4- اعملوا على مكانتكم إنا عاملون وانتظروا إنا منتظرون ينبغى أن ينال اهتمامنا، ويسترعى أنظارنا هذا الفشل الذريع الذى منيت به جميع المحاولات لنقل مصر وغير مصر من بلدان الجامعة الإسلامية من الحالة التى تنسجم مع تقاليدها الدينية العتيدة وتتفق مع ميراثها العظيم إلى الحالة التى تدعو إليها حضارة أوربا، بلي، فشلت هذه المحاولات كلها، رغم ما بذل لإنجاحها من جهود، ورغم ماكانت تعانيه قوات الحفاظ والمقاومة من ضعف وتعثر، فلا جمهور المسلمين انخدع بصيحات الأفاكين المضللين لا الذين انخدعوا استطاعوا المسير مع القافلة الغربية فى طرائق حياتها، ولا الذين ساروا فى الركاب الجديد وانتظموا مع أفراده أندادا متكافئين وإنما لحقوا بهم خدما وانتموا إليهم عبيدا وأركسهم الله بما كسبوا فهم فى هذه الأمة عنصر حيرة وفوضى وانحلال. من كان يرتاب فى ذلك فلينظر أى خير فازت به طبقات العمال والفلاحين على أيدى المبشرين بالنظام الجديد، وأى سيد من هؤلاء المبشرين الرحماء قد ضرب مثلا واحدا من تلك المثل التى ضربها فى "أوربا" أنصار الفلاحين والعمال؟ وأى كسب اجتماعى حققه أولئك المترفعون من المثقفين لأنفسهم وذويهم؟ هل ترى بيئاتهم مثالا للحياة الحافلة بالمعرفة والفضيلة؟ ثم ما الذى أحرزته البلاد من قوى مادية وأدبية تمثل نصيبها الذى يجب أن تساهم به فى مراتب الكمال الإنساني؟ إن الذى يسمع جعجعة الأدباء المصريين، ويرى كثرة إنتاجهم - بقطع النظر عن لون هذا الإنتاج - لن يداخله شك فى أن نسبة المتعلمين تصعد فوق تسعة أعشار المائة!! فلا تفتك السخرية إذن إذا ذكرت أن الإحصاءات تهبط بهذه النسبة إلى عشر واحد فى المائة!! وأن بعض الدول الشرقية الفقيرة ، التى تتزعمها مصر، تسبقنا فى هذا المضمار!!. ص_019(4/16)
وإن الذى يرى الحفلات العامة، وما تفيض به موائدها من خير، وما يزين جوانبها من أزهار وما يحتف بها من مرح وقصف، سوف يحكم بأن هذه الأمة لا تعرف شقاوة العيش، ولا تعاسة الحياة المظلمة، ولا تستعمل فى لغتها تلك الكلمات الكئيبة!! فلا تفتك السخرية مرة أخرى إذا ذكرت أن الطب يرجع كثيرا من أمراض سواد الفلاحين إلى سوء التغذية!! وأن الفقر يحرم أطفال "المدارس الإلزامية" من تناول فطورهم، وهم الكائنات الحية الغضة، وهم الأمة المصرية بعد جيل!. وإن الذى يسمع أصوات الغناء، وألحان الطرب وعربدة التمثيل، وأضاحيك المهرجين، ترسلها الإذاعة الرسمية كل مساء لتنام عليها الأمة المريضة، سيقول بلا ريب: هذه بلاد قد فرغت من تدبير حاضرها، وتأمين مستقبلها، فلا عجب أن تعنى بملاهيها، بل لا عجب أن يشكو بعض أدبائها حاجتها الملحة إلى زعماء للهو يحكمون لها أسبابه، ويبتكرون لها فنونه ويعلمونها كيف ترسل الضحك العالى وتتذوق طرائف الحياة الممتعة.. وكذلك تبتدئ سلسلة مفارقات لا نهاية لها، وتظل الحقيقة الهائلة تصفع كل يوم من يتجاهلها، وتثبت لهؤلاء المفتونين أن للجهل والفقر والمرض دولة طائلة تغتال الأجسام والأفهام، لم يحد من سلطانها الجارف أنهم يسبحون دائما بحمد أوربا ويشيدون دائما بفضلها ومآثرها، وينادون بتقليدها - فيما يحمد وما يعاب، وما يحب وما يكره. لئن أصاب غير "المسلمين" شيئا من النجاح فيما وضعوه لأنفسهم من النظم، وما ارتضوه لحياتهم من المناهج فإن الله الحكيم الحميد لن يأذن لنا بذرة من النجاح إن نحن طبقنا بيننا هذه النظم، ذلك أن ما رضيه الله لنا عن علم خير وأجدى مما يصل إليه غيرنا عن تجربة فأما إذا ركب الحمقى رؤوسهم، وأرخصوا ما بأيديهم وأضاعوا ما ورثوا من حق فى سبيل ما خدعوا به من وهم فقد فتحوا على أنفسهم بابا ذا عذاب شديد ( واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين * ولو شئنا(4/17)
لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون ساء مثلا القوم الذين كذبوا بآياتنا وأنفسهم كانوا يظلمون ). وعجيب أن تمتد هذه اللعنة التى تحيل الخير فى يد السفيه شرا، فتحيط بكل شيء حتى ميدان " الحياة العلمية" فترى المبعوثين المصريين الذين تلقوا دروسهم جنبا ص_020
إلى جنب مع طلاب أوربيين يرجعون إلينا ويسلكون فى حياتهم نهجا يغاير نهج أولئك الذين شاركوهم فى ثقافة واحدة، فبينما الأخيرون يستغلون معلوماتهم أبهر استغلال ويضيفون إلى مفاخرهم الصناعية آيات من الابتكار والإتقان نرى وفودنا الكريمة تأخذ مجالسها المريحة فى حجرات الدواوين أو تختبئ فى قاعات الدراسة النظرية البحتة، ثم لا شيء وراء ذلك، اللهم إلا قشورا لن تغنى عن التخلف فتيلا هذه ظاهرة تبعث على التساؤل فأى شيء يجعل الشعوب الإسلامية تسرع إلى تقليد أحدث الأزياء وأبرع الرقصات، وتجيد قواعد "الإتيكيت" والاجتماعيات العامة وتنشئ الأبنية والمتنزهات على نسق يشبه النسق الغربى أو يدانيه؟ ولكنها مع هذا كله تفشل أتم الفشل فى نقل روح الإبداع الصناعى والنشاط التجارى وعجائب الفن الحربى والدهاء السياسى والنظام الاقتصادي؟ العلة فى ذلك واضحة بينة. فلقد رفضنا ما ساق الله إلينا من خير قريب المنال وأبينا أن نحتكم إلى ديننا فيما ينبغى أن نأخذ أو ندع فحرمنا الانتفاع بخيرات غيرنا مهما بذلنا فى الحصول عليها إنه يجب أن ندرك أن الإسلام قد ارتبط بتاريخ هذه البلاد حتى عرف بها وعرفت به وبلغت به أوج العظمة عصورا. ومن ثم فهى وثيقة الصلة به، هذه الصلة التى لا يسمح لها أن تنبذها بسهولة أو تلقى بها فى استهانة. كلا لقد التزمت أن تبقى وفية بهذه الرابطة، أمينة على تلك النسبة فإذا أرادت أن تنهض فبالإسلام وحده تكون قدرتها على النهوض أما أن تتلمس وسائل النهضة فى(4/18)
غيره فهذا مالا يجدي، ألست ترى الكافر العادى مرعى الذمة محفوظ العهد لدى المسلمين على حين أهدر الشارع دم " المرتد" واستباح ماله كذلك منح الله هذه الأمم الكافرة من النظم ما تهوى وما تحيا به كيف تشاء فإذا شاءت الأمم المسلمة أن"ترتد" فى طرائق الحكم وأساليب السياسة وأوضاع المجتمع وبقية مظاهر الحياة الأخرى. فلها أن تنتظر كل شيء إلا أن يستقيم لها حكم أو تنجح لها سياسة، أو يسمو بها مجتمع، أو ترقى فيها حياة، وسيظل هذا التخبط يجر الويلات ويستتبع المصائب حتى ترجع إلى أمر الله الذى رضى لنا ما رضيه عن علم ويومئذ تملأ المكان الذى ظل فارغا منذ غادره أسلافنا العظام ( وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم * وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين ). ص_021(4/19)
5- " ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة" ليس ما يحز فى النفس فيستثير أقصى شجونها ويستدر أحر شئونها أن تستطيع عصابات المبشرين الاستيلاء على نفر من المسلمين لم يستخدم فى التأثير على عقيدتهم وجرهم إلى مزالق الفتنة الخبيثة إلا الاستغلال الدنيء لمرض رجل، أو فاقة امرأة أو ذعر طفل.. فهناك ما هو أدهى من ذلك وأمر: هناك ما يغرى التبشير بنا ويدفعه إلينا ويحرضه علينا، وهناك ما سيطلع القارئ على نبئه بعد حين. حقا إن ذلك أمر خطير ولكن علاجه ميسور فى خزائن الأغنياء المقفلة على حقوق الناس، ولئن دلت الطرائق التى اتبعها المبشرون إلى اليوم على شيء فعلى أن الدعوات التبشيرية قد بلغ من هوانها وهوان من يقومون بها أنها لا تعمل إلا فى أجواء سممها الوباء، وميادين استبقهم إليها الشيطان. فإذا جاع إنسان واسودت الدنيا أمام عينيه همس فى صدره شيطان الجن أن تسول! وهتف به شيطان الإنس أن تنصر! وما التسول والتنصر حينئذ إلا أمران لسد الخلة ورد الجوعة، أو هما كذلك فى منطق الدعاة النبلاء من المبشرين ولكن ما أكثر ما جاعت الحرائر وأبت أن تأكل بأثدائها، وما أكثر ما يجوع الأحرار ويأبون أن يأكلوا بتنصرهم، وما كان أبلغ دواعى الإقناع فيما صادف المبشرين من تجارب صفعتهم نتائجها لو أنهم كانوا يعتبرون بإقناع. ألم يتمتعوا بحماية القوى الطائلة وكرم الثروات الهائلة؟ ثم منحوا ما منح إبليس من قبل يوم سلط على البشر وقد قيل له: ( واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا ). نعم منحوا كل هذا ثم رميت بهم ميادين الثقافة، والتربية، والرياضة، والتطبيب، وسائر أنواع "الخدم العامة" فبماذا ظفروا؟ وعلام استقروا؟ لقد سخر الله من كيدهم. وأرجعهم قد صفرت أيديهم واصفرت وجوههم. ص_022(4/20)
أيها المبشرون: فيما قال الله لأبيكم (إبليس) ( إن عبادي ليس لك عليهم سلطان) ولئن طاب لكم أن تمكثوا على لجاجتكم وتدعوا إلى مبادئكم فادعوا (وما دعاء الكافرين إلا في ضلال). ليس هذا ما يحز فى النفس: إنما الذى يستثير الشجون حقا، ويستدر الدموع حقا أن يكون المسلمون من الضعف بالمنزلة التى تغرى بهم (دعاة التبشير) والتى تجعلهم يتلقون لطمة اليد التى لا سوار بها.... فإنك لم يفخر عليك كفاجر ضعيف ولم يغلبك مثل مغلب يا الله. أبعد أن كنا ندعو إلى الحق ندعو إلى الباطل!! أبعد أن كنا نقدم للحائرين الهداية يقدم لنا الضالون الغواية!! أبعد أن كنا حراس الأرض نضع فيها الموازين بالقسط فتستقيم أمورها وتتقرر عدالتنا نترك أماكننا لنطمع فينا سفلتها، وتتحكم فينا حثالتها؟! نعم وخلا الغاب من آساده، فإذا العرائن المنهوبة أوكار ثعالب. وإذا الحمى الحرام مسارح ذئاب! وإذا الدهر يهزل والفوضى تسرع! وإذا المبشرون ينسابون بين جماهير المسلمين كما ينسابون تماما بين أتباع "بوذا" وأشياع "برهما". وإذا عبدة "يهوذا الإسخريوطي" المصلوب يهدون إلى "الحق" عبدة الله الواحد القهار!! فيا موت زر.... ذلك هو الوضع الحقيقى لبعثات التبشير المسيحية فى كل بلد مسلم فكيف يعمى عنه المصريون (الكبراء)؟ ممن يتولون هؤلاء المبعوثين ويرعونهم ويساعدونهم اللهم إن هذا كفر اللهم إن هذه غفلة ( ألا لعنة الله على الظالمين * الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالآخرة هم كافرون ) وأى كرامة بقيت لهذا ص_023(4/21)
الدين وأهله مادام المسلمون فى حدود المجال الذى يعمل فيه"التبشير الدولي"؟ هذا المجال الذى لا يضم إلا "مواطن الزنوج وقبائل الهمج" إن النزاع الأبدى بين المسيحية والإسلام دخل فى طور لا يسرنا نحن المسلمين - أن نتبين حقيقته، ولقد استطاع المسيحيون قديما أن يردوا بعض المسلمين كفارا ولكن كيف؟ سل التاريخ يحدثك عن مذابح "الأندلس" ومصارع الأبطال من بينها، سله كيف قسر أشراف العرب بين مطارق الحديد ونفحات النار على التنصر!.... حتى المحاريب تبكى وهى جامدة حتى المنابر ترثى وهى عيدان وما كانت المسيحية لتطمع يومئذ أن يدخلها أحد عن تفكير حر أو اقتناع خالص كما أغراها اليوم تأخرنا وانحدارنا فجعلها ترجو مالا يجوز لها أن ترجوه إلى الأبد!! وما مرد ذلك إلا إلينا وما وزره إلا فى أعناقنا وما خزيه إلا على وجوهنا!! وأين بربك من مظاهر عزتنا ما يعيد للأغبياء رشادهم العازب؟ وما يؤدب الأغمار على تطاولهم الكاذب؟ اللهم حنانيك، وكذلك تاجر المبشرون والسادة الذين يرسلونهم بتلك الحال المنكرة التى تسود العالم - حالة قوتهم وضعفنا - فراحوا يعقدون المؤتمرات ليتكلموا فيها عن المسلمين كما يحلو لهم الكلام فإن بدا فى حديثهم ما يدل على المجاملة فهى مجاملة السيد لعبده العانى أو مجاملة الأستاذ لتلميذه الغرير، وسأسوق للقارئ حديثا سجلته فى حينه يقرر هذه الروح فى صراحة لا يتطرق إليها ريب ليستفيق المذهولون وليدرك الذين على قلوبهم غشاوة. نشرت صحيفة الأهرام فى عددها الصادر بتاريخ 6 / 5 / 1939 ما يأتى تحت عنوان "مندوب للبابا يقابل رؤساء الطوائف" قابل الكردينال "فروبيية" المندوب البابوى فى مؤتمر المجمع الغربانى مفتى الجزائر وأئمة المساجد وقد حباهم بمظاهر الإخاء وقال "إننا جميعا أبناء إله واحد وإننى مسرور أيها الأصدقاء إذ أراكم لأننى أعرف الروح الدينية التى أنتم مشبعون بها وسأقول للحكومة الفرنسية. إن حضوركم يؤيد إخلاص الجزائريين(4/22)
التام وأننا نؤلف أسرة واحدة وجميعنا أبناء وطن واحد" فرد عليه المفتى الأكبر قائلا: إننا نشكركم كل الشكر أيها الحبر الجليل إذ أنكم جئتم إلينا برمز اتحاد العناصر والطبقات والأديان - وتكلم بعد ذلك رئيس ص_024
أساقفة الجزائر فأكد للزعيم المسلم عطف الأب الأقدس. وبعدما تبادل الكردينال"فروبيية" والمفتى الأكبر وأئمة المساجد عبارات المودة والإخاء خرج الزائرون مشيعين بكل حفاوة وإكرام ثم ذكرت الصحيفة أنه بعد ذلك قابل الكردينال حاخام اليهود حيث جرى بينهما حديث يشبه الحديث السابق تماما. فأى مسلم تصفو له الحياة بعد أن يصاب فى عقيدته بمثل هذه النكبة بل أى مسلم يحلو له الرقود بعد أن يناله خزى هذه الوصمة. أإلى هذا الحد من المهانة تهبط هذه النفس المسلمة؟ أو نتدهور فى سقوطنا حتى نجتمع مع اليهود فى موقف ذلة وضراعة كطائفة هزيلة كسيرة فقدت شعورها فهى ترتمى على أعتاب البابا وتحتشد على ساحته وكأنها قطيع من الرعية الحمقاء تطلب منه الرعاية والبركة؟ كلا ورب محمد فما تقر عين الكردينال المندوب بساعة يطل فيها على المسلمين من عليائه إنما ظفر فى هذه المقابلة بنفوس خربة من معانى الإيمان نفوس لم يطهرها نور الدين الحنيف ولم تسئم بها رسالة القرآن إنها تفترى الكذب حين تدعى الإسلام وما قابل الكردينال المندوب سوى حشد ساقته إليه السلطة الفرنسية، علاقتهم بالإسلام كعلاقته هو به فإن حدثته نفسه أو سول له شيطانه أنه يقترب بالمسلمين إلى نفسه أو يقترب بنفسه إلى المسلمين حين يزعم لهم أنهم أعضاء أسرة واحدة أو أنهم إخوة تتحد عقائدهم حين تنتهى إلى أب واحد فهو كذاب مخدوع. أى مقت هذا؟ وأى أئمة هؤلاء؟ الذين يتقدمون بالشكر إلى الحبر الجليل رمز اتحاد الأديان وماذا يضر المسلمين أو ينفعهم عطف البابا الأقدس أو مقته بل ماذا يعنى المسلمين من عواطف البابا نحوهم ونحو دينهم وهم لا يلتفتون ولا يحتفلون بها وسيان عندهم أن تكون خيرا أو شرا؟(4/23)
فعلى صاحبها وحده كفه ما تكون ومتى كان المسلمون طائفة تساق إلى مندوب البابا فيقابلها وهو جليل مهاب وهى متزلفة تتملق شعوره وتبغى إرضاءه وتقبل الكذبة الهائلة التى تنظمهم معه فى أسرة واحدة؟ وما هو الروح الدينى الذى يدركه مندوب البابا فى نفوس القوم فيعاملهم على أساسه هذه المعاملة العجيبة إلا أن يكون الكفر اللئيم والضلال العميق ومالا ينطلى بعد اليوم على أحد المسلمين؟ مقت يبرأ منه كتاب الله وأئمة تنكرهم مساجد المسلمين. إن كانوا يقرءون كتاب الله حقا فليقرأوا فى كل صحيفة من صحائفه آية تطردهم من رحمة الله وتجر عليهم لعنة المسلمين. ص_025(4/24)
هذه دسائس المبشرين وتلك صنائع القوى المجرمة التى تجتهد فى تلويث العقائد لقد انكشف أمر ها فلن تدرك بعد اليوم مآبا ويوم يرتد هذا الاستعمار إلى وكره وينقلب خاسرا فاشلا يومئذ يعرف الخارجون والمارقون شر المنقلب وسوء المصير فليلوذوا اليوم بحمى الإلحاد الأوربى وليرتضوا لأنفسهم أن يكون كرادلة "روما" وإياهم أسرة واحدة وليستشعروا الصداقة التى تربطهم على هذه الأرض بكل نحلة شاردة أو عقيدة فاسدة. أما المسلمون جميعا فلهم موقفهم الصارم القاسى من كل هذا الغثاء، ومن العجائب أن تأتى جريدة "البورص" فتسوق هذه القصة المخزية التى يزدريها كل مسلم فى موكب من السلام الزائف والأمان المكذوب فتقول: "إن الوثيقة الجديدة فى هذا العصر قد عجلت فى سير الأمور وأحدثت أعجوبة هى اتحاد المؤمنين الذين يصلون بالعبرية واللاتينية والعربية للدفاع نفسه (كذا) وقد كانوا قبلا يعتبرون بسخافة أنهم أعداء.!" ثم تمضى الصحيفة فى فرحها العظيم بهذا الاتحاد الموهوم بين أصحاب الأديان المختلفة فتهتف: "ما أغرب المصالحة التى تمت فى مدينة الجزائر الإسلامية ففيها استقبل نائب البابا استقبالا أخويا حاخام اليهود ومفتى المسلمين وخاطبهما داعيا إياهما أخويه" نعم أيها الكردينال إنكم جميعا لأخوة ولكن ليس فى الإيمان!!... فما أهونه من إخاء والأدهى مما سبق أن الكردينال يعظ صاحبيه حاثا لهما (أن يتحدا معا للدفاع عن الحقيقة) أية حقيقة هذه التى يتكاتف اليهود والمسلمون للدفاع عنها وأى اتحاد هذا الذى يطلب إلى المفتى أن يستوجبه ما يحدث من علائق بين المسلمين وبين اليهود لعله وحى السلام الذى ينشر الحزاب فى البقاع المقدسة ويذيق أهلها النكال؟ ياللقحة أى صفاقة تملأ هذه الوجوه يتحدثون عن السلام بين الأديان فما أطيب هذا الحديث على نفوسهم بعد أن ضربوا الإسلام فى صميمه واستباحوا حرمته واستذلوا إباءه. ما أطيب حديث السلام على قلب الكردينال المنتصر ما دامت مصائر(4/25)
الشعوب الإسلامية فى أيدى قومه وما دامت رقاب المسلمين عانية لجبروت أوربا الكافرة وما دام المبشرون بالمسيحية ينبثون فى حماية المدافع بين أنحاء الوطن الإسلامى قاسرين أهله قسرا على التجنس والتنصر (هذا هو ما يفهمونه من السلام بين الأديان) ولكننا - نحن المسلمين - نعرف جيدا خبث هذه الصيحة المنافقة ومهانة من يدوى فى نفسه صداها وقبل أن يكون سلام سيكون خصام (حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله). ص_026
6- أتحاجوننا فى الله؟ أهؤلاء المبشرون مؤمنون بالله ونحن المسلمين كفار به؟ ما دام فى الدنيا ذلك التجنى الزائل على الحقائق فلنكن قساة فى تقدير ما لنا. وإذا كانت المطاعن ستصل إلى أعز ما نحيا فيه ونموت عليه فما بد من أن نشتد وأن نبين عن أنفسنا لتبدو كما هى هي! ولتبدو صلتنا العتيدة بالله الكبير المتعالى عريقة فى كبرها وتعاليها! ولتبدو العقائد النقية فى جوهرها النفيس غلابة الشعاع، قهارة اللمح، تنطفئ إلى جوار هالتها رجوم الشياطين وضلالات الغافلين ويفتضح فى مشرق صبحها لغوالأفاكين وتلفيق المبشرين.. أيها المبعوثون الأفاضل: تريدون - سخر الله منكم - أن يهتدى المسلمون على أيديكم؟! المسلم الذى يمشى على الأرض فنعتقد أنها ما تماسكت تحت أقدامه إلا لأن الله يمسكها أن تزول. والذى ينظر إلى السماء فيعرف أنها لم تزل باقية فوق رأسه إلا لأن الله يحفظها أن تساقط والذى يتعرف آثار القدرة العليا فى كل شيء فما من دابة إلا على الله رزقها. وما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها. والذى يلمس إحاطة الله بما ظهر منها وما بطن وما دق وما جل من شئون هذا العالم فالعافية التى تسرى فى بدنه من رحمة الله والهداية التى تزكى روحه من فضل الله. والذى يشرف بالوقوف فى حضرة الله قبل طلوع الشمس وقبل غروبها وفى آناء الليل وأطراف النهار فى ساعات ليست من زمان الناس تتصاعد إلى ساحة الله فيها ألف تسبيحة وتكبيرة. أذلك المسلم يجهل ربه؟! ثم هو يحتاج(4/26)
إلى المبشرين ليعرفوه به؟!! ذلك المسلم ينسى ربه فينتظر المبشرين ليذكروه به؟!! لعله يكون أحوج الناس إلى قدومهم "المبارك" ساعة السحر عندما يهجر مضجعه صادعا بأمر ربه ذاهبا إلى المسجد والنجوم تلمع فى سماواتها والليل ساج إلا من خطوات الساعى إلى صلاته ونسائم الفجر النقية الندية تداعب روحا جعلتها خشية الله أنقى وأندى بينما المبشرون الأفاضل فى سبات عميق لا يستيقظون من أحلامهم إلا عندما تعبث بأجفانهم أشعة الشمس ولكنهم مؤمنون.. وماذا على المبشر الأحمق إذا اختفى وراء الرداء الكهنوتى وملأ جوفه الكبير مما يرسله (الشيوخ الأمريكيون الأتقياء) لهداية المسلمين إلى عبادة (يهوذا) المصلوب؟! ص_027(4/27)
( إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله). أو لعلهم يظنونه أحوج الناس إليهم عندما يغلبه الضعف الانسانى فيقترف سيئة وعندئذ يحسب المبشرون الأذكياء أن الفرصة سانحة لتزجية خرافة (الخطيئة والفداء) وذلك بعينه الضلال المبين. فمن كالمسلم أحق بالرحمة الحقيقية عند الإله الحق وهو خير من يحسن الاستغفار ويسارع إلى الإنابة؟ واسمعوا - إن شئتم - لهذه المناجاة الرائعة وهى - لعمر الله - مناجاة يعجز عن ترديدها فى كنائسهم ألف حبر وأنى لهم ذلك وهى معان أثمرها الإخلاص وربت على غذاء من تعاليم الإسلام الحنيف: (اللهم إنى جئت منك إليك ولا شيء أعز منك عليك فكن شفيعى لديك. اللهم إن حسناتى من عطائك وسيئاتى من قضائك.فجد اللهم بما أعطيت على ما به قضيت حتى تمحو ذلك بذلك. اللهم ما عصيتك تجبرا منى عليك. ولا استهتارا بك ولا استخفافا بحقك. ولكن غاب عنى رشدى وغلب على جهلى وغرنى سترك المدلى علي. اللهم إن طالبتنى بذنوبى لأطالبنك بعفوك وكرمك وجودك وإحسانك. لأن أدخلتنى النار مع أعدائك لأخبرنهم هنالك بأنى أحبك. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له - ولا ولد له - وأشهد أن محمدا عبده ورسوله). أيها المبشرون. أتخفق أفئدتكم بمثل هذه الصلة الكريمة بالله؟ أو هى تخفق بأجنحة الخفافيش التى تضرب في ظلماتها؟ بلى وما إيمانكم إلا مجموعة دعاوى فارغة وما كتبكم إلا مجموعة إشاعات كاذبة ثم ما ينقمون منا؟ : ( قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل وأن أكثركم فاسقون * قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شر مكانا وأضل عن سواء السبيل). أيها المبشرون: أأنتم مؤمنون ونحن كفار؟ وتزعمون أن إنكارنا نسبة البنوة لله ما هو إلا تقليد جنونى أحمق توارثنا التعصب له عن غفلة؟ كلا إذا ما الذى يدفعنا(4/28)
إلى ذلك؟ ( قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين) ولكنها الحقيقة المرة فى ص_028
حلوقكم ولو أذن الله للكائنات الجامدة أن تنطق لكذبكم التراب الذى عليه تسيرون والهواء الذى فيه تتنفسون ( سبحان رب السموات والأرض رب العرش عما يصفون * فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون). وهذا القرآن الذى جعل أهله "خبراء" بالحقائق الإلهية السامية وأحالهم خلائق يساوون الملأ الأعلى فى عبادة الله وتقديسه، هذا القرآن كيف يرتقى إليه ما تفترون شاهت وجوهكم لو كان القرآن مكذوبا أفترون خالق الكون يتعبد الناس بأكثر مما جاء فيه وهو الذى أرخص على المسلمين فى سبيل الله أنفسهم وأموالهم وأهليهم ورسم لهم من الفروض والتكاليف مالا يبلغ شأوه فى تهذيب الغاية الواجبة وصقل النفس البشرية وتحرير العقل الإنسانى أفترون - ليكون القرآن حقا - أن يقول: أو ما خلقت الجن والأنس إلا(ليلعبوا)!! أم تريدون - ليكون القرآن حقا - أن يقول: (فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا (فاسدا) وليشرك بعبادة ربه (من كان حيا من الكرادلة والبطارقة)!!! إنها آيات الله المباركات الطيبات سلبكم الله سعادة الإحساس بجمالها وجلالها فرحتم تحاربون الكرام البررة من أجلها ( وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين * أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين * بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله كذلك كذب الذين من قبلهم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين). ( أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة فما أصبرهم على النار * ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد ). ص_029(4/29)
ولا عجب فاليوم الذى يكون القرآن فيه من صنع محمد وهذه قديمها وجديدها من صنع الله هو اليوم الذى يكون فيه البشر أقدر على خلق الأديان القويمة من رب الأديان نفسها وهو يوم مهما آمن به المبشرون فإنه لن يكون وإذا كان ذلك كذلك فكيف رضى المصريون لأنفسهم أن تقام معاقل التبشير ومصادر الفتن بينهم ثم هم يمرون عليها من بعد كأن الأمر لا يعنيهم أن فى مصر ملاجئ يجب أن توصد دون إيواء أحد لأن التشرد خير من دخولها وفى مصر مستشفيات يجب أن تهدم لأن المرض خير من العلاج بها وفى مصر مدارس يجب أن تغلق لأن الجهل خير من الانتماء إليها. وكلمتنا الأخيرة إلى الأغنياء الذين يتقنون الصرف فى الفجور والمساخر ويملكهم غباء الحيوان عند دواعى البر والخير. إن غدكم أيها الحمقى من غد سادتكم الأجانب مظلم كقلوبكم فإن شئتم أن تبقى مستشفيات التبشير تضطر المرضى أن يتناولوا إلى مرارة الدواء مرارة العقائد الفجة فاعلموا أن ذمة الله ورسوله قد برئت منكم وسوف يكون لنا معكم حساب فإلى الغد القريب! ص_030(4/30)
7- عيد الميلاد "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين" يا رسول الله كل مؤمن مدين لك بنور الإيمان الذى طهر نفسه وزكاها، صلى عليك الله كم جاهدت دون هذه الرسالة الكريمة التى عرفت نفوسنا على معانيها معنى الكمال، والتى نشدت نفوسنا على شرائعها خير ما ينشد الناس لدنياهم من مجد ولأخراهم من سعد وكذلك عرف المؤمنون دينهم قديما ( وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ولدار الآخرة خير ولنعم دار المتقين). وكم حرصت على ألا يضيق برسالتك صدر وألا يحرم من هدايتك قلب وكم حزنت أن ترى المؤمنين من حواليك قلة بينما تستبد الشهوات بكثرة البشر الساحقة فتهوى بهم إلى الحضيض وكم انفطر فؤادك النبيل لصحراء تموج بدنس الشرك ومن ورائها عالم رحيب تذرعه الشياطين جيئة وذهابا وتسخر فيه ذرية (إبليس) من أبناء (آدم) الذين أرسل إليهم (عيسي) ليدعوهم إلى عبادة الله فعبدوه من دون الله!! والذين أرسل إليهم موسى فلم يفقهوا من دينه إلا أمانى ملكتهم معانى الجنة فما لغيرهم منها موضع قدم! وأمنتهم عذاب النار فليسوا من بعد يخشون الله فى أحد!! فكنت يا رسول الله - دؤوبا على الدعوة لله ودينه الحق ما تركت حيلة ولا فاتتك وسيلة وفى صدرك نبع من الأمل لا يغيض وكنز من الثقة لا ينفد وطماح مديد الآفاق أن سيؤمن بك الناس جميعا وأن سيبهر ألبابهم جلال ما تقدم لهم فيقبلون عليك أفواجا وكان ذلك منك ظن الخير بأبصار الناس وبصائر الناس حتى أراك الله أن فى الأرض خلائق حقت عليهم كلمة العذاب وأنك مهما عانيت فلن ص_031(4/31)
تمزق ما ضرب على أفئدتهم من حجاب وأن من استقام على الطريقة قليلون ( وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين ) ( أفأنت تسمع الصم أو تهدي العمي ومن كان في ضلال مبين ). وكذلك - يارسول الله - ظل العالم. فلم تزل قارات بأسرها تخبط فى جاهلية عمياء وتعبث فيها فوضى قاتلة ورفض الناس زعامتك على حين طوعت لهم أنفسهم أن ينصبوا عليهم زعماء لا يبوءون بشعث نعلك هيهات أتت إذا سرت مبارك الخطوة. وإذا هتفت مبارك الدعوة وهؤلاء - وما أصغر هؤلاء - (ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا)، أستغفر الله أن أقيس قدرك العالى بأقدارهم. ألم ترى أن السيف يزرى بقدره إذا قيل هذا السيف أمضى من العصا أولست تقرر الحقيقة التى تهتف لها الملائكة فى سماواتها؟ وهؤلاء يقررون الحقيقة التى تحيا عليها الأوابد في آجامها؟ ( أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون). يارسول الله كل مؤمن مدين لك بنور الإيمان الذى طهر نفسه وزكاها طالما جاهدت لقيادة الإنسانية الشاردة إلى سواء السبيل ولقد اختارك الله أميا لما فسدت العصور بعلم أهل الكتاب وفسدوا – هم أنفسهم – بعلمهم وما يصلح الملح إذا فسد الملح! لقد أنكر العرب أن التوحيد قد جاءت به المسيحية التى زعمت نفسها دينا سماويا! ألم يقولوا ( ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق) وما كانت المسيحية التى تعاصرنا اليوم والتى عاصرت العرب من قبل دين توحيد. اختارك الله أميا لما تاجر أهل الكتاب بالعلم ولم يزيدوا به إلا أن يكونوا ضربا عجيبا من وسائل النقل إلى جماهير العامة فجئت - أيها النبى - لتعلمهم ما جهلوا ولتبصرهم ما حرفوا ولتصوب لهم ما أخطأوا فيه حتى تميز الخبيث من الطيب وتفصل كذب الأرض عن وحى السماء ثم وكل إليك بناء جيل من ص_032(4/32)
الربانيين الخالصين تكون أنت أسوتهم الحسنة فكنت لهم نعم الأسوة. كان خلقك القرآن - وهو دستور دعوتك - ومن يومئذ عرف أهل الكتاب أى سفاهة ارتكبوها لما كانوا يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم. علمت القادة من بعدك كيف يحيون فيما يدعون له فلم تكن لأصحابك حياة عامة يرويها التاريخ وحياة خاصة تطويها المروءة وتنفيها الآذان لم يكن أصحابك كقادة "أوربا" وفلاسفتها وأدبائها الذين ارتضوا أن تكون بيوتهم صورا للحياة العابثة الصاخبة والذين روت عنهم كتب "العلاقات الجنسية" ما يملأ أفئدة المعجبين!! ومن شاء فليقرأ عن "جان جاك رسو" وعن "نابليون" وعن "فردريك" وأضرابهم ليعلم بعد ذلك من يعقل ( أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا ). جيل من الربانيين الخالصين لم يتناقشوا فى الأمثلة العليا لأنهم آثروا العمل الصالح تتكلم عنه الأيام وتسجله لهم الملائكة فأين منهم أناس فرغت نفوسهم من الجد فراحوا يملأون الدنيا لغوا وتأثيما؟ ذلك الخير يا رسول الله هو غراس يديك الغدقتين بالخيرات، صحت على قواعده الحياة المريضة وحققت به ما أرسلت له ( تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فزين لهم الشيطان أعمالهم فهو وليهم اليوم ولهم عذاب أليم * وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون ). وكذلك جعلك الله نبى الحق والقوة جميعا وهل يجدى غير هذا مع عالم توقحت شروره ومشت فيه الفتن على الأرض بسيف ورمح؟ فلو كنت أعزل لهزمت بل لو كنت ضعيفا لقتلت وهل تورع الطغام عن قتل النبيين من قبلك بغير حق؟ وإن قوما يا رسول الله لهم قوى ما تحركت إلا لارتكاب جريمة أو اغتصاب متاع أو إطفاء شهوة ينعون عليك أن كان لك سيف تقاتل به أعداء ربك أفتحسبنا يا رسول الله خدعنا بهم؟ لقد علمناهم أجرأ من شهدت الحياة كذبا وما أجابتنا على هذا الذى قالوا - نحن الذين ذقنا على أيديهم الأمرين - إلا أننا نعمل جاهدين - لمضاعفة قوتنا وتكثير أسبابها(4/33)
واسترداد ما فقدنا منها وإحياء سيفك أنت لنجز به ص_033
بك؟ لقد قرأت الكتاب الذى شرفك الله بوحيه فما وجدت لك فيه نصيبا ووجدته كله لله وما لمحت لذاتك فيه أثرا ووجدت آثاره كلها لذات الله وبحثت عن ظل الأنانية الإنسانية المركزة في طباع البشر كلهم – وأنا أتساءل – إذا كان القرآن من وضع "محمد" أفلا توجد آية انسابت إليها هذه الأنانية فذكر لنا فيها "محمد" شيئا عن مجده الأولى أو مقدرته السياسية أو مهارته العسكرية؟! فلم أجد شيئا قط. أستغفر الله بل وجدت في كتاب "محمد" هذا أن "محمدا" لم يك شيئا إلا لأن الله جعله شيئا ( ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك ثم لا تجد لك به علينا وكيلا * إلا رحمة من ربك إن فضله كان عليك كبيرا ). ولقد سلب "محمد" إلى الأبد الاعتداد بحوله هو والإشادة بجاهه هو لما قيل له (ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم ) فأين برب الناس ما طلبه "محمد" لنفسه؟ أو حرص على أن يقرر لها؟ لو كان زعيما عاديا لما شفى نفسه إلا اضطراب الجماهير بين يديه وهتافهم العالى وتصفيقهم الطويل!! ولكنه "محمد" المثل الكامل رسول الله وخاتم النبيين وسيد الأحياء قاطبة وخير من استغرق روحه السامى فى صلاة يشرعها بهذه النجوى العميقة ( قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين) وخير من علم الناس الفناء فى الله فهو أدل الخلائق دينا وإن لم يكن أولهم تكوينا دع ما ادعته النصارى فى نبيهمو واحكم بما شئت مدحا فيه واحتكم يا رسول الله، كل مؤمن مدين لك بنور الإيمان الذى طهر نفسه وزكاها. صلى عليك الله إن كلمة قالها عنك أحد الأدباء لم يزل معناها ماثلا أمام عينى قال: إن"محمدا" عاش فقيرا وباسمه حكم ملوك وتعالت أمراء، فما أعجب مفارقات هذه الحياة الدنيا ولكأنى أستمع للعرب المشدوهين وهم يقولون (وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ) وما(4/34)
مقاييس العظمة التى اطمأن ص_034
إليها الأعراب فلم تجعل "محمدا" فى نظرهم عظيما؟ إنها المقاييس عينها التى تسود بيننا اليوم: الرجل ذليل لأنه ليس "صاحب عزة"، شقى لأنه ليس "صاحب سعادة". وكان المغفلون من أجلاف الصحراء يريدون أن يربطوا العبقرية بالغنى وامتياز الروح بوقر المادة التى تحاز وأن يقفوا فضل ربك على من تكون لهم في الهيئة الاجتماعية سطوة جوفاء ( أهم يقسمون رحمت ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمت ربك خير مما يجمعون) وما ضر محمدا أنه لم ينل من معايش الدنيا إلا القليل وهو الذى احترف الزهد وافتخر بالفقر والذى حمل أهله كلهن على أن يساهمن معه فيما ارتضى من حياة بريئة من متاع الحياة الدنيا وزينتها ولكن طبيعة الحياة التى ألف الناس جعلت أعداء "محمد" يستكثرون عليه الرسالة لأنه - كما ارتأوا - ليس بعظيم! وطبيعة الحياة التى ألف الناس جعلت بعض أشياع "محمد"(كذا) يعيشون باسم الإسلام عظماء ملوكا وأمراء وما أكثر ما روى التاريخ ويروى عن ضلال الحياة والأحياء. يا رسول الله ما أعظم نفسك وما أعظم الكتاب الذى بلغت وما أعظم الجهد الذى بذلت. إنى لأتخيل أعداءك اللد يأكل فى صدورهم كامن الحقد ويلتمع فى عيونهم بريق الغيظ وهم يودون لك الويل ويتربصون بك وبصحابتك الدوائر - أن دعوتهم لله ومحضتهم الخير والحق - فما ينقضى اطمئنانك إلى سوء مصيرهم ذرة وما تشك فى نصر الله لك ساعة حتى لتردد فى يقين الراوي: (قل أرأيتم إن أهلكني الله ومن معي أو رحمنا فمن يجير الكافرين من عذاب أليم ). صلى عليك الله، كل مؤمن مدين لك بنور الايمان الذى طهر نفسه وزكاها، ما أروع سنتك. نهج سرت فيه وفى يمينك مشعل رفع السنا لمن اتخذ الله غاية فاتخذك أنت إماما تقول ( المعرفة رأس مالي، والعقل أصل ديني، والحب أساسي، والشوق مركبي، وذكر الله أنيسي، والحزن رفيقي، والثقة كنزي،(4/35)
والعلم سلاحي، والصبر ردائي، والرضا غنيمتي، والفقر فخري، والزهد حرفتي، واليقين قوتي، والصدق شفيعي، والطاعة حسبي، والجهاد خلقي، وقرة عينى فى الصلاة) فهل حملت الأرض إنسانا من قبلك أومن بعدك يستن لنا خيرا من ذلك؟ لا جرم كان الأنبياء تحت لوائك والصالحون ص_035
ضمن ركابك، ذلك عند ميلادك يا رسول الله يحتفل به المسلمون اليوم تكبيرا وتحميدا ولسوف يحتفلون به احتفالا أفخم وأضخم عندما يعيدون - بتأييد الله لهذا الدين - مجده ولهؤلاء الأخوة المستضعفين كرامتهم عندئذ يحتفلون بعيد ميلادك فى البر والبحر والجو والله على ما نقول شهيد. إننا يا رسول الله - أبناؤك وأنت أولى بنفوسنا منا ونحن وراث رسالتك والذواد بمعونة الله عنها أنت الوالد البر زوجاتك الأمهات الطاهرات. صلى عليك الله. كل مؤمن مدين لك بنور الإيمان الذى طهر نفسه وزكاها.. يارب العالمين هذا ميلاد إمام الرسل ومن شاءت رحمتك الواسعة أن تسعد به الكثير الكثير من عبادك، أى فضل غمرت به الناس لما بعثته لهم، وأى فضل ينتظره الناس منك كلما مر الزمن فجدد للذكرى الرائعة حياتها وفتح القلوب على مشرق يوم من أيام الله. مشرق يوم تكتب أشعته على الآفاق هذه الآية الكريمة ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين). مولاى ربما تصاعد مع هتاف الملائكة لك نشيد بما أضفيت على خلقك هتاف بشر يأملون أن تدركهم فى هذا اليوم المبارك رحمتك. ( ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير * ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز الحكيم ). ص_036(4/36)
8- ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة نحن لم نرتب لحظة فى صلاحية الإسلام لأن يفرض تعاليمه على كل ما يعالج الناس من شؤون فهو قبل أن يكون عقيدة روحية ميسورة الفهم قريبة المنال تحفظ على البشر كرامتهم الإنسانية وتملأ نفوسهم خيرا وفضيلة وكمالا - هو قبل أن يكون كذلك نظام يراقب نواحى الحياة العامة وتهيمن نصوصه فى قوة قاهرة على التوجيهات السياسية للأمة فى الداخل والخارج معا، وقد أخرس القرآن لسان كل كاذب يفترى على دين الله أنه اقتصر على كذا أو لم يعرض لكذا ( ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين ) ذلك إيمان لا تخامره شائبة وليس يساويه رسوخا فى النفس إلا أننا نوقن إلى جانبه بأن الحياة أقفرت رحابها وأمحلت فجاجها إلا من أفياء هذه الرسالة النضرة الوريقة، وأنه مهما اعتسف الضالون السهل والوعر ونقبوا فى الوهاد والنجاد فلن يرجعوا بغير الفشل الماحق ولن يراحوا إلا فى حمى الدين الذى ارتضى الله لعباده وأودع فيه لهذا العالم خير وسائل ارتقائه وإسعاده ( ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون). ونحن لا نرسل القول على عواهنه بل نعتمد فى ذلك على عبر التاريخ الحاضر والغابر على السواء، التاريخ الذى علمنا أن العالم لا تستقيم أموره إلا فى كنف أمة إسلامية حقا تقتعد مكانتها على هذه الأرض لتحميها من الظلم والظلام وتعمر أرجاءها بالحق والسلام وتجعل من شريعة الله قانونها ومن الجهاد له برنامجها الذى لا ينتهى وهل كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم - إلا مؤسس هذه الدولة المنشودة التى ارتفعت قواعدها من بعد على أنقاض " التحالف" الرومانى المسيحى " والمحور " الفارسى المجوسى وكانت خاتمة عصر موبوء يشبه ص_037(4/37)
من سائر النواحى هذا العصر الكالح الذى نحيا فيه. بلى وأشرقت الأرض بنور ربها حينا بعد أن ظهر الفساد فى البر والبحر بما كسبت أيدى الناس ولكن يا أسفا. لم يكن مقدرا للدنيا كثير من الخير وكم ترجع بصرك إلى أحداث التاريخ السابق وعظات السياسة العالمية الحاضرة فتشعر بالأسى البالغ إذ لا تجد أثر هذه الدولة الإسلامية الكبرى يرد إلى الحياة الضالة رشادها المفقود. جالت هذه الخواطر بذهنى وأنا أقرأ للأستاذ "زكى عبد القادر" كلمة تحت عنوان "أوربا المشاغبة" حاول فيها الكاتب الفاضل الذى يتجه بالناس "نحو النور" أن يوهم قراءه بأن الهرج الذى يسود "أوربا" ليس شرا طبيعيا تلده النظم الفاسدة ولا إثما حقيرا تستسيغه النفوس الملحدة! ولكنه شرط السير إلى الأمام فى حياة أوربا الحافلة بالحركة والزحام!! وكلمة الأستاذ التى يريد أن يثبت بها هذا المعنى تنم عن إعجاب عميق بأوربا وتقدير زاخر لمظاهر الحياة فيها ولو أن إعجاب الأستاذ وتقديره ينشآن عن معرفة صادقة وينتهيان إلى نتيجة سليمة لما كان ثمة شيء يؤخذ عليه، أما والأستاذ قد ذكر لنا سر إعجابه بأوربا مؤسسة القوائم التى تعتمد عليها الحضارة وباذلة التضحيات فى سبيل حماية المدنية فإن لنا رأينا الذى نقرره إزاء هذا الشرود الخطير ونبين فيه حقيقة هذا الوهم المبعد فى الخطأ فما كانت أوربا مؤسسة قوائم الحضارة التى سرد الأستاذ أسماءها ولا كانت أوربا هى التى تقدم بنيها قرابين على مذبح هذه الحضارة المقدسة - وإذا كان الأستاذ يرى أن أوربا مهما أرعدت وأبرقت فما ثم فى النهاية إلا الخير الغزير يرتقب الأنام بركاته! ويحمدون الله على نفحاته حتى إذا ما انكشف الجو واستبان الأفق استأنفت مواكب البشر على أشعة الحضارة الأوربية المستفيضة سيرها نحو التقدم.. ونحو النور! إذا كان الأستاذ يرى ذلك فى رعد أوربا وبرقها فقد حسبه عارضا مستقبل أوديتهم ولكنه - كما جهل وكما جهلوا - ريح فيها عذاب أليم تدمر(4/38)
كل شيء يأمر ربها! والأستاذ لا ينفرد وحده بهذا الرأى فهو يمثل مذهب طائفة كبيرة من (المثقفين) فى مصر والشرق ممن سحرت ألبابهم أوربا المجيدة فى صناعاتها، العريقة فى فنونها الفاتنة فى مباهجها، وأخيرا الباطشة فى سلطانها، الجارفة أمامها عوائق التأخر والكسل والهمود وهذه طائفة تفكر بعقل صنعته الدعايات الغربية الطارئة ص_038
بعد أن قطعت الأواصر التى تربطه ببيئته الأصلية الأولي، ثم اتخذت لها منه النصير المخلص فى السراء والضراء والمؤيد لها (على طول الخط) والذى يبذل ثقته بأتفه الأثمان... أو ليست الغفلة كل الغفلة أن تصيب أوربا قليلا فتجد من هؤلاء من يصور قليلها كثرة رائعة، وأن تخطئ أوربا كثيرا فتجد من هؤلاء من لا يبرر أخطاءها فحسب بل يحاول أن يظهر هذا الخطأ الفاضح جوابا مبينا وأن يظهر الأبالسة الذين أتوه وكأنهم أملاك السماء طهرا وبرا غير آبه لأن تسير الجريمة البشعة فى أكسية من الترفع والنبالة ولا أن ينخدع الجمهور ببريقها الزائف وهو لا يعلم ما تحت هذا الظلام من وباء. هل لهؤلاء عذر؟! قد يكون الكاتب الفاضل قد ترجم عن خلجات ضمائرهم فيما عنون له من "أوربا المشاغبة" وأياما كان فسنناقش ما أورد الأستاذ فى كلمته من آراء، والله يحق الحق وبيطل الباطل ويهدى من يشاء إلى سواء السبيل. يقول الأستاذ (قد يظن البعض أن أوربا كانت القارة الوحيدة المشاغبة التى تثير فى العالم الحروب وتقوده إلى الخراب والدمار. وهذا صحيح إذا أخذنا الحرب من مظهرها المادي) ثم ماذا؟ (ولكنه غير صحيح إذا نظرنا إليها من جانبها المعنوى لماذا؟ وكيف كانت الحروب الأوربية ذات جانبين جانب معنوى فيه الرحمة وجانب مادى فيه العذاب؟ يجيب الأستاذ ( إن أوربا هى أكثر القارات حروبا ولكنها هى أيضا مهد الحضارة (كذا) وهى التى تقود مصاير العالم وتعطى الإنسانية مثلها العليا وتحقق لها خطواتها نحو التقدم.. ونحو النور) أما أن أوربا مهد الحضارة فذلك ما لم(4/39)
يروه كتاب تاريخ ولا ندرى من أين أتى به الأستاذ؟! على أن دولها التى تقود مصاير العالم اليوم!!لم تعرفها العصور الوسطى إلا قبائل متبدية تعيش على الغزو والقتال، وليقرأ الأستاذ مرة أخرى - فلعل الشيطان أنساه - تاريخ الجرمان والقوط والغالة والسكسون والوندال وغيرهم. وأما مثل الإنسانية العليا التى يأخذها العالم عن أوربا فقد وقفنا كثيرا لنعرف ما يعنى الأستاذ الفاضل بها أيعنى تسويغ الكذب باسم السياسة، ووأد الشعوب باسم (استعمارها)؟ من البديهى أن الأستاذ لا يرى شيئا فى هذا يعتبر مثلا أعلى فما هو المعنى الذى قصده واستبهم علينا فهمه خلال ذلك السياق الشعرى الجميل من قيادة أوربا للعالم نحو التقدم. ونحو النور ص_039(4/40)
حرب 1914- 1918 وهذه هى القوائم التى تعتمد عليها الحضارة الآن).. هذه قوائم الحضارة التى يقول الأستاذ إن حروب أوربا "المباركة" قد تمخضت عنها، إذن لزادها الله لهيبا حتى لا يحرم العالم من ذلك الجنى الغالى العزيز، إذا كان الأستاذ يرى حقا أن كل حضارة لا تنهض إلا على هذه الدعامات الأربع فهل يتغير رأيه فى أوربا إذا أثبتنا له أن هذه الحريات الأربعة - التى يراها روح كل حضارة صحيحة - قد بشر بها من قبل أن يخلق تاريخ أوربا الحديث - رسول كريم يتسمى الكاتب الفاضل باسمه؟ وهل يتغير رأيه فى تزكية الشغب الأوربى الدائم إذا أثبتنا له أنه ما قامت فى أوربا حرب لتحقيق خير ولا انتهت إلى ذلك حرب مما ذكر الأستاذ؟ إذن فليسمع الأستاذ: لقد كفل الإسلام الحرية الدينية بصراحة تامة فى غير آية من القرآن الكريم (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي) (أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) وكفل الإسلام الحرية السياسية لكل مسلم فما يهبها أحد ويحرمها غيره (إنما المؤمنون إخوة) وهدم نظام الطبقات من أساسه حينما جعل حسن الإيمان قاعدة التقدم والكفاءة (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) ثم تقرر فى هذا الدين أن المسلمين يسعى بذمتهم أدناهم فهل هناك حرية سياسية أوسع مدى مما عرف الإسلام وفتح؟ أما مبدأ القومية على معنى التعصب للدم فقد أنكره الإسلام على الجاهلية - التى عرفته قبل أن تسعد بقدوم نابليون - وعرفه هو آصرة متينة تربط قلوب من يعتنقونه على أساس الاشتراك فى العقيدة، والعلة ظاهرة فى رفض الإسلام أن يعترف بالقومية الجنسية إذ هى التى ولدت حكاية: الآريين وغير الآريين مما يعرف الأستاذ من مشاكل العنصرية السمجة وقد أشار الإسلام إلى أن تغاير الأجناس لا يجوز أن يكون مدعاة للتناكر والبغضاء (إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا) وهذه ص_040(4/41)
قومية أرقى وأجدى من النوع الذى يمجده الأستاذ، أما مبدأ تقرير المصير فحسب الأستاذ أن يراجع سياسة الإسلام الخارجية كما قررت فى القرآن وفى السنة - ليدرك أن الله تعالى لم يفرض دينه قسرا على أمة محترمة الديانة نوعا كأهل الكتاب مثلا، بل ترك لها حق تقرير المصير فى إحدى ثلاث ولم يجعل الدولة الإسلامية فى حالة ما كدول أوربا الحاكمة بأمرها اليوم باسم الاستعمار أو"الانتداب" أو "الحماية" أو "الممتلكات المستقلة" إنما فرض عليها أن نقود - بحق - مصاير العالم وأن نعطى بحق هذه الإنسانية مثلها العليا وأن نحقق لها خطواتها - كذلك - نحو التقدم.. ونحو النور ( كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد * الله الذي له ما في السموات وما في الأرض). إننا نتساءل. هل الأستاذ جاد فيما نسبه للحروب الأوربية التى ذكرها من نتائج عظيمة؟ إن حروب الثلاثين لم يشتعل وطيسها لأن أمراء (ساكس) (وبفاريا) كانوا يؤازرون المذاهب المسيحية الثائرة على الكنيسة نشدانا للحق المهضوم وانتصارا للحرية المستباحة ولكنها رغبة الأمراء الظالمين في التخلص من سطوة (البابا) والخروج من ربقة (الكنيسة) التى طالما ضايقتهم في ممتلكاتهم وانتقصت من سلطانهم وإذا كانت الثورة الفرنسية قد قامت – كما يرى الأستاذ لتقرير الحرية الفردية فقد قامت على حد تعبير (مونتسكيو) لهدم ملك واحد وتنصيب ملوك كثيرين وقد قامت – أيضا – لتقرير حريات أخرى عانت (فرنسا) من جرائها الكثير – حريات تعنى الفوضى والإباحية. أما حروب "نابليون" التى فجعت على الأقل مليون أسرة وأشعلها رجل فتنه مجده الشخصى وسره أن يلقب "بآلة الحرب" فمتى كان صاحب هذه الحروب يمهد بعمله لمبادئ القومية، هذه المبادئ التى لم تجل برأس "نابليون العظيم" عندما صال وجال وساح بجيشه يريد (توحيد!!) أوربا كلها تحت زعامته ولنترك مبدأ "تقرير المصير" الذى قررته الحرب العظمى(4/42)
السابقة فإن الكلام فيه يثير الاشمئزاز وما أحسب الأوربيين أنفسهم إلا خجلين من الكلام فيه فكيف جاز للأستاذ الفاضل أن يذكر لهذه الحرب أسبابا ونتائج لم تدر بخلد جميع ص_041
قادتها الذين اشتركوا فيها ولكن الأستاذ يذهل عن أسطع الحقائق ويمضى في مغالطاته ليقول من بعد (فحركات أوربا هى خلاصة التفكير المستنير والحرب هى مظهر الاصطدام بين طلائع التقدم وبين الرغبة فى الهدم) وهذا كلام يسقط قبل أن يناقش فحرب أوربا ليست خلاصة التفكير المستنير ولكنها جمحات التفكير المحموم ومن الخديعة أن تتوهم أخطر الأمور فى الغثاء يطفو حينا ثم يطويه الفناء فما ثم طلائع تقدم ولا رغبات هدم ولكنها النظم المريضة يدركها الفناء المحتوم ( ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريبا من دارهم حتى يأتي وعد الله). ومع ذلك يجد الأستاذ من نفسه الجرأة التى تجعله يتقدم لنا بالنصيحة فلنستمع إليه يقول (فعلى هؤلاء الذين ينظرون إلى أوربا كأنها بركان ثائر وإلى أهلها كأنهم قوم تستهويهم الدماء أن يذكروا دائما أن أوربا تحمل مشعل الحضارة وأن عليها أن تحميه من كل سوء) تلك نصيحة نرفضها آسفين "جدا" فنحن نؤمن بأن الخير للحياة والأحياء فى أن ينطفئ هذا المشعل الخرافى وأن ينشئ العالم حضارته على أسس من الدين الحق والاقتراب من الله، فهل يدرك الأستاذ ما يقول وماذا يرى فيه؟ إن من اليسير علينا أن نلمس في بقية ما كتب الأستاذ كيف أخطأ وكيف افترض المستحيل عندما قال (وإذا كانت حرب 1914- 1918 قد انتهت بتقرير مبدأ الحرية للشعوب فإن الحرب التى يخوض العالم غمارها اليوم يرجى أن تنتهى بتقرير مبدأ الحرية للدول..!) وكيف أنه نسى نفسه وقومه ودينه عندما قال (والحروب التى تثيرها أوربا يتحرك لها العالم لأنها حروب تقوم على مبادئ ونظريات وتنطوى على تطور وفكرة فالناس في شأنها ينقسمون إلى معسكرين) وهذا كلام خير ما يوصف به أنه لغو لا ينبغى الالتفات(4/43)
إليه. إنه ليحزننا أن يفتتن أدباؤنا بأوربا إلى الحد الذى يجعلهم يشيدون بمظاهر فسادها ويريدون أن يصوروا لأمتهم عوامل انحلالها وكأنها حوافز التقدم – أن هناك شيئا لا يمكن أن نجهله هو أن النظام المدنى البعيد عن الدين تهزه زلازل قاسية وكم ضل الناس وكم حل بهم عقاب ربك ( قد مكر الذين من قبلهم فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون). ص_042
9- لكى لا يكون دولة بين الأغنياء منكم [ 1 ] فى الجماعات التى يقل نصيبها من الرقى الأدبى يوجد نظام الطبقات ويستمد عناصر حياته من إحدى السنن الإلهية المقررة فى العالم: سنة تفاوت الناس فى اقتسام خيرات هذه الأرض ( والله فضل بعضكم على بعض في الرزق فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم فهم فيه سواء ) وإذا كان الدين قد حارب منذ فجر الخليقة فكرة انقسام الناس إلى طبقات على أساس ما يمتلكون من تراث مادى تختلف أنصبته فإن التاريخ على الرغم من ذلك حفظ للغباوة الأرستقراطية سجلا حافلا بمهازل الشرف المزعوم ومساخر النبالة الكاذبة. وجاء فى القرآن الكريم عرض مستفيض لما يردد القوم من أكاذيب لم يزل الله تبارك وتعالى يكشف خبأها ويفضح زيفها ويظهر بطلانها ويهزأ بغرورها ويحطم من كبريائها حتى ليكاد القارئ يلمس فى ثنايا الآيات أنقاض ما انهدم من نظام الطبقات ويسمع عند تلاوتها آخر ما أرسلت العزة الكاذبة من أنفاس قبل أن تختفى وتتوارى ( بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون) ندد الله بموقف هذه الفئة المتسامية واعتدادها بما تملك من متاع واستحمق تفكيرها الذى يربط مجد الدنيا وسعادة الآخرة بكثرة الأموال والضياع ثم أنكر عليها ما يلازم هذه الجهالة من غفلة عن الصراط السوى وخصام لكل دعوة حقة (وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون * وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن(4/44)
بمعذبين * قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ولكن أكثر الناس لا يعلمون* وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحا فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات آمنون). ونستطيع أن نلمح الثقة الكاذبة فى منطق هؤلاء المترفين وكيف آثروا أن ينحازوا ص_043
بعيدا عن ميادين الدعوات الحقة متخذين نحوها صفة "أحزاب المعارضة" ولكنها معارضة من نوع حقير، تريد أن تهزم حديث الحق بحديث المال، ومطالب العقل المتطلع إلى الهدى بمطالب الجوف المتطلع إلى الشبع، ومنازع الروح التواق إلى الكمال بمنازع الجسم التواق إلى الرفاهية وإننا ليعنينا نحن تتبع أدوار هذا الصراع القديم، فنحن جميعا من صميم "الشعب" ومن جمهرة الطبقات الدنيا ليسوا ممن يسكنون القصور. لا خيل عندك تهديها ولا مال فليسعد النطق إن لم تسعد الحال وإن كثيرا مما قيل للهداة الأول سيقال أو قد قيل للدعاة الآخرين، وإنى لأتخيل وجوه (الكبراء) من حملة الألقاب الطنانة حين تترامى إلى آذانهم أنباء دعوتنا الكريمة، ومدى آمالنا فى النهضة، ورشاد نظريتنا إلى الأمور، ومناهجنا فى الإصلاح، ثم يعرفون من هم القوام على هذه الدعوة، والحراس على مبادئها - فكأنى ألمح على وجوههم تلك وفى عيونهم وعلى أفواههم من السخرية والهزء مثلما ارتسم على وجوه المشركين من قبل حين قال الله فيهم ( وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي بعث الله رسولا)؟؟ وكأنك تراهم وقد ضاقت نفوسهم، وطفت عليها رغوة من البلادة، وتحركت فيها دواعى الحرص والجشع، إذ يحسبون أن دعوات الإصلاح إن هى إلا ستار لمنازعتهم السلطة، ومشاركتهم الدولة، ومقاسمتهم الثروة، ثم يتذبذب في صدورهم منطق الطغاة: منطق آل "فرعون" لموسى وهارون: ( أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا وتكون لكما الكبرياء في الأرض وما نحن لكما بمؤمنين)؟ وكذلك يمضى الأرستقراطيون فى غوايتهم ويقيمون مما وهبهم الله من متاع فاصلا(4/45)
بينهم وبين بقية البشر ويتعلقون بهذا الجاه المتوارث، فلا يستجيبون لخير ولا يدعون خيرا يتحقق إلا مرغمين على أن "الإسلام" كما هو مقرر فى نصوصه لم يعترف بما لهذا التراث الدنيوى الموهوم من خطر، فما أهون الحياة ولذائذها إذا حرمت جلال الإيمان ( أفرأيت إن متعناهم سنين * ثم جاءهم ما كانوا يوعدون * ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون) ومن ثم محقت كبرياء ص_044
الإيمان كل فضل تنتحله لنفسها طبقات تستمد نبلها من نسبها أو نشبها وبذلك وفر "الإسلام" على من يدين به مذابح الثورة الفرنسية، وأخطار الانقلابات الحمراء، ولكن هل أخلص المسلمون لدينهم؟ وهل نفذوا تعاليمه كما ينبغي؟ كلا!! عندما كان الدين هو المهيمن على توجيه شئون الحياة وإفراغ التقاليد والأوضاع فى القوالب التى يشاؤنها لم تكن الحياة الاجتماعية كما نرى اليوم حافلة بالمتناقضات العجيبة، مليئة بالنظم التى لا تستقيم معها سلامة، ولا يبقى فى حمايتها كيان. الغنى والفقر وحدهما اليوم ميزان الطبقات في"مصر" المسلمة، هناك شعب - تضطرب به سهول الوادى الفسيحة، يكدح وينصب ليرتاح على ثمار جهوده نفر من "الأعيان والوجهاء" نعم هناك شعب أقعده الشقاء وأضره الحرمان، وقلة أبطرها النعيم وأغواها الطغيان!ما هذه الفوضى الشاملة؟ أهذا هو " الإسلام" الذى يجعل العلم وحده مناط رفعة الدرجة، ويجعل التقوى وحدها أساس امتياز الأفراد، أفتعطى الأعمال فى "مصر" على أساس الكفاية فى العلم والدين؟ إذن فما أسعد الوظائف بأصحابها!! أفينقسم الناس فى "مصر" على هذا الأساس عينه؟ إذن فما أشقى الفقراء بما نسب إليهم من غباوة! أم هى الأوضاع المختلفة والحقوق المسروقة؟ بلي، ولو استقام كل شيء كما يجب لشغرت آلاف المناصب ممن يملئون، ولارتقت جماهير هائلة من الحضيض الذى تتقلب فيه إلى مستوى آخر تسعد به ويسعد بها. لقد قلنا إن نظام الطبقات إنما يظهر فى الجماعات القليلة النصيب من الارتقاء الأدبي، فقد رفضت(4/46)
حتى الجماعات التى لم يشرفها "الإسلام" أن تعترف بهذه السخافة التى تقر التفاوت بين الناس على أساس المال ونحن ندرك ذلك من النظرة الأولى إلى أحوال إنجلترا وفرنسا وإيطاليا وغيرهم حيث للكفاءات وحدها الاعتبار والإكبار فكيف نرضى نحن "المسلمين" أن نهبط إلى منزلة كرهتها لنفسها أمم كافرة وسعت إلى ما هو أكثر منها سدادا وأقرب رشادا؟! لقد حرص الإسلام فى كثير من تشريعاته الاجتماعية على توفير أسباب السعادة للطبقات الفقيرة وعقيدتنا المالية أنه لا يجوز أن يستفيض المال بين أناس معينين حتى يصير فى أيديهم احتكارا، فلماذا شرعت "الزكاة" وقسمت "غنائم الجهاد" وفرض الإنفاق فى " النوائب" وحرم "الكنز والبخل وأكل أموال الناس بالباطل"؟؟ ذلك حتى لا ينحاز المال إلى ناحية تستبد به (كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم). ص_045(4/47)
