حكم استثمار أموال الزكاة في التجارات والصناعات
بقلم: عبدالرحمن بن عبدالخالق
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد الهادي الأمين،والداعي إلى صراط الله المستقيم،وعلى آله وأصحابه ومن اتبع هداه إلى يوم الدين وبعد،،
فهذه رسالة مختصرة في حكم استثمار أموال الزكاة في التجارات والصناعات وغير ذلك من وجوه الاستثمار،كتبناها لما رأينا أن بعض الباحثين وطلاب العلم أفتي بجواز استثمار أموال الزكاة، بل استحباب ذلك وخشينا أن يتوسع من يتولون جمع الزكاة من الهيئات واللجان والأغنياء في استثمار أموال الزكاة، وعلمنا أن الزكاة عبادة شرعية بل ركن من أركان الإسلام يجب أن تؤدى كما أمر الله سبحانه وتعالى. هذا وأسأل الله أن ينفع بهذه الرسالة عباده الصالحين وأن يوفقنا إلى محبته ومرضاته.(1/1)
أولاً: وجوب الزكاة:
اعلم رحمني الله وإياك أن الزكاة فرض واجب بكتاب الله وسنة رسوله، وإجماع أمة محمد صلى الله عليه وسلم وهي أحد أركان الإسلام الخمس، قال تعالى "خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها"وقال تعالى "والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم"، وقال تعالى "والذين في أموالهم حق للسائل والمحروم" وأما الأحاديث فمنها قوله صلى الله عليه وسلم (ما من صاحب ذهب ولا فضة،لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة، صفحت له صفائح من نار فأحمي عليها نار جهنم، فيكوى بها جنبه، وجبينه،وظهره، كلما بردت أعيدت له، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين العباد،فيرى سبيله، إما إلى الجنة، وإما إلى النار. ولا صاحب أبل لا يؤدي منها حقها - ومن حقها حلبها يوم ورودها - إلا إذا كان يوم القيامة، بطح لها بقاع قرقر، أوفر ما كانت، لا يفقد منها فصيلاً واحداً، تطأه بأخفافها، وتعضه بأفواهها،كلما مر عليه أولاها،رد عليه أخراها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله،إما إلى الجنة وإما إلى النار. ولا صاحب بقر، ولا غنم لا يؤدي منها حقها، إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاع قرقر لا يفقد منه شيئاً، ليس فيها عصقاء، ولا جلحاء، ولا عضباء، تنطحه بقرونها، وتطأه بأظلافها، كلما مر عليه أولاها، رد عليه أخراها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار ) رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي، وقوله صلى الله عليه وسلم (… ولا صاحب كنز لا يفعل فيه حقه، إلا جاء كنزه يوم القيامة شجاعاً أقرع يتبعه،فاغرا فاه، فإذا أتاه فر منه، فيناديه ربه عز وجل: خذ كنزك الذي خبأته، فأنا أغنى منك، فإذا رأى أنه لابد له منه، سلك يده في فيه فيقضمها قضم الفحل) رواه أحمد ومسلم والنسائي، ولما بعث رسول الله معاذاً إلى اليمن قال له: (أنك تأتي على قوم أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه(1/2)
عبادة الله، فإذا عرفوا الله، فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم، فإذا فعلوا فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم زكاة تؤخذ من أموالهم فترد على فقرائهم، فإذا فعلوا أطاعوا بها فخذ منهم، وتوق كرائم أموال الناس) متفق عليه، وقال أيضاً (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دمائهم وأموالهم ألا بحقها، وحسابهم على الله) متفق عليه، وقد أجمع الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين على وجوب قتال مانعي الزكاة، وعاملوهم معاملة الكفار المرتدين.
قال ابن قدامه: فمن أنكر وجوبها جهلاً به وكان ممن يجهل ذلك إما لحداثة عهده بالإسلام أو لأنه نشأ ببادية نائية عن الأمصار عرّف وجوبها ولا يحكم بكفره لأنه معذور، وإن كان مسلماً ناشئاً ببلاد الإسلام بين أهل العلم فهو مرتد تجري عليه أحكام المرتدين، ويستتاب ثلاثاً،فإن تاب وإلا قتل لأن أدلة وجوب الزكاة ظاهرة في الكتاب والسنة، وإجماع الأمة فلا تكاد تخفى على أحد ممن هذه حاله، فإذا جحدها فلا يكون إلا لتكذيبه الكتاب والسنة وكفر بهما.أ.ه. (المغني 1/414 )
ومن مجموعه النصوص السابقة يستفاد ما يأتي :
1) أن الزكاة فرض واجب وركن من أركان الإسلام يجب أن تؤدى كما أوجب الله، فيخرج من كل مال حسب النصاب الشرعي، ومن نفس المال الذي وجبت فيه الزكاة وتؤدى إلى من ذكر الله حسب المصارف الشرعية لقوله تعالى "إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم" التوبة 60
2) أن الزكاة واجبة على الفور وليست على التراخي لأنها عبادة مخصوصة بالحول أو جني الثمرة وحصاد الزرع لقوله تعالى "وآتوا حقه يوم حصاده"
ثانياً:فساد القول بجواز استثمار أموال الزكاة:(1/3)
وقد ذهب بعض الباحثين وطلاب العلم المعاصرين إلى جواز استثمار أموال الزكاة في التجارات والصناعات ونحوها من القائمين على جمعها سواءً كانوا حكومات أو هيئات خيرية. وهذا القول غير المسبوق، ولم يجر عليه عمل قط في عصور الإسلام جميعها، ولم يقل به أحد من أهل العلم سابقاً، ولا شك أنه خطأٌ كبير للأمور التالية :
أنه تبديل لصورة العبادة، وتغيير لأحكامها، وابتداع فيها… فالزكاة عبادة لها أركانها وشروطها وأحكامها، ويجب في العبادات أداؤها كما أمر الله سبحانه وتعالى، فإن زكاة الذهب والفضة يجب إخراجها من نفس المال ذهباً أو فضة، وزكاة الأنعام كذلك وزكاة الزروع والثمار كذلك لا يجوز تبديلها بمال آخر، ومصارف الزكاة لا يجوز زيادتها، ولا صرف الزكاة لغير من الله عليهم من أهلها لقوله تعالى "إنما الصدقات للفقراء والمساكين" .. الآية. والقائلون بجواز استثمار أموال الزكاة يبدلون أحكامها ولا بد، وقد قال صلى الله عليه وسلم (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) رواه مسلم.>
استثمار أموال الزكاة من القائمين على جمعها حكومة كانت أو هيئات هو تصرف لم يأذن به الله ولا رسوله، وبالتالي هو تعد على أمر الله ورسوله.>
استثمار أموال الزكاة بتجارة أو صناعة أو غير ذلك يعرضها للخسارة أو الربح ففي حال الخسارة أو الربح ففي حال الخسارة من يضمن ضياع أموال الزكاة؟ وفي حالة الربح لمن يكون الربح؟ وأي قول إجابة في هذا هو قول على الله بغير علم واجتهاد في موضع النص، ولا يجوز الاجتهاد في موضع النص.
القول بأن الزكاة كالوقف يجوز بحبس أصولها، أو شراء أصول بها وتسبيل ثمرته، قياس مع الفارق وإدخال للعبادات بعضها ببعض، فطريق الوقف غير طريق الزكاة..(1/4)
وقياس الزكاة على الأموال الخراجية، التي حبسها الخليفة الراشد عمر بن الخطاب على بيت مال المسلمين، ولم يوزعها على الغانمين هي نوع من الوقف الإلزامي الذي أذن فيه المسلمون فكانوا كالمتبرعين بأموالهم،وأما مال الزكاة الذي أخرجه المزكي فهو مال الله وقد أصبح حقاً لأهل الزكاة، ولا يجوز لأحد أن يتصرف في ملا الله بغير أذن منه، واستثمار أموال الزكاة هو تصرف في مال خاص لله بغير إذن من الله سبحانه وتعالى.
وأما القول بأن مصادر الإنفاق في سيبل الله محدودة، والزكاة قليلة، واستثمارها يفتح باباً واسعاً لتنميتها، وإيجاد مصادر دائمة للإنفاق في سبل الله، كل هذا من التحسين العقلي الذي يؤدي إلى تغيير صورة هذه العبادة وحبسها وتعطيلها عن المصارف، ولا شك أنه يمكن إيجاد مصارف ثابتة عن طريق الوقف،والصدقات المعدة لذلك، وأما الزكاة فإن سبيلها غير ذلك لأنها تلبية لحاجة الفقير الماسة في الوقت كما قال صلى الله عليه وسلم: (تؤخذ من أغنيائهم وترد إلى فقرائهم) فقوله وترد إلى فقرائهم دليل الفورية في التوزيع، ولذلك أجمع أهل العلم على أنه لا يجوز حبس مال الزكاة، ولا تأخيره وكذلك قال الله سبحانه "وآتوا حقه يوم حصاده" يشعر بأنه يجب توزيعها في الوقت من جنس المال من الزروع والثمار، وكان السلف يوزعونها بين الفقراء من المرابد والبيادر رأساً قبل أن تدخل إلى مخازنهم.
القول بأن الحكومة أو الهيئات التي تقوم بجمع الزكاة تتولى تنمية هذا المال واستثماره قو لضعيف فاسد أن مهمة الدولة في الإسلام لا يدخل فيه الاستثمار قط!! وإنما هذا من فعل الدول الشيوعية والاشتراكية التي رأت من مهمة الدولة استثمار الأموال بالزراعة والصناعة وغيرها،ولا يجتمع في الإسلام قط الحكم والتجارة!!(1/5)
القول بجواز استثمار أموال الزكاة من قبل الحكومة أو لجان الخير، يفتح الباب كذلك لأن يبادر الأغنياء ومخرجو الزكاة في استثمار زكاتهم بأنفسهم وهذا سيؤدي في النهاية إلى حبس أموال الزكاة عن مصارفها وتعطيلها سنوات في أيدي مخرجيها،وتعرضها للربح أو الخسارة، وإعطاء الأغنياء لأنفسهم الحق في الأخذ من ريعها، وتصبح حجة لمن لا يخرج الزكاة أن يدعي استثمارهما أو أنها خسرت أو هلكت.
القول باستثمار أموال الزكاة سيؤدي إلى ظهور اجتهادات كثيرة كلها تنبني على الظن والتخمين والتحسين العقلي،كالقول بأن للمضارب بالزكاة نصيب من ريعها أو أنة لا نصيب له،وكل هذا من الظن والتخمين والقول على الله بغير علم ولا دليل..
القول بجواز استثمار أموال الزكاة قول مبتدع لا دليل عليه من كتاب الله ولا سنة ولا قول صاحب ولا قول إمام يعتد به، وهو يفتح باب الاجتهاد في العبادات وأركان الإسلام، وقد يؤدي هذا إلى هدم هذا الركن العظيم، وتبديل أحكام الشريعة.
ومن أجل هذا نحذر إخواننا المسلمين من هذا القول ونهيب بالجميع أن يؤدوا العبادة كما شرعها الله سبحانه وتعالى.
والله الموفق للخير والصواب(1/6)
ردود ومناقشات حول تولي المرأة للولايات العامة
بقلم: عبدالرحمن بن عبدالخالق
في مجلس خلا... جلس الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي، والدكتورة آنا صوفيا الأستاذة بجامعة السويد، وامرأة أخرى، وعميد كلية الدراسات الإسلامية في السودان، وحولهم جمهور مختلط من المتبرجات، والشباب، وعبر المحطة الفضائية A.R.T تلفزيون وراديو العرب. وبإدارة عريف للندوة مشعان ثائر الرأس يقف على قدميه، وذلك ليلة الثلاثاء 4 من رجب الحرام سنة 1418هـ الموافق 3 من شهر نوفمبر سنة 1997م، جلس الجميع يحاكمون نصوص القرآن والسنة بخصوص ولاية المرأة وشهادتها.
وكان مما حكموا به على هذه النصوص ما يلي:
أولاً: ما ادعاه الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي أن حديث أبي بكرة رضي الله عنه في الصحيح ولفظه: قال أبو بكرة: لقد نفعني الله بكلمة سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام الجمل - بعد ما كدت ألحق بأصحاب الجمل فأقاتل معهم. قال أبو بكرة: لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أهل فارس قد ملكوا عليهم بنت كسرى قال: (لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة) البخاري.
قال الشيخ القرضاوي بعد ذكره لهذا الحديث ما معناه ومؤداه: إن هذا الحديث لا يؤخذ منه بمفرده حكم وأن نصوص القرآن والسنة قد جاءت على خلافه، وأنه مقيد بزمان الرسول صلى الله عليه وسلم الذي كان الحكم فيه للرجال استبدادياً، وأما الآن فلا وأنه قال بخلافه ابن حزم، ورأى أنه تولى المرأة كل الولايات إلا الولاية العظمى، وأنه لا يقال هنا إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب،لأن هذه القاعدة مختلف فيها ؟؟ وأنه لا بأس أن تتولى المرأة ولاية أية دولة من دول المسلمين لأن هذه ليست هي الولاية العظمى، وإنما الولاية العظمى هي الخلافة التي ينضوي المسلمون جميعاً تحتها، وأضافت د. صوفيا إلى كلام الشيخ القرضاوي أن هذا الحديث حديث أبي بكرة لم يروه إلا أبو بكرة فقط من الصحابة.(2/1)
ثم تطرق الشيخ القرضاوي إلى حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه في الصحيح والذي جاء فيه (ما رأيت من ناقصات عقل ودين أسلب للب الرجل الحازم من إحداكن) فقال الشيخ القرضاوي إن ذلك كان من الرسول على وجه المزاح كما يقول القائل: يا بنات ال وال ثم أردفت الدكتورة مؤيدة كلام القرضاوي أن الأمر كان مزاحاً للنساء لأنه كان يوم عيد، ثم أخذ الكلمة عميد كلية الدراسات الإسلامية بالسودان فأدعى أن الواقع عنده في الكلية أن النساء أعظم حفظاً، وأعلى فهماً من الرجال وأن آية الدين لا تدل على أن عقل الرجل أرجح من عقل المرأة. بل إن هناك أمور لا تشهد فيها إلا النساء. وكان المشهد يتخلله التصفيق من النساء والرجال كلما ذكر أحد المتحدثين ما يرد به الآية والحديث وعقبت المتحدثة الرابعة في المجموعة قائلة بلهجة التحدي: أريد أن أعرف لماذا كان تصويت المرأة في الانتخابات مساوياً لصوت الرجل،وفي الشهادة على النصف وضربت بيدها على فخذها تحدياً وغروراً.. وللأسف فقد أقرها الجميع على هذا التناقض الذي ادعت أنه لا مبرر له.
وقد رأيت وأنا أشاهد هذا المشهد البائس كيف وضع فيه حديث الرسول صلى الله عليه وسلم في قفص الاتهام ؟! وجعلت آيات القرآن، محلاً للتندر لا للتذكير والاعتبار رأيت أن من واجبي وقد شاهدت ذلك أن أقول ما أعلم أنه الحق مخافة الكتمان وأن من واجبي أن أرد عن كتاب الله، وحديث رسوله هذه الشبهات، والله المستعان فأقول:
أولاً:(2/2)
1- حديث أبي بكرة رضي الله عنه حديث صحيح رواه الإمام مسلم في صحيحه، وقد مضى نصه، وفيه أن أبا بكرة رضي الله عنه رجع من الطريق، وقد كان ذاهباً للقتال مع الزبير بن العوام، وطلحة بن عبد الله الذين خرجوا من المدينة مطالبين بقتل قتلة عثمان، وقد كان سبب رجوع أبي بكرة من الطريق أن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها الصديقة بنت الصديق كانت مع الجيش علماً أنهم لم يؤمروها عليهم، ولم تكن هي التي تقود الجيش، ولا إليها يرجع الأمر، إلا أن أبا بكرة تذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم في بنت كسرى: (لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة) وقد فهم أبو بكرة أن هذا الحديث على عمومه في كل قوم، وفي كل امرأة ولو كانت هي أم المؤمنين عائشة معلمة الرجال الصديقة بنت الصديق رضي الله عنها تعالى.
وقد استدل بهذا الحديث جميع علماء الأمة وسادتها ممن يرون أنه لا تولى المرأة الولاية العامة، وسواء كان ذلك على المسلمين جميعاً في كل الأرض أو على فريق منهم، وهذا إجماع بين علماء المسلمين في جميع عصورهم، ولم يشذ عن ذلك إلا من لا يؤبه بخلافة كبعض فرق الخوارج.(2/3)
2- لم يأت نص في القرآن والسنة يعارض عموم هذا الحديث بل جميع النصوص مؤيدة لذلك كقوله تعالى الرجال قوامون على النساء ، وقوله تعالى: يا أيها الدين آمنوا قو أنفسكم وأهليكم ناراً ، وقوله تعالى: فاستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء ولذلك فقول الشيخ القرضاوي إن حكم،ولاية المرأة لا يؤخذ من حديث أبي بكرة بمفرده موهماً آن نصوص القرآن والسنة قد جاءت بخلاف ذلك قول غير صحيح فإن النصوص جاءت بتأييد هذا المعنى وأما ما استدل به الشيخ القرضاوي أن القرآن قد جاء بخلاف ذلك كقوله تعالى: والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض ، وقوله سبحانه: (إن المسلمين والمسلمات...) الآية فإن هذه النصوص لا تخالف حديث أبي بكرة فكون المرأة مكلفة كالرجل بالإيمان والعمل الصالح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يعني تساويها مع الرجل في كل وجه، ولا أن لها حق الولاية العامة، وإمامة المسلمين ! ولا أن من ولوا أمرهم امرأة كانوا من الفالحين الفائزين فأين النصوص من القرآن والسنة التي جاءت مخصصة عموم هذا الحديث أو مقيدة مطلقة ؟
3- هذا عمل أهل الإسلام في كل عصورهم هل كان هناك عمل بخلاف ذلك ؟!(2/4)
4- وأما قول الشيخ القرضاوي – عفا الله عنا وعنه – إن حديث الرسول: (لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة) كان مختصاً بزمان النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان فيه الحكم استبدادياً، وكان للرجال وحدهم. وأما الآن فالحكم ديمقراطي شوري مؤسسي فهو كلام خطير وكبير فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد أطلق حكماً عاماً بلفظ عام لا يختص بزمانه، ولا بقوم دون قوم فقال: (لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة) وجعل مثل هذا النص مقيداً بالزمان الذي كان فيه النبي صلى الله عليه وسلم اتهام للنبي بالعي عن البيان ثم أن هذه شبهة كبيرة يمكن أن يبطل بها كل الأحكام بدعوى أن زمانها قد ولى وفات ونحن في زمان غير ذلك الزمان، وهذه حجة من يعترض الآن على جميع التشريعات الإلهية في المواريث والزواج والطلاق، والعقوبات، بل والمال والسياسة والحكم، فما هو رد الشيخ القرضاوي على من أخذ بهذه الشبهة وقال إن قطع يد السارق ورجم الزاني، وقتل القاتل، إنما كان لعلاج أقوام غلاظ قساة، فجاء الحكم قاسياً من أجل تأديبهم،وأما في عصر التنوير والرحمة والإحسان فإن العقوبة المخففة أولى
ومن يعترض بمثل هذه الاعتراضات على سائر ما شرع الله لعباده ؟!(2/5)
5- قول الشيخ القرضاوي – عفا الله عنا وعنه – أن قول الرسول صلى الله عليه وسلم : (لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة) إنما كان مختصاً بوقت كان الحكم فيه للرجال استبداداً، وأما الآن فلا.. قول يخالفه الواقع، بل لو عكس هذا القول فقيل إن الاستبداد في هذه الأزمان أكثر شيوعاً، وأشد مما كان في العصور السابقة لكان أقرب إلى الصواب، ثم إنه في الأمم السابقة عرباً وعجماً كانت المرأة تتولى الولايات العامة أحياناً فقد عرف الفرس والروم والقبط وغيرهم ولاية المرأة فقد عرف العرب ملكة سبأ، والزباء، بل كان في العرب من ادعت النبوة، وقادت الجيوش كسجاح، وقد أخبرنا الرب سبحانه وتعالى عن ملكة سبأ وأن ملكها كان في غاية الأبهة والفخامة، وشدة الأركان، وأن أمرها كان قائماً على الشورى: (قالت ياأيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمراً حتى تشهدون) فالملأ هو علية القوم وأهل الرأي،وقولها: ما كنت قاطعة أمراً حتى تشهدون هو أعظم مبادئ الشورى، وأن الملك لا يقطع بأمر ما حتى يشهد الجميع ويدلوا برأيهم فيه، فكيف يقال بعد ذلك إن حديث الرسول صلى الله عليه وسلم : لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة )إنما صدر في زمن لا حكم فيه إلا الرجال الذين يحكمون استبداداً، وأن الحكم الآن حكم المؤسسات وكأن الشيخ القرضاوي - رعاه الله - لا يعيش الواقع...(2/6)
6- وأما قول الشيخ القرضاوي بأنه يمكن أن يقال إن الممنوع هو الإمامة الكبرى لجميع المسلمين، وأما إمامة قطر من أقطار المسلمين فلا يعتبر إمامة كبرى، وبالتالي يمكن للمرأة أن تحكم أي دولة من دول الإسلام المعاصرة فهذا قول لا وجه له، لأن الإمامة الكبرى أو الولاية العامة لا يعني بالضرورة انضواء المسلمين جميعاً في كل مكان في الأرض تحتها، بل كان من تولى شأن جماعة من المسلمين وكان ممكناً كان هو إمامهم الأعلى، وكل إمام ليس هناك إمام ورئيس فوقه، فهو إمام عام سواء كان ذلك في شرق الأرض أو غربها، وقد كان علي بن أبي طالب إماماً عاماً في وقته، ومعاوية إماماً على من يطيعونه ويأتمرون بأمره، ثم كانت خلافة بني أمية في الأندلس مع بني العباس في العراق والشام وعدد من الأمصار وتلك في الأندلس، ثم كان للمسلمين أكثر من ولي أمر عام، ثم آل الحال إلى ما نحن فيه
7- وأما قول د. صوفيا إن الحديث لم يروه إلا صحابي واحد وهو أبو بكرة... فهذا لا يقدح في الحديث ولا يرد بذلك فمن حيث الصحة فلا شك في عدالة الصحابة، والحديث ثابت صحيح، ومن حيث المعنى فلا يخالف نصاً في القرآن والسنة بل نصوص القرآن والسنة مؤيدة لمعنى هذا الحديث، وكم من حديث لم يروه إلا صحابي واحد ولا يكون هذا قدحاً في الحديث، فإننا متعبدون بخبر الواحد الثقة، وقد عمل الصحابة ومن بعدهم من التابعين وأهل السنة جميعاً بخبر الواحد الثقة، وقد أفرد الإمام الشافعي رحمه الله فصلاً مطولاً في كتابه الرسالة يرد به من قال إن خبر الواحد لا يؤخذ به في العمل والاعتقاد، وإن كان هناك من يفرق بين العمل والاعتقاد فإن هذا الحديث في العمل. فلا يبقى مجال لرد الحديث بأنه من أخبار الآحاد.(2/7)
ثانياً: وأما حديث أبي سعيد فهذا لفظه قال أبو سعيد: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أضحى أو في فطر إلى المصلى فمر على النساء فقال: (يا معشر النساء تصدقن فإن أريتكن أكثر أهل النار، فقلن: وبم يا رسول الله ؟ قال: تكثرن اللعن، وتكفرن العشير ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن. قلن: وما نقصان ديننا وعقلنا يا رسول الله ؟ قال: أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل ؟ قلن: بلى ؟ قال: فذلك من نقصان عقلها، أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم ؟ قلن: بلى. قال فذلك من نقصان دينها) وهذا الحديث كما نرى إنما جاء في موطن وعظ وتذكير بالآخرة، وتحذير مما يؤول بالمسلمة إلى النار، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم هنا ثلاثاً من الكبائر التي تنتشر في النساء، وهي:
أولاً:كثرة اللعن، ومعلوم أن اللعن إذا لم يجد مكانه ارتد إلى قائله، ولعن المسلم كقتله.(2/8)
والثاني:كفران العشرة، وجحد النعمة وهي من الكبائر كذلك وجحد المرأة لعشرة زوجها من الكبائر، وقولها له: (ما رأيت منك خيراً قط) وقد أحسن إليها دهره وعمره أو زماناً طويلاً من الكبائر، والأمر الثالث هو فتنة المرأة اللعوب الداعية إلى الزنا، وقد صور النبي هذه الفتنة بأن المرأة مع نقصان عقلها عن الرجل في أساس الخلق وكون ما كلفت به من أعمال الطاعة أقل من الرجل وذلك للنقص الخلقي أيضاً عندها، وهو كون الحيض مانعاً لها من الصلاة والصوم، والرجل ليس فيه هذا النقص في أساس خلقته، أي مع كون أن الله قد خلق المرأة دون الرجل عقلاً وديناً وتكليفاً إلا أن المرأة تغلب الرجل، وتسلب لبه، بل تستطيع امرأة لعوب أن تذهب بعقل رجل حازم وتجعله خاتماً في إصبعها كما يقولون وربما فتنته في دينه، وأذهبت لبه وفؤاده، قال ابن حجر رحمه الله في شرح هذه اللفظة من الحديث: " ويظهر لي أن ذلك من جملة أسباب كونهن أكثر أهل النار لأنهن إذا كن سبباً لإذهاب عقل الرجل الحازم حتى يفعل أو يقول ما لا ينبغي فقد شاركته في الإثم وزدن عليه " أ.هـ
والخلاصة أن النبي صلى الله عليه وسلم قد كان في موطن الوعظ والإشفاق على النساء، وقد أخبر النساء بأمر من أمور الآخرة وهو أنهن أكثر من يدخل النار كما جاء في الحديث الآخر: (وقفت على باب النار فإذا عامة من دخلها النساء)
ومن أجل ذلك وعظ النبي صلى الله عليه وسلم النساء هنا في موعظة عيد، فدلهن على أفضل ما يكفر الله به الذنوب وهو الصدقة. فقال لهن صلى الله عليه وسلم : يا معشر النساء تصدقن فإني أريتكن أكثر أهل النار دخولاً النار »(2/9)
ولو كان شيء أفضل من الصدقة في تكفير الذنب لقاله رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومما يدل على ذلك أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم : (والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار) فحث النبي صلى الله عليه وسلم النساء على الصدقة هنا إنما هو من باب الإشفاق على نساء أمته والدلالة لهن على الخير، وأن يفعلن ما عساه أن يكفر الله به ما يقع منهن من الذنوب التي تكثر فيهن، وتشيع بينهن، وقد ذكر النبي ثلاث ذنوب تشيع في النساء وهي كثرة اللعن، وجحد النعمة، وسلب عقل الحازم فضلاً عن السفيه الجاهل من الرجال،، وعلى هذا فالمقام كله مقام وعظ وإرشاد وبيان، وإشفاق، وليس فيه ما يدل من قريب أو بعيد على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مازحاً.
وقول الشيخ القرضاوي - عفا الله عنه - إن النبي صلى الله عليه وسلم كان مازحاً هنا، وأنه كقول القائل يا بنات كذا وكذا قول ساقط بعيد عن الحق، فإن المقام لم يكن مقام مزاح، بل مقام موعظة تقطع القلوب، وتبكي العيون ثم إن مزاح النبي صلى الله عليه وسلم لا يكون إلا حقاً، وصدقاً وهو صلى الله عليه وسلم منزه ومبرأ عن الكذب مازحاً وجاداً، بل تجويز الكذب عليه ولو في المزاح طعن في أصل رسالته، لأنه يمكن أن يحتج بذلك على إسقاط كلامه كله صلى الله عليه وسلم ، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يمزح ولا يقول إلا حقاً، كما روى عنه صلى الله عليه وسلم في قوله لبعض أصحابه مداعباً: (نحملك على ولد الناقة) فلما حزن منها المخاطب قال له صلى الله عليه وسلم: (أليس الجمل ولد الناقة)، وكما قال لبنية صغيرة مداعباً: (كبرت لا كبر سنك) وكان النبي يعني السن لا العمر...
وقوله لامرأة من الأنصار: ( إن في عيني زوجك بياض) وكل عين فيها سواد وبياض فهذا ونحوه مزاح وكله حق، وليس فيه كذب.
قال ابن حجر رحمه الله في بيان فوائد هذا الحديث، وأنه كان موعظة بليغة:(2/10)
وفيه جواز عظة الإمام النساء على حدة وقد تقدم في العلم، وفيه أن جحد النعم حرام، وكذا استعمال الكلام القبيح كاللعن والشتم، واستدل النووي على أنهما من الكبائر بالتوعد عليها بالنار، وفيه ذم اللعن وهو الدعاء بالإبعاد من رحمة الله تعالى، ومحمول على ما إذا كان في معين، وفيه إطلاق الكفر على الذنوب التي لا تخرج عن الملة تغليظاً على فاعلها لقوله في بعض طرقه: (بكفرهن( كما تقدم في الإيمان، وهو كإطلاق نفي الإيمان، وفيه الإغلاظ في النصح بما يكون سبباً لإزالة الصفة التي تعاب، وأن لا يواجه بذلك الشخص المعين لأن في التعميم تسهيلاً على السامع،وفيه أن الصدقة تدفع العذاب، وأنها قد تكفر الذنوب التي بين المخلوقين، وأن العقل يقبل الزيادة والنقصان، وكذلك الإيمان كما تقدم،وليس المقصود بذكر النقص في النساء لومهن على ذلك لأنه من أصل الخلقة لكن التنبيه على ذلك تحذيراً من الافتتان بهن، ولهذا رتب العذاب على ما ذكر من الكفران وغيره لا على النقص، وليس نقص الدين منحصراً فيما يحصل الإثم به، بل في أعم من ذلك قاله النووي، لأنه أمر نسبي، فالكامل مثلاً ناقص عن الأكمل، ومن ذلك الحائض لا تأثم بترك الصلاة زمن الحيض لكنها ناقصة عن المصلي، وهل تثاب على هذا الترك لكونها مكلفة به كما يثاب المريض على النوافل التي كان يعملها في صحته وشغل بالمرض عنها ؟ قال النووي: (الظاهر أنها لا تثاب، والفرق بينها وبين المريض أنه كان يفعلها بنية الدوام عليها مع أهليته، والحائض ليست كذلك، وعندي – في كون هذا الفرق مستلزماً لكونها لا تثاب – وقفة، وفي الحديث أيضاً مراجعة المتعلم لمعلمه والتابع لمتبوعه فيما لا يظهر له معناه، وفيه ما كان عليه من الخلق العظيم والصفح الجميل والرفق والرأفة، زاده الله تشريفاً وتكريماً وتعظيماً). الفتح.(2/11)
الهجوم على هذا الحديث طويل ومتواصل من الذين يكذبون بالدين كله، ويأخذون من هذا الحديث وآيات القرآن التي فرقت بين الرجال والنساء في القوامة والميراث والتكليف، سبباً للطعن في الدين، وأنه منحاز للرجال، ومعاد للنساء، وأن المرأة مساوية للرجل خلقاً وعقلاً، وأنها يجب أن تكون مساوية له حقاً وواجباً وتكليفاً، وللأسف أن يوافقهم بعض المسلمين متأثرين بهذا الهجوم على حقائق الإسلام، ومن أجل ذلك يريدون تطويع النصوص لتوافق ما يقوله الكفار الجاهلون. والحق أن الله سبحانه وتعالى خلق الزوجين الذكر والأنثى، وجعل النساء شقائق الرجال، وفارق سبحانه في خلق كل من الذكر والأنثى لتتم عمارة الحياة، ومن أجل ذلك جاءت المساواة بين الرجل والمرأة في بعض الأحكام، وجاءت المخالفة بين الرجال،النساء في أحكام أخرى مما يقتضيه العدل والحكمة والإحسان. وهذه هي الأمور التي قامت عليها الشريعة الحكيمة المطهرة، وليس هذا مجال تفصيل ذلك،وإنما المقصود هنا أن محاولة رد هذا الحديث: (ما رأيت من ناقصات عقل ودين…) الحديث.بشبهات لا معنى لها محاولة ساقطة لأن الحديث ثابت صحيح، وهو مطابق للآية: (فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى)، وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم نقصان العقل بجعل الله شهادة الرجل بشهادة امرأتين، ونقصان الدين يكون المرأة، تمكث الأيام لا تصلي ولا تصوم والرجل لا يقع له ذلك، ولا شك أن المرأة غير ملومة في ذلك لأن هذا من فعل الخالق سبحانه وتعالى لحكمته العظيمة، ونعمته السابغة، ورحمته الواسعة، وله الحمد والفضل والمنة.
فكل خلق الله حسن، وكل شرائعه عدل، وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً، فخلق المرأة على ما هي عليه ليتم أمن البيت وسلامته، واستقراره، وإلا فكيف يتصور حياة بين رجال،ونساء، يكافئن الرجال في القوى البدنية، والقوى العقلية ؟! إن هذا أمر متعذر أو مستحيل(2/12)
وأما اعتراض المتحدثة المشاركة للدكتور القرضاوي في هذه الندوة المشار إليها بقولها: كيف يا علماء الشريعة تسوون بين الرجل والمرأة في الصوت الانتخابي، وتفارقون بين الرجل والمرأة في الشهادة ؟! ثم تصفيقها بيدها، وتصفيق الحاضرين، وسكوت الجميع على هذا الإشكال والاعتراض والشبهة
فنقول: أولاً: الذي جعل شهادة الرجل بشهادة امرأتين هو الله سبحانه وتعالى في كتابة المحكم وتشريعه القويم، وأما جعل المرأة كالرجل في الصوت الانتخابي، فهذا أمر حادث والعملية الانتخابية بكليتها من الأمور المستحدثة اقتباساً مما عند الغرب في نظامهم الديمقراطي وعندهم التسوية بين صوت وصوت سواء كان لعالم أو جاهل، خبير بالأمر الذي يصوت عليه أو جاهل به كل الجهل، صادق فيما قصده بصوته الانتخابي أو متبع لهواه، قد باع صوته بعرض من الدنيا... الخ
ولا شك أن هذا ليس من العدل والحكمة، وعلى كل حال فإن التصويت لانتخاب مرشح إنما هو من باب الوكالة، ويجوز في الوكالة التسوية بين المرأة والرجل، فإنه كما يصح للرجل أن يوكل غيره رجلاً كان أو امرأة، فإن المرأة كذلك يجوز لها أن توكل غيرها رجلاً كان أو امرأة.
وباب الشهادة غير باب الوكالة ؟! فلو قال بعض العلماء المسلمين إن صوت المرأة كصوت الرجل في الانتخابات فإنما يحمله على أنه من باب الوكالات وباب الوكالة غير باب الشهادة
ثم إن باب الشهادة كذلك باب واسع، فإنه ليس في كل أبواب الشهادة تكون شهادة المرأة على النصف من شهادة الرجل، فإن شهادة المرأة وحدها مقبولة في إثبات في الرضاع، وإثبات في الحمل والولادة، وإثبات العيوب الخاصة بالنكاح، وإنما جعلت شهادة الرجل بشهادة امرأتين في عقود الدين، وما جرى مجراها من المعاملات المالية،وقد ترد شهادتها مطلقاً في بعض العقود كعقود النكاح والطلاق والرجعة...(2/13)
كما ترد شهادة بعض الرجال في حالات كالقاذف والأعمى، وبعض الأقارب لأقربائهم... الخ والشاهد أن باب الشهادة باب واسع، ولا يجوز أخذ فرعية منه وتعميمها على كل فروع الشهادة فإن قبول شهادة المرأة بمفردها في بعض الحالات لا يعني أن تكون شهادتها مثل شهادة الرجل في كل الحالات
كما أن هناك فارقاً بين الرواية والشهادة، فإن المرأة تقبل روايتها للحديث النبوي وغيره، وهي مثل الرجل في ذلك، ولا يلزم من كون شهادة المرأة على النصف من شهادة الرجل ألا تقبل إلا رواية امرأتان
وكذلك لا يلزم من تماثل الرجل والمرأة في الرواية، والإخبار أن يتماثلا في الشهادة والشريعة الحكيمة جاءت بالتفريق بين هذا وهذا.
لا مجال للمقارنة بين شريعة الله المطهرة، وأحكامه المبنية على العدل والإحسان والحكمة، وبين شرائع الشيطان، فأين ما شرعه الله لعباده في عقد الزواج الإسلامي المطهر من إباحة الزواج خارج دائرة المحرمات من النساء وهن الأم والبنت والأخت والعمة والخالة، وبنت الأخ، وبنت الأخت، وأم الزوجة، وبنت الزوجة، وما شرع في الخطبة وأركان عقد النكاح وشرائطه، وآثاره، وكيفيات إنهائه،وما شرعه الشيطان لاتباعه الكافرين من العقد على المحارم، والتسوية المطلقة بين حقوق الرجل والمرأة، وتقسيم أموال الزوجين بعد الطلاق والفراق، وتقسيم الأولاد وإباحة العشرة بلا زواج، وعقد عقود الزواج بين المتعاشرين بعد عشرة طالت أو قصرت، وإباحة عقد الزواج بين رجلين، وبين امرأتين، وإيجاب النفقة على المرأة وجعلها مساوية للرجل في عقد النكاح من كل وجه... الخ هذه الظلمات الدامسة والفسق والعهر، والعمي والضلالة..
أين تشريع الله النظيف الطيب من هذا الذي شرعته الشياطين لأوليائها فجعلت حياتهم رجساً ضنكاً.
والعجب أن هؤلاء الذين يعيشون في هذه الظلمات والنجاسات هم الذين يعترضون على تشريع الله وحكمته وعدله وإحسانه فيالله العجب..(2/14)
وكان بودي وتلك الندوة التي جلس فيها المتكلمون يحاكمون آيات الله، وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم ويدعون فيما يدعون أن الإسلام لا يمنع المرأة من الولاية العامة، ورئاسة الدول، وأن حديث الرسول صلى الله عليه وسلم : (لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة) مردود، وأنه صلى الله عليه وسلم كان يمزح عندما قال: (ما رأيت من ناقصات عقل ودين... الحديث).
كان بودي أن يبصروا حكمة الإسلام، وطهارة الشريعة وكمالها، وعصمة الرسول ونزاهته. ويبصروا الواقع القائم، ويشاهدوا الظلام والنجاسة الذي يريد الغرب جر أمة الإسلام إليها.
ولكن قد كان ما كان والله المستعان.(2/15)
بسم الله الرحمن الرحيم
أقسام التوحيد، الاصطلاح والمضمون
بقلم: عبد الرحمن بن عبد الخالق
1- الإيمان قضية واحدة:
الإيمان قضية واحدة وخلاصة هذه القضية هي التصديق بكل أسماء الله سبحانه وتعالى وصفاته وأفعاله، والتصديق بالغيب الذي يخبر به عن ملائكته ورسله واليوم الآخر وقضائه وقدره والإقرار بذلك باللسان وتصديق ذلك بالعمل، وجماع التصديق والعمل هو معنى عبادته، وعبادته سبحانه وتعالى وحده لا شريك له.
فمما يجب الإيمان به مما يصف به نفسه قوله تعالى: {قل هو الله أحد* الله الصمد* لم يلد ولم يولد* ولم يكن له كفواً أحد}
وقوله: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السموات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السموات والأرض ولا يؤوده حفظهما وهو العلي العظيم}
وقوله تعالى: {ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون}..
2- الكفر بجزئية واحدة من أجزاء الإيمان كفر بالله عز وجل:
ولا شك أن الكفر بجزئية واحدة من أجزاء هذا الإيمان هو كفر بالله جل وعلا فمن كفر بالملائكة فقد كفر بالله، ومن كفر بالرسل فهو كافر بالله كذلك بل من كفر برسول واحد من رسل الله فهو كافر بالله ولا ينفعه إيمانه ببقية الرسل، ولا ببقية أجزاء الإيمان، ومن كفر بيوم القيامة فهو كافر بالله، ومن كفر بقدر الله فهو كفر به سبحانه وتعالى.
قال جل وعلا: {ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله}، وقال تعالى: {كذبت قوم نوح المرسلين} ولم يكذبوا إلا رسولهم، ولكن تكذيبهم لرسولهم تكذيب للرسل جميعاً.
وقال صلى الله عليه وسلم: [والله لا يسمع بي يهودي ولا نصراني ولا يؤمن بالذي أرسلت به إلا دخل النار]
3- توحيد الله سبحانه وتعالى قضية واحدة:(3/1)
ولا يكون العبد مؤمناً بالله حقاً إلا إذا اعتقد وحدانيته سبحانه وتعالى في جميع ما كان من صفاته وأفعاله وحده، وإلا إذا عبده سبحانه وتعالى وحده.
فمما تفرد به سبحانه وتعالى:
(1) الخلق:
فهو سبحانه وتعالى خالق كل شيء، ولا يشاركه في الخلق أحد قط، قال تعالى: {الله خالق كل شيء} وقال تعالى: {والله خلقكم وما تعملون} وقال معرضاً بما يعبد من دونه: {أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون}، وقال تعالى: {الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بهم يعدلون} أي يجعلون له عدلاً في صفاته أو أفعاله أو حقوقه.
فمن أعتقد أن هناك من خلق ذرة في هذا الكون، أو أنه يخلق شيئاً حتى أفعاله فهو كافر مشرك بالله سبحانه وتعالى.
(2) الملك:
فكما كان الخلق لله وحده فالملك لله وحده قال تعالى: {تبارك الذي بيده الملك} وقال: {قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير* تولج الليل في النار وتولج النهار في الليل وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي وترزق من تشاء بغير حساب} (آل عمران: 26-27)
وقال تعالى: {قل ادعوا الذي زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير}
فكل ما عبد من دون الله ملائكة أو رسلاً أو جناً أو أصناماً، لا يملكك أحد مثقال درة من السموات والأرض وما لأحد منهم شرك مع الله في ملكه، ولا كان أحد منهم معيناً لله في خلق ذرة من مخلوقاته..
ملك غير الله ملك عاري:
وملك غير الله ملك عاري ليس ملكاً حقيقياً فالله هو الذي ملكه، وهو الذي ينزعه منه إذا شاء سواء كان هذا الملك سلطاناً أو مالاً، فإن الله هو ماله الحقيقي، وهو الذي يعطيه وهو الذي ينزعه ومن ظن أنه يملك سلطانه أو ماله ملكاً حقيقياً فهو كافر بالله سبحانه وتعالى مشرك به.(3/2)
(3) التصريف والتدبير: (الأمر الكوني القدري)
بالأحياء والإماتة، والإعزاز والإذلال، والإغناء والإفقار، والمرض والصحة، والهدى والضلال، والسلم والحرب، والظلم والعدل.. الخ (القضاء والقدر)
فكل ما يعتري المخلوق في كل شأن من شئونه إحياءاً وإماتة، وإغناءاً وإفقاراً، وصحة ومرضاً، وهداية وإضلالاً وما يعتري العوالم كلها وجوداً وعدماً، وبداية ونهاية، وحرباً وسلماً وظلماً وعدلاً، فكله جار بتصريف الله سبحانه وتعالى في عباده، لا يملك أحد منهم لنفسه نفعاً ولا ضراً، ولا مرضاً ولا صحة، ولا حياة ولا نشوراً، ولا عزاً ولا ذلاً، ولا هداية ولا إضلالاً، ولا زيادة في عمره، ولا نقصاً منه.
بل جميع مقادير المخاليق من ملائكة وجن وإنس وحيوان ونبات كلها جارية وفق أمر الله الكوني القدري ومن ظن أن مخلوقاً يملك لنفسه ذرة من التصريف، أو فعلاً من الأفعال فهو كافر مشرك بالله سبحانه وتعالى.
والأدلة على هذا من القرآن والسنة كثيرة جداً ومن ذلك قوله تعالى: {أفرأيتم ما تعبدون* أنتم وآباؤكم الأقدمون* فإنهم عدو لي إلا رب العالمين* الذي خلقني فهو يهدين* والذي هو يطعمني ويسقين* وإذا مرضت فهو يشفين* والذي يميتني ثم يحيين* والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين} (الشعراء 75-82)
وقال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: {ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم}، وقوله تعالى: {يهدي من يشاء ويضل من يشاء}، وقوله تعالى: {إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ الى ربه سبيلاً* وما تشاءون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليماً حكيماً}
وقوله تعالى: {قل اللهم مالك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير* تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي وترزق من تشاء بغير حساب}(3/3)
وقوله تعالى عن رسوله: {قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله} (الأعراف:188)، وقوله تعالى عن ملائكته: {وقالوا اتخذ الرحمن ولداً سبحانه بل عباد مكرمون* لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون* يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون* ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين}.
(4) الأمر الشرعي: (التشريع):
وكما هو أن الأمر الكوني القدري هو لله وحده سبحانه وتعالى ليس لأحد معه من الأمر شيء، لا ملك مقرب ولا نبي مرسل قال الله لرسوله: {ليس لك من الأمر شيء} بل ما هو دون الأمر من الشفاعة فإنه لله وحده وليس لأحد من الشفاعة شيئاً كما قال تعالى: {قل لله الشفاعة جميعاً} ولا يشفع عند الله إلا من ارتضاه الله للشفاعة، ومن رضي عنهم من المشفوع فيهم ومن ظن أنه يشفع عند الله بغير إذنه فهو طاغوت كافر، ومن ظن أن هناك من يشفع عند الله دون إذن من الله، وأن الله يقبل الشفاعة غير راض عنها كما هو حال ملوك الدنيا فقد كفر بالله سبحانه وتعالى وجعل لله نداً تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
فكما أن الأمر الكوني القدري لله وحده، فكذلك الأمر التشريعي لله وحده وليس لأحد مع الله أمر ولا نهي فالله هو الذي يحل ويحرم ويحسن ويقبح ويشرع لعباده ما يشاء من دين وهدى وسلوك، فالتشريع تشريعه، والصراط صراطه.. والرسل ليسوا مشرعين من عند أنفسهم بل مبلغين عن الله آمرين بأمر الله وناهين عن نهي الله، ليس لهم من التشريع شيءفكما أنه ليس لهم من الأمر الكوني القدري شيء فليس لهم شيء كذلك من الأمر التشريعي لأنه سبحانه وتعالى {لا يشرك في حكمه أحداً}..
الله سبحانه وتعالى هو المعبود وحده:(3/4)
لما كان الله سبحانه وتعالى هو الخالق وحده، وهو المتصرف في شؤون خلقه وحده، وهو صاحب الأمر الكوني والقدري والأمر الشرعي وحده كان هو المستحق وحده بالعبادة دون سواه، ولذلك جعل العبادة حقاً له وحده، حقاً له على جميع موجوداته ومخترعاته ومصنوعاته ملائكة وجناً وإنساً، وسماءاً وأرضاً، وقد أجمل النبي صلى الله عليه وسلم بيان هذا في حديث ابن مسعود: [أتدري ماحق الله على العباد؟ وما حق العباد على الله] قال: قلت: الله ورسوله أعلم: قال صلى الله عليه وسلم: [حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وحق العباد على الله ألا يعذب من لا يشرك به شيئاً]
والعبادة التي شرعها الله لعباده كثيرة فمنها أعمال القلوب من الخوف والرجاء والمحبة، والتوكل والخشية والإنابة والذل والخشوع، والاستسلام، وأعمال الجوارح كالصلاة والسجود والركوع، والنذر، والصوم، والحج، والجهاد، والصدقة.
وجعل سبحانه وتعالى هذا كله حقاً له على عباده، وحرم عليهم أن يصرفوا عبادة منها لغيره وأخبرهم أن من صرف شيئاً من العبادة التي لا تليق إلا به لغيره كافر مشرك، وأن الله قد حرم عليه الجنة {إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة} { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء}..
المعالجة البيانية التعليمية لقضية واحدة:
ومع أن قضية الإيمان بالله قضية واحدة إلا أنه يندرج تحتها عشرات بل مئات الفروع الداخلة فيها، ولذلك فإن هذه القضية جاءت مجملة ومفصلة.(3/5)
فمن الإجمال قوله تعالى: {أمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله، وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير} فهذه الآية جمعت الدين كله وأنه إيمان وسمع وطاعة، إيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله ثم سمع، وهذا يقتضي التصديق بكل ما يخبر الله به، وطاعة، وهذا معناه العمل بما يأمر الله به، ومن الإجمال قول النبي صلى الله عليه وسلم في جمع الدين كله {قل آمنت بالله ثم استقم}.
فهاتان الكلمتان {قل آمنت بالله ثم استقم} جمعت الدين كله لأن الدين إيمان بالله ثم استقامة على أمره...
ويدخل في الإيمان بالله بكل ما يخبر به عن نفسه ورسله وغيبه، ويدخل في الطاعة الإسلام له في كل ما يأمر وينهى عنه.
وهذا الإجمال جاء مفصلاً تفصيلاً دقيقاً في كل صغيرة وكبيرة.
فجاء القرآن ببيان أسماء الله وصفاته وأفعاله، وما يحبه وما يبغضه، والقرآن كله حديث عن الله سبحانه وتعالى فهو تفصيل لمعنى الإيمان به وطاعة، والسنة كلها تفصيل وبيان للقرآن، وشرح لمعنى الإيمان بالله، وطاعته جل وعلا.
عمل علماء الإسلام في تعليم الدين وبيانه:
ثم جاء علماء الإسلام فقسموا علم الدين إلى علوم كثيرة، وكل علم متفرقة وكل فرع من فروع العلوم إلى أبواب وكل باب إلى فصول ومباحث، ومسائل، فنشأت علوم خاصة بالقرآن الكريم كالقراءات والتفسير وأسباب النزول، والمحكم والمتشابه، والناسخ والمنسوخ، والمجمل والمفصل... الخ
ونشأت علوم خاصة بالسنة كمصطلح الحديث وعلم الجرح والتعديل والكتب الخاصة بالصحيح والكتب الخاصة بالضعيف والموضوع.
ونشأ كذلك علم التوحيد الذي بدأ الردود على المنحرفين في العقائد، ومسائل الإيمان كالخروج، وتحريف أسماء الله وصفاته، والشرك به، ثم أفردت الكتب لجمع مسائل الإيمان الاعتقادية وتبويبها وتصنيفها.
وكذلك سائر العلوم من السيرة والتاريخ والأخلاق والتهذيب.. الخ(3/6)
وأصبح كل علم من هذه العلوم تقسيماته ومصطلحاته ورجاله وكتبه.
عمل علماء الإسلام في علم التوحيد :
وعلم التوحيد لقي العناية الفائقة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وعلماء الإسلام، والسنة من التابعين وتابعيهم بإحسان إلى يم الدين لأنه أصل الدين، وعليه تبني جميع الأحكام، ويتوقف على العلم والعمل به الإيمان والكفر فمن ذلك:
(1) الرد بنصوص الكتاب والسنة على أي انحراف فيه كما فعل ابن عمر رضي الله عنه عندما سمع أنه هناك من أهل الإسلام من ينكر القدر فقال لمن أخبره بهذا الخبر: أخبرهم أنني منهم برئ، وأن الله لا يقبل من أحدهم صرفاً ولا عدلاً إلا أن يؤمن بالقدر خيره وشره من الله تعالى، واستدل على ذلك بحديثه عن أبيه وهو حديث جبريل وفيه: [وأن تؤمن بالقدر خيره شره من الله تعالى]، والشاهد أن ابن عمر رد على من نفى القدر، وأن الله لا يقبل منه عملاً صالحاً، واستدل حديث النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك.
ومن ذلك ردود ابن عباس وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه على الخوارج من الكتاب والسنة.
(2) ثم جاء دور التأليف فألف علماء الإسلام عشرات بل مئات الرسائل في الرد على المخالفين في العقائد ككتاب أحمد بن حنبل رحمه الله الذي سماه (الرد على الزنادقة) وهم القائلون بأن الله بذاته في كل مكان، والردود على الجهمية والمعطلة.. الخ
(3) ثم ألفت الكتب في بيان معتقد أهل السنة والجماعة في جميع المسائل التي اختلف فيها أهل الإسلام.
(4) ومن عمل علماء الإسلام في هذا الصدد تحريم قراءة الكتب التي ألفت في العقائد والتي جعلت الأصل في معرفة العقيدة هو العقل، وهي الكتب التي سمت علم التوحيد علم الكلام فقد حرم علماء الإسلام النظر فيها، وتعلم الدين والمعتقد بواسطتها.(3/7)
(5) وكذلك أبطل علماء الإسلام استعمال مصطلحاتهم في هذا العلم لأنها تتضمن حقاً وباطلاً كالجسم والجوهر، والعرض، والهيولي، وتساهلوا في بعض المصطلحات التي لا تتضمن باطلاً كلفظ القديم بمعنى الأول.
(6) ووضع علماء التوحيد كذلك الحدود والشروط والأركان والواجبات لقضية الإيمان، وكذلك النواقض التي تخرج من الإيمان، والمخالفات التي تخالف الإيمان ولا تنقض أصله، وكل ذلك لضبط هذا العلم، وبيان حدوده كقولهم مثلاً الإيمان قول باللسان، وإقرار بالجنان، وعمل بالجوارح، واختلافهم في العمل هل هو شرط صحة أو شرط وجوب، أو شرط كمال، واختلافهم في العمل المخرج من الملة بذاته، والعمل الذي لا يخرج من الملة إلا إذا اقترن به استحلال.. الخ
كقول بعض أهل السنة إن ترك الصلاة كسلاً ولو دون جحود مخرج من الملة، وكقول بعضهم بل الصلاة شرط وجوب ولا تخرج المسلم من الإسلام لملة الكفر إلا بجحدها.. الخ
أقسام التوحيد :
ومما صنعه بعض علماء السنة المتأخرين مما يدخل في باب التعليم والتقريب، وتقسيم التوحيد إلى قسمين: العلم والعمل، فالتوحيد العلمي معناه تعلم أسماء الله وصفاته ومعاني الإيمان به، وتصديق ذلك بالقلب، وأما توحيد العمل فهو أن يعمل المسلم بمقتضى هذا التصديق فلا يعبد إلا الله ولا يرجو إلا هو، ولا يجب حب عبادة إلا له، ولا يسجد إلا له، لا يحاكم إلا إليه.. الخ
وهذا التقسيم ليس خاصاً بالتوحيد لأن كل أعمال الدين لا بد فيه من العلم والعمل فالصوم لا يكون إلا باعتقاد فرضيته، وتصور تشريعه تصوراً صحيحاً ثم القيام به على النحو الذي أمر العبد به وأن يكون ذلك لله وحده لأنه عبادة خاصة به سبحانه وتعالى وهكذا سائر العبادات.
وتقسيم التوحيد إلى قسمين إنما هو نوع من التعليم حتى يعلم العبد أنه لا يكفي في التوحيد العلم دون العمل ولا العمل دون العلم.(3/8)
وجاء من أهل العلم من قسم التوحيد إلى ثلاثة أقسام باعتبار موضوعاته الكبرى فجعل الربوبية قسماً، وعنى بالربوبية بعض معاني الرب من الخلق والتدبير والتصرف والملك، والقهر والغلبة، وجعل الألوهية قسماً وعنى بها المعبود، وجعل جميع أسمائه وصفاته قسماً وسماه توحيد الأسماء والصفات، وسمى كل قسم من هذه الأقسام الثلاثة توحيداً، وأنه لا يكون موحداً على الحقيقة إلا من أقر بها جميعها.. وأقر بأن الله وحده دون ما سواه هو خالقه وخالق الكون كله، وأنه مالك الملك، والمتصرف فيه وحده، وأقر بأن الله وحده هو إله الناس وإله العالمين والخلق أجمعين، وأنه لا معبود بحق غيره، وأن كل إله غيره باطل، وأن جميع أصناف العبادة لا تصرف إلا له، ومن صرف شيئاً لغيره فهو مشرك، وكذلك جعل توحيد الأسماء والصفات قسماً وهو الإيمان بكل ما وصف الله به نفسه ووصفه به رسوله، وأن صفاته على النحو الذي يليق به.
مقاصد من قسم التوحيد إلى ثلاثة أقسام :
وكان من مقاصد هذا التقسيم الثلاثي لمعاني التوحيد، وقضية الإيمان بالله، تعليم الناس أنه لا يكون مؤمنا إلا من جمع هذه الأقسام الثلاثة، وأن من آمن ببعض صفات الله وكفر ببعضها فهو كافر، فمن آمن بالله خالقاً ورازقاً ومالكاً، ولم يؤمن به إلهاً ولكنه جحد بعض ما وصف به نفسه كالاستواء، والنزول إلى سماء الدنيا، ورؤية المؤمنين له في الآخرة، أو نفي كلامه، أو رحمته أو غضبه، فهو كافر لأنه جحد بعض ما وصف به نفسه سبحانه وتعالى.
لماذا دعت الحاجة إلى هذا التقسيم الثلاثي :(3/9)
وهذا التقسيم الثلاثي لم ينص عليه أحد في القرون الثلاثة الأولى فإن التوحيد ومسائل الإيمان بالله كانت معلومة من كتاب الله وسنة رسوله بل كان من ضرورات الدين العلم بأن العبد لا يكون موحداً حقاً إلا إذا آمن بالله رباً وإلهاً وخالقاً ورازقاً وملكاً، وآمن بكل ما أخبر به عن نفسه أو أخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم، وإنما دعت الحاجة إلى هذا لتيسير فهم التوحيد، والتعريف بجميع جوانبه فإن تقسيم الأمر المجمل إلى أقسام يسهل فهمه وحفظه.
ولعل أول من ذكر هذا التقسيم بالتفصيل والتعريف هو شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وذلك لانتصابه رحمه الله للرد على جميع المخالفين في التوحيد من أهل الكلام والفلسفة، ومن أهل التصوف ووحدة الوجود، ومن القدرية -نفاة القدر- والجبرية، ومن الذين وقعوا في شرك الألوهية فإن كل فريق من هؤلاء أقر بنوع من التوحيد وكذب بالآخر، وكثير منهم تصور التوحيد الذي ينادي به على وجه مغلوط، فانتصب شيخ الإسلام رحمه الله لتفصيل هذا الأمر وإعطائه حدوده وضوابطه ومما قرره في ذلك قوله:
"وبهذا وغيره يعرف ما وقع الغلط في مسمى التوحيد فإن عامة المتكلمين الذين يقررون التوحيد في كتب الكلام والنظر: غايتهم أن يجعلوا التوحيد (ثلاثة أنواع).
فيقولون: هو واحد في ذاته لا قسيم له، وواحد في صفاته لا شبيه له وواحد في أفعاله لا شريك له.
وأشهر الأنواع الثلاثة عندهم هو الثالث، وهم (توحيد الأفعال) وهو خالق العالم واحد، وهم يحتجون على ذلك بما يذكرونه من دلالة التمانع وغيرها ويظنون أن هذا هو التوحيد المطلوب!! وأن هذا هو معنى قولنا لا إله إلا الله، حتى قد يجعلوا معنى الإلهية القدرة على الاختراع.
ومعلوم أن المشركين من العرب الذين بعث إليهم محمد صلى الله عليه وسلم أولاً: لم يكونوا يخالفونه في هذا، بل كانوا يقرون بأن الله خالق كل شيء حتى أنهم كانوا يقرون بالقدر أيضاً، وهم مع هذا مشركون.(3/10)
فقد تبين أن ليس في العالم من ينازع في أصل هذا الشرك، ولكن غاية ما يقال: إن من الناس من جعل بعض الموجودات خلقاً لغير الله كالقدرية وغيرهم، ولكن هؤلاء يقرون بأن الله خالق العباد وخالق قدرتهم، وإن قالوا أنهم خلقوا أفعالهم.
وكذلك أهل الفلسفة والطبع والنجوم، الذين يجعلون أن بعض المخلوقات مبدعة لبعض الأمور، هم مع الإقرار بالصانع يجعلون هذه الفاعلات مصنوعة مخلوقة، لا يقولون إنها غنية عن الخالق مشاركة له في الخلق فأما من أنكر الصانع فذاك جاحد معطل للصانع، كالقول الذي أظهره فرعون.
والكلام الآن مع المشركين بالله، المقرين بوجوده، فإن هذا التوحيد الذي قرروه لا ينازعهم فيه هؤلاء المشركون بل يقرون به مع أنهم مشركون، كما ثبت بالكتاب والسنة والإجماع، وكما علم بالاضطرار من دين الإسلام.
وكذلك (النوع الثاني) وهو قولهم: لا شبيه له في صفاته فإنه ليس في الأمم من أثبت قديماً مماثلاً في ذاته سواء قال أنه يشاركه أو قال: إنه لا فعل له، بل من شبه به شيئاً من مخلوقاته فإنما يشبهه به بعض الأمور.
وقد علم بالعقل امتناع أن يكون له مثل في المخلوقات يشاركه فيما يجب أو يجوز أو يمتنع عليه، فإن ذلك يستلزم الجمع بين النقيضين كما تقدم.
وعلم أيضاً بالعقل أن كل موجودين قائمين بأنفسهما فلا بد بينهما من قدر مشترك كاتفاقهما في مسمى الوجود، والقيام بالنفس، والذات ونحو ذلك فإن نفي ذلك يقتضي التعطيل المحض، وأنه لابد من إثبات خصائص الربوبية وقد تقدم الكلام على ذلك.
ثم إن الجهمية من المعتزلة وغيرهم أدرجوا نفي الصفات في مسمى التوحيد فصار من قال: إن لله علماً أو قدرة، أو أنه يرى في الآخرة، أو أن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق يقولون: أنه مشبه ليس بموحد.
وزاد عليهم غلاة الفلاسفة والقرامطة، نفوا أسماءه الحسنى، وقالوا من قال إن الله عليم قدير، عزيز حكيم، فهو مشبه ليس بموحد.(3/11)
وزاد عليهم غلاة الغلاة قالوا: لا يوصف بالنفي ولا الإثبات لأن في كل منهما تشبيهاً له، وهؤلاء كلهم وقعوا من جنس التشبيه فيما هو شر مما فروا منه، فإنهم شبهوه بالممتنعات، والمعدومات، والجمادات فراراً من تشبيههم بزعمهم له بالأحياء.
ومعلوم أن هذه الصفات الثابتة لله لا تثبت على حد ما يثبت لمخلوق أصلاً، وأنه سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته، ولا في أفعاله، فلا فرق بين إثبات الذات وإثبات الصفات، فإذا لم يكن في إثبات الذات إثبات مماثلة للذوات، لم يكن في إثبات الصفات إثبات مماثلة له في ذلك، فصار هؤلاء الجهمية المعطلة يجعلون هذا توحيداً، ويجعلون مقابل ذلك التشبيه ويسمون أنفسهم الموحدين.
وكذلك (النوع الثالث) وهو قولهم: واحد لا قسيم له في ذاته أو لا جزء له، أو لا بعض له لفظ مجمل، فإن الله سبحانه أحد صمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، فيمتنع عليه أن يفترق، أو يتجزأ أو يكون قد ركب من أجزاء، لكنهم يدرجون في هذا لفظ نفي علوه على عرشه، ومباينته لخلقه، وامتيازه عنهم، ونحو ذلك من المعاني المستلزمة لنفيه وتعطيله، ويجعلون ذلك من التوحيد.
فقد تبين أن ما يسمونه توحيداً: فيه ما هو حق، وفيه ما هو باطل، ولو كان جميع حقاً، فإن المشركين إذا أقروا بذلك كله لم يخرجوا من الشرك الذي وصفهم به في القرآن، وقاتلهم عليه الرسول صلى الله عليه وسلم، بل لا بد أن يعترفوا أنه لا إله إلا الله.
وليس المراد (بالإله) هو القادر على الاختراع كما ظنه من ظنه من أئمة المتكلمين، حيث ظن أن الإلهية هي القدرة على الاختراع دون غيره، وأن من أقر بأن الله هو القادر على الاختراع دون غيره فقد شهد أن لا إله إلا هو.(3/12)
فإن المشركين كانوا يقرون هذا الاسم وهم مشركون كما تقدم بيانه، بل الإله الحق هو الذي يستحق بأن يعبد فهو إله بمعنى مألوه، لا إله بمعنى آله، والتوحيد أن يعبد الله وحده لا شريك له، والإشراك أن يجعل مع الله إلهاً آخر.
وإذا تبين أن غاية ما يقرره هؤلاء النظار أهل الإثبات للقدر المنسبون إلى السنة إنما هو توحيد الربوبية، وأن الله رب كل شيء، ومع هذا فالمشركون كانوا مقرين بذلك مع أنهم مشركون.
وكذلك طوائف من أهل التصوف، والمنتسبين إلى المعرفة، والتحقيق والتوحيد، غاية ما عندهم من التوحيد هو شهود هذا التوحيد، وأن يشهد أن الله رب كل شيء، ومليكه وخالقه، لا سيما إذا غاب العارف بموجوده عن وجوده، وبمشهوده عن شهوده وبمعروفه عن معرفته، ودخل في فناء توحيد الربوبية بحيث يفني من لم يكن، ويبقى من لم يزل، فهذا عندهم هو الغاية التي لا غاية وراءها.
ومعلوم أن هذا هو تحقيق ما أقر به المشركون من التوحيد، ولا يصير الرجل بمجرد هذا التوحيد مسلماً، فضلاً عن أن يكون ولياً لله، أو من سادات الأولياء.
وطائفة من أهل التصوف والمعرفة، يقرون هذا التوحيد مع إثبات الصفات، فيفنون في توحيد الربوبية مع إثبات العالم، المباين لمخلوقاته، وآخرون يضمون هذا إلى نفي الصفات، فيدخلون في التعطيل مع هذا، وهذا شر من حال كثير من المشركين.
وكان جهم ينفي الصفات ويقول بالجبر، فهذا تحقيق قول جهم، لكنه إذا أثبت الأمر والنهي، والثواب والعقاب، فارق المشركين من هذا الوجه لكن جهماً ومن اتبعه يقول بالإرجاء، فيضعف الأمر والنهي، والثواب والعقاب عنده.
والنجارية والضرارية وغيرهم يقربون من جهم في مسائل القدر والإيمان مع مقاربتهم له أيضاً في نفي الصفات.
والكلابية الأشعرية، خير من هؤلاء في باب الصفات فإنهم يثبتون لله الصفات العقلية، وأئمتهم يثبتون الصفات الخبرية في الجملة كما فصلت أقوالهم في غير هذا الموضع.(3/13)
وأما في باب القدر، ومسائل الأسماء والأحكام فأقوالهم متقاربة.
والكلابية هم أتباع أبي محمد عبدالله بن سعيد بن كلاب، الذي سلك الأشعري خطته.
وأصحاب ابن كلاب كالحارث المحاسبي وأبي العباس القلانسي ونحوهما خير من الأشعرية في هذا وهذا فلما كان الرجل إلى السلف والأئمة أقرب كان قوله أعلى وأفضل.
والكرامية قولهم في الإيمان قول منكر، لم يسبقهم إليه أحد، حيث جعلوا الإيمان قول اللسان، وإن كان مع عدم تصديق القلب، فيجعلون المنافق مؤمناً، لكنه يخلد في النار فخالفوا الجماعة في الاسم دون الحكم، وأما في الصفات والقدر والوعيد فهم أشبه من أكثر طوائف الكلام التي في أقوالها مخالفة للسنة.
وأما المعتزلة فهم ينفون الصفات، ويقاربون قول جهم، لكنهم ينفون القدر، فهم وإن عظموا الأمر والنهي والوعد والوعيد ورغبوا فيه فهم يكذبون بالقدر، ففيهم نوع من الشرك من هذا الباب، والإقرار بالأمر والوعد والوعيد مع إنكار القدر خير من الإقرار بالقدر مع إنكار الأمر والنهي والوعد والوعيد.
ولهذا لم يكن في زمن الصحابة والتابعين من ينفي الأمر والنهي والوعد والوعيد وكان قد نبغ فيهم القدرية كما نبغ فيهم الخوارج: الحرورية، وإنما يظهر من البدع أولاً ما كان أخفى، وكلما ضعف من يقوم بنور النبوة قويت البدعة.
فهؤلاء المتصوفون الذين يشهدون الحقيقة الكونية مع إعراضهم عن الأمر والنهي شر من القدرية المعتزلة ونحوهم، أولئك يشبهون المجوس وهؤلاء يشبهون المشركين، الذين قالوا {لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء} والمشركون شر من المجوس.
فهذا أصل عظيم على المسلم أن يعرفه فإنه أصل الإسلام الذي يتميز به أهل الإيمان من أهل الكفر، وهو الإيمان بالوحدانية والرسالة، شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. انتهى (مجموع الفتاوى 97-105)(3/14)
قلت: انتصاب شيخ الإسلام للرد على هذه الفرق ومخالفتها للدين الحق هو الذي حتم تقسيم التوحيد على هذا النحو الذي قسمه ليبين للمخالفين أن ما أقروا به من التوحيد والإيمان لا يكفي للعبد ليكون موحداً.
موقع توحيد الحكم من الإيمان بالله :
لا يكون الإنسان مؤمناً بالله حقاً وصدقاً إلا إذا اعتقد أن الله هو الحكم وأن له وحده الحكم في كل شيء، وأنه لا يشرك في حكمه أحداً، وأنه سبحانه وتعالى هو الذي له الأمر وحده والحكم وحده، وأنه ليس لغيره شيء من الأمر كما قال تعالى لرسوله وهو أكرم الخلق عليه {ليس لك من الأمر شيء} وأنه سبحانه وتعالى كما أنه الخالق وحده فهو الآمر وحده {ألا له الخلق والأمر} وأنه سبحانه وتعالى رب العالمين وسيدهم والحاكم فيهم سبحانه، كوناً وقدراً وتصريفاً، والحاكم فيهم كذلك سبحانه وتعالى منهجاً وصراطاً وتشريعاً.
والقرآن كله في هذا المعنى فالقرآن كله بيان من الله لعباده أنه رب العالمين، وملك الناس وإلههم وأنه هو الذي يأمرهم وينهاهم ويشرع لهم، ويهديهم سبل السلام..
وأن الدين ما شرعه، والحق ما أحقه، والباطل ما أبطله، والحسن ما حسنه، والقبيح ما قبحه، وأن الجميع تحت قهره ومشيئته، وأنه ليس لأحد أن يترك حكمه، ويخالف أمره، وأن كل من خالف أمره عذب وأنه لا طاعة لأحد إلا في طاعته، وأن كل من أمر بغير أمره فإن طاعته باطلة، وأمره مردود، وأن من نازعه التشريع فأحل غير ما أحل، وحرم غير ما حرم، وقضى بغير قضائه، وأمر بما يخالف أمره، ونهى عما أمر به فطاغوت، وأن رسله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين لا يأمرون إلا بأمره، ولا ينهون إلا عن نهيه، وأنه ليس معهم من الأمر شيء.
الحكم والسيادة والأمر هي أخص معاني الربوبية:
قال في لسان العرب: الرب هو الله عز وجل فهو رب كل شيء ومليكه وله الربوبية على جميع الخلق لا شريك له، فهو رب الأرباب ومالك الملوك والأملاك، ولا يقال الرب في غير الله تعالى إلا بالإضافة.(3/15)
ويقال رببت القوم: سدتهم كنت فوقهم، والعرب تقول: لأن يربني فلان خير من أن يربني فلان يعني أن يكون رباً فوقي، وسيداً يملكني، وروى هذا عن صفوان بن أمية أنه قال يوم حنين عند الجولة التي كانت من المسلمين فقال أبو سفيان: غلبت والله هوازن. فأجابه صفوان وقال: بفيك الكِثْكِثْ؛ لأن يربني رجل من قريش أحب إلي من أن يربني رجل من هوازن.
وفي حديث ابن عباس مع ابن الزبير رضي الله عنه: [لأن يربني ابن عمي أحب إلي من أن يربني غيرهم].
أي يكونون علي أمراء وسادة متقدمين -يعني بني أمية- فإنهم إلى ابن عباس في النسب أقرب من ابن الزبير. (لسان العرب – مادة رب)
وقال في اللسان أيضاً قال ابن الأنباري: "الرب ينقسم إلى ثلاثة أقسام: يكون الرب المالك، ويكون الرب السيد المطاع، قال تعالى: {فيسقي ربه خمراً} أي سيده، ويكون الرب المصلح رب الشيء إذا أصلحه" أ.هـ
قلت: وهذه المعاني الثلاث التي يشتمل عليها اسم الرب حق في الله وعلا فهو مالك الخلق والناس وملكهم وسيدهم وهو مصلح أمورهم ومتولي شئونهم سبحانه وتعالى.
وقد جاء اسم الرب في القرآن في نحو ألف موضع مرة مضافاً إلى العالمين، فهو رب كل العوالم سبحانه وتعالى، ومراراً مضافاً إلى الرسول صلى الله عليه وسلم {ربك} وهو في أكثر مواضع القرآن ومضافاً ومرة إلى الناس {ربكم} وإلى المتكلمين {ربنا} و {ربي} وإلى الغائب {ربها} و{ربهم}.
فإذا كان معنى الرب السيد المطاع فإن من اتخذ لنفسه سيداً يطيعه في معصية الله فقد أشرك بالله سبحانه وتعالى وعد غيره.. سواء كانت هذه الطاعة في الصغير أو الكبير في القليل أو الكثير فالشرك بالله كله شرك، ولا يقبله الله سبحانه وتعالى، ومن أجل ذلك وصف الله النصارى بالشرك فقال: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم} وهم لم يعبدوا الأحبار والرهبان إلا بطاعتهم لهم فيما لم يشرعه الله سبحانه وتعالى.(3/16)
وقال جل وعلا لمن تشكك في تحريم الميتة: {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون}.
توحيد الألوهية والعبادة داخل في توحيد الأمر :
ولا شك أن توحيد الألوهية والعبادة داخل في توحيد الأمر، فإن الله سبحانه وتعالى أمرنا ألا نعبد إلا هو. كما قال جل وعلا: {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه والوالدين إحساناً }، وقضى هنا بمعنى أمر وحكم..
وقال تعالى: {إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه}، وكل ما أمر الله به من عبادة له فهي داخلة في باب أمره جل وعلا..
وإذا أمرنا سبحانه وتعالى أن نصرف شيئاً مما جعله عباده له وحده لغيره وجب علينا أن نطيع أمره في ذلك لأن الأصل هو طاعة أمره جل وعلا كما أمر الله الملائكة بالسجود لآدم وهو مخلوق فسجدوا طاعة لأمر ربهم سبحانه، علماً أن السجود فرد من أفراد عبادته وحده لا شريك له،وكما أمرنا سبحانه بتقبيل الحجر الأسود مع أنه حجر لا ينفع ولا يضر، وتقبيلنا له إنما هو امتثال لأمر الله تبارك وتعالى، وكما شرع لمن قبلنا السجود لذوي المكانة والمنزلة كالوالدين، والمنعم المتفضل من البشر كما سجد يعقوب وأبناؤه ليوسف -عليهم السلام- اعترافاً وفضلاً. قال تعالى: {ورفع أبويه على العرش وخروا سجداً وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من بل قد جعلها ربي حقاً}
ولما أمرنا سبحانه وتعالى بطاعة غيره كالوالدين، والزوج وأولي الأمر فإنه جعل هذه الطاعة فيما يطاع فيه الله فقط، وأما إذا كانت في معصية الله فلا سمع ولا طاعة كما قال صلى الله عليه وسلم: [لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق].
وهذا يدل على أن توحيد الله في اتباع أمره وحده دون سواه هو أشمل أنواع التوحيد، وأن معاني التوحيد وأقسامه راجعة إلى هذا النوع.(3/17)
وتوحيد الله في أمره وحكمه هو معنى الإسلام الذي جعله الله هو الدين الذي ارتضاه لعباده ولا يرضى من عباده غيره قال تعالى: {إن الدين عند الله الإسلام} أي الاستسلام والطاعة والخضوع فالدين الذي ارتضاه لعباده جميعاً أن يمتثلوا أمره وحده، ويذلوا له وحده، ولا شك أن السجود والركوع، والنذر والصوم، والطواف، والسعي، وسائر ما أمرنا الله به من أجل تعظيمه وتذكر خشيته وذكره، وكل ذلك داخل في معنى طاعة أمره، فعبادة الله وحده بصرف جميع أنواع القربات إليه إنما هي من طاعة أمره جل وعلا، فهي داخلة في توحيد الأمر.
وكما جعل الله سبحانه وتعالى صرف شيء من أنواع القربات والعبادات التي جعلها خاصة به شركاً جعل الله طاعة غيره في شيء واحد شركاً كذلك فالشرك في العبادة كالشرك في الطاعة سواء بسواء قال تعالى: {ولا يشرك في حكمه أحداً} بلا النافية في قراءة، وبلا الناهية في القراءة الأخرى. قال تعالى: {فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً} فالشرك في الحكم كالشرك في العبادة سواءً بسواء ولذلك فاصل الله المسلمين في مكة في أمر طاعته وحده لا شريك له وذلك في قضية أكل الميتة حيث حصل لبعضهم شبهة في أن الله هو الذي قضى بالموت علي الشاة التي تموت حتف أنفها فكيف تحرم؟ ولا تحل إلا بأن يذبحها الإنسان بيده؟ فقال تعالى مفاصلاً لهم بين أن يطيعوه استسلاماً لأمره أو يطيعوا غيره فيشركوا. قال تعالى: {ولا تأكلوا ما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون}
فهذا نص صريح واضح أن الرضا بطاعة غير الله فيما يعصى به الله سبحانه شرك، وهذا في القليل والكثير.(3/18)
ولا شك أن توحيد الله بكل معانيه وأقسامه هو قضية واحدة، فإن الله تسعاً وتسعين اسماً من كفر باسم واحد فهو كافر، وصفاته جل وعلا أكثر من أن تحصر ومعاني صفاته وأسمائه يجب الإيمان بها على النحو الذي أخبرنا الله بها، ولا يحيط علما بالله إلا الله جل وعلا {ولا يحيطون به علماً} ومن كفر بصفة واحدة فقال مثلاً لم يستوي على عرشه، ولا يتكلم، ولا يراه أهل الإيمان في الآخرة فهو كافر لأنه جحد صفة ثابتة في الكتاب والسنة لله جل وعلا.
ولا شك أن جحد أمره وحكمه من أعظم الكفر بل هو أعظم الكفر، ولا شك أنه من قال إن لله شريكاً في الأمر: الكوني القدري أو الحكمي التشريعي فهو كافر بالله مشرك به.
