل هذا في الرافضة والجهمية، فإن رؤساءهم كانوا منافقين زنادقة، وأول من ابتدع الرفض كان منافقًا. وكذلك التجهم فإن أصله زندقة ونفاق، ولهذا كان الزنادقة المنافقون من القرامطة الباطنية المتفلسفة وأمثالهم يميلون إلى الرافضة والجهمية لقربهم منهم.
ومن أهل البدع من يكون فيه إيمان باطنًا وظاهرًا، لكن فيه جهل وظلم حتى أخطأ ما أخطأ من السنة؛ فهذا ليس بكافر ولا منافق، ثم قد يكون منه عدوان وظلم فيكون فاسقًا أو عاصيًا؛ وقد يكون مخطئًا متأولاً مغفورًا له خطأه؛ وقد يكون مع ذلك معه من الإيمان والتقوى ما يكون معه من ولاية الله بقدر إيمانه وتقواه، فهذا أحد الأصلين" أ.هـ.(1/27)
وقال في المجموع (5/134):" وكل من أظهر الإسلام ولم يكن منافقًا فهو مؤمن، له من الإيمان بحسب ما أوتيه من ذلك، وهو ممن يخرج من النار، ولو كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان، ويدخل في هذا جميع المتنازعين في الصفات والقدر على اختلاف عقائدهم. ولو كان لا يدخل الجنة إلا من يعرف الله كما يعرفه نبيه - صلى الله عليه وسلم - ، لم تدخل أمته الجنة، فإنهم أو أكثرهم لا يستطيعون هذه المعرفة، بل يدخلون الجنة وتكون منازلهم متفاضلة بحسب إيمانهم ومعرفتهم.
وإذا كان الرجل قد حصل له إيمان يعبد الله به، وأتى آخر بأكثر من ذلك عجز عنه الأول لم يحمل مالا يطيق، وإن يحصل له بذلك فتنة: لم يحدث بحديث يكون له فيه فتنة" أ.هـ.
فهذا أصل عظيم في تعليم الناس ومخاطبتهم، والخطاب العام بالنصوص التي اشتركوا في سماعها، كالقرآن والحديث المشهور، وهم مختلفون في معنى ذلك. والله تعالى أعلم. وانظر أيضًا (5/254 – 255).
6- ما الذي يجب على المكلف اعتقاده؟
وهذا ضابط مهم في النظر إلى عامة المسلمين، حيث يبين شيخ الإسلام أن هناك اعتبارين في الواجب من الاعتقاد:
الأول الإيمان المجمل بما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - من عند الله، وهذا في الغالب ليس موضع النزاع القائم بين المسلمين.(1/28)
والثاني: الإيمان المفصل، حيث يكون ضابطه عند شيخ الإسلام هو أن يقر العبد بالمفردات التي ثبت عنده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر بها. وهذا في الحقيقة ضابط نسبي، لا سيما بالنسبة للعوام، فإن العامي يثبت عنده ما يثبت لمن يقلده أو يتبعه أو يثق بعلمه، وهذا أمر غير منضبط، وبالتالي يقع الإعذار عند الخطأ، ولكن هذا لا يعني عدم بيان الحق بل يجب ذلك حتى يثبت له أنه الحق، وأما إذا لم يثبت عنده ما يثبت لمن يقلده أو يتبعه أو يثق بعلمه، وهذا أمرلا غير منضبط، وبالتالي يقع الإعذار عند الخطأ، ولكن هذا لا يعني عدم بيان الحق بل يجب ذلك حتى يثبت له أنه الحق، وأما إذا لم يثبت عنده مع ذلك لمانع ما فلا يعني هذا أن الحجة قد قامت عليه، بل يكون هذا المبلغ قد أدى ما عليه من البيان، ويكون الذي سمع البلاغ إما معذورًا في الظاهر والباطن، أو معذورًا في الظاهر دون الباطن ويكون حاله حال المنافقين الذين يعاملون معاملة المسلمين.
سئل شيخ الإسلام ما الذي يجب على المكلف اعتقاده فقال (3/327): "الحمد لله رب العالمين، أما قوله ما الذي يجب على المكلف اعتقاده، فهذا فيه إجمال وتفصيل.(1/29)
أما الإجمال، فإنه يجب على المكلف أن يؤمن بالله ورسوله، ويقر بجميع ما جاء به الرسول: من أمر الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وما أمر به الرسول ونهى، بحيث يقر بجميع ما أخبر به وما أمر به. فلا بد من تصديقه فيما أخبر والانقياد له فيما أمر. وأما التفصيل، فعلى كل مكلف أن يقر بما ثبت عنده من أن الرسول أخبر به أو أمر به، وأما ما أخبر به الرسول ولم يبلغه أنه أخبر به ولم يمكنه العلم بذلك، فهو لا يعاقب على تلك الإقرار به مفصلاً، وهو داخل في إقراره بالمجمل العام، ثم إذا قال خلاف ذلك متأولاً كان مخطئًا يغفر الله له خطأه، إذا لم يحصل منه تفريط ولا عدوان، ولهذا يجب على العلماء من الاعتقاد مالا يجب على آحاد العامة، ويجب على من نشأ بدار علم وإيمان من ذلك ما لا يجب على من نشأ بدار جهل. وأما ما علم ثبوته بمجرد القياس العقلي دون الرسالة، فهذا لا يعاقب إذا لم يعتقده" أ.هـ.
النظرة القدرية النسبية في النظر إلى الأمثل: النصرة بمن فيه بدعة
إن الواقع المعاصر للأمة المسلمة هو واقع موروث بسيئاته وحسناته؛ وغذا كان الحديث عن المظهرين للتدين والالتزام المجمل فلا بد للداعية المصلح أن يلتمس ابتداء للمخطئين منهم العذر في خطأهم وانحرافهم، بيد أنه لا يبخل عليهم بما يجب عليه من القيام بالدعوة والإصلاح. ومما لا شك فيه أن هناك تباين وتدرج كبير في الخطأ والانحراف عند الأمة في هذا الواقع الموروث، يبدأ من حافة الكفر ثم يتدرج درجات ليصل إلى درجات الخير والتقوى والصلاح.(1/30)
وأمام هذا التباين والتزاحم في جبهة هذا الواقع الإسلامي تشتد قوى الكفر والطغيان لطعن هذه الأمة على ضعفها لأنها لا تزال تحمل في جذوتها أصل الإسلام. وبالتالي فإن هذا الواقع المرير يفرز بشكل طبيعي صراعات وردود أفعال متباينة متزاحمة مباشرة غير مستعدة للانتظار. فلا يمكن للأمة في بلد ما أن تنتظر العالم الكامل للرد على من يشيع فيها أصول الكفر والإلحاد بل ترد بمن توفر في ذلك الوقت وذلك المكان وإن كان قاصرًا عمّن هو في بلد آخر أو وقت آخر أو عمن وجد في ذلك البلد وذلك الوقت ولكنه أمسك عما يجب بيانه لعذر ما. فعندما تتحتم المعركة بين الإسلام والكفر في أمر ما فلا بد من مواجهة إسلامية ولا بد من نصرة من يقوم بهذه المواجهة عند تحتمها إن عجز عنها الباقون أو أعذروا فيها. ولا ينظر في هذه النصرة إلا إلى الإسلام المجمل. فعند غياب العالم السني في وقت أو مكان يتعين فيه رد ضلالات أهل الكفر: يكون رد العالم الذي فيه بدعة وإن كانت كبيرة أمرًا واجبًا وعملاً محمودًا. وكذلك يقال في تصدي أهل البدع لمن هم أعظم ابتداعًا منهم. وكذلك يقال لمن يتصدى للدعوة في بلاد أو زمان يقل فيه أهل العلم الصافي، فيدعون إلى إسلام فيه بدعة لا يعلمون أنها بدعة، وقد يعلمون أنها بدعة ولكنهم يعتقدون أنها بدعة حسنة يحبها الله ورسوله.
وواقعنا المعاصر مثال صادق لمثل هذه الحال؛ فالجهل بالدين أمر شائع بين العامة يتفاوت بين الطرق الصوفية والخرافية إلى التعصب المذهبي إلى فوق ذلك ودونه. ومن جهة أخرى فإن الدين من حيث هو دين محارب كذلك من الكثير ممن بيدهم أمر هؤلاء المسلمين العوام فضلاً عن الحرب الفاضحة التي يعلنها أهل الكفر ممن بيدهم أسباب القوة المادية المعاصرة.(1/31)
قال في المجموع (3/348): "ومما ينبغي أن يعرف أن الطوائف المنتسبة إلى متبوعين في أصول الدين والكلام على درجات منهم من يكون قد خالف السنة في أصول عظيمة ومنهم من يكون إنما خالف السنة في أمور دقيقة.
ومن يكون قد رد على غيره من الطوائف الذين هم أبعد عن السنة منه، في رده بحيث جحد بعض الحق وقال بعض الباطل، فيكون قد رد بدعة كبيرة ببدعة أخف منها، ورد باطلاً بباطل أخف منه، وهذه حال أكثر أهل الكلام المنتسبين إلى أهل السنة والجماعة.
ومثل هؤلاء إذا لم يجعلوا ما ابتدعوه قولاً يفارقون به جماعة المسلمين، يوالون عليه ويعادون، كان من نوع الخطأ، والله سبحانه وتعالى يغفر للمؤمنين خطأهم في مثل ذلك.
ولهذا وقع في مثل هذا كثير من سلف الأمة وأئمتها، لهم مقالات قالوها باجتهاد وهي تخالف ما ثبت في الكتاب والسنة؛ بخلاف من وإلى موافقه وعادى مخالفه وفرق بين جماعة المسلمين، وكفر وفسق مخالفه دون موافقه في مسائل الآراء والاجتهادات، واستحل قتال مخالفه دون موافقه، فهؤلاء من أهل التفرق والاختلافات" أ.هـ.
وقال في المجموع (13/ 95):" وهذا كالحجج والأدلة التي يذكرها كثير من أهل الكلام والرأي، فإنه ينقطع بها كثير من أهل الباطل ويقوى بها كثير من أهل الحق وإن كانت في نفسها باطلة فغيرها أبطل منها، والخير والشر درجات، فينتفع بها أقوام ينتقلون مما كانوا عليه إلى ما هو خير منه.
وقد ذهب كثير من مبتدعة المسلمين من الرافضة والجهمية وغيرهم إلى بلاد الكفار فأسلم على يديه خلق كثير، وانتفعوا بذلك وصاروا مسلمين مبتدعين، وهو خير من أن يكونوا كفارًا. وكذلك بعض الملوك قد يغزوا غزوًا يظلم فيه اغلمسلمين والكفار ويكون آثمًا بذلك، ومع هذا فيحصل به نفع خلق كثير كانوا كفارًا فصاروا مسلمين، وذلك كان شرًَا بالنسبة للقائم بالواجب، وأما بالنسبة إلى الكفار فهو خير.(1/32)
وكذلك كثير من الأحاديث الضعيفة في الترغيب والترهيب والفضائل والأحكام والقصص، قد يسمعها أقوام فينتقلون بها إلى خير مما كانوا عليه وإن كانت كذبًا، وهذا كالرجل يسلم رغبة في الدنيا ورهبة من السيف، ثم إذا أسلم وطال مكثه بين المسلمين دخل الإيمان في قلبه، فنفس ذل الكفر الذي كان عليه وانقهاره ودخوله في حكم المسلمين خير من أن يبقى كافرًا، فانتقل إلى خير مما كان عليه، وخف الشر الذي كان فيه، ثم إذا أراد الله هدايته أدخل الإيمان إلى قلبه.
والله تعالى بعث الرسل بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها، والنبي - صلى الله عليه وسلم - جعل الخلق بغاية الإمكان ونقل كل شخص إلى خير مما كان عليه بحسب الإمكان: {ولكل درجات مما عملوا وليوفيهم أعمالهم وهم لا يظلمون} [الأنعام/ 1323]. وأكثر المتكلمين يردون باطلاً بباطل وبدعة ببدعة، لكن قد يردون باطل الكفار من المشركين وأهل الكتاب بباطل المسلمين، فيصير الكافر مسلمًا مبتدعًا، وأخص من هؤلاء من يرد البدع الظاهرة كبدعة الرافضة ببدعة أخف منها وهي بدعة أهل السنة.
ثم قال (13/99): والأشعرية ما ردوه من بدع المعتزلة والرافضة والجهمية وغيرهم وبينوا ما بينوه من تناقضهم وعظموا الحديث والسنة ومذهب الجماعة، فحصل بما قالوه من بيان تناقض أصحاب البدع الكبار وردهم ما انتفع به خلق كثير" أ.هـ.(1/33)
وقال في كلامه على الفلاسفة المسلمين (2/85): "ثم بعد ذلك لما صار فيهم من يتحذق على طريقتهم في علم ما بعد الطبيعة، كافارابي وابن سينا ونحوهم، وصنف ابن سينا كتبًا زاد فيها بمقتضى الأصول المشتركة أشياء لم يذكرها المتقدمون، وسمى ذلك العلم الإلهي، وتكلم في النبوات والكرامات ومقامات العارفين بكلام فيه شرف ورفعة، بالنسبة إلى كلام المتقدمين، وأن كان عند العلوم الإلهية النبوية فيه من القصور والتقصير والنفاق والجهل والضلال والكفر مالا يخفي على من له أدنى بصيرة بالعلم والإيمان، وإنما راج على من سلك طريق المتفلسفة، لأنه قرب إليهم معرفة الله والنبوات والمعجزات والولاية، بحسب أصول الصابئة الفلاسفة، لا بحسب الحق نفسه، بما أشرق على جهالاتهم من نور الرسالة وبرهان النبوة. كما فعله نسطور النصراني، الذي كان في زمن المأمون، الذي تنسب إليه النسطورية في التثليث والاتحاد، لكنه بما أضاء عليه من نور المسلمين أزال كثيرًا من فساد عقيدة النصراني. وكذلك يحيى بن عدي النصراني، لما تفلسف قرب مذهب النصارى في التثليث إلى أصول الفلاسفة في العقل والعاقل والمعقول" أ.هـ.
وقال في كلامه على أهل الكلام وأهل النظر في مناقشتهم للفلاسفة (5/294): "ومن لم يهتد لهذا كالشهرستاني والرازي والآمدي ونحوهم، فهم ناظروا الفلاسفة مناظرة ضعيفة، ولم يثبتوا فساد أصولهم كما بين ذلك أئمة النظر الذين هم أجل منهم، وسلم هؤلاء للفلاسفة مناظرة ضعيفة، ولم يبينوا فساد أصولهم، إلى مقدمات باطلة استزلوهم بها عن أشياء من الحق، بخلاف أئمة أهل النظر كالقاضي أبي بكر وأبي المعالي الجويني وأبي حامد الغزالي وأبي الحسين البصري وأبي عبد الله بن الهيصم الكرامي، وأبي الوفاء علي بن عقيل.
ومن قبل هؤلاء مثل أبي علي الجبائي وابنه أبي هاشم، وأبي الحسن الأشعري، والحسن بن يحيى النوبختي.(1/34)
ومن قبل هؤلاء : كابي عبد الله محمد بن كرام وابن كلاب وجعفر بن مبشر وجعفر بن حرب، وأبي إسحاق النظام وأبي الهذيل العلاف، وعمرو بن بحر الجاحظ، وهشام الجواليقي، وهشام بن الحكم، وحسين بن محمد النجار، وضرار بن عمرو الكوفي، وأبي عيسى محمد بن عيسى برغوث، وحفص الفرد، وغير هؤلاء ممن لا يحصيهم إلا الله من أئمة أهل النظر والكلام، فإن مناظرة هؤلاء للفلاسفة خير من مناظرة أولئك" أ.هـ.
وقال في كلامه على محنة خلق القرآن والمعتزلة (5/555): "وكان ممن انتدب للرد عليهم أبو محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب، وكان له فضل وعلم ودين. ومن قال أنه ابتدع ما ابتدعه ليظهر دين النصارى في المسلمين – كما يذكره طائفة في مثالبه، ويذكرون أنه أوصى أخته بذلك – فهذا كذب عليه. وإنما افترى هذا عليه المعتزلة و الجهمية الذين رد عليهم، فإنهم يزعمون أن من أثبت الصفات فقد قال بقول النصارى. وقد ذكر مثل ذلك عنهم الإمام أحمد في (الرد على الجهمية)، وصار ينقل هذا من ليس من المعتزلة من السالمية، ويذكره أهل الحديث والفقهاء الذين ينفرون عنه لبدعته في القرآن، ويستعينون بمثل هذا الكلام الذي هو من افتراء الجهمية والمعتزلة عليه، ولا يعلم هؤلاء إن الذين ذموه بمثل هذا هم شر منه، وهو خير وأقرب إلى السنة منهم.
وأبن كلاب لما رد على الجهمية لم يهتد لفساد أصل الكلام المحدث الذي ابتدعوه في دين الإسلام، بل وافقهم عليه، وهؤلاء الذين يدمون ابن كلاب والأشعري بالباطل هم من أهل الحديث.(1/35)
والمقصود هنا التنبيه على أصل مقالات الطوائف. وابن كلاب أحدث ما أحدثه لما اضطره إلى ذلك من دخول أصل كلام الجهمية في قلبه. وقد بين فساد قولهم بنفي علو الله ونفي صفاته، وصنف كتبًا كثيرة في أصل التوحيد والصفات، وبين أدلة كثيرة عقلية على فساد قول الجهمية، وبين فيها أن علو الله على خلقه ومباينته لهم من المعلوم بالفطرة والأدلة العقلية القياسية، كما دل على ذلك الكتاب والسنة.
لكن الأصل العقلي الذي بنى عليه ابن كلاب قوله في كلام الله وصفاته هو أصل الجهمية والمعتزلة بعينه" أ.هـ.
وقال في المجموع (7/ 622): "وكان أبو محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب القطان له فضيلة ومعرفة رد بها على الجهمية و المعتزلة نفاة الصفات، وبين أن الله نفسه على العرش، وبسط الكلام في ذلك، ولم يتخلص من شبهة الجهمية كل التخلص، بل ظن أن الرب لا يتصف بالأمور الاختيارية التي تتعلق بقدرته ومشيئءتهن فلا يتكلم بمشيئته وقدرته، ولا يحب العبد ويرضي عنه بعد إيمانه وطاعته، ولا يغضب عليه ويسخط بعد كفره ومعصيته" أ.هـ.
تفاوت مراتب أهل البدع
إن هذا الباب تبع لسابقه في التوكيد على أهمية معرفة تفاوت أهل البدع في قربهم وبعدهم عن الحق، وبالتالي بيان الحق والنصح لهم بقدر ذلك.
