المقدمة يعد فضيلة الشيخ/ محمد الغزالى من أبرز علماء الأمة الإسلامية ومفكريها بالقرن العشرين الذين أثروا الحياة الدينية والفكرية بآرائهم المتجددة فى سبيل تنوير وتبصير المجتمع المسلم بأمور دينه. وقد كان لآرائه وأفكاره الدينية المتوازنة بين إصلاح الإنسان وإعمار الدنيا وإعمار الآخرة أثره البالغ فى إحياء وبعث الروح الدينية الصحيحة فى نفوس العديد من المسلمين ليس فقط بمصر أو العالم العربى وإنما على نطاق العالم الإسلامى بأثره. وقد كان أهم ما يتميز به فضيلة الشيخ المجدد/ محمد الغزالى جرأته فى الحق حتى أصبح رائدا لمنهج يعتمد على الفهم الصحيح للنصوص القرآنية والأحاديث الصحيحة وسيرة السلف الصالح والمصلحة العامة للمسلمين ومتطلبات العصر. ولهذا فقد اتفق من اتفق معه واختلف البعض حول آرائه وفتاواه العصرية ولكن من المؤكد أن الجميع قد انجذب لسحر بيانه ووضوح حجته. ومن خلال ذلك الزخم الهائل من تراث فضيلة الشيخ/ محمد الغزالى قام الأستاذ/ عبد الحميد حسانين محمد بجهد طيب فى جمع المقالات غير الدورية والتى قام الشيخ بنشرها فى كبرى المجلات والدوريات بأنحاء العالم الإسلامى عسى أن ينتفع المسلمون بآرائه وأفكاره. وقد عنيت دار نهضة مصر بنشر هذه المقالات فى أجزائها الثلاثة رغبة فى الحفاظ على تراث الشيخ الجليل.
ص _005(1/1)
التربية الدينية أولا.. فى صدر تاريخنا، وعلى امتداده مع الزمن، كان العالم الإسلامى يعرف بحبه للجهاد، وارتضائه لأشق التضحيات كى يحق الحق ويبطل الباطل. كان هذا العالم الرحب عارم القوى الأدبية والمادية حتى يئس المعتدون من طول الاشتباك معه فقد كبح جماحهم، وقلم أظافرهم، ورد فلولهم مذعورة من حيث جاءت، أو ألحق بهم من المغارم والآلام ما يظل بينهم عبرة متوارثة وتأديبا مرهوبا... ويرجع ذلك إلى أمور عدة، أولها أن الحقائق الدينية عندنا لاتنفك أبدا عن أسباب صيانتها ودواعى حمايتها، فهى مغلفة بغطاء صلب يكسر أنياب الوحوش إذا حاولت قضمها وذلك هو السر فى بقاء عقائدنا سليمة برغم المحاولات المتكررة لاستباحتها، تلك المحاولات التى نجحت فى اجتياح عقائد أخرى أو الانحراف بها عن أصلها.. ثم إن الإسلام جعل حراسة الحق أرفع العبادات أجرا، أجل فلولا يقظة أولئك الحراس وتفانيهم ما بقى للإيمان منار، ولاسرى له شعاع "قيل يارسول الله: ما يعدل الجهاد فى سبيل الله؟ قال: لا تستطيعونه! فأعادوا عليه مرتين أو ثلاثا، كل ذلك يقول: لا تستطيعونه! ثم قال: مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله لا يفتر من صلاة ولا صيام... حتى يرجع المجاهد فى سبيل الله". وإذا كان فقدان الحياة أمرا مقلقا لبعض الناس، فإن ترك الدنيا بالنسبة إلى المجاهدين بداية تكريم إلهى مرموق الجلال شهى المنال حتى إن النبى - صلى الله عليه وسلم - حلف يرجو هذا المصير "والذى نفس محمد بيده لوددت أن أغزو فى سبيل الله فأقتل، ثم أغزو فأقتل، ثم أغزو فأقتل" فأى إغراء بالاستماتة فى إعلاء كلمة الله ونصرة الدين أعظم من هذا الإغراء؟ لقد كانت صيحة الجهاد المقدس قديما تجتذب الشباب والشيب، وتستهوى الجماهير من كل لون، فإذا سيل لا آخر له من أولى الفداء والنجدة يصب في الميدان المشتعل، فما تضع الحرب أوزارها إلا بعد أن تكوى أعداء الله، وتلقنهم درسا لا(1/2)
ينسى.. ص _006
هل أصبحت هذه الخصائص الإسلامية ذكريات مضت، أم إنها محفورة فى عقلنا الباطن تحتاج إلى من يزيل عنها الغبار وحسب؟!! إن الاستعمار الذى زحف على العالم الإسلامى خلال كبوته الأخيرة بذل جهودا هائلة لشغل المسلمين عن هذه المعاني، أو لقتل هذه الخصائص النفسية فى حياتهم العامة، وذلك ليضمن فرض ظلماته ومظالمه دون أية مقاومة!! وقد توسل إلى ذلك بتكثير الشهوات أمام العيون الجائعة، وتوهين العقائد والفضائل التى تعصم عن الدنايا، وإبعاد الإسلام شكلا وموضوعا عن كل مجال جاد، وتضخيم كل نزعة محلية أو شخصية تمزق الأخوة الجامعة، وتوهى الرباط العام بين أشتات المسلمين.. وقد أصاب خلال القرن الأخير نجاحا ملحوظا فى سبيل غايته تلك. ومن ثم لم تنجح محاولات تجميع المسلمين لصد العدو الذى جثم على أرضهم، واستباح مقدساتهم.. وما قيمة هذا التجميع إذا كان الذين ندعوهم قد تحللوا من الإيمان وفرائضه، والقرآن وأحكامه؟ إن تجميع الأصفار لا ينتج عددا له قيمة!!وإن الجهد الأول المعقول يكمن في رد المسلمين إلى دينهم، وتصحيح معالمه ومطالبه في شئونهم، ما ظهر منها وما بطن... عندئذ يدعون فيستجيبون، ويكافحون فينتصرون، ويحتشدون فى معارك الشرف، فيبتسم لهم النصر القريب، وتتفتح لهم جنات الرضوان... إن الرجل ذا العقيدة عندما يقاتل لا يقف دونه شيء، أعجبتنى هذه القصة الرمزية الوجيزة، أسوقها هنا لما تنضح به من دلالة رائعة: حكوا أنهم فيما مضى كانوا يعبدون شجرة من دون الله، فخرج رجل مؤمن من صومعته وأخذ معه فأسا ليقطع بها تلك الشجرة، غيرة لله وحمية لدينه!! فتمثل له إبليس فى صورة رجل وقال له: إلى أين أنت ذاهب؟ قال: أقطع تلك الشجرة التى تعبد من دون الله، فقال له: اتركها وأنا أعطيك درهمين كل يوم، تجدهما تحت وسادتك إذا استيقظت كل صباح! فطمع الرجل فى المال، وانثنى عن غرضه، فلما أصبح لم يجد تحت وسادته شيئا، وظل كذلك ثلاثة أيام، فخرج(1/3)
مغضبا ومعه الفأس ليقطع الشجرة . فاستقبله إبليس قائلا: إلى أين أنت ذاهب؟ قال أقطع تلك الشجرة! قال: ارجع فلو دنوت منها قطعت عنقك. ص _007
لقد خرجت فى المرة الأولى غاضبا لله فما كان أحد يقدر على منعك!! أما هذه المرة فقد أتيت غاضبا للدنيا التى فاتتك، فما لك مهابة، ولا تستطيع بلوغ أربك فارجع عاجزا مخذولا.. إن الغزو الثقافى للعالم الإسلامى استمات فى محو الإيمان الخالص وبواعثه المجردة، استمات فى تعليق الأجيال الجديدة بعرض الدنيا ولذة الحياة، استمات فى إرخاص المثل الرفيعة وترجيح المنافع العاجلة.. ويوم تكثر النماذج المعلولة من عبيد الحياة ومدمنى الشهوات فإن العدوان يشق طريقه كالسكين فى الزبد، لايلقى عائقا ولا عنتا... وهذا هو السبب فى جؤارنا الدائم بضرورة بناء المجتمع على الدين وفضائله، فإن ذلك ليس استجابة للحق فقط، بل هو السياج الذى يحمينا فى الدنيا كما ينقذنا فى الآخرة... إن ترك صلاة ما قد يكون إضاعة فريضة مهمة، وإشباع نزوة خاصة قد يكون ارتكاب جريمة مخلة، لكن هذا وذاك يمثلان فى الأمة المنحرفة انهيار المقاومة المؤمنة والتمهيد لمرور العدوان الباغى دون رغبة فى جهاد أو أمل فى استشهاد، ولعل ذلك سر قوله تعالى : ( فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا). إن كلمة الجهاد المقدس إذا قيلت - قديما - كان لها صدى نفسى واجتماعى بعيد المدى، لأن التربية الدينية السائدة رفضت التثاقل إلى الأرض والتخاذل عن الواجب، وعدت ذلك طريق العار والنار وخزى الدنيا والآخرة. وهذه التربية المغالية بدين الله، المؤثرة لرضاه أبدا هى التى تفتقر إليها أمتنا الإسلامية الكبرى فى شرق العالم وغربه. وكل مؤتمر إسلامى لا يسبقه هذا التمهيد الحتم فلن يكون إلا طبلا أجوف!! والتربية الدينية التى ننشدها ليست ازورارا عن مباهج الحياة التى تهفو إليها نفوس البشر، ولكنها تربية تستهدف إدارة الحياة على محور من الشرف(1/4)
والاستقامة، وجعل الإنسان مستعدا فى كل وقت لتطليق متعه إذا اعترضت طريق الواجب. ص _008
كنت أقرأ مقالا مترجما فى أدب النفس فاستغربت للتلاقى الجميل بين معانيه وبين مواريثنا الإسلامية المعروفة، التى يجهلها للأسف كثير من الناس. تأمل معى هذه العبارة "يقول جوته الشاعر الألماني: من كان غنيا فى دخيلة نفسه فقلما يفتقر إلى شيء من خارجها! أليس ذلك ترجمة أمينة لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ليس الغنى عن كثرة العرض ولكن الغنى غنى النفس"! عن أبى ذر رضى الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ترى كثرة المال هو الغني؟ قلت: نعم يا رسول الله! قال: فترى قلة المال هو الفقر؟ قلت: نعم يا رسول الله. قال: إنما الغنى غنى القلب والفقر فقر القلب". واسمع هذه العبارة من المقال المذكور: النفس هى موطن العلل المضنية، وهى الجديرة بالعناية والتعهد، فإذا طلبت منها أن تسوس بدنك سياسة صالحة، فاحرص على أن تعطيها من القوت ما تقوى به وتصح، هذا القوت شيء آخر غير الأخبار المثيرة والملاهى المغرية والأحاديث التافهة والملذات البراقة الفارغة، ثم انظر إليها كيف تقوى بعد وتشتد، إن التافه الخسيس مفسد للنفس!! واعلم أن كل فكرة تفسح لها مكانا فى عقلك، وكل عاطفة تتسلل إلى فؤادك تترك فيك أثرها، وتسلك بك أحد طريقين إما أن تعجزك عن مزاولة الحياة وإما أن تزيدك اقتدارا وأملا.. أليس هذا الكلام المترجم شرحا دقيقا لقول البوصيرى. وإذا حلت الهداية نفسا نشطت للعبادة الأعضاء! وتمهيدا حسنا لقول ابن الرومي: أمامك فانظر أى نهجيك تنهج طريقان شتي، مستقيم وأعوج واقرأ هذه الكلمة أيضا من المقال المترجم: رب رجل وقع من الحياة فى مثل الأرض الموحلة فكادت تبتلعه، ولكنه ظل يجاهد للنجاة مستيئسا، وبينما هو كذلك انهارت قواه، وشق عليه الجهاد، وأسرعوا به إلى الطبيب... إن الطبيب لم يجد بجسده علة ظاهرة. كل ما يحتاج إليه الرجل من أول(1/5)
أمره، ناصح يعلمه كيف ينازل الحياة وجها لوجه لا تثنيه عقبة ولا رهبة! ص _009
إن هذا الكلام ذكرنى بما روى عن جعفر الصادق: من طلب ما لم يخلق تعب ولم يرزق! قيل وما ذاك؟ قال: الراحة فى الدنيا. وأنشدوا: يطلب الراحة فى دار الفنا خاب من يطلب شيئا لا يكون! إن التربية التى ننشدها نحن المسلمين ليست بدعا من التفكير الإنسانى الراشد إنها صياغة الأجيال فى قوالب تجعلها صالحة لخدمة الحق، وأداء ضرائبه، واحتقار الدنيا يوم يكون الاستمساك بها مضيعة للإيمان، ومغاضبة للرحمن... والاستعمار يوم وضع يده على العالم الإسلامى من مائة سنة صب الأجيال الناشئة فى قوالب أخري، نمت بعدها وهى تبحث عن الشهوات، وتخلد إلى الأرض، فلما ختلها عن دينها بهذه التربية الدنيئة استمكن من دنياها، فأمست جسدا ونفسا لا تملك أمرها، ولا تحكم يومها ولا غدها... بل إنها فى تقليدها للعالم الأقوى تقع فى تفاوت مثير عندما تنقل المباذل، ومظاهر التفسخ فى الحضارة الأوروبية تنقلها بسرعة الصوت أما عندما تنقل علما نافعا، وخيرا يسيرا، فإن ذلك يتم بسرعة السلحفاة، وكثير من الشعوب الإسلامية تبيع ثرواتها المعدنية والزراعية بأكوام من المواد المستهلكة، وأدوات الزينة والترف مع فقرها المدقع إلى ما يدفع عنها جشع العدو ونياته السود فى اغتيالها وإبادتها..!! وظاهر أن هذا السلوك استجابة طبيعية لأسلوب التربية الذى أخذت به من الصفر، وأثر محتوم لاتخاذ القرآن مهجورا، ونبذ تعاليمه وقيمه، وهل ينتج ذلك إلا طفولة تفرح باللعب المصنوعة، والطرف الجديدة، والملابس المزركشة، والمظاهر الفارغة؟ ولا بأس بعد توفير هذا كله من استصحاب بعض الآثار الدينية السهلة! ولتكن هذه الآثار الاحتفال بذكرى قديمة أو زيارة قبر شهير!! ثم يسمى هذا السلوك التافه تدينا!! لقد جرب المسلمون الانسلاخ عن دينهم، وإطراح آدابه، وترك جهاده فماذا جر عليهم ذلك؟ حصد خضراءهم فى الأندلس فصفرت منهم بلاد(1/6)
طالما ازدانت بهم وعنت لهم، ومازال يرن فى أذنى قول الشاعر: قلت يوما لدار قوم تفانوا أين سكانك العزاز علينا؟ فأجابت هنا أقاموا قليلا ثم ساروا ولست أعلم أينا!! ص _010
أسمعت هذا النغم الحزين يروى فى اقتضاب عقبى اللهو واللعب، عقبى إضاعة الصلاة واتباع الشهوات.. إن عرب الأندلس لم يتحولوا عن دارهم طائعين، ولكنهم أخرجوا مطرودين. أفلا يرعوى الأحفاد مما أصاب الأجداد..؟ لقد قرأت أنباء مؤتمرات عربية وإسلامية كثيرة اجتمعت لعلاج مشكلة فلسطين فكنت أترك الصحف جانبا ثم أهمس إلى نفسي: هناك خطوة تسبق هذا كله، خطوة لا غنى عنها أبدا. هى أن يدخل المسلمون فى الإسلام.. إننى ألمح فى كل ناحية استهانة بالفرائض، وتطلعا إلى الشهوات، وزهادة فى المخاطرة والتعب، وإيثارا للسطوح عن الأعماق والأشكال عن الحقائق، وهذه الخلال تهدم البناء القائم، فكيف تعيد مجدا تهدم، أو ترد عدوا توغل..؟!! ما أحرانا أن نعقل التحذير النبوى الكريم: "إنما أخشى عليكم شهوات الغى فى بطونكم وفروجكم ومضلات الهوى ". فإذا أصغينا إلى هذا النذير ابتعدنا عن منحدر ليست وراءه إلا هاوية لا قرار لها، ثوى فيها - من قبلنا - المفرطون والجاحدون.!! ص _011(1/7)
محنة الضمير الدينى هناك.. هذه سياحة سريعة داخل أقطار الفكر الدينى الغربى ستفاجئنا فيها أحكام ينقصها السداد، ومؤامرات يحكيها الغدر، وضغائن لا تزال عميقة على طول العهد وامتداد الزمان. ومن حقنا نحن المسلمين وقد لفحتنا حرب بقاء أو فناء أن ندرس الجبهة التى مسنا عدوانها وأن نزن ببصر جديد طبيعة العواطف الدينية التى تكمن أو تبرز خلف أحداث لا تبدو لها نهاية قريبة. ولنبدأ بمقال نشرته مجلة كاثوليكية تطوعت بإسداء نصائحها الغالية لإسرائيل، وليست هذه النصائح الغالية أن يعترف اليهود بحق العرب وأن يعودوا من حيث جاءوا تاركين البلاد لأصحابها.. لا !! إن الضمير الدينى عند الصحيفة المتدينة جعلتها تسدى نصحا من لون آخر لقد قالت لليهود: إننا احتللنا فلسطين قبلكم، وبقينا فيها سنين عددا.. ثم استطاع المسلمون إخراجنا وتهديم المملكة التى أقمناها ببيت المقدس وذلك لأغلاط ارتكبناها وها نحن أولا نشرح لكم تلك الأغلاط القديمة حتى لاتقعوا فيها مثلنا. استفيدوا من التجربة الفاشلة كى تبقى لكم فلسطين أبدا ويشرد سكانها الأصلاء فلا يخامرهم أمل فى عودة...!! وشرعت الصحيفة التقية تشرح: لماذا انهزم الصليبيون الأقدمون، وتوصى حكام "إسرائيل" بأمور ذات بال، وتحرضهم فى نذالة نادرة أن يوسعوا الرقعة التى احتلوها، وأن يستقدموا أفواجا أكثر من يهود العالم، وأن يحكموا خطتهم فى ضرب العرب، ومحو قراهم، وإبادة خضرائهم، وبذلك يستقر ملك إسرائيل، ويندحر الإسلام والمسلمون... وهاك أيها القارئ عبارات المقال الذى نشرته مجلة "تابلت" الإنكليزية الكاثوليكية للكاتب (ف. س. أندرسون). يقول الكاتب المذكور: "إن نظرة واحدة إلى خارطة حدود إسرائيل الحالية تعيد إلى الذاكرة للفور أوجه الشبه القوية بين تلك الحدود وحدود مملكة الصليبيين التى قامت عقب احتلال القدس سنة 1099م. ص _012(1/8)
ونظرا إلى الأعمال العدائية بين إسرائيل وجيرانها نرى من المفيد أن نقارن بين الحالة العسكرية الراهنة وبين مثيلتها أيام الصليبيين القدامى علنا نرى ما إذا كان سيقيض لإسرائيل حظ أوفر مما كان للصليبيين أم سيلقون مصيرهم؟ إن مملكة الصليبيين لم يكتب لها البقاء إلا أمدا قصيرا، فقد مكثت ثمانية وثمانين عاما فقط، ثم استرد المسلمون القدس! ومع أن المسيحيين نجحوا فى الاحتفاظ بقطاع صغير شرقى البحر المتوسط مدة مائة عام أخرى إلا أنهم فشلوا فى الدفاع عن عكا أخيرا وأخذوا يغادرون هذه البلاد تحت جنح الظلام عائدين إلى أوروبا... إن سقوط تلك المملكة كان يعود إلى بضع نقائص ظاهرة فإذا أريد لإسرائيل أن تعيش مدة أطول، فما عليها إلا أن تحتاط ضد هذه النقائص.. لقد دخل الصليبيون فلسطين فى ظروف ملائمة جدا لهم، تميزت بوقوع الفرقة بين المسلمين، وعجزهم عن إقامة جبهة مقاومة موحدة! وهكذا استطاع المهاجمون أن يهزموا المسلمين بسهولة، دويلة بعد دويلة، وأن يمكنوا لأنفسهم فى الأقطار التى فتحوها. غير أنه لم يمض وقت طويل حتى ظهر زعيم عسكرى مسلم استطاع أن يوحد المسلمين أمام خصومهم بسرعة، ثم حشد قواهم فى معركة حطين، وأصاب الصليبيين بهزيمة ساحقة، تقرر على أثرها مصير القدس، بل انحسر بعدها المد الصليبى جملة، ودخل صلاح الدين الأيوبى مدينة القدس، التى عجز أعداؤه عن استبقائها أو استعادتها فتركوها يائسين". يقول الكاتب الكاثوليكى "كان الصليبيون يستطيعون البقاء مدة أطول فى تلك البلاد لو لم يعانوا نقصا شديدا متواصلا فى الرجال، ولو أنهم وسعوا حدود مملكتهم وفق ما تمليه الضرورات العسكرية الماسة، لماذا لم يحتلوا دمشق؟ لقد كان احتلال دمشق مفتاح مشكلتهم وضمان بقائهم! وسيظل عدم تقديرهم لهذه الحقيقة لغزا لنا! نعم إنهم بذلوا جهودا واهية لاحتلال تلك المدينة، بيد أن محاولاتهم كانت من الضعف بحيث كتب عليها الفشل" وبدلا من أن يتابعوا جهودهم(1/9)
لاحتلال دمشق اتجهوا جنوبا واحتلوا العقبة وشرعوا يوجهون حملاتهم إلى مصر، مع أن الإشراف على النيل هدف عسير التحقيق!! ص _013
وعندما أصبحت للمسلمين اليد العليا فى ذلك العهد استطاعوا إجلاء الصليبيين عن العقبة وعن سائر حصونهم فى الجنوب، إلا أن الكارثة الكبرى من الشرق، فإن معركة حطين وقعت بالقرب من بحيرة طبرية عند الولاية الشمالية الشرقية لمملكة الصليبيين... ولما كانت دمشق والأرض الممتدة بين الأردن والصحراء السورية ملكا للمسلمين فقد استطاعوا أن يتحركوا بحرية على ثلاث جبهات حول المملكة الصليبية التى أضحت شبه محصورة... وذلك ما أعجزها عن المقاومة!" يقول الكاتب الحزين لما أصاب أسلافه: "ولو أن الصليبيين اندفعوا قدما وقطعوا الممر الذى يؤدى إلى الشرق من دمشق لاستطاعوا منع مرور الجيوش والقوات بين سورية ومصر، ولكانت حدودهم الشرقية المستندة إلى الصحراء أكثر أمانا، ولأمكنهم الانتفاع من أساطيلهم البحرية" ثم يستأنف الكاتب الحاقد كلامه فيقول: "لقد أقيمت إسرائيل فى وقت كان العرب فى الدول المجاورة عاجزين عن القيام بعمل موحد، ثم بقدر كبير من الجهد والشجاعة استطاع اليهود أن يبلغوا حدودهم الحالية، لكن هذه الحدود تطابق حدود المملكة القديمة للصليبيين وقد عرفنا مآلها فما العمل؟". يقول الكاتب محرضا اليهود على مزيد من العدوان: "مرة أخرى، ما لم تتحرك إسرائيل فى الاندفاع نحو دمشق فستبقى للعرب تلك الحرية الخطرة فى تنقيل قواهم حول ثلاث جهات من إسرائيل، وفى ذلك ما فيه". ويستطرد: "قد يكون من العسير سياسيا أن تتحرك إسرائيل لغزو سوريا واحتلال دمشق، لكن الاتجاهات السياسية السورية قد تساعد على تسويغ ذلك، وإن مثل هذه النزهة الحربية(!) ستنطوى على فائدة دائمة لإسرائيل أعظم من الفائدة التى تجنيها من التغلغل فى صحراء سيناء". ويختم الكاتب نصائحه لأصدقائه اليهود فيقول: "إن إسرائيل لن تنقصها القوى البشرية، فلديها جيش(1/10)
كبير، بالإضافة إلى هجرة منظمة من جميع أنحاء العالم تمدها بكل ما تفتقر إليه من طاقات، ويجب أن تظل قادرة على وضع جيش قوى فى الميدان يكون دائما على أهبة الاستعداد". ص _014
لو أن كاتب هذا الكلام يهودى قح ما استغرب المرء حرفا منه! إن وجه العجب فى هذا التوجيه المشحون بالود لإسرائيل، والبغض للعرب والمسلمين، أن الكاتب رجل مسيحى ينشر رأيه فى مجلة كاثوليكية. وهو يفكر ويقارن ويقترح كأن القضاء على العروبة والإسلام جزء من عقله الباطن والظاهر، ثم هو لا يشعر بذرة من حياء فى إعلان سخائمه! إن مشاعر البغضاء المضطرمة فى جوفه تغريه بالاسترسال والمجازفة دون أى تهيب. ويحزننا أن هذا الكلام ليس إبداء لوجهة نظر خاصة، فإن الكاثوليك فى أرجاء الأرض انتهزوا فترة الضعف التى يمر بها الإسلام كيما يحولوها إلى هزيمة طاحنة وفناء أخير. والروح الذى أملى بكتابة هذا المقال هو نفس الروح الذى كمن فى مقررات المجمع المسكونى الذى عقده بابا روما وصالح فيه اليهود، وأمر الكنائس بعده ألا تلعنهم فى صلواتها. وهو الروح الذى جعل البابا بولس يزور القدس ، ويدخل الأرض المحتلة ويتعامل مع سلطات إسرائيل، وهو تصرف لم يفعله أحد البابوات من مئات السنين!! وللقارئ المسلم أن يسأل: أذلك موقف الكاثوليك وحدهم؟ أم أن أصابع الاستعمار الغربى قد أفسدت التفكير الدينى لدى كثير من المفكرين الغربيين؟ قرأت كتابا وجيزا للمؤلف المصرى المنصف الدكتور وليم سليمان وردت به هذه الحقائق نذكرها مع تعليق سريع لابد من إيراده.. قال: "فى ديسمبر سنة 1961 عقد مجلس الكنائس العالمى مؤتمره الثالث فى نيودلهي، وأصدر قرارا حدد فيه موقفه من اليهود جاء فيه... لابد من تهيئة التعليم الدينى المسيحى وتقريبه للأذهان على وجه يبرئ اليهود من تبعات الأحداث التاريخية التى أدت الى صلب المسيح إذ أن هذه التبعات تقع على عاتق الإنسانية كلها(!) وقد صرح الراعى البروتستانتى الأمريكى ل.(1/11)
ج. بنيت الأستاذ بمعهد اللاهوت بنيويورك قائلا: إن الكنائس مسئولة بوجه خاص عن العداء للسامية فقد ظلت تعاليم المسيحية موجهة عدة قرون ضد اليهود وهو عداء يعد من مخالفات الأحقاد الدينية القديمة". نقول نحن: وما ذنب المسلمين فى هذا؟ وهل عرب فلسطين يدفعون ثمن هذا الخطأ الكنسى من وطنهم وكرامتهم وحاضرهم ومستقبلهم؟ ص _015
ذلك ما يريده مجلس الكنائس العالمى الموقر!! فإن هذا المجلس عقد مؤتمرا فى بيروت وزار أعضاؤه مخيمات اللاجئين ثم قرر أنه ليس هناك حل دائم لمشكلة الفلسطينيين إلى أن يبت فى القضية الخاصة بالخلاف بين العرب وإسرائيل. وقال المؤتمر الطيب القلب: إن ذلك سيشمل خطة عامة لتعويض اللاجئين سواء عادوا إلى وطنهم أم لم يعودوا وأن هناك صدقات سوف يأخذها أصحاب الأرض والمطرودون..!! وفى سنة 1964 عقد مجلس الكنائس العالمى فصله الدراسى الثالث عشر "بجنيف" وافتتح الجلسة عميد الكلية اللاهوتية بجامعتها فقال لا فض فوه "حين تثور مشكلة اليهود فإن الكنيسة لا تستطيع أن تتجاهل ثقل مسئوليتها العظيمة عن آلامهم، وضياعهم طول تاريخهم، ولذلك فإن أول مايصدر عنها نحوهم هو طلب المغفرة.."!! يجب على الكنيسة أن تطلب المغفرة من اليهود!! بهذه العبارة الضارعة الذليلة يفتتح مجلس الكنائس العالمى الجلسة التى يحدد فيها موقفه من دولة إسرائيل.. ونتساءل نحن مرة أخرى إذا أجرم غيرنا وجب علينا نحن القصاص؟! ( أن لعنة الله على الظالمين * الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا ). لقد فكرت فى هذا الأمر مليا! إن حقنا ليس غامضا حتى يلتمس عذر لمستبيحه! هل المال اليهودى من وراء هذه الذمم الخربة مهما كانت مناصبها الدينية؟ ربما أم أن الضغائن العمياء على الإسلام وأمته سيرت الخطب والمقالات فى هذا المجال الفوضوى المكابر الوقح؟ ربما. لكن الدكتور وليم سليمان فى كتابه "الكنيسة المصرية تواجه الاستعمار والصهيوني". يذكر لنا كلاما آخر يستحق الدرس(1/12)
والتأمل. إنه ينقل عن مؤرخ الإرساليات "ستيفن نيل" هذه العبارات من تقرير له: "لقد تيقن الرجل الغربى أن سجله الاستعمارى حافل بالعار، وأصبح أقل ثقة مما كان فى وحدانية الإنجيل المسيحى ونهائيته، وفى حقه - أى حق الرجل الغربى - أن يفرض على ورثة الأديان العظيمة الأخرى شيئا قد يثبت فى النهاية أنه ليس أكثر من خرافة غربية. وبدا فى أوساط رجال اللاهوت هجوم صريح على الألوهية بكل مظاهرها فى المسيحية! وانتشر تيار فكرى يجعل نقطة بدايته "موت الإله"(!) وينادى بمسيحية ص _016(1/13)
لا دين فيها! وينادى بهذه الأفكار " بنهوفر ويلثمان" والأسقف الإنجليزي "جون روبنسون" ويخيل للمراقب من بعيد أن القوم يثورون على الإله لأنه يتخلى عنهم. ويستطرد الدكتور وليم سليمان فيقول عن الغربيين: " الدين فى نظرهم لم تعد له قيمة فى ذاته، إنه شيء يمكن الاستفادة منه لتحقيق الأهداف الدنيوية التى ينشدها الغرب فى شتى أنحاء العالم..". وخلاصة هذا الكلام أن المسيحية انتحرت فى أوروبا! فأى تدين هذا الذى ينخلع ابتداء عن الإيمان بالحى القيوم؟ ويعتبر التعامل معه منتهيا لأنه تلاشى ومات..؟! إن ذلك هو التفسير الحقيقى لانضواء رجال الكهنوت تحت راية الاستعمار وركضهم الخسيس فى خدمة قضاياه.. وعندما تتسابق شتى الكنائس الغربية لإرضاء إسرائيل وتملق اليهود فهل يدل ذلك إلا على شيء واحد... أن رجال الدين باعوا ضمائرهم للشيطان...؟ إن العرب يتعرضون لإبادة عامة، والمتفجرات تنسف منازلهم، وقد محيت قرى بأكملها من الوجود، والدفاع عن النفس يوصف بأنه إجرام وتمرد! ووسط هذه الحريق المستعرة، يبارك ساسة إسرائيل، ويقول رجال الدين والدنيا: خلقت إسرائيل لتبقى !! فأين منطق الإيمان بالله واليوم الآخر فى تلك المداهنة وهذا الاستخذاء. ظاهر أن القوم قد تحولوا إلى سماسرة وعملاء للاستعمار العالمي.. واعتقادى أن هذه المحنة الرهيبة ستوقظ الإسلام النائم، وإن كان غيرى يرى أن المادية المتربصة هى الكاسبة من خيانة الغرب لدينه ومثله. ولا شك أن المستقبل محفوف بأخطار شداد، بيد أننا لن نفقد توازننا ولا ثقتنا فى أصالتنا الدينية ولا آمالنا فى جنب الله. واعتقادى كذلك أن الاستعمار سيفشل فى محاولاته الدائبة لجر الكنائس الشرقية إلى جانبه، وإشراكها فى مآسيه، وإذا كان قد ضلل البعض فإن الجمهرة الغالبة ستبقى على وفائها لتعاليمها ومواطنيها وتاريخها الصبور... ص _017(1/14)
حوار..! بينى وبين ملحد دار بينى وبين أحد الملاحدة جدال طويل، ملكت فيه نفسى وأطلت صبرى حتى ألقف آخر ما فى جعبته من إفك، وأدمغ بالحجة الساطعة كل ما يورد من شبهات.. قال: إذا كان الله قد خلق العالم فمن خلق الله؟ قلت له: كأنك بهذا السؤال، أو بهذا الاعتراض تؤكد أنه لابد لكل شيء من خالق!! قال: لا تلفنى فى متاهات، أجب عن سؤالي! قلت له: لا لف ولا دوران إنك ترى أن العالم ليس له خالق، أى أن وجوده من ذاته دون حاجة إلى موجد، فلماذا تقبل القول بأن هذا العالم موجود من ذاته أزلا، وتستغرب من أهل الدين أن يقولوا: إن الله الذى خلق العالم ليس لوجوده أول؟ إنها قضية واحدة، فلم تصدق نفسك حين تقررها؟ وتكذب غيرك حين يقررها؟ وإذا كنت ترى أن إلها ليس له خالق خرافة، فعالم ليس له خالق خرافة كذلك، وفق المنطق الذى تسير عليه..! قال: إننا نعيش فى هذا العالم ونحس وجوده فلا نستطيع أن ننكره! قلت له: ومن طالبك بإنكار وجود العالم؟ إننا عندما نركب عربة أو باخرة أو طائرة تنطلق بنا في طريق رهيب، فتساؤلنا ليس في وجود العربة، وإنما هو: هل تسير وحدها أم يسيرها قائد بصير؟! ومن ثم فإننى أعود إلى سؤالك الأول لأقول لك: إنه مردود عليك، فأنا وأنت معترفون بوجود قائم، لا مجال لإنكاره، تزعم أنت أنه لا أول له بالنسبة إلى المادة، وأرى أنا أنه لا أول له بالنسبة إلى خالقها، فإذا أردت أن تسخر من وجود لا أول له، فاسخر من نفسك قبل أن تسخر من المتدينين...!!! قال: تعنى أن الافتراض العقلى واحد بالنسبة إلى الفريقين؟ قلت: إننى أسترسل لأكشف الفراغ والادعاء اللذين يعتمد عليهما الإلحاد وحسب، أما الافتراض العقلى فليس سواء بين المؤمنين والكافرين.. إننى - أنا وأنت - ننظر إلى قصر قائم، فأرى - بعد نظرة خبيرة - أن مهندسا أقامه، وترى أنت أن خشبه وحديده وحجره وطلاءه قد انتظمت فى مواضعها وتهيأت لساكنيها من تلقاء نفسها..! ص _018(1/15)
الفارق بين نظرتينا إلى الأمور أننى وجدت قمرا صناعيا يدور فى الفضاء، فقلت أنت: انطلق وحده دونما إشراف أو توجيه، وقلت أنا: بل أطلقه عقل مشرف مدبر..! إن الافتراض العقلى ليس سواء، إنه بالنسبة إلى الحق الذى لا محيص عنه، وبالنسبة إليك الباطل الذى لا شك فيه، وإن كان كفار عصرنا مهرة فى شتمنا نحن المؤمنين ورمينا بكل نقيصة، فى الوقت الذى يصفون أنفسهم بالذكاء والتقدم والعبقرية .. إننا نعيش فوق أرض مفروشة، وتحت سماء مبنية، ونملك عقلا نستطيع به البحث والحكم، وبهذا العقل ننظر، ونستنتج، ونناقش، ونعتقد. وبهذا العقل نرفض التقليد الغبى كما نرفض الدعاوى الفارغة. وإذا كان الناس يهزءون بالرجعيين عبيد الماضى ويتندرون بتحجرهم الفكري، فلا عليهم أن يهزءوا كذلك بمن يميتون العقل باسم العقل، ويدوسون منطق العلم باسم العلم وهم للأسف جمهرة الملاحدة...!! لكنا نحن المسلمين نبنى إيماننا بالله على اليقظة العقلية والحركة الذهنية، ونستقرئ آيات الوجود الأعلى من جولان الفكر الإنسانى فى نواحى الكون كله. فى صفحة واحدة من سورة واحدة من سور القرآن الكريم وجدت تنويها بوظيفة العقل اتخذ ثلاث صور متتابعة فى سلم الصعود. هذه السورة هى سورة الزمر، وأول صورة تطالعك هى إعلاء شأن العلم، والغض من أقدار الجاهلين ( قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب ). ثم تجيء الصورة الثانية لتبين أن المسلم ليس عبد فكرة ثابتة، أو عادة حاكمة بل هو إنسان يزن ما يعرض عليه ويتخير الأوثق والأزكى ( فبشر عباد * الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب ). ثم يطرد ذكر أولى الألباب للمرة الثالثة فى ذات السياق على أنهم أهل النظر فى ملكوت الله، الذين يدرسون قصة الحياة فى مجاليها المختلفة لينتقلوا من المخلوق إلى ص _019(1/16)
الخالق ( ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض ثم يخرج به زرعا مختلفا ألوانه ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يجعله حطاما إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب ). وظاهر من الصور الثلاث فى تلك الصفحة من الوحى الخاتم أن الإيمان مبتوت الصلة بالتقليد الأعمى أو النظر القاصر أو الفكر البليد. إنه يلحظ إبداع الخالق فى الزروع والزهور والثمار، وكيف ينفلق الحمأ المسنون عن ألوان زاهية أو شاحبة توزعت على أوراق وأكمام حافلة بالروح والريحان ثم كيف يحصد ذلك كله ليكون أكسية وأغذية للناس والحيوان، ثم كيف يعود الحطام والقمام مرة أخرى زرعا جديد الجمال والمذاق تهتز به الحقوق والحدائق! من صنع ذلك كله؟ قال صاحبى - وكأنه سكران يهذى - الأرض صنعت ذلك!! قلت: الأرض أمرت السحاب أن يهمي، والشمس أن تشع، وورق الشجر أن يختزن الكربون ويطرد الأوكسجين، والحبوب أن تمتلئ بالدهن والسكر والعطر والنشا؟ قال: أقصد الطبيعة كلها فى الأرض والسماء! قلت: إن طبق الأرز فى غدائك أو عشائك تعاونت الأرض والسماء وما بينهما على صنع كل حبة فيه، فما دور كل عنصر فى هذا الخلق؟ ومن المسئول عن جعل التفاح حلوا والفلفل حريفا أهو تراب الأرض أم ماء السماء؟ قال: لا أعرف ولا قيمة لهذه المعرفة!! قلت: ألا تعرف أن ذلك يحتاج إلى عقل مدبر، ومشيئة تصنف؟ فأين ترى العقل الذى أنشأ، والإرادة التى نوعت، فى أكوام السباخ أو فى حزم الأشعة؟؟ قال: إن العالم وجد وتطور على سنة النشوء والارتقاء، ولا نعرف الأصل ولا التفاصيل!! قلت له: أشرح لكم ما تقولون: تقولون: أنه كان فى قديم الزمان وسالف العصر والأوان مجموعة من العناصر العمياء تضطرب فى أجواز الفضاء، ثم مع طول المدة وكثرة التلاقى سنحت فرصة فريدة لن تتكرر أبد الدهر، فنشأت الخلية الحية فى شكلها البدائى ثم شرعت تتكاثر وتنمو حتى بلغت ما نرى!! ص _020(1/17)
هذا هو الجهل الذى أسميتموه علما، ولم تستحوا من مكابرة الدنيا به!! أعمال حسابية معقدة تقولون: إنها حلت تلقائيا، وكائنات دقيقة وجليلة تزعمون أنها ظفرت بالحياة فى فرصة سنحت ولن تعود!! وذلك كله فرارا من الإيمان بالله الكبير!! قال : - وهو ساخط - أفلو كان هناك الله كما تقول كانت ا لدنيا تحفل بهذه المآسى والآلام، ونرى ثراء يمرح فيه الأغبياء وضيقا يحتبس فيه الأذكياء، وأطفالا لا يمرضون ويموتون، ومشوهين يحيون منغصين.. الخ. قلت: لقد صدق فيكم ظني، إن إلحادكم يرجع إلى مشكلات نفسية واجتماعية أكثر مما يعود إلى قضايا عقلية مهمة!! ويوجد منذ عهد بعيد من يؤمنون ويكفرون وفق ما يصيبهم من عسر ويسر (ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين). قال: لسنا أنانيين كما تصف نغضب لأنفسنا أو نرضى لأنفسنا، إننا نستعرض أحوال البشر كافة ثم نصدر حكمنا الذى ترفضه.. قلت: آفتكم أنكم لا تعرفون طبيعة الحياة الدنيا ووظيفة البشر فيها أنها معبر مؤقت إلى مستقر دائم، ولكى يجوز الإنسان هذا المعبر إلى إحدى خاتمتيه لابد أن يبتلى بما يصقل معدنه ويهذب طباعه، وهذا الابتلاء فنون شتي، وعندما ينجح المؤمنون فى التغلب على العقبات التى ملأت طريقهم، وتبقى صلتهم بالله واضحة مهما ترادفت البأساء والضراء فإنهم يعودون إلى الله بعد تلك الرحلة الشاقة ليقول لهم ( يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون). قال: وما ضرورة هذا الابتلاء؟ قلت: إن المرء يسهر الليالى في تحصيل العلم، ويتصبب جبينه عرقا ليحصل على الراحة، وما يسند منصب كبير إلا لمن تمرس بالتجارب وتعرض للمتاعب، فإن كان ذلك هو القانون السائد فى الحياة القصيرة التى نحياها على ظهر الأرض فأى غرابة أن يكون ذلك هو المهاد الصحيح للخلود المرتقب؟ قال: مستهزئا - أهذه فلسفتكم فى تسويغ المآسى التى تخالط حياة(1/18)
الخلق، وتصبير الجماهير عليها؟ ص _021
قلت: سأعلمك بتفصيل أوضح حقيقة ما تشكو من شرور، إن هذه الآلام قسمان: قسم من قدر الله فى هذه الدنيا، لا تقوم الحياة إلا به، ولا تنضج رسالة الإنسان إلا على حره، فالأمر كما يقول الأستاذ العقاد "تكافل بين أجزاء الوجود، فلا معنى للشجاعة بغير الخطر، ولا معنى للكرم بغير الحاجة، ولا معنى للصبر بغير الشدة، ولا معنى لفضيلة من الفضائل بغير نقيصة تقابلها وترجح عليها. وقد يطرد هذا القول فى لذاتنا المحسوسة كما يطرد فى فضائلنا النفسية ومطالبنا العقلية إذ نحن لا نعرف لذة الشبع بغير ألم الجوع، ولا نستمتع بالرى ما لم نشعر قبله بلهفة الظمأ، ولا يطيب لنا منظر جميل ما لم يكن من طبيعتنا أن يسوءنا المنظر القبيح..". وهذا التفسير لطبيعة الحياة العامة ينضم إليه أن الله جل شأنه يختبر كل امرئ بما يناسب جبلته ويوائم نفسه وبيئته، وما أبعد الفروق بين إنسان وإنسان، وقد يصرخ إنسان مما لا يكترث به آخر، ولله فى خلقه شئون، والمهم أن أحداث الحياة الخاصة والعامة محكومة بإطار شامل من العدالة الإلهية التى لا ريب فيها إلا أن هذه العدالة كما يقول الأستاذ العقاد "لا تحيط بها النظرة الواحدة إلى حالة واحدة، ولا مناص من التعميم والإحاطة بحالات كثيرة قبل استيعاب وجوه العدل فى تصريف الإرادة الإلهية، إن البقعة السوداء فى الصورة الجميلة وصمة قبيحة إذا حجبنا الصورة ونظرنا إلى تلك البقعة بمعزل عنها، ولكن هذه البقعة السوداء قد تكون فى الصورة كلها لونا من ألوانها التى لا غنى عنها أو التى تضيف مزيدا إلى جمال الصورة ولا يتحقق لها جمال بغيرها، ونحن فى حياتنا القريبة قد نبكى لحادث يصيبنا ثم نعود فنضحك أو نغتبط بما كسبناه منه بعد فواته". تلك هى النظرة الصحيحة إلى المتاعب غير الإرادية التى يتعرض لها الخلق. أما القسم الثانى من الشرور التى تشكو منها يا صاحبى فمحوره خطؤك أنت وأشباهك من المنحرفين.(1/19)
قال مستنكرا: أنا وأشباهى لا علاقة لنا بما يسود العالم من فوضي! فكيف تتهمنا؟ قلت: بل أنتم مسئولون، فإن الله وضع للعالم نظاما جيدا يكفل له سعادته، ويجعل قويه عونا لضعيفه وغنيه برا بفقيره، وحذر من اتباع الأهواء واقتراف المظالم واعتداء الحدود. ووعد على ذلك خير الدنيا والآخرة ( من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون ). ص _022
" فإذا جاء الناس فقطعوا ما أمر الله به أن يوصل، وتعاونوا على العدوان بدل أن يتعاونوا على التقوى فكيف يشكون ربهم إذا حصدوا المر من آثامهم؟ إن أغلب ما أحدق بالعالم من شرور يرجع إلى شروده عن الصراط المستقيم، وفى هذا يقول الله جل شأنه ( وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير ). إن الصديق رضى الله عنه جرد جيشا لقتال مانعى الزكاة، وبهذا المسلك الراشد أقر الحقوق وكبح الأثرة ونفذ الإسلام فإذا تولى غيره فلم يتأس به فى صنيعه كان الواجب على النقاد أن يلوموه لا أن يلوموا الأقدار التى ملأت الحياة بالبؤس! قال: ماذا تعني؟ قلت: أعنى أن شرائع الله كافية لإراحة الجماهير، ولكنكم بدل أن تلوموا من عطلها تجرأتم على الله واتهمتم دينه وفعله!! ومن خسة بعض الناس أن يلعن السماء إذا فسدت الأرض!! وبدلا من أن يقوم بواجبه فى تغيير الفوضى وإقامة الحق يثرثر بكلام طويل عن الدين ورب الدين...!! إنكم معشر الماديين مرضي، تحتاج ضمائركم وأفكاركم إلى علاج بعد علاج.. وعدت إلى نفسى بعد هذا الحوار الجاد أسألها: إن الأمراض توشك أن تتحول إلى وباء، فهل لدينا من يأسو الجراح ويشفى السقام؟!! أو أن الأزمة فى الدعاة المسلمين ستظل خانقة؟!! ص _023(1/20)
ضوء على بعض المشكلات قرأت مقالا عن الانفجار السكانى وإمكانات التحكم فيه نشرته صحيفة الأهرام يوم الجمعة 2/1/1970 ولا أكون مغاليا إذا وصفت هذا المقال بأنه صائب الفكرة عميق النظرة مملوء بالحقائق الجديرة بالاحترام. ولقد لفت عددا من الدعاة المسلمين وعلماء الدين إلى هذا المقال لأنه يصور فى نظرى عودة إلى أفكار سبق أن كتبتها ووقفت عندها ورأى جمهور المسلمين أنها التعبير الحق عن أحكام دينهم ونهج حياتهم وإن كان البعض قد مارى فيها مراء يعلم الله بواعثه والكاتب بعد مقدمات جيدة حول مشكلة النسل يقول إن تفسير الزيادة السكانية بغير التخلف الاقتصادى أورد هذه الزيادة إلى عوامل أخرى مثل غلبة الغريزة الجنسية أو وجود الأديان المحبذة للتناسل أو عدم المبالاة بالرقي. يدخل تحت باب التضليل العلمي..! وقد استخلص هذه النتيجة الصادقة من جملة ملاحظات علمية واجتماعية جديرة بالتأييد الحار... ويعجبنى أنه استهجن صيحات التشاؤم المفتعلة التى تخصص فى إرسالها بين الحين والحين نفر من مقلدى الأساليب الممجوجة فى الإحصاء الجزئى والحكم العام، وهى أساليب تخدم سياسة معينة ولاتخدم حقيقة مجردة. يقول الكاتب: "فى أواخر الستينيات تدفق سيل جارف من البيانات والبلاغات التى يتبرع بها نفر من نجوم الرأى الأمريكيين يزعمون فيها أن العالم قد بلغ فى مسيرته نحو الكارثة نقطة (اللاعودة) بسبب الزيادة المفرطة فى سكانه، تلك الزيادة التى نشأت من أن أقطار العالم الثالث - الذى يضم عشرات من الدول النامية أو بتعبير آخر عشرات من الدول المتخلفة - لم تكبح جماح شهواتها الجنسية، ولم تستجب لدعوة المندوب الأمريكى إلى (تخطيط الأسرة) أو تحديد النسل الذى رأى سيادته أنه الطريق الوحيد لحسم المشكلة السكانية". بل لم يستح نفر من قادة الرأى فى أرقى الدول أن ينادوا جهرة بضرورة استخدام القسر فى الحد من هذا التفوق العددى للمراتب السفلى من البشر(!) بالقدر الذى(1/21)
يمنع دفع المراتب الأعلى إلى الخلف.. ص _024
هذا، ولما كانت نسبة الأولاد تكاد تكون ثابتة من عشرات السنين فإن الزيادة المحذورة نشأت للأسف من قلة الوفيات بسبب ارتفاع المستوى الصحى فى أرجاء العالم..!! والحل؟ إنه عند أرباب الثقافة الغربية الرفيعة عدم مقاومة العلل بين شعوب لاتجد الأكل، وترك الأمراض تفتك بهذه الأجيال الوافدة، فإن إقحام طوفان من الأطفال الجياع على اقتصاد مضطرب أمر يهدد بكارثة..!! لكن كيف يوصف هذا التصرف؟ إنه تصرف إنسانى عادي!! لأنه يساعد الطبيعة على انتخاب الأصلح وإبقاء الأقوى..!! بل إن هذا التصرف يتفق مع أرقى ثمرات الفكر الإنساني، ألم يقل أفلاطون في جمهوريته الفاضلة: (إنه يجب قتل كل طفل يزيد عن العدد الضروري؟ ونحن قد وصلنا بالفعل إلى ما يزيد عن هذا العدد الضروري!!! ويستتبع الفكر الغربى أحكامه على الأمور فيقول الدكتور (هوايت ستيفنز) - أحد خبراء علم الاجتماع - إن يوم القيامة سيوافق 13/11/2026 لأن المجاعة العالمية فى هذا اليوم ستقضى على الجميع هكذا يقول الدكتور الألمعى بعد حساب وفق قواعد علم الاجتماع لا قواعد علم التنجيم!! وبناء على ذلك الهوس الإحصائى يدعو الأمريكيون المتشائمون إلى التعقيم الإجباري، وإلى فرض نظام صارم لتحديد النسل، وإلى دعوة الأمم المتحدة إلى إجراء ما كى ينخفض عدد الأولاد بين العرب والزنوج والهنود وأشباههم، وهم سواد العالم الثالث... ويلاحظ الأستاذ كمال السيد - كاتب المقال - أمورا ذات بال، منها أن الولايات المتحدة مثلا تنفق سبعين ألف مليون دولار على معدات القتال. وأن شركاتها الكبرى تعامل شعوب العالم الثالث بنهم مستغرب لا مكان معه للرحمة بهؤلاء الجياع المساكين. يقول: "وهناك صيغة شائعة فى أمريكا الجنوبية فحواها: أن خمسة من سكانها يموتون جوعا كل دقيقة، فى حين أن الشركات المستغلة العاملة بها تكسب خمسة آلاف دولار كل دقيقة، أى ألف دولار من كل ميت"..! ومع(1/22)
شعورنا باتجاه الكاتب إلا أننا نعرف أن المساعدات الاستعمارية مغشوشة النية، سيئة الهدف، قد توزع على الأطفال مقادير من الألبان والجبن، ولكنها تفرض على بيئتهم قيود الفقر الأبدى إلى هذا النوع من المساعدات.. ص _025
هذه البرامج توزع المواد الاستهلاكية وحسب، على الأمم المتخلفة، وتمتنع امتناعا غريبا عن تصنيع البيئة، وإعانتها على أن تخدم نفسها بنفسها، وتستغل مواردها الوطنية بقدراتها الخاصة!! كأن شعوب هذا العالم الثالث - كما تسمى - ينبغى أن تظل مشلولة المواهب مكشوفة العجز، لا تستطيع ارتفاق ما لديها من خيرات... وعليها - بعد - أن تسمع الحكم بأن القيامة بعد كذا من السنين!! ويتلقى هذا الكلام بعض قصار العقل فيطيرون به هنا وهناك ينذروننا بالويل والثبور وعظائم الأمور فإذا حاولنا التفاهم معهم قالوا: إنكم رجعيون تائهون عن مقررات علم الاجتماع، وأخطار يوم القيامة الذى سيجيء حتما مع زيادة السكان!! ولنتناول الآن صميم المشكلة: هل حق أن بلاد العالم الثالث لا تكفى حاجات أهلها، وبالتالى لا تتسع لمزيد من الأفواه التى تطلب القوت، والأجساد التى تطلب الكسوة؟ تلك هى الأكذوبة الكبرى التى يضخم الاستعمار صداها ويزعج الدنيا بطنينها!! إن أقطار العالم الثالث مشحونة بخيرات تكفى أضعاف سكانه، بيد أن هذه الخيرات تتطلب العقول البصيرة والأيدى القديرة. ولو رزقت هذه الأقطار المتخلفة نهضة إنسانية نزيهة، تستهدف إيقاظ الملكات الغافية، والحواس المخدرة، وتطارد الخمول والوهن، وتجند القدرات والخبرات، وتمنع التظالم والترف، وتضرب سياجا منيعا حول مصالح الشعوب يرد عنها غوائل الاستعمار بجميع أنواعه، لكانت هذه الشعوب تحيا فى رغد من العيش تحسدها أقطار الغرب عليه! ليست المشكلة اقتصادية كما يزعم الخبثاء من المستعمرين، ومقلدوهم من الصياحين الذين يهرفون بما لا يعرفون... الفقر فقر أخلاق ومواهب لا فقر أرزاق وإمكانات!! لماذا يكون المولود(1/23)
القادم أكالا لا شغالا، مستهلكا لا منتجا، عبئا على الحياة لا عونا على الحياة؟؟!! لماذا تهون الإنسانية فى هذه الأجيال الوافدة فيكون وجودها مبعث قلق لا مثار استبشار؟؟ ص _026
إن الجهود المادية والمعنوية التي يبذلها المتشائمون لقتل هذه الأنفس أو للحيلولة دون وجودها لو بذلت فى تصحيح الأخطاء الاجتماعية، وتقويم الانحرافات العقلية لكانت أقرب إلى الرشد وأدنى إلى الغاية!! ولكن الاستعمار الأنانى الشره يريد التهام كل شيء لنفسه وحده، بل الأنكى من ذلك أنه يعترض طريق كل نهضة تصحح الأوضاع، لماذا؟ كى تبقى الأمور كما هي، ويبقى منطقه السقيم فى علاج الأمور!! على أن تخلف العالم الثالث ليس علة أزلية ولا أبدية، فقد كان الأوروبيون والأمريكيون أسوأ حالا منذ قرون تعد على الأصابع، وكانت الخرافة تفتك بعقولهم فتك الأدران والعلل بأبدانهم، فإذا صعدوا فى سلم الترقي، وهبط غيرهم بعد رفعة أو بدأ لأول مرة يخطو على درب المدنية فلا معنى للاختيال عليه والتشفى منه!! ( كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم). والأمر لا يستدعى أكثر من تغيير الظروف المؤثرة فى أحوال المجتمعات فهناك مكان ينبت العز - كما يقول المتنبى - ومكان ينبت الذل - وهناك آخر يوقظ العقل أو ينيمه..!! والمعتوهون الذين يصرخون جزعين: قفوا نسل الأرانب حتى لا تقوم الساعة أو حتى ترقى الأمة. لا يعلمون أن العالم الثالث لن يرقى ولو فقد تسعة أعشار عدده ما بقيت ظروفه النفسية والفكرية جامدة على أوضاعها الحالية.. ونعود مع كاتب الأهرام لنبصر الواقع حيث يقول: "إن موارد العالم، خصوصا موارد البلاد المتخلفة مازالت تفوق كثيرا زيادة أعداد السكان، فالفائض الاقتصادى المحتمل يمكن تحويله إلى ضروب من النشاط المنتج بدلا من أن يذهب إلى جيوب المرابين والوسطاء وملاك الأرض، أو يتبدد فى وجوه السرف المختلفة، وهذا الفائض هو ما يعرفه الاقتصاديون بأنه الفرق بين الإنتاج فى ظروفه الطبيعية،(1/24)
وبين ما يعد استهلاكه ضروريا للجماعة المنتجة، ويقدر هذا الفرق بنحو 20% من الإنتاج القومي، وهو يكفل عند استثماره زيادة سنوية فى الدخل تبلغ 8% وهذه الزيادة تكفى بل تفيض عن متطلبات الزيادة السكانية.."! الفقر الواقع أو المتوقع لا يعود إذن إلى علل طبيعية، بل إلى سوء تصرف واضطراب إدارة..!! ص _027
أو كما يقول الاقتصادى الأمريكى المشهور (يول باران): "إننا يجب أن ندق ناقوس الخطر لا لأن القوانين الأبدية فى الطبيعة قد جعلت من المستحيل إطعام سكان الأرض، بل لأن النظام الاقتصادى الاستعمارى يحكم على جموع كثيفة من الناس، لم يسمع بضخامتها من قبل، أن تعيش فى كنف الفاقة والتدهور والموت قبل الأوان.!! ثم أنهى الكاتب كلمته مؤكدا أنه لا حل لمشكلات التخلف، ومن بينها ضغط السكان على الموارد إلا بتنمية بلدان العالم الثالث لثرواتها، ومضاعفة اعتمادها على نفسها.. على القدر الميسور من المعونات الأجنبية المنزهة..". لقد قررت هذه الأحكام تقريبا فى كتابى (من هنا نعلم) المطبوع من ربع قرن، ولذلك فقد انشرح صدرى عندما قرأت هذه الأيام ما يزيد الحق وضوحا.. وما يبدد ضبابا كثيرا نشره فى أفق الحياة العامة أقوام قصار الباع طوال الألسنة. وإنى - إذ أؤكد المعانى الآنفة - أوجه كلمة إلى نفر من المتحدثين باسم الإسلام أساءوا إلى حقائقه مرارا وهزموه فى مواطن كثيرة. إن الإسلام ليس هو بالدين المحلى لأهل قطر من الأقطار.. إنه دين القارات الخمس! وداره الرحبة الخصبة تمزج بين أجناس أمته فى أخوة جامعة لاتعرف الحدود الضيقة المفتعلة التى صنعها الاستعمار!! فكيف يعالجون مشكلة السكان وهم لايدركون هذا الأساس المبين؟ ثم إن هذا الدين يتعرض لحرب إبادة فى هذه الأيام من تحالف الصهيونية والاستعمار، فكيف تصدر الأوامر من رؤساء الأديان الأخرى بتكثير الأتباع، ومباركة النسل، ويفتون هم بالتعقيم والتقليل؟ إننى لا أدرى علة هذا الزيغ؟ أهى قلة العلم أو(1/25)
ليونة الضمير؟؟ وتحذير آخر إلى هؤلاء: إن أحدهم يقع على الكلمة تخدم غرضه منسوبة إلي عمرو بن العاص أو غيره من الرجال فيطير بها غير آبه بقيمة سندها ولا مكترث بأنها ملتقطة من كتب تجمع الجد والهزل والخطأ والصواب... ولو فرضنا جدلا صحة نسبتها إلى عمرو، فما كلام عمرو بالنسبة إلى كلام الله ورسوله؟ وإلى طبائع الأشياء وفق منطق الفطرة وحالة الدين وأوضاع المسلمين؟؟ أرجو بعد كلمة الأهرام التى لخصتها فى مقالى أن تنتهى هذه المأساة... ص _028(1/26)
فوضى الحلال والحرام فى غياب التشريع الحق الأمة الإسلامية اليوم تمثل جماهير كثيفة من الشعوب المتخلفة.. والفروق بين الشعوب المتخلفة والشعوب المتقدمة كثيرة ومنوعة، ويمكن ردها إجمالا إلى خلل حقيقى فى المواهب الإنسانية الرفيعة، خلل عاق هذه المواهب عن أداء وظائفها باقتدار وإجادة !! وليس بصعب على من يرقب الأمم المتأخرة أن يلحظ كسلها العقلى في ميدان المعرفة، وكسلها العقلى فى ميدان الإنتاج، وضعف الأخلاق التى تحكم أقوالها وأحوالها، وكثرة التقاليد التى تمثل طبائع الرياء والأثرة والملق والضياع الفردى والاجتماعي. إن هناك انهيارا حقيقيا فى البناء الإنسانى للشعوب المتخلفة، والإصلاح الجاد يستهدف إعادة هذا البناء، ودعمه خلقيا، واقتصاديا، وسياسيا.. ونحن - المشتغلين بالدعوة الإسلامية - نعالج هذا العمل الشاق، ونزيح العقبات التاريخية والطارئة التى تعترض طريقنا وما أكثرها.. وهناك ناس يعملون لهذا الهدف هدف بناء أمة جديدة، ولكنهم - بمؤثرات شتى - لا يرتبطون بالإسلام ولا يستشيرونه فى حل مشكلة أو شفاء علة. وظاهر أن هؤلاء الناس هم الذين نشأوا فى ظل الاستعمار الأوروبي، وآذاهم أن تكون بلادهم محقورة الشأن، زرية الظاهر والباطن، فأرادوا أن تلتحق بالركب المتقدم عن طريق التشبه به والاقتباس منه. ولما كان علم هؤلاء بالإسلام قليلا، فإنهم لم يحاولوا الإفادة منه أو الارتباط به، بل مضوا فى طريق التقليد للشعوب المنتصرة فى ظاهر أمرها وباطنه، وعذرهم - أمام أنفسهم على الأقل - أنهم يبغون النهوض بأمتهم. ولست الآن بصدد نقد هؤلاء، بل سأتناول باللوم والإنكار مواقف بعض المتدينين القاصرين الذين يسيئون إلى الإسلام من حيث ينشدون خدمته.. إن تبذل النساء فى هذا العصر بلغ حد السفه وهبط إلى درك سحيق من الحيوانية المنكورة.. وصيحات الوعاظ لوقف هذا التيار تذهب بددا.. ص _029(1/27)
لماذا؟ لأن تناولهم لقضايا المرأة مشوب بالغموض أو الجهالة، متسم بالسلبية والعجز، محكوم بتقاليد ما أنزل الله بها من سلطان.. وأغلبهم لو أمكنته الفرص لرد المرأة إلى البيت، وغلق عليها الأبواب، وحرمها مختلف الحقوق المادية والأدبية، وجعلها القدم العرجاء للإنسانية السائرة أو الجناح المكسورة للأمم الصاعدة.. والمسلمون فى العصر الماضى خالفوا الإسلام مخالفة مستغربة فى الطريقة التى تحيا بها المرأة.. فهم حرموها حق العبادة.. بتعبير العصر الحديث - وحظروا عليها دخول المساجد، ويوجد فى أنحاء مصر نحو سبعة عشر ألف مسجد لا ترحب بدخول المرأة، ولم يبن فى أحدها باب مخصص للنساء، كما فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بنى مسجده بالمدينة المنورة.. وقد بذلنا بعض الجهود لتغيير هذه الحال، ولم ننجح إلا فى حدود تافهة..!! مع أن صفوف النساء فى بيوت الله كانت إحدى معالم المجتمع الإسلامى الأول. وهم حرموها حق العلم - بتعبير العصر الحديث - فلم تفتتح المدارس الابتدائية والإعدادية والثانوية والعالية للمرأة إلا بعد محاولات ومجادلات مضنية، ولم تدخل الأزهر إلا بعد تطوره الحديث. مع أن النبى صلى الله عليه وسلم جعل طلب العلم فريضة على الرجال والنساء، ومع أنه أمر بإخراج النساء وهن حوائض ليشهدن الخير ويعرفن دعوة الإسلام. وهم رفضوا أن يكون لها دور فى إحقاق الحق وإبطال الباطل، وصيانة الأمة بنشر المعروف، وسحق المنكر مع أن الله قال فى كتابه ( والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر...). إن الفكرة التى سيطرت على أدمغة نفر من المتدينين هى عزل المرأة عن الدين والدنيا معا، واجتياح كيانها الشخصى والمعنوي.. ولا تزال هذه الفكرة أملا يحركهم ويحملهم على ترويج أحاديث موضوعة أو واهية، وتكذيب أحاديث صحيحة أو حسنة، وعلى تفسير القرآن الكريم بآراء لم يعرفها أئمته، ولا قام عليها مجتمع الأصحاب والتابعين!!(1/28)
ص _030
بل أستطيع القول: إن الجاهلية التى دفعت إليها المرأة الإسلامية بهذا الفكر القاصر جعلتها دون المرأة فى الجاهلية الأولى.. فإن المرأة العربية ظهرت فى بيعة العقبة الكبرى كما ظهرت مبايعة بعد فتح مكة، وقارب عدد النساء المبايعات ستمائة امرأة..!! وجهلة المتدينين تستكثر على المرأة المسلمة هذه المكانة الكبيرة، وقد نتج عن هذا التفكير فى قضية المرأة، وعن التفكير المماثل له فى قضايا أخرى كثيرة، إن ظلم الإسلام ظلما شديدا وإن أساء به الظن من لم يحط به خبرا، ومن لم يحسن له فقها. وعندى أن إفلات النهضة النسائية من قيود الإسلام الحقيقية يرجع إلى هذا العجز والغباء. وقد لاحظت أن بعض المصلحين الذين اشتغلوا بتحرير المرأة قد جرأهم هذا الموقف على ارتكاب حماقات سيئة.. فهم لما قاوموا بنجاح أخطاء بعض المتدينين اندفعوا فى طريقهم مغالين فخطأوا الدين نفسه حيث لا مجال لتخطئة ولا مكان لتصويب.. وإنه لمن المحزن أن يسيء الدعاة عرض دينهم فى ميدان ما فترفع الثقة بهم فى كل ميدان، ثم ينفتح الباب على مصراعيه ليتناول من شاء أحكام الإسلام بالمحو والإثبات. يقبل منها ما يعجبه، ويرد منها ما ينبو عنه مزاجه اللطيف. أكتب ذلك وبين يدى كتاب مطالعة للمدارس الثانوية ألف على عهد وزارة المعارف، وراجعه الدكتور طه حسين بك وآخرون. فى الفصل الثالث من هذا الكتاب حديث عن قاسم أمين، وردت فيه هذه العبارات وصفا له ولمذهبه فى الحياة العامة يوم كان يلى منصب القضاء ".. ولم يتقيد فى قضائه بآراء الفقهاء أو أحكام المحاكم مما يعتبره أكثر القضاة حجة لا محيد عنها، بل لم يتقيد بنص القانون إذا لم يصادف هذا النص مكان الاقتناع منه. وهذا مما جعله ميالا للرأفة فى قضائه نافرا أشد النفور من حكم الإعدام!! فقد كان يرى "أن العفو هو الوسيلة الوحيدة التى ربما تنفع لإصلاح المذنب" وأن "معاقبة الشر بالشر إضافة شر إلى شر" وأن "التسامح والعفو عن كل شيء وعن(1/29)
كل شخص هما أحسن ما يعالج به السوء ويفيد فى إصلاح فاعله" وأن "الخطيئة هى الشيء المعتاد الذى لا محل لاستغرابه والحال الطبيعية اللازمة لغريزة الإنسان". فإذا كانت الجماعة لم توفق بعد إلى إدراك هذه الأفكار، وكانت قوانينها التى وكل إلى تطبيقها - هكذا يتحدث قاسم أمين القاضى عن نفسه!! – ما تزال تجرى على ص _031
سنة القصاص والانتقام، وماتزال دموية متوحشة فلا أقل من أن يتحاشى الإعدام وهو أشد ما فيها وحشية، وهو العقوبة الوحيدة التى لاسبيل لعلاجها إذا ظهر خطأ القاضي، أو ثابت الجماعة إلى رشدها ورأت تعديل عقوبتها بجعل العقوبة للإصلاح لا للقصاص، أو أخذت بمذهب العفو والتسامح. والقارئ الذى يطالع هذه الجمل العمياء يحس أن صاحبها يصطدم بالوحي الإلهى اصطداما مباشرا، وينكر شريعة القصاص، ويصفها بالوحشية!! ويكذب أن فى القصاص حياة ويوغل مع الخيال فيظن العفو العام في كل حال وعن كل شخص قاعدة الإصلاح الاجتماعى الصحيح!! والكلام كله لغو قبيح بل مجون يعزل صاحبه لا عن منصب القضاء وحسب بل عن الفتيا في مشكلات الناس، ودعك من أن قائل هذا الكلام مجرد تجردا تاما من كل احترام لنصوص الكتاب والسنة.. ومع ذلك فإن طلاب المدارس الثانوية أيام وزارة المعارف - يقرؤون عقب هذا الكلام الغث تلك العبارات: كانت روح قاسم روح أديب، وكانت الروح العصبية الحساسة الثائرة التى لا تعرف الطمأنينة ولا تستريح إلى السكون، وكانت الروح المشوقة التى لا تعرف الانزواء فى كن، بل تظل متمحضة للبحث والتنقيب حتى تنسى نفسها، وتستبدل بكنها مافي الكون من نشاط وجمال.. وفى ظننا أن الدعوة إلى تحرير المرأة من رق الجهل ورق الحجاب لم تكن كل برنامج قاسم أمين الاجتماعي، وإنما كانت حلقة منه هى أعسر حلقاته وأعقدها". ونحن نقول إن قاسما وغيره ممن نهج فى الحياة منهجه كانوا أشخاصا ينقصهم قدر كبير من العلم الدينى والمدني، وأنهم استغلوا القصور الشائن الذى غلب على(1/30)
المتحدثين باسم الإسلام فهجموا على الأمور هجوما شاملا كان شره أكثر من خيره.. وربما استطاعوا أن يكتسحوا رجال الدين - إن صحت التسمية - فى مجال النشاط النسائى لما علمت من حقيقة الموضوع. لكن التطويح بشرائع القصاص ومن ورائها بقية الحدود غباء ضارب الجذور وانسلاخ عن الإسلام لايجدى فيه دفاع، ولا يساق فيه عذر.. إذا قال الله (في القصاص حياة) فجاء غر يقول: فى القصاص هلاك فليس هذا جهلا فقط، ولكنه ارتداد عن الإسلام وكفر بواح عندنا من الله فيه برهان. وقد بلغنى أن موظفة فى الإذاعة فى أحد البرامج وصفت قطع السارق بأنه وحشية، ولم يفاجئنى هذا الارتداد الصريح، فإن التمهيد الثقافى له بدأ من عهود الاحتلال الأجنبى لشتى البقاع الإسلامية.. ص _032(1/31)
وما نقلناه هنا من أن آراء قاسم التى وضعت بين يدى طلاب الصفوف الثانوية يشهد لذلك. ونريد أن يعلم القاصى والدانى أن كل طعن فى نصوص الإسلام القاطعة مردود على صاحبه، وأنه ضرب من الارتداد يخدم الاستعمار الحاقد على بلادنا وتاريخنا.. ولا فرق عندنا بين ارتداد جزئى وارتداد كلي، فإن أبابكر رضى الله عنه حارب جاحدى الزكاة مع من عاد إلى الوثنية بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. مع أن مانعى الزكاة زعموا أنهم مؤمنون بالله وإقام الصلاة. بيد أن هذا الزعم لم يخدع الخليفة الأول ولا جمهرة الصحابة، فقاتلوا الفريقين جميعا وعدوا هؤلاء وأولئك كفارا لاشك فى كفرهم.. والحقيقة التى لمسناها أن الناقمين على شرائع الحدود والقصاص قوم لايقين لديهم ولا صلاة لهم، وأن علاقتهم بالقرآن مقطوعة، وأنهم مايستبقون نسبتهم إلى الإسلام إلا لظروف عارضة، أو ليكيدوا له وهم داخل دائرته.. وكلمة أخيرة للمتصلين بالعلوم الدينية، إنه لايشرفهم أن يتبعوا حديثا واهيا ويدعوا الأحاديث الصحيحة، كما لايشرفهم أن يعرفوا رأيا فقهيا ويجهلوا رأيا آخر..!! إنهم يضرون الإسلام ضررا بالغا حين تكون صورته فى أذهانهم ناقصة أو شائهة، ثم حين يزعمون مع هذا النقصان والتشويه أنهم علماء الدين وحراسه.. إن القرن الأول - من بين القرون الأربعة عشر التي تمثل تاريخنا - هو أقرب الصور إلى حقيقة ديننا.. فكيف يحكم الإسلام (متن) من متون الفقه ألف أيام الاضمحلال العقلى لأمتنا، أو كيف يحكم الإسلام تصرف تركى فى مجال السياسة أو المجتمع..؟ لقد كان الاستبحار العلمى سمة ساطعة لأمتنا في أعصارها الأولي، فلا يجوز أن يقطعنا عن هذا الماضى الزاهى جهل عارض، أو فكر غامض. ويوم يعود المسلمون إلي دينهم الحق، فإن التخلف المزرى اللاصق بهم اليوم ستنجلى غمته وتنكشف ظلمته وسيأخذون طريقهم مرة أخري إلى الصدارة والتقدم.. ص _033(1/32)
يهودية وصهيونية لا تبعدوا اليهودية والإسلام عن المعركة... التنادى بالإسلام هو صيحة النجاة... إن وسائل الإعلام فى الأمة العربية حريصة أشد الحرص على أن تفرق بين اليهودية والصهيونية، وعلى أن تجعل القارئ أو المستمع العربى يقصى الدين إقصاء عن الصراع الدائر اليوم على اغتصاب فلسطين وما حولها.. ولا يخفى خطر هذا المسلك، وبعده عن التاريخ والواقع وتخذيله لوسائل الدفاع التى ينبغى توفيرها فى وجه هجوم دينى حاقد !! إن الصهيونية ليست وليدة بحث اليهود عن وطن لهم بعدما أحسوا وحدة الغربة فى أرض الله الواسعة. كلا، فقد وسعتهم بلدان شتي، وعاشوا فيها جزءا من أبنائها الأصلاء ووصلوا إلى درجة فاحشة من الثراء، ومناصب كبيرة فى الحكم. ولكنهم رجحوا نداء دينهم على علاقاتهم بأوطانهم، وآثروا التجاوب مع توراتهم وتلمودهم على الذوبان فى الوطنية الأمريكية أو الألمانية أو الروسية أو المصرية أو العراقية. سيرتهم فى مختلف القارات واحدة، ونزوعهم إلى خدمة عنصرهم وحسب ديدنهم فى كل مكان وزمان.. لقد عاش اليهود ملوكا بيننا نحن المصريين فى أواسط هذا القرن، فلم تركوا مصر إلى إسرائيل ؟ فرارا من اضطهاد ؟ إنه نداء الدين وحده. وهم الآن يحيون ملوكا فى أمريكا وفى أوروبا الغربية، ولكنهم عرضوا مصالح الأوطان التى وسعتهم للبوار. فى سبيل ماذا ؟ فى سبيل إسرائيل، فى سبيل دولة دينية تجمعهم فى سبيل الملك الذى تهفو إليه ضمائرهم، ويتلون آياته فى صحف العهد القديم على أنه وعد الله الذى لا يتخلف لهم ولذراريهم من بعدهم.. إن الصهيونية ليست نزعة سياسية تولدت عن الاضطهاد النازى فى ألمانيا.. ص _034(1/33)
فإن اليهود قبل هذا الاضطهاد بسنين أو بقرون كانوا يحلمون بامتلاك فلسطين وطرد أهلها منها أو إبادتهم فيها.. ونحن لا نقر فى العالم أجمع أى تفرقة جنسية، ولكن مسلك اليهود فى ألمانيا كان هو السبب الأول فى إهاجة الألمان عليهم وإيقاع المذابح الشائنة بهم. لقد ظهر أن ولاء اليهود لأوطانهم الرسمية مزيف، وأن ولاءهم الأول هو جنسهم وتاريخهم وأمانيهم الحرام فى حقوق الآخرين. وربما تعرض اليهود فى أمريكا بعد سنين معدودة لمثل ما تعرض له أسلافهم فى ألمانيا النازية عندما يصحو الأمريكيون فيجدون أن مصالحهم فى العالم العربى والإسلامى قد تلاشت لأن يهود أمريكا قد باعوا هذه المصالح فى سبيل قضاياهم الخاصة.. والمهم- ونحن نواجه معركة الحاضر والمستقبل- أن نحذر من الببغاوات التى تردد بغباء كلمات لا تفهمها وتريد بجهلها الغالب إبعاد اليهودية والإسلام عن المعركة مع أن المعركة لا تعنى إلا القضاء على الإسلام لحساب القوى المعادية له.. إننا لقينا العنت من أولئك الشامخين بجهلهم، سواء كانوا فى الصحف أو الإذاعات، أو المسارح، وظاهر أنهم ثمار الاستعمار الثقافى لبلادنا، ذلك الاستعمار الناقم على الإسلام وحده الحريص على تربية أجيال تكره شرائعه وفضائله، وترفض مناسكه وشعائره وتنسى ماضيه وحاضره. تلك هى الأجيال التى وقفت فى ميدان السياسة تصف الغزو اليهودى لفلسطين، بأنه حركة عنصرية، أو عدوان محلي، أو تعاون بين الأمبريالية والصهيونية، أو تآمر رأسمالى على حركات التحرر الحديث، أو غير ذلك من الترهات التى أتقنها الجهل المستكبر الفاشى هنا وهناك.. ولو أن واحدا من هؤلاء ذهب إلى أقرب مكتبة، ودفع قروشا قليلة أو كثيرة، واشترى العهد القديم وحده، أو الكتاب المقدس كله، ثم كلف خاطره القراءة فيه لوجد التخطيط الدينى لإسرائيل الكبرى واضحا فى صحائفه، ولوجد الكفن يلف رفات العرب منسوجا من كلماته، ولوجد حرب الإبادة التى تعرض لها قومه ناضحة بين(1/34)
سطوره.. إن مؤامرة الاستعمار فى القرون الأخيرة خلع العرب من دينهم فى الوقت الذى يتحمس فيه كل ذى دين لدينه.. ص _035
إن صحف العهد القديم لم تكتف بحداء بنى إسرائيل كى يجيئوا من كل مكان إلى فلسطين، بل صورت لهم البقاع التى ينزلون بها، والحدود التى تفصل كل سبط عن أخيه !! ووزعت عليهم دمشق وحماة وبيروت وعشرات من البلاد الواقعة قرب البحر المتوسط.. اقرأ هذه السطور من سفر حزقيال. لذلك هكذا قال السيد الرب: الآن أود سبى يعقوب وأرحم كل بيت إسرائيل، وأغار على اسمى القدوس. فيحملون ضربهم وكل خيانتهم التى خانونى إياها عند سكنهم فى أرضهم مطمئنين ولا مخيف. عند إرجاعى إياهم من الشعوب، وجمعى إياهم من أراضى أعدائهم، وتقديسى فيهم أمام عيون أمم كثيرة، يعلمون أنى أنا الرب إلههم بإجلائى إياهم إلى الأمم ثم جمعهم إلى أرضهم. ولا أترك بعد هناك أحدا منهم، ولا أحجب وجهى عنهم بعد، ولأنى سكبت روحى على بيت إسرائيل يقول السيد الرب.. الإصحاح الأربعون فى السنة الخامسة والعشرين من سبينا، فى رأس السنة، فى العاشر من الشهر، فى السنة الرابعة عشرة بعدما ضربت المدينة.. فى نفس ذلك اليوم كانت على يد الرب وأتى بى إلى هناك.. فى رؤى الله أتى بى إلى أرض إسرائيل ووضعنى على جبل عال جدا عليه كبناء مدينة من جهة الجنوب ولما أتى بى إلى هناك إذا برجل منظره كمنظر النحاس، وبيده خيط كتان وقصبة القياس وهو واقف بالباب. فقال لى الرجل: يا ابن آدم: انظر بعينيك واسمع بأذنيك واجعل قلبك إلى كل ما أريكه لأنه لأجل إرادتك أتى بك إلى هنا. ص _036(1/35)
أخبر بيت إسرائيل بكل ما ترى. وإذا بسور خارج البيت محيط به وبيد الرجل قصبة القياس ست أذرع طولا بالذراع وشبر.. فقاس عرض البناء قصبة واحدة وسمكه قصبة واحدة. ثم جاء إلى الباب الذى وجهه نحو الشرق وصعد فى درجة، وقاس عتبة الباب قصبة واحدة عرضا والعتبة.. إلخ إلخ إلخ. الإصحاح الأربعون والحادى والأربعون والثانى والأربعون حيث ينتهى وصف قياس بيت الهيكل. الإصحاح الثالث والأربعون "ثم ذهب بى إلى الباب. الباب المتجه نحو الشرق وإذا بمجد إله إسرائيل جاء فى طريق الشرق وصوته كصوت مياه كثيرة والأرض أضاءت من مجده". "وقال لى يا ابن آدم هذا مكان كرسي، ومكان باطن قدمي، حيث فى وسط بنى إسرائيل إلى الأبد اسمى القدوس. لا هم ولا ملوكهم". الإصحاح الخامس والأربعون "وإذا قسمتم الأرض ملكا تقدمون تقدمة للرب قدسا من الأرض طوله خمسة وعشرون ألفا طولا والعرض عشرة آلاف". الإصحاح السابع والأربعون هكذا قال السيد الرب. هذا هو التخم الذى به تمتلكون الأرض بحسب أسباط إسرائيل الإثنى عشر. يوسف قسمان. وتمتلكونها أحدكم كصاحبه - على الهيئة - التى رفعت يدى لأعطى آباءكم إياها وهذه الأرض تقع لكم نصيبا. وهذا تخم الأرض: نحو الشمال من البحر الكبير طريق حثلون إلى المجيء إلى صدد: حماة وبيروته وسترائيم التى بين تخم دمشق وتخم حماة وحصر الوسطى التى على تخم حوران. ويكون التخم من البحر حصر عينان تخم دمشق والشمال شمالا. وتخم حماة وهذا جانب الشمال. وجانب الشرق بين حوران ودمشق وجلعاد وأرمن إسرائيل ص _037(1/36)
الأردن من التخم إلى البحر الشرقى نفيسون، وهذا جانب المشرق وجانب الجنوب يمينا من ثامار إلى مياه مريبوث قادش النهر إلى البحر الكبير. وهذا جانب اليمن جنوبا. وجانب الغرب البحر الكبير من التخم إلى مقابل مدخل حماة. وهذا جانب الغرب فتقتسمون هذه الأرض لكم لأسباط إسرائيل". هكذا وضع أنبياء بنى إسرائيل الأقدمون خطة تمزيق العرب، وتقسيم تراثهم على أسباط إسرائيل. وقد نقلت هذه السطور من العهد القديم وإن كنت لم أفهم أغلب الأسماء التى تحدد تخوم الأرض أو توضح اتجاهات الزحف اليهودى كما أوصى به كاتبو ذلك العهد.. ويظهر أن اليهود لخصوا المراد فى الجملة المشهورة "أرض إسرائيل من الفرات إلى النيل" وهم أدرى بما فى كتبهم المقدسة، وأدرى بما يعنيه "حزقيال" متلقى هذه الخريطة عن الوحى الإلهى كما يدينون.. وأريد أن أقول باسم الإسلام المستوحش المكتئب كلمة حاسمة. كلمة سوف تبدو غريبة على الأذان التى طمسها الهوان والإذلال أمدا طويلا، والتى مرنت على سماع الزور والباطل وحده. إن الدين قد انتقل انتقالة واسعة عن المفهوم البدائى الضيق الذى ألفه الإسرائيليون مفهوم الهيكل، ومملكة الرب، والشعب المختار، وحكم العالم باسم رب الجنود عن طريق حكماء صهيون أو بيت إسرائيل.. إن هذه الكلمات المصورة لمعنى الدين أليق بالعهد البدائى الذى كانت قبائل إسرائيل فيه تغدو وتروح بقيادة رعاة محليين يؤدون واجبهم حينا، أو يقتلون قبل هذا الأداء المفروض. لقد أصبح للدين مفهوم أرحب، ليس فيه هيكل مقدس، ولا شعب مختار ولا أدب محتكر. حقيقة هذا الدين أن الله رب العالمين أجمعين على سواء. ص _038(1/37)
وأن التقدم عنده ليس بالنسب ولا بالادعاء بل بالخلق الزكى والتقوى المهيمنة. لا كهانة هناك ولا تهاويل ولا هياكل.. شيئان فقط هما أساس العلاقة بين الله الأحد، وبين كل إنسان يمشى على قدميه فى القارات الخمس الإيمان والعمل الصالح. إن محاولة بنى إسرائيل مسخ مفهوم الدين على النحو الذى جمدوا عليه من عشرات القرون جريمة فاحشة لا يمكن قبولها.. لقد جاء عيسى ابن مريم ليكسر القيود الصلبة التى أراد بنو إسرائيل حبس الدين داخلها. وكان مجيئه تمهيدا للرسالة الخاتمة التى مزجت الدين بكل أشواق الإنسانية الرفيعة فى الإيمان المهدى والأخوة العامة، حيث لا مكان للتسامى إلا بالقلب السليم والفكر السليم.. نعم بعث الله محمدا مسويا بين أجناس البشر فى الولاء للحى القيوم مسقطا كل سلطان مفتعل فى ميدان الروح أو فى ميدان المال.. فإذا أراد بنو إسرائيل أن يلحقوا بقافلة الإنسانية الحرة المتآخية فلا بد أن يؤمنوا بعيسى ومحمد وإذا كانوا حراصا على استعادة مجدهم القديم فطريق الخلاص مفتوحة أمامهم، ولكى يعرفوها جيدا قال الله ( يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون * وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم...). إن بنى إسرائيل يحلمون أن يحكموا العالم من هيكلهم وهم مصرون على تصديق ما لديهم وحده وتكذيب كل ما جاء به عيسى ومحمد.. وما لديهم مزيج من وحى الله وهوى الأنفس. ولو افترضنا جدلا أنه حق لا ريب فيه، فإن الوقوف عنده وحده، ونبذ ما أوحى الله بعده، مسلك لا تصلح به الدنيا ولا يسعد به عباد الله.. ومن هنا اشترط الإسلام أن يكون الإيمان بكتب الله كلها، ورفض ما سوى ذلك من إيمان مبتور فقال جل شأنه ( يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم) . ص _039(1/38)
وعلى لسان موسى - كبير أنبياء بنى إسرائيل - ذكر ربنا جل جلاله أن أبواب رحمته مفتحة لعباده، وأن الصلحاء الأتقياء يستطيعون دخولها متى شاءوا، فعندما دعا موسى ( واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة إنا هدنا إليك) كان الجواب الإلهى له (عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون * الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم). إن قيادة العالم باسم الله ليست مهمة سهلة يستطيعها اليهود بمهارتهم المالية وألاعيبهم الشيطانية، وتسخيرهم للشعوب المفرطة وانتهازهم للفرص المتاحة.. وقد نبأ القرآن الكريم أن التاريخ اليهودى سيتفاوت بين مد وجزر، ومعصية وطاعة وهزيمة ونصر. قال لهم بعد هدم الهيكل الأثير ( إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها..) وقال لهم أيضا (وإن عدتم عدنا). أى إن عدتم للفساد عدنا للانتقام. وقد عاد اليهود إلى فلسطين - لأسباب شتى - فكيف عادوا ؟ وما هى مثلهم العليا، وما مواقفهم من وصايا الله للنبى الخاتم والنبى الذى سبقه وبشر به ؟ لقد عادوا متشبثين بما لديهم وحده مكذبين لكل ما جد بعد.. وكسبوا نصرا بعد نصر على من ؟ على أوزاع من العرب جهلوا رسالتهم، ونسوا تاريخهم، وعاشوا فى دنيا الناس أذنابا، وعن كتاب الله وهدى نبيه غرباء.. إن مجموعة الشعوب الإسلامية تشعر بجزع مر لا للحروب التى جرت بين العرب واليهود، ولكن للطريقة التى جرت بها هذه الحروب، ولظاهر الانحلال والفسق عن أمر الله التى ملأت جوها.. ص _040(1/39)
كان العرب أزهد الناس فى كتابهم، وكان اليهود ألصق الناس بتوراتهم.. كان اللص متحمسا فى الهجوم، وكان رب البيت باردا فى الدفاع.. وبلغ من نجاح الغزو الثقافى لبلادنا أن الحرب تعلن علينا لفرض دين، واجتياح أمة، ومع ذلك تتبارى وسائل الإعلام فى تضليل الفكر العربي، وتصف هذه الحرب بأى شيء إلا أنها تتصل بالدين.. ولم ذلك ؟ حتى لا يستيقظ الوعى الإسلامى العارم، وتتجاوب الأصداء بضرورة العودة العامة الجادة إلى الإسلام لوقف هذا الفناء القادم. لكن آمالنا أن غرائز الأمم تصحو لملاقاة الخطر الداهم، وأن التنادى بالإسلام سوف يكون اليوم صيحة النجاة. وسوف يكون غدا صيحة النصر.. ( وقل الحمد لله سيريكم آياته فتعرفونها وما ربك بغافل عما تعملون ). ص _041(1/40)
الإسلام كل لا يتجزأ أصاب جهاز (التليفزيون) عندى عطل مبهم فلم تظهر الصورة المرتقبة، ونظرت إلى الجهاز الجاثم فى مكانه لا يؤدى عمله نظرة استغراب ! وتحسسته بيدى فخيل إلى أنه لا ينقص شيئا من آلاته الجلية والخفية... وأخيرا جاء العامل المتخصص فى إصلاحه، واستبدل بجزء تالف منه جزءا صالحا، واستأنف الجهاز عمله، وشرع يحقق الفائدة المرجوة منه !! وقلت فى نفسي: إن الجهاز كله توقف عن أداء رسالته حتى تعاونت أجزاؤه الصغار والكبار على تحقيق وظائفها المنوطة بها !! ولا عجب فقد تتوقف الدبابة عن السير والقتال لقطعة تنقصها فى مقدمتها أو مؤخرتها... وقد يتعطل مصنع عن الإنتاج تكلف إنشاؤه الألوف المؤلفة من الجنيهات، لأنه يفتقر إلى تكملة لا تساوى مائة جنيه.. وهكذا شئون الحياة المادية والأدبية، قد يصيبها عطب فادح، لأن شطرها أو أغلبها موجود، وبقيتها الأخرى مفقودة عن خطأ أو تعمد. ومن ثم قد ترى أمامك أشياء صالحة، ولكنها قليلة الجدوى، لأنها مبتورة، وما تتم قيمتها وتبرز ثمرتها إلا إذا دارت الحياة فيها وفيما يكملها، وعندئذ ينطلق التيار فى دائرته المغلقة فيسطع النور.. إن تعاليم الإسلام كذلك لا تصلح الحياة وتقيم المجتمعات إلا على النحو الذى شرحنا.. وعناصر الوحى تشبه عقاقير الأدوية لا يتم الشفاء بها إلا إذا أخذناها كما جاءت. أما إذا طرحنا عقارا، وتناولنا آخر فلن يذهب لنا سقام.. وقد وجدت أن كثيرا من علل المسلمين الفكرية والنفسية، بل عللهم الاقتصادية والسياسية ترجع إلى أنهم يجدون مع بعض النصوص، ويهزلون مع بعضها الآخر، فلا يحصدون من هذا التناقض إلا ضياع النصوص كلها. ص _042(1/41)
ولا يفيدون من النصوص التى عملوا بها - فيما يزعمون - شيئا طائلا ! لأن وجودها المنقوص فى المجتمع كوجود جهاز (التليفزيون) الذى سقت لك خبر عطله. تأمل معى هذا الحكم الشرعى فى فرع من فروع الفقه الإسلامي... يقول الله تعالى : ( وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا). إلى هنا يمكن تقرير الحكم العملى فى شأن يتصل بكيان الأسرة، وربما لا يشغل العلماء أنفسهم عند تقرير الحكم بأبعد من ذلك عند إيراد النص... أفهذا ما فعل القرآن الكريم ؟ لا، لقد أعقب ذلك بخمس جمل تتضمن فنونا من النصح والتأديب والتربية يضيع المجتمع إن أضاعها، فقال جل شأنه: 1 - ( ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه). 2 - ( ولا تتخذوا آيات الله هزوا). 3 - ( واذكروا نعمت الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به). 4 - ( واتقوا الله) . 5 - ( واعلموا أن الله بكل شيء عليم ). وعندما توجد فى بلادنا أحكام الطلاق ولا توجد معها بقية المعانى التى صاحبتها فى هذه الآية فسوف يلعب بكتاب الله، ولن تزيد الأمة إلا خبالا... !! خذ مثلا آخر، لقد نهى الإسلام عن السرقة، وأمر بقطع يد السارق، بيد أن هذا الحد من حدود الإسلام يكون خيرا وبركة مع إحياء أوامر الله كلها، وإقامة شعب الإيمان الكثيرة، التى تسد يقينا كل ثغرة، وتمنع أى غبن، وتطارد آفات البطالة والجوع عند البعض، وآفات النهب والحيف والسرف عند البعض الآخر. أما مع رفع كل رقابة عن طرق الاكتساب، وإتاحة الثراء من شتى الوجوه الحرام، وإيقاع الضعاف فى عقابيل البأساء والضراء، فالأمر يحتاج إلى تبصر فى التطبيق. ص _043(1/42)
ومعاذ الله أن نتريث فى إقامة حد من حدود الله، ولكنا نقول مقالة الحسن، وقد رأى الشرطة تقبض على لص فقال: أسارق السر يسعى به إلى سارق العلانية... ؟!! وما كذلك دين الله... وسمعت متحدثا فى الدين يذكر أنه لا حدود للمهر، ويستشهد بقصة المرأة التى اعترضت عمر بن الخطاب لما أراد تقييد المهور. والقصة صحيحة، ولكن المتحدث قليل الفقه فى الإسلام، ضعيف الشعور بمآسى المسلمين اليوم.. إن الجمهرة من الشباب ألفت أن تقضى صدر عمرها، ولا أقول شطره، فى التسول الجنسى والانحراف الشائن، وكل تعسير للحلال سيتبعه حتما تيسير الحرام، فكيف يلقى فقيه ربه بإقرار هذه الحال، أو إقرار ما يؤدى إليها يقينا ؟ إن قصة عمر مع المرأة المعترضة تفهم فى جو كان الرجل يستطيع فيه الزواج مثنى وثلاث ورباع.. وكان الحرام يقع فلتات نادرة أو استثناء من قاعدة عامة... أما اليوم فإن العرف السائد بين جماهير المسلمين فى الزواج والمهور والهدايا لا صلة له بتقوى الله، ولا إشاعة الاستعفاف، ولا إقرار الطهر النفسى والاجتماعي. إنه عرف يقوم فى جملته على رذائل الرياء، والكبرياء، ورغبة أسر كثيرة فى الانتفاخ والتعاظم... إن الإسلام كل لا يتجزأ، والشبكة التى تنسج تعاليمه الدقيقة تفقد جدواها عندما تخرق من جانب واحد ، فكيف إذا تعددت فيها الخروق، وتفاحش الإهمال والتلف ؟؟ والواقع أن هجر بعض الأحكام الإسلامية، والإقبال على بعضها الآخر، هدم لمبدأ السمع والطاعة المأخوذ على جماعة المؤمنين. فإن تقسيم الوحى الإلهى على هذا النحو لا يعدو أن يكون تحكيما للهوى الشخصى فيما ورد، فما أعجبنا قبلناه وما لم نسغه رفضناه. وهذا قريب من مسلك المشركين أنفسهم مع رسول الله، فإنهم لم يردوا كل ما جاء به، بل وافقوه على البعض، وحاربوه على البعض الآخر، ولذلك أمره الله بالثبات ص _044(1/43)
على الكل، وقال له: ( فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك إنما أنت نذير والله على كل شيء وكيل ). واتباع الهوى فى استبقاء حكم، وإطراح آخر معناه أن ما استبقى ليس لأنه أمر به!! فقد أمر بغيره كذلك فلماذا ترك ؟ معناه أن ما استبقى ظفر بالحياة لأنه أرضى رغباتنا فقط، ولو صادمها لطوحنا به هو الآخر. وقد نبه القرآن الكريم إلى أن فساد بنى إسرائيل نشأ مع هذا العوج، فقد أخذت عليهم المواثيق بأمور سواء، ففعلوا بعضها وتناسوا بعضها، لأنهم يتصرفون وفق شهواتهم، ولا يرتبطون بأمر الله ونهيه.. فكان التعقيب الإلهى على هذا السلوك: ( أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون ).. والأمة الإسلامية اليوم موزعة على عشرات الدول، وأمر الإسلام فى كل دولة منها يستحق الدراسة، ويؤسفنى أن أقول: إنى لم أره مكتمل الشكل والموضوع فى قطر من أقطار الأرض. هناك مجتمعات لا تعترف بالحدود والقصاص، ومجتمعات لا تعترف بدساتير الحريات والحقوق، ومجتمعات لا تعترف بالحلال والحرام، وأخري. نترك الصلاة والصيام، وأخرى... وأخرى... وأعداء الإسلام كلما رأوا جزءا منه أصابه الشلل، سارعوا بالتدخل الماكر، ليزيدوا الطين بلة، أو ليزيدوا المريض علة... ونحن نصرخ بأولئك المسلمين المفرطين أن يرجعوا إلى دينهم كله، لا يدعون منه شيئا، ولا يفرطون فى جانب، ولا يأذنون لعدو سافر ولا لصديق جاهل أن يصرفهم عن كتاب ربهم وسنة نبيهم، فذاك وحده طريق النصفة والانتصار. إن شعب الإيمان التى تبلغ السبعين موزعة توزيعا دقيقا على الدائرة الرحبة التى تمد إليها وظيفة الإيمان وتنتشر فيها أشعته. ص _045(1/44)
ولما كان الإسلام علاقة تشمل النفس والمجتمع والدولة، وتتناول المعاش والمعاد فى إطار من معرفة الله ورقابته، فإن تعاليمه تشبه شبكة الأعصاب المربوطة فى الكيان الإنسانى كله لا تخلو منها جلدة بين الرأس والقدم.. ! قال تعالى : ( ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين).. ومن الخطأ تصنيف تعاليم الإسلام على أساس فنى وتصور أن بعضها يقوى وينمو فى حين أن بعضها الآخر يذبل ويذوي. إن ذلك قد يجوز فى عالم الدراسات النظرية حيث ينجح الطالب فى مادة ويرسب فى أخرى لأنه استوعب الأولى وأهمل الثانية. أما فى المجتمع الكبير فإن اعتلال بعض الإسلام ينقل العلة إلى البعض الآخر على عجل أو على مهل ما لم نسارع بالاستشفاء والتصون وإنفاذ أوامر الله فى كل مجال. فضعف العقيدة مثلا ليس يترك أثره الرديء فى صلة المسلم بربه بل يتعدى ذلك إلى موقف الفرد من الجماعة وموقف الدولة من العالم أجمع. وترك الصلاة ليس معصية خاصة فقط بل هو ذريعة إلى انهيار الأخلاق وانتشار الآثام. وإهمال الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ليس برودا فى عاطفة التدين فقط ولكنه آية على موت الضمير الاجتماعى وتلاشى رسالة الأمة. والاستعمار الحديث فى حملته على الإسلام لا يقوم بهجوم شامل على كل شيء إنه أذكى من ذلك وأدهي. إنه يصر على إماتة بعض التعاليم أو سرقتها من الوعى العام عالما أن ما بقى سيتبع ما أخذ. ترى هل سنخدع عن ديننا أم ندافع عن كل ذرة منه؟!!. ص _046(1/45)
مشاعر نفسية وراء بعض الخلافات المؤمنون أفرادا وجماعات يتحرون صراط الله فى مسالكهم كلها، ويجتهدون أن تقع أعمالهم وفق مراد الشارع الحكيم سواء فى العبادات المنقولة، أو المعاملات المعقولة.. وغير المؤمنين يخطون طريقهم فى الحياة بجهدهم الفكري، وتجاربهم الخاصة، وصلتهم بالوحى الأعلى مقطوعة أو واهية. وفى الوقت الذى تحكم فيه النصوص السماوية والقواعد الدينية حياة المؤمنين بالله، نجد غير المؤمنين ينشطون بفكرهم المجرد للتصرف فى هذه الحياة، ووضع ما يرون من دساتير وقوانين يظنون أنها تكفل مصالحهم وتضمن سعادتهم.. وقد اتسعت علوم السياسة والاجتماع والأخلاق والاقتصاد وغيرها من العلوم الإنسانية البحتة وانفردت بقيادة الإنسان على ظهر الأرض إلى جانب مجموعة من الفلسفات النظرية التى اشتغل بها العقل البشرى من قديم.. أما المؤمنون بالله، ونحن فى هذا الفصل نعنى المسلمين خاصة، فهم يعتمدون على شمول التعاليم السماوية لشئون حياتهم ويستغنون بها عما وراءها من مذاهب ونظرات.. معتقدين أن فى هدايات الله الغنى الكامل، وأن الله جل شأنه قد ضبط معاشهم ومعادهم بكلامه وسنة نبيه، فلا مكان لشيء آخر بعد.. ( الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان..).. ( لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط). والحق أن الوحى الإلهى فى الرسالة الخاتمة قد كفى وشفي، فحدد حيث ينبغى التحديد وفصل حيث يستحب التفصيل، وأجمل وعمم حين يقتضى الأمر إرسال التعليمات مجملة عامة، وحث الفعل على أداء وظيفته فى البحث والاكتشاف والتبصر والاعتبار.. وحذره أن يجانب الحق بالحدس والتخمين، وأن يبدد قواه فى اقتحام الغيوب المعجزة.. كما علمه الأدب مع الله ورسوله، فلا مكان لاقتراحاته حيث يتكلم الوحي، ولا لابتداعاته حيث مضت السنة.. !! ص _047(1/46)
والمعانى التى قررناها آنفا ليست موضع خلاف بين المسلمين، ولكن الخلاف أخذ لونا آخر يقترب اقترابا شديدا من هذا الموضوع، فقد تساءل أسلافنا غفر الله لهم عن مكانة العقل بالنسبة إلى الحظر والإباحة والفعل والترك والاستهجان والاستحسان، وكانت إجابة كثير منهم أن العقل فى هذا الميدان صفر، وأن الشرع وحده هو كل شيء.. وفى هذه الإجابة غموض وجور.. ! فإن العقل يستطيع بنوره الذاتى أن يعرف الشر فى أشياء كثيرة، وأن يلحظ الخير فى أشياء كثيرة وقد لفت القرآن الإنسان إلى أنه بفطرته قادر على التفرقة بين شناعة الجهل وكرامة العلم ( قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب). وإلى أنه بفطرته يستقبح الظلم ويأبى الحكم به ( أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون ). صحيح أن العقل الإنسانى بحاجة إلى عون من الله، ومدد من الوحي.. بيد أن هذه الحاجة لا تعنى بخس قيمته، ولا التهوين من قدرته المحدودة فى مجال التحسين والتقبيح لكن جمهور السلف رأى - سدا لباب الاستغناء بالعقل - أن يجعل الشارع صاحب الكلمة الأولى والأخيرة فى هذا المجال، ويقرر هذا العلامة الزنجانى فى كتابه : (تخريج الفروع على الأصول) فيقول: ذهب الشافعى وجماهير أهل السنة إلى أن الطهارة والنجاسة وسائر المعانى الشرعية كالرق والملك والعتق والحرية، وسائر الأحكام الشرعية ككون المحل طاهرا أو نجسا، وكون الشخص حرا أو مملوكا، ليست من صفات الأعيان المنسوبة إليها، بل أثبتها الله تحكما وتعبدا، غير معللة !! لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، ولا تصل آراؤنا الكليلة، وعقولنا الضعيفة. وأفكارنا القاصرة إلى الوقوف على حقائقها، وما يتعلق بها من مصالح العباد، فذلك حاصل ضمنا وتبعا، لا أصلا ومقصودا، إذ ليست المصلحة واجبة الحصول فى حكمه.. ص _048(1/47)
واحتج على ذلك: بأن الله تعالى إذا جاز أن يعاقب الكافر على كفره، والفاسق على فسقه ولا مصلحة لأحد فيه، جاز أن يشرع الشرائع، وإن تعلق بها مفسدة، ولا يتعلق بها مصلحة لأحد !! ولذلك الله تعالى كلف الإنسان ما ليس فى وسعه فقال تعالى: ( فأتوا بعشر سور مثله مفتريات ) (فأتوا بسورة من مثله) وقال للملائكة ( أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين) وكل ذلك تكليف للإنسان ما ليس فى وسعه، وذلك ضرر لا مصلحة فيه . وسر هذه القاعدة أن الله تعالى مالك الملك وخالق الخلق. يتصرف فى عباده كيف يشاء، ولا كذلك الواحد منا، فإنه إذا أضر بغيره كان متصرفا فى ملك الغير بالضرر، وذلك ظلم وعدوان.. وذهب المنتمون إلى أبى حنيفة من علماء الأصول إلى أن الأحكام الشرعية صفات للمحال، والأعيان المنسوبة إليها، أثبتها الله تعالي، وشرعها معللة بمصالح العباد لا غير، كما أن الحسن، والقبح، والوجوب، والحظر، والندب، والكراهة، والإباحة، من صفات الأفعال التى يضاف إليها، غير أنهم قسموا أحكام الأفعال إلى : ما يعرف بمجرد العقل وإلى ما يعرف بأدلة الشرع على ما سيأتي: أما أحكام الأعيان فقد اتفقوا على أنها كلها تعرف بأدلة شرعية، ولا تعرف بمجرد العقل، وأنها كلها تثبت بإثبات الله تعالي. واحتجوا فى ذلك بقياس الشاهد على الغائب، بناء على قاعدة التحسين والتقبيح، وزعموا أن شرع الحكم لا لمصلحة عبث وسفه، والعبث قبيح عقلا، وهو كإقدام الرجل اللبيب على كيل الماء من بحر إلى بحر، فإنه يقبح منه ذلك ويستحق الذم عليه. وإذا تمهدت هذه القاعدة فنقول : الشافعى حيث رأى أن التعبد فى الأحكام هو الأصل غلب احتمال التعبد، وبنى مسائله فى الفروع عليه. وأبو حنيفة حيث رأى أن التعليل هو الأصل بنى مسائله فى الفروع عليه، فتفرع عن الأصلين المذكورين مسائل.. الخ. ص _049(1/48)
ولست هنا بصدد ترجيح مذهب الأحناف، وتضعيف رأى الجمهور، فالأمر عندى أعمق من ذلك.. إن المسلمين كافة يعلمون أن الله هو القاهر فوق عباده، وأنه ليس لبشر ما أن يقف أمامه إلا عانى الوجه مكسور الشوكة.. وإن إرادته نافذة فى أرجاء الملكوت لا يعترضها إنس ولا جن ( ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين). لكن الله - وله المجد الذى لا يبلى - خلق السماوات والأرض بالحق لا بالباطل، وسير الكائنات فى البر والبحر والجو بالحكمة لا بالفوضى، ودبر الأمور من الأزل إلى الأبد وفق نظام دقيق، لا خبط عشواء ولا تقدير مجازف ( وكل صغير وكبير مستطر). فكيف يتصور فى شرائعه أن تتجنب المصلحة أو تنطوى على مفسدة ؟ إنه حقا لا يسأل عما يفعل، ولكن لماذا نتصور أن من ذاته فوق المسئولية يجوز أن يصدر عنه ما لا ينبغى ؟ بحجة أنه مالك الملك ؟ الأولى من ذلك، والأدنى إلى الصواب، أن تعرف حدود الدائرة التى يستطيع فيها العقل البشرى الإدراك الصحيح والحكم السديد.. إن الإنسان الفرد يتفاوت حكمه فى مرحلتين من عمره على شيء واحد، وربما استقبح وهو شيخ ما كان يستحسنه وهو شاب. وربما نسج القصور غشاوة كثيفة أو خفيفة على أبصارنا فظننا نفعا لنا ما هو ضار بنا ( وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون ). فإذا توهمنا عوجا ما فى مظاهر الخلق، أو جورا ما فى أحوال الناس، فلنتهم أفكارنا نحن ولنعترف بقلة علمنا بدل أن نقول ( لا يسأل عما يفعل). وأعتى علماء المادة يعترف بأن ما نجهل أضعاف أضعاف ما نعلم، وأن حصيلة الذكاء البشرى طوال القرون تشبه عودا من الثقاب أوقد فى ظلمات ليل ضرير الآفاق، إنه ما يرى فى هذا الكون الكبير إلا النزر اليسير.. ص _050(1/49)
وقد شاء رب العالمين أن يزود الإنسان بالعقل ليستبين به فى نطاق محدود الخير من الشر والخطأ من الصواب، كما زود العين بالقدرة على الرؤية فى نطاق أبعاد معينة.. وربما أصيبت العين بعاهة عارضة تمنعها من النظر البعيد أو القريب، بيد أن ذلك لا يعنى أن طبيعة العين العجز عن الرؤية.. وكذلك لا نسلم لأحد القول بأن العقل عاجز بطبيعته عن إدراك الحسن والقبح فى الأشخاص والأشياء، ولا نسلم أبدا بأن الكذب والصدق، والعدل والجور معان متساوية القيمة أصلا حتى تنزل الوحى الأعلى فحسن هذه وقبح تلك. والذى نراه أن جمهور المسلمين وفى مقدمتهم الإمام الشافعى يقصدون بكلامهم فى التحسين والتقبيح رفض تحكيم الفلسفة العقلية فى سير الإنسان ومصيره، وحاضره ومستقبله، وشئون حياته كلها ما دق منها وما جل.. وهذا مذهب خطير بلا ريب، بل هو تجاهل لرسالات الله كلها، واستعلاء على ما جاء بها، وقبول ما يعجب ورد ما لا يعجب. ومن فجر الخليقة حاول الإنسان أن يعتمد على نفسه فى الفعل والترك والقبول والرفض، وفى عصرنا هذا أعطى الإنسان نفسه حرية مطلقة فى التشريع الخاص والعام، وتصرف فى شتى التقاليد بالمحو والإثبات.. وجعل حقه فى التحسين والتقبيح فوق ما قرع آذانه ليلا ونهارا من آيات الله والحكمة.. وما يختلف مسلم ومسلم فى أن ذلك المسلك مردود جملة وتفصيلا. وإذا كانت هناك الآن مقررات فى علوم الاجتماع والاقتصاد، أو فى ميادين السياسة والقانون تختلف مع نصوص الدين وقواعده العامة فهى فى نظر فقهاء المسلمين قاطبة منكورة مبعدة.. فإن أوامر الله ونواهيه هى المصدر الأعلي، أو قل هى المصدر الأوحد لما يحظر أو يباح، وقد عاد الزنجانى فى كتابه القيم (تخريج الفروع على الأصول) إلى هذا الموضوع مرة أخرى فقال: "ذهب جماهير العلماء إلى أن التحسين والتقبيح راجعان إلى الأمر والنهي، فلا يقبح شيء لعينه، ولا يحسن شيء لعينه، بل المعنى بكونه قبيحا محرما، أنه متعلق النهي،(1/50)
والمعنى بكونه حسنا واجبا أنه متعلق الأمر، واحتجوا فى ذلك بأن إيجاب العقل شيئا من ذلك لا يخلو: إما أن يكون ضروريا، أو نظريا. ص _051
والأول محال، فإن الضروريات لا تنازع فيها، كيف ونحن جم غفير وعدد كثير لا نجد أنفسنا مضطرين إلى معرفة حسن هذه الأفعال ولا قبح نقائضها. والثانى أيضا محال لإفضائه إلى التسلسل. وذهب المنتمون إلى أبى حنيفة رضى الله عنه من علماء الأصول إلى أن الأفعال تقسم إلى ثلاثة أقسام: فمنها: ما يستقل العقل بدرك حسنه وقبحه بديهة، كحسن الصدق الذى لا ضرر فيه وقبح الكذب الذى لا نفع فيه. ومعنى استقلال العقل بدرك ذلك عندهم: إنه لا يتوقف على أخبار مخبر. ومنها: ما يدرك حسنه وقبحه بنظر العقل كحسن الصدق المشتمل (على الضرر) وقبح الكذب المشتمل على النفع. ومنها: ما لا يستقل العقل بدرك حسنه وقبحه أصلا، دون تنبيه الشرع عليه كحسن الصلاة والصوم والحج والزكاة، وقبح تناول الخمر والخنزير ولحوم الحمر الأهلية، وزعموا أن أمر الشرع فى هذا القسم ونهيه، كاشف عن وجه حسن هذه الأفعال وقبحها، لعلمه بأن امتثال أمره فيها يدعو إلى المستحسنات العقلية، وكذلك الترك فى نقيضها من المناهى واحتجوا على كون العقل مدركا لمعرفة الحسن والقبح: بأن البراهمة يقبحون ويحسنون مع إنكارهم الشرائع وجحدهم النبوات. وقد رفض الزنجانى مذهب الأحناف الذى صوره فى إيجاز، وآثر عليه غيره. والذى نعود إلى توكيده أن الله جل شأنه هو الحاكم المقسط، وأنه لا يشرع إلا ما فيه صلاح أمرنا فى العاجل والآجل، وأنه منحنا عقولا تستطيع أن تبصر وجه الحكمة فى أغلب ما شرع، وأن ما يفوتها عرفانه فلقصورها عن الإحاطة بكل شيء.. وتلك معان لا يختلف الفقهاء فيها، وما ورد يشعر بخلاف فأساسه الحرج النفسى من مذاهب جائرة عن الطريق الحق أو بتعبير فقهائنا الأقدمين أساسه (سد الذريعة). ص _052(1/51)
حقيقة وشريعة .. !! جلست يوما أختم الصلاة وأردد الألفاظ المائة المأثورة، متدبرا ما تدل عليه من تسبيح وتحميد وتكبير، بيد أن الشيطان سرق فكرى دون أن أدري، فإذا أنا أسرح فى إحدى القضايا، أستعرض أحداثها وأتتبع مراحلها وأتوجس من نتائجها !! وغصت فى أعماق القضية العارضة حتى ارتطمت بقاعها ولسانى يحصى آخر الكلمات المائة التى تعقب الصلوات المكتوبة، لتكون ذكرا بعد ذكر، وتحية بعد تحية !! وشعرت بتناقض بين حالى ومقالي، وساءلنى ضميري: أكنت حقا تذكر ربك، وتسبحه وتحمده وتكبره ؟ ولم يكن للكذب مجال، لقد كان فؤادى فى واد آخر، وإن كان لسانى يردد ما تعوده من كلمات.. لقد كنت حاضرا كغائب، أو غائبا كحاضر، وما أستطيع الزعم بأنى فيما همهمت كنت من الذاكرين !! إن البون بعيد جدا بين الكلمات التى ننطق بها، وبين معناها المصاحب لها، المخبوء تحت حروفها.. لو كانت إدارة الألفاظ على الشفتين تثبت معانيها للفور كما تدير أزرار الكهرباء فتسطع المصابيح للفور، لكنا فى حال غير الحال، ووضع غير الوضع ! ولكن المسافة شاسعة بين الكلمات ودلالتها الملاصقة. وكم فينا من ببغاوات تجرى على أفواههم كلمات جليلة، فإذا ذهبت تلتمس حقائقها فى نفوس القائلين، وجدت الفراغ أو وجدت النقيض. والمؤسف أن أغلب معاملتنا لله يسيل من هذه العين الحمئة !! إن أسوأ ما يعترى الفرائض المكتوبة والعبادات الرتيبة أن يؤديها المكلفون وهم فى شبه غيبوبة، لا تلاحق عقولهم معانيها، ولا تحصل نفوسهم حكمتها.. ويقول علماء النفس: إن درجات الحس تتفاوت عند مباشرة المرء لشتى الأعمال، فقد يقع الإحساس فى بؤرة الشعور وذلك فى حالات الانتباه الكامل، وقد يهبط الوعى إلى حاشية الشعور عند ملاحظة أمور مألوفة. ص _053(1/52)
وهناك منطقة شبه الشعور التى تصحب القيام بأعمال معتادة، وأظن بعض الدواب تشارك البشر فى هذه الحالة، فهى إذا دربت على أشغال معينة اعتادتها والتكاليف الدينية يوم تؤدى على أنها عادات مجردة، ليس معها الصحو العقلى المطلوب تصبح إلى الأدواء أقرب منها إلى الأدوية.. بل إن الكفار الصاحين الأيقاظ إذا التقوا فى ميادين الحياة بعابدين من هذا النوع المخدر الغافى سرعان ما يسبقونهم سبقا بعيدا ويغلبونهم غلبا أكيدا.. إن الله شرع الدين موضوعا وشكلا، معنى ولفظا، يقظة نفسية، وحركة بدنية، فمن أخذ الظاهر من هذا كله وترك الباطن فهو يعبث بالدين، ويتخذه لعبا ولهوا.. ويحسن أن نفرق هنا بين عدة أحوال، فإن المؤمن الجاد الصادق عندما يشرع فى نسك، يقبل على الله معقود العزم حسن القصد.. وربما اختلس الشيطان شيئا أو أشياء من عبادته، فهو يحزن لذلك ويتعلم الحرص والحذر، ومراتب المؤمنين فى مدافعة هذه الغارات لا حصر لها.. وخيرهم من تنجح مجاهداته فى صيانة عمله جوهرا ومظهرا، وأعجزهم من استغفله الشيطان فشتت لبه فى متاهات ليس لها آخر كلمات تقرب إلى الله بعمل.. ولابد من استبعاد النيات الملتاثة فى هذا المجال.. إننى أحيانا أسمع الأغنية الدينية تصف مناسك الحج أو تعرض حياة الرسول، فيمتلئ قلبى بالرقة والضراعة.. ثم استحضر سيرة المغنى والملحن والعازفين فأحس فجوة رهيبة بين جلال ما يقال وفساد من يقول.. إن الفرق الماهرة فى أداء هذه الألحان الدينية هى هى التى تستفز الشهوات الساكنة، وتزين مزالق الشر لألوف من الخلق وتجدد نشاط الأشرار كى يسترسلوا فى غوايتهم.. ولذلك عندما أسمع مناجاة الله على لسان مغن أو مغنية أسأل النفس: أهذا ذكر الله حقا أم هى صنعة الكلام والتطريب وحسب ؟؟ ولم التمثيل بالغناء الدينى ؟!! هل تتبعت مجالس القرآن التى تحف بنفر من القراء المشهورين ورأيت ما يسود هذه المجالس من صخب وخفة ؟!! ص _054(1/53)
إن الصياح الطائش الذى يفتعله بعض السامعين يستخف للأسف هؤلاء القراء فتراهم ينسون الكتاب ومنزله، وما ينبغى له من إجلال وتوقير، ويحولون الآى إلى نغم معجب للجهال يزيدهم ولها على وله !! ثم ينفض الحفل الماجن دون أن ينشرح بذكر الله صدر أو تدمع لخشيته عين، أو تنعقد على طاعته إرادة، ويئوب القارئ والسامعون إلى بيوتهم وهم يخوضون فى غضب الله خوضا !! إن ما يطلب من الناس ليس شيئا صعب التصور أو عسر المنال، مطلوب من الإنسان العاقل أن يعى مايقول، وأن يعنيه، وأن يفقه ما يسمع ويستوعبه، فهل هذا تكليف بما يبهظ الهمم ؟ مطلوب من المصلى إذا وقف يدى الله أن يعرف من يناجي، فإذا قال: الله أكبر، كان شعوره أنه فى حضرة الكبير المتعال عاصما له من الالتفات إلى غيره، ومحرما عليه الاشتغال بأمر دونه، وهذا سر تسمية افتتاح الصلاة بتكبيرة الإحرام. مطلوب من التالى للوحى أن يفك إغلاق قلبه فإذا نودى سمع، وإذا بصر رأي، وإذا استثير نشط، وقد جاء فى وصف عباد الرحمن: ( والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا). العلاقة بالله - على الحقيقة لا على التجوز - تطلب البعد عن آفتين: التوهم أو الخيال، والتميل أو التصنع فأما عن الآفة الأولى فقوانين الآفة الأولى تجعل المرء يرسل القول على عواهنه، وقوانين الإيمان لا تدع المؤمنين طويلا بإزاء هذه الأوهام، بل ترميهم الأحداث تلو الأحداث حتى ينكشف معدن النفس. فإما ثبت الإنسان عندما يقول وتحمل تبعاته كاملة. وإما انهزم وبدا عواره. وفى ذلك يقول جل شأنه: ( أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين * ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون). والأمل فى الاستشهاد قبل مواجهة العدو شيء عظيم. وأعظم منه وأدل على صدقه ألا يتبخر الحماس عند اللقاء. ويتغلب حب الحياة وإيثار السلامة.. ص _055(1/54)
إن الله تبارك اسمه يبغض أصحاب المزاعم العريضة. فإذا دقت ساعة الجد وجدت الثرثارين خرسا ( لم تقولون ما لا تفعلون * كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون). أما الآفة الأخرى التى تبعد ذويها عن جوهر الدين فهى أخذ العبادات من مراسمها البادية. وبذل الجهد فى إتقان الظاهر وحده. ولو عقلنا لأدركنا أن القليل مع صحو الضمائر أفضل من كثير لا روح فيه، تأمل فى حديث إبراهيم الخليل عن ربه. إنه حديث ليس فيه كشف لمجهول، ولا تصوير لمعنى مبتدع، إنه يتناول أقرب المحسوسات إلينا: ( الذي خلقني فهو يهدين * والذي هو يطعمني ويسقين * وإذا مرضت فهو يشفين ). إن الرجل العامى يجد هذا الكلام قريبا من حسه، ولكن حقائق هذا الكلام هى التى فاتت العباقرة فزاغوا. ليس الأمر تزويق عبارات بليغة. ولا شرح فلسفات عويصة، الأمر لا يتطلب أكثر من أن يقرأ المسلم فاتحة الكتاب، فيعنى كل كلمة ينطق بها، ويكون قلبه مرآة نقية لما احتوت من حمد الله، وثناء عليه، وتعاهد معه، وتطلع إلى هداه ونعمته. هذه هى الحقيقة التى تحدث عنها التصوف ورجال التربية. لا دلالة لهذه الكلمة غير ما قلنا، أن يلتزم المسلم بشريعته مبنى ومعني، أن ينفعل بتعاليمها لبا وقلبا وجسدا، أن يرقى إلى مستواها فكرا وعاطفة وسلوكا.. لا تعريف للحقيقة غير ما أوضحناه فى الكلمات الآنفة، أن يتطابق الفؤاد مع اللسان عند ذكر الله، وأن تتعانق الروح والجسد عند الانقياد لأمره. ولبعض الصوفية كلام متهافت يوهم أن الشريعة شيء والحقيقة شيء آخر.. ! يقول ابن عجيبة فى شرح حكم ابن عطاء الله السكندري: "الأعمال عند أهل الفن - يعنى فن التصوف - على ثلاثة أقسام عمل الشريعة، وعمل الطريقة وعمل الحقيقة أو تقول عمل الإسلام وعمل الإيمان وعمل الإحسان أو تقول عمل أهل البداية وعمل أهل الوسط وعمل أهل النهاية، فالشريعة أن تعبده والطريقة أن تقصده والحقيقة أن تشهده أو تقول الشريعة لإصلاح الظواهر والطريقة(1/55)
لإصلاح الضمائر والحقيقة لإصلاح السرائر".. إلخ. ص _056
وهذا كلام مضطرب مدخول يقوم على التلاعب بالألفاظ والعبث بالمفاهيم فإن الشريعة إصلاح للظاهر والباطن معا، وهى عبادة ونية وإحسان، ولا ينفك أحد هذه العناصر عن الآخر. ويوغل ابن عجيبة - غفر الله له - فى خطئه، فيصور لقرائه أن الكتاب والسنة أقسام، بعضها يشير إلى الشريعة، والآخر يشير إلى الحقيقة فيقول:"أشكل على بعض الفضلاء قوله تعالى : (ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون) مع قوله - صلى الله عليه وسلم - "لن يدخل أحدكم الجنة بعمله" والجواب - كما يزعم ابن عجيبة - أن الكتاب والسنة وردا بين شريعة وحقيقة، أو بين تشريع وتحقيق، فقد يشرعان فى موضع ويحققان فى آخر، وقد يشرع القرآن فى موضع وتحقق السنة هذا الأمر فى موضع آخر". فقوله تعالى : (ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون) تشريع لأهل الحكمة وهم أهل الشريعة وقوله - صلى الله عليه وسلم -" لن يدخل أحدكم الجنة بعمله" تشريع لأهل القدوة وهم أهل الحقيقة..إلخ. وهذا كلام باطل، لا ينطوى إلا على الفراغ والدعوى.. وليس فى دين الله أهل شريعة وأهل حقيقة. ولا انقسم الوحى الإلهى إلى فريق لهؤلاء وفريق لأولئك. أما الإشكال الذى أورده فإليك تفسيره. اتفق أئمة المسلمين على أن العمل لا بد منه لدخول الجنة، وأنه سبب شرعى مطلوب لا يستثنى منه بشر، ولا يدخل بدونه أحد. وقد تظاهرت الدلائل على ذلك من الكتاب والسنة جميعا.. قال تعالي: (لهم دار السلام عند ربهم وهو وليهم بما كانوا يعملون) وقال: ( الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون ) وقال: ( وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون * لكم فيها فاكهة كثيرة..) وقال فى المستقيمين: ( أولئك أصحاب الجنة خالدين فيها جزاء بما كانوا يعملون) الخ.. ص _057(1/56)
ولكن المطلوب من العابدين لله أن يتواضعوا له وأن يكبروا حقه وأن يخافوا لقاءه مهما قدموا من صالحات قال تعالى : ( والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون* أولئك يسارعون في الخيرات ). ويؤتون ما أتوا. ليس معناها فعل المعاصى والحذر من عقباها ! بل معناها فعل الطاعات والحذر من عدم قبولها، لأنها دون ما يجب لله أو دون ما يحسن المرء. وبهذا المعنى جاء الحديث الشريف فهو نهى عن الاغترار بالعمل وليس نفيا لقيمة العمل، إنه نهى عن الاطمئنان إلى العمل والاستكبار به والجراءة على الله بعد إتمامه وليس نهيا عن التزود بالصالحات والاستكثار منها. وغريب أن يفهم عوام المسلمين الحديث الشريف أن العمل لا لزوم له، فلم نزل القرآن ؟ ولماذا جاهد نبيه ربع قرن لإبلاغه وإقامة الأمة عليه. الحديث نفى لأن يكون العمل ثمنا حقيقيا للجنة، وليس نفيا لأن يكون سببا حقيقيا لدخولها. نعم، فإن الخلود الدائم فى نعيم مقيم ليس الثمن المكافئ لعبادة الله سنين عددا، ذاك لو خلت العبادة من شوائب الرفض، فكيف وأكثرنا لو فحص عمله رد فى وجهه ثم كيف لو حوسب الإنسان على النعم المغدقة عليه فى الدنيا، وقيل له: عملك نظير بعض هذه النعم !! الحديث ليس مناقضا للآيات، ولا للأحاديث الأخري، وإنما هو كما قلنا كسر للغرور البشرى وتذكير برحمة الله وتجاوزه وصفحه. وعلى ضوء هذا التفسير نعرف أن ما ذكره ابن عجيبة وغيره عما يسمى حقيقة وشريعة لا أصل له فى الإسلام، فدين الله واحد لجميع خلقه. ص _058(1/57)
الهجرة منطق اليقين نحن فى عالم يسوده المنطق المادي. ويعد المحسوسات وما يتصل بها هى الوجود الذى لا وجود وراءه.. ! وجمهرة البشر أخذت تستكين لهذا التفكير. وتبنى عليه سلوكها فى الحياة، وفرحها أو حزنها لما يصيبها من نعماء وبأساء.. ! نعم. إنها تحت تأثير الدين تؤمن بما وراء المادة، وتأوى إلى هذا الإيمان فى الساعات العصيبة.. بيد أن لغوب الناس على ظهر الأرض، وكدحهم لتحصيل ما يريدون إنما يثور غباره وراء ضرورات العيش ومرفهاته - أما الدار الآخرة وما يمهد لها. فأمر قلما يخطر على البال وإذا خطر فقلما يقترن بالشعور الجياش والفكر المستغرق والعزم الحديد.. ! وحقيقة الدين تنافى هذا المسلك الخامل، فإن الإيمان بالغيب قسيم للإيمان بالحاضر. ولا يصح تدين ما إلا إذا كان المرء مشدود الأواصر إلى ما عند الله مثلما يتعلق بما يرى ويسمع فى هذه الدنيا.. والغيب الذى أقصده هنا أوسع دائرة من عالم الملائكة مثلا، أو مشاهد الجزاء الأخروي، أو المرويات التى أنبأنا الوحى بها، ولا نستطيع الوصول إليها بمداركنا.. الغيب الذى أقصده هنا ما يتصل بالسلوك الإنسانى المأنوس لنا، أى ما ننبعث عنه فى كفاحنا القريب لبلوغ ما نحب وإقصاء ما نكره.. ! إن النصر على الأعداء غيب، خصوصا إذا وهنت الوسيلة.. وقل العون.. وفدحت العوائق. ولكن الإيمان بهذا النصر المأمول ينبع من الإيمان بالله وحده جل شأنه، ومن ثم فالمجاهد الموقن يمضى فى طرق الكفاح المر، وهو واثق من النتيجة الأخيرة.. ! إن غيره يستبعدها، أو يرتاب فيها.. أما هو فمعتقد أن اختلاف الليل والنهار يقربه منها وإن طال المدى. ص _059(1/58)
فإذا قال الله تعالى : (وكان حقا علينا نصر المؤمنين) فإن الجماعة المؤمنة لا تهولها وعثاء الطريق، وضراوة الخصوم، وكآبة الحاضر.. إن إيمانها بالمستقبل يعزيها عن متاعب اليوم. ويشعرها بأنها غيمة عارضة توشك أن تنقشع (فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض..) والرزق - مثل النصر - غيب مرتقب. وعندما ينفق المؤمن ما عنده على أمل أن الله باعث خلفا له وعوضا عنه، فهو يسير على منطق اليقين المحض. ومن هنا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لبلال - لما ادخر له صبرا من طعام: "أنفق يا بلال ولا تخش من ذى العرش إقلالا". ولماذا يخشى الإقلال وقد وعد الله أن يخلف على من أنفق ؟ ووعده منجز لا ريب فيه. إن هذا الإيمان بما عند الله هو الذى يرجح عند المؤمن جانب العطاء عندما توسوس له نفسه بالإمساك والمنع، خصوصا مع التأميل فى الحياة، والرغبة فى سعة الثراء، والقلق من أحداث الزمان.. ! ولذلك جاز فى الحديث "أفضل الصدقة أن تتصدق وأنت صحيح شحيح تحب الغنى وتخشى الفقر". والإيمان العميق يجعل المرء كما وصف الرسول الكريم: "أن تكون بما فى يد الله أوثق منك بما فى يدك". كان المسلمون قبل الهجرة يملكون أنصبة وافرة من الإيمان بالمستقبل، يعتقدون أن دينهم لن يغلب - وأن ضعف اليوم حملته - ويؤدون فرائض الجهاد والبذل وهم راضون عن ربهم، راجون ما عنده. والمجاهدون فى سبيل الله بشر تجيش فى أنفسهم المشاعر التى تجيش فى نفوس غيرهم، من تقدير للحياة، والرأى العام، وكفالة الأولاد، وتأمين العيش لأنفسهم وأهليهم ! بيد أنهم وازنوا بين مطالب الحق، وأشواق الدنيا، ثم آثروا وعد الله على وحى العاجلة. وتأمل هذا الحديث الذى يصور الصراع النفسى لدى أنصار الحق، وكيف يخرجون من غباره أوفياء لله، أحقاء بكرامته. ص _060(1/59)
عن "سبرة بن الفاكه" رضى الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الشيطان قعد لابن آدم بطريق الإسلام فقال: تسلم وتذر دينك ودين آبائك" ؟ فعصاه، فأسلم، فغفر له ! وقعد له بطريق الهجرة: فقال له: تهاجر، وتذر دارك، وأرضك. وسماءك ؟ فعصاه فهاجر.. فقعد له بطريق الجهاد فقال: تجاهد وهو جهد النفس والمال. فتقاتل. فتقتل، فتنكح المرأة ويقسم المال. فعصاه فجاهد. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فمن فعل ذلك فمات، كان حقا على الله أن يدخله الجنة. وإن غرق كان حقا على الله أن يدخله الجنة. وإن وقصته دابة كان حقا على الله أن يدخله الجنة". هذه طبيعة الاستمساك بالحق والتفانى فى نصرته. والواقع أن إيمان هؤلاء بالغيب مثل إيمان غيرهم بالمحسوس. إن الرجل الذى يقطع تذكرة للسفر من القاهرة إلى الإسكندرية لا يخامره شك فى أن الإسكندرية موجودة وأن القطار المنطلق ذاهب به إليها ! والمجاهد المسلم يؤمن بأن الموت نداء الحق ينقله يقينا إلى جنة عرضها السموات والأرض، إيماننا اليوم بأن السفر من عاصمة إلى عاصمة أو من قارة إلى أخرى يصل بنا إلى ما نريد.. ! وعندما يرتفع الإيمان بالغيب إلى هذه القمة الراسخة، فإن أصحابه ينتصرون بمبادئهم حتما وناشروها فى الحياة نشرا لا يدركه طي، ومكتسحون ما يضعه المبطلون أمامهم من عوائق. والمستقبل الذى تنتصر فيه الرسالة وينتصف فيه أصحابها يتكون من جزأين أحدهما قريب والآخر بعيد. أما القريب ففى هذه الدنيا وعلى أرض الميدان الذى تدور فيها المعارك.. أما البعيد فعند الله حيث تنكشف خبيئات النفوس وينال المحقون والمبطلون جزاءهم العدل، وفى ص _061(1/60)
المرحلتين كلتيهما يقول الله تعالي: ( أم يقولون نحن جميع منتصر * سيهزم الجمع ويولون الدبر * بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر). .. وجاء فى سورة أخرى ( إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد * يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار). والمسلمون الأوائل لن تنقصهم الثقة فى مستقبل الدعوة التى آمنوا بها وكل ما عناهم أن ينهضوا بحقوق الدين الذى اعتنقوه، وأن يثبتوا على صراطه المستقيم مهما تكاثرت المحن وترادفت الفتن. من أجل ذلك هاجروا لما اقتضاهم الأمر أن يهاجروا، وخاضوا غمرات الحروب لما كلفهم الحق أن يبذلوا النفس والمال. ولو شققت عن ضمائر القوم لوجدت الهجرة عندهم أشبه بانتقال الموظف اليوم إلى بلد اتصل فيه رزقه أو نال فيه ترقية ! غاية ما هنالك من فرق أن هذا مسلك بدت فيه بواعثه المادية التى تواضع الناس على الاحتفال بها.. أما المهاجرون الأوائل فهم ينتقلون من بلد إلى بلد إقامة لدين مضطهد، ويعاملون رب العالمين وحده حين يحلون وحين يرتحلون، ويستيقنون من رضوانه، تعبوا أم استراحوا. إن هجرات الأحياء على ظهر الأرض كثيرة. بل إن الطيور فى الأجواء تهاجر من مكان إلى مكان. لكن الهجرة التى علت بها أقدار. وخلد بها أقوام تلك التى قامت ودامت ببواعث الإيمان المحض، والغضب لله والارتباط بتعاليمه، والعيش بها أو الموت دونها. ومع أن الوحى الأعلى لقن المؤمنين أن رسالتهم ستستقر، ورايتهم ستعلو، وأن الكفر سيذوب، وينخذل حزبه، إلا أنه تملق أفئدتهم بالمستقبل البعيد، أعنى الدار الآخرة وما حوت من ثواب وعقاب ( فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون * أو نرينك الذي وعدناهم فإنا عليهم مقتدرون * فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم * وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون). ص _062(1/61)
ولهذه الآيات معنى ينبغى أن نقف عنده طويلا. فإن المؤمن المجاهد قد يترك هذه الحياة دون أن يعرف نتائج الصراع المحتوم بين الهدى والضلال. وهذا جائز، بل كثير الوقوع. لأن انتصار الحق ربما اقتضى هذا المؤمن نفسه أن يقدم حياته، فيكون استشهاده، واستشهاد غيره من ا لمؤمنين الجسر الذى تعبر عليه المبادئ وتشق طريقها إلى مستقبل وطيد. لكن هل ذهاب عدد قل أو كثر من أهل الإيمان يفيد الضالين شيئا ؟ كلا، إن الانتقام الإلهى لاحق بهم يقينا. ولذلك يؤكد القرآن الكريم هذه الحقيقة ( فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون * أو نرينك الذي وعدناهم فإنا عليهم مقتدرون ). والخطة المثلى أن يؤدى الإنسان واجبه المجرد دون استعجال المصير فى هذه الدنيا، وألا يتعلق بالفوز الشخصى له، أو الاندحار الشخصى لخصومه. فمن يدرى ؟ ربما رشد هؤلاء الخصوم يوما، وتحولوا إلى الإيمان الذى جحدوه من قبل.. ! وفى أعقاب أحد، ومع مرارة الهزيمة التى أصابت المسلمين، يبين الله لنبيه هذه الحقيقة فيقول (..وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم * ليقطع طرفا من الذين كفروا أو يكبتهم فينقلبوا خائبين * ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم..). فى إطار هذا اليقين العميق، لبى المسلمون النداء إلى الهجرة عندما طولبوا بالهجرة، واستجابوا لله ورسوله غير ضائقين ولا جازعين. إن الحياة بالنسبة إلى المؤمن خط طويل يمتد مع الزمن لا يقطعه الموت، ولا يعروه الفناء. والمؤمنون حين يغرسون فى هذه الدنيا فهم يرقبون ثمار غرسهم فى المستقبل القريب، أو المستقبل البعيد. بين أهليهم هنا أو عند الله هناك. ولن يخامرهم قنوطه لأن ما ارتقبوا تأخر ميعاده. ولن يسأموا تكاليف الجهاد ولو كلفتهم أن يحرموا وطنهم الغالي. وأن يرغموا على ترك معايشهم به وذكرياتهم فيه. ص _063(1/62)
مسئولية المسلم تجاه المجتمع معرفتى بالإسلام تجعل ولائى للناس كلهم جزءا من ولائى للدين الذى أحببته، فأنا لا أشعر بانشطار فى هذا الولاء الواحد. وقد سمعت أحد الشيوخ فى أثناء الدرس يقول: نحن المسلمون أمة الإجابة، وغيرنا من أهل الأرض أمة الدعوة قلت: ما معنى هذا ؟ قال: إن محمدا – صلى الله عليه وسلم – دعا العالمين إلى الله، فنحن استمعنا إلى النداء وأسلمنا وجوهنا لله، وحق فينا قوله تعالى : ( ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار)، فنحن أمة الإجابة !! أما غيرنا فهو مدعو مثلنا، ولما يجب بعد، لعل النداء لم يصل إليه، ولعله وصل إليه مشوها لا يحرك دواعى القبول وأيا ما كان الأمر فهو مدعو. وعلى أن أبلغه ما يجهل. وأن أثير فيه دواعى التصديق، لقد عرفت الحق قبله فأمنت ولست أولى منه بذلك الخير وقد يكون خيرا منى لو عرف ما أعرف، والواجب يفرض على أن أكون صورة مرغبة لا صورة منفرة، وإلا كنت مسئولا عن إضلاله، أو حاملا معه بعض أوزاره !! ومن المحزن أن عددا من علماء المسلمين شغله الترف العقلى فخان أمانة الدعوة والبلاغ، قد تقول: أهذا كل ولائك للإنسانية ؟ وأجيب على الفور: لا.. لا تنس أنى حسن الظن بالفطرة الإنسانية نفسها لأنى مسلم أعلم أن الصفة الأولى لدينى أنه دين الفطرة ! إن الناس يولدون عليه ويتجاوبون مع تعاليمه إذا أدركوها.. ويوم تخف قبضة الموروثات الرديئة فإن الجماهير ستكون قريبة منى أو أكون أنا قريبا منها. ولو خلى المرء وفكره لاتجه إلى إله واحد، ولشعر بدوافع ذاتية إلى هذا الرب الوحيد، ولو خلى المرء وفكره لآثر الزواج على العهر، والصحو على السكر، والإخاء على الأثرة، والنصيحة على الغش ! ص _006
هل أصبحت هذه الخصائص الإسلامية ذكريات مضت، أم إنها محفورة فى عقلنا الباطن تحتاج إلى من يزيل عنها الغبار وحسب؟!!(1/63)
إن الاستعمار الذى زحف على العالم الإسلامى خلال كبوته الأخيرة بذل جهودا هائلة لشغل المسلمين عن هذه المعاني، أو لقتل هذه الخصائص النفسية فى حياتهم العامة، وذلك ليضمن فرض ظلماته ومظالمه دون أية مقاومة!!
وقد توسل إلى ذلك بتكثير الشهوات أمام العيون الجائعة، وتوهين العقائد والفضائل التى تعصم عن الدنايا، وإبعاد الإسلام شكلا وموضوعا عن كل مجال جاد، وتضخيم كل نزعة محلية أو شخصية تمزق الأخوة الجامعة، وتوهى الرباط العام بين أشتات المسلمين.. وقد أصاب خلال القرن الأخير نجاحا ملحوظا فى سبيل غايته تلك.
ومن ثم لم تنجح محاولات تجميع المسلمين لصد العدو الذى جثم على أرضهم، واستباح مقدساتهم.. وما قيمة هذا التجميع إذا كان الذين ندعوهم قد تحللوا من الإيمان وفرائضه، والقرآن وأحكامه؟ إن تجميع الأصفار لا ينتج عددا له قيمة!!وإن الجهد الأول المعقول يكمن في رد المسلمين إلى دينهم، وتصحيح معالمه ومطالبه في شئونهم، ما ظهر منها وما بطن...
عندئذ يدعون فيستجيبون، ويكافحون فينتصرون، ويحتشدون فى معارك الشرف، فيبتسم لهم النصر القريب، وتتفتح لهم جنات الرضوان...
إن الرجل ذا العقيدة عندما يقاتل لا يقف دونه شيء، أعجبتنى هذه القصة الرمزية الوجيزة، أسوقها هنا لما تنضح به من دلالة رائعة:
حكوا أنهم فيما مضى كانوا يعبدون شجرة من دون الله، فخرج رجل مؤمن من صومعته وأخذ معه فأسا ليقطع بها تلك الشجرة، غيرة لله وحمية لدينه!!
فتمثل له إبليس فى صورة رجل وقال له: إلى أين أنت ذاهب؟ قال: أقطع تلك الشجرة التى تعبد من دون الله، فقال له: اتركها وأنا أعطيك درهمين كل يوم، تجدهما تحت وسادتك إذا استيقظت كل صباح!