وتقسيم معاني توحيده إلى اثنين علمي خبري، وقصدي طلبي أو ثلاثة ربوبية، وألوهية، وأسماء وصفات، إنما عمل تعليمي إرشادي اصطلاحي لم يأت هذا التقسيم بهذه القسمة الثنائية أو الثلاثية في الكتاب والسنة ولا في أقوال الصحابة والتابعين، وإنما هذا التقسيم مستفاد من معاني أسمائه وصفاته وتوحيده سبحانه وتعالى، ولا شك أن توحيده في الأمر هو من معاني توحيده في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته بل غاية الدين كله امتثال أمره، واجتناب نهيه، والتسليم له وحده سبحانه وتعالى.(3/19)
متى يكفر الحج كل الذنوب والمعاصي؟
بقلم: عبدالرحمن بن عبدالخالق
سألني سائل بعد صلاة الجمعة أنه وبينما كان في حج هذه السنة، وقد تحلل الحل الأول -بعد رمي جمرة العقبة- دخل محلاً فاشترى منه غرضاً، ولكنه نوى في قلبه ألا يدفع الثمن للبائع؟! ثم خرج ولم يعط البائع ثمن السلعة!! ولكنه ندم بعد ذلك عندما سمع محدثاً يحدث بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم: [من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه]، فتأثم وخشي على حجته وذهب لينقد البائع ثمن سلعته، ولكنه لم يهتد إلى المحل الذي كان قد اشترى منه وسألني ماذا أصنع الآن؟
وقد أثار هذا السؤال حزني وألمي. ورأيت أن هناك أربع قضايا كبيرة قد يغفل عنها كثير من المسلمين أحببت بيانها في هذا المقال: وهي على وجه الإجمال: الحج لا يكفر الذنوب التي لم يتب منها صاحبها، فعل المعصية وقت الطاعة يبطل الطاعة، الذنوب التي باعثها حقارة النفس من أكبر الكبائر، الذنب يتضاعف في الحرم كما أن ثواب الطاعة يتضاعف أضعافاً كثيرة.
الحج لا يكفر الذنوب التي لم يتب منها صاحبها:
يجب العلم أن الحج لا يكفر الذنوب التي لم يتب منها صاحبها فالمقيم على ذنب ما لم يتب منه، وهو مستمر فيه، فإن الحج لا يكفر ذنبه، وإنما الحج كفارة وأجر للعبد التائب إلى الله الراجع إليه، الراجي رحمته وعفوه، والذي أقلع عن ذنوبه الكبار إقلاعاً لا رجعة بعده.
والدليل على ذلك ما رواه الإمام مسلم رحمه الله بإسناده إلى عبدالله بن مسعود رضى الله عنه قال: قال أناس لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله: أنؤاخذ بما عملنا في الجاهلية؟! قال صلى الله عليه وسلم: [أما من أحسن منكم في الإسلام فلا يؤاخذ بها، ومن أساء أخذ بعمله في الجاهلية والإسلام].
وفي رواية أخرى: [قلنا يا رسول الله: أنؤاخذ بما عملنا في الجاهلية؟ قال: من أحسن في الإسلام لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية ومن أساء في الإسلام أخذ بالأول والآخر].(4/1)
هذا مع بيان النبي صلى الله عليه وسلم أن الإسلام يهدم ما قبله كما في حديث مسلم أيضاً أن عمرو بن العاص رضى الله عنه قال: [.. فلما جعل الله الإسلام في قلبي أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: ابسط يمينك فلأبايعك فبسط صلى الله عليه وسلم يمينه. قال: فقبضت يدي. قال صلى الله عليه وسلم: [ما بالك يا عمر] قال قلت: أردت أن اشترط. قال صلى الله عليه وسلم: [تشترط بماذا؟] قلت: أن يُغْفر لي. قال صلى الله عليه وسلم: [أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله؟ وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها؟ وأن الحج يهدم ما كان قبله]. انتهى
فمع أن الإسلام يهدم ما كان قبله إلا أن من أساء في الإسلام جوزي بعمله السيء في الإسلام، وما كان قبل الإسلام. فمن كان يشرب الخمر مثلاً ويزني في جاهليته، وحال كفره، فإنه إن دخل في الإسلام حط الله عنه وغفر له ما كان قد سلف منه من هذه المعاصي، ولكنه إن عاد إلى الزنا وشرب الخمر في الإسلام جوزي بعمله الأول والآخر، وكذلك الحال فيمن له معاصٍ لم يتب منها قبل الحج فإن الحج يهدم ما كان من هذه المعاصي إلا أن يكون هذا الحاج مقيماً على معاصيه مستمراً فيها فإن الحج لا يهدم ما كان قبله في هذه الحالة، وهذا يعني أن الحج لا يفيد إلا التائب من الذنب، والعائد إلى الله، الراجع إليه المقلع عن ذنوبه، وأما المقيم على معاصيه وذنوبه المستمر فيها فإن الحج لا يهدم ما كان قبله في هذه الحالة.
هل يكفر الحج الكبائر دون توبة منها؟!
ثم إن الذنوب تنقسم إلى كبائر وصغائر، والصغائر قد جاء أن الله سبحانه وتعالى يغفرها إذا اجتنبت الكبائر كما قال تعالى: {إن تجتنبوا كبائر ما ينهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلاً كريماً}..(4/2)
فمجرد ترك الكبائر خوفاً من الله وطاعة مكفر لصغائر الذنوب، وكذلك يكفر الله السيئات والصغائر بموالاة العبد على الطاعة، كما في الحديث الصحيح: [الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر].
وفي رواية أخرى: [الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، كفارة لما بينهن ما لم تغش الكبائر] (رواه مسلم عن أبي هريرة)
وفي هذا دليل على أن ما بين الطاعة ومثلها يكفر الله عنه ما بينهما من الذنوب الصغائر إذا ترك العبد الكبائر.
وفي الحديث الصحيح أيضاً: [العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما من الذنوب والخطايا، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة] (رواه أحمد وانظر الصحيحة لشيخنا الألباني 1200)
وفي هذا دليل على أن الموالاة بين طاعتين يكفر الله ما بينهما من الذنوب الصغائر. لكن هل يكفر الحج إثم الذنوب الكبائر لمن لم يترك هذه الكبائر ولم يحصل منه توبة عنها؟
لا شك أن ظاهر الحديث: [الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة] وقوله صلى الله عليه وسلم: [من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه] يدل على أن الحج يكفر الذنوب كلها صغيرها وكبيرها، ولكنه يستفاد من الآيات والأحاديث الأخرى أن ذلك إذا كان الحاج تائباً عن الكبائر كلها مقلع عنها عازماً على عدم العودة إليها، وأما إن كان من أهل السرقة وهو مستمر في سرقته، أو من أهل الزنا وهو مستمر في زناه، أو ممن يشرب الخمر وهو مستمر في شربها، فإن الحج لا يكفر خطيئة من لم يتب منها فاعلها ولم يقلع عنها.
ومن ظن أن الحج يكفر الكبائر المقيم عليها صاحبها فقد أخطأ خطئاً بليغاً، وفهم الحديث على غير معناه.
ومما يدل على ذلك أيضاً قوله تعالى في نهاية آيات الحج من سورة البقرة: {واذكروا الله في أيام معدودات فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه، ومن تأخر فلا إثم عليه، لمن اتقى واتقوا الله واعلموا أنكم إليه تحشرون}. ( البقرة: 203)(4/3)
فقوله سبحانه وتعالى: {لمن اتقى} يدل على أن المتقي لله الخائف منه هو الذي تغفر له ذنوبه بعد تمام الحج متعجلاً في يومين أو متأخراً لليوم الثالث، فقوله تعالى: {لمن اتقى} راجع للمتعجل والمتأخر.
ومعلوم أن المقيم على الذنب ليس من اتقى الله وخافه.
وأما هل يكفر الحج الكبائر التي لم يتب عنها صاحبها، وإن كان قد تركها، فالصحيح -إن شاء الله- أنها إن كانت مما يتعلق بحقوق العباد فإن الحج لا يغفرها كما جاء في الحديث أن [الشهادة في سبيل الله تكفر الذنوب كلها إلا الدّين]، وذلك أنه من حقوق العباد، وهكذا الأمر هنا، فإن الحج لا يكفر حقوق العباد، فمن كان عليه دين لم يؤده، أو في ذمته عهد أو مال أو أمانة لغيره فإن الحج شأنه شأن كل الطاعات التي يكفر الله بها السيئات، لا يكفر الله بها حقوق الآدميين، لأن حقوق العباد لا بد من ردها، أو تنازل أهل الحقوق عنها في الدنيا أو في الآخرة، أو المقاضاة فيها يوم القيامة كما قال صلى الله عليه وسلم: [أيها الناس من كان له عند أخيه مظلمة من عرض أو مال فليتحلل منه الآن قبل ألا يكون دينار ولا درهم، إنما هي الحسنات والسيئات، فإن كان له حسنات أخذ منه بقدر مظلمته، وإلا أخذ من سيئاتهم فطرحت عليه ثم طرح في النار].
فلا يجوز الظن أن تكفير الحج للذنوب مسقط لحقوق الآدميين والله تعالى أعلم.
وأما ما يتعلق بحق الله تعالى فهل يسقط إثم الكبائر دون توبة منها إذا قام العبد بهذه الأعمال العظيمة التي جاء أنه تكفر كل الذنوب كالحج والشهادة، وصلاة ركعتين لا يحدث المصلي فيهما نفسه كما في الحديث الصحيح: [من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه إلا غفر الله ما تقدم من ذنبه] (متفق عليه)(4/4)
وكذلك صيام رمضان، وأنه عتق من النار، وكذلك التسبيح والتحميد والتكبير بعد الصلوات وأنه من [سبح الله في دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين، وحمده ثلاثاً وثلاثين وكبره ثلاثاً وثلاثين، وقال تمام المائة لا إله إلا الله وحده لا شريك له إلا غفرت ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر].
فلا شك أن ظاهر هذه الأحاديث يدل على أن هذه الأعمال الشريفة العظيمة يسقط كل الذنوب صغيرها وكبيرها.
لكن عند النظر والتأمل والجمع بين النصوص المختلفة يتبين أن هذه المغفرة للذنوب لا تكون إلا للتائب من الكبائر.
ومن أجل ذلك يوصي الحاج عند عزمه على الحج، أن يخرج عما في يديه من حقوق الآدميين ليكون حجه مبروراً، وأن يتوب إلى الله من جميع ذنوبه ليكون وذنبه مغفوراً.
ومما يدل أن الحج لا يسقط ذنوب الكبائر إلا للتائب منها قول النبي صلى الله عليه وسلم: [الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة]، ولا يكون الحج مبروراً إلا إذا كان صاحبه تائباً إلى الله من معاصيه راجعاً إليه، أما إن كان مصراً على المعاصي، مقيماً عليها ناوياً أن يعود إليها بعد حجه فهذا لا يكون حجه مبروراً.
هل يكون المسلم مطيعاً عاصياً في وقت واحد؟(4/5)
والمسألة الثانية مما يتعلق به سؤال السائل هو فيمن يكون وقت الطاعة عاصياً هل يكون في هذه الحالة طائعاً لله، وهذه مسألة قديمة من مسائل أصول الفقه ضرب لها العلماء مثلاً بمن يصلي الصلاة في الأرض المغصوبة، هل تكون صلاته مقبولة؟ فالإمام أحمد رحمه الله يرى أن المصلي في الأرض المغصوبة لا تقبل صلاته لأنه وقت الصلاة يكون فاعلاً للغصب، عاصٍ لله ببقائه في الأرض التي اغتصبها، فكيف تكون صلاته صحيحة؟ ومثله من يصلي وهو لابس ثوباً من حرير، ومن يسرق أثناء صلاته، ومن يغازل امرأة وهو يصلي؟ أو من يلاحق امرأة في الطواف ومثله حج العبد الآبق، وحج الفار من الزحف، وهل يقاس على ذلك من يسرق في أثناء إحرامه بالحج؟! لا شك أن من أحرم بالحج فقد دخل في عباده، وشرع في نسك فهل إذا ارتكب جريمة السرقة يكون مطيعاً لله من وجه عاصياً من وجه أم أن طاعته هي نفس معصيته؟!
كمن خرج للسرقة في الحج؟! فلا شك أن من خرج حاجاً ينوي سرقة الحجاج فإنه لا يكون إلا سارقاً عاصياً، ولا يتصور أن يكون مطيعاً لله لأنه في كل خطوة يخطوها في الحج لا ينفك عن نية السرقة والمعصية، وهل يكون من نوى الحج خالصاً لله ثم هيئت له السرقة وهو محرم فسرق يكون مطيعاً لله حاجاً؟ أم أن ارتكابه للسرقة في وقت أداء المناسك يكون مبطلاً للحج.
لا شك أن مثل هذا -والله أعلم- لا يكون حجه مبروراً لحصول أعظم الفسق فيه وهو السرقة، ووقوع الكبيرة منه، لكن هل يفسد ذلك حجه؟ ويلزمه إعادة الحج إن كان مفترضاً (يؤدي الفريضة).
أقول: هذا محل نظر، وانتظار لفتوى أهل العلم ولكن يجب الجزم أن مثل هذا لا يكون حجه مبروراً، وأنه لم يرجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه؟ وكيف يكون كذلك وقد سرق، وهو ما زال في مناسك الحج؟! ولم يتم له التحلل الكامل من الحج بل تحلل الحل الأول فقط؟!
ذنوب باعثها حقارة النفس وسقوط المروءة.(4/6)
وأما الأمر الثالث فإن الذنوب التي باعثها حقارة النفس ،وسقوط المروءة، فإنها من أعظم الكبائر، وإن كانت في ظاهرها من الصغائر، ومثل هذه الذنوب يمقت الله فاعلها. قال صلى الله عليه وسلم: [ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: رجل على فضل ماء بالفلاة يمنعه من ابن السبيل، ورجل بايع رجلاً بسلعة بعد العصر، فحلف له بالله لأخذها بكذا وكذا فصدقه وهو على غير ذلك، ورجل بايع إماماً لا يبايعه إلا لدنيا، فإن أعطاه منها وفى، وإن لم يعطه لم يف]. (متفق عليه عن أبي هريرة)
وقال صلى الله عليه وسلم أيضاً: [ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولا ينظر إليهم، ولهم عذاب أليم : شيخ زان، وملك كذاب، وعائل مستكبر]. (رواه مسلم عن أبي هريرة)
وقال أيضاً: [ثلاثة لا ينظر الله إليهم غداً: شيخ زان، ورجل اتخذ الأيمان بضاعة يحلف في كل حق وباطل، وفقير مختال يزهو]. (رواه الطبراني عن عصمة بن مالك)
وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم: [ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: المسبل إزاره، والمنان الذي لا يعطي شيئاً إلا منه، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب]. (رواه الإمام أحمد ومسلم)
وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [من اقتطع حق امرئ بيمينه فقد أوجب الله له النار، وحرم عليه الجنة، قالوا: وإن كان شيئاً يسيراً يا رسول الله؟! قال: وإن كان عوداً من أراك]!!(4/7)
وبالنظر إلى الأحاديث السابقة نرى عقوبة عظيمة من الله تعالى على ذنوب هي في ظاهرها من الصغائر ولكنها في حقيقتها من أعظم الكبائر، والعقوبة على هذه الذنوب هي من أعظم ما يعاقب الله بها العصاة، وهي كون الله سبحانه وتعالى لا يكلمهم يوم القيامة، ولا ينظر إليهم -أي نظر رحمة- ولا يزكيهم في الدنيا، وأن لهم عذاباً أليماً في الآخرة!! وهذا من أعظم ما يعاقب الله به عبداً من عباده العاصين، وإذا نظرت في ذنوب هؤلاء المذكورين ترى أن الجامع بينها جميعاً هي حقارة النفس وسقوط المروءة، أو فعل العصية ممن لا حاجة عنده إليها، ولا ضرورة تلجئه لها، ولنستعرض بعضهم:
المنفق سلعته بالحلف الكاذب:
فالتاجر الذي يحلف بالله كاذباً، والحلف بالله شيء عظيم أنه اشترى هذه السلعة بكذا وكذا، وهو على غير ذلك إنما استغل اسم الله وصغ به كاذباً ليكسب كسباً حقيراً من كسب الدنيا، وفي هذا امتهان لاسم الله واستغلال له واستهانة بالكذب، ومثله الذي يبايع سلطاناً، والبيعة شيء عظيم لأنها عهد على الإيمان، والنصرة، والقيام بالحق وتطبيق الكتاب والسنة ونصر الإسلام والطاعة للإمام في القيام فيما أوجب الله من أمور الدين، وفي هذا أجر عظيم للإمام والمأموم فإذا كان المبايع لا يريد من بيعته إلا الدنيا، ولا يحرص إلا عليها فإنما يدل ذلك على حقارة نفسه، وسقوط همته وجعله ما وضع للدين وشرع لنصر الإسلام والمسلمين سبيلاً إلى الدنيا، وغاية لكسب الحطام. هذا مع الكذب في العهد، وإضمار السوء.
حقارة النفس تجمع بين شيخ زان وملك كذاب وعائل مستكبر:(4/8)
وأما الشيخ الزاني، والملك الكذاب والعائل المستكبر فإن الجامع بين هؤلاء الثلاثة هو أن كلاً منهم ليس بحاجة إلى ما يفعله من المعصية بل هو في الأصل مستغن عنها، فما حاجة الشيخ -وهو الكبير الهرم- إلى الزنا، وقد لا يتحصل له ذلك إلا بمنشطات ومثيرات، وكلفة على البدن، وتكلف.... فلماذا وقد كُفِي شر هيجان الباءة، وأغتلام الشهوة، وشدة الحاجة!! لماذا تكلف المعصية، وسقوط المروءة [شيخ ويزني]!!
وأما الملك فإنه لملكه وسلطانه مستغن عن الكذب، فإن الكذب قد يلجأ إليه الفقير المحتاج أو الضعيف الذليل، وأما من كان بيده الأمر والنهي، وتحت يده الأموال والأرزاق، ولا يخشى من غيره فما حاجة مثل هذا إلى الكذب، فإن كذب الملك دل على سقوط مروءته وحقارة نفسه، ومثل هذا يقابل بسخط الله، وعقوبته.
وأما العائل -وهو ذو العيال- المحتاج فما حاجته إلى الكبر، وليس عنده من مؤهلاته التي يتذرع بها أهل الكبر شيء!!
فإن الدافع إلى الكبر عند أهل الكبر هو المال والاستغناء عن الناس أو الجاه والحسب، وأما من كان فقيراً لا مال له، وهو محتاج إلى غيره فتكبره أمر غليظ... فالكبر كله شر، ولكنه أشر من عائل محتاج يتكبر ويزهو!!
والكبر هنا عند هذا الفقير المحتاج من حقارة النفس وسقوط المروءة وإتيان المعصية بالتكلف الزائد.
فهؤلاء الثلاثة: الشيخ الذي لا داعية عنده تدعوه إلى الزنا، والملك الذي لا داعي عنده يدعوه إلى الكذب، والعائل الفقير الذي لا داعي عنده يدعوه إلى الكبر. تصبح المعصية من كل واحد من هؤلاء الثلاثة معصية مضاعفة، ويصبح الحامل لهؤلاء على هذه المعاصي هو حقارة النفس، والاستخفاف بالمعصية، والتكلف في فعلها دون داع يدعو إليها.
دناءة النفس في المنان، ومن يبخل بما لا حاجة له إليه:(4/9)
وأما من كان على فضل ماء في الفلاة يمنعه من ابن السبيل فإنه دليل على انعدام الرحمة والمروءة، فإن بذل هذا للماء لا يضره، لأنه عنده فضل ماء، ومنع الماء عن ابن سبيلٍ محتاجٍ قد يكون فيه ضرره بل موته وهلاكه.
ولا يقدم على هذا إلا ساقط المروءة، عديم الإحساس، بعيد من الرحمة، ومثل هذا جدير بسخط الله وعقابه.
وأما المنان الذي لا يعطي شيئاً إلا مَنَّهُ فإنه حقير النفس ساقط الهمة، خبيث الطوية، فإن من أعطاك ليستذلك ويتفضل عليك، ويمن عليك في الصغير والكبير، يؤذيك ويضرك، ومن أجل هذا جعل الله المن محبطاً لثواب الصدقة. قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا لا يقدرون على شيء مما كسبوا والله لا يهدي القوم الكافرين} (البقرة: 264)
ولست أرى ما يحمل حاجاً دفع مئات الدنانير ليحج، وأنفق عشرات الساعات من جهده ووقته ثم هو بعد ذلك يختلس أربعين ريالاً وهو في الحج!! وهو وما زال يؤدي العبادة لست أرى لهذا معنى إلا أن يكون من ضياع معاني العبادة من القلب، ومن حقارة النفس، فهل هذا جدير بأن يغفر الله ذنبه ويعود كيوم ولدته أمه؟! ولكن صاحب السؤال -عفا الله عنه- تذكر بعد نسيان، وصحا ضميره بعد سبات واستبصر بعد عمى، ونشط ليرد المال الذي سرقه إلى صاحبه!! ولعل هذا أن يكون طريقاً إلى التوبة النصوح.(4/10)
ولكني أحببت أن أبين له، ولكل من عقل أن بعض الذنوب لا ينظر فيها إلى حجم الذنب فليست العبرة في السرقة، وهي جريمة بكل حال أن تكون كبيرة إذا كان المسروق كبيراً، وأن تكون صغيرة إ ذا كان المسروق شيئاً قليلاً... لا ليس الأمر كذلك فإن السرقة تعظم بأمور منها أن تكون وقت الطاعة كما هنا فالسرقة في الحج غير السرقة في غير وقت عبادة، وكونها في البلد الحرام، وكونها شيئاً تافهاً حقيراً لا حاجة عند السارق إليه، فقد يكون هذا الحاج غير محتاج إلى أربعين ريالاً.. ألا ترى أن عبداً للنبي صلى الله عليه وسلم غل بردة من الغنائم لا تساوي أربعة دراهم فلما قتل هذا العبد قال الصحابة: هنيئاً له يا رسول الله الجنة، مات شهيداً؟! فقال صلى الله عليه وسلم: [لا والذي نفسي بيده إن البردة التي غلها من الغنائم لتشتعل عليه ناراً الآن]!!
وكانت بردة لا تساوي أربعة دراهم، فهذا العبد أفسد جهاده مع النبي صلى الله عليه وسلم، وضاعت ثمرة شهادته لأنه سرق شيئاً حقيراً لا يساوي أربعة دراهم، وما ذلك إلا لأن هذا الذنب دليل على حقارة النفس، ولم ينظر في هذا الذنب إلى عظم المبلغ الذي غله هذا العبد من الغنيمة !!
وكذلك الشأن في ذنوب كثيرة كان باعثها حقارة النفس كالتي دخلت النار في هرة حبستها حتى ماتت جوعاً لا هي أطعمتها إذ حبستها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض، فقد كانت عقوبة هذه المرأة كبيرة مع أنها لم تقتل إلا هرة، وما ذاك إلا لقسوة قلب هذه المرأة، وانعدام الرحمة، وظلم حيوان صغير أعجم لا يستطيع الدفاع عن نفسه، ولا البوح بشكواه.
ألا فليحذر العبد ما كان هذا شأنه من الذنوب والمعاصي.
والخلاصة: أنني أرى أن هذا الذنب الذي فعله السائل قد اجتمعت فيه أمور تجعله ذنباً كبيراً عظيماً وهو كونه سرق في وقت أداء المناسك، وسرق مبلغاً حقيراً هو في غنى عنه، وسرق في البلد الحرام، والمعاصي تتضاعف فيه كما تتضاعف الحسنات.(4/11)
ولكن لأن هذا السائل قد استيقظ قلبه، وندم على فعلته، فأرجو أن يكون هذا باباً قد فتحه للتوبة والرجوع إلى الله.
وأما الحج المبرور الذي ليس له جزاء إلا الجنة، فإن من شرطه أن يخرج المسلم من كل ذنوبه ومعاصيه، ويتوب إلى الله توبة نصوحاً، فإن الحج لا يكفر الكبائر الذي لم يتب منها صاحبها، توبة خاصة بها، وكذلك المعاصي التي يصر عليها صاحبها، وما زال مقيماً عليها، وإنما الحاج الذي يعود يوم يعود من حجه كيوم ولدته أمه هو الذي يكون قد تاب من كل الذنوب والمعاصي توبة نصوحاً، وأتى الله بقلب سليم وكان من أهل التقوى، وأدى المناسك على الوجه المشروع، وتخلق بما أمر الله عباده به من كمال الخلق: {الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج}
فمن جمع هذه الشروط كان المرجو أن يكون حجه مبروراً، وذنبه مغفوراً. وأما من لم يجمعها أو فرط في شيء منها لم يكن كذلك.
والحمد لله رب العالمين،،(4/12)
الحياة الدنيوية لصفوة خلق الله
بقلم: عبد الرحمن بن عبد الخالق
الأنبياء أشد الناس بلاءاً:
كانت الحياة الدنيوية لرسل الله وأنبيائه جميعاً سلسلة من الابتلاءات والشدائد، ومع أنهم صفوة خلق الله وخلاصة أوليائه إلا أنهم كانوا أشد الناس بلاءاً . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أشد الناس بلاءاً الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى المرء على قدر دينه، فإن كان في دينه شده زيد له في البلاء]
كان الناس يتصورون ويتخيلون أن رجلاً يختاره الله لرسالته، وينزل عليه كلماته، ويؤيده بملائكته، أن يجعل الأشياء كلها طوع يمينه، وأن يغنيه عن كسب العيش كما يكسب الناس من زراعة أو تجارة أو عمل بدني... الخ، وأن يضع تحت يده الكنوز ينفق منها على نفسه وأهله، وأن يسكنه في أجمل المنازل، ولا يعرضه للمحن والشدائد!!
فإن هذا -في نظرهم- أقل ما يجب أن يعطيه الله ملك السموات والأرض لرسوله الذي سيقوم بتبليغ رسالته للناس، ولكنهم رأوا أن هذا الرجل الذي يقول إنني رسول رب السموات والأرض، ومالك الكون، وخالق كل شيء.. يقاسي من شظف العيش ما يقاسي فقراءهم، وأهل الحاجة منهم، ويتعرض للمضايق والشدائد ما لا يتعرض إليه عامتهم، وقد كان هذا من أكثر الأسباب التي صرفت كثيراً منهم عن الإيمان بالرسول!!
قال تعالى حاكياً مقالة الكفار: {وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيراً* أو يلقي إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلاً مسحوراً} (الفرقان:7-8)(5/1)
وقال تعالى أيضاً: {وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً* أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرآً* أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً أو تأتي بالله والملائكة قبيلاً* أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتاباً نقرؤه قل سبحان ربي هل كنت إلا بشراً رسولاً* وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشراً رسولاً}
وهذا الذي قيل لرسولنا محمد صلى الله عليه وسلم هو الذي قيل مثله من كل قوم كفروا برسولهم فقد قال قوم نوح له: {فقال الملأ الذين كفرا من قومه ما نراك إلا بشراً مثلنا، وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي، وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين} (هود 27)
وقال قوم شعيب له: {قالوا يا شعيب ما نفقه كثيراً مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفاً ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز* قال يا قومي أرهطي أعز عليكم من الله واتخذتموه وراءكم ظهرياً إن ربي بما تعملون محيط} (هود:91-92)
لقد كانت الحال الضعيفة للرسل مانعاً من أتباعهم.
* فقوم فرعون قالوا عن موسى وهارون {أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون}. فقد كان بنوا إسرائيل في خدمة الفراعنة يسخرونهم في أحط الأعمال!! ويسومونهم سوء العذاب ومن أجل ذلك استنكفوا أن يتبعوا دنيا، أنزل على رجل من قوم هم في خدمتهم وتحت قهرهم .(5/2)
* ولوط عليه السلام أرسل إلى قوم هو غريب عنهم، وكان في غربته بينهم في حال شديد من الضعف والمسكنة، فلم يكن له من الذرية إلا ابنتان، وكان زوجته على دين قومها الفسقة الفجرة قطاع الطريق، الذين يأتون الذكران ويعافون الفطرة وزواج النسوان. {أتأتون الذكران من العالمين، وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بل أنتم قوم عادون}. ولم يجدوا للوط فضلاً عليهم في مال أو قبيلة أو عصبة يعتزى بها، أو قوة قاهرة تحملهم على الإيمان برسالته... بل وجدوا غير ذلك أنه غريب ضعيف فيهم .
فقالوا: {لئن لم تنته يا لوط لتكونن من المخرجين}.
* ومن قبله قال قوم نوح له: {لئن لم تنته يا نوح لتكونن من المرجومين} لما رأوا من ضعفه وضعف من اتبعه من المؤمنين: {فقال الملأ الذين كفروا ما نراك إلا بشراً مثلنا، وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي، وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين} (هود:27)
* وعاش نوح عمره الطويل في هم عظيم وكرب بالغ مثاراً للسخرية، ومحطاً للتهديد والوعيد. وتحذيراً منه من الكبير للصغير!! إلى أن ضج بدعائه إلى الله أن يهلك القوم الظالمين. قال تعالى: {ولقد نادانا نوح فلنعم المجيبون ونجيناه وأهله من الكرب العظيم}.
* وأخرج إبراهيم عليه السلام من بلده بعد أن اجتمعت الجموع لحرقه بالنار، {قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين} ولكن الله جعل نارهم برداً وسلاماً على إبراهيم ومع ذلك لم تحرك هذه الآية العظمى فيهم شعرة نحو الإيمان، وأخرج من بلده فقيراً مسكينا، وارتحل من وطنه إلى بلاد الشام واشترى مغارة هناك عند شجرة بلوط ليعيش فيها... ثم ألجأته المجاعة إلى الرحيل إلى مصر... ليلقي فيها جباراً... يتآمر عليه ليأخذ منه زوجته!! فنجاه الله من نار هذا الفرعون، كما أنجاه سبحانه وتعالى من نار نمروذ... هذا إبراهيم خليل الله!! الذي له ملك السموات والأرض.(5/3)
* ويعود إبراهيم إلى بلاد الشام مرة أخرى ومعه هاجر جارية سارة التي أهداها الفرعون لها بعد أن رأى المعجزة، ونبدأ معه سلسلة أخرى من الابتلاءات والاختبارات الشديدة.. فيرزق الولد من هاجر بعد ما شاخ وكبر، ثم يؤمر بأن يلقيه وأمه في برية موحشة ليس فيها أنيس ولا جليس!!
ثم يبشر بولد آخر من زوجته سارة، ويظل مرتحلاً بين الشام مكة ليطالع تركته التي خلفها هناك وعندما يكبر ابنه اسماعيل ويشيب يأمره الله جل وعلا بأن يذبحه!! قال تعالى: {إن هذا لهو البلاء المبين}.
* وموسى عليه السلام كانت حياته من أول يوم ولد فيه إلى اليوم الذي توفاه الله فيه سلسلة متواصلة من البلاء والفتون، هذا وهو الذي قال فيه الرب جل وعلا {واصطنعتك لنفسي}!! ومع ذلك فقد قال الله له {وفتناك فتونا}!!
روى الإمام النسائي حديث ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير قول الله تبارك وتعالى عن موسى {وفتناك فتونا}.
فقال حدثنا عبدالله بن محمد حدثنا يزيد ن هارون نبأنا أصبغ بن زيد حدثنا القاسم بن أبي أيوب أخبرني سعيد بن جبير قال سألت عبدالله بن عباس عن قول الله عز وجل لموسى عليه السلام {وفتناك فتوناً} فسألته عن الفتون ما هو؟ فقال: استأنف النهار يا ابن جبير فإن لها حديثاً طويلاً.(5/4)
فلما أصبحت غدوت إلى ابن عباس لأنتجز منه ما وعدني من حديث الفتون فقال: تذاكر فرعون وجلساؤه ما كان الله وعد إبراهيم عليه السلام أن يجعل في ذريته أنبياءاً وملوكاً، فقال بعضهم إن بني إسرائيل ينتظرون ذلك لا يشكون فيه وكانوا يظنون أنه يوسف بن يعقوب فلما هلك قالوا ليس هكذا كان وعد إبراهيم عليه السلام. فقال فرعون كيف ترون فائتمروا وأجمعوا أمرهم على أن يبعث رجالاً معهم الشفار يطوفون في بني إسرائيل فلا يجدون مولوداً ذكراً إلا ذبحوه ففعلوا ذلك فلما رأوا أن الكبار من بني إسرائيل يموتون بآجالهم والصغار يذبحون قالوا: ليوشكن أن تفنوا بني إسرائيل فتصبروا إلى أن تباشروا من الأعمال والخدمة التي يكفونكم!! فاقتلوا عاماً كل مولود ذكراً واتركوا بناتهم ودعوا عاماً فلا تقتلوا منهم أحداً. فيشب الصغار مكان من يموت من الكبار فإنهم لن يكثروا بمن تستحيون منهم، فتخافوا مكاثرتهم إياكم ولم يفنوا بمن تقتلون وتحتاجون إليهم فأجمعوا أمرهم على ذلك.
فحملت أم موسى بهارون في العام الذي لا يذبح فيه الغلمان فولدته علانية آمنة فلما كان من قابل حملت بموسى عليه السلام فوقع في قلبها الهم والحزن وذلك من الفتون يا ابن جبير!! ما دخل عليه وهو في بطن أمه مما يراد به. فأوحى الله إليها أن لا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين فأمرها إذا ولدت أن تجعله في تابوت ثم تلقيه في اليم فلما ولدت فعلت ذلك.
فلما توارى عنها ابنها أتاها الشيطان فقالت في نفسها ما فعلت بابني لو ذبح عندي فواريته وكفنته كان أحب إلي من ألقيه إلى دواب البحر وحيتانه.(5/5)
فانتهى الماء به حتى أوفى به عند مرفعة مستقى جواري امرأة فرعون فلما رأينه أخذنه، فأردن أن يفتحن التابوت فقال بعضهن: إن في هذا مالاً، وإنا إن فتحناه لم تصدقنا امرأة الملك بما وجدناه فيه فحملنه كهيئته لم يخرجن منه شيئاً حتى دفعنه إليها فلما فتحته رأت فيه غلاماً فألقى الله عليه منها محبة لم تلق منها على أحد قط.
وأصبح فؤاد أم موسى فارغاً من ذكر كل شيء إلا من ذكر موسى فلما سمع الذابحون بأمره أقبلوا بشفارهم إلى امرأة فرعون ليذبحوه وذلك من الفتون يا ابن جبير!! فقالت لهم أقروه فإن هذا الواحد لا يزيد بني إسرائيل حتى آتي فرعون فأستوهبه منه فإن وهبه لي كنتم قد أحسنتم وأجملتم وإن أمر بذبحه لم ألمكم فأتت فرعون فقالت قرة عين لي ولك فقال فرعون يكون لك فأما لي فلا حاجة لي فيه!! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي يحلف به لو أقر فرعون أن يكون قرة عين له كما أقرت امرأته لهداه الله كما هداها!! ولكن حرمه ذلك.(5/6)
فأرسلت إلى من حولها إلى كل امرأة لها لأن تختار له ظئراً فجعل كلما أخذته امرأة منهن لترضعه لم يقبل على ثديها، حتى أشفقت امرأة فرعون أن يمتنع من اللبن فيموت فأحزنها ذلك فأمرت به فأخرج إلى السوق ومجمع الناس ترجو أن تجد له ظئراً تأخذه منها فلم يقبل وأصبحت أم موسى والها فقالت لأخته قصي أثره واطلبيه هل تسمعين له ذكراً أحيّ ابني أم أكلته الدواب ونسيت ما كان الله وعدها فيه فبصرت به أخته عن جنب وهم لا يشعرون، والجنب أن يسمو بصر الإنسان إلى شيء بعيد وهو إلى جنبه لا يشعر به فقالت من الفرح حين أعياهم الظؤارات: أنا أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون فأخذوها فقالوا ما يدريك ما نصحهم له؟ هل تعرفينه؟ حتى شكوا في ذلك وذلك من الفتون يا ابن جبير!! فقالت نصحهم له وشفقتهم عليه رغبتهم في صهر الملك ورجاء منفعة الملك فتركوها فانطلقت إلى أمها فأخبرتها الخبر فجاءت أمه فلما وضعته في حجرها نزل إلى ثديها فمصه حتى امتلأ جنباه ريا وانطلق البشير إلى امرأة فرعون يبشرونها أن قد وجدنا لابنك ظئراً فأرسلت إليها فأتت بها وبه فلما رأت ما يصنع بها قالت امكثي ترضعي ابني هذا فإني لم أحب شيئاً حبه قط!! قالت أم موسى لا أستطيع أن أدع بيتي وولدي فيضيع فإن طابت نفسك أن تعطينيه فأذهب به إلي بيتي فيكون معي لا آلوه خيراً فعلت فإني غير تاركة بيتي وولدي!! وذكرت أم موسى ما كان الله وعدها فيه فتعاسرت على امرأة فرعون وأيقنت أن الله منجز وعده! فرجعت به إلى بيتها من يومها وأنبته الله نباتاً حسناً وحفظه لما قد قضى فيه.(5/7)
فلم يزل بنو إسرائيل وهم في ناحية القرية ممتنعين من السخرة والظلم ما كان فيهم فلما ترعرع قالت امرأة فرعون لأم موسى أزيريني ابني فدعتها يوماً تزورها إياه فيه، وقالت امرأة فرعون لخزانها وظؤرها وقهارمتها لا يبقين أحد منك إلا استقبل ابني اليوم بهدية وكرامة لأرى ذلك وأنا باعثة أميناً يحصى ما يصنع كل إنسان منكم فلم تزل الهدايا والكرامة والنحل تتقبله من حين خرج من بيت أمه إلى أن دخل على امرأة فرعون فلما دخل عليها نحلته وأكرمته وفرحت به ونحلت أمه لحسن أثرها عليه، ثم قالت لآتين به فرعون فلينحلنه وليكرمنه فلما دخلت به عليه جعله في حجره فتناول موسى لحية فرعون فمدها إلى الأرض!! فقال الغواة من أعداء الله لفرعون ألا تري ما وعد الله إبراهيم نبيه أنه زعم أن يرثك ويعلوك ويصرعك!! فأرسل إلى الذباحين ليذبحوه وذلك من الفتون بابن جبير بعد كل بلاء ابتلي به، وأريد به فتوناً.
فجاءت امرأة فرعون فقالت ما بدا لك في هذا الغلام الذي وهبته لي؟ فقال ألا ترينه يزعم أنه يصرعني ويعلوني؟! فقالت: اجعل بيني وبينك أمراً يعرف الحق به إئت بجمرتين ولؤلؤتين!! فقدمهن إليه فإن بطش باللؤلؤتين وهو يعقل فقرب إليه الجمرتين واللؤلؤتين فتناول الجمرتين!! فانتزعهما منه مخافة أن يحرقا يده فقالت المرأة ألا ترى؟ فصرفه الله عنه بعد ما كان قد هم به وكان الله بالغاً فيه أمره.
فلما بلغ أشده وكان من الرجال لم يكن أحد من آل فرعون يخلص إلى أحد من بني إسرائيل معه بظلم ولا سخرة حتى امتنعوا كل الامتناع.(5/8)
فبينما موسى عليه السلام يمشى في ناحية المدينة إذا هو برجلين يقتتلان أحدهما فرعوني والآخر إسرائيلي، فاستغاثة الإسرائيلي على الفرعوني فغضب موسى غضباً شديداً لأنه تناوله وهو يعلم منزلته من بني إسرائيل، وحفظه لهم لا يعلم الناس إلا إنما ذلك من الرضاع إلا أم موسى إلا أن يكون الله أطلع موسى من ذلك على ما لم يطلع عليه غيره فوكز موسى الفرعوني فقتله وليس يراهما أحد إلا الله عز وجل والإسرائيلي!! فقال موسى حين قتل الرجل هذا من عمل الشيطان: إنه عدو مضل مبين ثم قال: {رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم}.
فأصبح في المدينة خائفاً يترقب الأخبار فأتي فرعون فقيل له إن بني إسرائيل قتلوا رجلاً من آل فرعون فخذلنا بحقنا ولا ترخص لهم فقال ابغوني قاتله!! ومن يشهد عليه، فإن الملك وإن كان صفوة مع قومه لا يستقيم له أن يقيد بغير بينة ولا ثبت فاطلبوا لي علم ذلك آخذ لكم بحقكم.
فبينما هم يطوفون لا يجدون بيتاً إذا بموسى من الغد قد رأى ذلك الإسرائيلي يقاتل رجلاً من آل فرعون آخر فاستغاثه الإسرائيلي على الفرعوني فصادف موسى فندم على ما كان منه وكره الذي رأى فنظر الإسرائيلي وهو يريد أن يبطش بالفرعوني فقال للإسرائيلي لما فعل بالأمس واليوم إنك لغوي مبين!! فنظر الإسرائيلي إلى موسى بعد ما قال له ما قال فإذا هو غضبان كغضبه بالأمس الذي قتل فيه الفرعوني، فخاف أن يكون بعد ما قال له إنك لغوي مبين أن يكون إياه أراد!! ولم يكن أراده إنما أراد الفرعوني فخاف الإسرائيلي وقال يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفساً بالأمس!! وإنما قاله مخافة أن يكون إياه أراد موسى ليقتله فتتاركا.(5/9)
وانطلق الفرعوني فأخبرهم بما سمع من الإسرائيلي من الخبر حين يقول يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفساً بالأمس فأرسل فرعون الذابحين ليقتلوا موسى فأخذ رسل فرعون في الطريق الأعظم يمشون على هيئتهم يطلبون موسى وهم لا يخافون أن يفوتهم، فجاء رجل من شيعة موسى من أقصى المدينة فاختصر طريقاً حتى سبقهم إلى موسى فأخبره وذلك من الفتون يا ابن جبير!! فخرج موسى متوجهاً نحو مدين ولم يلق بلاء قبل ذلك، وليس له بالطريق علم، إلا حسن ظنه بربه عز وجل فإنه قال {عسى ربي أن يهديني سواء السبيل، ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان}. يعني بذلك حابستين غنمهما فقال لهما ما خطبكما معتزلتين لا تسقيان مع الناس؟ قالتا ليس لنا قوة نزاحم القوم وإنما نسقي من فضول حياضهم فسقى لهما فجعل يغترف في الدلو ماء كثيراً حتى كان أول الرعاء فانصرفتا بغنمهما إلي أبيهما وانصرف موسى عليه السلام فاستظل بشجرة وقال {رب إني لما أنزلت إلى من خير فقير} واستنكر أبوهما سرعة صدورهما بغنمهما حفلاً بطاناً فقال: إن لكما اليوم لشأناً فأخبرتاه بما صنع موسى فأمر إحداهما أن تدعوه فأتت موسى فدعته {فلما كلمه قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين} ليس لفرعون ولا لقومه علينا سلطان ولسنا في ملكته فقالت إحداهما {يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين} فاحتملته الغيرة على أن قال لها ما يدريك ما قوته وما أمانته فقالت أما قوته فما رأيت منه في الدلو حين سقى لنا لم أر رجلاً قط أقوى في ذلك السقي منه وأما الأمانة فإنه نظر إلي حين أقبلت إليه وشخصت له فلما علم أني امرأة صوب رأسه فلما يرفعه حتى بلغته رسالتك ثم قال لي: امشي خلفي وانعتي لي الطريق فلم يفعل هذا إلا وهو أمين فسرى عن أبيها وصدقها وظن به الذي قالت فقال له: هل لك {أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشراً فمن عندك وما أريد أن أشق(5/10)
عليك ستجدني إن شاء الله من الصالحين}. ففعل فكانت على نبي الله موسى ثمان سنين واجبة وكانت سنتان عدة منه. فقضى الله عنه عدته فأتمها عشراً.
قال سعيد وهو ابن جبير: فلقيني رجل من أهل النصرانية من علمائهم قال هل تدري أي الأجلين قضى موسى؟ قلت لا وأنا يومئذ لا أدري، فلقيت ابن عباس فذكرت له ذلك، فقال أما علمت أن ثمانياً كانت على نبي الله واجبة لم يكن نبي الله لينقص منها شيئاً ويعلم أن الله كان قاضياً على موسى مدته التي كان وعده فإنه قضى عشر سنين، فلقيت النصراني فأخبرته ذلك فقال الذي سألته فأخبرك أعلم منك بذلك، قلت أجل وأولى.
فلما سار موسى بأهله كان من أمر النار والعصا ويده ما قص الله عليك في القرآن فشكا إلى الله تعالى ما يحذر من آل فرعون في القتيل وعقدة لسانه فإنه كان في لسانه عقدة تمنعه من كثير من الكلام وسأل ربه أن يعينه بأخيه هارون يكون له ردءاً ويتكلم عنه بكثير مما لا يفصح به لسانه، فآتاه الله سؤله وحل عقدة من لسانه وأوحى الله إلى هارون وأمره أن يلقاه، فاندفع موسى بعصاه حتى لقي هارون عليه السلام.
فانطلقا جميعاً إلى فرعون فأقاما علي بابه حيناً لا يؤذن لهما، ثم أذن لهما بعد حجاب شديد فقالا {إنا رسولا ربك} قال فمن ربكما؟ فأخبراه بالذي قص الله عليك في القرآن قال فما تريدان؟ وذكره القتيل فاعتذر بما قد سمعت قال أريد أن تؤمن بالله، وترسل معنا بني إسرائيل، فأبى عليه وقال إئت بآية إن كنت من الصادقين!! فألقى عصاه فإذا هي حية تسعى عظيمة فاغرة فاها مسرعة إلى فرعون، فلما رآها فرعون قاصدة إليه خافها فاقتحم عن سريره، واستغاث بموسى أن يكفها عنه ففعل ثم أخرج يده من جيبه، فرآها بيضاء من غير سوء، يعني من غير برص، ثم ردّها فعادت إلى لونها الأول.(5/11)
فاستشار الملأ حوله فيما رأى، فقالوا له هذان ساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى يعني ملكهم الذي هم فيه والعيش وأبوا علي موسى أن يعطوه شيئاً مما طلب.
وقالوا له اجمع لهما السحرة فإنهم بأرضك كثير حتى تغلب بسحرك سحرهما. فأرسل إلى المدائن فحشر له كل ساحر متعالم، فلما أتوا فرعون قالوا بما يعمل هذا الساحر؟ قالوا يعمل بالحيات، قالوا فلا والله ما أحد في الأرض يعمل بالسحر بالحيات والحبال والعصى الذي نعمل فما أجرنا إن نحن غلبنا؟ قال لهم أنتم أقاربي وخاصتي!! وأنا صانع إليكم كل شيء أحببتم، فتواعدوا يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى. قال سعيد بن جبير فحدثني ابن عباس أن يوم الزينة اليوم الذي أظهر الله فيه موسى على فرعون والسحرة هو يوم عاشوراء.
فلما اجتمعوا في صعيد واحد قال الناس بعضهم لبعض انطلقوا فلنحضر هذا الأمر {لعلنا نتبع الحرة إن كانوا هم الغالبين} يعنون موسى وهارون استهزاء بهما؛ فقالوا {يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين، قال بل ألقوا، فألقوا حبالهم وعصيهم وقالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون} فرأى موسى من سحرهم ما أوجس في نفسه خيفة فأوحى الله إليه أن ألق عصاك فلما ألقاها صارت ثعباناً عظيمة فاغرة فاها فجعلت العصي تلتبس بالحبال حتى صارت جرزاً إلى الثعبان تدخل فيه ما أبقت عصا ولا حبلاً إلا ابتلعته!!(5/12)
فلما عرف السحرة ذلك قالوا لو كان هذا سحراً لم يبلغ من سحرنا كل هذا ولكن هذا أمر من الله عز وجل آمنا بالله وبما جاء به موسى من عند الله ونتوب إلى الله مما كنا عليه؛ فكسر الله ظهر فرعون في ذلك الموطن وأشياعه ظهر الحق وبطل ما كانوا يعملون {فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين}.. وامرأة فرعون بارزة متبذلة تدعوا الله بالنصر لموسى على فرعون واشياعه فمن رآها من آل فرعون ظن أنها إنما ابتذلت للشفقة على فرعون وأشياعه وإنما ان حزنها وهمها لموسى، فلما طال مكث موسى بمواعيد فرعون الكاذبة كلما جاء بآية وعده عندها أن يرسل معه بني إسرائيل فإذا مضت أخلف موعده. وقال هل يستطيع ربك أن يصنع غير هذا؟ فأرسل الله على قومه الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات كل ذلك يشكو إلى موسى ويطلب إليه أن يكفها عنه ويواثقه على أن يرسل معه بني إسرائيل فإذا كف ذلك أخلف موعده ونكث عهده حتى أمر الله موسى بالخروج بقومه فخرج بهم ليلاً.
فلما أصبح فرعون ورأى أنهم قد مضوا أرسل في المدائن حاشرين فتبعه بجنود عظيمة كثيرة وأوحى الله إلى البحر إذا ضربك عبدي موسى بعصاه فانفلق اثنتي عشرة فرقة حتى يجوز موسى ومن معه!! ثم التق على من بقي بعد من فرعون وأشياعه، فنسي موسى أن يضرب البحر بالعصا وانتهى إلى البحر وله قصيف مخافة أن يضربه موسى بعصاه وهو غافل فيصير عاصياً لله.
فلما تراءى الجمعان وتقاربا قال أصحاب موسى إنا لمدركون افعل ما أمرك به ربك فإنه لم يكذب ولم تكذب!! قال وعدني ربي إذا أتيت البحر انفرق اثنتي عشرة فرقة حتى أجاوزه ثم ذكره بعد ذلك العصى فضرب البحر بعصاه حين دنا أوائل جند فرعون من أواخر جند موسى فانفرق البحر كما أمره ربه وكما وعد موسى فلما أن جاء موسى وأصحابه كلهم البحر ودخل فرعون وأصحابه التقى عليهم البحر كما أمر.(5/13)
فلما جاوز موسى البحر قال أصحابه إنا نخاف أن لا يكون فرعون غرق ولا نؤمن بهلاكه، فدعا ربه فأخرجه له ببدنه حتى استيقنوا بهلاكه.
ثم مروا بعد ذلك على قوم يعكفون على أصنام لهم {قالوا يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون، إن هؤلاء متبر ما هم فيه} الآية. قد رأيتم من العير وسمعتم ما يكفيكم ومضى فأنزلهم موسى منزلاً وقال أطيعوا هارون فإني قد استخلفته عليكم فإني ذاهب إلى ربي وأجلهم ثلاثين يوماً أن يرجع إليهم فيها، فلما أتى ربه وأراد أن يكلمه في ثلاثين يوماً وقد صام ليلهن ونهارهن وكره أن يكلم ربه وريح فيه ريح فم الصائم فتناول موسى من نبات الأرض شيئا فمضغه فقال له ربه حين أتاه لم أفطرت وهو أعلم بالذي كان، قال يا رب إني كرهت أن أكلمك إلا وفمي طيب الريح قال أو ما علمت يا موسى أن ريح فم الصائم أطيب عندي من ريح المسك ارجع فصم عشراً ثم ائتني ففعل موسى عليه السلام ما أمر به، فلما رأى قوم موسى أنه لم يرجع إليهم في الأجل ساءهم ذلك.
وكان هارون قد خطبهم وقال إنكم قد خرجتم من مصر ولقوم فرعون عندكم عواري وودائع لكم فيهم مثل ذلك فإني أرى أنكم تحتسبون ما لكم عندهم ولا أحل لكم وديعة استودعتموها ولا عارية ولسنا برادين إليهم شيئاً من ذلك ولا ممسكيه لأنفسنا فحفر حفيراً وأمر كل قوم عندهم من ذلك من متاع أو حلية أن يقذفوها في ذلك الحفير ثم أوقد عليه النار فأحرقته فقال لا يكون لنا ولا هم.(5/14)
وكان السامري من قوم يعبدون البقر جيران لبني إسرائيل ولم يكن من بني إسرائيل فاحتمل مع موسى وبني إسرائيل حين احتملوا فقضى له أن رأى أثراً فقبض منه قبضة فمر بهارون فقال له هارون عليه السلام يا سامري ألا تلقي ما في يدك وهو قابض عليه لا يراه أحد طول ذلك فقال هذه قبضة من أثر الرسول الذي جاوز بكم البحر ولا ألقيها لشيء إلا أن تدعوا الله إذا ألقيتها أن يجعلها ما أريد، فألقاها ودعا له هارون، فقال أريد أن يكون عجلاً فاجتمع ما كان في الحفيرة من متاع أو حلية أو نحاس أو حديد فصار عجلاً أجوف ليس فيه روح وله خوار، قال ابن عباس لا والله ما كان له صوت قط إنما كانت الريح تدخل في دبره وتخرج من فيه وكان ذلك الصوت من ذلك.(5/15)
فتفرق بنو إسرائيل فرقاً فقالت فرقة يا سامري ما هذا وأنت أعلم به؟ قال هذا ربكم ولكن موسى أضل الطريق، فقالت فرقة لا نكذب بهذا حتى يرجع إلينا موسى فإن كان ربنا لم نكن ضيعناه وعجزنا فيه حين رأينا وإن لم يكن ربنا فإنا نتبع قول موسى، وقالت فرقة هذا من عمل الشيطان وليس بربنا ولا نؤمن به ولا نصدق، وأشرب فرقة في قلوبهم الصدق بما قال السامري في العجل وأعلنوا التكذيب به، فقال لهم هارون {يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري} قالوا فما بال موسى وعدنا ثلاثين يوماً ثم أخلفنا، هذه أربعون يوماً قد مضت، وقال سفهاؤهم أخطأ ربه فهو يطلبه يتبعه فلما كلم الله موسى وقال له ما قال أخبره بما لقي قومه من بعده {فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا} فقال لهم ما سمعتم في القرآن وأخذ برأس أخيه يجره إليه وألقى الألواح من الغضب ثم إنه عذر أخاه بعذره واستغفر له وانصرف إلى السامري فقال له ما حملك على ما صنعت؟ قال {فقبضت قبضة من أثر الرسول} وفطنت لها وعميت عليكم {فنبذتها وكذلك سولت لي نفسي قال فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس وإن لك موعداً لن تخلفه وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفاً لنحرقنه ثم لننسفنه في أليم نسفا}، ولو كان إلها لم يخلص إلى ذلك منه.
فاستيقن بنو إسرائيل بالفتنة واغتبط الذين كان رأيهم فيه مثل رأى هارون فقالوا لجماعتهم يا موسى سل لنا ربك أن يفتح لنا باب توبة نصنعها فيكفر عنا ما عملنا.(5/16)
فاختار موسى قومه سبعين رجلاً لذلك لا يألوا الخير خيار بني إسرائيل ومن لم يشرك في العجل فانطلق بهم يسأل لهم التوبة فرجفت بهم الأرض فاستحيا نبي الله من قومه ومن وفده حين فعل بهم ما فعل فقال {رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا} وفيهم من كان الله أطلع منه على ما أشرب قلبه من حب العجل وإيمانه به فلذلك رجفت بهم الأرض فقال {ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون، الذي يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل} فقال يا رب سألتك التوبة لقومي فقلت إن رحمتي كتبتها لقوم غير قومي هلا أخرتني حتى تخرجني في أمة ذلك الرجل المرحومة. فقال له: إن توبتهم أن يقتل كل رجل منهم من لقي من والد وولد فيقتله بالسيف ولا يبالي من قتل في ذلك الموطن. وتاب أولئك الذين كان خفي على موسى وهارون واطلع الله من ذنوبهم فاعترفوا بها وفعلوا ما أمروا وغفر الله للقاتل والمقتول ثم سار بهم موسى عليه السلام متوجهاً نحو الأرض المقدسة وأخذ الألواح بعدما سكت عنه الغضب فأمرهم بالذي أمرهم به أن يبلغهم من الوظائف فثقل ذلك عليهم وأبوا أن يقروا بها فنتق الله عليهم الجبل كأنه ظلة ودنا منهم حتى خافوا أن يقع عليهم فأخذوا الكتاب بأيمانهم وهو مصغون ينظرون إلى الجبل والكتاب بأيديهم وهم من وراء الجبل مخافة أن يقع عليهم.(5/17)
ثم مضوا حتى أتوا الأرض المقدسة فوجدوا مدينة فيها قوماً جبارين خلقهم خلق منكر وذكروا من ثمارهم أمراً عجيباً من عظمها فقالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين لا طاقة لنا ولا ندخلها ما داموا فيها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون قال رجلان من الذين يخافون قيل ليزيد هكذا قرأه قال نعم من الجبارين آمنا بموسى وخرجا إليه قالوا نحن أعلم بقومنا إن كنتم تخافون ما رأيتم من أجسامهم وعددهم فإنهم لا قلوب لهم ولا منعة عندهم فادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون ويقول أناس إنهم من قوم موسى فقال الذين يخافون بنو إسرائيل {قالوا يا موسى لن ندخلها أبداً ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون}. فأغضبوا موسى فدعا عليهم وسماهم فاسقين ولم يدع عليهم قبل ذلك لما رأى منهم من المعصية وإساءتهم حتى كان يومئذ فاستجاب الله له وسماهم كما سماهم موسى فاسقين وحرمها عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض يصبحون كل يوم فيسيرون ليس لهم قرار!!
وظلل عليهم الغمام في التيه وأنزل عليهم المن والسلوى وجعل لهم ثياباً لا تبلى ولا تتسخ وجعل بين ظهرانيهم حجزاً مربعاً وأمر موسى فضربه بعصاه فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً في كل ناحية ثلاثة أعين وأعلم كل سبط عينهم التي يشربون منها فلا يرتحلون من مكان إلا وجدوا ذلك الحجر بينهم بالمكان الذي كان فيه بالأمس.(5/18)
رفع ابن عباس هذا الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم وصدق ذلك عندي أن معاوية سمع ابن عباس يحدث هذا الحديث فأنكر عليه أن يكون الفرعوني الذي أفشى على موسى أمر القتيل الذي قتل فقال: كيف يفشي عليه ولم يكن علم به ولا ظهر عليه إلا الإسرائيلي الذي حضر ذلك فغضب ابن عباس فأخذ بيد معاوية وانطلق به إلى سعد بن مالك الزهري فقال له يا أبا إسحاق هل تذكر يوم حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتيل موسى الذي قتل من آل فرعون؟ الإسرائيلي الذي أفشى عليه أم الفرعوني؟ قال الفرعوني بما سمع من الإسرائيلي الذي شهد على ذلك وحضره. وهكذا رواه النسائي في السنن الكبرى وأخرجه أبو جعفر بن جرير وابن أبي حاتم في تفسيريهما كلهم من حديث يزيد بن هارون به وهو موقوف من كلام ابن عباس وليس فيه مرفوع إلا قليل منه.
وكأنه تلقاه ابن عباس رضي الله عنهما مما أبيح نقله من الإسرائيليات عن كعب الأحبار أو غيره والله أعلم. وقال ابن كثير: وسمعت شيخنا الحافظ أبا الحجاج المزي يقول ذلك أيضاً. انتهى
*******
***(5/19)
هذه دلائل صدق النبي صلى الله عليه وسلم
بقلم: عبدالرحمن بن عبدالخالق
قلنا إن المدخل إلى الإيمان هو معرفة الرسول لأن الرسول هو المختار من الله لتبليغ رسالته، وهو المؤتمن على وحي الله والمطلع -بإذن الله- على غيبه، وليس هناك باب آخر لمعرفة الغيب إلا من طريق الرسل.
ولما كان ادعاء الرسالة يفعله الكذبة، ويفتريه المفترون وجب على كل ذي لب وعقل أن يعرف طريق التفريق بين من هو رسول الله حقاً وصدقاً فيؤمن به ويصدقه، وبين المدعي الكذاب فيكفر به ويكذبه.
ولا شك أن من صدق الكاذبين فهو مثلهم، ومن كذب الصادقين فهو كافر جاحد.
وقلنا إنه ليس هناك من رسول قامت له أدلة الصدق، وبراهينه ما قامت لخاتم الرسل محمد بن عبدالله صلوات الله وسلامه عليه. وقلنا إن مدارسة أدلة صدق الرسول تزيد أهل الإيمان إيماناً وتثبيتاً، وتفتح الطريق أمام المترددين والشاكين، بل والمعاندين والجاحدين لعلهم أن يرفعوا عن أعينهم الغشاوة، وعن قلوبهم الأقفال، وإلا فهي حجة الله تدمغهم، وتقطع عذرهم يوم لا ينفع الاعتذار، وتزيد في مقتهم أنفسهم مقتاً يوم يقولون: {لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير}
وهذا -بحمد الله- أوان بيان جملة من الدلالات مما تقر به أعين المؤمنين، وترغم به أنوف الكافرين على صدق الرسول محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم، وأنه رسول الله وخاتم النبيين حقاً وصدقاً.
القرآن الكريم المعجزة الحية الباقية:(6/1)
أول دلائل النبوة وأعظمها وأظهرها ظهوراً يفوق ظهور الشمس والقمر هو القرآن الكريم المنزل على قلب الرسول الأمين، بلسان عربي مبين تحدى الله به الأولين والآخرين أن يأتوا بسورة من مثل سوره فعجزوا وإلى يومنا هذا وإلى أن يرث الله ومن عليها قال تعالى: {قل لئن اجتمعت الإنس والجن على يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً} وقال تعالى: {وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فاتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين* فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين}
ووجه الإعجاز في القرآن كونه كلام عربي من جنس ما تكلم به العرب أهل الفصاحة والبلاغة، ولكن يستحيل على أي أحد منهم أو غيرهم أن يؤلف كلاماً مثله في البيان والحلاوة والحسن والكمال والعذوبة وأداء المعنى المراد.
وقد وقع التحدي لهم بهذا القرآن بدءاً بأن يأتوا بمثله، ثم تنزل معهم إلى عشر سور ثم إلى سورة مثله، ثم إلى سورة واحدة من مثله. قال تعالى:{أم يقولون تقوله بل لا يؤمنون* فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين} (الطور:32-33)
ثم تنزل معهم إلى عشر سور فقال سبحانه وتعالى: {أم يقولون افتراه قل فاتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين} (هود:13)
ثم تنزل معهم إلى سورة واحدة مثل سورة فقال تعالى: {أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين} (يونس:38)
ثم تنزل معهم إلى سورة من مثل سوره أي مما يشابهه ويقاربه قال تعالى: {وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله واعدوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين} (البقرة:23)
وقد عجزوا عن هذا كله وإلى يومنا هذا، فلم يدع أحد أنه قد ألف سورة من مثل القرآن لفظاً وصياغة وكفى بهذا العجز إعجازاً ودلالة أن القرآن كلام الله حقاً وصدقاً.(6/2)
وإعجاز القرآن وعلوه عن كل كلام للبشر لا يفهمه إلا من يدرك ويفهم الفروق بين الأساليب العالية، والبيان الرفيع، وبين الأساليب الركيكة، والكلام الغثيث وبين درجات الكلام حسناً ودون ذلك وقبحاً كما أن معجزة موسى عليه السلام في جعل عصاه حية تسعى، وإخراج يده السمراء من جيبه بيضاء من غير سوء، لا يفهم دليل الإعجاز فيها من لا يستطيع أن يفرق بين انقلاب الأعيان وبين تخييل السحرة وجعلهم حبالهم وعصيهم في أعين المشاهدين كأنها حيات تسعى!!
وكذلك معجزة عيسى عليه السلام لا يدركها من لا يعرف الفرق بين التطبيب البشري، وبين ما لا يستطيعه طب من إبراء الأكمه (الذي ولد أعمى)، وفتح آذان الأصم، ولا يستطيع أن يفرق بين إفاقة المغمى عليه، وإخراج الميت من قبره حياً، وكما وجد من لا يفرق بين هذه المعجزات الحسية الظاهرة مما لا يقدر عليه إلا الله، وبين ما يشتبه بها مما يستطيعه البشر، وجد كذلك من لا يستطيع أن يفرق بين كلام معجز لا يستطيع البشر أن يؤلفوا مثله، وبين كلام يقوله الناس يستحيل معارضة القرآن به.
وأما لماذا لم تقنع هذه المعجزات كل أحد، ولم يؤمن بها كل من يراها فذلك لأن أكثر الناس في كل العصور هم رعاع أتباع كل ناعق.{وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباءهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون* ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا نداء دعاءاً ونداءاً صم بكم عمي فهم لا يعقلون} (البقرة:170-171)(6/3)
والمعجزة البيانية في القرآن الكريم ثابتة بأقصر سورة منه، والبشر عاجزون منذ نزل القرآن وإلى يومنا في تأليف سورة من مثل سور القرآن بياناً وإبداعاً وحلاوة وطلاوة، وبلاغاً، وعجز البشر منذ نزول القرآن وإلى يومنا هذا عن معارضة كلام الله بكلام مثله أو قريباً منه هو من أعظم الدلالات على نبوة الرسول عليه السلام، إذ ليس من شأن بشر أن يأتي بكلام لا يستطيع أحد من البشر أن يجاريه فيه أو يفوقه.
وليس هذا وحده هو وجه الدلالة علي أن القرآن كلام الله.
أوجه الدلالة على أن القرآن كلام الله عز وجل وليس كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم:
وأما أوجه الدلالة على أن القرآن كلام الله عدا إعجازه البياني فكثير جداً، وهذا غير معجزة القرآن البيانية والتي وقع التحدي فيها، ومن هذه الدلالات:
1) أخبار الأمم السابقين:
اخبار القرآن بغيوب كثيرة لم يشهدها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يقرأها في كتاب، ولا التقى بأحد ممن له علم بها فيتعلمها منه، وقد جاءت هذه الأخبار كما عند أهلها تماماً، ومن ذلك قصص الأنبياء السابقين، وأحوال الأمم الهالكة، وتفصيل ما وقع لهم، كما قال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم بعد أن قص عليه قصة يوسف بتفصيلاتها الكثيرة: {ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك، وما كنت لديهم إذا جمعوا أمرهم وهم يمكرون* وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين} (يوسف:102-103)
والمعنى هذا الذي قصصناه عليه من شأن يوسف وأبويه وأخوته هو من أنباء الغيب التي لم تشهدها أنت فإنك لم تكن حاضراً عندما أجمع أخوة يوسف على إبعاده عن أبيه وإلقائه في غيابة الجب، ومكروا بأخيهم وأبيهم على ذلك النحو، ولكن الله هو الذي أطلعك على هذا الغيب وأوحاه لك ليكون هذا دليلاً على صدقك، ومع هذا فإن أكثر الناس ولو حرصت على هدايتهم، وقدمت لهم هذه الأدلة القاطعة لا يؤمنون.(6/4)
وقال تعالى لرسوله أيضاً بعد أن قص عليه قصة موسى: {وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر، وما كنت من الشاهدين* ولكنا أنشأنا قروناً فتطاول عليهم العمر وما كنت ثاويا في أهل مدين تتلوا عليهم آياتنا ولكنا كنا مرسلين* وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة من ربك لتنذر قوماً ما آتاهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون} (القصص:44-46)
وقال تعالى أيضاً بعد أن قص الله على رسوله قصة مريم وما كان من شأنها في ولادتها ونشأتها وكفالتها وتعبدها... الخ: {ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك، وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون}
وهذه القصص وتلك الأخبار التي جاءت مصدقةً لما في التوراة دليل واضح على أن القرآن من عند الله، وأن محمد بن عبدالله هو رسول الله حقاً وصدقاً.
2) إخبار القرآن بما يأتي من الأحداث:
أخبار القرآن بأمور كثيرة تقع مستقبلاً وقعت كما أخبر الله بها تماماً كقوله تعالى: {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون} (النور:55)
وقد تحقق هذا تماماً علماً أن كل الظواهر وقت نزول هذه الآيات كانت بخلاف ذلك فقد كان المسلمون بحال من الضعف مما لا يظن معه نصرهم، والكفار بحال من القوة والمنعة مما يظن أن الغلبة لهم.
وكذلك قوله تعالى: {لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين لا تخافون فعلم ما لم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحاً قريباً* هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره علي الدين كله وكفى بالله شهيداً}(6/5)
وفي هذه الآيات يخبر الله سبحانه وتعالى أن صلح الحديبية سيكون فتحاً مبيناً علماً أن الصحابة أنفسهم الذين نزل القرآن عليهم،وعاشوا هذه الأحداث كانوا يظنون صلح الحديبية ذلاً وهزيمة لهم كما قال سهل بن حنيف رضي الله عنه: [أيها الناس اتهموا الرأي في الدين فلقد كدت أن أرد على رسول الله أمره، بعد حادثة أبي جندل] (رواه البخاري)
وقد كان الأمر كما أخبر الله سبحانه وتعالى وكان صلح الحديبية أعظم فتح في الإسلام خلافاً لما ظنه الجميع حتى إن الرسول نفسه الذي وقع هذا الصلح وارتضاه كان يقول عندما يسأل لماذا يرضى بهذا الصلح، وفيه ما فيه من قبول الدنية في الدين والإهانة للمسلمين: [إنه ربي ولن يضيعني]
فأي دليل أكبر من هذا على أن القرآن كلام الله سبحانه وتعالى وليس كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو لم يكن مع الرسول صلى الله عليه وسلم إلا هذا الدليل لكفى إثباتاً أنه رسول الله حقاً وصدقاً، وأن القرآن المنزل عليه هو كلام الله وليس كلام محمد صلى الله عليه وسلم.
3) ومن الأدلة كذلك على أن القرآن من عند الله وليس من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إخباره بحقيقة مقالة النصارى في عيسى بن مريم واختلاف أمرهم فيه، وهذا أمر كان النصارى يخفونه ويكتمونه ولا يذيعونه، فأنى لرجل أمي لم يقرأ ولم يكتب ولم يجادل أحداً من الأمم في دينهم ولا عرف شيئاً مما عند اليهود والنصارى أن يدل النصارى على حقيقة أقوالهم في دينهم، وحقيقة اختلافهم، ويعلم ما يخفونه من هذا الدين، ثم يقيم الحجة القاطعة عليهم التي يقطعهم بها، ويدفع باطلهم، ويميت دعوتهم.(6/6)
وحول هذا الدليل يقول القاضي عبدالجبار الهمداني رحمه الله في كتابه تثبيت دلائل النبوة: "ومن آياته وأعلامه صلى الله عليه وسلم إخباره عن النصرانية ومذاهب النصارى من هذه الطوائف الثلاث منهم، وهي الباقية القائمة الراهنة في قولهم أن المسيح عيسى بن مريم هو الله، وأن الله ثالث ثلاثة، فإن هذه الطوائف الثلاث من الملكية واليعقوبية والنسطورية، لا يختلفون في أن المسيح عيسى بن مريم ليس بعبد صالح ولا بنبي ولا برسول، وأنه هو الله في الحقيقة، وأنه هو الذي خلق السموات والأرض والملائكة والنبيين، وأنه هو الذي أرسل الرسل وأظهر على أيديهم المعجزات، وأن للعالم إلهاً هو أب والد لم يزل، غير مولود، وأنه قديم خالق رازق، وإله هو ابن مولود، وأنه ليس بأب ولا والد، وأنه قديم حي خالق رازق، وإله هو روح قدس ليس بأب والد ولا ابن مولود، وأنه قديم حي خالق رازق، وأن الذي نزل من السماء، وتجسد من روح القدس ومن مريم البتول، وصار هو ابنها إلهاً واحداً ومسمى واحداً وخالقاً واحداً ورازقاً واحداً، وحبلت به مريم وولدته، وأخذ وصلب وتألم، ومات ودفن، وقام بعد ثلاثة أيام وصعد إلى السماء وجلس عن يمين أبيه (قلت: هذا ملخص الأمانة النصرانية التي وضعها النصارى في مؤتمرهم الأول عام 320م) فحكى قولهم في أن المسيح هو الله وإن الله ثالث ثلاثة.(6/7)
وهكذا مذهبهم في الحقيقة ولا يكادون يفصحون به بل يدافعون عن حقيقته ما أمكنهم، حتى إن أرباب المقالات (يعني المصنفون في العقائد والفرق والنحل) وأهل العناية بها من المصنفين لا يكادون يحصلون هذه منهم، وإنك لتجد الناظرين منهم والمجادلين عنهم إذا سألتهم عن قولهم في المسيح، قالوا: قولنا فيه أنه روح الله وكلمته مثل قول المسلمين سواءاً، أو يقول: إن الله واحد... وتجده صلى الله عليه وسلم وقد حكى حقيقة مذهبهم، ولم يكن صلى الله عليه وسلم من المجادلين ولا من المتنبئين، ولا ممن يقرأ الكتب ويلقى من هذا، فانتشر هذا عنه صلى الله عليه وسلم، وفتش الناس عنه بعد ذلك فوجدوا الأمر كما قال صلى الله عليه وسلم وكما فصل، بعد الجهد وطول الاستقصاء في الطلب والتفتيش، وما أكثر ما تلقى منهم فيقول: ما قلنا في المسيح أنه الله، ولا قلنا: إن الله ثالث ثلاثة، ومن حكى هذا عنا فقد أخطأ وكذب، ليعلم أن وقوف محمد صلى الله عليه وسلم هذا إنما هو من قبل الله عز وجل، وأن ذلك من آياته ".
قلت: وقد كان النصارى منذ ما نزل القرآن وظهر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في عناية تامة لإبطال دين الرسول صلى الله عليه وسلم وإطفاء نور الإسلام، وحنق شديد على الإسلام وأهله، وقد كان يكفى في ذلك أن يثبتوا أن ما قاله الرسول عنهم في شأن عيسى ليس هو ما يقولونه وما يعتقدونه، وأنه كذب عليهم، وأنه قال عنهم ما لم يقولوه، بل أنهم لما نشروا مذهبهم، وأظهروا مقالاتهم، وأخرجوا للعالم ما سموه (الأمانة) وهي حقيقة قولهم في عيسى عليه السلام كانت تماماً كما حكى القرآن عنهم فهل يمكن لرجل أمي أن يعلم حقيقة دين يخفيه أهله عن عامتهم.
إبطال الرسول لدين النصارى من أعظم أدلة نبوته:(6/8)
بل إن ما جاء به القرآن الكريم في إبطال دين النصرانية، وفساد عقائدهم لهو من أعظم الأدلة على أن محمداً صلى الله عليه وسلم هو رسول الله حقاً وصدقاً، فقد كان حظ العرب المشركون من فهم عقائد النصارى أن اعتقدوا أن آلهتهم خير من المسيح بن مريم!! كما قال تعالى عنهم: {ولما ضرب ابن مريم مثلاً إذا قومك منه يصدون وقالوا آلهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جدلاً بل هم قوم خصمون}
وأما القرآن فإنه دحض جميع حجج النصارى، وبين كذبهم وفساد معتقدهم في عيسى عليه السلام، وأنه لم يصلب ولم يقتل، وأنه لم يكن إلا عبداً صالحاً ورسولاً كريماً أعلن عبوديته منذ ولادته: {قال إني عبدالله آتاني الكتاب وجعلني نبياً، وجعلني مباركاً أينما كنت، وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حياً، وبراً بوالدتي ولم يجعلني جباراً شقياً، والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حياً} وفي هذا أعظم رد على الذين قالوا إنه إله من إله، وأنه هو خالق للسماوات والأرض، لأنه ليس من شأن الإله الخالق أن يولد ويموت، وتكون له والدة، وليس من شأن الإله أن يصلي!! ولا أن يزكي ولا أن يعلم كتاباً!!
وكان في كل أدوار حياته يعلن بشريته وعبوديته لإلهه ومولاه الذي في السماء {وقال عيسى يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة، ومأواه النار وما للظالمين من أنصار} وفي الإنجيل: "أبانا الذي في السماء نقدس اسمك"
وجاء القرآن ليعلن كفر من اعتقد أن عيسى عليه السلام إلهاً خالقاً رازقاً فقال: {لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من الله شيئاً إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعاً ولله ملك السموات والأرض وما بينهما يخلق ما يشاء والله على كل شيء قدير}(6/9)
وقال جل وعلا أيضاً: {لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار* لقد كفر الذين قالوا أن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم* أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم* ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون* قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضراً ولا نفعاً والله هو السميع العليم} (المائدة:71-76)
وفي هذه الآيات من الدلالات الواضحات على إبطال دين النصرانية ما لا يتسع لشرحه المقام، فقد أعلن أولاً كفر من زعم أن عيسى عليه السلام هو الله، ومن جعله ثالث ثلاثة، وبين أن عيسى وأمه كنا يأكلان الطعام وهذا دليل حاجة، وللطعام ضرورته المعروفة، وفضلاته التي لا تليق بالإله!!
وفي الآيات أن الإله لا يكون إلا واحداً لأن الإله هو من يملك نفع عبده وضره ومن هو خالقه ورازقه، وعيسى لم يكن كذلك فلم يكن خالقاً ولا رازقاً للبشر، وهو لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً فضلاً أن يملكه لعابده، ولما كان الخلق واحداً فإن الخالق لا بد وأن يكون واحداً بالضرورة ولو كانوا ثلاثة لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض!! {قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلا ذي العرش سبيلا} أي لمغالبته.
وقال تعالى: {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله...} وقال تعالى: {بل أتيناهم بالحق وأنهم لكاذبون ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون}.(6/10)
وهذه قضية عقلية لا يماري فيها عاقل، وقد كان البشر جميعاً وقت نزول الوحي على غير ذلك تماماً فقد اعتقد كل منهم بإله غير الله خالق السموات والأرض وعبدوا بشراً وملائكة وجناً وشمساً وقمراً، وحجراً وشجراً... الخ عبادة ذل وخضوع وتقرب ومحبة!
وجاء هذا الرسول الأمي ليعلن لهؤلاء جميعاً أن الإله لا يكون إلا واحداً وذلك لأن الإله الحق من خلق ورزق، ومن يدبر السماوات والأرض، ومن يتصرف في الملك كله، وليس هذا إلا لخالق السماوات والأرض وحده سبحانه وتعالى... وأنه لو كان معه إله آخر لفسد الكون واضطرب، وتنازع الآلهة الخلق ولعلا بعضهم على بعض وأنى لرجل أمي لم يقرأ ولم يكتب، ولم يطالع ما عند الأمم من العقائد أن يعلم عقائد الجميع بل أسرار عقائدهم وحقيقة قولهم، ثم ينكر على هذه العقائد فيبطلها بالحجة الدامغة، والقول الذي لا يمكن أن يعارض.
أليس هذا من أعظم الأدلة على أن محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم هو رسول الله حقاً وصدقاً.
الرسول صلى الله عليه وسلم يخبر اليهود بمعتقداتهم، وما يخفونه من دينهم:
ومن الأدلة كذلك على أن القرآن كلام الله حقاً وصدقاً أنه أخبر اليهود بحقيقة دينهم، وأظهر كثيراً مما كانوا يخفونه من هذا الدين حتى عن العامة منهم وعن أهل ملتهم فجاء القرآن فأظهر ذلك للناس وهتك أستارهم، وأخرج أسرارهم. قال تعالى: {وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نوراً وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيراً وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون} (الأنعام:91)
وقال تعالى: {يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيراً مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير قد جاءكم من الله من نور وكتاب مبين* يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم} (المائدة:15-16)(6/11)
وليس هناك من أمة هتك الله أسرارها، وبين حقيقة أمرها وأظهر مكنون قلوبها كاليهود، وذلك أنهم العدو اللدود للإسلام وأهله منذ وجد الإسلام، وإلى قيام الساعة، وقد كان فضح القرآن لأسرارهم، وإظهاره لحقيقة أمرهم، الزاماً لهم بالحجة من دينهم وبياناً لما أخفوه من الحق، وأظهروه من الباطل، وإثباتاً لهم أن محمداً بن عبدالله هو رسول الله حقا وصدقاً وأنه المخلص الحق الذي ينتظرونه ليخلصهم وأنه المبشر به على لسان موسى وسائر أنبيائهم.