ولا يمكن بحال التسوية بين المتفاوتات كما لا يمكن التسوية بين المتخالفات. حيث إن اشتراك المذاهب والفرق في وقوعها في جنس الخطأ أو جنس البدعة لا يبرر التعامل معها على حد واحد، بل لا بد من النظر إلى تفاوت درجة الخطأ ودرجة البدعة لتحقيق حسن التعامل بما يحقق ما يجب من الإصلاح.(1/36)
إن الطبيب لا يمكن أن يرفض مريضه لأنه مريض، كما إنه لا يشنع عليه ما فيه من العلل، بل يتلطف به، ويؤمله بالشفاء بإذن الله ثم يعطيه العلاج المناسب لعلته نوعًا وقدرًا وأسلوبًا، ذلك لأن العليل مقصده في طبه دون سائر الناس، وهو يدرك أن المرض أصنافًا وألوانًا ودرجات متفاوتة بين الحياة إلى الموت. بل تراه يتفحص مريضه عسى أن يكون قد خف عن المرض درجة أو درجتين، ثم هو يفرح بذلك أشد الفرح لدلالة ذلك على القرب من الشفاء، وحتى لو علم أن الشفاء قد لا يتحقق فإنه يفرح بخفة المرض الذي يكون بديل الشفاء حين لا يتحقق الشفاء.
وإذا صدق هذا الوصف في حكيم الأبدان، فإنه لا بد أن يكون أصدق في حكيم الأديان، ألا وهو الداعية إلى الله تعالى مع من يدعوه من الناس، وكلما كان المدعو أبعد عن الإسلام كلما كانت المهمة أعظم وكان الأجر من رب العزة أجزل لما يتحمله هذا الداعية من الصبر والمداراة واستحصال الحكمة التي أمر الله بها وما يتطلبه ذلك من تقدير المصالح والمفاسد والتدرج على حسب درجة البدعة أو الخطأ وحال صاحبها.
إن اعتبار مقياس القرب إلى المنهج الصحيح ضمن الأمة المسلمة أصلح لبعض أهل البدع من اعتبار البعد عن المنهج الصحيح، ولذلك يؤكد شيخ الإسلام هذا الاعتبار – اعتبار القرب إلى السنة – بالنسبة لبعض أهل البدع الكبيرة كالأشاعرة والمرجئة ونحوهم في مقابل أهل البدع الأكبر مثل الجهمية والشيعة والخوارج ونحوهم.
قال في كلامه على الروافض (2/356 – 357): "ومنهم ظهرت أمهات الزندقة والنفاق، كزندقة القرامطة الباطنية وأمثالهم، ولا ريب أنهم أبعد طوائف المبتدعة عن الكتاب والسنة، ولهذا كانوا هم المشهورين عند العامة بالمخالفة للسنة، فجمهور العامة لا تعرف ضد السني إلا الرافضي، فإذا قال أحدهم أنا سني فإنما معناه لست رافضيًا.(1/37)
ولا ريب أنهم شر من الخوارج؛ لكن الخوارج كان لهم في مبدأ الإسلام سيف على أهل الجماعة، وموالاتهم (أي الروافض) الكفار أعظم من سيوف الخوارج، فإن القرامطة والإسماعيلية ونحوهم من أهل المحاربة لأهل الجماعة، وهم منتسبون إليهم. وأما الخوارج فهم معروفون بالصدق، والروافض معروفون بالكذب، والخوارج مرقوا من الإسلام وهؤلاء نابذوا الإسلام.
وأما القدرية المحضة فهم خير من هؤلاء بكثير وأقرب إلى الكتاب والسنة، لكن المعتزلة وغيرهم من القدرية هم جهمية أيضًا، وقد يكفرون من خالفهم ويستحلون دماء المسلمين فيقربون من أولئك.
وأما المرجئة فليسوا من هذه البدع المعظلة، بل قد دخل في قولهم طوائف من أهل الفقه والعبادة وما كانوا يعدون إلا من أهل السنة، حتى تغلظ أمرهم بما زادوه من ألأقوال المغلظة.
ولما كان قد نسب إلى الإرجاء والتفضيل قوم مشاهير متبعون: تكلم أئمة السنة المشاهير في ذم المرجئة المفضلة تنفيرًا من مقالتهم، كقول سفيان الثوري: من قدم عليًا على أبي بكر والشيخين فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار، وما أرى يصعد له إلى الله عمل مع ذلك أو نحو هذا القول، قاله لما نسب إلى تقديم على بعض أئمة الكوفيين. وكذلك قول أيوب السختياني: من قدم عليًا على عثمان فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار قاله لما بلغه ذلك عن بعض أئمة الكوفيين، وقد روي أنه رجع عن ذلك . وكذلك قول الثوري ومالك والشافعي وغيرهم في ذم المرجئة لما نسب إلى الإرجاء بعض المشهورين.(1/38)
وكلام الإمام أحمد في هذا الباب جار على كلام من تقدم من أئمة الهدى، ليس له قول ابتدعه ولكنه أظهر السنة وبينها وذب عنها وبين حال مخالفيها وجاهد عليها، وصبر على الأذى فيها لما أظهرت الأهواء والبدع، وقد قال الله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24]. فالصبر واليقين بهما تنال الإمامة في الدين، فلما قام بذلك قرنت باسمه من الإمامة في السنة ما شهر به وصار متبوعًا لمن بعده، كما كان تابعًا لمن قبله" أ.هـ.
وقال في المجموع (2/102 – 103): "والنجارية والضرارية وغيرهم يقربون من جهم في مسائل القدر والإيمان مع مقاربتهم له أيضًا في نفي الصفات.
والكلابية والأشعرية خير من هؤلاء في باب الصفات، فإنهم يثبتون لله الصفات العقلية، وأئمتهم يثبتون الصفات الخبرية في الجملة، كما فصلت أقوالهم في غير هذا الموضع. وأما في باب القدر ومسائل الأسماء والأحكام.
والكلابية هم اتباع أبي محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب، الذي سلك الأشعري خطته (1).
وأصحاب ابن كلاب كالحارث المحاسبي، وأبي العباس القلانسي ونحوهما، خير من الأشعرية في هذا وهذا، فكلما كان الرجل إلى السلف أقرب كان قوله أعلى وأفضل" أ.هـ.
تزاحم الأحكام الشرعية في الحكم على الأعيان
__________
(1) في هامش المجموع كتب: في نسخة (خلفه).(1/39)
إن الموازنة الشرعية في الحكم على الأشخاص مبنية أساسًا على أصل تزاحم الأحكام الشرعية، حيث يعد هذا الأصل من أهم أصول الشريعة فيما يتعلق بالمصالح والمفاسد، واحتمال أخف الضررين لتفويت أعظمهما، لا سيما في الوقت الحاضر حيث ضعف سلطان الدين وعظم سلطان الكفر في بلاد الإسلام مع كثرة أهله وجهلهم فعظمت البلوى بين عوام المسلمين فيما يعرض عليهم في حياتهم وفي بلادهم،من أمور شرعية لا يمكن فعلها إلا بمشقة وضرر قد تربو وقد تقصر عن حسنة تلك الأمور، فازداد النظر والاعتبار لنسبية ألعمل أو نسبية الشخص، أي كونه أخف ضررًا أو أقل شرًا أو أقرب إلى الشرع أو نحو ذلك مما له اعتبار شرعي مهم في معرفة المشروعات المرتهنة بهذه الأحوال.
وقد فصل شيخ الإسلام في بيان هذه القاعدة تفصيلاً عظيمًا ذكرناه في بحث (تزاحم الأحكام الشرعية) في العدد السابع من (الحكمة)، ننقل منه هنا قدر ما تقتضيه الحاجة.
قال (10/364): "قد يقترن بالحسنات سيئات إما مغفورة أو غير مغفورة، وقد يتعذر أو يتعسر على السالك سلوك الطريق المشروعة المحضة إلا بنوع من المحدث لعدم القائم بالطريق المشروعة علمًا وعملاً. فإذا لم يحصل النور الصافي، بأن لم يوجد إلا النور الذي ليس بصاف وإلا بقي الإنسان في الظلمة، فلا ينبغي أن يعيب الرجل وينهي عن نور فيه ظلمة إلا إذا حصل نور لا ظلمة فيه. وإلا فكم ممن عدل عن ذلك يخرج عن النور بالكلية، إذا خرج غيره عن ذلك لما في طرق الناس من الظلمة.
وإنما قررت هذه القاعدة ليحمل ذم السلف والعلماء للشيء على موضعه، ويعرف أن العدول عن كمال خلافة النبوة المأمورة به شرعًا: تارة يكون لتقصير بترك الحسنات علمًا وعملاً، وتارة بعدوان بفعل السيئات علمًا وعملاً، وكلا من الأمرين قد يكون من غلبة، وقد يكون مع قدرة" أ.هـ.
فالأول: قد يكون لعجز وقصور، وقد يكون مع قدرة وإمكان.(1/40)
والثاني: قد يكون مع حاجة وضرورة وقد يكون مع غنى وسعة، وكل من العاجز عن كمال الحسنات والمضطر إلى بعض السيئات معذور، فإن الله يقول: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } [التغابن: من الآية16] وقال: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: من الآية286] وقال: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [لأعراف:42] وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ) وقال سبحانه: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: من الآية78] وقال: { مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} [المائدة: من الآية6] وقال: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: من الآية185] وقال: { فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ } [البقرة: من الآية173] وقال: { وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} [الأحزاب: من الآية5].
وهذا أصل عظيم وهو أن تعرف الحسنة في نفسها علمًا وعملاً، سواء كانت واجبة أو مستحبة. وتعرف السيئة في نفسها علمًا وقولاً وعملاً، محظورة كانت أو غير محظورة – إن سميت غير المحظورة سيئة – وأن الدين تحصيل الحسنات والمصالح، وتعطيل السيئات والمفاسد.(1/41)
وأنه كثيرًا ما يجتمع في الفعل الواحد أو في الشخص الواحد الأمران، فالذم والنهي والعقاب قد يتوجه إلى ما تضمنه أحدهما، فلا يغفل عما فيه من النوع الآخر، كما يتوجه المدح والأمر والثواب إلى ما تضمنه أحدهما فلا يغفل عما فيه من النوع الآخر. وقد يمدح الرجل بترك بعض السيئات البدعية والفجورية، لكن قد يسلب مع ذلك ما حمد به غيره على فعل بعض الحسنات السنية البرية، فهذا طريق الموازنة والمعادلة، ومن سلكه كان قائمًا بالقسط الذي أنزل الله له الكتاب والميزان" أ.هـ.
وقال في الصلاة خلف أهل الأهواء والبدع (23/ 342): "أوسط الأقوال في هؤلاء أن تقديم الواحد من هؤلاء في الإمامة لا يجوز مع القدرة على غيره. فإن كان مظهرًا للفجور أو البدع يجب الإنكار عليه ونهيه عن ذلك، وأقل مراتب الإنكار هجره لينتهي عن فجوره وبدعته، ولهذا فرق جمهور الأئمة بين الداعية وغير الداعية، فإن الداعية أظهر المنكر فاستحق الإنكار عليه، بخلاف الساكت فإنه بمنزلة من أسر بالذنب، فهذا لا ينكر عليه في الظاهر، فإن الخطيئة إذا خفيت لم تضر إلا صاحبها، ولكن إذا أعلنت فلم تنكر ضرت العامة؛ ولهذا كان المنافقون تقبل منهم علانيتهم وتوكل سرائرهم إلى الله تعالى بخلاف من أظهر الكفر. فإذا كان داعية منع من ولايته وإمامته وشهادته وروايته، لما في ذلك من النهي عن المنكر، لا لأجل فساد الصلاة واتهامه في شهادته وروايته. فإذا أمكن لإنسان ألا يقدم مظهرًا للمنكر في الإمامة وجب ذلك. لكن إذا ولاه غيره ولم يمكنه صرفه عن الإمامة، أو كان لا يتمكن من صرفه إلا بشر أعظم ضررًا من ضرر ما أظهر من المنكر، فلا يجوز دفع الفساد القليل بالفساد الكثير، ولا دفع أخف الضررين بتحصيل أعظم الضررين، فإن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها بحسب الإمكان، ومطلوبها ترجيح خير الخيرين إذا لم يمكن أن يجتمعا جميعًا، ودفع شر الشرين إذا لم يندفعا جميعًا.(1/42)
فإذا لم يمكن منع المظهر للبدعة والفجور إلا بضرر زائد على ضرر إمامته، لم يجز ذلك، بل يصلي خلفه ما لا يمكن فعلها إلا خلفه، كالجمع والأعياد والجماعة، إذا لم يكن هناك إمام غيره. ولهذا كان الصحابة يصلون خلف الحجاج، والمختار بن أبي عبيد الثقفي، وغيرهما الجمعة والجماعة، فإن تفويت الجمعة والجماعة أعظم فسادًا من الإقتداء فيهما بإمام فاجر لا سيما إذا كان التخلف عنهما لا يدفع فجوره، فيبقى ترك المصلحة الشرعية بدون دفع تلك المفسدة. ولهذا كان التاركون للجمعة والجماعة خلف أئمة الفجور مطلقًا معدودين عند السلف والأئمة من أهل البدع" أ.هـ.
الموازنة في تقييم الكتب
أما تقييم الكتب والآراء فهو كذلك منضبط بالموازنة الشرعية في حدود الكتاب أو الرأي. وابتداء لا بد من حصر التقييم بالكتاب أو الرأي دون صاحبه لما عرفت من أن ذلك يستلزم اعتبارات أخرى لا يمكن الإحاطة بها من نفس الكتاب أو نفس الرأي والاجتهاد.
وفي وقتنا الحاضر انتشرت الكتب كثيرًا بفضل الله تعالى ثم بفضل تكنولوجيا الطباعة – التي زودنا بها الغرب !- فزاد نشر العلم الشرعي الصحيح من جهة وزاد طرح الأفكار والآراء والاجتهادات الفاسدة من جهة أخرى. ولا شك أن هذا الطرح المتباين والمختلف في نفس الساحة سيحدث تفاعلات إيجابية وأخرى سلبية، ولا بد من استثمار وتوظيف الإيجابية منها وتوسيعها، كما لا بد من تقييد وحصر السلبية بحيث لا تتعدى موضعها، مع مراعاة عدم إهمالها بل علاجها العلاج الشرعي، ذلك لأن الجهل والضلال هو من أهم أسباب تخلف الأمة وضياعها، كما هو الحال بالنسبة للتفرق والاختلاف.(1/43)
إن إغفال ضابط نقد الكتب بتعدي الكتاب إلى نقد صاحبة، وإهمال ذكر ما في ذلك الكتاب من الخير أو الصواب، مما يجلب التأليف والمصلحة، والتوسع في نقد الخطأ بما يتعدى موضعه، ثم رمي لوازم الخطأ من الأخطاء الأخرى التي لم يقرها الكاتب عليه – مع تقرير العلماء أن لازم المذهب ليس بمذهب -، كل هذا يجعل النقد مشوبًا بما قد يفسده ولا يأتي بما يقصده من الخير والإصلاح.
ومن المناسب هنا أن نذكر أن الخير والصواب الذي يذكر في كثير من الكتب المطروحة في الساحة الإسلامية لا يقاس بالضرورة بالنسبة للعلماء وطلبة العلم ومنهج السلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم، بل قد يكون وعظًا موجهًا إلى العوام أو تثبيتًا وترغيبًا إلى من هو حديث عهد بإسلام أو تذكيرًا وترهيبًا إلى الفسقة والفجرة من المسلمين أو نصيحة وكلمة حق إلى ذوي سلطان أو رد شبه أهل الكفر المعاصر، أو غير ذلك من الكثير مما تحتاجه الأمة مما يوجد في كثير من الكتب التي قد لا يكون أصحابه على منهج السلف الصالح على نحو دقيق.
وإليك – أخي المسلم – نموذجًا من نقد شيخ الإسلام لكتب بعض مشاهير الصوفية ممن راجت كتبهم بين المسلمين مع ما فيها من البدع والخرافات التي ما أنزل الله بها من سلطان.
سئل شيخ الإسلام عن "إحياء علوم الدين" لأبي حامد الغزالي و"قوت القلوب" لأبي طالب المكي.
فأجاب في المجموع (10/ 550): "أما كتاب قوت القلوب وكتاب الإحياء تبع له فيما يذكره من أعمال القلوب: مثل الصبر والشكر والحب والتوكل والتوحيد ونحو ذلك. وأبو طالب أعلم بالحديث والأثر وكلام أهل علوم القلوب من الصوفية وغيرهم من أبي حامد الغزالي، وكلامه أسد وأجود تحقيقًا، وأبعد عن البدعة مع أن في قوت القلوب أحاديث ضعيفة وموضوعة، وأشياء كثيرة مردودة.(1/44)
وأما ما في الإحياء من الكلام في المهلكات مثل الكلام على الكبر والعجب والرياء والحسد ونحو ذلك، فغالبه منقول من كلام الحارث المحاسبي في الرعاية، ومنه ما هو مقبول ومنه ما هو مردود، ومنه ما هو متنازع فيه.
والإحياء فيه فوائد كثيرة، لكن فيه مواد مذمومة، فإنه فيه مواد فاسدة من كلام الفلاسفة تتعلق بالتوحيد والنبوة والمعاد، فإذا ذكر معارف الصوفية كان بمنزلة من أخذ عدوًا للمسلمين ألبسه ثياب المسلمين.
وقد أنكر أئمة الدين على أبي حامد هذا في كتبه، وقالوا مرّه (الشفاء) يعني شفاء ابن سينا في الفلسفة.
وفيه أحاديث وآثار ضعيفة؛ بل موضوعة كثيرة.
وفيه أشياء من أغاليط الصوفية وترهاتهم.
وفيه مع ذلك من كلام مشايخ الصوفية والعارفين المستقيمين أعمال القلوب الموافق للكتاب والسنة، ومن غير ذلك من العبادات والأدب ما هو موافق للكتاب والسنسة ما هو أكثر مما يرد منه، فلهذا اختلف فيه اجتهاد الناس وتنازعوا فيه" أ.هـ.
وقال في كلامه على أبو عبد الرحمن السلمي وكتابه تاريخ أهل الصفّة في المجموع (11/41): "وكان معتنيًا بذكر أخبار النساك والصوفية والآثار التي يستندون إليها، والكلمات المأثورة عنهم؛ وجمع أخبار زهاد السلف وأخبار جميع من بلغه أنه كان من أهل الصفّة؛ وكم بلغوا، وأخبار الصوفية المتأخرين بعد القرون الثلاثة. وجمع ايضًا في الأبواب مثل حقائق التفسير ومثل أبواب التصوف الجارية على أبواب الفقه. ومثل كلامهم في التوحيد والمعرفة والمحبة، ومسألة السماع وغير ذلك من الأحوال، وغير ذلك من الأبواب، وفيما جمعه فوائ كثيرة ومنافع جليلة. وهو في نفسه رجل من أهل الخير والدين والصلاح والفضل، وما يرويه من الآثار فيه من الصحيح شيء كثير، ويروي أحيانًا أخبارًا ضعيفة بل موضوعة، يعلم العلماء أنها كذب. وقد تكلم بعض حفاظ الحديث في سماعه.(1/45)
ثم قال: فالذي جمعه الشيخ أبو عبد الرحمن ونحوه في تاريخ أهل الصفّة وأخبار زهاد السلف وطبقات الصوفية، يستفاد منه فوائد جليلة، ويجتنب منه ما فيه من الروايات الباطلة، ويتوقف فيما يرويه من الروايات الضعيفة.