ولقد قال أحد الكتاب الأولين " من المسلمين" "ما رأيت إسرافا إلا وإلى جانبه حق مضيع" أليس هذا ما ينطق به البذخ الفاضح الذى ارتكب فى أحد الأعراس الأخيرة؟ حفل واحد لأحد الموظفين سالت على موائده عدة ألوف من الجنيهات!! لو أن ثمة حكومة مسلمة ترعى شعبها فترغم الأغنياء على إخراج "الزكاة" ما تركت فى خزائن هذا العروس الغنى فضلا يبعثره، وهل هو يبعثر إلا حقوق الفقراء وأقوات البائسين؟ حكومة مسلمة فاضلة ترعى شعبها فتسعده وتقيم لدين هذا الشعب نظامه الذى يطمئن به الأغنياء قبل الفقراء على حياتهم ومصيرهم، أليس مما يسر الأغنياء أنفسهم أن يأمنوا جانب الفقراء - وهم إخوانهم - فقد صان الإسلام بذلك قصورهم فلم يفكر أحد فى أن يجعل نهايتها نهاية "الباستيل" وصان دماءهم فلم يفكر أحد فى الإيقاع بهم وسط مذابح بشعة، حكومة مسلمة فاضلة تجعل الطبقة الوسطى تسعة أعشار الشعب، وتعتمد فى أسباب بقائها على أشياء أخرى غير جهل الشعب وفقره ومرضه. إنه ما صح مجتمع يستعصى على تعاليم "الإسلام" ولكن حلا لنا - نحن المسلمين- فى العصور الأخيرة أن نتحلل من نظام ديننا القوي، وكان شر ما ورثنا أن تقوم بيننا الأسر تزعم الشرف وتدعى النبل بينما هى لا تتصل بالدين من قريب أو بعيد، وحسب الجمهور المستكين أن يبوء بأضداد ذلك ما دام يعيش على فتات موائدهم، وقد حدث منذ شهر أمر يدل أوضح دلالة على هذه الحالة المنكرة وآثارها الوبيلة، حدث فى قريتنا الصغيرة أن مات شاب فقير ضعيف العصبية فما كان أهون الفراغ الذى خلفه الشاب المفقود، وما كان أضعف الوقع الذى حدث نبأ وفاته، وجاء دور مواراته الثرى فكانت جنازة مقفرة موحشة لم يمش فيها إلا حملة الرفاة فقط تخفق أقدامهم على أرض القرية البعيدة فى عزلة وكآبة، وكأن ما يحملون على أكتافهم جمادا لا إنسانا تحرك فى جو القرية أعواما طوالا حتى إذا فرغوا من أمره عادوا لشأنهم وانتهى كل شيء ومضى يومان ثم ماتت ابنة فلان(4/48)
الوجيه فما هى إلا ساعة حتى تناقلت الخبر الرائع أزقة القرية ثم السبل إلى القرى المجاورة، وبدأت الوفود تتوارد والساحات تزدحم، ثم خرج النعش مزينا بطاقات الورد وتوجه الناس إلى المقابر، فى جمع زاخر، وحزن ظاهر حتى إذا عادوا أقبلوا على الوالد معزين ومواسين ما هذا حتى فى مفتتح الحياة الحقة وفى اللحظة التى تمحو فيها مرارة الموت غرور الحياة ورياء الأحياء، ويطغى فيها جلال الآخرة على مهازل الدنيا، يأبى المسلمون إلا أن يحرصوا على ما اختلق من باطل يجعل الموتى كالأحياء طبقات. الدين بريء من كل هذا الإفك؟ هذا الدين عرفه "عمار بن ياسر" قبل أن يعرفه "أبو سفيان" هذا الدين لم يكن أبدا تجارة الأغنياء ولا بطالة النبلاء. ص_046(4/49)
10- لكى لا يكون دولة بين الأغنياء منكم [ 2 ] يسود فى أوربا اليوم ثلاثة نظم رئيسية، فقد اختارت أمم "الديمقراطية" أساسا تصرف عليها أمورها ورأت أمم أخرى أن "الديكتاتورية" خير لها وأوثق بينما انتشرت فى روسيا أنظمة "الحكم الشيوعي" المطلق، وإذ نحن نظرنا إلى الحكومة الإسلامية كما رسمها "الإسلام" أدركنا أن كل خير تنشده النظم الثلاثة السابقة قد روعى فى تكوين عناصر الحكم الإسلامى رعاية فائقة، فضمان انتفاع الأمة بأسد الآراء كفلته الشورى التى فرضها القرآن ( وشاورهم في الأمر) وضمان انتفاع الأمة بالعمل السريع الخاطف كفله "التوكل" بمعناه الذى ينفى التردد والتريث (فإذا عزمت فتوكل على الله) وضمان انتفاع الأمة بالوحدة الكاملة والإخاء الحقيقى كفلته "المساواة" بين الجميع (إنا خلقناكم من ذكر وأنثى) ومن ثم فالحكم الإسلامى بريء من أمراض البطء والتلكؤ الذى يصحب الديمقراطيات الهزيلة، والحكم الإسلامى بريء من آفات الاستبداد التى تظهر فى حكم الفرد، والحكم الإسلامى برئ من تفرقة الأمة طبقات فيها السادة وفيها السوقة وفيها من التفاوت ما تستغله الشيوعية الكافرة وتنشر على حسابه مبادئ إلحادها وإفسادها ولقد حدث أن توهم ( أبو ذر) رضى الله عنه أن الحكم الإسلامى فى عهده قد انتقلت إليه أعراض الظلم الفاشى فى بلاد (الروم والفرس) قديما والذى كان يقسم الناس إلى أشراف وعبيد حسبما يحوزون من متاع الدنيا فناقش (عثمان) فى ذلك ورفض السكوت على الحالة التى توهمها ثم آثر العزلة والابتعاد ولم يكن (عثمان) رضى الله عنه "رأسماليا" بالمعنى الذى نفهمه اليوم ولا "أبو ذر" شيوعيا كذلك ، كلا وإنما رأى "عثمان" أنه قد حقق المساواة التى يفرضها الإسلام على حين ظن "أبو ذر" أن بعض المسلمين يكونون من أنفسهم طبقة رفيعة تعتز بأموالها، ولو كان عثمان اليوم حيا لما اتخذ وزيره الأول إلا "أبا ذر" وهل ظن أن الباشا عند عثمان سيكون رجلا "قوة ألف فاسق"(4/50)
كما تدل على ذلك الآن لغة البعض، ص_047
ولكنه إنسان "قوة ألف عمل" قدمه لربه ودينه وأخوته المسلمين نعم إن هذه الكلمة كلمة (الطبقات) إنما تعنى كلمة (الجاهلية) التى هدمها الإسلام، وإلا فعلام يقوم الدين إلا على كبح النعرات الكاذبة التى ينفخ الشيطان فى حرارتها والأهواء الصاخبة التى تمد الشهوات فى سفاهتها ولقد كان وجود الدين ضروريا عندما وجد الإنسان الذى يمرض من التخمة وفى جواره إنسان يمرض من الجوع. والمدهش أن عشرات الحكومات المتعاقبة التى تآمرت الأحزاب المصرية على تأليفها من نوع واحد: النوع الذى يسمع عن بؤس الفلاحين والعمال فى الكتب ويتعرف شيئا عن أحوالهم خلال المقالات المزخرفة وهو فى حياته الخاصة وفى دور أحزابه المشيدة المؤثثة نوع من المخلوقات نجهله نحن أبناء الشعب وننظر إلى ما هو فيه من ترف ونعمة نظرة غرابة وعجب حتى إذا تكلمنا عما ينبغى تحقيقه من إصلاح وما يجب الإسراع به من علاج نظر إلينا هذا الطراز من المخلوقات فى مظاهر حياتنا القليلة الضئيلة وكأنه يقول ( أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا )!! نعم هم يتساءلون بحق وقد خيل إليهم أن نصر ربك بعيد أن يمر بدور المسلمين التى تشبه المساجد فى إقفارها من أسباب الزينة ومظاهر الترف ويترك مراكز أحزابهم التى تشبه دار "الأوبرا" فى امتلائها بالأرائك المريحة والطنافس الغالية، ثم ماذا؟ ثم يظل القوم على ما ألفوا من معيشة راضية ثرية، ويبقى الجمهور التعس مقيما على شقائه وبلائه، وتظل الدنيا تسخر من بلد يتردد فيه كل يوم ألف صوت للإصلاح فلا يجد إلا ولاة يقولون سمعنا وعصينا... عندما كنت بالريف" وهو مصر" كان يوجع نفسى هذا السكوت الرهيب المخيم على الأكواخ المبعثرة هنا وهناك إنه ليس السكون الذى يتغنى به الشعراء والأقوياء الفارغون - ولكنه مكون الإعياء المر والكآبة التى استولت على أفئدة يكاد يقتلها اليأس من حياة طيبة وعندما كنت بالإسكندرية شاهدت بعينى كيف(4/51)
ينام الكثيرون إلى سور (الكورنيش) وليس يستر أجسادهم إلا بالى الخرق، فهل حسب المصطافون فى الثغر أن هؤلاء المساكين قد ارتضوا رصيف الكورنيش منزلا لأنهم يريدون التمتع بالنسيم العليل. ولا يتعاظم القارئ شيء من ذكاء أغنيائنا العباقرة، وإلى اليوم لم تزل عيناى تقعان على المناظر نفسها ففى ليلة والله من ليالى الشتاء هذا العام رأيت بضعة ص_048
غلمان ينامون على درجات سلم رخامى لأحد المساجد فى حى "شبرا" فقلت إن أناسا - وأنا منهم - سوف يقضون هذه الليلة بين الفرش الوثيرة والأغطية الدفيئة على حين يقضى هؤلاء الغلمان ليلهم القر فى العراء وكذلك يبرهن الحكام المصريون على مبلغ عنايتهم بهذا الشعب ومبلغ إسعادهم لكل فرد فيه وتستبين لكل ذى عقل حقيقة التصريحات الكثيرة التى يفوه بها رؤساء الوزارات المختلفة عن أعمال سيقومون بها للطبقات المضطهدة، ومشاريع عمرانية واسعة النطاق تنقلهم من حال إلى حال وإن كان الشعب لا يلقى باله إليها ولا يعنى بالتساؤل عن مداها ولا يفكر أن يقول للرؤساء القوالين: متى هذا الوعد إن كنتم صادقين؟ لأنه أعرف بقيمة التصريحات وعلة إصدارها، وطالما سمع من عشرات المستوزرين ما دلت الأيام على أنه إفك مبين، ثم تقرأ في كتاب الله تبارك وتعالى هذه الآيات البالغات ( وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوما آخرين * فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون * لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسألون* قالوا يا ويلنا إنا كنا ظالمين* فما زالت تلك دعواهم حتى جعلناهم حصيدا خامدين) فنتساءل: ما السر في أن يناقش الظلمة الحساب في مساكنهم التى قضوا فيها حياتهم الأثيمة؟ ثم لا تلبث أن تدرك الحكمة العالية فى أن تكون ساحة المحكمة هى الأرجاء التى شهدت المجرم طاغيا باغيا، وهل أدل على إحساس الجانى بما اقترف من أن يكون استجوابه أمام جسم الجريمة ومادتها، وإذن فليكن حساب المترفين السادرين أن تعرض(4/52)
أمام أعينهم مظاهر دنياهم المسرورة وإلى جانبها مناظر من دنيا البائسين المقهورة ليؤخذ من المقارنة بين الحالتين المتنافرتين "نص الاتهام" ثم ما أعظم ما ينتظرهم من بعد (إن جهنم كانت مرصادا * للطاغين مآبا). إن للطغاة أذناب من صميم الطبقات المهضومة، نعم وأذناب متحمسون! فعلام هذا؟ وهل تتحمس الذبيحة لجزارها؟ إنه ليس أسوأ من هؤلاء الأشياع الهاتفين لكل مترف متكبر فى الأرض ليرجعوا من ورائه بشر صفقة، لم بالله ص_049(4/53)
يرضى البشر أن يستبد بهم واحد منهم بل واحد يرفض أن يكون منهم، فى كل قطر إسلامى أفراد مترفون مفتونون لا يعنيهم من الحياة إلا ما يعنى التاجر المخادع من الربح على حساب الغفلة أو حسن النية فى الجماهير، فهم يحاولون أن يبتغوا لهم مجدا لا يقوم إلا على جماجم الضحايا وليس يمدهم فى هذا الطغيان سوى هذا السيل المنهمر من الأشياع المغفلين ألا يثير العجب أن تحاول طويلا إقناع إنسان ليهتف باسم الله بينما تجد هذا الإنسان بعينه تكاد تتمزق رئتاه وينشق صدره بالهتاف باسم رئيس حزب ولا شك فى ضآلته وهوان شأنه ( وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون) ثم ماذا يجدى هؤلاء وأمثالهم أن تنكشف الخدعة التى طغت على رؤوسهم بعد فوات الأوان ليقولوا ( وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا ) وهيهات لقد تقطعت الصلات الزائفة وتبدل الإعجاب الحقير وتبخر المجد المزعوم ( لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون). نحن - المسلمين - نعرف الروح الحقيقى لديننا العظيم.. روح الوحدة الكاملة فى كل شيء (وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون) ولكن الجهل بالإسلام طوع لبعض الناس أن يخرجوا على روح الوحدة فى جميع أعمالهم وتصرفاتهم ( فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون) ثم استغرقوا أعمارهم فى انتهاز المتع وقضاء المآرب وضربوا بأموالهم سياجا شديدا حول الحياة التى آثروها فهم أصحاب الألقاب وهم أصحاب المناصب (فذرهم في غمرتهم حتى حين * أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين * نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون) فما أولانا بعدئذ أن نيأس من القوم وأن نسيء بهم الظنون وأن نعرف موقفهم من كل دعوة خيرة ففيها مشابه من طغاة الزمن القديم ص_050(4/54)
ومترفيه حين قالوا لنوح رسول الله إليهم ( قالوا أنؤمن لك واتبعك الأرذلون) فلنترك هذه الأرستقراطية الكاذبة تعمه فى غوايتها وتسترسل فى ضلالتها ولننشئ نحن المسلمين من أنفسنا ومن أهلينا وهم جمهرة الشعب الجليل المؤمن العتيد، وإن ديننا لغنى بمبادئ الخير نابض بعناصر الحياة، ويوم تتجاوب آفاق الوادى بصيحة اليقظة الإسلامية الكبرى ستتفجر فى كل مكان ينابيع الرحمة والعدل معا، وستأسو يد الله جروحا أحدثتها بنا ضربات الغاصبين وخيانات المترفين وسيكونون عبادا لله إخوانا لا يستعلى فيهم دجل أو يبلغ من عقولهم احتيال. ص_051(4/55)
11- لكى لا يكون دولة بين الأغنياء منكم [ 3 ] ... رأينا كيف قسم الله المعايش بين الناس على تفاوت فى الرزق ليجعل الحياة مليئة بالأمراء والفقراء ورأينا أن هذا التفاوت مقصود للحكمة الإلهية والإرادة التى تصرف شؤون الحياة الدنيا تصريفا يخضع لقانون ويتجه نحو غاية ( وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ما آتاكم ) وإذا كان مدار الانقسام الآن مستمدا من طبيعة عالمنا الذى يضطرب بكثير من الضلال ويضطرم بكثير من الشقاء فإن الشأن غير ذلك فيما ستستأنف مواكب البشر من حياة صادقة فى عالم آخر. عالم تستقيم فيه الموازين الجائرة، وتعتدل السبل الشاردة، ولقد روى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استيقظ مرة فى جوف الليل، فمد بصره إلى الظلام المعتكر، وأجال عينيه فى أجواء السماء المبهمة، وأفاقها الداجية ثم ما لبث أن استشرفت نفسه ميادين الحياة والممات ووعت بصيرته معانى الهدى والضلال التى تزحم كل مسلك ويرسلها الله هنا وهنالك، فهو يهتف " سبحان الله! ماذا أنزل من الفتن؟ وماذا فتح من الخزائن؟ أيقظوا صواحب الحجر - يعنى نساءه - للعبادة يارب كاسية فى الدنيا عارية فى الآخرة!" وفى مشرق هذا الهدى النبوى المبارك تذوب خرافة الطبقات كما تذوب كتل الجليد على ألسنة اللهب ويبدو الإيمان القوى - وإن ألبس الخرق مجيدا عريقا، تعلو مجادته وعراقته فوق كل كبرياء فاجرة - وإن ألبست الحرير - وتعلو مجادته وعراقته فوق الصلف الذى يملأ جنوب أولئك الوارثين المترفين وإن ازدانت أجسادهم بما تزدان به "عرائس المولد" واستطالت أسماؤهم بما قبلها وما بعدها من ألقاب داوية (انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا) وبديهى أن القرآن الكريم قد بسط على هذا المعنى نورا من الوضوح فلم يبق فيه أدنى خفاء يلجأ إليه ص_052(4/56)
مخادع أو مخدوع، فبدأ قصة "المال" بإثبات أنه كان من حق جميع الكفار ابتداء من أن يأخذوا من هذه الحياة أقصى ما يطلبون من سعادة ومتاع وأن ينالوا منها أعظم ما يأملون من منافع وشهوات ( ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون * ولبيوتهم أبوابا وسررا عليها يتكئون * وزخرفا وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين) إذن علم الله أن البشر ستزدهيهم العاجلة مهما هانت، وأن ربط الكفر بهذا الغنى المفرط قد يجعل البشر جميعا كفرة فجرة، ومن ثم دخل عنصر آخر فى إقامة حياة الكفار على هذا الوضع المشاهد فكان منهم من خسر الدنيا والآخرة جميعا، وزادت قصة المال فصولا جديدة أثبتتها رحمة الله بعباده، وإذا ربك يقرر أنه ( من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا ) وبذلك ظهرت الإرادة العليا فى تقسيم العطاء، وفى اختيار من يأخذونه ثم أوضحت الآيات بعد ذلك أنه لا صلة البتة بين رضوان الله وبين هذه المنح المشاعة ( كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا ) ولكن فريقا من المفتونين أبوا إلا أن يربطوا بين وفرة المال ورحمة الله، وطاب للمترفين أن يتصوروا طبيعة أخراهم المغيبة من طبيعة دنياهم المعهودة حتى ليقول قائلهم (ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى ) وتلك نشوة المستغرق فى متعه تخيل إليه أن كل شيء قد صار طوع مشيئته ورهن إشارته، أو لو كان من مادة الحياة التى يكفر بها؟ ولكن هذا المنطق على سخفه امتد ووهم الكثيرون أن شقاوة العيش إنما هى نقمة من الله وغضب! وأن رخاوته نعمة كبرى!! ( فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن * وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن ) فما تسود هذه الأوهام الخبيثة إلا مجتمعا غبيا ملحدا شاعت فى طبقاته "الراقية" أمراض الثراء(4/57)
فاستأثروا بلذائذ الحياة الرخية وتناسوا جماهير "اليتامى" والمساكين والمعوزين ص_053
تتناوشها البأساء والضراء وصموا عن صرخاتها وعموا عن تعاستها ( كلا بل لا تكرمون اليتيم * ولا تحاضون على طعام المسكين * وتأكلون التراث أكلا لما * وتحبون المال حبا جما ) نعم وتلك نزعات يعرفها القرآن أعراضا للكفر اللئيم والغنى العقيم ويأبى أن يترك هذا الإلحاح على مصادر اللذة بينما يكتوى الكثيرون بنار الحرمان، فجل هذه الأخلاق المنكرة علامة فراغ الأفئدة من كل هدى وبعدها من كل خير (أرأيت الذي يكذب بالدين * فذلك الذي يدع اليتيم * ولا يحض على طعام المسكين). ... ومع السوء الذى تلقاه الجماهير على أيدى السادة الأشراف المتعالين، فإن هؤلاء لم يعدموا من أولئك من يرضى أن يكون لهم ذنبا مهضوما مغمورا يجيد صناعة الملق والزلفى، وإلا فما معنى أن يجد أغبياء الأعراب عجبا فى رسالة "محمد"- صلى الله عليه وسلم - قد لا يجدونه لو كان الرسول أحد أعيان مكة أو الطائف فودوا أن لو نزل الله القرآن على واحد من "الكبراء" الذين تذرع إبلهم وقوافلهم بطاح "الجزيرة" مثقلة بالطرف والتحف وحسبه من المؤهلات أن له كذا من النوق والنجاب كأن أدوات الرسالة العظمى لا تختلف عن أدوات التجارة الرخيصة! ( وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم * أهم يقسمون رحمت ربك) وإن المرء ليتساءل فى استغراب حقيقى أهذه المهازل ضربة لازب فى مجتمعات البشر؟ أم هى نتيجة "الأفكار اليهودية" التى ظهرت عندما حاقت بهم اللعنة فسرت فى العالم فوضى خلقية أصابته بانتكاس خطير شامل؟ ذلك أن المرء يسمع اليهود وهم يحتجون على الاختيار الإلهى لأحد ملوكهم فيدهشه أنهم (قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال) فماذا يطلب (اليهود) من وراء كثرة المال عند زعمائهم؟ هل حسبوا أن مهمة الأنبياء والقادة هى تأسيس المصارف التى تقرض الفقير بالربا اليسير(4/58)
أو الفاحش؟ ذلك قليل من كثير من أخلاق (اليهود) التى تصيب الإنسانية وتهبط بها هبوطا. ص_054
... سبق أن أوردنا رأى القرآن الصريح فى هذا النظام - نظام الطبقات - ونسوق الآن مثلا تاريخيا من فهم (المسلمين) لهذا النظام وموقفهم بإزائه على طريقتهم القرآنية فى كل موطن يواجهون فيه باطلا من باطل الأرض والناس. روى (ابن الأثير) فى كتابه (الكامل) عند كلامه عن المحادثات التى دارت بين (سعد بن أبى وقاص) قائد الجيش الإسلامى و(رستم) قائد الفرس قبيل التحام الجيشين فى (معركة القادسية) قال بعد كلام، (فلما كان الغد أرسل رستم. ابعثوا إلينا رجلا، فبعث (المغيرة بن شعبة) فأقبل إليهم (أى الفرس) وعليهم التيجان والثياب المنسوجة بالذهب، وبسطهم على غلوة (مسافة بعيدة) لا يوصل إلى صاحبهم (رستم) حتى يمشى القادم عليها) فأقبل (المغيرة) حتى جلس مع رستم على سريره فوثبوا عليه وأنزلوه.. فقال (المغيرة) قد كانت تبلغنا عنكم الأحلام (العقول) ولا أرى قوما أسفه منكم إنا معشر العرب لا يستعبد بعضنا بعضا فظننت أنكم تواسون قومكم كما نتواسى فكان أحسن من الذى صنعتم أن تخبرونى أن بعضكم أرباب بعض فإن هذا الأمر لا يستقيم فيكم ولا يصنعه أحد، وإنى لم آتكم ولكن دعوتمونى اليوم علمت أن أمركم مضمحل وأنكم مغلوبون ، وإن ملكا لا يقوم على هذه السيرة ولا على هذه العقول، فقالت السفلة (العامة) صدق والله العربى وقالت الدهاقين (العظماء) والله لقد رمى بكلام لا يزال عبيدا ينزعون إليه قاتل الله أولينا ما كان أحمقهم حين كانوا يصغرون أمر هذه الأمة (الأمة العربية) إلخ ويروى ابن الأثير قبل هذا ما كان من سفارة رسول آخر من رسل (سعد) ويبين كيف كان تقدير الفرس لهذا الرسول وعلى أى أساس كان تقديرهم حين استشارهم (رستم) قال ابن الأثير بعد أن ذكر أن الرسول أمهلهم ثلاثة أيام سأل رستم أسيدهم أنت؟ قال لا، ولكن المسلمين كالجسد الواحد بعضهم من بعض يجير أدناهم على(4/59)
أعلاهم، فخلا رستم برؤساء قومه فقال ما ترون؟ هل رأيتم كلاما قط أعز وأوضح من كلام هذا الرجل؟ فقالوا معاذ الله أن نميل إلى دين هذا الكلب أما ترى إلى ثيابه. ... واليوم نحن - المصريين - ننفق من أموالنا فى وسائل الدعوات ما هو معروف، وعندما تحين الساعة العصيبة سنبذل من دمائنا كذلك ما وسعنا البذل فهل فكر (أولو الأمر) فى أمر ما يسمى ( بالطبقة الدنيا) وهم جمهرة الشعب الذى أسلفنا الحديث عن مدى فتك الفقر والمرض والجهل جميعا به؟ أليست وسيلة الدفاع الأولى أن تقوى صفوف الأمة كلها حتى يشعر (المصري) بأنه حين يحمل السلاح إنما يحمله ليدفع خطرا يريد القضاء على صحته وثروته وثقافته وعقيدته وكل ما يحيا عليه الإنسان ويموت؟ لنعلم ذلك قبل أن يفوتنا القطار وما أسرعه فى هذه الأيام! ص_055(4/60)
12- لكى لا يكون دولة بين الأغنياء منكم [ 4 ] قد يقال أين هى آثار نظام الطبقات؟ والناس جميعا شيعا يأخذون أنصبتهم من الحريات العامة بالقسط وهم - مهما تفاوتوا - سواء أمام القانون وهذا كلام قد تبدو عليه مسحة الصحة ولكنه فى باطن أمره عليل فالتفكير الأرستقراطى الذى شرد جبلة بن الأيهم "لا يزال يملأ رءوس الكثيرين من أغنيائنا الذين لم يشردوا بعد وليس القانون الوضعى الذى يتحاكم الناس إليه هو كل شيء حتى يكون منطق "سادتنا" محبوسا فى صدورهم لا تتعدى حماقته إلى إنسان! ولكن هناك قوانين أخرى أعمق أثرا وأشد نفاذا فى بيئاتنا كلها أقامت من الفوارق بين الأمة الواحدة ما يتعذر معه أى إصلاح، ولقد أقمت سنوات فى المدن وسنوات فى الريف ورأيت أعراض هذا الداء الخبيث متبدية فى كل مكان وفى كل مظهر حتى فى الثياب التى ترتديها تلك الثياب التى جعلت من الأمة المصرية الواحدة (كرنفالا) لا تؤذن مهازله بانتهاء فكأن الأزقة والميادين تأخذ أمداد السابلة من عدة شعوب وكلها تعج بخليط ضل منبته فليس يدرى أعربى أم عجمي؟ ومع ذلك نزعم فى أنفسنا وحده الفكر والشعور والاتجاه!! وكان من آثار ذلك أيضا أن تلوثت حقيقة الخير فى النفوس حتى هبطت إلى مستوى لم تنحط إليه من قبل وأين برب الناس معنى الخير فى حفلات لاهية صاخبة يرصد دخلها فى إعانة المنكوبين؟ وكيف يأبى المترفون إلا الحرص على متعهم الحقيرة حتى فى الساعات التى يصطرخ فيها الأشقياء فيأبى هؤلاء أن يرسلوا إغاثتهم إلا وقد أخذوا فى مقابلها لذة وأطفئوا شهوة أتراهم لو شعروا بالإخاء الحقيقى الذى يربطهم بجمهور الشعب أكانوا يستسيغون هذه السفاسف الوضيعة كلا ولكن (ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم) وليس أدل على فساد معنى الخير من إلقاء نظرة عاجلة على أكثر ص_056(4/61)
المنشآت الخيرية عندنا لندرك أنها ما قامت على بر خالص ولا على سماحة مشكورة لقد تأسست على مال "اليانصيب" وما أعظم حظ الشيطان فيه! هو المال الذى دفعه أصحابه طمعا فى أن تعود عليهم أضعافه - وليست هى الأضعاف السبعمائة التى يربحها المؤمنون ولكنها الأضعاف المبهمة التى ينتظرها المقامرون - ولست أعرف الخير ينتزع انتزاعا من مصادر الشر كما أعرفه فى هذه المستشفيات الفقيرة التى تستميت فى أخذ المال من جيوب لا يبذل أصحابها شيئا فى سبيل الله على حين يبذلون الكثير فى سبيل غيره. وهناك نوع من نظام الطبقات يمت بأوثق الصلات إلى النوع الذى أفضنا الحديث فيه، ونعنى به الأرستقراطية العلمية الشائعة فى كثير من الأوساط المثقفة - أو التى تزعم نفسها كذلك - والتى ينظر أفرادها إلى سواد الشعب كما ينظرون إلى قطعان السوائم ولما كان انتحال العلم ميسورا فى هذه الأيام الهازلة فقد ارتفع إلى مراتب المثقفين كل من يحسن قراءة الصحف - ولو كلفته هذه القراءة أن يعلن الحرب على علماء النحو جميعا! - وكثيرا ما نسمع لأحد هؤلاء القارئين وهو يتكلم عن الأمة "الجاهلة كما يراها عقله الكبير" الضعيفة كما تحسها نفسه القوية! وويل للأمة المنكوبة من ألسنة الأدعياء ورءوس هذه الطبقة ممن تلقوا علومهم فى أوربا غالبا، ولم تكن لديهم أية حصانة تجعلهم يشاركون الغربيين حياتهم بقدره فلما عادوا إلى بلادهم بدءوا يخالطون مواطنيهم بحذر، وبدأت تلمس فى مسلكهم الجديد دلائل الانحلال الأول ومظاهر الانقلاب الأخير. ثم لمست إلى جوار هذا التبدل شتى النزعات التى تومئ إلى منابع ثقافتهم فهذا لاتينى الطباع لأنه خريج جامعات "باريس" وذلك سكسونى الأخلاق لأنه خريج جامعات لندن وهكذا.. ولكنهم عامة يقررون لأنفسهم منزلة يجب على "رجال الشارع" أن يطأطئوا لها الرأس إجلالا وإن كنا نحن فى حل من احترام هذه الأرستقراطية المعتزلة عن ميادين العمل. وسنظل فى حل كذلك ما دامت تخشى(4/62)
إن خالطت الناس أن تمد لها الحقائق لسانها الطويل. وهناك كذلك آلاف المتعلمين من حملة الشهادات العالية حجبهم علمهم عن الناس وعرفهم معنى التزمت والغطرسة فلا يكاد المحامى الكبير أو الطبيب العظيم أو المهندس الجليل - لا يكاد أحد هؤلاء السادة العلماء ص_057
يحيى الجمهور إلا باهتزازة واهية من ذراعه التى لا تلبث قوانين الجاذبية أن توقف تذبذبها ثم تردها إلى وضعها السابق العتيد!! والهدف الفذ لهذه الطائفة أن تحول أرستقراطيتها العلمية إلى أرستقراطية مالية. فهم يتكالبون على الامتلاك؛ فالمثقفون الكبار يشترون "العزب" والصغار منهم يشترون ما تيسر من حطام الدنيا الخطير وبذلك تتآمر شتى العوامل على إبقاء الطبقة الدنيا فقيرة من المال.فقيرة من العلم فقيرة من القوة والسلامة والعافية. وكان من آثار ذلك أن معظم درجات التعليم لا يطيق الانتظام فى سلكها إلا القليلون من أبناء الموظفين والأعيان. حتى ليكاد التعليم الجامعى يكون احتكارا للطبقة الثرية ترى فيه شيئا من أسباب دولتها وسطوتها ولولا الأزهر - بارك الله لنا فى حياته - والأفواج تقبل عليه من سواد الريف وصميم المدن ولولا النصيب الذى يقوم به من نشر الثقافة العالية - لكان العلم كالمال تماما. فى توزيعه جور وفى أوضاعه فوضي. ولعل هذا التعادل يبقى حتى لا تزيد موازين الحياة الاجتماعية اختلالا واضطرابا. وكان من آثار ذلك أيضا أن الجندية يستطيع أن يفلت منها الأغنياء بل أوساط الناس. أليس دفع "البدل" جائزا؟ وما دام ممكنا استبدال ضريبة الدم بضريبة الجيب فعلى المساواة العفاء. ومن الغرائب أنه لما أريد تعديل هذا القانون استغنوا بالبدل الشخصى عن البدل النقدى فما معنى هذا؟ أليس معناه أن "الباشا" أو "البك" يبقى إنه معه ليمرح في ردهات قصره الفخم ثم يأخذ إلى الميدان ابن أحد الفلاحين العاملين فى أملاك هذا "الباشا" فى الريف؟ مع أن الأمر الذى لا شك فيه أن الأمة أحوج إلى جهود(4/63)
الفلاح فى حقله وأشد حاجة إلى كف هؤلاء المترفين عن عبثهم الفارغ وقيادتهم رغم أنوف آبائهم إلى ميادين التدريب والتمرين. ولا نريد أن نمضى فى سرد المظاهر الدالة على صدق ما أثبتناه أول هذا الكلام فهى كثيرة ملموسة ولا أن نذكر أمثلة لما يحدثه تفاوت عناصر الأمة الشديد فى اقتسام أهم مقومات الحياة فما نظن أحدا يجهل ذلك ولكننا نريد أن نعرف السبيل إلى تلافى هذه الأضرار فنسلكها عاجلين مسارعين. لقد كشفت الحوادث الأخيرة عن مقدار حاجة الحكومات إلى المال ورأينا كيف أن ميزانية الحرب الإنكليزية تكلف الخزانة ما يبلغ سبعة ملايين من الجنيهات ص_058(4/64)
يوميا مما جعل الحكومة تستحوذ على قدر كبير جدا من دخل الفرد. ذلك عدا القروض التى لا تلبث أن تغطى سنداتها عندما تظهر فى السوق والحكومة هناك لا تحجم عن أخذ رءوس الأموال نفسها إذا اضطرها العمل على كسب الحرب إلى ذلك ونحن نتساءل هل الحالة عندهم أخطر من الحالة عندنا؟ كلا البتة! إذن فما بال الحكومة هناك تأخذ طوعا وكرها كل ما تريد في حين لا تستطيع حكومتنا أن تأخذ من السادة المترفين عدة قروش هل عجزت أن تأخذ بالشدة ما لم تنله باللين؟ إنه لموقف ينبغى للحكومة أن تتحول عنه والواجب عليها أن تضاعف الضرائب على الأغنياء حتى لا تدع للمسرف منهم قرشا ينفقه في ملاهيه ولا للبخيل منهم قرشا ينمى به ثروته. فإذا كان ذلك كله لا يكفى لإتقان الاستعداد والتأهب للمستقبل فلديها من الوسائل ما تستعين به على سد كل نقص والوسائل ليست خفية على ذكاء وزرائنا الذين لن يضيرهم كما لن يضير كبار الموظفين معهم أن يأخذوا مرتبات معقولة أيام الشدة والذين تضيرهم لن يضيرهم أن تضحى الثروات الضخمة بما يجعلها أدنى مستوى الثروات المتوسطة. أليس في هذا ما يحميها ضربات قد تودى بها عن آخرها؟ هذا واجبهم فهل هم له مؤدون؟ بل هم فى غمرة من هذا ولهم أعمال دون ذلك هم لها عاملون. ( حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب إذا هم يجأرون * لا تجأروا اليوم إنكم منا لا تنصرون ) ص_059(4/65)
13- هل أنبئكم على من تنزل الشياطين [ 1 ] فى القضايا العظيمة التى يكون الفصل فيها فصلا فى مصاير الشعوب والحكم فيها تحويلا لمجرى التاريخ عن سيره المألوف تتجمع قوى الأمم وتسرى روح عامة تنفث فى كل شيء فإذا المعانى الصغيرة تختفى وإذا الفوارق التافهة تتوارى وإذا دواليب العمل كلها تجرى حركتها على نسق واحد ودواعى النشاط تحث العاملين إلى هدف فريد. وما نشاهده الآن فى البلاد المتحاربة مظهر لهذه الحقيقة المقررة قد يبدو فى ثوب مادى كما قد يبدو فى ثوب معنوى فليس يوجد فى إنجلترا اليوم مصنع للعب الأطفال مثلا إذ كانت أيام النضال لا تلتفت لحياة العبث بل هى تفرض عبوسها على ما حولها وتدخل فى نطاقها المليء بالجد هذه المصانع ونظائرها لتنشئ بدل "صواريخ" العيد "ألغام" الحرب! وبدل "زينات" الشوارع الضاحكة "أحزان" الميادين الصاخبة! ذلك فى الجانب المادي. وما كان الجانب المعنوى أقل منه خطرا وله على النفوس تأثير أى تأثير والحكومة التى تحشد زهرة شبابها للقتال فى جبهة أو جبهات لا تأذن أبدا أن يكون الجو الذى يسود البلاد من ورائهم مشوبا بأى قلق أو اضطراب ومن ثم فالقضاء على الفوضى الأدبية، ومهازل الكتاب الحالمين أمر لابد منه بل لا يقف الأمر عند هذا فإن آلة الدعاية الرسمية تشدهم إليها أوتارا قوية بارعة النغم تخرج الأخبار للناس لا التواء فيها ولا نشاز. هذا فى حرب بين "الديكتاتورية" و"الديمقراطية" كما يرى كل ذى عينين فهل الأمر كذلك فى صراع بين الكفر والإيمان يمر فى هذا العصر فى دور من أسوأ أدواره. ونجتاز نحن المسلمين الذين نمثل إحدى القوتين المصطدمتين منذ أربعة عشر قرنا - حالة مؤسفة أشد الأسف بما تحمل لنا فى طياتها من عجائب أجل لنا قوى مادية كبيرة فماذا فعل بها من أخذوا على عاتقهم تعبئتها؟ وعندنا كتاب وخطباء استطالت أقلامهم واستطالت ألسنتهم! وضربت بثرثرتهم الأمثال فهل يستطيع أحد أن يقول لنا شيئا عن الغاية التى(4/66)
انساق إليها جمهور القارئين ص_060
وهدتهم إليها تلك الفئة من الكتاب والخطباء؟! ما هى الروح العامة التى فرضها أدباء العربية على القراء فى كل قطر دان أو بعيد؟ وأين آثار الصناعة التى برزوا فيها - صناعة الكلام! ليحدثوا الناس عن الغد المبهم وكيف نتأهب لأحداثه المتوقعة وعن الأمس المدبر وكيف نستفيد من عظاته المضيعة وفى أى صحفهم تلمح دلائل العزيمة الصادقة تحاول أن تأخذ إلى الأفئدة المنحلة سبيلها لتشعل همودها وتذكى خمودها وتنير - على الأقل - فى حدود هذا الوادى الضيقة معنى الجد والإقدام والاستقلال بل فى أى صحفهم نلمح دلائل الفهم الصائب لما يعانى أهلوهم من علل والبحث الواجب عن وسائل إسعادهم ثم شرحها ونشرها وتوضيحها وتقريبها ومراقبة إقبال الناس عليها أو انصرافهم عنها ومدى الإحساس العام بما تؤثره فيهم هذه الساعات الشديدة الوطأة على أعصاب البشر لا شيء من ذلك! وهل يستطيع أن يوجه الناس إلى الخير من صغرت نفوسهم من معانيه؟ هذا الركود السائد في كل مكان لم يكن تصيد أدبائنا من العناية به إلا النظرة العابرة أو الوقفة القافلة فإذا حدث أن جال لأحدهم قلم فارتقب في النهاية صورة أدرك منها التفكير الشارد ناحية هينة ولكنها وقد تناولها اللعب بالألفاظ والتصرف في المعانى – تبدو جليلة خطيرة أولئك قوم سموا أرجاس الشواطئ معارض الجمال ومنافذ الشر آفاق الحرية وأعراض التحلل عناصر الحضارة وسفاهة الرأى طلاقة التفكير والثورة على التقاليد ثورة على الرجعية وتقديس أوربا بعد ذلك عبقرية وتقدما وانطلاقا وأولئك قوم لن تحسن الأبالسة تزهيد أمة في تراثها كما أحسنوا هم في تزهيد هذه الأمة عن تراثها النفيس وكما استطاعوا أن يضربوا حجابا كثيفا رد المسلمين عن أن يعوا حقائق تاريخهم الأول بما افتروه على الوقائع الثابتة باسم البحوث العلمية البريئة.. وما هذه البحوث إلا صدى الدس الاستعمارى الذى يجهد منه أمد لقطع الصلة بين ماضينا(4/67)
المشرق وحاضرنا الحائر حتى لا يمتد إشراقه الأول من وراء القرون المتطاولة فيبدد ما في حاضرنا من حيرة واضطراب! أقلام شاخت فى الضلال. وحسب أصحابها أنهم أطواد راسخة فى الفن والأدب فهم يزعمون أنهم حينما يحمون الضعف يتجبر وحينما يتصدون للحق يتقهقر وأنهم أرباب الحياة يداولون المحو والإثبات فيها كما يشاءون ص_061
( وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون * وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين ) نعم وهم من جبال من الصلد ومن الحديد لا من الأستاذية المنتحلة والعبقرية المسروقة نسفها ربك نسفا وهوت بها من شموخها طرقات قاسية فأصبحت والأرض السهل سواء! نعم ورب أقلام فتية حطمت أقلاما شاخت فى الضلال.. هذه الأقلام وما أنتجت من أدب هل ترى أولى عواقبه إلا ما يعانيه المصريون وإخوانهم فى الأقطار الشقيقة من فوضى عقلية جامحة فككت الروابط العامة بين المثقفين وجعلتهم يحيون فى جو مصطنع ملفق مضلل الاتجاهات؟ عندما كانت الصبغة الإسلامية سمة تفكيرنا الحر ما لم يكن ثمة جديد يستنكر على حياتنا المعنوية وكانت عوامل البيئة تعطى كل فكرة غذاءها وتمنحها نجاءها فلا تلبث النفوس وقد ورثت فى دمائها حسن الانتفاع بما هو لها ألزم وبها أشبه - أن نستسيغ ما يقال لها وما يلقى إليها أما اليوم فلدينا أدباء يكتبون التراجم لأدباء أوربا وفنانيها ويسودون الصفحات الطوال فى تحليل ديوان شعر لاتينى أو تحليل إحدى خرافات الفلسفة اليونانية ثم هم بعد ذلك يعرضون علينا مشاكل غيرنا ويحاولون - فى غرور مجرم - أن يجعلونا نحزن لتعقدها أو نفرح لتفرجها! كأن حياتنا نحن قد صارت أهون من الالتفات لمشاكلها - وهى كثيرة - والاكتراث لمعتقداتها - وهى عسيرة - هذه مؤامرة ضد الإسلام توافر على تنفيذ أدوارها كتاب لم يشرفهم الله بالتعصب لدينه والتفقه فى قرآنه وقد استطاع هؤلاء إضلال الكثير من الشباب واستطاعوا بنقيقهم المتواصل أن(4/68)
يحدثوا ضجة كبيرة تكاد تفقد العقول رشادهم ولسنا نجهل مقدار سيادتهم فى شتى ميادين العلم ولكنا سنعد لكل شيء عدته ونأخذ له أهبته، وإلى الغد القريب. ص_062
14- هل أنبئكم على من تنزل الشياطين [ 2 ] تضاءلت أمام عينى هذه المواهب بعد ما رأيت مرة سوء استغلالها وسوء توجيهها للأمة. وكنت قبلا أعجب بتلك الأقلام البارعة وأؤخذ بكثرة إنتاجها واستطاعة ذويها ابتكار المعانى وإدارتها كما يشاءون وكذلك كنت أستمع لخطباء مجيدين يقفون بين الجماهير المشدوهة وكأن ما يخرج من أفواههم قذائف من حديد ونار. وقد أسعفتهم مقدرتهم فى اللغة وآتتهم من سطوة البيان ما مكن لهم دولة طائلة بين طبقات الأمة، ولقد وددت الآن لو أن الله أخرس هؤلاء وقطع ألسنتهم وآمنت بأنه لا الكتابة ولا الخطابة يدلان على خير فى صاحبهما. وأنهما لغو زائف أخطر ما لم يكونا فى خدمة دعوة عظمى تفيض عليهما من جلالها وقداستها معنى الحق والخير والكمال. أى لا قيمة لأديب أو خطيب يملأ شعاب الأرض كلاما ليست بينه وبين حقيقة الإيمان صلة وأى قيمة لكتب سودت أكثر صحائفها وساوس الشياطين وسطرت بقيتها نفس تضرب فى أودية الحياة الدنيا لتشيد بباطلها وترفع متاعها وتدعو إلى زخارفها! وخطب يعصف فى أنفاسها الهوى ويضطرم فى صبحاتها الرجس ويخدع صاحبها بحركاته التمثيلية آلاف المستمعين المضللين.! ولكن الميزان الذى تطيش فى كفاته أقدار هؤلاء لا تعرفه كثرة هذا الشعب الذى قام فى كل فئة منه ناعق. وكثيرا ما كنت ألقى عدة آراء كاذبة خاطئة وجدت من الأفئدة الساذجة مجالا للتصديق و الاقتناع فأشعر بالسخط والضيق يملأ صدري، ثم أرجع باللائمة على من يستحقونها فأكاد أبرئ منها أولئك المخدوعين وألقى التبعة كلها على رءوس الأفاكين المروجين ممن يجلسون إلى مكاتبهم وتتقمص الأبالسة أجسادهم فإذا بهم يملأون أنهار الصحف لغوا وتأثيما ويطلعون بها على الناس كأنها حق مبين ( ليحملوا أوزارهم كاملة يوم(4/69)
القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون).. ص_063
ومنذ أيام طلع الأستاذ "توفيق الحكيم" على قراء الأهرام بكلمة قصيرة جمعت كل ما يعاب على الأدب المصرى من شرود وتخبط. وختمها الأستاذ بأنشودة من الشعر المرسل تشبه ما يكتبه الأدباء الفرنسيون قبيل الهزيمة الأخيرة أو فى عصر الانحلال كما ينبغى أن تسمى الفترة بين حرب (1914- 1940). وافتتح الأستاذ قصيدته العامرة!! بهذه الجملة (ياآلهة الشعر تكلمي.!) ماذا تقول آلهة الشعر الآن وقبل الآن أيها الأدباء السادرون أخرسها الله وأخرسكم معها، أهذه معان يكتبها رجل ألف كتابا عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - بل أهذه ألفاظ يستسيغها رجل مسلم؟؟.. ما تقول آلهة الشعر وما ترجو الحياة على أيدى آلهة الشعر، ومتى كان للشعر فضل على دنيا العلم والصناعة كما يزعم الأستاذ ومن لف لفه من أدباء العصر العاطلين. ولماذا لا تأخذون العظة كما هى صريحة واضحة وتدركون قيمة ثقافتكم الفرنسية من مصير فرنسا نفسها؟؟ فرنسا التى تمردت اليوم على شهواتها وضلالاتها وأبيتم أنتم إلا الاعتذار لها والدفاع عنها. لقد أضجرتمونا جدا عندما أطلتم الحديث عن مدينة النور وأبنتم عن فزعكم لسقوطها كما لم تبينوا ذلك يوم أكره العرب والمسلمون على ترك القبلة الأولى لتسقط فى يد أعدائهم فكيف لا نحتقر ضجتكم فى وقت يطيب فيه السكون وسكونكم فى وقت يجب فيه الضجيج؟ ولكن الأستاذ "الحكيم" يعاود كتابته وبدل أن تحيا نفسه الآمال الحارة أن يتداركنا الله بنصره، فلا يسوء هؤلاء الغربيون وجوهنا ولا يدخلون "المسجد" كما دخلوه أول مرة. ولا نشهد أحكامهم تعلو أحكام "القرآن" وتقاليدهم الحيوانية تعلو تقاليد أممه العريقة بدل هذا كله وهو ما لا يحتاج إلى تفكير فى هذه الأيام التى أحرجت بأحداثها طبيعة الناس المسلمة - يذهب الأستاذ فيتمنى على آلهة الفكر والجمال والحرية! الأمانى العذاب لتعود على مسرح الحياة دولتها(4/70)
البائدة أو لتعود إلى الحياة دولتها الفاضلة لتعلم "السوريين" معنى الوفاء إذا أبرمت العهود وأعطيت الوعود أو لتعلم "المغاربة" كيف تقرر حرية الاعتقاد والتجنس والتكلم وغير ذلك مما نسى المفتونون الغافلون.. قد تقول إن مؤلف "أهل الكهف" مر على قول الله تبارك وتعالى ص_064
( إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم ولن تفلحوا إذا أبدا) قد نقول إنه مر عليها على طريقة أستاذه "عميد الأدب العربي" فى القفز على المعانى ومغادرتها من بعد على عجل ثم تسمية هذه الوثبات العابرة بحوثا دقيقة وتحليلات عميقة هكذا مر الأستاذ على الآية الكريمة لا يستلهمها عبرة ولا يستمدها حكمة فهو اتبع هذه الطريقة عينها أفلم يكن فى تاريخ الشرق المعاصر ما يجعل آية "سورة الكهف" لا تغيب حروفها عن عينى مؤلف "أهل الكهف" فتجعل مثله يخجل من ترديد أساطير الإغريق أو أهل الشمال فى معرض الانتصار للهوى والباطل والضلال.. هذا الزور مهما ألبستموه من حلل فلن تنطلى على العقول بشاعته ولن يطول على مر الليالى أمد افتضاحه وقد عرفناكم عبيدا لمن سام آباءكم وإخوانكم الخسف والهوان، وقد تستطيعون اليوم أن تتكلموا كما يحلو لكم. ولكن أمامكم صمتا طويلا لن تنبسوا فيه بحرف، لأن القوانين التى تبيح التهريج والقوى التى تحميها كل ذلك قد آن أن يطويه الفناء. فى أمل حار أن تواتينا عناية الله ورعايته نكتب ونحن نرى فى غير ما فزع ضخامة الوسائل التى يستخدمها أعداء الإسلام من كتاب يريدون قتل العصبية الإسلامية واختلاق عصبيات دنيئة لا يمكن أن يمر يوم دون أن نناصبها العداء... إلى كتاب يرددون آراء علماء الغرب ومستشرقيه وكلها لا تنطوى إلا على غل متستر أو متبجح نحو هذا الدين وأهله، ولكن طلاب المجد الأدنى لا يبالون بالخضوع لهذا الاستعمار الثقافى اللئيم فتراهم فى تبعاتهم العلمية ينشرون سمومهم لا يخشون رقيبا ولا حسيبا.. ثم إلى كتاب سياسيين استأجرتهم الأحزاب(4/71)
الكثيرة. هذه الأحزاب التى اتفقت على طريقة واحدة فى معالجة شئون الحكم واختلفت على كيفية الاستئثار بمنافعه فترى كل حزب يسلط كتابه لمهاجمة كل حكومة معادية له لا يريد بذلك وجه الله تعالى أبدا. وتأتى الصحف بعد ذلك حافلة بهذا الركام المختلط فتصوغ العقول صياغة مشوهة منكرة وهى صحف للأسف الشديد غنية قوية، ولكننا سنستعين بالله على أن نجنب الأمة غوائلها ونكشف مهازلها. ص_065
15- هل أنبئكم على من تنزل الشياطين [ 3 ] يبدو أن أدباءنا رغم نزعتهم الظاهرة نحو الاستقلال السياسى يحملون فى صدورهم معانى كثيرة من أسوأ ما تركته القوى العادية عندنا من مخلفات ولعل أخطر هذه المخلفات الأجنبية هو إكبار ثقافة الغزاة الأولين والإعجاب الشديد بها ومجاراتها فى طرائق تفكيرها وأساليب تعبيرها ثم تمجيد أصحابها وتزكية مواهبهم ومحاولة التشبه بهم فى كل شأن دقيق أو جليل. وذلك معنى "التجديد الأدبي" عند من ملأوا الدنيا ضجيجا بوجوب الثورة على القديم اتجاه طائش مفتون لا حيلة له بتراثنا الدينى ولا القومى يباركه المستعمرون باسم (تقوية الصلات الروحية) بين مصر وبين كذا.. من بلدان أوربا ومعنى تقوية هذه الصلات قتل الروح الوطنى بعد قتل الروح الدينى ويبقى الاستقلال السياسى بعد هذا كآلهة المشركين اسما مقدسا ولا ظل له من الحقيقة وإلا فما الذى يفهمه القارئ من أن بعض الأدباء يقرض الشعر باللغة الفرنسية. وسمعت أنا بعض الأساتذة الكبار من رجال الجامعة يذكرون أنهم ألفوا ويألفون باللغة الإنكليزية لأن الأوساط العلمية هنا لا تقدر عبقرياتهم الخارقة فهم يذهبون بها إلى أبناء (جون بول) الذين يعطون كل فضل فضله وهناك شاعر مصرى لوث اللغة العربية بآثاره الفنية التافهة وكان إنتاجه بها حدثا أصاب بيانها وأدبها مما اشمأز منه المجددون أنفسهم ولكن شيطان الشاعر أوهمه أخيرا - فى ساعة سعد - أن روائعه أكبر من أن تستوعبها ألفاظ الفصحى وأكبر من أن يقدرها(4/72)
الناطقون بها فهجرها إلى غيرها والحمد لله وإذا كنا قد عرضنا فى كلماتنا السابقة بالتزييف لكثير من مذاهب هؤلاء المتأدبين وأضرابهم وأشياعهم وأبناء الحقيقة فيما تنطوى عليه بعض الدعوات التى يقومون بها فلا يفوتنا أن نؤكد كذلك وجوب تمسكنا بالطرف الآخر الذى يحاول هؤلاء منازعتنا إياه فإلى جانب ما نعلن من حرب على أباطيلهم ندعم نحن حقنا ونظهره ونعرف أن الزمن وإن ظنه المخدوعون عونا لهم - ليس في " الحقيقة إلا سلاحا لنا وظهيرا عليهم. لقد كنا ص_066(4/73)
نؤمن قبل أن تسقط (فرنسا) أن دولة تسعى فى الأرض معاجزة بقوانينها قوانين الله وبفوضاها حرمات الله سوف تدول حتما وكذلك يكتب ربك سوء المصير لكل من استهدف لغضبه وناصب دينه العداء : ( إن الذين يحادون الله ورسوله كبتوا كما كبت الذين من قبلهم وقد أنزلنا آيات بينات وللكافرين عذاب مهين ) فهل يعلم ذلك أدباؤنا الذين ذرفوا الدمع السخين على (فرنسا)؟ إنه ما كان ذنبا لنا أن يطغى هؤلاء في الأرض ولكنها جريمة من اقترفوها وعلى رءوسهم جنايتها. وإذا كان واجبا أخذ العظة من كل شيء فإن على مثل ( توفيق الحكيم ) ومن يفكرون بعقله ومن يقولون إن الأدب والخيال والجمال هى الحياة الإنسانية الرفيعة الجديرة بالاحترام. أن يفهموا أن أمة كانت تصدر للعالم روايات للجيب غير أمة تبنى لنفسها دوارع الجيب فنحن إنما نريد أن نحمى الأمة الاشتغال بالسفاسف تحت أستار مكشوفة من الغرام والجمال والخيال ثم ليعلم من لا يعلم أننا بقدر ما نحترم الإيمان وأهله فنحن نستهين بالكفر وأهله كائنا ما كانوا سيقول السفهاء من الناس وما لشرائع الإيمان والكفران والأدب الحر الطليق والجواب أننا ننكر أدبا بهذا المعنى وإذا كانت القوانين السائرة اليوم لا تحكم بالموت على من لا يرفع الدم الإسلامى إلى الأوج ويهبط بغيره إلى الحضيض فلا أقل من أن نجزيه الآن موتا أدبيا نكشف به خبث نفسه فلا ينتفع بنفاقها أبدا حتى يتوفاه الموت أو يجعل الله له سبيلا. عقليات الأدباء الذين يكتبون كثيرا ليدسوا بين السطور ما يوهم القارئين أن (سكان أوربا) هم سادة العالم وأنهم سيظلون كذلك ويجب أن يظلوا كذلك. هذه العقول الأفنة يجب أن تداس آراؤها وأن يكون نصيبها من ملاحظاتنا بعد قراءتها هو الاحتقار الشديد هذه نفوس لم تستطع أن تكون شجاعة ولم تستطع أن تكون مجاهدة ومع ذلك لم تتوار بما تحمل من ضعف عن عيون الناس بل هى تريد أن تفرض جبنها وعجزها على من يعمل لا يبالى شيئا فى سبيل إعلان(4/74)
عقيدته وتحرير أهلها! وهى تحظى من أجل هذا بأشياء كثيرة ولكن هيهات أن يطمئن لهذه الفئة عيش بعد أن صمم المسلمون على مطاردة هذه الواردات الغريبة عنا ووأد من ص_067
يشعر لها فى فؤاده بذرة من العطف أو الإعجاب أو التقدير إن المرء ليدهش من هذا الانقلاب الهائل الذى أحدثته حملة الأقلام فى مصر وفى غير مصر وغالبوا به طبيعة الشعوب المؤمنة مغالبة عنيفة وأنه ليوجه إليهم هذه الكلمة القديمة وكله مرارة وأسي.. أعرب؟ فما تنقمون من العرب؟ أو عجم فما تنقمون من العدل والإنصاف وإن كان ثمت شيء يشاد به فهو ثبات هذه الأمة فى كثرتها على شيء كبير من صلتها بدينها القويم رغم ما يعيش فى كنف الحكم المدنى السائد والقوانين المدنية النافذة من غوائل تكاد تأتى على الدين والفضيلة والخلق وغم ما ينشأ عن هذه الحالة الشاذة من أخطاء لا يمكن تجاهلها تجعلنا نسارع إلى تقريب أجلها وتقصير أمدها قبل فوات الأوان. هذه البقايا المتوارثة من دين الله عملا واعتقادا ليست تحتاج إلا إلى البيئة الصالحة لتنمو وتزدهر بل إنها على ما انتابها من أحداث كثيرا ما تمر بساعات يقظة وخير جزيل بين الحين والحين وأذكر أننى قرأت مرة للأستاذ (زكى عبد القادر) كلمة يتحدث بها عن نفسه أن ظلام الليل وصمته وهدوءه أثر فيه تأثيرا روحانيا ساميا جعله يستشعر معنى يملأ صدره عن جلال الله وسعة ملكوته مع أن لهذا الكاتب رأيا لا قيمة له فى مجد أوربا وعظمتها وكان من تأثير الحرب الأخيرة وما توقعه الناس من شرورها التى لا تطاق أن بدا بعض الأدباء يدعون ربهم مخلصين له الدين. وكان أيضا أن كتب الكاتب ( الصاوي) يندد بنظام الطبقات ويتمنى له فى هذه الظروف العصيبة أن ينهار. نعم ورب ضارة نافعة، ولأن تجيئنا الحوادث ونحن مؤمنون فنتعظ وننجو خير من أن تحثنا ونحن جاحدون فننتكس ونهلك وما ربك بظلام للعبيد. ص_068(4/75)
16- والله أعلم بأعدائكم [ 1 ] وقفنا إلى حد سرد آراء الكاتب الأمريكى (ويليام ويتريت) بعد ما اقتبسنا نبذا خطيرة من خطبة القائد الإنكليزى اللورد (جورت) ومع ما فى الرأيين اللذين قررهما الرجلان عن سبب نشوب الحرب وعن دواعى بقائها من تناقض كبير يكاد يجعل أحدهما تكذيبا للآخر بل يكاد يكون كلاهما سخرية من الآخر مع ذلك ذكرناهما تدعيما لرأينا القديم وتزكية لموقفنا الحاضر وردا على هذه المفتريات الحقيرة التى تطالعنا بها بين الحين والحين صحف أجرمت ولا تزال تجرم فى حق الوطن واستقلاله ومصالحه!وهل الحقيقة التى أدركها صحافيو العالم الجديد أحيطت هنا بحجب مضاعفة من الإبهام حتى عميت عنها البصائر والأبصار مع أنها تتعلق بنا تعلقا جوهريا يمس حياة بلادنا السياسية والاقتصادية فى الصميم؟ الدوليون والتجار العالميون ودعاة السلام ومحترفو السياسة من قادة أوربا يعرفون هذه الحقيقة المخزية لنا الحقيقة التى لا تجعل شرقيا يرفع رأسه أو يستشعر نفسه. فكيف طاشت هنا رءوس يعصف بها الغرور عصفا وتريد أن تصدق أن فيها كفاية أو أن يطمئن إلى حسن تصريفها للأمور وهى تتضاءل وتستخذى عند أتفه الأمور! أم أنه محجور إلا على الأقلام الداعرة أن تكتب ما تشاء لتخلق الجو الذى تنمو فيه جراثيم السوء ويكاد فيه للشعب الودع قد يكون الواقع كذلك وما كنا بحاجة إلى الاستدلال على صواب قضيتنا بذكر آراء إنكليزية أو أمريكية لولا أن السادة الذين نناقشهم لا يتقنون غير هذه اللغة! كانت خلاصة الرأى الأول أن هذه الحرب تعلنها المسيحية على النازية لكى تسود المبادئ التى أعلنها بطرس الرسول. وكان الرأى الثانى أن هذه حرب تجار يتقاتلون ليسيطر المنتصر فى النهاية على السوق العالمية، والسوق العالمية هى كما يعرف الناس أجمعون يقصد بها بلاد الشرق التى لا يفرق العرف التجارى فيها بين مواطن المسلمين ومواطن الزنوج ولا ينظر فيها إلى الأديان إلا على أساس أن معتنقى هذا(4/76)
الدين (زبائن كرام) وأن أشياع هذه الملة "عملاء مخلصون" ص_069
وإن كانت الدعايات السائدة تلتفت الآن إلى الأديان نفسها لتذكر أن "القاسم المشترك الأعظم" بين النازية من ناحية وبين أديان الشرق من ناحية أخرى لا يمكن استخراجه أو كما يقول وزير الهند ليست هناك مبادئ مشتركة بين النازية وبين الإسلام الذى اشتهر بروح الديمقراطية والمساواة والرحمة والرأفة بالفقير والضعيف! ولا بين النازية والهندوسية مع ما عرفت به من الاهتمام بالناحية الروحية من الحياة وابتعادها عن "القوة والعنف" فما أعجب نظرات أوربا التى تنخفض مرة فلا تتجاوز النهم الشديد إلى ما فى الجيوب وترتفع أخرى لتناشد العاطفة المستقرة فى القلوب وهى فى كلتا الحالتين سواء فى حقارة الباعث ودناءة الغاية، والأدهى من ذلك أن الصحافى الأمريكى بعد أن يؤكد أن الحرب قامت لأن دول المحور طامعة فى الأمم التى تملكها الدول الديمقراطية يستطرد فيعلن أسفه البالغ! لماذا؟ لأن "الكتب المقدسة تنص كلها عل ألا نحسد جيراننا ولا نطمع في ممتلكاتهم ولكن الأمم "الملحدة بداهة!" "لا تفعل" ما أعظم نبلك يا مستر وليام وما أصدق حزنك على قومك الذين نسوا وصايا يسوع ومن قبل يسوع فقام بعضهم ينازع البعض على انفراده بسرقتنا والاستحواذ علينا واستغلال مواردنا هذا هو الدين كما يفهمونه أشبه شيء بالقوانين التى تضعها عصابات اللصوص بين أفرادها حتى لا يكون الطمع والحسد سببا فى وقوع العصابة كلها بين براثن البوليس وعلى كل حال فنحن لا نرجو من رجل أمريكى أكثر من هذا ولئن كان رأيه صحيحا أو كان رأى القائد الإنكليزى صحيحا فما فى كليهما شيء نستخلصه أكثر من أن موقفنا يجب أن يظل هكذا لنحقق به للإسلام كل ما يستطاع تحقيقه ولننزل بأعداء الإسلام كل ما يستطاع إنزاله ولننتفع بهذه المحن الرهيبة انتفاعا يقذف بهذه الأعباء الثقيلة علي عواتقنا ويحطم تلك الأصفاد القاسية التى تفل من حركتنا وحريتنا ولنعلم(4/77)
أن الحقيقة التى لا يكتنفها غموض ولا ينبغى أن تضل عن ذهن هى أنه لا يطفئ نيران هذه الحرب المشتعلة - ما دام القتال يدور من أجل السيطرة علينا - إلا شيء واحد هو أن ييئس الجميع منا ولا سبيل إلى ذلك إلا بإقامة دولة إسلامية كبرى تقول للغالب والمغلوب جميعا لقد انتهى عصر الفوضى التى لوثتم بها وجه العالم وانتهى عهد السرقات التى تحميها جيوشكم فى البر وتنقلها سفنكم فى البحر وانتهى زمان الاستعباد الذى تشهد به بلاد مشيتم على عمرانها بالحديد والنار وشردتم أبطالها فى رءوس الجبال هنا وفى متاهات الصحارى هناك وانتهت دولة ص_070
الضلال التى حاربتم بها الدين الحق وحشدتم فيها كل سلاح مادى ومعنوى أتقنت الحياة الدنيا صناعته من بدء الخلق إلى اليوم حتى لكدتم تبدلون به الأرض غير الأرض لقد انتهى دور إذلالكم لنا.. أنتم الذين أذلتكم شهواتكم. وجاء دور تحريرنا لكم نحن الذين لا نذل إلا لله.. الدولة الإسلامية الكبرى هى ما يجب أن يكون تكوينها نصب أعيننا وهى ما يجب أن نجعل كل شيء يدور حولنا الآن تمهيدا لإقامتها، ولسنا نجهل أن هذا عمل هائل ولكنه عمل لا أمل ما دمنا على تمام الأهبة لدفع ثمنه الهائل كذلك! ما دمنا مستعدين لبذل دمائنا ولو كان مطلبنا العزيز لا يدرك إلا بسيول منهمرة من ذلك الدم! ولا شك أننا نواجه اليوم طلائع العدو الذى لا يريد إلا أن نعيش ممزقين فى أنحاء الأرض كما صنعت بنا يده الأثيمة من قبل وإن كانت هذه الطلائع المجرمة أناسا تقول أسماؤهم أنهم مسلمون والله يعلم إنهم لكاذبون وأفعالهم تشهد بأنهم منافقون ساقطون ولسوف نناقش كلا حسابه ونوقع به عقابه، وإلى الغد القريب. ص_071(4/78)
17- والله أعلم بأعدائكم [ 2 ] تحيى فى صدورنا ذكرى الإسراء معنى رحيبا يتصل بموضوع حديثنا اتصالا وثيقا ونعنى بهذا المعنى روح العمومية التى تصطبغ بها تعاليم الإسلام كدين حقيقى للعالم كله من أزله إلى أبده! تلك الروح التى يجهلها أو يتجاهلها فى هذه الأيام فريق من الأدباء المصريين حين يملئون أفواههم بهذه الكلمة الطنانة المطاطة كلمة "الفكر الإنساني" أو حين يناشدون الناس باسمها كى يناصروا بعض المبادئ الفاشلة أو حين يظهرون التعصب لها ويصطنعون الحماسة من أجلها كأنما يريدون بذلك الدفاع الحار إزاء ما يتهدد الفكر الإنسانى من أخطار مزعومة أن يظهروا أنفسهم أمام أعين القراء. وهم فلاسفة أمجاد يحلقون فى سماء العبقرية ويجوبون فسيح آفاقها فلا جرم كانوا أحرص الناس على ألا تلوح فى أجوائها غيوم وعلى ألا تنحدر فى فجاجها رجوم ولا غرو كان جديرا بالجمهور الكبير أن يشارك فلاسفته المفكرين فى الفزع من هذا الوبل الجارف وهذه الفوضى التى لا تعرف للفكر حرمة ولا لأصحابه قداسة! وكم للعباقرة من أدباء مصر من أياد بيضاء على هذا الشعب تجعله يذكرهم فى أيام محنتهم أطيب الذكر وتجعله يقابل صيحاتهم القلقة بأشد من برود الإنجليز! روح العمومية التى ظفر منها الإسلام بقسط لم يظفر به من قبل ولن يظفر به من بعد أى ضرب من ضروب الفكر الإنسانى مهما سمت حقيقته ومهما اتسعت دائرته هو ما نريد أن نعرض له بشيء من البيان لا سيما وذكرى الإسراء المباركة لا تزال تمد على الليالى ضياء. وتجدد فى النفوس عناصره وآثاره وتستدير مع الحوادث الدائرة عبرة ماثلة وعظة ثابتة، ففى هذه الليلة كانت السموات تنفتح أبوابها العصية الرتاج إلا على ملائكة الخير وأرواح البر وأئمة الهدى من الرسل الكرام لمسرى محمد بن عبد الله سيد الأنبياء ونهاية النور الذى يرسله الله من السماء إلى الأرض ليصل " الدين" برسالته إلى الوضع الختامى الذى لا يقبل تعديلا ولا تحويرا وليطمئن(4/79)
الناس جميعا إلى أنه قد قيلت فى شئونهم الإصلاحية كلمة الفصل فملاك الأمر كله قد تقرر وتركز لا يضيره مر العصور حتى ص_072