ثم ليكون هذا أيضاًَ تبصيراً بحقيقة أمرهم، وتعليماً للمسلمين طرائق الوقاية منهم، ودحضاً لباطلهم، وإزالتهم من وجه دعوة الإسلام ليأخذ طريقه في هداية البشر، وإقامة الحجة على المعاندين منهم.
ولو كان القرآن قد جاء بخبر واحد على خلاف الحق في كل ذلك لكان هذا دليلاً واضحاً عندهم أن القرآن ليس كلام الله ولكان هذا كافياً لهدم رسالة الإسلام ومع تغيظ اليهود على الإسلام، وسعيهم في إبطال رسالة الرسول فإنهم لم يجدوا شيئاً مما قاله عنهم غير الحق، وإلى يومنا هذا، ولو وجدوا خبراً واحداً غير الحق لطيروه في كل مكان، وتكلموا به في كل زمان.(6/12)
فمن أسرارهم التي أخفوها، وتظاهروا أمام الأمم والشعوب بغيرها، معاندتهم للرسل وقتلهم لأنبياءهم، وكونهم شعب صلب الرقبة، قساة القلوب {ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة} قد لعنوا على ألسنة رسلهم، هذا مع تقبيحهم وإيذائهم لأنبيائهم والساعين في نجاتهم وإنقاذهم فقد آذوا موسى، واتهموه بقتل أخيه هارون، وهو المخلص الذي جاء لخلاصهم وسبوا الله واتهموه بالبخل والعجز، والضعف والنسيان {وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء، وليزيدن كثيراً منهم ما أنزل إليك من ربك طغياناً وكفراً وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فساداً والله لا يحب المفسدين} (المائدة:64)(6/13)
وجاء القرآن فنفى عن الله سبحانه وتعالى ما ألصقوه وشتموه سبحانه به، ونفى عن رسل الله ما شتموهم وسبوهم به فقد سبوا إبراهيم عليه السلام واتهموه بالدياثة، وسبوا لوطاً عليه السلام سباً قبيحاً، ونسبوا إليه أنه زنى بابنتيه بعد أن شرب الخمر!! واتهموا موسى بقتل هارون، واتهموا هارون عليه السلام أنه هو صانع العجل الذي عبدوه، واتهموا سليمان عليه السلام بالسحر، ونسبوا إليه شعراً لا يقوله شاعر ماجن (نشيد الأنشاد)، وجاء القرآن لينفي هذا كله ويرد كل ما افتروه على الله وعلى رسالاته، ويبطل حجتهم، وأغنيتهم المفضلة أنهم شعب الله المختار إلى آخر الزمان، فبين أن هذا كان لفترة وجيزة فقط ثم إن الله لعنهم بكفرهم وعنادهم وقتلهم الأنبياء، وآخر من سعوا في قتله هو عيسى عليه السلام الذي سعوا للسلطان الرومي الكافر في قتله بكل سبيل، واستصدروا أمراً منه بقتله بعد اتهامه له أنه ابن زنا، وأنه مهرطق كذاب كافر!! والعجب أن هذا ما زال اعتقادهم إلى اليوم في عيسى عليه السلام!! وأشد العجب من النصارى هذه الأزمان الذين يوالون اليهود ويحبونهم مع بقائهم على هذه العقائد وهذا لأنهم فقط أعداء الإسلام!
وأقول أنى لرجل أمي نشأ في مكة لم يقرأ كتاباً، ولم يناقش حبراً ولا راهباً ولا عرف شيئاً من الديانات السابقة أن يعلم هذا كله، وأن يصحح ليهود عقائدهم، ويبطل باطلهم، ويخرج مخازيهم، ويدعوهم بكل الرحمة والرأفة والشفقة مع عداوتهم له ليسلكوا طريق الرب، ويدخلوا في صراطه المستقيم، ولو لم يكن إلا هذه الآية وحدها عند أولي الأبصار لكفى ذلك.(6/14)
ومن أسرارهم التي كانوا يخفونها حتى عن عامتهم حكم الرجم للزاني والزانية، وقد كان أحبارهم غيروا هذا الحكم، واخترعوا حكماً آخر، وهو تسويد وجه من وقع منه الزنا، والطواف به في الأسواق، وفضحه على رؤوس الناس!! ولما وقع من بعضهم الزنا في عهد رسول الله، وتحاكموا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم واعتقدوا أنه ينفعهم في دينهم لو حكم الرسول بحكم أخف من الرجم فقبلوه، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبرهم بأن حكم الله المنزل عليهم في التوراة التي عندهم هو الرجم، وجادلوه في ذلك، وقالوا وهم يعلمون أنهم كاذبين، ما نجد حكم الرجم في كتابنا!!
فأمرهم الرسول أن يأتوا بالتوراة وأن يقرأوها أمامهم إن كانوا صادقين!! فأتوا بالتوراة، وشرع حبر كذاب من أحبارهم يقرأ في أحكام الزنا، ولما جاء إلى حكم الرجم انتقل عنه، ووضع يده على آية الرجم، وكان عبدالله بن سلام رضي الله عنه حاضراً فقال له ارفع يدك، وقرأ بنفسه آية الرجم من التوراة !!
وقد ظهر للناس جميعهم فيما بعد أن الرجم للزاني هو حكم الله المنزل في التوراة بعد أن أظهر اليهود والنصارى العهد القديم (التوراة) والعهد الجديد (الإنجيل).
وهذه هي آيات الرجم الموجودة في التوراة التي بأيدي اليهود والنصارى اليوم:
(إذا اتخذ رجل امرأة وحين دخل عليها أبغضها ونسب إليها أسباب كلام وأشاع عنها اسماً ردياً وقال هذه المرأة اتخذتها ولما دنوت منها لم أجد لها عذرة، ويقول أبو الفتاة للشيوخ أعطيت هذا الرجل ابنتي زوجة فأبغضها، وها هو قد جعل أسباب كلام قائلا لم أجد لبنتك عذرة وهذه علامة عذرة ابنتي ويبسطان بمائة من الفضة ويعطونها لأبي الفتاة لأنه أشاع اسماً ردياً عن عذراء من إسرائيل فتكون له زوجة لا يقدر أن يطلقها كل أيامه.(6/15)
ولكن إن كان هذا الأمر صحيحاً لم توجد عذرة للفتاة يخرجون الفتاة إلى باب بيت أبيها ويرجمها رجال مدينتها بالحجارة حتى تموت لأنها عملت قباحة في إسرائيل بزناها فتنتزع الشر من إسرائيل..
إذا كانت فتاة عذراء مخطوبة لرجل فوجدها رجل في المدينة واضطجع معها فأخرجوهما كليهما إلى باب تلك المدينة وارجموهما بالحجارة حتى يموتا الفتاة من أجل أنها لم تصرخ في المدينة والرجل من أجل أنه أذل امرأة صاحبه فتنزع الشر من وسطك، ولكن إن وجد الرجل الفتاة المخطوبة في الحقل وأمسكها الرجل واضطجع معها يموت الرجل الذي اضطجع معها وحدة وأما الفتاة فلا تفعل بها شيئاً، ليس على الفتاة خطية للموت بل كما يقوم رجل على صاحبه ويقتله قتلاً هكذا هذا الأمر إنه في الحقل وجدها فصرخت الفتاة المخطوبة فلم يكن من يخلصها) (سفر التثنية22)
ولقد نزل للقرآن بهذا كله، واعلم الله ورسوله بما كان يخفيه أهل الكتاب في هذا الشأن، ولو لم يكن من آية للرسول إلا هذه الآية لكفت.
وقد روى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله هذه القصة بإسناده إلى عبدالله بن عمر رضي الله عنهما على هذا النحو عن نافع أن عبدالله بن عمر أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بيهودي ويهودية قد زنيا، فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاء يهود فقال: [ما تجدون في التوراة على من زنى] قالوا: نسود وجوههما ونجملهما، ونخالف بين وجوههما، ويطاف بهما، قال: [فأتوا بالتوراة إن كنتم صادقين] فجاءوا بها فقرأوها حتى إذا مروا بآية الرجم، وضع الفتى الذي يقرأ يده على آية الرجم، وقرأنا فإذا تحتها آية الرجم، فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما.
قال عبدالله بن عمر: كنت فيمن رجمهما، فلقد رأيته يقيها من الحجارة بنفسه.(6/16)
وفي رواية أخرى لمسلم أيضاً بإسناده إلى البراء بن عازب قال: مر على النبي صلى الله عليه وسلم بيهودي محمماً مجلوداً فدعاهم صلى الله عليه وسلم فقال: [هكذا تجدون حد الزاني في كتابكم] قالوا: نعم. فدعا رجلاً من علمائهم فقال: [أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى! أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم] قال: لا. ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك. نجده الرجم، ولكنه كثر في أشرافنا فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه وإذا أخذنا الضعيف، أقمنا عليه الحد. قلنا: تعالوا فلنجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع فجعلنا التحميم والجلد مكان الرجم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [اللهم إني أول من أحيا أمرك إذا أماتوه] فأمر به فرجم فأنزل الله عز وجل: يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر إلى قوله: {إن أوتيتم هذا فخذوه}. يقول: ائتوا محمداً، فإن أمركم بالتحميم والجلد فخذوه، وإن أفتأكم بالرجم فاحذروا. فأنزل الله تعالى: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون} {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون} في الكفار كلها.
قلت: وهذا يدل على أن أمر ترك الرجم قد كان سراً من أسرارهم، وأن علماءهم تواصوا على كتمانه، وأنهم استمروا على مخالفة أمر الله في هذا الحكم، وأنى للرسول الأمي صلى الله عليه وسلم أن يعلم أن الرجم حكم ثابت في التوراة وقد كان هذا سراً عندهم.. لولا أن الله أعلم بذلك.
ومن أخبار القرآن بأمور مستقبلية ووقوعها كما أخبر تماماً قوله تعالى:{قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون فإن تطيعوا يأتكم الله أجراً حسناً وإن تتولوا كما توليتم من قبل يعذبكم عذاباً أليماً}(6/17)
وقد وقع هذا تماماً، فقد انطلق الرسول إلى فتح خيبر وكانت بلدة محصنة جداً فقد كان فيها لليهود سبع حصون تدخل بسراديب بيتها، وكانوا يخزنون مؤنتهم في هذه الحصون، ويستطيعون أن يقاتلوا غيرهم وهم في حصونهم عاماً كاملاً حتى ينصرف الخصم عنهم، ولم يكن للعرب معرفة بفتح الحصون، ولا القتال من وراء جدر، ولم يجيدوا إلا القتال في العراء وجهاً لوجه.
وقد أخبر الله رسوله أنه سيفتح خيبر لهم ويجعلها غنيمة للمسلمين، وكل ذلك قد كان قبل أن يتوجه الرسول إليها، ولو لم يكن محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم هو رسول الله حقاً وصدقاً لما كان له أن يجازف ويقول سأفتح خيبر ويغنمها المسلمون، وحاله وحال عدوه يدل على غير ذلك، فلم يبق إلا إن هذا إخبار من الله سبحانه وتعالى، وهذا قرآن منزل من عند من يعلم غيب السموات والأرض، وقد أخبر الرسول في هذه الغزوة بغيوب كثيرة فقد استعصى على المسلمين فتحها في أول الأمر، ووجدوا أن الأمر أبعد مما تصورا، فقال لهم رسول الله في مساء يوم وهم محاصرون خيبر: [لأعطين الراية غداً رجلاً يحبه الله ورسوله يفتح الله على يديه]. ثم نادى علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، ودفع إليه الراية، وقال له: [انفذ على رسلك، ولا تلتفت، وادعهم إلى أن يشهدوا ألا إله إلا الله وإني رسول الله، فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً منهم خير لك من حمر النعم]
وقد كان الأمر كما أخبر الرسول تماماً، ووقع الفتح في يومه.
واستقصاء كل ما أخبر به القرآن عن أمور مستقبلية يطول جداً والمقصود هنا هو ذكر بعض الأدلة فقط التي تثبت أن هذا القرآن من عند الله سبحانه وتعالى.(6/18)
وهذا الذي ذكرناه آنفاً هو مجرد شواهد على أن هذا القرآن لا يمكن أن يفترى من دون الله سبحانه وتعالى، وأن رجلاً أمياً يستحيل أن يعلم عقائد هذه الأمم، ويطلع على أسرارهم، بل أن يصحح معلوماتهم الخاطئة، ويبطل ما ادعوه من الباطل في دينهم، ويدعو الأمم والشعوب جميعاً إلى الدخول في دينه القويم وصراطه المستقيم.
{وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين} (يونس:37)
وهذا الذي ذكرناه باب واحد من أدلة صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وإلى أدلة أخرى إن شاء الله تعالى.
**********
*****(6/19)
واجبنا نحو تطبيق شريعة الله
بقلم: عبدالرحمن بن عبدالخالق
الحمد لله رب العالمين، مالك السموات والأرض، خالق كل شيء ومليكه، لا شريك له في خلقه، وملكه وحكمه، والصلاة والسلام على المبعوث بالحنيفية السمحة والشريعة الغراء وعلى آله وأصحابه الذين أقاموا العدل في الأرض، ونشروا الخير في كل مكان.. وبعد،،
غاية الخلق:
فإن الله ما خلقنا إلا لنعبده سبحانه، وما وضع هذه الأرض ورفع هذه السماء إلا بذلك. وهو سبحانه الذي ارتضى لنا الدين، وشرع لنا المنهج والطريق، قال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} (الذاريات:56) وقال تعالى: {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون، فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم} (المؤمنون:116).
شريعة الله واجبة الاتباع:
وقد ألزمنا سبحانه بطاعة رسله واتباع شرعه، وجعل هذه الطاعة هي العبادة المفروضة علينا، قال تعالى: {وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق} (المائدة:48). وقال تعالى أيضاً: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله، ولا تتبع أهواءهم، واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك، ولا تتبع أهواءهم، واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك} (المائدة:49).. وقال تعالى في بدء سورة النور: {سورة أنزلناها وفرضناها وأنزلنا فيها آيات بينات لعلكم تذكرون} (النور:1) ثم شرع يُبين هذه الفرائض فأثبت حكم الزنى، وقذف المحصنات، والاستئذان وإعانة كل راغب في الزواج، والأكل من بيوت الغير، والحجاب وغض البصر وغير ذلك مما حوته هذه السورة العظيمة التي سميت بسورة النور.(7/1)
وكل هذا يدل على أن شريعة الله جميعها واجبة الاتباع سواء منها ما يتعلق بالعبادات كالصلاة والزكاة والصوم والحج أو ما يتعلق بالمعاملات أو الآداب أو الحدود. ولعل أهم ما يوضح هذا المعنى ما قاله الله في شأن الربا، وهو معاملة من المعاملات حيث يقول سبحانه وتعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فائذنوا بحرب من الله ورسوله} (البقرة:279). فقد هدد سبحانه وتعالى بحرب منه ومن رسوله لكل من أصر على الربا، وبقي على التعامل به بعد أن صدر فيه حكم خالق السموات والأرض سبحانه وتعالى. ومعلوم أن الربا معاملة من المعاملات، وليس عبادة من القربات. ولا شك أن الالتزام به عبادة، أي طاعة لخالق الأرض والسماوات.
وكل هذا يدلنا أن أهل الإسلام ليسوا مخيرين في أخذ شريعة الله وتركها بل هم ملزمون بذلك. بل لا إيمان أصلاً لمن كفر بها وردها وهجرها، أو انتقصها وعابها أو ذمها لأنها تنزيل الحكيم الحميد سبحانه وتعالى، بل إن كل صادّ عنها وتارك لها كافر لا شك في كفره لما قال تعالى: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} (المائدة:44) وقال تعالى: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون} (المائدة:45) وقال تعالى: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون} (المائدة:46).
فلا إيمان إلا مع الإقرار بشريعة الله والإذعان لحكمه، ولا إسلام إلا بالاستسلام لأمر الله ونهيه، والسمع والطاعة لحكمه وخبره.
الشرائع الوضعية والمطبقة ومنافاتها للإسلام:
ولا شك أن الشرائع الوضعية المطبقة في بلاد المسلمين اليوم يجب تغييرها وإحلال شريعة الله المطهرة مكانها، وكل مقصر في ذلك فهو مسئول محاسب أمام الله سبحانه وتعالى عن ذلك.
ولا شك أيضاً أن معظم هذه التشريعات الوضعية مخالفة لشريعة الله، وخاصة في مسائل الحلال والحرام والمعاملات المالية، والسياسية، والاجتماعية، والحدود والعقوبات.(7/2)
ولا شك أن أهم هذه المخالفات هو أن هذه الأحكام الوضعية والشرائع البشرية لم توضع ليكون هدف الناس وغايتهم هو عبادة ربهم والخضوع لمشيئة سبحانه والاستسلام لأمره ونهيه، وذلك أنها انبثقت ابتداء من عقيدة باطلة لا تؤمن بخالق للكون وبدء له ومدبر له، بل خرجت من كفار بالبعث والنشور جاحدين لخالق السموات والأرض، ممن يعيشون لدنياهم فقط، ولا يؤمنون بحياة بعد الموت وأما شريعة الله فإنها جاءت من عنده، وغايتها في النهاية إقامة عبادته سبحانه وتعالى في الأرض والخضوع لمشيئته والاستسلام لأمره.
وهذا هو الفارق الأساسي بين شريعة الله وشرائع البشر، فشريعة الله من عنده، ولا يرضى سبحانه وتعالى لأحد أن يتقول عليه، أو يشرع لنفسه دون الرجوع إليه، وما الرسول صلوات الله وسلامه عليه إلا ناطق بأمره، صادر عن حكمه، منفذ لمشيئته، مطيع لشريعته، وما المجتهدون والخلفاء بعده إلا موقعون عنه يجتهدون في سبيل الوصول إلى حكمه، راجعون في كل اجتهاد ورأي إلى كلامه سبحانه، وكلام رسوله الله صلى الله عليه وسلم. وأما شرائع البشر الوضعية فهم يأخذونها من أغلبيتهم التي تتظاهر على الهوى والعصبية، وتصدر عن جهل، وتحكم عن تحكم، أو من ملوكهم والمتسلطين عليهم الذين جعلوا من أنفسهم آلهة وأرباباً يشرعون للعباد ويعتدون على حق رب العباد سبحانه وتعالى كما قال فرعون {ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل لرشاد} (غافر:29) علماً أن حكم فرعون لم يكن إلا استبداداً وتسخيراً للشعب في عبادته وصرفاً للناس عن عبادة ربهم وخالقهم سبحانه وتعالى. قال تعالى: {إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناؤهم، ويستحي نساءهم إنه كان من المفسدين} (القصص:4).
وهكذا كان منطق الطغاة دائماً. يفسدون في الأرض، ويزعمون الصلاح والإصلاح.
باختصار.. المسلم المؤمن هو الملتزم بشريعة الله والكافر هو الذي يرد شريعة الله سبحانه وتعالى.(7/3)
واجبنا نحو شريعة الله:
بعد هذا البيان الموجز نجمل واجب كل مسلم نحو شريعة ربه فيما يلي:
1. وجوب الإيمان بأن الدين الحق هو طاعة شريعة الله والإذعان لأمره سبحانه وتعالى. وأن من لم يفعل ذلك فهو كافر لا تنفعه صلاة أو صوم أو حج أو عبادة.
2. وجوب العمل لإحلال شريعة لإحلال شريعة الله محل شريعة الكفر وذلك من كل مسلم بحسب قدرته واستطاعته فعلى الإمام من ذلك ما ليس على عامة الناس، وعلى أهل العلم ما ليس على الجاهل، وعلى أهل التمكين ما ليس على المستضعفين. وإن كل أحد مسئولاً كما قال صلى الله عليه وسلم: [كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته] (أخرجه البخاري ومسلم عن ابن عمر)
3. عدم الرضا بأي قانون أو تشريع يخالف شريعة الله فكل من رضي أو قدم مختاراً تشريعاً يخالف ما أنزله فقد بالله ولو كان هذا في أي شيء يسير كما قال سبحانه وتعالى في شأن من رأى جواز الأكل مما يُذبح ولم يذكر اسم الله عليه {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق، وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن اطعتموهم إنكم لمشركون} (الأنعام:121). وقد أجمعت الأمة أن من ساوى بين تشريع الله وتشريع غيره فهو كافر وكذلك من قدم تشريع غير الله على تشريع الله سبحانه وتعالى. ولا يجوز لأحد طاعة تشريع غير الله إلا مجبراً ومكرهاً.
4. الدعوة إلى الله بكل سبيل. وبيان الحق وعدم كتمانه حتى تكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا هي السفلى.
وكذلك نُذكر به إخواننا المسلمين ليهبوا لنصرة شريعة ربهم، والحياة في ظل أحكام قرآنهم وسنة نبيهم، بدلاً من العيش في ظل الأنظمة الجاهلية التي وضعها الكفار لهم.
{قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين} (يوسف:108)(7/4)
تعريف بالدعوة السلفية
بقلم: عبدالرحمن بن عبدالخالق
الدعوة السلفية هي دعوة الكتاب والسنة، والدين الصحيح والإسلام النقي، وهي اتباع سبيل المؤمنين من السلف الصالح وهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، والسلفيون في كل عصر هم الفئة الذين قال فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم: [لا تزال طائفة من أمتي على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك] (أخرجه مسلم عن ثوبان).
لماذا كانت هذه التسمية:
هذه التسمية اختصار لتعريف مطول فالقول بأن فلانا سلفي يعني أنه ليس خارجياً مستحلاً دم المسلم بالمعصية، وليس رافضياً ممن يكفر الصحابة، وليس محرفاً متأولاً بالباطل ممن ينفي صفات الله ويحرف معانيها، وليس مشبهاً لله بخلقه وليس حلولياً أو اتحادياً ممن يقول بالوحدة أو الحلول، وليس صوفياً، وليس قبورياً ممن يعبد القبور لها ويقدم النذور، وليس مقلداً متعصباً ممن يلتزم قول إمام بعينه ولو علم أنه يخالف الآية والحديث.. فكلمة السلفي هي تعريف مختصر يختصر كل الاحترازات السابقة.
وليست السلفية بعد ذلك نسبة إلى إمام بعينه أو شيخ خاص، وإنما هي المنهج والطريق الذي سار فيه الصحابة والخلفاء الراشدون والأئمة المرضي عنهم والتابعون لهم بإحسان إلى يوم الدين.
الأصول العلمية للدعوة السلفية:
تقوم السلفية على ثلاثة أصول علمية أساسية: هي التوحيد، والاتباع والتزكية.
فالتوحيد هو عماد الدين وهو الذي من أجله بعث الله رسله إلى العالمين كما قال تعالى {ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} (التوبة:71).
وهو يعني عبادة الله وحده لا شريك له، بكل أنواع العبادة التي شرعها: الظاهرة: كالصلاة والصوم والحج، والنذر والذبح، والطواف ومفردات ذلك، والباطنة: كالخوف والرجاء، والحب والتوكل والإنابة.. الخ.(8/1)
وأما الاتباع فهو إفراد الرسول صلى الله عليه وسلم وحده بالمتابعة فلا تشريع إلا بما جاء به، ولا دين إلا ما قرره وأقره، وهذا معناه أن كل فرد بعده صلى الله عليه وسلم يؤخذ من قوله ويرد عليه إلا هو صلى الله عليه وسلم.
وأما التزكية فهي إصلاح النفس وفق المنهج الرباني ولا يكون ذلك إلا بأداء الفرائض، ثم الإكثار من النوافل والتزام طاعة الله ورسوله في ذلك، فلا عبادة إلا بما شرع الله، ولا تقرب إلا بما رسم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أهداف الدعوة السلفية:
للدعوة السلفية المعاصرة أهداف عظيمة في الحياة أهمها:
1- توحيد المسلمين تحت عقيدة واحدة. ومنهج تشريعي واحد وذلك حتى يسهل إقامة الأمة الواحدة التي تنضوي تحت علم واحد وإمام واحد.
2- بناء المسلم الطيب الزكي النفس الموحد البعيد عن الشرك والتعصب والخرافة والجهل.
3- تنقية المجتمع الإسلامي من الشرك والبدع والخرافات والخلاعة والمجون، وذلك بإيجاد (المحضن) النظيف الذي يصلح لتربية أجيال المسلمين.
4- محاربة الانحلال والأفكار الدخيلة التي اجتاحت شباب الإسلام وخاصة أفكار الملاحدة والشيوعيين والزنادقة.
5- تخليص العالم الإسلامي من أعداء الإسلام الذين غزوا دياره، ومزقوا شمله، وفرقوا أوطانه لتقوم للمسلمين أمتهم ودولتهم العزيزة.
أهم قواعد المنهج السلفي:
1- الالتزام بالكتاب والسنة مصدراً للتشريع ومرجعاً عند كل خلاف، وتطبيقاً في الحياة، والحكم بهما على كل قول، وعدم تقديم أي قول يخالفهما مهما كان قائل هذا القول.
2- جعل توحيد الله هو الأساس والمنطلق والخاتمة والنهاية.. والتوحيد يعني إثبات ما أثبته الله لنفسه وأثبته له رسوله بغير تحريف ولا تمثيل، وعبادة الله وحده لا شريك له، وتطبيق شرعه في الأرض وفي كل شأن من شئون حياتنا.
3- التمسك بوحدة الأمة وعدم السماح بتمزيقها وتفريقها في مناهج عقائدية، أو مذاهب فقهية أو عصبيات حزبية.(8/2)
4- التفريق الدائم بين الحق والباطل والشرك والتوحيد، والسنة والبدعة، والنصح الدائم لله وكتابه ورسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم كما قال رسول صلى الله عليه وسلم.(8/3)
لماذا كان الإسلام حقاً وما عداه باطلاً؟
بقلم: عبدالرحمن بن عبدالخالق
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، وبعد،،،
لما كان اختيار الدين هو أعظم وأهم عمل يقوم به الإنسان، وأنه لا يجوز للعاقل أن يتخذ ديناً كيفما اتفق، ولا أن يقلد في دينه أحداً لا آباءه ولا قومه، ولا عموم الناس، ولا غير ذلك. إذ أن هناك دين يقول الداعون إليه (وهم رسل الله) إن دينهم هو الحق وحده دون ما سواه، وأنه كل من اتخذ ديناً غيره فهو خاسر في الدنيا والآخرة ومعرض لعذاب خالق الكون وسخطه.
من أجل ذلك وجب على كل ذي عقل ولب أن يفكر في مقالة هؤلاء الداعين إلى هذا الدين، فإن كلامهم لو كان حقاً وخالفه من خالفه تعرض لما حذروا منه . قال تعالى منادياً المنكرين والمستكبرين {قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به}؟! وجواب الشرط ماذا يكون أمركم وشأنكم لا شك أنكم ستتعرضون للعذاب والخسار.
فأما أن الإسلام هو الحق، وما عداه من دين فباطل، فالأدلة على هذا كثيرة جداً، وهذا ذكر لمجموعة منها:
الكون كله شاهد على وحدانية الرب وعظمته وقدرته:
الكون الذي تعيش فيه كون مصنوع، وهو في غاية الاتساع والأحكام والدقة، بدءاً من الأجزاء الصغيرة (الذرة) إلى الأجرام الكبيرة (المجرة). وكل جزء من هذا الكون مرتبط ارتباطاً وثيقاً بأجزائه الأخرى بحيث أن حصول أي خلل فيه، لو كان صغيراً يسبب فساداً عظيماً في الخلق: فالأرض في موقعها ومدارها والقمر والشمس، وسائر النجوم والكواكب والمجرات، يرتبط بعضها ببعض بنظام هو غايةٌ في الإبداع، وبحساب بالغ الدقة قال تعالى: {الشمس والقمر بحسبان} أي بحساب بالغ الدقة.
وقال تعالى: {وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون* والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم* والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم* لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون}.(9/1)
ودقة الصنع، ودقة الحركة في هذه الأجرام الكبيرة هو كذلك في كل عنصر صغير من عناصر الوجود، فالإنسان والنبات والحيوان كل فرد منها في نفسه في غاية من الإحكام والنظام، بل كل عضو وجزء من أجزاء كل مخلوق قد صنع بدقة وإحكام متناه، فالعين والأذن واليد والرجل، وكل عضو من المخلوق الحي آية من آيات الله في إحكامه وخلقه ووظائفه، وكذلك كل جزء في النبات من الأوراق والأزهار والساق، والثمار، وحبوب اللقاح، والأنابيب الشعرية الموصلة للماء والغذاء آيات كثيرة لا يمكن استقصاها ولا الإحاطه بها، وكلها في غاية الدقة والإعجاز.
وهذه آيات الخلق التي لا تحصى كثرة من أعظم الدلائل البينات على أن خالق الكون إله واحد لم يشاركه أحد في خلقه، وأنه عليم قدير قائم على هذا الخلق، وأن غيره لا يقوم مقامه فيه أبداً.
وهذه الحقيقة التي يمكن أن يستخلصها ذو عقل حكيم عن طريق النظر بنفسه في هذا الكون قد جاءت كذلك حقيقة خبرية على ألسنة الرسل، ففي القرآن الكريم وجهنا الله إلى هذه الحقيقة في آيات كثيرة جداً من كتابه العظيم القرآن.
قال تعالى: {وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم* إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون} (البقرة:163-164).
وقال تعالى: {إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا، ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده إنه كان حليماً غفوراً} (فاطر:41).
وقال تعالى: {حم* تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم* إن في السموات والأرض لآيات للمؤمنين* وفي خلقكم وما يبث من دابة آيات لقوم يوقنون* واختلاف الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها وتصريف الرياح آيات لقوم يعقلون} (الجاثية:1-5).(9/2)
وأدلة الخلق على وحدانية الخالق وأنه سبحانه الإله الواحد القادر القاهر العليم الحكيم، القوي الحافظ لهذا الخلق هي بعدد كل مخلوقات الله، إذ كل مخلوق في نفسه آية على ذلك فالله هو الذي أحسن كل شيء خلقه، وهو خالق كل شيء.
والخلق كله كتاب مفتوح لمن يقرأ... ولكن قليلاً من الناس جداً من يقرأ صفحات هذا الكتاب بل يسير كثير منهم وكأنهم عميان لا يرون شمساً ولا قمراً، ولا نجوماً، ولا سماءاً ولا أرضاً بل لا يرون أنفسهم قال تعالى: {وكم من آية في السموات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون}، وقال تعالى: {وفي أنفسكم أفلا تبصرون}.
يستحيل أن يكون هذا الخلق العظيم لغير غاية وبغير هدف:
لا يمكن أن يتصور ذو لب وعقل راجح أن هذا الكون العظيم، قد وضع لغير حكمة وهدف وغاية، وأنه خلق هكذا لمجرد الخلق والوجود، لأن العليم والحكيم من البشر لا يصنع ويعمل إلا وفق العلم والحكمة، ولله المثل الأعلى سبحانه وتعالى، فخالق هذا الكون وهو الرب العليم الحكيم القوي العزيز يستحيل أن يكون قد أبرز هذا الوجود بغير هدف وحكمة وغاية، بل لا بد أن يكون له سبحانه غاية حكيمة من وراء خلقه لهذا الكون.
ولما كان البشر لا يستطيعون بأنفسهم أن يعرفوا مراد الله من خلقهم وإيجادهم، وخلق السماوات والأرض فإن الله سبحانه وتعالى قد اختار منهم رسلاً أطلعهم الله على غيبه، وأوحى إليهم بحكمته في الخلق ومراده سبحانه وتعالى من خلقهم وإيجادهم في الأرض. وكان كل رسول أرسله الله إلى قوم من البشر يبدأ دعوته إليهم ببيان هذه الحقيقة، وهي هدف الرب جل وعلا ومراده من خلقهم. قال تعالى عن نوح وهو أول رسول إلى أهل الأرض: {لقد أرسلنا نوحاً إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم} (الأعراف:59).
وقال تعالى عن هود: {وإلى عاد أخاهم هوداً قال يقوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره أفلا تتقون}.(9/3)
وقال تعالى عن صالح: {وإلى ثمود أخاهم صالحاً قال يقوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم} (الأعراف:73).
وهكذا كل رسول أرسله الله إلى قوم كانت هذه مقالته، وهذا آخر الرسل محمد بن عبدالله صلوات الله وسلامه عليه أنزل الله عليه {ألر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير* ألا تعبدوا إلا الله أنني لكم منه نذير وبشير* وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعاً حسناً إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير* إلى الله مرجعكم وهو على كل شيء قدير} (هود:1-4).
وقد أخبر سبحانه عن هدف الرسالات جميعاً فقال جل وعلا: {ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت}.. وقال سبحانه: {وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون}.. وقال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون* ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين}.
وقد أخبرنا سبحانه وتعالى أنه ما خلق من شيء إلا وهو عابد له، مسبح بحمده وأنه لم يشذ عن ذلك إلا الكافر اللئيم من الجن والإنس فقط، دون سائر المخلوقات قال تعالى: {ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب ومن يهن الله فما له من مكرم إن الله يفعل ما يشاء} (الحج:18).
وقال تعالى: {تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن، وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليماً غفوراً} (الإسراء:44).
وقال تعالى: {أن تر أن الله يسبح له من في السموات والأرض والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه والله عليم بما يفعلون} (النور:41).(9/4)
ولا يشذ عن هذه العبادة الطوعية والهداية الإلهية إلا كافر الجن والإنس دون سائر المخلوقات والعوالم في السماء والأرض، ولكنهم مع ذلك مسلمون لله كرهاً خاضعون لإرادته ومشيئته وقدره سبحانه نافذ فيهم. {أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً وإليه يرجعون} (آل عمران:83).
كل من شك في حكمة الخالق فهو كافر معاند:
والكفار درجات، فأحطهم درجة من شك في وجود الرب الخالق سبحانه وتعالى، وقد قامت أدلة وجوده ووحدانيته في كل ذرة من مخلوقاته: {أفي الله شك فاطر السموات والأرض}.
وهؤلاء أحط دركاً من الأنعام لأنهم ظنوا أنهم يعيشون هذه الحياة الدنيا فقط، وأنه لا بعث ولا نشور، ولا حساب للإنسان عما يفعله في هذه الحياة.
وهؤلاء قد توعدهم الله بالعذاب الشديد في الآخرة قال تعالى: {أفأحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون فتعالى الله الملك الحق...} الآية.
وقال تعالى: {وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين لو أردنا أن نتخذ لهواً لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين}.. وقال تعالى: {وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما باطلاً ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار}.
والمعنى أنه سبحانه وتعالى وهو الرب العليم الحكيم لا يمكن أن يكون قد خلق خلقه سدى ولا عبثاً ولا لعباً، بل خلقه لحكمة عظيمة وأن من شك في هذه الحكمة فهو كافر بالله متهمٌ له بالعبث واللهو تعالى الله عن ذلك.
وكيف يسوي الله سبحانه وتعالى وهو الملك الحكيم بين من قام بأمره وعبده وحده لا شريك له، وكان من أهل الإيمان والعمل الصالح، وبين الكفار الفجار الأشرار الذين خالفوا أمره، وكذبوا رسله، وعاندوا واستكبروا: {أفنجعل المسلمين كالمجرمين* مالكم كيف تحكمون}.(9/5)
والدرجة الثانية من الكفار من آمن بوجود الرب، وشك في حكمته في الخلق، ولم يعبد الله وحده كما أمره، واتخذ لنفسه معبوداً سواه، أو معبوداً مع الله. وهؤلاء الذين سووا بين الله وخلقه في الصفات أو الذات، أو الحقوق هم كفا مشركون {والذين كفروا بربهم يعدلون}.
الأدلة على أن الإسلام وحده هو طريق الرب:
والأدلة السابقة جميعها يمكن لعاقل أن يتوصل إليها بعقله وفطرته وبيان ذلك أنه لا يمكن لعاقل أن يدفعأو يماري في أنه مخلوق صغير في كون كبير، وأن هذا الكون في غاية الاحكام والإبداع، وأن كل جزء من هذا الكون مرتبط بغيره ارتباطاً وثيقاً وأنه لا بد وأن يكون لهذا الكون صانع عظيم عليم قوي قاهر.. وأنه لا بد وأن يكون حكيماً ويستحيل أن يكون قد خلق خلقه بغير هدف ولا غاية، وأنه لا بد وأن يكون هناك جزاء في نهاية المطاف، وأن يقام حكم يقتص فيه للمظلوم من الظالم، ويلقى المحسن والمسيء كل جزاءه، لأنه لو لم يكن كذلك لكان الظالم القاهر الباغي العابث المفسد لهواه هو العاقل في هذه الحياة، ولكان التقى البار العفيف الذي يؤدي الحقوق ويمتنع عن الحرام هو الغبي الجاهل... فما دام أنه لا توجد حياة بعد الموت وحكومة في الآخرة، ولا يجازي أحد بما عمل فإنه يكون من السذاجة والجهل الانصراف عن الملاذ، وتحقيق الشهوات وحيازة الخيرات، والعب من كأس الحياة حتى الثمالة، والاستمتاع بمباهج الحياة إلى النهاية، ولو أدى ذلك إلى ظلم العباد ونشر الفساد.
وعلى هذا الأساس يكون الذي خلق هذه الحياة، ونصب هذه السموات،ووضع هذه الأرض، وخلق الإنسان يخلف جيل منه آخر، قد خلق خلقه عبثاً ولعباً، وظلماً ونكداً تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً {أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار}؟!(9/6)
وقال تعالى: {أفنجعل المسلمين كالمجرمين مالكم كيف تحكمون} وهذه الحقائق حقائق عقلية فطرية لا يحتاج الناس فيها إلى الوحي لمعرفتها لأنها من الضرورات العقلية، ولكن لأن الأبصار تعمى، والفطرة تنطمس بالتعليم المنحرف ولذلك أرسل الله الرسل من أجل بيانها والتذكير بها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [كل مولود يولد على الفطرة وأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه]..
وهنا نصل إلى السؤال الآتي؟ وما الدليل على أن خالق هذا الكون سبحانه وتعالى قد اختار رسلاً بأعيانهم، وبعبارة أخرى ماذا يدلنا أن هذا الذي يدعي الرسالة هو رسول الله حقاً وصدقاً.
والجواب: من حيث دلالة العقل فإنه لا بد لخالق هذا الكون أن يعرف مخلوقاته بذاته العلية، وأن يخبرهم عن نفسه جل وعلا ولماذا خلقهم؟ وفيم أقامهم؟ لأنه سبحانه وتعالى لو لم يفعل ذلك لكان هؤلاء الخلق في عماية عن حقيقة أمرهم، وأصل منشئهم، وصفة خالقهم؟ وماذا يريد من إيجادهم؟ لأن هذا الكون من الاتساع والشمول بحيث لا تحيط به أبصارهم ولا تصل إلى نهايته أقدامهم ومراكبهم؟ وهو كذلك من الدقة والأحكام وخفاء الأسرار بما لا يستطيعون إدراك كنهه. هذا مع قصر أعمارهم، وقلة علومهم، والبشر مع تراكم علومهم جيلاً بعد جيل لم يكتشفوا كثيراً من القوي المذخورة في الكون إلا قريباً، فلم يعرفوا الكهرباء مثلاً إلا مؤخراً، ولليوم لا يعرفون حقيقة الذرات التي بنى منها الكون، ولا يعرفون دقائق الخلق في أنفسهم فما زال جسم الإنسان نفسه في كثير من أحواله ووظائفه ودقائقه مجهولاً مع تقدم آلات الإنسان ووسائله وعلومه، وما زال سر الحياة في الإنسان وهو روحه لا يعلم الإنسان عنها إلا قليلاً: {ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً}.(9/7)
وهناك عوالم كثيرة خفية تتحكم في حياة الإنسان نفعاً وضراً وهو لا يستطيع أن يراها ولا أن يحيط علماً بها، فإذا كان الإنسان لا يستطيع أن يعرف حقيقة ما يحسه ويراه، فأنى له أن يعرف ما غاب عنه، ولا سبيل له للوصول إليه؟
ومن أجل ذلك فإن الله سبحانه وتعالى قد تكفل بأن يعلم الإنسان منذ آدم لماذا خلقه، والمهمة المناطة به، ويعلمه بدايته ونهايته، والعوالم المحيطة به، وما الذي عليه أن يأخذه، وما الذي عليه أن يدعه؟ قال تعالى: {وعلم آدم الأسماء كلها}.
وقال تعالى: {وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغداً حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين}..
ولما عصى آدم ربه وأكل من الشجرة أهبطه الله إلى الأرض وعلمه مهمته فيها. قال سبحانه وتعالى: {قال اهبطا منها جميعاً بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى* ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يم القيامة أعمى* قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً* قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها فكذلك اليوم تنسى* وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه ولعذاب الآخرة أشد وأبقى} (طه:123-127).
الرسالات هي طريق الله لهداية الإنس والجن:
وقد اختار الله أن يكون تعليمه للإنسان بطريق الوحي إلى رجال يختارهم الله في كل أمة ليكونوا واسطة بين الله وخلقه ولو أراد الله غير هذا الطريق لفعل فإن الله لا يعجزه شيء كأن يهدى الإنسان بلا واسطة قال تعالى: {ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها}.
وقد أقام الله عجماوات من الحيوانات والحشرات والمخلوقات فيما خلقها له بهداية منه وتوفيق، فهو الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى قال تعالى: {وأوحى ربك إلى النحل ان اتخذي من الجبال بيوتاً ومن الشجر ومما يعرشون}.
ولكن الله سبحانه وتعالى شاء في عالم الإنس والجن أن يختار في كل قبيل منهم رسولاً يرسله إلى جماعته داعياً لهم ومبيناً لهم طريق الرب سبحانه وتعالى.(9/8)
وعلى كل حال فإن الله سبحانه وتعالى هو الذي له الخيرة وحده وليس لعبيده ولا خلقه القاصرين الضعفاء أن يقترحوا عليه الطريقة التي يعلم بها عباده {والله يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة سبحان الله وتعالى عما يشركون}.
المعاندون يقترحون رؤية الله والملائكة عياناً ليؤمنوا:
واختيار الله لإرسال الرسل طريقة لإعلام عباده كان دائماً مثار استنكار ورد واعتراض من الكفار والمعاندين. فإنهم قالوا لماذا لا يأتينا الله بنفسه لنراه ويكلمنا بما يريد؟ وقال بعضهم لماذا لا يرسل الله لنا ملائكته عياناً لنراهم ويخبروننا بمراد الرب؟ ولماذا يختار الله واحداً منا فيرفعه هذه الرفعة العظيمة، ويشرفه علينا، ونحن مثله. قال تعالى: {وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا}.. وقال تعالى عن تعنت الكفار وطلبهم مقابلة الرب نفسه حتى يصدقوا ويؤمنوا: {وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً* أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيراً* أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً أو تأتي بالله والملائكة قبيلاً} (الإسراء:90-92).
ومعنى قبيلاً أي في مقابلتنا وجهاً لوجه.. وقال تعالى عن قوم نوح في ردهم الإيمان بالله وعبادته وحده: {فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما هذا إلا بشر منكم يريد أن يتفضل عليكم ولو شاء الله لأنزل ملائكة ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين} (المؤمنون:23).
وعن آخرين أنهم قالوا لرسولهم: {وقال الملأ من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة وأترفناهم في الحياة الدنيا ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون* ولئن أطعتم بشراً مثلكم إنكم إذا لخاسرون} (المؤمنون:33-34).(9/9)
والخلاصة أن الكفار في كل أمة اعترضوا بمثل هذه الاعتراضات على اختيار الرب سبحانه وتعالى أن يرسل رسلاً من البشر إلى الناس ليعلموهم ويرشدوهم إلى طريق الرب، والحال أنه ليس للإنسان المخلوق أن يعترض على اختيار الرب سبحانه وتعالى ولكنه الكفر والعقوق والجحود، وكان الواجب على الإنسان أن يبحث فقط في دليل من يدعي أنه رسول من الله خالق الكون، وهل هو صادق فيما قاله أم لا؟ وهذا ما يحتمه ضرورة العقل الصحيح أن ينظر فيما يدعيه من يدعي أنه رسول الله هل هو صادق فيما يقول أم لا؟ وذلك أنه من السهل على كل أحد أن يدعي هذه الدعوى؟ ولو كان كل من ادعاها صدقه الناس واتبعوه واستجابوا لأمره، لاختلط شأن الصادق بالكاذب، ولو لم يمكن التفريق بين الصادق في دعوى النبوة والكذاب لكان هذا من أعظم الفساد والشر لأنه حينئذ ينطمس طريق الرب، ويختلط صراطه مع غيره من طرق الشر والغواية، ولا يعلم على الحقيقة ما يريده الرب جل وعلا مما يدعيه الكذابون الذين يتخذون دعوى الرسالة طريقاً إلى شهواتهم وملذاتهم وتسخيرهم الناس فيما يريدون.
ومن أجل ذلك كان حقاً على الله سبحانه وتعالى أن يؤيد الصادق بالمعجزات الدالة على صدقه وأنه رسوله حقاً، وأن يكذب الكاذب ويفضحه في الدنيا بما يبين لكل ذي عقل أنه كذاب فيما ادعاه، ولو لم يفعل الرب ذلك لاختلط شأن الرسل على الناس ولم يستطيعوا أن يميزوا بين الصادق في دعوى الرسالة والكذاب وهنا ينطمس طريق الله ولا يعرف الناس مراده والطريق إلى محبته رضوانه، وكيف يحذرون سخطه وعقابه.(9/10)
ومن أجل ذلك فإنه ما من رسول أرسله الله سبحانه وتعالى إلى الناس إلا وأتى بما يثبت صدقه في دعواه، ويقطع حجة المخالفين له، ولا يترك لمبطل دليلاً إلا دحضه، ولا حجة إلا أبطلها، قال تعالى: {وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين* لو أردنا أن نتخذ لهواً لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين* بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون* وله من في السموات والأرض ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون} (الأنبياء:16-19).
وما من رسول أرسله الله إلا وهو يخبر الناس بمن سبقه ويعلمهم بمن سيأتي بعده من أعلام الرسل والأنبياء لتكون السلسلة معلومة عند كل مؤمن، ولا يدخل فيها الغريب والشاذ والكذاب.
وكان آخر الرسل العظام موسى، وعيسى، ومحمد صلى الله عليه وسلم، وما من أحد منهم إلا كان معلماً بمن سبقه من لدن آدم، ومخبراً بمن بعده، وسيأتي إن شاء الله تفصيل كامل لبشارات موسى وعيسى بمحمد صلى الله عليه وسلم.
لم يوجد رجل في الأرض كلها منذ خلقها الله وإلى يومنا أحبه الناس واتبعوه في تفاصيل حياته ودقائق تصرفاته وأعماله كمحمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم:
وكان خاتم الأنبياء والمرسلين هو محمد بن عبدالله الهاشمي القرشي من نسل إسماعيل وإبراهيم عليهما السلام، وقد كان لهذا الرسول صلى الله عليه وسلم من الشأن والرفعة، وبلوغ الدعوة وقوة التأثير في الأرض، وكثرة الاتباع والانصار، ما لم يكن لنبي ولا رسول قبله، وقام من أدلة إثبات نبوته ورسالته من الآيات والأدلة والمعجزات ما لم يتحقق لأحد مثله، ولا ينكر مثله إلا مطموس القلب جاهل كافر أو حاسد حاقد.(9/11)
ولم يكن في أمة من أمم الهداية السابقة من قبله من يكون في أمته من المهتدين والمجاهدين والعلماء العاملين، والعباد، والزهاد ولم تجرد سيوف في الحق ما جردت سيوفه، ولم يأرز الإيمان إلى قرية في العالم قط ما أزر إلى المدينة التي كانت دار هجرته، ولم تعمر مدينة في التاريخ قط بالعباد الصالحين الذين يأرزون إليها ويفدون إليها من كل فج في العالم فيطوفون ويسعون ويعتكفون، ويصلون، ويذكرون الله بأصوات مرتفعة بالتكبير والتهليل والتلبية ما عمرت أم القرى التي ولد فيها، وابتدأ فيها دعوته ورسالته، ولا حفظ كتاب في الأرض كلها منذ وجدت الأرض ما حفظ الكتاب الذي جاء به من الله فهو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم يقرأونه آناء الليل وأطراف النهار على مر العصور والدهور، ومنهم من يقرأ الكتاب كله وهو نحو ستمائه صفحة في كل يوم طيلة حياته، ومنهم من يقوم به بالليل على قدميه كل ثلاث ليال ويفعل هذا عشرات بل مئات الألوف ممن لا يحصى عددهم إلا الله في كل عصر من عصور الإسلام.
ولا يوجد رجل في الأرض أحبه الناس من أهل الإيمان كما أحب الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا رجل ذكروا اسمه كما ذكروه ودعوا له وصلوا عليه كما صلوا عليه، ولا يكاد يوجد مكان في الأرض على مدار الساعة إلا ويرتفع فيه صوت المؤذن باسمه مع اسم الله تعالى "أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمد رسول الله".(9/12)
ولم يوجد رجل قط يتتبع الناس تفاصيل حياته فيأكلون كما يأكل، ويحبون من الطعام والشراب واللباس ما كان يطعم ويشرب ويلبس، وينامون كما كان ينام، ويقولون الأذكار التي كان يقولها عندما يركب ويأكل ويشرب وينام، ويشاهد الهلال والفاكهة الجديدة، ويدخل الخلاء، ويخرج منه، ويأتي أهله، ويحيي من يلقاه كما يفعل أهل الإيمان اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم واتباعاً في كل تفاصيل حياته. هذا فضلاً عن اتباعه في عبادته في صلاته وصومه، وحجه وجهاده، فإن أهل الإيمان يبحثون ويتتبعون أدق أعماله في الصلاة كيف كان يقف، وكيف كان يركع وكيف كان يسجد، وكيف يجلس بين السجدتين، وكيف يتشهد، وكيف يحرك أصبعه في الشهادة.
ويبحثون في تفاصيل حجه ويتبعونه في ذلك، ويجعلون ذلك نسكاً وديناً وشرعاً فيتعلمون كيف رمل في السعي؟! وكيف اضطبع في الطواف؟ وأين وقف عندما شرب من زمزم؟!
وسطوع نور الإسلام في الأرض، وظهور الحجة به على العباد أعظم، وأكبر من سطوع الشمس للعالمين، ولكن عمى البصائر ينكرون، ويجحدون.
إيمان المقلد يقع باطلاً:
ولما كان الإيمان لا يصح إلا بدليل، فالمقلد لآبائه وقومه الذي لم يتحقق في قلبه أن الإسلام حق، وما عداه باطل لا يكون مؤمناً، فإنني أحببت أن أسرد بعض أدلة الإيمان لتكون تثبيتاً للذين آمنوا وزيادة في إيمانهم فإن الإيمان يقوى ويزيد بتضافر الأدلة، ويتجدد بتجدد ورودها إلى القلب، وجدة ما يسمع منها {وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيماناً فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً وهم يستبشرون، وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون} وكذلك لتكون باباً وطريقاً ممن لمن لم يذوقوا للإيمان طعماً أن يجدوا الطريق إليه.
معرفة الرسول صلى الله عليه وسلم هو المدخل إلى الإيمان:
الإيمان بالرسول هو المدخل إلى الإيمان كله لأن الرسول هو الدال على الله والمخبر به، والهادي إلى طريق الله وصراطه.(9/13)
ودلالة العقل والفطرة على الإيمان تقف عند حدود اليقين بوجود الله وعلمه وقدرته، ورحمته بعباده ثم يقف العقل عند ذلك فلا سبيل إلى العلم بمراد الله في الخلق وحكمته من إيجادهم، وماذا يكون بعد الموت؟ ولا سبيل للعقل ليعرف جنة أو ناراً، أو ملائكة أو يدرك بدايات الخلق ونهاياته، وكل ذلك لا يدرك إلا عن طريق الرسول ومن أجل ذلك كان الإيمان بالرسول هو الباب والمدخل إلى الإيمان.
الأدلة على أن محمداً بن عبدالله هو رسول الله حقاً وصدقاً:
هذه بعض الأدلة على أن محمداً بن عبدالله صلوات الله وسلامه عليه هو رسول الله حقاً وصدقاً، ونسردها أولاً على وجه الإجمال ثم نأتي إلى تفصيلها وبيانها:
(1) المعجزة الكبرى التي تحدى الله بها المعاندين المكذبين للرسول وجعلها معجزة باقية إلى يوم القيامة وهو القرآن الكريم.
(2) خوارق العادات التي أجراها الله لرسوله صلى الله عليه وسلم مما لا يحصى كثرة.
(3) أخبار الماضين مما لم يطلع عليها الرسول الأمي الذي لم يقرأ كتاباً واتيانه على النحو الدقيق كما هي عند أهلها ونقلتها.
(4) الاخبار المستقبلية التي جاءت وتحققت كما أخبر بها تماماً.
(5) السيرة الشخصية للنبي الكريم التي تدل دلالة قاطعة على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل الصدق والإيمان وأن مثله يستحيل عليه الكذب أو أن يدعي أو يقول غير الحق.
(6) متانة الدين والتشريع الذي جاء به وبناؤه على الحكمة والعلم مما يستحيل صدوره من أمي لم يقرأ ولم يكتب.
(7) كمال الوصف للإله الحق خالق السموات والأرض الذي يستحيل للبشر وحدهم تصوره ولا يمكن أن يكون هذا إلا وحياً.
(8) أخبار الرسول عن كثير من حقائق الموجودات والنبات، وخواص الأشياء في السموات والأرض والإنسان والحيوان مما لم يكن مثله معلوماً قط وقت الرسالة، والتي لم يطلع البشر عليه إلا بعد تراكم علوم هائلة، واكتشاف أدوات دقيقة، ومرور مئات من السنين.(9/14)
(9) شهادة الشهود بصدقه وأمانته وأول ذلك:
وأول شاهد هو الله سبحانه وتعالى الذي شهد بأن محمداً بن عبدالله هو رسوله حقاً وصدقاً، وكانت شهادته سبحانه بالقول المنزل، وبأفعاله العظيمة التي أيده فيها كما نصره في بدر، وجعل هذا النصر مع قلة عدد المؤمنين وضعفهم وذلهم فرقاناً بين الحق والباطل. قال تعالى: {قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين والله يؤيد بنصره من يشاء إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار}، وجعل سبحانه ذلك دليلاً على صدق رسوله صلى الله عليه وسلم، وكذلك شهادة الملائكة الذين أخبر الله بشهادتهم، والذين نصروه في معاركه وشاهدهم الكفار عياناً بياناً. وشهادة أولو العلم وخلاصة البشر في كل جيل ممن يرفعون أيديهم إلى السماء كل وقت وحين نشهد أن لا إله إلا الله ونشهد أن محمداً عبده ورسوله.
وشهادة أهل الذكر من اليهود والنصارى الذين دمعت أعينهم لما اطلعوا على صدقه وحقيقة حاله، ومسارعتهم إلى الإيمان به، وهذا في كل جيل وقرن من الناس منذ بعث رسول الله وإلى يومنا هذا.
وشهادة العجماوات من الحيوانات والجمادات من النباتات والأحجار، وكل هذا قد كان بأفصح عبارة وأوضح إشارة.
وتحت هذه الكليات من الأدلة تفصيلات كثيرة يخشع عند ذكرها القلب، وتدمع لها العين، ويهتف بها اللسان أشهد ألا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله.
وسيكون تفصيل هذا الإجمال في مقالات آتية إن شاء الله تعالى.
********
***(9/15)
الحياة الدنيوية لصفوة خلق الله محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه
بقلم: عبدالرحمن بن عبدالخالق
كانت الحياة الدنيوية لأشرف الرسل، وأكرم خلق الله، وخير البرية محمد بن عبدالله صلوات الله وسلامه عليه، مثالاً وبرهاناً أن الله لا يختار الدنيا لأوليائه وأحبابه، وإنما يختار لهم الآخرة {وللآخرة خير لك من الدنيا}.
وكانت كذلك سلسلة متواصلة من الاختبارات والابتلاءات.
فقبل الرسالة نشأ النبي صلى الله عليه وسلم في أسرة فقيرة فقد مات أبوه قبل أن يولد، ولم يترك له من الميراث إلا أمة هي أم أيمن رضي الله عنها.
وقد عانت أمه حتى وجدت مرضعاً له، وبقي في كفالة جده عبدالمطلب ثم لم تلبث والدته حتى توفيت وهو طفل صغير، ثم تبعها جده عبدالمطلب، فانتقل النبي صلى الله عليه وسلم إلى كفالة عمه أبي طالب، الذي كان فقيراً، كثير الأولاد، وهكذا نشأ النبي يتيماً فقيراً قد من الله عليه بالمأوى عند جده، ثم عمه. قال تعالى {ألم يجدك يتيماً فآوى}.
وعمل النبي صلى الله عليه وسلم وهو غلام أجيراً في رعي غنم الأثرياء من أهل مكة فقال: [رعيت الغنم على قراريط لبعض أهل مكة]، والقيراط عمله صغيرة في قيمة الفلس.
ولما شب لم يكن له مال ليتاجر فيه كأهل مكة الذين كانت التجارة هي عملهم الأساس. فإن مكة ليست ببلد زرع، وإنما عيش أهلها على التجارة واستجلاب البضائع، والبيع في أسواق الحج.. وقد عمل النبي صلى الله عليه وسلم بالتجارة مرات قليلة في مال خديجة بنت خويلد رضي الله عنها. وكان أهل مكة يقارضون بأموالهم. (والقراض أن يعطي رب المال ماله للعامل ليتاجر فيه ثم يكون الربح بينهما وإذا وقعت الخسارة وقعت في المال وخسر العامل عمله)، وهذه المعاملة التي كان أهل الجاهلية يتعاملون بها جاء الإسلام وأقرها، فهي صورة من صورة الشركة في الإسلام.
ولم يتوغل النبي في التجارة، ولا كانت هماً له.(10/1)
وبعد أن تزوج من خديجة رضي الله عنها، انصرف إلى العزلة والتعبد، فكان يأخذ زاده من طعام وشراب، ويخرج خارج مكة، وقد اختار جبل حراء الذي وجد كهفاً (مغارة) في أعلاه سكنها النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يمكث فيها الليالي ذوات العدد حتى إذا فنى الطعام الذي معه، ونفذ الماء رجع إلى مكة مرة ثانية، ثم يكون من شأنه أن يتزود من الطعام والشراب لأيام أخرى يقضيها وحده في غار حراء.
ووجد صلى الله عليه وسلم في هذه الخلوة راحته وسعادته واطمئنان قلبه، وحببت إليه هذه الخلوة والابتعاد عن الناس، ومن كان في مثل هذه الحال فإن الدنيا لا تكون له على بال.
وكان هذا إعداداً من الله له ليحمل بعد ذلك ما لا تستطيع حمله الجبال.
وأتاه الوحي من الله، وحمله الله سبحانه وتعالى رسالته إلى العالمين، وأمره بإبلاغ دينه إلى الناس كافة في الأرض كلها.
وهذه الرسالة تبديل كامل لما عليه الأمم كلها من العقائد والنظم والتشريع والآداب والأخلاق، وفيها إكفار أهل الأرض كلهم: اليهود والنصارى والعرب المشركين والمجوس، وتسفيه لأحلامهم وحكم عليهم بالنار والعذاب والخسران هم ومن مضى من آبائهم إن ظلوا على ما هم عليه من الدين والخلق والسلوك والتشريع..
ومع ضخامة هذه المهمة وثقلها، وتكاليفها الباهظة فإن الله سبحانه وتعالى لم يضع تحت يد النبي صلى الله عليه وسلم كنزاً من المال ينفق منه، ولا وسيلة معجزة خارقة للعادة تحمله هنا وهناك ليبلغ رسالة ربه، بل ولم يرفع عنه السعي الواجب ليكسب عيشه وعيش أولاده، وكان صلى الله عليه وسلم قد رزق بولدين القاسم وعبدالله ماتا سريعاً، وبأربعة من البنات هن زينب،ورقية، وأم كلثوم، وفاطمة، عليهن السلام جميعاً ظللن في كنفه. والبنت ليست كاسبة.
وكان على النبي صلى الله عليه وسلم الذي حمل هذه الأمانة العظمى أن يسعى فيها وأن يجد ويجتهد، فانتهى بذلك عهد السكون والخلوة والسلامة من الناس والبعد عن شرورهم..(10/2)
يوم الطائف!! وما لقي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم:
ولم يجد النبي صلى الله عليه وسلم من ماله في هذا الوقت دابة يركبها، ولو حماراً يحمله إلى مكان بعيد عن مكة ليبلغ رسالة ربه، ولما أراد الذهاب إلى الطائف لم يجد إلا قدميه، وعندما رآه أهل الطائف وهم أهل الغنى والثراء، وقد أتاهم من مكة ماشياً، وليس معه أحد.. لا صديق، ولا مرافق، ولا خادم، يقوم بخدمته.. ثم يقول لهم بعد ذلك [أنا رسول رب العالمين]!!، استنكروا هذا جداً، ولم تتقبل عقولهم المريضة، ونفوسهم الخسيسة أن يكون هذا الذي أمامهم وهو على تلك الحال من الضعف والفقر هو رسول الله حقاً وصدقاً، إذ كيف يكون رسول الله خالق الكون الذي يكلفه بالبلاغ للناس جميعاً، ولا يضع له ولو ردابة في الخدمة ليبلغ عليها رسالة ربه!!
وكان من شأنهم ما قصه النبي صلى الله عليه وسلم عندما سألته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قائلة: هل أتى عليك يوم كان أشد عليك من يوم أحد؟ قال: [لقيت من قومك ما لقيت!! وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة إذا عرضت نفسي على ابن عبدياليل بن عبدكلال، فلم يجبني إلى ما أردت -فانطلقت وأنا مهموم- على وجهي فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب -وهو المسمى بقرن المنازل- فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم!! فناداني ملك الجبال فسلم علي ثم قال: يا محمد، ذلك!! فما شئت؟! إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين - أي لفعلت، (والأخشبان هما جبلا مكة، أبو قبيس والذي يقابله وهو قعيقعان) - قال النبي صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله عز وجل من أصلابهم من يعبد الله عز وجل وحده لا يشرك به شيئاً].(متفق عليه)(10/3)
وقد روى ابن اسحاق هذه الحادثة بتفصيلاتها فقال: لما هلك أبو طالب نالت قريش من رسول الله من الأذى ما لم تكن نالته منه في حياة عمه أبي طالب، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف يلتمس من ثقيف النصرة والمنعة بهم من قومه، ورجاء أن يقبلوا منه ما جاءهم به من الله تعالى، فخرج إليهم وحده!!
فحدثني يزيد بن أبي زياد عن محمد بن كعب القرظي. قال: انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف وعمد إلى نفر من ثقيف هم سادة ثقيف. وأشرافهم وهم إخوة ثلاثة: عبدياليل، ومسعود، وحبيب بنو عمرو بن عمير بن عوف بن عقدة بن غيرة بن عوف بن ثقيف وعند أحدهم امرأة من قريش من بني جمح، فجلس إليهم فدعاهم إلى الله وكلمهم لما جاءهم له من نصرته على الإسلام والقيام معه على من خالفه من قومه.
فقال أحدهم: هو يمرط ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك!! وقال الآخر: أما وجد الله أحداً أرسله غيرك!! وقال الثالث: والله لا أكلمك أبداً لئن كنت رسولاً من الله كما تقول لأنت أعظم خطراً من أن أرد عليك الكلام!! ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي لي أن أكلمك!!
فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من عندهم وقد يئس من خير ثقيف، وقد قال لهم -فيما ذكر لي- إن فعلتم ما فعلتم بي فاكتموا علي، وكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبلغ قومه عنه فيذئرهم ذلك عليه.
وألجئوه إلى حائط لعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وهما فيه، ورجع عنه من سفهاء ثقيف من كان يتبعه. فعمد إلى ظل حبله من عنب جلس فيه وابنا ربيعة ينظران إليه ويريان ما يلقى من سفهاء أهل الطائف، قد لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم -فيما ذكر لي- المرأة التي من بني جمح، فقال لها: ماذا لقينا من أحمائك!!(10/4)
فلما أطمأن قال -فيما ذكر- [اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وهواني على الناس يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي إلى من تكلني؟! إلى بعيد يتجهمني أم إلى عدو ملكته أمري، إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن ينزل بي غضبك أو تحل علي سخطك. لك العتبى حتى ترضى لا حول ولا قوة إلا بك].
قال: فلما رآه ابنا ربيعة عتبة وشيبة، وما لقي تحركت له رحمهما فدعوا غلاماً لهما نصرانياً يقال له عداس وقالا له: خذ قطفاً من هذا العنب فضعه في هذا الطبق ثم اذهب به إلى ذلك الرجل فقل له يأكل منه. ففعل عداس ثم ذهب به حتى وضعه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال له كل، فلما وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده فيه قال: [بسم الله] ثم أكل، ثم نظر عداس في وجهه ثم قال: والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ومن أهل أي بلاد أنت يا عداس؟ وما دينك]، قال: نصراني وأنا رجل من أهل نينوى. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [من قرية الرجل الصالح يونس بن متى]، فقال له عداس: وما يدريك ما يونس بن متى؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ذلك أخي كان نبياً وأنا نبي]، فأكب عداس على رسول الله يقبل رأسه ويديه وقدميه. قال يقول أبناء ربيعة لأحدهما لصاحبه: أما غلامك فقد أفسده عليك!!
فلما جاء عداس قالا له: ويلك يا عداس!! ما لك تقبل رأس هذا الرجل ويديه وقدميه؟ قال: يا سيدي ما في الأرض شيء خير من هذا لقد أخبرني بأمر ما يعلمه إلا نبي قالا له: ويحك يا عداس لا يصرفنك عن دينك فإن دينك خير من دينه.(10/5)
وقد ذكر موسى بن عقبة نحواً من هذا السياق إلا أنه لم يذكر الدعاء وزاد، وقعد له أهل الطائف صفين على طريقه، فلما مر جعلوا لا يرفع رجليه، ولا يضعهما إلا رضوخهما بالجحارة حتى أدموه فخلص منهم وهما يسيلان الدماء فعمد إلى ظل نخلة وهو مكروب، وفي ذلك الحائط عتبة وشيبة أبناء ربيعة، فكره مكانهما لعداوتهما الله ورسوله.
النبي صلى الله عليه وسلم يستدين ثمن الراحلة التي يهاجر عليها إلى المدينة:
ولما أذن الله سبحانه وتعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم بالهجرة بعد أن أجمعت قريش أمرها على قتله، رأت أن هذا هو السبب الوحيد الذي يمكن أن يوقف دعوته، وأن نفيه خارج مكة أو حبسه فيها، لن يمنع من انتشار دعوته في مكة وخارجها.. أقول لما عزم النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرج مكة وأذن الله له في الخروج منها لم يكن يملك راحلة يركبها، وهو رسول رب العالمين، الذي له ملك السموات والأرضين، ولما عرض النبي صلى الله عليه وسلم أمر الهجرة على الصديق أبي بكر رضي الله عنه، فرح أبو بكر بذلك فرحاً شديداً، وكان يعلم أنه لا بقاء له والرسول صلى الله عليه وسلم بمكة بعد أن اشتد على المسلمين الأذى وهاجر عامتهم إلى الحبشة، ولم يبق إلا من له عهد مع قريش أو عصبة قوية تحميه، وكان أبو بكر قد اشترى راحلتين من ماله، وكان تاجراً ميسوراً فعرض على النبي صلى الله عليه وسلم إحداهما ليهاجر عليها فقبلها النبي بثمنها.
الصديق يرتب أمر الهجرة خطة ومالاً:
ورتب أبو بكر شأن الهجرة كله، الرواحل، والزاد، ودليل الطريق (عبدالله بن أريقط) وكان غلاماً للصديق، والاختفاء في نواحي مكة حتى يخف الطلب ويأمن الطريق، وكيفية وصول الزاد إليهما، ومعرفة أخبار قريش مدة الاختفاء حتى يخف الطلب، فقد كان رأس أبي بكر مطلوباً مع رأس النبي صلى الله عليه وسلم، فإن قريش جعلت مائة من الإبل لمن أتاها بالنبي أو صاحبه حياً أو ميتاً.(10/6)
وقد أثنى الله سبحانه وتعالى على الصديق الذي لم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم من أهل الأرض كلهم ناصر بعد الله إلا هو، الذي رافقه في هجرته جاعلاً حياته مع حياة النبي صلى الله عليه وسلم وروحه دون روحه. قال تعالى: {إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذي كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا...} الآية
وهاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة لا يحمل مالاً ولا متاعاً، والراحلة التي حملته كانت من مال الصديق ديناً على النبي صلى الله عليه وسلم، وحق للنبي صلى الله عليه وسلم قبل موته أن يذكر الصديق مشيداً بمنزلته وفضله فيقول: [إن أمن الناس علي في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذاً من أهل الأرض خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن صاحبكم خليل الرحمن] (متفق عليه)
النبي صلى الله عليه وسلم ينزل المدينة بلا مال أم متاع:
ويسكن النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وينزل أولاً ضيفاً على أبي أيوب الأنصاري، ثم يعرض شراء أرض المسجد وكانت خربة فيها قبور لبعض المشركين، وبقايا نخل لا يثمر، فيقول أصحاب الأرض: والله لا نقبل ثمنها إلا من الله!!
فيكون وقفهم هذا أعظم وقف في الإسلام (المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم) ويشتري النبي بجوار المسجد أرضاً يقيم فيها حجرات لزوجاته. كانت الحجرة لا تسعه قائماً يصلي، وتسع امرأته. قالت أم المؤمنين عائشة الصديقة بنت الصديق رضي الله عنها: (كنت أنام في قبلة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو قائم يصلي من الليل فإذا أراد أن يسجد غمزني فقبضت رجلي فإذا قام بسطتهما). (متفق عليه) وهذا من ضيق المكان.
فهل تتصور الآن غرفة لا تسع مصل ونائم!!
أنس بن مالك أعظم هدية في الإسلام:(10/7)
ولما سكن الرسول بيته جاءته أم سليم الأنصارية الصحابة العابدة الفقيهة الحصيفة كاملة الدين والعقل فأهدت له ابنها، وقالت: يا رسول الله هذا خادمك أنس!!، فكان أنس بن مالك رضي الله عنه خادم النبي صلى الله عليه وسلم لعشر سنين!! لم يعرف خادم في الدنيا أشرف ولا أجل ولا أعظم منه فشرف الخادم بشرف المخدوم، وهل أجل وأعظم وأشرف من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولو قدر لنا أن نرى خادم رسول الله لخدمناه لخدمته لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
منزل بلا أثاث أو رياش:
وعاش النبي صلى الله عليه وسلم في منزل لا يعرف الأثاث ولا الرياش، فلم يكن فيه بساط قط، ولا كان يستر حيطانه من الطين شيء من الأصباغ بل ولا تسويه بالملاط.
ولما دخل على النبي صلى الله عليه وسلم عدي بن حاتم الطائي وهو ملك طيء وسيدهم وحبرهم، وقد علق صليباً من الذهب في صدره، واستضافه النبي صلى الله عليه وسلم إلى منزله لم يجد النبي صلى الله عليه وسلم ما يقدم لضيفه ليجلس عليه إلا وسادة واحدة من ليف وضعها النبي صلى الله عليه وسلم لضيفه ليجلس عليها، وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأرض!!
منزل بلا مطبخ ولا نار!!
ولم يعرف بيت النبي صلى الله عليه وسلم مطبخاً قط، ولا كان فيه فرن قط، وكان يمر شهران كاملان ولا يوقد في بيت الرسول صلى الله عليه وسلم نار قط، وكان يعيشون الشهر والشهرين على الماء والتمر فقط.. قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: كنا نتراءى الهلال والهلال والهلال ثلاثة أهلة في شهرين، ولا يوقد في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم نار!! قيل: فما كان طعامكم. قالت: الأسودان: التمر والماء!!!
ولم يكن يجد آل محمد صلى الله عليه وسلم التمر في كل أوقاتهم، بل كان رسول الله يمضي عليه اليوم واليومين وهو لا يجد من الدقل (التمر الردئ) ما يملأ به بطنه.(10/8)
ولم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبز الأبيض النقي قط، وسأل عروة بن الزبير رضي الله عنه خالته عائشة رضي الله عنها هل أكل رسول الله خبز النقي؟ فقالت: ما دخل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم منخلاً قط، ولا رأى رسول الله منخلاً قط.. قال: فكيف كنتم تأكلون الشعير؟ قالت: كنا نطحنه ثم نذريه (مع الهواء) ثم نثريه ونعجنه!! ومع ذلك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يشبع من خبز الشعير هذا يومين متتالين حتى لقي الله عز وجل!!
قالت أم المؤمنين رضي الله عنها: ما شبع آل محمد من خبز الشعير يومين متتالين حتى مات رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكانت تمر الأيام على أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يجدون ما يأكلونه لا تمراً ولا شعيراً إلا الماء.
ولقد جاء للنبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال: يا رسول الله أنا ضيفك اليوم!! فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى تسع زوجات عنده، ترد كل واحدة منهن (والله ما عندنا ما يأكله ذو كبير!! والمعنى من طعام يمكن أن يأكله إنسان أو حيوان) فما كان من النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن أخذه إلى المسجد عارضاً ضيافته على من يضيفه من المسلمين فقال: [من يضيف ضيف رسول الله!!]
وأقول: الله أكبر!! رسول رب العالمين، ومن له خزائن السموات والأراضين لا يوجد في بيته خبزة من شعير أو كف من تمر يقدمه لضيفه!!
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد الذي أرسلته رحمة للعالمين وسيداً للبشر أجمعين، وأعليت ذكره في الأولين والآخرين، واحشرني تحت لوائه يوم الدين.
وعاش النبي صلى الله عليه وسلم حياته لم يجلس في طعامه على خوان قط، ولا أكل في (سكرجة) قط (السكرجة: هي الصحون الصغيرة) ولم يعرف لا هو ولا أصحابه المناديل التي يجفف بها الأيدي بعد الطعام قط.
هذه ثياب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:(10/9)
وكان عامة أصحابه لا يجد أحدهم إزاراً ورداءاً معاً، بل عامتهم من كان له إزار لم يكن له رداء، ومن كان له رداء لم يكن له إزار!!
وكان يستحيون من رقة حالهم إذا جلسوا أو مشوا أن تظهر عوراتهم!!
وكان يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلوا وليس لإحدهم إلا الإزار أن يخالف بين طرفيه ويربطه في رقبته على عاتقيه!! حتى لا يسقط إزاره وهو يصلي!!
وفي عهد التابعين رأى أحدهم جابر بن عبدالله الأنصاري يصلي في إزار قد عقده من قبل قفاه!! وثيابه موضوعة على المشجب فقال له: تصلي في إزار واحد؟! فقال: إنما صنعت ذلك ليراني أحمق مثلك!! وأينا كان له ثوبان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
واختار النبي صلى الله عليه وسلم أن يعيش حياته كلها متخففاً من الدنيا، مقبلاً على الآخرة، ولما فتحت له الفتوح، وكان له الخمس من مال بني النضير وخمس الخمس من خيبر، والخمس من فدك وكلها أراض ترد غلات كبيرة جعل كل ذلك في سبيل الله، وجاءته نساؤه يطلبن التوسعة في النفقة، فأنزل الله سبحانه وتعالى عليه {يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحاً جميلاً وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجراً عظيماً}
ولما نزلت هذه الآية على الرسول صلى الله عليه وسلم وعلم أن هذا الخيار قد يصعب على بعض زوجاته، وكان صلى الله عليه وسلم يحب عائشة رضي الله عنها، وكانت في وقت نزول هذه الآية طفلة صغيرة لم تكمل الحادية عشرة من عمرها.
فبدأ النبي بها صلى الله عليه وسلم وقال لها: [يا عائشة إني عارض عليك أمراً فلا تستعجلي فيه حتى تستأمري أبويك!!](10/10)
وقد علم النبي صلى الله عليه وسلم أن أبويها لا يمكن أن ينصحا لها بفراق النبي صلى الله عليه وسلم!! فلما قرأ النبي صلى الله عليه وسلم عليها الآية وفيها تخيير بين الحياة مع النبي مع التقشف والتخفف من الدنيا، وترك التوسع فيها، وبين الطلاق. قالت: يا رسول الله أفيك أستأمر أبوي!! بل أختار الله ورسوله والدار الآخرة!!
الله أكبر... ما أعظم هذا!! هذه عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها فتاة لم تبلغ الحادية عشرة من عمرها... أي فقه وفهم ورجاحة عقل ودين كانت تحمله هذه الحِصَان الرازن الصديقة بنت الصديق رضي الله عنها. ثم قالت عائشة للنبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك: ولكن يا رسول الله لا تخبر أحداً من زوجاتك بالذي اخترته!!
ومرة ثانية أقول الله أكبر... عائشة أم المؤمنين التي اختارت الله ورسوله والدار الآخرة وآثرت الحياة مع النبي صلى الله عليه وسلم مع الزهد والتقشف والتقلل من الدنيا يظهر فيها كذلك معاني الأنثى الكاملة، والزوجة الغيور المحبة لزوجها التي تريد أن تستأثر به (وفضل عائشة على سائر النساء كفضل الثريد على سائر الطعام) ، وترجو أن يسقط في الاختبار غيرها من زوجات النبي صلى الله عليه وسلم!!
ولكن النبي صلى الله عليه وسلم يقول لها: [لا تسألني واحدة منهن عما اخترتيه إلا قلت لها!!]
نعم المعلم أنت يا رسول الله!! فقد كنت كاملاً في كل نواحيك!!
فأنت خير زوج لأزواجك، وخير صديق لأصدقائك، وخير صاحب لأصحابك، وخير شريك لشركائك، وخير جار لجيرانك، وفي النهاية خير رسول لأمته. فصلى الله عليك وعلى آلك وأزواجك الطيبين الطاهرين الذين صحبوك في هذه الحياة الدنيا على أتم صحبة، فكانت زوجاتك الطيبات الطاهرات خير النساء، ومن أجل ذلك جعلهن الله أمهات لكل مؤمن بمنزلة الأم الرؤوم الحنون. كما كنت يا رسول الله أباً لكل مؤمن بمنزلة الوالد الرؤوف الرحيم {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أب لهم وأزواجه أمهاتهن}(10/11)
وفارقرسول الله صلى الله عليه وسلم الدنيا يوم فارقها وهو في ثوبه الخشن، ومنزله المتواضع، عيشه الكفاف، ولم يترك ديناراً ولا درهماً بل مات وهو مدين بثمن ثلاثين صاعاً من شعير طعاماً لأهل بيته كان قد اشتراها من يهودي ورهنه النبي درعه!!
وأخرجت عائشة رضي الله عنها للناس رداءاً وكساءاً غليظاً فقالت: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذين!!
فسلام الله عليك ورحمته وبركاته عليك يا رسول في العالمين.
*********
****(10/12)
يا أيها المسلمون: سبحوا بحمد ربكم
بقلم: عبدالرحمن بن عبدالخالق
تسبيح الله سبحانه وتعالى شعبة من شعب الإيمان، وهي الشعبة التي ترجع إليها كل شعب الإيمان لأن أصل الإيمان تسبيح الله وتنزيهه، والكفر مرده إلى نسبة ما لا يليق بالله إليه.