وهكذا كثير من أهل الروايات ومن أهل الآراء والأذواق من الفقهاء والزهاد والمتكلمين، وغيرهم، يوجد فيما يؤثرونه عمن قبلهم، وفيما يذكرونه معتقدين له شيء كثير، وأمر عظيم من الهدي ودين الحق، الذي بعث الله به رسوله، ويوجد أحيانًا عندهم من جنس الروايات الباطلة أو الضعيفة، ومن جنس الآراء والأذواق الفاسدة أو المحتملة شيء كثير" أ.هـ.
موالاة المسلمين بمن فيهم أهل البطل
وصف الله تعالى المؤمنين بالألفة فيما بينهم فقال: { لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} [لأنفال: من الآية63] وقال أيضًا : { مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ } [الفتح: من الآية29]، ووصف بأزائهم الكفار فقال: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} [الحشر: من الآية14] ولا شك أن هذه الصفات تجتمع مع الإيمان لأنها لازمة له، فهي تضعف بضعفه وتقوى بقوته، ولذلك ترى على مر الزمن أن أهل البدع هم دعاة الفرقة، وأهل السنة والجماعة هم دعاة الألفة والإجتماع، فهم يتحملون أذى أهل البدع والتعصب ويصبرون على ذلك ويبذلون لهم النصح ويدعون لهم بالخير والصلاح ولا يخرجون على إمامتهم إن كانوا أئمة ويصلون ورائهم وينصرون منكوبهم ويعودون مريضهم، كما هو حال إمام أهل السنة والجماعة أحمد بن حنبل رحمه الله في حال محنته معهم في خلق القرآن، وحال الإمام شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله في حال سجنهم له كما سيأتي بيانه.(1/46)
إن ولاء المسلم أصل من أعظم أصول الإسلام قال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ } [التوبة: من الآية71]، وإن هذا الولاء لم يقيد بمسلم ذي مواصفات معينة، بل ما دام المرء مسلمًا غير كافر فهو يستحق الولاء والنصرة، ويتفاضل هذا الولاء ويزداد مع زيادة الدين والإيمان. ويلاحظ أن كل النصوص الشرعية المتعلقة بالولاء والنصرة جاءت مطلقة غير مقيدة إلا بشرط الإسلام أو الإيمان.
قال في المجموع (3/288): "هذا مع أن الله أمر بالجماعة والائتلاف ونهى عن البدعة والاختلاف وقال: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام: من الآية159]، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (عليكم بالجماعة فإن يد الله على الجماعة) (1) وقال: (الشيطان مع الواحد وهو من الأثنين أبعد ) (2) وقال: (الشيطان ذئب الإنسان كذئب الغنم والذئب أنما يأخذ القاصية والنائية من الغنم) (3).
فالواجب على المسلم إذا صار في مدينة من مدائن المسلمين أن يصلي معهم الجمعة والجماعة ويوالي المؤمنين ولا يعاديهم، وإن رأى بعضهم ضالاً أو غاويًا وأمكن أن يهديه ويرشده فعل ذلك، وإلا فلا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، وإذا كان قادرًا على أن يولي في إمامة المسلمين الأفضل ولاه، وإن قدر أن يمنع من يظهر البدع والفجور منعه" أ.هـ.
__________
(1) أحمد وغيره وله شواهد يكون صحيحًا إن شاء الله.
(2) الترمذي وأحمد والحاكم والحديث صحيح.
(3) أحمد والطبراني، وفيه ضعف ورواه عبد الرزاق عن عطاء مرسلاً.(1/47)
قال (3/271): "وأنا والله من أعظم الناس معاونة على إطفاء كل شر فيها وفي غيرها، وإقامة كل خير، وابن مخلوف لو عمل مهما عمل والله ما أقدر على خير إلا وأعمله معه، ولا أعين عليه عدوه قط، ولا حول ولا قوة إلا بالله. هذه نيتي وعزمي مع علمي بجميع الأمور، فإني أعلم أن الشيطان ينزغ بين المؤمنين، ولن أكون عونًا للشيطان على إخوتي المسلمين، ولو كنت خارجًا لكنت أعلم بماذا أعاونه" أ.هـ.
ولا شيخ الإسلام وحبه لمن آذاه وعاداه وسجنه من أمراء ومشايخ وقضاة مصر:
وقال في مقابلته لرسول نائب السلطان في سجنه في مصر (3/269): "ولكن هذه القصة ضررها يعود عليكم؛ فإن الذين سعوا فيها من الشام أنا أعلم أن قصدهم فيها كيدكم وفساد ملتكم ودولتكم وقد ذهب بعضهم إلى بلاد التتر وبعضهم من قيم هناك فهم الذين قصدوا إفساد دينكم ودنياكم وجعلوني إمامًا بالتستر لعلمهم أني أواليكم وأنصح لكم وأريد لكم خير الدنيا والآخرة، والقضية لها أسرار كلما جاءت تنكشف، وإلا فأنا لم يكن بيني وبين أحد بمصر عداوة ولا بغضًا وما زلت محبًا لهم مواليًا لهم: أمرائهم ومشائخهم وقضاتهم" أ.هـ.
قال( 3/227): "والناس يعلمون أنه كان بين الحنبلية والأشعرية وحشة ومنافرة. وأنا كنت من أعظم الناس تأليفًا لقلوب المسلمين وطلبًا لاتفاق كلمتهم واتباعًا لما أمرنا به من الإعتصام بحبل الله، وأزلت عامة ما كان في النفوس من الوحشة وبينت لهم أن الأشعري كان من أجل المتكلمين المنتسبين إلى الإمام أحمد رحمه الله ونحوه، المنتصرين لطريقه، كما يذكر الأشعري ذلك في كتبه.
ثم قال: وكنت أقرر هذا للحنابلة وأبين أن الأشعري وإن كان من تلامذة المعتزلة ثم تاب، فإنه كان تلميذ الجبائي ومال إلى طريقة ابن كلاب وأخذ عن زكريا الساجي أصول الحديث بالبصرة ثم لما قدم بغداد أخذ عن حنبلية بغداد أمورًا أخرى، وذلك آخر أمره كما ذكره هو وأصحابه في كتبهم " أ.هـ.(1/48)
وقال في المجموع (7/507): "والمحفوظ عن أحمد وأمثاله من الأئمة إنما هو تكفير الجهمية المشبهة وأمثال هؤلاء، ولم يكفر أحمد الخوارج ولا القدرية إذا أقروا بالعلم وأنكروا خلق الأفعال وعموم المشيئة، لكن حكي عنه في تكفيرهم روايتان.
وأما المرجئة فلا يختلف قوله في عدم تكفيرهم، مع أن أحمد لم يكفر أعيان الجهمية، ولا كل من قال إنه جهمي كفره، ولا كل من وافق الجهمية في بعض بدعهم، بل صلى خلف الجهمية الذين دعوا إلى قولهم وامتحنوا الناس وعاقبوا من لم يوافقهم بالعقوبات الغليظة، لم يكفرهم وأمثاله، بل كان يعتقد إيمانهم وإمامتهم ويدعو لهم ويرى الإتمام في الصلوات خلفهم والحج والغزو معهم والمنع من الخروج عليهم ما يراه لأمثالهم من الأئمة، وينكر ما أحدثوا من القول الباطل الذي هو كفر عظيم، وإن لم يعلموا هم أنه كفر، وكان ينكره ويجاهدهم على رده بحسب الإمكان، فيجمع بين طاعة الله ورسوله في إظهار السنة والدين وإنكار بدع الجهمية الملحدين وبين رعاية حقوق المؤمنين من الأئمة والأمة وإن كانوا جهالاً مبتدعين وظلمة فاسقين" أ.هـ.(1/49)
وقال في المجموع (6/503): "فإن الإمام أحمد مثلاً قد باشر الجهمية الذين دعوه إلى خلق القرآن ونفي الصفات، وامتحنوه وسائر علماء وقته، وفتنوا المؤمنين والمؤمنات الذين لم يوافقوهم على التجهم بالضرب والحبس والقتل والعزل عن الولايات وقطع الأرزاق ورد الشهادة وترك تخليصهم من أيدي العدو، بحيث كان كثير من أولي الأمر إذ ذاك من الجهمية من الولاة والقضاة وغيرهم يكفرون كل من لم يكن جهميًا موافقًا لهم على نفي الصفات، مثل القول بخلق القرآن، ويحكمون فيه بحكمهم في الكافر، فلا يولونه ولاية ولا يفتكونه من عدو ولا يعطونه شيئًا من بيت المال ولا يقبلون له شهادة ولا فتيا ولا رواية ويمتحنون الناس عند الولاية والشهادة والإفتكاك من الأسر وغير ذلك. فمن أقر بخلق القرآن حكموا له بالإيمان، ومن لم يقر به لم يحكموا له بحكم أهل الإيمان، ومن كان داعيًا إلى غير التجهم قتلوه أو ضربوه أو حبسوه.
ومعلوم أن هذا أغلظ التجهم، فإن الدعاء إلى المقالة أعظم من قولها، وإثابة قائلها وعقوبة تاركها أعظم من مجرد الدعاء إليها، والعقوبة بالقتل لقائلها أعظم من العقوبة بالضرب.
ثم أن الإمام أحمد دعا للخليفة وغيره ممن ضربه وحبسه، واستغفر لهم وحللهم مما فعلوه به من الظلم والدعاء إلى القول الذي هو كفر، ولو كانوا مرتدين عن الإسلام لم يجز الاستغفار لهم، فإن الاستغفار للكفار لا يجوز بالكتاب والسنة والإجماع، وهذه الأقوال منه ومن غيره من الأئءمة صريحة في أنهم لم يكفروا المعينين من الجهمية الذين كانوا يقولون: القرآن مخلوق، وأن الله لا يرى في الاخرة. وقد نقل عن أحمد ما يدل على أنه كفر به قومًا معينين، فإما أن يذكر عنه في المسألة روايتان ففيه نظر، أو يحمل الأمر على التفصيل، فيقال: من كفر بعينه فلقيام الدليل على أنه وجدت فيه شروط التكفير وانتفت موانعه، ومن لم يكفره بعينه فلإنتقاء ذلك في حقه، هذا مع إطلاق قوله بالتكفير على سبيل العموم" أ.هـ.(1/50)
الموازنة في هجر أهل البدع
الهجرة نوع من أنواع التعزير والتأديب يقصد منها انزجار المهجور ليترك بدعته إذا لم ينفع معه النصح والبيان. وحتى لو كان معذورًا في بدعته عند الله لعذر ما، فإنه لما كان يظهر بدعته ويعلنها للعامة فإنه لا بد من منعه ولو بالعقوبة إذا لم ينفع النصح. ولكن هذا الأمر ليس صحيحًا في كل حال أو مع كل شخص، بل هو منضبط بضوابط مهمة إن أغفلت لم يؤد الهجر المقصد الشرعي الذي وضع له بل قد يضاده ويحصل منه فساد أعظم من فساد البدعة الظاهرة، من جهة بقاء البدعة على حالها إذا لم يزدد صاحبها عنادًا وإصرارًا في توكيدها ونشرها، ثم حصول العداوة والفرقة بما يمنع الدعوة في المسائل الأخرى التي قد تكون أكثر أهمية في الشرع من فساد تلك البدعة.
إن أهم تلك الضوابط:
? إن المقصود من الهجر هو ترك البدعة، فإن عُلم أن الهجر لا يؤدي إلى تركها لم يشرع الهجر.
? التفريق بين المبتدع الساكت والمبتدع الداعي إلى بدعته، وكذلك التفريق بين البدع العظيمة التي تتعلق بأصول الاعتقاد وبين غيرها، وكذلك ينبغي التفريق بين البدع الأصلية والبدع الإضافية (1).
? يشرع الهجر إذا كان الهاجر قويًا معززًا بالسلطان، لأن الهجر عقوبة لمن لم ينفع معه النصح وبالتالي فالهجر هو إرغام له على الترك، فإذا كان الهاجر ضعيفًا لم يتحقق ذلك البتة بل قد ينقلب الأمر على الهاجر فيحصل له فساد أعظم.
__________
(1) البدعة الحقيقية هي التي لم يدل عليها دليل شرعي، لا من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا استدلال معتبر عند أهل العلم، لا في الجملة ولا في التفصيل، ولهذا سميت بدعة حقيقية، لأنها شيء مخترع على غير مثال سابق. والبدعة الإٌضافية هي التي لها شائبتان: إحداهما أن لها من الأدلة متعلق فلا تكون من تلك الجهة بدعة، والثانية ليس لها متعلق إلا مثل ما للبدعة الحقيقية (مثل بدع تحديد الذكر والنوافل بأوقات معينة). انظر الإعتصام للشاطبي (1/171).(1/51)
? وحتى مع قوة وسلطان الهاجر، فإنه لا بد من النظر إلى المصالح الشرعية الأخرى، فإن هجر من عنده منفعة ليست عند غيره قد يقطع تلك المنفعة، فالأئمة لم يتركوا الرواية عن أهل البدع الكبيرة لما عندهم من العلم.
حفظ الولاء بين المسلمين حتى مع الهجر والعقوبة.
? إن كثيرًا من فتاوى الأئمة ومنهم أحمد بن حنبل في هجر أهل البدع إنما كانت فتاوى أعيان، يعلم المفتي حقيقة حال المهجور، فلا ينبغي أخذها مطلقًا.
قال شيخ الإسلام في المجموع (28/ 210): "فإن الهجرة نوع من أنواع التعزير والعقوبة نوع من أنواع الهجرة التي هي ترك السيئات، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (المهاجر من هجر السيئات) (1)، وقال: (من هجر ما نهى الله عنه) (2)، فهذه هجرة التقوى، وفي هجرة التعزير والجهاد: هجرة الثلاثة الذين خلفوا، وأمر المسلمين بهجرهم حتى تيب عليهم.
فالهجرة تارة نوع من التقوى، إذا كانت هجرًا للسيئات، كما قال تعالى: { وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأنعام:68 - 69] فبين سبحانه أن المتقين خلاف الظالمين، وأن المأمورين بهجران مجالس الخوض في آيات الله هم المتقون.
وتارة تكون نوع من الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة الحدود، وهو عقوبة من اعتدى وكان ظالمًا.
__________
(1) البخاري تعليقًا، وابن حبان وغيرهم والحديث صحيح.
(2) رواه البخاري.(1/52)
وعقوبة الظالم وتعزيره مشروط بالقدرة فلهذا اختلف حكم الشرع في نوعي الهجرتين: بين القادر والعاجز، وبين قلة النوع الظالم المبتدع وكثرته وقوته وضعفه، كما يختلف الحكم بذلك في سائر أنواع الظلم، من الكفر والفسوق والعصيان. فإن كل ما حرمه الله فهو ظلم، إما في حق الله فقط، وإما في حق عباده، وإما فيهما.
وما أمر به من هجر الترك والانتهاء، وهجر العقوبة والتعزير، إنما هو إذا لم يكن فيه مصلحة دينية راجحة على فعله، وإلا فإذا كان في السيئة حسنة راجحة لم تكن سيئة، وإذا كان في العقوبة مفسدة راجحة على الجريمة لم تكن حسنة، بل تكون سيئة؛ وإن كانت مكافئة لم تكن حسنة ولا سيئة.
فالهجران قد يكون مقصوده ترك سيئة البدعة التي هي ظلم وذنب وإثم وفساد، وقد يكون مقصوده فعل حسنة الجهاد والنهي عن المنكر وعقوبة الظالمين لينزجروا ويرتدعوا. وليقوى الإيمان والعمل الصالح عند أهله، فإن عقوبة الظالم تمنع النفوس عن ظلمه، وتحضها على فعل ضد ظلمه من الإيمان والسنة ونحو ذلك. فإذا لم يكن في هجرانه انزجار أحد ولا انتهاء أحد، بل بطلان كثير من الحسنات المأمور بها لم تكن هجرة مأمور بها، كما ذكره أحمد عن أهل خراسان إذ ذاك: أنهم لم يكونوا يقوون بالجهمية. فإذا عجزوا عن إظهار العداوة لهم سقط الأمر بفعل هذه الحسنة، وكان مداراتهم فيه دفع الضرر عن المؤمن الضعيف؛ ولعله أن يكون فيه تأليف الفاجر القوي. وكذلك لما كثر القدر في أهل البصرة، فلو ترك رواية الحديث عنهم لأندرس العلم والسنن والآثار المحفوظة فيهم. فإذا تعذر إقامة الواجبات من العلم والجهاد وغير ذلك إلا بمن فيه بدعة مضرتها دون مضرة ترك ذلك الواجب: كان تحصيل مصلحة الواجب مع مفسدة مرجوحة معه خيرًا من العكس، ولهذا كان الكلام في هذه المسائل فيه تفصيل.(1/53)
وكثير من أجوبة الإمام أحمد وغيره من الأئمة خرج على سؤال سائل قد علم المسؤول حاله، أو خرج خطابًا لمعين قد علم حاله، فيكون بمنزلة قضايا الأعيان الصادرة عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، إنما يثبت حكمها في نظيرها.
فإن أقوامًا جعلوا ذلك عامًا، فاستعملوا من الهجر والإنكار ما لم يؤمر به، فلا يجب ولا يستحب، وربما تركوا به واجبات أو مستحبات وفعلوا به محرمات. وآخرون أعرضوا عن ذلك بالكلية، فلم يهجروا ما أمروا بهجره من السيئات البدعية، بل تركوها ترك المعرض، لا ترك المنتهي الكاره، أو وقعوا فيها، وقد يتركونها ترك المنتهي الكاره ولا ينهون عنها غيرهم، ولا يعاقبون بالهجرة ونحوها من يستحق العقوبة عليها، فيكونون قد ضيعوا من النهي عن المنكر ما أمروا به إيجابًا أو استحبابًا، فهم بين فعل المنكر أو ترك النهي عنه، وذلك فعل ما نهوا عنه وترك ما أمروا به. فهذا هذا، ودين الله وسط بين الغالي فيه والجافي عنه، والله سبحانه أعلم" أ.هـ.