فطمع الرجل فى المال، وانثنى عن غرضه، فلما أصبح لم يجد تحت وسادته شيئا، وظل كذلك ثلاثة أيام، فخرج مغضبا ومعه الفأس ليقطع الشجرة .(1/64)
فاستقبله إبليس قائلا: إلى أين أنت ذاهب؟ قال أقطع تلك الشجرة! قال: ارجع فلو دنوت منها قطعت عنقك. ص _065
نهج الأحرار من قديم فى السهول المستوية ينداح السيل حتى يبلغ منتهاه ما يعترضه شيء. وفى حقول الأرز والقمح تهب الريح فتميل السيقان الغضة كلها ما ينتصب منها عود. وبين جماهير الدهماء، ينتشر التقليد الخاطئ، أو العرف السيئ فما يرده ذكاء، أو تمتد رهبة السلطان وسطوة الملك الطائش فما يقمعها تمرد. ولكن هناك رجالا من معادن فريدة تشذ عن هذا العموم المهين. فهى الجبال التى تقف مد السيل، والأشجار التى لا تنثنى مع هبوب العاصفة. وهم الصاحون بين السكارى، فإذا شاع خطأ تعرضوا هم له بالنقد، وإذا ألف الناس مسلكا لم يعجبهم تصرفوا هم منفردين على طريقة المعرى حين قال: تثاءب عمرو إذ تثاءب خالد بعدوى فما أعدتنى الثؤباء وإذا ركع الناس بين يدى ملك ظالم، أو استكانوا لأوضاع مزرية، لمحت فى أبصارهم بريق الأنفة، وفى سيرتهم شرف الحرية، فما يستريحون حتى تنجو البلاد والعباد من آثار الفساد، وقيود العبودية. أولئك هم الثوار الذين يعتز بهم الإيمان وتستقيم بهم الحياة. وإذا كان الله جل شأنه قد صان العمران البشرى بالجبال، وقال فى كتابه ( وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم وجعلنا فيها فجاجا سبلا لعلهم يهتدون ) فقد اقتضت حكمته العليا أن تصون المجتمع الإنسانى بهذا النفر من حراس الحقائق الرفيعة وحماة المعالم الفاضلة. فهم الدواء الخالد لكل ما يفشو فى الدنيا من علل، وهم الأمل الباقى لبقاء الخير فى الأرض وإن ترادفت النوب، واكفهرت الآفاق. ربما كان عشق الحق خليقة فيهم فطرهم الله عليها، كما قال فى كتابه ( وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون). ص _066(1/65)
ولعشق الحق أعباء مرهقة، أولها الصبر على تثبيط الخاذلين، وكيد المعوقين والمخالفين، بيد أن طبيعة الثورة على الباطل لا تكترث لشيء من هذا، وفى الحديث الصحيح. "لا تزال طائفة من أمتى ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى تقوم الساعة - أو حتى يأتى أمر الله وهم على ذلك". وأكثر الناس يعرف الحق معرفة حسنة، غير أنه لا يأسى لهزيمته، ولا يأسف لضياعه ! أو لعل إحساسا من الضيق يخامره خذلان الحق، إلا أن هذا الإحساس يصطدم بمصالح النفس وضرورات العيش، ومطالب الأولاد، فيتراجع المرء رويدا رويدا عن هذا الشعور النبيل، ويؤثر الاستسلام على المقاومة، والاستكانة للواقع عن تغييره وإنكاره. وهذا السلوك لا يتفق مع طبيعة الإيمان، ويستحيل أن تتقبله نفس ثائرة لله مؤملة فيما عنده. فالغاضب لله ورسوله يذهل فى سورة يقينه عما يحرص عليه الجبناء من حياة ومتاع، ولا يرى أمامه إلا نصرة الحق ورفع لوائه وليكن ما يكون. عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "لا يؤمن عبد حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين" على أن من العبث انتظار التفانى فى الحق من عبيد أهوائهم وصرعى نزواتهم، إن الأمر يحتاج إلى تربية وتبصرة حتى يكون مذاق الإيمان أحلى فى فم الإنسان من كل لذة عاجلة. عندما يشعر امرؤ بالسعادة لأنه واسى محروما، أو نصر ضعيفا، أو أمن قلقا، أو آوى هائما، أو أحصن عرضا، أو حقن دما، فهو إنسان كبير، ومثله أهل لأن يفتدى عناصر الإيمان بالنفس والنفيس. والثائرون ضد الظلم والناقمون من أعوانه رجال من ذلك المعدن الصلب، واندفاعهم لتقليم الأظافر الشرسة ضرب من الإصلاح العام للحياة والأحياء ( ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض). وفى الأعصار الأخيرة قامت ثورات شتى استهدفت إنقاذ الجماهير من الملوك المسلطين، وأسرهم المحظوظة، وثورة يوليو سنة 1952 من بين هذه الثورات الخطيرة، ونحب أن نقول بجلاء(1/66)
إنه حيث يسود الحكم المطلق تنتقض الإنسانية من أطرافها، بل من صميمها ! ص _067
وذلك أن الله قد خلق البشر آحادا صحيحة وجعل لكل أحد منهم مدى معينا يمتد فيه طولا وعرضا. فإذا عن لأحدهم أن يتطاول وينتفخ ويتزيد، فعلى حساب الآخرين حتما. ومن هنا تجد من حوله أنصاف بشر أو أرباع بشر ! أصبحوا كسورا لا رجالا سواء، وما نقص من تمام إنسانيتهم أضيف زورا إلى الكبير المغرور، فأصبح فرعونا مالكا بعدما كان فردا كغيره من عباد الله... ولما كان الإسلام إنقاذا من جهالاتهم المتوارثة، وحماية للفطرة من أن تأكلها تقاليد السوء وقوانين الاستبداد الأعمى، فقد جعل كلمة التوحيد - وهى عنوانه وحقيقته - نفيا للوثنيات كلها ورفضا لآية عبودية فى الأرض وتدعيما للحرية التى ذرأ الله الناس عليها والكمال الذى رشحهم له... ذلك بعض ما تعنيه الكلمة العظيمة "لا إله إلا الله"... وهى الكلمة التى يرددها الألوف دون وعي. بل لعلهم يعيشون فى ظلها عبيد أوهام... وقد بعث محمد للناس وفى قلوبهم وجل من سطوة الملوك الأولين، فلما جيء بأعرابى يوما فى حضرته أخذته رعدة - يحسب نفسه قريبا من أحد الجبابرة - فقال له الرسول: "هون عليك، إنى لست بملك. أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد". كان قد وقر فى الأذهان أن الملوك ليسوا من عبيد الله المألوفين فإن الأبراج التى يحيون فيها قطعت نسبتهم من الأرض ووصلتها بالسماء، فزعموا أنهم نسل آلهة أو عاشوا كذلك وإن لم يقولوا بألسنتهم ما يقولون بأفعالهم ! فأراد محمد أن يعرف العرب على أنه بشر مثلهم لا ملك فوقهم، ثم انتسب إلى أمه، لا إلى العظماء من أجداده، ليزداد لله تواضعا ومن الناس قربا. وجاء الحكام الراشدون بعده فمشوا فى أثره وربطوا سببهم بالجماهير التى نبتوا منها فما تنكروا لها ولا تكبروا عليها ولا حسب أحدهم نفسه من دم أنقى أو عنصر أزكي. واسمع إلى أبى بكر بعد ما ولى الخلافة يقول: "أما بعد فإنى قد وليت عليكم(1/67)
ولست بخيركم فإن رأيتمونى على حق فأعينوني، وإن رأيتمونى على باطل فسددوني، أطيعونى ما أطعت الله فيكم، فإن عصيته فلا طاعة لى عليكم، إلا أن أقواكم عندى الضعيف حتى آخذ الحق له، وأضعفكم عندى القوى حتى آخذ الحق منه. أقول قولى هذا وأستغفر الله لى ولكم". ص _068
وجاء فى خطبة لعمر بن الخطاب: "اعلموا أن شدتى التى كنتم ترونها ازدادت أضعافا على الظالم والمعتدي، والأخذ لضعيف المسلمين من قويهم فاتقوا الله وأعينونى على نفسى بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وإحضارى النصيحة فيما ولانى الله من أمركم". أيها الناس: "إنه لم يبلغ ذو حق فى حقه أن يطاع فى معصية الله". هذا هو وضع الحاكم المسلم فى الدولة المسلمة !. رجل من صميم الأمة يطلب أن يعان على الحق وأن يمنع من الباطل، ويرى السلطة المخولة له سياجا للمصالح العامة لا مصيدة للمنافع الخاصة ولا بابا إلى البطر والطغيان ذلك هو دأب الإسلام الذى خط مصارع الجبابرة فى الدنيا وحط منازلهم فى الآخرة ( تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين). حيث يكون العسف والخسف لابد أن يكون الإسلام دينا ثائرا يطلب النصفة والرحمة. وحيث يكون الاستعلاء والاستعباد لا بد أن يكون المسلمون ثوارا ينشدون العزة والكرامة. وقد تكون عقبى الجهاد موتا فى غربة، أو قتلا فى معركة، والثائرون ضد الباطل أدنى الناس إلى البلاء والعطب. وماذا فى هذا إن ما يحذره غيرهم هو الذى ينشدون لأنفسهم ! وتلك طبيعة الثائرين، إما أن يحيوا كما يريدون، أو يموتوا كما يريدون. إنهم عزيمة تؤثر فى الحياة سلبا وإيجابا، وليسوا عربات تشد إلى جياد الآخرين. ويعجبنى قول الطرماح بن حكيم، وهو يسعى إلى الغنى حتى لا يحتاج إلى فسقة الأمراء فى عهده أو إلى عداة الخلفاء - كما سماهم: وإنى لمقتاد جوادى وقاذف به وبنفسى العام إحدى المقاذف لأكسب مالا، أو أءول إلى غنى من الله يكفينى عداة(1/68)
الخلائف ثم اسمع إلى هذا الثائر الضارب فى مناكب الأرض طلبا للعزة يقول: فيارب إن حانت وفاتى فلا تكن على شرجع يعلى بخضر المطارف ص _069
- أى على نعش ملفوف بالأقمشة المطرزة - ولكن قبرى بطن نسر مقيله بجو السماء فى نسور عواكف وآسى شهيدا ثاويا فى عصابة يصابون فى فج من الأرض خائف والمسلمون اليوم لن ينجحوا فى حرب الاستعمار إلا إذا استهتروا بالموت وأحبوه فى ذات الله. أرأيت تاريخنا القديم وأبطالنا الأولين: لقد كانوا يتمنون من أعماق قلوبهم أن تثوى جثثهم الممزقة فى حواصل الطير وأجواف الوحوش. وهم هلكي، لا بين أحضان الأهل الباكين والأحباب المواسين، ولكن فى وحشة الصحراء ورحاب الميادين أو فى أفق مبهم من أعماء الدنيا، وعلى شفة أحدهم وهو يجود بروحه قول الشاعر: وذلك فى ذات الإله وإن يشأ يبارك على أوصال شلو ممزع هكذا مضت سنة الإيمان منذ أبرم عقد الجنة، ووصفت آيات الله من وقعوا عليه بأنهم ( يقتلون ويقتلون). وهكذا مضت سنة الرجولة من قديم الزمان. فاعتبرت موت الرجل بين أهله معرة، لأن هذا شأن النساء والعبيد. الشرف والمكرمات فمصارعهم تحمر بها صحائف التاريخ، ويلبس الشفق القانى ثوبه الأرجوانى منها ! وبذلك المعنى هتف الشاعر القديم: وإنا لقوم ما نرى القتل سبة إذا ما رأته عامر وسلول تسيل على حد الظبات نفوسنا وليست على غير الظبات تسيل وما مات منا سيد حتف أنفه ولا طل منا حيث كان قتيل ص _070(1/69)
أجل هذه شارات السيادة ألا يموت الرجل حتف أنفه، ولكن يموت فى عرصات الوغي. لما قتل الأمويون مصعب بن الزبير، قام أخوه عبد الله فخطب الناس فكانت خطبته تعبيرا لبنى أمية أنهم يموتون على فرشهم ! أما آل الزبير فقد كفنوا فى دمائهم بطلا من بعد بطل.. وخطب أبو حمزة الخارجى يصف رجاله، وكيف جند لهم المنايا واستهلكهم صدق الجهاد، فكان من كلامه فى لقائهم الحتوف: "استخفوا بوعيد الكتيبة لوعيد الله، ومضى الشباب منهم قدما حتى اختلفت رجلاه على عنق فرسه، وتخضبت بالدماء محاسن وجهه، فأسرعت إليه سباع الأرض وانحطت إليه طير السماء.. فكم من عين فى مناقير طائر طالما بكى صاحبها فى جوف الليل من خوف الله.. ! وكم من كف زالت عن معصمها طالما اعتمد عليها صاحبها فى جوف الليل بالسجود لله.". فانظر مصاير أولئك الشباب كيف خطها القدر ؟ وكيف تذكر فى سياق الدلالة على حب الله والتفانى فيه ؟ إن أولئك الشهداء المستميتين فى محاربة البغي، الذين رضوا أن تدق أعناقهم قبل أن تدق على أبواب الإسلام يد آثمة، وأن تمزق أعضاؤهم قبل أن يتمكن من الكيد لدين الله كافر سافر أو منافق خناس. إن أولئك الشباب الهلكي، المبعثرة أحشاؤهم هنا وهناك، سوف تجمعهم القدرة العليا بكلمة واحدة، فإذا الجبين المشجوج ناصع مشرق، وإذا العين المفقودة حوراء مبصرة، وإذا الجثة الممزعة بشر سوى يقول لله: "آمنت بك وتحملت فيك ما ترى" تلك سنة المؤمنين الأحرار، فى المحيا والممات. ص _071(1/70)
نبوة وكتاب وأمة وارثة النبوة هبة لا كسب، فضل يتنزل من الله لا شأو يسعى إليه البشر.. والأنبياء قبل أن يبعثوا لا يخطر بأنفسهم شيء عن مستقبلهم المغيب ولا يتشوقون إلى وحى أو يرتقبون مجيء ملك. ووقت الاختيار الأعلي، ومكانه. ليس إليهم فى قليل أو كثير، وقد جاء فى القرآن الكريم هذا الخطاب المبين ( وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك..). ومن هنا كانت حياة الأنبياء قبل استقبال الوحى لا تتجاوز أشخاصهم أعنى ليست مناط تشريع ولا مصدر أسوة.. وكل ما يقال فى أشخاص الأنبياء أن معادنهم النفسية والفكرية لابد أن تكون من طراز يكافئ الوظائف الجسام التى توكل إليهم، وأن حياتهم الأولى تمهيد صالح لما يوشك أن يظهر على أيديهم ويربط الأمم بهم.. والأربعون سنة الأولى من حياة محمد عليه الصلاة والسلام جاءت على هذا الغرار.. إنسان يعيش فى مكة يأكل الطعام ويمشى فى الأسواق، لا يعرف بثروة ظاهرة، أو قدرة خارقة. ولكن الذى يتفق عليه العدو والصديق، ويبلغ فى ثبوته عين اليقين، أن ثروته من الفضائل كانت رابية، وأن رجولته التقى فيها ما يعرف العرب وفوق ما يعرفون من مروءة ونبل، ومجادة وسيادة.. والأوج الذى عاش فيه محمد قبل بعثته هو الذى أخرس خصومه الناقمين يوم أعلن حربه الهائلة على الوثنية وآثارها.. الاجتماعية والسياسية. لقد هاجموه بكل سلاح وكان غيظ قلوبهم شديدا، ومع ذلك فقد انقطعت الأمانى دون غمزه بشيء قط، تصريحا أو تلميحا. كان رواء الصدق يتألق فى جبينه أبدا، ما تخلف فى جاهلية ولا إسلام. ص _072(1/71)
ونستطيع أن نصف هذه السنين الأربعين بأنها تمثل حياة رجل نقى المعدن، شريف السيرة، يعرف بكل خير، ولا يعرف بشر أبدا، يكابد السعى وراء رزقه، فيرعى الغنم صغيرا، ويضرب فى الأرض كبيرا. والاختلاط بالناس فى هذه الميادين امتحان قاس للنفس البشرية وقد خرج محمد من هذه الظروف جميعا، موفور العصمة والفطنة، عايش قومه فى نطاق الضرورة الماسة، واعتزلهم فى جبال مكة ينشد فى صمتها وعزلتها راحة القلب واللب، حتى تجلى عليه الحق فى غار حراء. ويومئذ عرف أن رب العالمين قد اصطفاه لأمر عظيم ! لقد أضحى واحدا من أنبياء الله، بل إن الأمر على مر الأيام قد بدا أعظم من ذلك، إن الوحى الذى استقبل كلماته الأولى كان طليعة رسالة تستغرق الدهور الباقية من عمر الحياة، وتستوعب القارات الغاصة بالعمران، وتتناول شئون الناس بالتوجيه والفتوي، فلا تترك عقدة مبهمة، ولا طريقا حائرة، ( ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين). وكما يتحول الجنين - بعد نفخ الروح فيه - خلقا آخر، تتحول حياة المرسلين - بعد استقبال الوحى - نسقا آخر، لحمته وسداه هذا الضياء الهادى الهابط من السماء. ومحمد عليه الصلاة والسلام عندما شرع يستدرج القرآن بين جنبيه كان قبل غيره من الناس أول من ينتفع ويرتفع بما تضمنه من صدق وجلال، وخير ومرحمة. إن الرجل الذى خلت فطرته من شهوات الأرض وأكدار الدنيا، انتشرت فى أرجائه الباطنة شعاعات الوحي، فهى تبرق فى شمائله ومسالكه كما تتلألأ الآفاق فى ضحوة صاحية صافية... وقد أومأت السيدة عائشة إلى هذا المعنى عندما سئلت عن خلق رسول الله فقالت: كان خلقه القرآن! إننا نقف عند هذه العبارة طويلا لندرك غورها. فالقرآن قبل أن يكون معجزة الرسالة الخاتمة هو مجمع ما حفلت به من عقائد وعبادات وآداب ومعاملات، وما استعرضته من قصص، وبراهين، ونظرات كونية ونفسية. ونبى القرآن كان فى حياته الخاصة المثال الأول، والأزكي، والأرقي، لكل(1/72)
ما وصى به الله، ووجه إليه العباد. ص _073
أمر الله بفرائض، وحث على نوافل، وأحل حلالا، وحرم حراما، ووضع حدودا وساق عبرا، إنك واجد ذلك كله "نظريا" فى كتاب الله، ولكنك واجد التنفيذ "العملي" له ظاهرا وباطنا فى سيرة محمد نبى القرآن. فمعرفة الله مثلا أمر عام للخلائق كافة، بيد أن العارف الأعظم لله، والذى تنضح هذه المعرفة على سريرته وعلانيته، وتطرد من بؤرة الشعور إلى حاشية الشعور إلى شبه الشعور إلى اللاشعور، المعرفة فى أوجها المطلق وقمتها الفارعة، تبدو أول ما تبدو فى خلق محمد. والصلاة مثلا فريضة عامة على المؤمنين، بيد أن المصلى الساجد القلب قبل الجوارح، القرير العين بين يدى ربه كلما أذن مؤذن للصلاة، المستريح إليها من وعثاء الدنيا ومشاغل التراب، الصادح بها فى هدأة الليل. ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه... هو محمد نبى القرآن. إن أشخاص الأنبياء ليست جسورا لهدايات السماء وحسب، كلا، إنهم ترجمة عملية لمراد الله من خلقه. ويمتاز محمد عليه الصلاة والسلام بأنه قدم للبشر كافة أكبر مجموعة من النماذج العملية للإنسانية الفاضلة، والعبودية المخلصة. والثلاث وعشرون سنة التى استوعبت نزول القرآن الكريم استوعبت كذلك أوطار سيرة عامرة بالحب والبغض فى الله، بالسلم والحرب، بالشدة والرخاء، بالسفر والإقامة، بمعاناة كل ما يعرو النفس الإنسانية من أحوال، وما يفرض عليها من قيود. وما تمحص به من تجارب. ومن هنا كانت سيرة الرسول وسنته من قول أو فعل أو حكم أو تقرير دينا يتبع، فما كان منها قرآنا فهو ظاهر، وإلا فهو نضح التخلق بالقرآن، والاصطباغ بهداه، والاستقامة مع غاياته. وإنى لأشعر بكلال ذهنى وأنا أتصور هذا الرسول يحفظ أحرف الوحى فى السور الطوال التى تنزل عليه، ثم بعد هذا الاستظهار الرائق، تبدأ "عملية" تحويل القرآن إلى خلق شخصي، ومسلك نفسي، واجتماعي، وهى عملية تصاحب تلاوته على الناس، وأخذهم بحدوده ومعالمه(1/73)
وحلاله وحرامه. لقد صح أن سورة الأنعام نزلت جملة واحدة !! أى وعى حاد مستوفز التقط هذه الصفحات الطوال، واستطال إشراقه حتى أحاط بها بدءا ونهاية، وامتد انتباهه حتى بقى التسجيل دون أن يفلت حرف أو تغيب كلمة ؟؟؟. ص _074
ثم نتجاوز ذلك المظهر لتلقى الوحي، إلى استنارة صاحبه به، وإقامة حياته خلجة خلجة، وخطوة خطوة على أساسه. فهو يتقلب فى جو من مصاحبة الله، كما ينطلق أحدنا فى طريق مشمس طويل مغمورا بوضح النهار من كل ناحية. ولقد صور القرآن الكريم طبيعة الخلق النبوى الشامل، فى هذه الآية ( قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين * لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين). أبلغت الإنسانية فى واحد من أبنائها مثل هذا المجد السامق ؟ مجد الاستغراق فى الحق والانطباع بآياته، والانطلاق بها فى جنبات الأرض لتكون شريعة حاكمة، وبصيرة هادية ؟ هذا وأبيك المجد، الذى عرفه التاريخ لمحمد، وقدمه به على المستقدمين والمستأخرين... وانتقل محمد إلى الرفيق الأعلي، ولكنه بقى كتابا وسنة بين ظهرانى الناس، فقد طبع على غراره جمهورا من أصحابه كانت أخلاقهم القرآن، يتلونه بألسنتهم ويحيون به فى شئونهم كلها. فمنه عقائدهم الدافعة، وضمائرهم الوازعة، ومثلهم الحادية، وشرائعهم الحانية، وتقاليدهم الضابطة، وموازينهم لكل ما يجد من أحداث. إنه معقد صلتهم بربهم وبأنفسهم وبالناس أجمعين. ورسالة الإسلام لا يحصرها زمان ولا مكان، ولا تحتبس فى أفق من أحوال البشر وتدع أفقا آخر، وهذا الشمول ظاهر فى سور الكتاب، وسنة الرسول، وعمل الأصحاب. ووسيلته الفذة أمة من الناس خلقها القرآن تفقهه نصوصا، وتستبطنه شمائل، وتقيمه شرائع وشعائر... تتعلم من رسولها ما تعلمه هذا الرسول من ربه ثم تقدمه للناس علما وعملا ! تلك وظيفة الأمة الإسلامية ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا). ص _075(1/74)
واتصال هذه الأمة بغيرها ليس اتصال اللسان البليغ أو القلم الساحر، كلا إنه اتصال الأسوة الحسنة، والنموذج المعجب، وما يكون الوحى الإلهى إلا كذلك ( وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين).. ليت شعري، أأصيب المسلمون اليوم بفقدان الذاكرة، فجهلوا أنفسهم ونسوا رسالتهم الإنسانية الرفيعة ؟ أم تطاول عليهم العمر فتبلدت المشاعر وقست القلوب ؟. سواء كان هذا أم ذاك فالأمر يحتاج إلى تجديد أو توكيد حتى تعرف الأمة الكبيرة وظيفتها بوضوح.. إن الله مذ عزل عن اليهود الوحي، وأبعد عنهم النبوة، وأصبحت قصة الشعب المختار فى خبر كان، وتولى قياد العالم جنس جديد، أو دم جديد، قوامه أمة تقدس الحق، وتصون آياته، وترفع فى الأرض راياته. وفى هذه الأمة المختارة على أنقاض الماضى البعيد وذكرياته، يقول الله جل شأنه ( ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير). وظاهر من صدر الآية أن الأمة الإسلامية مصطفاة من بين الأمم، وأنها مسئولة عن الميراث النفيس الذى آل إليها، وأن تبعاتها أمام الله جسيمة بإزاء هذا الاختيار الأعلى، وأمام الكتاب الضخم الذى اختتم به الوحي، ووكل إليها درسه ونشره وكلفت أن تحيا به وتحيا له.. نعم، إن أمتنا ورثت منصب الرسالة بعد موت الرسول، لأنها ورثت الكتاب الذى جاء به ليخرج الناس من الظلمات إلى النور. وواجبها الأكبر، بل لب وجودها أن تقود باسم الله قافلة البشر قيادة تحفظ على العالم الهدى والتقى والعفاف والغني، وتقى حضارته الزيغ والأثرة والعدوان والضر. ولا يجوز لشعب ما أن يزعم أنه مختار من السماء لمعنى مبهم، أو تفضيل مجرد، فهذا كذب على الله، وإنما تفضل أمة غيرها بمدى ما تملك من قدرة على النفع، ورحمة للعالمين. ص _076(1/75)
وأسلافنا الأوائل أسدوا للحياة أيادى بيضاء جعلتهم طليعتها المرموقة قرونا عددا.. ثم وهنت الكواهل والضمائر عن حمل اللواء فأصابنا ما أصابنا.. ولكى ننهض بوظيفتنا العتيدة يجب أن نستجمع خلالا عدة، وأن نسابق الزمن حتى نغطى فترة التخلف الماضية، وحتى نصل قبل أن يستمكن العميان من قيادة الدنيا إلى الهاوية. ومرة أخرى نلفت الأنظار إلى معنى التخلق بالقرآن، إن الأخلاق كما قيل هى اللغة العالمية التى يستطيع أهل الأرض على اختلاف ألسنتهم أن يتعارفوا بها. ولقد يلتقى رجلان لا يفهم أحدهما لغة الآخر، ولكن تنعقد بينهما مودة غالية، لأن المسلك الرفيع ربط بين قلبيهما. وهل نشر أسلافنا الكبار من صحابة وتابعين دينهم بين أشتات الشعوب إلا بهذه اللغة الواضحة ؟. كان الناس يرمقونهم عن بعد، أو يخالطونهم عن قرب فيرون الأيدى المتوضئة تعف عن الشبهات بله الدنايا، ويرون من سناء قلوبهم ورقة طباعهم وعدالة حكمهم ونزاهة نياتهم ما يدفعهم إلى الدخول فى دين الله أفواجا.. ومن هنا فإن المسلمين لن تنهض لهم حجة ما بقوا أمما متخلفة، متفرقة، لا تعرف القرآن إلا أمانى جوفاء. ومن حق العالم أن ينأى بجانبه عنهم، ووزر انحرافه عن صراط الله عندئذ واقع أكثره على ورثة الكتاب الذين أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات.. فى أحيان كثيرة يخامرنى إحساس بأننا نحن المسلمين مسئولون قدرا ما، عما شاع فى العالم من كفر بالله، وإلحاد فى آياته، لأننا نملك المصباح المضيء، ولكننا حجبنا نوره، ووضعنا على زجاجته قتاما فما ينفذ منه شعاع.. ثم ليسأل المسلمون أنفسهم: ما مأتى هذا التخلف الشائن، فى فقه الطبيعة، واستكناه قوانينها، واستخراج دفائنها ؟. ما هكذا كان أسلافهم، ولا بهذا أوحى كتابهم !! كيف وهو الكتاب الذى يؤسس اليقين على ركائز التفكر والبحث، ويسخر لبنى آدم فجاج البر والبحر، والأرض والسماء وما بينهما. ص _077(1/76)
إن من التخلق بالقرآن أن يكون رقى المسلمين العلمى مكافئا لحديث كتابهم عن الكون وآياته، والحياة وروائعها. إنهم بهذا التقدم العلمى يحيون على مستوى كتابهم، ويقدرون على خدمة رسالته بما يتيحه التفوق العلمى من إبداع صناعي، وتنظيم عمراني. ولنعترف بأن هناك مسلمين يتدحرجون على السفوح لا يدرون من أسرار الكون الكبير شيئا، على حين استطاع أقوام لا يؤمنون بالله، أو يؤمنون به على غموض وشرك، استطاع هؤلاء وأولئك، أن يقتربوا من فطرة القرآن بيقظتهم العقلية العارمة، وأن يحرزوا من التقدم المادى المجرد، ما أثار فى الحياة الفتنة والحيرة. فإن يك على هؤلاء حرج فالمسلمون المفرطون شركاؤهم فيه، ومن يدرى ؟ ربما كان كفلهم منه أربي... لقد ورثنا النبوة والكتاب، ترى هل سنسعد بهما ونسعد العالم معنا أم ماذا ؟. إن العرب اليوم على أبواب تجمع جديد، ومستقبل ممتد.. وميراثنا مصون، وتبعتنا بينة.. وصراعنا مع الاستعمار يجب أن يعتمد على كل ما لدينا من أسباب النصر وضمانات السماء. ص _078(1/77)
الحقائق وحدها.. من أجل الإنسان يجب إحكام الرقابة على الطرائق التى نؤثر بها فكرة عن فكرة، واتجاها على اتجاه، فإن الغش فى المقاييس العقلية أكثر شيوعا من الغش فى موازين التجار الخونة ! والغريب أن الإنسان قد يضيق إذا بخس حقه فى سلعة دفع ثمنها كاملا، ويشعر بسوأة الختل وسوء المعاملة، بيد أن هذا الإنسان نفسه لا يشعر بكبير حرج عندما يصدر حكما خاطئا على أمر من الأمور. أو عندما يقتنع بصدق أسطورة مبتوتة الصلة بالواقع.. وقد حرك القرآن الكريم جمهور المشركين كى يستبينوا طبيعة ما لديهم من عقائد ومذاهب، وأهاب بهم أن يعيدوا النظر فى تقويمها ! وأن يكشفوا الغش الذى زين لهم قبولها ! وساءلهم أين الدليل على ما ذهبوا إليه ؟ ( أم اتخذوا من دونه آلهة قل هاتوا برهانكم هذا ذكر من معي وذكر من قبلي بل أكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون ). ( أمن يبدأ الخلق ثم يعيده ومن يرزقكم من السماء والأرض أإله مع الله قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ). والمطالبة بالبرهان فى كلتا الآيتين ليست أكثر من عرض لإعادة النظر فى المواريث الفكرية السائدة حتى ينبذ منها ما لا دليل عليه، وحتى يتخلص الإنسان من قيود الوهم التى تشل قدرته وتضلل غايته. ولسنا هنا فى مقام التنديد بقوم ألغوا عقولهم وتبعوا ما انتقل إليهم عن آبائهم، فإذا بدا لهم خطله أصروا عليه، لبلادة غلفت عقولهم بالتعصب، وجعلتهم يردون هاديهم إلى الحق بهذا الجمود ( قال أو لو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون)، فإن هذا النوع من الدهماء مهدر الكرامة، بين الرذيلة. إنما حديثنا هنا فى كثير من أولى العقل الذكي، والفكر النير ممن يحترمون المنطق وينحنون للدليل، ولكنهم لأمر ما سمحوا لأفكار شتى أن تتسرب إلى نفوسهم، وأن تؤثر فى سلوكهم دون وعى كامل ونقد حصيف. ص _079(1/78)
والزلل الفكرى لهؤلاء الكبار بعيد المدى. وأشيع ما يكون هذا الزلل بين المبرزين فى فن ما عندما يتكلمون فى فن آخر. إن الرجل قد يتبوأ القمة فى علم الطب، فإذا تحدث فى التشريع أو اللغة وقع فيما لا تقع فيه الناشئة وبعض المخترعين تحدث فى الدين بكلمات تثير الضحك، وأبدى آراء لا وزن لها. وإذا تركنا ميادين التخصص العلمى المختلفة وجدنا أنفسنا أمام عوائق أخرى دون الحقيقة المجردة. إن العلماء فى ميدان واحد قد يبدءون البحث من أساس هو موضع ثقتهم التامة، مع أن هذا الأساس نفسه مدخول خادع. وما أكثر الوراثات والإشاعات والإفهام التى لا تثبت على التمحيص وهى عند أصحابها عقائد مكينة، ومن ثم فنحن أحوج ما نكون إلى المنطق العلمى الصارم فى تقويم كل شيء، وترتيبه حسب منزلته من اليقين. يقول "ألكسيس كاريل": فى جميع الأزمان كانت الإنسانية تتأمل نفسها من خلال منظار ملون بالمبادئ والمعتقدات والأوهام، فيجب أن تهمل هذه الأفكار الزائفة غير الصحيحة. ومنذ أمد بعيد أشار "كلود برنار" فى كتاباته إلى ضرورة التخلص من النظم الفلسفية والعلمية كما يفعل الإنسان حينما يحطم سلاسل العبودية العقلية، ولكن بلوغ مثل هذه الحرية لم يتحقق بعد، لأن البيولوجيين والمعلمين والاقتصاديين وعلماء الاجتماع، كانوا إذا ما واجهتهم مشكلات شديدة التعقيد غالبا ما يستجيبون للإغراء الذى يستحوذ عليهم لكى يبنوا نظريات ثم يقلبوها بعد ذلك إلى معتقدات، ومن ثم فقد تبلورت علومهم على شكل تراكيب، شأنهم فى ذلك شأن المتعصبين للديانات. إننا نلاقى كثيرا من دواعى التذكير التى تثير التعب بسبب هذه الأخطاء فى جميع نواحى المعرفة". ونحن نود لو عولجت الآراء والمقترحات والمذاهب بأقصى ما لدى البشر من ذكاء وتجرد. وحرية، فإن الأوهام بين الناس أكثر من الحقائق، ولو كانت الظنون العلمية والاجتماعية والدينية تتساقط من أذهان أصحابها كما يتساقط ورق الشجر فى فصل الخريف، لعريت عقول(1/79)
كثيرة مما يتماسك بها، وما يطلبه مؤلف "الإنسان ذلك المجهول" هو ما سلكه كبار العلماء عندنا، إن نشدان اليقين هو غاية المفكرين المسلمين فى مزدحم الآراء التى تلقاهم ولا شك أن القرآن الكريم من وراء هذا السعى الحميد. ص _080
وتأمل فى هذه الآيات التى تجمع الرذائل الفكرية والنفسية لأى رأى وتحذر من مقارفتها ( قتل الخراصون * الذين هم في غمرة ساهون * يسألون أيان يوم الدين) ؟. التخرص، والانغماس في الغفلة، والسهو عن الواقع، هذه آفات لا تنتج حقيقة أبدا، ومثلها غفلة الحواس وذهولها ( إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد)، فكم من حاضر الجسم غائب اللب ؟ أترى ذلك يعى ما أمامه؟ ( فذرهم في غمرتهم حتى حين * أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين * نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون.) . المرء المغمور بصور مادية ومعنوية معينة قلما يخرج من محبسه ليدرك مشاهد أخرى للحياة أو جوانب من الحق لا يحسها، إلا أن تدرك أقدار حسنة فتتيح له أن يعرف ما كان يجهل. والحضارة الإسلامية فى أعصار ازدهارها، وقربها من منابعها كانت تلمع فيها هذه الصبغة الباهرة صبغة التجرد للحق، والبحث عن اليقين. ولنتناول طرفا من حياة الغزالى الكبير، كنموذج إسلامى فى مجتمع شبيه بعصرنا هذا، كانت الأفكار فيه والمذاهب تتصارع فى كل قرية ومدينة، إذ أن الثقافات الأجنبية العالمية تمت ترجمتها تقريبا إلى العربية فى الوقت الذى بلغت فيه علوم الدين واللغة مرتبة الاستقرار، وشاع الجدل العلمى فى كل ناحية وانتشرت مجالسه ومناظراته. فكان طالب الحق يجد نفسه أمام ألوان شتى من التفكير، وبين دعوات تجتذبه من هنا ومن هناك وإنك لتلمح مدى الحرية العقلية التى تمتع الغزالى بها وهو يصف نفسه فى كتابه "المنقذ من الضلال" فيقول: "ولم أزل فى عنفوان شبابى منذ راهقت البلوغ قبل العشرين إلى الآن وقد أناف السن على الخمسين اقتحم لجة هذا البحر العميق وأخوض غمرته خوض(1/80)
الجسور لا خوض الجبان الحذور وأتوغل فى كل مظلمة وأتهجم على كل مشكلة وأتقحم كل ورطة وأتفحص عن عقيدة كل فرقة وأستكشف أسرار مذهب كل طائفة لأميز بين محق ومبطل ومتسنن ومبتدع لا أغادر باطنيا إلا وأحب أن أطلع على بطانته. ولا ظاهريا إلا وأريد أن أعلم حاصل ظهارته، ولا فلسفيا إلا وأقصد الوقوف على كنه فلسفته، ولا ص _081
متكلما إلا واجتهد فى الاطلاع على غاية كلامه ومجادلته، ولا صوفيا إلا وأترصد ما يرجع إليه حاصل عبادته، ولا زنديقا معطلا إلا وأتحسس وراءه للتنبه لأسباب جرأته فى تعطيله وزندقته، وقد كان التعطش إلى درك حقائق الأمور دأبى وديدنى من أول أمرى وريعان عمرى غريزة وفطرة من الله وضعتا فى جبلتى لا باختيارى وحيلتى حتى انحلت عنى رابطة التقليد وانكسرت على العقائد الموروثة على قرب عهد سن الصبا إذ رأيت صبيان النصارى لا يكون لهم نشوء إلا على التنصر وصبيان اليهود لا نشوء لهم إلا على اليهود، وصبيان المسلمين لا نشوء لهم إلا على الإسلام وسمعت الحديث المروى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث قال: "كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه" فتحرك باطنى إلى حقيقة الفطرة الأصلية وحقيقة العقائد العارضة بتقليد الوالدين والأستاذين، والتمييز بين هذه التقليدات، وأوائلها تلقينات، وفى تمييز الحق منها عن الباطل اختلافات. فقلت فى نفسي: أولا إنما مطلوبى العلم بحقائق الأمور فلابد من طلب حقيقة العلم ما هى ؟ فظهر لى أن العلم اليقينى هو الذى ينكشف فيه المعلوم انكشافا لا يبقى معه ريب ولا يقارنه إمكان الغلط والوهم". والمنهج العلمى البحت. الصارم فى ضبط المقدمات ووزن النتائج بموازين الذهب، لا يلقى أشرف من هذه السيرة، ولو وضعت هذه السطور المضيئة أمام المؤلف الفرنسى الكبير لامتلأ قلبه إجلالا لصاحبها. ونحن - حين نخط هذه السطور - نشفق من متاجرين بالحرية العقلية، لا يؤيدونها إلا بمقدار ما تعطى(1/81)
الشبهات حق الحياة، والخطأ حق الانطلاق، والفوضى حق التدمير. فإذا أتاحت لهم الحرية ما يبتغون سدوا على خصومهم أفواه الطرق ودفعوا بالمجتمع كله صوب ما يعتنقون. وهذه ثمار مرة لا يرى عاقل أن يمهد لها، والأمر يحتاج إلى تفصيل ومحاذرة. ففى ميدان العلم، وفى مجامعه الكبري، وصفوفه العليا يمكن أن تدرس النقائص، وتسمع شتى الأراء وتناقش جهرة دون حرج، ومع تأمين مطلق لذويها. أما أن يستمكن بعض المنحرفين من آذان العامة ويصبوا فيها ألوان الإغراء، ومنازع الشر، فهذا هدم لا بناء، وخطره على المجتمع شديد، إذ هو سيزلزل القيم التى يتحرك بها، ويوهى الأواصر التى تشد بعضه إلى بعض. ص _0 ص(1/82)
ولقد رأيت بعد إمعان النظر واستقراء الأحداث أن الباطل لا يسير فى الأرض بقواه الذاتية، وإنما تسيره عوامل الرغبة والرهبة وتسنده الرشا والسيوف، وعندما نتخلى عنه يتهاوى من تلقاء نفسه. أما الحق فإن تجاوبه مع فطرة الله فى النفوس يجعله مقبولا مستحبا، ويقدره على تخطى العقبات واجتياز السدود، أى أن الحق لا يخشى الحرية أبدا، إنما يخشى الحرية العوج والجهل والبغى فى الأرض بغير الحق.. ومن ثم فنحن مع توفير الحرية التامة فى أرجاء المجتمع، نعتقد أن هذه الحرية بما فيها من حرارة ستنضج السنابل النافعة وتقتل الحشرات الضارة، سيأخذ الحق منها جواز مروره إلى الأعقاب على اختلاف الليل والنهار، وسينكمش الباطل فى جوها، فإما صعق لفوره، وإما تحرك قليلا ريثما يلقى حتفه. وكم من عوج فى الدنيا ما يمسك بقاءه إلا استخفاء هذه الحرية العزيزة، ولو هبت رياحها يوما لخلعت جذوره. وبديهى أن الحرية التى نعشق، تلك التى تحد من جهاتها الأربع بما لا يضر الآخرين. إنها الجو الذى يعيش على تمحيص الحقيقة ويساعد على قبولها دون قسر أو ختل.. والعلم بالإنسان ورسالته، وضمان حاضره ومستقبله، والتسامى به مبنى ومعنى جهد رحيب الدائرة، بل إن العلم بالإنسان لا يصح إلا مع خبرة محترمة بعلوم الكون والحياة، وإحاطة حسنة بجملة الحقائق المادية والتاريخية والاجتماعية. ولا غرو فالإنسان أثمن درة فى هذا الوجود، والقصور لا يجدى فى فهم قضاياه، ولذلك يقول "الكسيس كاريل" "إن علم الإنسان يستخدم جميع العلوم الأخري، وهذا سبب من أسباب بطئه وصعوبته" ويقول "من الواضح طبعا أنه لا يوجد عالم يستطيع أن يتحكم ويتفوق فى جميع الفنون التى لا غنى عنها لدراسة مشكلة واحدة من مشكلات الإنسان". وليس هذا مثبطا للهمم أو معجزا للباحثين، ولنبدأ السير من الآن "سيكون علم الإنسان مهمة المستقبل فيجب أن تقنع الآن بالبداية سواء من الناحية التحليلية أو من الناحية التركيبية المتعلقة(1/83)
بالصفات الإنسانية".. وهنا نشرف على أنفس ما وصل إليه العالم الغربى الألمعى ! ص _083
ما الإنسان الذى نحيطه بتلك الهالة النيرة ؟. لقد كرم الله الإنسان من قديم، وفضله على صنوف البر والبحر". وفى عصرنا هذا نجد الإنسان بدل أن يصعد السلم بقدمين يحمله المصعد إلى أعلي، وبدل أن يقطع المسافات الشاسعة فى سفره تحمله الطائرات إلى ما يبغي. إن عناصر وفيرة فى الأرض والسماء مسخرة لإراحة البشر وترفيههم، وكلما ارتقت الحضارة زادت أعداد العناصر المسخرة للإنسان، وزادت مقدرة الإنسان على تطويعها لرغباته. فهل كرامة الإنسان وعظمته تعودان إلى هذه المهارة ؟ كلا، إن الإنسان الذى يصعد السلم على قدميه وهو يلهث أشرف من ممطى المصعد، إذا كان الأول يحمل بين حناياه قلبا زكيا، ونفسا نقية، وكان الآخر لا يعرف إلا ملء معدته وإطفاء شهوته. ليس شرف الإنسان بمدى سطوته فى الأرض، بل بمدى تنمية مواهبه العليا وملكاته النبيلة. وفى هذه الأيام نستقبل أنباء غزاة الفضاء وهم يحاولون ببأس شديد أن يتعرفوا الكواكب الأخرى، ويضعوا أقدامهم على سطحها. إن هذا تقدم علمى رائع بيد أن قيمته الإنسانية هابطة ما بقى البشر على ظهر الأرض يأكل أبيضهم أسودهم، ويستذل قويهم ضعيفهم، ويصبحون ويمسون وهم لا يحسنون إلا خدمة الإهاب الطينى الذى احتوى خصائصهم ووظائفهم المادية والمعنوية فإن كل إنسان منصرف الآن - هكذا يقول كاريل - إلى الاهتمام بالأشياء التى تزيد من ثروته وراحته فى حين لا يوجد من يدرك أن الصفة البنائية والوظيفية والعقلية لكل فرد يجب أن تتناولها يد التحسين فإن صحة العقل ولا الحاسة الفعالة والنظام الأدبى والتطور الروحى تتساوى فى أهميتها مع صحة الأبدان من الأمراض المعدية. إننا لن نصيب أية فائدة من زيادة عدد الاختراعات الميكانيكية وقد يكون من الأجدى ألا نضفى مثل هذا القدر الكبير من الأهمية على اكتشافات الطبيعة والفلك والكيمياء. ومن ثم فإن من(1/84)
الأفضل كثيرا أن نوجه اهتماما أكثر إلى أنفسنا عن أن نبنى بواخر أكثر سرعة وسيارة تتوافر فيها أسباب الراحة وأجهزة راديو أقل ثمنا أو تلسكوبات لفحص هيكل سديم على بعد سحيق ما هو مدى التقدم الحقيقى الذى ص _084
نحققه حينما تنقلنا إحدى الطائرات إلى أوربا أو إلى الصين فى ساعات قلائل ؟ هل من الضرورى أن نزيد الإنتاج من غير توقف حتى يستطيع الإنسان أن يستهلك كميات أكثر باطراد من أشياء لا جدوى منها؟ ليس هناك أى ظل من الشك فى أن علوم الميكانيكا والطبيعة والكيمياء عاجزة عن إعطائنا الذكاء والنظام الخلقى والصحة والتوازن العصبى والأمن والسلام، يجب أن نصرف حب استطلاعنا عن سبيله الحاضر ونوجهه فى اتجاه آخر.. يجب أن ننصرف عن الأبحاث الطبيعية والفسيولوجية لتتبع الأبحاث العقلية والروحية. وقائل هذا الكلام رجل يستمد معرفته من المعمل والأرقام، والوقائع، وهو يبغى بمنطق العلم التجريبى المنزه عن الوهم والمجازفة أن يعرف الإنسان نفسه ومصلحته العاجلة أو الآجلة. ولو وعى رجال الدين وظيفتهم لأسهموا بنصيب كريم فى هذا الميدان.. أعنى أن يلفتوا إلى هذا العلم الجديد "علم الإنسان" ليضيئوا متاهاته بمنارات الوحي، فإن كل علم للإنسان يجب إرساء قواعده على الإيمان بالله واليوم الآخر، وعلى اعتداد مرحلة العمر فترة اختبار لها ما بعدها. وعبيد الدنيا ينكرون هذا الكلام أشد الإنكار ويتوهمون أن مستقبلهم هنا، وحسب. ما أشبههم برجل قرر أن يزرع صحارى القطبين واستصحب فى رحلته إليها قناطير البذور إنه لن يجنى من جليدها إلا متاع الغرور. ص _086(1/85)
إن التدين الذى انكمش أمام أقدام العلم، وقبع مكانه ساخطا على ثمرات التقدم المدني، لا يستحق فى نظرنا أن يعطى فرصة أخرى لتخريب الدنيا وشل نمائها. يجب أن يزداد التفوق العلمى مقدرة على خدمة البشرية، وغاية ما نريد أن يصحبه على الطريق وحى الله وسنا توجيهه حتى لا يضل أو يزيغ.. لقد أخطأ بعض المتدينين فظنوا زكاة الروح ما تتم إلا بدمار الجسد، وضمان الآخرة ما يتم إلا بضياع الدنيا. ومضيا مع هذا التفكير الشارد تجهموا لأسباب الحياة والارتقاء، ووقفوا بعيدا يرمقون الحضارة الإنسانية الزاحفة وهى تكبو حينا، وتستقيم حينا آخر. ولعلهم - وهم يستمعون للتنديد بضراوة المادية فى العالم - يقولون: ألم نتوجس خيفة من هذا المصير، ونحذركم الانحدار إليه ؟ ونحن نقول لهؤلاء: على رسلكم، إن ما تريدون للعالم ليس شرا مما نشكو منه الآن. إن كل تدين يجافى العلم، ويخاصم الفكر ويرفض عقد صلح شريف مع الحياة هو تدين فقد صلاحيته للبقاء بله القيادة. وما نظن أهل الأرض لعودة إليه بعد ما منحوا نعمة الخلاص منه. التدين الحقيقى إيمان بالله العظيم، وشعور بالخلافة عنه فى الأرض، وتطلع إلى السيادة التى اقتضتها هذه الخلافة أعنى السيادة على عناصر الكون وقواه. ولا تتاح هذه السيادة بداهة إلا لعقل ذكى جواب فى الآفاق، طلعة إلى اقتحام المجاهل، راغب فى تطويعها لمشيئته. التدين الحقيقى ليس جسدا مهزولا من طول الجوع والسهر، ولكنه جسد مفعم بالقوة التى تسعفه على أداء الواجبات الثقال، مفعم بالأشواق إلى متاع الحياة. فإن كان حلالا طيبا ارتفعه وابتهج به، وإن كان كسبا خبيثا ابتعد عنه وهو قادر عليه. إن الاستعفاف عن المفقود الميئوس منه ليس تقوى، بل هو كصفح العاجز عن الانتقام لنفسه، لا دلالة فيه على سماحة أو تطول: كل حلم أتى بغير اقتدار حجة لاجئ إليها اللئام وعظمة الإيمان إنما تتألق وسط دنيا يملكها المجتمع المؤمن، ويستطيع الانغماس فى فتنتها، ومع ذلك فهو(1/86)
يحكم نفسه ويحكمها باسم الله. ص _087
عظمة الإيمان تعتمد ابتداء على فقه فى آيات الكون يقف المرء على أسرار الإبداع الأعلى ، ويشعره بما يستحقه الخالق الكبير من مجد وحمد. عظمة الإيمان تقوم على نشاط عقلى لا حدود له، يواكبه نشاط روحى لا يقل عنه كفاءة، بل يربو عليه. أما إهزال الفكر الإنساني، وإضعاف ثماره، حتى يستطيع التدين المعلول أن يملك زمامه، فذاك ما نرفضه كل الرفض. إذا كان عالمنا يشعر بضوائق روحية معنتة فى هذه الأيام فالعلاج الفذ ليس شجب التقدم العسكرى والصناعي، ولكن جعل هذا كله فى وصاية إيمان ممدود المفهوم رحب الدائرة يؤمن بالإنسان عقلا وقلبا، ويستجد إيمانه ذاك من معرفته لله واستمساكه بهداه.. أما تصور التقدم الروحى على أنه استرخاء فكري.. يجر سبات الليل إلى سحابة النهار أو عودة بالإنسان إلى عالم من الرؤى والفنون الحالمة والآداب الهائمة، فهذا ليس تقدما بالحياة، ولكنه عوج من طراز آخر.. فلنعد - بعد هذا التنبيه - إلى سماع الشكوى من الأزمة الروحية فى عالمنا الحاضر.. إنها شكوى صادقة كل الصدق فإن الحضارة الحديثة تقوم على عبادة الحياة الدنيا، والاستكثار جهد الطاقة من لذاتها أو التسابق المضنى لجمع حطامها.. أما الصلة بالله فهى - مع ضعفها البالغ - ما تظهر فى وعى الناس إلا لماما، وقلما كمن الإيمان بالله وراء نية باعثة، أو اقترن بغاية كريمة. ودعك من الحديث عن اليوم الآخر، فإن ذكر ذلك فى مجمع جاد أمر يثير الدهشة والتهمة !! وعواصم أوربا وأمريكا - وهى مصدر النظم المدنية التى تسود الأرض الآن - سواء فى هذا المعني. فالعالم الشيوعى الشرقى والعالم الرأسمالى الغربى قد يختلف أحدهما عن الآخر فى أسلوب الحياة، ولكنه يوافقه فى أن الحياة مقصودة لذاتها وإن ما وراءها وهم، وهذه الوثنية الجديدة - أعنى عبادة الحياة وحسب - هى الطابع الدميم للحضارة الحديثة وقد تناول المؤرخ الإنكليزى الكبير "توينبي" هذه الحقيقة(1/87)
بعبارات استرعت انتباهنا قال: "إنى أشعر بانحسار الأديان الكبرى المعروفة وظهور عبادة القوة البشرية" مرة أخرى فى ص _088
العالم الحديث، ظهرت هذه العبادة فى شكليها التقليديين شكل عبادة الدولة المحلية أو عبادة الدولة العالمية. وعبادة الدولة المحلية تظهر بصورة جلية فى النزعات القومية، بينما تتمثل عبادة المجتمع العالمى إلى حد ما فى الشيوعية، وفى الأمل الذى يداعب الكثيرين نحو تحقيق ضرب من الوحدة العالمية أو الحكومة العالمية. وإنى أفترض أن هذه الصور لعبادة القوة البشرية الجماعية تشمل 90 % من الشعور الدينى أو 90 % من سكان العالم فى الوقت الحاضر.. قال: "والواقع أن الارتكاس فى عبادة القوة البشرية الجماعية بنوعيها السابقين هو السبب الحقيقى للمتاعب والاضطرابات التى تنشب بين الناس. إن الأديان الكبرى جميعا مهملة وآخذة فى التلاشي. وربما توقف مستقبل الجنس البشرى على عودتها إلى السيطرة أو عجزها عن ذلك". وكلام هذا المؤرخ الكبير يشير من قرب إلى موضع الداء فى الحضارة الحديثة، فالناس يدورون حول أنفسهم ولا يعرفون إلا يومهم هذا.. وحديثه عن الشيوعية مسلم كله، لأنها مذهب ظاهر الكفر بالله ووحيه. أما القوميات، فلعله ابتداء يقصد النزعات العنصرية الحادة التى عرفتها وما تزال تعرفها أوربا وأمريكا. ولما كانت هذه القوميات ذات مفهوم أجوف فارغ فإن المتعصبين يحشونه بأهوائهم التى لا خير فيها قط، وربما قبل هؤلاء المتعصبون للجنس أو اللون، أن يستضيفوا الدين حينا من الزمن، بيد أنهم لا يسمحون له أبدا أن يكون رب البيت، إنه ضيف موقوت الإقامة، يجوز طرده إن تجاوز حده !! وليس الفيلسوف الإنكليزى "توينبي" وحده هو الذى يسوى بين العالمين الشيوعى والرأسمالى فى عبادة الحياة ونسيان الدين "لا" فإن "الكسيس كاريل" فى كتابه "الإنسان ذلك المجهول" يشرح ذلك بتفصيل وإبانة، فيقول: إن الدول التى تبنت بغير تبصر روح الحضارة الصناعية(1/88)
وفنونها مثل روسيا وإنجلترا وفرنسا وألمانيا معرضة للأخطار ذاتها التى تتعرض لها الولايات المتحدة، ومن الواجب أن يتحول اهتمام الإنسانية من دنيا الآلات وعالم الجماد إلى جسم الإنسان وروحه. لكن ما هى الأخطار التى تعرض لها العالم الحديث ؟ ص _089
إنه يفصل ذلك فيقول: "كان من الطبيعى أن تضطر القيم الأدبية إلى التخلى عن مكانتها للانتصارات العقلية التى جلبت لنا الثراء والترف، واكتسح العقل المعتقدات الدينية وأصبحت معرفة القوانين الطبيعية، والقوى التى تهيئها لنا هذه المعرفة لتسخير العالم المادى هى الشيء المهم". ويقول: " لقد أطلقهم العلم العصرى من القيود الأدبية التى كان يفرضها عليهم النظام الدينى البحت. وهكذا حررتهم الحياة العصرية من القيود الثقيلة التى كانوا يعانون منها الأمرين كما أنها تحفزهم على العمل من أجل الثراء بأية وسيلة مستطاعة، بشرط ألا تؤدى بهم هذه الوسيلة إلى السجن !!! وتفتح أمامهم جميع بلاد العالم بعد أن حررتهم من شتى العوائق ! وتتيح لهم إشباع رغباتهم الجنسية بطريقة سهلة كلما أحسوا بالحاجة إلى إشباع هذه الرغبة !! إنها خلصتهم من كل عناء ونظام، ومن كل ما يسبب الضيق والتعب". ويقول: "لم يسبق للبشر أن طعموا بمثل هذا النظام الدقيق نظرا لما طرأ على حياتهم من ثراء كان عاما إلى أعوام قليلة مضت. ولضعف الروح الأدبية فيهم أضحوا منصرفين عن الصوم". ويقول: "لقد انحلت روابط الأسر ولم يعد للألفة والمودة وجود، لأن حياة الجماعات الصغيرة قد حلت محلها حياة القطعان الكبيرة"... وشرق أوربا وغربها سواء فى البعد من الله، والحرمان من الحق وفقدان المبادئ التى تمد الخاصة والعامة بالرضا والقرار. ولا جدوى للأنظمة المدنية التى ولدتها الثورات المختلفة من حمراء وبيضاء. واسمع لمؤلف "الإنسان ذلك المجهول" يقول: "إن نظم الحكومات التى أنشأها أصحاب المذاهب فى عقولهم عديمة القيمة، فمبادئ الثورة الفرنسية وخيالات(1/89)
ماركس ولينين تنطبق فقط على الرجال الجامدين، ويجب أن يفهم بوضوح أن قوانين العلاقات البشرية غير معروفة، فإن علوم الاجتماع والاقتصاد علوم تخمينية افتراضية". أى أنها قائمة على ظنون، وأمر الحياة أكبر من ذلك (إن الظن لا يغني من الحق شيئا إن الله عليم بما يفعلون). ص _090
ما المخرج من هذه الضوائق، وكيف يجد العالم سناءه الفكرى والروحى معا ؟ الراشدون من رجالات الفكر يتفقون على أن شفاء العالم من سقامه مرتبط بعودة الإيمان إلى القلوب الفارغة، وعودة الأديان الكبرى إلى مكانتها المفقودة. وهذا الرجاء سيبقى سرابا خادعا ما لم نعرف لماذا فقدت هذه الأديان مكانتها ؟ ولماذا أفلت زمام الحياة من يدها ؟ وهل الأرواح الظامئة إلى الحق واجدة ريها في اتباع هذه الأديان ؟ وهل الجماهير الفقيرة إلى الأمن والسكينة ظافرة بطلبتها فى رحاب العقائد الموروثة ؟ أحب ، بين يدى الإجابة على هذه الأسئلة ، أن أذكر أمورا لابد منها. إن الأديان الأرضية يجب سلخ هذه التسمية عنها. فهى فلسفات شاعت بين أصحابها وليست أديانا على الحقيقة. وما يصح أن يلتمس علاج لعلل الناس من تفكير أرضى بحت، فيه من الخطأ أضعاف ما فيه من الصواب، وفيه من القصور أضعاف ما فيه من التمام. وما انقطعت نسبته إلى السماء، فوصفه بأنه دين ضرب من التجوز قد يقبل استصحابا لبعض الملابسات، بيد أننا نرفض بتة أن نعد هذه العقائد أديانا يستريح الناس فى ظلالها. إن الأديان السماوية المعروفة الباقية إلى يوم الناس هذا، هى اليهودية والنصرانية والإسلام. ونحن المسلمين نؤمن بكتب السماء، ونسوى بين موسى وعيسى ومحمد فى أنهم رجال صدقوا الرغبة إلى الله وأخلصوا النصح لعباده، وحاربوا الشيطان ووساوسه ومهدوا طريق التوبة والعبادة والإحسان. وفى مواجهة المحنة الروحية والخلقية التى تسود الأرض، ينبغى أن يعرف من من أتباع الأنبياء يسأل عنها ويحمل النصيب الأوفى فى ملاقاتها ؟ إن اليهود اليوم فى(1/90)
أقوى مراحل تاريخهم وأذكاها، وقد استطاعوا أن يسخروا قوى هائلة فى إقامة دولتهم إسرائيل. فهل شم أحد رائحة التقوى والسمو فى النشاط الدينى الذى تقوم الصهيونية تحت رايته ؟ وهل شام أحد بريقا من خير وعفة فى قيام إسرائيل تحمل لقبا لواحد من الأنبياء ؟ ص _091
الواقع أن بنى إسرائيل من وراء الكبوة الخطيرة التى تعانيها الإنسانية هنا وهناك، ومن الحماقة التماس هدى للعالمين فى شيء عندهم.. ونظرة أخرى إلى الاستعمار الغربى الآثم: لقد جثم على مساحات فيحاء من أرض القارة المحروبة "أفريقية" وبقى أعصارا طوالا يعب من خيراتها وينهب ثرواتها الظاهرة والباطنة، ويتخذ النصرانية ستارا لأطماعه فماذا جنى من هذا المسلك ؟ لقد اغتنت أوربا من المال الحرام، وجبيت إليها ثمرات كل شيء، واختفى الماء من الموائد لتحل الخمر محله ! وعريت الأجساد عن ألبسة التقوى لتكرع النفوس من الشهوة كيف شاءت، وانجرف الآباء الروحيون مع التيار السائد ! فهل هذا المسلك هو الذى يمهد للناس طريق العودة إلى الله ؟ أما الإسلام فهو دين يتيم، ليست له اليوم أبوة روحية وثقافية تجلو معدنه وتبدى حقيقته. ولعله مشغول بالدفاع عن نفسه وأرضه ضد الضغائن الهابة عليه من يمين وشمال. فكيف يقدر فى هذا الوضع على الوفاء بحاجة العالم إلى السلام النفسى والاجتماعى ؟ إن العالم يتلوى من الفراغ الروحى الرهيب الذى أسعر فى جنباته نوازع الأثرة والتظالم والجشع. وهو أفقر ما يكون إلى منقذين من الطراز الذى وصف الله رجاله بأنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالله. ولعل العرب يقدمون للإنسانية هذا الدواء، ويؤدون الرسالة التى تخيرتهم لها السماء. ص _092(1/91)
أصول عربية للاشتراكية الحديثة جرى فى نفسى هذا التساؤل: لو كان ملوك فرنسا وروسيا أحنى على الجماهير وأرفق بالضعفاء وأدنى إلى العدالة وأرضى لله. أكانت الثورات العاتية تثل عروشهم وتقض مضاجعهم ؟ إن جنوح هؤلاء الحكام إلى العسف والفوضى أعقب آثاره المتفاوتة فكان رد الفعل مزيجا من الخير والشر والقسوة والرحمة. بل كان مزيجا من الكفر والإيمان. فإن الثائرين - إلا من عصم ربك - مندفعون بمشاعر فيها من الغيظ المحبوس أضعاف ما فيها من إحقاق الحق وإبطال الباطل. لكن عبث الحكام وقع فى بلاد كثيرة. ومع ذلك فإن رد الفعل لم يقترن بتلك الأحقاد الجامحة خصوصا فى أقطار العروبة والإسلام. فما السر فى هذا المسلك ؟ والجواب فيما نرى يرجع إلى طبيعة الأمة العربية وتعاليم الإسلام الحنيف. فإن شبكة التقاليد التى تنسجها الطبيعتان فى أرجاء المجتمع تحمى الأمة من الهزات الحانقة وتحصن كيانها من المبادئ المتطرفة والنزعات الكفور. ولأمر ما لم تندلع فى تاريخنا الطويل ثورة حمراء قط. ولن يقع ذلك أبدا. لا لشيء إلا لأن الثروة الغزيرة من المشاعر الحانية والسير الزاكية التى احتضنت ولا تزال تحتضن أمتنا تحول دون هذا العوج. فى الجاهلية الأولى للعرب كان الناس أكثر تعاونا وأظهر تراحما من روسيا القيصرية وفرنسا الملكية. ربما هلك الفرد فى زمهرير الشتاء هنالك دون أن يجد قوام حياته من غذاء ودفء، أما العرب فى مجتمعهم القبلى فهم يوقدون النار فى القمم النجود لإرشاد العافين واستقدام الأضياف. ولسان حالهم ما يقوله حاتم لغلامه: أوقد فإن الليل ليل قر والريح يا غلام ريح صر عل نارك من يمر إن جلبت ضيفا فأنت حر ص _093(1/92)
والواقع أن العرب أبعد عن الروح الفردية الجافة التى سادت بلادا أخرى وأقامت علاقاتها على الكزازة والانطواء. وتأمل كيف تمنى عبد الملك بن مروان الخليفة الأموى الضخم أن يكون ابنا لعروة ابن الورد الملقب بعروة الصعاليك ! ولماذا ؟ لأبيات قالها عروة تشرح البناء النفسى لهذا الأعرابى الكبير القلب جاء فيها: أتهزأ منى أن سمنت وأن بدا بوجهى شحوب الحق والحق جاهد فإنى امرؤ عافى أنائى شركة وأنت امرؤ عافى أنائك واحد أقسم جسمى فى جسوم كثيرة وأغذوا قراح الماء والماء بارد فالشركة التى وردت على لسان عروة أو الاشتراكية التى عاشت على لسان أهل العصر تعنى أن المرء لا يعيش وحده. ولا يجعل نفسه محور نشاطه وخموله ورضاه وغضبه. فهناك غيره من الصحب والأخوة والغرباء والطارئين هناك عالم رحب وراء دائرة الأثرة الكنود. عالم تتعلق به الهمم الكبيرة والنفوس الطيبة وتربط كرامتها ومكانتها بالرسوخ فيه. ومراسم النبل التى يخطها هؤلاء الرجال هى التى جعلت حاتما يسدى هذا النصح: إذا كنت ربا للقلوص فلا تدع رفيقك يمشى خلفها غير راكب أنخها فأردفها فإن حملتكما فذاك وإن كان العقاب فعاقب ص _094(1/93)
والمجتمع الذى يخلط فقيره بغنيه فى وجبات الطعام وأدوات النقل لا يتصور أن تقطعه الثورات الحاقدة ولا أن تمزق ما أمر الله به أن يوصل. فلما جاء الإسلام ترعرعت فى جوه السمح هذه المعانى العظيمة، لقد سحق جراثيم الأثرة سحقا. وأشعر كل مؤمن بأنه شريك فى الحياة مع غيره فما خلقت الدنيا له وحده وما تصلح به وحده يقول الرسول صلوات الله وسلامه عليه: "من كان له فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له ومن كان له فضل زاد فليعد به على من لا زاد له". قال راوى الحديث فذكر أصنافا من المال حتى رأينا أن لا حق لأحد منا فى فضل. فلما بنى أول مجتمع إسلامى فى المدينة سنحت الفرصة العملية لتحقيق هذه القاعدة. فكانت الأخوة المتكافلة فى السراء والضراء. المتقاسمة للخير والشر المتساوية فى نيل الفرص أو الحرمان منها: هى الدعامة المكينة التى قامت عليها هذه الأمة فى أنقى عصورها. ولقد أراد النبى الغزو مرة فقال: "يا معشر المهاجرين والأنصار إن من إخوانكم من ليس له مال ولا عشيرة. فليضم أحدكم إليه الرجلين والثلاثة". قال جابر بن عبد الله - راوى الحديث - فضممت إلى اثنين أو ثلاثة ومالى إلا عقبة كعقبة أحدهم من جملي.. وكان الرسول يقول: "من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث. ومن كان عنده طعام ثلاثة فليذهب برابع. بخامس". ولم يكن هذا الترغيب فى استنقاذ الناس من براثن الجوع والفاقة نافلة هينة بل كان الأمر متصلا بالإيمان وصلب الدين. ومن ثم قال الرسول: "ما آمن بى من بات شبعان وجاره جائع إلى جانبه وهو يعلم". كما روى أن رجلا جاء إلى النبى وقال له: اكسنى يا رسول الله. فأعرض عنه - لعدم استطاعته - فعاد الرجل يقول: اكسنى يا رسول الله. فقال له: أما لك جار له فضل ثوبين ؟ قال: بلى غير واحد ! قال: فلا يجمع الله بينك وبينه فى الجنة". ص _095(1/94)
وأصحاب الفضول الذين يبخلون بها ويترفون فيها لا يسالمهم الدين ولا يترفق فى معاملتهم. فإن الفساد الذى يثيرونه فى المجتمع غليظ وحماية الشعوب منه واجبة. وإلا ضاع الدين نفسه فى حريق مطامعهم. فلا عجب إذا سمى الإسلام هؤلاء شياطين واعتبر بيوتهم التى يسكنونها بيوت الشياطين. ومراكبهم التى يمتطونها مراكب الشياطين، فعن أبى هريرة قال : قال النبى صلوات الله وسلامه عليه : "تكون إبل للشياطين وبيوت للشياطين. فأما ابل الشياطين فقد رأيتها يخرج أحدكم بنجيبات معه قد أسمنها فلا يعلو بعيرا منها. ويمر بأخيه قد انقطع فلا يحمله. وأما بيوت الشياطين فلا أراها إلا هذه الأقفاص التى تستر الناس بالديباج". ومن الواضح أن بيوت الشياطين هذه هى التى هدمها الثوار الفرنسيون عندما انطلقوا يبحثون عن حقوق الإنسان ويهدمون معاقل الظلم ويتخلصون من ضوائق الكبت والحرمان. وهى كذلك البيوت التى هدمها الروس الحمر لما أعنتهم تفاوت الطبقات وأمضهم الترف المضاعف فى ناحية والبؤس المضاعف فى ناحية أخرى. وقد تكون هذه الثورات الدامية قد اقتربت بقليل أو كثير من الإغراق والشطط. ولكن هذه طبيعة الحياة قلما يتمحض فيها الخير والشر. وعندما يكون الفعل منكرا يكون رد الفعل أشد نكرا: والإسلام يصنع شيئا كثيرا حين يشعر كل مسلم أن الناس فى حق الحياة سواء وأن الغبن والافتيات لا تصح بهما دنيا ولا يصلح عليهما دين. فهل هذا الإشعار غاية خلقية يكتفى الإسلام فى غرسها بالوعظ والإرشاد ؟ كلا. إن هناك ركائز اجتماعية واقتصادية مهمة أقامها الإسلام سياجا حول روح الجماعة حتى لا تضعف أمام وساوس الأثرة الطاغية. ولنتحدث عن مثال لمنهج الإسلام فى هذه السبيل: الأرض التى نحيا فوقها مرفق كبير لبنى آدم جعله الله لهم مهادا ويسر لهم التقلب فيه والانتفاع به. ص _096(1/95)
( ولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش). ومن أفحش الظلم فى نظر الإسلام أن يجور امرؤ فى امتلاك شبر من هذه الأرض قال عليه الصلاة والسلام: "من غصب شبرا من أرض طوقه من سبع أرضين يوم القيامة" وهذا وعيد حق ويخيل إلى أن ألوفا من الناس ستحشر يوم القيامة وهى تحمل أتربة زنة الجبال لأن تملك الأرض من غير طريق مشروع خطيئة شائعة. ولو تياسر الناس فى استغلال الأرض المزروعة لاستراحوا من عنت كبير. لقد صح أن رسول الله قال: "من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه فإن أبى فليمسك أرضه". وعن مجاهد قال: "لا يصلح من الزرع إلا أرض تملك رقبتها أو أرض يمنحكها رجل". وقد فهم ابن حزم من هذا ما فهمه رجال من السلف أن كراء الأرض حرام وأن الإنسان يزرع فقط ما يطيق ويدع الباقى لغيره يزرعه وينتفع به دون أجر مقابل. ويرى فقهاء آخرون أن المنع من إجارة الأرض كان فى صدر الإسلام للتوسعة على الفقراء ثم أبيح التأجير لما صلحت أحوال المجتمع الإسلامي. وأيا ما كان الأمر فإن التشريع بالحظر والإباحة استهدف منفعة الجماعة وإشاعة خير الله بين عباده وكبح بواعث الجشع من التحكم والانطلاق. والدولة - فى نطاق الإسلام وحده - تستطيع تنظيم أوضاعها الاقتصادية دون أن تقرأ سطرا من مذهب اقتصادى أجنبى فما أغنى الإسلام بمبادئ الإيثار والتراحم والعدل. على أن هناك ما يجب التنبيه إليه قبل هذا كله وهو أن الإسلام دين يغرس تقوى الله فى الأفئدة وأن الشرائع المالية المختلفة جزء مسبوق وملحوق بشرائع اليقين والخلق ومراسم العبادة وأنواع الأمر والنهي. والحق أن الأفكار الاقتصادية الشائعة فى العالم تعتمد على أنظار فلسفية مختلفة القيمة العلمية. والبرامج اليسيرة ثمرة لنظرة مادية ملحدة تقترن بها دائما وقلما تنفك عنها إلا زعما. وكذلك البرامج الرأسمالية فإنها ثمرة مغالاة فى تقرير مبدأ الحرية الإنسانية للفرد. ص _097(1/96)
ومعنى ذلك أن الحياة العامة للأمم ليست تشكيلات مالية خالصة أو إرساء للعلاقة بين الاستهلاك والإنتاج على نحو من الأنحاء. كلا. إن الأمم تصطبغ ظاهرا وباطنا بأفكار لها خطورتها النفسية والاجتماعية. ومن ثم أبينا أن نتصور الإسلام نزعة اشتراكية وحسب. إنه دين للنفس والمجتمع والدولة. وشعب الإيمان الكثيرة تنتشر فى كيان أمته انتشار العروق والأوعية الدموية فى أى كائن حي. وهنا يتأدى بنا الكلام عن حوافز العمل وحوافز العمل هى الأساس الأول لغزارة الإنتاج أو ضآلته ولفشل الأمم أو نجاحها. ومعروف أن الإسلام أقر مبدأ الملكية وهو محق فى ذلك كل الحق. فالضمان أعظم لكثرة الإنتاج وجودته واستقامة الأعمال وضبطها جعلها فى حضانة فرد حريص مسئول يرى كرامته الشخصية وسعادته الخاصة فى نجاحها ونمائها لكن إقرار مبدأ الملكية لا يسوغ أن يكون ذريعة لإضاعة الصالح العام ولا لجعل طوائف كثيفة من الناس تحت وصاية فرد واسع الثراء يستطيع بجاهه المتاجرة فى ضمائرهم ومصايرهم. من أجل ذلك يمكن أن توضع قيود شتى على هذا المبدأ بحيث تبقى الحوافز للعمل قائمة وتبقى معها حقوق الجماهير المادية والأدبية مصونة. والمتأمل فى سيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء الراشدين من بعده يرى بسهولة أن الإسلام منهج فريد فى التنظيم الاجتماعى الواعى يمكن أن يوصف بأنه اشتراكية معتدلة أو مسلك وسط بين أقصى اليسار وأقصى اليمين إن صح التعبير. ص _098(1/97)
المرأة بين الإفراط والتفريط الذين خبروا الحياة فى أوروبا وأمريكا يؤكدون أن الأسرة وهم لا حقيقة له، وأنها فى أفضل أحوالها تقوم بجزء تافه مما يجب أن تقوم به لإنشاء أجيال أذكى وأقوم.. ! إن البيت خاو على عروشه أغلب اليوم، لأن الذكور والإناث توزعتهم ميادين العمل والعلم، حتى الأطفال وكلتهم أمهاتهم إلى دور الحضانة، وانشغل كل امرئ - بعد - بما انشغل به.. ! وهم يسمعون عن جو الأسرة فى بلادنا، وربما حلمت بعض المراهقات أن تحيا فيه، ولكن الهوان الفكرى والنفسى الذى يلف المرأة فيه يصرف الكثيرات عن التعرض لمآسيه.. وعندى أن المثقفة التى تحيا خارج بيتها ليست خيرا من الجاهلة التى تعيش داخل هذا البيت.. العظمة فى توارث العقائد ألا فلنعلم أنها نعمة حقيقية أن تمتد الحياة من الآباء إلى الأولاد إلى الأحفاد وأن تكون الأسرة المؤمنة المستقرة هى المهاد الوثير لهذا الامتداد. وليس الإنتاج الحيوانى سر هذه النعمة، إن العظمة هنا فى توارث العقائد والفضائل وانتقال التقاليد الصالحة من جيل إلى جيل. إن الأسرة هنا حصن الدين وسياج مبادئه وعباداته، ودور المرأة وأجرها كدور الرجل وأجره سواء بسواء. وفى عظمة هذه النعمة يقول الله سبحانه فى سورة النحل: ( والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ورزقكم من الطيبات أفبالباطل يؤمنون وبنعمت الله هم يكفرون ). ص _099(1/98)
إن الرجال هم حمالو الأعباء الثقال فى قافلة الحياة السائرة، وسواء كانوا أساتذة أو ساسة، أو أجراء أو باعة فهم يعودون إلى بيوتهم فقراء إلى المشاعر الدافئة والعون المبذول. والبيت الذى تكون قاعدته امرأة تنفخ فيه المعاني، بيت رفيع القدر، بل هو بيت يحتوى على أثمن الكنوز. والتقاليد الغريبة هزت كيان الأسرة، وهى تقاليد تجتاح العالم، أما التقاليد الإسلامية فالعارفون بها قلة، ونشرها يلقى مقاومة عنيدة، خصوصا من جهة المتدينين. من أجل ذلك رأيت لفت النظر إلى أن وظيفة ربة البيت من أشرف الوظائف. وقد تخرج المرأة من بيتها وراء أعمال مشروعة، بيد أن هذه الأعمال مهما سمت لا يجوز أن تجور على عملها الأول الذى لايشاركها فيه أحد.. ! وافدة النساء روى ابن عبد البر فى كتابه الاستيعاب، أن أسماء بنت يزيد الأنصارية أتت النبى - صلى الله عليه وسلم - فقالت: بأبى أنت وأمى يا رسول الله ! أنا وافدة من النساء إليك. إن الله عز وجل بعثك إلى الرجال والنساء كافة، فآمنا بك وبإلهك، إنا معشر النساء محصورات مقصورات، قواعد بيوتكم وحاملات أولادكم، وإنكم معاشر الرجال فضلتم علينا بالجمع والجماعات وعيادة المرضى وشهود الجنائز والحج بعد الحج، وأفضل من ذلك الجهاد فى سبيل الله عز وجل !! وإن أحدكم إذا خرج حاجا أو معتمرا أو مجاهدا، حفظنا لكم أموالكم، وغزلنا لكم أثوابكم، وربينا لكم أولادكم، أفنشارككم فى هذا الأجر والخير ؟ فالتفت النبى إلى أصحابه بوجهه كله ثم قال: "هل سمعتم مسألة امرأة قط أحسن مسألة فى دينها من هذا ؟.. فقالوا يا رسول الله، ما ظننا أن امرأة تهتدى إلى مثل هذا ! فالتفت النبى - صلى الله عليه وسلم - إليها وقال: "افهمى أيتها المرأة وأفهمى من خلفك من النساء، إن حسن تبعل المرأة لزوجها - يعنى قيامها بحقه وإحسانها لعشرته - وطلبها مرضاته واتباعها موافقته، يعدل ذلك كله".. !! ميادينها.. على أن هناك ميادين للأعمال لابد أن يكثر(1/99)
فيها النساء، أولها الميدان الطبي، فيجب أن تكون هناك طبيبات ماهرات فى كل ناحية من نواحى الطب، والأشعة، والصيدلة، والولادة والتمريض.. ص _100
ثم ميدان التدريس لجميع المراحل دنياها وعلياها. * الدين ينشد الصون والاحتشام والحضارة الحديثة تنشد التبرج وتدفع إلى الإغراء. * القول بأن المرأة أخرجت آدم من الجنة تزوير على الإسلام. ولا يجوز أن يوصد باب من أبواب المعرفة أمام النساء إلا أن يكون لأسباب فنية ومواصفات خاصة. عندئذ ينطبق التخصص على الرجال والنساء جميعا، فيوجه كل واحد إلى ما يناسب قدرته، وخبرته. إن النساء فى عالم الكفر الشيوعى يغزون الفضاء فلا يسوغ اجترار الإسلام ليمنع امرأة من علم تحسنه. والنساء فى عالم التثليث يشتغلن بالتبشير والاستشراق فلا يسوغ تسخير الإسلام لمنع النساء من أعمال يجدنها ويجدين فيها. المسافة المؤلمة... الدين ينشد الصون ويؤثر الاحتشام والحضارة الحديثة تنشد التبرج وتدفع إلى الإغراء.. ومع ضعف اليقين وحب الحياة العجلة أخذ السعار الجنسى يشتد ويفرض رغائبه، حتى فقد الاتصال الحرام دمامته وأمسى كأنه حاجة تلبى دون حرج كبير ! والدين يرفض أى خلوة بين رجل وامرأة، والحضارة المعاصرة تتجاهل هذا الرفض. وهو يباعد بين أنفاس الرجال والنساء، وهى تقرب بينهم فى الأعمال الجادة والهازلة. وكثيرا ما تساءلت: لماذا تكون "للمدير" سكرتيرة خاصة ؟ لماذا تشتغل الفتيات بالخدمة فى الطائرات، وحدهن ؟ يقضين فى الجو أو فى الفنادق ليلهن ونهارهن ؟ لماذا تعرض المشروبات - فى ألواح الإعلانات وهى بين يد امرأة وفمها ؟! لماذا ؟ لماذا ؟!.. إن النساء يحشرن فى أعمال كثيرة لا معنى لها.. وعندما نقرر أحكام الإسلام وتوجيهاته فإن ابتذال المرأة سيمنع للفور، وسيكون عملها فى أى موقع مضبوطا بآداب الشرع وحدوده.. وظائف نصف الوقت.. ذلك، ومن الصعب أن تكون المرأة ربة بيت متقنة، وصاحبة منصب منتجة. ص _101(1/100)
إن ذلك قد يقع على ندرة، وأقترح أن تنشأ للنساء وظائف نصف وقت حتى تستطيع الزوجة القيام الحسن على شئون بيتها وأولادها.. إن القول بأن المرأة هى التى أخرجت آدم من الجنة تزوير على الإسلام، والزعم بأنها لا تزال تقوده إلى النار تزوير كذلك. والتصور الإسلامى كما أثبته القرآن الكريم فى سورة آل عمران ( لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض ) . إننى غيور على الأعراض كأشد المتزمتين ولكن الحفاظ على العرض لا يتم بعقلية السجان. فالبون بعيد بين تكوين العقل والضمير بالعلم والتقوى وبين حبس الأجساد فى قفص من حديد. والإسلام قاد المرأة إلى المسجد لتسمع الدرس، وتسجد لربها، وبذلك صقل روحها وفكرها، وفى المسجد كانت ترى الإمام وربما علقت على ملابسه.. وكانت ترى المدرس وربما ناقشت ما يقول. أما عقلية السجان فأساسها أن المرأة لا تَرَى ولا تُرى، وإذا كان المسجد مظنة ذلك؛ فلا ذهاب إلى المسجد، وهذا هو الإسلام فى فلسفة السجان. والحكم هو كتاب الله وسنة رسوله أولا وأخيرا.. والمشكلة تجيء من طريق فهم البعض للنصوص والآثار.. خط وسط.. بين الإفراط والتفريط خط وسط نريد التعرف عليه والتزامه، وهو خط لا يتطابق مع وضع المرأة الإسلامية فى أغلب المجتمعات، وكذلك لا يتطابق مع تقاليد الفرنجة التى تستمد من وثنية الرومان ومن فلسفة الإغريق. إن أفلاطون فى مدينته "الفاضلة" يجعل المرأة مشاعا بين الآخرين، فما تكون إذن المدينة الدنسة؟ على أن عقلية السجان هى الأخرى لا تقيم أمة راقية الفكر زاكية القلب. وتعاليم الإسلام الصحيحة هى الأمل فى بناء عالم متراحم مصون. ص _102(1/101)
فلسفة الصوم الصيام عبادة مستغربة أو منكورة فى جو الحضارة المادية التى تسود العالم. إنها حضارة تؤمن بالجسد ولا تؤمن بالروح، وتؤمن بالحياة العاجلة ولا تكترث باليوم الآخر! ومن ثم فهى تكره عبادة تقيد الشهوات ولو إلى حين، وتؤدب هذا البدن المدلل وتلزمه مثلا أعلي.. إن الأفراد والجماعات فى العالم المعاصر تسعى راغبة لتكثير الدخل، ورفع مستوى المعيشة، ولا يعنيها أن تجعل من ذلك وسيلة لحياة أزكي.. ! وتسارع إلى تبرئة الدين من حب الفقر، وخصومة الجسم، فالغنى سر العافية، والجسم القوى نعم العون على أداء الواجب والنهوض بالأعباء، وإنما نتساءل: هل يتعامل الناس مع أجسامهم على أسلوب معقول يحترم الحقائق وحدها ؟ يقول علماء التغذية: إن للطعام وظيفتين، الأولى إمداد الجسم بالحرارة التى تعينه على الحركة والتقلب على ظهر الأرض، والأخرى تجديد ما يستهلك من خلاياه وإقداره على النمو فى مراحل الطفولة والشباب. حسنا، هل نأكل لسد هاتين الحاجتين وحسب، إن أولئك العلماء يقولون: يحتاج الجسم إلى مقدار كذا وكذا من "السعر الحراري" كى يعيش والواقع أنه إذا كان المطلوب مائة سعر فإن الأكل لا يتناول أقل من 300 سعر، وقد يبلغ الألف !! الطعام وقود، لابد منه للآلة البشرية والفرق بين الآلات المصنوعة والإنسان الحى واضح.. فخزان السيارة مصنوع من الصلب ليسع مقدارا معينا من النفط يستحيل أن يزيد عليه، أما المعدة فمصنوعة من نسيج قابل للامتداد والانتفاخ يسع أضعاف ما يحتاج المرء إليه.. الرغبة القاتلة وخزان السيارة يمدها بالوقود إلى آخر قطرة فيه إلى أن يجيء مدد آخر. أما المعدة فهى تسد الحاجة ثم يتحول الزائد إلى شحوم تبطن الجوف، وتضاعف الوزن، وذاك ما تعجز السيارة عنه، إنها لا تقدر على أخذ "فائض" ولو افترضنا فإنها ص _103(1/102)
لا تقدر على تحويله إلى لدائن تضاف إلى الهيكل النحيف فيكبر أو إلى الإطارات الأربعة فتسمن!! الإنسان كائن عجيب، يتطلع أبدا إلى أكثر مما يكفي، وقد يقاتل من أجل هذه الزيادة الضارة، ولا يرى حرجا أن تكون بدانة فى جسمه، فذاك عنده أفضل من أن تكون نماء فى جسد طفل فقير، أو وقودا فى جسد عامل يجب أن يتحرك ويعرق !! كان لى صديق يكثر من التدخين، نظرت له يوما فى أسف، ثم سمعنى وأنا أدعو الله له أن يعافيه من هذا البلاء، فقال رحمه الله فقد أدركته الوفاة (اللهم لا تستجب ولا تحرمنى من لذة "السيجارة"). ولم أكن أعرف أن للتدخين عند أصحابه هذه اللذة، فسكت وقد عقدت لسانى دهشة. إن الإنسان هو المخلوق الوحيد الذى يعرف ما يضره، ويقبل عليه برغبة.. إنها الرغبة القاتلة !! على أن النفس التى تشتهى ما يؤذى يمكن أن تتأدب وتقف عند حدود معقولة، كما قال الشاعر قديما: والنفس راغبة إذا رغبتها وإذا ترد إلى قليل تقنع عندما نصوم حقا وهنا يجيء أدب الصيام: إنه يرد النفس إلى القليل الكافي، ويصدها عن الكثير المؤذى ! ذاك يوم نصوم حقا، ولا يكون الامتناع المؤقت وسيلة إلى التهام مقادير أكبر كما يفعل سواد الناس !! لعل أهم ثمرات الصوم إيتاء القدرة على الحياة مع الحرمان فى صورة ما... كنت أرمق النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يسأل أهل بيته فى الصباح، أثم ما يفطر به ؟ فيقال: لا! فينوى الصيام، ويستقبل يومه كأن شيئا لم يحدث... ويذهب فيلقى الوفود ببشاشة ويبت فى القضايا وليس فى صفاء نفسه غيمة واحدة وينتظر بثقة تامة رزق ربه دونما ريبة، ولسان حاله: (فإن مع العسر يسرا * إن مع العسر يسرا). ص _104(1/103)
إنها لعظمة نفسية جديرة بالإكبار أن يواجه المرء البأساء والضراء مكتمل الرشد، باسم الثغر. والأفراد والجماعات تقدر على ذلك لو شاءت ! وأعتقد أن من أسباب غلب العرب فى الفتوح الأولى قلة الشهوات التى يخضعون لها، أو قلة العادات التى تعجز عن العمل إن لم تتوافر. يضع الواحد منهم تمرات فى جيبه وينطلق إلى الميدان، أما جنود فارس والروم فإن العربات المشحونة بالأطعمة كانت وراءهم، وإلا توقفوا.. شريعة الصوم فوق هذا وتجتاح الناس بين الحين والحين أزمات حادة تقشعر منها البلاد، ويجف الزرع والضرع، ما عساهم يفعلون ؟ إنهم يصبرون مرغمين أو يصومون كارهين وملء أفئدتهم السخط والضيق.. وشريعة الصوم شيء فوق هذا، إنها حرمان الواجد، ابتغاء ما عند الله ! إنها تحمل للمرء منه مندوحة – لو شاء – ولكنه يخرس صياح بطنه، ويرجئ إجابة رغبته مدخرا أجر صبره عند ربه، كيما يلقاه راحة ورضا في يوم عصيب.. ( ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود). وربط التعب بأجر الآخرة هو ما عناه النبى - صلى الله عليه وسلم - فى قوله: "من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه" ! إن كلمتى "إيمانا واحتسابا" تعنيان جهدا لا يستعجل أجره، ولا يطلب اليوم ثمنه لأن باذله قرر حين بذله أن يجعل ضمن مدخراته عند ربه.. نازلا عند قوله: ( ذلك اليوم الحق فمن شاء اتخذ إلى ربه مآبا) !! وسوف يجد الصائم مفطرين لا يعرفون للشهر حرمة ولا لصيامه حكمة، إذا اشتهوا طعاما أكلوا، وإذا شاقهم شراب أكرعوا.. ماذا يجدون يوم اللقاء ؟ إنهم سوف يجدون أصحاب المدخرات في أفق آخر، مفعم بالنعمة والمتاع، ويحدثنا القرآن الكريم عمن أضاعوا مستقبلهم فيقول: ( ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله قالوا إن الله حرمهما على الكافرين * الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا وغرتهم الحياة الدنيا). ص _105(1/104)
الأمم لا تقام بالهمهمة والبطالة * أكد الشيخ محمد الغزالى أن مشرط الطبيب ودواء الصيدلانى وفأس الزارع وقلم الصحفى أدوات لنصرة الله سبحانه وتعالى وإعلاء لكلمته. وفى مجال التأمل فى الآية الكريمة ( فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا كفران لسعيه وإنا له كاتبون). قال فضيلة الشيخ الغزالي: إنه من المستحيل إقامة مجتمع ناجح الرسالة إذا كان أصحابه جهالا بالدنيا.. عجزة فى الحياة. ويضيف فضيلته أن العبادة السماوية لا تستغرق نصف ساعة على مدى يوم وليلة.. تعاليمها تحتل صفحة أو صفحتين ليبقى الزمان بعد ذلك واسعا والمجال رحبا لفهم الحياة واكتشاف طاقاتها وتسخيرها "كلا وجزءا" لخدمة الدين، وضرب مثلا فقال إن نفرا من العابدين رأوا أن يحصروا عبادتهم فى الصلوات والأذكار يبدأون ويعيدون ويظنون أن الأمم تقام بالهمهة والبطالة، فمن ينصر الله ورسله إذا كان أولئك جهالا بالحديد وأفرانه ومصانعه.. والله يقول فى كتابه العزيز (وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز) إن هناك سبعين صناعة مدنية وعسكرية تتعلق بالنفط والانتفاع بمشتقاته لا نعرف عنها شيئا فهل تخدم عقيدة التوحيد وما ينبغى أن ينبنى عليها بهذا العجز المهين. ويتعجب فضيلته ممن يزعمون الإيمان والجهاد قائلا إن الله لا يقبل تدينا يشينه هذا الشلل المستغرب مشيرا إلى أننا نعانى من الطفولة التى تجعل غيرنا يطعمنا ويداوينا ويمدنا بالسلاح إذا شاء. وينصح الشباب الذين يظنون أن التقوى هى بذل وقت أكبر فى القراءات الدينية والأخذ بقدر يسير فى شئون الدنيا وعلوم الحياة فيقول "الإسلام لا يكسب خيرا من هذا المسلك ولا تنتصر عقائده إذا كان أهله فى بلاهة الهنود الحمر وكان أعداؤه يملكون مكوك الفضاء. ويقول للشباب املكوا ناصية الحياة بعلم واقتدار لتقدروا على نصرة الحق الذى نعتنق أما قبل ذلك فهيهات. ص _106(1/105)
فضيلة الشيخ محمد الغزالى داعية إسلامى معروف فى كل أرجاء العالم الإسلامى تميز بمشاركته وحضوره معظم المؤتمرات والندوات التى تخص المسلمين فى شتى بقاع الأرض، وله العديد من المؤلفات والمحاضرات التى تعالج أمور المسلمين وتحثهم على استخدام العقل وتدعوهم إلى العودة أمة واحدة كما كانوا من قبل، كما أن له العديد من المناظرات والكتب التى تفند افتراءات العلمانيين على الإسلام. التقينا بفضيلته فكان هذا الحوار المفيد: العلمانيون ارتدوا عن الإسلام * العالم الإسلامى يجب أن يكدح لينجح. * الحاكم صورة للشعب وعلى الشعب أن يتشبث بالإسلام ليعيش حرا. * ما هى مناهج التغيير فى الفكر الحركى الإسلامى ؟ * الدعوة الإسلامية تعتمد على الإقناع وكل ما يمكن به توصيل الفكر إلى الناس فهو وسيلة حسنة ما دامت مشروعة ولا عنف فيها ولا شطط وليس فيها ما يمكن أن يؤخذ على الإسلام، الذى يهمنا الخير يوصل إليه بالوسائل الخيرة أكتب، أخطب، أدعو بالطريق الإذاعى الصحافى إلخ.. من حقى أن أدرس أو أحاضر وهذا هو المنهج الذى يجب أن أسير فيه بالإقناع وبالدليل العقلي. * هناك صراع دام فى بعض الأقطار الإسلامية بين متبنى المشروع الإسلامى وبين الحكومات كيف ننهى هذا الصراع لصالح الأمة ؟ * الذين يعترضون الإسلام كما حدث فى العهد الأول، اعترض الفتانون والمشركون اعترضوا الدعوة الإسلامية وحاربوا الرسول وصحبه، صمد المسلمون وظلوا على أسلوبهم فى نشر الدعوة بالإقناع وبالتعريف العقلى حتى استطاعوا أن يصلوا فى النهاية إلى النتيجة ولابد من طول الأخذ والرد والزمن جزء من العلاج. * يعانى العالم الإسلامى من أزمات سياسية واقتصادية واجتماعية خانقة كيف يخرج من هذه الأزمات؟ ص _107(1/106)
* العالم الإسلامى يجب أن يكدح لكى ينجح، وإذا كان المسلمون فى حالة استرخاء أو كسل فلا بد أن يعاقبهم القدر ولذلك على الفلاح المسلم أن يضاعف فلاحته لأرضه حتى يجود الثمر ويتضاعف وعلى الذين يعملون فى كل ميدان أن يكدحوا ويعملوا وللأسف المأخوذ عن العرب والمسلمين أن يوم العمل عندهم ما بين ثلث الساعة أو نصف الساعة، بينما يوم العمل فى أوروبا وأميركا واليابان ثمان ساعات. - أما سياسيا فالحاكم صورة للشعب فإذا كان الشعب يريد أن يكون حرا ليعيش فى عزة الإسلام فعليه أن يتشبث بالإسلام ولا يترك منه شيئا. * تطبيق الشريعة الإسلامية فى بعض الأقطار الإسلامية هل هو هدف حركى استراتيجى ؟ * نعم، لأن الاحتلال العسكرى الأجنبى أول ما دخل أوقف التعامل بالشريعة الإسلامية، فنحن نحاول أن نعود إلى ما وصلنا إليه وهو أن يحكم بما أنزل الله فى بلاد الأمة الإسلامية كلها ! * يقولون إن الإسلاميين إذا سيطروا على السلطة فى أى بلد يتقاتلون فيما بينهم بدليل ما يجرى فى أفغانستان، فما رأيكم ؟ * ما يجرى فى أفغانستان شذوذ ومنذ خمسة عشر قرنا من الزمان.. والأمة الإسلامية تعيش فى أرضها تحت حكم الله وتطبيق القرآن والسنة وهم هادئون، فالشذوذ لا يحكم به على تاريخ أمة ! * فضيلتكم لكم باع طويل فى الرد على افتراءات العلمانيين على الإسلام فما هى حقيقة هؤلاء الناس ؟ * هؤلاء الناس ارتدوا على الإسلام فعلا، ولو كان ارتدادهم سلبيا وبقوا فى بيوتهم ما اقتحمنا عليهم بيوتهم ولا حاولنا معاقبتهم لكنهم يريدون أن ينطلقوا فى الشوارع ليصدوا الناس عن سبيل الله فهم يحاربون الصلاة وهم يشجعون العربدة والسكر، وهم يريدون أن يترك المسلمون دينهم فى مجالات الإصلاح والتربية والتعليم والإعلام وما إلى ذلك، هؤلاء أعداء الإسلام فلا بد أن نكشف وجوههم نعرف حقائقهم ونعترض طريقهم ! * هناك مد تبشيرى وصليبى فى بعض البلدان الإسلامية فهل هناك خطة من العاملين فى الحقل(1/107)
الإسلامى لعرقلة هذا المد ؟ ص _108
* الإسلاميون فى نطاق جهدهم المحدود يقفون أمام التبشير والاستعمار العالمي، وإلى الآن استطاعوا أن يقدموا للإسلام خدمات كثيرة فى ميادين شتى ولكن الجهد لابد أن يتضاعف لأن الهجوم يزداد ! * كيف يقيم المسلمون وحدتهم فى ظل النظام العالمى الجديد ؟ * الوحدة الإسلامية تتم وتكتمل عندما تتم فى كل بلد إسلامى العقيدة الإسلامية والشريعة الإسلامية، لأن المسلمين يشعرون بأخوتهم العالمية، ويعرفون أن تقطيع الأمة الإسلامية على الهدف الذى تم هو هدف استعماري، فإذا عاد المسلمون لدينهم فإن هذه الخطوط الوهمية التى رسمها الاستعماريون بين دولة وأخرى ستتلاشى بطبيعتها ! * نصيحة من فضيلتكم للشباب المسلم ! * على الشباب المسلم أن يتشبث بدينه مهما فدحت المغارم وكثرت العوائق، وأن يتشبث بدينه ولا يفقد وعيه ولا فكره فى الشدائد والأزمات بل يظل يتصرف بعقل ولا يعطى عدوه فرصة للنيل منه. ص _109(1/108)
فى حوار هادف وبناء: مع الداعية الإسلامى فضيلة الشيخ "محمد الغزالي" . * حقل الدعوة الإسلامية مفروش بالأشواك ومملوء بالألغام. * الحروب الصليبية ضد العالم الإسلامى لم تنته ولن تنتهى ! * يستحيل على المسلمين أن ينتصروا إذا خانوا الانتماء السماوي. * أناشد المسئولين فى العالم الإسلامى أن يتيحوا الفرصة للدعاة لكى يقولوا كلمتهم، ويعيدوا المسلمين إلى صوابهم. حوار أجراه: محمد عبد الشافى القوصي/ القاهرة تظل القدس - رغم كل التحديات الدولية - هى قضية المسلمين الأولى حتى تعود القدس إلى حظيرة الإسلام، فها هى جماهير المسلمين على امتداد قارات العالم فى حنين إلى فلسطين لا ينقطع، وشوق إلى طلائع النصر لا يتوقف، وآمال تموج فى القلوب لا تهدأ، وأجفان وقلوب تعلقت بالمسجد الأقصي. كيف لا ؟! وهى أرض باركها الله وجعلها حقا خالصا للإسلام وأهله، أمانة فى أعناق المسلمين إلى يوم القيامة، يحاسبون كلهم على مدى الوفاء بها.. لقد كان المسجد الأقصى هو القبلة الأولى للمسلمين قبل أن تتحول القبلة إلى الكعبة المشرفة، وإليه أسرى الله بعبده محمد - صلى الله عليه وسلم - ، ومنه عرج به إلى السماء.. والمسجد الأقصى هو فى الأرض المقدسة التى باركها الله.. فهى أرض المحشر والمنشر.. وهى ملحمة الجهاد الإسلامى على مر التاريخ. وفى هذا اللقاء مع الداعية الإسلامى فضيلة الشيخ محمد الغزالي.. نستلهم رؤية حول هذه القضية ومستقبلها، وما هو واجب المسلمين الآن نحو تحرير فلسطين وأرضها.. وغير ذلك من التساؤلات الأخرى. وجاء الحوار مع - فضيلته - على النحو التالي:- القضية خطيرة جدا ص _110(1/109)
* بداية.. هل تعتقد - فضيلتكم - أن قضية فلسطين ما زالت هى قضية المسلمين الأولي.. ؟! - هذه القضية - أعنى فلسطين - خطيرة للغاية، حيث إن الهزيمة فيها سوف تنتهى بهزيمة الإسلام وتحويل المسجد الأقصى المبارك إلى هيكل - كما يزعم اليهود هيكل سليمان - ينزل فيه الرب - بزعمهم - ليحكم العالم عن طريق شعبه المختار، ونجد تأييد "البروتستانت" وجماهير المسيحيين لهذا العمل بغية القضاء على الإسلام والمسلمين. إذن، فالقضية هى قضية الإسلام بيقين، ولا بد أن يحشد المسلمون قواهم فيها، والمسلمون إلى الآن بعد انتشار النزعات القديمة وانشغال كل فريق بعنصريته ووطنيته بعيدين كل البعد عن هذه القضية. إن القضية خطيرة جدا وهى الآن تعيش تحت عنوان العلمانية وهى جريمة فى ذاتها شنعاء للأمة الإسلامية، وعلى الإسلاميين أن يرقبوا الموقف بحذر فإن الإسلام يستحيل أن ينصره الله - عز وجل - إذا خان المسلمون الانتماء السماوي. وما زلت أكرر.. إن قضية فلسطين خطيرة ولا بد من المضى فيها إلى آخر رمق. الأقدار هى التى تحرس المسجد الأقصى ! * وما رأيكم فيما يحدث الآن بالمسجد الأقصى من منع الصلاة فيه والحراسة اليهودية الدائمة ؟ - أجاب القرآن عن هذا التساؤل فقال: ( ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها). وأعمال اليهود بأذى المسجد الأقصى شديدة الخطورة - وتصورهم تصور مظلم للعرب والمسلمين جميعا، لأن اليهود لا يمنعون الصلاة فحسب بل يعدون العدة لهدم المسجد وبناء هيكل سليمان "المزعوم" وهم يصرحون بذلك دون حياء. وقد تمت عدة محاولات لتنفيذ هذه الجريمة، لكن الأقدار التى تحرس حرمات الله حالت دون إنفاذها.. والغريب أنه فى العصر القديم فى سفر "حزقيال" ادعاء ببناء الهيكل على نحو معين استغرق الوصف فيه قرابة صفحتين !! ص _111(1/110)
وإذا تم لليهود ما يؤملون فسوف يكونون سادة العالم أجمع وسيكونون الأداة التى يستغلها ساكن الهيكل وهو الله سبحانه وتعالى فى سياسة المشرق والمغرب ! حلم اليهود ! * هل معنى ذلك أن قضية المسجد الأقصى تدخل ضمن المزايدات السياسية فى عرف البروتوكولات الدولية ؟! - إن قضية فلسطين منذ بداية التاريخ قضية دينية، فكون سكان بيت المقدس أكراد أو هنود، فإن القضية لا تتغير، فالقضية التى يحكى التاريخ أطوارها منذ بدء إنشاء أورشليم، و"شليم" هو "سليم" كما ينطق اليهود موسى "موشي". وظل بيت المقدس يتداول بين اليهود والفاتحين عدة قرون ثم آل إلى العرب منذ خمسة عشر قرنا إلى هذا اليوم، وربما استطاع الفرنجة أن يستولوا عليه نحو 90 عاما، لكن المسلمين بقيادة صلاح الدين الأيوبى استردوا القدس فى معركة "حطين" التاريخية المشهورة. والحرب الصليبية لم تنته حتى الآن، وإن زعم المارشال "اللنبي" كاذبا أنها انتهت بسيطرة الإنجليز على فلسطين وفقدان المسلمين لحكم بيت المقدس، ( وتلك الأيام نداولها بين الناس). وحلم اليهود أن يستولوا على بيت المقدس ليمتد من النيل إلى الفرات وليس هذا فحسب، بل إنهم يريدون أن يستعبدوا العالم أجمع. وهذا الحلم هو محصلة نبوءات كثيرة فى كتبهم الدينية، ومن هنا قال "وايزمان": إن "بلفور" عندما أعطانا وعد تملك فلسطين كان يترجم فى العهد القديم لأن "البروتستانتي" يرى أن العهد القديم واجب النفاذ ! و"بلفور" كان رجل دين أولا ثم رجل سياسة ثانيا وهذه معلومة لا يفهمها كثير من الناس.. ولكن المسلمين ما زالوا فى نوم عميق ! معارك الجدل.. متى تنتهى ؟! * الداعية الإسلامى الكبير خاض معركة التحدى وعلاج أمراض الصحوة.. فهل يمكنكم أن تحددوا لنا ما هى أمراض الصحوة الإسلامية.. وما هى وسائل وأساليب علاجها ؟! ص _112(1/111)
- لا يستطيع المسلمون أن يقصروا دينهم فى معركة البقاء المحتدمة بين شتى الملل والنحل أو بين الإسلام من ناحية والعداوات التقليدية والمحدثة التى تواجهه الآن، إلا إذا كان الإسلاميون على مستواه، ومعدين كل ما تطلبه المعركة من إمكانات لكى يكسبوها، والمسلمون الآن يواجهون هزائم اقتصادية لا يستطيعون إنكارها، فهم بحاجة إلى رغيف العيش الذى يقدمه لهم أعداؤهم، فكيف ننتظر من الصليبية العالمية أن تطعمنا من جوع ثم نعلن الحرب عليها ونحن متخلفون اقتصاديا على هذا النحو الشائن ؟! المسلمون فى معركة الحضارة ليس لهم إنتاج صناعي، ولو بحثت ما وجدت حاملة طائرات ولا غواصة إسلامية، فما الحل إذا قررنا إقامة الدولة ثم هزمنا من يملكون السطوة فى البر والبحر والجو، ألسنا بهذا نكون قد دخلنا بالإسلام فى معركة الهزيمة فيها محققة. ولماذا لا يشتبك المسلمون فى معارك مع أنفسهم وأخلاقهم وتقاليدهم وهى مليئة بالخلل والعوج وأنواع الشرور المختلفة ؟! إن أركان النفاق: الخيانة والكذب والغدر والعنف، فهل اختفت من مجتمعنا أو أخلاقنا أو تقاليدنا.. إن العمل للنفس الإنسانية للظهور أو لتحقيق الذات هو الوثنية الجديدة التى شاعت بين الناس، ربما دخل المسلمون فى معارك من الجدل ينقسمون فيها فرقا متقاتلة، ولا تزال هذه الفرقة موجودة حتى بين فصائل المجاهدين، ولا يزال الفلسطينيون نحو عشرين حزبا منها ما يبعد الإسلام أو ما يبقيه أو يستضيفه ضيفا ثقيلا ! تصحيح الأوضاع.. فلماذا لا توجه الجهود إلى تصحيح الأوضاع الداخلية والنفسية، وهناك أخطاء كثيرة فى الفكر الإسلامي، إننا نظن أن العمل الصالح هو التلاوة والاستغفار والفكر وانتهى الأمر. العمل الصالح فى تسخير البر والبحر وتطويع شتى المعادن والثروات لخدمة الإسلام وإعلاء شأنه، إننا أصفار فى هذه الميادين، عندما نرى مهندسا عظيما كذى القرنين يبنى السدود العسكرية ويقيم الحصون المسلحة دون استدعاء خبير(1/112)
أجنبى لأنه يرى أن الصلاح والقدرة على هذه المادة فى الكون المسخر لنا وتطويع هذا الكون لخدمة الإسلام، إننى أرى لغطا عجيبا بين الإسلاميين حول سلف وخلف وحول بعض المعارك الفقهية التافهة وغيابا للوجود الإسلامى فى ميادين يستحيل أن ينتصر الإسلام إلا بالاستمكان فيها، فأين الصحوة الإسلامية فى كل هذه الميادين ؟! ص _113
نظرة للمستقبل.. * أستاذنا الجليل الشيخ الغزالي.. ما هو تقييمكم للحالة التى يمر بها العالم الإسلامى الآن بعد تلك الضربات الخارجية والطعنات الداخلية التى يتعرض لها من هنا وهناك.. ؟! - الإسلام الآن يعانى من هبوط حاد فى قلبه وأطرافه، لكننى على يقين من أن هذا الهبوط لن يستمر، وسوف يرتفع الخط البيانى للإسلام مرة أخري.. ولكن لا بد من العمل المخلص للإسلام، ولا بد من الصبر على مواجهة الصعاب والعقبات التى توضع فى طريق الإسلام ودعوته. ولذا أتقدم بالنصح لقادة العمل الإسلامى أو المشتغلين بالصحوة أن يعيدوا جسور الثقة مع كل عناصر المجتمعات التى يعيشون فيها، حتى يستطيعوا أن يقدموا دعوتهم للناس ويتغلبوا على المصاعب التى تواجههم، لأن الإسلام دعوة تقوم على الحوار والإقناع، وأن يعلنوا رفضهم لكل أساليب القتل والتدمير والتخريب التى تسند إلى بعض التيارات الدينية. أيضا أوجه كلمة أخيرة إلى المسئولين فى البلاد الإسلامية والذين يضعون العراقيل أمام جهود الدعوة، لا بد أن تفرقوا بين الذين يتحاورون بالسلاح والذين لا سلاح لهم إلا الكلمة. فالدعاة لا يفرضون أفكارهم على الناس تحت تهديد السلاح، وإذا كانت أكثر الأنظمة فى البلاد العربية والإسلامية قد أتاحت الفرصة كاملة للعلمانيين والشيوعيين والملحدين ليعبروا عن آرائهم وينقلوا سمومهم للناس، فيجب أن تتاح الفرصة كاملة للدعاة لكى يقولوا كلمتهم، ويعيدوا المسلمين إلى صوابهم، فنحن نرحب بمناخ الحرية ونرفض مصادرة الآراء والأفكار، والإسلام وضع لنا قاعدة الحوار(1/113)
العاقل فى قوله عز وجل: ( قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين). ص _114
على المسلمين أن يدركوا فقه الأولويات أكد الداعية الإسلامى الكبير فضيلة الشيخ "محمد الغزالي" أنه يجب على المسلمين أن يراعوا فقه الأولويات، وأن يدركوا حجم التحديات التى تواجههم وتسعى لتدمير الأمة الإسلامية، مما يتطلب ألا ينشغلوا بتوافه الأمور. وأشار إلى أنه يجب على المسلمين أن يتوحد فكرهم الإسلامي، وأن يتعاونوا فيما بينهم، وألا يسعوا إلى التناحر أو الاختلاف بقدر سعيهم إلى التعاون لخدمة الإسلام والمسلمين. جاء ذلك فى الندوة التى نظمتها جمعية دعوة الحق بالقاهرة وطالب فضيلته المسلمين بأن يأخذوا العبرة من التاريخ وأن يتعلموا أولويات العمل الإسلامي. وقال: إن تاريخنا طويل ويحتاج إلى دراسة، والإسلام دين تزيد شعبه على سبعين شعبة، ونحن فى حاجة إلى خريطة لترتيب هذه الشعب حسب أهميتها، حتى لا يأتينا من يدعى أن إماطة الأذى عن الطريق أهم من الصدقة !! وإن المسلمين الآن "يستسهلون" فالواحد منهم يريد أن يدخل الجنة بقشرة موز والله سبحانه وتعالى يقول: ( إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة) فهل تريد أن تنال ما يشترى بالنفس والمال وأنت تتثاءب !! وأضاف: إنه لابد للأمة أن تعرف ما هو مكروه وما هو مباح، وهذا مثل الجسم البشرى فيه مخ ومخيخ وقلب وأجهزة كثيرة.. لكن هناك أجهزة إذا تعطلت لابد أن يموت الإنسان، فلو أنك نزعت قلبه أو كبده لا بد أن يموت يقينا، لكن لو قطعت إصبعه أو أزلت شعره سيعيش، فلابد أن نفهم هذه الأولويات حتى لا نعرض الجسم كله للموت !! ويشير إلى أن الأمة الإسلامية تحمل أكثر من سبعين جنسية.. والإسلام يواجه مشاكل خطيرة فى هذا العصر، وأعلم أن هناك قرى مسلمة فى الهند أرغمت على أن تعبد البقر، وأن تدخل فى الهندوكية، وأقاموا لهم محرقة فى المقابر لحرق الجثث ومنع الدفن، ولم يتحرك أحد من المسلمين!! ويؤكد أنه يجب على(1/114)
الجمعيات والهيئات العاملة فى حقل الدعوة الإسلامية أن تتجمع وتتعاون بدلا من أن تتفرق وتتشاحن، بسبب الاختلافات حول بعض ص _115
النوافل، فنحن لا نخشى على النوافل، بقدر ما نخشى على المنهج لأن يضيع، ونخشى على العقيدة لأن تنتزع بطرق غريبة، فلنحافظ على القيم والأخلاق الإسلامية، ونربى عليها أبناءنا ونحافظ على أن نكون مسلمين حقا. ويقول: إن الإسلام يحتاج إلى كياسة وسياسة، وقد رأينا الرسول - صلى الله عليه وسلم - يشطب اسمه من وثيقة صلح الحديبية حينما أصر الكفار على ذلك، ولكن النتيجة كانت معه بعد صبر وتحمل ورضى أن يدخل مكة فى حماية كافر، وبعد ذلك عاد فاتحا ومنتصرا، فالدعوة تبليغ عن الله تعالى ، ولا بد أن الذى يبلغ عن الله سبحانه أن يكون على مستوى مناسب من الوعى والفهم والخلق والسماحة، حتى لو جرح فى كرامته يتحمل فى سبيل الدعوة الإسلامية. ص _116(1/115)
نقد الأحاديث فن لا مسلاة لم يفزع علماء المسلمين من اعتراض يقيمه أحد الباحثين فى وجه حديث من الأحاديث المروية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كان هذا الاعتراض قائما على أساس علمى محترم. وقد وجدنا أئمة الفقه الإسلامى الذين بنوا مذاهبهم على الكتاب والسنة يتوقفون فى قبول بعض الأحاديث لا لشيء إلا لأنهم ينقدون سندها أو متنها نقدا مؤسسا على التعمق لا التعنت، والدراية لا الدعوي. ونقد السند يعتمد فى لبابه على معرفة الرجال وأحوالهم وهو ما تكفل به علم الجرح والتعديل. وقد كان لهذا العلم أساطينه فى عصور خلت، أما اليوم فإن خبراءه انعدموا، أو بقى منهم نفر لا يبلغون أصابع اليد عدا. وتراث الأوائل فى هذا المجال حقيق بالدراسة الواعية، وهو مرآة لجهود جليلة فى غربلة الأخبار وفحص نقلتها.. أما نقد المتن فقوامه مقاربة الحديث المنقول بما صح من نقول أخرى، والنظر إليه على ضوء ما تقرر إجمالا وتفصيلا فى كتاب الله وسنة رسوله.. وقد استباح بعض القاصرين لأنفسهم أن يردوا بعض السنن الصحاح لأنهم أساءوا فهمها فسارعوا إلى تكذيبها دون تبصر.. أذكر أن رجلا جاءنى يوما يتهم أحد الخطباء بالكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقلت له: ماذا نسب إلى صاحب الرسالة ؟. فقال: زعم أن النبى عليه الصلاة والسلام كان فى بيته، فجاء أحد الناس يريد الدخول، فقال عنه قبل أن يدخل: بئس أخو العشيرة هو. فلما دخل تطلق فى وجهه وألان له الكلام حتى انصرف. فراجعته السيدة عائشة فى ذلك، كيف وصفه أولا بما قال، ثم كيف لاطفه حتى صرفه. قال لها يا عائشة متى عهدتنى فاحشا إن من شر الناس منزلة يوم القيامة من تركه الناس اتقاء فحشه. ص _117(1/116)
قلت للرجل: وما وجه الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فى هذا الحديث ؟ فقال: إنه يتهم الرسول بالنفاق. فقلت له أخطأت الفهم، إن النفاق شيء ومداراة السفهاء شيء آخر. النفاق رذيلة أساسها ضعف الشخصية والتلون مع الناس وعدم الارتباط بالقيم الثابتة أما مداراة السفهاء ففضيلة أساسها الضن بالكرامة والوقت أن يضيعا مع أحمق لا يحسن الخطاب ولا السماع!. وكم فى الناس من أدعياء لا تنقصهم الجراءة والسلاطة لو تنزل المرء إلى مستواهم لأزرى بعقله وخلقه فما بد من سد أفواههم حتى لا ينسكب منها ما يؤذى والحلم ندام السفيه كما يقولون... الحديث صحيح يا أخا العرب ولا تسارع إلى تكذيب ما لم تحط به خبرا.. وكتب السنة المعتبرة فى ثقافتنا التقليدية مليئة بالأحاديث الصحيحة والحسنة، وفيها كذلك الضعيف الذى كشف العلماء علله. وعندى أن المشكلة الأولى ليست فى ميز الصحيح من الحسن والحسن من الضعيف. بل فى فهم الحديث على وجهه وترتيبه مع غيره من السنن الواردة. وهذا هو عمل الفقهاء وجهدهم الكبير. على أن من حقنا أن نغضب لتطاول البعض دون بصيرة علمية على أصول الإسلام، ومصادر ثقافته. والجرى وراء الاستعمار الثقافى فى التطويح بالسنن والتهوين من رجالها، والسنة هى الاستحكامات الخارجية حول أسوار القرآن، فإذا تم تدميرها فدور القرآن آت بعدها وذاك أمل المستشرقين المبشرين وسائر أعداء الدين.. ومن خصائص الإسلام أن أصوله العلمية ظفرت بصيانة فريدة أبقتها إلى آخر الدهر مستعصية على التبديد والتحريف. فالقرآن منذ نزل من عند الله حتى هذه الساعة محفوظ من أول حرف فيه إلى آخر حرف منه... تتوارثه القرون بطريق التواتر، وهو طريق فوق الشك والريبة، إذ هو مجيء الخبر عن طريق جموع يحكم العقل باستحالة تواطئها على الكذب. ونستطيع القول بأن القرآن هو الكتاب الفذ الذى حبته العناية العليا هذه الخاصة، وليس بين أيدى الناس كتاب من الأرض أو من السماء حصنته كل(1/117)
هذه الضمانات... ثم هناك السنة وهى المصدر الثانى لتعاليم الإسلام. ص _118
وقد لقيت هى الأخرى من عناية الأمة الإسلامية ما يجعلها مستيقنة فى الجملة. ولما كان بعض الناس ضعيف الدراية بطبيعة هذا المصدر فنحن نشرحه بكلمات وجيزة... ونسارع إلى القول بأن التاريخ لم يحك عن أمة من الأمم أنها احتفت بآثار نبيها، واستقصتها وغربلتها، ووضعت أدق القوانين العلمية لقبولها، مثل ما فعل المسلمون بتراث محمد من قول وفعل وقضاء وتقرير. وليس فى دين من الأديان، ولا مذهب من المذاهب هذا الوزن العجيب للأسانيد والمروبات وهذه المحاكمة المنصفة لما ينقل عن صاحب رسالة... من السنة ما هو متواتر لا يقل فى ثبوته عن القرآن الكريم نفسه كهيئات الصلاة مثلا. ومنها ما هو متواتر المعنى أى أن النقول تجيء بوقائع شتى وألفاظ متفاوتة، ولكن ينتظمها جميعا قدر مشترك من المعاني.. ومنها ما جاء بأسانيد آحاد. والإسناد - وإن شاع الجهل به الآن - إلا أنه شيء خطير فى حقيقته وأثره. ولذلك قال العلماء: الإسناد من الدين ولولاه لقال من شاء ما شاء !! وذلك أن المسلمين متفقون على أن ما أمر به الرسول أو نهى عنه يجب أن نطيعه فيه. فذاك حقه بل حق الأنبياء كلهم: ( وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله). والاجتهاد بين الناس إنما يحدث فى معرفة هل قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - ذلك أو لم يقله.. ولا شك أن العقائد كلها. وجمهرة الأحكام التى هى عماد الدين بلغت الناس بطرق مشهورة لا محل للجهل بها. بيد أن هناك أحكاما جاءت عن طريق سنن الآحاد التى أشرنا إليها آنفا. ونحن هنا نريد أن ننظر بإنصاف وفى حياد تام إلى أسلوب المسلمين فى تلقى هذه السنن. هل هو أسلوب يتسم بالمجازفة والتراخى أو هو أسلوب يتسم باليقظة والدقة ولنضرب مثلا بالأخبار التى تذاع عن الرؤساء الكبار فى عصرنا ! هب أن مستشارا لرئيس دولة كبرى أدلى بتصريح عن رأى رئيسها فى قضية ما فنقل هذا التصريح رجل(1/118)
من الحاشية ثم تلقفه أحد الصحافيين فنشره، ما تكون قيمة هذا الخبر ؟ نجيب بأنه خبر يحتمل الصدق والكذب ولا يترجح إلى إحدى الناحيتين إلا إذا عرفنا قيمة المصدر الذى أتى منه هذا النبأ. ص _119
فإذا عرفنا أن الخبر نقلته الصحيفة بالفعل عن رجل الحاشية، عن مستشار الرئيس مباشرة. وكان كل واحد من هؤلاء مشهورا بأمرين: الضبط التام لما يسمع، والصدق التام فيما ينقل.. فما يكون رأينا فى هذا الخبر أنصدقه أو نكذبه ؟ الجواب أننا نتجه إلى تصديقه. وذلك هو ما يطلب علماء المسلمين توافره فى الخبر ليكون صحيحا، ونقبل نسبته لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - . بل هم يزيدون أمرين آخرين. لقد اطمأنوا إلى الخبر من ناحية مصدره، أعنى الرواة الذين نقلوه، لكن الخبر نفسه ما هو ؟ أنه قد يكون مخالفا لما استقر بطريق أوثق، فإذا كان مخالفا عد شاذا، ووقع التوقف فيه، ثم قد تكون هناك علل أخرى خفية تتسرب إلى الحديث المروى فترتفع الثقة به ولا يعد الحديث صحيحا إلا إذا برئ من سائر هذه العلل القوادح. ثم ماذا بعد هذه الاشتراطات كلها ؟ إن الحديث بعد أن نطمئن إلى سلسلة الرواة الذين نقلوه. وأنهم أمناء واعون، وإن كل واحد منهم تلقى عن الآخر تلقيا مباشرا، وأن ما نقلوه متفق مع ما علم من الدين بالطرق الأخرى وليست هناك علة فيه. هذا الحديث يفيد العلم الظني، أى أنه ليس مصدرا للعقائد الدينية وإنما مجال الأخذ به فى الأعمال الشرعية الأخرى... هل فى الدنيا تدقيق وتحقيق وراء هذا المسلك ؟.. هل عرف دين من الأديان هذا المنهج فى نقد ما ينسب إلى رئيسه ؟ ومع ذلك كله تجد شخصا يضع قدما على أخرى ويتكئ على كرسيه ثم يقول فى استهانة صبيانية: الأحاديث غير صحيحة ويرمى نصف الإسلام فى البحر.. يا قوم.. بعض الإنصاف ؟ ص _120(1/119)
شعاع على مسار الدعوة نحن ندعو ربنا فى كل صلاة أن يهدينا الصراط المستقيم، والصراط المستقيم ليس خطا وهميا ينشأ عن هوى الأفراد والجماعات، وإنما هو خط حقيقى يرسمه من الناحية العلمية القرآن الكريم.. ومن الناحية العملية الرسول الذى حمل الوحى وطبقه وربى جيلا من الناس على عقائده وشرائعه. والتاريخ الإنسانى يشهد بقوة ووضوح أن قافلة الإسلام لزمت هذا الصراط حينا من الدهر، وأنها قدمت للعالم نماذج حية فى بناء الخلق والمجتمع والدولة.. نعم كان السلف الأول عابدين لله، ذوى بصائر ترنو إليه، وتستمد منه، وتنضح بالتقوى والأدب فى كل عمل يباشرونه. وكانوا - إلى ذلك - خبراء بالحياة يسوسونها بالعدل والرحمة، ويقمعون غرائز التطلع والحيف، ويرفضون ما سبق الإسلام فى ميدان الحكم من فرعونية وكسروية وقيصرية، كما يرفضون ما سبق الإسلام فى ميدان التدين من شرك أو تجسيد أو تعطيل.. إن الصراط المستقيم ليس وقوف فرد فى المحراب لعبادة الله وكفي، إنه جهاد عام لإقامة إنسانية توقر الله، وتمشى فى القارات كلها وفق هداه، وتتعاون فى السراء والضراء حتى لا يذل مظلوم أو يشقى محروم أو يعيث فى الأرض مترف أو يعبث بالحقوق مغرور. السلف الصالح .. مصدر الأسوة وقد وقعت خلال القرون الطويلة انحرافات دقيقة أو جليلة! وقبل أن نتفرس فى هذه الانحرافات ونتحدث عن مداها نريد أن نقرر حقيقة مهمة، أن السلف الأول وحدهم هم مصدر الأسوة، ويعجبنى ما روى عن ابن مسعود رضى الله عنه "من كان مستنا فليستن بمن قد مات، فإن الحى لا تؤمن عليه الفتنة! أولئك أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - كانوا أفضل هذه الأمة، أبرها قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا. اختارهم الله تعالى لصحبة نبيه، ولإقامة دينه، فأعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم على أثرهم، وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم وسيرهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم". ص _121(1/120)
إن بعض الذين ضاقوا بالانحرافات المعاصرة فى العالم الإسلامى فكروا فى العودة إلى الأمس القريب، أو إلى بضعة قرون مضت! فقلت: لا مثلنا الأعلى فى القرن الأول وحده، ففى الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "أنه من يعش منكم بعدى فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ". والاقتداء بداهة ليس فى ركوب الخيل والإبل، والحرب بالسيف والرمح! الاقتداء فى التجرد والخشية وإيثار الآخرة!! أما تأمين الحقيقة فقد استحدثت له وسائل مدنية وعسكرية لا حصر لها، ويجب على حملة الرسالة إتقان هذه الوسائل.. وقد بين أولو العلم ما يجب التزامه شكلا وموضوعا من شئون العبادات المحضة أما غيرها فنسق آخر... العدل هو العدل، ولكن ضمانات وصوله إلى ناشديه تكثر وتتغاير على مر العصور، وقد قيل: تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من فجور. والشورى هى الشورى بيد أن ضمانات التعبير عن الرأى وضمانات الوقوف أمام الاستبداد تختلف باختلاف البيئات والعلل. العوج والجهل .. من أسباب الانحراف وفى عصرنا هذا قامت أجهزة الدعاية تخدم شتى الملل والناس بأساليب فاتنة فإذا لم نسابقها ونسبق ظلمنا ديننا، وأضعنا حقا وكان علينا وزر المفرطين. الصراط المستقيم إذن معروف بالعقل والنقل، فلماذا يقع الانحراف عنه ؟ والجواب طبيعة البشر! إننا نخطئ وليس فى ذلك عجب! ولكن العجب أن يبقى الخطأ وأن نصر عليه!! والأعجب من ذلك أن يمضى بعضهم فى طريق الانحراف وهو لا يدري! أو لعله يحسب نفسه على صواب.. وميلاد الانحراف خلقيا كان أو اجتماعيا أو سياسيا يبدأ من نقطة ثم يسير مشكلا مع الخط المستقيم زاوية حادة، فإذا قست المسافة بين خط الزيغ والخط المستقيم وجدتها قدر أصبع، ثم تمتد فتصير قدر شبر، ولا يزال الزمان يطيل المسافة بين الخطين حتى تصير قدر ميل أو أميال، ويكون البعد عن الحق شاسعا!!! ص _122(1/121)
والانحراف المعيب لا يقع فى مكان واحد، بل قد تتعدد أسباب الميل، وتكثر المنعرجات التائهة، وتنحل عرى الإسلام عروة عروة بالصمت الجبان وترك الفتن تمشى حبلها على غاربها.. بل إن معالم الصراط المستقيم تكاد تخفى مع توارث العوج وذيوع الجهل لولا أن الله سبحانه تعهد دينه بمن يجدد أمره، ويجلو بريقه، ويذود عنه الآفات.. إذا ذكرت كلمة "الدين" سبق إلى فكر الناس ما وراء المادة والبحوث الغيبية المحيرة فى هذا المجال!! فهل الأمر كذلك عندنا؟ كلا.. إن الفاتحين الأوائل ما أثاروا بين الشعوب قضية من هذا الطراز، لقد انطلقوا باسم الله الواحد ينقلون الجماهير من الظلمة إلى النور، من الظلم إلى العدل، من الخرافة إلى الحق فشغلوا الناس برؤية الميزان الذى أقاموه لكفالة معاشهم ومعادهم عن بحوث ما وراء المادة. الكلام فى العقيدة موجز مجمل ( الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى). والتفاصيل أعمال صالحة تبدأ من إقام الصلاة وتنتهى بتنظيف الطرق! وتقصى من الحياة العامة أسباب الشكوى والهوان (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط..). العقل الإسلامي.. قديما وحديثا كان السلف الذين حملوا الإسلام قديما واقعيين يعرفون مراد الله بذكاء، وينفذونه بدقة. والإسلام كما نعرفه من كتاب ربنا وسنة نبينا - فطرة سليمة لا فطرة ملتاثه، وتعاليم يعيها أولو الألباب لا أولو الثقافة القاصرة والأحكام البلهاء. وقد أحس ورثة المدنيات القديمة أنهم أمام عقل أذكى من عقولهم، وخلق أنبل من أخلاقهم، وبر بالشعوب أوسع من برهم، وأدركوا أن صفحتهم يوم تطوى فلكى يرى العالم صفحة جديدة أملأ بالرحمة والعدل يخطها أولئك التلامذة الذين رباهم محمد - صلى الله عليه وسلم - . فهل كذلك الداعون إلى الإسلام فى يوم الناس هذا ؟ إن التفكير الواقعى فى شئون الناس هو الذى أنجح الإسلام قديما، وجعل الناس يدخلون فى دين الله أفواجا، أما مسلمو اليوم(1/122)
فأبعد شيء عن قضايا الشعوب المصيرية الشاملة! ص _123
وأحب أن ألفت الأنظار إلى تغير فى الفكر العالمى صبغ الإنسانية الآن! أساس هذا التغير الحفاوة بالمنطق التجريبى والزهد في المنطق الفلسفي، وقد نشأ عن ذلك إهمال بتعمد للفكر اليونانى فى الإلهيات باعتبار هذا الفكر رجما بالغيب، وبحثا لا طائل تحته.. وينبنى على هذا أن ما انشغل به العقل الإسلامى قديما وحديثا من تراث الإغريق يجب وضعه على الرف إن لم يرم فى سلال المهملات!! وعلى الدعاة المسلمين من سلف وخلف أن يلزموا أسلوب القرآن الكريم فى عرض المعتقدات، وأن يشغلوا أنفسهم بتقديم حلول إسلامية للمشكلات المحدثة والأزمات المادية والأدبية الطارئة. إن ذلك ما فعله السلف الأول، فأعانه على فتح المشارق والمغارب.. أما المشتغلون اليوم بإعلان حرب على الجهمية والمعتزلة والأشاعرة فإنهم يحرزون نصرا فى ميدان لا عدو فيه، إنه نصر على الأشباح لا يغنم إلا الوهم!! ولست أمنع بعض المتخصصين من دراسات تاريخية لماضينا القريب والبعيد، بيد أن ميدان الدعوة يجب إبعاده عن هذه المخلفات البالية، ويجب شحنه برجال لهم عقول ناضرة تعرف ما يقدم الإسلام وما يفتقر إليه الناس... وكما تراجعت خيالات الفلسفة النظرية أمام تقدم العقل العلمى وأمام انتقال العلم بالتطبيق إلى المصانع وارتقاء الحضارة المادية إلى آفاق أخري، كما حدث ذلك تراجعت تقاليد كثيرة أمام الدراسات النفسية والقانونية والاجتماعية التى تجتاح العالم كله، وهنا أصيح بصوت عال: لا يجوز الخلط بين تعاليم الإسلام والتقاليد التى تسود بلدا ما، إن للناس تقاليد ألبسوها الزى الإسلامى وهى من عند أنفسهم وليست من عند الله، والدعوة إلى هذه التقاليد على أنها المنهج الإسلامى جهل قبيح! فمصادر الإسلام معروفة، وميزانه فى الحلال والحرام حساس، والأمم التى دخلت فيه كثيرة، وتاريخه تقلب بين مد وجزر، وفقهاؤه المجتهدون تعرضوا للصواب والخطأ، وحكامه على(1/123)
اختلاف الأيام والدول فيهم من أحسن وفيهم من أساء، وقد بقى كتاب الله معصوما لا ترقى إليه ريبة، ولم يلق تراث بشر من العناية ما لقيه تراث محمد عليه الصلاة والسلام. ص _124
ويعنى ذلك أن نتحرى فى ميدان الدعوة، فلا نصد عن سبيل الله بأمر نحسبه من مسلمات الدين وليس كذلك، أو من فرائضه وهو إن عد من النوافل فعلى سبيل الإغماض والتجوز. أمثلة عن التخلف العقلى باسم الإسلام .. فى تطوافى بالعالم الإسلامى رأيت ناسا يتحدثون عن الإسلام حديثا تأباه الفطرة ويمجه العقل. إذا كان العقلاء يتعشقون الحرية فهم يتعشقون القيود. وإذا كان العقلاء يؤثرون السهولة والمياسرة فهم يؤثرون التعقيد والمعاسرة. ومهمتهم بعد هذا الطبع المريض أن يتأولوا النصوص أو يصطادوا من الشواهد النادرة ما يؤيد نظرتهم ويرجح كفتهم.. قال أحدهم - وهو يشتغل بعلم الحديث : إن إلغاء الرق ليس من الإسلام. قلت له: آفتك أنك اشتغلت بالأحاديث قبل أن توثق صلتك بالقرآن الكريم، فلم تتكون لديك الحصيلة العلمية التى تعينك على ضبط الأحكام. واستتليت: إن تحرير العبيد لا تقوم به دولة واحدة ما دام القتال يسود الأرض ومادام الأسرى يسترقون، فإذا اتفقت الدول على ميثاق لتكريم الأسرى ومنع استرقاقهم فهل نحن المسلمين نرفض ذلك؟ وليس فى كتابنا أمر باسترقاق، وإنما فيه أوامر بالإعتاق! هل إشاعة الاسترقاق هدف إسلامي؟ ما قال ذلك أحد!! وقال أحدهم - وهو يشتغل بالفقه : يجوز للقرشى أن يتزوج من يشاء من العرب أو العجم، أما القرشية فلابد من مراعاة الكفاءة فى النسب. قلت له: إن البيوت مغلقة على عوانس بائسات محرومات من الزواج.. فهل هذا الكلام يحل مشكلاتهن؟ إن هناك أقطارا واسعة فى العالم الإسلامى تشقى فيها النساء لأن التقاليد جعلت دما دون دم وأبا دون أب، أفهذا إسلام؟ ولا أريد المضى فى سوق الأمثال، وإنما أذكر الشارة العامة عند هؤلاء المتحدثين الخطرين على الإسلام ودعوته. ص _125(1/124)
إن العقل عند هؤلاء متهم حتى تثبت براءته، والقياس الصريح مؤخر عن الأثر الضعيف، والمصالح المرسلة مذهب مردود على أصحابه، والسيف لا الإقناع أساس نشر الدعوة! وملابس البادية إمارة على التقوي، أما الأزياء الأخرى فإن لم تدل على التحلل فهى موضع ريبة. وعدم البصر لا غض البصر أساس العلاقة بين الجنسين! وجعل الجلباب إلى نصف الساق! والصلاة فى النعال ما أمكن! والأكل بثلاث أصابع بعد الجلوس أرضا على نحو معين! وقلما يعرف هؤلاء شيئا عن ضوابط الحكومة العادلة، ولو سألتهم لعادوا يبحثون فى التاريخ عن أساليب الحكم فى الكوفة أو بلخ ليعطوا صورة شرعية للحكم المطلوب..!! إننى أصادف هذه المناظر المؤذية فى طريق الدعوة فأشعر بالنكد، وآخر ما لقيت من هؤلاء شاب يقول لي: أليس فى الالتحاق بالجيش شيء من الوثنية؟ قلت: ويحك كيف!! قال - فض الله فاه: إنهم يحيون العلم كل يوم وهذه وثنية..!! هؤلاء المرضى مع ديننا المظلوم يشبهون الزمان المدبر الذى قال البحترى فيه: وكأن الزمان أصبح محمولا هواه مع الأخس الأخس تساءلت: هل وراء هؤلاء أحد يكيد للإسلام؟ فقد ظهروا بغتة فى عدة أقطار متباعدة. وجاءنى الجواب على غير انتظار.. فقد كنت أحاضر فى مدينة "المنيا" وعقب المحاضرة رأيت أن أنصرف مسرعا لأنى كنت متعبا، ولكن شابا ألح على أن أنتظر لأجيب عن سؤال أثار بعض البلبلة، واضطررت للانتظار، فإذا السؤال المعروض عن حكم "الخل"!! وعقدت لسانى الدهشة! حكم ماذا؟ قالوا حكم الخل! قل: ماذا جرى للخل؟ قالوا نسأل عن حله أو حرمته! قلت وأنا ضجر: حلال! فرد أحد المتقرعين: الدليل؟ قلت الأصل الحل، ومن زعم الحرمة فهو المطالب بالدليل، وتركت المكان وأنا أتعجب... وشاء الله أن أسافر إلى أبى ظبى وأن أخطب الجمعة فى مسجد حاشد، وعقب الخطبة تلقيت أسئلة مكتوبة لأجيب عنها، وإذا بسؤال يتصدرها عن حكم "الخل" ! قلت للمصلين: هذا السؤال مكتوب فى عاصمة أجنبية، أشرف على وضعه مع(1/125)
غيره من الأسئلة المحقورة - بعض المبشرين والمستشرقين الذين يعملون لحساب الاستعمار الثقافى ويريدون شغل العوام بما يصرفهم عن لب الإسلام. ص _126
وقصصت عليهم كيف سيق لى هذا السؤال فى صعيد مصر، وإذا كنت أسمعه الآن فى غرب آسيا بعد شرق أفريقية فلابد أنه مع أسئلة أسخف منه سوف يصدر للهند والسند، وغانا والسنغال!! ولست أرمى بالتبعة على أعداء الإسلام، فإن القانون لا يحمى المغفلين، وإنما ألفت النظر إلى هذا الهوس الفكرى وحملته فى كل مكان.. لقد أصبح هناك متخصصون فى إثارة الخلافات الغريبة وشحن القلوب بالغضب من أجلها، فلحساب من يقع هذا؟ أعرف متعصبين ذوى قلوب طيبة لبعض وجهات النظر الخفيفة الوزن وهؤلاء صيد سهل لأعداء الإسلام، وينبغى تفتيح أعينهم على مغبة سلوكهم حتى لا ينكبوا دينهم وأمتهم. ولقد سمعت فى إحدى المحافظات شكوى من أن هؤلاء تجيئهم الكتب بسهولة من وراء الحدود وتبذل لهم بالمجان، وآخر ما شغلوا الأذهان به قضية "خلق القرآن" التى ماتت من إثنى عشر قرنا ولم يعد أحد يحسها. إن هؤلاء الملتاثين رأوا إحياءها أو رئى لهم ذلك!! وتوجد قوى محلية وعالمية تعين على ذلك حتى تنتكس النهضة المعاصرة ويتدحرج المسلمون من العالم الثالث إلى... عالم الفناء والتلاشي!! ص _127(1/126)
الله هذا الاسم الكريم علم على الذات المقدسة التى نؤمن بها، ونعمل لها ونعرف أن منها حياتنا وإليها مصيرنا. والله تبارك وتعالى أهل الحمد والمجد وأهل التقوى والمغفرة، لا نحصى ثناء عليه، ولا نبلغ حقه توقيرا وإجلالا. ولو أن البشر منذ كتب لهم تاريخ وإلى أن تهمد لهم على ظهر الأرض حركة - نسوا الله ما خدش ذلك شيئا من جلاله، ولا نقص ذرة من سلطانه، ولا كسف شعاعا من ضيائه، فهو سبحانه أغنى بحوله وطوله وأعظم بذاته وصفاته وأوسع فى ملكوته وجبروته من أن ينال منه وهم واهم أو جهل جاهل. ولئن كنا فى عصر عكف على هواه، وذهل عن آخراه، وتنكر لربه، إن ضير ذلك يقع على أم رأسه ولن يضر الله شيئا. ووجوده تعالى من البداهات التى يدركها الإنسان بفطرته، ويهتدى إليها بطبيعته، وليس من مسائل العلوم المعقدة، ولا من حقائق التفكير العويصة، ولولا أن شدة الظهور قد تلد الخفاء، واقتراب المسافة جدا قد يعطل الرؤية ما اختلف على ذلك مؤمن ولا ملحد ( أفي الله شك فاطر السموات والأرض). وقد جاءت الرسل لتصحيح فكرة الناس عن الألوهية، فإنهم وإن عرفوا الله بطبيعتهم إلا أنهم أخطأوا فى الإشراك به والفهم عنه. والبيئة الفاسدة خطر شديد على الفطرة فهى تمسخها وتشرد بها وتخلف فيها من العلل ما يجعلها تعاف العذب وتسيغ الفج، وذلك سر انصراف فريق من الناس عن الإيمان وقبولهم الكفر أو الإلحاد مع منافاة ذلك لمنطق العقل وأصل الخلقة. وقد اقترنت حضارة الغرب التى تسود العالم اليوم بنزوع حاد إلى المماراة فى وجود الله والنظر إلى الأديان جملة نظرة تنقص، أو قبولها كمسكنات اجتماعية. ص _128(1/127)
ولا شك أن المحنة التى يعانيها العالم اليوم، أزمة روحية منشؤها كفره بالمثل العليا التى جاء بها الدين، فلا نجاة له مما يرتكس فيه إلا بالعودة إلى هذه المثل يهتدى إليها بفطرته كما يهتدى الجنين سبيله فى ولادته، ومتى هدى العالم إلى الفطرة هدى إلى الإسلام فإن الإسلام هو دين الفطرة. * * * إن الإنسان لم يخلق نفسه، ولم يخلق أولاده، ولم يخلق الأرض التى يعيش عليها، ولا السماء التى يستظل بها، والبشر الذين ادعوا الألوهية لم يكلفوا أنفسهم مشقة ادعاء ذلك، فمن المقطوع به، أن وظيفة الخلق والإبداع من العدم لم ينتحلها لنفسه إنسان ولا حيوان ولا جماد، ومن المقطوع به كذلك أن شيئا من ذلك لا يحدث من تلقاء نفسه فلم يبق إلا الله. ( أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون * أم خلقوا السموات والأرض بل لا يوقنون). ولو دخل المرء دارا فوجد فيها غرفة مهيأة للطعام، وأخرى للمنام وأخرى للضيافة وأخرى للنظافة لجزم بأن هذا الترتيب لم يتم وحده، وأن هذا الإعداد النافع لا بد قد نشأ عن حكمة وتقدير وأشرف عليه فاعل يعرف ما يفعل. والناظر فى الكون وآفاقه والمادة وخصائصها يعرف أنها محكومة بقوانين مضبوطة شرحت الكثير منها علوم الطبيعة والكيمياء والنبات والحيوان والطب، وما وصل إليه علم الإنسان من أسرار الكون حاسم فى أبعاد كل شبهة توهم أنه وجد كيفما اتفق. ( تبارك الذي جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا * وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا). وهذه الكواكب السيارة التى تخترق أعماء الجو والتى تلتزم مدارا واحدا لا تنحرف عنه يمينا ولا يسارا، وتلتزم سرعة واحدة لا تبطئ فيها ولا تعجل، ثم نرقبها فى موعدها المحسوب فلا تخالف عنها أبدا. هذه الكرات الغليظة الحجم. الحى منها والميت. المضيء منها والمعتم معلقة لا تسقط. سائرة لا تقف. كل فى دائرته لا يعدوها، وقد يصطدم المشاة والركبان على أرضنا وهم أهل بصر(1/128)
وعقل.. أما هذه الكواكب التى تزحم الفضاء فإنها لا تزيغ ولا تصطدم. ص _129
من الذى هيمن على نظامها وأشرف على مدارها ؟ بل من الذى أمسك بأجرامها الهائلة ودفعها تجرى بهذه القوة الفائقة.. إنها لا ترتكز فى علوها إلا على دعائم القدرة. ( إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده إنه كان حليما غفورا ). أما كلمة الجاذبية فدلالتها العلمية كدلالة حرف (س) على المجهول.. إنها رمز لقوانين تصرخ باسم الله، ولكن الصم لا يسمعون. إن وجود كل منا له بداية معروفة، فنحن قبل ميلادنا لم نكن شيئا يذكر ( هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا ). وعناصر الكون الذى نعيش فيه كذلك لها بداية معروفة، وعلماء الجيولوجيا يقدرون لها أعمارا محدودة، مهما طالت فقد كانت قبلها صفرا.. وكان هناك ظن بأن المادة لا تفني، اعتمد عليه فريق من الناس فى القول بقدم العالم وما يتبع هذا القدم الموهوم من أباطيل.. على أن تفجير الذرة هدم هذا الظن، ولو لم يتم تفجيرها ما قبلنا هذا الظن على أنه حقيقة ثابتة فإن المفتاح الذى يفتح على العالم أبواب الفناء ليس من الضرورى أن يضعه الله فى أيدى العلماء. وعدم اهتداء الناس إلى ما يدمر مادة الكون لا يعنى أن مادة الكون غير قابلة للدمار والفناء. إننا جازمون بأن وجودنا محدث لأن تفكيرنا وإحساسنا يهدينا لذلك، وغير معقول أن يتطور العدم إلى وجود تطورا ذاتيا. إنه إذا وقعت حادثة لم يدر فاعلها قيل أن الفاعل مجهول، ولم يقل أحد أنه ليس لها فاعل، فكيف يراد من العقلاء أن يقطعوا الصلة بين العالم وبين ربه. إننا لم نكن شيئا فكنا.. فمن كوننا ( قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون). * * * نشوء حياتنا هذه ودوامها يقومان على جملة ضخمة من القوانين الدقيقة يحكم العقل باستحالة وجودها هكذا جزافا، فوضع الأرض أمام الشمس مثلا، ثم على مسافة معينة لو نقصت بحيث ازداد قربها من الشمس(1/129)
لاحترقت أنواع الأحياء من ص _130
نبات وحيوان، ولو بعدت المسافة لعم الجليد والصقيع وجه الأرض وهلك كذلك الزرع والضرع.. أفتظن إقامتها فى مكانها ذاك جاء خبط عشواء. وحركة المد والجزر التى ترتبط بالقمر، أفما كان من الممكن أن يقترب القمر من أمه الأرض أكثر فيسحب أمواج المحيطات سحبا يغطى به وجه اليابسة كلها ثم ينحسر عنها وقد تلاشى كل شيء ؟ من الذى أقام القمر على هذا المدى المحدود ليكون مصدر ضوء لا مصدر هلاك. إننا على سطح الأرض نستنشق الأوكسجين لنحيا به ونطرد الكربون الناشيء من احتراق الطعام فى جسومنا، وكان ينبغى أن يستنفد الأحياء وما أكثرهم هذا العنصر الثمين فى الهواء فهم لا ينقطعون عن التنفس أبدا.. لكن الذى يقع أن النبات الأخضر يأخذ الكربون ويعطى بدله أوكسجين، وبهذه المعاوضة الغريبة يبقى التوازن فى طبيعة الغلاف الهوائى الذى يحيا فى جوه اللطيف الحيوان والنبات جميعا. أفتحسب هذا التوافق حدث من تلقاء نفسه ؟ إننى أحيانا أسرح الطرف فى زهرة مخططة بعشرات الألوان ألتقطها من بين مئات الأزهار الطالعة فى إحدى الحدائق، ثم أسأل نفسي: بأى ريشة نسقت هذه الألوان ؟ إنها ليست ألوان الطيف وحدها.. إنها مزيج رائق ساحر من الألوان التى تبدو هنا مخففة وهنا مظللة وهنا مخططة وهنا منقطة. وأنظر إلى أسفل إلى التراب الأعفر إنه بيقين ليس راسم هذه الألوان ولا موزع أصباغها.. هل الصدفة هى التى أشرقت على ذلك إن المرء يكون غبيا جدآ عندما يتصور الأمور على هذا النحو. إن إنشاء الحياة فى أصغر خلية يتطلب نظاما بالغ الإحكام، ومن الحمق تصور الفوضى قادرة على خلق (جزئ) فى جسم دودة حقيرة فضلا عن خلق جهازها الهضمى والعصبي. فما بالك بخلق هذا الإنسان الرائع البنيان الهائل الكيان. ثم ما بالك بخلق ذلك العالم الرحب ؟ إن العلم بريء من مزاعم الإلحاد ومضاد لما يرسل من أحكام بلهاء.. الحق أن الإلحاد الذى يشيع بين طوائف المتحذلقين(1/130)
والمتنطعين لا يستند البتة إلى ذرة من المعرفة أو التفكير السليم. ص _131
نظرات فى سورة الأنعام سورة "الأنعام" من السور الطوال التى نزلت بمكة تقيم قواعد الإيمان وتنصب حوله البراهين وتجادل عنه الأعداء والجاهلين.. وأسلوب السورة يتسم بالأخذ والرد، والحوار الحي، والنزول إلى أرض الواقع واستخراج كل مالدى المشركين من شبهات ومزاعم. ولذلك تكررت كلمة "قل" للنبي - صلى الله عليه وسلم - أربعا وأربعين مرة يتنزل بعدها التوجيه الإلهى إعلانا للحق وخذلانا للباطل. وسورة الأنعام بهذه الخاصة من أشد السور قمعا للضلال، وإخمادا لأنفاسه، وإعلانا لمنار التوحيد وجمعا للأفكار والأفئده عليه. ونبدأ بإلقاء (نظرة) على مراحل الصراع بين الإسلام وأعدائه فى هذه السورة المباركة... * * * إن الحق الغريب فى البيئة العاتية يبدأ ضعيف الشأن قليل الناصر يلقاه الأقوياء بالنظر المتجهم ويتناولونه بالسخرية الظاهرة ويرفضون رفضا شديدا أن يدخلوا فيه بل أن يسمحوا له بالسير. والله عز وجل فى هذه السورة يوجه الحديث إلى الطرفين المتنازعين فيطلب من المشركين أن يحذروا المستقبل وأن يتأملوا فى تاريخ الماضين لتنحسم سخريتهم. ( ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزءون * قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين). وفى الوقت الذى ينبه المشركون فيه إلى مصيرهم يقال لصاحب الرسالة ومن معه من المؤمنين: ( ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبأ المرسلين). ص _132(1/131)
أى اثبتوا أيها المؤمنون، وتحملوا صنوف الأذى، وصابروا الليل الطويل حتى يطلع فجر النصر - ولا بد أن يطلع - فإن كلمات الله لعباده وقوانينه فى خلقه لن تتغير. ويمكن استقراء الصراع القديم بين الهدى والضلال لتعرف هذه الحقيقة.. بيد أن حبل النزاع طويل ويظهر أن طوله يستغرق أعمارا كاملة وأن النتيجة المرتقبة تتحرك ببطء رهيب.. بطء يغرى الكافرين بالتطاول والصلف وتكاد معه أرواح المؤمنين أن تزهق. وتستطيع أن تتبين موقف الفريقين فى هذا الحوار: ( قل إني على بينة من ربي وكذبتم به ما عندي ما تستعجلون به إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين * قل لو أن عندي ما تستعجلون به لقضي الأمر بيني وبينكم..). إن الله عز وجل يعطى المبطلين فرصا واسعة ليؤمنوا إذا أرادوا. ويبدو أن سعة هذه الفرص لا تزيدهم إلا ضراوة. ولقد راقبت سيرة المشركين مع النبى - صلى الله عليه وسلم - فوجدت أن المشركين أنفسهم هم الذين فتلوا الحبال التى شدت حول أعناقهم وأجهزت على حياتهم. إنهم هم الذين صنعوا معركة بدر وكانوا قادرين على العودة من حيث جاءوا بعد نجاة قافلتهم لكن مشاعر الكبر التى أدارت رءوسهم وترجم عنها أبو جهل فى كلمته الحمقاء "لا نعود حتى ننحر الجذور ونشرب الخمور وتغنى لنا القيان وتسمع بنا العرب فلا يزالون يهابوننا، أبدا". هذه الكلمة هى التى ألحقت بالشرك أول هزيمة قاتلة، وأحنت رأسه إحناء مذلا إلى آخر الدهر وكما فعل المشركون بأنفسهم ذلك فى بدر كرروا صنيعهم قبيل الفتح الأعظم ليعطوا المسلمين حق دخول مكة بعدما نقضوا العهد المبرم ورفضوا الهدنة الممتدة. إن الخط الذى رسمه القدر كان فوق فكر البشر وذلك هو السر فى قول الله لنبيه: ( قل لو أن عندي ما تستعجلون به لقضي الأمر بيني وبينكم والله أعلم بالظالمين). إن على أهل الحق شيئا واحدا أن يعيشوا به وأن يعيشوا له.. أما كيف يديل الله لهم من عدوهم فهذا ما استأثر العلم الإلهى به وتعجز القوى(1/132)
عن دركه وارتفاع أهل الحق إلى مستواه فى خلقهم وسلوكهم شئ صعب ولكن ما منه بد. ص _133
ثم هم بعد هذا الارتفاع لابد أن يخضعوا لسنن الله الكونية التى تتناول أولياءه وأعداءه على سواء ويعد التعرض لها جزءا من الاختيار الشامل فى قصة الموت والحياة.. .. وتأسيسا على ذلك يأمر الله نبيه أن يفهم المؤمنين بأنه "بشر" لا يملك طاقات فوق العادة وأنه يتعرض مع جماهير المؤمنين لتكاليف الصراع الخالد بين الإيمان والكفر فلا هو صاحب مال لا ينفذ ولا هو مدرك للغيوب، ولا هو ملك متخفف من خواص المادة الإنسانية، إنه صاحب دعوة اصطفاه الله لفتح البصائر المغلقة وهداية الجماهير التائهة. ( قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي قل هل يستوي الأعمى والبصير أفلا تتفكرون ). وقد قضت الحكمة العليا أن تغير الظروف التى يعيش البشر فيها تغيير يرغم على الانتباه لما يطلب منهم فإن الناس إذا ألفوا النعماء قل تقديرهم لها وقل شكرهم لمرسلها الكبير وقل اكتراثهم بحقه وقل استماعهم لرسله. ومن ثم فإن الله يسلبهم ما يطغيهم لعلهم يعتدلون! وقد صح أن النبى - صلى الله عليه وسلم - لما رأى كبرياء قريش وطول صدها دعا الله عليهم فقال: "اللهم سبعا كسبع يوسف!!". أى أرسل عليهم سبع سنين عجاف تكسر كبرياءهم وترد إليهم صوابهم. وهذا علاج حق فإن الذاهب بنفسه قد يتواضع ويعقل إذا فقد ما غره من مال أو جاه. وفى هذه السورة الكريمة يقرر الله جل شأنه هذه السنة الحكيمة: ( ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون). والبأساء: سوء الأوضاع الاقتصادية. والضراء: سوء الأحوال الصحية. وليس أضر بالأفراد والجماعات من هذين البلاءين وجدير بمن فقد صحته وماله أن يجأر إلى الله تائبا طالبا النجدة.. ص _134(1/133)
ومع ذلك فإن هناك شعوبا بليدة تنزل بها القواصم فما تطلب من الله رفعها وما تقف بساحته منيبة ضارعة بل تبقى على غوايتها وكفرها ( فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون ). وهذا لون خطير من موت القلوب وعصف الشهوات بالأمم وقد كان المفروض أن الآلام ترد الناس إلى بارئهم كى يحجب سخطه عنهم فإذا أوذوا وظلوا فى عماهم فمعنى ذلك أن الفساد تغلغل فى كيانهم واستبد بزمامهم. وقد يطول بالأمم العناء - والحالة هذه - كما قال تعالى فى سورة أخرى: ( ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر للجوا في طغيانهم يعمهون * ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون * حتى إذا فتحنا عليهم بابا ذا عذاب شديد إذا هم فيه مبلسون) . لكن سورة الأنعام تذكر لونا آخر من مكر الله بالأمم فإن الله يرفع العذاب النازل بالأمم الشاردة ويعيد إليهم ما فقدوا من نعمة ومتاع بل ربما أرسل إليهم أكثر مما ألفوا ليزدادوا ترفا وشرها: (فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون * فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين ). إن قطع دابر "المتكبرين" بعدما طغوا فى البلاد فأكثروا فيها الفساد نعمة تقر بها العيون وتنشرح بها الصدور وتتبادل عليها التهنئة ويشكر عليها رب العالمين.. وظاهر من وصف القرآن لمراحل التغيير من رخاء إلى شدة ومن شدة إلى رخاء أن الزمان طويل وأن أهل الحق خلال أيامه ولياليه يجب أن يصبروا ويصابروا (والعاقبة للتقوى) نعم زمان طويل يبدأ فيه النضال والباطل قوى مستقر والحق ضعيف منكور ثم تنشب الحرب النفسية والدموية لتتغير بعدها الأوضاع فيقوى الحق ويضعف الباطل ص _135(1/134)
بيد أن هذا التغيير يقطع من الزمن طريقا طويلا وإلى قبيل النهاية لا تؤذن الأمور بانهيار فى جبهة الضلال بل قد تظل مرهوبة الجانب محذورة الشر. ولذلك فإن المعادن الهشة تتفتت على مراحل الطريق، وينجم النفاق، ويوثر الضعاف والجبناء أن ينجوا بأنفسهم ويستريحوا إلى دنياهم. من أجل ذلك يأمر الله نبيه بالثبات على الحق وتثبيت المؤمنين عليه ويكشف له عورات الشرك ومقابحه لينفر العقلاء منها ويفروا من طريقها ( قل أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران ). فليبق الحيارى ضالين عن رشدهم وليلزم المؤمنون صراطهم المستقيم مهما تجشموا من مشقات (وأمرنا لنسلم لرب العالمين * وأن أقيموا الصلاة واتقوه وهو الذي إليه تحشرون). لكن متى ينتهى هذا الصراع؟ وترتفع راية الحق؟ لا ندري! ولابد من نهاية له على أية حال (لكل نبأ مستقر وسوف تعلمون). وعلى أصحاب الإيمان طال المدى أو قصر أن يعيشوا له، وأن يعيشوا به. وهذا المعنى هو الذى سيطر على المسلمين فى العصر المكى فتكون منهم جيل اعتنق الإسلام وربط به سفره وإقامته، وتعبه وراحته. وصداقته وخصومته وحياته ومماته. وقد قررت سورة الأنعام ذلك فى خواتيمها لتجمل فيه منهجا خالدا لكل جيل مكافح إلى قيام الساعة. وعلى صدر الطريق ملمح خاتم الأنبياء يتلوا ما أمر الله به ( قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين * لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين ).. .. أجل إنه الأول تجردا لله وتبتلا إليه ودأبا على عبادته وتسبيحا له وتمجيدا وركوعا وسجودا ثم حماية لهذا الدين بالنفس والمال. فالحياة لله والموت فى سبيله. ص _136(1/135)
وعندما استوحش التوحيد فى زحام العالم وطمعت الخرافة أن تأتى عليه من القواعد. نهض الإنسان الكبير "محمد بن عبد الله" ورمى بكل ما يملك من طاقات فى المعركة اليائسة المضطربة فإذا الشيطان يخور.. وإذا الشرك السافر والمقنع يتقهقر.. وإذا التوحيد الخالص يتقدم ويشيع.. وإذا العدالة فى الحساب والسلوك تتقرر ( قل أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شيء ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون). إن الخلاف الدينى سوف يبقى ما بقيت الأرض ولن يبت فيه إلا الله وحده! وستنشأ الأجيال الجديدة وهى فى مهدها حاملة مظاهر هذا الخلاف. والمهم أن يكون المؤمن بالله ورسوله رفيع اليقين والخلق معا، طاهر القلب والسيرة جميعا. مقتفيا أثر نبيه العظيم وهو يؤكد أن صلاته ونسكه وحياته ومماته لله جل شأنه. إن هزائم الحق فى أغلب الأحيان تجيء من تفريط المؤمنين وهبوطهم دون هذا المستوى المطلوب فمن ولد مسلما ورزقه الله هذا الشرف فليعلم أنه مكلف بخدمة الحق وتزيين صورته وتنقية حقيقته، وحسن عرضه والقيام به وتلك هى الفريضة المنوطة بعنقه. إنك لم تولد مسلما تفضل غيرك دون جهد مبذول وعبء محمول، بل قد يفضلك غيرك يوم تبتذل النعمة الموروثة وتتركها للضياع أو الامتهان. - 2 - فى هذه السورة الجليلة نلمح منطق القرآن الكريم فى بناء العقائد وغرس الإيمان وهو منطق بعيد عن التقعر، برئ من الغموض يقوم على وصف الله جل شأنه بما ينبغى له من نعوت الجلال والكمال، ويلفت النظر إلى آفاق الملكوت كى يدرك الإنسان عظمة ربه خلالها. وصدر سورة الأنعام يتسق مع هذا المنهج فقد بدأ الكلام بحمد الله خالق السموات والأرض وجاعل الظلمات والنور. ثم لفت القرآن الكريم النظر إلى تاريخ الأمم الأولى وموقفها من قضية الإيمان وكيف أن غفلتها هوت بها! وأن جحودها لنعمة الله أوردها شر الموارد. ص _137(1/136)
( ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم ). بيد أن جماهير الناس ربما ضاقت بهذا المنطق ولم يعجبها أن تقاد من عقلها، ولا أن تستثار مواهبها العليا كى تؤمن. أنها تريد شيئا آخر، تريد خوارق للعادات تشد انتباهها أو تشبع فضولها أو تتجاوب مع الاتجاهات المالية فى ذوقها وحكمها والرسالة الخاتمة لا ترتضى هذه النزعة ولا تجمدها. ومن ثم فإن المنطق القرآنى مضى فى طريقه يحرك العقل الجامد ويطلب إليه أن يؤدى وظيفته العتيدة فى البحث والموازنة والحكم. والعرب فى جاهليتهم أصروا على مقترحاتهم فى ضرورة أن تسند الدعوة "معجزات حسية" وقاوموا النداء المتتابع بضرورة أن يفتحوا عيونهم إلى آيات الله فى كونه وإبداعه فى خلقه ودلائل عظمته المسطورة بين سمعهم وبصرهم. ونحن نرى أن إصرار الجاهلية على موقفهم إنما نشأ عن عناد كريه، وجحد بكل مايجب التسليم به من مقررات إنسانية محترمة. ولو أنهم أجيبوا إلى ما طلبوا ما اعترفوا بالحق ولا انقادوا له وهنا نجد فى سورة الأنعام مجموعة من النصوص تشرح هذه الحقيقة: ( ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين) فهم لا يؤمنون ولو نزل عليهم كتاب من السماء يلمسون أوراقه ويحسون وجوده!. وقد طلبوا أن يتحدث إليهم أحد الملائكة لكن كيف يتم هذا؟!. إن البشر جهزوا بحواس محدودة لا تستطيع أن ترى الماديات إلا في حجم معين، وعلى بعد معين فكيف ترضيهم السماء ( وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون ) أى انهم سيسترسلون فى عنادهم و يرفضون الإيمان بعد استجابة مطلبهم وعندئذ تعجل عقوبتهم وينزل بهم العذاب الأليم. ... على أن ذلك كله مع قدرتهم على رؤية الملك فى طبيعته النورانية. فإذا استحال ذلك وتجسد لهم الملك فإن الشبهات باقية والممرات مستمرة ( ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون ) وتناولت سورة(1/137)
الأنعام الخوارق مرة ص _138
ثانية فى قوله تعالى: ( وقالوا لولا نزل عليه آية من ربه قل إن الله قادر على أن ينزل آية ولكن أكثرهم لا يعلمون ). ... أى أن الخوارق المطلوبة ليست مما يعجز القدرة العليا. ولكن الحكمة الإلهية فوق رغبات الطفولة. وعندما يريد الصغار ألا يكبروا... وعندما تريد الإنسانية ألا ترتفع إلى مستواها العقلي. فإنه لابد من إرغامها على الصعود والأخذ بيدها إلى أعلى وتكليفها أن تحترم العلم. ولعل ذلك السر فى أن النبى - صلى الله عليه وسلم - قارن بين ما منح من معجزات. وما أجراه الله على أيدى المرسلين الأولين من آيات ثم قال: "ما من نبى من الأنبياء قبلى إلا وأوتى من الآيات ما على مثله آمن البشر وكان الذى أوتيته وحيا أوحى إلي.. فأنا أرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة". إن هذا الحديث يشعر بأن الله جل شأنه يريد أن يبنى الناس إيمانهم على حسن البحث والنظر وصدق الفطانة والاستنباط لا أن يهملوا أفضل ما أوتوا، وينتظروا القوارع والخوارق كى يعرفوا ربهم. والمرء عندما يجحد الخاصة التى رجح بها بقية الحيوانات ويريد أن يحيا بغرائزه البدائية وأفكاره الساذجة وحدها.. لا ينبغى أن يجاب إلى ما يشتهي. وهذا سر ختم الآية بقوله جل شأنه " ولكن أكثرهم لا يعلمون ". وتعود سورة الأنعام إلى تصوير لجاجة المشركين فى طلب الآيات الحسية وتعليق الإيمان على وقوعها. قال تعالى : ( وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها قل إنما الآيات عند الله وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون * ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون). ومن حقنا أن نتساءل عن قيمة هذا القسم من مشركين سووا بالله مخلوقاته وحلفوا أيضا على أنه لن يبعث أحدا وأن الدنيا هى الحس كله ولا شئ بعده... إن هؤلاء المشركين كأنما يذكرون اسم الله من باب الاسترسال مع الخصم. أو كأنهم يقولون: نقسم بالله الذى تزعمونه(1/138)
معشر المؤمنين وتتعلقون به. أى قسم هذا؟؟!! ص _139
... إن الأمر لا يعدو التشبث بما اقترحوه من قديم. أى أنهم مازالوا متعلقين بالخوارق التى بنوا عليهم إيمانهم وهى إن جاءت فلن تؤسس فى نفوسهم يقينا ولن تزحزحهم قيد أنملة عن جاهليتهم التى ورثوها وأوهامهم التى ألفوها... .. وما الظن بقوم يقولون لله: (.. إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ).. أما كان حريا بهم لو كانوا مخلصين أن يقولون: اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه... ولكنها الطفولة البشرية كما قلنا: هى التى دفعت إلى هذه المطالب دون تقدير لها. أو ارتباط بنتائجها. ولابد من أن نسجل هنا خطأ سرى فى الفكر الإسلامى سريانا مستغربا هو: اهتمام المسلمين بالخوارق وربط الصلاح النفسى بها حتى أصبحت الولاية عند الجماهير لا مفهوم لها إلا وقوع الخوارق على أيدى الأحياء أو الأموات!! إن هذا الخطأ امتداد للطفولة البشرية التى أنكرها الإسلام على الجاهلين القدامى عندما تشبثوا بخوارق العادات وربطوا صدق النبوة بها. واستهانوا بقيمة العقل فى تقديرها وإثباتها.. وعلماء الكلام.. بل علماء الأديان عموما لا ينكرون وقوع الخوارق ولكنهم يرون أن هذه الخوارق الواقعة عديمة الدلالة على ما يزعم لها إذ هى تقع مع المؤمن والكافر والبر والفاجر. وفى كتب علم التوحيد عندنا تسميات شتى لخوارق العادات بحسب صدورها من الناس ولم يقل أحد أن لهذه العجائب دلالة حاسمة أو غير حاسمة على صدق الإيمان وقرب المنزلة عند الله. ... الولاية كما عرفها القرآن الكريم هي: الإيمان والتقوى سواء حدث لصاحبها شئ من هذه العجائب أم لم يحدث!! وقد نبه المحققون إلى ذلك عندما قالوا: "لو رأيت إنسانا يطير فى الهواء أو يمشى على الماء فلا تشهد له بخير حتى ترى مسلكه مع الكتاب والسنة". ص _140(1/139)
وهذا كلام جيد وهو يربط الكمال المنشود بالرقى المعنوى والاستقامة النفسية ولا يعطى ماوراء ذلك قيمة ما..!.. إننا عندما نتدبر سورة يوسف نجد أنها تضمنت ثلاث رؤى كشفت عن المستقبل. فجاء تطبيقها صادقا كوضح النهار. * أولى الرؤى الثلاث: لنبى كريم المعدن. حسن الدعوة إلى الله. * أما الرؤييان الأخريان: فهما لقوم لا يعرفون الله ولا يحسنون معاملته. بعضهم كان سجينا وعاش بعد سجنه يسقى سيده الملك خمرا. والبعض الآخر كان ملكا غريبا على دائرة الإيمان ومنطقه. وقد بنيت خطة الدولة الاقتصادية على رؤياه خمسة عشر عاما. وأحسبنى لو صورت فكر المسلمين الآن لقلت: إنهم يحسبون الرؤيا الصادقة أمارة على عظمة المنزلة عند رب العالمين ولو كان صاحبها لا يعرف صلاة ولا صياما. وقد لاحظنا ونحن نقرأ سورة الأنعام أنها زجرت المشركين زجرا شديدا لتطلعهم إلى الخوارق، وغفلتهم عن التدبر والوعي. والسورة بهذه اللفتة الكريمة تريد أن تنبه إلى أن العظمة الإنسانية لها أصولها العتيدة وأبعادها المحددة. وإذا كان الله قد رزقنا عقلا فيجب على هذا العقل أن يبحث ويقضي.. والأديان إنما تستمد وجاهتها وتستحق القبول بما حوت من زكاة للنفوس ورشد للسلوك.. والأديان الفاشلة أو المهتزة القواعد تتحايل على إثبات صحتها وجمع الناس حولها بإطلاق الإشاعات عن خوارق وقعت لأحيائها أو موتاها. وهذه الخوارق فى الأغلب مفتعلة لا تعتمد على شيء.. إنما هى الخيال أو التوهم ولو أن ما زعموه كان صحيحا ما دل هذا على شيء طائل فإن الأديان تقوم على الصدق العقلى والنضارة الخلقية. وهذا ما طلبت منا سورة الأنعام أن نستيقنه و أن نبنى عليه حكمنا. هل معنى ذلك أن حياة "محمد" - صلى الله عليه وسلم - كان خلوا من الخوارق؟ كلا!.. لقد صحت "الأسانيد" أن جملة من الآيات الباهرة ظهرت فى سيرة النبى الكريم، ورأت جماهير من الناس كيف زاد الطعام فى يده وكيف نبع الماء من بين أصابعه وكيف هطل المطر(1/140)
توا استجابة لدعوته، وكيف.. وكيف.. .. إن عشرات من هذه الآيات الحسية ثبتت له - صلى الله عليه وسلم - ولكن هذه الآيات لم تعتبر سنادا لإثبات النبوة ولا كان بها التحدى إلى آخر الدهر.. ص _141
لقد اعتبر أمرها ثانويا بالنسبة إلى القرآن الكريم.. الكتاب الذى أحيا الفكر وأيقظ القلب وأنهض الأمم ودفع الأجيال فى طريق حضارة يانعة وربط بين الناس وربهم ربطا يتجدد على مر الأيام إذ لا يزال هذا الكتاب منذ نزل إلى يوم الناس هذا.. إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ضائع الإيمان الحر. وسائق العقول بطريق الاستدلال إلى معرفة ربها والانقياد له. هذه السورة المكية حافلة بالدلائل التى تسوق الناس سوقا إلى الله. وتفتح الأبصار على الآيات الشائعة فى ملكوته. والروائع التى بثها هنا وهناك تشهد بوحدانيته وعلوه ولطفه. إن بعض المستشرقين والمبشرين تحدث عن الأسلوب المكى فقال: إنه عاطفى يعتمد على الإثارة أكثر مما يعتمد على التفكير، وتبعهم فى ذلك سماسرة مستأجرون فى ميدان الأدب والثقافة تحمسوا لهذه الأكذوبة وأخذوا يروجونها.. والقضية كلها دعوى تافهة، وسورة الأنعام - من بين السور المكية - مليئة بالبصائر التى تنير طريق الحق وتجلو الغشاوات عن سالكيه. وكلمة "بصائر" فى قوله تعالى: ( قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها) هذه الكلمة واضحة الدلالة على العمل العقلى الذى يمزق الظلمات ويكشف الشبهات ويعرف الناس بربهم عن طريق السريرة الصافية والفطرة الواعية. وعلى ما ألفنا فى هذه السورة نسمع بعد كلمة "قل" سؤالا عن رب المكان يجيء على هذا النحو ( قل لمن ما في السموات والأرض قل لله..) أهو رب المكان وحده؟ لا. إنه رب الزمان أيضا (وله ما سكن في الليل والنهار وهو السميع العليم ). إن اليقين فى تلك السورة يؤسس على النظر العقلى المتأمل المستنتج الذى يستعرض شتى الفروض ثم يرفض الخطأ ويقر الصواب، وإنك لترى ذلك فى السياحة الفلكية(1/141)
التى تضمنتها هذه السورة لإبراهيم عليه السلام، وهو ينتقل من الكواكب إلى مكوكبها، ومن الشارق الغارب إلى من لا يغيب تجليه، ولا تنقطع قيوميته على العالم الرحيب ( وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين). ص _142
ومن ثم نلحظ أن وصف الله فى هذه السورة يجيئ أحيانا بعد اسمه العلم الظاهر، وأحيانا بعد ضمير الغيبة، فيكاد الوصف البارز ينقل ضمير الغيبة إلى ضمير حضور وقد بدأ ذلك من الصفحة الأولى فى السورة: ( هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلا..). ( وهو الله في السموات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم..). ( وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير..). ( وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار.). ( وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر..). ( وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع..). ويظل الأمر كذلك حتى آخر السورة، فكما بدئت بضمير الغيبة الذى يبعث على الشهود ختمت به. ( وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ما آتاكم..). وهكذا تقف الإنسانية كلها بازاء الاختيار الكبير الذى ينتظم جميع أفرادها.. تقف أمام ربها العدل الذى يكلف كل امرئ بقدر ما أوتى من إمكانات مادية وأدبية.. على أنه مهما تفاوت الذكاء البشرى بساطة وعمقا، فلا يجوز أن يعمى عن الله الذى خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور. ص _143(1/142)
النهوض الحقيقى لأمتنا النهوض الحقيقى لأمتنا هو قدرتها على الاستغناء بعلمها وإنتاجها، والاستهداء بإيمانها وفضائلها، والاستعلاء على متاع الدنيا بحيث تأخذ منه بقدر، وتنصرف عنه متى تشاء..! ويؤسفنى التصريح بأن الشعوب الإسلامية، حتى يومنا هذا، لم تبدأ نهضة صحيحة، وأن مظاهر التقدم التى نراها أو نسمع عنها هى امتداد لنشاط القوى الكبرى فى العالم أكثر مما هى تطلع المتأخرين للتقدم.. فالغرب الصليبى يصطنع شعوبا شتى لخدمة مآربه ويمدها بكثير من عونه المادى وقليل من تقدمه الحضاري. والشرق الشيوعى ينافسه فى ذلك الميدان، ويحاول الاستفادة من أخطائه، أو يحاول ميراثه إذا انتهى فى مكان ما.. وجمهرة المتعلمين أوزاع، بعضهم يؤثر النمط الغربى فى الفكر والسلوك، وآخرون قد أعجبتهم الماركسية فاصطبغوا ظاهرا وباطنا بنزعتها.. أما الذين يتشبثون بالعقائد والفضائل الإسلامية ويريدون بناء المجتمع الكبير على دعائم الوعى المحمدى فقلة غامضة فى الناس، ولا أقول منكورة الوجهة منكورة الحظ. هب أن ثورة قامت فى بقعة من الأرض الإسلامية تجعل الحياة الصينية أو الروسية مثلها الأعلي، أتكون هذه الثورة نهضة إسلامية..؟ أم تكون نجاحا للفكر الشيوعى العالمي..؟ من أجل ذلك قلت: إن الشعوب الإسلامية لم تبدأ بعد نهضة صحيحة، تكون امتدادا لتاريخها، وإبرازا لشخصيتها أو نماء لأصلها وتثبيتا لملامحها.. ومن الغلط تصور أنى أحرم الاستفادة من تجارب الآخرين ومعارفهم!! كيف وهؤلاء الآخرون ماتقدموا إلا بما نقلوه عن أسلافنا من فكر وخلق ووعى وتجربة..؟ إن دولة الخلافة الراشدة اقتبست فى بناء النظام الإسلامى من مواريث الروم والفرس دون غضاضة.. وعندما آكل أطعمة أجنبية أنا بحاجة إليها فالجسم الذى نما هو جسمي، والقوى التى انسابت فى أوصاله هى قواي!! ص _144(1/143)
المهم عندى أن أبقى أنا بمشخصاتى ومقوماتي..!! المهم أن أبقى وتبقى فى كيانى جميع المبادئ التى أمثلها والتى ترتبط بى وأرتبط بها، لأنها رسالتى فى الحياة، ووظيفتى فى الأرض. هذا هو مقياس النهضة، وآية صدقها أو زيفها، فهل فى العالم الإسلامى نهضات جادة تجعل الإسلام الحنيف وجهتها والرسول الكريم أسوتها..؟ إننا هنا شديدو الحرص على جعل البناء الجديد ينهض على هاتيك الدعائم.. وإذا كنا نستورد من الخارج ثمرات التقدم الصناعي، وننتفع من خبرات غيرنا من آفاق الحياة العامة، فليكن ذلك فى إطار صلب من شرائعنا وشعائرنا. فإنه لاقيمة لأحدث الآلات إذا تولى إدارتها قلب خرب، ولاقيمة لأفتك الأسلحة إذا حاول الضرب بها فؤاد مستوحش مقطوع عن الله مولع بالشهوات.. إن بناء النفوس والضمائر يسبق بناء المصانع والجيوش وهذا البناء لايتم إلا وفق تعاليم الإسلام. تنشئة تصوغ الأجيال الجديدة، وتقاليد تحكم العلاقات السائدة، ورعاية ظاهرة وباطنة للعبادات المفروضة، ومعالنة جازمة بما فى الدين من أهداف، ومقاطعة حاسمة لما يعترضه من مسالك. وكل بناء معنوى للأمة يتنكر للإسلام، أو يخافت بذكره، أو يغض من شأنه، فهو مرفوض جملة وتفصيلا.. ولقد جربنا جعل مظاهر المدنية فوق باطن فارغ مظلم فماذا صنعنا؟ صنعنا ناسا: ( وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة يحسبون كل صيحة عليهم.. ). وهذا اللون من الناس فاشل فى سلمه، مخذول فى حربه، ما تسانده إلى غاية أرض ولا سماء. البناء الحقيقى للنفوس يستهدف أمرين جليلين.. أولهما: إسلامى بحيث يحرك المسلم من يقظة الفجر إلى هدأة الليل بحماس العقيدة، وطهر الصلاة، وشرف الإخلاص، وحب الله ورسوله. ص _145(1/144)
وكلتا الجبهتين الشرقية والغربية تكره ذلك الأمر، وتأبى أن يأخذ الإسلام طريقه فى الحياة بهذا الوضوح. والأمر الآخر حيوى بحت، أساسه التفوق العلمى والعملى فى كل أفق امتدت إليه الحضارة الحديثة من استصلاح التربة إلى غزو الفضاء! ولنكن صرحاء! إن هذا التفوق لا يولد من تلقاء نفسه، إن التبريز فى هذا المجال يتطلب رغبة فى المعرفة، وشوقا إلى المجهول، وعزما على اقتحام كل عقبة، وهذه لا تلدها إلا عقيدة مكينة..! وإذا كانت الحاجة أم الاختراع كما يقولون فإن العقيدة المسيطرة أقوى من الحاجة فى الاندفاع والتحمل واستشفاف الغيوب..!! إن الجندى المؤمن يرمق الظلام فى جنح الليل بطرف يكاد يخترق سدوله، ويبحث عن ألف حيلة لمقاومة العدو ودحره.. والعامل المؤمن يجفف العرق، وينفى عن نفسه التعب، لأنه ببواعث الحب لا القهر، يريد خدمة أمته وإعلاء رسالته.. والمحزن فى شئون المسلمين أنهم من عشرات السنين لا يمكنون من الحياة وفق إيمانهم الأثير، وأنهم - أيضا - يلفظون كل مايعرض عليهم من إيمان بديل..!! ونتج عن ذلك أن أعمالهم الخاصة ونهضاتهم العامة تولد ميتة، وأنهم إن تحركوا ففى مكانهم..!! وقد تحركت اليابان منذ قرن فى موكب نهضة صناعية عارمة، ونجت حركتها من هذا التدافع اللعين بين ما يفرض على الشعب من خارج، وما يهفو إليه من داخل فماذا كانت النتيجة..؟ أضحت أمة من أنجح أمم الدنيا، ولا تزال برغم هزيمتها فى الحرب الأخيرة أمة مرهوبة العزم، إن لم يكن فى صناعات الحرب، ففى صناعات السلام.. أما العالم الإسلامى خلال هذا القرن فقد رزق بمن يريدون محو دينهم أو تشويه صلته بهذا الدين، فكانوا شؤما على يومه وغده.. إن النهضة الحقيقية هى التى تفلح فى استثارة قوى النفس، وفى جعل الأمة على اختلاف طوائفها كخلية النحل نشاطا ونظاما. ولنزد الموضوع جلاء... ص _146(1/145)
لقد نشأ عن الانفكاك بين العقيدة والعمل عجز رهيب فى أداء الأعمال العادية حتى ليخيل إلى أن عوام المسلمين أصبحوا دون غيرهم من الخلق فى نواحى الإنتاج المادى والأدبي.. وكثيرا ما كنت أذكر قول أبى الطيب المتنبي: إنا لفى زمن ترك القبيح به من أكثر الناس إحسان وإجمال فأحس مقدار هبوطنا عن المستوى الإنسانى الرفيع فى الإتقان والإجادة..!! إن النجاة من السقوط قد تكون شيئا مقبولا، ولكن ليس كل نجاح يحسب تفوقا.. قد يبدأ إنسان من العرج ويستطيع السير، ولكنه لا يمنح جائزة بتاتا فى العدو لمجرد القدرة على المشي.. والمتنبى يحتقر أهل زمانه لأنهم فقدوا ملكة الإجادة ولا يحسنون فعل العظائم..!! فكيف لو رأى المعاصرين لنا من موظفين وعمال فى كل شأن دق أو جل. إن هؤلاء - لانعدام بواعث الإيمان والتقوى - تعوج فى أيديهم الأعمال المستقيمة فلا يصلون بها إلى المستوى المقبول بله مستوى النبوغ والعبقرية..!! راقبت يوما بعض الناس الذين تكثر دعاواهم ولا تؤمن بلاياهم، ثم عدت من نظرتى إليه وأنا أضع يدى على سبب مبين من أسباب تأخرنا.. نظرت إليه فوجدت العمل يخرج من بين يديه ناقصا غير تام، شائها غير جميل، ووجدته لا يأسى على ذلك، ولا تحركه أشواق إلى إدراك ما فاته، وبلوغ مرتبة أفضل. فعلمت أنه إنسان تنقصه موهبة الإتقان، وأن أمامه أشواطا واسعة من التدريب والعلاج حتى تكسب يده المهارة المطلوبة وتستحب نفسه الإجادة والتفوق.. وأعدت النظرة مرة أخرى فى سلوكه فرأيته يطلب على عمله الناقص ثمنا كبيرا ويرتقب من غيره التقدير المضاعف.. أو هو يفرض على الآخرين مطالبه مهما فدحت دون تقديم مقابل معقول..!! فأحسست أن له طبعا جشعا كثير التطلع إلى طيبات الحياة. وليته يتوسل إلى مطامعه بجهد مبذول مقدور. كلا، إنه من الناحية النظرية ضعيف الكفاية، ومن الناحية النفسية ضعيف الأمانة، فأى بلاء هذا..؟ أمثال هذه العلل هبوط حقيقى بالمستوى الإنساني، ونزول مؤكد عن(1/146)
مرتبة الإحسان التى يفرضها الدين، ويبنى تربيته على تحصيلها. ص _147
إن الحصاد الغالى للجهد البشرى بعد طول الكدح فى هذه الحياة، أن يخرج الإنسان من هذه الدنيا بثمرة واحدة هى (العمل الحسن). وذلك ما أكده القرآن الكريم عندما قال : ( الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا). وقال: ( إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا ). فأى عمل حسن لامرئ منطلق الرغبات كالطفل المدلل يطلب فقط، وعلى الدنيا أن تلبي..!! إن النجاح الكبير فى هذه الحياة وعند الله أن تنمى عقولنا وقلوبنا تنمية توفى على الغاية، والله جل شأنه يقول: ( وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين فمن آمن وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون). الإيمان والإصلاح قرينان لا ينفكان. وليس من الإصلاح المنشود المفروض أن يكون الإنسان غير مأمون على إجادة واجب أو غير مأمون - إذا أجاده - على المغالاة فيه، وطلب مكانة لا يستحقها عليها!! ومرة أخرى نقول: إن إعادة الحياة إلى العقيدة الإسلامية لتحتل مكانها فى الضمير ثم إلى الشريعة لترسم خط السير فى المجتمع الكبير، هو وحده طريق النهوض الصحيح. ص _148(1/147)
"الممتحنة" سورة الحب والبغض فى الله التعصب وصف رديء عندما يكون معناه جمود الفكر، وانحصار الأفق، والتشبث بالهوي، والجنوح إلى الباطل مهما بدا عواره. ونحن نرفض هذا الوصف ونأباه على أنفسنا وقومنا.. .. ولكن عندما يكون التعصب أثرا لاحترام الحق، وإكبار أهله، ودعم جانبهم، وكره عدوهم، فإن التعصب هنا يرادف الإيمان والجهاد، ولا يتخلى عنه امرؤ ذو دين!! وفى العالم اليوم: * حقائق أرخصها الضعف.. * وحقوق هضمها البغي.. * وقوى شرسة استمرأت العدوان.. * ومسلمون طمع فيهم من لايدفع عن نفسه، حتى كان البغاث بأرضنا يستنسر!! .. أفلا يوقظنا مرأى هذه الصور الكريهة إلى أن نعرف من نحن؟ وماذا نحمل من رسالات الله؟ وماذا نستطيع أن نسديه لأنفسنا وللعالم أجمع لو غالينا بديننا وتاريخنا، وشققنا الطريق إلى المستقبل على سناه الهادي.؟ وعندما أقرأ سورة "الممتحنة" يحيا فى نفسى معنى التعصب للحقيقة، والدفاع عنها، والوقوف إلى جانبها على رقة الحال، وكآبة المنظر فى الأهل والمال!! إنه ليس من الشرف أن أجامل من يهين الحق، وليس من صدق اليقين أن أمالئه وأترضاه. وقد نزلت سورة "الممتحنة" لتلقن المؤمنين هذا الدرس حتى يبقى حيا فى نفوسهم إلى يوم الدين، فقال جل شأنه: ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق). ص _149(1/148)
.. عيب واضح أن أصادق عدو الله وعدوي، وأن أبسط يدى ولسانى له بالسلام، وهو يزدرى ما عندى - ولا يتواني!! - ومن هنا عللت السورة النهى عن المصافاة، فقالت بعد إثبات كفرهم: (يخرجون الرسول وإياكم..) . لماذا؟ ( .. أن تؤمنوا بالله ربكم) . ثم أطرد السياق القرآنى يقول: ( إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي.. ). أى فلا تسلكوا هذا المسلك، وتطووا قلوبكم على حب من طردكم وأهانكم!! كيف تفعلون هذا؟ ( ..تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم )؟ والتعبير "بأنا" فى هذا الموضع يفرض علينا أن نتوقف قليلا لنتدبره فقوله جل شأنه: (وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ) فيه معنى التحذير من الرقيب الخبير. وهذا المعنى صرحت به سورة أخرى من مثل هذه القضية قال تعالي: ( لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه ).!! والغريب أن هذا التحذير يتكرر فى الموضع نفسه، مؤكدا علم الله بما نخفى وما نعلن، حتى لا نتورط فى مسالمة عدو يبتغى إبادتنا، أو الوقوف منه موقفا بعيدا عن الصرامة والمفاصلة، فقال جل شأنه: ( يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ويحذركم الله نفسه ).!! ص _150(1/149)
تحذير يتكرر مرتين بعبارة رهيبة هى ( ... يحذركم الله نفسه) إنها هناك توضيح لقوله هنا: (تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل). هكذا بدأت سورة "الممتحنة" تعلمنا ضرورة التعصب للحق، والتمسك بأهدابه، وكراهية المعتدين عليه، والنفور من مودتهم. وإذا كان هذا المعنى الحاسم قد تصدرها: فإنه قد تمشى فى آياتها على صورة متفاوتة، ثم كان لها الختام المبين فقال جل شأنه: ( يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قوما غضب الله عليهم قد يئسوا من الآخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور ). إن "الأحياء" من الكفار قد قنطوا من عودة إخوانهم الذين ماتوا إلى الحياة مرة أخري، أو أن "الموتي" من الكفار قد يئسوا من الحصول على مكانة عند الله فى الدار الآخرة. سواء كان هذا المعنى أو ذاك فإن المؤمنين لا يليق أن يصادقوا قوما تلك حالتهم!! ولنلق على السورة من بدئها إلى ختمها نظرة جامعة نتعرف بها أسباب النزول كما ذكرها المفسرون والمؤرخون. * * * لقد استغرق نزول هذه السورة - على وجازتها - قريبا من عامين، وصدرها نزل فى السنة "الثامنة" عندما قررت الكتائب المؤمنة أن تجهز على الوثنية المتحكمة فى مكة، وأن تعيد إلى دائرة التوحيد هذا المعقل الأشم. ووسط السورة نزل فى السنة "السادسة" بعد ما تم "عهد الحديبية" بين المسلمين وأهل مكة، وبدأ التنفيذ وظهرت بعض المشكلات. وآخر السورة نزل بعد الفتح الكبير، وإقبال أهل مكة رجالا ونساء على مبايعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - والالتزام بتعاليم الإسلام. ص _151(1/150)
ومع الاختلاف الزمنى الملحوظ فى نزول الآيات فإن ترتيبها لم يفقد ذرة من الاتساق والتماسك، بل هو نسق من الإعجاز السارى فى أسلوب القرآن الكريم كله. وأشعر بأن القرآن فى علم الله القديم كان على هذا الترتيب الذى نحفظه، وأن الآيات كانت تنزل وفق الأحداث، ثم يأمر الرسول بوضعها فى مكانها بتوقيت إلهي، فتعود إلى وضعها الأزلى على النحو الذى يقرأ الآن. والمحور الذى دارت عليه السورة كلها هو الحب والبغض فى الله، وهو قاسم مشترك بين أجزاء السورة منذ بدأ النزول، ولذلك فإن وحدة الموضوع ظاهرة شائعة فيها، ففى أوائل السورة نقرأ كيف رفض القرآن الكريم ما وقع من "حاطب بن أبى بلتعة" الذى راسل أهل مكة يخبرهم باستعداد الرسول للسير نحوهم، كى يأخذوا أهبتهم!! وهو عمل شنيع، ولولا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عفا عن الرجل تقديرا لسابقته فى خدمة الإسلام لكان جزاؤه القتل. وهنا نرى الوحى - بعد استنكار التصرف السابق - يقول للمؤمنين: ( لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم يوم القيامة يفصل بينكم والله بما تعملون بصير). أى لا يجوز أن يخفف شيء ما من حدة الخصام للكفر وشيعته، ولو كان الحرص على القرابة والولد والمال فإن جانب الله أولى بالرعاية. والمثل الأعلى أن يقول المؤمنون لأعدائهم : ( إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده ). وهذه مصارحة بالقطيعة فى سبيل الله، ومعالجته بالحب لله والبغض لله، وليس أمام المؤمنين إلا هذا السلوك. وقد كان إبراهيم والمؤمنون معه على هذا الغرار، وإذا كان إبراهيم قد لاين أباه يوما وقال له : ( لأستغفرن لك وما أملك لك من الله من شيء ). ص _152(1/151)
فذلك اللين ليس مهادنة للضلال، ولا ضعفا فى الإحساس بحق الله "كلا": (وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه).. وهكذا تقطعت أغلى الصلات إيثارا لحق الله. .. إن حق الله على عبده لا يرجحه شيء فى الأولين ولا فى الآخرين، والاستهانة به ضلال مبين. هل هذا التهجم الشديد ضد الضلال والضالين يرجع إلى غلظة طبع أو شراسة خلق! لا.. لا.. إننا فى شوق، إلى سيادة السلام، وامتداد عواطف الحب إلى كل قلب، والأمر بيننا وبين خصومنا واضح مستقيم، فمن حاسننا حاسناه، وكنا أسرع إليه بالود والرحمة. ولكن كيف نلين مع من استباح كرامتنا؟ ونشد إساءتنا وإهانتنا، وأخرجنا من ديارنا وأموالنا! إن مصادقة من يفعل ذلك بنا نذالة، وخسة لا يهبط إليها مؤمن!! قال تعالى : ( لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين * إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون ). والظلم هنا الهوان، وقبول الدنية، والاستكانة إلى الضيم، والرضا بحياة الفسوق والمروق، والعيش فى كنف الفاسقين المارقين. هذا صدر السورة الذى استغرق نصفها، ونزل فى السنة "الثامنة". أما وسطها الذى نزل من قبل، فهو يعود بنا إلى نص فى معاهدة الحديبية يقضى بأن يرد المسلمون عن المدينة من لحق بهم مؤمنا من أهل مكة، وإن كان أهل مكة يقبلون من لحق بهم مرتدا..!! ص _153(1/152)
ومع أن الأيام أثبتت جدوى هذا النص على المؤمنين إلا أن القرآن الكريم استثنى النساء ابتداء من تطبيقه وأمر المؤمنين أن يمتحنوا المؤمنات الفارات بدينهن فإذا علموا منهن صدق الاعتقاد وشرف الغاية قبلوهن فى المجتمع الإسلامى فورا.. إن هؤلاء النسوة المهاجرات التاركات لأزواج كافرين يجب أن نرحب بهن وأن نقدم تحية إكبار للعاطفة التى خرجت بهن إلى دار الإيمان، لقد كرهن رجالهن وفارقنهم لله فلا ينبغى أن يعدن لهم قال تعالى : ( فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون ). وإتماما لإقامة المجتمع على احترام الدين، وإعزاز مشاعر الحب والبغض لله صدر الأمر بتسريح الزوجات الكافرات: (ولا تمسكوا بعصم الكوافر). .. إن قبول هؤلاء النساء المؤمنات ومفارقة الكافرات تشريع متكامل وحكمته واضحة وقد نفذت معاهدة الحديبية بالنسبة إلى الرجال الذين ما لبثوا أن نظموا حرب العصابات ضد أهل مكة حتى اضطروهم إلى أن يطلبوا من الرسول قبولهم فى المدينة!! ونصل إلى آخر السورة لنقرأ بيعة النساء، كان ذلك بعد فتح مكة واستسلام أهلها لكتائب الرحمن. إن أولئك الناس طالما آذوا الله ورسوله، وهاهى ذى "هند" المرأة التى أكلت كبد حمزة قد أعلنت دخولها فى الإسلام، فماذا نصنع معها! لاشيء !! ننسى الماضي، ونغفر الأخطاء ونعلمها وصاحباتها كيف تتأدبن بآداب الإسلام، ثم يصبحن - بعد - أخواتنا: ( يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك في معروف فبايعهن واستغفر لهن الله إن الله غفور رحيم). ص _154(1/153)
نعم. إن الله غفور رحيم، فلننسى الماضى ولنتحاب فى الله. لقد كان القرآن فى هذه السورة يرقب متاب هؤلاء وعودتهن إلى الصواب وإقلاعهن عن إيلام المؤمنين، قال تعالي: ( عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة والله قدير والله غفور رحيم). والمودة المرتقبة إنما تقع من أناس يخف ضغط التعصب على قلوبهم ورءوسهم، ويجوز أن تنقشع غيوم الغفلة عن آفاقهم وضمائرهم. فإن المرء قد يخطئ لملابسات معينة أحاطت به، وربما ظل على خطئه لأن هذه الملابسات بقيت فى مكانها، لم تجد من يزيلها أو ينتقصها.. لكن ما الموقف إذا تشبث الإنسان بالزلل وهو يدعى إلى الاستقامة؟ أو أصر على الخطأ وهو يرى وجه الحق وضيئا مشرقا؟ إن هذا الإنسان أجدر خلق الله بالمقت وأولاهم بالعقاب الآجل والعاجل. وإنك لترى الوحى الإلهى طافحا بالوعيد وهو يتناول أولئك الجاحدين من صرعى التعصب الأعمى. ( سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين). ولنلفت النظر إلى أن الغفلة هنا ليست قصور عقل عن المعرفة الغائبة، ولكنها بلادة قلب عن استيعاب المعرفة المبذولة، والنصح القريب! وهذا هو التعصب الذى يأباه على نفسه كل عاقل أو منصف. والقرآن فى آيات كثيرة يلمح إلى هذا المعنى وإن لم يذكر التعصب بلفظه، فإذا قال تعالى : ( إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون). ص _155(1/154)
فإن المقصود أناس طال نصحهم وطالت لجاجتهم، طال تعليمهم وطال صدودهم.. وليس المقصود وصف أقوام تعرض عليهم الدعوة لأول مرة. وبديهى أن ينتهى هذا الصدود بما ينتهى به كل جحد وتبجح، من استمراء للشر واستهانة بالخير واستحلاء للقبيح. ( إن الذين لا يؤمنون بالآخرة زينا لهم أعمالهم فهم يعمهون * أولئك الذين لهم سوء العذاب وهم في الآخرة هم الأخسرون ). * * * وقد صحب التعصب من قديم حيف شديد على أهل الإيمان، وتطاول على حقوقهم المادية والأدبية، وتصوير كذوب لأقوالهم وأعمالهم، وإلحاق للمعايب والمقابح بسيرتهم وتاريخهم وكان نصيب الأمة الإسلامية كبيرا من هذا التعصب الجائر الآثم. ولست استغرب مسالك الأشرار إذا جاءت وفق طبائعهم فإن الذئب المفترس لا يستكثر عليه أن يعقر ويغتال.. إنما الغرابة من موقف المسلمين الذين كثرت حولهم الأنياب الجائعة، والطوايا الكنود، ومع ذلك فهم غارون مسترسلون فى "طيبتهم" وتهاونهم.. فإلى متي؟ إن أرضنا انتقصت من أطرافها شرقا وغربا وفق خطة رسمت بأناة وروية… ثم بدأت الإغارة على قلب العالم الإسلامى استكمالا للإجهاز عليه طولا وعرضا، فهلا عرفنا ما يراد بنا؟ إن فى العالم الآن طوفانا نجسا من التعصب ضد الإسلام وأمته، وأمامى وأنا أكتب هذه السطور أنباء الدماء المراقة والأشلاء الممزعة للمسلمين المستضعفين فى الفليبين، وما قصة الإسلام الذبيح فى الفليبين إلا نموذج مكرر لأقطار أخرى من الأرض، أهين فيها الدين واستبيح حماه، وشرد أهلوه، وأكلت حقوقهم!! بل إن المسلمين - حيث ص _156(1/155)
يكونون كثرة فى بلاد أخرى - تجرأ عليهم كل ذى ملة وتطلع إلى ما لم يكن يحلم به فى يوم من الأيام!! ألا نتعلم التعصب للشرف والعرض والأرض فى هذه الظروف العصيبة؟ لعلنا.. لعلنا.. فإذا تحقق ما نصبو إليه فلله الحمد. ... نحن ما نسعى إلى قتال ولا نشتاق إلى سفك دم. لكن إذا فرض علينا القتال فإن الذرة من التهاون فى كراهية المعتدين جريمة.. يجب أن ندخل المعركة بكل ما لدينا من غضب وقسوة وصرامة؟ ص _157
صورة شاملة لسورة يس من التفسير الموضوعي: لن نحتاج إلى كبير عناء فى استبانة الخيوط الخفية التى تشد أجزاء هذه السورة وتجعل من معانيها وأغراضها كيانا متماسك الحقائق وضييء الملامح.. بدأت السورة بقسم جليل.. قسم بما فى الدليل من دقة وحكمة على صدق الدعوى ووجاهة صاحبها!! ( والقرآن الحكيم * إنك لمن المرسلين * على صراط مستقيم ). إن القرآن هو الشاهد الثقة على أن محمدا حق. وما تضمنه القرآن من حكمة بالغة: حجة فوق الريب على أنه وحى من السماء، وأن الذى يتلوه مصدق الدعوة راشد الطريق. ثم تضمنت السورة تمهيدا وجيزا عن مواقف الناس من هذه الرسالة وانقسامهم بين مؤيد ومعارض وليس ذلك عجبا. فالناس من قديم الزمان صنفان: صنف يحتبس فى المواريث الفكرية التى آلت إليه لا يعدوها ولا يحب أن يخترجه أحد من نطاقها، وصنف آخر مرن التفكير، حر الوجهة يعطى نفسه حق المقارنة والترجيح ثم ينطلق بعدئذ على ما أحب. ومن الصنفين جميعا كان الكافرون والمؤمنون. وعقب هذا التمهيد ثلاثة مشاهد متميزة استغرقت السورة كلها ودارت على محور واحد: هو إضاءة الطريق أمام السائرين، وسط الأدلة التى تدعم الحق، وتذيب التعصب للباطل وتبنى الإسلام على أصوله العتيدة من حركة العقل، ووعى التجارب، واحترام الفطرة.. * المشهد الأول: دليل تاريخى من الماضى البعيد يقص نبأ القرية التى قاومت المرسلين وكذبت تعاليمهم فأصابها ما أصابها. ص _158(1/156)
* والمشهد الثاني: دليل من الحاضر المحسوس يلفت النظر إلى آيات الله فى البر والبحر والفضاء ويرجع البصر بين فجاج الأرض وآفاق السماء كى يستخلص العبر الدالة على رب العالمين. * والمشهد الثالث والأخير: دليل من المستقبل الآتى يؤكد للبشر أن لعالمهم الذى يعيشون فيه أجلا ينتهى إليه وأن وراءه عالما آخر يسعد فيه المهذبون العقلاء ويشقى فيه من سفه نفسه، وحقر عقله، وأساء سيرته، وفقد شرفه.. من التمهيد الذى افتتحت به هذه السورة الكريمة ومن تلك البراهين الثلاثة المستمدة من الماضى والحاضر والمستقبل تكونت (يس). ونستطيع أن نلمح الروابط بين أول السورة وآخرها إذا ما أعدنا قراءتها متدبرين حال العرب الذين فوجئوا ببعثة محمد يدعوهم إلى توحيد الله وحمل الرسالة التى اصطفاهم الله لها ومتدبرين كذلك الأدلة المثيرة المتلاقية كلها على أن الله حق، ونبيه حق، وهى أدلة كانت ولا تزال تهدى الحيارى فى كل زمان ومكان.. فلنعد مرة أخرى إلى التمهيد وما بعده.. إن ناسا كثيرين يحيون داخل فكرة ثابتة سيطرت عليهم دون بحث أو نقاش.. والسجناء فى أوهامهم ينظرون يمينا ويسارا فلا يرون إلا السدود التى احتبسوا فيها والأحوال التى عاشوا فى ضيقها وجهلوا ما وراءها ( إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون * وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون). والأغلال التى تحيط بالرجل العتيد وتجعله يعجز عن لى عنقه هنا وهناك فى حركة حرة يبصر بها شتى المناظر والأوضاع.. ... هذه الأغلال من صنع نفسه ابتداء وما ضاعفها الله عليه إلا لأنه هو يريد استبقاءها كما قال جل شأنه فى سورة أخرى. ( قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا..). ويستطيع أى امرئ أن يخرج من ذلك السجن الظلوم إذا رحم نفسه وخشى ربه وعرف الحكمة من محياه ومماته... إنه عندئذ يؤمن بالله ويهتدى بوحيه، وذلك ما بدأت الأدلة تنساق لتحقيقه. ص _159(1/157)
فلنقف قليلا عند المشهد الأول منها وهو الذى يبدأ بقوله تعالي: ( واضرب لهم مثلا أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون ). لقد كذب أهل القرية رسالات السماء تقريبا كما فعل أهل مكة وقالوا لرسلهم: ( ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنزل الرحمن من شيء ..). وماذا يملك الأنبياء للناس؟ إنهم لا يحملون عصا يسوقون بها الجماهير ولكنهم يملكون قدرة على الإقناع وتجلية الحقائق لذلك قالوا: ( وما علينا إلا البلاغ المبين). بيد أن العميان يكرهون الضوء وما كان عليهم من بأس لو تركوا رسل الله يتكلمون بما لديهم فمن ارتضى منطقهم دخل فيه وإلا انصرف عنه. إن أهل القرية لم يفعلوا ذلك بل قالوا لهم: ( لئن لم تنتهوا لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب أليم ). وأقبل من بعيد رجل منصف لم يذكر القرآن اسمه ليكون أسوة للرجال الذين إن حضروا لم يعرفوا وإن غابوا لم يفتقدوا.. الرجال الذين يعملون بعيدا عن الشهرة والظهور. وتحدث الرجل حديث العقل: ( وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون ). مادام الله هو الذى خلق ومادام المرجع إليه فما معنى البعد عنه والتجهم لهداه؟؟ ولمن أذهب؟ ( أأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئا ولا ينقذون * إني إذا لفي ضلال مبين ). وذهب الرجل ضحية الإيمان الذى أعلنه وشرح أسبابه.. ويبدو أنه كان عميق الإخلاص لقومه شديد الرغبة فى هدايتهم فلما استقبلته بشاشة النعمة والرضوان تمنى لو أن قومه يعلمون ذلك المصير.. ( قيل دخل الجنة قال يا ليت قومي يعلمون * بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين). ص _160(1/158)
فماذا كانت عاقبة مكذبى الرسل، ومهددى الحريات، ومخرسى صوت العقل؟ هل احتاج الأمر إلى تجريد جيش من السماء لتأديبهم؟ كلا، يقول الله : ( وما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء وما كنا منزلين * إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون). كان جديرا بأبناء آدم أن يعوا هذا المصير وأن يرويه الأسلاف للأخلاف غير أن عبر الماضى تمر دون أن يذكرها الكثيرون ولو استفاد الحاضر من الغابر لتجنب الناس ويلات شتي. ومع روعة المثلات الأولى فإن الإفادة منها قلت إلى حد أن القرآن الكريم يرسل هذه الصيحة المنددة المفندة ( يا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزءون). فلنطو هذا المشهد ولنلق نظرة على مشهد ثان فى هذه السورة يعرف الناس بربهم ويقفهم أمام آياته التى يرونها فى الصباح والمساء. يبدأ هذا المشهد بوصف ما تنبت الأرض. خذ حفنة من هذا التراب الذى لا نهاية له فى الحقول والحدائق. أترى فيه سكرا أو دهنا أو نشا أو أملاحا أو ألوانا أو غير ذلك كله مما تحسه وتطعمه فى الحبوب والفواكه التى تأكلها.. كيف خرجت من هذا الطين البارد الجامد شتى الألوان التى تصبغ الثمر والزهر بالصفرة والشقرة، وكيف خرجت الطعوم الحلوة من هذا الكدر والقذى؟؟ ومن لف هذه الحبوب في أغلفتها المحكمة ولف هذه الفواكه في قشورها الزاهية: ( وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبا فمنه يأكلون * وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب وفجرنا فيها من العيون * ليأكلوا من ثمره وما عملته أيديهم أفلا يشكرون). ودليل ثان مما يمتد إليه سمع الناس وبصرهم من ترادف الليل والنهار عليهم.. إن انحصارنا فى حركاتنا المحدودة يشغلنا عن حركة الفلك الدائر وذلك أننا نصبح ونمسى ونودع شتاء ونستقبل صيفا دون أن ندرى كيف تداولنا الليل والنهار والحر والبرد. إن ذلك كله نتيجة جريان هائل للكوكب الذى نسكنه والكواكب التى تشرف علينا وهو جريان مرهوب السرعة فى هذا الفضاء(1/159)
الرحب. ص _161
ومع أننا نسكن كونا دوارا لا ينى يسبح فى ملكوت شاسع الأبعاد فإن هذا الدوران وذلك السبح محكومان بنظام محيط ملجمان بزمام ضابط ( لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون). ودليل ثالث من هذه السفن التى تجرى فى الماء بقدر أن الأجسام ترسب وتطفو وفق قانون مدروس مطرد ومن ثم أمكن صنع سفن فى أحجام الجبال تحمل الألوف من الأنفس والقناطير المقنطرة من المتاع ثم تنطلق متهادية فوق اللجج لو شاء ربها أبقاها فوصلت إلى مرافئها سالمة أو شاء نفخ فى الأمواج الحاملة فأرغت وأزبدت ورمت فى قاع البحر بما حملت فما يستطيع أحد إسداء عون، ولا إنجاء هالك. ( وإن نشأ نغرقهم فلا صريخ لهم ولا هم ينقذون * إلا رحمة منا ومتاعا إلى حين). ودليل رابع من هذه الأنعام المسخرة لنا ننتفع من محياها ومماتها.. لكن قبل أن نشرح هذا الدليل وغيره ينبغى أن نذكر أن وسط السورة قد قام على معنى محدد معقول أما المشهد الخاتم للسورة فهو حديث عن البعث والجزاء يبدأ من قوله تعالى : ( ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين * ما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصمون). ويستمر هذا الحديث إلى نهاية (يس) وربما تخلله من المشهد الثانى مايلفت العقل إلى آيات الله الجديرة بالنظر كقوله جل شأنه ( أو لم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مالكون * وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون ). ألا إن ذلك الامتداد العقلى لا يقص من انفراد آخر السورة بكلام مثير عن نهاية العالم وبداية عصر الثواب والعقاب. فلننعم النظر فى المشهد، إنه ينبئنا بأن أمر الله يأتى مباغتا والناس مستغرقون فى أعمالهم اليومية لا يتوقعون حدثا ما.. قد يخرج الموظف إلى عمله فلا يبلغ الديوان إلا وقد وقعت الواقعة. أجل وربما قامت الساعة والخادم ذاهب لشراء بعض السلع فلا يعود بها، وتصوير القرآن لقيام الساعة يوضح أنه يتم والناس مسترسلون فى(1/160)
الحديث حول شئونهم ص _162
يتجادلون فى تقرير وجهات نظرهم وبينما هم كذلك ينفخ فى الصور ( فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون ). حتى الهاجعون فى مقابرهم من آماد بعيدة.. إن قومتهم ليوم الحساب تجيئهم مفاجئة حتى ليصيحون دهشين: ( من بعثنا من مرقدنا ).. ويجيب كل شيء (...هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون ). ولا نمضى فى وصف النعيم وترغيب المؤمنين فيه ولا فى وصف العذاب وترهيب المنحرفين منه وإنما نتوقف لنتأمل فى بعض أدلة البعث التى ختمت بها السورة. ألم تسأل نفسك يوما: ماذا كنت قبل مائة عام قبل أن يوجد هذا البدن المكتنز بالشحم واللحم ويتوقد فيه هذا الروح المنعم بالفكر والشعور؟ ماذا كنا ؟؟ بعض هذا الهواء المنتشر فى الجو؟ بعض هذا التراب الممتد على الأرض؟ لا ندري..!! وإذا كان ذلك نسبنا المادى فمن أى أصل تولد الفكرة والشعور؟ إننى أجزم بأنى وجدت بعد عدم وأن هذا الإيجاد يتكرر جيلا بعد جيل ومع دلالة هذا الخلق على رب مبدع عظيم على رب مقتدر حكيم.. مع هذه الدلالة الصارخة فإن هناك صما لا يسمعون وعميانا لا يبصرون وناسا يتكلم أحدهم عن الله ولقائه بجهل غريب ( أو لم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين * وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم). وإن الشخص الذى يعرف من أى باب دخل الحياة لا يليق به أن يرسل هذا السؤال، إنه يتناقض مع نفسه حينما يستبعد وجودا كان هو صورة حية له ودليلا أبديا على إمكانه.. من يحيى العظام وهى رميم؟ يحييها منشئ الإنسان من نقطة الصفر إن البعث ليس وعدا بشيء يتم فى المستقبل فهو يستغرب الآن.. إن تكرار العمل يتم كل يوم بل كل ساعة من ليل أو نهار فما وجه الاستغراب فى وقوعه؟؟ ولكنه الجهل الغليظ ( قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم * الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا..). ص _163(1/161)
فلنرسل فكرنا وراء هذه اللفتة، هناك فى الحقول الناضرة والحدائق الغناء حيث الصمت السائد والنماء البطيء "يتنفس" النبات دون أن نشعر وفى شهيقه وزفيره يقول علماء الطبيعة أنه يمسك "الكربون" ويرسل "الأكسوجين" يمسك النار ويرسل لنا الحياة ما أعجب القدرة وما أغرب هذه المتناقضات.. ومضى النظم الكريم يستكمل أدلة البعث، ويشرح دلائل العظمة الإلهية ليختم السورة بهذا الختام (فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون) هذه سورة " يس"، مقدمة تناولت رسالة محمد بالشرح الوجيز وتناولت معارضيه ومؤيديه بالتعليق اليسير ثم ثلاثة مشاهد فصلت وجه الحق فى هذه الرسالة الخاتمة تفصيلا تناول العالم من أزله إلى أبده واستطاعت أن تدفع الباطل وتذروه هباء. هذه هى السورة التى ارتفع صوت الوحى فيها ( لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين) ومع ذلك فإن جماهير المسلمين تواضعت على قراءتها فى المقابر بين رفات الموتى. ألا ما أظلم المسلمين لكتاب ربهم، وتراث نبيهم، وأساس تاريخهم، ومهاد حضارتهم. ولسنا نزعم أن المقدمة والمشاهد الثلاثة المذكورة قد انتظمت فى قوالب فنية كما يصنع العلماء المحدثون فى تأليفهم، كلا إن القرآن أكبر من ذلك فاحتواؤه على المعانى يشبه احتواء الكون المادى على مصادر المعرفة فى وحدة لا انفصام بين أجزائها. ولكننا فى هذا اللون من التفسير نجتهد فى اكتشاف محور تدور عليه السورة كلها أو ملامح تشيع فى كيانها العام. ثم نصف ذلك للقارئ حتى يحسن الانتفاع بالكتاب الكريم.. ص _164(1/162)
الإلحاد ليس تطورا ربما شك بعض الناس فى حقيقة الدين الذى يعتنقه، أو فى جدواه عليه..! فإن ساور هذا الخاطر أحدا من خلق الله، فإن العربى آخر امرئ يعرض له هذا الظن، بل يقرب من المستحيل أن يساوره..!! ذلك أن فضل الإسلام على العرب كفضل الضياء والماء على الزرع.. لا أقول: أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف، بل أقول: أوجدهم من عدم، وجعل لاسمهم حقيقة، وأقام بهم دولة وأنشأ حضارة..! قد تكون بعض العقائد عقاقير مخدرة للنشاط البشري..! لكن الإسلام لما جاء العرب شحذ هممهم، وأنار عقولهم، ووحد صفهم، وطار بهم إلى آفاق مادية وأدبية لم يحلم بها آباؤهم، ولا تخيلها أصدقاؤهم أو أعداؤهم..!! ومضى العرب فى طريق المجد الذى شقه الإسلام لهم، فعرفهم العالم وكان من قبل يجهلهم، وأفاءوا على ماضيه القريب ما لا ينكره إلا متعصب كنود..! وارتبطت مكانة العرب الذاتية والعالمية بهذا الدين، فهم يتقهقرون إذا تخلوا عنه، ويستباح حماهم! وهم يرتقون ويتقدمون إذا تشبثوا به، وتحترم حقوقهم..! على عكس ما عرف فى أمم أخرى لم تستطع التحليق إلا بعد ما تخففت من مواريثها الدينية، كلا، أو جزءا..!! وقد استطاع مسلمو الجزائر فى هذا العصر أن يستخلصوا حريتهم من براثن عاتية، وأن يدفعوا ثمن هذا الخلاص مليونا ونصفا من الشهداء!! وما ينبغى تقريره فى هذا المجال أن الإسلام وحده كان وقود هذا الكفاح القاسي، الإسلام لا القومية..! فلما ظفر الجزائريون باستقلالهم بدءوا يستعيدون عروبتهم التى فقدوها خلال قرن وربع، وضعت مشروعات لجعل الأفراد والجماعات ينطقون بالعربية ويتفاهمون بها، بعد ما كادت هذه اللغة تبيد أمام زحف الفرنسية وسيادتها فى الشوارع والدواوين..!! ص _165(1/163)
إن الإسلام بالنسبة إلى العروبة ولى نعمتها وصانع حياتها، وقد اعترف مسيو (جارودي) - وهو شيوعى فرنسى عاش ردحا من الزمن فى جبهة التحرير الجزائرية - قرين الإيمان. وينصح الأمة كلها بالطاعة والإصلاح ويتهدد عدوها بالطرد والهوان، ثم يأمرها بالمقاومة ورفض الاستسلام، وسيكون المستقبل لها إن هى أبقت حبلها موصولا بربها: ( يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم * إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ثم ماتوا وهم كفار فلن يغفر الله لهم * فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم). الإسلام ولى نعمتنا وصانع حضارتنا سيبقى الليل حتى يحمل العرب رسالة الإسلام أعترف بأن الدين وحده هو الذى أوقد شرر هذا الكفاح العزيز الغالي، وأن الإسلام يستحيل أن يوصف بأنه مخدر للشعوب..!! والإسلام لا يجعل من العرب شعبا مختارا بفضل غيرة لسلالة معينة أو دم خاص، كلا كلا، إن الله اختار لعباده تعاليم راشدة وشرائع عادلة، ثم وكل إلى العرب أن يحملوا هذه التعاليم والشرائع، ليعملوا بها وليعلموها من شاء.. والله يأبى كل نعرة عنصرية أو استعلاء قومي.. إنها مبادئ محددة، تنطلق الأمة منها، فتكون بعين الله، أو تند عنها فيدعها الله لنفسها..!! بالوفاء لهذه المبادئ تصعد، فإن فرطت هوت.. ولذلك يقول الله للمنهزمين فى أحد: ( ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين) فالعلو والتدبر فى هذه الآيات الثلاث يعطى فكرة بينة أن تفضيل الأمة هو تفضيل سلوك، ومنهج، لا تفضيل دم أو لون. ص _166(1/164)
وأن الإيمان الشريف والاستقامة الواضحة أساس العزة المنشودة.. وأنه مهما لاقى المسلمون من صعاب وهزائم فلا يجوز أن يقبلوا سلما مخزية، ولا أن يعطوا الدنية من أنفسهم. ولهم أن يركنوا إلى الله، ولن يذل جانبهم، ما آمنوا به وعملوا له.. واليقظة العزيزة التى صنعها الإسلام وهو يبنى الأمة يمكن أن نتابعها فى مرحلتين: الأولي: فى العهد المكي، يوم كان المسلمون قلة تتوقع الضيم ويتجرأ عليها الأقوياء! لقد أمر المسلمون إبان هذه المحن أن يثبتوا ويشمخوا بحقهم، ويتنكروا لكل هوان ينزل بهم، ويطلبوا ثأرهم ممن اعتدى عليهم، فإن عفوا فعن قدرة ملحوظة لا عن ادعاء مرفوض..!! انظر كيف وصفت سورة الشورى المكية طلاب الآخرة الذين يؤثرون ما عند الله على هذه الدنيا، إنهم ( والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون * والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون * وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين ). فطلاب الآخرة - كما وصفتهم السورة المكية - ليسوا الذين يعيشون فى الدنيا أذنابا مستباحين، أو ضعافا مغموصين أو كما يقول الشاعر يصف قوما تافهين.. ويقضى الأمر حين تغيب تيم ولا يستأمرون وهم شهود !! لا، لا، إن هؤلاء المؤمنين بالدار الآخرة يفرضون أنفسهم على هذه الحياة الدنيا، ويكرهون العدو والصديق على أن يحسب حسابهم ويزن رضاهم وسخطهم، ويعلم أن نتائج العدوان عليهم أذى محذور وشر مستطير..!! لأنهم إذا بغى عليهم ينتصرون، ويلطمون السيئة بمثلها..! وليس هذا بالنسبة إلى الحق الأدبى للجماعة كلها، بل هو كذلك بالنسبة إلى حق الفرد فى ماله الخاص. فقد سئل النبى - صلى الله عليه وسلم - : أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي..؟ قال: لا تعطه مالك..! ص _167(1/165)
قال: أرأيت إن قاتلني..؟ قال: قاتله..! قال: أرأيت إن قتلته..؟ قال: هو فى النار..! قال: أرأيت إن قتلني..؟ قال: فأنت شهيد..! هل هذه الوصايا هى التى تحذر الأفراد والجماعات..؟ سبحانك هذا بهتان عظيم. فإذا تجاوزنا العهد المكى إلى العهد المدنى نجد توجيها ينبع من هذه الروح الأبية الشامخة. إن الهوان جريمة، وقضاء الحياة فى ضعف واستكانة مرشح أول للسقوط فى الدار الآخرة.. ومن هنا أثبت القرآن الكريم هذا الحوار بين ملائكة الموت وبين الذين عاشوا فى الدنيا سقط متاع، وأحلاس ذل..! ( الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم فألقوا السلم ما كنا نعمل من سوء بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون ). والهجرة المفروضة هنا، هى التحول من مكان يهدر فيه الإيمان وتضيع معالمه إلى مكان يأمن فيه المرء على دينه. ولكن حيث استقرت دار الإسلام، فلا تحول، وإنما يبقى المسلمون حيث كانوا ليدافعوا عن ترابهم ذرة ذرة، ولا يسلموا فى أرض التوحيد لعدو الله وعدوهم.. والآية تحرم قبول الدنية وإلف الاستضعاف، وتوجب المقاومة إلى آخر رمق.. ومما يؤكد هذا المعنى أن القرآن أحصى الطوائف التى تعذر فى هذا التمرد المطلوب على قوى الشر. ومع استثنائها فإن مصيرها ذكر معلقا على رجاء المغفرة والعفو لا على توكيد ذلك..!! ( والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا). ص _168(1/166)
والتعبير بعسى هنا مثير للقلق، وهى إثارة مقصودة حتى لا يقعد عن مكافحة المعتدين من يقدر على إلحاق أى أذى بهم مهما قل. إن المؤمن لن يكون أبدا ثالث الصنفين اللذين عناهما الشاعر فى قوله: ولا يقيم على ضيم يراد به! إلا الأذلان، عبر الحي، والوتد.. هذا على الخسف مربوط برمته. وذا يشق فلا يرثى له أحد!! المسلم لا يقبل الحياة على أية صورة وبأى ثمن، إما أن تكون كما يبغي، وإما رفضها وله عند ربه خير منها وأشرف..!! ومن صيحات الكرامة والإباء قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد!!" وفى حديث آخر "من قتل دون مظلمته فهو شهيد!!". هل رأيت استنهاضا للهمم، واستنفارا للنضال، واستثارة للذود عن الدماء والأموال والأعراض، أحر من هذه المبادئ..؟؟ أيمكن فى منطق العقل والإنصاف أن يوصف هذا الدين بأنه مخدر للشعوب..؟ ألا شاهت الوجوه!! وربما اتصل بهذه التهمة المتهافتة تصور البعض أن الدين رباط مع الماضي، وأن التطور ينافيه.. ونتساءل نحن: ما هذا التطور؟ إن الإلحاد ليس تطورا! بل هو ترديد لكفر الصغار من جهلة القرون الأولي. من ألوف السنين وقفت قبيلة عاد من رسولها موقفا كأنما لخصت فيه كل ما يقال فى هذا العصر على ألسنة الشطار من دعاة الإلحاد: ( أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون * هيهات هيهات لما توعدون * إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين * إن هو إلا رجل افترى على الله كذبا وما نحن له بمؤمنين ). ص _169(1/167)
إن التحلل من قيود الدين وفضائله ليس تجديدا ولا ابتكارا، بل هو خنوع للغرائز الدنيا التى أذامت ألوف الخلعاء والخبثاء من عشرات القرون، وجعلتهم يحيون وفق شهواتهم وحدها! فأى ارتقاء فى ذلك المسلك الرخيص..؟؟ يا شباب العرب اقدروا التراث النفيس الذى شرف الله به أمتكم، وأقام عليه تاريخكم.. إن الدين الذى تنتمون إليه رفع مناركم قديما، وهو وحده القدير على استنقاذكم من ورطات هذه الأيام!! لا تنخدعوا بمن يزهدكم فى رسالتكم، فهو يرسم لكم طريق الموت..!! إن أمما أخرى لاذت بعقائد أردأ جوهرا وأسوأ منهجا، واستطاعت أن تغالبكم وأن تنال منكم، فعودوا سراعا إلى دينكم وثقوا أنه وحده العاصم من الغرق. كم يحزننى أن أرى شبابا عربى النسب أعجمى الفكر واللغة والضمير..!! لا يستند إلى عقيدة، ولا يعتز بتاريخ، ولا يستظل برأيه، ولا يسير إلى غاية خدعوه فقالوا: الجيل الصاعد.. ولو صدقوه لقالوا: الجيل الضائع الهابط.. أنظر إليه مليا، ثم أهمس فى حسرة: إنك بهذا الشرود والفراغ تصنع الهزيمة تلو الهزيمة، وتجر الكارثة بعد الكارثة..!! متى تعود إلى كتاب ربك، وسنة نبيك..؟؟ سيبقى الليل حتى تقع هذه العودة المرتقبة، ويحمل العرب مرة أخرى رسالة الإسلام. ص _170(1/168)
رمضان بين تقاليد الماضى وهزائم الحاضر للجسد الإنسانى وقوده الذى يحيا به ويتحرك، ويستحيل حرمان هذا الجسد من مصادر وجوده ونمائه وتنقله هنا وهنالك! التجويع التام يقتله، والحرمان من عناصر رئيسية يثير الاعتلال فى كيانه ويفرض عليه الذبول واللعوب.. ولم يجئ فى شرع الله تكليف من هذا النوع المحرج، بل جاء فى السنة استعاذة النبى - صلى الله عليه وسلم - من هذا البلاء "أعوذ بك من الكفر والفقر وأعوذ بك من عذاب القبر لا إله إلا أنت"... لكن الواجدين من الناس عندما يطعمون لا يكتفون بتناول الغذاء المطلوب لأبدانهم، بل يلتهمون مقادير أكبر.. كل على قدر نهمته وطاقته!! ونحن نفتن فى تزويد أنفسنا بأزيد من حاجتها، والرغبات تمتد مع التلبية المستمرة، وتألف ما اعتادت، وتطلبه إن فاتها..!! وهذا الجسد العجيب قادر على اكتناز ما يفرض عليه إما بدانة مفرطة، أو قبولا لما يشحن به، ثم عملا صوريا فيه، ثم خلاصا معنتا منه!! وهو الخاسر فى هذا الجهد الضائع، والحياة العاقلة من حوله تقول: لو كان هذا نصيب معدة فارغة لكان خيرا له ولها، ولكان أسعد وأرشد، وقديما قيل.. والنفس طامعة إذا أطعمتها وإذا ترد إلى قليل تقنع!! لعل فريضة الصيام تذكرنا بهذه الحقيقة النفيسة التائهة، لكن هناك شيئا آخر يجيء رمضان ليذكرنا به، نحن العرب والمسلمين فى أقطار الأرض كلها. نعم، إذا كانت شهية بعض الناس مفتوحة للمزيد من ملذات الدنيا فما أحرى المنهزمين بأن تنكمش أيديهم وتغص حلوقهم، وإذا كان أهل الأديان كلها يمرحون ويهشون فما أحرى بنى الإسلام بالصيام عن فنون المتع وألوان السرور. ذلك أن المرحلة التى يمرون بها لا تتحمل من ذلك قليلا ولا كثيرا... فى أعقاب المتاعب التى تصيب الأمم، وتنتظم آلامها الأفراد والجماعات، يحدث تغير شامل فى السلوك القومى العام، ويزهد الصغار والكبار فى فنون من المتع كانوا من قبل يألفونها، وأنواع من المرح طالما ابتهجوا أيام السلام(1/169)
بها. ص _171
وهذه عادة عربية قديمة، كان أسلافنا الأوائل إذا نال منهم عدو أو حل بهم مكروه، هجروا تقاليد السرف والترف، وصدوا عن أسباب اللهو والمجون، وما يسمح أحدهم لنفسه بسرور غامر، وضحك عال إلا إذا نال ثأره أو استرد ما فقده، أو أوقع بخصمه مثل ما نزل به، فإذا تم له ما يبغى قال وهو مستريح: فساغ لى الشراب وكنت قبلا أكاد أغص بالماء الفرات وقد نزل أبو سفيان، وجمهور أهل مكة على هذه العادة بعد هزيمتهم فى معركة بدر، فحلف أبو سفيان أن يحرم نفسه شتى الملذات حتى يدرك ثأره من محمد.. واتسق هذا المعنى فى تقاليد البطولة التى شاعت بعد بين المسلمين، فيقول شاعرهم: قوم إذا حاربوا شدوا مآزرهم عن النساء ولو باتت بأطهار!! والمعنى أنه فى ساعات الجد لا ينبغى الاكتراث بما عداه، وفى أيام الكفاح يجب على الأمم أن تقتصد اقتصادا شديدا فى مظاهر الفرح والتسلية.. ومادام أبناؤنا وإخوتنا فى الجبهة ومادامت قطع من أرضنا تحت أقدام العدو، ومادام جحد حقوقنا ظاهرا فى أسلوب التبجح الذى نستمع إلى نبراته فما مكان الراحة والهدوء عند مجيء الراحة والهدوء؟ وما مكان التوسع فى الإنفاق والبذل فى المرفهات عند عشاق البعثرة والترفيه؟ لقد آن الأوان ليراجع العرب والمسلمون سلوكهم الخاص والعام، فيحذفوا من أساليب معايشهم وأفراحهم وأحزانهم الكثير مما لايتفق مع أيام الحرب وليعلموا أن جعل الكفاح طويل، وأنهم بإزاء عدو ماكر غادر تختبئ وراءه كل قوى العدوان فى الأرض، وأن هدف المعركة الإتيان على تاريخهم ورسالتهم وحاضرهم ومستقبلهم، فكيف مع هذه النيات الهائلة نستخف بالأمر؟ أو نأذن لمشاعر الدعة والهزل أن تخامر القلوب...؟ إن الأثر النفسى العظيم لفريضة الصيام هو تدريب المؤمن على ضبط نفسه، وإحكام أمره، وتقييد شهواته، فهو إذ يترك بعض الأعمال المباحة يتمرن على ترك جميع الأعمال المحظورة، أو التى تفرض ظروف المروءة، وأعباء الكفاح أن يتركها، ص _172(1/170)
وقديما قال رجل عزيز صلب.. يقولون: هذا مورد!! قلت: قد أرى ولكن نفس الحر تحتمل الظمأ..!! ولقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صاحب طاقة كبيرة على الحياة، مهما تباينت ظروفها، واختلف عليها العسر واليسر، والانكسار والانتصار ولقد علم أصحابه أن الاستسلام للشهوات المادية، والحرص على نمط معين من الملذات، سقوط بالهمة وخور فى العزيمة، واسترخاء مع الشيطان. قال عليه الصلاة والسلام يصف المجتمعات المعتلة " إن القوم لما شبعت بطونهم سمنت أبدانهم، فضعفت قلوبهم وجمحت شهواتهم " وقال: "إنما أخشى عليكم شهوات الغى فى بطونكم وفروجكم ومضلات الهوى". وقال: "إن شرار أمتى الذين غذوا بالنعيم ونبتت عليه أجسادهم" وقال - يصف عشاق الليونة والرخاوة والمظاهر الجوفاء - "تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد القطيفة، تعس عبد الخميصة" والقطيفة والخميصة أنواع من الأقمشة الملبوسة والمفروشة تمتاز بالفخامة والنعومة. يحرص عليها طلاب الراحة وعبيد المثل الدنيا لا المثل العليا. ويظهر أن بعض المسلمين لا يستفيدون من صيامهم هذه الآثار النفسية والاجتماعية التى تعين على خلق شعوب مجاهدة تتحمل متاعب الحصار الاقتصادى والعسكري. وأنهم حريصون فى جوانب كثيرة من حياتهم على تقاليد اليسار والسعة، والتشبث بما ألفوه أيام السلام والسلامة..! وما نفكر فى تحريم مباح، ولا فى زجر الناس عن طيبات أحلت لهم. ولكنا نفكر فى مواجهة العدو المتربص وضرورة وعى الأساس الأوحد للقائه، وهو أن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم.. عندما أعلن غاندى المقاطعة السلبية، وحمل شعبه على الرضا بخيوط المغزل الهندي، وهجر الإنتاج الرائع لمصانع إنجلترا ونسيجها الرقيق الجيد كان ذلك "الصيام" بداية التحرر ونهاية الاستعمار، ولذلك يقول الشاعر العربى رشيد سليم الخورى : لقد صام هندى فدوخ دولة فهل ضار علجا صوم مليون مسلم إننى ألفت أنظار قومى إلى أننا أمام جهاد شاق(1/171)
المراحل، ثقيل التكاليف، وأن النجاح فيه يتطلب من الآن نظرة عابسة، ورفضا لصنوف المباهج!! ص _173