فما التسبيح؟ وكيف كان أصل الإيمان تسبيح الله، وكيف كان الكفر كله والشرك عدم تسبيح الله جل وعلا؟
معنى التسبيح: التنزيه والإبعاد، والله سبحانه وتعالى سبوح قدوس بذاته، وتسبيح العباد لله هو اعتقاد تنزيهه سبحانه وتعالى عن المثيل، والنظير، والكفء والشريك، والظهير، وكل ما يعتري المخلوق من الضعف والموت والفقر والآفة، وكل ما لا يليق أن ينسب إلى الرب سبحانه وتعالى مما نفاه عن نفسه جل وعلا.
الكون كله مسبح لله جل وعلا بلسان الحال أو بلسان المقال:
اعلم رحمني الله وإياك أن الكون كله يسبح لله جل وعلا إما بلسان حاله أو لسان مقاله.
فأما لسان الحال فإن قيام هذا الكون على هذا النحو من الإبداع والاتقان والإحسان، والتناسق والوحدة، وجريانه على نسق لا يلحقه تفكك أو فطور، أو ضعف أو فوضى، أو خلل كل ذلك دليل قائم شاهد بلسان حاله أن خالق هذا الكون البديع إله قادر حكيم عليم قائم عليه مقتدر لا يعجزه شيء، وهذا دليل يحتمه ضرورة العقل، ويدفع إليه النظر، ولا يماري فيه إلا كافر جهول.
وقد جاء به الدليل السمعي الذي بلغته الرسل. قال تعالى: {إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد بعده أنه كان حليماً غفوراً}
وقال تعالى: {تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير* الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً وهو العزيز الغفور* الذي خلق سبع سموات طباقا ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئاً وهو حسير}(11/1)
وقال تعالى: {إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثاً والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين}
وقال تعالى: {أو لم ير الذين كفروا أن السموات والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون* وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم وجعلنا فيها فجاجاً سبلاً لعلهم يهتدون* وجعلنا السماء سقفاً محفوظاً وهم عن آيتها معرضون* وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون}
فالكون كله شاهد بلسان حاله شاهد أن له رباً خالقاً مبدعاً قوياً قادراً عليماً سميعاً بصيراً..
يشهد بذلك ولا يماري فيه كل من له قلب يعقل، وعين تبصر، وأذن تسمع، ولا يجحده إلا من قال الله فيهم: {ولقد ذرأنا لجنهم كثيراً من الجن والإنس لهم قلوب لا يعقلون بها، ولهم آذان لا يسمعون بها ولهم أعين لا يبصرون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون}
وأما شهادة المقال فإن جميع أهل الإيمان من الملائكة والإنس والجن شهدوا لله سبحانه وتعالى بما شهد لنفسه، وسبحوا الله ونزهوه عن كل عيب ونقص.
وهذه جحافل الإيمان الرسل وأتباعهم منذ آدم إلى يومنا وشهدوا بذلك وتعرضوا من الكفار لكل صنوف الأذى فما ردهم ذلك عن دينهم.
وقد جاء الخبر الإلهي بأن المخلوقات مسبحة لله جل وعلا لساناً وحالاً.
قال تعالى: {قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذاً لابتغوا إلى ذي العرش سبيلاً سبحانه وتعالى عما يقولون علواً كبيراً، تسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليماً غفوراً }
وقال تعالى: {ألم تر أن الله يسبح له من في السموات والأرض والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه والله عليم بما يفعلون }.. قد علم الله صلاته وتسبيحه، أو قد علم الطير كيف يصلي ويسبح لخالقه.(11/2)
وقال جل وعلا: {سبح لله ما في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم}
وقال جل وعلا: {سبح لله ما في السموات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم}
وقال تعالى: {يسبح لله ما في السموات وما في الأرض الملك القدوس العزيز الحكيم }
وقال تعالى: {يسبح لله ما في السموات وما في الأرض له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير}
الملائكة: أعظم خلق الله تسبيحاً لله:
والملائكة هم أعظم خلق الله تسبيحاً له وتنزيهاً له، ولا غَرْوَ في ذلك فهم أعلم مخلوقات الله بالله، وأقرب مخلوقات الله إلى الله. قال تعالى عنهم: {إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون} والذين عند الله هم الملائكة.
وأعلاهم حملة العرش قال تعالى عنهم: {الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلماً فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلهم وقهم عذاب الجحيم }
وقال تعالى: {وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم وقضى بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين }
أعظم الخلق عبادة أعظمهم تسبيحاً لله:
وكلما ارتقى العبد في مجال العبادة، ارتقى في مجال تسبيحه لله جل وعلا. قال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: {سبح اسم ربك الأعلى}
وقال تعالى: {واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا، وسبح بحمد ربك حين تقوم ومن الليل فسبحه وإدبار النجوم}
وقال تعالى: {ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين، واعبد ربك حتى يأتيك اليقين} (الحجر:97-99)
وقال تعالى لرسوله معلماً إياه بدنو أجله: {إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان تواباً}
وذلك لتكون ختام حياته كبدء رسالته تسبيحاً بحمد الله جل وعلا.
عن أي شيء يسبح الله سبحانه وتعالى وينزه:(11/3)
والله تبارك وتعالى يسبح وينزه عن كل ما لا يليق به إذ هو الرب الإله، الذي لا إله إلا هو، الحي القيوم، بديع السموات والأرض، الذي أحسن كل شيء خلقه، الرحمن الرحيم، الملك العلام القهار الذي قهر كل شيء وذل له كل شيء، الحي الذي لا يموت، والذي لا تأخذه سنة ولا نوم، ولا يعتريه ما يعتري المخلوق من نقص وآفة، الذي لا يبلغ العباد ضره فيضروه، ولا يبلغون نفعه فينفعوه، والغني عن كل ما سواه، وما سواه مفتقر إليه وهو لا يفتقر إلى شيء من مخلوقاته، والذي له الأسماء الحسنى والصفات العلى، والمثل الأعلى، والذي لا يحيط أحد من خلقه علماً به، وهو يحيط علماً بكل مخلوقاته الذي لا ند له ولا شبيه له، ولا نظير له، ولا كفء له... هو سبحانه وتعالى المنزه عن أضداد هذه الصفات، ومتصف بكل صفات الكمال والجلال والعظمة والكبرياء.
التسبيح والحمد طرفان لشيء واحد:
والتسبيح والحمد طرفان لأمر واحد، فالحمد إثبات صفات الكمال، والتسبيح نفي صفات النقص، ولا يكون الإيمان إلا باجتماع الأمرين فمن أثبت لله صفات الكمال ولم ينف عنه صفات النقص فما آمن بالله ولا عرفه ولا وحده.
ومن نفي عن الله صفات النقص، ولم يثبت له صفات الكمال، فما عرف الله ولا آمن به حقاً، ولا وحده... لذلك أمرنا أن نسبح الله حال كوننا حامدين له. قال تعالى: {فسبح بحمد ربك} والمعنى نزه الله تبارك وتعالى حال كونك حامداً له. وقال تعالى: {يسبحون بحمد ربهم}
أول ما يجب تنزيه الله عنه هو الشبيه والنظير والمثال والكفء:
وأول ما يجب على العباد أن ينزهوا ربهم سبحانه وتعالى عنه هو الشبيه والنظير، والمثال والكفء والند، فالله سبحانه وتعالى لا مثيل له، ولا كفء له، ولا ند له، ولا نظير له. قال تعالى: {قل هو الله أحد* الله الصمد* لم يلد ولم يولد* ولم يكن له كفواً أحد}(11/4)
وهذه السورة يعدل ثواب قراءتها ثواب قراءة ثلث القرآن لأنها اشتملت على صفة الرب وفيها تنزيه الله عن أن يكون له كفء أو مثال أو شبيه، والشهادة بذلك أعظم أبواب الإيمان.
فالله سبحانه وتعالى أحد، واحد في ذاته لم يتولد من شيء، ولا يولد منه شيء، فلو كان له ولد تعالى الله سبحانه - لكان من جنس أبيه، رباً إلهاً خالقاً قادراً متصرفاً... وليس لله كفء يضاهيه في صفة من صفاته أو فعل من أفعاله التي اختص بها نفسه.
الأفعال والصفات التي لا يتصف بها إلا الله سبحانه وتعالى:
ولله سبحانه وتعالى أفعال وصفات اختص نفسه بها، ولم يجعلها في مقدور أحد من خلقه ولا ملائكته، ولا رسله. فمن ذلك:
الخلق:
بمعنى إخراج المادة من العدم إلى الوجود، وإعطاء كل مخلوق صفته وقدره، وبقاءه وموته، وعمله... الخ
فالله سبحانه وتعالى هو خالق كل شيء. قال تعالى: {الله خالق كل شيء}، وقال تعالى: {والله خلقكم وما تعملون}
وقد تحدى كل مخلوقاته أن يخلقوا ذرة من الوجود. فقال تعالى: {يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له، وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه، ضعف الطالب والمطلوب}
ولذلك كان من نظر علماء المادة أن المادة لا تعدم، ولا تستحدث من العدم، وهذا حق بالنسبة للمخلوق، وأما الخالق فهو الذي أخرج هذا الكون من العدم وهو الذي يتصرف فيه بما يشاء، وأما المخلوق فإنه أعجز عن أن يخلق ذرة، أو يفني ذرة!!
التصوير والتقدير:
وكما أن الله سبحانه وتعالى هو خالق السموات والأرض أي يخرجهما إلى الوجود فهو كذلك مبدع السموات والأرض والذي أعطى كل شيء خلقه الذي هو عليه أي صورته وشكله، وطبائعه وغرائزه وحده ومقداره.(11/5)
قال تعالى: {الله الذي خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون* يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون* ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم* الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين* ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين* ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلاً ما تشكرون}.
ومن أسمائه سبحانه وتعالى (المصور). قال تعالى: {هو الله الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى يسبح له ما في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم}.
فهو سبحانه وتعالى الذي أعطى كل مخلوق صورته، ولن يعجزه أن يمايز بين كل فرد في النوع الواحد بصورة مخالفة لصورة الآخر وهذا من كمال علمه وسعة قدرته. قال تعالى مذكراً الإنسان بنعمة الله عليه في الصورة والمثال الحسن: {يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم* الذي خلقك فسواك فعدلك* في أي صورة ما شاء ربك}، وفي الحديث الصحيح أنه إذا مر على النطفة أربعين يوماً أرسل الله لها ملكاً فقال: أي ربي ما عمله؟ أذكر أم أنثى؟ ما أجله؟ أشقي أم سعيد؟ فيكتب هذا كله قبل أن ينفخ فيه الروح.
التصريف:
والله سبحانه وتعالى خالق كل شيء أي موجده من العدم، وكذلك مبدعه، ومصوره، وكذلك أيضاً مصرفه وموجهه، وهاديه، وخالق عمله، ومالك تصرفاته، فما من حركة ولا سكون من المخلوق إلا والله علمها وقدرها، وبرأها، وهدى المخلوق إليها. قال تعالى: {سبح اسم ربك الأعلى الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى}
فهو الذي خلق وسوى المخلوق كما يشاء، وهو الذي قدر عمل هذا المخلوق وهداه إليه وأقامه فيه. قال تعالى عن الإنسان: {هل أتي على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً، إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعاً بصيراً* إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً}(11/6)
فالله هو الذي هدى الإنسان ليتخذ سبيل المؤمنين أو سبيل الكافرين. قال تعالى: {وهديناه النجدين}.. أي طريق الخير أو طريق الشر: درب السعادة أو درب الشقاوة.
وقال تعالى: {إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلاً، وما تشاءون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليماً حكيماً يدخل من يشاء في رحمته والظالمين أعد لهم عذاباً أليماً}
وقال صلى الله عليه وسلم: [اعملوا فكل ميسر لما خلق له، فمن كان من أهل السعادة فسييسر لعمل أهل السعادة، ومن كان من أهل الشقاوة فسييسر لعمل أهل الشقاوة]
الرزق:
وكما أن الله سبحانه هو الخالق وحده، والمتصرف في خلقه وحده، فهو رازقهم وحده جل وعلا. قال تعالى: {وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين}.
وقال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون* ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين}
وقال تعالى: {ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم}.
وقال تعالى: {ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم}
وليس معنى كون الله هو الرزاق وحده أنه خالق الرزق فقط، بل وخالق سعي العباد إلى الرزق، فهو الرزاق خلقاً للأرزاق، ولا يستطيع غيره أن يخلق شعيرة، ولا حبة بر واحدة، ولا ثمرة، بل ولا ذرة من ثمرة، بل هو أيضاً وحده سبحانه وتعالى مالك سعي خلقه إلى ما يرزقهم إياه، ويطعمهم إياه، فهو سبحانه الرزاق خلقاً وسعياً وكسباً، فكسب العبد من خلق الله سبحانه وتعالى.
الله سبحانه هو المالك والملك وحده:(11/7)
ولما كان الله سبحانه وتعالى هو الخالق وحده، وهو مالك تصرفات عباده وحده، وخالق أفعالهم وحده، كان هو المالك لكل الملك وحده، وهو الملك على الحقيقة وحده. قال تعالى: {تبارك الذي بيده الملك} فالملك كله بيده وحده،ورهن تصرفه. قال تعالى: {له مقاليد السموات والأرض}، والمقاليد هي المفاتيح، فالخزائن كلها عنده وحده، وهو الذي يعطي عباده من خزائنه. قال تعالى: {وإن من شيء إلا عندنا خزائنه، وما ننزله إلا بقدر معلوم}
وإذ ذكرنا الخزائن فلنذكر أن عطاء الله لا ينضب ولا ينقصه كثرة الإنفاق. قال صلى الله عليه وسلم: [يد الله ملأى سحاءُ الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض فإنها لم تنقص ما في يمينه]!!
وقال تعالى في الحديث القدسي: [يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم وقفوا في صعيد واحد، وسألني كل مسألته فأعطيته إياها لم ينقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر، فلينظر بم يرجع...] الحديث
فإذا كان خروج إبرة من البحر بشيء من البلل ينقص ماء البحر، فكذلك إعطاء الله كل مخلوقاته من أول ما خلق إلى آخر ما خلق، كل فرد فيهم ما يطلبه ويتمناه ويشتهيه، فإن ذلك لا ينقص شيئاً مما عند الله، الذي إذا أراد شيئاً أن يكون قال له كن فيكون!! ولا يعيدها... قال تعالى: {وما أمرنا إلا واحدة كلمح البصر}
الله هو الملك وحده:
ولما كان الله سبحانه هو المالك وحده لأنه الخالق وحده، فهو كذلك الملك وحده، لأنه المتصرف في خلقه بكل أنواع التصرف، فلا مشيئة للعبد إلا بعد مشيئته ولا فعل للعبد إلا بأمره الكوني القدري. وملك غير الله ملك عاري لا حقيقي.
الله هو الذي له الأمر وحده (الكوني القدري، والتشريعي الديني):(11/8)
ولما كان الله سبحانه وتعالى هو الخالق وحده، والمتصرف في عباده وحده كان هو الذي له الأمر وحده: الأمر بشقيه: الأمر الكوني القدري، والأمر التشريعي الديني، فأما الأمر الأول وهو الكوني القدري فإنه ما من حركة ولا سكون، ولا وجود ولا عدم ولا تصرف في صغير ولا كبير إلا بأمره. قال تعالى: {إنما أمرنا لشيء إذا أردناه أن نقول كن فيكون}، وقال تعالى: {ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين}
وقال تعالى: {الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علماً}. وقال جل وعلا لرسوله: {ليس لك من الأمر شيء}، وقال: {قل إن الأمر كله لله}
وقال جل وعلا: {ولله غيب السموات والأرض وإليه يرجع الأمر كله}، وقال تعالى: {لله الأمر من قبل ومن بعد}، وقال تعالى: {وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميراً}
وكما له سبحانه وتعالى الأمر الذي أراده كوناً وقدراً، فإن الأمر التشريعي له كله فهو الذي يأمر عباده بما شاء من طاعة، وينهاهم عما شاء من معصيته، فالشرع شرعته، والحلال ما أحله، والحرام ما حرمه، والدين ما ارتضاه لعباده، والرسل مبلغون عنه، وليسوا مشرعين من عند أنفسهم وهم ممتثلون لأمره، مبلغون لحكمه. قال تعالى لرسوله: {فاستقم كما أمرت ومن تاب معك}، وقال تعالى له: {ليس لك من الأمر شيء}، وقال تعالى: {قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم}، وقال تعالى: {قل إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي}..
والعلماء مبلغون عن الله ورسوله، وليس لهم أن يجتهدوا بما يخالف أمر الله ورسوله، ولا حجة في قول أحد يخالف قول الله ورسوله، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. والعالم إذا اجتهد فإنما يجتهد ليتوصل إلى ما يظن أنه حكم الله، ولا يجتهد ليعطي الناس رأيه ومعقوله وما ارتآه بل يجتهد ليصل إلى ما يظن أنه حكم الله سبحانه وتعالى.(11/9)
وكل من أمر بما يخالف أمر الله فهو معرض للعقوبة فالأمر كله لله، كونياً قدرياً، وتشريعياً دينياً.
الحكم لله وحده:
وكما الأمر لله وحده فكذلك الحكم لله وحده، الحكم في عباده وخلقه كوناً وقدراً، والحكم في عباده ديناً وشرعاً. قال تعالى: {إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه}، وقال تعالى: {ولا يشرك في حكمه أحداً}، وقال تعالى: {له الحكم وإليه ترجعون}.
فلا يحكم في عباده إلا هو، ولو اجتمع أهل الأرض أن ينفعوا واحداً ما نفعوه إلا بأمره ومشيئته وحكمه، وعلى أن يضروه ما ضروه إلا بأمره ومشيئته وحكمه.
بل لا يستطيع أحد أن ينفع نفسه بنافعة إلا بأمره وقضائه وقدرته وحكمه، ولا أن يضر نفسه إلا بمشيئته وأمره وحكمه. فمصائر العباد كلها بين يديه، والحكم عليهم خيراً وشراً إليه، ولا يملك أحد منهم لنفسه ولا لغيره نفعاً ولا ضراً إلا بإذنه وأمره، وحكمه.
لا إله إلا هو سبحانه وتعالى:
ولما كان الرب سبحانه هو الخالق وحده، والمصور وحده، والمتصرف في خلقه وحده، والملك وحده، والمالك وحده، والحاكم وحده، والآمر وحده كان كذلك هو الإله المعبود وحده...
فإن من كانت له هذه الصفات فإنه لا تنبغي العبادة بكل معانيها إلا له وحده.
فالعبادة وهي تعني الذل والخضوع والطاعة والإنابة والتعظيم والتقديس والتسبيح والتنزيه والحمد، وما يستلزم ذلك، ويقتضيه من المحبة والخضوع والرغبة والرهبة والتوكل والإنابة والخوف والخشية.
وهنا نصل إلى معنى التسبيح وهو اعتقاد وانتفاء ما يضاد هذه الصفات عن الرب تبارك وتعالى.
فكل ما يضاد صفة الله الثابتة له، يجب نفيها عن الله سبحانه، ونفي ما يضاد صفات الحمد هو معنى تسبيح الله وتنزيهه.
***********
*****(11/10)
الحياة الدنيوية لمريم ابنة عمران وابنها عيسى عليهما السلام {وجعلناها وابنها آية للعالمين}
بقلم: عبدالرحمن بن عبدالخالق
كانت الحياة الدنيوية لروح الله وكلمته ورسوله الخاتم لرسل لبني إسرائيل عيسى بن مريم، ولأمه مريم بنت عمران عليهما السلام سلسلة متواصلة من الابتلاءات والاختبارات، وكانت حياتهما الدنيوية نموذجاً للزهد والبعد عن الدنيا، والرغبة فيما عند الله.
فأما مريم عليها السلام فإن الله سبحانه وتعالى اصطفاها واختارها على كل نساء الأرض. قال تعالى: {وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين}.
وقال صلى الله عليه وسلم: [كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا مريم ابنة عمران، وخديجة بنت خويلد..] الحديث
جاءت أنثى فيما ترجو أمها أن يكون مولودها ذكراً:
وأول امتحان لمريم عليها السلام أن أمها التي كانت ترجو أن ترزق غلاماً لتهبه لخدمة بيت المقدس رزقت بنتاً، والبنت لا تقوم بالخدمة في المسجد كما يقوم الرجل، وأسفت أم مريم امرأة عمران واعتذرت للرب جل وعلا فقالت: {رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت -وليس الذكر كالأنثى- وإني سميتها مريم، وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم} وأوفت بنذرها كما اشترطته على الله: {رب أني نذرت لك ما في بطني محرراً}!! وكان لا بد من الوفاء بالنذر..
وقبل الله سبحانه وتعالى هذا النذر وجعله نذراً مباركاً.. بل لا يعرف نذر أعظم منه بركة، فقد أعقب خير نساء العالمين ورسولاً من أولي العزم من الرسل يجعل الله ولادته وحياته، ورفعه إلى السماء، ونزوله آخر الدنيا، وما أجرى على يديه من المعجزات آية كبرى من آيات الله سبحانه وتعالى... فأي نذر أعظم من هذا؟
مريم عليها السلام اليتيمة في بيت الله:
ولدت مريم عليها السلام يتيمة فآواها الله عند زوج خالتها -والخالة بمنزلة الأم- وزوج خالتها هو زكريا عليه السلام وهو نبي قومه..(12/1)
وكان هذا من رحمة الله بمريم، ورعايته لها. قال تعالى: {فتقبلها ربها بقبول حسن، وأنبتها نباتاً حسناً وكفلها زكريا}
وشبت مريم عليها السلام وبيتها المسجد، وخلوتها فيه، ويلطف الله بها فيأتيها الطعام من الغيب وكلما زارها زوج الخالة، وجد عندها رزقاً، وهو الذي يقوم بكفالتها فمن أين يأتيها شيء لم يأت هو به؟!
ويقول لها: {يا مريم أنى لك هذا} فتقول: {هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب}، ولم تكن في هذا في جنة قبل الجنة، وإنما هو بلغة من الرزق يتحف الله به أولياءه، ويكرم به أهل طاعته اتحافاً وإكراماً، إذا ضاق بهم الحال واشتد بهم الأمر، وتذكيراً لهم بأن الله لا يضيع أهله، كما صنع الرب الإله لهاجر عليها السلام وابنها اسماعيل فقد فجر الله لهما زمزم ماءاً معيناً عندما تركهما إبراهيم في هذا المكان القفر.
وكما فعل الرب سبحانه بخبيب بن عدي رضي الله عنه صاحب رسول الله الذي حبسه أهل مكة ليقتلوه، فرأوا في يده وهو في سجنهم قطفاً من عنب يأكل منه، وليس بمكة كلها عنب، ولا هو بأوان عنب، وإطعام الله أهله وأولياؤه من الغيب، وهم في الدنيا هو من باب اللطف بهم، وإظهاره معجزاته لهم فكم نبع الماء من بين أصابع النبي الخاتم محمد بن عبدالله صلوات الله وسلامه عليه؟! وكم بارك النبي صلى الله عليه وسلم في الطعام القليل الذي لا يكفي خمسة من الناس فيأكل منه الجيش كله، وكانوا ثمانمائة رجل أكلوا لحماً وثريداً حتى شبعوا من عناق واحدة، وصاع من شعير لا يكفي خمسة.
مريم عليها السلام وأحلام الأنثى:
لم يكن لمريم عليها السلام التي سكنت في محراب المسجد (المحراب غرفة في المسجد يعتزل فيه المقيم بها عن الناس)، وكان بنو إسرائيل يتخذون المحاريب في المساجد للخلوة والعبادة، (وسمي هذا المكان في المسجد بالمحراب لأن المقيم فيه كأنه محارب للناس مبتعد عنهم أو كأنه بيت الأسد).(12/2)
أقول: لم يكن لمريم المنذورة لبيت الله من أحلام الأنثى -في الزوج المنشود- والمرآة، وصندوق أدوات التجميل شيء!! بل كان زادها وحلمها وآمالها الطاعة والعبادة!! فقد جاءها أمر الله: {يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين* يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين}
وهكذا نشأت مريم فتاة عابدة في خلوة في المسجد تحيي ليلها بالذكر والعبادة والصلاة وتصوم نهارها، وتعيش لآخرتها.
المحنة الكبرى لمريم عليها السلام:
كانت المحنة الكبرى لمريم عليها السلام العابدة الزاهدة البتول أن يبشرها الله سبحانه وتعالى بولد منها وهي غير ذات زوج فقالت: {أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر} وحاولت دفع هذا عن نفسها، ولكن جاءها الأمر الإلهي: {كذلك قال ربك هو علي هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمراً مقضياً}
فكذلك قال الله، فلا راد لكلمته، وكان أمراً مقضياً فمن الذي يستطيع أن يمنع قضاء الله؟! ولله سبحانه وتعالى شأن في إخراج هذه الآية للناس: امرأة عابدة صالحة تبتلى بحمل من غير زوج يصدقها الصادقون المؤمنون، ويكذبها الكافرون المجرمون، ويكون ابنها الذي قضاه الله وقدره على هذه الصورة المعجزة آية في خَلْقِه، آيه في خُلُقِه، آية في معجزاته، رحمة للناس في زمانه، وبعد زمانه، فتنة لعميان البصائر الذين يغالون فيه فيعبدونه ويجعلونه خالقاً رازقاً مدبراً موجوداً قبل الدهور مولوداً بطبيعة بشرية وهو في ذاته إله من إله!! تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً... وهكذا يهلك فيه من اعتقده ابن من الزنا!! ومن اعتقده الإله الخالق وينجو به أهل الصدق والتصديق: {قال إني عبدالله آتاني الكتاب وجعلني نبياً وجعلني مباركاً أينما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حياً، وبراً بوالدتي ولم يجعلني جباراً شقياً، والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حياً}
مريم عليه السلام تفر من المسجد خوفاً من الفضيحة والعار:(12/3)
وتخرج مريم عليها السلام من محرابها في بيت المقدس بعد أن رأت حملها في بطنها قد كبر، وبعد أن خافت الفضيحة، تخرج إلى مكان بعيد تتوارى فيه عن الأنظار، وفي بيت لحم يلجئها المخاض إلى جذع نخلة -وهي وحيدة غريبة طريدة- فتضع حملها ولا أم هناك، ولا خالة ولا قابلة!! ولا بيت دافئاً، ولا ستر تتوارى فيه عن أعين الناس إلا هذه الأحراش!! تضع حملها ودموعها تملأ مآقيها، والهموم والآلام تلفها من كل جانب: هم الغربة والوحشة، وفقد الأهل والناصر، والستر وفقد الإرفاق بالوالد، وكم تحتاج الوالد من الإرفاق تحتاج إلى دفء، وحنان زوج، وشفقة أهل، وطعام مخصوص، وفراش، وتهنئة بالسلامة والعافية بالمولود الجديد... وأما مريم عليها السلام فلا شيء من ذلك وهي تنتظر الفضيحة بوليدها الجديد..
وعندما تجتمع كل هذه الهموم والمصاعب تتمنى أن تكون قد ماتت قبل هذا الامتحان!! ولم تعش إلى هذه المحنة الشديدة قالت: {يا ليتني مت قبل هذا، وكنت نسياً منسياً}. (أي شيء متروكاً محتقراً، والنسي في كلام العرب: الشيء الحقير الذي من شأنه أن ينسى، فلا يتألم لفقده).
وفي هذه اللحظة التي يبلغ بها الحزن والأسى مداه يأتيها الأمن والأمان والبشرى والإرفاق.. فيناديها مولودها من تحتها: {ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سرياً} أي سيداً عظيماً {وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطباً جنياً* فكلي واشربي وقري عيناً فإما ترين من البشر أحداً فقولي إني نذرت للرحمن صوماً فلن أكلم اليوم إنسياً}
إن مع العسر يسراً:(12/4)
وهنا تأتيها المعجزات بالجملة فهذا جدول ماء رقراق يفجره الله لها، وهاهي تستطيع وهي والد ضعيفة أن تهز جزع النخلة فيتساقط عليها الرطب رطباً جنيا، وأما القوم وخوف الفضيحة فدعي هذا لنا!! وعليك أنت بالصوم عن الكلام، ودعي هذا السيد العظيم الذي تحملينه يتولى الدفاع عنك، وبيان المهمة التي أرسل بها. قال تعالى: {فأتت به من قومها تحمله، قالوا يا مريم لقد جئت شيئاً فرياً* يا أخت هارون ما كان أبوك امرأً سوء وما كانت أمك بغياً* فأشارت إليه، قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبياً}، وهنا أنطقه الله ليبين لهم الآية في خلقه على هذا النحو...
وينشأ عيسى في قومه من بني إسرائيل وبدلاً من أن يقابل اليهود المعجزة بالإيمان والتصديق يقابلونها بالجحود والنكران، ويتوجسون شراً من هذا المولود الذي تكلم في المهد، والذي ينشأ لا كما ينشأ الصبيان، فالأولاد يلهون بالطين فيجعلون منه عصفوراً حجراً تمثالاً، ولكنه يصنع لهم عصفوراً من الطين ثم ينفخ فيه أمامهم فإذا بالعصفور حي يطير فيكون ردهم أن هذا ساحر كبير!!
عيسى عليه السلام العابد الزاهد البار التقي:
وينشأ عيسى عليه السلام عابداً زاهداً يلبس الصوف، وشعر الماعز ..
ولم يتخذ له مسكناً قط، ولا سكن بيتاً طيلة حياته، ولا أوى إلى سقف قط، ولم يدخر شيئاً قط، ولا ادخر طعاماً لغده أبداً. ينتقل من مكان إلى مكان أينما يدركه المساء بات!! يلبس نعلين من لحاء الشجر، شراكهما ليف، كان عامة تنقله على رجليه، وأحياناً يركب حماراً، عمله السياحة في الأرض لا يأويه بيت ولا قرية، مأواه حيث جنَّه الليل، سراجه ضوء القمر، وظله الليل، وفراشه الأرض لم يتخذ غطاءاً بينه وبين الأرض قط، ووسادته حجر من الأرض، بقله وريحانه عشب الأرض وربما طوى الأيام جائعاً، لم يره أحد مقهقهاً قط!!(12/5)
أصحابه وأصدقاؤه وخلانه هم الفقراء والمساكين والزمنى والمرضى، يمسح دموعهم، ويدعو لهم فيشفيهم الله ببركته، وجلساؤه الخطاءون وقطاع الطرق، فيدعوهم إلى التوبة فيتوبون على يديه {وجعلني مباركاً أينما كنت} لقد كان عيسى مباركاً حيث كان وأنى تحول... كان مثالاً لبني إسرائيل الذي تكالبوا على الحطام، وأقبلوا على الدنيا، وكانوا أحرص الناس على الحياة، وبخلوا حتى اشتكى البخل من بخلهم، فجاءهم عيسى عليه السلام ليضع الدنيا كلها تحت قدميه، ويلقيها وراء ظهره ويعمل للآخرة فيشفي من يعجز الطب عن شفائه.
فينطق الأبكم، ويسمع الأصم، يفتح أعين من ولد أعمى، ويمسح جلد الأبرص فيعود أحسن من جلد السليم، ويقيم المقعد الأشل، ويشفي الزمن اليائس من الشفاء، ولا يتخذ على شيء من ذلك أجراً ويعلم الدين، ولو أخذ أجراً لكان أغنى الناس.
ويجعل مجالسه وقيامه وقعوده مع الفقراء والمساكين والمعوزين، فيمسح دموعهم ويغسل عن أرجلهم، ويتواضع لهم ويبشرهم بالدخول إلى ملكوت السماء إذا زهدوا في هذه الدار الفانية.
تعالوا أعلمكم صيد العالم بدلاً من صيد السمك!!:
ويمر على طبرية ويلقي مجموعة من صيادي الأسماك فيدعوهم إلى الإيمان، ويدعوهم إلى حمل دعوة الله، والتبشير برسالته فيعتذرون أنهم مشغولون بصيد السمك فيقول لهم (تعالوا أعلمكم صنعة تصيدون بها العالم بدلاً من صيد السمك) تعالوا فـ (أن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من الدنيا وما فيها) فيتبعه منهم مجمعة يصبحون تلاميذه الخاصين، وأصحابه المنتخبين ويصحبونه من قرية إلى قرية، يدعون إلى الله، ويصيدون الناس في شباكهم إلى الجنة والمغفرة، بعد أن كان كل صيدهم سمكة يرجعون بها إلى أهلهم.
اليهود يلاحقون أنبياء الله الثالثة زكريا ويحيى وعيسى ليقتلوهم:(12/6)
ولكن يظل اليهود هـ اليهود انكباباً على الدنيا، رضا بالذل، وحرصاً على الحياة، وماذا يفعلون وقد قام لهم ثلاثة من الوعاظ في وقت واحد زكريا وابنه يحيى، وعيسى بن مريم عليهم السلام جميعاً.
فأما زكريا عليه السلام فإن اليهود لاحقوه حتى قتلوه، وبعد أن لاذ منهم بشجرة شقوه معها إلى نصفين. وأما يحيى عليه السلام العابد الزاهد البار التقي فإنهم ظلوا يلاحقونه حتى كان آخر أمره أن طلبت رأسه علي طبق، بغي من بغاياهم، لمّا قدمت ابنتها إلى ملك من ملوكهم رقصت في يوم مولده فأذهلت الملك والحضور بجودة رقصها فقال لها اطلبي!! فقالت لها أمها: اطلبي رأس يحيى (يوحنا المعمدان) على طبق!! وقد كان!! قدم الملك رأس يحيى النبي هدية إلى زانية!! لأنها أدخلت السرور على قلب الملك وجلسائه في عيد ميلاده وقال لها لا تطلبين شيئاً إلا حققته لك فطلبت رأس من أفتى بقطع فنها، وتحريم عملها!!
وبقي عيسى عليه السلام النبي المخلص الذي يدعو اليهود إلى الآخرة، ويريد أن يخرجهم من ذل الرومان الوثنيين، ويعيد لهم الدين والشريعة والعزة والتمكين... فما كان من اليهود إلا أن صاحوا به وبدأوا يلاحقونه من قرية إلى قرية يريدون إهلاكه وقتله، وإلحاقه بيحيى الذي قطعوا رأسه، وزكريا الذي نشروه إلى فلقتين بالمنشار واتخذ اليهود كل سبيل لقطع عيسى عليه السلام من وسطهم.(12/7)
ولما علم عيسى عليه السلام أنه ملاحق مطارد وأن القوم قد وشوا به إلى الرومان ليقتلوه واتهموه بالفساد والإفساد في الأرض، وقال اليهود للرومان الوثنيين الكفرة: إن تركتم عيسى فإنه سيفسد عليكم الشعب!! ولن تستقر لكم حكومة في فلسطين!! وكان الرومان الكفار الوثنيون أعظم رحمة وعدلاً مع عيسى عليه السلام من اليهود الذين هم قوم عيسى وجماعته وأهله!! وقال الحاكم الروماني (بيلاطس) لليهود الذين جاءوه شاكين من عيسى عليه السلام: إن هذا رجل بار، لم نر منه شراً!! إذا كنتم تختلفون معه في شيء من دينكم فهذا شأنكم أننا لا نتدخل في مشكلاتكم الداخلية!! احكموا عليه فيما بينكم!! أما نحن فإننا لم نر منه شراً!! ولكن اليهود وهم اليهود يقولون له: إن لم تقتله شكوناك أنت إلى القيصر في روما، فإنك لا تقوم بعملك في فلسطين على الوجه الأكمل!! إنك تترك المفسدين ليفسدوا في الأرض!! فيقول لهم الحاكم الروماني: يا قوم كيف ألطخ يدي بدماء رجل برئ!! فيقولون له: اقتله ودمه في رقابنا!!
ولا يجد الحاكم الروماني (بيلاطس) بداً من قتله ليسكن الفتنة فيرسل شرطته وجواسيسه ليأتوه بعيسى عليه السلام، ويتوصلون بالرشوة لمعرفة البستان الذي كان قد اختفى فيه عن الأنظار، ويلقي الله شبه عيسى عليه السلام على غيره ويقاد إلى الحاكم الروماني، فيقول: أنا برئ من دم هذا البار ويؤخذ إلى الحاخام اليهودي الأكبر قيافا، وفي محاكمة صورية هزلية يحكم عليه بأنه مبتدع ضال مهرطق، وأن حكمه أن يقتل، ويؤخذ شبه عيسى هذا إلى السجن، وينتظر الحاكم الروماني لعل الأمور تتغير، ولعل اليهود يتغيرون ويراجعون حكمهم في عيسى ولكن هيهات..
الحكم على يسوع بالموت:(12/8)
وكان من عادة الحاكم في كل عيد أن يطلق لجمهور الشعب أي سجين يريدونه، وكان عندهم وقتئذ سجين مشهور اسمه باراباس، ففيما هم مجتمعون، سألهم بيلاطس: من تريدون أن أطلق لكم: باراباس، أم يسوع الذي يدعى المسيح؟ إذ كان يعلم أنهم سلموه عن حسد، وفيما هو جالس على منصة القضاء، أرسلت إليه زوجته تقول: إياك وذلك البار، فقد تضايقت اليوم كثيراً في حلم بسببه. ولكن رؤساء الكهنة والشيوخ حرضوا الجموع أن يطالبوا بإطلاق باراباس وقتل يسوع. فسألهم بيلاطس:أي الاثنين تريدون أن أطلق لكم؟ أجابوا: باراباس. فعاد يسأل: فماذا أفعل بيسوع الذي يدعى المسيح؟ أجابوا جميعاً: ليصلب. فسأل الحاكم: وأي شر فعل؟ فازدادوا صراخاً: ليصلب!، فلما رأى بيلاطس أنه لا فائدة، وأن فتنة تكاد تنشب بالأحرى، أخذ ماء وغسل يديه أمام الجمع، وقال: أنا برئ من دم هذا البار، فانظروا أنتم في الأمر! فأجاب الشعب بأجمعه: ليكن دمه علينا وعلى أولادنا! فأطلق لهم باراباس، وأما يسوع فجلده، ثم سلمه إلى الصلب.
الجنود يستهزئون بيسوع:
فاقتاد جنود الحاكم يسوع إلى دار الحكومة، وجمعوا عليه جنود الكتيبة كلها، فجردوه من ثيابه، وألبسوه رداءاً قرمزياً، وجدلوا إكليلاً من شوك وضعوه على رأسه، ووضعوا قصبة في يده اليمنى وركعوا أمامه يسخرون منه وهم يقولون: سلام يا ملك اليهود، وبصقوا عليه، وأخذوا القصبة منه، وضربوه على رأسه، وبعدما أوسعوه سخرية نزعوا الرداء وألبسوه ثيابه، وساقوه إلى الصلب. (إنجيل متى 15-32 )
ولما أحس عيسى عليه السلام أنه ملاحق مطارد مطلوب رأسه، وأن اليهود لن يهدءوا إلا إذا ألحقوه بيحيى وزكريا...
قال لخلص أصحابه: {من أنصاري إلى الله} قال تعالى: {فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله، قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون}.
عيسى عليه السلام يحمل الحواريين الأمانة ويصعد إلى السماء:(12/9)
فحملهم عيسى الأمانة وأوصاهم بالدعوة إلى الله حتى الموت، وبايعهم على الشهادة في سبيل الله وأخبرهم أن الله رافعه إلى السماء، وأنه سيعود مرة ثانية إلى الأرض!! ولكن الحواريين يناشدونه البقاء معهم وألا يتركهم لخوض غمار هذه المحنة وحدهم!! فيخبرهم أنه سيذهب ليأتي المخلص الأعظم، والنبي الخاتم الذي تختم به الرسالات، وأنه إذا بقي فيهم ولم يصعد إلى السماء لا يأتي هذا المخلص الأكبر والنبي الأعظم، وأخبرهم عيسى أن عودته ستكون في النهاية قبل يوم القيامة وأنه عندما يرتفع الليلة إلى السماء سيدعو الله أن يؤيدهم في مهمتهم الشاقة بروح القدس جبريل أمين الله على وحيه ليكون معهم يشد أزرهم حتى يكملوا المهمة...
ويرفع الله عيسى إليه، ويطهره من الذين كفروا، ويصلب الذي ألقى الله شبهه عليه بدلاً من عيسى!! ويفتخر اليهود قائلين: (إنا قتلنا المسيح عيسى بن مريم رسول الله)!!
ويقوم تلاميذ بالدعوة إلى الله، فيخرج كل منهم إلى مدينة من مدن العالم فينتشر الدين، ويقتلون جميعاً شهداء.
ويبقى عيسى عليه السلام اختياراً للناس إلى يوم القيامة:
ويفتن الناس في شأن عيسى فاليهود يسبونه ويرمونه وأمه بالزنا، ويقولون مبتدع مهرطق كذاب!! ادعى أنه جاء ليخلصنا من الذل، ولم يستطيع أن يخلص نفسه، وقد قتلناه واسترحنا منه!! وجمع من النصارى يغالون فيه وتتجارى بهم الأهواء فيقولون هو الله ولد من مريم، وكان موجوداً قبل الدهور، وهو وروح القدس والله ثلاثة في واحد، الأب والابن وروح القدس إله واحد!! ويختلفون في حقيقته وطبيعته إلى مئات من العقائد والمذاهب والأقوال التي يضاد بعضها بعضاً، ويكفر بعضهاً بعضاً، وأهل الحق من أتباعه يعتقدون أنه عبد الله ورسوله جاء بني إسرائيل بالهدى والدين فكان من شأنهم معه ما كان، ورفعه الله وطهره لتتم الرسالات بالنبي الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم.
عيسى عليه السلام والعودة إلى الأرض:(12/10)
ويعود عيسى في آخر الزمان نبياً ورسولاً، تابعاً للنبي الخاتم، حاكماً بالقرآن فيكسر الصليب الذي عبد جهلاً، ويقتل الخنزير الذي أحله من زعم أنهم من أتباعه، ويضع الجزية فلا يقبل إلا السيف، ويقيم الصلاة التي علمها محمد بن عبدالله النبي الخاتم، وينزل على مسجد المسلمين في دمشق، وليس على كنيسة من كنائس النصارى...
ويتبعه أتباع محمد صلى الله عليه وسلم فيقتلون عباد الصليب أينما كانوا وكيفما كانوا.
قال صلى الله عليه وسلم: [والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم عيسى بن مريم حكماً عدلاً مقسطاً فيكسر الصليب ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويؤذن بالصلاة].
{ذلك عيسى بن مريم قول الحق الذي فيه يمترون ما كان الله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمراً فإنما يقول كن فيكون}
وهذه حياته وزهده ودعوته وعبادته سلسلة طويلة من الابتلاءات والاختبارات وهكذا أهل الله الذين هم أهله يبتلون ثم تكون العاقبة لهم.
ولقد كانت حياتهم الدنيوية زهداً وتكليفاً ودموعاً وتعالياً عن الدنيا، وإقبالاً على الله والدار الآخرة.
************
******(12/11)
كلمات من القلب إلى أختي المسلمة
بقلم: عبدالرحمن بن عبدالخالق
الحمدلله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، محمد وآله وصحبه الطيبين.
وبعد،،
أختي المسلمة في كل مكان:
السلام عليك ورحمة الله وبركاته،
اعلمي أيتها الأخت الطيبة أنك شقيقة الرجل وشطر بني الإنسان فأنت أم، وزوجة وبنت وأخت، وعمة وخالة وحفيدة وجدة.. ورسول الإسلام يقول [إنما النساء شقائق الرجال] (أخرجه أبو داود والترمذي عن عائشة)، ثم وأنت أيتها الأخت المسلمة تنتمين إلى دين عظيم هو الإسلام، وإلى أمة جليلة لا توجد في الأرض أمة أنجبت أكثر منها قادة ورجالاً وعظماء وفاتحين، وقبل هذا هي أمة أخرجت للناس تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتقود البشرية إلى الخير والعدل، وتخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.
ولا شك أن أسلافك من النساء في هذه الأمة كن من أعظم الأسباب في تبوّء هذه الأمة مكانتها القديمة، واعلمي أيتها الأخت المسلمة أن الله الذي أكرمها بهذا الدين قد جعل للمرأة مكاناً في التكليف والتشريف، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والقيام بإعلاء كلمة الدين، قال تعالى: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم} (سورة التوبة:71)
وقد شرع الله لك من الأحكام وأعطاك من الخصائص والمميزات ما يليق بك ويناسب فطرتك، والله هو الإله العليم بما خلق {ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير} (الملك:14).
* أختاه المسلمة:
أنت مدعوة اليوم لصدق الانتماء إلى أمة الإسلام، والجهاد لإعلاء كلمة الله، وتطبيق شريعة القرآن، والبذل والتضحية لبناء جيل الإيمان.
ماذا يريد أعداؤك منك:(13/1)
ولكن هناك أيتها الأخت من يريد أن يصرفك عن واجبك المجيد، وأن يحولك عن مهتمك الشريفة في خدمة الدين، وإعلاء كلمة الله، وقد اتخذ هؤلاء الأعداء لك وللدين طرقاً خبيثة أردنا تبصيرك بها أهمها ما يلي:
* أولاً: صرفك عما خلقت من أجله وهيأك الله له من العبادة والإيمان والدعوة والجهاد، بإغرائك بالدنيا فقط وزخارفها الفانية، فمعارض للحلي والمجوهرات تلو معارض، وموديلات ونماذج للباس تصمم في بلاد الكفر تلو نماذج، وصرعات لا تنتهي، وشهوات تؤجج، وبطون لا تشبع، ورياش وزينة، وتنافس، وزخارف لا تنتهي وكأننا لن نخلق إلا لهذه التفاهات.. وكل ذلك مع دعوة إلى التبذير وهدر الأموال، وقتل للأوقات، وإثارة لنيران الحسد والبغضاء بين الأغنياء والفقراء، وإشعال للتباهي المجنون بهذا البهرج الكاذب.
* ثانياً: إشعال نار العداوة والبغضاء بينك وبين الرجل، فأنت عند هؤلاء الغشاشين بنتاً مكبوتة!! وزوجة مظلومةً، وأماً مهدورة الكرامة، وأختاً مهيضة الجناح..، والرجل في زعمهم –كل الرجال- ظلمة ومنافقون، وطغاة ومتسلطون ومانعون لحقوقك، وسالبون لحريتك..، معركة مفتعلة ومصطنعة يفتعلها هؤلاء الشياطين لا لشيء إلا لتتمردي على الأب، وتتكبري على الأخ، وتخرجي من عصمة الزوج، إن هؤلاء لا يدعون إلى عدل وتراحم، وتآلف، ولكن إلى تمرد، واستخفاف وهدم.(13/2)
* ثالثاً: لم يكتف هؤلاء الغشاشين بتحريضك على الأب والزوج والأخ بل تعدى ذلك إلى التحريض على شريعة الإسلام، وأحكام الملك الديان، فالإسلام عند هؤلاء ظالم، والشريعة الإسلامية عندهم ناقصة وهم يحرضونك صباح مساء على التفصي والخروج من هذه الشريعة. وبذلك يحاولون سلبك الإيمان كما يحاولون سلبك الهناءة والراحة في ظلال الأبوة الكريمة والزوجية الهانئة، والأخوة الطيبة. إن هؤلاء يصورون لك أن التقوى والعفاف قيود على الحرية والانطلاق، والحجاب الشرعي النظيف حجاب في زعمهم للعقل، والصلاة والصيام والزكاة –في زعمهم- عبث وإضاعة للعمر، وطاعة الزوج –في زعمهم- إذلال، لقد قلبوا كل المفاهيم، وغيروا كل الحقائق.
* وبعد أختي المسلمة:
إن الأهداف التي يرمي إليها أعداؤك وأعداء الدين معلومة معروفة، إنهم يريدون أن تكوني دائماً في متناول أيديهم الآثمة في كل مكان وفي كل وقت لينالوك بالحرام. يريدون منك أن تكوني خليلة بلا حقوق ولا احترام، يجدونك في المكتب والطرقات، وأماكن اللهو والفساد، عارية من كل خلق ودين وشرف وأخلاق، يريدونك بلا مهر، ولا عقد، ولا شريعة، إلا شريعة أهوائهم وشهواتهم الدنيئة.. تماماً كما فعل أسلافهم من الملاحدة والمشركين في بلاد الغرب حيث المرأة هي العنصر المظلوم المهضوم المبتذل الرخيص، الذي بات يجري خلف الرجل، وتتذلل له، والرجل ينتقل من أنثى إلى أنثى بلا مساءلة أو حقوق..
أيتها الأخت المسلمة، اسألي واقرئي عن بنات جنسك ممن سلخن ثوب العفة والحياء، وانطلقن وراء الشهوات وتبعن أهواء الغشاشين ماذا كانت النتيجة وما هي الثمرة؟
وصيتي إليك أيتها الأخت المسلمة:(13/3)
اعتزي بدينك وتراث آبائك وأسلافك الميامين، وكوني قدوة صالحة لأبنائك وبناتك، وأخلصي في انتمائك إلى أمتك المجيدة، واعلمي أن العفة شرف عند كل العقلاء والزنا رذيلة عند كل الأمم، وإن تسمي بكل الأسماء الطيبة كالحب والحرية.. وإن الزنا ليس زنا الفرج فقط بل العين تزني وزناها النظر، والأذن تزني وزناها السمع، والفم يزني وزناه القبل، كما جاء بذلك الحديث (لما روى في مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [فالعينان زناهما النظر، والأذن زناها الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليد زناها البطش، والرجل زناها الخطا، والقلب يهوى ويتمنى، ويصدق ذلك الفرج ويكذبُهُ]). واعلمي أن سعادتك أن تكوني بنتاً فاضلة مطيعة في الحق والخير، وزوجة وفية كريمة، وأماً صالحة تقية.. وأن الصلاة عماد الدين، وأن صيام يوم يباعد بين وجهك والنار سبعين خريفاً (للحديث المتفق عليه أنه صلى الله عليه وسلم قال: [من صام يوماً في سبيل الله، بَعُد الله وجهه عن النار سبعين خريفاً])، وأن الصدقة من أعظم ما يطهر به الله الذنوب ويمحو به الخطايا، وأن الكاسيات العاريات لا يُرِحْن الجنة ولا يُرهُن ريحها وأنهن ملعونات (روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [صنفان من أهل النار لم أرهما بعد: قومٌ معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساءٌ كاسياتٌ عارياتٌ، مميلات مائلات، رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا])، وأن الحجاب الإسلامي صون لك وعفاف، وأن من شروط الحجاب الشرعي ألا يكون زينة في نفسه ولا ملفتاً للنظر، ولا ضيقاً يصف الأعضاء، ولا شفافاً يُخبر عمَّا تحته، ولا مشابهاً لباس الكفار والراهبات، ولا مشابهاً لباس الرجال.
أيتها الأخت المسلمة:(13/4)
هذا حديث القلب، وكلمة الناصح الأمين، فاحذري أولياء الشيطان ممن يريدون غوايتك وإضلالك، وكوني أمة الله الصالحة، وسليلة النجيبات الطيبات، واعلمي أن دورك في بناء الأمة عظيم، فقومي بهذا الدور ولا تكوني أنت وسيلة الهدم والدمار بل كوني أنت صانعة الرجال.
**********
****(13/5)
الهجوم على الإسلام مِنْ مَنْ؟ ولماذا؟
بقلم: عبدالرحمن بن عبدالخالق
تقديم:
الحمد لله مالك الملك، يعز من يشاء، ويذل من يشاء، إنه على كل شيء قدير.
والصلاة والسلام على البشير النذير، نبي المرحمة والملحمة، المبعوث رحمة للعالمين، ونذيراً للبشر أجمعين، والمقيم لخير أمة أخرجت للناس في الأولين والآخرين.
وعلى آله وصحبه الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد..
مدخل:
ففي الوقت الذي بدأ المسلمون فيه طريق العودة إلى دينهم، والتمسك بعقيدتهم، والعمل للعيش في ظل كتاب ربهم، وسنة نبيهم، في هذا الوقت اشتدت الحملة ضد الإسلام والمسلمين من داخل العالم الإسلامي، ومن خارجه للحيلولة بين المسلمين وما يريدون، ولقطع الطريق على أبناء الأمة، أن يعيشوا كما يحبون مسلمين مؤمنين أعزة في أوطانهم وديارهم.
وحتى يكون شباب الأمة الإسلامية على علم بأبعاد المؤامرة على دينهم وعقيدتهم، عليهم أن يعرفوا طريق الخلاص من هذه المؤامرة وكيف يواجهونها وكيف ستكون العاقبة إن شاء الله تعالى ومن أجل ذلك أحببنا أن نكتب هذا التعريف.
لماذا الهجوم على الإسلام الآن؟(14/1)
وما كادت تسقط آخر خلافة إسلامية، وتقسم أراضي الإسلام بين الدول الصليبية الكافرة، حتى انطلقت الألسن من كل اتجاه قائلة إن سبب ضعف المسلمين يكمن في الإسلام الذي أقعدهم عن طلب العلم والنهضة، وكبلهم في التخلف والجهل، وتحت هذه المقالات الفاجرة نشأت الحكومات التي استبدلت شريعة الله بشرائع الكفار، ونظام التعليم الإسلامي بنظام التعليم الغربي، وبدأت أجهزة الإعلام تغرس عقائد القومية، واللادينية (الإلحاد) (انظر كتابنا (الإلحاد))، والوطنية الإقليمية مكان العقيدة الإسلامية.. ولكن لم يمض وقت طويل حتى اكتشف المسلمون أنفسهم زيف هذه الدعاوى. فقد تحطمت دعوة القومية وصارت هباءً منثورا بعد أول مواجهة مع اليهود، وخلفت أحقاداً يتعذر تجاوزها، وتحولت دعوة الوطنية الإقليمية إلى مسخ مشوه بعد التحقق أن أية دولة من الدول العربية الإسلامية لا يمكن لها أن تعيش وتبقى وحدها. وانتهى الإلحاد بنهاية بائسة حيث بدأ أهله يبحثون في الفلسفات القديمة والأديان الخرافية عن ملجأ لهم من اللهيب والظلمة الكفر والضياع الذي خلفته المادية الإلحادية، واكتشف المسلمون أخيراً أنهم دون عقيدتهم وإسلامهم قطيع تائه، بل قطعان تائهة، وأنه لا حياة لهم ولا عز ولا نصر إلا بالدين الذي أعزهم الله به، وانتصروا في ظلاله وتحب لوائه على مدى ثلاثة عشر قرناً من الزمان.(14/2)
وابتدأت طلائع الشباب المثقفين والمتعلمين منهم خاصة تعود إلى الدين، وتشق طريقها في الحياة وفق تعاليمه وتحت ظلاله، وهنا جن جنون أعداء الله الذين بذلوا النفس والنفيس في سبيل سلخ هذه الأمة عن دينها، فكيف تكون النهاية هكذا؟ كيف ينقلب الناس إلى الإسلام من جديد وقد ظنوا أن المسلمين قد فارقوا الإسلام إلى الأبد، وأنه لا عودة لهذا الدين من جديد وأن قضيته لن يكون لها وجود، وأن دولته لن تعقد لها راية، ولن يرفع لها لواء.. وهنا تنادى أعداء الله في شرق الأرض وغربها أن اغدوا لشن الغارة من جديد على الإسلام وأهله وحُولُوا بين أبنائه والعودة إليه.
من الذي يحارب الإسلام الآن؟
والذين يحملون اليوم لواء الحرب على للإسلام أصناف عديدة جداً، رغم تباينهم واختلافهم في أنفسهم إلا أنهم اجتمعوا حول هذا الهدف المشترك والغاية الواحدة وأهم هذه الأصناف اليوم ما يلي:
1- الشيوعيون وأشياعهم وفروخهم:
وذلك أن العقيدة الشيوعية تقوم أساساً على جحد الأديان والكفر برسالات السماء. بل الكفر بكل الغيب، وجعل الحياة الدنيا هي الغاية ونهاية المطاف، وتسليم الحكم لسلطة الحزب، وجعل إله الآلهة، ومُشرع القوانين، ومرجع كل خلاف هو كارل ماركس ولينين، اللذان قالا في زعم الشيوعيين الكلمة الأخيرة في كل شيء، في الاقتصاد والحياة، والأخلاق والفن والأديان والحكم والسياسة والتاريخ والماضي والمستقبل والطبيعة، وما وراء الطبيعة.. الخ. فجعلوا إلههم المطاع وسيدهم غير المنازع الذي أحاط علماً بكل شيء وعرف كل ما في الكون هو اليهودي الحاقد كارل ماركس والشيوعي الحاقد لينين.. والبشر بعد ذلك ما هم إلا أتباع مقلدون لا يجوز لهم نقد هذين الإلهين ولا تجاوز شيء مما قالوه.(14/3)
ولما كانت النصرانية هي دين الغالبية العظمى في أوروبا وأمريك قد أفلست وباعت كنائسها، أو أبقتها للذكرى والتاريخ، وكانت اليهودية، ديناً منغلقاً وقفاً على أولاد إسرائيل فقط وليست ديناً للتبشير والدعوة.. وكانت الأديان الوثنية الأخرى أدياناً للاستهلاك المحلي، وللتسلية واللعب، ومن أجل ذلك لم يبق أمام الشيوعية من عقيدة تستطيع أن تنافحها بل أن تهزمها وفي عقر دارها في روسيا غير الإسلام العقيدة العلمية النقية الخالصة، التي جاءت بثورة على كل ظلم وفساد وجهل، وخرافة، وشرك وجحود ونكران.. من اجل ذلك صب الشيوعيون في كل مكان جام غضبهم على هذه العقيدة وأهلها وابتدأوا حربها بكل سبيل، فها هي عساكرهم تغزو أفغانستان لتحطيم عقيدة أهله، والحيلولة دون قيام حكم إسلامي ينشر الإسلام في آسيا ويخلص مسلمي روسيا من بطش وظلم الشيوعيين الكفرة وهؤلاء الشيوعيون الذين غرروا بالشعوب الإسلامية هناك عندما قاموا بثورتهم الشيوعية وقام المسلمون معهم تخلصاً من ظلم القياصرة فكان جزاؤهم بعد ذلك القتل والإبادة، وتحريم الإسلام عليهم وقطع الصلة بينهم وبين الإسلام، فلا مسجد يرفع فيه آذان، ولا مصحف يسمح بتداوله وطبعه. وهاهي روسيا تنقلب ضد الشعب الأريتري المسلم وتحارب ثورته وتمد أعداءه، وهاهي تسرق ثورة الشعب المسلم في جنوب الفلبين وتصنع العملاء لها في الوطن الإسلامي، هؤلاء العملاء الذين ما أن يتسلموا حكم دولة من الدول إلا ويعيثوا في الأرض الفساد من أول يوم بل من أول ساعة، ففي السودان ما إن تسلم عميل لهم الحكم حتى بدأ يقتل من يعرف الصلاة من الضباط، وحتى خرجت مظاهراتهم لتقول: لا إسلام بعد اليوم.. وفي مصر ما إن تحول عميل من الأمريكان إليهم، حتى زرعوا أرض مصر بالفساد فاستعار نحواً من خمسين ألف داعية روسي للإلحاد تحت مسمى الخبراء، وابتدأ قتل المسلمين وتعذيبهم وتشريدهم وتشتيت شملهم، وابتدأ تطبيق اشتراكيتهم الفاسدة، التي أفسدت(14/4)
البلاد والعباد، وفي أندونيسيا ما إن تسلم بعض العملاء دفة الحكم حتى قتلوا كل ضابط يصلي والقوهم جميعاً في بئر واحد وفتحوا المجاري عليهم وذلك بعد ساعات فقط من قيام انقلابهم المشئوم.. وشرح هذا يطول، وهؤلاء هم عملاؤهم الذين لم يتسلموا سلطة والذين يسمون أنفسهم بالشيوعيين تارة واليساريين أخرى، والديمقراطيين ثالثة، لا عمل لهم إلا حرب الإسلام، ولا هدف لهم إلا محاولة القضاء عليه، وهاهي أيديهم لا تكون إلا مع أعداء الإسلام، يزعمون محاربة أمريكا وهم وأياها جبهة واحدة ضد الدين، ويرفعون شعار الديمقراطية وهم أعدى أعداء حرية الرأي والكلمة، وينادون بالوطنية وهم دائماً مع روسيا ضد مصالح أوطانهم، ويرفعون شعار القومية وهم دائماً مع أعداء قوميتهم وخاصة العرب منهم، هؤلاء هم العدو الأول للمسلمين في بلاد الإسلام.
2- اليهود وأذنابهم:
زرع اليهود أنفسهم في أرض فلسطين بعد غياب عن هذه الأرض لنحو من ثلاثة آلاف، وقد علموا علم اليقين أنه لا بقاء لهم إلا مع فرقة العالم الإسلامي، وضياعه وشتاته، فهم لم يستطيعوا أبدا إنشاء وطن لهم في فلسطين عندما كان المسلمون أمة واحدة أو شبه واحدة، ولكن لما تفرق المسلمون شيعاً وأحزاباً وأوطاناً وزالت خلافتهم الإسلامية، ووقعوا تحت حكم الكفار من الإنجليز والفرنسيين استطاع اليهود إنشاء وطنهم في فلسطين.(14/5)
واليهود اليوم يعلمون علماً لا يتطرق إليه شك أنه في الوقت الذي تقوم بأرض الإسلام دولة قوية، ووحدة بين أوطانه فإنه لا بقاء لهم، ولذلك فهم يعملون بكل ما أوتوا من قوة لتشتيت هذه الأمة وضياعها، وإبقاء دولها فقيرة عاجزة مكبلة بالديون والفقر والتخلف، مرتبطة مرهونة بالاستعمار الشرقي والغربي، ويعلم اليهود بل كل عدو للمسلمين أن سر قوة المسلمين إنما هو عقيدتهم وإسلامهم فهو الذي يستطيع أن يجمع شتاتهم، ويوحد دولهم، ويبعث العزة والحمية في نفوسهم، ويؤجج العداوة الدائمة لهم، وذلك لما في القرآن والسنة من لعنهم وسبهم وعداوتهم، وبما في التاريخ الإسلامي من التعريف بغدرهم ومكرهم ودهائهم.. ومن أجل ذلك كله يعادي اليهود الإسلام والمسلمين، ولما كان إظهارهم لهذه العداوة، قد ينقلب عليهم بنتائج عكسية حين يتحمس المسلمون لدينهم، فإن اليهود قد فضلوا أن يحاربوا الإسلام عن طريق عملاء لهم من أبناء المسلمين أنفسهم.(14/6)
ولذلك عملوا في كل التاريخ على تكوين ما اصطلح على تسميته بالفرق الباطنية التي ترجع معظمها إلى مؤسسين من اليهود نشروا الفكرة وتركوها تنمو في أوساط المسلمين، وهم أيضاً الذين نشروا العقيدة الشيوعية أول ما جاءت إلى البلاد العربية ثم تركوها تنموا في أوسط المسلمين، وهم اليوم وراء تشجيع كل نحلة وطائفة وفرقة يمكن أن تمزق الجسد الإسلامي، ولهذا فهم اليوم وراء الباطنيين والدروز والأحزاب الشيوعية، والطوائف على اختلاف أنواعها، وهم اليوم خلف كل دعوات التحلل من الإسلام والميوعة عن طريق منظماتهم العالمية السرية والعلنية كالماسونية والأندية المختلفة، وهم اليوم وراء ترويج الفواحش والمخدرات، والتعري، وكل ما يمكن أن يسلخ المسلم عن دينه وهم اليوم وراء تشجيع المنظمات النسائية اللادينية، وثورات العمال والشباب، وقد استطاع اليهود الدخول إلى كل ذلك عن طريق المنظمات الرهيبة التابعة لهم والتي أسسوها على مدى ثلاثة آلاف سنة، وعن طريق أجهزة الإعلام التي امتلكوا أكثرها وعن طريق أماكن الثقافة والفكر المتخصصة وخاصة في البيوت الاستشارية وعن طريق أساتذة الجامعات في أمريكا وأوروبا.(14/7)
إن نصيحة واحدة من بيت من هذه البيوت لحاكم واحد من حكام المسلمين تقول له: احذر الجماعات الإسلامية الفلانية لأن فيها خطراً على حكمك وسلطانك، وهذه النصيحة التي قد لا تتعدى بضع ورقات من بيت من البيوت الاستشارية التابعة لليهود كافية لأن ينظم هذا الحاكم حملة شعواء لحرب الإسلام في بلده، خاصة إذا اقترنت هذه النصيحة بكيفية حرب هذه الجماعات وأنها يجب أن تكون بكذا وكذا وكذا.. الخ. وإن مقالاً واحداً يكتب في صحيفة سيارة كالتايم، والنيوزويك والتايمز.. يطبع منه ملايين بشتى اللغات يحذر فيه كاتب المقال حكومة ما من خطر إسلامي، كاف جداً لتجنيد كل إمكانيات هذا البد لحرب الإسلام بل إن الحملة الشعواء الآن التي يشترك فيها العالم أجمع تقريباً ضد الإسلام على امتداد الكرة الأرضية قد كانت بفعل بعض المقالات المتناثرة في عدد من هذه الصحف السيارة التي باتت تحذر من الخطر الإسلامي المرتقب وهكذا استطاع اليهود رغم قلتهم العددية أن يكون لهم ابلغ الأثر في حرب الإسلام، وذلك بالرغم من عدم ظهورهم العلني السافر.
3- أمريكا وعملاؤها وأذنابها:(14/8)
أمريكا مارد عملاق وأخطبوط بألف ذراع قد تمكن اليهود من عقله وتغلغلوا في احشائه ومصوا دماءه لصالحهم، وركبوا هذا الثور المجنون وجعلوه ينطح من أجل مصالحهم وإن حطم أنفه وجبهته، ما دام أنه ينطح أعداء اليهود، ويقتل أعداء اليهود، وقد استخدم اليهود مقدرات أمريكا في صالحهم دائماً، فالأموال الأمريكية هي التي تحمي الاقتصاد اليهودي، وتمده، والسلاح الأمريكي هو الذي يحمي الصهاينة، والسياسة الأمريكية هي التي تفرض حمايتها لليهود، وفي مقابل ذلك يبيع اليهود للأمريكيين الوهم بأنهم حراس مصالحهم في العالم الإسلامي وأنهم السد الذي يمنع عنهم الشيوعية التي يخافونها، وتبيعهم أسرار الدول العربية المستباحة، ويسهلون لهم الوصول إلى ثروات العالم الإسلامي المنهوبة بما لليهود من خبرة في السمسرة والتضليل وإفساد الدول العربية المستباحة، ويسهلون لهم الوصول إلى ثروات العالم الإسلامي المنهوبة بما لليهود من خبرة في السمسرة والتضليل وإفساد الذمم والرشاوي. هذا ما يبيعه اليهود لأمريكا في مقابل مص دمائهم، والركوب فوق ظهورهم وتسخيرهم في مصالحهم، ومن أعظم ما يستخدم فيه اليهود أمريكا هو ضري الإسلام ومحاربته والتضييق عليه.(14/9)
فأمريكا هي التي توعز إلى عملائها في العالم الإسلامي بضرب الإسلام، والخروج منه إلى حريتهم الزائفة، وأمريكا هي التي لا تفتأ تحذر عملاءها ممن تسميهم المتطرفين المسلمين، وهي التي تقدم نصائحها لأذنابها. بل إن أمريكا هذه القوة العمياء هي التي تمول كثيراً من الأحزاب الشيوعية في العالم الإسلامي وذلك بهدف ضرب الإسلام، وذلك أنها تعتقد أن ديمقراطية الغرب لا تستطيع أن تقف أمام المد الإسلامي ولذلك تستعين بالعقيدة الشيوعية والعملاء الشيوعيين لضرب الإسلام والمسلمين. وهكذا تظل أمريكا حصاناً مزدوجاً يركبه اليهود ويركبون عليه أيضاً عملاؤهم وأفراخهم، فبالأموال الأمريكية يحارب اليهود الإسلام وينشرون الشيوعية ويمكنون اليهود في بلاد المسلمين.
وهكذا يعمل لأمريكا في بلاد المسلمين خليط عجيب متناقض شكلاً ولكنه يتفق هدفاً ومضموناً. فمن يساري متشدق بالشيوعية، إلى منحل لا ديني، إلى امرأة حاقدة على كل استقامة وعفة، إلى حاكم جبان رعديد عدو لأمته ودينه، كل هؤلاء يجتمعون لحرب الإسلام والنيل منه. وهم أشتات وأخلاط ومذاهب.
4- أهل المصالح التافهة والرغبات الصغيرة:
الصنف الرابع من الأصناف التي تحارب الإسلام من أبناء الإسلام هو كل جاهل غبي يجهل تاريخ أمته ودينه، ممن يقدم مصالحه الصغيرة التافهة على مصلحة أمته.. فقد يرى في الإسلام مانعا لكسبه للمال عن طريق الربا والحرام، ولاستمتاعه بالزنا والفجور، ولرياسته وتسلطه، ولشهواته، وأهوائه، من أجل ذلك يرى في الإسلام عدواً وحاجزاً أمام شهواته.
ومن هذا الصنف أيضاً أناس عميت أبصارهم، ونقل لهم الإسلام مشوهاً ممسوخاً فظنوه فقط سيفاً يقطع الأيدي والرقاب، وسوطاً يجلد الظهور، أو ظنوه ركونا إلى الجهل والتخلف، قعوداً عن العلم والعمل، أو حسبوا الإسلام طريقاً إلى الفرقة والشتات، وسبيلاً إلى الخراب وسفك الدماء.(14/10)
ومما ساعد على وجود هذا الصنف الجاهل وجود بعض النماذج الإسلامية الجاهلة، والحاقدة التي ضربت للإسلام أبشع الأمثلة وصورته بأقبح الصور، ولما كان هذا الصنف الجاهل يجهل حقيقة الإسلام، وتاريخه فإنه ظن أن الإسلام هو هذا الذي يراه من هذه النماذج الهشة، والحاقدة، والجاهلة.
وهذا الصنف الرابع هو أكثر الأصناف اليوم وجوداً، وهم ليسوا بالضرورة عملاء مباشرين للشيوعيين، أو اليهود أو الأمريكيين في حربهم للإسلام، بل كثيراً ما تكون منطلقاتهم في حرب الدين منطلقات خاصة، وتحركات فردية وقناعات ذاتية، ولكنهم بالضرورة أيضا دُمى يحركها أعداء الإسلام، وقنابل موقوتة يفجرونها وقتما يشاؤون، وثيران تنطح بمجرد التحدي أو التحريض.
ولا شك أن من هذا الصنف أيضاً منافقون حاقدون يحاربون الإسلام كراهية وبغضاً، وعن علم أكيد بأنه دين الحق وسبيل العز والنصر، ولكنهم كما قال الله في أسلافهم: {صم بكم عمي فهم لا يرجعون} (البقرة:18).
المستقبل للإسلام:
بالرغم من كل ما قدمناه عن أعداء الدين المحدثين وحملتهم الجديدة عليه، إلا أن سعيهم إلى ضلال وتدبيرهم إلى تباب، والعاقبة للمتقين، والنصر للموحدين. والدليل على ذلك قوله تعالى: {إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد}.
وقوله تعالى: {وهو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيداً} (غافر:51).
وقوله تعالى: {ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا إنهم لا يعجزون} (الأنفال:59)(14/11)
وإذا كانت هذه آيات عامة تبشر دائماً بنصر الدين، وعساكر الموحدين فإن السُنة الشريفة جاءت بالأخبار التفصيلية بأن الإسلام باق إلى آخر الدنيا، وأنه لا تزال طائفة من أمة رسول الله محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم قائمة بأمر الله إلى أن يقاتل آخرهم الدجال. وانه لو اجتمع كل من في الأرض جميعاً على أهل الإسلام ما كان لهم أن يستأصلوا شأفة المسلمين ويستبيحوا بيضتهم، وأن كسرى وقيصر ستنفق كنوزهما في سبيل الله، وأنه إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، وأن مدينة هرقل "القسطنطينة" تفتح قبل "روما" وأن اليهود يقتلون آخر الزمان بأيدي المسلمين حتى إن الشجر والحجر لينادي المسلم قائلاً: "يا مسلم يا عبدالله هذا يهودي ورائي فاقتله"!!
وأن عيسى بن مريم ينزل في دمشق على عساكر المسلمين وقد صفت للصلاة، وإمام المسلمين منهم، ويصلي عيسى بن مريم وراءه تكرمة لهذه الأمة، وأن الدجال الذي يدعي الألوهية والربوبية في آخر الزمان لا يتصدى له في الأرض إلا أهل الإسلام، وأنه يُقتل بحربة عيسى بن مريم، وأن عيسى بن مريم ينزل ليحكم بشريعة القرآن فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، وينادي بصلاة أهل الإسلام، ويعبد الله على منهج محمد بن عبدالله، ولا شك أن خبر الرسول صلى الله عليه وسلم كله صدق فما أخبر عن شيء مما مضى وكان كذباً، وما أخبر عن شيء مما يجيء إلا وجاء كما أخبر به، ألم يخبر بهلاك كسرى وقيصر وإنفاق كنوزهما في سبيل الله وقد كان.. مما كان يُعد حُلماً بعيد المنال.
ألم يخبرنا بفتح القسطنطينية؟ وقد كان هذا عند المكذبين ضرباً من خيال وقد كان الأمر كما أخبر؟ والله ليقعن الأمر كما أخبر به الصادق المصدوق صلوات الله وسلامه عليه، وقد بدأت بحمد الله تباشير ذلك.(14/12)
أ- فهذه الصحوة الدينية في كل مكان، وهذا التوجه نحو الإسلام في كل صوب بداية الغيث وأول العودة، ولعل أبرز ما في هذه العودة إلى الإسلام من العبر والعظات، أن المتعلمين والمثقفين هم أول الناس مُسارعة إلى الرجوع للدين، مما يدلك على أن العودة عودة علمية سليمة، وأنها ليست عودة للجاهلين، ولا تقليداً للآباء والسابقين.
ب- وهذه حضارة الغرب والشرق يظهر إفلاسها وخرابها، وضنك أهلها، وشقاءهم بها، لقد عزلوا أنفسهم عن إلههم ومولاهم وخالقهم –ظنوا- فكانت النتيجة الحتمية جرياً وراء السراب وضياعاً للهدف والغاية، وظلمة النفوس والقلوب، وفراغاً يملأ الحياة، وتفريغاً للحياة من كل معنى شريف، وبل من كل معنى أصلاً.
ج- وهذه إرهاصات بزوغ شمس الإسلام نراها كل يوم رأي العين، ويعلمها البصير بتاريخ الأمم والشعوب، فقد يسر الله من الأحداث ما تخلصت به الأمة من أعظم طواغيتها، وأشد عُتاتها، بل هاهي الطواغيت تسقط طاغوتاً إثر طاغوت، وهذه البقية تعيش ما بقي لها من عُمر خائفة مذعورة يحيط بها الحراس من كل جانب، ولا ترى نور الشمس إلا تحت الحراب والمدافع والدبابات، بل تعيش ملعونة مرجومة، بل مفضوحة مكشوفة.. وهاهي دعوات الباطل التي جرى الناس وراءها يوماً ما تنكشف للجميع على أنها سراب خادع، وبريق زائل.. هاهي دعوات القومية، والإشتراكية، والانفتاحية، والحرية، وادعاء الرقي الكاذب، والإقليمية، يظهر للجميع خواؤها وتفاهتها.. وهذا هو نور الإسلام يشع من جديد تراه كل يوم هذه الوجوه المضيئة من شبابنا المؤمن وفتياتنا المؤمنات.
د- وهاهي أحداث العالم، ومجريات الأمور يوجهها خالق السموات والأرض، ومن بيده الملك كله، ومن يقلب الليل والنهار، لتخرج من جديد خير أمة أخرجت للناس بلباس جديد، وتاريخ جديد.(14/13)
{قُل اللهم مالك الملك تؤتي المُلك من تشاء، وتنزع الملك ممن تشاء وتُعز من تشاء وتُذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير. تولج الليل في النهار، وتولج النهار في الليل، وتخرج الحي من الميت، وتخرج الميت من الحي وترزق من تشاء بغير حساب} (آل عمران:26-27).
أليست كل هذه إرهاصات لقيام أمة الإسلام من جديد؟
بلى والله إنها لكذلك!! واسألوا السيرة والتاريخ؟
*************
******(14/14)
المعنى التفصيلي لتسبيح الله جل وعلا
بقلم: عبدالرحمن بن عبدالخالق
الإيمان حمد وتسبيح:
الإيمان بالله سبحانه وتعالى يشتمل على أمرين: الحمد والتسبيح، فالحمد هو الثناء على الله سبحانه وتعالى بما هو أهله. والتسبيح هو تنزيه الله جل وعلا عما لا يليق به، ولا هو من صفته وفعله جل وعلا، وإن شئت فقل الإيمان نفي وإثبات: فالنفي معناه تنزيه الله عما لا يليق به، والإثبات هو الثناء على الله جل وعلا بما يتصف به من الصفات والأفعال والذات.
لا يحيط بالله علماً إلا الله:
فأما محامد الله سبحانه وتعالى فإنه لا يحيط بها إلا الله، لأنه لا يعلم من هو الله على الحقيقة إلا الله، وأما الخلق من الملائكة والجن والإنس فإن عقولهم لا يتسع علمها للإحاطة بالله علماً، قال جل وعلا عن ملائكته: {يعلم ما بين أيديهم ما خلفهم ولا يحيطون به علماً}.
فالملائكة المقربون بالله جل وعلا لا يحيطون علماً بالله، فالله سبحانه وتعالى أجل وأعظم وأكبر من أن يحيط أحداً علماً به، وأما هو سبحانه وتعالى فقد وسع كل شيء علماً فما من ذرة فما فوقها خلقها الله في السموات والأرض إلا وهو يعلمها منذ برأها، ويعلم كل ما يجري عليها من التصريف والتحويل لحظة بلحظة... قال تعالى: {وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها، ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين}، بل وما لم يخلقه الله قد أحاط الله علماً به إذا كان كيف يكون.(15/1)
وهذه الصفة وحدها من صفات الله كافية لإعلام العباد أن الله سبحانه وتعالى لا يمكن لخلقه أن يحيطوا علماً به، إذ كيف يمكن تصور علم الله للموجودات، وهذه الموجودات هي من الاتساع والكثرة، وتقلب الأحوال ما لا يمكن لعقل حدة أو معرفة مقداره، وهل يتسع عقل في السماوات والأرض أن يحيط علماً بهذا الكون الفسيح الذي لا يعلم البشر لليوم له نهاية وحدّاً... فإذا كانت عقول البشر لا تسع أن تعلم الموجود، فكيف تسع من وسع علمه كل الوجود {يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السموات أو في الأرض يأت بها الله إن الله لطيف خبير}. وقال تعالى: {ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه}. وقال تعالى: {إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده إنه كان حليماً غفوراً}، وقال تعالى: {وما قدروا الله حق قدره، والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون} فكيف يمكن للمخلوق الصغير الضعيف أن يحيط علماً بالإله العلي الكبير الذي مثل السموات والأرض في كفه سبحانه كخردلة في كف إنسان (ولله المثل الأعلى).