وقال في المجموع (24/ 174) في كلامه على حديث: (لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث) الحديث، قال: "نعم صح عنه أنه هجر كعب بن مالك وصاحبيه – رضي الله عنهم – لما تخلفوا عن غزوة تبوك، وظهرت معصيتهم، وخيف عليهم النفاق، فهجرهم وأمر الناس بهجرهم، حتى أمر باعتزال أزواجهم من غير طلاق خمسين ليلة، إلى أن نزلت توبتهم من السماء. وكذلك أمر عمر رضي الله عنه بهجر صبيغ بن عسل التميمي، لما رآه من الذين يتبعون ما تشابه من الكتاب، إلى أن مضى عليه حول، وتبين صدقه في التوبة، فأمر المسلمين بمراجعته. فبهذا ونحوه رأى المسلمين أن يهجروا من ظهرت عليه علامات الزيغ من المظهرين للبدع، الداعين إليها، والمظهرين للكبائر، فأما من كان مستترًا بمعصية أو مسرًا ببدعة غير مكفرة، فإن هذا لا يهجر، وإنما يهجر الداعي إلى البدعة؛ إذ الهجر نوع من العقوبة، وإنما يعاقب من أظهر المعصية قولاً وعملاً.(1/54)
وأما من أظهر لنا خيرًا فإنا نقبل علانيته، ونكل سريرته إلى الله تعالى، فإن غايته أن يكون بمنزلة المنافقين الذين كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقبل علانتيتهم، ويكل سريرتهم إلى الله، لما جاءوا غليه عام تبوك يحلفون ويعتذرون.
ولهذا كان الإمام أحمد وأكثر من قبله وبعده من الأئمة كمالك وغيره لا يقبلون رواية الداعي إلى بدعة، ولا يجالسونه، بخلاف الساكت، وقد خرج أصحاب الصحيح من جماعات ممن رمي ببدعة من الساكتين، ولم يخرجوا من الدعاة إلى البدع.
والذي أوجب هذا الكلام أن وفدكم حدثونا بأشياء من الفرقة والاختلاف بينكم، حتى ذكروا أن الأمر آل إلى قريب المقاتلة، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم" أ.هـ.
وقال في المجموع (28/ 205): "فالمنكرات الظاهرة يجب إنكارها، بخلاف الباطنة فإن عقوبتها على صاحبها خاصة.
وهذا الهجر يختلف باختلاف الهاجرين في قوتهم وضعفهم وقلتهم وكثرتهم، فإن المقصود به زجر المهجور وتأديبه ورجوع العامة عن مثل حاله فإن كانت المصلحة في ذلك راجحة بحيث يفضي هجره إلى ضعف الشر وخفيته كان مشروعًا. وإن كان لا المهجور ولا غيره يرتدع بذلك، بل يزيد الشر، والهاجر ضعيف، بحيث يكون مفسدة ذلك راجحة على مصلحته، لم يشرع الهجر، بل يكون التأليف لبعض الناس أنفع من الهجر. والهجر لبعض الناس أنفع من التأليف، ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتألف قومًا ويهجر آخرين، كما أن الثلاثة الذين خلفوا كانوا خيرًا من أكثر المؤلفة قلوبهم، لما كان أولئك سادة مطاعون في عشائرهم، فكانت المصلحة الدينية في تأليف قلوبهم، وهؤلاء كانوا مؤمنين، والمؤمنون سواهم كثير، فكان في هجرهم عز الدين وتطهيرهم من ذنوبهم، وهذا كما أن المشروع في العدو القتال تارة والمهادنة تارة وأخذ الجزية تارة، كل ذلك بحسب الأحوال والمصالح.(1/55)
وجواب الأئمة كأحمد وغيره في هذا الباب مبني على هذا الأصل، ولهذا كان يفرق بين الأماكن التي كثرت فيها البدع، كما كثر القدر في البصرة والتنجيم بخراسان والتشيع بالكوفة، وبين ما ليس كذلك، ويفرق بين الأئمة المطاعين وغيرهم، وإذا عرف مقصود الشريعة سلك في حصوله أوصل الطرق إليه " أ.هـ.
وقال في المجموع (6/503) في عدم جواز هجر المبتدع الساكت في كلامه على رؤية الكفار رب العزة يوم القيامة: وهنا آداب تجب مراعاتها: منها: أن من سكت عن الكلام في هذه المسألة ولم يدع إلى شيء فإنه لا يحل هجره، وإن كان يعتقد أحد الطرفين، فإن البدع التي هي أعظم منها لا يهجر فيها إلا الداعية دون الساكت، فهذا أولى" أ.هـ.
وقال شيخ الإسلام مؤكدًا بقاء الولاء ومعرفة الفضل حتى حال العقوبة:
فقال في المجموع (10/377): "ومن هذا الباب هجر أحمد للذين أجابوا في المحنة قبل فقال في المجموع (10/377): "ومن هذا الباب هجر أحمد للذين أجابوا في المحنة قبل القيد ولمن تاب بعد الإجابة ولمن فعل بدعة ما، مع أن فيهم أئمة في الحديث والفقه والتصوف والعبادة، فإن هجره لهم والمسلمين معه لا يمنع معرفة قدر فضلهم كما أن الثلاثة الذين خلفوا لما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - المسلمين بهجرهم لم يمنع ذلك ما كان لهم من السوابق، حتى قيل أن أثنين منهما شهدا بدرًا وقد قال الله لأهل بدر: (اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) (1)، وأحدهم كعب بن مالك شاعر النبي - صلى الله عليه وسلم - وأحد أهل العقبة.
فهذا أصل عظيم: أن عقوبة الدنيا المشروعة والمقدورة وبين عقوبة الآخرة والله سبحانه أعلم" أ.هـ
أمثلة على الموازنة
في الختام نضيف أمثلة غير التي ضمنت فيما مضى من المبحث تؤكد مبدأ الموازنة الشرعية في الحكم على الأعيان من المسلمين، عسى أن يكون في ذلك من النفع ما يعين على زيادة الألفة والمودة والتناصح بين المسلمين.
__________
(1) رواه البخاري.(1/56)
? قال الزركشي في البحر المحيط (4/270): "قال الحافظ ابن عدي: قلت للربيع: ما حمل الشافعي على روايته عن إبراهيم بن أبي يحيى مع وصفه إياه أنه كان قدريصا؟ فقال: كان الشافعي يقول: لأن يخر إبراهيم من السماء أحب إليه من أن يكذب.
? وقال الخطيب: وتحقيق ما ذكرناه أن أئمة الحديث كالبخاري ومسلم وغيرهما رووا في كتبهم عن أهل الأهواء حتى قيل: لو حذفت رواياتهم لابيضت الكتب". انتهى كلام الزركشي.
? مدح شيخ الإسلام لصلاح الدين الأيوبي ووصفه بأنه من ملوك السنة مع أنه أشعري:
قال شيخ الإسلام (3/281): "ولما قدم أبو عمرو عثمان بن مرزوق إلى ديار مصر وكان ملوكها في ذلك الزمان مظهرين للتشيع، وكانوا باطنية ملاحدة، وكان بسبب ذلك قد كثرت البدع وظهرت بالديار المصرية، أمر أصحابه أن لا يصلوا إلا خلف من يعرفونه لأجل ذلك، ثم بعد موته فتحها ملوك السنة مثل صلاح الدين وظهرت فيها كلمة السنة المخالفة للرافضة، ثم صار العلم والسنة بكثر بها ويظهر".
? مدح شيخ الإسلام بعض الأعلام ممن فيه بدعة بعد ذكر كلام الخطابي في الصفات (5/59): وهكذا قال أبو بكر الخطيب الحافظ في رسالة له أخبر فيها أن مذهب السلف على ذلك.
وهذا الكلام الذي ذكره الخطابي قد نقل نحوًا منه من العلماء من لا يحصى عددهم مثل أبي بكر الإسماعيلي والإمام يحيى بن عمار السجزي وشيخ الإسلام أبي إسماعيل الهروي صاحب منازل السائرين وذم الكلام وهو أشهر من أن يوصف، وشيخ الإسلام أبي عثمان الصابوني، وأبي عمر بن عبد البر النمري إمام المغرب وغيرهم" أ.هـ.
ثم قال في كلامه على الحلول (5/230): "وقد وقع في ذلك طائفة م الصوفية، حتى صاحب منازل السائرين في توحيده المذكور في آخر المنازل في مثل هذه الحلول" أ.هـ.(1/57)
ومدح أعلامًا آخرين ممن فيهم بدعة فقال في المجموع (5/483): "قلت: أبو طالب رحمه الله وأصحابه السالمية – اتباع الشيخ أبي الحسن بن سالم صاحب سهل بن عبد الله التستري – لهم من المعرفة والعبادة والزهد واتباع السنة والجماعة في عامة المسائل المشهورة لأهل السنة ما هم معروفون به، وهم منتسبون إلى إمامين عظيمين في السنة: الإمام أحمد بن حنبل، وسهل بن عبد الله التستري، ومنهم من تفقه على مذهب مالك بن أنس كبيت الشيخ أبي محمد وغيرهم، وفيهم من هو على مذهب الشافعي.
فالذين ينتسبون إليهم أو يعظمونهم ويقصدون متابعتهم أئمة هدي رضوان الله عليهم أجمعين. وهم في ذلك كأمثالهم من أهل السنة والجماعة.
وقل طائفة من المتأخرين إلا وقع في كلامها نوع غلط لكثرة ما وقع من شبه أهل البدع، ولهذا يوجد في كثير من المصنفات في أصول الفقه وأصول الدين والفقه والزهد والتفسير والحديث من يذكر في الأصل العظيم عدة أقوال ويحكي من مقالات الناس ألوانًا، والقول الذي بعث الله به رسوله لا يذكره لعدم علمه به لا لكراهته لما عليه الرسول.
وهؤلاء وقع في كلامهم أشياء أنكروا بعض ما وقع من كلام أبي طالب في الصفات – من نحو الحلول وغيره – أنكرها عليهم أئمة العلم والدين ونسبوهم إلى الحلول من أجلها؛ ولهذا تكلم أبو القاسم بن عساكر في أبي الأعلى الأهوازي لما صنف هذا مثالب أبي الحسن الأشعري، وهذا من مناقبه. وكان أبو علي الأهوازي من السالمية فنسبهم طائفة إلى الحلول. والقاضي أبو يعلى له كتاب صنفه في الرد على السالمية.
وهم فيما ينازعهم المنازعون فيه – كالقاضي أبي يعلى وغيره – وكأصحاب الأشعري وغيرهم من ينازعهم، من جنس تنازع الناس تارة يرد عليهم حق وباطل، وتارة يرد عليهم باطل بباطل، وتارة يرد عليهم باطل بحق.(1/58)
وكذلك ذكر الخطيب البغدادي في تاريخه أن جماعة من العلماء أنكروا بعض ما وقع في كلام أبي طالب في الصفات. وما وقع في كلام أبي طالب من الحلول سري بعضه إلى غيره من الشيوخ الذين أخذوا عنه كأبي الحكم بن برجان ونحوه.
وأما أبو إسماعيل الهروي صاحب منازل السائرين فليس في كلامه شيء من الحلول العام، لكن في كلامه شيء من الحلول الخاص في حق العبد العارف الواصل إلى ما سماه هو: مقام التوحيد. وقد أباح منه بما لم يبح به أبو طالب، ولكن كنى عنه.
وأما الحلول العام ففي كلام أبي طالب قطعة كبيرة منه، مع تبريه من لفظ الحلول، فإنه ذكر كلامًا كثيرًا حسنًا في التوحيد كقوله.. "أ.هـ.
وقال في كلامه على الصوفية (11/17): "فطائفة ذمت الصوفية والتصوف، وقالوا: إنهم مبتدعون خارجون عن السنة؛ ونقل عن طائفة من الأئمة في ذلك من الكلام ما هو معروف، وتبعهم في ذلك طائفة من أهل الفقه والكلام.
وطائفة غلت فيهم وادعوا أنهم أفضل الخلق، وأكملهم بعد الأنبياء؛ وكلا طرفي هذه الأمور ذميم.
والصواب أنهم مجتهدون في طاعة الله كما اجتهد غيرهم من أهل طاعة الله، ففيهم السابق المقرب بحسب اجتهاده، وفيهم المقتصد الذي هو من أهل اليمين، وفي كل من الصنفين من قد يجتهد فيخطئ، وفيهم من يذنب فيتوب أو لا يتوب، ومن المنتسبين إليهم من هو ظالم لنفسه عاص لربه.
وقد انتسب إليهم طوائف من أهل البدع والزندقة، ولكن عند المحققين من أهل التصوف ليسوا منهم: كالحلاج مثلاً، فإن أكثر مشايخ الطريق أنكروه وأخرجوه عن الطريق، مثل الجنيد بن محمد سيد الطائفة وغيره، كما ذكر ذلك أبو عبد الرحمن السلمي في طبقات الصوفية، وذكره الحافظ أبو بكر الخطيب في تاريخ بغداد " أ.هـ.
والحمد لله رب العالمين.(1/59)
سلسلة بحوث وتحقيقات مختارة من مجلة الحكمة (11)
منهج شيخ الإسلام في العبادة والتزكية
بقلم : عبدالله بن محمد الحيالي
قام بنشره
أبو مهند النجدي
Almodhe1405@hotmail.com
almodhe@yahoo.com
المقدمة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فقد طغت موجة من الماديات على قلوب المسلمين قطعت صلتهم بالله وتعلقهم به، فابتعدوا عن كل مظاهر العبودية والالتجاء الصادق إلى الله، حتى وصلوا إلى ما نراه من حيرة وقلق واضطراب. ولا سبيل للخروج من هذا المأزق إلا بالتزام العبودية لله تعالى والتحرر من عبودية الوثنيات والطواغيت على اختلاف أشكالها وأنواعها، تلك العبودية التي لو استجاب الناس لها لعاشوا في اطمئنان وسعادة وسلام، والتي هي أساس العمل الصالح الذي يثمر نهضة الأمة، وينقذ الإنسانية جمعاء من جحيم العبودية والخضوع للبشر، ويرد عليها تراثها ويرفع منزلتها ويمنحها السعادة والفوز في الدارين.
والكتابة في هذا الموضوع ليس بالأمر السهل، لأنه متشعب وذو فروع ولأن الشيخ ـ رحمه الله - كتب فيه، في عامة مؤلفاته ورسائله تقريباً، فدافع عن الحق الواضح فيه ورد على ألوان الانحراف التي على حياة المسلمين في مجال العبودية وردهم إلى المنهل الصافي من الكتاب والسنة.
وقد رأيت رسالة العبودية للشيخ -رحمه الله -من أجمع وأنفع ما كتب في هذا الموضوع، فقد وضع فيها نظرية متكاملة وبين فيها معنى العبودية. وهي نظرية غنية بالتحقيقات النافعة والقواعد الجامعة والتوجيهات التربوية التي تحتاجها المؤسسات التربوية والاجتماعية في عصرنا اليوم.
ولذلك سنتعرض في هذا الحديث لأهم الركائز التي تقوم عليها فكرة العبودية(1).، بعد أن نذكر أهم الأصول العامة في تزكية النفس وطريقة القرآن في عرض منهج التزكية.
__________
(1) استفدت من المقدمة التي كتبها الأستاذ عبد الرحمن الباني للرسالة (طبع المكتب الإسلامي) الطبعة السادسة.(1/1)
ولما كانت أي فكرة ما لم يقارنها عمل وسلوك فإنها لا تعطي ثمارها؛ فقد ذكرت في نهاية البحث الناحية العلمية لحياة الشيخ ـ رحمه الله ـ وبيان تعبده لله، وهذا من أصول أهل السنة والجماعة التي يتميزون بها عن غيرهم من المناهج البدعية (1).
وإني لأرجو الله لهذه الأمة التوفيق والهداية، وأن يردها إلى العبودية له دون غيره، وأن يوفقها إلى الحق في القول والعمل. وأسأل الله أن يجعل عملي هذا خالصاً لوجهه الكريم، ولا يجعل لأحد فيه شيئاً.
الأصول العامة في تزكية النفس
التزكية:
ومعناها تطهير النفس وتنقيتها من الرذائل. وهي تجمع بين إزالة الشر وتطييبها بالخير، قال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا}(التوبة: من الآية103).
وتجمع بين التطهير والتزكية لأنهما متلازمان.
والتزكية وإن كان أصلها النماء والزيادة؛ فهي لا تحصل إلا بإزالة الشر الموجود في النفس كي ترتاح وتطمئن، وهذا لا يحصل إلا بالتوحيد وإخلاص العبودية لله وحده والبراءة من الشرك كما سيأتي توضيحه بإذن الله تعالى. يقول شيخ الإسلام في توضيح ذلك:
(( فإن التزكي هو التطهر بترك السيئات الموجب لزكاة النفس. كما قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا}(الشمس:9). ولهذا تفسر الزكاة تارة بالنماء وبالزيادة، وتارة بالنظافة والإماطة، والحقيقة أن الزكاة تجمع بين الأمرين إزالة الشر، وزيادة الخير وهذا هو العمل الصالح، وهو الإحسان))(2)
__________
(1) انظر ما كتبه شيخ الإسلام رحمه الله في آخر( الواسطية) فقد ذكر جماع مكارم الأخلاق التي يتخلق بها أهل السنة والجماعة (ص 127) بشرح العلامة محمد خليل هراس.
(2) دقائق التفسير لابن تيمية، تحقيق محمد الجليند،(5/100).(1/2)
والتزكي بترك السيئات أصله بترك الشرك قليله وكثيرة، لأنه يدنس القلب، وليس هناك حق أعظم من حق الله وصرف العبادة لله. فإنكاره ـ أي حق الله ـ والشرك بالله من أعظم ما يدنس القلب، قال تعالى: { إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ } (التوبة: من الآية28).ـ بفتح الجيم ـ والمراد بالنجاسة النجاسة المعنوية، لا البدنية، فقد وصف الله المشركين بالنجاسة قلوبهم ونفوسهم بما يتلبسونه من الشرك والتعبد لغير الله.
وسيأتي توضيح ذلك في وسائل تزكية النفس. وبالله التوفيق.
التزكية من أعظم مهمات الرسل (صلوات الله وسلامه عليهم)
قال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } (الجمعة: من الآية2) فالله قد امتن على عباده بإرسال الرسل الذين بعثهم إلى أقوامهم، ومن مهماتهم التي كلفهم الله بها تبليغ الدين وإقامة الحجة وإسماعهم كلام الله عز وجل الذي به زكاة الأرواح والنفوس، وتعليمهم الكتاب والحكمة.
ولما كانت التزكية لا تحصل إلا بالتوحيد وإخلاص العبادة لله وحده؛ لذا جاءت الرسل والأنبياء بدعوة أقوامهم إلى هذا الأصل العظيم وتذكيرهم به، قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } (النحل: من الآية36) والتوحيد من أعظم الركائز التي قامت عليها دعوة الأنبياء من أولهم إلى آخرهم، وكذلك التحذير من الشرك وبيان أثره السيئ.ولا يمكن بحال أن يكون الأنبياء قد قصروا في دعوتهم إلى هذا الأصل؛ لأنه اعظم ما يحتاجه العباد في تزكية نفوسهم وأرواحهم، ومن أعظم ما ينفعهم في دينهم ودنياهم.