تقوم الساعة وينقلب الناس إلى ربهم حقيقة واحدة! ما كان الملأ الأعلى يفهم غير ذلك عندما يرى (محمدا) يقابل إخوانه السابقين فى سبيله إلى ربه.. حقيقة واحدة. عانى الجميع مشقات جهاد موصول الحلقات يستنفد الأعمار الطويلة فى سبيل تبليغها إلى البشر. حقيقة واحدة! ربط الله بين طيب الحياة الأولى وسعادة الحياة الباقية فى اعتناقها والإخلاص لها. حقيقة واحدة! تمتاز معالمها وتتوحد مناهجها مادام الصواب فى الدنيا لا يلبسه الخطأ والهدى لا يطمسه الزيغ فذلكم الله ربكم الحق! فماذا بعد الحق إلا الضلال؟. وقد تتفاوت القرون ويتشعب الآدميون أجناسا وألوانا وألسنة ويتغير وجه الأرض بألوف من الآراء والمذاهب ولكن الحقيقة الواحدة تبقى لها حصانتها ومكانتها بتوارث الأنبياء حملها كابرا عن كابر ( شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب ) أولئك هم حقا قادة الفكر الإنسانى إلى هدفه الأعلى وليس ينتقص من أقدارهم العالية أن الدكتور طه حسين لم يذكر واحدا منهم فى كتابه قادة الفكر ومن يدري؟ ربما كان هذا خيرا لهم وللدعوات التى ينادون بها فلنترك الرجل يسبح بحمد الإغريق على الأرض ولنسم إلى معارج السموات لنرى كيف تستقبل الأنبياء زعيمهم الأكبر لعلهم اطلعوا على ما أصابه بالطائف من أذى وما انتابه فى مكة من سوء؟ ولكن من منهم عاش ناعما رخى البال. من آدم إلى عيسى الأب الصالح والأخوة الصالحون لم يأل أحدهم جهدا فى حماية الحقيقة الواحدة وتزكية النفوس بمعناها الكامل وتحمل العنت الرائع دون التفريط فى شيء من ذلك وما أحقر البشر عندما يكونون كفارا لقد كانت خصومتهم للحق لددا(4/80)
مشتعلا. ألم يقل الرسول الكريم (عجبا لقوم يقادون إلى الجنة بالسلاسل) ولئن نافحوا بالأمس عن الأوثان فذراريهم باليوم تنافح عما يشبه ذلك ولئن أنف العقل الإنسانى اليوم من محاربة الألوهية بالأصنام فهو لم يخجل من محاربة الدين بالمبادئ الرخيصة بعد أن أطلق عليها شتى التسميات التى تستر تفاهتها وكان آخر طراز رأيناه هذا الذى أسموه الفكر العالمي! وما هذا الشيء الذى يدعونه بالفكر العالمى ويريدونه حقيقة تفنى الأديان ص_073(4/81)
وهو باق لا يحول؟ لا شيء إلا الغفلة تتبجح في مهلة من العقاب الأليم.. الحقيقة الواحدة القائمة على معرفة من خلق الحياة والموت ولماذا خلقهما أفيظن أحد الناس شيئا أخطر من هذا ( قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم * سيقولون لله قل أفلا تتقون * قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون* سيقولون لله قل فأنى تسحرون * بل أتيناهم بالحق وإنهم لكاذبون) ومع ذلك فلنبحث في ذاتيات هذا الفكر الإنسانى لعلنا ندرك كنهه أو لعلنا نصل إلى كيف يجب أن يكون كل يقظة للعقل الإنسانى لا تقترن بالتطلع إلى الجواب على هذا السؤال العتيد من أين؟ وإلى أين؟ ولماذا؟ فهى يقظة طائشة أو هى سهاد مجنون. وإذا كان كثير من ( المفكرين) قد حلا لهم الحدس حول هذا الجواب وقنعوا بمحض الفروض وإشارة الجدل حولها فإن (الدين) على ألسنة رسله جميعا قد قطع بإجابة واحدة وقرنها بمطالب عملية واحدة وأودعها تلك الحقيقة الواحدة الخالدة ( يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم * وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون) وبهذا الميزان المقسط تعرف قيمة كل فكر إنسانى وبمقدار قربه أو بعده من هذه الحقيقة تكون خطورته أو تفاهته. فلننظر إذن إلى هذا الفكر العالمى - كما يقولون - الذى يوشك أن ينبلج الغد على مصرعه أتراه جديرا بالرثاء؟ كلا أترى غيره شرا منه؟ كلا أترى فيه صلة بالحق الأعلى؟ كلا دعه إذن يا أخى (إن الله سيبطله إن الله لا يصلح عمل المفسدين * ويحق الله الحق بكلماته ولو كره المجرمون) التفكير الديمقراطى الحرفى خطر! فهبوا أيها المسلمون لنجدته أليس هذا ما يتصايح به توفيق الحكيم ومن يشايعه.. إن الأمر لا يعنينا أيها الفيلسوف الفزع فليحطم الضلال بعضه بعضا حتى يركمه الله جميعا فيجعله فى جهنم أما إذا أردت أن تقول فيسمع لك فقل لنا إن شئت أن التفكير الإسلامى فى خطر. ثم تعال معنا لتعرف ممن يأتى هذا الخطر؟(4/82)
وكيف ندرأه؟ لا جديد عندنا فإنه من أول يوم وطئت فيه جنود أوربا أرضا إسلامية بدأ الخطر ينذر أعز حقائق هذه الحياة لا فى هذا اليوم ص_074
المشئوم كان الفكر العالمى حقا فى خطر لأن حماة الإيمان لم يستطيعوا رد غوائل "التتار" المسلحين بالبارود والقنابل فكان معنى ذلك أن أوراق المصحف ستلقى من يمزقها بعد أن يهدر تعاليمها فى شمال الجزيرة حيث صعدت جيوش خالد من قبل وتلتها بعد عصور جيوش صلاح الدين وفى شمال إفريقيا حيث شلت يد الروم الباطشة الظالمة وجلت مكانها عدالة الإسلام وسماحته وهدايته. أول يوم عجز فيه حماة الإسلام عن طرد هؤلاء الأوربيين وسحقهم هو اليوم الذى تحق فيه الخشية ويجوز فيه الإشفاق على مستقبل الفكر البشرى ويتساءل فيه الماديون على مصير العالم كيف السبيل لانتزاع عجلة القيادة من هؤلاء الأقوياء الحمقى الذين سيجرون العالم حتما إلى موارد التهلكة ويندفعون به إلى سوء المنقلب. وما دام ثمت جندى واحد يمثل سيطرة هذا الطغيان الأعمى على خلاصة الحق كله ممثلا فى رسالة خاتم النبيين- صلى الله عليه وسلم - فإن التساؤل يجب أن يبقى وصيحة التحذير يجب أن ترتفع حتى تخرق صماخ كل أذن وتمحق غفلة كل هاجع! ولا يقل لنا أحد أنقذوا الفكر الذى يقتتل اليوم علماؤه وفرسانه لأننا نريد أن ننقذ أنفسنا الآن من هذا الفكر الباغى المجرم ثم نطهر الأرض بعدئذ من آثار قواده وفرسانه.. قد يذكر لنا توفيق الحكيم الشيء الكثير عن سفالة الاستعمار الإيطالي، ونحن نعرف فى هذا مثل ما يعرف ونزيد عليه أننا نحن لا نجهل - وإن جهل هو - سفالة ضروب الاستعمار الأخرى ونحن نعمل ليرتد هذا الوباء الغليظ من حيث أتى فما تقر أعيننا وفى بلاد أمتنا الإسلامية الكبرى جندى أوربى واحد ومن أخبر أن يلحق بالقوم فليذهب إليهم ( ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين). أمتنا الإسلامية الكبرى! التى يمتد أصلها فى ماضى التاريخ الغابر إلى أول مؤمن(4/83)
اهتدى بأول نبى والتى استقبل كبار قادتها - فى ليلة الإسراء - القائد الأخير وهو يعرج إلى ربه ليكون استقبالهم الجميل دليل وحدة مطلقة فى العقيدة والعمل والاتجاه هذه الأمة يجب أن تكون لها فى ليلة الإسراء عبرة ولقد اتخذت صباحها يوما لفلسطين ولم تزل أحداث فلسطين ليلا لا صباح له فمتى يسود الضياء ويشرق النهار. ص_075
18- التدين المصنوع ليس أوجب علينا - وديننا دين الفطرة الخالصة - من أن نمزق النقاب عن حقائق كريهة شاع بين الناس زيفها وانطلى عليهم تلبيسها واكتسب على مر الأيام نوعا من الألفة والقبول كاد يغض من قيمة الحق فى ذاته ويشوب جوهره النقى بأسوأ ما يتصوره الإنسان من مسخ وتشويه.. ديننا دين الفطرة، ولكن أقواما ارتكست نفوسهم فى أهون مآربها، واتصلوا من دنياهم بأدنى منازلها، أبوا إلا أن يفرضوا أنفسهم بحالتهم هذه على دين الله يأخذون من تعاليمه الغطاء الأخير الذى لم يشرع إلا صيانة لما وراءه وحياطة لما يكون خلفه من فضيلة وكمال يأخذون هذا الغطاء وينتزعونه من أروع ما لابسه ثم يلبسونه على أنفسهم المريضة، ويكنون تحته ركاما من الشهوات والسفاسف. ثم يخرجون على الناس ليخدعوا البله والسذج بمظاهر من التدين الصناعى وأشكال من الورع المكذوب. وليس عندهم دين ولا نسك فلا تغرك أيد تحمل "السبحا" لو تعقل الأرض ودت أنها صفرت منهم فلم ير فيها ناظر شبحا أشباه أولئك الخلق لا ينبغى أن نتسامح فى معاملتهم قط فهم نكبة على الدين وأهله. صمت وصمت: وأريد الآن أن أفرق بين عدة مظاهر طلع علينا بها هؤلاء المتدينون وبين أمثالها من تعاليم الإسلام الحنيف ليحق الله الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون. الصمت أدب للنفس أوصى به القرآن وأمرت به السنة ما فى ذلك ريب، ولكن أى صمت؟ إنه الصمت عن اللغو لتتفرغ النفس إلى جد الحياة، والصمت عن الباطل الذى تقتل الأمم وقتها به، فلا يلبث أن يقتلها بأحداثه الحية. هذا هو الصمت الذى تعرفه فطرة(4/84)
الله. أما الصمت الذى لا يعدو أن يكون ضربا من العطلة الأثيمة. وفرارا من المشاركة فى شئون الحياة ونكوصا عن تحمل تبعات العمل، أما الصمت الذى يلوذ ص_076
به البعض استكمالا لزينة الوقار وترفعا عن الانغماس فى الأوساط إلخ.. فهذا صمت الطبائع الميتة تريد أن تنافق به فى أسواق الدين ولن ينفق بعد اليوم. ذلة.. وذلة.. والمؤمن مطلوب إليه أن يكون لينا هينا، ومن أخلاق هذا الدين أن يتواصى أهله بأقصى معانى الرحمة والحنان والصفح والملاينة - فيما بينهم - ومن ثم يجب على المسلم أن يكون ذلولا لا شكسا. وهنا يجب أن نفهم الجاهلين أن السهولة المفروضة إنما هى ضريبة على عزة الإيمان الذى لا يستكين لبغى والذى يضرب السيئة بمثلها فالذين يوطئون ظهورهم ليمتطيها الغير باسم الدين وباسم أنهم أناس طيبون فخير ما يقال لهم: لئن كان التقى بلهاً وعيّاً فأعيار المذلة أتقياء فليشارك هؤلاء البهائم فى بعض صفاتها ولكن حذار أن يرتكب ذلك باسم الدين. زهد.. وزهد.. ولعل أظهر ما يتسم به المتدينون الكذابون هو إبداء الزهادة فى الحياة وزينتها والاشتهار بالعزوف على خيراتها ولذائذها. وعندى أن هذا الزهد جريمة مزدوجة. فالقوم يدارون طبائعهم الشرهة أولا ويخطئون فى فهم الدين الذى يريدون اصطناعه ثانيا، والواقع أنهم يزهدون فى القليل ليجروا منافع شتى أكثر عدا وأوسع حدا. وهم أسهل فريسة لمتاع الدنيا الغرور رغم ما يحرصون على أن يعرفوا به ويشتهروا. على أننا نتساءل من قال إن الدين حرم زينة الله التى أخرج لعباده والطيبات من الرزق لا أحد!.. ورب متزين هو أحرص على آخرته من عاطل عن الزينة، ورب رجل من هؤلاء المتزهدين ماتت فى نفسه مطالب ما قبل الموت وما بعده على السواء.. الجوهر والمظهر.. كلما ضل الناس عن وجه الصواب طاشوا فى الانتساب إليه. ومن الغريب أن جماهير كثيفة تراها فقدت روح الإسلام ثم هى تستميت فى المحافظة لا على جسمه بل تمثال لجسمه كما تخيلوه لا(4/85)
كما هو، ومصطنعو التدين يطيرون سراعا إلى كل ما يسهل أداؤه ويلائم أمزجتهم الممسوخة من ألبسة بعينها وعبادات بعينها وشكليات بعينها، فليحذر المسلمون من يندس فى صفوفهم من هاتيك الطوائف وليعلموا أن الدين فى كلمتين "آمن بالله، ثم استقم". ص_077
19- من صحائف المجد [ 1 ] أبو ذر الغفارى رضى الله عنه يرحم الله أبا ذر. أترى كيف يستقبل حياة الناس اليوم لو بعث حيا.. وأية معارضة عنيفة كان يقود صفوفها ويوجه حملاتها لإصلاح هذه المجتمعات الصاخبة كأنما هى بحر متلاطم لا تسود أعماقه إلا النظم التى تقرر المحبة العميقة بين أسماكه وحيتانه!! عجبا لجرأة هذا الرجل. إنه لما آمن بالإسلام لم ينافق مع طبيعته الحرة - وهل الاسلام إلا حرية الطبيعة السليمة؟ لقد ذهب لساعته إلى أئمة الكفر فى مكة، يعلن لهم إسلامه، لم يحفل بثورتهم الغبية، ولم يجبن لأذاهم الشديد، ورغم أن أبا ذر انهال عليه الضرب المبرح من عشرات الأيدى الأثيمة فإن ذلك لم ينل من يقينه، حسبه وهو الصريح الشجاع أن يسمع زعماء الضلال ما يكرهون، وأن يدعهم خائفين على مستقبل دولتهم الباطلة بعد ما قرعت آذانهم صيحة الحق ورأوا فى مسلك الصائح العنيد من الثبات والإصرار ما قذف فى قلوبهم الرعب والقلق. عدو الترف يزعم بعض الناس أن بأبى ذر نزعة اشتراكية شرد من أجلها فى كثير من الأقطار الإسلامية. والحقيقة أن هذا زعم خاطئ نشأ عن سوء فهم لطائفة من تصرفات الصاحب الكريم. رووا أن معاوية وهو وال للشام كره أن يستقر أبو ذر فى إقليمه لأنه يبث بين الناس دعاية خطيرة تتصل ببيت مال المسلمين. ونحن نرى أنه إذا كان لمعاصرى أبى ذر شيء من العذر فى الركون إلى هذا الاتهام. فليس لنا نحن أى عذر فى التسليم بهذه الدعوي، بعد ما قطعت أحداث التاريخ كل فرية، وأثبتت الأيام ماذا كان يفعله عاهل بنى أمية فى ولايته الخصبة، وما هى حقيقة تصرفاته المبهمة فى الادخار والاكتناز! ذلك كله لم يغب عن عينى أبى(4/86)
ذر. ومن ثم تدرك سر ثورته ص_078
واستنكاره. ولا ريب أن صاحب رسول الله كان يرى - ولم ير إلا الحق - أن الضرائب تنفق فى مصلحة دافعيها، وأن الزكاة تدفع لمستحقيها، وأن المساعدة فى النوائب أولى من المساعدة فى المباهج، وأن كفالة الطبقات الدنيا خير من إبطار الطبقات العليا، أى أن أبا ذر كان مسلما يكره الترف والظلم. عصا أبى ذر ظل أبو ذر وادعا قرير العين طوال عهد أبى بكر وعمر. وهو يرى أشعة الإسلام تخترق ظلمات الكفر والضلال ويرى المسلمين مستقيمين على سواء السبيل لا زيغ ولا انحراف ويرى آيات القوة المادية والمعنوية تسود مواطن الدين فى الداخل وتكلل اندفاعه فى الخارج. فلما حاولت فئات من المتعطلين والمتحللين أن تخلد الى الراحة، وأن تنقل أخلاق الدعة والركود، والهوينى إلى مجتمعات العاصمة الفتية، وأن تتلاعب بظواهر النصوص التى لا يسوغ اللعب بها.. هنا اهتاج أبو ذر ورأى أن الشغب على المنكر أمر يطالب الله به أصحاب النفوس القوية فما كاد كعب الأحبار يصدر فتواه "أنه لا بأس بأن يأخذ الحاكم من بيت المال ما يشاء لينفقه فيما ينتويه من أمور وليعطى منه من يشاء من الناس" ما كاد أبو ذر يسمع هذه الفتوى حتى أمسك بعصاه وأعملها فى صدر كعب وهو يصيح به يابن اليهودي!! ما أجرأك على القول فى ديننا!! ومع أن استعمال العصا فى المناقشات أمر قد يبدو نابيا، فإن لأبى ذر عذره الواضح فى الدفاع عن الشعب. وشبيه بهذا المسلك موقف أبى ذر مع طوائف شتى من الأثرياء الذين رضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها كان دائب الدعوة لهم إلى البر والمعدلة والإحسان. الإباء والسمع والطاعة استعصى أبو ذر على أمواج الفتن التى ضربت برشاشها وجوه الكثيرين وبقى أمامها منتصبا كالربوة الشماء. وعاش فى دنياه أمة وحده. ومع أنه كان يزعج الحكام بنقده القاسى فقد رضى أن يكون نصيبه من الحياة نصيب خادمه منها، يأكلان جميعا من طعام واحد ويلبسان من ثوب واحد. ص_079(4/87)
وهذا الرجل الذى يبلغ حنقه على الباطل ما رأيناه يرفض التزحزح عن تفكيره قيد أنملة لا تستخفه أبدا دواعى العصيان والتمرد على الخليفة الثالث فهو أبدا لأمره سميع مطيع حتى لو كان فى تنفيذ أمر الخليفة أن ينفى أبو ذر من بلد هجرته! ممات أبى ذر: يالهوان الدنيا كلها فى نظر الصاحب الحبيب لرسول الله. لقد تركها بما تتمخض عنه فتنها وانزوى فى الربذة مع زوجته الوفية وفى يوم ما كان أبو ذر ينتظره فى يقين حضرته الوفاة، وفى عزلة الصحراء المنقطعة أسلم روحه. ومر وفد عراقى يتجه صوب الحجاز بهذه البقعة الكريمة فأعان الزوجة على مواراة الجثة الطاهرة. لم يلفوها فى علم ولم ينقلوها على عربة مدفع. إن زعماء الإسلام أكبر من هذا كله لأن ملائكة الله تبسط عليهم أجنحتها أحياء وأمواتا. ص_080(4/88)
20 - من صحائف المجد [ 2 ] مقتل أبى رافع عداوات وضيعة من خصوم الدعوات من لا يرعى فى الكيد لها أية قاعدة من قواعد الشرف بل يعتمد فى إشباع أحقاده على استغلال كل ما يعرض له من أسباب، وعلى انتهاز كافة ما يتهيأ له من فرص، فإن كان ضعيفا وجد فى مجال الدس والغمز ما يرضيه، وإن كان قويا وجد فى سلطان الغلبة والقهر ما يطغيه، وأمثال هؤلاء الأعداء قد يبلغون بخصومتهم الخطرة مبلغا يتهدد الدعاة بألوان من الأذى لا تطاق، وما داموا لا يتقيدون فى خصومتهم بشيء يستحيون منه فإن نواحى هجومهم لاتعرف حتى تتقي، وربما انفردوا بأسلحة يأبى الرجل الشريف أن ينازلهم بمثلها، وما نقول فى أناس من طراز كعب بن الأشرف الذى يطلب من مدينيه أن يرتهنوا لديه زوجاتهم ضمانا لسداد دينه اليهودى على غرمائه من العرب المسلمين؟ لاريب أن رجلا يحمل هذا الخلق ثم ينصب نفسه عدوا حر الأساليب فى محاربة محمد وحزبه... لا ريب يجب أن يوارى سريعا فى الثرى وأن يطهر ظهر الأرض من لؤمه!! صاحب الحصن: وكذلك كان أبو رافع سلام بن أبى الحقيق رجلا آذى الله ورسوله، واعتصم بحصنه فى أرض الحجاز وظن أنه هناك بنجوة من العقاب العادل على ما يقترفه بين الحين والحين ويتعرض به لدعوة الإسلام ونبى المسلمين، وكانت أنباء فعاله تترامى إلى يثرب فتحرج لها الصدور وتثير فيها كوامن الغيظ.. وأخيرا التقى جمع من شباب الأنصار الحنقين على الزعيم اليهودى وتذاكروا ما يصل إليهم من قبله وقرروا أن الموقف يحتم عليهم القضاء عليه. وقال عبدالله ابن عتيك - كبير المتآمرين - (ينبغى أن نرحل جميعا حتى ننزل بجوار الحصن وسوف أحتال على التسلل من أبوابه حتى إذا ظفرت بعدو الله فتكت به وأرحت المسلمين من شروره..) واتفق القوم على هذا القرار. ص_081(4/89)
ليلة هائلة: كان الفتية المغامرون يتراكضون على الرمال قريبا من الحصن السامق، وسرهم أن الشمس قد تم غروبها وبدأت طلائع الليل تنتشر على صدر الأفق، والناس يعودون بأنعامهم للمبيت، وخدم الحصن وحراسه يتأهبون لإغلاق الباب بعد أن تدخل دواب أبى رافع إلى حظائرها الفسيحة.. وهمس عبد الله بن عتيك لأصحابه! اجلسوا مكانكم فإنى منطلق!! ثم تقنع وانساب فى خفة بارعة إلى داخل الحصن فى اللحظة التى انشغل فيها البواب بإرجاع بهيمة شاردة على ضوء شعلة خافتة، وفى دقائق كان ابن عتيك منزويا فى "مربط الحمير" بجانب غرفة البواب الذى علق المفاتيح على وتد ثم انصرف للعشاء.. وظل صاحبنا فى مخبئه يرهف سمعه لكل حركة ويستعد لكل صوت، ولحظ فى سرور أن مجلس السمر المعتاد لأبى رافع بعد أن انتظم على عادته بدأ يقل ضجيجه وينتهى سفاهه. وبدأ القوم يستعدون للنوم، ودنت ساعة العمل! انسل ابن عتيك من مكمنه واستولى على مفاتيح الحجرات التى تركها البواب، وبعزيمة رائعة عالج الأبواب التى واجهته فإذا انفتح له أحدها أوصده من ورائه مرة أخرى حتى لا يخلص لأبى رافع مغيث إذا قدر له أن يستغيث.. يقول ابن عتيك (وانتهيت إلى أبى رافع فى ذروة حصنه فى غرفة مظلمة وسط عياله لا أدرى أين هو منهم فصحت أبا رافع!! فرد من هذا؟! فأهويت نحو الصوت بضربة شديدة من سيفي، كلتها له وأنا دهش فلم تعجل بروح اللعين، فانسحبت من الحجرة ثم جئت وكأنما أنا واحد من أنصاره فقلت ما هذا الصوت يا أبا رافع! فقال لأمك الويل.. إن رجلا بالبيت ضربنى بسيفه.. ولم ينته من سبابه حتى أهويت عليه بسيفى فأثخنته وتركت ظبة سيفى تخرج من فقار ظهره..) وهبط ابن عتيك الدرج عائدا على أعقابه، ولكنه أخطأ حين انتهى إلى أحد الأبواب فظنها تصل به إلى الأرض الفضاء فلما وضع قدمه سقط من الدور الثانى إلى الأرض حيث تلقفه أصحابه وأعانوه، فلما اطمأنوا إلى نتيجة عمله وإلى مصرع عدوهم انطلقوا صوب يثرب وهم يقولون(4/90)
النجاء النجاء. ص_082
الفرار: كان عبدالله بن عتيك يحجل بعد أن اضطربت مفاصل قدمه أثر سقطته فلما عاد هو وأصحابه إلى النبى – صلى الله عليه وسلم - بشروه بهلاك أبى رافع اليهودى محرض الأعراب على دين الله. وتنفس المسلمون الصعداء بعد أن أزاح الله عنهم هذا الكابوس... ودعا الرسول لابن عتيك فشفاه الله مما ألم به وإن ما ينتظر هذا الشاب - الجريء الجسور وأمثاله فى الآخرة خير وأبقى. ص_083
21- من صحائف المجد [ 3 ] أحد عشر جيشا نحن نمقت الآلام، ونمج مذاقها المرير، ولكن شاء الله أن يجعل من أكثر الآلام نفعا خالصا، ومن أكثر اللذائذ ضرا محضا. ولا يزال الأطباء يصفون الأدوية المريرة لكفاح الأمراض وحسم أذاها. ولا تزال المصائب فى حياة الناس مصدر دروس بالغة الأثر فى التربية والتعليم!! وفى صفحات التاريخ الإسلامى أيام حالكة السواد، ولكنها لاتخلو من نفع. وفى أبى بكر وأحداث الردة وما قبلها وما بعدها أمثلة يتهيب القلم أن يمسها ولكننا نحاول متواضعين تصوير شيء من "عمل" الإيمان الكبير تجاه الحوادث الكبيرة: موقف المدينة: لم يكد الرسول يصعد إلى الرفيق الأعلى حتى انتقض حبل العرب فارتدوا عن الإسلام، وظنوا أن رمال الجزيرة ستعود كرة أخرى مسرحا لمآسى الجاهلية الأولى مخازيها. وشعر السابقون الأولون بخطورة الأمر، ورأوا أنفسهم فى دار الهجرة مهددين بعصابات الأعراب الثائرين وجيوش مانعى الزكاة. والشقة بعيدة بينهم وبين جيش أسامة الذى سار قدما إلى مشارف الشام تنفيذا لوصاة الرسول وليس للدين الكريم بعد حصنه المكين فى المدينة إلا مكة والطائف فقد ثبت هذان البلدان، رغم أن قريشا وثقيفا كانتا آخر من استمسك بعروة الإسلام على أن شيئا من ذلك لا يغنى فتيلا عن أهل المدينة، فقد تجمع المرتدون من قبائل عبس وذبيان وأسد وكنانة. وكلما آذنت الشمس بالمغيب، اقتربت جموعهم من مداخل البلد المهدد بغية اقتحامه على أهله ليلا، والقضاء على الإسلام(4/91)
بعد ذلك. قتال ليلي: فلما أحس الصديق منهم الغدر، جمع حوله بقايا المسلمين، ولم يكن الأمر بحاجة إلى استثارة أو تهيج، فقد ضمتهم جميعا جدران المسجد النبوي، واستمعوا ص_084
إلى أبى بكر يشرح خطة الدفاع ويرسم لكل منهم واجبه الذى يقوم به أو يموت دونه! ووزع أفراد هذا الجيش الصغير على ثغرات المدينة ومظان هجوم العدو، وجعل المسجد مستودعا يخرج منه المدد إلى الجهة التى يشتد فيها ضغطه ويخشى تسربه منها!! وأقبل الليل، وثبت المسلمون فى أماكنهم يتربصون، وماهى إلا ساعة حتى نشب القتال! لقد تحركت جيوش الأعراب. وها هى ذى سهام المسلمين تخترق عماية الليل، وأبو بكر فوق ناقته يصول ويجول، وصراخ التكبير تتجاوب به الوهاد الموحشة! وخرج المعسكرون من المسجد يشدون أزر المدافعين، وتتابعت أدوار الصراع طول الليل بين الإيمان والكفران، فما طلعت الشمس حتى تنزل نصر الله على جنده، ونجت المدينة وفر المرتدون! نتائج سريعة: كان لهذا الفوز معناه، فقد تعلم المرتدون أن المدينة غاية فى المنعة بما فيها من جند كثيف! وما هم إلا النفر القلائل ربا إيمانهم فساوت فعالهم جيشا جرارا. وكان أبو بكر يعرف كيف يستغل القوى التى توشك أن تختفى فى الأيام التى تترادف فيها المفاجآت العصيبة وحقا، لقد اختلت الصفوف، وأقبلت الفتن تريد أن تجعل بين كل مؤمن ومؤمن حجابا يفصل بينهما لتفترس كلا منهما على حدة! ولكن أبا بكر كان أسرع منهما إلى العمل، فقد ارتفع بإيمانه كما يرتفع العلم فى المعركة المضطربة المختلطة ليثوب إليه الأنصار ويحتشد من حوله المخلصون، ويكون من هؤلاء وأولئك مأمن للمروعين، ومستقر للشاردين وكسب أبو بكر المعركة الأولى فى إنقاذ المدينة. وما هى إلا أيام حتى قفل جيش أسامة منصورا غانما. فاستراح أبطاله إلى حين. معارك الردة: وبدأ الكفاح الحقيقي، فقد انفتح أحد عشر بابا للفتنة فى آن واحد. والجرح بموت الرسول لم يندمل بعد وأطراف الجزيرة تموج بصفوف(4/92)
من الضلال تحاول الاندفاع إلى قلب الاسلام فتقضى عليه بعد أن تحللت منه! وهنا يحشد أبو بكر كل من حوله، ويقذف بهم إلى المعركة الفاصلة. فيعقد أحد عشر لواء لأحد عشر قائدا، ويفتح إحدى عشرة جبهة مرة واحدة ويراقب القتال فى هذه الميادين بضعة عشر شهرا، وتمر الأيام وهذه الجيوش فى جهاد شاق، لا تنتهى من قتال إلا لتستأنف غيره حتى جاء أخيرا نصر الله والفتح، وهزم الله المرتدين شر هزيمة. ص_0 ص
22- خواطر حرة [ 1 ] اتباع وابتداع: للإسلام موقفان متغايران أمام التجديد، فهو يترك للعقول أن تتصرف كيف شاءت فيما يتصل بشئون الدنيا. ولا يقيم العوائق التى قد تحد من النشاط الفكرى النزاع إلى الابتكار فى ميادين هذه الحياة الرحيبة. ولكل إنسان أن يحترم شخصيته من هذه الناحية ويمنحها المجال الذى تعمل فيه وتنتج وتخترع فيه وتبتدع وتضع من القواعد وتبدى من الآراء ما يثب فوق سدود التقاليد العتيقة ويتخطاها. لا حرج فى ذلك على أحد، فالناس أعلم بشئون دنياهم ويجب أن نعلم أن كل دنيا لا يتم الدين إلا بها فهى دين على حد ما يقول علماء الأصول " كل ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب". ومن ثم نعرف أن ما يتطلبه الإسلام فى عالم الصناعة والاقتصاد وغيرهما من سيادة يفرض على المسلمين جهودا هى دين ودنيا معافيها من الدين وجوب العمل، ومن الدنيا حرية الوسائل... أما موقف الإسلام من حقائق الدين، فهو على النقيض مما سبق، فقد أغلق كل ما للتجديد من أبواب، وفرض على الناس التزام نصوص الكتاب، وحظر على العقول أن تأتى من لدنها بزيادة فما بعد وحى الله إلا أهواء النفس ووساوس الشيطان ( أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به). وعلى الإنسان أن يتحرى ما ورد ليسير على آثاره.. إننا نريد اتباعا فى الدين وابتداعا فى الدنيا، وبذلك وحده ننهض! حكمة وغباء: يعرف المسلمون أن القرآن الكريم نزل منجما، وأن آياته لابست حوادث عشرين عاما أو يزيد. ولأسباب النزول(4/93)
علم طويل يدرسه من شاء! ولكن كل امرئ آتاه الله عقلا يفقه به لا يستسيغ أن يستشهد بآيات الحياة فى مواطن الموت، ولا أن يتلو ص_086
آيات الميراث فى حالات الميلاد والفصال! نقول هذا لأن ما شاع بين المسلمين أخيرا من الإيغال بالاسترسال فى التلاوة من غير تدبر جعلهم يخلطون خلطا قبيحا فى طرائق فهم الآيات والعمل بها. وتبع ذلك إهمال مؤلم لآيات أخرى من صميم القرآن، كاد الاستشهاد بها ينعدم مع فرط الحاجة إليها... خذ مثلا قوله تبارك وتعالى : ( وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما). لهذه الآية موضعها الحق من أدب المعاملة وحسن الخلق، وهى توجه للرجل الموفور العزة والكرامة، فإذا تغيرت الأوضاع وبدأت بوادر الذلة، فإن فى القرآن نغمة أخرى تلائم الحال الجديدة ( والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون )... والحكمة كل الحكمة فى حسن التطبيق ودقة الأخذ. أما أخذ آيات السلم للحرب، وأخذ آيات الحرب للسلم، فغباء لا يهدى إليه الإيمان، ولا يليق أن ننظر به إلى القرآن...! ص_087(4/94)
23- خواطر حرة [ 2 ] الوقار: لكى يكون شعور المسلمين بفكرتهم سليما عميقا. واتجاههم نحو تحقيقها بينا قويا يجب أن يبدو ذلك جليا فى سمتهم ومسلكهم وحقيقة تصرفهم، ومن المقطوع به أن أصحاب الدعوات الكبرى تنضح أرواحهم بعقائدهم، وتفيض مجالسهم بإيمانهم حتى لايتسع لفضول الحديث ولغو القول بله العبث والتعطل والاستهتار!! ولسنا من دعاة التزمت واصطناع السكينة المتكلفة. كلا فما أبعد روح الإسلام عن ذلك كله، ولكنا نحب أن يحس كل أخ مسلم بموقفه كصاحب رسالة يريد أن يطلع على الحياة مع الشمس نورا وهدي، حاملا أشعة الحقيقة التى تنتعش بها أرواح، وتموت فى لهيبها حشرات.! لقد هزم المشركون يوم بدر، فآلى كثير منهم على نفسه أن يهجر ملذات الحياة، وأن يبتعد عن مرحها ونعمائها حتى إذا أدرك ثأره قال: فساغ لى الشراب وكنت قبلا أكاد أغصى بالماء الفرات إن المسلمين الآن ينبغى أن يحيطوا أنفسهم بشيء من التجهم للجو الذى يتنفسونه اليوم. والوقار الذى تبدو ملامحه الجادة على وجوه بعض من المسلمين نريد أن يشيع حتى يشمل الجميع ليدل على أننا نعرف ما علينا من تبعات جسام نحو مستقبل الإسلام! وإنه لمن المستنكر - فى منطق هذه الدعوة - أن يتضاحك قوم من حال أو أن يتبذل قوم فى تصرف أو أن يخرج قوم عن حدود هذا الوقار! الفن الإيطالى والمرأة: للمرأة منزلة خطيرة فى الحياة العاطفية والأدبية والعقلية بين أبناء قياصرة الرومان البواسل! جعلت رموز النهضات عندهم لاتخلو عن ملامح المرأة وسماتها ص_088(4/95)
حتى كان رمز العدالة امرأة عمياء ورمز النهضة فتاة ناهدة، والعهد قريب بجمعية إيطاليا الفتاة! والأمثلة كثيرة يعرفها عشاق الفن الإيطالى أو صرعى الضعف البشري، والرقة الكاذبة والأخيلة المخنثة من الشباب الضعيف، ولاريب أن هذه الروح لها مدخل كبير فى أن القوة الإيطالية لا وزن لها، وأنها برغم الادعاءات العريضة لا تستحق غير الاحتقار!! ولكن هذا العبث الفنى سرى إلى مصر يحاول ربط مشاعر الناس بهذه النواحى الضعيفة، مع أن الرجولة الشرقية والروح الإسلامية تعاف أن يكون ترجمان إحساسها هذا الفن الهزيل، ولا تزال كثرة الشعب تتساءل لماذا يكون تمثال نهضة مصر بنتا واقفة بجانب أبى الهول! ولماذا لايكون شابا عارما جلدا مثلا، على التسليم بجدوى هذا أو بجوازه؟؟ احذروا أيها الشباب الفن الإيطالى إن تقاليدنا تعطى الرجولة كرامة عظيمة وتحترم الشعور القوى الصحيح. إدارة مطبوعات: تمنيت لو كانت الرقابة على ما ينشر بيننا يمتد حدودها ويتسع عملها حتى تشمل كافة الكتب التى تنتمى إلى الإسلام وتحمل اسم "الكتب الدينية!!" فإن هناك ركاما من هذه الكتب المحشوة بالأباطيل والخرافات يطغى على تفكير العامة ويشوه أعمالهم ويسيء إلى جوهر الإسلام الصحيح إساءة بالغة! وليس بكثير أن ننشئ إدارة تجعل همتها مقصورة على ميز الخبيث من الطيب وتبيان الحق من الباطل بين مئات الكتب التى خلط أصحابها فى فهم الإسلام وشردوا فى شرح حقائقه، وغالوا فى تقدير بعض تعاليمه، وقصروا فى تقدير بعضها الآخر. وإن من الملاحظ أن المكتبة الإسلامية تعانى اضطرابا كبيرا مما خلفته القرون الطوال من مؤلفات خضع الكثير منها لمؤثرات القرون الضعيفة أيام الانحلال الأدبي، وفوضى الولاة وفن السياسات المتتابعة!! ولقد كنا نود لو قامت جماعة كبار العلماء بهذا الواجب الخطير وخصوصا وهو أول مناهج رسالتها العلمية، ولكنا نأسف ولنا عودة إلى هذا الموضوع. ص_089(4/96)
24- خواطر حرة [ 3 ] دين دولى لا فردي : من خصائص الإسلام الأولى أنه دين امتداد لا انكماش، دين لا يستقر فى قلب إلا ريثما يأخذ أهبته لاحتلال قلوب أخرى ولا يظهر فى جماعة إلا لكى يتغلغل فى ظواهر حياتها وبواطنها، وليجعل من مناهجه دعائم كيانها وأعصاب شعورها! ونظرة خاطفة إلى تاريخ الإسلام السياسى تدل على هذه الحقيقة حتى لتجد أن فترة الدعوة إبان البعثة كانت دعوة لتكوين الدولة والجماعة فى ظل التكوين الروحى للنفس! وإذا كان يصعب علينا أن نتصور الاشتراكية أو الشيوعية أو الديمقراطية نظما تأخذ وضعها الكامل وامتدادها الطبيعى فى حياة رجل منعزل أو أسرة محدودة، فأصعب من ذلك تصورا أن يكتمل الإسلام أو تتحقق رسالته داخل هذا النطاق فى الحدود السابقة، وأية قراءة للكتاب الكريم توحى باليقين الراسخ فى هذا! فهل يفهم المسلمون دينهم على حقيقته العظيمة؟ سل جماهير الفلاحين والعمال وطوائف المتصوفين والمتزهدين وطبقات المتعلمين والمتعالمين، وأخيرا سل تجار السياسات من شتى الألوان الشاذة والمألوفة: إن الإسلام لدى هؤلاء جميعا لا يعنى إلا "هامش الحياة" فيما يواجهون من صميم الحياة! ألا فليعلم كل ذى عقل أن الإسلام دين دولى لا فردى يتعبد الإنسان بتعاليمه ليكون جزءا من منهاجه الأعظم المشرف على كل شيء ذى بال، لا ليكون "بوذيا" هاربا فى صومعته عن ميادين المال والأعمال وعن دنيا الكفاح والنضال. العلم الرخيص: وأقصد العلم الدينى الذى تستطيع أن تشترى أعظم مصادره بقروش معدودة وأن تستمع إلى خيرة أساتذته من غير مقابل! للناس موقف عجيب من هذا العلم، يستكثرون منه ويقلون عند مطالبه، ولقد دلتنى تجاربى على ضرورة البخل والتحكم فيما يقال للناس من عظات وفيما يشرح لهم من دروس!! كنت أتنقل من مسجد ص_090(4/97)
إلى مسجد، وأتحول من شعبة إلى شعبة، وأسوق من الآيات والأحاديث ما يكفى القليل منه لنفع كثير ولكن كثرة العرض لم تزد هذه البضاعة إلا رخصا لأن هذه سنة الحياة التى لاتتخلف... وزهدت مرة فى إلقاء الدروس بالمسجد الذى أعمل به، فتألم الناس وراحوا يتساءلون!! ويتبرمون فقلت: لماذا؟ ويحكم. إن بعض ما سمعتموه فى ساعة كان يعتبر زادا دسما لإيمان المسلم الأول سنين عددا. كان العربى يمسك بزمام ناقة الرسول معترضا إياها سائلا عن الإسلام فيسمع الإجابة العابرة ثم لا تلقاه بعد إلا رجلا يرشحه عمله لرضوان الله وواسع جنته، لا محاضرات هناك ولا دروس.! إن الدعوات الكبرى لاتحتاج إلا إلى التكوين والإيمان. صدقت ذلك الأحداث الغابرة والمعاصرة.. ثم يعطى العلم بقدر وينفق منه بحساب. الرفق بالحيوان: لا تزال الليالى تلد العجائب، ومن عجائبها مسألة الرفق بالحيوان وجنسية القائمين بها، هى فكرة لاريب فى سموها، وفى الإسلام مأثورات شتى عن صاحب الرسالة العظمى توصى آكد وصاية بوجوب الرفق بالحيوان وحسن العناية به. ولكن هذه الآثار الكريمة اندثرت عمليا بين جماهير الناس وبقيت فى بطون الكتب حروفا مرسومة فقط حتى ارتفعت بعض الصيحات من أوربا تتضمن دعوة لتنظيم فكرة الرفق وتشكيل الهيئات التى تهدف لذلك و... انتقلت إلينا الفكرة، وعادت الأحاديث النبوية تظهر من جديد!! فأين كانت مختفية؟ أفلا نذكر عندنا حتى يذكرنا الغير به؟ كنت فى الإسكندرية منذ أعوام، فرأيت رجلا غليظ الشوارب يقود عربته وينهال على خيلها بالسياط الملهبة، ولكن هيهات أن تتحرك إلا ببطء، وفجأة هبطت امرأة أفرنجية من موظفات المجلس البلدى اهتزت لمرآها شوارب الرجل، وبعد قليل رأيت محضرا تحرر، ومقدارا من البضائع يقذف من فوق العربة لتتمكن الخيل من السير، آذانى جدا هذا الموقف، لا لشيء إلا أن هذا موقف المسلم الجهول تحاول تهذيبه امرأة بعثت بها الحضارة المنافقة إلى ربوع الإسلام المتألم من(4/98)
مسالك أهله وبنيه، هذه حالة نستطيع رؤية أمثالها فى غير ناحية من نواحى حياتنا المتشعبة. فيا أهل القرآن زينوا القرآن بالفعال. ص_091
25- من صحائف المجد [ 4 ] الأسير الفقيه نمى أمر الأسير الفقيه ومحاوراته الطريفة إلى الملك وكبير بطارقته فطلبه إليه وسأله ما هذا الذى بلغنى عنك من انتقاصك لدينى ووقيعتك فيه. قال واصل: إنى لم أجد بدا من الدفاع عن ديني! فتدخل كبير البطارقة محاولا بوقاره وهيمنته الروحية أن ينهى هذا الأمر، ونظر واصل فرأى تحت أردية الكهنوت جسدا متين البناء، عارم القوة، فسأل الملك بغتة هل للحبر الأعظم من زوجة وولد، وعرف الملك مثار التساؤل فقال له: صه هذا أزكى وأطهر من أن يتصل بامرأة! أو يستمتع بجسد فقال واصل على الفور: تأخذكم الغيرة من نسبة المرأة إلى هذا وتزعمون أن رب العالمين سكن جوف امرأة وعانى ضيق الرحم وظلمة البطن، عجبا تعبدون عيسى لأنه لا أب له فلم لاتضمون إليه آدم فيكون لكم إلهان. أو عبدتموه لأنه أحيا الموتي، فعندكم فى الإنجيل حزقيل مر بميت فأحياه وتكلم معه فضموه كذلك إلى شركة الآلهة! أو عبدتموه لأنه أراكم المعجزات فهذا يوشع رد الشمس إلى فلكها وكادت تغرب أو عبدتموه لأنه عرج فى السموات فهؤلاء ملائكة الله مع كل شخص أعداد يتناوبون بالليل والنهار أو... فقاطعه البطريق. اخسأ يا شيطان هذا التجديف أحل بك القتل! - إننى أسير وثم ورائى من إذا بلغه خبرى لم يمنعه مسلككم معى من أن يثأر لي. أيها الملك سل هؤلاء الأساقفة عن الأصنام التى فى كنائسكم هل تجدون لها فى الإنجيل مبررا؟ فإن كانت فى الإنجيل فلا كلام لنا وإلا فما أشبهكم بالوثنيين! قال الملك وقد أخذته دهشة وانجلت عن بصره غشاوة: صدقت، قد يعقل ماتقول!- (إن الله يعلم ما يدعون من دونه من شيء وهو العزيز الحكيم). قال القس: هذا شيطان من شياطين العرب أخرجوه من حيث جاء ولا تقطر من دمه قطرة فى بلادنا فتفسد علينا ديننا. وعاد واصل ومن(4/99)
معه من الأسرى وقد بدلوا من انكسارهم بانتصار!. ص_092
26- خواطر حرة [ 4 ] إيمان وعصيان: للمسلمين موقف غريب من دينهم يجعلنا نتساءل هل يصدر الناس أعمالهم مدفوعين إليها بما يريدون ويشتهون أم نزولا على أوامر الإسلام كما يزعمون؟ يضحكنى أن أجد بعض الناس يستسيغون أعمالا ما لأن لها أسانيد ضعيفة من السنه، أو ليست هناك أسانيد ضدها، ويتركون أعمالا أخرى صلتها بمصادر التشريع متغلغلة الرسوخ لم يطمس معالمها إلا غبار النسيان الطويل على مر القرون! قلت لرجل يلبس ثوبا مترفا لماع الأديم: ما هذا؟ فقال: إن هذا ليس بحرير خالص، وقد روى ابن عباس - واطمأن إلى قوله العلماء- أن مثل هذا حلال! فقلت له: إن زينة الحياة الدنيا هى التى دعمت هذا الأثر وأطلقت للناس حرية العمل به، ولولا هذه الدعامة العجيبة لمات هذا الأثر ميتة ليس لها نشور! قال: ماذا تعني؟ - أعنى أن أبا ذر روى وجوب استواء الخادم والمخدوم فى لباسهما فانبرى الكثيرون لتأويل النص. وهانحن نجده أثرا معطلا فى حياتنا العملية لأن شئون الدنيا وطبائع البشر خذلت من السنة مايهذب الطبقات ويمحو الفوارق ونصرت من السنة مارأته قريبا من رغائبها لايكلفها أداؤه إلا ثمنا تافها هو الوجاهة فى هذه الحياة! ونعم التكليف! الخليفة: كان اسم الخليفة فى صدر الإسلام يرادف الزعامة التى تلتقى عند روعتها مقاليد الدين والدنيا جميعا، وكانت السلطة والسطوة اللتان تقرنان بهذا المنصب تشبه على ضرب من التنزل ما يستمتع به قادة العالم الآن من جاه وعظمة، ونعنى بأولئك القادة أمثال هتلر وتشرشل.. وأندادهما، ولكن ظلت المعانى الإسلامية العليا تتحور وتتطور، وظل العرف الإسلامى يسقط وينحدر حتى صارت الخلافة لقبا لشيخ طريقة! وأصبح لموكب الخليفة فى هذه الأيام أبهة يشترك فى إقامتها عساكر البوليس ومشايخ الخفراء! ص_093(4/100)
إن العجب فى أمر الأمة الإسلامية أن تخلط مساخرها بعظائمها خلطا منكرا، فهى كما تسيء بأخلاقها إلى دينها تسيء بمسلكها إلى تاريخها. وهذا الانهيار المعنوى يجب أن نحاربه حربا حاسمة حتى نمنع عدوان الهزل على الجد، وحسبنا ضعفا أننا حولنا الجهاد من ميادينه على هذه الأرض وفى أرجاء هذه الحياة. إلى ميادين لا تسمع ضجتها إلا بين الضلوع. ثم نسميها غرورا- ميادين جهاد النفس.. أهذا التلفيق المكذوب هو عدة الفوز المطلوب؟؟ عبادة الأحياء: بذل بعض الغيورين على التوحيد جهدا مشكورا فى إعلان الحرب على تقديس المقابر وعبادة الهالكين فى جوفها! ولكن فاتهم أن هناك أقواما من البشر يعبد بعضهم بعضا وهم لما يزالوا فوق الثري! وعبادة الأحياء لا تقل نكرا عن عبادة الموتي، ولا تقل خطورة على التوحيد السامي.. هناك أناس إذا حزبهم مكروه، قرعوا كل باب إلاباب الرحمن وأناس يرون أن "فلانا" الكبير بيده مقاليد الأرض يفتح من خيراتها على من شاء. وأن "فلانا" الخطير هو ولى النعم الذى ينبغى أن تمرغ الجباه فى حضرته. وأن تظهر الذلات فى ساحته. وأن "فلانا" العظيم هو أهل التقوى وأهل الزلفى الذى يلتمس ثوابه ويخشى عقابه وأن.. إلخ وما أسرع ما ينقلب الحب النسوى عبادة فيكتب الرجل إلى عشيقته "معبودتي" وفلانة معبودة الجماهير. هذه كلها ضلالات لاتسوغ. وأنت أيها الأخ المسلم لا تخفض هامتك إلا لله ولا تبغى الخير إلا عنده. وأسقط من يحاول فى الأرض العلو! أإله مع الله؟!! تعالى الله عما يشركون. ص_094(4/101)
27- خواطر حرة [ 5 ] سباق عجيب: قرأت مرة أنه أقيم سباق للطيران لم يكن توزيع الجوائز فيه على الطيارين الذين يصلون إلى النهاية قبل غيرهم. بل كانت تعمل معادلات خاصة لمحو التفاوت الكائن بين قوى الطائرات وما تستطيع الآلة - فى حدود طاقتها - أن تقطعه. ومعنى هذا أنه يحدث أن تصل إلى المطار طائرة مسبوقة بأربع طائرات أخرى ولا تأخذ الجائزة الخامسة بل قد يكون نصيبها الجائزة الأولى مثلا - ذكرنى هذا بالتفاوت الشاسع بين قيم النفوس وما أودعه الله تعالى فيها من ذكاء ومقدرة ونشاط تختلف أنصبة الناس منها جميعا اختلافا كبيرا. إنى أعتقد أن نفوس الناس أشبه ما تكون بمصابيح الكهرباء هذا يضيء بقوة خمسين شمعة والآخر بقوة مائة وغيرهما بقوة مائتين وهكذا فإذا أضاء المصباح ذو المائة شمعة بقوة سبعين فقط فهو أكثر عطلا من مصباح ذى خمسين شمعة يضيء بأربعين. وإن كان المصباح الأول - فى نظر الناس - خيرا من الأخير. ما أكثر الذين وهبهم الله نفوسا كبيرة فأضاءت نفوسهم من دينه بقدر إن زعمه الناس كبيرا فهو عند الله صغير. وما أكثر الذين أعطاهم الله نفوسا محدودة فاستنارت بصائرهم من دينه بقدر يحسبه الناس هينا وهو عند الله عظيم. ( يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون). ص_095(4/102)
نصيبنا من هذه الحضارة: رأيت سيارة نقل ضخمة واقفة تحمل أثقال البضائع التى ستسافر بها قاطعة أبعد المسافات موفرة على الإنسان وعلى الحيوان عناء ما بعده عناء. وحانت منى التفاتة فرأيت اسم السيارة مكتوبا عليها بخط جميل واضح ولكنى ما كدت أقرأه حتى هززت رأسى من أسف ومن عجب فقد كان الاسم الذى اختاره صاحب السيارة لسيارته "كايداهم" فقلت فى نفسى ياعجبا!! هذه الآلة من وضع عقل يخترع الغرائب وهذا الاسم من وضع عقل يخترع الغرائب ولكن من طراز آخر. أيكون جهد الغربيين هو الانصراف إلى هذا التقدم المادى ثم يكون نصيبنا من هذه الحضارة لا التقدم المادى ولا التقدم الروحي. أجل، فهل فى هذا الاسم المختار إلا ما يدل على تقطع الصلات وضيق العطن. إن هذه الظاهرة توضح سوء استغلالنا لما يمكننا أن نستخدمه من هذه الحضارة المادية فى أسمى الأغراض وأنبلها ولكنا لضعفنا الأدبى نستبدل الذى هو أدنى بالذى هو خير، ومن ثم كانت حالنا فى الإفادة من جميع المخترعات الغربية لا تخرج عما يريح أجسادنا وينفس عن أهوائنا وشهواتنا. أما ديننا وأما رسالتنا فى هذه الحياة فنحن عنها عمون. طالع العام: لا تغرن المسلم كثرة شيء فيحسبه حقا فإن قدم الخرافة لا يزكيها وكثرة الأباطيل لا تردها صوابا ( قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث فاتقوا الله يا أولي الألباب لعلكم تفلحون) وفى جوانب النفس الإنسانية ناحية تسودها الغفلة وتجعل المرء يتقبل أحيانا ما ينكره عليه عقله وما ينكره عليه دينه فاحذر أن تكون من هؤلاء... يدعونا إلى هذا الكلام انتشار التقاويم المشحونة بالتنبؤات عن حوادث العام وما فيها من حياة وممات وانهزامات وانتصارات كأنما انجابت أمام أصحابها أسداف الغيب فعلموا ما هنالك.. ص_096(4/103)
يقول قتادة: "خلق الله هذه النجوم لثلاث جعلها زينة للسماء ورجوما للشياطين وعلامات يهتدى بها فمن حاول فيها غير هذا فقد أخطأ حظه وأضاع نصيبه وتكلف ما لا يعنيه وما لا علم له به وما عجز عن علمه الأنبياء والملائكة - والله – ما جعل الله فى نجم حياة أحد ولا موته ولا رزقه إنما يفترون على الله الكذب ويتعللون بالنجوم". ومع هذا فقد كان أبو معشر الفلكى مقربا من بلاط أحد الخلفاء العباسيين ولايزال العامة ينظرون فى الورق ويبحثون فى الكف علهم يدركون ماذا تكسب النفوس غدا وبأى أرض تموت ويعجب هل يقرأ هؤلاء قول الله ( وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو).. وهل يؤمنون بها؟ أم أن الأمر غفلة رانت على القلوب فحجبتها عن أول مدارج الإيمان بالله وبأسمائه وبصفاته؟! ص_097(4/104)
28- خواطر حرة [ 6 ] ذكاء فى الضلال وغباء فى الهدي أكره الرجل يكون قويا فى عصيانه فإذا اهتدى كان ضعيفا فى تقواه! وأكره الرجل يفهم دقائق الأمور ويحسن مواجهة الحقائق ولا يستطيع أحد أن يضحك منه إبان انطلاقه مع شهواته واسترساله فى مطاوعة أهوائه فإذا تاب وأناب استغلق تفكيره واضطرب تصرفه حتى إذا كان تاجرا لم يحسن الربح فى تجارة الآخرة كما كان يحسن فى تجارة الدنيا، وإذا كان رئيسا لم يستطع ضبط شئونه كما كان يديرها قبلا بكل دقة. ومن المضحكات أنى أعرف رجلا كان فى جاهليته بارزا مرهوبا فلما طلق حياة الشقاوة آثر أن تكون طاعته لربه على نحو لاغناء فيه فهو يصلى الصبح فى الحسين والظهر فى السيدة والعصر فى الإمام... إلخ، ثم هو يندفع فى هذه العبادة بحماسة تجعل قلبه يتعلق بما أدخله العرف الخاطئ على الدين من قشور ومظاهر. فكأنما انتقل من ضلال إلى خبال!! هذا إخلاص قتل الجهل قوته وبدد فائدته. والإيمان يحتاج إلى العلم والذكاء كما يحتاج إلى طيبة القلب ويحتاج إلى المهارة والحنكة كما يحتاج إلى مرونة النفس ولأمر ما دعا النبى صلى الله عليه وسلم أن يعز الإسلام بأحد العمرين... للعمل وللدعوة: دين الله كالكائن الحى المكتمل فيه أعضاء لا غنى عنها لوجوده فلو أصيب فيها أدركه الفناء لا محالة وفيه أعضاء أخرى يستكمل بها أسباب وجوده فهو إن عاش بها عاش سويا وإلا كان مشوها مبتورا، مثله فى ذلك مثل الجسد الإنسانى إذا قطع رأسه أو انكسر عموده مات وقد تصيبه أعراض أخرى تتفاوت خطورة وتفاهة من الإصابة فى الظفر إلى الإصابة فى البصر إلى غير ذلك.. ومنزلة النافلة فى الإسلام غير منزلة الفريضة ومنزلة المكروه غير منزلة المحرم وإذا ص_098(4/105)
رأيت إنسانا مفرطا فى الأركان فلا يخدعنك عن حقيقة إيمانه تمسكه بالنوافل فإن النوافل هنا ليست مظاهر إيمان بل هى ستار كفران. اعرف هذه الحقيقة حين تعمل وحين تدعو. حتى لا تزيغ فى فهم الصواب ومحاربة الباطل ولقد ذكرت لى حكاية عن أحد الدعاة، كان يخطب الجمعة فلم يمسك السيف الخشبي، ولما سئل عن السبب لم يكن لبقا فى الرد بل تكلم عن بدعة السيف الخشبى وآثار عجاجة البحث فى هذا الموضوع الذى زعمه خطيرا واشترك فى هذه المعركة الأئمة السابقون ممن كانوا لايرون بذلك بأسا، وكاد الأمر يحدث فرقة بين جمهور المسلمين لأن خدشا أصاب "ظفر" الدين.. وحدث عن آثار هذه المعركة فى النفوس وعن آثارها فى حجب الناس عن النوائب التى تمسك بخناق الدين لا بسيفه الخشبى البارد.. حكمة واجبة: طب الأرواح كطب الأجسام علم وفن!! يزور الطبيب رجلان مريضان يطلبان لديه الشفاء من ضعف يحسان به فيصف الطبيب الغذاء الجيد لأحدهما لأنه مريض بالسل ولكنه لا يصف هذا الغذاء لضعف المريض الآخر إذ إنه مصاب بالسكر. ومعنى هذا أن سبب الضعف هو الذى يملى نوع الدواء ومثل هذا يقال فى علاج الأرواح واختيار الأدوية الناجعة لمرضى القلوب. فقد يصف الرسول صلى الله عليه وسلم دواء لشخص ما.. فيكون من الخطأ أن نصف الدواء نفسه لشخص آخر لأن الرسول الأعظم وضع لهذه الحالة الأخرى دواء آخر يخصها، والعالم الجاهل قد يسيء إلى الدين وإلى الناس بعدم بصره بأسباب الداء وأصول الدواء فيصف للإنسان المصاب بفقر الدم رياضة تقتله، ويصف للإنسان المصاب بضغط الدم علاجا يزيده سوءا على سوء - إذا قال رسول الله: "لا تغضب" فاعلم أنها لم تقل لشخص بليد العاطفة، فلا تقلها له. وإذا قال: "اتقوا الله وأجملوا فى الطلب" فاعلم أنها لم تقل لقعدة البيوت، فلا تقلها لهم. وإذا قال: "إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق". فاحذر أن تقولها لرجل كسول فى العبادات... الخ. ص_099(4/106)
29- فقر في: العقيدة والأخلاق والأعمال يظن الكثيرون أن الشرق الإسلامى أصابه فى العصر الحاضر ما أصابه من ضعف وتقهقر لأنه فقير إلى بأس الحديد وحشد الجنود ولأن أعداءه أكثر منه مالا وأعز نفرا، وذلك خطأ فإن المسلمين قد هانوا حقا، ولكن لأنهم فقراء إلى العقيدة والأخلاق والأعمال وأعداؤهم قد عزوا حقا، ولكن لأنهم – ولا نفتات عليهم - لا يقلون غنى فى قواهم المعنوية عن غناهم المفرط فى قواهم المادية القاهرة، فإن إيمان هؤلاء الناس بما عرفوا من أوهام كان أرسخ من إيماننا نحن بما اعتنقنا من إسلام، وتضحياتهم لما اطمأنوا إليه من باطل أعظم من تضحياتنا فى سبيل ما ورثنا نحن من حق، ومتى التقى الحق الضعيف بالباطل القوى فى ميادين الكفاح الإنسانى فإن النتيجة المحتومة لا تتغير، وسنة الله فى خلقه لا تجعل الإيمان الضعيف - وإن كان حقا - يغلب الإيمان القوى وإن كان باطلا، وإن أقواما اتحدت أهواؤهم على الضلال لا يغلبهم أقوام تفرقت آراؤهم ولم يزدهم الانتساب إلى الهدى إلا تشتتا ( وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفورا * استكبارا في الأرض ومكر السيئ ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله فهل ينظرون إلا سنت الأولين فلن تجد لسنت الله تبديلا ولن تجد لسنت الله تحويلا ) ولقد كانت الكتلة الكبرى من عامة المسلمين إلى أمد قريب سليمة القلوب قويمة الإيمان حتى جاءت النهضة الأخيرة منذ نصف قرن فمالت بالناس إلى حيث لا يعرفون ولا يألفون ولم تبال وهى تهدم الأوضاع القويمة أن تسلط معاولها على الخبيث والطيب منها ثم هى فى ثورتها على تأخر العقول أتت على ما وقر فى القلوب من إيمان طيب، فلما أرادت البناء تركت الأفئدة خرابا وشحنت العقول بما لا يجدى من المعارف الفارغة، ثم انطلقت بعدئذ وللهوى عليها ص_100(4/107)
سلطان مطاع فهى تنشط إلى بناء المسارح أكثر مما تنشط إلى بناء المصانع وتخف إلى تزويق المظهر الخادع أكثر مما تخف إلى تأسيس الجوهر النافع، ومادامت العقيدة القوية قد فقدت أو مرضت فإن آثارها من الأعمال العظيمة والأخلاق الكريمة لن يتحقق لها وجود إو هكذا تصبح الأمة فقيرة لا إلى غيرها من الأمم ولكن إلى العقيدة الدافعة والأعمال الكبيرة والأخلاق النبيلة: فقيرة إلى الله لأنها بحاجة إلى دينه: ( يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد * إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد * وما ذلك على الله بعزيز ) وأعراض هذا الفقر الأليم تلمحها العين وهى تنظر إلى شتى طبقات الأمة، فالتجار يحتكرون المقادير الثقيلة من البضاعة فى سبيل نفعهم الشخصى ولا عليهم أن يجوع الشعب أو يعري، وليس يزجرهم قول الرسول: (من احتكر طعاما أربعين يوما فقد برئ من الله وبرئ الله منه، وأيما أهل عرصة أصبح فيهم امرؤ جائعا فقد برئت منه ذمة الله تبارك وتعالى ) والموظفون لا يحسنون الولاية على ما بأيديهم من أعمال ولا يحرصون على كرامة من يتصل بهم من الناس ( وما من عبد يسترعيه الله رعية فلم يحطها بنصيحة إلا لم يجد رائحة الجنة ) والأطباء لا يقومون على مداواة المرضى كما يجب ولا يستخدمون مواهبهم كلها فى تمريضهم وذلك إنما يعود إلى فقدان الضمير الذى يتقى الله فى العباد ويفزع من التفريط فى أداء الواجب ويستمع إلى أمر الله له ( قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم * قل الله أعبد مخلصا له ديني * فاعبدوا ما شئتم من دونه قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين). والمجرمون لا يعدمون حين يرتكبون فظائعهم من يقف مدافعا عنهم الساعات الطوال طالبا تبرئة ساحتهم، وما أكثر ما يلمح الإنسان طوائف من العسكريين قد مشى أحدهم على الأرض مرحا يكاد يتعثر فى أذيال كبريائه غير مكترث بأحد وقد قال الرسول - صلى الله عليه(4/108)
وسلم - "بينما رجل يمشى فى حلة تعجبه نفسه مرجل رأسه يختال فى مشيته إذ خسف به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة" والصلات العامة بين الناس كلها تعانى هذا الفقر المدقع فى العقيدة والأخلاق والأعمال على حين تجد ص_101
الأجانب عنا لما فقدوا هيمنة دين صحيح على نفوسهم اتخذوا من المبادئ التى اصطنعوها أديانا وجعلوا من الإخلاص لها رقابة على تصرفاتهم كلها فأصبح القيام بالواجب وإحسان العمل وإرضاء الضمير أمرا مفروغا منه فى حسابهم، وبذلك استقامت أحوالهم أكثر مما تستقيم فى ظلال الحق عندنا لأننا لا نعرف من الحق إلا اسمه!! وفى ديننا ثروة من الأخلاق طائلة، ولكنها حبيسة فى الأوراق لا يكاد المجتمع يسمع عنها إلا العنوان البعيد عن حسه الغريب عن سلوكه بينما تفرض المبادئ القومية على أصحابها ضروبا من الأخلاق تعجب وتروع، إن المدنية فى أوربا ترجم بأثقال من المهلكات وتذر فيها الغارات من ألوان الفواجع ما يملأ النفوس كآبة وظلاما ولكن الابتسام لهذه الكوارث لا يفارق الشفاه والصبر على تحملها يستحق كل إعجاب، فلو أن كل جنازة صحبها ما نألفه نحن من ولولة النساء وحفلات القراء وذكريات الخميس والأربعين والعام وطول التفجع والأسى على حوادث الأيام لكان لحروب هؤلاء الناس شأن آخر، ولكنهم يعرفون أكثر مما نعرف معنى القول الحق ( يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور ) والنشاط فى هذه الحياة والحركة المستمرة بين أرجائها أخلاق نحن أفقر ما نكون إليها. يروى أن رجلا ممن ولدوا بالمدينة مات فيها فصلى عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - ثم قال : " ياليته مات بغير مولده، قالوا: ولم ذاك؟ قال: إن العبد إذا مات بغير مولده قيس بين مولده وبين منقطع أثره في الجنة" فأى الفريقين من الناس عمل بهذه الوصاة العظيمة: نحن الذين قبعنا في بلادنا حتى طرقنا غيرنا في دورنا أم أولئك الشياطين ممن(4/109)
جابوا الأرض شرقا وغربا حتى كشفوا مجاهلها؟ إن المسلمين قد يكونون فى أزمات مالية شديدة وفى ضوائق مادية عنيفة، ولكن الشيء الذى لا مراء فى صدقه أنهم يعانون أزمة مستحكمة الحلقات فى القلوب لا فى الجيوب وفى الأرواح لا فى الأجسام، إننا نعانى ضيقا فى العقائد والأخلاق لا فى الأموال والأرزاق. وما كان لمؤمن أن يضعف فى هذه الدنيا وإن قل نصيبه منها أو يتراجع أمام شدائدها لضآلة حظه فيها ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلمه أن "من أصبح آمنا فى سربه معافى فى بدنه عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها" ومن ثم وجب عليه أن يكون سابقا فى كل ميدان نوالا لكل خير ص_102
جريئا فى كل عمل موقنا بأن عدة النجاح ليست فى المال المذخور والجاه الموفور بل فى العظمة النفسية الكامنة والطاقة على مواجهة الحياة ( ليس الغنى عن كثرة العرض ولكن الغنى غنى النفس) إننا فقراء إلى العقائد التى تعمر صدورنا باليقين وإلى الأعمال التى تدل على بعد الهمة ومضاء العزم وإلى الأخلاق التى تدل على أن المعانى العظيمة أصبحت لنا عادة ودأبا. وتاريخ سلفنا الصالح حافل بالأمثلة التى تنبئ عن ثراء عريض فى هذا كله جعلهم ملوك الحياة وسادة الأرض: إن عدة النصر قريبة ولكن أنى لنا بها إذا لم ننتصر على أنفسنا! إن الذئاب لا تأكل أمثالها جرأة وافتراسا، ولكنها تهاجم القطعان الوديعة فقط! وهؤلاء الذين انسابوا من بلادهم بدوافع من الاستغلال الدنيء لن يجدوا الفرصة سانحة لهم أبدا فى أمة غنية بالعقيدة والأخلاق والأعمال وإن كانت مقترة فى المال والذخيرة والسلاح. ص_103(4/110)
30 - المال دين أو دنيا قيمة المال للمال قيمة خطيرة فى هذه الحياة. والناس منذ وجدوا يحبون المال ويتطلعون إليه، ومهما اختلفت الأمكنة والأزمنة فطبيعة الناس فى ذلك لا تتخلف، إلا أنهم يتفننون فى وسائل اكتسابه وطرق إنفاقه، فلا جرم أن يعتنى الإسلام بالأموال وأن يتدخل فى أحوالها مع الناس وفى أحوال الناس معها! ذلك إلى أن الإسلام دين حياة يواصل النشاط العمرانى على ظهر الأرض. ويمكن للقواعد السليمة التى يسير عليها ويعتبر ذلك من جوهر رسالته ومن هنا كان ديننا الحنيف ينظر إلى العمل وإلى القلب على أنه عبادة وجهاد ( مر رجل على النبى - صلى الله عليه وسلم - فرأى أصحاب رسول الله من جلده ونشاطه، فقالوا يا رسول الله لو كان هذا فى سبيل الله؟ فقال الرسول: (إن كان خرج يسعى على أولاده صغارا فهو فى سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على أبوين كبيرين شيخين فهو فى سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على نفسه يعفها عن السؤال فهو فى سبيل الله وإن كان خرج يسعى رياء ومفاخرة فهو فى سبيل الشيطان). وموقف الإسلام من المال، موقف لا مراء فى سلامته وصدقه، فهو لا يعتبر المال شرا محضا ولا خيرا خالصا، ومن الخطأ أن نظن الغنى شرا لا خير فيه أو خيرا لا شر فيه! فإن المال قد يكون طريقا يؤدى بصاحبه إلى الجنة كما قد يكون طريقا ينتهى بصاحبه إلى النار وقد يحسب المال فى ميزان الحسنات كما قد يحسب فى ميزان السيئات ( فأما من أعطى واتقى * وصدق بالحسنى * فسنيسره لليسرى * وأما من بخل واستغنى * وكذب بالحسنى * فسنيسره للعسرى * وما يغني عنه ماله إذا تردى ). ص_104(4/111)