والذي قال عن نفسه: {يوم نطوى السماء كطي السجل للكتب كما بدأنا أول خلق نعيده وعداً علينا إنا كنا فاعلين}.
قال الإمام البخاري رحمه الله في قوله تعالى {وما قدروا الله حق قدره} حدثنا آدم حدثنا سفيان عن منصور عن إبراهيم عن عبيدة عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد إنا نجد أن الله عز وجل يجعل السموات على أصبع والأرضين على أصبع، والشجر على أصبع والماء والثرى على أصبع، وسائر الخلق على أصبع فيقول: أنا الملك. فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه تصديقاً لقول الحبر ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة}.(15/2)
وقد رواه الإمام أحمد من طريق أخرى بلفظ آخر أبسط من هذا السياق وأطول فقال حدثنا حماد بن سلمة أخبرنا إسحاق بن عبدالله بن أبي طلحة عن عبيد الله بن مقسم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية ذات يوم على المنبر {وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون} ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هكذا بيده يحركها يقبل بها ويدبر [يمجد الرب نفسه أنا الجبار، أنا المتكبر، أنا الملك، أنا العزيز، أنا الكريم] فرجف برسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر حتى قلنا ليخرن به.
وقد رواه مسلم والنسائي وابن ماجه من حديث عبدالعزيز بن أبي حازم زاد مسلم عن عبيدالله بن مقسم في هذا الحديث أنه نظر إلى عبدالله بن عمر رضي الله عنهما كيف يحكى النبي صلى الله عليه وسلم قال يأخذ الله تبارك وتعالى سمواته وأرضه بيده ويقول: أنا الملك ويقبض أصابعه ويبسطها أنا الملك حتى نظرت إلى المنبر يتحرك من أسفل شيء منه حتى إني لأقول أساقط هو برسول الله صلى الله عليه وسلم؟
لا يبلغ أحدٌ ثناءاً على الله كما أثنى الله على نفسه:
فمن كانت هذه صفته أنى للعباد أن يحيطوا علماً به.. بل لا يعلمون من صفاته إلا ما أعلمهم، وما تستوعبه عقولهم، والله بعد ذلك أكبر وأجل وأعظم من أن يحيط أحد علماً به علي الصفة التي هو عليها سبحانه وتعالى، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أثنى على الله بما علمه الله سبحانه وتعالى يقول بعد ذلك: [سبحانك لا أحصى ثناءاً عليك أنت كما أثنيت على نفسك].
فإن العباد مهما قالوا من المدح والثناء على الله فإنهم لا يبلغون حقيقة ما يتصف به الله.
ويوم القيامة عندما يقوم الرسول صلى الله عليه وسلم للشفاعة بين يدي ربه تبارك وتعالى يلهمه الله من تحميده والثناء عليه شيئاً لم يكن يعلمه الرسول صلى الله عليه وسلم في الدنيا.(15/3)
والخلاصة أن معنى الحمد هو الثناء على الله بما هو أهله، وقد أنزل الله في الكتاب وعلى لسان الرسول من صفاته وأفعاله، ما عرفنا به سبحانه وتعالى عن نفسه من أنه الله الرب الرحمن الرحيم الملك القدوس البارئ المصور، من له الأسماء الحسنى والصفات العلى، والمثل الأعلى.
والشهادة لله بما شهد لنفسه، وبما يشهد له به ملائكته ورسله، وأهل العلم من خلقه هو الإيمان، وهو معنى الحمد. قال تعالى: {شهد الله أنه لا إله إلا هو، والملائكة وأولوا العلم قائماً بالقسط، لا إله إلا هو العزيز الحكيم}.
هذا فيما يتعلق بالحمد ذكرناه على وجه الإجمال.
التسبيح هو الوجه الآخر للحمد:
وأما التسبيح فإنه الوجه الآخر للحمد، إذ معناه نفس كل صفات النقص عن الله تبارك وتعالى، وتنزيه الله عما لا يليق به جل وعلا، وما ليس من صفته وفعله وما يتنزه سبحانه وتعالى عنه، فكل صفة ثابتة لله سبحانه وتعالى فالله منزه عن ضدها من صفات النقص والعيب، فالله واحد منزه أن يكون له شبيه أو نظير.
كونه الرحمن الرحيم لا ينافي كونه شديد العقاب:
وهو الرحمن الرحيم منزه عن الظلم، وأما كونه سبحانه وتعالى شديد العقاب فهو لا ينافي ولا يضاد كونه سبحانه وتعالى رحماناً رحيماً، لأن لا يعاقب إلا من هو أهل للعقاب، ويضع سبحانه وتعالى رحمته فيمن يستحقها. قال تعالى: {نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم، وأن عذابي هو العذاب الأليم}.
فمغفرته سبحانه وتعالى للتائبين من عبادته ورحمته لأهل طاعته. قال تعالى: {عذابي أصيب به من أشاء، ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون}.
الحي الذي لا يموت والقيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم:(15/4)
والله سبحانه وتعالى هو الحي الذي لا يموت، والقيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم والعلي العظيم، الذي لا يشفع أحد عنده إلا بإذنه، والغني الذي لا يفتقر إلى سواه، فلا يحتاج إلى أحد من خلقه فليس له من عبادة معين، ولا وزير، ولا وكيل، بل جميع خلقه في حاجة إليه وهو سبحانه وتعالى لا يحتاج أحداً من خلقه، وهو سبحانه وتعالى الجبار المتكبر الذي ذل له كل خلقه، وقهر كل ما سواه، والذي لا يقهره أحداً، ولا يكرهه أحد، ولا يجبره أحد تعالى الله أن يكون له من عباده مكره.
1- الألوهية أعظم صفات الحمد ونفي أضدادها أعظم معاني التسبيح:
الشهادة لله سبحانه وتعالى بأنه الإله وحده مقدمة علي جميع الصفات لأن كل الصفات راجعة إلى هذه الصفة، فإن الإله بمعنى المعبود لا يكون إلهاً حقاً إلا إذا كان يملك معبوده خلقاً وتصريفاً، وإحساناً وتربية ورزقاً، ولا يملك هذه إلا الله وحده... وأما غيره ممن ادعيت له الألوهية كالملائكة والرسل، والكواكب والجن والحجر، والشجر والحيوان، فإنها بذاتها مخلوقات لا تملك لنفسها نفعاً ولا ضراً فضلاً أن تملكه لغيرها. ولذلك فمن عبدها من البشر فهو ظالم لأنه وضع العبادة في غير محلها {إن الشرك لظلم عظيم}، فمن عبد الملائكة مثلاً مهما ادعى فيهم فهو كافر مشرك لأن الملائكة خلق محتاج مربوب، لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً، ولا يملكون لغيرهم نفعاً ولا ضراً إلا بإذن مولاهم، خالقهم. قال تعالى: {وقالوا اتخذ الرحمن ولداً سبحانه، بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون، يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى، وهم من خشيته مشفقون ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين}.(15/5)
فمن عبد الملائكة ظاناً أنهم أولاد الله فهو مفتر كذاب قائل بالظن والتخبيط، ثم إن هؤلاء الملائكة هم عباد الله لا يتكلمون إلا بما يأذن الله لهم أن يتكلموا به، وهذا من كمال عبوديتهم لله {لا يسبقونه بالقول}، ثم هم مطيعون لأمره {وهم بأمره يعملون}، ثم إن ربهم وخالقهم يحيط علماً بكل عملهم وهم لا يحيطون علماً بالله. قال تعالى: {يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علماً}.
ثم إن ربهم قادر عليهم فلو فرض أن أحداً منهم ادعى إنه إله مع الله، ودعا الناس إلى عبادة نفسه لأذله الله، وألقاه في النار {ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين}..
فكيف يعبد بعد ذلك من هذه حاله، ومعلوم أن العبادة ذل وخضوع وطاعة واستسلام للمعبود... فكيف يذل العبد ويخضع ويستسلم، ويطيع من لا يملك ضره ولا نفعه ولا موته ولا حياته ولا نشوره، والذي لم يخلقه ولم يرزقه، ولم يحييه ولا يملك موته.
لا شك أن من فعل ذلك وعبد مخلوقاً مثله لا يملك لعابده نفعاً ولا ضراً فهو ظالم كافر مشرك.
وإذا كانت الملائكة كذلك في أنهم عباد الله المحتاجون إليه، وليسوا أولاده وليس لهم شركة مع الله في الخلق أو الأمر، فإن من دون الملائكة كذلك، فالرسل مثلاً وهم صفوة الله من خلقه، وأمناؤه على وحيه، وأولياؤه وأنصاره، لا يعبدون. ومن عبدهم فهو ظالم مشرك، لأن الذي يستحق العبادة هو رب العالمين، وخالق الناس أجمعين، وأما الرسل مع كرامتهم على الله إلا أنهم لا يستحقون من المخلوق أن يعبدهم، كيف وهم الذين جاءوا يدعون الناس إلى عبادة ربهم وخالقهم، وهم كانوا أسبق الناس إلى طاعة إلههم ومولاهم.(15/6)
وما كان لأحد منهم أن يدعو الناس إلى عبادة نفسه. قال تعالى: {ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عباداً لي من دون الله، ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون، ولا يأمركم أن يتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً، أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون}.
فمن عبد أحداً من الرسل فهو عاص لله أولاً وعاص لرسل الله جميعاً الذين ما جاءوا إلا ليدعوا الناس إلى عبادة الله سبحانه وتعالى وحده. وكذلك الحال فيمن دون الرسل من الصالحين والأولياء...
الملائكة المعبودون هم أنفسهم عابدون مجتهدون!!
وقد بين سبحانه وتعال فساد عبادة هؤلاء المشركين، وسخر من شركهم وجهلهم وذلك أن هؤلاء المشركين يعبدون من هم مجدون مجتهدون في عبادة مولاهم. قال تعالى: {أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب، ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذوراً}.
والمعنى انظروا إلى عبادة هؤلاء المشركين للملائكة والرسل، والحال أن ملائكة الله ورسله مجدون مجتهدون في طلب القربى من الله والزلفى منه فهم يعبدون من هو قائم بعبادة الله!!
ولا أضل ممن هذا حاله... فكيف تعبد أيها المشرك من هو مجد مجتهد في عبادة ربه محتاج مفتقر إليه، ساع في طلب الوسيلة إليه!!
وأما الذين اتخذوا من دون الملائكة والرسل آلهة لهم كمن عبدوا الشمس والقمر والنجوم، والأشجار والأحجار والأنهار، فهم أضل سبيلاً، وأضل منهم من عبد من هو دون ذلك في سلم الخلق كمن عبد القرود، والفئران، والحيات، والأبقار... الخ
عجباً للإنسان يتخذ ممن هو دونه إلهاً له يعبده ويخافه ويرجوه!!:
والعجب كل العجب من هذا الإنسان الذي كرمه الله بالعقل والسمع والبصر كيف يتخبط ليتخذ من هذه المخلوقات الحقيرة إلها يقدسه ويعبده ويصلي له، ويسجد له ويطلب منه النفع ويخاف منه الضر!!(15/7)
وصدق الله سبحانه وتعالى إذ يقول: {العصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر}.
ويقول جل وعلا: {لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين آمنوا عملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون}.
أحط البرية من عاش لا يعرف له إلهاً خالقاً رازقاً:
وأما من عاش في هذا الكون ولم يعلم له إلهاً ولا خالقاً ولا رازقاً، ولم يبصر في هذا الوجود حكمة لوجوده وظن أنه وجد في هذه الأرض ليأكل ويشرب ويتمتع ويعمل ما يحلو له، ولا يتخذ لنفسه معبوداً إلا هواه ولا رباً إلا نفسه، فهذا أضل من الأنعام سبيلاً. قال تعالى: {ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس لهم قلوب لا يعقلون بها، ولهم آذان لا يسمعون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون}.
الله هو الاسم الأعظم للرب جل وعلا:
والخلاصة: أن صفة الألوهية لله جل وعلا هي أجمع الصفات ولذلك كان اسم الله هو الإسم الأعظم للرب الخالق الرحمن الرحيم سبحانه وتعالى.
والله معناها الإله، والله سبحانه وتعالى هو الإله الحق، وما عداه ممن تسمى بالإله إله باطل، تسمى بالإله ولا يستحق هذه التسمية، فإذا سمى بعض البشر الشمس (الإلهة) فتسميتهم إياها بالآلهة باطل، فالشمس ليست آلهة، ولا تملك من الألوهية شيء، وتسمية الكفار أصنامهم التي يعبدوها آلهة تسمية باطلة، وهذه الأصنام والأحجار ليست آلهة على الحقيقة، ولا تملك من معاني الألوهية شيء، فليست بخالقة ولا رازقة، ولا تحيي، ولا تميت، ولا تملك شيئاً يؤهلها إلى أن تكون معبودة، فالتسمية باطلة ولذلك كان الرسل يقولون لأقوامهم المشركين {إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان}، والمعنى أنكم سميتموها آلهة وهي ليست كذلك ولا تملك من معاني الألوهية شيئاً.
الإله لا يكون إلا واحداً:(15/8)
والإله الحق لا يكون في الوجود إلا واحداً، لأن الإله الحق لا بد وأن يكون خالقاً رازقاً متصرفاً قديراً، رباً فالذي يستحق العبادة لا يكون إلا كذلك.
ولو فرض وجود خالقين رازقين يملك كل منهما القدرة على الإحياء والإماتة والتصريف، لفسد هذا الكون الذي نعيش فيه، وذلك أن كل إله لا بد وأن يكون منفصلاً عن الآخر بمخلوقاته، ولا يتصور أن يوجد ويبقى خالق في كنف وطاعة خالق آخر مماثل له.
قال تعالى: {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} أي السموات والأرض تفسدان لو كان الذي خلقهما خالقان وذلك أن أحدهما بالضرورة لا بد وأن يعادي الآخر ويحاربه ليكون هو الإله وحده، أو ينفصل أحدهما عن الآخر بما يخلقه. قال تعالى: {قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذاً لابتغوا إلى ذي العرش سبيلاً* سبحانه وتعالى عما يقولون علواً كبيراً يسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليماً غفوراً}.
فلو كان هناك آلهة يستحقون العبادة كما يقول المشركون فإنهم بالضرورة لا بد وأن يتخذوا سبيلاً إلى مغالبة الرب العظيم صاحب العرش، والغالب في النهاية هو الإله وحده... وهذا الفرض إنما فرض للجدال وبيان الأمر، فإن الله سبحانه وتعالى بين لهم فساد اعتقادهم في وجود شريك مع الله. إذ لو كان معه شريك حقاً يخلق ويرزق ويحيي ويميت فلا بد وأن يغالب الله لتكون الألوهية لواحد...
وسبحان الله أن يكون في الكون من يغالبه أو ينازعه. قال تعالى: {ما اتخذ الله من ولد، وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق، ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون}.(15/9)
فالله سبحانه وتعالى لم يتخذ ولداً ولو كان له ولد لكان مثله يخلق ويرزق ويحيي ويميت كما يقولونه النصارى الضالون. تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، والله جل وعلا ليس معه إله، لأنه لو كان معه إله يستحق أن يعبد لعلا كل منهما على الآخر، حتى يكون العلي واحداً أو لذهب كل إله بما خلق إلى ناحية من الوجود، وانفرد بخلقه وعباده عن خلق غيره... تعالى الله أن يكون في الوجود سواه، وأن يكون هناك إله معه.
وحدة الخلق دليل على وحدة الخالق:
وأعظم دلالات الوحدانية هي وحدة الخلق فلما كان الخلق كله وحدة واحدة يرتبط كل جزء منه بالجزء الآخر، ارتباط العضو بالجسد كان هذا دليلاً على أن الخالق واحداً، فالسموات مع الأرض ترتبطان ارتباط كل جزء في الآلة الواحدة بالجزء الآخر، وكأنها ساعة واحدة كل ترس من تروسها ينتظم مع الترس الآخر. انظر في السموات إلى ملايين النجوم، وآلاف المجرات. كل في فلكه يسبحون لا يتأخر كوكب أو نجم عن دورته ثانية واحدة، ولا جزءاً من ثانية، ولا يخرج كوكب ولا نجم عن مساره قيد أنملة. فهل يمكن أن يكون هذا الخلق الذي ينتظم في وحدة واحدة إلا من خلق إله واحداً؟! هل يتصور خالقان يشتركان في خلق هذا الوجود وملائمتهما مع كل ذرة في الوجود.
انظر إلى الأرض التي نعيش عليها نجد أن كل جزء منه في موضعه الصحيح والمناسب من كل جزء آخر، وكل فرد من أفراد مخلوقاتها متناسبة في الخلق مع سائر الأفراد، فاليابسة مناسبة للماء تماماً، والليل على سطح الأرض مناسب للنهار تماماً، ولو طال الليل عما هو عليه الآن ساعة واحدة لتجمدت الأرض، ولو طال النهار عن منسوبه في الأرض لاحترقت.(15/10)
وخليط الهواء الذي نستنشقه متناسق تماماً ولو زاد بعض هذا الخليط عن نسبته لفسدت الحياة لو زاد الأكسجين في الجو عن معدله، لاحترقنا عند أول حريق!! ولفسد تنفس النبات فمات!! وانظر إلى دورة الماء على الأرض منذ صعودها من الجبال بخراً، وهطولها على الأرض مطراً وجريانها أنهاراً، ودخولها إلى بطن الأرض مخزوناً، وقيام حياة المخلوقات على الأرض على الماء حياة وبقاءاً... ألا نبئك كل ذلك على أن الخالق واحد سبحانه وتعالى...
قال جل وعلا: {الله الذي يرسل الرياح فيثير سحاباً فيبسطه في السماء كيف يشاء ويجعله كسفاً فترى الودق يخرج من خلاله}.
وقال تعالى: {وهو الذي أرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته، وأنزلنا من السماء ماءاً طهوراً لنحيي به بلدة ميتاً، ونسقيه مما خلقنا أنعاماً وأناسي كثيراً، ولقد صرفناه بينهم ليذكروا فأبى أكثر الناس إلا كفوراً}.
وآيات الله سبحانه وتعالى في الخلق لا يمكن إحصاؤها ولا الإحاطة بها.
والخلاصة: أن وحدانية الله سبحانه وتعالى هي أصل الصفات لأن الرب سبحانه وتعالى واحد في ذاته واحداً في صفاته، واحداً في أفعاله فلا شبيه له في ذات أو صفة أو فعل.
وأعظم معاني التسبيح هو تنزيه الله عن أي شبيه ومثيل له في الذات أو في الصفات، وفي كونه وحده الإله الحق الذي لا إله إلا هو.
***********
*****(15/11)
الثوابت الأساسية في الإسلام
بقلم: عبدالرحمن بن عبدالخالق
الأصل الأول: القرآن الكريم:
القرآن الكريم كتاب الله المنزل على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم آخر رسل الله إلى أهل الأرض، وهو الذي تحدى الله به العرب البلغاء أن يأتوا بسورة من مثل سوره فعجزوا وكان ذلك من أكبر الأدلة على أنه من عند الله، وليس من عند البشر، لأن البشر لا يعجز بعضهم أن يأتي بما يأتي به بعضهم، فما من شاعر إلا وعورض بمثله وأشعر منه، ولا من خطيب إلا وجاء من هو أخطب منه، ولا عالم إلا إذا قد جاء من يفوقه. وكذلك الشأن في كل ما يحسنه البشر يستحيل أن يأتي أحد منهم بما يعجز البشر كلهم في كل عصورهم. قال الله تعالى متحدياً المكذبين برسالة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم: {وإن كنتم في شك مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين* فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين} (البقرة:23-24) وهذا الكتاب الكريم مع بيان الرسول صلى الله عليه وسلم هما مصدرا التشريع قال الله تعالى: {وأنزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين} (النحل:89) وقال فيه أيضاً: {حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم، وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالأزلام ذلكم فسق اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً، فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم، فإن الله غفور رحيم} (المائدة:3) وهذا الكتاب الكريم أنزله الله موضحاً ومبيناً به السبيل إليه، فهو بصيرة وفرقان، يفرق بين الشرك والتوحيد، والحق والباطل، وما أحله الله وما حرّمه، وما يرضاه الله وما يسخطه، وفرق الله به أيضاً بين أوليائه وأعدائه، وأوضح سبيل كل فريق(16/1)
منهم، وقد جعله الله ميسراً سهلاً للتذكر والاعتبار والتعلم فقال سبحانه وتعالى: {ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر} (القمر:17).. وقال تعالى: {كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته} (ص:29) وقال تعالى: {أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها} (محمد:24).. وقال: {أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً} (النساء:82) وقد حذر الله سبحانه وتعالى من الإعراض عنه.. قال تعالى: {كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق، وقد آتيناك من لدنا ذكراً، من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزراً خالدين فيه وساء لهم يوم القيامة حملاً} (طه:99-101) وقال تعالى في شأن إعراض المنافقين عنه: {وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدوداً} (النساء:61) وقد أمر الله نبيه الكريم أن يحكم كتاب الله في الصغير والكبير.. قال تعالى: {وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب، ومهيمناً عليه، فاحكم بينهم بما أنزل الله، ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق، لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة، ولكن ليبلوكم في ما آتاكم، فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعاً فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون. وأن احكم بينهم بما أنزل الله، ولا تتبع أهواءهم، واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك، فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم، وإن كثيراً من الناس لفاسقون، أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون} (المائدة:48-49) ولما كان القرآن الكريم بهذه المثابة والمنزلة فإن الله سبحانه وتعالى أتم نعمته على أمة الإسلام بأن كفل له الحفظ والرفعة والمجد، فلا تناله يد بتحريف أو تبديل أو نقص أو زيادة، قال تعالى: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} (الحجر:9).. وقال: {وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه(16/2)
تنزيل من حكيم حميد} (فصلت:41-42) فهو كتاب ممتنع على التغيير والتبديل... وفي الحديث الصحيح: [وأنزلت عليه كتاباً لا يغسله الماء] (رواه مسلم).. فلو اجتمعت بحار الأرض على محو القرآن من الأرض لما حصل ذلك، ولو اجتمع كل جبابرة الأرض وكفارها وفجارها على أن يبدلوا القرآن ما استطاعوا ذلك.
وهذه القضية أعني حفظ القرآن وبقاءه وأنه مصدر الحكم والتشريع هي قضية الإسلام الأولى والكبرى.
الأصل الثاني: السنة النبوية:
الأصل الثاني من أصول الدين هو السنة النبوية وسنة النبي صلى الله عليه وسلم هي ما أُثِر ونقل من أقواله وأفعاله وتقريراته وصفته صلى الله عليه وسلم...
وما نقل إليناً نقلاً صحيحاً منها يجب علينا تصديقه واعتقاده، والعمل به لأن القرآن أمرنا بذلك وقد تواتر عن الرسول صلى الله عليه وسلم وجوب العمل بسنته.
قال تعالى: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} (الحشر:7).. وقال تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليما} (النساء:65). وقال تعالى: {من يطع الرسول فقد أطاع الله} (النساء:80)
وقال تعالى: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم} (النور:63) والآيات في هذا المعنى كثيرة جداً..
والسنة في جانب منها تفسير وبيان لكتاب الله تعالى: كما قال جل وعلا: {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون} (النحل:44)
وقال تعالى: {إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه، ثم إن علينا بيانه} (القيامة:17-19)(16/3)
أي إن الله سبحانه وتعالى تكفل أن يجمع القرآن في صدر الرسول صلى الله عليه وسلم فلا ينسى منه إلا ما شاء الله أن ينسيه {سنقرؤك فلا تنسى إلا ما شاء الله} (الأعلى:6) ثم إن على الله أن يبينه لرسوله صلى الله عليه وسلم ليعمل به، ثم إن الرسول صلى الله عليه وسلم بين للناس كما أمره الله سبحانه وتعالى، وقد أثنى الله عليه فقال: {وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى} (النجم:3-4)
فالسنة في نهاية الأمر عائدة إلى الله لأنه سبحانه هو الذي أوحى بها لرسوله صلى الله عليه وسلم، وأرشده إلى ما قال، وهداه فيما فعل: {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله} (النساء:105)
وكل أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم هي في مجال التأسي والقدوة فإن خير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم فجميع ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم في طعامه وشرابه ولباسه، ونومه وقيامه، وصحبته، ومعاشرته، وطرائق حياته ومعيشته كل ذلك كان على أتم الهدى وأسمى ما يتأدب به المتأدبون، ويفعله الحكماء العالمون...
والخلاصة أنه ليس شيءٌ من أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم يخرج عن التأسي والاقتداء حتى في أموره الجبلية الحياتية..
وأما في أعماله التشريعية فإن يجب الأخذ بسنته لأنها تشريع من الله سبحانه وتعالى.
* المخالفون لهذا الأصل:
الطاعنون في سنة الرسول صلى الله عليه وسلم:
شهد تاريخ الإسلام كثيراً من الفرق الضالة والعقائد الباطلة ممن ردوا سنة الرسول صلى الله عليه وسلم كلها أو بعضها تحت دعاوي كثيرة وشبه متباينة:
* فمنهم الخوارج الذين قالوا بكفر علي بن أبي طالب رضي الله عنه وجنده، وقالوا بأن علياً رضي الله عنه كان مسلماً قبل قتال الخوارج بالنهروان ثم كفر بعد قتالهم، وكفروا الحكمين وسائر المسلمين بعد ذلك.. وبنوا على تكفير الصحابة بعد الفتنة رد روايتهم، وردوا رواية جميع من وكل على السلاطين من بني أمية وغيرهم...(16/4)
* ومنهم المعتزلة والمتكلمون الذين ردوا سنة النبي صلى الله عليه وسلم التي سموها بالآحاد، وقالوا لا نقبل إلا بالمتواتر الذي يستحيل تواطؤ من رووه على الكذب.
* ومنهم بعض المنافقين الذين اتبعوا المستشرقين من أعداء الإسلام الذين شككوا في ثبوت سنة النبي صلى الله عليه وسلم جملة وتفصيلاً.
* ومنهم من رد السنة الثابتة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت دعاوي أنها لا توافق العقل، أو أنها كانت لجيل غير جيلنا، ولعصر غير عصرنا، ومنهم من يقول يجب أن نأخذ روح السنة وأهدافها الثابتة دون أحكامها التفصيلية العملية.
ولا شك أن كل من رد سنة ثابتة للرسول صلى الله عليه وسلم راغباً عنها فقد كفر بذلك، لقيام الأدلة القطعية على وجوب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم وعدم مخالفة أمره..
ولا شك أيضاً أن الله سبحانه وتعالى يستحيل أن يتعبد الناس بشيء لم يبلغهم... ولا شك أيضاً أنه لو ضاعت السنة لضاع القرآن لأن السنة شارحته ومبينته، إذ كيف يمكن التحقق من أعداد الصلوات وأعداد الركعات، وهيئة الصلاة، ونصاب الزكاة، والأموال التي تجب فيها، وكذلك كثير من أحكام الصوم والحج لولا السنة..
ولو كان الصحابة الذين رووا السنة مطعونين، لكان القرآن كذلك مشكوكاً فيه، لأن الصحابة رضوان الله عليهم هم الذين دونوه وحفظوه، وجمعوه في مصحف واحد بعد رسول الله، ونشروه في الأرض، ونقلوه لمن بعدهم.. فلو كانوا غير مؤتمنين لكان القرآن مكذوباً، ولذلك أجمع المسلمون أن جرح الصحابة جرح للدين، وهدم عدالة الصحابة هدم للقرآن والسنة معاً، وليس للسنة وحدها..(16/5)
ولذلك قال الإمام أبو زرعة: "إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه زنديق، وذلك أن الرسول حق والقرآن حق وما جاء به حق وإنما أدى إلينا ذلك كله الصحابة وهؤلاء يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة، والجرح بهم أولى وهم زنادقة" (الإصابة لابن حجر 1/18)
ولا شك أيضاً أن رد بعض السنة إذا كان صحيحاً ثابتاً حسب ضوابط النقل التي أجمع عليها أهل الإسلام فيما سموه مصطلح الحديث وعلموه وهو قبول نقل العدل الضابط عن العدل الضابط إلى منتهاه إذا خلا من الشذوذ والعلة ردها بزعم أنها تخالف العقل أو ردها بالهوى.. لا شك أن رد بعض السنة الثابتة بذلك هو هدم للسنة كلها لأنه هدم للأصول التي على أساسها تعرف السنة الصحيحة الثابتة مما افتراه أهل الكذب، ونسبوه إلى رسول صلى الله عليه وسلم أو مما غلط فيه بعض الرواة.
والعقل لا يمكن أن يكون مقياساً للقبول والرد، لأن ما يراه زيد من الناس معقولاً قد يراه غيره أنه غير معقول إلا في الأمور الحسية القطعية.
ولا توجد سنة صحيحة ثابتة حسب أصول النقل تخالف شيئاً من المعقول المقطوع به، ولذلك كان الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لضاعت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وضياعها يعني ضياع القرآن كذلك، وضياع الدين كله..
والحمد لله الذي حفظ لنا كتابه الكريم، وحفظ لنا سنة رسوله الكريم التي هي الحكمة كما قال تعالى: {هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين} (الجمعة:2).. وقال تعالى لنساء رسول الله صلى الله عليه وسلم: {واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة إن الله كان لطيفاً خبيراً} (الأحزاب:34)...
فآيات الله هي القرآن والحكمة هي سنة النبي صلى الله عليه وسلم.(16/6)
ويستحيل أن تضيع الحكمة التي امتن الله بها على عباده المؤمنين.. قال تعالى: {لقد منَّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته، ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين} (آل عمران:164)..
أفترى الله سبحانه وتعالى يتكفل بحفظ القرآن فيقول جل وعلا: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} (الحجر:9)
ولا يحفظ الحكمة التي هي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يبين به القرآن ويشرحه ويفسره، وما هو تطبيقه وتأويله؟! إن هذا مستحيل.
ولا شك أن الناظر في علم الإسناد، وكيف وضع علماء السنة ضوابط النقد للرجال، وكيف تتبعوهم وأحصوهم، وكيف ضبطوا هذا العلم ضبطاً فائقاً وكيف أن الله سبحانه وتعالى قد هيأ له جهابذة من الرجال كانت لهم ملكات عظمية في الحفظ والملاحظة والدقة مع الدين والتقى مما مكنهم من تمييز ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مما حاول الزنادقة والملحدون، وأهل الأهواء أن يدخلوه على الإسلام مما هو ليس منه في شيء.. وهذه معجزة من معجزات هذا الدين... فكما حفظ الله القرآن الكريم بأسباب عظيمة توافرت وتضافرت على حفظه من أن يتطرق إليه أدنى خلل، حفظ الله كذلك سنة رسوله صلى الله عليه وسلم..
وهذا رد مجمل على كل من الفرق التي شككت في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولسنا في مقام الرد على كل شبهة من شبهاتهم الكثيرة فإن هذا مكانه المطولات.
وأما الذين ردوا بعض السنة الثابتة حسب مصطلحات أهل الحديث تحت دعوى أنها تخالف معقولهم، فإننا نقول لهم إن ما تزعمونه من مخالفة عقولكم، يخالفكم فيه غيركم ممن يرون أن هذا يوافق العقل الصحيح، فأي العقول يعتمد عليه، ويقدم على الآخر؟! ولو ظن مسلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم يأمر بما يخالف العقل الصحيح لكفر... ولا شك أن هدم قواعد الإسناد التي وضعها أهل الحديث لتمييز السنة الصحيحة من الضعيفة هدم للسنة كلها.(16/7)
وأما من قال بأن أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم وتفسيره للقرآن كان مناسباً لجيل الصحابة، وأنه غير معقول لأجيالنا، فهو كافر بالله سبحانه وتعالى فإن النبي صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى {وما كان ربك نسيا} (مريم:64) والقرآن والسنة حجة الله على الناس ما بقيت الدنيا {وأوحى إلى هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ... } (الأنعام:19) فكل من تبلغه النذارة في شرق الأرض وغربها، وفي حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وبعد حياته فقد أقيمت عليه الحجة. وإقامة الحجة بهذا القرآن المنزل، وبالسنة التي هي وحي كذلك من الله.
وقد سلم الله سبحانه وتعالى أهل السنة والجماعة من الانحراف عن هذا الأصل العظيم وهو الأخذ بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم عملاً واعتقاداً، وخالفوا في ذلك جميع فرق الضلال الذين كان لكل منهم موقف مخالف من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنهم من ردها جملة وتفصيلاً، ومنهم من رد من زعم أنه آحاد لا يؤخذ به في عمل واعتقاد، ومنهم من قال نأخذ بحديث الآحاد في الاعتقاد دون العمل، ومنهم من رد من لا يوافق معقوله أو هواه..
وبقي أهل السنة والجماعة الذين كانوا كما قال سبحانه وتعالى: {إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا} (النور:51).
فهم سامعون مذعنون لحكم الله وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم ومطبقون لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً} (النساء:59)
فالرد إلى الله هو الرد إلى كتابه، والرد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الرد إلى سنته، فلو كانت سنته قد ضاعت لما كان للرد إليها من معنى، ولو كان بعضها قد ضاع لذهب الكثير مما يجب التحاكم والرد إليه.(16/8)
فالحمد لله الذي حفظ لنا كتابه الكريم وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وجزى الله خيراً أعلام الإسلام وعلماء الحديث على جهودهم المباركة في حفظ سنة رسول صلى الله عليه وسلم وتدوينها.
الأصل الثالث: أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:
اختار الله سبحانه وتعالى لصحبة نبيه الخاتم والإيمان به خير أصحاب الأنبياء ديناً وجهاداً، وعلماً وتقوى فكانوا أنصاره والمجاهدين في سبيل الله، قدموا أنفسهم وأموالهم في سبيل الله، وأذلَّ الله بهم دول الكفر كلها في سنوات قليلة ومكن لهم في الأرض، ونشر بهم الإسلام في عامة المعمورة، ودخل الناس في دين الله أفواجاً، وتحولت شعوب كثيرة إلى الإسلام في زمن قياسي، ولم يحدث هذا لنبي صلى الله عليه وسلم قبل رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم.
قال تعالى: {هو الذي أيدك الله بنصره وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم لو انفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم أنه عزيز حكيم} (الأنفال:62-63)
وقد أثنى الله سبحانه وتعالى على إيمانهم وجهادهم وإحسانهم في آيات كثيرة من كتابه منها قوله تعالى: {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، لا نفرق بين أحد من رسله، وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير} (البقرة:285).. فشهد لهم بالإيمان مع الرسول صلى الله عليه وسلم..
وقال: {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم، تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضواناً سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار، وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجراً عظيماً} (الفتح:29)...(16/9)
وهذه الآية من أعظم المدح لهم والشهادة لهم بالإيمان وإخلاص الدين لله، وأنهم أشداء على الكفار رحماء بينهم وأنهم أهل طاعة وصلاة، وأنهم ممدوحون بذلك في التوراة والإنجيل، وأن أوائلهم هم بذرة الدين، ونبتة الإسلام التي كبرت وتفرعت حتى أصبحت شجرة الإسلام قوية باسقةً تستعصي على الرياح {يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار} (الفتح:29)..
ومن ذلك أيضاً قوله تعالى: {لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحاً قريباً ومغانم كثيرة يأخذونها وكان الله عزيزاً حكيماً} (الفتح :18-19)
وهذه الآية نزلت في غزوة الحديبية، وكان الصحابة فيها ألفاً وأربعمائة رجل.
وقال تعالى: {لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رؤوف رحيم} (التوبة:117)
وهذه الآية نزلت في غزوة تبوك وكانوا ثلاثين ألفاً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ونزل على الرسول وهو في حجة الوداع في أعظم حشد تجمع له وكانوا أكثر من مائة ألف قول الله تبارك وتعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً} (المائدة:3)...
فهؤلاء الأصحاب الأطهار الأبرار سادة هذه الأمة وعنوان مجدها، وسر خلودها، ونموذجها الفريد في الإيمان والجهاد والعمل الصالح، وهم أسوة الأمة وقدوتها، ومنبعها الذي لا ينضب من المُثُل والعطاء والخير...(16/10)
ولكل منهم من المناقب والفضل والسابقة ما هو محل القدوة والأسوة، ففيهم الذي انفق ماله كله في سبيل الله، وفيهم الذي قتل أباه في الله، وفيهم الذي آثر ضيفه على نفسه، وأهله، وعياله، حتى عجب الرب من صنيعه من فوق سبع سمواته، وفيهم الأبطال الصناديد فرسان الحروب، وفيهم رهبان الليل، فرسان النهار، وكلهم قد تحمل في سبيل الله ما لم تتحمله الجبال، وكلهم كان يفتدي الرسول بأبويه ونفسه وماله، وقد عظموا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحبوه كما لم يُعظَّم عظيم قط أو يحب، ولم ينصر أتباع رسول رسولهم كما نصر أصحاب محمدٍ صلى الله عليه وسلم محمداً صلى الله عليه وسلم.. ومناقبهم وفضائلهم أكثر من أن تحصر.
وقد أحبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أبو بكر الصديق أحب أصحابه إليه، وقال فيه: [لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً ولكنه أخي وصاحبي وقد اتخذ الله صاحبكم خليلاً] (رواه مسلم)..
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو لهم، ويواسيهم ويزور مريضهم، ويتبع جنائزهم، ويسعى في حاجاتهم ويصلح بين المتخاصمين منهم، ويحوطهم كما يحوط الأب أبناءه وأعظم. كيف وهو في الكتاب أولى بكل مؤمن من نفسه وهو أب لهم {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم} (الأحزاب:6) وهو أب لهم -قراءة-..
وكان منهم بطانته وخاصته الذين يطلعهم على أسراره، ويشاورهم في أموره، فلا يخرج إلا وهو معهم، ولا يدخل إلا وهم معه، ولم يفارقوه في موقف شدة قط.. وأول هؤلاء هو الصديق الصادق، وأخو النبي في الدين وقريبه في النسب، تزوج رسول الله ابنته فكانت أفضل زوجاته، وأحب الناس جميعاً إليه كما قال صلى الله عليه وسلم عندما سئل: [من أحبُّ الناس إليك؟ قال: عائشة.. قال من الرجال؟ قال: أبوها] (متفق عليه)
ولم يمت رسول الله إلا ورأسه مسند إلى صدرها رضي الله عنها وأرضاها...(16/11)
وفي هذه الزوجة وسائر زوجاته الطاهرات المطهرات نزل قول الله تعالى: {وَقَرْنَ في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً، واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة إن الله كان لطيفاً خبيراً}.. (الأحزاب:33-34)
ولما بشرهم الله سبحانه وتعالى برضوانه، وتوبته عليهم، وشهد لهم بالإيمان والإحسان كان هذا بشرى لهم بالجنة كذلك. قال تعالى: {والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه، وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ذلك الفوز العظيم} (التوبة:100)
وبشر الرسول صلى الله عليه وسلم رجالاً منهم بأعيانهم بالجنة فقال: [عشرة في الجنة: النبي في الجنة، وأبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي في الجنة وطلحة في الجنة، والزبير بن العوام في الجنة، وسعد بن مالك في الجنة، وعبدالرحمن بن عوف في الجنة، وسعيد بن زيد في الجنة] (رواه أحمد وأبو داود وصححه الألباني في صحيح الجامع (4010))
وقال صلى الله عليه وسلم: [لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة] ( رواه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه الألباني في صحيح الجامع (7680))
ولا شك أن من أخبر الله سبحانه وتعالى أنه رضى عنهم فهم من أهل الجنة، ولا يمكن أن يكون من أعلن رضاه عنهم أنهم يرتدون ويكفرون...
* موقف المؤمن من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:
ومن أجل هذا الفضل والإيمان والإحسان الذي كان لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أوجب الله على كل مسلم يأتي بعدهم أن يعترف بفضلهم وأن يدعو الله لهم بالمغفرة: {والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولأخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم} (الحشر:10)(16/12)
وأن يحبهم ويواليهم: {إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون، ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون} (المائدة:55-56)..
وأن يعترف أنه لم يصبح مسلماً إلا بفضل جهادهم وفتوحهم (ولا يشكر الله من لا يشكر الناس)
وأن يأتسي بهم في جهادهم وصبرهم كما أرشدنا الله إلى ذلك حيث قال سبحانه في بيان صبر الرسول صلى الله عليه وسلم وصبرهم في غزوة الخندق: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً* ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيماناً وتسليماً* من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه، منهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً} (لأحزاب:21-23)
وفي هذه الآيات رفع الله من شأن نبيه صلى الله عليه وسلم وأصحابه الصادقين، وأبان الصورة العظيمة التي كان عليها النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الغزوة العصيبة من الصبر والإيمان والتوكل، فقد ربط صلى الله عليه وسلم الحجر على بطنه من الجوع وكان ينقل التراب من الخندق، ويحفر مع أصحابه وكان واثقاً من نصر الله ثابت القلب بالرغم من تألب الأحزاب واجتماعهم جميعاً -قريش وغطفان وقريظة-... وثبت مع رسول الله أهل الإيمان واليقين الذين وصفهم الله بقوله {من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه} (الأحزاب:23) وقد عاهدوه على نصر رسوله والموت في سبيله.
وما ذكر الله لنا هذا إلا ليكون هؤلاء الأصحاب الأطهار الأقوياء في الدين قدوة لنا وأسوة، وأن نحبهم ونجلهم، ونثني على جهادهم وصبرهم.
* الصحابة أسوة في العلم كما هم أسوة في الجهاد:(16/13)
ولا شك أنهم كانوا في العلم واليقين والفهم الصحيح للدين كما كانوا في الجهاد والبذل.. فكما أثنى الله سبحانه على جهادهم وصبرهم، أثنى على إيمانهم وإحسانهم وعبادتهم، ولا غرو فقد كانوا هم الفوج الأول الذي تلقى التعليم والتربية من فم الرسول صلى الله عليه وسلم، وكانت القدوة المثلى، والمثل الكامل ماثلاً أمامهم ليس بينهم واسطة. فهذا رسول الله الإنسان الكامل، والقدوة المثلى أمامهم، يتلو عليهم الكتاب ويبينه لهم، ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم ويربيهم بالأسوة والموعظة الحسنة، ولفت النظر، والهجر والزجر أحياناً، ولا يقر أحداً منهم على باطل، ويختار فريقاً منهم فيوجب عليهم ما ليس واجباً على العامة ليحوزوا قَصَبَ السَّبْق، ويكونوا مثلاً لمن وراءهم كما أخذ على بعضهم ألا يسأل الناس شيئاً فكان إذا وقع السوط منه وهو على بعيره لا يسأل أحداً أن يناوله إياه.. وكل ذلك ليخرج منهم جبلاً يكون مثلاً لكل الأجيال في العلم والعمل والجهاد والصبر.
وبث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كل ما يحتاجونه من علم كما قال أبو ذر: (ما مات رسول الله وفي الأرض من طائر يطير بجناحيه إلا عندنا علم منه)..
ولم يكتم عنهم شيئاً من الدين، فكانوا بهذا كله كما قال ابن مسعود رضي الله عنه: "أولئك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا أبر الناس قلوباً وأعمقهم علماً وأقلهم تكلفاً".
ومن أجل ذلك كله كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هم الجيل المثالي الذي يجب أن تحتذيه كل أجيال الأمة في الإيمان،والجهاد، والعمل، والعلم، وأن يقدم تفسيرهم للكتاب والسنة على كل تفسير، وأن كل ما جاء مخالفاً لما قالوه فليس من الهدى والدين، فما لم يعرفه أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم من الدين فلا شك أنه ليس ديناً..(16/14)
ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث العرباض بن سارية: [أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وأن تأمر عليكم عبد حبشي، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة] (رواه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه الألباني في صحيح الجامع (2549))
ولا شك أن أفضلهم بإطلاق هو أبو بكر الصديق ثم عمر بن الخطاب، ثم عثمان بن عفان، ثم علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين، وفضلهم كترتيبهم في الخلافة.
الأصل الرابع: الموالاة بين المسلم والمسلم:
الأصل الرابع من الدين، وعزائمه أن كل مسلم أخ لكل مسلم تجب عليه موالاته، ولا يجوز له أن يعتدي على دمه أو ماله أو عرضه.
وهذا الأصل دلت عليه مئات النصوص من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم منها قوله تعالى: {إنما المؤمنون أخوة} (الحجرات:10)
وأكثر الآيات في سورة الحجرات، وقوله تعالى: {واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا، واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً} (آل عمران:103) وما تلى ذلك من الآيات من سورة آل عمران.
ومنها قوله تعالى: {إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون} (المائدة:55-56)
وأما الحديث فكثيرة جداً فمنها قوله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: [إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا..] (رواه مسلم)
وقوله صلى الله عليه وسلم: [المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، ولا يحقره بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم: كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه] (متفق عليه)(16/15)
وقوله صلى الله عليه وسلم: [لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه] (متفق عليه).. وقوله صلى الله عليه وسلم: [مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى] (رواه مسلم)
ومنها تعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم لقتل من نطق بالشهادتين ولو كان ظاهر حاله لا يدل على صدقه، كما عَنَفَ النبي صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد لما قتل رجلاً كان قد قتل عدة رجال من المسلمين فلما اتبعه أسامة ورفع عليه السيف قال الرجل: أشهد أن لا إلا الله فعلاه أسامة بالسيف فقتله. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم ذلك: [أقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله، وما تفعل بلا إله إلا الله يوم القيامة] ولما قال له أسامه: إنما قالها تعوذاً.. قال صلى الله عليه وسلم له: [هلا شققت عن قلبه]!! ولما قال أسامة استغفر لي يا رسول الله.. ردد النبي عليه قوله: [وما تفعل بلا إله إلا الله يوم القيامة]!!
والنصوص في حرمة المسلم على أخيه المسلم كثيرة جداً ومنها أيضاً إيجاب مجموعة من المعروف يجب على المسلم أن يقدمها لأخيه المسلم دون أخذ أجر على ذلك بل من حق المسلم على أخيه المسلم كرد السلام وإلقائه، وتشميت العاطس وعيادة المريض، واتباع الجنازة، وإجابة الدعوة، وإبرار المقسم، وكذلك التطوع بالشهادة دون أن يأخذ على ذلك أجراً...
هذا مع وجوب نصره ظالماً برده عن الظلم، ومظلوماً في السعي لرفع الظلم عنه. كما قال صلى الله عليه وسلم: [انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً] (رواه البخاري)
ومن فروع هذا الأصل: أعني أخوة المسلم لأخيه المسلم، تحريم كل ما يدعو إلى فرقة بين المسلمين، ويفرق جماعتهم، ويمزق صفوفهم..(16/16)
فقد جاء الإسلام بتحريم كل عصبية ولو كانت لاسم شريف، وفئة كريمة، كما أنكر الرسول صلى الله عليه وسلم على من دعا إلى تعصب الأنصار ضد المهاجرين، والمهاجرين ضد الأنصار. فقال أبهذا وأنا بين أظهركم؟! دعوها فإنها منتنة، وقال ليس منا من دعا إلى عصبية، ومن قائل بنصر عصبية أو يدعو إلى عصبية فمات فميتته جاهلية..
فكل العصبيات في الدين مذمومة سواء كانت لفئة أو قبيلة، أو جماعة، أو وطن، أو إقليم، أو عالم، وقد ذم علماء الإسلام من تعصب لمذهب من المذاهب الفقهية لأن هذا يؤدي وقد أدى إلى فرقة بين المسلمين حتى إنه أدى أحياناً إلى الفرقة في الصلاة فكان بعضهم لا يصلي الجماعة خلف المخالف في المذهب، وكذلك في الزواج، والقضاء والمدارس.. حتى جاء وقت كانت المذاهب الفقهية المدونة كأنها شرائع مستقلة..
فكل عصبية تؤدي إلى فرقة في الدين فهي مذمومة.
* المخالفون لهذا الأصل:
وقع في المسلمين مخالفات كبيرة لهذا الأصل الأصيل من دينهم، فقد تفرقوا بأسباب كثيرة ترجع إلى الفرقة بسبب الدين، وبعضها يرجع إلى الفرقة بسبب الدنيا.
1) الخلاف بسبب الدين:
فأما الفرقة بسبب الدين فقد قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم: [افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وتفرقت النصارى على اثنين وسبعين فرقة، وتفرقت هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة..] (رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وصححه الألباني في صحيحه الجامع (1083))
وهذا الحديث بيان لقول الله تبارك وتعالى: {كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغياً بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم} (البقرة:213)..(16/17)
ولقد وقع بسبب فرقة المسلمين في الدين بلاء وشر عظيم في الأمة سفكت بسببه الدماء، واستبيحت كل الحرمات وبسببه تغلب أهل الكفر في أوقات كثيرة على أهل الإسلام كما قال تعالى: {وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم} (الأنفال:46)
وكان من أعظم الفرقة في الدين فراق الخوارج لجماعة المسلمين والحكم عليهم بالكفر في الدنيا، والخلود في النار، وذلك بالكبيرة... واستحلال قتالهم بسبب ذلك، وفي الخوارج وردت نصوص كثيرة تفيد وجوب قتالهم ودفع شرهم عن المسلمين، وأنهم شر الخليقة عمدوا إلى آيات في الكفار فوضعوها في المؤمنين، وأنهم مع كثرة صلاتهم وصيامهم إلا أنهم يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم، ويمرقون من الإسلام سريعاً كما يمرق السهم من الرمية دون أن يحمل شيئاً منها، ولا تظهر فيه أثر من دمائها أو فرثها، وذلك لشدة سرعته، وأنهم سفهاء الأحلام، حدثاء الأسنان قد وقع بسببهم في الأمة بلاء كبير، وشر مستطير لأنهم لقلة علمهم وعدم فهمهم يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان، وقد شغل هؤلاء أهل الإسلام طيلة قرون الإسلام، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [كلما خرجوا قطعوا، حتى يخرج آخرهم مع الدجال]
وكذلك قد وقع الخلاف بين المسلمين بسبب التفرق في الدين من غير الخوارج كالخلاف الذي وقع بسبب البدع الكبرى كبدعة الرفض، والاعتزال والقدر، والإرجاء وقد وقع بسبب هذه البدع وما نشأ عنها كثير من الشقاق نشأ بترك التحاكم عند كل خلاف إلى كتاب الله وسنة رسله صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً}.. وقوله تعالى: {وما اختلفتم فيه من شئ فحكمه إلى الله} (الشورى:10)..(16/18)
فكان ترك التحاكم إلى كتاب الله وسنة رسوله، وترك الرجوع إلى أهل العلم من العلماء الذين هم على التحقيق أولو الأمر، ثم اتباع الهوى ورد الحق بغياً وعناداً كان ذلك هو الذي سبب الفرقة بين المسلمين، وفرق شملهم، وأوهى جماعتهم.
2) الخلاف بسبب الدنيا:
وأما الفرقة بسبب الدنيا فأسبابها عديدة ومرجع ذلك إلى التنافس في الدنيا، والأثرة، وحب النفس، وقد جاء الإسلام بالتحذير من ذلك كما قال صلى الله عليه وسلم: [أخوف ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من زهرة الدنيا، قالوا: وما زهرة الدنيا يا رسول الله؟ قال: بركات الأرض..] (متفق عليه)
وقوله صلى الله عليه وسلم: [.. أخشى عليكم أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها وتهلككم كما أهلكتهم] (متفق عليه)..
وصراع المسلمين بسبب الدنيا التي فرقتهم إلى أوطان ودويلات متحاربة متعادية، وفئات وجماعات متنافسة متخاصمة... وفي سبيل هذا التنافس والتباغض بل والتحارب، ضاع العمل بأصل الموالاة بين المسلم والمسلم.
والواجب على أهل الإسلام جميعاً التمسك بأصل الموالاة في الدين، وترك كل خلاف يؤدي إلى الفرقة بين المسلم والمسلم.. ففي الخلاف الديني يجب الرد إلى كلام الله وكلام رسوله، واتباع أهل العلم الذين هم أولو الأمر والتمسك بجماعة أهل الإسلام، وإجماعهم، وعدم إخراج المسلم من الإسلام بمعصية لا تبلغ الكفر ولا تبدعه ولا تكفره، وأن يوالى كل مسلم يشهد ألا إله إلا الله ولا يعاديه بقدر معصيته، ولا يعاقب بقدر بدعته مع موالاته في أصل الدين وإبقائه في جماعة المسلمين وإعطائه ما للمسلم من حق في حرمة دمه وماله وعرضه، ووجوب نصره، ومحبته، وموالاته..
* المخالفون في أصل الولاء:
1) الخوارج الذين خرجوا على المسلمين بالسيف، واستحلوا دماءهم وأموالهم بالمعصية، واعتقدوا خلود المسلم الموحد في النار إذا ارتكب كبيرة من الكبائر، وهؤلاء شر الفرق.(16/19)
2) أهل التأويل والتعطيل الباطل الذين اخترعوا منهجاً في أسماء الله وصفاته يقوم على نفي وتحريف كل ما وصف الله به مما زعموا أن إثباته يوجب المماثلة لخلقه، وقد قالوا بكفر من لم يعتقد معتقدهم، وينزه الله حسب زعمهم وتأويلهم.
3) المتنطعون المتشددون الجراحون الذين أخرجوا المسلم من الإسلام بمجرد أن يقع في خطأ بتأويل أو اجتهاد، والذين يتتبعون سقطات العلماء، ولا يغفرون زلة، ولا يعذرون جاهلاً ولا ناسياً، ولا متأولاً ويأخذون المسلم بلازم قوله..
4) المجتمعون على عصبية يوالون عليها ويعادون عليها أيا كانت هذه العصبية من مذهب فقهي، أو جماعة دعوية، أو هوية سياسية، أو دولة إقليمية.
5) كل صاحب هوى وبدعة ينصر هواه، ويوالي من يوافقه في بدعته، ويحارب من يخالفه، ولا يرجع في خلافه إلى كلام الله ورسوله.
6) المختلفون بسبب هذه الدنيا الفانية، ويوالون عليها ويعادون عليها، ويقتلون في سبيلها، فيقطعون الأرحام، ويهدمون أخوة الإسلام، ويسفكون الدم الحرام، ويفرقون أمة الإسلام، وكل ذلك بسبب هذا الحطام!!!
الأصل الخامس: البراءة من الكفار:
أرسل الله سبحانه وتعالى رسله إلى أهل الأرض مبشرين ومنذرين، وشاء الله سبحانه وتعالى أن ينقسم الناس إزاء دعوة رسله إلى مؤمن وكافر. وأن يظل هذا الخلاف ما بقيت الدنيا...
قال تعالى لآدم عليه السلام عندما أهبطه إلى الأرض وطرد إبليس من رحمته: {قلنا اهبطوا منها جميعاً فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} (البقرة:38-39)..(16/20)
وقال تعالى: {قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين} (الأعراف:24).. وقال تعالى: { يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون* والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} (الأعراف:35-36).. وقال تعالى: {ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين} (يونس:99)
وقال تعالى: {ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين} (هود:118-119)
الآيات في هذا المعنى كثيرة جداً، ومن أجل سنة الله هذه في خلقه وعباده، فإنه أرسل الرسل مبشرين من أطاعهم بالجنة، ومنذرين من عصاهم بالنار، وداعين إلى الله يبينون الطريق والصراط إليه، وأمر الله الرسل وأتباعهم أن يجاهدوا الكفار بأنفسهم وأموالهم وألسنتهم.
وأن يوالي أهل الإيمان بعضهم بعضاً، وأن يعادي أهل الإيمان أهل الكفران، فلا يحبوهم، ولايركنوا إليهم، حتى ولو كان المؤمن وحيداً في هذه الأرض كما ضرب الله لأتباع رسوله محمد صلى الله عليه وسلم مثلاً بإبراهيم عليه السلام ولم يكن مؤمن في الأرض غيره وزوجه سارة، ولم يؤمن به غير لوط ابن أخيه.. قال تعالى: {لقد كان لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برءاؤا منكم ومما تعبدون من دين الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده.. } (الممتحنة:4)
ولذلك أوجب الله على أهل الإسلام مفارقة ما عليه آباؤهم وأهلهم من الكفر، ومعاداتهم في الدين قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون} (التوبة:23)(16/21)
وأوجب كذلك سبحانه وتعالى معاداة الناس جميعاً ممن اتبع غير دين الإسلام ولو كانوا أكثر عدداً وأعظم قوة كما قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض، ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون} (المائدة:51)
وقال تعالى: {وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً إن الله يعلم ما تفعلون* ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم أن تكون أمة هي أربى من أمة إنما يبلوكم الله به وليبين لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون* ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن يضل من يشاء ويهدي من يشاء ولتسئلن عما كنتم تعملون} (النحل:91-93)
وجعل الله سبحانه وتعالى موالاة ونصرة المسلم للكافر على المسلم كفراً به سبحانه وتعالى. كما قال تعالى: {لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنون ومن يفعل ذلك فليس من الله في شئ إلا أن تتقوا منهم تقاةً، ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير* قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله ويعلم ما في السموات وما في الأرض والله على كل شئ قدير} (آل عمران:28-29)
وأمر الله سبحانه وتعالى أهل الإسلام أن يلزموا صراط الله المستقيم، وشريعة الله الإسلام التي اختصهم بها، ولا يخلطوا دينهم بغيره في عقيدة أو عبادة، وألا يتشبهوا بأعداء الله. قال تعالى: {قل يا أيها الكافرون* لا أعبد ما تعبدون* ولا أنتم عابدون ما أعبد* ولا أنا عابد ما عبدتم* ولا أنتم عابدون ما أعبد* لكم دينكم ولي دين} (الكافرون:1- 6)(16/22)
وقال سبحانه وتعالى: {وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعاً فينبؤكم بما كنتم فيه تختلفون} (المائدة:48)
وقال صلى الله عليه وسلم: [بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يعبد الله تعالى وحده لا شريك له وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذل والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم] (رواه أحمد وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم (2831))
وبعث النبي صلى الله عليه وسلم بالسيف هو تكليفه بقتال الكفار حتى يشهدوا ألا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله كما قال صلى الله عليه وسلم: [أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله فإن قالوا فقد عصموا مني دمائهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله] (متفق عليه)
وفي أهل الكتاب أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتالهم ليسلموا أو يدفعوا الجزية كما قال سبحانه وتعالى: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون} (التوبة:29)
وهذه هي البراءة من الكفار، والفصل الكامل بين ديننا ودينهم وطريق أهل الإسلام وطريقهم والحذر من اتخاذهم أولياء بل ولا بطانة وأعواناً. كما قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالاً ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفى صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون } (آل عمران:118)(16/23)
هذه البراءة وما يتبعها من العداوة في الدين، ومخالفة أصحاب الجحيم، والحذر من اتخاذهم بطانة... الخ أصل من أصول الإسلام، وقد خالفته طوائف كثيرة فكان من هذه المخالفة الشر والفساد الكبير الذي حذر الله منه.
كما قال تعالى: {إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير} (الانفال:73) والضمير في (تفعلوه) راجع إلى ما أمر الله به من وجوب موالاة المسلمين بعضهم بعضاً، ووجوب الحذر من موالاة الكفار..
* المخالفون لهذا الأصل:
1) الفرق الباطنية من أهل النفاق والكفر الذين كانوا في كل أدوار تاريخهم عوناً للكفار على المسلمين، وإلباً على أولياء الله من الصالحين وعوناً لليهود والنصارى والمغول الكافرين على المسلمين..
2) المنافقون المستغربون الذين فتنوا بما عليه الغرب الكافر في علومه وثقافاته وعاداته وطرائق معيشته فحاولوا التوفيق -في زعمهم- بين الإسلام وبين الحضارة الغربية: {وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدوداً} (النساء:61)
ويتعللون دائماً بموافقتهم لأعداء الإسلام قائلين: {إن أردنا إلا إحساناً وتوفيقاً} (النساء:62)
الأصل السادس: أمة الإسلام هي خير أمة أخرجت للناس:
من أصول الإسلام التي يجب علي كل مسلم اعتقادها، ويكفر من قال بنقضيها الاعتقاد أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم هي خير أمة من أمم الهداية أخرجت للناس. قال تعالى: {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ولو آمن أهل الكتاب لكان خيراً لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون} (آل عمران:110)
وهذه الخيرية والفضل كان لأسباب كثيرة منها: كرم الأصل، ونفاسة الجرثومة، وطيب المعدن كما قال صلى الله عليه وسلم: [الناس معادن كمعادن الذهب والفضة خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا...] (رواه مسلم)(16/24)
وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم: [خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، ثم يأتي من بعدهم قوم يتسمنون، ويحبون السمن، يعطون الشهادة قبل أن يسألوها] (رواه الترمذي والحاكم وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم (3294))
ومن أجل ذلك كانت أمانتهم وصدقهم وشجاعتهم منطلقاً لحمل رسالة الإسلام بصدق وإخلاص، وتفان وشجاعة، فكانوا كما قال تعالى: {من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً} (الأحزاب:23)
وقال سبحانه وتعالى في مدحهم: {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضواناً سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار، وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجراً عظيماً} (الفتح:29)
ولذلك ابتلاهم الله بالخوف فكانوا شجعاناً، وابتلاهم بالطمع فكانوا زهاداً.. ففي بدر قالوا: [والله يا رسول الله لو خضت بنا هذا البحر لخضناه معك] مع أنهم كانوا أقل عدداً من عدوهم، وخرجوا غير مستعدين لقتالهم، وفي الحديبية عاهدوا الله على الموت وألا يفروا، وأين هذا من أصحاب موسى الذين وعدوا الله بالنصر، وقال لهم رسولهم [ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم]..
فما كان منهم إلا أن قالوا: {اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون} علماً أن الله قد جعل بني إسرائيل وأمة موسى هي خير أمة أخرجت للناس في زمانهم كما قال تعالى: {يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين} (البقرة:47)(16/25)
ولا شك أن هذا كان في عالمي زمانهم، وأما أمة محمد صلى الله عليه وسلم فهي خير الأمم بإطلاق.. ومما فضل الله به أمة محمد صلى الله عليه وسلم أنهم حملة رسالته إلى الناس جميعاً، وقد دخل بدعوتهم من شاء الله هدايته من كل شعوب الأرض فكانوا خير الناس للناس... ولذلك كانوا شطر أهل الجنة...
ولا يوجد في أمة من أمم الهداية ما وجد في هذه الأمة من العلماء والعباد، والمجاهدين، والشهداء والزهاد.
ومنها أنهم أطول الأمم عمراً في الدعوة إلى الله وهداية الناس، وبقاء الحق فيهم ما بقيت الدنيا، فلا تزال طائفة منهم على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يقاتل آخرهم الدجال.
ولأجل ذلك جعلهم الله سبحانه وتعالى أمة وسطاً عدولاً قال تعالى: {وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً} (البقرة:143)
فهم شهداء الله في أرضه من شهدوا له بالصلاح نال الجنة ومن شهدوا عليه بالشر كانت النار مصيره.. بل يشهدون لكل نبي على أمته بما أنزل الله إليهم من القرآن..
ولأجل هذه المهمة العظيمة، وهذه الخيرة المطلقة على كل أمم الأرض فإن الله اختصهم بأنواع كثيرة من رحمته.
1) منها أن العبادات التي كلفوا بها قليلة ولكن جعل الله لهم من الأجر ضعف ما أعطى الأمم السابقة كما قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نوراً تمشون به ويغفر لكم والله غفور رحيم} (الحديد:28)
وقال صلى الله عليه وسلم: [إنما مثلكم واليهود والنصارى كرجل استعمل عمالاً فقال من يعمل لي إلى نصف النهار على قيراط، فعملت اليهود على قيراط، ثم عملت النصارى على قيراط قيراط، ثم أنتم الذين تعملون من صلاة العصر إلى مغارب الشمس على قيراطين قيراطين، فغضبت اليهود والنصارى وقالوا نحن أكثر عملاً وأقل عطاء قال هل ظلمتكم من حقكم شيئاً قالوا لا فقال فذلك فضلي أوتيه من أشاء] (رواه البخاري)(16/26)
وقد حفظ لهم القرآن من التغيير والتبديل، وحفظ لهم سنة نبيهم، ولم يمت رسول الله ويتركهم إلا وقد أسس الدين، وأتم الله به النعمة، وكملت الشريعة، وتركهم على مثل المحجة، ومكن الله لهم في الأرض فأصبحت الجزيرة العربية كلها خاضعة للدين..
وهذا بخلاف جميع الرسل قبل رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم فإن موسى عليه السلام مات وقومه ما زالوا في التيه.
وعيسى عليه السلام رفعه الله إلى السماء، وتلامذته خائفون مختفون من أعدائهم بل إن تلميذاً مخلصاً من تلاميذه أنكر معرفته به وأقسم ثلاث مرات في ليلة واحدة أنه لا يعرفه قبل وذلك قبل صياح الديك!!
والخصائص والفضائل التي اختصت بها هذه الأمة كثيرة جداً... من أجل ذلك يجب اعتقاد هذا الفضل لأمة الإسلام، وتعظيم أصحاب رسول الله الذين هم خلاصة الأمة، ونقاوتها، وأهل السبق والسابقة فيها وهذا من عقائد الإسلام الراسخة.
خاتمة:
والخلاصة أن من ثوابت الإسلام وأصوله الأصيلة:
(1) الاعتقاد بكمال القرآن وحفظه، وأنه لا يوجد قرآن غيره بأيدي أحد من الناس، ووجوب التحاكم إلى هذا القرآن في الصغير والكبير وتحكيمه في حياة الأمة ووضعه حيث وضعه الله سبحانه من الحكم به في جميع شئوننا.
(2) وكذلك حجية السنة وأنها بمنزلة القرآن اعتقاداً وعملاً {من يطع الرسول فقد أطاع الله} (النساء:80)
(3) والإيمان بعدالة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمانتهم في نقل القرآن والسنة، وأنهم النموذج الذي يجب أن يحتذى في الدين والجهاد والصبر، وكذلك في فهم الدين اعتقاداً، وعملاً..
(4) والاعتقاد بفضل آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم وإنزالهم منزلتهم، وأنهم كانوا مع القرآن لم يفارقوه ..
(5) ووجوب الموالاة بين أهل الإسلام جميعاً ووجوب المعاداة والبراءة من الكفار جميعاً ولو كانوا من الآباء والأخوان..(16/27)
(6) واعتقاد فضل هذه الأمة الإسلامية على جميع أمم الهداية، وأنهم حملة رسالة الله الخاتمة إلى أهل الأرض جميعاً.
ووجوب قيامهم بما كلفهم الله به {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله} (آل عمران:110)
(7) وعالمية رسالة الإسلام، وأنه الدين الذي يجب أن يكون دين الناس جميعاً وأن البشر جميعاً يجب إن يخضعوا له كما قال تعالى:{وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله} (الأنفال:39). وقوله تعالى: {قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً} (الأعراف:158)
(8) وأن غاية الرسالة المحمدية هي تعبيد الناس لله سبحانه وتعالى كما قال تعالى: {يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون} ( البقرة : 21 )..
وأن هذه هي مهمة الرسل جميعاً قبل رسولنا صلى الله عليه وسلم: {ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} (النحل:36)
(9) وأن الإسلام جاء ليهذب النفوس، ويزكيها بالإيمان والعمل الصالح والخلق الكريم: [إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق] (الأدب المفرد للبخاري)، وأن على دعاة الإسلام أن يعملوا لبناء هذا الإنسان الصالح، والمسلم الكريم، والنموذج الذي يحتذى به كما جاءت أوصافه في الكتاب والسنة.
(10) وكذلك وجوب الاعتقاد بشرف اللغة العربية لنزول القرآن بها وأنهالسان الرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم، وجعل هذه العربية هي اللغة الأولى لكل مسلم في الأرض لأنه لا تتم عبادته في صلاته إلا بها.. ولا يفهم الإسلام فهماً كاملاً إلا بجمعها، ومعرفتها بعلومها البالغة اثنى عشر علماً، أهمها ورأسها (علم النحو)..(16/28)
(11) وكذلك اعتقاد أنه لا عصمة لأحد من خطأ بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن الاجتهاد حق بل واجب على كل من استكمل آلته من علماء الإسلام لأنه لا بصيرة، ولا عمل بالكتاب والسنة والدين إلا باجتهاد أهل العلم الذين ينزلون آيات القرآن منازلها، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مواقعها، هذا مع وجوب حفظ تراث أهل العلم وجهودهم في تبويبه وتأصيله، وفقهه وتعليمه، وألا تكون مذاهب العلماء بمثابة شرائع مستقلة لأهل الإسلام حتى لا تفرقوا في الدين.
**********
****(16/29)
استنساخ الإنسان والحيوان ضجة مفتعلة وأكذوبة كبيرة وإفساد عظيم
بقلم: عبدالرحمن بن عبدالخالق
ضجة مفتعلة:
الضجة الكبرى التي تعم العالم وتقول إن بعض علماء الأحياء قد استطاعوا أن يخلقوا (يستنسخوا) شاة من شاة أخرى، وأن الطريق قد أصبح مهيئاً لاستنساخ الحيوان بعضه من بعض دون الحاجة إلى اجتماع الذكر والأنثى، وأن الطريق قد أصبح مهيأ لاستنساخ البشر حسب الطلب، دونما حاجة إلى ماء الرجل وبويضة المرأة، ضجة كبيرة تقوم على أكذوبة كبرى، وتغرير ظاهر.
حقيقة الأمر:
فحقيقة الأمر هو أن علماء الأحياء هؤلاء عبثوا ببويضة ملقحة وانتزعوا منها (النواة) وحقنوها بخلية حية من شاة أخرى، أن الذي حدث بعد ذلك في ظن فاعليه هو انقسام هذه الخلية الحية، ونشأة الجنين منها، وتخلق الشاة من هذه الخلية، وقد كانت التجربة بتفصيل أكثر كما يلي:
1) تم الحصول على بويضة من الشاة واستخرجت منها النواة.
2) تم الحصول على خلية عادية من شاة أخرى، واستخرجت منا النواة.
3) تم وضع نواة الخلية العادية في البويضة.
4) وضعت البويضة في رحم الأم فتم تكاثرها إلى أن أنجبت الأم شاة.
وهذه العملية قد تمت بعد إجراء نحواً من ثلاثمائة عملية دمج للحمض النووي المأخوذ من خلايا ضرع مع بويضات نعاج مخصبة، وكلها قد فشلت وربما انتجت (مسوخاً) لم يعلن عنها.
يقول د. عبدالخالق محمد: "إن استنساخ خلايا آدمية بالغة باستخدام التقنية الآنف ذكرها، لا يزال مستحيلاً حتى الآن، والمحاولات المتكررة والصعبة لاستنساخ خلايا ثديية بالغة باءت جميعها بالفشل، وهي في مهدها، وفي الحالات القليلة الناجحة، كانت النتيجة مخلوقات مشوهة تشوهاً بالغاً، وغير مقبول إلى أن ظهر الدكتور ويلموت وزملاؤه علينا بمقالهم الشهير في مجلة Nature يعلنون فيه نجاح محاولتهم مع الخلايا الحيوانية البالغة وعنوان نجاحهم النعجة دوللي.(17/1)
إلا أن أحدا لا يعرف بعد، ما إذا كان النجاح في دوللي مجرد نتيجة لحدوث عطل جنيني مؤقت في الخلايا البالغة التي أجريت عليها التجربة، وفي لحظة التجربة ولأنه لم يسبق لأحد أن استطاع استئناس الحمض الجزئي في خلايا البويضة، بمعنى أن الحمض الجزئي، وكما يعتقد عدد من العلماء لا بد له حتى يتفاعل في خلايا البويضة من أن يشعر أنه في بيته، وكيف يتم ذلك؟ لا أحد يعرف بعد".
الطريق الثاني للإستنساخ:
وأما الطريق الثاني الذي اتبعه هؤلاء العلماء في الاستنساخ هو طريق التوائم، وذلك أن الإنسان في البداية خلية واحدة تنقسم بعد ذلك إلى خليتيين ثم إلى أربع خلايا وهكذا.
ثم يكون مضغة (كتلة جنينية بمقدار ما يمضغة الإنسان) ثم تحول هذه الكتلة في عمل تخصصي لكل منها فخلايا تذهب تكون اللحم، وأخرى إلى الجلد، وأخرى إلى العظام... الخ
وقد تمكن العلماء من فصل الخلية التي نتجت عن انقسام الخلية الأم إلى اثنتين وعزلهما وذلك المحيط بالخليتين المنقسمتين وعزل كل خلية منقسمة عن الأخرى وإعادة إغلاق الفتح الذي تم بغشاء صناعي مكون من مادة هلامية لتكون لكل خلية غشاء كامل يحيط بها يمكنها بعد ذلك من الانقسام هي الأخرى بطريقة طبيعية لخليتين جديدتين ويمكن أيضاً عمل فتح بهما وعزلهما عن بعضهما وإعادة إغلاق هذا الغشاء الذي عمل فيه الفتح بنفس المادة الهلامية، وهي نفس طريقة تكوين التوائم في بداية الحل حيث تنقسم الخلية المخصبة (البويضة المتحدة مع الحيوان المنوي) لتعطي طفلين.
وإذا تم حفظ هذه النسخ (التوائم) مجمدة، ولم يسمح لها بالتكاثر لفترة من الزمن ثم غرست في الأرحام، وتخلقت فإنه يمكن الحصول على نسخ متعددة بمواصفات الخلية الأولى..(17/2)
وكالعادة في كل كشف أو إعلان عن شيء جديد يتسابق الذين يسارعون في الكفر في التأييد والتشجيع، ونسج الأحلام. فما كان يعلن هذا الأمر إلا وانبرى من تضيق صدورهم بحقيقة أن الله (خالق كل شيء) من الانتفاش والظن أن الإنسان سينزع من الله صفة الخلق، وأن البشر سيخلقون غداً بمواصفات حسب الطلب، والأنعام سيكون حسب القياس الهندسي!! ومنهم من سارع إلى وجوب استنساخ الفراعنة وملكات الجمال... الخ.
وهذه الضجة تشبه ما قام من ضجة بعد إعلان داروين عن نظريته في الخلق، وزعم أن التطور كان من الخلية الأولى إلى الإنسان... ثم عاش البشر في هذا الوهم سنين طوالاً، وكفروا بالخالق ثم اكتشفوا أن زعم داروين باطل ومثله اكتشاف انفجار سديمي في الكون وبعده جاء الزعم أننا اكتشفنا بداية الخلق، وأن هذا يفسر نشأة الكون... الخ
استنساخ الحيوان مستحيل:
استنساخ الحيوان من جزء منه غير البويضة الملقحة أمر مستحيل: وهذا العبث في الأجنة بشقيه الآنفين ليس خلقاً ولا استحداثاً للإنسان أو الحيوان، ولن يكون شأن الإنسان والحيوان شأن النبات يتكاثر بجزء من أغصانه أو نسيجه أو براعمه لأن شأن الحيوان آخر.
وعندما يشاء الله خلق إنسان أو حيوان فإن البويضة الملقحة وحدها هي التي تنقسم فيها الخلايا إلى مجموعات عاملة وكل مجموعة تعرف طريقها ومكانها فالخلايا التي تكون المخ والأعصاب تأخذ طريقها والخلايا التي تكون العظام كذلك والخلايا التي تكون الشعر كذلك... ولا يعرف البشر إلى يومنا هذا ولن يعرفوا قط لماذا تتصرف الخلايا هكذا؟! ولماذا لا تذهب الخلايا التي تكون العين ليكون موقعها عند الأقدام مثلاً والخلايا التي تكوِّن الكبد ليكون موقعها في الدماغ، والخلايا التي تكوِّن مخ الإنسان ليكون موقعها عند مقعدته، وليس في تجويف رأسه!!(17/3)
وهذا الإنقسام والتحول من حال إلى حال في المخلوق إنما هو من صنع الله وحده {هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء} وهو الذي ينتقل بهذا الخلق من طور إلى طور قال تعالى: {ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة، فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاماً فكسونا العظام لحماً ثم أنشأناه خلقاً آخر فتبارك الله أحسن الخالقين}
وقد امتن الله علينا بهذا الخلق في آيات كثيرة وبين أن هذا من دلائل قدرته وحده سبحانه وتعالى، وأن الذي خلق الإنسان على هذا النحو قادر على إعادته قال جل وعلا: {يا أيا الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلاً ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئاً وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج* ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحيي الموتى وأنه على كل شيء قدير* وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور}
لا قياس بين الإنسان والنبات:(17/4)
والذي جعل كثيراً من الناس يقع في هذا الوهم وهو إمكانية استنساخ الإنسان والحيوان من عضو من أعضائه هو قياسه على النبات فإن الضجة التي قامت حول استنبات النخيل من النسيج الداخلي للنخلة هو الذي أوهم الناس في هذا الوهم وهو ظنهم أن حال الإنسان والحيوان كحال النبات، وهذا قياس مع الفارق، فإن النبات يتكاثر منذ بدء الخلق بطرق شتى بالبذرة والبراعم، والعقلة، وكنا أطفالاً نأخذ جزءاً من الأغصان البالغة لأشجار الورد والعنب، والتوت، والصفصاف، فينبت منها أشجارها، ونأخذ البراعم فنركبها على فصائلها، ويتكون لدينا في الشجرة الواحدة مجموعة من الأشجار كل غصن يثمر نوعاً مختلفاً ولوناً مختلفاً، وأما الحيوان فلن يستنبت بجزء منه، ولن يخلق بغير الطريق الذي رسمه الله.
العلم والجنوح:
وهذا السعي الحثيث لخلق إنسان وحيوان من غير الطريق الذي وضعه الله سعى قديم عبثي إفسادي وهو نتاج للمعتقد المدون في التوراة القديمة، والمأخوذ عن كفار الرومان الأقدمين وهذا المعتقد يقول بأن صراعاً بين الإنسان والإله قائم منذ القدم وأن الإله لأنه حاز العلم فإنه قهر به هذا الإنسان، وأن الإنسان استطاع أن يسرق شعلة المعرفة من الإله، وبذلك أصبح كالله عارفاً الخير والشر، ولو أنه استطاع أن يأكل من شجرة الحياة لعاش خالداً كما هو شأن الآلهة، ومن أجل ذلك حرس الإله شجرة الحياة حتى لا يصل الإنسان إليها فيكون شأنه كشأن الآلهة، ولقد أخذ اليهود هذه القصة الخرافية، وأسقطوها على النصوص الدينية عندهم فادعوا أن الشجرة التي أكل آدم منها هي شجرة المعرفة، وأن الله عندما اكتشف (هكذا) أن الإنسان أكل من هذه الشجرة وأصبح مثل الله يعلم الخير والشر طرده من الجنة حتى لا يتوصل كذلك إلى الأكل من شجرة الحياة فيخلد كخلود الله!!