الرسول أتم منهج التزكية علماً وعملاً:(1/3)
قال تعالى: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً } (المائدة: من الآية3) فقد أتم الله علينا النعمة وأكمل لنا الدين ببعثة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومما يوضح هذا المعني أن الله نعت رسوله بأنه على دين عظيم فقال تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ } (القلم:4) وقد تمثل هذا الخلق بالعمل بكتاب الله الذي تضمن كل أنواع التزكية والتطهير. فمن المحال أن يكون الرسول - صلى الله عليه وسلم - ترك تعليم الناس ما يزكي قلوبهم ويهذب نفوسهم ويقربهم إلى الجنة. يقول شيخ الإسلام في معرض الرد على أهل البدع ممن يزعم أن الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رضي الله عنهم لم يحكموا هذا الباب ـ باب التزكية والتعبد ـ قولاً وعملاً؛ بل ترك ذلك ـ أي كل شئ ـ لهم فيه منفعه في الدين وإن دقت. أن يترك تعليمهم إلى أذواقهم وأهوائهم يقول رحمه الله: (( ومحال مع تعليمهم كل شئ لهم فيه منفعة في الدين وإن دقت، أن يترك تعليمهم ما يقولونه بألسنتهم وقلوبهم، في ربهم ومعبودهم، ورب العالمين الذي معرفته غاية المعارف، وعبادته أشرف المقاصد، والوصول إليه غاية المطالب، هذا خلاصة الدعوة النبوية وزيدة الرسالة الإلهية)) (1).
__________
(1) مجموعة الرسائل الكبرى (1/ 426).(1/4)
والسبب في ذلك أن معرفة الله من أعظم مقاصد الدين. والنفوس الصحيحة تشتاق إلى التقرب إليه والتعبد له بأنواع القرب والطاعات أعظم إشتياقها إلى الطعام والشراب الذي هو مادة الحياة. فمن غير المعقول أن يكون باب التعبد لله والتقرب إليه وقع من الرسول - صلى الله عليه وسلم - على غير التمام والكمال ثم يترك هذا الباب مفتوحاً للاجتهادات والآراء يقول رحمه الله: (( فلأن من في قلبه أدنى حياة وطلب للعلم أو نهمة للعبادة، يكون البحث عن هذا الباب والسؤال عنه ومعرفة الحق فيه، أكبر مقاصده وأعظم مطالبه، وليست النفوس الصحيحة إلى شئ أشواق منها إلى معرفة هذا الأمر، وهذا أمر معلوم بالفطرة الوجدية)) (1).
وسيأتي بيان أن عبادة الله والتقرب إليه غذاء الروح وسعادة القلب.
ضرورة التمسك بالسنة في أمور التعبد والتزكية
وذلك لأن اتباع السنة في مسائل العبادات والقرب هو المصدر الصافي لطريقة الهداية وتزكية النفس. وهو الذي يحمي المسلم من الوقوع في الابتداع والتقول على الله بلا علم ويجنبه من ضياع الأجر والثواب. يقول الشيخ رحمه الله في الصراط المستقيم في باب العبادات: ( في الصراط المستقيم في الزهد والعبادة والورع، في ترك المحرمات والشهوات والإقتصاد في العبادة): (( لزوم السنة هو يحفظ من شر النفس والشيطان بدون الطرق المبتدعة، فإن أصحابها لا بد أن يقعوا في الإصر والانحلال وإن كانوا متأولين، فلا بد لهم من اتباع الهوى، ولهذا أسس أصحاب البدع أصحاب الأهواء، فأما طريق السنة علم وقول وهدى، وفي البدعة جهل وظلم، وفيها اتباع الظن وما تهوى الأنفس )) (2).
__________
(1) المصدر السابق (1/427).
(2) الصراط المستقيم ، ابن تيميه (ص5).(1/5)
ويجب الحذر من النظر إلى حال أكثر الخلق وما هم عليه من بدع في العبادة؛ لأن الحق هو ما كان عليه الجماعة الأولى من عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه. ولا ينظر إلى كثرة أهل البدع من بعدهم, يقول ابن القيم مبيناً أن من علامات سعة القلب وعبوديته لله هو التمسك بالحق الذي كان عليه أصحاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - (( والبصير الصادق لا يستوحش من قلة الرفيق، ولا من فقده إذا استشعر قلبه مرافقة الرعيل الأول، الذي أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً، فتفرد العبد في طريق طلبه دليل على صدق الطلب)) (1).
خطورة الابتداع في أمور العبادة:
وهذا يدلك أخي المسلم على أن الإحداث في العبادات والزيادة عليها يؤدي إلى الانحلال والفوضى، فضلاً عن ذلك فإنه غير معقول عند الله، ولو كان العمل كثيراً ما لم يكن موافقاً لما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وقد أدى فتح باب الاجتهاد في العبادات إلى دخول أنواع من الشر والبلاء على عقائد المسلمين وتحت شعار ( التصوف) ونحو ذلك من المسميات. وما زال الشيطان يتدرج بالمسلمين ويزين لهم البدع حتى جعلهم يعتقدون بالأفكار الباطلة، والفلسفات المهلكة: كالقول بالحقيقة وشهودها ومضمونه هو الرضى بالواقع وما فيه من كفر وفسوق، والسكوت عن إنكار المنكر بحجة أن العارف إذا شهد الحقيقة استوى عنده القبيح والحسن. وأعظم من ذلك هو القول بعقيدة وحدة الوجود التي نادى بها ابن عربي والتلمساني وغيره، وكذلك الاتحاد الخاص أو العام وقد أدى القول بهذه العقائد الباطلة إلى تحطيم الشرع وإفساد الدين(2)؛
__________
(1) . إغاثة اللهفان لابن القيم ( 1/69) تحقيق محمد حامد الفقي.
(2) انظر بعض الآثار السيئة لهذه العقائد الباطلة في (( حقيقة التصوف)) بقلم د. محمد بن ربيع المدخلى ( ص18) وما بعدها.(1/6)
فيجب الحذر أشد من الابتداع في الدين. فإن اقتصاد في سنة خيراً من اجتهاد في بدعة، وما على المسلم إلا التفويض والاستسلام للشرع الحنيف، والنظر فيما عليه الرعيل الأول والجماعة الأولى. فإن الأول لم يدع شيئاً للآخر غالباً.
لا يجوز الفصل بين العبادات وثمرتها:
ولما كانت الأعمال والقربات كالصلاة والزكاة وغيرها. إنما شرعها الله لتزكية النفس وتطهيرها من الرذائل ولتبلغ الكمال في العبودية والطاعة لله. فلا يجوز والحال هذه الفصل بين العبادات وثمرتها؛ لأن الله قرن بينها فلا تزكية إلا بالعبادة. وكذلك العبادة ما لم يظهر آثرها على سلوك المسلم وتصرفاته، فتمنعه من ارتكاب الحرام، فإنها قد لا تنفع صاحبها في الآخرة وإن كانت تسقط عنه الواجب في الدنيا، والناس في هذا على صنفين:
القسم الأول:
ظنوا أن أعمال القربات والعبادات مقصودة لذاتها - أي يؤديها شكلياً - وإن لم يظهر آثرها على أخلاق المسلم ـ وهؤلاء فرغوا العبادة من ثمرتها ومقصودها الأعظم وهي التقوى. وقد بين الله أن من لم يحصل له التقوى من عبادته لله فهو لم يقم بحق العبادة لله؛ لأن شأن المسلم أن يكون مستقيماً خائفاً وجلاً من الذنوب حريصاًً على حب الخير وفعله. والله دائماً يقرن بين العبادة وثمرتها قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } (البقرة:183) . والتعامل مع العبادة على هذا الأساس يجعل القلوب قاسية بعيدة عن الله. وبهذا يسهل الخروج عن أوامر الله والتحايل علي شرعه لضعف الوازع والخوف من الله.
القسم الثاني:(1/7)
الذين ظنوا أن العبادات مقصودة لغيرها. فإذا حصل عندهم المقصود من العبادة وهو التقوى – زعموا - فلا عليهم لو تركوا العبادات . والمقصود عندهم عكوف القلب على الله وحصول الجمع فإذا جاءهم ما يفرق جمعيتهم ولو كان صلاة الفريضة في المسجد تركوه. ويتأولون قوله تعالى: { وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ } (الحجر:99). وخطر هؤلاء أعظم من القسم الأول؛ لأن اتباع الأهواء والآراء في الديانات أعظم منه في الشهوات. والبدعة أحب إلى إبليس من المعصية كما قال السلف، ومع ذلك فهم لم تحصل لهم التقوى الواجبة، لأن التقوى هي فعل المأمور وترك المحظور والصبر على المقدور. كما قال شيخ الطريقة وناصر السنة عبد القادر الكيلاني رحمه الله(1).
طريقة القرآن في عرض منهج التزكية
__________
(1) راجع (( شرح كلمات الشيخ عبد القادر الكيلاني)) لابن تيمية، بتحقيق الأخ إياد عبد اللطيف إبراهيم، طبع مكتبة المثنى ببغداد.(1/8)
قال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } (الجمعة: من الآية2) فقد امتن الله على هذه الأمة ببعثة الرسول الكريم يعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم ويرشدهم إلى ما فيه صلاحهم ويخرجهم من الظلمات إلى النور. وقدم في الآية العلم على التزكية من باب تقديم العلم على العمل. لأن التزكية ثمرة من ثمار سماع كلام الأنبياء وإرشاداتهم. وهذا يحصل بالعلم الإجمالي والذكر العام الذي ينتفع به أقوامهم فيهتدون إلى الحق وتقوم به الحجة على آخرين فيستحقون العذاب في الآخرة. يقول شيخ الإسلام في التذكير العام وافتراق الناس فيه: (( والتذكير المطلق العام ينفع، فإن من الناس من يتذكر فينتفع به، والآخر تقوم عليه الحجة ويستحق العذاب على ذلك، فيكون عبره لغيره، فيحصل بتذكيره نفع أيضاً، ولأن بتذكيره تقوم عليه الحجة، فتجوز عقوبته بعد هذا بالجهاد وغيره فتحصل بالذكرى منفعة)) (1).
وقال أيضاً: (( كذلك التذكير عام وخاص، فالعام هو تبليغ الرسالة إلى كل أحد، وهذا يحصل بإبلاغهم ما أرسل به من الرسالة (2).
__________
(1) دقائق التفسير لابن تيمية، (5/79).
(2) نفس المصدر(5/77).(1/9)
والمقصود أن التزكي لا بد أن يسبقه علم عام وتذكرة عامة كما قال تعالى: { فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى } (الأعلى:9) . فهذا لابد منه لحصول التزكي، فإذا حصل التزكي حصل التذكر التام النافع المؤثر. ولهذا قال تعالى في حق الأعمى الذي جاء إلى الرسول يطلب منه التعليم والإرشاد والنفع: { عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى } (عبس:1-4) . فأمر رسوله أن يقبل على من جاء يطلب التزكي والتذكر. وذكر هنا الذكر التذكير بعد التزكي، وهذا والله أعلم غير التذكر الذي تقوم به الحجة. فقد ذكر هنا الذكر التام الذي ينكره المذكر به وينتفع به كقوله تعالى: { فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى } (الأعلى: 9-11) . قال الشيخ رحمه الله في بيان ذلك: (( فذكر التذكر والتزكي، كما ذكرهما هناك(1).وأمر أن يقبل على من أقبل عليه دون من أعرض منه،فإن هذا ينتفع بالذكرى دون ذاك،فيكون مأموراً أن يذكر المنتفعين بالذكرى تذكيراً يخصهم به غير التبليغ العام الذي تقوم به الحجة)) (2). وهذا هو التذكير التام النافع الذي خص الله به المؤمنين قال تعالى: { وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ } (الذريات:55) .فهم إذا آمنوا ذكرهم بما أنزل عليهم. وكلما نزل عليهم شئ من معاني القرآن ذكرهم به فيزدادوا إيماناًً.
والتذكير التام يقود إلى الخشية والخوف من الله كما قال تعالى: { سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى } (الأعلى:10)، والعلم التفصيلي والتذكرة التامة توجب الخشية والتفكير في عواقب الأمور- فليس من يعلم كنت لا يعلم - والخشية قد تحصل عقب التذكر وقد تحصل قبله. لأنه إذا خشي أوجب له ذلك علوماً وتذكرة وإرادة صالحة.
الخشية في القرآن:
__________
(1) دقائق التفسير(5/88).
(2) أي في سورة عبس.(1/10)
والخشية هي الخوف من عذاب الله في الدنيا وفي الآخرة، أما في الدنيا فلأن الذنوب لها عقوبات عاجلة، والخشية لا تكون لمن تيقن أنه معذب، وإنما تكون لمن رجا السلامة من عذاب الله غداً. قال تعالى في ذلك: { تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ } (الشورى: من الآية22) وقد يعرض الإنسان في بداية أمره عن طلب السلامة ولا يتذكره لأنه مشغول بالخوف من العذاب على الذنب الذي يقتضيه.
والمقصود أن الخشية تدعو الإنسان إلى التذكر التام والتزكي كما قال شيخ الإسلام: (( لأن الذي يخشى الله لابد أن يرجوه ويطمع في رحمته فينيب إليه ويحبه ويحب عبادته وطاعته، فإن ذلك هو الذي ينجيه مما يخشاه ويحصل به ما يحبه)) (1).
وقد يرد على ما ذكرنا من أن التزكي لابد أن يسبقه الذكر العام قوله تعالى: { لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى } (طه: من الآية44) في قصة فرعون الطاغية: فقد ذكر التذكر قبل الخشية. وفرعون لم يحصل عنده من الذكر العام والعلم ما يدعوه إلى خشية الله والاستجابة لموسى، فكيف يوافق ذلك قوله تعالى: { سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى } (الأعلى:10)
والجواب هو أن قوله تعالى: { لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى } لا يناقض قو له تعالى: { سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى } لأنه لم يقل ( سيخشى من يتذكر). بل ذكر أن كل من خشي فإنه يتذكر ولا يخاف، والتذكر كالعلم كما سبق إن كان تاماًً أوجب الخشية والاستجابة قال تعالى { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } (فاطر: من الآية28)والعلماء هم أعظم من يخشى الله لما حصل عندهم من العلم بالحق والعمل به وقد بينا أن التذكر عام لكل ما يحصل به التذكر ويشمل أيضاً التذكر الذي تقوم به الحجة وينقطع به العذر.
__________
(1) مجموع الفتاوى (16/172).(1/11)
أما حصول الخشية بلا تذكر كصاحب النظرة السليمة التي لم تشوبها الأكدار فإنه إذا سمع بوعيد الله وعقابه خاف وأناب والمؤمن قلبه مضيء يكاد يعرف الحق وإن لم يسمع به. لاجتماع نور الوحي مع نور الفطرة. فإذا سمع به ازداد نور على نور(( فهذا شأن المؤمن يدرك الحق بفطرته مجملاً، ثم يسمع الأثر الذي جاء به مفصلاً، فينشأ إيمانه على شهادة الوحي مع شهادة الفطرة))(1)
يقول الشيخ رحمه الله: (( وأيضاً فذكر الإنسان يحصل بما عرفه من العلوم قبل هذا فيحصل بمجرد عقله، وخشيته تكون بما سمعه من الوعيد)) (2). والأغلب حصولهما معاً أي الخشية والتذكر.
وعلى هذا فقوله تعالى في قصة فرعون: { لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى } تبين أن التذكر يوافق العلم العام وهو الاعتراف بربوبية الله فيدعوا ذلك فرعون إلى الشكر والإيمان بالله وأن لا يطغى ( وإن قدر أن الله لا يعذبه فإن مجرد كون الشيء حقاً ونافعاً يقتضي طلبه وإن لم يخف ضرراً بعدمه كما يسارع المؤمنون إلى فعل التطوعات والنوافل لما فيها من النفع وإن كان لا عقوبة في تركها كما يحب الإنسان علوماً نافعة وإن لم يتضرر بتركها). وقوله( أو يخشى) (ونفس الخشية إذا ذكر له موسى ما توعده الله له من عذاب الدنيا والآخرة فإن هذا الخوف قد يحمله على الطاعة والانقياد إلى التذكر.
فهذا بعض أسرار الجمع بين التذكر والخشية في قوله { لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى } وهذا يدلك على إعجاز القرآن وأنه من عند الله. { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً } (النساء: من الآية82)
التزكية امتثال حقيقي للعبادة لا امتثال صوري:
__________
(1) التفسيرالقيم (ص374) جمع محمد أويس النووي، وتحقيق محمد حامد الفقي رحمه الله.
(2) دقائق التفسير(51/89).(1/12)
ذكرنا أن التزكية لابد أن يقرنها العلم التام المؤثر لا الإجمالي التي تقوم به الحجة. فلا تكفي العمومات (1) في تزكية النفس وثباتها على الحق بل لا بد من تعلم ودراسة العلم الشرعي بالقدر المستطاع. ثم العمل به وانصياع القلب بموجبه، معاني العلم النافع والعقيدة السليمة، وكذلك الحذر من وسائل الشرك التي تدنس القلب وتضعف إرادة الخير فيه.
وعدم معرفة الحق والعمل به يؤدي إلى وقوع المسلم في بعض وسائل الشرك وهو لا يشعر، وربما يعرضه للردة - والعياذ بالله - أو السير على غير هدى وبصيرة فيكون حاله كحال الذي قال الله فيه: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ } (الحج: من الآية11) وما أكثر فتن الدنيا في هذا الزمان. فيحتاج المؤمن إلى حصانة علمية وزاد إيماني يحميه من الوقوع في المخالفات الشرعية.
ولهذا كانت تربية الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه الكرام في مكة تتركز بتزكية نفوسهم على معاني العقيدة الصحيحة والعلم النافع حتى صفت نفوسهم وأرواحهم وأصبحوا القدوة العليا والمثل الحي في طهارة النفس والتعبد لله ظاهراً وباطناً. ومكن الله لهم في الأرض، وأسعدهم في الآخرة.
الأصول الأساسية في العبودية:
ويعد هذا العرض السريع لمنهج التزكية وبيان بعض معالمه، نذكر أهم الركائز التي تقوم عليها نظرية العبودية عند شيخ الإسلام. وذلك لأن التزكية كما قدمنا لها ارتباط وثيق بالعبودية، فلا تزكية إلا بعبادة الله وحده لا شريك له.
أولاً: المصادر التي اعتمدها الشيخ في رسالته: ( العبودية):
الملاحظ أن الشيخ رحمه الله في رسالته ( العبودية )، اعتمد على مصادر أصيلة كون من خلالها نظرية متكاملة في العبودية من جميع الجوانب، وهذه المصادر هي:
__________
(1) من هذه المعلومات مثل كون أن الإسلام حق يجب اتباعه فهذا وحده لا يكفى.(1/13)
أ-النصوص الشرعية والاستفادة منها في كل صغيرة وكبيرة وهو الذي يقول: (( قل من تعوز النصوص من يكون خيراً بدلالاتها)) (1).
ب- الدلالات اللغوية والاعتماد على قواعد اللغة في تحليل الألفاظ. ومثاله ما ذكر الشيخ رحمه الله في معنى العبادة وأنها تجمع بين عنصرين وهما ( المحبة والذل والخضوع).