ترى هل أستطيع أن أقترح إلغاء أفراح الأعياد؟ والاكتفاء بشعائرها الدينية الرصينة وحسب؟ إن ولع العرب الشديد باللهو واللعب منته بهم بتة إلى التلاشي. ودلالته واضحة على موت القلوب، وقبول الدنايا، وعشق الدنيا وكراهية الموت.. إن عبادة الحياة، وتكريس القوة والوقت لها وحدها، علة قديمة بين الناس وهى العلة التى أرخصت القيم الرفيعة، وألهبت الغرائز الوضيعة وصرفت القصد عن الله، وعلقت الهمة بالحاضر القريب، ونسيت ماعداه!! فى المجتمعات التى فتكت بها هذه العلة يقول جل شأنه: ( إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوما ثقيلا ). ويقول: ( فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا * ذلك مبلغهم من العلم إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى). ومظاهر هذه العلة معروفة فى انتهاب اللذات من غير شبع، والبحث عنها دون اكتراث بحل أو حرمة، واعتبار الوجود الأرضى هو الإطار الأوحد للحس والإدراك. فإن فات فليس عنه عوض، وإن أقبل فيجب التفانى فيه وارتشافه حتى الثمالة! إنه لاشيء بعده يرتقب!! وأحسب أنه فى هؤلاء يقول جل شأنه وهو يذيقهم عقابه - ( ذلكم بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تمرحون * ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين). والمدنية الحديثة قد ضاعفت لأبنائها الفرص لعبادة الحياة والعب منها دون ارتواء، وذلك أن الشهوة تغرى بالشهوة كما أشرنا آنفا، والرغبات الإنسانية قد يضر بها القرب، ولا يزيدها الظفر إلا اشتعالا، على نحو ما قال الشاعر. أعانقها والنفس - بعد - مشوقة إليها، وهل بعد العناق تداني؟ وألثم فاها كى تزول حرارتى فيشتد ما ألقى من الهيمان! ص _174(1/172)
والأديان فى أوربا وأمريكا عجزت عجزا تاما عن علاج هذا السعار، لقصورها الذاتى أولا، ولاشتغالها مع ذلك بمحاربة الإسلام بدل أن تتعاون معه على فعل شيء ما يحفظ على الإنسانية مستقبلها المتداعي.. والغريب أن المسلمين نافسوا غيرهم فى التهاوى على هذه المتع والتشبع منها جهد المستطاع. قد تقول: وما الغرابة فى ذلك؟ أليسوا بشرا كالبشر؟ وأجيب: إننى لا أنكر على المسلمين - خاصة - أن يشاركوا الأوروبيين والأمريكيين فى ألوان المتاع التى اخترعوها. إننى قد أفهم أن يعود رواد الفضاء من رحلة مضنية ليلتمسوا بعض النزه البريئة أو المريبة فى ليل أو نهار. أما الذين يتسكعون بين دورهم وأجران القمح والأرز، أو الذين يتركون خيامهم على مدى سهم فى مراعيهم الساذجة، أو الذين يركبون سياراتهم ليجلسوا فى الدواوين محسودين لا مجهودين.. أو.. أو.. فما لهؤلاء والبحث عن اللذات المخترعة فى الشرق أو الغرب؟؟ إن بعض الناس يذهب إلى العواصم العالمية المرموقة ثم يعود ليتحدث عن لياليها الصاخبة!! فهلا تحدث عن أيامها الجادة، وعن العرق المتصبب من أجساد الكادحين للصغار والكبار على سواء؟؟ إن المهندس هناك قد يغير وجهه وملبسه كله طوال النهار ثم ينطلق بعد ذلك ليستجم وفق ما يفهم ويعتاد. ويوجد عندنا من يقلده فى الانطلاق الأخير، ولا يتأسى به قيد أنملة فى الكفاح الذى سبقه!! أى بلاء أصاب العرب والمسلمين حتى عموا عما يجب أن يري، وحملقوا عيونهم فيما يجب أن تغض عنه، وتسترخى بإزائه؟ إنهم لو فقهوا سر الصيام، وسر الحياة العفيفة المبنية عليه لكان لهم موقف آخر.. بل لو أنهم أدركوا ما كانوا عليه، وما صاروا إليه، وما تبيته القوى المتربصة بهم، لكان لهم قبل الصيام صيام، وقبل القيام سهر يطير معه المنام!! ص _175(1/173)
من سنين طوال ورمضان يستقبله العرب والمسلمون بطريقة رتيبة. روايات أقلها جاد وأكثرها هازل تعرضها الإذاعات المسموعة والمرئية.. أغان بعضها ديني (!) والآخر لا دين له تشنف الآذان. فكاهات تخلق الأجواء الضاحكة، وتسلى الجماهير التائهة، مواعظ تقليدية ممجوجة يفر أغلب الناس من سماعها أو كتابات إسلامية فى موضوعات مختارة عن عمد لتخدير الفكر وتفتير الهمم. صور جميلة أو دميمة للمساجد والآثار الإسلامية.. أحفال باهتة جرى رسمها وإخراجها بحيث تنعدم فيها الروح ويضعف التأثير. إن أعداء الإسلام لا يطلبون من أمة الإسلام أن تفعل بنفسها أكثر من ذلك! لما مات أبو امرئ القيس الخليع الضليل قال هذا الشاعر يصف ما سيفعل: اليوم خمر وغدا أمر! لقد جعل لسكره حدا ينتهى عنده، إنه اليوم وحسب! ومات امرؤ القيس وهو يجاهد لاستعادة مجده، ويقول لصاحبه يسليه عن هموم الكفاح ومشقات الضرب فى الأرض. فقلت له: لا تبك عينك، إنما نحاول ملكا، أو نموت فنعذرا!! لكن جمهرة كبيرة من شباب العرب لا يزالون يقولون: اليوم خمر وغدا خمر.. فمتى الصحو؟ ألا يستحق المسجد الأقصى وقفة تدبر واستعبار، يتلاوم فيها المفرطون، ثم يغضبون لله غضبة تمحو العار، وتدرك الثأر...؟؟ ص _176(1/174)
على هامش الإسراء عندما يتدبر التالى سورة الجمعة يرى فى آياتها منعة الأمة العربية. والحكمة التى من أجلها ولدت فى التاريخ! ولك أن تسأل: ما علاقة أمة العرب بسورة الجمعة؟ وقد جرى فى نفسى هذا التساؤل قبل أن أعلم أن يوم الجمعة كان يسمى فى الجاهلية "يوم العروبة" ثم غلب عليه عنوان الشعيرة التى استحدثها الإسلام، والتى لم يكن العرب من قبل يحتشدون لها، أو يلتقون فى عيدها! ومعروف أن النبى - صلى الله عليه وسلم - لم يصل الجمعة فى مكة، وإنما صلاها بعدما قدم المدينة، فهل صليت فى المدينة قبل الهجرة النبوية إليها؟ يبدو أن ذلك قد وقع فقد روى عبد الرزاق فى مسنده قال: "جمع أهل المدينة قبل أن يقدمها النبى - صلى الله عليه وسلم - ، وقبل أن تنزل الجمعة، قالت الأنصار، إن لليهود يوما يجتمعون فيه كل سبعة أيام، وللنصارى مثل ذلك، فهلم فلنجعل يوما نجتمع فيه نذكر الله تعالى ونصلى فيه، فجعلوه يوم العروبة، واجتمعوا إلى "أسعد بن زرارة" فصلى بهم، وقد روى ذلك الحديث من طرق أخرى صحيحة. فكأن سورة الجمعة هى سورة العروبة! فلننظر بعد هذه التقدمة إلى السورة نفسها. لقد بدأت بتسبيح الله الملك القدوس العزيز الحكيم. والله ولى المنة والفضل، وأهل التقوى والمغفرة، وقيم السموات والأرض ومن فيهن ". ومن حكمة الله الماضية إلى يوم الدين أن يمنح اصطفاءه من شاء من الأفراد والأجناس ليكونوا مجلى رحمته، ومظهر نعمائه. وفى الآية الثانية من هذه السورة، وبعد ثناء الرحمن على ذاته، ذكر - تبارك اسمه - أنه اختار العرب ليحملوا رسالته الخاتمة إلى خلقه ( هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ). ص _177(1/175)
وقوام هذا الاختيار ثلاثة معان بارزة! * الأول: تلاوة آيات الله: فإن أهل الكتاب أخفوا كثيرا منها، وعبثوا بمعالم الوحى حتى التبس الحق بالباطل، وتحول الدين من أفواههم إلى سقام للعقول والضمائر بدل أن يكون شفاء لما فى الصدور، واستنارة لذوى الألباب. .. لكن النبى الخاتم تلا على أمته آيات الله كاملة غير منقوصة، مستقيمة لا عوج فيها وأصبح العرب من بعده أمناء الله على هداياته، وفى أيديهم وحدها الصحائف التى لا ترقى إليها ريبة، ولا تلحقها آفة. * وتلاوة الحق يتبعها التأثر به، والارتفاع إلى مستواه سيرة وسريرة، وذلك معنى التزكية، وقد ربى محمد - صلى الله عليه وسلم - جيلا من الناس له فضل أدب وتقوى أهله لقيادة العالم عن جدارة لا عن دعوى، والمتأمل فى مسالك هؤلاء الأميين من العرب يعجب لإدمانهم العبادة وحبهم الجهاد. وغيرتهم على الحق. ونفورهم من الدنايا. إن هذه الأمة الجديدة التزمت نهجا هى التربية النفسية والاجتماعية، أعز الإيمان، وأعلى قدره!! * والمدد العقلى لهذه الرفعة الخلقية والسياسية نبع من علوم الكتاب والسنة، ومدارسة ما أودع الله فيها من حكمة بالغة.. ثم إن علوم الدين عندنا تتسع دائرتها لتشمل الكون كله، أى لتشمل كل ما يدل على الله، ويكشف عن جلاله وعظمته. ومن هنا كانت الحضارة الإسلامية تستند إلى الوحى الحق، وما ينبعث عن هذا الوحى من علم وأدب. وذلك ما نهضت به الأمة العربية فأضاءت ظلمات التاريخ، وصححت مسيرة الحياة. وذاك ما أسداه محمد للناس وأولهم قومه ( وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ). لكن عهد العرب بالنبوات بعيد، فإن علم "الكتاب" عرف بقوم آخرين تخصصوا فيه وتوفروا عليه، أما العرب أنفسهم فقد ألفوا الأمية وألفتهم، حتى أصبح اسم "الأميين" علما عليهم.. فأنى لهم قياد العالم فى هذا المجال؟ وهؤلاء، بنو إسرائيل، قد احتكروا النبوات دهرا طويلا؟ حتى ظنوا أنفسهم همزة الوصل بين الأرض والسماء، وتسموا بالشعب(1/176)
المختار إشارة إلى هذه المكانة العتيدة !!! ص _178
هنا يرد قوله تعالى فى سورة "الجمعة" أو فى سورة "العروبة": ( ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم ). لكن الفضل الإلهى لا يتنزل على من لا يترشح له، ولا ينسحب عن أمة دون سبب واضح! فلم عزل الله اليهود وأحل مكانهم العرب؟ وبدأت السورة تجيب على هذا التساؤل ( مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله والله لا يهدي القوم الظالمين ). إنك لا تأمن على تأديب ولدك معلما سيئ الأخلاق ردئ الطبائع! فكيف يكل الله تربية العالمين لشعب قاسى القلب، مظلم السريرة، جامح الشهوات؟ لقد عزل اليهود عن مكانتهم القديمة لأنهم برذائلهم ومعاصيهم هبطوا دونها؟.. إن صلتهم بالوحى الإلهى تشبه صلة الدابة بما تحمل من كتب. وما داموا لم يستفيدوا هم أنفسهم منها فكيف يفيدون غيرهم. ومن ثم جردوا من أمجادهم الأولى وقلد العرب هذه الأمجاد، فالعرب بابتعاث محمد منهم - أصبحوا الشعب المختار الجديد المكلف بحمل أمانات الوحى المؤتمن على هدايات الله!! ومضت سورة "الجمعة" أو سورة "العروبة" تسرد العيوب الجسيمة التى فشت بين اليهود فأزلتهم عما كانوا فيه من فضل رفيع. إن موالاة الله تقتضى حتما البذل فيه، والتضحية من أجله، وإيثار ما عنده على الدنيا وما فيها. وموالاة الله تجعل ذويها يحبون الآخرة أكثر مما يحب غيرهم الدنيا، وتطهرهم تطهيرا من الجبن والإخلاد إلى الأرض. ولكن اليهود بلغوا فى حب المال حد الشره، وفى حب الحياة حب التشبث بها والحرص عليها. ص _179(1/177)
وقد أخذت السورة الكريمة تقرعهم على هذه الخلال ( قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين * ولا يتمنونه أبدا بما قدمت أيديهم... ). إن الأمة العربية لما اختارها الله لحمل رسالته الخاتمة كانت أنقى جوهرا، وأعمق أثرا، من بنى إسرائيل!.. ويبدو أن العرب حتى فى جاهليتهم الأولى - كانوا يحسون فتك الأمراض النفسية والاجتماعية بأهل الكتاب المجاورين لهم، وأن هؤلاء الكتابيين يفقدون الصلاحية المفروضة فيمن يتصل بالله عنه! وتأمل قوله تعالى وهو يستحث العرب على الإيمان ( وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون * أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين * أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم..) !! إن أولئك الأميين لا يقولون ذلك إلا لأنهم احتقروا أهل الكتاب وكشفوا عن بواطنهم وظواهرهم ما يسوء. والواقع أن التدين الفاسد لعنة على الحياة، وأن تحول الدين إلى كهانة واحتراف واحتكار يخلق طائفة من المرضى المستكبرين أو الموجهين المنخورين يفسدون فى الأرض ولا يصلحون تتأخر بهم الحياة ولا تتقدم، وتشقى بهم ولا تسعد. من أجل ذلك اصطفى الله العرب بعدما آتاهم رشدهم، وأقام عوجهم، فخرجوا على الناس وهم أسلم فطرة وأهدى سبيلا. فكان انسياحهم فى الأرض عجبا، وكانت بركتهم على الحياة نامية، وكانت ضرباتهم للباطل حاسمة شافية، وماندرى أى درك كانت الدنيا جمعاء سوف تهوى إليه لو لم ينطلق العرب شرقا وغربا بهذا الدين الحنيف.. ص _180(1/178)
وفى الموازنة بين الأمة الجديدة. حاملة الرسالة الخاتمة، وبين أهل الكتاب الأوائل بقول الله تعالى ( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون ). والأمم تصلح للحياة والسيادة بمقدار كثرة الخير وقلة الشر فيها. إن مادة الشر يستحيل أن تنحسم من بين الناس ولو كان الأنبياء رعاتهم ولكن الأمم إذا توارى الانحراف فى مساربها وشعر فاعلوه بنكره، واستعلن البر فى أرجائها، وشعر فاعلوه بمجده كانت أجدر بالبقاء، وأحق برعاية الله. أما إذا قل الأخيار، وبرز الفجار فإن البلاء يعم، والانكسار يحيق، مايغنى فى دفعه سلاح نادر وتقوى ضئيلة!! والأمر بالمعروف يجيء إثر الإحساس بحقه فى الظهور والسيادة، والنهى عن المنكر يجيء إثر الإحساس بضرورة استخذائه واستخفائه. وهذا وذاك يلدهما الإيمان النابض بالقدرة والنشاط. وقد كان ذلك الإيمان سمة الأمة الفتية الناشئة من قلب الصحراء. أما بقايا أهل الكتاب فإن العفن الفكرى أو النفسى كان ضاربا فى أحوالهم وأعمالهم. وربما اصطلحت ضمائرهم مع المنكر فأساغته، وتراخت عن المعروف فتركته ينسحق تحت أقدام الطغاة والفساق. كان العالم - والحالة هذه - فقيرا إلى نجدة تسعف الحق المهزوم، والشر المتبجح، وذلك ما فعله أبناء القرآن الكريم الذين نفخ فيهم محمد من روحه وتعهدهم بحكمته..!! وفى سورة الجمعة، أو سورة العروبة، نرى أن الله ذكر فضله على العرب بهذه الرسالة فقال: (ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ). ثم شرع يذكر مآسى بنى إسرائيل وغدرهم بما أخذ عليهم من عهود. أما فى سورة آل عمران فإن الله جل شأنه ذكر أولا انحراف اليهود وفسقهم عن أمر الله ثم أعلن عزله لهم، ونزع الملك منهم، واختيار العرب دونهم لقيادة العالم. ص _181(1/179)
فقال أولا: ( ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون ). وبعد أن رفض هذا السلوك، وبنى عليه طرد أصحابه وجه الخطاب إلى نبيه محمد: ( قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير ). وظاهر من السياق أن ذلك فى إيثار محمد وأمته العربية على بنى إسرائيل! قد تقول: ما علاقة هذا كله بقصة الإسراء؟ والجواب أن ليلة الإسراء كانت تقريرا عمليا للحقائق التى أبرزناها من سورة الجمعة، وغيرها، قلنا في كتابنا " فقه السيرة": "لماذا كانت الرحلة إلى بيت المقدس، ولم تبدأ من المسجد الحرام إلى سدرة المنتهى مباشرة؟ إن هذا يرجع بنا إلى تاريخ قديم. فقد ظلت النبوات دهورا طوالا وهى وقف على بنى إسرائيل. ظل بيت المقدس مهبط الوحي، ومشرق أنواره على الأرض، وقضية الوطن المحبب إلى شعب الله المختار. فلما أهدر اليهود كرامة الوحى وأسقطوا أحكام السماء، حلت بهم لعنة الله، وتقرر تحويل النبوة عنهم إلى الأبد: ومن ثم كان مجيء الرسالة إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - انتقالا بالقيادة الروحية فى العالم، من أمة إلى أمة ومن بلد إلى بلد، ومن ذرية "إسرائيل" إلى ذرية "إسماعيل". وقد كان غضب اليهود مشتعلا لهذا التحول، مما دعاهم إلى المسارعة بإنكاره ( بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده فباءوا بغضب على غضب ). لكن إرادة الله مضت. وحملت الأمة الجديدة رسالتها، وورث النبى العربى تعاليم: إبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، وقام يكافح لنشرها وجمع الناس عليها فكان من وصل الحاضر بالماضي، وإدماج الكل فى حقيقة واحدة، أن يعتبر المسجد الأقصى ثالث الحرمين فى الإسلام، وأن ينتقل إليه الرسول فى إسرائه فيكون هذا الانتقال ص _1 ص(1/180)
احتراما للإيمان الذى درج - قديما - فى رحابه.. ثم يجمع الله المرسلين السابقين من حملة الهداية فى هذه الأرض وما حولها ليستقبلوا صاحب الرسالة الخاتمة. إن النبوات يصدق بعضها بعضا، ويمهد السابق منها للاحق وقد أخذ الله الميثاق على أنبياء بنى إسرائيل بذلك. ( وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين). وفى السنة الصحيحة أن الرسول صلى بإخوانه الأنبياء ركعتين فى المسجد الأقصى فكانت هذه الإمامة إقرارا مبينا بأن الإسلام كلمة الله الأخيرة إلى خلقه، أخذت تمامها على يد "محمد" بعد أن وطأ لها العباد الصالحون من رسل الله الأولين والكشف عن منزلة محمد - صلى الله عليه وسلم - ودينه ليس مدحا يساق فى حفل تكريم، بل هو بيان حقيقة مقررة فى عالم الهداية ومنذ تولت السماء إرشاد الأرض، ولكنه جاء فى إبانه المناسب. لماذا سردت هذا القصص الغابر؟ إنه ليس سرد تاريخ مضي، وخبر كان..!! إنه تعريف أمة تائهة بحقيقتها ورسالتها وقدرها المكتوب وحسابها الدقيق !! إن العرب ينبغى أن يعرفوا: من هم؟ وبم أوثروا؟ وما المطلوب منهم لليوم الحاضر والغد القريب. وسورة الإسراء التى حكت فى الآية الأولى وحدها خلاصة القصة، ثم تتابعت آياتها تستعرض الحكم، وتسوق النذر.. هذه السورة أكدت للعرب مثل ما أكدت لغيرهم أن الله يعامل شتى الأجناس بقانون موحد لا مكان فيه لمحاباة أو فوضي. فمن تطلع إلى الدنيا وحدها حبسه الله فى نطاقها ورمى إليه- جل شأنه- بما يريد منها. أما الآخرة فلا بد لكسبها من شروط ثلاثة: * أن تكون إليها الوجهة . * أن يقترن الاتجاه بالسعى الجاد. * أن يقترن السعى بالإيمان الخالص. ص _183(1/181)
وفى الفريقين معا يقول الله جل شأنه: ( من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا * ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا ) هذا الحكم ينطبق على خلق الله أجمعين لا يستثنى منهم أحد. فماذا يريد العرب من الله؟ إن غيرهم لما أهان وحيه نزعت منه الراية، وأهين فى الأرض والسماء، فهل يريدون أن يتنكروا لوحى الله لديهم، ومواريثه بينهم، ثم يتجاوز عنهم، ويبسط يده عليهم بالخير والنصر ؟ ( أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون). ونعود إلى خواتيم سورة الجمعة أو "سورة العروبة"، لنرى فيها السعى إلى ذكر الله واقام الصلاة فإذا وفينا بحق الله انتشرنا فى الأرض لننال من خيرها ما يعيننا على أسباب الفلاح. إن الدين والدنيا قد اجتمعا عندنا فى قرن، واتسقا فى غاية ( فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون ). ص _184(1/182)
ياللرجال بغير دين الله جل جلاله، ربى محمدا ليربى به العرب وربى العرب بمحمد ليربى بهم الناس أحيانا يقترف الناس فى جنب الله سيئات يظهر فيها جهلهم به واجتراؤهم عليه، وينكشف فيها ما فاتهم من خشوع وأدب. فيكون تعليق القرآن الكريم على هذا النوع أو العوج المذكور ( ما قدروا الله حق قدره إن الله لقوي عزيز) أو ما أشبه ذلك من التعليقات التى تبرز بعد الشقة بين ما يجب لله، وما يقع من الناس. والنقائض فى أفعال البشر كثيرة. ولعل أخسها بعد الإساءة إلى الله ما يلقاه محمد - صلى الله عليه وسلم - من جماهير العرب فى هذا العصر الأنكد.! إنهم ما أحسنوا إلى تراثه، ولا قدروه حق قدره. ولا غالوا بشرف الانتساب إليه عندما ابتلوا بالتقصير فيه!! بل وجد فيهم من يريد العيش بعيدا عن رسالته زاهدا فى دعوته.. ولما كان الله قد ربى محمدا ليربى به العرب. وربى العرب بمحمد ليربى بهم الناس، فإن معنى التجهم لمحمد وتراثه أن العرب ينتحرون الميدان العالمي، وأنهم يحاولون أن ينأوا بأنفسهم فى ركن من الأرض، فقير إلى عناصر الشرف والسيادة ومقومات الحق فى الدنيا والآخرة..!! إننى أسأل نفسى بإلحاح فى هذه الأيام العجاف: هل يشعر العرب بأن محمدا: مرسل للعالمين؟ وأن هذه (العالمية) فى دعوته تفرض عليهم بعد إذ عرفوه أن يعرفوا الناس به، وهم عندما يعرفون الناس به لن يصفوا لهم ملامحه الشخصية وإنما يشرحون لهم رسالته الإلهية..!! لكن عرب اليوم لا يقدرون محمدا قدره، ولا يخلفونه بأمانة فى مبادئه وتعاليمه، ولا يحسون قبح الشبهات التى أثارها خصومه ضده، بل هم - علما وعملا - مصدر ص _185(1/183)
متاعب للإسلام ونبيه الكريم، وشاهد زور يجعل الحكم عليه لا له!! قد تقول: حسبك حسبك، إن الناس بخير، ومحبتهم لرسولهم فوق التهم فلا تطلق هذه الصيحات الساخطة فما تحب الجماهير أحدا، كما يحب أتباع محمد محمدا.. وأقول لك: سوف أغمض العين عن ألوف من المتعلمين ضلل الإستعمار الثقافى سعيهم، وشوه بصائرهم وأذواقهم، مع أن وزنهم ثقيل فى قيادة الأمة العربية فما قيمة الحب الرخيص الذى تكنه جماهير الدهماء؟ إنه حب غايته صلوات تفلت من الشفتين مصحوبة بعواطف حارة أو باردة، وقلما تتحول إلى عمل كبير وجهاد خطير، والترجمة عن حب محمد بهذا الأسلوب في وقت ينهب فيه تراثه أمر مرفوض، إن لم يكن ضربا من النفاق!! أذكر أنى ذهبت يوما لأحد التجار كى أصلح شيئا لي، فاحتفى بى وقدم بعض الأشربة، وأفهمنى أنه أتم ما أريد بعد أن وفيته ما أراد.. ثم شعرت أن عمله كان ناقصا ولا أقول مغشوشا! فقلت: ليته ماحيا ولا رحب، وأدى ما عليه بصدق! ماذا أستفيد من تحيات لا جد معها ولا إخلاص؟ والشأن كذلك مع أقوام قد تموج أحفال المولد النبوى بهم، أو قد يصرخون بالصلاة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فى أعقاب الأذان، أو قد يؤلفون صلوات من عند أنفسهم يحار المرء فى تراكيبها لإغراقها فى الخيال. وقد يكون حبهم تمسكا شديدا ببعض النوافل، وهروبا تاما من بعض الفرائض، أو حنانا لا ندى معه ولا عطاء كهذا الذى قال له الشاعر: لا ألفينك بعد الموت تندبنى وفى حياتى ما قدمت لى زادا أى حب هذا.. إن العرب لا يعرفون أى شرف كتب لجنسهم ولغتهم وأمسهم وغدهم عندما ابتعث الله محمدا منهم، وأن التقدير الحق لهذا الشرف لايكون بالسلوك المستغرب الذى يواقعونه الآن، ومنذ بدءوا يعبثون برسالة الله بينهم.. لما أراد رب العزة أن يعلن بركته النامية ورحمته الهامية، اختار فى كتابه العزيز عبارتين مبينتين: ص _186(1/184)
الأولى: تتحدث عن هذه البركة فى مظهر القدرة التى تجمع أزمة الكون فى يده، فيستحيل أن يغلب يوما على أمره، أو يشركه أحد فى ملكه، وفى هذا المعنى يقول جل شأنه: ( تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير). والثانية: تتحدث عن هذه البركة فى صورة الرجل الذى حمل هداه الأخير إلى عباده، وتفجرت ينابيع الحكمة من بيانه وسيرته، فكان القرآن الذى يتلوه مشرق شعاع لا ينطفئ. يهتدى على سناه أهل القارات الخمس ما بقى الليل والنهار، وفى هذا المعنى يقول جل شأنه: ( تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا ). إن الإنسان المبعوث رحمة للعالمين أشعل الأمة التى ظهر فى ربوعها فانطلقت لأول مرة من بدء الخليقة تحمل للناس الخير والعدل، واستطاعت أن تؤدب جبابرة الأرض الذين عاثوا فى أرجائها فسادا. وظنوا أن كبرياءهم لن يخدشها أحد! حتى جاء الرجال الذين رباهم محمد فقوموا صعر المعتدين. وأعزوا جانب المستضعفين، وكم تحتاج الدنيا فى يوم الناس هذا إلى هذا الطراز من الرجال ليحموا الحق الذليل. وينقذوا التوحيد المهان، ويقروا الأخوة الإنسانية المنكورة. وينزلوا البيض إلى منزلة السود أو يرفعوا السود إلى منزلة البيض.. لكن السقطة الرهيبة للعرب المعاصرين أنهم ذاهلون عن المكانة التى منحهم محمد إياها. هابطون عن المستوى الذى شدهم إليه، وفيهم من يفتح فمه ليقول: إن العرب يمكن أن يكونوا شيئا من غير محمد!!! قبح الله وجهك من قائل أفاك.. ومن أيام جاءنى نفر من العامة متنازعون على إدارة مسجد وبعضهم يريد فى الأذان أن يقول أشهد أن سيدنا محمدا رسول الله.. والآخر يريد الاكتفاء بالوارد، فلا يذكر لفظ سيدنا لأنه مبتدع.. ص _187(1/185)
ونظرت إلى أعراض المرض الذى يفتك بالأمة المعتلة. وقلت لهم: إن محترفى الإفك من المبشرين والمستشرقين ملأوا أقطار العالم بالافتراء على محمد وشخصه ودينه، ورسموا له صورة مشوهة فى أذهان الكثيرين وأنتم هنا لا تزالوا فى هذا الغباء. ما أشقى دينا أنتم أتباعه، إن المسلمين بين ما ورثوا من جهل، وما نضح عليهم من ضلال العصر لا يزالون يهرفون بما لا يعرفون.. إن حب محمد يوم يكون لقبا يضفيه عليه الكسالى الواهنون فهو حب لا وزن له. ولا أثر له ويوم يكون أحفالا رسمية وشعبية بيوم ميلاده، فهو حب لا وزن له ولا أثر ويوم يكون قراءة لكتابه فى مواكب الموت ومجالس العزاء فهو حب لاوزن له ولا أثر. ويوم يكون ادعاء تستر به الشهوات الكامنة والطباع الغلاط فهو حب لا وزن له ولا أثر.. لأن محمدا هو الرسول الذى رسم للبشر طريق التسامى الحقيقي، ورسم للجماعات طريق التلاقى على الحقائق والفضائل، فدينه عقل يأبى الخرافة، وقلب يعلو على الأهواء. ماذا كسب المسلمون عندما حولوا الدين من موضوع إلى شكل؟ وماذا كسب العرب عندما شقوا طريقهم إلى المستقبل وهم يطوون اسم محمد وتراثه من نشاطهم السياسى والفكري. إن مسلمى الباكستان هزمتهم سياسة امرأة ذكية ماهرة! ورجالات العرب دوختهم سياسة عجوز شمطاء! ياللرجال بلا دين!! * * * إنني، وألوفا من المؤمنين نحب محمدا - صلى الله عليه وسلم - ، ونشعر بما له فى أعناقنا من دين، وبما أفاء علينا من نعمة، وبما يجب أن يتوطد له فى الدنيا من سلطان مادى وأدبي، وبالفقر المدقع الذى يعانيه العالم لحرمانه من الرسالة التى اضطلع بها وخلفه فى إبلاغها العرب، فلم يحسنوا البلاغ. إننى ألوم نفسي، وألوم قومى ويتردد فى نفسى صدى قوله تعالى : ( وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون ). * * * ص _188(1/186)
قال لى أحد الصالحين: إننا نحيى ربنا جل شأنه ونحن جلوس فى صلوات أليس كذلك! قلت: نعم، عقب الركوع والسجود، نهمس وأيدينا على الركب التحيات لله.. قال: ثم نتوجه إلى الرسول بالسلام بصيغة المخاطب الحاضر، نقول - وكأن الكلام لشخص قريب منا - : السلام عليك أيها النبى ورحمة الله وبركاته..! قلت: أجل، كذلك نفعل، على بعد المكان والزمان بيننا وبين الرسول الكريم..!! قال: إن السلام أفرغ فى تلك الصيغة قصدا، لأن النبى يجب أن يكون حيا فى ضمير كل مؤمن، يجب أن ينتصب له مثال مرموق فى وعى المسلم اليقظ تتحقق فيه ملامح الصورة الذاهبة!! وهل تؤخذ الأسوة الواجبة إلا من هذا الاستحضار الدائم؟ لقد مرت أعصار على موت الرسول – صلى الله عليه وسلم - ، لكن القيم الرفيعة التى تجسدت فيه ونماذج العبودية لله، والجهاد فى سبيله والحنو على خلقه، وصور الكمال البشرى فى العفاف والعدل والإيثار والمرحمة، تلك كلها معان لم تمت، وإنما خلدت فى كيان هذا النبى المحمد.. والمسلم عندما يقول فى صلواته: السلام عليك أيها النبى ورحمة الله وبركاته إنما يقترب من إمامه الأعظم الذى أمره الله أن يتأسى به وأن يسعى فى ركابه. ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا). * * * واسترسل الرجل الصالح فى عاطفته المهتاجة. واخذ يشرح لى ما يعنى قال: إن الشمس فى رائعة النهار لا تعتبر غائبة عن بصير، وتستطيع كل مرآة مجلوة الصفحة أن تعكس صورة لقرصها أو لهالتها أو لأشعتها ومحمد - صلى الله عليه وسلم - فى عالم اليقين والخلق، شمس لا ينكر لها بريق ولا يغيم لها ضوء.. ص _189(1/187)
والمهم أن يكون لك فؤاد مصقول يستطيع استقبال هذا النور فى حناياه. والاستهداء به فى دروب الحياة. ان القدوة الطيبة تقوم على استحضار المثل الأعلى فى الذهن، ومحاولة السير على غراره فى الخارج، والائتناس الدائم بهذا المثل الأعلى هو الذى يلهج الألسنة بعد تحية الله تبارك وتعالى بالسلام على رسوله، سلام "حضور" لا سلام "غيبة" ومن ثم كان كل مصل يقول: "السلام عليك أيها النبى ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباده الصالحين". ومحمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معقد الحقائق التى يصلح بها العالم من أزله الى أبده، والتعاليم التى جاء بها لا يستغنى عنها الأولون والآخرون إلا إذا استغنت الأكوان عن نظام الجاذبية وسائر السنن العامة واضطراب الحياة إنما يرجع إلى تجاهل الهدايات التى جاء بها النبيون، والتى أتمها وأجملها هذا النبى الخاتم وما يثوب الناس إلى رشدهم إلا يوم يحتفون بهذه الرسالة وصاحبها ويعرفون حكم الله عن طريقه.. وكان حقا على العالم كله أن يصدق بهذه البعثة العامة، ولكن العالم تنكر لها وتطاول على رجلها الكبير. وعندى أن الشفاعة العظمي، التى جاءت السنن بثبوتها لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا تعدو أن تكون لونا من تأديب البشر كافة على موقفهم السابق من نبى الإسلام، فإن رسول أى عظيم يستحق من التوقير والإعزاز بقدر ما لمرسله من مكانة، والرجل الذى أرسله رب العالمين. كان يجب أن يلقى من التكرمة ما يرفع ذكره، ويعلى شأنه، غير أن أكثر الناس تواصوا بالصد عنه وجحد دعوته، ورغبوا عن الحق الذى معه، وبخسوا قيمته ثم تتابعت الأجيال والخلف فى أغلب بقاع الأرض يتوارثون عن سلفهم هذا التكذيب الشنيع. ص _190(1/188)
ولو نظرت فى هذه الألوف المؤلوفة من الكنائس والمعابد، لوجدت داخلها أجهزة منظمة دوارة تعمل فى غير ملل لصرف الناس عن الإسلام ونسبة أقبح النعوت إلى نبيه المبرأ الشريف.. وكأن الله تبارك اسمه شاء أن يعرف هذه الأمم مدى ماكانت فيه من غباوة، وأن يذيقها شيئا من مرارة الجريمة التى ارتكبتها، فهو فى ساحة العرض الشامل لأصناف الخلائق يحشر سكان القارات الخمس على مر القرون يحشرهم فى صعيد واحد. ثم يكشف الغطاء عن عيونهم وإذا هم يتبينون فداحة جهلهم بالله الكبير المتعال. ويتبينون شناعة خصامهم لإمام رسله. وهنا يموج بعضهم فى بعض ، ويضطربون فى حيرة مفزعة لا يرجى منها خلاص، وتتحرك جموعهم إلى كل نبى سمعوا باسمه فى العالم الذى انتهي، يناشدونه أن يسأل الله لهم الرحمة، ولكن النبيين كلهم يرفضون التصدى لهذا المطلب ويعود أهل القارات الخمس متراكضين إلى الرجل الذى طالما قيل لهم أنه كذاب. إنهم يحسون الآن عن يقين أنهم أخطأوا فى حقه، وأنهم يوم صدوا عنه كانوا يخسرون أنفسهم وأهليهم..! الشفاعة العظمى - فى نظرى - موقف يحاكم فيه التاريخ البشرى كله. ليعترف أن انصرافه عن الإسلام كان مشاقة لله وعداء لأحب أوليائه وأصدق دعاته.. وما أعجب أن تجد الإنسانية نفسها فى حرج يوشك أن يقضى عليها، ثم تعلم فجأة أن التنفيس عن كرباتها ربما تم باللجوء إلى الرجل الذى عاشت دهورا. وهى تروى عنه الأكاذيب وتنسب إليه الأساطير.. والتجاء أهل الأرض إلى محمد فى تلك الساعة العصيبة. ولجوؤه إلى الله يطلب مغفرته للعبيد الأغرار ذلك فى ظنى هو المقام المحمود. المقام الذى نسأله لمحمد عقب كل أذان يتردد صداه فى مهاب الريح ليستجيب له قوم وينصرف عنه آخرون "اللهم ص _191(1/189)
رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت"محمدا" الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاما محمودا الذى وعدته"... * * * قلت: إن محمدا فى عالم العقائد والحقائق شمس وضاحة نفاحة، لكن العميان كثير وقد مكث هذا الرسول النبيل يصدع بأمر الله وينقذ الناس من أهوائهم ومظالمهم. ثم ذهب إلى الرفيق الأعلى تاركا فينا تراثه الجليل، من كتاب وسنة. فليتعلم الدعاة من حياة سيد الدعاة أن أجر الحق المبذول لا يعجل فى الدنيا، وأن للمقام المحمود موعدا فى غير هذه الدار يتعلق به وحده الدعاة الأبرار. ص _192(1/190)
العلم يدعو للإيمان إلى متى يظل الإنسان منطلقا فى هذه الحياة كالقذيفة الطائشة، لا يدرى كيف يسير، ولا إلى أين المصير؟ وإلى متى يبقى مندفعا بقواه المذخورة وأهوائه المحصورة حتى إذا نفدت قوته وبطلت حركته سقط حيث طاشت به مطارح الدنيا. ( فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق). عجبت لقوم ينكرون الله، ويجحدون مبتداهم منه ومنتهاهم إليه. وأعجب من ذلك أن يتوسلوا إلى إلحادهم بالعلم!! العلم الذى هو نهج الإيمان الحق، ودليل الوجود الأعلى.. فإذا ذهبت تتعرف شبههم وجدت إما قصورا فى العلم يلحق صاحبه بالجهال، وإما غرورا بأدنى الحظوظ منه. والمغرور بالقليل يرسل أحكامه مبتسرة مضللة لا وزن لها ولا معول عليها. وفى بلادنا صنف من الناس ليس له زاد من المعرفة، إلا قراءات على هامش الأسفار الضخام التى كتبها العلماء الراسخون. قابلت أحدهم يوما ومازلت أذكر الحوار العنيف ا لذى دار بينى وبينه كان هذا المغفل يجادلنى فى وجود الله، ويسوق كلمات حفظها من نظرية النشوء والارتقاء، ويريد ليوهمنى أن خلق إنسان سوى المشاعر نابض الأجهزة لماح الذكاء أضحى عملا فى مقدور العلم وأن معامل الكيمياء توشك أن تفاجئنا بهذا الاختراع!! فلما تحسست حصيلة هذا المجادل من علوم الكون والحياة وجدتها قشورا يسيرة، فاستغربت أن رجلا بضاعته حروف الهجاء فى فن من الفنون يصطنع فيه درجة الإمامة التى تمحو وتثبت..!! وفى ماذا؟ فى حقيقة الوجود الأعلى..! فاكتفيت بأن أكشف لهذا المغرور جهالته، ثم تركته، وعلى لسانى قول الشاعر ص _193(1/191)
نجا بك عرضك منجى الذباب حمته مقاذيره أن ينالا! وتذكرت قول الله تبارك وتعالى : ( ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير * ثاني عطفه ليضل عن سبيل الله له في الدنيا خزي ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق ). من الخرافات الشائعة، أن كثيرا من عظماء التاريخ لا أخلاق لهم، وأن كثيرا من علماء الكون لا إيمان لهم.! وأحسب أن ترويج هذه الخرافة بعض ما تلجأ إليه الشياطين فى محاربة الإيمان والأخلاق، حتى تنشأ الأجيال الغضة وهى تحسب التحلل والتمرد أقصر الطرق إلى العبقرية والسمو..!! والحق أن عرا الأخلاق هى التى صنعت ألوف الرجال، وأن الإيمان بالله حقيقة مقررة لدى جمهور العلماء الراسخين. نعم قد تكون لدى هؤلاء العلماء ريب فى أغلب الديانات المشهورة أو فيها كلها. بيد أن العيب لا يرجع إلى أولئك العلماء الماديين قدر ما يرجع إلى أصحاب الأديان الذين شوهوا رسالات الله، إما بتحريف الكلم عن مواضعه، وإما بالأعمال الشائنة التى تضع من أقدار المتدينين، وما يحملونه من دين. والقرآن الكريم لم يصم بالكفر إلا قوما تكشف لهم الحق فجحدوه، وعرض عليهم الدين كاملا فأزروا به وانتقصوه ( إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سول لهم وأملى لهم). ( ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى..). أقول ذلك بعدما انتهيت من مطالعة كتاب "العلم يدعو للإيمان" وموضوع الكتاب يفهم من عنوانه، إنه تعريف بالخلائق يقودك إلى خالقها وشرح لكون ينتهى بك إلى باريه.. ص _194(1/192)
وهل للإيمان الذكى العميق نبع يجيش به إلا من هذه المطالعة الدارسة للحياة والأحياء؟ ولأمر ما قال الله عز وجل (وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين). إن الإيمان لا ينمو فى قلب، ويتخلل شعابه، ويغمر رحابه إلا بمدى ما يعى المرء من آيات الله فى ملكوته. ومسلك المؤلف العالم فى كتابه هذا، يقوم على عرض الحقائق المتيقنة عرضا لا أثر فيه للأوهام والفروض، ولا مكان فيه للمغيبات والنصوص. إنه يحترم قوانين المنطق الحديث والفلسفة الحرة ويستهدى إلى غاياته طرقا لا يختلف على صحتها المؤمنون بما وراء المادة والجاحدون لها. ولقد تابعته بعقلى كما تتبع العين الأشعة الكاشفة، وهى تنتقل من أقصى الأفق إلى أقصى الأفق إن ثروة هذا الرجل فى المعارف الكونية طائلة هائلة وإنك لتعجب أهو أخصائى فى الفلك أم فى التشريح أم فى الكيمياء أم فى غيرها؟ ولا غرو فهو رئيس أكاديمية العلوم بنيويورك، فحديثه عن العالم الكبير الذى نعيش فيه، وعن القوانين الضابطة لسيره، وعن الأسرار الكامنة فى متونة وحواشيه حديث الخبير الراسخ المتأنق فى سرده واحتجاجه..!! والكتاب كله تفصيل مطرد متسق، لما أسماه علماء التوحيد عندنا "بدليل الإبداع" وأساس هذا الدليل على وجود الله لفت النظر إلى ما فى الكون من دقة وحكمة. هل رأيت شريط السكة الحديد الممتد من القاهرة إلى الإسكندرية مثلا؟ إنه يربو على مائتى ميل. والمسافة بين الخطين المتوازيين الممهدين لانطلاق عجلات القطار فوقهما لاتزيد ولا تنقص مع بعد الشقة..!! ألا يدل ثبات هذا العرض على إعداد مقصود لسير القطار فوقه. ألا تدل طريقة المد والتمكين على أن القطار المنساب سيجرى بسرعة معينة؟ ويحمل أثقالا كثيرة؟ هل إذا رأيت أذرعة القاطرة تغمز العجلات بعدما حركتها سلسلة مضبوطة منسقة من الآلات والأجهزة، فإذا القطار يتحرك وينهب الأرض نهبا. أتحسب أن هذه ص _195(1/193)
الأجهزة المتراكبة والآلات المتناسقة قد أخذت أوضاعها العتيدة من غير فكرة صاحبتها وغرض تنتهى به؟ هذا مستحيل! على هذا النحو أخذ الباحث الضليع يسوق آلاف الأمثلة من حقائق الأرض والسماء فإذا أنت أمام حشود لا آخر لها من براهين الوجود الأعلى اسمع إليه يقول - "قد رأينا أن العالم فى مكانه الصحيح، وأن قشرة الأرض مرتبة إلى مدى عشرة أقدام، وأن المحيط لو كان أعمق مما هو بضعة أقدام لما كان لدينا "أوكسجين" ولا نبات! وقد رأينا الأرض تدور كل أربع وعشرين ساعة، وأن هذا الدوران لو تأخر لما أمكن وجود الحياة، ولو زادت سرعة الأرض حول الشمس أو نقصت لتغير تاريخ الحياة إن وجدت تغيرا تاما وقد رأينا هذه الشمس هى الوحيدة بين الآلاف التى جعلت حياتنا على الأرض ممكنة وأن حجمها وكثافتها ودرجة حرارتها وطبيعة أشعتها يجب أن تكون صحيحة كلها على ما وجدناها، وهى صحيحة فعلا ورأينا أن الغازات التى بالهواء منظم بعضها إلى البعض بنسب دقيقة. وأن أقل تغيير فيها يكون قتالا.. إلخ" ماذا يعنى ذلك كله؟ ألا يردك إلى الله ويعلقك به؟ ومع ذلك فيوجد من الناس من يقول لك: أن الساعة التى فى معصمك قد استدارت تروسها وتشابكت آلاتها وانضبطت دقائقها تحرك عقرب الثواني، وتحرك عقرب الساعات بعد ما تحرك عقرب الدقائق كل ذلك بمحض الصدفة! فهذا الحساب المحصى للزمن لم تشرف على تسجيله وإحكام مراصده فكرة واعية ولا يد صناع !! كذلك يقول بعض المتعالمين عن السماوات والأرض وما بينهما. وقد تحدث هذا العارف الحصيف عن الصدفة وما ينسبها لها الواهمون من تنظيم واقتدار فقال "إن الصدفة تبدو شاردة غير منتظرة أو غير خاضعة لأية طريقة من طرق الحساب عند قليلى الخبرة، ضعاف الملاحظة. ولكن إذا كنا ندهش لمفاجآتها فإنها - مع ذلك - خاضعة لقانون صارم نافذ! لنفرض أن معك كيسا يحوى مائة قطعة رخام، تسع وتسعون منها سوداء وواحدة بيضاء. والآن هز الكيس وخذ منه واحدة. إن فرصة سحب(1/194)
القطعة البيضاء هى بنسبة واحدة إلى مائة. ص _196
والآن أعد قطع الرخام إلى الكيس وابدأ من جديد. إن فرصة سحب القطعة البيضاء لاتزال بنسبة واحدة إلى مائة، وإن فرصة سحب القطعة البيضاء مرتين متواليتين هى بنسبة واحدة إلى عشرة آلاف (المائة بعدما ضوعفت مائة مرة)!! ثم جرب مرة أخرى أو مرتين تصبح الأرقام فلكية!! إن نتائج المصادفة مقيدة بقانون صارم تقييدا وثيقا كما أن اثنين واثنين يساويان أربعة. ويقول فى مكان آخر "وإذا نظرنا إلى حجم الكرة الأرضية ومكانتها فى الفضاء وبراعة التنظيمات التى تمسكها فإن فرصة حصول بعض هذه التنظيمات مصادفة هى بنسبة واحدة إلى مليون. وفرصة حدوثها كلها لا يمكن حسابها حتى بالبلايين. ونقول بل لا يمكن افتراضها إلا فى تصور المستحيلات، فإن العقل الذى يمنع أن تبنى المصادفات دارا من بضع حجرات يجزم آكد الجزم بأن هذا العالم الكبير - بأفلاكه وآماده وحيوانه وجماده وإنسه وجنه - يستحيل أن تنشئه صدفة عارضة!! ثم هل نحسب أن مئونة إلقائه وحياطته أيسر من إيجاده لأول مرة؟ إن كلا الأمرين ليس إلا الله ( الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل * له مقاليد السموات والأرض والذين كفروا بآيات الله أولئك هم الخاسرون). ص _197(1/195)
التضحية بين الشباب والشيوخ قالوا: إن فترة الشباب أخصب مراحل العمر، وأجدرها بحسن الإفادة وعظم الإجادة!! فهى القوة الظاهرة بين ضعف الطفولة وضعف الشيخوخة. وقد قرر القرآن الكريم ذلك فى قوله تعالى : ( الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة يخلق ما يشاء وهو العليم القدير ). ومن ثم كان على المرء أن يقدم حسابا عاما عن حياته كلها، وحسابا خاصا عن طور الشباب وحده، فهو طور له خطره وأثره "لا تزول قدما عبد حتى يسأل:عن عمره فيم أفناه؟ وعن شبابه فيم أبلاه؟".. والحق أن أمجاد المتفوقين، وأشواط الصاعدين، إنما تستمد حركتها وبركتها من جهودهم أيام الشباب، واستغلالهم عرامه وإقدامه في السبق والانطلاق على أن الشباب وإن اكتنفته ومن طرفيه المتباعدين الطفولة والشيخوخة، إلا أنه يصعب وضع حدود زمنية لعهده السعيد!! فهناك رجال تظل وقدة الشباب حارة في دمهم وإن أنافوا على الستين، لا تنطفئ لهم بشاشة، ولا يكبو لهم أمل، ولا تفتر لهم همة..!! وهناك شباب يحبون حبوا على أوائل الطريق لا ترى فى عيونهم بريقا، ولا فى خطاهم عزما، شاخت أفئدتهم فى مقتبل العمر، وعاشوا فى ربيع الحياة لا زهر ولا ثمر!! ومن الأخطاء تصور الشباب قدرة جسد، وفتاء غريزة! إن الشباب توثب روح، واستنارة فكر، وطفرة أمل، وصلابة عزيمة.. نعم إن فترة الشباب فى حياة الإنسان هى أحفل أطوار العمر بالمشاعر الحارة، والعواطف الفائرة لكنها ليست عهد العافية المكتملة فى البدن الناضج فقط، بل إنها - كذلك عهد النزعات النفسية الجياشة، يمدها الخيال الخصب، والرجاء البعيد.. ص _198(1/196)
والأمم تستغل فى شبانها هذه القوى المذخورة، وتجندها فى ميادين الحرب والسلم، لتذلل بها الصعب، وتقرب البعيد. ونجاح النهضات الكبيرة يرجع إلى مقدار ما بذل فيها من جهود الشباب وهممهم، وإلى مقدار ما ارتبط بها من آمالهم وأعمالهم. وقد راقبنا الثورات التى اشتعلت فى أرجاء الشرق ضد الغزاة المغيرين على بلاد الإسلام، فوجدنا جماهير الشباب هم الذين صلوا حرها، وحملوا عبئها، واندفعوا بحماستهم الملتهبة، وإقدامهم الرائع، يخطون مصارع الأعداء، ويرسمون لأمتهم صور التضحية والفداء..! ولا يزال الشباب من طلاب وعمال وقود المحركات الحرة، وطليعة الثائرين على الفساد والاستبداد، وقبلة المربين والمرشدين، والزعماء الذين ينشدون مستقبلا أزكى لهذه الحياة. ونحن إذ نقرر هذه الحقائق ننوه بما تنطوى عليه من دلائل الإيثار والتفانى ونرجو أن يكون حظ أمتنا من هذه الثروة الحية كفاء ما رميت به من أحداث جسام، وما فقدت من أمجاد عظام.. فلا ينتهى هذا العصر حتى نكون قد غسلنا بلادنا من أدران الاحتلال الأجنبى الذى أخزانا فى ديننا ودنيانا..!! بيد أن هناك رجالا تأخرت بهم السن وذهبت عنهم سورة الشباب، وتكاثرت الصلات التى تربطهم بالدنيا، ومع ذلك فإن جذوة اليقين المتقد فى قلوبهم تمسك بالشباب المولى عن جلودهم وعظامهم، وتبقيه، بل تضاعفه، فى قلوب تنبض بالحق وتدفعه فى العروق مع الدم، فإذا أنت ترى منها بأس الحديد، وجرأة الأسود، وترى رجالا تستهويهم المغامرة، ويطيرون إلى التضحية فى سبيل الله أخف من الشباب الغض.. قد يقبل الشباب على المخاطرة وسبل البذل أمامه ميسرة، فهو إن سجن لم يجزع على أسرة يعولها! وإن قتل لم تبكه امرأة أيم! ولا ولد يتيم! وخفة حمله من هذه الناحية تجعله سريع الاستجابة لنداء الواجب، أو تزيح العوائق من أمامه إذا ثارت فى دمه نوازع النجدة.. أما البطولة الفارعة فهى أن يكون المرء رب أسرة كبيرة يضرب فى مناكب الأرض لرعايتها، ويسير(1/197)
فى الحياة وهو موقر بأثقالها. غير أنه - وهو الزوج المحب والأب الرحيم، ص _199
والراعى المسئول - مؤمن قبل ذلك كله بالله ورسوله، مخلص للدين الذى اعتنقه، مقدر للحقوق التى ارتبطت به. فإذا أحس للإسلام طلبا سارع إليه ولباه بروحه، وماله، ولم تشغله أعباء الحياة التى يكدح فيها عن مطالب المثل العالية التى آمن بها..! والإنسان عندما يقرأ استشهاد عبد الله بن حرام، يرى فى قصته جلالا تنحنى له الجباه، إعزازا للأبوة الرقيقة التى جادت بنفسها، واستودعت الله أسرة من غلام واحد وست بنات! روى أبو داود والنسائى عن جابر بن عبد الله قال: "خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المدينة إلى المشركين يقاتلهم، وقال لى أبى يا جابر عليك أن تكون فى نظارى أهل المدينة حتى تعلم إلام يصير أمرنا فإنى والله لولا أنى أترك بنات لى بعدى لأحببت أن تقتل بين يدي..!! قال: فبينا أنا فى الناظرين! جاءت عمتى بأبى وخالي، عادلتهما على ناضح! فدخلت بهما المدينة لتدفنهما فى مقابرنا، إذ لحق رجل ينادى ألا إن النبى - صلى الله عليه وسلم - يأمركم أن ترجعوا بالقتلى فتدفنوهم فى مصارعهم، فرجعنا بهما فدفناهما حيث قتلا..".. وروى البخارى عن جابر أيضا "لما حضر أحد - يعنى القتال عند الجبل وفوقه - دعانى أبى من الليل فقال لي: ما أرانى إلا مقتولا فى أول من يقتل من أصحاب النبى - صلى الله عليه وسلم - ، وإنى لا أترك بعدى أعز على منك غير نفس رسول الله وأن على دينا، فاقضه واستوصى بأخواتك خيرا، فأصبحنا.. وكان أول قتيل". هذا الصاحب الجليل خرج مع رسول الله ليصد هجوم المشركين على المدينة تاركا وراءه هذه الأسرة الكبيرة وقوامها كما رأيت بنات يحتجن إلى الكافل الحاني، ولم يكن أبوهن ذا بسطة فى المال ينفق منه عن سعة، ويترك لعقبه من بعده ما يغنى ويصون، بل كان الرجل مهموما بشئون الرزق، ينصب فيه ويستدين وغلام فرد إلى جوار ست بنات يكون غالبا قرة عين الوالد(1/198)
وموضع حبه العميق، لكن عبد الله يقسم أنه يود لو قدم ابنه ليستشهد فى سبيل الله وأنه إنما يعجل بنفسه حتى يبقى الابن للبنات يخدمهن، فإن ابنه لو قتل قبله، فلن تطول بالأب الحياة. إنه لابد مقتول فى أقرب معركة. إن أصحاب المبادئ سراع إلى تلبية مبادئهم! عندما يقرع باب الكريم ينهض ويقول: فقمت ولم أجثم مكانى ولم تقم مع النفس علات البخيل الفواضح ص _200
وعندما يطلب الشجاع إلى ساحة الوغى يذهل عن الحياة وأواصره بها، وينطلق وهو يقول: (وعجلت إليك رب لترضى) !! وقد خرج أبو جابر إلى أحد ليلقى مصيره مع أبر شهداء الإسلام. وروى الشيخان عن جابر قال: أصيب أبى يوم أحد فجعلت أكشف عن وجهه وأبكي!! وجعلوا ينهونني، والنبى - صلى الله عليه وسلم – لا ينهاني، وجعلت فاطمة بنت عمرو - رضى الله عنها - تبكيه!! فقال - صلى الله عليه وسلم - : تبكينه أو لا تبكينه، مازالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفعتموه! وروى الترمذى عن جابر قال: لقينى رسول الله مرة وأنامهتم، فقال: مالى أراك منكسرا؟ فقلت: استشهد أبى يوم أحد. وترك عيالا ودينا، فقال: ألا أبشرك بما لقى الله به أباك؟ قلت بلي! قال: ما كلم الله أحد قط إلا من وراء حجاب، وإنه أحيا أباك فكلمه كفاحا، فقال: يا عبدي، تمن على أعطك! قال: يارب تحيينى فأقتل ثانية! فقال سبحانه وتعالى : إنه قد سبق منى أنهم لا يرجعون: فنزلت: (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا). والمرء يحار، أيعجب من كرامة الشهيد على الله؟ أم حلاوة الفناء فى الله التى ذاقها أولئك الشهداء؟ إن أبا جابر لم يستشعر وحشة لفراق أولاده، ولم تستشرف نفسه للاطمئنان على فلذات كبده، بل تطلع للعودة إلى الدنيا كيما يذهل مرة أخرى عن أحب شيء فيها، ويتمشى بخطى ثابتة إلى ساحة القتال!! ولقد كفل الله أولاد الشهيد، وقضى عنه دينه فى حديث يطول. ولندع حديث الصدر الأول، ونستأنف حديث الأشياخ المجاهدين فى عصرنا هذا، إننا واجدون رجالا من(1/199)
طراز رائع، صنعهم الإسلام القوى فأحكم صناعتهم، وقذف بهم على جند الباطل فجددوا سير السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار. من أولئك النفر الغر: عمر المختار. البطل الذى بلغ التسعين من عمره وهو يجوب الصحراء مطاردا "الطليان" الذين أغاروا على طرابلس، وعملوا على تنصيرها بالحديد والنار، وفيه يقول "شوقي": ص _201
بطل البداوة لم يكن يغزو على (تنك) ولم يك يركب الأجواء لكن أخو خيل حمى صهواتها وأدار من أعرافها الهيجاء وقد وقع الشيخ المهيب فى أسر الأعداء، فألفوا محكمة قضت بقتله شنقا!! والمستعمرون قوم لا ينتظر منهم شرف المعاملة لامع صديق ولا مع خصم، وقد ندد شوقى بهذا الحكم الشائن فقال: خفيت على القاضى وفات نصيبها من رفق جند قادة نبلاء تسعون لو ركبت مناكب شاهق لترجلت هضباته إعياء ويقول: شيخ تمالك سنه، لم ينفجر كالطفل من خوف العقاب بكاء الأسد تزأر فى الحديد ولن ترى فى السجن ضرغاما بكى استخذاء ثم يخاطب الشعب طالبا منه تجنيد الشباب وإعفاء الشيوخ فيقول: فإح شيوخك من تكاليف الوغى واحمل على شبانك الأعباء على أن منطق اليقين لا يكترث بفوارق السن، فإن العقيدة المتفجرة فى القلوب الكبيرة ترد الكهول الوانين فتيانا نشيطين، أما إذا تخلخل الإيمان فإن الشاب الجلد يمسى حلس منفعة تافهة مهينة!! والدعوات العظيمة لا تضار بشيء مثل ما تضار بهذا الصنف من المتلونين المتطلعين، الصنف الذى يحاذر أن يمسه سوء، ويسارع إلى إحراز الغنائم، ويشارك بجسمه أصحاب الرسالات، أما قلبه فهو بعيد بعيد. الصنف الذى صور القرآن موقفه النابى المريب فى هذه الآيات. (وإن منكم لمن ليبطئن فإن أصابتكم مصيبة قال قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدا * ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن كأن لم تكن بينكم وبينه مودة يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما ) والمرء لا يصلح أن يكون رجل دعوة وصاحب رسالة إذا بنى حياته فى حساب الأرباح والخسائر على هذا(1/200)
النحو المنكر. ص _202
ربما كان الرجل خالى البال لا يتبع أهلا ولا مالا، فهو يهز كتفيه لما تفد به الليالى من أحداث، أفإذا بلى بأثقال الفضائل ألقى بها فى عرض الطريق وأضحى لا يهدأ أو لا يهيج إلا لمنافعه الخاصة؟ كذلك فعل المنافقون قديما! فعندما ندبوا للجهاد قعدوا واعتذروا ( سيقول لك المخلفون من الأعراب شغلتنا أموالنا وأهلونا فاستغفر لنا يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم قل فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضرا أو أراد بكم نفعا بل كان الله بما تعملون خبيرا * بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا.. ). إنهم توهموا الخروج مغامرة مخوفة العاقبة، أو مقامرة بعيدة الربح فنكصوا وأفئدتهم صفر من معانى اليقين والتضحية التى تجعل الشهيد يقبل على الموت، ويود لو يرد إلى الحياة ليموت مرة أخري. ولو كان الخروج لنفع يسير لكان لهم مع القافلة سواد كثيف..! ( سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتبعكم يريدون أن يبدلوا كلام الله قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل ). وقد حذر الله المؤمنين أن تسيطر على أفكارهم هذه المآرب، أو تتدخل فى نياتهم هذه المنافع. ( يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون). فلتكن لنا من حياة المجاهدين عظة ومن مماتهم عبرة، ومن مسلكهم مع أهليهم وأموالهم أسوة حسنة. قال الإمام أبو منصور عبد الملك الثعالبى فى كتابه فقه اللغة: مادام الحمل فى رحم أمه فهو جنين. فإذا ولد فهو وليد. ومادام لم يستتم سبعة فهو صديغ. لأنه لا يشتد صدغه إلى تمام السبعة مادام يرضع فهو رضاع. ص _203(1/201)
ثم إذا قطع عنه اللبن فهو فطيم. ثم إذا دب ونما فهو دارج. فإذا بلغ طوله خمسة أشبار فهو خماسي. فإذا سقطت رواضعه فهو مثغور. فإذا كان يجاوز العشر السنين أو جاوزها فهو مترعرع وناشئ. فإذا كاد يبلغ الحلم أو بلغه فهو يافع أو مرافق فإذا احتلم واجتمعت قوته فهو حزور. واسمه فى جميع هذه الأحوال التى ذكرناها غلام فإذا صار ذا فتاء فهو فتى وشارخ. فإذا اجتمعت لحيته وبلغ غاية شبابه فهو مجتمع ثم مادام بين الثلاثين والأربعين فهو شاب. ثم هو كهل إلى أن يستوفى الستين. أما المرأة فهى طفلة مادامت صغيرة. ثم وليدة إذا تحركت. ثم كاعب إذا كعب ثديها. ثم ناهد إذا زاد. ثم معصر إذا أدركت. ثم عانس إذا ارتفعت عن حد الإعصار. ثم خود إذا توسطت الشباب. ثم نصف إذا كانت بين الشباب والتعجيز. ثم شهلة كهلة إذا وجدت مس الكبر وفيها بقية وجلد. ثم شهيرة إذا عجزت وفيها تماسك. ثم حيزبون إذا صارت عالية السن ناقصة القوة ص _204(1/202)
لا علاقة بين العلم والإلحاد فى أرجاء الأمة الإسلامية ناس أشباه متعلمين يعلنون إلحادهم دون حياء، ويزعمون أنهم ثوار على الرجعية، عشاق للمعرفة، ضائقون بالأفكار القديمة، معتنقون للأفكار الحديثة!! وكثيرا ما لقيت فى طريقى صورا من هؤلاء الناس، فأتغرس فى مسالكهم، وأتأمل فى أقوالهم وأحوالهم، ثم أذكر كلمة العقاد رحمه الله: هناك مقلدون فى كراهية التقليد!! إن هذا النفر المعوج من الشباب ضحل الثقافة، قصير الباع فى ميادين العلم، ولكنه يريد الظهور فى ثياب العلماء فيثرثر بكلمات ضخمة يحسبها تنظمه فى سلكهم وهيهات!! إنهم لم يكفروا بعد دراسات عميقة فى علوم الكون والحياة، فإن أنصبتهم من هذه العلوم فوق الصفر بقليل، ولكنهم كفروا لعلل نفسية أو اجتماعية أو اقتصادية نمت فى نفوسهم وأصابتهم بهذا الدوار أو هذا السعار فقالوا ما قالوا دون وعى حق..! أما حديث العلم وتقدمه، والكون وكشوفه، فهو تعلة خادعة ينكره العلم والعلماء.. وأول ما نلحظه على أولئك الناس نقلهم لكلمات أوحت بها بيئات أخري، وترديدها فى بلادنا دون أى حساب لاختلاف الزمان والمكان والباعث والنتيجة.!! لقد كان الفيلسوف الألمانى "نتشه" ملحدا، وكان كفره بالله شديدا. ومما يؤثر عنه قوله فى الهجوم على الدين "عندما نستمع فى صباح الأحد إلى دقات الأجراس القديمة نتساءل: أهذا ممكن؟ إن هذا كله من أجل يهودى صلب منذ ألفى عام كان يقول أنه ابن الله!! وهو زعم يفتقر إلى برهان.. لا جدال أن العقيدة المسيحية - هكذا يقول "نتشه" - هى بالنسبة إلى عصرنا أثر قديم نابع من الماضى السحيق، وربما كان إيماننا بها فى الوقت الذى نحرص فيه على الإتيان ببراهين دقيقة لكل رأى نعتنقه، شيئا غير مفهوم فلنتصور إلها أنجب أطفالا من زوجة فانية، وخطايا ترجع إلى الله ثم يحاسب هو نفسه عليها خوفا من عالم آخر يكون الموت هو المدخل إليه! لكم يبدو كل ذلك مخيفا، وكأنه شبح قد بعث من الماضى السحيق!(1/203)
أيصدق أحد أن شيئا من ذلك لا يزال يصدق؟؟؟ ص _205
وهذا الطراز من الإلحاد هو الذى يحمل جرثومته بعض الناس، يحسبون أنهم يفتنوننا به نحن المسلمين عن ديننا ويصرفوننا عن رسالتنا.. وهو طراز يختلط فيه التقليد الأعمى بالنقص المركب، أو حب الظهور بالحقد على المجتمع.. أما الزعم بأن العلم المادى ضد الدين، وأن بحوثه المؤكدة وكشوفه الرائعة تنتهى بإنكار الألوهية فهذا هو الكذب الصراخ..! بل إن أساطين العلم والفلسفة تشابهت مقالاتهم فى إثبات الوجود الأعلى، وتكاد فى وصفها لله تنتهى إلى ما انتهى إليه القرآن الكريم من توحيد وتمجيد.. نحن لا ننكر أن خصاما شديدا قد وقع بين العلم والدين فى أوروبا حيث كان القول بكروية الأرض كفرا، والقول بدورانها حول الشمس إلحادا !! ولا ريب أن تلك الجفوة المفتعلة بين حقيقة الدين وطبيعة العلم تركت آثارا سيئة هنا وهناك، بيد أن الاعتماد على هذا فى التجهم للإيمان الحق لا يسوغ، فإن تجريد الدين من الشوائب التى لحقت به، والتزام العلم للمنهج السوى فى البحث عن الحقيقة قد انتهى بصلح شريف يذكرنا بقوله جل شأنه ( سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد ). كانت المادية بدعة القرن الماضي، وكان الزعم السائد أنه لا وجود إلا للمادة وأن ما وراء المادة عدم محض، وأن المادة لا تفنى ولا تستحدث، وأن الدين بعد هذا كله أمسى لا مكان له.!! ثم مضت الحقائق العلمية تكشف عن وجهها فإذا مقررات الماضى تنسف من أصولها، يقول الدكتور أبو الوفا التفتازاني: كان العلم يتصور الأمور تصورا ماديا بحتا إلى أن جاء العالم الشهير "ألبرت أنشتين" فغير ببحوثه الطبيعية النظرة إلى المادة تغييرا حاسما، وقد صور الفيلسوف الإنكليزى "رسل" ذلك قائلا: درسنا العالم الطبيعى فوجدنا المادة عند العلم الحديث قد فقدت صلابتها وعنصريتها، إذ حللها العلماء إلى مجموعات ذرية كل مجموعة منها(1/204)
تنحل إلى ذرات، وكل ذرة تعود بدورها فتنحل إلى كهارب موجبة وأخرى سالبة، ثم مضى العلماء فى التحليل، فإذا هذه الكهارب نفسها تتحول إلى إشعاعات !! ص _206
وختم "رسل" كلامه بهذه العبارة "ليس فى علم الطبيعة ما يبرهن على أن الخصائص الذاتية للعالم الطبيعى تختلف عن خصائص العالم العقلي". ونحن نقول: انتساب ذلك الكون الضخم إلى أصول من الأشعة شيء مثير حقا!! ترى ما الذى كثف النور، وجمد حركته ووزعه على ألوف الأشكال التى نراها؟ إنك لن تعدم سفيها يقول لك: تم ذلك من تلقاء نفسه!! وهذا القائل مستعد أن يقول لك أيضا: إن الصحف فى عواصم العالم تصدر عن دورها مليئة بالأخبار والتعليقات والصور، متسقة الحروف والأرقام تلقائيا من غير ما إشراف ولا إعداد ولا تبويب ولا ترتيب!! لعمرى إن ذلك أدنى إلى التصور من خلق الموت والحياة فى هذا العالم الفخم الضخم تلقائيا كما يأفك الأفاكون!! لكن أى عاقل يحترم نفسه ويقدر علمه يأبى هذا المنزلق، يقول الدكتور التفتازاني: ولعل هذا ما جعل العلامة "أنشتين" يؤثر الإيمان بالله ويرفض الشبهات التى تختلق ضده، وقد دار حوار بينه وبين صحفى أمريكى يدعى "فيرك" فى هذا الموضوع قال فيه الرجل العالم بحسم: إننى لست ملحدا!! ولا أدري: هل يصح القول بأنى من أنصار وحدة الوجود؟ إن المسألة أوسع نطاقا من أن تحيط بها عقولنا المحدودة..!! وعاد الصحفى إلى سؤاله بطريقة أخرى - يريد بها هز الإيمان الذى لاذ به هذا العالم - فقال: إن الرجل الذى يكشف أن الزمان والمكان منحنيان، ويحبس الطاقة فى معادلة واحدة، جدير به ألا يهوله الوقوف فى وجه غير المحدود!! فيرد "أنشتين": اسمح لى أن أضرب لك مثلا، إن العقل البشرى مهما بلغ من عظم التدريب وسمو التفكير عاجز عن الإحاطة بالكون - فكيف بخالقه - نحن أشبه ما نكون بطفل دخل مكتبة كبيرة ارتفعت كتبها إلى السقف، فغطت جدرانها، ثم هى مؤلفة بشتى اللغات. إن هذا الطفل يعلم أن شخصا ما(1/205)
كتب هذه الكتب، ولكنه لا يعرف بالضبط من هو، ولا كيف كانت كتابته لها، ثم هو لا يفهم اللغات التى كتبت بها!! ص _207
وقد يلاحظ الطفل أن هناك طريقة معينة فى ترتيب الكتب، ونظاما غامضا يشمل صفوفها وأوضاعها، نظاما يحس أثره ولا يدرى كنهه. إن ذلك القصور هو موقف العقل الإنسانى مهما بلغ من العظمة والتثقيف!! وعاد الصحفى الأمريكى يسأل: أليس فى وسع أحد حتى أصحاب العقول العظيمة أن يحل هذا اللغز؟ فأجاب "أنشتين" مرة أخرى يعلل لماذا هو مؤمن، ولماذا يعجز عن معرفة كنه الله فقال: نرى كونا بديع الترتيب خاضعا لنواميس معينة، ونحن نفهم تلك النواميس فهما يشوبه الإبهام فنؤمن بالله، ولكن عقولنا المحدودة لا تدرك القوة الخفية التى تهيمن على مجاميع النجوم..". لو كانت المواد التى يتكون منها هذا العالم الضخم تتراكم بعضها فوق بعض دون تبصر أو حكمة لدلت كثرتها وحدها على غنى واسع وثراء عريض..!! فإن الأبعاد الآلية لهذا الكون مذهلة..!! لكن الأمر أبعد ما يكون عن الجزاف والفوضى. والبناء العقلى المتغلغل فى الكون من الذرة إلى المجرة يجعلنا نكون عن هذا العالم الدقيق صورة أخري. ولن نأتى بهذه الصورة من عند أنفسنا بل من أقوال الفلكى الإنجليزى سير جميس جنز" الذى ينطق بهذه العبارة المثيرة "لقد بدأ الكون يلوح أكثر شبها بفكر عظيم منه بآلة عظيمة..". إن الروعة لا تكمن فى ضخامة الآلة التى نراها بل فى الطريقة التى حبكت الموازنة والضبط والتقدير. ومن ثم يتجه الإعجاب إلى العقل الواضع للحاسب قبل أن يتجه إلى أثره المحدود. ولننظر إلى عقلنا الإنسانى بين ما ننظر إليه من صنوف المخلوقات، ماذا نري؟ إنه كائن ذكى قدير يبدو ويخفى فى أدمغة الألوف المؤلفة من سكان الأرض الأحياء والراحلين، الذين وجدوا والذين سيوجدون، من أين تولد هذا العقل؟ من الماء والطين كأعشاب الحدائق.. هذا فرض مضحك ولا ريب، أنه نفحة من الخالق الأعلى وحده. ص _208(1/206)
يقول " سير جميس جنز" : يجب أن ننكر المقدمات التى يفترضها بعض النقاد من غير علم، فالكون لا يبيح لنا أن نصوره تصويرا ماديا، وسبب ذلك فى رأيى أنه قد أصبح من المدركات الفكرية العميقة، إننا واجدون فى الكون دلائل على قوة مدبرة أو مسيطرة يوجد بينها وبين عقولنا الفردية شيء مشترك، ليس هو العاطفة أو الأخلاق، أو تقدير الجمال، ولكنه الرغبة فى التفكير بطريقة خير ما نصفها به أنها رياضية(!) لأننا لا نجد الآن أصلح من هذا التعبير". والعلامة الإنجليزى معذور فى وصف الإبداع الإلهى بهذا الأسلوب. لقد راعه وهو فلكى راسخ أن يجد فى نظام الشروق والغروب والدوران والانطلاق دقة تسجد علوم الرياضة فى محرابها، فقال: "إن التفكير المشرف عليها تفكير علمى رياضي!! بل إنه اعتبر العقل الإنسانى أثرا للعقل الكلى الذى توجد فيه على شكل فكر تلك الذرات التى نشأت منها عقولنا، ثم انتهى أخيرا إلى أن الآراء متفقة إلى حد كبير فى ميدان العلم الطبيعى إلى أن نهر المعرفة يتجه نحو حقيقة غير آلية" أى غير مادية، أى إلى الله الكبير المتعال، على هذا النحو يفكر علماء الكون الكبار، ويحكم أئمة العلم الحديث ورواده الأكابر ولذلك شعرت بسخرية أى سخرية عندما قرأت لصحافى كبير فى بلادنا هذه الكلمة الغبية السمجة. "إن التقدم العلمى يوشك أن يجعل أخطر الوثائق العقائدية نوعا من البرديات القديمة التى حال لونها، وبليت صفحاتها، وعدت عليها عوامل الزمن بالتعرية والتآكل، وأصبح من الضرورى للإبقاء على أثرها أن يخصص لها مكان فى متاحف التاريخ". قلت ما أوسع الفرق بين منطق العلماء ومنطق الجهلاء فى تناول القضايا وإرسال الأحكام. هل يمحى الإيمان كله بهذه السهولة؟ ولقد شعرت كذلك بسخرية أى سخرية عندما رأيت كتابا بعنوان "العالم ليس عقلا" ألفه شخص ولد فى نجد، وقضى أغلب عمره على قهوات القاهرة وبيروت، وتلقى أكثر علمه من الأوراق الشاحبة التى يسطرها بعض المعلولين(1/207)
والمعقدين! هذا المسخ الذى لم يعمل يوما فى مرصد ولا مختبر للكيمياء أو الفيزياء، ينكر الألوهية، ويسفه النتائج التى وصل إليها أمثال "أنشتين" من قادة المعارف الكونية، طبعا لأنهم رجعيون وهو تقدمي، ولأنهم قاصرون وهو نابغة..!! ص _209
ولست أتهم كل ملحد بأنه صورة للملحدين الصغار، فإن هناك بعض العلماء والفلاسفة - وإن كانوا قلة - تنكروا للإيمان وقواعده وغايته، بيد أن المتتبع لأقوال هؤلاء يجزم بأن انتسابها إلى العلم تزوير جريء فهم يخمنون ويفترضون ثم يبنون قصورا على رمال.! وقد قرأت لبعضهم كلاما عن بداية الخليقة يثير الضحك، فهم يزعمون أن العناصر فى الأزل السحيق تفاعلت اعتباطا، وسنحت فرصة لن تتكرر بعد أبدا(!) فتكونت جرثومة الحياة! ثم أخذت تنمو وتتنوع على النحو الذى نرى.. وهذا كلام لا يصدر عن عقل محترم ولا يصفه بأنه علم إلا مخبول!! وصدق الله العظيم ( ما أشهدتهم خلق السموات والأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضدا ). أذكر أنى - وأنا أناقش بعض الأدلة - سألت نفسى هذا السؤال: هل أنا كائن قديم أم مخلوق جديد؟ فكان الجواب القاطع: لقد ولدت سنة كذا، فأنا حادث بلا ريب.!! ولكن شبهة ثارت تقول: إنك تخلفت من مادة الذين هلكوا قبلك، وعندما تموت فستكون أجساد أخرى منك ومن غيرك.! فقلت إذا أسلمت بهذا فى الأجساد فلن أسلم به فى روحى أنا.. إن هذه "الأنا" المعنوية هى حقيقتى الكبرى، وأنا مستيقن بأنى كائن جديد مستقل وجدت بعد عدم محض، فمن أبرزنى من لاشيء.؟ إننى لست معتوها حتى أشك في بداية وجودى وشعورى فمن رب هذه المنحة الخطيرة؟ فتلوت قوله تعالى ( هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا * إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا ). ص _210(1/208)
وعدت إلى قصة الجسد الذى أحمله فى حياتى وأنضوه بعد مماتى هل هو قديم المادة حقا؟ فسألت العلم: كيف يوجد؟ وهل يمكن أن يتمثل بشرا سويا هكذا عشواء فقال العلم. إن الوليد يتخلق أول أمره من التقاء الحيوان المنوى بالبويضة! فما الحيوان المنوي؟ كائن دقيق توجد الدفقة الواحدة منه قرابة مائة مليون حيوان، كل واحد من هذه الألوف المؤلفة يمثل الخصائص المعنوية والمادية للإنسان من الطول أو القصر والسواد أو البياض والذكاء أو الغباء والحدة أو الهدوء.. الخ ويبدأ التكون الإنسانى بوصول واحد - لا غير - من هذه الألوف الكثيفة إلى البويضة وتفنى البقية. قلت: فلأقف عند نقطة الابتداء هذه لأسأل: من الذى صنع هذه الحيوانات السابحة فى سائلها، الحاملة لخصائص السلالة الآدمية من أجيال خلت..؟ قالوا غدة في الجسم!! قلت: غدة أوتيت الذكاء والوعى والاقتدار على خلق مائة مليون كائن من طراز واحد!! مجموعة دراهم من اللحم تنصرف من تلقاء نفسها في صنع الذكاء أو الغباء، والحلم أو الغضب؟ ما يصدق ذلك إلا مغيب العقل وتلوت قوله تعالى : ( أفرأيتم ما تمنون * أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون )؟ إننا أمام أدوات القدرة العليا، وهى تبرز مشيئة الخالق الجليل، وكأنها تقول لنا: إن الله هو الخالق للعالم ليس فيه شائبة غرابة! أليس يخلق فى كل لحظة تمر ألوفا من الناس، وألوفا من الدواب، وصنوفا من النبات؟؟ إن إبداع الخليقة ليس فلتة وقعت وانتهت، وأمست فى ذمة التاريخ بحيث يستطيع المكابرون أن يجادلوا فيها.. لا.. إن الإيجاد من الصفر يقع أمام أعيننا كل يوم فى عالم الأحياء فلم هذا المراء؟ إن بديع السموات والأرض لايزال يخلق في كل وقت وفى كل شبر صنوفا من الأحياء الدقيقة والجليلة لا حصر لها فكيف ينكر ما كان من خلق أول أو ما سوف يكون من بعث وجزاء؟ ( أو لم يروا كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده إن ذلك على الله يسير * قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله(1/209)
ينشئ النشأة الآخرة إن الله على كل شيء قدير ). ص _211
ولنفرض جدلا أن بعض الناس يرى أن الفلك الدوار يجرى فى الفضاء، دون ضابط ولا رابط، وأن الوليد الخارج من ظلمات الرحم لامع العين، مورد الخد، مفتر الثغر، قد صنعه على هذا التقويم الحسن شيء مافى بطن الأم !! لنفرض أن بعض الناس ركب رأسه وقال هذا الكلام. فما الذى يجعل هذا الزعم السخيف يوصف بأنه علم وتقدمية على حين يوصف منطق الإيمان بأنه جمود ورجعية؟ سبحانك هذا بهتان عظيم! لقد آن الأوان لتهتك الأستار عن أدعياء التقدم الذين يمثلون فى الواقع ارتكاسا إنسانيا إلى جاهلية عديمة الشرف والخير مبتوتة الصلة بالعقل وذكائه والعلم وكشوفه.. ص _212(1/210)
دين زاحف مهما كانت العوائق * أحاديث الفتن لا تغرى باليأس والقعود عن الجهاد. * غربة الإسلام ليست موقفا سلبيا، إنها جهاد قائم دائم. * سيبلغ الإسلام مواقع النور والظل فى أرض الله . كلما قرأت أبواب الفتن فى كتب السنة شعرت بانزعاج وتشاؤم، وأحسست أن الذين أشرفوا على جمع هذه الأحاديث قد أساءوا - من حيث لا يدرون ومن حيث لا يقصدون - إلى حاضر الإسلام ومستقبله! لقد صوروا الدين وكأنه يقاتل فى معركة انسحاب، يخسر فيها على امتداد الزمن أكثر مما يربح! ودونوا الأحاديث مقطوعة عن ملابساتها القريبة فظهرت وكأنها تغرى المسلمين بالاستسلام للشر، والقعود عن الجهاد، واليأس من ترجيح كفة الخير لأن الظلام المقبول قدر لا مهرب منه.. وماذا يفعل المسلم المسكين وهو يقرأ حديث أنس بن مالك الذى رواه البخارى عن الزبير بن عدى قال: شكونا إلى أنس بن مالك ما نلقى من الحجاج، فقال: " اصبروا، فإنه لا يأتى عليكم زمان إلا الذى بعده شر منه حتى تلقوا ربكم، سمعته من نبيكم - صلى الله عليه وسلم - "!! وظاهر الحديث "أن أمر المسلمين فى إدبار، وأن بناء الأمة كلها إلى انهيار على اختلاف الليل والنهار"!! وهذا الظاهر باطل لا يقبل، وهو يخالف نصوصا أخرى ثابتة سوف نذكرها، كما يخالف الأحداث التى وقعت فى العصر الأموى نفسه..! فقد جاء الوليد بن عبد الملك فمد رقعة الإسلام شرقا حتى احتوت أقطارا من الصين، وامتدت رقعة الإسلام غربا حتى شملت أسبانيا والبرتغال وجنوب فرنسا.. ثم تولى الخلافة عمر بن عبد العزيز فنسخ المظالم السابقة، وأشاع الرخاء حتى عز على الأغنياء أن يجدوا الفقراء الذين يأخذون صدقاتهم..!! ص _213(1/211)
ولقد أتى بعد أنس بن مالك عصر الفقهاء والمحدثين الذين أحيوا الثقافة الإسلامية وخدموا الإسلام أروع وأجل خدمة، فكيف يقال أن الرسالة الإسلامية الخاتمة كانت تنحدر من سيئ إلى أسوأ ؟؟ هذا هراء!! الواقع أن أنس رضى الله عنه كان يقصد بحديثه منع الخروج المسلح على الدولة بالطريقة التى شاعت فى عهده ومن بعده، فمزقت شمل الأمة، وألحقت بأهل الحق خسائر جسيمة، ولم تنل المبطلين بأذى يذكر!! وأنس بن مالك أشرف دينا من أن يمالئ الحجاج أو يقبل مظالمه، ولكنه أرحم بالأمة من أن يزج بأتقيائها وشجعانها فى مغامرات فردية تأتى عليهم، ويبقى الحجاج بعدها راسخا مكينا..!! وتصبيره للناس حتى يلقوا ربهم، أى حتى ينتهوا هم، لا أن الظلم سوف يبقى إلى قيام الساعة، وأن الاستكانة للظلمة سنة ماضية إلى الأبد..!! إن هذا الظاهر باطل يقينا، والقضية المحدودة التى أفتى فيها أنس لا يجوز أن تتحول إلى مبدأ قانونى يحكم الأجيال كلها.. لقد سلخ الإسلام من تاريخه المديد أربعة عشر قرنا، وسيبقى الإسلام على ظهر الأرض ما صلحت هذه الأرض للحياة والبقاء، وما قضت حكمة الله أن يختبر سكانها بالخير والشر.. ويوم ينتهى الإسلام من هذه الدنيا، فلن تكون هناك دنيا، لأن الشمس ستنطفئ، والنجوم ستنكدر، والحصاد الأخير سيطوى العالم أجمع..!!. فليخسأ الجبناء دعاة الهزيمة وليعلموا أن الله أبر بدينه وعباده مما يظنون. لقد ذكر لى بعضهم حديث "بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء" وكأنه يفهم منه أن الإسلام سينكمش ويضعف، وأن على من يسمع هذا الحديث أن يهادن الإثم، ويداهن الجائرين، ويستكين للأفول الذى لا محيص عنه! وإيراد الحديث وفهمه على هذا النحو مرض شائع قديم.. ولو سرت جرثومة هذا المرض إلى صلاح الدين الأيوبى ما فكر فى استنقاذ بيت المقدس من الصليبيين القدامى!! ص _214(1/212)
ولو سرت جرثومة هذا المرض إلى سيف الدين قطز ما نهض إلى دحر التتار فى "عين جالوت" ولو سرت جرثومة هذا المرض إلى زعماء الفكر الإسلامى فى عصرنا الحاضر ابتداء من جمال الدين الأفغانى إلى الشهداء والأحياء من حملة اللواء السامق، ما فكروا أن يخطوا حرفا أو يكتبوا سطرا..! وقلت فى نفسي: أيكون الإسلام غريبا وأتباعه الذين ينتسبون إليه يبلغون وفق الإحصاءات الأخيرة ثمانمائة مليون نفس؟ ياللخذلان والعار!! الواقع أن هذا الحديث وأشباهه يشير إلى الأزمات التى سوف يواجهها الحق فى مسيرته الطويلة، فإن الباطل لن تلين بسهولة قناته، بل ربما وصل فى جرأته على الإيمان أن يقتحم حدوده، ويهدد حقيقته، ويحاول الإجهاز عليه..! وعندئذ تنجلى الظلماء عن رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، يقاومون الضلال بجلد، ولا يستوحشون من جو الفتنة الذى يعيشون فيه، ولا يتخاذلون للغربة الروحية، والفكرية التى يعانونها، ولا يزالون يؤدون ما عليهم لله حتى تنقشع الغمة، ويخرج الإسلام من محنته مكتمل الصفحة، بل لعله يستأنف زحفه الطهور، فيضم إلى أرضه أرضا وإلى رجاله رجالا.. وذلك ما وقع خلال أعصار مضت، وذلك ما سيقع خلال أعصار تجيء، وهذا ما ينطق به حديث الغربة الآنف، فقد جاء فى بعض رواياته (طوبى للغرباء الذين يصلحون ما أفسد الناس من بعدى من سنتي)، فليست الغربة موقفا سلبيا عاجزا، إنها جهاد قائم دائم حتى تتغير الظروف الرديئة ويلقى الدين حظوظا أفضل.. وليس الغرباء هم التافهون من مسلمى زماننا، بل هم الرجال الذين رفضوا الهزائم النازلة وتوكلوا على الله فى مدافعتها حتى تلاشت..!! والفتن التى لاشك فى وقوعها، والتى طال تحذير الإسلام منها، فتنة التهارش على الحكم والتقاتل على الإمارة، ومحاولة الاستيلاء على السلطة بأى ثمن، وما استتبعه ذلك من إهدار للحقوق والحدود، وعدوان على الأموال والأعراض.. وهذا المرض كان من لوازم الطبيعة الجاهلية التى عاشت على العصبية(1/213)
العمياء.. والعرب فى جاهليتهم ألفوا هذا الخصام والتعادي، فهم كما قال دريد بن الصمة: يغار علينا واترين فيشتفى بنا إن أصبنا أو نغير على وتر قسمنا بذاك الدهر شطرين بيننا فما ينقضى إلا ونحن على شطر ص _215
وقد غلبت طبيعة الإسلام فى العصر الأول طبيعة العرب، واستفاضت نصائح النبي - صلى الله عليه وسلم - لقمع هذه الغرائز الشرسة.. وتدبر قوله للأنصار: "إنكم ستجدون أثرة بعدي" قالوا: فما تأمرنا؟ قال: "أدوا الذى عليكم وسلوا الله الذى لكم" وهذا القول أحكم و أشرف ما يعالج به نبى أدواء قوم.. ماذا يصنع الرجل الكفء إذا جحدت كفايته، وتقدم غيره بوسائل مفتعلة؟ أيقاتل وليكن ما يكون؟ لا، ليؤد واجبه الذى عليه، وليسأل الله - لا الناس - الحق الذى له، وليرض بما يقسمه الله له فى الدنيا ويدخره له فى الأخرى..!! فإذا شاعت بين الناس تلك الخيانات فليحرص المؤمن على الترفع والتنزه، وليرفض المشاركة فى معارك المال والجاه والمطامع والوجاهات، وليستمسك بعروة الإيمان متجاوزا تلك الصغائر التى يهلك فيها أصحابها، وذاك معنى قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ستكون فتن، القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشى فيها خير من الساعي، من تشرف لها تستشرفه، فمن وجد فيها ملجأ أو معاذا فليعذ به" والحديث يوصى بنفض اليد من هذه الفتن، ويذكر أن صاحب الجهد القليل فيها خير من الناشط المتحمس، ثم ينصح المؤمن أن يبحث عن حصن يعوذ به من شرورها!! هل يعنى ذلك العزلة وترك الأمة دون ناصح أمين، ورائد مخلص؟ كلا.. إن العزلة قد تصلح للبعض، وقتا ما، ولكنها لا تصلح للأمة كلها بداهة وإلا كان ذلك حكما عليها بالفناء!! غير أن بعض العلماء للأسف تأول هذه الأحاديث ونظائرها مما ورد فى أبواب الفتن على أنها دعوة للانسحاب من المجتمع وترك بناء الإسلام ينهار على أساس أن الدنيا إلى شر، وأن الدين إلى غربة وأن المؤمنين إلى استضعاف.. وأن(1/214)
النجاة أولي!! وذلك كله إفك، فإن الإسلام لما يكتمل بعد كيانه السياسي، ولما يبلغ سيله - بعد - مداه الطبيعي، وقافلة الإسلام التى تحركت من أربعة عشر قرنا، وتعثرت حينا وهرولت حينا آخر، لاتزال على الدرب العتيد ماضية إلى وجهتها المكتوبة لها من الأزل، تلك الوجهة التى قال القرآن فى تحديدها: (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون) والتى ذكرها النبى - صلى الله عليه وسلم - ص _216(1/215)
فى أحاديث صحيحة أولى بالنشر والترويج من أحاديث الفتن التى أولع الضعفاء بروايتها وسوء شرحها.. ثبت فى الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن الله زوى لى الأرض مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتى ما زوى لى منها".. وروى الإمام أحمد فى مسنده عن تميم الدارى قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار!! ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله هذا الدين، يعز عزيزا ويذل ذليلا، عزا يعز الله به الإسلام وذلا يذل الله به الكفر.." وكلمة ما بلغ الليل والنهار فى هذا الحديث الرائع كلمة جامعة من خصائص البلاغة المحمدية، ولا أرى نظيرا لها فى الدلالة على السعة والانتشار!! وما رواه أحمد عن تميم الدارى يؤيده ما رواه عن المقداد بن الأسود قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا يبقى على وجه الأرض بيت مدر ولا وبر إلا دخلته كلمة الإسلام يعز عزيزا ويذل ذليلا، أما الذين يعزهم الله فيجعلهم من أهلها، وأما الذين يذلهم الله فيدينون لها". وكذلك ما رواه عن قبيصة بن مسعود: صلى هذا الحى من محارب - اسم قبيلة - الصبح، فلما صلوا قال: شاب منهم: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إنه ستفتح لكم مشارق الأرض ومغاربها، وإن عمالها - أمراءها - فى النار إلا من اتقى وأدى الأمانة". ويقول صاحب المنار فى نهاية تفسيره لقوله تعالى : ( قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم..) "اعلم أن الاستدلال بما ورد من الأخبار والآثار فى تفسير هذه الآية لا يدل هو ولا غيره من أحاديث الفتن على أن الأمة الإسلامية قد قضى عليها بدوام ماهى عليه الآن من الضعف والجهل كما يزعم الجاهلون بسنن الله، اليائسون من روح الله، بل توجد نصوص أخرى تدل على أن لجوادها نهضة من هذه الكبوة، وأن لسهمها قرطة بعد هذه النبوة كالآية الناطقة باستخلافهم فى الأرض - سورة(1/216)
النور - فإن عمومها لم يتم بعد وكحديث "لا تقوم الساعة حتى تعود أرض العرب مروجا وأنهارا، وحتى يسير الراكب بين العراق ومكة لا يخاف إلا ضلال الطريق" رواه أحمد، والشطر الأول منه لم يتحقق بعد، ويؤيده ويوضح معناه ما صح عند ص _217
مسلم من أن مساحة المدينة المنورة سوف تبلغ الموضع الذى يقال له أهاب، أى أن مساحتها ستكون عدة أميال. فكونوا يا قوم من المبشرين لا من المنفرين. (ولتعلمن نبأه بعد حين ). وخطأ كثير من الشراح جاء من فهمهم أن ترك الشر هو غاية التدين، وأن اعتزال الفتن هو آية الإيمان. وهذا عجز سببه ضعف الهمة وسقوط الإرادة، وإنى لأذكر فيه قول المتنبي: إنا لفى زمن ترك القبيح به من أكثر الناس إحسان وإجمال أجل، فإن ترك الصغائر غير بلوغ الأمجاد، وتجنب التوافه والرذائل غير إدراك العظائم وتسنم القمم، التلميذ الذى لا يسقط شيء، والذى يحرز الجوائز شيء آخر..! والرسول الكريم عندما يأمرنا باعتزال الفتن لاينهى واجبنا عند ذلك الحد.. سوف يبقى بعد ذلك الاعتزال الواجد، بناء الأمة على الحق، ومد شعاعاته طولا وعرضا حتى تنسخ كل ظلمة.. ولا نمارى فى أن تصدعات خطيرة أصابت الكيان الإسلامى قديما وحديثا.. بيد أن الضعاف وحدهم هم الذين انزووا بعيدا يبكون، ويتشاءمون، وينتظرون قيام الساعة!! أما الراسخون فى العلم فقد أقبلوا على رتق الفتوق، وجمع الشتات، وإعادة البناء الشامخ، حتى يدركهم الموت أو القتل وهم مشتغلون بمرضاة الله، حتى يبلغ الإسلام مواقع النور والظل من أرض الله، أو كما قال الرسول العظيم: ( ما بلغ الليل والنهار).. ص _218(1/217)
الوسطية فى معاملة الإسلام للمرأة الحضارة الغربية التى تهيمن على العالم جعلت من أزياء النساء معارض فتنة ومصايد إغواء! ولست ممن يكرهون تجمل المرأة، أو رغبتها الطبيعية فى أن يكون لباسها حسنا، ولكنى نبهت مرارا إلى فروق شتى بين التجمل والتبرج، والاحتشام والإثارة، واستبقاء مظاهر الأنوثة وإطلاق العنان لها كى تهيج وتردي!! إن هناك ملابس لليل وأخرى للنهار، وملابس للصباح وأخرى للأصيل، وزخرفا خاصا بالربيع وآخر للخريف، وملابس الشتاء غير ملابس الصيف، لا فى التغطية بل فى التحلية والتجلية!! لم هذا كله؟ إن الحضارة المنتصرة ترفض أن يحكم الإيمان ا لشارع العام!! وحجتها أن هناك متدينين يقولون: لا تخرج المرأة إلى الشارع أبدا، وإذا أذن لها بالذهاب إلى المسجد، فليكن السماح لها بذلك فى نطاق ملابس المطبخ الحاملة لروائح البصل والتوابل!! ونحن نأبى أن تتحول الإباحة إلى فوضي، كما نأبى أن يتحول البيت إلى سجن، وللوسطية الإسلامية منهج آخر بعيد عن الإفراط والتفريط بعيد عن التعنت والتبذل!! وتقاليد الحضارة المنتصرة التى غلبت العالم - واستغلت غباء بعض المتدينين فى انتزاع الزمام منهم، وفرض نفسها عليهم - هذه الحضارة لا تأبه للحلال والحرام، وتصارح بأنها ترفض الكبت الموقوت والدائم، ومن هنا يسرت للغرائز التنفس بكل وسيلة متاحة! وليس يفرق بين الإنسان والحيوان إلا أن الحيوان لا يدرى ما يساق إليه، أما الإنسان فهو يفعل ما يفعل عامدا قاصدا..!! ولقد سوت الشيوعية بين الرجل والمرأة فى مباشرة كل عمل قاس أو سهل، ونساء موسكو غالبا هن المشرفات على تنظيف الميادين والدواوين، والفرق بينهن وبين النسوة الغربيات أنهن أقل زينة وأخف تبرجا، وذلك فى الغالب للفقر الشيوعى السائد..!! ص _219(1/218)
وقد رأينا صورا لفرق المجندات فى الجيش الأمريكي! لقد بلغن ألوفا وألوفا، ورأيت صورة إحداهن وهى تودع طفلها منطلقة إلى الميدان، وكانت دامعة العين! قلت لنفسي: ألم يكن فى جماهير الشباب العاطل مايغنى عن خروج النساء للحرب؟ إن أعداد الرجال تكفى فى هذا الشأن لكن الفلسفة التى تسود العالم هى التسوية التامة بين الجنسين فى مباشرة كل شيء! لعلها رد فعل لسلوك متدينين كثير، يرون أن المرأة تحجب عن كل شيء، وأنها لا تصلح لشيء..!! والوسطية الإسلامية لها منطق آخر، ومسلك أجدى وأرشد! لا بأس أن تقاتل المرأة مدافعة عن بيتها ودينها وشرفها. إذا اضطرت لذلك فى حالة الدفاع ولا معنى لتجنيدها فى حرب هجومية. لا بأس أن تعمل المرأة فى أى حرفة أو مهنة بعد توفير الضمانات الشرعية التى تصون عرضها من الهمس القريب أو البعيد، لكن هناك قبل هذا كله أو بعد هذا كله أن البيوت الخالية من رباتها تنشئ أسرا على الورق، وتعرض مستقبل الأطفال لضياع مؤكد.. هناك عمل لا تحسنه إلا النساء، هو تبعل الرجل وحضانة الولد، وكل ما يصرف عن ذلك يهدد الحياة البشرية فى الصميم. والعوج الذى يلاحظ فى السلوك العام، منشؤه الأول فراغ البيوت من المرأة المسؤولة عن بيتها.. الحانية على أولادها، وقد أحس نفر من المصلحين خطورة هذا الوضع، وشرعوا ينبهون إلى آثاره السيئة، بيد أنى لم أجد اعترافا أصرح ولا أخلص من كلام الزعيم الروسى "جورباتشوف" وهو يحاول إعادة البناء فى روسيا الشيوعية، وبعد أن ننقل كلامه كله نسجل تعليقنا عليه: قال: " غالبا ما ينظر إلى درجة تحرير المرأة كمقياس للحكم على المستوى الاجتماعى والسياسى للأمة. ولقد وضعت الدولة السوفيتية حدا للتمييز ضد المرأة كان سائدا فى روسيا القيصرية بتصميم ودون مساومة، وكسبت المرأة مكانة اجتماعية يضمنها القانون، ص _220(1/219)
وتتساوى مع مكانة الرجال، ونحن نفخر بما قدمته الحكومة السوفيتية للمرأة: نفس الحق فى العمل كالرجل، والأجر المتساوى للعمل المتساوي، والضمان الاجتماعي، كما أتيحت للمرأة فرصة للحصول على التعليم، ولبناء مستقبلها، وللمشاركة فى النشاط الاجتماعى والسياسي. ولكن طوال سنوات تاريخنا البطولى الشاق، عجزنا أن نولى اهتماما لحقوق المرأة الخاصة، واحتياجاتها الناشئة عن دورها كأم وربة منزل، ووظيفتها التعليمية التى لاغنى عنها بالنسبة للأطفال. إن المرأة إذ تعمل فى مجال البحث العلمي، وفى مواقع البناء والإنتاج والخدمات، وتشارك فى النشاط الإبداعي، لم يعد لديها وقت للقيام بواجباتها اليومية - العمل المنزلي، وتربية الأطفال وإقامة جو أسرى طيب - لقد اكتشفنا أن كثيرا من مشاكلنا فى سلوك الأطفال والشباب، وفى معنوياتنا وثقافتنا، وفى الإنتاج - تعود جزئيا إلى تدهور العلاقات الأسرية، أو الموقف المتراخى من المسئولية الأسرية، وهذه نتيجة مناقضة لرغبتنا المخلصة والمعلنة سياسيا فى مساواة المرأة بالرجل فى كل شيء والآن فى مجرى "البروسترويكا" بدأنا نتغلب على هذا الوضع، ولهذا السبب فإننا نجرى الآن مناقشات حادة فى الصحافة، وفى المنظمات العامة، وفى العمل والمنزل، بخصوص مايجب أن نفعله لنسهل على المرأة العودة إلى رسالتها النسائية البحتة..". وهناك مشكلة أخري، هى استخدام المرأة فى الوظائف الشاقة الضارة بصحتها، وهذا هو تراث الحرب التى فقدنا فيها أعدادا ضخمة من الرجال، والتى خلفت لنا نقصا حادا فى اليد العاملة فى كل مكان، فى كافة مجالات الإنتاج، لقد بدأنا الآن نعالج هذه المشكلة بشكل جاد، (انتهى كلام جورباتشوف). وأحسب أن ناسا منا سوف يصيحون: ألم نقل لكم هذا؟ إننا معذورون حين حظرنا على المرأة الخروج للحياة والعمل! هاهو ذا شاهد من أهلها يمشى فى الاتجاه نفسه. لقد شاهدت متدينين فى أوروبا وأمريكا، وأفريقيا وآسيا يقولون: إن المرأة(1/220)
شيطان أو هى عون للشيطان، وكل فتاة هى حواء التى أخرجت آدم من الجنة، ولابد من تضييق الخناق عليها حتى نأمن شرها!! ص _221
وكان هذا التضييق القاتل لإنسانية المرأة من وراء الانفجار الذى صبغ المدنية الغربية وآذاها. ونحن لا نجنح إلى طرف من الطرفين المتباعدين، هذا يسجن المرأة فى البيت وهذا يطلقها فى الشارع.. لقد أغنانا الإسلام عن تجارب تخطئ وتصيب، وتحلو وتمر، وهدانا صراطا مستقيما. نحن بحاجة إلى من يعرف دين الله حق المعرفة، ثم يعالج القضايا كلها بإيمان واع، لا بفكر قاصر متشائم هدام. الذى يمنع المرأة من حق الحياة والعمل فى الإطار الشرعى المناسب لفطرتها لا يقرر حقيقة شرعية ولا وضعية!! والذى يتيح لها كل اختلاط وييسر لها كل احتراف لا يقرر حقيقة شرعية ولا وضعية. هناك مجتمع بناه صاحب الرسالة عليه الصلاة والسلام ورجاله الكبار، لماذا لا ندرسه ونتأسى به، ونحاول أن نضع المرأة فى المكانة التى وضعها فيها القرآن ورعاها الرسول عليه الصلاة والسلام.(1/221)
المقدمة يعد فضيلة الشيخ/ محمد الغزالى من أبرز علماء الأمة الإسلامية ومفكريها بالقرن العشرين الذين أثروا الحياة الدينية والفكرية بآرائهم المتجددة فى سبيل تنوير وتبصير المجتمع المسلم بأمور دينه. وقد كان لآرائه وأفكاره الدينية المتوازنة بين إصلاح الإنسان وإعمار الدنيا وإعمار الآخرة أثره البالغ فى إحياء وبعث الروح الدينية الصحيحة فى نفوس العديد من المسلمين ليس فقط بمصر أو العالم العربى وإنما على نطاق العالم الإسلامى بأثره. وقد كان أهم ما يتميز به فضيلة الشيخ المجدد/ محمد الغزالى جرأته فى الحق حتى أصبح رائداً لمنهج يعتمد على الفهم الصحيح للنصوص القرآنية والأحاديث الصحيحة وسيرة السلف الصالح والمصلحة العامة للمسلمين ومتطلبات العصر. ولهذا فقد اتفق من اتفق معه واختلف البعض حول آرائه وفتاواه العصرية ولكن من المؤكد أن الجميع قد انجذب لسحر بيانه ووضوح حجته. ومن خلال ذلك الزخم الهائل من تراث فضيلة الشيخ/ محمد الغزالى قام الأستاذ/ عبد الحميد حسانين محمد بجهد طيب فى جمع المقالات غير الدورية والتى قام الشيخ بنشرها فى كبرى المجلات والدوريات بأنحاء العالم الإسلامى عسى أن ينتفع المسلمون بآرائه وأفكاره. وقد عنيت دار نهضة مصر بنشر هذه المقالات فى أجزائها الثلاثة رغبة فى الحفاظ على تراث الشيخ الجليل.
ص _005(2/1)
المسلمون فى أسوأ أيامهم ولكن يوم الإسلام .. قادم بعد هذه الغاشية التى دهت البلاد العربية بغزو العراق للكويت والحرب الضارية بين القوات المتحالفة والجيش العراقي.. وما خلفته هذه الأزمة القاتلة من آثار عنيفة مدمرة للكويت والعراق ومؤثرة أكبر التأثير على الموقف العربى والإسلامى العام وموقف الرأى العام العالمى من العرب وذلك الغبار الكثيف الذى ثار فى مختلف وسائل الإعلام الدولية عن العروبة والإسلام وذلك التغيير الكامل الشامل الذى يطرق أبواب العالم العربى والإسلامى والذى تتطلع إليه الشعوب فى كل مكان. كان لابد لنا أن نستلهم رأى العلامة الإسلامى الكبير الشيخ محمد الغزالى فيما يدور حول الحضارة الإسلامية وموقف الأمة الإسلامية من الأحداث والتطورات الخطيرة وتشخيص دواء العالم الإسلامى المعاصر وأنجح الوسائل للأخذ بيده والخروج به من أزمته والعمل على إعادته إلى طريق الحق والصواب. وللإمام الغزالى تاريخ طويل فى الدعوة الإسلامية وقد تولى التدريس فى العديد من جامعات العالم الإسلامى وأثرى المكتبة الإسلامية بعشرات الكتب المهمة التى تميزت بالانتشار والذيوع وإقبال الناس عليها بتقدير كبير وقد أجرى الحديث معه محمد عبد الشافى القوصى مندوب "رسالة الإسلام". * فضيلة الشيخ محمد الغزالي: يقال أنه لابد من بقاء قوات أجنبية ترابط فى البر العربى أو تسبح فى البحار حتى بعد انتهاء أزمة الخليج الراهنة!! فما رأيكم فى ذلك؟ ** إن القوات الأجنبية جاءت نجدة مؤقتة، ودعما عارضا عابرا، وأنه إذا ذهب الخوف واستقرت الأوضاع فلا مساغ لها ولا معنى لوجودها، وإن الاحتيال على بقاء القوات بعد انتهاء أسبابه هو عدوان جديد من خصم ماكر. وقد يفقد الوجود العسكرى الأجنبى بمختلف دوله أى سبب لاستمراره إذا أبصر ص _006(2/2)
العراق وكف عدوانه على غيره، كما أن هذا الوجود ينبغى أن يتلاشى إذا انهزم الرئيس صدام وانكسرت قواه، وانفكت القيود التى وضعها فى أعناق الأحرار وتراجعت جيوشه عن دولة الكويت التى اجتاحها عنوة. ونحن نعلم أن أبناء عبد العزيز آل سعود رجال شرفهم الأول هو الانتماء الإسلامى النقى ومواريث البطولة من أب خاصم الجبروت وعاش حمى الأنف، وعزيز الجانب ظل طوال عمره يخاصم الاستعمار ويناصر الأحرار. إنهم يستحيل أن يقبلوا احتلالا أجنبيا، أو يقيموا فى أنحاء الجزيرة قواعد لهذا الاستعمار المتربص الكفور. * ما رأى فضيلتكم ـ فيما يتردد الآن على الساحة بأن هناك "مؤامرة" أمريكية ـ صهيونية وراء أحداث الخليج؟! ** ليس هذا بجديد على تاريخنا وعلى أمتنا العربية والإسلامية، فإن الخطة التى وضعتها القوى المعادية للإسلام نفذت بدقة وبراعة لتوفير الفرص أمام إقامة إسرائيل الكبرى على عجل وفى صمت. إن دولة " ما" هى التى أفهمت العراق أن بتروله يسرق من الأرض المتنازع عليها، وهى التى هاجته ليتحرك وأعطته الضوء الأخضر ليمر. فإن أعداء الإسلام يعبثون ببعض الساسة العرب، كما يلعب الفيلسوف ببعض الصبية ثم تنجر الأمة كلها إلى مصيرها القائم بعد هذا التآمر الخبيث. يقول نبينا العظيم ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " لا تقدس أمة لا يقضى فيها بالحق، ولا يأخذ الضعيف فيها حقه من القوى غير متعتع ". وقال تعالى : ( ولا تكونوا كالتى نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا تتخذون أيمانكم دخلا بينكم أن تكون أمة هى أربى من أمة ). ولنعلم أن أعداء الإسلام أمدوا صدام بأفتك ما لديهم من قوة حتى يقضى على المسلمين فى إيران وعلى الأكراد فى العراق باسم البعث العربي. وإننى أناشد المسلمين بعدما افتضحت المؤامرة أن يلموا شملهم ويستعينوا بربهم ويحلوا مشكلاتهم على ضوء الإسلام ولنتشبث بوحدتنا ورسالتنا وننجو من أحابيل الغادرين والخائنين. ص _007(2/3)
* ماهو مستقبل الأمة العربية والإسلامية فى ظل أوضاعها الحالية ـ كما يراه الداعية الإسلامى الكبير؟! ** إن حاضر العرب والمسلمين ومستقبلهم مظلم موحش، وكيف لايكون ذلك؟! وهم يسبحون فى بحار الفقر والجهل والمرض. والغريب أن الفجور فى الخصومة، والعبث بالعقود والعهود، والاستهانة بالكلمة، والإضاعة للأمانة كلها تكاد تكون عادات مألوفة عند العرب!! إن المسلمين لا يلتزمون بما ورثوا من دين فى ميادين الأخلاق عامة إلا من عصم الله. على حين نجد أتباع ملل أخرى يتحرون فى معاملاتهم ومسالكهم مكارم الأخلاق ويترفعون عن الفوضى والإسفاف والتسيب. إننى عندما أسمع وأقرأ كل يوم عن مجيء الجيوش الأجنبية ـ إلى أرضنا وتتابع الأحداث وانتشار الفوضي، أقول.. هذه أيام بالغة السوء! ماذا حدث؟! إننا لم ننحدر إلى هذا القاع منذ قرون خلت، فمنذ أيام معدودة كان الصف مجتمعا فكيف انصدع.. ماذا فعل العرب بأنفسهم ورسالتهم؟ إننا أمة تنتحر! وقع زمامهم في أيدى الشياطين، فهى كما حدث القرآن الكريم من قبل: ( أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون ) اليهود يد واحدة تضربنا بقوة.. عبيد البقر يد واحدة تزهق أرواحنا بالمئات فى المساجد. الناس فى شرق أوروبا وغربها يتجمعون ونحن وحدنا نتفرق .. ماذا يعمل العرب بدينهم ودنياهم؟! فى ثلاثة مواضع من القرآن الكريم يتحدث العرب عن أنفسهم أنهم لو حملوا أمانات الوحى لكانوا أرعى لها، وأبر بالناس ممن سبقوهم فى هذا الميدان. فهاهم حملوا هذه الأمانات فما رعوها حق رعايتها ولا شرفوها محليا أو عالميا فى هذه الأيام العجاف. فيم علق القرآن على هذا السلوك؟ قال : ( وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفورا * استكبارا في الأرض ومكر السيىء ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله .. ) ص _008(2/4)
إن المسلم العربى يصطبغ وجهه بالقار عندما يرى عرب الكويت يطلبون النجدة من "بوش" حامى إسرائيل، ويرى بوش عند حسن الظن به.. وويل للجماهير اللاهية من علمانيين يحكمون وجاهلين يفتنون. فما أحوج هؤلاء العرب الجبناء والمسلمين الفقراء إلى دراسة أسباب هزائمهم العسكرية والحضارية. إن الرؤساء عندنا وراء كل منهم مائة ألف رمح لا يسألونه إذا غضب: لم غضب؟ ومن ثم فهو يمضى بمن وراءه إلى النهاية المرسومة، إلى الغرق الذى لف قوم فرعون فى أمواجه حتى أوردهم القاع! أهذا الاستبداد الأعمى تعاليم دين؟ أم سخافات أمم وسقوط تاريخ؟! * مارأيك فيما يحدث الآن بالمسجد الأقصى من منع الصلاة فيه، والحراسة اليهودية الدائمة؟! ** أجاب القرآن الكريم عن هذا التساؤل فقال: ( ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها ) وأعمال اليهود بأذى المسجد الأقصى شديد الخطورة، وتصوره تصور مظلم للعرب والمسلمين جميعا، لأن اليهود لا يمنعون الصلاة فحسب بل يعدون العدة لهدم المسجد وبناء هيكل سليمان "المزعوم" وهم يصرحون بذلك دون حياء. وقد تمت عدة محاولات لتنفيذ هذه الجريمة، لكن الأقدار التى تحرس حرمات الله حالت دون إنفاذها. والغريب أن فى العهد القديم فى سفر "حزقيال" إيحاء ببناء الهيكل على نحو معين استغرق الوصف فيه قرابة صفحتين!! وإذا تم لليهود ما يؤملون فسوف يكونون سادة العالم أجمع وسيكونون الأداة التى يستغلها ساكن الهيكل وهو الله سبحانه وتعالى فى سياسة المشرق والمغرب. * ماهى قضية الأسرى المصريين المفرج عنهم فى إيران والأسرى الذين مازالوا هناك فى السجون؟؟ ص _009(2/5)
** الأسرى فى العراق قسمين: قسم مدنى يعمل فى الصيد أو يعمل فى الشئون الحرة والأعمال الإدارية وهؤلاء لا صلة لهم بالقتال فهؤلاء الذين جئنا بهم من إيران للقاهرة. والقسم الآخر كانوا مقاتلين فى الجيش العراقى وكانوا يحملون جنسية عراقية وأخفوا جنسيتهم المصرية الحقيقية وهؤلاء تم الإفراج عنهم أثناء عملية تبادل الأسرى فى بداية الغزو العراقى للكويت.. والمهم أنه لا يبقى الآن أسرى فى سجون إيران نهائيا. * مارأى فضيلتكم فى مسيرة الحضارة الإسلامية المعاصرة وعلى أى جناحيه تعتمد الكم أم الكيف؟؟ ** العلم الآن لا يعرف إلا حضارة الغرب فى جميع شئونه الحياتية، أما حضارة الإسلام، ففى خبر "كان" ربما كانت ذكريات أهيل عليها التراب وربما حاول عليها غير أولى الغيرة أن يبرزوها للناس فى حكايات أو فى أحلام.. و لا أستطيع القول أنه توجد حضارة إسلامية والتى سادت العالم قرابة ألف سنة، كان المسلمون فيها هم العالم الأول المتقدم، وكانت الدنيا تنقاد لهم وتنتشر حضارتهم بتقدمهم العلمى والعملي. بل إن المسلمين لما انهزموا عسكريا أمام التتر ظلت حضارتهم قائمة ولذلك دخل التتر فى الإسلام. وكانت الأمة المهزومة ـ آنذاك ـ أرقى حضارة وأكثر ثقافة من الأمة المسيطرة عليها ولذلك ذابت فيها. أما اليوم فقد تخلف المسلمون وتخاذلوا وتضعضعوا إلى الوراء كثيرا مما يجعلنا نجزم بعدم وجود حضارة حالية، وإن كانت توجد مواريث ضرب عليها العنكبوت بنسجه تذكرنا بقول الشاعر: لخولة أطلال ببرقة سهمد تلوح كباقى الوشم فى ظاهر اليد لكننى لست بيائس فإن أمتنا تمرض ولاتموت، وقد تسقط على الطريق فتطول كبوتها ولا تقصر، وتتحامل على نفسها مرات ومرات ثم تتابع المسيرة مرة أخرى. والمستقبل إن شاء الله للإسلام، وكثيرا ما كنت أقول للناس : يوم الإسلام قادم فارتقبوه. * ما رأى ـ فضيلتكم ـ فى مسار الدعوة الإسلامية الآن مالها وما عليها؟؟ ص _010(2/6)
** الدعوة الإسلامية تتعثر فى هذا العصر لأن القوى التى تواجهها أعتى منها وأدهى وهى داخل نطاق الأمة الإسلامية أو وراء حدود أمتنا تعمل بنشاط لضرب الإسلام فى صميمه. بل إنها وضعت برامج محددة وسنوات معدودة لكى يذوى شأن الإسلام فى أفريقيا ويختفى فى أندونسيا، إلى غير ذلك مما تزينه الشياطين لأعداء الله. والغزو الثقافى يحيط بالدعاة المسلمين من نواحى شتي، ولذلك فإن الدعوة تحتاج إلى يقظة وروح جديدة ومواجهة صريحة لكل الأزمات الروحية التى تتعرض لها الأمة الإسلامية ولا أقول بأن الأمة الإسلامية تسير سيرا حسنا، لأن بعض المساجد لا تزال مفتوحة للقاصدين فهذا لون من الجهل لا يجوز أن ينخدع به عاقل أبدا. والدعوة بحاجة إلى مفكرين وإلى دارسين وإلى خطباء من طراز غير الطراز الذى نألفه وإلى كتب ورسائل بالعربية وغيرها من اللغات. الدعوة الآن بحاجة إلى مقيمين وطاعنين وسائحين يتقنون اللغات الأجنبية ويعيشون بين ظهرانى الأمة الإسلامية حينا ويتنقلون فى أوربا حينا آخر. أى أن جهاز الدعوة المطلوب الآن لكى تنجح الدعوة جهاز شامل مستوعب لكل الحقائق والمفاهيم. وهذا الجهاز المتكامل لا وجود له الآن، وقد توجد جهود مشكورة لأقسام الدعوة فى الأزهر، ولكن هذه الجهود تشبه بعض الترع التى تكلف برى الصحراء الكبرى. * هل تعتبر قضية المسجد الأقصى قضية عربية أم قضية إسلامية؟ ** إن قضية فلسطين منذ بداية التاريخ قضية دينية، فكون سكان بيت المقدس أكراد أو هنود، فإن القضية لا تتغير، فالقضية التى يحكى التاريخ أطوارها منذ بدء إنشاء أورشليم و"شليم" هو "سليم" كما ينطق اليهود موسى "موشي". وظل بيت المقدس يتداول بين اليهود والفاتحين عدة قرون ثم آل إلى العرب منذ خمسة عشر قرنا إلى هذا اليوم، وربما استطاع الفرنجة أن يستولوا عليه نحو 90 سنة لكن المسلمين بقيادة صلاح الدين استردوا القدس فى معركة "حطين" التاريخية المشهورة. ص _011(2/7)
والحرب الصليبية لم تنته حتى الآن وإن زعم المارشال "اللنبي" كاذبا أنها انتهت بسيطرة الإنجليز على فلسطين وفقدان المسلمين لحكم بيت المقدس ( وتلك الأيام نداولها بين الناس ). وحلم اليهود أن يستولوا على بيت المقدس ليمتد من النيل إلى الفرات وليس هذا فحسب، بل إنهم يريدون أن يستبعدوا العالم أجمع. وهذا الحلم هو محصلة نبوءات كثيرة فى كتبهم الدينية، ومن هنا قال "وايزمان" إن "بلفور" عندما أعطانا وعد تملك فلسطين كان يترجم فى العهد القديم لأن "البروتستانتي" يرى أن العهد القديم واجب النفاذ! و"بلفور" كان رجل دين أولا ثم رجل سياسة ثانيا وهذه معلومة لا يفهمها كثير من الناس... ولكن المسلمين فى نوم عميق وسبات طويل. * إلى أى مدى تتعارض أو تتفق التكنولوجيا المعاصرة مع مبادئ الإسلام؟ ** التكنولوجيا لا تختلف أبدا مع الإسلام فهاهو الرسول الأعظم سيدنا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول : "أنتم أعلم بشئون دنياكم". فلتكن فى الدنيا سيارات وقطارات ومخترعات، وليكتشف الطائرات والأقمار الصناعية وليعبروا البحار والأجواء، فهذا كله لا صلة له بالأديان جميعا من ناحية أنه تقدم بشرى وهو وسيلة قد تخدم الخير وقد تخدم الشر. فالمسدس فى يد اللص يقتل به الآمنين وفى يد الشرطى يحرس به الأمن بين الناس. المصيبة الفادحة أن يكون التقدم فى يد اليهود وليس فى يد العرب والمسلمين! ومعنى هذا أن باطلا مسلحا يعتدى على حق أعزل! * بماذا يكون دعاؤكم لإنقاذ المسلمين من الكارثة الحالية؟ ** نحن نشخص المرض ونفتح العيون على الدواء، فإذا كان هناك تخلف أخلاقى أو غباء في المعرفة أو قصور في وسائل الإنتاج، فنحن نشرح هذا الواقع وننبه إلى أخطاره، وليس على الداعى أن يستصرخ الهمم لكى لا يبقى فى وضع مهين. ص _012(2/8)
الإسلام مع تعدد الأحزاب ويرفض شطط الاجتهاد.. ويهذب فوضى حرية الفكر الداعية الإسلامى الكبير.. الشيخ/ محمد الغزالى ـ حفظه الله ـ بعد مسيرة حافلة قضاها فى حقل الدعوة الإسلامية المملوء بالألغام والمفروش بالأشواك.. وهو يتنقل من قطر إلى قطر.. ومن بلد إلى آخر ناصحا وموجها ومرشدا.. وهو يشخص الأمراض الاجتماعية التى ابتليت بها أمتنا العربية والإسلامية، ولقى الشيخ فى سبيل تبليغ رسالته كثيراً من العقبات التى ما زادته إلا ثباتا وإيمانا بقضيته ورسالته الجليلة. والتقت به ـ رسالة الإسلام ـ لتستلهم رأيه فى كثير من القضايا الإسلامية الشائكة وما يتعرض له المسلمون فى مختلف أنحاء المعمورة.. وغير ذلك من المسائل الفقهية والعقائدية التى لم ينته الحديث فيها بعد.. * باعتباركم من العاملين فى حقل الدعوة، فكيف تواجهون جبهة أعداء الإسلام، والذين يتربصون بالدعوة الإسلامية الدوائر؟ ** الصحوة الإسلامية تشق طريقها وسط هذا الظلام الدامس، ومهما طال الليل فلابد من طلوع الفجر.. وإننا أمة تمرض ولا تموت.. إن أعداء هذه الصحوة المعاصرة ما هم إلا امتداد لأعداء الإسلام منذ بزوغ فجره، وهؤلاء.. وهؤلاء لم تزدهم الأيام إلا قسوة قلب، وغباء فكر.. إنهم يريدون الخلاص من الإسلام على أية حال ـ لكنهم ـ إلى اليوم فاشلون، إن الجماهير المسلمة لم تنس دينها على كثرة المنسيات، ولم يضعف حنينها إلى العيش فى ظله، برغم ما صنع الغزو الثقافى بعد الغزو العسكري. ولم يقف خصوم الإسلام عند هذا الحد أبدا.. فإن محاولاتهم لهدم أركان الإسلام لا تنتهي، وستظل جهودهم متراكضة كى يزودوا الشعوب عنه، ويمنعوها من إنفاذ ص _013(2/9)
أحكامه وإحياء شعائره، وأدواتهم لبلوغ هذه الغاية كثيرة خفيها أكثر من جليها، وماكرها أعقد من ظاهرها!! والهدف من كل هذه المحاولات الملعونة هو "الإجهاز على هذا المصحف الشريف".. وجعله حبرا على ورق أو أثرا يودع فى المتاحف. وعلى المسلمين فى القارات الخمس، وعلى كثرتهم العظمى بين المحيطين الهادى والأطلسى أن يلمسوا هذه الحقيقة، فإما عاشوا بدينهم، وإما نكصوا على أعقابهم فهلكوا.. إلا أن العاقبة للتقوى، والمستقبل القريب والبعيد للإسلام دين الله من الأزل إلى الأبد. ( وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أّمثالكم ). * فضيلة الإمام.. هل يمكن أن تلقى لنا الضوء على المحنة التى يمر بها مسلمو يوغسلافيا من القتل والاضطهاد والتشريد؟! ** إن "يوغسلافيا" دولة حديثة الوجود، كونها الحلفاء عقب فوزهم فى الحرب العالمية الأولى من عدة قوميات مختلفة الأعراق، كان المسلمون جزءا كبيرا منها إذ يبلغ عددهم قرابة 6 ملايين مع ملاحظة إقليم "كوسوفو" سلخ من ألبانيا المسلمة وضم إلى يوغسلافيا، وهى سياسة تبعها الاستعمار العالمى فى معاملة الأمة الإسلامية المترامية الأطراف لاسيما فى أفريقيا، فهو يأخذ جزءا من الصومال المسلم ليضمه إلى كينيا حتى يفقد شخصيته وتضعف الصومال بفقده، وتكررت هذه السياسة فى أغلب دول القارة التى استحدثت فى السنين الأخيرة، المهم أن المسلمين فى "يوغسلافيا" جعلوا من دينهم قومية خاصة عاشوا بها فى إقليمى "البوسنة والهرسك" ولهم بقايا كثيرة فى سائر أقاليم الدولة الجديدة.. وموقف المسلمين فى يوغسلافيا شديد التعقيد، إنهم ـ الآن ـ يلتزمون الحياد بين الفريقين المتخاصمين (الكروات والصرب)، ولكن الصرب تتربص بهم وتريد أن تشق لنفسها طريقا على شاطئ "الأدرياتيك" كى تنشئ لها ميناء على البحر، وذلك بداهة على حساب المسلمين المعزولين فى هذه البقاع.. والعدوان مرتقب إن لم يكن اليوم. وعندما يضرب المسلمون فى قطر أوروبى(2/10)
فلا صريخ لهم ولا هم ينقذون.. ونتساءل : ص _014
أما لهم من نصير من إخوانهم فى القارات الأخرى؟! والجواب كئيب!! إن الجنرال "ميخابلوفتش" قتل منهم مائة ألف ومر دون مساءلة!! وجاء بعده "تيتو" وهو شيوعى ملحد فكان موقفه من المسلمين مثل موقف سابقه. بم ينشغل المسلمون؟!! إن موقف المسلمين فى البوسنة والهرسك والجبل الأسود وكوزفو وألبانيا نفسها يجب أن يدرس بأناة، وأن يتحرك العالم الإسلامى لمساندته ورد العدوان عنه. بم ينشغل المسلمون؟ وإذا أصيبوا فى أخوتهم العامة فماذا يبقى لهم؟! وهل بعد ذلك إلا أن تدور الدائرة عليهم فى عقر دارهم؟ المسلمون المعاصرون تنقصهم التربية النفسية والفكرية العالم الإسلامى يجب أن يتحرك لمساندة المسلمين فى يوغوسلافيا * شيخنا الجليل.. نريد أن نسترشد برأى فضيلتكم فى مسألة تعدد الأحزاب على الساحة.. وهل هى فى الحقيقة تخدم الإسلام أم تقف عقبة فى طريقه؟ ** ما يمنع الإسلام تعدد وجهات النظر، والاختلاف العقلى فى مناهج الإصلاح الدينى أو الدنيوي. فنحن فى شئون الدنيا أحرار الفكر، لم يلزمنا الإسلام بشيء.. "أنتم أعلم بشئون دنياكم" وكذلك نحن فى الوسائل التى تحقق غايات قررها الإسلام ولم يشرع لها طريقة خاصة، كرفع المستوى العلمى والخلقى للأمة، ولتحقيق العدالة الفردية والاجتماعية، وكاقتدار البلاد عسكريا على الجهاد فى البر والبحر والجو.. وأمور كثيرة تتفاوت الأنظار فى أسبابها ولا تتفاوت فى نتائجها. ثم هناك مجال مهم تختلف فيه العقول وهو كيف تستنبط الفروع من الأصول؟ فلقد نشأت من ألف عام أو يزيد مدارس شتى فى ذلك.. وتعدد الأحزاب فى الغرب يشبه تعدد المذاهب عندنا. ويضحكنى ادعاء الذين يقولون أن الأحزاب تقسم الأمة، فالأمة لا تمزقها وجهات النظر السليمة إنما تمزقها الشهوات!! ولقد ولدت الأحزاب مع ميلاد الكيان الإسرائيلى على أنقاضنا فماذا حدث لهم وماذا حدث لنا؟؟ ص _015(2/11)
إن نظام تعدد الأحزاب لم يضر الغرب شيئا، وفقدانه لم ينفع الشرق الشيوعي.. ولذا فإقحام كلمة حلال أو حرام هنا هو ضرب من السخافات التى تعودنا عليها!! والذى يسأل هذا السؤال وغيره من الأسئلة مثل: لبس البدلة الفرنجية حرام.. كشف وجه المرأة حرام.. الغناء حرام.. الموسيقى حرام.. التصوير حرام.. الكلونيا حرام..إعلاء المبانى حرام.. ذهاب النساء إلى المساجد حرام.. أقول له: كيف يتحرك الإسلام مع هذه الأثقال الفادحة؟! فالإسلام بهذه الحالة ـ يا معشر المسلمين ـ لن يكسب أرضا جديدة، بل قد يفقد أرضه نفسها.. فالإسلام مظلوم مع أصحاب النظر القصير والرؤية المحدودة، لأنهم يقرون ما يعرفون، وينكرون ما يجهلون. ومن ثم ففهم الإسلام أو تدريسه على أنه نهضة عربية أو يقظة كلية أكذوبة كبرى! وكذلك تناوله من زاوية خاصة، وعدم الوصول بمعانيه إلى أبعادها الأبدية العامة. إن عالمية الإسلام "من كتاب وسنة" يخاطبان الإنسان حيث كان، دون انحصار فى زمان أو مكان.. إنهما ارتباط بالفطرة، وحوار من العقل البشرى تحت أى سماء وإلى آخر الدهر. * فضيلة الشيخ : ما هو رأيكم فى الذين يقولون إن الأزهر الشريف يصادر حق الإبداع ويقف دون حرية الفكر و الاجتهاد؟؟ ** سؤالك يذكرنى بأحد الصعاليك الذى ألف كتابا ـ مؤخرا ـ نال فيه من الوحى والنبوات وسخر ما شاء أن يسخر من الدين وحقائقه، فعاقبه القضاء بالسجن بضع سنين على وقاحته وهبوطه فإذا بكاتب شيوعى يعترض على الحكم ويقول: إن هذا مصادرة لحق الإبداع!! فالإبداع فى عرفه هو الإقزاع فى شتم الأنبياء!! وكأنما كانت هذه الحركة إشارة على بدء الهجوم، فإذا عصبة من الملاحدة تتصايح هنا وهناك على ضرورة إلغاء الحكم أو تخفيفه ليكون صوريا!! والتهمة المختارة التى يرددها هؤلاء أن حرية الفكر فى خطر، وأن المتدينين ـ وفى طليعتهم الأزهر ـ صنعوا مقصلة لقتل المفكرين الأحرار، أو بعثرة الأشواك فى طريقهم!! وقال واحد منهم يدعى أنه(2/12)
حُرم من حق الاجتهاد وصودرت له عدة كتب!! ص _016
وقرأت ما كتبه ذلك المجتهد، فإذا هو يحلل الخمر مستدلا بالآية : ( قل لا أجد فٌي ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتةْ أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجسِ أو فسقا أهل لغير الله به..). هذه هى عبقرية الاجتهاد عند مستشار، ولا أدرى أكتب كلامه وهو صاح أو سكران.. إنه يتهم الأزهر بالجمود والعدوان على الحريات وإغلاق باب الاجتهاد!! إن الحاقدين على الإسلام كثروا وعلا صياحهم وطالت لجاجتهم، ويقع هذا فى بلادنا فى أيام نحسات تتعرض فيها الحركات الإسلامية لضروب الفتن وأنواع القمع. يتهمون الأزهر بالجمود والعدوان على حرية الاجتهاد ويأتى أحدهم ليجتهد ويحلل الخمر * أستاذى الشيخ الغزالي.. ما هو تقييمكم للثقافات التى يتربى عليها جيلنا الآن ، مالها وماعليها؟؟ ** فى رأيى أن الثقافة التى آلت إلينا مؤخرا ضحلة أسفة لا فى مجال المعرفة الدينية وحدها، بل فى مجال الأداء الأدبى كذلك، وأن هذه الثقافة أعجز من أن تصنع أمة تنهض برسالتها، وتخدم كتاب ربها وسنة نبيها. وقد كانت ثقافتنا فى العصور الأولى تصنع أجيالا عملاقة، قادرة على المحو والإثبات، تحترم الحقائق وتعشق الفضائل وهكذا هبط العلم الدينى وتقوقع رجاله فى تخصصاتهم الدينية لا يمدون أنوفهم وراءها. ولذا أقول: إن العلم بالدين كله لا يتم عن طريق تجار التجزئة، وأن الصورة الكاملة للإسلام إنما تتم على النحو السلفى الأول، وأن العقل الإسلامى المعاصر يجب أن يرتفع إلى مستوى الشمول فى القرآن الكريم حتى يستطيع إعادة بناء الأمة الواحدة التى لا تحدد رقعتها على سطح الأرض خطوط الطول والعرض. ( يا عبادى الذين آمنوا إن أرضى واسعة فإياى فاعبدون ) وعرف المسلمون بالبداهة أن أمة العقيدة لا يحصرها مكان وأن إخوان العقيدة لا يحدهم جنس، وأن المسلم إذا استبيح دمه على شاطئ المحيط الهادى فى الفلبين يجب أن يتحرك له أخوه على شاطئ(2/13)
الأطلسى فى المغرب والسنغال ونيجيريا. ص _017
* هل معنى ذلك أنه ليس هناك - ثمة - وجه مقارنة بين شخصية المسلم فى العصور الماضية وبين شخصية المسلم المعاصر؟! ** إن الأجيال المنتمية للإسلام فى هذا العصر تنقصها التربية النفسية والفكرية التى برز فيها السلف الأول، وأضحوا بها قادة ترنو لهم الدنيا بإعجاب وحفاوة. فالصورة التى عرفت عن شباب العرب والمسلمين فى أوروبا وأمريكا لا تشرف دينا ولا تغرى بنظر فيه.. ولولا أن الحضارة الحديثة تحض على النظر والاستكشاف، ما عرف أحد الإسلام على حقيقته. إن شباب العرب والمسلمين يهجرون أوطانهم طلبا للمتعة، واستكثاراً من الفضائح فى بلاد لا يعرفون فيها!! فالمال الإسلامى يراق بسفه غريب فى عُلب الليل وموائد القمار والخمر وأنواع التهتك التى تفوق الخيال! والغربيون ليسوا أغبياء! إنهم يقولون: أما على هذا المال رقابة؟ من أين اكتسب؟ وفيم أُنفق؟ وهم يعلمون أن جماهير غفيرة من المسلمين ذهبوا ضحايا الجفاف والقحط، ومن بقى منهم فى آسيا أو أفريقيا بقى جلدا على عظم، أو ملامح تصرخ بالبأساء والضراء! فعلينا أن ندرس بأناة الأسباب التى جعلتنا فى العالم الثالث أو الرابع بعد أن كنا وحدنا العالم الأول دهرا طويلا.. إنها أسباب كثيرة، ثقافية واجتماعية وسياسية!! * كثر الجدال وتضاربت الآراء حول عمل المرأة وخروجها.. خاصة فى السنوات الأخيرة.. فما رأى صاحب الفضيلة؟!! ** هناك تقاليد تتصل بوضع المرأة لابد من إعادة النظر فيها لتستقيم مع ديننا وأحكامه الصحيحة.. فالمجتمع عندنا ينقسم إلى فريقين كلاهما على خطأ مشين.. الفريق الأول: يحاول أن ينقل تقاليد الغرب الجنسية، وجاهليته الذميمة فى إشباع الغرائز من الحرام. والفريق الآخر: يؤكد أن المرأة قعيدة بيتها، لا تخرج منه أبدا إلا إلى الزواج أو إلى القبر!! ولكن الإسلام غير ذلك، فالله يعلم أن الإسلام بريء من هذه التقاليد كما هو بريء من المفاسد الجنسية(2/14)
فى أوربا وأمريكا.. ص _018
ومع ذلك فإن كثيرا من المنتسبين إلى الإسلام وعلومه يرتضون هذه الأحوال، ولا يتحمسون لتغييرها. فرأى الإسلام يقول.. مثلا.. إن وجه المرأة ليس بعورة.. ولكن.. أكره أن تكون المرأة جسدا عاريا يمشى بين الناس، فالحجاب الإسلامى يحفظ للمرأة شرفها، ويرد عنها عيون الذئاب أيضا.. ليس فى كتاب الله، ولا فى سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنها تمنع من دخول المسجد.. إن أناسا غلبهم الهوى الجنسى هم الذين شرعوا هذه التقاليد بعدما تعسفوا فى شرح الآيات بتفاسير مرفوضة، تفاسير لم يقل بها واحد من الأئمة الأربعة الذين انتشر فقههم فى طول البلاد وعرضها. ولقد كانت النساء فى العصر الأول تصلى التراويح فى مساجد خاصة بهن حتى جاء أخيرا من يمنعهن من أداء الفرائض فى بيوت الله.. وكن يبايعن الإمام على نصرة الإسلام ومكارم الأخلاق حتى جاء من يقوم بتجهيلها عمدا فى قضايا الإسلام الكبرى وغيرها. فالإسلام لا يؤخذ من أصحاب العقد النفسية أبدا.. إن الإسلام يؤخذ من كتاب الله وسنة رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - والمجتمع الذى يصنعه الكتاب والسنة يجعل المرأة تلد ذريات مشرفة باهرة الأخلاق.. لا دابة تلد حيوانات.. ص _019(2/15)
حتى نحصن أنفسنا هناك ظروف أو بيئات تترك طابعها على العقل العادي، فالفلاح فى قريته أو العامل فى مصنعه، ينظر إلى الدنيا، وإلى المسافات بين أقطارها نظرة ضيقة. أما سائق السيارة أو قائد الطائرة فإن نظرته إلى المسافات أرحب وجراءته على طيها أسرع، لأنه يألف التنقل والانطلاق. والثقافة الإسلامية الأولى كانت تصنع عقولاً من الطراز الطيار. أما هذه الثقافة فى أيامها الأخيرة، فهى تصنع عقولاً تحسن الاعتكاف والانزواء. ونشأ عن ذلك أن الاستعمار العالمى لما بدأ زحفه فى آسيا - شرقاً وجنوباً وشمالاً - وبدأ زحفه فى إفريقيا من كل ناحية كان الإحساس بالألم يمر بكيان سرى فيه انحدر وتفاوت فيه الحس. ولا يزال ناس من أهل العلم - كما يوصفون - لا يعلمون شيئاً عن دولة " غطانى " فى تايلاند مثلاً، ولا يعلمون شيئاً عن جماهير كثيفة من المسلمين تعيش فى عشرات الدول الأفريقية ضائعة الهوية كاسفة البال قليلة الرجاء. لماذا ؟ لأن العقلية التى تشرح الأخوة الإسلامية، أو الولاء الإسلامي، أو عبادة الله الواحد فى العالم الكبير الذى نعيش فيه ليست عقلية الطيار التى أشرنا إليها. وإنما هى عقلية فلاح مجنون الوعى ! ما كان سلفنا كذلك، كان الأعرابى الساذج يعترض الرسول وهو على ناقته يطلب منه أن يعلمه الإسلام، ويمسك بزمام الناقة حتى يسمع.. ويحدث الرسول الملهم بما عنده، فيصنع منه إنساناً جديداً عامر القلب بأمجاد الألوهية وأضواء الوحدانية والرغبة الهائلة فى تطويع الكون كله لمراد الله، فلا ترى هذا الأعرابى بعد ذلك إلا قذيفة تدك عروش المستبدين فى فارس، أو الرومان، وتراه هو وإخوانه ينطلقون شرقاً صوب المحيط الهادى وغرباً صوب الأطلسى لهم جؤار بتسبيح الله وتحميده، وتلاوة الكتاب الذى أخرجهم من الظلمات إلى النور... إننا بحاجة إلى ثقافة تصنع نفوسنا على هذا النحو، إنها الثقافة التى صنعت أمتنا أولا والتى تنقذها أخيراً ! ص _020(2/16)
والفقه الذى يرشح أصحابه لخدمة الوحدة الإسلامية يحتاج إلى إضافات واجتهادات جديدة يستحيل أن تعجز عنها أصول الفقه عندنا. إننا بلغنا الآن أكثر من ألف مليون نسمة وهذا العالم الإسلامى الرحب الموار تلابسه أوضاع اقتصادية وسياسية واجتماعية بالغة التعقيد، وهو يحتاج إلى فقه إدارى ودستورى وذوى حسن التقدير لمعاش المسلمين ومعادهم على سواء. ذكى الصلة بالعوالم غير الإسلامية التى تشاركنا الحياة على ظهر الأرض.. وقد تحدث العلماء القدامى فى السياسة الشرعية، والتراتيب الإدارية. بيد أن حديثهم كان قليلاً، ويبدو أنهم أوجزوا حتى لا يصطدموا بالساسة، ويتعرضوا للمحن. ومع إيجازهم فقد وقفوا عند حاجات عصرهم. وقد مضت قرون طويلة، وهذا الضرب من ثقافتنا الإسلامية لا يعدو حاجات المسلمين حتى القرن السابع الهجري، فهل ينشط الفقهاء المسلمون ليجعلوا التشريعات الإدارية والدستورية والدولية مناسبة لمطالع القرن الخامس عشر الذى احتجتا بمقدمه من بضع سنين ؟ إن الألف مليون مسلم يتعرضون لامتحانات عالمية قاسية، بعضهم يدور فى فلك، الكومنولث، البريطاني، وبعضهم يذوب فى فلك الاتحاد السوفيتي، وبعضهم يلهث ليلتحق بالسوق الأوربية المشتركة، وبعضهم يؤثر القومية الأفريقية لجعل هذه القومية الأفريقية أعرق وأسمى من الثقافة الإسلامية !! وهذه دول تنقل دستورها من شرق أوربا، وهذه دول أخرى تنقله من غرب أوربا.. والفقه الإسلامى واقف طوعاً أو كرهاً فى مكانه العتيق لا يخدم البدائل المطلوبة، وإذا كان بعض الساسة القصرين يعترض هذا النمو الثقافى الحتم فهل ننتظر حتى تطوينا ردة العلمانية الحديثة. ص _021(2/17)
إحياء الولاء لله الأمة الإسلامية أمة دعوة إلى الله عز وجل، وهى بهذا تميزت عن سائر الأمم.. قال سبحانه وتعالي: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله) غير أن المؤسف حقا أن قطاعا عريضا من الأمة الإسلامية لا يدرك هذه الحقيقة، ومن ثم يجهل تبعا لذلك حقيقة أن أمتنا مكلفة بقيادة البشرية إلى الخير والفضيلة، وتوجيهها إلى عبادة الله سبحانه وتعالى وحده من خلال الالتزام الصادق بتعاليم الإسلام وأحكامه، التى تحوى أسباب سعادة الناس فى الحياة الدنيا وفى كل منحى من مناحيها. والحقيقة أن المرحلة التى تمر بها الدعوة الإسلامية فى الحاضر مرحلة صعبة للغاية، ذلك أن الوصول إلى النجاح فى مجال العمل الدعوى، إنما يتطلب وجود عناصر عديدة، وتوافر عوامل مساعدة كثيرة.. وأغلب تلك العوامل مفقودة، وهذا ما يجعلنى أردد دائما وعن اقتناع كامل أن الإسلام باق بجوهره، وأن بقاءه من خوارق العادات، ولولا نقاء جوهر الرسالة الإسلامية، ولولا وجود سر خفى فيها ما بقيت فى ظل هذا الحاضر الأليم الذى تميزه شدة أعداء الدين، وتخاذل أتباعه وقصور وسائلهم الدعوية، مما ألحق بهم هزائم شتى فى مواطن لا حصر لها. إن أفضل ما يمكن للأمة القيام به فى الحاضر هو إحياء الولاء لله والانتماء للأمة فى نفوس المسلمين، وإيقاظهم من غفوتهم التى طالت، إعلاء لراية الإسلام وجمعا للكلمة الإسلامية وتوحيدا للصف، فهذا كله من شأنه أن ينهض بمسيرة الدعوة الإسلامية. أرى أن واجب الدعاة المعاصرين أن يقبلوا على تفهم حقيقة الدين الإسلامى الذى يحملون أمانة الدعوة إليه بين البشر من مختلف الألوان والأجناس والألسنة.. وعليهم أن يجتهدوا فى تكوين اتصالهم الفكرى والعاطفى بالقرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، وإدراكهما إدراكا صحيحا. ولا يكون داعية ناجحا من لا يبذل قصارى جهده فى أن يكون طالب علم طوال أيام عمره، فالغوص فى الثقافة الإسلامية(2/18)
سواء القديمة أو الحديثة أمر لا غنى عنه لأي ص _022
داعية.. والثقافة الإسلامية القديمة أعنى بها نتاج علمائنا من السلف الذين طوفوا بين مختلف المعارف الدينية وغير الدينية وتركوا لنا تراثا هو مفخرة الثقافات كلها. أما الثقافة الإسلامية الحديثة فاجتهادات علماء الإسلام المعاصرين ممن استفادوا بشكل طيب من مختلف التجارب التى خاضها المسلمون فى الماضي، ومن تاريخ العلوم الدينية والعلوم الإنسانية.. وهذا كله من الضرورات بالنسبة لدعاة هذا العصر حتى يواجهوا بعلوم تحدياته وقضاياه التى تجد به. ومن المؤلم أن بعض دعاة الإسلام لا يدرى شيئا فى كثير من القضايا المعاصرة، ولذا فهو يتوقف عن الأخذ الجديد الذى يصل إليه علماؤنا المخلصون من خلال جهودهم ودراساتهم وبحوثهم، ومن ثم يقف هذا البعض عند معارفه القديمة التى يرددها دون أن يستخلص منها النافع للأمة فى هذا الوقت الذى تواجهه فيه بمناهج اقتصادية واجتماعية وسياسية انتفعت بكل ما وصل إليه البشر من معارف حديثة. ولا ينبغى والحال على هذه الصورة من تكالب الأعداء على الدين ، أن يفوت دعاة الإسلام ضرورة دراسة الفرق والتيارات المعادية بجوار دراسة الإسلام فى معارفه القديمة والحديثة دراسة واعية وجادة يقفون من خلالها على الأسباب التى جعلت تلك الفرق والتيارات تكسب مساحات من الأرض، وتستحوذ على آلاف العقول، ومن ثم يمكن التصدى لها. ومع دراسة كل تلك الفرق دراسة موضوعية فإنه بإمكاننا أن نعرف كل ما يراد بنا، وما يبيت لنا، ومن ثم يسهل على المسلمين دفع المخاطر عن أمتهم. ص _023(2/19)
الدين الحق...! لا أستطيع الفصل بين تقوى الله وحسن الخلق! ربما عاملنى شخص ما بلطف، ونظر إلى بوجه طلق، وهذا شيء أحمده له.. لكن ما العمل إذا كان هذا الشخص لا يذكر لله عهدا، ولا يشكر له نعمة، ولا يدين له بولاء؟ هل أعد هذا الشخص فاضلا لأنه أحسن معاملتى على حين أساء معاملة ربه؟ أعرف أن الحضارة الحديثة أغفلت الجانب الروحى وأسقطته من كل حساب، لكن هذا المسلك من أوزارها لا من مناقبها.. الإنسان الخير لا ينقسم على نفسه فيكون طيبا هنا وخبيثا هناك، بل تسود خلاله صبغة واحدة وجهة ثابتة. نحن نعد أعداء المجتمع البشرى مجرمين لأنهم يعتدون وينحرفون، والقرآن الكريم يثبت الصفة نفسها على من يخاصم الله ويلحد فى دينه: ( ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها إنا من المجرمين منتقمون). وعندما نسمع نصح لقمان لابنه نراه يمزج بين حسن معاملة الله وحسن معاملة الناس: ( يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور * ولا تصعر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحا إن الله لا يحب كل مختال فخور ). إنها سفالة بعيدة القرار أن يكفر امرؤ بالله ويجاهر بحربه، ثم ينتظر من الناس التقدير لأنه ابتسم لهم بعدما تجهم لسيده . ما يقبل ذلك أحد! ومعنى الإيمان بالله أن أكون أهلا لمعرفته وجديرا بالانتماء إليه، ولا يصلح لذلك إلا من هذب نفسه وصان مسلكه، إنك لا ترشح نفسك لصحبة كبيرة إلا إذا أصلحت هيئتك وزكيت سيرتك، فكيف ينتمى إلى الله مسف فى أحواله، مسيء فى أعماله، مريب فى خلاله؟! الواقع أن بعض المنتسبين إلى الدين ينفرون منه بما يلاحظ عليهم من انحلال وهبوط، والتدين الفاسد عدوان مضاعف على الدين الحق. ص _024(2/20)
لابد من جهاد دائم للنفس حتى تبرأ من رذائل الأثرة والهوى والعدوان، وأى دين يبقى مع بقاء هذه الآفات؟! يقول الله تعالى : ( وأحضرت الأنفس الشح ) ولا حرج من دفاع المرء عن مصالحه، أما أن يخرج من بيته كما يخرج السبع من غابة، لا هَمَّ له إلا أن يفترس ويغتال، فهذه وحشية، الحيوان لا يفكر إلا في نفسه وأولاده، وبعض الناس ينطلقون في الشوارع لا تملكهم إلا هذه الفكرة، فهم ينتقلون من منحدر إلى منحدر.. وبعض آخر مشغول بهدم الآخرين، والبحث عن عيوبهم، والتسلى بآلامهم.. ولا أدرى لماذا يتخيل بعض الناس أنه لا يبنى نفسه إلا إذا هدم غيره؟!! وهناك باحثون عن اللذة يمدون أعينهم إلى المكشوف والمستور من العورات، وقد حسبوا أن من حقهم إشباع شهواتهم لأن الكبت لا يجوز، وحبس الرغبة المحرمة من وصايا الأديان البالية! إن فقدان التربية السليمة، والتدين الحق يجعل الدنيا جحيما، والعلاقات البشرية فى الحضيض.. والحل الفذ أن نعود إلى حقيقة الدين، فنوثق علاقتنا بربنا، ونحسن الصلاة له والخشوع بين يديه، ونجعل علاقتنا بالناس محكومة بمعالم التقوى وخشية الله والتأهب للقائه.. إن الدين فى الغرب نهج لخدمة الجنس الأبيض واستغلال ثروات الأرض ونسيان الدار الآخرة، وقد لفحتنا ألسنة من هذه النار المندلعة، فلنعد بالدين إلى حقيقته، ولنجعله ربانية طاهرة، وأخوة مواسية، وصالحات مبرورة : ( ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى وإلى الله عاقبة الأمور). ص _025(2/21)
القوامة لاتعنى القهر..! هل قوامة الرجل على بيته تعنى منحه حق الاستبداد والقهر؟ بعض الناس يظن ذلك وهو مخطئ! فإن هناك داخل البيت المسلم ما يسمى "حدود الله" وهى كلمة لاحظت فى تلاوتى للقرآن الكريم أنها تكررت ست مرات فى آيتين اثنتين!! والآيتان فى دعم البيت المسلم حتى لايتصدع، وفى تدارك صدوعه حتى لا ينهار.. وهما قوله تعالي: ( الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون * فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون ). ما هذه الحدود التى تكررت ست مرات خلال بضعة سطور؟ إنها الضوابط التى تمنع الفوضى والاستخفاف والاستضعاف، ضوابط الفطرة والعقل والوحى التى تقيم الموازين القسط بين الناس، إن البيت ليس وجارا تسكنه الثعالب، أو غابا يضم بين جذوعه الوحوش. لقد وصف الله مكان المرأة من الرجل ومكان الرجل من المرأة بهذه الجملة الوجيزة: ( هن لباس لكم وأنتم لباس لهن) إن هذا التمازج بين حياتين يكاد يجعلهما كيانا واحدا، وليست الغريزة هى الجامع المشترك، فالنزوة العابرة لا تصنع حياة دائمة! وقد عنى المفسرون الكبار بجو البيت المسلم وهم يشرحون حدود الله التى تكررت كثيرا فيما سقنا من آيات، وكان أهم ما حذروا منه الظلم! قال صاحب المنار - رضى الله عنه -: ".. والظلم آفة العمران ومهلك الأمم، وإن ظلم الأزواج للأزواج أعرق الإفساد وأعجل فى الإهلاك من ظلم الأمير للرعية، فإن رابطة الزوجية أمتن الروابط وأحكمها فتلا فى الفطرة ص _026(2/22)
الإنسانية! فإذا فسدت الفطرة فسادا انتكث به هذا الفتل، وانقطع ذلك الحبل فأى رجاء فى الأمة من بعده يمنع عنها غضب الله وسخطه.. إن هذا التجاوز لحدود الله يشقى أصحابه فى الدنيا كما يشقيهم فى الآخرة.. وقد بلغ التراخى والانفصام فى رابطة الزوجية مبلغا لم يعهد فى عصر من العصور الإسلامية، لفساد الفطرة فى الزوجين واعتداء على حدود الله من الجانبين". والواقع أن داخل البيت يتأثر بخارجه، وتيارات الميوعة والجهالة والإسراف إذا عصفت فى الخارج تسللت إلى الداخل فلم ينج من بلائها إلا من عصم الله..! إننا نريد أن نتفق أولا على إقامة حدود الله، كما رسمها الكتاب الكريم. وشرحتها السنة المطهرة وأرى أن ارتفاع المستوى الفقهى والخلقى والسلوكى لكلا الجنسين سيوطد أركان السلام داخل البيت وخارجه، وسيجعل المرأة تبسط سلطانها فى دائرتها كما تتيح للرجل أن يملك الزمام حيث لا يصلح غيره للعمل فى زمام الحياة وعراكها الموصول. إذا كان البيت مؤسسة تربوية أو شركة اقتصادية فلابد له من رئيس، والرياسة لا تلغى البتة الشورى والتفاهم وتبادل الرأى والبحث المخلص عن المصلحة. إن هذا قانون مطرد فى شؤون الحياة كلها، فلماذا يستثنى منه البيت؟ وقوله تعالى في صفة المسلمين : ( وأمرهم شورى بينهم) نزل في مكة قبل أن تكون هناك شؤون عسكرية أو دستورية! وعموم الآية يتناول الأسرة والمجتمع، ويقول الأستاذ أحمد موسى سالم : "إن القوامة للرجل لا تزيد على أن له بحكم أعبائه الأساسية، وبحكم تفرغه للسعى على أسرته والدفاع عنها ومشاركته في كل ما يصلحها. أن تكون له الكلمة الأخيرة. بعد المشورة. ما لم يخالف بها شرعا أو ينكر بها معروفا أو يجحد بها حقا أو يجنح إلى سفه أو إسراف، من حق الزوجة إذا انحرف أن تراجعه وألا تأخذ برأيه، وأن تحتكم فى اعتراضها عليه بالحق إلى أهلها وأهله أو إلى سلطة المجتمع الذى له وعليه أن يقيم حدود الله". وهذا كلام حسن، وأريد هنا إثبات(2/23)
بعض الملاحظات : أولا : أن النفقة معصوبة بجبين الرجل وحده، وأن إنفاق المرأة فى البيت مسلك مؤقت وتطوع غير ملزم، وعليها أن تجعل أثمن أوقاتها لتربية أولادها والإشراف العلمى والأدبى عليهم. ص _027
ثانيا: أن دور الحضانة مأوى موقوت تلجأ إليه ضرورات عابرة وأن الأساس فى الإيواء والتربية هو البيت الأصلى ودفء الأمومة وحنانها! ثالثا: حرمات الله حولها فى الإسلام أسوار عالية يجهلها كل سكران أو ديوث، وتقاليد الغرب التى تتيح لأى امرئ أن يراقص أى امرأة بإذن أو بغير إذن من زوجها يرفضها ديننا كل الرفض، وليس لرجل أو امرأة أى حرية فى انتهاك حدود الله واعتداء حرماته. رابعا: الأسرة مملكة ذات حدود قائمة تشبه حدود الدول فى عصرنا وطبيعة هذه الحدود الحماية والمحافظة، فليس البيوت مبنية على سطح بحر مائج التيارات، وليست بابا مفتوحا لكل والج وخارج. ولعقد الزواج أبعاد فقهية واجتماعية وتربوية ينبغى أن تعرف وأن تعرف معها قوامة الرجال.. وكان من السهل أن يتضح ذلك لو سارعنا إلى إنشاء "علم اجتماع إسلامي" تلتقى فيه قضايا الأسرة كلها إلى جانب ضروب التعاون والتلاقى بين طوائف الناس المختلفة.. ولكننا ما نزال نحبو فى هذا المجال مكتفين بالترجمة والتقليد، مع أن العلوم الإنسانية فى برامجها الجديدة تمس كيان الأسرة من زوايا كثيرة، بل إن علوم التربية والأخلاق والاقتصاد والاجتماع. قبل علم القانون. تتصل بشؤون الأسرة. وقد غضبت نسوة غيورات لما عرف الفقهاء عقد الزواج بأنه "عقد يبيح حل المتعة بالمرأة"! وظاهر أن التعريف قاصر على المعنى الكبير للعلاقة بين الزوجين! إنه تناول الجانب الذى يدخل منه القانون، ولم يتناول الجوانب التى تدخل منها بقية العلوم الإنسانية، والزواج أكبر من أن يكون عقد ارتفاق بجسد امرأة.. ( والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ورزقكم من الطيبات أفبالباطل يؤمنون وبنعمت الله هم يكفرون).(2/24)
قالت لى امرأة غاضبة: "إذا غضب منى زوجى فى حوار، قد أكون فيه صاحبة حق حرمت رضوان الله، ولعنتنى الملائكة...و ...و ..." فقاطعتها على عجل، وأفهمتها أن الحديث الوارد فى شأن آخر بعيد .. بعيد عما تتوهمين.. الحديث ورد فى امرأة تعرض زوجها للفتنة لأنها تمنعه نفسها، وهو لا يستغنى عنها.. ذاك هو المراد!! إن الإسلام يقوم على حقائق الفطرة والعقل، لأنه فطرة الله التى فطر الناس عليها. ص _028
لِمَ نتعصب لما نألف...؟!! طرق بابى رجل مذعور يتحدث حديثا موتورا فى أهله وماله، وأحسست أنه يطلب منى النجدة! قلت له فى هدوء: مابك؟ قال: فى ساعة غضب فقدت وعيى وقلت لامرأتى أنت على حرام.. وأفتانى بعض الشيوخ بأنى قد فقدتها فلا تحل لى أبدا.. قلت للرجل: أتصلى الخمس؟ قال: نعم، قلت: وامرأتك؟ فتردد قليلا، ثم قال: تصلى أحيانا! قلت: وأولادك؟ قال: بعضهم يصلى وبعضهم لا يهتم بالصلاة! فتريثت طويلا كأنى أبحث له عن حل ثم قلت له ترد زوجتك إليك على شرط! قال: ماهو؟ قلت: تحافظ أنت وزوجتك على الصلوات، وتراقب علاقة أولادك بالمسجد حتى تطمئن إلى أنهم يؤدون الفرائض الخمس، وعليك كفارة يمين، تطعم عشرة مساكين إن كنت غنيا، أو تصوم ثلاثة أيام إن كنت فقيرا.. واستبق زوجتك فى بيتك! وخرج الرجل، وبعد أيام جاءنى الذين أفتوه بأن امرأته طلقت طلاقا بائنا، سألونى كيف أفتيت بحل هذه الزوجة؟ إننا هنا مالكية نعد ما وقع بينونة كبرى؟ قلت: مذهبى غير ذلك، وأنا أرى بأن تحريم الحلال يمينا وكفارته كفارة يمين، وفى صحيح مسلم عن ابن عباس قال: إذا حرم الرجل امرأته فهى يمين يكفرها، وفى رواية أخرى أن رجلا جاءه وقال له إنى جعلت امرأتى على حراما، فقال له ابن عباس: كذبت، ليست عليك بحرام! ثم تلا قوله تعالى : ( يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك والله غفور رحيم * قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم). عليك كفارة يمين!! ويبدو أن كلامى لم يقنع سامعيه(2/25)
فقلت لهم لماذا تتحمسون لخراب بيت، وجعل المرأة أيما والأولاد يتامى وأبوهم حي؟ إن المذاهب تختلف فى فروع الفقه، وفى الأحكام التى تصدرها على أعمال الناس، وعلينا أن نختار الأرعى لمصلحة الأسرة ومستقبل الأولاد واستقرار المجتمع، علينا أن نحصن الإسلام من تهم الأعداء وأحقاد المتربصين!! ص _029
ومادام هناك رأى إسلامى محترم، فلا ينبغى أن نتعصب لما نألف! إذا كان مانجهله خيرا وأجدى على الناس. قال لى رجل مريب: كأنك لا تحب مالكا ومذهبه! قلت: أعوذ بالله من كراهية الصالحين. لكنى أكره التعصب الأعمى، وفيما يتعلق بشؤون الأسرة وأحوال المجتمع أوثر كل رأى يحقق المنفعة العامة والخاصة، ويوائم ما تصبو إليه الإنسانية المعاصرة من احترام للفطرة وتقدير لقيمة الإنسان المسلم.. إننى لست مغرما بجر الشبهات إلى سمعة الإسلام. ص _030(2/26)
التعصب للحق لست أستغرب مسالك الأشرار إذا جاءت وفق طبائعهم فإذا الذئب المفترس لا يستكثر عليه أن يعقر ويغتال... إنما الغرابة من موقف المسلمين الذين كثرت حولهم الأنياب الجائعة ومع ذلك فهم مسترسلون فى طيبتهم وتهاونهم!!! إن فى العالم الآن طوفانا نجسا من التعصب ضد الإسلام وأمته.. ألا نتعلم التعصب للشرف والعرض والأرض فى هذه الظروف العصيبة؟ التعصب وصف رديء عندما يكون معناه جمود الفكر، وانحصار الأفق، والتشبث بالهوى، والجنوح إلى الباطل مهما بدا عواره. ونحن نرفض هذا الوصف ونأباه على أنفسنا وقومنا. ولكن عندما يكون التعصب أثرا لاحتدام الحق، وإكبار أهله، ودعم جانبهم، وكره عدوهم، فإن التعصب هنا يرادف الإيمان والجهاد، ولا يتخلى عنه امرؤ ذو دين!! وفى العالم اليوم: * حقائق رخصها الضعف. * وحقوق هضمها البغي. * وقوى شرسة استمرأت العدوان. * ومسلمون طمع فيهم من لا يدفع عن نفسه، حتى كان البغاث بأرضنا يستنسر! أفلا يوقظنا مرأى هذه الصور الكريهة إلى أن نعرف من نحن ؟ وماذا نحمل من رسالات الله؟ وماذا نستطيع أن نسديه لأنفسنا وللعالم أجمع لو غالينا بديننا وتاريخنا، وشققنا الطريق إلى المستقبل على سناه الهادي؟؟ وعندما أقرأ سورة "الممتحنة" يحيا فى نفسى معنى التعصب للحقيقة، والدفاع عنها، والوقوف إلى جانبها على رقة الحال، وكآبة المنظر فى الأهل والمال!! إنه ليس من الشرف أن أجامل من يهين الحق، وليس من صدق اليقين أن أمالئه وأترضاه. وقد نزلت سورة "الممتحنة" لتلقن المؤمنين هذا الدرس حتى يبقى حيا فى نفوسهم إلى يوم الدين، فقال جل شأنه : ص _031(2/27)
( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق..). عيب واضح أن أصادق عدو الله وعدوي، وأن أبسط يدى ولسانى له بالسلام، وهو يزدرى ما عندي، ولا يتواني!! ومن هنا عللت السورة النهى من المصافات، فقالت بعد إثبات كفرهم: ( يخرجون الرسول وإياكم...). لماذا؟ (... أن تؤمنوا بالله ربكم). ثم اطرد السياق القرآنى يقول: ( إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي..). أي فلا تسلكوا هذا المسلك، وتطووا قلوبكم على حب من طردكم وأهانكم!! كيف تفعلون هذا؟ (..تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم )؟؟ والتعبير "بأنا" فى هذا الموضع يفرض علينا أن نتوقف قليلا لنتدبره فقوله جل شأنه: ( وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ) فيه معنى التحذير من الرقيب الخبير. وهذا المعنى صرحت به سورة أخرى فى مثل هذه القضية قال تعالي: ( لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه..)!! والغريب أن هذا التحذير يتكرر فى الموضع نفسه، مؤكدا علم الله بما نخفى وما نعلن، حتى لا نتورط فى مسالمة عدو يبتغى إبادتنا، أو الوقوف منه موقفا بعيدا عن الصرامة والمفاصلة، فقال جل شأنه: ص _032(2/28)
( يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ويحذركم الله نفسه..)!! تحذير يتكرر مرتين بعبارة رهيبة هي: (... ويحذركم الله نفسه ) إنها هناك توضيح لقوله هنا: ( تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل ). هكذا بدأت سورة "الممتحنة" تعلمنا ضرورة التعصب للحق، والتمسك بأهدابه، وكراهية المعتدين عليه، والنفور من مودتهم. وإذا كان هذا المعنى الحاسم قد تصدرها: فإنه قد تمشى فى آياتها على صور متفاوتة، ثم كان لها الختام المبين فقال جل شأنه : ( يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قوما غضب الله عليهم قد يئسوا من الآخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور ). إن الأحياء من الكفار قد قنطوا من عودة إخوانهم الذين ماتوا إلى الحياة مرة أخرى، أو أن الموتى من الكفار قد يئسوا من الحصول على مكانة عند الله فى الدار الآخرة. سواء كان هذا المعنى أو ذاك فإن المؤمنين لا يليق أن يصادقوا قوما تلك حالتهم!! ولنلق على السورة من بدئها إلى ختمها نظرة جامعة نتعرف بها أسباب النزول كما ذكرها المفسرون والمؤرخون. لقد استغرق نزول هذه السورة - على وجازتها - قريبا من عامين، وصدرها نزل فى السنة "الثامنة" عندما قررت الكتائب المؤمنة أن تجهز على الوثنية المتحكمة فى مكة، وأن تعيد إلى دائرة التوحيد هذا المعقل الأشم. ووسط السورة نزل فى السنة "السادسة" بعد ما تم "عهد الحديبية" بين المسلمين وأهل مكة، وبدأ التنفيذ وظهرت بعض المشكلات. ص _033(2/29)
وآخر السورة نزل بعد الفتح الكبير، وإقبال أهل مكة رجالا ونساء على مبايعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - والالتزام بتعاليم الإسلام. ومع الاختلاف الزمنى الملحوظ فى نزول الآيات فإن ترتيبها لم يفقد ذرة من الاتساق والتماسك. بل هو نسق من الإعجاز السارى فى أسلوب القرآن الكريم كله. وأشعر بأن القرآن فى علم الله القديم كان على هذا الترتيب الذى نحفظه، وإن الآيات كانت تنزل وفق الأحداث، ثم يأمر الرسول بوضعها فى مكانها بتوقيف إلهي، فتعود إلى وضعها الأزلى على النحو الذى يقرأ الآن. والمحور الذى دارت عليه السورة كلها، هو الحب والبغض فى الله، وهو قاسم مشترك بين أجزاء السورة منذ بدأ النزول، ولذلك فإن وحدة الموضوع ظاهرة شائعة فيها ففى أوائل السورة نقرأ كيف رفض القرآن الكريم ماوقع من "حاطب بن أبى بلتعة" الذى راسل أهل مكة يخبرهم باستعداد الرسول للسير نحوهم، كى يأخذوا أهبتهم!! وهو عمل شنيع، ولولا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عفا عن الرجل تقديرا لسابقته فى خدمة الإسلام لكان جزاؤه القتل. وهنا نرى الوحى - بعد استنكار التصرف السابق - يقول للمؤمنين: ( لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم يوم القيامة يفصل بينكم والله بما تعملون بصير). أى لا يجوز أن يخفف شيء ما من حدة الخصام للكفر وشيعته، ولو كان الحرص على القرابة والولد والمال فإن جانب الله أولى بالرعاية. والمثل الأعلى أن يقول المؤمنون لأعدائهم: ( إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده). وهذه مصارحة بالقطيعة فى سبيل الله، ومعالجته بالحب لله والبغض لله. وليس أمام المؤمنين إلا هذا السلوك. ص _034(2/30)
وقد كان إبراهيم والمؤمنون معه على هذا الغرار، وإذا كان إبراهيم قد لاين أباه يوما وقال له : (لأستغفرن لك وما أملك لك من الله من شيء ). فذلك اللين ليس مهادنة للضلال، ولا ضعفا فى الإحساس بحق الله " كلا": (وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه..). وهكذا انقطعت أغلى الصلات إيثارا لحق الله. إن حق الله على عبده لا يرجحه شيء فى الأولين ولا فى الآخرين، والاستهانة به ضلال مبين. هل هذا التهجم الشديد ضد الضلال والضالين يرجع إلى غلظة طبع أو شراسة خلق! لا.. لا.. إننا فى شوق، إلى سيادة السلام، وامتداد عواطف الحب إلى كل قلب، والأمر بيننا وبين خصومنا واضح مستقيم، فمن حاسننا حاسناه، وكنا أسرع إليه بالود والرحمة. ولكن كيف نلين مع من استباح كرامتنا ؟ ونشد إساءتنا وإهانتنا، وأخرجنا من ديارنا وأموالنا! إن مصادقة من يفعل ذلك بنا نذالة، وخسة لا يهبط إليها مؤمن!! قال تعالى : ( لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين * إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون). والظلم هنا الهوان، قبول الدنية، والاستكانة إلى الضيم، والرضا بحياة الفسوق والمروق، والعيش فى كنف الفاسقين المارقين. هذا صدر السورة الذى استغرق نصفها، ونزل فى السنة "الثامنة". ص _035(2/31)
أما وسطها الذى نزل من قبل، فهو يعود بنا إلى نص فى معاهدة الحديبية يقضى بأن يرد المسلمون عن المدينة من لحق بهم مؤمنا من أهل مكة، وإن كان أهل مكة يقبلون من لحق بهم مرتدا..!! ومع أن الأيام أثبتت جدوى هذا النص على المؤمنين إلا أن القرآن الكريم استثنى النساء ابتداء من تطبيقه وأمر المؤمنين أن يمتحنوا المؤمنات الفارات بدينهن فإذا علموا منهن صدق الاعتقاد وشرف الغاية قبلوهن فى المجتمع الإسلامى فورا. إن هؤلاء النسوة المهاجرات التاركات لأزواج كافرين يجب أن نرحب بهن وأن نقدم تحية إكبار للعاطفة التى خرجت بهن إلى دار الإيمان. لقد كرهن رجالهن وفارقنهم لله فلا ينبغى أن يعدن لهم قال تعالى : ( فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن ). وإتماما لإقامة المجتمع على احترام الدين، وإعزاز مشاعر الحب والبغض لله صدر الأمر بتسريح الزوجات الكافرات: (ولا تمسكوا بعصم الكوافر ). إن قبول هؤلاء النساء المؤمنات ومفارقة الكافرات تشريع متكامل وحكمته واضحة وقد نفذت معاهدة الحديبية بالنسبة إلى الرجال الذين ما لبثوا أن نظموا حرب العصابات ضد أهل مكة حتى اضطروهم إلى أن يطلبوا من الرسول قبولهم فى المدينة!! ونصل إلى آخر السورة لنقرأ بيعة النساء، كان ذلك بعد فتح مكة واستسلام أهلها لكتائب الرحمن. إن أولئك الناس طالما آذوا الله ورسوله، وها هى ذى "هند" المرأة التى أكلت كبد "حمزة" قد أعلنت دخولها فى الإسلام، فماذا نصنع معها! لاشيء!! ننسى الماضي، ونغفر الأخطاء ونعلمها وصاحباتها كيف تتأدبن بآداب الإسلام، ثم يصبحن بعد أخواتنا: ( يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك في معروف فبايعهن واستغفر لهن الله إن الله غفور رحيم ). ص _036(2/32)
نعم. إن الله غفور رحيم، فلننس الماضى ولنتحاب فى الله. لقد كان القرآن فى هذه السورة يرقب متاب هؤلاء وعودتهن إلى الصواب وإقلاعهن عن إيلام المؤمنين، قال تعالى : ( عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة والله قدير والله غفور رحيم ). والمودة المرتقبة إنما تقع من أناس يخف ضغط التعصب على قلوبهم ورؤوسهم، ويجوز أن تنقشع غيوم الغفلة عن آفاقهم وضمائرهم. فإن المرء قد يخطئ لملابسات معينة أحاطت به، وربما ظل على خطئه لأن هذه الملابسات بقيت فى مكانها، لم تجد من يزيلها أو ينتقصها. لكن ما الموقف إذا تشبث الإنسان بالزلل وهو يدعى إلى الاستقامة؟ أو أصر على الخطأ وهو يرى وجه الحق وضيئا مشرقا؟ إن هذا الإنسان أجدر خلق الله بالمقت وأولاهم بالعقاب الآجل والعاجل... وإنك لترى الوحى الإلهى طافحا بالوعيد وهو يتناول أولئك الجاحدين من صرعى التعصب الأعمي. ( سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين ). ولنلفت النظر إلي أن الغفلة هنا ليست قصور عقل عن المعرفة الغائبة، ولكنها بلادة قلب عن استيعاب المعرفة المبذولة، والنصح القريب! وهذا هو التعصب الذى يأباه على نفسه كل عاقل أو منصف. والقرآن فى آيات كثيرة يلمح إلى هذا المعنى وإن لم يذكر التعصب بلفظه، فإذا قال تعالى : ( إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون). فإن المقصود أناس طال نصحهم وطالت لجاجتهم، طال تعليمهم، وطال صدودهم... وليس المقصود وصف أقوام تعرض عليهم الدعوة لأول مرة. ص _037(2/33)
وبديهى أن ينتهى هذا الصدود بما ينتهى به كل جحد وتبجح، من استمراء للشر واستهانة بالخير واستحلاء للقبيح. ( إن الذين لا يؤمنون بالآخرة زينا لهم أعمالهم فهم يعمهون * أولئك الذين لهم سوء العذاب وهم في الآخرة هم الأخسرون). وقد صحب التعصب من قديم حيف شديد على أهل الإيمان، وتطاول على حقوقهم المادية والأدبية، وتصوير كذوب لأقوالهم وأعمالهم، وإلحاق للمعايب والمقابح بسيرتهم وتاريخهم وكان نصيب الأمة الإسلامية كبيرا من هذا التعصب الجائر الآثم. ولست أستغرب مسالك الأشرار إذا جاءت وفق طبائعهم فإن الذئب المفترس لا يستكثر عليه أن يعقر ويغتال. إنما الغرابة من موقف المسلمين الذين كثرت حولهم الأنياب الجائعة، والطوايا الكنود، ومع ذلك فهم غارون مسترسلون فى "طيبتهم" وتهاونهم.. فإلى متى؟ إن أرضنا انتقصت من أطرافها شرقا وغربا وفق خطة رسمت بأناة وروية… ثم بدأت الإغارة على قلب العالم الإسلامى استكمالا للإجهاز عليه طولا وعرضا، فهلا عرفنا ما يراد بنا؟ إن فى العالم الآن طوفانا نجسا من التعصب ضد الإسلام وأمته. وأمامى وأنا أكتب هذه السطور أنباء الدماء المراقة والأشلاء الممزقة للمسلمين المستضعفين فى الفلبين، وما قصة الإسلام الذبيح فى الفلبين إلا نموذج مكرر لأقطار أخرى من الأرض أهين فيها الدين واستبيح حماه، وشرد أهلوه، وأكلت حقوقهم!! بل إن المسلمين - حيث يكونون كثرة فى بلاد أخرى - تجرأ عليهم كل ذى ملة، وتطلع إلى ما لم يكن يحلم به فى يوم من الأيام!! ألا نتعلم التعصب للشرف والعرض والأرض فى هذه الظروف العصيبة؟ لعلنا... لعلنا... فإذا تحقق ما نصبو إليه فلله الحمد. نحن ما نسعى إلى قتال ولا نشتاق إلى سفك دم. لكن إذا فرض علينا القتال فإن الذرة من التهاون فى كراهية المعتدين جريمة يجب أن ندخل المعركة بكل ما لدينا من غضب وقسوة وصرامة. ص _038(2/34)
الموت فاصل خفيف بين الوجودين من حق كل قوم جاءهم مدع للنبوة أن يدرسوا قوله وشخصه ثم يحكموا له أو عليه؛ ونحن نتساءل، وماالذى أتى به محمد؟ لقد حدثنا أن الله حق وفصل أدلة وجوده وكماله على نحو لم يسبق إليه، وأنه واحد، كل من فى السماوات والأرض مخلوق له مفتقر إليه لا استثناء لملك أو إنس أو جن، وأن لقاءه حتم لمحاسبة كل مكلف ( فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ). لماذا أكفر بمحمد؟ لو رأيت أحدا جاء بأفضل مما جاءنا به لتبعته! وسورة النبأ تقول للمشركين، هبوا أن دعوة محمد لم تقنعكم أفلا تفكرون فى خلق السماوات والأرض؟ ( ألم نجعل الأرض مهادا * والجبال أوتادا * وخلقناكم أزواجا). نحن الآن في القرن الخامس عشر الهجرى ونهايات القرن العشرين الميلادى وقد ورثنا رسالات شتى ، ومن حقنا أن نوازن وأن نرجح، والحق أقول أنى أمام تراث محمد من كتاب وسنة لا أقدم أحدا ، أو بتعبير أقرب إلى الإنصاف، أصدقه حين يقول إن رسالته تمثل الوحى القديم والأخير معا، وإن ما خلقه هو مزاعم بشر وليس وحيا سماويا ( ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك) أى أننى حين أتبع محمدا أتبع معه موسى وعيسى، ونوحا وإبراهيم.. وهذه السورة تتكون من أربعة فصول متميزة، الأول وصف الكون والناس إلى قوله جل شأنه: ( وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا * لنخرج به حبا ونباتا * وجنات ألفافا ). والثانى وصف موجز ليوم الحساب، ( إن يوم الفصل كان ميقاتا * يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجا ) ، وإكثار القرآن من ذكر القيامة لمقاومة حب العاجلة الذى يغلب على الطباع. والثالث وصف للعقاب الذى ينتظر المجرمين، ( إن جهنم كانت مرصادا * للطاغين مآبا * لابثين فيها أحقابا). والرابع وصف للنعيم الذى ينتظر ص _039(2/35)
المؤمنين الصالحين ( إن للمتقين مفازا * حدائق وأعنابا * وكواعب أترابا..) إن الجزاء المعنوى حق وستنضر وجوه المؤمنين وهم مع جماهير الملائكة يسبحون بحمد الله ويهتفون بمجده، ومن تمام المتعة أن يكون ذلك فى حدائق زاهرة ومع لذات مؤنسات، وبعد هذا الوصف الشائق يقال لأولى الألباب، ( ذلك اليوم الحق فمن شاء اتخذ إلى ربه مآبا ) فمن تزود بالتقوى أفلح، ومن عاش مذهولا هنا وقدم على الله صفر اليدين ندم بعد فوات الأوان ( إنا أنذرناكم عذابا قريبا يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا ) نقول فى ختام السورة للمتسائلين عن محمدا، ماذا كسب لشخصه من هذا البيان؟ هل عيبه أنه كان حار الأنفاس فى الدعوة إلى الله؟ وأنه كان جلدا فى مقاومة الفتانين والطغاة؟ ( والنازعات غرقا * والناشطات نشطا * والسابحات سبحا * فالسابقات سبقا * فالمدبرات أمرا ) الذى أختاره أن الأقسام بالكواكب الدوارة في الفضاء، تشق طريقها بغير وقود وتسرع السير بغير توقف وتعرف الطريق بغير جندى مرور ثم يجيئها أجلها مع نهاية العالم فإذا هى تتلاشى! متى؟ (يوم ترجف الراجفة * تتبعها الرادفة ) فى الزلزال الكبير الذى يفقد كل شيء توازنه وتترادف مزعجاته فإذا القلوب مضطربة والأبصار كسيرة! يقول المشركون عند سماع هذا النذير، ( أئنا لمردودون في الحافرة ) أراجعون نحن إلى الطريق الذى جئنا منها؟ أعائدون إلى الحياة مرة أخرى؟؟ هكذا يحدثنا الرسول؟ ومتى؟ بعد أن نموت ونبلى ( تلك إذا كرة خاسرة ) عودة لا خير فيها لأننا ما صدقناها ولا أعددنا لها.. ( فإنما هي زجرة واحدة * فإذا هم بالساهرة ) بساعة الحشر والجزاء، إن أتباع الفلسفة المادية المعاصرين لا يزيدون على مشركى الصحراء الأقدمين عندما يقولون، إن هى إلا أرحام تدفع وأرض تبلع وما يهلكنا إلا الدهر! فما الموقف إذا رأوا أنفسهم أحياء لم يصبهم ص _040(2/36)
شيء؟ واستتلت الآيات تتحدث عن فرعون وهو من أكابرالمجرمين، والحق أن الفرعنة مرض عام أساسه بطر الحق وغمط الناس، وقد يكون في الحكام والإداريين والفنانين والكناسين. والمرء إذا ذهب بنفسه عاش أنانيا جائرا لا يحق حقا ولا يبطل باطلا، وجهنم تأخذ حطبها من هؤلاء جميعا. ويخاطب القرآن البشر: علام الكبر والصد عن سبيل الله ( أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها * رفع سمكها فسواها) إن الإنسان – بالنسبة إلى غيره – كائن ضعيف ما يجوز له أن يعمى ويطغي، بل يجب أن يتقى ربه ويتزكي، وإذا كان قد ملك التصرف فى كائنات أخرى ، فليسخر هذا التفوق فى شكر الله وأداء حقوقه.. وعادت السورة إلى ما بدأت به من حديث عن البعث والجزاء ليجعل الإنسان من حياته الأولى مهادا للحياة الأخرى ( فإذا جاءت الطامة الكبرى * يوم يتذكر الإنسان ما سعى * وبرزت الجحيم لمن يرى ) إن الناس يومئذ رجلان : عبد لشهواته يعيش لإشباعها، وعبد لله يشعر بقيامه ورقابته فلا ينسى حقه ( فأما من طغى * وآثر الحياة الدنيا * فإن الجحيم هي المأوى * وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى * فإن الجنة هي المأوى ) ويجمح التطلع والاستخفاف بأصحابها فيتساءلون عن الساعة ( يسألونك عن الساعة أيان مرساها * فيم أنت من ذكراها * إلى ربك منتهاها ) إن علمها عند الله وحده، وما ينفعكم العلم بها إذا لم تستعدوا لها؟ إن الوجود موصول، والموت فاصل خفيف بين الوجودين الأول والأخير وستعرف قيمة الدنيا يوم اللقاء ( كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها). ص _041(2/37)
من هم أصحاب الأعراف؟ بدأت سورة الأعراف بحديث مجمل عن قضيتين مهمتين، الأولى تتصل بالقرآن الكريم، والثانية في المنكرين له والمكذبين له جملة بالوحى الإلهي. في القضية الأولى نزل قوله تعالى : ( كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين * اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء..) والحرج المنهى عنه يجيء من سوء استقبال المشركين لمن يريد هدايتهم، وتزهيدهم في مواريثهم، والإنذار إعلام مع تخويف، والمطلوب من المستمعين عامة أن يتبعوا الكتاب الناصح لهم، ويهجروا ماعداه من تقاليد لا خير فيها، مهما كان مصدرها، فإن الأولياء المتبعين دون الله لن يجيئوا بخير، فماذا بعد الحق إلا الضلال؟ وقد تحدثت السورة بعدئذ عن الكتاب في جملة مواضع منها قوله تعالى : ( ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون * هل ينظرون إلا تأويله..) يعنى هل ينتظرون إلا أن يتحقق وعده ووعيده فيظفر المؤمنون بالنصر والثواب، ويكتوى الكافرون بالهزيمة والعقاب؟. ومنها قوله تعالى : ( إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين ). وهذا على لسان النبى - صلى الله عليه وسلم - ومعناه أن الله يتولى نصره وحفظه حتى يبلغ ما نزل على قلبه، ويجعل الحياة تستضيء به وتسير بتوجيهه، ومنها قوله تعالى فى ضرورة تدبر هذا الكتاب والانتفاع بما حوى من علوم ( وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون ) فالكتاب ذكرى للمؤمنين ونماء لعقولهم ورحمة تهبط عليهم.. أما القضية الثانية التى افتتحت بها السورة فهى تدرك من قوله تعالى : ( وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتا أو هم قائلون * فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين). ص _042(2/38)
وهلاك القرى التى تمردت على المرسلين سنة وعاها التاريخ، وقد فصلت سورة الأعراف ما وقع لعاد وثمود ومدين، وقوم نوح وقوم لوط. ويظهر أن الله سبحانه وتعالى أرسل الأنبياء الأولين لعرب الجزيرة شمالا وجنوبا. فلما كفر أولئك العرب وآذوا رسلهم دمر الله عليهم وأباد خضراءهم.. ثم أتى موسى الكتاب ليهدى به مصر، وبنى إسرائيل، وشرح مواقف الفراعنة واليهود شرحا واسعا، فلما زاغوا عن الصراط ورفضوا هدايات الله أوقع بهم بطشه ثم عاد الوحى الخاتم مرة أخرى إلى وسط الجزيرة. واستطاع محمد - صلى الله عليه وسلم - بفضل الله أن يخرج الناس من الظلمات إلى النور، وأن يجعل من العرب الذين اهتدوا به أمة وسطا، ورثت الوحى إلى قيام الساعة ولازال وحيها مصونا وكتابها قائما، وسيبقى البشر ما بقيت الحياة الدنيا مكلفين بسماع هذا الكتاب والاقتباس منه لأنه وحده الذى يقيهم السيئات. والمهم أن يقدر العرب رسالتهم، وأن يعرفوا نسبة الميراث الذى اختصهم الله به عندما قال: ( ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا..). وأن يوقنوا بأهم مساءلون عن موقفهم منه ( فلنسئلن الذين أرسل إليهم ولنسئلن المرسلين * فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين). وبين الله سبحانه فى صدر السورة أن الحساب الجامع سوف يبت فى مصير كل إنسان، ( والوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون* ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون ). ولكن هذا البيان الموجز أعقبه بعد قليل تفصيل كاشف عن مصاير الطوائف المختلفة التى اختصمت فى ربها على صعيد الأرض. فهناك أولا المؤمنون أصحاب الأعراف ثم الكافرون، وقد جرى حوارا بين هؤلاء وأولئك نرى أن نتوقف قليلا عنده، إن أهل الجنة يحيون فى عالم من السماحة والحب والسلام، مشغولون بشيء واحد هو تسبيح الله وتحميده، وهم يشعرون بما أسدى الله إليهم من نعماء ويقولون ( الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن(2/39)
هدانا الله). ص _043
إنهم - بإزاء مارأوا من فضل - يجردون أنفسهم من كل استحقاق، ويشعرون كأن العطاء الأعلى هو الذى سبق بهم وأنالهم تلك المكانة، وهنا يذكرهم الله بسعيهم القديم وجهدهم المقبول ( ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون). وعندما يطمئنون إلى أحوالهم يتذكرون خصوم الأمس من الجبابرة والملاحدة فيحبون أن يعرفوا ما لاقوا ( ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا قالوا نعم فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين ). إن هؤلاء الظلمة كانوا ينكرون البعث والجزاء وكانوا يبطشون بالمستضعفين من المؤمنين وكانوا يشوهون معالم الحق ويغلقون طرقه، فهاهم أولاء يجدون مصيرهم العدل.. واختصت هذه السورة بذكر أصحاب الأعراف، ومنهم أخذت اسمها والشائع بين المفسرين أن هؤلاء قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم، فانتظروا حتى يبت فى أمرهم! وأرى أن أصحاب الأعراف هم الدعاة والشهداء الذين بلغوا رسالات الأنبياء وقادوا الأمم إلى الخير فإن الأعراف هى القمم الرفيعة، ومنها سمى عرف الديك عرفا.. وهم فى الآخرة يرقبون الجماهير والرؤساء فى ساحة الحساب، ويلقون بالتحية أهل الجنة وبالشماتة أهل النار، وحديث القرآن الكريم يرجع هذا الفهم فهم يتكلمون بثقة ويوبخون المذنبين على ما اقترفوا ويستعيذون بالله من مصيرهم.. ومن المستبعد أن يكون ذلك موقف قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم لا يدرون أين يذهب بهم؟ وهناك نداء آخر من أهل النار وهم يرسلون صراخ النجدة ( ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله...) وهيهات فلن يجيرهم من الله أحد!! لقد كفروا بالله وجحدوا لقاءه ولم يخطر ببالهم هذا اليوم ولا استعدوا له بشيء فمن أين تأتيهم النجدة؟ وهنا نذكر أن معانى القرآن متداخلة متضافرة تلتقى كلها فى سياق واحد يعمل عملا فى النفس، وليست هدايات القرآن فصولا مقسمة على نحو(2/40)
متميز! وهكذا العالم تراه مصدرا لأشتات العلوم وهو كيان واحد يستقى منه علماء الأحياء وعلماء طبقات الأرض وعلماء الفلك وعلماء القوى المحركة... إلخ. ص _044
الذى يستحيل أن يعاب فكرة إله مزدوج أو مثلث لم ينزل بها وحي، ولم يتمخض عنها فكر، أنا وأنت وعالمنا كله وليد إرادة عليا واحدة؛ اتجهت إلى تكويننا، وقدرة عليا واحدة أبرزتنا من العدم إلى الحياة، ليست هناك قدرتان، ولا إرادتان، ولا ألوهيتان، إنما الله إله واحد. وقد يغتفر الله كثيرا من الأخطاء العقلية والخلقية ولكنه لا يغتفر الإساءة إلى ذاته، بمزاعم التعدد والإشراك.. لقد قرر ربنا أن الملكوت له والجبروت له، وأن ماعداه عبد له. يستوى فى ذلك كله سكان الأرض والسماء، وصدر هذا التحدى الإلهى فى الوحى الخاتم مقتحما كل زعم بأن هناك إله آخر ( إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا * لقد أحصاهم وعدهم عدا * وكلهم آتيه يوم القيامة فردا ). فمن الذى تعرض لهذا التحدى بالإنكار والمواجهة؟ لا أحد، بل قال القرآن مزدريا الآلهة الأخرى المزعومة: (..إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب). فبم ردت هذه الآلهة؟ لم يسمع رد لأنها ليس لها وجود. ومس التحدى شخص عيسى نفسه : (..قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا..). ولم يقع تمرد فى الكون تحركت له لجج الماء أو تيارات الهواء أو موجات الكهرباء غضبا أو احتجاجا على هذا القول، لأن هذه الكائنات - كشخص عيسى نفسه - عبيد تسجد أشخاصها وظلالها للرب الأعلى.. إنه لا إله إلا الله ، وكل ما عدا الله من إنس وجن وملك، خلقهم الله من الصفر ! ما كانوا شيئا حتى شاء ، وما استحق أحد منهم ثناء إلا بما أفاض الله عليه من آلاء. وهو وحده يرفع ويضع، ويعطى ويمنع، ليس لأمين الوحى جبريل، ولا لبعوضة فى مستنقع إلا استقبال(2/41)
القضاء الأعلى برهبة العبد الموفق : (..حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير). ص _045
وستتوقف مواكب العمران على ظهر هذه الأرض، ثم تبدأ رحلة العودة إلى الحسيب الرقيب، وستدعى الأمم والأفراد للمساءلة عن الشائعات التى صدقتها وتبعتها! ولعل أوسع شائعة يشتد الحساب عليها ألوهية عيسى التى تألفت حولها شعوب، وتضخمت خرافات ورسمت كهانات.. وقد عجل القرآن الكريم بذكر موقف من مشاهد البعث والجزاء لعله يفيد فى ترشيد دنيانا الحائرة ( وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب * ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد). ومن النقائض الجديرة بالتأمل أن النصارى ينتظرون نزول عيسى ليرث الأرض ويجلس على العرش عن يمين أبيه، وأن المسلمين ينتظرون عيسى ليكذب بنفسه شائعة ألوهيته، ويكسر الصليب، ويأبى إلا توحيد الله تبارك اسمه. فلينتظر المنتظرون! أما أنا وغيرى من أولى الألباب فنرنو ببصائرنا إلى الفرد الصمد الذى يمسك السماوات والأرض أن تزولا، ويهيمن على جماهير البشر ( ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها..). القدوس الذى يستحيل أن يعاب أو يلحقه نقص أو يخرج من بطن أو تمسه محاقر التصورات المادية الهابطة، الذى خضع كل شيء لمجده، وعنا لوجهه، واستكان لأمره ( قل أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شيء ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون). ونرجع إلى موضوع بحثنا: كيف نميز الصواب والخطأ فى هذا الكتاب الذى استغرق تأليفه ستة عشر قرنا كما يروى "جوش مكدويل"؟!! ص _046(2/42)
للشيخ أحمد ديدات إجابة ننقلها، ثم نذكر رأينا فيها.. قال : " لا نتردد نحن - المسلمين - فى التسليم بوجود ثلاثة أنواع من الشواهد فى الكتاب المقدس، وهى شيء لا يحتاج إلى تدريب سابق: 1 - تستطيع أن ترى فى الكتاب المقدس ما يمكن وصفه بأنه كلام الرب. 2 - كما تستطيع أن تتبين ما يمكن وصفه بأنه كلام نبى الرب. 3 – وما هو واضح أكثر، هو ما تتكون منه معظم محتويات الكتاب المقدس من تقارير لشهود عيان أو غيرهم ممن كتبوا ما كانوا يسمعون عنه، وهو ما نستطيع أن نسميه: كلام المؤرخ. ولا تتعب نفسك بالبحث عن بعض الأمثلة لهذه الأنواع الثلاثة فى الكتاب المقدس، فإليك السطور الآتية التى ستوضح لك ما أعنيه بالضبط: النوع الأول: ( أ ) "أقيم لهم نبيا.. وألقى كلامى فى فيه.. فيخاطبهم بجميع ماآمره به" سفر تثنية الاشتراع 18/18). ( ب ) " أنا أنا الرب ولا مخلص غيري" (نبوءة أشعيا 43، 11). ( ج ) "توجهوا إلى فأخلصوا يا جميع أقاصى الأرض فإنى أنا الله وليس آخر" (نبوءة أشعيا 45، 22). لاحظوا ضمير المتكلم فى الجمل السابقة، وبدون أى صعوبة ستلاحظون أنها تبدو ككلام الرب. النوع الثاني: ( أ ) ".. صرخ يسوع بصوت عظيم قائلا: إيلى إيلى لم سبقتني؟ أى إلهى إلهى لماذا تركتني؟" (إنجيل متى 27، 46). (ب) "أجابه يسوع: إن الوصايا كلها، اسمع يا إسرائيل، إن الرب إلهنا رب واحد" (مرقس 12، 29). (جـ) "فقال له يسوع: لماذا تدعونى صالحا، إنه لا صالح إلا الله وحده" (مرقس 10، 18). حتى الطفل يستطيع أن يؤكد هنا أن: "صرخ يسوع" "أجابه يسوع" "فقال له يسوع"، هى كلمات تنسب إلى صاحبها وهو رسول الرب. ص _047(2/43)
النوع الثالث: "فنظر عن بعد شجرة تين ذات ورق، فدنا إليها، لعله يجد عليها شيئا من ثمر، فلما دنا عيسى لم يجد إلا ورقا.." (مرقس 11، 13). ومعظم الكتاب المقدس يتكون من هذا النوع الثالث، وهى كلمات شخص ثالث، فإذا لاحظت الضمائر الواضحة تجد أنها ليست من كلام الرب أو نبيه بل كلمات مؤرخ". وهذا ضابط لا بأس به، ولكنه كما يقول علماء المنطق : ليس جامعا ولا مانعا!! فقد رأينا كلاما يصدر عن الله يستحيل صدوره عنه، مثل ما أوردناه فى صدر هذا الكتاب أن الله خشى أن يأكل آدم من شجرة الحياة فيخلد معه، ومن ثم طرده من الجنة! إن الله لا يخشى شيئا، والخلود لا يجيء من أكل شجرة معينة، والكلام كله تصوير مختلق لمعنى باطل. وقد رأيت كيف أجرى يوحنا كلاما على لسان عيسى أنه والإله من أصل واحد!! مع ما ورد فى الأناجيل الأخرى من أن الله واحد، وهو وحده الصالح، وما عداه دونه.. أما تعليقات المؤرخين، وما يشبهها من حشود فهذا ركام كثيف.. والضابط الأمثل هو النظر فى الكتاب كله على قاعدة أن مالا يليق بذات الله ولا بأنبيائه مرفوض. إن الله أهل الكمال كله، فكل ذرة من نقص تنسب إليه تتدحرج من تلقاء نفسها إلى النفايات المستبعدة، كما أن أنبياءه يستحيل اختيارهم من بيئة ساقطة المروءة خسيسة المعدن، ومن ثم فوصمهم بالخنا أو الغدر لا مكان لقبوله.. وهناك أسفار تنفست فيها الغريزة الجنسية، لا ندرى كيف وضعت فى كتاب دين!! مثل نشيد الإنشاد لسليمان، ودعك من الرؤى الهائمة التى لا توصف إلا بأنها أضغاث أحلام..! ص _048(2/44)
الأسلوب الأمثل فى العلاقة بين الرجال والنساء استطاعت آثام ومثالب من أعمال أهل الكتاب الأولين أن تتسلل إلى المجتمع الإسلامى وأن تعكر صفاءه وتلوى مساره! بعضها فى الروابط المقررة بين الرجال والنساء، بل فى سلوك المرأة نفسها وميلها إلى التبرج! والتبرج شيء غير التجمل، فالتجمل صون الجسد واستبقاء محاسنه الطبيعية واستبعاد ما يشينها أو يشوهها، وذاك لا حرج فيه بل هو مطلوب. أما التبرج فهو الإثارة المتعمدة بإضافات مفتعلة للفت الأنظار واستفزاز الرغبات، وهذا مرفوض، ويزداد الرفض عندما تكون المرأة خارجة للصلاة فإنها بذلك التبرج تفسد جو العبادة وما ينبغى له من طهر وتجرد، إن المساجد ليست معارض للفتنة ولا ميدان سباق بين الجميلات، ويجب إعادة المرأة المتبرجة إلى بيتها. وقد فعلت نساء بنى إسرائيل هذا المحظور قديما، وحذر الإسلام منه حديثا، وشدد أن يخرج النساء إلى المساجد تفلات، أى ليس فى هيأتهم تبرج ولا إثارة. إن الإسلام حريص على طهر العلاقات بين الرجال والنساء فى الأسواق والمجامع والبيوت والشوارع، ومن حقه أن يطمئن إلى سلامة النيات وبراءة الملتقيات، ومن حقه تحصين المعاملات من دسائس الغرائز الجنسية، حتى لا تجد متنفسها إلا فى بيوت الزوجية. وبعض الرجال طلعة! يحب أن يتجاوز ما لديه إلى غيره ، وأن يستكشف من فنون الجمال ما يزيد رغبته حدة! ومن ثم يلجأ إلى التطلع والتلصص فما يزيده ذلك إلا جماحا وهبوطا، ويعجبنى قول الشاعر: وكنت إذا أرسلت طرفك رائد لقلبك يوما أتعبتك المناظر! رأيت الذى لا كله أنت قادر عليه، ولا عن بعضه أنت صابر! إن غض البصر أدب رفيع، وحصانة من الانزلاق إلى مهاوى الرذيلة، وعلى المجتمع كله أن يتذكر حدود الله، وأن يحرسها بذكاء وتلطف، وأن يضع نصب عينيه تيسير الزواج فإذا مهد الطريق إليه انتصب ماردا جبارا يحمى البيوت ويحفظ الأسر الناشئة، يوفر لها كل أسباب الازدهار. ص _049(2/45)
والعرب يسمون الزوجة حرما، وهى تسمية تشير إلى أن للعرض قداسة وأن صونه واجب قد تسترخص فيه الدماء. إلا أن كلمة حريم نقلت إلينا عنوانا على موضوع آخر، موضوع رجل مقتدر واسع الجاه، جمع حوله عددا قل أو كثر من النساء، وعاش ينقلب بينهن فى حياة حالمة باسمة، فإذا حاول أحد الاقتراب من سياج هذا الحريم الغريب فالويل له، ربما فقد حياته. وعندى أن بنى إسرائيل أول من رسم صورة هذه المهزلة، فقد زعموا فى العهد القديم أن سليمان كانت له ثلاثمائة زوجة وسبعمائة جارية، أى أنه جمع فى قصوره ألف امرأة. وهذه القصص وأشباهها من نسيج الخيال، ألفها وضاعون يغلب عليهم الشبق! وهنا و قفة نذكر فيها الحق فى شأن النساء المسميات بالجواري، إنهن حرائر مختطفات فى أغلب الأحوال. وفى التاريخ البشرى سنوات طويلة كالحة كانت العصابات المسلحة تغير على المدن والقرى وتقهر الفتيات المستضعفات على الهرب معها، ثم تبيعهن فى أسواق النخاسة أو تستمتع بهن، وكان يقع ذلك بين العرب فى الجاهلية، وربما وقعت فى الأسر أو حبائل القناصين نساءهن فى الذروة من الشرف والكرامة. أغار عروة بن الورد على قبيلة غفار - وعروة من صعاليك العرب الشجعان الأجواد! - وأسر فتاة اسمها سلمي، وتزوجها واستولدها وكانت المرأة تحيا معه شاعرة بالغضاضة والمذلة، فلما تاحت لها فرصة الفرار عادت إلى قبيلتها، وعاشت بين أهلها. ولحق بها عروة الذى أحبها وكرمها يطلب منها أن تعود لأولادها فقالت له هذه العبارات الناضحة بالشرف والإباء وعزة النفس: " يا عروة إنى أقول فيك - وإن فارقتك - الحق.. والله ما أعلم امرأة من العرب ألقت سترها على بعل خير منك، وأغض طرفا، وأقل فحشا، وأجود يدا، وأحمى لحقيقة. لكن ما مر علي يوم منذ كنت عندك إلا والموت فيه أحب إلى من الحياة بين قومك.. طالما سمعت المرأة من قومك تتحدث عنى فتقول: قالت جارية عروة كذا وكذا، والله لا أنظر فى وجه إحداهن بعد اليوم - من(2/46)
كرهها للعبودية - ارجع راشدا إلى ولدك وأحسن إليهم". ص _050
أهذه أمة من الإماء؟ فما تكون الحرائر الشريفات؟ لكن الحياة قست على رجال شرفاء فبيعوا مماليك، وقست على نساء كريمات فتداولتهن الأيدى فى الأسواق ثم احتبسن وراء أسوار الحريم. وفى هذا العصر وجد طور آخر للنزوات والشهوات، فالرجل السكران الغريزة يستطيع الاتصال بألف امرأة إذا شاء، لم يجمعن له كما كان يصنع قديما، بل يطير وراءهن فى أماكن البغاء أو فى زوايا الشوارع أو فى ساحات المراقص أو فى أحفال المجون ومباذل الحضارة الميسرة هنا وهناك، وإنه لمن المحزن أن تتردى البشرية فى هذه الهاوية.. والأسلوب الأمثل فى العلاقة بين الرجال والنساء هو الزواج الذى يضم سكينة الروح إلى متعة الجسد، وتجاوب الفكر إلى جيشان العاطفة.. والذى يضم قبل ذلك وبعده المهاد الطهور لما ينشأ من أجيال. وقد تحدث الإسلام طويلا عن الأسرة، ولكن الحديث شابه فهم سيئ وتطبيق أسوأ، ولست أكترث لحديث الأوروبيين التافه عن التعدد، فالقوم يعددون فى الحرام ما لا يحصر ويشغبون على الأديان كلها، وهى تبيح تعددا له ملابساته ودواعيه.. وأحسب أنه عندما يحسن المسلمون تطبيق ما لديهم فإن نموذجا معجبا للعلاقات الإنسانية سوف ينال الرضا ويسارع الآخرون إلى تقليده أو الاقتباس منه. ص _051(2/47)
كن مع أهدى الفريقين من لطائف التعبير أن يذكر بنو آدم فى أول سورة الأعراف والمقصود أبوهم، وأن يذكر آدم نفسه فى آخر السورة ويقصد بنوه! فى أول السورة يقول تعالى : ( ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم..) وفى آخر السورة يقول الله جل شأنه فى خطأ البشر وشركهم واعوجاج سيرهم: ( هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها..) ثم يقول : ( فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما فتعالى الله عما يشركون * أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون ) وظاهر أن الذين اقترفوا جريمة الإشراك هم أبناء آدم الذين اضطربت بهم عقولهم فزاغوا..!! والنظم القرآنى أولا وأخيرا يعنى البشرية جمعاء، ويذكر رسالة الإنسان التى كلف بها ولم يحسن أداءها.. والإنسان مع الشيطان ليس مغلوبا على أمره، وإنما هو مخدوع كبير أو مستغفل غرير! إن الشيطان يملك جهاز إذاعة طويلة الأمواج أو قصيرتها، والإنسان يستطيع أن يسمع وألا يسمع، فمن ضبط جهاز استقباله على محطة إرسال معينة سمع ما يريد، وإلا فهو بمنجاة، ولا يملك الشيطان إلا قدرة البث ولا يقدر أبدا على تضليل إنسان بقوته!! والغريب أن الإنسان نسى ما وقع لأبيه عندما طرد من الجنة، ولا يبالى أن تتكرر المأساة لاسيما والشيطان قد أقسم على إذلال أبناء آدم جميعا ( فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم * ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين) أما كان ينبغى أن نحذر هذا الحقد المبين؟؟ والأغرب أن تجيء خدعة آدم من حيلة مكشوفة لا تنطلى على ذكى يقظ ! لقد قال إبليس: إنك منعت من الشجرة حتى لا تكون ملكا!! وكان آدم قادرا على أن يقول له: إن الملائكة سجدت لى فكيف أهبط عن مكانتي؟ إن ما أنا فيه أفضل!! وأطمع إبليس آدم فى الخلود إذا أكل من الشجرة !! ومن قال: إن آدم وبنيه ليسوا من الخالدين؟ حتى لو ماتوا، فالموت نقلة إلى حياة(2/48)
أقوى وأكبر!! إن الشيطان ص _052
أفاك خداع، واللوم لا يوجه إليه، وإنما يوجه إلى من يخدع به.. ومن وقع فى مصيدته بهذا الشرك المكشوف..!! وفقد آدم ماكان فيه من النعيم، وهبط هو وزوجته إلى الأرض ليأكلوا بكد اليمين وعرق الجبين!! وتعرضت ذراريهم للتجربة الأولى والخدعة القديمة، ترى هل يعتبرون؟ ( قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين ) إلى وقت محدود وعمر معدود ثم ترجعون إلى الخالق الكبير ليسألكم عن حالكم فى هذه الفترة أكنتم عبيدا له أم عبيدا للشيطان؟؟ (قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون). وبعد هذا السرد لقصة آدم اتجه الحديث إلى أولاده على مر العصور فنودوا أربع مرات ليسمعوا نصائح ربهم وينجوا من كيد عدوهم! ونلحظ فى هذه النصائح أنها حداء إلى الإنسانية الرفيعة أو إلى دين الفطرة! والمحزن أن عالمنا المعاصر مفتون بإنسانية هابطة أو علمانية تشده إلى التراب وتربطه بنزعاته وقلما ترفعه إلى السماء، من حيث جاء فلنتدبر هذه النداءات الأربعة: أولها يتصل بالملابس! لقد انفرد الإنسان دون سائر الحيوان بارتداء ثيابه، وحسنا فعل فهى تستر عورته وتزين هيئته.. وللناس فى ملابسهم تجاوزات فقد يختالون فيها ويستكبرون، وقد يزنون أنفسهم بقيمة ما يرتدون، وقد تقصر النساء ثيابها وقد تضيقها وترققها وهذا كله لا يسوغ، فإن شرف الإنسان ليس فى ثوبه، وقيمته ليست فيما يرتديه، هناك ثوب آخر يكسو باطنه، ويبرز حقيقته هو ما سماه القرآن بلباس التقوى، وما عناه الشاعر بقوله: إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه فكل رداء يرتديه جميل! وقال شاعر آخر: لأن أزجى عند العرى بالخلق وأكتفى من يسير الزاد بالعلق خير وأكرم لى من أن أرى مننا معقودة للئام الناس فى عنقى يعنى أفضل لبس خلقات بالية وأكل لقيمات تافهة على أن أمد يدى إلى أحد لألبس الغالى وآكل الجيد، العفة أشرف، ولباسها يعصمنى من الهوان والتصاغر. وذلك(2/49)
كله معنى الآية ( يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوءاتكم وريشا ولباس التقوى ذلك خير ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون ). ص _053
ونحن فى تفسيرنا نربط بين هذا التذكر، وبين قول الله أول السورة: ( اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون ) وقوله بعد ذلك ( وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدى رحمته حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون ) ما أكثر أسباب الذكر ولكن الإنسان ينسى! ويتكرر النداء ( يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ) لا ينبغى أن يقع للأبناء ما وقع للأب من قبل! لقد نجح الشيطان فى إخراج آدم من الجنة فهل ينجح فى حرمان بنيه منها؟ وتعريتهم كما عراه! إنه عدو حاقد، ويستطيع أن يراكم وأنتم لا ترونه، فهو عليكم أقدر! لكنه لا يقدر على غواية مؤمن لأن الإيمان حرز حريز، وشباكه لا يقع فيها إلا فاقدو الإيمان.. ومن الأعذار المرفوضة تقليد الآباء الجهلة واختلاق أسباب كاذبة للسلوك المعوج. كان الذين يطوفون بالكعبة عرايا يقولون لا نطوف فى ملابس عصينا الله فيها!! وأغلب المتدينين المنحرفين.. يضمون تحت خيمة الغيبيات أمورا ما أنزل الله بها من سلطان، تخالف العقل والنقل، ثم يزعمون أن الله أمرهم بها والله أعلى وأجل من أن يأمر بفاحشة مضادة للذوق والفكر والفطرة ( أتقولون على الله ما لا تعلمون * قل أمر ربي بالقسط ) إن العدالة طريق مأنوس للبشر كلهم فما الحرج فى سلوكه؟ ولماذا لا نسلم كياننا كله لمن خلقنا وإليه نعود؟ (وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين كما بدأكم تعودون * فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة) فكن مع أهدى الفريقين وأولاهما بالنجاة والكرامة. ص _054(2/50)
حقائق القرآن تزداد قوة فى وسط سورة "فصلت" حديث عن عوالم أخرى تتصل بالإنسان وهو يهم بالخير أو بالشر. إنه حديث عن الجن ووساوسها، والملائكة وإلهاماتها. والماديون ينكرون ذلك كله وليس لديهم دليل إلا وقوفهم عند الحس، ونحن نحترم المادة وما وراءها ونعترف بعالم الجن والملائكة والبشر جميعا، من الجن مؤمنون أخيار ومنهم شياطين تلازم المرء وتنتهز غفلاته لتغريه بمعصية الله والتهاون بحقوقه، وقد فعل إبليس - كبير الشياطين - ذلك مع آدم وأزه على الأكل من الشجرة المحرمة وحلف له كاذبا أنه ناصح أمين! وأكل آدم وطرد من الجنة، والسبب الأول نسيانه والسبب الثانى تربص الشياطين به وانتهازه الفرصة لخديعته، وكذلك فعل الشيطان مع خصوم الإسلام فى صدر الدعوة قال تعالى : ( وقيضنا لهم قرناء فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم وحق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين * وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون) إن الكافرين رفضوا القرآن وكرهوا سماعه، وأغراهم الشيطان أن يحدثوا ضجيجا فى مجلسه حتى لا يخلص إلى القلوب وهذا منتهى الفشل فى مواجهة الحق والعجز عن مجادلته، وكل صاد عن الحق يغريه الشيطان بمثل هذه الأفعال، ويوم الحساب يندمون على هذا الهوس ( وقال الذين كفروا ربنا أرنا اللذين أضلانا من الجن والإنس نجعلهما تحت أقدامنا ليكونا من الأسفلين ) أما أولو الألباب الذين شرحوا بالحق صدرا واتجهوا إلى نصرته فإن الملائكة تحفهم وتؤنس وحشتهم وتعينهم على تخطى العقبات ( إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون ) ويرى أغلب المفسرين أن هذه الآية تتنزل على المحتضرين وهم فى آخر منازل الدنيا وأول منازل الآخرة لتطمئنهم على ما تركوا من أحبة ولتشرح صدورهم بما سيلقون من رضوان!! ولا بأس بهذا القول وهو لا ينفى ما يدل(2/51)
عليه السياق ص _055
من أن الملائكة تهبط على المؤمنين فى أثناء جهادهم فتلهمهم الرشد وتعينهم على الحق وقد صح أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال لرجل أحسن الثناء على الله: "أعانك عليها ملك كريم" وقال لحسان بن ثابت وهو ينافح عن رسول الله: "روح القدس يؤيدك" إن الملائكة تعين على الحق كما تعين الشياطين على الباطل، والأساس فى الثواب والعقاب هو اتجاه الإنسان، وكسبه واكتسابه. والشيطان ماهر فى جر الإنسان بعيدا عن الله، وفى تعمية الصراط المستقيم أمامه، فكانت الدعوة إلى الله عملا يذكر الناس وينشط الكسول، والمفروض أن جهاز الدعوة يحرس الحقائق ويرد الشياطين ويطارد الأوهام والأهواء ( ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين ) والرسل أئمة الدعاة على امتداد الزمن ونشاطهم ركن فى دعم الإيمان وانتصار الخير، وأول ما يتجهون إليه تعريف الناس بربهم وتحبيبهم فيه، وقد جاءت آيات فى السورة لتحقيق هذا المعنى ( ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن..) ( ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت..) ( إليه يرد علم الساعة وما تخرج من ثمرات من أكمامها وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه..) والمحزن أن أجهزة الدعوة الإسلامية معطوبة، وقد تكون فى بعض الأعصار والأمصار معدومة، وتفريط العرب فى خدمة الدعوة لا يمكن الدفاع عنه، وانشغالهم بأهوائهم وعصبياتهم أسقط دولتهم وأضاع رسالتهم ويمكن أن تساق فيهم الآيات ( إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا..) ( إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم وإنه لكتاب عزيز * لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه..) إن حمل العرب لرسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - هو حمل لرسالات الأنبياء قاطبة، فهم فى الدنيا يمثلون الوحى من الأزل حتى النهاية ( ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك ) أما أهل الكتاب(2/52)
فقد أضاعوا ما لديهم ونسوا قواعده ( ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم..) ومن الغريب أن ص _056
القوم أنشط من المسلمين المعاصرين فى خدمة مواريثهم.. ولهم مطارات لتنقل الدعاة بين الشرق والغرب!! وقد ختمت السورة بآيات تعنى العرب المحدثين والعرب القدامى جميعا ( قل أرأيتم إن كان من عند الله ثم كفرتم به من أضل ممن هو في شقاق بعيد ) ثم يقول تعالى : ( سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد ) إن كل يوم يجيء يزيد أشعة القرآن وهجا وحقائقه قوة، ويزيد نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - رسوخا وصدقا، لقد دعا إلى التوحيد الخالص فهل اكتشف إله جديد غير مرسل الأنبياء المعروفين؟ ولقد وضع نظما للفرد والمجتمع والدولة، فهل وجدت في هذه النظم ثغرة ؟ إنه ما يعيبها إلا التعطيل والإهمال ( ألا إنهم في مرية من لقاء ربهم ألا إنه بكل شيء محيط ). ص _057(2/53)
لنستبعد الواهيات والمتروكات طلب جماعة من المسلمين المقيمين بإنجلترا أن تسمح لهم السلطات بإنشاء مدارس إسلامية خاصة وهذا طلب عادي، وقد ألفنا فى أرجاء العالم الإسلامى أن يقيم المهاجرون فى بلادنا مدارس خاصة يتلقون فيها تعاليم دينهم ويتقنون لغتهم إلى جانب المعارف المدنية العامة، إلا أن نفرا من الإنجليز عارضوا الطلب وضاقوا بإنشاء هذه المدارس قائلين، إنها ستقوم على تفرقة عنصرية بين البنين والبنات واتهموا الإسلام بأنه متحيز ضد النساء ومسقط لحقوق المرأة. غير أن حزب العمال البريطانى ساند الطلب وقال المتحدث الرسمى لشئون التعليم بالحزب "مستر جاك سترو"، كما ذكرت صحيفة التايمز: إن الذين يعترضون على إقامة هذه المدارس مخطئون وربما غلبتهم نزعات عنصرية، واتهمهم بأنهم لايعرفون الإسلام. وفى مؤتمر عقد فى لندن حول مستقبل التعليم الإسلامى فى إنجلترا قال مستر جاك سترو: إن معاملة المجتمع الإسلامى للمرأة يجب أن تدرس دراسة عميقة وأن ينظر فيها إلى الأصول. لقد سمعت مزاعم كثيرة بأن الإسلام ضد المرأة، ويعتمد أصحاب هذه المزاعم على عدم وجود نساء يشتغلن بالدعوة الدينية أو يلقين دروسا بالمساجد وأن الرجال يحتكرون السيادة أو القيادة فى هذا الميدان كما يحتكرونها فى المجال السياسي. وقال: هناك جهل تام بدور المرأة فى "اللاهوت" الإسلامى وفى تاريخ الإسلام نفسه!! وعند التأمل نرى وضع المرأة المسلمة أهم من وضع المرأة اليهودية أو النصرانية فى الأيام الماضية. ثم إن الإسلام أعطى النساء حق الإرث فى كل الممتلكات قبل أن تفعل ذلك الحكومة البريطانية بثلاثة عشر قرنا. الحق أنى شكرت ممثل حزب العمال على دفاعه الحسن، وإن كانت الإذاعة البريطانية قد ردت ذلك إلى التنافس الانتخابى وكسب الأصوات من حزب المحافظين! وأعود أنا إلى الموضوع نفسه لأتحدث فيه على عجل، فقد تناولته بشيء من التفصيل فى كتاب آخر، هو "مستقبل الإسلام خارج أرض الإسلام".(2/54)
ص _058
الإسلام متهم بإهانة المرأة واستضعافها..! فهل فى كتاب الله وفى سنة رسوله ما يبعث على التهمة؟ القرآن الكريم بين أيدينا لم يتغير منه حرف، وهو قاطع بأن الإنسانية تطير بجناحين، الرجل والمرأة معا، وأن انكسار أحد الجناحين يعنى التوقف والهبوط. فلننظر إلى السنة، ولنستبعد ما التصق بها من الواهيات والمتروكات. إن مصاب الإسلام فى المتحدثين عنه لا فى الأحاديث نفسها. نبينا - صلى الله عليه وسلم - يوصى بأن تذهب النساء إلى المساجد "تفلات" أى غير متعطرات ولا متبرجات، ولكن "القسطلاني" فى شرحه للبخارى يرى أن تذهب النساء إلى المساجد بثياب المطبخ، وفيها روائح البقول والأطعمة!! وغيره يرى ألا تذهب أبدا، فأى الفريقين شر من صاحبه على الإسلام..؟ وفى البخارى أن النبى - صلى الله عليه وسلم - أجاز أن يسلم الرجال على النساء وجاء فيه أن الرسول الكريم قال لعائشة: هذا جبريل يقرأ عليك السلام - وكان فى صورة رجل - فجاء من يقول: ذاك عند أمن الفتنة! أو ذاك مع النسوة المحارم أو العجائز أو الدميمات. ومع ورود سنن بسلام الرجال على النساء أو النساء على الرجال، فقد كان جهد الشراح وقف العمل بها على أى صورة، وكلما امتد الزمان زادت هذه الشروح قوة حتى ألغت الأصل المتبع، وأحلت مكانه التفسير المتشائم المغشوش! وفى كل عصر توجد نسوة نوابغ متقدمات قارئات فقيهات، يستطعن جعل بيوتهن مساجد عامرة بالخير، منهم "أم ورقة" التى قال الصنعانى عنها فى الحديث رقم 392: "أمرها النبى عليه الصلاة والسلام أن تؤم أهل دارها". وبعد أن حط عنها الغزو - وكانت تريد القتال فى بدر - جعل لها مؤذنا يدعو للصلاة. قال الصنعاني: والظاهر أنها كانت تؤمه، وغلامها وجاريتها. ص _059(2/55)
لماذا أنسي ربي؟ يجب أن أنعطف إليه وألوذ به الشهادة منزلة رفيعة من الرضوان الأعلى، يصطفى الله لها من يشاء من عباده، ولذلك قال: (ويتخذ منكم شهداء..) والملحوظ أن المختارين لهذه المكانة مؤمنون همهم الأكبر إعلاء كلمة الله، والإصباح والإمساء فى دعم الإسلام وحماية بيضته ورد العدوان عنه، وقتلى أحُد نماذج فريدة لهذا الخلق الواثق الواضح، تدبر سيرة مصعب بن عمير أنعم فتيان مكة، الذى اعتنق الإسلام فحرم ثروته وعضه الفقر بنابه، فإذا هو يلبس ثوبا من جلد الضأن بعد أن كان يخب فى الحرير. ثم هاجر قبل المهاجرين مكلفا من رسول الله بنشر الإسلام فى المدينة فلم يدع بيتا ذا شأن حتى أدخله فيه، وهاهو ذا يقتل فى أحد غريبا، عليه ثوب لا يكمل كفنا لجثمانه الطاهر، فتغطى قدماه بالإذخر!! وتدبر سيرة عبد الله بن حرام، وكان أبا لست بنات وغلام واحد - هو جابر بن عبد الله - فقال لابنه: لا تترك الفتيات الست دون رجل معهن، ولا تطيب نفسى بأن يخرج الرسول للقتال وأنا جالس فى بيتي، فابق أنت معهن، وأنا ذاهب للقتال، وذهب الرجل ليستشهد فى المعركة! لقد كان وضع المسلمين مكشوفا بالغ الحرج بعدما ترك الرماة مواقعهم، ولذلك قتل منهم سبعون بطلا فى دفاع كئيب شاع فيه أن الرسول نفسه قتل! لكن قريشا وجدت أنها تصطدم بحائط من الصلب، وأنها لن تبلغ أكثر مما بلغت، فجمعت رجالها وعادت أدراجها إلى مكة. ونزل فى مصاير الشهداء قوله تعالى : ( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون * فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون ). ص _060(2/56)
إن الله أعلم أولئك الشهداء أن إخوانهم وأولادهم على درب الحق، وأنهم أدوا واجبهم فى نصرة الله ورسوله، وأنهم - عن قريب - سوف يلحقون بهم فى دار النعيم. ومن المفيد أن نذكر ما فعل المسلمون بعد الهزيمة العارضة، فقد جمعوا فلولهم، وتحاملوا على جراحهم، وانطلقوا فى طريق مكة يطاردون جيش الكفر الذى كان يمشى متباطئا يحدث نفسه بعودة لاستكمال ما بدأ، فلما شعر بالمسلمين قادمين سارع فى العودة من حيث جاء. وعاد المسلمون كما وصف الوحى ( الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم ). وينقطع التعليق على غزوة أحد مؤقتا، ليتصل الحديث مرة أخرى عن اليهود، ونلاحظ هنا أن السياق صار مزدوجا إلى آخر السورة، فهو تارة يتناول اليهود، وتارة يتناول عبدة الأوثان، ولا عجب فجهاد الدعوة يتناول الفريقين على سواء كما قال جل شأنه ( لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور). ويبلغ اليهود فى كفرهم حدا من الإسفاف يحنق الحليم فالقرآن يطالب المؤمنين بالإنفاق فى سبيل الله، سواء كان هذا الإنفاق دفاعا عن الحق أو كان إسعافا للفقراء والمساكين، وهو يفرض ذلك فى أسلوب عال يغرى بالبذل فى أشرف صور البيان ( من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة والله يقبض ويبصط وإليه ترجعون ). فماذا يقول اليهود عندما يسمعون ذلك؟ يقولون: إن الله فقير يقترض من العباد!! ويقولون: إنه ينهى عن الربا ويتعامل به!! ( لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق ونقول ذوقوا عذاب الحريق). والواقع أن هذا تعليق قوم ليس فى أفئدتهم إيمان ولا تقي، يعيشون بمواريثهم عيشة خسيسة! ويستقبلون الإيمان الغض بأحقاد بالية وسخائم محقورة. ص _061(2/57)
ولايستغرب فى مجتمعهم أن يعبد المال وحده، وأن تطلب الدنيا وتنسى الآخرة!! وأن يعاملوا غيرهم من البشر وهم صرعى هذه الدنايا.. اليهود يرون أنفسهم شعب الله المختار! فهل هذا الاختيار تعليم للأمم وإحسان إليها؟ أم هو الاستعلاء عليها ثم استغلالها واستنزافها؟ إن التاريخ اليهودى ليس تاريخ عطاء بقدر ماهو تاريخ صلف وغصب!! وليس عرب اليوم هم الذين يقولون ذلك، بل تقوله شعوب أوروبا وأمريكا التى عانت قديما وسوف تعانى مستقبلا. وفى هذه السورة تلخيص لسيرة اليهود ( وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون * لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم ). وتنقلنا سورة آل عمران إلى جو آخر بعيد عن الماضى وذكرياته ودلالاته ألا يقودنى هذا إلى الله والتسبيح بحمده، والإقرار بمجده لأترك جانبا الخلاف بين الأديان وأتباعها، ولأعول على عقلى الذى سأحاسب به، ولأفكر فى مصيرى بعد هذه الدنيا؟ لماذا أنسى ربى وأبتعد عن صراطه المستقيم؟ يجب أن أتعطف إليه وألوذ به! وها قد ظهر إنسان يصيح بأهل الأرض أن يثوبوا إلى رشدهم ويؤمنوا بربهم لماذا الصد عنه؟ ألا يستحق هذا الداعى المتجرد أن أصيخ إليه، وأتدبر دعوته؟ ( ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار ). إن الله يجيب هذا الدعاء بأنه لا يضيع عمل عامل من الإنس أو الجن، من السود أو البيض، لا يهم العنصر أو النسب، المهم العمل الصالح. ماذا يتعاظم الناس من الإيمان بإنسان يدعو إلى الصلاح على ضوء من الخشوع لله والاستعداد للقائه؟ ماذا فى دعوته يؤلب القلوب ضده، أو يحرض الأحزاب على قتاله؟ لكن العميان من عبدة الأصنام والمتعصبين من أهل الكتاب تألبوا عليه، وقاتلوه، واضطروا(2/58)
أتباعه إلى هجرة وطنهم وتحمل أنواع الأذى فى سبيل معتقدهم، فليكن ص _062
جزاؤهم كما وصف الله ( فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار...). إن الكفار قد تعلو رايتهم، وتنتصر جيوشهم، ليكن، فذلك إلى حين ( لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد * متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد). وقد غلب المشركون يوما فى أحد، فماذا كان؟ توقف سيل الحق قليلا، ثم مضى تياره من بعد عاصفا لا يوقفه شيء، والعاقبة للتقوى. وختمت سورة آل عمران بعد هذا العرض المفصل بآيتين أولاهما تتحدث عن أهل الكتاب، وما ينبغى منهم بإزاء النبى الخاتم ( وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا أولئك لهم أجرهم عند ربهم..). والآية تتضمن إلى آخر الدهر دعاء إلى أهل الكتاب من يهود ونصارى أن يستمعوا إلى النبى الخاتم، ويؤمنوا بما جاء به، أما الآية الأخرى فهى قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون) هذا توجيه للمسلمين الذين اتبعوا محمدا أن يصبروا على تعاليم الحق الذى شرفهم الله به، وأن يكونوا أصبر من غيرهم فى هذا المجال وأن يكونوا فى رباط دائم حول ثغورهم وأراضيهم حتى لا تدخل عليهم من أقطارها كما فعل الاستعمار الأخير! هذا نداء لنا، فهل نلبى النداء؟ ص _063(2/59)
من أعظم القربات لدى الرحمن بئس الرجل يعيش لنفسه وحسب! لايهتم إلا بمآربه، ولايغتم إلا لمتاعبه، ولا يعرف إلا من يقرب له مصلحة، ولا يجفو إلا من لاحاجة له عنده! إن هذا النوع من البشر أدنى إلى الحيوان منه إلى الإنسان، ذلك أن الإنسان يفضل الحيوان بأمرين، أولهما عقله المتحرك الجواب فى الأرض والسماء، والثانى عاطفته الرحبة التى تشغله بأمر نفسه وأمر الآخرين. إن الدابة لاتحس إلا كيانها وماتهوى وما تخشي! وقد تمتد عاطفتها إلى ذريتها حينا من الزمن ثم ينسى كلاهما الآخر وينطلق كما يشاء، وفى الناس من يصبحون ويمسون لا يخرجون من القوقعة التى يحيون داخلها، وهى أنانيتهم المطلقة المطبقة! والإسلام شديد الحرص على إيقاظ المسلم إلى غيره، وتعريفه بحقه، وإيصائه برعايته، وأول أولئك - بعد الوالدين - ذوو الأرحام.. ومن حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه".. "من أحب أن يبسط له فى رزقه، وينسأ له فى إثره - يطال فى عمره - فليصل رحمه". ومن حكم النبوة ولطائفها مارواه أبو ذر: "أوصانى خليلى - صلى الله عليه وسلم - بخصال من الخير.. أوصانى ألا أنظر إلى ماهو فوقي، وأن أنظر إلى من هو دوني. وأوصانى بحب المساكين والدنو منهم. وأوصانى أن أصل رحمى وإن أدبرت. وأوصانى أن لا أخاف فى الله لومة لائم. وأوصانى أن أقول الحق ولو كان مرا. وأوصانى أن أكثر من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله، فإنها كنز من كنوز الجنة". والأقارب ليسوا سواء، ففيهم السيئ الخلق القريب الشر، وفيهم الودود المقر بالجميل الناشر للمعروف.. "عن أبى هريرة أن رجلا قال: يا رسول الله، إن لى قرابة أصلهم ويقطعونني، وأحسن إليهم ويسيئون إلي، أحلم عليهم ويجهلون علي، فقال له: إن كنت كما قلت فكأنما تسفهم المل - الرماد الحار - ولا يزال معك من الله ظهير عليهم مادمت على ذلك" وقد كان العربى يفخر بتحمله أذى الأقارب إبقاء على صلة الرحم(2/60)
ولا يحمل الضغينة على قريب. ص _064
وإنى لأنسى عند كل حفيظة إذا قيل: مولاك احتمال الضغائن إن كان مولى ليس فيما ينوبنى من الأمر، بالكافي، ولا بالمعاون! يعنى أنه قريب قليل الخير، ولكنه يعينه، وإن كان قليل العون، لا يسد ثغره! ونريد أن ننظر إلى دائرة "الأرحام" كما رسمها الإسلام فإنها أوسع كثيرا مما يظنها المرء لأول وهلة، إنها تمتد وتنداح حتى تتجاوز الأعمام والأخوال وأبناء الأعمام والأخوال، والقرابات ومن الدرجة الأولى والثانية حتى تشمل الكثيرين! الأساس - فى نظر الإسلام - أن الناس جميعا إخوة لأب وأم، وأن هذه الصلة المشتركة لا يجوز أن تهمل وإن طال الزمان وكثرت الفروع وزاد البنون والبنات، والأخوة والأخوات، وفى هذا يقول الله تعالى : ( يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا ). الناس كلهم ينميهم أب واحد وأم واحدة، وهم - رضوا أم كرهوا - إخوة تجرى فى عروقهم دماء مشتركة فعلام التقاطع والتناحر والاستكبار والاحتقار؟ إن النزعات العرقية قسمت البشر قديما وحديثا، ولا تزال الفروق القومية تجعل أبناء آدم كأنه لا رحم بينهم ولا قرابة. والأوروبيون يسرون ويعلنون أن الجنس الأبيض، أو سكان الشمال، هم الأرقى والأذكى، والمعروف أن القوم لم يبرز لهم تاريخ متفوق إلا من بضعة قرون. وهناك الاختلافات الدينية، فهى من قديم أساس عراك دموى ظلوم أرخص الأرواح والأموال وورث الأحقاد والثارات. وقد أهدر القرآن الكريم كل ما توهمه الناس مبعث انقسام وشجار عندما قال : ( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير). ص _065(2/61)
إننى باسم الإسلام أقول لغيرى ممن لا يدينون ديني، لكم عندى المبرة والعدالة، ولكم عندى حقوق الرحم الإنسانية الجامعة، وغاية ما أنشده أن تتركونى وما اقتنعت به، وأن تتركوا غيرى حرا فى اتباعى إذا شاء نحن نؤمن بالله الواحد، وبجميع الرسل الذين أرسلهم، وندعو إلى وحدة دينية تحقق الوحدة الإنسانية وتصحح مسيرتها فى هذه الحياة. فمن صدقنا فهو منا، ومن كذبنا فيتركنا وشأننا ولا يلجئنا إلى مقاتلته دفاعا عن أنفسنا.