طريق الخير وطريق الشر: والقرآن الكريم تارة يسمى المال شهوة من شهوات الدنيا الحقيرة التى ينبغى أن يصدف الإنسان عنها وأن يتخوف خطر الإقبال عليه ويجعله زينة من زينات الحياة الزائلة ولونا من ألوانها الحائلة. ( زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب ) وتارة أخرى يعتبر المال خيرا جزيلا وفضلا جميلا ونعمة تقوم بها الحياة ويصان بها الدين ويؤمر الإنسان بالمحافظة عليه ( ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولا معروفا). كما فتح عينيه للتطلع إليه ( يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء إن الله عليم حكيم ). ولو كان الإسلام دينا يقبل العزلة البعيدة ويستطيب العيش على هامش الحياة لدعا إلى التجرد ولوسعه أن يقول لأتباعه كما قالت بعض النحل السابقة (بع ما تملك واتبعني: لأن يدخل الجمل فى سم الخياط أقرب من أن يدخل الغنى ملكوت السموات) ولكن الإسلام لم يفعل ذلك ولم يمهد الطريق لملء التكايا والأديرة وموقف السنة المطهرة يشرح نظرة الإسلام إلى المال ويؤيد أغراض القرآن الكريم منه (بعث النبى - صلى الله عليه وسلم - إلى عمرو بن العاص فقال له: خذ عليك ثيابك وسلاحك ثم ائتني، فلما أتاه قال له: إنى أريد أن أبعثك على جيش فيسلمك الله ويغنمك الله وأرغب بك من المال رغبة صالحة، فقال يا رسول الله ما أسلمت من أجل المال بل رغبة فى الإسلام، فقال يا عمرو: نعم المال الصالح للمرء الصالح). وحوادث الحياة لا تزال تدل على أن كل دعوة تريد أن تسيطر على الحياة يجب أن تعتمد على المال إلى جانب الإيمان فالأمة الغنية هى لا ريب سيدة غيرها فى السلم والحرب: والمال هو الوسيلة الفريدة لإنجاح(4/112)
المشروعات الكبرى ولإتمام الأعمال الخطيرة، ص_105
وبديهى أن ذلك لا يتم إلا فى دولة لا تعتبر الفقر عبادة ولا تنظر إلى الغنى نظرة تنقص وازدراء وذلك ما عناه الرسول - صلى الله عليه وسلم - عندما شكا إليه فقراء المهاجرين فقالوا ( ذهب أهل الدثور بالدرجات العلا والنعيم المقيم يصلون كما نصلى ويصومون كما نصوم ويتصدقون ولا نتصدق ويعتقون ولا نعتق: فقال لهم الرسول: أعلمكم شيئا تدركون به من سبقكم وتسبقون به من بعدكم ولا يكون أحد أفضل منكم تسبحون وتحمدون وتكبرون دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين. فرجع فقراء المهاجرين إليه فقالوا: سمع إخواننا الأغنياء بما فعلت ففعلوا مثله، فقال الرسول: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء". الاكتساب والإنفاق: ولكن متى يكون المال خيرا لصاحبه ومتى يكون وبالا عليه.. يكون خيرا له إذا اكتسبه من وجوهه الصحيحة وسبله المشروعة وإذا ما غلب على دسائس النفس وأسباب الجشع "يا أيها الناس إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا وإن الله تعالى أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال : ( يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم * وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون ). وقال تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون). "ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعت أغبر يمد يديه إلى السماء يقول يارب يارب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذى من حرام فأنى يستجاب لذلك" نعم: يكون المال وبالا على الإنسان وفتنة له فى دينه ودنياه وإملاء له فى سبل الشر والضلالة إذا اكتسبه من غير حقه وأخذه من غير وجهه "إن رجالا يتخوضون فى مال الله بغير حق فلهم النار يوم القيامة" ويكون خيرا لصاحبه إذا أنفقه فى مرضاة ربه ومواساة عباده وتفريج الكرب وكشف الضر.. ثم على المسلم أن يقطع أسباب الجشع من نفسه وألا يترك لها الزمام تشتهى ما تشاء ولتسعى كيف تشاء "إن هذا المال خضر(4/113)
حلو فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه وكان كالذى يأكل ولا يشبع.." وكذلك يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأناس ألحوا عليه فى المسألة وأحاطوا به يطلبون منه من متاع الدنيا فهو يقول "ما يكن عندى من خير فلن أؤخره عنكم ومن استعف يعفه الله ومن استغن يغنه الله ومن يتصبر يصبره الله وما أعطى الله أحدا عطاء هو خير له وأوسع من الصبر". ص_106
فليس المؤمن حيوانا ينطلق فى هذه الدنيا ليآكل من كل ما وصل إليه فمه وليحرز من كل ما استطاع أن تصل إليه يده! كلا فقد علم كل مؤمن أنه لن تزول قدماه من ساحة الحساب يوم العرض الأكبر إلا إذا سئل عن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه؟ الحلال والحرام: وهناك أقوام يحاولون أن يخادعوا ربهم فهم يكتسبون المال من الحرام، وليس يعنيهم إلا أن تمتلئ جيوبهم به وأن تزخر خزائنهم منه ثم هم يحتالون بعدئذ لتسويغ عملهم بالإنفاق فى بعض نواحى الخير - يحسبون ذلك يزكى أموالهم ويطهرهم وهم فى ذلك خاطئون "من جمع مالا حراما ثم تصدق به لم يكن له فيه أجر" "من اكتسب مالا من مأثم فوصل به رحمه أو تصدق به أو أنفقه فى سبيل الله جمع ذلك كله فقذف به فى جهنم" ذلك بأن الله لا يبارك فى نفقة من مال خبيث ولا يحتسبها لصاحبها عملا صالحا حتى لو تجشم متاعب السفر البعيد لكى يؤدى فريضة الحج - أو لكى يأخذ لقب الحاج - إن ذلك كله لا ينفع ما دام مصدر ماله حراما جمع بسخط الله "إذا خرج الحاج حاجا بنفقة طيبة ووضع رجله فى الغرز فنادى لبيك اللهم لبيك ناداه مناد من السماء لبيك وسعديك زادك حلال وراحلتك حلال وحجك مبرور غير مأزور وإذا خرج بالنفقة الخبيثة فوضع رجله فى الغرز فنادى لبيك اللهم لبيك ناداه مناد من السماء لا لبيك ولا سعديك زادك حرام ونفقتك حرام وحجك مأزور غير مبرور". أصناف الناس: والله جل وعلا قسم الأخلاق والأرزاق على ما قضت حكمته فبسط وقبض كيف شاء، ولكن ليس لأحد أن يخاف(4/114)
ظلما ولا هضما من وراء هذا التقسيم الأعلى فليس الثراء والإعواز وليست كثرة المال ولا قلته أمرا يفصل وحده فى العواقب ويبت فى درجات الناس "إنما الدنيا لأربعة نفر: رجل آتاه الله مالا وعلما فهو يتقى فى ماله ربه ويصل به رحمه ويعلم أن لله فيه حقا فهذا بأفضل المنازل، ورجل آتاه الله علما ولم يرزقه مالا فهو صادق النية يقول لو أن لى مالا لعملت فيه عمل فلان فهو بنيته وأجرهما سواء، وعبد رزقه الله مالا ولم يرزقه علما فهو يخبط فى ماله بغير علم لا يتقى فيه ربه، ولا يصل فيه رحمه، ولا يعلم لله فيه حقا، فهذا بأخبث المنازل، وعبد لم يرزقه الله لا مالا ولا علما فهو يقول لو أن لى مالا لعملت فيه بعمل فلان فهو بنيته ووزرهما سواء". فانظر كيف أن منازل الناس بدينهم، وكيف أن المال يحكم عليه بما يلابسه من خير أو شر، ومن فساد أو صلاح قد يستكنان فى القلوب، وقد يظهران فى الأعمال. ولكنهما لا يفوتان على الخبير البصير. ص_107(4/115)
31- ساعات فى السماء..! أفتما رونه على ما يرى؟ لم يكن الأعراب الذين جحدوا النبوة يظنون أن أمرها سيدخل فى هذا الطور الرائع. لقد تعاظمهم أن يوحى إلى بشر على ظهر الأرض، فكيف بهم وهم يستمعون إلى أنه قد كلم فى السماء نفسها؟ أيكذبون؟ إن تكذيبهم الأول لم يثن عزم الرسول ولم يكسر همته ولم يحول الحقيقة عن مجراها الدافق فى هذه الحياة، وهم قد بالغوا فى الإنكار وجهدوا فى العدوان. فماذا أجدى ذلك عليهم؟ وهل تراهم استخفوا صاحب الوحى أو أوهنوا قواه؟ كلا! غاية ما حدث أنهم استكثروا على الشمس نورها فى مطالع الصباح فإذا بهم ينكمشون أمام أشعتها فى الضحوة الكبري! وها هو ذا النبى يتنقل فى مراحل الدعوة الناجحة. الوحى لا يفتأ ينهمر والمعجزات لا تزال تترادف والأصحاب يتكاثرون ويتظاهرون، والكفار يتضاعف عليهم التحدي، والقافلة تسير، والدنيا ترتقب غدها، ولن تستطيع قوى الضلال أن ترد النهار إلى ليل مهما حاولت، وهذا أبو جهل يسأل الرسول مستهزئا - هل من جديد؟ نعم أسرى بى الليلة! – إلى أين؟ إلى بيت المقدس! وهنا يصيح أبو جهل يا معشر العرب. فتنفض المجالس وتقبل صوب الصوت الدهش، ويحيط الناس برسول الله ثم يقول أبو جهل وكأنه امتلك الموقف كله – حدث الناس بما حدثتنى به. فيجيب الرسول في أناة وروية ورسوخ –نعم. لقد أسرى بى الليلة إلى بيت المقدس! وينطلق الناس ما بين مصفق ومتعجب ومستهزئ ويذهب أحدهم إلى أبى بكر ليسوق إليه النبأ الغريب عله يرتاب وينكس على عقبيه ولكن، أبا بكر يقول – لئن كان قال ذلك لقد صدق. إنى أصدقه فيما هو أبعد من ذلك. إنى أصدقه في الخبر ينزل من السماء في الغدوة أو الروحة! نعم إن رحلة جبريل من السماء إلى الأرض – وطالما تكررت – لا تزيد عنها رحلة أخرى من الأرض إلى السماء يكون فيها الروح الأمين، والصادق الأمين ( ما زاغ البصر وما طغى * لقد رأى من آيات ربه الكبرى). ص_108(4/116)
يوم من أيام الله: ولله فى هذه الحياة أيام يبث فيها وقائعه العظمى ويجعلها فاصلة فى حياة العظماء من عباده وتعرف فى تاريخ الإنسانية مقترنة بما تم فيها من أعمال خالدة فى هذه الأيام تستعلن القدرة الإلهية وتبين عن نفسها بيانا محسوسا واضحا! لأنها تعلو فوق سنن الكون المعتادة وأسبابه المألوفة وتطغى على حدود الزمان والمكان، ومن حقها أن تلفت الناس إليها لفتا عنيفا قويا ليستخلصوا منها شتى العبر ( أخرج قومك من الظلمات إلى النور وذكرهم بأيام الله إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور)، وهكذا يجب أن نذكر - نحن المسلمين - كيف أسرى الله بعبده ونبيه وحبيبه من مكة إلى بيت المقدس. ثم كيف اخترق الركب النبوى طباق السموات العلا، وكيف انفتحت أبوابها الموصدة ووقف الأنبياء مع وفود الملأ الأعلى يحيون القادم العظيم "مرحبا بالنبى الصالح والأخ الصالح" حتى ارتقى إلى مكان لم تطأه قدم بشر ولم يخفق عليه جناح ملك وسعد النبى الأكرم بخصائص الفضل الإلهى ومعانى التكريم الذى لم يظفر به أحد من قبل ولا من بعد، وكانت ساعة ترجح حقيقتها بالقرون الطوال والأعمار الفساح. رب عمر طال بالرفـ عة لا بالسنوات وقطيرات زمان ملأت كاس حياة! إن سر النار المقدسة التى آنس إليها موسى وهو يضرب فى جوف الصحراء واستمع من حولها إلى نداء الحق (وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى) هذا السر الكريم قد تحول مرة أخرى إلى نور ألاق البهاء وضاح السناء برق من جانب الأفق الأعلى لا من بطن الوادي! وهناك زج بالمصطفى فى النور (ولقد رآه نزلة أخرى * عند سدرة المنتهى * عندها جنة المأوى) ويصف الرسول هذه المكانة ص_109(4/117)
التى وصل إليها "ثم ذهب بى إلى سدرة المنتهى فلما غشيها من أمر الله ما غشى تغيرت فما أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها من حسنها فأوحى الله إلى عبده ما أوحي" لنريه من آياتنا: ظل النبى يدعو إلى ربه قرابة اثنى عشر عاما لم يشعر فيها براحة وطمأنينة "اللهم إلا طمأنينة القلب الكبير حين يرتاح لأداء واجبه على النحو الأكمل وإن ناله من ذلك العنت والألم" ولقد ظل الرسول - صلى الله عليه وسلم - يبلغ الوحى ويعادى الكفر ويواجه وحده عالما اجتمع أمره على الضلال ثم شاء الله أن يمد خاتم أنبيائه بقوة من لدنه تجدد عزمه وتضاعف جهده وتهون عليه ما يلقاه وتعده لمواجهة ماهو أكبر وأخطر فكان الإسراء وكان المعراج، كان ذلك الصنيع الخارق لغرض أعظم من تحدى المشركين والتعرض لتصديقهم أو تكذيبهم، كان الغرض منه إشعار الداعية المتعب أن الله معه وأن قوى الوجود كلها فى صفه وأن الذى أرسله لن يبعده عن كنفه أو يضن عليه بتأييده، وها هو ذا يؤثره بساعات فى السماء ويريه آيات الملكوت ومعالم الحق ومظاهر العظمة، ويجعله يؤمن ببصره بعد أن آمن ببصيرته، وهل تظن أحدا ينال منه سب الكافرين بعد هذه التزكية الإلهية، أو يرهب سطوتهم بعد ما رأى هوانهم فى جنب ما شاهد من عناصر القدرة الغالبة الرائعة؟ والأنبياء بشر موصولون برب البشر وليسوا من طائفة المصلحين العاديين، وجريان المعجزات معهم وعلى أيديهم أمر ليس جائزا فقط بل لابد منه ليصدقوا أنفسهم ثم ليصدقهم غيرهم، ونزول ملك بالوحى شيء خارق للعادة، ولكن أنى لنبى أن يعرف نفسه أنه مرسل من عند الله إلا بذلك وأنى للناس أن يصدقوه إن لم تنتصب معجزته شاهدا له ينافح عنه ويؤيد دعواه؟ فلا ينبغى أن تستغرب الخوارق فى حياة رسول، ولقد أكرم الله نبينا بالكثير منها! وحادثة الإسراء من بينها آية عجب، وقد حفلت بفنون من الرموز والإشارات لا يعقلها إلا العالمون ومع ذلك يبقى هيكلها الذى حكاه القرآن ووردت به السنة(4/118)
معجزة قائمة صريحة ترد كل تأويل وتمحل. لئن كان ذلك كله رؤيا منام فأى فتنة للناس منه! ( وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا). ص_110
إمام الأنبياء: إن الله قد أقام نبيه محمدا فى محراب الإمامة العامة لخلقه فالناس جميعا أتباع له يهتدون بهديه ويسيرون على نهجه وقد كانت رسالته مسك الختام لرسالات كبيرة سبقته إلى إرشاد الناس وتعليمهم ولكن هذه الرسالات المؤقتة لم تخل من ذكر النبى العظيم والتمهيد لبعثته وأخذ المواثيق له والتنبيه إلى أنه مصدق لما قبله مؤيد للحقائق الأولى ( وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصرى قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين ) ولذلك كانت ليلة الإسراء ملتقى كريما لأولئك الدعاة الأبرار إلى الله يتعرف فيها بعضهم إلى البعض تعرفا كاملا يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - "وقد رأيتنى فى جماعة من الأنبياء فإذا موسى قائم يصلي، وإذا به رجل ضرب جعد كأنه من رجال شنودة، وإذا عيسى ابن مريم قائم يصلى أقرب الناس به شبها عروة بن مسعود وإذا إبراهيم قائم يصلى أشبه الناس به صاحبكم - يعنى نفسه - ثم حانت الصلاة فأمهم" وكانت هذه الإمامة فى المسجد الأقصى الذى بارك الله حوله شاء الحق أن يقيمها دلالة على فضل الإسلام وعلى فضل نبيه، وإشارة إلى أنه دين الأزل ودين الأبد، ثم أخذ بعدئذ كل نبى مستقره من سمائه التى أحله الله فيها وعرج بالنبى إلى ربه وعاد الأنبياء واحدا واحدا يحيون القادم العظيم. مرحبا بالنبى الصالح والأخ الصالح، وإنك لتلمح فى هذه التحية وحدة الأديان فى عقائدها وغاياتها، وصلات النسب الروحى العريق بين أصحابها وتدرك كيف جعل الله أصولها متشابكة على اختلاف المكان والزمان وكيف أودع(4/119)
الله فيها السعادة الحقة لبنى الإنسان ( فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين ءأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد ). ص_111
32- بين الرجل والمرأة سبحانه وتعالى : من عجيب صنع الله فى هذا العالم أنه لم يخلق فيه شيئا يكتمل بنفسه ويستغنى عن غيره. بل جعل لكل شيء قرينا يتم به وجوده ويستمر به بقاؤه ويحفظ به نوعه ( ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون ) ونحن نشهد هذا الازدواج واضحا فى الإنسان والحيوان والنبات. وقد تقرر أخيرا أنه مطرد فى الجماد كذلك، فإن هذه الذرات الجامدة يحتاج بعضها إلى الآخر لتكون شيئا مذكورا كما تحتاج الدائرة الكهربائية إلى التيار السالب والتيار الموجب جميعا لكى تؤدى عملها وهكذا تشيع الزوجية فى مظاهر الوجود كله ثم يبقى الله وحده المستغنى بنفسه عن كل شيء وليس يستغنى عنه أى شيء يبقى وحده الفرد الصمد الذى لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد!! ( سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون) وقد خلق الله الجنس الإنسانى من ذكر وأنثي. وجعل بقاءه على ظهر الأرض أثرا لالتقاء نوعيه كليهما وشرع للناس سننا محكمة توضح العلائق بينهما وتحدد الاتجاه الطاهر الرشيد الذى يجب أن يتحول إليه الأفراد والجماعات.. آداب لابد منها: لا يكاد الإنسان ذكرا كان أو أنثى يقطع من عمره بضعة عشر عاما حتى تظهر على جسده وفى نفسه آثار غريزة قوية شديدة تغير نظرته إلى الأمور وفكرته نحوها وتؤثر فى مسلكه تأثيرا بالغا وتبدأ هذه الغريزة قوية شديدة قبل أن يقوى العقل ويشتد، وتبلغ أشدها قبل أن يدرك المرء رشده، ولذلك طالما اهتاج لها الشعور وطاش بها الفكر. وقد تدخل الإسلام فى هذه الحال وأصدر من الأوامر والنواهى ما يعتبر حصانة قويمة للخلق الإنساني. وتعاليا بالنفس إلى المكان اللائق بها. ص_112(4/120)
والغاية التى يهدف إليها الإسلام هى غرس العفاف والفضيلة فى دماء بنيه وتزكية أنفسهم وعواطفهم بشتى التعاليم ( يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم ). وقد توسل الإسلام إلى ذلك بطائفة من الآداب الكريمة يكفكف بها من حدة الغريزة ودسائسها فأمر الرجال والنساء بغض البصر ( قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ) وبين أن مجاهدة دواعى النظر ومغالبة نوازع الهوى تترك فى ضمير المؤمن لذة الانتصار على شيطانه ولذة الاستمتاع بمرضاة الله عنه "النظرة سهم مسموم من سهام إبليس من تركها من مخافتى أبدلته إيمانا يجد حلاوته فى قلبه" وكلف الإسلام المرأة أن تبالغ فى الاحتشام وفى ستر جسدها بما يقطع أسباب الفتنة: ( يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفورا رحيما ) ( وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون) والإسلام يرفض الثياب المنافقة التى تثير الفتنة أشد من العرى الفاضح. "صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات رءوسهن كأسنة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا" ص_113(4/121)
والإسلام إن كان قد أباح الزينة للإنسان. فإنما قرن ذلك بما يحدد مواضع الزينة ومواطنها! وحرم على المرأة أن تكشف عن زينتها لغير زوجها أو الأقربين من ذوى محارمها ( وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون) ، فإذا خرجت المرأة من بيتها لقصد مشروع فلتخرج ولكن على النحو الذى بينا سابغة الثياب عاطلة الزينة. وماعدا ذلك فهو جاهلية منبوذة لا تليق بمسلمة ( وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا ) والمرأة فى بيتها لا يجوز لأحد أن ينفرد بها ( يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا ولا مستئنسين لحديث إن ذلكم كان يؤذى النبى فيستحيى منكم والله لا يستحيى من الحق وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا إن ذلكم كان عند الله عظيما ) وتحريم الخلوة سد حاسم لمصادر الشر وجبال الإثم ومصايد الجريمة ( لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان) ذلك، وقد حرم الإسلام أن تخرج المرأة فى السفر الطويل وحدها مهما كانت غاية السفر كريمة نبيلة بل لابد أن يصحبها زوجها أو أحد محارمها ( لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر ص_114(4/122)
يومين من الدهر إلا ومعها ذو محرم منها أو زوجها) وقال رجل يارسول: "إن امرأتى انطلقت حاجة وقد اكتتبت فى غزوة كذا فقال له الرسول (اذهب فحج مع امرأتك) وبهذه الوصايا المشددة والنصائح المؤكدة يريد الدين أن يحافظ على طهارة أبنائه وأن يصون أعراضهم وأن يؤسس تصرفاتهم على المروءة الحقة والخلال العفة، وقاعدته فى ذلك الصراحة فى كشف الداء ووصف الدواء. غلط شائع: نعم هذه أدوية ولكن من الحق أن نقول إنها مؤقتة وأكثرها "مسكنات" للحالة التى تسبق الزواج وبقيتها ضوابط وحصانات للحالة التى تعقبه، ولأمر ما لم يعط الإسلام لقب الإحصان إلا للرجل المتزوج أو المرأة المتزوجة!! والواقع أن الزواج هو الدواء الشافى للغريزة الجنسية وإرشادات الدين حين نوجه الناس إليه إنما تدفع بهذه الغريزة إلى مجراها الطبيعى ووضعها العتيد فهى تبغى غض البصر عن المحارم لتفتحه كاملا على الحلال الطيب ثم هى تضع هذا الحلال الطيب فى سياج من تحريم الخلوة والتبرج حتى لا تتكدر متعته وتتحول حلاوته ومن ثم يقول الرسول ( يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ) ويقول: "من شاء أن يلقى الله طاهرا مطهرا فليتزوج الحرائر" وليس الترهب دينا يرضى عنه الله ورسوله وليست مكافحة الشهوة عبادة ما دام الزواج ممكنا، بل ذلك عبث يستنكره الإسلام ويراه شرودا فى فهم حقيقة التقوى، وقد حاول بعض الناس أن يعبد الله بهذا الضرب من الرهبانية وظن اعتزال النساء روحانية مشكورة وتغلبا على مطالب الجسد وطبائعه ولكن الرسول - صلى الله عليه وسلم - حسم الأمر بقوله: "إنى اتزوج النساء من رغب عن سنتى فليس مني" ويجب أن يعلم الناس أن العمر أغلى عند الله من أن يأمر بإضاعته فى إعلان الحرب على غريزة لا معنى لخصومتها وإكنان العداوة لها لأننا سنتعب فى ذلك كثيرا ثم لا نجنى من بعد ذلك شيئا طائلا فى دين أو دنيا!! جوع وشبع: ومع ذلك فإن العلائق بين الرجل(4/123)
والمرأة لم تستقر على الوضع الذى رضيه الله لهما، فأما الغرب فقد تحرر من القيود عامة وترك للشهوات المجال الواسع تنطلق فيه جهدها ولم يجشم نفسه أى مشقة فى الوقوف أمامها، وبعيدا عن معانى التحليل ص_115
والتحريم أوجد من أسباب الملاهى مايشبع الشهوة إلى حد البطر والتخمة بل أصبح ذلك من مقومات العرف الشائع عند الغربيين فحفلات الرقص وحمامات الشواطئ وتسويغ العري. إلخ، هذه كلها منافذ واسعة هى فى الحقيقة فوق ماتطلب الشهوة مهما جنت ثورتها وطاشت فورتها، ومن ثم كان وجود المرأة ضرورة فى كل شيء عند الغرب المادى المغرق فى مادته أما الحال لدينا نحن المسلمين فهى مضطربة كذلك فقد استمعنا إلى بعض الآداب الإسلامية السابقة وأهملنا البعض الآخر واضطربت أمورنا فى فعل ما اخترنا وترك ما أهملنا! فضاعفنا الحجاب وشددنا النكير وأسأنا الظن ثم جعلنا الزواج عسيرا جدا - مع أنه الوضع الصحيح للعلاقة بين الرجل والمرأة - فكانت الشهوة تعانى ضربا من الجوع ترك فى النفوس استعدادا لقبول الحضارة الأوربية بشتى مخازيها، وللجوع والشبع دسائس ملعونة يضطرب الإنسان فى عواقبها، وكثيرا مانجد الشر حين نظن الخير! وقد لايعدو الأمر بين الشرق والغرب.. ذلك فى إفراطه وهذا فى تفريطه قول الشاعر: (الإمام البوصيري) رضى الله عنه: واخش الدسائس من جوع ومن شبع فرب مخمصة شر من التخم فلنرجع إلى ديننا فى مثل هذه الشئون فهو أبر بالناس وأحنى عليهم من تقاليد الشرق والغرب على السواء! شركاء المجتمع: والإسلام بعد أن يقرر حكمه فى القضايا السابقة يبين لنا أنه يعتبر النساء شقائق الرجال فهو يفرق بينهما فى اليسير ولكنه يسوى بينهما فى الكثير ( فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثوابا من عند الله والله عنده(4/124)
حسن الثواب ) ومواضع التفرقة بين حقوق الجنسين وطبيعة عملهما فى المجتمع ترجع كلها إلى التفاوت الحيوى بين خصائص الجنسين وصفاتهما واستعدادهما بحيث تعتبر التسوية بينهما مع تحقق هذا التفاوت ظلما لا ريب فيه. ص_116
ومعنى ذلك أن الطبيعة قد وزعت الاختصاص فجعلت أكثر عمل الرجل فى الشارع وأقله فى البيت وجعلت عمل المرأة على العكس من ذلك، وما دامت فى الدنيا أسر وبيوت فلا نظن عقلا يحكم بجعل الرجل قعيد البيت والمرأة طليقة الشارع، وموقف الإسلام فى توزيع الأعمال وتوضيح الحقوق لكلا الجنسين هو موقف الطبيعة العاقلة والفطرة السليمة لا خلاف بينهما ألبتة، فامتياز الرجل فى تكوينه البدنى والعقلى والحيوى هو الذى جعله فى نظر الإسلام قواما على المرأة يرجح عليها فى طائفة من الحقوق المادية والأدبية ( الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن الله كان عليا كبيرا ).. نقول يرجح عليها ولا يحتكر دونها فإن دين الله لم يحرم المرأة شيئا يضيرها نقصه حين جعل ميزان التسوية والتفرقة قوله الرائع ( والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة والله عزيز حكيم ). ونحن باسم هذه الفطرة الإنسانية نقول: إن التخصص سمة هذا العصر وإنما توكل الأعمال إلى الأكفاء لها، لأنكم تحرمون الرجال الضعاف من هذا العمل وأمثاله، ولا توجهوا النساء إلى تعلم الهندسة والحقوق وأشباه ذلك لأن نفعهن فى ذلك مشكوك فيه وإن تحقق يوما فهو مؤقت إذ لا سبيل إلى إخلاء البيت من صاحبته القعيدة لكى تدير مكتبا هندسيا أو قضائيا. أخبروهن: وليس(4/125)
معنى ذلك قبر المرأة أو قهرها فإنه لابد من أن تأخذ حقها كاملا فى العلم والفضل وفى خدمة الدين والأمة وفى إسداء النصح وأعمال البر على أن يكون ذلك فى حدود وظيفتها التى هيأها الله لها. ( ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين). ص_117
33- خواطر حرة [ 7 ] الأدعياء: لست أستكثر على الرجل الممتاز أن يعرف لنفسه قدرها وأن يقرر لها حقها! وليست مبالغته فى ذلك جرما يؤاخذ عليه بعنف، ولكنه قد يكون إفراطا ينبه إليه بلطف! إنما الشيء الذى يستثير النفس أن يكثر الادعاء العريض وأن ترى الرجل فى منزلة غريبة يراها لنفسه فيصبح وليست له كفاية القواد ولا طاعة الجنود. لأنه - فى رأى نفسه - يجب أن يتقدم ثم هو يحرص على ذلك بينما لا تساعده مواهبه على الوقوف فى الطليعة وتحمل العبء! ثم هو يكره أن يتراجع إلى مستقره العتيد وأن يتقبل فى طواعية ما يلقى إليه من توجيه. وقد يؤثر العزلة على العمل أو يركب العناد رأسه فيكون على نفسه وعلى الناس شرا مستطيرا!! هذا المرض شائع بيننا، فإذا أراد قوم أن يؤسسوا "جمعية" مثلا فى بلدهم. كان هذا المرض هو أول عوائق تقدمها، وأول أسباب انحلالها. وما أكثر ما تجدد مظاهر هذا الادعاء الذى يجعل الرجل - كما قلت لك ليست له كفاية القواد، ولا طاعة الجنود - وعندما يشيع الادعاء تفقد الحقائق قيمتها ويستبد الجهل بأصحابه ويتقهقر العلم والخلق وتضطرب موازين الأمور!! وذلك هو ما كون بيننا جيلا من الناس يحسنون إصدار الأوامر ويريدون أن يشرفوا من بعيد على تنفيذها؟ فإذا تغير الوضع وصدر إليهم أمر لم تجد أمامك تنفيذا بل لا تجد أمامك أحدا. الأغاني: من الخير أن نعلم شيئا عن منازع الطبيعة الإنسانية التى لا يصح أن تقاوم؛ لأنه لا معنى لمقاومتها! والغناء بعض هذه المنازع التى ترتاح إليها النفس وتسلم إليها الجماهير مقادها وتجد فيها متنفسا لعواطفها المكبوتة، والكثرة العظمى من الناس يصيخون إلى(4/126)
الأنغام المتسقة والأصوات الطروب ويتفتح المستعصى من مشاعرهم على هذه الأصداء الشجية وربما نسوا متاعبهم وتجدد نشاطهم واستأنفوا السير الجاد فى مواكب الحياة كما تستأنف الإبل اندفاعها فى قلب الصحراء على حداء القائد اللبيب. ص_118
وقد فهم هذا قادة الأمم فاستغلوا الأغانى فى سبيل تدعيم نهضتهم والتمكين لها من أفئدة الناس.. وكان للصحابة غناء طيب حفروا الخندق حول المدينة على نبراته، وذرعوا الصحراء الفسيحة وهم يرددون مقطوعاته. وللشعوب المتحاربة الآن غناء أدى رسالته الرهيبة فى دفع أبنائها إلى الميدان الدامي!! ونحن لا ننكر الغناء ولا نتجاهل أثره وكثيرا ما ألمح طوائف الشباب تسمع وتستحث فلا يؤسفنى إلا شيء واحد هو أن الاستماع يثير دماء الشهوة ولا يثير التضحية ويهيج عواطف اللهو الخبيث ولا يهيج عواطف المرح الطيب والنخوة العالية إننا لا نحرم الشعوب من متعتها ولكن هذه المتعة ستقتلها إذا تناولتها بهذه الطريقة المجنونة. إننا بحاجة إلى الأغانى الجادة ذات المعانى الكريمة والأهداف النبيلة فلنوجد هذه الأغانى أو هذه الأناشيد ولتزاحم بها ما يملأ حياتنا الشرقية من لغو وعبث. إن الشعوب دائمة الحركة فإن لم يتحكم فى حركتها أهل الخير تحكم فيها أهل الشر وهى دائمة الغناء فإذا لم يغن لها العقلاء غنى لها السفهاء.. مهمل لا منسوخ: استوقف نظرى تعليق لكتب التفسير على قول الله عز وجل : ( وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه وقولوا لهم قولا معروفا ) فإن أحد العلماء زعم أن الآية منسوخة الحكم ثم جاء فريق آخر فقال الحق أن الآية ليست بمنسوخة ولكنها وآيات أخرى غيرها مما تهاون الناس به وطال عليهم الأمد فى إهماله حتى ظنوه كذلك والحقيقة هنالك! هذا الكلام عجيب لا ريب فإن أمة تتصرف فى أحكامها هذا التصرف أمة جديرة باللوم والتعنيف، آيات من كتاب الله يوقف العمل بها حتى يظن أن العمل بها ليس بمطلوب ابتداء(4/127)
بينما نجد آثارا مهلهلة الأسانيد لا تشم منها رائحة النبوة إلا بجهد ومشقة تجد لهذه الآثار سوقا رائجة وعصبية ظاهرة! معنى هذا أن المسلمين يخبطون فى العمل بكتاب ربهم وسنة نبيهم وأنهم يضيعون أو يتأولون أو يتهربون من نصوص الإسلام مالا يماشى أمزجتهم ويساير أهواءهم فإذا استدعى الأمر جهدا وبذلا طال الأخذ والرد وبهذا توقف أحكام مبرمة ويرجأ العمل بها ولو كانت فى الصميم من كتاب الله أما إذا كان الأمر يتعلق بقراءة سورة الكهف أو بقراءة بعض الأوراد أطلنا البحث فى ص_119(4/128)
تصحيح الأحاديث الضعيفة وكيف أن الاحتجاج بها واجب فى فضائل الأعمال، وعلى جوهر الدين بعد ذلك العفاء. الطمع والطموح: ليس من حقيقة التقوى أن تكون محدود الأمل، ضيق الرجاء فإن ذلك يدل على عجز فى النفس أكثر مما يدل على إيمان فى القلب بل أولى بك أن تكون بعيد الهمة واسع الطموح تتطلع إلى آفاق لا نهاية لها ما دام فيك عرق ينبض وكل ما يطلب منك إزاء ذلك أن تهيئ لكل شيء ثمنه وتعد لكل أمر عدته (ومن طلب عظيما خاطر بعظيمته) والرجل الكفء أهل لما يصل إليه من كرامة وأهل لما يطلب لنفسه من منزلة. لقد طلب خالد بن الوليد من إخوانه قادة الفرق أن يكلوا إليه أمر القيادة العامة وهكذا طلب سيدنا يوسف من الحاكم العام لمصر أن يكون وزيرا لبيت المال، وعرض ذلك فى صراحة وفى كياسة رائعة ( قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم) فلم يعتبر طلب خالد جرما ولا طلب يوسف نكرا بل كان تعقيب القرآن على تصرف الصديق ( وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين) على أن انفساح الأمل لا يقبل إلا إذا اقترن بالإخلاص لله وحده وكان عمل الرجل إذا وضع فى المؤخرة كعمله إذا وضع فى المقدمة سواء بسواء، وبهذه الروح كان مسلك خالد يوم أن ترك القيادة وعاد جنديا.. ومن ثم تعرف أن الإسلام إنما يبغض الأطماع السمجة والحرص البارد على المظاهر الكاذبة واصطناع الدسائس للظفر بأبهة الدنيا لا بخدمة الدين فكن طموحا واحذر الطمع. مرونة: فى القرآن أمثلة رائعة للمسالمة الشريفة والتطبيق للقاعدة التى وضعها فى معاملة أعدائه ( ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم) انظر إلى قوله: ص_120(4/129)
( يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا وللكافرين عذاب أليم ) فإنك تجد العجب إذ إن كلمتى "راعنا" "وانظرنا" معناهما واحد ونداء الصحابة بهما يقصد به شيء واحد. ولكن القرآن أمر بهجر الكلمة الأولى والاستغناء عنها لأن اليهود مالوا بالكلمة عن مدلولها وحرفوها عن موضعها ونقلوها إلى الرعونة وهى لا تعنى إلا الرعاية فكان المسلمون أسرع إلى قطع دابر الفتنة وعدم المشاركة فى هذه السفاهة الفارغة وليكن ثمن ذلك أن يضحوا بكلمة من لغة التخاطب وينزل فى ذلك إرشاد من السماء. ومن أمثلة الملاينة الفياضة بالنبل والسماحة والتى ترجع إلى القاعدة الحكيمة فى سياسة الدعوة ( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة ) قوله عز وجل ( فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم) فكلمة "مثل" هنا يعربها النحاة على أنها زائدة، ولكنها فى وضعها هنا تقطر رقة ووداعة، ولأنها وجهت العبارة إلى سياق قريب الإقناع سهل الاتباع إذا لم يؤسس الإيمان فى النفوس أخجلها من أن نجنح فى رده إلى التهجم والعدوان، وذلك كله لا تؤديه العبارة لو أسقطت كلمة مثل "وقيل فإن آمنوا بما آمنتم به مع أن النتيجة العملية واحدة فى الحالتين. ما أحوجنا إلى هذا الأدب لا فى معاملتنا لأعداء الإسلام بل فيما يجرى بين أبناء الإسلام من جدال. تفاوت: فى مصر نحو عشرة أدباء أو يزيد يتكلمون عن الثقافة العالمية ويعدلون على أدباء المشرق والمغرب ويتدخلون فى تفكير "برناردشو" ويعترضون على خيالات طاغور. إلخ، وفى مصر أيضا نحو عشرة ملايين أو يزيدون من الأميين الذين يسبحون فى الأباطيل ويعتقدون فى التعاويذ ويضربون فى تيه من الأوهام!. هذا التفاوت الأدبى قريب من التفاوت المادى الذى يجعل البعض متخما بملايين الجنيهات والبعض الآخر صفرا من ملايين من الأصفار. وكذلك يشبه التفاوت الصحى الذى يجعل لدينا طائفة من(4/130)
الأبطال الرياضيين ص_121
يحملون عدة "مداليات" فى ألعاب القوى وغيرها بينما يوجد فى صميم الأمة ملايين الضعاف والمهزولين ممن تتوطن الجراثيم والديدان جسومهم وعروقهم وتحطم كيانهم وأعصابهم. إن هذه الفجوة بين أبناء الأمة مثار ضعف حقيقى ومثار غرابة فى وجودها وبقائها! ومعظم التبعة إن لم تكن التبعة كلها على أولئك الحالمين ممن تركوا كتلة الشعب يصرعها الجهل والفقر والمرض وآثروا البقاء فى أبراجهم العاجية عن أن يساهموا فى إنهاض وطنهم بأى مجهود. وعندى أن شيوع التعليم العادى حتى يستوعب كثرة الجماهير أفضل من ظهور حفنة من الناس لا شغل لهم إلا هذا الترف العقلى السخيف. ص_122(4/131)
34- خواطر حرة علم كثير: لم يصل العالم فى تاريخه الغابر إلى درجة من المعرفة والإدراك كالتى وصل إليها فى عصرنا هذا - وليس ذلك فقط بالنسبة إلى الكشوف المادية الرائعة التى اهتدى إليها علماء الكون والحياة، بل بالنسبة إلى سائر فروع الثقافة الإنسانية الأخرى النظرية والأدبية وغيرها. ولم ينتظم تزويد العالم بنتاج العقول والأفكار المختلفة انتظامه فى هذا العصر الذى تطبع فيه ألوف الألوف من الصحف والكتب بكل لغة وفى كل يوم. وانضم إلى هذا تطور فى العرض وبلوغه حدا فريدا فى أساليب الإغراء وطرائق الاستهواء وبراعة الاستيلاء على النفس! ولقد نال الدين من هذا التقدم الشيء الكثير فالوحى السماوى يمكنك أن تشتريه بقروش معدودات نعم تستطيع أن تضع فى جيبك (مصحفا) جيد الطبع ضيق الحجم وآثار صاحب الرسالة العظمى يمكنك أن ترجع إليها بيسر وأن تطلع على ما شئت منها متى شئت! ومؤلفات العلماء من قدامى ومحدثين ومذاهبهم وآراؤهم كلها رهينة الإشارة التى يصدرها القارئ العزيز! فالصحف تكتب كثيرا والإذاعات تقول كثيرا.. والناس يقرءون ويسمعون كثيرا والعرض أكثر من الطلب. ومع ذلك فحالة العالم لم تستقر بعد على وجه مريح! الحقيقة أن سهولة الطباعة وعدم اكتراث الناس لما ينشر جعلت للغو مجالا واسعا وأحالت القراءة تسلية ومتاعا لا فهما وانتفاعا واختلط الجد بالهزل وانفصل العلم عن العمل وطال تكرار الحقائق المحدودة فطال فتور الناس لها وشعروا بالملل وتعدت حرية الرأى حدودها فاختلطت المناهج وتبلبلت الأفكار! إن الناس بحاجة إلى أن يدركوا الحكمة القائلة "ليس لك من قراءتك إلا ما فهمت ولا من طعامك إلا ما هضمت". فإن جماهير الناس لاتفيد من كثرة العلم إلا ما تفيده من كثرة الأكل سواء بسواء. ص_123(4/132)
التدين: هناك طائفة من المتدينين - أخشى أن تكون كبيرة - لا أدرى أهؤلاء قوم نبذوا الحياة أم نبذتهم الحياة! إذا اقتربت منهم وجدت معالم نفوسهم مطموسة حتى لتكاد تشم منهم رائحة البلى المنبعث من زوايا البيوت الخربة! هؤلاء أشد الناس على الإسلام وأقربهم تشويها لجماله وتجريحا لرسالته وصدا عن سبيله! إذا كان الإسلام حياة فهؤلاء أموات وإذا كان نشاطا فهؤلاء كسالى وإذا كان ذكاء فهم حمقي. ولكنهم مع ذلك متدينون.! تستغرب لكثرة هؤلاء عند الطمع وقلتهم عند الفزع ودقتهم فى احتراف الشكليات الجوفاء من مراسم الدين ومظاهره. تنظر إلى المساجد فتجد قسمتها من هؤلاء كبيرة مؤلمة. وإلى الجمعيات الخيرية فتجد نصيبها من هؤلاء موفورا. كأنما أصبح الدين ملجأ يضم إليه العجزة من الناس وينفى عنه العواطف الجياشة والأمانى المنفتحة والطاقة البعيدة على مواجهة الحياة والجرأة على اقتحام صعابها! هناك رجال يعطون الضلال شبابهم ويعطون الهداية شيخوختهم وآخرون يعطون الفجور ذكاءهم ويعطون الصلاح غفلتهم فبالله ما فائدة هؤلاء فى العمل لدين الله؟ وهناك آخرون من السلبيين الجامدين يتدينون، لأنهم يحسبون الدين هدوءا وجمودا أو على الأقل يحسبونه لايتبرم بضعفهم وخمود نارهم فبالله ما فائدة هؤلاء في العمل لدين الله؟ إنهم جميعا عوائق ومثبطات. إنى أكره إيمان الأغبياء؛ لأنه غباوة تحولت إلى إيمان وأكره تقوى العجزة لأنه عجز تحول إلى تقوى وكيف يكون الضعف تقوى ( وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم )؟ أم كيف يكون الغباء إيمانا؟ و ( إنما يتذكر أولوا الألباب). ص_124(4/133)
35- آية الأسبوع [ 1 ] ( حتى إذا رأوا ما يوعدون فسيعلمون من أضعف ناصرا وأقل عددا * قل إن أدري أقريب ما توعدون أم يجعل له ربي أمدا ). فى عهد ما قبل الهجرة للدعوة الإسلامية كان المؤمنون يتعرضون لفتن متلاحقة ومحن مترادفة ويتقلبون بين البأساء والضراء ويسيرون فى طريق حفت بالمكاره وفرشت بالأشواك. كان خصومهم شديدى الجرأة عليهم وزادهم ضراوة فى عدوانهم أن الحق أعزل وأن ناصريه ضعاف وأن أشياعه قلائل. والقوة المجرمة إذا أمنت العقاب واطمأنت إلى العاقبة انسابت فى غيها وأوغلت فى إساءتها لا يردها عن طغيانها شيء. وقد كلف المسلمون أن يصبروا على هذا الحاضر المؤسف وأن يؤملوا فى مستقبل أكرم لدعوتهم ولأنفسهم. وحذر الكافرون من غد تتبدل فيه الأحوال وتفرغ فيه أيديهم من أسباب البطش ويومئذ يكونون أذل جانبا وأقل عددا. على أن النفوس ليست سواء فى تحمل ما يفرضه الإسلام من مصابرة وثبات وكثيرا ما تجيش بالأفئدة آلام مبرحة كلما اشتد الضغط وغام الأفق وطال البلاء وقد تنطلق من النفوس همسات خافتة أو صيحات راعدة : متى يجيء هذا الغد المرتقب؟ متى تبدو معالم فجره وسط هذا الظلام؟ متى تقدم طوالع سعده وسط هذه النحوس؟ متي... بيد أن الله عز وجل يقطع هذا التساؤل ويرد المسلمين إلى الصبر المر على يومهم ويجعل تعلقهم بالحق الذى يدفعون عنه أشد من تعلقهم بالمستقبل الذى يتنفسون فيه. ومن ثم فهو يعكر عليهم الأمل فى فوز قريب ونصر سريع ويربيهم على أخلاق المجاهدين الذين يعملون حبا فى العمل وحده. وإن بعدت الثمرة أو طاحت بها الريح. ص_125(4/134)
روى عن خباب بن الأرت قال: شكونا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو متوسد بردة فى ظل الكعبة فقلنا: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فقال: "قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له فى الأرض فيجعل فيها ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيشق نصفين ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه! ما يصده ذلك عن دينه.. والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت فلا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون". فى ميدان الكفاح لنصرة دين الله كان الغلب الساحق للمؤمنين حقا لا ريب فيه. ولكن أقواما من المؤمنين ماتوا قبل أن تقر عيونهم برؤيته. من هؤلاء سيد الشهداء حمزة الذى مزق جسمه فى الهزيمة الهائلة التى نزلت بالمسلمين على جبل أحد وهناك مئات الأبطال هلكوا قبل أن ترفع للحق راية ولم تكن هزيمة الأشخاص ولن تكون علامة على هزيمة المبادئ ولا سقوطها دون الغاية المأمولة لها. ومن ثم عالج القرآن بعنف ركون أصحاب الدعوات إلى حل عاجل لما ينزل بهم أو لما يفعله أعداؤهم وعلم الله نبيه أن يتعهد نفسه وصحابته بالأعمال الإيجابية البحتة وألا يشغلهم تربص السوء بأعداء الله عن ذلك الواجب ( وإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا مرجعهم ثم الله شهيد على ما يفعلون). لذلك نرى فى آية الأسبوع أن النبى - صلى الله عليه وسلم - يقول لمن معه لست أدرى أيطول الأمد أم يقصر قبل إحراز النصر الأخير..؟ والذى ندريه تمام الدراية أن الإسلام حق وأن العمل له أيا كانت النتائج حق فإما عزة فى الدنيا وإما فرحة يوم لقاء الله. ص_126(4/135)
36 - آية الأسبوع [ 2 ] ( قال رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين ) علو الهمة ميزة تختص بها النفوس الكبيرة وليس خلقا يستطيعه سواد الناس وعندما يعتنق الرجل مبدأ كريما ثم يسير فى الحياة على ضوئه تلقاه عقبات جمة وتعترضه صعاب كثيرة. فإن كان واهن العزم قريب القاع فت ذلك فى عضده وثناه عن غرضة. أما إن كان عالى الهمة صلب الإرادة فإن احتكاك الشدائد بنفسه الكبيرة لا يزيده إلا مضاء واعتدادا. وقد تتكون بعض النفوس من عناصر هشة تقبل الكسر عند أول صدام. وقد يتكون بعضها الآخر من معاون ذات بأس وعنف إذا التقت بالأحداث العاتية قدحت الشرر وتألق جوهرها على مس الشدائد والملمات. عندما انهزم المسلمون أول الأمر فى معركة حنين وضاقت عليهم الأرض بما رحبت وانكشفوا عن قائدهم العظيم فرأى نفسه فى موقف تكتنفه الريبة والحرج.. لم يكن لهذه الهزيمة قط أى أثر من الضعف أو التردد لدى النبى - صلى الله عليه وسلم - بل صاح فى ثقة ويقين ورسوخ: أنا النبى لا كذب.. أنا ابن عبد المطلب!! فثاب الناس إلى رشدهم وجرف تيار الثقة والصدق المنبعث من قلب رسولهم كل أثارة للشك فى أنفسهم فجاء النصر والفتح. وقد يثبت الإنسان لأول مخاطرة تعرض له حتى إذا نجا من عواقبها قرر ألا يتعرض مرة أخرى لمثلها ومر بخاطره المثل الذى يردده الجبناء من العامة (ما كل مرة تسلم الجرة) ولكن شأن النفوس الكبيرة أعظم من هذا للنجاة من الأخطار التى يتعرضون لها فى سبيل مثلهم العليا لا تعلمهم الحرص على الحياة ولا تثير فيهم غرائز التهيب والتوجس بل تزيدهم وفاء لما يعتقدون، ولقد كان موسى عليه السلام يكره الظلم والاستبداد ويحارب نوازع الإجرام فى فترة الحكم التى تعرض لها قومه وحكى عنه أنه ص_127(4/136)
( ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوه فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه فوكزه موسى فقضى عليه) ورأى موسى أن هذه العاطفة الحرة قد تأدت به إلى غير ما بغى وأنه وهو الذى يحارب الظلم -قد زاد فى الانتصاف لقومه. وخشى أن يكون قد تعرض لسخط ربه فهتف ( قال رب إنى ظلمت نفسى فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم ). فماذا كان من موسى بعد ظفره بهذا العفو؟ لقد جدد العهد أن يظل حرا ينافح عن الأحرار. وأن يظل ثائر العاطفة ضد الفساد والطغيان، وأن يجعل شكره لهذا الصفح الإلهى أن يقول: ( قال رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين ). وهكذا شأن النفوس الكبيرة لا يصرفها عن غاياتها العظمى صارف من عنت تلقاه أو خطأ تقع فيه. بل تبغى نماذج حية لعلو الهمة ومصابرة الأيام. إن هذه الكلمة العظيمة لها دلالتها التى تجعل موسى فى طليعة الرجال الذين آلوا على أنفسهم أن يحرروا العبيد ويحاربوا التأله ويهدموا القداسات المزيفة.. وقد كان يستطيع إفراغ هذه المعانى فى صيغة تنطوى على العناد والإصرار لولا أنه فى مقام الضراعة لربه والاعتذار عما فرط منه!! ومن ثم اكتفى بتوثيق العهد على نفسه على الصورة التى لا يمكن ان يكتنفها خطأ والتى يبدأ حدها الأدنى من مقاطعة المجرمين والبعد عن مظاهر تأييدهم وينتهى حدها الأعلى عند تطهير الحياة من أقذار هؤلاء المجرمين وأوزارهم. فدعوة موسى ( قال رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين) تعنى مراتب الجهاد كلها، من عدم مظاهرة المجرمين على شيء وعلى التخلص من قيودهم والانطلاق من إسارهم..!! ولقد وفى موسى بالعهد ولم يهدأ له بال حتى أراه الله أمواج اليم تنفلق ثم تغلق على الجبابرة الذين قتلوا الرجال واستحيوا النساء ( وأزلفنا ثم الآخرين * وأنجينا موسى ومن معه أجمعين * ثم أغرقنا الآخرين * إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين * وإن ربك لهو العزيز(4/137)
الرحيم). ص_128
37- تأملات فى الدين والحياة (عرابى - دى لسبس) (العرب - برنادوت) (مصر - إنجلترا) لا يجوز أن تستخدم فضائل الإنسان ضده. وعلى المرء أن يتحرى الأوضاع التى يقف فيها أو ينساق إليها حتى لا يأتيه الشر من حيث يتوقع الخير. إن الكرم فضيلة يحمد الإنسان بها، ولكن الكرم إذا كان بابا يأكل منه الكسالى والقاعدون فيجب أن يراجع الإنسان نفسه قبل البذل والعطاء، وإن الوفاء خليقة يمدح الرجل عليها فإذا كان الوفاء وسيلة لانتصار اللئام وانتفاع الخبثاء فيجب أن يحاسب الرجل نفسه قبل إنفاذ كلمته وإمضاء العهد إلى مدته. ولا أعنى بذلك التخلص من قوانين الأخلاق -معاذ الله- وإنما أريد لأحرم الأوغاد من ثمرات المحامد التى يكفرون بها ولعلهم يظنون الغفلة بأصحابها وأن أعمل بالحديث الكريم ( لست بخب ولا الخب يخدعني ) فى الجهاد اليائس الذى قام به البطل المصرى الفلاح أحمد عرابى ضد الإنجليز انتهى الأمر بهزيمة ساحقة ماذا كان سببها؟ أن عرابى وثق بكلمة الأفاك الفرنسى دى لسبس وترك القناة مفتوحة فبعد أن دحر الإنجليز فى كفر الدوار وولوا مدبرين جاءوا عن طريق القناة وألقوا بنا شر الهزائم ولا يزالون معسكرين حول التل الكبير منذ هزمونا إلى اليوم وقد اعتبرنا وفاء عرابى "لدى لسبس" غفلة يلام عليها أشد اللوم وأجمع النقاد على أن وفاءه هنا كان خطأ كبيرا. ومع ذلك فالخطأ الذى وقع فيه عرابى مع "دى لسبس" هو نفسه الخطأ الذى وقع فيه العرب مع الأفاك السويدى "كونت برنادوت" فقد فرض عليهم الهدنة بعدما كادوا يدكون أسوار تل أبيب فقبلوها ووضعوا السيف فى قرابه وعادوا من الميدان إلى أهليهم ليستجموا فى الوقت الذى كان اليهود فيه يستغلون دقائق الهدنة لا ساعاتها فى إكمال استعدادهم لسحق العرب والتنكيل بهم. كان قبول العرب للهدنة ووفاؤهم لها كقبول عرابى لكلمة دى لسبس واحترامه لها. ص_129(4/138)
والواقع أن فى طبائع رجالنا أثرا من الوفاء الذى يأمر به الإسلام ففى أى عقد أو عهد يكونون طرفا فيه لا يفكرون إلا فى ما للعهود والعقود من حرمة ولو أدى ذلك إلى أفدح المغارم وأثقل التبعات. أما رجال أوروبا فهم يحالفون الشيطان للمصلحة ويبقون العهود للمصلحة فإذا كانت المصلحة تقتضى غير هذا فالمعاهدات قصاصات ورق وقد اطردت هذه القاعدة حتى فى المعاهدات التجارية القصيرة لأجل نلتزم نحن نصوصها ويعبث هؤلاء بها عبثا يثير الاشمئزاز. والأمر خطير وهو يستدعى النظر فى مبدأ التعاهد مع قوم هذا مبلغ فهمهم للمعاهدات المبرمة (وما وجدنا لأكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين) وبيننا الآن وبين إنجلترا معاهدة قائمة وقد سكنت هذه المعاهدة شعور العداء للخصوم الذين احتلوا ديارنا غدرا وأفاد الإنجليز من ذلك سلامة خطوطهم وهدوء الجبهة خلفهم فى أحلك الأزمات. فلو أننا قمنا بثورة أيام (العلمين) لكانت إنجلترا محتلة الساعة بجنود ألمان ولتغيرت معالم الدنيا. وقد نكثت إنجلترا بتعهداتها معنا. وهى تضع فى أرضنا نحو نصف مليون جندى وتقيم مصانع ومستودعات هائلة للعتاد الحربى مع أن هذه المعاهدة القائمة لا تعطيهم أكثر من عشرة آلاف جندى لعدة سنوات يجلون بعدها. وأعتقد لو أن الأحزاب المتناحرة على الحكم فى مصر تعاهدت فيما بينها على إنقاذ البلاد ورعاية المصلحة العامة لكان ذلك أصح وأجدى أما التعلق بإيجاد معاهدة أخرى وانتظار الوفاء بها من الإنجليز الغاصبين فعبث مكرر. إن رجالات الشرق لا تزال فيهم بقية من احترام الكلمة سرت من تعاليم الإسلام القائمة على الوفاء. أما زعماء الغرب فهم يمثلون دولا نهمة قلما تكترث لقواعد الشرف أو تهتم بإنجاز الوعود. ص_130(4/139)
38- آية الأسبوع [ 3 ] ( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون) إذا عنى الإسلام بتزكية الروح فليس معنى ذلك إعلان الحرب على الجسد، وإذا نوه بشأن الآخرة فليس ذلك تضييعا لقيمة الدنيا وإذا وصى بتوفير الكبار فلا يسوغ أن تفهم من ذلك إهانة الصغار لكل حق ثابت يناسب منزلته ومن الظلم أن يهبط دونه أو يعلو فوقه، فإذا كانت الروح أسمى من الجسد، فلننشغل بمطالبها أكثر مما ننشغل بمطالبه فإن امتياز الإنسان يرجع إلى مواهبه الأدبية العليا قبل أن يرجع إلى صورة اللحم والدم وإذا كانت الآخرة أبقى من الدنيا فلنقسم جهادنا لهما قسمة معقولة، ولنفرض مثلا أن تعميرنا فى الدنيا سيصل إلى مائة عام فلو كان تعميرنا فى الآخرة ألف عام لوجب أن يكون سعينا للفوز بالآخرة عشرة أضعاف سعينا للفوز بالدنيا فكيف إذا كان المكث فى الآخرة مؤبد لا يعروه انقطاع؟ إن هذا يفسر الحديث (من أحب دنياه أضر بآخرته ومن أحب آخرته أضر بدنياه فآثروا ما يبقى على ما يفني) وقد رتب الإسلام عباداته اليومية والسنوية على هذه الحقائق وشرع الصيام للناس فطاما لأنفسهم عن شهواتها المألوفة وقهرا لعاداتها المستحكمة وتدريبا للإرادة فى صراعها مع الغرائز السفلى وإطلاقا للروحانية الحبيسة فى سجن الضرورات المتكررة أبدا؛ ضرورات الغذاء والكساء.. وكأن الإسلام يريد إشعار الإنسان بأصله العريق المنبثق من روح الله ويريد تحريره من آصار الأرض، ويريد أن يجعل من أيام هذا الشهر المبارك فرصا للتزود من عناصر السمو ومعانى الطهر، وادخار مقدار من ذلك يبقى مع المرء طول السنة كما تدخر قوى الكهرباء فى مستودعاتها عندما (تملأ بكمية) ضخمة فتظل تضيء وتحرك.. حتى إذا فرغت ملئت (البطارية) ثانية وهكذا يجيء رمضان فيملأ النفوس خيرا وتقى كلما ضعفت فيها دوافع البر ص_131(4/140)
والتقوى ويصيح فى الركب السائر إلى الكمال شدد عزمك وجدد أملك وفى الركب المتمرد على الحق أقصر شرك وأصلح شأنك، وتتعاون الأرض والسماء على تخليص الإنسان من أوزاره وتنجيه من عثاره (إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب النار وسلسلت الشياطين ونادى مناد.. يا باغى الشر أقصر ويا باغى الخير هلم) ولئن كان رمضان شهر الجهاد النفسى لترويض الحيوان الجامح فى دماء الناس وأهوائهم بجوع النهار وسهر الليل فهو فى تاريخنا شهر الذكريات الحربية الخطيرة والجهاد الموفق ويبدو أن هناك تقاليد وضعت فى حياتنا العامة أيام مجد الأمة الإسلامية لتربط بين الجهادين النفسى والعسكرى ولترمز إلى اقترانهما فى حياة المسلم المكافح أبدا. ومن ثم كان الإفطار على طلقات المدافع والسحور على دوى الطبول وأيا كان الأمر فإن كلا الجهادين حق، جهاد الإنسان ضد شهواته وجهاده ضد ضلالات الناس. أين نحن من رمضان ووحيه وتوجيهه هل سمعت إلى المتحدث فى محطة الإذاعة الرسمية يعلن عن الحفلة الغنائية الكبرى التى ستقام بمناسبة شهر رمضان المعظم؟ (كذا) لقد تحول قيام الليل إلى عبث ومجون وأصبح شهر الصيام أحق بأن يسمى شهر الطعام واحتفالنا بذكرياتنا العسكرية بل ارتباط قلوبنا بأحداثها الضخمة كل ذلك أصبح تمثيلا لاروح فيه فإلى البقية الكريمة العاملة بالإسلام المنافحة عن لوائه يساق الحديث أن جاهدوا نفوسكم استعدادا لجهاد عدوكم فالإسلام اليوم يقف أمام ألوان من الاستعمار السافل والخصومة السافرة. وأمله معقود بيقظتكم ورضوان الله عنكم. ص_132(4/141)
39 - آية الأسبوع [ 4 ] ( إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم ). قد يرتكب الفرد هفوات يسيرة ثم يقلع عنها وينجو من عقابها، وقد يقع فى ورطة تفسد عليه حاضره ومستقبله معا. والدولة فى ذلك كالفرد قد يرتكب رجالها إثما خفيفا فيمرون به وقد يقعون فى ورطة تحبط أعمالهم فى الدنيا والآخرة وتسجل عليهم خزى الهزيمة وقلة الناصرين. هناك من الناس من يخسرون الدنيا ويكسبون الآخرة وهناك من يخسرون الحياتين جميعا.. وملاحظة تاريخ الأفراد والجماعات تنطق بهذه الحقيقة فالشر مراتب وآثاره متفاوتة. والقدر الذى يرقب المجرمين قد يمهلهم حتى يقترفوا الذنب الذى يطفح به الكيل فيأخذهم أخذة أسف لا تبقى لهم رسما ولا وسما أجل فإن مساوئ الأمور يسلم بعضها إلى بعض وتتوارد نتائجها الوخيمة على المجتمع متلاحقة متماسكة حتى تنتهى به إلى سوء المصير. ذكر القرآن الكريم أن الله حكم على اليهود بالخزى وأبان أن هذا الحكم كان جزاء منكرات ارتكبوها وأن هذه المنكرات الغليظة بدأت أول الأمر عصيانا ثم نما نبتها وانتشر شوكها. فقال تعالى : ( ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وباءوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة..) وسبب ذلك؟.. ( ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق...). ولم هذا الكفر والقتل؟ ( وذلك بما عصوا وكانوا يعتدون). ص_133(4/142)
فكأنهم استحقوا الذل لما استهتروا بالكفر والقتل وكأنهم تجرءوا على ذلك لما استباحوا العصيان والعدوان. وهذا ترتيب دقيق فالمعصية ترتكب أولا على استحياء ثم تقترف على توقح ثم تصبح عملا معتادا لا يحس فاعله بحرج والمجتمع الذى يتطور إلى أسفل على هذا النحو يصم أذنيه أولا عن دعوات المصلحين ثم يضع يده فى أفواههم يريد إسكاتهم ثم يقرر آخر الشوط إخماد أنفاسهم والأمة التى تنهدم فيها منابر الإصلاح وتخرس فيها ألسنة الحق لا تلبث أن تهون فى الحياة ويسلط عليها خصومها. وهذا ما حدث لليهود عندما قتلوا المصلحين والمرسلين فحاقت بهم اللعنة.. ولئن دل هذا على شيء فعلى ضرورة تيقظ الدعاة والمرشدين إلى بذور الفتنة ومغارس الجريمة يقتلونها فى مهدها حتى لا تقتلهم عند اشتدادها ومن ثم تنكب الفضيلة فى الصميم. أعجبنى قول ابن مسعود فيما رواه أبو داود "أن رسول الله علمنا سنن الهدي.. وإن من سنن الهدى الصلاة فى المسجد الذى يؤذن فيه وما منكم من أحد إلا له سجدة فى بيته ولو صليتم فى بيوتكم وتركتم مساجدكم تركتم سنة نبيكم ولو تركتم سنة نبيكم - صلى الله عليه وسلم - لكفرتم". وتفسير هذا الكلام أن ابن مسعود يخشى أن نتعود ترك الجماعة فيجر هذا إلى ترك الصلوات نفسها ثم ينتهى الأمر بالنكوص عن النبى - صلى الله عليه وسلم - والانسلاخ عن الإيمان جملة!! والذى يلاحظ سير الأحوال العامة وأسلوب الخروج على الفرائض والآداب يتأكد من صدق هذه الملاحظة، فالحريق المستعرة تبدأ شعلة هينة والموت المجهز يبدأ مرضا تافها، ولله فى خلقه شئون. ص_134(4/143)