جـ- ملاحظة الحقائق النفسية ودراسة الطبيعة البشرية وما يعتريها من علل وأمراض. وتقديم العلاج النافع من القرآن والسنة لترجع النفس إلى حالتها الطبيعية، والشيخ يبدو في رسالته طبيباً مصلحاً يعرف كل ما تعانيه النفس البشرية من انحرافات ومشكلات ( جنسية) ثم يقدم لها العلاج الذي يحفظ للنفس كرامتها ويرفع منزلتها.
د-التوفيق بين النقل والعقل: وهذا واضح في جميع جوانب الرسالة. ومن أمثلة ذلك عندما نتكلم عن الاتحاد واعتقاد الصوفية فيه وما يصدر عن أرباب الأموال ومشايخ السلوك في شطحات وبين أن ذلك اضطراب عقلي وضعف تمييز. وفي الحقيقة فلا وجود له في الخارج وهذا هو الاتجاه العام ـ التوفيق بين العقل والنقل ـ في جميع رسائل الشيخ ومصنفاته.
- المنهج التاريخي وتتبع الأحداث وملاحقتها ثم استخلاص النتائج التي تبين الحق. فهو مثلاً يذكر أن ما طرأ على عقائد المسلمين من انحرافات وضلالات مخالفة للشرع. لم تكن موجودة في العصر الأول من الصحابة والتابعين الذين هم أفضل القرون. ومن أمثلة ذلك عندما تكلم عن مسألة الفناء وأقسامه ومسألة الطريقة الصحيحة في ذكر الله. وأن الاسم المفرد مظهراً ومغمراً غير صحيح بل هو بدعة.
ثانياً: عبادة الله متفق عليها بين أهل الأديان:
فالأنبياء كلهم بلا استثناء دعوا أقوامهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له. وتوحيد الله زبدة رسالات الأنبياء من أولهم إلى آخرهم.
__________
(1) مقدمة في التفسير لابن تيمية بتحقيق محمود محمد نصار... وهي كلمة عظيمة جداً تدل على فقه الشيخ ومعرفته بالقرآن ومعانيه.(1/14)
يقول رحمه الله (( وبها أرسل جميع الرسل ـ أي العبادة لله ـ كما قال نوح لقومه: { اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ } (المؤمنون: من الآية23) . وكذلك قال هود وصالح وشعيب وغيرهم لقومهم وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} (النحل: من الآية36). (1). وهذا هو حقيقة الإسلام الذي بعث الله به رسله. وهو الاستسلام لله وحدة دون غيره من المعبودات الأرضية من بشر أو حجر أو شجر، لأن ضد الإسلام الشرك واتخاذ الأنداد مع الله وهو يضاد حقيقة الاستسلام لله. يقول الشيخ: (( ولما كان الكبر مستلزماً للشرك، والشرك ضد الإسلام وهو الذنب الذي لا يغفره الله.... كان الأنبياء جميعهم مبعوثين بدين الإسلام، فهو الدين الذي لا يقبل الله غيره من الأولين ولا من الآخرين)) (2).
ولقد تحمل الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم في تبليغ هذا الأصل العظيم كل أنواع السخرية حتى أتاهم اليقين من ربهم.
ثالثاًُ: الدين كله داخل في عبادة الله:
يقول الشيخ رحمه الله في توضيح معنى العبادة وتعريفها بأنها: (( اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة)) وعلى هذا فالعبادة بمفهومها الواسع تشمل كل مناحي الحياة والدين، فكل عمل ابتغي به وجه الله فهو من العبادة. فهي تشمل الأمور التالية:
1- الفرائض وشعائر الإسلام الظاهرة كالصلاة والزكاة وغيرها وما زاد على ذلك من النوافل والتطوع ووجوه القربات.
2- وتشمل أيضاً الأخلاق الفاضلة التي تسعد المجتمع كصلة الأرحام والوفاء بالعهود والإحسان لليتيم وغير ذلك.
3- وتشمل الأعمال القبلية التي هي من أصول الإيمان كحب الله وخشيته والتوكل عليه.
__________
(1) العبودية ( ص 5) طبع في بغداد ( مطبعة منير).
(2) العبودية ( ص 81).(1/15)
4- وتشمل سياج الأمة وحصنها الأكبر ألا وهو الجهاد في سبيل الله وقتال المارقين والمنافقين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
5- بل وتشمل العبادة كل عمل نافع يقصد به فاعله ابتغاء رضا الله والحصول على الأجر كإطعام البهائم والإحسان إلى المملوك. وتشمل الحاجات الضرورية التي يقصد منها الحفاظ على النوع الإنساني كالأكل والشرب وتمتع الزوج مع زوجته وغير ذلك.
وبهذا يظهر خطأ في قصر العبادة على بعض جوانبها وإهمال الأخرى. كمن يهتم بالأعمال الظاهرة مثلاً ويهمل من أعمال القلوب كحب الله والإنابة إليه ما هو من أعظم أصول الدين، ويظن بعض المتدينين أنه إذا أتى بالأعمال الظاهرة فهو مؤمن ولو علق قلبه بغير الله حباًَ ورجاء كرئاسة أو جاه أو مال ونحو ذلك. فليست الأعمال الباطنة بأقل أهمية من الأعمال الظاهرة، والدين كل لا يتجزأ.
رابعاً: العبادة لازمة للعبد حتى يموت:
وعبادة الله لازمة لكل أحد لا تسقط عن أحد مهما بلغ من العلم والإيمان بل هي لازمة لأشرف المخلوقات وهم الملائكة والرسل وقد نعتهم الله بالعبودية قال تعالى في وصف الملائكة: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ} (الانبياء:19) .
ونعت صفوة خلقه بالعبودية له: {عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً} (الانسان:6).
ونعت رسوله بالعبودية في أكمل أحواله فقال في الإسراء{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً} (الاسراء: من الآية1) . وقال في الايحاء {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} (النجم:10) .
وقال في الدعوة: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً} (الجن:19) .(1/16)
وقال في التحدي: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ} (1).
(البقرة: من الآية23).
وأما من تأول الآية: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} (الحجر:99) . على أن المراد باليقين الوصول إلى مقام يستقطب منه التعبد لله فهذا خطأ وضلال. بل المراد باليقين بإجماع المفسرين هنا ( الموت) وفي الصحيح لما دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على عثمان بن مظعون وهو يعاني سكرات الموت ثم مات بعدها قال: (( أما عثمان فقد جاءه اليقين من ربه )) أي الموت بما فيه. فلا ينفك المرء عن العبودية ما دام في دار الدنيا والتكاليف.
يقول ابن القيم:
(( وكلما تمكن العبد في منازل العبودية كانت عبوديته أعظم والواجب عليه منها أكثر من الواجب على من دونه. ولهذا كان الواجب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بل على جميع الرسل أعظم من الواجب على أممهم )) (2). بل هناك عبودية أخرى على العبد بعد موته وذلك عندما يسأله الملكان في قبره، ماذا كنت تعبد؟ ويختبرون عبوديته لله بتوجيه أسئلة ثلاثة. وتكون الأجوبه على قدر عبودية المرء لله في دار الدنيا.
وأما تقسيم الناس في أمور العبادة إلى خاصة وخاصة الخاصة وهم الذين وصلوا إلى مقام استوت عندهم الأشياء وأدركوا الحقيقة اليقينية فيقول الشيخ عنهم (( وقول هؤلاء كفر صريح وإن وقع فيه طوائف لم يعلموا أنه كفر، فإنه قد علم بالاضطرار من دين الإسلام أن الأمر والنهي لازم لكل عبد ما دام عقلهه حاضراً إلى أن يموت لا يسقط عنه الأمر والنهي لا بشهوده القدر ولا بغير ذلك، فمن لم يعرف ذلك عرفه وبين له، فإن أصر على اعتقاد سقوط الأمر والنهي فإنه يقتل))(3).
__________
(1) العبودية ( ص7).
(2) التفسير القيم (ص 95).
(3) العبودية ( ص 31).(1/17)
خامساًً: في انقسام العبودية إلى عامة وخاصة ( عبودية قسرية، عبودية اختيارية ):ذكر ابن تيمية رحمه الله أن الناس في عبوديتهم لله ينقسمون إلى قسمين:
1- العبودية العامة: وهي عبودية أهل السموات والأرض برهم وفاجرهم، مؤمنهم وكافرهم، وهذه العبودية لا يعلق بها ثواب ولا مدح يقول شيخ الإسلام رحمه الله: (( وتحرير ذلك:أن العبد الذي عبد الله فذلله ودبره وصرفه. وبهذا الاعتبار: فالمخلوقون كلهم عباد الله من الأبرار والفجار والمؤمنين والكفار وأهل الجنة وأهل النار، إذ هو ربهم كلهم ومليكهم لا يخرجون عن مشيئته وقدرته وكلماته التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر فما شاء كان وإن لم يشاؤوا، وما شاؤوا إن لم يشأه لم يكن )) (1).
2- العبودية الخاصة ( عبودية الطاعة والمحبة): وهذه العبودية هي المحبوبة المرضية التي تتعلق بالإلهية وإتباع أوامر الله. وهي التي استجاب لها المؤمنون طوعاً واختياراً (وهذه العبادات متعلقة بإلهيئه ولهذا كان عنوان التوحيد لا إله إلا الله ) (2). بخلاف من يقر بربوبيته ولا يعبده أو يعبد معه إلهاً آخر، ( فالإله الذي يألهه القلب بكمال الحب والتعظيم والإجلال والإكرام والخوف والرجاء ونحو ذلك، وهذه العبادة: هي التي يحبها الله ويرضاها وبها وصف المصطفين من عبادة وبها بعث رسله، وأما العبد: بمعنى المعبد، سواء أقر بذلك أو أنكر فتلك يشترك فيه المؤمن والكافر) (3).
وإنما انقسمت العبودية إلى هذين القسمين لأن أصل هذه اللفظة( العبادة): الذل والخضوع يقال طريق معبد إذا كان مذللاً يوطأ بالأقدام.
__________
(1) العبودية ( ص 7).
(2) العبودية ( ص 13).
(3) التفسير القيم (ص80).(1/18)
فلا يكفي في سعادة المسلم ونجاته من عذاب الله تعالى التزامه بالعبودية القسرية فيأكل ويشرب وينكح ويملك الأموال والمناصب {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ} (محمد: من الآية12). فلا يكفي ذلك حتى يلتزم بالعبودية الاختيارية فيعبد الله ويطيع أمره ويسارع إلى مرضاته ويوالي أولياء الله ويعادي أعداءه.
وكذلك ينقسم الناس في العبودية الخاصة إلى أهل عبودية مطلقة وصاحب العبودية المطلقة هو الذي دخل إلى الإسلام من جميع أبوابه والذي يقوم على مرضاة الله في كل وقت بما هو مقتضى ذلك الوقت ووظيفته فهو ( لا زال متصلاً في منازل العبودية كلما رفعت له منزلة عمل على مسيره إليها. ... فإن رأيت العلماء رأيته معهم وإن رأيت العباد رأيته معهم وإن رأيت المجاهدين رأيته معهم) (1). بخلاف صاحب العبودية المقيدة والذي تقيد بعبادة دون أخرى.
فالناس يتفاضلون في العبودية لله كما يتفاضلون في حقييقة الإيمان فأكملهم عبودية لله من جمع بين مراتب العلم والعمل. أما المرتبة العملية فهي العلم بالله وأسمائه وصفاته والتعبد لله بمقتضاها. والعلم بشرعه ودينه. وأما المرتبة العملية فإما أن يكون من السابقين المقربين الذين - أدوا جميع الواجبات والمستحبات وتركوا المحرمات والمتشبهات وإما أن يكون من أصحاب اليمين الذين فعلوا الواجبات وتركوا المحرمات مع ارتكاب المباحات وبعض المكروهات وترك بعض المستحبات.
سادساً: الحق في مسائل العبادات ما كان عليه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
__________
(1) العبودية ( ص 17).(1/19)
وهذا ما تدل عليه الأحاديث الكثيرة كقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: ( خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ) فإن الدين الواضح هو ما كان عليه رسول الله وأصحابه الكرام. وليس هناك أعظم رغبة في الآخرة وحباً للعبادة والتقرب إلى الله من الصحابة الكرام. وخاصة في باب التعبد لأن الفطرة السليمة تشتاق إلى التقرب إلى الله وبأنواع النوافل والطاعات والقربات لما فيها من اللذة والسرور. ومن غير الممكن أن يكون المتأخرون الذين أحدثوا في الدين هم أعظم رغبة في الخير وشوقاً إلى العبادة من الصحابة الكرام. وقد بين الشيخ ذلك في مواضع عديد من رسالته وهو بهذا يوضح أن ما طرأ على المسلمين من بدع وضلالات في مجال العبادة يعتبر بدعة وذلك من خلال المقارنة بين ما كان عليه الرعيل الأول ثم النظر إلى ما صار إليه الناس. ثم يشتق من ذلك دليلاً شرعياً تاريخياً يوضح به بالدليل والبرهان العقلي أن ما كان عليه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو الأكمل والأفضل قولاً وعملاَ. ومن أمثلة ذلك ما ذكره الشيخ في بيان أن الطريقة الصحيحة في ذكر الله هو بالجملة التامة مثل ( لا إله إلا الله وحده لا شريك له) وغير ذلك من الأذكار المأثورة، أما طريقة الذكر بالاسم المفرد مظهراً أو مغمراً فإنه بدعة وفوق ذلك فإنه لا يعطي القلب بنفسه معرفة تفيد ولا علماً نافعاً وإنما يعطيه تصوراً مطلقاً لا يحكم فيه بنفي ولا إثبات. والمواظبة على هذا النوع من الذكر جر طوائف من المسلمين إلى أنواع من الإلحاد والضلال وأوقعهم في أوحال الاتحاد والحلول (1).
__________
(1) والتعبد لله بموجب الأسماء والصفات العليا والعمل بمقتضاها من أجل العبوديات وأعظمها نفعاً. وانظر في ذلك مدارج السالكين لابن القيم (ج3). ولولا خوف الإطالة لذكرنا فائدة هذا العلم الجليل وأثره على قلب المسلم، ونسأل الله أن يوفقنا لأن نفرد في ذلك بحثاً مستقلاً والله المعين.(1/20)
ثم أورد الشيخ أقوال وردت عن بعض مشايخ السلوك بالدفاع عن طريقة الذكر بالاسم المفرد وناقش هذه الأقوال مناقشة علمية رصينة كقول بعضهم: (( أخاف أن أموت بين النفي والإثبات )) أي أموت بين لا إله وبين إلا الله فلذلك فهو يقول: ( يا هو ) ثم بين الشيخ أن هذا القول باطل عقلاً وشرعاً. لأن العبد لو مات في هذه الحال لم يمت إلا على ما قصده ونواه. فالحق أن ما عليه سلف الأمة وخيارها من الذكر بالجملة التامة هو الصواب النافع (1).
سابعاً: العبادة مبناها على التوقيف لا الاجتهاد:
والتحقق بالعبودية لله لا يسلك فيها الطرق المخالفة للشرع بل لا بد من سلوك الطرق المرضية في الشرع الموافقة لما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقد بين الشيخ أن العبادة تناط بأصلين عظيمين وهما من مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله. والأصل الأول: أن لا يعبد إلا الله والأصل الثاني: أن يعبد بما شرعه على لسان رسوله الكريم. يقول رحمه الله في هذا المعنى:
(( والعبادة والطاعة والاستقامة ولزوم الصراط المستقيم ونحو ذلك من الأسماء مقصودها واحد ولها أصلان: أحدهما: أن لا يعبد إلا الله. والثاني: أن لا يعبد إلا بما أمر وشرع. لا يعبد بغير ذلك من الأهواء والظنون والبدع قال تعالى: { فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} (الكهف: من الآية110). ثم يقول بعد ذلك:(فما كان من البدع في الدين التي ليست مشروعة فإن الله لا يحبها ولا رسوله فلا تكون من الحسنات ولا من العمل الصالح))(2).
__________
(1) العبودية ( ص124).
(2) العبودية ( ص40).(1/21)
والنص الأخير من كلام الشيخ يذكرنا بالمنهج الخاطئ الذي يعتمده أهل البدع على خلاف مناهجهم في فهم الدين وتناول قضاياه ألا وهو تقديم آراء الرجال والنظر إلى أعمالهم واتخاذها حجة في الدين مثل أقوال وأعمال أرباب السلوك والمقامات. ومعلوم أن هذا المنهج مردود لأن الله تعبدنا بالقرآن والسنة فلا يجوز تقديم قول أحد أو عمله ذوقه أو رأيه ما لم يكن موافقاً لهما.
ثامناً: تحقيق العبودية أساس السعادة:
ذكرنا أن الإنسان كائن حي وأنه مدني بالطبع لا يستقل بنفسه وهو ذو حاجات ومطامع ولا بد له من معبود يوجه له إرادته. فأما أن يكون عبد الله مخلصاً له وإما أن تستعيده الأضواء والشهوات والطواغيت من الجن والأنس الذين يزينون له المعصية ويرتبونها في نفسه ويكون عبداً لهم. وهكذا كل من استكبر عن عبادة الله وقع في عبادة غيره شاء أم أبي.
يقول الشيخ رحمه الله في توضيح هذه الفكرة: (( فإن الإنسان حساس يتحرك بالإرادة وقد ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( أصدق الأسماء حارث وهمام ).... فلا بد لكل عبد من مراد ومحبوب هو منتهى حبه وإرادته. فمن لم يكن الله معبوده ومنتهى حبه وإرادته بل استكبر عن ذلك فلا بد أن يكون له مراد محبوب يستعبده غير الله فيكون عبداً لذلك المراد المحبوب)) (1).
__________
(1) العبودية ( ص78).(1/22)
والقلب فيه فقر ذاتي وفيه فراغ لا يملأه إلا حب الله وشعت لا يلمه إلا التوكل على الله ولو حصل له كل أنواع اللذات الدنيوية فإن لا يجد ما يملئ قلبه ويسد خلته بل يبقى مهموم ينتقل من لذة إلى أخرى يقول الشيخ رحمه الله في بيان فقر الإنسان لربه وأنه لا غنى له عنه: (( فالقلب فقير بالذات إلى الله من وجهين: من جهة العبادة وهي العلة الغائية، ومن جهة الاستعانة والتوكل وهي العلة الفاعلية، ثم يقول ( فهو دائماً مفتقر إلى حقيقة): {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة:5) فإنه لو أعين على حصول كل ما يحب ويطلب ويشتهيه ويريده، ولم يحصل له عبادته لله بحيث يكون هو غاية مراده ونهاية مقصوده وهو المحبوب له بالقصد الأول، وكل ما سواه إنما يحبه لأجله. لا يحب شيئاً لذاته إلا الله، فمتى لم يحصل هذا لم يكن قد حقق حقيقة ( لا إله إلا الله)، ولا حقق التوحيد والعبودية والمحبة، وكان فيه من النقص والعيب بل من الألم والحسرة والعذاب بحسب ذلك)) (1).