قال عبد الله بن عباس فى شرح قوله تعالى : ( الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق * والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل..) يريد الإيمان بجميع الكتب والرسل، يعنى يصل بينهم بالإيمان ولا يفرق بين أحد منهم.
هذا هو الإيمان الجامع للكلمة، المحقق للوحدة، الواصل لما بين الأنبياء من رحم وبين أتباعهم من إخاء. ومن السهل رؤية الأطماع البشرية وهى تتخفى تحت رداء الوطنية والطائفية قاطعة الأرحام وسافكة الدماء قال تعالى : ( فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم * أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم ).
وهنا مبحث لغوى طريف ثار عند شرح الحديث : " إن الله خلق الخلق، حتى إذا فرغ منهم، قامت الرحم فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة! قال نعم، أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى! قال: فذاك لك. وهو معنى آية ( فهل عسيتم...) إلخ قال القاضى عياض: الرحم التى توصل وتقطع وتبر أو تعق إنما هى معنى من المعانى كالعلم، والعدل والرحمة.. وغير ذلك، إنها ليست جسما، إنما هى قرابة ونسب يجمعه رحم والده، فيتصل بعضه ببعض.
والمعانى لا يتأتى منها القيام ولا الكلام، فكيف يفسر الحديث؟
قال: إنما هو ضرب مثل جرى على عادة العرب فى المجاز والاستعارة.. والمراد تعظيم شأن الرحم وبيان إثم قاطعها.
وقيل بل المراد قيام ملك من الملائكة بهذا الموقف يتعلق بالعرش ويتكلم بلسان الرحم.(2/62)
وأيا ما كان الأمر، فصلة الرحم من أبرز شعب الإيمان ومن أعظم القربات لدى الرحمن.
ص _066
لا علاقة للتخصص بموازين العدل الإلهى بيت عريق أخنت عليه الأيام فزلزت مكانته فى المجتمع، وأطمعت من دونه من الناس أن يتقدم خاطبا لبناته وما كان يجرؤ على ذلك من قبل. وغضب رب البيت لكرامته التى جرحت، وتساءل فى أسف: أإذا عرضت له أزمة عابرة تطاول عليه الصغار وجاء من يريد الزواج بابنته وهو ليس لها بكفء؟ لذلك طرد بعنف بالغ الخاطب القادم قائلا له: تريد أن تكون سيدا بأخذ سيدة من بيتنا لا ترتفع إلى مستواها؟ اذهب عنا فالبنات كثرن بعد أن منع الإسلام وأد البنات! أما ابنتنا ففى مكانها العالى لن ترخصها أزمة مهما اشتدت!! وهاك الأبيات التى تفجرت فيها ثورة رب البيت الجريح!! تبغى ابن كوز والسفاهة كاسمها ليستاد منا أن شتونا لياليا ما أكبر الأشياء عند حزازة بأن أبت مزريا عليك وزاريا وإنا على غض الزمان الذى بنا نعالج من كره المخازى الدواميا فلا تطلبنها يابن كوز فإنه إذا الناس مذ قام النبى الجواريا وإن التى حدثتها في أنوفنا وأعناقنا من الإباء كما هيا والذى استوقفنى من هذه القصة أمران: أولهما أن الرجل الذى أخرجه الفقر تماسك وتحمل آلاما هائلة حتى لا يلم بدنيئة أو يقترف ما لا يليق به، والثانى أعز ابنته وجعل مكانتها فى أنفه وعنقه فلن تذل أبدا مادام حيا! وكلا الأمرين من خلائق السادة الذين يحترمون أنفسهم وأهليهم، ولا يعنينى غير ذلك من القصة كلها. ص _067(2/63)
والمجتمع العربى قديما وحديثا تحكمه تقاليد صارمة بعضها لا بأس به وبعضها فيه نظر. واهتمام العرب بنسبهم وسمعتهم قد يخالطه غرور وكبر، ولكن الأستاذ أحمد موسى سالم يقول: إن العرب فى حياتهم الأولى كان يحكمهم قانون "الحمد" الذى جاء به اسم محمد من مشرق طفولته، تأكيدا لمراحل الاصطفاء له من بين محامد العرب لا من بين مساوئهم فكان هو المحمد، بحسب قانونهم وكان كما هو الواقع وكما قال عن نفسه "خيار من خيار من خيار". وقد شرحت الخنساء هذا القانون الشريف بقولها: نعف ونعرف حق القرى ونتخذ الحمد كنزا وذخرا! وتقول أم حاتم الطائى وكانت فى سباق المكارم تجود لمن يسألها بكل ما تملك: لعمرى لقد ما عضنى الجوع عضة فآليت ألا أمنع الدهر جائعا! وما إن ترون اليوم إلا طبيعة! فكيف بتركى يابن أمى الطبائعا! فهذه امرأة جاعت مرة فأقسمت ألا ترى جائعا إلا أعطته ما تملك! وكان من حقها أن تفعل ذلك! ولا يستطيع أحد أن يمنعها. وكانت احدى حكيمات النساء قبل الإسلام، وهى جمعة بنت الخس، تصف الصدق وتجعله فوق كل الفضائل فتقول: وخير خلال المرء صدق لسانه وللصدق فضل يستبين ويبرز! وإنجازك الموعود من سبب الغنى فكن موفيا للوعد، تعطى وتنجز! وقانون الحمد الذى أشار إليه الأديب الكبير جدير بالإقرار مع تعليق محدود، فالإسلام يريد منا أن نعمل ابتغاء وجه الله وانتظار منوبته يوم اللقاء الأخير، فإذا أخلصنا العمل له سبحانه جازانا بالذكر الحميد فى الدنيا والآخرة، ولا يجوز أن نعمل طلبا لثناء الناس، كما لا يجوز أن نعرض سمعتنا للقيل والقال. ص _068(2/64)
وفى العرب ميل للفخر والظهور والمباهاة وهى رذائل تشوب العمل الصالح وقد تطيح به. والحق أن المرأة العربية فى الجاهلية الأولى برزت شمائلها الحسان فى ميادين كثيرة أيام الحرب وأيام السلم على سواء، ولم توضع أمامها العوائق التى وضعت أمام المسلمات فى عصور الانحطاط العام للأمة الإسلامية. وفى صدر الإسلام استطاعت امرأة من الخوارج أن تقود جيشا يهزم الحجاج ويحصره فى قصره ويتركه وهو مذعور، حتى عيره أحد الشعراء على هذا الموقف المخزى بقوله : أسد على وفى الحروب نعامة فتخاء تنفر من صفير الصافر! هلا برزت إلى غزالة في الوغى بل كان قلبك فى جناحى طائر! أما فى العهود الإسلامية الأخيرة فإن المرأة ما كانت تدرى وراء جدران بيتها شيئا! وعندما غلبتنا حضارة الغرب المنتصر، كان هم المرأة أن تقلد فى الثوب الرشيق والمنظر الأنيق! أما فى غزو الفضاء واكتشاف الذرة ودراسة النفوس والآفاق فإن الأمر لا يستحق الاكتراث لأنه ليس من شأنها ولا من رسالتها!! إن الإسلام لا يقيم - فى سباق الفضائل - وزنا لصفات الذكور والأنوثة، فالكل سواء فى العقائد والعبادات والأخلاق، الكل سواء فى مجال العلم والعمل والجد والاجتهاد، فلا خشونة الرجل تهب له فضلا من تقوى، ولا نعومة المرأة تنقصها حظا من إحسان، وفى القرآن الكريم ( من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا * ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا ). وفى عالم الرياضة اليوم يفصل بين مباريات الرجال والنساء، وتوضع مسافات وأرقام لكلا الجنسين على حدة. ربما صح هذا فى دنيا الألعاب لكنه مستحيل فى سباق الصالحات وكسب الآخرة، ربما تقدمت امرأة فسبقت ذوى اللحى دون حرج وربما تأخرت ولو كانت قرينة أحد الأنبياء، ولذلك قلنا: امرأة فرعون خير منه، ومريم أشرف من رجال كثيرين، ونوح ولوط خير من زوجاتهما!! ص _069(2/65)
وأذكر أن أحد الناس قال لي: إن القرآن يرجح الذكورة على الأنوثة، ويسوق لزعمه قوله تعالى : ( وليس الذكر كالأنثى ) وهو فهم أعوج! فالجملة القرآنية وردت على لسان امرأة عمران التى كانت حاملا، وظنت أنها ستلد رجلا يكون سادنا للمسجد الأقصى وقائدا للعابدين والدارسين فيه، فلما فوجئت بإخلاف ظنها وأنها ولدت أنثى، قالت هذه الكلمة لأن المرأة لا تصلح لهذه القيادة بطبيعتها، وقد قبلت الأمر الواقع لأنه مراد الله! ودعت لابنتها ولذريتها بالصيانة والرعاية فاستجاب الله الدعاء بأن أعلى قدر المولودة فوق ألوف مؤلفة من البشر، وأعلى قدر ابنها فجعله من الأنبياء أولى العزم. ولاشك أن هناك وظائف تخص النساء وأخرى تخص الرجال، ولا علاقة لهذه التخصصات بموازين العدل أو الفضل الإلهي. ص _070(2/66)
فكر طفولى جدير بالضحك لا أستغرب أن تستند إلى كتاباء يا صاحبى فى الأخذ والرد، فأنا أعتمد على القرآن الكريم فى مسيرى وآرائي، وحتى لا يتشعب بنا الحديث إلى وجهات كثيرة أرى أن نضع عدة مبادئ نتفق عليها، ثم ننظر بعدئذ فيما لدى كل منا من تراث! قال: ماهاتيك المبادئ التى تقترحها؟ قلت: أولا: نتفق على استبعاد كل كلمة تخدش عظمة الله وجلالته! فأنا وأنت متفقان على أن الله قد أحاط بكل شيء علما، وأنه لا يعجزه شيء فى السماوات ولا فى الأرض، وأن رحمته وسعت كل شيء، وأنه ليس متصفا بالنقائص والعيوب التى تشيع بين البشر.. إلخ. وثانيا: نتفق على أن الله يختار رسله من أهل الصدق والأمانة والكياسة، ويبعد أن يختار سفراءه إلى عباده من اللصوص والقتلة وأشباههم من المجرمين.. ثالثا: ما وجدنا متوافقا فى تراثنا نرد إليه ما اختلف عنه، وبذلك يمكن وضع قاعدة مشتركة بين الأديان. فنظر إلى مترددا كأنما يخشى أن يقع فى حفرة!! فصحت به: ماذا فى هذه المبادئ الثلاثة يشقيك؟ أترتاب فى كمال الله أو فى نزاهة الأنبياء، أو يضايقك أن يكون فى كتابك ما أصدقه أنا لأنه عندى أيضا؟ قال: عند التطبيق يتضح مرادك! وبداية لا مانع عندى من السماع، والقاعدة المقترحة حسنة على الإجمال.. قلت: فى سفر التكوين أن الله كان يمشى فى الجنة، ففوجئ بآدم مختبئا بين الشجر، وشعر بأنه عريان، فسأله: هل أكلت من الشجرة التى نهيتك عنها؟ فاعترف بأن امرأته أغرته، فأكل، فتعرى!! أسألك: هل هذا السياق مشعر بأن الله يعلم كل شيء؟ إنه كان جاهلا حتى أخبره آدم!! ص _071(2/67)
أما دينى فيخبرنى أن الله لا يخفى عليه شيء فى الأرض ولا فى السماء، وأنه على كل شيء شهيد، فأى السياقين أولى بالقبول؟ وفى القصة نفسها أن الله بعدما علم أن آدم أكل من الشجرة، فكر في مستقبله باهتمام، لأن الشجرة التى أكل منها هى شجرة المعرفة، ويخاف أن يأكل من شجرة الحياة فيخلد ولا يفنى، فأمر بإخراجه من الجنة حتى لا يتحول إلى ند لله يشاركه البقاء!! هل هذا السياق مقبول؟ أليس يفيد أن الله استكثر على آدم الأكل من شجرة العلم وأنه يريد له أن يحيا جاهلا؟ فلما أكل خشى منافسته له عندما يزداد طمعه، وسيكون خالدا عندما يأكل من شجرة الحياة، فأمر بطرده حتى لا ينازعه سلطانه، ثم أمر بحراسة هذه الشجرة من كل طامع!! ممن يخاف الله؟ والكون كله إنما نشأ بإيجاد الله، وبقى بإمداده، ولو تخلى رب العوالم طرفة عين عن هذه العوالم لزالت، ولم يبق لها أثر!! هذا فكر طفولى جدير بالضحك! إن الحديث عن الله فى كتابنا له أوج آخر، ونسق موغل فى السناء والسمو، وقد بين القرآن الكريم أن هذا النسق لم يجئ بدعا على لسان محمد وحده، بل جرى من قبل على ألسنة إخوانه الأنبياء السابقين واحدا واحدا. تدبر هذا الحوار بين فرعون، وموسى وهارون ( قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى * فأتياه فقولا إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم قد جئناك بآية من ربك والسلام على من اتبع الهدى * إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى * قال فمن ربكما يا موسى * قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى * قال فما بال القرون الأولى * قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى * الذي جعل لكم الأرض مهدا وسلك لكم فيها سبلا وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى * كلوا وارعوا أنعامكم إن في ذلك لآيات لأولي النهى * منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى). ص _072(2/68)
إن الفارق فى الحديث عن الله بين الكتابين، كالفارق بين كلام شخص فليسوف قاصر، وفيلسوف راسخ!! قال الرجل: لا أسمح لك بهذا التطاول، وقد بدأ الكتاب المقدس بحديث عن الله الخالق علمنا أنه الموجد الأوحد للسماوات والأرض والبر والبحر، فلا مكان لهذا اللغط!! قلت: إننا نتحدث عن الحوار الذى دار فى الجنة، بين الله وآدم، وبين الله وملائكته، وأتفق معك على أن الكتب السماوية كلها قالت: إن الله خالق السماوات والأرض، بل إن عبدة الأصنام يقرون ذلك ولا ينكرونه ( ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم ) ومع ذلك يتناقضون مع أنفسهم ويعبدون غيره. وأنتم مع الحديث عن الله الواحد عند بدء الخلق، لم تقدروا الله حق قدره فنسبتم إليه ما يخدش جلاله.. ولذلك أستأذنك فى أن أرجيء الحديث عن المبدأ الثانى مؤقتا، لأذكر طرفا مما اتفق فيه كتابنا وكتابكم، لعل ذلك يسرك. عندما سئل عيسى : أى وصية هى أول الكل؟ أجاب: أولى الوصايا كلها هى "اسمع يا إسرائيل، الرب إلهنا رب واحد، تحب الرب إلهك من كل قلبك، ومن كل نفسك ومن كل فكرك، ومن كل قدرتك". هذه هى الوصية الأولى، والثانية مثلها، تحب قريبك كما تحب نفسك، ليس وصية أخرى أعظم من هاتين. فلما جاء عيسى بهذه الكلمات، قال له الكاتب: جيد يا معلم!! بالحق قلت، لأن الله واحد وليس آخر سواه. هذا ما كتبه مرقس فى إنجيله. نقول: ومع غض البصر عما فى الصياغة من ركاكة، إلا أن المعنى صحيح، فأصدق كلمة هى لا إله إلا الله، وصلة الرحم من أعظم القربات. وبهذا نطق كتابنا ( واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم..). ص _073(2/69)
إن الإسلام يرى عقيدة التوحيد جذر تعاليمه كلها، ويرى الشرك فى الإيمان أو السلوك أعظم الكبائر.. وتلك وصية الله لأنبيائه جميعا ( وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون ). وفى الحضارة الحديثة نلحظ أن الاستمتاع بالنساء أخذ طرقا معوجة كثيرة، ويستحيل وصف هذه الحضارة بأنها عفيفة، أو مقتصدة فى ملذاتها، إنها لا تزال تكرع من الآثار حتى تهلك من التخمة، وكذلك تصنع فى سائر علاقاتها بالدنيا! أهذه تعاليم الكتاب المقدس؟ إن النهى عن ذلك ورد بأسلوب مثير، يقول عيسى عليه السلام: "إن كانت عينك اليمنى تعثرك - تجرك إلى الإثم - فاقلعها وألقها عنك، لأنه خير لك أن يهلك أحد أعضائك، ولا يلقى جسدك كله فى جهنم، وإن كانت يدك اليمنى تعثرك فاقطعها وألقها عنك، لأنه خير لك أن يهلك أحد أعضائك ولا يلقى جسدك كله فى جهنم". هكذا ذكر " متى "! ونحن نوافقه فى ضرورة غض البصر عن المحرمات، ونشجب المدنية الأوروبية - التى تدعى المسيحية - ومع ذلك لا يروى التاريخ أن مدينة أخرى بلغت مداها فى تزيين المناكر وتوسعة دائرتها وإزلاق الحكام والجماهير إليها.. الإيمان بالله الواحد - كما ترى - أساس تعاليم عيسى، والمواظبة على العمل الصالح هى طوق النجاة، ونحن ما نختلف عنكم فى مناقضة فهو مرفوض. ألا ترى هذا قاسما مشتركا بيننا؟ قال الرجل: إننا موحدون، ونتواصى بالصالحات، التثليث لا ينافى التوحيد، وافتداء عيسى لأصحاب الخطايا لا ينفى الدعوة العامة إلى العمل الصالح..! قلت: من النماذج الكثيرة التى سوف أسوقها لك، سترى أن فكرتكم عن التوحيد تحتاج إلى مراجعة، وحديث الكتاب المقدس عن الله يتنافى مع ما ينبغى له من حمد وتمجيد، وإذا كان الأنبياء نماذج حسنة للرجال الصالحين، فحديث الكتاب عن أولئك الأنبياء تقشعر له الأبدان. ص _074(2/70)
حوار جاءنى شخص حسن السمت، ظننته لأول وهلة طالب علم، لكنه عرفنى بنفسه فأدركت أنه مسيحي، يتبع الكنيسة الإنجيلية الإنجليزية، قال لي: أريد مساءلتك فى بعض القضايا! فقلت له: أنا أكره الجدل الديني، فإن أصحابه سرعان مايتحولون إلى اللجاجة والمغالبة، وليس لدى وقت لهذه الأمور!! قال: بل أنا ناشد حق أعرفه وأدعو إليه. فأجبته: ما يزعم أحد أنه على باطل، كل امرئ مستريح إلى ما عنده، ما يبغى به بديلا. ومن ثم فأنا أدع كل امرئ لقدره الغالب، أو لمواريثه التى انحدرت إليه، حتى يستبين من تلقاء نفسه ما يغيره ويبدل أحواله. قال: ما تعني؟ قلت: أحسب أننا ورثنا الأديان كما ورثنا اللغات، دون إرادة منا ولا اختيار، فلما كبرنا شرح كل واحد يفكر فيما عنده تفكيرا سطحيا أو عميقا على قدر ما أوتى من عقل. ويغلب أن يقتنع المرء بما جاءه، وأن يتساهل فيما يند عن عقله، ويقبل على إغماض وتجوز ما قد يراه مأخذا على دينه، ثم يجرفه بحر الحياة، وتشغله معركة الخبز، فيبقى على وضعه. وأنا ألتمس العذر لهؤلاء وأمثالهم، وأعى قول الله سبحانه: ( ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون ). قال الرجل: كأنك تشعر بالقلق من الحديث معي. فرددت ساخرا: قلق على ما عندى أو على ما عندك؟ اسمع ياصاح، إننى رجل أومن بالعقل البشرى الذى جعله الله مناط التكليف، أحيانا أرتاب فى وجوده أو فى يقظته عند أغلب الناس، وذاك سر اليأس من مجادلتهم. ص _075(2/71)
أنا ورثت الإسلام عن أبوي ، بيد أننى عندما كبرت أخذت أفكر فى هذا الميراث، وأغوص وراء أسرار الوجود الأعلى والوجود الأدني، وأراقب طنين الأفكار والمذاهب المتطاحنة من حولي، وأوازن وأرجح، وأستقبل الشبهات بترحاب وأناقشها بتؤدة، وبعد سياحة طويلة أدركت أن الله حق، وأنه واحد، وأنه أرحم بعباده من أن يتركهم دون دليل، فى صحراء مليئة بالمتاهات، فأرسل إليهم رسله معلمين ودعاة صادقين. وعلى ضوء العقل المجرد نظرت إلى الأديان الشائعة بين البشر، فما كان أكثر تنزيها لله، وإشعارا بعظمته، وشرحا لصفاته العلي، وأسمائه الحسنى آثرته على غيره. إننى أحيا فى كون كبير، فى ملكوت لم يعرف الفلكيون أبعاده، يتكون من ذرات يحار العقل فى إعمائها، ولا ريب أن رب هذا الملكوت أكبر منه وأعلم وأقدر. وقد نظرت فى كتب المتحدثين عن الله، فلم أجد كتابا شرح أسرار العظمة الإلهية، واحتدت نبرته وهو يرد ترهات الملاحدة، ويصور معالم الكمال والجمال والجلال.. لم أجد أصدق من هذا القرآن الكريم فاتبعته. إن العقل أيها الصديق هو الميزان المصدوق والحاسب المضبوط وأنا أومن به. وهو من وراء تمسكى بالإسلام وبقائى عليه، أنا لست مقلدا أعمى لدين وجدت عليه آبائي، اعتقادى أن الله سوف يحاسب الناس على حسب مواقفهم من عقولهم، فمن بحث واجتهد، وفكر وتعمق، فهو واصل إلى الحق حتما، قال تعالى : ( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين ). ولكن هناك مرضا عقليا شائعا بين الناس، هو الكسل الفكري، المرء يحس الريبة فى أمر ما، ومع ذلك لا يتحقق منه، ويبقى على ما هو عليه، حسبه أنه يأكل ويشرب!! ومن حق رب الناس أن يغضب على امرئ لا يهتم بمعرفته، وإنما همته فى تأمين حياته الأرضية وحسب. فانظر يا صاحبى فى نفسك قبل أن تتحدث معي، هل أنت عبد التقاليد الموروثة؟ أم أنت رجل حر الفكر، تحترم العقل الإنسانى الذى هو أعظم هدايا الخالق للناس أجمعين؟ قال الرجل: أنا(2/72)
مثلك أومن بالله، وبالسيد المسيح له المجد. ص _076
قلت: حسنا فأنا أومن بالمسيح وبآبائه وأسلافه، وبمن جاء بعدهم، أنا مسلم دائرة إيمانه تشمل موسى وعيسى ومحمد، أنا أدرك أن الله - كما قلت لك - أرحم من أن يترك عباده حيارى، فبعث إليهم ( رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل..). القرآن الكريم أمرنا أن نؤمن بجميعهم على اختلاف عصورهم ( يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا). إلى هذا الإسلام السمح الواسع نحن نتمنى، وإنه ليسرنا أن يعرف البشر أجمعون هذه الحقيقة، ويتآخوا فى ظلالها الوارفة. قال: معذرة، إن إيمانكم ينقصه عنصر أساسى مهم، إنكم تؤمنون بالمسيح الإنسان، ولا تؤمنون بالمسيح الإله، وهذا يجعل إيمانكم لا وزن له. قلت مبتسما: هل ألوهية المسيح تخصه وحده؟ ألا تنال معه إخوته لأمه؟ قال: ما تعني؟ قلت: لقد ولدت مريم عيسى وهى خطيبة ليوسف النجار لم يتصل بها، وبعد أن تم نفاسها تم زواجه بها، وأنجب منها – كما يقول "متي" أربعة أبناء آخرين هم يعقوب ويوسى وسمعان ويهوذا، وهؤلاء هم إخوة الإله لأمه كما جاء في كتابكم. يبدو أنهم لا هم آلهة ولا هم أنبياء.. فتملك الرجل ضيق كتمه بقوة. وقال: تلك أخوة الجسد، ولا صلة لها بالرب يسوع له المجد. قلت له: هنا نختلف، ولا أكرهك على ما عندي، ولا تكرهنى على ما عندك، إن عيسى إنسان كريم ونبى عظيم، وقد جاءت ولادته مخالفة لقوانين السببية، فإن هذا القانون وإن حكم البشر لا يحكم واضعه الأعلى، ومن قبل ولد آدم من غير أبوين، وولدت حواء من غير أم، فليولد عيسى من غير أب، وقد عاصرت ولادة عيسى ولادة ص _077(2/73)
أخرى ألغى فيها قانون السببية ولادة يحيى من أم عقيم وأب شيخ بلغ من الكبر عتيا. إن الخالق الأعلى إذا أراد شيئا يقول له كن فيكون. إما أن تحاول إقناعى بأن رب السماوات والأرضين، ومسخر النجوم فى السماوات تشرق وتغرب فى فضاء فوق أوهامنا، هذا الإله احتبس تسعة شهور فى بطن امرأة ولدته وولدت غيره فهذا ما ننكره. عيسى، يا صديقي، رجل رقيق نبيل، ونحن نوقره ونقدره، ما نقدر ونوقر إخوانه من الأنبياء الآخرين. ص _078(2/74)
ما أشد بلاء أمتنا بهؤلاء الناس!! قد يغضب المرء ويشتد غضبه لأنه لا يعرف الحقيقة، فإذا عرفها هدأ ولان كلامه! إن الجهل يكمن وراء كثير من مساوئ الأخلاق، وعوج المسالك وانتقاص الآخرين! وعلاج الخلل هنا سهل، لأنه لا يتطلب إلا تعريف الجاهل وكشف النقاب أمامه عما لا يراه.. المشكلة المحيرة أن يتمادى المرء فى خطئه بعد أن استبان له الصواب! كأنه لم يستفد شيئا من العلم الذى آتاه..! يظهر أن بعض الناس يعانى من داء دفين فيه، لا يشفيه العلم مهما كثر، بل ربما أضر به، وزاده انطلاقا إلى ما يهواه، ولعل هذا يفسر ما نقرأه أحيانا من إسفاف لقوم ينتمون إلى أوساط علمية كبيرة! طالعت أخبارا مستغربة لأناس مرموقين ثبتت عليهم جرائم علمية لا تليق: منها أن أحد هؤلاء وهو طبيب عربى " سطا كالقرصان على سبعة بحوث لغيره ونقلها كلمة كلمة ثم نشرها باسمه فى مجلات علمية مختلفة "! والدكتور حصل على الدكتوراه من جامعة فرجينيا وقد تمكن من نشر 60 بحثا فى سنة 1979 وحدها، وعندما اكتشف أمر بحوثه السبعة المزورة طرد من جامعة فرجينيا، وطلب إليه الاستقالة من برنامج كان مشرفا عليه فى كلية الطب بجامعة بوسطن. واعترفت أشهر كليتين للطب فى أمريكا، وهما (جون هوبكنز وهارفارد) بوقوع تزوير لكثير من نتائج الدراسات الطبية التى قام بها أحد العلماء العاملين فيها!! تمكن أحد الأساتذة المميزين من نشر 40 بحثا تحت اسمه مع أن جميع هذه البحوث قام بها زملاؤه فى العمل، لدرجة أنه نشر فى إحدى المرات مقالا باسمه وحده قبل أن ينشر مؤلفه الأصلي!! من قديم قرر المحققون أنه لا تلازم بين المعرفة والفضيلة، وإن كان العجب لا ينقضى من تورط العارفين فى خطايا لا تتوقع منهم! عندما انتقل المسلمون من مكة إلى المدينة انتظروا من بنى إسرائيل شيئا من البشاشة والسماح، فهم أهل كتاب، وإذا ضنوا بمحبتهم فلن يضنوا بمهادنتهم! ولكن اليهود كانوا عند أسوأ الظنون، وكان كيدهم للمسلمين(2/75)
أشد من كيد المشركين لهم.. ص _079
ونزل القرآن الكريم يصحح للمسلمين مشاعرهم الساذجة ( أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون). عندما تتحرك النفس الإنسانية بالحقد وتدور على محور من هواها فلن يحجزها شيء. كان إبليس يعرف الكثير، ورأيه فى نفسه أنه أحق بالاختيار أو الاستخلاف من آدم. كان يرى معدنه أصلب، وطاقته أوسع، وأنه فى أى نزال مع آدم وذريته سوف ينتصر بمكره ودهائه. ولذلك قال لله : ( أرأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا). وقد ضحك من آدم وأخرجه من الجنة! ولا يزال يستغفل الكثير من أبنائه ويسد عليهم طرق النجاة. ونسى إبليس الحقيقة الأولى فى علاقة الكائنات كلها برب العزة! نسى أن الله يقدم عبدا منكسرا يرنو إليه بأمل، على عبد شامخ ينظر إلى نفسه بإعجاب! نسى أن عاصيا يتوب أحب إلى الله من طائع متكبر..!! إن كلمات آدم وزوجته أمام الله ( ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين) أكسبتهما الرضوان الأعلى.. أما كلمة إبليس ( أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين ) فقد هوت به إلى أسفل السافلين. لا قيمة للعلم الواسع إذا لم تصحبه عبودية تامة لله.. أما عبادة الذات فقد تكون شر أنواع الشرك، ولذلك أجمع علماؤنا على أن معاصى القلوب شر من معاصى الجوارح. على أن منطق إبليس من أوله إلى آخره مليء بالإفك والغباء! إن معدنه ليس أشرف من معدن آدم، فآدم أوتى علما عجزت عنه الملائكة وهو دون ذلك كثيرا، وآدم يبنى وينشئ، أما هو فيهدم ويدمر، وليس الذى يبنى كمن شأنه الهدم! ص _080(2/76)
ربما مكث الفلاح عدة شهور فى حقله حتى يجعله مهتزا بسنابل القمح، وقد يجيء فاتك يشعل النار فى الثمار فيأتى فى بضع دقائق على الأخضر واليابس، فأى الرجلين أشرف؟ وشئ آخر لابد من تقريره، من الذى ألهم الذكى ذكاءه، والعبقرى عبقريته؟ إنه الله! فكيف يقف الآخذ المتلقى متحديا للمعطى ولى النعمة؟؟ ( قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم * يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم). وقد هدى ابن عطاء الله السكندرى إلى هذا المعنى عندما قال: "من مدحك فإنما مدح مواهب الله عندك، فالفضل لمن منحك لا لمن مدحك". إن ولدا لآدم عرف الحقيقة التى تاه عنها المتكبر الطائش، وقد استكبر إبليس على آدم ثم اشتغل بعد قوادا لبعض ذريته! فما أحقر المصير القريب والبعيد! ومن عجب أن "عبادة الذات" انتقلت من الشيطان الأكبر إلى بعض المتدينين الذين يدورون حول أنفسهم، وبدلا من أن يكنوا الدين من إصلاح عيوبهم يفسدون هم العبادات بالرياء وإرضاء النفس! وقد جاء فى السنة أن هؤلاء أول من تسعر بهم النار يوم القيامة، ونعوذ بالله من علم لا ينفع. الدين تواضع لله، ودماثة فى الأخلاق، واستغفار للفرد والجماعة وافتقار باطن وظاهر إلى رحمة الله، وهؤلاء بقليل من العلم وكثير من الدعوى قطعوا تسعة أعشار المسافة إلى الجنة، ثم نظروا للآخرين شزرا. إن وجدوا خيرا تجاوزوه، وإن وجدوا شرا ضاعفوه، أو هم كما قال الشاعر: إن يسمعوا ريبة طاروا بها فرحا عنى وما سمعوا من صالح دفنوا هل هم مستكبرون بعلم؟ نظرت فى علمهم فرأيت عقولهم صفرا من علوم الكون والحياة، وصفرا كذلك من جملة العلوم الإنسانية، أما علوم الدين فربما برعوا فى زاوية ص _081(2/77)
ضيقة من زوايا الفروع الفقهية التى لا ترجح كفة يوم الحساب.. وما وراء ذلك خواء تعصف فيه ريح الوحشة. ما أشد بلاء أمتنا بهؤلاء الناس! فى هذه الأيام يستغل الغزو الثقافى الأقمار الصناعية لتسميم أفكارنا وتدويخ أمتنا، ويجب أن تتضافر الجهود لتقوية الدفاع وإحباط الهجوم. لقد تغير العدو، وتغير الميدان، وتغيرت الأساليب، وأضحت خدمة القرآن والسنة بحاجة إلى فكر معاصر ونظر بعيد! ص _082
هيهات فلا وجود لمستحيل!! قلت لصاحبي: لقد أريتك سطورا مطولة من كتابك! لم أجئ بشيء من عندى ولعلك شعرت بمدى ما عندكم من بعد عن الصدق، وجراءة على الله ورسله، وأظنك بعد ذلك سوف توافق على النتائج المحتومة لهذا الاستعراض الواسع. وقال: وقد خامرته حيرة ودهشة: إن ما وصفت به كتابى يرتد إلى كتابك كذلك ويرفع الثقة به!! لأنك تقرأ فيه ثناء على التوراة والإنجيل، فكيف يكونان كما ذكرت مع الثناء عليهما والدعوة إلى التزامهما؟؟ قلت: يا صاحبي، لا تخلط بين التوراة النازلة على موسى، والإنجيل النازل على عيسى، وبين ما لديكم من دخل ظاهر، لا يمت بصلة إلى وحى فى أكثر ما جاء به. نحن المسلمين نؤمن بموسى وتوراته، وعيسى وإنجيله. ولا يوجد مسلم يكفر بتوراة موسى أو بإنجيل عيسي، لكن أين هما؟ هل التوراة المتحدثة عن رب يجهل ويندم ويعبث فيها هدى ونور؟ هل الإنجيل الذى لا توجد منه نسخة منسوبة إلى عيسى نفسه يمكن الأخذ عنه؟ إن ما لديكم صحف مشحونة بحكايات كثيرة، تنسب إلى الله ورسله مالا يليق، ومالا يقبله العقل المجرد، نعم ربما لمعت وسط ترابها بقايا وحي، أما الركام السائد فهو - كما سردت عليك - مبتوت الصلة بالسماء. وقبل أن أتحدث عن أسانيد هذه المرويات، أنظر إلى المتون نفسها بما آتانى الله من فكر، فإذا كان المتن مستحيل التصديق فكيف أقبله؟ هب أن يعقوب روى عن أبيه إسحق عن أبيه إبراهيم أن الجزء أكبر من الكل، أو أن الله تناول الطعام مع إبراهيم، أو صارع يعقوب(2/78)
فى حلبة ظلت دائرة الرحى طوال الليل.. هل يطلب إلى عاقل أن أصدق هذه الترهات لأن الرواة ثقات؟!! أى ثقة في هذه المنقولات المحالة؟ إن الكذبة لا يصعب عليهم اختلاق الأسانيد لما يقولون على الله بغير علم! ص _084
كنجوم السماء وأعطى نسلكم كل هذه الأرض التى تكلمت عنها فيملكونها إلى الأبد. فندم الرب على الشر الذى قال أنه يفعل بشعبه، فانصرف موسى ونزل من الجبل). إن أحدا فى الأرض أو السماء لا يعامل الله بهذا الأسلوب النابي، إن الله أجل شأنا وأعلى قدرا من أن يغضب ثم يندم ويتراجع كأنه إنسان ثاب إلى رشده بعدما عزب عنه.. وهذه المرويات كلها من صنع بشر يريدون إعزاز جنسهم بالأكاذيب، والاستعلاء على غيرهم بالباطل، وبنو إسرائيل كبنى إسماعيل كغيرهم من البشر، لا يرتفع أحدهم إلا بالتقوى والأدب، إن التوراة النازلة على موسى اختفت مع تقلب الزمان ببنى إسرائيل، والذى بقى منها هو هذا الميراث المشوب الذى طغى فيه كلام البشر على الوحى الحق، وكادت تختفى فيه ذرات السكر داخل مسحوق من الصخر والتراب. أما الإنجيل فنسأل مخلصين: أين هو؟ إن الأناجيل الأربعة الموجودة هى قصص كتبها تلامذة عيسي، تضمنت ما يقال إنه كان يدعو إليه ويبشر به. حسنا، فلنتنازل عن المطالبة بالإنجيل نفسه! ولنحاول البحث عن بقايا الحق فيما كتبه التلامذة المخلصون. إن عيسى وصحبه هم من بنى إسرائيل، كانوا يتكلمون العبرية بلهجة آرامية، والسؤال: أين ما كتبه هؤلاء الحواريون بلسانهم الأصلي؟ إن الأصل مفقود!! فما أسماء الذين ترجموا عنهم، ومدى الثقة فيهم؟ إنهم مجهولون!! إن أى منصف يحس بأنه أمام مواريث معضلة، التأمل فى متونها يدعو إلى الرفض. فالإم ندعى - نحن المسلمين - الذين نقبل تسليط الأضواء كلها على كتابنا سندا ومتنا؟ إلام ندعي؟ إلى الأوهام! هاتوا خيرا مما عندنا ونحن نتبعكم، وهيهات، فلا وجود لمستحيل!! ص _085(2/79)
هل نستطيع أداء رسالتنا ونحن صرعى هذه الغفلة؟ حاجة الحروب إلى المال مثل حاجتها إلى الرجال، ومن خاصم فى حق أو باطل فليتوقع سيلا من النفقات يقوم به شاء أم أبى، والمؤمنون والكافرون جميعا يتوقعون مع اشتعال الحروب سوء المنظر فى الأهل والمال.. وما الذى يبعث على الحروب؟ فى منطق المظلوم رفض الضيم، ومقاومة الظلم، وفى منطق المحقين صون الحقيقة ودحر الفتنة، وإلى جانب هذا وذاك يوجد من يشنون الحروب كما قال تعالى : (..خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله..). ويقول شوقى مناجيا الرسول الأعظم: الحرب فى حق لديك شريعة ومن السموم الناقعات دواء ويوجد من ينساقون إلى القتال وهم فى نشوة من القوة المواتية، وأمل فى الغنيمة المغرية، حتى إذا خاضوها، و بدأت المغارم تتتابع برد الحماس، وانجلت الغشاوة، وشعرت الحلوق بالمرارة. ولذلك يقول الشاعر فى وصف الفتن الدامية، ومواقف الناس قبلها وخلالها: الحرب أول ما تكون فتية تسعى بزينتها لكل جهول ! حتى إذا اشتعلت وشب ضرامها ولت عجوزا غير ذات حليل شمطاء ينكر لونها وتغيرت مكروهة للشم والتقبيل...! ص _086(2/80)
ومع أن الحروب شؤم وعقباها وخيمة، فإن هناك من سعروا الحرب دون مبالاة، وآثروا أن يهدموا القصور وينشئوا القبور، ويروا أجيالا تعلوها الكآبة والأحزان. وأعتقد أن أشرف الحروب ماقام به الصحابة والتابعون عندما حرروا الشعوب والأقطار من قيود الفرس والرومان، وإن أخس الحروب أن يعتدى مسلم على مسلم حتى يضطره - فى سبيل الدفاع عن نفسه - إلى الاستعانة بالأجانب، والمضطر يركب الصعب... وظاهر أن الحرب قسمان: حرب فى سبيل الله، وحرب فى سبيل الطاغوت، الأولى تنشب لتكون كلمة الله هى العليا، ولتصون حقوق عباده ضد المعتدين، والأخرى تنشب لتكون العزة لفرد ما أو شعب ما يريد الاستكبار فى الأرض.. وقد خاض المسلمون الأولون حروبا شتى ضد الطغاة، وتحملوا مغارم ثقيلة لتوطيد الحرية والعدالة، وإبعاد الفساد والاستبداد وقيل لهم: ( انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله..). وهددوا بالضياع المادى والأدبى إن هم تراخوا وبخلوا...!! قيل لهم: إن تقاعستم ذهب الله بكم وجاء بآخرين أفضل منكم: ( ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغني وأنتم الفقراء وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم). والواقع أن الحروب - كما قلنا - تتطلب البذل الواسع، وقد كان ذلك معروفا يوم كانت الحروب بدائية محدودة الخسائر، لم يقصر خائضوها فى نفقة، وعندما ضربت الحروب بين الإسلام والوثنية سخرت قريش قدرتها الاقتصادية فى تمويل القتال ضد الرسول وصحبه، وفى ذلك يقول الله سبحانه: ( إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون..). جاء ذلك فى التعقيب على هزيمتهم ببدر الكبرى. وواجه المسلمون فى المدينة عدوا آخر هم اليهود، وكانوا على جانب من الثراء والمنعة يغرى بالتطاول والعناد، وقد نظرت فى سورة آل عمران التى شرح نصفها الأول العلاقة بين(2/81)
المسلمين وأهل الكتاب، فرأيت أن اليهود أغراهم غناهم بالتكذيب والكفران، وظنوا ص _087
أن كفتهم سترجح فى أى قتال، فنبههم الله سبحانه إلى أن هذا الغرور لا يجديهم شيئا.. قال تعالى: ( إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا وأولئك هم وقود النار). وقال لرسوله ( ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر إنهم لن يضروا الله شيئا يريد الله ألا يجعل لهم حظا في الآخرة..). ومع أن الآيات فى ظاهرها عامة إلا أن مناسبات النزول ودلالات السياق تجعل اليهود أول من يوصفون بها وتنطبق عليهم. وإذا كان الكفار يفرغون وسعهم فى مقاتلة المؤمنين، فهل يجوز أن يبخل المؤمنون بقليل أو كثير؟ إن القتال لاسيما في هذا العصر يتطلب أمدادا من الأموال لا يغيض لها نبع، ولا يجوز فيها شح.. وقد بذل السابقون ما يملكون حتى كسبوا معاركهم، وهنا أجدنى مسؤولا عن تفهيم العالم الإسلامى ما لديه من إمكانات يستطيع بها أن يكسب معاركه.. إن عدد المسلمين أربى قليلا من عدد الصينيين ، والصينيون يستوطنون شرق آسيا وحده، وقد يتسللون إلى الجنوب، وهم أفضل حالا منا نحن الذين نسكن أكثر آسيا وإفريقيا وتزيد أرضنا أضعافا على مساحة الصين! فى قرون طوال كان البحر الأبيض والأسود والأحمر بحيرات إسلامية، وكان شرق المحيط الهندى بحرا للعرب، كما كان غربه مجالا للأساطيل الإسلامية بين الجزيرة وإندونيسيا والملايو، ومن وراء ذلك الفلبين. إن العالم الإسلامى كان ولا يزال مالكا لأحشاء العالم، وبين أصابعه ثروات طائلة من كل أنواع المال. إننا قادرون لو شئنا أن نمسك بالزمام ونقود أنفسنا، فمتى نشاء؟ وهل نستطيع أداء رسالتنا ونحن صرعى هذه الغفلة؟ ص _088(2/82)
يطلبون ملحقا للامتحان..! التفسير الموضعى لابد منه قبل الشروع فى التفسير الموضوعي، فإنه فهم جيد للآية أو لجملة الآيات التى تتناول قضية واحدة!! ويتعاون التفسير البلاغى والفقهى وغيرهما على توضيح الرؤية وتحديد المعني، ويطلق التفسير الموضعى على نوعين جديدين من خدمة الكتاب العزيز: أولهما تتبع قضية ما فى القرآن كله، وشرحها على ضوء الوحى النازل خلال ربع قرن تقريبا.. والآخر النظر المتغلغل فى السورة الواحدة لمعرفة المحور الذى تدور عليه، والخيوط الخفية التى تجعل أولها تمهيدا لآخرها، وآخرها تصديقا لأولها، أو بتعبير سريع تكوين صورة عاجلة لملامح السورة كلها.. ولعل أفضل نموذج لهذا التفسير ما قدمه الشيخ محمد عبد الله دراز من تفسير لسورة البقرة فى كتابه النبأ العظيم، فقد ضم معانى السورة فى باقة واحدة متكاملة تجعلك بنظرة ذكية تدرك أبعادها. وإذا تم ذلك فى أطول سور القرآن الكريم فكيف يغيرها؟ أما التفسير الموضوعى الأول فإن الشيخ محمود شلتوت عرض نماذج له فى كتابات شتي، والرجل له بصيرة حادة فى التفسير تدل على رسوخ قدمه. وأرى أن التفسير الموضوعى بشقيه جدير بعناية الأمة، فإن المستقبل له، ولعله فى عصرنا أقدر على خدمة الإسلام وإبراز أهدافه. وقد عن لى أن أتتبع معنى واحدا فى كتاب الله وأرصد مواقعه فى شتى سور القرآن فعدت بحصيلة حسنة. نحن نشعر بأن الخاطئين يحسون الندم يوم القيامة على ما اقترفوا من آثام، ويضمون إلى هذا الندم أمنية يستحيل تحقيقها، هى أن يعودوا مرة أخرى إلى الحياة الأولى كى يحسنوا بدل ما أساءوا. أى أنهم يطلبون ملحقا للامتحان الذى سقطوا فيه ، وهيهات ! كم مرة تكرر هذا المعنى فى القرآن الكريم؟ فننظر فى المصحف الشريف حسب ترتيب السور. ص _089(2/83)
1 - فى سورة البقرة يغتاظ الأتباع من تنكر السادة لهم يوم الحساب فيقولون: ( لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم ). 2 - فى سورة الأنعام يتمنى المشركون لو عادوا ليصدقوا بما كانوا به فى الدنيا مكذبين ( ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين). 3 - فى سورة الأعراف يبين الله أن القرآن الكريم حوى من النذر ما يبعث على الإرعواء، ويسوق إلى الهدى، ولكن الناس صدوا عنه، وعندما يصدمهم الوعيد الذى استخفوا به يطلبون النجاة (.. يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل..)؟. 4 – ويتضح ما يطلبون في سورة إبراهيم عندما يصيح الظلمة: (.. ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل أو لم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال ) ؟. 5 – ويجيء هذا المعنى في خلاصة وجيزة في صدر سورة الحجر ( ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين * ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل..). أما سورة المؤمنون ففيها تفصيل يظهر فى موضعين: 6 - ضراعة الكافر أن يرجع إلى الحياة ليصلح ما أفسد ( رب ارجعون * لعلي أعمل صالحا فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون ). 7 - والموضع الآخر فى دعاء أهل النار عندما يحيط بهم العذاب ويصرخون من شدة الألم (..ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين * ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون * قال اخسئوا فيها ولا تكلمون). ص _090(2/84)
8 - أما فى سورة الفرقان فإن الذكرى تبدو فى مسالك متناثرة تخامر الكافر عن الأيام التى خلت فهو يقول آسفا : (يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا * يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلانا خليلا * لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني..) لقد فات الأوان ولات ساعة مندم. 9 - وفى سورة الشعراء ينظر المشركون إلى آلهتهم وسادتهم فى جهنم يتعذبون معهم، لقد استوى (.. وما أضلنا إلا المجرمون * فما لنا من شافعين * ولا صديق حميم * فلو أن لنا كرة فنكون من المؤمنين). وهيهات لا عودة لاستئناف حياة أرشد.. 10 - وفى سورة السجدة يصرح المجرمون بأمنيتهم ويسألون الله آن يمنحهم فرصة أخرى ( ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رءوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون ) ونلحظ أن السكوت هو الجواب فى هذه السورة، كأنهم أحقر من أن ينتظروا ردا، وهذا إيلام أوجع. 11 - أما فى فاطر فقد سمعوا إجابة توجب الحسرة، وتضاعف العذاب ( وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير فذوقوا فما للظالمين من نصير ). 12 - ونلحظ فى سورة الزمر أن الله يحذر عباده من التعرض لهذه المواقف اليائسة، وكذلك يدعون إلى التسوية هناك قبل أن يصحوا هناك على غد قاتم، يستحيل معه استدراك ما فات ( أن تقول نفس يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين * أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين * أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة فأكون من المحسنين) . لماذا شغلت نفسى بهذا الإحصاء؟ لأن المسلمين وقر في نفسهم نوع من الجبرية التى أفقدتهم الرشد، فحسبوا أنهم مسيرون لا مخيرون. ص _091(2/85)
منساقون لا قادرون أحرار.. هل يجرؤ أحدهم يوم القيامة على اللجوء إلى هذا الكذب؟ إن أمتنا استنامت فى هذه الحياة لأفكار جعلتها تحيا فى غيبوبة مهلكة، ولن تصح لها دنيا ولا دين إلا إذا عقلت كتابها وصححت موقفها منه. ومن الممكن استخراج قضايا كلية وجزئية من القرآن الكريم على النحو السهل الذى سقناه هنا. ولن يعطيك القرآن بعضه إلا إذا أعطيته كلك. ص _092
فيا موت زر.. إن الحياة دميمة "لوط" هو ابن اخ إبراهيم الخليل، كان مثل عمه داعيا إلى الله فى بيئات سيئة، تفرد فيها بعمق اليقين، وطهارة الذل، وشرف السيرة! وكانت المدينة التى يجاهد فيها سافلة الطباع، شاع فيها الشذوذ، واستعلن فى الأندية، وكأنما أصبح تقليدا ينساق إليه الغريب والقريب!! وقال لوط لقومه (..إني لعملكم من القالين * رب نجني وأهلي مما يعملون) سورة الشعراء، فنجاه الله من القرية الظالمة. وأمر بإهلاك أهلها وجعل عاليها سافلها.. والسياق التوراتى يشبه السياق القرآنى فى أغلب الحوادث، إلا فى خبر من أفحش الأخبار، انفردت به التوراة فزعمت أن لوطا سكر وانتشى فأنجب من كل بنت من ابنتيه ولدا كان رأسا لقبيلة كبيرة!! وتزعم التوراة أن ذلك تم ولوط تحت وطأة الخمر لا يدرى ما يصنع. والسبب فيما تواطأت عليه البنتان أنهما تريدان نسلا من أبيهما تحيا به الذرية، ولا يوجد رجالا! كيف لا يوجد رجال على ظهر الأرض؟ هل إذا دمرت القرية الفاجرة خلت الدنيا من القرى الأخرى الطاهرة؟ أما كان المفروض في أسرة لوط أن ترحل إلى مكان آخر تجد فيه بغيتها؟ إن "التوراة" آثرت أن تختم جهاد لوط بهذا الختام الأسود القبيح والقصة كما روتها " صعد لوط من صوغر، وسكن فى الجبل ، وابنتاه معه، لأنه خاف أن يسكن فى موغر، فسكن فى المغارة هو وابنتاه، وقالت البكر للصغيرة : أبونا قد شاخ ، وليس فى الأرض رجل ليدخل علينا كعادة كل الأرض، هلم نسقى أبانا خمرا ونضطجع معه، فنحيى من أبينا نسلا " وكاتب هذه(2/86)
القصة يريد الإساءة إلى قبيلتين كبيرتين، يكرههما بنو إسرائيل ويبحثون عن عيوب تلصق بهما تنكس رؤوسهما فافتروا هذا السباب الشنيع على لوط وابنتيه، كما فعلوا من قبل مع أعدائهم الكنعانيين.. على أساس أن أولاد الزنا ملعونون لا تكون لهم سيادة ولا يولون سلطة! ص _093
ومع معرفتنا بأن هذا الزعم فاسد وأن ولد الزنا لا يؤخر جرم أبويه، فنحن نكذب الخبر كله من ألفه إلى يائه. فما سكر لوط ولا رتى ولا ألحق عارا بابنتيه، والويل يوم اللقاء لمسطر هذه الأكاذيب.. ويدركنا العجب عندما يتحول الكذب إلى خليقة تجر على صاحبها نفسه المعرة، فإن بنى اسرائيل عندما يكتبون تاريخ أبيهم يعقوب، لا ينسون أنه من الشطار الذين يختطفون ما تهفو نفوسهم إليه، ولذلك فقد اختطف النبوة من أخيه الأكبر، ودخل التاريخ من باب الزور..!! إن صور التزوير والإدعاء تلقانا كثيرا فى هذه الحياة. ومن أمد قريب قرأت أن طبيبا مزيفا بلغت الجراءة به أن شارك لفيفا من الأطباء فى إجراء جراحة لأحد المرضى. وبعض كتبة المحامين يرون أنفسهم أقدر من المحامين على الدفاع والاستدلال. وقد رأيت من واتته الظروف فسرق مناصب كبيرة وجلس فى سدتها بادئ القدرة والأبهة. إننى أفهم أن تسرق بضاعة من دكان، أو سيارة من حارة، أو فكرة من مؤلف، أو كتاب من واضعه!! ولكننى لا أفهم أبدا أن تسرق النبوة، وأن ترشح السارق بعد الاستحواذ عليها لتلقى الوحى وقيادة الناس باسم الله!! ولكن العهد القديم حكى لنا هذه الواقعة! وقرر أن يعقوب خدع أباه إسحاق، واستلب النبوة التى هى حق أخيه الأكبر عيصو !! كان إسحاق قد عمي! وفى اليوم الذى قرر منح بركات النبوة لصاحبها عيصو، جاء يعقوب على عجل وقلد صوت أخيه ولبس جلد معز - لأن عيصو كان أشعر - واقترب من أبيه الأعمى، وهو يتظاهر بأنه عيصو نفسه! وانخدع إسحاق، وسرق يعقوب النبوة، وعرف عيصو، بعد فوات الأوان، أن أخاه استولى على حقه ولكن الرواية كانت انتهت(2/87)
والجريمة وقعت، وأضحى يعقوب نبيا عن طريق الاحتيال، ثم نال لقب إسرائيل، ثم قامت باسمه دولة تؤكد أن الباطل قوة إذا استعان بالمكر والدهاء، وأن الحق ضعف إذا لزم السذاجة والاسترسال. كيف تسرق النبوة؟ ان اللص يخدع النساء، فكيف يتصور لص أنه يخدع الله؟ وهل العبد يعرض نفسه على ربه بهذا الأسلوب وهل ينتظر رضاه وهو يخدعه بهذه الطفولة؟ ص _094
إن تصوير العبودية والربوبية على هذا النحو نوع من الخلل الديني، برع فيه اليهود، وصدقه من ظن الدين غيبيات مبهمة لا صلة لها بعقل ولا عدل.. إن كتاب العهد القديم مثال صادق لفكرة اليهود عن الأخلاق والقيم، الناس يتهمون السياسى الإيطالى "ميكيافيللي" بأنه صاحب مبدأ "الغاية تبرر الوسيلة" وهذا خطأ، فالرجل ينقل كلمته عن أسلوب العقد القديم، فى تنفيذ الأغراض بأى خطة، وأقصر طريق.. أما الشرف فشيء فى الكتب لا فى الواقع. مع هذا السياق الخسيس تقرأ ما افتراه اليهود على داود، أنه اغتصب امرأة أعجبه جمالها وبعد ما أتم جريمته احتال على قتل زوجها - وكان فى ميدان الحرب - حتى تخلص له!! وزين له هذا كله أنه إسرائيلي، وأن الأسرة التى مزق أحشاءها من الحيثيين، فلا حقوق لها.. إن بنى إسرائيل إذا شاءوا فلا يجوز لجنس آخر أن يعترض مشيئتهم (..ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون ) سورة آل عمران. إن أحقر حشاش لا يقترف الجريمة التى نسبها اليهود إلى داود صاحب المزامير التى يتعبدون الله بغنائها وتلحينها! ونحن المسلمين لا نصدق حرفا من هذا الإفك، ونصون سيرة الأنبياء عن هذا الدنس كله، ولكننا نلفت النظر إلى طبيعة المنهج الأخلاقى عند القوم ومن يؤيدهم، ويشد أزرهم ويحمى ظهرهم ويدعم سياستهم. وفى العهد القديم تفصيل ما أوجزنا، وما نسبه الرواة إلى المرسلين من إفك خسيس. إنهم جميعا كذبة على الله ورسله، وما أحسب عيسى عندما ينزل إلا مقاتل هؤلاء جميعا حتى يطهر الأرض(2/88)
من شركهم وإفكهم. إنهم يتظاهرون ضد الإسلام يحاولون إزالته! ولو زال الإسلام وخلت الحياة منه، فماذا يبقى مما يشرف الدين وتزكو به الدنيا؟ ماذا يبقى بعد زوال العقل والعدل؟ يبقى منهج إسرائيل فى الاختطاف؟ ومنهاج داود فى الإسفاف؟ كما يتوارث الأفاكون!! فياموت زر، إن الحياة دميمة ويانفس جدى إن دهرك هازل!! ص _095
المخلوقات.. ليست سيارات انقطعت صلتها بمصنعها مصنع السيارات في أوروبا يخرج السيارة قوية الآلات أنيقة المظهر، ثم تنقطع صلته بها بعد بيعها، فليس يدرى من راكبها ولا كم ميلا قطعت؟ ولا أين تنطلق أو تتوقف؟ لقد صنعها وغابت عنه وغاب عنها. هل العالم كله - وهو صنع الله الذى أتقن كل شيء - يسير على هذا الغرار؟ اكتسب وجوده من خالقه ثم سار وحده مستقلا بنفسه؟ كلا كلا!! إن الإشراف الأعلى يكتف حركاته وسكناته من جميع جهاته، وقد اتفق المؤمنون على أن الكون يستمد بقاءه ونظامه لحظة فلحظة من رب العالمين. فالقمر يدور حول الأرض ليست له عيون يبصر بها المسار، ولا به خزانات وقود يقطع بها الطريق، وإنما يشرق ويغرب بهداية خالقه. والأرض، التى نحيا فوقها، مهاد جديرة بالدراسة بدءا من قشرتها اليابسة إلى مركزها الحافل بالمواد المصهورة والسوائل الحارقة، إن العلم الإلهى يخترق أعماقها، ويضبط كل ذرة فيها، لو شاء زلزلها فهلكنا أو ثبتها فبقينا. وفى القشرة الأرضية ألوف من أنواع النباتات بين أزهار وحشائش وحبوب، كل نبتة فيها تحت سمع الخالق وبصره، منذ وضعت البذرة إلى أن تم الحصاد، وكذلك سائر الأحياء. وإلى هذا يشير القرآن الكريم ( إليه يرد علم الساعة وما تخرج من ثمرات من أكمامها وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه ويوم يناديهم أين شركائي قالوا آذناك ما منا من شهيد ). إن بيوتنا تضاء من تيار كهرباء يجيء من خارجها، وقد قرر العلماء أن وجود العالم ليس من ذاته، وإنما هو مفاض عليه من البديع الأعلى ( إن الله يمسك السموات والأرض(2/89)
أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده إنه كان حليما غفورا). ص _096
أعرف أنه ليس فى هذا الكلام جديد وما أحسب مسلما يمارى فيه! ولكن بعض الناس تساءل: كيف يدير الله العالم؟ كيف يدبر أمره؟ كيف يضحك ويبكى ويميت ويحيي؟ كيف تتألق صفاته بالمجرات الكبيرة فى الوقت نفسه فيه تتعلق فيه بالذرات التى لا تكاد تبين؟ إنه من الممكن أن أحيا دون الاشتغال بهذه الأسئلة! فأنا أحيا دون أن أعرف سر الروح السارية في أوصالي، وأحيا دون أن أعرف سر الضوء الذى يغمر الآفاق. هذه الأسئلة يدفع إليها الفضول والتطاول.. والذين اشتغلوا بها وبنوا عليها نتائج مهمة انتهوا إلى متناقضات، فمنهم من دان بوحدة الوجود وظن علاقة الله بالكون كعلاقة الروح بالجسد وهذا جنون وقع فيه بعض المتصوفة. ومنهم من ألقى قانون السببية وظن إن الإيمان لا يصلح أو لا يتم إلا إذا قلت فى كل شيء: الفاعل هو الله! فإن أفهمته أن هناك شبكة من الأسباب ينتظم بها الوجود قد تكون غطاء للقدرة العليا ولكن القادر الأعلى قد ناط بها الحياة والموت والحركة والسكون.. ظن بك الظنون. إن القرآن الكريم تحدث عن الأسباب التى تكمن وراء ما نرى وما لا نرى من الموجودات. يقول تعالي ( وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا * لنخرج به حبا ونباتا * وجنات ألفافا). ويقول ( هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون). وقد تقرر فى تجاربنا أن الماء يروي، وأن النار تحرق وأن السكين يقطع وأنه أشاب الصغير وأفنى الكبير كر الغدات ومر العشي! وقد نسب القرآن الكريم الأعمال الإلهية إلى الأشياء التى لا تعى ( كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئا..) وقال العلماء: إن هذا علي سبيل المجاز والفاعل الحقيقى هو الله سبحانه، والأسباب كثيرة ومعقدة ومتراكبة، ونحن ننسب النتائج إليها من باب الإلف والحس.. فلابد فى الذرية من زواج ولكن مايصنع الزوجان؟ إنهما عند التأمل لا يختلقان شيئا!(2/90)
وهل التراب والماء حول بذرة القمح يصنعان السكر والنشا والعناصر الأخرى فى حبة القمح؟ إنه فى ذراع من الأرض تنبت شجيرات متجاورة للورد والنعناع والقرنفل والجرجير! ما الذى هدى التراب إلى التفاعل مع كل شجيرة حتى تنضج وفق خصائصها وطعومها وروائحها؟ ص _097
الواقع أن غشاء الأسباب قد يرق جدا أما بعض العيون فلا ترى إلا الصفات الإلهية وقد يغلظ أمام عيون أخرى فلا ترى إلا الأسباب الحسية. وبعد أن تؤمن بأن الله خالق كل شيء.. عبر عن ماترى بما تريد فلا حرج. وقد تمهلت كثيرا فى تصديق ناظم العقائد عندنا: ومن يقل بالطبع أو بالعلة فذاك كفر عند أهل الملة ومن يقل بالقوة المودعة فذاك بدعى فلا تلتفت وربما قال بعضهم أن الجاذبية الأرضية بطبيعتها تضم الأشخاص والأشياء إلى هذا الكوكب! وتسترد ما يحاول الإفلات منه وتسقطه! لا حرج عليك أن تقول هذا مادمت مؤمنا بقوله تعالى : ( ألم نجعل الأرض كفاتا * أحياء وأمواتا) هذا الكفت هو الجذب والضم من صنع الله وحده وقانون الجاذبية تصوير له، فإذا نسبت إليه ما يقع فلا حرج. والتعبير مجازي، وقانون الأجسام الطافية ثابت إنه معرفة لبعض خصائص الماء فى حمل الأوزان والأحجام وهو من دلائل القدرة العليا ( ومن آياته الجوار فى البحر كالأعلام ) تستطيع أن تنسب سبح الفن إلى السبب أو إلى خالق السبب متنقلا بين الحقيقة والمجاز والمهم اليقين بعمل الله ( الذي خلق فسوى * والذي قدر فهدى). قال لي أحد التلامذة: لا مجاز فى القرآن. وقلت له: أين الأغلال فى أعناق الكافرين الذين قال القرآن عنهم ( إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون) ؟ وأين السدود التى تحيط بهم من خلف وأمام في قوله سبحانه ( وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون)؟ يابنى إن المجاز موجود فى الكتاب والسنة وآداب العرب بل موجود فى ألسنة الناس كلهم من عجم وعرب. الغريب أن الطالب(2/91)
شرع يقاوم بما لا يفهم فانصرفت عنه. حتي لا يتهمني بالكفر وما أيسر ذلك على بعض الناس! ص _098
لذات متشابكة لا انفصام بينها ما طبيعة الجزاء الأخروي! هل هو روحى أم مادي؟ وهل خلق الإنسان من روح وجسد شيء يعاب؟ كذلك يرى بعض الناس! بل كذلك قال أعداء الأنبياء لهم وهم يرفضون رسالاتهم وينكرون حديثهم عن الله، مقترحين أن يكون الرسول ملكا ( وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا )!! وكما استنكروا أن يكون المرسلون بشرا يأكلون، استنكروا عليهم الزواج، والنسل ظانين أن الرغبة الجنسية تشين الإنسان الكبير، وعليه، إذا أراد الكمال، أن يكبتها. وقد رد القرآن هذه المزاعم، وبين جل شأنه أن المصطفين الأخيار من عباده كانوا رجالا ناضجى الغرائز ( ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية..) ومع ذلك فإن بقايا من منطق الجاهلية القديمة لا تزال عالقة بأذهان الكثيرين ممن يحسبون السمو البشرى لا يتم إلا بإعلان حرب مجنونة على البدن توهى قواه وتدوخ غرائزه. بل سرى ذلك الفكر إلى بعض المذاهب الدينية، وانبنى عليه أن التقوى فى هذه الحياة تعنى الرهبانية، وأن السمو فى الحياة الأخرى لا يتصور مع وجود هذا الجسد اللعين! وعليه بعد ذلك فلابد أن يكون النعيم الموعود روحانيا محضا، وكذلك العذاب المرصد للأشقياء!! ولما كان الإسلام دين الفطرة السليمة، ولما كان لبابه احترام الحقيقة المجردة، فإنه رفض هاتيك المقدمة والنتائج وأسس تكاليفه وأجزيته الدينية على اعتبار الإنسان كائنا متميزا يجمع بين جملة من المواهب والخصال المتلاقية فى شخصيته، بها جميعا يسمو أو يهبط وبها جميعا يثاب أو يعاقب. أو كما يقول الأستاذ العقاد: "ليس ما يدين به المسلم أن يرتد النوع الإنسانى إلى ما دون طبيعته، ولكن مما يمكن به ارتفاع الإنسان وهبوطه منوطان بالتكليف وقوامه الحرية والتبعة فهو بأمانة التكليف قابل(2/92)
للصعود إلى قمة الخليقة، وهو بالتكليف ص _099
قابل للهبوط إلى أسفل السافلين، وهذه الأمانة هى التى رفعته مقاما فوق الملائكة أو هبطت به إلى زمرة الشياطين". ليس الهبوط أن يشتهى الإنسان طعاما أو امرأة إنما الهبوط أن يأكل المرء من سحت أو يتصل بمن لاتحل له. فإذا طعم من حلال أو اتصل بأنثى لتكون زوجة يسكن إليها ويتم بها ويمتد وجوده معها فلا شيء فى ذلك أبدا. لقد أخطأ كثير من المنتسبين إلى الدين فى احتقارهم للبدن وفهمهم أن التسامى لا يحصل إلا بسحقه وفهمهم بعد ذلك أن الحياة الأخروية لا وجود للبدن فيها وأن النعيم أو الجحيم معنويان وحسب!! وقد سرى هذا الخطأ - كلا أو جزءا - إلى بعض متصوفة المسلمين فاعتنقوه وحسبوه دلالة ارتقاء وتجرد فظلموا بهذا المسلك دينهم، وأوقعوا خللا سيئا فى موازين الجزاء كما أقامها الكتاب العزيز. وقلدوا أتباع الديانات المنحرفة فى الجور على الطبيعة البشرية، وبذلك أفسحوا للمذاهب المادية طريق التقدم والسيادة. بل بلغت المجازفة بهذا البعض أن حقروا عبادة الرغبة والرهبة وأشاعوا أن من الهبوط أن تطيع الله طلبا لجنته، أو تدع عصيانه خوفا من ناره حتى توهم الناس أن الأمل فى الجنة والخوف من النار ليس شأن العباد الصالحين!! وهذا الضرب من التفكير لا يمكن وصفه بأنه تفكير إسلامي. إنه ضرب من الشرود والغرور تبدو تفاهته عندما يحاكم إلى العقل والنقل على سواء. ولنبدأ بالنقل.. يصف لنا القرآن الكريم مشاهد الجزاء. فيذكر لنا أن رجلا مؤمنا بحث عن صاحب له كان ظاهر الإلحاد والفسوق، فوجده قد استقر فى سواء الجحيم! فحمد الله أن لم يتأثر به : (قال تالله إن كدت لتردين * ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين * أفما نحن بميتين * إلا موتتنا الأولى وما نحن بمعذبين * إن هذا لهو الفوز العظيم * لمثل هذا فليعمل العاملون ). ص _100(2/93)
النجاة من النار أمل ضخم لمثله يعمل العاملون، فكيف يجيء أحد من الناس، رجلا أو امرأة ليقول، بل هو أمل تافه؟ ويقول الله جل جلاله ( كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين * وما أدراك ما عليون * كتاب مرقوم * يشهده المقربون * إن الأبرار لفي نعيم * على الأرائك ينظرون * تعرف في وجوههم نضرة النعيم * يسقون من رحيق مختوم * ختامه مسك وفي ذلك فليتنافس المتنافسون). فالرحيق المختوم يسقاه قوم تعرف فى وجوههم نضرة النعيم، وفى هذا الجزاء الجزيل ينبغى أن يتنافس المتنافسون! فكيف يجيء إنسان رجلا كان أو امرأة ليقول: لا أعبد الله طلبا لشيء من ذلك؟ إن هؤلاء الناس يكذبون على طبائعهم الإنسانية كما يكذبون على دين الله، ثم هم يسيئون تصور النعيم الأعلى أو العقاب السرمدي. ان الجنة دار لنوعين من المتع أحدهما مادى والآخر معنوي، فالمادى تكريم الإنسان يفيض من التجلى الإلهى يشعره بالرضوان ويرفعه بالرؤية. وبديهى أن المتاع الثانى أكبر من الأول. كما قال جل شأنه (..ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم) . ولكن هل هناك فواصل- فى هذا الكيان البشري- بين الإحساسين أم أن الإنسان بأجهزته المادية والمعنوية يذوق الخير والشر جميعا ؟ إن اللذة والألم قوانين إنسانية صارمة فلم الطعن فيها ؟ ولو فرضنا أن الجنة محل الكرامة الإلهية، لكفاها ذلك، ولاحترمناها من أجل هذه النسبة! ولا يأبى الكرامة إلا لئيم، فكيف - وهى إلى جانب ما وصفناه - تلبية لحاجة طبيعية يحسها كل إنسان، حاجة ذلك البدن الذى يضيره الحرمان، ويضنيه القل والذل، حاجة ذلك البدن الذى يكره الجوع و العطش والعرى والهوان. أمن أجل فكرة خيالية تجيء إلى مئات الآيات الصريحة الواضحة فنحاول صرفها عن ظاهرها والتمهل فى تأويلها وإفساد الآثار التربوية المقترنة بها. ( قل إنى أخاف إن عصيت ربى عذاب يوم عظيم). ص _101(2/94)
ماذا يبقى من آيات القرآن منجاة من التأويل والإبطال إذا تمت هذه المحاولة. أن الله وجه إلى نبيه هذا الأمر ووصف أنبياءه الكرام بأنهم (..كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين) ووضع أمام أبصار البشر كلهم هذا الترهيب (..فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز). فهل بعد ذلك نسمع لقول امرئ يزرى بعبادة الرغبة والرهبة ويزعم أنه لا يخاف من النار ولا يحب الجنة، وأنه - إن عبد - فإنما يعبد ابتغاء وجه الله!! ما هذا اللغو؟ وهل الوجوه الناضرة بنظرها إلى الله تظفر بذلك فى قعر جهنم، أم تظفر بذلك فى حدائق الجنة؟ قال لى أحد المتصوفين: إن من الخساسة أن تعبد الله منتظرا أجرا. فقلت: من العبودية أن تستبشر بفضل الله وأن توجل من عقوبته، وأن تعرف قدرك وتلزم حدك! أين تريد أن تضع نفسك؟ إن الله قال عن نبيه إبراهيم: (..وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين). فهل أنت فوق الأنبياء استغناء عن الأجر الإلهي؟ وقال عن عباده المؤمنين الموفقين (تحيتهم يوم يلقونه سلام وأعد لهم أجرا كريما). ووصف عاقبة الصادقين المضحين بأنفسهم فى سبيل ربهم فقال (..والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم..) فهل أنت فى مكانة أخرى غير ما أعد الله للشهداء والصالحين مكانة الزاهد فى أجر أو الرافض له؟ ما هذا الغرور؟ لقد وصف الله أولى الألباب بأنهم ( الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار). فهل يرفض أن يكون من أولى الألباب إلا البله؟ ص _102(2/95)
ولقد أهاب الله بخلقه أن يسارعوا إلى جنة ( عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين) فهل يكره أن ينتظم فى عداد المتقين إلا الحمقي؟ إننى أطلب من إخواننا الذين يكتبون في التصوف أن يدمنوا النظر في كتاب الله، وأن يستوحون ما يستجيدون من معان وغايات، وبذلك وحده ينصفون أنفسهم وطريقهم. أما ترويج فكرة لرجل أو امرأة يبتعد عن هذا الضوء الكريم، فأمر لا يستساغ، ومن حقنا أن نرفضه. لقد سمعت أشعارا تنسب إلى رابعة العدوية بل حكى الرواة عنها - والعهدة عليهم - أنها لما سمعت التذكير بفواكه الجنة وخيراتها، قالت: لسنا أطفالا، فنغرى بهذه الأشياء وسواء صح ما نسب إلى هذه السيدة أو بطل، فنحن كما قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب فى فاطمة بنت قيس - وهى صحابية أفضل من رابعة - "لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة لا ندرى أحفظت أم نسيت". إن الجنة وعد الله لعباده فنعما هي، وشكرا لمن أعدها للمتقين، وهنيئا لمن يصير إليها، يمر فى بحبوحتها، ويسعد بربه الذى طالما صلى وصام من أجله!! إنه فى هذه الجنة يشهد من كان يعبده بالغيب، ويتلقى فضله فى قلبه وعلى بدنه لذات مادية ومعنوية متشابكة لا انفصام بينها، ( وإذا رأيت ثم رأيت نعيما وملكا كبيرا * إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكورا ). ونحن نلفت نظر المفسرين ألا ينخدعوا بما شاع فى الديانات الأولى من أوهام، بما نسب إليها من أفهام، فإننا ورثنا الكتاب الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.. ص _103(2/96)
قصة عفلق مع ابنة غولدا مائير تكشفت لى أبعاد المؤامرة كلها عندما قرأت أن "ميشيل عفلق" متزوج من ابنة "جولدا مائير" رئيسة حكومة إسرائيل السابقة. إن هذا اللقاء ليس بين رجل نصرانى وامرأة يهودية إنه لقاء بين الصهيونية والصليبية على تمويت دين وإضاعة أمة..!! وكنت قديما أرتاب فى عروبة "ميشيل" هذا، حتى عرفت بعد بحث أن أباه كان يونانيا يهوديا، وكان نجارا فى بلده، ثم ارتأى أن يعلن إيمانه بالمسيح، وترددت الكنيسة أولا فى قبوله، ثم قبلته على إغماض، ثم هاجروا إلى سوريا وكأن الأسرة مسيحية أصيلة! ولكن "جولدا مائير" كانت تعرف بواطن الأمور، فارتضت "ميشيل" زوجا لابنتها، ثم اختفت وراءه وهو يقود العروبة بفلسفته الجديدة، فلسفته التى تنشد قول الشاعر: لا تسل عن ملتى أو مذهبي؟ أنا بعثى اشتراكى عربي! وزوجة قائد العروبة الجديدة، العروبة المنسلخة عن الإسلام والتراث، الجانحة إلى الإلحاد والعلمانية، كانت تعرف الغاية التى تسير إليها، أو تسير إليها زوجها، ومن تبعه من جماهير المخدوعين، ففى أسفار العهد القديم سفر يحمل اسم "استير" وهى امرأة ظهرت أيام الأسر البابلي، واستغلت جمالها فى تحرير قومها من بنى إسرائيل، فاشتغلت خليلة للملك الذى منحها حبه كله، وفنى فى إرضائها، فلما استوثقت منه حرضته على قتل وزيره المخاصم لليهود فقتله، وتبع ذلك إطلاق سراح الأسرى، ووضع معذبيهم فى السجون! إن"استير" الوفية لجنسها قدرت على تغيير أوضاع هائلة وحولت التاريخ الإسرائيلى إلى انتعاش وازدهار! ترى هل زوجة ميشيل عفلق "استير" أخرى لبناء إسرائيل الكبرى؟ إن أمها كانت من أعمدة الدولة في مراحلها الأولي، فلتكن هى أساسا لبناء إسرائيل الكبرى عن طريق الزوج الذى استطاع أن يملك العرب وأن ينشر بينهم مذهبه الباطل حتى تألفت به حكومات! إن كل ما تطلبه إسرائيل لقهر العرب، وإزالة ملكهم، واستئصال جذورهم هو فصل العروبة عن الإسلام، واعتبارها ص _104(2/97)
قومية عامة. وعندما يترك العرب دينهم، فلن تبقى لهم دنيا، وسوف يندحرون فى أية معركة، ويعودون بالخزى من كل ميدان.. وقد تولى "ميشيل عفلق" وزوجته "استير" الجديدة هذه المهمة، استغفلا شعوبا بأسرها، واستمالا حكومات يملكون السيف والنار، ويستطيعون إذاقة خصومهم النكال.. فلما دارت الحروب بين عرب عراة من الإيمان ويهود يقدسون التوراة، كانت الهزيمة التى تكررت مثنى وثلاثا! إن ميشيل عفلق وحده حملة صليبية ناجحة، وهو مع زوجته الماهرة الماكرة قد قادوا العرب إلى ميادين الخزى والندم! وما كلفهما هذا؟ قال أنصارهما: إنهما أسلما، وسموا الابن الأول محمدا، والآخر عليا!! وما علمت فى التاريخ الطويل للبشرية أمة تستغفل على هذا النحو الأحمق إلا الأمة العربية التى بنت فى هذه الأيام السود ضريحا فى بغداد لدجال العروبة الأكبر ميشيل عفلق، لعله يزار وتقرأ له الفواتح. واليوم تنقسم الأمة الإسلامية فى القارتين إلى موالين لميشيل عفلق، وإلى جهلة بميشيل عفلق، ويا فرحة إسرائيل بقادتها من رجال ونساء، إن الحرب المشتعلة اليوم ما تدور رحاها إلا لمصلحتها. ص _105(2/98)
متى تؤدى المرأة حق زوجها؟ نفقة رب البيت على بيته زكاة مضاعفة الأجر مباركة المثوبة!! لقد شعرت بغير قليل من الدهشة وأنا أتدبر الأسلوب الذى قرر الإسلام به هذه الحقيقة! عندما يكون معى مال فأجعله للجهاد فى سبيل الله، أو أجعله فى تحرير الرقاب، أو أجعله فى إغاثة مسكين، أو أسد به حاجات بيتى فأى هذه الأبواب خير؟ أيها أفضل من الآخر؟ لنذكر الأحاديث النبوية الواردة فى القضية. عن أبى هريرة - رضى الله عنه - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "دينار أنفقته فى سبيل الله، ودينار أنفقته فى رقبة، ودينار تصدقت به على مسكين ودينار أنفقته على أهلك، أعظمها أجرا الذى أنفقته على أهلك". وعن ثوبان مولى رسول الله قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أفضل دينار ينفقه الرجل دينار ينفقه على عياله! ودينار ينفقه على فرسه - المربوط - فى سبيل الله، ودينار ينفقه على أصحابه فى سبيل الله قال الراوي: بدأ بالعيال. وعن سعد بن أبى وقاص أن رسول الله قال له: "إنك لن تنفق نفقة تبتغى بها وجه الله إلا أجرت عليها حتى ما تجعل فى فم امرأتك!". وعن أبى مسعود البدرى - رضى الله عنه - عن النبى - صلى الله عليه وسلم - "إذا أنفق الرجل على أهله نفقة وهو يحتسبها كانت له صدقة". وعن المقداد بن معد يكرب قال رسول الله: "ما أطعمت نفسك فهو لك صدقة، وما أطعمت ولدك فهو لك صدقة، وما أطعمت زوجتك فهو لك صدقة! وما أطعمت خادمك فهو لك صدقة، والأحاديث كثيرة نكتفى منها بما ذكرنا. ماذا يعنى هذا كله؟ كنت أرى أن ما يصرف في البيت مال مستهلك، وأن نفقات الأسرة على الإجمال من الضرورات التى تخرج منها وكل ما نرجوه ألا يكون لنا ولا علينا! أما أن تكون حسنات توضع فى الميزان، ويزيد بها الثواب، بل قد تسبق فى مضمار الخير ما ينفق فى ميدان الجهاد وتحرير الرقاب، فذاك ما يدعو إلى التأمل. ص _106(2/99)
قلت: لعل ذلك لأن البيت المسلم هو الذى يبنى العقائد وينشئ الفضائل داخل حجره الواسعة أو الضيقة؟ إن النبع الذى يسيل بالحياة للبنين والبنات وللأم والأب نبع مبارك بلا ريب، إن الإنفاق فى هذا البيت أبرك مشروع استثماري. من قديم توارث المسلمون هذه الحقائق الاجتماعية فأمسى شرف الرجل أن يكسب وأن يعود أهله حتى يكبر الصغير ويستغنى الكبير، وكان يرى ذلك عبادة لا يستكثر فيها وقت ولا جهد، إنها دين ودنيا معا.. ولنتجاوز الآن تقاليد المدنية الحديثة التى ألفت أن يقول الأب لابنه أو ابنته عند البلوغ هيا التمسوا الرزق فى خبايا الأرض! بل لعل الرجل يستكثر إطعام زوجته! إن تماسك الأسرة وفق تقاليد الوفاء والشرف والبر جعلتها مجتمعا يشد بعضه بعضا، ويد الله على الكل! كذلك كانت أمتنا وكذلك يجب أن تبقى. ومن حق راعى الأسرة وكاسيها أن يجد من زوجته تقديرا لكدحه، وأن يستجم بعد تعب، وأن يكون لسان الحال والمقال شرحا لصدره، وتطبيبا لنفسه. أما الكنود والتجاهل فهما طريق الوحشة والقطيعة وفى الحديث: "لا ينظر الله تبارك وتعالى إلى امرأة لا تشكر لزوجها، وهى لا تستغنى عنه". وجاءت امرأة إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - فقال لها: أذات زوج أنت؟ قالت: نعم! قال: فأين أنت منه؟ قالت: ما آلوه إلا ما عجزت عنه!! - تعنى أنها تبذل طاقتها في مرضاته، أما ما غلب طاقتها فلا قبل لها به – فأجابها الرسول الكريم بهذه العبارة الموجزة الجامعة: "فكيف أنت له فإنه جنتك، أو نارك!" وقد شرح ذلك حديث آخر "المرأة لا تؤدى حق الله حتى تؤدى حق زوجها". وقرأت حديثا طريفا لمعاذ بن جبل فيه وصف لبعض النساء "الفتوات" التى تحل مشكلاتها أحيانا بيدها"!" وتريد أن تبسط إرادتها فى البيت غير مكترثة بشيء، وقد استمعت إلى نصح النبى الكريم لهذه المرأة، وأنا أغالب الابتسام! وهاك الحديث: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله أن تأذن - لأحد - فى بيت زوجها وهو كاره! ولا تخرج وهو كاره!(2/100)
ولا تطيع فيه أحدا، ولا تعتزل فراشه، ولا تضربه!" قلت فى نفسى كيف تضربه؟ هل استنوق الجمل إلى هذا الحد؟ أم أن المرأة من هواة الملاكمة. والمصارعة اليابانية؟ ص _107
وعدت إلى الحديث الشريف أكمل قراءته بعد نهى الزوجة عن هذا التطاول والجحود قال "فإن كان هو - يعنى الزوج - أظلم فلتأته حتى ترضيه! فإن قبل منها فبها ونعمت، وقبل الله عذرها أفلج حجتها - أظهرها - ولا إثم عليها وإن هو لم يرض فقد أبلغت عند الله عذرها ! ويستحيل ألا تمر بالبيوت.. أزمات، بيد أن الخلق العالى كفيل بتفريج الضوائق وحل المشكلات، وما أصدق قول الشاعر: لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها ولكن أخلاق الرجال تضيق أقول: وأخلاق النساء أيضا!! وقد رأيت أن فساد ذات البين فى الحياة الزوجية يمتد إلى الأولاد. ويعرضهم لأسوأ الخلال وأوخم العواقب. ما أجمل أن يكون الحب المتبادل والاحترام المتبادل قوام العلاقة بين الزوجين أو الأبوين! إن أثر ذلك فى الذرية عميق، وهو سياج متين لرسالة البيت فى الداخل والخارج. وهناك حديث نبوى يذكره البعض فى هذا الصدد يحتاج إلى شرح : قدم معاذ بن جبل من الشام، وذهب إلى النبى عليه الصلاة والسلام يزوره بعد مقدمه ففوجئ الرسول الكريم بمعاذ يسجد له!! فقال له: ما هذا؟ فقال معاذ قدمت إلى الشام فوجدت الناس يسجدون لبطارقتهم وأساقفهم فأردت أن أفعل ذلك بك! والواقع أن التحية التى رأيتها أنا كانت انحناء يشبه الركوع، ولايزال هذا الانحناء الراكع تحية لإمبراطور اليابان، وكان كذلك تحية لإمبراطور الحبشة، وربما تحول فى بعض الأحيان إلى سجود تام! والعرب لا تعرف هذا فى تقدير الكبار وتقديم التحية لهم، فلما نقل معاذ هذا التقليد إلى المدينة المنورة رفضه الرسول كل الرفض، وقال - كما جاء فى بعض الروايات - "لا تفعل فلو أمرت شيئا أن يسجد لشيء لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها، وتتمة المعنى ولكنى لا آمر أحدا أن يسجد لآخر، ولا للمرأة أن تسجد لزوجها(2/101)
والمراد كما جاء فى تتمة الحديث "... والذى نفسى بيده لا تؤدى المرأة حق ربها حتى تؤدى حق زوجها". إن الزوج والزوجة إنسانان متكافئان فى الحقوق والواجبات ومع صدق العاطفة يكون الرجل ملكا مطاعا نافذ الكلمة، ووسيلته فى ذلك الوفاء والإخلاص والحب. ص _108
أنا حار العاطفة.. لا حاد الطباع أجرى الحوار: د. عبد الحليم عويس حوار ومراجعة مع: الشيخ محمد الغزالى يواجه الشيخ محمد الغزالى محنة الأمة الإسلامية منذ أكثر من نصف قرن بعقل مجتهد وبوعى بتحديات العصر، وبرؤية ثاقبة لأسرار تأخر المسلمين. إنه يعى التعقيدات الفكرية والتكنولوجية والعقدية التى تشكل التيارات الحضارية المعاصرة.. ويعتصره الألم، وكثيرا ما يستغرقه البكاء العميق الذى يسيطر عليه وعلى الجالسين معه حين يتذكر مأساة المسلمين.. هؤلاء الذين وكأنهم لا يدركون حقائق ما يدبر لهم، ولا يعون مهمة رسالتهم وذاتهم الإسلامية، ويبددون جل طاقاتهم فى معارك جانبية فرعية بينما يبذلون أقل الجهد فى معارك المصير الكبرى.. وفى عصرنا هذا سادت بين بعضنا - للأسف الشديد - مظاهر مختلفة منها التركيز على نقاط الخلاف، وإهمال مساحة الاتفاق الواسعة ومنها الوقوف عند هذه النقاط وعدم تجاوزها، من أجل الصبغة الإسلامية الغالبة، ومنها الرفض بالجملة لمجرد وجود اختلاف فى الآراء، ومنها الارتفاع بالخلافات الفرعية إلى مستوى الخلافات الأصولية، ومنها تحويل الخطأ الاجتهادى إلى (خطيئة مقصودة)، (جريمة مبيتة) تقتضى الحكم على القلوب، والملاحقة المستمرة بالغيبة والنميمة!! ومنذ أكثر من ربع قرن - (أعترف وأنا بكامل قواى العقلية) تربطنى بأستاذنا الكبير الشيخ محمد الغزالى علاقة حميمة، وقد كان له فضل - بعد الله - على وعلى جيلى فى تحصيننا ضد الزحف الأحمر (الشيوعي) والزحف الأحقر (العلماني) فى سنوات كانت صلاة الجماعة فيها فى المدينة الجامعية فى إحدى الدول تعتبر كافية للاتهام ببعض التهم المؤدية -(2/102)
أحيانا - إلى السجون الاشتراكية الثورية..!! وأعترف - كذلك - أنى أختلف مع أستاذى الشيخ الغزالى فى بعض القضايا.. بل قد عالجت هذه القضايا فى بعض بحوثى وفى بعض المؤتمرات وفق ما أؤمن به.. بل إن صديقنا المشترك الداعية الدكتور يوسف القرضاوى خالف الشيخ الغزالى ورد عليه فى بعض كتبه، ومنها كتابه: "كيف نتعامل مع السنة".. لكننا جميعا نعيش فى دائرة الحب، ونتفيأ ظلال أستاذية الشيخ الغزالي. ص _109
هذا هو الشيخ محمد الغزالى وذاك منهجه.. فلا يهم أن ينتهى بك اجتهادك إلى الاتفاق معه أو الاختلاف، بل المهم أن يكون الحق رائدك، وأن تؤثر الأخوة الإسلامية وحقوقها - وهى من الأصول - وأن تعرف أدب الحوار، وأن تحسن الظن بأخيك وتدعو له!! وفى هذا الحديث لا أكتب حديثا صحافيا، وإنما أحاور الشيخ الغزالى محاورة التلميذ للأستاذ لكى نصل إلى أرضية جديدة نرأب بها الصدع، ونمضى وإخواننا على أرضية الحب المشتركة، ويكفينا من الهم مايدور فى البوسنة والهرسك، وما يدبره لنا (النظام الدولى الجديد).. لكى نصطلح مع الله، ونتجه إليه بقلب سليم، ونتراحم حتى نستأهل رحمة الله، ونتفاعل - من ثم - مع سنن الله الكونية والاجتماعية المؤدية إلى الإقلاع الحضاري، والذى يحدد الله فى كتابه الكريم خطوته الأولى فى الآية الكريمة: (..إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم..). فى سؤالنا الأول قلنا لأستاذنا الشيخ الغزالي: * يلاحظ أن فى بعض كتاباتك - ولاسيما الأخيرة - شيئا من الحدة التى لم تعرف فى تاريخك الطويل من قبل، فكيف تفسرون هذا وأنتم الآن فى سن النضج الكامل؟ أجاب الداعية الكبير: - ربما كنت حار العاطفة لا حاد الطباع، فأنا أكره النفس البارد فى معاملة الأشخاص والأفكار، وأحسب أن الإيمان النظرى لا يملك القدرة على التحرك فى هذه الحياة إلا إذا كان له قائد من عاطفة حارة تملك الحركة الدائمة واليقظة الصارمة.. وبين الحدة والحرارة فروق، فقد تكون(2/103)
الحدة قريبة من القسوة وأنا أزعم أنى رقيق، وقد تكون قريبة من الإصرار، وأنا لا طاقة لى على البقاء فى خطأ إذا استبان لى الخطأ. وربما كانت الحدة المزعومة هى ما يتملكنى من أسى للهزائم التى أصيبت بها الثقافة الإسلامية والسياسة الإسلامية على السواء. ومع أن جميع مقومات النصر بين أيدينا فما الذى أوقع بنا هذه الهزائم..؟ هذا هو الذى يجعلنى أحيانا أتكلم بشيء من الغيظ وأنا أرمق دعاة مفلسين لا يحسنون عرض الإسلام - وقد قلت فيهم ذات يوم: إن الإسلام قضية عادلة وقعت فى أيدى محامين فاشلين. ص _110(2/104)
والمشكلة فى نظرى أن الميدان لا يزال يضطرم بآثار المعركة، وأن الإسلام يواجه قوى خبيثة ولا أقول ذكية، وهو فى هذه المواجهة يطلب الحماة الأيقاظ الأذكياء فلا يجد.. وقد كنت فى كندا مبعوثا من رابطة العالم الإسلامي.. فوجدت معركة بين نفر من المسلمين بعضهم يريد قراءة سورة الكهف يوم الجمعة والآخرون يرفضون، فقلت لهم: نقلتم أسباب هزيمتكم من الشرق إلى الغرب، هل هذه قضية يقوم فيها نزاع(؟!!) وقد أوصيت فى القاهرة بفتح مسجد الحصرى للممثلات التائبات فجاء من يطلب منهن النقاب بدلا من الحجاب ويقسو عليهن أشد القسوة عندما أعرضن عنه (ناسيا أنهن كن ممثلات)، فهل بهذا السلوك تخدم الدعوة؟ وهل هذا هو فقه الداعية بأسلوب الدعوة؟ - إننى أحب الحلم والأناة لأنهما خصلتان يحبهما الله ورسوله، وأدرب نفسى على هاتيك الخصال، لكنى أعترف بأننى أفقد زمامى أحيانا عندما أجد الرويبضة يتكلم في الشئون العامة، ويعطى توجيهات لا ثمرة لها إلا ضرب الإسلام فى صميمه، وإدخاله فى معارك إذا انهزم فيها كان الخزي، وإذا انتصر فيها كان التعب والإجهاد. لا يوجد نظام دولى جديد.. والهدف الصليبى واحد.. وشيء آخر أذكره ولا أدرى إذا كان يصلح عذرا أو لا، لكنه أمر واقع.. إن الكلمة التى أكتبها هى التى تذهب دون مراجعة إلى المطبعة، وقد يقع أحيانا وأنا أدفع القلم للكتابة به أن أنسى تعقيبا أو استدراكا أو أن أصوغ الجملة صياغة كان من الممكن أن تصب فى قالب آخر أهدأ وأرفق، ولكن عدم المراجعة هو السبب فى أن الكلمات تكون أحيانا نارية وكان من الممكن أن تكون أقل حدة.. صيحة تحذير من الشائع الآن أن بينك وبين بعض علماء السلف منذ سنوات شيئا من الخلاف، وقد ظهر هذا فى بعض الكتب والمقالات. فما موقفكم الشخصى من هذا الخلاف؟ أجاب فضيلة الشيخ الغزالي: الحقيقة أن هناك ظروفا دفعت إلى شيء من الخلاف، كان فى أصله خلافا فرعيا عابرا - ولازال - لكنى كنت أتمنى أن يكون الحب حسن(2/105)
الظن والرفق نسيج العلاقة بيننا، وأنا لا أنسى لعلماء السلف دورهم، ولا أنسى لعلماء المملكة العربية السعودية - بخاصة - ما قاموا به من نصرة العقيدة الصحيحة، (وكيف تصح أى عبادة من ص _111
قول أو فعل بدونها) ومن مقاومة للخرافات والبدع التى انتشرت فى عهود التخلف فى الأعصار الأخيرة كما لا أنسى غيرتهم على الإسلام، ولى فيهم أصدقاء وإخوان كثيرون.. وأنا رجل أميل إلى تجاوز مراحل الخلاف بسرعة متأسيا بالسلف.. ولهذا أدعو الله فى هذا المقام - أن نتجاوز جميعا المراحل الخلافية دون أن يكون ذلك على حساب دين الله.. وأقول فى هذه المناسبة أيضا: إننى أول من خضع للحق الذى يأتينى مكللا بأدب الإسلام وأخلاق الإسلام، لا الذى يتوه ذهبه وسط أكوام من التراب. وأضيف أيضا: إن التحديات الكبيرة يجب أن تجمعنا، فنحن أمام موجة صليبية جديدة كلوح تلبس ثوب العلمانية، وقد تصديت لها من قبل فى عدد من الكتب، وفى الهجمة الأخيرة تصديت لها فى كتابى "صيحة تحذير من دعاة التنصير"*. وأنا أدعو إخوانى العلماء والدعاة جميعا - وفى المملكة العربية السعودية - بخاصة- إلى تطهير قلوبنا والتفرغ للعمل الراشد والتعاون الكريم، أمام القوى المتكتلة ضدنا والمتربصة بديننا وحضارتنا ووجودنا كله. وقد كان شعارى دائما: لنترك أى رأى إذا كان يوهن الأخوة الإسلامية أو يضعف وشائج القربى بين المسلمين أو يفرق كلمتهم وصفوفهم، فالمقاصد العليا أقوى وأولى من أى رأى فردي..! وأحب أن أؤكد هنا مرة ثانية أنى فى خندق إخوانى العلماء، وأننى ما قصدت ببعض تعبيراتى جمهرة العلماء، وإنما قصدت آحادا من المحسوبين على العلم من ضيقى الصدور والأفق الذين تعتبر نسبتهم إلى العلم موضع شك، وهم - غالبا - حديثو السن يحتاجون إلى مزيد من الفقه والوعي. وبالطبع لست مسئولا عن ذلك الظن الواهى الذى ظنه بعض العلمانيين وأشباههم، حيث تأولوا كلامى تأويلا يتفق مع أهوائهم،(2/106)
فحولوا الرخصة المحدودة المضبوطة بضوابط شرعية إلى قاعدة متاحة الأفق تخدم أهواءهم، التى لا ضوابط لها. وهؤلاء إذا كانوا موضوعيين - عليهم أن يأخذوا لكل ما كتبته. وبالضوابط التى أضعها، ولكنهم أصحاب أهواء. * قلنا لأستاذنا الكبير: هناك كتابات منهجية هادئة يجمع المسلمون على الرضا عنها وعلى أنكم من خير من يكتب فيها مثل: (التفسير الموضوعى للقرآن) و(فقه السيرة) و (المحاور الخمسة للقرآن الكريم) و(صيحة تحذير من دعاة التنصير)، بينما ص _112(2/107)
تكتبون أحيانا بأسلوب مقاتل، فكيف تجمعون بين طريقتين مختلفتين فى التأليف؟ قال الشيخ الغزالي: الكتابة الإسلامية عندى غير مزدوجة المجرى، فنحن نكتب أحيانا عن حقيقة الدعوة أو لب الثقافة الإسلامية.. وأحيانا تكون الكتابة عن جهاد الدعوة وسياسة إصلاح جوانب الحياة ومواجهة تحدياتها، أعنى أنى كتبت (نظرات فى القرآن) وفى الوقت نفسه كتبت (معركة المصحف).. وأنا كذلك أتبع منهاج القرآن الكريم عندما يتحدث عن أمجاد الألوهية فى سورة الأنعام بأسلوب هادئ، وعندما يفضح أعداء الدعوة فى (براءة) مثلا، فليست الكتابة الإسلامية لونا واحدا عند الذين يشعرون بشيء من القلق عندما يكتبون فى سياسة الدعوة. والحق أن الكتابة فى سياسة الدعوة ثقيلة العبء مرة المذاق لأنها اشتباك مباشر من الأعداء المعوقين ومن ينظرون إلى الإسلام نظرة خامدة الأنفاس . وقد يرضى الكثيرون عن البحث العلمى فى حقيقة الرسالة الإسلامية وعن عناصر الدعوة، إنهم يشعرون بالقلق عندما نشتبك مع خصوم الإسلام والكارهين للحق فى هذه الحياة.. لعلماء السلف دورهم الكبير فى مقاومة الخرافات والبدع وإشاعة العقائد الصحيحة وسيظل جهدنا موزعا بين الناحيتين.. عرض الدعوة فى مثل: (خلق المسلم) و(عقيدة المسلم) و(ليس من الإسلام) و(كيف نفهم الإسلام) وسياسة الدعوة فى مثل (كفاح دين) و(التعصب والتسامح بين المسيحية والإسلام) و"الاستعمار أحقاد وأطماع" و"معركة المصحف" و"صيحة تحذير". * هل يمكن أن نتوقف قليلا عند "التفسير الموضوعي" للقرآن على أنه نموذج من كتابة النوع الأول، ولأنه مشروعكم الذى مازال مستمرا وينتظره محبوكم وقراؤكم ويسألون الله أن يطيل عمركم لتنموه؟ قال أستاذنا الشيخ الغزالي: إننى أعتقد أن عصرنا الحاضر هو عصر التفسير الموضوعى للقرآن الكريم، وليس عصر التفسير الموضعي، وإن كان الأخير لابد منه على أن يكون خادما وممهدا للأول، فالعقل الإنسانى ارتقى كثيرا فى هذه الأيام،(2/108)
وتفاسير القرآن يجب أن تضطرد فى عروضها مع مقتضيات العصر الحاضر، ولا يكفينى أن أشرح القرآن جملة جملة ولا كلمة كلمة، إننى أريد أن أقول للقارئ خذ عرضا عاما لسورة (آل عمران) مثلا، وسوف تراها تدور على محورين: فنصفها الأول حوار مع أهل الكتاب اليهود والنصارى، ونصفها الثانى تعليق ص _113
على هزيمة معركة أحد، وفى أواخر السورة حث للمسلم على الصبر على لأواء الجهاد المزدوج.. الفكر والحرب.. لأهل الكتاب والوثنيين. وعندما أعطى هذا الخط العام للسورة فإننى أعود مرة أخرى فأبرز الخطوط الخفيفة التى تشد أجزاء السورة كما تشد الأعضاء أجزاء الجسم، فيظهر للقارئ أن الآيات ليست مركومة فى الأوراق كيفما اتفق، وإنما هى مرتبة ترتيبا دقيقا، تكتمل فيها أجزاء صورة واضحة المعالم رائعة الملامح.. فهذه النظرة الجيدة فى التفسير لم أسبق إليها، وإنما وجدتها فى نظرات شيوخ لى عكفوا على تلاوة القرآن والدعوة إليه، أولهم الشهيد حسن البنا - رحمة الله عليه - الذى كان يلقى نظرات فى القرآن فى المركز العام للشبان المسلمين فى القاهرة. ومن الصدق أن أقول إن (رشيد رضا) من وراء هذا التفسير، وإن كان يمزج بين الموضوعى والموضعى بلباقة، ومن أحسن من كتبوا فى التفسير الموضوعى الشيخ عبدالله دراز فقد كتب كتابه (النبأ العظيم) فجعل سورة البقرة كلها على طولها باقة منسقة الورود والفروع، وجمع أول السورة وآخرها فى نسق لم يسبق إليه. وأنا أرجو أن أبدأ وقد بدأت فعلا الخطوط الأولى فى هذا التفسير ووصلت إلى سورة التوبة!! * وفى هذا الإطار التأصيلى - يا أستاذنا: نلاحظ أيضا أن قضية تأصيل المعرفة إسلاميا تحتل من اهتمامكم جانبا كبيرا، فما مدى أهمية هذه القضية للمسلمين فى رؤيتكم؟ استطرد أستاذنا الكبير قائلا: فى أول كتاب ألفته فى حياتى شبهت الوحى الإلهى بماء النيل فى مجراه الأعلى ينزل من السماء صافيا نقيا، ثم يختلط بالأرض فيحمل من ترابها وغثائها وأخلاطها(2/109)
مايجعل الانتفاع به صعبا حتى ينقى الماء فيعود سماويا كما كان.. قلت: ما أشبه الدين بماء النيل، وما أحوجه إلى التنقية من أهواء الناس وشهوات الأغنياء والأقوياء والضعاف.. إن الذى يؤسفنى أن الإسلام هو أليق الأديان بالعصر الحاضر، وأقدر الأديان على اقتياد الإنسانية فى هذه المرحلة اليقظة من تاريخها.. وفى تعاليمه إشباع حقيقى للعقل والضمير وإمتاع للفكر والعاطفة، لكن المأساة أن الذين يعملون به يصدون عنه لأنهم يسيئون فهمه ويفرضون عليه صورا لا مصدر لها إلا طباعهم المريضة، وهم بذلك يجعلوننا ندعو مع الداعين: (ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا واغفر لنا).. وهؤلاء الداعون كانوا يطلبون من الله أن لا تقع بهم هزيمة تجعل ص _114(2/110)
أعداءهم يقولون: لو كانوا على حق ما هزموا فتكون هزيمتهم سببا فى انصراف الناس عن الحق. ولا ينكر أحد من المثقلين بالدعوة الإسلامية أن حالة الأمة الإسلامية يستحيل أن تكون نصيرا لدينها. ومن هنا كان حرصى شديدا على تأصيل المعرفة الإسلامية، ووددت من أعماق قلبى لو عرض علم الكلام عرضا جديدا يصور به عقائدنا من القرآن الكريم والسيرة العطرة تصويرا يجذب أهل الشرق والغرب إليه.. ووددت لو أن الفقه الإسلامى وجد عارضين جددا يقدمون قضاياه فى ملفات حية تجعل انجذابهم إليه من أعماقهم.. إن الثقافة الإسلامية حتى الآن لاتزال فى مادتها وفى عرضها وفى رجالها مأساة لابد من معالجتها بحكمة وإلا ضاعت رسالتنا من بين أيدينا. وفى يقينى أن الله سبحانه وتعالى ربى محمدا ليربى به العرب، وربى العرب بمحمد ليربى بهم الناس كلهم.. وهذا المعنى تكرر فى موضعين من القرآن الكريم.. أولهما فى قوله تعالي: ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا..) وثانيهما فى قوله تعالى : (.. هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس..). فنحن أمة مكلفة برسالة يجب أن تكون من الناحية العلمية مشرقة متداولة محمية، أما أن تترك لتعصف بها الأوبئة والحشرات فهذه جريمة أو خيانة عظمي.. ولو قيل لي: كيف تعلم العقائد الآن لقلت: أجيء بكتاب مثل كتاب (الله يتجلى فى عصر العلم) أو كتاب (العلم يدعو إلى الإيمان) وأضع فصوله العلمية تحت الآيات القرآنية العلمية التى تتحدث عن الكون والتى تربط الأديان بالنظر فى هذا الملكوت.. إنه قريب من منهاج الشيخ نديم الجسر فى (قصة الإيمان) والشيخ وحيد الدين خان فى كتابيه (الإسلام يتحدى) و(الدين فى مواجهة العلم). * يرى بعضهم أنك تميل إلى لون من التصوف، وتسميه (الجانب العاطفى من الإسلام) ويخشى بعضهم أن يكون الجانب العاطفى منزلقا إلى الوقوع فى البدع.. فما(2/111)
المعادلة الصحيحة - فى رؤيتكم - لمعالجة فقه النفس والقلب والوجدان فى الإسلام؟ ص _115
قال أستاذنا الداعية الكبير محمد الغزالي: أنا سميت التصوف أحيانا علم الإحسان أو علم القلوب أو الجانب العاطفى من الإسلام. وأنا مسبوق فى هذا برجلين من أعمدة العلم السلفى هما ابن تيمية، وابن القيم، فلابن تيمية جزءان فى فتاواه الكبرى عن علم القلوب، ولابن القيم كتاب (مدارج السالكين بين إياك نعبد وإياك نستعين) وقد قرأته كله وأنا فى معتقل الطور، فكنت أشعر والأستاذ البهى الخولى - رحمه الله - يقرؤه عليَّ أنى محمول على السحاب حتى إذا انتهت القراءة استيقظت وأنا على الأرض، ويخيل إلى أن الجفاف المسعور السائد الآن فى حريق المطامع المادية جاء من أن علم القلوب هجره المسلمون، وأن الجانب العاطفى من الدين أهمل، وأصبح الدين عند بعض حملة العلم مظاهر وأشكالا.. فالذى أفترضه فى الدعاة الآن أن يكون لهم زاد من هذا الجانب الروحى والعاطفى فى تراثنا الثقافى وهو محرر تحريرا حسنا فى كتابات ابن تيمية وابن القيم. وقد فشل بعض الدعاة فى عصرنا لتهافتهم على القضايا التافهة وجبنهم على الانسياح فى أرض الله وهما نتيجتان ترجعان إلى هذا الفراغ القلبى وللأزمة التى نهايتها فى علم القلوب. وقد يقع أحيانا أن يستهين شديد التوكل بالأسباب أو يتقاعس عن بعض النشاطات وهذا خطر على الإسلام وعلى من سلك هذه المسالك. وعمل رجال الدعوة هو تجميع الناس على رب الأسباب ووظيفة الأسباب، والمعركة لن تكون على العناوين، فما يعنينا أن يحرق اسم التصوف أو يبقي.. وإنما يعنينى أن كلمة مثل كلمة ابن عطاء الله: (ما بثقت أغصان ذل إلا على بذور طمع) يجب أن تكون من أصول التربية التى تقطع أطماع البشر فى غير الله سبحانه وتعالى، وثقتهم جميعا فى ساحته وحده، منه يطلبون وعليه يعتمدون! * قلنا لأستاذنا الشيخ الغزالي: دعنا نصل معك إلى بيت القصيد فى حوارنا هذا، ونسألك عن موقفك(2/112)
الآن - فكريا ونفسيا - من إخواننا السلفيين، بعد أن شعر الناس بوجود جفوة بينك وبين بعضهم؟ أجاب الشيخ الغزالى بنبرة حزينة قائلا: دعنى أعلن لكل الناس سلفيين وغيرهم أنى سلفى أصيل، بل قد أكون درويشا فى محبة الصحابة والتابعين، وأشعر بأن هذه المعالم الغائرة فى تاريخنا الطويل هى التى تحمل الإسلام من القرن الأول إلى القرن الخامس عشر، وأعى جيدا قوله عليه الصلاة والسلام: " خير القرون قرنى ثم الذين يلونهم " فتصور بعضهم أن هناك فجوة ص _116(2/113)
نفسية أو فكرية بينى وبين سلفنا الأول هو ضرب من الجنون، فأنا من السلف أحمل دعوتهم وأثنى عليهم.. فهم أصدق الناس فطرة. ولكن الإسلام طويل المدي، وصاحب الرسالة عليه الصلاة والسلام قال: "أمتى كالغيث لايدرى أوله خير أو آخره". والأمة التى لاتاريخ لها ليس لها حاضر ولامستقبل. ولذلك فأنا مع حبي العميق للسلف أحتفى بسائر العباقرة من أئمة الفقه والأدب والعقيدة وسائر فنون المعرفة الذين ظهروا فى تاريخنا.. ولماذا تقوم بيني وبينهم خصومة وهم جميعا يقومون على الكتاب والسنة ويرفعون علم التوحيد ويجندون مواهبهم ومن معهم لخدمة الإسلام وقيمة أمته. ومن ثم فأنا أحتفى بالخلف كما أحتفى بالسلف، ولا أرى أن هؤلاء لهم وجه غيرأولئك بالهجرة إلى الله عندهم جميعا والكل يبغى وجهه، ولذلك عندما سألنى أحد الناس: أتتبع رسول الله أم تتبع أبا حنيفة؟ قلت ساخرا من السؤال: أتبع كلام رسول الله كما فسره لى أبو حنيفة. وقيمة أبى حنيفة أو ابن حنبل ليست مستمدة من ذاته، وإنما من العلم الدينى الذى تصدى له، وللانتساب إلى المنهج النبوى الذى شرف به، وكذلك سائر أئمتنا إلى يوم الناس هذا. - والحقيقة العلمية عندى تستمد وجاهتها من شاهدين عدلين هما كتاب الله وسنة رسوله، فليس هناك بديل ولا شريك فى هؤلاء الشهداء. وعندما أقرأ التفسير أو السنة أو العقائد أو السيرة فالشعور المسيطر على هو أن الحقيقة شائعة فى هذه المعارف وفيمن حملها إلينا من السلف الأول إلى القرن الأخير.. نحن أمة لايجحد صغيرها كبيرها، ولايتبرم تلميذها بأستاذها ولا تتسول العزة إلا من مصدرها الأصلي (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين)، فهل أقبل بعد هذا الشعور الغامر أن يجيء إنسان يخالفنى فى بعض الفروع أو الاجتهادات فيتهمنى فى عقيدتى وسيرتى ودينى ودنياي؟! وهذا الذى يرتكب هذه الجريمة هو كما قال ابن الجوزى فى أمثاله: (فى قلبه كبر فرعون). إن العملة المتداولة فى ميادين الحياة الآن هي(2/114)
الأخلاق التى يسمونها (إنسانية) ونبينا عليه الصلاة والسلام هو القائل: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" فأين رصيدنا منها فى العملة المبذولة الآن بين الناس!! ص _117
فالعلامة المميزة للعلم الصحيح والثقافة النقية الصادقة هى الشارة المحمدية التى يجب أن تظهر ناصعة على المواريث القديمة والحديثة على السواء.. الشيخ عبد العزيز بن باز عالم سلفى نقى مخلص وهو ممن يؤثرون ربهم على دنياهم لقد كنت أقول دائما فى عالم سلفى نقى مخلص مثل الشيخ عبد العزيز بن باز إنه من طلاب الآخرة، وممن يؤثرون ربهم على دنياهم، وقد تكون بيننا خلافات فقهية فما قيمة هذا الخلاف وما أثره؟! إن الأئمة الكبار اختلفوا - بل إن داود وسليمان قد اختلفا فى الحكم - وهما من هما فى النبوة والعلم والحكمة!! * وعن العلاقة بين الدولة والدعاة وموقف المسلمين جميعا - دولة وأمة مما يسمى بالنظام الدولى الجديد قال شيخنا الغزالي: إننى أؤمن بأنه من الممكن جدا أن تكون بين الدولة والدعاة شعرة معاوية، فلا يستعجل أحد المعركة أو الخلاف مادامت هناك رغبة فى إيثار السلام وخدمة الإسلام - وعندى أن الأمر يحتاج إلى تصحيح النية، وإلى إظهار الزهد الحقيقى فى الدنيا ومناصبها - وأعتقد أن الحاكم الذى يشعر بأن الدعاة لا يسألونه شيئا فى يده ولا يزاحمونه على دنيا عنده، بل يريدون الخير له وللأمة فإنه يكف عن مقاومتهم بالضراوة التى نراها الآن من بعض الحكام المسلمين للأسف الشديد.. أما النظام الدولى الجديد والقديم فكلاهما يعادى الإسلام، ولا يجوز أن ننخدع بعناوين براقة مثل (حقوق الإنسان) و(كرامة الشعوب) واحترام (الديمقراطية) وغيرها من العناوين التى يراد بها أن تكون بديلا عن الإسلام.. فإذا كان الإسلام - كما ثبت فى عشرات التجارب - سيجد التنفس والانتعاش فيها، فإن النظام الدولى يقتلها معه..!! ومادام المسلمون ضعفاء مستهلكين ممزقين فإن أى نظام دولى لن يعطيهم إلا ما ينتهى(2/115)
به إلى تحقيق أهدافه منهم.. أهدافه هو لا أهدافهم هم.. وكفانا تعطيلا للعقول، وامتهانا لحقائق الأشياء.. فليس بين الحق والباطل إلا ما ذكره القرآن حقيقة ثابتة إلى يوم القيامة: (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم..).. (.. والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون). ص _118
الإنسانية فى حاجة إلى البعث الإسلامى لقاء فكرى بالقاهرة - بسيونى الحلوني: أكد الداعية الإسلامى الشيخ محمد الغزالى أن الإنسانية فى حاجة ماسة إلى البعث الإسلامى ليخرجها من حالة التخبط التى أصابت أنظمتها الحاضرة ولا تجد لها مخرجا.. وهذا لا يتطلب إلا أن ينتفض المسلمون انتفاضة حكيمة يرجعون بها إلى أنفسهم ويعيدون تنظيم مواريثهم ويتعاونون على إقامة نظامهم الفطرى الذى يتعاملون فيه بمقاييس الإيثار لا بمقاييس الأثرة. ووصف الغزالى أولئك الذين يتجرأون على الدين ويصفونه بأنه فكرة متأخرة وما هو إلا مجرد مخلفات بالية بأنهم سفهاء وضالون يفتحون أبواب الفوضى والخيبة لأممهم. جاء ذلك خلال اللقاء الفكرى الذى عقد بنادى هيئة قضايا الدولة بالقاهرة. تحدث الشيخ الغزالى فقال: يظن نفر من الناس فى هذا العصر أن الدين أمسى من المخلفات البالية، وأن الأجيال الصاعدة يجب أن تكسر قيوده وتعدو حدوده وتسير وحدها دون رعاية لرب خالق أو تهيب لجزاء منتظر ويتعلق أولئك الواهمون بأن العلم فض مغاليق الكون واكتشف أسراره وأرصد لكل مشكلة علاجا من عنده لم تبق للدين موضعا ولا لقضاياه مكانا وهذا الكلام إفك كله. ومهما نقبت فيه فلن تجد إلا ظلمات الادعاء والغرور ونضح الجهالة والشرود، وإتباع هذا اللغو مفتاح لأبواب من الفوضى والخيبة تلحق العالم آخر الدهر، بل إن العالم يتعثر الآن فى بوادرها ويوشك أن يسقط فى براثنها ما لم يتب إلى الله ويقلع عن هذا الغي. التجرؤ على دين الله.. سفاهة وضلال وأكد الغزالى أن الدين كان ولم يزل وسيظل ملتقى العقول السليمة والفطر(2/116)
القويمة، ما أخطأ منهجه فكر ثاقب ولا ضل صراطه طبع نظيف وأن العلم مهما اتسعت آماده وامتدت أبعاده وترادفت كشوفه فلن يجيء إلا بما يصدق الوحى ويدعم الإيمان ويمكن لهداية الرحمن وإلا بما يزيد الأتقياء بصرا بجلال الله وقياما بحقه وثقة بلقائه الموعود. ثم إن التهمة التى توجه إلى الدين الآن ليست جديدة والقول بأن الإيمان لون من خرافات الأمية سبق أن قاله المشركون من عبدة الأصنام فقال تعالى : ص _119
( وما يكذب به إلا كل معتد أثيم * إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين * كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ) وقال أيضا: ( ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها حتى إذا جاءوك يجادلونك يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الأولين ). والقول بأن الدين شئ من خرافات الأولين ضرب من الجرأة التى يتسم بها سفهاء كل عصر يرمون بها المرسلين، كأن الإلحاد فى آيات الله ذكاء وتقدم والاستجابة لهديه جمود وتأخر!! وذلك هو الضلال المبين. سفاهة قديمة وأكد الشيخ الغزالى أن اتباع الدين والانقياد لتعاليمه يقتضى تفتحا ذهنيا يتجاوب مع آيات الله فى كونه، كما يقتضى عزيمة قوية لفطام النفس عن المظالم والآثام، وهذا الجهاد يجعل كفة المؤمنين فى أية موازنة أرجح، ويجعلهم أحق بالاحترام فى الدنيا والآخرة. وإذا كان اتهام الدين بأنه فكرة متأخرة ليس إلا سفاهة قديمة فكذلك ما ينضم إلى هذا الاتهام من تبجح أهل الزيغ وتطاولهم كأنهم ورثوا ذلك الكبر بالإلحاد عن فسقة الجاهلية الأولى الذين كانوا يلقون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيسخرون منه ويستعجلون العقاب المعد للجاحدين ويصف الله تبارك وتعالى ذلك بقوله: ( وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي يذكر آلهتكم وهم بذكر الرحمن هم كافرون * خلق الإنسان من عجل سأريكم آياتي فلا تستعجلون). أضاف الشيخ الغزالي: إن(2/117)
القوم هم القوم، حذو النعل بالنعل وإن المرء ليتفرس فى وجوه عشاق الإلحاد فى هذا الزمان فلا يرى فى ملامحهم البدنية والنفسية إلا ملامح المفتونين الصغار الذين تلى نبأهم من أعداء النبيين المكرمين، الدعوة هى الدعوة، والسيرة هى السيرة. أما الثرثرة باسم العلم وتقدمه فهى شكل ليس له موضوع فإن العلم دليل على الله وقائد إليه وهيهات، هيهات، أن يفد العلم بقضية تنقض الاعتقاد فى وحدانية الله ووجوب طاعته وضرورة الإعداد للقائه .. ص _120(2/118)
( يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا * ذلك اليوم الحق فمن شاء اتخذ إلى ربه مآبا ). دين علمى وأكد أن الإسلام دين يبنى كيانه المادى والأدبى على التعمق فى العلم والتزود من الثقافة وعلى دوام الصلة بعمل القدرة العليا فى مجال العالم الرحب، وأولو العلم فى هذا المضمار قرناء لملائكة الله فى التصديق بعظمته والشهادة بعدالته وفى ذلك يقول تعالى ( شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط..) و المتأمل فى القرآن الكريم يوقن بأن الكون مدرسة الإيمان الحق وأن العلم مدده الموار ونبعه الفوار، وأن كل خطوة إلى الأمام فى دراسته إنما هى زيادة جديدة فى دلائل التصديق وأسباب اليقين. إن الإسلام يربو على العلم كما يربو الجسم على الغذاء الجيد. وينمو باستبحار المعرفة كما يغلظ النبات على الشعاع والماء.. فياعجبا، كيف يزعم زاعم بأن الإسلام ضد العلم أو أن الإسلام ذهب أوانه لأن العلم قد توطدت أركانه؟؟ ووصف الغزالى هذا القول بأنه انتكاس فى الفهم وانطماس فى البصائر وهذا ما أكده قوله تعالى (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون). ثم تساءل الغزالى قائلا: لننظر أى كمال تبلغه الإنسانية بعيدا عن منطق الإيمان وإيحاء الدين؟! إن دسائس النفس لبلوغ مآربها لا حصر لها وما لم يحكمها ضمير موصول بالله فإنه يستحيل أن تخلص للخير أو أن تتجرد من الشر. سيظل الإسلام ملتقى العقول السليمة رغم أنف الحاقدين والعلمانيين جبروت المتفوقين وأضاف: لقد حصل المستعمرون فى هذا العصر على أنصبة ضخمة من العلم النظرى والتفوق المادي، فماذا صنعوا به؟ وماذا أفادت الدنيا منه؟ ملكوا القوة فكانت فى يد الفاتح الغالب سلاحا للنهب والغصب وأداة للجبروت والكبرياء ووسيلة لقهر الأمم وتكبيل عقولها وضمائرها بالأغلال، إن الحياة(2/119)
التى يستهدفها الإلحاد لسكان هذا الكوكب المرهق ص _121
حياة لا صواب فيها ولا رحمة، حياة يصرخ فيها المدل بتفوقه صرخة الزعيم الصهيونى القديم "قارون" عندما قيل له ( وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا..) ، ( قال إنما أوتيته على علم عندي..). حياة يقول فيها سراقو الحقوق وموقعو البخس إذا قيل لهم ( ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين * بقيت الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ ). ( قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفا ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز ). إن الإلحاد ليس خرابا قلبيا فقط، وليس ظلاما فكريا فقط، بل هو إلى جانب ذلك وهذا دمار اجتماعى يقوض أسس الشرف ويرد منابع العفاف ويطلق ألسنة العاهرين بمطاردة أهل الطهر وأولى النهى قائلين (..أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون). واستطرد الشيخ الغزالى وصفه لبعض مظاهر الانحلال والضلال التى بدأت تتفشى فى المجتمع الإسلامى قائلا: إن الحياة بعيدا عن فضائل الدين وشعائره انطلاق حيوانى محض، ولا يجوز أن ينخدع العقلاء بمظاهر الارتقاء التى تلوح أحيانا بين أقوام متحللين من شعب الإيمان وتعاليم الدين، فإن أزمات العالم التى تتهدده بالويل والعذاب الأليم إنما تنشأ من غرائز السوء التى تمت فى ظلال الإلحاد وانطلقت من عقالها انطلاق السباع من غابها. وما ترجع البركة إلى الأرض إلا إذا عاد الناس إلى ربهم منيبين راشدين. مهمة الدعاة وبلسان حال الدعاة يؤكد الشيخ الغزالى المهمة الرئيسية التى تنتظر أن يقوموا بها فقال: إن مهمتنا نحن هى تعريف الإسلام لأهله حتى يعودوا مسلمين، فمن شأن جمال الإسلام إذا تحلى به أهله حقا أن يكون عملهم به وسيرتهم القائمة على أخلاقه وسيلة لمعرفة الآخرين به. فمن عرف شيئا صار صديقا له ومن جهل شيئا عاداه، وإن تسعة أعشار عداوة غير المسلمين للإسلام ناشئة فى هذه العصور عن(2/120)
فقدان القدوة، وعن تقصير المسلمين فى أن تكون معاملاتهم وأخلاقهم وتصرفاتهم ممثلة لإسلامهم فخيل إلى غير المسلمين أن معاملاتنا وأخلاقنا وتصرفاتنا المخالفة للإسلام من الإسلام فكرهوه لذلك. ص _122
إن الإسلام الذى تطمره الآن عواصف متتابعة الهبوب وأمته التى انفرد الخصوم بكل جزء منها كما ينفرد قطاع الطريق برجل مليء فى مكان موحش.. هذا الإسلام من حقه أن يحيا، وهذه الأمة من حقها أن تأمن. لماذا تتألب الدنيا والرزايا عليه وعليها؟ واستطرد الشيخ الغزالى حديثه بقوله: أنا أعتقد من عشرات السنين أن الإنسانية في حاجة إلى البعث الإسلامى لأنها تتخبط في أنظمتها الحاضرة ولا تجد لها مخرجا من هذا التخبط إلا بأنظمة الفطرة القائمة على أسس الأخلاق وأنظمة الفطرة القائمة على أسس الأخلاق لا تحتاج إلى من يخترعها من جديد ذلك أنها موجودة بالفعل فى نظام الإسلام الذى أهمله المسلمون فصاروا حجابا بين الإنسانية وبين معرفة هذا النظام، فاضطر الغرب إلى أن ينزلق فى أنظمة أملى عليه اليهود بعضها وأغروه ببعضها أو جعلوه منها أمام أمر واقع أو كانت لهم يد فى تعديل البعض الآخر أو توصل غير اليهود إلى بعض المبادئ فوجدها اليهود داخلة فى برامجهم فأيدوها وروجوها وفسروها ونشروها حتى صارت من صلب ذلك النظام المعمول به فى الغرب والذى أخذنا نقتبس عنه تقاليد حياتنا منذ نحو مائة سنة. فغشى دواوين حكمنا وأسواق تجارتنا وساد فى مجامعنا وسابق نساؤنا رجالنا إليه فى الأزياء والآداب والمعاشرة حتى آمنا به وكفرنا بما سواه، وأصبح الرجل المستقيم منا هو الذى يمدحه الناس بأنه ملتزم لذلك النظام الأجنبى وغير مخل بشيء من أصوله أو فروعه أو آدابه. ولو أن المسلمين انتفضوا انتفاضة حكيمة يرجعون بها إلى أنفسهم ويعيدون تنظيم مواريثهم ويتعاونون على إقامة نظامهم الفطرى الذى يتعاملون فيه بمقاييس الإيثار لا بمقاييس الأثرة فإنهم لا يلبثون أن يوجد فيهم من(2/121)
أبنائهم جيل ترى فيه الإنسانية جمال الإسلام ويتبين لها أنه ضالة الإنسانية التى كانت تنشدها فيتجدد بذلك تاريخ الإنسانية جميعا. وكشف الشيخ الغزالى عن أن هناك سباقا قائما بين عدة أديان كى يثبت كل منها أنه أولى بالحياة وأجدر بالبقاء، وقال: الغريب أن بعض المنتمين إلى الإسلام يجهل هذا الواقع ويرتكب حماقات تسيء إلى دينه بل تنفر منه وتصد عنه وتساءل متعجبا: لحساب من يتحدث بعض الناس عن الإسلام ويصورونه بعيدا عن مقررات الفطرة وأشواق الإنسانية الكاملة؟! ولحساب من يعلو صوت الإسلام فى قضايا هامشية ويخفت خفوتا منكرا فى قضايا أساسية؟ ص _123(2/122)
جهاز عالمى لدعم الأخلاق والقيم جاءتنى رسالة من الأمين العام لمؤسسة كبرى تعمل على دعم الفضائل والقيم بين الناس، عقدت مؤتمرها الأول فى شيكاغو، وتستعد لعقد مؤتمرها الثانى بمناسبة مرور 50 عاما على تأسيس هيئة الأمم المتحدة، وقيل لى بعد اختيارى عضوا : إن مؤسستنا عالمية تضم رجالا من كل دين سماوى أو أرضي، بل تضم أعضاء لا يؤمنون بأى دين. المهم أنهم يدعمون الأخلاق الفاضلة، ويحترمون المثل العليا التى يجب أن تحكم العالم.. وأنا رجل شرقى الأول والأخير أنى أقول وراء محمد - صلى الله عليه وسلم - ( قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين * لا شريك له..). أنا أشعر حين آكل بأن الله هو الذى وضع اللقمة فى فمى وحين أفكر بأن الله هو الذى أسرج مصباح عقلي. إنه يستحيل أن أفكر أو أسوى بين مؤمن وكافر أو أشترك مع عابد عجل أو عابد نفسه وحدها فى عمل ما لرفع مستوى البشر..!! شعرت بأن أهل الأديان تلاحقهم تهمة خطيرة، أنهم لا يهتمون بتزكية الروح، وأنهم قد يدفعون المظالم عن أنفسهم، لكنهم لا يدفعونها عن غيرهم! فكتبت رسالة مطولة أشرح فيها دينى جاء فيها ما يلي: شعرت بالرضا وأنا أقرأ عن إنشاء جهاز عالمى لدعم الأخلاق والتسامى بالبشر. وقلت : إن الفطرة الإنسانية لا تزال طيبة تعشق الكمال وتسعى إليه، وتقاوم السعار المادى الذى يربط المرء بنفسه ومآربه وشهواته، ومعروف أن العالم تقاربت أقطاره واختصرت أبعاده، ونشأت فيه - لأول مرة من تاريخه المديد - هيئة للأمم كلها، أى أن أبناء آدم أمسوا أسرة تستطيع التقارب والتحاور ودراسة ما يثور من مشكلات، والتعاون على حلها. لكنها ستعجز عن بلوغ أهدافها إلا فى ظل الاكتمال الخلقى وكبت غرائز الأثرة والكبرياء. فهل نقصر فى توفير الوسائل المنشودة لتحقيق ما نصبو إليه؟ مكارم الأخلاق إن نبى الإسلام يقول: "بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"، ويقول لعلى بن أبى طالب: "ألا أدلك على أكرم أخلاق(2/123)
الدنيا والآخرة؟ أن تصل من قطعك، وتعطى من حرمك، وتعفو عمن ظلمك". ص _124
ويقول لأصحابه: "ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ قالوا: بلى! قال : إصلاح ذات البين فإن فساد ذات البين هى الحالقة، لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين"!! إننا نحن المسلمين يسعدنا تأليف هيئة أخلاقية تساند هيئة الأمم، وتسدد خطاها، وتحصنها من المحاباة والهوى. لكننى - ولأكن صريحا - شعرت بحرج شديد عندما علمت أن "البرلمان" الأخلاقى فتح الباب للمؤمن والكافر، للموحد والمشرك، لمن يعتقد خلود الروح ولمن يرى انتهاء الوجود بالموت! قد تقول: هذه هى الدنيا وهؤلاء أبناؤها. وقد تكونت الأمم المتحدة من ملل متناقضة، وتجاورت فى مقاعدها لتدرس قضاياها المختلفة. وما تستطيع هيئة أخلاقية إلا أن تفعل ذلك! ولى على هذه الإجابة تعليق! إن النظر إلى الإيمان بالله على أنه قضية ثانوية أو قضية لا صلة لها بالأخلاق أمر مستنكر عندنا نحن المسلمين، أو هو أمر يثير الاشمئزاز، لماذا يخلق الله ويعبد غيره؟ ولماذا يعطى ويشكر غيره؟ هل العقوق رذيلة إلا فى معاملة الله؟! تقوية الفضائل ومحاربة الرذائل إننى لو أجزلت العطاء لأحد ثم رأيته يجحدنى لاشتد سخطى عليه واحتقارى له! فكيف أرضى وجود أفراد أو جماعات تطعم من خير الله صباحا ومساء ثم تتجرأ عليه وتنكر وجوده وحقوقه ؟! أعتقد أن الألوهية لا ينبغى أن نعترف بهم، وإذا اضطررنا إلى مجالستهم فلنرسم لذلك سياسة خاصة توفق بين عقائدنا وحقهم فى الحياة، من يدري؟ قد يهتدون إلى الصواب إذا حاسناهم.. ومن دواعى سرورنا نحن المسلمين أن نلتقى بأتباع الديانات السماوية التى سبقتنا فى مؤتمر جامع لتحسين الحسن وتقبيح القبيح وتقوية الفضائل ومحاربة الرذائل. إن لدينا الكثير الذى نود أن نقوله، والتراث الذى تركه لنا محمد- صلى الله عليه وسلم - لم يترك خطوة إلى الكمال إلا دعمها، ولا رغبة فى التسامى إلا ذكاها وشجع عليها. إنه(2/124)
تراث ضخم تضمن مئات الصفحات الحافلة بمكارم الأخلاق، ولا أعرف رسولا سماويا ولا فيلسوفا أرضيا خلف مثل هذه التركة!! ومن أراد الاطلاع أو الترجمة دللناه على المراجع التى يحتاج إليها.. ثم إننا نحن المسلمين نحب أن نتعرف على الناس، وأن يتعرف علينا الناس، هكذا علمنا ربنا. ص _125
فإن الله لم يخلق الأرض لنتهارش عليها، ولنسفك الدماء، بل خلقها لنرتفق خيره ونشكره عليه (هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور). المعاملة بالمثل ونحن نعتب على اليهود والنصارى أنهم لم يبادلوا المسلمين المعاملة نفسها! قرأت أن يهوديا فى مدينة الخليل استولى على بيت عربي، ثم قال لرب البيت: "هذا البيت ملكى من بضعة آلاف عام وقد عاد إلي، ولست أطلب منك أجر سكناه طوال هذه القرون، لقد تنازلت عنها، فاذهب إلى أى مكان وأقم به أو اسكن فى العراء إن شئت ولا تعد هنا وإلا..." هل تستقيم علاقة إنسانية مع هذا المنطق؟! والسياسة الاستعمارية التى سيرت العالم فى العصور الأخيرة كان هذا المنطق يكمن وراءها. فإن الجريمة التى ارتكبها الإسلام - كما يرى البعض - أنه دحر الإمبراطورية الرومانية التى كانت تحتل الأناضول وشرق البحر المتوسط ووادى النيل وشمال أفريقية وأقطارا كثيرة أخرجها الإسلام منها وردها إلى أهلها الأولين، الذين اعتنقوا الإسلام بداهة..!! وورثة الرومان ينظرون إلى مستعمراتهم القديمة كأنها أملاكهم الضائعة يجب أن يستعيدوها وإلى ملايين المسلمين كأنهم عبيدهم الأقدمون. ولا شك أن قيام هيئة الأمم المتحدة على أسس إنسانية مجردة فتح صفحة جديدة فى تاريخ العالم، وكفكف من غلواء الاستعمار السابق لكن هل المنتصرون الذين بنوا هذه الهيئة النبيلة برئوا من مسورات الحقد القديم وحاربوا التعصب والجشع؟ لعل إنشاء جهاز أخلاقى عالمى يساند الخصائص الإنسانية العليا، وينشط الجهود المبذولة لدعمها، ويصل بالهيئة إلى ما نريد وبقى(2/125)
العالم شرور الانقسام والخصام. تحريم الظلم عن أبى ذر - رضى الله عنه - عن النبى - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربه عز وجل قال: "ياعبادى إنى حرمت الظلم على نفسى وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا" وفى الحديث أيضا "اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة" والواقع أن من له دين يجب أن يكون شريفا فى رضاه وفى غضبه، فلا يستبيح خصما، ولا يجور على ضعيف بل يقف عند الحق ويستريح للعدل و يعلم أن النزق والجور من صفات السباع لا من خلائق الإنسان. ص _126(2/126)
ويؤسفنى أن الإنسانية فى تاريخها الطويل احتالت على ارتكاب المظالم، ورأت فى اختلاف البشر - قوة وضعفا. وغنى وفقرا، وإيمانا وكفرا - ثغرة تنفذ منها إلى اقتراف ما تريد وقد رفض القرآن الكريم أن يعترض العدالة شيء ماديا كان أو أدبيا (.. يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين..). وفى آية أخرى ( ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى). لقد وهل الناس أن اختلاف الدين يبيح التظالم ويترك المجال رحبا للمشاعر المنحرفة والأهواء الجامحة، وهذا كذب على رب الدين وباعث المرسلين ( إن الله يأمر بالعدل والإحسان..)، وأذكر ثلاثة أحاديث مروية عن محمد عليه الصلاة والسلام ترد هذه الفرية وتبرئ الإسلام من هذه التهمة. الحديث الأول: "دعوة المظلوم مستجابة، وإن كان فاجرا ففجوره على نفسه". الحديث ا لثاني: "دعوة المظلوم - وإن كان كافرا - ليس دونها حجاب". الحديث الثالث: "عن أبى ذر قلت يارسول الله ما كانت صحف إبراهيم؟ قال: كانت أمثالا كلها: أيها الحاكم المسلط المبتلى المغرور إنى لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها على بعض، و لكنى بعثتك لترد عنى دعوة المظلوم فإنى لا أردها وإن كانت من كافر.."!! ومن دواعى الدهشة أن يموت نبى الإسلام ودرعه مرهونة عند يهودى فى طعام اشتراه لأهله! ما أثر اختلاف الدين هنا؟ إن اليهود التائه عاش قرير العين موفور الدم والعرض والمال فى عاصمة الإسلام! هل كانت غربته سببا فى أن يجور عليه أحد؟ ص _127(2/127)
يا أيتها النفس المطمئنة * إن الله لايعطى غنيا المال كى يقول لغيره: (..أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا) إنما يعطيه ليشرك غيره فيه ويسارع إلى مواساة المحتاجين وتفريج كربهم ولم يحرم أحدا المال ليبكى على دنيا فاتته أو يحسد من أوتى شيئا منه بل ليصبر ويكافح ويتربى على العفاف ومن بدء الخليقة فاوت الله بين أرزاق الناس لحكم منشودة وامتحان مقصود ولذلك قال - بعد وقوع هذا التفاوت - ( كلا بل لا تكرمون اليتيم * ولا تحاضون على طعام المسكين * وتأكلون التراث أكلا لما * وتحبون المال حبا جما) وقد نشبت معركة الخبز من قديم واجتذبت إليها أنشطة البشر جميعا، وضربت الحرب بين الأثرة والإيثار والبخل والعطاء وأقول وأنا محزون إن وصايا الدين انهزمت وغرائز الوحوش غلبت ، ثم ظهرت فلسفة الشيوعية التى تولت عن الله تقسيم الأرزاق لأنها اتهمته بالجور! فماذا حدث؟ قال الإنسان في ظلها بعدما اكتوى بذلها وبؤسها: رب يوم بكيت منه فلما صرت فى غيره بكيت عليه وسألت نفسى ماذا قدم المسلمون للجماهير التائهة على ظهر هذه الأرض؟ لا شيء، فد غطوا وجه الإسلام وشوهوا جوهره، بل لقد رأيت فى دار الإسلام أحرارا يلتمسون الكرامة فى أرض أخرى ويبحثون عن العدالة التى عزت مصادرها فى أرضهم! لم يبق إلا انتظار البعث الآخر، ( كلا إذا دكت الأرض دكا دكا * وجاء ربك والملك صفا صفا * وجيء يومئذ بجهنم يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى * يقول يا ليتني قدمت لحياتي).! هذا صياح الندم يوم لا ينفع ندم! أما الصالحون من عباد الله فهذا يوم البشرى وتهلل الوجوه بالفوز. روى الطبرانى عن سعيد بن جبير قرأ رجل عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قوله تعالى : ( يا أيتها النفس المطمئنة * ارجعي إلى ربك راضية مرضية * فادخلي في عبادي * وادخلي جنتي) فقال أبو بكر: ما أحسن هذا!! فقال له النبى - صلى الله عليه وسلم - "أما إن الملك سيقولها لك عند الموت". أول العدول(2/128)
الراشدين، ومن أولى ص _128
الناس بها، ولكن السياق عام فى القرآن الكريم يتناول كل مؤمن أسلم لله وجهه وأصلح له عمله، فالكلمة الجميلة تنتظره ليدخل الجنة، ويشارك فى أحفال التسبيح والتحميد التى تملأ رحابها، جعلنا الله بمنه وفضله من أهلها. (لا أقسم بهذا البلد) يعنى أقسم بمكة (وأنت حل بهذا البلد ) ثاو به تدعو إلى الله على بصيرة، مع أن البلد حرم يصان فيه الحيوان والنبات فإن محمدا استبيح واستمرئ العدوان عليه، ولماذا القسم ببلد يقع فيه هذا التناقض؟ لأن الدعوة إلى التوحيد هنا وبناء جيل جديد يرتبط بالله إجابة لدعاء وقع من وراء القرون يقول فيه إبراهيم وإسماعيل ( ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم) ولذلك نحن نفسر (ووالد وما ولد) بأن الوالد هو إبراهيم وأن محمدا من ذرية إسماعيل هو ولده الذى يختم الرسالات ويقيم دولة التوحيد في الأرض (لقد خلقنا الإنسان في كبد ) إن الجنس الإنسانى يحمل أثقال التكاليف ولجاء الشريعة يحجزه عن تحقيق شهواته وقد يكفر الإنسان وينكر أنه سيحيا مرة أخرى لماذا؟ أيعجز الله عن إعادته بعد إماتته؟ (أيحسب أن لن يقدر عليه أحد)؟ وذلك كقوله فى سورة أخرى، (أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه) ويغتر الإنسان بما أسدى وأنفق من ثروة يقول: (أهلكت مالا لبدا) كثيرا وتلك طبيعة العرب فى الافتخار بالجاه والثراء والعطاء ويقول عنترة: وإذا سكرت فإننى مستهلك مالى وعرضى وافر لم يكلم...! وإذا صحوت فما أقصر عن ندى وكما علمت شمائلى وتكرمي...! وما قيمة هذا كله إذا لقى المرء ربه عريان لا يكسوه إيمان ولا صلاح (أيحسب أن لم يره أحد)؟ إن الله سائل كل امرئ عن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه؟ ثم يذكر المولى عبده بما أودع عنده من نعم تستدعى الشكر (ألم نجعل له عينين * ولسانا وشفتين) وهديناه النجدين، فهلا كسر قيود الكفر والتقليد الأعمى واقتحم(2/129)
طريقه إلى الله مؤمنا به مطيعا لأمره وماذا يصنع لتحقيق ذلك؟ وسورة البلد بينت أن الأنبياء لم ينجحوا فى هداية أطراف الجزيرة شمالا وجنوبا حتى جاء النبى الخاتم فابتعت من وسط الجزيرة رجال حملوا المشاعل إلى العالم أجمع. ص _129
الأمم لاتقام بالهمهمة والبطالة القاهرة: وكالة الأنباء الإسلامية: * أكد الشيخ محمد الغزالى أن مشرط الطبيب ودواء الصيدلانى وفأس الزارع وقلم الصحفى أدوات لنصرة الله سبحانه وتعالى وإعلاء لكلمته. وفى مجال التأمل فى الآية الكريمة ( فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا كفران لسعيه وإنا له كاتبون) قال فضيلة الشيخ الغزالي: إنه من المستحيل إقامة مجتمع ناجح الرسالة إذا كان أصحابه جهالا بالدنيا.. عجزة فى الحياة. ويضيف فضيلته أن العبادة السماوية لا تستغرق نصف ساعة على مدى يوم وليلة.. تعاليمها تحتل صفحة أو صفحتين ليبقى الزمان بعد ذلك واسعا والمجال رحبا لفهم الحياة واكتشاف طاقاتها وتسخيرها "كلا وجزءا" لخدمة الدين، وضرب مثلا فقال إن نفرا من العابدين رأوا أن يحصروا عبادتهم فى الصلوات والأذكار يبدأون ويعيدون ويظنون أن الأمم تقام بالهمهمة والبطالة. فمن ينصر الله ورسله إذا كان أولئك جهالا بالحديد وأفرانه ومصانعه.. والله يقول فى كتابه العزيز (..وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز). إن هناك سبعين صناعة مدنية وعسكرية تتعلق بالنفط والانتفاع بمشتقاته لا نعرف عنها شيئا فهل تخدم عقيدة التوحيد وما ينبغى أن ينبنى عليها بهذا العجز المهين. ويتعجب فضيلته ممن يزعمون الإيمان والجهاد قائلا إن الله لا يقبل تدينا يشينه هذا الشلل المستغرب مشيرا إلى أننا نعانى من الطفولة التى تجعل غيرنا يطعمنا ويداوينا ويمدنا بالسلاح إذا شاء. وينصح الشباب الذين يظنون أن التقوى هى بذل وقت أكبر فى القراءات الدينية والأخذ بقدر يسير فى شئون الدنيا وعلوم الحياة(2/130)
فيقول "الإسلام لا يكسب خيرا من هذا المسلك ولا تنتصر عقائده إذا كان أهله فى بلاهة الهنود الحمر وكان أعداؤه يملكون مكوك الفضاء. ويقول للشباب املكوا ناصية الحياة بعلم واقتدار لتقدروا على نصرة الحق الذى نعتنق أما قبل ذلك فهيهات. ص _130
نرفض الشذوذ والإباحية * الداعية الإسلامى الشيخ محمد الغزالى لا ينكر بعض المكاسب التى تحققت للمسلمين من وراء انعقاد هذا المؤتمر بالقاهرة، لكنه يرفض أن تفرض الدول الغربية أفكارها ومبادئها بما فيها من شذوذ وإباحة على المسلمين، ويقول: إن أوروبا رأت أن الأمة الإسلامية لا تزال متمسكة بالأخلاق الإسلامية فقررت ضربها عن طريق إلزامها بقوانين وقرارات تتنافى مع قيمها و لا تتفق مع عاداتها وتقاليدها الإسلامية الموروثة. ويوضح الشيخ الغزالى أن هجوم العلماء على المؤتمر قبل انعقاده لم يأت من فراغ ولم يكن الهجوم لمجرد إبراز العضلات أو تعطيل عمل جيد لمصر وللمسلمين، ولكنه كان نتيجة طبيعية لما تتضمنه الوثيقة التى كانت ستمر وسيتم التصديق عليها، لولا رأى العلماء وحملتهم.. فالمشروع المقترح من أخطر ما عرض على العالم الإسلامى بل هو حلقة خطيرة ضد الأديان كلها لأنه يتجاهل بوقاحة قيم الدين.. ويقول: لقد قرأت مشروع الوثيقة وضاقت نفسى وشعرت بأنه حلقة فى سلسلة طويلة وحقيرة لضرب الإسلام.. ولكن أثبتت المناقشات فى المؤتمر أن الأمة الإسلامية لن تموت وستظل تدافع عن مبادئها وشرائعها رغم محاولات التمويت الثقافى والأخلاقى والحضارى التى تتعرض لها الأمة. وأشار الشيخ الغزالى إلى أن المشكلة أن المسلمين الآن فقدوا الثقة فى المنظمات الدولية وعلى رأسها الأمم المتحدة بعد مواقفها السلبية بل والمخزية من قضايا ومشكلات المسلمين فى العالم، ولذلك فهم يتخوفون من كل تصرفات الأمم المتحدة.. ونحن لا ننكر أن الأمم المتحدة تستشعر خطر زيادة السكان المسلمين فى العالم بعد أن أصبحوا يمثلون خمس سكان العالم،(2/131)
ولذلك تحاول دول الغرب تطويق هذه الزيادة فى القرن القادم. وبصوت ملئ بالحزن والأسى يقول الشيخ الغزالي: إن هناك جهودا شيطانية لإبقاء أمتنا أمة فقيرة.. ولا يخفى على أحد من المخلصين أن الغرب هم صناع فقر الأمة حيث استطاعوا بتفكير جهنمى غريب أن يقنعونا بأن خيرات وموارد العالم تقل مع زيادة النسل لذلك يلزم ضرورة الحد من النسل بأى وسيلة من الوسائل دون الرجوع فى ص _131
ذلك إلى دين أو عقيدة، وهذه أفكار لا أساس لها من الصحة، ولايقبلها دين أو عقل سليم، فهؤلاء (نسوا الله فأنساهم أنفسهم) ونسوا قول الله تعالى (.. وقدر فيها أقواتها..) فالله سبحانه وتعالى قدر لكل مخلوق قوته ورزقه إلى يوم القيامة.. وجاء فى الحديث القدسى فى ما معناه: "... لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم سألونى فى وقت وأعطيت كلا منهم مسألته ما نقص ذلك من ملكى شيئا".. وقال سبحانه فى كتابه العزيز: (ولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش..).. ولكن للأسف انساقت الأمة وراء ضلالات الحضارة المادية الحديثة التى تتزعمها دول الغرب. فقر أخلاق وأكد الشيخ الغزالى أن الأمة الإسلامية لا تعانى الفقر كما يدعى أعداؤها، وإنما فقر العالم الإسلامى فقر أخلاق لا فقر أرزاق وموارد، فالأمة تعانى فقرا فى أخلاقها ومواهبها وعقائدها، والسبب فى ذلك سوء التربية فيها وبعدها عن خالقها ورازقها، ولذلك لا أمل فى أى إصلاح إلا بالعودة الحقيقية للإسلام. * * * ص _132(2/132)
الإسلام دين ودولة الإسلام دين ودولة، ولا يمكن البتة جعله علاقة فردية خاصة، والدولة فى ديننا تخدم على سواء أمرين مهمين: الرسالة التى تمثلها، والأمة التى تحملها، وهى خدمة منزهة عن الأثرة والاستعلاء تساندها شورى صحيحة لا مزورة، وضمانات لحقوق الإنسان تحميه من كل ضروب الظلم، والولاء للإسلام لا للجنس! والأخوة الإسلامية هى الرباط الأول وإن تباعدت الأمكنة والأزمنة ولغير المسلمين جميع الحقوق التى للمسلمين وعليهم جميع الواجبات ماداموا فى ذمتنا. وفى الخلافة الراشدة نموذج للحكم الإسلامى النزيه. ويمكن التوسع فى التطبيق، وابتداع الوسائل التى تحقق المقررات الإسلامية! وليس الحكم الدينى عندنا تنفيسا عن شهوات فرد، ولا ستارا للاستبداد المطلق، بل أساسه بيعة حرة، وشورى ملزمة، ومثل دينية واضحة وليست الدولة لخدمة الفرد أو الفرد فى خدمة الدول، بل الكل لإعلاء كلمة الله، وتنفيذ وصاياه بين الناس، وهى وصايا تصون الدماء والأموال والأعراض، وتحقق الخير والمعروف وتأمر بهما.. وقد ألفت كتب كثيرة عن نظام الحكم فى الإسلام، عن حقوق الإنسان وعن الخلافة والشورى، وأرى فى كتاب "الشورى" للدكتور عبد الحميد الأنصارى ما يؤكد المعانى التى أومأنا إليها آنفا. والمشخصات الأدبية والمادية لأمتنا تتعرض من قرون طوال لحرب شعواء، وظاهر أن استئصال الإسلام وأمته هدف حقيق لملل شتي! فإذا لم يتيسر الإفناء الحسي، فلتقم حرب المفتريات بتشويه معالمه وتنفير العالمين منه.. وهذا الموقف يفرض علينا جهدا مضاعفا للحفاظ على أنفسنا وتاريخنا ومقوماتنا كلها، ولا يسوغ أن نكون عونا لعدونا فى إهالة التراب على حقائقنا وآثارنا، ويتقاضانا ذلك إعادة النظر فى تاريخنا العلمى والحضارى والسياسي، وجعل دراسته ركنا ثقافيا لا نافلة عارضة، هناك مؤلفات عربية للعقاد، وكرد علي، ومحمد منتصر، وعادل مظهر، تحدثت عن الحضارة الإسلامية بإفاضة. ينبغى أن تدرس بعناية ص _133(2/133)
فى جامعاتنا كلها.. وهناك إخفاء لا أدرى عن غباء أو تعمد لدور الصليبية العالمية فى مهاجمتنا على امتداد تاريخنا كله بدءا من مؤتة وتبوك، إلى أن انهارت الخلافة التركية فى القرن الرابع عشر إلى الآن، لماذا لا تبرز هذه العداوات فى أثناء تدريس التاريخ؟ ولحساب من يتم إخفاؤها؟ وصاحب الغزو العسكرى الحديث نشاط تبشيرى واستشراقى هائل، ما يجوز إهماله ولا الغض من خطره، وقد ألف عمر فروخ وغيره كتبا قيمة فى هذا المجال يجب توزيعها على نطاق واسع حتى نحصن الثغرات الكثيرة فى هذا المجال التى تسلل منها الغزو الثقافي. ص _134(2/134)
إصلاح النفس البشرية فى تدبرى للقرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة رأيت الإسلام يبنى الشخصية الإنسانية على سلامة الفطرة وأصالة الفكر، فمن فسدت فطرته وغامت فكرته هبطت عبادته، فما تساوى عند الله شيئا (وما يذكر إلا أولوا الألباب) . وعلى هذا الأساس يقوم الإصلاح الحقيقى للنفس البشرية. أنا لا أنتمى إلى فرقة من الفرق ولا أتعصب لمذهب من المذاهب، وإنما أنظر بأدب وتواضع إلى المذاهب الإسلامية كلها، مدارس المفسرين والمحدثين والفقهاء والأصوليين والفلاسفة والمتكلمين والمتصوفة.. وأبحث عن الحق بتجرد. وفى مجال إصلاح النفس انتفعت برجلين من مشارب مختلفة، أولهما ابن قيم الجوزية، والآخر ابن عطاء الله السكندري، وما ألزم أحدا برأيي، فإن الجامع الأول والأخير بين المسلمين أجمعين هو كتاب الله تعالى.. ثم من استبطن هذا القرآن خلقا له، وبلغ الأوج فى هداية الناس به وتربيتهم بحكمته.. المثل الكامل لسائر البشر محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم -. وعصرنا الحاضر أحوج العصور إلى الحكمة القرآنية والسيرة النبوية فى التهذيب وجهاد النفس والهجرة إلى الله من عالم الشهوات الجلية والخفية. ألا فلنعلم أن من عمى عن وجه الله، واستيقظ من نومه ليتحرك حول نفسه وأهوائه ليس للآخرة فى وعيه حساب فهو هالك، ( إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون * أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون) . وذكر الله أكبر من أن يكون حركة شفتين، إنه يقظة قلب ورؤية آيات، ونصح خالص وهضم للنفس وإعظام لله وحده. ص _135(2/135)
إن الإسلام يتشعب شعبتين: إحداهما تمس القلب لتنشئ فيه مشاعر الرغبة والرهبة، والصبر والشكر، والتوكل والحب، إلى آخر ما أفاض المتصوفة فى شرحه، وامتلأت كتبهم به، وفى طليعتها كتابات ابن عطاء الله وابن القيم وغيرهما من السابقين واللاحقين. والشعبة الأخرى تتصل بالعقل لتغرس فيه عقائد وأحكاما شتي، وقد غصت كتب الفقهاء والمتكلمين بهذا النوع من المعارف المهمة.. وما تغنى شعبة عن أخرى. بيد أنى لاحظت أن العوام لهم اهتمامات مثيرة، فهم يكترثون لوضع اليد فى الصلاة، أتكون تحت العنق أم فوق الصدر أم على السرة! أكثر مما يكترثون لفريضة الخشوع، أو لضرورة تدبر ما يتلى من القرآن. إن المراسم الظاهرة تعنيهم، وقد يتطاولون على الأئمة لاختلافهم فى هذه الهيئات وهذا داء قديم حاول ابن تيمية علاجه فى كتابه"رفع الملام عن الأئمة الأعلام" كما حاول أبو حامد الغزالى ذلك فى كتابه: "فيصل التفرقة بين الإيمان والزندقة". إن التدين الصورى وراءه إمداد دافق من القصور العقلى والغرور الأعمى، وقد يدفع إلى ارتكاب رذائل منكرة. ص _136(2/136)
إنصاف الإسلام للمرأة فى عصرنا الحديث افتن الذين يتبعون الشهوات فى عرض مفاتن النساء وإقحامهن فى كل ميدان، دونما حاجة إلى هذا الإقحام. عند عرض راديو جديد قالوا: صوته صوت سيدة! وعند عرض شراب بارد، جاءوا بامرأة تضع عنق الزجاجة فى فمها! وعند عرض ثوب للعمل أو للراحة جاءوا بامرأة ترتديه فى أوضاع شتي، وعندما شاءوا خدمة ركاب الطائرات جاءوا بفتاة تحسن التلطف فى تقديم الطعام، وعندما أرادوا مزيدا من الإقبال على شراء السلع جاءوا بامرأة تجلس إلى الخزينة وتقبض النقود، وعندما يريد مدير عظيم أن يبرز سطوته واناقته يجيء بامرأة تكون (سكرتيرة) لمكتبه... الخ. وقال لى بعض من يعرفون أوربا: إن هناك دورا للبغاء توضع النساء فيها وراء زجاج (الفتارين)، لكى تنظر الذئاب الجائعة، ثم تختار مايعجبها. وقد قلت يوما: إننى لا أظن البشرية عرفت عصرا أمكن فيه السطو على المرأة، واستباحتها ظاهرا وباطنا، كهذا العصر الذى نحيا فيه! فهل هذا هو تحرير المرأة؟؟ إن المسافة شاسعة بين ابتذال المرأة كما يريد البعض، وبين ضمان حقوقها الإنسانية التى كفلها الوحي، وضن بها البعض. إن ما يقع الآن فى الغرب - ونقلده فى الشرق - هو فيضان مشاعر مسعورة وأهواء جامحة، تريد تطويع المرأة لمباذل سيئة، وليس من وراء هذا احترام لدين أو رغبة فى إنصاف النساء، وصون إنسانيتهن.. والذى يدعو إلى الأسى أن البعض عندنا لا يفهم من تحرير المرأة إلا هذه الصورة التى ننكرها ونلعن أصحابها، وقد تكون رد فعل لحبسها الطويل فى الظلام، وعجزها عن الأخذ لنفسها، وقدرة بعض الرجال الأشرار على دفعها إلى الهاوية، وفى هذا يقول الأستاذ أنيس منصور: (مازالت المرأة تكشف عن مفاتنها، وتتعرى، حتى بلغت أقصى درجات الفساد والانحلال.. وإذا تعرت المرأة فلأن الرجل أراد، وإذا انحرفت فلأن الرجل دفعها إلى ذلك، ولابد أن الرجل قد تردى إلى ما هو أحط وأحقر حتى بلغ هذا الدرك الأسفل). ص _137(2/137)
إن الإسلام نسق آخر فى الفكر والسلوك بعيد عن هذا الشطط، أساسه أن النساء شقائق الرجال، وأن بينهن وبين الرجال حقوقا متبادلة، وكرامات متساوية، قال تعالى: (... لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض ). ( من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون). وعلى هذا الأساس طار المجتمع الإنسانى إلى أهدافه العليا بجناحين من الذكورة والأنوثة، ووسع المسجد الجنسين معا يطلبان العبادة والمعرفة. المصيبة أن البعض الآخر دون مستوى الفهم لطبيعة المجتمع الإنساني، ولوظيفة المجتمع الإسلامي، وقد رفع عقيرته فى الأيام الأخيرة من يقول: لا عمل للمرأة إلا أن تضع الأولاد. وعندما تكون المرأة بقرة للإنجاب فقط فلابد أن يكون رجلها ثورا، ولابد أن تنحدر الأمة كلها إلى أن تكون حديقة حيوانات.. هل الإسلام يقدم رسالته إلى العالمين بمجتمع من هذا النوع الهابط؟ إننا نرفض المجتمع المنحل ونرفض كذلك المجتمع المختل، نرفض أن تكون المرأة دابة للنسل، وتنتهى رسالتها فى الدنيا إلى هذه الغاية. المرأة تتعلم وتجاهد، ولها الحق فى أن تدرس، وتطبب وتقوم بأعمال شتى تتناسب بداهة مع طبيعتها الأنثوية، وعملها الأول والأهم هو أن تكون ربة بيت وحاضنة أسرة. وهذا العمل يتطلب ثروة من الأدب والعلم لا حصر لها، وإلا فإن المرأة لن تنشئ إلا ذرية أسوأ. ص _138(2/138)
للفضائل دعائم اقتصادية أجدنى بحاجة إلى أن أؤكد مرة أخرى قيمة الفطرة الإنسانية، ومبلغ الكمال الذى تستطيع معنوياتها أن تصل إليه، مهما أحيطت بالعوامل المضادة لها. فقد تحتفظ الجذوة بحرارتها واشتعالها أمدا طويلا بين أكوام التراب البارد!! وقد تنمو فى جوف الصحراء، أشجار تختزن فى أوراقها الماء والخضرة والري! وإقرار هذه الحقائق لاينكر حقائق أخري، تعلن أن الفضائل الإنسانية والقومية تفتقر فى نموها إلى موارد دافقة، من أمواج الحياة الغنية الكريمة العزيزة، وأن هذه الفضائل قد تذوى وتنتهى إذا لم تجد هذه الأمداد المتتابعة التى تمدها بالغذاء والنماء. ومما هو جدير بالذكر: أن النبى صلوات الله عليه وسلامه كان يستعيذ بالله كثيرا من الديون وشرورها وقد سمع ذلك منه مرارا حتى سئل فى ذلك فأجاب بأن المدين قد تلجئه قلة الوفاء إلى الكذب. فإذا كانت بعض أحوال الدنيا توحى بالكذب والبخل، فبعضها الآخر يوحى بالصدق والكرم لا مراء - ونريد نحن أن ننظر إلى بيئتنا لنرى، أتوحى بالفضائل وتنشئ النفوس عليها، أم أن لها إيحاء آخر؟؟ وفقدان العدالة الاجتماعية فى أنحاء العالم الإسلامى جعل الناس يخرجون من ظلام الأرحام إلى ظلام الدنيا المليئة بالفاقة والجهالة، لا عمل لهم إلا ما توارثوه من بذر الحب وانتظار الثمار من الرب كما يقولون. فإذا طلعت الشمس عليهم طلعت على قوم، لم يجعل الفقر لهم من دونها سترا بل طلعت على قوم لا يكادون يفقهون قولا. وكان لزاما- فى هذه الحياة الراكدة الجامدة- أن يصاب جمهور الشعب بنقص عقلى هبط بقواهم الأدبية، هبوطه بقواهم المادية. ومن المفيد أن نعلم أن عقل الإنسان كجسمه، يحتاج إلى غذاء دسم منظم، لكى يستمر نماؤه ويتم كماله، ذلك أنه - كثيرا- ما نجد الرجل فى سن الخمسين، وعقله دون هذه السن بكثير، فنجد له تفكير الأطفال، وقصور فهمهم لشئون الحياة العامة. ص _139(2/139)
السر فى ذلك بين. ففى حين وَجَدَ هذا الرجل حاجاته الضرورية لجسمه من طعام وشراب. فَقَدَ حاجاته الضرورية لعقله، من علوم وثقافات وآداب . وقد يكون المعدن العقلى لهذا الرجل نفيسا، ولكنه كالأرض الطيبة التربة. لم تجد ماء ولا بذرا فلم تجد فيها حياة ولا ازدهارا. ومن المحزن أن ننتظر إلى كثيرين من أبناء أمتنا، فنراهم قد أصيبوا بهذا الشلل العقلي، والعقم الفكري، والهوان الأليم فى إنسانيتهم، لأنهم حرموا فى طفولتهم، وفى رجولتهم هذا الغذاء العقلي، الذى لابد منه. والنقص الأدبى لا يحس به صاحبه إحساسه بالنقص المادى . بل ربما أحاطت به أحوال تشعره بالكمال والعظمة، وتهون فى ناظريه القيم المعنوية. ولو أن كل محروم من وسائل المعرفة والفضيلة، يتألم لذلك ألم الجوعان لفقدان ما يرحم معدته من وقود، لاستراح الناس واسترحنا من لوثات الأغبياء والأدعياء!! لكن المجتمع العام - بعكس الفرد - شديد التأثر والإحساس بمدى الكمال المعنوى لمن ينتمون إليه ويعيشون فيه. فمن الناحية الدينية، يحتاج الإيمان إلى الكمال العقلي. والله عز وجل يقول: ( واتقون يا أولي الألباب). ومن الناحية الدنيوية، تقل الفوارق كثيرا بين الإنسان والحيوان، كلما قل عقله، فيهبط السلوك الإنسانى إلى الحضيض بهبوط التفكير . ونحن أمة أحوج ما تكون إلى العلم الواسع، لتنتفع به فى دينها ودنياها. وكيف الطريق إلى ذلك إذا لم تتلاش فوارق الطبقات، ولم يتلاش معها التظالم الاجتماعي. ثم يبنى المجتمع على أسس من احترام الإنسان، وتقرير حقوقه. وتنمية ملكاته وتدعيم فضائله؟ . ذلك من الناحية الإنسانية. أما من الناحية القومية، فإن فضائل الشعوب الحية ينقصنا - مع الأسف - الكثير منها . ص _140(2/140)
إذ لابد للشعب الحر من توافر الحمية والأنفة والشجاعة والتضحية، فأنى ذلك؟ وللأمية الغالبة على بلادنا أثر بالغ السوء فى تبلد المشاعر وضعف الفهم لقضايا الوطن، وقلة الحماسة العامة لها. وعدم انعقاد الإجماع على نصرتها ورواج النفاق السياسى بين المحترفين القدامى من الساسة والشيوخ، الذين تصدروا الصفوف- لأن الغاصبين أرادوا لهم أن يتقدموها. وبين الهواة الجدد ممن أغرتهم المنافع، وظنوا أن فى الاشتغال بالسياسة كسبا لأشخاصهم، وليس واجبا يفرضه عليهم هذا الوطن المغلوب على أمره! ولقد كانت الحوادث الأخيرة عبرة، لمن يرقبون أطوار اليقظة القومية فى بلادنا. فقد دلت على أن هناك بقايا كثيرة من التخدير الذى أمات الإحساس الصحيح فى جسم الأمة، فهى تحاول النهوض، فيطاوعها بعض أطرافها، ويستعصى البعض الآخر!!. وهى تنظر بعين فيها بوادر الغضب، وفيها فتور النوم ! وهى تفتح فمها فلا تدري: ألتقول الكلمة الفاصلة؟ أم للتثاءب، أم لتخلط بين الأمرين!. ذلك كله.. لأن الوعى الأجتماعى ضعيف عندنا، والفضائل القومية- تبعا لذلك- فاترة مريضة . ولكيما تقوى وتصبح، يجب أن نبحث لها عن الدواء، ولن نعرف الدواء إلا إذا عرفنا أن للفضائل العامة والخاصة دعائم اقتصادية، يجب تعرفها وتقريبها. ص _141(2/141)
سورة النور ودورها فى بناء الأسرة المسلمة سورة النور.. سورة تميزت بالحفاظ الشديد علي كرامة الأسرة، وقيمة العرض ودعمت جانب الشرف، وفصلت ما ينبغى أن يلزمه المجتمع كى يحافظ على حرمات الله وحقوق الناس، ورسمت للتقاليد الجنسية والاجتماعية صورا دقيقة ألزمت المؤمنين بها ووقفتهم عند حدود الله فيها.. ومع أن سور القرآن كلها منزلة من عند الله، ومعروف أنها سور إلا أن هذه السورة وحدها دون سور القرآن كلها تميزت بهذا البدء: ( سورة أنزلناها وفرضناها وأنزلنا فيها آيات بينات لعلكم تذكرون). والسبب فى ذلك: أن السورة تدور حول مشكلات الغريزة الجنسية وهى من أعتى الغرائز وأقواها ولما كان ضبط هذه الغريزة فى مسارها وانطلاقها لابد منه لضمان نفس شريفة، وخلق مستقيم، وعفة شاملة مستوعبة، ومجتمع نقى طهور فإذا السورة بدأت هكذا... ولابد أن نعلم ابتداء أن الإسلام دين الفطرة - أى دين الطبيعة السوية المستقيمة.. يرفض التكلف والافتعال.. وما أنزل الله من تعاليم فى هذا الدين القيم هو لضبط الفطرة وضمان أن تسير سيرا حسنا.. لهذا كان للغريزة الجنسية تعاليم واضحة فى هذا الدين.. وكان لانحرافاتها عقوبات محددة ى هذا الدين. الغريزة والزواج وسورة النور تتحدث عن احترام الغريزة وضبطها حتى لا تنحرف يمنة أو يسرة، ثم التخويف لمن يدع حدود الله أو يترك العقوبات التى قررت تقريرا حاسما فى هذه السورة المباركة.. القرآن الكريم لم يعتبر الغريزة الجنسية رجسا من عمل الشيطان.. اعترف بها وجعل المتنفس الوحيد لها الزواج: ( والذين هم عن اللغو معرضون * والذين هم للزكاة فاعلون * والذين هم لفروجهم حافظون* إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين * فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون) واعتبر الزواج عبادة بل جاء فى السنة أنه نصف الدين: ص _142(2/142)
"إذا تزوج العبد فقد استكمل نصف دينه فليتق الله فى النصف الباقي" إذا الزواج فريضة اجتماعية لابد أن تتواصى الأمة الإسلامية بتيسيرها.. لكن ذلك متروك للوعى العام وللضمير المؤمن.. وقد جاءت آيات فى هذه السورة تتحدث إلى أولياء الفتيات، وجاءت أيضا تتحدث إلى من يريد الزواج أو من يقدر عليه ويطلبه.. فى الآيات الأولى نقرأ قوله تعالى: ( وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم) ويشرح النبى - صلى الله عليه وسلم - هذا التوجيه فيقول: "إذا خطب إليكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنة فى الأرض وفساد عريض" ووكل ذلك - بداهة - إلى تقدير ولى الفتاة وإلى تصور الأسرة للنفقة وما يتصل بها.. والواقع أن هذا التقدير لا يمكن أن يبت فيه قانون، إنما الذى يبت فيه مجتمع مؤمن، والذى يبت فيه رجال يتقون الله ويريدون أن يشيعوا العفة والقناعة فى المجتمع.. وإلى أن يتزوج طالب الزواج، وإلى أن يستكمل دينه ماذا يصنع؟ يقول الله: ( وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله) فلابد أن يستعفف.. وعبارة الاستعفاف تعنى أن المرء يتكلف أو يعانى أو يتعب نفسه، ولابد من ذلك فى كبح الهوى وضبط الغريزة.. فإن الغريزة العاتية تحتاج إلى إدارة حديدية.. وهنا نجد أن الإسلام حارب الانحراف والجنس بمحاربة بوادره الأولى أو المقدمات التى تغرى به.. وكان فى هذا دينا عمليا.. لا لاقتحام البيوت فى هذه السورة نقرأ قوله تعالى وهو يمنع الانحراف الجنسي: (يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون)؟ وكما قال أحد السلف إذا سمعت الآية تقول: (يا أيها الذين آمنوا) ص _014(2/143)
أما لهم من نصير من إخوانهم فى القارات الأخرى؟! والجواب كئيب!! إن الجنرال "ميخابلوفتش" قتل منهم مائة ألف ومر دون مساءلة!! وجاء بعده "تيتو" وهو شيوعى ملحد فكان موقفه من المسلمين مثل موقف سابقه.