40 - آية الأسبوع [ 5 ] ( فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم ) الطعن فى قيم الدعوات عند نشأتها دأب المعارضين لها فى كل مصر، فهم يحاولون انتقاص مكانتها والإزراء عليها وعلى أصحابها وقد يتأدى هذا بهم إلى مزيد من التهكم والتهجم يحرج النفوس ويجعل أتباع الحق يشقون بتكاليفه يؤودهم حمله. وقد عالج القرآن الكريم هذه الحال بما رأيت، فأمر بالتعصب للحق ثم شرح المبررات الأدبية الحاسمة التى تدعو لذلك، ثم ختم العلاج بإنذار عام يموج صداه فى آذان المصدقين والمكذبين جميعا فيتبعه من أمروا بالثبات على الحق ومن نكلوا عن اتباعه وسوف يسألون. إذا احتوت قبضتك على شيء نفيس فحاول اللصوص انتزاعه منك قسرا ثم أصخت إلى صوت الحارس المؤنس يهيب بك:استمسك بما معك! فمعنى ذلك شدد قبضتك وركز قوتك وقاوم عداتك ولا تركن أبدا إلى التراخى والتفريط وهكذا تنطلق آيات الله إلى أفئدة عباده ففى ضمير كل مؤمن منها هاتف يصرخ فى أعماق قلبه كلما تكاثرت الفتن وحيكت المؤامرات وانتشر لصوص العقائد وسراق المبادئ يقول: (فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم ) أجل إنك على صراط مستقيم فما دمت قد أسلمت لله وجهك وبعته مالك ونفسك فمن ذا يكون أحق منك بصفة الاستقامة؟ أهم عبدة الهوى وأشياع الطواغيت؟ إن معالم الهدى لا تخفى مهما لغط المبطلون وعلا نقيقهم، الصراط المستقيم لا نأخذ "خريطته" من أيدى البشر فقد أخذناها عن الله تبارك وتعالى وعرفنا حدودها فى ص_135(4/144)
كتابه المبين ( فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون * كذلك حقت كلمت ربك على الذين فسقوا أنهم لا يؤمنون ). وأعداء الحق فى كل زمان ومكان يستمدون نباهة الذكر وآية الشرف من احترام التقاليد السائدة ومسايرة الأوضاع المقررة مهما كان فيها من عوج وفساد أما اعتراض القافلة الشاردة ومحاولة لفتها عما وجدت عليه آباءها وثنى عنانها لتلتزم خطة رشيدة جديدة فهذا عمل الثائرين الذين يتعرضون لفقد مكانتهم الاجتماعية فى مبادئ الصراع بين الهدى والضلال!! بيد أنهم يسترجعون كل شيء فى نهاية المعركة ولله عاقبة الأمور وقد كان أشراف مكة فى الجاهلية الأولى يحسبون أن اتباع الإسلام سيفقدهم منزلتهم كسدنة موقرين للأصنام المعبودة وسيفقد مكة منزلتها كعاصمة للوثنية السائدة فأبان الله لهم أن ما سيربحون من اتباع الحق أضعاف ما يخسرون وأن التماس الشرف والذكر من وراء التمسك بالباطل لا يجدى فتيلا إلا بهذا القرآن الذى تجهمنا لقوانينه ووصاياه وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون. ص_136(4/145)
41- آية الأسبوع [ 6 ] ( الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون) لو أن المسلمين لما اتخذوا هذا القرآن مهجورا ابتعدوا به عن مواطن اللهو ومجالس العبث لكان ذلك أدنى إلى الجد وأقرب إلى توقير كلام الله عز وجل. ولكنك تعجب لصورة التلاوة الشائعة والسماع المعروف وتجزم بأن الأمر خرج من حدود العبادة المرجوة القبول، وأصبح هزلا لا يستساغ البتة لقد جاء فى الحديث "إن هذا القرآن نزل بحزن فإذا قرأتموه فابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا" وليس المعنى ادعاء التأثر وتصنع الخشوع وإنما القصد إشراب القلب خشية الله واستحضار هيبة صاحب الكلام والمقارنة بين النصائح المبذولة فى تضاعيف هذا الوحى الكريم وبين صدود البشر عنها وجماح الشهوات دونها مما يؤذن البشرية جمعاء بشر مستطير. أما أن تتحول مجالس القرآن إلى حفلات صاخبة يرسل القارئ نغما فيتبعه السامعون بتأليهات وتأوهات وإعجاب وطرب وتمايل ونشوة واستعادة واستجادة فذلك كله دجل صغير ومسلك ناب سقيم وجرم يستحق مقترفوه التأديب فضلا عن أن تصايح هؤلاء المعجبين لا دلالة فيه على فقه ولا يقين فلو كلفوا بجهاد فى سبيل الله أو بذل لإعزاز هذا القرآن أو تضحية لإنفاذ أحكامه لخرست الألسنة الصياحة وانفضت الجموع الملتاعة. إنى أكره من أعماق قلبى اختلاط الطاعة بالمعصية وتنفيس الإنسان عن شهواته باسم أنه يعبد الله. ص_137(4/146)
ماذا على من يعجبهم التلحين والتطريب أن يستمعوا لذلك فى قصيدة غزل وأن يبتعدوا به عن كتاب الله. وإذا كان الناس يحبون أن يزينوا القرآن بأصواتهم فما غناء هذه الزينة فى عصر عطلت فيه أحكام القرآن، وأصبحنا نجد أمما لا تسقط من القرآن حرفا وقد أسقطت العمل به كله. إن آيات الإنذار تنطلق، أحسب أنها غارات ورجوم تنزل على الأهواء والوساوس فتحطمها فإذا بى أسمع صوتا خنثا حمقا ينبعث بالاستحسان الطائش ويطلب الإعادة فى ابتسام يكاد يتحول ضحكا فأذكر قول الرحمن فى وصف عباده ( والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا) بيد أن هؤلاء عموا وصموا.. إنهم لا يعقلون حرفا مما يسمعون! يا أمة القرآن ما هكذا يعبث بكتاب الله. ص_138(4/147)
42- آية الأسبوع [ 7 ] ( إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم * فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم ويستخلف ربي قوما غيركم ولا تضرونه شيئا إن ربي على كل شيء حفيظ ). للطبائع الملتوية أسلوب قد تنجح به فى ميادين شتى فإذا تعلق الأمر بالأخلاق والفضائل لم تصب من النجاح سهما، فإن سياسة المبادئ غير سياسة المصالح وسياسة الدعوات القائمة على الشرف والاستقامة غير سياسة الشهوات القائمة على الانتهاز والتصيد. وأخطر ما نخشاه على أتباع الحق أن يحسبوا سياسة الدين تنجح بالطرق المعوجة التى احترفها بعض الدجالين وأن يظنوا قضايا الإيمان بالله واليوم الآخر تحل بالمساومة والتبذل والأخذ والرد..! إن النبى - صلى الله عليه وسلم - رفض رفضا حاسما العروض المغرية التى قدمها إليه -فى إبان ضعف الدعوة - بعض من يظنون النصر يشترى بأى ثمن فعندما كان يعرض نفسه على الناس فى مواسم الحج - بعد جهاد يائس مع أهل مكة ظل سنين عددا - جاءه سيد منيع فى قبيلة ضخمة يعلن استعداده وقبيلته للإيمان على شرط أن يكون الحكم له ولقومه بعد وفاة الرسول! ولكن الرسول أبى قبول هذا الإيمان المشروط وآثر أن يبقى بين الناس قليل الناصر ضعيف الأتباع إلى أن يلتف به من لا يؤمن بقيود وشروط. ولو كانت سياسة الإيمان كسياسة الأحزاب المعاصرة المبنية على تبادل المنفعة (خذ.. وهات) لكان هناك موقف آخر بيد أن شأن الرسالات السماوية أعلى مما ص_139(4/148)
يظن الواهمون، وكذلك جاء سادة العرب يعرضون إيمانهم على أن يميزهم الرسول فى مجلسه ويحفظ مكانتهم الاجتماعية فلا يختلطون مع السوقة والأتباع ولو كانت سياسة كسب الأنصار والانتفاع بالعصبيات القوية تعلو منطق الإيمان والصلاح لكان هناك موقف آخر ولما كان هناك بأس من قبول أولئك الكبراء والانتفاع بمالهم وجاههم فى خدمة الدين بيد أن الرسول أبى ونزل الوحى يعلن هؤلاء بالرفض القاطع فإما أن يدخلوا فى الدين من الباب نفسه الذى دخل منه الفقراء أو.. لا فليبقوا على كفرهم..!! إن للسياسة منطقا لا تعرف فى قاموسه حدودا للشرف والقيم الكبيرة فى هذه الحياة وقد حكى التاريخ أن ملكة روسيا افترشت عرضها لقائد تركى حصر جيشها فى إحدى المواقع وقد نجحت فعلا فى فك الحصار وقد تكون نجحت فى ميدان السياسة ولكن الذين يفكرون فى نقل هذا الأسلوب إلى ميدان الدعوات الكبرى لن ينتظروا منا إلا أن نركلهم بأقدامنا إلى بعيد.. إن النصر يعوز المسلمين فعلا والخناق علينا شديد أتريدون طريق النجاة؟ يوم يطلع الله عليكم فيرى أن فى التمكين لكم تمكينا للفضيلة والمعروف، وإن فى إسناد الأمر لكم إقامة للصلاة وإيتاء للزكاة. يومئذ فقط يفرح المؤمنون بنصر الله، ويومئذ ينجاب الغشاء وتنكشف الضراء. ص_140(4/149)
43- آية الأسبوع [ 8 ] ( ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى قوتكم ولا تتولوا مجرمين) للقيادات الناجحة صور تتفاوت مجادة وعظمة.. يعتبر قائدا عظيما هو الذى يستغل ما تحت يده من قوى معدة يدرك بها نصرا كبيرا أو يحقق مأربا خطيرا أو يحرز نجاحا واضحا، وعنصر الخير فى هذه القيادة أنها لم تجهل ما لديها من وسائل العمل ولم تسئ استخدامه وليس يغمط من حقها أنها وجدت فى مكان مهيأ ومن الواجب عليها أن تستفيد منه فإن الناظر فى أمم الشرق وفى أحوال قادتها وحاكميها يجزم بحاجتها إلى هذا النوع من القيادات فكم من رؤساء وزعماء جهلوا مدى ما معهم من قوي، بل ليتهم جهلوا وسكتوا!! لكأنما كان أكثرهم موكلا بشعل الإيمان يطفئها وجذوات النشاط يخمدها وحبال الأمل يقطعها وسبل النجاح يسدها فجزاهم الله عن أممهم شر الجزاء. ولئن كان القائد الذى يحسن الانتفاع بما معه عظيما فأعظم منه ولاشك هذا الذى يوجد فى بيئة لا تعطيه شيئا ألبتة ثم هو مع ذلك الفراغ يخلق خلقا الوسائل التى يدرك بها غايته ويحقق رسالته. وعليه -فى سبيل ذلك- أن يوجد الجند وأن يمهد الميدان وأن يبتدع الأساليب وأن يكافح الزمن وأن تكون نفسه الكبيرة ينبوعا دافقا بالحياة والنشاط ليمد هذه النواحى جميعا بما يصل بها إلى نهايتها المنشودة.. وهذا الطراز من القادة يظهر فى الحياة على ندرة ولاشك أن الأنبياء وزعماء الإصلاح الدينى هم الطليعة الكريمة فى هذا الضرب من القيادات المجيدة.. والنهضة الإسلامية التى انفجر نبعها فى هذا العصر إنما أفلحت فى خلق جيل جديد عندما استطاعت ربط القلوب بربها، ص_141(4/150)
فكان هذا الرباط الساحر مصدر القوة العارمة التى جمعت الشتات وأحيت الموات وأنارت الظلمات... بلي، فالرجل الذى ينيب إلى إلهه يدوس آلهة الأرض وينفسح صدره بجلال اليقين وينتظر المستقبل بثقة عالما أنه له لا عليه، وأن الله سيرسل السماء مدرارا ويزيده قوة على قوته وقد تسرى طبيعة القيادة العظيمة - تلك التى تكلف بخلق السبب والنتيجة معا- إلى الأجناد الذين يعتنقون الفكرة نفسها فيجدون أنفسهم فى عالم موحش مناوئ، فعليهم أن يستمسكوا بحبل الله ويسلموا وجوههم إليه فيزدادوا بالاستغفار والإنابة استمدادا للقوة واستعدادا للفلاح واقترابا من النصر. ص_142(4/151)
44- آية الأسبوع [ 9 ] ( وقالوا ما لنا لا نرى رجالا كنا نعدهم من الأشرار * أتخذناهم سخريا أم زاغت عنهم الأبصار * إن ذلك لحق تخاصم أهل النار ) كأن غرور الجبارين وسفاههم من اللوازم التى لا تنفك عن ذويها أبدا لقد كانوا فى الدنيا أغبياء عندما صادروا العقائد وحاربوا الأحرار وضيقوا عليهم الخناق. وإنهم لكذلك فى الدار الآخرة لم تفارقهم هذه الغباوة ولم يستحيوا أن يتساءلوا: ( ما لنا لا نرى رجالا كنا نعدهم من الأشرار)؟ كيف ترونهم وأين؟ لقد ارتفع كتابهم في عليين على حين هويتم أنتم في أسفل سافلين. لقد حسبتم أنفسكم عظماء لأنكم ملكتم وحكمتم وحسبتم أنفسكم أقوياء لأنكم قتلتم وسجنتم وظللتم في غوايتكم سادرين فما رجعتم إلى الله بتوبة ولا أخلصتم لعباده في عمل وطالما استهزأتم بمن دعا إلى الله وعمل بشرعه واستمسك بحكمه.. فاليوم بعد ما أعزهم الله وأذلكم تتساءلون: ( ما لنا لا نرى رجالا كنا نعدهم من الأشرار ). إن الذكريات تعود بى إلى أيام المحنة القريبة عندما انطلقت كلاب الصيد تتخطفنا من المدائن والقري، وألسنتها مندلعة كأن بها جوعا إلى النهش من لحومنا، ثم رمت بنا فى أطراف الصحراء البعيدة وفتحت لنا معتقلات بذلت الجهد أن تجعل منها مقابر.. واستمعنا إلى أصحاب الأقلام المأجورة يصفوننا - نحن حراس الأمان والإيمان فى الشرق - بأننا خطرون إرهابيون.. أشرار! أجل أشرار.. وسيتكرر هذا الوصف ص_143(4/152)
منكم لنا مرة أخرى عندما تسلكون فى سقر ثم تتصايحون مع أشباهكم من الأوغاد ( ما لنا لا نرى رجالا كنا نعدهم من الأشرار )؟ وهكذا تفعل الحكومات العاجزة فى هذه البلاد المسكينة إنها لما عجزت عن تعمير الصحراء بالزروع والثمار كما فعل اليهود عمرتها بالمنافى وشحنتها بالأحرار من حملة المبادئ وأوعزت لأبواقها من المتسولين والمرتزقين أن يقولوا فينا "خطرون وأشرار". إن إهداء النعوت السخيفة ديدن السفهاء فى كل عصر.. ووصف الأطهار الأبرياء بأنهم أشرار أشقياء ليس بدعة هذا الزمن، فإن الكفار فى عهد الدعوة الأولى كانوا يسمون النبى العظيم "مذمما" وهو أحق بشر بالحمد فى مشارق الأرض ومغاربها، ولقد علق النبي - صلى الله عليه وسلم - على هذه التسمية بقوله " ألا تعجبون كيف يصرف الله عنى شتم قريش ولعنهم يشتمون مذمما وأنا محمد" وبهذه المواجهة الحصيفة لتطاول السفهاء يموت الخصوم بغيظهم ويؤدى النبى صلى الله عليه وسلم رسالته فى مضاء وإصرار وما انطلق عظيم فى هذه الحياة إلى غايته حتى يواجه من الكيد واللؤم عقبات وعقبات وستظل القوى الغاشمة تمضى على غيها وتطارد أصحاب الحق أبدا ( كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم قد بينا الآيات لقوم يوقنون). ص_144(4/153)
45- آية الأسبوع [ 10 ] ( قل تمتع بكفرك قليلا إنك من أصحاب النار ) ليس كبيرا فى عمله ولا خلقه، ليس كبيرا فى رجولته ولا مروءته ولكنه مع هذا الصغار اللازب ومع هذا الإقفار من آيات الخير والفضل معدود من كبراء مصر! لأن مصر كثيرا ما يكبر فيها هؤلاء - بسحر ساحر - وقد لا تبعد عن الصواب إذا قلت: لا يكبر فيها إلا هؤلاء.. لو كان البشر يكتسون بأمانتهم وكفايتهم ما عاش هؤلاء أبد الدهر إلا عرايا لا تخفى لهم سورة ولا تستر لهم عورة كأنهم قطعان من الحمير أو الكلاب. يعيش هؤلاء فى مصر بعض العام وفى أوروبا البعض الآخر، فأما فى مصر فوظيفتهم الأولى اعتصار جهود الكادحين فوق هذه التربة المغبرة وحصاد مازرع غيرهم حتى إذا أفعموا جيوبهم ذهبا وفضة رحلوا إلى أوروبا ليكونوا سفراء لنا فى ميادين اللهو واللعب وعندما يستقر هؤلاء السفهاء فى أوروبا أو غيرها يبدأ موسم الاستغلال والاستيلاء على الغنائم الباردة فتتراكم الخسائر على موائد الميسر وتسيل الأموال المبذولة من منابع لا تغيض ولا تشح، وتحمر جوانب الليل بما يذبح من أعراض ويداس من حرمات وتسجل الصور الفاضحة للحفلات الراقصة سيقانا تهتز فتهتز فوقها أرداف، وبطونا تتحرك فتتحرك فوقها نهود، وموسيقى تميل أصداؤها بشتى الأعضاء.. والأهواء. وكم يبلغ هؤلاء؟ فوق عشرين ألفا ينفقون أكثر من عشرة ملايين من الجنيهات غصبت من مصر سحتا وأنفقت فى أوروبا باطلا فى الوقت الذى نسعى فيه لإجلاء إنجلترا عن مصر (!) تدع المجال فسيحا لصحفها الكبرى كيما تنشر صورة امرأة لعوب على أنها الراقصة الأولى فى مصر الإسلامية. ص_145(4/154)
وفى الوقت الذى نشكو فيه من عض الأزمات لجمهور الشعب نسمح للسفهاء من باشاواتنا وغيرهم ببعثرة الثروة القومية فى البلاد الأجنبية على نحو أثار اشمئزاز الأجانب أنفسهم. ونتلفت حولنا فى هذا الصيف فنجد المصايف القريبة والبعيدة مصايد للإغراء والهزل والجهالة بينما نحن لا نزال رسميا وواقعيا فى حرب مع اليهود المتربصين المتحفزين. ماذا نقول لهذا الصنف الرفيع من الناس؟ نقول لهم: لا تعودوا إلى بلد أنتم غرباء عن عواطفه ومشاعره بل أنتم أعداء لقضيته ومستقبله. إننا لا نملك إلا التعليق على مجونهم وترفهم بإهداء هذه الآية إلى كل آثم منهم ( تمتع بكفرك قليلا إنك من أصحاب النار) وعسى أن يأتى يوم ينفذ فيه حكم الله فتطهر الأرض من هذه الأرجاس ويطهر الجو من هذه الأنفاس. ص_146(4/155)
46- آية الأسبوع [ 11 ] ( وذلك جزاء من تزكى ) هذى الحياة جسر بين شاطئين أحدهما مبهم وفدنا من عالمه المجهول لا نحس شيئا وبدأنا رحلتنا فى هذا الوجود من حافته ونحن أطفال أغرار نسمع عن ماضينا أنه كان صفرا ويقول الله فيه: (هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا ).. ومضينا فى طريق الحياة وكلما تقدمت بنا السن تبينت لنا شواطئ العالم الآخر، العالم الذى سنستقر فيه ونخلد ونشقى فيه أو نسعد. من الخير للإنسان أن يعلم علم اليقين أن عمره المحدود فى هذه الدنيا إن لم يكن وسيلة للتكمل والترقى فلن يشرق غده ولن يخرج منه بطائل فالجنة التى وعد الله بها المتقين لا تتسع لخسيس ولا مهين وإذا لم يكن الإنسان على حظ من الكمال والفضيلة فلن يجد بها منزلا.. لما استكبر بها إبليس طرد منها وقال الله له ( قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين). ولما غفل آدم عن حق ربه ووهت فى الخير عزيمته أخرج منها وزوجه وعرفهما الله عز وجل وعرف ذريتهما من بعدهما أن للجنة مستوى خاصا من الكمال من فقده لم يبق لها أهلا. فمن بقيت فى نفسه إثارة من شر أدركه الموت - وهو لم يتطهر منها - حبس على شواطئ الآخرة ولم يدخل جنة ربه على تلك الحال قال النبى - صلى الله عليه وسلم -: " يخلص المؤمنون من النار فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنار فيقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم فى الدنيا حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم فى دخول الجنة" أرأيت؟ لابد من تهذيب وتنقية! فمن لم يستو وينضج ويطب فى الدنيا انتظرته جهنم لتكمل له ص_147(4/156)
ما نقصه وتعوض ما فاته ( أيطمع كل امرئ منهم أن يدخل جنة نعيم * كلا إنا خلقناهم مما يعلمون ). لقد خلق الإنسان من أصول فيها كدر وكثافة وهوان، حمأ مسنون ونطفة أمشاج وأمامه فى الدنيا فسحة من الأجل ينبغى أن يستغلها فى ترشيح نفسه للملأ الأعلى فيقهر أهواءه ويمسح أكداره ويرقق من طينته ويسمو بطبيعته ويتعهد روحه بالصقل والتهذيب حتى يطيب ويطهر فإذا جاءته رسل ربه لتنقله إلى الدار الآخرة صدق فيه قول الله ( الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون ). إن هناك أقواما تشم فى أعمالهم نتن الطين الذى خلقوا منه وتلمح فى أخلاقهم كدره وسواده هؤلاء ليسوا أصحاب الجنة مهما زعموا وأملوا!! ص_148(4/157)
47- آية الأسبوع [ 12 ] ( ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأن الله سميع عليم) هذه سنة ماضية فى المجتمع الإنسانى قديمة حديثة يخضع لها الأفراد كما تخضع لها الشعوب إذا أحل الله بأمرى خيرا فلم يحسن القيام به والتصرف فيه يوشك أن يقبضه عنه وينقله إلى غيره ممن ترشحه أخلاقه لحسن العمل فيه والإشراف عليه.. ومن حكم النبوة البالغة ما روى (إن لله عند أقوام نعما أقرها عندهم ما كانوا فى حوائج المسلمين. مالم يملوهم! فإذا ملوهم نقلها إلى غيرهم) وكذلك قوله (ما عظمت نعمة الله على عبد إلا اشتدت إليه مؤونة الناس فقد عرض تلك النعمة للزوال). فسناد النعمة الذى ترتكز عليه وتستمسك به تقدير صاحبها لها ومسارعته إلى أداء حقوقها ومعرفته أنه موظف فيها يبقى منتسبا إليها ما بقى وفيا لها.. فإذا تبرم واستبد فسوف تطيح به الأقدار يوما. وإذا استخلف الله أمة فى الأرض فإنما يهبها الله نعمة الأمان والتمكين والسيادة لمصالح ترتبط بمنصبها وحقوق تجب رعايتها وجهاد لا يصح النكول عنه وأهداف لا يجوز نسيانها. وقد قال الله لليهود قديما ( يا بني إسرائيل قد أنجيناكم من عدوكم وواعدناكم جانب الطور الأيمن ونزلنا عليكم المن والسلوى * كلوا من طيبات ما رزقناكم ولا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبي ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى). ص_149(4/158)
وهذا القول الموجه لليهود مسوق كذلك لكل أمة. والمسلمون يخاطبون بما فيه من إنذار. يخوفون بما فيه من وعيد، بل إن ما أصابهم من إذلال بعد استخلاف ومن رق بعد سيادة يرجع إلى ما تضمنته آيات الله من سنن لا تتخلف ولا تحابى أحدا. وآية الأسبوع جاءت تعليقا على الهزيمة التى أصابت المشركين فى غزوة "بدر" فقد عرض الإيمان عليهم أمدا طويلا وعرفوا بالله وبدينه أتم تعريف فلما أبوا إلا الجماح والضلالة خسف بهم، كانوا من مالهم فى سعة وبين العرب فى منعة فسلط عليهم الجوع والخوف وأصيبوا فى بدر بنكبة أذهبت مالهم وأسقطت هيبتهم. ومثل هذا لا يتم فى يوم وليلة فإن الأحكام الإلهية الحقة تستغرق شهورا أو دهورا فى نفاذها وذلك دأب القدر مع الأمم السابقة ( كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كفروا بآيات الله فأخذهم الله بذنوبهم إن الله قوي شديد العقاب). * * * إنما تلمع فى الأفق بوارق النصر وتضحك بوادره يوم يتهيأ المؤمنون له بأخلاقهم وأعمالهم ووفائهم وفدائهم. إنما صارت بلاد الإسلام مستنقعا تتجمع فيه الأكدار والهزائم لما انخفض مستواها وهبطت قيمتها، فإذا ارتفعت كالجبل الأشم تحدر من على جوانبها كل ما تكره وعرف الناس لها فضلها ونبلها. ص_150(4/159)
48- آية الأسبوع [ 13 ] ( إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها) تنتصر العقائد بين الناس بعد ما تنتصر فى نفوس أصحابها.. هذه حقيقة يجب أن يعرفها حملة المبادئ وأن يطمئن إليها نقلة المثل العليا إلى الناس. فإذا حدث أن وازن الإنسان بين عقيدته ونفسه فرجحت نفسه أو بين عقيدته وماله فرجح ماله أو بين عقيدته ومتعه الخاصة فرجحت متعه الخاصة. فمعنى ذلك أن العقيدة أهون لدى صاحبها من كل ما يملك أو يهوي، وسوف يبيعها فى أول مساومة ويتخلى عنها فى أول صدام! أما إذا غالى الإنسان بعقيدته فسفك دونها دمه وبذل قبلها ماله وضحى فى سبيلها براحة البدن وسكرة اللذة وطيب العيش فقد صدق فى إيمانه ووفى لعقيدته ونجح فى محنته وكسب النصر لدينه والخير لنفسه معا. تأخرت أستبقى الحياة فلم أجد لنفسى حياة مثل أن أتقدما! وذلك المعنى الرائع هو الذى ملأ نفوس المؤمنين قبل الهجرة فلما دخلوا مع العالم كله فى "معركة الصحف" بدأت الخسائر تنزل بهم متلاحقة وظلوا مروعين فى أنفسهم وأهليهم بضعة عشر عاما وكانت دورهم وأموالهم بمكة آخر ما نزلوا عنه فى سماحة ورضا... دون أن يفرطوا فى ذرة من إيمانهم أو يقبلوا الدنية فى دينهم أو يميلوا قليلا مع تيار الكفر المنادى لهم حتى لقد فهم المشركون أن ارتداد الشمس فى مدارها أقرب إلى الوقوع من ارتداد مسلم عن دينه لقد انتصرت العقيدة فى نفوس ص_151(4/160)
هذه القلة المكافحة انتصارا حاسما وفداها أهلها بكل غال وثمين فلم يبق إلا أن تأخذ جزاءها الحق وأن ترفرف أعلامها بين الناس أجمعين وأن تنحنى لها الهامات إجلالا. ولو كانت هامات الخصوم والمكابرين!! إن هذه الحقيقة- انتصار العقائد فى نفوس أصحابها- تكملها حقيقة أخري. وهى أن أهل الخير إن فاتهم تأييد أهل الأرض فلن تخذلهم فى كفاحهم المقدس قوى السماء! وذلك سر التحدى فى قول الله للناس ( إلا تنصروه فقد نصره الله..) أجل. فما كان الله ليذر المخلصين من عباده دون أن يشرفهم بالنصر الموعود. بيد أن للقدر الأعلى أسلوبا فى سوق النصر يعلو على مستوى العقول. فما تقول فى أمر ظاهره هزيمة وفرار وباطنه تأييد وانتصار؟؟ لقد كانت الهجرة خاتمة سيئة لجهاد طويل فى مكة- هكذا بدا للسطحيين من الناس - ولكن القدر العزيز جعل من هذه النهاية المحزنة نقطة التحول فى تاريخ الدعوة الإسلامية كلها وبداية الفوز المكين والغلب الساحق. ذلك أسلوب القدر الحكيم لا يزال يتكرر مع الزمن! شر فى باطنه خير. وقتل فى أعقابه حياة. وتراجع يتبعه التقدم والانطلاق. ص_152(4/161)
49- وعد بلفور هذا الوعد الوحيد الذى برت به إنجلترا... لقد وعدتنا سبعين مرة بالجلاء عن وادينا ثم كذبت ووعدت اليهود أن تعطيهم ما ليس لها ولا لهم ثم صدقت... وصدقها مع اليهود ليس دليل وفائها - ولو مرة فى تاريخها - فهو صدق أدل على الخسة منه على الشرف... إنه صدق اللص على أن يبيع سلبه لمن يدفع فيه أغلى ثمن. ولقد اتفق اليهود مع إنجلترا أن تسرق لهم، وأن يدفعوا الثمن لها، فسرقت إنجلترا فلسطين من أصحابها العرب والغريب أن اليهود دفعوا الثمن المطلوب من جيوب العرب كذلك..!! وهكذا حملنا نحن الغرم مضاعفا، وأصابنا الخسار أولا وآخرا، وساوم علينا. محترفو السياسة كأننا رقيق فى سوق النخاسة.. * * * وإليك نص وعد بلفور المشئوم. نسب إلى مرسله مستر بلفور وزير الخارجية البريطانية الأسبق إلى اللورد روتشيلد فى الثانى من نوفمبر سنة 1917. عزيزي: يسرنى جدا أن أبلغكم بالنيابة عن حكومة جلالة الملك أنها تنظر بعين الرضا والارتياح إلى المشروع الذى يراد به أن ينشأ فى فلسطين وطن قومى لشعب اليهود. وتفرغ خير مساعيها لإدراك هذا الغرض. وليكن معلوما أنه لايسمح بإجراء شيء يلحق الضرر بالحقوق المدنية والدينية للطوائف غير اليهودية الموجودة فى فلسطين الآن. أو بالحقوق التى يتمتع بها اليهود فى البلدان الأخرى وبمركزهم السياسي... هذا هو وعد بلفور ولا يخفى على أحد أنه مثل للأساليب المعوجة التى تتلوى ص_153(4/162)
فيها السياسة البريطانية وتنفرد كالأفعى اللئيمة فقد قررت كتابة أن تعطى فلسطين لليهود وقررت كتابة أن ذلك لايضر حقوق العرب (!). بل إن هذا النفاق المفضوح كان فحوى التصريح الذى أذاعه السير هربرت صمويل أول مندوب سام لفلسطين فقد أصدر بلاغا رسميا عقب تقلده منصبه قال فيه: (إن إنشاء وطن قومى لليهود لن يؤثر قطعيا فى حقوق الأهالى الدينية والمدنية). وقد صدقت الأيام إنجلترا ومندوبيها السامين فلم يضر عربى واحد من إنشاء وطن قومى لليهود. نعم لأن إنجلترا الشريفة لا تكذب... والدليل على ذلك أن أهل فلسطين أصبحوا جميعا لاجئين بائسين.. بل إن السياسة العالمية تآمرت على ألا يكون هناك مايسمى فلسطين... ووجه إنجلترا الماكر يطل من وراء هذه المؤامرة القذرة... وبعد ما اقترفت الجريمة النكراء وغسل الساسة أيديهم من دمائها بقى مستر تشرشل وحده يصيح وأنا صهيونى متعصب!! يقول ذلك فى سنة 1950 بعد ما أقام إسرائيل... ومستر تشرشل كان وزيرا للمستعمرات سنة 1922 وقد أصدر بيانا يفسر فيه الحالة السياسية بفلسطين يومئذ. فاستنكر مخاوف العرب!! من جعل فلسطين مملكة يهودية مؤكدا أن إنجلترا لم تفكر ولن تفكر فى محو السكان العرب... إن مستر تشرشل رجل شريف وهو كالشعب الإنجليزي لا يعرف الكذب ولا يبنى عليه سياسته. * * * إننا نعود إلى أنفسنا بعد هذه المأساة لنقول لها: إن اللص لا يلام وإنما يلام الحارس الغافل ولنا الويل مادمنا غافلين... ص_154(4/163)
50 - آية الأسبوع [ 14 ] ( فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين * وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين) كنت أريد شرح الآية الأخيرة فوجدت أن أقصر طريق للإبانة عن معناها والدلالة على تفسيرها يكون بضم سابقتها إليها فإن المقصود من الآية الأولى تقديم رائع للمقصود من الآية التى تليها. إن الله عز وجل يأمر بنصر الحق والنضال دونه ومجاهدة الكافرين بالنفس والنفيس ويوصى عباده ألا يستكينوا للظلم! ويحرضهم على مقابلة العدوان بمثله؟ وعلى ألا يتركوا الضلال يستعلى ويستعلن فلا يجد من يقمعه ويردعه. كلا. فرسالة الله أعز في حقيقتها وأعز لدى حماتها من أن يكون لها أمام الباطل منزلة السوء والهوان. وهذا بداهة يستتبع سيلا جاريا من النفقة المبذولة، وينابيع دافقة من الإيثار والتضحية وبيع الدنيا بالآخرة. وقد وجه المسلمون الأولون صراحة بهذه التكاليف الشاقة في هذه الآيات وفى غيرها من كتاب الله لكن الآية التى تتلوها الآن تمتاز بأنها تضمنت تهديدا خطيرا لمن يجبن عن الكفاح وينكص عن النفقة!! إذا اعتبرت الفأر بنفسه وماله ملقيا بنفسه وماله في الهلاك وأومأت إلى أن الأمة التى تتراجع عن الموقف الواجب في ميدان الشرف والفداء لا تلبث قليلا حتى تدل وتخزى ثم يجر عليها التاريخ أذيال العفاء. ردوا العدوان وابذلوا فى سبيل الحق.. وإلا فالتسليم للعدوان والشح بالأموال طريق الضياع والفناء والتهلكة فلا تلقوا بأيديكم إليها ألا ليت المسلمين يدركون هذه السنة فى ازدهار الأمم واندثارها لاسيما وهم مع اليهودية والصليبية فى حرب حياة أو ممات... ص_155(4/164)
غير أن فريقا من المسلمين ظلم هذه الآية أقبح ظلم وفهمها أغبى فهم وظن أن الله يقول لعباده: احرصوا على أعماركم فلا تعرضوها للاستشهاد فى سبيلى واحرصوا على أموالكم فلا تضيعوها بالإنفاق فى سبيلي؟ وهكذا لم يكف الناس أن يعصوا حتى ذهبوا يتلمسون لمعاصيهم الفتوى المشروعة!! عن أبى عمران قال: كنا بمدينة القسطنطينية فخرج إلينا صف عظيم من الروم فبرز إليهم من المسلمين مثلهم أو أكثر وعلى أهل مصر عقبة بن عامر. وعلى الجماعة فضالة بن عبيد فحمل رجل من المسلمين على صف الروم حتى دخل بينهم فصاح الناس وقالوا سبحان الله! يلقى بيده إلى التهلكة فقام أبو أيوب الأنصارى وقال: أيها الناس إنكم لتأولون الآية هذه التأويل - الخطأ - وإنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار لما أعز الله الإسلام، وكثر نا صروه - قال بعضنا لبعض سرا- دون علم الرسول - إن أموالنا ضاعت، وإن الله أعز الإسلام - فلو أقمنا فى أموالنا وأصلحنا ما ضاع منها! فأنزل الله على نبيه ما يرد علنيا أحاديث أنفسنا ( ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) وكانت الهلكة الإقامة على الأموال وإصلاحها وترك الغزو. ومازال أبو أيوب شاخصا فى سبيل الله حتى دفن بأرض الروم - لقد فسر الآية بخطبته، ثم فسرها بدمه، وما أبلغه فى الحالين. ص_156(4/165)
51- آية الأسبوع [ 15 ] ( أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون). إذا جاء الشر من حيث تنتظر الخير كان وقعه على النفس شديد القسوة. هب أنك اشتريت دواء يستشفى به من علة مؤذية فإذا بالدواء فاسد التركيب مخلوط بالعناصر الخطرة، كيف تكون المفاجأة إذا تناولته لتستريح فوجدت فيه الحتوف والمعاطب؟ هذا هو بلاء الإنسانية من الدعاة الكذبة والعلماء المزورين تصور قوما عملهم أن يمهدوا الطريق إلى الله ويتعبوا في قيادة الناس إليه ثم هم ينقلبون على رسالتهم فيقطعون الطريق وينفرون الناس، ويأكلون السحت يقول الله تعالى في أمثالهم ( إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله). تصور قوما يكرهون الإيمان ويغتاظون إذا انشرح به صدر، ويتمنون من صميم قلوبهم أن يبعد الناس عن الله، ويقعوا فى الشرك ( ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا..) ولم ذلك؟ لأن إشباعهم لشهواتهم واطمئنانهم إلى مكانتهم أغلى عندهم وأهم من الدين وأتباعه (..حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق) هذا الصنف الذى يحترف التدين - على غير عقيدة ويصطنع الدعوة على غير إخلاص ويثرثر بالإصلاح ويبارز الله بالعظائم إنما هو لعنة تحيق بالأمم ومد فى موجة الشر. وكلما كثروا فى أمة انتشر فيها الفساد. كان رسل الله قديما آحادا وسط شعوب هائمة فهدوها للخير. أما هؤلاء المتأكلون ص_157(4/166)
باسمهم المرتزقون من مواريثهم فإنهم يكثرون وتكثر معهم الأزمات الروحية والضوائق المعنوية لأنهم طابور للشر يشتغل تحت راية الخير فلا تنتظر منه إلا الخيانة والدسائس. اشتغلوا بخدمة أبدانهم فسمنت على حين خف فقهها ولذلك قال النبى - صلى الله عليه وسلم - فيها "إن الله يكره الحبر السمين" وكان مفروضا عليهم أن يحيوا للمثل العالية فوقفوا حياتهم على خدمة الأغراض الحيوانية ولذلك جاء الحديث "أن الواحد منهم تندلق أمعاؤه من بطنه فيدور فيها كما يدور الحمار بالرحي" أجل لقد دار حولها فى الدنيا فهو مربوط بها فى يوم الجزاء... ص_158(4/167)
52- الإسلام وحده نشرت "المصور" فى عددها الأخير هذا النبأ تتصادم اليوم نظريتان سياسيتان خارجيتان إحداهما وهى القديمة - ترى أنه من المصلحة أن تظل مصر معنية بالشئون العربية والإسلامية وشئون القضايا الدولية المختلفة ولو أدى ذلك إلى دوام الارتطام مع بعض الدول الكبرى. وأصحاب هذه النظرية لا يتوقعون إلى أمل فى عدالة هذه الدول ولا فى إنصافها للقضية المصرية على أيه حال أما النظرية الثانية - الجديدة - فهى ترى أنها فى حاجة الى التفرغ للقضية المصرية وإلى عدم التشويش عليها بقضايا الآخرين وإن كانت عزيزة إلا فى حدود القدر المعقول من الاهتمام ونظريتهم ترتكز على أن مثل هذه المهادنة قد تربح لمصر بعض الأصدقاء والأنصار. هذا الكلام لا يجوز أن يمر فى هدوء بل إنه يتيح لنا فرصة لإبداء رأينا الصريح فى قضايانا الخاصة وقضايا المسلمين عامة. وقضايا المستذلين والمضطهدين فى بقاع الأرض كلها مهما اختلفت ديانتهم وألوانهم. ويجب أن نصف موقف حكوماتنا السابقة وصفا دقيقا فهى لم تعن بشئون العرب والمسلمين إلا فى حدود ضيقة وتحت عناوين مبهمة. وبالقدر الذى تسمح به السياسات القومية المنكمشة فى تخومها المنسلخة عن دينها والسياسات التى تتجاهل أحكام الإسلام وتستحى من الظهور به فى مجامع العالم الضخمة. وأقرب الأمثلة إلى أذهاننا أننا لما اعترفنا بإندونيسيا دولة مستقلة تحررت من طغيان هولندا واستردت حقوقها المغتصبة بالحديد والنار. قيل لنا: إننا سارعنا الى تأييد إندونيسيا فى كفاحها الظافر بدافع من التعصب للإسلام ونعت علينا دول أوربا الفاجرة هذه العاطفة المعتدلة!! والغريب أن ساستنا سارعوا الى الدفاع عن أنفسهم أمام الاتهام الخطير الموجه اليهم! فقرروا أنهم لم يقفوا بجانب إندونيسيا دفاعا عن الإسلام وانتصارا لأهله بل احترام للحق المجرد واستنكار للعدوان المجرد. دون النظر الى وحدة الدين بين مسلمى مصر وجاوة (إندونيسيا). كان التمسك(4/168)
بالإسلام والانتساب إليه سببه اجتماع أساطيل أوربا فى مياه اليونان وتحطيمها للأسطول المصرى وتخليصها اليونان من سلطان الدولة التركية بدافع من الحمية الدينية المحضة فذلك أمر لا غبار ص_159
عليه.. وفى مأساة فلسطين حرصت دول الجامعة العربية على إقصاء الإسلام عن ميدان السياسة وأعلنت أنها تدافع عن عرب فلسطين كبشر بائسين أكلتهم عصابات اليهود ونفذت ولاتزال تنفذ خطتها فى إبادتهم وإرث أرضهم وديارهم وأموالهم. وقد ناشدت الجامعة المسكينة ضمير العالم المتحضر ليوقف هذه الكارثة الهائلة.... ولم تجرؤ فى مناشدتها الطويلة أن تشير الى الإسلام بكثرة ولا أن تومئ من بعيد الى أن هذا العدوان الصارخ يستفز النيام من المسلمين.. كلا والجامعة تشكيلة من الدول السائرة فى فلك سياسى مرسوم بمهارة. وآصرة العروبة بينها تحاصره اللاتينية بين دول أمريكا الجنوبية مثلا. وقد أثر هذا الموقف النابى فى أحوالنا كلها فزادها تعقيدا وارتباكا وجر علينا الفشل الذريع فى سلمنا وحربنا على سواء والعلاج ما هو؟.... وأين السبيل إليه؟.... والعلاج فى أن نبنى سياستنا الخارجية على دعائم إسلامية بينة وأن نعود إلى الإسلام فى باطن أمرنا وظاهره وأن ننبذ سياسة التأرجح والميوعة أمام القوى الدولية التى مزقت الحجاب عن نياتها وبارزتنا بالعدوان والتحدى ووضعت خططا ماكرة لإهلاكنا ولن يستطيع جبار مهما أوتى من سلطان أن يفصم عرى الأخوة بين مسلمى الصين ومسلمى الغرب ومسلمى هذا الوادي. ثم هو تمشى مع رغبات أوربا والغرب عامة فى تفتيتنا دويلات متقاطعة تشغل إحداها بشئونها عن الأخرى بل لعل الغرب يطمع فى أن يضرب بعضنا بالبعض مادامت آصرة الدين قد شلت تماما عن العمل! وليس ذلك بمستبعد فإن أوربا صنعت ذلك بنفسها قديما وحديثا. وهذا الكلام ينطوى على أمل باطل فى عدالة موهومة، لابل هو ينطوى على مساومة خسيسة فى سوق ملعونة. إذ كيف نرتضى لفرنسا بالإغضاء عن المذابح الشنيعة(4/169)
التى توقعها اليوم بالمغاربة؟ وهل نتوقع من القدر. إذا اقترفنا هذا الجرم – إلا أن نلقى المصير نفسه على يد الجزارين أنفسهم؟... إذا كنا نتبع فى سياستنا منطق الإسلام فهذا كتاب الله يفرض علينا أن نحقق العدالة حيث كنا وأن ندعو إلى الإنصاف فى كل محفل لا نبالى بقلة أو كثرة، بصداقة أو عداوة، بغنى أو فقير ( وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما إن الله كان عليما خبيرا) وإذا كنا نتبع فى سياستنا منطق الرجولة والخلق فهل من الرجولة والخلق أن نشتغل أذيالا لسماسرة المروءات ص_160(4/170)
والأعراض ممن يبيعونها بشهوة عارضة؟ وإذا كنا لا نتبع في سياستنا حقا ولا عدلا فلماذا نعيب على آكلى حقنا ونهاب خيراتنا؟ إن الخير كل الخير لأمتنا أن تستمسك بالإسلام جملة واحدة وأن تعيش به وله وألاتفتنها المظاهر التافهة عن هذه الحقيقة الجليلة. روى الحاكم عن طارق قال: خرج عمر إلى الشام ومعنا أبو عبيدة فأتوا على مخاضة - وعمر على ناقة له - فنزل وخلع خفيه فوضعهما على عاتقه وأخذ بزمام ناقته فخاض فى الماء- فقال أبو عبيدة: يا أمير المؤمنين أأنت تفعل هذا؟ ما يسرنى أن أهل البلد أستشرفوك فقال عمر: لو قال هذا غيرك يا أبا عبيدة جعلته نكالا لأمة محمد إنا كنا أذل قوم فأعزنا الله بالإسلام، فمهما نطلب العز بغير ما أعزنا الله أذلنا الله.... إننا نسوق هذه الحكمة لرؤساننا... ولعل الرجال الغاقين فى أردية الحرير وألوان الدعة عندنا يستمعون إلى قصة عمر الحافى وهو يحمل نعليه فيتضاحكون من بداوة الحكام الأولين... ويسرنا أن نضع تحت أعين سادتنا الناعمين هذه القصة، روى ألكسندر ويرث، وهو كاتب إنجليزى قضى سنى الحرب العالمية الثانية فى روسيا وقال: قد لا يكون ستالين منزها عن الأخطاء، ولكن لن أنسى قط هذه القصة التى تكشف عن الجانب الإنسانى فى نفسه... فقد فاجأ مرة مركز قيادة "زوكوف" بزيارة غير مرتقبة فى أحلك أيام الحرب الألمانية الروسية وكان "زوكوف" قد عاد من الميدان مرهقا، فاستلقى على فراشه بثيابه واستغرق فى النوم ودلف "ستالين" على أطراف أصابع قدميه فألفى حذاءى القائد مبتلين، وخشى أن يصاب من جراء ذلك بضر، فخلعهما برفق عن قدميه وحملهما إلى ياور القائد قائلا: من العار أن تترك عظيما مثله ينام بحذاءيه مبتلين... جففهما فى الحال، وأخبره عندما يستيقظ أننى أنتظره وارتبك الياور فما أن انصرف "ستالين" حتى أيقظ "زوكوف" وأنبأه بالزيارة والرسالة... وأسرع القائد فلبس حذاءيه ولما يجفا وغادر إلى موسكو.. وإذ دخل على ستالين ألقى(4/171)
هذا نظرة على الحذاءين ثم قال: - ما زالا مبتلين؟ إن ياورك مهمل يا صديقي، وجدير بك أن تتخلص منه ثم أرسل يستحضر له حذاءين جديدين... إن الصغار صغار الأنفس ولو عاشت فى أبراج. وإن العظمة لا يخدشها أن تخوض فى الأوحال ولا أن تحمل الأحذية. ووددنا لو أن رجالنا اعتزوا بالإسلام وأشربوا روحه الكريمة ثم واجهوا ساسة الدنيا أجمعين. ص_161
53- أفكار فى الإصلاح كان الرسول معلما ومربيا، لأن الإسلام يقوم على الأمرين جميعا.. التعليم يتجه إلى العقل فيملأه بأشتات من المعارف الصحيحة عن الحياة ورب الحياة. والتربية تتجه إلى النفس فتتعهد غرائزها بالتقويم والتهذيب فما كان من خير أبقته ونمته، وما كان من شر بترته أو حكمته. ولم تكن وظيفة الرسول أن يتلو على الناس كتابه فحسب، فإن رسالته تستحيل أن تتم بجلة من الأحكام والعلوم يشحن بها عقول السامعين، كما أن البشر لا يبلغون كمالهم بالمعرفة المجردة، بل لابد من تعهد الأجيال بالتمحيص والتجارب والابتلاء حتى يتربوا وينجوا ويطيبوا وذلك معنى التزكية التى قرن الله بها التلاوة فى قوله ( لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ). والرسالات الكبرى إذا تطلعت إلى الحكم وسلطاته فلكى تضمن تنشئة الجماهير على ما تقر من مبادئ، ومن ثم فالحكم فى الإسلام وسيلة لا غاية، إنه وسيلة إلى إقرار الفضائل وإقصاء الرذائل وتربية النفوس على الحق والخير والنظر إلى الأفراد والشعوب على ضوء هذه الحقيقة وحدها وليس يتصور فى دعوة إلى الله ورسوله أن تفصل بين العلم والتربية فى منهاجها ولا أن تتخلى عن هذا الميزان الحساس فى تقديرها لأصناف الناس. * * * إن التربية ليست أمرا سهلا حلو المذاق خفيف المؤنة. ذلك أن المرء قلما يتخلص من نزعاته الرديئة إلا بعد جهد جهيد وزمن مديد. ونحن إذا دققنا النظر فى الفرائض التى أوجبها(4/172)
الله على عباده وجدناها مدارج للكمال المنشود ولعل من أعظم وسائل التربية تعبئة الأمة فى جهاد نظيف الغرض طويل المدى فإن ما يكتنف حياة ص_162
الجهاد من قسوة ومصابرة يتسلط على النفس كما تتسلط أشعة الصيف على السنابل الطرية فتنضجها أو كما يتسلط لهب المواقد على الأطعمة الفجة فيطيبها. والمرء لا تطيب نفسه إلا على هذا النحو إنه يظل فى عراك مع الأيام ترميه بأغراضها ويلقاها بفضائله لا يسقط ولا يتعثر حتى ينتهى أجله فى الحياة وهو ممن قال الله فيهم: ( ...ولنعم دار المتقين الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون ). * * * وفقدان التربية الصحيحة من أسوأ علل الشرق الإسلامى فإن كثيرين من المسلمين يلصقون عنوان الإسلام على أنفسهم كما تلصق الورقة المزوقة على حائط مثقوب. وهذا عبث إن تجاوز عنه الناس فلن يرضى عنه رب الناس، إن الإسلام لا يستر بلى البناء بطلاء كاذب، ولكنه يهدم ويحفر ليضع الركائز المتينة ثم يشيد بعد ذلك الشرفات السامقة.. إن الإسلام يعرف الخير حقيقة متغلغلة فى النفس ولا يعرفه مظهرا تافها. وإنك لترى فكرته عن الخير فى وصفه الأجواد الأخيار بقوله: ( ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله وتثبيتا من أنفسهم كمثل جنة بربوة أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابل فطل والله بما تعملون بصير)، والفرق بين التدين المصنوع والتدين المطبوع، كالفرق بين وجه وليم يختفى تحت مساحيق حمراء وبيضاء ووجه نقى أغر لا تفارقه ملاحته فى ليل أو نهار. والفرق بين الرجلين كالفرق بين ممثل يؤدى دوره على المسرح فهو يتكلف له ريثما ينتهى منه.. ورجل يواجه الحياة بصميم نفسه وحقيقة حسه!! * * * لكن الله لا يدع الجوهر يخفى والمظهر يطغى إلى آخر العمر، فإن الناس على مر الأيام وأنواع البلاء يتكشفون على ما بين جوانحهم وحده. ومهما تكن عند امرئ من خليقة وإن خالها تخفى على الناس تعلم ص_163(4/173)
وعندئذ يكون الحساب الدقيق على خلائق الإنسان الغالبة. ويرى المحققون من العلماء أن هذا معنى ما ثبت عن النبى صلى الله عليه وسلم "إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يبقى بينه وبينها ذراع فيسبق عليه الكتاب فيصير إلى أهل النار. وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يبقى بينه وبينها ذراع فيسبق عليه الكتاب فيصير إلى أهل الجنة"، فليس القصد من الحديث أن رجلا صالحا يرتكب آخر عمره خطأ فيذهب إلى الجحيم، أو بالعكس! كلا.. إن موازين العدل الإلهى أحكم وأدق مما يظن الجاهلون.. بل الحديث يصف ضروبا من الناس تخالف ظواهر أحوالهم خفايا نفوسهم، يبقون سنين طوالا على هذا التناقض ثم ترسو سفنهم آخر الأمر على ما يؤثرون ويستحبون. إنك قد تلمح فى أهل الدنيا رجالا تحسبهم مغرقين فى حبها فإذا غلغلت النظر فى طويتهم رأيت انعطافا نحو الله وشوقا إلى عبادته وقد تلمح فى أهل الدين رجالا عليهم سيم الصالحين وإخبات المنيبين فإذا رجعت الطرف وجدت رغبة فى الحياة وحرصا على زخرفها. إن هؤلاء وأولئك تناقض ظواهرهم بواطنهم لهؤلاء باطن أهل الجنة وإن ظهرت على جوارحهم أعمال أهل النار ولأولئك باطن أهل النار وإن ظهرت على جوارحهم أعمال أهل الجنة، وهذا التناقض لا يطول أمده. فإن الله ينهيه على النحو الذى ذكره نبيه الكريم وما أصدق قولهم: العبرة بالخواتيم. * * * وقبل أن تتمخض الأيام والليالى عن أقدار الناس نرى الأعاجيب، ومن الأعاجيب التى تبرق أمام أعيننا فى هذه الأيام أن قوما ما ظلوا فى موكب الحق سنين يحاربون عنه ويهتفون له. ثم بدا لهم أن الشقة بعيدة والتكاليف باهظة فسكنوا، فلما سكنوا شاء الله أن يهزم الباطل بأيدى غيرهم. ولو أنهم صبروا قليلا لأحرزوا الشرف أولا وآخرا. أما سمعت عن قوم ظلوا معتبرين أعداء الملك وأصدقاء الدستور ثلاثين عاما، ثم إن أعداء الطاغية فكروا قليلا ثم سالموه، وما إن سالموه حتى سقط، وهم اليوم يحاسبون على سلمهم له(4/174)
فحسب! أما خصامهم له ربع قرن فقد أضاعته هفوتهم الأخيرة..؟ كذلك صنع الوفد المصرى مع القصر. إنى أريد من المسلمين أن يذكروا، وأن يتعظوا، إن الحياة للمبادئ المجردة قد تتطلب خصاما لا يدرى له آخر، ولا تلطف حدته سياسة، ولا يجدى فيه إلا الرباط بعد الرباط. ص_164
54- هذا هو الطريق... كما تعجز العصا - مهما اشتد الساعد الذى يحملها - عن مواجهة دبابة زاحفة أو طائرة منقضة، تعجز الوسائل التافهة عن تحقيق أى كسب فى ميدان الأدب والثقافة، وميدان العلم والصناعة، وميدان السلم والحرب. إنها لا تعجز فحسب! بل ترتد وبالا على أصحابها ومثارا للسخرية منهم، أمام خصوم أتقنوا وسائل الغلب واستكملوا أسباب النجاح.. والإسلام فى هذا العصر يعانى هجوما منظما ماكرا، رسم فى أناة ودقة سياسة بعيدة المدى طويلة الأجل تنتهى حتما بالقضاء عليه، وعلى أمته الكبرى ما لم تقفها مقاومة مستميتة صادقة، وما لم تحتشد لردها كل الوسائل الصحيحة والقوى المتفوقة أو - على للقليل - القوى المكافئة، التى يجمعها أنصار هذا الدين والآخذون به. ولن أسام من التنبيه مرة أخرى إلى أن الرجال الذين التصقوا بالإسلام، ونصبوا أنفسهم لحمايته مازالوا يحملون (العصا) القديمة فى ملاقاة أحدث الأسلحة! بل أستطيع الذهاب فى اتهامهم إلى أبعد من ذلك أنهم قبعوا فى أماكنهم يتحدثون ويتحمسون ولم تحدثهم أنفسهم أو يوحى إليهم حماسهم أن يدعوا أماكنهم العتيدة ويبرزوا إلى عمل رائع. كأن الدعوة إلى الإسلام قطار يسير على شريط من القضبان الممتدة الممهدة فليس يخشى عثارا أو اعتراضا. وهذا جهل بالإسلام كبير وبالحياة أكبر. إن الجندى الذى يكلف بحراسة الأمن، جنيهات، قليلات قد يفقدنه حياته وهو يؤدى واجبه فى مطاردة لص آبق أو معتد أثيم. فما بال الذين نصبوا أنفسهم حراسا على الإيمان وأقتطع لهم من الدنيا المال الجم والجاه الواسع لقاء هذه المناصب، ما بالهم يبنون خططهم على كل شيء إلا التعرض(4/175)
للحتوف والاستهداف للنوائب؟ كيف يقوم دين بهذه الخطة؟ وكيف تنكسر شوكة الماكرين به وبين جوانحهم روح الهجوم وبين جوانحنا روح التوجس والمحاذرة؟ ص_165
إن لواء المشركين فى معركة أحد فنى تحته قبيل من بنى عبد الدار وهم يذودون عنه! أفتحسب أن هذا الاستقتال فى صفوف المشركين كتب عليه الفشل آخر الأمر لأنه وجد تجاهه استقتالا أشد، وإقداما أقسى وأحدا، ورغبة فى التضحية أقوى وآكد.؟ إنه لولا رجحان المسلمين – في خلال القوة – ما كتب لهم على عدوهم نصر، ذلك من الناحية النفسية، أما من الناحية المادية والعقلية فإن جمهور المسلمين الأولين ما كانوا قط أنزل رتبة من غيرهم ولا أدنى مكانا.. لم يكن المسلمون أميين وخصومهم أذكياء مخترعين. لم يكونوا أقزاما أو أصفارا فى شئون التجارة والصناعة وخصومهم عمالقة جبارين.. كانوا فى هذه النواحى الخطيرة سواء.. وبذلك أخذ الإسلام طريقه فى الحياة بوسائل لا افتعال فيها ولا افتيات. وأى نقص يعترى الإسلام فى مقدار هذه الوسائل فالعمل الأول والأخير يجب أن يقوم على سده، لأنه لن يبلغ غاية قريبة أو بعيدة عن طريق القفز فى الهواء والسير على الماء! * * * فى هذه الفترة الصعبة من تاريخ الإسلام يجب أن نعقل ما نحن عليه وما عليه غيرنا ويجب أن تزيح العمل للإسلام الأشخاص الملتاثين العاجزين عن إدراك الوسائل الحقة وعن توفيرها؟ إنهم عوائق وحجب لا أنصار وأعوان.. انظر بعينيك اليوم كيف أقام اليهود إسرائيل وأى الأسباب جمعوها حتى وصلوا إلى هذه النتائج السريعة؟ وانظر إلى ساسة الشرق وحدثنى عما ترى : إن ساسة الشرق الإسلامى من أبرع الناس فى صوغ الخطب الرنانة. ولكن الخطبة البليغة من الطبيب هى إقامة مستشفى كبير، والخطبة البليغة من المهندس هى مد طريق أو تشييد جسر، والخطبة البليغة من الضابط هى إجادة صناعة الموت، والخطبة البليغة من الوزير هى إتقان فن الحكم. والجماعة التى تزعم العمل للإسلام ثم لا تحول(4/176)
أعضاءها على عجل إلى رجال مبرزين فى شئون الحياة وقادة مرموقين فى ركب الحضارة هى لا ريب جماعة فاشلة. من أيام استقبل المسلمون ذكرى ميلاد نبيهم استقبالا يدلك على مبلغ فقههم فى الإسلام وإعدادهم لتحرير أرضه وإنقاذ تراثه. أنشئت سرادقات تعد بالألوف لبيع الحلوى وكان ينبغى أن تحرم أفواه الجماهير من ص_166
هذه الحلوى لينفق ثمنها فى إرسال الأقوات للاجئين المطرودين من أرض فلسطين! كيف نسينا هزيمتنا هناك! وكيف نسينا أخواننا الذين يعانون ذل الحاجة والخوف والضياع؟ وهناك سرادقات أخرى تسمع فيها الخطب الطوال. هناك خطب أنا أسميها خطب السكر الإلهي، أو على حد تعبير المتصوفة خطب الخمر الإلهية، لأن موضوعها يقوم على إسقاء السامعين معانى تثير فى أبدانهم نشوة دينية مبهمة. لا صلة لها بحقيقة الإسلام الواضحة ولا بحاضر المسلمين المر. وفى نفسى سخط كبير على أولئك الخطباء السحرة، إنهم لم يغضبوا لله يوما، ولا ناصبوا العداء ملكا ظالما أو حاكما مجرما أو محتلا غاشما ولا تموت وجوههم لإثم شقى به الناس وسخطه رب الناس ولا عناهم البحث عن أجدى الطرق لإنقاذ ديننا وبلادنا وأنفسنا من النكبة التى حلت بنا ذلك أن خطباء السكر الإلهى لهم أسلوب انفردوا به فى التحدث عن الإسلام جعل العوام وأنصاف المتعلمين وأشباه المتقين يلتفون بهم ويهتزون لكلامهم اهتزاز السكران المخبول. ومن البديهى أن الإسلام يتأخر بهؤلاء ولا يتقدم، وأن قضاياه المعقدة لن تزيد فى أبديهم إلا خبالا وأن الجمهور الساذج الحائر لن يهتدى إلى طريق العمل الصالح والإنتاج السليم لا بإلقاء الخطب ولا بالإنصات إلى أصحابها. * * * انظر إلى ميدان العلم فى بلادنا. إن بعثات التبشير وما إليها أسست عشرات المدارس المبتوتة الصلة بالإسلام حتى إن الإسلام فى ميدان التعليم الحر غريب. وانظر الى ميدان الصحة إن مصانع الأدوية ومتاجرها الكبرى والصغرى قلما اهتم المسلمون بها ونبغوا فيها. ولو(4/177)
ذهبنا نستنبئ شتى الميادين عن جهد المخلصين لله الهاتفين بالقرآن والسنة لوجدنا قصورا مخزيا.. ومرد ذلك إلى غباوة الخطباء المتحدثين عن الإسلام والرؤساء الممسكين بزمام التوجيه العام، وغلبة المحترفين والهواة على الفاقهين المبصرين. إذا سبقت فى ميدان السياسة لأنك جبان، أو سبقت فى ميدان البر والإحسان لأنك كسول. وإذا انهزم دينك بين يديك فلم تمسح عنه غبارا، وأقبل عليك الجمهور فكان قصاراك أن تبدأ معه حديث ألف ليلة وليلة، لا ينتهى كلام حتى يتبعه كلام.. فكن ما تريد أو من تريد ولكن احذر أن تحسب نفسك رجل الإسلام أو حامل لوائه أو ترجمان دعوته. ص_167(4/178)
55- يا غوثاه للإسلام.. من المحترفين القدامى والهواة الجدد هل جلست يوما تستمع إلى (الراديو) يذيع على الناس اللهو والشجو والحق والباطل؟ لقد ضبطت أزراره على المصدر الذى يرسل ذلك بحيث يخرج الصوت سليما واضحا. ثم تركت الآلة المضبوطة تستقبل ما يصل إليها وتملأ بها الآذان الواعية أو الغافلة. لو أنك أدرت بعض المفاتيح في هذه الآلة العجيبة وملت بها يمينا أو يسارا فإنك إما أن تسمع صوتا أجش منحرفا مزعجا. وإما أن يختفى الصوت وتنقطع أنفاسه فلا تسمع لا همسا ولا صياحا. وسيبقى الصوت أجش غليظا ما بقيت الأزرار مائلة عن وضعها الصحيح، وسيبقى خامدا صامتا ما ظلت مفاتيحه موصدة ولن تعود إلى السماع الهادئ الرتيب حتى تعيد الجهاز إلى ما كان عليه من ضبط متقن دقيق. إن قلوب البشر في التقاط الحقائق كبراها وصغراها كهذه الأجهزة الحساسة. وهي كذلك في أدائها وقرع الآذان بها. يوجد أقوام تنطبع في نفوسهم الحقيقة كاملة. فإذا تحدثوا كان كلامهم مصداقا لها وإذا عرضت لهم قضية كان فصلهم فيها تجاوبا تاما مع الحقيقة السارية فى الكون. وقد أنصف القرآن اليهود أنفسهم إذ أبان أن منهم ذوي قلوب تنجذب إليها الحقيقة فهم يتحدثون بها ويحكمون. قال عز وجل: ( ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون).. وهناك أقوام تصل الحقيقة إلى أفئدتهم محرفة منقوصة فهم يتحدثون ويخبطون كهذا (الراديو) المعوج الأزرار تسمع منه فرقعة وفرقعة، وقد تعى منه شيئا أو لا تعى منه شيئا أبدا. ومهما أنصت إليه فلن تخرج إلا بصداع فى راسك، ذلك أن الآفة تجيء من داخله، ولن يصفو لك سماعه إلا إذا غمزت يدك أزراره المائلة فأصلحتها أو أخمدتها. وهناك أقوام لا تصيب الحقيقة من قلوبهم هدفا ولا تجد بها مقرا فهم ( أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون).! ص_168(4/179)
وقيمة الإنسان فى الدنيا وفى الآخرة ترتبط بمدى صلاحية قلبه للإدراك الناضج والحكم الصحيح لا في قضية فرد بعينه، أو حالة بعينها، بل فى شئون الحياة كلها ومع أهل الأرض أجمعين. ولعل ذلك ما عناه النبي الكريم وهو يقول (ألا وإن فى الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب). وما قررته الآية الكريمة ( يوم لا ينفع مال ولا بنون * إلا من أتى الله بقلب سليم) وأستطيع أن أؤكد بقوة أن تقدم جماعة أو تأخرها منوط بمدى ما لديها من أصحاب هذه القلوب الواعية، القلوب التى تتصل بالعالم وأحداثه اتصالا فاقها نظيفا، فهى لا تنخدع فى إدراك مسألة، لأنها تلتقط لها صورا صحيحة، ولا تزيغ فى إصدار حكم لأن وسائلها فى الأداء والبلاغ لم يدركها عوج ولم يصبها عطل. * * * ومن تجاربى مع الناس والأيام رأيت أن الإسلام لن يفهمه ولن يخدمه امرؤ حرم هذا القلب، ولو استجمع شارات التدين من قدمه إلى رأسه أو من رأسه إلى قدمه.. وأن قضاياه لن تنجح إلا إذا حملها أصحاب القلوب الكبيرة وتوفروا على نصرتها بفهم حصيف وبصر عفيف ولن يعارض هذا الكلام ما جاء في الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " لن تدخل الجنة إلا نفس مؤمنة وقد ينصر الله هذا الدين بالرجل الفاجر" فإن الرجل الفاجر قد تستغل قواه فى سبيل الحق عندما يكون فردا خبيثا وسط جماعة طيبة تضع هى نفسها الخطط وتملك وتوجه الأمور.. أجل.. فإن الجندى المرائي قد يؤدي عملا ما وسط الجيش المخلص، فرياؤه على نفسه وسلاحه لمن معه. لكن النصر يكون أبعد ما يكون عندما يستبد ذوو القلوب المدخولة برسم الخطة وإدارة المعركة. عندئذ يرفع الله يده ويدع الناس وشأنهم.. والخسائر التى أصابت الإسلام فى العصر الحديث ومكنت لنزعات أخرى أن تسود وتبرز، سرها أن زمام الإسلام وقع فى أيدى رجال لهم غلبتهم أنفسهم وصرعتهم قاصمة الظهور. ومنذ سنين بح صوتى وأنا أرى حكام الشرق يأكلون شعوبه(4/180)
ويتركونها فضلات محطمة للمحتلين الأجانب، فإذا بى أطعن من ظهرى أو ألطم على فمى من رجال يقال إنهم قادة الإسلام. يا غوثاه للإسلام من المحترفين القدامى والهواة الجدد. ص_169