تقول التوراة المكذوبة مصورة هذه القصة:(17/5)
(وأنبت الرب الإله من الأرض كل شجرة بهية للنظر وجيدة للأكل، وشجرة الحياة في وسط الجنة، وشجرة معرفة الخير والشر.. وأوصى الرب الإله آدم قائلاً: من جميع شجر الجنة تأكل أكلاً وأما شجرة معرفة الخير والشر فلا تأكل منها لأنك يوم تأكل منها موتاً تموت)
ثم تزعم التوراة أن الحية جاءت إلى حواء وأغوتها بالأكل من الشجرة، وأخبرتها أن الله لم يذكر لهما الحقيقة عندما حذرهما من هذه الشجرة قائلة: ( بل الله عالم أنه يوم تأكلان منها تنفتح أعينكما وتكونان كالله عارفين الخير والشر)
وتقول التوراة أنه لما أكلت حواء وآدم من الشجرة (انفتحت أعينهما وعلما أنهما عريانان) وأن الله لما علم بذلك قال (هو ذا الإنسان قد صار كواحد منا عارفاً الخير والشر، والآن يمد يده ويأخذ من شجرة الحياة ويأكل ويحيا إلى الأبد. فطرد الإنسان وأقام شرقي عدن الكروبيم ولهيب سيف متقلب لحراسة طرائق شجرة الحياة. (الإصحاح الثاني والثالث والرابع - سفر التكوين)
وما الشعلة الأولمبية إلا رمز لسرقة الإنسان لقبس المعرفة من الآلهة!!
فسعى الشعوب الرومانية بعقليتها القديمة والتي جسدتها التوراة وجعلتها عقيدة لليهود ثم للنصارى كذلك إلى إحلال أنفسهم مكان الرب وسعيهم المتواصل للإستغناء عنه، بل ومغالبته، سعي قديم، وما محاولة إيجاد حيوان أو إنسان بغير طريق الخلق الإلهي إلا ثمرة من ثمار هذا السعي.
لماذا السعي فيما كفانا الله مئونته وجعله شأناً من شأنه؟(17/6)
وإلا فلماذا السعي فيما كفانا الله مئونته، وتكفل هو سبحانه وتعالى بفعله، بل لماذا السعي في التدخل في شئونه، ومحاولة إزاحة يده، وإبطال فعله والتطاول عليه: {هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء}.. {أنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج}.. {يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقاً من بعد خلق في ظلمات ثلاث}.. {وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه}.. {يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب} فالخلق من شأن الله سبحانه وتعالى ولن يتنازل عنه لغيره لا لملك مقرب ولا لنبي مرسل، ولا كذلك لكافر معاند...
وقد تحدى الله البشر جميعاً بأحقر المخلوقات عندهم وهو الذباب، وأخبر سبحانه وتعالى إخباراً في موقع التحدي أن البشر لن يخلقوا هذا الشيء الحقير عندهم، بل لن يستطيعوا أن يقضوا عليه لو شاءوا... وأنه سيظل يأخذ منهم ويسلبهم أرواحهم، وكثيراً من أموالهم إلى أن تقوم الساعة، فكم من البشر يموت كل عام بفعل الذباب، وكم من طعام يجد طريقه إلى القمامة لأن الذباب وقع عليه، وكل هذا سلب للبشر، ولن يستطيع البشر بكل آلاتهم أن يقضوا على هذه الحشرة وما دونها، وهذه الصراصير التي تحارب بكل أنواع المبيدات يعترف الخبراء بها أن الصرصور الأمريكي (الصغير) والأمريكي بالذات يستحيل القضاء عليه ولو بالقنبلة الذرية!! وهذه أجيال الجراثيم الجديدة، والفيروسات الجديدة الوافدة من الغرب المتقدم أصبحت أشد استعصاءاً على الأدوية والمضادات الحيوية من فيروسات العالم المتأخر الفقير التي هي أقل حنكة وخبرة من فيروسات العالم المتحضر التي استطاعت أن تهزم مستحضراتهم المتقدمة... ولن يكون في الأرض والسماء إلا ما يشاء الله!!
لماذا لا يكتفي البشر بما خلق الله سبحانه وتعالى في أرضه من أنواع البشر، والحيوان والنبات.(17/7)
فمن البشر خلق الله سبحانه وتعالى جميع الألوان المناسبة التي هي في تمام الخلق، وجميع الأشكال المناسبة التي هي في تمام الخلق، وجعل هذا الاختلاف دليل على عظمته وقدرته وإحسانه للخلق فهو الخالق الباري المصور {الذي أحسن كل شيء خلقه}
فالبشر ألوانهم الأسود والأبيض وما بينها من درجات هذا اللون مع الإشراب بالحمرة، والآن أرأيت لو أن إنسان لونه في خضرة النبات أو في زرقة السماء أيكون جميلاً؟!
بل انظر إلى ما دون ذلك من الخلق: ألوان الشعر في الإنسان أترى أنه يمكن أن يضيف البشر لوناً جديداً، يكون جميلاً؟! هل هذه الشعور الخضراء والزرقاء التي يلون بها الشباب الذي يسمونهم (بالبانكس) هل هي ألوان جميلة؟! يستطيع الإنسان أن يفسد الخلق، ولن يزايد المخلوق على الخالق، ولا تبديل لخلق الله.
ومحاولة تغيير خلق الله حتى لو كان في الصورة الظاهرية موجب للعن الله وسخطه كما قال صلى الله عليه وسلم: [لعن الله الواشمات والمستوشمات، والنامصات والمتنمصات، والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله] وهذا في تغيير الصورة الظاهرية.
والله سبحانه وتعالى خلق الإنسان في كمال الخلق {لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم} وكل محاولة لتبديل هذا الخلق ستدمر الإنسان نفسه، وتوجد مسخاً.
الحيوان: لن يخلقوا نوعاً جديداً:
وقد خلق الله سبحانه وتعالى لنا أربعة أنواع من الأنعام كل نوع من ذكر وأنثى وهي الإبل، والبقر، والغنم، والماعز.(17/8)
ومحاولة خلق نوع خامس مستحيل ولن يكون!! بل ومحاولة الاستغناء بالذكر عن الأنثى أو بالأنثى عن الذكر لن يكون أيضاً لأنه سبحانه وتعالى يقول في معرض امتنانه على خلقه: {ومن الأنعام حمولة وفرشاً، كلوا مما رزقكم الله ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين* ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين قل آالذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين نبؤني بعلم إن كنتم صادقين* ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين قل آالذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً ليضل الناس بغير علم إن الله لا يهدي القوم الظالمين} ..
وهذه الآيات مشعرة أنه لن يكون خلق نوع جديد من أنواع الأنعام، ولن يكون استغناء عن الذكور أو الأناثي.
وإذا كان الله قد كفى الإنسان مؤونة الخلق فلماذا يجهد الإنسان نفسه في خلق أنواع جديدة.
النبات: لن يخلقوا نوعاً جديداً:
حاول بعض الباحثين في علم النبات الخلط بين جينات البطاطس والطماطم فأخرجوا ثمرة سامة!! إنه العبث والإفساد.(17/9)
المجال الذي كلف الله به الإنسان في الزراعة مجال كبير مناسب لطاقة الإنسان وعلمه: الغرس، والزرع، والتسميد، والري، والرعاية، ومقاومة الحشرات والآفات والتعرف على خصائص النبات وفوائده واستخداماته، والتعرف على طريقة الانتفاع به كل ذلك مما يسره الله للإنسان، وأما الاعتداء على فعل الرب فلا. قال تعالى: {أفرأيتم ما تحرثون أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون} فتفجير قلب النواة وتنشيط خلاياها، والإيحاء لها بأن يكون منها خلايا تصنع الجذور وتتجه إلى أسفل، وخلايا تصنع الساق والأوراق وتتجه إلى أعلى لتشق التربة، وخلايا في كل ورقة لتحويل الضوء إلى غذاء، والغذاء إلى أوراق وثمار، وتفاعل الماء والأملاح والضوء والهواء لخلق هذا الكائن الحي من النبات الذي يرهف حسه فيحس بالأصوات، ويعرف الليل فينام فيه، ويخرج ثاني أكسيد الكربون، ويعرف النهار فيستيقظ فيه، ويخرج الأوكسجين، كل هذا من فعل الرب الإله الخالق جل وعلا وليس من فعل الإنسان {وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهاراً ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين يغشي الليل النهار إن في ذلك لآيت لقوم يتفكرون* وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون}
وكل محاولة لتبديل خلق الله في النبات ستبوء بالفشل، وتنقلب على الإنسان سماً زعافاً.
العبث بخلق الإنسان أكبر جريمة:(17/10)
وإذا كانت محاولة الإنسان في خلق مزيد من النباتات قد باءت بالفشل ولن تكون، وكذلك إذا كانت محاولة خلق أحياء أخرى من الحيوانات أو الزواحف لن يكون تكاثر إلا باجتماع الذكر والأنثى... ولا شك أن محاولة الجمع بين خلايا نوع من الحيوان ونوع آخر لاستحداث نوع جديد هو من العبث والإفساد وإمكانية هذا إنما هو في الجمع من الفصائل الواحدة كإنزاء الحمير على الخيل، والعكس، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إنزاء الحمير على الخيل، وإنزاء الذئاب على الكلاب والعكس، وأما الجمع بين البقر والغنم، وبين الإبل والخيل فمستحيل... وإذا كان هذا في النبات والحيوان مستحيلاً وهو داخل في باب الإفساد، والعبث، ومحاولة مغالبة الرب جل وعلا، وتبديل مخلوقاته، ونسبة شيء من الخلق للإنسان..
أقول إذا كان هذا في النبات والحيوان عدواناً وعبثاً فإنه في الإنسان أشد إجراماً وإتلافاً..
فمحاولات خلق إنسان يكون نسيجه وخلقه مزيجاً من خلايا الإنسان والقرد ليكون في حجم الغوريلا، وقوة احتمالها، وفي عقل الإنسان، واستقامة قوامه..
نقول إن هذا مع استحالته إلا أن السعي الحثيث في إيجاده وصرف مليارات الدولارات لإيجاده لا يدخل إلا في باب العبث والفساد، والعدوان على خلق الله سبحانه وتعالى ومحاولة تبديله، ولنا أن نتصور مقدار الفساد لو كان هذا في مكنة الإنسان أن يوجد إنساناً له جسم القرد وعقل الإنسان، أو عقل الإنسان وجسم القرد، كيف يمكن التعامل مع بشر هذه صفاتهم، ولو أن البشر استطاعوا أن يوجدوا إنساناً بعقل الخروف وصوفه، أو في جسم الثور أو عقله، أو في خفة الطير وعقل الغراب!!
الحمد لله الذي لم يجعل مصائر الخلق في أيدي هؤلاء العابثين المعتدين على سلطان الرب..
التشويهات والنتائج الفظيعة لهذا العبث لا يعلن عنها:(17/11)
وللأسف أن المسوخ والتشويهات، والنتائج الفظيعة لهذا العبث لا يعلن عنها وهي تأخذ طريقها إلى الاتلاف وصناديق القمامة!! والقوم ما زالوا يعبثون وينفقون مليارات الدولارات في مصادمة نواميس الله في الخلق.
والمخاطر التي تنتظرها من هذا العبث كثيرة جداً:
وأما المخاطر التي ينتظرها العالم الإسلامي من هذا العبث فكثيرة جداً منها:
1) جعل العالم الإسلامي الفقير حقلاً لهذه التجارب الإجرامية، وخاصة بعد أن تبين للغرب خطورة هذه التجارب، ونتائجها المدمرة، ولكن الشركات التي تتنافس في إيجاد أي جديد تكسب من ورائه، سينقلون هذا العالم الإسلامي ودوله الفقيرة وسيكون نساؤه ورجاله ميداناً لذلك (استئجار الأرحام، العبث بالأجنة، انتزاع الشيفرة الوراثية من البويضة الملقحة، وزرع شيفرة أخرى، قتل الأجنة، إنتاج مواليد بلا هوية من أجل أن يكونوا قطعاً للغيار، إنتاج مواليد بلا هوية من أجل الاستمتاع والشذوذ... الخ)
ومن سيوقف هذا العبث الإجرامي؟!!
ما أشبه الليلة بالبارحة:
عندما تم قبل سنوات اخصاب بويضة امرأة بحيوان منوي خارج الرحم، ثم أعيد زراعة البويضة بعد تلقيحها إلى رحم امرأة، ثم عاشت هذه البويضة وغرست في الرحم وكان منها إنسان قامت قيامة البشر وسموا هذا الفعل (طفل الأنبوب) وظن كثير من الجهال أن هؤلاء العابثين قد خلقوا إنساناً في أنبوبة الاختبار!!(17/12)
وقلنا يومها إن الأمر ليس بجديد وهؤلاء العلماء لم يخلقوا شيئاً، وأن تلقيح البويضة التي خلقها الله خارج الرحم من حيوان منوي خلقه الله، ثم زرعها من جديد في الرحم الذي خلقه الله، ثم تولى الله سبحانه وتعالى رعاية هذا الجنين نطفة فعلقة فمضغة مخلقة وغير مخلقة إلى أن ولد إنساناً، كل هذا من خلق الله وإنما الذي صنعه الإنسان هو الجمع بين الحيوانات المنوية، والبويضة في حقل تزواجهما خارج الرحم، وأمام عين الطبيب، وعلماً أن الحيوان المنوي الذي يتفضل ويسبق غيره من ملايين الملايين من أمثاله للفوز بالدخول إلى البويضة لا يتلقى أوامره من الطبيب!!
وإنما يتلقى الأمر من الله!! والطبيب القابع خلف المجهر يراقب العملية إنما هو متفرج فقط ولا يستطيع أيضاً أن يشجع حيواناً منوياً بعينه ليقتحم العقبة وينفذ إلى داخل البويضة!!
وقلنا يومذاك وما زلنا نقول إن هذا عبث لا فائدة منه، والأضرار الناجمة عنه أكبر بكثير من المنافع المحتملة والمتحصلة... فإن هذا لا يفيد إلا امرأة واحدة من كل مليون امرأة يكون مبيضها قادراً على إنتاج بويضة كاملة سليمة، ولكن قناة المبيض ضيقة لا تسمح بمرور البويضة فانتزاع البويضة منها، وتلقيحها خارج الرحم بحيوان منوي لزوجها ثم إعادة غرسها في الرحم مرة أخرى قد يؤدي إلى أن تنجب ولداً منها ومن زوجها.
وهذه واحدة من ملايين، ولكن هذا العمل الشيطاني سيؤدي وقد أدى إلى أضرار كثيرة جداً فإن البشر لما تعلموا أنه يمكن تلقيح البويضة خارج الرحم، ويمكن حفظ هذه اللقيحة في درجات حرارة منخفضة ثم إعادة غرسها في الرحم مرة أخرى تفتقت العقليات الإجرامية والكسبية المادية عن طرق كثيرة للعبث والإجرام والكسب المادي من وراء ذلك؟ ومن ذلك:
1) استئجار امرأة لتحمل نيابة عن امرأة أخرى، فيلقى في رحمها بويضة ملقحة من المرأة الأخرى. ثم لمن يكون الطفل بعد ذلك لصاحبة البويضة؟ أو الأم المستأجرة؟(17/13)
2) شراء لقائح جاهزة وزرعها في أرحام من لا يخافون الله!!
3) شراء النطف حسب المواصفات المطلوبة للمصارعين والملاكمين والبارعين في طب أو هندسة أو سياسة (وهذا نكاح استبضاع جديد للجاهلية الجديدة شبيهاً بما كان في الجاهلية الأولى).
4) شراء البويضات حسب الطلب، ومن أجل ذلك نشأت بنوك النطف أو بنوك المنى.
5) استئجار أرحام النساء الفقيرات لإنتاج أطفال لاستخدامهم في قطع الغيار فقط: أخذ عيونهم، وغددهم، وكلاهم، وأكبادهم، وقلوبهم من أجل الأغنياء!!
6) إنتاج أطفال بلا هوية لاستخدامهم في الاستمتاع الحيواني في الشذوذ والزنا!!
وهذه المصانع البشرية تقوم اليوم في بلدان كثيرة على قدم وساق... مكاسبها المادية أعظم من مكاسب الحشيش والأفيون والهيروين، ولكنها تجارة إجرامية، بل أعظم إجراماً من التجارة في هذه المواد المدمرة.
القوانين لن تقف أمام هذا العبث :
والخلاصة: نعتقد أن محاولة استنساخ الحيوان والإنسان بالطرق الآنفة هو عبث لا خير من ورائه البتة، ونعلم أن سن القوانين لن يوقفه لأن الكسب المادي من ورائه كبير جداً، وكم سنت من القوانين لتحريم الخمر ومنعها ليس في العالم الإسلامي فقط بل في أمريكا، وكذلك تحريم المخدرات، والتدخين، وقد بين العلماء والحكماء مخاطر الزنا، وأخطار الشذوذ الجنسي، وآثاره المدمرة، وأقلها الإيدز، وأخطار السحاق، ولكن التجارة في كل هذه القبائح والسموم كانت وما زالت رائجة، والمتاجرون بهذه الفواحش والمنكرات والشذوذ كانوا أكبر من القانون والأعراف والأخلاق لأنهم كما قال سبحانه وتعالى {إن يدعون من دونه إلا إناثاً وإن يدعون إلا شيطاناً مريداً* لعنه الله وقال لاتخذن من عبادك نصيباً مفروضاً* ولأضلنهم ولأمنينهم ولأمرنهم فيبتكن أذان الأنعام ولأمرنهم فليغيرن خلق الله ومن يتخذ الشيطان ولياً من دون الله فقد خسر خسراناً مبيناً* يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غروراً}(17/14)
ومع كل هذا فعلينا أن نحمي العباد والبلاد من هذا العبث الشيطاني.
وبعد فهذه بعض المخاطر المتوقعة من عمليات الاستنساخ الحيواني والبشري حسب الصور الممكنة الآن:
أما في حال الإنسان:
فإن الإنسان المصنع أو المخلوق بطريقة استئجار الأرحام سيكون ملكاً للجهة التي قامت بتصنيعه شركة كانت أو غنياً، وسيصبح هذا الإنسان سلعة يستعمل في قطع الغيار أو مكان الحيوان، أو في الشذوذ الجنسي، وستقل تكلفة تصنيع هذا الإنسان مع الوقت ويكون في مككنة الأفراد.
وأما في الحيوان:
فإن إدخال المورثات البشرية في عناصر تركيب الحيوان سيكون أمراً خطيراً فهو أولاً تدخل في عمل الخالق، ثم ربما كان مدمراً للحيوان نفسه، ثم للإنسان إذا أكل لحمه أو شرب لبنه.
وإفساد الإنسان بالأطعمة لا يكون لبدنه فقط بل ربما كان لروحه أيضاً.
*********
****(17/15)
الحكم الشرعي في إشراك الفتيات بالرقص في الاحتفالات
بقلم: عبدالرحمن بن عبدالخالق
إن الحمدلله نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.
وبعد فمعلوم من الدين ضرورة أن للإسلام آدابه وتعاليمه وأحكامه الخاصة بالرجال والنساء، ومن هذه الأحكام والآداب ألا تبدي المرأة زينتها إلا لزوجها أو محارمها، وأنه لا يجوز لمسلم أن يطلع على زينة امرأة غير محرم أو زوج. وأن الله سبحانه وتعالى قد أمر المؤمنين والمؤمنات بغض أبصارهم.
وللأسف أن هذه الأحكام والآداب المعلومة من الدين بالضرورة والتي أجمع عليها المسلمون سلفاً وخلفاً قد استبيحت وتركت إلا قليلاً، بعد الغزو الكافر على أرض الإسلام، وافتتان كثير من أبناء المسلمين بحضارة الغرب ونظامه في الحياة، والأعجب من ذلك أنه قد نشأ في المسلمين، من يجادل في أحكام الإسلام هذه ويشكك فيها ويختلق غايات وأهدافاً يدعي أنها شريفة لظهور المرأة بفتنتها وزينتها أمام الأجانب.
ومن هذه الغايات والأهداف ما يسمى بالفن، والرياضة والرقص الذي يسمونه الإيقاعي، والاحتفالات الوطنية، والتراث الشعبي.. وتحت هذه المسميات بدأت وانتشرت استباحة أحكام الإسلام، وأخلاق الدين.. وانتهكت تشريعات رب العالمين.
ولما كان كثير من هؤلاء المشككين في أحكام الإسلام وآدابه الخاصة بالمرأة، يدعي أن الإسلام نفسه لا يخالف في ظهور المرأة أمام الرجل تحت المقاصد السالفة، ولما كنت وزارة التربية، وبعض الجهات قد عمدت إلى إشراك الفتيات والبنات في العروض الرياضية والمسرحية بمناسبة العيد الوطني وكان هذا مخالفاً للمعلوم من الدين ضرورة، وكان المعترض على ذلك كأنه مدخول في حب وطنه والفرح باستقلاله، ومشكك في ولائه وانتمائه أحببنا كتابة هذا البيان إعذاراً لله رب العالمين، وإنذاراً من عقوبته ونقمته، وبياناً للحق على الوجه التالي:(18/1)
أولاً: إظهار الفرح لا يكون بمعصية الله:
نحب أولاً أن نقول إن الاستقلال عن الكافر المستعمر نعمة، وقيام هذا الكيان المستقل هبة من الله سبحانه وتعالى، وظهور النفط في بلادنا لا يشك عاقل أن ذلك وما زال بفضل الله ورحمته وإحسانه على أهل هذه الأرض، والواجب أن نعلن في كل يوم نتذكر هذه النعم ولائنا لله، ومحبتنا له وسعينا في مرضاته، وشكر نعمائه أما أن نظاهر الله بالخصومة، ونعلن الحرب عليه وعلى شريعته ودينه، ونستبيح محارمه في اليوم الذي خصصناه لتذكر هذه النعم كلها فهذا أمر عظيم جداً.. إن ذلك مدعاة لسخط الله، واستعجال لعقوبته، وغضبه.
وهانحن نرى الناس من حولنا، تتزلزل الأرض من تحت أقدامهم، ويخر السقف عليهم وينهار كل ما بنوه وجمعوه.. لما اشتد طغيانهم ونسوا ربهم، وتجبروا في الأرض، وقالوا من أشد منا قوة، وظنوا ألا غالب لهم.. حتى أتاهم أمر الله الذي لا يرد، ووقعت بهم عقوبته التي لا صارف لها كما قال تعالى: {قد مكر الذين من قبلهم فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم، وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون} (النحل:26).
وهاهي الدول من حولنا تتهاوى مملكة إثر مملكة ودولة بعد دولة، أفلا يكون في هذا عبرة لنا، ونعلم أننا لسنا بعيدين عن نقمة الله وعقابه. قال تعالى: {وضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون} (النحل:112).
فلنتق الله سبحانه وتعالى، ولنعلم أن هذا الأمن والعافية، والسلام، والعيش الطيب، الذي نعيش فيه كل ذلك بفضله ورحمته، وأن هذا العيش الرغيد الذي نعمت به الكويت قد كان منة وهبة منه سبحانه وتعالى. ولعل ذلك كان بفضل الصالحين المصلحين من أهل التقوى الذين يقومون بحق الله عليهم.
ثانياً: ظهور الفتيات في الاحتفالات العامة أمام الرجال معصية عظيمة، وإثم كبير:(18/2)
وهذا أمر لا يشك فيه مسلم يفهم الدين، ويقرأ القرآن ويعلم شيئاً عن سنة سيد المرسلين والأدلة على هذا كثيرة جداً نوجز بعضها في هذا البيان:
أ- أدلة من القرآن الكريم:
ومن ذلك قوله تعالى: {قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون، وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن، ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن، ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن.. الآية} (النور:30-31)
وهذه نصوص قرآنية واضحة يأمر الله فيها المؤمنين والمؤمنات بغض البصر، وحفظ الفروج، وأنه لا يجوز للمؤمنة أن تبدي زينتها إلا لمن ذكرتهم الآية من المحارم والأزواج والأطفال والتابعين غير أولي الإربة من الرجال ولا شك أن الأمر بغض البصر، وعدم إظهار الزينة يتنافى قطعاً، ويتناقض أساساً مع عرض الفتيات أنفسهن أمام الجمهور والناس في حركات راقصة، أو رياضية وهن حاسرات الرؤوس، بارزات الصدور والنحور، يتمايلن يميناً ويساراً وسط الإعجاب والحبور. فهل مثل هذا يتفق وقوله تعالى: {يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن، ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين، وكان الله غفوراً رحيماً} (الأحزاب:59).
وهل حضور هذه العروض، والتمتع برؤية الفتيات البالغات والمراهقات، يتناسب وقوله تعالى: {يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض، وقلن قولاً معروفاً، ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى، وأقمن الصلاة، وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت، ويطهركم تطهيراً} (الأحزاب:32-33).
وهل يتناسب مع قوله تعالى أيضاً: {وإذا سألتموهن متاعاً فاسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن} (الأحزاب:53).(18/3)
فإذا كان سؤال المرأة من وراء حجاب أطيب لطهارة القلب والمخاطب هم الصحابة، ونساء النبي صلى الله عليه وسلم فكيف بمن بعدهم ووراءهم، ممن انتشرت أمراض القلوب فيهم، وتغلغل حب الفاحشة من نفوسهم.
إن هذه الآيات المحكمات كلها شاهدات أنه لا يجوز بتاتاً اطلاع الرجال على زينة النساء اللآتي لسن بمحارم ولا زوجات، فكيف بصفهن صفوفاً، واستعراض مفاتنهن، وفنهن، وحركاتهن أمام الرجال؟!
ب- أدلة من السنة:
جاءت السنة الشريفة مفصلة لما في الكتاب ومقررة له، ومضيفة إضافات كثيرة لبيان أحكام أخرى ما لم ترد في القرآن.
ومن تشريعات السنة في هذا الصدد، أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن اتباع النظر، ووجوب إبعاده في نظر الفجأة، وسمى رسول الله اتباع النظر إلى الأجنبية –غير الزوجة والمحرم- زنا، ونهى رسول الله المرأة أن تخرج من بيتها مستعطرة ليشم الناس ريحها، وإليك النصوص في ذلك:
1- عن أبي هريرة قال قال رسول اله صلى الله عليه وسلم: [.. العينان تزنيان وزناهما النظر، والأذن تزني وزناها السمع، والفم يزني وزناه القبل، واليد تزني وزناها البطش..] (رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة).
2- وعن أبي موسى رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أيما امرأة استعطرت، ثم خرجت فمرت على قوم ليجدوا ريحها فهي زانية، وكل عين زانية] (أخرجه أحمد والحاكم عن أبي موسى وصححه الألباني في ص. ج. (2698)).
وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم: [يا علي لا تتبع النظرة النظرة، فإن لك الأولى وليست الآخرة] (أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي والحاكم عن بريدة وحسنه الألباني في ص. ج. (7830))
وسئل رسول الله عن نظرة الفجأة فقال: [اصرف بصرك!!] (أخرجه مسلم عن جرير).(18/4)
وكل هذه النصوص قاضية بما قررناه آنفاً أنه لا يجوز لمسلم إمتاع نظره فيمن لا تحل له. فهل الشريعة الحكيمة التي جاءت بهذه الأحكام، وأرشدت إلى هذه الآداب تقر الاصطفاف والجلوس في الأندية والساحات والمسارح لرؤية الفتيات البالغات والمراهقات، وهن يصدحن بالألحان، ويتمايلن بالأجساد، وينثرن شعورهن في كل اتجاه، ويقابلن بالاستحسان والتصفيق والتصفير.. ونسمي بعد ذلك أنفسنا أمة الإسلام، وندعي مع ذلك الصلاح والإصلاح؟.
إجماع الأمة :
وعلى هذه النصوص المبينات الواضحات من كتاب الله الحميد وسنة رسوله الأمين، أجمعت الأمة وأطبقت سلفها وخلفها، أن حجاب المسلمة فرض واجب، وانه لا يجوز لها أن تبدي شيئاً من زينتها لغير زوجها ومحارمها، وان المسموح به فقط هو الوجه والكفان في غير تعمد زينة وفتنة، وأن ما عدا ذلك فواجب الستر والتغطية، ولكن المنافقين والمنحرفين من أبناء الإسلام والذين سقطوا صرعى الغزو الفكري الكافر، وأسرى لدعايات اليهود، وفكر الصهاينة المفسدين، راحوا يقلدون أعداء الله وخصوم الإسلام، في إخراج المرأة من بيتها، والاستمتاع بها في كل مكان متذرعين بالفن تارة، والرياضة أخرى، والحرية تارات .
وبعد فلا يشك مسلم في حرمة هذه الدعوة الفاجرة إلى إخراج الفتيات وعرضهن أمام الناس ونظر الملأ إليهن.
وإننا لنتوجه أولاً بالنداء إلى أولياء أمور هؤلاء الفتيات منبهين إياهم أن هذا حرام لا يجوز، وأن الله سائل كل ولي عما استرعاه، ثم نناشد أولياء الأمور الذين مكنهم الله أن يراعوا الأمانة ويحفظوا عهد الله وميثاقه، وأن يحذروا نقمته وعذابه.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ككم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، فالإمام راع وهو مسؤول عن رعيته] (رواه البخاري ومسلم عن ابن عمر).
وقال أيضاً : [ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة] (رواه مسلم من حديث معقل بن يسار المزني).(18/5)
فلنتق الله في أنفسنا وبناتنا ونسائنا، وليكن موقفنا مع تذكر نعم الله أن نشكره ونذكره ونحمده لا أن نكفره، ونعلن الحرب عليه، والله لا يُغلب، ومن يغالبه فهو مغلوب لا محالة.
*********(18/6)
شعب الإيمان من استكملها استكمل الإيمان
بقلم: عبدالرحمن بن عبدالخالق
الحمد لله الذي لا يبلغ أحد كفاء نعمته، ولا معادلة فضله وإحسانه، والصلاة والسلام على عبده المجتبى ورسوله المصطفى وخاتمة عقد رسالاته المبعوث للناس أجمعين برسالة رب العالمين، والداعي إلى صراط الله المستقيم، ودينه القويم سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم... وبعد،،،
فهذا جمع لشعب الإيمان في ترتيب لم يسبق إليه وتنسيق بديع قد وفق الله إليه: يعرف قارئه بحقيقة الإيمان، وكيفية بنائه، وأين تقع أسسه وأركانه، وسوره وأبوابه، وزخارفه ونقوشه وألوانه، وكيف يتذوق المؤمن حلاوته، ويعيش في بستانه وجنته.
وأسأل الله أن يرزقني تمامه وكماله كما رزقني بدايته وافتتاحه، وأن يلهمني رشدي ويقيني شر نفسي.
الإيمان هو الدين كله:
اعلم -رحمني الله وإياك- أن الإيمان هو الدين كله، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [الإيمان بضع وستون شعبة، أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان].
فدل ذلك على أن كل ما أمر الله به من خبر يجب تصديقه، أو عمل يوجب أو يستحب فعله، فهو داخل في مسمى الإيمان.
فالشهادتان، والصلاة، والزكاة، والحج، والصوم، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والصدق، والصبر، والأمانة، والحلم، والحياء.. كل ذلك من شعب الإيمان.
ولما كان الأمر يستلزم ترك ضد المأمور. كان الإيمان هو الدين كله أمراً ونهياً.
وبيان ذلك أن الأمر بالتوحيد نهى عن الشرك ولا يكون العبد موحداً لله إلا إذا ترك الشرك كله، فشهادة أن لا إله إلا الله تقتضي نفي كل شريك مع الله، وإثبات الألوهية لله وحده، وكذلك الأمر بالصلاة نهي عن إضاعتها، والأمر بالحياء نهي عن الفحش والفجور، وسقوط المروءة، والأمر إماطة الأذى عن الطريق نهي في ذات الوقت عن أذية المسلمين، وإلقاء الأذى في الطريق!!(19/1)
وهكذا تصبح كل شعبة من شعب الإيمان قد أمر العبد بها يقابلها شعبة من شعب الكفر أو النفاق، أو الظلم، قد نهى عنها العبد.
ومجيء النص بالنهي عن شعب الكفر والشرك والنفاق والظلم هو من باب التأكيد والبيان، وإلا فالأمر بالشيء يستلزم بالضرورة النهي عن ضده.
الشعبة الأولى: لا إله إلا الله:
أول شعبة من شعب الإيمان وأعلاها هي شهادة أن لا إله إلا الله، وهذه الشعبة هي أعظم الشعب وأعلاها وأهمها ويتضمن شهادة أن لا إله إلا الله المعاني الآتية:
(1) معنى الإله: الإله في اللغة هو المعبود حقاً كان أو باطلاً فكل ما يقدس، ويعبد، ويرجى منه النفع، ويخاف منه الضر تسميه العرب إلهاً، ولذلك سموا الشمس (الإلهة) وسموا أصنامهم آلهة، واتخذوا الملائكة آلهة بعد ما اعتقدوا أنهم بنات الله، وأن لهم شفاعة عند الله، وكان لكل قبيلة من العرب صنماً لهم، حتى اجتمع عليها وقت الرسالة ثلاثمائة وستين صنماً لم تحطم إلا بعد فتح مكة.
ولما دعاهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى عبادة الله وحده.
قالوا: {أجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيء عجاب} {وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا لشيء يراد}. الآيات
وقال قوم إبراهيم لما حطم إبراهيم عليه السلام أصنامهم: {من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين} {قالوا أأنت فعلت هذا بآبائنا يا إبراهيم}
وتسمية الكفار أصنامهم ومعبوداتهم آلهة إنما هو من باب إطلاق الأسماء على غير مسمياتها لأن هذه المعبودات التي عبدوها من دون الله ليست آلهة في ذاتها، وعندما عبدت وهي لا تستحق العبادة، فإن الإله في الكون كله لا يكون إلا واحداً، ومحال أن تتعدد الآلهة وبيان هذا في الفقرة التالية.
لا يستحق الألوهية إلا الخالق الرازق المالك:(19/2)
الألوهية لا يستحقها إلا من خلق عبده، وأوجده من العدم، ورزقه،وملكه، فمن هذه صفته فهو الذي يستحق أن يعبده العبد وأما من لا يخلق، ولا يرزق، ولا يملك فكيف يكون إلهاً معبوداً. فمن عبد مخلوقاً مثله، مساوياً له في الاحتياج والفقر، أو مخلوقاً أعلى منه، ولكنه كذلك محتاج إلى غيره، فقير إلى إلهه ومولاه، فهو ضال بلا شك، ومن عبد من لا يملك لعابده نفعاً ولا ضراً، فقد وضع العبادة في غير محلها وأضل من ذلك من عبد من دونه في الخلق كالصنم الذي لا يسمع ولا يبصر، ولا يغني عن عابده شيئاً، بل هو نفسه محتاج إلى عابده لأنه هو الذي يصنعه، ويقيمه ويدافع عنه، فكيف يرجو العبد من لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، ولا يملك لعابده نفعاً ولا ضراً، وأضل من هذا من يعبد عدوه الذي لا يريد له إلا الضر، ولا يسعى إلا في هلاكه ولو عبده ما عبده ما انفك عن عداوته، ولا قصر في خباله، وهذا حال عابد الشيطان سراً أو جهراً، قالاً أو حالاً علم أنه يعبده أو جهل أنه يعبده، لا أضل من هذا إذ كيف يقدس الإنسان من لا يريد به إلا الضر، ولا يسعى له إلا في الهلاك والشر.
والعجب أن عامة البشر على هذا الضلال!! فهي تعبد وتؤله من لا يملك لهم ضراً ولا نفعاً، أو من يضرهم ولا ينفعهم.
الإله لا يكون إلا واحداً:
والألوهية محال أن تكون في الكون إلا لإله واحد لأنه لو فرض أن يوجد في الكون إلهين لفسد هذا الكون بالضرورة لأن وجود إلهين كل منهما يخلق ويرزق ويملك ويحيي ويميت سيوجب بالضرورة أن يعلو كل منهما على الآخر، وأن يعادي كل منهما الآخر، ويحاربه ليكون الملك له وحده، والخضوع له وحده، أو أن يذهب كل إله منهما بما خلق، وينفصل كل منهما عن الآخر، قال تعالى: {بل جئناهم بالحق وأنهم لكاذبون ما اتخذوا الله من ولد وما كان معه من إله، إذاً لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون}(19/3)
ولو كان هناك أكثر من إله لحصل الفساد في الكون. قال تعالى: {قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذاً لابتغوا إلى ذي العرش سبيلاً}
أي لو كان هناك آلهة مع الله كما يدعي المشركون لاتخذ هؤلاء الآلهة طريقهم إلى مغالبة صاحب العرش. تعالى الله أن يوجد من يغالبه، بل جميع الموجودات هي من مخترعاته ومصنوعاته، وكل شيء في الوجود غيره إنما هو من صفته وإبداعه وخلقه وهو في قبضته ومشيئته وتحت قهره وحكمه، لا يخرج صغير أو كبير عن أمره وقضائه. قال تعالى: {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون} والمعنى لو كان في السموات والأرض آلهة إلا الله لفسدت السماوات والأرض وذلك بحرب هؤلاء الآلهة بعضهم بعضاً، ومغالبتهم للرب الإله!! سبحانه وتعالى أن يوجد من يغالبه أو يشاركه في صغير أو كبير في الملك.
وحدة الخلق دليل على وحدة الخالق:(19/4)
ومن أعظم الأدلة على أن الإله واحد لا إله غيره ولا رب سواه، هو وحدة الخلق، فالسموات والأرض ومن فيهما وما فيهما في وحدة متناسقة متجانسة وكأنها أجزاء في آلة واحدة، أو أعضاء في جسد واحد أو لبنات في بناء متناسق بديع، كل لبنة منه في مكانها الصحيح، ولو اقترح تعديل شيء أو تبديل شيء عن موضعه، ونقله إلى غير مكانه لأدى ذلك إلى فساد عظيم، فالشمس في مكانها من الأرض تماماً، ولو اقتربت منا شيئاً لاحترقنا، ولو بعدت عنها شيئاً لتجمدنا، والقمر في مكانه منا تماماً، ولو اقترب منا لأغرقتنا البحار ولو ابتعد عنها لانهارت الحواجز بين العذب والمالح من بحارنا، والهواء الذي نستنشقه وبه حياتنا من حيث خواصه ومكوناته مناسب للحياة تماماً، وأي تبديل فيه يعني نهاية الحياة على الأرض، وهكذا كل شيء إنما هو بمقدار وميزان. قال تعالى: {إنا كل شيء خلقناه بقدر}، وقال تعالى: {ولقد جعلنا في السماء بروجاً وزيناها للناظرين* وحفظناها من كل شيطان رجيم* إلا من استرق السمع فاتبعه شهاب مبين* والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل شيء موزون* وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين* وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقر معلوم* وأرسلنا الرياح لواقح فأنزلنا من السماء ماءً فأسقيناكم وما أنتم له بخازنين* وإنا لنحن نحيي ونميت ونحن الوارثون* ولقد علما المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين* وإن ربك هو يحشرهم إنه حكيم عليم} (الحجر:16-25)
وهذه الوحدة المتناسقة في الخلق كله من الذرة الصغيرة إلى المجرة الكبيرة من أعظم الأدلة على أن الخالق إله واحد لا إله إلا هو سبحانه وتعالى وأنه ليس هناك من ينازعه أو يغالبه أو يشاركه.
الإله الواحد لم يجعل لأحد معه شركة في خلق أو أمر أو ملك أو عباده:(19/5)
والرب الإله الواحد الذي خلق الخلق كله، وأبدع العالم وحده، وهو رب العالمين، وليس معه رب غيره، قد جعل الخلق له وحده، ولم يشأ أن يكون لغيره خلق ذرة واحدة من هذا الكون حتى لا يدعي مدعى أن له شركة معه في الملك، وهكذا فالملائكة لا يخلقون، والجن لا يخلقون والإنس لا يخلقون، بل كلهم مخلوقون، وكما جعل الله سبحانه وتعالى الخلق له وحده، فقد جعل الرزق له وحده، لأن الرزق فرع الخلق فهو الذي ينزل المطر، ويخرج الزرع، ويقدر أقوات عباده، وهو الذي ذخر الأرض بما ذخر من المعادن والخيرات. قال تعالى: {الله الذي خلق السموات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار* وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار* وأتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار} (إبراهيم:32-34)(19/6)
وقال تعالى: {والله أنزل من السماء ماءاً فأحيا به الأرض بعد موتها إن في ذلك لآية لقوم يسمعون* وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبناً خالصاً سائغاً للشاربين* ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكراً ورزقاً حسناً إن في ذلك لآية لقوم يعقلون* وأوحي ربك إلي النحل أن اتخذي من الجبال بيوتاً ومن الشجر ومما يعرشون* ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللاً يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون* والله خلقكم ثم يتوفاكم ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكي لا يعلم بعد من علم شيئاً إن الله عليم قدير* والله فضل بعضكم على بعض في الرزق فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم فهم فيه من أنفسكم أزواجاً وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ورزقكم من الطيبات أفبالباطل يؤمنون وبنعمت الله هو يكفرون* ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقاً من السموات والأرض شيئاً ولا يستطيعون* فلا تضربوا لله الأمثال إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون} (النحل:65-74)(19/7)
وقال تعالى: {خلق السموات والأرض بالحق تعالى عما يشركون* خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين* والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون* ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون* وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس إن ربكم لرءوف رحيم* والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون* وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر ولو شاء لهداكم أجمعين* هو الذي أنزل من السماء ماءً لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون* ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون* وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره إن في ذل لآيات لقوم يعقلون* وما ذرأ لكم في الأرض مختلفاً ألوانه إن في ذلك لآية لقوم يذكرون* وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحماً طرياً وتستخرجوا منه حلية تلبسونها وترى الفلك مواخر فيه ولتبلغوا من فضله ولعلكم تشكرون* وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وأنهاراً وسبلاً لعلكم تهتدون* وعلامات وبالنجم هو يهتدون* أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون* وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الله لغفور رحيم* والله يعلم ما تسرون وما تعلنون* والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئاً وهو يخلقون* أموات غير أحياءٍ وما يشعرون أيان يبعثون* إلهكم إله واحد فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة وهم مستكبرون} (النحل:3-22)
وهكذا فإن الرب الإله سبحانه وتعالى هو الذي خلق السموات والأرض وما فيهما، وجعل جميع العالمين ممن أسكنهم السموات والأرض (الملائكة والجن والإنس، والطير، والوحش) كلها فقيرة محتاجة إلى إلهها وخالقها إذ هو المتكفل وحده سبحانه وتعالى بإيجادها وإحيائها، وموتها ورزقها، وهو العليم بها الذي لا يغيب عنه صغير ولا كبير من أمرها. قال تعالى: {وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها، ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين}(19/8)
وقال تعالى: {وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون}
خلق الله الخلق لحكم عظيمة ومنها أن يعبدوه وحده لا شريك له:
وقد خلق الله سبحانه وتعالى هذا الخلق الذي لا يحصيه غيره، ولا يحيط به علماً سواه لحكمة عظيمة يعلمها هو سبحانه وتعالى، ومن ذلك ما أخبرنا به جل وعلا وهو أن يعبده وحده لا شريك له ونسبحه وننزهه، ونقدسه، ونحمده، وأخبرنا أنه يحب ذلك وأنه لا يرضى من عباده سواه. قال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين}
وقال تعالى: {أفحسبتم إنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم، ومن يدع مع الله إلهاً آخر فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون}
وقال تعالى: {وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق وإن الساعة لآتية فاصفح الصفح الجميل}
وقال تعالى: {وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما باطلاً ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار أم نجعل الذي آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار}
وقال تعالى: {وما خلقنا السمات والأرض وما بينهما لاعبين، ولو أردنا أن نتخذ لهواً لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين}
وقال تعالى: {وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين، ما خلقناهما إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون، إن يوم الفصل ميقاتهم أجمعين} (الدخان:38-40)
الله غني عن خلقه أجمعين والمخلوقات كلها فقيرة إليه:(19/9)
والرب الإله الواحد سبحانه وتعالى غني عن خلقه كلهم فلا يحتاج إلى شيء من مخلوقاته لا إلى عرشه ولا إلى كرسيه ولا ملائكته ولا الجن والإنس ولا السموات والأرض بل هو الغني سبحانه وتعالى عن كل ما سواه، الحي القيوم الذي لا يؤوده شيء، ولا يصيبه نصب ولا لغوب، ولا يكرثه أمر، ولا يعجزه شيء وكل المخلوقات في حاجة إليه إذ هو سبحانه وتعالى خالقها ومدبر شؤونها، ومقيمها حيث تقوم ومزيلها كيفما يشاء، ووقتما يشاء، وهو الذي أعطى كل شيء قدره ومقداره، وحده وأركانه وتصرفه وبقاءه، وهو الذي يملك فناءه وزواله لا إله غيره، ولا رب سواه.
والعبادة التي خلق الله الخلق من أجلها لا تنفعه كما أن معصية العصاة لا تضره، ولا يستطيع أحد أن يزيد في ملك الله شيئاً ولو ذرة، ولا أن ينقص من ملكه شيئاً، ولو ذرة واحدة.
ولا يبلغ أحد من خلق الله نفع الله فينفعه، ولا ضر لله فيضره [يا عبادي إنكم لن تبلغوا نفعي فتنفعوني، ولن تبلغوا أخري فتضروني].
الرسل جميعاً من أجل هذه الرسالة:
ومن أجل هذه المهمة أرسل الله الرسل. قال تعالى: {ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} والطاغوت هو كل من عبد من دون الله راضياً بذلك، مريداً لذلك، ورأس الطواغيت هو إبليس الملعون وذريته الداعين الناس إلى معصية الله، وعبادة الأصنام والآلهة الباطلة، والأصنام طواغيت.
وقد أخبرنا سبحانه وتعالى أن عباد الطواغيت هم وآلهتهم التي عبدوها يلقون جميعاً في النار: العابد والمعبود. قال تعالى: {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها وكل فيها خالدون لهم فيها زفير وهم فيها لا يسمعون}(19/10)
وأما الذين عبدوا من دون الله بغير رضاهم كعيسى ابن مريم عليه السلام، وأمه عليها السلام، فإنهم مبرءون من الإثم، مبعدون من النار وذلك أن الذين عبدوهم قد عبدوهم بغير رضاهم، فإن عيسى لم يطلب من عابديه أن يعبدوه بل ما أمرهم إلا ليعبدوا الله وحده لا شريك له، وأخبرهم أنه عبد الله وليس إبناً لله، وأن الأمر كله والخلق كله لله، وأنه ليس له مع الله أمر أو شركة، ولذلك يبكت من عبدوا عيسى عليه السلام يوم القيامة ويفضحون على رؤوس الأشهاد، ويظهر لكل الناس في الموقف العظيم يوم القيامة أنهم كانوا كاذبين في ادعائهم أن عيسى إن الله وأنه إله كامل من إله كامل يخلق ويرزق ويحيي ويميت ويدخل الجنة،ويدخل النار، ويدين الأحياء والأموات، ويجلس يوم القيامة على يمين أبيه ليدين الخلق ويحاسبهم. تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً أن يكون له ولد أو أن يكون معه إله...
وقد قص الله سبحانه وتعالى علينا في القرآن كيف ستكون الندامة الكبرى يوم القيامة لمن عبدوا المسيح ابن مريم فقال الله سبحانه وتعالى: {يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب* إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلاً وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيراً بإذني وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين* وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون* إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين* قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين} (المائدة:109-113)(19/11)
وهكذا يظهر للجميع كذب من قال إن عيسى هو ابن الله إله من إله، يخلق ويرزق ويحيي ويميت، ويدين الأحياء والأموات، وأنه يعبد كما يعبد الله، وهذه أكبر كذبة في الأرض، وقد صدقها الملايين من البشر بعد الملايين، وعاشت عليها أجيال وقتل في سبيلها خلق لا يحصيهم إلا الله، وأنفق في سبيل نشرها وترويجها أموال لا يحصيها إلا الله وذلك منذ ظهرت هذه الكذبة قبل نحو ألفي عام وإلى يومنا هذا فسبحان من يضل من يشاء ويهدي من يشاء والعجب أن الذي افتروا هذه الكذبة الكبيرة لم يستطيعوا أن يقيموا عليها دليلاً عقلياً واحداً، ولا عندهم بها إثارة علم، فكيف يعقل أن يكون بشر مولود من رحم امرأة يأكل ويشرب ويبول ويتغوط وينام ويمرض ويجوع ويعطش ويتألم إلهاً خالقاً للكون رازقاً للبشر متصرفاً في العباد!!
والعجب أن الذين افتروا هذه الفرية وأصموا آذانهم عن سماع الحق من قول عيسى نفسه، ومن قول الذين آمنوا به حقاً وصدقاً ومن قول الرسول الخاتم المبعوث بالرسالة الخاتمة إلى الناس أجمعين، ومثيل ذلك وبعده من قول رب العالمين وإله الخلق أجمعين الذي أنزل في التوراة والإنجيل والقرآن أنه الواحد الأحد الذي لا إله إلا هو ولا رب سواه وأنه لم يتخذ قط صاحبة ولا ولداً، والعجب أن يصموا آذانهم عن كل ذلك ويغلقوا أعينهم عن رؤية الحق، ولا يفتحوها إلا يوم القيامة حيث لا ينفعهم عند ذلك السمع والبصر قال تعالى: {اسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين}(19/12)
والمعنى ما أسمعهم وما أبصرهم يوم القيامة!! عندما يقفون بين يدي الله الرب الإله الواحد سبحانه وتعالى حيث يعلمون علم اليقين أنه لا إله هو، وأنه لم يكن له ولد أو كان معه إله غيره... ولكن هؤلاء الظالمين الذين لا يقحمون آذانهم وأعينهم إلا يوم القيامة قد كانوا في ضلالهم سادرين غافلين، مكابرين مصرين في الدنيا. قال تعالى حاكياً حال هؤلاء الضلال في الدنيا والآخرة: {ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون* ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون* وإن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراطي مستقيم* فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم* اسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين* وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون* إن نحن نرث الأرض ومن عليها وإلينا يرجعون} (مريم:34-40)
لا إله إلا الله أظهر الحقائق على الإطلاق وأكثر الحقائق تكذيباً على الإطلاق:
كون أن الله سبحانه وتعالى هو الإله الحق الذي لا إله إلا هو هي أعظم الحقائق ظهوراً فبراهين هذه الحقيقة وأدلتها لا يمكن حصرها، ولا يستطيع أحد عدها، ومع ذلك فلا يوجد حقيقة حصل لها من التكذيب ووقع فيها من الضلال والعناد ما وقع في هذه الحقيقة.
فإن عامة البشر إلا القليل منهم مكذب في هذا الأمر أو ضال، وقليل من العباد من هداهم الله إلى شهادة أنه سبحانه الإله الواحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد والذي لا إله غيره، ولا رب سواه، ولكن عامة الإنس والجن مكذبون جاحدون ضالون عن هذه الحقيقة فسبحان من له الأمر كله، وإليه يرجع الأمر كله، وسبحان من هدى من شاء إلى معرفته وطاعة وعبادته، وأضل من شاء فأصمه وأعمى بصره.(19/13)
وسبحان الله القائل: {ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون} (الأعراف:179)
والحمد لله رب العالمين،،
***********(19/14)
مقالات مفصل دلائل النبوة
مفصل دلائل النبوة (1)
إيمان ذوي العقول وأهل الألباب من كل أمة بالرسول صلى الله عليه وسلم
بقلم: عبدالرحمن بن عبدالخالق
اعلم رحمني الله وإياك أن من دلائل نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم هي مسارعة أهل العقول الراجحة، وأولي الألباب من كل أمة وملة ودين إلى الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم وترك ما كانوا عليه من الجاهلية والكفر وما زال هذا دأب الناس معه منذ بعثته وإلى يومنا هذا.
وهؤلاء أهل العقول الراجحة الذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم إنما آمنوا عن دليل وبرهان ولم يأخذوا الأمر تقليداً واتباعاً وسنعرض نماذج من هؤلاء الذين التقوا الرسول وناقشوا معه دليل نبوته واتبعوا دينه، وكذلك ممن شهد له بالصدق والحق ولم يتبعه إيثاراً للملك كهرقل أو اشفاقاً من مفارقة قومه وجماعته كبعض أحبار اليهود.
إسلام الصديق عن دليل برهان:
فالصديق أبو بكر الذي هو أول الرجال إيماناً كان إيمانه بالنبي صلى الله عليه وسلم عن دليل وبرهان، فإنه قد صادق النبي قبل أن يبعث وعرف من أخلاقه وشمائله أنه ليس بكذاب وأنه يستحيل عقلاً أن يعيش رجل أربعين عاماً من عمره لا تعرف عنه كذبه ثم يشرع بعد ذلك في الكذب على الله الذي هو أشنع الكذب. والكذب على الناس، وكذلك علم أبو بكر يقيناً أن النبي محمد صلى الله عليه وسلم منزه عن الغرض ويستحيل أن يكون له دخيلة أو يكون ممن يظهر خلاف ما يبطن ولذلك أسرع إلى الإيمان به عن ثقة ويقين، وقد كان لكل أحد وقفة تردد في قبول دعوة الرسول إلا أبا بكر الصديق رضي الله عنه فإنه ما علم أن دعاه النبي إلى الإسلام حتى بادر بالشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ما دعوت أحداً للإسلام إلا كانت له كبوة إلا أبا بكر..](20/1)
وروى الإمام البخاري عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: كنت جالساً عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أقبل أبو بكر آخذاً بطرف ثوبه حتى أبدى عن ركبته. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: [أما صاحبكم فقد غامر فسلم ]، وقال: إني كان بيني وبين ابن الخطاب شيء، فأسرعت إليه ثم ندمت، فسألته أن يغفر لي فأبى علي فأقبلت إليك، فقال يغفر الله لك يا أبا بكر ثلاثاً، ثم إن عمر ندم فأتى منزل أبي بكر. فسأل أَثَمَّ أبو بكر؟ فقال: لا، فأتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسلم، فجعل وجه النبي صلى الله عليه وسلم يتمعر حتى أشفق أبو بكر فجثا على ركبتيه. فقال: يا رسول الله: والله أنا كنت أظلم مرتين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: [إن الله بعثني إليكم، فقلتم كذبت، وقال أبو بكر: صدق، وواساني بنفسه وماله. فهل أنتم تاركوا لي صاحبي مرتين فما أوذي بعدها] (رواه البخاري)
والشاهد أن إسلام الصديق -وهو أول الناس إسلاماً- كان عن يقين ودليل وبرهان تحقق لأبي بكر بفضل الصحبة الطويلة قبل البعثة والمعرفة اليقينية بالرسول صلى الله عليه وسلم، وقد كان ثبات الصديق على هذا الدين، وضربه المثال الكامل للمؤمن الصديق، وتطبيقه الرائع الفريد لحقائق الدين وقيمه، دليل على صدق النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
إسلام خديجة رضي الله عنها عن دليل وبرهان:
وكذلك كان إسلام أم المؤمنين خديجة بنت خويلد رضي الله عنها فإنها قالت للنبي عندما قص عليها خبر ما رآه في الغار وقال لها الرسول: [لقد خشيت على نفسي] ولم يكن الرسول يعلم مَنْ هذا الذي نزل عليه في الغار ولا ما كان يريد.
فقالت خديجة رضي الله عنها له: (لا والله لا يخزيك الله أبداً فإنك لتصل الرحم وتحمل الكل، وتكسب المعلوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق) (رواه البخاري)
ثم لما ذهبت به إلى ورقة بن نوفل رضي الله عنه وأخبرهما أن هذا هو الناموس الذي نزل على موسى كان هذا شهادة كذلك من رجل عليم بالرسالات.(20/2)
ومن أجل ذلك كانت خديجة رضي الله عنها أول امرأة أسلمت بل لعلها أول إنسان آمن بالرسول صلى الله عليه وسلم وكان إيمانها عن دليل وبرهان ولم يكن مجرد تقليد واتباع لزوج.
ولا برهان أعظم مما رأته في النبي صلى الله عليه وسلم فقد عرفت فيه الصدق والأمانة وصلة الرحم وحسن الخلق والرحمة بالخلق ومثل هذا لا يخزيه الله أبداً.
إسلام السابقين من المؤمنين عن دليل وبرهان:
وهكذا الشأن في السابقين الأولين من الذين عرفوا النبي صلى الله عليه وسلم قبل بعثته فإن قريشاً كلها لم يجربوا عليه كذباً،بل وكل من تعامل بالنبي بمعاملة بيع أو شراء عرف في النبي صلى الله عليه وسلم الصدق والأمانة. ولذلك لما سمعوا أن النبي صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الله ويخبر أنه رسوله بادروا إلى الإيمان به، عن دليل، وبرهان، وأنضاف إلى ذلك مسارعة أمثال الصديق إلى الإيمان فإن تصديق الصادقين دليل صدق النبي صلى الله عليه وسلم فإن الصادق يصدقه الصادقون وأما الكذاب فإنه لا يصدقه ولو ظاهراً إلا من كان على شاكلته من أهل الكذب.
كيف أسلم من لم يكن يعرف النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة:
وأما من لم يكن يعرف النبي صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه فإن أهل العقل والحجى منهم لم يؤمنوا بالنبي حتى علموا دلائل نبوته.
وذلك أن قوم النبي صلى الله عليه وسلم اختلفت مقالتهم فيه فمنهم من آمن به ومنهم من كفر به وهم السواد الأعظم. وهؤلاء الذين كفروا به شنعوا عليه بالباطل فتارة يقولون ساحر، وتارة يقولون كاهن، وتارة يقولون مجنون، وأخرى يقولون شاعر. وفي كل ذلك يرمونه بالكذب والإفك.
وهذا ما حمل أهل العقل والحجى من قبائل العرب خارج مكة ومن عقلاء اليهود والنصارى أن ينظروا في دلائل النبوة ويتحققوا هل هو فعلاً رسول الله حقاً وصدقاً كما يقول هو ومن آمن به أم هو كما يقول الذين كذبوه وعاندوه.(20/3)
وقد سارع كل ذي عقل ولب من هؤلاء إلى الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم وهذه نماذج هؤلاء:
(1) إسلام أبي ذر رضي الله عنه:
وأبو ذر رضي الله عنه نسيج وحده، ونموذج فريد من البشر كان باحثاً عن الحق قبل أن يرى النبي صلى الله عليه وسلم، ودله بحثه على الإيمان بالله والإسلام له، ولما التقى النبي صلى الله عليه وسلم وسمع منه طابق دليل النبوة فطرته السليمة، وتشوقه إلى الحق، وما علم أبو ذر الحق استعذب العذاب في سبيله.(20/4)
قال البخاري رحمه الله: حدثنا عمرو بن عباس حدثنا عبدالرحمن بن مهدي عن المثنى عن أبي حمزة عن ابن عباس قال لما بلغ أبا ذر نبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأخيه: اركب إلى هذا الوادي فاعلم لي علم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي، يأتيه الخبر من السماء، فاسمع من قوله ثم ائتني. فانطلق الأخ حتى قدم وسمع من كلامه ثم رجع إلى أبي ذر فقال له: رأيته يأمر بمكارم الأخلاق ،وكلاماً ما هو بالشعر. فقال: ما شفيتني مما أردت، فتزود وحمل شَنْةً فيها ماء، حتى قدم مكة فأتى المسجد، فالتمس رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يعرفه وكره أن يسأل عنه، حتى أدركه بعض الليل اضطجع. فرآه علي بن أبي طالب رضي الله عنه فعرف أنه غريب فلما رآه تبعه ولم يسأل واحد منهما صاحبه عن شيء، حتى أصبح، ثم احتمل قربته وزاده إلى المسجد وظل ذلك اليوم ولا يرى النبي صلى الله عليه وسلم حتى أمسى فعاد إلى مضجعه فمر به علي فقال: أما آن للرجل يعلم منزله!! فأقامه فذهب به، لا يسأل واحداً منهما صاحبه عن شيء حتى إذا كان يوم الثالث، فعاد على مثل ذلك فأقام معه، فقال: ألا تحدثني بالذي أقدمك؟ قال: إن أعطيتني عهداً وميثاقاً لترشدني فعلت. ففعل، فأخبره، قال: فإنه حق، وإنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا أصبحت فاتبعني فإني إن رأيت شيئاً أخاف عليك قمت كأني أريق الماء، وإن مضيت فاتبعني، حتى تدخل مدخلي. ففعل. فانطلق يقفوه حتى دخل على النبي صلى الله عليه وسلم ودخل معه فسمع من قوله وأسلم مكانه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: [ارجع إلى قومك فأخبرهم حتى يأتيك أمري] فقال: والذي بعثك بالحق لأصرخن بها بين ظهرانيهم، فخرج حتى أتى المسجد فنادى بأعلا صوته: أشهد لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ثم قام فضربوه حتى أضجعوه. فأتى العباس فأكب عليه فقال: ويلكم ألم تعلموا أنه من غفار، وأن طريق تجارتكم إلى الشام. فأنقذه منهم. ثم عاد من الغد بمثلها فضربوه وثاروا(20/5)
إليه فأكب العباس عليه (هذا لفظ البخاري).
وقد جاء خبر إسلامه مبسوطاً في صحيح مسلم وغيره فقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن هارون حدثنا سليمان بن المغيرة حدثنا حميد بن هلال عن هبة الله بن الصامت قال أبو ذر: خرجنا من قومنا غفار -وكان يحلون الشهر الحرام- أنا وأخي أنيس وأمنا فانطلقنا حتى نزلنا على خال لنا ذي مال وذي هيئة فأكرمنا خالنا وأحسن إلينا فحسدنا قومه فقالوا له: إنك إذا خرجت عن أهلك خلفك إليهم أنيس، فجاء خالنا فنثى ما قيل له (أي عابنا وذمنا وصدق الذي قالوه عنا)!! فقلت له: أما ما مضى من معروفك فقد كدرته ولا جماع لنا فيما بعد.
قال: فقربنا صرمتنا فاحتملنا عليها وتغطى خالنا بثوبه وجعل يبكي. قال: فانطلقا حتى نزلنا محضرة مكة قال فقامر أنيس عن صرمتنا وعن مثليها، فأتينا الكاهن فَخَيّر أنيساً فأتانا بصرمتنا ومثلها وقد صليت يا ابن أخي قبل أن ألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاث سنين، قال: قلت لمن؟ قال: لله. قلت: فأين توجه. قال: حيث وجهني الله. قال: واصلي عشاء حتى إذا كان من آخر الليل ألقى كأني خفاء حتى تعلوني الشمس. قال: فقال أنيس: إن لي حاجة بمكة فألقني حتى آتيك قال: فانطلق فراث علي ثم أتاني. فقلت: ما حبسك؟ قال: لقيت رجلاً يزعم أن الله أرسله على دينك، قال: فما يقول الناس له؟ قال: يقولون إنه شاعر وساحر وكان أنيس شاعراً. قال: فقال لقد سمعت الكهان فما يقول بقولهم، وقد وضعت قوله على إقراء الشعر فوالله ما يلتم لسان أحد أنه شعر، ووالله إنه لصادق وإنهم لكاذبون. قال: فقلت له هل أنت كافيني حتى انطلق؟ قال: نعم، وكن من أهل مكة على حذر، فإنهم قد شنعوا له وتجهموا له.(20/6)
قال: فانطلقت حتى قدمت مكة فتضعفت رجلاً منهم فقلت: أين هذا الرجل الذي يدعونه الصابئ؟ قال: فأشار إلي، فمال أهل الوادي علي بكل مدرة وعظم حتى خررت مغشياً علي!! ثم ارتفعت حين ارتفعت كأني نُصُبٌ أحمر فأتيت زمزم فشربت من مائها وغسلت عني الدم ودخلت بين الكعبة وأستارها فلبثت به يا ابن أخي ثلاثين من يوم وليلة مالي طعام إلا ماء زمزم فسمنت حتى تكسرت عكن بطني وما وجدت على كبدي سخفة جوع.
قال: فبينا أهل مكة في ليلة قمراء أضحيان وضرب الله على أشحمة أهل مكة فما يطوف بالبيت غير امرأتين فأتتا علي وهما يدعوان أساف ونائلة. فقلت: انكحوا أحدهما الآخر فما ثناهما ذلك فقلت: وهن مثل الخشبة غير أني لم أركن!! قال: فانطلقتا تولولان، ويقولان: لو كان ههنا أحد من أنفارنا قال فاستقبلهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وهما هابطان من الجبل فقال مالكما؟ فقالتا: الصابئ بين الكعبة وأستارها قالا ما قال لكما؟ قالتا قال لنا كلمة تملأ الفم!!
قال: وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم هو وصاحبه حتى استلم الحجر، وطاف بالبيت ثم صلى. قال: فأتيته فكنت أول من حياه بتحية أهل الإسلام. فقال: [عليك السلام ورحمة الله من أنت؟] قال: قلت من غفار!! قال فاهوى بيده فوضعهما على جبهته. قال: فقلت في نفسي كره أن انتميت إلى غفار، قال فأردت أن آخذ بيده، فقذفني صاحبه، وكان أعلم به مني، قال: [متى كنت ههنا؟] قال: قلت: كنت ههنا منذ ثلاثين من بين ليلة ويوم. قال: [فمن كان يطعمك؟] قلت: ما كان لي طعام إلا ماء زمزم فسمنت حتى تكسرت عكن بطني وما وجدت على كبدي سخفة جوع. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إنها مباركة إنها طعام طعم] قال: فقال أبو بكر: ائذن لي يا رسول الله في طعامه الليلة قال: ففعل.(20/7)
قال: فانطلق النبي صلى الله عليه وسلم، وانطلقت معهما حتى فتح أبو بكر باباً فجعل يقبض لنا من زبيب الطائف، وقال فكان ذلك أول طعام أكلته بها، فلبثت ما لبثت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إني قد وُجِّهتُ إلى أرض ذات نخل ولا أحسبها إلا يثرب فهل أنت مبلغ عني قومك لعل الله ينفعهم بك ويأجرك فيهم؟].
قال: فانطلقت حتى أتيت أخي أنيساً، قال: فقال لي ما صنعت؟ قال: قلت: صنعت أني أسلمت وصدقت، قال: فما بي رغبة عن دينك فأني قد أسلمت وصدقت. ثم أتينا أمنا فقالت: ما بي رغبة عن دينكما فإني قد أسلمت وصدقت.
فتحملنا حتى أتينا قومنا غفار، قال: فأسلم بعضهم قبل أن يقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وكان يؤمهم خفاف بن إيما بن رخصة الغفاري وكان سيدهم يومئذ، وقال بقيتهم: إذا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم أسلمنا!! قال فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم بقيتهم. قال: وجاءت أسلم فقالوا يا رسول الله إخواننا نسلم على الذي أسلموا عليه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [غفار غفر الله لها، وأسلم سالمها الله] ورواه مسلم عن هدبة بن خالد عن سليمان بن المغيرة به نحوه.
إسلام ضماد رضي الله عنه:
وهذا رجل آخر من ازدشنوءة كان خبيراً بالرقى وعليماً بكلام العرب فانظر كيف كان إسلامه:
روى مسلم والبيهقي من حديث داود بن أبي هند بن عمرو بن سعيد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس. قال: قدم ضماد مكة وهو رجل من أزدشنوءة وكان يرقي من هذه الرياح فسمع سفهاء من سفهاء مكة يقولون: إن محمداً مجنون. فقال: أين هذا الرجل لعل الله أن يشفيه على يدي؟(20/8)
قال: فلقيت محمداً فقلت: إني أرقي من هذه الرياح، وأن الله يشفي على يدي من شاء فهلم!! فقال محمد صلى الله عليه وسلم: [إن الحمد لله نحمده ونستعينه من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له. أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ثلاث مرات] فقال ضماد: والله لقد سمعت قول الكهنة وقول السحرة وقول الشعراء فما سمعت مثل هؤلاء الكلمات فهلم يدك أبايعك على الإسلام فبايعه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: [وعلى قومك فقال وعلى قومي. فبعث النبي صلى الله عليه وسلم جيشاً فمروا بقوم ضماد فقال صاحب الجيش للسرية: هل أصبتم من هؤلاء القوم شيئاً؟ فقال رجل منهم: أصبت منهم هذه المطهرة. فقال: ردوها عليهم فإنهم قوم ضماد.
وفي رواية فقال له ضماد: أعد علي كلماتك هؤلاء فلقد بلغن قاموس البحر!!
قلت: إذا نظرت في الدليل الذي أسلم عليه ضماد عرفت أنه من أقوى الأدلة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال له كلمات في معاني الربوبية لم يسمع هذا الرجل العليم بالرقى بمثلها قط، وعلم أنها من الحق الذي لا يصل إليها إلا نبي فهي في عمق معناها، وكمال ألفاظها قد بلغت قاموس البحر أي هي عمق المعنى وغزارته في عمق البحر وكثرة مائه.
إسلام النجاشي رضي الله عنه:
النجاشي ملك الحبشة كان على دين عيسى بن مريم وهو رجل عميق في هذا الدين، وعلى علم بالرسالات، وكان إسلامه دليلاً على أن ما جاء به النبي محمد صلى الله عليه وسلم حق وصدق.
قال الإمام أحمد رحمه الله: "ثنا يعقوب ثنا أبي عن محمد بن إسحاق حدثني محمد بن مسلم بن أبي عبيدة بن شهاب عن أبي بكر بن عبدالرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي عن أم سلمة ابنة أبي أمية بن المغيرة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: لما نزلنا أرض الحبشة جاورنا بها خير جار: النجاشي آمنا على ديننا، وعبدنا الله لا نُؤْذَى ولا نسمع شيئاً نكرهه.(20/9)
فلما بلغ ذلك قريشاً ائتمروا أن يبعثوا إلى النجاشي فينا رجلين جَلْدَين وأن يهدوا للنجاشي هدايا مما يستطرف من متاع مكة وكان أعجب ما يأتيه منها إليه الأدم (أي الجلود)، فجمعوا له أدماً كثيراً ولم يتركوا من بطارقته بطريقاً إلا أهدوا له هدية ثم بعثوا بذلك مع عبدالله بن ربيعة بن المغيرة المخزومي وعمرو بن العاص بن وائل السهمي وأمروهما أمرهم وقالوا لهما: ادفعوا إلى كل بطريق هديته قبل أن تكلموا النجاشي فيهم.
ثم قدموا للنجاشي ونحن عنده بخير دار وعند خير جار فلم يبق من بطارقته بطريق إلا دفعا إليه هديته قبل أن يكلما النجاشي. ثم قالا لكل بطريق منهم: إنه قد صبأ إلى بلد الملك منا غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينكم وجاءوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنتم. وقد بعثنا إلى الملك أنه قد صبأ إلى بلدك منا غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك، وجاءوا لدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنت وقد بعثنا أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لتردهم إليهم، فهم أعلى بهم عيناً، وأعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه!! قالت: ولم يكن شيء أبغض إلى عبد الله بن ربيعة وعمرو بن العاص من أن يسمع النجاشي كلامهم. فقالت بطارقته حوله: صدقوا أيها الملك، قومهم أعلم بهم عيناً وأعلم بما عابوا عليه، فأسلمهم إليهما فليرداهم إلى بلادهم وقومهم قال: فغضب النجاشي ثم قال: لا ها الله!! أيم الله إذاً لا أسلمهم إليهما، ولا أطرد قوماً جاوروني ونزلوا بلادي واختاروني على من سواي حتى أدعوهم فأسألهم ما يقول هذان في أمرهم فأن كانوا كما يقولان أسلمتهم إليهما ورددتهم إلى قومهم وإن كانوا على غير ذلك منعتهم منهما وأحسنت جوارهم ما جاوروني.
قالت: ثم أرسل إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاهم.(20/10)
فلما جاءهم رسوله اجتمعوا ثم قال بعضهم لبعض ما تقولون للرجل إذا جئتموه قالوا: نقول له والله ما علمنا وما أمرنا به نبينا صلى الله عليه وسلم كائن في ذلك ما هو كائن.
فلما جاءوه وقد دعا النجاشي أساقفته فنشروا مصاحفهم حوله سألهم فقال: ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا في ديني ولا في دين أحد من هذه الأمم؟
قالت: فكان الذي كلمه جعفر بن أبي طالب فقال له: أيها الملك: كنا قوماً أهل جاهلية نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الرحم، ونسيء الجوار، يأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نحن نعبد وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وآداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنة، وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئاً، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام.
قال: فعدد عليه أمور الإسلام فصدقناه، وآمنا به واتبعناه على ما جاء به فعبدنا الله وحده فلم نشرك به شيئاً، وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا.
فعدا علينا قومنا فعذبونا وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله. وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث فلما قهرونا وظلمونا وشقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا فخرجنا إلى بلدك واخترناك على من سواك ورغبنا في جوارك ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك!!(20/11)
قالت: فقال له النجاشي: هل معك مما جاء به عن الله من شئ؟ قالت: فقال له جعفر: نعم. فقال له النجاشي: إقرأ علي. فقرأ عليه (صدراً) من{كهيعص}. قالت: "فبكى والله النجاشي حتى اخضل لحيته وبكت أساقفته حتى اخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلي عليهم ثم قال النجاشي: إن هذا والله والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة!! انطلقا فوالله لا أسلمهم إليكم أبداً ولا أكاد.
قالت أم سلمة: فلما خرجا من عنده، قال عمرو بن العاص: والله (لأنبئنهم) غداً عيبهم عندهم ثم استأصل به خضراءهم، قالت: فقال له عبد الله بن أبي ربيعة -وكان أتقى الرجلين فينا-: لا تفعل فإن لهم أرحاماً وإن كانوا قد خالفونا، قال: والله لأخبرنه أنهم يزعمون أن عيسى بن مريم عبد، قالت: ثم غدا عليه الغد. فقال له: أيها الملك انهم يقولون في عيسى بن مريم قولاً عظيماً فأرسل إليهم فاسألهم عما يقولون فيه.
قالت: فأرسل إليهم يسألهم عنه. قالت: ولم ينزل بنا مثله فاجتمع القوم فقال بعضهم لبعض: ماذا تقولون في عيسى إذا سألكم عنه؟ قالوا: نقول والله فيه ما قال الله وما جاء به نبينا كائناً في ذلك ما هو كائن. فلما دخلوا عليه قال لهم: ما تقولون في عيسى بن مريم؟ فقال جعفر بن أبي طالب: نقول فيه الذي جاء به نبينا هو عبدالله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول. قالت: فضرب النجاشي يده إلى الأرض فأخذ منها عوداً ثم قال: ما عدا عيسى بن مريم ما قلت هذا العود فتناخرت بطارقته حوله حين قال ما قال، فقال: وإن نخرتم والله! اذهبوا فأنتم سيوم بأرضي -والسيوم الآمنون- من سبكم غرم. فما أحب أن لي دبراً ذهباً وأني آذيت رجلاً منكم -والدبر بلسان الحبشة الجعل- ردوا عليهما هداياهما فلا حاجة لنا بها فوالله ما أخذ الله مني الرشوة حين رد علي ملكي فآخذ الرشوة فيه وما أطاع الناس فأطيعهم فيه.
قالت: فخرجا من عنده مقبوحين مردوداً عليهما ما جاءا به، وأقمنا عنده بخير دار مع خير جار.(20/12)
قالت: فوالله إنا على ذلك إذ نزل به يعني من ينازعه في ملكه. قالت: فوالله ما علمنا حزناً قط كان أشد من حزن حزناه عنده ذلك تخوفاً أن يظهر ذلك على النجاشي فيأتي رجل لا يعرف من حقنا ما كان النجاشي يعرف منه.
قالت وسار النجاشي وبينهما عرض النيل. قالت: فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: من رجل يخرج حتى يحضر وقعة القوم ثم يأتينا بالخبر. قالت: فقال الزبير بن العوام: أنا. قالت: وكان من أحدث القوم سناً. قالت: فنفخوا له قربة فجعلها في صدره ثم سبح عليها حتى خرج إلى ناحية النيل التي بها ملتقى القوم ثم انطلق حتى حضرهم. قالت ودعونا الله للنجاشي بالظهور على عدوه والتمكين له في بلاده واستوسق عليه أمر الحبشة فكنا عنده في خير منزل حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة.
رواية أخرى:
قال الإمام عبد الله بن محمد بن أبي شيبة رحمه الله: حدثنا عبيد الله بن موسى قال أخبرنا إسرائيل عن أبي اسحاق عن أبي بردة عن أبي موسى قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننطلق مع جعفر بن أبي طالب إلى النجاشي قال فبلغ ذلك قومنا فبعثوا عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد وجمعوا للنجاشي هدية فقدمنا وقدما على النجاشي فأتوه بهدية فقبلها وسجدوا، ثم قال له عمرو بن العاص: إن قومنا رغبوا عن ديننا وهم في أرضك فقال لهم النجاشي: في أرضي؟ قالوا: نعم. فبعث إلينا فقال لنا جعفر: لا يتكلم منكم أحد، أنا خطيبكم اليوم. قال: فانتهينا إلى النجاشي وهو جالس في مجلسه وعمرو بن العاص عن يمينه وعمارة عن يساره والقسيسون والرهبان سماطين، وقد قال له عمرو وعمارة: إنهم لا يسجدون لك. قال: فلما انتهينا إليه أخبرنا من عنده من القسيسين والرهبان اسجدوا للملك فقال جعفر: لا نسجد إلا لله، فلما انتهينا إلى النجاشي قال: ما يمنعك أن تسجد.(20/13)
قال: لا نسجد إلا لله. قال له النجاشي: وما ذاك؟ قال: إن الله بعث فينا رسوله وهو الرسول الذي بشر به عيسى بن مريم {برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد} فأمرنا أن نعبد الله ولا نشرك به شيئاً ونقيم الصلاة ونؤتي الزكاة وأمرنا بالمعروف ونهانا عن المنكر. فقال النجاشي لجعفر: ما يقول صاحبك في ابن مريم؟ قال: يقول فيه قول الله، هو روح الله وكلمته أخرجه من البتول العذراء التي لم يقر بها بشر. قال: فتناول النجاشي عوداً من الأرض فقال: يا معشر القسيسين والرهبان: ما يزيد ما يقول هؤلاء على ما تقولون في ابن مريم ما يزن هذه!! مرحباً بكم وبمن جئتم من عنده. فأنا أشهد أن رسول الله والذي بشر به عيسى بن مريم ولولا ما أنا فيه من الملك لأتيته حتى أحمل نعليه!! امكثوا في أرضي ما شئتم. وأمر لنا بطعام وكسوة وقال: ردوا على هذين هديتهما.
مكيدة لعمرو بن العاص لرفيقه عمارة بن الوليد:
قال: وكان عمرو بن العاص رجلاً قصيراً وكان عمارة بن الوليد رجلاً جميلاً. قال فأقبلا في البحر للنجاشي قال: فشربوا. قال: ومع عمرو بن العاص امرأته فلما شربوا الخمر قال عمارة لعمرو مر امرأتك فلتقبلني، فقال له عمرو: ألا تستحي؟! فأخذه عمارة فرمى به في البحر فجعل عمرو يناشده حتى أدخله السفينة فحقد عليه عمرو ذلك، فقال عمرو للنجاشي: إنك إذا خرجت خلف عمارة في أهلك. قال: فدعا النجاشي بعمارة فنفخ في احليله فصار مع الوحش!!