بم ينشغل المسلمون؟!!
إن موقف المسلمين فى البوسنة والهرسك والجبل الأسود وكوزفو وألبانيا نفسها يجب أن يدرس بأناة، وأن يتحرك العالم الإسلامى لمساندته ورد العدوان عنه.
بم ينشغل المسلمون؟ وإذا أصيبوا فى أخوتهم العامة فماذا يبقى لهم؟!
وهل بعد ذلك إلا أن تدور الدائرة عليهم فى عقر دارهم؟
المسلمون المعاصرون تنقصهم التربية النفسية والفكرية
العالم الإسلامى يجب أن يتحرك لمساندة المسلمين فى يوغوسلافيا
* شيخنا الجليل.. نريد أن نسترشد برأى فضيلتكم فى مسألة تعدد الأحزاب على الساحة.. وهل هى فى الحقيقة تخدم الإسلام أم تقف عقبة فى طريقه؟
** ما يمنع الإسلام تعدد وجهات النظر، والاختلاف العقلى فى مناهج الإصلاح الدينى أو الدنيوي.
فنحن فى شئون الدنيا أحرار الفكر، لم يلزمنا الإسلام بشيء.. "أنتم أعلم بشئون دنياكم" وكذلك نحن فى الوسائل التى تحقق غايات قررها الإسلام ولم يشرع لها طريقة خاصة، كرفع المستوى العلمى والخلقى للأمة، ولتحقيق العدالة الفردية والاجتماعية، وكاقتدار البلاد عسكريا على الجهاد فى البر والبحر والجو.. وأمور كثيرة تتفاوت الأنظار فى أسبابها ولا تتفاوت فى نتائجها.
ثم هناك مجال مهم تختلف فيه العقول وهو كيف تستنبط الفروع من الأصول؟ فلقد نشأت من ألف عام أو يزيد مدارس شتى فى ذلك.. وتعدد الأحزاب فى الغرب يشبه تعدد المذاهب عندنا.
ويضحكنى ادعاء الذين يقولون أن الأحزاب تقسم الأمة، فالأمة لا تمزقها وجهات النظر السليمة إنما تمزقها الشهوات!! ولقد ولدت الأحزاب مع ميلاد الكيان الإسرائيلى على أنقاضنا فماذا حدث لهم وماذا حدث لنا؟؟ ص _144(2/144)
الوجه والكفين ينبغى ستره.. فلا يجوز أن تلبس ملابس تصف البدن أو تشف عن مفاتنه أو تغرى العيون الجائعة باستدامة النظر إليه فإن هذا كله فتح لباب الفتنة.. والإسلام عندما يأمر بالعفة وعندما ينهى عن الفحش فهو يسد الطريق ابتداء أمام المثيرات التى ينزلق بعدها القدم.. لهذا كانت السورة كما قلنا سورة آداب جنسية إلى جانب أنها ضمانات وحصانات للأعراض وللشرف وللقيم.. من ذلك فى أول السورة وآخرها الاستئذان.. ففى أول السورة: ( يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون * فإن لم تجدوا فيها أحدا فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم والله بما تعملون عليم). آداب منزلية وفى آخر السورة يقول: ( يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء ثلاث عورات لكم ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن طوافون عليكم بعضكم على بعض كذلك يبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم * وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم كذلك يبين الله لكم آياته والله عليم حكيم) إن الأولاد فى البيت ينبغى أن يعلموا أدب الدخول فى الغرف.. هذا المعني.. معنى أن الأسرة التى تسكن شقة وفيها غرف ينبه على الأطفال فى أوقات معينة ألا يدخلوا إلا بعد استئذان واضح.. هذا أدب إسلامى ينبغى أن يعرفه المسلمون وأن يلتزموه.. هذا أدب إسلامى لا ينبغى أن نتجاهله أو نزدريه لأنه من ضوابط العرض وصيانات الشرف التى تربى عليها الأسرة الإسلامية. عقوبات فإذا حدث بعد ذلك أن انحرف أحد فإن العقوبة الإسلامية هى الجلد.. بإجماع المسلمين يجلد الزانى الذى لم يحصن.. أى لم يتزوج.. وجمهرة المسلمين على رجم ص _145(2/145)
المحصن.. والآية فى هذا واضحة : ( الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين). والجلد عقوبة للإنسان إذا هبط إلى درك الحيوان.. وكما أن الحيوان يضرب بالعصا حتى ينفذ الأمر الذى صدر إليه لأنه لا عقل له كذلك إذا هبط إنسان عن منزلة العقل والضمير وارتكس فى حمأة الشهوة وأصبح منقادا لغريزته الحيوانية فإنه يتعرض للعقوبة التى يتعرض لها الحيوان.. لأنه أصبح حيوانا إذ يسطو على عرض كان ينبغى أنه يصونه.. إذ ينتهك حرمات لله كان ينبغى أن يحفظها وأن يرعاها. فإذا هبط إلى مستوى الحيوان فهو مستحق لعقوبة الحيوان.. على أن الرجم الذى جاءت به السنة إنما جاء إحياء لشريعة قديمة.. فالإسلام لم يبتدع عقوبة الرجم للزانى أو الزانية إذا كانا محصنين.. إنما هذه الشريعة شريعة التوراة ولا تزال برغم ما أصاب كتب اليهود من تحريف.. لا تزال هذه الشريعة موجودة إلى الآن تنص على رجم الزانى والزانية ماداما محصنين ويقول أحد الأدباء تعليلا طريفا لهذه الحكم: إن من هدم بيت الزوجية بزناه أو من هدمت بيت الزوجية بزناها ينبغى أن تنتقم أحجار البيوت كلها من جلده ومن بدنه حتى يتعلم كيف يصون البيت!! ولذلك قال القرآن: (ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله). القذف حرام وإلى جانب صيانة الأسرة عن طريق منع العمل الرديء فإنه الأسر يجب أن تصان عن طريق رفض أى اتهام لا يليق من هذا القبيل، والإسلام فى هذا كان حاسما.. ص _146(2/146)
فمن قذف إنسانا بالزنا أو قذف أصله أو قذف فرعه الذى يتصل به ويمت إليه بسبب وثيق فإنه ينبغى أن يعاقب بالجلد ثمانين جلدة : ( والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون ) وهذا نوع من التأديب لابد منه، وقد نفذ هذا العقاب فيمن تطاول على مقام أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها.. فإن بعض الناس تسافه ووقع فى شراك أحد المنافقين الذين يكرهون النبى - صلى الله عليه وسلم - ويضيقون بدعوة الحق التى بعث بها وحاولوا فى خبث وخسة أن ينالوا من مكانة البيت النبوى فأشاعوا عن السيدة عائشة رضوان الله عليها كلاما هى منه بريئة وهى فوقه بمراحل وقد نزلت براءتها من عند ذى العرش جل جلاله، وبين أنها أعظم من أن تلم بهذا وأكبر من أن يلاك عرضها على هذا النحو، وقيل للمؤمنين فى هذا كلام ينبغى أن يعرفوه وأن يحفظوه: ( إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم). ثم يؤدب الناس: ( لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقالوا هذا إفك مبين * لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون). حتى لو رأيت بعينك وأنت واحد فلا يجوز أن تتكلم لأن الله جل شأنه يريد أن يستر.. يريد أن يعطى فرصة للتوبة.. وفى الحديث: "من ستر على مؤمن عورة فإنما أحيا موءودة" إن ناسا قد يخطئون ولكن الله جل شأنه لا يعامل الناس بخطأ يرتكبونه.. إنه يفتح لهم باب المتاب وفرصا لا حصر لها حتى يثوبوا إلى رشدهم ويستقيموا على الصراط المستقيم: (ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى ). تلك الأحكام التى تقررت فيما يتصل بالانحرافات الجنسية بالتهم التى لا ينبغى أن تجرى على لسان مسلم يحافظ على الأعراض.. هذه الأحكام ينبغى أن(2/147)
نرعاها وأن نحافظ عليها. ص _147
هل للرذائل أسباب اقتصادية؟ غاية ما يصبو إليه الدين، أن يجد الجو الملائم لغرس عقائده وظهور آثارها من خلق وعمل. فإذا ضمنا هذا الجو الرحب، فقد أمكن الدين أن يحقق رسالته. وإلا فالدين لا يعدو أن يكون بضاعة تباع للناس فى بطون الكتب، أو كلاما تنقله طائفة من الرجال فى حلقات الوعظ، وخطب المنابر لا يثمر غير التوجيه النظري. ويكون الدين حينئذ موجودا على هامش الحياة فقط. * من العسير أن تملأ قلب إنسان بالهدى إذا كانت معدته خالية!! وقد رأيت بعد تجارب عدة، أننى لا أستطيع أن أجد بين الطبقات البائسة، الجو الملائم لغرس العقائد العظيمة، والأعمال الصالحة، والأخلاق الفاضلة!! إنه من العسير جدا أن تملأ قلب إنسان بالهدي، إذا كانت معدته خالية أو أن تكسوه بلباس التقوى، إذا كان بدنه عاريا. إنه يجب أن يؤمن على ضروراته التى تقيم أوده كإنسان،ثم ينتظر بعدئذ، أن تستمسك فى نفسه مبادئ الإيمان.. كثيرا ما وجدتنى أعالج وعظ الناس فى بيئات صرعها الفقر والمرض والجهل. فكنت أحار.. ماذا أقول لهم؟ هل أقبح لهم الدنيا، كما يظن أنه مفروض على علماء الدين؟ إن الدنيا لن تكون أقبح مما عليه فى أعين هؤلاء التعساء. فلابد من التمهيد الاقتصادى الواسع، والإصلاح العمرانى الشامل، إذا كنا مخلصين حقا، فى محاربة الرذائل والمعاصى والجرائم باسم الدين، أو راغبين حقا فى هداية الناس لرب العالمين. أما أن نترك الظروف التى تلد الجريمة حتما، تنمو وتتكاثر، ثم نكتفى فى خدمة الدين بالنصائح المجردة، والعواطف المفتعلة، فهذا فى الحقيقة هو العبث المبين. ولست - هنا - أنكر قيمة الوازع الأدبي، أو أحاول بخس الضمير الإنسانى حقه، فقد توجد أحوال شديدة تقف الإنسان على شفا جرف هار وتطلق فيه غرائزه الدنيا، ويتضافر الحرمان والإغراء معا على سوق المرء إلى الجريمة سوقا عنيفا، ومع ذلك يتراجع عنها، ويستنكف مفارقتها، وتنتصر مواهبه(2/148)
العليا آخر النزاع. ص _148
غير أن هذه الأحوال لا يجوز انتظارها من كافة البشر، بل لا يجوز انتظارها أبدا على تطاول الأزمة واختلاف الأحوال من إنسان يضيء الإيمان قلبه، مهما بلغ فضله، وربا علمه. وخير لنا أن نتعرف الأمور من وقائع الدنيا، وأن نقرر أن النسبة الكبرى من الرذائل تعود إلى واحد من الثالوث المتوطن فى أرجاء أمتنا من زمن بعيد، ثالوث الفقر والجهل والمرض، أو إلى اثنين من هذا الثالوث البغيض، أو إلى أفراده جميعا. وأن زوال هذه الآفات الإنسانية، يخفض نسبة الجرائم فى بلادنا 90%، ونحن نعرف أن فى مصر آلافا من العلماء الذين ينتمون إلى الدين وينبثون فى معاهده ومساجده، وينطلقون فى المدائن والقرى يبشرون ويخطبون. فهل وصلنا - بعد هذا المجهود المادى والأدبى الواسع - إلى درجة من الرقي، والسلامة الاجتماعية، كالتى وصلت إليها بعض الدويلات الأوروبية مثل سويسرا مثلا؟ كلا! ولنضرب مثلا ببعض الجرائم الشائعة لنرى مصداق ما قلنا. السرقة جريمة خلقية واجتماعية كبيرة، رتب عليها الدين عقوبة دنيوية، تتراوح بين قطع اليد، وقطع العنق، عندما تكون السرقة فى الخفاء، أو عندما يكون صاحبها مدمن اختلاس أو عندما تكون السرقة غصبا بالإكراه كما يعبر القانون الحديث. وعقاب كهذا ليست به شائبة قسوة مادام القصد من تنفيذه تأمين الحقوق، وصيانة الجهود، وتوجيه الناس إلى العيش من كسبهم الحلال، لا السطو على كسب غيرهم، والعيش به من حرام. ولكن هذه الأغراض كلها تذوب فى مجتمعنا الذى يزخر بأسباب التملك الباطل، ووسائل الاستغلال المريب. فإذا قامت حول الجريمة شبهات، تجعل العقاب لايحقق هذه المصالح وجب وقفه، وامتنعت إقامته. ومن هنا أمر النبى صلوات الله عليه وسلامه أن ندرأ الحدود بالشبهات. وأمر عمر رضى الله عنه أن يعطل حد السرقة فى عام المجاعة! ورأى أئمة الفقه أن دعوى الملك فى المسروق، تمنع من الحد - مادامت شبهة الملك معتبرة. وقصد الشارع(2/149)
من وراء هذا الاحتياط ألا تقطع إلا اليد الظالمة الآثمة. يد اللص المعتدى على حق غيره يسرقه، غير قانع بما عنده، وهو يكفيه ويغنيه. ص _149
والمجرمون الذين يعدون من هذا النوع قلائل.. بل إنهم يعدون على الأصابع من بين الآلاف، التى تقدم إلى المحاكم.. روى مالك بن أنس فى الموطأ أن رقيقا لحاطب سرقوا ناقة لرجل من مزينة فانتحروها، فرفع ذلك إلى عمر بن الخطاب، فأمر عمر كثير بن الصلت بقطع أيديهم...!! ثم قال عمر أراك تجيعهم؟ والله لأغرمنك غرما يشق عليك. ثم قال للمزنى كم ثمن ناقتك؟ فقال: قد كنت - والله - أمنعها من أربعمائة درهم! فقال عمر لحاطب: أعطه ثمانمائة درهم...!! قال ابن وهب: إن عمر - بعد أن أمر كثير بن الصلت بقطع أيدى الذين سرقوا - أرسل وراءه من يأتيه بهم (ليرفع الحد عنهم). فلما جيء بهم قال لعبد الرحمن بن حاطب: لولا أنى أظنكم تستعملونهم وتجيعونهم حتى لو وجدوا ما حرم الله لأكلوه لقطعتهم. ولكن والله إذا تركتهم لأغرمنك غرامة توجعك... من هذا الأثر ترى أن عمر فهم تشريع القطع على حقيقته. فهم أنه عقوبة رادعة لمن يرتكب هذه الجريمة من غير حاجة تلجئه إلى مال الغير. وحين تبين له أن هؤلاء الغلمان اضطروا إلى السرقة - لما نالهم من جوع وحرمان - أبعد الحد عنهم. وإذا أسقط الحد عن هؤلاء المرهقين ضاعف العقوبة على رب المال الذى أساء الامتلاك، وكان - بأثرته - علة هذا الاضطراب فى المجتمع...!! عندئذ تقل جرائم السرقة حقا! ويومئذ يستحق السارقون أن تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف. الزنا جريمة خلقية واجتماعية بالغة الفحش، ولعل الاختلال الاقتصادى - بما يخلقه من بؤس وترف - أهم الأسباب المؤدية إلى انتشار هذه الجريمة، ومواجهة هذه المشكلة لا تكون بالاستنكار السلبي، فما أسهل هذا الاستنكار على متعودى الخطب الوعظية، وما أحقر أثره فى تغيير الواقع الأثيم. ص _150(2/150)
إن الشهوة الجنسية لابد أن تتحرك، فإذا لم تتح لها الحركة الطيبة، لم يبق أمامها غير الحركة الخبيثة. والعصمة المؤقتة أو الدائمة عند بعض الرجال الفضلاء، أو الرجال الهادئين لا يصح الالتفات إليها عند وضع تشريع عام، يراد به حفظ عفاف الأمة، وصيانة قوى الشباب المادية والأدبية والعقلية. فإذا أردنا - باسم الدين - قمع الحركات الخبيثة للشهوة الجنسية، فيجب أن نيسر وأن ننظم أسباب الاتصال الجنسى الحلال، وأن نفرغ من العمل على وضع الحلول الصحيحة لهذه المشكلة المعقدة، ولن يكون ذلك إلا بإعادة النظر، فى فهم حقيقة الزواج، والأساليب العسيرة، التى يتم بها الآن. إن إتاحة الزواج للراغبين مسألة لا تقل عن ضمان الأقوات للشعوب، وعندى أن وزارة التموين لا تمثل إلا نصف المشكلة المادية وأن شئون الزواج والأسرة تحتاج إلى وزارة أخري. والطبقات الفقيرة والمتوسطة، تواجه مع الزواج ثلاث مشكلات، فالمهر عقبة، وقد يسهل اجتيازها، فتبقى مشكلة الدخل الذى يصون البيت الجديد والأسرة الناشئة، ثم تبقى مشكلة الدخل الواسع، الذى يكفل حياة أولاد تجب تغذيتهم وتربيتهم على خير وجه. هذه كلها عوائق اقتصادية، لا يقوى الدين بالكلام على حلها. وإنما يفرغ الدين منها، عندما يبنى المجتمع، الذى لا يبقى فيه فقير ولا حقير، والذى يقدم للفرد الضمانات المعقولة، لكفالة أسرته، ورعاية مستقبلها والذى يسخر فيه إنتاج الأمة، لإسعاد الأمة كلها، لا لترف بضعة أفراد منها. فإذا تم ذلك، تم القضاء على نسبة ضخمة من جرائم الزنا، وإذا صودرت أسباب الترف لدى المترفين، تم القضاء كذلك على جزء آخر من مظاهر الفسق والخلاعة والتحلل. فمن أبى إلا ارتكاب الفاحشة بعد أن مهدنا له طريق الفضيلة، وجب جلده أو رجمه. بل وجب قتله رميا بالرصاص! ص _151(2/151)
الفكر الإسلامى بين التقوقع المعجز والانفلات الضال الإسلام دين معصوم. الكتاب كما قال منزله: (وبالحق أنزلناه وبالحق نزل). والسنة فى جملتها معصومة فيها الخير كله وفيها السند الذى تحتاجه الإنسانية لتسير فيه . معنى أن الكتاب معصوم وأن السنة معصومة أن أى مخالفة للكتاب أو جحد لما فيه خروج عن الإسلام، (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم). إذا أمر الله، خرست لعمر الله أنفسا لما تكلم فوقها القدر. إذا قال الله فلا كلام لأحد، متى ثبت للرسول كلام خضعنا له، هذا هو الإسلام. أما الفكر الإسلامي، وهو عمل العقل فى فهم النص، عمل العقل الإنسانى فى فهم النص الدينى كتابا كان أو سنة، فهذا العمل أو هذا الفكر ليس بمعهود، فقد يخطئ الإنسان عندما يفكر، وقد يجتهد ويحيد عنه الصواب. والمجتهدون من فقهائنا اختلفت وجهات نظرهم أو بالمصطلح العام: "اختلفت مذاهبهم لأسباب" . فقد يختلفون مثلا لطبيعة اللغة العربية. خذ مثلا حرف الجر : (وامسحوا برءوسكم) هل الباء للإلصاق كما يقول الأحناف، فربع الرأس يكفي.. إلصاق اليد، هل هى للتبعيض فشعرات الرأس تكفي، هل الباء زائدة كما يقول مالك، فلابد من مسح الرأس كله.. ليكن.. وجهات نظر.. الخلاف موجود.. الفكر الإسلامى هنا قائم . حقيقة أو مجازا ( لامستم النساء) هل اللمس حقيقة أو مجازا عن نوع معين من اللمس.. اختلاف.. الخلاف الذى لفت نظرى وفيه شيء من الطرافة؛ جمهور الفقهاء كما درسنا مذاهبهم، يرى أن "الظهار" فيه عتق رقبة أو صيام شهرين أو طعام ستين مسكينا، ابن حزم له رأى خالف به ص _152(2/152)
الفقهاء ، والخلاف سببه حرف جر، يقول الله تعالى ( والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا). إلى أن يقول.. ( فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا).. إذن فما معني: ( والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا..) كل الأئمة قالوا: "يعودون فيما قالوا"، لكن ابن حزم رجع فى كلامه وقال: لماذا اللام هنا بمعنى هنا؟؟ لأن الآية التى بعدها فى نفس السياق: (ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى ثم يعودون لما نهوا عنه) فاللام بمعنى هنا. وبنى على هذا أن الظهار الأول لا كفارة فيه، والظهار الثانى هو الذى تلحقه الكفارة.. هو رأيه !! إنما أردت أن أذكر سبب الخلاف من الناحية اللغوية، قد يكون هناك خلاف بسبب المزاج الفكرى أو المزاج النفسي. وما معنى المزاج الفكرى هذا؟ الحقيقة هناك بعض الناس طبيعتهم العقلية تتبع الفحوى أو المقصد أو يعرف الأسرار من التشريع أو الأمر والنهي، وهذا ظهر فى أيام الرسول عليه الصلاة والسلام، فلما أصدر الأمر إلى جيشه، قال: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يصلين العصر إلا فى بنى قريظة".. انتهي.. الجيش سمع الكلام.. لكن فى الطريق اختلفوا.. النصيون أو الحرفيون قالوا لا صلاة إلا فى بنى قريظة ولو نصلى العصر إلا بعد المغرب. أما أصحاب الفحوى فقالوا إن هذا غرضه الاستعجال وليس غرضه أن نضيع الوقت، واختلفوا.. فصلى بعضهم فى الطريق، وصلى بعضهم فى بنى قريظة.. وابن تيمية يرى أن الذين صلوا فى الطريق كانوا أولى بالحق من غيرهم. على كل حال الأمر واحد؛ خلاف عادى لا قيمة له، فهذا مزاج فكرى أو طبيعة فكرية . هناك طبيعة نفسية، مثلا من خطب امرأة فى العدة، عمر يقول يفرق بينهما ثم تحرم عليه إلى الأبد. لماذا؟ طبيعة عمر فى الصرامة.. أما غيره فيقول لا، يفرق بينهما، ويعود خاطبا من الخطاب بعد انتهاء العدة كغيره من الناس، يعامل كغيره من الناس. إذا فهذا اختلاف سببه المزاج، وترى هذا(2/153)
المزاج ليس الهوى ولكن الطبيعة النفسية- تمثل فى أسرى بدر حيث قال أصحاب الشدة والصرامة. ص _153
"يقتل الأسرى" أما أصحاب الحلم والأناة فقالوا نعتقهم ونأخذ بديلا ننتفع به فى رفع حالة المسلمين الاقتصادية، إلى آخره. فالخلاف موجود فى الفكر الإسلامى منذ بدأ.. الخلاف فيه موجود وأنا لا أتشاءم من الخلاف ولا أقلق منه، ورب العالمين اعتبر الخلاف من طبيعة الخلق، لكن يكره أن يكون الخلاف بسبب فوضى خاصة بين الدهماء والعوام، فكان هناك شئون عسكرية وشؤون مدنية يقع فيها خلاف فلا يجوز أن نتبعثر بين الجماهير ليسود فوضى وفى هذا يقول الله سبحانه وتعالى : ( وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم). أهل الاستنباط ( فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) . بتعبير العصر الحاضر "الأخصائيون" هذا هو التعبير الدقيق لها، والذى لا يتعرف عليه له أن يرجع إلى القاموس فى هذا . الأخصائيون، هم الذين يسألون ( فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) فالذكر هو الفكر، ومن فضل الله على هذه الأمة أنه وسع دائرة الفكر، وقبل النتائج، وفيه ما ليس فى غيره فى دنيا الناس. هنا رأيان لعلماء الأصول، رأى يقول "كل مجتهد مأجور، أخطأ أم أصاب" كلاهما سواء، لكن جمهور العلماء، على أن للمخطئ أجر واحد وللمصيب أجران. وهذا هو الرأى الشائع عند المسلمين، أى أن المخطئ لا كفر ولا فسق عن أمر الله، ولكنه أخطأ. لكن الخطأ يكون بعد حيثياته العلمية مثل خطأ الطبيب الذى يبذل جهده العلمى ثم تجيء النتائج على غير ما توقع، أما إذا كان الخطأ عن إهمال أو عن تكاسل أو عن قلة اكتراث فهذا شيء آخر يعتبر تقصيرا، ويعاقب عليه . فأنا أبذل جهدى العقلى إما أخطأت أو أصبت، فهذه مسألة الله أعلم بها. ولكن أنا مأجور على الحالين، وعلى هذا سار التاريخ الإسلامى حقيقة. وقد لاحظت أن المجتهد أبعد الناس عن الغرور(2/154)
بما وصل إليه . أبو حنيفة قيل له: رأيك هذا الذى تقول هو الحق الذى لا شك فيه، قال لعله الباطل الذى لا شك فيه، ومع أن أبا حنيفة إمام أهل الرأى ورئيس مدرسة الفكر ص _154
أو فقه الرأى من الناحية الإسلامية، نجد على المقابل له: الإمام الشافعي، واضع علم الأصول وأول من تحدث فى حديث الآحاد ورجحه وقواه وسانده، مع ذلك الخلاف الذى بينه وبين أبى حنيفة، عندما سئل عنه قال "الناس عيال فى الفقه على أبى حنيفة". هذا بالرغم أن بينهما خلاف شديد، هذه هى عظمة النفس البشرية عندما تتمخض لله ويصقلها الحق وتطلب مصلحة الأمة، وتبذل الجهد لكى يتضح لكتاب الله وسنة رسوله، وعامة المسلمين وخاصتهم. ونرجو من الخلف أن يأخذوا هذا وأن يتعرفوا عليه . لقد دخلت الأزهر، وأنا لا أعرف شيئا، حفظت القرآن، ودخلت الأزهر لا أدرى شيئا عن الفقهاء ولا مذاهبهم، لكن أبى قال لى التحق بالأزهر على مذهب أبى حنيفة، وهناك أناس من قريتى دخلوا على مذهب الإمام الشافعى وبعضهم على مذهب الإمام مالك، كان حظى أن أتعرف على الفقه الحنفي، فلما كبرت ودرست الفقه الحنفى من عدة كتب بدأت أنظر إلى فقه المذاهب الثلاثة الأخرى واطلع عليها.. لا أقول اطلع عليها اطلاع دارس، لكن اطلاع متعجل، يعرف ما يعنيه من القضايا التى قد يكلف بدراستها أو يرى لأمته حاجة إليها. ثم وجدت بعد ذلك أنه لا بد من الاطلاع على الفقه الزيدى والفقه الإمامى والفقه الظاهرى والفقه الفلسفى كما قدمه ابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزيه، وفقه الحديث (السنة) كما قدمه الشوكانى والصنعائي، وفى هذه الأيام، الألبانى وسيد سابق.. أنا لا أتشاءم من الخلاف وأعرف وجهات النظر لكني، وهذا شيء أحب أن أذكره عن نفسى من باب الأمانة، لست من هواة الدراسات الفقهية، ولا أميل إليها ولا أميل إلى دراسة القانون ولا أحب الاطلاع عليه. الشيء الذى استهوانى منذ بدأت أفكر فى دراسة العقائد والعلوم الإنسانية والملل والنحل(2/155)
والفلسفات وما إلى ذلك، وعلى ضوئها تخصصت فى الدعوة الإسلامية ومضيت فى الطريق . فلما مضيت فى الطريق بضع سنين قليلة، وجدتنى مكرها على أن أرجع إلى الفقه لكى أدرسه مرة أخرى، وأنا كما قلت لكم لست من هواة هذه الدراسة، ضائق بها، هذه طبيعتي.. ولكن لما اضطررت أن أرجع إلى الفقه مرة أخرى.. السبب فى أننى وجدت عوائق تعترض الدعوة الإسلامية سببها آراء فقهية، بل كادت هذه العوائق أن تطيح بالدعوة فى ميادين تصطدم فيها الدعوة بزحف صليبى أو بزحف شيوعي، قلت سبحان الله، الإسلام يضيع بسبب هذه الخلافات، أى بلاء هذا!!؟ أنا لابد أن أعود ص _155(2/156)
مرة أخرى للدراسات الفقهية لكى أتسلح وأطلع وأقاوم، وفعلا عدت.. أنا وجدت فيمن اشتغلوا بالفقه فى عصرنا، وجدت شيئا، عبته، مثلا وجدت ناسا يعيشون فى ماضيهم لا يعرفون كيف أن الحياة سارت؟ سمعت فى إذاعة إسلامية بأذنى والله، رجل يشرح الفقه ويقول (في القصاص حياة) نعم (النفس بالنفس) نعم (والعين بالعين) نعم (الجروح قصاص)، فجاء فى "الشجاج" وأنا قرأتها فى مذهبنا الحنفى قراءة عابرة، ثم قال إذا أصيب أحد بعاهة لا يمكن القصاص فيها فماذا نفعل له. فكانت الفتوى هكذا: نقومه عبدا، ونرى كم ثمنه وهو سليم؟ وكم ثمنه بعد العاهة؟ والفرق بينهما يدفعه الذى ضربه. الرجل يعيش فى أسواق النخاسة!! افترض أن هذا الرجل- لا يوجد عبيد الآن- كأنه حمار جرح فإذا كان يساوى 100 جنيه وهو سليم، وبعدها جرح أصبح يساوى 70 جنيها، إذن فعلى الضارب أن يدفع ثلاثين جنيها !! هل هذا فقه؟ يعرض فى هذا العصر!! أى فقه هذا؟ شى آخر، لقد شكا لى شخص من تونس، وقال لي، يا أخي، هناك شخص من الخليج دخل مكتبة مثل مكتبة الكونجرس، والسواك فى يده يحركه يمينا ويسارا فى فمه، يمينا ويسارا والناس تنظر له باشمئزاز!! فقال لى صحيح أن السواك عندكم سنة أيها المسلمون ؟ فقلت له: يا أخى إن السواك سنة مشروعة للصلاة والوضوء.. لولا أن أشق على أمتى لأمرتهم بالسواك فى كل صلاة، إنما لا يدخل مكتب عام أو برلمان أو كونجرس أو مكتبة، ويدخل بالسواك وهو فى حنكه، فهذا غير صحيح. ومع ذلك فالمقصود من السواك ليس "عود الآراك" ولكن المقصود "نظافة الفم" فى أى مكان: أكل ونظف بالفرشاة، انتهى. فرشة الأسنان مع المعجون تكفى وتنظف أسنانه!! فيقول لي: كلا، ويمسك السواك ويريد أن يدخل به المدرج عندى بالجامعة!! هل أطرده؟ نعم طردته! قلت له: كلا، لا أقبل هذا الإسلام، الدين النظافة، ولا أحب أن يبصق هنا فى هذا المكان . الأسوأ من هذا، أنهم كانوا أهل بادية، فقال لهم الرسول هى بالماء والحجر أى ثلاثة(2/157)
حجارة تنظف بها نفسك. والآن تريد فى القاهرة أن تحضر حجارة لكى تنظف بها نفسك، وتضيع الصرف الصحي، وتسد المجارى وتخرب لنا الدنيا بالحجارة. ما هو هذا الحجر؟ الأفضل أن تستخدم الورق، فقال لي: مثل النصارى. قلت له، أى مضارة!!؟ ماذا يحدث لو نظفت نفسك بالورق ؟ ص _156
فوجدت أن هناك عقولا ضائعة، دخلت ميدان الفقه، وهى متقوقعة فعلا فى مكان لا تخرج منه وهذا ليس بفقه إطلاقا! هذا نوع من البلادة الذهنية تسترت بالإسلام، والإسلام بعيد عن هذا ولا أصل لهذا . فى الوقت نفسه وجدت أناسا انفلتوا فعلا فقال لى شخص، إنا نراك مسرورا من لجنة العفو الدولية. فقلت نعم.. سيدنا رسول الله قال: لقد شهدت فى دار ابن جدعان حلفا لو دعيت به فى الإسلام لأجبت، قلنا أناس ينصرون المظلوم، ويكشفون عن آلام بعض المتعبين . فقال: حرموا عقوبة الإعدام، وأنا أرى أن نتبعهم فى هذا، فأنت أزكيت عليه ويجب أن نتبعهم فى هذا!! فقلت له: لا نتبعهم فى هذا، لأن عندنا نص "فى القصاص حياة". تاتشر عندما كانت فى حزب المحافظين أقروا إلغاء عقوبة الإعدام، فلما تولت السلطة وشعرت بضراوة المجرمين غيرت رأيها وقالت لابد من تنفيذ العقوبة. ومع هذا فأنا مع النص لأن الله أعرف بمصلحتى منى وبمصلحة الجماهير من الجماهير. عندما يكون النص حاسما، أعلم أن مصلحة البشر فيه: (فى القصاص حياة). وربما أن سبب الاشتباك بينى وبين عبد الناصر فى مؤتمر الاتحاد القومى هذه القضية، حتى وأنت تقوم بعمل روايات تمثيلية فى ضرر الأخذ بالثأر، فقلت لعبد الناصر عندما يقتل شخص والدى ويدخل السجن ثمانى سنوات ثم يخرج، فلا بد أن أقتله. أما أن تقول لى رواية تمثيلية من أجل الأخذ بالثأر لا يجوز من الناحية الاجتماعية!! كلا! خطأ كان لا بد أن يقتل! من أين أتيتم بمعني: "سبق الإصرار والتربص" هذا كلام من عند الفرنسيين وليس من عندنا! من قتل عمدا يقتل، وانتهى إلا إذا عفا ولى الدم انتهى الأمر. يعاقب(2/158)
بطريقة أخرى أو يترك عقابه. هذا كان سبب الخلاف بينى وبين عبد الناصر هناك أمور أخرى. على كل حال النص يحترم. هناك واحد من الحكام قال أن الصيام يعطل الإنتاج وتلغى الصيام!! قلت له: ما هو الإنتاج الذى لديكم ؟ بضعة معاصر زيت زيتون، وبضعة قفف من العجوة. هذه هى التى سيعطل إنتاجها!! العجوة وزيت الزيتون!! من قال إن الصيام يعطل الإنتاج! هذا غير صحيح. هذا كذب لا أصل له . ص _157
إذن هناك انفلات فى بعض الاجتهادات، وهناك وقوف غريب فى اجتهادات أخرى والأمر يحتاج إلى أن نرد الفقه إلى أهله، والفكر إلى أصحابه، وأردد كلمة الأحنف بن قيس: "من البلاء أن يكون الرأى لمن يملكه لا لمن يبصره". بلاء الشعوب الآن خاصة فى العالم الاسلامي، أن من يبصر الرأى لا سلطان له، وإن أكثر من لهم سلطان عميان لا يرون إلا ما فى أنفسهم من أهواء! هذا هو بلاء الأمة الإسلامية. فيجب أن يعود الفقه له ورجاله الذين يجتهدون فيه وله أهله الذين يعملون فى ميدانه، ومعهم الزاد الثقافى الواسع الذى يحتاجون إليه ولا بد منه كى يصدروا للأمم أحكاما سليمة تتبعها الشعوب وهى مطمئنة. وهنا ألفت النظر إلى شيء كتبته فى بعض كتبى وهو أن الإسلام فيه نصوص لها قداستها لا تخترق أبدا، وهناك أخلاق أو مبادئ ترك لنا الحرية فى وسائل اختيارها ووسائل تطبيقها، سوف أختار منها ثلاثة الآن. العلم والشورى والجهاد هذه قيم مؤكدة فى الأمة الإسلامية . العلم لا بد منه، وكون الأمة فى عصرنا هذا تجعل التعليم مراحل، ابتدائى فإعدادى فثانوى فجامعي، لا بأس. تعليم مدنى وتعليم عسكري، لا بأس، تعليم زراعى صناعى تجاري، لا بأس. ليس لدينا وسائل محددة. والإسلام عندما طلب الصلاة حدد لها وسيلة واحدة هى الوضوء. فإذا فقدت، فهناك وسيلة أخرى هى التيمم. فهنا الوسائل حددت. وهناك أشياء سكت الإسلام عن وسائلها: وتركها لنا، فنحن يجب أن نتعلم والعلم يجب أن يشمل الأمة كلها. من الأكاذيب التى شاعت فى(2/159)
التاريخ الإسلامى للأسف، وكانت من أسباب انهيار الحضارة الإسلامية الأخيرة أن الأنثى حرمت التعليم، وكان سبب الحرمان حديثا مكذوبا رواه: المستدرك الحاكم فى مستدركه "لا تعلموا النساء الكتابة" وكتاب الحاكم كله كتاب مسودة، مات غفر الله له قبل أن يصححه، والأمة منعت من فتح مدرسة بنات بسبب هذا الحديث المكذوب. واتصل بى رجل من سويسرا وقال لي: يا فضيلة الشيخ، لدى كتاب الآن ولا أذكر اسم المؤلف المجلد 26 صفحة كذا يقول : والأمة أمية وقد نهى عمر عن تعليم النساء الخط، فقلت له هذا كذب. النهى عن تعليم النساء الخط هذا كذب. أما أن ص _158(2/160)
الأمة أمية، فالحديث ورد، ولكن المعنى الموجود خطأ وغير صحيح، فهو يصف واقعا: "نحن أمة أمية لا تكتب ولا تحسب" العرب كانوا هكذا فعلا، أما هو - صلى الله عليه وسلم - فما هى رسالته سوى محو هذه الأمية (ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم) ( بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم) فلقد قلت لبعض طلابى فى الجامعة الذى يضع رسالته فى فقه عائشة أمنحه رسالة دكتوراه. لأن عائشة لها اعتراضات على أحاديث كثيرة، وهناك ردود عليها، والذى يستوعب علم أم المؤمنين، ويرى كلام الفقهاء، وكلامها مع الصحابة، وكلام الصحابة معها يأخذ رسالة دكتوراه. من قال إن المرأة فى الإسلام تمثال للجهل. فالعلم لا بد منه كالطعام والشراب بل أكثر إننى الآن أشعر بالأسي، لقد كنت فى الجزائر ووجدت رجلا يقول لأولاده وأولاده كانوا طلابا عندى فى الجامعة، الجامعة التى أنشأناها، لأن التعليم الدينى ألغاه حاكم شيوعى هناك. فجاء بعده رجل له دين وشرف وخلق وإسلام فاتفق معنا وأنشأنا الجامعة، وأعاننا الله، وفيها طالبات، البنت تقول لى إن والدنا يقول لنا، ليس لنا تعليم، يمنعنا من المجيء. والدولة تمنح للطالبات والطلاب مواصلات وأكل، وهذا باسم الإسلام يريد أن يمنع بناته من العلم والتعليم! هذا بلاء! هذا عقل دينى غريب ! أما مراكز الثقافة الفرنسية فإنها تعمل ويمدها كثيرون. وهناك نحل سارت مع القومية العربية ومع البعث العربي، وكذا عربي..! فوجدت أن هناك نزعات وجودية وإلحادية ومادية! والله ما تعترف أبدا بالله ولا برسوله، سوف تضيع الأمة الإسلامية، وتريد أن تغرى البنات. لمن أتركهم! أتركهم يضيعون! من أجل رجل أعمى الفقه لا يدري!! كلا!! الشوري، لا بد منها فى الإسلام، ولكن ماذا تكون الشورى؟ الشورى لها صور كثيرة. وطبعا صورتها المثلى أيام دولة الخلافة الراشدة. ولكنى عندما أنظر للشورى أجد أن الحكم رئاسى فى الولايات المتحدة، وفيها شوري. والحكم ملكى فى(2/161)
إنجلترا وفى هولندا وفى الدانمارك وفى السويد وفيها شورى عظيمة جدا. ألكم فى فرنسا شورى؟؟ رئيس الجمهورية يختاره الشعب. رئيس الجمهورية فى إيطاليا يختاره مجلس النواب. صور الشورى مختلفة. الجماهير تختار الصورة، لكن المهم عندى أن لا يكون هناك استبداد أعمي. الآن الاستبداد الأعمى أكل الشعوب واغتالها. بينما أجد بعض الذين يدرسون الفقه يؤخر الشورى، وليس على باله إطلاقا. هذا ليس من الإسلام! وهو لا فقه له أما بالنسبة للجهاد . ص _159(2/162)
الجهاد: وسائله تغيرت فى عصرنا هذا، فالجهاد له أوضاعه وله تعاليمه، ولكن الآن تغيرت الدنيا، الجهاد الآن فى البر والبحر والجو، وليس بالسيف والرمح، بالقوس والنبل، كلا، لقد أصبح جهادا علميا. الآن لكى تقيم أجهزة جهاد، لابد أن يكون لدينا كليات فى الفيزياء والكيمياء والأحياء، والجيولوجيا والفلك، وفى شتى علوم البر والبحر . والأمة الإسلامية عندما خرجت من الجزيرة، الإسلام رفع خسيستها، فقد كانت أمة لا تعرف إلا الجمل! يقول ابن خلدون: لما وجد العرب أنفسهم قد ملكوا جنوبى البحر (أى البحر المتوسط) أى مصر وليبيا والمغرب، وشرق البحر فهو معهم فقالوا لابد من أساطيل وسفن، إذن باسم الإسلام العقل الإسلامى تفتح "ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب". ولكن هؤلاء أناس فى البر. كلا. يجب أن يتعلموا فصنعوا الأسطول الرومانى فى إيطاليا واليونان وصقلية وسردينيا وكورسيكا كان يفر منهم، لماذا؟ لأنه ضرى عليهم كما يضرى الأسد على فريسته !!. إذن لقد علمهم الإسلام ركوب البحر، وعندما أرى حديثا فى البخاري، الرسول نائم عند أم حرام بنت ملحان، فرأته فاق ثم ابتسم واستيقظ. فقالت له مم تضحك يا رسول الله؟ فقال: أناس من أمتى ملوك على الأسرة أو مثل الملوك على الأسرة، يركبون هذا البحر غزاة فى سبيل الله، فقالت له ادع الله أن يجعلنى منهم، ثم نام مرة أخرى واستيقظ يردد نفس الكلمات: أناس من أمتى يركبون سبج هذا البحر كأنهم ملوك على الأسرة غزاة فى سبيل الله، أنت من الأولين. فماتت وهى فى الأسطول الذى أعده معاوية لكى يحاصر به القسطنطينية من الجنوب كى يمتلكها جنده من الشمال. ولم تفلح الخطة، وماتت المرأة فى قبرص ويعرف قبرها "بقبر المرأة الصالحة" وأنا متأكد أنه لو أن هذه المرأة فى عصرنا هذا قالت للقائد ادع الله أن يجعلنى منهم، فكان سيقول لها: أنت امرأة ماذا يخصك من هذا (أو باللهجة المصرية: أنت يا امرأة دخلك إيه!!) كيف تذهبين إلى الغزو فى(2/163)
البحر!! أنت اجلسى فى بيتك وليس لك إلا البيت !! الفكر الإسلامى تغير كثيرا، وكان فكرا مفتوحا أيام الرسالة الأولى وكان منفتحا على ثقافات العالم كلها، وكان أصحابه يمسكون بالقلم الأحمر بعدما نقلتهم الدعوة الإسلامية نقلة حضارية رحبة . ص _160
وبعد ذلك أجد الدكتور محمد يوسف موسى، أخذ رسالة الدكتوراة من جامعة السربون فى موضوع عن ابن رشد، يقول لى يا غزالي، يرى الأوروبيون أن عدد قواعد الفلسفة الإغريقية ثمانية عشر، فهذا أبو حامد الغزالى تلميذ من تلامذة محمد عليه الصلاة والسلام، وكل ما عنده فقه عميق فى الإسلام، بل بلغ من سطوته العقلية أن يقول: يقول أرسطو كذا وله أن يقول كذا! أى يأتى بأدلة لأرسطو ثم يقر بالحجة المضادة على ما قال أرسطو وعلى ما افترضه هو، ويهدم هذا كله!! بالعقل الإسلامي! كان عقلا مفتوحا. الفقه كان فقها مفتوحا، وهذا الفقه المفتوح، رواه الأوائل فى ميدان الفقه العبادى والمعاملات ومعنى المعاملات أى الدماء والأموال والأعراض أى الفقه الضرائبى والفقه الدستوري، هذا ما اشتغل به أئمتنا . أبو حنيفة كان له تلميذان أو ثلاثة، أبو يوسف مؤلف الخراج أى الضرائب مؤلف فى الضرائب. وكتاب محمد بن الحسن الشيباني: "فى السر الكبير" وهذا فى العلاقات الدولية، وله مدرسة أوروبية تسمى مدرسة الشيبانى فى الفقه الدولى . فعندما أنظر إلى الفقه الإسلامى قديما وكيف أن تلامذة الفقهاء تجاوبوا مع الدولة ومهدوا لها كيف تتعامل مع الآخرين وكيف تفرض الضرائب فى الداخل فإنهم بالإسلام اشتغلوا أما الآن فليس لدينا شيء. الفقه دخل دورة المياه ولم يخرج. فقه المتأخرين، ثم شغل نفسه بتوافه عجيبة، ودون وعى مع ما يقع فى الخارج. ولذلك فهناك ضمور غريب فى الفقه الدستورى والفقه الدولى وفقه العمل، والعمل ينقل من نقابات وقوانين العمل والعمال فى الخارج. لماذا لأن هناك مؤلف فى الأصول اسمه "الحاصل" وجاء بعده مؤلف آخر "المحصل" وثالث اسمه(2/164)
"التحصيل" وكل هذا يمضغ نفس العلكة ولا يوجد جديد! وهكذا! فالأمر يحتاج إلى أن الفكر الإسلامى لا بد أن يتفتح ويعود إلى أصالته الأولى . مالك جرح وكسرت ذراعه، فعندما وجده الخليفة يأخذ أيمانا مغلظة على أن فلانا مات من الضرب الذى حدث له . ولكن السؤال: من الذى ضرب مالك؟ إنه كلب ذهب وانتهى فى التاريخ وتبقى مالك، مليء الأرض. أيضا فإن حسن البنا قتله شخص نكرة، لا أحد يعرفه، ولكن بقى حسن البنا خالدا فى الآخرين وإن شاء الله يخلد مع الصحابة والتابعين. إذن قصة تاريخ الفكر الإسلامى وتاريخ الفقه، والتاريخ للرجال التى تقود العقول وتقود النهضات وتقود الأمم. أنا أريد من أمتنا أن تعرف نفسها لكى تعرف فكرها . ص _161(2/165)
هناك شيء كتبته فى هذا الموضوع سوف ألخصه لكم: أولا قلت لكم فى يوم من الأيام: إن الله ربى محمدا ليربى به العرب، وربى العرب بمحمد ليربى بهم الناس أجمعين. الناس أجمعين، هل هم الروم والفرس فقط، كلا الناس أجمعين تعنى منذ بعث إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها فى القارات كلها . إذن فالأسلاف عرفوا ما عندهم، فكل شبر معمور من أرض الله مشوا ووصلوا إليه وبلغوا الرسالة وأدوا الأمانة، الآن أين العرب؟ الحقيقة أن العرب الذين كان ينبغى أن يكونوا فى الأولين دماغ الإسلام وقلبه (أى عقله وعاطفته) القرآن عربي، والكعبة عربية، والرسول عربي، والثقافة عربية !! انظر فأجد الأمة الإسلامية العربية الآن تتسكع فى مؤخرة القافلة البشرية لا تعرف لها رسالة !! هناك طالب من طلابى قال لي: هل رأيت جريدة الأهرام؟ قلت له: ماذا فيها؟ قال: هذا الولد الشيوعى كتب مقالا فيها يقول فيه ما يدافع به عن الشيوعية أو يعتذر عن شيء. قلت ألا تعرف حديث البخارى الذى يقول فيه: إن هناك أناس من العرب كانت تعبد الجن وبقى هؤلاء يعبدون الجن التى أسلمت!! وفيهم نزل قوله تعالى : ( أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه) أى أن الشيوعية انهزمت وتركها أصحابها ولا زال العرب الشيوعيون يعبدون الشيوعية، إنهم بهائم !! قلت له يا بني، إن العيب ليس منهم، هؤلاء العميان! ولكن العيب ممن يحمل أمانات الفكر الإسلامي!! قلت له: نحن الذين نسمى علماء الدين فنحن لم نحسن عرض الإسلام! فربنا يقول لنا آية فى آخر سورة الحج : (وافعلوا الخير لعلكم تفلحون * وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس...) فالرسول شهيدا علينا، ها هو لن نستطيع أن ننكر، شهيدا علينا ! ص _162(2/166)
ولكن بالنسبة لـ : (شهداء على الناس) وقد تكررت في سورة البقرة ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا). أما عندما يعذب الله شخصا إنجليزيا أو طليانيا أو استراليا ويقول له: سوف ندخلك جهنم، لقد بعثت لك الأنبياء" فيقول لله: كلا، لم أر نبيا ولا أتباع النبى بلغونى أى شيء. لقد وصلت لهم القول، لكن هؤلاء حبسوا القول عنهم، ولا نعرف شيئا . فقلت له يابنى إننى متأكد أن هناك أناس من أمريكا، واستراليا سوف يخرجون من النار ويدخل بدلا منهم عرب! لأنهم فرطوا فى الإسلام، نحن الإسلام ربانا لنربى به الناس، ولكن التربية أيضا لها مؤهلات، أتريد يا عربى أن تكون أستاذا للعالم وأنت ليس لديك أى شيء!! أنت نفسك يا عربى لا تفهم الإسلام. أنت لا تفهم دينك . أقول لأحد الناس: عندما ذهبت لمسجد باريس سألنى شخص عن امرأة مسلمة تريد أن تتزوج قلت له"تعقد" هى تعقد على نفسها. قال لي: كيف نحن مالكية! قلت له: يا أخى هل النبى مالكي!! المذاهب كثيرة. أبو حنيفة يقول المرأة تعقد على نفسها والأوروبيات عندما يتزوجن، فمثلا إذا أرادت تاتشر أن تتزوج أقول لها: اذهبى فأحضرى والدك! يا أخى سبحان الله. الناس هناك، مستواهم العلمى جعل المرأة سيدة نفسها فى كل الأمور. فلماذا لا تأخذ مذهب أبو حنيفة الذى انتهى إلى الآية القرآنية التى تقول: (فلا جناح عليكم في ما فعلن في أنفسهن من معروف). وقال: ( حتى تنكح زوجا غيره). وعندما جاءت له بنت تشكوه وتقول له: أبى زوجنى من ابن عمى ليرفع به خسيسته وأنا له كارهة، فقال لها: الأمر إليك إن شئت أمضيت أمر أبيك وإن شئت فسختيه. فقالت أمضيت أمر أبي. ولكن فعلت هذا حتى يعلم النساء أن ليس للآباء من الأمر شيء. أبو حنيفة أخذ بهذا المذهب من المذاهب. فعندما أنشره فهو ملائم للفرنسيين تقول لي: كلا. توقف حال الإسلام، لكى تفتى بمذهب مالك أو الشافعي، لماذا؟ لتكن قريبا من الوضع الذى أنت(2/167)
فيه. ما معنى أن تقول لا بد أن تضرب بالنقاب على وجهها ! من أين أتيت بهذا؟ الأئمة الأربعة ليس لديهم نقاب، والمفسرون الكبار ليس لديهم نقاب، الألبانى الذى من أشد الناس تعصبا للسنة ذكر عشرة أحاديث لا تحتوى على نقاب، من البخارى ص _163
ومسلم وغيره، وأنا ذكرت عشرة أدلة فى كتابى بأنه لا يوجد نقاب. أما إذا أردت نقابا يخصك فأنت حر، لكن تذهب إلى أوروبا وتقول لهم " لا إله إلا الله، النقاب شرع الله" عندئذ سيقول لك: لا نريد دينك هذا ! إذن لماذا نضيع الإسلام بفقه مذهبى ضيق، فالأفضل أن نوسع الفقه، ولكنى أقول أن تترك النص، ولكن حيث اجتهد العلماء، اختر من الاجتهاد ما يصلح لك وأنت تبلغ الدعوة، لذا فنحن ما زلنا لا نعرف الإسلام . لقد قال لى أحد إخواننا فى دعوة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، إننى أخالف المذاهب الأربعة فى الفتوى. فقلت له: هل هذا حرام؟ قال: نعم حرام، قلت له ما رأيك فى ابن تيمية؟ قال: ابن تيمية الإمام الأعظم. فقلت له: وهو أيضا من الأئمة الكبار لكنه خالف الأئمة الأربعة. رفض طلاق البدعة وقبله الأربعة. فسكت. فقلت له: يا أخى ابن حزم يقول: المرأة يؤخذ رأيها فى الشهادة، فى الدماء والأموال والأعراض على سواء. فإذا رأت امرأة لصا يسرق من بيتها، وامرأة رأت أباها أو أخاها يقتل، نقول لها: كلا، أنت حمارة وليس لك رأى ولا شهادة. وقد ناقش هذا الموضوع، ابن حزم، وقال لا. قبلت شهادتها فى الدماء وفى الأعراض وأتى بخمسين رواية فى هذا الموضوع. ما هو المانع أن آخذ برأيه، أثناء نشر الإسلام فى أوروبا وأمريكا. لماذا ستوقفون حال الإسلام؟ هل الاجتهاد خطأ؟ كلا إنه مأجور. خطأ مأجور، فالخطأ له أجره. لماذا هكذا؟ كيف نخدم الإسلام بضيق العقل؟ كيف نخدم الإسلام بضيق العقل فى عرض الدعوة الإسلامية؟ لقد اضطررت كما قلت لكم أن أعود إلى دراسة الفقه مرة أخرى وأنا كاره. لماذا؟ لأن هوايتى الأدبية وهوايتى النفسية، أن أدرس(2/168)
العلوم الإنسانية وعلم النفس والاجتماع والتربية والفلسفة وعلم الجمال والآداب وعلوم كثيرة. أقرأ كثيرا جيدا. ولقد كنت أدخل كلية الشريعة ومعى "العهد القديم حتى جاءنى رجل دماغه مغلقة، صاحب منصب كبير، فقال لى ما هذا، فقلت له أعلم الأولاد الملل والنحل، حتى يعرفوا الديانة التى تحاربهم الآن كيف أنهم وضعوا أيديهم على بيت المقدس وفلسطين. فقال لى : لا تجوز هذه الطريقة، ولا يصح لهم أن يطلعوا على مثل هذه الأشياء، فقلت له: من سيطلع إذن؟ وقد ألغيت المادة، بهذا البلاء. فالقصة إذن لا بد أن نفهم الحقائق . ص _164(2/169)
هناك مسائل قانونية أسأل فيها، فرفضت أن أتقيد بمذهب، لأننى أنشر الإسلام ولست سمسارا للمذاهب الأربعة، ولكنى سمسارا للكتاب والسنة إذا صح التعبير، ولكنى أختار من الفقه ما يساعده على دخول الإسلام فى قلب هذا الرجل . خبرنى بالله العلى العظيم، عندما أقول لشخص، نحن نتكلم فى حقوق الإنسان: يا أخى نحن الذين اقترحنا هذه الحرية، ففى مذهبكم الكاثوليكى لا يتزوج بروتستانية، ولكن الإسلام يقول إن المسلم يتزوج يهودية أو نصرانية، فلا بأس من هذا.. لا إكراه فى الدين. وعندئذ أجد شخصا يأخذنى على انفراد- وهو من الخليج، ويقول لي: يا أخى هذه الآية منسوخة، قلت له: "لا إكراه فى الدين" منسوخة؟ قلت له: قطع الله دابرك ودابر من نسخها . الله سبحانه وتعالى يقول لنبيه: (أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) وفى عهد نوح، نوح يقول لهم: أنا لا أكرهكم على ديني، ثم بعد هذا نقول إن الإسلام يكره على الدين!! ومتى أكرهنا على الدين ؟ الأمة في حاجة إلى أهل فقه، الله سبحانه وتعالى يقول: ( فاسألوا أهل الذكر). وليس اسألوا أهل البلاهة والبلادة. (لعلمه الذين يستنبطونه منهم) فالفقه له رجال، ولا يمنع أن بعض الناس عظيم جدا، فسيدنا داود عظيم، ولكنه عندما أراد أن يفتى في القضية أو يحكم فيها، حكم حكما. وقد بعث الله سليمان، وقال فيه: الحكم هذا ليس جيدا. ونزلت الآية: ( ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما) إذن فالناس لهم قدرة عقلية على الفهم والاجتهاد. وهذه هى الواجبات التى تحكم فى قضايا الخلق، وتقود الأمم، فالأمة الإسلامية ليست أمة لنفسها ولكنها أمة للعالم كله، ولقد أحصيت اثنتى عشرة آية فى القرآن الكريم نزلت تؤكد عمومية الدعوة الإسلامية. وعندما أحصيت الآيات ذكرت متى نزلت فوجدتها كلها نزلت فى مكة، أى فى الأيام التى كان فيها الإسلام سجينا، يحاول أن ينطلق من الوثنية التى ضيقت عليه آفاق الأرض وحبسته، فى هذا الوقت نزلت آيات كلها تفيد(2/170)
عالمية الدعوة. وإننى أقول فى القرآن المكي، ردا على بعض المستشرقين الذين قالوا كاذبين، إن محمدا مرسل للعرب وحدهم. وهناك كاتب شيوعى قال هذا الكلام فى مصر ولا أدرى إذا كان قد قاله هاهنا أم لا. قال هذا الدين للعرب وللعروبة فقط!! هذا الكلام فارغ وساقط. الإسلام هو أساسنا وشرفنا. فالمستشرقون يقولون أن هذا الدين للعرب ص _165
وأغراه النبى - صلى الله عليه وسلم - النجاح بالنجاح وأغراه الانتصار على العرب بأن يفتح ما وراء البلاد العربية!! كلا هذا لم يحدث، فمات النبى - صلى الله عليه وسلم - والإسلام ما زال فى مكة وفى الجزيرة، وأهله الذين تربوا على يديه وتلامذته هم الذين قادوا الإسلام للعالم كله تنفيذا لوصايا القرآن الكريم . يوم أن تكون داعية للإسلام ويسمعك من يراك دونه عقلا، دونه علما، دونه خلقا، دونه مستوى حضاريا، فإنه لن يستمع إليك ولن يحترمك، فالأستاذية لها مؤهلات ولها خصائص . وهل هذا وقع عندما كان الفرس والروم والمصريون هم قادة العالم يومئذ والعرب ما زالوا متخلفين!! قال: لا، إن الإسلام نقلهم نقله هائلة. فمثلا فلسفة الحكم فى الروم أو الفرس، هل كانت تعرف كلمة عمر ابن الخطاب لوليه على مصر: (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا) لم تعرف هذه الفلسفة. هل كانت تعرف كلمة عمر: (لو عثرت بغلة فى العراق لحسبت عمر وهو فى المدينة مسئولا عنها لِمَ لَمْ يسوِ لها الطريق). فلسفة الحكم بهذا المعنى لم تعرف إلا فى العصر الحاضر أو فى عصر الخلافة الراشدة. هل كانت تعرف كلمة عمر: (لو عزت لهم ليصلن الراعى فى صنعاء حقه أو حظه من هذا المال)، هذه فلسفة لا يعرفها الروم ولا الفرس . إن البدوى كان أعلى مستوى من رستم ومن الفرس عندما قال: جئنا نخرج الناس من ضيق الأديان إلى سعة الإسلام، جئنا نخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله الواحد. فقد جاء بحقوق الإنسان وكرامات الشعوب. هذا هو الفقه الإسلامى فى أوله.(2/171)
وضربت مثلا ولكن بعض الناس قد استغربوا. ولم أكن أنا الذى عملته، ولكنه "ابن عابدين" الفقيه الحنفى المتأخر يقول: إذا وجد لقيط وقال ذمى هو ابني، وكان الذمى حرا، وقال المسلم هو عبدي، ألحقنا نسبه بالذمى ليكتسب الحرية، قلت إن هذا دين يعمل ضد نفسه لأنه يعتنق الحرية!! هذا هو فقهنا الإسلامى الحقيقي. ولكن أين الفقهاء الآن؟ ولكنى أكاد أجن لأن هناك أزمة طاحنة فى الدعاة، وأزمة طاحنة فى الفقهاء، وأزمة المثقفين المسلمين أزمة كبيرة جدا. وأسأل الله لى ولكم التوفيق وأن يعيننا على خدمة ديننا وأن يجعلنا أهلا لهذه الدعوة ولهذه الرسالة.. وصلى الله على محمد وآله.. ص _166(2/172)
فى النظام العالمى الجديد.. القوى يأكل الضعيف ويستمر الحوار مع فضيلة الشيخ محمد الغزالى ذلك الحديث الشامل الذى أخذناه منه قبيل وفاته رحمه الله بزمن قصير، ولا ننسى هنا حرص فضيلته على مجلة الدعوة وسؤاله عن أحوالها وعن أوضاعها وحرصه رحمه الله أن يخصها بهذا الحوار الشامل الطويل.. وقد تحدث فى الجزء الأول من حوارنا معه عن واقع الدعوة الإسلامية وسبل تطويرها.. واستنكر مهادنة بعض المسلمين لأعداء الإسلام على حساب دينهم وكرامتهم، ووصف حال المسلمين الآن بأنه واقع مظلم، وقال إن العنف والتطرف نتيجة طبيعية للجهل بالدين وضعف الدعوة بسبب إقحام المدعين وأنصاف المتعلمين عليها . وفى هذا الجزء من حوارنا معه يحذر الشيخ الغزالى من التيارات الإلحادية وحملات التنصير، ويؤكد على أهمية إحياء الولاء لله والانتماء للأمة. وحذر الشباب من أن يستكبر برأيه، وقال إن الاستكبار بالرأى رذيلة.. وأيضا يتحدث الشيخ عن الأقليات المسلمة، وما أسماه "وهم" النظام العالمى الجديد فإلى التفصيل. التيارات الإلحادية: * يتكالب الأعداء على الإسلام، وينشط أدعياء المذاهب الوضعية لاستقطاب المسلمين.. فما السبيل للمواجهة ؟ - لا ينبغي- والحال على هذه الصورة من تكالب الأعداء على الدين- أن يفوت دعاة الإسلام ضرورة دراسة الفرق والتيارات المعادية بجوار دراسة الإسلام فى معارفه القديمة والحديثة دراسة واعية وجادة يقفون من خلالها على الأسباب التى جعلت تلك الفرق والتيارات تكسب مساحات من الأرض، وتستحوذ على آلاف العقول. ومن ثم يمكن التصدى لها . ومع دراسة كل تلك الفرق دراسة موضوعية فإنه بإمكاننا أن نعرف كل ما يراد بنا وما يحاك لنا ومن ثم يسهل على المسلمين دفع المخاطر عن أمتهم . لكن من المؤلم أن بعض دعاة الإسلام لا يدرى شيئا فى كثير من القضايا المعاصرة، ولذا فهو يتوقف عن الأخذ بالجديد الذى يصل إليه علماؤنا المخلصون من ص _167(2/173)
خلال جهودهم ودراساتهم وبحوثهم، ومن ثم يقف هذا البعض عند معارفه القديمة التى يرددها دون أن يستخلص منها النافع للأمة فى هذا الوقت الذى تواجه فيه بمناهج اقتصادية واجتماعية وسياسية انتفعت بكل ما وصل إليه البشر من معارف حديثة . الثقافة القديمة والحديثة * معنى ذلك أن الداعية فى الوقت الحاضر لابد له من مواصفات محددة، وهو يختلف عن سلفه الماضى ؟ - الداعية المعاصر يجب أن يقبل على تفهم حقيقة الدين الإسلامى الذى يحمل أمانة الدعوة إليه بين البشر من مختلف الألوان والأجناس والألسنة.. وعلى الدعاة أن يجتهدوا فى تكوين اتصالهم الفكرى والعاطفى بالقرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، وإدراكهما إدراكا صحيحا . ولا يكون داعية ناجحا من لا يبذل قصارى جهده فى أن يكون طالب علم طوال أيام عمره. فالغوص فى الثقافة الإسلامية سواء القديمة أو الحديثة أمر لا غنى عنه لأى داعية.. والثقافة الإسلامية القديمة أعنى بها نتاج علمائنا من السلف الذين نهلوا من مختلف المعارف الدينية والتجريبية وتركوا لنا تراثا هو مفخرة الثقافات كلها . أما الثقافة الإسلامية الحديثة فاجتهادات علماء الإسلام المعاصرين ممن استفادوا بشكل طيب من مختلف التجارب التى خاضها المسلمون فى الماضي، ومن تاريخ العلوم الدينية والعلوم الإنسانية.. وهذا كله من الضرورات بالنسبة لدعاة هذا العصر حتى يواجهوا تحدياته العلمية وقضاياه التقدمية. الولاء للأمة * أكدتم فى كثير من كتاباتكم على أهمية إحياء الولاء لله والانتماء للأمة فى نفوس المسلمين إعلاء لراية الإسلام وتوحيدا للصف؟ فكيف ترون الطريق الأمثل لبلوغ هذا الهدف ؟ - المؤسف أن تهمة عدم الانتماء أصبحت ظاهرة فى الأمة الإسلامية وأن ضعف الولاء للإسلام جعل بعض أبناء المسلمين يخرجون على أهليهم زاعمين أن العودة إلى أحكام الإسلام نوع من الرجعية أو التخلف أو الانهزامية النفسية إلى غير ذلك من العبث الفكرى الناتج عن التشويش(2/174)
المتعمد ضد تعاليم الدين . ص _168
والمؤسف أيضا أن المسلمين فى حاضرهم تشغلهم قضايا مصطنعة ودخيلة دستها عليهم أيدى أعدائهم عن العناية بقضاياهم المهمة التى تحتاج منهم للرعاية والجهد لضمان مستقبل مشرق لأمتهم. ومن ذلك رعاية متطلبات التربية الإسلامية الصحيحة للأجيال الجديدة، بغية إيجاد وتكوين أجيال صادقة فى علاقاتها بربها سبحانه وتعالى وبدينه الحنيف، وموطدة لعلاقاتها بمجتمعاتها عن طريق الولاء الكامل والانتماء الواعى للمسلمين كأمة تدين لله الواحد سبحانه وتعالي، وتربطها علاقة واحدة، وتاريخ واحد، وهدف واحد، ومصير واحد . ولعل أهم خطوات العلاج المنشود تتمثل فى توجه المسلمين للتعرف الكامل والدقيق على حقيقة وحجم ما أصابهم من نكبات وآلام ومصائب، حتى يتسنى لهم أن يختاروا من الأساليب والوسائل والمناهج ما يصلح لتنشئة الشباب والأجيال الجديدة على قيم الإسلام وتعاليمه السمحة. وأؤكد على ضرورة العناية بتربية النشء داخل المجتمعات الإسلامية، وحبذا لو أعدت مناهج تعليمية، وخطوات، وبرامج يمكن أن تتعهد الناشئة ورعايتهم فى مختلف سنى أعمارهم. والقدوة الصالحة ضرورة لتخليص الشباب من تخبطهم وحيرتهم . أنصاف المتعلمين * بمناسبة تنبيه فضيلتكم على ضرورة القدوة للشباب، ما رأيكم فى تلك الجماعات التى تستقطب الشباب وتؤسره بفكرها وآرائها ورفض فكر ورأى الآخرين؟ - هذا يرجع إلى ترك المجال فى الدعوة الإسلامية لأنصاف المتعلمين الذين يهملون القضايا الأساسية أو يجهلونها، ويحدثون مجازر من أجل قضايا فرعية، مما أصاب الإسلام فى مقتل . والمعروف فى الإسلام أن العصمة صفة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أما بقية البشر فمن طبائعهم الاختلاف فى الرأي، واحتمال الصواب والخطأ لهذا الرأى .. ولا يقبل من أحدهم أن يؤكد أن رأيه هو الصواب ولا يحتمل الخطأ، ولكن يمكن أن يناقش ويأتى ببرهانه ليثبت أن الحق معه.. ولا يجب أن يستكبر أحد برأيه،(2/175)
فالاستكبار بالرأى رذيلة فى الأخلاق، ولو علم الناس أنهم إنما إذا أصابوا فهذا بفضل الله وتوفيقه، وإذا أخطئوا فهذا بضعف نفوسهم وغلبة الشيطان لهم، فإذا علموا هذا ص _169
استكانوا إلى الله وتواضعوا وقد أمر الله نبيه ( قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربي إنه سميع قريب) فلنبحث عن الحق، ونتمسك به، وإذا هدانا الله إلى علمه فيكون بتواضع، دون غرور، ودون إهانة للآخرين . وهم النظام الجديد * فى إحدى ندواتكم الفكرية قلتم أن ما يحدث فى العالم الآن ليس نظاما جديدا.. والنظام العالمى الجديد وهم لا وجود له، فما هى وجهة نظركم.. وكيف ترى مستقبل العالم الإسلامى فى ظل هذا "الوهم" ؟ - أعود وأؤكد أنه لا نظام عالمى جديد، فالنظام لم يتغير، لأن القوى مازال يسود، والضعيف لا حقوق له، ومازال أعداء الإسلام يتربصون به ويحيكون المؤمرات لإبادته وتنصير معتنقيه، ولكن هناك (آخر) ولا بد من التعامل معه.. والسؤال يكون كيف نتعامل مع هذا الآخر.. وما هو مستقبل العالم الإسلامى فى ظل هيمنة الآخر؟.. وهذه قضية خطيرة جدا لأن هذا الآخر هو الدائرة التى أدعو فيها إلى ديني.. وهو أيضا الذى يحارب ديني.. فالإسلام ليس دينا للعرب وحدهم أو لأفريقيا وآسيا فقط، وإنما هو دين للعالمين جميعا . والمطلوب فى التعامل مع الآخر هو حوار العقل والفكر. والاقتراب منه، لهذا لا يجب أن أبدأ معه بقضايا ثانوية، ولكن تكون قضيتى الأولى معه هى وجود الله. وما يستحقه الإله العظيم من عبادة وتكبير وإجلال، وما ينبغى له وكيف نقترب منه ونسترضيه.. وكيف نستعد للقائه. وهنا سنصل معهم خطوة خطوة إلى معنى كلمة (لا إله إلا الله) التى ندعوهم إليها، وإذا أردنا أن تصل دعوتنا إليهم، لابد أن نحسن معاملتهم كما يجب وكما أمرنا ديننا الحنيف. وأن ندعوهم بالحكمة والموعظة، والحجة والإقناع. الأقليات المسلمة * وماذا عن الأقليات المسلمة ؟ - وضع الأقليات(2/176)
الإسلامية فى العالم وضع سيئ للغاية، فثمة تعذيب واضطهاد وإبادة يعانى منها المسلمون فى كثير من الدول حتى الدول التى ترتبط بعلاقات طيبة ص _170
مع الدول العربية والإسلامية.. وللأسف فإن الأقليات المسلمة هى وحدها المقصودة بالاضطهاد والتعذيب والإبادة فى بعض المجتمعات كما يحدث للمسلمين فى الهند. والفلبين وبورما والبوسنة.. وغيرهم فى حين أن الأقليات النصرانية واليهودية وحتى البوذية، والذين لا دين لهم يعيشون فى أمن وسلام سواء داخل المجتمعات الأوروبية أو المجتمعات الإسلامية ويحصلون على حقوقهم كاملة، بينما تحرم الأقليات المسلمة من معظم حقوقها وتعامل معاملة شاذة وغير مقبولة . إن مناصرة الأقليات المسلمة فى كل دول العالم واجب الحكومات الإسلامية . كما أن المؤسسات والجامعات الإسلامية مطالبة بدراسة أوضاع الأقليات المسلمة فى كل دول العالم وتقديم العون المناسب واللازم لها . ولا يفوتنى بهذه المناسبة أن أشكر خادم الحرمين الشريفين حكومته الرشيدة وشعبه المؤمن على الجهود المبذولة من أجل الأقليات وأدعو بقية الدول والحكومات لحذو هذا الحذو. فالمملكة قدمت الشيء الكثير للإسلام والمسلمين ويكفى أنه البلد الإسلامى الأوحد الذى يطبق أحكام الشريعة ويلتزم بها كاملة اليوم ونحن نقدر للمملكة هذا الدور الإسلامى الرائد الكبير . فضيلة الشيخ: ماذا عن التفسير الموضوعى الذى تقوم به لتفسير آيات القرآن الكريم؟ - الهدف منه أننى أريد تقديم تفسير موضوعى لكل سورة من سور القرآن الكريم، وأنا أحاول أن أقدم تفسيرا لمقدمة السورة وآخرها بشكل مترابط.. صورة موضوعية للسورة ككل.. فهو تفسير موضوعى وليس موضعيا ركزت فيه على وحدة الموضوع فى السورة وإن كثرت قضاياها.. * وهل هناك هدف محدد من وراء هذا التفسير الموضوعى للسور ؟ ! - لقد شعرت أن هناك حاجة من المسلمين إلى هذا النوع من التفسير، فقد صحبت القرآن منذ طفولتى فحفظته منذ نعومة أظفارى فى(2/177)
الكتاب بقرية نكلا العنب، ومازلت مداوما على تلاوته بانتظام ولله الحمد وأنا على مشارف العقد الثامن من العمر ووجدت أن ما أقتبس من معانيه قليل وأن وعيي لا يتجاوز المعانى القريبة، وشعرت بالتقصير تجاه كتاب الله وحاولت أن أبذل جهدى فى إتمام هذا التفسير. ص _171
* وهل هناك من سبق فى وضع تفسير موضوعى لكتاب الله؟! أنا لست مخترعا لهذا التفسير فهناك محاولات سابقة بدأها فضيلة الشيخ عبدالله دراز- عليه رحمة الله- وألف كتابا أسماه "النبأ العظيم" تناول فيه سورة البقرة على أنها موضوع واحد، وقد أعجبنى هذا التفسير فتأسيت به.. * وهل يغنى التفسير الموضوعى عن غيره من التفاسير؟! - من قال ذلك، هذا التفسير لا يغنى عن غيره فهو يتكامل مع التفسير الموضعى للسور والآيات، الجميع يكمل بعضه البعض.. * حذرت كثيرا من تقصير المسلمين تجاه كتاب الله لماذا؟! - إنه لأمر غريب، القرآن الكريم كتاب الله الذى أحيا أمة من العدم تحول لدى بعض المسلمين إلى كتاب للموتى يقرأ فى الجنائز أو يوضع على تابلوهات السيارات للزينة أو على أرفف المكتبات والعياذ بالله هجران له وفوق ذلك بدع وخرافات، فى حين أن القرآن نزل ليقرأ والقراءة فى جميع اللغات تعنى الفهم والتدبر والعمل بما نفهم. كما أنه دستور ومنهج، ولننظر إلى تاريخنا الناصع عندما قرأ العرب الأوائل كتاب الله وفهموا معانيه وتدبروه وعملوا به تحولوا إلى أمة تعرف الشورى وتكره الاستبداد.. أمة يسودها العدل الاجتماعى وتنبذ التفرقة العنصرية.. فالقرآن يبنى الشعوب ويصون النفوس ويصنع الحضارة.. فى العالم الآن 5 مليارات من البشر محجوب عنهم نور القرآن الكريم لأن المسلمين أنفسهم محجوبون عن هذا النور وفاقد الشيء لا يعطيه. المؤسسات الإسلامية * فضيلة الشيخ.. نجد فى العالم الإسلامى من يوجه سهام نقده السام إلى المؤسسات والمراكز والهيئات الإسلامية العاملة على الساحة.. فكيف ترون دور هذه المؤسسات؟! - إنه(2/178)
لأمر محزن أن نجد من يتطاول على هذه المؤسسات الدعوية التى تحمل هم الدعوة وللأسف بعض هؤلاء يحملون أسماء إسلامية، ولا نجدهم يتعرضون للدور التنصيرى الذى تقوم به الكنائس.. المؤسسات الإسلامية لها دورها فى الصحوة الإسلامية ولها نشاطها فى التوعية والتوجيه والإغاثة، فقد يكون بعضها مقصرا لأسباب مادية أو محدودة الدوائر لأسباب مختلفة.. إننا نريد أن نعين ونساعد هذه المؤسسات على أداء دورها .. ص _172
القمة.. والقاع * تجولت فى البلاد الإسلامية وفى الكثير من بلدان العالم واجتمعت مع أبناء المسلمين فى بقاع شتى وشاركت فى منتديات ولقاءات ومؤتمرات تتعرض لأوضاع المسلمين ترى هل توصلت إلى السبب الحقيقى وراء تخلف المسلمين بصفة عامة ؟ ! - نحن أمة لنا تاريخ طويل، وحضارة كبيرة، لقد لاحظت أن تخلف المسلمين أولا يعود إلى بعدهم عن تاريخهم وعن إسلامهم وعن عقيدتهم ومحاولتهم أن يتلمسوا ما عند الغير ليكون سببا فى نهضتهم ويتركون دستورهم القرآن.. أمر محزن.. نحن أمة تاريخها الحضارى عجيب فالخط البيانى قد يرتفع إلى القمة وقد يهبط فجأة إلى القاع.. إننا مطالبون أن نحكم كتاب الله فى شتى أمورنا ولا نأخذ منه ما يرضى حالتنا ونترك ما لا نريده، لا بد من التطبيق الشامل .. القدس.. والأقصى * إسرائيل أعلنت أن القدس الموحدة عاصمة أبدية لها والمحاولات لهدم المسجد الأقصى مستمرة ومشاعر المسلمين فى جانب وما يدور فى الدهاليز من مؤامرات حول المسجد الأقصى وقبة الصخرة فى جانب آخر.. ففى ظل "مرحلة الهرولة" كيف يستعيد المسلمون المسجد الأقصى ؟ - عندما يستعيد المسلمون حكمهم لأنفسهم ويحكمون بكتاب الله وسنة رسول الله، وعندما يصبحون أهل شرف وقدوة وينتجون ما يستهلكون ولا يعيشون عبثا على الغير، وعندما يصبحون أهل شرف وقدرة على أداء حقوق الله عندئذ فإن الله سوف ينصرهم.. ولكن علينا أن نحاول بكل ما نستطيع استعادة القدس .. وعندما تكون القدس محتلة(2/179)
والمسجد الأقصى أسيرا يظل الجهاد فرض عين على كل مسلم فلا يمكن أن نقبل سلاما دون القدس .. خطوطنا الدفاعية * فى عصر الأقمار الصناعية والبث الفضائى ومحاولة الغرب فرض ثقافته وسلوكياته على العالم الإسلامى ألا ترى أن هناك خطرا على المسلمين ؟ ! - الغرب يعلن الحرب على الإسلام، والغزو الثقافى لديار المسلمين مستمر ومع انتشار الوسائل الحديثة والتقنية فى علوم الاتصال فالغزو يزداد قوة، ولابد من المواجهة.. مواجهة هذا الغزو بكل قوة فكريا وعقديا وتربويا.. إن خطوطنا الدفاعية ص _173(2/180)
مهددة من الداخل من قبل العلمانيين والشيوعيين والمستغربين الذين يريدون ثقافة وفكر الغير يتحكم فينا ومن الخارج من الغزو الفكري.. إننى أشعر وأحس أن خطوطنا الدفاعية مهددة من خلفها وأن المؤامرات تحاك على الإسلام من كل جانب وأمة الإسلام غافلة وأن هذه المؤامرات أخذت أبعادا جديدة.. لقد وهنت قوى المسلمين بسبب الضربات الشديدة التى وجهت إلى العالم الإسلامي- ثقافية وسياسية واقتصادية وعسكرية- ومع ذلك سيبقى الخير فى هذه الأمة بإذن الله . المستقبل للإسلام * البعض يرى أن عقد التسعينات شهد انحسارا للصحوة الإسلامية وهناك من قال أن الصحوة الإسلامية فى حالة جزر فهل هذا صحيح ؟! - هذا كلام غير صحيح فإذا كان هناك من يتخيل أن الصحوة الإسلامية فى حالة جزر فهم واهمون فلا أمل فى المسلمين بدون الإسلام.. والصحوة الإسلامية هى معبر المسلمين إلى القرن الحادى والعشرين والذين يقولون بأن الصحوة الإسلامية فى حالة جزر يدللون بذلك على الضربات التى وجهت لأبناء المسلمين فى أماكن شتى ولكن الصحوة الإسلامية ستستمر فى الصعود بإذن الله.. وسيكون القرن القادم قرن الإيمان.. وقرن الإسلام بعد نهاية الشيوعية وبداية تفكك المادية الرأسمالية . حروب الغزالى *دخلت فى حروب شتى مع العلمانيين ومع المنصرين والدور التخريبى للكنيسة ومع الشيوعيين وصرت مصنفا فى القائمة السوداء لهؤلاء جميعا فهل لازلت فى حرب معهم ؟ ! - إننى أسأل الله عز وجل أن أكون على الحق وأدعو له، أنا مع الإسلام ومع القرآن ومع السنة.. ولا يهمنى إن كان النصارى أو اليهود أو الشيوعيون وغيرهم من الملاحدة يصنفوننى فى أى قائمة .. أنا همى الإسلام والدعوة إلى الله وكشف أباطيل هؤلاء ضد الإسلام.. فماذا يكسب النصارى من سياساتهم الحاقدة التى ينتهجونها ضد المسلمين، إنهم يريدون تمويت الإسلام ومخاصمة أهله وتكريس العمل التنصيرى فى ديار المسلمين .. * فضيلة الشيخ، أمنية تريد أن تتحقق ؟(2/181)
! - أن أرى المسلمين وحدة واحدة، وديارهم مستقرة، وأرى جميع المسلمين يعودون إلى دين الله . ص _174
عالمية الرسالة بين النظرية والتطبيق كان الوحى الإلهى قديما، يتخير بقاعا من الأرض لينزل بها، كما ينزل الغيث فى مكان دون مكان. لكن بعثة محمد عليه الصلاة والسلام كانت نقلة جديدة بالعالم كله، وتحولا فى حركة الوحى الإلهى على ظهر الأرض، إذ جاءت الأخيرة لكل بشر يعقل ما يسمع... ثم هى قد صحبت الزمان فى مسيرته، فإذا انتهى جيل من الناس، فإن الجيل الذى يليه، مخاطب بها، مكلف أن يمشى فى سناها. والإجماع معقود بين المسلمين على عموم الرسالة وخلودها، ونريد أن نلقى نظرة على الآيات التى دلت على عالمية الرسالة لنستخلص منها حكما محددا. قال تعالى فى سورة التكوير: (فأين تذهبون * إن هو إلا ذكر للعالمين * لمن شاء منكم أن يستقيم) وقال فى سورة القلم: (وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون * وما هو إلا ذكر للعالمين) . وقال فى سورة سبأ: ( وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا ولكن أكثر الناس لا يعلمون). وقال فى سورة الفرقان: (تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا) . وقال فى سورة الأنبياء: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) . وقال فى سورة يوسف: (وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين * وما تسألهم عليه من أجر إن هو إلا ذكر للعالمين) . وقال فى سورة الأنعام: (وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ) . ص _175(2/182)
وقال أيضا فى السورة نفسها : ( أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده قل لا أسألكم عليه أجرا إن هو إلا ذكرى للعالمين). وهذه الآيات كلها مكية، أى عالمية الرسالة تقررت منذ الوحى وفى الأيام التى كانت الدعوة فيها تعانى الأمرين . كان القرآن يقرر أنه رسالة للعالم كله، فى الوقت الذى كان فيه أهل مكة يستكثرون أن يكون محمد - صلى الله عليه وسلم - رسولا لهم وحدهم ! ولم تنزل بالمدينة آية تتحدث عن هذه العالمية، اكتفاء بما تمهد فى صدر الدعوة، إلا آية واحدة من سورة الأحزاب هى قوله جل شأنه: (ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين). وختم النبوة تقرير لهذه العالمية، فإن القارات الخمس إلى قيام الساعة لن يطرقها من السماء طارق، ولن يجيئها من عند الله رسول، وسيبقى كتاب محمد- صلى الله عليه وسلم - وحده، صوت السماء بين الناس، الى أن يحشدوا للحساب فيقال لهم : ( لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث ولكنكم كنتم لا تعلمون) وآية ختم النبوة، صدقتها الأيام المتتابعة، فها قد مضت أربعة عشر قرنا، وما نزل من السماء وحي. وقد حاول الاستعمار الأوربي أن يضع يده على مخبول فى الهند، وآخر فى إيران، ليصنع منهما أنبياء يكابر بهما نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - وهيهات هيهات ! فإن الأوروبيين أنفسهم احتقروا الرجل الذى صنعوه، فما تبع أحدهم نبى الهند، ولا نبى العجم، وبدأت اللعبة تتكشف ويفر عنها المستغفلون! . إن الصباح العريض الذى بزغ مع رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم -، سوف يظل وحده النور الذى يغمر العالم ويملأ الأفق، إلى أن يأذن الله بانتهاء الحياة والأحياء . وإنما لفتنا النظر إلى أن الآيات الناطقة بعالمية الرسالة مكية، كى ندحض فرية لبعض المستشرقين، الذين زعموا أن محمدا - صلى الله عليه وسلم -، بدأ عربى الرسالة، معنيا بقومه وحدهم، فلما نجح فى إخضاعهم، أغراه النجاح بتوسيع دائرة الدعوة، فزعم(2/183)
أنه للخلق كلهم! وهذا تفكير متهافت بين السخف، فقد رأيت بالاستقراء، أن عالمية الرسالة، تم التصريح بها فى أوائل ما نزل من الوحى ! ثم نسأل: متى خضوع العرب لمحمد - صلى الله عليه وسلم - حتى يغريه النجاح بمزيد من التوسع؟ إن مكة التى طاردته، لم تفتح له إلا قبل الممات بسنتين اثنتين، فأين استقرار النصر، والتطلع إلى إخضاع الدنيا، وهو لما ينته من الجزيرة العربية نفسها ؟؟ ص _176
إن هذا الفكر الاستشراقي، لم يلق حفاوة من عاقل، ولذلك نخلص منه، لنقرر حقائق أخرى، نابعة من هذه الحقيقة المؤكدة، إن محمدا رسول العالم من رب العالمين، وأول ما نقرره، أن هذه الصفة، انفرد بها محمد عليه الصلاة والسلام، فكل الأنبياء من قبله محليون، رسالتهم محدودة الزمان والمكان. ابتداء من آدم إلى عيسى. والنصارى يرون أن رسالة عيسى عالمية، وينطلقون بها فى كل مكان، ليبلغوها وينشروها، ونحن نحب نبى الله عيسى، ونعتقد أنه رسول حق إلى بنى إسرائيل خاصة ( وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد...). على أن النصرانية، التى تشيع بين الناس اليوم، وتساندها قوى كثيرة، تخالف رسالات السماء كلها، إذ هى فلسفة، تجعل من عيسى إلها، أو شبه إله، يرسل الرسل، وينزل الكتب يغفر، الذنوب، ويحاسب الخلائق . والنصرانية بهذا المفهوم المستغرب لا يعنينا أن تكون عالمية أو محلية لأنها شيء آخر غير ما ينزل به الوحى على سائر الرسل، قال تعالى لنبيه محمد : ( وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون) إن هذه النصرانية الجديدة، لا تتصل بعيسى الذى مهد لمحمد - صلى الله عليه وسلم -، كما لا تتصل بعيسى الذى بلغ تعاليم إبراهيم وبنيه، ومن ثم فهى فى نظرنا منهج بشرى مستقل، بأفكاره عما قبله وعما بعده ورسل الله، يصدق بعضهم بعضا ويمهد السابق للاحق ما استطاع. ورسالة(2/184)
محمد - صلى الله عليه وسلم - أقامت مفهوم العالمية فيها على أن الدين واحد من الأزل إلى الأبد، وأن الأنبياء أخوة فى التعريف بالله، والدلالة عليه، واقتياد البشرية إليه.. وأن القرآن الكريم جمع فى سياقه الباقي، كل ما تناثر على ألسنة النبيين من عقائد وفضائل ولذلك، فإن الإيمان بهم جميعا مطلوب، والكفر بأحدهم، انسلاخ من رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - نفسه. ومن الطبيعى أن تبدأ الرسالة عملها فى بقعة ما من أرض الله وقد شرع النبى العربى محمد - صلى الله عليه وسلم -، يعلم الأميين عبدة الأوثان، ويرشد الحائرين والجاحدين من أهل الكتاب، وبعد تسعة عشر عاما من الدعوة الدائبة استطاع أن يظفر من الوثنية الحاكمة بحقه فى الحياة، وحق من يتبعونه فى العيش بدينهم والتجمع عليه. ص _177(2/185)
عندما نال هذا الحق، فى معاهدة الحديبية، وأصبح له موضع قدم يستقر فيه، ويدعو منه، أخذ يرسل إلى أهل الأرض يبلغهم الحق، ويفتح عيونهم على سناه . ومن أهل الأرض يومئذ؟ الروم غربى الجزيرة وشمالها. والفرس فى الناحية المقابلة، وحكام آخرون، يعيشون فى جوارهم، أو يدورون فى فلكهم . هل كان وراء الرومان من يفهمون الخطاب شمالى أوروبا أو وسطها؟ أو وسط أفريقيا وجنوبها؟ كانت هناك قبائل السكسون، والجرمان، والعدالة، والوندال، وقبائل أخرى مشابهة لها فى إفريقية، وكانت هناك وراء الفرس، شعوب جاء وصفها فى قصة ذى القرنين فى القرآن الكريم بأنهم لا يكادون يفقهون قولا وعلى أية حال، فإن النبى المبعوث للعالم أرسل إلى إمبراطور الروم وملك الفرس، وحاكم مصر ونجاشى الحبشة، وإلى الأمراء المنتشرين حول الجزيرة العربية يدعوهم إلى توحيد الله، واعتناق الإسلام لعله، بدأ بالجيران الذين يلونه فبلغ أمر ربه، حتى إذا أتم هدايتهم تجاوزهم إلى من يلونهم من أجناس البشر . أو لعل الفكر البشرى فى هذه الآونة لم يبلغ درجة الوعي، وأهلية الخطاب إلا فى هذه البقاع المتحضرة التى ظهرت فيها جمهرة الرسالات السماوية من قديم . على أية حال، فإن اليقظة الإنسانية التى بدأت فى جزيرة العرب ما كانت نهضة جنس متفوق، ولا طماح زعيم متطلع، بل كانت حركة قبيل من الناس، اختارتهم العناية العليا، ليربطوا جماهير البشر بالله الواحد، وليسيروا فى هذه الدنيا، وفق هداه لا وفق هواهم: ( كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد * الله الذي له ما في السموات وما في الأرض وويل للكافرين من عذاب شديد ). وأكذب الناس على الله وعلى عباده، من يزعم الإسلام طورا من أطوار البعث العربي، إن هذا الكلام، لا يساويه فى الرخص والغثاثة إلا ما تضمنه من إفك وتضليل، فإن محمدا عليه الصلاة والسلام رفض رفضا باتا أن يكون للعرق، أو اللون أو القوة. أو(2/186)
الثروة، أى رجحان فى موازين الكرامة الإنسانية، والمحور الذى دار عليه الإسلام، هو التوحيد فى العبادة، والتشريع، وإخلاص الوجه لله: ( وتمت كلمت ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته) وقد قلنا، ولا نزال نقول: إن الله تعالى ربى ص _178
محمدا عليه الصلاة والسلام ليربى به العرب وربى العرب بمحمد عليه الصلاة والسلام ليربى بهم الناس، فرسالة العرب أن يكونوا جسورا لهدايات السماء، وأن يعلموا الخلق ما تعلموه من الخالق. وإذا كانوا تلامذة لخاتم الرسل، فهم بما درسوا أساتذة للشعوب الأخرى تتلقى عنهم وتستضيء بهم. وهذه المكانة للأمة العربية مكانة عالية حقا، بيد أنها لا تقوم على الدعوى بل على البلاغ، ولا تقوم على البطالة، بل على التضحية، وذلك معنى قول الله تبارك اسمه: ( هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير ). وقد قامت دولة الإسلام بدورها العالمى هذا على عهد النبوة، وأيام الخلافة الراشدة، وتدافع التيار الى مداه أيام الأمويين، والعباسيين، والعثمانيين، وإن كان هذا التيار قد شابه من الكدر والدخن ما أزرى به وحط قدره حتى توقف آخر الأمر! والمسلمون فى هذا العصر يكادون يجهلون أن لهم رسالة عالمية، بل إن حياتهم وفق شرائع دينهم وشعائره موضع ريبة وقد تكون موضع مساومة ! وأذكر أن حوارا دار بينى وبين الأستاذ "على أمين" بعد ما كتب يستنكر أذان الفجر ويزعم أنه يزعج النيام المستريحين (!) قلت له: إن إيقاظ الناس للصلاة مقصود قصدا وفى أذان الفجر كلمة تقول: الصلاة خير من النوم! قال: من أراد الصلاة فليشتر "منبها" يوقظه ليصلى قلت له: إن جمهور المسلمين وهم كثرة هذا البلد يريدون الصلاة علانية ويريدون أن يصبغوا الحياة الاجتماعية بها، وأن ينظموا نومهم وانتباهم على أوقاتها، فإذا شاء الكسالى غير ذلك فليتواروا(2/187)
بإثمهم، لا أن يفرضوه على المجتمع ويطلبوا من المؤمنين التوارى بدينهم. وأشهد أن الرجل لان وتأثر واستكان، وأرجو أن يكون قد تاب ومات مغفورا له، وإنما ذكرت هذا الحوار، ليعرف من جهل مبلغ ما انحدرت إليه أمتنا ! ص _179
إن الشيوعية تريد أن تكون نظاما عالميا، وكذلك المادية والإباحية، وكذلك الصهيونية والصليبية، أما الإسلام فإن طبيعته العالمية يراد إنكارها، وإذا تم ذلك فإن وجوده المحلى ينبغى الخلاص منه والإجهاز عليه... وأريد أن نعرف: من نحن؟ وما ديننا؟ وما هدفنا؟ وما طبيعة جهادنا؟ إننا ورثة الإسلام وحملته وأصحاب الحضارة الوحيدة التى تعترف بالدنيا والآخرة، والروح والجسد والعقل والعاطفة. وفى قرآننا وسنة نبينا صلاحنا وصلاح العالم من حولنا، وقد هنا على أنفسنا، فكان طبيعيا أن نهور على غيرنا، وزهدنا فى ديننا، فكان طبيعيا أن يزهد العالم فيه. وقد بدت فى الأفق تباشير عودة ناجحة إلى هذا الدين العظيم فلنصور بدقة طبيعة النور الذى خصنا الله به، طبيعة الرسالة التى شاء الله أن تحق الحق وتبطل الباطل وتهدى الحيارى فى المشارق والمغارب ويفرض علينا هذا المعنى أمورا ذات بال.. أولها: ما دام محمد عليه الصلاة والسلام للعالم كله وليس للعرب خاصة، فيجب على العرب- وهم الذين تحدث محمد - صلى الله عليه وسلم - بلغتهم، وكلفوا بنقل رسالته إلى غيرهم- يجب عليهم أن يوصلوا هذا القول إلى كل قبيل من الناس، وبكل لغة يتم التفاهم بها. أى أنه يجب عليهم أن يتقنوا اللغات العالمية، وما استطاعوا من اللغات المحلية، وأن يودعوها خلاصة كافية هادية من تعاليم الإسلام فى مجال العقيدة والخلق والعبادة وشتى أنواع المعاملات، وأن يذكروا بدقة ولطف الفروق الكبيرة بين أصول الإيمان عندنا وعند أهل الأديان الأخرى، سماوية كانت أو أرضية. إن هذا الواجب لم يكن منه بد، حتى لو كان الميدان خاليا لنا وحدنا، كيف وهناك أجهزة عالمية ضخمة. تخصصت فى تحقير(2/188)
الإسلام وإهانة نبيه ؟ عليه الصلاة والسلام. فكيف وقد تآمرت على الإسلام شتى القوي، وتألب ضده خصوم خبثاء، يصطادون الشبه ويتلمسون للأبرياء العيوب ؟ إن الاستعمار، سخر أجهزة إلحادية وصليبية سبقتنا إلى أجيال كثيفة من الزنوج والجنس الأصفر، تركت فى نفسه سموما ضد محمد عليه الصلاة والسلام ودينه وانتهزت الصمت الذى خيم على أجهزة الدعاية الإسلامية والسلبية المشينة التى لذنا ص _180
بها، وراحت تكذب وتكذب حتى نجحت فى تلويث سمعتنا، وقدرت على غرس تدين مختل الأصول، مضطرب السلوك. وأمكنها بسهولة أن تصد عن سبيل الله وتردم معالم الصراط المستقيم! إن ذلك يوجب علينا الإحساس المضاعف بخطئنا وتخلفنا ويحملنا عبء المسارعة إلى تعليم الجاهل، ومراجعة المخدوع وتعريف الناس بربهم الواحد الأحد، الفرد الصمد، وربطهم بالدين الذى حمل رايته جميع الأنبياء، ثم نقاه وشد دعائمه وثبت أهدافه النبى الخاتم محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - . والأمر الثاني: المتصل بعالمية الرسالة، يرجع إلى اللغة العربية. فلغة الرسالة الخالدة، يجب أن تتبوأ مكانة رفيعة لدى أصحابها، ولدى الناس أجمعين، فإن الله باختياره هذه اللغة وعاء لوحيه الباقى على الزمان- قد أعلى قدرها وميزها على سواها والواقع أن اللغة العربية، مهاد القرآن وسياجه فإذا تضعضعت وأقصيت عن أن تكون لغة التخاطب والأداء ولغة العلم والحضارة، أوشك القرآن نفسه أن يوضع فى المتاحف، ولهذه الغاية الخاسرة تعمل فئات غفيرة من المستعمرين وأذنابهم. وما أكثر أولئك الأذناب فى الجامعات والمجامع ودور الإذاعات، والصحف وغيرها ؟ إن آباءنا عليهم الرضوان نشروا اللغة العربية بكل الوسائل المتاحة لهم، وما تأسست مدرسة لخدمة الدين، إلا انقسمت علومها بين مناهج الشريعة، ومناهج اللغة والأدب.. ويلاحظ الآن انكماش مفزع فى هذا الميدان ورواج سمج للهجات العامية والمصطلحات الأجنبية، والترجمات الركيكة، والكلمات(2/189)
الدخيلة.. واللغة العربية لا تخدم بالحماس السلبي، بل لا بد من إعادة النظر فى شئون شتى تتصل بكيانها وتعاليمها . ولنفرق من الآن بين طرق تعليمها للتلامذة الأجانب وتلامذتنا، ولنبتكر أساليب ميسورة لتدريس المصادر، وتصريف الأفعال وجموع التكسير وأنواع المترادفات وغير ذلك مما يعانيه طلاب العربية.. إن هناك لغات لم يشرفها الله بوحي، ولم تصحب حضارة إنسانية مشرقة يخدمها أبناؤها بذكاء نادر، فما دهى العرب حتى تركوا لغتهم توشك أن تكون من اللغات الميتة أو الثانوية فى هذه الدنيا ؟ ! إننا عجزنا عن جعل اللغة العربية لغة أولى بين الألف مليون مسلم، الذين يعتنقون الإسلام، وهذا وحده فشل ذريع نؤاخذ به يوم الحساب، ويرجع هذا الفشل إلى أن العرب ص _181(2/190)
أنفسهم لا يجلون لغتهم. بل لقد استطاع الاستعمار الثقافى أن يكرهها لهم أو يحقرها لديهم فأى بلاء هذا؟ والمطلوب الآن للفور إقصاء اللهجات العامية والرطانات الأعجمية عن جميع منابر الصحافة والإعلام وإعادة الحياة إلى اللغة الفصحى فى كل محفل.. وأكرر مطلبا آخر ذكرته فى أحد المؤتمرات وهو إنشاء مدارس وإرسال بعثات لنشر اللغة العربية وحدها أى دون ربط اللغة بالدين، فإن هذا التعليم المجرد سيوسع القاعدة الثقافية للغة القرآن، وسيكون يوما ما رافدا من روافد الحق والإيمان . والأمر الثالث والأخير فى عملية الدعوة يتصل بالوضع الأدبى والمادى داخل الأمة الإسلامية نفسها إن الخلق الزاكى لغة إنسانية عالمية تعجب وتقنع، وبهذه اللغة تفاهم الصحابة والتابعون مع الشعوب التى عرفوها وعرفتهم فدخل الناس فى دين الله أفواجا. أى أن القدوة الحسنة فردية كانت أو جماعية تفرض احترام العقيدة والحفاوة بها وهذه القدوة ليست دورا تمثيليا يؤدى بالخداع واجتذاب المشاهدين كلا كلا! فحبل الكذب قصير، إن هذه القدوة هى الحلاوة فى الثمرة الناضجة أو الرائحة فى الزهرة العاطرة، أى هى نضج الكمال الذاتي، وقد شاء الله أن يؤتى السلف الصالح أنصبة جزلة من هذا الحسن الذاتى ففتحت لهم المدن العظام أبوابها وألقت إليهم الجماهير بقيادها . وإننى أشعر اليوم بغضاضة شديدة حين أرى السائحين والسائحات يجوبون بلادنا ويدرسون أحوالنا ، ثم يتجاوزوننا بقلة اكتراث أو استهانة بالغة! إنهم لا يرون – فيما يشهدون أثر الإسلام الحق فى نظافته وسموه بل يرون شعوبا أقل منهم كثيرا فى المستوى الحضارى ولا أقول فى المستوى الخلقى المعتاد. وتلك أحوال تصد عن الإسلام ولا تغرى باعتناقه ، وعالمية الإسلام تفرض على أتباعه أن يقدموا من سلوكهم الخاص والعام نماذج جديرة بالإكبار. أو على القليل جديرة بالسؤال عن حقيقة الإسلام لمن لم يعرفوا هذه الحقيقة ، وما أكثرهم فى أرض الله. ص _182(2/191)
هزائم إسلامية.. رهيبة النتائج قد يظن البعض أن هذه الهزائم هى ما أصاب العاملين فى الميدان الإسلامى من تقتيل وتعذيب، وما لحق بهم وبأهليهم من بلاء عظيم.. لا، إن للحديث هنا هدفا آخر لابد من شد الانتباه إليه وإلا ضقنا.. وما نهون من النكال الذى مس جماهير المؤمنين خلال ربع قرن، ولكننا نعلم أن من استشهد مغبوط على مكانته عند الله، وأن من جرح أو أهين أو اضطهد قد وقع أجره على الله، وأن النتائج الأخيرة لهذه الحرب ضارت الظالمين أكثر مما ضارت المظلومين.. إن الحسين لو انتصر فى كربلاء ما هز الملك الأموي، ولأوشك الأمويون أن يداووا ما ربما نالهم منه، ولكن مصرع الحسين فى كربلاء وانكشاف أهل البيت معه كان الزلزال الذى جر الأمويين إلى الرغام.. وشهداء الإسلام على يد جمال عبد الناصر وطغمته سيبقون إلى آخر الدهر مشعلا للكفاح وعارا على الفراعنة الطغاة لندع هذا الحديث إلى حديث آخر أهمنى أمره وأزعجنى وقعه وأحسست معه أن القوى المعادية للإسلام ألحقت بنا هزيمة نكراء إن لم ندركها أتت علينا من القواعد لقد راقبت المسلمين خلال رمضان وتحسست الموقف من فريضة الصيام وأخذتنى غصة.. ركبت عدة طائرات فى أسفارى فما وجدت صائما بين المئات إلا نفرا يعدون على الأصابع، وكان الطعام يوزع جهارا نهارا دونما حرج ولا وجل.. ولم أستطع التعليق على هذا الإثم لأنى قدرت أن الاعتذار العاجل هو: نحن مسافرون! ذلك لو اعتذر أحد! ويعلم الله أنهم يفطرون عن عمد لا عن عجز وأن أحدا منهم لا يفكر فى قضاء ولا فدية، وأن أحدا منهم لم يحاول أن يقدر حرمة الشهر ويتوارى بفطره عن العيون.. بقية حياء! وعدت إلى القاهرة عاصمة العالم الإسلامى فوجدت الصائمين كثيرين والمفطرين كثيرين، وفى بعض مواقع العمل وجدت المفطرين كثرة ظاهرة، والأدهى أن أحدا لا يستطيع زجرهم أو التنديد بمعصيتهم! قلت: لقد استفحل الشر، ربما قدر الشيوعيون أو الصليبيون أمس القريب على اصطياد(2/192)
طالب غر، ربما خدعوا - باسم الثقافة المزعومة - ص _1 ص
امرءا قليل الفطنة، أما أن تفلح هذه العناصر فى الوصول إلى جماهير العمال أو الفلاحين لتغريهم بالتمرد على فرائض الله فهذه طامة كبرى هذه هزيمة إسلامية شديدة! كان هناك مسلمون يكسلون عن الصلاة فإذا جاء رمضان صاموا مع الصوام وسيطر على سلوكهم ظل من وقار الشهر الكريم فانتظموا مع القافلة العابدة لله الحريصة على رضاه، أما اليوم فالجرأة على الإسلام عطلت الصلاة والصيام جميعا، وأغرت أعدادا كبيرة أن تجاهر بالإثم وأن تتحلل من قيود الإيمان وشعار الهدى. هذه هزيمة إسلامية كبيرة، إن كياننا مهدد فى صميمه ولا يمكن التهوين من الانتصار الذى أحرزته القوى المعادية للإسلام فى هذا الميدان. قد يقال: إن السلطة التنفيذية مسئولة عن وقف هذا التحلل. وهذا قول مرفوض! إننى أعلم أن جراثيم النخر التى تسللت إلى مجتمعنا المؤمن تسللت إليه فى حماية مسلحة تارة بالقهر المادى وتارة بالضغط الأدبي.. ومع ذلك فأنا أرفض أى عبادة ينشئها قانون مرهب فإن الأصل فى العبادات أن تنبعث من ضمائر تقية وقلوب مهدية، إنها استجابة لإيمان عميق وتدين خاشع، وإنما يجيء دور القانون فى ردع الشذوذ والفوضي، أى فى رد جراثيم التحلل التى أشرنا إليها آنفا والتى انطلقت إلى غايتها فى كنف الاستعمار والحكومات الموالية له والمتأثرة به! ودور جماعة الإخوان، وسائر الجماعات الإسلامية الأخرى لابد أن يبرز فى تربية الأجيال الناشئة، وأخذها بالإقناع والأسوة الحسنة كى يبقى ولاؤها لدينها، وارتباطها بتعاليمه، نعم لقد نزلت بالمسلمين المكافحين ضربات موجعة، بيد أن هذه الضربات لابد من احتمالها برجولة، ولابد من التغلب عليها لاستنقاذ المجتمع الإسلامى من الكوارث التى حلت به وأذهلته عن شعائره المقدسة وتقاليده النبيلة.. إن بعض الناس يتصوروننا منافسين على الحكم متطلعين إلى مناصبه، وهذا خطأ، فشغلنا الشاغل هو الحفاظ على(2/193)
الإسلام ودعم أركانه والإمساك بعراه كلها. إن الحكومات المتجهمة للإسلام جعلت مواقيت الأعمال شاغلة عن مواقيت الصلاة بالنهار، وجعلت برامج التسلية صارفة عنها بالليل، وقد سمعت قصائد الغزل فى شهر الصيام والتحيات المقدمة لوجهه الجميل إنما أبهت لها، لأنها حجاب غليظ عن العبادة الصحيحة ورأيت جوانب الحركة والنشاط التى يتعرض لها الصغار والكبار فتشاءمت منها، لأنى رأيت بعينى صور الفتية اليهود يحملون السلاح ويتدربون منذ نعومة أظفارهم على مقاتلة العرب وتسجيل ضياع فلسطين إلى آخر الدهر. ص _184(2/194)
إن المجتمع الإسلامى يترنح تحت اللطمات الهائلة التى تناولت من اليمين واليسار وعلى المسلمين المخلصين من دعاة ومدعوين أن يسارعوا إلى مساندته قبل أن يسقط، وذلك بالتربية الجماعية الواعية الهادية.. والحكم الإسلامى المنشود ليس هيكلا من حجارة.. أو من ناس كسائر الناس، إنه يقوم ابتداء وانتهاء على الرجل المسلم الرجل الذى إن قام قامت معه الصلاة والزكاة، وانتعشت فى ظلاله الضمائر التى تحرس المصلحة العامة ولا يعنيها إلا ابتغاء وجه الله.. المفروض أن نشتغل بتربية هذا الفرد وأن نوفر كل العناصر التى تتطلبها هذه التربية لقد لاحظت فى بعض البلاد الإسلامية أمورا لها ما بعدها! مستشفيات احتاجت إلى ممرضات، فجيء بالممرضات كلهن من المبشرات الهنديات! وبين خمسين طبيبا عينوا لاحظت أن المسلمين منهم أحد عشر.. لا غير! ورمقت بأسف بعض دور التعليم خصوصا دور الأطفال فوجدت الإشراف الإسلامى مفقودا لأن أرباب هذه الدور غير مسلمين وقد نشأ عن تجمد النشاط الإسلامى فى ميادين الثقافة والمجتمع ما لا يمكن السكوت عنه. فى لبنان الآن مائة ألف يتيم مسلم قتل أباءهم ضغن أسود على الإسلام ونبيه وأمته، ما مصير هؤلاء الأيتام البائسين؟ أخشى أن يتعرضوا لما تعرض له مئات الألوف من أطفال إندونيسيا الذين تخلفوا عن الحرب الأهلية الأخيرة! لقد حلت مشكلتهم ملاجئ التبشير ما دام النشاط الإسلامى "الشعبي".. صفرا.. إننى أصيح محذرا من مغبة الهزائم الإسلامية فى مجالات شتى لابد أن نثبت فيها وجودنا وأن نتحامل على جراحاتنا ونستأنف السير ولو نزفنا الدم! العاملون فى الميدان الإسلامى مجندون اليوم لا للمشاركة فى نشاط سياسى طويل المدى أو قصيره، بل للدفاع عن العقائد والعبادات والأخلاق والتقاليد الإسلامية التى اخترق الاستعمار الثقافى خطوطها فى أماكن لا حصر لها! ما يشك مسلم فى أن الإسلام عقيدة وشريعة ولكننا لا يجوز أن نقف متفرجين حتى نقيم الحكم الإسلامى(2/195)
المنشود، أمامنا عمل تنصب فيه الجباه وتتسابق فيه الهمم وهو الجهاد الأكبر فى تلك الأيام العجاف. ص _185
الإنسان فى القرآن ولا عبرة بما يتعلل به المخطئون من أن الشيطان هو السبب الأول والأخير فى انحدارهم! إن للشيطان محطة إرسال يذيع منها فنون الإغراء والإغواء. والإنسان هو الذى يهيئ أقطار نفسه لاستقبال هذه الإذاعات والتجاوب معها. وأنت الذى تتخير ما تسمع من محطات "الراديو" المختلفة. ولو شئت أغلقت للفور ما تعاف سماعه. أو ابتعدت عنه حتى لا يصل صداه إلى سمعك. أو قاومته بمشاعر النفور والمقت حتى لا يستولى عليك!!! وقد منح الشيطان من أول يوم القدرة على إغواء الإنسان وخداعه. ودفعته خصومته إلى ابتكار وسائل كثيرة ونصب أحابيل مختلفة لإيقاع الأغرار والغافلين. كانت الملائكة متشائمة من مستقبل الإنسان على ظهر الأرض. لعلها أحست أن أصله الترابى سيجعله هشا أمام الاختبارات الصلبة. وأنه سيفقد تماسكه أمام الأهواء والمغريات ؟ لعلها رأت أنه يشبه أجناسا أخرى لم تصدع بأمر الله. ولم تحسن تنفيذ وصاياه؟ أو لعل شعاعا من عالم الغيب طلع عليها فرأت معه صورا من الحروب الدامية والمسالك المعوجة التى سوف يخوضها البشر ويظلمون بها أنفسهم. على أية حال لقد تساءلت الملائكة مستغربة وقالت لله جل شأنه ( أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون )! وخلق الله آدم ووهب له عقلا محيطا بالأشياء كلها. ووضع فى هذا العقل خاصة باهرة يستمكن بها من معرفة الأسرار والظواهر. ويهيمن بها على شتيت من القوى والعناصر. إن هذا الإنسان المحدود فى أعضائه ومشاعره يملك طاقات ضخمة تجعله سيدا لما حوله. بل تجعله ملكا واسع السلطان ممدود النفوذ. ولعل الملائكة اليوم ترقبه دهشة وهو يخترق الفضاء ويغزو الكواكب. ص _186(2/196)
لكن عظمة الإنسان لا تكمن فى هذه القدرات الطيعة. إنها تكمن فى أمر آخر أهم منها وأجل. هو معرفته لمن خلقه فسواه لمن أعلى قدره ورفع مستواه! لله الذى خلق هذا الكون ومكنه فيه وسخره له. إن هذا الفريق من الناس الذى عرف ربه وأسلم له وجهه.. وافتتح مغاليق الحياة باسمه. هو الذى يبرز الحكمة من وجود الإنسان فى العالم. وأحسب أن هذا الفريق الصالح المصلح هو الذى استشفت الملائكة خبره ثم قالت لله ( سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم). وقصة الحياة الإنسانية كما ساقها القرآن الكريم تستوقف النظر من نواح عدة نحب أن نتبينها: أولها هذا التنعيم الذى أحاط بها منذ بدايتها فبين يدى عرض القصة فى سورة البقرة نقرأ قوله تعالى : ( هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا..) وقبل ذلك بقليل نقرأ ( الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم). وبين يدى عرضها فى سورة الأعراف نقرأ قوله ( ولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش قليلا ما تشكرون * ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم..). وبين يدى عرضها فى سورة الحجر. سرد للنعم التى تحف الحياة البشرية نقرأ منه قوله تعالى : (ولقد جعلنا في السماء بروجا وزيناها للناظرين * وحفظناها من كل شيطان رجيم * إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين * والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل شيء موزون * وجعلنا لكم فيها معايش..). والواقع أن الرغيف الذى يطعمه إنسان تشترك فى إنباته وإنضاجه فجاج الأرض وآفاق السماء. ص _187(2/197)
فتربة الأرض. والسحب الهامية. والأشعة العمودية أو المائلة التى تتعرض لها الحقول وأثر الضوء فى تكوين الخضرة مثلا وأشياء أخرى كثيرة تتعاون جميعا على تكوين الغذاء والكساء والدواء الذى يحتاج إليه البشر. إن شبكة من المواد الدقيقة جدا. والجسيمة جدا، انتظمت فى خدمة الإنسان وتأمين معايشه وتخطيط حاضره ومستقبله. كل يؤدى دوره بوفاء وقدرة، الكواكب السباحة فى الفضاء. والجراثيم التى لاتراها العين!! وذلك سر الأقسام الكثيرة التى وردت فى القرآن الكريم مشيرة إلى فخامة هذا العالم ( فلا أقسم بالشفق * والليل وما وسق * والقمر إذا اتسق * لتركبن طبقا عن طبق ). (كلا والقمر * والليل إذ أدبر * والصبح إذا أسفر * إنها لإحدى الكبر). وتدبر القسم بالرياح المثيرة والسحب الحافلة وما يتبع ذلك من زرع وحصاد وتجارة واحتراف وخيرات تعم البشر ( والذاريات ذروا * فالحاملات وقرا * فالجاريات يسرا * فالمقسمات أمرا * إنما توعدون لصادق ). إن رب العالمين أبدع ما صنع! وحدثنا عن هذا الإبداع لنعجب به ونتذوق جماله. وإنى لأستغرب أحوال ناس ينتسبون إلى الإسلام ويديرون ظهرهم للكون. فلا يدرسون له قانونا، ولا يكشفون له سرا. أى إيمان هذا؟ وأى جهل بقصة الحياة ووظيفة آدم وبنيه في ربوعها..؟ إن الإنسان فى القرآن الكريم كائن مكرم مفضل محترم مخدوم، ومن حق الله تبارك اسمه أن يعاتب البشر على سوء تقديرهم لآلائه ( ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السموات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير )!! هذه ناحية تتصل بالتكريم المادى للإنسان، وثم ناحية ثانية تتصل بكيانه المعنوي. ص _188(2/198)
فالإنسان نفخة من روح الله الأعلى، هكذا بدأ خلق آدم، وهكذا تتخلق الأجنة فى بطون الأمهات. إن الحياة فى شتى الأجسام المتحركة شيء، وخصائص الحياة الرفيعة فى أبناء آدم شيء آخر، وقد أشاع الله نعمة الخلق بين خلائق كثيرة برزت من العدم إلى الوجود، بيد أن آدم وحده هو الذى وصفه بقوله " سويته ونفخت فيه من روحي ". واطرد هذا التكريم فى ذريته إلى قيام الساعة ( الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين * ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين * ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة..). والإنسان بهذه النفخة كائن جديد يعلو فوق ما يشبهه من ضروب الحيوان ولذلك قال جل شأنه (..فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين ). وبعد أن تم خلق آدم على هذه الصورة أمر الله الملائكة أن تسجد له سجود تعظيم وتوقير لا سجود عبادة !!! والملائكة هى التى أبدت دهشتها لإيجاد هذا الإنسان واستنكرت ما سوف يقع منه من فساد وفوضي. إنها طولبت بالسجود له بعدما تم تكوينه!! وعوقب من رفض السجود بالطرد من رحمة الله. وسواء كان إبليس من الملائكة. أم صادف وجوده بينهم وهو من الجن، فإن النتيجة لا تختلف. إذ أن الاستهانة بالإنسان هى عند الله عصيان وخيم العاقبة! وهذا التكريم البين ينضم إليه أمر آخر عظيم الدلالة على مكانة الإنسان وحفاوة الله به. هذا الأمر هو الفرح الإلهى بعودة الإنسان التائب واستقبال الله له بإعزاز بالغ وتجاوزه عما فرط منه من خطأ وقوله فى عفو شامل ( وإنى لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى ). ص _189(2/199)
كلتا الناحيتين من تكريم وتنعيم استتبعت ناحية ثالثة كان لها الأثر الأكبر فى مستقبل الإنسان ومستقبل الكوكب الذى أعد لسكناه. بل فى مستقبل المجموعة الشمسية كلها التى سينتثر عقدها وينطفئ نورها مع انتهاء الرسالة الإنسانية على ظهر الأرض. هذه الناحية هى "التكليف". فإن الله الذى زود الإنسان بهذا السمو فى مواهبه لم يتركه سدي. بل أمره ونهاه وطلب منه أن يفعل وأن يترك! وربما كلفه أن يفعل ما يثقله. وأن يترك ما يشتهيه!! وهنا نقف وقفة يسيرة أمام سر التكليف ومعناه لنتناول جملة أمور. إن أبانا آدم، وهو الإنسان الأول، كلف ألا يأكل من شجرة معينة وكان جديرا به أن يعرف حق الآمر جل شأنه وأن يدع الأكل من هذه الشجرة أبدا. ولكنه بعد مرحلة من الذهول والضعف عرضت له ساعة انهيار فى إرادته وامتداد فى رغبته فأكل من الشجرة المحرمة، وشاركته زوجته فى عصيانه فطردا جميعا من الجنة. وكانا قد أحسا بالخطأ الذى تورطا فيه فدعوا الله نادمين ( قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين * قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين * قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون). ونزل أبوانا إلى الأرض وشرع كثير من الأبناء يمثلون القصة نفسها ويرتكبون الخطأ ذاته. ولكنه ليس أكلا من شجرة بل اتباعا للشهوات التى تقود إلى العصيان والحرمان! العنوان متغير والحقيقة واحدة.. إن هذا السلوك من الإنسان الأول يجعلنا نتساءل عن علته؟ والعلة واضحة فإن الإنسان بدأ حياته بطبيعة مزدوجة، قبس من نور الله داخل غلاف من طين الأرض!!! إن الله تبارك اسمه بعدما صور الإنسان من التراب وسواه، نفخ فيه من روحه، فإذا كائن عجيب يجمع النقائض فى تركيبه، يقدر على التسامى وعلى الإسفاف، يقدر على الاستقامة وعلى الانحراف. وقد نبه القرآن الكريم إلى هذا الخليط فى التكوين البشرى فقال جل شأنه ( إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه(2/200)
فجعلناه سميعا بصيرا) كما نبه إلى أن إلمامه ص _190
بالخطايا ليس مستغربا، إنه ينزع إلى عرق فيه! ( الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم إن ربك واسع المغفرة هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم..). وكلتا النزعتين الأرضية والسماوية تجد فى الحياة - أو فى البيئة - ما يضعفها أو يقويها، وقبل ذلك كله تجد فى الإنسان نفسه ما يرجح كفة على أخري، وما يسلم زمامه للخير أو للشر، كما يريد هو لنفسه دون تدخل من أحد فى اتجاهه هنا أو هنا. إن إيثار الوقوف عند الإشارة الحمراء أو المروق منها والتعرض لأخطار الانطلاق الأحمق تصرف إنسانى محض. وفى هذا يقول تعالى : ( واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين * ولو شئنا لرفعناه بها "أى لو تسامى وترفع" ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه..) فتركه الله حيث شاء لنفسه. ولابد من توكيد هذه الحقيقة حقيقة الإرادة الحرة فى الصعود والهبوط، فى التقوى والفجور، فى إغضاب الله وإرضائه. فإن الرحمن الرحيم يستحيل أن ينقم على إنسان سعى فى مرضاته، كما أنه لا يرضى عن إنسان سعى فى إغضابه. وبعض الناس يمارى فى هذه الحقيقة عن مكابرة، أو تمحل أعذار، وهيهات فقصة الوجود الإنسانى تقوم على اختبار حقيقى لاكتشاف المحسن والمسيء ( الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا..) والمحسن إنسان أتقن العمل واحترم الصواب. والمسيء إنسان فرط ولزم العوج.. والعراك داخل النفس الإنسانية لاختيار أحد النهجين عراك حقيقى لا صوري. وتلمح صدق هذا العراك وقبول نتائجه فى قوله تعالى ( فأما من طغى * وآثر الحياة الدنيا * فإن الجحيم هي المأوى * وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى * فإن الجنة هي المأوى)!! ص _191(2/201)
إن السالم فى هذا العراك إنسان يشعر بقيام الله عليه وعلى سائر الكائات، ومع نماء هذا الشعور يخفت صوت الهوى ويغلبه صوت الضمير اليقظان أو القلب الحي.. فأين التمثيل أو المحاباة أو الخداع فى هذه الحالات؟ * * * الله جل شأنه ينادى الإنسان ويذكره ويهديه، وعلى الإنسان أن يلبى ويتذكر ويهتدي، فإذا أبى إلا الشرود فهو وحده الملوم، ومن ثم تقررت هذه الأحكام العادلة التى ندركها من قوله تعالى : ( قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها..) (ونفس وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها * قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها). والتزكية والتدسية جهد بشرى محض، أو كذلك يون أول الطريق ثم يلحقه من مشيئة الله ما يصل به إلى النهاية ( ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم).. ونتساءل مرة ثانية: ما قيمة الصوت المضلل الذى يتسمع إليه الإنسان فيزيغ ويشقي؟ الحق أنه صداه الضخم أضعاف أضعاف حقيقته التافهة، إنه كنقيق الضفدعة يملأ أكناف الليل ومصدره لا قيمة له ! ما الشجرة التى أكل منها آدم ؟ هل أحس طويلا لذة ثمرها ومتعة ازدرادها ؟ لقد كانت وهما هذه النشوة المأمولة ولو فرضناها لذة ساعة فما قيمتها ! إذا وزنت بما أعقبته من حسرات سنين عددا؟ بل دهرا طويلا !! إن الإنسان فى هذه الدنيا تهيجه رغبة حمقاء إلى شيء محرم ما إن يواقعه حتى يحس الفراغ والضياع وحقيق بالإنسان أن يتماسك أمام عوامل الاستفزاز ومزالق القدم. ونتساءل مرة أخرى ما مصدر هذا الصوت النابى الجهول الذى يزل الإنسان. والجواب أن له مصدرين اثنين: أولهما نفس الإنسان أو الإهاب الترابى الذى غلفت به، والمصدر الثانى من كائن آخر خاصم الإنسان من النشأة الأولى وهو الشيطان الذى آلى على نفسه استدامة هذا الخصام إلى يوم النشور.. ص _192(2/202)
فى المصدر الداخلى للمعصية يقول الله تعالى ( ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما). فالنسيان وضعف العزيمة رذائل وقع فيها الإنسان الأول، ومع تولدها فى نفسه تتهيأ الإمكانات للشيطان كى يوسوس ويخادع ويقول لآدم وامرأته (ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين * وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين * فدلاهما بغرور). وما تمت هذه التدلية ولا نجح الشيطان فى خدعته إلا لأن آدم كان قد ضعفت ذاكرته وضعفت إرادته. الضعف النفسى أولا ثم وساوس الشيطان ثانيا ولا عبرة بما يتعلل به المخطئون من أن الشيطان هو السبب الأول والأخير فى انحدارهم ! إن للشيطان محطة إرسال يذيع منها فنون الإغراء والإغواء، والإنسان هو الذى يهيئ أقطار نفسه لاستقبال هذه الإذاعات والتجاوب معها. وأنت الذى تتخير ما تسمع من محطات "الراديو" المختلفة، ولو شئت أغلقت للفور ما تعاف سماعه، أو ابتعدت عنه حتى لا يصل صداه إلى سمعك، أو قاومته بمشاعر النفور والمقت حتى لا يستولى عليك!!! وقد منح الشيطان من أول يوم القدرة على إغراء الإنسان وخداعه. ودفعته خصومته إلى ابتكار وسائل كثيرة ونصب أحابيل مختلفة لإيقاع الأغرار والغافلين، وقيل له: ( واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك ). وكان الشيطان لا يملك أكثر من الكلام يكذب فيه ويغر. وقد نبه الله آدم وبنيه إلى هذا العدو الغار الكاذب. وحذره من الشراك المنصوبة والأقاويل المزورة. إن الشيطان يعد كاذبا، ويقسم حانثا، وينصح غاشا، ويلين ليلدغ وينحنى ليثب ويصرع. وهو فى هذا كله لا يملك إلا شيئا واحدا، الكلام، الكلام وحده! فلا يجوز أن نصدقه ( فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى) ص _193(2/203)
( أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا). ومع ذلك فقد قدر الشيطان بالكلام المضلل أن يزيغ الكثيرين. وسيقول يوم القيامة لمن استجابوا له ( وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ). إن سلاح الشيطان مفلول والنجاة منه ميسورة ميسورة!! وعندما يقع البعض فى قبضته فلا حماية له لأن القانون لا يحمى المغفلين. ومن ثم فالجهد الحقيقى فى النصح والتربية يتجه إلى الإنسان أولا وأخرا ليوقظ فيه أسباب الحذر، وليسد الثغرات التى يمكن أن يتسلل منها الشيطان بوساوسه الماكرة. لقد أشرنا إلى الأمشاج التى يتكون منها الإنسان، والحق أن فى الإنسان - مع أصله السماوى - طباعا لا يجوز تركها حرة تتصرف كما تشاء، لابد من مراقبتها وإخضاع حركاتها وسكناتها لحكم الله، وإلا جرته من القمة إلى الحضيض ( لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم * ثم رددناه أسفل سافلين ). وليس معنى هذا الرد أنه تحول إلى مسخ ذميم بعدما كان فى ذروة الحسن! كلا.. المعنى أن إمكانات الهبوط جاورت معانى الرفعة فى نفسه، وأنه يستطيع التحليق والإسفاف معا، وذاك سر الاستثناء بعد ( إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات) أى سوف يبقى قوامهم حسنا. ماديا ومعنويا!! وجاءت فى القرآن الكريم آيات كثيرة تقرر الطبائع الرديئة التى ينبغى الخلاص منها. فالإنسان "أناني" يحب نفسه وحسب، وقد تكون محبة النفس أصلا فى استبقاء الحياة، ولكن هذه المحبة تتحول إلى مرض خطير يورث الشره والطمع والبغى واجتياح الحقوق بنزق. وقد ذكر القرآن أن هذه الأثرة لا يطفئها الغنى مهما اتسع ( قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لأمسكتم خشية الإنفاق وكان الإنسان قتورا)!! ص _194(2/204)
والإنسان نسَّاء أو غافل، وقد يكون هذا أو ذاك أصلا فى استبقاء الحياة، فلو استصحب المرء حزنه إلى الأبد على ما فقد ما صلحت الدنيا. ولكن هذا الذهول قد يكون جرثومة الكنود ونكران الجميل ونسيان الرب وما أولى ( وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا ) ( إن الإنسان لربه لكنود * وإنه على ذلك لشهيد ). والإنسان الذى يحلو له أحيانا أن يفخر، ويتطاول، وينظر إلى السماء بقلة اكتراث، تذله علة فى أى مكان فى جسمه أو تزله غلطة فى أى وقت من تفكيره مهما كان عبقريا.. ( يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا). والإنسان محتال كبير فى الدفاع عن نفسه، والتماس الأعذار لأخطائه وعد ما يقع منه وجهة نظر مقبولة أو مغفورة ( وكان الإنسان أكثر شيء جدلا ). وهذه الطبائع جميعا مزالق لمن يسترسل معها، وقد نبه القرآن الكريم إلى أمراض شتى تعترى النفس، فالإنسان قد يبطر مع الغنى ويطغى مع السلطة ويقنط مع الفشل، وقد يستحلى من شهوات النساء، والرياء، والاستعلاء ما يحيله إلى عبد لنفسه وهواه. ولكن الفكاك من هذه الآثام كلها ميسور فإن القرآن الكريم لما خوف عواقب هذه الانحرافات الإنسانية ذكر أسباب النجاة منها ( والعصر * إن الإنسان لفي خسر* إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر ). وما أجملته سورة العصر من وصف للداء والدواء فصلته سور أخرى. نختار منها سورة المعارج التى أسندت للإنسان هذه الخلال ( إن الإنسان خلق هلوعا * إذا مسه الشر جزوعا * وإذا مسه الخير منوعا..) لكن الإنسان يبرأ من هذه العلل إذا قام بجملة العبادات المفروضة. ونتساءل: هل هذه العبادات "مصل" واق أم شفاء من أمراض توجد وتتجدد؟ قد يكون هذا أو ذاك! ص _195(2/205)
ولنتدبر أولا الاستثناء الذى تضمنته السورة الكريمة ( إلا المصلين * الذين هم على صلاتهم دائمون * والذين في أموالهم حق معلوم * للسائل والمحروم * والذين يصدقون بيوم الدين * والذين هم من عذاب ربهم مشفقون * إن عذاب ربهم غير مأمون * والذين هم لفروجهم حافظون * إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين * فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون * والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون * والذين هم بشهاداتهم قائمون * والذين هم على صلاتهم يحافظون * أولئك في جنات مكرمون ). لا شك أن هذه العبادات مجتمعة تنشئ إنسانا كاملا شريطة أن تؤدى أداء حقيقيا لا أداء تمثيليا وأحب أن أقف عند واحدة من هذه العبادات لأتأملها وأتعرف على آثارها النفسية. وهى قوله تعالى ( والذين هم بشهاداتهم قائمون). إن الإنسان المسلم يجب أن يكون مستعدا دائما لأداء الشهادة على وجهها، ليحق الحق، ويبطل الباطل، ويدعم العدالة. والقيام بالشهادة يتطلب صراحة لا تخاف فى الله لومة لائم، ذلك أن الحق يختنق فى هذه الدنيا وسط دخان الشهوات المتصاعد من هنا وهناك. والمرء ينكل عن الإدلاء بالرأى الصحيح والقول الصحيح لأنه يخشى على مستقبله مثلا، أو يريد محاباة قريب، أو يسمع فى مال، أو يتطلع إلى منصب إنه لا يستبين وجه الله من غلظ الحجب على بصيرته!! والمجتمع الإسلامى يسقط مع اختفاء الذين هم بشهاداتهم قائمون. وكم رأينا من أناس قدموا وحقهم التأخير أو أخروا وحقهم التقديم، لأن المؤمنين(!) ليسوا بشهاداتهم قائمين، ربما سكتوا أو قالوا فلم يعدلوا!! ولقد عرفت لماذا سبقت بعض المجتمعات سبقا بعيدا عندما قرأت أن زوج الملكة فى هولندا عزل وجرد من أوسمته لما كشفت صلته بقضية رشوة، وأن رئيس وزراء اليابان عزل ورمى به فى السجن للتهمة نفسها!! ص _196(2/206)
إن القيام بالشهادة يعنى ألا نترك صاحب حق مستوحشا فى هذه الدنيا لا صديق له ولا ظهير. والشهادة بداهة ليست ما يقال أمام المحاكم فقط، بل ما يقال فى كل خلاف أو مشورة أو اختيار أو انتخاب أو أى شأن ذى بال. والقائم بالشهادة رجل أسلم لله وجهه وقرر أن يحيا للحق وحده! وقد تتشابك فى نفس الإنسان عدة طباع مثل تشهى الحياة، وتعجل النتائج. وغلبة الأثرة، فيصدر أحكاما خاطئة على ما يصيبه من خير أو شر، وتستبد به المبالغة فتجمح به مشاعره نحو نفسه ونحو الناس. وفى هذا يقول جل شأنه ( ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليئوس كفور * ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور * إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير). فى هذه الآيات صورة الإنسان الذى تستعبده الساعة الحاضرة وحدها، فهو عند فقد ما يسر منهزم كسير من شدة القنوط، وعند وجدانه، ينتشى ويغتر من شدة الفرح. وكان يجب أن يتمالك نفسه فى الحالين وينظر إلى أصابع القدر وراء ما يحسه فيستكين لله ويؤدى ما عليه بتعقل.. ثم ينضم إلى هذا الإحساس المعتدل شعور آخر، أساسه أن ما يناله من خير ليس تمتيعا له وحده، فإن للمحرومين سهما فيما جاءه، وقد يكون سهما كبيرا ( فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن * وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن * كلا بل لا تكرمون اليتيم * ولا تحاضون على طعام المسكين * وتأكلون التراث أكلا لما * وتحبون المال حبا جما). والآيات تشير إلى أن الغنى ابتلاء، وأن الفقر ابتلاء، ومن الخطأ تصور الإغناء تكريما والإفقار إهانة العبرة بالنتائج، فإن الذى يستعف فى فقره أسبق عند الله وأرجح فى الميزان من الذى يطغى بغناه. ص _197(2/207)
والذى يمنح الثراء، فيفتح أبوابه لليتيم والمسكين ويسارع بالبذل فى مواطن النفقة هو الإنسان الناجح فى الامتحان السابق فى الميدان. لكن البشر - للأسف - يحسبون العطاء تدليلا لأشخاصهم، والحرمان إهانة وإذلالا.. وذلك خطأ بالغ فى فهم الدين والدنيا. وعندما خال الناس أن الغنى تكريم ذاتى لبعض الأفراد والأسر، وأن الفقر هوان ذاتى قصده الله لبعض الأفراد والأسر، عندما شاع ذلك انفجرت براكين الأحقاد ضد أصحاب الثروات، وانفجرت معها عواصف الإلحاد والكفر، وتعرض مستقبل الإنسانية كلها للبوار، وهل انتشرت الشيوعية إلا فى هذا الجو؟ إن العبادة هى السلم الفذ الذى تصعد فيه النفس الإنسانية إلى الكمال المنشود. يجب على الإنسان أن يعرف ربه، وأن يقف فى ساحته عبدا نقيا من الآفات والعاهات. إن آدم لما نسى وضعف أضحى دون مستوى الجنة فأخرج منها. ولن يعود أبناؤه إلى الجنة وهم يحملون أوزار النسيان والضعف، لابد من إيمان واضح وعمل صالح. وفى طول القرآن وعرضه توكيد لهذه الحقيقة التى يحاول كثيرون الزوغان منها.. ونعود إلى الخاصة الأولى فى تكوين آدم وبنيه، خاصة العقل العالم بالأشياء الخبير بالحقائق والأسماء، إن الإنسان المكلف بعبادة الله لا يعبده بشبحه المحدود، وجسمه المادى القاصر! إنما يعبده بتطويع طاقاته كلها لله. إنه يضع بصماته المؤمنة على الأرض حتى إذا سجد سجد معه زرعها وضرعها وحديدها وذهبها وكل ما ملك وارتفق!! وأرى أن ذا القرنين عندما ساوى بين الصدفين، وذوب الحديد والنحاس داخل سلسلة من القلاع التى تحمى الضعاف وتذود الطغاة - أرى أنه أحق الحق وأبطل الباطل لا بالكلام وحده، ولكن يجعل الأرض ومعالمها ومعادنها تؤدى وظيفته وتحمل طابعه وكأنها امتداد لنبض قلبه وبطش يده. وهل ملك الله الأرض للإنسان إلا لهذا ؟ عندما تعطى خادمك أسباب الزينة والوجاهة فيجيئك أشعث أغير فأنت تضيق به. والعباد الجهلة بالحياة، الغرباء فى الكون، سوأة زرية،(2/208)
وجهل أو تمرد على الخلافة الإنسانية فى العالم. ونحن المسلمين سنحاسب حسابا عسيرا على تخلفنا الفاضح فى العلوم الطبيعية. ص _198
ربما احتاج الإنسان كى يصلى إلى مساحة من الأرض لا تعدو ذراعا فى ذراع، ولكنه كى يدفع العدوان عن هذا المسجد الضئيل يحتاج إلى معرفة تمتد من الأرض إلى المريخ بل إلى الشمس. معرفة فى هذا العصر تهيمن على ما فى الأرض وما فوق الثرى. وتخترق طباق الجو متحسسة آفاقا بعد آفاق من أغوار الكون البعيد. كتب الدكتور فاروق الباز الخبير فى غزو الفضاء عن حاجة العرب إلى "متنقل فضائي" يستعينون به على اكتشاف أرضهم وما أودع فيها من خيرات، وأهاب بالحكومات العربية أن تمول هذا المشروع، قال: "ليس من المستبعد فى نظرى أن تخطو دولة أو دول عربية هذه الخطوة فتحقق ما فيه الخير للعالم العربى كله. نحن نعلم أن الصحراء تكون 96% من جملة الأراضى العربية، ولابد من الانتفاع بجزء كبير من هذه الصحراء إلى جانب دراستها دراسة علمية صحيحة فنحن لا نعلم عن الصحراء إلا قليلا، وربما كان سبب هذا أن علماء الغرب لم يهتموا بالصحراء لقلة الصحارى فى بلادهم ولصعوبة التنقل فى صحرائنا الشاسعة..!! ويلزم العلماء العرب أن يدرسوا الصحراء وتضاريسها وتراكيبها دراسة تفصيلية، لأن البادية منبع كل ما هو عربي. والصحراء تحيط بالعرب من كل ناحية، يتضح هذا لرواد الفضاء فى المدار الأرضى وضوحا تاما حتى أن رواد القمر كانوا يتعجبون لظهور الصحراء العربية فى صورهم الملتقطة كتلة واحدة على بعد 4000000 كيلومتر". قال: "وتعتبر الصحراء خزانا عظيم الشأن للنفط وللمياه الجوفية. ويصلح بعض أجزائها للزراعة المثمرة. وأهم من ذلك كله أن الصحراء خزان عظيم لطاقة لا نهاية لها هى الطاقة الشمسية. ولذلك يجب أن تشتمل دراسة الصحراء العربية تحديد أصلح الأماكن لأبحاث الطاقة الشمسية وطرق الإفادة منها. ومن الناحية الاجتماعية يجب أن تشمل الدراسة التعرف على(2/209)
الأماكن المختارة لمعيشة الإنسان وإنشاء المدن الكبيرة والصغيرة وطرق المواصلات ومنتجعات السياحة والترفيه، وتحديد بنية الخضرة فى الصحراء لاستغلالها، ومعرفة المؤثرات المختلفة على حياة البدو. إلى غير ذلك مما يجعل الصحراء بقاعا لائقة للعيش الكريم". ص _199
قال: "وينجح هذا العمل إذا تم على مستوى عربى جماعي! فالصحراء العربية برغم ترامى أطرافها إقليم واحد له ميزات ومعالم جغرافية واحدة، ولا صلة لهذه الوحدة بالحدود السياسية الوهمية بين الدول وخطوط الشتات التى مزقت الكيان الواحد". قال: "أما المطلوب لدراسة الصحراء على المدار الأرضى فهو فى اعتقادى قمر صناعى يرحل إلى الفضاء مع "المتنقل الفضائي" - الذى سبق للدكتور الباز اقتراحه - يرجع صوره الملتقطة إلى الأرض رواد الفضاء المختارون، وذلك بين آونة وأخري! ويكون هذا القمر عربيا فى أغلب نواحيه، يختار مكوناته علماء يقومون بتشغيله، وتدرس المعلومات المرسلة فى عدة معاهد عربية أو فى مركز عربى موحد تشترك فيه الدول العربية كلها". قال "وكنموذج للمكونات التى يجب أن يشتمل عليها القمر الصناعى العلمى ينبغى وجود عدة "كاميرات" أهمها "كاميرا" للتصوير الطبوغرافي، و"كاميرا" للتصوير الدقيق، أى بانورامية و"كاميرا" لأخذ الصور المتعددة الأطياف، على نمط أجهزة لاند سات بل أكبر دقة وأقل تعقيدا. الكاميرات الطبوغرافية تلزم لأخذ الصور المطلوبة لخرائط على مقياس 1 : 150000 من ارتفاع 180 كيلومتر، وطول عدسة هذه "الكاميرا" هو 305 ملليمتر ومساحة الصورة الواحدة 23 * 46 سنتيمتر.. الخ". إننى تعمدت هذا النقل ليعلم من يجهل أن دراسة الكون شيء مثير وخطير ولابد منه لدنيانا وديننا معا. وأن هذه الدراسة برع فيها غيرنا ونبت لديه جيل من الرواد والباحثين العباقرة على حين تراجعنا نحن وراء وراء. إن هذا التخلف إذا بقى فسوف تتلاشى عقائد الإيمان بالله واليوم الآخر، وينهزم التوحيد هزيمة نكراء..(2/210)
وإننى لأصرح دون مواربة أن هذا التخلف جريمة دينية لا تقل نكرا عن جرائم الربا والزنا والفرار من الزحف وأكل مال اليتيم وغير ذلك من الكبائر التى ألفنا الترهيب منها. بل لعلها أشنع وأوخم عقبي. إن الجو الذى يحيا فيه قارئ القرآن يسع البر والبحر. والسماء والأرض، ويطلق الفكر سابحا فى ملكوت لا نهاية له. ص _200
ويؤكد للإنسان إنه ملك يخدمه كل شيء فما الذى جعل الفكر الدينى يعيش فى قوقعة؟ إننى أحس فزعا كبيرا عندما أرى بعض المتصدرين فى العلوم الدينية - هكذا يوصفون - يمارى فى دوران الأرض أو ينكر وصول الإنسان إلى القمر! لماذا ؟ لأنه يعيش في مغارة سحيقة صنعها أشخاص قاصرون، لا يتصلون بحقيقة القرآن إلا كما يتصل القروى بعلوم الذرة.. وإذا كنا هنا قد أطلنا الكلام فى التسامى الروحى للإنسان فلنذكر أن القرآن الكريم ينشد التسامى العقلى والخلقى معا. ويشدد النكير على السقوط الفكرى كما يشدد النكير على السقوط النفسي. أى أنه يحارب الخرافة بالقوة نفسها التى يحارب بها الرذيلة. بل إن منابع الإيمان فى نفس الإنسان تنبجس من علم عميق محيط دارس للكون دراسة ملاحظة وتجربة واستقراء لا دراسة تخمين وظنون وخيال.. وإذا لم تنبعث نهضتنا من هذا الأصل فلن تكون نهضة إسلامية صحيحة. إن هذا العلم بالمادة، بالفطرة التى فطر الله الكون عليها، بالسنن التى تحكم هذا الكون علوه وسفله، وطوله وعرضه، إن هذا العلم ينظم الإنسان مع الملائكة فى الشهادة لله الكبير بالوحدة والعدل. نعم إن أولى العلم، والملأ الأعلى يؤكدون هذه الحقيقة التى شهد الله بها لنفسه فقال: ( شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم ). ص _201(2/211)
نحو سلفية واعية الاصطلاح الشائع أن المذاهب الفقهية لا تعدو أن تكون وجهات نظر محترمة فى العبادات والمعاملات، وأن الوحدة الجامعة بين أتباعها لا ينكرها أو لا يخدشها عاقل، وأنه لا يجوز إطلاق كلمة فرقة على الحنفية أو الحنبلية مثلا، فإن التبعية المذهبية ما كانت لتميز إحداهما عن جماعة المسلمين... أما اصطلاح فرقة فيتناول فى تاريخنا أصحاب الاختلاف العقائدى أو السياسى فيقال فرقة المعتزلة، أو المرجئة، أو الشيعة إلى آخره... ولا مشاحة فى الاصطلاح، وعذر الذين فرقوا بين المذاهب والفرق أن التنازع فى الأصول غير التنازع فى الفروع، وأن النتائج الكبيرة هنا غير النتائج المحدودة هناك... وأريد أن أقف وقفة تأمل فى هذه القضية، إنه من فضل الله على سلفنا الأول أنه لم يتقعر فى بحوث ما وراء المادة، ولم يحاول استكناه الغيبيات، بل كان جيلا مستقيم الفطرة، سوى النظرة، أحسن علاقته بالله فى العبادة الخاشعة، وأحسن علاقته بالناس فيما التزمه من خلق حسن وعدالة مطلقة... وقد أعانه ذلك على إبلاغ رسالة الإسلام، فشرق وغرب، وتألق وتأنق، واندكت أمام عزماته الصعاب والعقاب... ولو أنه اشتغل بالفلسفة اللاهوتية، والمناظرات الكلامية ما خرج من جزيرة العرب، بل لأرسلت له فارس أو الروم كتيبة من كتائبها تركته شذر مذر بين الرمال والتلال..!! فلماذا ذهبت الأجيال الزاكية،، وولى رهبان الليل فرسان النهار، خلقت البطالة ناسا يحسنون اللغو، ويطيلون الفكر العابث والنظر الشرود! وأوجد الفراغ مجالس كلامية كثيرة كان لها فى تاريخنا وكياننا أثر رديء.. ونستطيع القول الآن بأن العراك الذى نشب كان جهادا فى غير عدو، أو كان حربا عمياء أذكى نارها المراء والغباء... فالخوارج حين كفروا العصاة كانوا جهلة بطبائع البشر، وعجزة عن فهم الأسباب الدخيلة والأصيلة فى الانحراف عن الطريق القويم... ص _202(2/212)
والمرجئة حين هونوا قيم الصالحات، ومقارفة السيئات كانوا جهلة بحق الله، وما أوجب على عباده، وكانوا عجزة عن صيانة المجتمعات وتحصينها ضد التحلل والعطب... ودعك من المتقعر السمج الذى تساءل: كيف كلم الله موسى تكليما؟ أكان الكلام بلفظ وصوت أم ماذا؟ والسمج الآخر الذى تساءل: كيف اتخذ الله إبراهيم خليلا؟ وكيف انعقدت مودة بين الله وعبده؟ ثم دعك من تقليد المعتزلة لليونان فى نمط تفكيرهم البالي، لقد اقتفوا أثر أرسطو فى فهم الألوهية، ومعروف أن أرسطو أوغل فى تنزيه إلهه حتى قطع علائقه بالأرض وما فيها، لأنه أكبر من ذلك! وجرده من أن تكون له صفة فوق الذات، لأن مقتضى التوحيد أن يعلم بذاته، ويرحم بذاته، ويقدر بذاته، فلا تكون له صفات العلم والرحمة والقدرة..!! وهذا التفكير لا وزن له من ناحيتى العقل والنقل، ولكن المتأثرين قديما بالغزو الثقافى تبنوه وشغلونا به، وأقحموه إقحاما على تفكيرنا النظيف... ماذا لو بقى منهج السلف يخط أصول الإيمان كما ورثناها عن نبينا وصحابته، واشتغل الجمهور بما يرفع مستواه فى معاشه ومعاده؟ تلك صورة سريعة للهيجان العقائدى الذى اكتنف تاريخنا العلمى أول الأمر ثم تلاشى منه ما تلاشى وبقى منه ما بقي... على أن هناك خلافات قد تنشأ من التدبر الذاتى للنصوص وقد نظرت فى هذه الخلافات فوجدت ما بها من نزق واستطالة أكثر مما بها من ذكاء وتعبد لله. فقضايا خلق الأفعال، والتحسين والتقبيح كان يمكن علاجها بأفضل من الأسلوب الذى مزق الشمل وقسم الأمة.. نعم من شيوخنا من رأى أكثر الخلافات لفظيا لا ثمرة له، فالذين أنكروا رؤية الله مثلا أنكروا رؤية مادية لها جهة وتحيز وانحصار! والذين أثبتوها لم يقرروا لها هذه الخواص ولم يقيسوا غائبا على شاهد... والذين قالوا بالصلاح والأصلح لم يحسنوا اختيار العبارة المهذبة، وهم إنما عنوا وصفه بالحكمة والرحمة كما قال تبارك اسمه عن نفسه ( كتب على نفسه الرحمة ليجمعنكم إلى(2/213)
يوم القيامة لا ريب فيه..). ص _203
وهذا الجدل بعيد عن دائرة العقيدة عند أولئك المعقبين، يقول الشيخ محمد المدني: إنها نظريات كلامية لا عقائد تعتمد على اليقين الذى يحف أصول الإيمان، فإن المسلمين متفقون على أن الله موصوف بكل كمال منزه عن كل نقص، ثم تأدى الجدل بعلماء الكلام إلى تساؤل: هل يجب على الله فعل الصلاح والأصلح أم لا يجب؟ فمن الناس من ينظر إلى الصلاح والأصلح على أنها كمال وجمال ويرى إيجاب ذلك على الله - لأنه أوجب على نفسه الرحمة - وهو متصف أبدا بكل كمال... ومن الناس من يقول: لا يجب على الله شيء، لأن الإيجاب تقييد، والله جل وعلا ليس عليه قيد، ولا يمكن أن نوجب عليه شيئا، ومن ثم يرفضون القول بأنه يجب على الله فعل الصلاح والأصلح.. كلا الفريقين عند التأمل يقصد إلى تقرير الكمال الأعلى، وإلى تنزيهه - سبحانه وتعالى - عما لايليق به... ولكن اختلفوا فى إدراك هذا الشيء بالذات. هل هو من قبيل الكمال فى جانب الله؟ أو هو يعد نقصا في جانبه؟ فلا يثبته مؤمن إلا وهو معتقد أنه كمال، ولا ينفيه مؤمن إلا وهو معتقد أنه نقصان. نقول: هذا اعتذار لبق عن المعارك التى أدارها الكلاميون قديما، وهى معارك كنا والله فى غنى عنها، اختلقها الترف العقلى ونماها وشغلت بها الجماهير عن خير الدنيا والآخرة، وبقيت فى كتب العقائد ذكريات مؤسفة...! وها قد سلخ الإسلام من عمره المديد أربعة عشر قرنا، وعانت أمته أياما عصيبة لانطلاقها بغير قواها، وإلى غير وجهتها..! ونحن ما نقلق من كثرة المذاهب الفكرية فى شئون الأدب والحياة، ولا من كثرة هذه المذاهب فى ساحات العبادة والمعاملة مادام المفكرون المجتهدون من أهل الذكر وذوى الأصالة العلمية والخلقية... وإنما نكره التفرق فى المعتقد، والتحزب فى أصول الديانة، ونؤثر دراسة العقائد من منهجها القرآنى ونبعها النقى كما تدفق به الوحى الأعلى، ونهض عليه سلفنا الصالحون... والسلفية ليست فرقة من(2/214)
الناس تسكن بقاعا من العرب وتحيا على نحو اجتماعى معين، إننا نرفض هذا الفهم ونأبى الانتماء إليه... إن السلفية نزعة عقلية وعاطفية ترتبط بخير القرون، وتعمق ولاءها لكتاب الله وسنة رسوله وتحشد جهود المسلمين المادية والأدبية لإعلاء كلمة الله دون نظر إلى عرق أو لون ؟. ص _204
وفهمها للإسلام وعملها له يرتفع إلى مستوى عمومه وخلوده وتجاوبه مع الفطرة وقيامه على العقل... وقد رأيت ناسا يفهمون السلفية على أنها فقه أحمد بن حنبل رضى الله عنه، وهذا خطأ، ففقه أحمد أحد الخطوط الفكرية فى الثقافة الإسلامية التى تسع أئمة الأمصار وغيرهم مهما كثروا ورأيت ناسا يفهمون السلفية على أنها مدرسة النص، وهذا خطأ ؟ فإن مدرسة الرأى كمدرسة الأثر فى أخذها من الإسلام واعتمادها عليه.. والحديث النبوى الشريف ليس حكرا على طائفة بعينها من المسلمين، بل أنه مصدر رئيسى للفقه كله... ورأيت ناسا تغلب عليهم البداوة أو البدائية يكرهون المكتشفات العلمية الحديثة ولا يحسنون الانتفاع بها فى الرسالة الإسلامية وحماية تعاليمها، يرفضون الحديث فى التليفزيون مثلا لأن ظهور الصورة على الشاشة حرام ويتناولون المقررات الفلكية والجغرافية وغيرها بالهزء، والإنكار، وهذا فى الحقيقة لا سلف ولا خلف، وأدمغتهم تحتاج إلى تشكيل جديد... ورأيت ناسا يتبعون الأعنت الأعنت، والأغلظ الأغلظ كل رأى قيل، فما يفتون الناس إلا بما يشق عليهم، وينغص معايشهم، ويؤخر مسيرة المؤمنين فى الدنيا، ويأوى بهم إلى كهوفها المظلمة.. وهؤلاء أيضا لا سلف ولا خلف، إنهم أناس فى انتسابهم إلى علوم الدين نظر، وأغلبهم معتل التفكير.. ورأيت ناسا يتبعون إلغاء الرقيق بعيون كئيبة! قلت لهم ألا تعرفون أن هؤلاء العبيد هم أحرار أولاد أحرار اختطفتهم عصابات النخاسة من أقطارهم، وباعتهم كفرانا وعدوانا ليكون لكم خدما، وهم فى الحقيقة سادة؟ ما السلفية التى تقر هذا البلاء؟ وما هؤلاء العلماء الذين ضاقوا(2/215)
بتحريرهم، وإلغاء بيعهم وشرائهم؟ ورأيت ناسا يقولون: إن آية ( وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا..) مرحلية! فإذا أمكنتنا اليدان لا نبقى على أحد من الكافرين! ص _205
قلت: ما هذه سلفية، هذا فكر قطاع طرق لا أصحاب دعوة شريفة حصيفة، وأولئك لايؤمنون على تدريس الإسلام لجماعة من التلامذة بله أن يقدموه فى المحافل الدولية والمجاهل العالمية... إن العالم الإسلامى الآن متخلف حضاريا، ومضطرب أخلاقيا واجتماعيا وسياسيا، وبينه وبين الأمم القائدة الصاعدة أمد بعيد... هذه الأمم تعلم ظاهرا من الحياة الدنيا، وتفتقر إلى جيل من البشر يذكرها بالله ولقائه. والإسلام وحده هو المالك لهذه الحقائق الهادية، ولكى تؤدى أمته رسالتها يجب عليها أمران: الأول: أن تطوى مسافة التخلف الحضاري، والاضطراب الإنسانى الذى يشينها ولايزينها... والثاني: أن تتقدم بشرف وكياسة لتقول للناس كلهم: ( يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا). ولكى ننجح فى عملنا يجب أن نقتفى آثار سلفنا... والسلفية هنا عنوان كبير لحقيقة كبيرة أساسها العقل الحر المكتشف الدءوب.. إن هذا العقل عندما رغب عن البحث فى الذات العليا وحقيقة الصفات، كان يحترم نفسه، والعلم المعاصر نجح أيما نجاح عندما بحث فى المادة التى بين يديه ولم يبحث فى ربها - سبحانه - فأنى له البحث فيما لا يملك ولا يقدر؟ من أجل ذلك نرفض النظريات الكلامية، ونقبل المذاهب الفقهية، ونصنع الشبكة القانونية التى يتطلبها انتقال الحياة من طور إلى طور... ومن أجل ذلك نهش للتقدم العلمى ونطوعه لنصرة مبادئنا ومثلنا... ومن أجل ذلك نرى ضرورة إزاحة البله وذوى العقد النفسية من قيادة الفكر الدينى فإنهم غشاوات على البصائر، وحجب على الضمائر.. إننا محتاجون إلى فقهاء يمعنون النظر فى سياسة المال والحكم، ويرفضون أن يسبقهم الإلحاد إلى اجتذاب الشعوب الغفيرة فى هذه الميادين الخطيرة.(2/216)
ومحتاجون إلى فقهاء يهيمنون على شئون التربية والإعلام برحابة الإسلام وبشاشته لا بالتزمت والتكلف.. * * * إن الفقه الإسلامى كما قدمه سلفنا خلق حضارة معجزة، أما الفقه الإسلامى كما يقدمه البعض الآن فهو يميت ولا يحيي... ص _206
بين النص والمصلحة جرت على الألسنة عبارة غامضة، أن عمر بن الخطاب ألغى بعض النصوص أو أوقف العمل بها على نحو ما، لأنه رأى المصلحة فى ذلك. وهذا كلام خطير، معناه أن النص السماوى قد يخالف المصلحة العامة، وأن البشر لهم - والحالة هذه - أن يخرجوا عليه، ويعدموه وكلا المعنيين كاذب ومرفوض، فلا يوجد نص إلهى ضد المصلحة ولا يوجد بشر يملك إلغاء النص ولننظر إلى ما نسب لعمر - رضى الله عنه - فى هذا الشأن، قالوا: منع سهم الزكاة أن يصرف للمؤلفة قلوبهم بحجة أن الإسلام استغنى عن تأليفهم. وفهم صنيع عمر على أنه تعطيل للنص خطأ بالغ، فعمر حرم قوما من الزكاة لأن النص لا يتناولهم لا لأن النص انتهى أمده. هب أن اعتمادا ماليا فى إحدى الجامعات خصص للطلبة المتفوقين، فتخلف فى المضمار بعض من كانوا يصرفون بالأمس مكافأتهم، فهل يعد حرمانهم إلغاء الاعتماد؟ أنه باق يصرف منه من استكملوا شروط الصرف. وقد رفض عمر إعطاء بعض شيوخ البدو ما كانوا ينالونه من قبل تألفا لقلوبهم أو تجنبا لشرورهم بعد ما استطاع الإسلام أن يهزم الدولتين الكبريين فى العالم، فهل يظل على قلقه من أولئك البدو النهابين أمثال عباس بن مرداس والأقرع بن حابس؟ أبعد هزيمة كسرى وقيصر يبقى الإسلام يتألف حفنة من رجال القبائل الطماعين؟ ليذهبوا إلى الجحيم إن رفضوا الحياة كغيرهم من المسلمين.. إن مصرف المؤلفة قلوبهم باق إلى قيام الساعة يأخذ من منه يحتاج الإسلام إلى تألفهم، ويذاد عنه من لا حاجة للإسلام إليه. وعمر وغيره من الخلفاء والحكام أعجز من أن يعطلوا نصا، وأتقى من أن يتقدموا بين يدى الله ورسوله، ويجب أن تفهم التصرفات بدقة ولاتساق التهم(2/217)
جزافا.. درء الحد بالشبهة ؟ وقالوا: أن عمر عطل حد السرقة عام المجاعة... نقول: أن الجائع الذى يسرق ليأكل أو ليؤكل أولاده لا قطع عليه عند جميع الفقهاء، فما الذى عطله عمر؟ ص _207
إن قطع السارق المعتدى الظلوم هو حكم الله إلى آخر الدهر، ولا يقدر عمر ولا غير عمر على وقف حكم الله. ولإقامة الحد شروط مقررة، فمن سرق دون نصاب، أو سرق من غير حرز لم تقطع يده، ولا يقال عطل الحد بل يقال: لم يجب الحد. والذى حدث أيام عمر أن المدينة وما حولها تعرضت لقحط عام، وفى عصرنا هذا نسمع بمجاعات فى آسيا وأفريقية يهلك فيها الألوف وليس بمستغرب أن يخرج الناس من بيوتهم يطلبون القوت من أى وجه وقد يحملهم ذلك على الخطف والسرقة، فهل تعالج تلك الأحوال بالسيف ؟ إن عمر درأ الحد بالشبهة - كما أمرت السنة الشريفة - ولا يعاب إذا توسع فى هذا الدرء، وقدر آلام الجياع فى تلك المحن المجتاحة.. ذلك تفسير ما روى عنه، وقد قال فيه "إنا لانقطع فى عام جدب" وقد نقلنا فى مكان آخر من كتبنا اكتشافه لعيلة بعض العمال، وقلة الأجور التى يتقاضونها مع وفائهم بالأعمال التى يكلفون بها، ورفضه - رضى الله عنه - لقطع أيدى الغلمان الذين سرقوا ناقة لابن حاطب بن أبى بلتعة. وظاهر مسلكه إجراء استثنائى تجاه ظرف استثنائي، وأنه نفذ الحد عندما وجب، ودرأه بالشبهة عندما لم يقم، ولا يمكن أن يفهم ذلك بأنه وقف للنص أو تعطيل له. جواز تقييد المباح : وقالوا: أن عمر حرم الزواج بالكتابيات معطلا بذلك قوله تعالى : (..والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين..). ونقول: إن الزواج باليهوديات والنصرانيات مباح على الصفة التى ذكر الكتاب العزيز. فمن شاء فعل ومن شاء ترك وفق رغبته، وقد تقوم حوافز على الفعل أو على الترك لا تغير الحكم الأصلي. فإذا رأى الشخص أن ذلك الزواج وسيلة هداية إلى الحق فعل، وإذا رأى أحد أن(2/218)
ذلك يجعل سوق المؤمنات كاسدة ترك، ونصح غيره بالترك، وهذا ما فعله عمر. ص _208
قال ابن جرير بعدما حكى الإجماع على إباحة تزويج الكتابيات: وإنما كره عمر ذلك لئلا يزهد الناس فى المسلمات أو لمعنى آخر ثم قال: تزوج حذيفة يهودية فكتب إليه عمر "خل سبيلها" فكتب إليه حذيفة "أتزعم أنها حرام فأخلى سبيلها" فقال عمر "لا أزعم أنها حرام، ولكنى أخاف على المؤمنات أن تزهدوا فيهن وتقبلوا عليهن" أو كما قال. ونظرة عمر موضع تقدير، وهى لاتلغى نصا كما رأيت ولكنها تلفت النظر إلى مصلحة اجتماعية تجعل تناول المباحات أدق وأرشد... وللفقهاء بحوث فى تقييد المباح، وفى عصرنا تجنح حكومات كثيرة إلى حظر الزواج من الأجنبيات على رجال السلكين السياسى والعسكري، وإنما تفعل ذلك حفاظا على أسرارها وأمانها.. ويرى الشاطبى أن تقييد المباح لا شيء فيه إذا كان من دائرة "العفو" أى مما سكت الشارع عنه أما إذا كان هناك نص بالإباحة فلا مكان لقيد ما، حتى لا نحرم ما أحل الله... وهذا نظر دقيق، وفى قضية الزواج باليهودية التى كرهها عمر نراه أكد أصل الحل والحرمة، ولكنه كره من رجل كبير مثل حذيفة بن اليمان أن يسيء إلى المؤمنات بما قد يضيرهن... أن المصلحة لابد من رعايتها، ومعنى النص الشرعى أن المصلحة ارتبطت به أبدا، فهو دليلها وضمانها وأى تعطيل له فهو خدش للمصلحة أو تطويح لها.. ونحن نلحظ فى العقوبات الشرعية المنصوص عليها أنها تناولت عددا معينا من الجرائم، فالحدود المقررة تعد على الأصابع... ويستطيع الحاكم فى جرائم لا تحصى أن يضمن المصالح بما يشاء من عقوبات. هناك جرائم الربا والغصب والفرار من القتال والغش والخيانة وكذلك أكل مال اليتيم وكل أنواع العدوان على المال والعرض والدم التى لا تتناولها الحدود أو ضروب القصاص، وهذه سيئات كثيرة ودائرة التعزير تسعها، والقضاء يقدر على إرصاد ما يرى من عقوبات تحفظ مصالح الأمة وتقر الأمن هنا وهناك. إمضاء أمر(2/219)
الله نماء وبركة: إن المصلحة لا يمكن أن يحفظها تعطيل نص، فإن إمضاء أمر الله نماء وبركة وفى الحديث أن أبا هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لحد يقام فى الأرض خير لأهل الأرض من أن يمطروا ثلاثين صباحا". ص _209
وعندما يشكل المجتمع بالوعد والوعيد والرغبة والرهبة وفق أوامر الله سبحانه، فإن الرخاء يعم والشؤم يستخفى والمخاوف كلهن أمان.. والفقه الصحيح أن نتعرف على المصلحة حيث لا نص، وأن نجتهد فى تفهمها ثم تحقيقها ناشدين إرضاء الله وخير الأمة. الإسلام مثلا لم يضع رسما محددا لأسلوب الحكم، وإنما وضع له أخلاقا وقيما تصان، فكيف نولى حاكما وكيف نعزله؟ وكيف نحاسبه ونراقبه؟ ما هى أجهزة الشورى؟ وكيف نستوثق من التقاء الآراء الناضجة فيها؟ وكيف نمضى فى مجراها دون إرهاب أو إغراء ؟ للأمم فى هذه الميادين أن تجتهد فى وضع النظام الذى يحقق مصلحتها دون قيد ما. وأذكر أن أحد الناس سألنى - ورئيس الجمهورية يختار لبعض سنين - فقال أليست هذه بدعة؟ قلت: ما البدعة؟ قال توقيت مدة الرئاسة. فإن الأصل اختيار الحاكم مدى الحياة. قلت له: التوقيت والإطلاق سواء من الناحية الفقهية، وتتواضع الأمم على ما تراه أكفل لحقوقها، فإذا آثرت أن يكون اختيار الحاكم لأمد معلوم فلها ذلك.. قال: كان اختيار الخليفة الأول مدى الحياة.. قلت: لقد آثر الصحابة أحد الوجوه ولا تحريم للوجه الآخر.. قال: ألا يكون سنة؟ قلت: لا.. لا سنة إلا بنص، ولا نص هنا. إن فعل النبى – صلى الله عليه وسلم -. قد يكون دليل إباحة، وقد يكون دليل أفضلية، ولا وجوب أو ندب إلا بدليل أو بنص. وفى مجال المصالح المرسلة يستطيع الساسة المسلمون أن يصنعوا الكثير لأمتهم على ألا يصطدموا بنص قائم، فإن هذه النصوص معاقد المصلحة العامة وإن عميت عن ذلك أنظار. الأصل فى العبادات التوقيف وفى المعاملات التعليل: وتتصل النصوص بنوعين من السلوك يغاير أحدهما الآخر، وذلك التغاير(2/220)
يرجع بدءا إلى الطبيعة البشرية فهناك أعمال محتومة يباشرها الناس دون انتظار وحى ملهم كالزواج مثلا، فإن البشر منذ بدء الخليفة اتجهوا إلى إجابة غرائزهم بالزواج، ولبقاء ص _210
نوعهم ولتجميل معيشتهم.. فلما جاء الدين كان إرشاده لهذا النوع من السلوك رفض الزواج بالمحارم وبناء الأسرة على الاختيار لا على الإكراه وتشريع آداب كثيرة فى العلاقات الجنسية وما ينشأ عنها. وقد تبايع الناس قبل مجيء الوحي، فلما بعث الرسل هذب المعاملات التجارية بما صانها من الغش والقسر والربا والاحتكار وغير ذلك من تظلمات الأثرة والجشع. فالتشريع فى ميدان المعاملات - كما قال فقهاؤنا - يقوم على رعاية المصلحة وضبطها، ثم إشراب هذه المعاملات رقابة الله وانتظار ثوابه. لكن هناك تشريعات أخرى تتصل بعبادة الله سبحانه، إننا قد نعرف ربنا بفطرتنا السليمة، بيد أن الأسلوب الذى نترجم به عن حبنا له وعن خضوعنا وإخلاصنا ليس من وضعنا نحن.. إنه من حق الله وحده، فهو الذى يعرفنا بأسمائه الحسنى وهو الذى يعلمنا كيف نصلى له وكيف نصوم وكيف نحج بيته العتيق. إن نصوص العبادات أو المعاملات سواء فى ضرورة الاحترام والإنفاذ، ومن حسن الفقه أن نعرف المحور الذى تدور عليه التعليمات الدينية فى كلا المجالين. وفى ذلك يقول الإمام الشهيد حسن البنا "ورأى الإمام ونائبه فيما لا نص وفيما يحتمل وجوها عدة، وفى المصالح المرسلة، معمول به ما لم يصطدم بقاعدة شرعية، وقد يتغير بحسب الظروف والعرف والعادات، والأصل فى العبادات التعبد دون الالتفات إلى المعاني، وفى العاديات الالتفات إلى الأسرار والحكم والمقاصد".(2/221)
المقدمة يعد فضيلة الشيخ/ محمد الغزالى من أبرز علماء الأمة الإسلامية ومفكريها بالقرن العشرين الذين أثروا الحياة الدينية والفكرية بآرائهم المتجددة فى سبيل تنوير وتبصير المجتمع المسلم بأمور دينه. وقد كان لآرائه وأفكاره الدينية المتوازنة بين إصلاح الإنسان وإعمار الدنيا وإعمار الآخرة أثره البالغ فى إحياء وبعث الروح الدينية الصحيحة فى نفوس العديد من المسلمين ليس فقط بمصر أو العالم العربى وإنما على نطاق العالم الإسلامى بأثره. وقد كان أهم ما يتميز به فضيلة الشيخ المجدد/ محمد الغزالى جرأته فى الحق حتى أصبح رائدا لمنهج يعتمد على الفهم الصحيح للنصوص القرآنية والأحاديث الصحيحة وسيرة السلف الصالح والمصلحة العامة للمسلمين ومتطلبات العصر. ولهذا فقد اتفق من اتفق معه واختلف البعض حول آرائه وفتاواه العصرية ولكن من المؤكد أن الجميع قد انجذب لسحر بيانه ووضوح حجته. ومن خلال ذلك الزخم الهائل من تراث فضيلة الشيخ/ محمد الغزالى قام الأستاذ/ عبد الحميد حسانين محمد بجهد طيب فى جمع المقالات غير الدورية والتى قام الشيخ بنشرها فى كبرى المجلات والدوريات بأنحاء العالم الإسلامى عسى أن ينتفع المسلمون بآرائه وأفكاره. وقد عنيت دار نهضة مصر بنشر هذه المقالات فى أجزائها الثلاثة رغبة فى الحفاظ على تراث الشيخ الجليل.