56- حول مسيرة الإسلام....!!! للبعد عن الإسلام صور شتى ليست سواء فى فداحة الضرر وسوء العقبي! فالمعصية - أيا كانت - بعد عن الإسلام. ولكن المعصية فى السر غيرها فى العلن، وهى من الأفراد غيرها من الجماعات.! المعصية فى السر يصاحبها شعور بالرهبة من قانون قائم وعقاب مرصد. وهذا الشعور دليل على أن للدين سلطانا يحذر، ودليل أظهر على أن له معالم لا تحتمل الريبة والتأويل... والمعصية من الفرد خطأ محدود الدائرة، ومهما كانت جريمة الفرد وسط مجتمع فاضل نقى فإن أثرها لا يلبث أن يتلاشي، ثم يمضى المجتمع على نهجه القديم الموطد، كأن لم يعكره شيء. أما الجريمة التى تواقعها الدولة، وترتضيها أو تسكت عنها الجماعة فلها شأن آخر، شأن يصرخ بأن معالم الحق نفسه قد تشوهت وأذواق العامة قد فسدت. وأول ما ينتظر لهذا التطور هو اتهام المبدأ الذى تقوم عليه الدولة، لا اتهام الدولة بأنها خرجت على مبدئها، خصوصا إذا كانت هذه الدولة تزعم أن عملها صورة طبق الأصل لدعوتها، وأن مسلكها ترجمة صحيحة لمبدئها الذى نهضت عليه وتدعو إليه...!!! والأمة الإسلامية فى تاريخها الطويل قد اقترفت أخطاء اجتماعية وسياسية، خرجت بها على نصوص الكتاب والسنة. وهذه الأخطاء لم تحسب على أنها سياسة ملوك جورة، بل حسبت على أنها هدى الإسلام نفسه. وذاك مثار سخطنا، نحن الذين نعرف الإسلام من أصوله القائمة لا من أعمال الذين انتسبوا إليه وجاروا عليه. والحقيقة التى نضحت بها أقوال الأئمة الراسخين فى العلم، أن الطريقة التى ص_170(4/181)
سار عليها جمهرة ملوك بنى أمية والعباس وعثمان لم تكن تعبيرا دقيقا ولا أمينا عن الحكم الإسلامى لا فى الداخل ولا فى الخارج... وأن هذه الطريقة اختلط فيها الحق بالباطل والهوى بالإخلاص والنصح بالغش على نسب متفاوتة أشد التفاوت...!!! كان العلم بالإسلام والعمل له يبلغ 100% على عهد الخلافة الراشدة. ثم أخذت هذه النسبة تنحدر وتهوى حتى حكمت باسم الإسلام دول لا تكاد تعلمه أو تعمل به، ثم هى مع هذه الجهالة الطامسة حريصة على القول بأنها تمثله أصدق تمثيل. ومن ثم انصرفت شعوب كثيفة عن التفكير فى الإسلام. ولها العذر فى الصد عنه. فمن الغباوة تكليف عباقرة الأرض أن يتبعوا الأميين، أو تكليف الجادين المسعودين أن يتبعوا العاطلين المظلومين... إن ابتعاد المسلمين عن الإسلام شمل - على العصور - كثيرا من نواحيهم الاجتماعية والسياسية - بل الخلقية - فلا جرم أن يصيروا بعد هذا الابتعاد المستمر إلى حال من الفوضى يضار منها دينهم، كما تضار منها دنياهم. * * * وهذا الابتعاد كما يبدو فى ترك ما أمر الله به، وفعل ما نهى عنه يبدو كذلك فى فعل أمور يظن أنها ترضى الله، وترك أخرى يظن أنها تغضبه. وهذا التدين المختلق كان أشد نكاية بالإسلام الصحيح من العصيان الصريح. والفقهاء الناقدون يعرفون أن فى حياة الأمة الإسلامية الآن ركاما من البدع والأهواء والخرافات قد تحول إلى دين، وما هو من دين الله فى قليل ولا كثير!! ويعرفون كذلك أن هناك طائفة ضخمة من آراء الرجال وأفكارهم ومذاهبهم قد جمدت وأريد لها أن تخلد مع كتاب الله وسنة رسوله على أنها الدين أو التفسير الفذ له - خصوصا بعد ما أغلق باب الاجتهاد أوائل القرن الخامس - وهذه الآراء والمذاهب تجمع بين الخطأ والصواب. ص_171(4/182)
وإلزام المسلمين بها لا أصل له. ووقوف الفكر عندها وحدها قصور ما أنزل الله به من سلطان. والفقهاء الناقدون يعلمون أن الشلل الجزئى الذى أصاب العقل الإسلامى فى سياسته التشريعية قد تطور إلى شلل عام فى نشاطه الفكرى كله، وأننا حصدنا ثمار هذا الموت الأدبى هزائم كاسحة اجتاحت بلاد الإسلام من أقصاها إلى أقصاها. إن القلب ليجف وهو يرمق الآفاق الداكنة فلا يرى هنا وهناك إلا نذر التدمير والإفناء...!!! ولقد أجمع العلماء الناصحون للأمة على ضرورة تجريد الإسلام من الأوهام التى لابسته، والتى أدخلت عليه بحسن نية أو بسوء نية..!! حتى إذا صفا الحق وذهب عنه ما شانه وجب الاستمساك به والنزول على حكمه دون تفريط فى ذرة منه. وهذا وحده طريق الهدى والخير. * * * وأحب هنا أن ألفت الأنظار إلى حقيقة مهمة، فقد رأيت بعض علماء الإسلام يتوجس الشر من الحضارات التى نبتت فى أوربا وأمريكا، وكأنه يتهمها جملة وتفصيلا، ويريد أن يقطع كل صلة بين نهضة المسلمين من كبوتهم وبين الإفادة من بعض العناصر الفكرية والعاطفية فى هذه المدنية الجديدة. وهو يرى أن العودة إلى الإسلام، وتجديد مفاهيمه الدارسة يناقض أى نقل أو اقتباس من الأنظمة الشيوعية أو الاشتراكية أو الرأسمالية. بل إن هذا الفريق من العلماء المخلصين لدينهم قد تدفعهم الحماسة إلى اتهام إخوانهم الذين لايرون حرجا من مد العين إلى مظاهر التقدم الإنسانى فى هذه الميادين البعيدة...؟!! وعندى أن الأمر يفتقر إلى بيان وتوضيح: خذ مثلا قول رسول الله: "كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه". إننا إنفاذا لتعاليم الإسلام نستطيع أن نشرح قوانين جمة لحماية حقوق الإنسان من هذه النواحى جميعا، ولعقاب المتعرضين لها حكاما كانوا أم محكومين. ص_172(4/183)
لكن الحفاظ على الدم والمال والعرض ليس اختراعا إسلاميا، بل هو مبدأ إنسانى عام، تتواصى به الأجناس والأجيال!! فإذا وجدنا قبيلا من الأرض، أيا كان لونه ودينه، علمته آلام الطغاة أن يحكم السدود أمام مظالمهم، وأن يضاعف الحيطة ضد عدوانهم، وأن يبتكر لذلك من القوانين، ويصوغ من المواد ما يوفر بين الناس مزيدا من الأمن والعدالة، فأى حرج فى أن ننقل أو نقتبس بعض أو كل هذه الوسائل التى نراها أجدى فى تحقيق غايات جاء بها ديننا ووصانا بها نبينا؟ إن الظلم من شيم النفوس. وهو فى سياسة الحكم والمال آفة البشر منذ درجوا على ظهر الأرض. ومهما بلغت زواجر الدين فهى لا تحمى الشعوب نزوات الجبابرة إذا خلا لهم الجو ومالت بهم نشوة السلطة.. وقد تعلمت الأمم أن تضع دساتير دقيقة للموازنة بين السلطات العليا ولضبط العلائق بين الحاكم والمحكوم فى شئون الحياة الثابتة والمتجددة. فأى حرج فى الإفادة من تجارب الإنسانية طوال بضعة عشر قرنا ربحت فيها ما ربحت وخسرت ما خسرت؟ ومن الذى يقول إن الإسلام يمنع ذلك؟ إنه بعد مضى نصف قرن على وفاة رسول الله جرؤ حاكم - يتسمى أمير المؤمنين - على استباحة المدينة المنورة، ومات على فراشه لم يمسسه سوء!! فإذا كان الإنجليز والفرنسيون قد شنقوا أمثال هذا الحاكم، ثم اتخذوا من الضمانات التشريعية ما يغل يد الملوك والرؤساء عن فعل هذه الآثام، وسموا هذه الضمانات نظاما ديمقراطيا، فهل الإسلام هو الذى يتنكر لهذه الديمقراطيات ويحجز أتباعه عن تطبيقها؟ * * * وكما عانت الأمم قديما وحديثا من استبداد الحكام عانت من سوء توزيع المال ومن أثرة الأقوياء فى حيازته وإنفاقه، ومن تجاهلهم لحاجة البائسين، وقساوتهم على الضعاف وجحدهم للعاملين المرهقين. ص_173(4/184)
وقد ارتقى الحس الإنسانى وبلغ مدى بعيدا فى احترام كيان الفرد وصيانة مستواه المادي. وسجل ذلك فى قوانين وتقاليد صارمة. فمن الذى يصدنا عن اجتلاب هذه القوانين، لتعيد العدالة الإسلامية إلى صحراء الجزيرة، وإلى جنبات الأمة المهيضة من أندونيسيا إلى السنغال؟ إن الإسلام استهدف العدالة السياسية والاجتماعية يقينا، وترك وسائل تحقيق هذه العدالة وفق أطوار الزمان ومصالح الناس. وإنه لمن معصية الله أن نغلق باب الاجتهاد منذ عشرة قرون فإذا صحونا بعد رقاد مشئوم حسبنا أن العالم نام كما نمنا، وسد منافذ الاجتهاد كما سددنا ثم قررنا أن نستأنف السير عندما وقفنا... أى من ألف عام!!! دون اكتراث لآثار اليقظة الفكرية والاجتماعية التى شملت الدنيا كلها فى هذه السنين الألف....!!! إن الصراط المستقيم الذى ضمن الله عز وجل للسائرين فيه ألا يضلوا ولا يشقوا تتضح معالمه من موجهين متمايزين. أولهما إرشاد الوحى الأعلى وهو ما انفردنا نحن المسلمين بنصوصه فى الكتاب الكريم والسنة المطهرة. وتوجيهات السماء هذه لها مجالها الذى لا يزاحمها عليه شيء. ونحن مقيدون بهذه التوجيهات لا نستبدل بها غيرها ولا نزهد فى أثر منها. بيد أن هذا الإرشاد السماوى كما أسلفنا إذا كان قد عنى بالدقيق والجليل فى شئون العبادات فهو فى شئون المعاملات يهتم بالأصول وينيط أمور الناس - بعد - بالمصلحة العامة... وهنا يجيء دور الموجه الآخر. هذا الذى يتحرى الخير لعباد الله فى سياسة المعاش وشئون الدنيا وتحقيق الأصول المجمع على صدقها وسدادها. ونحن المسلمين لا نفضل أحدا من أهل الأرض بميزة خاصة فى هذا المضمار، إلا أن نجهد عقولنا أكثر مما يجهدون، ونبحث عن الصواب أكثر مما يبحثون..!! فإذا كسلنا ونشطوا، وتراخينا وجدوا فهم أولى بالحق منا وأجدر بالتمكين فى الدنيا من أناس جهلوا كيف تساس الدنيا وكيف تدبر مصالحها المرسلة...!!! ص_174(4/185)
ولا أدرى لماذا يكره بعض الدعاة هذا الإنتاج الإنسانى الرائع، وأكثره وليد تجربة صادقة وخبرة طويلة وفطرة أقرب إلى السلامة؟ * * * من عشر سنين كان فى مصر دستور حسن تأملت فى نصوصه ثم قلت: إنها - على الجملة - إسلامية بعد إطراح النظام الملكى منها. وهنا تصدى نفر من الدعاة يجادلنى فى حرارة، ويتكلم عن أهل الحل والعقد وأسلوب الإسلام فى الشوري. ويتخيل صورا - لو صحت - لوجب أن تمر فى فترة اختبار أخرى تستغرق القرون لا السنين!! حتى تثبت صلاحيتها. لم هذا الغض من قيمة الثمار التى وصل إليها غيرنا فى أفق المصالح المرسلة؟ وما معنى الركون إلى آبائنا وحدهم إذا كانوا قد قصروا فى ناحية فاقهم فيها غيرهم؟ قال أبو حامد الغزالى - يرد على بعض معترضيه-: "لعلك تقول إن كلامك فى هذا الكتاب انقسم إلى ما يطابق مذهب الصوفية، وإلى ما يطابق مذهب الأشعرية وبعض المتكلمين، ولا يفهم الكلام إلا على مذهب واحد من هذه المذاهب؟" ثم قال: "اطرح هذه المذاهب فليس مع واحد منهم معجزة يترجح بها جانبه، واطلب الحق بطريق النظر، لتكون أنت صاحب مذهب! ولا تكن أعمى مقلدا بل خذ الحق أينما وجدته وفى أى ناحية كان. اطلب الحق بالنظر لا بالتقليد، فالحكمة ضالة المؤمن يلتقطها أينما وجدها". والغزالى بهذا الكلام يترجم عن وجهة النظر الصحيحة للإسلام. إن تفاوت الأحكام فى غيبة النصوص - أو فى وجوه فهمها إن وجدت - أمر لا ينبغى أن نفزع منه، ومن حقنا أن نستمد منه حرية عقلية مطلقة. خذ مثلا حالة القتل بالإكراه فى فقهنا الإسلامي: بعض العلماء يرى قتل المكره. وبعض يرى قتل المكره. وبعض يرى قتلهما معا. ص_175(4/186)
وبعض يرى عدم قتلهما. ما هذا الاختلاف؟ ألا تراه استوعب الفروض العقلية كلها؟ إن العقل التشريعى التمس فيه كل وجهة، ثم رجح كل الناحية التى آثرها!! هذا التفكير الطلق والمدى الذى يعمل فيه هو نفسه المجال الذى سيعمل فيه القانون الوضعي، فى أرجاء الأرض التى لم يصلها إسلام!! إن النص لا مكان معه لحرية الأخذ والرد، وهذا ما نؤكده مرة ومرة، أما مضمار الاستصلاح ونشدان النفع المطلق فى الميادين السياسية والاقتصادية وأنواع المعاملات الأخرى فإن العقل الإنسانى قد أسهم ولا يزال يسهم فيه بحظ وافر. وعلينا نحن المسلمين أن نحصد مع الحاصدين أينع ما أثمره الاجتهاد الحر فى هذه الحقول كلها.. * * * ثم إن حضارة الغرب لم تكن جهد أهله وحدهم فلولا ما قدمته حضارة الإسلام لأوربا ما انتعشت أوربا ولا سادت. فلماذا يعز علينا أن نسترد بعض ما وهبنا؟ أحسب أن إهمال النشاط الإنسانى فى الميدان العقلى بعد عن الإسلام يضارع الابتداع فى ميدان العبادات.. إن الغلو بالزيادة فى المنقول كالغلو بالنقص من المعقول، كلاهما شطط عن الحق، وجور عن الصراط..!! والرجل الذى يعبد الله بما لم يشرعه ضال، والذى يعبده بالتوقف حيث لا حد، والتوجس حيث لا حظر ضال كذلك..!! وإنى لأدعو إلى الانتفاع من الغرب لا فى شئون الصناعة والزراعة فحسب، بل فى ميدان العلائق والمعاملات الإنسانية التى وكل الله إلى الناس تنظيمها وتحسينها وناط بعقولهم اختيار الوسائل الناجعة فيها. فإن الحق فى هذا الميدان ليس حكرا على أحد. وقد استغربت من بعض الدعاة الإسلاميين تبرمهم بهذه الحقيقة، وإساءة الظن بمن يعتنقونها، واتهامهم بالانطواء فى تيار الغرب. ص_176(4/187)
قال الشيخ تقى الدين النبهاني: "جمهرة الناس كانت تحمل فكرة التوفيق بين الإسلام، وبين الثقافة والعلوم والحضارة والمدنية التى يحملها الغرب: فقد سادت فى أواخر الدولة العثمانية فكرة مؤداها أن الغرب أخذ حضارته عن الإسلام وأن الإسلام لا يمنع أخذ ما يوافقه والعمل بما لا يخالفه": وقال "... وقد نجح الغرب فى نشر هذه الفكرة حتى ذاعت بين الجماهير لا سيما المتعلمين - وفيهم كثير من الفقهاء - وكان هؤلاء "يسمون علماء عصريين، وأطلق عليهم أنهم مصلحون". ثم قال: ".. ونظرا للتناقض الحقيقى بين الحضارة الغربية والحضارة الإسلامية وللتباين الواضح بين الثقافة الغربية ووجهة نظرها فى الحياة، والثقافة الإسلامية وما ترسمه من طرائق للحياة - نظرا لهذا التناقض لم يمكن التوفيق بين ما فى الإسلام، وبين هذه الأفكار.. إلخ". ونقول نحن: إن التوفيق بين ما فى الإسلام من عقائد وعبادات، وبين ما فى أوربا من تثليث، وطقوس كنسية وجاهلية جنسية، مستحيل! ومحاولة ذلك عبث لم يخطر ببال أحد. أما الذى نراه ممكنا بل واجبا، فهو التوفيق بين مبدأ الشورى عندنا وبين الأنظمة البرلمانية الناضجة عند القوم. بين مبادئ العدالة الاجتماعية عندنا وبين الأجهزة الإدارية والمالية الرائعة التى تفتقت عنها الاشتراكية الحديثة. قد تقول: وما الدافع إلى ذلك؟ والجواب ننقله من كلام الشيخ تقى الدين نفسه "إن القرن التاسع عشر - للميلاد شاهد انقلابا خطيرا فى الأفكار الأوربية على أثر الجهود العظيمة التى بذلها الكتاب - والفلاسفة والتغيير الشامل الذى صاحب حركة إحياء الشعوب.." قال: ومن أهم ما وقع تعديل الأنظمة السياسية والتشريعية وسائر شئون الحياة. فقد زالت الملكيات المستبدة وحلت مكانها حكومات نيابية تمثل سيادة الأمة، كان لها أثر كبير فى توجيه النهضة. ص_177(4/188)
هذا إلى جانب التفوق الصناعى وظهور الاختراعات العديدة.. قد تقول: وما حالتنا يومئذ؟ والجواب أن الشرق الإسلامى كان يترنح كالمخمور الذى أفرط فى الشراب. ويبدو أن ما تجرعه على مر القرون من غصص جعل المحاولات الواهنة لإيقاظه تذهب سدى، فما لبث أن سقط فى الوحل بين ألوف الذئاب المتربصة. إن الاستبداد السياسى والظلم الاجتماعى وبراكين الجهالة التى تفجرت بين العرب والترك والفرس والبربر والهنود وغيرهم من أبناء الأمة الإسلامية، كل ذلك ترك فى كياننا عللا دفينة وفتوقا غائرة. وبديهى أن العودة إلى الإسلام هى - ولا شيء غيرها - رأس الشفاء. ونحن لا نعدو هذا الغرض عندما نقول: إن القواعد التى حواها ديننا قد أحسنت بعض الأمم فهمها وتطبيقها. ويجب أن ندرس مسلكها فى ذلك لننتفع به، إن ظهر منه نفع... إن ذلك يجب علينا حتى لو كنا أوفياء للتراث الذى آل إلينا من كتاب كريم وسنة مطهرة، فكيف، وأساليب الحكم عندنا شردت عن صراط الله المستقيم منذ مئات السنين...؟ * * * إن تعليم الإسلام والدعوة إليه يتطلبان فقها واسعا فى الحياة وبصرا ثاقبا بصنوف الناس وألوان الحضارات وأطوار التاريخ وخصائص الأمم وسير العمران فى البر والبحر. ونحن - إنصافا للإسلام - يجب أن نعرضه وحيا خالصا وسنة مجردة، وأن نباعد بين حقيقته العليا وبين ما لابس تطبيقه من خطايا الملوك وأخطاء المتكلمين، ومن طباع بعض الأجناس التى حملته فكانت حدة مزاجها - مثلا - سببا فى الظنة به والريبة فيه. وقد شاب سير الإسلام فى الحياة كدر سنتوفر على كشفه وننبه إليه فى رسالة خاصة إن شاء الله. ص_178(4/189)
57- مصر فى عهد الثورة كانت ثورة الجيش المصرى على الملك والإقطاع وأجهزة الحكم السابق قطافا لأغراس جيدة وضع بذرتها المؤمنون الأحرار. وتعهدوا نماءها بأمداد من اليقظة والتضحية حتى أذن الله فآتت ثمارها بعد كفاح قاس طويل... ولننظر قليلا إلى الوراء لنرى بعض ما استخفى فى تراب التاريخ. إن الاستبداد القديم لم يترك وشأنه فى هذه البلاد، بل ناوشته الأقلام والألسنة حتى طعنت كبرياءه فى الصميم. ومازالت تلح عليه حتى جعلته يترنح. فكان المغفلون يحسبون ذلك تبختر مغرور أو انتشاء مخمور. وما هو إلا اهتزاز الإعياء ينتظر الضربة القاصمة ليقضى نحبه، وقد جاءت بفضل الله... والفساد القديم كذلك لم يترك وشأنه. بل علت صيحات الأبرار من كل مكان تشدد النكير على الإلحاد السافر والانحلال الفاجر، وننطلق فى كل أفق كهزيم الرعد حتى استخذى حماة الرذيلة، وظنوا الأرض ستميد من تحتهم إن هم ظلوا على مجونهم وفجورهم. فلما زحف الجيش، كان القصر الملكى والباشاوات الذين يؤازرونه والصحافيون الذين يدقون بين يديه الطبول. كان أولئك جميعا فى عزلة قصية عن الأمة الحانقة ورجالها الأحرار. فما هى إلا رجفة واحدة حتى انزاح هذا الغثاء، واندحر بين عشية وضحاها، لم يؤيده رجل واحد، ولم تتبعه عين واحدة بنظرة أسى أو تقدير. وليس يعنينا أن نذكر لأحد جهدا فى هذا التمهيد الفعال، ولندعه مطويا فى تراب التاريخ. فرب منشور فى الدنيا لا يساوى عند الله قلامة ظفر ورب مقبور فى تراب التاريخ، هو عند الله فى سجل الخالدين. وإنما الذى يعنينا ونريد أن نجهر به ونريد أن يستمع العامة والخاصة إليه أن النظام ص_179(4/190)
الملكى البائد قد انهزم فى معركة أشعلها الحق ضد الباطل، وأشعلها الإيمان ضد الإلحاد، وأشعلها الخلق الفاضل ضد الخلق الفاسد. وأشعلها الغضب لله ولعباده ولحقوقه ضد الجبارين الذين لا يعرفون لله حقا ولا يقيمون لعباده وزنا... وإن الرجال الذين لا دين لهم ولا استقامة ولا شرف - وفى مقدمتهم صحافيون معروفون - كانوا مع الملك السابق ضد الشعب الثائر وضد رجاله المكافحين. فلما دارت الأيام وتحولت الريح وجدنا هؤلاء بغتة ينضمون بأقلامهم إلى العهد الجديد، ويتحركون بقوة ليتصدروا صفوف الموجهين والمعلمين!!! من هؤلاء كتاب ولدوا فى ساحة القصر "العامر" ولم يعرفهم الناس إلا مترجمين عنه ومشيدين بآلائه. بل لم يعرفهم الناس إلا بلاء على الأحرار ونقمة على المكافحين. ورجسا تنحل به عقد الإيمان وعزائم الفضيلة... ومن هؤلاء رجال لهم ظاهر ثائر وباطن قذر. ظاهرهم أنهم مع الشعب ضد الملك وباطنهم أنهم جواسيس وعملاء للقصر الملكى وما ينضح به القصر الملكى من فساد واستبداد. ولعلنا لم ننس قصة الأمير التقدمى الذى قاد حركة العمال، وهو يقدم إلى سيده التقارير عنهم. وما كنا لنرغب فى إحياء هذه الذكريات الميتة، وما كنا لنضن بجناح كامل لفلول المنافقين السابقين لولا رأينا هؤلاء يريدون أن يعودوا إلى وظائفهم الأولى فى ظلال ولائهم الدخول للعهد الجديد!! وما وظائفهم الأولى؟ إشاعة الفحشاء فى البلد، الترويج للإلحاديين الناشئة، وضع العوائق أمام قوى الإيمان والخير، تدويخ الوعى الإسلامى واصطناع اللغط حوله. وهم يدلفون إلى هذه الغايات الدنيئة تحت غطاء بارع من التصفيق للعهد القائم وإظهار الغيرة على رجاله وعلى أهدافه...!! والله يعلم أن حرارتهم فى تأييد الثورة هى نفسها حرارتهم فى تأييد النظام البائد، وهى نفسها حرارتهم فى تأييد أى نظام يملك السلطة ويبذل المال. ص_180(4/191)
وأعتقد أن صيانة الثورة ومثلها الرفيعة تحتاج إلى فضح هؤلاء المدلسين، وإلى كشف الغطاء عنهم وعن أمثالهم من لصوص المجد وأدعياء الحرية الذين كثروا كثرة عجيبة فى هذه الأيام، وواتتهم الجرأة أن يحسبوا البلد بلدهم وهم عليه دخلاء، أو يحسبوا الثورة صنع أيديهم وهم عليها غرباء. فما رأينا لهم أيام الظلم وجها غاضبا ولا سمعنا لأحدهم صوتا منكرا. يا للعجب. هذا رجل كان يجرى حتى يتصبب العرق من جبينه ليتعرف بخادم فى مطابخ القصر الملكي!! أصبح الآن يزعم أنه من رواد الحرية..!! وهذا رجل آخر ما أحس بوجوده قط فى استنكار الشناعات الأولى أصبح الآن يزعم أنه فيلسوف فى الإصلاح...!! وهذا صاحب قلم طرده الملك فاروق كما يطرد الرجل كلبه. فذهب ينبح بعيدا ينتظر إشارة رضا ليعود متمسحا بقدميه. عاد اليوم يدمدم ويهمهم متحدثا عما يجب أن يكون وعما يجب أن يمحى من قوانين وتقاليد بعد أن أسهم على زعمه فى بناء الثورة ورفع لوائها!! وهذا.. وهذا.. إلى آخر ما نفد به مواكب المنافقين من أدعياء المجد ولصوص العظمة الذين تصل بهم الصفاقة إلى حد اقتراح الوسائل، لبناء الأمة من جديد. وما يمكن أن تبنى أمة إلا إذا خلت منهم وبرئت عنهم... لو تعقل الأرض ودت أنها صفرت منهم فلم ير فيها ناظر شبحا وقد كنا سكوتا على هؤلاء الكتاب، نحسب أن ما يعرف الناس من ماضيهم سوف يرفع الثقة بهم، ويحجز القراء عن تصديقهم فى محالهم. ولكننا للأسف فى أمة آفتها الكبرى سرعة النسيان. لذلك لم يلبث الذين ضللوها أيام محن الرجولات والأخلاق أن عادوا سيرتهم الأولى يقترفون مآثمهم المعتادة أو أشد منها نكرا... والذين قرءوا مجلة روز اليوسف يعرفون أنها تسير وفق خطة مرسومة لإسقاط الدين كله من حساب الحياة الجادة. وأن هذه المجلة تقدم أخبارا وإحصاءات يفهم منها أن الجامعات العليا قد "تعقلت" وطرحت ظهريا أثقال الإيمان وعرى الفضائل... ص_181(4/192)
ولا بأس من إثبات أن مندوب المجلة سأل الطالبة "فلانة" عن رأيها فى الله؟ فأجابته: أنها لا تعتقد بوجوده!! ويبحث المسئولون فى الجامعة عن هذه التلميذة النجيبة، فلا يجدون أحدا فى سنيها جميعا يحمل هذا الاسم!! إن "مجلة روز اليوسف" تستبيح الكذب لتنشر الجحود والفسوق ولتعلم الشبان والشواب كيف يسيرون فى الأرض على غير هدى!! وفى هذا الأسبوع كتبت "روز اليوسف" كلمة نددت فيها بالأغنية الحماسية "الله أكبر.." وقال الكاتب إنه شعر وهو يستمع إليها كأنه فى حفل ذكر لا يشارك فيه بعواطفه. ونهى الأمة أن تنجرف مع هذا اللون الجديد من الأغاني... أقرأت المقال الرنان الذى نشرته دار أخبار اليوم تحت عنوان ضخم فخم "افتحوا بيوت الدعارة..."؟ ثم أقرأت كيف أخرجت الردود عليه، وقد مسخ بعضها، واختصر بعض آخر، ووضع لأحدها عنوان يثير السخرية ثم طوح به فى ذيل الكلام؟ أقرأت فيما تنشر الدار من أخبار أن وزير كذا يكره نباح الكلاب وخطباء المساجد؟ أقرأت النبذ المسمومة التى تنشر بين الحين والحين للوطنى الغيور "سلامة موسى"؟ لا أريد أن أتحدث هنا. كيف بنيت هذه الدار لتجعل كلمة الملك هى العليا وكلمة الشعب المصرى هى السفلي. وكيف بقيت عشر سنين وهى تقوم بوظيفتها قياما تقر به عين الشيطان، وتغتم له أفئدة الأخيار. لندع هذا الحديث، ولنذكر أن زعزعة الإيمان فى القلوب وزلزلة الفضائل فى المجتمع عمل تدعو له وتنفق عليه دول الاستعمار، وأنه كان المتوقع أن يؤتى هذا الجهد الاستعمارى نتيجته فى الهجوم الأخير على غزة وسيناء وبور سعيد، لولا أن بدا بوضوح أن الأمة بخير، وأن محاولات الكتاب المارقين لم تغن شيئا فى النيل منه. ص_182(4/193)
ترانا وقد انسحب الهاجمون وكسر الله شوكتهم سندع المجال مرة أخرى لهؤلاء الصحافيين يفسدون العقول والأذواق ويهدمون التقاليد والأخلاق؟ إن ذلك لا يجوز أبدا!! إننا حاربنا الاستعمار فلنحارب دسائسه!! وحاربنا الملك السابق وعهده فلنستأصل الجراثيم التى عاشت معه وبقيت بعده..!!! إن الإيمان لا الكفران هو الذى طوح بالظالمين، ولقد كان كل رجل من قادة هذه الثورة يحمل فى جيبه مصحفا يوم انقض الجيش على القصر وأبعد طاغيته. فكيف يطمع الملحدون والدعار فى إغواء هذه الأمة بعدما خطت هذه الخطوة إلى الأمام؟ إننا على أية حال لن نسمح لقوى الشر أن تعربد فى أمان ودعة، وسيكون مصيرها الحتم مصير سادة الأمس الذين طغوا فى البلاد فأكثروا فيها الفساد فصب عليهم ربك سوط عذاب إن ربك لبالمرصاد...!! ذلك. وليعلم هؤلاء أنهم- بهذا العوج البادى فى أفكارهم ومسالكهم - يخرجون على دستور الدولة. ذلك الدستور الذى نص على مكانة الدين فى بناء المجتمع، والذى صرح بأن الإسلام دين الدولة... ويسرنا أن السيد رئيس الحكومة قد حسم أسباب الشر التى هاجمها هؤلاء الكتاب الخائنون للدين والأمة إذ أوضح أن مصر فى عهد الثورة يستحيل أن تهجر شريعتها أو أن تطرح ديانتها. وأنها ستبقى متمسكة بأحكام الإسلام، سائرة على نظامه. وفى حديث نقله مراسل صحيفة "التمبو" الإيطالية قال السيد الرئيس: إن أكثر العرب يدينون بالإسلام. وهو دين بين بوضوح القواعد التى يقوم عليها التعاون بين البشر فلا داعى - والحالة هذه - إلى استيراد مبادئ "جديدة" سواء كانت شيوعية أم من أى نوع آخر كى يعتنقها المسلمون!! ثم إن الإسلام دين شرع لمجتمع متحد - أى لا أثر للفرقة بين أعضائه ولو اختلفت عقائدهم - وأبناؤه فى غنى به عن غيره. ولا أعتقد أن المسلمين يرغبون فى ترك مبادئ هذا الدين أو تشريعاته إلى أية مبادئ أو تشريعات أخرى.!! ص_183(4/194)
والذين قرءوا الرسائل التى بعث بها رئيس الحكومة إلى ملوك العرب ورؤسائهم فى أثناء القتال المحتدم مع الغزاة رأوا بلا شك كلمته العظيمة: إننا نقاتل دفاعا عن كرامة العروبة وشرف الإسلام..!!! ومرة أخرى جمع رئيس الحكومة عددا كبيرا من رجال الصحافة الوطنية والأجنبية وشرح لهم الأصول المعنوية التى تقوم عليها الحياة المصرية. فقال فى تصريح مهم له: 1- إن مصر قد عقدت العزم على الاحتفاظ باستقلالها السياسى والمذهبى وأنه لن يكون تابعا أو مخلبا لأحد وأن مصر ستبقى متحررة من جميع المذاهب الأجنبية سواء أكانت هذه المبادئ ماركسية أم فاشية أم عنصرية أم إلحادية والتى تصادف أن كانت جميعها مبادئ نمت أصولها فى أوربا. وأن مصر ستظل مستقلة عن الكتلتين الشرقية والغربية. فالشعب المصرى يعتبر أن هذا الاستقلال أغلى من الحياة نفسها. 2- إن مصر ترغب فى التعاون تعاونا شريفا مع الدول جميعها وأنها تقف بوجه خاص وبصفة أساسية إلى جانب القانون الدولى الذى يجب أن يتسع مداه لمواجهة حاجات العالم الحالى بمشاكله المعقدة. وأن مصر المستقلة ترغب صادقة فى تحقيق التعاون بين الشعوب لخير الإنسانية. 3- إن مصر ستعمل على تحقيق المثل العليا الدولية وتحقيق العدالة للأفراد والمساواة بين هؤلاء الأفراد وتلك الشعوب وتصر على تحقيق الحرية الشخصية لكل فرد. وفى سبيل تحقيق هذه المثل العليا فإن مصر ستعمل طبقا لتعاليمها الدينية وتراثها الثقافى وسيكون الهدف الأساسى لحكومة مصر هو النهوض بالأحوال الاقتصادية والاجتماعية للشعب المصرى المتحرر المستقل. 4- إن مصر لا تفكر فى إقامة إمبراطورية عربية، بل إن مصر ستعمل على تحقيق مثل أعلى للتعاون المثمر بين الدول العربية تحتفظ فيه كل دولة بكيانها وشخصيتها كما فعلت 21 دولة من دول أمريكا الشمالية والجنوبية وكما ترجو دول أوربا. * * * ص_184(4/195)
ذاك ما قاله الرئيس ونقلته الصحف ووكالات الأنباء إلى العالم أجمع عن اتجاه مصر فى الميدان العام. وقد علق السيد وزير الأوقاف على هذا الحديث بقوله: منذ سنين طوال والاستعمار الغشوم ينظم غزوا ثقافيا واسع النطاق يريد من ورائه تسميم الوعى العربى وتلويث المنابع التى تمد أفكارنا ومشاعرنا بالحياة. وهو يرمى بهذا الغزو الماكر إلى خلق أجيال تعنو له وتسير خلفه وتعمل بوحيه فى كل مجال. والغزو الثقافى أشد خطورة من الفتح العسكرى لأن سقوط مدينة ما فى يد العدو أمر مستدرك العاقبة. وما دامت النفوس سليمة والمشاعر نقية فإن هذه المدينة ستسترجع حتما. أما إذا فسدت الأمم وتبلورت أفكارها وعواطفها فى الإطار الذى صنعه الاستعمار لها فهى لا تنزل عن مدينة لها فحسب بل تسلم عواصمها وقراها ومقاليد أمورها جميعا لخصمها عن رضا لا عن كره وعن إعجاب لا عن قهر. وقد رأينا فى العهد الماضى من يقول عن صلة مصر بإنجلترا: إنها عقد زواج كاثوليكى (لا ينحل أبدا) وليس هناك أنكى من ذلك فى ذوبان الشخصية وزوال الملامح الخاصة لحضارتنا. هذه الحضارة المتميزة فى التاريخ، العريقة فى القدم.. وماذا يطلب الاستعمار أكثر من ذلك؟ إنه لن يصل بالحديد والنار إلى مثل هذه النتيجة التى وصل إليها بغزوه الثقافى واستيلائه على العقول والأفئدة يصبها فى القوالب التى ترضيه ويخلق بها أجيالا تعمل لحسابه وحده. بل إنها قد تعمل لحسابه وهى تظن نفسها تعمل لوطنها وتنتصر لقضاياه. ذلك أن الأجيال التى تربت فى محاضن الاستعمار أصبح لها لون من المنطق المشوه قد تجور به على قوميتها وهى لا تدري. وقد تتنكر به لتاريخها وهى لا تحس.. لذلك حرص أركان النهضة القائمة على توكيد حريتهم العقلية والنفسية. وعلى استقلالهم الثقافى الخالص وعلى القول بأن مواريثهم العربية والدينية هى ص_1 ص(4/196)
وحدها محور سلوكهم وأساس سياستهم وليس من شك فى أن رئيس الجمهورية كان متجاوبا مع واقع أمته ومترجما عن طبيعة آمالها حين أعلن لصحافة العالم أن مصر لن تتبع جبهة شرقية ولا غربية وأن لها من مذهبها الاجتماعى ما يجعلها بعيدة كل البعد عن الجانبين المتنازعين. وأنها إذ تلزم الحياد الإيجابى بين كلا المعسكرين تكتفى بما لديها من معنويات قائمة. ومن ثم فلن نكون - كما صرح الرئيس - شيوعيين ولا عنصريين ولا استعماريين ولا إلحاديين ولا استبداديين وما الذى يجعلنا تبعا لهذه النزعات؟ أو عالة على تلك المذاهب الغربية الدخيلة؟ إن الغنى لا يحترف التسول والذى ينظر إلى خزائنه فيجدها مفعمة لا يتكفف الناس. ونحن أبناء حضارة قد تمهد فيها من القواعد واستقر لها من الدعائم ما يجعلنا نبنى ونعلى البناء غير ناقلين ولا مقلدين. إن حضارتنا أسبق فى التاريخ وأنبل فى المعدن وأقدر على البقاء من مذاهب الغرب التى قام عليها أخيرا وشقى بها كثيرا. وعندما أغار الإنجليز والفرنسيون واليهود على بلادنا فى الآونة الأخيرة، واستطاعوا بغدرهم وتآمرهم أن يدخلوا بور سعيد كانت هذه المحنة امتحانا حسنا لجوهر النفس المصرية، وكشفا باهرا عن روعة التقاليد التى تحيا بها وشاهدا عدلا على بناء الحضارة السمحة التى مازالت متشبثة بتربتنا متغلغلة فى فطرتنا. أجل. فقد قام الجمهور الساذج من تلقاء نفسه بما يجب عليه. دافع بمرارة وحرارة عن أرضه. حتى إن الفلاحة بغطاء آنيتها النحاسية كانت تضرب الجندى الهابط بالمظلات وتقضى عليه ولما انسحب كثير من سكان المدينة إلى القرى المجاورة استقبلهم الأهلون وبيوتهم مفتوحة وصدورهم مشروحة. وتألفت لجان أسمت نفسها لجان الأنصار لإكرام الوافدين وإحسان مواساتهم. إن طبائعنا النبيلة لا تزال براقة السنا فى ظلمات الحوادث. برغم ما كافحت من بلاء الاستعمار سنين عددا... وشعبنا الباسل الكريم عندما قام بواجبه على هذا النحو لم يكن يجرى فى(4/197)
باله ص_186
ألبتة خاطر عن تعاليم شيوعية أو تعاليم أمريكية، بل لعله لم يسمع بهذا اللغوى الذى يهرف به أشباه المتعلمين، ممن مسختهم الثقافات الغربية أو خدعتهم القراءات السطحية.. إن شعبنا كان يعمل بدافع من فطرته المؤمنة وقوميته النقية ولم يعمل ولن يعمل بأى دافع آخر إننا سنبقى ما حيينا أوفياء لمواريثنا المقدسة. وسنذود الغزو الثقافى عن مصادر التربية والتوجيه فى بلادنا. ولن نسمح لجبهة من الجبهات أن تجرنا إلى قافلتها أو تسيرنا فى وجهتها فليست مهمتنا أن نحيا على أى لون. كلا إن مهمتنا أن نحيا كما نريد، ووفق الهدايات التى حبانا القدر بها أو كما صرح الرئيس لصحافة العالم: إن الشعب المصرى يعتبر هذا الاستقلال - أى السياسى والمذهبي- أغلى من الحياة نفسها. * * * ونحن نعرف أن الفساد الداخلى أيام العهد البائد قد خلف لنا مشكلات كثيرة، سببها الإقطاع والاحتكار، وعبث الملوك الدخلاء على مصر الغرباء على شعبها. بيد أننا سنتخلص من هذه المشكلات كلها، ونبنى وطننا الجديد على أسس من العدالة ورعاية المصلحة. وانطلاقنا إلى مثلنا العليا سوف يتخذ منهجه العتيد طبقا لتعاليمنا الدينية وتراثنا الثقافي. فحسب. أجل. طبقا لتعاليمنا الدينية وتراثنا الثقافى كما أكد ذلك السيد الرئيس. فلن نسمح لدعاة التحلل والميوعة، ولا لأذناب الغرب وصرعى شهواته أن يشوهوا نهضتنا أو يعوجوا بسيرها. فلندرك جيدا مرامى هذه التصريحات. حتى نشيد على قواعدنا وحدها. وحتى نقطع الطريق على الأفراد الذين أفسد أفكارهم وضمائرهم الغزو الثقافى الوافد من (أوربا) شرقها أو غربها. * * * ألا فلنقف أيقاظا أمام كل هجوم على الإسلام الحنيف فإن دعائم المقاومة الناجحة تلتقى كلها فى أخذنا بكتابه واتباعنا لرسوله. أجل. فحاضرنا فى هذه الدار ومستقبلنا يوم المعاد كلاهما لا يضمنه لنا إلا هذا الإيمان الوثيق. ص_187(4/198)
58- إسلام وسلام كما يحتاج المقرور إلى الدفء بعدما جمد البرد أطرافه، وكما يحتاج العليل إلى الدواء بعد ما برى السقام عظامه، تحتاج الشعوب المهانة إلى نجدات من القوة ترفع عنها الإصر الذى أخزاها، وتكسر القيد الذى أضرعها.. إنها تستقبل القوة الوافدة عليها استقبال الظمآن للماء البارد، لأنها ترى فيها متنفسها من ضيق، وأمنها من ترويع. ومن هنا هش المسلمون - وهم أهل سلام - للقاء عدوهم بعد ما أخذوا له الأهبة وجمعوا السلاح. وانظر إلى القرآن الكريم كيف يذكر المستضعفين بآلامهم الأولي، وما لاقوا من تشريد واستباحة وإرهاق، وكيف يجعل من هياج هذه الذكريات فى دمائهم دافعا إلى خوض المعارك وتأديب الطغاة ( قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين * ويذهب غيظ قلوبهم). إنه قتال ليس فقط تأديبا لما وقع فى الماضي، فإن الماضى يغتفر لمن تلمح عليه بوادر التوبة، ولكنه حياطة للمستقبل كيلا يعود الطغاة إلى طبيعتهم الشرسة يجب إذن أن تقلم أظفارهم وتتقى غائلتهم.. من الذى ينطق بكلمة إذا بحث اللاجئون المشردون عن السلاح يستردون به حقهم المأكول؟ من الذى يجرؤ على استنكار إذا بحث الجزائريون عن السلاح يدفعون به الصائل الغشوم؟. من الذى يجد وجها يندد ببحثنا عن هذا السلاح إذا كنا نحمل السلاح لأسمى غرض فى الوجود؟ ص_188(4/199)
من الذى يتهم الإسلام بأنه دين تعصب وقتال إذا كان هذا هو الميدان الذى أكرهنا على خوض الحرب فيه..؟ لقد كنت أقرأ تاريخ السيرة النبوية فيطوف بقلبى طائف من الرهبة لصرامة القصاص الذى وقع ببنى النضير، ثم أقول: هى العدالة فى عقاب المجرمين، وما ينبغى أن تدركنا رحمة مع من ظلم نفسه وغيره. فلما بلونا اليهود، وخيانات اليهود، ولما كوت قلوبنا مصارع الشباب العربى على أيدى اليهود، والمذابح المهولة التى أوقعها بقرانا ومدننا اليهود عرفت أن الإطاحة بهؤلاء الناس ليست عدالة فقط، بل هى رحمة أسداها أطباء البشرية للبشرية، أو يد تذكر وتشكر لمن أفاءها... ولقد عرفنا أى نعمة جليلة ساقتها العناية لشمال إفريقيا الذى نكب قديما بحكم الرومان وحديثا بحكم الفرنسيين، يوم انساب الفاتحون المسلمون فى أرجاء المغرب يطوون أعلام الاستعمار الرومانى ويعيدون الحرية للشعوب المنكودة. كانت مصر وسائر إفريقية تئن تحت وطأة الرومان واستغلالهم، حتى هبت عليها نسائم الفتح الكبير فتنفست الصعداء.. وإن الشمال الإفريقى ليتشوق اليوم إلى فتح جديد يطرد به خلفاء الرومان، وتستعيد به الأمم المنكوبة مكانتها فى هذه الحياة. فإذا لم يجئ أصحاب رسول الله لاستنقاذ ضحايا فرنسا كما جاءوا قديما لاستنقاذ ضحايا الرومان، فإن أحفاد السلف الحر لن يستسلموا لا داخل أرض المغرب ولا خارجها، وسيقاتلون إلى آخر رمق.. والعاقبة للمتقين، وسيعلم الذين ظلموا أى منقلب ينقلبون... * * * لقد جاء عيد الميلاد المسيحى هذه السنة ودماء المسلمين تسيل مدرارا فى فلسطين والجزائر ومصر واليمن، حتى إن قلوب بعض الأمم التى ليس لها دين سماوي: بل التى ليس لها دين قط رقت لمصائبنا، وغضبت لما ينزل بنا، وعرضت علينا عونها بعد أن أعلنت فى العالمين سخطها، وهاجمت المعتدين بأحد لسان.. ص_189(4/200)
فلننظر ما صنع الأب الأكبر للنصارى الكاثوليك إنه لم يكترث أدنى اكتراث لأشلائنا المبعثرة، ولا لدمائنا المهدرة. إن عضلة لم تتقلص فى وجهه للأنباء المثيرة التى هزت أرجاء الدنيا، وجعلت أكثر من ستين دولة تبدى عطفها علينا. الشيء الوحيد الذى هاجمه "البابا" وتحرك له هو ما قيل من أن ثورة نشبت فى المجر ضد روسيا وأن عددا من القتلى سقط فى هذه الاضطرابات!!! ذلكم هو الحديث الفذ الذى قامت له "النيافة" وقعدت. أما ما عداه فلا يستحق النظر!!! إن لحم المسلمين رخيص، فلا حرج على الجزارين أن يعملوا فيه مداهم. أما غيرهم فيجب أن يعلو الصوت باستنكار أى خدش يعرض له!!! وما يدريك أن الجزارين الذين يذبحون إخواننا إنما يأتمرون بأمر صاحب النيافة؟ إن الأحزاب الكاثوليكية فى فرنسا هى التى تملى سياسة البطش بمسلمى الجزائر! ومن المفارقات أن الشيوعيين هم الذين يعطلون سير القاطرات المحملة بالجنود لمقاتلة المسلمين... ولقد كان نداء البابا إلى العالم لمناسبة عيد الميلاد موضع دهشة ولمز من كل إنسان له عقل وعاطفة وكان تجاهله لمآسينا وتستره على خصومنا مثار تساؤل مرير، بل كان لفتا قويا إلى أن الكاثوليكية تسخر لتسويغ الحيف ومهادنة المعتدين. وتلك حقيقة تؤكدها الأيام، فإن التاريخ يعيد نفسه، وما يحدث اليوم صورة مكررة لما حدث من عدة قرون بل ما حدث منذ أربعة عشر قرنا عند ما اشتبك الإسلام فى صراع دام ضد الرومان - وهم يومئذ نصارى - وما نشبت الحرب إلا لرفع النير عن الشعوب المسجونة والحريات المكبوتة برضا القساوسة أو بإيعازهم. وقد كتب الأستاذ عبد الرحمن الشرقاوى تعليقا على نداء "البابا" قال فيه: "بالأمس احتفل العالم المسيحى بعيد الميلاد، وتعانق الرجال والنساء حتى الصباح بخوف مبهم من المجهول ومن روما ارتفع صوت البابا يحاول أن يخترق طريقه بين ضجيج "الجاز باند" إلى قلوب الكاثوليك فى العالم. ص_190(4/201)
وليس أحب إلينا من هذا الخشوع الذى يعانيه المتدينون حين يسمعون كلمات رجل دين مقدس فتخفق قلوبهم فجأة، وتتحرك طاقاتهم الإنسانية ليقاوموا العدوان وعناصر الشر التى تهدد الحضارة والتراث الدينى كله: من هنا تنبع مسئولية رجل الدين كرائد ومبشر وإنسان! .. من أجل ذلك كنا نتمنى على الرئيس الكاثوليكى المقدس أن يوضح لرعاياه أين تكمن عناصر الشر. وأين تتجمع العوامل التى تهدد العدالة والفضائل والخير والحياة، والقيم المسيحية نفسها. كنا نرجو منه هذا حتى يفيض الخشوع حقا من نفوس رعاياه، وتطمئن القلوب التى فى الصدور. فلا أحد من سكان هذا العالم يمكن أن يوافق الرجل المقدس على أن عوامل الشر تنبع من المجر.. وعلى أن مشكلة المجر هى التى تستحق منه كل هذا الاهتمام.. لا أحد من سكان العالم يجهل من هم الذين يدبرون لقلب نظام الحكم فى المجر، وفى كل دول الاشتراكية! ولا أحد يجهل أين يكمن الخطر على مستقبلنا كله ومن أين تنفجر المؤامرات.. أتريد الأحلاف العسكرية أن تكون هى سيوف الله المسلولة فى عصرنا هذا؟! أتكون سياسة التحضير للحرب واغتصاب كل حقوق الإنسان، والقضاء على ملايين البشر، هى الدين الجديد"؟ ونقول نحن: نعم، إنها الدين الجديد، بل الجديد القديم، فإن رؤساء الكاثوليك منذ قرون سحيقة يستكثرون الحياة على مخالفيهم فى الرأي، ولو كانوا من أبناء دينهم، فكيف يقرون السلام فى أرض الإسلام؟ لابد من اجتياحها إن أمكنت الأسباب، وإلا فعليها اللعنة إن ظفرت بالحياة على كره من آباء الكنيسة الحاقدين!!! إن العالم أحوج ما يكون إلى حضارة يسودها التعاون ويحدوها الإصلاح. والعصر الذى يظلنا يوجب علينا أن نقدر مستقبل الإنسانية وأن نقصى عنها نوازع الإثم وأسباب الهوى، وأن ندع مكانا للحق المجرد يفصل فى قضاياها فيريح المعنتين، ويكف الظالمين. ص_191(4/202)
وقد قال الله عز وجل ( يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين * فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات فاعلموا أن الله عزيز حكيم ). وهذا النداء يتجه إلى كل من له دين يردع عن المحارم ويصد عن المظالم. هو نداء الله كيما تكون العلائق بين أصحاب الكتب المنزلة بعيدة عن الضغائن والثارات. وفى أكناف السلام العادل الرحب لا يتقاتل الناس على منازلهم فى الآخرة وإنما تثور بينهم الفتن وتعتكر الأحوال إذا هاجت المطامع، وعصف الغرور برءوس الأقوياء، فحسبوا الدنيا حكرا لهم، واتخذوا عباد الله رقيقا لمآربهم. إننا نحن المسلمين نحمل فى هذه الحياة رسالة الحق والخير والنور، ونريد أن نعيش بها وادعين، وأن تكون أوطاننا بها مثابة للسكينة والسلام والطمأنينة والوئام، فهل يفقه هذا صانعو الحروب ومشعلو الضغائن حينا بعد حين؟ والرسالة التى اصطفى الله العروبة لأدائها، ليست بدعا فى تاريخ الحياة، ولا هى حدثا ترمقه الأبصار بدهشة، إنها التعاليم النبيلة التى سبق أن هتف بها موسى وبشر بها عيسي، ودعا إليها الأنبياء قاطبة وبذلوا الجهود المضنية لإقناع الناس بها وسوقهم إليها. إن رسالة الإسلام ترديد لكل صوت كريم دوى فى القرون الأولي، وتوكيد لكل معنى جميل تنتعش به الإنسانية وتسمو. ولذلك يقول الله لنبيه محمد : ( ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك إن ربك لذو مغفرة وذو عقاب أليم ). ويقول لأمة الرسول العربي: ( يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم ). وبهذه الوحدة فى المنهج والهدف، وبهذه الاستقامة على الجادة الممهدة والغاية الممجدة، يتآخى المؤمنون ويتعاونون على مرضاة الله وصيانة الحقوق. ص_192(4/203)
ولكن نفرا من أتباع الأنبياء قد يجهلون أو يجحدون الحدود التى وقفهم الله عندها فإذا هم يقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون فى الأرض. وإذا هم يخضعون لسياسات جائرة تقوم على التظالم واستمرار البغي. وما بعث الله محمدا إلى الناس إلا ليرد إلى الوحى الأعلى كرامة أهدرها السفهاء، وبريقا طمسه البغاة : ( تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فزين لهم الشيطان أعمالهم فهو وليهم اليوم ولهم عذاب أليم * وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون). بيان الحق، والدفاع عنه، وإقرار الهدى والرحمة فى هذه الأرض المروعة هو ما جاء به ديننا الحنيف، وشرح أصوله صاحب الرسالة العظمي. وهو ما نتشبث به نحن العرب، ونرى فيه مصلحة الشعوب كلها لا مصلحة جنس معين من الناس. لكن بنى إسرائيل لا يفهمون هذا، وإذا فهموه تمردوا عليه وجنحوا إلى أسلوب مشئوم من التخريب والإفساد وإهلاك الحرث والنسل وإشاعة الفوضى والفرقة. وهو أسلوب سيدفعون ثمنه من نواصيهم، ويحسون مغبته فى أنفسهم وأهليهم. لقد سبق أن أخذ الله المواثيق على اليهود أن يصونوا الدماء ويتركوا المفاسد ويطرحوا وساوس الشيطان فى صلاتهم بغيرهم. بيد أنهم أبوا إلا العيش فى ظلال الأثرة الضيقة والخصومات الوضيعة ضد أهل الأرض جميعا وضد من أكرموهم خاصة ووسعوهم دهورا فى بلادهم دون أن يمسوهم بأذى، ألا وهم المسلمون والعرب. ولذلك يقول الله فيهم : ( ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون). ص_193(4/204)
إننا نبغى السلام الشامل، فأى سلام تتسع له ضمائر المنصفين إذا تواطأت عدة دول على تشريد إخواننا ونهب أموالهم واستباحة حقوقهم؟. أى سلام يراد به تمكين الغاصب وإسكات الشاكى وتطمين المعتدى وتوهين الباكي؟ كيف يوصف هذا الحيف بأنه عدالة؟ وكيف يرتقب من العرب أن يغمضوا العين على شوكة لا تفتأ تدمى وجوههم وجنوبهم. إن النزعة إلى السلام تغلب على عواطفنا، وتجعلنا نقبل على حاضرنا لنبنى ونعمر ونقبل على مستقبلنا لننشئ ونؤمل. غير أننا ما نكاد نمضى فى طريقنا خطوات حتى تخترق آذاننا أنات الضحايا فى الجزائر، صيحات إخواننا الأحرار الأبرار، وهم يكافحون طغيان الاستعمار ويذودون عن بلادهم وطأة الغزاة الذين لا يرعون حقا ولا يحترمون شعبا. إن الاستعمار كارثة خلقية ومأساة إنسانية وجرح عميق فى صميم الإيمان وتحد خطير لرسالات الله. وعمل يستحيل أن يبقى معه هدوء أو تستقر عليه حال. وليس هناك منطق ينبغى أن يسمع فى هذا الشأن غير منطقنا نحن الذين نريد إحقاق الحق وإبطال الباطل وتحرير المستعبدين وإطلاق سراح المسترقين. إنه لا قيمة لقوة تجانب الحق، ولا لانتصار يجافى العدالة. ولا مكان لسلام يفرضه قطاع الطريق بعدما سلبوا الآمنين، وآذوا المؤمنين. وسيظل العرب أجمعون لائذين بدواعى النجدة وأواصر الشرف حتى يقتنع المهاجمون طوعا أو كرها بالعودة إلى عقر دارهم والتخلى عن نتائج سطوهم وغزوهم. إننا نحن العرب نؤكد جلال الرسالة السلمية التى ننادى بها ونريد أن نفرغ مع غيرنا من محبى السلام لإقامة حضارة نقية طهور. وإننا لنستغرب المزاعم الجريئة التى لا تستحى من افتراض فراغ فى بلادنا، فراغ يملأه الدخلاء، ويسده الغرباء، أما أصحاب البلاد فهم عالة عليها ومتطفلون فيها!! أى نكر فى هذا الكلام، وأين فى هذا الهزل طريق السلام؟. ص_194(4/205)
59- أدين قتال هو...؟ ضحكت وأنا أسمع أحد الغافلين يقول: إن الإسلام انتشر بالسيف وقلت على الفور: لا يا صاحبي، التعبير الصحيح في هذه القضية: إن الإسلام انتصر على السيف! وإذا كان منتهى كيد الفتنة المغلوبة على أمرها – بعد ما فل حدها – أن ترمى الإسلام بهذا الوصف، فلا على الإسلام من ذلك. لقد أدى الإسلام واجبه فى كسر شوكة العدوان، وفى قهر الضلال على التراجع، وعلى ترك المكاسب الطائلة التى حصل عليها.. فليسمع الشتائم والتهم من السلطان المعزول، أو من الوحش المقهور، فلأن يشتم وهو حى يؤدى رسالته النبيلة، أفضل من أن يبيد، ثم تسمع فيه كلمات الرثاء. نعم. وماذا يعود على الإسلام أو على الناس لو أن الرومان أفلحوا فى خنقه، أو أن الفرس تمكنوا من شنقه، ثم قال كلاهما بعد أن أهال التراب على جثته كان دينا مسالما، وكان أتباعه طيبين!!. إننا زاهدون فى هذا الثناء، ونحن مستريحون لأن ديننا انتصر على السيف، وإن أشاع الظلمة والكذبة بعد ذلك: أنه انتشر بالسيف!!. وقد رأيت أن أرجع إلى الإحصاءات لأعرف عدد الألوف التى قتلها الإسلام وهو ينتشر "بالسيف" كما يقولون!!. وكتاب السيرة عفا الله عنهم قالوا: إن غزوات الرسول وسراياه بلغت بضعا وعشرين غزوة وسرية!! لاشك أن هذا العدد ناطق بمدى تعطش الإسلام "لسفك الدم" فلننظر كم عدد الضحايا المساكين فى هذه الحروب الطاحنة؟ سبعون مشركا قتلوا فى بدر، وبضعة عشر فى أحد، وثلاثة فى الأحزاب وقريب من عشرة فى الفتح - أى فتح مكة - وعدد تافه فى حنين. وتطوى صفحة الحرب مع الوثنية بهذا العدد من الضحايا!!. ويجيء دور الإحصاء فى حرب الإسلام مع اليهودية، لم تلحق اليهود خسائر دموية تذكر فى موقعتى بنى قينقاع والنضير، وقتل منهم نحو ستمائة فى موقعتى خيبر وبنى قريظة.. أى أن استقرار الإسلام فى جزيرة العرب أخذ فى طريقه ثلاث مئات من القتلي، فى قرابة ثلاثين غزوة وسرية مع اليهود والمشركين!!. ص_195(4/206)
وفى ثلاث وعشرين سنة من جهاد الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأعدائه. وهذا السيل الغامر من الدم (!) لماذا أريق؟. أريق – ولا يجرؤ أحد على المراء – لأن عبدة الأصنام أبوا أن يمنحوا الإسلام حق الحياة إلى جانبهم، ووثبوا على المسلمين ينكلون بهم، فلما فروا بعقائدهم إلى المدينة، تبعوهم في عقر دارهم، ليجتاحوهم عن آخرهم. فإذا عجزوا عن بلوغ مأربهم، وأفلح المؤمنون فى النجاة بدينهم، وإذا أصيب المهاجمون فى أثناء هذا الصراع بتلك الخسائر التى أحصيناها، فالويل للإسلام الذى انتصر على السيف!! لأنه انتشر بالسيف!!. أرأيت وقاحة فى منطق الناس أسمج من هذه الوقاحة.. لقد تآمر اليهود والكفار على قتل هذا الدين، فكان بين أمرين لا ثالث لهما، ولا خيار فيهما، إما أن يسلم عنقه للذبح، ثم قد يقال على رفاته: رحمه الله، وإما أن يتأبى على الفناء، ويصارع المعتدين، وقد تسقط - فى حومة هذا الصراع المفروض - جثث ثلاثمائة لص!! فيم يلام الإسلام فى هذا، وعلام يؤاخذ؟؟. إن المسلمين فى دفاعهم عن حياتهم ودينهم قتل منهم مثل هذا العدد، ذهبوا إلى الله مظلومين فى أعدل حرب يمكن أن تقع على هذه الأرض، ذهبوا إلى الله شهداء لم يصب واحد منهم وهو يسطو على أملاك الآخرين ومعتقداتهم، بل ذهبوا جميعا وهم يدفعون فى حرارة وشرف عن دينهم وحقهم. فهل هذه المئات الثلاث من مجرمى اليهود والمشركين هى التى جاش لها حنان المستشرقين والمبشرين، وثارت لها ثائرتهم، وهم يتهمون الإسلام أنه انتشر بالسيف؟. إن هؤلاء القتلى بالحق فى ربع قرن من الزمان يقتلهم الصليبيون اليوم فى ربع ساعة، وهم يطفئون مظاهرة تثور فى وطن محروب، طالبة الحرية، ومنادية بحقها فى الكرامة!!. فعلام هذا اللغط المفتعل كله؟ وممن؟. من أرباب حضارة لم تشهد الدنيا نظيرا لها فى الفتك بالأبرياء، والإطاحة بالحقوق: حضارة أوربا وأمريكا، حضارة الحروب التى ملأت المآقى بالعبرات، وخلفت وراءها الألوف المؤلفة(4/207)
من الأرامل واليتامي، والضائعين والضائعات!!. * * * ص_196
وطريقتنا نحن المسلمين فى قراءة السيرة النبوية وكتابتها تستحق النظر، فنحن نستعمل كلمة "غزو" استعمالا بعيدا عن دلالته المعروفة. إن الجيش الغازى هو الذى يفصل عن بلاده، ويدخل فى ديار الآخرين، والغزو بهذا المفهوم الشائع قرين الهجوم ومرادف العدوان. فإذا طرقك أحد فى بيتك، وشن عليك عدوانا آثما، فكيف تعتبر أنت غازيا له؟. ومع ذلك فقد أولع مؤرخو السيرة باستعمال كلمة "غزو" حيث لا غزو هنالك ألبتة!!. خذ مثلا غزوة الحديبية، أهذا عنوان يتصل بالواقع من قريب أو بعيد؟ لقد خرج المسلمون لعبادة معروفة، هى زيارة البيت العتيق، ورفضت قريش تمكينهم من ذلك، ثم ردتهم بعد صلح رآه جمهور المسلمين شائنا، وكادوا يموتون فى أعقابه غما، فأين رائحة الغزو فى هذا الموقف؟. وخذ بدرا - وهى أكبر الغزوات، وأذيعها صيتا - إنها معركة انجر المسلمون إليها جرا، وحملوا على خوضها حملا: ( كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون * يجادلونك في الحق بعد ما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون ). صحيح أنهم قاتلوا بإيمان رائع، وثبات كريم، بيد أن ذلك لا يخفى الحقيقة البينة، وهى أنهم مغزوون لا غازون. وكذلك الحال فى أحد، وفى الأحزاب. كان المسلمون يدفعون عن بلدهم عدوا سار إليهم أربعمائة ميل ليستأصل شأفتهم، ويدك دولتهم، ومع هذا كله فنحن نعد غزوات الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ونجعل فى طليعتها بدرا وأحدا والأحزاب.. الخ..!!! والسر فى ذلك يرجع - فى نظرى - إلى حاجة المسلمين لما يثيرهم، فإن تغلغل السلام فى طبيعتهم الدينية، وبعدهم الغريب عن سورات التعصب والتحدي، جعل موجهيهم يتحايلون على دفعهم للقتال المشروع بهذا الأسلوب!! ولو كان خطأ فى تبيانه للواقع. إنهم يعدون غزواتهم كما يعد المفلس أملاكه فى الوهم ليشعر أنه غنى أو ليشعر الآخرين بذلك. ص_197(4/208)
والمسلمون بإزاء التعصب المستحكم، والعدوان المستمر أرادوا إشعار خصومهم أنهم لا يؤكلون بسهولة، فقالوا عن أنفسهم: إننا قاتلنا، وسنقاتل!! والله يعلم أنهم أبعد الناس طرا عن حب القتال، وأعشق الأمم لعهود السلام، وأبذل الأجناس لمشاعر الود والرحمة. بل إن المسلمين ما أخذوا، ونال منهم أعداؤهم إلا لهذه الطبيعة الدينية الوادعة، هذه الطبيعة التى تؤثر السلام على الخصام، وتؤثر المرونة على الجمود، والتى ترمق المخالفين فى العقيدة - خصوصا أهل الكتاب الأولين - وكأنها تعتذر لهم!! وهذه الطبيعة الدينية فى أمتنا تحتاج إلى نظر على ضوء التجارب المستفادة من تاريخنا الطويل، وعلى ضوء ما كشفت عنه الأيام من طبيعة أعدائها، وطبيعة الأفكار التى تملأ أنفسهم، والمشاعر التى تسيطر عليهم... إذ من الخطر على رسالتنا أن نبنى سياستنا على السماحة المفرطة بينما يبنى الآخرون سياستهم على خسف الأرض من تحتنا. نعم ومن الخطر أن نطرح الحذر جانبا، ونسترسل مع سجايا الأمان والثقة بينما يستدير خصومنا ليغرزوا خناجرهم فى ظهورنا. إن حب السلام أصيل فى أمتنا، وافتراضه فى كل أفق، وانتظاره من كل إنسان، عنصر شائع فى معاملاتنا جميعا. وقد أفزعنى أن هذه الحالة أفسدت لنا قضايا اجتماعية وسياسية كثيرة، وطالما هززت رأسى حيرة، ثم رددت أبيات الشاعر القديم! لو كنت من مازن لم تستبح إبلي بنو اللقيطة من ذهل بن شيبانا قوم إذا الشر أبدى ناجذيه لهم طاروا إليه زرافات ووحدانا لكن قومى وإن كانوا ذوى نفر ليسوا من الشر في شيء وإن هانا يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة ومن إساءة أهل السوء إحسانا كأن ربك لم يخلق لخشيته سواهم من جميع الناس إنسانا فليت لى بهم قوما إذا ركبوا شنوا الإغارة فرسانا وركبانا فى بلاد الإسلام تسمع خطبا تنضح بالدم، ثم ترى أفواها باسمة، وأيديا قصيرة!!. ص_198(4/209)
أما فى أوربا وأمريكا، فتسمع خطبا تطفح بالمداهنة والمسالمة، ثم ترى أعمالا تشيب لها النواصى من جبروتها وفسقها!! ولولا أن أعمال الصليبيين تنطق البكم، لظن الناس كلامهم عن السلام حقا، ولولا أن أحوال المسلمين وما نزل بهم من ظلم يغنى عن البيان، لظن الناس كلامهم عن الحروب رغبة فيها، وحرصا عليها..! * * * وضحكت وأنا أسمع تساؤلا يشبه الغمز، فما الذى أخرج المسلمين من جزيرتهم ليفتحوا مصر وإفريقيا، والشام، وآسيا الصغرى، ولماذا لم يبقوا فى وطنهم الذى خلص لهم، ثم يدعوا مبادئهم تنتشر من تلقاء نفسها، إن وجدت من يقبل عليها أو يقبلها. قلت: يبدو أن المسلمين يطالبون وحدهم بما لم يطالب به أحد فى العالمين!! وإلا فلماذا لم يوجه هذا الكلام إلى الرومان المحتلين لنصف الدنيا بالقهر؟ لماذا يعتبر وجود الرومان فى مصر والشام طبيعيا، وينظر إلى وجود المسلمين فحسب على أنه شذوذ؟ أئذا احتل الفرنسيون المغرب، وأذلوا أقاليمه الثلاثة، كان ذلك عملا لا يستوجب سؤالا، فإذا ذهب جيش لقص أطراف "الإمبراطورية" الداعرة، ارتفع الصراخ: كيف يحدث هذا؟ إن ذلك هو منطق الصليبيين فى كل زمان ومكان والحقد الخسيس فى الميدان العلمى هو نفسه الحقد الخسيس فى الميدان السياسي، هو نفسه الذى يعتبر حرب العرب لرومانى فى مصر جريمة تاريخية، أما استيلاء الرومان على مصر، وتحويلها مزرعة تثمر القمح للسادة الفاتحين، فذلك عمل مشروع لا ترقى له شبهة!!! لقد كان طرد الرومان من الأقطار التى امتلكوها فى إفريقيا وآسيا راحة كبرى لأصحاب البلاد الأصلاء، وكان جزءا من السعادة التى خامرت قلوب الناس فى الشرق والغرب عقيب بعثة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وذلك مصداق قول الله فى كتابه العزيز. (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين). وأى رحمة أثلج للأفئدة من أن ينزاح عنها كابوس الاستعمار الأجنبى المرهق، ص_199(4/210)