والعبادة غذاء الروح وسعادة النفس وسرور القلب ولهذا لم يجئ في القرآن إطلاق القول بأن العبادة والعمل الصالح: إنه تكليف، وإنما جاء ذكرنا التكليف في موضع النفي كقوله تعالى: { لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا } (البقرة: من الآية286). أي وإن وقع في الأعمال تكليف. فلا تكليف إلا قدر الواسع، يقول الشيخ في بيان أن النفس العبادة غذاء الإنسان: (( ونفس الإيمان بالله وعبادته ومحبته وإجلال هو غذاء الإنسان وقوته وصلاحه وقوامه كما عليه أهل الإيمان وكما دل عليه القرآن لا كما يقول من يعتقد من أهل الكلام ونحوهم: إن عبادته تكليف ومشقة! وخلاف مقصود لمجرد الامتحان والاختبار)) (2).
__________
(1) العبودية ( ص75).
(2) قاعدة في التوحيد والإخلاص )) لابن تيمية: تحقيق الأخ أحمد الحمداني، طبع مكتبة المثنى ببغداد.(1/23)
وبهذا يتضح أن العبودية لله هي التي تحرر الإنسان من عبودية ما سواه، هي التي ترد على الإنسان كرامته وعزته فتمنعه من أن يذل نفسه لغير الله أو يخضع لغيره، وهي التي تمنحه السعادة والاطمئنان وتجعله يعيش في روضة من رياض الجنة، وتأخذ به إلى مرضاة الله والأنس بذكره والتلذذ بمناجاته.
ويمكن لنا أن نعرف ذلك يقيناً وذلك باستقراء أحوال الناس وما هم عليه من عبوديات لغير الله هل بهم من يشعر بالراحة القلبية والسعادة النفسية، والشيخ هنا يستعرض نماذج من حياة البشر وأصنافهم ممن عبدوا غير الله ويقيم ذلك وفق تحليل دقيق رائع لنفسياتهم وما يعانونه من علل نفسية واضطرابات (جنسية ) وإليك البيان:
أولاً: من علق قلبه بامرأة. يقول الشيخ (( فالرجل إذا تعلق قلبه بامرأة ولو كانت مباحة له ( أي زوجته) (1). يبقى قلبه أسيراً لها تحكم فيه وتتصرف بما تريد، وهو في الظاهر سيدها لأنه زوجها وفي الحقيقة هو أسيرها ومملوكها، ولا سيما إذا درت بفقره إليها وعشقة لها )) (2).
ثانياً: من تعلق بالنساء والنظر إليهن ـ ولو لم يفعل لا المحرمات ـ : (( فأما من استعبد قلبه صورة محرمة: امرأة أو صبي فهذا هو العذاب الذي لا يدان فيه وهؤلاء ـ عشاق الصور والنساء ـ من أعظم الناس عذاباً وأقلهم ثواباً، فإن العاشق لصورة، إذا بقي قلبه متعلقاً بها مستعبداًَ لها، اجتمع له من أنواع الشر والفساد ما لايحصية إلا رب العباد ـ ولو سلم من فعل الفاحشة الكبرى )) (3).
__________
(1) وهذا لا يدل على الكراهة أو التحريم: أي علاقة الرجل مع زوجته ـ ولكن المحذور أن يصل الحال إلى درجة تعلق القلب بها بحيث عدم الاستغناء عنها لحاجته، فإذا علمت هي ذلك حصل ما لا يحمد عاقبته، بل يفعل ذلك عند الحاجة ودون تعلق ـ والله أعلم.
(2) العبودية (ص 62ـ 63).
(3) العبودية (ص 67).(1/24)
ثالثاً: من علق قلبه بمنصب أو رئاسة أو جاه: (( وكذلك طالب الرئاسة والعلو في الأرض قلبه رقيق لمن يعينه عليها ولو كان في الظاهر مقدمهم ومطاع فيهم فهو في الحقيقة يرجوهم ويخافهم فيبذل لهم الأموال والولايات، ويعفو عما يجير حونه ليطيعون ويمنعوه فهو في الظاهر رئيس مطاع وفي الحقيقة عبد مطيع لهم )).
رابعاً: من علق قلبه بحب المال والحرص عليه: (( وهكذا طالب المال، فإن ذلك المال يستعبده ويسرقه )) إذا أعطى من المال رضى وزال غضبه وإن دفع سخط وقد سماه الرسول - صلى الله عليه وسلم - عبد الدرهم والدنيا فقال: ( تعس عبد الدرهم، تعس عبد الدينار، تعس عبد القطيفة، تعس عبد الخميصة، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش، إن أعطى رضي، وإن منع سخط) (1).
ومن هذا يتبين أن عبودية القلب هي المقصودة والبدن تبع لها، فإذا تعلق قلبه بأحد هذه الأشياء أو غيرها صار عنده شعبة من العبادة لغير الله ووقع في الشرك يقول الشيخ: (( فإذا تعلق قلبه صار مستعبداً له وربما صار معتمداً على غير الله، فلا يبقى معه حقيقة العبادة ولا حقيقة التوكل عليه بل فيه شعبة من العبادة لغير الله )) (2).
وسبيل التحرر من هذه العبوديات جملة وسائل ذكرها الشيخ هي التي تحقق له العبودية لله، وهذا يذكرنا بمبدأ إيجاد( البديل أو البدائل ). وهو ما يذكره علماء النفس والتربية، وقد قرره شيخ الإسلام في هذه الرسالة إذ يقول: (( الإنسان لا يترك محبوب إلا لمحبوب آخر )) (3). وقال في غير هذه الرسالة: ( لا يصبر على الأسبوع عنده من حلاوة العبودية لله وإخلاصها بعادة والحال هذه وإلا وقع ولا بد في عبادتها والإغرار بها ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وسائل تحقيق عبودية المسلم لربه
__________
(1) الحديث رواه البخاري عن أبو هريرة رضي الله عنه.
(2) العبودية (ص54).
(3) العبودية (ص78).(1/25)
- إخلاص الدين لله والبراء من الشرك: يقول رحمه الله: (( فكلما قوي إخلاص دينه لله كملت عبوديته واستغناؤه عن المخلوقات. وبكمال عبوديته لله يبرئه من الكبر والشرك )) (1).
وإذا خلص دينه لله انصرف عن قلبه السوء والفحشاء. وانقهر هواه وشيطانه دون تكلف لقوة تعلقه بالله ومراقبته له قال تعالى: { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} (يوسف: من الآية24). (( وهكذا يكون قبل أن يذوق حلاوة العبودية له والإخلاص له بحيث تغلبه نفسه على اتباع هواها وإذا ذاق طعم الإخلاص وقوي في قلبه، انقهر له هواه بلا علاج)) (2).
- قوة الحب لله والمتابعة للرسول - صلى الله عليه وسلم - : يقول الشيخ رحمه الله: (( فكلما ازداد القلب حبا له – لله – ازداد له عبودية. وكلما ازداد عبودية ازداد حباً وفضله عما سواه )) (3).
ومحبة الله لا تنال بالأماني الفارغة والدعاوى العريضة بل تنال بأمرين عظيمين لا ينالهما إلا من أراد الله به خيراً يقول الشيخ رحمه الله: (( وقد جعل الله لأهل محبته علامتين: اتباع الرسول. والجهاد في سبيله، وذلك لأن الجهاد حقيقة الاجتهاد في حصول ما يحبه من الإيمان والعمل الصالح ومن دفع ما يبغضه الله من الكفر والفسوق والعصيان. فإذا ترك المسلم الجهاد بأنواعه ولم يتحمل التعب والملام في سبيل الله دل على ضعف المحبة لله في قلبه.
- قوة الطمع في فضل الله ودعاؤه والتضرع إليه في كل حال: يقول رحمه الله: (( وكلما قوي طمع العبد في فضل الله ورحمته لقضاء حاجته ودفع ضرورته، قويت عبوديته، وحريته مما سواه، فكما أن طمعه في المخلوقين يوجب عبوديته له فيأسه منه يوجب غنى قلبه عنه )) (4).
__________
(1) العبودية (ص80).
(2) العبودية.
(3) العبودية( ص70).
(4) العبودية( ص60).(1/26)
- الاستغناء عن المخلوقين وعدم سؤالهم والتذلل لهم لكن دون جفوة وإساءة إليهم بل الإحسان إليهم وإرادة الخير والنصح لهم: يقول رحمه الله في ذلك: (( ولن يستغني القلب عن جميع المخلوقين إلا بأن يكون الله هو مولاه الذي لا يعبد إلا إياه، ولا يستعين إلا به، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يفرح إلا بما يحبه ويرضاه، ولا يكره إلا ما يبغضه الرب ويكرهه ...)). ولأجل هذا جاء النهي عن سؤال المخلوقين لأنه في الأصل محرم ولكن أبيح بقدر الحاجة (1).
- ذكر الله أفضل الأعمال بعد أداء الفرائض والاعتناء بها: (( وأقل ذلك أن يلازم العبد الأذكار المأثورة عن معلم الخير وإمام المتقين - صلى الله عليه وسلم - الأذكار المؤقته من أول النهار وآخره وعند أخذ المضجع وعند الاستيقاظ من المنام، وأدبار الصلوات والأذكار المقيدة مثل ما يقال عند الأكل والشرب واللباس والجماع ودخول المنزل والمسجد والدخول والخروج من ذلك وعند المطر والرعد إلى غير ذلك )) (2). وأفضل الذكر على الإطلاق تلاوة القرآن فقد جعل الله في تلاوته الشفاء والضياء، وأفضل ما يتقرب العبد به إلى ربه هو كلامه الذي خرج منه.
__________
(1) العبودية( ص65) وانظر بعض الآثار في النهي عن المسألة وسؤال الناس في (( التوسل والوسيلة)) للشيخ: (ص34)، منشورات دار الآفاق الجديد.
(2) مسائل في الزهد، ( ص15)، مكتبة التراث.(1/27)
فإذا حصلت العبودية لله حصل المسلم على السعادة والاطمئنان وانشراح الصدر وقرة العين قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (النحل:97) . وانصرف عن قلبه من السوء والفحشاء والتفكر فيهما ما لا يمكن دفعه بنفسه. وكل ذلك يحصل بإعانة الله: (( فإن المخلص لله ذاق من حلاوة عبوديته لله ما يمنعه من عبوديته لغيره، إذ ليس في القلب السليم أحلى ولا أطيب ولا ألذ ولا أسر ولا أنعم من حلاوة الإيمان المتضمن عبوديته لله ومحبته له وإخلاص الدين له، وذلك يقتضي انجذاب القلب إلى الله فيصير القلب منيباً إلى الله خائفاً منه راغباً راهباً)) (1).
وبذلك يستريح من التفكير بالوساوس الشيطانية ويستريح أيضاً من كلفة الطلب والنظر.
لقد أصبحت الصحة النفسية للقلب مطلباً جماهيرياً – إن صح التعبير- في عصرنا الحاضر. وذلك لتفشي الأمراض النفسية كالقلق والكآبة وضيق الصدر ومرارته, وطغيان هذه الأمراض على مظاهر السلوك، وسيطرة السعار المادي على القلوب والعقول وهذا بلا شك عامل هدام في حياة الأفراد والمجتمعات. ولا سبيل للخروج من هذا المأزق إلا بكمال العبودية لله والتضرع إليه.
وما أحوج الأمة- والخطر يدق أبوابها – أن ترجع إلى المنهل العذب، والنبع الصافي وتحاول علاج أمراضها النفسية بالعلاج النبوي الرباني. وأن تتدبر هذه الكلمات الطيبة وتعمل بها بدلاً من التقلد الأعمى للغرب ومراجعة العيادات النفسية التي يتولاها أحياناً الدجالون والذين لم يعرفوا الإسلام ولم يفقهوه وبدلاً من اللجوء إلى السحرة والمشعوذين والكهنة الذين أضلوا الناس وأبعدوهم عن عبوديتهم لله.
تاسعاً: محبة الله عنصر أساسي في العبودية:
__________
(1) العبودية ( ص6).(1/28)
بين الشيخ في مواضع عديدة من كتبه (1). أن المحبة أصل كل حركة في العالم العلوي والسفلي، وأن وجود الفعل لا يكون إلا عن محبة وإرادة وهذا يحصل بتدبير الملائكة الكرام الذين وكلهم الله تعالى بتصريف الأمور بإذن الله وحتى دفع الإنسان للأمور التي يكرهها. أصله أيضاً المحبة، فهو يحب العاقبة المستلزمة لشرب الدواء المكروه، وقطع اليد الشلاء، ولكنه لا يترك ما يحبه ويهواه، وهذا يدل على أن المحبة أصل كل فعل ومبدؤه، وهذا من الأدلة على أن الحب من أعظم الدوافع إلى السلوك والعمل. يقول الشيخ رحمه الله: (( ومعلوم أن الحب يحرك إرادة القلب فكلما قويت المحبة في القلب طلب فعل المحبوبات)).
وهذا بخلاف الخوف فإنه يحصل لسبب ويزول لزواله.
وإذا كان كذلك فليس في الوجود من يحب لذاته إلا الله لما أنعم علينا من النعم العظيمة والآلآء الجسيمة وأتمها بنزول القرآن العظيم وببعثة الرسل الكرام والصالحين فنحن نحبهم لأن الله أمرنا بهذا الحب. والمحبة من أعظم العبادات القلبية التي يجب صرفها لله. أعني المحبة التي تستلزم الخضوع والذل وإيثار المحبوب- بخلاف المحبة المشتركة التي لا يقرنها الخضوع مثل محبة الوالد لولده والصديق لقرينه فلا يكون وجودها شركاً، ولكن من تمام المحبة وكمالها أن تحب ما أحبة الله من الأشياء، وفرق بين الحب مع الله، وهو الشرك الذي لا يغفر والحب لله.
والشيخ رحمه الله يربط بين المحبة والعبودية فبين أنه لا بد من اجتماع الحب والخضوع لله وحدة فيقول: (( بل يجب أن يكون الله أحب إلى العبد من كل شئ، وأن يكون أعظم عنده من كل شئ)) (2).
وقد انقسم الناس في هذا الأمر إلى طائفتين:
__________
(1) انظر مثلاً رسالة المحبة ضمن جامع الرسائل المجلد الثاني والاستقامة، روضة المحبين لابن القيم.
(2) العبودية(ص10).(1/29)
أ- من ظن أن الحبة مجرد ذل وخضوع لا محبة فيه، فجرد المحبة من أعظم خصائصها، وابن تيمية يهتم اهتماماً بالغاً بالجانب العاطفي، فللمحبة دافع قوي في تحريك الإرادة والخير، وهذا بخلاف العرض الجاف الخالي من الانفعال عند علماء الكلام في كتبهم ومصنفاتهم(1). ولهذا أنكر الجهم بن صفوان مخالة العبد لربه وحادثة ذبح خالد القسري أمير العراق للجعد بن درهم مشهورة.
ب- من يتوهم أن محبة الله مجرد انبساط في الأهواء وأنها مجردة عن البذل والخضوع، وقد أخرجهم ذلك إلى نوع من الرعونة – الشطحات – والدعوى التي تنافي العبودية والأدب مع الله.
وقد ترتب على ذلك جملة من الأخطاء والشطحات صدرت عن بعض السالكين وهي إما غلط- فيهم- أو كذب عليهم. ومن هذه الشطحات التي انتقدها الشيخ عليهم:
- الرضا بكل شئ ومحبة كل شئ حتى الكفر والفسوق والعصيان لأن ( المحبة نار تحرق في القلب ما سوى مراد المحبوب ) (2). ومعني هذا الكلام أن المعاصي بقضاء الله ونحن مأمورون أن نرضى بالقضاء... ولم يفرقوا بين الإرادة الكونية والإرادة الشرعية.
ولأهل السنة ثلاثة أجوبة على هذه الشبهة وهي:
1- علينا أن نرضى بما أمرنا الله أن نرضى به كطاعة الله ورسوله.
2-علينا أن نرضى بالقضاء الذي هو صفة الله أو فعله بالمقضي.
__________
(1) وانظر مثلا العقيدة النفسفية، فإنك إن قرأتها لا تحرك معاني الحب في قلب المسلم بل تزيده شكوكاً وحيرة, وقد ازدادت بالشرح تعقيداً. فأين هذا ممن يطالع رسالة العبودية ويقرأها، فإنه سيجد فيها كل الخير والبركة.
(2) وقد قال أحد مدعي المحبة للشيخ هذا الكلام ومقصوده أن الكون كله بما فيه أراد الله وجوده فهو يحبه، فأجاب الشيخ بالفرق الثاني الشرعي وقال له: (( إذا كان الله قد أبغض قوماً وكرههم وأحببتهم أنت أتكون مرافقاً له؟!)) فكأنما ألقم حجراًََ.....(1/30)
3- أن المعاصي لها وجهان وجه من العبد حيث هما منه، ووجه إلى الرب من حيث هو قدرها فالعبد عليه أن يرضى عن الوجه الذي يضاف إلى الله.
والشيخ يرى أن أفضل الأجوبة هي الإجابة الأولى(1) فالإنسان مفطور على دفع ما يضره ويؤذيه وأن كانت لله، فكذلك الكفر ونحوه وإن كان بقدر الله فعلينا دفعه وعدم الرضا به من هذه الناحية.
وعلى العبد أن يفرق بين الإرادة الكونية التي يشترك في شهودها البر والفاجر والإرادة الدينية التي يحبها الله ويرضاها وهي التي شرعها وأمر بها. عدم التفريق بين هذين النوعين جر طوائف إلى الوقوع في أنواع الإلحاد والكفر. يقول رحمه الله: (( فمن وقف عند هذه الحقيقة وعند شهودها ولم يقم بما أمر الله به من الحقيقة الدنيوية التي هي عبادته المتعلقة بألوهيته وطاعة أمر وأمر رسوله كان من جنس إبليس وأهل النار، فإن ظن مع ذلك أنه خواص أولياء الله وأهل المعرفة الذين سقط عنهم الأمر والنهي الشرعيان فإنه من شر أهل الكفر والإلحاد)) (2).
- ومن هذه الشطحات التي ردها الشيخ الدعاوى الطويلة في طلب الوصال والتي جعلت هؤلاء يتكلمون بما ينافي العبودية لله مع ما هم فيه من تضييع الحقوق وتعدي الحدود. ومن هذه الأقوال التي نقلها الشيخ:
قول البعض: أي مريد لي ترك في النار أحد فأنا برئ منه.
وقول الآخر: أي مريد لي ترك أحداً من المؤمنين يدخل النار فأنا برئ منه.
وقول الآخر أيضاً: إذا كان يوم القيامة نصبت خيمتي على جهنم حتى لا يدخلها أحد(3).
__________
(1) الفتاوى الكبرى (1/ 214ـ 215).
(2) العبودية (ص16).