ص _005(3/1)
من العلم إلى الإيمان * العقل المستقيم لابد أن يصل إلى الله. وتفكيره الجيد لن يبعده عن الله أبدا مهما طال المدي! * لقد بدأت الدراسات الدينية فى الغرب بعيدة عن الدين، بل كافرة به؛ لأن الدين الذى ورثته يجا فى المنطق وينأى عن العقل، ولا غرو إذا بدى العلم ملحدا. وأخذ العلماء طريقهم فى بحث المادة وخصائصها وقواها، ينقبون فى فجاج الأرض وآفاق السماء فبوغتوا بما يقودهم قودا إلى الله، ويدلهم على عظمته ومجده. إن الفكر الصائب يستحيل أن يباعد عن الله! إنه يسوق إليه سوقا لطيفا! لماذا؟ ( إن ربي على صراط مستقيم ). إذا كان هدف ما على بعد ميل، فإنك بالغه حتما إذا سرت متجها إليه، المهم أن تسير فى اتجاه صحيح! إن العوج والشرود لا يقرران حقيقة، ولا يوصلان إلى غاية. وقد اختلفت مع بعض أصدقائى فى جملة قضايا جادة، ولم أغضب منهم مع خطورة الموضوع، فقال لى أحد الناس: لماذا لم تقاطع أولئك الأصدقاء الشاردين؟ فقلت إنهم أخطأوا مخلصين، ولهم فكر حسن، وسوف يقودهم فكرهم السليم إلى الحقيقة يوما ما. العقل الجيد مادام يلتزم منهجه فسيعرف ربه إن قريبا وإن بعيدا (إن ربي على صراط مستقيم ). وقد قرأت لنفر من أساطين العلم المادى كلمات صادقة فى هذا المجال أنقلها هنا مع تصرف يسير يضبط معناها. يقول الفلكى الإنجليزى "سير جيمس جينز": "أما الآن فالآراء متفقة إلى حد كبير - فى الجانب الطبيعى من العلم - اتفاقا يقارب الإجماع، على أن نهر المعرفة أخذ يتجه نحو حقيقة غير مادية، وغير آلية!! وبدأ الكون يلوح أشبه بفكرة عظيمة منه بآلة عظيمة!! ونحن واجدون فى الكون دلائل تنبئ عن وجود قوة مدبرة مسيطرة بينها وبين عقولنا الفردية شيء مشترك"!! ص _006(3/2)
هذا آخر ما يمكن أن يقوله عن الله الحى القيوم المحيط المهيمن باحث فى الكون لا يعرف الإسلام. كانت بيئة هذا العالم الفلكى تتوارث أن الكون ركمت مادته جزافا، بل إنها نشأت كذلك.. فإذا التأمل الطويل يكشف عن قوانين بالغة الدقة، يشرف عليها عقل فردى واسع الذكاء..! ولو عرف هذا الرجل الإسلام لقال كلاما آخر يستند إلى وحى أعلى وتصور أحكم وأنى له أن يعرفه؟؟ وهذا باحث مشغول عن اليوم الآخر لا يفكر فى حياة بعد الموت، إنه "آرثر كومبتون" الحائز على جائزة نوبل! "فيزياء الذرة"، وتخصصه لا علاقة له بالروح فإن العلم يرى أن المادة وحدها موضوعه، وأن ما وراءها لا يسمى علما يقول ذلك الباحث: "إننى فى معملى لا أعنى بإثبات حقيقى الحياة بعد الموت.. ولكننى أصادف كل يوم قوى عاقلة تجعلنى أحس إزاءها بأنه يجب على أن أركع احتراما لها..". إن الرجل تروعه حكم شتى تتراءى له وهو يعمل متحدثة كلها عن بديع السموات والأرض، الذى خلق كل شيء بقدر، وهدى أجزاء الذرة إلى الانتظام فى فلكها دون اعوجاج أو استرخاء.. إنه يرى لزاما عليه أن يركع أمام ذلكم المليك المقتدر! ولطافة الصنعة تبعث على الدهشة والإعظام. والقرآن الكريم يلفتنا إلى ذلك عندما يحدثنا عن اخضرار الأرض السوداء تحت مواقع المطر: ( ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة إن الله لطيف خبير ). اللطافة والخبرة صفات الخالق العظيم، وإنها لصفات غريبة الآثار عندما تنشيء الحياة وتحيى الموات وتفتق الثرى الهامد عن حبوب وفواكه وخيرات لا حصر لها.. ألا يستحق صاحب هذه الصفات أن نركع له..؟ واللطف فى ذلك الإيجاد يعادله اللطف فى تصريف الأقدار بين الناس، وقد استولى هذا الشعور على فؤاد يوسف الصديق عندما وازن بين ماضيه وهو صبى مختطف رقيق وبين حاضره وهو ملك مهيب عزيز، وكيف رتب القدر الأحداث التى ص _007(3/3)
تمخضت عن تلك النتائج؟ فما ملك نفسه أن يقول: (إن ربي لطيف لما يشاء إنه هو العليم الحكيم). الله هو الحقيقة كلها إن عملنا - نحن البشر - قليل فى الكون، أما العمل الأعظم فهو الله الكبير. ماذا صنع الفلاح فى مادة القطن الذى جناه؟ أو فى جسم التفاحة التى قطفها؟ إن ما لنا فى هذا الحصاد تافه، أما ما لله فهو الحقيقة كلها.. ونحن قد نحسن أو نسيء فى استخدام المفاتيح التى يسرت لنا، أما الخزائن وما فيها، بل المفاتيح نفسها فليست من صنعنا. ولست أنا الذى أردد هذه المعاني، إنه "إنشتين" أكبر عالم كونى فى الأعصار الحديثة، فلنسمع إليه وهو يقول: "إن الشعور الدينى الذى يتملك الباحث فى الكون هو أقوى حافز على متابعة البحث العلمي، ودينى هو إعجابى - فى تواضع - بتلك الروح السامية التى لا حد لها، تلك التى تتراءى فى التفاصيل القليلة الضعيفة العاجزة هو إيمانى العميق بوجود قدرة عاقل مهيمنة تتراءى حيثما نظرنا فى هذا الكون المعجز للأفهام.. (ذلك هو فهمى لمعنى الألوهية)". وهذا العالم الكونى صادق الحسن فيما يعبر عنه، وإن جاءت عبارته دون ضوابط النقل التى حفظناها. وحسبه فى أفقه البعيد عن الوحى أن يتذوق هذه المعانى ويجليها. إنها المعانى الناضجة من قوله سبحانه : (الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل * له مقاليد السموات والأرض..) وقوله (إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ذلكم الله فأنى تؤفكون ). وهى المعانى التى لخصها الفلاسفة فى طبيعة العلاقة بين الممكنات كلها وبين واجب الوجود، فإن العوالم كلها ليس لها من ذاتها وجود، وإنما يفاض عليها كيانها الذى تظهر فيه من موجد أعلى ، فلا وجود فى الحقيقة إلا منه. ص _008(3/4)
وقد يبالغ بعضهم، أو تغلبه نشوة إيمان رفيع فيقول: لا وجود فى الحقيقة إلا له... وليس المراد إنكار العالم المحسوس، وإنما المراد إنكار أى دور إيجابى له فى قصة الحياة، فهو منفعل لا فاعل.. والحقائق الدينية والعلمية والفلسفية تتساوق كلها إلى هذا القرار.. ومن الخير على أية حال أن نضبط عباراتنا حتى لا توقع فى لبس، ومن الخير كذلك أن نحسن ظنوننا حتى لا نتهم أولى الألباب. ويمتاز الإسلام بأنه بنى الإيمان الوثيق على ملاحظة آيات الله فى الكون وتتبع العلامات التى بثها الله هنا وهناك لتدل عليه وتسوق إليه. وفى تعريف الناس بربهم من خلال هذا المنهج قد ترى تساؤلات مثيرة، وتقريرات معجبة! وكم أشعر بالرقة والإعظام وأنا أسمع المولى الجليل يحدث عباده عن نفسه: ( ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكنا... ). إنه استعمل ضمير الغيبة حتى إذا فتح الأجفان المغلقة لتعرفه استعمل ضمير الحضور: (.. ثم جعلنا الشمس عليه دليلا * ثم قبضناه إلينا قبضا يسيرا ). ويتكرر الأسلوب نفسه بعد قليل: ( وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته ). وملاحظة قيام الله على خلقه وتدبيره لأمرهم وهيمنته على أحوالهم هو الطريق إلى ولايته واجتبائه، ولعل ذلك هو الذى جمع بين الآيتين المتعاقبتين فى قوله سبحانه: (وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين * ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون). ص _009(3/5)
نعم وما يكون وليا لله إلا الحاضر بقلبه ومعه تبارك اسمه، المشاهد لآثار أسمائه وصفاته فى ملكوته! وعندما ترجع إلى شهادات العلماء الكونيين الأجانب التى ذكرناها بين يدى هذا البحث تشعر بأن هؤلاء العلماء لم يسكروا بخمر إلهية كما يعبر الصوفيون عندنا، بل كانوا فى درجة عالية من الصحو العقلى أمكنتهم من رؤية المكون وهم يبحثون فى الكون! على أن العلم النظرى لا يكفي، ذلك أن الكون مسخر للإنسان ولن يكون طوع بنانه إلا إذا اكتشف قواه وسننه، وطوعه لخدمته، أو - بالتعبير الأدق - لخدمة رسالته التى من أجلها خلق...!! مفهوم المادة الواسع إنه لا تنافى بتة بين استعمار الإنسان فى الأرض، وارتفاقه لخيرها وبين أنه خلق لعبادة الله.. فليست العبادة انعزالا فى صومعة، وترك الحياة بعد ذلك تسير كيفما اتفق لها.. العبادة أن تعرف ربك من خلال دراستك لكونه الكبير، ثم تجعل نفسك والكون المسخر لك فى خدمة دين ربك وتثبيت تعاليمه فيما تحت يدك..!! لا تنافى أبدا بين قوله تعالى : ( أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها...) وقوله ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون). ومن هنا جاءت السنن تعلم أن الكدح فى الأرض جهاد وأنه يجب المضى فى الزراعة ولو قامت الساعة..! ويوجد الآن تدين وضيع الرتبة محقور الثمرة، لأنه مبتوت الصلة بالكون، بادى العجز فى عرصات الأرض، وهذا الصنف من المتدينين مسخر فى الأرض، وليس شيء من الأرض مسخر له.. وعباد المادة يستطيعون دعم الإلحاد بالأقمار المصنوعة، أما هو فأعجز من أن يدعم إيمانه المزعوم بشيء طائل، إلا العصا التى تساق بها الدواب، لأنه لا يعلو كثيرا عن هذا المنطق!! وندع الحديث فى هذا الموضوع لأنه ذو شجون وشجونه تنقض الظهر! بيد أنه لابد من لفت النظر إلى أن الهواء النقى لا تفيد منه إلا رئة سليمة، وأن الشعاع المضيء لا تفيد منه إلا عين بصيرة، وأن السيادة فى الكون وظيفة لا يطيقها المعلولون والمشلولون.. ص _010(3/6)
وجمهور كبير من المنتمين إلى الدين يحملون جراثيم أمراض مادية وأدبية لا حصر لها، تجعل انتماءهم إلى الدين قليل الجدوى.. وقد قسم علماؤنا النعم إلى حسية ومعنوية، وجعلوا الأخيرة أشرف، فالعلم خير من المال والخلق خير من الانحلال وهكذا.. والحق أن الانتفاع من الماديات لا يستطيعه إلا من له حظ من المعنويات، وأنه إذا كان لابد من فقد شيء فخسارة بعض الملذات الحسية واجب فى سبيل استكمال المعنويات والحفاظ عليها. وقد أثر الرجال الصالحون التضحية برغائب كثيرة كى يسلم لهم دينهم وشرفهم. وقد أنعم الله على العرب حديثا بالنفط، وأنعم عليهم قديما بالوحي، فكانت المنة عليهم برسالة السماء أرجح فى موازينهم وأضوأ فى تاريخهم. أما النفط الذى فجر المال أنهارا تحت أقدامهم فما تتم نعمه إلا إذا أحسنوا استغلاله، ودعموا به القيم وسدوا به الثغر!!! العمل قد يسبقه العلم به والناس فى هذه الحياة لا تصح إنسانيتهم ولا يحققون الحكمة من إيجادهم إلا إذا جعلوا نشاطهم مقسوما بين معاشهم ومعادهم، وعملوا لله كما يعملون لأنفسهم أو أكثر. والعمل لله يسبقه العلم به، والعلم به لا يتم تحصيله بترديد أسمائه ألوف المرات كما يوصى البعض، أو كما يفعلون! العلم بالله يجيء من تتبع آياته فى الأنفس والآفاق، ومن الصلاة له فى المراصد، والمعامل الحافلة بالتجارب والملاحظات.. ويسرنى أن بعض المتصوفين قد شرع يدرك هذه الحقائق! ترى هل وصل بعد قيام القطار؟ يقول الشيخ بهى الخولى رحمه الله: "معرفة الله تبدأ من شهود العقل لمعنى (الخالقية) التى تسند وجود الكائنات إلى الحق وحده – تبارك اسمه – فلا يكون فى الكون إلا ما هو سلب مطلق، ليس له من أمر نفسه أو غيره شيء، وخالق له الإيجاب المطلق فى كل شيء..! ثم تعلو مرتبة المعرفة رويدا رويدا بأن يلحظ الفكر فى الكائنات معنى النفع أو معنى أنها نعمة من المنعم جل شأنه. وفى هذه المرتبة من حسن الصلة بالله يذهب الفكر إلى شعاب(3/7)
من النظر تجلو الكثير من الصفات العليا، والأسماء الحسنى، ويعظم حظ المرء من الحكمة والمعرفة والعبر ويزدحم ضميره ص _011
بوجدانات الجلال والجمال ثم يقول رحمه الله: "ولعلنا ندرك الفرق بين مفهوم النعم الحسية والنعم المعنوية حين نقلب النظر بين هذين النوعين فى قوله تعالي: ( والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون * ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون) وقوله: ( لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ). ولسنا نجيز المقارنة بين النظم البلاغى لكلا النصين، فكلام الله فى درجة سواء من الإعجاز. ولا ندعى أن هناك فرقا بين النوعين فى معنى الإنعام، فكلاهما فضل الله ومظهر امتنانه.. وحسب النعمة شرفا أن يكون المنعم بها هو الله.. إنما نريد الفرق بين الأثر الذى يحدثه كل منهما فى حياة الإنسان وضميره". ولا ريب أن النبوات أنمى أثرا وأبرك عقبى من الآلاء الأخرى. وإلى هذا الملحظ جاء الأمر الإلهي : ( ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى * وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها..). ومع ذلك كله فلا نزال نؤكد أن المقارنة هى بين دنيا مقطوعة عن ربها الذى أسداها وبين عبادة تصل المؤمن بربه وتبصره برسالته فى هذى الحياة. لكن الدنيا التى تكون عونا على الدين، وسياجا يحميه ليست قسيما يقابل التقوى والإحسان، بل إن تحصيلها والذود عنها من صميم التقوى والإحسان. ص _012(3/8)
عندما يكون الإلحاد أذكى..!! قرأت للدكتور طه حسين، واستمعت له، ودار بينى وبينه حوار قصير مرة أو مرتين فصد عنى وصددت عنه! أسلوب الرجل منساب رائق! وأداؤه جيد معجب، وهو بين أقرانه قد يدانيهم أو يساويهم ويستحيل أن يتقدم عليهم... بل عندما أوازن بينه وبين العقاد من الناحية العلمية أجد العقاد أعمق فكرا وأغزر مادة وأقوم قيلا، وأكاد أقول: إن الموازنة المجردة تخدش قدر العقاد... وأسلوب زكى مبارك أرشق عبارة وأنصع بيانا من أسلوب الدكتور طه حسين، ولولا أن الرجل قتله الإدمان لكان له شأن أفضل... ودون غمط لمكانة الدكتور الأدبية نقول: إنه واحد من الأدباء المشهورين فى القرن الماضي، له وعليه..! وحسبه هذا... بيد أننى لاحظت أن هناك إصرارا على جعل الرجل عميد الأدب العربي، وإمام الفكر الجديد، وأنه زعيم النهضة الأدبية الحديثة...!! ولم أبذل جهدا مذكورا لأدرك السبب، إن السبب لا يعود إلى الوزن الفنى أو التقدير الشخصي، السبب يعود إلى دعم المبادئ التى حملها الرجل، وكلف بخدمتها طول عمره، إنه مات بيد أن ما قاله يجب أن يبقي، وأن يدرس، وأن يكون معيار التقديم!! تدبر هذه العبارة للدكتور "العميد" : "إن الدين الإسلامى يجب أن يعلم فقط كجزء من التاريخ القومي! لا كدين إلهى نزل يبين الشرائع للبشر، فالقوانين الدينية لم تعد تصلح فى الحضارة الحديثة كأساس للأخلاق والأحكام، ولذلك لا يجوز أن يبقى الإسلام فى صميم الحياة السياسية! أو يتخذ كمنطلق لتجديد الأمة(!) فالأمة تتجدد بمعزل عن الدين". الإسلام وحده يجب أن يبعد : ويمكن الرجوع لمثل كتابه "مستقبل الثقافة فى مصر" لتجد أشباها لهذه العبارات السامة. ص _013(3/9)
ويشاء القدر أن تقع عينى على هذه العبارة وقد قررت "إسرائيل" وقف الطيران فى شركة العال يوم السبت احتراما لتعاليم اليهودية!! إن الإسلام وحده الذى يجب إبعاده عن الحياة العامة! أما الأديان الأخرى فلتقم بأسمها دول، ولترسم على هداها سياسات..!! وظاهر أن الدكتور طه حسين كان ترجمانا أمينا لأهداف لم تعد خافية على أحد عندما طالب بإقصاء الإسلام وأخلاقه وأحكامه، وعدم قبوله أساسا تنطلق الأمة منه وتحيا وفق شرائعه وشعائره!! قائل هذا الكلام يجب أن يكون عميد الأدب العربى فى حياته وبعد مماته، وأن تشتغل الصحافة والمسارح بحديث طويل عن عبقريته، ليكون علما فى رأسه نار كما يقول العرب قديما... أما العقاد وإسلامياته الكثيرة فيجب دفنه ودفنها معه: ومع أن الرجل حارب الشيوعية والنازية وسائر النظم المستبدة، وساند "الديمقراطية" مساندة مخلصة جبارة، فإن العالم "الحر" ينبغى أن يهيل على ذكراه التراب، ليكون عبرة لكل من يتحدث فى الإسلام، ولو بالقلم! فكيف إذا كان حديثا بالفكر والشعور، والدعوة والسلوك، والمخاصمة والكفاح؟ هذا هو الخصم الجدير بالفناء والازدراء. ضرورة هتك الأستار: والقوى التى تعمل دائبة على تخليد الدكتور طه، وتجديد فكره، وإعلاء شأنه معروفة لدينا، ونريد أن نكشف عنها، إذ لا معنى لبقائها فى جحورها تلدغ ثم تستخفي، وتنال منا باسم حرية العلم، وهى لاتعرف من الحرية إلا لونا وحيدا: كيف تضرب الإسلام وتطفئ جذوته وتميت صحوته!! ذلك، إلى أن الريح تعصف اليوم ضدنا أكثر مما كانت تعصف يوم ألف الدكتور طه ضد ديننا وتراثنا، لقد أقامت اليهودية على أنقاضنا دولة تريد اجتياح حاضرنا ومستقبلنا، وهى تربى النساء والأطفال لتحقيق هذه الغاية، وتعتبر المدرسة ثكنة عسكرية، والثكنة معبدا دينيا، والتوراة دينا ودولة.. أما الصليبية العالمية فإنى أكتفى بنقل عبارات للشيخ "عبد الله سحنون" سجلها فى إحدى زياراته لأوروبا... قال: "أذكر للاعتبار(3/10)
أنى كنت فى أسبانيا ذات مرة، وصادف وجودى فى غرناطة يوم الاثنين، وهو يوم تعطل فيه الصحف الإسبانية، ولا تصدر فيه إلا جريدة واحدة تسمى ص _014
صحيفة الإثنين، فأخذت هذه الجريدة لأنظر فيها أنباء اليوم.. فإذا داخلها ملحق صغير للأطفال يكاد يستغرقه كله مقال رئيسى بعنوان "محمد النبى المزيف" كتب بلغة سهلة مبسطة، ولكنها مليئة بالهزء والسخرية!!! وقد بنى المقال على فكرة أن القرآن مقتبس من التوراة والإنجيل اقتباسا مشوها، لأن صاحبه - على حد تعبير الكاتب - كان أميا لا يعرف قراءة ولا كتابة، وإنما تلقف ما ضمنه كتابه من أفواه اليهود الذين كانوا يسكنون جزيرة العرب، ومن بعض الرهبان الذين لقيهم فى أثناء رحلته إلى الشام!!! وهكذا يعمل النصارى على تنشئة أبنائهم منذ الصغر على احترام عقيدتهم - وحدها - ويرابط الكاثوليك فى حصن غرناطة، مستأنفين إلى اليوم مطاردة الإسلام حتى فى نشرات الأطفال بعد أن أجلوا أتباعه من هذا الحصن قبل بضعة قرون"... هذا ما سجله الشيخ الأديب فى كتابه اللطيف "جولات فى الفكر الإسلامي" ومن حق القارئ أن يتساءل: إذا كانوا يربون أولادهم على هذا الغرار فكيف نربى نحن أولادنا؟! وما هى المناهج التى اختارها عميد الأدب العربى عندما كان وزيرا للتربية والتعليم، أو اختارها أمثاله لتخريج أجيال تعرف دينها ونبيها وتاريخها وتراثها؟؟ ويعلم أولو النهى وذوو الإنصاف أن الإسلام مخترع الحريات الدينية منذ العصور الوسطي، وصانع المجتمعات البعيدة عن التعصب الأعمى.. وأنه قدم للعالم حضارة فريدة، تجاور فيها أهل الكتاب مع علماء الإسلام، فكانت الحضارة الإسلامية نتاج جهود مشتركة وتعاون صالح بين الكثرة المسلمة والقلة اليهودية أو النصرانية.. الطائفية زرع الاستعمار: حتى جاء الاستعمار الحديث فشرع يشحن أفئدة الطوائف الدينية فى العالم الإسلامى بالحقد والغش على إخوانهم الطيبين، ويختلق حكايات مفتراة عن ظلم الأكثرية(3/11)
للأقليات الدينية، ويغرى نفرا من الغلاة بمطالب مجنونة لا حصيلة لها إلا زرع الفتن. ويقول الشيخ عبد الله سحنون فى هذا المجال: ... أحب أن أوضح هذه النقطة التى أصاب العالم الإسلامى منها خطر كبير، ذلك أن هذه الأقليات وإن كانت تتمتع بجميع الحقوق، ويتوفر لها ما ليس لأقلية أخرى فى بلد غير إسلامي، إلا أنها لا تقنع إلا بالهيمنة على أجهزة الحكم والقوانين الدستورية، واستطاعت بذلك إحكام سيطرتها على الدول التى تنتمى إليها... ص _015(3/12)
إن بعض هذه الدول كان فى دستورها أن دين الدولة هو الإسلام، فحذف هذا البند من الدستور إرضاء لأقلية متحكمة، وهدا أمر لا نظير له فى العالم أن تنقاد الأكثرية لحكم الأقلية...". قال: "... ولا نذكر هنا الأقليات الإسلامية الكبيرة فى الهند والصين والاتحاد السوفييتي، وإنما نذكر الأقلية الكاثوليكية فى المملكة المتحدة البريطانية، وهى أقلية تبلغ أربعة ملايين - تزيد إنجلترا قليلا عن خمسين مليونا من البروتستانت - ونسأل: هل دار بخلد هذه الأقلية أن تتحكم فى الكثرة المخالفة لها فى المذهب؟ هل فكرت فى معارضة الملكة عندما تؤدى القسم التقليدى على حماية الكنيسة الإنجيلية، والإخلاص لها عندما ترتقى العرش ؟ ويطرد هذا التساؤل عند الكلام على الأقليات الدينية فى ألمانيا وهولندا وسويسرا وغيرها...". ولا نريد أن نقتبس أكثر من ذلك، وإنما نريد المضى فيما بدأنا به، وإشعار الذاهلين بخطورة الثقافات المؤذية بل القاتلة التى روجها يوما ما أدباء ضعاف الخلق مرضى الإيمان.. فلما قضوا وتراجع مدهم أتى من يحاول استحياء فكرهم وتلميع أسمائهم حتى يقع الأغرار فى شركهم، ويستقر الأمر للاستعمار الصهيونى والصليبى على سواء...!! على حساب الإسلام الذاهب..!!! قصور معيب !!! ويحزننى أن أقول: إن الدكتور طه انتصر فى معارك كثيرة لأن خصومه لم يكونوا على شيء! فمن نيف وأربعين سنة أمر الدكتور - وكان عميدا لكلية الآداب بالقاهرة - بقبول طالبات فى الكلية لأول مرة فى تاريخ التعليم الجامعي... وانفجرت مراجل الغضب عند الأزهريين، وزلزلت الأرض زلزالها، فقد كان إلحاق النساء بالتعليم العالى شيئا إدّا.. والواقع أن جماهير من المتدينين كانت تستنكر تعليم المرأة فى أى مرحلة، وتعد تجهيلها من الإيمان(!!) ولو أنها غضبت لأن التعليم مختلط، وينبغى تخصيص كليات للبنات لكانت على حق!!!.. وفتحت بعد ذلك بعشرين سنة كليات للفتيات فى الأزهر لقد استيقظ بعد ما فاته(3/13)
القطار... إن التدين القاصر ينيل أعداءه مكاسب كبيرة دون جهد يبذلونه.. ص _016
والغريب أن هذا القصور المعيب لا يزال سمة غالبة على المتكلمين باسم الإسلام فى أماكن شتى! وفى قضايا سياسية واجتماعية بعيدة الآثار..!!! ألا فلنعلم أن الموقف السلبى لا يهزم العمل الخاطئ! إنما يهزمه بديل منصف نفاع للناس، حام لحقوقهم ومصالحهم. قد تكون "للديمقراطيات" الغربية هنات تنال منها، لكن هذه الأنظمة لا تهزمها قصيدة هجاء، أو خطبة رنانة! إنما يهزمها نظام ينفى الاستبداد، ويعز الشعوب، ويصون الفطرة، ويحترم البرهان، ويطارد الأوهام...!!! ولم تكن الجبهة الإسلامية قادرة على تقديم هذا البديل، فنجح سماسرة الاستشراق والتنصير فى اجتياح مواقع كثيرة... على أن الدكتور توقف عندما واجهه عاملون جدد فى حقل التراث، كان يبشر بعظمة اليونان وعراقة تاريخهم وحضارتهم، حتى كتب العقاد يثبت عكس ذلك، وكان يريد تغيير الكتابة العربية، ونشر مقالا أدخل فيه حروف العلة فى بنية الكلمة للدلالة على الحركات، ولكن الدعوة سرعان ما انهارت لأن حماة أشداء - من غير البيئة الدينية - بصقوا على الفتنة فانطفأت... ولست بصدد التاريخ لما كان، وإنما بصدد التوجس مما هو كائن، فإن العراك لايزال محتدما بين الإسلام ورسالته من ناحية، وبين الاستعمار العالمى وأحقاده التاريخية من ناحية أخرى، والمستقبل مقلق إذا بقيت شئون المدافعين على ما هى عليه الآن. مقابلة... ومقارنة!!! تسألنى كيف؟ والجواب: إن الهاجمين متفاهمون على الغاية المنشودة، متعاونون فى الطريق الطويل، يقيم بعضهم بعضا إذا كبا، ويغطيه إذا تعري، ومع أن الكثير منهم أخطاء مذلة فقلما تجد من يتتبعها وقد وزعوا الأدوار بينهم، ومشوا إلى هدفهم متساندين... أما نحن فما بيننا متقطع!! وإذا تصالح ندامى الحان، وتشاكس إخوان المسجد، فستنكسر المئذنة ويستولى السكارى على المحراب... اطلعت أمس على مجلة أحبها فقرأت فيها لمزا(3/14)
للأديب الحر المصلح عبد الرحمن الكواكبى وتفسيقا لرجلين من بناة النهضة الإسلامية الحديثة.. وأنا أحد تلامذة "المنار" والمستفيدين من تفسيره، ورأيى فى مدرسة "المنار" وشيخها "محمد رشيد" ، وأستاذه الشيخ "محمد عبده" حسن!! ص _017
وأنا أعرف أن المتنبى غفر الله له كان يحب المال إلى حد البخل! ويحب الإمارة إلى حد الجنون. ومع ذلك أطرب لشعره، وأستجيده وأستزيده، وإذا لم يكن أميرا لشعراء العرب فهو من قممهم! إننى لا أجعل عيبا ما يغطى مواهب العبقري! ثم لحساب من أهدم تاريخنا الأدبى والديني؟ ولمصلحة من أشتم اليوم علماء لهم فى خدمة الإسلام وكبت أعدائه كفاح مقدور...؟ ومن يبقى من رجالنا إذا أخذت تاريخ الشيخين أبى بكر وعمر من أفواه غلاة الشيعة، وتاريخ على بن أبى طالب من أفواه الخوارج، وتاريخ أبى حنيفة من أفواه الإخباريين، وتاريخ ابن تيمية من ابن بطوطة ، وتاريخ محمد بن عبد الوهاب من أفواه الأتراك... إلخ؟!! وددت لو أعنت على محاكاة أبى حامد الغزالى مؤلف "إلجام العوام عن علم الكلام" فألفت كتابا عنوانه "إلجام الرعاع والأغمار عن دقائق الفقه ومشكل الآثار" لأمنع الصغار عن مناوشة الكبار، وأشغلهم بما يصلحون له من أعمال تناسب مستوياتهم، وتنفع أممهم بهم، ولعلى أشرح سبب ذلك فى مقال آخر إن شاء الله . ص _018(3/15)
من طوى هذه الصفحة ونشر غيرها؟ المؤسسات التى تشتغل بالتنصير لا تخفى أغراضها، ولا تلتزم النزاهة فى وسائلها! ويسكت عنها فى أغلب الأحوال إذا كان عملها بين المسلمين مهما أسفت فى سلوكها! وربما تعرضت للنقد إذا كان نطاق نشاطها بين قوم آخرين. وقد قرأت فى صحيفة الجمهورية - المصرية - غضبة للرأى العام فى بريطانيا على هيئة "وورلد فيجن" التى تقوم بالتنصير فى أقطار أفريقية الوسطى والجنوبية وأمريكا اللاتينية. وتحت عنوان "معونات اقتصادية للضغط الديني" قالت الجريدة : إن من بين الاتهامات الموجهة للهيئة المذكورة لجوءها المتكرر إلى التهديد بقطع المعونات الغذائية لإرغام الفقراء الذين يتلقونها على حضور الأنشطة الدينية، وتعاونها مع قوى الأمن القمعية فى هذا المجال... وفشلها فى الدفاع عن حقوق الإنسان بين اللاجئين الذين تقوم برعايتهم". وأرى أن هذه التهم يتضاءل كل ما فيها من شر إذا ووزنت بما وقع أو يقع للمسلمين الذين يتعرضون للحملات التنصيرية ويذوبون فى صمت تحت وهج حقد لا يفتر!!. أحوال المسلمين فى الفلبين: نشرت مجلة "رابطة العالم الإسلامي" مقالا من كتاب لمؤرخ غربى منصف يصف أحوال المسلمين فى الفيليبين، والمقال تحت عنوان "عذراء ماليزيا" والمترجم المعلق هو الدكتور مصطفى مؤمن. وأنقل هذه العبارات من المقال الكبير: "إن لجنة تنمية (مينداناو) وضعت خطة لتطوير الصناعات هناك، غايتها إقصاء المسلمين وإحلال العمال الصليبيين محلهم، بحجة أن المسلمين لم يتلقوا تدريبات! ومن ثم كانت نسبة العمال المسلمين واحدا فى الألف. وجزيرة مينداناو يسودها المسلمون، وهم كثرتها الكبرى بيد أن التنظيم الإدارى للبلاد كان همه تشتيت الجماعات الإسلامية، وتفتيت كتلتها وإلحاق الفئات الإسلامية المهشومة بمناطق يسودها النصارى، وذلك لإفناء وطمس الشخصية الإسلامية. ص _019(3/16)
ثم يتحدث المؤلف عن الثروات المعدنية فى البلاد فيقول: لعل وجود الذهب فى (مينداناو) والفحم فى (زامبوانجا) وهى مناطق إسلامية ما يفسر الرغبة فى إخراج المسلمين وإحلال المهاجرين من النصارى محلهم... ويقول المؤلف: إن جماعة "إيجلاس" أو الفئران هى أخطر الجماعات الكاثوليكية وأشدها تعصبا ضد المسلمين، ولها تنظيم سرى هدفه الأول الاستيلاء على الأرض الإسلامية، وإبعاد أهلها عنها. ويتدرب أفراد هذا التنظيم فى إسرائيل!! تسعيرة للتنكيل: وحفزا للهمم فى إلحاق الأذى بالمسلمين والتنكيل بهم وضعت تسعيرة بالمكافآت التى تصرف لمن يصيب مسلما بإحدى هذه العاهات: 1 - أذن المسلم ثمنها 100 بيزوس. 2 - أنف المسلم ثمنه 100 بيزوس. 3 - إصبع المسلم ثمنها 50 بيزوس. 4 - كف المسلم أو ذراعه ثمنها 250 بيزوس. 5 - عين المسلم ثمنها ألف بيزوس. أي: ما يوازى خمسة وثلاثين جنيها استرلينيا. أرخص المسلمين !!! وتشن هذه العصابة حرب إبادة على المسلمين لإخلاء الأرض منهم، وتوريثها للصليبيين.. وذلك تحت سمع الحكومة وبصرها، ورضاها وتأييدها. يقول الدكتور مصطفى مؤمن: إن الرئيس "ماركوس" يؤمن بالمثل القائل: "فم يسبح ويد تذبح"!! فهو طالما أعلن للمسلمين: أنه مدين بحياته لجندى مسلم، أنقذه من الموت، إبان القتال مع اليابانيين... وبرغم هذا فأصابع الاتهام كلها تشير إليه، بل لاتشير إلا إليه فى جميع المجازر والجرائم وحمامات الدم التى تسبح فيها حيث الضحايا من المؤمنين الموحدين!! ص _020(3/17)
والرئيس "ماركوس" أنموذج عادى لأسلافه من الكاثوليك الإسبان الذين غزوا جزيرة سولو وسائر الجزر الإسلامية المجاورة، ونشروا فيها النصرانية بالسيف، وأطلقوا عليها اسم "الفيليبين" نسبة إلى ملكهم فيليب، أحد الذين أطاحوا بالوجود الإسلامى فى الأندلس.. وقد بدأ غزو هذه البلاد فى القرن السادس عشر، وإبرازا للغاية المنشودة منه، فقد رصت جثث المقاومين الشجعان على نحو هيئة صليب، وذلك سنة 1576م، ويقول المؤلف: إنه أول صليب صنع بأجساد المسلمين، ونرجو أن يكون آخرها..!!! ترى هل تحقق هذا الرجاء؟؟ حملة صليبية.. على أية حال لقد أخذت الحملة الصليبية مسارها المرسوم فى هذه الجزر النائية عنا(!) ففى هذه السنة أصدر الحاكم الإسبانى العام "فرانسيسكو دى ساندي" أمرا لقائد الحملة المغيرة على أرض الإسلام، هذا نصه: "إننى آمرك بسد أفواه الدعاة إلى دين محمد، إذ هو دين شرور وآثام! وليس هناك من بديل عن النصرانية عقيدة ودينا، ولما كان الدعاة القادمون من "بورنيو" مثلهم - يعنى مثل إخوانهم فى جزر سولو ومينداناو وغيرها - فواجبك مصارحتهم بأن غرضنا هو تعميم النصرانية! ولدى اعتناقهم لها فسنتركهم يعملون فى أرضهم دون أن يصيبهم أذى من جانب سادتهم النصارى الإسبان، وترصد بقوة لمن يدعو لدين محمد، وألق القبض عليه، ثم سقه إلى مكبلا مخفورا...". وظلت هذه الحرب الصليبية ثلاثة قرون، اعتمد المدافعون على أنفسهم فى كسر تيار الفتنة، وصد العدوان الهاجم من وراء البحار، على حين كان الإسبان يتقدمون نحو هدفهم بثبات ويضعون خططهم بتؤدة، وأوروبا كلها مسرورة بالثغرة التى أنشئوها فى جنب الأمة الإسلامية ويرتقبون تعميقها والنفاذ إلى ما بعدها.. وفى مطالع القرن العشرين هبط عدد السكان المسلمين إلى الثلث فى الجزر التى غلبت عليها التسمية الجديدة "الفيليبين". عذراء ماليزيا... ووقع تغيير جديد فى تاريخ الجزر المحروبة ففى 13 آب (أغسطس) 1898م نزل الأمريكيون(3/18)
بعذراء ماليزيا، فقد اشتروا هذه البلاد من مستعمريها القدامى بمائتى مليون دولار، أخذها الإسبان "خلو رجل" كما يقول المترجم. ص _021
وأعلن الشعب المسلم الثورة ضد الغزاة الجدد، واستعر القتال ثلاث سنين انهزم المسلمون بعدها!! وماذا يستطيعون؟ وفى آذار (مارس) عام 1901م تألفت لجنة من الكونجرس الأمريكى لوضع تشريعات أخرى للفيليبين. الحرب البكتيرية.. قال المؤلف: لقد حاولت صرف المسلمين عن دينهم دون جدوى، ولما يئست من تنصيرهم اتجهت إلى عمل آخر فقد رأى الأمريكيون أن خير علاج للمسلمين هو اجتثاث جذورهم بشن الحرب "البكتيرية" عليهم وعلى ماشيتهم، فاجتاحت أوبئة الكوليرا والجدرى والطاعون البانوبى جزيرة مينداناو ثم جزيرة سولو سنة 1903م. وبلغ ضحايا حرب الأوبئة حسب تقدير لجنة "تافت" مائتى ألف أو يزيدون، ونفقت مئات الألوف من الدواب بأوبئة الجمرة وطاعون الماشية... وهكذا خسر المسلمون أنفسهم وأموالهم بالخسيس المزرى من الغدر، كما تعرضت للهلاك آلاف مؤلفة من الدواب العجماء التى لاتعرف قبيلا ولا دبيرا...!! حملات الإفناء... ثم استقلت الفيليبين عقب الحرب العالمية الثانية، بعدما وضعت خطة للقضاء الأخير على المسلمين فى ظل حكم متعصب قذر!.. إن الغارة التى شنت على أرض الإسلام كانت من السعة بحيث شملت أغلب قارة آسيا ولنعترف بأنها نجحت فى إنزال رايات الإسلام عن بقاع كثيرة، بدءا من شرقى الأورال إلى أودية تركستان الخصبة إلى فيافى سيبيريا، إلى أعماق الهند، وسنغافورة، وتايلاند، والملايو وأندونيسيا... ومن مئات السنين ونيران المقاومة تشتعل، ومع تلاحق الهزائم فإن الجماعات المجاهدة لم يلحقها يأس، ولم تلق السلاح..!! وقد لبس الأعداء أقنعة شتى، وجربوا خططا ماكرة، واستعانوا بالتقدم العلمي، واستفادوا من الخطأ والصواب، ومع ذلك فالقتال ناشب، والنتائج إن استقرت فى ناحية فلم تستقر فى أخرى. ص _022(3/19)
أين نحن من هذه الحقائق؟!! وهنا أسائل نفسي. أين نحن من هذه الحقائق المذهلة؟ لقد درسنا ونحن طلاب تاريخ العالم القديم، وتاريخ العصور الوسطي، ونبذا كبيرة من التاريخ الحديث، فلم يذكر لنا شيء من هذه الحقائق! أكان آباؤنا وأجدادنا يعرفونها؟!! ما أظن، وما أظن طرفا من هذه الأحداث الهائلة درس فى الأزهر أو الزيتونة أو القرويين أو الحرمين الشريفين، أو الأموى فى دمشق، أو الإمام الأعظم فى بغداد...!!! إذا كان هذا الجهل من غفلة فهو جريمة يستحق مقترفوها العقاب، وإذا كان الأمر هو تجاهل العارف، فالمتجاهلون هنا أقرب إلى الكفر منهم إلى الإيمان..!! إن الإسلام يقيم بين أتباعه أخوة تناصر وتساند، ويفرض على الجسد كله السهر إذا أصيب جزء منه، ويعتد موالاة المعتدين على حرماته نفاقا وارتدادا، فأين الأجهزة الثقافية والسياسية فى الأمة الإسلامية؟ وأجنحتها فى الشرق الأقصى تحطم، وقلبها يهدد وهى لائذة بالصمت!!! فوضي... وجاهلية!!! لقد وقع تغير كبير داخل الأمة الإسلامية ووراء حدودها. كان عصر الإحياء ابتداء من القرن السادس عشر الميلادى يرقى بالأوروبيين رويدا رويدا من الظلمات إلى النور.. من الخرافات إلى الحقائق. أما المسلمون فإن الفوضى الهائلة كانت تنحدر بهم إلى الحضيض، فوضى سياسية جعلت مناصب الحكم بعيدة عن كل موازين الشرف والكفاية. وأمسى العمل السياسى سوقا لاصطياد المغانم والأسلاب، واختفى منه تقريبا الوفاء بحقوق الله والناس، والسهر على مصالح الأمة الدينية والمدنية!! كانت جاهلية من طراز آخر تعصف بالمسلمين شرقا وغربا، وتوهى صلتهم برسالتهم الخالدة ودعوتهم الكبري، وتجريهم وراء شهواتهم سكارى وما هم بسكارى... اهتمامات... بعض المسلمين.. وفساد الإدارة السياسية يعطى حق الحياة لنوع معين من العلم الديني، إن الحديث عن الحلال والحرام والمعروف والمنكر مرفوض! هناك حديث آخر يمكن التوسع فيه والحماس له وشغل الغوغاء بقضاياه، مثل(3/20)
الصلاة بالنعل أفضل أم مع الحفاء؟ الحج مع التمتع أفضل أم مع الإفراد أو القران؟ ص _023
مس إحدى السوأتين ينقض الوضوء أم لا ينقضه؟ التراويح ثمانى ركعات أم عشرون؟ القنوت فى الفجر بدعة أم سنة إلخ. ومع الاستبحار فى هذه القضايا هناك قضايا أخرى يجب الانتباه فيها إلى رأى زائغ "الحاكم لا تقيده الشورى" الحاكم المغتصب للسلطة لا يقاوم" "الانحراف عن الحاكم فتنة.. اعتزال الفتن إيمان" "تطليق الدنيا أساس التقوى ".. ثم تشد خيمة الغيبيات السماعية لتنسحب على مساحات كبيرة من عالم الشهادة، فإذا التدين أحاجى وسحر وطلسمات عاصفة، وقصور شائن فى ميدان الفكر والاجتهاد وشئون الدنيا.. وبهذا التخلف الإدارى والعمراني، وبهذا العجز العقائدى والأخلاقي، استقبل المسلمون الاستعمار الحديث، فكانوا يصابون بهزيمة تلو أخرى، وتسقط بلادهم بلدا بعد بلد، وبعضهم لا يعرف شيئا عن الآخر ولا عما يلاقيه... العرب.. والمسئولية الضخمة.. والعرب خاصة يحملون مسئولية ضخمة لا يحملها شعب آخر، فإن أصول الإسلام والتراث الإسلامى من الكتاب والسنة اكتمل بلغتهم، ونهر المعرفة الدينية والأدبية تفجر من منابعهم، وامتد مع التاريخ بلسانهم. فما مبلغ قيامهم بالدعوة الإسلامية؟ وما مدى جهدهم المعنوى فى نقلها من قارة إلى أخري؟ صحيح أن الإسلام سوى بين الأجناس كلها فى الحقوق والواجبات العامة، وهذه التسوية هى التى مكنت الفرس والترك وغيرهم أن يحكموا العرب، ويأخذوا منهم الخلافة..! ولكن ذلك لا يغير من حقيقة أن العرب هم دماغ الإسلام وقلبه، وأن نزول الوحى بلغتهم يجعلهم - حكاما كانوا أو محكومين - قادة الفكر والفقه والأدب والتربية... وقد حكم الترك، وسقطت الخلافة الأخيرة وهى فى ربوعهم، وكان فساد بعضهم الإدارى وعوجه السياسى وراء المأساة الفادحة. لكن الحكم الفردى المستبد لم يكن اختراعا تركيا. بل كان امتدادا لشبيه له فى دمشق وبغداد!!! والأمر يحتاج إلى تصحيح جريء(3/21)
نرضى به ربنا، ونلتزم به أهدافنا، ونعود به إلى قواعدنا الأولى فى الدعوة والجهاد.. الغزو الثقافي...!!! إن الثقافة الجيدة الغنية هى صورة الأمة، وأمارة عظمتها، والسلطة مهما قويت لا تعد شيئا طائلا مالم تكن جزءا من حضارة الأمة ومعرفتها وتفوقها. ص _024
وقد رأينا الدول الاستعمارية تسحب جيوشها وتترك أقطارا احتلتها، غير أنها وكلت إلى ثقافتها الغلابة أن تحتفظ لها بكل شيء، فإذا الغزو الثقافى أنكى من الغزو العسكري، وإذا احتلال العقول أقسى من احتلال الأراضي.. إنه لا يستهين بأثر الثقافة إلا أحمق، ومذ أفلح الجهال فى بلادنا، وعبثت أصابعهم بقيادته، واضمحل العلم وانزوى أهله شرعنا ننهزم فى كل ميدان.. وماذا يفعل الإسلامى فى مواجهة خصومه إذا كان فى ميدان العلاقات الإنسانية يرخص الشورى وحقوق الإنسان وأشواق الفطرة وضمانات العدالة وحرمة المال العام، ويعطى فى ذلك توجيهات ناقصة أو غامضة أو هيابة لأن سطوة الحكم الفردى تعقل لسانه؟ الثقافة الإسلامية فى محنة...!!! إن الثقافة الإسلامية فى محنة محزنة! وقد ورثنا خليطا هائلا من المعارف الدينية والمدنية تحتاج إلى نظر فاحص واختيار لبيب... وتعجبنى كلمة الأستاذ "عمر عبيد حسنة" إنه يجب إعادة ترتيب العقل الإسلامى من جديد.. أساس هذا الترتيب فيما أرى تنسيق شعب الإيمان فى سلم يكشف أدناها وأعلاها وبإحصاء شئون الدنيا التى لا يقوم الإيمان إلا بها، وتوزيع قوى الجماعة عليها، والتعريف بالقطعيات والظنيات فى آفاق التشريع ومواطن التقليد والاجتهاد، والمحاكمة المستمرة لأعمال السلطات الإسلامية وتبيين الخطأ والصواب فى مسيرتها، والمراجعة الواعية لأرباحنا وخسائرنا طوال القرون الماضية! وينضم إلى ذلك كله درس مستمر لأحوال العالم من حولنا، ومبلغ تأثرنا به وتأثيرنا فيه. فإننا لم نحتكر الحياة على ظهر هذا الكوكب، ويستحيل أن نؤدى رسالتنا فيه ونحن جهال به!! ولا أزال أؤكد الكلمة الحكيمة:(3/22)
دين الله أشرف من أن يؤخذ من أفواه الحمقي... لابد من محو هذه الفوضى الفكرية، وإعادة الرشد إلى حياتنا الثقافية، وتمكين أولى الألباب من عرض الإسلام دون تحريف ولا مغالاة، دون قصور ولا فوضي... وعودا إلى صدر هذا الحديث - على ما به من كآبة - أريد أن أعرف: إلى متى يبقى إحساسنا ضعيفا بآلام إخواننا فى العقيدة، وشركائنا فى المبدأ والمصير؟!!! ص _025
فقه الدعوة الإسلامية ومشكلة الدعاة الداعية الشيخ محمد الغزالى (67 عاما) أحد رواد الدعوة الإسلامية وفقهائها.. وأحد معالم الحركة الإسلامية الحديثة ورموزها؛ تشغل كتبه وكتاباته - فى مجموعها - جانبا هاما من مكتبة الدعوة الإسلامية الحديثة، سجلا لتاريخ الدعوة الفكرى - إلى حد بعيد -.. ولم تكن تعوزه المعاناة الدائمة والغيرة الصادقة وأناة العالم وتبصره واطلاعه الواسع، وهو يعالج مشكلات العمل الإسلامى من الداخل والخارج ويرشده، ويقدم المناصحة لدعاة الإسلام والعاملين له.. يقول فى بعض مؤلفاته: (... إن الدعوة الإسلامية تحصد الشوك من أناس قليلى الفقه، كثيرى النشاط، ينطلقون بعقولهم الكليلة فيسيئون ولا يحسنون)... من هنا تأتى أهمية الحوار الذى أجريناه مع الشيخ محمد الغزالي، والذى يمكن من خلاله رسم الملامح الرئيسة لفقه الدعوة الإسلامية ومشكلات الدعاة.. فقه السنن الكونية من قضايا الفكر والعمل الإسلامى الهامة، التى تطرح نفسها بإلحاح - مؤخرا؛ قضية فقدان التوازن الاجتماعى عند كثير من العاملين في حقل الدعوة، وهو يتعامل مع المجتمع الذى قد ينطوى على أخطاء وانحرافات – وذلك بأن يتخذ مواقف متباينة، لا تقوم على فقه صحيح لسنن الله الكونية في نضج الحقيقة واستوائها في المجتمع، ولا تعتمد على أساليب مدروسة للدعوة الإسلامية.. وتتخذ هذه المواقف: إما صورة الرفض الكامل للمجتمع وتأثيمه والخروج عليه لتغييره - رغبة فى تحقيق نتائج عاجلة - أو صورة الانسحاب من المجتمع والهروب منه(3/23)
واعتزاله، بسبب إحباطات عدم الحصول على هذه النتائج العاجلة... من خلال تجربتكم بالعمل فى مجال الدعوة الإسلامية الحديثة ودراساتكم الواسعة لفقه السيرة النبوية.. كيف ترون معالجة هذه القضية؟ هذه القضية فى مجال الفكر والعمل الإسلامى بالذات - لها سوابق فى التاريخ، فقديما.. وجدوا أخطاء من الحكم أو من الحكام، فكان موقفهم متباينا بسبب نوع ص _026
الثقافة الذى سيطر عليهم.. فوجدنا مثلا الخوارج يفزعون إلى سيوفهم، ويطمئنون إلى عقائدهم ويرون أن حبهم للتضحية ووعد الله لهم بالنصر يتيح لهم أن يخرجوا وأن يقاتلوا وأن يحدثوا فتوقا فى الدولة لا آخر لها... والنوع الثانى كان يتمثل فى عدد من المتصوفين - الذين اعتزلوا المجتمع وأخطاءه، والحكم ومآربه وشهواته، ورأوا أن فى العزلة سعادة وأنه خير لهم أن يتركوا المجتمع بما فيه - وفى العزلة سلامة وينظرون إلى الأحاديث التى وردت فى القربة والعزلة ويتأولونها على موقفهم هذا.. الحقيقة التى أراها أن كلا الفريقين مخطيء، فلا الذين خرجوا معتمدين على وقوع الخطأ وضرورة مقاومته كانوا على الصواب الذى يقرره الإسلام، ولا الذين اعتزلوا الخاطئين وانحرافاتهم كانوا مصيبين أيضا. الإسلام يريد أن يقاوم الخطأ، ولكنه يضع خططا بعيدة المدي، ويجعل الإنسان على اختلاف الزمان والمكان، وعلى مراحل ممتدة من الزمن يبلغ غايته على مكث، ولله سنن كونية فى نضج الحقيقة واستوائها فى المجتمع، مهما كانت عقائدنا ومهما كانت حرارة الإيمان فى قلوبنا، ومهما كانت ضراعتنا له أن ينصرنا.. لهذا أرى أن الذين يقومون بالعمل الإسلامى الآن، يجب عليهم أن يتعلموا من أخطاء الفريقين فى الماضي، وأن يكونوا أصحاب إيمان وأصحاب غيرة على حرمات الله وأصحاب رغبة فى التغيير إلى ما هو أفضل؛ ولكن متابعة هذا التغيير حتى يصل إلى مداه لايتم وفق مشيئتنا، ولكن وفق سنن الله الكونية، وقد خضع النبى – صلى الله عليه وسلم – لهذه السنن،(3/24)
وعندما استعجله أصحابه وقالوا له ادع الله لنا – لأن الآلام التى برحت بهم جعلتهم يجأرون بالشكوى – كانت الإجابة النبوية: "والله لينصرن الله دينه ولكنكم تستعجلون".. كانت الإجابة النبوية؛ أن الرجل قديما كان يؤتى به فيشق نصفين ما يفتنه هذا عن دينه، فلابد للإيمان من ضحايا، ولابد لحركاته التى تغير العالم وتكتب فيه صفحة جديدة من وقود، يقوم المؤمنون بإمداد سنن الله الكونية بمتطلباتها فى هذا المجال، وليس لهم أن يستغربوا، ولا أن يتعجلوا، وأعتقد أن الاستعجال هنا أو الاستغراب جهل بسنن الله الكونية، فلم يكن أحد أعظم خلقا ولا أكثر دماثة من النبى - صلى الله عليه وسلم - فى عرضه لحقائق الإسلام، وفى تلطفه لبلوغ غاياته، ومع ذلك فإن الذين ربطوا أوضاعهم ومصالحهم بما مضى أو بما استقر من أوضاع، كانوا حريصين على كره الإسلام ومخاصمة نبيه، ويقول الله سبحانه وتعالى فى هذا : ص _027(3/25)
( وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين وكفى بربك هاديا ونصيرا ) ويقول فى هؤلاء ( وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون). والمشيئة هنا ليست أكثر من توضيح لسنن الله الكونية. فى الحقيقة، يفسر بعضهم هذه الظاهرة بأنها نتيجة عدم فقه السنن الكونية، والوقوع فى إحباطات نتيجة لعدم الحصول على نتائج.. فحينما لا يحصل الإنسان على النتيجة التى يحلم بها أو يراها، يقع فى إحباط يجعله ينعزل عن المجتمع وينسحب منه أو يخرج عليه أو يذوب فيه، فالمشكلة تكمن فى عدم إعطاء السنن الكونية علامتها فى العقل الإسلامي، حتى إن بعضهم يرى بأن المسلمين لا يفتقدون الإخلاص والإيمان فى هذه المرحلة - وقد قدموا الكثير من الوقود للعمل الإسلامى - لكنهم يفتقدون الإدراك وفقه السنن التى تحكم الحياة والأحياء.. فما رأيكم حول هذا التفسير؟ منطق العبودية لا يمكن فعلا أن يكون إخلاص الإنسان مهما كان عميقا وحبه لله مهما كان مكينا، لا يمكن أن يكون هذا وذاك سببا فى إلغاء السنن التى أدار الله عليها شئون العالم، فهى سنن مكينة - وقد أخضع الله أنبياءه لها، فلم لا يخضع لها الأتباع؟!.. ثم إن منطق العبودية - ولست هنا صوفيا إنما مقرر حقيقة دينية - منطق العبودية أن أنظر إلى أقدار الله تعالى على أن هذه الأقدار أرشد من تفكيري، ومن خططي.. وهى الجو الوحيد الذى يمكن أن تنضج فيه الحقائق الاجتماعية التى يحتاج الناس إلى أن يعيشوا بها، ليس ما أفكر فيه أو ما أضع خطته هو الذى يحقق المراد - لا - نحن عبيد الله. ونلمح هذه العبودية وقصورها وعدم معرفتها للمستقبل وعجزها عن إدراك المصلحة العاجلة فى غزوة بدر.. فإن جمهور الصحابة كان يريد الثمرة العاجلة: (..وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم..). ص _028(3/26)
وكذلك كان جمهورهم كارها للمعركة ابتداء، حتى إن القرآن يذكر هذا بقوله سبحانه وتعالى : ( كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون). هم يساقون إلى الموت فى إحساسهم، ولكنهم لا يدرون أن القدر يسوقهم إلى أعز نصر ستدركه الدعوة الإسلامية فى حياة الرسول عليه الصلاة والسلام.. هذا يجعلنا نضع خطوطا فاصلة بين تصورنا نحن وإدراكنا للحقائق، وبين ما يخطه القدر الأعلى لنا، ولعل ذلك يجعلنا نشعر بأننا عبيد، وبأن مراد الله تعالى ينبغى أن نستسلم له أكثر، وأن نستريح إلى نتائجه مهما كانت مرة.. لماذا يكون غيرنا قديرا على ربط نتائج عمله بزمن طويل.. فى أول مؤتمر صهيونى (1898م) قال هرتزل: إن إسرائيل ستقوم بعد خمسين سنة. وأراد اليهود أن يحققوا وعد الرجل أو نبوءته، فأقاموها سنة 1948م.. وفى الحقيقة لم يكن هرتزل يفكر فى أنه سيعيش حتى يدرك هذه النتيجة، ولكن ربما رأى أن ما يعجز هو عنه سيحققه أبناؤه، وما عجز أبناؤه عن تحقيقه سيحققه أحفاده، المهم أن جنسا تتعاون أجياله المتعاقبة على إدراك نتيجة. ماذا علينا نحن المسلمين - ونحن نرث أخطاء لها عدة قرون - أن نضع خطة بعيدة الأمد لكى نتخلص من هذه الأخطاء، ولكى يشعر أبناؤنا بأنهم يحملون عبئا مع الذين وضعوا الخطة، فإذا كان بعض الناس قضى نحبه، فإن بعضهم الآخر ينتظر، والذى ينتظر ربما يموت قبل أن يرى النتيجة، ولكنه يخلف من بعده من الأولاد أو من الأنصار من يجعلهم يؤدون حق الله عليهم، قال تعالي: ( وإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا مرجعهم ). ولهذا لا أزال أناشد أهل الحق أن لاتكون العاطفة الحارة هى التى تسيرهم، بل ينبغى أن ينضم إلى القلب الواثق عقل ثاقب ونظر دقيق حتى يمكن أن نخدم ديننا، خصوصا بعد أن اتسعت مسافة الخلف بيننا وبين أعدائنا.. إننا من الناحية المعاشية والفكرية والعلمية والفلسفية متخلفون جدا، الآخرون غزوا الفضاء ووضعوا أرجلهم على بعض(3/27)
الكواكب ويدرسون كواكب أخرى، ولا نزال نحن نعتمد فى الرغيف الذى نأكله على ما يصنعه الآخرون فى الحقول لا ما نصنعه نحن.. ص _029
المشكلة فى الواقع - تكمن فى أن بعضهم قد يفهم قضية أقدار الله الغلابة - والتى يجب أن يطمئن لها المسلم - وإرادة الله النافذة فى نهاية المطاف - قد يفهم هذا على أنه لون من الجبرية تقعد به عن ساحة التكليف... وإتقان المقدمات، وانتظار النتائج، ودراسة أسباب التقصير واستدراكها، حتى لايلدغ المؤمن من جحر مرتين - أوما إلى ذلك - وحتى لايكون هناك اختلاط بين إيمان الناس بالقدر وبين إتقانهم للعمل وقيامهم به.. الفارق بعيد بين جبرية ترمى العزيمة الإنسانية بالوهن وتجعل الإنسان يتكاسل ويمشى متثاقل الخطي، وبين تقدير لسنن الله الكونية.. إن الله سبحانه وتعالى يقول فى كتابه كلمات كثيرة تعتبر سننا كونية.. فمثلا يقول: ( إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين). ويقول: ( تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا).. ويقول فى بنى إسرائيل - قديما: ( وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون). معنى الصبر واليقين أن الأمر يحتاج إلى زمن - واستعجال الزمن خطأ، ومن قوانين الله الكونية أن أعمل وأنا موقن بنصر الله، لكن ليس من قوانينه أن تنفذ الأمور حسب تقديرى أنا.. فالزمن عندى له ثوانيه وساعاته وأيامه.. حساب طويل، لكن الزمن عند الله تعالى له حساب آخر: (.. وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون) وعندما ذهب المسلمون فى غزوة الحديبية كانوا واثقين من أنهم داخلون فى الحرم ومؤدون العمرة، لكن لفتهم أبو بكر عندما طلبت نفوسهم: (أقال لكم فى هذه السنة؟..).. إننى أؤكد على هذه المعاني، لأنى وجدت معارك كثيرة حدثت بين المؤمنين وبين الكافرين أو بين أعداء الله، كان المؤمنون فيها أصحاب قلوب تنبض باليقين وأصحاب نفوس متوجهة إلى ربها عن إخلاص ولكنها ما أحسنت(3/28)
الخطة ولا درست الميدان ولا قدرت العواقب، فكأن فى ما أصابنا من هزائم ما يمكن أن ينطبق فيه قوله تعالى : ص _030
( أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم..) فهزائم كثيرة أصابت الأمة الإسلامية وأصابت المجاهدين فى هذه الأمة، لأنهم لم يحسنوا التخطيط للمعركة، والعقل لابد منه، إنه أثمن هدية أعطاها الله خلقه، وقد أحصيت كلمة "أولى الألباب" فى القرآن الكريم فوجدتها تكررت فى ستة عشر موضعا، ومعنى هذا أن الذين يخدمون الإسلام يجب أن تكون لهم عقول كبيرة.. التدرج فى التطبيق فى الحقيقة؛ يمكن أن يكون فرعا عن هذا الكلام أن الرسول عليه الصلاة والسلام أخذ الناس بالتدرج فى التشريع، وأنه قضى فترة من الزمن فى مكة لم يكسر صنما ولم يمارس المسلمون أى عملية مواجهة مادية، وإنما كانت القضية قضية بيان لحقائق العقيدة الأصلية، وكانوا يحتملون ما يقع عليهم ويصبرون.. وعندما دخل مكة فاتحا لم يبق على الأصنام لحظة واحدة - فكان أول عمل بدأ به هو كسر الأصنام - فنريد أن نلقى شيئا من الأضواء للعاملين فى الحقل الإسلامى حول هذه القضية.. من الممكن فعلا تقسيم فترة الرسالة بين العهدين - العهد المكى والعهد المدنى - ومن الممكن أن يقال: إن العهد المدنى كان عهد تشريع، وإن العهد المكى كان عهد بيان للعقائد وأخذ للنفوس بها وتكوين لمجتمع؛ أساس الترابط فيه الإيمان بالله وصدق الاتجاه إليه.. ولاشك أن التدرج كان سنة في بعض الشرائع الفقهية الفرعية في الإسلام، فمثلا الربا كان أول ما نزل فيه قوله تعالى : ( وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون) فهناك تلويح بأن الربا مرفوض، لكن الحسم فى تنظيف المجتمع من الربا ومحو آثاره كلها كان فى العصر المدنى لا فى العصر المكي.. وآخر الآيات فى هذا نزولا قوله تعالى: ( الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا(3/29)
كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس..) وقوله : ( يمحق الله الربا ويربي الصدقات..) وقوله : ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا..) فكان التشريع حاسما هنا، وكذلك فى تشريعات الخمر ص _031
إليها، لكن لا نستطيع أن نقول: إن الذين يعملون للإسلام الآن يتدرجون فى شرح الحقائق الإسلامية العلمية لأن هذه الحقائق قد اكتملت، ومنذ نزل قوله تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم...) أصبحنا مكلفين بعرض الإسلام كله آية آية وسنة سنة.. لكن بناء الدولة بعد نشر الدعوة، هذا لابد فيه من التدرج، لأن البناء الذى انهدم على عدة قرون لا يمكن أن يتم إعادة صرحه من خلال أسابيع أو فى خلال أعوام قليلة، ولذلك كان كبار المصلحين يقولون: الزمن جزء من العلاج - بمعنى أنى لابد أن أقول الحدود تقام وما أقبل مماراة فى حد - لكن عند التطبيق فلا بأس أن أشرع فورا بحد الافتراء.. أو حد قطع يد السارق، لأن ذلك سهل ويمكن إرجاء بعض الحدود إلى أن تواتينى فرص التنفيذ.. فعلميا أنا مكلف ببيان الإسلام كله، وعمليا لابد أن أتدرج فى التطبيق العملي، وهذا ما تفرضه أحوالنا التى لابد منها، فالدواء الذى لابد أن يتجرعه المريض ليصحو أعطيه له جرعة جرعة. القرآن.. والسلطان هناك قضية تتصل بما بدأنا، الحديث عنه.. وهى أن بعضهم يرى أن المسلمين أغنياء جدا فى الفقه التشريعي، وفقراء جدا فى الفقه السياسى بمعناه الإدارى والدستوري، وما إلى ذلك... وهذا قد يدعو إلى شيء من التخبط فى الرؤية السياسية لأنها لم تزل عبارة عن مبادئ عامة لم تترجم - تاريخيا - إلى فقه وبرامج تشكل خصوبة فى التصور عند الفرد المسلم، يمكن أن يتعامل مع الحياة من خلاله... فهل كان هذا ثمرة لانفصال السلطان عن القرآن فى التاريخ الإسلامي؟ علما بأن الكثير من الآيات التى وردت تحض على النظر والاعتبار، والدعوة إلى الشورى هى أقرب فى طبيعتها إلى الفقه الاجتماعى والسياسى منها إلى الفقه(3/30)
التشريعي؛ وعلما بأن النمو لايزال مستمرا فى الفقه التشريعي، بينما نعانى من ضمور فى الفقه السياسي... كيف يمكن أن يتخلص المسلمون من بعض هذه المعاناة؟... لابد من الاعتراف بأن فقه العبادات، وجوانب من فقه المعاملات اتسع عندنا اتساعا أكثر من اللازم، وأن الاستبحار التشريعى فى أمور الطهارة والصلاة والحج والزكاة وما إلى ذلك كان أكثر مما يطيقه الفرد المسلم أو المجتمع المسلم، وقليل من هذا كان يكفى الناس، كما أنه عدة أسماء لحقيقة واحدة ليس بلازم أن يعرفها الجميع ص _032(3/31)
لكن لاشك أن فى الأمة الإسلامية تخلفا فى سياسة الحكم وسياسة المال، فأما فى سياسة المال فمعروف أن فتنة أمتنا المال كما جاء فى الحديث: " فتنة أمتى المال".. والفتنة تجيء من مصادر الكسب ومن طرق الإنفاق، فلا مصادر الكسب وضعنا لها مصافى تحجب الحرام وتتيح مرور الحلال، ولا طرق الإنفاق وضعنا عليها رقابات قانونية تمنع التبذير الجنونى وتمنع السفه فى إراقة المال فى غير موضعه، وربما سبقتنا الآن أمم كثيرة فى هذا، حيث وضعت للمال سياسات دقيقة فى إنفاقه وفى كسبه، تظهر فى الموازنات العامة التى تضعها الدول، فالدول تفرض على الحكومات أن لا يؤخذ من الشعب قرش واحد إلا بقانون أو إلا بتشريع واضح يرى معه أن الدولة محتاجة، ولا ينفق شيء إلا بالدقة نفسها التى تتبع فى الكسب، وإعلان الحرب كذلك لا يترك لنزوات فرد يخاصم أو يسالم كيف يشاء، وإنما الأمة التى تدفع من دمها ثمن الحروب وتضحيات القتال هى التى تبت فى مثل هذه الأمور.. ولابد فى الحقيقة من أن تكون هناك أجهزة متخصصة فى أمور فنية وإدارية لمعرفة موقع الأمة الإسلامية من الأمم الأخرى وما يعود عليها بالكسب وما يعود عليها بالخسارة، وأن تكون هناك قوانين تحكم العلاقات وترسم المعاهدات التى تكون بيننا وبين الآخرين. ومع أن الفقه الإسلامى يمثل على الأقل 50% من المكتبة الإسلامية، ومع أن هذا الفقه استبحر عندنا بحيث إنه لا توجد حضارة عالمية استبحر فيها الفقه كما استبحر فى حضارتنا، مع هذا فإننا فى هذه الناحية مصابون بضمور كما قلتم - فى بعض المعاملات عندنا - على سبيل المثال نحو (25) كبيرة من الكبائر لم توضع لها عقوبات، نحن لم نضع عقوبة للتعامل بالربا أو للغصب أو للفرار من الزحف أو لأكل مال اليتيم، أو للغش، أو لما يقع من مخالفات كثيرة... فهل الحدود التى وضعها الله تغنى عن تشريعات لابد منها فى الميدان الاجتماعي؟ وهل تترك التعزيزات هكذا دون ضوابط، ودون رصدها بقوانين(3/32)
محكمة؟ الشيء الثاني: وجدنا أن الفقه الإسلامى - حتى فى ميدان الأسرة - قد احتبس فى حدود المذاهب الأربعة حتى جاء ابن تيمية واستطاع أن يصنع عملا هائلا عندما رفض طلاق البدعة ودخل بهذا مدخلا معجبا وكريما فى المحافظة على الأسرة الإسلامية، وإن كان بعضهم يرفض كلامه فى هذا الموضوع، لكن انفتاح باب الاجتهاد أمام الرجل جعله يضع ضوابط للأسرة الإسلامية، هذا شيء حسن.. قوانين العمل والعمال لا تزال صفرا عندنا ونستوردها الآن من الخارج فى إصابات العمل وفى حقوق العامل، وهذا لا يجوز.. القوانين الإدارية إلى الآن لا تزال أيضا مجلوبة.. ص _033
فى الحقيقة، كأنما المطلوب تحديد الأسباب.. أسباب الضمور فى هذا الجانب والنمو فى الجانب الآخر - هل هو الانسحاب من المجتمع؟ هل هو انفصال السلطان عن القرآن؟ مع أن الإنسان يلمح بأن الآية التى استشهد بها الفقهاء على حجية القياس - وهى قوله تعالى : ( فاعتبروا يا أولي الأبصار) فى سورة الحشر، بعد أن تكلم عن الحال التى كان عليها بنو النضير - وكيف أخذهم الله بسبب واقع اجتماعى معين - وأن كل من يصيبه هذا الواقع سينتهى إلى النهاية نفسها هى أقرب للفقه الاجتماعى منها إلى الفقه التشريعي، أنا ألمح بأن هذا لون من الفقه للسنن الاجتماعية - عمليا - صرف إلى الفقه التشريعى وبقيت القضية الاجتماعية أو الفقه الاجتماعى أو السنن المتعلقة بقيام الأمم وسقوط الأمم وقضايا المال بقيت قضايا ضامرة.. الأمة.. نظرا لأهمية القضايا التى يعالجها الحوار مع فضيلة الشيخ محمد الغزالى حول "فقه الدعوة الإسلامية - ومشكلة الدعاة"؛ فسوف نتابع النشر بإذن الله، ويتناول: * الانفصال بين القيادة الفكرية والسياسية.. * مصطلح "المستبد العادل" وتبرير الاستبداد السياسي.. * البيعة وجماعة المسلمين.. * إغلاق باب الاجتهاد هو اجتهاد.. * سقوط الفتاوى الرسمية.. * الموقع الفاعل للعاملين للإسلام.. ص _034(3/33)
لقاءات المجتمع مع الشيخ محمد الغزالي الشيخ محمد الغزالى مفكر إسلامى معروف اضطلع بواجب الجهاد الفكرى والعلمى فى وقت مبكر جدا من حياته. فى وقت كانت الأمة- ولاتزال- تحتاج إلي: * تجديد فكرها وروحها ونظمها الاجتماعية والسياسية والتعليمية.. داخليا. * من يرد عنها الغزو الفكرى والثقافى والاجتماعى الخارجى الذى يريد أن يفتنها عن دينها ويجردها من سبب وجودها وهو الاهتداء بالإسلام وهداية الناس به. يقول الشيخ فى مطلع آخر كتاب أصدره وهو "قذائف الحق": "من خمسين سنة. عندما عقلت ما يجرى حولى أدركت أن نصف الإسلام ميت أو مجمد وأن نصفه الآخر هو المأذون له بالحياة أو الحركة الى حين. وأحسست أن هناك صراعا يدور فى خفاء أحيانا، وعلانية حينا بين فريقين من الناس. * فريق يستبقى النصف الموجود من الإسلام. ويدفع عنه العوادى ويحاول استرجاع النصف المفقود. ويلفت الأنظار إلى غيابه. * وفريق يضاعف الحجب على النصف الغائب ويريد ليقتله قتلا وهو فى الوقت نفسه يسعى لتمويت النصف الآخر وإخماد أنفاسه وإهالة التراب عليه. وكلما طال بى العمر كنت الحظ أن المعركة بين الفريقين تتسع دائرتها وتشترك فيها إذاعات وأقلام. وجماعات وحكومات. ومناقشات ومؤامرات. وكانت الحرب سجالا. وربما فقد المؤمنون بعض ما لديهم وربحوا بعض ما أحرزه خصومهم وتنضم إلى معسكر الباطل قوى جديدة. ويزداد الصراع حدة وشدة كلما لاح أن الساعة الحاسمة تقترب. ونحن نصدر هذا الكتاب فى ظروف شديدة التعقيد. أعداء الإسلام يريدون الانتهاء منه ويريدون استغلال المصائب التى نزلت بأمته كى يبنوا أنفسهم على أنقاضها. يريدون - بإيجاز - القضاء على أمة ودين. وقد قررنا نحن أن نبقي. وأن تبقى معنا رسالتنا الخالدة. أو قررنا أن تبقى هذه الرسالة. ولو اقتضى الأمر أن نذهب فى سبيلها لترثها الأجيال اللاحقة. ص _035(3/34)
من أجل ذلك نرفض أن نعيش وفق ما يريد غيرنا أو وفق ما تقترحه علينا عقائد ونظم دخيلة. هذه هى - بإيجاز - قصة الشيخ المكافح. أخذ مكانه فى قافلة المجاهدين فى وقت مبكر. واستمر فى جهاده وعقد النية على هذا الجهاد "ولو اقتضى الأمر أن نذهب فى سبيلها - رسالة الإسلام - لترثها الأجيال اللاحقة". * فى الجهاد العلمى الفكرى المكتوب ألف الشيخ محمد الغزالى أكثر من ثلاثين كتابا. اتحدت غايتها وتنوعت مجالاتها. ألف فى العقيدة. والسيرة. والخلق.. والاقتصاد. والسياسة. والاجتماع. وفى الصراع بين المسيحية والإسلام. رد على المستشرقين. ووضع للدعاة قواعد العمل وخريطة السير. وعرف بالإسلام. وألف "نظرات فى القرآن". كشف أحقاد وأطماع الاستعمار الغربي، وتعقب الزحف الأحمر "الزحف الشيوعي" فى معاقله وأساليبه وأهدافه. وكشفه كذلك. وألف فى أدب الدين والحياة والسلوك "انظر: تأملات فى الدين والحياة - جدد حياتك - الجانب العاطفى من الإسلام". * فى الجهاد الفكرى المنطوق. درس الشيخ معاقله وأساليبه وأهدافه. وكشف كذلك. أفواجا متتابعة من الدعاة وألقى ألوف المحاضرات والخطب. واشترك فى مئات الندوات. لقد زار الكويت - فى رمضان - بدعوة من وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية لإثراء هذا الموسم الإسلامى العظيم بنضارة الفكر، ورى الدعوة. وكان لنا معه لقاء: * فضيلة الشيخ: فى العالم الإسلامى اليوم انتعاشة جديدة تتجه بالناس نحو إسلامهم. فما هو نصحكم لهذا. أهى ظاهرة عابرة. أم اتجاه طبيعي. ثم ما هى الضمانات التى تدعم هذه الانتعاشة بالاستقامة الفكرية والسياسية؟ * أجاب الشيخ: الأمة الإسلامية تعرضت – ولا تزال - لضغوط عنيفة ولعدوان ضار مستمر. الضغط الثقيل إما أن يقضى على الأمم - فى حالة فقدانها لخصائص الصمود والبقاء والنمو وإما أن يوقظ خصائصها ويحشد طاقاتها - فى حالة احتفاظها بعناصر المقاومة والبقاء. ص _036(3/35)
والعدوان الضارى المستمر يهيج غرائز الحياة فى الأمة ويرفع درجة استعدادها للرد والردع. ونستطيع أن نعلل ظاهرة الانتعاش الإسلامى الجديدة فى العالم الإسلامى بالموقفين معا: * الاختيار الفكرى للقبلة الإسلامية. * الاستجابة الفطرية الغريزية للتحدي. ومن الوعى البناء أن نحذر الخطر الخارجى ونقاومه. لكن الإسراف فى تفسير كل مصيبة تنزل بديارنا بأنها صنعت فى الخارج. لا يقود إلى رؤية سليمة ولا إلى موقف صحيح. إن الأمة حين تتماسك داخليا وتحصن جسدها من الأوباء. وتحسن الإنتاج والإبداع فيه. وتشغل نفسها بالعظيم من الأمور. لا تستطيع القوى الخارجية أن تنال منها. الخلل الفكرى والاجتماعى والاقتصادى والعلمى فى البناء الذاتى للأمة هو الذى أغرى الخصوم بالتقدم داخل صفوفنا واقتحام حصوننا. والضمانات التى تصون مبدأ هذا الانتعاش الإسلامى من الانحراف والشطط والسلبية يمكن تلخيصها فيمايلى: 1 - إشباع شعوبنا بفيوض متلاحقة من العلم الصحيح والمعرفة السليمة، فى الدين والدنيا. لقد نقل إلينا التاريخ الثقافى مجموعة من الخرافات المفسدة للفكر والسلوك. ثم جاءت خرافات محدثة - اختفت فى أثواب العلم - فزادت الفساد والتخريب. 2 - قيادة فكرية رشيدة ترعى الصحوة الإسلامية كما يرعى البستانى الخبير أشجار الفواكه والورود فى حديقته. بالرى والتفقد والتشذيب. 3 - تنظيم حملات طويلة المدى لمكافحة الغلو المتمثل فى طائفتين من الناس: * طائفة المغالين فى تجريد الدين من فعاليته وشموله. * وطائفة المغالين فى التشدد وإصدار الأحكام القاسية على الناس. 4 - تخطيط مرحلى للعمل الإسلامي: كل مرحلة من العمل الإسلامى تكون بمثابة تمهيد لمرحلة تالية. فمن مفسدات الأعمال: الخلل فى ترتيب الواجبات وعدم القدرة على توزيع الإمكانات المادية والزمن والقوى البشرية توزيعا يضع كل شيء فى موضعه. هذه - فى تقديرى - هى الضمانات التى تجرى النشاط الإسلامى فى مجرى آمن. ص _037(3/36)
كيف تفسرون حرب لبنان فلقد كثرت التفاسير السياسية والطبقية لهذه الحرب. لكن ما هى الجذور العميقة وراء هذا الصراع؟ * قال الشيخ محمد الغزالى: الحرب صليبية. هذه حقيقة لا نستطيع منصف أن ينكرها. وهذا التفسير لا يسقط الأسباب الأخرى من الحساب. عالميا.. مطلوب دولة مسيحية فى لبنان فالسياسة الاستعمارية العالمية قررت أن يكون وجه لبنان مسيحيا مع أن غالب سكانه من المسلمين. والفرق العسكرية المارونية المقاتلة فى لبنان لا تخفى شيئا من نيتها وهدفها. بيير الجميل نفسه؟؟ أن للكتائب وظيفة رسولية. أى مهم دينية سماوية. والكيان الذى يراد فرضه - بالقوة وأهم - على لبنان يكره العروبة والإسلام معا. وهو يؤثر الحديث بالفرنسية على العربية ويبدى مقته الشديد للإسلام ونبيه وتاريخه وحضارته. وطبيعى أن يضيق المسلمون بهذا الوضع وأن يتململوا تحت ضغطه. وشدة الضغط تولد الانفجار. خلاصة ما يريده الاستعمار أحد أمرين. * وأما إبقاء لبنان غير مقسم على أن تكون الهيمنة فيه للمسيحية والذل فيه للإسلام. والعجب أن الحكومات العربية المجاورة تميل إلى الحل الأخير وهى تستر الوجه الصليبى البارز فى لبنان بأقنعة غريبة. فهى تسمى المسيحيين باليمين والانعزاليين والفاشيت والإمبرياليين. حتى تستر الوجه الصليبى المعروف وتستر مخالبه الباطشة بقفازات من حرير. والسؤال الذى نوجهه لأغنياء العرب والمسلمين بعد أحداث لبنان الرهيبة: ماذا سيفعلون بإزاء تأمين الكيان الصهيونى جغرافيا والإجهاز على المقاومة الفلسطينية التى تريد العودة لوطنها وماذا سيفعلون بإزاء أكثرية مسلمة تريد أن تظهر تعاليم دينها؟! وأخيرا ماذا سيفعلون أمام قلة نصرانية ولاؤها ليس للعروبة وإنما ولاؤها وراء البحر الأبيض المتوسط؟! ص _038(3/37)
الجولة الثانية من الحوار مع الشيخ محمد الغزالي فى عدد سابق قدمت - المجتمع - الجولة الأولى من الحوار الذى أجرته مع الداعية الإسلامى فضيلة الشيخ محمد الغزالي. وفى هذا العدد نقدم الجولة الثانية. * فضيلة الشيخ: كيف تتصورون مستقبل مصر - فكريا واجتماعيا واقتصاديا وسياسيا؟ كيف تتصورون ذلك كله فى ظروف التحدى السافر بين الإسلام والصهيونية. وظروف الهجمة الاستعمارية الجديدة على مصر؟ * أجاب الشيخ: لمصر دور تاريخى تقليدى فى حماية الإسلام ثقافيا وسياسيا وعسكريا. وأرى أننا لم نتنكر تماما لهذا الدور الطبيعى فإن الشعب المصرى متدين ويحب الإسلام حبا جما ويحب اللغة العربية وآدابها. وقد حدث أيام جمال عبد الناصر أن وجهت للإسلام إهانات بالغة وأصابته جراحات عميقة. وأذكر أن المرحوم الحاج أمين الحسينى مفتى فلسطين الأخير قال: لما سقطت الآستانة بتدبير القوى الشريرة العملية للاستعمار - وهى قوى كانت منتشرة فى الأستانة - انتقلت تلك القوى إلى القاهرة بوصفها - أى القاهرة - المركز الإسلامى الثانى فى العالم. ولا أنكر أن الحرب التى تعرض لها الإسلام أيام جمال عبد الناصر وقبله - والتى لاتزال تشعلها عناصر ظاهرة ومستورة - قد أثرت فى أمتنا. بيد أن من الكذب القول: بأنها هزمت الإسلام فى ضمائرنا وأفئدتنا وصفوفنا الشعبية فتربة مصر لاتزال - بحمد الله - تنبت الفتية المؤمنين. والمجتمع المصرى دائم الحنين فى العودة إلى الإسلام وإقامة شريعته. المعركة فى بدايتها ورأيى أن المعركة لا تزال فى بدايتها فإن الكائدين للإسلام لم يقذفوا بقواهم كلها فى المعركة. ص _039(3/38)
والجبهة الإسلامية لا تزال مبعثرة ومشغولة بما لا يفيد. ومع الأيام المقبلة لم يبق إلا واحد من احتمالين. * إما أن نعتصم بالإسلام. * أو ننسلخ عنه. لكنى كبير الثقة فى أن أمتنا لن تنسى دينها ولن تخون رسالتها. وأود أن أتوقف بعض ثوان لأقول: إن المسلمين فى مصر يبلغون ما بين 92 إلى 93 بالمائة من السكان. وأن الأقلية المسيحية من أسعد الأقليات فى العالم فى الجوار الإسلامى السمح الطيب. ولست أخاف من مؤامرات استعمارية لتحريك أفراد من الأقلية المسيحية ضد المسلمين فإن العقلاء يرفضون - بمنطق المصلحة - الاستجابة لإغراء الخيانة الذى يعرضه الصليبيون واليهود والشيوعيون وغيرهم. ومعنى هذا أن الدور الإسلامى لمصر سوف يبقى ولن يعترض بشيء ذى بال. أمام مصر الآن مسئوليات ثقال. * أمامها - من الناحية الإقليمية - أن تحرر ترابها الوطني. وهو جهد له مغارمه التى يجب أن تحسب. * وأمامها - وأمام غيرها من الشعوب الإسلامية أن تعيد الفلسطينيين إلى وطنهم. ولابد من لفت النظر إلى خطأ لا يزال يرتكب وهو: أن قضية فلسطين عربية أولا وأخرا. هذا مفهوم خاطئ يجب أن يصحح حتى يعرف الصديق والعدو أن فلسطين قضية إسلامية أولا وأخرا. والعرب المنسلخون عن الإسلام أقل وأذل من أن يحرروا فلسطين. إنما يحرر فلسطين الإسلام القائم فى مصر والشام - حيث مواقع المواجهة - بالاشتراك مع كافة المسلمين كعمق شعبى وجبهة إسناد استراتيجى ضروري. وأى القطرين يصحو بالإسلام ويحيا له فإن من أيسر الأمور عليه - أن يرد الحق لأهله فكيف إذا قامت نهضة إسلامية حقيقية فى القطرين معا: ص _040(3/39)
وحين نقول الإسلام لا نعنى الشعار المنفصل عن الواقع ولا نعنى الانتساب المجرد. وإنما نعنى الالتزام الصادق بالإسلام فى كافة شئون الحياة.. الفردية والجماعية. إننى لا أزال عند رأيى أن ضرب الإسلام فى مصر مخطط عقائدى سياسى رهيب رسمته أصابع الصهيونية. وإذا لم يكن الذين ضربوا الإسلام عملاء موظفين فى المخابرات الاستعمارية الصهيونية فقد قاموا بدور العملاء وأدوه أداء كاملا وجنت مصر والشام أمر الثمرات من أعمالهم الخائنة. إن مستقبل مصر فى المجالات التى ذكرت يحتاج - لكى يكون التحول إلى مستوى أفضل - إلى: 1 - قيادة فكرية تنسخ المناهج المناهضة للإسلام فى التعليم والتثقيف والإعلام وتقود الأمة إلى أفق إسلامى جديد فى التربية والتوجيه. 2 - حرية وطيدة القواعد والأعراف موفورة الضمانات.. 3 - توازن اقتصادى يعتمد - أصلا - على ركيزتين. ( أ ) الإنتاج الذاتي. (ب) التوزيع العادل. 4 - سياسة اجتماعية وأخلاقية تعين الناس - بشتى الوسائل - على الاستقامة والسمو. لا أن تغريهم بالانحراف والسقوط. ص _041(3/40)
حوار مع الداعية الإسلامى الشيخ/ محمد الغزالي رئيس المجلس العلمى للجامعة الإسلامية بالجزائر ينشط أعداء الإسلام فى الحاضر - على اختلاف مذاهبهم وتوجهاتهم - للنيل من المسلمين، والإيقاع بهم لصرفهم عن الغاية الكبرى والسامية فى الاستمساك بقيم وأصول وأحكام الدين الحنيف.. فالصهاينة واليهود والمنصرون والملاحدة والطوائف الضالة يجتمعون - رغم ما بينهم من افتراق - على شيء واحد هو الحقد على الإسلام والمسلمين فى كل أطراف الأرض. ومن هنا تأتى أهمية أن يزيد المسلمون من يقظتهم وحذرهم فى مواجهة مكائد الأعداء تحصينا لمجتمعات المسلمين فى حاضرهم ومستقبلهم وجمعا لشملهم، وإنهاء لفرقتهم المعيبة التى دست عليهم أسبابها بفعل أعداء الله وأعداء الدين. إن واقع المسلمين المعاصر بما حوى من متناقضات فى مجالات عديدة ينذر بخطر شديد، ذلك أن أعداءهم - برغم ما يعيشون من حقد وزيف وضلال - أصبحوا يسبقونهم فى ميادين عديدة.. ونظرة واحدة على تاريخ السلف الصالح كافية لتأكيد أن دعاة الحق فى الماضى إنما كان لهم النصر على أعدائهم، وكانت لهم السيادة والعزة بقيامهم بواجبهم نحو الدعوة إلى الله تعالى والاستمساك بقيم الدين وتعاليمه السامية. والدعوة إلى الله تعالى واجب المسلمين جميعا، كل حسب قدرته واستطاعته وعلمه.. غير أن هناك من الأسئلة الكثير الذى يتبادر إلى الذهن حول مسيرة الدعوة الإسلامية فى الحاضر، وثقافة الداعية، ومحاولات أدعياء المذاهب الإلحادية لاستقطاب شباب المسلمين.. وغيرهما من الموضوعات التى طرحناها على فضيلة الشيخ محمد الغزالى رئيس المجلس العلمى للجامعة الإسلامية بالجزائر.. وكان هذا الحوار: * ما مدى اضطلاع الأمة الإسلامية بدورها تجاه الدعوة إلى الله عز وجل فى الوقت الحاضر؟ ص _042(3/41)
لا شك فى أن الأمة الإسلامية أمة دعوة إلى الله عز وجل، وهى بهذا تميزت عن سائر الأمم.. قال سبحانه وتعالى : ( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله) غير أن المؤسف حقا أن قطاعا عريضا من الأمة الإسلامية لا يدرك هذه الحقيقة، ومن ثم يجهل تبعا لذلك حقيقة أن أمتنا مكلفة بقيادة البشرية إلى الخير والفضيلة، وتوجيهها إلى عبادة الله سبحانه وتعالى وحده من خلال الالتزام الصادق بتعاليم الإسلام وأحكامه، التى تحوى أسباب سعادة الناس فى الحياة الدنيا وفى كل منحى من مناحيها. والحقيقة أن المرحلة التى تمر بها الدعوة الإسلامية فى الحاضر مرحلة صعبة للغاية، ذلك أن الوصول إلى النجاح فى مجال العمل الدعوي، إنما يتطلب وجود عناصر عديدة، وتوافر عوامل مساعدة كثيرة.. وأغلب تلك العوامل مفقود، وهذا ما يجعلنى أردد دائما وعن اقتناع كامل أن الإسلام باق بجوهره، وأن بقاءه من خوارق العادات، ولولا نقاء جوهر الرسالة الإسلامية، ولولا وجود سر خفى فيها بقيت فى ظل هذا الحاضر الأليم الذى تميزه شدة أعداء الدين، وتخاذل أتباعه وقصور وسائلهم الدعوية، مما ألحق بهم هزائم شتى فى مواطن لا حصر لها. إن أفضل ما يمكن للأمة القيام به فى الحاضر هو إحياء الولاء لله والانتماء للأمة فى نفوس المسلمين، وإيقاظهم من غفوتهم التى طالت، إعلاء لراية الإسلام وجمعا للكلمة الإسلامية وتوحيدا للصف، فهذا كله من شأنه أن ينهض بمسيرة الدعوة الإسلامية. شخصية الداعية المسلم: * هل اختلفت صورة الداعية فى الحاضر عن سلفه فيما مضى من قرون؟ أرى أن واجب الدعاة المعاصرين أن يقبلوا على تفهم حقيقة الدين الإسلامى الذى يحملون أمانة الدعوة إليه بين البشر من مختلف الألوان والأجناس والألسنة.. وعليهم أن يجتهدوا فى تكوين اتصالهم الفكرى والعاطفى بالقرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، وإدراكهم إدراكا صحيحا. ولا يكون داعية ناجحا من لا يبذل(3/42)
قصارى جهده فى أن يكون طالب علم طوال أيام عمره، فالغوص فى الثقافة الإسلامية سواء القديمة أو الحديثة أمر لا غنى عنه لأى ص _043
داعية.. والثقافة الإسلامية القديمة أعنى بها نتاج علمائنا من السلف الذين طوفوا بين مختلف المعارف الدينية وغير الدينية وتركوا لنا تراثا هو مفخرة الثقافات كلها. أما الثقافة الإسلامية الحديثة فاجتهادات علماء الإسلام المعاصرين ممن استفادوا بشكل طيب من مختلف التجارب التى خاضها المسلمون فى الماضي. ومن تاريخ العلوم الدينية والعلوم الإنسانية.. وهذا كله من الضرورات بالنسبة لدعاة هذا العصر حتى يواجهوا بعلوم تحدياته وقضاياه التى تجد به. تربية الأجيال الجديدة على الإسلام: * أكدتم أهمية تربية أجيال المسلمين على الولاء والانتماء للإسلام.. فكيف ترون الطريق الأمثل لبلوغ هذا؟ المؤسف حقا أن المسلمين فى حاضرهم تشغلهم قضايا مصطنعة ودخيلة دستها عليهم أيدى أعدائهم عن العناية بقضاياهم المهمة التى تحتاج منهم للرعاية والجهد لضمان مستقبل مشرق لأمتهم.. ومن ذلك رعاية متطلبات التربية الإسلامية الصحيحة للأجيال الجديدة. بغية إيجاد وتكوين أجيال صادقة فى علاقتها بربها سبحانه وتعالى وبدينه الحنيف. ومواطدة لعلاقتها بمجتمعاتها عن طريق الولاء الكامل والانتماء الواعى للمسلمين كأمة تدين لله الواحد سبحانه وتعالي. وتربطها لغة واحدة. وتاريخ واحد. وهدف واحد، ومصير واحد. ولعل أهم خطوات العلاج المنشود تتمثل فى توجه المسلمين للتعرف الكامل والدقيق على حقيقة وحجم ما أصابهم من نكبات وآلام ومصائب، حتى يتسنى لهم أن يختاروا من الأساليب والوسائل والمناهج ما يصلح لتنشئة الشباب والأجيال الجديدة على قيم الإسلام وتعاليمه السمحة. إن ضعف الولاء للإسلام جعل بعض أبناء المسلمين يخرجون على أهليهم زاعمين أن العودة إلى أحكام الإسلام نوع من الرجعية أو الانهزامية النفسية إلى غير ذلك من العبث الفكرى الناتج عن التشويش(3/43)
المتعمد ضد تعاليم الدين. وهذا ما يوضح حجم الكارثة، ويؤكد ضرورة العناية بتربية النشء داخل المجتمعات الإسلامية، وحبذا لو أعدت مناهج تعليمية، وخطط، وبرامج يمكن بها تعهد الناشئة ورعايتهم فى مختلف سنى أعمارهم، والقدوة الصالحة ضرورة لتخليص الشباب من تخبطهم وحيرتهم. ص _044
القضاء على التيارات الإلحادية: * ينشط أدعياء المذاهب الأرضية والنظريات الوضعية لاستقطاب المسلمين، وصرفهم عن الاستمساك بتعاليم دينهم.. فكيف ترى واجب دعاة الإسلام فى مواجهة هؤلاء الأدعياء؟ من المؤلم أن بعض دعاة الإسلام لا يدرى شيئا فى كثير من القضايا المعاصرة، ولذا فهو يتوقف عن الأخذ بالجديد الذى يصل إليه علماؤنا المخلصون من خلال جهودهم ودراساتهم وبحوثهم، ومن ثم يقف هذا البعض عند معارفه القديمة التى يرددها دون أن يستخلص منها النافع للأمة فى هذا الوقت الذى تواجه فيه بمناهج اقتصادية واجتماعية وسياسية انتفعت بكل ما وصل إليه البشر من معارف حديثة. ولا ينبغى - والحال على هذه الصورة من تكالب الأعداء على الدين - أن يفوت دعاة الإسلام ضرورة دراسة الفرق والتيارات المعادية بجوار دراسة الإسلام فى معارفه القديمة والحديثة دراسة واعية وجادة يقفون من خلالها على الأسباب التى جعلت تلك الفرق والتيارات تكسب مساحات من الأرض، وتستحوذ على آلاف العقول، ومن ثم يمكن التصدى لها. ومع دراسة كل تلك الفرق دراسة موضوعية فإنه بإمكاننا أن نعرف كل ما يراد بنا، وما يبيت لنا، ومن ثم يسهل على المسلمين دفع المخاطر عن أمتهم. لا تراجع للوراء: * يبدى البعض تخوفا على مسيرة الصحوة الإسلامية المعاصرة فى مواجهة مكائد الأعداء وتربصاتهم.. فهل ترى أن هدا التخوف له مكان فى الواقع الإسلامى؟ لست مع المتخوفين على مسيرة الصحوة الإسلامية، ذلك أنه تخوف لا مكان له مطلقا.. والصحوة – والحمد لله – لاتزال قوية ومنطلقة في الطريق الصحيح… وأرى أنها تستفيد من مكر أعداء(3/44)
الإسلام، ومن مؤامراتهم الوضيعة، وأستطيع أن أؤكد أنها لا تتراجع للوراء، وإنما تتمسك بقواعدها ومواقعها. ولا جدال فى أن هذه الصحوة الإسلامية استرعت انتباه الكثيرين ممن عانوا فى ظل النظم الوضعية والمذاهب المادية.. وإن كانت الصحوة تواجه بأعداء ألداء فأنا على اليقين من أنها ممتدة ومنطلقة إلى آفاق جديدة ومساحات أوسع. ص _045
إن واجب المسلمين جميعا أن يدرس حقيقة أن الصحوة الإسلامية باقية ولن تخمد إلى قيام الساعة، وذلك أن الله تعالى قد ضمن لها البقاء والخلود كما ضمن الخلود والبقاء لكتابه العزيز قال تعالى : (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون). عودة الأمة لأصالتها: * كيف يمكن الاستفادة من الصحوة الإسلامية فى إعادة الأمة إلى سالف مجدها فى القوة والسيادة. أعتقد اعتقادا قويا أن الأمة الإسلامية إذا كانت ستصاب بالوهن والضعف فى وقت من الأوقات فإنها، سوف تتخلص من الداء وتبرأ من المرض عما قريب، غير أن الأمر يحتاج من الإسلاميين الذين يعملون لرفعة هذه الأمة، ورفع لوائها عاليا خفاقا يكونوا فاهمين لحقيقة الدين الحنيف ومدركين لغاياته السامية النبيلة. وعلى المسلمين أن يدركوا تخلفهم الحاضر من عند أنفسهم، وأن العيب فيهم، فليس للإسلام الحنيف دخل فى تخلفهم أو ضعفهم قال تعالى : ( أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير). والخروج بالأمة الإسلامية من حاضرها المؤلم يتطلب بالضرورة مراجعة خططها، والبحث عن أسباب الوقوع فى الأخطاء حتى تتلافاها مستقبلا.. وليعلم المسلمون أنه يسير أن تكون لهم الخلافة فى الأرض دون أن يملكوا أسباب الاستخلاف، ذلك لأن الإمامة والقيادة والسيادة فى الإسلام إنما تكون لعباد الله المخلصين الذين نجحوا فى الإذعان لتعاليم الإسلام والاستمساك بأحكامه وقيمه ومبادئه. ص _046(3/45)
مراجعة لا رجوع لا أزال ألح على مراجعة تفكيرنا الديني، وأساليب حكمنا على الأشياء والأشخاص!! لقد سقطت الخلافة العثمانية من ستين سنة، وانفرط عقد الأمة الكبيرة على الصعيد العالمي، وكانت خسائر "الرجل المريض" قد تلاحقت قبل وفاته، ثم تقاسم الأقوياء تركته، وأمست الأمة الإسلامية بلا أبوة روحية ولا ثقافية ولا سياسية، فهل وقفت الأمة اليتيمة وقفة تأمل واعتبار فيما أصابها؟ وهل تساءل العقلاء عن أسرار نكبتها؟ كم كتابا ألف فى أسباب تخلفها الحضارى؟ كم كتابا ألف فى تشريح العوج السياسي، والقصور العلمي، والانهيار اللغوي، الذى عرا هذه الأمة؟ كم كتابا ألف فى طبيعة التركيب الجنسي، والخلافات العرقية التى كانت تكون الدولة الغاربة؟ كم كتابا ألف فى تطور العلاقات الدولية مع جمود الفقه عندنا، أو فى تطور النهضات الإنسانية مع عكوفنا على الصور والأشكال الجوفاء؟ بم شغلنا؟ وبماذا نشغل الآن؟ إن مراجعة تفكيرنا الدينى ضرورة ماسة، ولا أعنى بتاتا رجوعا عن أصل قائم أو فرع ثابت، فهذا والعياذ بالله ارتداد مقبوح! هناك فرق بين الرجوع والمراجعة! إننى أعنى بالمراجعة: الحساب العقلى الشديد على مواقفنا من أنفسنا وديننا، وماذا فعلنا، وماذا تركنا، وماذا قدمنا، وماذا أخرنا؟ وكل محاولة للنهوض - دون هذه المراجعة الواجبة - قد تكون تكرارا للمأساة... وهذه المراجعة سهلة ما دمنا ننطلق من قواعد معصومة أساسها الكتاب والسنة. على أنه لابد من إبعاد العقول الملتاثة عن علم الكتاب والسنة ولابد من تنقية منابعنا الثقافية حتى تروج أقوال الأئمة والعباقرة، وأهل الذكر، وتستخفى أقوال المعلولين وأذناب السلطات وأشباه العوام. ص _047(3/46)
أؤكد أننا لا نبدأ من فراغ، فالعلماء الراسخون كثيرون فى تاريخنا الطويل، وإن كان فساد الحكم قد طوى أسماءهم، وأهان تراثهم، وقدم عليهم من لا يساوى قلامة أظافرهم...! والآن - بعد ما دفعنا ثمن هذه الخيانات - يجب أن نراجع ثقافتنا وسياستنا... إن الحق يدعم صاحبه وينفعه، والذى يعيش وفق جملة من الحقائق العقلية والخلقية والاجتماعية غير الذى يعيش فى عالم من الترهات والأباطيل.. والاستيحاش من الحق أو الاستكبار عليه لا يتركه القدر دون عقاب عاجل أو آجل.. فإن حافظ السماوات والأرض لا يترك أصحاب الهوى يفسدونهما كيف شاءوا ( ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن بل أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون). والمهم عندما نتيه عن الحق ألا يطول شرودنا عنه، وأن نعرف بدقة ما الخطأ الذى ارتكبناه؟ وما الصواب الذى نتشبث به؟ وفى تراب الهزيمة التى حلت بنا ماديا وأدبيا وقف مسئول مخبول يقول: إن الصلاة والصيام هما علة ضعف الإنتاج..! وقلت، وقال أهل الرشد كلهم: إن الطريقة التى وليت بها الحكم أيها المستبد الأعمى هى سر تخلفنا العام.. وقال أحد الزهاد: إن حب الدنيا وكثرة المال هما... وقبل أن يتم حديثه، قلت: الأمريكيون أكثر من العرب مالا وأعز نفرا... وهم خير من العرب حالا.. وقال آخر كلاما لا أثبته..! إن علاج أمة ظلت قرابة ألف عام رفيعة القدر ثم هوت من حالق دائخة الفكر، مضطربة الخطو، لا يمكن أن يتم بكلمات مرتجلة وأحكام نزقة..!! أولى الخطوات الشجاعة أن نعترف بأغلاطنا، وهى كثيرة ومفزعة، ومتغلغلة فى ماضينا.. ثم نبدأ حركة التصحيح بتؤدة وعزم ومضاء.. ويحزننى أن أقول: إن جيشا من الدهماء يملأ آفاق العمل الديني، لا يحسن درس القضايا، ولا إصدار الأحكام! ص _048(3/47)
والجنون مراتب، هناك جنون مطبق يسقط عن صاحبه التكليف، وهناك جنون جزئى يجمع بين المتناقضات دون حرج! وإلى هذا النوع من الجنون يشير القرآن الكريم عندما يقول لنفر من أهل الكتاب : ( أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون). نعم أين العقل فى هذا التصرف؟ في هذا الميدان رأيت نوعين من الناس، نوعا لا يستطيع الرؤية لعجز في حاسته، ونوعا يرى ولكنه مشدود بالهوى إلى شيء آخر مسيطر عليه، كلا النوعين لا يصلح لعمل إسلامى محترم، لأن الإسلام لا يصلح له إلا أولو الألباب. والواقع أن سلامة التفكير واستقامة الخطو هما لباب الدين، وأين تجد الدين مع الغباء المستحكم والعوج الغالب؟ الدين عندئذ مراسم مجلوبة على فراغ، ولا قيمة للتاج على رأس مجنون. هناك آيتان تتحدان موضوعا وإن تغايرتا أداء.. قوله تعالى : (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين ). وقوله تعالى: ( ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم ). العمل الحسن المتقن الجيد هو الطريق إلى الله، وبقدر جهد صاحبه فى إبرازه على خير وجه، وابتغاء وجه الله به، تكون مكانته، هذا معنى الآية الأولى... أما الآية الثانية فقد أشار صدرها إلى حقيقة فلسفية مقررة هى قيام الكائنات بربها، واعتمادها فى وجودها وبقائها على إيجاده وإمداده. فمن تتبع هذا المعنى فى الأنفس والآفاق ولزم سيره فى هذا الخط القويم عرف الله، وتجاوب مع وصاياه، واستقر على هداه... يقول ابن كثير فى تفسير هذه الآية: (ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها) (أى تحت قهره وسلطانه، وهو الحاكم العادل الذى لا يجور فى حكمه، فإنه على صراط مستقيم، ص _049(3/48)
روى الوليد بن مسلم، عن صفوان بن عمرو، عن أيفع بن عبد الكلاعى أنه قال: ( ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم ) قال: يأخذ بنواصى عباده، فيلقن المؤمن حتى يكون له أشفق من الوالد لولده، يقول: ما غرك بربك الكريم؟ وقد تضمن هذا المقام حجة بالغة، ودلالة قاطعة على صدق ما جاء به وبطلان ما هم عليه من عبادة الأصنام التى لا تنفع ولا تضر ولا توالى ولا تعادي، وإنما يستحق إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له، الذى بيده الملك وله التصرف، وما من شيء إلا تحت ملكه وقهره وسلطانه..". وينظر صاحب المنار إلى الآية من جهة أخرى فيقول: ( إن ربي على صراط مستقيم ) أى على طريق الحق والعدل، لا يسلط أهل الباطل من أعدائه على أهل الحق من رسله ومتبعيهم من أوليائه! ولا يضيع حقا ولا يفوته ظالم". وما يقوله الشيخ رشيد يقع بعد الاختبار المحتوم بين الحق والباطل، هو اختبار قد يتعرض فيه الحق للهوان، وقد يملك الباطل فيه السلطان، ولكن إلى حين!! ثم تكون العاقبة للمتقين..!! إن كلا المفسرين الكبيرين وضح طرفا من الآية، والذى أريد إبرازه أشمل وأخصر... إن الذى يتحرى الحق ويلتزم منهجه، ويحرص عليه ويتجنب الانحراف والزيغ لابد أن يصل إلى الله، وذلك معنى قوله تعالى: ( وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر)، قال مجاهد: "طريق الحق.. على الله" أى يدل عليه ويبلغ إليه حتما، ويؤيد ذلك ابن كثير فيقول: أخبر سبحانه وتعالى أن ثم طرقا تسلك إليه فليس يصل منها إلا طريق الحق، وهى الطريق التى شرعها ورضيها، وماعداها مسدودة والأعمال فيها مردودة، ولهذا قال: (ومنها جائر) أى حائد مائل..!! والحائد عن الصراط المستقيم لا يصل إلى الله أبدا. وعندما تبجح إبليس، وظن أنه قادر على إغواء البشر، أخبر رب العزة أن الطريق إليه لا يتطلب عبقرية خارقة، ولا يكلف مشقة بالغة، إنه طريق سهل قريب ممهد ( قال هذا صراط علي مستقيم * إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من(3/49)
اتبعك من الغاوين). ص _050
والمقارنة بين خلال (صفات) المحقين والمبطلين تكشف عن طبائعهم، وتحدد وظائفهم الاجتماعية، فالبعداء عن الله لا يعرفون الحق ولا يقولون به؟ مواهبهم البشرية مطموسة وقدراتهم مشلولة، ومن هنا فإن مجتمعاتهم طافحة بالشرور، مشدودة إلى الوراء، لا تقدر أن تقدم لنفسها ولا لغيرها خيرا، وتدبر قوله تعالى يصف أولياءه وأعداءه: ( وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم ). إن الأمة المسلمة حقا بريئة من الصفات الأولي، معروفة بالصفات الأزكى والأرقي، فهى مشهورة بالعدل آمرة به، وهى فى الأسرة الدولية قوامة بالقسط فى كل مجال، وهذا القيام ناضح من إقساطها فى حياتها الداخلية وبناء شعوبها على المعروف والحق.. أمر المسلمين لا يقوم على دعاية كذوب ومزاعم جوفاء، وما تقوم أمة على هذا الهزل الذى نرى أنه يداوى الجهل بالعلم، والخطأ بالصواب، وأنه بالتربية النفسية والعقلية يعرف المرء ربه وباستقامة اللب والقلب يلتقى المرء مع مولاه!! وأن التدين مع العوج الفكرى والنفسى نوع من الخبال تتجاور فيه المتناقضات، وقد تضيع فيه الحقيقة ويبقى الشكل الذى لا وزن له... وهذه الحقائق تشمل الأفراد والجماعات، بل لعل آثارها أكثر فى تاريخ الأمم منها فى تاريخ الآحاد من الناس... إن الارتقاء العقلى والخلقى لمجتمع ما قد يغطى القصور لدى بعض الناس، ولكن الارتقاء الجزئى لا يغطى قصور الجماعات ولا يوارى سوآتها... التقيت بالأستاذ الإمام حسن البنا قبل يوم من استشهاده، وعانقته وأفزعنى أنى عانقت عظاما معلقة عليها ملابس! كانت الهموم قد اخترمت جسد الرجل فلم تبق منه إلا شبحا يحمل وجهه المغضن العريض. وشرع يحدثنى كما يحدث أى تلميذ له. ص _051(3/50)
قال: لو استقبلت من أمرى ما استدبرت لعدت بالجماعة إلى أيام "المأثورات"، واستبنت ما يعني، لقد واجهت قلة من المؤمنين طوفانا من المتاعب والمآسى نما مع الليالى السود! أين الناس؟ أين المسلمون؟ أعداد كبيرة تبحث عن الطعام، وأخرى تبحث عن اللهو، وثالثة تلهث وراء آمالها فى هذه الدنيا!!! وهؤلاء المصلون الخارجون من المساجد! أما يهتمون بدينهم الموشك على الغرق؟ إنهم كثيرون لكن لا وعى ولا حراك!! إن القصور الفقهى والأدبى حولهم إلى غثاء لا خير فيه.. إن السواد الأعظم يحتاج كل الاحتياج إلى إحياء تربوى طويل، والمعركة قبل ذلك قليلة الغثاء! نعم سيضرب الدعاة جند أشبه بالآلات، وسيقف الجمهور يتفرج ويتسلى كأن الأمر لا يعنيه.. ألا نعيد النظر فى تفكيرنا ووسائلنا؟! ص _052(3/51)
مشكلات الشباب فى العالم الإسلامي شبابنا.. هم ذخيرة أمتنا، وقوارب النجاة لها، وهم عدة الحاضر وأمل المستقبل، ومشكلات الشباب يجب أن تدرس، وأن تناقش، وأن تجد الحل المناسب والسريع.. فلابد من وجهة إسلامية للشباب، ولابد من تربية إيمانية عن طريق العزة والهداية، حتى يتحملوا واجبهم، ويؤدوا دورهم فى تسيير ركب الحضارة الحديثة، ويرفعوا الغبن عن أمتهم، ويذودوا عن حمى ديارهم وأوطانهم وإسلامهم، فهم عدتها وعتادها، خاصة ونحن نملك طاقة هائلة من قوى الشباب يجب أن نحسن استغلالها ورعايتها، والرسول - صلى الله عليه وسلم -، يعبر عن حبه للشباب فيقول: "نصرنى الشباب".. فما هى مشكلات الشباب فى العالم الإسلامي؟ وكيف تحل؟.. هذا ما يجيب عنه ثلاثة من المفكرين المسلمين.. تولوا مناصب هامة فى مجال الدعوة إلى الله.. فضيلة الشيخ محمد الغزالي، والأستاذ الدكتور محمد البهى (رحمه الله)، والأستاذ الدكتور أحمد العسال. العناية بالشباب.. عناية بالحياة نفسها.. فترة الشباب هى أخصب فترات العمر وأعلاها وأحفلها بضروب الإنتاج المادى والأدبي، ولذلك كان لها عند الله حساب خاص كما جاء فى الحديث الشريف أن الإنسان سوف يسأل عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه... والواقع، كما يقول الشيخ محمد الغزالي، أن مرحلة الشباب فى أعمار الناس هى مرحلة التحصيل العلمى والجهاد الاقتصادي، وهى المرحلة التى تعتمد عليها الأمم فى تكوين الجيوش، وخوض الميادين، مدنية كانت أو عسكرية ومن الخطأ أن نظن أن فترة الشباب، فترة قوة مادية ونشاط للغرائز الجسمانية وحسب، فهذا غير صحيح، بل الواقع أن المشاعر الروحانية الجياشة، والعواطف الإنسانية النامية، والأشواق المشبوبة نحو الكمال وإرضاء الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -.. هذه كلها تبدو فى عصر الشباب متألقة قوية، ولذلك فإن العناية بالشباب عناية بالحياة نفسها، وأعظم المؤثرات فيها. 1 - الانفصال بين العلم(3/52)
والتربية.. وأول مشكلة تواجه الشباب كما يراها فضيلة الشيخ محمد الغزالي.. ذلك الانفصال بين العلم والتربية، فالتربية الدينية تكاد تكون معدومة فى الجامعات ص _053
العليا، ونادرة فى المدارس الثانوية والمتوسطة، مع أن هذه الأدوار من التعليم تحتاج إلى مقادير كبيرة من القوة الروحية، والتوجيهات الأخلاقية، وإلى إيلاف الشباب أركان الإسلام العبادية والاعتقادية، وخلط هذه الأركان بحياتهم أثناء الدراسة أو فى أثناء الإجازات الدراسية. ويرجع السبب فى ذلك الانفصال بين العلم والتربية إلى ضغط الحضارة المادية والغزو الثقافي، فالتيارات الشيوعية والفلسفات المادية الغربية تتضافر كلها على تشتيت قوى الشباب المسلم فى مجالات اللهو واللعب، أو فى مجالات الفكر العائم والثقافات الرخيصة. ونجاح الغزو الثقافى فى إيجاد أجيال تتخلخل فيها هذه القيم الدينية والروابط الأخلاقية، أمر خطير النتائج، ولعله من وراء الهزائم الكثيرة التى أصابت المسلمين فى شتى الميادين. ويتفق الدكتور أحمد العسال مع الرأى السابق ويضيف: الانفصام الفكرى بين القول والفعل.. بين ما يجب أن يحدث، وما هو حادث بالفعل، مما يسبب فقد الانتماء، وفقد الهوية عند الشباب، وتكون نتيجة ذلك.. القلق والازدواجية، والتصرفات الطائشة، وعدم المبالاة.. وسبب ذلك كله كما يقول: يعود أساسا إلى الأسرة العربية عامة، والمصرية خاصة.. حيث إن التقاليد الغربية وأنماط الحياة الغربية أخذت طريقها إلى أسرنا، فأصبح الاهتمام الأكبر الأساسى فى معظم الأحيان منصبا على الجوانب المادية، لا الروحية.. فالأسرة اليوم تسعى لأن يكون أفرادها جميعا فى مراكز علمية أو اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية متميزة، بغض النظر عن الاهتمام بنوعية التربية ودرجة الأخلاقيات والتربية السليمة القائمة على قيم الإسلام. 2 - عدم وجود قيادة واعية.. الدكتور محمد البهى يرى أن فى مقدمة مشكلات الشباب.. عدم وجود قيادات(3/53)
إسلامية تتخير للشباب المادة التى يقرؤها، وتوقفه على جوهر الإسلام فى منهج الحياة التى يجب على المسلم أن يتبعها.. فالشباب لديه فراغ كبير فى القيادة الإسلامية، ومن أجل هذا الفراغ، كل يختار ما يريد من كتب يقرؤها، وبالأخص إذا وجد هذا الكتاب قليل التكلفة وكثير من هذه الكتب يجر الشباب إلى مشاكل هامشية، ويقربهم من الموت أكثر مما يرشدهم إلى طريق الحياة، ويقربهم إلى السلبية والبعد عن ص _054
واقع الأمر فى هذه الحياة التى يعيشها أكثر مما يحملهم على الإيجابية.. وفقدان الشباب القيادات الإسلامية الواعية يحمل هذا الشباب على أن يستهلك طاقته الإيمانية وطاقته فى الدراسة والاطلاع، فى مسائل هامشية لا خير فيها لإنسان مسلم، لا فى إيمانه ولا فى الدفاع عن عقيدته. ويعلق الشيخ الغزالى على نقطة القيادة الإسلامية الواعية فيقول: لقد لاحظنا فى الأنظمة الأجنبية أن هناك وزارات للشباب والرياضة تهتم بالتجمعات الطلابية وقوافل الشباب من الجنسين، ونحن انبعاثا من ديننا وغيرة على أمتنا، نحب أن تكون للشباب قيادته الدينية الواعية، وأن تكون للجنسين معا ريادات روحية وثقافية لها غيرتها وحرمتها، وبذلك نلقى تيارات الشر بتيارات خيرة أقوى وأنشط. 3 - تفريغ العمل الاجتماعى من مضمونه.. مشكلة أخرى يناقشها الدكتور أحمد العسال، وهى تفريغ العمل الاجتماعى من مضمونه، ووجود مجموعة من الانتهازيين والهلاميين استطاعت أن تجمع ثروة كبيرة فى مدة قصيرة.. وهذا دفع الشباب إلى الرغبة فى الوصول بسرعة إلى ما يهدف إليه، وإلى جمع الثروة، وهذا يقلل من التفكير الجدى فى المشاكل فى كثير من الأحيان، والالتجاء إلى التحايل والدس والتملق. والحل كما يراه هو أن نسعى جاهدين لتنقية هذه "الخرائب" من نفوس الشباب، وإعادة ثقته بالله سبحانه وتعالى ربا، وبالإسلام دينا ومنهاجا لحياة الفرد والجماعة وأن نعمق فيهم الاعتصام بالإسلام، وأن نورث فيهم الثقة بالنفس(3/54)
والعزة والكرامة وحب الجهاد فى سبيل الله وفى سبيل أن تكون كلمة الله هى العليا.. واليد العليا خير من اليد السفلي، كذلك يجب الاهتمام بالقدوة الصالحة التى تؤثر فيه وتوجهه، ولابد من العناية بالوسط الاجتماعى الذى يتحرك فيه، وتنقيته من كل ما يغضب الله عز وجل، حتى يكتمل البناء الذى يقيمه البيت والمسجد والشارع فى نفوس الشباب، ويربى فيهم حب الطاعة لله ولرسوله عليه الصلاة والسلام.. ولابد من توضيح أن هناك صراعا حضاريا فى العالم اليوم والمسلمون طرف فيه.. وعلى الشباب المسلم أن يأخذ دوره فى رد هذا الهجوم ضد حضارة الإسلام. 4 - مشكلة الغريزة الجنسية... المشكلة الرابعة هى مشكلة "الغريزة الجنسية".. يقول الشيخ الغزالي: ص _055(3/55)
أحب أن أواجه الغريزة الجنسية مواجهة صريحة.. فإن النفاق فى علاجها، أو الفرار من مطالبها نوع من العبث.. وأرى أن يعود المسلمون إلى تقاليد الإسلام الأولى أيام سلفهم الصالح، وأن ييسروا الزواج تيسيرا شاملا، وأن يزيلوا كل العوائق التى تعترض إتمامه بحيث يكثر الزواج بين سنى العشرين والخامسة والعشرين، وإذا تأخر سنة أو سنتين بعد ذلك فلضرورات قاهرة، والدين الذى يجعل تعليم القرآن مهرا للزوجة، لا يسأل عن التعقيدات التى أحدثها المسلمون فى هذه الناحية من حياتهم الاجتماعية.. واعتقادى - ولا زال الكلام لفضيلة الشيخ الغزالى - أن التوجيهات النظرية هنا لا تسد الفراغ القائم، بل لابد من "إشراف جماعي" من أهل العلم والتجربة على المجتمع الإسلامى الآن، حتى يمكن أن تنكسر التقاليد التى تعسر الحلال وتيسر الحرام، والقدوة هنا لها دخل كبير فى التغيير المطلوب. مع الإشارة إلى أن المجتمع الإسلامى ليس مجتمعا إباحيا، يجعل الشوارع معارض للفتنة، ويجعل التبرج تقليدا سائدا يستفز الغرائز الهاجعة.. فديننا يقوم على صيانة الأعراض وسد منافذ الفتنة، وإعانة الجنسين معا على العفاف والسكينة.. الأدب فى المجتمع الإسلامي.. والمجتمع الإسلامى يحيا بالأدب بين أفراده، ومما يلفت النظر فى بناء المجتمع الإسلامي، الحفاظ الشديد على الاحترام المتبادل بين الصغار والكبار، وبين الشباب والشيوخ، حتى إن النبى - صلى الله عليه وسلم - نفى شرف الانتساب إلى هذا المجتمع عمن يفقدون الأدب، فقال: "ليس منا من لم يوقر كبيرنا ويرحم صغيرنا ويعرف لعالمنا حقه".. ويضيف الشيخ الغزالى قائلا: ولو أن أمتنا وهى تهتم بقضايا الشباب، كونت لجانا أو مجامع من أهل الخبرة والسبق والتقوى لكى يمنحوا الشباب خبرتهم وتجربتهم، ويحسنوا قيادتهم وسط العقبات الكثيرة القائمة... لكان من ذلك خير كثير، شريطة أن يقوم الشباب من ناحية باحترام الخبرة المبذولة، وتقدير أصحابها الذين يقدمون(3/56)
نصحهم ويحبون أولادهم وتلامذتهم... 5 - العداء الواضح للإسلام.. والمشكلة الخامسة التى تؤثر على الشباب كما يراها الدكتور محمد البهى وزير الأوقاف وشئون الأزهر الأسبق، هى مشكلة إبعاد المسلمين عن إسلامهم، إما بتشويه ص _056
الإسلام ومبادئه وعرضه على الشباب مشوها، وإما بدفع قادة أنظمة الحكم إلى التنكر للإسلام ومحاربته.. ومما لا شك فيه أنه بعد الحرب العالمية الثانية برزت قوتان متميزتان فى النفوذ وفى العنف، وفى الضغط على المسلمين.. هى قوة الإلحاد العلمى (الماركسية الشيوعية)، وقوة الصليبية الدولية (الأوروبية والأمريكية).. وآن الأوان لأن يفهم المسلمون أن معظم الوظائف الأساسية فى نظم المجتمعات الإسلامية، لا تملأ بالوطنيين أصحاب الغيرة على مقومات الوطن.. وإنما يتولى أمر هذه الوظائف الكبرى من ترضى عنه هذه القوة أو تلك. وهؤلاء بعد توليهم يباشرون ما تشير به هذه القوة أو تلك، ومن المؤسف أن تيارات الجامعات سواء فى رياستها، أو فى عمداء الكليات فيها، أو فى رؤساء الأقسام أصبح الكثير منها يأتمر بأمر القوة التى يتبعها نظام الدولة المحلي.. والمثل على ذلك واضح، فاقتراب الجامعات من النظام الشيوعى أو الليبرالى يعتبر أداة سهلة لتبعية رسالة الشباب إلى هذا الاتجاه أو ذاك. مما يفسر حالة فقد الهوية والازدواجية التى يعانى منها الشباب اليوم فى مجتمعنا المعاصر، ولنا أن نؤكد عدم وجود مجال للوفاق بين هاتين القوتين أكثر من إضعاف القوة الإسلامية والاستيلاء على ما بين أيدينا من نعم لا تعد ولا تحصي. 6- مفهوم يحتاج إلى تصحيح... وهناك مفهوم يحتاج إلى تصحيح فى أذهان بعض شباب الجماعات الإسلامية فى الجامعات.. يقول الدكتور البهي. هناك من الشباب من يظن أو يعتقد أن دراسة الإسلام وقراءة القرآن وتلاوته فى مناسبات عديدة كفيل بالنجاح.. وهذا حق.. هو نجاح فى الإيمان وفى البعد عن الانحرافات.. ولكن هناك شيئا آخر وهو التقدم فى(3/57)
المستويات العلمية.. فالريادة لشباب الجماعات الإسلامية فى الجامعات لا تتم إلا بأمرين: التزام الإيمان وعدم الانحراف فى السلوك والمعاملات.. ثم بالتقدم فى المستوى العلمى فى كليته.. والحصول على الريادة فى الجامعات عن طريق الوظائف المتعددة للدراسة فى الأقسام والكليات، لا يقل أهمية إطلاقا عن التعبد لله، والمواظبة على القرآن الكريم حفظا ودراسة وتطبيقا.. والرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: ص _057
"المؤمن القوى خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفى كل خير".. فإنه يقصد قوة الإنسان المسلم عن طريق المعرفة التى سيصل إلى الله عن طريقها، كما سيصل إلى ريادة الآخرين.. 7- التعليم.. ومظاهر الانهزام النفسى عند الشباب هناك أيضا مشكلة التعليم الذى لا يقوم على منهج إسلامى صحيح يعمق فى المسلم أسس الإيمان، ويعمل على تربية المسلم تربية عقائدية تشعره بالعزة والقوة لانتمائه إلى هذا الدين العظيم.. يقول الدكتور أحمد العسال: ولابد من الحديث أيضا عن الانهزام النفسى لدى الشباب المسلم الذى حدث بتأثير نكبة فلسطين وهزيمة حزيران (يونيو 1967م) والتفكك الحادث اليوم فى محيط الأسرة العربية الكبيرة، وكل ذلك له تأثير على درجة ثقة الشاب بنفسه ودينه وبوطنه.. وفى دراسة قام بها الدكتور عمر شاهين أستاذ الطب النفسى بجامعة القاهرة على عينة تمثل (أربعة آلاف) طالب وطالبة فى الجامعة تبين أن أكثر من 70% من هذه العينة تعانى من اضطراب نفسي.. اكتئاب أو قلق أو فصام ذهنى أو اضطراب مراهقة أو هستريا.. كما أوضحت الدراسة أن نسبة 60% منهم يدخنون السجائر، و10% يتعاطون الحبوب المنشطة التى تساعدهم على السهر، وبعض المواد المخدرة أحيانا.. هذه بعض مشكلات الشباب المسلم فى العالم الإسلامي.. وغيرها كثير، وخلاصة القول: إن كل هذه المشكلات، إنما تنبع أساسا من بعد المجتمع المعاصر عن هدى الإسلام، وعن منهج القرآن، فالعودة إلى كتاب الله وسنة الرسول(3/58)
- صلى الله عليه وسلم -.. هى الحل الأمثل والوحيد للخروج من دنيا الضياع التى تعيشها أمتنا الإسلامية اليوم وخاصة شبابها.. مطالبنا هى: وقد أصدر المؤتمر الرابع لمشكلات الشباب، الذى عقد بالأزهر الشريف فى نيسان (أبريل 1981م عدة توصيات عبرت عن مطالب الشباب كان منها: 1- وضع مناهج لتوضيح قيم الإسلام، تدرس فى مراحل التعليم على الصعيد الإسلامي. 2- توسيع نشاط المساجد بحيث تكون قبلة صلاة، ومدرسة تثقيف ديني، ومركزا للخدمات الاجتماعية. ص _058
3- تزويد الشباب بما يؤهلهم لبذل طاقاتهم فى سبيل نشر الدعوة الإسلامية. 4- الاستفادة من خبرة الشباب المهاجر فى نشر الدعوة فى الخارج وفى مجال التنمية فى العالم الإسلامي. 5- توفير الأمن الإسكانى للشباب باعتبار أن ذلك عامل من عوامل الاستقرار. 6- ضرورة الاهتمام بدراسة فقه المعاملات فى الإسلام والنظريات الاقتصادية، وإدماج ذلك كله فى مناهج تعليمية بحسب مراحل التعليم المختلفة. 7- ضرورة إقامة اتحاد شباب إسلامي.. وترفع هذه التوصية إلى الجهات المختلفة لكى تتولى تكوين هذا الاتحاد. 8- الاهتمام بأبناء المسلمين فى البلاد غير الإسلامية لتيسير تنشئتهم إسلاميا بإرسال الكتب والنشرات. 9- يبارك الشباب الاتجاه للتوسع فى إقامة مصارف إسلامية تقوم على أساس الشرع بعيدا عن الأوضاع الربوية. 10- ضرورة العناية باختيار القيادات التى تتصل بالشباب حتى يكونوا قدوة يحتذى بهم. 11- ضرورة ترشيد أجهزة الإعلام لكى تكون سبيلا إلى غرس القيم الإسلامية والتعاليم الدينية، ولكى يتجنب الشباب ما يؤدى إلى إثارة الغرائز وإلى التمزق النفسى وسوء الفهم للأوضاع الإسلامية. 12- ضرورة الاهتمام بدور الفتاة المسلمة فى تنمية المجتمع الإسلامي. ثم: 13- ضرورة الاهتمام من علماء الشرع بدراسة مشكلات الشباب وإعطاء رأى إسلامى فى تلك المشكلات بأسلوب يتلاءم مع روح العصر... ص _059(3/59)
كيف نقتبس من هذه الحضارة؟ استفادة اليابان من حضارة الغرب... كان رجال التعليم والتربية فى اليابان أيقاظا عندما اتصلت بلادهم بأوروبا فى القرن الماضي، أو قل: كان حراس التقاليد الموروثة صاحين عندما قررت اليابان الاستفادة من التفوق الصناعى الغربي، فقد أعدوا لكل جديد يقتبس مكانه فوق أرضهم، ومساحته المادية والأدبية التى لا يعدوها، وهيمنوا ببصر حاد على الآثار المتوقعة حتى لا تفلت من أيديهم، أو تتحرك بعيدا عن خططهم المرسومة!! ومع التزام هذا الخط الصارم بقيت الشخصية اليابانية محفوظة السمات ثابتة الملامح، فانتقلت الصناعات الغربية إلى اليابان، ولم يتحول اليابانيون إلى أوروبيين فى عقائدهم أو لغتهم أو آدابهم وأخلاقهم.. إنهم فعلوا ولم ينفعلوا.. وقادوا ولم ينقادوا...!! وكانت هناك أديان بينها فجوات، البوذية من ناحية والشنتوية من ناحية أخرى، والأتباع المخلصون تتقسمهم وجهات نظر شتي، ومذاهب كثيرة - إن صح التعبير - بيد أن لونا من المعايشة السلمية فرض نفسه على الجميع؛ فإذا اليابانيون كلهم دون حساسيات دينية يتعاونون على إنهاض بلدهم ورفع لوائه، وتم لهم ما أرادوا.. أساس النجاح الحقيقى... إن للنجاح الحقيقى أساسا لا يتغير! هو النفس الإنسانية، فإذا استقر هذا المهاد لم يبق شيء ذو بال، وقد كان محمد - صلى الله عليه وسلم - أعرف إنسان بهذه الحقيقة، فاتجهت جهوده كلها قبل أى شيء إلى داخل الإنسان، تصوغه وتضبطه وتطمئن إلى قراره ومساره، وهو يعرف أن هذا الإنسان سوف يفرض نفسه على بيئته يوما عندما تنزاح العوائق من أمامه ولم يحاول قط الاصطدام بالأسوار الخارجية قبل استكمال هذا الداخل المهم! ومن ثم ترك الأصنام منصوبة حول الكعبة عشرين سنة، لم يهشم واحدا منها فى معركة طائشة، بل الثابت فى سيرته أنه طاف فى عمرة القضاء فى السنة السابعة حول الكعبة والأصنام جاثمة حولها، فى الأوضاع التى كانت عليها من بدء الدعوة! أكان ذلك(3/60)
بقيا عليها، أو توقيرا لها؟ كلا! ص _060
لقد كان يعلم أن لها أجلا لا ريب فيه، وأنها عن قريب أو بعيد ستتحول جذاذا..! ومن الذى يقوم بهذا التحويل الحاسم؟ الرجال الذين استناروا من الداخل. وتربوا على التوحيد الحق لقد عرفوا أن الذباب أقوى من هذه الأصنام، وأنها لاتثبت فى معركة معه! ألم يتلوا قوله تعالى: ( يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب). فليتربصوا بهذه الأصنام يوما لا ريب فيه دون استعجال، وليهتموا بداخلهم يتعهدونه فهو الوجود الآتى مع الغد. ويتساءل ناس: ماهذا التعهد الشاغل لهم؟ ونقول: هو تعهد الوعى ليكون صحيحا، والباطن ليكون نظيفا، والخلق ليكون عظيما، والإخاء ليكون وثيقا، والهدف ليكون واضحا..! فالأمم لا تبنى بالصور وإنما تبنى بالحقائق. إن المنافقين أحسن الناس إتقانا للمراسم، وقلوبهم هواء.. أما المؤمنون فإن نضج نفوسهم، وزكاة سرائرهم، هما سر عظمتهم، وسر مآل الأمور إليهم.. ولا يعرف فى تاريخ الهداة رجل مثل محمد - صلى الله عليه وسلم - أحسن صوغ النفوس وإيقاظ ملكاتها وإدارتها بأعظم ما فيها من طاقة، وجعلها تدفع ولا تندفع، وتؤثر ولا تتأثر! فهل نحن الدعاة اليوم المنتمين إليه نفهم هذا النهج، ونلتزم منطقه؟؟ إن الموجهين اليابانيين كانوا أذكى منا وأقدر فى مواجهة المشاكل وهزيمة الصعاب! التوجه إلى داخل الإنسان... نظرت بحسرة إلى "الخلق الفردي" فى الإفادة من التقدم الصناعى العالمي، ما هذا؟ هذا شاب يقود سيارة فارهة، تنهب الأرض نهبا، ينزل منها بأناقة وكبرياء، ويرمق الشارع بنظرة استعلاء، يشترى بعض السلع ثم يمتطى سيارته ويعود من حيث جاء.. إنه ما زاد من الناحية الإنسانية شيئا عن الأيام التى كان سلفه يمشى فيها حافيا أو منتعلا.. وما تشرف به أمته ولا أسرته! وهذا عامل قادم من وادى النيل(3/61)
ماذا يحمل ليعود به إلى وطنه؟ "فيديو"! إن المسكين جمد عرق جبينه وإرهاق أعصابه فى هذا الجهاز المسلي، وسيحمله منتصب القامة والهامة لأنه أصبح به أرفع مستوى، وما درى المسكين أنه بما يحمل نقص وما زاد!!! ص _061
العرب فى الحضارة الحديثة شعوب مستهلكة تتنافس الدول الصناعية على إلهائها بالأدوات البراقة والمخترعات المريحة. والدعاة لا يدرون كيف يستنقذون أمتهم المحروبة من هذه الأوضاع القاتلة.. لأنهم لا يتجهون إلى داخل الإنسان المسلم يحركون ما توقف من أجهزته، وينيرون ما أظلم من مصابيحه... إنهم يتحركون نحو الظاهر القريب أو تحته بقليل.. تبوأ الأمم مراكز الصدارة وقيادة العالم إن قدرة أمة ما على الصدارة فى الأرض، أو توريث أمة ما قيادة العالم كما يعبر القرآن الكريم، لا يجيء بين عشية وضحاها، ولا يتم بخصائص سهلة، لا، إن له صلاحيات معينة أومأ إليها الوحى فى قوله سبحانه : ( ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون). لا تظنن المدى قريبا بين ما قصه القرآن عن ذل بنى إسرائيل قديما، وبين تمكينهم فى الأرض بعد ذلك! عندما توعد فرعون قوم موسي، وجاء على لسانه! ( سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم وإنا فوقهم قاهرون * قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين). ومرت السنون، وتغيرت الأوضاع : ( وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها). إن ذلك كله لم يتم فى أيام قلائل، إنه استغرق عشرات السنين، حتى أمكن وفق سنن الله الاجتماعية أن يرزق العبيد أخلاق السيادة الحقيقية..! التغيير الذى أحدثه الإسلام... والواقع أن العرب أيام البعثة تعهدتهم بالصقل والتهذيب يد صناع، ومضت بهم فى طريق المجد نبوة ملهمة، نبوة حولت الماء والطين إلى أزهار ورياحين! نعم إن الإسلام حول العرب إلى ربانيين، وجعلهم نماذج تحتذى فى ميادين العبادات(3/62)
والمعاملات، فكانت قيادتهم خيرا وبركة وكانت فتوحاتهم الفكرية والروحية أندى وأجدى من فتوحهم العسكرية الخارقة.. ص _062
وعندما سقطت القيادات القديمة من الفرس والروم لم يبكها أحد، ولم يتخلف عن سقوطها فراغ يحاول الآخرون ملأه! بل الذى حدث أن الشعوب تنفست الصعداء، ورأت أن ما جد فى ربوعها أولى بالتقدير والاحترام، أو أولى بالرعاية والحماية.. عرب اليوم... لكن عرب اليوم على غرار آخر، ودعك من التخلف الصناعى والحضاري، ولننظر إلى قضايا اجتماعية وأخلاقية هى من صميم حياتنا الداخلية! ما تقاليد الزواج عندنا؟ هناك أعراف متبعة أن قبيلة دون قبيلة! وأن أسرة أعرق من أسرة! وأن مكانة امرئ ما تتبع نسبه! وقد ساند هذا السلوك الجائر تفكير فقهى يؤكد أن المرأة من بنى هاشم لا يرقى إلى مستواها الرجل من عرق آخر! أليست هذه هى التفرقة العنصرية التى جاء الإسلام لمحوها؟ هل نستطيع تصدير هذا التفكير إلى العالم؟ وهل نكون صادقين مع الله عندما نزعم أن ذلك دينه؟ وهل يقبله أهل الأرض منا؟ وفى أقطار كثيرة رأيت الشباب يئن من غلاء المهور، وأحسست أن العوائق هائلة دون الحلال، وأن المغريات كثيرة نحو الحرام، فهل هذا العجز فى علاج أهم الغرائز البشرية يعد نصرا إسلاميا، وهل رسالة أمتنا الاجتماعية تصعيب الطيبات وتيسير الخبائث، وهل يهش العالم لتقاليدنا تلك؟؟ ولا أمضى فى سرد أمثلة لتعثر قضايانا الاجتماعية، وإنما أمد البصر لقضايانا الخلقية التى لن نستورد لبحثها خبراء أجانب! أخلاق الأثرة والأنانية... شكا لى شاب ناشئ موهوب، وعورة الطريق أمامه، فقلت له يائسا: امض بمواهبك إلى الأمام دون انتظار عون من أحد! بل توقع الكيد والصد لأن البيئات التى نعيش فيها لا ترحب بالموهوبين، ولا تؤتى كل ذى فضل فضله إلا كارهة، أو مغلوبة! أغلب الناس يعيش داخل قوقعة من نفسه ومآربه، وقلما يلتفت إلى الآخرين ليسدى عونا، أو يقدم يدا. ص _063(3/63)
والطريقة التى يدرسون بها الدين لا تعين على زكاة النفس وسنائها، فالأجرب عندما يرتدى ثوبا غاليا جميلا قد يستر علته حينا، بيد أن ذلك لا يشفى سقامه.. هكذا نرى الذين يؤدون مراسم العبادات، ولا يهذبون أنفسهم! الفارق بين الإنسان والحيوان أن الحيوان يتحرك بدوافع حاجاته الخاصة ولا يحس إلا ذاته! أما الإنسان فالمفروض أنه يحيا فى مجتمع له ضوابطه وآدابه، وعلى المرء أن يحس بنفسه وبغيره معا، والصورة الدنيا للسلوك البشرى تظهر فى أفعال المجرمين الذين لا يهتمون إلا بما يشتهون، أما صور الرقى المنشود فتتضح كلما اختفت الأنانية، ونما الإحساس بغيرنا، والتقدير لحقوقه... شعار "فى سبيل الله"... وقد أقام الإسلام شعار "فى سبيل الله" ليخلع الإنسان من أثرته، ويدفعه إلى ربه! فالإنفاق يجب أن يكون فى سبيل الله، والجهاد ينبغى أن يكون فى سبيل الله، والسعى فى هذه الدنيا ينبغى أن يكون فى سبيل الله، بل المحيا والممات جميعا فى سبيل الله.. وهذا الشعار يعنى فى النشاط العام أمرين: ابتغاء وجه الله، وتحقيق المصلحة العامة، وفقهاؤنا يرون أن حق الجماعة داخل فى كل ما هو لله، إذ الإسلام يمزج بين الدين والدولة، والعبادات والمعاملات... والذى حدث فى هذا العصر أن المقاييس الأخلاقية فى الغرب غالت فى حق المجتمع، وقهرت به النوازع الشخصية، وجعلت "المواطن" يرعى وطنه، ومصلحة قومه ورفعة أمته... إلى آخره، وضبطت بذلك أنانيته الخاصة.. أما المنتمون إلى الدين فإن شعار "فى سبيل الله" نسي، أو تنوسي، فى مجال التربية! وترك سرطان الأنانية يمتد ويتوغل، فماذا كانت النتيجة؟ فرقة مستغربة بين مجاهدى أفغانستان، وبين محررى فلسطين! وسيطرت مآرب الذاتية على أغلب الأنشطة العامة! فإذا الشخص الذى يعمل لوطنه في أوروبا أيقظ ضميرا من مثيله الذى ينتمى إلى الدين ولا يفكر فى سبيل الله، وإنما يفكر فى تنمية ثروته أو دعم مكانته! المبدأ الأساسى فى التربية الإسلامية(3/64)
إن المبدأ الإسلامى الأول فى التربية هو (قد أفلح من زكاها) لا يتحقق بالدعوى ولا بالصياح، وإنما يتحقق بتطبيق عميق حاسم فى شئون الحياة، وبين جميع الطوائف.. إن "ديجول" ولى نعمة فرنسا الحديثة دفن دون احتفال فى قريته، وامرأته تعيش بين جدران ملجأ يرعى شيخوختها.. على حين نرى من خانوا أمتهم أو غشوها يدفنون وسط أحفال مائجة، وتوضع فى أفواه أسرهم ملاعق الذهب! فهل هذه مثاليات الإسلام كما نراها؟ ص _064
وهل تنتصر الدعوة الإسلامية بهذا التفاوت الصارخ؟ إن الطيبة أو التقوى أو القدرة على ميزة الخبيث من الطيب وإيثار الحسن على القبيح، كانت المشاعر التى برز بها سلفنا الأولون، بل آباؤنا الأقربون... ولقد عرفت فلاحى قريتنا وأنا صغير ينامون مبكرين بعد صلاة العشاء، ويستيقظون مع الفجر، فيذهبون صوب حقولهم، وقد تذهب إليهم زوجاتهم أو أولادهم بالغداء، فما يعودون من مزارعهم إلا مع الغروب... وكانت أراضيهم تدر السمن والعسل، وبركات الله تنهمر عليهم بالغدو والآصال. والآن بعد السهر والسمر على شتى البرامج والنوم حتى الضحي، وإضاعة الصلاة، واتباع الغفلات ماذا نجني؟ والسؤال نفسه مع أهل الخليج، لقد سمعت معمرين منهم يتحدثون عن الماضى بأسى وإعزاز معا! يقولون: كنا فقراء، ولكن الرجولة والاستعفاف وتقوى الله كانت تسود الآفاق! إن الغد مع الشهوات الوافدة مر الثمر.. حقيقة التدين وسبيل الحضارة والتقدم أريد من أمتنا أن تقتبس من حضارة الغرب ما يوافق أو يتواءم مع فطرة الله فى مواريثنا.. ثم ماذا على الدعاة والمربين لو درسوا الأساليب التى اتبعها اليابانيون فى الاستفادة من هذه الحضارة؟ ثم إن هناك خللا فى التركيب الإنسانى لأمتنا طرأ عليها مع ترادف العلل السياسية والاجتماعية، جعل المنطق العلمى يتقهقر، وتحل محله الأوهام، وجعل الاكتمال النفسى يضعف وتسد فراغه بعض الشعائر وصور الطاعات. وعلماؤنا الكبار لم تخدعهم هذه النقائض، ولذلك رفض(3/65)
ابن القيم من الغنى البخيل أن يكثر الذكر ويطيل الصيام، فعبادته الأولى العطاء! كما رفض من الداعية الجبان أن يشتغل بالأوراد، ويعتكف بعيدا عن الناس فعبادته الأولى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، والنصح، وفى عصرنا هذا لايخفى ما تحتاج إليه أمتنا كى تنهض من عثرتها، وما أيسر التوفيق بين التقدم الحضارى ومواريث اليقين والخلق، والوفاء بحقوق الله. ص _065
عمر التلمسانى رحمه الله كما عرفته كنت فى شبابى أرى الأستاذ عمر التلمسانى يتردد على الأستاذ المرشد العام، ويتحدث معه فى شئون الدعوة، ويتزود منه بشتى التوجيهات؛ كان يومئذ يشتغل بالمحاماة، وله مكتبه فى بلدة "شبين القناطر" وكان إلى جانب ذلك عضوا فى مكتب الإرشاد.. السمة العامة التى كنا نعرفه بها: وجهه البشوش وأدبه الجم وصوته الهادئ، وظاهر من حالته أنه كان على جانب من اليسار والسعة لا يسلكه فى عداد المترفين، وإنما يحصنه من متاعب الكدح ومعاناة التطواف هنا وهناك، ويحفظ عليه حياءه الجم.. وقد حمل الرجل فى شبابه أعباء الدعوة الإسلامية فى غربتها، ورأيته يوما ينصرف من مكتب أستاذنا حسن البنا بعد لقاء لم أتبين موضوعه، ورأيت بصر الأستاذ المرشد يتبعه وهو يولى بعاطفة ناطقة غامرة، وحب مكين عميق؛ فأدركت أن للأستاذ عمر مكانة خاصة لم يفصح عنها حديث. كان ذلك فى أوائل الأربعينيات من القرن الميلادي، ولم أكن أدرى ولا خطر ببالى يومئذ أن عمر التلمسانى سيخلف حسن البنا، وأنه سيقود ركب الدعاة فى أيام عصيبة... محنة وقى الله شرها: واستشهد الإمام البنا سنة 1949م، واعتقل الألوف من أتباعه، وكان من قدرى أن أساق إلى منفى الطور مع بضعة آلاف من الإخوان: وفى طور سيناء رأيت الأستاذ عمر التلمسانى فى خطواته الوئيدة ونظراته الهادئة يمشى فى رمال المعتقل باسما متفائلا يصبر الإخوان على لأواء الغربة وقسوة النفي، ويؤمل الخير فى المستقبل. وحدثت بيننا وبين إدارة المعتقل جفوة خطيرة،(3/66)
لأننا أحسسنا بأن أقواتنا تسرق، وأن تجويعنا مقصود، وبدأنا حركة تمرد كادت تنتهى بمذبحة لولا لطف الله. ولقينى الأستاذ عمر طيب الله ثراه يقول: محنة وقانا الله شرها، إنك تصرفت بحدة الشباب ومغامرته، ورأيى أن الأمور تعالج بغير هذا الأسلوب. وشرعت أستمع إليه وهو يشرح فلسفته فى الحياة يقول: أنا أكره الظلم وأرثى للظلمة، أنا أكره أعمالهم وحسب، ولا أحقد على أشخاصهم بل أرجو لهم التوبة، وأدعو الله تعالى أن يبصرهم الحق، ويلهمهم الرشد.. ص _066(3/67)
ورأيتنى أمام رجل من طراز فذ، تحركه فى الدنيا مشاعر الحب والسلام، وكأنما فيه قال الشاعر: أنا نفس مُحبة كل نفس كل حي، حتى صغير النبات..!! من شمائله: كان عمر التلمسانى يكره الشقاق والنفاق وسوء الأخلاق، ويؤثر العزلة، ويرى أنسه فى الانقطاع إلى الله، ولم تكن رذائل الرياء والتطلع تعرف طريقا إلى فؤاده، وربما استفاد من مهنته - المحاماة - أن يعرض قضيته بوفاء وشرف، وأن يدع القضاء بعد ذلك يصدر حكمه، فإن كان له رضي، وإن كان ضده قرر أن يستأنفه ليعيد الشرح والإيضاح؛ وهكذا فعل فى قضية الإسلام كله عندما كلف بالدفاع عنها أمام الجاهلين والجائرين، كان يلوذ بالنفس الطويل والصبر الجميل، ويحاول بالإقناع المتكرر أن يبلغ هدفه. وخلال النزاع المحتدم تراه طيب النفس؛ بادى السماحة، يرمق خصوم الحق وهو يردد قول الرسول الكريم – صلى الله عليه وسلم -: "اللهم اهد قومى فإنهم لا يعلمون". ومات حسن البنا، ومات بعده حسن الهضيبي، وشغر المنصب الكبير، وشعرت القافلة المحزونة بأنها تتحمل الكثير فى سبيل الله، قتل والله رجال أكابر طالما باتوا لله سجدا وقياما، وطاحت هامات قضاة ودعاة وشيب وشباب كانوا زينة المحافل.. وعشش فى السجون آباء تركوا بناتهم فى أعمار الورود، فلما خرجوا كان البنات قد تزوجن؛ ويا هول ما نزل بضيوف السجن من عذاب؛ لقد استقدمت كل وسائل التعذيب التى استخدمها ستالين وهتلر حديثا، وفراعنة الشرق والغرب قديما، فمات من مات وهو يرى فى الموت راحته، على نحو ما قال أبو الطيب: كفى بك داء أن ترى الموت شافيا وحسب المنايا أن يكن أمانيا وأما من تخطئه المنون لأمر ما فقد عاش مقتول الروح كسير الفؤاد غريبا على الدنيا.. نحتسب ما أصابنا: وفى وسط الأنواء العاصفة قيل لعمر التلمساني: احمل العلم قبل أن يسقط. وغضب لفيف من الناس لهذا التكليف؛ لماذا؟ قالوا: فى غمرات المحن التى أصابتنا، وأصابت عمر التلمسانى معنا، مات جمال عبد الناصر(3/68)
الآمر بكل ما قاسينا ص _067
من مصائب، وتنفس الصعداء كثير من السجناء، ولكن الخبر لما بلغ الأستاذ عمر التلمسانى قال: مات؟ انتهى؟ ذهب إلى الله! الله يرحمه...!! وتصايح الإخوان فى غضب: ماذا تقول؟ وبم تدعو؟ كيف يرحم الله قاتل العشرات، وجلاد الآلاف، وقاهر الجماهير، ومزهق كرامتها ورجولتها؟؟ بيد أن عمر التلمسانى قال: نحتسب ما أصابنا فى سبيل الله، ولاداعى للشماتة..! ورأيى أن عمر التلمسانى كان صادقا مع طبيعته، وكأنما كان اختبارا إلهيا أخيرا للقوى المعادية للإسلام، فإن من أبى التفاهم مع الرجل، ورفض لقاءه وأصر على حرب الدعوة وأهدافها النبيلة كما شرحها المرشد الثالث فلن تكون له عند الله وجاهة ولن تنهض له حجة ( والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد). وذهبت إلى الأستاذ عمر التلمسانى لأتعاون معه على خدمة الإسلام، فقال لي: تعلم أن هذا عبء تحملته برغمي، وقبلته وأنا كاره، قلت: أعلم ذلك، قال: والله لو وجدت من يرحمنى منه ما ترددت فى تركه له! قلت: أعلم ذلك، ومن أجل ما أعرفه عنك جئت إليك وأنا موقن بأن الله سيؤيدك، فأنت ما سعيت إلى صدارة ولا تطلعت إلى إمارة، ومثلك جدير برعاية الله وتسديده.. قال: لست داعية حرب ولا ذلك من شيمي، ولا تعلمت هذا من حسن البنا.. سأجتهد فى جمع فلول الإخوان بعد المحن الرهيبة التى وقعت بهم، وسأعتمد على الله فى تكوين قاعدة شعبية عريضة تحيا بالإسلام، وتكون صورة وضيئة له.. صنفان: وكان يزعجه صنفان من الناس.. الأول: الساسة الضائقون بدين الله النافرون من تعاليمه، وموقفه منهم رحمه الله التريث والمهادنة وإسداء النصح بأدب، وعندما أحرجه أنور السادات قال عمر التلمساني: إذن أشكوك إلى الله، ولما رد عليه السادات: اسحب هذه الشكوى - ولا أدرى أكان جادا أم هازلا؟ - قال له: إننى أشكوك إلى الله وهو عادل...! الحق أن عمر التلمسانى كان ملكا كريما(3/69)
فى إهاب بشر أرهقته السنون، وأن الذين أبوا من الساسة المحترفين أن يستمعوا إليه لم يكونوا من أهل الإسلام، ولا من بغاة الخير لأمته.. ص _068
أما الصنف الثاني: فهو الشباب الشديد الحماس: القليل التجربة، الراغب فى الاستشهاد ولما يتهيأ الميدان له بعد. كان الأستاذ عمر شديد الحنو على هؤلاء الفتية، شديد الرغبة فى المحافظة على حياتهم وتجنيبهم معارك لا يستفيد منها إلا أعداء الإسلام.. وهو يرى - والحق معه - أن نفرا من الساسة يدور فى فلك إحدى الجبهتين العالميتين المتنافستين.. وكلتاهما تكره الإسلام وتكيد له، وكان - رحمه الله - يكره تمكين هذا النفر من البطش بالإسلاميين لحساب سادته الدهاة المستخفين، ويقول: لا معنى لتكثير الضحايا، والزج بالإسلام فى معارك خاسرة...!! وأذكر أنه عندما وقعت فتنة الزاوية الحمراء ذهبنا إلى وزير الداخلية الأسبق، أنا وعدد من رجال الجمعيات الإسلامية، وعلى رأسنا الأستاذ عمر، وكنا غضابا لما وقع على المسلمين من عدوان.. وقال لنا الوزير: عاونونى على إطفاء الفتنة، ولكم ما تطلبون بعد إخمادها. وشاء الله أن تثمر جهودنا فى إعادة الاستقرار إلى المنطقة، وألقيت كلمة فى الحفل الذى أقيم عند وضع الحجر الأساسى للمسجد جلوت فيه طبيعة الإسلام فى أمثال هذه الأحداث... وقد لاحظت أن ناسا مريبين، كانوا يشتهون إلصاق التهم بالمسلمين. والغريب أن هؤلاء الناس أنفسهم حاولوا فى فتنة فرق الأمن المركزى أن يختلقوا أمورا لا أصل لها بتة كى يجعلوا المتدينين مسئولين عن تعكير الأمن! قال لى الأستاذ عمر: إننى حريص على حماية الدعوة من أولئك الذين يتلمسون العيوب للأبرياء، حريص على حماية الشباب المؤمن من أن يقاد إلى السجون ويتعرض للتعذيب كى تثبت عليه تهم باطلة.. وعلى أولئك الشبان الطيبين أن يضبطوا حماسهم حتى لا يمكنوا الأشرار منهم، إن سذاجتهم قد تكون مزلقة لهم إلى ما نكره! رحم الله عمر التلمساني، ورضى عنه، ورزق(3/70)
جماعته من يفيد التجارب ويبذل للناس وده وبشاشته وطيبة قلبه. ما أحوج أمتنا إلى ذوى القلوب الكبيرة والنفوس المطمئنة، وإلى التوكل على الله والنفور من الحزازات. ص _069
هم ما تغيروا.. نحن الذين تغيرنا!! عتبت على رجالنا أنهم لم يدرسوا التاريخ كما يجب، ولم يوفروا له الجهد والوقت اللذين وفروهما لعلوم أقل قيمة، ومن ثم وقعت فى ماضينا أخطاء معيبة وأرزاء رهيبة؛ ثم مرت كأنها رقم على الماء؛ لم تخلف بعدها عبرة، ولم تستفد منها عظة! وهذه طبيعة الأمم الغافلة، تستقبل أحداثا عانت من قبل مثلها ثم تتعامل معها وكأنها لا تعرف عنها شيئا! أليست هذه الأمم هى المعنية بقوله تعالى: ( أو لم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم)؟ وبعد هذا الاستفهام والتوبيخ يجيء ختام الآية: ( ونطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون ). وآلامنا المعاصرة تجعلنى أدرس بتؤدة تاريخ رذيلة طالما حذرنا الإسلام منها، ونهانا عن مواقعتها. إن الإسلام رهبنا من طلب السلطة، أو بتعبير السنة الشريفة: من الحرص على الإمارة. والحق أن عشق الحكم، والسعى إليه بشتى الوسائل كان – ولا يزال - من أسوأ عللنا. إنه فى سبيل الوصول إلى الحكم هلكت أخلاق وشرائع، وتقطعت أرحام وأوصال، وضاعت جماهير ورسالات، والغريب أن دورات هذا الداء تتكرر، وتتوارثها أجيال عن أخرى دون وعى ( ألم نهلك الأولين * ثم نتبعهم الآخرين * كذلك نفعل بالمجرمين). العمل المقبول فى الإسلام ما كان لله وحده، وابتغى به وجهه، ولم يخالطه طلب ظهور أو شهرة؛ يؤديه المرء على وجهه الكامل سواء أكان رئيسا أو مرءوسا، جنديا أو قائدا كما جاء فى الحديث الشريف: "طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه فى سبيل الله، أشعث رأسه، مغبرة قدماه، إن كان فى الحراسة كان فى الحراسة، وإن كان فى الساقة كان فى الساقة، إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يشفع" وذلك لأنه جندى مجهول ليس له جاه، ولا اسم لامع. ص _070(3/71)
والإسلام فى امتداده القديم وفتوحه الأولى اعتمد على أعداد لا حصر لها من المخلصين الذين جاءت فى هذا الحديث صفتهم، مرقوا من الدنيا إلى جنات النعيم بعدما أثمر جهادهم قياما للحق وازدهارا للإيمان، وإدبارا للباطل وانهداما للطواغيت.. وشرف الأمة العربية الأولى أن سوادها كان من هذا الصنف النقي، وأن انتصارها لم يكن انتصار جنس، بل انتصارا للوحي، وخيرا للشعوب، وحياة رفيعة للعالم أجمع، ولو التزم العرب هذا النهج لتغيرت الإنسانية كلها. لكن ما حدث دخلت فيه طبائع البشر وخصائص الأجناس، وليت العرب فهموا قول نبيهم عليه الصلاة والسلام: "رب مبلغ أوعى من سامع" إن بعضهم حسب الإسلام نزل ليعيش به رغدا، ويحرز به لجنسه مجدا، وينظر به إلى العالمين من أعلى... ذهب الأسلاف المتجردون الذين عاشوا لله سبحانه وماتوا فى سبيله، ثم خلفت خلوف رأت أن تصادر الإسلام لحسابها الخاص، وأن تتولى وحدها مناصبه الإدارية العليا، وأن تحتكر لذراريها الإمارة والصدارة.. وسرعان ما استيقظت العصبيات القديمة، فزاحمت الأنساب والأحساب القدرات والمهارات، ومعالم الخلق والتقوى. بيد أن الاستبحار الإسلامى فى ميادين العلم والحضارة صمد لهذا الانحراف، ومضى بالمسلمين فى مجال الترقى والازدهار حتى بلغ بهم شأوا لم تعرف الدنيا نظيره؛ لكن إلى متي؟ وللإسلام أعداء متربصون، ولأمته الكبيرة من يرصد أخطاءها، ويعرف آثار الحكم الفردى بها، وفتك الشهوات بالمترفين، وفتك الغمط بأولى العلم والخبرة! إن المسلمين فى أواخر القرن الرابع أخذوا يترنحون تحت وطأة أمراضهم، ووجد الرومان وسائر الصليبيين الفرصة سانحة فانقضوا... لقد قلت، ولا أزال أقول: إننا لم نحسن دراسة ما أصابنا من هزائم فادحة، وما أقمنا حواجز ضد تكرارها، ولا يزال ناس منا مشغولين بأنواع من المعرفة لا تضر عدوا ولا تنفع صديقا، وتيار الأحداث الزاخر يلطم الوجوه، ويطوى جماهير بعد أخرى، ونحن لا نربط النتائج(3/72)
بأسبابها، وما فكرنا فى تكوين دراسات ذكية جريئة لمعاصينا السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ولا أدري: لماذا الخشية أو لماذا الجمود؟ هل مستقبل أمة من مليار إنسان شيء هين؟ هل النكسات التى عرت رسالتها غير جديرة بالتأمل؟ لقد قرأت كلاما مهما للأستاذ محمد حسنين هيكل رأيت أن أعرضه؛ لأنه نتاج ذهن واسع النظرة، رمق قرونا طويلة من تاريخنا ثم أحسن وصف ما حدث فلم يقفه ص _071
وصف الجزئيات عن الإحاطة الواعية... ومع مخالفتنا له فى استنتاجاته إلا أننا نرى أن ينتفع الدعاة بقدرته فى تقديم صورة شاملة لجزء حساس من تاريخنا، كان فيه أبرع من غيره.. قال الأستاذ هيكل: "جاء الاستعمار الغربى أول الأمر فى الحروب الصليبية وكان هدفه اقتصاديا بالدرجة الأولى... فتح طريق التجارة مع الشرق. وتصدت الدولة الأيوبية ثم تصدت دولة المماليك العظام فى مصر والشام وردت الموجات الصليبية على أعقابها. ولم يستطع الاستعمار أن ينفذ من القلب فاتجه إلى الأطراف والأجنحة. وسقطت الأندلس، وبدأت محاولات البحث عن الطريق البحرى الطويل إلى الشرق، وكانت أسبانيا والبرتغال فى المقدمة لأن المحاولات الصليبية من شمالى ووسط القارة - فرنسا وإنجلترا وألمانيا - أرهقت واستنزفت نفسها فى محاولات النفاذ من القلب... فلسطين. وأرسلت كل من أسبانيا والبرتغال بعثات استكشافية بحرية. خرج "كريستوفر كولومبس" إلى بحر الظلمات - المحيط الأطلسى - قاصدا الشرق؛ وإذا به يصل أمريكا. وخرج "فاسكو دا جاما" إلى بحر الظلمات أيضا ووصل إلى الشرق فعلا. وسقطت دولة المغول المسلمة فى شبه القارة الهندية بالطريقة نفسها التى سقطت بها دولة العرب المسلمة الأندلسية فى شبه الجزيرة الأيبيرية. سقط الجناحان فى العالم الإسلامى وبدأت عملية الزحف نحو القلب. زحف من الشرق من الهند إلى الخليج العربى إلى عدن. وزحف آخر من الغرب خلع جذور الإسلام من أسبانيا. سقط الجناحان فى العالم الإسلامي. وبدأت(3/73)
عملية الضغط على القلب العربي. والمحزن أن أحدا فى هذا القلب لم يتنبه ولم يتحرك. جرى التهام دولة الإسلام فى الأندلس قطعة بعد قطعة، ولم يتنبه أو يتحرك أحد لما يجرى فى الغرب. وجرى التهام دولة الإسلام المغولية فى الهند بالطريقة نفسها، ولم يتنبه أو يتحرك أحد لما جرى فى الشرق. وراح الغزاة الجدد الذين سيطروا على الجناحين يضغطون على القلب العربي. أسبانيا تعبر مضيق جبل طارق وتحصل فى المغرب العربى على نقط ارتكاز تكون قواعد لزحف جديد. والبرتغال تفعل الشيء نفسه فى المشرق وتتقدم حامياتها البحرية لتقيم المواقع والحصون ممتدة إلى شطآن الخليج العربي؛ ثم تبدأ فى التعرض للملاحة العربية فى البحر الأحمر. ص _072(3/74)
ويتنبه السلطان المملوكى الحاكم فى مصر؛ السلطان "الغوري" فيبعث أسطولا بقيادة "البكيركي"... تنبه السلطان متأخرا ووقعت الواقعة وضاع الأسطول المصري. ولم يجد السلطان "الغوري" غير أن يستنجد ب"بابا" روما؛ أى أنه استجار من الرمضاء بالنار(!!) وكانت تلك فى الحقيقة هى اللحظة التى انهار فيها النظام المملوكى كله كما ينهار أى نظام يعجز عن حماية دياره. وبعض المؤرخين يتساءلون عن السبب الذى دفع العرب إلى الرضا بالعثمانيين وكيف بايعوهم بالخلافة فى قلب دار الإسلام وهم من غير العرب؟ ولعلى لا أتطاول على التاريخ إذا قلت: إن الرد على هذا السؤال لا يحتاج إلى عناء كبير؛ فالعناصر الواعية فى الأمة العربية تصورت أن هؤلاء العثمانيين - وهم "جنس عسكري" - يستطيعون حماية قلب دار الإسلام ضد قوى السيطرة التى راحت تحدق به من كل ناحية. وكان هذا التصور منطقيا فى ذلك الحين بكل ما فيه من خير وشر. الخير فى أن "الجنس العسكري" استطاع أن يرد لبعض الوقت ويصد. والشر فى أن الظاهرة العسكرية وحدها وبدون عمق حضارى هى لحظة موقوتة. وهكذا فإن الزحف الاستعمارى الغربى الذى توقف قليلا بعد قيام الخلافة العثمانية لم يلبث أن عاد يستأنف ضغطه من الجناحين إلى القلب. وكان الذى حدث أن أسبانيا والبرتغال عجزتا عن تكملة الطريق؛ فى الوقت الذى كان فيه شمالى ووسط أوروبا (بريطانيا وفرنسا بالذات) قد التقط أنفاسه بعد الحروب الصليبية وعوض خسائره فيها. أكملت بريطانيا ما بدأته البرتغال ووصلت حتى عدن، وأكملت فرنسا ما بدأته أسبانيا فى شمالى أفريقيا؛ بل وحاول "نابليون" أن يبدأ مباشرة من مصر. وكان "جواهر لال نهرو" قد سألنى مرة من قبل - وكنا فى بلجراد - عن الأسباب التى أدت إلى سقوط دولة الإسلام فى الهند بهذه السهولة، وقلت له أيامها: إنها فى ظنى الأسباب نفسها التى أدت إلى انهيار دولة الإسلام فى الأندلس. ثم تسرعت وقلت: "إنه تعدد الزوجات"، وأضفت أننى(3/75)
حاولت أن أتقصى الحالتين وأدرس ما جرى فيهما، وكان أكثر ما لفت نظرى هو الحروب العائلية التى وضعت الأخ فى مواجهة أخيه، وسمحت للغريب أن يمر بينهما، وأن يحالف أحدهما ليقضى على الآخر. ولم أجد سببا ظاهرا غير تعدد الزوجات الذى جعل الأمراء فى أحضان أمهاتهم، وكل واحد منهم يرضع مع لبن أمه كراهية زوجة أبيه الأخرى وأبنائه منها. ص _073
وسألنى "نهرو" فى بلجراد: "هل تظن أن ذلك وحده السبب؟" ثم أضاف: "أنه درس الإسلام فى طفولته فى "أحمد أبا" وتعرف إليه قبل أن يتعرف على ديانة قومه من الهندوس، وهو يظن أنه لابد من وجود أسباب أخرى إلى جانب حكاية تعدد الزوجات". ابتسمت عندما وصلت إلى هذا الموضع من كلام الأستاذ هيكل! وملكنى عجب ما أظن أنه سينتهي! كيف يكون "تعدد الزوجات" سبب انهيار الدولة الإسلامية هنا أو هناك؟ كيف يتطرق هذا الوهم إلى عقل كبير؟ إنه كالقول بأن هزيمة الدول العربية سنة 1967م أمام اليهود ترجع إلى انتشار "أكشاك بيع السجاير" فى شوارع القاهرة!! على أن الخطأ فى التعليل مهما بلغ فهو دون خطأ الإسلاميين فى رواية تاريخهم دون تمحيص، واكتفائهم بالرد المجرد من غير بحث أسباب النصر أو الهزيمة، والازدهار أو الانهيار! ولقد رأيت أنماطا من الداعين إلى الإسلام لايرتبطون بأصوله العظيمة قدر ما يرتبطون بالمجرى الذى خطه الواقع فى دنيا الناس؛ سواء أكان هذا المجرى معوجا أم مستقيما معتكرا أم صافيا.. بل قد تكون الدعوة إلى أعراف مضت وتقاليد سلفت بدل أن تكون للوحى المعصوم؛ وهذه هزيمة مضاعفة للدين نفسه. الآن يجتمع كرادلة النصرانية ليختاروا سيد الفاتيكان، أو "البابا" الذى يقود قرابة مليار من البشر، إنهم يجتمعون ليبحثوا عن أكفأ رجل فيهم ليضعوا بين يديه الزمام، وقد اختاروا لقيادتهم شيخا من بولندا التى تدور فى الفلك الروسي، ما اختاروا إيطاليا ولا فرنسيا، كانوا يبحثون عن النشاط والقدرة، حتى إذا وجدوا ضالتهم وضعوا على(3/76)
رأسه التاج، ومشوا وراءه يخدمون كنيستهم لا يخدمونه هو، وهكذا يمضون فى طريقهم لا يلوون على شيء! ذاك؛ على حين يدرس في كتبنا أن الشورى لا تلزم الخليفة الذى رشحه نسبه العريق(!) لقيادة أمة كبيرة... والزعم بأن صاحب السلطة لا تحكمه الشورى شيء سخيف حقا، وهو من تكبير الأقزام، وخلق وثنية سياسية تراغم الدين والدنيا.. وقد تعانق التعصب للنسب، والتعصب للرأى الخاص، عند ذوى السلطان فهوت الأمة كلها من حالق. إن العرب حملوا الإسلام للعالمين، وهذا شرف لهم وتكريم إلهى هم له أهل. والذى أفهمه أن يدخل عمرو بن العاص رضى الله عنه مصر بالإسلام، وأن يحكمها حينا من الدهر باسمه، فإذا أسلمت مصر، أو أسلمت أقطار أخرى بعد ما ص _074(3/77)
قرع الإسلام أبوابها وطرد الرومان منها، فمن حق هذه البلاد التى أسلمت وحسن إسلامها أن تملك أمرها، وأن يقودها واحد من أبنائها. أما أن يقول الفاتح العربي: أنا وحدي، أو أحد من سلالتى أو واحد من أقربائى هو الذى يحكم فهذا ليس المنطق الإسلامى المأنوس فى أصول الإسلام، ولا هو منطق الإخلاص للعقيدة وروابطها الجديدة... إن فرض خلافة عباسية بالمشرق أو خلافة أموية بأسبانيا إلى القرنين السابع والثامن الهجريين هو مسلك عربى لا مسلك إسلامي. واستغراب الأستاذ هيكل لخلافة تركية، وتساؤله: لماذا رضى العرب بها؟ هو انسياق مع التعصب العربى وليس اطرادا مع الفكر الإسلامي. كل ما ننبه إليه أن الذى يقود الأمة الإسلامية يجب أن يكون مستعربا، أى متحدثا بلغة العرب قديرا على فهم الكتاب والسنة. ليكن الجنس الحاكم هنديا أو زنجيا أو تركيا، المهم أن يكون راسخ القدم فى الثقافة الإسلامية، فالعربية لغة الوحي، ولغة العبادة، ولغة القيادة بداهة. وفشل الترك لم يجئ من جنسهم؛ إنما جاء من قصورهم العلمي، وعجزهم عن خدمة الدعوة الإسلامية. وأنا رجل لا أعرف نسبا ينمينى إلى "عبس" أو "ذبيان" إن الرباط الوحيد الذى أتشبث به هو الإسلام، وتعصبى للعربية مرده إلى أنها لغة الوحي، ولا أحقر عندى من امرئ يجرد العروبة من الإسلام، ويريد الانطلاق بها فى الآفاق على أنها دم أزكى أو أرومة أشرف... وإذا كان العرب خلال القرون الماضية قد خلطوا تعاليم الإسلام بتقاليدهم الخاصة فمهمتى العلمية أن أميز هذه عن تلك، فأقبل هدى الله سبحانه وأترك لغو الناس. وعلى أية حال فإن الشوائب الدخيلة على الإسلام وأمته هى وحدها التى أودت بدولته. وعندى أن مصرع الخلافة الإسلامية يجب إن يسجل فى التاريخ على أنه جريمة انتحار لا جريمة قتل، فالمسلمون هم صانعو الهزيمة التى نزلت بهم سواء فى هذا القرن أو فى القرون الوسطي. ويرى الأستاذ هيكل أن الحروب الصليبية - الأولى - كانت انطلاقا(3/78)
نفعيا، قبل أن تكون حماسا دينيا، وهذا الحكم يخالف الواقع القديم والجديد. ص _075
ولننظر إلى عالمنا المعاصر بعد مما أعلن انتماءه للإنسانية، وزهادته فى العناوين الدينية ولنتساءل: هل ترك الصليبيون مشاعرهم الأولى ضد الإسلام؟ إن مليار مسلم بينهم (150) مليونا من العرب، أرخص عند الأمريكيين والأوروبيين من ثلاثة ملايين يهودى احتلوا فلسطين. والعرب أودعوا ثرواتهم - وهى قناطير مقنطرة من الذهب والفضة - فى مصارف الغرب الصليبي، ومع ذلك فإن الولايات المتحدة وحدها تمنح كل يهودى يستعمر فلسطين ألف دولار سنويا معونة خالصة، ذكرا كان أو أنثي، طفلا كان أو شيخا، كى تساعده على إقامة "إسرائيل" واغتصاب أرضها من المسلمين! والمليارات الثلاثة التى يتصدق بها الأتقياء الصالحون من سكان أمريكا، شيء آخر غير المعونات المدنية والعسكرية التى تقرر رصدها ليكون بنو إسرائيل قادرين على أن يهزموا العرب جميعا؛ إذا اتحدوا عليهم. وهذا الاتحاد مستبعد ما بقيت الصليبية العالمية تكيد كيدها، وترقب الإسلام بضغن وضيق، وما بقيت بقدراتها الاقتصادية والأدبية تستلحق بعض المسلمين ليتبنوا قضاياها ويخدموا مآربها... لقد قرأت عن سفر مستر "كارتر" رئيس الولايات المتحدة السابق إلى السودان، وعرفت أنه ذهب إلى القطر المرهق بأزماته ولاجئيه كى يوهن شوكة الإسلاميين الذين استطاعوا فرض جزء من الشريعة الإسلامية على الحكومة السابقة، وكى يدعم جانب التمرد التنصيرى فى الجنوب المغصوب! ومع الرئيس السابق قوى عربية رافضة للإسلام؛ تعين عليه كل قادم من الشرق أو الغرب.. يحدث ذلك كله فى ظل "علمانية" معلنة، وإنسانية لاتنتمى إلى دين!! فكيف بأيام "بطرس الناسك" والصرخان المسعورة لحرب المسلمين؟ إن كراهية محمد - صلى الله عليه وسلم - ودينه بلغت عند الأوروبيين حد الهوس، وأفقدتهم رشدهم، وقد تسابقت دول أوروبا كلها، شرقا وغربا وشمالا وجنوبا على محاربة الإسلام، وكشف(3/79)
الأستاذ هيكل فى إيجاز خطة القوم التى استغرق تنفيذها قرونا طويلة... كان قلب العالم الإسلامى هو الهدف الأول، فتدافعت إنجلترا وفرنسا وألمانيا إلى مصر والشام، وأمكنتهم غفلة المسلمين من اقتحام بيت المقدس، وكان المقتحمون ظماء إلى الدم ففجروه سيولا، وسبحت فيه خيلهم، وكتبوا إلى البابا يهنئونه بما فعلوا..! ص _076
واستيقظ النيام ومطارق الوحوش تهوى على رءوسهم، وشرعوا فى المقاومة التى بدأت واهنة ثم نمت على مدى قرنين أو أكثر! وتراجعت الغارة الهمجية بعدما أدركها الكلال، وخامرها اليأس... فالتقطت دول أوروبية أخرى اللواء، واتجهت هذه المرة إلى أجنحة العالم الإسلامي، لا إلى قلبه.. فامحى الإسلام من الأندلس، لم يبق له وسم ولا رسم! واستولت هولندا على إندونيسيا، واستقرت فيها أعصرا، واكتشف البرتغاليون طريق رأس الرجاء الصالح، فاستداروا منه إلى جنوبى آسيا وشرقيها، وهناك صالت الصليبية وجالت دون وجل..! وظهر الأتراك العثمانيون فى هذه الظروف العصيبة، وشغلوا أوروبا بنفسها قرابة أربعة قرون، ولاريب أنهم أخروا الاستعمار الحديث مدة طويلة، بيد أن دول أوروبا وحدت كلمتها، وتنادت من كل ناحية متجهة إلى العالم الإسلامي، زاحفة على قلبه وأجنحته كلها، واستطاعت أن تنزل به هزيمة لانظير لها فى تاريخه الطويل، وسقطت حكومة الرجل المريض، وتبعتها - أو سبقتها - حكومات أخرى كانت تحيا إلى جواره... وقد قلنا فى مكان آخر: إن الدولة الإسلامية حين سقطت كانت فارغة من الخصائص الإسلامية! بل كانت أبعد شيء عن سياسة الإسلام فى الحكم والمال، كما أن الجماهير الكثيفة هبط عليها من الفساد ما جعلها تتصور الدين بعض الغيبيات. وفى خيمة الغيبيات مهرب واسع للتصورات الغامضة والخرافات التى ينكرها الدين نفسه. إن الاستعمار الحديث مع طبيعته الدينية الناقمة على الإسلام غلف وجهه بقشرة رقيقة من الإنسانية المتسامحة المستعلية على النعرة الجنسية أو الدينية،(3/80)
لكن لغط القوم يكشف خباياهم؛ وإذا كان الأستاذ هيكل يرى أن الحروب الصليبية اقتصادية أولا دينية ثانيا! فإنى أضع بين يدى كل قارئ هذه النصوص لمستشرقين ومؤرخين ومنصرين؛ ليرى حقيقة المشاعر النفسية عند القوم، واضطرامها بالضغينة والافتراء والغضب. وإذا كان التعبير اللغوى قد تغير فى العصر الحديث لأسباب شتي، فإن الخلفيات الدينية لم تزدها الأيام إلا حدة وضراما، وفى عرام الاشتباكات السياسية والحربية الأخيرة تتساقط الأستار المزورة وتبدو الحقائق الشائهة.. يقول "المونيسنيور كولي" فى كتابه (البحث عن الدين الحق): ص _077(3/81)
"برز فى الشرق عدو جديد هو الإسلام الذى أسس على القوة، وقام على أشد أنواع التعصب. ولقد وضع محمد السيف فى أيدى الذين تبعوه وتساهل فى أقدس قوانين الأخلاق. ثم سمح لأتباعه بالفجور والسلب، ووعد الذين يهلكون فى القتال بالاستمتاع الدائم بالملذات فى الجنة، وبعد قليل أصبحت آسيا الصغرى وأفريقيا وأسبانيا فريسة له. حتى إيطاليا هددها الخطر، وتناول الاجتياح نصف فرنسا. ولقد أصيبت المدنية.. ولكن انظر!! هاهى النصرانية تضع بسيف "شارل مارتل" سدا فى وجه سير الإسلام المنتصر عند " بواتييه " (752م) ثم تعمل الحروب الصليبية فى مدى قرنين تقريبا (1099- 1254م) فى سبيل الدين، فتدجج أوروبا بالسلاح وتنجى النصرانية، وكذا تقهقرت قوة الهلال أمام راية الصليب، وانتصر الإنجيل على القرآن وعلى ما فيه من قوانين الأخلاق الساذجة". ويقول "جوليان" فى كتابه (تاريخ فرنسا): "إن محمدا - مؤسس دين المسلمين - قد أمر أتباعه أن يخضعوا العالم، وأن يبدلوا جميع الأديان بدينه هو. ما أعظم الفرق بين هؤلاء الوثنيين والنصارى (!!). إن هؤلاء العرب قد فرضوا دينهم بالقوة، وقالوا للناس: أسلموا أو موتوا، بينما أتباع المسيح أراحوا النفوس ببرهم وإحسانهم. ماذا كانت حال العالم لو أن العرب انتصروا علينا؟ إذن لكنا مسلمين كالجزائريين والمراكشيين". وجاء فى كتاب (تقديم التبشير العالمي) الذى ألفه الدكتور "غلوور" ونشره فى نيويورك سنة 1960م، فى نهاية الباب الرابع: "إن سيف محمد والقرآن أشد عدو، وأكبر معاند للحضارة والحرية والحق، ومن بين العوامل الهدامة التى اطلع عليها العالم إلى الآن". وقال: القرآن خليط عجيب من الحقائق والخرافات، ومن الشرائع والأساطير، كما هو مزيج غريب للأغلاط التاريخية والأوهام الفاسدة، وفوق ذلك هو غامض جدا لا يمكن أن يفهمه أحد إلا بتفسير خاص، والذى يعتقده المسلم أن المعبود هو الله الأحد الصمد الذى لم يلد ولم يولد، فالله ملك جبار(3/82)
متسلط، ليست له علاقة مع خلقه ورعاياه إلا الجبروت". أوعيت أيها القارئ هذه النقول؟ وأبعادها النفسية والسياسية؟ إنها باطن الاستعمار القديم والحديث على سواء؛ إلا أن الاستعمار الحديث مع طبيعته الدينية الناقمة على الإسلام غلف وجهه بقشرة رقيقة من الإنسانية المتسامحة المستعلية على النعرات الجنسية والدينية. ص _078
بيد أن هذه القشرة أخذت تتساقط يوما بعد يوم، ثم انكشفت كل الانكشاف فى قضية فلسطين، وفى تأليب بعض الأقليات الدينية لدعم العدوان الصهيونى ومساندة التنصير العالمي. وللإنسانية المجردة أنصار نبلاء، أكن لهم فى نفسى احتراما جما، وأتابع نشاطهم فى خدمة السلام والعدالة، وقد حزنت لمقتل رئيس وزراء السويد، ومن قبله لمقتل "كونت برنادوت". والغريب أن القتلة مجهولون، ولكن الأهداف الإنسانية التى كان يعمل لها أولئك الرجال لم تكن مجهولة.. وظاهرة أن أصابع الصهيونية والعنصرية وراء هذه الاغتيالات الوضيعة، وظاهر كذلك أن قضايا الزنوج فى جنوبى أفريقيا وقضايا العرب فى فلسطين لن تجد لها حلا إنسانيا، لأن التعصب الأعمى لا يريد لها الحل. وقد تأسست فى فرنسا جماعات تنتمى إلى "شارل مارتل" الذى هزم المسلمين فى جنوبى فرنسا ومنع امتدادهم داخل القارة. وهدف هذه الجماعات طرد العرب المعاصرين من فرنسا إذا عز تجنسهم أو تنصرهم! وجهود الأحزاب الفرنسية - يمينية كانت أو اشتراكية – لا تعدو هذه الغايات. والحال فى سائر الدول الأوروبية مشابه للأوضاع النفسية والفكرية فى فرنسا.. ويوشك أن تختفى قشرة العلمانية أو الإنسانية ليحل محلها عداء مجنون للأمة الإسلامية المسترسلة، ولدينها المنكور. ولست ألوم غيرنا! إننا بعيدون قولا وعملا عن الإسلام، مع انتمائنا المعلن إليه من الناحية الشعبية، ومع ضيق "حكومات إسلامية" به من الناحية الرسمية. وأخشى أن يستمر هذا التذبذب فى مواقفنا إلى أن تفاجئنا الصهيونية والصليبية المتظاهرتان علينا بطلب(3/83)
محدد حاسم هو أن نترك الإسلام ظاهرا وباطنا. إن العالم يتدحرج إلى هاوية سحيقة من الضغائن الدينية القديمة، وإذا لم نتشبث بديننا ونحسن العمل له لم يتماسك لنا كيان، ولن يبقى علينا الصهاينة، ولا أتباع "شارل مارتل" الذين تتضاعف أعدادهم يوما بعد يوم. ص _079