فتشعر بطعم الكرامة والحرية، وتمشى على الأرض لا ترهب بشرا، ولا تخشى ضيما، ولا تربطها صلة عبودية إلا بربها الذى سواها؟؟ ولا أعرف حروبا قامت على الشح فى سفك الدم، والاقتصاد الدقيق فى تحمل الخسائر مثل الحروب التى خاضها الإسلام وهو يصفى الاستعمار فى الأرض. إن التاريخ يروى أن الجيش الذى خرج لفتح مصر يتكون من 4 آلاف جندى فقط...، وأن هذا الجيش الذى يقاتل الروم فى أمنع معاقلهم - لما طلب النجدة من أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - أمده عمر بجندى واحد!!! ترى ما كان يمكن أن يفعله هؤلاء وحدهم لو لم تكن قوى الأمم المستذلة تعمل معهم، وتنتظر مقدمهم؟. الذى لا يمارى فيه عاقل: أن تخليص هذه البلاد من الرومان حسنة مشكورة قدمها الإسلام للإنسانية!! ويحسن أن نؤكد هنا مرة أخرى الفرق البعيد بين حرية العقل والضمير، وبين حرية الظلم والاستبداد. عندما يعرض الإسلام دعوته فمن حق أى امرئ أن يرفض قبولها، وأن يعرض عنها، وأن يبقى على ما أحب من معتقد، ولو كان هذا المعتقد تقديس عجل، أو عبادة صنم. ولسنا مكلفين أن نفتح الأجفان المغلقة بالقوة، ولا أن نستوقف الفارين عن الحق لنكرههم على اعتناقه، والله عز وجل يوصى نبيه أن يمضى فى طريقه. ويدع هؤلاء! ( فتول عنهم فما أنت بملوم ). ( إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين * وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون). ولكن ما العمل إذا اعترض هؤلاء طريق الآخرين؟ ما العمل إذا استمد هؤلاء من كفرهم مذهبا فى الحياة، يطوع لهم البغي، ويزين لهم الفساد فى الأرض، ويثير شهيتهم لأكل الشعوب المستضعفة؟. هل من احترام الحرية ترك هؤلاء يفعلون ما يحلو لهم، أم أن تركهم يعد خيانة لمعانى الخير فى هذا العالم؟؟. ص_200(4/211)
وهل إذا أمكن كسر شرور هؤلاء بالقوة، جاء من يبكى على قبر المغلوب، ويتألم لمصيره، لأن السيف كان هو الحكم فى هذا النزاع؟؟! أليست هذه دموع التماسيح؟ بلي، هى دموع التماسيح!!. والذين يبكون اليوم لأن الإسلام انتصر على السيف، ثم يعكسون القضية ويقولون: إن الإسلام انتشر بالسيف، هؤلاء هم أحفاد الطغاة الأقدمين، ومستعمرو العصر الحديث هم هم مستعمرو العصور الأولي، وإفريقيا وآسيا التى نكبت قديما بمآسيهم، هى هى التى تنكب الآن بفعالهم المنكرة، والتى تريد أن تتحرر من قبضتهم بشق النفس. إن الإسلام لا يحارب الكفر، ولكنه يحارب العدوان! فليكفر من شاء من قمة رأسه إلى أخمص قدمه، فليس الإسلام مسئولا عنه، لكنه ينتصب مقاتلا يوم يتحول الكفر إلى جور يلتهم البلاد والعباد!! هنا يتحرك، ويجب عليه ألا يهدأ، حتى يزيل الظلم، ويكف الظالمين. لو أن الذين بغوا فى الأرض مسلمون لوجب قتالهم حتى ينحسم بغيهم، ويفيئوا إلى أمر الله!!. فكيف إذا كانوا كفارا يجعلون من كفرهم بالحق قاعدة يتكئون عليها لضرب أهل الحق حينا ولاختطاف خيرات غيرهم حينا آخر، إن هذا شأن الاستعمار أمس واليوم، فكيف يكون علاجه؟ أتطوى القلوب على مهادنته، والإخلاص لحكمه، أم تشحن بالبغضاء له، حتى يذوب ويتلاشى؟ لا، إن مقاومته دين ودنيا، وذاك ما صنع الإسلام قديما : لقد قاوم وقاتل حتى نجح آخر الأمر زلزلة الضلال المكين، وانتصر الإسلام على السيف، نعم انتصر على السيف الجائر، وهو لم ينتصر عليه بالكف العزلاء! ولا انتصر عليه بخشبة جرداء، إنما لطم القوة بالقوة، ورد التيار الكاسح بتيار مضاد، فكيف يقال فى وصف صنيعه: إنه انتشر بالسيف؟ وهب الأمم المتطلعة، والشعوب المسجونة، قدرت هذا الصنيع، وأعجبها مسلك أصحابه، ورأت دينهم مطلع فجر جديد، فدخلت فيه أفواجا، وأصبحوا لحملته إخوانا، فهل ذلك ذنب الإسلام؟؟ إنه ذنبه الأكبر عند الرومان الأقدمين، وعند المستعمرين المحدثين!!!. ص_201(4/212)
60 - تعصب ضد الإسلام.. كان سير الحياة أنشط من سير الأديان المختلفة. وكانت حركاتها أوسع من دوائر الخصومة التى استنفدت جهد الأتباع وشكلت بعضهم بالبعض الآخر. ومنذ قرون والعمل الإنسانى البحث فى ميدان الفكر والعاطفة يغرس ويحصد ويؤسس ويمتد ويخاطر وينجح، حتى بلغ العصر الأخير مرتبة من التفوق والغلبة تستحق الدهشة!!.. وتأخر الأديان أو فشلها فى قيادة الحياة يرجع إلى أسباب ضافية الذيول. ونحن الذين نحاول إنصاف الحقيقة دائما، نحب أن ننصفها من أنفسنا مثلما ننصفها من غيرنا. إن الهزائم الفكرية والنفسية التى تلاحقت على الإسلام من عدة أجيال لم يكن منها بد، ولم يكن المسلمون طوال هذه الفترة الطويلة أهلا لغلب.. لقد أحاطت فتوحهم "بأوربا" واستولوا على أقطار شاسعة من شرقها وغربها فماذا صنعوا؟.. ماذا صنع الترك فى البلقان؟ وماذا صنع العرب فى الأندلس؟؟.. فشل هؤلاء وأولئك فى إقناع الجماهير المشدوهة أن محمدا رحمة للعالمين!.. فشلوا فى استثارة أشواق الأمم الضخمة إلى قبول الإسلام عن حماس ورغبة!.. كانت أجهزة الدعاية الإسلامية القائمة على البصر والعلم قد تعطلت فى ظل ولاة جورة، وملوك فسقة، فانحسر الإسلام عن الأندلس، بعد ما أفسد الترف الخاصة والعامة، وبعد ما أنشئت فيها بحيرات من المسك على شطآنها أوحال من العنبر.. وتراجع الإسلام فى أوربا الشرقية لأن الحكم العسكرى التركى لم يستطع قط إنشاء قواعد شعبية له، وأنى له ذلك وهو يحتقر العربية. لغة التعلم والتعليم والدعوة الإسلامية.. ص_202(4/213)
لقد بدأ هذا الحكم وللإسلام حضارة ضاربة الجذور فى أعماق التربة الإسلامية، فإذا هو يستولى على أرجاء العالم الإسلامى الرحب، ليحيل عامرها بلقعا، وعلمها وأدبها ونورها جهلا وجفافا وظلاما، فكيف يستغرب بعدئذ أن يعجز أتم العجز عن القيام بأعباء البلاغ عن الله، وتفهيم دينه لمن لم يفهمه... وقد تكون البلاد التى انحسر المد الإسلامى عنها قد بليت بأوضاع شر منه. بيد أن ذلك لا يغير من سنن الله فى الهزيمة والنصر. ألم ينتصر المشركون فى "أحد" على المسلمين لأن هؤلاء لم يستجمعوا ما شرط الله عليهم من وسائل الظفر؟.. فلنقلها صريحة!! لقد تأخر المسلمون بدينهم منذ قرون لأن هناك خيانات جسيمة ارتكبتها أمتنا فى خدمة المثل العليا وإبلاغها إلى الناس محببة جذابة كما جاءت من عند الله. وكما أحسن أداءها محمد وصحبه. ونترك الإسلام إلى النصرانية. إن الغرب لم ينهض نهضته الكبرى حتى أقصاها إقصاء عن ضروب النشاط الإنسانى فى مجالات البحث والتفكير والفلسفة والعلم والاقتصاد والاجتماع... ولولا نجاحه فى إبعاد الدين عن هذه الآفاق لظلت أوربا وأمريكا كما غبرتا ستة عشر قرنا لا تعرفان شيئا عن نظافة الأفكار والأبدان... إن العالم الآن يتلمس طريقه إلى مستقبل خطير. وقد أفاد كثيرا من تجاربه الحلوة والمرة، وعلى ضوء خافت أو لهب لاسع من آلام الماضى وضع طائفة من المبادئ التى يصح الرجوع إليها فى كل شجار... هناك حقوق الإنسان. وإقرار السلام، وتقرير المصير، والمساواة بين أجناس البشر، وإشاعة العدالة الاجتماعية والسياسية... إلخ. وهذه كلمات جميلة نضحت بها سلامة الفطرة، والرغبة فى تحقيق الخير العام، والنفع الشامل لسكان هذا الكوكب المحروب... ونحن المسلمين نرمق هذه الكلمات باحترام، ونراها متجاوبة مع تعاليم ديننا أصدق التجاوب، ولا بأس علينا أن نسهم مع غيرنا من سائر الملل والنحل فى إنجاحها، وحل قضايا القارات الخمس على هديها... ص_203(4/214)
وقد ترابطت الآن ثمانون دولة فى منظمة الأمم المتحدة على أساس ميثاق عظيم جاء فى ديباجته ما يلي: " نحن شعوب الأمم المتحدة، وقد آلينا على أنفسنا أن ننقذ الأجيال المقبلة من ويلات الحرب التى فى خلال جيل واحد جلبت على الإنسانية - مرتين - أحزانا يعجز عنها الوصف. وأن نؤكد من جديد إيماننا بالحقوق الأساسية للإنسان وبكرامة الفرد وقدره، وبما للرجال والنساء والأمم كبيرها وصغيرها من حقوق متساوية. وأن نبين الأحوال التى يسكن فى ظلها تحقيق العدالة واحترام الالتزامات الناشئة عن المعاهدات وغيرها من مصادر القانون الدولي. وأن ندفع بالرقى الاجتماعى قدما، لرفع مستوى الحياة فى جو من الحرية أفسح. وفى سبيل هذه الغايات اعتزمنا أن نأخذ أنفسنا بالتسامح، وأن نعيش معا فى سلام وحسن جوار. وأن نضم قوانا كى نحتفظ بالسلم والأمن الدولي. وأن نكفل بقبولنا مبادئ معينة ورسم الخطط اللازمة لها ألا تستخدم القوة المسلحة فى غير المصلحة المشتركة. وأن تستخدم الأداة الدولية فى ترقية الشئون الاقتصادية والاجتماعية للشعوب جميعها. وقد قررنا أن نوحد جهودنا لتحقيق هذه الأغراض. ولهذا فإن حكوماتنا المختلفة على يد مندوبيها المجتمعين فى سان فرنسيسكو الذين قدموا وثائق التفويض المستوفية للشرائط، قد ارتضت ميثاق الأمم المتحدة هذا وأنشأت بمقتضاه هيئة دولية تسمى "الأمم المتحدة". هذا حسن، فإن الكلمات التى دونت بهذه الديباجة تشتمل على نيات طيبة، وأهداف نبيلة، واتجاهات رائعة. وما يملك أحد إلا أن يرجو التوفيق لكل من يعمل فى هذا الحقل، منتظرا للإنسانية جمعاء أشهى الثمرات منه. ص_204(4/215)
ثم إن هذه الكلمات نتاج مشترك لأهل الأرض على اختلاف مذاهبهم ومشاربهم، فليس يلمح فيها انحياز لدين من الأديان، ولا تعصب ضد جنس من الأجناس. بل المفروض أن العالم الذى شقى بالخلاف المرير، والمظالم المتبادلة. سوف يسد الطريق دون عودتها. وسوف يتيح فرصا متساوية للمسلمين والنصارى واليهود، وللسود والبيض والصفر، كى يحيوا جميعا فى ظل عدالة موطدة الأركان، وأخوة سامقة البنيان... غير أن هذا الأمل لم يلبث أن هددته زعازع هوج، ثم بدا للعين المجردة أن الضغائن القديمة ضد بعض الأديان والأجناس لم تفارق أصحابها منذ أول لحظة خط فيها ميثاق الأمم المتحدة... وكانت اللغة العربية أول ضحية قدمها واضعو الميثاق إجابة لهذه الأحقاد الباقية. فهذه اللغة لا تعتبر أهلا لأن تسلك مع اللغات الحية التى كتب بها. لقد وضع النص الأصلى لهذا الميثاق بلغات خمس هى الصينية والفرنسية والروسية والإنجليزية والإسبانية وهى لغاته الرسمية على وجه سواء. أما الترجمة العربية التى قرأتها فهى من وضع الحكومة المصرية. وقد نشرتها إدارة الأنباء بالأمانة العامة للأمم المتحدة بتصريح منها... وغريب أن تنسى هذه اللغة العظيمة وهى اللسان الرسمى لدين له أتباع يزحمون العالم. وكان من الممكن فى غمرة التفاؤل الذى خامر القلوب نحو مستقبل هذه الهيئة أن نغالط أنفسنا، وأن نقول هو نسيان عارض لا تناس متعمد معيب. لكن الأحداث التى جدت بعد ذلك دلت على أن هناك إعدادا منسقا مرسوما لإماتة العربية. العرب جميعا، أو بكلمة أصرح إماتة الإسلام والمسلمين أجمعين... وفى نوبة من نوبات الختل والبغضاء تنفس اللدد الحبيس فى الصدور فإذا هيئة الأمم المتحدة تتخذ قرارا بشطر العالم الإسلامى نصفين لا يتصل أحدهما بالآخر ص_205(4/216)
عن طريق البر. وذلك بانتزاع فلسطين من أهلها وإعطائها هبة لليهود يقيمون عليها دولة تسمى إسرائيل!!.. واعترفت الدول الكبرى بإسرائيل هذه وذهب الأمين العام السابق للأمم المتحدة إلى "برلمانها" كى يعلن أن هذه الدويلة اللقيطة هى الربيبة المختارة التى سوف تربيها الأمم المتحدة فى حجرها. واليوم يجيء الأمين العام إلى حدود فلسطين ليقضى إجازة عيد الميلاد مع جنود الأمم المتحدة الموفدين لحراسة إسرائيل. وهم الجنود الذين لم يسفكوا دم أحد من أهل الأرض إلا دم العرب فى فلسطين. وتعثرت قضايا المسلمين فى كل ناحية فما يسمح لها فى أروقة الأمم المتحدة أن تنال ذرة من تأييد، وهى قضايا لا نظير لها فى وضوحها وجدارتها بالإنصاف. والعلة الدفينة وراء هذا الالتواء... هو التعصب ضد الإسلام. ثم تنازع الأقوياء فى هذا العالم فماذا رأينا؟.. رأينا روسيا التى لا دين لها تطلب تحرير فلسطين وردها لأهلها. أما الدول المسيحية الكبرى فلا تريد ذلك. رأينا روسيا تقف إلى جانب عرب الجزائر. أما الدول المسيحية فى حلف الأطلسى فهى تقتلهم بأسلحتها. رأينا روسيا تدفع عن سوريا مؤامرات الترك، ورأينا زعيمها يستحلف الأمريكان - بالله الذى يؤمنون به - ألم يوعزوا بالهجوم على سوريا؟!. رأينا روسيا تهاجم التفريق العنصري، أما الدول المسيحية فقد أبادت جنسا واضطهدت آخر. رأينا الكنيسة التى عجزت عن كفكفة الآثام التى ارتكبها الجنس الأبيض تملى لهذا الجنس الطاغى وهو يكيد للإسلام ويفتك بأبنائه ويهدد مستقبله، ويتخذ من الأمم المتحدة وسيلة لهذه الغاية الدنيئة... إلى متى تبقى هذه السخائم مشبوبة ضد الإسلام وأهله؟.. إن من الممكن اعتبار جنس ما أحط رتبة من غيره، ثم اجتياح حقوقه ومصادرة حرياته، وإهدار آدميته تبعا لذلك!!.. ص_206(4/217)
وإن من الممكن اعتبار دين ما ضد القانون، وتسخير القوى كلها لاعتقال أصحابه وتعكير صفوهم، وتمزيق شملهم!!.. لكن ما نتيجة هذا الفهم الضيق؟ نتيجته أن يظل العالم فى نزاع دام لا تنطفئ له نار، ولن يسكت فيه على ثار. فهل ذلك ما يريده أهل الكتاب وما يتحملون عقباه؟؟.. إن العالم فى نظرنا نحن المسلمين يتسع لعدة أجناس تعيش متعارفة متآلفة، ويتسع لعدة أديان تعيش متوادة متراحمة... ولو أن المسيحى ذهب فى عقيدة التثليث ما ذهب، ثم عاش غيره من الموحدين فى نطاق العدالة وحرية الرأى ما قبضنا عنه يدا ببر وقسط. ولو أن اليهودى اعتقد فى عيسى ومحمد ما اعتقد، ثم كف عن الناس أذاه، ولم يستكثر عليهم حق الحياة ما وجد منا شرا قط... إما أن نكون نحن - مع ما لدينا من شرف الحق وطهر الوحي- غرض المؤمرات والمهاترات، وإما أن تتخذ الوسائل دهرا بعد دهر للخسف بنا وسومنا سوء العذاب، فذلك ما نأباه أشد الإباء... إن الفرصة لم تضع بعد... وأمام الدول المسيحية الكبرى متسع لتصفى استعمارها الآثم فى الجزائر، وفلسطين، وعمان، وإيريان الشرقية والغربية، وجنوب اليمن، وفى أقطار آسيا وإفريقيا، التى طال عليها الليل واتصل فيها الويل. نعم أمام الخاطئين فرصة لمتاب، وملام وعتاب... وإلى أن يقع هذا.. وما أظنه يقع.. أوصى أهل القرآن أن يكونوا على أهبة دائمة لحراسة دينهم وبلادهم وأنفسهم، من الأفاكين والخطافين.. ص_207(4/218)
61- التكذيب بالقرآن لا يقوم على أساس علمي.. قد يحترم الإنسان ما لديه من أفكار ومعتقدات بوصفه لايعرف غيرها. وجهله بما عداها قد يكون عذرا له فى خطأ المعرفة وسوء الحكم. أما إذا أمكنه الاطلاع على جديد يضمه إلى ما عنده، ويزداد به إدراكا للأمور، وقدرة على المقارنة والاستنتاج، وبصرا بمواضع الخطأ والصواب، فليس له عذر فى الوقوف عندما يعرف، أو الاكتفاء بما كون من أحكام قديمة على حقائق الأرض والسماء!!.. إن احترام الحق يوجب عليه أن يخلع ثوب القداسة عن القديم، لا ليدخل فى جديد لاح له وبدا كأنه أفضل من سواه. كلا. بل ليتعمق فى الدراسة والموازنة، ولينقد فى حرية تامة ما كان عليه وما عرض له - على سواء - ثم يجنح آخر الأمر إلى ما بانت حجته، واتضحت محجته. وقواعد البحث العلمى الصحيح تنهض على هذه القاعدة المكينة. وعندما كنت أقرأ فى إعجاب بالغ شرحا لهذه القاعدة كتبه المؤلف الفرنسى "كلود برنار" عادت بى الذاكرة إلى موقف أهل الكتاب الأولين من الإسلام ونبيه محمد عليه الصلاة والسلام. فإن اليهود والنصارى الأقدمين، وكذلك أخلافهم من الغربيين المحدثين خرجوا على هذه القاعدة خروجا بينا، بل تجاهلوها تجاهلا تاما وهم يتناولون الدين الجديد ويواجهون صاحبه بألد الخصام!!. واسمع إلى ما يقوله "كلود برنار" فى كتابه "مدخل إلى دراسة الطب التجريبي"، قال: "من الأطباء من يخشون الاختبار العكسى ويهربون منه، فمتى وافقت ملاحظاتهم أفكارهم رفضوا البحث عن وقائع مناقضة خشية أن يروا ص_208(4/219)
فروضهم تنهار وتتداعى. وهذه كما قلنا روح خبيثة فالمرء حين يريد الاهتداء إلى الحقيقة لا يستطيع أن يقيم آراءه على أسس متينة ما لم يحاول هدم نتائجه نفسها بالتجارب العكسية". والمؤلف يقصد بالبرهان العكسى إعادة البحث فى التجربة لمعرفة هل النتائج التى أدت إليها وليدة ظروف عارضة، أو وليدة الصدفة؟. فإذا تغيرت الظروف والأحوال وظلت نتائج التجربة مطردة على الدوام دل ذلك على صحتها. لكن من الناس من يكتفى ببعض الأمارات على صدق ما اقتنع به من قبل، ويخاف بل يكره أن يفتح عينيه على معلومات جديدة. لماذا؟ لأن هذه المعلومات قد تزيف ما لديه من معرفة وتكشف قيامها على خطأ جسيم، وهو لا يرغب فى إصلاح فكره ولا فى تصحيح موقفه!!. وفى أثناء المحاورات القديمة بين أهل الكتاب وصاحب الرسالة الجديدة لاحظنا أن بصيصا من المعرفة كاد يشرق فى أذهان نفر من القساوسة وهم يسمعون القرآن ويصيخون إلى تحدى نبيه إذ يدعوهم إلى مباهلة عامة تجعل لعنة الله على الكاذبين.. لكن القوم ساءلوا أنفسهم: ما ضرورة هذه المباهلة. قد نكون على خطأ فتحيق بنا اللعنة. لندعه وشأنه ولنعد إلى ديننا... ونحن نستغرب هذا التصرف، ونرى سيرة نفر من الأميين أفضل منه. ونعود إلى المؤلف الفرنسى "كلود برنار" لننقل عنه هذه الكلمات... "وكثيرا ما قيل أن من الواجب أن يكون المرء جاهلا كى يستطيع أن يكشف عن الحقائق. وهذا الرأى وإن كان فاسدا فى ذاته يتضمن كثيرا من الحق. فالخير للمرء أن يكون جاهلا لا يعرف شيئا من أن تكون بذهنه أفكار تلازمه وتستبد به مستندة إلى نظريات يعمل دائما على تأييدها بإهمال كل ما لا يتفق معها. وهذا الميل من أسوأ الميول لأنه يقف فى سبيل الاختراع. والواقع أن الكشف بوجه عام ليس إلا علاقة غير متوقعة لا وجود لها فى النظرية وإلا كانت متوقعة. ص_209(4/220)
والجاهل الذى لا يعرف النظرية تفضل ظروفه الذهنية فى هذه الحال ظروف الذى يعرفها. ذلك أن النظرية لا تعوقه أو تؤذيه، ولا تمنعه أن يرى حقائق جديدة لا يراها من يحصر تفكيره فى نظرية واحدة دون غيرها. ولنبادر إلى القول بأننا لا نقصد هنا أن نجعل من الجهل مبدأ. كلا، إن المرء كلما زاد علمه كثرت معارفه السابقة وزاد ذهنه استعدادا لكشف أشياء ذات خطر ونفع. بيد أنه ينبغى له أن يحتفظ بذهنه حرا كما سبق القول، وأن يؤمن بأن ما هو مستحيل عقليا بحسب نظرياتنا ليس دائما مستحيلا فى الطبيعة. وليس الذين يسرفون فى الإيمان بنظرياتهم أو أفكارهم عادمى الاستعداد للكشف عن الحقائق. بل إن ملاحظاتهم أيضا فاسدة كل الفساد. ذلك بأنهم يلاحظون، وفى عقولهم بالضرورة فكرة سبق لهم تصورها. فإذا أجروا تجربة ما أبوا أن يروا نتائجها إلا تأييدا لنظرياتهم، وهم بهذا يشوهون الملاحظة ويهملون كثيرا من الوقائع المهمة لا لشيء إلا لأنها لا تساهم فيما يؤدى إلى ما يسعون إليه من غاية. وهذا ما حدا بنا إلى أن نقول فى مكان آخر: إنه لا ينبغى قط أن نجرى التجارب لتأييد أفكارنا بل الواجب أن يكون الغرض منها التحقق من صحة تلك الأفكار، أعنى أنه لابد من قبول نتائج التجربة بالصورة التى تبدو فيها مشتملة على كل مالم يكن متوقعا فيها. وكل مايحدث فيها من الطوارئ. على أن من الطبيعى أن نجد أن من يبالغون فى الإيمان بنظرياتهم لا يؤمنون بنظريات غيرهم إيمانا كافيا. وحينئذ يكون كل ما يشغل بال الذين يحتقرون غيرهم أن ينتقصوا نظريات هؤلاء وأن يعملوا على نقضها. وبذلك تظل متاعب العلم كما هي. ذلك لأنهم لا يلجئون إلى التجربة إلا لهدم إحدى النظريات بدلا من أن يكون التجاؤهم إليها للبحث عن الحقيقة. هذا إلى أنهم يلاحظون ملاحظات فاسدة. فهم لا يأخذون من نتائج تجاربهم إلا ما يتفق مع غرضهم ويهملون ما لا يتفق مع هذا الغرض ويعنون كل العناية باستبعاد كل ما يمكن أن يتجه اتجاه(4/221)
الفكرة التى يريدون هدمها ومحاربتها. ص_210
ومن هذا نرى أن المرء ينتهى بهذين الطريقين المتعارضين إلى نتيجة واحدة وهى تزييف العلم والوقائع معا". هذا الكلام - وإن أرسله صاحبه فى مجال البحوث العلمية المتصلة بالكون والحياة - يصدق آكد الصدق على موقف أهل الكتاب من القرآن ورسوله الكريم... فقد اكتفى كل فريق بما لديه، ورفض رفضا شديدا أن ينظر فى غيره، واعتبر معتقده الصدق الذى لا ريب فيه، واعتبر هذه الرسالة الجديدة كذبا لا ريب فيه. وعلى ضوء هذه القصيدة القلبية - أو العقدة النفسية بتعبير أصح - أعلن أهل الكتاب سخطهم الدائم على هذا الدين، ونقمتهم المستمرة على الداخلين فيه... وقد رمقنا أولئك المكذبين بنظرة فاحصة فوجدناهم أنواعا متفاوتة الكفران... فمنهم من استيقن بعد دلائل بانت له أن محمدا حق، وأن قرآنه وحي، ولكنه انساق مع أهوائه الخاصة وشهوات الجاه والمال فجنح إلى مخاصمة الإسلام عن كيد وضيع وجحود غريب... (الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون * الحق من ربك فلا تكونن من الممترين ). ومنهم المصاب بخبل ذهنى يجعله جائرا فى تصوره للأمور وحكمه عليها فهو يرى محمدا رجلا دعيا يتبع شهواته ويحب النساء ويستحق على ذلك الملام، بينما لا يرى شيئا فيما ينسبه العهد القديم إلى داود من أنه أحب امرأة "أوريا" فأرسل رجلها إلى الميدان وأمر بوضعه فى الصفوف المقدمة حتى يقتل ويظفر داود - النبى الملك - بامرأة الجندى المسكين!!. أو يرى أن القرآن كتاب لا ينبغى أن يكون وحيا منزلا من النساء لماذا؟ يقول أحد المستشرقين: لأن الكتب السماوية ليس من شأنها أن تذكر نزاعا بيتيا وقع بين أزواج محمد..!! والنزاع الذى يشير إليه المستشرق الذكى فى سورة التحريم أشرف وأعف وأسمى ص_211(4/222)
ألف مرة ومرة من قصة سكر لوط وزناه بابنتيه التى ذكرتها التوراة ولم ير المستشرق المنصف أن فى ذلك مساسا بأصلها السماوي!!. هؤلاء المصابون بخبل ذهنى من العامة والخاصة يكفرون بالقرآن ورسوله لأن أفكارهم ومشاعرهم المرتبطة بمواريثهم العقلية والقلبية جعلتهم يؤمنون بما لديهم فحسب. ولا يطيقون أن يتصوروا حقا عند غيرهم. فهم كافرون بالإسلام عن إخلاص - إن صح التعبير - وعلتهم هى التعصب الأعمى ... ومن أهل الكتاب من يجمع فى نفسه بين سوء الفكر وسوء النية، فتدينه مزيج من تصورات باطلة ولدها عقل مريض، ومن مسالك مريبة قوامها طلب اللذة العاجلة والحرص على الدنيا والتهامها بأية وسيلة. وهؤلاء داؤهم عياء، ومعارضتهم للإسلام منذ نزل القرآن وبعد ما غبرت عليه القرون الطوال تستثير الغضب والعجب...!!! واسمع إلى القرآن الكريم يصف هذه الجفوة فى نقائه وفى معاملة أبنائه : ( ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يشترون الضلالة ويريدون أن تضلوا السبيل * والله أعلم بأعدائكم وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا ). ( ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شيء قدير ). ( ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم ). ( يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون * يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون). ص_212(4/223)
وكلما تتابعت الليالى زاد القوم ضراوة فى خصومة الإسلام وأهله. ولفحت الحرب ضد الحقيقة التى تجهم لها اليهود والنصارى ثم أبوا الاعتراف بها مهادنة حملتها يوما... والواقع المؤسف أن القتال حين نشب بين المسلمين وأهل الكتاب كان أولئك قد بلغوا فى جحدهم للقرآن بل جمعهم للوحى كله - قديمه وحديثه - منزلة سحيقة القرار. فما كان اليهود يعرفون موسى أو يقيمون شرائع الحلال والحرام التى جاء بها. ولا كان النصارى يعرفون عيسى أو يتقيدون بأحكام الله التى نادى بها. كلا. لقد حالوا خلقا آخر، ولقد استشرت بهم العداوة استشراء جعل الأمر الإلهى ينزل بهذه الحدة البالغة: ( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ). ولو أن القوم صدقوا - مع أنفسهم فقط - واتبعوا موسى وعيسى وحدهما - ولو فى حدود ما لديهم - ما ضاق الإسلام بمعاشرتهم، ولا انتضى السيف لمحاربتهم. بل لتركهم وما يدينون، لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. ومن أهل الكتاب من ارتضى هذا المسلك الطيب، فعاش موفورا يلقى من المسلمين ما أمر الله به، قسط وبر. لكن الكثرة أبت ذلك، وها قد مرت أربعة عشر قرنا على ظهور الإسلام ونزول كتابه. فهل تغير الموقف قليلا أو كثيرا...؟ إن أوربا وأمريكا لا تزالان على الجفاء الأول، أو على شر منه. وسياستها تقوم على حرق الإسلام واستئصال الشعوب المؤمنة به. وهما ما تفتآن تنفخان فى النار كلما خبا ضرامها، كى تشبعا نوازع التعصب ضد هذا الدين المضطهد المطارد... ص_213(4/224)
62- التأدب مع القرآن ( لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون ). "الصيام والقرآن يشفعان للعبد، يقول الصيام: رب إنى منعته الطعام والشراب بالنهار، فشفعنى فيه، ويقول القرآن: رب منعته النوم بالليل فشفعنى فيه، فيشفعان". (رواه أحمد) رمضان يحمل فى ليله ونهاره زكاة مضاعفة للروح، ففى سحابة النهار يمتنع الإنسان عن الضرورات والمرفهات، ويدع المجال لخصائصه العليا، كى تربو وتتألق، وفى ظلام الليل يخلو بنفسه، ويقبل على ربه، يطالع أسرار الوحي، ويتأمل فى هدايات الكتاب العزيز. فى سحابة النهار يجلو عن قلبه غبار الماديات، ويقصى عن إرادته نوازع الهوى. وفى آناء الليل يفزع إلى الصلاة يرطب لسانه بذكر الله، ويشرح صدره بأنوار الحق، ويسلك نفسه مع المقتدين بصاحب الرسالة صلوات الله وسلامه عليه. الذى يقول فيه عبد الله بن رواحة: وفينا رسول الله يتلو كتابه إذا انشق مكنون من الفجر ساطع أرانا الهدى بعد العمى فقلوبنا به موقنات أن ما قال واقع يبيت يجافى جنبه عن فراشه إذا استثقلت بالمشركين المضاجع إن هذا القرآن يهدى للتى هى أقوم، وقيام الليل به شبع للروح يعينها على حرمان الصوم، ومدد للإرادة يعينها على أداء الحقوق وترك الشهوات، وهل الإنسان إلا إرادة؟. إن من يحرم الإرادة الحازمة الناشطة فى هذه الحياة حرم كل شيء، وعاش ريشة فى مهب الرياح، وغثاء فى كل تيار. وما الصوم إلا درس فى تربية الإرادة، وما القيام بعده إلا تمهيد للصراط المستقيم أمامها كى تندفع فيه على بركة الله. ص_214(4/225)
وتلاوة القرآن من القربات الحبيبة إلى الله، فهى صلة بين العبد وبين الوحى المصون، يعرف فيها الحق ويرتبط بأسبابه، ويعتصم بحبل الله، ويأنس إلى جنابه، ويثق من أنه - بهذه التلاوة - يستلهم الرشد من مصدر لا يزيغ ولا يضل، لأنه من كتاب عزيز، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد.. والتلاوة الواعية الحافظة هى إحدى الضمانات التى اختص الله بها هذا القرآن العزيز، وحماه بها مما عرا الكتب السماوية الأولي، فإنها لندرة الواعين من حفظتها أو لانعدامهم تسرب إليها لغو الناس، وإفك ذوى الهوى ففقدت قيمتها التى كانت لها، وتطرق الشك إلى أغلب أخبارها وأحكامها. وقد تأذن الله عز وجل أن يصون كتابه العظيم من هذه المصاير المحزنة فقال: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون). ونحن نفرح بمجالس التلاوة، ما دامت ذكرا لله خالصا، وما دامت تستجمع شرائط النفع والقبول التى أحصاها الشارع الحكيم. أى ما دامت تقوم على الخشوع والتدبر والتماس العظة والتقاط الحكمة، وما دامت أساسا للعمل الصالح، ودعامة لفعل ما أمر الله، وترك ما نهى عنه، وذلك هو أس الانتفاع بالقرآن الكريم، قال الله عز وجل: ( الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون). لكن كثيرا من الشعوب الإسلامية: يفصل بين القراءة والتدبر، وبين التلاوة والعمل. وحسبه من العمل بالإسلام أن يقرأ كتابه، ثم لا عليه بعد أن يهمل آدابه. وما لهذا أنزل القرآن، ولا بهذا تحسن تلاوته. وهناك أقوام آخرون يجعلون من مجالس القرآن أحفالا صاخبة، تنفر منها الملائكة، وتنتزع منها الرحمة، لأن رحمة الله لا تهبط إلا مع جمال الإنصات ووقار السكون، وعمق الرغبة فى الاستفادة. ص_215(4/226)
وهنا الطامة.. لو أن المسلمين لما اتخذوا هذا القرآن مهجورا ابتعدوا به عن مواطن اللهو ومجالس العبث، لكان أدنى إلى الجد، وأقرب إلى توقير كلام الله عز وجل - ولكنك تعجب لصورة التلاوة الشائعة، والسماع المعروف، وتجزم بأن الأمر خرج من حدود العبادة المرجوة القبول، وأصبح هزلا لا يستساغ البتة.. لقد جاء فى الحديث: "إن هذا القرآن نزل بحزن. فإذا قرأتموه، فابكوا، فإن لم تبكوا، فتباكوا" وليس المعنى ادعاء التأثر، وتصنع الخشوع. وإنما القصد إشراب القلب خشية الله، واستحضار هيبة صاحب الكلام، والمقارنة بين النصائح المبذولة فى تضاعيف هذا الوحى الكريم. وبين صدود البشر عنها، وجماح الشهوات دونها، مما يؤذن البشرية جمعاء، بشر مستطير.. أما أن تتحول مجالس القرآن إلى حفلات صاخبة. يرسل القارئ نغما فيتبعه السامعون "بتأليهات" وتأوهات، وإعجاب، وطرب، وتمايل، ونشوة، واستعادة، واستجادة، فذلك كله دجل صغير، ومسلك ناب سقيم. وجرم يستحق مقترفوه التأديب!!.. فضلا عن أن تصايح هؤلاء المعجبين لا دلالة فيه على فقه ولا يقين، فلو كلفوا بجهاد فى سبيل الله، أو بذل لإعزاز هذا القرآن، أو تضحية لإنقاذ أحكامه. لخرست الألسنة الصياحة. وانفضت الجموع الملتاعة!!. إنى أكره من أعماق قلبى اختلاط الطاعة بالمعصية. وتنفيس الإنسان عن شهواته باسم أنه يعبد الله. ماذا على من يعجبهم التلحين والتطريب أن يستمعوا لذلك فى قصيدة غزل، وأن يبتعدوا به عن كتاب الله. وإذا كان الناس يحبون أن يزينوا القرآن بأصواتهم، فما غناء هذه الزينة فى عصر عطلت فيه أحكام القرآن، وأصبحنا نجد أمما لا تسقط من القرآن حرفا، وقد أسقطت العمل به كله!!.. إن آيات الإنذار تنطلق أحسب أنها غارات ورجوم تنزل على الأهواء والوساوس ص_216(4/227)
فتحطمها، فإذا بى أسمع صوتا خنثا حمقا ينبعث بالاستحسان الطائش، ويطلب الإعادة فى ابتسام يكاد يتحول ضحكا. فأذكر قول الرحمن فى وصف عباده: ( والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا). بيد أن هؤلاء عموا وصموا.. إنهم لا يعقلون حرفا مما يسمعون! يا أمة القرآن.. ما هكذا يعبث بكتاب الله.. إن القرآن الكريم نداء الله لك، ورسالته إليك، والمرء إذا جاءه خطاب من عظيم فقرأه أو قرئ عليه فتح له أقطار نفسه، واستجمع أعصابه ومشاعره ليفعل ما يؤمر به، ويترك ما نهى عنه. وهذا النصح المتاح للإنسان له تبعاته، فإن من فرط فى حكمة سيقت إليه، استحق الملام، وتعرض للعقاب، ولذلك يقول الله عز وجل: ( ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها إنا من المجرمين منتقمون). والقرآن الكريم حافل بصنوف من الآداب النفسية، والأخلاق الاجتماعية، والتشريعات المادية والأدبية أودع الله فيها سعادة البشر فى معاشهم ومعادهم، وناط بها استقامتهم على الطريق، ونجاتهم من الفتن، ما ظهر منها وما بطن. وفى الحديث: "القرآن شافع مشفع، وماحل مصدق. من جعله أمامه قادة إلى الجنة، ومن جعله خلفه زج به إلى النار". فلنقرأ كتاب الله، ولنتدبر معانيه، ولنستوعب عظاته وتوجيهاته، ففيها وحدها العصمة والنجاة.. ص_217
63- الكتاب والسنة
لا شك أن هناك فارقا بين قيمة الثبوت فى أخبار الآحاد، وقيمة الثبوت فى الأخبار المتواترة.
وثم فارق آخر يتعلق بطبيعة الكلام نفسه، ذلك أن ما تقوله ابتداء وأنت تعطيه صفة العموم، وتقصد إلى نشره فى دائرة رحبة، غير ما تقوله لامرئ وحده، قد يحتفظ به لنفسه، وقد يبلغه لغيره، وقد تنقطع سلسلة العلم به فلا تتجاوز أفرادا يعدون على الأصابع!!.(4/228)
والقرآن الكريم من هذه الناحية غير السنة المطهرة، فإن الوحى الإلهى لم يكن همسا فى أذن واحدة، ولا كان حديثا يتوجه إلى شخص بذاته، بل كان إعلانا جهيرا يخترق الآذان، ورسالة عامة لا يختص بها إنسان دون إنسان.
أما أحاديث الرسول - وراء ذلك - فقد تكون نصيحة لفرد أو جماعة، وقد تكون توجيها خاصا يعنى أحدا ولا يتناول غيره.
ومعاذ الله أن نقصد بهذا غمط أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -ولكننا ننبه إلى أن كلاما هذه طبيعته إنما يفهم فى ضوء القرآن أولا وبعد استيعاب هداياته واستبانة منهجه. وبذلك تحسن الإفادة منه.
والذى لا شك فيه عندنا معشر المسلمين أن الرسول لا ينطق عن الهوى. وأنه لا مكان للخطأ فيما يؤثر على أنه دين من قوله وفعله وحكمه وتقريره. وكل ما نصح به أمته وشرح به رسالته.
وأنه فى سنته رجل ملهم القلب. موفق إلى الصواب.
ولكن لاشك كذلك أن رسالة الإسلام أساسها القرآن: وأن الأركان المهمة والشرائع التى تناط بها النجاة والمعانى التى يصح بها الدين، لا تكون أخبار الآحاد وعاءها، إذ لا يمكن أن يرتبط إسلام العالم ومصيره بحديثا طريق العلم به رواية واحد عن واحد أو اثنين عن اثنين. ص_218(4/229)
وإنما يرجع فى تقعيد القواعد وتفهم الأصول وأخذ أحكام الإسلام الحساسة إلى الكتاب العزيز، مضموما إليه ما تواتر من السنة العملية - فهى شرح لازم له - ثم يجئ بعد ذلك دور السنة الأخرى لمن شاء مزيدا من الفقه والتوسع... وكما يقوم هذا الفرق المعنوى بين الكتاب والسنة من ناحية "العرض" المكانى يقوم من ناحية "الطول" الزماني... فإن القرآن قد ضمن له الخلود، وكتب الله له بقاء لا يناوش ولا ينال: ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون). ومنذ نزل إلى يوم الناس هذا، وإلى أن تحصد الحياة وينقلب البشر إلى الله، لم تسقط من الكتاب العزيز آية واحدة، ولا استطاعت جملة من الجمل البشرية أن تلبس شارة الوحى وتختلط بالقرآن على أنها آية منه. كلا. كلا. لا زيادة ولا نقص، ولا تصحيف ولا تحريف، بل لا محاولة البتة لشيء من ذلك، إن (وساوس) الشياطين انقطعت دون أن يتفتح لها مجال إلى ذلك الأفق العالي، وأن ما تسمعه الآن من القرآن هو امتداد الصوت الأول - صوت ملك الوحى النازل به من السماء، واتصال نبراته إلى مسامعنا ومسامع الصحابة الأولين سواء بسواء..! أما أحاديث الرسول فقد نهض علماء المسلمين إلى حياطتها، وذود الدخيل عليها، ونقدوها كما ينقد الصيارفة المهرة الصحاح والزيوف. والحق أن الوضاعين والمتساهلين روجوا على رسول الله ما لم يقله. ولكن الحق أيضا أن أحدا من العظماء لم تغربل آثاره بموازين أدق مما صنع علماء المسلمين مع نبيهم. ولو رفضنا السنن بعد ذلك الفحص العلمى العادل لوجب أن نرفض التاريخ الأدبى والسياسي. لساسة الدنيا وقادتها وشعرائها وفلاسفتها. ولوجب واجب أن نطرح آثارهم كلها. بل إنها أحق بالإنكار من التراث الدينى لنبى الإسلام، فإن طرق الإثبات هنا أقوى من طرق الإثبات فى أى مجال آخر من تواضع الناس على قبوله..!! ص_219(4/230)
على أن علماء الإسلام اتفقوا حينا واختلفوا حينا فى تقويم حديث، ورد حديث آخر، وفى الحكم على هذا أو ذاك بالقوة أو اللين، والقبول أو الرد وتفاوت الأنظار فى التصحيح والتضعيف لما ورد من السنن ينقل مركز الاهتمام مرة أخرى إلى القرآن نفسه، ويعطيه الصدارة فى كل استدلال، ويجعل الأحاديث - وإن صحت - تسى فى ركابه، وتعتمد عليه. ولا خلاف بين المسلمين أن كلام رسول الله مقبول على العين والرأس، وإنما يجيء الاختلاف من ثبوته أو عدم ثبوته. وفى ذلك يقول أبو حنيفة: "فردى على كل رجل يحدث عن النبى - صلى الله عليه وسلم - بخلاف القرآن ليس ردا على النبى - صلى الله عليه وسلم -. ولا تكذيبا له، ولكنه رد على من يحدث عن النبى - صلى الله عليه وسلم - بالباطل، والتهمة دخلت عليه ليس على نبى الله - صلى الله عليه وسلم -". وكذلك كل شيء تكلم به نبى الله عليه الصلاة والسلام، سمعناه أو لم نسمعه، فعلى الرأس والعينين، قد آمنا به ونشهد أنه كما قال نبى الله، ونشهد أيضا على النبى - صلى الله عليه وسلم - أنه لم يأمر بشيء نهى الله عنه، ولم يقطع شيئا وصله الله، ولا وصف أمرا وصف الله ذلك الأمر بغير ما وصف به النبى - صلى الله عليه وسلم -، ونشهد أنه كان موافقا لله فى جميع الأمور، ولم يبتدع ولم يتقول على الله غير ما قال الله تعالى، ولا كان من المتكلفين، ولذلك قال الله تعالى : ( من يطع الرسول فقد أطاع الله.. ). ويذكر ابن عبد البر أنه قيل لأبى حنيفة : المحرم لا يجد الإزار يلبس السراويل قال: لا، ولكن يلبس الإزار، قيل له: فإن النبى صلى الله عليه وسلم خطب وقال: "المحرم يلبس السراويل إذا لم يجد الإزار"، فقال أبو حنيفة: لم يصح فى هذا عندى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيء فأفتى به، وينتهى كل امرئ إلى ما سمع. وقد صح عندنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يلبس السراويل، فننتهى إلى ما سمعناه". قيل له: أتخالف النبى - صلى الله(4/231)
عليه وسلم -؟ فقال: لعن الله من يخالف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - به أكرمنا الله: وبه استنقذنا..!!". ص_220
وأبو حنيفة بهذا الكلام البين يوضح منزلة السنة من القرآن ويشرح أسلوبه فى فهمها. وهو أسلوب لا غبار عليه: بل هو أسلوب جلة الفقهاء. - فهم جميعا يقدمون القرآن العزيز ويعطون السنة منزلة تليه - وسر توكيدنا لهذه الحقيقة العلمية أمور. 1- أن المسلمين الآن اتخذوا هذا القرآن مهجورا، فهم لا يعكفون على دراساته، ولا يستقصون دلالاته، ولا يوائمون بين مجتمعهم وبين شرحه المستفيض لرسالة الحياة الصحيحة، وواجبات الأحياء فيها. وفى القرآن من ذلك كله كنوز أهملها المسلمون: وعاشوا من غيرها سكارى فى دنيا صحا فيها كل جنس، وتحرك إلى الأمام بقوة.. ولا تحسبن من العناية بالقرآن تحفيظه للألوف من العرج والعميان والمساكين، أو إذاعته على الناس بين الحين والحين. فإن هذا التصرف يدور بين إهانة القرآن: أو الاحترام التافه لتلاوة الحروف وتنغيم السور: وهذا ما لا يساوى فى نظر العقلاء شيئا. 2- أن السنة النبوية - لأنها موطن التفصيل - يجب أن نحتاط فى دراستها، فكم من أحاديث صحيحة ينبغى عدم شغل العوام بها لأنهم لن يستفيدوا منها وقد يضيرهم العلم بها.... إن دارس الطب قد يمكث خمس سنين فى تحصيل ثروة طائلة من المعارف الصحية ومن طبائع الأدواء والأدوية، أفتظن هذا القدر الواسع من الدراسة يفتقر إليه الجمهور أو يحتاج إليه كل فرد فى حياته العامة: كلا، كلا. حسب الناس أن يعرفوا جملة من النصائح الطيبة المحدودة وأن يزودوا. إذا اقتضت الضرورة، بمزيد من الإيضاح فى تحصين أنفسهم ضد مرض وافد... والحال كذلك بالنسبة إلى السنن. إن هناك مئات الأحاديث فى الرقاق: والقدر: والفتن، والتوبة وغيرها. لا يفيد العامة من دراستها شيئا. ولا طاقة لهم على إدراكها لأنها قيلت فى نطاق معين، ولظروف خاصة. ولعل ذلك سر قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:(4/232)
"حدثوا الناس بما يطيقون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله". ص_221
إن شحن الأذهان بهذه الأحاديث - كما يفعل القاصرون من الوعاظ والقصاص - مع خلو الأنفس من الأسس القرآنية الأصيلة لا يكون مسلما متوازن القوى صائب الاتجاه... 3- فى القرآن الكريم خلاصات روحية فعالة تثير الحياة فى الضمائر، وتقيم حواجز منيعة حول السلوك الإنسانى كى لا يشرد أو يزيغ. وقوام هذه الخلاصات دعم قوى الخير، وكبح وساوس الشر بوسائل الترغيب والترهيب، والتربية والتوجيه. والقرآن فى هذه الخلاصات يستهدف إيقاظ النفس، وبعث ملكاتها العليا، ولا يعتمد على الإكثار من الحوادث العارضة ثم البت فيها بحكم الله. بل إن هذه الأحكام المحدودة توجد فى القرآن الكريم كما توجد الجزر المتناثرة فى بحر محيط. ذلك أن القرآن الكريم يركز اهتمامه فى ربط المرء بالله على أساس بارز من توحيده وتقواه. والاستعداد للقائه. وهذه المعانى هى ضمانات الكمال على اختلاف العصور والأجيال. ويلاحظ أن أسلوب القرآن فى هذا المجال يشفى العامة ويكفى الخاصة، فظاهره القريب يهدى الجماهير الساذجة، وباطنه العميق يشبع نهم الفلاسفة إلى مزيد من الحكمة والفكر..!! ثم إن مرونته اللفظية تجعله واسع الدلالة، أعنى سعة المورد الذى تزدحم عليه الوفود ثم تصدر عنه وهى ريانة راضية.. وليست السعة التى تتحمل النقائض أو تخلق الريب. وهذه المرونة من أسباب خلود القرآن. فإن الأساليب العربية طول أربعة عشر قرنا عراها كثير من التغير والتلوين اللفظى والذهني. ومع ذلك فإن القرآن بقى ممتازا بخصائصه وخلاصاته الآنفة، يبلى الأسلوب فى عصر ما وكان مزدهرا فى عصر سبق. أما القرآن فإن أسلوبه ظل جديدا رائع الأثر على تراخى الأجيال إلى هذه الأيام... ص_222(4/233)
4- ومهما كتبنا فى حفز الهمم لفهم القرآن والأخذ عنه، فنحن لا نعنى البتة تسويغ أى صدود عن سنة الرسول العظيم. فإن القرآن حمال أوجه، وصاحب الرسالة أولى الناس بشرح الوحى الذى شرفه الله به. بل هو البشر الوحيد الذى لا تعقيب على كلامه فى هذا الميدان. ومن السخف حط منزلة الرسالة وجعل النبى بشرا لا تعدو وظيفته إبلاغ كلام الله فحسب، أى أنه آلة ناقلة أو أسطوانة معبرة أو حروف منقوشة..! إن هذا سخف عظيم، فإن الرسول جاء قارئا وشارحا، وسنته الثابتة بيان له حرمته فى تفهمنا لمراد الله. بل إن وصاياه ونصائحه وحكمه لها وزن راجح ما يجوز التغاضى عنه ولو كانت مؤسسة لمعان جديدة غير ما جاء فى القرآن الكريم... ومن ثم فنحن نرفض بعزم وغضب ما يحاوله بعض الناس الآن من إلقاء السنة كلها فى البحر وحذفها من مجال التشريع جملة وتفصيلا، زاعمين أن القرآن وحده يكفى المسلمين..! إن هذا الكلام ليس إعظاما للقرآن، بل هو خطوة إلى إهماله هو الآخر، ثم صرف المسلمين عن مصادر دينهم كلها..! إن السنة حق، ولسنا فى كتاباتنا هذه نوازن بين القرآن والسنة على أنهما طرفان متغايران. فإن أول معالم السنة النبوية التمسك بمنهج القرآن الكريم. وأول طاعة للقرآن الكريم المشى خلف رسول الله فى فهمه له، وعمله به: والاستنارة بفيوض الحكمة التى تفجرت من جوانبه. بعد ما استوعب هذا القرآن الكريم. وعاش به وله... ص_223(4/234)
64- السنن العامة فى دعوة الرسل إلى الدين.. الوفاء للحق، والقيام على أمره، ومواجهة الناس أجمعين به، من أولى الخصال التى يحيا بها الدعاة إلى الله، وتعد صبغة لازمة لسلوكهم، بل جزءا خطيرا من كيانهم.. فهم- على بعد الشقة بينهم وبين الضائقين بهم- وعلي وحشة القطيعة وطول الخلاف يظلون ثابتين على دعواتهم، يشرحون أصولها بدقة، ويبينون حدودها بأمانة، ولا يتلون الحق فى رسالاتهم لرغبة أو رهبة.. أنهم أوفر أحلاما، وأقوى أركانا من أن يستخفهم مستهزئ يحاول النيل منهم.. ولقد استمع رسول الله إلى نداء المشركين الساخر حين قالوا: ( وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون ). فما تظن أثر ذلك النداء فى فجاج الأرض أو أقطار السماء؟ لقد تاه صداه وانقطع مداه، وما تحرك له من جانب المرسلين الكبار شعور قلق. واسمع إلى هذا النفر الراسخ فى كفره، المكين فى بطله وهو يعلق علي الرسالة وصاحبها: ( وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي بعث الله رسولا * إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها.. ). إن هذا الاستفهام المفعم بروح الاستفزاز والتكذيب والتحدى والتحقير، يخرج من نفوس أصحابه ليسقط تحت مواطئ الأقدام، فما يستفز من نفوس الدعاة شعورا بهوان أو غربة. إنهم فى إيمانهم أرسخ أقداما وأمكن أحلاما وأنور بصائر من أولئك الضالين المخدوعين. إن الداعية يعيش فى الحق الذى شرفه الله به مثلما يعيش الناس فى أنوار الصحوة الكبرى. ص_224(4/235)
فهو بأشعته وحدها يهتدي، وعلى ضوئها يسير. ومن ثم فمن المستحيل أن يخشى عرفا سائدا أو تقاليد مقررة، إذا كان هذا أو ذاك ضد ما يعرف من حق. ومن المستحيل أن يتملق الجماهير أو يطلب رضاها! كيف وهو يرى العامة مرضى وفى يده هو شفاؤهم؟ ويراهم قاصرين وعنده وحده العلم الذى يرفع مستواهم؟ ومن المستحيل أن يتهيب فى ذات الله بطش ذى سلطان، سواء أكان مخوف الظلم أم محقق العنت، فهو يعامل ربه قبل أن يعامل عباده أيا كانوا وهو يوقن بأن الحياة والموت والرزق والأجل، والخفض والرفع والأمن والقلق ترجع حتما إلى مالك الملك جل شأنه. ومن المستحيل أن يغره طمع أو يجره هوي، أو تغريه رغبة أو تدنيه رهبة، فإن شأن الرسالة التى انتصب لأدائها فوق هذه الوساوس جميعا. والسنة العامة فى أنبياء الله قاطبة أنهم فى نظرتهم إلى جلال الله، تتضاءل فى أعينهم شخوص المخلوقين ويذوب ما ينسب إليهم من بأس وإرهاب. قال الله جل شأنه: ( ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له سنة الله في الذين خلوا من قبل وكان أمر الله قدرا مقدورا * الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله وكفى بالله حسيبا). والآية نزلت عندما كلف النبى - صلى الله عليه وسلم - أن يهدم تقليد التبنى الذى كان شائعا فى العرب. وكيف كلف بهدمه؟ بأن يتزوج امرأة متبناه زيد، الذى طالما دعاه الناس زيد بن محمد. وبهذا الزواج المفروض يجتاح الإسلام عمليا كل أثر لتسوية الأدعياء بالأقرباء، ويبدو زيد –المدعو بابن محمد- على حقيقته في النسب، وتحيا امرأته مع رجلها الجديد على صفته الصحيحة، لا على أنه والد رجلها القديم ( ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين..). بيد أن هذا التكليف شق على رسول الله أعظم المشقة، وتأذت نفسه من أن يتحدث الناس أنه أخذ امرأة ابنه، وكان ينبغى البعد عنها. ص_225(4/236)
فرد الله سبحانه هذا التوجس، وعاتب نبيه فيه، مظهرا له أن المرسلين لا يتهيبون فى ذات الله ونصرة الحق، أحاديث الناس وما يرسلونه من إشاعات أو يقيمونه من اعتراضات. * * * والأنبياء واضحون فى رسالاتهم، ليس فى دعواتهم جانب غامض أو غرض مستور يقول الله فى موسى وهارون: ( وآتيناهما الكتاب المستبين * وهديناهما الصراط المستقيم ). ويقول فى وصف القرآن الكريم: ( ذلك الكتاب لا ريب فيه )، ( تلك آيات الكتاب المبين). وهم بهذا المنهج المشرق يلقون الناس كلهم، الصديق والعدو، لا يحاولون طى شيء من رسالاتهم يتألم منه هذا، أو المواربة فى وصف حقيقة يكرهها ذاك.. وهم بهذا الوضوح فى رسالاتهم يفاصلون الناس على الكفر أو الإيمان : ( ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة ). وقد كان من الممكن أن تعرض الدعوات علي الكارهين والناقمين بأسلوب ملتو كليل الحد يهادن الشهوات ويسالم الإفك والخرافات.. إلي حين.. ولكن الله عز وجل رفض هذا الأسلوب. قال : (فلا تطع المكذبين * ودوا لو تدهن فيدهنون). وقد تمنى المشركون لو نزل رسول الله عن بعض ما يدعو إليه، وأبدوا استعدادهم لتصديق ما يلائم أفكارهم وأمزجتهم من رسالته، لكن الحق لا يتجزأ والإيمان به كذلك لا ينقسم. ومن هنا حرض الله نبيه أن يبقى على دعوته الكاملة، ورسالته الشاملة، غير مكترث بما يقترحه الكافرون: ( فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك إنما أنت نذير والله على كل شيء وكيل ). ص_226(4/237)
وظل رسول الله بدعوته كلها، يشرح أصولها ويوضح سبيلها، ولم تفتر عزيمته فى مهاجمة الأصنام وتسفيه عابديها والتنديد بجهالتهم. فلما حدثه عمه أبو طالب أن يدع هذا الدين وأن يصون نفسه من خصومة المناوئين قال: "يا عم والله لو وضعوا الشمس فى يمينى والقمر فى يسارى على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته".. وتمر السنون بطيئة ثقيلة معنتة موجعة والكفاح بين الحق والباطل لا تهدأ حدته، وقد نقلته الأيام من ميادين الكلام إلى ميادين القتال. ومع ذلك فبعد بضع عشرة سنة من هذه الكلمة التى قالها الرسول لعمه نسمعه يقول لبديل بن ورقاء الخزاعى فى موقف الحديبية: "إنا لم نجئ لقتال أحد ولكنا جئنا معتمرين. وإن قريشا قد نهكتهم الحرب وأضرت بهم، فإن شاءوا ما دونهم ويخلوا بينى وبين الناس. فإن أظهر، فإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل الناس فيه فعلوا، وإلا فقد جموا. وإن هم أبوا فوالذى نفسى بيده لأقاتلنهم على أمرى هذا حتى تنفرد سالفتى ولينفذن الله أمره". إنه إصرار لم تزده الليالى إلا قوة، وثبات يربو مع الزمن ولا ينقص.. وربما سألت: ما العدة فى هذا النضال؟ وما الوسائل التى اعتمدت عليها الدعوة فى بلوغ أهدافها؟. والجواب إن الدين لا يتذرع فى الوصول إلى غاياته إلا بطرقة نفسها. وتدرك طبيعة هذه الطرق من قول الله لنبيه: ( فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها...). ( فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون ). ( اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داوود ذا الأيد إنه أواب). (فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل..). فالمثابرة على الدعوة، والاستعانة على وعثاء الطريق بطول الصبر، وحسن التأسى وصدق الاعتماد على الله.. وتفانى الداعية نفسه فى حقيقة رسالته.. هو طريق النجاح. ومحاولة الإفلات من هذه السنة العامة لا يتاح لأحد. وفى هذا يقول الله ص_227(4/238)
لنبيه: ( ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبأ المرسلين). أجل.. أن أنباء المرسلين تتابعت على كر الدهور مؤكدة هذا الحقيقة، ومؤكدة كذلك أن عقبى الصبر الجميل جميلة، وأن نصر الله يجيء فى نهاية المطاف كما يجيء الصباح بمد اعتكار الظلام. * * * وقوانين المجتمع الإنسانى فى ذلك تشبه قوانين الحياة المادية لا تنخرم ولا تتخلف.. واسمع إلى يوسف وهو يقول لإخوته: (..إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين). إن هذه الآية كأى قانون مادى فى علم الطبيعة أو الكيمياء تشير إلى أن الفرد الذى يستجمع هاتين الخلتين من معنى الإحسان لابد أن يدركه التوفيق وتلحظه العناية وينجح فى حياته حيث يخفق الآخرون الذين يقصرون فى هذا المضمار.. ولذلك يقول إخوة يوسف له: (قالوا تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين). وإيثار الله ليوسف لم يكن عطاء من غير مؤهل، بل أتى بعد مراحل شاسعة من الكفاح والعفاف والمصابرة والتجمل.. وكما تصدق هذه السنة فى حياة الأفراد تصدق فى حياة الجماعات فإن الأمم لا ترزق التمكين في الأرض ولا تنال حظا من سيادة الله إلا إذا مرت بأدوار من العمل المضنى والجهاد الشاق، وصبرت على تكاليف الرسالات التى تحملها، والتقدم الذى تنشده. والقرآن الكريم يذكر السر فى تسويد الأقدمين من بنى إسرائيل: (وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون). ص_228(4/239)
فالصبر الطويل، واليقين الراسخ، هما عدة الإمامة فى الأرض، والصدارة بين الناس.. والسنة العامة المطردة من أزل الحياة إلى أبدها فى كل كفاح بين الحق والباطل قد شرحها الله سبحانه وتعالى فى هذه الآية: ( أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال). وينبغى أن نسائل أنفسنا ما هو الحق الذى ينتصر، وما هو الباطل الذى يندحر؟ فإن فى صفحات الحياة مشاهد قد تجعل الإنسان يرتاب فيما يقال له، وهو يكاد يلمس استقرار الإلحاد والفساد فى مواطن كثيرة. والجواب أنه ليس كل ما يوصف بأنه حق يحمل هذه التسمية عن جدارة. ولا كل ما يوصف بأنه باطل يوصم بهذا العنوان عن صدق. والحق الذى يكتب له الخلود يجب ليظفر بهذه الثمرة، أن تكون إلى جانبه خصائصه كلها. إننا إذا قلنا: الطيارة أسرع من الدابة، فلا نعنى طيارة مكسورة الأجنحة نافذة الوقود، إن طيارة بهذه المثابة يسبقها حمار معطوب الحوافر.. إن من خصائص الحق إلى جانب سلامة جوهره- أنه ضياء للعقل، وصدى للفطرة، ومفتاح للخير، وسياج للمصلحة، وصلة لا يعلى عليها فى ربط الأمم بالحياة وبربها تبارك اسمه. ومن خصائص الباطل أنه اتباع للوهم ومغالطة للفطرة واستجابة لطبائع السوء واقتراف للمآثم وعبادة للشيطان. وقد تتكاثر هذه الخصائص وتبرز، وقد تتضاءل وتضمر، وقد يموج بعضها فى بعض ويخلط الاتباع بين شيء من هذا وشيء من ذاك. ص_229(4/240)
بيد أنه من الكذب على الله وعلى الواقع أن ننتظر انتصار حق إذا تأملت فيما حوله لم تجد إلا خصائص الباطل كلها من غباء وشهوة وعوج.. إن الحق عندما يكون حربا بين الوثنية والتوحيد فهو حرب بين العقل غير المتربى على الخرافة المتجاوب مع ما فى الكون كله من علم ومعرفة، وبين عقل آخر مستغلق منحط يسجد لحجر أو عجل أو ما شابههما. ومن البديهى أن انتصار الأول هو امتداد للمعرفة وكرامة للإنسان ومنفعة للناس ينطبق عليه قول الله: (..فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض..). لكن ما الحال إذا عقم الحق فلم يلد نفعا، واكفهر وجهه فلم يتضمن بشرا ورمقت أصحابه فوجدتهم ملتفين حول اسم فارغ لا لب له. أنى يكتب لهذا الحق المزيف نصر أو يسجل له خلود؟؟.. إن المسلمين -ونقولها آسفين- ظلموا الحق الذى توارثوا آياته فى صحائفهم. لقد التصقوا به وهم يرتكبون خطأين جسيمين. أحدهما فى جانب الحياة نفسها فلم يفقهوها ولم يوثقوا أواصرهم بها. والآخر فى جانب الله إذ لم يفقهوا هداه ولم يسيروا على سنة. فكانت النتيجة أن تنكرت لهم الحياة فهانوا فيها، وأن سخط الله عليهم فلم يسعفهم بنصر. هم أحوج الناس إليه.. فإذا انخذل الإسلام وتلك حالته -مطمورة فى أحوال أهله- فإن ذلك ليس قدحا في سنن الله العامة، ولا تكذيبا للنتائج المحتومة فى كل صراع يدور بين الكفر والإيمان. إن انتصار الحق أمر لابد منه وغلبه أهله على غيرهم فى نهاية المطاف قانون لازم دائم. وقد تسبق ذلك مراحل طويلة ولكن هذه المراحل ليست تسويفا لنتيجة ينبغى حلول أوانها بل هى فى الأغلب فترة من الزمن يكتمل فيها معنى الحق فى نفوس حملته ويمتزج بحياتهم الباطنة والظاهرة على سواء. ص_230(4/241)
فترة يخلصون فيها من نزعات الهوى الخفى والجلى وتتم فيهم القدرة على إفراغ الحياة الإنسانية فى القالب الذى يريدون وتسييرها نحو الوجهة التى يبتغون.. فإذا بلغ هذا الاستعداد تمامه فما من شك أن الباطل مندحر وأن رأيته منكسة وإن أتباعه زائلون.. وقد أكد القرآن الكريم فى أكثر من موضع هذه الحقيقة، وذكر بجلاء أن النصر حليف هذا الحق الناضج، وأن الباطل زاهق أمامه لا محالة: ( لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا * ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا * سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا). فهذا تهديد لأعداء الإسلام أن بقاءهم على الخديعة وإشاعتهم للأكاذيب واتباعهم للهوى سوف يوردهم حتما المصير الذى ورده المكذبون الأوائل، وهو مصير لا ينجو منه ظالم أبدا. وفى سورة أخرى يقول: ( ولو قاتلكم الذين كفروا لولوا الأدبار ثم لا يجدون وليا ولا نصيرا * سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا). فالمعارك التى تنشب بين الإيمان والكفر تنتهى بالمعركة الفاصلة آخر الأمر وتطرد بها سنة الله فى المستقدمين والمستأخرين. وكما يندحر الباطل فى ميدان التفكير والنظر تنكسر شوكته فى رحاب الحياة: ( بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق). وفى سورة فاطر يقول فى الكافرين: (..فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفورا * استكبارا في الأرض ومكر السيئ ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله فهل ينظرون إلا سنت الأولين فلن تجد لسنت الله تبديلا ولن تجد لسنت الله تحويلا). فعقبى الإعراض عن الحق والغرور بالضلال ثابتة وما أصاب الأولين لن يفوت الآخرين ولابد أن يدرك الأمم الجائرة ما يقمع بطرها ويطمس على بصرها.. ص_231(4/242)