*********
*****(20/14)
مفصل دلائل النبوة (2)
إيمان ذوي العقول وأهل الألباب من كل أمة بالرسول صلى الله عليه وسلم
بقلم: عبدالرحمن بن عبدالخالق
وهذه طائفة أخرى من الذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم من اليهود والنصارى ومشركي العرب بعد سطوع آيات النبوة.
سلمان الفارسي رضي الله عنه:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لو كان الدين بالثريا لأدركه أقوام من هؤلاء]
قصة إسلامه واستدلاله على رسول الله صلى الله عليه وسلم:
قال الإمام أحمد رحمه الله: ثنا أبي عن أبي إسحاق حدثني عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري عن محمود بن لبيد عن عبدالله بن عباس قال حدثني سلمان الفارسي حديثه من فيه قال: كنت رجلاً فارسياً من أهل أصبهان من أهل قرية منها يقال لها (جي)، وكان أبي دهقان قريته (أي القائم على النار)، وكنت أحب خلق الله إليه، فلم يزل به حبه إياي حتى حبسني في بيته كما تحبس الجارية، وأجهدت في المجوسية حتى كنت قَطِنَ النار الذي يوقدها لا يتركها تخبو ساعة. قال: وكان لأبي ضيعة عظيمة. قال: فشغل في بنيان له يوماً، فقال لي: يا بني إني قد شغلت في بنيان هذا اليوم، فاذهب فاطلعها، وأمرني فيها ببعض ما يريد، فخرجت أريد ضيعته، فمررت بكنيسة من كنائس النصارى، فسمعت أصواتهم فيها وهم يصلون، وكنت لا أدري ما أمر الناس لحبس أبي إياي في بيته، فلما مررت بهم وسمعت أصواتهم دخلت عليهم أنظر ما يصنعون، قال: فلما رأيتهم أعجبتني صلاتهم، ورغبت في أمرهم وقلت: هذا والله خير من الدين الذي نحن عليه، فوالله ما تركتهم حتى غربت الشمس، وتركت ضيعة أبي ولم آتها فقلت لهم: أين أصل هذا الدين؟ قالوا: بالشام. قال: ثم رجعت إلى أبي وقد بعث في طلبي وشغلته عن عمله كله. قال فلما جئته قال: أي بني أين كنت؟ ألم أكن عهدت إليك ما عهدت؟ قال: قلت: يا أبت مررت بالناس يصلون في كنيسة لهم، فأعجبني ما رأيت من دينهم فوالله ما زلت عندهم حتى غربت الشمس. قال: أي بني. ليس في ذلك الدين خير(21/1)
دينك ودين آبائك خير منه. قال: قلت: كلا والله إنه خير من ديننا. قال: فخافني فجعل في رجلي قيداً ثم حبسني في بيته.
قال: وبعثت إلى النصارى فقلت لهم: إذا قدم عليكم ركب من الشام، تجار من النصارى فأخبروني بهم، قال: فقدم عليهم ركب من الشام، تجار من النصارى فأخبروني بهم قال: قلت: إذا قضوا حوايجهم وأرادوا الرجعة إلى بلادهم فآذنوني بهم. قال: فلما أرادوا الرجعة إلى بلادهم أخبروني بهم، فألقيت الحديد من رجلي، ثم خرجت معهم حتى قدمت الشام، فلما قدمتها قلت: من أفضل أهل هذا الدين؟ قالوا: الأسقف في الكنيسة.
قال: فجئته فقلت: إني أرغب في هذا الدين، وأحببت أن أكون معك أخدمك في كنيستك، وأتعلم منك، وأصلي معك. قال: فادخل. فدخلت معه. قال: فكان رجل سوء يأمرهم بالصدقة ويرغبهم فيها، فإذا جمعوا إليه منها أشياء اكتنزه لنفسه ولم يعطه المساكين، حتى جمع سبع قلال من ذهب وورق، قال: وأبغضته بغضاً شديداً لما رأيته يصنع، ثم مات، فاجتمعت إليه النصارى ليدفنوه فقلت لهم: إن هذا كان رجل سوء، يأمركم بالصدقة ويرغبكم فيها فإذا جئتموه بها اكتنزها لنفسه، ولم يعط المساكين منها شيئاً. قالوا: وما علمك بذلك؟ قال: قلت أنا أدلكم على كنزه، قالوا: فدلنا عليه، قال:فأريتهم موضعه. قال فاستخرجوا منه سبع قلال مملوءة ذهباً وورقاً، فلما رأوها قالوا: والله لا ندفنه أبداً، فصلبوه، ثم رجموه بالحجارة، ثم جاؤوا برجل آخر فجعلوه بمكانه.(21/2)
قال: يقول سلمان فما رأيت رجلاً لا يصلي الخمس أرى أنه أفضل منه، أزهد في الدنيا، ولا أرغب في الآخرة، ولا أدأب ليلاً ونهاراً منه. قال: فأحببته حباً لم أحبه من قبله، وأقمت معه زماناً، ثم حضرته الوفاة، فقلت له: يا فلان إني كنت معك وأحببتك حباً لم أحبه أحداً من قبلك، وقد حضرك ما ترى من أمر الله، فإلى من توصي بي؟ وما تأمرني؟ قال: أي بني والله ما أعلم أحداً اليوم على ما كنت عليه. لقد هلك الناس وبدلوا وتركوا أكثر ما كانوا عليه إلا رجلاً بالموصل، وهو فلان، فهو على ما كنت عليه فالحق به.
قال: فلما مات وغيب لحقت بصاحب الموصل. فقلت له: يا فلان إن فلاناً أوصاني عند موته أن ألحق بك، وأخبرني أنك على أمره. قال: فقال لي: أقم عندي. فأقمت عنده فوجدته خير رجل على أمر صاحبه، فلم يلبث أن مات، فلما حضرته الوفاة قلت له: يا فلان إن فلاناً أوصى بي إليك، وأمرني باللحوق بك، وقد حضرك من الله عز وجل ما ترى فإلى من توصي بي؟ وما تأمرني؟ قال: أي بني والله ما أعلم رجلاً على مثل ما كنا عليه إلا رجلاً بنصيبين، وهو فلان فالحق به.
قال: فلما مات وغيب لحقت بصاحب نصيبين فجئته، فأخبرته بخبري وما أمرني به صاحبي. قال: فأقم عندي. فأقمت عنده فوجدته على أمر صاحبيه، فأقمت مع خير رجل، فوالله ما لبث أن نزل به الموت فلما حضر قلت له: يا فلان كان أوصى بي إلى فلان، ثم أوصى بي فلان إليك، فإلى من توصي بي؟ وما تأمرني؟ قال: أي بني والله ما نعلم أحداً بقي على أمرنا آمرك أن تأتيه إلا رجلاً بعمورية، فإنه بمثل ما نحن عليه، فإن أحببت فأته. قال: فإنه على أمرنا.(21/3)
قال: فلما مات وغيب لحقت بصاحب عمورية وأخبرته خبري، فقال: أقم عندي. فأقمت مع رجل على هدى أصحابه وأمرهم. قال: واكتسبت حتى كان لي بقرات وغنيمة، قال: ثم نزل به أمر الله فلما حضر قلت له: يا فلان إني كنت مع فلان فأوصي فلان إلى فلان، وأوصي بي فلان إلى فلان، ثم أوصى فلان إليك، فإلى من توصي بي؟ وما تأمرني؟ قال: أي بني والله ما أعلمه أصبح على ما كنا عليه أحد من الناس آمرك أن تأتيه، ولكنه قد أظلك زمان نبي وهو مبعوث بدين إبراهيم يخرج بأرض العرب مهاجراً إلى أرض بين حرتين بينهما نخل به علامات لا تخفى: يأكل الهدية، ولا يأكل الصدقة، بين كتفيه خاتم النبوة، فإذا استطعت أن تلحق بتلك البلاد فافعل.(21/4)
قال: ثم مات وغيب فمكثت بعمورية ما شاء الله أن أمكث، ثم مر بي نفر من كلب تجاراً فقلت لهم: تحملوني إلى أرض العرب وأعطيكم بقراتي هذه وغنيمتي هذه؟ قالوا: نعم. فأعطيتموها ورجوت أن تكون البلد، وحملوني حتى إذا قدموا بي وادي القرى ظلموني، فباعوني من رجل من يهودي عبداً، فكنت، ورأيت النخل ورجوت أن تكون البلد الذي وصف لي صاحبي ولم يحق لي في نفسي، فبينما أنا عنده قدم ابن عم له من المدينة من بني قريظة فابتاعني منه، فاحتملني إلى المدينة، فوالله ما هو إلا أن رأيتها فعرفتها بصفة صاحبي، فأقمت بها وبعث الله رسوله فأقام بمكة ما أقام، لا أسمع له بذكر مع ما أنا فيه من شغل الرق، ثم هاجر إلى المدينة، فوالله إني لفي رأس عذق لسيدي أعمل فيه بعض العمل، وسيدي جالس إذ أقبل ابن عم له حتى وقف عليه فقال فلان: قاتل الله بني قيلة، والله إنهم الآن لمجتمعون بقباء على رجل قدم عليهم من مكة اليوم يزعمون أنه نبي. قال: فلما سمعتها أخذتني العُرَواء حتى ظننت أني سأسقط على سيدي، قال: ونزلت على النخلة فجعلت أقول لابن عمه ذلك ماذا تقول؟ قال فغضب سيدي فلكمني لكمة شديدة، ثم قال: مالك ولهذا أقبل على عملك!!. قال: قلت: لا شئ إنما أردت أن استثبت عما قال. وقد كان عندي شيء. قد جمعته فلما أمسيت أخذته ثم ذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بقباء فدخلت عليه فقلت له: أنه قد بلغني أنك رجل صالح، ومعك أصحاب لك غرباء ذوو حاجة، وهذا شيء كان عندي للصدقة فرأيتكم أحق به من غيركم فقربته إليه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: كلوا. وأمسك يده فلم يأكل. قال: فقلت: في نفسي هذه واحدة، ثم انصرفت عنه، فجمعت شيئاً وتحول رسول اله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ثم جئت به فقلت: إني قد رأيتك لا تأكل الصدقة، وهذه هدية أكرمتك بها، قال: فأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم منها وأمر أصحابه معه، قال: فقلت في نفسي: هاتان اثنتان: ثم جئت رسول(21/5)
الله صلى الله عليه وسلم وهو ببقيع الغرقد. قال وقد تبع جنازة من أصحابه عليه شملتان وهو جالس في أصحابه، فسلمت عليه ثم استدرت أنظر إلى ظهره هل أرى الخاتم الذي وصف لي صاحبي. فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنى استدرته عرف أني استثبت في شيء وصف لي. قال: فألقى رداءه عن ظهره فنظرت إلى الخاتم فعرفته، فانكببت عليه أقبله وأبكي، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: تحول!! فتحولت فقصصت عليه حديثي، كما حدثتك يا ابن عباس.
قال فأعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسمع ذلك أصحابه، ثم شغل سلمان الرق حتى فاته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدر وأحد.
قال: ثم قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: كاتب يا سليمان. فكاتبت صاحبي على ثلاثمائة نخلة أحييها له بالفقير وبأربعين أوقية. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: أعينوا أخاكم فأعانوني بالنخل، الرجل بثلاثين ودية، والرجل بعشرين والرجل بخمس عشرة، والرجل بعشر يعني الرجل وما يقدر ما عنده، حتى اجتمعت لي ثلاثمائة ودية، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: اذهب يا سلمان ففقر لها فإذا فرغت فائتني أكون أنا أضعها بيدي ففقرت لها وأعانني أصحابي، حتى إذا فرغت منها جئته، فأخبرته فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم معي إليها، فجعلنا نقرب له الودي ويضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، فوالذي نفس سلمان بيده ما مات منها ودية واحدة، فأديت النخل وبقي علي المال فأتى رسول الله بمثل بيضة الدجاج من ذهب من بعض المغازي، فقال: ما فعل الفارسي المكاتب؟ قال فدعيت له فقال: خذ هذه فأد بها ما عليك يا سلمان. فقلت: وأين تقع هذه يا رسول الله مما علي. قال خذها، فإن الله عز وجل سيؤدي بها عنك. قال: فأخذتها فوزنت لهم منها والذي نفس سلمان بيده أربعين أوقية فأوفيتهم حقهم، وأعتقت فشهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الخندق ثم لم يفتني معه مشهد.(21/6)
قلت: هذه القصة المليئة بالعبر، والشاهد فيها أن سلمان الفارسي رضي الله عنه، قد انتفى منه الغرض الدنيوي، وطلب الدين لله لا لحظ نفسه، ولاقى في سبيل الله ما لاقى من ترك أهله ووطنه، والدنيا التي كان فيها، وتتبع بقايا رهبان النصارى حتى فنوا وانقرضوا، ثم هداه الله إلى الإسلام، وتعرف على النبي صلى الله عليه وسلم من خلال الدليل الذي صحبهمعه، وبقي سلمان على الإسلام حتى أصبح بعد ذلك أميراً على العراق بعد أن فتحها الله للمسلمين، وكان سلمان في كل حياته زاهداً في الدنيا باحثاً عن الحق وإيمانه بالرسول صلى الله عليه وسلم دليل صدق وشاهد عدل{قل كفى بالله شهيداً بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب}.
عبدالله بن سلام سيد اليهود وعالمهم بالمدينة المنورة:
قال الإمام أحمد حدثنا محمد بن جعفر ثنا عوف عن زرارة عن عبدالله بن سلام. قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة احتفل الناس فكنت فيمن احتفل، فلما تبينت وجهه عرفت أنه ليس بوجه كذاب!! فكان أول شيء سمعته يقول: [افشوا السلام وأطعموا الطعام وصلوا بالليل والناس نيام. تدخلوا الجنة بسلام] (رواه الترمذي وابن ماجه من طرق عن عوف الأعرابي عن زرارة بن أبي أوفى به عنه).
وقال الترمذي صحيح، ومقتضى هذا السياق أنه سمع بالنبي صلى الله عليه وسلم ورآه أول قدومه حين أناخ عند دار أبي أيوب عند ارتحاله من قباء إلى دار بني النجار كما تقدم فلعله رآه أول ما رآه بقباء، واجتمع به بعد ما صار إلى دار بني النجار، والله أعلم.
وفي سياق البخاري من طريق عبدالعزيز عن أنس. قال: فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم جاء عبدالله بن سلام فقال أشهد أنك رسول الله، وأنك جئت بحق. وقد علمت يهود أني سيدهم وابن سيدهم وأعلمهم وابن أعلمهم، فادعهم فسلهم عني قبل أن يعلموا أني قد أسلمت. فإنهم إن يعلموا أني قد أسلمت قالوا في ما ليس في.(21/7)
فأرسل نبي الله صلى الله عليه وسلم إلى اليهود فدخلوا عليه. فقال لهم: [يا معشر اليهود ويلكم اتقوا الله فوالله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أني رسول الله حقاً وأني جئتكم بحق فأسلموا] قالوا: ما نعلمه!! قالوا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم قالها ثلاث مرار. قال: [فأي رجل فيكم عبدالله بن سلام؟] قالوا ذاك سيدنا وابن سيدنا وأعلمنا وابن أعلمنا. قال: [أفرأيتم إن أسلم]، قالوا حاشى لله ما كان ليسلم. قال: [يا ابن سلام اخرج عليهم] فخرج فقال: يا معشر يهود اتقوا الله فوالله الذي لا إله هو إنكم لتعلمون أنه رسول الله وأنه جاء بالحق. فقالوا: كذبت فأخرجهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. (هذا لفظه)
وفي رواية: فلما خرج عليهم شهد شهادة الحق قالوا: شَرُّنا وابن شَرِّنا، وتنقصوه، فقال: يا رسول الله هذا الذي كنت أخاف!!
وقال البيهقي: أخبرنا أبو عبدالله الحافظ أخبرنا الأصم حدثنا محمد بن إسحاق الصنعاني ثنا عبدالله بن أبي بكر ثنا حميد عن أنس. قال: سمع عبدالله بن سلام بقدوم النبي صلى الله عليه وسلم وهو في أرض له - فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي: ما أول أشراط الساعة؟ وما أول طعام يأكله أهل الجنة؟ وما بال الولد إلى أبيه أو إلى أمه؟
قال: [أخبرني بهن جبريل آنفاً]. قال: جبريل؟ قال: [نعم]، قال: عدو اليهود من الملائكة. ثم قرأ{قل من كان عدواً لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله} قال: [أما أول أشراط الساعة فنار تخرج على الناس من المشرق تسوقهم إلى المغرب، وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد حوت، وأما الولد فإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نَزَعَ الولد، وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل نزعت الولد].
فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. يا رسول الله إن اليهود قوم بهت وأنهم إن يعلموا بإسلامي قبل أن تسألهم عني بهتوني.(21/8)
فجاءت اليهود، فقال: [أي رجل عبدالله فيكم؟] قالوا خيرنا وابن خيرنا، وسيدنا وابن سيدنا. قال: [أرأيتم إن أسلم؟]، قالوا: أعاذه الله من ذلك، فخرج عبدالله فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمد رسول الله. قالوا شرنا وابن شرنا وانتقصوه. قال: هذا الذي كنت أخاف يا رسول الله. (رواه البخاري عن عبدالله بن منير عن عبدالله بن أبي بكر به ورواه عن حامد بن عمر عن بشر بن المفضل عن حميد به).
قال محمد بن اسحاق: حدثني عبدالله بن أبي بكر عن يحيى بن عبدالله عن رجل من آل عبدالله بن سلام. قال: كان من حديث عبدالله بن سلام حين أسلم، وكان حبراً عالماً. قال: لما سمعت برسول الله، وعرفت صفته واسمه وهيئته و(زمانه) الذي كنا نتوكف له، فكنت بقباء مسراً بذلك صامتاً عليه حتى قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فلما قدم نزل بقباء في بني عمرو بن عوف، فأقبل رجل حتى أخبر بقدومه، وأنا في رأس نخلة لي أعمل فيها وعمتي خالدة بنت الحارث تحتي جالسة، فلما سمعت الخبر بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم كبرت، فقالت عمتي حين سمعت تكبيري لو كنت سمعت بموسى بن عمران ما زدت، قال: قلت لها أي عمة. والله هو أخو موسى بن عمران وعلى دينه بعث بما بعث به. قال: فقالت له: يا ابن أخي أهو الذي كنا نخبر أنه يبعث مع نفس الساعة؟ قال: قلت لها: نعم، قالت: فذاك إذاً.
قال: فخرجت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلمت، ثم رجعت إلى أهل بيتي فأمرتهم فأسلموا وكتمت إسلامي من اليهود وقلت: يا رسول الله إن اليهود قوم بهت، وإني أحب أن تدخلني في بعض بيوتك لتغيبني عنهم، ثم تسألهم عني فيخبروك كيف أنا فيهم قبل أن يعلموا بإسلامي فإنهم إن يعلموا بذلك بهتوني وعابوني، (وذكر نحو ما تقدم). قال: فاظهرت إسلامي وإسلام أهل بيتي وأسلمت عمتي خالدة بنت الحارث.(21/9)
وقال يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق حدثني عبدالله بن أبي بكر حدثني محدث عن صفية بنت حيي قالت: لم يكن أحد من ولد أبي وعمي أحب إليهما مني، لم ألقاهما في ولد لهما قط اهش إليهما إلا أخذاني دونه، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم قباء (قرية بني عمرو بن عوف) غدا إليه أبي وعمي أبو ياسر بن أخطب مُغَلِّسين، فوالله ما جاآنا إلا مع مغيب الشمس فجاآنا فاتِرَيْن كسلانين ساقطين يمشيان الهوينا، فهششت إليهما كما كنت أصنع فوالله ما نظر إلى واحد منهما!! فسمعت عمي أبا ياسر يقول لأبي: أهو هو؟ قال: نعم والله! قال: تعرفه بنعته وصفته؟ قال: نعم والله! قال: فماذا في نفسك منه؟ قال عداوته والله ما بقيت!!
وذكر موسى بن عقبة عن الزهري أن أبا ياسر بن أخطب حين قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ذهب إليه وسمع منه وحادثه، ثم رجع إلى قومه فقال: يا قوم أطيعوني فإن الله قد جاءكم بالذي كنتم تنتظرون فاتبعوه ولا تخالفوه، فانطلق أخوه حيي بن أخطب وهو يومئذ سيد اليهود، وهما من بني النضير، فجلس حيي بن أخطب إلى رسول الله وسمع منه، ثم رجع إلى قومه وكان فيهم مطاعاً فقال: أتيت من عند رجل والله لا أزال له عدواً أبداً. فقال له أخوه أبو ياسر: يا ابن أم أطعني في هذا الأمر، واعصني فيما شئت بعده لا تهلك، قال: لا والله لا أطيعك أبداً، واستحوذ عليه الشيطان واتبعه قومه على رأيه.
قلت (أي الزهري): أما أبو ياسر بن الأخطب فلا أدري ما آل إليه أمره، وأما حيي بن أخطب والد صفية بنت حيي فشرب عداوة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ولم يزل ذلك دأبه لعنه الله حتى قتل صبراً بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم قتل مقاتلة بني قريظة.
هرقل قيصر الروم الأكبر ورئيس الكنيسة الشرقية:(21/10)
قال البخاري رحمه الله: حدثنا أبو اليمان الحكم بن نافع أخبرنا شعيب عن الزهري قال أخبرني عبيدالله بن عبدالله بن عتبة بن مسعود أن عبدالله بن عباس أخبره أن أبا سفيان بن حرب أخبره أن هرقل أرسل إليه في ركب من قريش وكانوا تجاراً بالشام في المدة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مادَّ فيها أبا سفيان وكفار قريش، فأتوه وهم بإيلياء فدعاهم في مجلسه وحوله عظماء الروم، ثم دعاهم ودعا بترجمانه فقال: أيكم أقرب نسباً بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟
فقال أبو سفيان: فقلت: أنا أقربهم نسباً.
فقال: ادنوه مني وقربوا أصحابه فاجعلوهم عند ظهره، ثم قال ترجمانه: قل لهم: إني سائل هذا الرجل فإن كذبني فكذبوه فوالله لولا الحياء من أن يأثروا علي كذباً لكذبت عليه. ثم كان أول ما سألني عنه أن قال: كيف نسبه فيكم؟
قلت: هو فينا ذو نسب.
قال: فهل قال هذا القول منكم أحد قط قبله؟ قلت: لا.
قال: فهل كان من آبائه من ملك؟ قلت: لا.
قال: فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟ فقلت: بل ضعفاؤهم.
قال: أيزيدون أم ينقصون؟ قلت: بل يزيدون.
قال: فهل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ قلت: لا.
قال: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قلت: لا.
قال: فهل يغدر؟ قلت: لا، ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها. قال: ولم تمكني كلمة أدخل فيها شيئاً غير هذه الكلمة.
قال: فهل قاتلتموه؟ قلت: نعم.
قال: فكيف كان قتالكم إياه؟ قلت: الحرب بيننا سجال ينال منا وننال منه.
قال: بماذا يأمركم؟ قلت: يقول اعبدوا الله وحده لا تشركوا به شيئاً، واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة.(21/11)
فقال للترجمان: قل له: سألتك عن نسبه فذكرت أنه فيكم ذو نسب، فكذلك الرسل تبعث في نسب قومها. وسألتك هل قال أحد منكم هذا القول. فذكرت أن لا. فقلت: لو أحد قال هذا القول قبله لقلت رجل يأتسي بقول قيل قبله. وسألتك هل كان من آبائه من ملك فذكرت أن لا. قلت: لو كان من آبائه من ملك قلت رجل يطلب ملك أبيه، وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فذكرت أن لا، فقد عرفت أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله وسألتك أيزيدون أم ينقصون؟ فذكرت أنهم يزيدون، وكذلك أمر الإيمان حتى يتم. وسألتك أيرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ فذكرت أن لا. وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب، وسألتك هل يغدر؟ فذكرت أن لا. وكذلك الرسل لا تغدر. وسألتك بما يأمركم؟ فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وينهاكم عن عبادة الأوثان ويأمركم بالصدق والعفاف، فإن كان ما تقول حقاً فسيملك موضع قدمي هاتين، وقد كنت أعلم أنه خارج لم أكن أظن أنه منكم فلو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدمه!!! ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي بعث به دحية إلى عظيم بصرى فدفعه إلى هرقل فقرأه فإذا فيه:
بسم الله الرحمن الرحيم من محمد عبدالله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى أما بعد فإني أدعوك (بدعاية) الإسلام، أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين {يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون}(21/12)
قال أبو سفيان: فلما قال ما قال، وفرغ من قراءة الكتاب كثر عنده الصخب وارتفعت الأصوات وأخرجنا. فقلت لأصحابي حين أخرجنا: لقد أَمِرَ أَمْرُ بن أبي كبشة إنه يخافه ملك بني الأصفر فما زلت موقناً أنه سيظهر حتى أدخل الله عَلَيَّ الإسلام.
وكان ابن الناطور صاحب إيلياء وهرقل سقفاً على نصارى الشام يحدث أن هرقل حين قدم أيلياء أصبح يوماً خبيث النفس فقال بعض بطارقته قد استنكرنا هيئتك. قال ابن الناطور: وكان هرقل حزاء ينظر في النجوم، فقال لهم حين سألوه: إني رأيت الليلة حين نظرت ملك الختان قد ظهر فمن يختتن من هذه الأمة؟ قالوا: ليس يختتن إلا اليهود فلا يهمنك شأنهم واكتب إلى مدائن ملكك فيقتلوا من فيهم من اليهود.
فبينا هم على أمرهم أتى هرقل برجل أرسل به ملك غسان يخبر عن خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما استخبره هرقل قال: اذهبوا فانظروا أمختتن هو أم لا؟ فنظر إليه فحدثوه أنه مختتن، وسأله عن العرب فقال: هم يختتنون. فقال هرقل: هذا ملك هذه الأمة قد ظهر. ثم كتب هرقل إلى صاحب له برومية وكان نظيره في العلم.
وسار هرقل إلى حمص فلم ير حمص حتى أتاه كتاب من صاحبه يوافق هرقل على خروج النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه نبي. فأذن هرقل لعظماء الروم في دسكرة بحمص، ثم أمر بأبوابها فغلقت، ثم اطلع فقال: يا معشر الروم هل لكم في الفلاح والرشد، وأن يثبت ملككم فتبايعوا هذا النبي فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب!!! فوجدوها قد غلقت فلما رأى هرقل نفرتهم وأيس من الإيمان قال: ردوهم علي. وقال إني قلت مقالتي آنفاً أختبر بها شدتكم على دينكم فقد رأيت. فسجدوا له ورضوا عنه فكان ذلك آخر شأن هرقل.
ومن دلالات هذا الحديث:
1) يقين هرقل بأن محمداً هو رسول الله الخاتم حقاً وصدقاً وأنه سيملك أرض بيت المقدس وقد وقع هذا تماماً كما توقعه هرقل حيث قال لأبي سفيان (لئن كان ما تقول حقاً فسيملك موضع قدمي هاتين).(21/13)
2) الذي منع هرقل من إعلان الإيمان ومتابعة النبي صلى الله عليه وسلم هو نفرة الروم وتعصبهم لدينهم الباطل وقد ضنَّ هرقل بملكه وخشى إن أظهر الإسلام أن يفقد سلطانه فبقي على كفره إلى أن مات عليه بعد أن طاردته خيل المسلمين بعد موقعة اليرموك.
3) أسلم ابن الناطور وكان قرين هرقل في العلم بدين النصرانية وكان حاضراً الأسئلة التي وجهها هرقل لأبي سفيان، وشهد ابن الناطور ظهور الإسلام ودخول المسلمين إلى بلاد الشام وهو الذي حدث بما كان من شأن قريش عندما جمعهم في حمص.
فشهادة هرقل بأن محمداً هو رسول الله حقاً وصدقاً إنما كانت شهادة عن يقين وبرهان وليس تقليداً وظناً وتخمنياً، ولكن الله سبحانه يهدي من يشاء ويضل من يشاء.
***********
*****(21/14)
مفصل دلائل النبوة (3)
المعجزات وخوارق العادات التي جرت على يد النبي صلى الله عليه وسلم
بقلم: عبدالرحمن بن عبدالخالق
ليس هناك من رسول أجرى الله على يديه من خوارق العادات وأيده بالمعجزات ما أجرى الله على يد محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم، وهذا تفصيل لبعض هذه المعجزات التي هي من قبيل خرق العادة، وإظهار الكرامة، وتمام النعمة، والشهادة للنبي صلى الله عليه وسلم بالفضل والنبوة.
وقبل هذا لا بد من مقدمة:
تعريف خرق العادة:
خرق العادة هو حدوث أمر ما على غير السنة الجارية، فإن الله سبحانه وتعالى جعل لكل شيء حدّاً ومقداراً وسنة متبعة، وربط كل شيء بأسبابه، وكل ما ظهر خلاف السنن الجارية يكون خارقاً للعادة، فالإنسان مثلاً مخلوق يمكنه السير على الأرض ولا يمكنه الطيران بغير جناحين أو آلة يطير بها في الهواء، فلو أن إنساناً استطاع أن يطير في الهواء بغير آلة وبغير جناحين لقلنا خرقت له العادة، وكذلك إذا استطاع أن يمشي على الماء لقلنا خرقت له العادة.
وخرق العادة له أحوال ودرجات أربعة هي:
(1) أن تجري العادة على وجه التحدي والإعجاز، ولا يكون هذا إلا لنبي وتسمى المعجزة، وآيات الرسل من هذا القبيل كما أيد الله بموسى بمجموعة من المعجزات، وكذلك عيسى، ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
(2) أن تخرق العادة لرجل صالح وهذه من باب الكرامة، وقد وقع هذا ولا يزال لصالحي أهل الإيمان في كل أمة ويبقى إلى قيام الساعة.
(3) خرق العادة لفاجر أو كافر ويكون هذا من باب ابتلاء الله عباده ليفرقوا بين أولياء الله وأولياء الشياطين كما وقع هذا لكثير من مدعى النبوة، فقد كان للأسود العنسي ومسيلمة الكذاب خوارق للعادات. وكما يقع من خوارق العادات على يد المسيح الكذاب فإنه يقول للسماء امطري فتمطر، وللأرض أخرجي كنوزك فتخرج كنوزها، ويقتل رجلاً بسيفه ثم يحييه، وكما يقع هذا لكثير من أولياء الشياطين.(22/1)
(4) خرق العادة الذي هو باب الشعبذة والتخييل والكذب وهذا يفعله السحرة، والكذابون، وهي أمور تعتمد على الحيلة، وسرعة الحركة، والتخييل، كما فعله سحرة فرعون حيث جاءوا بسحر عظيم. قال تعالى: {فسحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم}.
حتى إن موسى عليه السلام خشي أن تنطلي حيلتهم على الناس جميعاً، وتبطل آية الله مع ما جاءوا به من السحر. قال تعالى: {يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى فأوجس في نفسه خيفة موسى}، وهذا السحر والتخييل ليس من باب خرق العادة، ولكنه يظهر للناس أنه أمر خارق للعادة وليس كذلك، فإن السحر لا يغير حقائق الأشياء ولا طبائعها، وإنما يغير فقط نظر الناس إليها فيبصرون الأمر على غير حقيقته.
هذه هي خوارق العادة الأربعة: المعجزة للرسل، والكرامة للصالحين، وخرق العادة لبعض أولياء الشياطين من مدعي الإلهية والنبوة، والسحر والشعبذة والتخييل والكذب وهو ما يجري على أيدي السحرة والكذابين.
خوارق العادة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم كثيرة جداً:
وما أجراه الله على يد الرسول صلى الله عليه وسلم من خوارق العادة كثيرة جداً، وجميعه من بركات النبي صلى الله عليه وسلم، ودلائل نبوته وآيات صدقه، ومن أنواع الرحمات التي أنزلها الله على نبيه صلى الله عليه وسلم.(22/2)
فمن ذلك: تكثير الماء القليل ليكون ماءاً كثيراً، وتكثير الطعام القليل ليكفي جيشاً كاملاً ونزول المطر بدعائه في التو والحال، وارتفاعه بدعائه في التو والحال، وتسبيح الحصا في يده، وحنين الجذع إليه، ومجيء الشجرة إليه تخد الأرض خداً ورجوعها إلى مكانها بأمره، وتكثير المقدار القليل من الذهب ليصبح كثيراً، والمقدار القليل من التمر ليصبح كثيراً، ورده عن أبي قتادة عينه بعد أن سالت على خده، فأصبحت أفضل من السليمة، وصرعه صلى الله عليه وسلم ركانة بن الحارث ثلاث مرات، وكان لا يصرع قط، ولم يضجعه أحد قط، وتحول العرجون بأمره إلى سيف، ومن أعظم ذلك كله انتصاره بالعدد القليل من المؤمنين على العدد الكبير من الكافرين، فإن هذا من أعظم خوارق العادات ومن أجل الكرامات، وأوضح الدلالات والآيات أنه رسول الله المؤيد بنصره وتمكينه!!
تكثير الماء القليل ليصبح كثيراً:
وهذه الآية قد وقعت مراراً للنبي صلى الله عليه وسلم فكلما عطش المسلمون في سفر أو حضر كانوا يلجئون إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فيسقيهم الله ببركة من بركات هذا النبي وبآية من آيات الله، وقد جاء هذا بصور كثيرة، فتارة ينبع الماء من بين أصابع النبي صلى الله عليه وسلم، فيشرب القوم ويملئون قرابهم وهم عدد كبير، وتارة يبارك الرسول في مزادة فتنفجر بالماء إلى أن يسقي القوم، وتارة بضرب الرسول سهماً في بئر جافة فتفور بالماء، وتارة يبارك على عين جافة فيجري ماؤها...
وهذه بعض الروايات في هذا الصدد:
(1) الماء يتفجر من بين أصابع النبي صلى الله عليه وسلم:(22/3)
قال البخاري رحمه الله: حدثنا عبدالرحمن بن مبارك حدثنا حزم قال سمعت الحسن قال: حدثنا أنس بن مالك رضي الله عنه قال: [خرج النبي صلى الله عليه وسلم في بعض مخارجه ومعه ناس من أصحابه، فانطلقوا يسيرون، فحضرت الصلاة، فلم يجدوا ماءاً يتوضأون، فانطلق رجل من القوم فجاء بقدح من ماء يسير فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم فتوضأ ثم مد أصابعه الأربع على القدح ثم قال: [قوموا فتوضأوا]، فتوضأ القوم حتى بلغوا ما يريدون من الوضوء وكانوا سبعين أو نحوه. (6/581)
وقال البخاري رحمه الله: حدثنا أبي عدي عن سعيد عن قتادة عن أنس رضي الله عنه: أتى النبي صلى الله عليه وسلم بإناء وهو بالزوراء (وهو مكان في المدينة)، فوضع يده في الإناء، فجعل الماء ينبع من بين أصابعه، فتوضأ القوم قال قتادة: قلت لأنس: كم كنتم؟ قال: ثلاثمائة أو زهاء ثلاثمائة. (6/580)
(2) بركة النبي صلى الله عليه وسلم من بين مزادة امرأة مشركة:(22/4)
قال البخاري رحمه الله: حدثنا مسدد قال حدثني يحيى بن سعيد قال حدثنا عوف قال حدثنا أبو رجاء عن عمران قال: كنا في سفر مع النبي صلى الله عليه وسلم، وانا أسرينا حتى إذا كنا في آخر الليل وقعنا وقعة ولا وقعة أحلى عند المسافر منها، فما أيقظنا إلا حر الشمس، وكان أول من استيقظ فلان، ثم فلان، ثم فلان، يسميهم أبو رجاء، فنسي عوف، ثم عمر بن الخطاب الرابع، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نام لم يوقظ حتى يكون هو يستيقظ لأنا لا ندري ما يحدث له في نومه، فلما استيقظ عمر ورأى ما أصاب الناس وكان رجلاً جليداً، فكبر ورفع صوته بالتكبير فما زال يكبر ويرفع صوته بالتكبير حتى استيقظ بصوته النبي صلى الله عليه وسلم فلما استيقظ شكوا إليه الذي أصابهم، قال: [لا ضير، ارتحلوا]، فارتحل فسار غير بعيد، ثم نزل فدعا بالوضوء فتوضأ ونودي للصلاة فصلى بالناس فلما انفتل من صلاته إذا هو برجل معتزل لم يصل مع القوم قال: [ما منعك يا فلان أن تصلي مع القوم؟] قال أصابتني جنابة ولا ماء. قال: [عليك بالصعيد فإنه يكفيك].(22/5)
ثم سار النبي صلى الله عليه وسلم فاشتكى إليه الناس من العطش فنزل فدعا فلاناً كان يسميه أبو رجاء نسيه عوف، ودعا علياً فقال: [اذهبا فابتغيا الماء]، فانطلقا فتلقيا امرأة بين مزادتين أو سطيحتين من ماء على بعير لها. فقالا لها: أين الماء؟ قالت: عهدي بالماء أمس هذه الساعة ونفرنا خلوفاً، قالا لها: انطلقي إذا. قالت: إلى أين؟ قالا: إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالت: الذي يقال له الصابئ؟ قالا: هو الذي تعنين. فانطلقي، فجاءا بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم وحدثناه الحديث. قال فاستنزلوها عن بعيرها ودعا النبي صلى الله عليه وسلم بإناء ففرغ فيه من أفواه المزادتين أو السطيحتين وأوكأ أفواهما، واطلق العزالي ونودي في الناس اسقوا واستقوا فسقي من شاء واستقى من شاء، وكان آخر ذاك أن أعطى الذي أصابته الجنابة إناء من ماء قال: [اذهب فأفرغه عليك]، وهي قائمة تنظر إلى ما يفعل بمائها وأيم الله لقد أقلع عنها وإنه ليخيل إلينا أنها أشد ملاءة منها حين ابتدأ فيها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: [اجمعوا لها من بين عجوة ودقيقة وسويقة] حتى جمعوا لها طعاماً، فجعلوها في ثوب وحملوها على بعيرها ووضعوا الثوب بين يدها!!
قال لها صلى الله عليه وسلم: [تعلمين مارزئنا من مائك شيئاً ولكن الله هو الذي أسقانا]!! فأتت أهلها وقد احتبست عنهم قالوا: ما حبسك يا فلانة؟ قالت: العجب لقيني رجلان فذهبا بي إلى هذا الذي يقال له الصابئ، ففعل كذا وكذا فوالله إنه لأسحر الناس من بين هذه وهذه، وقالت باصبعيها الوسطى والسبابة فرفعتهما إلى السماء تعني السماء والأرض أو إنه لرسول الله حقاً!! فكان المسلمون بعد ذلك يغيرون على من حولها من المشركين، ولا يصيبون الصرم الذي هي منه، فقالت يوماً لقومها: ما أرى أن هؤلاء القوم يدعونكم عمداً، فهل لكم في الإسلام؟ فأطاعوا فدخلوا في الإسلام.
(4) الماء يتفجر من البئر بسهم من كنانة النبي صلى الله عليه وسلم:(22/6)
قال البخاري رحمه الله: حدثني عبدالله بن محمد، حدثنا عبدالرزاق أخبرنا معمر قال: أخبرني الزهري قال أخبرني عروة بن الزبير عن المسور بن مخرمة ومروان –يصدق كل واحد منهما حديث صاحبه- قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية، حتى إذا كانوا ببعض الطريق قال النبي صلى الله عليه وسلم: [إن خالد بن الوليد بالغميم في خيل لقريش طليعة، فخذوه ذات اليمين]، فوالله ما شعر بهم خالد، إذا هم بقترة الجيش فانطلق يركض نذيراً لقريش، وسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم منها بكرت به راحلته، فقال الناس: حل حل!! فألحت. فقالوا:خلأت القصواء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: [ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل]، ثم قال: [والذي نفسي بيده لا يسألونني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها] ثم زجرها فوثبت..(22/7)
قال: فعدل عنهم حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد قليل الماء يتبرضه الناس تبرضاً، فلم يلبث الناس حتى نزحوه، وشكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العطش، فانتزع سهماً من كنانته ثم أمرهم أن يجعلوه فيه، فوالله ما زال يجيش لهم بالري حتى صدروا عنه، فبينما هم كذلك إذ جاء بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من قومه من خزاعة -وكانوا عيبة نصح رسول الله من أهل تهامة- فقال: إني تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي نزلوا أعداد مياه الحديبية ومعهم العوذ المطافيل وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إنا لم نجئ لقتال أحد، ولكن جئنا معتمرين، وإن قريشاَ قد نهكتهم الحرب وأضرت بهم، فإن شاءوا ماددتهم مدة ويخلوا بيني وبين الناس، فإن أظهر فإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا، وإلا فقد جموا، وإن هم أبوا فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي، ولينفذن الله أمره]. فقال بديل: سأبلغهم ما تقول. قال: فانطلق حتى أتى قريشاً قال: إنا جئناكم من هذا الرجل وسمعناه يقول قولاً فإن شئتم أن نعرضه عليكم فعلنا، فقال سفهاؤهم: لا حاجة لنا أن تخبرونا عنه بشيء، وقال ذوو الرأي منهم: هات ما سمعته يقول. قال: سمعته يقول كذا وكذا فحدثهم بما قال النبي صلى الله عليه وسلم، فقام عروة بن مسعود فقال: أي قوم ألستم بالوالد؟ قالوا: بلى. قال أو لست بالولد؟ قالوا: بلى. قال: فهل تتهموني؟ قالوا: لا. قال: ألستم تعلمون أني استنفرت أهل عكاظ فلما بلحوا علي جئتكم بأهلي ومالي وولدي ومن أطاعني؟ قالوا: بلى. قال: فإن هذا قد عرض عليكم خطة رشد اقبلوها ودعوني آته. قالوا: أئته، فأتاه فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي نحو من قوله لبديل.(22/8)
فقال عروة عند ذلك: أي محمد أرأيت إن استأصلت أمر قومك هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك؟ وإن تكن الأخرى فإني والله لا أرى وجوهاً، وإني لأرى أوشاباً من الناس خليقاً أن يفروا ويدعوك، فقال له أبو بكر: أمصص بظر اللات، أنحن نفر عنه وندعه؟ فقال: من ذا؟ قالوا: أبو بكر. قال: زما والذي نفسي بيده لولا يد كانت لك عندي لم أجزك بها لأجبتك. قال: وجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم فكلما تكلم بكلمة أخذ بلحيته والمغيرة بن شعبة قائم على رأس النبي صلى الله عليه وسلم ومعه السيف وعليه المغفر، فكلما أهوى عروة بيده إلى لحية النبي صلى الله عليه وسلم، فرفع عروة رأسه فقال: من هذا؟ قال: المغيرة بن شعبة. فقال: أي غدر؟! ألست أسعى في غدرتك؟ وكان المغيرة صحب قوماً في الجاهلية وقتلهم وأخذ أموالهم، ثم جاء فأسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: [أما الإسلام فأقبل، وأما المال فلست منه في شيء]، ثم إن عروة جعل يرمق أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعينيه.(22/9)
قال: فوالله ما تنخم رسول الله نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده وما يحدون إليه النظر تعظيماً له، فرجع عروة إلى أصحابه فقال: أي قوم والله لقد وفدت على الملوك، ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله إن رأيت مليكاً قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم محمداً، والله إن يتنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم عنده وما يحدون إليه النظر تعظيماً له، وإنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها. فقال رجل من بني كنانة: دعوني آتيه، فقالوا: أئته، فلما أشرف على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قال صلى الله عليه وسلم: [هذا فلان وهو من قوم يعظمون البدن فابعثوها له]، فبعثت له واستقلبه الناس يلبون، فلما رأى ذلك قال: سبحان الله ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت، فلما رجع إلى أصحابه قال: رأيت البدن قد قلدت وأشعرت فما أرى أن يصدوا عن البيت، فقام رجل منهم يقال له مكرز بن حفص فقال: دعوني آته. فقالوا: أئته، فلما أشرف عليهم قال النبي صلى الله عليه وسلم: [هذا مكرز وهو رجل فاجر]، فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم فبينما هو يكلمه إذ جاء سهيل بن عمرو.(22/10)
قال معمر فأخبرني أيوب عن عكرمة أنه لما جاء سهيل بن عمرو قال النبي صلى الله عليه وسلم: [قد سهل لكم من أمركم]. قال معمر قال الزهري في حديثه: فجاء سهيل بن عمرو فقال: هات أكتب بيننا وبينكم كتاباً، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم الكاتب فقال النبي صلى الله عليه وسلم: [بسم الله الرحمن الرحيم]، فقال سهيل: أما الرحمن فوالله ما أدري ما هي، ولكن اكتب باسمك اللهم، كما كنت تكتب، فقال المسلمون: والله لا نكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: [اكتب باسمك اللهم]، ثم قال: [هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم]. فقال سهيل: والله لو نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت، ولا قاتلناك، ولكن اكتب محمد بن عبدالله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: [والله إني لرسول الله وإن كذبتموني اكتب محمد بن عبدالله]!!
قال الزهري: وذلك لقوله: لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: [على أن تخلوا بيننا وبين البيت فنطوف به]. فقال سهيل: والله لا تتحدث العرب على أنا أخذنا ضغطة، ولكن ذلك من العام المقبل، فكتب فقال سهيل: وعلى أنه لا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إلا رددته إلينا. قال المسلمون: سبحان الله كيف يرد إلى المشركين، وقد جاء مسلماً؟ فبينما هم كذلك، إذ دخل أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرفس قيوده وقد خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين، فقال سهيل: هذا يا محمد أول ما أقاضيك عليه أن ترده إلي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: [إنا لم نقض الكتاب بعد]. قال: فوالله إذاً لم أصالحك على شيء أبداً. قال النبي صلى الله عليه وسلم: [فأجزه لي]. قال: ما أنا بمجيزه لك.(22/11)
قال: [بلى فافعل]. قال: ما أنا بفاعل. قال مكرز: قد أجزناه لك. قال أبو جندل: أي معشر المسلمين أرد إلى المشركين وقد جئت مسلماً؟ ألا ترون ما قد لقيت؟ وكان قد عذب عذاباً شديداً في الله. قل: فقال عمر بن الخطاب: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: ألست نبي الله حقاً؟ قال: [بلى]. قلت: ألست على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: [بلى]. قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا إذاً؟ قال: [إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري]. قلت: أو لست كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت نطوف به؟ قال: [بلى، فأخبرتك أنا نأتيه هذا العام؟]، قال: قلت: لا. قال: [فأنك آتيه ومطوف به]. قال: فأتيت أبا بكر فقلت له: يا أبا بكر أليس هذا نبي الله حقاً؟ قال: بلى، قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى. قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا إذاً؟ قال: أيها الرجل إنه لرسول الله وليس يعصي ربه وهو ناصره، فاستمسك بغرزه فوالله إنه على الحق!! قلت: أليس كان يحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟ قال: بلى، أفأخبرك أنك تأتيه العام؟ قلت: لا. قال: فإنك آتيه ومطوف به.(22/12)
قال الزهري: قال عمر: فعلمت لذلك أعمالاً. قال: فلما فرغ من قضية الكتاب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: [قوموا فانحروا ثم احلقوا]. قال فوالله ما قام منهم رجل حتى قال ذلك ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد دخل على أم سلمة فذكر ما لقي من الناس، فقالت أم سلمة: يا نبي الله أتحب ذلك؟ فأخرج ثم لا تكلم أحداً منهم كلمة حتى تنحر بدنك وتدعو حالقك فليحلقك، فخرج فلم يكلم أحداً حتى فعل ذلك نحر ودعا حالقه فحلقه، فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضاً، حتى كاد بعضهم يقتل بعضاً غماً. ثم جاء نسوة مؤمنات فأنزل الله تعالى:{يا أيها الذين أمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنونهن} حتى بلغ{ولا تمسكوا بعصم الكوافر} فطلق عمر يومئذ امرأتين كانتا له في الشرك، فتزوج إحداهما معاوية بن أبي سفيان، والأخرى صفوان بن أمية، ثم رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فجاءه أبو بصير رجل من قريش، وهو مسلم، فأرسلوا في طلبه رجلين فقالوا: العهد الذي جعلت لنا. فدفعه إلى الرجلين فخرجا به حتى بلغا ذا الحليفة، فنزلوا يأكلون من تمر لهم. فقال أبو بصير لأحد الرجلين: والله إني لأرى سيفك هذا يا فلان جيداً، فاستله الآخر فقال: أجل والله إنه لجيد، لقد جربت به ثم جربت فقال أبو بصير: أرني انظر إليه، فأمكنه منه فضربه حتى برد!!(22/13)
وفر الآخر حتى أتى المدينة فدخل المسجد يعدو فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآه: [لقد رأى هذا ذعراً]، فلما انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قال: قتل والله صاحبي وإني لمقتول فجاء أبو بصير فقال: يا نبي الله قد والله أوفى الله ذمتك قد رددتني إليه ثم أنجاني الله منهم. قال النبي صلى الله عليه وسلم: [ويل أمه مسعر حرب لو كان له أحد]!! فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم فخرج حتى أتى سيف البحر. قال: وينفلت أبو جندل بن سهيل فلحق بأبي بصير، فجعل لا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلا لحق بأبي بصير حتى اجتمعت منهم عصابة، فوالله ما يسمعون بِعيرٍ خرجت لقريش إلى الشام إلا اعترضوا لها فقتلوهم، وأخذوا أموالهم، فأرسلت قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم تناشده -الله والرحم- لما أرسل فمن أتاه فهو آمن!! فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، فأنزل الله تعالى:{وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم} حتى بلغ {الحمية حمية الجاهلية} وكانت حميتهم أنهم لم يقروا أنه نبي الله، ولم يقروا ببسم الله الرحمن الرحيم، وحالوا بينهم وبين البيت.
قلت: وفي سياق هذا الحديث من دلائل النبوة عدا تفجر الماء أمور كثيرة جداً.
(5) الرسول صلى الله عليه وسلم يفجر عيناً في طريق تبوك:(22/14)
قال الإمام أحمد رحمه الله: ثنا يزيد بن هارون أنا حماد بن سلمة عن ثابت عن عبدالله بن رباح عن أبي قتادة قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فقال: [إنكم إن لا تدركوا الماء غداً تعطشوا]، وانطلق سرعان الناس يريدون الماء ولزمت رسول الله صلى الله عليه وسلم فمالت برسول الله راحلته، فنعس رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعمته فأدعم، ثم مال فدعمته فأدعم، ثم مال حتى كان أن ينجفل عن راحلته فدعمته فانتبه، فقال: [من الرجل؟] قلت: أبو قتادة. قال: [من كم كان مسيرك؟] قلت: منذ الليلة. قال: [حفظك الله كما حفظت رسوله] ، ثم قال: [لو عرسنا]، فمال إلى شجرة فنزل، فقال: [انظر هل ترى أحداً؟] قلت: هذا راكب، هذان راكبان حتى بلغ سبعة، فقال: [احفظوا علينا صلاتنا]، فنمنا فما أيقظنا إلا حر الشمس فانتبهنا، فركب رسول الله فسار وسرنا هنيهة ثم نزل، فقال: [أمعكم ماء؟] قال: قلت: نعم معي ميضأة فيها شيء من ماء. قال: [أئتني بها]، فأتيته بها، فقال: [مسوا منها، مسوا منها]، فتوضأ القوم وبقيت جرعة فقال: [ازدهر بها يا أبا قتادة فإنه سيكون لها نبأ]، ثم أذن بلال وصلوا الركعتين قبل الفجر، ثم صلوا الفجر، ثم ركب وركبنا فقال بعضهم لبعض فرطنا في صلاتنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ما تقولون؟ إن كان أمر دنياكم فشأنكم وإن كان أمر دينكم فإلي]. قلنا: يا رسول الله فرطنا في صلاتنا. فقال: [في النوم إنما التفريط في اليقظة، فإذا كان ذلك فصلوها من الغد وقتها]، ثم قال: [ظنوا بالقوم]. فقالوا: إنك قلت بالأمس: إلا تداركوا الماء غداً تعطشوا، فالناس بالماء. فقال: [أصبح الناس وقد فقدوا نبيهم]..(22/15)
فقال بعضهم لبعض: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن ليسبقكم إلى الماء ويخلفكم، وإن يطع الناس أبا بكر وعمر يرشدوا -قالها ثلاثاً- فلما اشتد الظهيرة رفع لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله هلكنا عطشا تقطعت الأعناق فقال: [لا هلك عليكم]. ثم قال: [يا أبا قتادة أئت بالميضأة]، فأتيت بها، فقال: [احلل لي غمري] يعني قدحه، فحللته فأتيت به فجعل يصب فيه ويسقي الناس فازدحم الناس عليه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [يا أيها الناس أحسنوا الملأ فكلكم سيصدر عن ري]، فشرب القوم حتى لم يبق غيري وغير رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصب لي فقال: [اشرب يا أبا قتادة]. قال: قلت: أنت يا رسول الله. قال: [إن ساقي القوم آخرهم]، فشربت وشرب بعدي، وبقي في الميضأة نحو مما كان فيها وهم يومئذ ثلاثمائة).
وقال مسلم رحمه الله: حدثنا عبدالله بن عبدالرحمن الزارمي حدثنا أبو علي الحمصي حدثنا مالك (وهو أبو أنس) عن أبي الزبير المكي أن أبا الطفيل عامر بن واثلة أخبره أن معاذ بن جبل أخبره قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام غزوة تبوك، فكان يجمع الصلاة، فصلى الظهر والعصر جميعاً، والمغرب والعشاء جميعاً، حتى إذا كان يوماً أخر الصلاة، ثم خرج فصلى الظهر والعصر جميعاً ثم دخل، ثم خرج بعد ذلك فصلى المغرب والعشاء جميعاً، ثم قال: [إنكم ستأتون غداً إن شاء الله عين تبوك، وإنكم لن تأتوها حتى يضحي النهار فمن جاءها منكم فلا يمس من مائها شيئاً حتى آتي] فجئناها وقد سبقنا إليها رجلان، والعين مثل الشراك تبض بشيء من ماء قال فسألهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: [هل مسستما من مائها شيئاً]. قالا: نعم، فسبهما النبي صلى الله عليه وسلم وقال لهما ما شاء الله أن يقول.(22/16)
قال: ثم غرفوا بأيديهم من العين قليلاً حتى اجتمع في شيء. قال: وغسل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه يديه ووجهه ثم أعاد فيها، فجرت العين بماء منهمر أو قال غزير -شك أبو علي أيهما قال- حتى استسقى الناس ثم قال: [يوشك يا معاذ إن طالت بك حياة أن ترى ما ههنا قد ملئ جناناً ]. (3/1784)
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أصبحت أرض تبوك اليوم جناناً وبساتين!!
************
*******(22/17)
مفصل دلائل النبوة (4)
من معجزاته صلى الله عليه وسلم بركته في تكثير الطعام القليل ليشبع العدد الكثير!!
بقلم: عبدالرحمن بن عبدالخالق
من آيات صدق النبي صلى الله عليه وسلم ودلائل نبوته، وعظيم بركاته، أنه صلى الله عليه وسلم كان يبارك على الطعام القليل فيصبح كثيراً جداً، حتى إن طعام رجل واحد كان يكفي سبعين رجلاً، وطعاماً لا يكفي إلا خمسة يطعم ألفاً ويشبعون، وهذا قد وقع ببركة النبي صلى الله عليه وسلم مراراً وتكراراً، وهذه الآية المبصرة دليل عظيم من أدلة النبوة، فإن هذه الآية تفارق السحر، ولا يتطرق إليها وهم أو ظنون. أما مفارقتها للسحر فإن الساحر لا يقلب الأعيان، ولا يغير الحقائق، ولا يجعل القليل كثيراً، ولا يعمل في النفع والخير، وليس لعمله بركة في الدنيا ولا في الآخرة، بل {يتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم}.
وأما جعل طعام قليل لا يكفي عشرة من الناس طعاماً كثيراً مباركاً هنيئاً مريئاً يكفي الجيش كله وهم ألوف، فإن هذا يستحيل أن يكون سحراً، لأن تكثير الطعام خرق للعادة وتبديل للأعيان، فحقيقة القلة غير حقيقة الكثرة، والإنسان الجائع لا يشبع من فراغ، فإذا شبع بطعام فلا بد وأن يكون ما أكله طعاماً حقيقياً حصل به الشبع، وهذا العمل في ذاته من أعمال الخير والبركة، وهو يفارق أعمال السحرة والكهنة فإنهم لا يعملون إلا في الشر والنقص والخبال والظلم.
وهذا سرد لبعض الوقائع في هذا الصدد:
(1) النبي صلى الله عليه وسلم يطعم المهاجرين والأنصار جميعاً يوم الخندق من عناق واحدة وصاع من شعير:(23/1)
قال البخاري رحمه الله: حدثنا خلاد بن يحيى، حدثنا عبدالواحد بن أيمن عن أبيه قال أتيت جابراً رضي الله عنه فقال: إنا يوم الخندق نحفر، فعرضت كدية شديدة (الكدية: الصخرة العظيمة) فجاءوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: هذه كدية عرضت في الخندق. فقال صلى الله عليه وسلم: [أنا نازل]، ثم قام وبطنه معصوب بحجر، ولبثنا ثلاثة أيام لا نذوق ذواقاً، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم المعول، فضرب في الكدية فعاد كثيباً أهيل أو أهيم، فقلت: يا رسول الله أئذن لي إلى البيت. فقلت لامرأتي: رأيت بالنبي صلى الله عليه وسلم شيئاً ما كان في ذلك صبر فعندك شيء؟ فقالت: عندي شعير وعناق، فذبحت العناق، وطحنت الشعير، حتى جعلنا اللحم بالبرمة (البرمة: قدر يكون أسفله أوسع من أعلاه)، ثم جئت النبي صلى الله عليه وسلم والعجين قد انكسر(أي اختمر) والبرمة بين الأثافي (الأحجار التي يحمل عليها القدر) قد كادت أن تنضج فقلت: طُعَيْمٌ لي فقم أنت يا رسول الله ورجلٌ أو رجلان. قال: [كم هو؟] فذكرت له. فقال صلى الله عليه وسلم: [كثير طيب. قل لها لا تنزع البرمة ولا الخبز من التنور حتى آتي]. فقال صلى الله عليه وسلم: [قوموا!!] فقام المهاجرون والأنصار، فلما دخل على امرأته قال: ويحك جاء النبي صلى الله عليه وسلم بالمهاجرين والأنصار ومن معهم!! قالت: هل سألك؟ قلت: نعم. فقالت: ادخلوا ولا تضاغطوا، فجعل يكسر الخبز، ويجعل عليه اللحم، ويخمر (أي يغطي) البرمة (أي يغطيها) والتنور إذا أخذ منه، ويقرب إلى أصحابه، ثم ينزع، فلم يزل يكسر الخبز ويغرف حتى شبعوا وبقي بقية. قال صلى الله عليه وسلم: [كلي هذا أو اهدي فإن الناس أصابتهم مجاعة] (أخرجه البخاري 7/395، ومسلم 3/1610)(23/2)
وفي رواية أخرى قال البخاري رحمه الله: حدثني عمرو بن علي، حدثنا أبو عاصم أخبرنا حنظلة بن أبي سفيان، أخبرنا سعيد بن ميناء قال: سمعت جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال: لما حفر الخندق، رأيت بالنبي صلى الله عليه وسلم خمصاً شديداً فانكفأت إلى امرأتي فقلت: هل عندك شيء، فإني رأيت برسول الله صلى الله عليه وسلم خمصاً شديداً، فأخرجت إليّ جراباً فيه صاع من شعير، ولنا بهيمة داجن فذبحتها، وطحنت الشعير، ففرغتْ إلي فراغي (يعني لما فرغ هو من الذبح وسلخ الشاة فرغت امرأته من طحن الشعير وعجنه) وقطعتها في برمتها، ثم وليت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالت: لا تفضحني برسول الله صلى الله عليه وسلم وبمن معه!! فجئته فساررته فقلت: يا رسول الله ذبحنا بهيمة لنا، وطحنا صاعاً من شعير كان عندنا فتعال أنت ونفرٌ معك. فصاح النبي صلى الله عليه وسلم: [يا أهل الخندق إن جابراً قد صنع لكم سوراً، فحَيَّ هلاً بكم]. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لا تُنْزِلُنَّ برمتكم، ولا تخبزن عجينكم، حتى أجيئ]. فجئت وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدم الناس حتى جئت امرأتي فقالت: بِكَ وبِكَ، فقلت: قد فعلت الذي قلت!!
فأخرجت له عجيناً فبصق فيه وبارك، ثم عمد إلى برمتنا فبصق وبارك، ثم قال: [ادع خابزةً فلتخبزْ معي، واقدحي من برمتكم ولا تنزلوها]، وهم ألف، فأقسم بالله لقد أكلوا حتى تركوه وانحرفوا، وإن برمتنا لتغط كما هي، وإن عجينتنا ليخبز كما هو!!(23/3)
قلت: هذا الحديث من دلائل نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، فإن إطعام ألف رجل حتى يشبعوا بعد أن أنهكهم الجوع، ومكثوا أياماً دون طعام، وهم محاصرون في الخندق في برد شديد، ويعملون في حفر الخندق ونقل التراب، تكسير الصخور.. إطعام هؤلاء جميعاً من عنز صغير (عناق)، مع صاع واحد من شعير -وهذا طعام لا يكفي في العادة إلا نحو خمسة رجال-. ثم إن هؤلاء الألف الذين أكلوا حتى شبعوا قد تركوا برمة اللحم كما هي، والعجين كما هو، لم ينقص منه شيء... فأي دليل على إثبات النبوة، وحدوث المعجزة أعظم من هذا؟ فهذا دليل حسي مرئي اطلع عليه هذا العدد العظيم من الناس، ولم يشاهدوا الآية فقط، بل أكلوا وشبعوا، فاشترك في إدراك هذه المعجزة كل الحواس، النظر، والسمع، واللمس، والذوق، والشم، وأدركوا كل ذلك بعقولهم وقلوبهم، وظهرت آثار بركة هذا في أعمالهم وأخلاقهم.
فمن لا يصدق بعد ذلك أن محمد بن عبدالله كان رسول الله حقاً وصدقاً وأنه كان مباركاً حيث كان صلى الله عليه وسلم!!
(2) النبي صلى الله عليه وسلم يطعم جيش المسلمين في تبوك من بقايا أزوادهم:(23/4)
قال الإمام أحمد رحمه الله: ثنا علي بن إسحاق، أنا عبدالله يعني ابن المبارك قال أنا الأوزاعي، قال: حدثني المطلب بن حنطب المخزومي قال: حدثني عبدالرحمن بن أبي عمرة الأنصاري حدثني أبي، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة، فأصاب الناس مخمصة، فاستأذن الناس رسول الله في نحر بعض ظهورهم (أي جمالهم التي يركبون عليها)، وقالوا: يبلغنا الله به، فلما رأى عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد هم أن يأذن لهم في نحر بعض ظهورهم، قال: يا رسول الله كيف بنا إذا نحن لقينا القوم غداً جياعاً أو رجالاً؟ ولكن إن رأيت يا رسول الله أن تدعو لنا ببقايا أزوادهم فنجمعها، ثم تدعو الله فيها البركة، فإن الله تبارك وتعالى سيبلغنا بدعوتك، أو قال سيبارك لنا في دعوتك. فدعا النبي صلى الله عليه وسلم ببقايا أزوادهم، فجعل الناس يجيئون بالحثية (الحثية ما يملأ الكف الواحدة) من الطعام وفوق ذلك، وكان أعلاهم من جاء بصاع من تمر، فجمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قام فدعا ما شاء الله أن يدعو، ثم دعا الجيش بأوعيتهم، فأمرهم أن يحتثوا فما بقى في الجيش وعاءً إلا ملأوه!!! فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى بدت نواجذه، فقال: [أشهد أن لا له إلا الله، وأني رسول الله، لا يلقي الله عبد مؤمن بهما إلا حجبت عنه النار يوم القيامة].(23/5)
وقال الإمام مسلم رحمه الله: حدثنا أبو بكر بن النضر، قال حدثني أبو النضر هاشم بن القاسم، حدثنا عبيد الله الأشجعي، عن مالك بن مغول، عن طلحة بن مصرف عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في مسير، قال: فنفذت أزواد القوم. قال: حتى هم ينحر بعض حمائلهم. قال: فقال عمر: يا رسول الله، لو جمعت ما بقي من أزواد القوم فدعوت الله عليها. قال: ففعل. قال: فجاء ذو البر (البر هو القمح) ببره، وذو التمر بتمره (وقال مجاهد وذو النوى بنواه). قلت: وما كانوا يصنعون بالنوى؟ قال: كانوا يمصونه ويشربون عليه الماء. قال: فدعا عليها حتى ملأ القوم أزودتهم. قال: فقال عند ذلك: [أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيهما إلا دخل الجنة]. (أخرجه مسلم 1/55)
(3) النبي صلى الله عليه وسلم يطعم ثمانين رجلاً من بضع أقراص من شعير:
قال البخاري رحمه الله: حدثنا عبدالله بن يوسف أخبرنا مالك عن إسحاق بن عبدالله بن أبي طلحة أنه سمع أنس بن مالك يقول: قال أبو طلحة لأم سليم: لقد سمعت صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضعيفاً أعرف فيه الجوع فهل عندك من شيء؟ قالت: نعم. فأخرجت أقراصاً من شعير، ثم أخرجت خماراً لها فلفت الخبز ببعضه ثم دسته تحت يدي ولاثتني (لاثتني: أي لفت بقية الثوب حول رأسي ورقبتي) ببعضه، ثم أرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فذهبت به فوجدت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد ومعه الناس فقمت عليهم، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أرسلك أبو طلحة؟] فقلت: نعم. قال: [بطعام؟] فقلت: نعم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن معه: [قوموا!!] فانطلق وانطلقت بين أيديهم حتى جئت أبا طلحة فأخبرته. فقال أبو طلحة: يا أم سليم قد جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس، وليس عندنا ما نطعمهم. فقالت الله ورسوله أعلم.(23/6)
فانطلق أبو طلحة حتى لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل رسول الله وأبو طلحة معه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [يا أم سليم ما عندك؟] فأتت بذلك الخبز، فأمر به رسول الله ففت وعصرت أم سليم عكة (قربة صغيرة يوضع فيها السمن) فأدمته، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه ما شاء أن يقول ثم قال: [ائذن لعشرة]، فأذن لهم فأكلوا حتى شبعوا، ثم خرجوا، ثم قال: [أئذن لعشرة]، فأذن لهم فأكلوا حتى شبعوا، ثم خرجوا، ثم قال: [أئذن لعشرة]، فأذن لهم فأكلوا حتى شبعوا ثم خرجوا، ثم قال: [أئذن لعشرة] فأكل القوم كلهم حتى شبعوا والقوم سبعون أو ثمانون رجلاً. (أخرجه مسلم 3/1612)
(4) النبي صلى الله عليه وسلم يبارك تمر جابر بن عبدالله الأنصاري حتى يوفي منه دينه!! ويبقى التمر كما هو كأن لم يؤخذ منه شيء!!:
قال البخاري رحمه الله: حدثنا عبدان أخبرنا جرير عن مغيرة عن الشعبي عن جابر رضي الله عنه قال: توفي عبدالله بن عمرو بن حرام وعليه دين، فاستعنت النبي على غرمائه أن يضعوا من دينه، فطلب صلى الله عليه وسلم فلم يفعلوا. فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: [اذهب فصنف تمرك أصنافاً، العجوة على حدة، وعذاق ابن زيد (نوع من التمر) على حدة، ثم أرسل إلي]، ففعلت، ثم أرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء، فجلس أعلى أعلاه أو في وسطه، ثم قال: [كِلْ للقوم!!] فكلتهم حتى أوفيت الذي لهم، وبقي تمري كأنه لم ينقص منه شيء!!(23/7)
وقال فراس عن الشعبي: حدثني جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم: فما زال يكيل لهم حتى أداه، وقال هشام بن كيسان عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه أنه أخبره أن أباه توفي، وترك عليه ثلاثين وسقاً (الوسق ثلاثمائة صاعا، والصاع نحو كيلوين فيكون الوسق ستمائة كيلو) لرجل من اليهود فاستنظره (أي طلب منه مهلة حتى يستطيع وفاء دينه) جابر، فأبى أن ينظره، فكلم جابر رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشفع له إليه، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلم اليهودي ليأخذ تمر نخلة (بالتي) له فأبى، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم النخل فمشى فيها، ثم قال لجابر: [جد له فأوف له الذي له]، فجده بعد ما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأوفاه ثلاثين وسقاً، وفضلت له سبعة عشر وسقاً، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخبر بالذي كان، فوجده يصلي العصر، فلما انصرف أخبر بالفضل. فقال: أخبر ذلك ابن الخطاب!! فذهب جابر إلى عمر فأخبره، فقال له عمر: لقد علمت حين مشى فيها رسول الله ليباركن فيها!!
(5) النبي صلى الله عليه وسلم يطعم مائة وثلاثين رجلاً من كبد شاة واحدة:(23/8)
قال البخاري رحمه الله: حدثنا أبو النعمان حدثنا المعتمر بن سليمان عن أبيه عن أبي عثمان عن عبدالرحمن بن أبي بكر رضي الله عنه قال: كنا مع النبي رضي الله عنه ثلاثين ومائة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هل مع أحد منكم طعام فإذا مع رجل صاع من طعام أو نحوه فعجن، ثم جاء رجل مشرك مشعان (ثائر الرأس) طويل بغنم يسوقها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: [بيعاً أم عطية؟] -أو قال أم هبة- قال: بل بيع، فاشترى منه شاة فصنعت، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بسواد البطن (الكبد) أن يشوى، وأيم الله ما في الثلاثين والمائة إلا وقد حزَّ النبي صلى الله عليه وسلم له حزة من سواد بطنها إن كان شاهداً أعطاه إياها، وإن كان غائباً خبأ له، فجعل منها قصعتين فأكلوا أجمعون وشبعنا، ففضلت القصعتان فحملناه على البعير أو كما قال.
(6) قصعة واحدة يأكل منها المسلمون من الصبح حتى المساء ولا تنقص:
قال الترمذي رحمه الله: حدثنا محمد بن بشار أخبرنا يزيد بن هارون أخبرنا سليمان عن أبي العلاء عن سمرة بن جندب قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم نتداول من قصعة من غدوة (الصباح) حتى الليل، تقوم عشرة وتقعد عشرة. قلنا: فما كانت تمد؟ قال: من أي شيء تعجب؟ ما كانت تمد إلا من ههنا وأشار بيده إلى السماء!!
(7) النبي صلى الله عليه وسلم يزود وفد خثعم من تمر عمر بن الخطاب ويبقى تمره كما هو:
قال الإمام أحمد رحمه الله: ثنا وكيع ثنا إسماعيل عن قيس عن دكين بن سعيد الخثعمي قال: أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن أربعون أو أربعمائة نسأله الطعام. فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر: [قم فأعطهم].
قال: يا رسول الله ما عندي إلا ما يقيظني والصبية. - قال وكيع: القيظ في كلام العرب أربعة أشهر-
قال: [قم فأعطهم].
قال عمر: يا رسول الله سمعاً وطاعة.(23/9)
قال: فقام عمر وقمنا معه فصعد بنا إلى غرفة له فأخرج المفتاح من حجزته ففتح الباب، قال دكين: فإذا بالغرفة شبيه الفصيل (الفصيل ابن الناقة الذي عمره عام وانفصل عن رضاع أمه) الرابض (أي من التمر).
قال: شأنكم، قال: فأخذ كل رجل منا حاجته ما شاء الله. قال: ثم التفت وإني لمن آخرهم وكأنا لم نرزأ (أي لم نصب ولم ننقص) منه تمرة. (أخرجه أحمد 4/174)
وفي رواية أخرى: ثنا بن عبيد إسماعيل عن قيس عن دكين بن سعيد المزني قال: أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعون راكباً أو أربعمائة نسأله طعاماً فقال لعمر: [اذهب فأعطهم]. فقال: يا رسول الله ما بقي إلا آصع من تمر ما أرى أن يقيظني (أي يكفيني القيظ وهو فترة الصيف) قال: [اذهب فأعطهم]. قال: سمعاً وطاعة. قال: فأخرج عمر المفتاح من حجزته ففتح الباب، فإذا شبه الفصيل الرابض من تمر. فقال: لتأخذوا فأخذ كل رجل منا ما أحب، ثم التفت وكنت من آخر القوم، وكأنا لم نرزأ تمرة.
(8) النبي صلى الله عليه وسلم يسقي أهل الصفة جميعاً وهم نحو سبعين رجلاً من قدح واحد من حليب:(23/10)
قال البخاري رحمه الله: حدثني أبو نعيم بنحو من نصف هذا الحديث حدثنا عمر بن ذر حدثنا مجاهد أن أبا هريرة يقول: ألله الذي لا إله إلا هو إن كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع، وإن كنت لأشد الحجر على بطني من الجوع، ولقد قعدت يوماً على طريقهم الذي يخرجون منه. فمر أبو بكر فسألته عن آية من كتاب الله ما سألته إلا ليشبعني فمر فلم يفعل. ثم مر بي عمر فسألته عن آية من كتاب الله ما سألته إلا ليشبعني فمر ولم يفعل، ثم مر أبو القاسم صلى الله عليه وسلم فتبسم حين رآني، وعرف ما في نفسي وما في وجهي، ثم قال: [أبا هريرة!!] قلت: لبيك يا رسول الله. قال: [الحق!!] ومضى فتبعته، فدخل، فاستأذن فأذن لي، فدخل، فوجد لبناً في قدح. فقال: [من أين هذا اللبن؟] قالوا: أهداه لك فلان أو فلانة. قال: [يا أبا هريرة!] قلت: لبيك يا رسول الله. قال: [الحق إلى أهل الصفة فادعهم لي]!!، قال: وأهل الصفة أضياف الإسلام لا يأوون على أهل ولا مال ولا على أحد إذا أتته (صدقة) أرسل إليهم، وأصاب منها وأشركهم فيها، فساءني ذلك، فقلت: وما هذا اللبن في أهل الصفة؟ كنت أحق أن أصيب من هذا اللبن شربة أتقوى بها. فإذا جاء وأمرني فكنت أعطيهم، وما عسى أن يبلغني من هذا اللبن.
ولم يكن من طاعة الله وطاعة رسوله بد، فأتيتهم ودعوتهم، فأقبلوا فاستأذنوا لهم، وأخذوا مجالسهم من البيت.(23/11)
قال صلى الله عليه وسلم: يا أبا هريرة قلت: لبيك يا رسول الله. قال: [خذ فأعطيهم فأخذت القدح]، فجعلت أعطيه الرجل فيشرب حتى يروي، ثم يرد علي القدح، فأعطيه الرجل فيشرب حتى يروي ثم يرد القدح، حتى انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقد روى القوم كلهم فأخذ القدح ثم وضعه على يده، فنظر إلي فتبسم فقال: [يا أبا هريرة]. قلت: لبيك يا رسول الله. قال: [اقعد فاشرب]، فقعدت وشربت، فقال: [اشرب فشربت]، فما زال يقول: [اشرب] حتى قلت: لا والذي بعثك بالحق ما أجد له مسلكاً، قال: فأرني، فأعطيته القدح فحمد الله وسمى وشرب الفضلة. (أخرجه البخاري 11/281)
(9) النبي صلى الله عليه وسلم يفجر اللبن من ضرع شاة لا تحلب!!:
قال الحاكم رحمه الله: حدثنا أبو بكر بن إسحاق ثنا أبو الوليد ثنا عبيد الله بن إياد بن لقيط ثنا إياد بن لقيط عن قيس بن النعمان قال: لما انطلق النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر مستخفيين (أي في الهجرة من مكة) مراً (بعبد) يرعى غنماً، فاستسقياه من اللبن فقال: ما عندي شاة تحلب غير أن ههنا عناقاً حملت أول الشتاء، وقد أخرجت وما بقى لها لبن فقال : [ادع بها]، فدعا بها فاعتقلها النبي صلى الله عليه وسلم، ومسح ضرعها، ودعا حتى انزلت قال: وجاء أبو بكر رضي الله عنه بمحجن فحلب، فسقى أبا بكر، ثم حلب فسقى الراعي، ثم حلب فشرب!! فقال الراعي: بالله من أنت؟؟ فوالله ما رأيت مثلك قط؟ قال: [أو تراك تكتم علي حتى أخبرك؟] قال: نعم. قال: [فإني محمد رسول الله!!] فقال: أنت الذي تزعم قريش أنه صابئ؟ قال: [إنه ليقولون ذلك!!] قال: فأشهد أنك نبي، وأشهد أن ما جئت به حق إنه لا يفعل ما فعلت إلا نبي وأنا متبعك. قال: [إنك لا تستطيع ذلك اليوم. فإذا بلغك أني قد ظهرت فأتنا].
(10) عبدالله بن مسعود رضي الله عنه يرى المعجزة:(23/12)
قال الإمام أحمد رحمه الله: ثنا أبو بكر بن عياش حدثني عاصم عن زر عن ابن مسعود قال: كنت أرعى غنماً لعقبة بن أبي معيط فمر بي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر فقال: [يا غلام هل من لبن؟] قال: قلت: نعم، ولكني مؤتمن. قال: [فهل من شاة لم ينز عليها الفحل؟] فأتيته بشاة فمسح ضروعها، فنزل لبن فحلبه في إناء، فشرب وسقى أبا بكر ثم قال للضرع: [اقلص]، فقلص. قال: ثم أتيته بعد هذا فقلت: يا رسول الله علمني من هذا القول. قال: فمسح رأسي وقال: [يرحمك الله فإنك غليم مُعَلَّم].
ثم قال الإمام أحمد رحمه الله ثنا عفان ثنا حماد بن سلمة عن عاصم بإسناده، قال: فأتاه أبو بكر بصخرة منقورة فاحتلب فيها فشرب وشرب أبو بكر، وشربت. قال: ثم أتيت بعد ذلك قلت: علمني من هذا القرآن. قال: [إنك غلام معلم]. قال: فأخذت من فيه سبعين سورة (أي أن ابن مسعود بعد أن صحب النبي صلى الله عليه وسلم تعلم سبعين سورة من النبي صلى الله عليه وسلم بغير واسطة).
(11) تمرات لأبي هريرة يباركها الرسول فلا تفنى إلا بعد خمسين عاماً.
قال الإمام أحمد رحمه الله: حدثنا يونس حدثنا حماد يعني بن زيد عن المهاجر عن أبي العالية عن أبي هريرة قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم يوماً بتمرات، فقلت ادع الله لي فيهن بالبركة. قال: صفهن بين يديه. قال: ثم دعا فقال لي: اجعلهن في مزود (المزود جراب للتمر) وأدخل يدك ولا تنثره!! قال: فحملت (أي تصدقت وحملت معي في الغزو) منه كذا وكذا وسقا في سبيل الله، ونأكل ونطعم، وكان لا يفارق حقوي (الحقو: مربط الحزام من الإنسان)، فلما قتل عثمان رضي الله عنه، انقطع عن حقوي فسقط!!(23/13)
وقال الإمام أحمد رحمه الله: ثنا أبو عامر ثنا إسماعيل يعني بن مسلم عن أبي المتوكل عن أبي هريرة قال: أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً من تمر فجعلته في مكتل لنا، فعلقناه في سقف البيت، فلم نزل نأكل منه حتى كان آخره أصابه أهل الشام، حيث أغاروا على المدينة (أي في وقعة الحرة).