لقاء مع فضيلة الشيخ محمد الغزالي رجل عرفته الساحة الإسلامية داعيا إلى الله منذ نصف قرن أو يزيد له آراؤه ومؤلفاته التى ينهل منها الدعاة إلى اليوم. حاول البعض أن يشده إلى تيار بعينه وآخرون حاولوا استمالته إليهم ولكنه صاحب منهج مستقل، يجهر بما يراه حقا وحسب فهمه لنصوص القرآن الكريم وأحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وسيرة السلف الصالح، والمصلحة العامة للمسلمين ومتطلبات العصر. فالرجل متطور الفكر، يرفض الجمود، ولكنه لا يخرج عن دائرة الالتزام بروح الشرع ومبادئه الأساسية. قد توافقه فى بعض الجمود، وقد تخالفه فيها، ولكنك بالتأكيد سوف تنجذب إلى سحر بيانه ووضوح حجته. وعلى كل حال فقليلون هم الذين تختلف حولهم الآراء، وهم أناس ذوو شأن ومكانة ومن هؤلاء ضيفنا فى هذا العدد الشيخ / محمد الغزالى سألناه الرأي: عما يجب أن يتوافر فى الداعية؟ فقال: ما يجب أن يتوافر فى الداعية: يجب أن يتوافر فى الداعية صفتان أساسيتان إحداهما علمية والأخرى خلقية. حتى يبلغ أهدافه ولنبدأ بالناحية العلمية، إن مدرس اللغة العربية يستطيع أن يؤدى واجبه بالمدرسة إذا ما قرأ كتابا أو كتابين فى النحو والصرف أو فى علوم المعانى والبيان أو فى آداب اللغة أو غيرها، وكذلك مدرس الفقه أو التاريخ، أما الداعية فيجب أن يكون صاحب أنصبة متعددة غنية من جميع العلوم الشرعية المتصلة بالكتاب السنة، والعلوم الكونية كالفيزياء والكيمياء والأحياء والفلك والعلوم الإنسانية كعلم النفس والاجتماع والاقتصاد والتربية وعلم الجماد وغيرها، فليس من المقبول من الداعية أن يكون ذا أفق محدود أو ثروة ضئيلة من(3/84)
المعارف الإنسانية، فهو بطبيعة الحال يخاطب أنماطا مختلفة من الجماهير ومنهم المثقف ومنهم متوسط الثقافة ومنهم من لا ثقافة له، لذلك يجب أن يكون الداعية فى المستوى الأعلى من الثقافة حتى يناسب هؤلاء جميعا. ص _080
وسأضرب لك بعض الأمثلة على ذلك: فى أحد الأيام زارنى أحد المسئولين فى مصر وأخبرنى عن ظهور كتاب يتحدث عن التاريخ الإسلامى لمؤلفه "جاك تاجر" مدير مكتبة الملك فاروق وقد حصل به على درجة الدكتوراه من جامعة السربون بفرنسا، والكتاب من ألفه إلى يائه مشحون بافتراءات على الإسلام والمسلمين، وطلب منى هذا المسئول الرد على ما جاء بهذا الكتاب، وبعد أن قرأت هذا الكتاب شعرت بغصة، ورأيت أنه لكى أرد على هذا الكتاب على أن أستكمل بعض الأمور التى تنقصنى وهذه تحتاج إلى شهر فقال المسئول لماذا تحتاج إلى شهر؟ فقلت له هذا الكتاب فيه هجوم على التاريخ الإسلامى وموقف المسلمين من أهل الذمة، وأنا لم اقرأ كتبا عن أهل الذمة، وإنما الذى أعرفه القواعد العامة التى يعاملون بها، وأن لهم ما لنا وعليهم ما علينا، أما العرض التاريخى لمثواهم ومتقلبهم فى المجتمع الإسلامى فليس لى به إلمام كاف، كما أننى أحتاج إلى مراجعة موقف المسيحيين قبل ظهور الإسلام من الأديان الأخرى والمذاهب والملل والأجناس الأخرى، وهذه ليس لدى فيها تفاصيل واضحة، كما أن هناك مراجع ومخطوطات اطلع عليها صاحب الكتاب ولا آمنه فى النقل، أنا أحتاج إلى الاطلاع على هذه الكتب، وهناك مراجع فرنسية كثيرة وليس لى إلمام باللغة الفرنسية وهكذا فالأمر يحتاج إلى وقت، وبعد استكمال هذه الأمور وبتوفيق من الله تعالى وضعت كتابا لى فى هذا الموضوع استطعت به أن أرد على ما جاء بهذا الكتاب الذى اختفى والحمد لله. تحدث فرويد مثلا فى علم النفس عن أخطار الكبت، وأنا مضطر حينما أتحدث عن الصوم أن أقول للصائمين إن هناك كبتا مشروعا بل لن تكون فضيلة إلا بعد كظم الهوى وحبس الشهوات(3/85)
وتحكيم الإرادة الإنسانية فيها، إن الإسلام يرفض الكبت المطلق أو الرهبانية ولكنه يضع حدودا للتطلعات التى لا آخر لها، وهناك كبت دائم كالنظر إلى المحارم أو الوقوع فى المعاصى وهكذا لذلك فلابد للداعية من الاطلاع الواسع، لأن خصمى ليس بضيق الأفق بل هو واسع الاطلاع، ولقد رأيت المستشرق المجرى "جولدزيهر" عندما ألف كتابه "الشريعة والعقيدة فى الإسلام" اطلع على نحو مائتى كتاب جعلها مرجعا له فى آخر كتابه، رجل مستشرق يطلع على مائتى كتاب هل ينتصب للرد عليه رجل يقرأ كتبا تعد على الأصابع. إن الإسلام يحتاج إلى دعاة قراء يلتهمون الكتب ويطلعون على كل شيء حيث ستتحول هذه القراءات إلى عصارات ص _081(3/86)
ذهنية تمد فكرهم بعناصر الحياة، كما تتحول الأغذية فى البدن إلى طاقة وقوة ونماء، لذلك أقول للداعية: اقرأ باستمرار، اقرأ كل شيء. أما من الناحية الخلقية، فلابد أن أقول كلمة: إن الداعية يجب أن يبلغ الحق أى يجب أن يكون صريحا فى الإبانة عن مراد الله فى خلقه، يجب أن ينفذ الميثاق المأخوذ على أهل الكتاب ( وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون). فلابد للداعية أن يبين ولا يكتم ولكن هناك بيانا لطيفا أصارح وأكون مهذب العبارة، أقول الحقائق وأضعها فى إطار شهى حلو، أما أن أستثير العناد بالطريقة التى أتحدث بها، فهذا مالا نرضاه للداعية، وعلى الداعية أن يضع نصب عينيه دائما قوله تعالى : (ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم). يجب أن نصارح وعلينا ونحن نعامل الملاحدة من العلمانيين والحاقدين من أهل الكتاب والشيوعيين والوثنيين ومن عصاة المسلمين وأصناف أخرى من الخلق، أن نكون متمكنين علميا ثم أخلاقيا بحيث لا نستفز ولا نستثار ونستطيع أن نجمع بين الحلم والأناة ونحن نعارض خصومنا ونجادلهم، وندعوهم بالتى هى أحسن. موقفنا إزاء الغزو الفكري إن الله سبحانه وتعالى اختار هذه المنطقة من العالم لكى تكون الينبوع الذى تتفجر منه الرسالات كلها سواء رسالات الأنبياء العرب كهود أو صالح أو شعيب أو لوط أم الأنبياء من بنى إسرائيل أو غيرهم من الأنبياء الذين ذكروا فى كتاب الله، فكل هؤلاء الأنبياء ظهروا فى منطقة هى منطقة الشرق الأوسط بتعبير العصر الحديث، لماذا؟ لأنها وسط الدنيا وأنا أعتبر أن أمعاء العالم المادية والأدبية بين أصابعنا، فهذه المنطقة الحساسة يمكن أن تكون وضعا مناسبا لنا لإدارة المعركة فهى سلاح لنا وليست سلاحا علينا، إن التيارات الفكرية تهب من كل مكان ولكنها عندما تناوش جبلا أشم، فهو صامد لا يتزحزح وكما قال(3/87)
الشاعر العربى القديم. كناطح صخرة يوما ليوهنها فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل ص _082
فإذا جاءت التيارات من الشرق أو من الغرب فالذى يعنينى مدى الصلابة فى مواجهة هذه التيارات الوافدة ومدى المناعة الفكرية والنفسية المتوفرة عندى حتى أستطيع أن أصمد وأقاوم، وأرى أن الهجوم هنا أفضل من الدفاع، وأنه ما غزى قوم فى عقر دارهم إلا ذلوا، وأن العيب أن أنتظر أن يأتينى غزو ثقافى من الخارج، فما الذى أسكتنى وأخرس لسانى وشل يدى عن العمل فلا أكتب ولا أخطب ولا أحاضر ولا أوجه ولا أصدر هذه إلى أمريكا وأوروبا وجنوب أستراليا وغيرها مما لا تتصل بوحى الله، كان يجب على أن أكون إيجابيا فإذا حدث أن بعض التيارات لأمر ما قدمت على بلادى وأمتي، وأن قرون الضعف التى مررنا بها قد أصابتنا بهزائم عسكرية وسياسية مكنت الأعداء منا فلاينبغى أن أستسلم، وعلى أن أحارب فى عدة جبهات كى أنجو ببلادى وأمتى من هذا البلاء الوافد، وأظن الهجوم والدفاع سيكونان من عدة شعب، هناك شعبة أولى تتجه إلى البيت بالتربية والتعليم وصياغة التقاليد صياغة تتفق مع الإسلام، لأننى أرد شيئا من الهزائم النفسية والعسكرية التى أصابتنا إلى رداءة التقاليد التى تحكم بلادنا وأثرها السلبى فى تكوين أجيال قوية، ثم يأتى بعد هذا الإصلاح الاجتماعي، والإصلاح الاجتماعى قاعدة معروفة فأنا أحب الخير وأدعو إليه وأكره الشر وأنهى عنه، وفى الوقت نفسه آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وهذا الأمر والنهى يحتاج منا إلى زمن لأن ما فسد فى أيام لا يصلح فى ساعات، وما تغير خلال عصر طويل لا يمكن أن أصلحه خلال أيام قليلة، إن الزمن جزء من العلاج، وأنا كما قلت لا أخاف من التيارات الوافدة إنما المهم أن أعد أسلحة الدفاع كلها حتى أستطيع أن أنجو بأمتى مما يخططه الأعداء لها والله المستعان. الإعلام وأساليبه وآثاره اتخذ الإعلام فى هذا العصر منهجا خطيرا، وترك وراءه آثارا غائرة فى نفوس الناس،(3/88)
والمعروف أن الإعلام بوسائله المختلفة من إذاعة وتلفاز وغيرهما قد اعتمد على أمرين الأول: التثقيف ويكون بالمحاضرات والدروس الدينية والتحليلات السياسية، ونشرات الأخبار وغير ذلك من أنواع المعرفة التى تبث على مختلف الموجات، أما الأمر الثانى فهو التسلية التى تعنى أننا نروح عن الجماهير بشيء من الموسيقى وشيء من الغناء والتمثيل الهزلي، أو الجاد مما يمكن قبوله، وهذان الأمران اللذان يشكلان دعامة الإعلام يحتاجان إلى تعليق، إن عناصر خطيرة من الثقافة الجادة الصحيحة غير موجودة، فالثقافة التى تعرض على الجماهير ناقصة العناصر، فالتغذية المادية فى ص _083(3/89)
الطعام إذا ما نقصت منها بعض العناصر التى يحتاجها الجسم فإن المرض سيدب فى هذا الجسم، فلابد فى التغذية من وجود النشويات والسكريات والدهنيات وغيرها، وكذلك الثقافة التى تبث بين الجماهير يجب أن تكون ثقافة متكاملة العناصر، ففى إحدى رحلاتى إلى أمريكا شاهدت درسا صامتا فى التلفاز يدل على وجود الله تعالي، الدرس الصامت عبارة عن مشاهد لأمواج هائجة كالجبال ولجج متلاطمة حتى ليحدث المشاهد نفسه ويقول: "من هذا الذى يحرك البحر بهذه القدرة الرائعة؟ "ثم يختفى هذا المنظر ليحل محله مشهد لجبال شماء فيحدث المشاهد نفسه ويقول: من الذى نصب هذه الجبال فى أماكنها على هذا النحو الشامخ؟ وفجأة يجد المشاهد نفسه أمام حقول ناضرة وأزهار يانعة، إن الكون يعرض فى هذا الدرس الصامت ليتحدث بنفسه عن ربه. إن خطورة الإعلام الآن أن الأقمار الصناعية تستطيع السيطرة على أجواء الأمة العربية وإرسال عشرات البرامج، فإن لم يكن التلفاز العربى والإذاعة العربية على مستوى المنافسة العالمية، فإن أناسا كثيرين سوف يتركون رؤية أو استماع برامجنا، ويتحولون إلى البرامج الخارجية وبهذا نتعرض لغزو عقلى وعاطفى قد يذهب بنا بعيدا عن ديننا ولذا أطالب وسائل الإعلام المختلفة أن تترك الابتذال وإثارة الغرائز الوضيعة بما يتصل بجوانب التسلية، أما فيما يتصل بالتثقيف فعليها أن تستكمل عناصر التغذية العقلية حتى يمكن أن يكون لدينا ما يفيد أبناءنا. أما بالنسبة للنواحى الدينية فى الإعلام وهى التى تعنينى ففيها نقص شديد، لأن عددا كبيرا من الشيوخ عندما يفسر القرآن أو يشرح السنة لايتعدى شرحه الكتب القديمة وهى كتب ألفت من عدة قرون، عالجت قضايا أو نظرت إلى العالم الإسلامى من زاوية مفقودة الآن، إن العالم الإسلامى الآن يحتاج إلى علاجات جديدة والخلود لكتاب الله وسنة رسوله وليس الخلود لبعض المؤلفات التى كتبها هذا أو ذاك، كتبنا قد تصلح لعصرنا وربما يجيء العصر الذى(3/90)
يلى فلا تصلح كتبنا له، إننا نريد أن نتجدد ثقافيا، ففى الصحافة الآن يمكن أن تجد الخبر يصاغ فى نصف عمود بعد أن كان يشغل العديد من الأعمدة، كما تجد الرسم الساخر المعبر عن فكرة ما "كراكتير" إذا لم يكن الإعلام الدينى قد بلغ هذا المستوى من التجديد فمعنى هذا أننا سنهزم فى معركة الإعلام أريد تغييرا فى عقولنا وفى برامجنا، وفى طرقنا، وفى وسائلنا وبذلك فالإعلام الإسلامى موجود بنسبة لا تتجاوز العشرة فى المائة وأتمنى لها النمو المطرد. ص _0 ص(3/91)
هجرة علمائنا المسلمين ومفكريهم وآثارها السلبية عليهم إن تربية طبيب كبير أو كيميائى عظيم أو صيدلى مبرز شيء مهم للعالم الإسلامي، فنحن فى شئون الدنيا متخلفون ولكى ينتصر الدين لابد أن يتمكن من الدنيا، فمن لا دنيا له لا يستطيع أن يخدم الدين، وإذا تركنا أصحاب العقول الكبيرة تذهب إلى هنا أو هناك فمعنى هذا أن خسائر فادحة قد حصلت ليست الخسائر المادية التى أنفقتها الدولة عليهم ثم يجنى غيرنا نتاجهم ولكن الخسارة الأفدح هى انقطاع صلتهم بنا، فالعالم الذى يحصل على قوته بصعوبة يذهب إلى هناك فيجد الأموال متدفقة تحت قدميه ويجد المسكن الفخم والمركب الفاره وتتوفر له كل الإمكانات، وعندما كنت فى أمريكا عرفت أن بها عشرة آلاف طبيب عربى يعملون بجد، ويمكن للشركات الصهيونية الاستيلاء على حصيلتهم العلمية فى نهاية المطاف شيء خطير فما سبب ذلك؟ السبب فى ذلك أننا عصينا أمر نبينا عليه الصلاة والسلام حيث يقول - صلى الله عليه وسلم -: "ليس منا من لم يجل كبيرنا ويرحم صغيرنا ويعرف لعالمنا حقه" رواه أحمد. يجب أن نعرف للعالم حقه: إن المعلم والطبيب كليهما لا ينصحان إذا هما لم يكرما فلابد من تكريم هؤلاء والتمكين لهم، أنا يؤسفنى أن بعض العلماء من العرب كانوا فى جامعات أمريكا من الأوائل ثم جاءوا إلى بلادنا فإذا هم يعملون فى أماكن لا تمت إلى تخصصاتهم بصلة، وسرعان ما يطويهم النسيان ويغرقون فى الموجة فمن كان الأول على زملائه كسف باله وخمدت ناره وبردت همته وأصبح يعيش كما يعيش الناس كان يجب أن يوجه هؤلاء إلى المجالات التى تخصصوا فيها وأن نوفر لهم إمكانات الإبداع والاختراع والأداء الذى ينفع الأمة، هل العربى فى موسكو أو واشنطن يكون ممتدا جدا هناك ومنكمشا جدا هنا، إن هجرة هذه العقول تشكل خطرا علينا، وفيها إمداد لعدونا هذا من ناحية ومن ناحية أخرى فالمهاجرون حتى من صغار الصناع يذهبون إلى بيئة لا تتجاوب معهم لادينيا ولا لغويا(3/92)
فمن يحدثهم بلغتهم ومن يحيى معهم شعائر دينهم وأضرب مثلا لذلك: رجل ذو مكانة مرموقة أرسل إلينا أنه عائد إلى بلاده مع أنه أستاذ فى الجامعة وكذلك زوجته والسبب فى ذلك أنه خشى على بناته من البيئة الأوروبية، فأوروبا وإن تقدمت علميا إلا أنها من الناحية الخلقية فى الحضيض خصوصا فى النواحى الجنسية فهم يرون الممارسات الجنسية أشبه بقضاء الحاجة، فلا مساءلة فى مسالكها المختلفة ونحن ربينا على أن الحلال حلال والحرام حرام فلا نستطيع أن نقبل على أنفسنا أن نجد بناتنا فى أحضان الأوغاد، الذين يتربون كالحيوانات وإن كانوا أصحاب معرفة واسعة فى شئون الكون والحياة، إن هجرة العقول من بلادنا خطر مضاعف، خسارة لنا وربح لأعدائنا، ولكى نزيل هذا الوضع لابد أن نزيل أسباب البلاء. ص _085(3/93)
الانتفاضة وواجب المسلمين حيالها إن هذه الانتفاضة تشرق بها وجوه الفلسطينيين والشرفاء، وتخزى بها وجوه كثير من المسلمين الذين ينظرون إلى الأحداث وتجيئهم الأنباء المفزعة وهم ساكنون ساكتون لا يتكلمون ولا يتحركون، إن الأسطورة فى هذه الانتفاضة أن الفلسطينيين مع عددهم القليل وإمكاناتهم المحدودة يواجهون الصهيونية العالمية ممثلة فى حكومة إسرائيل، وكذلك فى الحكومات الاستعمارية التى تريد أن تطفئ منارات الإسلام فى العالم وأن تجهز على قواه وأن تمكن بنى إسرائيل من إقامة دولتهم الكبرى كما خطط لها فى العهد القديم، وكما وضعت خريطتها على جدران الكنيست "من النيل إلى الفرات"، إن الخطورة أننا اعتبرنا الانتفاضة فلسطينية مع أن الجهاد الواجب من أجل هذه القضية جهاد إسلامى عام، فالجهاد لا يخص الفلسطينيين وحدهم ولا العرب وحدهم وإنما يخص المليار والمائة مليون مسلم والذين يشكلون خمس عدد سكان العالم، فإذا لم يكن المسلمون على مستوى هذه المعركة فإن الانتفاضة لن تستمر إلى الأبد، فالخسائر فى الأرواح مستمرة، والفتور من قبل المسلمين واضح، وكأن الذى يجرى فى الأرض المحتلة يتصل بجنس آخر يسكن فى المريخ لا يعنينا أمره ونتيجة ذلك أن المسجد الأقصى سيتحول إلى هيكل سليمان، ولقد رأيت بعينى صور "ماكيت" فى المطابع لهذا الهيكل المزعوم، كما وضعت تصاميمه وإنه لشيء رهيب، ولقد وضح من تلك التصاميم أن حجر الأساس سيوضع أمام المسجد الأقصي، ومع البناء سيزول المسجد إن زوال المسجد ليس قضية فلسطينية بل قضية قرآنية إن المشكل أن اليهود يتحركون بعقيدة دينية بينما نحن العرب والمسلمين لا نتحرك بالعقيدة الدينية المطلوبة بل نتحرك بطريقة عنصرية وواجب المسلمين أن يجعلوا المعركة معركة عقيدة أولا حتى يستطيعوا أن يواجهوا اليهود ويستثمروا هذه الانتفاضة المباركة. الدعوات الباطلة وأساليبها هناك كما يقال فى مرض "الإيدز" يفقد الإنسان مناعته الذاتية،(3/94)
كذلك الأمم تفقد أحيانا مناعتها الدينية والخلقية، فتكون كالقلعة التى فتحت أبوابها واستسلمت لكل مغير، وأنا أريد أن نتجه إلى أبنائنا وشبابنا فنحصنهم بتعاليم الإسلام يجب ألا ننتظر قدوم المرض ثم نبدأ بالعلاج، ولماذا لا نبدأ من الآن بالوقاية، فالوقاية خير من العلاج، يجب أن نتجه إلى الشباب بالتربية الصحيحة السليمة وقضاء وقت فراغهم فيما يجدي، لقد رأيت الكثير من المبشرين يفتحون الساحات للشباب لممارسة التربية البدنية، ويفتحون المراكز الثقافية وعن طريق هذه الخدمات الاجتماعية يستولون على شبابنا، وكما قال أحد الصالحين "نفسك إذا لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل"، ومن ص _086(3/95)
الواجب علينا حيال ذلك أن نؤسس المراكز والمجامع الشبابية لتستقطب شبابنا فلا ندع لهم وقت فراغ إلا ونشغلهم فيه بالخير وما يعود عليهم بالمنفعة. إن الغزو التبشيرى ليست له مصادر علمية محترمة فالتثليث عندما يصطدم بالتوحيد سيهزم، (..ولا تزر وازرة وزر أخرى..) مبدأ عقلي، فإذا استدرج العقل الإنسانى إلى الانحراف عن هذا المبدأ سينهزم حتما، لذلك لابد من دعم الأسس العلمية للمسلمين وشرح جوانب الحق فى دينهم حتى لايضاروا بالأنماط الأخري، تاريخنا مشرف، وتاريخ غيرنا لايسر، لذلك يجب أن نسلح أبناءنا بالحقائق العلمية والتاريخية ونعرف كيف نعامل المبشرين، فلسنا بلهاء حتى نسلمهم عقولنا، إن التبشير الآن يرفض المعارك المباشرة، لأنه يعرف خطورتها عليه، لذلك يلجأ إلى طرق ملتوية للوصول إلى أهدافه فينشئ أندية رياضية أو ماسونية أو مدنية أو لا دينية، ومن خلال هذه الأندية الباهتة يبدأ بتغيير المسلم فيزهده فى إقامة الصلوات الخمس ويزهده فى صيام رمضان ويزهده فى إقامة الشعائر الإسلامية، ولعله يغويه بمصاحبة الفتيات من الديانات الأخري، وبذلك تبدأ عرى الإيمان لدى المسلم تنحل عروة إثر عروة، وفى نهاية المطاف يترك المسلم دينه. فالأمر خطير ومن واجب المسلمين أن يتنبهوا إلى ألاعيب المبشرين وحيلهم بتوثيق العلاقة بين المسلم وعقيدته حتى لاينجرف وراء هذه الدعوات الباطلة. مجلة الوعى الإسلامي إن مجلة "الوعى الإسلامي" بمادتها العلمية، دسمة وفيها غذاء عقلى متكامل ويستطيع الإنسان أن يقرأ ويخرج منها بفوائد جمة من ناحية الحقيقة العلمية ومن ناحية البيان السهل الذى ينقل المعارف من الجهات المتخصصة إلى عامة الناس ومن مميزاتها ابتعادها عن الخلافات الرخيصة التى قتلت الأمة الإسلامية، فكانت عامل بناء وتشييد لا عامل هدم وتخريب وحافظت على وحدة أمتنا وهذا شيء نحن فى أمس الحاجة إليه. ص _087(3/96)
الصحوة الإسلامية حقيقة قائمة وليست شعارات ولكن تكتنفها أخطار هائلة الداعية الإسلامى الكبير.. الشيخ/ محمد الغزالى - حفظه الله - بعد مسيرة حافلة قضاها فى حقل الدعوة الإسلامية المملوء بالألغام والمفروش بالأشواك، وهو يتنقل من قطر إلى قطر.. ومن بلد إلى آخر ناصحا وموجها ومرشدا، وهو يشخص الأمراض الفكرية والاجتماعية التى ابتليت بها أمتنا الإسلامية، وقد لقى الشيخ فى سبيل تبليغ رسالته كثيرا من العقبات التى ما زادته إلا ثباتا وإيمانا بقضيته ورسالته الجليلة.. وبمناسبة بلوغ الشيخ الغزالى العام 75 من عمره - أطال الله تعالى حياته - التقينا نستلهم رأيه فى كثير من القضايا الإسلامية الشائكة، وما يتعرض له المسلمون من فرقة الاختلاف، وسألناه عن حقيقة الصحوة الإسلامية المعاصرة ومستقبلها، وعن رأيه فى الثقافات التى يتربى عليها أبناء المسلمين، وعن رأيه فى مسار الدعوة الإسلامية - مالها وما عليها. رجاء الحوار مع - فضيلته - على هذا النحو: من واقع اهتمام فضيلتكم - بالصحوة الإسلامية.. دعنى أسأل: هل هذه الصحوة حقيقية؟ أم كما يقول البعض إنها مجرد شعارات لا سند لها بالإضافة لبعض الظواهر غير السوية التى تصاحبها فى بعض البلدان..؟؟! الصحوة الإسلامية حقيقة قائمة، ولكن الإعداد لسحقها وتبديدها حقيقة أبرز للعين وأرهب للنفس.. فالصحوة الإسلامية المعاصرة تكتنفها أخطار هائلة، يشارك فى صنعها مبشرون ومستشرقون وساسة وعسكريون وأدباء وإسلاميون، وملاحدة وكتابيون، ومصارحون ومداهنون، وأناس غرباء عنا وأناس من جلدتنا.. ولسنا نخاف أولئك كلهم يوم يكون قادة الصحوة الإسلامية من معدن إسلامى صاف، يعملون بعقل مفتوح، ويجددون سيرة سلفنا الأول.. فالحق أن هناك صحوة إسلامية مشرفة، وإنكار ذلك هو الجحود بعينه، وخيانة للصديق، وخدمة للعدو، ولكننى أحب دائما أن يكون المنتسبون لهذه الصحوة أصحاب آفاق واسعة وثقافة عريضة، فالإسلام دين قائم على(3/97)
العلم، فإذا لم تكن على مستوى الغزارة العلمية التى يقدمها لنا الكتاب والسنة فلن نكون إسلاميين حقا. ص _088
أمراض الصحوة * الداعية الإسلامية الكبير، هل يمكنك أن تحدد لنا أمراض الصحوة الإسلامية؟ وما هى وسائل وأساليب علاجها؟؟ ** أحذر المسلمين أن يقصروا دينهم فى معركة البقاء المحتدمة بين شتى الملل والنحل، أو بين الإسلام من ناحية والعداوات التقليدية والمحدثة التى تواجه الآن. إلا إذا كان الإسلاميون على مستواه، ومعدين كل ما تطلبه المعركة من إمكانات لكى يكسبوها. والمسلمون الآن - للأسف - يواجهون هزائم اقتصادية لا يستطيعون إنكارها، فهم فى حاجة إلى رغيف العيش الذى يقدمه لهم أعداؤهم، فكيف ننتظر من الصليبية العالمية أن تطعمنا من جوع ثم نعلن الحرب عليها، فنحن متخلفون اقتصاديا على هذا النحو الشائن.. أيضا - المسلمون فى معركة الحضارة ليس لهم إنتاج صناعى ولو بحثت ما وجدت حاملة طائرات ولا غواصة إسلامية، فما الحل إذا قررنا إقامة الدولة ثم هزمنا من يملكون السطوة فى البر والبحر والجو، ألسنا بهذا نكون قد دخلنا بالإسلام فى معركة الهزيمة فيها محققة. فالصحوة ليست مجرد حماس يملك العواطف، أو شعورا يجب أن ينتصر فنقتحم ميادين لا تلقى فيها إلا الهزيمة، ولو أن الإسلاميين يدرسون سيرة نبيهم - صلى الله عليه وسلم - دراسة واعية لعرفوا أنه انتقل من مرحلة إلى مرحلة وأسلمت كل مرحلة إلى ما بعدها فى هدوء فالأمر يحتاج إلى أن نتأمل الميدان الذى نعيش فيه، أما أن تكون أغذيتنا وملابسنا وأدويتنا وأسلحتنا من صنع الآخرين ثم نعلن عليهم معركة باسم الإسلام فنحن بهذا نجر على ديننا الهزيمة من حيث ندرى أولا ندري! ثانيا: لماذا لا يشتبك المسلمون فى معارك عن أنفسهم وأخلاقهم وتقاليدهم وهى مليئة بالخلل والعوج وأنواع الشرور المختلفة. أخطاء كثيرة وهناك أخطاء كثيرة فى الفكر الإسلامى يجب أن تصحح، إننا نظن أن العمل الصالح هو التلاوة(3/98)
والاستغفار والفكر وانتهى الأمر.. العمل الصالح فى تسخير البر والبحر وتطويع شتى المعادن والثروات لخدمة الإسلام وإعلاء شأنه.. إننا أصفار فى هذه الميادين.. ص _089
كما أننى أرى لغطا عجيبا بين الإسلاميين حول سلف وخلف وحول بعض المعارك الفقهية التافهة وغيابا للوجود الإسلامى فى ميادين يستحيل أن ينتصر الإسلام إلا بالاستمكان فيها فأين هى الصحوة الإسلامية فى هذه الميادين؟ وأنا لا أظن بهذه الفوضوية التى تنتشر بين رجال الصحوة غير مؤهلين تماما لرعاية الإسلام أو لنصرته.. إننا نريد أن يجتمع أولو الألباب وأهل الذكر لكى يدرسوا هذه الصحوة وما اعتراها خلال ال30 سنة الأخيرة.. فالأمر يحتاج إلى مدارسة، ولذلك أقف مع إخوانى لا خصما لهم بل.. ناصحا، أقول لهم: تريثوا قبل أن تدخلوا باسم الإسلام معركة يتهم فيها الإسلام يقينيا ولا تكسبون فيها إلا المشاعر، نريد تكوين البيت المسلم والشارع المسلم والمجتمع المسلم، فإذا تحركت الصحوة الإسلامية لم تمش وحدها في الطريق ليضربها رجال الشرطة بل تحرك الشارع كله معها.. وبذلك تكون أمة حية لا يترجم عنها إلا حكم يتجاوب معها أما الاشتغال بغير هذا فلعله اشتغال بما لا يجدى ولا يفيد. مواجهة أعداء الإسلام * باعتباركم من العاملين فى حقل الدعوة، فكيف تواجهون جبهة أعداء الإسلام، والذين يتربصون بالإسلام الدوائر؟؟ ** الدعوة الإسلامية تشق طريقها وسط هذا الظلام الدامس، وإننا أمة تمرض ولا تموت.. وإن أعداء هذه الصحوة المعاصرة ما هم إلا امتداد لأعداء الإسلام منذ بزوغ فجره، وهؤلاء.. وهؤلاء.. لم تزدهم الأيام إلا قسوة قلب، وغباء فكر، إنهم يريدون الخلاص من الإسلام على أية حال - لكنهم - إلى اليوم فاشلون، إن الجماهير المسلمة لم تنس دينها على كثرة المنسيات، ولم يضعف حنينها إلى العيش فى ظله، برغم ما صنع الغزو الثقافى بعد الغزو العسكري.. وإن محاولات خصوم الإسلام لم تقف عند هذا الحد ولم تنته(3/99)
أبدا، فالهدف من كل هذه المحاولات الملعونة هو الإجهاز على هذا "المصحف الشريف".. وجعله حبرا على ورق، أو أثرا يودع فى المتاحف. وعلى المسلمين فى القارات الخمس، وعلى كثرتهم العظمى بين المحيطين الهادى والأطلسى أن يلمسوا هذه الحقيقة، فإما عاشوا بدينهم، وإما نكصوا على أعقابهم فهلكوا.. ألا إن العاقبة للتقوى، والمستقبل القريب والبعيد للإسلام دين الله من الأزل إلى الأبد ( وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم ). ص _090(3/100)
ثقافة ضحلة * فضيلة الشيخ.. ما هو تقييمكم للثقافات التى يتربى عليها جيلنا الآن - لنا أم علينا؟؟! ** فى رأيى أن الثقافة التى آلت إلينا مؤخرا ضحلة آسنة لا فى مجال المعرفة الدينية ومدها، بل فى مجال الأداء الأدبى كذلك وأن هذه الثقافة أعجز من أن تصنع أمة تنهض برسالتها، وتخدم كتاب ربها وسنة نبيها. وقد كانت ثقافتنا فى العصور الأولى تصنع أجيالا عارمة، قادرة على المحو والإثبات، تحترم الحقائق وتعشق الفضائل، وهكذا هبط العلم الدينى وتقوقع رجاله فى تخصصاتهم الدينية لا يمدون أنوفهم وراءها.. ولذا أقول: إن العلم بالدين كله لايتم عن طريق تجار التجزئة، وأن الصورة الكاملة للإسلام إنما تتم على النحو السلفى الأول، وأن العقل الإسلامى المعاصر يجب أن يرتفع إلى مستوى الشمول فى القرآن الكريم حتى يستطيع بناء الأمة الواحدة التى لا تمد رقعتها على سطح الأرض خطوط الطول والعرض. ( يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون). وعلى المسلمين - أيضا - أن يدرسوا التاريخ الإسلامى فهو تاريخ واسع، كما أن الإسلام دين استبحرت فيه الحضارة، وعلم كبير واسع أهملته الأمة الإسلامية دون أن تهتم به.. ومع أن المستشرقين كرسوا جهودهم فى البحث والتنقيب عن مواضع القوة والضعف فى تاريخ الأمة الإسلامية، أما العرب فليس لديهم شيء يفكرون فيه سوى تنازعهم على السلطان! أو عشقهم للرياسات، لا شيء أمامهم إلا ضياع الدين والدنيا معا.. نرقع دنيانا بتمزيق ديننا فلا ديننا يبقى ولا ما نرقع! فالمستشرقون الأوروبيون يعرفون طبيعة الإسلام، ويرصدون تاريخه القديم والحديث، وتدبر معى قول المستشرق الألمانى "باول شمنز" منذ أكثر من نصف قرن تقريبا: "إن انتفاضة العالم الإسلامى صوت نذير لأوروبا وهتاف يجوب آفاقها، يدعوها إلى التجمع والتساند لمواجهة العملاق الذى بدأ يصحو!!". ص _091(3/101)
فقد عرف المسلمون الأوائل - بفهمهم الواعى للدين - أن أمة العقيدة لا يحصرها مكان، وأن إخوان العقيدة لا يحدهم جنس. مسيرة الحضارة الإسلامية * ما رأى - فضيلتكم - فى مسيرة الحضارة الإسلامية المعاصرة - ما لها وما عليها؟؟ ** العام الآن لا يعرف إلا حضارة الغرب فى جميع شئونه الحياتية، أما حضارة الإسلام فى خبر "كان"، ولذا لا أستطيع القول إنه توجد حضارة إسلامية تلك التى سادت العالم قرابة ألف سنة، كان المسلمون فيها هم العالم الأول المتقدم، وكانت الدنيا تنقاد لهم وتنشر حضارتهم بتقدمهم العلمى والعملي.. بل إن المسلمين لما انهزموا عسكريا أمام التتار ظلت حضارتهم قائمة ولذلك دخل التتار فى الإسلام.. وكانت الأمة المهزومة - آنذاك - أرقى حضارة وأكثر ثقافة من الأمة المسيطرة عليها ولذلك ذابت فيها.. أما اليوم فقد تخلف المسلمون وتخاذلوا وتضعضعوا إلى الوراء كثيرا مما يجعلنا نجزم بألا توجد حضارة حالية، وإن كانت توجد مواريث ضرب عليها العنكبوت بنسجه تذكرنا بقول الشاعر: لخولة أطلال ببرقة سهمد.. تلوح كباق الوشم فى ظاهر اليد! لكننى لست بيائس فإن أمتنا تمرض ولاتموت، وقد تسقط على الطريق فتطول كبوتها ولا تقصر، وتتحامل على نفسها مرات ومرات ثم تتابع المسيرة مرة أخري. ولذا كثيرا ما كنت أقول للناس: "يوم الإسلام قادم.. فارتقبوه".. نصائح إلى الدعاة * من خلال تجاربكم الطويلة فى حقل الدعوة، فما هى النصائح التى يمكن أن توجهوها إلى الدعاة الجدد والعاملين فى هذا الحقل؟؟ ** الداعية محتاج إلى مؤهلات كثيرة قد لا توجد فى العديد من هؤلاء الدعاة الذين نراهم على الخريطة - الإسلامية، وعلى الدعاة الجدد فى هذا الميدان أن يتجنبوا النكسات حتى لا يقدموا أرض الإسلام غنيمة باردة للمتربصين بالإسلام الدوائر.. ص _092(3/102)
فإننى أشعر بانزعاج حين أرى المجاهدين فى قطر "ما" يبدأون العمل من الصفر، غير منتفعين بما حدث لإخوانهم فى قطر مجاور.. إنهم يلدغون من جحر واحد مرتين أو أكثر دون وعي.. كذلك يوجد عاملون فى الحقل الإسلامى يظنون أنفسهم فوق المساءلة!! ومن خلال تجربتى أقول للصالحين الجدد: إن الصحوة الإسلامية الحاضرة ينبغى أن تترسم الخطى الأولى ، لا أن تتبع خلوفا ظلموا دينهم وأنفسهم على سواء.. فإننى أؤمن بعون الله، أن العون الأعلى يظفر به المجتهدون، فلنجتهد فى ترشيد صحوتنا المعاصرة حتى تؤتى جناها.. (ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز). ص _093(3/103)
الموت فاصل خفيف بين الوجودين من حق كل قوم جاءهم مدع للنبوة أن يدرسوا قوله وشخصه ثم يحكموا له أو عليه! ونحن نتساءل: ما الذى أتى به محمد؟ لقد حدثنا أن الله حق وفصل أدلة وجوده وكماله على نحو لم يسبق إليه، وأنه واحد، كل من في السماوات والأرض مخلوق له مفتقر إليه لا استثناء لملك أو إنس أو جن، وأن لقاءه حتم لمحاسبة كل مكلف ( فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره). لماذا أكفر بمحمد؟ لو رأيت أحدا جاء بأفضل مما جاءنا به لتبعته! وسورة النبأ تقول للمشركين: هبوا أن دعوة محمد لم تقنعكم أفلا تفكرون في خلق السماوات والأرض؟ ( ألم نجعل الأرض مهادا * والجبال أوتادا * وخلقناكم أزواجا). نحن الآن فى القرن الخامس عشر الهجرى ونهايات القرن العشرين الميلادى وقد ورثنا رسالات شتي، ومن حقنا أن نوازن وأن نرجح، والحق أقول أنى أمام تراث محمد من كتاب وسنة لا أقدم أحدا، أو بتعبير أقرب إلى الإنصاف: أصدقه حين يقول إن رسالته تمثل الوحى القديم والأخير معا، وإن ما خالفه هو مزاعم بشر وليس وحيا سماويا ( ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك) أى أننى حين أتبع محمدا أتبع معه موسى وعيسي، ونوحا وإبراهيم.. وهذه السورة تتكون من أربعة فصلول متميزة، الأول وصف الكون والناس إلى قوله جل شأنه: ( وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا * لنخرج به حبا ونباتا * وجنات ألفافا). والثانى وصف موجز ليوم الحساب: ( إن يوم الفصل كان ميقاتا * يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجا) وإكثار القرآن من ذكر القيامة لمقاومة حب العاجلة الذى يغلب على الطباع. والثالث وصف للعقاب الذى ينتظر المجرمين : ( إن جهنم كانت مرصادا * للطاغين مآبا * لابثين فيها أحقابا). والرابع وصف للنعيم الذى ينتظر المؤمنين الصالحين: ص _094(3/104)
(إن للمتقين مفازا * حدائق وأعنابا * وكواعب أترابا) إن الجزاء المعنوى حق وستتنضر وجوه المؤمنين وهم مع جماهير الملائكة يسبحون بحمد الله ويهتفون بمجده. ومن تمام المتعة أن يكون ذلك فى حدائق زاهرة ومع لدات مؤنسات. وبعد هذا الوصف الشائق يقال لأولى الألباب: (ذلك اليوم الحق فمن شاء اتخذ إلى ربه مآبا) فمن تزود بالتقوى أفلح، ومن عاش مذهولا هنا وقدم على الله صفر اليدين ندم بعد فوات الأوان ( إنا أنذرناكم عذابا قريبا يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا ) نقول فى ختام السورة للمتسائلين عن محمد: ماذا كسب لشخصه من هذا البيان؟ هل عيبه أنه كان حار الأنفاس فى الدعوة إلى الله؟ وأنه كان جلدا في مقاومة الفتانين والطغاة؟. ( والنازعات غرقا * والناشطات نشطا * والسابحات سبحا * فالسابقات سبقا * فالمدبرات أمرا) الذى أختاره أن هذه الأقسام بالكواكب الدوارة في الفضاء، تشق طريقها بغير وقود وتسرع السير بغير توقف وتعرف الطريق بغير جندى مرور ثم يجيئها أجلها مع نهاية العالم فإذا هى تتلاشي! متي؟ (يوم ترجف الراجفة * تتبعها الرادفة) فى الزلزال الكبير الذى يفقد كل شيء توازنه وتترادف مزعجاته فإذا القلوب مضطربة والأبصار كسيرة! يقول المشركون عند سماع هذا النذير: ( أئنا لمردودون في الحافرة ) أراجعون نحن إلى الطريق الذى جئنا منها؟ أعائدون إلى الحياة مرة أخرى؟؟ هكذا يحدثنا الرسول! ومتى؟ بعد أن نموت ونبلى ( تلك إذا كرة خاسرة)! عودة لا خير فيها لأننا ما صدقناها ولا أعددنا لها.. ( فإنما هي زجرة واحدة * فإذا هم بالساهرة) بساعة الحشر والجزاء. أن اتباع الفلسفة المادية المعاصرين لا يزيدون على مشركى الصحراء الأقدمين عندما يقولون: إن هى إلا أرحام تدفع وأرض تبلع وما يهلكنا إلا الدهر! فما الموقف إذا رأوا أنفسهم أحياء لم يصبهم ص _095(3/105)
شيء؟ واستتلت الآيات تتحدث عن فرعون وهو من أكابر المجرمين، والحق أن الفرعنة مرض عام أساسه بطر الحق وغمط الناس، وقد يكون في الحكام والإداريين والفنانين والكناسين. والمرء إذا ذهب بنفسه عاش أنانيا جائرا لا يحق حقا ولا يبطل باطلا، وجهنم تأخذ حطبها من هؤلاء جميعا. ويخاطب القرآن البشر: علام الكبر والصد عن سبيل الله ( أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها * رفع سمكها فسواها..) إن الإنسان – بالنسبة إلى غيره – كائن ضعيف ما يجوز له أن يعمى ويطغى، بل يجب أن يتقى ربه ويتزكى، وإذا كان قد ملك التصرف في كائنات أخرى، فليسخر هذا التفوق في شكر الله وأداء حقوقه، وعادت السورة إلى ما بدأت به من حديث عن البعث والجزاء ليجعل الإنسان من حياته الأولى مهادا للحياة الأخرى ( فإذا جاءت الطامة الكبرى * يوم يتذكر الإنسان ما سعى * وبرزت الجحيم لمن يرى) إن الناس يومئذ رجلان: عبد لشهواته يعيش لإشباعها، وعبد لله يشعر بقيامه ورقابته فلا ينسى حقه ( فأما من طغى * وآثر الحياة الدنيا * فإن الجحيم هي المأوى * وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى * فإن الجنة هي المأوى ) ويجمح التطلع والاستخفاف بأصحابها فيتساءلون عن الساعة ( يسألونك عن الساعة أيان مرساها * فيم أنت من ذكراها * إلى ربك منتهاها) إن علمها عند الله وحده، وما ينفعكم العلم بها إذا لم تستعدوا لها؟ إن الوجود موصول، والموت فاصل خفيف بين الوجودين الأول والأخير وستعرف قيمة الدنيا يوم اللقاء ( كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها). ص _096(3/106)
الأمة الإسلامية فى وضع يفرض عليها اليقظة المساواة والعدل الاجتماعى فى الإسلام.. * الإسلام دين عالج كل قضايا العصر، مليء بالجوانب المشرقة التى تتصل بالإنسان، وتبحث أمور حياته، نود أن تحدثنا عن المساواة والعدل الاجتماعى فى الإسلام. * يتفق الباحثون جميعا على أن الإسلام عبادات ومعاملات ودين. ونظام، أو بتعبير العصر.. دين ودولة. والدولة أو النظام فى الإسلام تخدم النصوص والقواعد والقيم التى وردت فى هذا الدين العظيم. وقد بدأ الإسلام فى مكة المكرمة، فقرن بين الإيمان، وبين أمان الجائعين، ومواساة المحرومين، فمن أوائل ما نزل نقرأ قوله تعالى وصف من يستحق العذاب (إنه كان لا يؤمن بالله العظيم * ولا يحض على طعام المسكين). وكذلك قوله جل شأنه ( أرأيت الذي يكذب بالدين * فذلك الذي يدع اليتيم * ولا يحض على طعام المسكين ). وعندما جاء مندوب قريش ليستمع إلى ما عند النبى عليه الصلاة والسلام، قرأ عليه فيما قرأ (وويل للمشركين * الذين لا يؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم كافرون). فلما انتقل إلى المدينة المنورة، قام المجتمع الإسلامى على الأخوة المتكافلة فى السراء والضراء. فليس هناك متخم وجائع.. بل الأمر كما قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "ما آمن بى من بات شبعان وجاره إلى جنبه جائع وهو يعلم". ولما كانت المدينة بلدا زراعية، فقد تدخل التشريع فى عقد الإيجار ومداه، ورغب النبى عليه الصلاة والسلام، الأنصار ملاك الأرض فى أن يعطوا المهاجرين الفقراء الأرض يزرعونها، دون أن يدفعوا إيجارا لها. ص _097(3/107)
وعندما ملك النبى غنائم بنى النضير، جعل هذه الغنائم كلها لفقراء المهاجرين، ولم يعط إلا اثنين من الأنصار كان بهما فقر، وعلل القرآن الكريم هذا التقسيم بقوله سبحانه وتعالى ( كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم). أى لا يكون المال حكرا على طائفة من الناس، يتداول بين أفرادها، لا يتجاوزهم إلى غيرهم، أى أن النبى عليه الصلاة والسلام، بهذا العطاء للمهاجرين، أقام توازنا اجتماعيا فى المدينة المنورة، هو من أهداف الإسلام كما بينا. ونصوص الدين وقواعده العامة، توجب على المسلمين جميعا العمل فى أرض الله، واكتساب الرزق من الكدح فيها، والضرب فى جنباتها، وهذا هو المصدر الأول لدخل الفرد، فما يجوز أن تمتد إلى الزكاة يد قادر على العمل، متسكع فى دروب الحياة، وفى الحديث: "لا تجوز الصدقة على غني، ولا على ذى مرة سوي " أى صاحب قوة سليم الأعضاء والحواس، وكأن الزكاة بهذا التوجيه، إنما تجيء إغاثة لمن أرغم على التعطل بسبب معقول. وتعاليم الإسلام فى هذا المجال تحترم رأس المال وتعطيه حق التكون والنماء، ولكنها تثقله بالحقوق الاجتماعية، التى تسد كل ثغرة فى الحياة العامة. أما ما يتصل بالمساواة فأريد أن أفرق بين أمرين: هناك حقوق عامة يمكن أن نفهم فيها معنى المساواة ونحققها.. مثل حق الحياة، وحق التملك، وحق التعليم وما أشبه ذلك. والناس فى هذه الحقوق العامة سواء، فلو أن عبقريا قتل كانس طريق لقتل فيه قصاصا عدلا، فما يعرف الإسلام فى هذه المساواة نسبا ولا امتيازا. لكن هناك مواهب تتفاوت، ونشاطا فى الإنتاج لا يتساوى الناس فيه بداهة، ولا يقبل أحد أن يسوى بين خائن وأمين، ولا بين منتج وعاطل كسول. المساواة أن يأخذ المتكافئان أجرا واحدا، وأن تتاح لهما الفرص على سواء، أما أن يأخذ الأذكى مرتبا أكبر، فهذا لا حرج به، ولا فى الدنيا نظام يفرض المساواة بين المختلفين فى قدراتهم وخبراتهم. والشكوى التى يجأر بها الناس ترجع إلى المساواة فى(3/108)
الحقوق العامة غالبا وعدم التزام قواعد دقيقة فى تطبيقها، فربما تخرج اثنان من كلية واحدة، وأسعف الحظ ص _098
أحدهما فبلغ القمة وقعد بالآخر فبقى يضرب السفوح، وربما كانت الأمور فوق ما يتصور الحليم أى ربما كان الأغبى هو الذى صعد، والأذكى هو الذى هبط. إن هذا الاضطراب الخلقى هو الذى يجعل كثيرا من الناس يطلب المساواة، ويسعى وراءها، والإسلام ظهيره فى هذا المطلب، وذاك السعي، فإن الناس فى الحقوق العامة سواسية كأسنان المشط، وما يتفاضلون إلا بالتقوى والعمل الصالح. تعاليم الإسلام ضمان كامل للمرأة.. * ما دمنا نتحدث هنا عن العدل الاجتماعى والمساواة فى المجتمع الإسلامي، فما الذى تقوله عن حقوق المرأة فى الإسلام، وما واجباتها تجاه دينها الحنيف؟ * النساء شقائق الرجال، كما جاء في الحديث الشريف، وحقوقهن هى حقوق الرجال، لا خلاف بين الجنسين إلا فيما ندر، واتصل بطبيعة المرأة. أما في الحقوق العامة فهى والرجل سواء في كل شيء، كما قال تعالى : ( فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض ). وإذا كان الإسلام قد جعل نصيب المرأة فى الميراث، هو فى الغالب على النصف من نصيب الرجل، فذلك لأن المرأة فى النظام الإسلامى لا تكلف بنفقة ولا مهر، بينما يكلف الرجل بذلك، فالنصيب الكامل الذى أخذه الرجل لم يبق له، أما النصف المقرر للمرأة، فهو باق لها. وإذا كان الإسلام قد جعل شهادتها على النصف من شهادة الرجل، فإن السبب فى ذلك أن طبيعة الدورة الشهرية التى تنتظم فى حياتها تسبب لها مضايقات نفسية وفكرية، وقد قرأت لأحد علماء الطب فى هذا المجال أن المرأة تصاب فى أثناء الدورة بعمى الألوان، ومجموعة من العلل الأخرى، فإذا احتاط الشارع لضمان العدل، ضم إلى المرأة امرأة أخرى، فلا لوم عليه فى هذا ولا تجريح للمرأة.. أما ما عدا ذلك، فإن المرأة والرجل فى الحقوق الدينية سواء. إن أوروبا ورثت مجتمعا غير المجتمع(3/109)
الإسلامي، أوروبا كانت بها مجامع تناقش هل المرأة إنسان له روح كالرجل، وكان القانون الرومانى ولا يزال يمنع تصرفها فى مالها الخاص، ويجعل الزوج هو القائم على تصرفاتها المالية. ص _099
صحيح أن المرأة فى العصر الحديث أخذت حق العمل فى المجتمع، وخرجت لتشارك الرجال فى كل شيء، فماذا كسبت المرأة من هذا المسلك إلا الشقاء؟ أنا أفهم أن تكون المرأة مدرسة أو طبيبة، لكن ما معنى أن تكون سكرتيرة أو كاتبة فى بعض الدواوين؟ إن كل اللجان التى درست العلاقات الجنسية فى الحضارة الحديثة انتهت إلى أن الخيانات الزوجية والاتصالات المنحرفة تجاوزت الثمانين فى المائة فى العلاقات بين الجنسين.. هل يلام الإسلام، إذا أقام نظامه على عدم تكليف المرأة بالارتزاق، وجعل الزوج أو الأب مسئولا عن زوجته أو ابنته!.. هل يلام الإسلام إذا عرف أن المرأة ستفقد عرضها فى طريق لقمة الخبز، فوضع نظامه على أساس توفير اللقمة لها واستبقاء عرضها مصونا؟ ونستطيع أن نتساءل.. هل العرى والرقص والتبذل واستثارة الغرائز الهاجعة.. هل هذه حقوق رفيعة كسبتها المرأة، فدعمت بها جانبها فى المجتمع، أم أن هذه نزعات حيوانية فرضها الرجال الأشرار لكى يتبذلوا المرأة، ويجعلوها طوع شهواتهم؟ إن تعاليم الإسلام بالنسبة إلى النساء، فيها ضمان كامل للكرامة المادية والأدبية، لكنى أعرف بأن هناك أشخاصا انتسبوا للإسلام، وباسمه ظلموا المرأة ومنعوها حق العبادة فى المسجد، وحق التعلم فى الجامعة، بل منعوها حقها الطبيعى فى الزواج، إذا لم يأخذ الأب أعدادا كثيفة من الريالات.. آسف لأنه باسم الإسلام أنشئت تقاليد ظلمت المرأة، وأضعفتها ماديا وأدبيا، ولكن علاج هذا الانحراف الديني، لا يكون بايثار الانحراف الحضارى الحديث، وإلا كنا كالمستجير من الرمضاء بالنار. العودة إلى الإسلام نصا وروحا، هى الدواء الوحيد لكل ما نعاني!.. بدع دخيلة على الإسلام.. هناك بدع كثيرة دخلت الإسلام.. كيف(3/110)
يمكننا أن نتخلص من دعاوى الضعف والوهن.. فالإسلام هو دين القوة والإرادة والعزيمة، دين التشريع والأحكام التى حددها القرآن الكريم.. ناموس هذه الأمة؟.. * الأمة الإسلامية أصابتها أمراض الأمم التى سبقتها، فأدخلت فى دينها ما ليس منه، ونقصت منه ما هو من صميمه، وتوجد مخترعات وخرافات تنسب إلى الإسلام، والإسلام منها بريء. ص _100
لقد رأيت أحد الحكام فى يوم من الأيام يدخل المسجد بعد صلاة المغرب ليحضر حفلا دينيا مبتدعا، ويخرج قبل صلاة العشاء، أى أنه أهمل ركنين، وأماتهما، وأحيا خرافة وشارك فيها.. فأى تدين هذا!... والمسلمون الآن مصابون بتدين الشكل، لا تدين الموضوع، والدين عندما يتحول إلى طقوس ومراسم يفقد قيمته.. لأن الدين قبل كل شيء، قلب حي، وضمير يقظ، وسريرة نظيفة. وأرى أن الأمة الإسلامية فى وضع يفرض عليها سرعة اليقظة، فإن الذئاب تتعاوى من كل ناحية كى تنهشها، ويعود كل ذئب بشلو منها.. والعودة إلى الإسلام فى هذه الحال هى ضمان حياة وسياج وجود. أى أن الدين، والحالة هذه ليس كسبا للجنة، وبعدا عن النار فقط، بل هو قبل الآخرة وقدومها كسب ليومنا الحاضر، وضمان لقضايانا المهددة. إن أمتنا إلى الآن تنال من نفسها أكثر مما ينال أعداؤها منها. والسبب أن الناس إذا لم يجمعهم الحق فرقهم الباطل، وإذا لم يحتشدوا على الصراط المستقيم، تفرقوا فى عشرات الطرق، وعندئذ تكون الفرص مواتية لأعداء متربصين كثيرين. لقد نجح المسلمون الأوائل فى توسيع رقعة الدولة الإسلامية، فإذا هى تشمل المعمور من ثلاث قارات. كان البحر الأبيض والأحمر والأسود بحيرات إسلامية، فما الذى جعل المسلمين الآن يدفعون بعجز عن تراثهم، ويطمع كل عدو فى النيل منهم؟.. لا أمل إلا بعد العودة إلى الإسلام الحقيقي... أما الخرافات التى لبست ثوب الدين، والبدع والخرافات التى يجنح إليها العوام، والحيل والمهازل التى يرتكبها بعض المنتسبين إلى الفكر الديني، فهذا كله لا(3/111)
يجدى على أمتنا فتيلا.. ولذلك فإنى أرجو أن تعمنا نهضة سريعة تعود بنا إلى الإسلام وأصوله السمحة وشرائعه العادلة. ابن عربي * حدثت محاولة لمنع كتاب ابن عربى "الفتوحات المكية".. ما هى فى نظركم حدود المنع والإباحة بالنسبة للفكر من وجهة نظر الإسلام؟ * أنا ممن يحترمون حرية الرأي. ومن يرون أن الحق يملك من الأدلة ما يرجح كفته، ويزينه فى أعين الناس، ولذلك فإن مبدأ المصادرة يحتاج إلى تحفظ فى إقراره، ربما أقبله عندما يكون ما نشره هدما لمقومات الأمة، وخدمة لأعدائها، أو نوعا من النزق العقلي، لا يجد مثلا أعلى ولا غرضا شريفا. ص _101(3/112)
ومن حق الأمم فى هذه اللحظة أن تحمى نفسها وشبابها، وأن تضع سدودا أمام من يبتغون لها الدمار. أما فى الأمور الأخرى، أى حيث تتفاوت وجهات النظر من النواحى السياسية أو التشريعية أو الاجتماعية، فالرأى عندى أن نسمع كل ما يقال على شرط أن يتمكن حملة الحق من إبداء رأيهم وسوق أدلتهم وأنا حسن الظن بالضمير الإنساني، وبالفكر الإسلامي. إن الإنسانية لا تجنح إلى باطل إذا عرفت الحق معرفة شاملة مستوعبة، وعندى أنه إذا عجز أهل الحق عن خدمة قيمهم بالطريق العقلي، والإقناع الحر فليسوا أهلا للحياة. وأضاف الشيخ محمد الغزالي: بعد هذا التقديم أقول: إن كتاب ابن عربى "الفتوحات المكية"، وكتابه الآخر "الفصوص" مليئان بخزعبلات ما أنزل الله بها من سلطان، وليست الرؤى فى المنام مصدرا للمعارف الدينية، وابن عربى يزعم ان كتاب الفتوحات تلقاه فى الرؤية، فهل يترك الناس الحقائق التى تلقوها عن الثقاة لأحلام نائم؟!.. وهل يترك الناس الحقائق التى وصلت بهم إلى غزو الفضاء لمنطق نظرى يتجهم للأدلة الحسية والمعنوية المعتبرة؟!. إن المتصوفين أنفسهم، والغريب أن ابن عربى من بين هؤلاء ينكرون وحدة الوجود، ومع هذا الإنكار، فإن كتابات ابن عربى تدور حول محور واحد، هو وحدة الوجود، وقد قرأت لابن عربى بحثا يقوم على أن فرعون من أهل الجنة!.. وأن الله قبل توبته وغفر له، وعقل يصل إلى مثل هذه النتيجة، لا ثقة فى أحكامه!.. كيف سمع له، أو لبحثه، والله يقول فى فرعون ( يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد المورود). وأنا سيئ الحظ بمن يدافعون عن كتاب ابن عربي.. إنهم يعطون حرية الرأى للضلال وحده كى يقول ما عنده، فإذا تحرك الحق تمنع الشبهات، بدأت المصادرة والمكابرة، فأين هذه الحرية... والذين غضبوا لمصادرة كتاب ابن عربي، لماذا لم يغضبوا لمصادرة كتبنا نحن، ويطلبوا بتركها تأخذ مكانها بين أيدى القراء. لقد تبين لى أنه فى المجتمعات المختلة، يكون(3/113)
لكلمة الحرية رنين العملة المزيفة، فهى حرية موجهة تقبل إذا نفعت فلانا. وترفض إذا وقفت دونه. ص _102
الوحدة الإسلامية * وكيف يمكن فى نظركم التقاء الوحدة العربية الإسلامية؟ * إن الوحدة التى قامت عليها أمتنا خلال القرون الأربعة عشر. تمثل تاريخها، هى الوحدة الإسلامية، والمسلمون على اختلاف أجناسهم كانوا يعطون العرب فضلا زائدا، وصدارة ملحوظة، لأن العرب، كما عبرت فى بعض كتبي، هم دماغ الإسلام... إن القرآن عربى اللسان، والنبى عربى الجنس، وقبلة المسلمين فى الصلوات تقع فى أرض عربية، والثقافة الإسلامية فى جميع ميادينها عربية أى ان الوحدة العربية أعزت العروبة وكرمتها، حتى جاءت بدعة القومية العربية، فإذا هذه القومية تكفر بالإسلام، وتتجهم للأجناس الداخلة فيه، وتختلق أعذارا للفصل بين المسلمين والعرب، وهم أكثر من تسعة أعشار الجنس العربي، وبين المسلمين والهنود والأعاجم والأتراك وغيرهم. وهذا الذى صنعته القومية العربية أضر بها، وأسقط قضاياها العالمية والمحلية. لقد اعتبر العرب قضية فلسطين عربية لا إسلامية، فماذا كسبوا، وأرادوا أن يعيشوا بلا دين ولا عقيدة، بينما يتحرك اليهود حولهم بدينهم وعقيدتهم، ويسمون دولتهم تسمية دينية خالصة "إسرائيل" فماذا جنينا من هذا المسلك؟.. إن العرب أكثر قليلا من مائة مليون، والمسلمون يبلغون الآن مليارا من الأنفس، فماذا يكسبه العرب عندما يصنعون فجوات عميقة بينهم وبين إخوان العقيدة فى القارات الخمس؟.. إن العروبة بلا إسلام مهزلة يجب أن تنتهي.. وإذا رجعت العروبة إلى أصلها الدينى الذى شرفها الله به، التقت مع الأمة الإسلامية الكبرى فى وحدة تعطى العرب القيادة.. إذا أرادوا الزعامة وتجعل لهم ظهيرا من أجناس تزيد عليهم بتسعة أضعاف. ولذلك فإن الوحدة العربية تتم على الوجه الصحيح، يوم تنهض على دعائمها العقيدة، وتلتقى مع الوحدة الإسلامية فى صف واحد وهدف واحد. كلمة أخيرة دعنى أقول فى(3/114)
النهاية موجها حديثى لعلماء اليوم: اتقوا الله فى أمتكم، واعلموا أن الله عاب علماء اليهود قديما، لما أخذ عليهم الميثاق أن يقولوا الحق، فكتموا الحق حرصا على الدنيا.. قال تعالى: ( وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون ). ص _103
فض الاشتباك فى الأسرة يملكنى الغضب والأسى عندما أجد بعض الدعاة ضعفاء الوعى بالقرآن الكريم! يقرءون على الناس الحديث غير شاعرين بقربه أو بعده من بعض الآيات القرآنية. روى عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يسأل الرجل: فيم ضرب امرأته"؟ أخرجه أبو داود. قال أحد العلماء فى تعليقه على هذا الحديث: وأخرجه النسائي! أى أنه قوى سند الحديث، وترك المتن وكأنه صحيح لا غبار عليه..! وهذا الظاهر باطل، فالمتن المذكور مخالف لنصوص الكتاب، ومخالف لأحاديث أخرى كثيرة! وعدوان الرجل على المرأة كعدوان المرأة على الرجل مرفوض عقلا ونقلا وعدلا ولا أدرى كيف قيل هذا الكلام ونسب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -! إن من قواعد الجزاء الأخروى قوله تعالى : ( فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ) فهل الزوجة وحدها هى التى تخرج عن هذه القاعدة فلا يسأل الرجل "فيم ضربها؟" له أن يضربها لأمر ما في نفسه، أو لرغبة عارضة في الاعتداء؟ فأين قوله تعالى : (ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف) وقوله: ( فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ) وأين قوله عليه الصلاة والسلام "استوصوا بالنساء خيرا فإنهن عوان عندكم ليس تملكون منهن شيئا غير ذلك.."؟! ما يقع هو النشوز، ومعنى الكلمة الترفع والاستعلاء، أى المرأة تستكبر على الزوج وتستنكف من طاعته ويدفعها هذا إلى كراهية الاتصال به فى أمس وظائف الزوجية، فيبيت وهو عليها! ساخط! وقد يدفعه هذا إلى ضربها! وهناك أمر آخر أفحش أن تأذن فى دخول بيته(3/115)
لغريب يكرهه مع ما فى ذلك من شبهات تزلزل العلاقة الزوجية وتجعلها مضغة فى الأفواه. ولم أجد فى أدلة الشرع ما يسيغ الضرب إلا هذا وذاك. ص _104
ومع ذلك فقد اتفقت كلمة المفسرين على أن التأديب يكون بالسواك مثلا! فلا يكون ضربا مبرحا، ولا يكون على الوجه! ففى الحديث "... ولا تضرب الوجه، ولا تقبح أى لا تقل لها قبحك الله"! ثم قال تعالى فى الزوجات المستقرات المؤديات حق الله وحق الأسرة : ( فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن الله كان عليا كبيرا). وختام الآية جدير بالتأمل، فقد تضمن صفتين من صفات الله تعالى هما العلو والكبرياء وهما صفتان تنافيان الإسفاف فى التصرف، والاستئساد على الضعيف، والمسلك البعيد عن الشرف، وفى ذلك كله لفت أنظار الرجال إلى أن تكون سيرتهم مع أهليهم رفيعة المستوي، متسمة بالرفق والفضل، وليس يتصور مع هذا كله أن يعدو الرجل على امرأته كلما شاء، وأنه لا يسأل عن ذلك أمام الله. ومن ثم فالحديث الذى رواه أبو داود والنسائى فى ضرب النساء لا أصل له، مهما تمحلوا فى تأويله. على أن من احترام الواقع ألا تظن النساء كلهن ملائكة، والرجال جميعا شياطين، هذا ضرب من السخف، والانحياز فى الحكم إلى أحد الجانبين ليس من الإنصاف. والأولى أن ندرس العلاقات العائلية بتجرد، وأن نحسب آثار الطباع والأزمات والأحداث الطارئة، وألا نترك لسبب تافه القضاء على الحياة الزوجية. إن انهدام بيت شيء خطير! وقد رأى الإسلام - حتى بعد وقوع الطلاق - أن يجعل كلا الزوجين يواجه الآخر، لعل الذكريات الحلوة تغلب الذكريات المرة، أو لعل الإيلاف يطرد الفراق على نحو ما قال.. أبو الطيب: خلقت ألوفا، لو رجعت إلى الصبا لفارقت شيبى موجع القلب باكيا ومن ثم وجب تدخل المجتمع لفض الاشتباك على مهل وإعادة المياه إلى مجاريها، وأولى الناس لأداء هذه المهمة أقارب الزوجين فهما أرغب فى الصلح وأبصر بالمصلحة وأقدر على التنفيذ، وهذا هو قوله تعالى : ((3/116)
وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما إن الله كان عليما خبيرا). ص _105
وقد روى الشافعى بسنده عن على بن أبى طالب - رضى الله عنه - أن جاءه رجل وامرأة، ومع كل واحد منهما فئام من الناس - جماعات - قال: ما شأن هذين؟ قالوا: وقع بينهما شقاق! قال علي: فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها. ثم قال للحكمين: تدريان ما عليكما؟ إن رأيتما أن تجمعا جمعتما! وإن رأيتما أن تفرقا فرقتما، فقالت المرأة: رضيت بكتاب الله بما على فيه وبما لي! وقال الرجل: أما الفرقة فلا..! قال علي: كذبت حتى تقر بمثل ما أقرت به.. ومعنى اعتراض الزوج أنه لا يعطى للحكمين حق إيقاع الطلاق باسمه.. أى أن لهما الجمع لا التفريق! ولكن عليا كدبه! مبينا أن للحكمين التوفيق أو التطليق أو المخالعة، وهذا هو كتاب الله. والفقهاء يختلفون فى سلطة الحكمين ومداها، ولا ندرس الموضوع هنا، وإنما نشعر بالغرابة لأن الرجل الذى استفحل الشقاق بينه وبين زوجته حتى بلغ ما بلغ لم يفرط فى عقد الزوجية، ورغب فى بقائه..! وشيء آخر نتوقف عنده، أن المجتمع باسم الله تدخل لحسم النزاع، واستدامة العلاقة العائلية! أما اليوم فقد تطلق المرأة فى "رطل" لحم يعلق الرجل بقاء امرأته على شرائه! الحق أن قضايا المرأة تكتنفها أزمات عقلية وخلقية واجتماعية واقتصادية، كما أن الأمر يحتاج إلى مراجعة ذكية لنصوص وردت، وفتاوى توورثت وعادات سيئة تترك طابعها على أعمال الناس. لابد من دراسة متأنية لما نشكو منه، ودراسة تفرق بين الوحى وما اندس فيه، وبين ما يجب محوه أو إثباته من أحوال الأمة. ص _106(3/117)
حوار.. ذو شجون منذ شهور لقينى بمكة المكرمة صومالى مسلم - والصوماليون كلهم مسلمون - بيد أن الرجل الذى لقينى كان حار العاطفة، ظاهر الغيرة على دينه وبلده مشدودا إلى المسلمين حيث كانوا بالأخوة التى ربط الله بها القلوب، وإن تناءت الديار! .. قال لى عاتبا: ما أذهلكم عنا.. قلت له: ما ننساكم فى سراء ولا ضراء، ولقد تابعنا نشاطكم فى تحرير أرضكم من الاستعمار الحبشى بحماسة! وتابعنا عودة الاستعمار الحبشى إلى هذه الأرض بأسي! ومن قبل ومن بعد كنا نرقب أحوالكم الداخلية بضيق وحسرة!! فقال لى الرجل وهو مقطب الجبين: هلا طالبتم بإطلاق سراح المعتقلين والمعتقلات من المسلمين والمسلمات! فقلت له: ما كنت أحسب أن هناك قسوة معتقلات لديكم، الذى وقر فى نفسى من سنين أن عددا أو أعدادا من العلماء والمجاهدين قتلوا، أو أودعوا السجون، لأنهم قاوموا التغيير الشيوعى الذى قلب المجتمع الصومالى رأسا على عقب! وقد حسبت أن تلك الحال انتهت بعد طرد الروس من الصومال وأن المجاهدين المسلمين سكن روعهم مع صفحة جديدة من الحكم الوطنى المتحرر..!! فقال لى الرجل غاضبا: إنكم تجهلون عنا كل شيء، إن الخبراء الروس طردوا، ولكن فلسفة الروس الحمراء لم تطرد، بل ظلت تحرسها الحراب الحادة! إن ناظرة المدرسة تمسك بمقص فى يدها فإذا وجدت فتاة طويلة الأكمام قطعت ما يستر الذراعين، فإذا قاومت فالويل لها ولذويها!! ولقد غلقت مساجد كانت الفتيات المسلمات تتجمع فيها لتلقى الثقافة الدينية وأداء شعائر الصلوات الخمس.. وتوجد الآن معتقلات لمسلمات لا ذنب لهن إلا التدين وطاعة الله!! واستطرد الرجل - وهو يرى دهشتى - أنتم تعلمون أن عشرة من علماء المساجد قتلوا رميا بالرصاص لأنهم خطبوا ضد تشريعات الأسرة الجديدة التى سوت بين الرجل والمرأة فى الميراث، فهل تغيرت هذه القوانين الكافرة وعاد للشريعة الإسلامية احترامها بعد خروج الروس من الصومال؟ كلا إن الزحف الأحمر الذى قتل(3/118)
فى مقاومته من ص _107
قتل، وسجن من سجن، لا يزال يرين بوطأته الغليظة على صدورنا.. وبصماته فى ميدان التعليم والتشريع لا تزال باقية! إن لجنة العفو الدولية استنكرت الأسلوب الهمجى الشائن الذى قتل به علماء المساجد! والذى ووريت به جثثهم! وهناك مسلمون كثيرون لا يدرون ما يقع بين ظهرانينا!! وقلت للرجل وأنا خجلان: لقد استنكرنا هذه المجزرة فى حينها وشكونا إلى الله من اصطبغت يده بدمها، ولكننا ظننا أن رؤساء الصومال قد عادوا إلى الإسلام بعد ما ظهر لهم غدر الروس، وبعدما تكشف لهم أن الشيوعية حلم كاذب! وضحك الرجل الصومالى ضحكة صفراء يائسة وهو يقول: لقد غدرت الشيوعية بحكامنا، وكان لهم أمل فى أمريكا فلم تذكرهم فى وقت الشدة وكأن إذلال الشعب الصومالى أمر مرغوب! * * * كان لهذا الحوار الكئيب صدى نفسى بعيد المدى.. تذكرت كلاما للرئيس "زياد بري" يشرح فيه غير أحكام القرآن الكريم فى المواريث.. قال: إن الإسلام دين تقدم وأنه منح المرأة نصف الميراث لما كانت الجاهلية لا تعطيها شيئا، وكانت المرأة فى المجتمع متأخرة ماديا وأدبيا وكان هذا العطاء القرآنى تكريما للمرأة ثم قال: ولكن بعد تقدم العصور وتساوت الذكورة والأنوثة فى الخصائص المادية والأدبية أضحت التسوية بين الجنسين لازمة، وأضحى الحكم الإسلامى غير صالح لهذه المرحلة الجديدة.. وظاهر أن الرئيس الصومالى يردد الكلام الذى قيل له فى موسكو وهو لا يدرى قليلا ولا كثيرا عن النتائج المخزية لإلغاء الفروق الفطرية بين الرجل والمرأة، ولا النتائج الحيوانية لإلغاء نظام الأسر كله، وما شرعه الدين للبيت من تعاليم تتصل بالحضانة والتربية والنفقة والتوجيه الخاص والعام.. إن بقاء العقائد والعادات مرتبط بجو البيت وكيان الأسرة، ولذلك تخاصم الشيوعية بعنف الوضع الاجتماعى القائم على نظام الأسرة العتيد، وقد تبعثها الفلسفات المادية التى تسود أوربا وأمريكا تقريبا.. وكان من نتائج ذلك أن(3/119)
الأولاد اللقطاء أخذوا يبرزون إلى المجتمعات بنسبة فاحشة، دون قلق أو محاذرة، وأن طوفان الشهوة غمر كل شيء!.. والمستغرب أن بعض الرؤساء مفتون بهذه التيارات الوضيعة ويريد أن يحمل الجماهير عليها بالعصا وبإخماد أنفاس المعارضين، وقد ظننت أن الصومالى فى محنته سيعود إلى دينه ويئوب إلى رشده، ص _108
ولكنى كنت واهما.. وعرفت سر الهزائم التى أصابت جبهات التحرير فى أريتريا والصومال، وليس سرا أن جما غفيرا من القادة المسلمين قتل فى الميدان الآريتري، قتلهم الشيوعيون قبل أن يقتلهم الأحباش، إن هذه الجبهات هزمت نفسها قبل أن يهزمها الشيوعيون القادمون من كوبا ومن روسيا.. كانت هذه الجبهات تستطيع أن توحد خطتها، وأن تنسق ضرباتها العسكرية فى شتى الميادين، وقد ظلت أكثر من عام قديرة على ذلك، ولكن انشغالها بضرب الإسلام وأحكامه وتعاليمه أذهلها عن المسلك الوحيد المؤدى إلى النصر مصداق قوله تعالى : ( ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم ). * * * إن الرئيس "زياد بري" تنقل بين جميع العواصم العربية يطلب النجدة ويشكو العدوان، فهل سمع من أحد نصحا بضرورة تطهير البلاد من آثار الشيوعية فى التعليم والتشريع؟ * * * أكاد أشك فى هذا الأمر، بل لقد كنت أضحك وأنا أقرأ اسم الرئيس العربى يكتب "سياد" لأن وكالات الأنباء العالمية تقرأ الاسم مكتوبا بالحروف اللاتينية وهى الحروف الرسمية فى الصومال بعد أن حكم بالإعدام على الحروف العربية ثم يجيء الصحافيون العرب فيقلدون الخواجات فى نقل الاسم إلى سياد بدل زياد، ما هذا الهزل؟ كفر بالعروبة بعد الكفر بالإسلام!! أما تتحرك الجامعة العربية للدفاع عن عنوانها وسط هذه الجهالات الصفيفة، أم أنها تؤثر الصمت على أية حال..!! * * * لقد زرت دول الخليج ونزلت بكثير من فنادقها الكبرى ووجدت تواصيا غريبا باهمال اللغة العربية وازدراء النطق بها..!! لغة التخاطب الفريدة هى الإنجليزية، الهندى الذى استعمر(3/120)
الإنجليز وطنه وعقله لا يعرف غيرها، وهو لا يخاطب العرب الذين يعمل بفنادقهم إلا بها.. إذا ذهب عربى إلى لندن وجب عليه طوعا أو كرها أن يتحدث بالإنجليزية، أما العرب فى بلادهم، وفى جزيرتهم - وطن العروبة الأول - فعليهم أن ينتقلوا إلى اللغة الإنجليزية كى يقضوا فى الفنادق بضع ليال!! * * * ص _109
ومع ذلك فنحن - لإتقاننا فن التزوير - نسمى دول المنطقة دول الخليج العربي (!) مع أن العروبة هناك لها منزلة هون، أعنى اللغة والدين والتقاليد.. ومنزلة الفرنسية فى المغرب "العربي" كمنزلة الإنجليزية فى الخليج "العربي".. مسكينة لغة القرآن..! حتى إذاعة جمهورية مصر "العربية" تنطق بالعامية الهابطة أكثر مما تنطق بالعربية الفصحي.. ولا أدرى لماذا تعامل اللغة العربية وحدها بهذه الخطة المنكورة المحقورة؟.. ولماذا لا يتوارى الرؤساء الذين لا يحسنون النطق بالعربية بدل أن يثيروا اشمئزازنا بهذا البغام العامى الرديء؟؟ * * * كنت أرتقب من دول الجامعة أن تتخذ قرارا إجماعيا بتعليق قبول الصومال عضوا بها على احترام اللغة العربية. لكن الجرءة الشيوعية من جانب والجبن القومى من جانب آخر، جعل الأمور تنجرف إلى مجرى سوف تضيع فيه العروبة والإسلام معا إن لم يصح المخلصون إلى هذا المصير المفزع فيعودوا إلى العروبة حتما، وإلى احترام الإسلام الذى تدين به الكثرة الساحقة من العرب التائهين.. * * * الدعوة: هذه كلمة تحذير لحكام المسلمين جميعا. إنهم إن لم يتمسكوا بدينهم عقيدة وتطبيقا، وان لم يقاطعوا حكام المسلمين المتشيعين فسيكون مصيرهم نفس مصير زياد بري، يتنكر لدينة خضوعا للشيوعية، فيكون الشيوعيون أول من يضربه ويتنكر له ( وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون). ص _110(3/121)
الوحدة الثقافية.. بين المسلمين جهود كثيرة تبذل الآن لترضية المسلمين. بإسلام آخر غير الذى تلقوه عن نبيهم وعرفوه من كتابهم. إسلام منقوص الحقيقة والأطراف منقوص العرا والوشائج ينكر عليه المنكرون أن يتدخل فى شئون التشريع، أو يبت فى قضايا المجتمع أو يقدم الولاء له على الولاء للنصر وأغلب الأقطار الإسلامية تتمسك بنسب متفاوتة من الإسلام الحق المعروف فى كتاب الله وسنة رسوله، قد تقل هذه النسب كما وكيفا، وقد تزيد، ولكنا لم نرها إلى الآن مكتملة الصورة والحقيقة على نحو صحيح علميا فى أى بلد إسلامي. بل إن المسلمين الهنود لما أسسوا دولة لهم باسم "باكستان" قامت الدولة المنشودة على أساس هذا الإسلام "الشبح" فلم يعرف للإسلام وجود فى عالم القانون أو الاقتصاد، بل إنه فى عالم العقيدة والعبادة سمح للقاديانية أن تسهم فى قيادة الدولة الجديدة(!) فلا عجب إذا دها باكستان ما دهاها ولا عجب إذا أصابتها محن قصمت ظهرها.. ولا تزال الجهود المريبة تبذل فى أرجاء العالم الإسلامى لخلق أجيال تقبل هذا الإسلام المشوه وترتضى ما قام فى كنفه من تحليل الحرام وقطع ما أمر الله به أن يوصل، ودفع الأمور كلها بعيدا عن هدايات السماء. ولم يترك الاستعمار بلدا ما ويسحب عساكره منه إلا بعد أن وضع مقاليد هذا البلد فى أيد تعمل له وتضرب بسيفه تفكر بعقله، بل لعل الذين خلفوه وكانوا أشد منه ضراوة وجرأة فى الإجهاز على ما بقى من مراسم الإسلام، وهى حرب استئصال وحشية على الجماعات التى ظلت موالية له متمسكة به. وكانت النتيجة بعد تلك الغارة الحقود على رسالة محمد أن قبل البعض العيش فى ظل إسلام مفتعل، ما فيه من عبث الناس أضعاف ما فيه من وحى الله! وكاد جمهور كبير من أتباع محمد يألف استقرار الربا والزنا، وإهمال الصلاة والصيام، ومداهنة الملحدين والفسقة ثم مطاردة أهل اليقين والجلادة والوفاء لهذا الدين العظيم. وليس من الحق تحميل الاستعمار الأجنبى أو(3/122)
زار تخلفنا المادى والأدبي. ص _112
وتقرأ قوله تعالى ( وشاورهم في الأمر) فإذا مفسرون يتطوعون لخدمة الاستبداد السياسى يقولون دون وعي: شاور ثم امض على ما رأيت، فالشورى غير ملزمة! لحساب من هذا التفسير؟ وهب مفسرا قديما سقط فيه فلحساب من يروج له الرجال الجدد وهم يعلمون المعاطب الهائلة التى أصابت أمتنا من استبداد حكامها عبر تاريخ أغبر؟ ويجيء آخرون فيحشدون جملة من الآثار الصحيحة والواهية ثم بعد شرح قاصر معتل يخرجون بهذه القاعدة "الفقير الصابر أفضل من الغنى الشاكر" ولو أنهم قالوها عزاء لفرد مصاب: أو عصابة من الناس منكوبة لهان الأمر، ولكنهم أطلقوها كلمة عامة حمقاء، وحاكموا إليها أغنياء الصحابة فجعلوهم يدخلون الجنة زحفا أو بعد لأي! لماذا؟ لان الثراء طعن فى التقوى! فكيف يقوم كيان أمة على هذا العجز والتسول، وكيف يؤخر عن الجنة من جهز جيش العسرة وأعلى راية الإيمان وهد ركن الطغيان؛ ليقدم عليه بائس أقعده العدم. ويقول الله تعالى : (إنما المؤمنون إخوة) فماذا تفعل العرب لتذوب الفوارق بينهم وبين الترك والعجم والهنود والزنوج وغيرهم من الأجناس التى دخلت فى الإسلام. هل اجتهدوا فى تعليمهم اللغة العربية كما اجتهد الإنجليز فى نشر لغتهم من الأجناس التى خضعت لهم. إن السلف الأول بذل فى هذا المضمار جهدا مقدورا لكن الذى جاءوا من بعدهم لم يصنعوا شيئا يذكر. وجل الأمثلة التى ضربناها يقوم على فساد معنى التدين أو فتور عاطفته، ولكن ينضم إلى ذلك فى أحيان كثيرة خروج غريب على أمر الله ومعالم دينه. ففى عالم الأسرة يتم الزواج وفق مراسم الرياء وتقاليد الكبرياء الاجتماعية المقررة، وإلى أن تتيسر هذه المراسم لا حرج من اضطراب الغريزة وانسيابها بلا ضوابط من إيمان! لماذا يحاط الزواج بكل هاتيك الصعوبات، ولماذا الإغضاء عما يقع؟ وفى المنازعات العائلية لا تستطيع القول بأن نسبة طلاق السنة إلى طلاق البدعة تبلغ واحدا فى المائة،(3/123)
ولا نستطيع كذلك أن نقول إن واحدا فى الألف من المطلقين يمتعون نسوتهم السابقات ذلك فى العلاقات الاجتماعية. أما فى عالم السياسة فقد افتخر حاكم معاصر بأنه اعتقل ثمانية عشر ألف مسلم فى ليلة واحدة، وهذا جبروت لا تعرفه الدنيا الآن وفى البلاد التى تعبد البقر.. الحق إن المسلمين ابتعدوا عن دينهم مسافات شاسعة، وأن المكانية الهون التى انحدروا إليها نتيجة لازمة لما فعلوا بأنفسهم ورسالتهم. ص _113
عودة إلى الإسلام ولابد من عودة صادقة إلى الإسلام كله إذا أردنا أن نحيا ونرشد، عودة علمية وعملية نظرية وتطبيقية، لا نفرط فى ذرة من ديننا لا نتنازل عن شعبة من شعب الإيمان ولا عن كلمة من القرآن. إن الأديان القديمة اضمحلت وتلاشت بسبب هذا التفريط العارض ولكن بدا يسيرا ثم تفاحش مع الزمن حتى أتى على هذه الأديان من القواعد. ولن نسمح أبدا أن يرد ديننا هذا المصير، يترك هذا شيئا وذاك شيئا ويتعلل هذا بالتطور، وذاك بالمصلحة ولاتزال الأعذار تتوالى والتعاليم تتهاوى حتى يصير الإسلام أثرا بعد عين! لن نقبل أبدا أن يتعرض الإسلام لهذا المسلك الكفور في الأخذ والرد فأجزاء الدين كعناصر الدواء لا يرجى الشفاء ألا بها كلها ومن ثم فلا تنازل عن شيء منها.. إن تحريف الكلم عن مواضعه قد تصيب الأديان على امتداد الزمان.. ولهذا التحريف مظاهر ثلاثة: 1- التدخل فى الوحى الإلهى بالحذف والزيادة، اتباعا للهوى أو غلوا فى الدين. 2- التأويلات الفاسدة والتفاسير الباطلة لما ورد من نصوص. 3- تعطيل العمل بطائفة من الأوامر والنواهى وتوارث هذا العطل من جيل إلى جيل حتى تنشأ خلوف قاصرة تظن ما أعلى قد نسخ وباد. ومن حسن حظنا نحن المسلمين أن كتابنا محفوظ بعناية الله، فالأصل الذى نحتكم إليه قائم دائم. ومن حسن حظنا أن الإجماع منعقد على أركان الإسلام والأجهزة الرئيسية التى تتفرع عنها شعبه وقوانينه هنا وهناك. وإنه لسهل على المصلحين بعد ذلك أن يقاوموا(3/124)
المعطلين لحدود الله والمنحرفين عن صراطه المستقيم، وأن يتمسكوا بالدين كله علما وتطبيقا، دراسة وسلوكا، نهج حياة خاصة وعامة. وإلى هذا الشمول والترابط فى تعاليم الإسلام وجه الأستاذ الإمام حسن البنا إخوانه بقوله: الإسلام نظام شامل مظاهر الحياة جميعا، فهو دولة ووطن، أو حكومة وأمة وهو خلق وقوة، أو رحمة وعدالة، وهو ثقافة وقانون أو علم وقضاء وهو مادة وثروة أو كسب وغنى وهو جهل ودعوة أو جيش وفكرة كما هو عقيدة صادقة وعبادة صحيحة سواء بسواء. ص _114(3/125)
الابتداع مرفوض الابتداع فى الدين نزعة تسيطر على نفر من المتدينين وتزين لهم أن يخترعوا من عند أنفسهم أفعالا وأحوالا ثم يجعلوها ضميمة أو جزءا من الدين الإلهى ويطلبوا إلى الناس الأخذ بها، كما يأخذون ما جاء من عند الله سواء بسواء. وقد رفض الإسلام "الابتداع" رفضا قاطعا للأسباب الآتية: 1- إذا أقررنا هذه الضميمة الجديدة إلى الدين ورأينا الدين الأصيل محتاجا إليها حقا فمعنى ذلك أن الله أنزل الدين ناقصا، وهذا باطل، قال تعالى : (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا..). وقال رسول الله: "إياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة". 2- إقرار هذه الإضافات التى صنعها الناس يعنى إعطاء البشر حق التشريع فى العقائد والعبادات.. وهذا الحق انفرد به رب العاملين، ( أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله..) وفى القرآن الكريم حملات شداد على من يحلون ويحرمون وينسبون إلى الله ما لم يأذن به،( ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون * متاع قليل ولهم عذاب أليم). والزيادات المخترعة مرفوضة سواء ابتدعها أفراد.. أو مجامع إذ لا حق لأحد ابتداء أن ينشئ شريعة من عنده، فإن ما ينشئه هو الهوى والضلال. 3- انشغال العقل الدينى بالتحوير فى الدين أضر إضرارا بالغا بشئون الدنيا، إذ أن المتدينين بددوا طاقاتهم العقلية فى اختراع مالا قيمة له ولا خير فيه، والأصل فى شئون الدين الاتباع، وفى شئون الدنيا الابتداع، لحديث "أنتم أعلم بشئون دنياكم - ولكن هؤلاء الناس قلبوا الآية فطوروا تعاليم الدين وجمدوا شئون الدنيا وكان ذلك سببا فى تخلف الأمم وضياع رشدها. ص _115(3/126)
4- التعلق بالبدع المحدثة ثم على حساب السنن الأصيلة نفسها، والذين يخترعون أشياء ليعبدوا الله بها يتحسسون لها وتكون أقرب إلى هواهم من التعاليم الثابتة عن الله ورسوله والجهد الذى يبذل فى أداء هذه المبتدعات قلما تبقى معه طاقة للقيام بما أمر الله ورسوله، فما تنهض بدعة إلا على أنقاض سنة. الإسلام.. طبيعته العموم 5- طبيعة الدين العموم، فقد وضع كى ينتظم البشر كلهم، والأثر النفسى الخاص لتأليف ما لا ينهض حجة لتعميمه وأذكر أن أحد المتأدبين أرانى صلوات على رسول الله كتبها واستجادها ورأى نشرها بين الجماهير، فلما قرأتها رأيت فيها عاطفة حارة، فقلت: عاطفة مقدورة، ورأيت فيها جملا غامضة ومتكلفة فلم أقف عندها طويلا، وإنما قلت للمؤلف: استبق ذلك كله لنفسك ولا تشغل به الناس، قال: كيف؟ قلت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم علم الناس كيف يصلون عليه فى أحاديث صحيحة، ونفذ المسلمون ذلك بعد تحيتهم لله فى كل قعود أخير من الصلوات الخمس، فلا مكان بعد ذلك لما ألفت! قال: إنه يترك أثرا حسنا فى النفس، قلت: فى نفسك أنت، وليس من حقك أن تكلف الناس بما استحسنت، ووقتهم ملك الله أولا. وملكهم هم أخيرا وليس لك أن تستغله فى أمر من عند نفسك، إن الصلاة الواردة لا تستغرق إلا دقائق ينصرف الناس بعدها إلى معاشهم ومعادهم وإذا كان ما ألفته يعجبك فاقرأه وحدك ولكن لا تجعل قراءته فريضة ولا نافلة، فإن الفرائض والنوافل وضع إلهى ولا مجال لبشر هنا أن يلزم أو يستحب، فليس لأحد من خلق الله أن يقول لعباد الله: شرعت لكم كذا وكذا، ضموه إلى صلواتكم وزكواتكم ليكون إلى الله قربى وما الفارق بين شخص يضع حديثا وينسبه إلى رسول الله، وآخر يضع مسلكا أو تقليدا أو عملا ما ثم يزعم أنه دين مستقيم وطريق إلى الآخرة؟؟ كلاهما قد اقترف أقبح الكذب، إن المتدينين عندما ينتهى إيمانهم ويذهب رشدهم يرتكبون واحدا من ثلاثة.. إما أن يعطلوا النصوص ويميتوا أمر الله،(3/127)
وهذا عصيان جريء.. وإما أن ينقلب ترتيب التكاليف فى أذهانهم فيقدموا الصغير، ويؤخروا الكبير وتضطرب أوزان الأمور، فتراهم يتجاهلون العظائم ويتقعرون فى التوافه كهذا الذى سأل الحسن البصرى عن الصلاة فى قميص به دم البعوض! فقال له الحسن ممن أنت؟ قال: من العراق قال: تسألون عن دم البعوض وتستبيحون دم ابن بنت رسول الله وقد صور أبو الطيب المتنبى هذا الاعوجاج النفسى فى فهم الدين بقوله: أغاية الدين أن تحفوا شواربكم؟ يا أمة ضحكت من جهلها الأمم! ص _116(3/128)
وذلك فى قوم يحسبون قمة التدين إزالة شعر واستيفاء شعر والأمر الثالث: أن يستحسنوا ويستقبحوا من عند أنفسهم لا من عند الله ويختلقوا بدعا كثيرة فى شئون الدين وأصوله وفروعه، تعمل فى الدين عمل السرطان فى الجسم ما تزال تنمو حتى تجهز عليه.. والابتداع وإن كان مرفوضا جملة وتفصيلا إلا أنه متفاوت الخطر والضرر، إذ هو كالعصيان لا يقبل شيء منه أصلا ولكن منه صغائر وكبائر، وللصغائر حكمها وللكبائر حكمها.. ومن هنا فالحرب التى توجه ضد البدع الصغيرة دون الحرب التى تعلن على البدع الكبيرة والفزع من مرض كالزكام لا يبلغ الفزع من إحدى الحميات التى يغلى منها الدماغ، وقد رأيت بعض المعنيين بالسنة يسوى بين الأمرين. ويعامل المبتدع الصغير بنفس الشراسة التى يعامل بها المبتدع الكبير متعللا بالحديث "كل بدعة ضلالة وكل ضلالة فى النار" قلت له: أرأيت قوله تعالى: ( ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها..) إننى لا أستطيع تطبيق الآية على مقترفى الصغائر، وإن كانت لونا من العصيان، وإذا كانت البدع متفاوتة الشر فلنعرف أقسامها كما ذكرها العلماء حتى نحسن الخلاص منها بالتى هى أحسن. بدع.. وبدع من البدع ما هو حقيقى ومنها هو إضافى (الأول مثل الطواف ببعض الأضرحة على نحو ما يفعل الحجيج بالكعبة المشرفة) وظاهر أن جوهر هذه البدعة لا صلة له بالدين، أما البدع الإضافية فهى أشياء دينية الأصل أتى بها على هيئة لم يقل بها الدين، فقراءة آيات من سورة الكهف مثلا حسن يوم الجمعة لكن جعل هذه القراءة من شعائر صلاة الجمعة، وجمع الناس على سماع السورة أو بعضها قبل الصلاة لم يقع قط على عهد الرسول والسلف الأول، ومثل تأليف أوراد خاصة بتلاوتها فى أوقات معينة وبأعداد معينة.. بحجة أنها ذكر الله مثلا أو صلاة على رسوله.. ومن البدع ما هو فعلى وتركى والقاعدة الكاشفة لذلك أن ما تركه النبى صلى الله عليه وسلم مع وجود الداعى وانتفاء المانع(3/129)
فتركه سنة وفعله بدعة. كان الناس يموتون، ولم يتجاوز الأمر عند موتهم الدفن بعد صلاة الجنازة ثم قبول العزاء على نحو عابر لا افتعال فيه، وربما كلف جيران الميت بإعداد الطعام لأهله فإن ص _117
مصابهم شغلهم عن إعداده لأنفسهم، لكن مسلمى اليوم رأوا أن يجتمعوا عقب الوفاه فى أندية أو سرادقات يستمعون فيها إلى القرآن ويستقبلون فيها الوفود، وتوزع السجائر والأشربة، ويتكلف فيها أهل الميت ما يبهظهم والجماهير ترى أن قراءة القرآن فى حشد يضم المعزين لابد منه، ولكن العلماء مجمعون على أن الرسول وصحابته لم يفعلوا هذا مع وجود الداعى له وهو الموت وطلب الثواب وانتفاء المانع، فالأمن مستقر والتجمع سهل.. وما دام الأمر كذلك فالترك سنة والفعل بدعة. وكم من أشياء لم يفعلها السلف الأول حرص المسلمون اليوم على إقامتها وإدامتها وكأنها دين، بل قد تكون عندهم أهم وألزم من الدين الثابت الصحيح! والأستاذ حسن البنا رأى - فرارا من الاصطدام بحراس البدع الإضافية والتركية أن يدخل الموضوع فى دائرة الخلاف الفقهى والخلاف الفقهى يتحمل وجهات النظر المتباينة، ومن ثم لم ير حرجا من ترك مؤذن يضم الصلاة على رسول الله إلى ألفاظ الأذان! ولم ير حرجا من ترك الأسر الكبيرة والصغيرة تتكلف فوق طاقتها لأداء مراسم التعزية المخترعة.. والواقع ان صنيعته رضى الله عنه كان سياسة موقوتة لتجميع الأمة على أمهات الدين وقواعده المهدرة، فقبل المكروه اتقاء للحرام، من باب ارتكاب أخف الضررين.. والحق أن البدع صغراها وكبراها لا يمكن إقرارها، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "من أحدث فى أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد عليه، وإن كان العلاج يحتاج إلى بصيرة وأناة.. إن شر هذه المحدثات بعيد المدى فى المجتمع الإسلامي، وأذكر أن موظفا فى دائرة عملى كان يغلبه النوم أحيانا كثيرة، وعرفت أنه ينتمى إلى إحدى الطرق الصوفية، فطلبت منه أن يطلعنى على الورد المقرر، فلما(3/130)
استبنته وجدته يفرض ترديد عدد من أسماء الله الحسنى وبعض الكلمات والآيات بما يبلغ مليون كلمة كل ليلة، فعرفت سر نوم المسكين وأشفقت أن يفقد يوما ما عقله وهذا الصنف من الناس يوشك أن يختفى لغلبة الحياة العصرية بصبغتها المعروفة.. ولكن الذين يريدون الأوبة إلى الدين يجدون فى طريقهم هذه الأوراد، فينقلون من ضلال إلى خبال. قال الأستاذ حسن البنا فى رسالة التعاليم فى البندين 11 ، 12: كل بدعة فى الدين لا أصل لها استحسنها الناس بأهوائهم - بالزيادة فيه أو النقص منه - ضلالة تجب محاربتها والقضاء عليها بأفضل الوسائل التى لا تؤدى إلى ما هو شر منها. والبدعة التركية والإضافية والالتزام فى العبادات المطلقة خلاف فقهى لكل رأيه ولا بأس بتمحيص الحقيقة بالدليل والبرهان. ص _118
الحوار الأخير للداعية الإسلامي
الكبير الشيخ محمد الغزالي
كل درهم أو دينار يتقاضاه العامل الهندوسى فى بلاد المسلمين هو إسهام من المسلمين فى شراء الأسلحة التى تفتك بالمسلمين فى كشمير وتشجيع منهم لاستمرار الهند فى مذابحها فى كشمير..
محمد الغزالي
فى ظل تطورات قضية كشمير المسلمة، وفى ظل تصعيد الاحتلال الهندى لعمليات الإبادة الوحشية للشعب الكشميرى المسلم، وحول حادث ضرب المساجد فى كشمير بالصواريخ وقتل عشرات المصلين وحول واجب الأمة الإسلامية لإعادة مجد الأمة وتاريخها الزاهر، ولتعود أمة مهابة لها مكانتها العالمية.
وحول أسباب الضعف الذى نعيشه وانعكاساته على مستقبل القضية ودور العالم الإسلامى فى دعم هذه القضية المصيرية ماديا ومعنويا.
التقت المختار الإسلامية بفضيلة الداعية الإسلامى الكبير الشيخ محمد الغزالي، وكان معه هذا الحوار:
عايشت القضية منذ ميلادها
* ماذا تمثل قضية كشمير بالنسبة لكم فى ظل تعدد الجراح فى جسد الأمة الإسلامية وفى ظل التعتيم الذى تتعرض له هذه القضية رغم تطوراتها؟(3/131)
كشمير جزء غال من الوطن الإسلامى الكبير وطالما شغلنا همها وتناقلنا أخبارها منذ الأربعينيات، ولم تغب عن ذهنى لحظة واحدة حيث كنت أتناولها فى خطب الجمعة، وفى مؤتمراتى الجماهيرية باستمرار منذ نشأة القضية وبداية الاحتلال الهندوسى لهذه البقعة الإسلامية الطاهرة من وطننا الإسلامى الممتد.
وكشمير هى شقيقة فلسطين ولدا من رحم واحد وتلقيان تقريبا نفس المصير وتتعرضان لأشد أنواع القمع والوحشية على أيدى عبدة العجل وعباد البقر، وهم من
ص _119(3/132)
صدق فيهم قول الحق تبارك وتعالى : ( لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا..) وهما الصهاينة والهندوس معا. كما أن الشعبين الفلسطينى والكشميرى المسلمين من أكثر شعوب الأرض بسالة وصمودا لأكثر من نصف قرن فى جهادهم للمحتلين الغاشمين الذين التقيا مؤخرا، ولاشك أننا فى زمان، لليهود فيه باع فى إدارة المؤسسة الإعلامية العالمية ويمتلكون أغلبه مما جعلهم يرفعون قضايا ويلحون على الرأى العام العالمى بها رغم تفاهتها، كالرياضة والفن وقضايا غير المسلمين، بينما تعمد هذه الآلة الإعلامية الصهيونية على إخفاء أخبار المسلمين والشعوب المضطهدة منهم فى أنحاء الأرض المختلفة ولا يسمح بظهور قضاياهم إلا بقدر محدود وبحساب. ومما يحزننى أننى أجد كثيرا من العاملين فى حقل الدعوة من خطباء المساجد والمتصدرين للدعوة غالبا ما يجهلون أبعاد قضية كشمير وماهيتها إذا لم يجهلوا كشمير نفسها، ولذلك دائما أذكرها فى الخطب العامة والمؤتمرات الحاشدة. هم الإرهابيون * الدعاية الهندية تملأ ضجيجا تزعم فيه أن المجاهدين المسلمين من أهل كشمير مجموعة من الإرهابيين الخارجين على النظام فى البلاد.. فما رأيكم فى شيوع نغمة الإرهاب لحركات التحرر الإسلامية فى كشمير وفلسطين وغيرهما؟ إننى أرى العجب العجاب فى بقاع شتى من عالمنا الإسلامى الذى يمر بظروف صعبة للغاية فى أحواله مع أعدائه من صليبى وهندوسى وصهيونى ووثنى ولا يختلف هذا عن ذلك حيث المنطق واحد، فقد رضى القتيل ولا يرضى القاتل، ففى فلسطين يرضى القتيل وهو صاحب الأرض بأن يقتسم البيت المغتصب إلا أن السارق يأبى ويتهم صاحب البيت من المجاهدين لتحرير الوطن المقدس بالإرهاب، وها نحن نرى الدنيا تقوم ولا تقعد إذا مات صهيونى واحد فى معركة يدافع فيها أصحاب الأرض عن أنفسهم ولا يتحرك أحد إذا ما قتل الصهاينة العشرات من أهل الديار، وهكذا نفس الحال فى كشمير المسلمة التى يعمل فيها الهندوس(3/133)
الذبح والقتل وأعمال الإبادة، وما تجرأ عباد البقر على إخواننا إلا بعد أن شاهدوا أعمال الذبح فى شرق الأرض وغربها ولم يتحرك أحد، وقد غاب الوطن الإسلامى الأم الذى كان ينافح عن المسلمين فى كل مكان. ص _120
ثم إن الإرهاب الذى يعنيه هؤلاء فى نظامهم العالمى هو عدم الانصياع لقرارات الأمم المتحدة وها نحن نجد أن العدو الهندوسى قد ضرب بقرارات الأمم المتحدة عرض الحائط فيما يتعلق بقضية كشمير حيث وافقت الهند على تقسيم شبه قارة جنوب آسيا عام 1947م والخاص بضم ولاية جامو وكشمير ذات الأغلبية المسلمة إلى باكستان، ثم قامت باحتلالها بالقوة، كما خالفت الهند قرار الأمم المتحدة الصادر فى 5 يناير 1949م باجراء الاستفتاء لتقرير مصير الولاية، والذى لم يتم حتى اليوم ورفضت الهند الأنصياع له طيلة أربعين عاما بلا مبرر، ألا يعد ذلك الإرهاب بعينه؟! ثم إن الأعمال البربرية الوحشية التى حدثت فى أعقاب ضم الولاية عام 47، 48، 49 وتتكرر من حين لآخر حتى بلغ أشده فى الأونة الأخيرة فى ظل القانون الرئاسى وقرارات المحكمة الهندية التى أباحت القتل العشوائى لأهالى كشمير، مما يعد عين الإرهاب. وعليكم أيها المجاهدون أن تمضوا فى طريقكم حتى تحرروا بلادكم ولا تأبهوا لهذه الاتهامات، فهذه عادة أعداء الله يرهبون الضحايا ويتهمونهم بالإرهاب ومن ورائهم الصهاينة بإعلامهم. لكم فى الرسول قدوة حسنة * الممارسات الإجرامية الهندوسية وأساليب الإبادة الوحشية لأهالى كشمير رجالا ونساء وأطفالا تمثل وسيلة ضغط على المجاهدين بهدف وقف إعلانهم الجهاد المسلح لمواجهة المحتل الهمجي، فبماذا تنصحون المجاهدين على جبهات القتال فى مواجهة هذه الوحشية؟ إن رسولكم الكريم - صلى الله عليه وسلم - ظل يكافح طيلة ربع قرن كفاحا حرا، فتدركه ثورة الألم فيلجأ إلى الركن الشديد قائلا: (اللهم أشكو إليك ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهوانى على الناس)، والله ما كان تاركا لرسوله، ولكن(3/134)
الله أراد أن يضرب من نبيه المثل لكل من يكافح إذا شعر بضعف قوته وقلة حيلته وهوانه على الناس أن يلجأ إلى الركن الشديد، فطبيعة الحق أن يكون غريبا بين المبطلين، بل النور لا يعرف أنه نور إلا إذا شق الظلام ومر فى جو غريب عليه بعيد عنه وهذه هى طبيعة الجهاد فى سبيل الله فى الإسلام. وعلينا أن نعرف أن الله صدق وعده ونصر عبده وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده، ورسولكم الذى كان توضع على ظهره القاذورات فى الكعبة شاء الله أن يفتح مكة ص _121(3/135)
ويفرج عن أهلها، فالله ناصر عبيده طالما ساروا على منهجه والتزموا الصراط المستقيم، وهذا شرط وعد الله المؤمنين بالنصر قال تعالى : ( ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد). وعلى المجاهدين أن يدركوا أن القوى الكبرى من أعداء الإسلام لا تريد أن تقوم دعوة إسلامية فى الأرض من أثيوبيا الشيوعية الحاقدة وأمريكا معها فى قلب أفريقيا السوداء، والشيوعيون الروس فى قلب آسيا الوسطى والقوقاز، وكذلك فى فلسطين قلب الأمة تقف الصهيونية العالمية والكل لايريد للإسلام قائمة، وعليكم أن تتمسكوا بطريق الجهاد المقدس فهو السبيل الوحيد، فلن تنصفكم القوى الكبرى لا أمريكا ولا غيرها حيث لا يخفى الإرهاب الأمريكى على أحد حيث تتربص بالبلاد الإسلامية وتضعها على قائمة الإرهاب، طالما لا تدور فى فلك التبعية لأمريكا بينما الهندوس والصهاينة رغم الإبادة الوحشية للمسلمين فى كشمير والهند وفلسطين فلا إرهاب ولا مشكلة طالما الضحايا بلا ثمن ومن أرخص الدماء على وجه الأرض وهى الدماء المسلمة عكس غير المسلمين. * إحراق المساجد والمنازل، بل والقرى بأكملها داخل الهند، وفى كشمير أصبح نهجا هندوسيا رسميا فى كشمير من بداية التسعينيات دون ردود أفعال مناسبة من عالمنا الإسلامي، فهل يجوز السكوت عليها؟ إننى أشعر بالقهر كلما طالعت أخبار ما يدور على أرض كشمير وكلما فجعتنا الأخبار بهدم مساجد وأماكن العبادة، التى توضح زيف وبهتان ادعاء حكومة الهند العلمانية، والتى تكفل حرية التدين بجميع طوائفها وتعايش جميع الأديان، ويؤكد حرية الإلحاد فقط وعداء الهندوس كل ما هو إيمان بالله، كما تؤكد هوان المسلمين على كل أمم الأرض حتى عباد البقر وأرى قول الشاعر يجسد حال المسلمين فى كشمير وغيرها: قد استرد السبايا كل منهزم لم تبق فى رقها إلا سبايانا ما رأيت سياف الذل دامية إلا رأيت عليها لحد أسرانا ما نموت على حد الظبى آنفا حتى لقد خجلت منا منايانا.. ص _122(3/136)
وفى الوقت الذى تتزايد فيه أعداد الضحايا من القتلى والشهداء والمصابين المفقودين فى كشمير وما تطالعنا به كبار الصحف ووكالات الأنباء رغم التعتيم الإعلامى الذى تمارسه وسائل الإعلام الغربية يوضح حجم مأساة إخواننا فى كشمير وفظاعة أعدائهم ووحشيتهم حيث خلفت هذه الهمجية اكثر من نصف مليون عائلة منكوبة لا تجد من يعولها أو يهتم بشأنها أو حتى يمدها بما يقوتها من مواد الإغاثة أو الكساء المطلوب. وما أظن ذلك قد حدث إلا بسبب ضعف الإيمان فى قلوب المسلمين، كما أن غالبية الأمة قد فقد الإحساس بخشية الله وأصبحنا نخاف من أنفسنا أكثر مما نخاف من أعداء الإسلام، وأصبح بأسنا بيننا شديدا وتبدل حال الأمة إلى أسوأ حال، وأصبحنا نثق بأعدائنا أكثر مما نثق فى الله وأصبحت كل دولة تنظر فى إطارها المحلى الضيق ولا تضع اعتبارا للبعد الإسلامي، مما شجع الهند على هذه الممارسات الهمجية وهذا أمر بات من المستحيل السكوت عليه وتتصدى له اليوم فصائل الجهاد المسلح فى كشمير، وكذلك باكستان، وعلى الأمة أن تعيد حساباتها وتقف من وراء باكستان وإخوانهم فى كشمير حتى لا تدور عليه الدائرة، فالعالم الإسلامى اليوم أشبه بقفص الدجاج الذى يفتحه الجزار ويأخذ إحداها ليذبحها بينما ينتظر الباقون الذبح على يد الجزار نفسه، ولا يدرون ماذا ينتظرهم، وهكذا الأمة الإسلامية ينتقص الأعداء أطرافها ويباد أبناؤها فى مناطق مختلفة فى هدوء تام ودون أن يتحرك أحد لنجدتهم فى البوسنة وكشمير وفلسطين ولبنان وأريتريا والفلبين وبورما وبورندى وغيرها من بلاد الدنيا. وعلى الأمة الإسلامية شعوبا وحكاما أن ينتبهوا للخطر الداهم الذى لن يفرق بين حاكم ومحكوم فى ظل المستقبل المشئوم الذى ينتظر أمة الرعاع والهمج التى بعدت عن دينها، ولابد أن تعود إليه لتنال الكرامة وتحفظ وجودها من العدم. تعاون شيطاني * التعاون الثنائى الشيطانى بين إسرائيل والهند قد جنى شعب كشمير ثماره المرة(3/137)
فى الإبادة الجماعية والوحشية والهمجية. ما هى خطورة هذا التحالف على مستقبل القضية الكشميرية والأمة الإسلامية؟ ص _123
لا يخفى على أحد ما لليهود من دلال على شرطى العالم اليوم، وهو الولايات المتحدة الأمريكية، وهذا الدلال ينعكس فى سيطرة زعماء اليهود على القرار الأمريكى وعلى توجهات ما يسمى بالمجتمع الدولى لأن هذا زمن استعلاء بنى إسرائيل، وبالتالى ينعكس ذلك على تعاون الهندوس مع الصهاينة فى ضغط اليهود لصالح الهندوس مما دفع أمريكا اتخاذ تدابير من شأنها منع باكستان من مناصرة مواطنيها فى كشمير المحتلة ودعا ذلك سفير أمريكا فى باكستان بطلب وقف دعم كشمير للشعب الكشميرى المسلم الراضخ للاحتلال الهندوسى وإلا ستوضع بلاده باكستان على قائة الدول التى ترعى الإرهاب وبالفعل تم ذلك. كما إن التعاون الصهيونى الهندوسى حاول مرارا ضرب البرنامج النووى الباكستانى أكثر من مرة، ولكن الله خيب آمالهم كما أن الصهاينة موجودون اليوم فى كشمير للإشراف على سحق وإبادة الشعب المسلم وتدريب الهندوس على ذلك، كما لمس أهالى البوسنة من المسلمين وحشية الغرب وأساليبهم الهمجية الوحشية، وذلك لوجود أبناء صهيون وراء هذه الأساليب الوحشية، فاليهود وراء جميع جرائم الإبادة التى يتعرض لها المسلمون ليس فى كشمير وحدها، بل فى فلسطين ولبنان والبوسنة وأريتريا والفلبين وبورما وغيرها. * فى ظل الإبادة الوحشية للمسلمين فى كشمير على أيدى الجيش الهندي، ما هو حكم الإسلام فى استقدام بعض بلاد المسلمين للعمال من الهندوس رغم وفرة البديل من العمالة المسلمة؟ هذا الأمر لا يحتاج إلى إجهاد فكر أو تمحيص إن كل درهم أو دينار يتقاضاه هذا العامل الهندوسي، إنما هو إسهام منا نحن المسلمين فى شراء الأسلحة التى تفتك بإخواننا فى كشمير، ودعم لاقتصاد الهمجية الهندوسية، وفى نفس الوقت بعد ذلك تشجيعا منا لاستمرار الهندوس فى مذابحها، وأحرى بنا أن نتوقف عن استقدام(3/138)
العمالة الهندوسية فورا وأن نستقدم إخواننا المسلمين وأن نوجه الإنذارات والتهديدات للهند بإيقاف الممارسات الوحشية فى كشمير ونقوم بطرد جماعى للهندوس من بلادنا للضغط عليها. وحكم الشرع واضح فى هذا الوضع حتى لو لم تكن الهند معتدية على إخواننا فى كشمير، فما بالنا وهى معتدية وتعد عدوة للإسلام والمسلمين، فلا يجوز بحال من الأحوال استقدام عمالها ولو فى أحقر الأعمال فذلك حرام من الناحية الشرعية وغير مقبول من الناحية المنطقية. ص _124(3/139)
* ماذا يجب على الحكومات الإسلامية تجاه حكومة الهند لنصرة إخواننا فى الهند وكشمير فى الوقت الذى يبلغ حجم التبادل التجارى بين الهند وعالمنا العربى والإسلامى أكثر من 60%؟ من الواجب على حكومات وأنظمة العالم الإسلامى أن تتخلى عن تبعيتها للغرب الصليبى الحاقد أو الشرق الشيوعى والهندوسى الملحد وأن نمتثل قوله تعالى : (ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا)، فأغلب العالم اليوم الغربى والشرقى عبيد للحياة وللشهوات التى تشعلها الحضارة المادية الجارفة، ثم إن علينا أن نعود إلى الله ونتمسك بديننا وأن نعمل بجد واجتهاد، حيث يستحيل أن نجعل كلمة الله هى العليا إذا كانت أيدينا سفلى ولا نملك طعامنا ونستجدى سلاحنا ودواءنا وكساءنا من أعدائنا. فالأمة الإسلامية كلها آثمة إذا لم تنتج طعامها وسلاحها وتستقل عن عدوها لتخرج من ذلة التبعية والضعف الذى تعيشه أمتنا ويصلى سعيره إخواننا فى كشمير ومن قبله فى البوسنة وفلسطين وغيرهم. ثم إنه من الممكن أن تتخذ حكوماتنا قرارا شجاعا باستخدام سلاح المقاطعة الاقتصادية والدبلوماسية للهند والتى يمكن أن تزلزل كيانها الاقتصادى وتكبده خسائر اقتصادية وتجارية ضخمة تجعله يراجع نفسه ألف مرة ومرة قبل انتهاك حرمة المسلمين فى كشمير وفى الهند نفسها. كما أن المنظمات الشعبية فى بلادنا الإسلامية عليها دور كبير فى الضغط على المؤسسات الرسمية لدفعها نحو المقاطعة وتنظيم الحملات الشعبية لجمع التبرعات وتقديم المساعدات للشعب المنكوب فى كشمير وإيقاظ الوعى الجماهيرى بهذه القضية المغيبة عن الضمير الإسلامي، بسبب التعتيم الإعلامى من ناحية وبسبب بعد المسافة من ناحية أخرى. * ما رؤيتكم لتصعيد عمليات القتل للمسلمين فى كشمير فى شهر رمضان وما تعليقكم على حادث ضرب المسجد بالصواريخ مؤخرا؟ هذا الحادث يؤكد حقيقة واحدة، هى أن الكفر كله ملة واحدة ويسعى للقضاء على الإيمان في أى مكان ونحن(3/140)
نردد قول ربنا: ( يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون). ص _125
ولكن القضية هى سنة الله فى الأرض والتدافع بين الناس وأن التاريخ قد ذكر أنه من القرن الحادى عشر كان أعداء الإسلام يرون أن نهاية الإسلام قد حانت مع غزوات التتار والمغول والصليبيين ولكن سرعان ما أكد نفس المستشرقين أن قوة الإسلام لن يقف فى وجهها أى جيش فى نهاية القرن، لأن الإسلام دين متجدد يمر بفترات ضعف ما تلبث أن تعقبها فترات قوة تعيد بناء ما هدمه الأعداء وتجدد هذا الدين. وأريد أن أؤكد أنه منذ قتل خمسون مسلما بالسلاح الأبيض فى سيرلانكا، ولم يتحرك أحد بعد نشر الخبر، ومن بعدها توالت النكبات وتكررت المذابح وأنه لو كان هؤلاء القتلى من اليهود لقامت الدنيا ولم تقعد وتعقبت المؤسسات العالمية وغير العالمية هؤلاء القتلة واقتصوا منهم. وإننى أعتقد أن سر هزائمنا لا تأتى من قوة العدو بقدر ما تأتى من فوضى وضعف وتشتت أمتنا الإسلامية، إن المستقبل مليء بالمفاجآت وأعداؤنا يستكثرون علينا حق الحياة، ولابد من توحيد صفوفنا فى عالم التكتلات حتى تتوقف جراحنا التى تنزف طوال القرن الماضى ولازالت حتى اليوم، وما مذبحة كشمير منها ببعيد ولا أنها الأخيرة، ولازال القدر يخبئ لنا مصائر سوداء نسأل الله أن يعفى إخواننا من غدر الملحدين فى كشمير، رحم الله إمامنا مولانا الشيخ محمد الغزالى برحمته التى وسعت كل شيء وأسكنه الفردوس الأعلى مع الشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.. ص _126(3/141)
الصنم البائد!!.. لم أشعر فى السنين الأخيرة أن التعصب ضد الإسلام قد تراجعت موجته أو انكسرت حدته، بل على العكس تعددت الوسائل وتوقحت وزادت ضراوة الأعداء.. ومع أن عقيدة الإيمان بالله واليوم الآخر هى الهدف المنشود إلا أن الهجوم يتجه إلى ما يسمى بالإسلام السياسي، أو إقامة الدولة الإسلامية التى تعيد الحكم بما أنزل الله!! ويتساءل أعداء الإسلام: هل يمكن لدولة عصرية اعتماد الإسلام نظام حكم؟ ونقول: لم لا؟ ولماذا اعتمدت اليهودية نظام حكم فى إسرائيل؟ ولماذا قامت للفاتيكان دولة؟ ولماذا أظلت الوثنية نظام الحكم فى الهند وحمت هدمه للمساجد؟ هل ديننا وحده هو الذى يجب حرمانه من السلطة؟ وتعطيل الأحكام التى جاء بها ومتى يقع هذا؟ فى ظروف تسمح لإسرائيل بالتسلح الذرى وتكديس قنابل تمكن اليهود من إفناء المسلمين كافة؟ إن خطة بناء إسرائيل وضعت على أساس أن تقدر وحدها على هزيمة عشرين دولة عربية!! وهل يعرف العالم الموازنة السنوية للفتيكان؟ إن خزائنه مفعمة بالمليارات التى تنفق على خدمة الكنيسة وتوسيع رقعة التبشير فى القارات الخمس، ولديه من الناحية الاقتصادية إمكانات إحدى الدول الأولى فى العالم، فهل الإسلام وحده هو الذى يحرم من إقامة دولة تحميه وتخدم أهدافه؟ لقد ظل مسجد "بابري" بضعة قرون فى الهند حتى تذكرت الوثنية بغتة أن أم إحدى الآلهة مدفونة فى ترابه! فهدمته إحياء للصنم البائد! ولم يستطع 150 مليون مسلم هناك أن يصنعوا شيئا للدفع عن شعائرهم، فهل التعليق على هذا أن يتنادى العلمانيون العرب بحرمان الإسلام من السلطة، ومهاجمة الإسلام السياسي! عجبا وهل تحترمون الإسلام فى ميدان العبادات أو المعاملات؟ سمعت أحدهم يقول: باريس بلد النور.. القبلات والأحضان فى الحارات والميادين، فى الترام وفى السيارات، رائحة الحب فى الجو كله، كنت أريد أن أقول له: أتحب أن تكون أختك أو زوجتك فى أحضان آخر؟ ولكن سكت لأنى توقعت أن يقول: لا(3/142)
مانع من تبادل المتعة! إن الحرب على الحكم الإسلامى يعلنه أفاكون وقوادون لا يؤمنون بلقاء الله ولا يحترمون له هداية. ص _127
ومن منا يستطيع الإفلات من عقاب الله..؟ لو سأل أحد: من ربنا الذى كلفنا بعبادته وسنعود للقائه بعد انتهاء آجالنا في هذه الدنيا؟ لكان الجواب: ما جاء فى سورة يونس ( إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه ذلكم الله ربكم فاعبدوه أفلا تذكرون)؟ إن هذا جواب مجمل يحتاج إلى تفصيل تولته آيات أخرى فى السورة نفسها. إن هناك ألوفا مؤلفة من الأفواه القاضمة والبطون الهاضمة. ترى من هيأ لها أرزاقها ومن حول هذه الأرزاق إلى لحم وشحم وعيون وآذان؟ من جعل العيون تبصر والآذان تسمع، إن هذه الحواس النفسية أجهزة محكمة معقدة في كيان واحد فكيف صاغتها القدرة في ملايين من الكائنات؟ ( قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون ). إن الفلاح يضع حبة واحدة فى الطين فتخرج له ألف حبة!! من حول الحمأ الكريه الطعم والرائحة إلى قمح أو أرز أو ذرة نستحلى طعمها ورائحتها؟ من حول المخلفات العضوية إلى قصب سكر وإلى أزهار وورود ترف عليها ألوان الطيف، وتفوح منها أنواع العطور؟ ( فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون )؟ والغريب أن بعض الناس بدل أن يسير فى الأرض فيبحث كيف بدأ الخلق انتكس على رأسه ورأى أن يبحث فى ذات الخالق يحاول أن يعرف كنهها. إنه يفر من وظيفته الطبيعية، ويستر بطالته القبيحة بعمل باطل! وقد كان هذا الانتكاس من أسباب غروب الحضارة الإسلامية وانهزامها العالمى ونحن مع التفويض فى فهم آيات الصفات! فإننا نوقن أن الله استوى على عرشه استواء يليق به، وشرع يدبر بحكمته شئون العالم الذى خلقه من غير شريك ولا معين.. ويستحيل(3/143)
أن يستعين الخالق بالمخلوق، ص _128
والقادر بالعاجز، وعلى الناس كلهم أن يعرفوا هذه الحقيقة فلا يتجهوا فى دعائهم إلى أحد سواه، وقد عاب القرآن الكريم على الجهال الذين يفعلون ذلك ( ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السموات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون). والواقع أن البشر - وفى مقدمتهم الرسل والملائكة - وفى مقدمتهم جبريل عبيد لله عانون لحكمه خاضعون لسلطانه ( لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون * يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون ) ومع صحة العقيدة تصح العلاقة الإنسانية بالله جل شأنه، ويكسب المرء الموجود الدائم فى الحياة الباقية، وتتحول الدنيا إلى ذكريات حسنة، إن عشرات السنين فى عمر الفرد، أو عشرات القرون فى تاريخ الدول تتحول إلى أحوال عارضة أو ساعات قلائل ( ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم..).. لكن ساعة التعارف هذه بعيدة المدى فيما تعقب من أحزان أو أفراح ولذلك يقول ابن القيم: فحى على جنات عدن فإنها منازلك الأولى وفيها المخيم! ولما كان عقاب الخطأ قد يطول انتظاره. فإن بعض الناس يحسب هذا الطول إهمالا لا إمهالا! كان اليهود قديما يحيون المسلمين فيقولون لهم: السام عليكم أى الهلاك، ويحسبون أنهم بذلك بلغوا أملهم (.. وإذا جاءوك حيوك بما لم يحيك به الله ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير) إنهم يستعجلون العقوبة وكلما تأخرت ازدادوا ريبة! ومن قبلهم كان المشركون يكفرون بالله الواحد. ويحادون رسوله، ولثقتهم فى أنهم صادقون كانوا يتعجلون العقاب على ما يفعلون استهزاء وكفرانا ( ويستعجلونك بالعذاب ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب وليأتينهم بغتة وهم لا يشعرون * يستعجلونك بالعذاب وإن جهنم لمحيطة بالكافرين) هذا الاستعجال(3/144)
الذى شرحناه هنا هو ما عنته سورة ص _129
يونس فى قوله تعالى : ( ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم فنذر الذين لا يرجون لقاءنا في طغيانهم يعمهون ) وهذا الإنذار يتلاقى مع قوله تبارك اسمه ( وربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا ) لكنه فى هذه السورة يسائل المجرمين: لم الاستعجال؟ وما جدواه عليكم؟ أليس الأولى أن تتوبوا قبل أن تعاقبوا. وأن تستغلوا الإرجاء لما فيه خيركم؟ ( قل أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتا أو نهارا ماذا يستعجل منه المجرمون * أثم إذا ما وقع آمنتم به آلآن وقد كنتم به تستعجلون) هل يستطيع أحد الإفلات من عقاب الله يوم يجيء فى موعده المقدور؟ كيف والأشياء كلها ملك لله؟ ( ألا إن لله ما في السموات والأرض ألا إن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون) هذا فيما لا يعقل أما فيمن يعقل فقد قال جل شأنه ( ألا إن لله من في السموات ومن في الأرض وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون) فإذا كان الكون كله من أشخاص وأشياء مسترقا لله، وكان ملكا محضا لله سبحانه، فأين يفر امرؤ بجريرته؟ ومن يجيره؟ (ويستنبئونك أحق هو قل إي وربي إنه لحق وما أنتم بمعجزين)!!. ص _130(3/145)
العمل لا العدد..! قرأت بحثا لعالم فى الجغرافيا البشرية تحدث فيه عن سكان الأرض منذ تمهدت لآدم وبنيه حتى اليوم، ثم أتبع كلامه ببحث آخر عن سكان الأرض فى عالمنا المعاصر وعن أعدادهم وأديانهم، وختم البحث بنبوءة علمية عن الصبغة الدينية التى ستغلب على العالم فى العصر القادم. يرى الباحث أن الأرض سكنها من بدء الخليقة إلى الآن ثمانون مليارا من البشر، ولست أعرف المقدمات التى انتهت به إلى هذه النتيجة! ولم أستكثر العدد ولم أستقله، كل ما أحسسته أن هذه المليارات الثمانين موجودة لم يلحقها فناء، وأننا سنلحق بها حتما لنزيد عددها على نحو ما قال الشاعر العربي: لكل أناس مقبر بفنائهم فهم ينقصون، والقبور تزيد ويستيقظ السابقون واللاحقون يوما ليواجهوا مستقبلا متفاوت الألوان والدرجات كما جاء فى الكتاب الكريم: ( ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد). إن القشرة رقيقة جدا بين الموت والحياة، وفى كل طرفة عين يستخفى من بيننا أقرباء وغرباء كانوا ملء السمع والبصر، والمدهش أننا نكترث لذلك قليلا ثم يخطفنا تيار الحياة بعيدا فننسى كل شيء!! * * * لأترك هذا التفكير، ولأعد إلى ما يقوله الباحث فى الجغرافيا البشرية عن الأحياء من سكان الأرض إنهم خمسة مليارات الآن موزعة على الإسلام والنصرانية والوثنية والشيوعية واليهودية. ويرى الباحث أن المسيحيين يزيدون على المليار، وأن المسلمين يقاربونه، ومع أنى أعلم أن عبثا كبيرا يقع فى إحصاء المسلمين إلا أنى لم أهتم به، وإنما اهتممت بالنبوءة ص _131(3/146)
التى سجلها الباحث الجغرافى - ولعله كتب مقاله من أجلها - فقد قال: إن هناك حرصا على تقليل النسل فى أوروبا وأمريكا، وأن تعداد السكان فى أغلب الدول الغربية ثابت، وقد ينقص قليلا أو يزيد، أما فى العالم الإسلامى فالتعداد فى صعود. ولا أدرى أنسى الكاتب أم أنه تناسى بقايا العفة والطهر فى العلاقات الجنسية بين المسلمين، وطوفان العهر والتسيب بين جماهير من الأمريكيين والأوروبيين! إن النساء لا يزيدون مع انتشار "الإيدز" وغيره من العلل النتنة! وقد استخدم غزو الفضاء لبحث جرثومة الإيدز ومحاولة استكشاف علاج يقضى عليها، أى أنها التقدم العلمى يستغل فى تغطية آثار الجريمة الشاذة. أما كان أقرب من ذلك كله تحكيم وحى الله وتحريم المنكر من العمل والقول؟ ومع ذلك أقول لإخوانى المسلمين بأن زيادة عددهم إلى مليارين لا يفرحني! فالمهم كثرة العمل لا كثرة العدد. ص _132(3/147)
عظمة الخالق..! فكرت ساعة فى الأرض التى تضمنا ثم صحت: كم هى ثقيلة! لعلها تزن قناطير تستنفد ما نعرف من أعداد! أذلك لأن ألوفا مؤلفة من الناس والدواب والأنعام تعيش فوقها؟ كلا! إن وزن هؤلاء خفيف بالنسبة إلى سلاسل الجبال فى المشارق والمغارب، ومقادير المياه فى شتى البحور والمحيطات، وما تجمع التربة من خصب وجدب، وصحارى وأودية. قلت: من يحمل هذه الأرض الثقيلة؟ وكان الجواب: تحملها كف الخالق المتعال.. قلت: الحمل ثقيل جدا، وكان الجواب: إنها على كف القدرة أخف من فقاعة ملأى بالهواء فوق أيدينا.. ولله المثل الأعلي". وسبح فكرى قليلا مع هذه الأرض التى تديرها كف القدرة حول نفسها، وحول الشمس، فى سرعات رتيبة مضبوطة لا عجلة ولا كسل. ووثب الفكر إلى أعلى يقرر أن الأرض وحدها ليست المحمولة فى الهواء - أو بتعبير أدق - فى الفضاء، إن هناك نجوما فوق الحصر، شمس الدنيا هذه واحدة منها، فكم تحمل كف الرحمن من أجرام ثقال شداد؟ وكان الجواب: ( وسع كرسيه السموات والأرض ولا يئوده حفظهما وهو العلي العظيم). وتساءلت: ما هذه القدرة الخارقة التى تحمل أرضنا وشمسنا وأرضين وشموسا أخري، يتحدث علماء الفلك عن أبعادها فيذكرون أرقاما تسابق الخيال، وتنحسر دونها الأوهام؟ وكان الجواب: ولم القدرة وحدها التى لفتت الانتباه؟ إن القدرة صفة من بين صفات علي، عرفت لذى الجلال والإكرام، فقد تعد جملة على الأصابع، وقد تذكر تفصيلا فى أسماء الله الحسني. لكن لماذا جاوزت نفسك وتحدثت عن الكون الكبير؟ إن غلبة الصور المادية عليك ذهبت بك هذا المذهب السحيق، ومع أنك على حق، ففى نفسك التى بين جنبيك ما يستدعى تأملا أعمق. ص _133(3/148)
إنك وغيرك من الناس تنامون وتصحون كل يوم، وما يدرى أحد عن هذا السبات الذى أغلق الأجفان وجمد العقول شيئا؟ أكثر من خمسة مليارات من البشر، وأضعاف ذلك من الأحياء تنام ثم يعود إليها الوعى والنشاط..!! أين تذهب الأنفس عند الرقاد؟ ومن يردها إلى أجسادها نفسها دون خطأ في طريق العودة؟ وماذا عن الرؤى الراشدة وعن أضغاث الأحلام؟ وتلوت الآية الكريمة: ( وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه ليقضى أجل مسمى ثم إليه مرجعكم ثم ينبئكم بما كنتم تعملون). لماذا يبرد إحساسنا بهذه الحقائق، فلا نشغل فى دنيانا إلا بالصغائر؟ أظن الإلحاد أخس وأحقر رذيلة عرفها القدامى والمحدثون!! ص _134(3/149)
فى مسألة التعدد: إنه خير للمرأة والرجل معا..! أثار بعض الكاتبين غبارا حول مبدأ تعدد الزوجات، وحاولوا تقييد ما أباحه الإسلام من ذلك أو منعه محتجين - تارة - بأن الإسلام لم تثبت فيه هذه الإباحة بصورة حاسمة، وتارة أخرى بأن تطور الحياة وصالح الجماعة يقتضيان أن يكتفى الرجل بامرأة واحدة لا يعدوها وحسبه أن يوفق فى رعايتها وكفالة أولاده منها. ولاشك أن هذه الأفكار تولدت فى بيئاتنا نتيجة عوامل شتى تحتاج إلى حسن النظر وقوة الرد، ومنذ سنين حاول خصوم التعدد أن يستصدروا قانونا بذلك، ثم توقفت محاولاتهم أمام غضب العلماء وهياج الجماعات المشتغلة بالشئون الإسلامية. وقد كتبت آنئذ كلمة فى طبيعة التعدد أرى إثباتها هنا بين يدى الموضوع الذى نتحدث فيه لما لها من صلة ظاهرة به. للحياة قوانين عمرانية واقتصادية ثابتة تفرض نفسها على الناس حتما عرفوها فاستعدوا لمواجهتها، أم جهلوها فظهرت بينهم آثارها.. وصلة الرجل الفرد بعدد من النساء من الأمور التى تبت فيها الأحوال الاجتماعية ويعتبر تجاهلها مقاومة عابثة للأمر الواقع، ذلك أن النسبة بين عدد الرجال والنساء إما أن تكون متساوية، وإما أن تكون راجحة فى إحدى الناحيتين، فإذا كانت متساوية أو كان عدد النساء أقل فإن تعدد الزوجات لابد أن يختفى من تلقاء نفسه، ويكتفى كل امرئ - طوعا أو كرها - بما عنده. أما إذا كان عدد النساء أربى من عدد الرجال فنحن بين واحد من ثلاثة.. إما أن نقضى على بعضهن بالحرمان حتى الموت، وإما أن نبيح اتخاذ الخليلات ونقر جريمة الزني.. وإما أن نسمح بتعدد الزوجات. ونظن أن المرأة - قبل الرجل - تأبى حياة الحرمان، وتأبى فراش الجريمة والعصيان فلم يبق أمامها إلا أن تشارك غيرها فى رجل يحتضنها وينسب إليه أولادها، ولا مناص بعد إذن من الاعتراف بمبدأ التعدد الذى صرح به الإسلام.. ثم إن هناك اختلافا كبيرا بين أنصبة الرجال من الحساسية الجنسية، فهناك رجال أتوا حظا(3/150)
من كمال ص _135
الصحة ويقظة الغريزة ونعومة العيش لم يؤته غيرهم، والمساواة بين رجل بارد المشاعر من نشأته وآخر قريب الاستثارة واسع الطاقة أمر بعيد عن العدالة. ألسنا نبيح لذوى الشهية المتطلعة مقادير من الطعام لا نبيحها للمعوزين والضعفاء.. فهذه بتلك، ثم كلمة أخري: قد تكون الزوجة على حال من الضعف أو المرض أو العقم أو تأخر السن فلماذا تترك لهذه الأعذار.. إن حق العشرة القديمة أن تبقى فى كنف الرجل وأن تأتى إلى جانبها امرأة أخرى تؤدى وظيفة الزوجة أداء كاملا. ومن المبررات الكثيرة للتعدد أن الإسلام الذى أباحه رفض رفضا باتا أن يجعله امتدادا لشهوات بعض الرجال وميلهم إلى المزيد من التمتع والتسلط فالغرم على قدر الغنم، والمتع الميسرة تتبعها حقوق ثقيلة.. ومن ثم فلابد - عند التعدد - من تيقن العدالة التى تحرسه، أما إذا ظلم الرجل نفسه أو أولاده أو زوجاته فلا تعدد هناك، الذى يعدد يجب أن يكون قادرا على النفقة اللازمة. وإذا كان الشارع يعتبر العجز عن النفقة عذرا عن الاقتران بواحدة فهو من باب أولى مانع من الزواج بما فوقها.. إن الشارع يوصى الشباب الأعزب بالصيام ما دام لا يستطيع الزواج ويأمر العاجز عن الواحدة بالاستعفاف فكيف الحال بمن عنده واحدة؟ إنه بالصبر أحق والاستعفاف أولى وكثرة الأولاد تتبع عادة كثرة الزوجات والإسلام يوجب رعاية العدل مع الأولاد فى التربية والتكريم ووسائل المعيشة مهما اختلفت أمهاتهم، فعلى المكثر أن يحذر عقبى الميل مع الهوى، وكذلك يوجب الإسلام العدل مع الزوجات، وإن كان الميل القلبى أعصى من أن يتم فيه إنسان، فإن هناك من الأعمال والأحوال ما يستطيع كل زوج فيه أن يرعى الحدود المشروعة وأن يزن تصرفه بالقسط، وأن يخشى الله الذى استرعاه من أهل ومال. ص _136(3/151)
الإسلام ومراعاة مشاعر المرأة! مع ثبوت الخلع فى الكتاب والسنة فقد رأيت جملة من المشتغلين بالفقه يتجاهلونه ويرفضون إنهاء عقد الزوجية به سواء بالفسخ أو بإيقاع الطلاق وبعضهم يدخله فى الطلاق للضرر! ويأبى أن يكون لمشاعر البغضاء عند المرأة وزن. وقد عاصرت عهدا كان القضاء الشرعى يأمر بإرسال الشرطة إلى أسرة الزوجة لإرغامها على الذهاب إلى بيت الطاعة كى تعاشر زوجها. وكانت الأسرة تقوم بتهريب الزوجة إلى مكان بعيد فرارا من تنفيذ حكم القضاء! وكنت أسال نفسى هل هذا هو تفسيرنا لقول الله سبحانه ( فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا..)؟. إن من أبغض الأمور عندى تعريض الإسلام كله للرد والجحد بسبب اجتهاد خاطئ أو تعصب مذهبى ضيق! وإذا كنا فى عصر تلتمس العيوب فيه لديننا الحنيف. ويقال عنه: إنه قضى على شخصية المرأة. واجتاح حقوقها المادية والأدبية، فلماذا بالله نستبعد حكم الخلع من شريعتنا- وهو حق- ونزعم أن المرأة يقبض عليها لتساق إلى بيت هى له مبغضة؟ وقد يرجئ القضاء العادل الرحيم إجابة المرأة إلى ما تبغى من خلع إيثارا لمصلحة الأسرة والأولاد. وقد ينتظر نتيجة تحكيم يتدخل الأهلون فيه ابتغاء الإصلاح! لكن المرأة إذا أبت إلا الفراق وردت ما سيق إليها من مال، فما بد من تسريحها والاعتراف بمشاعرها، وليس لنا أن نسأل عن الأسباب الخفية لهذه الرغبة لنقبلها أو ترفضها. إن النبى - صلى الله عليه وسلم - عندما رق لزوج بريرة. وقدر محبته لها ذهب إليها يحدثها فى أن تعود إليه فسألته جئت آمرا أم شافعا؟ قال: جئت شافعا، قالت: فلا أعود ولم يتهمها النبى عليه الصلاة والسلام فى دينها ولا فى طاعتها لله ورسوله. وامرأة ثابت بن قيس لم تتهم زوجها بأنه يشتمها أو يضربها أو يضيق عليها وإنما شكت بأنها تكرهه كراهية شديدة وصرحت بأنها ما تعتب عليه فى خلق ولا دين. إنها تكرهه وحسب فما معنى الزوجية والحالة هذه؟. وما دخل رجال(3/152)
الشرطة هنا وكيف يحكم الإسلام باستبقاء الزوجة فى بيت تعده سجنا وتعد صاحبه شخصا بغيضا. ص _137
وإذا قدمت ما أخذت من مال فداء لنفسها فلم لا يؤخذ منها وتسترد حريتها؟ وهل تقام حدود الله فى بيت يسوده هذا الجو الخانق؟ وأى شرف للرجل في هذه السيطرة؟ إن الذين يتجاهلون الخلع لا يفقهون قوله تعالى : ( فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون) والواقع أن ازدراء عواطف المرأة، واستخدام القسوة لترضيتها بما لا ترضى ليسا من الإسلام، ولا من الفقه..! إن الإسلام دين العدالة والمرحمة. ومن تصور أنه يأمر باسترقاق الزوجة والإطاحة بكرامتها فهو يكذب على الله ورسوله. ولا يجوز للرجل أن يحرج امرأته ليكرهها على طلب الخلع، أى يسيء عشرتها لتطلب الفكاك من أسره بأى ثمن، قال الشيخ سيد سابق فى كتابه الجليل "فقه السنة": يحرم على الرجل أن يؤذى زوجته بمنع بعض حقوقها حتى تضجر وتختلع نفسها، فإن فعل ذلك فالخلع باطل والبدل مردود. وإنما حرم ذلك حتى لا يجتمع على المرأة فراق الزوج والغرامة المالية، قال الله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة ) والعضل هو التضييق والمنع. ويرى الإمام مالك أن الخلع ينفذ على أنه طلاق ويجب على الزوج أن يرد البدل الذى أخذه من زوجته. على أن الإسلام الذى صان كرامة المرأة وأعلى مكانتها يرفض رفضا شديدا أن تستغل المرأة ذلك للعبث والنشوز فأن البيت المسلم لا ينهض برسالته التربوية والاجتماعية إلا بالتعاون والتراحم وتبادل الحقوق والواجبات. وإذا كان الرجل يكدح سحابة يومه ليقوم بأسرته فإن على أهله توفير السكن النفسى الذى يريح الأعصاب ويمسح المتاعب. أما أن تطلب الزوجة الخلع لغير علة إلا البطر والأثرة فهذه جريمة وفى الحديث "أيما امرأة(3/153)
اختلعت من زوجها من غير بأس لم ترح رائحة الجنة". وفى رواية لأبى هريرة "إن المختلعات هن المنافقات". فلنعرف طبيعة شريعتنا وليكن وعينا بأحكامها صونا لحياتنا الخاصة والعامة. ص _138
بعد مسيرة نصف قرن فى الدعوة.. الشيخ محمد الغزالى يقول: هذه كلماتى للدعاة الجدد حتى تؤتي الصحوة ثمارها بإذن ربها الداعية الإسلامى الكبير.. الشيخ محمد الغزالي، صاحب تاريخ طويل فى مجال الدعوة الإسلامية.. تولى خلالها التدريس فى العديد من جامعات العالم الإسلامي، وأثرى المكتبة الإسلامية بعشرات الكتب فى شتى شئون المعرفة الإسلامية التى تميزت بالانتشار والذيوع وإقبال الناس عليها بتقدير كبير. وبعدما يزيد عن خمسين عاما قضاها الشيخ الغزالى فى هذا الحقل المفروش بالأشواك، المملوء بالألغام.. جاء هذا اللقاء معه لنسترشد برأيه فى العديد من القضايا الهامة التى تشهدها ساحة العالم العربى والإسلامى على السواء.. * سألته: فى البداية - عن حقيقة الصحوة الإسلامية التى يشهدها عالمنا اليوم، وما هو مستقبل هذ الصحوة فى ظل الأحداث التى تمر بالعرب والمسلمين - الآن - فقال: * هناك صحوة إسلامية مشرقة، وإنكار ذلك هو الجحود بعينه، بل هو خيانة للصديق، وخدمة للعدو، ولكنى أطالب دائما أن يكون المنتسبون لهذه الصحوة أصحاب آفاق واسعة وعقول ناضجة وثقافة عريضة، فالإسلام دين تبحرت فيه الحضارة، وهو دين قائم على العلم، وإذا لم نكن على مستوى المسئولية التى أرادها الله ورسوله لهذه الأمة فإننا إذن نخادع أنفسنا. ( وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفورا * استكبارا في الأرض ومكر السيئ ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله). وهذه الصحوة الإسلامية المعاصرة تكتنفها أخطار هائلة، يشارك فى صنعها منصرون ومستشرقون وساسة وعسكريون وأدباء وإعلاميون، وملاحدة وكتابيون، ومصارحون ومداهنون وأناس من جلدتنا وأناس(3/154)
غرباء عنا.. ص _139
ولست أخاف كل هؤلاء يوم يكون رجال الصحوة الإسلامية من معدن إسلامى صاف يجددون سيرة سلفنا الأول فيعملون بعقل مفتوح وقلوبهم ترنو إلى الله وحده. لقد كادت الدعوة الإسلامية تعلن إفلاسها منذ قرنين تقريبا، بل لقد تركت الميدان خاليا لشتى الملل والنحل تنشر الخرافة وتعلى راية الباطل، ثم بدت تباشير صبح جديد وتيقظت الثقافة الإسلامية من سباتها تدافع بقوة وتمهد لغد أفضل. ثقافة عاجزة * تطرق فضيلتكم إلى اليقظة والوعى الثقافى الإسلامي، فما هو الدور الذى تضطلع به الثقافة من أجل نهضة الأمة وتقدمها؟ * فى رأيى أن الثقافة التى آلت إلينا فى القرون الأخيرة كانت ضحلة لا فى مجال المعرفة الدينية وحدها، بل فى مجال الأداء الأدبى كذلك، وأن هذه الثقافة كانت أعجز من أن تصنع أمة تنهض برسالتها، وتخدم كتاب ربها وسنة نبيها.. كانت ثقافتنا فى العصور الأولى تصنع أجيالا، تحترم الحقائق وتعشق الفضائل.. وقد انخفض العلم الشرعى كغيره من العلوم الأخرى وتقوقع رجاله فى تخصصاتهم الدينية لا يمدون أنوفهم وراءها.. فالفقيه فى العبادات يحيا فى ميدان من الطهارات.. ولا ينطلق لعلوم أخرى دينية وحياتية.. وهكذا. ولذا أقول: إن العلم بالدين كله لا يتم عن طريق التجزئة، وأن الصورة الكاملة للإسلام إنما تتم على النحو السلفى الأول، وأن العقل الإسلامى المعاصر يجب أن يرتفع إلى مستوى الشمول فى القرآن الكريم حتى يستطيع إعادة بناء الأمة الواحدة التى لا تحد رقعتها على سطح الأرض خطوط الطول والعرض. ففى القرآن الكريم يقول الله تباركت أسماؤه: ( قل يا عباد الذين آمنوا اتقوا ربكم للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة وأرض الله واسعة..) ويقول تعالى أيضا: ( يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون). وعرف المسلمون بالبداهة أن أمة العقيدة لا يحصرها مكان، وأن إخوان العقيدة لا يحدهم جنس، وأن المسلم أخو المسلم لا يخذله ولا يسلمه، وأن(3/155)
المسلم إذا استبيح دمه على شاطئ المحيط الهادئ فى الفلبين يجب أن يتحرك له أخوه على شاطئ ص _140
الأطلسى فى المغرب والسنغال ونيجيريا، وأن المسلمين كما قال نبيهم: "تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم". هل يفلحون؟ * ما رأى فضيلتكم - فيما يحدث الآن - بالمسجد الأقصى من منع للصلاة فيه، والحراسة اليهودية الدائمة له؟! * أجاب القرآن الكريم عن هذا التساؤل فقال: ( ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها \سمه وسعى في خرابها..) وأعمال اليهود بأذى المسجد الأقصى شديدة الخطورة، وتصورها تصور مظلم للعرب والمسلمين جميعا، لأن اليهود لا يمنعون الصلاة فحسب، بل يعدون العدة لهدم المسجد وبناء هيكل سليمان "المزعوم" وهم يصرحون بذلك دون حياء، وقد تمت عدة محاولات لتنفيذ هذه الجريمة، ولكن الله هو الذى يحرس حرماته وبيوته. والغريب أن فى "العهد القديم فى سفر حزقيال" إيماء ببناء الهيكل على نحو معين استغرق الوصف فيه قرابة صفحتين!. ولم نفهم معنى الإشارة * هل تعتبر قضية المسجد الأقصي، قضية عربية، أم قضية إسلامية؟ * إن قضية فلسطين منذ بداية التاريخ قضية إسلامية، ومهما كان سكان بيت المقدس فإن القضية لا تتغير، فالقضية التى يحيى التاريخ أطوارها منذ بدء إنشاء أورشليم و"شليم" هو "سليم" كما ينطق اليهود موسى "موشي". وظل بيت المقدس يتداول بين اليهود والفاتحين عدة قرون ثم آل إلى العرب منذ خمسة عشر قرنا إلى منتصف هذا القرن وربما استطاع الفرنجة أن يستولوا عليه نحو 90 سنة ولكن المسلمين بقيادة صلاح الدين استردوا القدس فى معركة "حطين" التاريخية المشهورة. وحلم اليهود أن يستولوا على بيت المقدس وينشئوا دولتهم المزعومة "إسرائيل الكبرى" من الخليج إلى المحيط حتى يستعبدوا العالم أجمع. وهذا الحلم هو محصلة نبوءات كثيرة فى كتبهم الدينية، ومن هنا قال "وايزمان": إن "بلفور" عندما أعطانا وعد تملك فلسطين كان يترجم ما فى(3/156)
العهد القديم لأن "البروتستانتي" يرى أن العهد القديم واجب النفاذ!! ص _141
و"بلفور" كان رجل دين أولا ثم رجل سياسة ثانيا، وهذه معلومة لا يفهمها كثير من الناس.. ولكن المسلمين فى نوم عميق وسبات طويل. النجاة.. فى تصحيح الانتماء * ذكر - فضيلتكم - الانتماء الإسلامي. فما هو مفهوم الانتماء؟ وما هو واجب المسلمين نحو قضية الانتماء الإسلامي.. كما ترونها؟ * من واجبى - فى البداية - أن أنصف الانتماء الإسلامي، الذى ألحقت به هزائم شتي، فهذا الانتماء حقيقة شريفة القدر، ممتدة الأثر، موصولة بأعظم تراث فى الوجود، "فالقرآن" هو الوحى من أزل الدنيا إلى أبدها، وكل ما خالفه مبتور الصلة بالسماء. و"محمد" هو الإنسان العظيم لأشرف سيرة وأصدق بلاغ، وهو أعلى قمة فى تاريخ الأحياء. و"الإسلام" هو المنهج الذى توارث النبيون الدعوة إليه، وقيادة البشرية نحوه، فكيف يكون الانتماء إليه خفيض الصوت أو ذليل الجانب أو موضع الإهمال؟ وكيف تتقدمه أو ترجح عليه دعوات وطنية أو نزعات عرقية؟! إن الاستماع إلى هذه الدعوات والنزعات قطع لأوصال المسلمين، وجعل الأمة الواحدة أمما متناكرة، وتمكين لذئاب الاستعمار العالمى من الانفراد بكل أمة والإجهاز عليها ماديا وروحيا. ولن نستعيد مكانتنا ونصون رسالتنا إلا إذا صححنا انتماءنا، وأصغينا إلى قوله تعالى: (إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون). إن اليهودى فى أية قارة يرفع رأسه بانتمائه ويقول دون حذر أو خجل: أنا يهودي!! حتى السيخ فى هذه الأيام رأوا أن يكون لهم انتماؤهم الخاص بهم!! إن العمل للوحدة الإسلامية شرف عظيم ومجد شامخ، ويجب أن يدرك العرب قبل غيرهم من الأجناس التى تكون الأمة الإسلامية الكبرى هذه الحقيقة، وأن يكون ولاؤهم لدينهم لا لجنسهم. * ماذا تقولون من خلال تجربتكم الطويلة فى حقل الدعوة للعاملين الآن فى مجال العمل الإسلامي؟ ص _142(3/157)
* على الدعاة الجدد فى هذا الميدان أن يتجنبوا النكسات حتى لا يقدموا أرض الإسلام غنيمة باردة للمتربصين بالإسلام. وإننى لا أحب أن أرى الدعاة يبدءون العمل من الصفر، غير منتفعين بما حدث لإخوانهم الدعاة والعلماء ولا يقبل فى هذا المجال الاعتذار بحسن النية، وإذا كان الجهل بقوانين البشر لا ينجى من اللائمة فإن الجهل بسنن القدر أسوأ عقبي، ومن هنا رأينا كيف كان الحساب شديدا للمنهزمين فى "أحد"، قيل لهم دون مواربة لما سألوا عن سر الهزيمة، ( قل هو من عند أنفسكم). إن أى يقظة إنسانية إنما تنهض بدءا وختاما على حدة العقل وصفاء القلب، والإسلام أنهض العرب وحلق بهم فى الآفاق لأنه أنعش هذه الملكات الإنسانية وأطلقها تسعي. ومن خلال تجربتى أقول للدعاة الجدد فى هذا الميدان إن الصحوة الإسلامية الحاضرة ينبغى أن ترتسم الخطى الأولي. فإننى أؤمن أن العون الأعلى يظفر به المجتهدون، فعلينا أن نجتهد فى ترشيد صحوتنا المعاصرة حتى تؤتى ثمارها بأمر ربها. ص _143(3/158)
العبادات ومدلولها الأخلاقى..! العبادات التى شرعت فى الإسلام واعتبرت أركانا فى الإيمان به ليست طقوسا مبهمه من النوع الذى يربط الإنسان بالغيوب المجهولة، ويكلفه بأداء أعمال غامضة وحركات لا معنى لها. فالفرائض التى ألزم بها كل منتسب إليه. هى تمارين متكرره لتعويد المرء أن يحيا بأخلاق صحية وأن يظل مستمسكا بهذه الأخلاق مهما تغيرت أمامه الظروف: إنها أشبه بالتمارين الرياضية التى يقبل الإنسان عليها بشغف، ملتمسا من المداومة عليها عافية البدن وسلامة الحياة والقرآن الكريم والسنة المطهرة. يكشفان -بوضوح- عن هذه الحقائق فالصلاة الواجبة عندما أمر الله بها أبان الحكمة من إقامتها فقال ( وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر) فالابتعاد عن الرذائل والتطهر من سوء القول وسوء العمل، هو حقيقة الصلاة، وقد روى فى حديث يرويه النبى عن ربه "إ نما أتقبل الصلاة ممن تواضع بها لعظمتي، ولم يستطل على خلقى ولم يبت مصرا على معصيتي، وقطع النهار فى ذكري، ورحم المسكين وابن السبيل والأرملة ورحم المصاب"، والزكاة المفروضة ليست ضريبة تؤخذ من الجيوب بل هى -أولا- غرس لمشاعر الحنان والرأفة وتوطيد لعلاقات التعارف والألفة بين شتى الطبقات. وقد نص القرآن الكريم أعلى الغاية من إخراج الزكاة بقوله: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها). فتنظيف النفس من أدران النقص، والتسامى بالمجتمع إلى مستوى أنبل هو الحكمة الأولي. ومن أجل ذلك وسع النبى - صلى الله عليه وسلم - فى دلالة كلمة الصدقة التى ينبغى أن يبذلها المسلم فقال: تبسمك فى وجه أخيك صدقة، وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر صدقة، وإرشادك الرجل فى أرض الضلال لك صدقة، وإماطتك الأذى والشوك والعظم عن الطريق لك صدقة، وإفراغك من دلوك فى دلو أخيك لك صدقة، وبصرك للرجل الرديء البصر لك صدقة". وهذه التعاليم فى البيئة الصحراوية التى عاشت دهورا على التخاصم والتمزق تشير إلى الأهداف التى(3/159)
رسمها الإسلام، وقاد العرب فى الجاهلية المظلمة إليها. ص _144
وكذلك شرع الإسلام الصوم، فلم ينظر إليه على أنه حرمان مؤقت من بعض الأطعمة والأشربة، بل اعتبره خطوة إلى حرمان النفس دائما من شهواتها المحظورة وتزواتها المنكورة. وإقرارا لهذا المعنى قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: " من لم يدع قول الزور، والعمل به فليس لله حاجة فى أن يدع طعامه وشرابه"!! وقال: "ليس الصيام من الأكل والشراب، إنما الصيام من اللغو والرفث فإن سابك أحد، أو جهل عليك، فقل: إنى صائم". والقرآن الكريم يذكر ثمرة الصوم بقوله: ( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون). وقد يحسب الإنسان أن السفر إلى البقاع المقدسة، الذى كلف به المستطيع واعتبر من فرائض الإسلام، يحسب الإنسان هذا السفر رحلة مجردة عن المعانى الخلقية، ومثلا لما قد تحتوى الأديان أحيانا من تعبدات غيبية. وهذا خطأ، إذ يقول الله تعالي- فى الحديث عن هذه الشعيرة:- ( الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب). هذا العرض مجمل لبعض العبادات التى اشتهر بها الإسلام، وعرفت على أنها أركانه الأصيلة، تستبين منه متانة الأواصر التى تربط الدين بالخلق. إنها عبادات متباينة فى جوهرها ومظهرها، ولكنها تلتقى عند الغاية التى رسمها الرسول - صلى الله عليه وسلم - فى قوله: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق". ص _145(3/160)
هل تعامل المرأة فى بلادنا وفق تعاليم الإسلام؟ الأستاذ محمد الغزالى من العلماء المعروفين بالرأى الجريء والحجة القوية، وقد كرس جانبا كبيرا من كتاباته للتأكيد على الأبعاد الحضارية للدين الإسلامى والتصدى لأصحاب النظرة الضيقة من المتزمتين والذين لا هم لهم إلا إغلاق أبواب الاجتهاد فى الدين. وهو هنا يطرح قضية تحتاج إلى وقفة طويلة من القراء، لأنها تمس جانبا من أهم جوانب حياتنا الحاضرة وتتعلق بوضع المرأة فى العالم الإسلامي. المحرر هل عوملت المرأة فى العالم الإسلامى وفق تعاليم الإسلام؟ ما أظن! إن الحاكم فى مستدركه روى حديثا موضوعا حكم العالم الإسلامى أكثر من ألف عام، يقول هذا الحديث: لا تعلموا النساء الكتابة، ولا تسكنوهن الغرف.. أى إذا كان البيت مكونا من طبقات لم يجز إسكان النساء فى الطبقات العليا، حسبهن ظهر الأرض أو تحتها إن أمكن!! لم يجز إسكان النساء فى الطبقات وتطبيقا لهذا الحديث المكذوب لم تفتح مدرسة لتعليم البنات فى قرية أو مدينة خلال القرون الماضية، وأصبح تثقيف النساء من الفضول، بل من المناكر المحظورة..!! وروى عبد الله بن عمر قول رسول الله: "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله"، وفى رواية أخرى: "إاذنوا للنساء بالليل إلى المساجد". فقال ابنه معترضا التوجيه النبوي، إذن يتخذنه دغلا - أى مهربا لاقتراب المفاسد - والله لنمنعهن!! فوكز عبد الله ابنه فى صدره، واشتد عليه غضبه، وقال: أقول قال رسول الله وتقول: لا.. وقاطعه إلى آخر حياته.. والغريب أن العالم الإسلامى لم يكترث لرواية ابن عمر - على صحتها وتبع رأى الولد السيئ الأدب!! ارتياد النساء للمساجد ويوجد حظر على ارتياد النساء للمساجد.. ص _146(3/161)
وبعد جهاد سنين طويلة للسماح بصلاة المرأة فى المسجد أمكن فتح أقل من 10% من بيوت الله لإماء الله، أما الكثرة الساحقة من مساجد القرى والمدن فهيهات أن يدخلها النساء..!! كنت فى دولة الإمارات المتحدة، وشاركت فى قضية جديرة بالعرض، نشرتها جريدة الاتحاد على هذا النحو: قال الأستاذ مصطفى شردي: نحن فى إحدى أمسيات الثلاثاء بمسجد سعد بن أبى وقاص. انتهى المحاضر من حديثه وبدأ التحاور. سؤال جاء من الشرفة المخصصة للسيدات تقول صاحبة السؤال إنها متزوجة منذ سنوات.. من رجل له أكثر من زوجة. وإن زوجها لا يسمح لها بزيارة أبيها ورعايته بين الحين والآخر، على الرغم من أن الأب مسن وحيد ويحتاج إلى الرعاية والعناية، والشعور ببر الأبناء، فهل تطيع الزوج وتهمل واجب رعاية الأب، أم تخالف زوجها وتطيع قلبها وتكون بارة بوالدها؟ أثار السؤال الهمس، ثم سكت الجميع انتظارا لما سيرد به المحاضر وهو عالم فاضل، وكان من الواضح أن السؤال مس أوتارا فى العديد من القلوب، وأعتقد أن قلب المحاضر من بينها، حمد الرجل الله وأثنى على الرسول الكريم، وتحدث عن التزام الزوجة بطاعة الزوج، وكيف أن الإسلام شدد على الوفاء والتمسك بهذا الالتزام لصلاح الأسرة وسلامة المجتمع، وطالب الزوجة بأن تضاعف من جهدها لإقناع زوجها حتى يسمح لها برعاية أبيها، إلا أنه اختتم إجابته برأى محدد. اجتهد فيه فقال: إنه فى حال تمسك الزوج بموقفه القاسى الغريب دون مبرر مقبول، فإنه على الزوجة أن تبادر إلى زيارة أبيها ورعايته وتقديم حنانها إليه، لأن النص القرأنى بشأن بر الوالدين واضح وقاطع وصريح، ولأن لهذا الزوج بالذات أكثر من زوجة تخدمه وترعاه إذا غابت عنه واحدة لأداء واجب البر والإحسان تجاه والد عجوز مريض ضعيف أمرها الله بأن ترعاه وتحسن إليه. انتهى المحاضر من إجابته فاشتد الهمس وبين الحاضرين عدد كبير من المتزوجين بأكثر من واحدة وقد رأوا فى إجابة المحاضر تحريض للزوجات(3/162)
على عدم الالتزام بأوامر الزوج، حتى ولو كانت متعارضة المنطق ومتضاربة مع المعقول. وبدأ فريق من الحاضرين يناقشون الرأى بأعصاب توشك على الانفلات، فقالوا: إن رأى المحاضر يتعارض مع تعاليم الإسلام! ولابد من التراجع عنه، لأن طاعة الزوج ص _147
واجبة قبل أى اعتبار آخر، وتمسك المحاضر برأيه وكادت تهب عاصفة من الاحتجاجات بسبب هذا الرأي، إلى مهاترة لا يسمح بها. المهم أننا انصرفنا من المسجد والسؤال معلقا بين الآراء التى اختلفت عليه! كان مطلوبا من الشيخ المفتى أن يغير فتواه، وأن يحكم بحبس المرأة فى البيت ولو مات أبوها! وأيد ذلك الاتجاه أن متفيهقا ذكر حديثا معناه أن الله رضى عن زوجة بقيت فى بيتها حين توفى والدها فلم تعده فى مرضه الأخير لأن زوجها كان فى سفر فلم يأذن لها بالخروج من البيت... قلت: هذا حديث مكذوب واستغربت أن يطلب من امرأة ما باسم الإسلام أن تعق أباها، وتقطع صلتها، وتدعه يموت مستوحشا لأن هذا حق رجلها! وعندما تفقد المسكين عاطفة البنوة فماذا يبقى من كيانه الإنسانى فى بيت الزوجية؟ إنها ستكون أسيرة فحل يملك أمرها وقهرها.. وحسب! وفى الأرياف كان أغلب النساء يفقد ميراثه الشرعي، فتقسم الأرض على الذكور وحدهم، ويقول الأخوة الذين اجتاحوا الأرض: كيف نترك غريبا ينال بأرض أبينا؟ يعنون بالغريب زوج أختهم! فإذا حدث أن طالبت الأخت بنصيبها الشرعى قاطعها إخوتها إلى الأبد.. والأسر الشريفة لها تقليد عجيب - أعنى الأسر التى تدعى الانتساب إلى البيت النبوى - فالمرأة تموت عانسا بائسة إذا لم يجئها الكفء من الأشراف، أما الرجل فله حق الزواج من الأوروبيات والأمريكيات! وروى البخارى عن الربيع بنت معوذ قالت: كنا نغزو مع النبى - صلى الله عليه وسلم - فنسقى القوم ونخدمهم ونرد الجرحى والقتلى إلى المدينة. ويبدو أن هذا التقليد كان قصير العمر جدا، فاستخفى فى أيام الحرب والسلم على سواء.. وتعتمد المستشفيات فى العالم(3/163)
الإسلامى اليوم على الممرضات الأجانب، وإذا كان النساء قد منعن المساجد أفكان يؤذن لهن بالذهاب إلى ميادين القتال؟ ليست دعوة إلى تقليد الغرب ولا أريد أن يفهم غر أنى راغب فى نقل معالم الحضارة الغربية إلى مجتمعاتنا، فهذه الحضارة تجمع خليطا من التقاليد الحسنة والتقاليد الرديئة. ص _148
وإنما أريد إعمال النصوص المكتوبة والمفهومة من سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وسلفه الأول، وهذا مسلك يعجز عنه أصحاب الخبل والشذوذ.. لقد رأيت فى قضية المرأة أحاديث موضوعة، وأحاديث واهية صححها الغرض المدخول، وأحاديث صحيحة حرفت عن موضوعها. واستغربت وأنا أقرأ لبعض الفقهاء أن صلاة المرأة فى بيتها أفضل من صلاتها فى المسجد الحرام أو المسجد النبوي! وقلت: لو كان الأمر كذلك فلم أشرف الرسول على تنظيم صفوفهن فى مسجده، ولم جعل لهن بابا خاصا بهن، ولم ذهب إليهن فعلمهن وحثهن على الصدقة، ولم حذر "البعض" من أن يحرص على القرب من صفوفهن؟؟ الواقع ان المرأة أولى بها أن تصلى فى البيت إذا كانت مسئولية التغذية أو التربية تفرض عليها ذلك، أما إذا تخففت من هذه الواجبات لسبب أو لآخر فلا يمنعها بشر من الذهاب إلى المسجد ليلا أو نهارا، أى أن صلاة الجماعة ليست مؤكدة فى حقها كالرجال، وليس يفيد ذلك فرض حصار قاتل على حياتها العملية والعبادية، وتحويلها إلى مسخ لا مكان له فى دنيا ولا دين، كما انتهت بذلك الأوضاع الاجتماعية فى العالم الإسلامي. عندما فتح النبى - صلى الله عليه وسلم - مكة خرج النساء لمبايعته، وتلقى تعاليم الإسلام منه، ولم يحتبسن فى بيوتهن قعودا عن هذا الفرض، أى أن علاقة المرأة بالحياة لعامة كانت قائمة، وكانت - من الناحية العملية - تسير فى خط يحاذى علاقة الرجل، ولا يتطابق معه.. وقبل فتح مكة اهتدت نساء كثيرات إلى الإسلام، ورفضن البقاء مع أزواجهن الكفار فقررن الهجرة إلى المدينة. وحدث ذلك فى وقت كان المسلمون فيه ملزمين برد(3/164)
كل من يلحق بهم من مكة فارا بدينه - تنفيذا لمعاهدة الحديبية. ولكن القرآن نزل يستثنى النساء من ذلك الحكم فقال تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار..). ص _149
شخصية مستقلة.. وورد أن عمر بن الخطاب كان فى ذلك الامتحان يحلف المرأة المهاجرة: "بالله ما خرجت رغبة بأرض عن أرض! وبالله ما خرجت من بغض زوج! وبالله ما خرجت التماس دنيا! وبالله ما خرجت إلا حبا لله ورسوله..". ماذا ترى فى هذا القسم؟ وفيمن أدته؟ ألا ترى شخصية مستقلة واضحة الوجهة محترمة المسلك، تحارب وتسالم وتقيم أو تسافر وفق ضميرها وتفكيرها؟. أين هذه الشخصية التى واثقت الرسول فى مكة، والتى هاجرت إليه فى المدينة، من شخصية المرأة المسلمة فى القرون الأخيرة؟ المرأة التى لا تعرف كتابا ولا إيمانا ولا صلاة ولا ثقافة عامة، بل التى يعتبر من العيب الفاضح أن يعرف بها اسم، أو يبدو لها شبح؟؟ لأنه لا وظيفة لها إلا إعداد الطعام، وإرضاء البعل..! ص _150(3/165)
المسلمون اليوم ليسوا على مستوى رسالتهم! الشيخ الغزالى أحد الدعاة المعروفين والمفكرين البارزين الذين أسهموا إسهاما حقيقيا فى العمل الإسلامي، فللشيخ جهوده التى تعددت وتنوعت عبر ساحة الدعوة الإسلامية والفكر الإسلامي، من أجل تأصيل كثير من المفاهيم لعل فى مقدمتها الطريقة الصحيحة لفقه الإسلام بتوازن وشمولية وعقل ووجدان. وفى هذا السياق قدم الغزالى كتابه: "كيف نفهم الإسلام". ولأنه من الذين يؤرقهم مستقبل الأمم الإسلامية فقد كتب: "المسلمون يستقبلون القرن الخامس عشر".. وقد رأى الشيخ أن من أسباب تخلف المسلمين عدم استيعابهم لحياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتعاملهم معها دون فقه، فأخرج كتابه: "فقه السيرة" الذى طبع عشرين طبعة. ووقف الغزالى على أخطاء المسلمين البدعية الكثيرة فى حق دينهم، فكتب كتابه: "ليس من الإسلام". كذلك فإن للشيخ جهوده فى مواجهة الزحف التنصيري، وأيضا مواقفه الجريئة ضد الغزوات الفكرية والدعوات العلمانية والشيوعية. لهذا وغيره فإن الحوار مع الشيخ محمد الغزالى يضعك فى مواجهة نصف قرن من العمل الدعوى والجهاد الفكري، ضمها أكثر من (38) مؤلفا، حملت ملامح الفكر الإسلامى واستشرف صاحبها مستقبل الأمة الإسلامية الذى يظل هو محور فكر واهتمام الرجل.. إن ثمة آراء كثيرة للشيخ الغزالى في: "وسائل الدعوة"، وفى "التعليم الإسلامي"، وفى طريقة عرض الإسلام على الآخرين، وفى قضايا أخرى متصلة بالدين والحياة، يتناول الحوار التالى مع فضيلته، وهى من قبيل (هموم داعية) تصدر عن غيرة حميدة، وعقل متفتح، وفقه أصيل بالإسلام. أمراض الأمة ومحاولات العلاج * فى بداية اللقاء أثرنا مع الشيخ ما تعانيه الأمة من أوضاع متردية وأمراض مستعصية لم تفلح معها كل محاولات العلاج، وقد سألنا الشيخ عن أسباب هذه الأوضاع وعن عوامل الفشل فى مواجهة علل الأمة، فأجاب بقوله: * الأمراض التى نشكو منها والتى أصابت أمتنا على امتداد(3/166)
مساحتها الجغرافية ترجع إلى رافدين: ص _151
* رافد قريب منا ونحن الأساس فيه وهو ما انحدر إلينا من مواريث فكرية سيئة عبر تاريخنا الإسلامى الطويل الذى يتأرجح خطه البيانى بين الصعود والهبوط، ففى عصور الانحدار الحضارى والثقافى فى تاريخنا تكونت تيارات آسنة استطاعت أن تبقى بين طبقات من الأمة، وأن تظل تنحدر حتى تصل إلى عصرنا هذا، تاركة موجات فكرية رديئة وأحوالا نفسية سيئة. * والرافد الآخر: هو سوء اقتباسنا من الحضارة الحديثة، التى استطاعت أن تصبغ العالم كله بصبغتها، ويظن عدد كبير من الناس أن التحضر والتمدين أن يسكن الواحد فى ملابس هذه الحضارة أو يأكل بالطريقة التى يأكل بها أولئك المتحضرون، أو أن يسرف فى الملذات على النحو الذى يسرفون به على أنفسهم!! والتقى الرافدان معا فى أيامنا هذه فوجدنا المتناقضات، وجدنا من لايزال يحارب المعتزلة ووجدنا من ينقل من هوليود أسوأ ما فيها! إن هذه المتناقضات فى الأمة الإسلامية تحتاج إلى يقظة فكرية عند من يعالجون أمرها، والأمر يحتاج إلى أن نحسن التشخيص فنعرف ما كان من مواريثنا ونحاكمه إلى كتابنا (القرآن الكريم) فإن هذا الكتاب جاء شفاء للناس ودواء لعللهم، وليكون طريق حضارة استطاعت أن تسود العالم كله عدة قرون، وعندما لم نفهم هذا ولم نعمل به تخلفت الأمة واشتد بها البأس. كذلك لابد أن ننظر إلى ما نقتبسه من الآخرين، ولنعلم أن أوروبا لم تنتصر بملابسها ولم تنتصر بمآكلها، إنما انتصرت بالتجربة والاستقراء والتأمل والملاحظة للكون والسخير لقواه والإلتفات لما فيه من خير، ولابد أن نستفيد من تجارب الآخرين، ونتعامل مع الكون على هذا الأساس. إن الأمة الإسلامية مصابة بأمراض متناقضة ومتضادة ولذلك يجب أن يكون التشخيص دقيقا وإذا عرفت العلة عرف العلاج. نحن لم نحسن التشخيص * ولكن.. هل يدل استمرار هذه الأمراض واستفحالها على أنها أقوى من العلاج وكل الحلول المطروحة؟ * الذى حدث أن(3/167)
عددا كبيرا من الناس لم يحسن التشخيص، فجسم الأمة يشكو من شدة الألم، لكن لا يدرى عن الجراثيم التى حملت إليه العلة، ونحن نتألم من ص _152
مصابنا لكننا لم تكن لدينا القدرة على مصارحة النفس ومراجعة الذات، ولم نعترف بخطأ موقفنا من مواريثنا ولا نبالى أن ننقل من أيام الانحدار ما يزيدنا انحدارا فى هذه الأيام. كذلك لم نفرق بين الغث والسمين فى الحضارة الحديثة، ولم نحسن الاستفادة من خيرها، وتجنب شرها. توحيد الأمة.. أولى القضايا * من بين ما تعانى منه أمتنا من مشكلات وهموم: عدم ترتيب أولويات القضايا المطروحة، فما القضية التى يتوجب أن يوليها المسلمون اهتمامهم بالدرجة الأولي؟ * نحن المسلمين يجب أن نكون صرحاء مع أنفسنا، لقد حملنا رسالة الحياة لأنفسنا وللخلق كلهم، فلماذا فرطت هذه الأجيال فى الرسالة الخالدة؟ ولماذا تفرق المسلمون وأصبحوا ليسوا على مستوى رسالتهم؟ فى اعتقادى أن أول شيء نلتقى عنده ونجمع القوى عليه هو الرغبة فى توحيد الأمة الإسلامية وراء رسالتها الأولى، مع طرح الخلافات الجانبية والمطالب الجزئية والأفكار الثانوية، فلا حل ولا علاج لمشكلات الأمة بدون تحقيق هذا الهدف الذى نلتقى عليه ونحاول أن نصل إليه. وأريد أن أنبه المسلمين إلى أمر هام وهو أن طالب الحياة يستطيع أن يتغاضى عن بعض العراقيل الموجودة فى الطريق لأنه حريص على حياته وعلى ما يوفر لها البقاء والامتداد. والمشكلة أننا نحن الذين نضع العراقيل بأيدينا، فنتقاتل على قضايا ثانوية، وتشغلنا الأفكار التافهة والفروع الفقهية والحواشى العقائدية.. وكل هذا من الممكن أن يتلاشى من نفسه لو أننا استشعرنا جلال الهدف الكبير الذى يشد قوانا كلها إليه، وهو الرجوع إلى الحق وإحياء لرسالتنا وتوحيد كلمتنا. عواطفنا فى غياب العقل * أثبتت الأحداث الجارية أن الدول الإسلامية تعالج قضاياها المصيرية وفقا لرصيد العاطفة المخزون لديها، فهل يمكن لأمة أن تنتصر(3/168)
بتحكيم عواطفها فقط؟! * العاطفة شيء لابد منه فى الكيان الإنساني، وإنما تعاب العاطفة يوم تكون متحركة فى غياب الفكر العقلي، أما أن يكون العقل متحركا وليست وراءه عاطفة فسيكون عقلا آليا ولن يتجاوز مكانه. ص _153
نحن نريد أولا أن نفحص بعقولنا ما يسود من أفكار وما يسيطر على حركاتنا من تيارات، فإذا أمكننا أن نعرف الصواب أحببناه وحشدنا له ما لدينا من مشاعر، إن اليهود، وهم شعب لا يوصف بأنه عاطفي، ربطوا أنفسهم بحائط المبكى استثارة للمشاعر والنزعات الإنسانية الدفينة نحو ماض وأمجاد يدعونها ويريدون استعادتها كما يخططون لذلك. نقول إنه إذا تحركت عواطفنا نحن المسلمين وراء عقولنا ووراء فكر ناضج يحدد لنا أهدافنا، فنعما هذه العواطف ونحن نريدها ونسر بها، أما العواطف الصبيانية أو التلقائية التى تولد لأن بعض الرغبات المادية أجيبت أو بعض الأهداف القريبة تحققت، فإنها عواطف لا خير فيها. التحدى الحضارى وكيف نواجهه؟ * القضية المطروحة على العقل المسلم بإلحاح هى كيف يواجه المسلمون التحدى الحضارى المفروض عليهم فى هذا العصر؟ وهل أسهمت كتاباتكم فى تحديد أطر هذه القضية؟ * إننا نعيش الآن فى القرن الخامس عشر للهجرة، وهذا يعنى أن ديننا قطع فى مسيرته التاريخية زمنا طويلا وقد كنا فى موقع "أولى الأمم" خلال خمسة قرون تقريبا، وانفردنا بهذ الأولية خلال هذه المدة، ثم شاركتنا فيها دول أوروبا خلال الحروب الصليبية تقريبا، فكانت الحرب سجالا بيننا وبينهم وكانت القوى متكافئة، ثم استطاع الأتراك أن يقودوا الحركة الإسلامية وكانت قيادتهم إسلامية فى أول الأمر، فنجحوا فى دخول القسطنطينية وتحويلها إلى عاصمة إسلامية، كما نجحوا فى الوصول إلى "فيينا" وسط أوروبا.. لكن سرعان ما سرت فى كيان الدولة عناصر الهدم فسقطت وكان سقوطها بسبب خارجى وهو انقضاض الغرب على هذه الدولة، وسبب داخلى وهو الفجوة التى كانت موجودة بين العرب والترك، ففى(3/169)
اعتقادى أنه لا يمكن لأمة أن تنجح بقوة عسكرية فقط، وإنما لابد من وجود القوة الروحية إلى جانب القوة العسكرية والثقافية والعقلية. لقد نشر المسلمون الأوائل الإسلام مع عروبته ومع حضارته ومع قوته المادية والأدبية. أما الأتراك فإن انعزال العرب عنهم جعلهم يعتمدون على القوة العسكرية فقط، ولذلك كان انسحابهم من مواقعهم انسحابا عسكريا لم يترك وراءه شعوبا تناضل وتدافع عن حقها بالجبروت الذى كان ينبغى أن تعالج نفسها به كما حدث فى أفريقيا وفى بلاد الهند والسند. ص _154(3/170)
من هنا تخلفنا من هنا تخلفنا، فقد بدأ تخلف الأمة منذ سقوط الخلافة الإسلامية، والعصر الذى نعيشه يشهد تخلفا حضاريا واضحا فى شئون الدنيا والشئون الإنسانية والاجتماعية، ويكاد غيرنا يكون أقدر منا على تدبير أمره بالشورى وبالفكر، وأقدر منا فيما يسمى حماية حقوق الإنسان. ومع ذلك فإن الأمة التى تعيش فى قاع تاريخها لا تنسى أمجادها الأولى ولا تريد أن تبقى فى الوحدة التى انحدرت إليها، فهى تسعى إلى أن تعود إلى ما كانت عليه، تسعى إلى أن تستعيد ما فقدت وقد تصل قريبا أو بعيدا وفق نشاطها ووفق تحديد الهدف الذى تريد أن تصل إليه. وأظن أن ما كتبت إلى جانب ما كتبه الآخرون يسهم فى إيقاظ العقل المسلم الغافل ويرد إليه رشده، فلا أبخس نفسى ولا أبخس الآخرين حقوقهم فى أنهم يبذلون الآن جهودا حسنة فى إعادة الأمة إلى صوابها أو إعادة الصواب إلى أمتنا حتى تسترجع ما افتقدته. التجديد فى الدين يحتاج إلى ضبط * يتصل بالقضية السابقة سؤال حول موضوع التجديد فى الدين، فهل تنطوى هذه القضية - فى رأيكم - على محاذير؟ وماذا يعنى التجديد فى الدين إن لم يكن يعنى التغيير؟ ومن هو المجدد فى نظركم؟ * كلمة التجديد تحتاج إلى ضبط، فإذا كان المقصود بالتجديد إعادة الإسلام إلى ما كان عليه بغسله من الشوائب التى علقت به، فهو تجديد محمود، وإذا كان المقصود بالتجديد الإتيان بقطع غيار أخرى من أنظمة أخرى لكى تحل محل أنظمة معطوبة عندنا فهذا مرفوض.. فالإسلام دين اكتمل وتم فيه كل شيء بإرادة الله : ( وتمت كلمت ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم). لكن الذى يحدث - كما ذكرت ذلك فى بعض كتبى - هو أن الوحى الإلهى ينزل من السماء كما ينزل المطر فى المجرى الأعلى للنهر نقيا لا غبار فيه ولا كدر، ثم إذا شق طريقه فى الأرض حمل الأتربة والشوائب والأخلاط بحيث يكون تعاطى الماء مع هذه الشوائب ضارا، ولا يمكن أن يكون حسنا وشافيا وناقعا للغلة إلا إذا(3/171)
عاد سماويا كما كان وانتفت عنه الشوائب الأرضية التى التصقت به. ص _155