وعندما يحيق بالمجرم سوء صنيعه يستيقظ فى نفسه ما أنامه الغرور من قبل، فيصحوا بعد فوات الوقت ويعترف بما كان ينكر، بل بما كان يجحد وكثيرا ما نسمع الكلمات الأخيرة التى يرسلها المحكوم عليهم بالإعدام وهم مقودون إلى حبل المشنقة، إنها كلمات مليئة بالندم والتوبة ناضحة بالإيمان والاستسلام لله. بيد أن ذلك الرشاد المفاجئ لا يغنى عن أصحابه ولا يؤخر عنهم العقوبة لقد حكم فرعون حقبة من الدهر كانت حافلة بالجبروت والفساد مشحونة بالبغى والقتل فلما أدركه الغرق قال: (.. آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين * آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين )!! إن هذه اليقظات الغريبة فى ضمائر المجرمين لا تدل على خير ومن يدرى لعلها حيلة الجبان للفرار من القصاص!! ومن ثم رأينا الله جل جلاله، لا يدع الأمم الضالة بمثل هذا الاحتيال: ( فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنت الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون ). ونحن نلحظ أن عذاب الاستئصال الذى اجتاح كثيرا من المكذبين السابقين قد استحال شيئا آخر بالنسبة إلى مشركى مكة، فإن موقفهم قد ألجأ الرسول إلى الهجرة وظهر كان دولة الوثنية قد سيطرت على الموقف وان الهزيمة قد لحقت بالإيمان وصحبه. لكن هذا الظاهر المتبادر إلى الأذهان لا يلبث أن يزول إذا عرف أن دولة الوثنية لم يمض عليها إلا قليل حتى تلاشت في موطنها نفسه، وأن سدنتها ذابوا فى حرارة الإيمان المنتصر كما يذوب الجليد علي ألسنة اللهب وصدق الله سبحانه في قوله: ( وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا * سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلا). أجل إنهم ما لبثوا إلا بضع سنين ثم تهدمت الأصنام حول الكعبة تحت سطوة التوحيد المنتصر. ص_232(4/243)
وانطلق صوت الرجال الذين بعثهم محمد فى أرجاء مكة يقولون فى الموسم الجامع: لا يحج بعد العام مشرك.. منذ نشط العمران البشري على وجه الأرض والناس تستهويهم مآرب شتى وتتوزعهم طرائق مختلفة. وكثرتهم -وهذا أمر محزن-يغلبها الجهل. وتنحرف عن سواء السبيل. شرف الإنسان عقله ولكن العقل طالما نحى عن قيادة الأفراد والجماعات. وجمال الإنسان صفاء فطرته واستقامة سجيته، ولكن الفطر الصافية والسجايا المستقيمة طالما احتجبت وراء غواش من الأثرة والظلم والهوى. وكما تفتك أسراب الديدان وأنواع الآفات بأشجار القطن والفاكهة هجمت علل خطيرة علي الجنس الإنسانى فعوجت سيره، وشوهت فكره، ومسخت ما براه الله عليه من فطرة وما زانه به من عقل: ( ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين). وكان جهد النبيين الأول هو علاج هذا الخلل فى السلوك الإنسانى ومداواة تلك العلل التى تفتك بالكرامة وتنذر فى العاجلة والآجلة بسوء المنقلب.. هذه أمة شاع فيها غمط الحقوق وبخس الكيل والميزان. وهذه أمة شاع فيها الكبر والجبروت واجتياح الضعاف. وهذه أمة أسرفت فى شهواتها وتعدت الإناث إلى الذكران. وهذه، وهذه.. أمم كثيرة تطرق المرض النفسى إلى قلبها ولبها وذهلت من قبل ومن بعد عن معرفة ربها. فكان كل رسول يبذل قصاراه فى سوق الشفاء لها، ومحاولة النجاة بها من عواقب الكفر والفسوق والعصيان. وإنك لتسمع القرآن الكريم يجمل تواريخ هذه الأمم وعمل الدعاة الكبار فى إرشادها إلى الحق وقيادتها إلى الله فتراه يلزم هذا النسق وهو يقص مصارع خمس من الأمم: ( كذبت عاد المرسلين * إذ قال لهم أخوهم هود ألا تتقون * إني لكم رسول أمين * فاتقوا الله وأطيعون * وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين ). ص_233(4/244)
إن هذا النسق اطرد فى التاريخ لقوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب.. تشابهت الرسالات، وتشابهت الإجابات، وتشابهت المصابر التى طوت الكل. وذاك ما يدعو إلى الاستغراب والعجب: ( كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون * أتواصوا به بل هم قوم طاغون * فتول عنهم فما أنت بملوم * وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين). هؤلاء الأنبياء المخلصون عمدوا إلى محاربة الخرافة الأولى فى تفكير الإنسان وهى تقديس الأصنام والأبقار وما إليها، وفتح البصائر المغلقة حتى تعرف ربها الحق وحده. فإذا عرفته حرصت على إرضائه وبعدت عن مساخطه واستعدت للقائه. ومن ثم أمكن فطامها عن الرذائل التى هوت فيها وتيسر شفاؤها من العلل الغليظة التى رانت عليها. إن الأمراض الاجتماعية شديدة الفتك بعيدة الأثر. وكما يصنع الزهرى مثلا بالأجنة فى بطون الأمهات من تلف فى الأجهزة وعطب فى الحواس، تصنع الخرافات والشهوات بالأفئدة والأعمال. وكثيرا ما أنظر إلى الأجيال الناشئة فى قرانا المصرية، فأرى البول الدموى نزف قواها وشل نماءها وكسا الوجوه بصفرة كابية. فإذا قارنت بين أولئك الولدان البائسين وأترابهم من أبناء البيئات النقية شعرت ببعد البون إذ ترى هؤلاء يشبون فى عافية وتتورد وجوههم من قوة الحياة ووفرة الصحة. إن الفطرة الإنسانية قد تحكمها بيئات ظالمة مظلمة فإذا هى صريعة جهالة طامسة وأهواء طافحة وعوج شنيع بل إن هذه الفطرة الكريمة قد يصيبها من الدمار ما يصيب الحقول الغناء إذا هجمت عليها قوافل الجراد. ولم يعرف العالم فى تاريخه الطويل أزكى ولا أرقى من رسل الله فى الذياد عن هذه الفطرة. وقد قرأنا فى كتاب الله كيف برز كل طبيب منهم يشفى النفوس من سقامها ويرجع إليها شادها العازب ويهديها إلى سواء الصراط. وفى دعوات الأنبياء الأولين نلحظ بساطة العرض وسهولة الفكرة ورقة ص_234(4/245)
الإخلاص وجلاء الغاية وتدفق الرحمة وصدق النصيحة وقوة التوجيه إلى الله والإعداد للقائه. بيد أن كل واحد منهم كان محدود الطاقة فى علاج ما يلقى من أمراض إذ كان جهده محليا غايته ملاقاة ما يقع، واستنقاذ من يستجيبون. أما الرسالة الخاتمة فلم تكن "مشروعا" صغيرا لإصلاح قرية موبوءة بل كانت برنامجا واسع الدائرة رحيب الأكناف يستهدف وضع خطط لوقاية العالم كله ورسم سياسات كثيرة للإصلاح والاستشفاء وحشد قوي جبارة لتطهير الأرض من جراثيم الفساد. إن هذه الرسالة تتميز فى دعوتها بأنها جهد إنشائى متكامل لخلق عالم أفضل يتعاون فيه الفرد والمجتمع على نشدان الكمال وإقرار الفضيلة على أساس من معرفة الله جل شأنه. ومحور الإصلاح فى الرسالة الآخرة جعل الإنسان إنسانا..! وهذا شيء يدعو إلى العجب. هل جعل الإنسان إنسانا غاية تقوم لها رسالة ويقترن بها خير وينتج عنها كمال مرموق؟؟.. تقول: نعم، وذاك محور الإصلاح الإلهى للعالم كله. إن أقوى شيء فى الوجود الآن قد يكون التفجر الذري، وربما كان فى القرن السابق الطاقة الكهربائية. والوجود مشحون بقوى هائلة عرف منها ما عرف وستر منها ما ستر. بيدو أن أعظم قوة فى هذا العالم وأبرز الكشوف فيه ليست تلك الطاقات المادية، بل الطاقة الإنسانية..!! هذا الإنسان الذى يسير بقدميه الصغيرتين على الأرض ويخطر بقامته الضئيلة. هذا الإنسان الذى لو تجمع جنسه كله من شتى القارات فى صعيد واحد ما زحم مساحة يؤبه لها من هذه الأرض التى يدرج فوقها. ولو قيست أرضه تلك بالأعداد الكثيفة من الكواكب التى تسبح فى الفضاء ما ساوت شيئا. ص_235(4/246)
هذا الإنسان الغريب هو أخطر شيء فى الكون.. لقد خلقت له السموات والأرض وسخر له الشمس والقمر. وصدق الشاعر إذ يقول: وتزعم أنك خلق صغير وفيك انطوى العالم الأكبر؟ لكن هذا الإنسان العظيم بما رشح له، وما مكن منه قد تعرض له أوهام تمسخه فإذا هو ساجد لحجر أو تائه وراء شهوة سافلة!!. ومن هنا تدافعت وصايا الرسالة الإسلامية لتبصر الإنسان بقدره: وتصونه من الدنايا وتحفظ عليه خصائصه المادية. إنه كبير بقلبه فكيف يدع قلبه نهبا للغش والهوى والظلم. إنه كبير بعقله فكيف يدع عقله فريسة للجهل والخرافة. إن الإسلام يعتمد فى حماية الإنسان من علل الكفر والفسوق على إيقاظ لبه وقلبه وتبصيره بمكانته وفضله واستبقائه إنسانا لا يتدلى -بتعطل مواهبه - إلى درك الحيوانية السحيق. واسمع إلى الصيحة الأولى فى تنبيه الغافلين: ( قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد ).. التفكر، هو المطلب الأول.. صحوة العقل بعد غفوته ليرى رأيه فيما يعرض عليه، والعقل قد تقيده أغلال التقليد الأعمى فلا يملك الحرية الواجبة. ومن هنا شدد الإسلام النكير على أحلاس التقليد وصرعى كل عرف غبى ( وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون * قال أو لو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون * فانتقمنا منهم فانظر كيف كان عاقبة المكذبين). ص_236(4/247)
كما قضت الإرادة العليا بأن الذين يستجيبون لدواعى الجحود ولا يسيرون وفق معالم الرشاد لابد من تضليل مسعاهم، وتركهم يخبطون فى مواطن الغفلة التى رموا بأنفسهم فيها: ( سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون فى الأرض بغير الحق وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين). * * * شرع القرآن الكريم يلفت الإنسان إلى ما بين يديه وما خلفه من السماء والأرض ويوثق أواصره بمظاهر الكون الذى يعيش فى رحابه ويجعل من هذا وذاك المادة التى تكون إيمانه بربه وتعرفه بما ينبغى له من تسبيح وتحميد وما يجب عليه نحوه من إنابة وعبادة. والنهج الفذ لذلك هو بصر العقل بآيات الله فى ملكوته. وانظر إلى هذا الضرب من الاستدلال والهداية لتعرف أن المراد منه هو إيقاظ الإنسان وإحياء خواصه الذهنية والنفسية ليعرف ربه معرفة اليقين: ( هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون * ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون * وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون * وما ذرأ لكم في الأرض مختلفا ألوانه إن في ذلك لآية لقوم يذكرون * وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون). التفكر والتذكر والتعقل ثم الشكر هذه هى أسباب اليقين وطرائقه الصحيحة ومدارها -على ما ترى- الحركة الذاتية فى الإنسان نفسه. هذه هى الحركة التى تصور وظيفته فى الحياة ومنزلته فى الكون وتؤكد أولا وأخرا قيمته الخاصة ومكانته الجليلة. ومعنى هذا أن الإنسان مكلف باستخدام حواسه على نطاق واسع، فالسماع ص_237(4/248)
الغافل، أو النظر الأبله أو النطق الغبى هبوط لا يليق بامرئ يحترم نفسه ويدرك كيف كرمه خالقه وفضله تفضيلا. الإنسان الحق عميق النظر، فقيه السمع راشد القول. ولما كان الإسلام -كما بينا- يستهدف جعل الإنسان إنسانا فهو يجعل الكفر نتيجة طبيعية لانطماس المشاعر وبلادة الحواس: ( وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضا * الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري وكانوا لا يستطيعون سمعا)، (.. يضاعف لهم العذاب ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون). وعدم استطاعتهم السماع أو استبانتهم الرؤية لا ترجع بداهة إلى رمد أو صمم إنما يرجع إلى أن القوم عطلوا مواهبهم وذهلوا عن قيمتها العليا، أو سمحوا للدنايا أن تصرفها فى الأباطيل. وقد يستغرق الغافل فى ذهوله فإذا ناديته لم يصل إليه الصوت إلا خافت النبرة ضائع المعني، فكأنه -وهو قريب منك- على مسافة ميل!!!. (..والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون من مكان بعيد ). بل قد يصل الموت الأدبى بهؤلاء الجاحدين المذهولين أن تصل صدى الدعوات إلى آذانهم فلا يفقهون منها -على شدة وضوحها- إلا ما تفقهه القطعان عندما يصفر لها الراعى لتشرب أو لتسير. ( ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون). إن الإسلام جاء ليرد للإنسان اعتباره المفقود وليحفظ عليه قدره المهدد أى ليجعله إنسانا حقا إنسانا مستقيم الفطرة كما خلقه الله، ذكى العقل، حديد النظر، واعى السمع، صائب القول، شديد الحكم. ص_238(4/249)
وهذه الخصال هى مقومات الإنسان وهى بعينها مقومات الإيمان. فإذا تطرف الانحراف إلى شيء فانتظار الإيمان الحق جهد ضائع، ومن ثم يقول الله لنبيه: (ومنهم من ينظر إليك أفأنت تهدي العمي ولو كانوا لا يبصرون * إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون). إن الإسلام عالج الإنسانية بأصح دواء يمكن أن يقدم لها، وذلك بالتعويل على المقاومة الذاتية للإنسان، أو المناعة الخاصة الكامنة فيه، وحشدها فى صعيد واحد لتصد أى هجوم يغرى بالكفر والفسوق والعصيان. وذلك سر الحديث الطويل فى كتاب الله، والمناشدة المستمرة للإنسان، ألا يسف وألا يخون فكره، وألا يجحد سمعه وبصره، وألا يتدلى إلى درك لا يليق به. ذاك سر التساؤل المترادف: "أفلا تذكرون"، "أفلا تعقلون"، "أفلا تتفكرون"، ( أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ). والواقع أن كل ضعف يتطرق إلى القوى العقلية أو إلى مقدرة الحواس فى الملاحظة والوعي.. فهو هدم لجزء مساو من حقائق الإيمان وعاطفة التدين. إن الإسلام حاسم فى أنه يريد إنسانا مفتوح البصر والبصيرة لأنه يريد إيمانا عميق الجذور، وثيق الضمانات. أما حيث يغلب الجهل ويرين الهوى وتستحكم الغفلة فإنا نكون بإزاء حيوان لا إنسان: ( أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا * أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا). هل يوجد أسلوب آخر لتكميل الإنسان وتبصيره الحق وتعريفه الخير؟. هل يوجد شيء آخر، بعد أن يتقدم الوحى الأعلى فيحرك الواقف ويصلح المختل من هذا الجهاز الإنسانى العجيب، ثم يدفعه باسم الله فى طريق عتيدة واضحة الأهداف موائمة بطبيعته الزاكية كما تتواءم المسافة بين شريطى السكة الحديد وبين ص_239(4/250)
عجلات القطار المنسابة فوقهما... لا يوجد شيء آخر إلا ذلك الإسلام.. وذلك أساس خلوده.. ولقد قال أحد العلماء: إذا ثبت أن الإسلام هو الصراط المستقيم فلن يكون بعد محمد نبي، ولا بعد دينه دين.. ذلك أن الخط المستقيم هو أقصر صلة بين نقطتين ومن ثم فلا يمكن أن يتعدد. ولقد رأيت مبلغ الاستقامة فى تعاليم هذا الدين وكيف أنه رسم سياسة للإصلاح العام لا عوج فيها ولا تعقيب عليها. ومن المستحيل تصور قادم آخر من السماء يزيد حرفا أو يغير وضعا من جملة الشرائع التى جاء بها محمد بن عبد الله. والحقيقة أن كل ألم، أو اضطراب، أو فوضى تهز كيان العالم بين الحين والحين إنما مردها إلى عدم أخذه بهذا الدين وشروده عن صراطه المستقيم. إن الإسلام هو كلمة الحق الخاتمة، الجامعة المانعة، التى لا يتصور جديد بعدها، إلا أن يكون هذا الجديد لغوا، لا معنى له أو عبثا لا خير فيه. * * * ويسير علينا بعد هذا الوصف المجمل للإسلام أن نرى فروقا بين دعوته والدعوات التى سبقته. إن الرسالات السابقة كانت محلية موقوتة محدودة الزمان والمكان جهد أصحابها -دون غمط أو انتقاص- إنقاذ قبيلة من الناس من جهالات أو ضلالات فشت فيهم وكادت تودى بهم. فهم صلوات الله عليهم أطباء حاولوا أن يشفوا أقوامهم من علل غلاظ، وأقلهم استجيب له، وكثرتهم جحد حقها ونكر فضلها وهلكت أممهم صريعة بأدواء الكفر والعناد. كذلك كان شأن هود فى عاد، وصالح فى ثمود، وشعيب فى مدين، ولوط فى قرى المؤتفكة.. أما الرسالتان الكبيرتان اللتان نهض بهما موسى وعيسى فسرعان ما تسرب التحريف إليهما وغلب الدخن الكثير على أصولهما وفروعهما. هذا هو حصاد الماضى كله عندما نتأمل فى مصاير النبوات الأولى والدعوات السابقة.. ص_240(4/251)
أما الرسالة العظمى التى اضطلع بها خاتم الدعاة وسيد الهداة فإن القدر الأعلى زودها بما حفظ عليها صلاحيتها المطلقة وأبقاها إلى يوم الناس هذا، وإلى أن ينفخ فى الصور جماع الأشفية التى يتخلص بها العالم من سقامه، وينبوع الرحمة التى يستريح بها من آلامه وأن جحد الجاحدون: (وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا). إن المقارنة العابرة بين الرسالات الأولى والرسالة الخاتمة يظهر فيها الإسلام، وقد تفرد، فى طوله، وعرضه، وعمقه. فطوله يستغرق الأزمنة ويساير الخلود ويتجدد على الأعصار فليس بعده وحى ولا حاجة إلى شيء من ذلك. وعرضه يستوعب الأجناس كلها، فى القارات الخمس فهو يضمهم فى رحابه ويسعهم فى جنابه لا يختلف أسود عن أبيض أو أحمر. وعمقه يشمل الحقائق التى يفتقر إليها العالم فى شئونه جميعا ما فرط فى شئ منها ولا قصد في فتوى فقصر فى جواب. لقد تضمن الإسلام من العقائد ما لا يرقى إليه شك ومن العبادات ما يحفظ على القلب سناءه ومن المعاملات ما يشبع نهمة العالم مع كل تطور ومن الأخلاق ما يدعم الفضيلة ويمحق الشرور... وحملته -فى انتصارهم وانكسارهم- يخضعون للسنن العامة التى شرحنا جملتها آنفا. وما بد من رعاية هذه السنن فى كل عراك بين الإيمان والكفر وفى كل سباق إلى امتلاك زمام الحياة.. ص_241(4/252)
65- من مزاعم الروحية الحديثة جمعتنى مجالس طويلة بنفر ممن يستحضرون الأرواح. وتجاذبنا أطراف الحديث أمدا حول ما يقال فى هذا الموضوع المثير. والمرء لا يحتاج إلى ذكاء كى يستشف المبادئ والمقررات التى تمكن فى أطوار هذه النزعة المحدثة. وأنا فى هذه الصفحات أذكر قضية يختلف حكم الإسلام فيها مع رأى معتنقى هذه الروحية اختلافا واسع المدى. ولعل إحقاق الحق فى هذه القضية يضع الحدود لجدل كثير، ويغلق الأبواب أمام ترهات لا آخر لها. هل الأرواح فى العالم الآخر، أعنى فترة البرزخ، تستأنف نشاطها العام على نحو ما كانت تسير فى الحياة الدنيا، وإن كانت وسائلها فى عالمها الجديد أوسع دائرة وأعظم اقتدارا؟؟ إن بقاء الأرواح بعد الممات عقيدة لا ريب فيها، وهى عقيدة جميلة مشرقة حبذا لو ذكرنا الناس بها حينا بعد حين، فإن صورة الموت ترسمها الأذهان فى إطار قابض عفن. وأكثر الناس -فى هذا العصر- يظن الموت مرادفا للبلى والفناء ونهاية العهد بالإحساس والحياة والضياء، وهذه الأفكار من نضج المادة التى تسود عالمنا الأرضي، أو هى من بقايا الجاهلية الأولى فى فهم الوجود وقصة الخليقة والدين ضد هذه الأوهام ونصوصه جازمة بأن الآخرة حق، وأن الموت نقلة من عالم إلى عالم ومن وجود مستيقن إلى وجود مستيقن..! لكن هل الأرواح بعد هذه النقلة تستأنف سلوكها الأول - كما يقول معتنقو الروحية الحديثة- وأن بعضها يشتغل بالوعظ والإرشاد وبعضها يشتغل بالطب وعلاج المرضي. وبعضها يشتغل بالنصح الفردى وحل مشكلات عارضة وبعضها يتسكع دون عمل وبعضها يمد يده بالأذى للأحياء وبعضها يدور مذهولا لا يدرى أنه مات! هكذا يكتب الروحانيون فى رسائلهم بل إن بعض الأرواح عندما استحضر طلب "سيجارا"، يدخنه!!!! الخ. ص_242(4/253)
هل هذه سمات العالم الروحى ووظائفه؟ وهل صحيح أن ضروب الخدمة الاجتماعية تتاح لكثير من الأرواح لعلها ترقى وتنال رضوان الله وغفرانه، أو لعلها تكفر عما فاتها فى الماضى الأول أيام الحياة الدنيا؟! هنا نختلف مع دعاة هذه النحلة أشد الاختلاف. وتفترق بنا الطرق فيذهبون حيث شاءوا ونثبت نحن على ما بين الكتاب الكريم والسنة المطهرة. * * * الإسلام قاطع فى أن ميدان العمل الإنسانى هو هذه الحياة الدنيا. وأن المرء -فى فترة الأجل الموقوت له- يبتلى بفنون التكاليف، ويتعرض لامتحانات شتي، وأن نجاحه وسقوطه يتقرران جميعا عند انتهاء عمره على هذه الأرض وهو بالموت مباشرة يبدأ مثوبته أو عقوبته. قضى الأمر وطويت أوراق الامتحان ومن سجلاتها وحدها يكتب من أهل اليمين أو من أهل الشمال. ليس هناك مجال آخر لتكليف ولا تعرض آخر لامتحان ولا استئناف لحكم أو طلب لفرصة جديدة. فوق هذا الثرى وحده يكلف الإنسان أن يؤمن بإله لا يراه، ولكن يرى آثاره ويعرف أدلته. ويكلف بإيثار الخير وإن ضحى بشهوته العاجلة، ونزل عن رغباته الحاضرة ويكلف بالإعداد لليوم الآخر والبذر للحياة المستقبلة موقنا بعالم الغيب وإن كان مغمورا بعالم الشهادة. فوق هذا الثرى وحده وخلال العمر المقدور له يصنع الإنسان مصيره المرتقب ويستحيل أن تتاح له فرصة أخرى لمتاب إن كان خاطئا أو لارتقاء إن كان قاصرا فإن الموت فاصل قائم بين حياتى العمل، والجزاء. أو حياتى البذر والحصاد. واسمع إلى إجابة الله للمجرمين وهم يلقون جزاءهم العدل: ( وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير فذوقوا فما للظالمين من نصير). ص_243(4/254)
وهذه الإجابة الإلهية تكرار لما قد يسأله المجرمون عند ساعة الاحتضار. عندما تذهب السكرة وتجيء الفكرة عندما يتلهفون على ماض ضاع سدى فيقول أحدهم: ( رب ارجعون * لعلي أعمل صالحا فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون). نعم إلى يوم البعث لا مكان لعمل، لا استئناف لنشاط، لا فرصة لتوبة، لا مجال لترقيع ما فسد!! إن ميدان العمل المطلوب والتوبة المنشودة في هذه الدنيا وحدها والمرء فى عافية من بدنه وفسحة من أجله وإقبال من أمله. فإذا دنت ساعة الرحيل عن هذه الدنيا أخذ الكرام الكاتبون يطوون دفاترهم دون اكتراث لتوبة الغرغرة أو يقظة الضمير الصاحي بعد فوات الأوان. (إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب..). ( وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار..). والواقع أن قبول الإيمان من كافر فى هذه اللحظات أو قبول التوبة من مفرط، أشبه ما يكون بقبول الغش فى الامتحان، وحسبان الطالب الذى يتلقف عونا من هنا وهنا.. ليستطيع كتابة شيء فى ورقته -مساويا للطالب الذى عكف على الدراسة، وسهر الليالى فى انتظار هذه الساعة. وشتان بين الرجلين ومن ثم كان الجواب الأعلى لما قال فرعون (..آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين * آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين)؟ وهذا المعنى السارى فى آيات القرآن طولا وعرضا ترى مثله فى أحاديث النبى - صلى الله عليه وسلم - إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: "صدقة جارية، أو علم نافع، أو ولد صالح يدعو له". ص_244(4/255)
وتلك بداهة آثاره فى الدنيا تخلفه بعد حياته ويجرى عليه أجرها ما شاء الله. وفى الحديث "... فوالله ما بعد الموت من مستعتب، ولا بعد الدنيا من دار إلا الجنة والنار". وعن على رضى الله عنه ".... فإن اليوم عمل ولا حساب وغدا حساب ولا عمل". فكيف.. بعد عقيدة الإسلام الواضحة -على ما أسلفنا- يجيء قوم فيزعمون أن الأرواح تعمل بعد الموت، وأنها تشتغل بالطب والتعليم حينا والتسول والاعتداء حينا وأنها تشارك الناس أحوالهم وتقف حيث هى فى انتظار من يشير إليها لتحضر فى قفة أو دلو أو ما شاكل ذلك!!! إن الجزاء الذى صوره القرآن فى عشرات السور لا تلمح له أثرا بل تكاد تظنه صفرا فيما يصور به الروحيون مذهبهم العجيب فلا جرم أن نرى الذهاب إليه انصرافا عن الإسلام نفسه وريبة فى كتابه وسنته. إننى أعلم -كغيرى من المسلمين- أن الأرواح المجرمة تحبس فى سجنها الموحش القاسى وتلقى من العنت ما يشغلها عن السياحة والتسكع فى شتى القارات تنتظر من يحضرها لتسأل فتجيب. واعلم أن الأرواح الطيبة مرحة فى بحبوحة النعيم الإلهي، وأنها قد تعرف ما يلقى الأهل والأقربون. وأنها ترقب مجيئهم من دار الغرور إلى دار الحبور وأنها لا تتكلف تسبيحا وتحميدا فقد أصبح ذلك طبيعة لها كالتنفس لأهل الأرض. نعم نحن نعرف من كتاب ربنا وسنة نبينا أطرافا من ذلك الأمر المغيب وليس وراء ذلك العرفان إلا الظن الذى لا يغنى من الحق شيئا. ومع هذه المعرفة المستيقنة فلا بأس أن تتسمع أنباء هذه الكائنات التى قالوا: إنها أرواح تشتغل بهداية البشر؟ لقد تتبعت مواعظها وقرأت ما أملت من كتب وألفت من خطب فماذا وجدت؟ وجدت من خلال العبارات المحمومة المتلقاة أن الروحية دين جديد! له تعاليم جديدة! وسرعان ما وازنت بين هذا الدين وتعاليمه والإسلام الحنيف وما جاء به، فأدركت أن التعاليم الجديدة مجموعة خرافات نبتت من الأرض ولم تنزل من السماء وأن من أوحي بها ليسوا أرواحا هادية. وإنما هم(4/256)
مردة الجن.. وفى كلمة أخرى نستبين من دراسة هذه التعاليم الروحية ما يقطع بأنها فى واد، وأن الإسلام وكتابه ونبيه فى واد آخر. ص_245
66- حديث الشهر الأخذ بالثأر تفشت هذه الظاهرة فى قرانا تفشيا مثيرا، وتركت فى حياة الأفراد والجماعات جروحا غائرة، وخلفت وراءها من المخاوف والأحقاد ما يثير الحزن، ويبعث على القلق. وعلاج هذه العادة يتطلب بحثا عميقا عن عللها دون مواربة أو جبن فإن العلاج السطحى لها لم يزد الأمور إلا خبالا، وقد ظن البعض أن خطب الوعاظ، ونصائح الكاتبين، وروايات الممثلين قد تستطيع منع الرصاص من الانطلاق فى الظلام، أو منع الهراوات من تحطيم الرءوس. إن المواريث العربية فى دمائنا لا يمكن إنكارها وهى مواريث تجعل إحساسنا بالعزة الشخصية والكرامة الفردية إحساسا مضاعفا أو متطرفا فإذا رأى أحدنا أن الضيم لحق به وأن الدولة -فيما يري- تخلت عنه، انتصب هو للعمل بنفسه وأخذ حقه بيده لابد من رعاية هذه الحقيقة، وقد كانت شرائع القصاص التى أتى بها الإسلام وشريعة العفو عن الجانى التى دعمت جانب أولياء الدم، كانت عاملا حاسما فى منع الأخذ بالثأر. قال تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان..). ونعتقد أن قوانين العقوبات الحالية لو دخلها من الإصلاح ما يقربها من طبيعتنا العربية ومواريثنا الدينية لكان ذلك خيرا كثيرا. ذلك ومن الخير منع المثيرات التى يمكن اجتنابها فإن الإفراج مثلا عن القاتل بضمان مالى ومسيره بعد ذلك فى بلد ما رافع الرأس هو فى طبيعته استفزاز للأخذ بالثأر. حبذا لو أصلحنا هذه التشريعات على ضوء الفقه الإسلامى العادل الحبيب. ص_246(4/257)
السحر: السحر اسم شائع لمعنى غامض، ويمكننا أن نوضح أطرافا من هذا المعنى فى التفصيلات الآتية: ( أ ) تسخير بعض القوى المغيبة لإحداث أثر ما -يغلب أن يكون ضارا بشخص آخر... والقوى المغيبة موجودة بكثرة فى هذا الكون الكبير، والظن بأن العالم يقوم على العناصر المادية وحدها باطل، فما أكثر الأحياء وراء المادة، وما أوسع هذه الحياة التى لا تدرك.. والاتصال بهذه القوى المغيبة -على اختلافها- ليس فى مقدور كل بشر وفى عصرنا الحاضر يوجد وسطاء معينون للعمل بما يسمى مجالس تحضير الأرواح وهؤلاء الوسطاء يمتازون بخصائص بدنية تيسر لهم هذه الصلات والمهم أن السحر -فى عرف كثير من الأقدمين- كان يقوم على الاتصال بهذه القوى واستخدامها فى شئون مختلفة ولعل هذا ما تشير إليه الآية الكريمة ( واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر..). وقد حرم الإسلام الاشتغال بهذا العمل وعد السحر من الكبائر التى يعاقب عليها أحيانا بالقتل. وهذا الضرب من الأعمال المبهمة مجال واسع للادعاء والخرافة، وإن كان يصح أحيانا، والضرر الذى ينشأ عنه -حين يصح- يمكن تلافيه بقوة الإيمان وذكر الله، وتنقية الروح بحسن العبادة والإنابة. (ب) ويطلق السحر أيضا على التخييل بأمور تقوم على المبالغة والخداع، وإن اعتمدت أساسا على معرفة صحيحة ببعض خصائص الأشياء التى يدركها أولئك الخادعون وتغيب عن بال غيرهم من النظارة. وقد كان العلم المادى قديما يحتكر عند الكهنة ولذلك يسهل الإفادة من التوسع فيه، والإحاطة بحقائقه التى يجهلها الجمهور، ثم ينضم إلى ذلك كله نوع من الإبهام والشعوذة للتأثير فى النفوس عن نطاق واسع، ولعل من هذا القبيل ما كان يقوم به ص_247(4/258)
سحرة فرعون وقد وصف القرآن صنيعهم فقال: ( يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى) وقال: (سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم ). وعلى العموم فالسحرة قوم من الأفاكين الأشرار ينبغى أن نلفظهم، وأن نرفض دعواهم... الدعاء: الدعاء نداء الله عز وجل كى يفعل للإنسان ما يعجز عن القيام به عادة بعد استنفاذ الجهد وإنفاذ ما يقضى به قانون الأسباب والمسببات.. فلا مكان للدعاء حيث يستطيع المرء أن يعمل بجوارحه، وأن يشتغل بقواه، إلا أن يطلب السداد والتوفيق والقبول. وقد تندر العلماء بمن يصلى صلاة الاستسقاء وهو قريب من النهر!! ولا مكان للدعاء حيث تتجاهل سنن الله الكونية وتصادم القوانين التى سير بها هذا العالم المحكم. وقد تندر العلماء أيضا بمن يطلب ولدا دون أن يفكر فى الزواج!! الدعاء عبادة عظيمة فى مواطنها الواجبة وما أكثر هذه المواطن التى يحرج فيها الناس، ويبدو لهم ضعفهم ويشعرون فيه بالفقر إلى ذى الجلال ( وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون). ورحاب الحق لا تضيق بالخلق كافة لو احتشدوا يسألون ويضرعون، وكما قال الشاعر: "كلهم سائل، وأنت مجيب" تلك نعماك ما لها من نفاد والدعاء مجاب حتما إذا استجمع من إخلاص وصدق، غاية ما يقع فى دنيا الناس، أن الإنسان -لقصور فكره- قد يدعو بما يرى أنه مصلحته، وهو فى الواقع لو أجيب لأجيب إلى حتفه أو شقوته، ولذلك قد تؤجل الإجابة لحكم عليا أو تمنع، قال تعالى: ( ويدع الإنسان بالشر دعاءه بالخير وكان الإنسان عجولا). ص_248(4/259)
ومع ذلك فإن مجرد التوجه إلى الله بالدعاء، ولو لم يجب يستتبع من غفران الذنوب، وادخار الأجور بقدر ما دعا الإنسان وأمهل أو منع وقد وردت فى ذلك أحاديث شتى .. وقد قلنا: إن الدعاء عبادة، ومعنى هذا أن التوجه به لغير الله ضلالة وجهالة ( ..قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون). حول الإحصاء: تدل الإحصاءات التى تقوم بها الدولة فترة بعد أخرى على أن سكان الإقليم المصرى يزيدون زيادة رتيبة، وأن أعدادهم النامية تتجه إلى الصعود المستمر وهذه حقيقة تقابل بالسرور والحيطة معا وتجعل المعنيين بالإصلاح العام يتخذون العدة لتجد هذه الكثرة الوافدة ما تطلبه من رعاية، بل لتجد هذه الكثرة الوافدة ما تؤديه من واجبات نحو الرسالة العظيمة التى تقوم بها أمتنا وينهض عليها تاريخنا. إن نماء الأمة شيء عظيم ولعله استجابة لحكمة الشريعة فى حث الشباب على الزواج وحث الأسر على أن تقدم أولادا يحمون الذمار، ويساندون الحق، ويسابقون إلى المجد كما جاء فى الحديث "تناكحوا تناسلوا تكثروا فإنى مباه بكم الأمم يوم القيامة" "تزوجوا الودود الولود فإنى مكاثر بكم الأمم" والكثرة فى القديم والحديث من أسباب النصر ودواعى العزة ولذلك يقول الشاعر: ولست بالأكثر منهم حصى وإنما العزة للكاثر وذلك كله يوم تكون الكثرة المادية كثرة أدبية ويوم يكون ازدياد عدد الأمة زيادة فى قواها العاملة وامتدادا فى نشاطها وإنتاجها ويوم يكون شبابها وغناها جميعا هما نطاق الأمان الذى تدفع به اليأس وتدرك به الأمل كما قال الله فى بعض الأمم: ( ثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا). نعم فهذه الكثرة فى المال والبنين هى مدد الجيش الذى يصون به الحمى ويرد به العدوان. ص_249(4/260)
وهذه هى الكثرة التى يفاخر بها الدين ويجعلها من أهدافه فى البناء والإنشاء.. أما الكثرة التى تكتنفها الفوضى ويضعف فيها الحق فهى لا تسر ولا تعجب، قال تعالى : ( قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث فاتقوا الله يا أولي الألباب لعلكم تفلحون) وهذا النوع من الكثرة لا يمكن أن يكون موضع فخر أو مباهاة. ولا يمكن أن يكون مناط أمل أو مبعث سرور بل إن القرآن الكريم نبه فى غير موضع إلى ضرر هذا النوع من الكثرة ونهى عن متابعته ( ..وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون). وثبت من وقائع التاريخ أن القلة العاملة أفضل من الكثرة العاطلة. من هنا كان لزاما علينا أن نحول كثرتنا العددية إلى كثرة خلقية وأن نجعل من نمائنا المادى طاقة على البناء والصعود، وتمكينا لأمتنا من العمل والنهوض. ص_250(4/261)
67- ولو اتبع الحق أهواءهم ماذا ترى عندما تعبث الأيدى بأوراق اللعب، أو بأزهار النرد؟ إنها تلقى ما بها أو تستقبل ما أمامها دون أن تدرى عنه شيئا، ثم تتأمله بعد أن يقع لتعرف ماذا يحتوي! أترى الأطفال وهم يلهون بالألاعيب المهداة إليهم؟ إنهم يرمونها يمنة أو يسرة ويحركونها بضعف أو قوة، دون أن يكون لهم هدف أكثر من حب العبث وطلب المرح. هذه الحركات التى تلمحها فى الصغار والكبار لا يمكن أن توصف بأنها مقرونة بحكمة أو محكومة بقانون، أو مصوغة فى إطار من سداد الفكر ودقة الغاية، إنها حركات وحسب. ونحب أن نسأل: هل خلق العالم جاء على هذا الغرار؟ فركمت موارده بعضها فوق بعض دون قصد وسيرت حركاته علوا وسفلا دون ضبط، كأن الخالق أراد من هذا الصنيع اللهو والتسلية! والجواب السريع لا، فإن مبدع هذه العوالم قال فى وضوح: ( وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين * لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين ). وفى آية أخرى بين أن كيان هذا العالم تضام وتماسك. أو تحرك وانطلق وفق نظام رائق وسنن متسق وغاية مرسومة ومراحل معلومة. (وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين * ما خلقناهما إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون). ونريد أن نقف وقفة ذكية فاحصة عند كلمة "بالحق" هذه، فإنها تكررت فى كتاب الله عشرات المرات وهى فى شتى مواضعها تعني: أن الحياة لا تسير خبط ص_251(4/262)
عشواء، وإن بناء الكون قائم على بصر نافذ وأوضاع اكتنفها من ألفها إلى يائها إعداد حكيم وتنظيم مضبوط يستحيل أن يتطرق إليه خلل أو ينتابه عوج. فكل قطرة فى المحيطات الفسيحة أخذت سمتها والتقت مع سواها وتهيأت لحمل السفن الماخرة، أو صلحت لحياة الأسماك والحيتان، وثارت موجا عاتيا أو حالت على هذا النحو وفق قانون عتيد وخطة مرسومة وصل العلم البشرى إلى جزء منها وربما وصل إلى أجزاء أخرى مع إدمان النظر والتفكير. وكل ذرة فى القارات الراسية من أرض مخصبة أو مجدبة تماسكت مع غيرها وصلحت مهادا للناس يستخرجون دفائنها ويرتفقون ظواهرها، ويجوبون أقطارها ويعمرون فجاجها.. كل ذلك ما يتم إلا فى نطاق التخطيط الأزلى الذى وضعه البارئ الأعلى للكائنات كلها فهى مطبوعة به منساقة إليه لا تعرف غيره ولا تحيد عنه. أجل. فالنظام الشامل يسود كل حركة وسكتة تتعرض لها الكائنات جملة وتفصيلا وعندما وجه فرعون إلى موسى وأخيه هذا السؤال: "من ربكما يا موسي؟ قال: ربنا الذى أعطى كل شئ خلقه ثم هدى ". إن هداية كل شيء فى الحياة ليقوم بوظيفته المطبوع عليها هو "التقدير" الذى سير الله به هذه الحياة تسييرا متقنا.. (سبح اسم ربك الأعلى * الذي خلق فسوى * والذي قدر فهدى ) وذلك هو معنى الحق الذى قامت به السموات والأرض فلا تحسبن نبتا ينبثق من ترابه كما يحلو له إن مقادير الأغذية التى يحملها أو الروائح التى يطلقها عبئت فيه وفق سنن بينة قيمة. ولا تحسبن نجما يخترق هذا الفضاء متجولا فهو يسرع إذا أحب ويبطئ إذا أحب. أنه يجرى تبعا لقوانين قيد بها، وقوى حبس فى حدود أذن الله بها، ولم يأذن بغيرها. وقد وزعت هذه الإيحاءات من بدء الخليقة توزيعا لا يلحقه اضطراب ولا ترقى إليه فوضى وإبرازا لهذه الحقيقة قال الله جل شأنه ( ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين). ص_252(4/263)
( فقضاهن سبع سموات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم). ذلكم هو الحق الذى انساب فى أوصال العالم كما تنساب الروح فى البدن، والذى تكرر كثيرا فى سور القرآن الكريم. ( ما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى والذين كفروا عما أنذروا معرضون). ( وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق وإن الساعة لآتية فاصفح الصفح الجميل). ( أو لم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى وإن كثيرا من الناس بلقاء ربهم لكافرون). ولما كان القرآن هو الكتاب السماوى الأوحد الذى لفت الأنظار بقوة إلى كتاب الكون المفتوح وأغراها بفهم أسراره وسبر أغواره صح أن يقول الله فى وصفه ( وبالحق أنزلناه وبالحق نزل وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا). وبديهى ان يكون التأمل فى الكون مفتاحا لإدراك عظمته وبالتالى مفتاحا لإدراك عظمة البارئ الذى أبدعه! إن التأمل فى صورة مليحة التقاسيم جميلة الرواء طريق طبيعى لتعظيم من رسمها والاعتراف بعلو فنه والتأمل فى قصر منيف الشرفات رحب الأكناف متين الدعائم طريق طبيعى لإكبار بانيه والتنويه بهندسته وعبقريته. فلا غرو أن يكون النظر إلى الأرض والسماء وما بينهما طريقا طبيعيا لإكبار من سمك هذا السقف المحفوظ ومهد هذا الفراش المبارك وبث فى تضاعيف الخلق من أسرار الإبداع وروائع القدرة ما ينطق إليكم بالإعجاب. ص_253(4/264)
( والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون * والأرض فرشناها فنعم الماهدون * ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون ). بيد أن بعض الناس انقلب فى تفكيره هذا المنطق الطبيعى ونظر إلى القوانين اللازمة الدائمة الملحوظة فى بناء هذا الكون ثم أخذ يتغزل فيها ويتحدث عنها وينسب إليها ما يشاء. فإذا وجد على قضبان السكك الحديدية قطارا منطلقا يخترق الريح قال، ما أروع هذه العجلات أنها تدور بقوة لا تهدأ ما أقوى الأذرعة التى تغمرها. إن جلدها على أداء هذه الوظيفة يستحق الثناء، إن العربات المجرورة تتحسس طريقها بحذر وراء القاطرة الذكية. وينتهى هذا الوصف بأن القطار كائن عاقل أوجد نفسه بنفسه! وينظر مثلا إلى المصباح الكهربائى فيقول: إن مفتاح التيار يرقب الأصابع التى تحركه والتيار السالب فى شوق حار إلى التيار الموجب كى يتعانق وإياه ويمتزج به وتضاء الحجرة وينتهى هذا الوصف، بأن الكهرباء كائن يدرى ما يصنع عندما يحرك آلة واقفة أو يضيء مكانا معتما! وربما ظن القارئ أن هذا الكلام خيال شاعر سخيف، أو تصور طفل غرير! لكننا نسارع إلى زيادة دهشته فنقول له.. بل هذا الكلام تفكير علمى لدى بعض الناس! هذا المنطق الصبيانى هو للأسف محاولة علمية لتفسير لغز الحياة! وحل مشكلة الوجود! وبيان أن العالم مادة وحسب، وأنه لا إله...! هذا المنطق يريد أن ينقل خصائص الألوهية إلى المادة نفسها جاعلا السنن الكونية علامة تفكير واختيار فى الأحياء والجمادات على سواء.. يقول الكاتب: اسمعوا.. هذه ليست نكتة- إن الوردة فيها عقل وسنبلة القمح فيها عقل وشجرة البلوط لها عقل.. وإن كان عقلا ثخينا مثل جذعها الثخين. إن حركة زهرة عباد الشمس وهى تلوى عنقها لتتجه نحو الشمس.. لا تختلف ص_254(4/265)
كثيرا عن حركة النحلة وهى تطير محلقة إلى الحقل لتجمع العسل.. ولا عن حركة الإنسان الواعية العاقلة وهو يطير ليقتحم المخاطر مستهدفا رسالة سامية. إن الثلاث منظومة متصلة الحلقات، الفارق بينها فارق فى الدرجة فقط، إن حركة زهرة عباد الشمس فى بساطتها.. عقل.. فما هو العقل؟ إنه قدرة تصرف وتكيف بالبيئة إنه فى كلمات قليلة بسيطة.. القدرة على اتخاذ موقف انتقائى أكثر ملاءمة للحياة فى كل لحظة والزهرة حينما تلوى أوراقها نحو الضوء تتخذ موقفا انتقائيا أكثر ملاءمة لحياتها.. إنها تتحرك حركة عاقلة. ومعنى هذا أن العقل ليس شيئا جديدا فى الإنسان.. إنه فى الطبيعة الحية كلها.. كل الفرق أن الإنسان لديه وسائل أكثر يتصرف بها ويحتال على بلوغ أهدافه، الإنسان بحكم كونه مخلوقا معقدا يملك أجهزة متعددة كل منها على درجة فائقة من التخصص.. فهو يملك يدين فيهما عشرة أصابع.. ويملك لسانا ناطقا.. ويملك عينين مبصرتين.. وأذنين حادتين.. وبشرة حساسة وأنفا شماما.. وكل هذه الأجهزة فى خدمة عقله. الإنسان حيوان إقطاعى عنده عشرة آلاف فدان من المواهب وعمارات من الأعصاب والحواس المرهفة. وهو لهذا ظلم نفسه وظلم غيره من المخلوقات حينما اعتبر نفسه الوحيد العاقل بينهما.. وهذه خرافة إقطاعية غير صحيحة. العقل باطن كامن فى كل الطبيعة الحية.. ومنذ أن انبثت الحياة فى الأميبا الحقيرة ذات الخلية الواحدة.. وحركة هذه الأميبا فيها كل الحذر والتلصص والخبث والنية التى فى الإنسان لا جديد فى الإنسان.. وإنما هناك تطور فقط.. أقرأت هذا الكلام العجيب ووعيت مراميه؟ إن أرضنا هذه لم يصنعها أحد خارج عنها، فإن كل ذرة فيها تؤدى رسالتها وفق عقلها الخاص ورأيها المستقيم! فإذا خرجت بعرة من دبر بهيمة، فبرأيها خرجت وبرغبتها وقعت حيث وقعت! وإذا تحركت جرثومة بمرض فبعقلها سارت وبمشيئتها أصابت من أصابت..! وهذا الكلام ليس نكتة بل هذا هو التفكير العلمى كما استقر فى أذهان(4/266)
بعض الغافلين وهو الحل الموفق للغز الحياة كما يتخيل نفر من الحاقدين على الله الكارهين لاسمه المحاولين إطفاء نوره.. والجنون فنون. ص_255
68- لغز الحياة بعض الناس يتناول الحقائق العليا بعبارات ساخرة فلا حرج علينا إذا دافعنا عن قضايا الإيمان بأسلوب يمزج بين الجد والتهكم. وليعذرنا القراء إذا رأونا نسوق الأمثلة والشواهد جامعة بين هذه الأطراف البعيدة. لو قيل لك إن إسكافا فى إحدى حارات القاهرة شارك -بعلمه- فى إرسال صواريخ الفضاء! وبعث الأقمار المصنوعة! فماذا تقول؟ ستقول يقينا: هذه أضحوكة! لماذا؟ لأن إطارة هذه الأقمار توفر عليها نفر من العلماء العمالقة أتقنوا من الدراسات الكونية ما يعجز أمثالهم عن مناله. إن سبعين قنطارا تنطلق فى الفضاء وتعود وفق خطة مرسومة متحدية قوانين الجاذبية وعواصف المجهول عمل هائل، تراصت عقول كبيرة فى إتقان كل أنملة منه. وليس ثم مجال للقاصرين والجاهلين يتحمل وجودهم بله مشاركتهم فما للأساكفة وهذا الأفق؟ ولو قيل لك: انظر هذا القصر الوسيق الأركان السامق البنيان! إن أحد البغال التى تشد عربات النقل هو الذى شاده!! إنك -بداهة- ستثق من أن القائل قد جن، لماذا؟ لأنك تعلم أن أفكارا نيرة وأيديا قادرة هى التى خططت الشكل، ثم أقامت الأركان وصاغت الأبواب والنوافذ ونسجت شبكة الضوء والماء ووزعت عليه علوا وسفلا، أنواع الطلاء.. وأنى للبغال كلها هذه القدرة؟ ولكن العقل الإنسانى الذى يستخف هذه الفروض لا يزال يهوى عند بعض الناس حتى يحول هذه الفروض الغيبية إلى حقائق محترمة. إطارة قمر صغير يحتاج إلى ذكاء لامع وعلم واسع، وتقدير دقيق، وبصر عميق. أما إطارة الألوف المؤلفة من الكواكب الضخمة الرحبة فلا تحتاج إلى شيء من هذه الصفات. ص_256(4/267)
إن إسكاف أفندى بغبائه هو الذى يطيرها ويديرها!! بناء بيت محدود يحتاج إلى هندسة وقدرة وفن وإبداع وهذه الصفات لابد أن تكون طبعا فى ذات لا فى فراغ. أما بناء الكون الكبير الطويل العريض فلا يحتاج إلى شيء من هذه الصفات. إن بغل أفندى يستطيع ببهيميته أن يضع الرسم، ويبرز البناء.. إن الإيجاد والتدبير وظائف عالية لا يمكن أن تتم إلا إذا تصورنا إرادة عليا وقدرة عليا وحكمة عليا وعلما أعلى وإبداعا أعلي. وهذه الصفات لا تتصور إلا فى ذات المريد القادر الحكيم العليم بديع السموات والأرض ذى الجلال والإكرام. هذه بداهة لا تحتاج إلى كد الذهن، وإجهاد الفكر، ومع ذلك فإن أحد الكتاب أخذ يتناول لغز الحياة لماذا؟ ليحل هذا اللغز على أساس أن إسكافا طير القمر الصناعى وأن بغلا بنى أهرام الجيزة.. وأن شيئا باطنا فى تراب الارض هو الذى أنبت سنابل القمح ولف كل حبة فى غلافها ونسقها صفوفا متراكبة وأودع بها النشا والزلال والسكر.. إلخ. شيء باطن فى تراب الأرض لا عقل له ولا إحساس ولا مشيئة ولا تدبير هو الذى صنع هذا. هكذا يريد منا أن نفهم وأن نصدق.. أنها غرائز فى الطين -ليس لها مصدر إلا الطين- جعلت هذا الطين ينبثق عن الحدائق الزاهرة، والحقول العامرة. فما تلمح على صدور الأغصان من ثمار، وما تشم رائحة من أزهار، وما تقيم به حياتك من عناصر طيبة كمنت فى هذه الحبوب المحصودة والفواكه المجنية، هذا كله، من صنع "العلامة طين أفندي" قام به من تلقاء نفسه فلا ألوهية هنالك ولا وجود أعلي. وطين أفندى هذا هو أخو إسكاف أفندى الذى شارك علماء الروس والأمريكان تطيير أقمارهم!!! لا إله والحياة مادة هكذا يريد أن يعلمنا الكاتب البائس الباحث عن حل للغز ص_257(4/268)
الحياة! أسمعه يقول: "ما الحياة؟ وما سرها؟ من الذى علم الكتكوت أن يكسر البيضة عند أضعف أجزائها ويخرج..؟ إنه طبعا اهتدى إلى ذلك بعقله الخاص. "من الذى علم الطيور الهجرة عبر البحار والصحارى إلى حيث تجد الغذاء الأوفر والجو الأحسن وإلى حيث تتلاقح وتتوالد..؟ ومن الذى يسدد خطاها طول هذه الرحلة من ألوف الأميال فلا تضل ولا تتوه؟" إنها طبعا عرفت ذلك بعبقريتها الملهمة! "من الذى علم دودة القز أن تنسلخ من ثوبها مرة بعد أخري، ثم تنزوى فى ركن لتبنى لنفسها شرنقة من حرير تنام فيها ليالى طويلة مثل أهل الكهف، ثم تخرج منها فراشة بيضاء جميلة؟ يقول الكاتب الألمعي: إن هذا الانتقال المنظم الدقيق من نمط فى الخلق إلى نمط آخر هذا التطور من دودة إلى حشرة والذى تتعاون فيه الألوف المؤلفة من الخلايا يحدث تلقائيا بلا معلم؟" أى ليس هناك ملهم من الخارج تولى هذا الامر وأشرف عليه، إذن كيف حدث؟ يقول: "إن المعلم هو الفطرة المرشدة المغروسة فى المادة الحية بطريقة لا يعرفها أحد..." والطريقة التى لا يعرفها أحد، هذه هى الحل الموفق المحترم للغز الحياة!! قل أى شيء فى قطع صلة الموجودات ببارئها الأعلى يكن الكلام علما تقدميا مسموعا مهما كان الكلام سخيفا سمجا. النطفة تحولت إلى إنسان سوى العضلات مكتمل الحواس، ذكى العقل، لا لأن موجدا أعلى تولى ذلك وأشرف عليه، بل لأن النطفة من تلقاء نفسها مشت فى هذا الطريق وبلغت تمامها كما يتحول الشخص المفلس إلى غنى مكثر بجده واجتهاده..!! هذا هو منطق العلم، ولا بأس أن نتمشى مع هذا المنطق فى مراحل خلق الإنسان لتستقر على حقيقة واضحة فيه. يبدأ وجود الإنسان عقيب التقاء الحيوان المنوى القادم من الذكر بالبويضة المتخلقة فى الأنثى بعد طهرها. والعلماء يقولون: "إن الحيوان المنوى كائن عجيب فهو مع ضآلته المتناهية يحتوى على خصائص الرجل المادية والمعنوية وعنه تكون وراثة المشابه فى طول ص_258(4/269)
القامة وقصرها مثلا، فى سواد الشعر أو شقرته، فى لون الجلد، فى حدة المزاج والذكاء أو فى ضد ذلك.... الخ. ونسأل: من صنع هذا الكائن العجيب؟ أهو الرجل؟ أنا وأنت خلقنا هذا الحيوان وأودعنا فيه أسرار السلالة البشرية والمواهب الشخصية؟ لا بداهة، فما يذكر أحد منا أنه فعل شيئا من هذا! أم أن لقمة الخبز التى أفلتت من بين الأسنان أخذت تكافح فى سبيل الترقى فتحولت من تلقاء نفسها إلى دم، ثم إلى مني؟ إنه شيء مضحك أن نتصور هذه اللقمة من الخبز قد رسمت لنفسها خطة كاملة لإيجاد بشر أو للتحول إلى بشر يمشى على ظهر الأرض. إذن من الذى خلق هذا الحيوان وجعل فى كيانه الدقيق مشروع بناء انسان؟ ليس إلا الله!! (أفرأيتم ما تمنون * أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون ). إن هذا الخالق الكبير يحكم الأسباب ولا تحكمه الأسباب، وهو مستطيع أن يخلق البشر بوسائط أخرى غير ما يعرف فى النشأة الأولى للإنسان الآن. ولذلك يقول بعد الآيات السابقة: ( نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين * على أن نبدل أمثالكم وننشئكم في ما لا تعلمون ). ولنتابع النظر فى أطوار خلق الإنسان بعد النطفة المعلومة أنه يتدرج فى أعماء الرحم آخذا طريقه إلى التمام ترى من يشرف على تكوينه وتصويره، الأب أم الأم؟ إن دور الأب انتهى فماذا تصنع الأم فى تطوير هذا الجنين؟ من الذى يشق الأجفان ليضع العين المبصرة ومن الذى يصنع الآذان ويضع فيها حاسة السمع ومن؟ ومن؟..... الخ. إن الجنين فى بطن الأم تحت أمعاء مشحونة بالطعام والفضلات ووسط أجهزة لا تعى إلا ما سخرت له من وظائف معينة، فهل يراد منا أن نتصور الخالق للسمع والبصر والفؤاد هو الجهاز البولى أو الجهاز الدوري. إننا نتصور بغلا يبنى الأهرام، ولا نتصور هذا الذى يفترضه الملحدون حين ينكرون الألوهية فى هذا المجال الناطق باسمها الدال على عظمتها. إن الخلق يا أولى الألباب وظيفة لها مؤهلات، إن إيجاد شيء من عدم أو من ص_259(4/270)
غير عدم يقتضى أوصافا معينة لابد منها، إن تجميع آلات الراديو ووصلها بالتيار لتنطق عمل لا تطيقه دابة من الدواب ففاقد الشيء لا يعطيه، إنما يستطيع هذا امرؤ له عقل وخبرة والذين يتصورون العالم المنسق الرتيب قد كونته مادة لا روح بها ولا وعى قوم يريدون أن يشيعوا غفلتهم أو تغفيلهم بين الناس وهيهات..!! قال لى أحد هؤلاء: أتنكر نظرية التطور فقلت له: لنفرض جدلا أن نظرية التطور أضحت حقيقة علمية ثابتة وليست نظرية يمكن أن يعدل العلماء عنها إلى تفسير أصدق لأصل الأنواع فماذا تفيده تلك النظرية؟ هب الإنسان كان أولا "أميبا" ثم ارتقى حتى أصبح كما هو الآن، أفمعنى ذلك أنه لا إله؟ كلا إن الزعم بأن هذا التطور يتم من تلقاء نفسه لأن بالأشياء خصائص تجعلها تتدحرج من فوق إلى تحت أو تتدحرج من تحت إلى فوق، هكذا من غير مؤثر خارجي، زعم فارغ من العلم والمنطق!! إنك تتصور فى تراب الحقول الذى تأنقت فوقه الأزهار والأثمار عبقرية مصورة خلاقة وأنا لا أتصور فى تراب الحقول شيئا من هذا وأرجع وجود الأزهار والأثمار إلى كائن أعلى هو الجدير بأن يسمى الخالق المصور. إنك تستقبل الوليد حين يتفتح عنه الرحم زاعما أن فى جسم الأم المصانع التى نسجت اللحم وأنشأت العظم وأوجدت المخ قابلا للذكاء والتفكير وأنا لا أرى فى جسم الأم إلا مجالا لعمل المشرف الأعلى، الذى يقول: ( ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين * ثم جعلناه نطفة في قرار مكين * ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين ). إنك تنظر إلى القصر المشيد فتقول: بناه ما فى البلاط من خصائص، وما فى الأخشاب من طبائع! وأنا أقول لا بل مهندس معه أدوات التفكير والتنفيذ. إن ما تسمونه علما هو الجهل بعينه ( أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا). ص_260(4/271)
69- التربية بين الكبت والإباحة كان من أثر انتشار المذاهب المادية فى عصرنا الحاضر أن تغيرت القيم الخلقية تغيرا كبيرا وأصبحت الفضائل النفسية عند كثير من الناس عبئا لا ضرورة له، بل عبئا ينبغى الخلاص منه وترك النفوس تسترسل مع هواها دون معاناة لكبته. واستوعر الشباب ارتقاء المعالى وتسنم الكمال، وليتهم -لما أخلدت بهم أهواؤهم إلى الأرض- اعترفوا بالقصور، وتواروا بخزيهم. لا، إنهم شرعوا يهونون من شأن الخلال الكريمة التى عجزوا عن تحصيلها وراحوا يصفونها بأنها قيود على الطبيعة البشرية تورث الضر والاكتئاب..!! ومن هنا كانت السمة البارزة فى عصرنا المسارعة فى إشباع الهوى واسترضاء الغرائز الدنيا حتى تروي. ورى هذه الغرائز -عن طريق الحرام- لا يزيدها إلا ضراوة فهى تطلب المزيد دون أن تدرك الشبع. والمجتمع البشرى الذى تدور حركاته على هذا المحور مجتمع طافح الإثم سييء العقبى تطيش به نوازع الشره، والأثرة، وتتولد فيه مشاعر الحسد والبغضاء، وقلما ينجو من إثارة الفساد وسفك الدماء. وتلك آفة الحضارة بعد ما زهدت فى الدين وتبرمت بتعاليمه ( فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم * أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم). والحق أن اتباع الهوى إن كان يطمس على حواس الأفراد فهو -على المجتمعات الضالة- يضرب ليلا طويل الظلام، بارد الأنفاس، بعيد الفجر. ونريد أن نسارع إلى نفى شبهة تروج عند الجاهلين بالإسلام هى أنه يحرم الناس أمورا كثيرة ما تطيب الحياة إلا بها، ويعترض رغبات شتى ما يستريح الخلق إلا بإشباعها. ص_261(4/272)
وهذا خطأ فإن الإسلام ما حرم طيبا، ولا حظر خيرا، وكل ما تعتدل به الطبيعة البشرية وتستقيم فهو مباح لها. إن الله ما حرم على الناس إلا ما علم أنه يزيغ بهم عن الصراط، ويسارع بهم إلى الشر. والإسلام لم ينكر قط الطبيعة المادية للإنسان ولا حقوق الفترة التى يقضيها على ظهر هذه الأرض. غاية ما صنع أنه ذكر الإنسان بأنه مادة وروح وأن صلته بالسماء أعرق من صلته بالأرض، ولذلك ينبغى أن يرعاها وأن يلتزم مطالبها..!! وفى أثناء وفائه بحقوق هذه الصلة العليا سوف تنازعه نفسه أن يتنكر لها وأنه يتمرد عليها وهنا يجب أن يكبح جماحها وأن يكرهها على قبول ما يضايقها. ومجاهدة النفس فى هذا المضمار خلق لا ينفك عنه مؤمن ولا يسوغ استثقال أمره أو الترخص فيه. وإنما ترتفع منازل المؤمنين ويتألق جبين أهل التقوى بمقدار انتصارهم على شهواتهم وامتلاكهم لزمام رغباتهم. إن العراك الباطنى لا ضجيج له ولا سلاح فيه ولكن هذا العراك أخطر فى نتائجه من المعارك التى تنتشر فيها الأشلاء وتبذل فيها الدماء. ذلك، لأن جهاد النفس هو الطريق الحقيقى لبلوغ القمم التى تجعل الإنسان يحتضن المثل العليا ويبذل دونها النفس والنفيس وقد جاء فى الأثر أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال عقب العودة من إحدى الغزوات: "رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر".. قال عمر بن الخطاب "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا، فإنه أهون عليكم فى الحساب غدا أن تحاسبوا أنفسكم يوم القيامة وتزينوا للعرض الأكبر ( يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية). عن الحسن قال: "إن المؤمن قوام على نفسه، يحاسب نفسه لله عز وجل وإنما خف الحساب يوم القيامة على قوم حاسبوا أنفسهم فى الدنيا وإنما شق الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة". ص_262(4/273)
إن المؤمن يفجؤه الشيء يعجبه فيقول: والله إنى لأشتهيك وإنك لمن حاجتى ولكن -والله- ما من صلة إليك، هيهات هيهات، حيل بينى وبينك. ويفرط منه الشيء فيرجع إلى نفسه فيقول: "ما أردت إلى هذا، مالى ولهذا والله لا أعود إلى هذا أبدا إن شاء الله". إن المؤمنين قوم أوثقهم القرآن وحال بينهم وبين هلكتهم. إن المؤمن أسير فى الدنيا يسعى فى فكاك رقته لا يأمن شيئا حتى يلقى الله عز وجل يعلم أنه مأخوذ عليه فى سمعه وبصره ولسانه وجوارحه. وعن الحسن فى وصية لقمان لابنه: "يا بنى إن الإيمان قائد والعمل سائق والنفس حرون، فإن فتر سائقها ضلت عن الطريق، وإن فتر قائدها حرنت فإذا اجتمعا استقامت". إن النفس إذا أطمعت طمعت وإذا فوضت إليها أساءت وإذا حملتها على أمر الله صلحت وإذا تركت الأمر إليها فسدت. فاحذر نفسك واتهمها على دينك وأنزلها منزلة من لا حاجة له فيها ولابد له منها. وإن الحكيم يذل نفسه بالمكاره حتى تعترف بالحق وإن الأحمق يخير نفسه فى الأخلاق فما أحبت منها أحب وما كرهت منها كره. وحدثنا أبو عبيدة الناجى أنه سمع الحسن يقول: حادثوا هذه القلوب، فإنها سريعة الدثور، واقترعوا هذه الأنفس فإنها طلعة، وإنها تنازع إلى شر غاية. وإنكم إن تقاربوها لم تبق لكم من أعمالكم شيئا فتصبروا وتشددوا، فإنما هى ليال تعد وإنما أنتم ركب وقوف، يوشك أن يدعى أحدكم فيجيب ولا يلتفت، فانقلبوا بصالح ما بحضرتكم. إن هذا الحق أجهد الناس، وحال بينهم وبين شهواتهم، وإنما صبر على هذا الحق من عرف فضله ورجا عاقبته.(4/274)