(3) العبودية (ص95).(1/31)
ولم يعلم هؤلاء أن أحداً من الملائكة المقربين والأنبياء لا يشفع لأحد إلا بإذن الله وأن يرضى عن المشفوع له وذلك لكمال الهيبة وجلالة الموقف يوم القيامة، وأن دعوى الأنبياء على الصراط ( اللهم سلم اللهم سلم ). وقد طارد ابن تيمية كل مظاهر السخف والرعونة والدعاوى الباطلة والتي جعلت هؤلاء يتكلمون بما ينافي العبودية والطاعة لله. وبين الشيخ أن سبب صدورها من هؤلاء الشيوخ يرجع إلى سببين:
1- بعض هؤلاء السالكين وأرباب الأحوال يكون لأحدهم وجد صحيح لكن ليس له عبارة توضح مراده، فيقع في كلامه من الغلط وسوء الأدب مع صحة المقصود كقول الشلي لما سمع قارئاً يقرأ قوله تعالى: {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} (آل عمران: من الآية152). فقال أين مريد الله، مع أن في الآخرة كل أنواع النعيم وأعظمها نعيم النظر إلى وجه الله الكريم، وسبب ذلك اعتقاد هؤلاء أن الجنة ليس فيها إلا الأكل والشرب. هذا من آثار طغيان الفلسفة المنحرفة على أفكار المسلمين ودينهم.
2- صدور مثل هذه الأقوال في حال سكر واصطلام – لذة مع عدم تمييز – يسقط فيه تمييز الإنسان أو يضعف حتى لا يدرى ما قال(1).
وهذه الأقوال لو قالها الإنسان في كامل وعيه وتفكيره لكان كافراًَ يستتاب وإلا قتل يقول الشيخ رحمه الله – حينما قتل – في قوله رابعة رحمها الله لما حجت البيت ونظرت إليه فقالت: (( هذا الصنم المعبود في الأرض وأنه ما ولجه الله ولا خلا منه )) (2).
فبين أن هذا كذب على رابعة. ولو قال هذا من قال لكان كافراً يستتاب فإن تاب وإلا قتل.
وهو كذب فإن المسلمين لا يعبدون البيت. ولكن يعبدون رب البيت بالصلاة والطواف.
الفناء وأقسامه
__________
(1) العبودية (ص96).
(2) مجموعة الرسائل والمسائل: (1/80).(1/32)
وموضوع المحبة المجردة عن الذل والخضوع يجرنا إلى موضوع الفناء وهو الاستغراق في الحق بحيث لا يشعر بغيره. وقد فتح هذا الموضوع على مدعيه ألواناً من البلاء والشر وهو يكشف عن فهم معكوس لمعني العبودية عند القائلين به، فهم يدعون أنهم يزدادون توغلاً في مشاهدة الحق والحقيقة أنهم يزدادون ضلالاً وبعداً عن العبودية واتباعاً للشيطان.
ومنهج الشيخ في الكلام عن هذا الموضوع كغيره من المواضيع لا يطلق الأحكام العامة فيها. بل يستفصل لأن هذه الألفاظ: الفناء وغيره فيها لبس الحق بالباطل. ولهذا قسم الشيخ الفناء إلى ثلاثة أنواع وهي:
النوع الأول: الفناء عن إرادة ما سوى الله:
وهذا هو الفناء الكامل الواجب على كل مسلم بحيث لا يحب إلا الله ولا يعبد إلا إياه، ولا يتوكل إلا عليه، فينفي عن عبادة الله عبادة ما سواه وهذا الفناء هو (( تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله، فإنها تنفي عن قلبه ألوهية ما سوى الله، وتثبت في قلبه ألوهية الحق، فيكون نافياً لألوهية كل شئ من المخلوقات، مثبتاً لألوهية رب العالمين، ورب الأرض والسماوات، وبذلك يتضمن اجتماع القلب على الله، وعلى مفارقة ما سواه)) (1).
النوع الثاني: الفناء عن شهود السوى:
وهذا النوع هو ( أن يغيب بموجوده عن وجوده، وبمشهوده، وبمذكوره عن ذكره، حتى يفني من لم يكن، وهي المخلوقات، ويبقى من لم يزل، وهو الرب تعالى) وهذا النوع سببه كما قلنا المحبة المجردة عن الذل والخضوع، وهو يحصل لكثير من السالكين. كمن يدهمه أمر عظيم فيبقى قلبه من كل شئ، إلا ما يخافه أو يحبه أو يرجوه.
__________
(1) العبودية ( ص 111) .(1/33)
وهذا النوع من الفناء يبين الشيخ أنه نقص، والدليل على ذلك أن هذا النوع من الفناء يبين الشيخ أنه نقص والدليل على ذلك أن هذا النوع من الفناء لم يقع فيه خير القرون من الصحابة كأبي بكر وعمر وغيرهم: (( فإن الصحابة رضي الله عنهم كانوا أكمل وأقوى وأثبت في الأحوال الإيمانية من أن تغيب عقولهم أو يحصل لهم غشي أو ضعف أو سكر أو فناء وله أو جنون)) (1).
وكان الصحابة رضي الله عنهم مع قيامهم بالواجبات الإيمانية كالصلاة والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغيرها من الواجبات العظيمة لم يقعوا في هذا الفناء بل عندهم من سعة العلم وقوة الفرقان ما يشهدوه الأمور على ما هي عليه، فيفرقون بين الخالق والمخلوق، والقديم والمحدث، ومن الأدلة التي استدل بها الشيخ على نقص هذا الفناء أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما عرج به إلى السماوات وعاين ما هنالك من الآيات وأوحى إليه ما أوحى من أنواع المناجاة، أصبح فيهم وهو لم يتغير حاله، ولا ظهر عليه ذلك (2).
وكلما بعد العصر عن عصر النبوة والولاية قل العلم وفشى الجهل وظهرت البدع ولهذا بين الشيخ أن مبادئ ظهور مثل هذه الأمور لم تقع في العصر الأول لقوة نور السنة ومقاومة الصحابة رضي الله عنهم للبدع وأهلها: (( وإنما كان مبادئ هذه الأمور في التابعين من عباد البصرة فإنه كان فيهم من يغشي عليه إذا سمع القرآن، ومنهم من يموت)) (3). وهذا ما يسمى ( بالشهقة) التي تعرض عند سماع القرآن يذكر ابن القيم أن من ذلك قوة الوارد وضعف المحمل(4). بخلاف الصحابة رضي الله عنهم فالذي كان فيهم هو البكاء ولين القلوب وقشعريرة الجلد.
__________
(1) العبودية ( ص 114) .
(2) العبودية ( ص 116) .
(3) العبودية ( ص 114) .
(4) الفوائد:(ص5).(1/34)
أما ما يفعله صوفية زماننا من الصياح والزعيق في سماع القرآن أو غيره من هذا النوع بل هو شهقة المنافق، فلو وقف أحدهم على حائط أو مرتفع لما حصل له ذلك لأنه يفعله تصنعاً ورياء.
النوع الثالث: الفناء عن وجود السوى:
وهو فناء الملاحدة والمنافقين. والذين جعلوا الوجود وجوداً واحداًَ، وقد أوقع هذا الفناء بالكثير من أدعياء التصوف إلى فعل المعاصي والفسوق وأوقع بالآخرين إلى عبادة الأصنام والأوثان وتساوت عندهم جميع الحوادث فلم يفرقوا بين البر والفاجر والمأمور والمحظور وهذا الفناء ( هو تحقيق آل فرعون ومعرفتهم وتوحيدهم كالقرامطة وأمثالهم ) (1).
وقد بين الشيخ أن من الأصول التي يعتمد عليها هؤلاء الاتحادية ما يأثرونه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث القدسي: ( من عادى لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرب إلى عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه....).
وهذا الحديث حجة عليهم فقد أثبت الله سبحانه نفسه ووليه ومعادي لوليه. وأخطأوا في استدلالهم بهذا الحديث على الاتحاد العام بل هو دليل على الاتحاد الوصفي يقول الشيخ في رده على هؤلاء: (( وهذا الموضع زلت فيه أقدام ـ أي الفناء عن شهود السوى إذا قوى وضعف التمييزـ وظنوا أنه اتحاد، وأن المحب يتحد بالمحبوب، حتى لا يكون بينهما فرق في نفس وجودها وهذا غلط، فإن الخالق لا يتحد به شئ أصلاً)) (2).
__________
(1) العبودية (ص128).
(2) وانظر على سبيل المثال لا الحصر(( مجموعة الرسائل والمسائل )) الجزء الأول فقد تضمن رسالة فيها إبطال وحدة الوجود والرد على القائلين به ، والجزء الرابع وفيه حقيقة مذهب الاتحاديين وبيان شبهاتهم والرد عليهم بالبراهين النقلية والعقلية .
ومن الكتب أيضاً (( الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان)) و(( ولرسالة السبعينية )) وغيرها من الرسائل النافعة في بيان حقيقة مذهب هؤلاء القوم.(1/35)
ولهذا اتفق سلف الأئمة على أن الخالق مباين لمخلوقاته، وليس في مخلوقاته شئ في ذاته، ولا في ذاته شئ من مخلوقاته.
وقد اعتنى بالرد على هؤلاء، بل أعلن حربه عليهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في عامة كتبه(1). ولما تضمنت أقوالهم من الكفر الصريح والإنكار لوجود الرب ومباينته لمخلوقاته، وقد تعرض على أيديهم لأنواع من الأذى وأدخل السجن بسببهم مراراً حتى مات رحمه الله في محبسه الأخير بدمشق وهو يتلو قول الله عز وجل (2).
{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} (القمر: 54-55)
الناحية العملية في حياة الشيخ
ذكرنا أن التزكية امتثال حقيقي للإسلام لا ظاهر صوري بل يشمل الظاهر والباطن والقول والسلوك وقد تمثلت في ابن تيميه صورة العابد الورع الزاهد المجاهد في سبيل الله ،ففي الوقت الذي كان فيه الشيخ يطارد كل مظاهر الانحراف والضلال التي لحقت بعقول المسلمين وراجت في عصره مظاهر الابتداع وخاصة في أمور العبادة وحاول إرجاع المسلمين إلى المصادر الأصلية (الكتاب والسنة). كان في الوقت نفسه صورة حية تعكس للناس مدى التزام الشيخ بمظاهر العبودية الحقة و الالتجاء الصادق إلى الله وأنقل إليك أخي القارئ نماذج حية من أقوال تلامذته ومن عاصره تدل على ذلك:
__________
(1) وانظر العقود الدرية : وفيه بعض المحن التي تعرض لها الشيخ بسبب هؤلاء وأقرانهم وانظر مثلاً الصفحات التالية : ( ص 194-197-267-285).
(2) وهذه الآية الكريمة هي آخر ما تلفظ بها الشيخ. وقد رؤي بعدها في المنام رآه ابن القيم : فسأل كيف منزلتك؟ فأشار الشيخ إلى علو منزلتة فوق أكابر هذه الآمة .(1/36)
فقد نشأ الشيخ في أسرة كريمة اشتهرت بالعلم والورع والزهد وحب العلم والعلماء، وقد ورث ابن تيمية رحمه الله من آله الورع والزهد واللجوء إلى الله والدعوة إلى دينه وحفظ القرآن فقد تحدث كتاب التراجم ومؤرخو الإسلام بأنه " نشأ في تصوف تام، وعفاف، وتأله واقتصاد في الملبس والمأكل فلم يزل ذلك خلقه، صالحاً برً بوالديه تقياً، ورعاً (1)، عابداً، ناسكاً، صواماً، قواماً، ذاكراً لله تعالى في كل أمر وفي كل حال.
رجاعاً إلى الله تعالى، وقافاً عند حدود الله وأوامره ونواهيه، آمراً بالمعروف، ناهياً عن المنكر لا تكاد نفسه تشبع من العلم ولا تروى من المطالعة ولا تمل من الاشتغال ولا تكل في البحث..." (2).
__________
(1) إن أموالاً عظيمة كانت تصل من الملوك والتجار إلى الشيخ وكان لا يبقي منها درهماً واحداً لنفسه بل يوزعها على المستحقين.
(2) انظر: مقدمة كتاب الصارم المسلول بتحقيق محمد حامد الفقي.(1/37)
وابن القيم رحمه الله الذي لازمه مدة طويلة جداً. ووقف معه في المحن التي تعرض لها وقد حبس معه بسبب التهم الباطلة التي وجهت إليهما، ولم يخرج عن ابن القيم إلا بعد وفاة شيخه يقول رحمه الله واصفاً مدة إقامته بالحبس وما عليه حال الشيخ من انشراح الصدر وقوة القلب: " وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لا يدخل جنة الآخرة. وقال لي مرة: ما يصنع بي أعدائي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري، إن رحت فهي معي لا تفارقني، إن حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة (1)، وكان يقول في محبسه الأخير في القلعة: لو بذلت ملء هذه القلعة ذهباً ما عدل عندي شكري هذه النعمة. أو قال ما جزيتهم عني ما تسببوا لي فيه من الخير، ونحو هذا. وكان يقول في سجوده وهو محبوس: " اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك" ما شاء الله، وقال لي مرة: المحبوس من حبس قلبه من ربه تعالى، والمأسور من أسره هواه، ولما دخل القلعة وصار داخل سورها نظر إليه وقال فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب. وعلم الله ما رأيت أحداً أطيب عيشاً منه قط، مع ما كان فيه من ضيق العيش وخلاف الرفاهية والنعيم بل ضدهما، ومع ما كان فيه من الحبس والتهديد والإرهاق وهو مع ذلك من أطيب الناس عيشاً وأشرحهم صدراً وأقواهم قلباً، وأسرهم نفساً، تلوح نضرة النعيم على وجهه، وكنا إذا اشتد بنا الخوف وساءت منا الظنون وضاقت بنا الأرض أتيناه، فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه فيذهب ذلك كله وينقلب انشراحاً وقوة ويقيناً وطمأنينة، فسبحان من أشهد عباده جنته قبل لقائه، وفتح لهم أبوابها في دار العمل....
__________
(1) وما أحوج المسلم اليوم وهو يعيش في خضم هذه الفتن أن يتحلى بهذه الروح الإيمانية فتنير له الطريق إلى الآخرة ورضوان الله، فيظفر بإحدى الحسنين إما النصر أو الشهادة.(1/38)
(1).
وقال الحافظ البزار في المناقب العامة وقد سأله جماعة أن يكتب لهم عن عبادة الشيخ بعد ما ت وفي فقال رحمه الله: " أما تعبده رضي الله عنه، فإنه قد أن سمع بمثله، لأنه كان قد قطع جل وقته وزمانه فيه، حتى أنه لم يجعل لنفسه شاغله تشغله عن الله تعالى، ما يراد له لا من أهل ولا من مال.
وكان في ليلة متفرداً عن الناس كلهم خالياً بربه عز وجل ضارعاً مواظباً على تلاوة القرآن ا لكريم مكرراً لأنواع التعبدات الليلية والنهارية، وكان إذا ذهب الليل وحضر مع الناس بدأ بصلاة الفجر يأتي بسنتها قبل إتيانه إليهم – أي في البيت – وكان إذا أحرم بالصلاة تكاد تنخلع القلوب لهيبة إتيانه بتكبيرة الإحرام، فإذا دخل في الصلاة ترتعد أعضاؤه حتى يميله يمنة ويسرة. وكان إذا قرأ يمد قراءته مداً كما صح في قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإذا فرغ من الصلاة أثنى على الله عز وجل وكان دعائه يفتتحه ويختتمه بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم. ثم يشرع في الذكر، وكان قد عرفت عادته لا يكلمه أحد بغير ضرورة بعد صلاة الفجر، فلا يزال في الذكر يسمع نفسه، وربما سمع ذكره من إلى جانبه هكذا دأبه حتى ترتفع الشمس ويزول وقت النهي عن الصلاة.
وكان إذا رأى في طريقه منكراً أزاله، أو سمع جنازة سارع إلى الصلاة عليها، أو تأسف على فواتها وربما ذهب إلى قبر صاحبها بعد فراغه من سماع الحديث، فصلى عليه(2).
__________
(1) الوابل الصيب لابن القيم: بتحقيق الأخ إياد عبد اللطيف إبراهيم، طبع مكتبة المثنى. وهكذا يكون المسلم يثبت نفسه على معاني الحق ويكون مثبتاً لغيره – وذلك بالنصح والإرشاد.
(2) وقد جمع الشيخ رحمه الله بين العبادة والتزكية وبين الدعوة والجهاد بل قيل أنه قضى عمره بزيارة المرضى وتفقد أحوال الناس والسؤال عنهم.(1/39)
ثم يعود إلى المسجد فلا يزال تارة في إفتاء الناس، وتارة في قضاء حوائجهم حتى يصلي الظهر مع الجماعة، ثم كذلك بقية يومه، ثم يقول البزار رحمه الله :" فسبحان الله ما أقصر ما كانت! يا ليتها كانت طالبت – أي صحبته للشيخ – ولا والله ما مر في عمري إلى الآن، زمان كنت أحب إلي من ذلك الحين، ولا رأيتني في وقت أحسن حالاً من حينئذ وما كان إلا ببركة الشيخ رحمه الله" (1).
ويحدثنا الحافظ محمد عبد الهادي عن حياة الشيخ في آخر جزء من حياته:" وأقبل الشيخ بعد إخراجها – الكتب والأوراق التي يكتب فيها – على العبادة والتلاوة والتذكر والتهجد حتى أتاه اليقين.
وختم القرآن مدة إقامته بالقلعة ثمانين، أو إحدى وثمانين ختمة انتهى في آخر ختمة إلى آخر اقتربت الساعة {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ } (القمر:55) ثم كملت عليه بعد وفاته وهو مسجي كان كل يوم يقرأ ثلاثة أجزاء يختم في عشرة أيام (2). هذكا أخبرني أخوه زين الدين.
__________
(1) الأعلام العلية: (ص38)، والمقصود ببركة الشيخ أي باتباعه والاقتداء به.
(2) وهذا يدل على مدى مرض الشيخ رحمه الله على الإكثار من تلاوة القرآن وتدبر معانيه آناء الليل وأطراف النهار. وما أحوج المسلم الذي يريد تحقيق العبودية لله من أن يكثر من تلاوة كتاب الله ليلاً ونهاراً وأن لا يتركه لأي ظرف فإن الله علق النجاة في الدنيا والآخرة بقراءته والعمل به.(1/40)
وكانت مدة مرضه بعضة وعشرين يوماً، وأكثر الناس علموا بمرضه، فلم يفجأ الخلق إلا فيه فاشتد التأسف عليه وكثر البكاء والحزن. ودخل إليه أقاربه وأصحابه، وازدحم على باب القلعة والطرقات (1). وامتلأ جامع دمشق وصلوا عليه وحمل على الرؤوس رحمه الله ورضي عنه.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
__________
(1) انظر تفصيل ذلك في العقود الدرية (ص361)، وقد قال البرزالي – وكان حاضراً وقت الجنازة – في عدد الذين صلوا عليه تخميناً. أن النساء حزرن به (15) ألفاً، والرجال ما بين (60-200) ألف، وانظر الأعلام العلية (ص 84) وهي أكبر جنازة تشيع بعد جنازة الإمام أحمد بن حنبل رحمهم الله جميعاً.(1/41)