التجديد فى الوسائل من هنا فأنا أؤكد أن التجديد الذى ينفى الزيف والخلط عن الإسلام مطلوب، هذا أولا. ثانيا: قد يكون التجديد فى الوسائل: الجهاد حق ولكن ما وسائله؟ التجديد فى الوسائل هنا فريضة فإن الأيام التى كان فيها السيف أصدق أنباء من الكتب انتهت وحل محل السيف الصاروخ والطائرة المنقضة، وحلت القذائف محل النبل والرمح، فالتجديد فى الوسائل لابد منه، هذا فى الوسائل العسكرية، أيضا التجديد فى الوسائل المعنوية.. الشورى حق. لكن، هل الشورى تعنى أن أجمع بعض الناس وأن أتحدث معهم، أم أن يكون هناك نظام يختار ألمع العقليات ويبحث عن العبقريات ويلتقطها ثم يجعل الأمر بين يديها ثم يختار ما وصلت إليه من نتائج لتنتفع الأمة بهذه النتائج؟ هذه وسائل تتجدد وهى وسائل حسنة.. ويؤسفنى أن أقول إن المسلمين فى شئون الدنيا أموات! لقد قال لنا نبينا صلى الله عليه وسلم: "أنتم أعلم بشئون دنياكم".. وشئون دنيانا من تجارية وزراعية وصناعية ونواح مدنية وعسكرية كثيرة.. كل هذا برع فيه غيرنا براعة كبيرة، أما نحن فقد جمدنا دنيانا ظنا منا أن الانصراف عن الدنيا والبخس منها يكون موضع رضى عند الله، وهذا جهل كبير. الشورى بين الأمس واليوم * إذن التجديد لا يعنى التخلى عن الأصول أو استبدالها كما يظهر من بعض الكتابات؟ * هذا لا يمكن لأنه يعتبر ارتدادا عن الدين فلا يمكن باسم التجديد أن أبتر شيئا من أركان الإسلام أو أحكامه أو أغفل عن شيء من أهدافه التى ظهرت فى كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -. إنما التجديد فى طريقة العرض.. فى طريقة الخدمة.. فى طريقة النقل إلى الناس، أو كما قلت فى الوسائل التى لا تثبت على مر الزمان، وهى ليست من أصل الدعوة أو من صلب الرسالة، فمن صلب رسالة الإسلام الشورى.. لكن كيف يكون ذلك، كانت سقيفة بنى ساعدة هى المثل الأعلى يومئذ: يجمع(3/172)
الناس فى مكان يلتقى فيه الحكماء ويقررون ما يقررون. لكن الآن لا أستطيع أن أجمع الناس على صعيد واحد وفى عاصمة من العواصم أو بلد من البلاد ثم أقول: أنا استشرت. الأمر ص _156
يحتاج إلى أن أدرك مواهب الآخرين وعبقرياتهم المبعثرة وأجمعها فى ظل نظام معين لكى نستفيد من مواهبهم وعبقرياتهم. أقول إن المجددين ناس فقهوا الإسلام فقها حسنا ثم احتالوا فى توصيل معانيه إلى الخلق بطرق جديدة غير ما ألف الأولون. أما المجدد الذى يتصور أنه يقول لأمته: لقد عشنا بديننا مدة فلم نصل إلى مرتبة عظيمة فلنجرب أديانا أخرى أو أنظمة أخرى، فهذا ارتداد وليس تجديدا! الغزالى ومنهج النقد الذاتي * اعتبر الكثيرون الشيخ الغزالى صاحب منهج النقد الذاتى لحركة الإحياء الإسلامي، فما بواعث وجود مثل هذا المنهج؟ * أعود للتأكيد على أن الإسلام فى حاجة إلى تجديد، خاصة بعد أن رأينا الأمة قد تبلدت والدنيا تتغير، فالتجديد على النحو الذى ذكرناه مطلوب وله ما يؤكده ويقويه، وإن كان التجديد فى حد ذاته له محاذيره. إننا نريد أن نتحدث للآخرين عن ديننا، وهؤلاء الآخرون لهم عيون ولهم ألسنة فإذا رأوا عيوبنا فلاشك أنهم قائلون: لماذا تقدمون لنا بضاعتكم وأنتم أولى بالانتفاع بها؟! فإذا كان فيها الخير فلماذا تقدمونها لنا؟! وهذا ما سجله الشاعر من قديم عندما قال: يا أيها الرجل المعلم غيره هلا لنفسك كان ذا التعليم؟ تصف الدواء لذى السقام ولذى الضنا كيما يصح به وأنت سقيم! لهذه الأسباب وغيرها ولكثرة الأعداء الذين يتربصون بنا، أقوم بالتنقيب دائما فى صفوفنا وفى أحوالنا وفى حركاتنا وسكناتنا وعرضها على دين الله وعلى العهد الأول من الإسلام، فماذا سنجد؟ سنجد أن ربع قرن فى حياة النبى صلى الله عليه وسلم استطاع فيه أن يكون الجيل الذى فتح العالم، فالرسول كما نعلم مات قبل أن تخرج الرسالة من جزيرة العرب، أما الذين فتحوا العالم ونقلوا الإسلام عبر الأطلسى والهندى(3/173)
والهادى فهم التلاميذ النجباء الذين تربوا وتعلموا على يديه - صلى الله عليه وسلم -. ص _157
نحاكم ما يجد إلى ما كان! فأنا أحاكم ما يجد إلى ما كان، ولذلك لابد من التأمل فى الذات ولابد من النظر إلى النفس بشيء من النقد، ثم هناك ما لابد أن نعرفه.. لقد كان العرب أذكياء وذكاؤهم لم يمنعهم من أن يعبدوا الأصنام حتى فطمهم الرسول عنها بعد جهد شديد.. العالم الآن له أمراض أخرى غير الوثنية التى عاش بها هؤلاء. فعالم اليوم عالم الأذكياء وقد بلغ من ذكائه أنه غزا الفضاء ووضع قدمه على القمر، فإذا كنت أتعامل معه على أساس أننى الأرفع وهو الأدنى وأنا العارف وهو الجاهل دون أن أقدر ما لديه من ذكاء فطرى ومعلومات ودون أن أقدر فى نفس الوقت ما وصلت إليه أنا من بعض الهزائم الثقافية نظرا لعدم قيامى بما يجب، ففى هذه الحالة لن أنجح فى التعامل مع الآخر وتقديم نفسى ورسالتى له. إذا، قبل أن نقدم أنفسنا للآخرين لابد من نقد الذات ولابد من محاسبة النفس، حتى نستطيع أن نصل بديننا إلى أهدافه المرجوة، وقد كان بعض الصحابة يسألون الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن الشر فى الوقت الذى يسأله الناس عن الخير، هكذا كان يفعل حذيفة فيقول: كان الناس يسألون عن الخير وكنت أسأل عن الشر مخافة أن أقع فيه، وكان الرسول يجيبه على أسئلته.. هكذا حتى نعرف ما لنا وما علينا، ما نأمله وما نخاف على أنفسنا منه. فقه الدعوة وفقه الواقع * من بين إنتاجكم الوافر فى مجال التأليف سلسلة كتب تناولت فقه الدعوة، فهل من تلاق بين فقه الدعوة وفقه الواقع، خاصة أن بعض الدعاة يسقطون فقه الواقع من حركتهم؟ * كتبت فى فقه الدعوة عدة كتب بلغت نحو خمسة كتب، وأنا أريد أن يعلم الناس أن الدعوة علم، علم فى فهمها وفى تبليغها وفى تعهد من بلغناهم حتى نعرف إلى أين وصلوا وعلى أى نحو استجابوا. وهناك الآن دعوات عالمية تأخذ فى السوق الإنسانية نشاطا ملحوظا، فأنا لست وحدى التاجر(3/174)
الذى يعرض ما عنده.. هناك تجار يعرضون كثيرا مما عندهم، لهذا فأنا مكلف بأن أعرف ما عندى وما عند غيري، وأن أعمل على كسب السوق بكل الطرق التى يكسب بها التاجر الماهر السوق. إن الدعوة الإسلامية إلى الآن مجروحة من ناحيتين : الناحية الأولى : تقصير القائمين على أمر هذه الدعوة، والناحية الأخرى : أن الذين جهلوا الإسلام، وهم ص _158
كثيرون، تحركوا وقدموا للناس مناهج يسيرون عليها فى غياب المنهج الصحيح وهو منهجنا الإسلامي، ولعل هذا ما يعنيه جبران خليل جبران عندما قال: الناس رجلان: رجل نام فى النور ورجل استيقظ فى الظلام. إن الذين استيقظوا فى الظلام لهم حركة لكنها فى الظلام، فأهدافها غير واضحة، ونحن الذين نمنا فى النور، عندنا نور لكن لم يجد من يحمله إلى عيون الآخرين حتى يضيء لهم الطريق. الإسلام لا يصادم العقل والفكر فإذا كنا ندعو فلنعلم أن الدعوة لها أعباؤها ولها تكاليفها، ولها جهادها.. وجهاد الدعوة فى هذا العصر ألزم للمسلمين فى رأيى من جهاد السيف، لأنهم فى جهاد السيف مقصرون أو منهزمون عسكريا، فهم ليسوا بجاهزين أو مهيئين لجهاد السيف، وأهم ما يجب أن نفعله أن نقدم الإسلام للعالم وننتهز حرية الفكر وانفتاح الأبواب لنشرح لهم الإسلام شرحا حسنا، فإذا قدمنا الإسلام بالطريقة الحسنة فإن الناس سيقبلون عليه، فالإسلام أنصف المرأة ورد لها حقوقها وعدها إنسانا وجعل النساء شقائق الرجال.. وإذا قدم الإسلام للناس على أساس أن المرأة دون الرجل إنسانية ومكانة، وأنها ليس لها إلا البيت تقعد فيه، فإذا خرجت منه فإلى القبر.. فإن تقديم المرأة على هذا النحو فى عالم وصلت فيه المرأة إلى مراتب عليا ومناصب كبيرة، ليس فى مصلحة الدعوة الإسلامية، ودخولنا فى هذا المعترك وبهذا الفهم يلحق الهزائم بالحركة الإسلامية. لقد سمعت بعض الناس يتكلم عن العقل باستنكار مع أن الإسلام دين العقل.. وقال لى أحدهم: أتقدم العقل على النص؟ قلت له:(3/175)
ليس هناك خلاف بين النص والعقل حتى أقدم هذا على ذاك أو ذاك على هذا.. أنتم مساكين تظنون أن العقل يخالف النص والنص يخالف العقل أو يصادمه، وهذا مستحيل فإن كتابنا الذى قال فيه ربنا: (قل هاتوا برهانكم..) الآية، وقال سبحانه: ( أفلا تتفكرون..). وقال: ( أفلا يتدبرون ).. لقد تكررت مادة العقل ما يقرب من خمسين مرة في كتاب الله الحكيم، مثل: ( أفلا تعقلون ).. ( لعلكم تعقلون ).. ( إن كنتم تعقلون ).. ( أفلم تكونوا تعقلون ) وهكذا.. ص _159(3/176)
فالقرآن الكريم حرك العقل الإنساني، فاعتقاد البعض أن القياس (استخدام العقل) ينهزم أمام النصوص الأخرى هذا بحث آخر، وكون القياس له مكانة فى الاسلام أو ليس له مكانة فهذه مسألة فقهية محدودة، لكن العقل العام لابد من احترامه، وكونك تقدم الإسلام على أنه شيء يخالف العقل أو يصادمه فهذا افتراء على الله وافتراء على كتابه وسنة نبيه، صلى الله عليه وسلم، ولاشك أن من يفعل ذلك من الدعاة يعرض نفسه لهزيمة هو أهل لها عندما يقدم دينه على هذا النحو. التخصص فى علوم الدين مطلوب * يصنف بعض الشباب، العاملين فى الحقل الإسلامى إلى دعاة ومفكرين ووعاظ ومحدثين، ويفرقون بينهم عند الأخذ عنهم.. فما الخطوط التى تجمع بين هذه المجالات؟ * أما أن التخصيص فى العلوم الدينية مطلوب فهذا أمر لابد منه، ولكن الداعية يجب أن يأخذ من كل بستان زهرة ومن كل واد ثمرة، ومن الخير أن يكون عندنا دعاة لديهم مجموعة من الثقافات العامة التى تضمن لهم منطقا سليما وتضمن للدعوة أدوات صالحة. أما التخصص فى دراسة السنة فله رجاله، وكذلك التخصص فى الفقه وفى علوم اللغة والبلاغة وغير ذلك، فلكل فرع من هذه الفروع رجاله، ونحن محتاجون إلى هؤلاء جميعا. نعود فنقول إن الداعية ليس من الضرورى أن يكون راسخ القدم فى علوم السنة، وليس من الضرورى أن يكون فقيها كأبى حنيفة ومالك وابن حنبل، إنما المهم أن يكون عنده قدر من الصحة العقلية وعلم بأوليات الفقه والسنة وسور القرآن وأوليات اللغة العربية بحيث يجعله كل هذا يحسن خدمة الإسلام والدعوة، فإذا اقتضى الأمر الدخول فى أمور تخصصية أرجع الأمر إلى أهل الذكر. نرفض هذه الفتوي!! * بهذه المناسبة، ما رأيكم فى الفتوى التى صدرت عن الشيخ ناصر الدين الألباني، والتى أباح فيها لعرب الأراضى المحتلة ترك أراضيهم للعدو الصهيوني؟ * عندما كنت فى الأردن لحضور واحدة من الندوات الفكرية، وجدت الناس يتحدثون ويتناقشون حول فتوى للشيخ ناصر(3/177)
الدين الألباني، فقد أفتى الرجل بوجوب هجرة أهل فلسطين المقيمين فى الأراضى المحتلة وترك ديارهم ووطنهم لليهود! وحجته فى ذلك أن أهل فلسطين يتعرضون للأذى فى دينهم وأعراضهم وأموالهم على يد إسرائيل، وأن الرسول عليه الصلاة والسلام هاجر من مكة وتركها للكفار. ص _160
والحقيقة أننى عندما سمعت بهذه الفتوى شعرت معها بالانزعاج الشديد وبالقلق على مستقبل الإسلام، فقد أدخل الألبانى نفسه - وهو من كبار المتخصصين فى السنة - فى ميدان الفقه السياسي، وعندما سئلت فى هذا الموضوع قلت: "إن دعوة أهل فلسطين إلى الهجرة من ديارهم هى قرة عين إسرائيل، وإن تشبيه أهل فلسطين بأهل مكة هو تشبيه فى غير مكانه، ولا يجوز لأحد أن يعقد مثل هذا التشبيه وأنا بين حالتين متباينتين". أؤكد أن فتوى الشيخ الألبانى خطيرة وغير مقبولة لا عقلا ولا نقلا، والجهل فى هذا الكلام واسع، ولا أدرى كيف صدرت هذه الفتوى. من هنا فإننى أريد التنبيه إلى أخطاء المتخصصين فى ناحية من العلوم وليست لهم قدرات على النبوغ فى فروع أخرى من علوم الدين! وهؤلاء يجب أن نحتاط من فتاواهم، ونحذرهم فى نفس الوقت من المضى فى هذا الطريق. قد يكون هناك رجل متخصص فى السنة، ولكن علمه بالرجال شيء، وعلمه بواقع الأمة الإسلامية والمرض الذى يحتاج إلى علاج شيء آخر، فتكون النتيجة أن يسبب مثل هؤلاء للأمة حرجا كبيرا. إن فهم نص واحد أو تأويل موقف واحد من غير استحضار النصوص الشرعية ومعرفة السياسة الشرعية وفقه الواقع، لا يعطى الحق لأى أحد للقول فى دين الله والفتوى بغير علم. كذلك من اشتغل بالفقه وليست له بالسنة بصيرة، فإنه يجب أن يرجع إلى السنة وأن يتعرف عليها وأن يراجع كتبها؛ حتى يكون على بصيرة من سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فإن صاحب الرسالة ليس رجلا عاديا فهو نبى مرسل، وإذا كانوا يعتبرون لكلام بعض الفلاسفة قيمة، فكيف بأعظم البشر الذى ظهر فى الأزل والأبد.. كيف لا نعتبر(3/178)
لكلامه قيمة وهو يحدثنا وحيا عن الله ويشرح بكلامه كتاب الله؟! ص _161
الشيخ الغزالي يشرح مضمون وأسباب بيان الأزهر تحدث فضيلة الشيخ محمد الغزالي، فى مؤتمر الأزهر الأخير الذى عقد فى الشهر الماضي، ما يقرب من ساعة كاملة، ولم تذع أجهزة الإعلام من حديثه سوى خمس دقائق فقط!! وفى أول تعليق له على ردود أفعال المؤتمر الذى عقد بالأزهر، وأثار تعليقات واسعة النطاق، وحضره بالإضافة إلى الغزالى فضيلة الشيخ محمد متولى الشعراوي، والشيخ محمد الطيب النجار، وغيرهم من كبار العلماء، لقد أكد الداعية الإسلامى الشيخ الغزالى بأن التيار المتطرف ظهر مع غياب التيار المعتدل قسرا، ومع خلو البلاد من موجهين راشدين تتوفر لهم حرية الأداء والكلمة، والمسئولون عن ذلك معروفون، قد يكونون مرتدين كارهين للإسلام، وقد يكونون عبيد مآربهم الشخصية. وانتقد الداعية الإسلامى الكبير أسلوب معاملة الدولة للمتطرفين وقال: إن هذا الأسلوب المتبع لأكثر من ثلاثين سنة يشبه أسلوب اليهود فى معالجة أشبال الانتفاضة الفلسطينية تعذيب واستباحة ووحشية!! أليس هذا موقف أرق وأعقل؟؟ ولقد بلغت الوحشية حدا حسب فيه البعض أن الأمر ليس قمعا للتطرف، وإنما هو منع للإسلام ذاته وتحت لهيب السياط قيل للجلادين: لستم مسلمين! ثم دارت المعركة بين جاهلين بالإسلام وجاحدين له!! وقال الشيخ الغزالي: ( نحن لا نفقد وعينا فى هذه الفتن العمياء، وإنما نقدم الإسلام الصحيح لنلزم به الحاكم والمحكوم، وإذا قلنا أن دين الله أشرف من أن يؤخذ عن أفواه الحمقى فدين الله كذلك أسمى من أن يؤخذ من ذوى البطش والجبروت ). وقال الداعية الإسلامى الكبير: أن هناك من يكره التيارات الإسلامية كلها المعتدل منها والمتطرف!! ويشن حروبا خفية أو جلية على الإسلام، ويتناول تعاليمه بالغمز واللمز والتضييق، ووجود هذه الطائفة لا يستغرب مع الوجود الاستعمارى الطويل فى العالم العربي، ومع إلحاح الغزو الثقافى(3/179)
على بلادنا إلى اليوم، بل إن سماسرة هذا الغزو، زادت ضراوتها مع ترادف المحن على المسلمين، ومع ما قد يقع فى الحقل ص _162
الإسلامى نفسه من أخطاء، ونحن لا نطلب فى مواجهة هؤلاء، ومن وراءهم بأكثر من حرية الكلمة، وما نفكر فى حمل العصا للخصوم، كل ما ننشده أن تتاح لدعاة الإسلام المساحة الزمانية والمكانية التى تتاح لخصومه وأنا موقن بأن حبل الباطل قصير، وأن تبجحه لا يعود إلى تماسك به، وإنما إلى مساندة خبيثة وراءه. وأكد الشيخ الغزالى أن تغيير المنكر فى تسعة أعشار الساحة يمكن تمامه بضمان الكلمة الحرة وإطلاقها، فنحن نثق فى قوة الحق، وقدرة القلم واللسان على عمل الكثير فى ظل الحرية. الداء والدواء واستطرد الشيخ الغزالى فى حديثه إلى (الشعب) قائلا: إن أمتنا تأبى بقوة أن تترك عقيدتها وشريعتها، فلا تفريط فى حرف من كتاب الله، ولا تهاون فى أى حكم من أحكام الشريعة، وعلاقتنا بربنا تبارك اسمه تقوم على مبدأ (سمعنا وأطعنا) ولكن على المسلمين أن يعلموا الطريق الصحيح لإعادة البناء. لقد تعرض العالم الإسلامى منذ قرن أو يزيد لاستعمار حاقد أذلنا سياسيا وعسكريا، واستطاع أن يحتل الأراضى والعقول، وأن يجتاح مواريثنا الدينية والأدبية، وقد اشتبكت معه القوى المؤمنة، واستطاعت أن تحرر التراب وهى فى طريقها إلى تحرير القانون والتقاليد العامة وتخليص تراثنا من كل غزو أجنبى... والأمر يحتاج إلى رؤية وتنظيم، فإن البيت إذا انهدم اتجه الجهد كله إلى إعادة البناء وإقامة الدعائم والمعالم.. أما المعركة على أثاث البيت قبل إتمام البناء فحماقة. إن ديننا يبنى الإيمان على العلم بالكون والقدرة على الإفادة منه، ومنهاجنا فى هذا المجال مؤسفة ولم تطو إلا أشبارا قليلة من مسافة التخلف الحضارى الواسعة، ونكاد نكون عالة على غيرنا! وقصتنا مع رغيف الخبز تثير الخجل، فكيف بما هو فوقه من شئون الحياة؟ فإذا تجاوزنا العقيدة إلى الأخلاق وجدنا صدوعا(3/180)
هائلة فى بنائنا الأخلاقى كيف نتجاهلها وضعف الأخلاق من وراء العجز الإدارى وضعف الإنتاج وفوضى السلوك من كل ناحية؟ ثم إن بلادة الإحساس بحقوق الإنسان وقيمة الحريات جعل العالم الإسلامى مسرحا للطواغيت التى تفترس الضعاف، وتفتح المعتقلات، وتكمم الأفواه وتنشر ص _163
القلق، وأى دين يبقى مع بقاء هذه الطواغيت؟ إن شعب الإسلام تبلغ سبعين شعبة، وهناك أولويات فى إحيائها والحفاظ عليها كلها، وهذا ما يجب أن يستحوذ على نشاطنا واهتمامنا. وحول المنكر ومحوه من المجتمع قال الشيخ الغزالي: إن الوثنية كانت المنكر الأكبر! فماذا صنع النبى عليه الصلاة والسلام معها! إنه لم يهدم صنما حول الكعبة التى نصل إليها حتى بلغ الحادية والستين من عمره أى قبل وفاته بعامين- كان يغير المنكر بلسانه، ويعد الأمة لتغييره باليد فى أول فرصة سانحة، وقد سنحت هذه الفرصة عند فتح مكة، وقبلها بعام واحد طاف فى عمرة القضاء بالكعبة وحولها الأصنام فلم يكسر منها صنما ولم يوعز إلى أحد أصحابه بشيء من ذلك.. كان مشغولا بإعداد الأمة التى تطهر الأرض من الشرك، وإعداد القوة التى تخرس كل أفاك، إنه لم يكن يلهو وحاشاه عليه الصلاة والسلام! ونحن الآن لا نتبع سنته فى التنوير والتربية والتدريب والإعداد. لقد فررنا من الواجب الثقيل فى الاكتفاء الذاتى والارتقاء إلى مستوى حضارى محترم وإبراز الإسلام ديمقراطية حقيقية تنفى الوثنيات السياسية، وتصون الكرامات المادية والأدبية، واكتفينا بالصياح أو البكاء فكانت الهزائم. ص _164(3/181)
الشيخ الغزالي.. بقلمه! والدى رحمه الله- كان يحب شيخ الإسلام أبا حامد الغزالي، وكان عاشقا للتصوف يحترم رجاله ويختار من مسالكهم ما يشاء، لأنه كان حافظا للقرآن جيد الفهم لنصوصه ويروى أبى لأصدقاء الأسرة أن تسميتى "محمد الغزالي" جاءت عقب رؤية منامية وبإيحاء من أبى حامد (رضى الله عنه)، وأيا ما كان الأمر فإن التسمية اقترنت بشخصى ولكنها لم تؤثر فى تفكيرى فأنا أنتفع من تراث أبى حامد الغزالى صاحب "تهافت الفلاسفة" كما أنتفع من تراث خصمه ابن رشد صاحب "تهافت التهافت" وإذا كان الغزالى يحمل دماغ فيلسوف وابن تيمية يحمل رأس فقيه فإننى أعتبر نفسى تلميذا لمدرسة الفلسفة والفقه معا. ولدت سنة 1336 هـ الموافق سنة 1917 م ونشأت فى بيئة متدينة بين إخوة سبعة وكنت أكبرهم ووالدى كان تاجرا صالحا وهو الذى وجهنى إلى حفظ القرآن بل إن من فضله على أن باع ما يملك لكى يذهب بى أو يذهب معى إلى أقرب مدينة يقع فيها معهد أزهرى حيث هاجر من قريته "نكلا العنب" بمحافظة البحيرة إلى الإسكندرية كى أنتسب إلى الأزهر وعمرى عشر سنوات. وطفولتى كانت عادية ليس فيها شيء مثير وإن كان يميزها حب القراءة. فقد كنت أقرأ كل شيء ولم يكن هناك علم معين يغلب علي.. بل كنت أقرأ وأنا أتحرك، وأقرأ وأنا أتناول الطعام. أهمية القراءة: وللقراءة أهمية خاصة لكل من يدعو إلى الله بل هى الخلفية القوية التى يجب أن تكون وراء تفكير الفقيه والداعية، وضحالة القراءة أو نضوب الثقافة تهمة خطيرة للمتحدثين فى شئون الدين وإذا صحت تزيل الثقة منهم. إن القراءة، أى الثقافة هى الشيء الوحيد الذى يعطى فكرة صحيحة عن العالم وأوضاعه وشئونه، وهى التى تضع حدودا صحيحة لشتى المفاهيم وكثيرا ما يكون قصور الفقهاء والدعاة راجعا إلى فقرهم الثقافى. ص _165(3/182)
والفقر الثقافى للعالم الدينى أشد فى خطورته من فقر الدم عند المريض وضعاف الأجسام.. ولابد للداعية إلى الله أن يقرأ فى كل شيء يقرأ كتب الإيمان ويقرأ الإلحاد، يقرأ فى كتب السنة، كما يقرأ فى الفلسفة وباختصار يقرأ كل منازع الفكر البشرى المتفاوتة ليعرف الحياة والمؤثرات فى جوانبها المتعددة. تأثرت بالشيخ عبد العظيم الزرقانى الذى كان مدرسا بكلية أصول الدين وهو صاحب كتاب "مناهل العرفان فى علوم القرآن" وكان عالما يجمع بين العلم والأدب وعباراته فى كتابه المذكور تدل على أنه راسخ القدم فى البيان وحسن الديباجة ونقاء العرض. وفى معهد الإسكندرية الدينى تأثرت بالشيخ إبراهيم الغرباوى والشيخ عبد العزيز بلال وكانا يشتغلان بالتربية النفسية ولهما درجة عالية من العبادة والتقوي، وكانا يمزجان الدرس برقابة الله وطلب الآخرة وعدم الفتنة بنيل الإجازات العلمية لأن للألقاب العلمية طنينا ربما ذهب معه الإخلاص المنشود فى الدين. وقد تأثرت أيضا بالشيخ محمود شلتوت الذى أصبح فيما بعد شيخا للأزهر، إذ كان مدرسا للتفسير، وله قدرة ملحوظة فى هذا المجال إلى جانب رسوخ قدمه فى مجال الفقه وعلوم الشريعة إجمالا، وقد كان رحمه الله شخصية عالمية بارزة يلتف حولها الكثيرون. أما تأثرى الأكبر فقد كان بالإمام الشهيد حسن البنا وكان عالما بالدين كأفقه ما يكون علماء العقيدة والشريعة. وكان خطيا متدفقا ينساب الكلام منه أصولا لا فضولا وحقائق لا خيالات وكان حسن البنا يدرك المرحلة الرهيبة التى يمر بها الإسلام بعدما سقطت خلافته وذهبت دولته ونجح المستعمرون شرقا وغربا فى انتهاب تركته، فكان الرجل يعارض هذا الطوفان المدمر عن طريق تكوين الجماعات التى تعتز بدينها وتتشبث بالحق مهما واجهت من متاعب أو عوائق أو ويلات. حسن البنا كان صديقا لكل من يلقى من أهل الإيمان، فتغمرك بشاشته عندما تراه وتشعر كأنك أصبحت صديقا أثيرا لديه وكان يضن بوقته على اللغو(3/183)
فما تمر ثانية ولا أقول دقيقة إلا وهو يخدم الإسلام بكلمة أو توجيه أو عمل نافع أو دعابة لطيفة تربط بين القلوب. وذاكرة حسن البنا كانت حديدية وكأنها شريط مسجل يستوعب الأسماء والمعاني، فلو التقيت به وناقشت معه إحدى القضايا، أو ذكرت له اسم إخوتك مثلا ثم لقيته بعد ذلك ببضع سنين لبادرك بالسؤال عن إخوتك وناقشك فى القضية التى طرحتها عليه منذ سنين واسترجع معك الحديث وكأنه تم بالأمس القريب. ص _166
والحق أن الرجل كان يحب عن إخلاص لا عن تكلف وربما عانق عاملا يلبس بدلة الشغل الملوثة بشحوم الآلات وسوائلها فما يحجزه شيء من ذلك عن ترجمة حبه. وحسن البنا له عبقريات منوعة يحتاج الكلام فيها إلى كتاب منفرد. مدرستى الخاصة: المدرسة التى أعتبر نفسى رائدا فيها أو ممهدا لها تقوم على الاستفادة التامة من جميع الاتجاهات الفكرية والمذاهب الفقهية فى التاريخ الإسلامي، كما ترى الاستفادة من كشوف الفلسفة الإنسانية فى علوم النفس والاجتماع والسياسة والاقتصاد والتاريخ ومزح هذا كله بالفقه الصحيح للكتاب والسنة. إن الرؤية الصحيحة لأحكام الشريعة أو الحكم الصائب الذى ينبغى تقريره لا يتم إلا مع رحابة الأفق ووجود خلفية عظيمة من المعرفة القديمة والحديثة على السواء وربما كان أسلافنا القدامى قد رزقوا من سلامة الفطرة وحدة الذكاء ما يجعلهم قادرين على حسن الفهم والحكم، ولكننا فى هذا العصر لا نصل إلى مستواهم إلا بعد دراسات مضاعفة كما يستعين صاحب النظر القصير بالمناظير المقربة حتى يعرف ما يقرأ أو حتى يدرك من بعيد ما لا يستطيع رؤيته بالعين المجردة. تجاربى فى الدعوة: تخرجت من الأزهر سنة 1360 هجرية الموافق سنة 1941 م ومنذ ذلك الوقت وأنا أعمل فى خدمة الإسلام دعوة وتدريسا. وفى رأيى أن الدعاة إلى الله، فى هذا العصر غيرهم فى العصور الماضية.. قديما كانوا يدركون حظا من النجاح بمعرفة محدودة وتقوى ظاهرة. أما فى هذا العصر فإن أعداء(3/184)
الإسلام قد تضاعف نشاطهم ونمت أحقادهم وكثرت العقبات التى وضعوها فى طريق الدعاة، واستطاعوا استغلال التفوق الحضارى لوقف الزحف الإسلامى فى أقطار كثيرة، بل ولعلهم استغلوا ثراءهم وقدرتهم فى فتنة طوائف من المسلمين فى أفريقيا وآسيا وأوروبا ولذلك لا يكفى أن تعمل أجهزة الدعوة الإسلامية بل لابد أن تكون من ورائها خدمات شتى اجتماعية وصحية وتعليمية وثقافية.. الخ. شروط الداعية: والدعوة إلى الله لا يصلح لها بداهة أى شخص.. إن الداعية المسلم فى عصرنا هذا يجب أن يكون ذا ثروة طائلة من الثقافة الإسلامية والإنسانية، بمعنى أن يكون عارفا ص _167(3/185)
للكتاب والسنة والفقه الإسلامى والحضارة الإسلامية، وفى الوقت نفسه يجب أن يكون ملما بالتاريخ الإنسانى وعلوم الكون والحياة والثقافات الإنسانية المعاصرة التى تتصل بشتى المذاهب والفلسفات. ويجب على من يدعو إلى الله أن يتجرد لرسالته التى يؤديها فتكون شغله الشاغل وعليه أن يعامل الناس بقلب مفتوح فلا يكون أنانيا ولا حاقدا ولا تحركه النزوات العابرة ولا ينحصر داخل تفكيره الخاص فهو يخاطب الآخرين وينبغى أن يلتمس الأعذار للمخطئين وألا يتربص بهم بل يأخذ بأيديهم إذا تعثروا. ويحتاج الداعية المسلم فى هذا العصر إلى بصر بأساليب أعداء الإسلام على اختلاف منازعهم سواء كانوا ملحدين ينكرون الألوهية أو كتابيين ينكرون الإسلام. وقد لاحظت أن هناك أصنافا من الناس فى ميدان الدعوة تسيء إلى الإسلام أشد الإساءة، منهم الذى يشتغل بالتحريم المستمر فلا تسمع منه إلا أن الدين يرفض كذا وكذا دون أن يكلف نفسه أى عناء لتقديم البديل الذى يحتاج إليه الناس.. وكأن مهمته اعتراض السائرين فى الطريق ليقفوا مكانهم دون أن يوجههم إلى طريق آخر أرشد وأصوب. وهناك دعاة يعيشون فى الماضى البعيد وكأن الإسلام دين تاريخى وليس حاضرا ومستقبلا، والغريب أنك قد تراه يتحامل على المعتزلة والجهمية مثلا وهو محق فى ذلك ولكنه ينسى أن الخصومات التى تواجه الإسلام قد تغيرت وحملت حقائق وعناوين أخري. وهناك دعاة آخرون لا يفرقون بين الشكل والموضوع أو بين الأصل والفرع، أو بين الجزء والكل فهم يستميتون فى الإنكار بأى شكل من الأشكال ويبددون قواهم كلها فى محاربة هذا الشكل، أما الموضوع فهم لا يدرون ماذا يصنعون إزاءه ولهؤلاء عقلية لا تتماسك فيها صور الأشياء بنسب مضبوطة ولذلك قد يهجمون شرقا على عدو موهوم ويتركون غربا عدوا ظاهرا بل ربما حاربوا فى غير عدو.. وهؤلاء وأولئك عبء على الدعوة الإسلامية يجب إصلاحهم كما يجب إصلاح الذين يدخلون ميدان الدعوة بنية العمل(3/186)
لأنفسهم لا لمبادئهم فإن العمل الذى يستهدف القيم الإسلامية غير العمل الذى يدور حول المآرب الشخصية. تبين لى بعد أربعين سنة من العمل فى الدعوة الإسلامية أن أخطر ما يواجه العمل الإسلامى هو التدين الفاسد أى استناد النفس إلى قوة غيبية وهى تعمل للخرافات والأوهام، أو هى تعمل للأغراض والمآرب.. ص _168
الدين مثلا يقظة عقلية وهؤلاء يعانون تنويما عقليا متصلا والدين قلب سليم وهؤلاء استولت على قلوبهم علل رديئة.. والأمر فى كشف التدين الفاسد يحتاج إلى تفاصيل للتعامل مع الآفات النفسية والعقلية التى تسبب هذا البلاء، وقد خصص أبو حامد الغزالى جزءا ضخما من كتابه (الإحياء) فى علاج هذه الآفات والتحذير منها كما وضع ابن الجوزى كتاب "تلبيس إبليس" للكشف عن صور التدين الفاسد وإبعاد العامة والخاصة عنه. وقد ألفت بعض كتبى وأنا مستغرق فى محاربة هذا الجانب من التدين المعلول سواء كان رسميا أو شعبيا مثل كتاب "تأملات فى الدين والحياة" وكتاب "ليس من الإسلام" وكتاب "ركائز الإيمان بين العقل والقلب" وأخيرا كتابى "الدعوة الإسلامية تستقبل القرن الخامس عشر". والحقيقة أن التدين الفاسد سر انحراف كثير من العقلاء لأنهم ينظرون إلى الدين من خلال مسالك بعض رجاله وآثارهم فى الحياة العامة، والواقع أن بعض المتدينين كانوا فى القديم والحديث بلاء على الدين. بدأت الكتابة منذ الشباب الباكر وكانت هواية عندى ورغبة أجد راحة فى تحقيقها ولم أتوجه إلى الكتابة الدينية إلا بعد أن اشتغلت بالدعوة الإسلامية.. وقد سلكت فى الكتابة الدينية منهجا يجمع بين العلم والأدب مع عرض الثقافة الإسلامية عرضا ممزوجا بقضايا العصر الحاضر، ويمكن القول أن هناك عدة محاور أساسية دارت حولها كتبى الخمسة والثلاثون التى وضعتها فى الأربعين عاما الماضية: "الإيمان والعقل والقلب" و "الإسلام والطاقات المعطلة". تفسير جديد للقرآن الكريم: وأحب أوقات الكتابة إلى بعد صلاة(3/187)
الفجر.. عند هذا الوقت أشعر باجتماع فكرى ويقظة أعصابى وقدرتى على إفراغ ما فى نفسى فوق الصفحات ويغلب أن تكون الكتابة الأولى هى الأخيرة، وقلما أمحو منها أو أزيد عليها إلا القليل بل قلما أعود إلى قراءة كتاب أصدرته إلا إذا كانت هناك حاجة ملحة فى ذلك، كمناقشة له أو حوار حوله. وأتمنى أن أكتب التفسير الموضوعى للقرآن الكريم فكل سورة من القرآن وحدة متماسكة تشدها خيوط خفية تجعل أولها تمهيدا لآخرها وآخرها تصديقا لأولها وتدور السورة كلها على محور ثابت وأتمنى وضع كتاب جامع فى ذلك. ص _169(3/188)
من مواصفات الداعية * ماهى المواصفات المطلوبة فى الداعية المأمول والمطلوب الذى يستطيع أن يخاطب الشباب ويستطيع أن يصل إلى عقولهم فى يسر وإلى وجدانهم فى رقة عبر معطيات العصر؟ - بدأ فضيلة الشيخ الغزالى الاجابة على هذا السؤال بقوله: هناك أمران لابد منهما.. أول الأمرين قد يبدو سهلا ولكنه فى حقيقته صعب.. الأمر الأول هو أن ندرك أن فاقد الشيء لا يعطيه.. فإذا لم يكن الإنسان موصولا بالله فإن دعوته إلى الله لا تثمر ولا تنفع.. ولقد سمع الحسن البصرى رجلا يدعو وكان فصيح اللسان، ويتكلم بطلاقة.. ولكنه لا يترك أثرا فى النفس فقال له: يا أخي.. إن بقلبى شيئا أو بقلبك. إذن لابد من الإخلاص لله.. وليست النائحة الثكلى كالنائحة المستأجرة.. لابد أن يكون فعلا عاشقا لدينه ولربه ولنبيه وللصالحين من العباد.. ومحبا لنقل الخير إلى الناس بعشق ورغبة شديدة.. أما الصناعة فإنها قد تصلح فى كل شيء إلا فى الدعوة إلى الله.. وهناك أناس يمثلون ويعيشون على التمثيل لكن هذا لا يعطى شيئا قط، فلابد أولا من إخلاص لله.. ومن يؤمن بالله يهد قلبه.. فإذا صدق الإيمان يكون هذا بداية الخير.. وصدق الإيمان ليس دعوة.. فقد يقال للإنسان إذا تكلمت فستعاقب.. فيقول: بغير اندفاع أو جرأة : ما عند الله أبقى. إذن الداعية أساسه أن يكون مؤمنا بالله ومخلصا له.. وإذا ضاع هذا الأساس فلا قيمة لشيء.. وقد يكون لسنا ويتكلم ويترك بعض الآثار لكن لا بركة فيما قال أو يقول.. إذن فإن الاعتماد على الله والاستناد إلى الله هذا أول شيء. والشيء الثاني: لابد للداعية من ثقافة إسلامية لا حدود لها.. فالمدرس قد يكون مدرس فقه، أو مدرس نحو، أو مدرس تفسير، أو بلاغة أو لأى مادة.. ولكن الداعية إلى الله لابد أن يوطن نفسه على أن يكون نابغا فى هذه المجالات كلها.. لأنه لن يكون مدرسا لفرقة بل سيكون مدرسا للشعب كله وفى وجه الجماهير.. لذلك لابد أن يكون دارسا لعلوم الدين دراسة(3/189)
واعية يعرف التفسير ويعرف الحديث وألا يوقع نفسه فى حديث مكذوب لا أصل له. ص _170
وقال فضيلة الشيخ الغزالي: عندما كنت مديرا للمساجد جاء شخص يخبرنى بأن هناك مقالا مكتوبا ضدي.. كتبه محام يدعى محمد سليمان خميس وعنوان المقال "مدير المساجد يكذب رسول الله".. وقد نشر هذا الحديث فى جريدة "منبر الشرق".. وعندما علمت بذلك فزعت وأرسلت فى طلب هذا المقال فورا وقرأته، وبعدما قرأته شعرت بالراحة لأن الرجل كان جاهلا مسكينا.. وقد بنى المقال كله على أنه قرأ للشيخ الغزالى كلاما يقول فيه أن من أسباب تأخر المسلمين حبس المرأة وأننى كذبت حديثا يقول: "ان فاطمة سألت رسول الله: ما هو أفضل شيء للمرأة فقال الرسول: ألا ترى رجلا وألا يراها رجل!" فدعوت هذا الرجل وقلت له: أمامك شهر كامل لتبحث عن هذا الحديث.. فى البخارى ومسلم، وأبو داود والترمذي، وابن ماجه، وأحمد بن حنبل، والطبرانى وغيرهم.. وعاد الرجل فعلا بعد شهر وهو يشعر بالخجل وقال إنه قرأ الحديث منشورا فى كتاب يجمع ما بين الجد والهزل ونشر فيه أن جبريل قد نزل وعقد قران على بن أبى طالب على فاطمة بنت رسول الله.. هذه خرافات. ثم سألته: بعقلك أنت كمحام يزن الأمور: كيف يقول الرسول ذلك وهو الذى فتح المسجد للرجال والنساء؟.. وفتح بابا فى المسجد للنساء.. وهو الذى رق قلبه عندما سمع بكاء طفل يبكى مع أمه عند صلاة الفجر فاختصر صلاة الفجر حتى تحتضن الأم طفلها ويتوقف بكاؤه.. المهم أن هذا المحامى نفسه بعد أن تصادقنا وجدت فتاة تدير له مكتبه!. وقال: المهم أننى أكره أن تكون البيوت فارغة من النساء لأن البيت أساسه المرأة.. والمرأة للبيت قبل كل شيء وبعد كل شيء. وقال: ويأتى بعد العلوم الدينية التى يجب أن ينهل منها الداعية العلوم الإنسانية.. علم النفس- علم الاجتماع- علم السياسة- علم التاريخ- علم الاقتصاد... الخ. ويقول: أنا قرأت ألف ليلة وليلة كلها.. وقرأت كتبا شتى فى كل المجالات(3/190)
حتى أننى قرأت كتبا فى العلاقات الجنسية لكاتب مسيحى إسمه حبيب موسى وكان كتابا علميا جيدا. وقال: لابد للداعية المسلم أن يكون خبيرا فى الديانات الأخرى.. إن عليه أن يقرأ فى علم مقارنة الأديان وعلم الملل والنحل ولابد للداعية المسلم أن يكون محيطا بعلل ص _171
قومه الذين يعيش بينهم وأن يكون خبيرا بالمكان الذى يذهب إليه.. لابد أن يكون لديه ثقافة واسعة.. فإذا قلت لى يكفى ألف كتاب أقول: والله يمكن يكفوا.. لكن الأفضل له أن يقرأ ألفى كتاب.. إذن لابد من العلم الكثير مع الإخلاص الكبير. والأمة عليها واجب: وقال فضيلة الشيخ الغزالي: ويبقى أن أقول أن الأمة عليها واجب نحو الداعية.. لأن الحديث يقول "ليس منا من لم يوقر كبيرنا، ويرحم صغيرنا، ويعرف لعالمنا حقه".. والمجتمع الإسلامى له تقاليده التى تقوم على أساس أن الكبير يرحم الصغير، والصغير يوقر الكبير، والكل يحترم العلماء.. هذا حقا كان موجودا منذ زمن.. لكن الآن قل الأمران.. فقد قل وجود العلماء وقل احترام الناس لهم.. نحن نعيش الآن محنة كبيرة فى العالم الإسلامى. وظيفة تحتاج إلى تخصص: وقال: إن الدعوة إلى الله وظيفة تحتاج إلى تخصص.. وقد شاء الله وهو الذى يرسم أقدار الناس إننى وعندما كان عمرى عشر سنوات التحقت بالأزهر الشريف.. حيث التحقت به فى عام 1928 وتخرجت فى عام 1941.. ومضى على حتى الآن خمسون سنة وأنا أعمل فى مجال الدعوة وعرفت أن التجربة هى التى تصقل الإنسان.. وإذا توفر العلم والإخلاص والذكاء لابد من توفر الأخلاق.. أى لابد أن تكون الأخلاق بين العقيدة والذكاء.. فلابد أن يكون الداعية صادقا حييا وعفيفا وشجاعا.. وعلماؤنا يعرفون هذا كله. وقال أبو يوسف تلميذ أبى حنيفة "أيها الناس أريدوا الله بأعمالكم فوالله ما أردت غير الله يوما إلا خذلت".. وأبو يوسف كان قاضى القضاة يوصى الناس بالإخلاص لله.. وكان يعظ الخليفة ويقول له: يا هارون.. كيت.. كيت.. كيت.. وقد(3/191)
كان هو هارون الرشيد.. فمع احترامه للحاكم ومحبته له إلا أنه كان يؤدى حق الله عليه. وقال: إذن واجبات الدعاة كثيرة.. وفى اعتقادى أنه من الأفضل لو أعطى للداعية شيء من الحصانة حتى لا يجبن وحتى لا يقلق على مستقبله.. لأننا بشر ونخاف. وقال: كنت خطيبا فى مسجد عمرو بن العاص وكان يصلى فيه الجمعة حوالى 30 ألف مسلم.. ثم فوجئت- وأنا مدير عام للدعوة وبدرجة وكيل وزارة - بصدور قرار يقضى بمنعى من دخول الوزارة والمسجد.. وهمت على وجهى فى القاهرة بدون ص _172(3/192)
عمل.. وأثناء سيرى فى أحد شوارع القاهرة قابلنى شخص كان تلميذا لى فى كلية الشريعة وسألنى عن حالى فأخبرته بما حدث فقال: هل تقبل أن تدرس لأولادك فى كلية الشريعة فى مكة؟ فوجدت نفسى أوافق على الفور.. وفعلا سافرت وبقيت هناك سبع سنوات متواصلة. ولكن لماذا يأتى حاكم ليقول لوزير: افصل هذا الداعية.. وأنا لم أكن فى أى يوم هجاما.. كانت مهمتى وما زالت هى أن أشرح الإسلام.. لكن إذا كلفت بما يناقض دينى وخلقى أتوقف. إذن أمام الداعية هناك عجز شعبى وعجز حكومى وهو بين الاثنين يضيع.. ولكن هناك تجربة فقد تعلمنا أن التوكل على الله لابد منه وأن من توكل على الله لقيه فعلا.. علم درسناه والتجربة التى خضناها صدقت هذا العلم عدة مرات فيستحيل أن واحدا يعتمد على الله ويخذله الله.. ولا بأس من أن توجد متاعب.. فقد جاع الأنبياء.. فقد كان النبى الكريم يحب أن يأكل وأن يشبع.. ولكننا نرى السيدة عائشة تقول: "كان الهلال تلو الهلال تلو الهلال يمر بأبيات رسول الله وهى تسع فما توقد نار تحت قدر.. إنما هما الأسودان: التمر والماء.. ثلاثة شهور لا يأكل فيها الرسول إلا التمر.. لكنه كان مضطرا وتحمل وكانت النتيجة أنه ملك الأمة أرض الروم وأرض فارس. أحوال المسلمين والصحوة الإسلامية: * أسمع فضيلتكم وأنت تقارن بين أحوال المسلمين بالأمس وأحوالهم اليوم.. وأراك شديد التأثر إلى الدرجة التى تغلبك فيها دموعك.. فهل معنى ذلك أن هناك خوفا على الصحوة الإسلامية التى بدأت تظهر بوضوح فى السنوات الأخيرة.. أو أن هذه الصحوة قد أصابها الفتور أو التراجع؟. فضيلة الشيخ الغزالي: أرى أن الذين يطلقون على أنفسهم أصحاب الصحوة الإسلامية جهال.. ليست لديهم المعرفة السياسية الواعية.. لديهم شرور ولا تنقصهم الشجاعة أبدا.. فمثلا أنا عشت فى الجزائر خمس سنوات عشت فيها وأنشأت جامعة هناك بتكليف من الرئيس الشاذلى بن جديد.. وكان يقول: نحن نريد أن نعود إلى الإسلام(3/193)
والنظام الإسلامى وما إلى ذلك.. وهو رجل مسلم حقا ويصلى الفروض الخمسة بانتظام شديد.. وكان يناقشنى فى أمور الدين وفيما أعلنه ص _173
من أراء فى الدين.. وكان بينى وبينه ود حقيقي.. وهو الذى سمعته يقول: ما دام هناك حزب شيوعى لابد من حزب إسلامي.. وتكون فعلا الحزب الإسلامي.. فهل من الرشد ومن الحياء والوفاء أن أول ما يفعله الحزب الإسلامى هو طلب إقصاء الشاذلى بن جديد؟. ثم ما دخلكم أنتم بأعضاء الحزب الإسلامي.. السياسة واسعة.. وفرنسا قوية جدا.. وخير الجزائر جاء من الله والعالم الإسلامى ومنهم عبد الناصر قد أمدهم بكل ما يملك.. وخسرت مليونا ونصف مليون شهيد.. والآن ماذا تريد الجزائر؟.. الجزائريون فقراء وأكثر فقرا من مصر وحالتهم العامة سيئة.. وأسأل الأخ أبا الحاج وغيره.. إذا أنشأت حكومة إسلامية الآن ماذا ستفعل مع فرنسا ومع أوروبا ومع أمريكا؟ ستزداد الحالة سوءا حتى إذا منعوا الأدوية أو قطع الغيار.. الجزائر تعبانة فعلا.. وحالتها تستدعى التأنى فى نقل الشعب من مرحلة إلى مرحلة أخرى.. وما يطلقون على أنفسهم بالإسلاميين لا يعترفون بذلك.. لأن بهم بعضا من غباء. وقال فضيلة الشيخ الغزالي: عندما أنشأت الجامعة كان ثلثها من البنات.. والنظام الإسلامى فيه الحجاب الذى يعنى تغطية الجسم فيما عدا الوجه والكفين.. ولكنى فوجئت بجماعة يأتوننى ويقولون: لابد من النقاب.. قلت لهم: ومن أين جاءت "لابد" هذه؟ هل ستعلموننى الإسلام؟ وعليكم بآية من القرآن أو حديث نبوى يقول لابد من تغطية الوجه. وقلت لهم: وليس فى الإسلام أيضا أنه لابد أن يكون تناول الطعام باليد.. وأن الأكل بالمعلقة بدعة.. من أين أتيتم بهذا الكلام؟ وسمعت بالحاج وكيل جماعة الإنقاذ يخطب ويقول: لا عمل للمرأة إلا ولادة الرجل.. وهل هذا عمل؟ إن هذا الكلام يمكن أن يجعل المرأة الجزائرية تكفر بالإسلام وهى ترى المرأة الشيوعية وزيرة والمرأة غير المسلمة رئيسة لوزراء(3/194)
بريطانيا لمدة عشر سنوات.. تكفر لأنها تعلمت وتوظفت وأنت تريد أن تحبسها فى بيتها.. ورغم أنها تعلمت وتوظفت يبقى البيت هو الأساس وولادة الأولاد هى عملها الأول، والمرأة راعية فى بيتها وكل راع مسئول عن رعيته.. الخ. ويقول: مختصر الكلام أن لديهم جهلا عميقا وتعصبا لهذا الجهل وجرأة وهذا بلاء. وقال: إذن الصحوة الإسلامية لم تأت لأن أهلها جبناء.. ولكنهم شجعان ولكن ص _174
بغير عقل كالدبة التى قتلت صاحبها واجبنا هو أن نرشد هؤلاء ولا يجوز أن يكون الإسلام بين الإفراط والتفريط فهراء أن يقول أحد لا انغلاق فى الدين ونريد أنظمة عالمية وحضارة عالمية.. أو يقول آخر الدين قميص يلبس ولحية تطلق.. فلماذا نضع للإسلام شارة "قميص ولحية" وصاحب الرسالة يقول: البس ما شئت "ما أخطأتك خصلتان سرف ومخيلة، دع الإسراف ودع الخيلاء والبس ما تشاء".. إذن ليس للإسلام زى معين.. فصاحب الرسالة كما قال البخارى قد لبس جبة رومية ضيقة الأكمام.. والمعروف أن الملابس تحكمها البيئات.. فنحن نلبس ملابس واسعة.. لأن بلادنا حارة.. وحيث تكون المناطق باردة تكون الملابس ضيقة وسوداء أو ملونة وليست بيضاء كما فى الدول المجاورة. وقال الشيخ الغزالي: دعيت من قبل جامعة حلوان لأشارك فى مناقشة رسالة فرأيت هناك طالبا أتى به العميد إلى كان يلبس جلبابا ضيقا ومطلقا لحية غير منضبطة وغير مرتبة.. فسألته: ما هذا؟ قال لبس الإسلام.. قلت: من قال لك ذلك؟.. ثم قلت له: أنت فى كلية التجارة ونريدك أن تتخرج نافعا فى مجال الاقتصاد الذى نحن مهزومون فى ميدانه.. ونريدك أن تنصر الإسلام فى هذا الميدان.. لكن ما تفعله هو فرار من العلم ومن الميدان وليس من الإسلام فى شيء.. والمهم أننى عندما سألته: ما هذا الجلباب؟ قال: إنه جلباب إسلامي.. وكان الجلباب ضيقا وهو بدين جدا الأمر الذى جعل منظره كئيبا. وقال: إن المتطرفين يوجهون أكبر إساءة للإسلام والمسلمين. وأضاف: جاءتنى الخطبة(3/195)
الأخيرة لبابا الكنيسة الكاثوليكية يوحنا بولس وعندما قرأتها وجدت عباراتها منتقاة موزونة بموازين الذهب وكل كلمة مضبوطة وفى غاية الرقة.. وماذا يحدث عندما يشكو هذا الرجل ويقول أن المسلمين حرقوا لى كنيسة أو كنيستين فى إمبابة بمصر؟.. ماذا نرد... نقول له وهو الذى يتحدث إلى المسلمين بغاية اللطف.. بينما المسلمون يحرقون كنائسه.. فهل هذه طريقة؟. وقال: لا يجوز أن يتولى الأطفال قيادة الراشدين.. فالأمم الجادة هى التى يقود الكبار فيها الصغار. والشاعر الجاهلى قال من قديم: والبيت لا يبتنى إلا له عمد ولا عماد إذا لم ترس أوتاد فإن تجمع أوتاد وأعمدة وساكن بلغوا الأمر الذى كادوا لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ولا سراة إذا جهالهم سادوا تمضى الأمور بأهل الرأى ما صلحت فإن تولت ففى الأشرار تنقاد ص _175(3/196)
وقال: إذن الصحوة تريد نورا شديدا لتمكن الطلبة من استذكار دروسهم جيدا وأن يتعلموا جيدا وينفعوا وطنهم كما يجب.. وينظروا كيف أن الأقباط يربون أبناءهم الآن فى الكنائس بدون ضجة ودون أن يشعر بهم أحد بينما نحن نعمل "هيصة" بدون فائدة ونصرف معها أولادنا عن التعليم.. ولدينا الأسوة الحسنة فى كل مجال. الدعاة موظفون حكوميون: * ألا يمكن أن يكون السبب فيما آل إليه حال الدعاة فى عالمنا الإسلامى هو أنهم قد تحولوا إلى موظفين حكوميين؟. - الشيخ الغزالى: أنا أرى إذا كان لما تقوله دخل فإن نسبته لا تتعدى العشرة فى المائة.. أنا عملت إمام مسجد لمدة أربع سنوات فى مسجد بمنطقة العتبة بالقاهرة وكنت أؤدى واجبى وليس لأحد أى سلطان علي.. ولا يوجد خوف إلا ما يتصوره الإنسان خوفا.. فلم يحدث لى أى شر طوال هذه الفترة وكنت موظفا لدى الدولة. وفى مرة كنت أخطب الجمعة وهاجمت الشيوعية.. وكان مفتش المساجد موجودا وكان يعمل إماما فى نفس المسجد من قبل ولكنه كان غير محبوب وهاله هذا الإقبال الكبير على سماع خطبتي.. فلما انتهت الصلاة قال لي: ماذا فعلت؟ لماذا تتحدث فى السياسة؟ عليك أن تأتى إلى الوزارة للتحقيق معك.. فذهبت إلى الوزارة وكان مدير المساجد حينذاك الشيخ سيد زهران الذى وجه حديثه إلى المفتش قائلا له: ماذا فعل.. ألم يهاجم الإلحاد فعلا.. فقد كنت داعية موظفا وكنت أقول ما يمليه على ضميرى الإسلامى ولم يضرنى أحد.. لأن الجبن هو من الداخل ولا شيء يمكن أن يجعل الإنسان جبانا. وقال: القضاة لديهم الحصانة التى تجعل القاضى يحكم بالعدل ويكون نزيها إلى أقصى درجات النزاهة.. ولكن هناك منهم من يجبن ويحيد عن قول الحق.. فهذا القاضى قد أتاه الجبن من داخله هو.. وليس لأنه موظف فى الحكومة. وأضاف: إذن رجال الدعوة ورجال الإرشاد فى كل مكان فى استطاعتهم أن يقولوا الخير الكثير ولكنهم قد يجبنون جبنا من داخلهم وليس خوفا من الله.. وهذا هو الخطر..(3/197)
والكثيرون لديهم الشجاعة والإخلاص لله وهم موظفون بالحكومة ولا يهمهم غير مرضاة الله. ص _017
وأنا أعرف أن المتنبى غفر الله له كان يحب المال إلى حد البخل! ويحب الإمارة إلى حد الجنون. ومع ذلك أطرب لشعره، وأستجيده وأستزيده، وإذا لم يكن أميرا لشعراء العرب فهو من قممهم!
إننى لا أجعل عيبا ما يغطى مواهب العبقري! ثم لحساب من أهدم تاريخنا الأدبى والديني؟ ولمصلحة من أشتم اليوم علماء لهم فى خدمة الإسلام وكبت أعدائه كفاح مقدور...؟
ومن يبقى من رجالنا إذا أخذت تاريخ الشيخين أبى بكر وعمر من أفواه غلاة الشيعة، وتاريخ على بن أبى طالب من أفواه الخوارج، وتاريخ أبى حنيفة من أفواه الإخباريين، وتاريخ ابن تيمية من ابن بطوطة ، وتاريخ محمد بن عبد الوهاب من أفواه الأتراك... إلخ؟!!
وددت لو أعنت على محاكاة أبى حامد الغزالى مؤلف "إلجام العوام عن علم الكلام" فألفت كتابا عنوانه "إلجام الرعاع والأغمار عن دقائق الفقه ومشكل الآثار" لأمنع الصغار عن مناوشة الكبار، وأشغلهم بما يصلحون له من أعمال تناسب مستوياتهم، وتنفع أممهم بهم، ولعلى أشرح سبب ذلك فى مقال آخر إن شاء الله . ص _177(3/198)
- فضيلة الشيخ الغزالي: الأمر للإباحة.. والذى لا يجد زوجة إذا لم يكن قادرا على مئونتها فإنه يصوم.. فإذا كان متزوجا بواحدة فلماذا يتزوج الثانية وهو غير قادر على مئونتها؟! إذن التعدد هنا ممنوع وليس جائزا.. والخراب ليس فى الإسلام.. الخراب موجود فى عقول من يفتون وهم ليسوا أهلا للإفتاء.. الإسلام هذا كائن حى له عقل وأعضاء وقلب.. الخ.. وهؤلاء المخربون للإسلام ليس لديهم العقل ولكنه الشعر النابت فوق الجسم.. ويعتقدون أن العقل مسألة جزئية وبعيدة.. وهؤلاء أخلوا بالدين وجعلوا من رجليه رأسه ومن رأسه رجليه.. وهؤلاء ليس لهم وزن.. وبينى وبينهم حرب مستمرة فى كتاباتى. * البعض يمنعون الدعاة من الإفتاء على مذهب أبى حنيفة؟. - هذا نوع من العمي.. لأن أبا حنيفة مثل ابن حنبل.. وابن حنبل مثل أبى حنيفة.. * هناك ضجة الآن فى الصحف الهندية هدفها التجريح فى الإسلام وتقوم على أساس أن النبى - صلى الله عليه وسلم - تزوج السيدة عائشة وعمرها تسع سنوات؟. - الشيخ الغزالي: السيدة عائشة كانت مخطوبة قبل أن يتزوجها النبى وذلك نظرا لما كانت تتمتع به من نضج كبير.. وعندما تزوجها كانت أهلا للزواج.. وهى كانت ناضجة جدا عندما تزوجها الرسول.. رغم صغر سنها وليس صحيحا أن عمرها كان تسع سنوات وإنما كانت فى حدود الثانية عشرة من عمرها.. ثم إن التقاليد وقتها كانت تسمح بذلك.. وهناك فى الغرب بنات يحملن سفاحا ويلدن وهن فى سن الثانية عشرة نظرا لنضوجهن فيكن غير طبيعيات.. وبعض الفتيات "يبلغن" فى سن التاسعة. منهج لتخريج الدعاة: * كيف يتسنى لنا أن نضع منهجا لتخريج الدعاة الذين يؤمنون بالله ويحملون الصدق والإخلاص للعقيدة فعلا.. سواء على القطاع الرسمى أو القطاع الأهلى؟. - فضيلة الشيخ الغزالي: إن عملية وضع المنهج عملية سهلة.. فأنا أستطيع أن أضع منهجا له أصول من الكتاب ومن السنة ومن التاريخ الإسلامي، ومن أصول الفقه، ومن تاريخ الشريعة(3/199)
الإسلامية، ومن علم الملل والنحل، ومن مقارنات الأديان، ومن علوم النفس والاجتماع وما إلى ذلك.. ومن خلال التدريب على الخطابة، وبعبادات دورية مثل البقاء فى مسجد معا على مدى أسبوع كامل نصلى الخمسة فروض جماعة ونسمع دروسا، ونناقش فى حوار مفتوح وما إلى ذلك.. هذا ممكن. ص _178
أريد أن أقول أننا فاشلون فى تخريج الدعاة بينما غيرنا ناجحون.. فوضع منهج ليس معجزة ولكننا نحن المقصرون.. وأرجو ألا يكون عقابنا شديدا.. وأنا أتوقع حقيقة أن الأمة الإسلامية والعربية بالذات ستواجه الكثير من المآسى خلال السنوات القادمة.. لأن إسرائيل سائرة نحو تحقيق استراتيجيتها أو هدفها وهو "الدولة التى تمتد من النيل إلى الفرات".. وهى تعد الآن العدة لذلك.. وهل يعقل أحد أن الأربعة مليون سوفيتى الذين هاجروا إليها سيعيشون داخل إسرائيل.. هذا غير ممكن.. ونحن أمام مشاكل عويصة ولن ينقذنا منها إلا العودة إلى الإسلام، والعودة إلى الإسلام تحتاج إلى دعاة مربين شجعان يقودون الجماهير قيادة راشدة وليست قيادة فاشلة. ص _179(3/200)
عالمية الرسالة ووظيفة الأمة الإسلامية كان الوحى الإلهى قديما يتخير بقاعا من أرض لينزل بها كما ينزل الغيث فى مكان دون مكان. لكن بعثة محمد عليه الصلاة والسلام كانت نقلة جديدة بالعالم كله، وتحولا فى حركة الوحى الإلهى على ظهر الأرض، إذ جاءت الرسالة الأخيرة لكل بشر بعقل وبسمع، ثم هى قد صحبت الزمان فى مسيرته، فإذا انتهى جيل من الناس فإن الجيل الذى يليه مخاطب بها مكلف أن يمشى فى سناها. والإجماع معقود بين المسلمين على عموم الرسالة وخلودها. ونريد أن نلقى نظرة على الآيات التى دلت على عالمية الرسالة لنستخلص منها حكما محددا.. قال تعالى فى سورة التكوير: ( فأين تذهبون * إن هو إلا ذكر للعالمين * لمن شاء منكم أن يستقيم ). وقال فى سورة القلم: ( وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون * وما هو إلا ذكر للعالمين ). وقال فى سورة سبأ: ( وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا ولكن أكثر الناس لا يعلمون ). وقال فى سورة الفرقان: ( تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا). وقال فى سورة الأنبياء: ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ). ص _180(3/201)
وقال فى سورة يوسف: ( وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين * وما تسألهم عليه من أجر إن هو إلا ذكر للعالمين ). وقال فى سورة الأنعام: ( وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى قل لا أشهد قل إنما هو إله واحد وإنني بريء مما تشركون). وقال أيضا فى السورة نفسها: ( أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده قل لا أسألكم عليه أجرا إن هو إلا ذكرى للعالمين). وهذه الآيات كلها مكية، أى أن عالمية الرسالة تقررت منذ بدأ الوحي، وفى الأيام التى كانت الدعوة فيها تعانى الأمرين. كان القرآن يقرر أنه رسالة للعالم كله فى الوقت الذى كان فيه أهل مكة يستكثرون أن يكون محمد - صلى الله عليه وسلم - رسولا لهم وحدهم!! ولم تنزل بالمدينة آية تتحدث عن هذه العالمية، اكتفاء بما تمهد فى صدر الدعوة إلا آية واحدة من سورة الأحزاب هى قوله جل شأنه ( ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين ). محمد - صلى الله عليه وسلم - هو خاتم الأنبياء والمرسلين والقارات الست لن يطرقها من السماء طارق إلى قيام الساعة. وختم النبوة تقرير لهذه العالمية، فإن القارات الست إلى قيام الساعة لن يطرقها من السماء طارق، ولن يجيئها من عند الله رسول، وسيبقى محمد - صلى الله عليه وسلم - وحده صوت السماء بين الناس إلى أن يحشروا للحساب فيقال لهم : ( وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث ولكنكم كنتم لا تعلمون). ص _181(3/202)
وآية ختم النبوة صدقتها الأيام المتتابعة، فها قد مضت أربعة عشر قرنا وما نزل من السماء وحى. وقد حاول الاستعمار الأوروبى أن يضع يده على مخبول فى الهند، وآخر فى إيران ليصنع منهما أنبياء يكابر بهما نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وهيهات هيهات فإن الأوروبيين أنفسهم احتقروا الرجل الذى صنعوه، فما تبع أحدهم نبى الهند ولا نبى العجم، وبدأت اللعبة تنكشف ويفر عنها المستغفلون!! إن الصباح العريض الذى بزغ مع رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - سوف يظل وحده النور الذى يغمر العالم ويملأ الأفق إلى أن يأذن الله بانتهاء الحياة والأحياء. وإنما لفتنا النظر إلى أن الآيات الناطقة بعالمية الرسالة مكية كى ندحض فرية لبعض المستشرقين الذين زعموا أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - بدأ عربى الرسالة معنيا بقومه وحدهم، فلما نجح فى إخضاعهم أغراه النجاح بتوسيع دائرة الدعوة، فزعم أنه للخلق كلهم. وهذا تفكير متهافت بين السخف، فقد رأيت بالاستقراء أن عالمية الرسالة تم التصريح بها فى أوائل ما نزل من الوحي.!! ثم نسأل: متى تم خضوع العرب لمحمد - صلى الله عليه وسلم -، حتى يغريه النجاح بمزيد من التوسع؟ إن مكة التى طاردته لم تفتح له إلا قبل الممات بسنتين اثنتين، فأين استقرار النصر، والتطلع إلى إخضاع الدنيا، وهو لم ينته من الجزيرة العربية نفسه؟! إن هذا الكفر الاستشراقى لم يلق حفاوة من عاقل، ولذلك نخلص منه لنقرر حقائق أخرى نابعة من هذه الحقيقة المؤكدة، إن محمدا - صلى الله عليه وسلم - رسول العالم من رب العالمين... وأول ما نقرره أن هذه الصفة انفرد بها محمد عليه الصلاة والسلام، فكل الأنبياء من قبله محليون، رسالتهم محدودة الزمان والمكان، ابتداء بآدم إلى عيسى عليهما السلام. والنصارى يرون أن رسالة عيسى عليه السلام عالمية، وينطلقون بها فى كل مكان ليبلغوها وينشروها، ونحن نحب نبى الله عيسى عليه السلام ونعتقد أنه رسول حق إلى بنى(3/203)
إسرائيل خاصة: ( وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد ). ص _182
على أن النصرانية التى تشيع بين الناس اليوم، وتساندها قوى كثيرة، تخالف رسالات السماء كلها، إذ هى فلسفة تجعل من عيسى عليه السلام إلها أو شبه إله، إلها يرسل الرسل، وينزل الكتب. ويغفر الذنوب ويحاسب الخلائق!! والنصرانية بهذا المفهوم المستغرب لا يعنينا أن تكون عالمية أو محلية، لأنها شيء آخر غير ما نزل به الوحى على سائر الرسل. قال تعالى لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -: ( وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون). إن هذه النصرانية الجديدة لا تتصل بعيسى الذى مهد لمحمد عليهما الصلاة والسلام. كما لا تتصل بعيسى الذى بلغ تعاليم إبراهيم وبنيه- عليهم السلام- ومن ثم فهى فى نظرنا منهج بشرى مستقل بأفكاره عما قبله وعما بعده... ورسل الله يصدق بعضهم بعضا، ويمهد السابق للاحق ما استطاع. ورسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - أقامت مفهوم العالمية فيها على أن الدين واحد من الأزل إلى الأبد، وأن الأنبياء إخوة فى التعريف بالله والدلالة عليه واقتياد البشر إليه. إن القرآن الكريم جمع فى سياقه الباقى كل ما تناثر على ألسنة النبيين من عقائد وفضائل. ولذلك فإن الإيمان بهم جميعا مطلوب، والكفر بأحدهم انسلاخ من رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - نفسه. ومن الطبيعى أن تبدأ الرسالة عملها فى بقعة ما من أرض الله، وقد شرع النبى العربى المحمد يعلم الأميين من عبدة الأوثان، ويرشد الحائرين والجاحدين من أهل الكتاب، وبعد تسع عشرة سنة من الدعوة الدائبة استطاع أن يظفر من الوثنية الحاكمة بحقه فى الحياة وحق من يتبعونه فى العيش بدينهم والتجمع عليه. عندما نال هذا الحق فى معاهدة الحديبية وأصبح له موضع قدم يستقر فيه ويدعو منه، أخذ يرسل إلى أهل الأرض، يبلغهم(3/204)
الحق، ويفتح عيونهم على سناه. ومن أهل الأرض يومئذ؟ الروم غربى الجزيرة وشمالها، والفرس فى الناحية المقابلة، وحكام آخرون يعيشون فى جوارهم أو يدورون فى فلكهم! هل كان وراء الرومان من يفهمون الخطاب شمالى أوروبا أو وسطها؟ أو وسط أفريقية وجنوبها؟ كانت هناك قبائل الجرمان والسكسون والغال والوندال، وقبائل أخرى مشابهة لها فى إفريقية، وكانت هناك وراء الفرس شعوب وصفها ذو القرنين بأنهم لا يكادون يفقهون قولا على أية حال إن النبى المبعوث للعالم أرسل إلى إمبراطور الروم وملك ص _183(3/205)
الفرس، وحاكم مصر، ونجاشى الحبشة، وإلى الأمراء المنتشرين حول الجزيرة يدعوهم إلى توحيد الله واعتناق الإسلام. لعله بدأ بالجيران الذين يلونه، فبلغ أمر ربه حتى إذا أتم هدايتهم تجاوزهم إلى من يلونهم من أجناس البشر. أو لعل الفكر البشرى فى هذه الآونة لم يبلغ درجة الوعى وأهلية الخطاب إلا فى هذه البقاع المتحضرة التى ظهرت فيها جمهرة الرسالات السماوية من قديم. على أية حال فإن اليقظة الإنسانية التى بدأت فى جزيرة العرب ما كانت نهضة جنس متفوق، ولا طمح زعيم متطلع، بل كانت حركة قبيل من الناس اختارتهم العناية العليا ليربطوا جماهير البشر بالله الواحد، وليسيروا فى هذه الدنيا وفق هداه لا وفق هواهم. ( الر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد * الله الذي له ما في السموات وما في الأرض وويل للكافرين من عذاب شديد ). وأكذب الناس على الله وعلى عباده من يزعم الإسلام طورا من أطوار البعث العربي. إن هذا الكلام لا يساويه فى الرخص والفكاكة إلا ما تضمنه من إفك وتضليل، فإن محمدا عليه الصلاة والسلام، رفض رفضا باتا أن يكون للعرق، أو اللون، أو الثورة رجحان فى موازين الكرامة الإنسانية، والمحور الذى دار عليه الإسلام هو التوحيد فى العبادة والتشريع والوجهة والولاء. ( وتمت كلمت ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم). وقد قلنا ولا نزال نقول: إن الله ربى محمدا - صلى الله عليه وسلم -، ليربى به العرب، وربى العرب بمحمد - صلى الله عليه وسلم - ليربى بهم الناس ، فرسالة العرب أن يكونوا جسورا لهدايات السماء، وأن يعلموا الخلق ما تعلموه من الخالق. وإذا كانوا تلامذة لخاتم الرسل، فهم- بما درسوا- أساتذة للشعوب الأخرى، تتلقى عنهم وتستضيء بهم. وهذه المكانة للأمة العربية مكانة عالية حقا، بيد أنها لا تقوم على الدعوة ، بل على البلاغ، ولا تقوم على البطالة بل على التضحية. ص _1 ص(3/206)
وتوضيحا لرسالة المسلمين العالمية، وتحديا لموقفه المتميز بين الناس، يقول الله تعالى لهم: ( هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس ). وفى موضع آخر يقول سبحانه: ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا). ونلحظ أن شهادة المسلمين على الناس تقدمت فى نص وتأخرت فى نص آخر، وسواء تقدمت أم تأخرت فالمقصود ما قلته بإيجاز فى أحد كتبي: "إن الله ربى محمدا ليربى به العرب، وربى العرب بمحمد ليربى بهم الناس كافة ". ولا ريبة فى أن محمدا عليه الصلاة والسلام قام بما فرض الله عليه، وأنه أنشأ من العرب المعزولين عن حضارات العالم أمة لا نظير لها فى سناء المعرفة، وزكاة الأخلاق، وشرف الحضارة، وأن هذه الأمة التى صاغها محمد فى قالب جديد أضاءت المشارق والمغارب، وأعادت الحياة المادية والأدبية لجماهير من البشر ظلت ترسف دهرا فى الجهالة والعبودية.. ونحن نشهد بذلك بعد بضعة عشر قرنا من بعثته، كنا أصفارا ثم صرنا شيئا مذكورا! فهل يشهد لنا العالم بما نشهد به نحن لمحمد؟ أو بعبارة أخري: هل وصلنا للناس القول كما وصلة هو إلينا، ونقلناهم بالوحى كما نقلنا هو به؟ إن سلفنا الأول أدى ما استطاع من واجب البلاغ وعبء التعليم والتربية، ثم شرع الأخلاف ينطوون على أنفسهم أو يشتغلون بشئونهم وينسون أنهم شهداء على الناس وهذا التقصير بدأ ضئيلا ثم تنامى على الأيام. والمسلمون الآن بين خمس العالم أو ربعه، وأغلب سكان القارات لا يدرى شيئا عن رسالة الحق، أو يدرى عنها ما لا يشرفها، وما لا يغرى بالنظر فيها بله اتباعها. لقد أتاح الله للعرب كل الإمكانات لتبليغ دعوة الله إلى الناس ولذلك فمسئوليتهم كبرى وسؤالهم أمام الله عن البلاغ عظيم. إن المسلمين- والعرب خاصة- مسئولون أمام الله عن هذه الجهالة السائدة ويخيل إلى(3/207)
أن ناسا من أستراليا وأمريكا عندما يوقفون أمام الله يوم القيامة ليسألهم: لماذا لم تعرفونى معرفة صحيحة، وتعملوا لى عملا صالحا، وتستعدوا لهذا اللقاء؟ فإنهم سيقولون لله: إن العرب الذين ورثوا دينك حبسوا نوره، أو أطفئوا مصابيحه، وتركونا وتركوا أنفسهم فى ظلام!! ص _185
وأترك الحديث عن قصور الدعوة وعطل أجهزتها إلى أمر آخر أخطر وأنكى إن غشا واسعا تسلل إلى ثقافتنا الإسلامية ونال من جوهرها ومظهرها.. إن أكذوبة الغرانيق التى بسطها الطبرى فى صفحات، وأسهب فى الحديث عنها محمد بن عبد الوهاب هذه الأكذوبة مثل لاضطرابات فكرية وسياسة مبتوتة العلاقة بالدين، نريد أن ننحيها عن ديننا كما ننحى القذى عن الوجه الجميل لتبدو له وسامته. والحمد لله أن القرآن الكريم مصون ( لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ) وأن السنة المطهرة يعرفها الحفاظ والفقهاء، وأنها تعد فى جملتها تراثا صادق لم يعرف التاريخ نظيرا له فى النقاء. ونحن عندما نعرض الإسلام على الناس إلى آخر الدهر- يعيننا على نشر عقائده وقواعده أمران مهمان. الأول: مواثيق الفطرة التى أخذها الله على الناس من ظهور آدم، فنحن أصدقاء هذه الفطرة، نعتمد على سلامتها، ونرد المنحرفين إليها ( لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ). واحترامنا للعقل قائم، ونزولنا على منطقه حتم، وعدونا فى هذه الحياة التقليد البليد والتعصب الأعمى . وسلاحنا العتيد ( قل هاتوا برهانكم )، وفى كل معركة تشتجر فيها الأدلة لا بد أن يخرج الإسلام منتصرا. ومن ثم لا نشعر ونحن نخوضها بأى قلق. الأمر الآخر: لفت الإنسان بعد نفسه إلى ما حوله! ( أولم ينظروا في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شيء ) ؟ وفى المعارف الكونية والإنسانية ألف سائق إلى الله الحق. وكل تقدم علمى هو دعم لرسالتنا، مهما كانت البيئة التى ظهر فيها، قال تعالى : ( سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أو لم يكف(3/208)
بربك أنه على كل شيء شهيد ). ص _186
التعتيم على حقائق الإسلام تبذل فيه جهود هائلة، ويشارك فيه شياطين الشرق والغرب معا. وإن كنا يخامرنا الأسى لحال المسلمين فى القرون الأخيرة ولمستواهم العلمى الهابط، ولغيابهم عن المجامع العلمية الناشطة، وقد كان من أثر الغياب أن ألف بعض الأوروبيين رسالة عن أثر "ألف ليلة وليلة فى التشريع الإسلامي"! والتعتيم على حقائق الإسلام تبذل فيه جهود هائلة، ويشارك فيه شياطين الشرق والغرب، حتى ليكاد الدين الصحيح يستخفى من دنيا الناس، فماذا نعمل للنهوض بأعباء المنصب الكبير الذى اصطفانا القدر له بعدما أورثنا القرآن الكريم؟ وكلفنا أن نتعلمه ونعلمه للآخرين؟ قبل الإجابة المفصلة عن هذا السؤال أود أن أقرر أمورا ذات بال! أولها: أن دار الإسلام لم تنصف الوحى الذى شرفت به، ولم تحسن القيام عليه. ثانيها: أن العالم- بعيدا عن ديار الوحى وفى غياب تعاليمه- لم يقف مكتوف الأيدي، بل خط لنفسه مناهج عديدة من عنده، اختلط فيها الصالح والطالح. ثالثها: أنه منذ سقوط بيزنطة، وافتتاح المسلمين للقسطنطينية، اكتشف الأوروبيون أمريكا، واستولوا على الأندلس، وبدأ عصر الإحياء، ووقعت طفرة علمية لم تعرف الدنيا شبيها لها منذ بدأ الخليقة، كما استقرت نظم اجتماعية وسياسية كثر الحديث فيها عن حقوق الإنسان وكرامات الشعوب! وأخيرا كان الوجود الإسلامى خلال هذا التحول العالمى يتقلص ويتراجع حتى أمسى أطلالا بالية مع مرور القرن الرابع عشر للهجرة!! وقد اضطررت- وأنا أتحدث إلى الأخلاف الحياري- أن أضع عشرة تعاليم جديدة تنضاف إلى التعاليم العشرين التى وضعها رجال سبقونا إلى الله وكانوا أئمة فى ميدان الدعوة والإصلاح لترميم العالم الإسلامى وتصحيح فهمه لدينه وعمله به، والواقع أن الجهاد العلمى فى معركة البناء فريضة لازمة، وإذا لم ننتصر فيه فسيكون عقابنا شديدا. ولا بأس أن أعيد هنا المبادئ العشرة التى اقترحتها ترشيدا(3/209)
لمسيرة الإصلاح عندنا....! 1- النساء شقائق الرجال، وطلب العلم فريضة على الجنسين كليهما، وكذلك الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وللنساء- فى حدود الآداب الإسلامية حق المشاركة فى بناء المجتمع وحمايته. ص _187
2- الأسرة أساس الكيان الخلقى والاجتماعى للأمة، والمحضن الطبيعى للأجيال الناشئة، وعلى الآباء والأمهات واجبات مشتركة، لتهيئة الجو الصالح بينهما، والرجل هو رب الأسرة، ومسئوليته محدودة بما شرع الله لأفرادها جميعا. 3- للإنسان حقوق مادية وأدبية تناسب تكريم الله له، ومنزلته الرفيعة على ظهر الأرض، وقد شرح الإسلام هذه الحقوق ودعا إلى احترامها. 4- الحكام - ملوكا كانوا أم رؤساء - أجراء لدى شعوبهم، يرعون مصالحها الدينية والدنيوية، ووجودهم مستمد من هذه الرعاية المفروضة، ومن رضا السواد الأعظم بها، وليس لأحد أن يفرض نفسه على الأمة كرها أو يسوس أمورها استبدادا. 5- الشورى أساس الحكم، ولكل شعب أن يختار أسلوب تحقيقها، وأشرف الأساليب ما تمحص لله، وابتعد عن الرياء والمكاثرة والغش وحب الدنيا. 6- الملكية الخاصة مصونة بشروطها وحقوقها التى قررها الإسلام، والأمة جسد واحد، لا يهمل مها عضو، ولا تزدرى فيها طائفة، والأخوة العامة هى القانون الذى ينتظم الجماعة كلها فردا فردا، وتخضع له شؤنها المادية والأدبية. الدول الإسلامية مسئولة عن الدعوة إلى الله وذود المفتريات عنها ودفع الأذى عن أتباعها حيث كانوا فهل نقوم بهذا الواجب؟ 7- أسرة الدول الإسلامية مسئولة عن الدعوة الإسلامية، وذود المفتريات عنها ودفع الأذى عن أتباعها حيث كانوا وعليها أن تبذل الجهود لإحياء الخلافة فى الشكل اللائق بمكانتها الدينية. 8- اختلاف الدين ليس مصدر خصومة واستعداء، وإنما تنشب الحروب إذا وقع عدوان، أو حدثت فتنة، أو ظلمت فئات من الناس. 9- علاقة المسلمين بالأسرة الدولية تحكمها مواثيق الإخاء الإنسانى المجرد، والمسلمون دعاة لدينهم بالحجة(3/210)
والإقناع فحسب، ولا يضمرون شرا لعباد الله. 10- يسهم المسلمون مع الأمم الأخري- على اختلاف دينها ومذاهبها- فى كل ما يرقى ماديا ومعنويا بالجنس البشري، وذلك من منطلق الفطرة الإسلامية، والقيم التى توارثوها عن كبير الأنبياء محمد عليه الصلاة والسلام. تلك هى المبادئ العشرة التى أقترح إضافتها. ص _188
ولمن شاء أن يقبل أو يرفض. ولنذكر هنا أن من الأخطاء التاريخية التى أساءت إلينا طويلا جهلنا بغيرنا وقصورنا عن إدراك أحوالهم العامة، وقد يكون هذا الغير خصما ضاغنا أو عدوا مزعجا. ولذلك ننبه هنا إلى عدة أمور جديرة بالاهتمام ليكون عملنا وفق تخطيط محكم وهذه الأمور هى: إن أكثر الغارات التى قوضت بنياننا الحضارى كانت تشبه الزلازل المباغتة، لا يعرف لها وقت أو تتخذ لها أهبة!! وقد سقطت لنا عواصم. وضاعت من دار الإسلام أقطار، والمسلمون فى غفلات أول الليل التى يقول فيها الشاعر: يا نائم الليل مسرورا بأوله إن الحوادث قد يطرقن أسحارا كذلك طاحت الأندلس، وكذلك تطيح لنا اليوم أرضون فى آسيا وأفريقية وأوروبا. كانت دراستنا للآخرين صفرا، مع أن الآخرين كانت تغلى مراجلهم، ولا يفتئون يفكرون فى النيل منا والإتيان على ديننا من القواعد! أكنا نتدبر الآية الكريمة: (ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا). وإذا كنا نسينا هذا النذير الإلهي، فكيف ننسى أحداث تاريخ طويل ترادفت مآسيه علينا، ولا تزال تنذر بالويل والثبور؟ إننا جزء من عالم موار بالحركة، وقد تحولت خطاه إلى وثبات فسيحة فى هذا العصر، وأعداؤنا يصارحون بكراهيتهم العميقة للإسلام، وتخطيطهم للإتيان عليه. فحتى متى نجهل ما حولنا؟ يجب أن نندم على هذا الخطأ ونتحرز بعد من الوقوع فيه... وأرى أن يتكون جهاز ذو نشاط مزدوج، كلاهما يضارع الآخر فى القدرة واليقظة. النشاط الأول يقوم على الأسس الآتية: ( أ ) سبر الارتقاء الثقافى والإحاطة بالآماد التى بلغها غيرنا حتى نعرف(3/211)
من نخاطب، وماذا نقول؟ ص _189
(ب) إدراك المستوى العمرانى والصناعى والحضارى الذى يسود العالم من حولنا، فإن من الهزل أن تعرض الإسلام أمم متخلفة، ينظر إليها غيرنا شزرا، ولا تستطيع أن تساند حقها بدعائم مادية أو علمية. (ج) دراسة التيارات السياسية والقوى العسكرية التى حظى بها غير المسلمين، وتقدير ما نقدمه للأديان والمذاهب الأخرى من دعم، ووضع ذلك تحت أنظار المسئولين. - أما النشاط الثانى فهو داخلى يتحرك فى دار الإسلام ويقوم بما يأتى: - ( أ ) محاربة الغش الثقافى والانحراف الفكرى اللذين أبعدا الأمة الإسلامية عن كتاب ربها وسنة نبيها، وجعلاها صورة مشوهة للدين الحق، وأعجزها عن نصرته. (ب) إعادة بناء الأمة الإسلامية على أساس أن الوحى حياة، وأن دراسة الكون أهم ينابيع الإيمان، وأن حسن استغلاله سلاح اقتصادى وعسكرى خطير. (ج) كرر القرآن فى أربعة مواضع السمات الأولى لرسالة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وهى تلاوة آيات الله على أنها منهاج العمل، وتربية الأمة على الأخلاق المتينة والتقاليد الطاهرة، وهذه هى التزكية التى لا نكاد نعى منها شيئا طائلا- وتعلم الكتاب والحكمة. ونحن للأسف بعيدون عن الحكمة فى أغلب شئوننا، ولا نرتبط بمعانى الكتاب وأهدافه.. ولكى يكون انتماؤنا للإسلام واقعا ملموسا لا بد من إبراز هذه السمات الثلاث ماديا ومعنويا. ( د ) غربلة التراث الإسلامى الذى آل إلينا فى هذا العصر لاستبقاء ما يوافق الكتاب والسنة واستبعاد ما عداه، ونحن أصحاب وحى معصوم، وفى تاريخنا العلمى قمم وأئمة، قد تختلف أفهامهم فى الفروع الثانوية ولكنهم قلما يختلفون فى الأصول والغايات. من الضرورى تكوين جهاز راصد كشاف يرقب العالم والعالم الإسلامى وتكون مهمته وشغله الشاغل حراسة الرسالة الخاتمة والتنبيه وإلى ما يهددها من كيد، وتحذير الأمة ما يدبر لها. ومن الممكن جمع شتات العالم الإسلامى مع صدق النية وسعة الأفق. ذلك والجهاز.(3/212)
الذى أقترحه ينبغى أن يعمل بعيدا عن الأضواء مكتفيا بنظر الله إليه، كما ينبغى أن يكون مساعدا لجميع الأجهزة الإسلامية القائمة، مثل مجمع البحوث فى مصر ورابطة العالم الإسلامى فى السعودية. إنه جهاز راصد كشاف، يرقب العالم الإسلامى والعالم كله، وشغله الشاغل حراسة الرسالة الخاتمة وعلاج ما يساورها من عطب أو يتهددها من كيد، ثم لفت الأجهزة الإسلامية الكثيرة كى تؤدى واجبها. ص _190
للشيطان جهود قديمة فى صرف الناس عن الحقيقة، قد تظهر فى إبعادهم عنها وتجرئتهم عليها، وذلك بالعصيان السافر أو الخافت أو بمنهج آخر أسوأ هو تشويه الحقيقة نفسها والأخذ من أطرافها أو من صميمها. إن البدعة قد تكون أقبح من المعصية!! والدين منذ آدم ونوح ومن بعدهما تعرض للنوعين معا، فالأصنام التى حاربها نوح شمالى الجزيرة العربية فى أعلى العراق عادت إلى الجزيرة نفسها، فكان من العرب من يتسمى: عبد "ود" وعبد "يغوث".. وقد بنى إبراهيم الكعبة حصنا للتوحيد، ومثابة للركع السجود، وسرعان ما حولها العرب إلى موئل للأصنام تقصد من دون الله، أو معه!! وموسى الذى استنقذ قومه من حكم الفراعنة تحول قومه إلى فراعنة، وتحول التوحيد فى ديانته إلى تجسيد وخرافة، كما تحول فى ديانة عيسى إلى تثليث وقرابين، واختفت معالم التوحيد النازل على إبراهيم وموسى وعيسي، فلا يعرف لها وجود. وفى الصحف المنسوبة إلى أولئك النبيين خلط هائل وشرود بعيد.. ومع أن رسالة محمد نجت من هذا البلاء الماحق، ومع أن أصولها بقيت نقية محفوظة، إلا أن الشيطان لم ييأس من إلحاق قذى بها يظهر فى تفسيرات بعض القاصرين، وتطبيقات بعض ذوى الأهواء.. وقد رأيت من يستميت فى تقرير أن الإسلام توسع بالسيف وأكره شعوبا على الدخول فيه بالقوة! وفى سبيل ذلك يلغى أو ينسخ أكثر من عشرين ومائة آية أولها قوله تعالى ( لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي..). ورأيت من يجادل بغضب فى إقامة الحكم على الشورى،(3/213)
ويرى أن الشورى نافلة، يرجع إليها الحاكم إذا شاء، وأن الإسلام لا يكترث لأجهزتها ولا لضماناتها، وينظر إلينا ونحن نتحدث على أننا مسحورون بالأنظمة الغربية، نريد نقلها إلى أرض الإسلام. وغنى عن البيان أن هؤلاء أعوان الفرعونية الحاكمة أو ممهدو الطريق أمامها. وهناك نفر من الناس ينهمك بمحاربة السنة إذا قلت: إن للفلك حسابا محكما يمكن أن نعرف به مولد الهلال ومغيبه، وهو ينظر إلى قصة رواد القمر على أنها من الإسرائيليات الملفقة. ص _191
إن العقيدة- فى المنطق الإسلامي- لا تثبت إلا من نص قطعى الدلالة والثبوت. والمرويات الأحادية يقبلها من يقبلها، ويأباها من يأباها، ويؤولها من يؤولها، فما معنى استحيائها فى هذا العصر وشغل الأذهان بها.. أهى فتنة للناس؟!! من أجل ذلك نريد أن ننظر فى ثقافتنا الإسلامية- المعاصرة لنعيدها إلى قواعدها الأولى.. وكتابنا معصوم جملة وتفصيلا، والسنة فى جملتها ثابتة، ضبطها الفقهاء، والعلماء الثقات بما ينفى عنها الأوهام، ويجعلها ضميمة إلى القرآن الكريم، لا تند عنه، ولا تبعد عن هداه.. ولا ريب أن للسنن المتواترة حكم القرآن نفسه. ص _192(3/214)
لا سنة بغير فقه إن جو الفقه والفتوى وتربية الأمة وتبصير أولى الأمر شأو يستبعد منه قصار الباع والهمة والفكر، ويستحيل أن يحيا فيه المتطاولون الذين يحسنون الهدم ولا يطيقون البناء... نقول ذلك كله لنلفت الأنظار إلى خاصة بارزة فى ثقافتنا القديمة هى أن عمل الفقهاء أكمل جهد المحدثين وضبطه وأحسن تنسيقه ويسر الإفادة منه. ومن ثم قاد الفقه حضارتنا التشريعية فى أغلب العصور.. والتأمل فى الآثار الواردة يجعل وظيفة الفقهاء لا محيص عنها، ويجعل الاستقصاء المباشر من السنة صعبا على العامة ومن فى منزلتهم من ذوى النظر القريب، ذلك أن هناك قضايا وردت فيها آثار متقابلة، وقضايا أخرى لا ينفرد بالبت فيها حديث فذ.. "روى مالك قال: بلغنى أن عبد الرحمن بن عوف رضى الله عنه تكارى أرضا فلم تزل فى يديه حتى مات! قال ابنه: فما كنت أراها إلا لنا من طول ما مكثت فى يديه! حتى ذكرها لنا عند موته وأمرنا بقضاء شيء كان من كرائها، ذهب أو ورق". وهذا الحديث يجيز استئجار الأرض لزراعتها. وروى الشيخان عن ابن عباس قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أرض وهى تهتز زرعا فقال: لمن هذه؟ قالوا: اكتراها فلان، قال: لو منحها إياه كان خيرا من أن يأخذ عليها أجرا معلوما. وفى رواية عن رافع بن خديج: سألنى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كيف تصنعون بمحاقلكم؟ قلت نؤاجرها على الربع، وعلى الأوسق من التمر والشعير! قال: لا تفعلوا، ازرعوها- يعنى بأنفسكم- أو ازرعوها- أى امنحوها غيركم- أو امسكوها! قال رافع: قلت سمعا وطاعة..! وللفقهاء كلام فى هذه المرويات، فمنهم من رفض الإيجار حيث تجب المواساة والتراحم، وأباحه فى الأحوال العادية، ومنهم من رفضه إذا كان هناك غبن أو غرر، ومنهم من أبطل المزارعة! ومنهم من أباحها! وكلاهما غلب بعض النصوص على بعض آخر لملحظ ما، وليس هنا مكان التفصيل! ص _193(3/215)
وقبل أن نورد نماذج أخرى ننبه إلى أن العقائد والعبادات الرئيسية والسنن العملية جاءت كلها عن طريق التواتر القاطع، وأن أصول الدين وأركان الطاعات وقواعد السلوك لا يرتقى إليها لبس أو تفاوت، وإنما يحدث الخلاف فى أمور ثانوية لا يضخمها إلا أصحاب الفكر المختل! ما قيمة أن يشرب امرؤ قائما أو قاعدا؟ لقد جاءت مرويات شتى فى ذلك! صح عن الخمسة - ماعدا أبا داود - عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: سقيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ماء زمزم فشرب وهو قائم. "وعن ابن عمر رضى الله عنهما قال: كنا نأكل على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن نمشي، ونشرب ونحن قيام" أخرجه الترمذى وصححه. وعن مالك أنه بلغه أن عمر وعثمان وعليا كانوا يشربون قياما... وظاهر من هذه المرويات جواز الشرب عن قيام. ومع ذلك فقد روى مسلم عن أنس بن مالك قال: نهى رسول الله عن الشرب قائما، بل روى عن أبى هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا يشربن أحدكم قائما! فمن نسى فليستقئ..!!! ويرى الفقهاء أن الشرب عن قيام مباح، وأنه عن قعود أفضل ولا حرمة فيما لو شرب قائما.. ويخيل إلى أن الأحوال التى تكتنف المرء هى التى تحدد طريقة شربه، فلا عزيمة فى القعود ولا جريمة فى القيام، وإن كان بعض الفارغين يريد أن يجعل من الحبة قبة، وأن يكثر حولها اللغو!! ومن المرويات التى تحدثت فيها إحدى الإذاعات أخيرا ما جاء فى الأمور التى تبطل الصلاة، فقد تعلمنا ونحن صغار أن الصلاة لا يقطعها شيء، وأن مرور إنسان أو حيوان أمام المصلى لا يفسد صلاته. وقد أخرج الستة- ماعدا الترمذي- عن عائشة رضى الله عنها قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلى الليل وأنا معترضة بينه وبين القبلة كاعتراض الجنازة فإذا أراد أن يوتر أيقظنى فأوترت... وروى أبو داود والنسائى عن الفضل بن العباس رضى الله عنهما قال: زارنا النبى - صلى الله عليه وسلم - فى بادية لنا، ولنا(3/216)
كليبة وحمارة فصلى بنا العصر وهما بين يديه فلم يزجرا ولم يؤخرا!!! وظاهر من هذه الأحاديث صحة الصلاة فى الأحوال التى وصفتها! ومع ذلك فقد روى مسلم أن الصلاة - من غير سترة - يقطعها الكلب الأسود والمرأة والحمار، وأن الكلب الأسود شيطان! وقد استنكرت عائشة هذا الكلام، واستغربته، وذكرت ما يرده!! ص _194
وأغلب الأئمة أن الصلاة لا يقطعها شيء، وهم يتجاوزون حديث مسلم ولا يأخذون به! وهناك من أخذ به وبنى عليه مذهبه.. وقال لى أحدهم: إن السيدة عائشة لم تكن مارة بين يدى المصلى حتى تبطل صلاته!! فقلت ضاحكا: مرور المرأة أمام المصلى يبطل صلاته ونومها أمامه لا يبطلها!! والأمر عندى أهون من أن تثور حوله معركة.. ولكن الذى رفضته أن يتصدى أحد أولئك المبطلين لعلم الأحياء، ويهاجم مقرراته ليقول: إن الكلب الأسود شيطان وليس كلبا كبقية بنى جنسه!! قلت: حديث رفض العمل به جمهور الفقهاء، ولم يروه البخارى ، وهو يعالج الموضوع، فكيف ندخل به معركة ضد العلم باسم الإسلام والمسلمين!! إن التعصب المستغرب لوجهة نظر فرعية لا يبلغ هذا الشطط، ولكنه للأسف مسلك ملحوظ على عدد ممن يشتغلون بأحاديث الآحاد. ومن نماذج المرويات المتقابلة ما جاء فى طريقة البول، فقد وردت آثار بجوازه عن قيام، وجاءت أخرى بمنعه، وروى عن ابن مسعود: إن من الجفاء أن يبول الرجل قائما! قالوا: الجفاء خلاف البر واللطف. والذى أراه أن ذلك يتبع الأحوال التى تكتنف الإنسان، وفى الأمر سعة، على أن الأمر المثير للقلق أن تجد بعضهم يعرف أطرافا من المرويات، يكترث بها وحدها ويذهل عن غيرها، ثم يذهب يتحدث عن الإسلام دون فقه أو روية. روى أحدهم حديث "ما أسفل من الكعبين من الإزار فهو فى النار" ثم حكم على الألوف المؤلفة من عباد الله أنهم من أهل جهنم! قلت له: إن إسبال الإزار كبرا رذيلة، وقد كان فى الجاهلية الأولى شارة الرياسة والملك، وقصة الأمير جبلة بن الأيهم معروفة، أما طول(3/217)
الإزار حتى الكعبين أو دونهما قليلا لستر الجسم وتجميله دون اغترار ولا استكبار فهو لايدخل النار! فأبى المتحدث أن يستمع إلى شرحي، وعدنى من علماء السوء الخارجين عن السنة..! ونظرت إليه وهو كميش الثوب، بالغ الاعتداد برأيه، وقلت له: إذا كان الكبر بطر الحق وغمط الناس- كما عرفه الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - فأنت متكبر، ولو ارتديت ثوبا إلى الركبتين!! ورأيت نفرأ من هؤلاء يغشون المجامع مذكرين بحديث أن أبا الرسول - صلى الله عليه وسلم - فى النار! وشعرت بالاشمئزاز من استطالتهم وسوء خلقهم! ص _195(3/218)
قالوا لي: كأنك تعترض ما نقول؟ قلت ساخرا: هناك حديث آخر يقول: ( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) فاختاروا أحد الحديثين... قال أذكاهم بعد هنيهة: هذه آية وليست حديثا! قلت: نعم جعلتها حديثا لتهتموا بها، فأنتم قلما تفقهون الكتاب!! قال: كانت هناك رسالات قبل البعثة، والعرب من قوم إبراهيم وهم متعبدون بدينه..! قلت: العرب لا من قوم نوح ولا من قوم إبراهيم وقد قال الله تعالى فى الذين بعث فيهم سيد المرسلين: ( وما آتيناهم من كتب يدرسونها وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير). وقال لنبيه الخاتم:( وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون). كل الرسالات السابقة محلية، مؤقتة، وإبراهيم وموسى وعيسى كانوا لأقوامهم خاصة!! وللفقهاء كلام فى أن أبوى الرسول - صلى الله عليه وسلم - فى النار، يردون به ما تروون.. لقد أحرجتم الضمير الإسلامى حتى جعلتموه ليستريح يروى أن الله أحيى الأبوين الكريمين فآمنا بابنهما، وهى رواية ينقصها السند، كما أن روايتكم ينقصها الفقه، ولا أدرى ما تعشقكم لتعذيب أبوين كريمين لأشرف الخلق؟ ولم تنطلقون بهذه الطبيعة المسعورة تسوون الناس؟ إن المرويات تتعارض فى ظاهر الأمر، وهنا يدخل علماء الفقه والأثر للتنسيق والترجيح، وقد يصح السند ولا يصح المتن، وقد يصحان جميعا ويقع الخلاف فى المعنى المراد، وهذا باب واسع جدا.. ومنه نشأ ما يسمى بمدرسة الأثر ومدرسة الرأي، والأولون أقرب إلى الفقه الظاهري، وإن خالفوه كثيرا.. والآخرون أوسع دائرة وأبصر بالحكمة والغاية، وكلاهما إلى خير إن شاء الله!! وعندما يخالف أثر صحيح ما هو أصح منه يسمى شاذا ويرفض، وعندما يخالف الضعيف الصحيح يسمى متروكا أو منكرا، وقد رأيت ناسا يبنون كثيرا من المسالك على هذه المتروكات والمناكر باسم السنة، والسنة مظلومة مع هؤلاء الجهال.. ص _196(3/219)
ضرورة العناية بالقرآن الكريم: ولست أقرر جديدا فى هذا الميدان، والذى أرانى مضطرا إلى التنبيه إليه هو ضرورة العناية القصوى بالقرآن نفسه، فإن ناسا أدمنوا النظر فى كتب الحديث واتخذوا القرآن مهجورا، فنمت أفكارهم معوجة، وطالت حيث يجب أن تقصر، وقصرت حيث يجب أن تطول، وتحمسوا حيث لا مكان للحماس، وبردوا حيث تجب الثورة! نعم من هؤلاء من ظن الأفغانيين من أتباع أبى حنيفة لا يقلون شرا عن الشيوعيين أتباع كارل ماركس، لماذا؟ لأنهم وراء إمامهم لا يقرأون فاتحة الكتاب (!). والذهول عن المعانى الأولية والثانوية التى نضح بها الوحى المبارك لا يتم معه فقه ولا يصح دين.. ذكر أبو داود حديثا واهيا جاء فيه عن عبدالله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تركب البحر إلا حاجا أو معتمرا أو غازيا فى سبيل الله، فإن تحت البحر نارا، وتحت النار بحرا" هذا الحديث الضعيف المردود خدع به الإمام الخطابي، وعلل النهى عن ركوب البحر بأن الآفة تسرع إلى راكبه ولا يؤمن هلاكه فى غالب الأمر..!! والكلام كله باطل، فقد قال المحققون: لا بأس بالتجارة فى البحر، وما ذكره الله تعالى فى القرآن إلا بحق. قال عز وجل: ( وترى الفلك فيه مواخر لتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون). إن الغفلة عن القرآن الكريم والقصور فى إدراك معانيه القريبة أو الدقيقة عاهة نفسية وعقلية لا يداويها إدمان القراءة فى كتب السنة، فإن السنة تجيء بعد القرآن، وحسن فقهها يجيء من حسن الفقه فى الكتاب نفسه. وقد ذكر ابن كثير أن الإمام الشافعى قال: "كل ما حكم به الرسول - صلى الله عليه وسلم - فهو مما فهمه من القرآن" فكيف يفقه الفرع من جهل الأصل؟ إن الوعى بمعانى القرآن وأهدافه يعطى الإطار العام للرسالة الإسلامية، ويبين الأهم فالمهم من التعاليم الواردة ويعين على تثبيت السنن فى مواضعها الصحيحة... فالإنسان الموصول بالقرآن دقيق النظر إلى الكون، خبير بازدهار(3/220)
الحضارات وانهيارها، نير الذهن بالأسماء الحسنى والصفات العلي، حاضر الحس بمشاهد القيامة وما وراءها، مشدود إلى أركان الأخلاق والسلوك ومعاقد الإيمان، وذلك كله وفق نسب لا يطغى بعضها على بعض وعندما يضم إلى ذلك السنن الصحاح مفسرة للقرآن ومتممة لهداياته فقد أوتى رشده. ص _197
والمسلم الذى يحترم دينه وأمته لا يرى الصواب حكرا عليه فيما يعتنق من وجهات النظر! قد يرى الصمت وراء الإمام عبادة، ولكنه لا يزدرى أو يخاصم من يرى القراءة عبادة! وقد وسعت جماهير الأمة هذه السماحة من عصور طوال، وقامت مذاهب كثيرة متحابة، حتى جاء من يرى فى الحديث رأيا، خطأ كان أم صوابا ثم يقول: هذا هو الدين، لا دين غيره!! لقد خامرنى الخوف على مستقبل أمتنا لما رأيت مشتغلين بالحديث، يتحولون إلى أصحاب فقه، ثم إلى أصحاب سياسة تبغى تغير المجتمع والدولة على نحو مارووا ورأوا..!! إن أعجب ما يشين هذا التفكير الدينى الهابط هو أنه لا يدرى قليلا ولا كثيرا عن دساتير الحكم وأساليب الشوري، وتداول المال وتظالم الطبقات، ومشكلات الشباب ومتاعب الأسرة وتربية الأخلاق.. ثم هو لا يدرى قليلا ولا كثيرا عن تطويع الحياة المدنية وأطوار العمران لخدمة المثل الرفيعة والأهداف الكبرى التى جاء بها الإسلام. إن العقول الكليلة لا تعرف إلا القضايا التافهة، لها تهيج وبها تنفعل، وعليها تصالح وتخاصم! هززت رأسى أسفا وأنا أرمق مسار الدعوة الإسلامية! إن الرسالة التى استقبلها العالم قديما استقبال المقرور للدفء، واستقبال المعلول للشفاء.. هانت على الناس فلم يروا فيها ما يستحق التناول، وهانت على أهلها فلم يدروا منها ما يرفع خسيستهم، ويحمى محارمهم..! ويبدو أن الهبوط عم الدين واللغة معا، فهان الأدب هوان الإيمان، ورسب المبنى والمعنى جميعا فى قاع بعيد القرار... كنت أقرأ صحيفة "الجزيرة" فاستوقفنى عنوان عن القلق والإبداع والأدب المعاصر. وأدهشنى وأنا أقرأ أن المتنبى(3/221)
ذكر اسمه فى سياق واحد مع نزار قباني... المتنبى الحكيم يقول فى تصوير المجد وتكاليفه: لا يدرك المجد إلا سيد فطن لما يشق على السادات فعال..! لا وارث جهلت يمناه ما كسبت ولا سؤول بغير السيف سأل! والقبانى يقول فى رثاء امرأته: السيف يدخل لحم خاصرتى .. وخاصرة العبارة! كل الحضارة أنت يا "بلقيس"... والدنيا حضارة! ص _198
الحق أنى استنكرت الجمع بين الحكمة والقمامة، بين الأدب فى الأوج والأدب فى القاع! بيد أنى عدت إلى نفسى أقول: إن ما وقع فى ميدان الشعر والنثر صورة مساوية لما وقع فى ميدان الدعوة، أليس مضحكا أن يدخل داعية فى مسجد، فينظر إلى المنبر ثم يقول: بدعة!! لماذا؟ لأنه من سبع درجات، ويرى أن يقف على الثالثة لا يعدوها.. ثم يرى المحراب فيقول أيضا: بدعة.. لماذا؟ لأنه مجوف فى الجدار، ثم ينظر إلى الساعة ويقول: بدعة.. لماذا؟ لأنها تدق كالجرس.. وأخيرا يتكلم فيخوض فى موضوع غث، لاينبه غافلا ولا يعلم جاهلا، ولا يكيد عدوا.. المهم عنده الاستمساك بالسنة...!!! أى سنة تعني؟ إن النبى العربى المحمد - صلى الله عليه وسلم - قدر بسنته على إحياء أجيال بدلت الأرض غير الأرض، وحطمت إمبراطوريات ذاهبة فى الطول والعرض، إنه - صلى الله عليه وسلم - أنعش بسنته جماهير كانت فى غيبوبة، وأطلقها تسعى بعد ما أضاءها من الداخل فعرفت المنهج والغاية!! إننا بحاجة إلى شعاع على مسار الدعوة، وحقيقة السنة، فكم ظلمت السنة ممن يتشدقون بها. ص _199(3/222)
الفكر الإسلامى بين التقوقع المعجز والانفلات الضال الإسلام دين معصوم. الكتاب كما قال منزله: ( وبالحق أنزلناه وبالحق نزل). والسنة فى جملتها معصومة فيها الخير كله وفيها السند الذى تحتاجه الإنسانية لتسير فيه. معنى أن الكتاب معصوم وأن السنة معصومة أن أى مخالفة للكتاب أو جحد لما فيه خروج عن الإسلام، ( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم). إذا أمر الله: خرست لأمر الله أنفسنا لما تكلم فوقها القدر إذا قال الله فلا كلام لأحد، متى ثبت للرسول كلام خضعنا له، هذا هو الإسلام. أما الفكر الإسلامي، وهو عمل العقل فى فهم النص، عمل العقل الإنسانى فى فهم النص الدينى كتابا كان أو سنة، فهذا العمل أو هذا الفكر ليس بمعهود، فقد يخطئ الإنسان عندما يفكر، وقد يجتهد ويحيد عنه الصواب. والمجتهدون من فقهائنا اختلفت وجهات نظرهم أو بالمصطلح العام: "اختلفت مذاهبهم لأسباب". فقد يختلفون مثلا لطبيعة اللغة العربية. خذ مثلا حرف الجر: (امسحوا برءوسكم) هل الباء للإلصاق كما يقول الأحناف، فربع الرأس يكفي.. إلصاق اليد، هل هى للتبعيض فشعرات الرأس تكفي، هل الباء زائدة كما يقول مالك، فلا بد من مسح الرأس كله.. ليكن.. وجهات نظر.. الخلاف موجود.. الفكر الإسلامى هنا قائم. حقيقة أو مجازا ( لامستم النساء) هل اللمس حقيقة أو مجازا عن نوع معين من اللمس.. اختلاف.. الخلاف الذى لفت نظرى وفيه شيء من الطرافة؛ جمهور الفقهاء كما درسنا مذاهبهم، يرى أن "الظهار" فيه عتق رقبة أو صيام شهرين أو طعام ستين مسكينا. ابن حزم له رأى خالف به الفقهاء، أو الخلاف سببه حرف جر، يقول الله تعالى : ( والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا) إلى أن يقول.. ص _200(3/223)
( فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا).. إذن فما معني: (والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا..) كل الأئمة قالوا: "يعودون فيما قالوا" لكن ابن حزم رجع فى كلامه وقال: لماذا اللام هنا بمعنى هنا؟؟ لأن الآية التى بعدها فى نفس السياق: (ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى ثم يعودون لما نهوا عنه) فاللام بمعنى هنا. وبنى على هذا أن الظهار الأول لا كفارة فيه، والظهار الثانى هو الذى تلحقه الكفارة.. هو رأيه!! إنما أردت أن أذكر سبب الخلاف من الناحية اللغوية، قد يكون هناك خلاف بسبب المزاج الفكرى أو المزاج النفسي. وما معنى المزاج الفكرى هذا؟ الحقيقة أن هناك بعض الناس طبيعتهم العقلية "نص" وبتعبيرنا العادى والشائع الآن "حاصي"، هناك بعض الناس طبيعتهم العقلية تتبع الفحوى أو المقصد أو يعرف الأسرار من التشريع أو الأمر والنهي، وهذا ظهر فى أيام الرسول عليه الصلاة والسلام، فلما أصدر الأمر إلى جيشه، قال: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يصلين العصر إلا فى بنى قريظة".. انتهي.. الجيش سمع الكلام.. لكن فى الطريق اختلفوا.. النصيون أو الحرفيون قالوا لا صلاة إلا فى بنى قريظة ولو نصلى العصر إلا بعد المغرب. أما أصحاب الفحوى فقالوا إن هذا غرضه الاستعجال وليس غرضه أن نضيع الوقت، واختلفوا.. فصلى بعضهم فى الطريق، وصلى بعضهم فى بنى قريظة.. وابن تيمية يرى أن الذين صلوا فى الطريق كانوا أولى بالحق من غيرهم. على كل حال الأمر واحد؛ خلاف عادى لا قيمة له، فهذا مزاج فكرى أو طبيعة فكرية. هناك طبيعة نفسية، مثلا من خطب امرأة فى العدة، عمر يقول يفرق بينهما ثم تحرم عليه إلى الأبد. لماذا؟ طبيعة عمر فى الصرامة.. أما غيره فيقول لا، يفرق بينهما، ويعود خاطبا من الخطاب بعد انتهاء العدة كغيره من الناس، يعامل كغيره من الناس. إذا فهذا اختلاف سببه المزاج، وترى هذا المزاج ليس الهوى(3/224)
ولكن الطبيعة النفسية- تمثل فى أسرى بدر، حيث قال أصحاب الشدة والصرامة؛ "يقتل الأسري" أما أصحاب الحلم والأناة فقالوا نعتقهم ونأخذ بديلا ننتفع به فى رفع حالة المسلمين الاقتصادية، إلى آخره. ص _201
فالخلاف موجود فى الفكر الإسلامى منذ بدأ.. الخلاف فيه موجود، وأنا لا أتشاءم من الخلاف ولا أقلق منه، ورب العالمين اعتبر الخلاف من طبيعة الخلق، ولكن يكره أن يكون الخلاف سبب فوضى خاصة بين الدهماء والعوام، فكان هناك شئون عسكرية وشئون مدنية يقع فيها خلاف فلا يجوز أن تتبعثر بين الجماهير ليسود فوضى. وفى هذا يقول الله سبحانه وتعالى: ( وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم ). أهل الاستنباط (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) بتعبير العصر الحاضر "الأخصائيون" هذا هو التعبير الدقيق لها، والذى لا يتعرف عليه أن يرجع إلى القاموس فى هذا. الأخصائيون، هم الذين يسألون (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) فالذكر هو الفكر، ومن فضل الله على هذه الأمة أنه وسع دائرة الفكر، وقبل النتائج، وفيه ما ليس فى غيره فى دنيا الناس. هنا رأيان لعلماء الأصول، رأى يقول، "كل مجتهد مأجور، أخطأ أم أصاب" كلاهما سواء، لكن جمهور العلماء، على أن للمخطئ أجر واحد وللمصيب أجران. وهذا هو الرأى الشائع عند المسلمين، أى أن المخطئ لا كفر ولا فسق عن أمر الله، ولكنه أخطأ. لكن الخطأ يكون بعد حيثياته العلمية، مثل خطأ الطبيب الذى يبذل جهده العلمى ثم تجيء النتائج على غير ما توقع، أما إذا كان الخطأ عن إهمال أو عن تكاسل أو عن قلة اكتراث فهذا شيء آخر يعتبر تقصيرا، ويعاقب عليه. فأنا أبذل جهدى العقلي، إما أخطأت أو أصبت، فهذه مسألة الله أعلم بها. ولكن أنا مأجور على الحالين، وعلى هذا سار التاريخ الإسلامى حقيقة. وقد لاحظت أن المجتهد أبعد الناس عن الغرور بما وصل إليه. أبو حنيفة قيل له: رأيك هذا الذى(3/225)
تقول هو الحق الذى لا شك فيه، قال لعله الباطل الذى لا شك فيه، ومع أن أبا حنيفة إمام أهل الرأى ورئيس مدرسة الفكر أو فقه الرأى من الناحية الإسلامية، نجد على المقابل له: الإمام الشافعي، واضع علم الأصول وأول من تحدث فى حديث الآحاد ورجحه وقواه وسانده، مع ذلك الخلاف الذى ص _202
بينه أبى حنيفة، عندما سئل عنه قال: "الناس عيال فى الفقه على أبى حنيفة". هذا بالرغم أن بينهما خلاف شديد، هذه هى عظمة النفس البشرية عندما تتمخض، ويصقلها الحق وتطلب مصلحة الأمة، وتبذل الجهد لكى يتضح لكتاب الله وسنة رسوله، وعامة المسلمين وخاصتهم. ونرجو من الخلف أن يأخذوا هذا وأن يتعرفوا عليه. لقد دخلت الأزهر، وأنا لا أعرف شيئا، حفظت القرآن، ودخلت الأزهر لا أدرى شيئا عن الفقهاء ولا مذاهبهم، لكن أبى قال لى التحق بالأزهر على مذهب أبى حنيفة، وهناك أناس من قريتى دخلوا على مذهب الإمام الشافعى وبعضهم على مذهب الإمام مالك، كان حظى أن أتعرف على الفقه الحنفي، فلما كبرت ودرست الفقه الحنفى من عدة كتب بدأت أنظر إلى فقه المذاهب الثلاثة الأخرى واطلع عليها.. لا أقول اطلع عليها اطلاع دارس، لكن اطلاع متجل، يعرف ما يعنيه من القضايا التى قد يكلف بدراستها أو يرى لأمته حاجة إليها، ثم وجدت بعد ذلك أنه لا بد من الاطلاع على الفقه الزيدى والفقه الإمامى والفقه الظاهرى والفقه الفلسفى كما قدمه ابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزيه، وفقه الحديث. (السنة) كما قدمه الشوكانى والصنعاني، وفى هذه الأيام، الألبانى وسيد سابق.. أنا لا أتشاءم من الخلاف وأعرف وجهات النظر لكني، وهذا شيء أحب أن أذكره عن نفسى من باب الأمانة، لست من هواة الدراسات الفقهية، ولا أميل إليها ولا أميل إلى دراسة القانون ولا أحب الاطلاع عليه. الشيء الذى استهوانى منذ بدأت أفكر فى دراسة العقائد والعلوم الإنسانية والملل والنحل والفلسفات وما إلى ذلك، وعلى ضوئها تخصصت فى الدعوة الإسلامية(3/226)
ومضيت فى الطريق. فلما مضيت فى الطريق بضع سنين قليلة، وجدتنى مكرها على أن أرجع إلى الفقه لكى أدرسه مرة أخرى، وأنا كما قلت لكم لست من هواة هذه الدراسة، ضائق بها، هذه طبيعتي.. ولكن لما اضطررت أن أرجع إلى الفقه مرة أخرى.. السبب فى أننى وجدت عوائق تعترض الدعوة الإسلامية سببها آراء فقهية، بل كادت هذه العوائق فيها أن تطيح بالدعوة فى ميادين تصطدم فيها الدعوة بزحف صليبى أو بزحف شيوعي، قلت سبحان الله، الإسلام يضيع بسبب هذه الخلافات، أى بلاء هذا!!؟ أنا لا بد أن أعود مرة أخرى للدراسات الفقهية لكى أتسلح وأطلع وأقاوم، وفعلا عدت.. أنا وجدت فيمن اشتغلوا بالفقه فى عصرنا، وجدت شيئا، عبته، مثلا وجدت ناسا يعيشون فى ماضيهم لا يعرفون كيف أن الحياة سارت؟ سمعت فى إذاعة إسلامية ص _203(3/227)
بأذنى والله، رجل يشرح الفقه ويقول "فى القصاص حياة" نعم "النفس بالنفس" نعم "العين بالعين" نعم "الجروح قصاص"، فجاء فى "الشجاج" وأنا قرأتها فى مذهبنا الحنفى قراءة عابرة، ثم قال: إذا أصيب أحد بعاهة لا يمكن القصاص فيها فماذا نفعل له. فكانت الفتوى هكذا : نقومه عبدا، ونرى كم ثمنه وهو سليم؟ وكم ثمنه بعد العاهة؟ والفرق بينهما يدفعه الذى ضربه. الرجل يعيش فى أسواق النخاسة!! افترض أن هذا الرجل- لا يوجد عبيد الآن- كأنه حمار جرح فإذا كان يساوى 100 جنيه وهو سليم، وبعدما جرح أصبح يساوى 70 جنيها، إذن فعلى الضارب أن يدفع ثلاثين جنيها!! هل هذا فقه؟ يعرض فى هذا العصر!! أى فقه هذا؟ شيء آخر، لقد شكا لى شخص من تونس، وقال لي، يا أخي، هناك شخص من الخليج دخل مكتبة الكونجرس، والسواك فى يده يحركه يمينا ويسارا فى فمه. يمنيا ويسارا والناس تنظر له باشمئزاز!! فقال لى: صحيح أن السواك عندكم سنة أيها المسلمون؟ فقلت له: يا أخى إن السواك سنة مشروعة للصلاة والوضوء.. لولا أن أشق على أمتى لأمرتهم بالسواك فى كل صلاة، إنما لا يدخل مكتب عام أو برلمان أو كونجرس أو مكتبة، ويدخل بالسواك وهو فى حنكه، فهذا غير صحيح. ومع ذلك فالمقصود من السواك ليس "عود الأراك" ولكن المقصود "نظافة الفم" فى أى مكان: أكل ونظف بالفرشاة، انتهي. فرشة الأسنان مع المعجون تكفى وتنظف أسنانه!! فيقول لي: كلا، ويمسك السواك ويريد أن يدخل به المدرج عندى بالجامعة!! هل أطرده؟ نعم طردته! قلت له: كلا، لا أقبل هذا الإسلام، الدين النظافة، ولا أحب أن يبصق هنا فى هذا المكان. الأسوأ من هذا، أنهم كانوا بادية، فقال لهم الرسول هى بالماء والحجر أى ثلاثة حجارة تنظف بها نفسك. والآن تريد فى القاهرة أن تحضر حجارة لكى تنظف بها نفسك، وتضيع الصرف الصحي، وتسد المجارى وتخرب لنا الدنيا بالحجارة. ما هو هذا الحجر؟ الأفضل أن تستخدم الورق، فقال لي: مثل النصارى. قلت له، أى(3/228)
مضارة؟!! ماذا يحدث لو نظفت نفسك بالورق؟ فوجدت أن هناك عقولا ضائعة، دخلت ميدان الفقه، وهى متقوقعة فعلا فى مكان لا تخرج منه وهذا ليس بفقه إطلاقا! هذا نوع من البلادة الذهنية تسترت بالإسلام، والإسلام بعيد عن هذا ولا أصل لهذا. ص _204
فى الوقت نفسه وجدت أناسا انفلتوا فعلا، فقال لى شخص، إنا نراك مسرورا من لجنة العفو الدولية. فقلت نعم.. سيدنا رسول الله قال لقد شهدت فى دار ابن جدعان حلفا لو دعيت به فى الإسلام لأجبت، قلنا أناس ينصرون المظلوم، ويكشفون عن آلام بعض المتعبين. فقال: حرموا عقوبة الإعدام، وأنا أرى أن نتبعهم فى هذا، فأنت أزكيت عليه ويجب أن نتبعهم فى هذا!! فقلت له: لا نتبعهم فى هذا، لأن عندنا نص (فى القصاص حياة). - تاتشر عندما كانت فى حزب المحافظين أقروا إلغاء عقوبة الإعدام، فلما تولت السلطة وشعرت بضراوة المجرمين، غيرت رأيها وقالت لابد من تنفيذ العقوبة. ومع هذا فأنا مع النص لأن الله أعرف بمصلحتى منى وبمصلحة الجماهير من الجماهير. عندما يكون النص حاسما، أعلم أن مصلحة البشر فيه: (فى القصاص حياة). وربما أن سبب الاشتباك بينى وبين عبد الناصر فى مؤتمر الاتحاد القومى هذه القضية، حتى وأنت تقوم بعمل روايات تمثيلية فى ضرر الأخذ بالثأر، فقلت لعبد الناصر، عندما يقتل شخص والدى ويدخل السجن ثمانى سنوات ثم يخرج، فلا بد أن أقتله. أما أن تقول لى رواية تمثيلية من أجل الأخذ بالثأر لا يجوز من الناحية الاجتماعية!! كلا! خطأ! كان لا بد أن يقتل! من أين أتيتم بمعنى. "سبق الإصرار والتربص" هذا كلام من عند الفرنسيين وليس من عندنا! من قتل عمدا يقتل، وانتهى إلا إذا عفا ولى الدم انتهى الأمر. يعاقب بطريقة أخرى أو يترك عقابه. هذا كان سبب الخلاف بينى وبين عبد الناصر هناك أمور أخري. على كل حال النص يحترم. هناك واحد من الحكام قال أن الصيام يعطل الإنتاج ونلغى الصيام!! قلت له: ما هو الإنتاج الذى لديكم؟ بضعة معاصر(3/229)
زيت زيتون، وبضعة قفف من العجوة. هذه هى التى سيعطل إنتاجها!! العجوة وزيت الزيتون!! من قال إن الصيام يعطل الإنتاج! هذا غير صحيح. هذا كذب لا أصل له. إذن هناك انفلات فى بعض الاجتهادات، وهناك وقوف غريب فى اجتهادات أخرى والأمر يحتاج إلى أن نرد الفقه إلى أهله، والفكر إلى أصحابه، وأردد كلمة الأحنف بن قيس: "من البلاء أن يكون الرأى لمن يملكه لا لمن يبصره". ص _205
بلاء الشعوب الآن خاصة فى العالم الإسلامي، أن من يبصر الرأى لا سلطان له، وأن أكثر من لهم سلطان عميان لا يرون إلا ما فى أنفسهم من أهواء! هذا هو بلاء الأمة الإسلامية. فيجب أن يعود الفقه له ورجاله الذين يجتهدون فيه وله أهله الذين يعملون فى ميدانه، ومعهم الزاد الثقافى الواسع الذى يحتاجون إليه ولا بد منه كى يصدروا للأمم أحكاما سليمة تتبعها الشعوب وهى مطمئنة. وهنا ألفت النظر إلى شيء كتبته فى بعض كتبى وهو أن الإسلام فيه نصوص لها قداستها لا تخترق أبدا، وهناك أخلاق أو مبادئ ترك لنا الحرية فى وسائل اختيارها ووسائل تطبيقها، سوف أختار منها ثلاثة الآن. العلم والشورى والجهاد هذه قيم مؤكدة فى الأمة الإسلامية.. العلم: لا بد منه، وكون الأمة فى عصرنا هذا تجعل التعليم مراحل، ابتدائى فإعدادى فثانوى فجامعي، لا بأس. تعليم مدنى وتعليم عسكري، لا بأس، تعليم زراعى صناعى تجاري، لا بأس. ليس لدينا وسائل محددة. والإسلام عندما طلب الصلاة حدد لها وسيلة واحدة هى الوضوء. فإذا فقدت، فهناك وسيلة أخرى هى التيمم. فهنا الوسائل حددت. وهناك أشياء سكت الإسلام عن وسائلها! وتركها لنا، فنحن يجب أن نتعلم والعلم يجب أن يشمل الأمة كلها. من الأكاذيب التى شاعت فى التاريخ الإسلامى للأسف، وكانت من أسباب انهيار الحضارة الإسلامية الأخيرة أن الأنثى حرمت التعليم، وكان سبب الحرمان حديثا مكذوبا رواه : المستدرك الحاكم فى مستدركه "لا تعلموا النساء الكتابة" وكتاب الحاكم كله كتاب(3/230)
مسودة، مات غفر الله له قبل أن يصححه، والأمة منعت من فتح مدرسة بنات بسبب هذا الحديث المكذوب. واتصل بى رجل من سويسرا وقال لي: يا فضيلة الشيخ، لدى كتاب الآن ولا أذكر اسم المؤلف المجلد 26 صفحة كذا يقول: والأمة أمية وقد نهى عمر عن تعليم النساء الخط، فقلت له هذا كذب. النهى عن تعليم النساء الخط هذا كذب. أما أن الأمة أمية، فالحديث ورد، ولكن المعنى الموجود خطأ وغير صحيح، فهو يصف واقعا: "نحن أمة أمية لا تكتب ولا تحسب" العرب كانوا هكذا فعلا، أما هو - صلى الله عليه وسلم - فما هى رسالته سوى محو هذه الأمية ( ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ) ، ( بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم)، فلقد قلت لبعض طلابى فى ص _206(3/231)
الجامعة الذى يضع رسالته فى فقه عائشة أمنحه رسالة دكتوراه. لأن عائشة لها اعتراضات على أحاديث كثيرة، وهناك ردود عليها، والذى يستوعب علم أم المؤمنين، ويرى كلام الفقهاء، وكلامها مع الصحابة، وكلام الصحابة معها يأخذ رسالة دكتوراه. من قال إن المرأة فى الإسلام تمثال للجهل. فالعلم لابد منه كالطعام والشراب بل أكثر. إننى الآن أشعر بالأسي، لقد كنت فى الجزائر ووجدت رجلا يقول لأولاده وأولاده كانوا طلابا عندى فى الجامعة، الجامعة التى أنشأناها، لأن التعليم الدينى ألغاه حاكم شيوعى هناك. فجاء بعده رجل له دين وشرف وخلق وإسلام فاتفق معنا وأنشأنا الجامعة، وأعاننا الله، وفيها طالبات، البنت تقول لى إن والدنا يقول لنا، ليس لنا تعليم، يمنعنا من المجيء. والدولة تمنح للطالبات والطلاب مواصلات وأكل، وهذا باسم الإسلام يريد أن يمنع بناته من العلم والتعليم! هذا بلاء! هذا عقل دينى غريب! أما مراكز الثقافة الفرنسية فإنها تعمل ويمدها كثيرون. وهناك نحل سارت مع القومية العربية ومع البعث العربي، وكذا عربي..! فوجدت أن هناك نزعات وجودية وإلحادية ومادية! والله ما تعترف أبدا بالله ولا برسوله، سوف تضيع الأمة الإسلامية، وتريد أن تغرى البنات. لمن أتركهم! أتركهم يضيعون! من أجل رجل أعمى الفقه لا يدري!! كلا!! الشورى: لا بد منها فى الإسلام، ولكن ماذا تكون الشورى؟ الشورى لها صور كثيرة. وطبعا صورتها المثلى أيام دولة الخلافة الراشدة. ولكنى عندما أنظر للشورى أجد أن الحكم رئاسى فى الولايات المتحدة، وفيها شوري. والحكم ملكى فى إنجلترا وفى هولندا وفى الدانمارك وفى السويد وفيها شورى عظيمة جدا. ألكم فى فرنسا شوري؟؟ رئيس الجمهورية يختاره الشعب. رئيس الجمهورية فى إيطاليا يختاره مجلس النواب. صور الشورى مختلفة. الجماهير تختار الصورة، لكن المهم عندى أن لا يكون هناك استبداد أعمي. الآن الاستبداد الأعمى أكل الشعوب واغتالها. بينما أجد بعض(3/232)
الذين يدرسون الفقه يؤخر الشورى، وليس على باله إطلاقا. هذا ليس من الإسلام! وهو لا فقه له أما بالنسبة للجهاد. الجهاد: وسائله تغيرت فى عصرنا هذا، فالجهاد له أوضاعه وله تعاليمه، ولكن الآن تغيرت الدنيا، الجهاد الآن فى البر والبحر والجو، وليس بالسيف والرمح، بالقوس والنبل، كلا، لقد أصبح جهادا علميا. الآن لكى تقيم أجهزة جهاد، لابد أن يكون لدينا كليات فى الفيزياء والكيمياء والأحياء، والجيولوجيا والفلك، وفى شتى علوم البر والبحر. ص _207(3/233)
والأمة الإسلامية عندما خرجت من الجزيرة ، الإسلام رفع خسيستها، فقد كانت أمة لا تعرف إلا الجمل! يقول ابن خلدون: لما وجد العرب أنفسهم قد ملكوا جنوبى البحر (أى البحر المتوسط) أى مصر وليبيا والمغرب، وشرق البحر فهو معهم فقالوا لا بد من أساطيل وسفن، إذن باسم الإسلام العقل الإسلامى تفتح "ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب". ولكن هؤلاء أناس فى البر. كلا. يجب أن يتعلموا فصنعوا الأسطول الرومانى فى إيطاليا واليونان وصقلية وسردينيا وكورسيكا كان يفر منهم، لماذا؟ لأنه ضرى عليهم كما يضرى الأسد على فريسته!!. إذن لقد علمهم الإسلام ركوب البحر، وعندما أرى حديثا فى البخاري، الرسول نائم عند أم حرام بنت ملحان، فرأته فاق ثم ابتسم واستيقظ. فقالت له مم تضحك يا رسول الله؟ فقال: أناس من أمتى ملوك على الأسرة أو مثل الملوك على الأسرة، يركبون هذا البحر غزاة فى سبيل الله، فقالت له ادع الله أن يجعلنى منهم، ثم نام مرة أخرى واستيقظ يردد نفس الكلمات: أناس من أمتى يركبون سبح هذا البحر كأنهم ملوك على الأسرة غزاة فى سبيل الله، أنت من الأولين. فماتت وهى فى الأسطول الذى أعده معاوية لكى يحاصر به القسطنطينية من الجنوب كى يمتلكها جنده من الشمال. ولم تفلح الخطة، وماتت المرأة فى قبرص ويعرف قبرها "بقبر المرأة الصالحة" وأنا متأكد أنه لو أن هذه المرأة فى عصرنا هذا قالت للقائد ادع الله أن يجعلنى منهم، فكان سيقول لها: أنت امرأة ماذا يخصك من هذا (أو باللهجة المصرية: أنت يا امرأة دخلك إيه!!) كيف تذهبين إلى الغزو فى البحر!! أنت اجلسى فى بيتك وليس لك إلا البيت!! الفكر الإسلامى تغير كثيرا، وكان فكرا مفتوحا أيام الرسالة الأولى وكان منفتحا على ثقافات العالم كلها، وكان أصحابه يمسكون بالقلم الأحمر بعدما نقلتهم الدعوة الإسلامية نقلة حضارية رحبة. وبعد ذلك أجد الدكتور محمد يوسف موسي، أخذ رسالة الدكتوراه من جامعة السربون فى موضوع عن ابن(3/234)
رشد، يقول لى يا غزالي، يرى الأوروبيون أن عدد قواعد الفلسفة الإغريقية ثمانية عشر، فهذا أبو حامد الغزالى تلميذ من تلامذة محمد عليه الصلاة والسلام، وكل ما عنده فقه عميق فى الإسلام، بل بلغ من سطوته العقلية أن يقول: يقول أرسطو كذا وله أن يقول كذا! أى يأتى بأدلة لأرسطو ثم يقر بالحجة المضادة على ما قال أرسطو وعلى ما افترضه هو، ويهدم هذا كله!! بالعقل الإسلامي! كان عقلا مفتوحا. الفقه كان فقها مفتوحا، وهذا الفقه المفتوح، رواه الأوائل فى ميدان ص _208(3/235)
الفقه العبادى والمعاملات ومعنى المعاملات أى الدماء والأموال والأعراض أى الفقه الضرائبى والفقه الدستوري، هذا ما اشتغل به أئمتنا. أبو حنيفة كان له تلميذان أو ثلاثة، أبو يوسف مؤلف الخراج أى الضرائب مؤلف فى الضرائب. وكتاب محمد بن الحسن الشيبانى: "فى السر الكبير" وهذا فى العلاقات الدولية، وله مدرسة أوروبية تسمى مدرسة الشيبانى فى الفقه الدولي. فعندما أنظر إلى الفقه الإسلامى قديما وكيف أن تلامذة الفقهاء تجاوبوا مع الدولة ومهدوا لها كيف تتعامل مع الآخرين وكيف تفرض الضرائب فى الداخل فإنهم بالإسلام اشتغلوا أما الآن فليس لدينا شيء. الفقه دخل دورة المياه ولم يخرج. فقه المتأخرين، ثم شغل نفسه بتوافه عجيبة، ودون وعى مع ما يقع فى الخارج. ولذلك فهناك ضمور غريب فى الفقه الدستورى والفقه الدولى وفقه العمل، والعمل ينقل من نقابات وقوانين العمل والعمال فى الخارج. لماذا لأن هناك مؤلف فى الأصول اسمه "الحاصل" وجاء بعده مؤلف آخر "المحصل" وثالث اسمه"التحصيل" وكل هذا يمضغ نفس العلكة ولا يوجد جديد! وهكذا! فالأمر يحتاج إلى أن الفكر الإسلامى لا بد أن يتفتح ويعود إلى أصالته الأولي. مالك جرح وكسرت ذراعه، فعندما وجده الخليفة يأخذ أيمانا مغلظة على أن فلانا من الضرب الذى حدث له. ولكن السؤال: من الذى ضرب مالك؟ إنه كلب ذهب وانتهى فى التاريخ وتبقى مالك، ملئ الأرض. أيضا فإن حسن البنا قتله شخص نكرة، لا أحد يعرفه، ولكن بقى حسن البنا خالدا فى الآخرين وإن شاء الله يخلد مع الصحابة والتابعين. إذن قصة تاريخ الفكر الإسلامى وتاريخ الفقه، والتاريخ للرجال التى تقود العقول وتقود النهضات وتقود الأمم. أنا أريد من أمتنا أن تعرف نفسها لكى تعرف فكرها. هناك شيء كتبته فى هذا الموضوع سوف ألخصه لكم: أولا قلت لكم فى يوم من الأيام: إن الله ربى محمدا ليربى به العرب، وربى العرب بمحمد ليربى بهم الناس أجمعين. الناس أجمعين، هل هم الروم(3/236)
والفرس فقط، كلا الناس أجمعين تعنى منذ بعث إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها فى القارات كلها. إذن فالأسلاف عرفوا ما عندهم، فكل شبر معمور من أرض الله مشوا ووصلوا إليه وبلغوا الرسالة وأدوا الأمانة، الآن أين العرب؟ الحقيقة أن العرب الذين كان ينبغى أن ص _209
يكونوا فى الأولين دماغ الإسلام وقلبه (أى عقله وعاطفته) القرآن عربي، والكعبة عربية، والرسول عربي، والثقافة عربية!! انظر فأجد الأمة الإسلامية العربية الآن تتسكع فى مؤخرة القافلة البشرية لا تعرف لها رسالة!! هناك طالب من طلابى قال لى: هل رأيت جريدة الأهرام؟ قلت له: ماذا فيها؟ قال: هذا الولد الشيوعى كتب مقالا فيها يقول فيه ما يدافع به عن الشيوعية أو يعتذر عن شيء. قلت: ألا تعرف حديث البخارى الذى يقول فيه: إن هناك أناس من العرب كانت تعبد الجن وبقى هؤلاء يعبدون الجن التى أسلمت!! وفيهم نزل قوله تعالى : ( أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه) أى أن الشيوعية انهزمت وتركها أصحابها ولا زال العرب الشيوعيون يعبدون الشيوعية، إنهم بهائم!! قلت له يا بني، إن العيب ليس منهم، هؤلاء العميان! ولكن العيب ممن يحمل أمانات الفكر الإسلامي!! قلت له: نحن الذين نسمى علماء الدين فنحن لم نحسن عرض الإسلام! فربنا يقول لنا آية فى آخر سورة الحج : ( وافعلوا الخير لعلكم تفلحون * وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس..) فالرسول (شهيدا) علينا، هاهو لن نستطيع أن ننكر، شهيدا علينا! ولكن بالنسبة لـ ( شهداء على الناس ) وقد تكررت في سورة البقرة ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا..). أما عندما يعذب الله شخصا إنجليزيا أو طليانيا أو استراليا ويقول له: سوف ندخلك جهنم،(3/237)
لقد بعثت لك الأنبياء، فيقول لله: كلا، لم أر نبيا ولا أتباع النبى بلغونى أى شيء. لقد وصلت لهم القول، لكن هؤلاء حبسوا القول عنهم، ولا نعرف شيئا. فقلت له يا بنى إننى متأكد أن هناك أناس من أمريكا، واستراليا سوف يخرجون من النار ويدخل بدلا منه عرب! لأنهم فرطوا فى الإسلام، نحن الإسلام ربانا لنربى ص _210
به الناس، ولكن التربية أيضا لها مؤهلات، أتريد يا عربى أن تكون أستاذا للعالم وأنت ليس لديك أى شيء!! أنت نفسك يا عربى لا تفهم الإسلام. أنت لا تفهم دينك. أقول لأحد الناس : عندما ذهبت لمسجد باريس سألنى شخص عن امرأة مسلمة تريد أن تتزوج قلت له "تعقد" هى تعقد على نفسها. قال لي : كيف نحن مالكية! قلت له: يا أخى هل النبى مالكي!! المذاهب كثيرة. أبو حنيفة يقول المرأة تعقد على نفسها والأوروبيات عندما يتزوجن، فمثلا إذا أرادت تاتشر أن تتزوج أقول لها: اذهبى فأحضري والدك! يا أخى سبحان الله. الناس هناك، مستواهم العلمى جعل المرأة سيدة نفسها فى كل الأمور. فلماذا لا تأخذ مذهب أبو حنيفة الذى انتهى إلى الآية القرآنية التى تقول: ( فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف). وقال: (حتى تنكح زوجا غيره). وعندما جاءت له بنت تشكوه وتقول له: أبى زوجنى من ابن عمى ليرفع به خسيسته وأنا له كارهة، فقال لها: الأمر إليك إن شئت أمضيت أمر أبيك وإن شئت فسختيه. فقالت أمضيت أمر أبي. ولكن فعلت هذا حتى يعلم النساء أن ليس للآباء من الأمر شيء. أبو حنيفة أخذ بهذا المذهب من المذاهب. فعندما أنشره فهو ملائم للفرنسيين تقول لي: كلا. توقف حال الإسلام، لكى تفتى بمذهب مالك أو الشافعي، لماذا؟ لتكن قريبا من الوضع الذى أنت فيه. ما معنى أن تقول لا بد أن تضرب بالنقاب على وجهها! من أين أتيت بهذا؟ الأئمة الأربعة ليس لديهم نقاب، والمفسرون الكبار ليس لديهم نقاب، الألبانى الذى من أشد الناس تعصبا للسنة ذكر عشرة أحاديث لا تحتوى على نقاب، من(3/238)
البخارى ومسلم وغيره، وأنا ذكرت عشرة أدلة فى كتابى بأنه لا يوجد نقاب. أما إذا أردت نقاب يخصك فأنت حر، لكن تذهب إلى أوروبا وتقول لهم "لا إله إلا الله، النقاب شرع الله" عندئذ سيقول لك: لا نريد دينك هذا! إذن لماذا نضيع الإسلام بفقه مذهبى ضيق، فالأفضل أن نوسع الفقه، ولكنى أقول أن تترك النص، ولكن حيث اجتهد العلماء، اختر من الاجتهاد ما يصلح لك وأنت تبلغ الدعوة، لذا فنحن ما زلنا لا نعرف الإسلام. ص _211
لقد قال لى أحد إخواننا فى دعوة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، إننى أخالف المذاهب الأربعة فى الفتوى. فقلت له: هل هذا حرام؟ قال: نعم حرام، قلت له ما رأيك فى ابن تيمية؟ قال: ابن تيمية الإمام الأعظم. فقلت له: وهو أيضا من الأئمة الكبار لكنه خالف الأئمة الأربعة. رفض طلاق البدعة وقبله الأربعة. فسكت. فقلت له: يا أخى ابن حزم يقول: المرأة يؤخذ رأيها فى الشهادة، فى الدماء والأموال والأعراض على سواء. فإذا رأت امرأة لصا يسرق من بيتها، وامرأة رأت أباها أو أخاها يقتل، نقول لها: كلا، أنت حمارة وليس لك رأى ولا شهادة. وقد ناقش هذا الموضوع، ابن حزم، وقال لا. قبلت شهادتها فى الدماء وفى الأعراض وأتى بخمسين رواية فى هذا الموضوع. ما هو المانع أن آخذ برأيه، أثناء نشر الإسلام فى أوروبا وأمريكا. لماذا ستوقفون حال الإسلام؟ هل الاجتهاد خطأ؟ كلا إنه مأجور. خطأ مأجور، فالخطأ له أجره. لماذا هكذا؟ كيف نخدم الإسلام بضيق العقل؟ كيف نخدم الإسلام بضيق العقل فى عرض الدعوة الإسلامية؟ لقد اضطررت كما قلت لكم أن أعود إلى دراسة الفقه مرة أخرى وأنا كاره. لماذا؟ لأن هوايتى الأدبية وهوايتى النفسية، أن أدرس العلوم الإنسانية وعلم النفس والاجتماع والتربية والفلسفة وعلم الجمال والآداب وعلوم كثيرة. أقرأ كثيرا جيدا. ولقد كنت أدخل كلية الشريعة ومعى "العهد القديم حتى جاءنى رجل دماغه مغلقة، صاحب منصب كبير، فقال لى ما هذا، فقلت له(3/239)
أعلم الأولاد الملل والنحل، حتى يعرفوا الديانة التى تحاربهم الآن كيف أنهم وضعوا أيديهم على بيت المقدس وفلسطين. فقال لي: لا تجوز هذه الطريقة، ولا يصح لهم أن يطلعوا على مثل هذه الأشياء، فقلت له: من سيطلع إذن؟ وقد ألغيت المادة، بهذا البلاء. فالقصة إذن لابد أن نفهم الحقائق. هناك مسائل قانونية أسأل فيها، فرضت أن أتقيد بمذهب، لأننى أنشر الإسلام ولست سمسارا للمذاهب الأربعة، ولكنى سمسارا للكتاب والسنة إذا صح التعبير، ولكنى أختار من الفقه ما يساعد على دخول الإسلام فى قلب هذا الرجل. خبرنى بالله العلى العظيم، عندما أقول لشخص، نحن نتكلم فى حقوق الإنسان: يا أخى نحن الذين اقترحنا هذه الحرية، ففى مذهبكم الكاثوليكى لا يتزوج بروتستانية، ولكن الإسلام يقول إن المسلم يتزوج يهودية أو نصرانية، فلا بأس من هذا.. لا إكراه فى الدين. وعندئذ أجد شخصا يأخذنى على انفراد - وهو من الخليج، ويقول لي: يا أخى هذه الآية منسوخة، قلت له: (لا إكراه فى الدين) منسوخة؟ قلت له: قطع الله دابرك ودابر من نسخها. ص _212(3/240)
الله سبحانه وتعالى يقول لنبيه: ( أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) وفى عهد نوح، نوح يقول لهم: أنا لا أكرهكم على ديني، ثم بعد هذا نقول إن الإسلام يكره على الدين!! ومتى أكرهنا على الدين؟ الأمة في حاجة إلى أهل فقه، الله سبحانه وتعالى يقول: ( فاسألوا أهل الذكر)، وليس اسألوا أهل البلاهة والبلادة. ( لعلمه الذين يستنبطونه منهم )، فالفقه له رجال، ولا يمنع أن بعض الناس عظيم جدا، فسيدنا داود عظيم، ولكنه عندما أراد أن يفتى في القضية أو يحكم فيها، حكم حكما. وقد بعث الله سليمان، وقال فيه: الحكم هذا ليس جيدا. ونزلت الآية: ( ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما) إذن فالناس لهم قدرة عقلية على الفهم والاجتهاد. وهذه هى الواجبات التى تحكم فى قضايا الخلق، وتقود الأمم، فالأمة الإسلامية ليست أمة لنفسها ولكنها أمة للعالم كله، ولقد أحصيت اثنتى عشرة آية فى القرآن الكريم نزلت تؤكد عمومية الدعوة الإسلامية. وعندما أحصيت الآيات ذكرت متى نزلت فوجدتها كلها نزلت فى مكة، أى فى الأيام التى كان فيها الإسلام سجينا، يحاول أن ينطلق من الوثنية التى ضيقت عليه آفاق الأرض وحبسته، فى هذا الوقت نزلت آيات كلها تفيد عالمية الدعوة. وإننى أقول فى القرآن المكي، ردا على بعض المستشرقين الذين قالوا كاذبين، إن محمدا مرسل للعرب وحدهم. وهناك كاتب شيوعى قال هذا الكلام فى مصر ولا أدرى إذا كان قد قاله هاهنا أم لا. قال هذا الدين للعرب وللعروبة فقط!! هذا الكلام فارغ وساقط. الإسلام هو أساسنا وشرفنا. فالمستشرقون يقولون أن هذا الدين للعرب وأغراه النبى (صلى الله عليه وسلم) النجاح بالنجاح وأغراه الانتصار على العرب بأن يفتح ما وراء البلاد العربية!! كلا هذا لم يحدث، فمات النبى (صلى الله عليه وسلم) والإسلام ما زال فى مكة وفى الجزيرة، وأهله الذين تربوا على يديه وتلامذته هم الذين قادوا الإسلام للعالم كله تنفيذا لوصايا القرآن الكريم. يوم(3/241)
أن تكون داعية للإسلام ويسمعك من يراك دونه عقلا، دونه علما، دونه خلقا، دونه مستوى حضاريا، فإنه لن يستمع إليك ولن يحترمك، فالأستاذية لها مؤهلات ولها خصائص. ص _213
وهل هذا وقع عندما كان الفرس والروم والمصريون هم قادة العالم يومئذ والعرب ما زالوا متخلفين!! قال: لا، إن الإسلام نقلهم نقلة هائلة. فمثلا فلسفة الحكم فى الروم أو الفرس، هل كانت تعرف كلمة عمر بن الخطاب لوليه على مصر: ( متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا) لم تعرف هذه الفلسفة. هل كانت تعرف كلمة عمر: (لو عثرت بغلة فى العراق لحسبت عمر وهو فى المدينة مسئولا عنها لم لم يسو لها الطريق). فلسفة الحكم بهذا المعنى لم تعرف إلا فى العصر الحاضر أو فى عصر الخلافة الراشدة. هل كانت تعرف كلمة عمر: (لو عزت لهم ليصلن الراعى فى صنعاء حقه أو حظه من هذا المال)، هذه فلسفة لا يعرفها الروم ولا الفرس. إن البدوى كان أعلى مستوى من رستم ومن الفرس عندما قال: جئنا نخرج الناس من ضيق الأديان إلى سعة الإسلام، جئنا نخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله الواحد. فقد جاء بحقوق الإنسان وكرامات الشعوب. هذا هو الفقه الإسلامى فى أوله. وضربت مثلا ولكن بعض الناس قد استغربوا. ولم أكن أنا الذى عملته، ولكنه "ابن عابدين" الفقيه الحنفى المتأخر يقول: إذا وجد لقيط وقال ذمى هو ابني، وكان الذمى حرا، وقال المسلم هو عبدي، ألحقنا نسبه بالذمى ليكتسب الحرية، قلت إن هذا دين يعمل ضد نفسه لأنه يعتنق الحرية!! هذا هو فقهنا الإسلامى الحقيقي. ولكن أين الفقهاء الآن؟ ولكنى أكاد أجن لأن هناك أزمة طاحنة فى الدعاة، وأزمة طاحنة فى الفقهاء، وأزمة المثقفين المسلمين أزمة كبيرة جدا. وأسال الله لى ولكم التوفيق وأن يعيننا على خدمة ديننا وأن يجعلنا أهلا لهذه الدعوة ولهذه الرسالة.. وصلى الله على محمد وآله..(3/242)
بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة عرف العالم الإسلامى الشيخ محمد الغزالى واحدا من كبار علماء الدين الإسلامى فى العصر الحديث، ورائدا من رواد الفكر الإسلامى المستنير القائم على الاجتهاد والتجديد، وعلما من أعلام الدعوة إلى الله تعالى فى مشارق الأرض ومغاربها، جمع الله عليه من أسباب التميز والتفرد ما جعله فى مصاف القادة النابهين لموكب الحياة الإسلامية، يقيم فيها ما اعوج، ويصلح مافسد، ويبنى ما انهدم- يحدوه فى دعوته الإسلامية تلك إيمان راسخ وفقه ذكي، ونفس شاعرة، وأدبية مبدعة، وبيان ساحر رائع، وسريرة نقية صافية، وعزيمة قوية، وثبات على الحق. لم يأل الشيخ فى دعوته جهدا إلا بذله، ولم يترك منبرا إلا صعده، ولا سبيلا إلا ورده فلم يكن داعية بلسانه فحسب، ولا بسلوكه وكفي، بل كان - كذلك - داعية بقلمه الذى تقلده سلاحا نافذا فى أعتى المعارك. ومن هنا كانت الكتابة أبرز منابر الدعوة الإسلامية فى حياة الشيخ الغزالي، خاصة أن اتجاهه إليها جاء تلبية لميول فطرى وموهبة أدبية أصيلة فى نفسه، مما وثق ارتباطه بالقلم وزاد من عشقه للقراءة والكتابة الذى نشأ معه منذ كان صبيا يافعا. يقول الشيخ: "بدأت الكتابة منذ الشباب الباكر، وكانت هواية عندي، ورغبة أجد راحة فى تحقيقها. ولم أتوجه إلى الكتابة الدينية إلا بعد أن اشتغلت بالدعوة الإسلامية". أى أن إقبال الشيخ على الكتابة كان لذاتها، وأن حبه لها كان خالصا. ولعل ذلك من أهم ما ميز فن الكتابة لديه حين بدأ يعرف لها قيمتها النافعة فى خدمة الدعوة، ودورها المهم فى نشر الوعى اليقظ والفكر الصحيح بين أبناء الأمة.
ص_004(4/1)
- فلا غرو - إذن - أن الشيخ الغزالى على الرغم من براعته فى فن الخطابة كان أشد ميلا إلى الكتابة، إذ يرى أنها الوعاء الخالد للفكر والعاطفة معا عبر العصور، كما أن الكتابة "تتجه إلى العقل، وتقوم على الاستعراض المنظم المتأنى للأدلة المؤيدة والمفندة... ثم إن الخطابة موقوتة الفرص منتهية بانتهاء مجالها، وانفضاض مجامعها، أما الكتابة فهى أخلد على الزمن، وأعصى على الفناء..." هذا وإن كان الشيخ الغزالى يعد من العلماء القلائل الذين تميزوا بغزارة إنتاجهم الذى أثرى به المكتبة الإسلامية من أسفار قيمة وكتب متنوعة تجاوزت خمسة وخمسين كتابا، تمثل روافد عذبة تصب فى شتى نهر المعرفة الإسلامية المختلفة، فتضيف إليها الجديد، أو تنفى عنها ما تلبث بها من رواسب معوقة أو شوائب معكرة خلقتها يد الزمان فى عصره السالفة، لتعود صافية كما كانت. إن كان الأمر كذلك فيجب أن ندرك أن الفضل فى تكوين الغزالى الكاتب والمؤلف، يرجع إلى حسه الصحفى فكرا وأسلوبا فلقد كان فضل الصحافة على الشيخ الغزالى عظيما وهو ما يفصح عن نفسه بوضوح فى جل كتب الشيخ التى يغلب على منهج تأليفها الأسلوب المقالى القائم على تنوع الأفكار، وتعدد العناوين، مع استقلالية كل فكرة عن الأخرى أحيانا فى الكتاب الواحد لا فرق فى ذلك إن كانت تلك الأفكار تعالج موضوعا واحدا، أو لا. الشيخ الغزالى والصحافة: لقد بدأت رحلة الشيخ الغزالى مع الصحافة منذ زمن بعيد، يسبق تاريخ صدور أول مؤلفات الشيخ (الإسلام والأوضاع الاقتصادية 1947) بثمانى سنوات تقريبا فقد بدأت هذه الرحلة عام 1939 حين نشر له أول مقال وهو لايزال طالبا فى الفرقة الثالثة بكلية أصول الدين. كانت بدايته قوية تلفت النظر، وتنبئ عن عالم وأديب من طراز مختلف بما لديه من سحر البيان، وعنفوان الأسلوب، وقوة التعبير، وعشق للحرية، واستقلالية الذات والفكر، والتمرد على التقاليد الراكدة التى ابتليت بها الأمة الإسلامية حتى(4/2)
ص_005
أضحى- وهو شاب صغير - موضع إعجاب الجميع، وعلى رأسهم الإمام حسن البنا الذى شجعه وسجل إعجابه به فى رسالة أرسلها إليه يقول فيها: أخى الأستاذ محمد الغزالى - وكان لايزال طالبا - قرأت مقالك. فطربت لعباراته الجزلة ومعانيه الدقيقة، وأدبه العف الرصين هكذا يجب أن تكتبوا أيها الإخوان - اكتب وروح القدس يؤيدك - والله معك - كانت بداية الشيخ الغزالى مع الصحافة: مع مجلة (جريدة الإخوان المسلمين، ثم كان انطلاقه الحقيقى مع مجلة (المنار) الشهرية. ثم استمرت هذه الرحلة الطويلة العامرة، فى المدة من عام 1939 م إلى عام 1954م إلا أنه قد برز فى الأهم فقط من هذه الإصدارات مثل مجلة (التعارف - الأسبوعية)، ومجلة (الإخوان المسلمون) نصف الشهرية، ومجلة (الكشكول الجديد)، ومجلة (المباحث القضائية) الأسبوعية، وصحيفة (الدعوة) الأسبوعية كان يكتب فى هذه الدوريات بصفة منتظمة، وربما لم يخل بعضها من مقال الشيخ منذ عددها الأول إلى عددها الأخير - كمجلة (التعارف). هذا بالإضافة إلى انتظام الشيخ فى كتابة مقالاته لدى بعض الصحف الأخرى فى تلك الحقبة الثرية فى تاريخ الصحافة المصرية والإسلامية بوجه خاص - مشاركا بذلك بعضا من كبار علماء الدين والدعوة، وأشهر رجالات الفكر والأدب، من هذه الدوريات (منبر الإسلام) الشهرية، ومجلة (نور الإسلام) الشهرية، ومجلة (السيدات المسلمات) الأسبوعية، ومجلة (الفكر ص_006(4/3)
الجديد)، إلى غير ذلك، وهى ما يمكن أن نطلق عليها الصحافة الإسلامية غير الحزبية. - لهذا تعد هذه المرحلة من حياة الشيخ الغزالى منذ عام 1939م إلى عام 1960 تقريبا، من أخصب مراحل حياته وأثراها فى ميدان الكتابة - والمقالية منها خاصة - مما كان له أكبر الأثر فى بنائه الفكرى وتأليفه العلمى - إذ جمع أكثر هذه المقالات التى سبق نشرها ونظمها فى سياق واحد يخرج على الناس كتابا عزيزا تتلقفه أيادى القراء بنهم وشغف، حتى صارت (الكتب المقالية) ظاهرة شائعة لديه، على عادة كثير من أدباء ومفكرى العصر الحديث - ولا فارق إن كانت هذه الكتب المقالية فى تراثه العامر ذات موضوع واحد، أو ذات موضوعات مختلفة - من هذه الكتب المقالية ذات الموضوع الواحد والتى جمعت فى تلك الأثناء (من هنا نعلم) و (الإسلام المفترى عليه بين الشيوعيين والرأسماليين). ومن الكتب المقالية المتنوعة الموضوعات: (تأملات فى الدين والحياة) و (فى موكب الدعوة). * ثم تأتى مرحلة الستينيات وإلى منتصف السبعينيات من رحلة الشيخ الغزالى الفكرية والتى تميزت بكثرة إنتاجه فى ميدان التأليف للكتب، مع قلة فى جانب الكتابة المقالية. المنبثة فى بعض الدوريات بصورة غير منتظمة وإن جمع أكثرها فى كتابه (حصاد الغرور). ومنذ أواخر السبعينيات تبدأ مرحلة جديدة من كفاح الشيخ الغزالى الفكرى والأدبي، وتستمر إلى وفاته - رحمه الله - فى 9 / 3 / 1996م، وقد تميزت هذه المرحلة بنشاط غير عادى فى تحبير ونشر مقالات الشيخ بصفة دورية فى صحف ومجلات مختلفة - وإن كانت مقالات تتسم بالقصر إلى حد "الخاطرة" أحيانا. من هذه الصحف والمجلات صحيفة (المسلمون) السعودية، جريدة الشعب المصرية، وجريدة (الشرق الأوسط) ومجلة (سيدتي) السعوديتين. وقد جمعت جل هذه المقالات فى كتابى الشيخ (الحق المر) ستة أجزاء و (قضايا المرأة بين التقاليد الراكدة والوافدة). ص_007(4/4)
** هذه المقالات: - وها نحن اليوم نضع بين يدى القارئ كنزا ثمينا من تراث الشيخ الغزالي. إذ تحوى صفحات هذا الكتاب المجموعة النادرة، بل الوثائقية لمقالات الشيخ، والتى لم تجمع من قبل - فى كتاب من كتبه المقالية، خاصة أنها نشرت فى المرحلة الأولى من حياته العامرة فقد ظلت هذه المقالات حبيسة الصحف والمجلات القديمة منذ عام 1940 م إلى يومنا هذا، وهو وقت طويل، لم تتح فرصة لعينى قارئ أن يطالعها بعد نشرها للمرة الأولى وقتئذ. - ولهذه المقالات طابع خاص عن مثيلاتها فى تراث الشيخ الغزالي، ذلك أن أهم ما يميزها كونها مقالات جديدة قديمة، أصيلة معاصرة فى آن واحد، لم يسدل عليها الزمان ستائر البلي، ولم تفقد قيمتها فى دروب النسيان - بل هى كالمعدن النفيس. لم يتأثر بتعاقب السنين ومرور الحقب إلا بذرات من غبار الزمن ما إن تمحوها يد خبير بقيمته إلا عاد من جديد أثمن مما كان عليه فى سابق عهده. - ومن هنا فمعاصرة هذه المقالات من نوع مختلف، معاصرة اكتسبت رسوخها اليوم من ثبات جذورها فى الأمس، كما أن الابتكار والجدة فيها قام حاضرها على أساس من ماضيها - فحملت إلينا التراث القديم فى عبقه وهيبته، وربطته بحاضر المسلمين اليوم بما اشتملت عليه من معالجات فكرية ودينية واجتماعية وسياسية لكثير من قضايا الأمة الإسلامية فى كل زمان ومكان. وفى الوقت نفسه تعكس هذه المقالات صورة حية قريبة الملامح لفكر الشيخ الغزالى فى مراحله الأولي، خاصة فى تلك الآونة العصيبة من تاريخنا السياسي، كما تكشف عن جذور متشابكة لبعض القضايا التى تعانيها الأمة فى وقتها الراهن، وكيف تصدى الغزالى - الشاب الأزهرى الثائر - للتيارات الوافدة التى قصدت القضاء على أمة الإسلام فى صلابة وشجاعة وثبات تبين عن مدى سبق هذا العالم الجليل لزمانه بفكره الثاقب وآرائه المتجددة. التى لم يخش عند نشرها فى الله لومة لائم. وقد وفقت - بعون الحق سبحانه - للكشف عن هذه المقالات(4/5)
ثم جمعها ص_008
وتحقيقها من خلال رحلة إعداد رسالتى العلمية لنيل درجة (الماجستير) فى الأدب والنقد - والتى حملت عنوان (المقال وخصائصه عند الشيخ محمد الغزالي)، وذلك من خلال العكوف على الدوريات القديمة والمندثرة بالبحث والدراسة لوقت طويل حتى خرجت بهذا الكنز القيم الذى أتقرب إلى الله عز وجل بتقديمه بين يدى القارئ المسلم ذى الثقافة الأصيلة، والرغبة الصادقة فى تحصيل ما ينفعه فى دينه ودنياه. - هذا ولا يخفى ما فى هذا العمل من تواضع شديد إذا ما قيس بالجهود المضنية التى بذلت فى جمع تراث الشيخ الغزالي. ولكن حسبى أنه أضاف لبنة جديدة فى الصرح الغزالى الشامخ - الذى ينشر أشعة الهداية للمسلمين وسط غياهب الظلام، ويمهد لهم سبيل الرشاد إلى صراط الله المستقيم. خالد كمال الطاهر مدرس مساعد فى كلية اللغة العربية جامعة الأزهر - بالقاهرة - ص_009(4/6)
1- أولئك الذين هدى الله لا أسوق الحديث إلى قوم كلما نظروا إلى هذه الأمة وإلى ما ران عليها من ركود صاحوا صيحة القانط الفزع أنى يحيى هذه الله بعد موتها؟ وفى معنى رفع الكتفين ومط الشفتين ينزوون بعيدا من حركة إصلاحية قرب مداها أو بعد وانفسحت آفاقها أو اقتربت ، كلا فما إلى هؤلاء يساق حديث وكيف يرجى الخير من نفس قل إيمانها فضعفت عزيمتها وأحبط رجاؤها ومات نشاطها؟ إنما نوجه كلامنا إلى كل أخ قسم حياته إلى عمل فى اليوم وأمل فى الغد، ويود أن يقبض مما يشتعل بين جوانحه من جهاد ونشاط على كل ما حواليه ليرى من الاستكانة السائدة ثورة جارفة ومن الميادين الراكدة ساحات صراع للحق وتوثب دائب نحو المجد، نعم نحو المجد الحقيقى فيما رضيه الإسلام أمثلة عليا للحياتين الأولى والآخرة.. إلى أمثال هذا الأخ نسوق الحديث.. فلقد ضاق المرء ذرعا بفوضى الدعوات فى مصر، وكثرت وسائل الإغراء فيما يعرض على الجمهور من برامج، حتى ليكاد الناس يزهدوا فى الحق والباطل على السواء ويرتاحون من عناء الكشف عن حقيقة هذا اللبس المقيت، ناهيك بما ركم قبل وجود عدة أحزاب تتنازع الإخلاص فى خدمة هذه البلاد المنكوبة من أثر بالغ فى نفسية الشعب وحالة تستلزم أعظم الحكمة فى قيادته. صحيح أننا نحن المسلمين نعرف على أى مبادئ اجتمعنا.. وإلى أى الأهداف انبعثنا واتجهنا.. وصحيح أننا نوقن بسلامة برنامجنا الذى لا يعدو فى نصوصه آيات القرآن واحدة بعد واحدة ولا فى طريقه ما سنه الرسول خطوة إثر خطوة وصحيح أننا نرى فيه وحده صور الخلق الفاضل للفرد ومعانى الإخاء الوثيق للمجتمع وعناصر الغاية العليا للسياسة.... وصحيح أننا ما حيينا لن نرتد إلى جاهلية نبذناها أو نطرح هداية أكرمنا الله بها وأننا ولله المنة على العهد الذى يعلم منا وعلى الحالة التى يرضى لنا حتى نلقاه ص_010(4/7)
( قل أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران له أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا قل إن هدى الله هو الهدى وأمرنا لنسلم لرب العالمين). .... صحيح كل هذا وعلى ضيائه سنعرف الناس وعلى منطقه سنعاملهم، فعلى أى الأسس بعد ذلك ننشئ علائقنا بغيرنا إنشاء يستقيم مع التعصب للحق وحياطته واستمرار الدعوة له وتكثير أنصاره. نحن لا نرسل القول فى نزق فنقول: من ليس منا فهو علينا: كلا فإن لنا نظرة أصدق وأعمق نعم هنالك فئات من مرضى القلوب لم تخالطهم بشاشة الإيمان يسيرون تحت كل راية إلا راية" القرآن" ويدعون إلى كل شيء إلا هذا الإسلام السمح العظيم، ويكتبون التراجم المستفيضة عمن يرونهم أبطالا من أهل "أوربا" وعلمائها وأدبائها، ويحشدون فيها عبارات التقدير والمودة والثناء على حين تتقصف أقلامهم عند الكتابة عن أبطال (الإسلام) ومشاهير قادته وعلمائه هؤلاء وأضرابهم وأشياعهم ممن يتنكرون لتراث "محمد" ودينه ولغته يستحيل أن نكن لهم إلا أعنف ألوان الخصومة وظاهر أمرنا من باطنه فى احتقار كل ما يأتون به وهدمه وقد آذناهم بهذه الحرب على سواء ( أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون). ولكن هناك فئات أخرى ترى أنها تعمل للإسلام وهى إنما تعمل على وفق ما يروقها من طرائق، على أنها بحكم استقلالها فى نظمها الخاصة قد لا تعنيها ملاحظاتنا عن عقم هذه الطرائق أو إنتاجها وعلى أى الأحوال فإنه إلى أجل محدود لا نريد أن يكون بيننا وبين هؤلاء نقاش ولا حساب، وحسبنا اليوم أن نقول لهم ( الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير). ولئن صدقوا الله وقصدوا وجهه حقا فستنتهى مصايرهم إلينا وسيلتقون بنا فى ص_011(4/8)
نهاية الأمر كما تلتقى مياه الأنهار الجارية بلجج الخضم العظيم، ذاك كما قلنا إلى أجل محدود قبل أن تتحول الجمعيات الإسلامية المبعثرة إلى ما يشبه مساجد الضرار فتكون مثابة المنافقين وأوكار الفاتنين ومثار الفرقة القاتلة والجهود الفاشلة فى صفوف العاملين، وهو يوم نضرع إلى الله أن لا يكون، فإنه موقف يعيد مرة أخرى موقف المنافقين من أصحاب رسول الله والمؤمنين حين اتخذا أولئك لأنفسهم ( مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون) إن عملنا واضح وخير ما نصفه به وصفا يحدد مناهجه أنه عمل الرسول قبل "بدر" يدير المنطق على لسانه قبل أن يدير السلاح فى يده، أليس فى هذا ما هو خليق بأن يجيب المتسائل حين يسأل ما الذى حققوه من نتائج؟ بلى وإنه لعجيب أن توجد مثل هذه الغباوة الظاهرة بطبيعة الدعوات ونشأتها وتطورها، وليست هذه الغباوة أسوأ ما تنطوى عليه هذه الأسئلة بل هناك النكوص عن مواجهة الحقائق والتضليل المكشوف لمن يأخذون على عاتقهم القيام بأخطر الرسالات وأشق المشاريع ( ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها حتى إذا جاءوك يجادلونك يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الأولين). عمل الرسول إذن قبل "بدر" من نشر الدعوة بين شتى البطون والعشائر واتخاذ الأنصار والأعوان وغرس روح التضحية والفداء وإلهاب المشاعر حمية للدين وإخلاصا لقيادته وتفانيا فى نصرته، ذاك أو قريب منه ما نقصده أن ألف صيحة تتجاوب طالبة الإصلاح، ولكن من أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إننى من المسلمين؟وألف صوت يدعو صاحبه إلى العمل وكل عمله أن يقول نريد العمل! أوليس فى الإسلام أشق الجهاد وأضنى العمل؟ ( أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده قل لا أسألكم عليه أجرا إن هو إلا ذكرى للعالمين ). ص_012(4/9)
2- عسى أن يكون قريبا قد يفجأ النفس المسلمة من أحداث الحياة فى هذا العصر ما تغص به. بل قد يكون فى بعض الوقائع المحرجة ما يثير فى صدور المؤمنين عواصف بعيدة الصدى يمتزج فيها الغضب بالأسف، والاستهجان الشديد بالحسرة العميقة. ولعل مما حفره الزمن فى الذاكرة فلن تضل عنه حتى الممات ما ذكرته إحدى الصحف. أن جماعة من الأجانب النازحين إلى مصر (توطنوا) ضاحية قريبة وابتسم لهم الحظ فأترفوا فى حياتهم وأترفوا فى مساكنهم بينما (نزل) قريبا منهم فريق من العمال المصريين وأقاموا فى أكواخ مهينة تمثل نوعا عجيبا من التعاسة الشرقية فكان السادة الأجانب يمرون عليها بسياراتهم الفخمة حتى إذا خرجوا من نطاقها إلى حيث يقصدون قالوا "لقد خرجنا من عزبة المسلمين" نعم وما أصح الإطلاق فمنطق هذا الثراء الأجنبى ما دام يعيش على حساب الغفلة السادرة. والانحلال السائد. والضعف المشين.. نعم أيها السادة "عزبة المسلمين" الذين يعيشون على فتات موائدكم. ويسعون فى مزدحم أقدامكم ويركضون لإيماءة من أصابعكم يا للذل!!! لكأنما أحسست بكل شبر من الأرض يتبرم بمن فوقه ويتنكر لهؤلاء المسلمين الذين توارثوا عن آبائهم دولة طائلة ما رعوا لها حرمة.. ولا حفظوا لها عهدا، فهم اليوم يقتطعون أنصبتهم منها عزبا حقيرة. على حين ينزل نزاع الدنيا. وشذاذ الآفاق منها أكرم المنازل... وجلست مرة إلى المذياع. فحدثتنى النفس أن أستمع إلى المحطات الخارجية. وكان أن قيض الله إلى المذيع العربى (لمحطة باري) يسرد قائمة أخباره المعتادة فماراعنى إلا حديث عجيب. أتدرى أيها الأخ عن ماذا؟ عن مستعمرات إيطاليا الإسلامية!!! تردد الصوت فى أذنى طويلا.. ووعيت فى شبه غيبوبة أن البلاد الإسلامية المجيدة قد استحالت مزقا يتفاوت الفاتحون الغربيون فى حيازتها.. إننا مخدرون تخديرا يجعل إحساسنا بالحقائق المرة ضئيلا أو معدوما. ص_013(4/10)
فأين نحن من هذا العالم الصاخب المائج؟ لقد تبدلت الأرض غير الأرض فما تكاد معالم الحياة تبين مما أدركها من تشويه!!. "مستعمرات إسلامية" يا للمنكر! أتلك أنقاض ما بنى الأولون الأمجاد حقر الرسم ليس فيه معلم صدق ينبئ عما كان من فخامة أو تستقر الأمور على ذلك؟ لا والله. فما نهدأ حتى تنمحى من بين الأحياء هذه الكلمة الملعونة، ولئن طابت نفوس أقوام بالخنوع فى مهاد الذل فما تطيب نفوسنا - نحن المسلمين - حتى نبيد أو تلقانا أوبة الظافرين. مستعمرات إسلامية!! أخرس الله لسانا ينطق بها لا يظهر عودتها وفؤادا تمر به لا يستشعر سوءتها فمتى كانت قسمة المسلمين من الحياة أن يعيشوا كذلك قطعانا من السوائم يفزعها تلويح العصا، كلا كلا علم الله.. تلك أمثلة قليلة لكثير مما يقع تحت العين والأذن يصطدم فيها الحاضر البغيض بذكريات ماضينا العزيزة أوبآمال غدنا الحارة صداما يدع النفس شعاعا واللب شاردا. إن الكريم قد تزحزحه الليالى عن منزلته ولكن نفسه الكبيرة لا تفتأ فوق متناول الإهانات حتى إذا أصابه مطعن مباغت لا يعترف بما أبقى له الزمن من كرامة جريحة كان أساه لما ناله لا يقدر. وقد كتب الله لنا - نحن المسلمين - أن نكون شهداء على الناس، وأن نهيمن على مشارق الأرض ومغاربها ممسكين بأيدينا أعنة أمورها متولين مقاليد أحكامها. وأن نصرف شئون الأمم تصريفا يحميها الفوضى والعدوان. وكاد مشعل الهدى المحمدى يبلغ ضياؤه كل أفق مغمور. وإذا بالأحوال تنتكس والآيات تنعكس. والطالب يطلب. والغالب يغلب والمصعد الماضى إلى الذروة يتدهده رأسا على عقب. وينقلب ظهرا إلى بطن فلا يقفه عن هبوطه إلا السفح المستقر ولا يرده عن تسفله إلا الرغام المهين، وإذا المسلمون فى عرف أوربا المتحكمة المتكبرة ليسوا خيرا من الزنوج قبولا لما يفرض عليهم من ذل واستساغة لما يراد بهم من استعمار فلله ما أوسع المسافة بين ما كنا فيه وما صرنا إليه وما أبعد الشقة بين ما يجب(4/11)
علينا وما يحدث منا ولشدة ما يتألم المسلم المخلص عندما يتحسس الدرك الذى هوى إليه قومه أو عندما يصيخ إلى أصوات بعض المخدوعين يزعمون ذلك ضربة لازم. ويحتسبونه أمرا طبيعيا معقولا.... وكأن فيما حدث مالا يطفح به الكيل، ويحرج منه الصدر فنسمع أن هناك اعتداءات جديدة تبيت للأمم المسلمة ونقرأ بين ص_014
الحين والحين أن العراق وإيران وأفغانستان ودول الشرق الأدنى جميعا فى خطر زحف أحمر وسط عاصفة هوجاء بل ما لنا نذهب بعيدا؟ أو ليس من الجائر أن مصر يمسها أوار هذه الحرب الضروس فتخوضها مرغمة. وسواء صدقت الإشاعات أو كذبت فإنه لن يكون حسب أولئك المسلمين من جهاد أن يردوا كيد كل عاد إلى نحره وأن يحموا قلب الإسلام ونواة نهضته. كلا فما أبلغ الأشياء عندى حزازة بأن أبت مزريا عليك وزاريا ولكن سيكون هذا الدفاع استعدادا لهجرة أعظم ووثبة أوسع يعقبها تحرير المسلمين فى فجاج الأرض قاطبة. ولقد بذلنا كما بذل إخواننا فى كل قطر مجاهد ثمنا غاليا من الدماء والأموال فى سبيل الاقتراب من هذه الغاية فلتكن الهدأة الحاضرة استجماما للعمل المنتج نحو النصر المبين ( ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريبا ). * * * ص_015(4/12)
3- وقال الملأ من قوم فرعون.... خلال هذا القرن المشئوم كانت خسائرنا - نحن المسلمين - جسيمة، اختفت معالم الحكم الإسلامى على وجه الأرض تقريبا، وتراجعنا بعد صراع عنيف أثرت فى أدواره فوضى الدفاع أبلغ مما أثرت فيه شدة الهجوم، وبدأت أعلام الحق تطوى فى ميادين "الشرق الأدنى" ومن قبل ذلك كانت النكبة قد حلت بأجزاء كبيرة من وطن المسلمين الأعظم، وحاقت اللعنة بالمفرطين الغافلين؟ فهم اليوم فى جاهلية وضيعة يقتتل على سومهم الخسف من آل أمر الدنيا وقيادها إلى أيديهم.. من كان يبلغ آباءنا أن الباطل إذا ملك استشرى، وأن الجريمة كل الجريمة فى إهمال ما ينبغى من تأهب، وطرح ما يفترض من تحفز، وأن لابد للحق من حدة تكسر شرة الباطل، وفورة تعلو على نزوته، وأن الأمر أخطر من خسارة عدة أقطار يستغلها هذا أو ينتفع بها ذلك، فإنما يتقن هذا الحساب سائر دول "أوربا" التى تعيش لتأكل ولكنه فى حساب الحكم المسلم والأمة المسلمة إنقاذ الإنسانية وتحطيم العوائق التى تحجب النور الإلهى عن أبصار البشر الكليلة، ولكنه كذلك توسيع المدى الحيوى الواجب لرسالة" القرآن" وتعميم هدايته حتى لا يختص بها مكان دون مكان، هل.. أمنا بأن لابد للحق من سياج يصونه، وقوة تنصره؟ نعم آمنا ولكن بعد أن أدركنا الغرق، وكأن القرآن لم يحذرنا بطش القوى الضالة، أولم يعرفنا سفالة الأساليب التى تتخذها تلك القوى تجاه الحق الأعزل! أولم يبصرنا بسياسة القرن العشرين فى تسويغ الاستعمار وسرقة الأمم، أو لم يوضح لنا كيف اتخذت هذه السياسة من قبل حذوك النعل بالنعل!! ( وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك قال سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم وإنا فوقهم قاهرون).. يا عجبا.. موسى وقومه أناس تخشى عواديهم وتخاف فتنتهم!! وموسى وقومه ص_016(4/13)
أناس ظلام ملأوا الأرض طغيانا وعاثوا فيها فسادا فلا جرم كان فرعون - وهو البر الرحيم!! - عادلا فيما أنزله بعبيده الإسرائيليين من عقاب وما ضربه عليهم من إذلال!! ثم ليمض الغى إلى نهايته وليعتبر هذا الظلم الطارئ قانونا محتوما كسنن الكون التى لا تتخلف، فإذا ما أفلت موسى من سطوته وقدرت له الحياة فهو لم يستعد حينئذ حقه الطبيعى ونصيبه المفروض لبنى آدم جميعا، ولكنها منة فى عنقه يدينه فرعون بها، تسوغ له أن يقول له ( ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين) وأنى لموسى أن يقر هذا المنطق المعكوس، فلا غرابة أن أنكر على الجبار العاتى ما زعمه لنفسه فيقول له ( وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل)؟! أليس منطق القوة متشابه المقدمات وإن تفاوتت الأعصار واختلفت الأزمان؟ وكذلك نفاق السياسة التى تظلم باسم العدل، وتخرب باسم الاستعمار، وتقتل الشعوب باسم الوصاية على الشعوب وتلتهم الأمم الضعيفة باسم المحافظة على كيانها هي، هذه المحافظة التى تقذف بالحملان إلى أجواف الغيلان. فإذا التفت المسلم يمنة ويسرة ورأى هذه الحدود الزائفة التى تقسم الدولة الإسلامية العظمى دويلات وتفصل بين الأخوة الأبرار، كما تفصل جدران السجن بين أعز الأشقاء، ثم تذكر كيف دبر لكل قطر مصرعه وشق له مضجعه، وكيف تم ذلك كله تحت ستار من التضليل المكشوف والتمويه المفضوح.. إذا رأى المسلم ذلك فإن الذى يلفت نظره حقا أن يكتمل التشابه حتى آخر القصة الفرعونية، فإذا( فراعنة هذا الزمان يمنون على قطر مجاهد بقشور لا وزن لها فى جانب أمانيه، ولو كانت حقيقة كما وصفت به حين دقت حولها البشائر فهى لا تستحق أكثر من أن يقال فيها وتلك نعمة تمنونها علينا أن عبدتم العرب والمسلمين). وماذا بعد ذلك؟ ليست هذه أول مرة يعجل للمسلمين فيها حسابهم على تفريطهم فى جنب الله، فلقد سقطت خلافتهم "فى بغداد" إبان القرن السابع الهجرى ثم أدركتهم رحمة الله فنهضوا ولاقى(4/14)
التتار عقابهم السريع، ولن يكون مصير تتار القرن الرابع عشر خيرا من مصير أسلافهم الأولين مهما زعمنا لهم من ص_017
قوة ومهما زعموا لأنفسهم من غلبة ومهما أخفوا أنياب القرون الوسطى وراء ابتسامة عريضة من خداع الحضارة الحديثة، بيد أننا لا يجوز مطلقا أن نستسيغ حالة الركود السائدة التى يخيم يأسها البارد فوق العالم الإسلامى متعللين بأننا لسنا ذوى بسطة فى القوة المادية فما أكثر أسباب الفوز لمن يريده، وما أكثر أسباب الفشل لمن يتوقعه، وكم يعتذر المستضعفون عن مهانتهم بما يعلم الله كذبه ويأبى إلا افتضاحه، ( ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم والله عليم بالظالمين) ما أجهل من يرجعون هزيمة المسلمين إلى ضعفهم المادى إنه مرض القلوب وضعف النفوس، ولو أن لنا قوى الأرض كلها ما استطعنا استغلالها والنفوس هى هى ، وكل شيء فى مصر ما زال منكسا على رأسه، ضالا عن طريقه، هيهات لقد ذقنا مرارة الهزيمة لفوضى الدفاع أكثر مما ذقناها لضراوة الهجوم.. قرن كامل أيها المسلمون لم تنل فيه أمتكم نصرا، ولم يرتفع لها فى شتى دروب الحياة لواء، فليس لها رجاء إلا فيما يعينكم الله عليه من مراحل جهادكم الشاق، وأشواط نضالكم المضنى فأحسنوا الرجوع بها إلى حمى خالق الأرض والسماء واعلموا أن بونا بعيدا بين حلم المستغرق وثقة المتيقظ فلنكن المؤمنين الواثقين ولنستلهم الله ولنضرع إليه أن يتخذنا أجناده وأنصار دينه. * * * ص_018(4/15)