قلت: كانت وقعة الحرة عام (63هـ)، وإسلام أبي هريرة كان قبل وفاة النبي بثلاث سنوات فلو أن حادثة التمر الذي باركه الرسول لأبي هريرة في عام إسلامه فإنه يعني أنه مكث خمسين عاماً يأكل من هذا التمر المبارك وهو لا يفنى!!
************
******(23/14)
مفصل دلائل النبوة (5)
إخباره صلى الله عليه وسلم بغيوب كثيرة وقعت كما أخبر بها تماماً
إخباره صلى الله عليه وسلم بالفتوح التي تفتحها أمته
(1-2)
بقلم: عبدالرحمن بن عبدالخالق
مدخل:
ومن معجزاته صلى الله عليه وسلم ودلائل صدقه صلى الله عليه وسلم إخباره صلى الله عليه وسلم بغيوب كثيرة وقعت على النحو الذي أخبر به تماماً وهذه الغيوب التي أخبر بها صلى الله عليه وسلم تشمل الغيب الإضافي، والغيب الذي لا يعلمه إلا الله، ولا يطلع عليه إلا من ارتضى من رسول.
الغيب نوعان:
اعلم -رحمني الله وإياك- أن الغيب نوعان: غيب للبعض وشهادة للآخرين، فما يحدث في بيت جارك مثلاً هو غيب بالنسبة إليك ولكنه شهادة عندهم، فكل ما هو غائب عن سمعك وبصرك وحواسك فهو غيب بالنسبة إليك ولكنه شهادة عند غيرك ممن يراه أو يسمعه أو يحسه، فهذا هو الغيب الإضافي.
والقسم الثاني من الغيب هو ما استأثر الله بعلمه ولا يعلمه إلا هو أو من يطلعه الله عليه من رسول. قال تعالى: {عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً* إلا من ارتضى رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصداً* ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عدداً} (الجن:26-28).
وقال تعالى: {إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير} (لقمان:34).
وقال صلى الله عليه وسلم: [مفاتيح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله تعالى: لا يعلم أحد ما يكون في غد إلا الله تعالى، ولا يعلم أحد ما يكون في الأرحام إلا الله تعالى، ولا يعلم أحد متى تقوم الساعة إلا الله تعالى، ولا تدري نفس بأي أرض تموت إلا الله تعالى، ولا يدري أحد متى يجيء المطر إلا الله تعالى] (رواه البخاري).(24/1)
وقد أخبر صلى الله عليه وسلم بغيوب كثيرة من الغيب الإضافي كأن يحدث أمر في مكان بعيد فيخبر به فيكون على النحو الذي أخبر به تماماً، وكذلك حدث النبي بغيوب هائلة كثيرة مستقبلية مما أطلعه الله عليه، ولا يعلمه إلا الله، وذلك منذ مبعثه وإلى يوم القيامة فوقع ما وقع منها على النحو الذي حدث به تماماً... ولا تزال الأيام تأتي بما أخبر به مما لم يقع فيقع الأمر كما أخبر به تماماً صلوات الله وسلامه عليه.
وهذا بيان تفصيلي لطائفة من هذه الغيوب:
(1) إخباره صلى الله عليه وسلم بأن الدين الذي بعث به سيعلو على كل الأديان، وأنه سينصر، وأن أمته ستفتح العالم، وتفتح لها كنوز الأرض:
أ- النبي صلى الله عليه وسلم يخبر وهو في مكة في فئة مستضعفة أن دينه سيعم الجزيرة كلها:
فعن خباب بن الأرت قال: [شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يومئذ متوسد بردة في ظل الكعبة، فقلنا: ألا تستنصر لنا الله تبارك وتعالى، أو ألا تستنصر لنا؟ فقال: قد كان الرجل فيمن كان قبلكم يؤخذ فيحفر له في الأرض، فيجاء بالمنشار على رأسه فيجعل بنصفين فما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم وعصب فما يصده ذلك، والله ليتمن الله عز وجل هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله تعالى، والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون] (رواه أحمد).
وقد وقع هذا الأمر في حياته صلى الله عليه وسلم فدانت الجزيرة كلها بالإسلام، وأمن الناس فيها من أقصاها إلى أقصاها... وكان تصور هذا ضرب من الخيال، فقد كان القتل وقطع الطريق، والإغارة والنهب والسلب في كل ركن من أركانها إلا المسجد الحرام فقط.
إخباره صلى الله عليه وسلم بفتح جزيرة العرب ثم فارس ثم الروم، ووقوع الأمر كما حدث به تماماً:(24/2)
قال مسلم رحمه الله: حد ثنا قتيبة بن سعيد حدثنا جرير عن عبدالملك بن عمير عن جابر بن سمرة عن نافع بن عتبة قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة قال: فأتى النبي صلى الله عليه وسلم قوم من قبل المغرب عليهم ثياب الصرف فوافقوه عند أكمة فإنهم لقيام ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد قال: فقالت لي نفسي ائتهم فقم بينهم وبينه لا يغتالونه قال: ثم قلت لعله نجى معهم فأتيتهم فقمت بينهم وبينه فحفظت منه أربع كلمات أعدهن في يدي قال: [تغزون جزيرة العرب فيفتحها الله، ثم فارس فيفتحها الله ثم تغزون الروم فيفتحها الله، ثم تغزون الدجال فيفتحه الله]!!
قلت: ويبقى فتح الدجال، وسيقع الأمر فيه كما حدث صلى الله عليه وسلم تماماً، وسيكون ذلك آية أخرى لمن يشهدها في وقتها.
ب- النبي صلى الله عليه وسلم يخبر وهو في المدينة أن أمته ستفتح كنوز كسرى.(24/3)
روى الإمام البخاري رحمه الله بإسناده إلى عدي بن حاتم قال: بينا أنا عند الني صلى الله عليه وسلم إذا أتاه رجل فشكا إليه الفاقة، ثم أتاه آخر فشكا إليه قطع السبيل. فقال: [يا عدي، هل رأيت الحيرة؟] قلت: لم أرها، وقد أنبئت عنها. قال: [فإن طالت بك حياة لترين الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف أحداً إلا الله، قلت فيما بيني وبين نفسي فأين دعار (الدعار هو الخبث الشديد) طيء الذين قد سعروا البلاد؟ ولئن طالت بك حياة لتفتحن كنوز كسرى]. قلت: كسرى بن هرمز؟ قال: [كسرى بن هرمز. ولئن طالت بك حياة لترين الرجل يخرج ملء كفه من ذهب أو فضة يطلب من يقبله منه فلا يجد أحداً يقبله منه، وليلقين الله أحدكم يوم يلقاه وليس بينه وبينه ترجمان يترجم له، فيقولن ألم أبعث إليك رسولاً فيبلغك فيقول بلى فيقول: ألم أعطك مالاً وأفضل عليك؟ فيقول : بلى!! فينظر عن يمينه فلا يرى إلا جهنم، وينظر عن يساره فلا يرى إلا جهنم]. قال عدي: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: [اتقوا النار ولول بشق تمرة، فمن لم يجد شق تمرة فبكلمة طيبة]. قال عدي: فرأيت الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف إلا الله، وكنت فيمن افتتح كنوز كسرى بن هرمز، ولئن طالت بكم حياة لترون ما قال النبي أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: يخرج ملء كفه. (رواه البخاري).(24/4)
وقد روى هذا الحديث أبو نعيم بإسناده في دلائل النبوة أن الشعبي رحمه الله دخل على عدي بن حاتم الطائي فقال: إنه بلغني عنك حديث كنت أحب أن أسمعه منك، قال: نعم، بعث النبي صلى الله عليه وسلم وكنت من أشد الناس له كراهية، وكنت بأقصى أرض العرب من الروم، فكرهت مكاني أشد من كراهيتي لأمري الأول، فقلت لآتين هذا الرجل، فإن كان صادقاً لا يخفى علي أمره، وإن كان كاذباً لا يخفى علي، أو قال: لا يضرني، قال: فقدمت المدينة، فاستشرفني الناس فقالوا: عدي بن حاتم، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: [يا عدي أسلم تسلم]، قلت: إن لي ديناً، قال: [أنا أعلم بدينك منك]. قلت: ما يجعلك أعلم بديني مني؟!! قال: [أنا أعلم بدينك منك. ألست ترأس قومك؟] قلت: بلى. قال: [ألست تأخذ المرباع (ربع الغنيمة)]. قلت: بلى. قال: [فإن ذلك لا يحل لك]. قلت: أجل.
قال: فكان ذلك أذهب بعض ما في نفسي، قال: [أنه يمنعك من أن تسلم خصاصة فقر من ترى حولنا، وإنك ترى الناس علينا إلباً واحداً، أو قال يداً واحدة]، قلت: نعم، قال: [هل أتيت الحيرة؟] قلت: لا، وقد علمت مكانها، قال صلى الله عليه وسلم: [يوشك الظعينة أن تخرج من الحيرة حتى تطوف بالبيت بغير جوار!! ويوشك أن تفتح كنوز كسرى بن هرمز]، قال: قلت: كنوز كسرى بن هرمز!! قال: [كنوز كسرى بن هرمز!! ويوشك أن يخرج الرجل الصدقة من ماله فلا يجد من يقبلها منه].
قال عدي رضي الله عنه: فلقد رأيت الظعينة تخرج من الحيرة حتى تطوف بالبيت بغير جوار، وكنت في أول خيل أغارت على السواد، والله لتكونن الثالثة أنه لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي رواية أبي بكر بن خلاد ومحمد بن أحمد قال عدي فأنا سرت بالظعينة من الحيرة، قال: إلى البيت العتيق في غير جوار، يعني أنه حج بأهله، وكنت في أول خيل أغارت على المدائن، والله لتكونن الثالثة كما كانت هاتان أنه تحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إياي.
وفي رواية أخرى:(24/5)
قدم عدي بن حاتم الطائي الكوفة، فأتيته في أناس منا، من أهل الكوفة، قلنا: حدثنا بحديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنبوة ولا أعلم أحداً من العرب كان له أشد بغضاً مني، ولا أشد كراهية له مني، حتى لحقت بأرض الروم، فتنصرت فيهم، فلما بلغني ما يدعو إليه من الأخلاق الحسنة، وما اجتمع إليه من الناس ارتحلت حتى أتيته، فوقفت عليه وعنده صهيب وبلال وسلمان. فقال: [يا عدي بن حاتم أسلم تسلم]، فقلت : أخ أخ فأنخت، فجلست وألزقت ركبتي بركبته، فقلت: يا رسول الله ما الإسلام؟ قال: [تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، وتؤمن بالقدر خيره وشره، وحلوه ومره. يا عدي بن حاتم لا تقوم الساعة حتى تفتح خزائن كسرى وقيصر. يا عدي بن حاتم لا تقوم الساعة حتى تأتي الظعينة من الحيرة –ولم يكن يومئذ كوفة- حتى تطوف بالكعبة بغير خفير، لا تقوم الساعة حتى يحمل الرجل جراب المال فيطوف به فلا يجد أحد يقبله، فيضرب به الأرض فيقول: ليتك كنت تراباً (دلائل النبوة لأبي نعيم 2/693-696).
إخباره صلى الله عليه وسلم بفتح الحيرة وهبته الشيماء بنت نفيلة لخريم بن أوس:
قال أبو نعيم: حدثنا محمد بن معمر قال ثنا عبدالله بن محمد بن ناجية، قال: ثنا أبو السكين زكريا بن يحيى الطائي، قال حدثني عم أبي زخر بن حصن عن جده حميد بن منهب قال:(24/6)
قال جدي خريم بن أوس: هاجرت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقدمت عليه مُنْصَرَفَةُ من تبوك، فأسلمت فسمعته يقول: [هذه الحيرة البيضاء قد رفعت لي، وهذه الشيماء بنت نفيلة الأزدية على بغله شهباء معتجرة بخمار أسود] فقلت: يا رسول الله إن نحن دخلنا الحيرة فوجدناها كما تصف فهي لي؟ قال: [هي لك!!] قلت: ثم كانت الردة، فما ارتد أحد من طيء، فأقبلنا مع خالد بن الوليد نريد الحيرة، فلما دخلناها كان أول من تلقانا الشيماء بنت نفيلة، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلة شهباء معتجرة بخمار أسود فتعلقت بها فقلت: هذه وصفها لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعاني خالد بالبينة فأتيت بها، فكانت البينة محمد بن مسلمة ومحمد بن بشير الأنصاريان، فسلمها إليّ خالد، ونزل إليها أخوها عبدالمسيح بن نفيلة يريد الصلح، فقال: بعينها، فقلت: لا أنقصها والله من عشر مائة!! فأعطاني ألف درهم وسلمتها إليه، فقالوا لي: لو قلت مائة ألف لسلمها إليك، فقلت: ما كنت أحسب أن عدداً أكثر من عشر مائة!!
قلت: وهذا صحابي لا يعلم بعد الألف عدداً!! وهذا الحديث من أعلام نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه حدث عن أمر من الغيب لا يمكن تصوره بالظن ولا التخييل ولا التوقع فإن تصور انتصار العرب المسلمين على الفرس كان أبعد من الخيال!! ولقد حدث عنه النبي صلى الله عليه وسلم بصفته حقيقة واقعة!! ووقع الأمر كما حدث به تماماً.(24/7)
وقد روى هذا الحديث الإمام ابن حبان رحمه الله كما في الموارد: أخبرنا ابن أسلم حدثنا محمد بن يحيى بن أبي عمر العدني، حدثنا سفيان، عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم بن عدي بن حاتم قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [مثلت لي الحيرة كأنياب الكلاب وإنكم ستفتحونها]، فقام رجل فقال: [هب لي يا رسول الله ابنة نفيلة]، فقال: [هي لك فأعطوها إياه]، فجاء أبوها فقال: أتبيعنها فقال: نعم، قال: بكم؟ قال: احتكم ما شئت، قال: بألف درهم. قال: قد أخذتها فقيل: لو قلت ثلاثين ألفاً. قال: وقال: وهل عدد أكثر من ألف؟!
قال الحافظ الهيثمي: قلت هكذا وقع في هذه الرواية أن الذي اشتراها أبوها وإن المشهور أن الذي اشتراها عبدالمسيح أخوها والله أعلم.
إخباره صلى الله عليه وسلم بحسن إسلام الفرس بعد الفتح:
قال البخاري رحمه الله: حدثنا عبدالعزيز بن عبدالله قال حدثني سليمان بن بلال عن ثور عن أبي الغيث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم فأنزلت عليه سورة الجمعة {وآخرين منهم لما يلحقوا بهم} قال: قلت: من هم يا رسول الله؟ فلم يراجعه حتى سأل ثلاثاً، وفينا سلمان الفارسي وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على سلمان ثم قال: [لو كان الإيمان عند الثريا لناله رجال أو رجل من هؤلاء].
حدثنا عبدالله بن عبدالوهاب حدثنا عبدالعزيز أخبرني ثور عن أبي الغيث عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم : [لناله رجال من هؤلاء] (البخاري 8/641).
المسلمون يفتحون فارس موقنين بخبر الرسول صلى الله عليه وسلم:(24/8)
قال البخاري رحمه الله: حدثنا الفضل بن يعقوب حدثنا عبدالله بن جعفر الرقي حدثنا المعتمر بن سليمان حدثنا سعيد بن عبيد الله الثقفي حدثنا بكر بن عبدالمزني وزياد بن جبير عن جبير بن حية قال: بعث عمر الناس في أفناء الأنصار، يقاتلون المشركين، فأسلم الهرمزان فقال له عمر: إني مستشيرك في مغازي هذه، قال: نعم!! مَثَلُها ومثل من فيها من الناس من عدو المسلمين مثل طائر له رأس، وله جناحان وله رجلان، فإن كسر أحد الجناحين نهضت الرجلان بجناح والرأس، فإن كسر الجناح الآخر نهضت الرجلان والرأس، وإن شدخ الرأس ذهبت الرجلان والجناحان والرأس، فالرأس كسرى، والجناح قيصر، والجناح الآخر فارس، فمر المسلمين فلينفروا إلى كسرى.
وقال بكر بن زياد جميعاً عن جبير بن حية قال: فندبنا عمر واستعمل علينا النعمان بن مقرن حتى إذا كنا بأرض العدو، خرج علينا عامل كسرى في أربعين ألفاً، فقام ترجمان فقال: ليكلمني رجل منكم فقال المغيرة بن شعبة: سل عما شئت. قال: ما أنتم؟ قال: نحن أناس من العرب، كنا في شقاء شديد وبلاء شديد، نمص الجلد والنوى من الجوع، ونلبس الوبر والشعر، ونعبد الشجر والحجر، فبينا نحن كذلك إذ بعث رب السموات ورب الأرضين تعالى ذكره وجلت عظمته إلينا نبياً من أنفسنا نعرف أباه وأمه، فأمر نبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نقاتلكم حتى تعبدوا الله وحده أو تؤدوا الجزية، وأخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم عن رسالة ربنا أن من قتل منا صار إلى الجنة في نعيم لم ير مثلها قط، ومن بقي منا ملك رقابكم!!(24/9)
وروى الحاكم رحمه الله هذا الحديث قال: حدثنا علي بن جمشاد العدل، ثنا علي بن عبدالعزيز ثنا حجاج بن منهال ثنا حماد بن سلمة ثنا أبو عمران الجوني، عن علقمة بن عبدالله المزني عن معقل بن يسار أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه شاور الهرمزان في أصبهان وفارس وآذربيجان فقال يا أمير المؤمنين: أصبهان الرأس وفارس وآذربيجان الجناحان، فابدأ بأصبهان فدخل عمر بن الخطاب بالمسجد فإذا هو بالنعمان بن مقرن يصلي فانتظره حتى قضى صلاته فقال له: إني مستعملك. فقال: أما جابياً فلا!! وأما غازياً فنعم!! قال: فإنك غاز فسرحه وبعث إلى أهل الكوفة أن يمدوه ويلحقوا به وفيهم حذيفة بن اليمان، والمغيرة بن شعبة، والزبير بن العام، والأشعث بن قيس وعمرو بن معدي كرب، وعبدالله بن عمرو، فأتاهم النعمان وبينه وبينهم نهر، فبعث إليهم المغيرة بن شعبة رسولاً وملكهم ذو الحاجبين فاستشار أصحابه فقال: ما ترون أقعد لهم في هيئة الحرب أو في هيئة الملك وبهجته؟ فجلس في هيئة الملك وبهجته على سريرة، ووضع التاج على رأسه وحوله سماطين عليهم ثياب الديباج والقرط والأسورة، فجاء المغيرة بن شعبة فأخذ بضبعيه، وبيده الرمح والترس والناس حوله سماطين على بساط له، فجعل يطعنه برمحه فخرقه لكلي يتطيروا، فقال له ذو الحاجبين: إنكم يا معشر العرب أصابكم جوع شديد وجهد فخرجتم!! فإن شئتم مرناكم (من الميرة يعني الطعام) ورجعتم إلى بلادكم، فتكلم المغيرة فحمد الله وأثنى عليه وقال: إنا كنا معشر العرب نأكل الجيفة والميتة، وأنه قد وعدنا أن هاهنا سيفتح علينا، وقد وجدنا جميع ما وعدنا حقاً، وإني لأرى ها هنا بزة وهيئة ما أرى من معي بذاهبين حتى يأخذوه، فقال المغيرة: فقالت لي نفسي لو جمعت جراميزك فوثبت وثبة فجلست معه على السرير إذ وجدت غفلة فزجني وجعلوا يحثونه فقلت: أرأيتم إن كنت أنا استحمق فإن هذا لا يفعل بالرسل، وإنا لا نفعل هذا برسلكم إذا أتونا. فقال: إن شئتم قطعتم إلينا(24/10)
وإن شئنا قطعنا إليكم. فقلت: بلى نقطع إليكم، فقطعنا إليهم وصاففناهم فتسلسلوا كل سبعة في سلسلة، وخمسة في سلسلة حتى لا يفروا.
قال: فرامونا حتى أسرعوا فينا فقال المغيرة للنعمان: إن القوم قد أسرعوا فينا فاحمل، فقال: إنك ذو مناقب وقد شهدت مع رسول الله، ولكني أنا شهدت رسول صلى الله عليه وسلم إذا لم يقاتل أول النهار، أخر القتال حتى تزول الشمس وتهب الريح، وينزل النصر.
فقال النعمان: يا أيها الناس اهتز ثلاث هزات فأما الهزة الأولى فليقضي الرجل حاجته، وأما الثانية فلينظر الرجل في سلاحه وسيفه، وأما الثالثة فإني حامل فاحملوا فإن قتل أحد فلا يلوي أحد على أحد، وإن قتلت فلا تلووا علي، وإني داع الله بدعوة فعزمت على كل امرىء منكم لما أمن عليها، فقال: اللهم ارزق اليوم النعمان شهادة تنصر المسلمين، وافتح عليهم. فأمن القوم.. وهز لواءه ثلاث مرات، ثم حمل فكان أول صريع رضي الله عنه فذكرت وصيته فلم ألوي عليه، وأعلمت مكانه فكنا إذا قتلنا رجلاً منهم، شغل عنا أصحابه يجرونه ووقع ذو الحاجبين من بغلته الشهباء فانشق بطنه وفتح الله على المسلمين، وأتيت النعمان وبه رمق، فأتيته بماء فجعلت أصبه على وجهه أغسل التراب عن وجهه، فقال: من هذا، فقلت: معقل بن يسار، فقال: ما فعل الناس. فقلت: فتح الله عليهم. فقال: الحمد لله اكتبوا بذلك إلى عمر، وفاضت نفسه فاجتمع الناس إلى الأشعث بن قيس فقال: فأتينا أم ولده فقلنا: هل عهد إليك عهداً. قالت: لا إلا سفيط له فيه كتاب فقرأته فإذا فيه: إن قتل فلان ففلان، وإن قتل فلان ففلان (المستدرك 3/293).
قلت: فانظر كيف زحف المسلمون وهم قلة قليلة إلى الفرس وهم أضعاف أضعافهم ولكن المسلمين كانوا موقنين بالنصر لأن النبي صلى الله عليه وسلم وعدهم بذلك، والرسول لا يقول إلا حقاً.
إخباره صلى الله عليه وسلم بأنه إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده!!:(24/11)
قال البخاري رحمه الله: حدثنا أبو اليمان أخبرنا شعيب حدثنا أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله].
وقال البخاري رحمه الله: حدثنا إسحاق سمع جريراً عن عبد الملك عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله]
وأخرجه أيضاً من حديث سماك بن حرب عن جابر بن سمرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [لتفتحن عصابة من المسلمين -أو من المؤمنين- كنز آل كسرى الذي في الأبيض].
قلت: وقد وقع الأمر تماماً كما قال صلى الله عليه وسلم فإنه لم يأت بعد كسرى كسرى غيره، ولما هدمت دولة القياصرة فلم تقم لهم دولة بعد ذلك وإلى يومنا هذا.
فأي دليل أعظم من هذا الدليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم يحدث بالوحي الذي لا يعلمه إلا الله، فإنه لم يكن يتصور أحد أن دولة الأكاسرة التي استمرت نحو ألف عام أن يكون سقوطها وزوالها بأيدي المسلمين، وأن الأكاسرة لا يستطيعون، وإلى قيام الساعة أن يعيدوا ملكهم مرة ثانية!!
إخباره صلى الله عليه وسلم بفساد بعض أحوال المسلمين وقتالهم بعضهم بعضاً بعد فتح فارس والروم:
قال مسلم رحمه الله: حدثنا عمرو بن سواد العامري أخبرنا عبدالله بن وهب أخبرني عمرو بن العاص حدثه عن عبدالله بن عمرو بن العاص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: [إذا فتحت عليكم فارس والروم أي قوم أنتم؟] قال عبدالرحمن بن عوف: نقول كما أمرنا الله. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أو غير ذلك. تتنافسون ثم تتحاسدون ثم تتدابرون ثم تتباغضون أو نحو ذلك، ثم تنطلقون في مساكن المهاجرين فتجعلون بعضهم على رقاب بعض] (مسلم 4/2274).(24/12)
قلت: وللأسف فقد حدث ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم، وقتل المهاجرين والأنصار بعضهم بعضاً في الجمل وصفين!! فإنا لله وإنا إليه راجعون!!
ج- النبي صلى الله عليه وسلم يخبر بفتح القسطنطينية:
وقال صلى الله عليه وسلم: [لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات والعزى]. فقالت عائشة: يا رسول الله إن كنت لأظن حين أنزل الله {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون} أن ذلك تاماً، قال: [إنه سيكون من ذلك ما شاء الله] (رواه مسلم).
وقال صلى الله عليه وسلم: [إن الله زوى (أي جمع وضم) لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوى لي منها] (رواه مسلم).
وقال صلى الله عليه وسلم: [ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز، أو بذل ذليل عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل به الكفر]
وعن أبي قبيل قال: كنا عند عبدالله بن عمرو بن العاص، وسئل أي المدينتين تفتح أولاً القسطنطينية أو رومية؟ فدعا عبدالله بصندوق له خلق، قال: فأخرج منه كتاباً. قال: فقال عبدالله: بينما نحن حول رسول الله صلى الله عليه وسلم نكتب، إذ سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي المدينتين تفتح أولاً أقسطنطينية أو رومية؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [مدينة هرقل تفتح أولاً]. يعني قسطنطينية (رواه أحمد والدارمي وغيرهما وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة).
**********
*****(24/13)
مفصل دلائل النبوة (6)
إخباره صلى الله عليه وسلم بالفتوح التي تفتحها أمته
(2-2)
بقلم: عبدالرحمن بن عبدالخالق
(1) إخباره صلى الله عليه وسلم ببلوغ هذا الدين ما بلغ الليل والنهار:
لقد حدث النبي صلى الله عليه وسلم بغيوب كثيرة وكلها وقعت كما حدث تماماً. ومما حدث به صلى الله عليه وسلم ما يكون لأمته من الفتح والنصر والتمكين، وكذلك ما يكون فيها من الفتن، والمصائب والرزايا العظيمة. وفي المقال السابق بينا طرفاً مما حدث به النبي صلى الله عليه وسلم من الفتوح العظيمة التي تكون في أمته من بعده، وهذا سرد وبيان لطائفة أخرى من إخبار النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الصدد.
فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم صحابته الذين كانوا يعانون الظلم والاضطهاد، أن الدين الذي جاء به سيعلو كل دين، وأن الله سيبدل الخوف الذي يعيش فيه المسلمون بأمن سابغ تنعم فيه الجزيرة كلها قريباً حتى تسير الظعينة من بصرى الشام، أو من الحيرة في جنوب العراق إلى أن تطوف بالبيت، أو تذهب إلى أقصى الجزيرة في حضرموت بغير جوار، ولا تخاف إلا الله.. وهذا تصوير لمنتهى الأمن واستقرار الأمور وكونها بيد المسلمين الصالحين، وكان هذا عند من لا يصدق بموعود الله ضرباً من الخيال.(25/1)
وأخبر صلى الله عليه وسلم بالفتوح التي تقع في عهده فتحاً فتحاً، والفتوح الكبرى التي ستفتح بعده فتحاً فتحاً. فمن ذلك ما أخبرهم عن نصر بدر، وأن الله وعده إحدى الطائفتين: إما العير القافلة من الشام، وكان على رأسها أبو سفيان بن حرب، وأما قريش التي خرجت لتحمي تجارتها، وتحارب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد وقع النصر في بدر كما حدث به رسول الله صلى الله عليه وسلم بكل تفاصيله وجزئياته فقد حدثهم النبي في آخر الأمر وقبيل المعركة بقليل بنتائجها، وكيف أن فلاناً المشرك سيقتل هنا في هذا الموضع، وفلاناً يقتل هنا، وفلاناً سيقتل هنا، وقد وقع الأمر كما حدث به صلى الله عليه وسلم فإن أحداً من القتلى لم يجاوز مكانه الذي أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بجمع قتلى المشركين حيث ألقوا في قليب واحد، وقال لهم ومنادياً إياهم بأسمائهم: يا فلان، ويا فلان. هل رأيتم ما وعد ربكم حقاً، فإني قد رأيت ما وعدني ربي حقاً!! حتى إن أصحابه قالوا له يا رسول الله كيف تخاطب قوماً قد جيفوا!! فقال صلى الله عليه وسلم: [ما أنتم بأسمع لما أقول منهم]!!
وكانت بدر آية وبرهاناً على صدق النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه كثيرة:
1) منها إخباره بما كان فيها ثم وقوع الأمر كما أخبر به صلى الله عليه وسلم.
2) ومنها أن فئة قليلة لم تخرج لقتال وإنما لغنيمة باردة (لغير ذات الشوكة) فإذا بها تفاجأ بجيش يفوقها ثلاث مرات جاء ليقاتل مفاخراً بقوته، مستنداً إلى خبرته ورجاله الأشداء المتمرسين.(25/2)
ثم كانت النتيجة عكس ما يتوقعه المتوقعون وعلى خلاف العادة الجارية في أن الكثير يغلب القليل، والقوي يغلب الضعيف. فخرق الله العادة لأهل الإسلام وجعل الضعيف يغلب القوي، والقليل يهزم الكثير، وغير ذوي الخبرة في القتال من صبية الأنصار يقتلون الصناديد من المشركين، فقد قتل أبو جهل بأيدي ولدين صغيرين لا يتجاوز عمر الواحد منهم خمسة عشر عاماً، وهما معاذ ومعوذ أبناء عفراء!! وكذلك حدث الرسول صلى الله عليه وسلم بما يكون في أحد من الكسرة فقال: [رأيت في منامي فلاَّ بذباب سيفي (الفل: الكسر الصغير)، ورأيت بقراً يذبح]!! قالوا فما أولته يا رسول الله؟ قال: [يقتل رجل من أهل بيتي، ويقتل أناس من أصحابي]!!، فكان الأمر كما حدث به تماماً، فقتل حمزة بن عبدالمطلب شهيداً، وقتل سبعون من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وكانت أحد درساً بليغاً، ومحنة أعقبت خيراً كثيراً، ووقع الأمر كما حدث به النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي الخندق، وقد ضاق الحال، وظهر النفاق، وكُذِّبَ الرسول علناً جهاراً نهاراً فقال المنافقون: يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا، وقالوا: ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً ، وظن الجميع إلا خالص المؤمنين أن الإسلام انتهى وللأبد!! وأن صفحته قد طويت واستئصاله قد حان!! ولكن النبي صلى الله عليه وسلم في وسط هذا الجو المشحون بتكذيبه، والشك في موعود الله أخبرهم بما هو أكبر من هزيمة المشركين في هذه الواقعة.
أخبرهم بفتح كنوز كسرى وقيصر!! وقد ظن المنافقون والمشركون أن هذا هروباً إلى الأمام، ودغدغة للعواطف والأحلام... وكان الأمر يقيناً صادقاً، وحكماً فاصلاً، وردد المسلمون منذ ذلك الوقت وعبر العصور
(لا إله إلا الله وحده، صدق وعده،ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده).(25/3)
وأخبر النبي أصحابه بدخول مكة معتمرين فدخلوها في السنة السابعة، ووقع صلح الحديبية الذي ظنه المسلمون أنه أعظم هزيمة كلهم، وأعظم كسرة حسوا بها، فقد ظنوا أنهم قبلوا بالدنية وهي أن يتخلوا عمن هاجر إليهم من المسلمين ويردوه إلى الكفار، وهذا من الذل والدنية، والعرب لا ترض أن يسلم العربي جواره، ويفرط فيمن يستغيث به، ويلوذ إليه، ولكن النبي أخبرهم أن هذا الصلح هو أعظم فتح في الإسلام، وقد كان، فلم يكن فتح أكبر منه. قال تعالى: (إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً* ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيماً* وينصرك الله نصراً عزيزاً}.
وقال جل وعلا: {لقد صدق الله ورسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين لا تخافون، فعلم ما لم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحاً قريباً}. وكذلك أخبر النبي صلى الله عليه وسلم صحابته أنهم يفتحون خيبر، وأن غنيمتها تكون لمن خرج معه في غزوة الحديبية فقط، وقد وقع الأمر كما حدث به رسول الله صلى الله عليه وسلم تماماً. قال تعالى: {سيقول المخلفون من الأعراب إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتبعكم} الآية. والمغانم هنا فتح خيبر، وقد أخبر الله رسوله بذلك، قبل أن يتوجه إلى خيبر، وأخبره بما سيقوله المخلفون وبماذا يرد عليهم، ووقع الأمر كما حدث النبي صلى الله عليه وسلم تماماً.(25/4)
ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أصحابه بما تملك أمته من بعده فذكر فتح بلدان بأسمائها فارس والروم، ومصر، والقسطنطينية، وروما، ومشارق الأرض ومغاربها، ودخول الإسلام كل بيت في الأرض، وعلو الإسلام على الأديان كلها، وخضوع الجميع من أقصى الأرض إلى أقصاها لسلطانه. وقد وقع من هذا ما شاء الله أن يقع كما حدث به النبي صلى الله عليه وسلم، وأما ما لم يقع فهو بسبيل الوقوع على النحو الذي حدث به تماماً صلى الله عليه وسلم. وحدث النبي أمته كذلك أنه بعد الفتوح العظيمة، والنصر الكبير سيعود بهم القهقرى حتى ترجع الجاهلية الأولى إلى جزيرة العرب نفسها قلب الإسلام، فتعبد اللات والعزى من جديد، وتضطرب إليات نساء دوس حول ذي الخلصة.
قال صلى الله عليه وسلم: [لن تقوم الساعة حتى تضطرب إليات نساء دوس حول ذي الخلصة]. وكذلك يرفع القرآن، وتهدم الكعبة، ولا يبقى في الأرض من يقول: الله!! الله!! ولا شك أن كل ذلك كان على النحو الذي حدث به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذه بعض الروايات في الفتوح:
قال صلى الله عليه وسلم: [إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوى لي منها] (رواه مسلم). وقال أيضاً: [ليبلغن هذا الدين ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز به الإسلام، وذلاً يذل الله به الكفر] (انظر تخريجه الأحاديث الصحيحة للألباني رقم 3).
(2) عودة العرب إلى الجاهلية في آخر الزمان:(25/5)
وقال صلى الله عليه وسلم: [لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات والعزى]. فقالت عائشة: يا رسول الله إن كنت لأظن حين أنزل الله {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون} أن ذلك تاماً، قال: [إنه سيكون من ذلك ما شاء الله] (رواه مسلم ). قوله صلى الله عليه وسلم: [لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات والعزى] أي أنه لن ينقضي الزمان حتى يعود العرب مرة ثانية إلى عبادة اللات والعزى، ولكن ذلك في آخر الزمان كما قال صلى الله عليه وسلم: [لن تقوم الساعة حتى تضطرب إليات نساء دوس حول ذي الخلصة] (ودوس قبيلة عربية) (وذي الخلصة كان صنماً من أصنامهم في الجاهلية). ومعنى تضطرب إليات نساء دوس: أي وهم يطفن حول هذا الصنم.
وهذا إخبار منه بعودة الجاهلية إلى العرب في آخر الزمان، وعبادة ما كانوا يعبدون من الأصنام، ولكن هذه العودة لا تكون إلا بعد تمام الدين، ودخول الإسلام إلى كل مكان في الأرض، ودخوله كل بيت.
(3) إخباره بفتح القسطنطينية وروما:(25/6)
فمن الفتوح الكبرى التي حدث بها رسول الله وبشر بها أمته فتح عاصمتي النصرانية القسطنطينية: عاصمة الكنيسة الشرقية. وروما: عاصمة الكنيسة الغربية.. وقد وقع الفتح الأول بعد ست قرون من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم كما أخبر به تماماً، وسيقع الفتح الثاني بإذن الله ومشيئته التي لا ترد، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون. فعن أبي قبيل قال: كنا عند عبدالله بن عمرو بن العاص، وسئل أي المدينتين تفتح أولاً القسطنطينية أو رومية؟ فدعا عبدالله بصندوق له خلق، قال: فأخرج منه كتاباً. قال: فقال عبدالله: بينما نحن حول رسول الله صلى الله عليه وسلم نكتب، إذ سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي المدينتين تفتح أولاً أقسطنطينية أو رومية؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [مدينة هرقل تفتح أولاً]. يعني قسطنطينية (رواه أحمد والدارمي وغيرهما وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة).
فأي دليل أكبر من هذا من أدلة نبوة النبي محمد صلى الله عليه وسلم؟!
(4) إخباره صلى الله عليه وسلم بغزو أمته في البحر:(25/7)
وقد فصل النبي صلى الله عليه وسلم تسلسل الأحداث، فأخبر أن أمته ستغزو في البحر: قال البخاري رحمه الله: حدثنا عبدالله بن يوسف عن مالك عن إسحاق بن عبدالله بن أبي طلحة عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه سمعه يقول: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل على أم حرام بنت ملحان فتطعمه، وكانت أم حرام تحت عبادة بن الصامت، فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأطعمته وجعلت تفلي رأسه فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم استيقظ وهو يضحك قالت فقلت: وما يضحكك يا رسول الله!! قال: [ناس من أمتي عرضوا علي غزاة في سبيل الله يركبون ثبج البحر ملوكاً على الأسرة أو مثل الملوك على الأسرة -شك إسحاق-] قالت فقلت: يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم، فدعا لها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم وضع رأسه ثم استيقظ وهو يضحك، فقلت وما يضحكك يا رسول الله؟ قال: [ناس من أمتي عرضوا على غزاة في سبيل الله –كما قال في الأول] قالت: فقلت: يا رسول الله: ادع الله أن يجعلني منهم. قال: [أنت من الأولين]!! فركبت البحر في زمن معاوية بن أبي سفيان، فصرعت عن دابتها حين خرجت من البحر فهلكت (أخرجه مسلم 3/1518).
قلت: وقبر أم حرام بنت ملحان رضي الله عنها معروفاً بجزيرة قبرص إلى اليوم!!
قال البخاري رحمه الله: حد ثنا إسحاق بن يزيد الدمشقي حدثنا يحيى بن حمزة قال حدثني ثور بن يزيد عن خالد بن معدان أن عمير بن الأسود العنسي حدثه: أنه أتى عبادة بن الصامت وهو نازل في ساحة حمص وهو في بناء له ومعه أم حرام. قال عمير: فحدثتنا أم حرام أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: [أول جيش من أمتي يغزون البحر قد أوجبوا]. قالت أم حرام: قلت يا رسول الله أنا فيهم؟ قال: [أنت فيهم]، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: [أول جيش من أمتي يغزون مدينة قيصر مغفور لهم]. فقلت: أنا فيهم يا رسول الله؟ قال:[لا].
قلت: مدينة قيصر هي القسطنطينية.(25/8)
(5) إخباره صلى الله عليه وسلم بفتح مصر:
قال مسلم رحمه الله: حدثني أبو الطاهر أخبرنا ابن وهب أخبرني حرملة (ح) وحدثني هارون بن سعيد الأيلي حدثنا ابن وهب حدثني حرملة وهو ابن عمران التجيبي عن عبدالرحمن بن شماسة أرضاً يذكر فيها القيراط فاستوصوا بأهلها خيراً، فإن لهم ذمة ورحماً، فإذا رأيتم رجلين يقتتلان في موضع لبنة فاخرج منها. قال: فمر بربيعة وعبدالرحمن ابني شرحبيل بن حسنة يتنازعان في موضع لبنة فخرج منها. حدثني زهير بن حرب وعبيد الله بن سعيد قالا حدثنا وهب بن جرير حدثنا أبي سمعت حرملة المصري يحدث عن عبدالرحمن بن شماسة عن أبي بصرة عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إنكم ستفتحون مصر وهي أرض يسمى فيها القيراط فإذا فتحتموها فأحسنوا إلى أهلها، فإن لهم ذمة ورحماً، أو قال: ذمة وصهراً، فإذا رأيت رجلين يختصمان فيها في موضع لبنة فأخرج منها]. قال: فرأيت عبدالرحمن بن شرحبيل بن حسنة وأخاه ربيعة يختصمان في موضع لبنة فخرجت منها.
قال الإمام الطحاوي رحمه الله في مشكل الآثار: إسحاق بن إبراهيم بن يونس البغدادي قد حدثنا قال حدثنا محمد بن الصباح قال حدثنا الوليد بن مسلم عن الأوزاعي عن الزهري عن عبدالرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [إن فتحتم مصراً فاستوصوا بالقبط فإن لهم ذمة ورحماً]. ثم قال الطحاوي رحمه الله: ووجدنا إسحاق أيضاً قد حدثنا قال حدثنا الوليد بن شجاع بن الوليد قال حدثني الوليد بن مسلم ثم ذكر بإسناده مثله. ووجدنا إسحاق قد أخبرنا قال حدثنا محمد بن مسلم بن وارة قال حدثني محمد بن موسى بن أعين قال ثنا أبي عن إسحاق بن راشد عن عبدالرحمن بن كعب عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو وزاد فيه: [إن أم إسماعيل منهم] (أي هاجر عليها السلام).(25/9)
الحديث أخرجه الحاكم فقال: أخبرنا أبو بكر بن إسحاق أنبأ الحسن بن علي بن زياد ثنا إبراهيم بن موسى ثنا هشام بن يوسف عن معمر عن الزهري عن ابن كعب بن مالك عن أبيه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إذا فتحتم مصر فاستوصوا بالقبط خيراً فإن لهم ذمة ورحماً]. قال الزهري: فالرحم أم إسماعيل منهم. قلت: وهي أم جميع العرب الذين تناسلوا من إسماعيل عليه السلام وهم العدنانيون والقحطانيون جميعاً، فالصحيح أن العدنانيين والقحطانيين كلهم من نسل إسماعيل لقوله صلى الله عليه وسلم للقحطانيين: [ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان رامياً] (رواه البخاري).
(6) إخباره صلى الله عليه وسلم بفتح خيبر على يدي علي رضي الله عنه ثم إخراج اليهود منها:(25/10)
قال البخاري رحمه الله: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا ابن إسماعيل عن يزيد بن أبي عبيد عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: كان علي رضي الله عنه تخلف عن رسول الله في خيبر، وكان به رمد. فقال: أنا أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم! فخرج علي فلحق بالنبي صلى الله عليه وسلم، فلما كان مساء الليلة التي فتحها في صباحها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لأعطين الراية، أو قال: ليأخذن غداً رجل يحبه الله ورسوله] أو قال: [يفتح الله عليه]، فإذا نحن بعلي وما نرجوه، فقالوا: هذا علي، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ففتح الله عليه (أخرجه مسلم 4/1872). قال مسلم رحمه الله: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا يعقوب يعني ابن عبدالرحمن القاري عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر: [لأعطين هذه الراية رجلاً يحب الله ورسوله يفتح الله على يديه]. قال عمر بن الخطاب: وما أحببت الإمارة إلا يومئذ، قال: فتساورت لها رجاء أن ادعى لها، قال: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب، فأعطاه إياها، وقال: [امش ولا تلتفت حتى يفتح الله عليك] قال: فسار علي شيئاً ثم وقف ولم يلتفت، فصرخ: يا رسول الله على ماذا أقاتل الناس؟ قال: [قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله].
(7) إخباره صلى الله عليه وسلم بإخراج اليهود من خيبر:(25/11)
قال البخاري رحمه الله: حدثنا أبو محمد حدثنا محمد بن يحيى أبو غسان الكناني أخبرنا مالك عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنه قال: لما فدعأهل خيبر عبدالله بن عمر قام عمر خطيباً فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عامل يهود خيبر على أموالهم وقال: نقركم ما أقركم الله، وإن عبدالله بن عمر خرج إلى ماله هناك فعدى عليه من الليل ففدعت يداه ورجلاه وليس لنا هناك عدو غيرهم، هم عدونا وتهمتنا، وقد رأيت إجلاءهم. فلما أجمع عمر على ذلك أتاه أحد بني أبي الحقيق فقال: يا أمير المؤمنين أتخرجنا وقد أقرنا محمد صلى الله عليه وسلم وعاملنا على الأموال وشرط ذلك لنا؟ فقال عمر: ظننت أني نسيت قول رسول الله: [كيف بك إذا أخرجت من خيبر تعدو بك قلوصك ليلة بعد ليلة؟] فقال: كان ذلك هزيلة من أبي القاسم. فقال: كذبت يا عدو الله، فأجلاهم عمر وأعطاهم قيمة ما كان لهم من الثمر مالاً وإبلاً وعروضاً من أقتاب وحبال وغير ذلك (رواه حماد بن سلمة عن عبدالله أحسبه عن نافع عن ابن عمر عن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم).
(8) إخباره صلى الله عليه وسلم بفتح الأمصار وخروج أصحابه تاركين المدينة إليها:(25/12)
قال البخاري رحمه الله: حدثنا عبدالله بن يوسف أخبرنا مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عبدالله بن الزبير عن سفيان بن أبي زهير رضي الله عنه أنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [تفتح اليمن فيأتي قوم يبسُّون، فيتحملون بأهلهم ومن أطاعهم، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، وتفتح العراق فيأتي قوم يبسُّون فيتحملون بأهلهم ومن أطاعهم والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون] (أخرجه مسلم ). قال الإمام مسلم رحمه الله: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا عبدالعزيز يعني الدراوردي عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [يأتي على الناس زمان يدعو الرجل ابن عمه وقريبه: هلم إلى الرخاء، هلم إلى الرخاء، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، والذي نفسي بيده لا يخرج منها أحد رغبة عنها إلا أخلف الله فيها خيراً منه، ألا إن المدينة كالكير تخرج الخبيث، لا تقوم الساعة حتى تنفى المدينة شرارها كما ينفي الكير خبث الحديد].
(9) إخباره صلى الله عليه وسلم بقتال اليهود آخر الزمان:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا اليهود حتى يقول الحجر وراءه اليهودي: يا مسلم هذا يهودي ورائي فاقتله] (متفق عليه). قلت وهذا من الفتوح التي أخبر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم تقع بعد، وسيكون الأمر كما حدث به صلى الله عليه وسلم تماماً، وسيكون هذا آية لمن يراها من المسلمين، وليقول كل جيل من أجيال المسلمين كلما رأوا آية نشهد أن لا إله إلا الله، ونشهد أن محمداً رسول الله!!
**********
*****(25/13)
بسم الله الرحمن الرحيم
مفصل دلائل النبوة (7)
إخبار النبي صلى الله عليه وسلم
بما يقع في أمته من الفتن منذ وفاته وإلى قيام الساعة
بقلم: عبدالرحمن بن عبدالخالق
من أعلام نبوة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ودلائل صدقه، وصدق ما جاء به، إخباره صلى الله عليه وسلم بما يقع بعده في أمته من الفتن الصغار والكبار وإلى قيام الساعة، ومجيء الأمر على ما حدث به.
والآن بيننا وبين وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ثمانية وأربعمائة وألف من السنين، وقد وقع فيها عدد كبير جداً من الفتن والأحداث العظام، وكلها وقعت على النحو الذي حدث به رسول الله صلى الله عليه وسلم تماماً.
وبقيت أحداث كثيرة، وفتن أخرى نسأل الله أن يعصمنا منها بفضله وإحسانه وكرمه، ولا شك أن كلها واقعة على النحو الذي حدث به رسول الله تماماً.
وسنعرض بحول الله في المقالات الآتية مجموعة كبيرة مما حدث به النبي صلى الله عليه وسلم مما وقع، ومما لم يقع ليكون هذا زيادة في إيمان المؤمن، ودليلاً للشاك المتحير، وحجة على المعاند وشفاءاً لمن في قلبه مرض ممن أراد الله شفاءه، وتبصيراً للمؤمن أن يقع في شيء مما حذر منه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخاصة ونحن في العصر الذي يقول فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: [بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمناً، ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع أحدهم دينه بعرض من الدنيا قليل] (رواه مسلم)
فنسأل الله أن يعصمنا وإخواننا المؤمنين من الفتن كلها، ما ظهر منها وما بطن، وما مضى منها، وما وقع، وما يأتي فإنه (لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم).
(1) النبي صلى الله عليه وسلم يحدث أصحابه من بعد صلاة الفجر إلى المغرب فيحدثهم لكل فتنة منذ وقته وإلى قيام الساعة:(26/1)
روى الإمام مسلم في صحيحه بإسناده إلى عمرو بن أخطب: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر، وصعد المنبر، فخطبنا حتى حضرت الظهر، فنزل فصلى، ثم صعد المنبر، فخطبنا حتى حضرت العصر، ثم نزل فصلى، ثم صعد المنبر، فخطبنا حتى غربت الشمس، فأخبرنا بما كان وبما هو كائن، فأعلمنا أحفظنا. (رواه مسلم)
(2) إخباره صلى الله عليه وسلم بتوالي الفتن بعده والواجب على المسلم تجاهها:
قال مسلم رحمه الله: حدثنا زهير بن حرب وإسحاق بن إبراهيم قال إسحاق أخبرنا وقال زهير حدثنا جرير عن الأعمش عن زيد بن وهب عن عبدالرحمن بن عبد رب الكعبة قال: دخلت المسجد فإذا عبدالله بن عمرو بن العاص جالس في ظل الكعبة والناس مجتمعون عليه، فأتيته فجلست إليه فقال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فنزلنا منزلاً، فمنا من يصلح خباءه، ومنا من ينتضل، ومنا من هو في جشره إذ نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: الصلاة جامعة. فاجتمعنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: [إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقاً عليه أن يدل على خير ما يعلمه لهم وينذرهم شر ما يعلمه لهم، وإن أمتكم هذه جعل عافيتها في أولها، وسيصيب آخرها بلاء وأمور تنكرونها، وتجئ فتنة فيرقق بعضها بعضاً، وتجئ الفتن فيقول المؤمن: هذه مهلكتي ثم تنكشف، وتجئ الفتنة فيقول المؤمن: هذه هذه، فمن أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه، ومن بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعمه إن استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر]، فدنوت منه فقلت له: أنشدك الله أنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فأهوى إلى أذنيه وقلبه بيديه وقال: سمعته أذناي ووعاه قلبي. فقلت له: هذا ابن عمك معاوية يأمرنا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل ونقتل أنفسنا والله يقول: {يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم(26/2)
بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً}. قال: فسكت ساعة ثم قال: أطعه في طاعة الله وأعصه في معصية الله. (3/1472)
(3) الفتنة التي تموج كموج البحر: مقتل عمر بن الخطاب، والخروج على عثمان، ووقوع السيف في أمة الإسلام!!
أعظم الفتن شراً بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والفتنة الكبرى التي تموج كموج البحر، والتي لا ينتهي شرها إلى قيام الساعة هي: افتراق أمة الإسلام شيعاً وأحزاباً يقاتل بعضهم بعضاً، ويلعن بعضهم بعضاً، ويقتل بعضهم بعضاً بعد مقتل عثمان رضي الله عنه، ووقوع السيف بين المسلمين في حرب الجمل وصفين، وقد كانت بداية هذه الفتنة، وكسر الباب المغلق دونها هو قتل الفاروق عمر بن الخطاب الذي جعله سداً للفتن، فلما قتل انكسر السد، وفتح الباب على مصراعيه، فبدأ الخلاف صغيراً، ثم انتهى كبيراً بمقتل عثمان بن عفان رضي الله عنه، ثم انهارت الوحدة الجامعة والألفة المانعة، وانقسم معسكر الإسلام إلى معسكرين، وراح السيف الإسلامي يحطم السيف الإسلامي، وقد حدث النبي صلى الله عليه وسلم بكل ذلك، ووقع الأمر كما حدث به النبي صلى الله عليه وسلم.
(4) الفتنة التي تموج كموج البحر:
فقد روى الإمام مسلم رحمه الله في صحيحه قال: حدثنا عمرو بن حفص بن غياث حدثنا أبي حدثنا الأعمش حدثنا شقيق: سمعت حذيفة يقول: بينا نحن جلوس عند عمر إذ قال: أيكم يحفظ قول النبي صلى الله عليه وسلم في الفتنة؟ قال: فتنة الرجل في أهله وماله وولده وجاره يكفرها الصلاة والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. قال: ليس عن هذا أسألك؟ ولكن التي تموج كموج البحر؟ فقال: ليس عليك منها بأس يا أمير المؤمنين إن بينك وبينها باباً مغلقاً. قال عمر: أيكسر الباب أم يفتح؟ قال: لا. بل يكسر. قال عمر: إذاً لا يغلق أبداً!!. قلت: أجل.(26/3)
قلنا لحذيفة: أكان عمر يعلم الباب؟ قال: نعم كما يعلم أن دون غدٍ ليلة، وذلك أني حدثته حديثاً ليس بالأغاليط. فهبنا أن نسأله مَنِ الباب؟، فأمرنا مسروقاً فسأل فقال: من الباب؟ قال: عمر.
وفي هذا الحديث من الدلائل:
(1) إخبار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بأن الفتنة الكبرى التي تموج كموج البحر لا تقع في المسلمين إلا بعد مقتل عمر بن الخطاب، وقد كان.
(2) إخباره أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان باباً وسداً للفتنة، وقد كان الأمر كما حدث به تماماً صلى الله عليه وسلم، فإن خلافته كانت رشداً ونصحاً للأمة، وفيها تمت الفتوح الكبرى، وانتظم عقد أهل الإسلام جميعاً، ولم يحصل في خلافته خلاف بين المسلمين، وكانوا كأنهم على قلب رجل واحد.
(3) ومن أعلام نبوة النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث إخباره بأن عمر يكون خليفة للناس وتجتمع الأمة عليه، وتعصم الأمة به من الفتنة، وكل هذا كان إخباراً بغيب لم يقع، وقد وقع على النحو الذي حدث به تماماً صلوات الله وسلامه عليه.
(4) إخباره بأن عمر يقتل شهيداً وقد كان عمر يعلم ذلك تماماً، ويدعو أن تكون شهادته في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووقعت في محراب النبي صلى الله عليه وسلم، وكسر الباب الذي كان عاصماً من الفتنة.
(5) لم يكن جميع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يعلمون تفصيلات هذه الأمور، فإن منهم الحافظ، ومنهم غير الحافظ، ومنهم الفقيه الذي يعلم الفحوى والإشارة والمعنى المؤول، ومنهم من لم يدرك ذلك.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتحدث في الأمور المستقبلية غالباً بالرمز والإشارة كما هو الحال في الرؤيا، فإنها تحتاج إلى التعبير والتأويل، كما سمي هنا عمر باباً للفتنة، وأنه يكسر ولا يفتح، وكان معنى كونه باباً أن وجوده كان عاصماً ومانعاً من دخول الفتنة على المسلمين وكون الباب يكسر أي أنه يقتل.(26/4)
(5) إخباره صلى الله عليه وسلم بمقتل عثمان بن عفان رضي الله عنه مظلوماً شهيداً:
قال الإمام مسلم رحمه الله: حدثنا سعيد بن أبي مريم أخبرنا محمد بن جعفر عن شريك بن عبدالله بن سعيد بن المسيب عن أبي موسى الأشعري قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى حائط من حوائط المدينة لحاجته، وخرجت في إثره، فلما دخل الحائط جلست على بابه وقلت: لأكونن اليوم بواب النبي صلى الله عليه وسلم ولم يأمرني، فذهب النبي صلى الله عليه وسلم وقضى حاجته، وجلس على قف البئر فكشف عن ساقيه ودلاهما في البئر، فجاء أبو بكر يستأذن عليه ليدخل، فقلت: كما أنت حتى أستأذن لك!! فجئت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا نبي الله أبو بكر يستأذن عليك؟ قال: [ائذن له وبشره بالجنة فدخل]، فجاء عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم، فكشف عن ساقيه ودلاهما في البئر، فجاء عمر فقلت: كما أنت حتى أستأذن لك!! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: [ائذن له وبشره في الجنة]. فجاء عن يسار النبي صلى الله عليه وسلم فكشف عن ساقيه فدلاهما في البئر، فامتلأ القف فلم يكن فيه مجلس، ثم جاء عثمان فقلت كما أنت حتى استأذن لك!! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: [ائذن له وبشره بالجنة معها بلاء يصيبه]!! فدخل فلم يجد معهم مجلساً فتحول حتى جاء مقبلهم على شفة البئر، فكشف عن ساقيه ثم دلاهما في البئر، فجعلت أتمنى أخا لي وأدعو الله أن يأتي.
قال ابن المسيب: فتأولت ذلك قبورهم، اجتمعت ههنا وانفرد عثمان. وهذا الحديث رواه الإمام البخاري.
وقال الترمذي رحمه الله: حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري، أخبرنا شاذان الأسود بن عامر عن سنان بن هارون عن كليب بن وائل عن ابن عمر قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنة فقال: يقتل هذا فيها مظلوماً لعثمان بن عفان رضي الله عنه!!(26/5)
وقال الإمام أحمد رحمه الله: ثنا أبو المغيرة، قال ثنا الوليد بن سليمان، قال حدثني ربيعة بن يزيد عن عبدالله بن عامر عن النعمان بن بشير عن عائشة قالت: أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عثمان بن عفان، فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأينا رسول الله، أقبلت إحدانا على الأخرى، فكان من آخر كلام كَلَّمَه أن ضرب منكبه، وقال: [يا عثمان إن الله عز وجل عسى أن يلبسك قميصاً فإن أرادك المنافقون على خلعه فلا تخلعه حتى تلقاني!! يا عثمان أن الله عسى أن يلبسك قميصاً فإن أرادك المنافقون وعلى خلعه فلا تخلعه حتى تلقاني]!! (ثلاثاً)، فقلت لها: يا أم المؤمنين فأين كان هذا عنك؟ قالت: نسيته والله فما ذكرته!!
قال:فأخبرته معاوية بن أبي سفيان فلم يرض بالذي أخبرته حتى كتب إلى أم المؤمنين أن اكتبي إلي به فكتبت إليه به كتاباً.
وفي هذه الأحاديث من الفوائد ودلائل النبوة ما يلي:
1- بشارة النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر بالجنة دليل على صدق الصديق وأمانته وإيمانه، وأنه يبقى على الإسلام وفياً له كما كان في صحبة النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد وقع الأمر على هذا النحو فكان الصديق صديقاً، وقائماً بالأمر بعده كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم وبشر، وقد مات يوم مات والمسلمون جميعاً راضون عنه، شاكرون لصنيعه رضي الله عنه وأرضاه.
2- وكذلك كانت بشارة النبي صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه بالجنة دليلاً على صدقه وأمانته وإيمانه، وبقائه على الإسلام، وقد وقع الأمر كما بشر النبي صلى الله عليه وسلم.(26/6)
3- وبشارة النبي صلى الله عليه وسلم لعثمان رضي الله عنه بالجنة دليل على بقائه رضي الله عنه على الإسلام وإحسانه بعد النبي صلى الله عليه وسلم كما أحسن في حياته صلى الله عليه وسلم، وقد كان، فقد كان رضي الله عنه الخليفة الراشد الذي اجتمعت الكلمة عليه، وامتدت الفتوح في عهده حتى وقف المسلمون عند أسوار القسطنطينية، وتم فتح فارس بكاملها، ووصل الفتح غرباً إلى المحيط الأطلسي... ثم إنه وقعت له البلوى التي أخبره بها رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة: [إئذن له وبشره بالجنة على بلوى تصيبه]، وقد وقعت البلوى وهي خروج من خرج عليه ممن يريد نزع الخلافة منه. وقد قال له الرسول صلى الله عليه وسلم هذا بالإشارة لا بالتصريح كما جاء في الحديث: [يا عثمان إن الله عز وجل عسى أن يلبسك قميصاً فإن أرادك المنافقون على خلعه فلا تخلعه حتى تلقاني!! يا عثمان أن الله عسى أن يلبسك قميصاً فإن أرادك المنافقون وعلى خلعه فلا تخلعه حتى تلقاني]!! (ثلاثاً)
فكان القميص الخلافة، وكان المراد من نزع القميص عنه نزع الخلافة منه، ولذلك لم يجبهم عثمان رضي الله عنه إلى ما أرادوه تمسكاً بحديث النبي صلى الله عليه وسلم وإخباره، وقد قتل رضي الله عنه يوم قتل مظلوماً شهيداً تالياً للقرآن مقيماً للصلاة، قائماً بالدين.
وإخبار النبي صلى الله عليه وسلم عثمان بما يقع له من البلوى، ومحاولة انتزاع الخلافة منه ووقوع الأمر كما حدث صلى الله عليه وسلم من أعلام نبوة النبي صلى الله عليه وسلم فإن هذا من الغيب الذي لا يعلمه إلا الله، وقد اطلع عليه رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم.
(6) تحذيره صلى الله عليه وسلم من القتال في الفتنة، وتوجيهه أصحابه إلى الهرب منها ولو في رؤوس الجبال:(26/7)
فقد روى الإمام البخاري رضي الله عنه بإسناده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال، ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن]
وقال الإمام البخاري أيضاً:
حدثنا عبدالعزيز الأويسي حدثنا إبراهيم عن صالح بن كيسان عن ابن شهاب عن ابن المسيب وأبي سلمة بن عبدالرحمن أن أبا هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، ومن تشرف لها تستشرفه، ومن وجد ملجأ أو معاذاً فليعذ به] (6/612) وقد نفع الله بحديث النبي صلى الله عليه وسلم هذا طائفة عظيمة اعتزلوا القتال عندما وقع السيف بين المسلمين، وابتعدوا بأنفسهم عن القتال. منهم: سعد بن أبي وقاص، وعبدالله بن عمر رضي الله عنهما، ومحمد بن سلمة الأنصاري، وغيرهم.
(7) تحذيره صلى الله عليه وسلم زوجاته من الخروج في الفتنة، وإخباره أن واحدة تخرج وتنبح عليها كلاب الحوأب:
وقد وقع الأمر كما حدث به النبي صلى الله عليه وسلم، فقد خرجت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها مع طلحة بن عبدالله رضي الله عنه الزبير بن العوام رضي الله عنه تريد الإصلاح بين الناس ولما كانت بالطريق إلى العراق مرت على ماء يسمى ماء الحوأب، فنبحتها كلاب، فسألت: أي ماء هذا؟ فقالوا: ماء الحوأب!! فقالت: إني راجعة!! وتذكرت ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد روى الإمام أحمد قال: ثنا محمد بن جعفر قال ثنا شعبة عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم أن عائشة قالت: لما أتيت على الحوأب سمعت نباح الكلاب فقالت: ما أظنني إلا راجعة، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنا: [أيتكن تنبح عليها كلاب الحوأب].
فقال لها الزبير: ترجعين؟!! عسى الله عز وجل أن يصلح بك بين الناس. (6/97)(26/8)
فاستمرت رضي الله عنها في مسيرها بعد مقالة الزبير رضي الله عنه، ووقع ما وقع من حرب الجمل… وقد ندمت رضي الله عنها على حضورها هذه الحرب، وكانت فتنة كما قال عمار بن ياسر رضي الله عنه لمن احتج بخروجها: والله إنها لزوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة ولكن الله ابتلاكم بها أتطيعونه أم تطيعونها!!
(8) إخباره صلى الله عليه وسلم عمار بن ياسر رضي الله عنه بأن الفئة الباغية تقتله:
ومن دلائل صدق النبي صلى الله عليه وسلم إخباره عمار بن ياسر رضي الله عنه أنه يموت شهيداً، وأن الذين يقتلونه هم الفئة الباغية... وكان إخبار الرسول له في أول مقدم النبي إلى المدينة والمسلمون يبنون مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد كان كل رجل يحمل لبنة لبنة، وأما عمار فكانوا يحملونه لبنتين لبنتين، فقال: قتلوني يا رسول الله!! فكان النبي صلى الله عليه وسلم يمسح التراب عنه ويقول: [ويح عمار تقتله الفئة الباغية]!!
ولما حضر عمار موقعة صفين مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه كان أهل المعسكرين ينتظرونه ويترقبون من الذي سيقتل عمار بن ياسر ليعلموا أي الطائفتين على الحق، ومن هي الطائفة الباغية!!
فقد روى الإمام البخاري رحمه الله قال: حدثنا مسدد قال حدثنا عبدالعزيز بن مختار قال حدثنا خالد الحذاء عن عكرمة قال لي ابن عباس ولابنه علي انطلقا إلى أبي سعيد فاسمعا من حديثه، فانطلقا فإذا هو في حائط يصلحه، فأخذ رداءه فاحتبى ثم أنشأ يحدثنا حتى أتى على ذكر بناء المسجد فقال: كنا نحمل لبنة لبنة وعمار لبنتين لبنتين فرآه النبي صلى الله عليه وسلم فينفض التراب عنه ويقول: [ويح عمار تقتله الفئة الباغية، يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار]. قال: يقول عمار أعوذ بالله من الفتن. (رواه البخاري 1/51)(26/9)
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في فتح الباري: (فائدة): روى حديث تقتل عماراً الفئة الباغية جماعة من الصحابة منهم قتادة بن النعمان كما تقدم وأم سلمة عند مسلم، وأبو هريرة عند الترمذي، وعبدالله بن عمرو بن العاص عن النسائي، وعثمان بن عفان وحذيفة وأبو أيوب وأبو رافع، وخزيمة بن ثابت ومعاوية وعمرو بن العاص وأبو اليسر وعمار نفسه وكلها عند الطبراني وغيره، وغالب طرقها صحيحة أو حسنة وفيه عن جماعة آخرين يطول عدهم وفي هذا الحديث علم من أعلام النبوة وفضيلة ظاهرة لعلي ولعمار، ورد على النواصب الزاعمين أن علياً لم يكن مصيباً في حروبه.
قلت: مقتل عمار بن ياسر رضي الله عنه في سنة ست وثلاثين في موقعة صفين، فيكون إخبار النبي صلى الله عليه وسلم قد وقع قبل ست وأربعين سنة!! وقد وقع الأمر كما حدث به صلى الله عليه وسلم، وهذا من أعلام نبوة النبي صلى الله عليه وسلم.
(9) إخباره صلى الله عليه وسلم باجتماع أمة الإسلام بعد الفرقة بالصلح الذي قام به الحسن بن علي رضي الله عنهما، وحقن به وماء المسلمين وجمع به كلمتهم:(26/10)
فقد روى الإمام البخاري رحمه الله: حدثنا عبدالله بن محمد ثنا سفيان عن أبي موسى قال سمعت الحسن يقول: استقبل الحسن بن علي معاوية بكتائب أمثال الجبال فقال عمرو بن العاص: إني لأرى كتائب لا تولى حتى تقتل أقرانها، فقال له معاوية -وكان والله خير الرجلين- أي عمرو!! إن قتل هؤلاء هؤلاء وهؤلاء وهؤلاء من لي بأمور الناس، من لي بنسائهم؟ من لي بضيعتهم؟ فبعث إليه رجلين من قريش من بني عبد شمس -عبدالرحمن بن سمرة وعبدالله بن عامر بن كريز- فقال: اذهبا إلى هذا الرجل فأعرضا عليه وقولا له واطلبا إليه فأتياه فدخلا عليه فتكلما وقالا له وطلباً إليه، فقال لهما الحسن بن علي: إنا بنوا عبدالمطلب قد أصبنا من هذا المال، وأن هذه الأمة قد عاثت في دمائها. قالا: فإنه يعرض عليك كذا وكذا ويطلب إليك ويسألك قال: فمن لي بهذا؟ قالا: نحن لك به فصالحه. فما سألهما شيئاً إلا قالا على المنبر والحسن بن علي إلى جنبه وهو يقبل على الناس مرة وعليه أخرى ويقول: إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين. قال أبو عبدالله: قال لي علي بن المديني: إنما ثبت لنا سماع الحسن من أبي بكرة بهذا الحديث. (5/305)
قلت: وهذا الحديث من أعلام نبوة النبي صلى الله عليه وسلم وعلامات نبوة صدقه، فإن هذا الصلح قد وقع في سنة إحدى وأربعين من هجرته، وهذا الذي حدث به النبي غيب من لا يعلمه إلا الله، وقد اطلع نبيه عليه فحدث به، ووقع الأمر كما حدث به تماماً صلى الله عليه وسلم.
***********
*****(26/11)
بسم الله الرحمن الرحيم
مفصل دلائل النبوة (8)
إخباره صلى الله عليه وسلم بخلافه
الصديق والفاروق، وذي النورين، وأبي تراب علي بن أبي طالب
رضي الله عنهم جميعا
بقلم: عبدالرحمن بن عبدالخالق
حدث رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمور تفصيلية عقب وفاته، ووقع الأمر في كل ذلك كما حدث النبي صلى الله عليه وسلم، فمن ذلك خلافة الصديق أبي بكر رضي الله عنه، والفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وذي النورين عثمان بن عفان رضي الله عنه، وأبي تراب علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وإخباره عمر أنه يموت شهيداً فكان، وعثمان أنه يقتل مظلوماً فكان، وعلي بن أبي طالب أنه يضرب بالسيف على رأسه حتى؟ تختضب لحيته من دمه فكان، وأخبر أن زوجته زينب هي أول زوجته لحوقاً به فكان، وأن ابنته فاطمة أول من يلحق من أهل بيته فكان، وأخبر سعد بن أبي وقاص أنه يخلف بعد إصابة حتى يفتح الله على يديه وقد كان...
وكل هذا الذي حدث به رسول الله صلى الله عليه وسلم هو من الغيب المطلق الذي لا يعلمه إلا الله، ولا يطلع عليه إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند الله، ولو لم يكن من دليل على صدق النبي صلى الله عليه وسلم عن بهذا الغيب هذا الغيب، ومجيء الأمر كما حدث به صلى الله عليه وسلم لكفى بهذا دليلاً.
والآية إلى ما رواه علماء الحديث من تفصيلات هذه الأخبار:
عن عبدالله رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [رأيت الناس مجتمعين في صعيد فقام أبو بكر فنزع ذنوباً أو ذنوبين وفي بعض نزعه ضعف والله يغفر له، ثم أخذها عمر فاستحالت بيده غرباً. فلم أر عبقرياً في الناس يفري فرية، حتى ضرب الناس بعطن](27/1)
وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في مرضه: [مروا أبا بكر يصلي بالناس]. قالت عائشة: قلت إن أبا بكر إذا قام في مقامك لم يسمع الناس من البكاء فمر عمر فليصل. فقال: [مروا أبا بكر فليصل للناس]. قالت عائشة لحفصة: قولي له إن أبا بكر إذا قام مقامك لم يسمع الناس من البكاء، فمر عمر فليصل للناس، ففعلت حفصة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [مه إنكن صواحب يوسف، مروا أبا بكر فليصل للناس]. قالت حفصة لعائشة: ما كنت لأصيب منك خيراً. (رواه البخاري)
وعن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه قال: أتت امرأة النبي صلى الله عليه وسلم فأمرها أن ترجع إليه، قالت: أرأيت إن جئت ولم أجدك -كأنها تقول الموت- قال صلى الله عليه وسلم: [إن لم تجديني فأتي أبا بكر] (رواه البخاري)
وعن سمرة بن جندب: أن رجلاً قال: يا رسول الله إني رأيت كأن دلواً دلي من السماء فجاء أبو بكر فأخذ بعراقيها، فشرب شرباً ضعيفاً، ثم جاء عمر فأخذ بعراقيها فشرب حتى تضلع، ثم جاء عثمان فأخذ بعراقيها، فشرب حتى تضلع، ثم جاء علي فأخذ بعراقيها فانتشطت وانتضح عليه منها شيء] (رواه أبو داود)
وروى البخاري رحمه الله فقال: حدثنا محمد بن بشار حدثنا يحيى عن سعيد عن قتادة أن أنس بن مالك رضي الله عنه حدثهم: أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد أحداً وأبو بكر وعمر وعثمان، فرجف فقال: [اثبت أحد فإن عليك نبي وصديق وشهيدان].
وعن عائشة أم المؤمنين قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أسرعكن لحاقاً بي أطولكن يداً] قالت: فكن يتطاولن أيتهن أطول يداً.
قالت: فكانت أطولنا يداً زينب لأنها كانت تعمل بيدها وتصدق. (رواه مسلم)(27/2)
قال البخاري رحمه الله: حدثنا أبو نعيم حدثنا زكريا عن فراس عن عامر الشعبي عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها قالت: أقبلت فاطمة تمشي كأن مشيتها مشي النبي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: [مرحباً يا ابنتي]، ثم أجلسها عن يمينه أو عن شماله، ثم أسر إليها حديثاً فبكت، فقلت لها: لم تبكين؟ ثم أسر إليها حديثاً فضحكت، فقلت: ما رأيت كاليوم فرحاً أقرب من حزن، فسألتها عما قال فقالت: ما كنت لأفشي سر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قبض النبي صلى الله عليه وسلم فسألتها فقالت: أسر إلي أن جبريل كان يعارضني القرآن كل سنة مرة وأنه عارضني العام مرتين ولا أراه إلا حضر أجلي، وإنك أول أهل بيتي لحاقاً بي فبكيت فقال: [أما ترضين أن تكوني سيدة نساء أهل الجنة أو نساء المؤمنين؟] فضحكت لذلك. (متفق عليه)
وقال البخاري رحمه الله: حدثنا يحيى بن قزعة حدثنا إبراهيم بن سعد عن أبيه عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: دعا النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة بنته في شكواه التي قبض فيها: فسارها بشيء فبكت، ثم دعاها فسارها فضحكت قالت: فسألتها عن ذلك فقالت: سارني النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرني أنه يقبض في وجعه الذي توفي فيه فبكيت، ثم سارني فأخبرني أني أول أهل بيته اتبعه فضحكت.(27/3)
وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني عام حجة الوداع من وجع اشتد بي فقلت: إني قد بلغ بي من الوجع، وأنا ذو مال، ولا يرثني إلا ابنة، أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: [لا]. فقلت: بالشطر؟ فقال: [لا]. ثم قال: [الثلث والثلث كبير -أو كثير- إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس، وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجر بها، حتى ما تجعل في في امرأتك] فقلت: يا رسول الله، أخلف بعد أصحابي؟ قال: [إنك لن تخلف فتعمل عملاً صالحاً إلا ازددت به درجة ورفعة، ثم لعلك أن تخلف حتى ينتفع بك أقوام ويضر بك آخرون، اللهم امض لأصحابي هجرتهم، ولا تردهم على أعقابهم، لكن البائس سعد بن خولة]، يرثي له رسول الله أن مات بمكة. (رواه البخاري)
***********
*****(27/4)
بسم الله الرحمن الرحيم
مفصل دلائل النبوة (9)
حديث النبي صلى الله عليه وسلم عن الخوارج ومجيء الأمر
كما حدث به تماماً
بقلم: عبدالرحمن بن عبدالخالق
ومن أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم حديثه عن خروج طائفة من أمته على أمته بالتكفير والسيف، وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم هذه الطائفة التي لم تظهر إلا بعد وفاته صلى الله عليه وسلم وصفاً دقيقاً بحيث أن من رآهم، أو علم بأخبارهم عرفهم تماماً بوصف الرسول الدقيق لهم.
مجمل وصف الرسول للخوارج:
وكان من جملة تعريف النبي صلى الله عليه وسلم أمته بهذه الطائفة أن ذكر وقت خروجهم، وحقيقة دينهم، ونوع عقلهم وفهمهم. وصفة هيئاتهم، وجملة أفعالهم، ونهاية أمرهم في الدنيا والآخرة.
فكان مما قال عنهم صلى الله عليه وسلم: [أنه تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين، يحقر المسلم صلاته إلى صلاتهم وصيامه إلى صيامهم]، (أي أنهم مجتهدون في العبادة فائقون فيها بما يجعل المسلم من أصحاب النبي يحتقر عبادته إزاء ما يقومون هم به من عبادة)، [وأنهم يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم] (أي بلا فقه حتى لا تجاوز القراءة حناجرهم إلى القلب)، (وأنهم لشدة تنطعهم وتشددهم يخرجون من الجانب الآخر من الدين حيث يريدون أن يدخلوا الدين فيدخلوه بقوة واندفاع شديد يحملهم على الخروج من الجانب الآخر، وقد شبه الرسول اندفاعهم في الدين بانطلاق السهم السريع الذي يدخل الفريسة من جانب، ولكنه لشدة اندفاعه يخرج من الجانب الآخر، ولشدة اندفاعه لا يحمل معه من الفريسة شيئاً يدل على دخوله فيها!!) [يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية فينظر الرامي إلى سهمه إلى نصله إلى رصافه فيتمارى في الفوقة هل علق بها من الدم شيء]؟!!
وأنهم علامتهم التحليق، وأنهم لفرط جهلهم يقتلون أهل الإسلام، ويتركون حرب الكفار الأصليين، وأنهم يخرجون في كل القرون حتى يخرج آخرهم مع الدجال، وأنهم كلما خرجوا قطعوا!!(28/1)
وأخبر صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب أنه يقاتلهم، وأن يجد في القتلى رجلاً له لحم بارز تحت عضده كثدي المرأة، وأنه إذا قاتل أوائلهم، فإنه لا يقتل من جيشه عشرة، ولا ينجو منهم عشرة.
وقد وقعت هذه الأمور كلها كما حدث بها النبي صلى الله عليه وسلم تماماً وكأنه يراها رأي العين، وكل ما حدث به من شأنهم، وقع تماما كما حدث به صلى الله عليه وسلم فأي دليل على صدق النبي صلى الله عليه وسلم أعظم من هذا؟
أولاً: أوصاف الخوارج كما جاءت في السنة:
1- قال البخاري رحمه الله: حدثنا قتيبة حدثنا عبدالواحد عن عمارة بن القعقاع بن شبرمة حدثنا عبدالرحمن بن أبي نعيم قال: سمعت أبا سعيد الخدري يقول: بعث علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من اليمن بذهبية في أديم مقروظ لم تحصل من ترابها. قال: فقسمها بين أربعة نفر: بين عيينة بن بدر، وأقرع بن حابس، وزيد الخيل، والرابع إما علقمة وإما عامر بن الطفيل. فقال رجل من أصحابه: كنا نحن أحق بهذا من هؤلاء!! فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: [ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء، يأتيني خبر السماء صباحاً ومساءاً]. قال: فقام رجل غائر العينيين، مشرف الوجنتين، ناشز الجبهة، كث اللحية، محلوق الرأس، يشمر الإزار، فقال: يا رسول الله اتق الله! قال صلى الله عليه وسلم: [ويلك أو لست أحق أهل الأرض أن يتقي الله؟] قال: ثم ولى الرجل قال خالد بن الوليد: يا رسول الله ألا أضرب عنقه؟ قال: [لا لعله أن يكون يصلي]. فقال خالد: وكم من مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إني لم أومر أن أنقب قلوب الناس ولا أشق بطونهم] قال: ثم نظر إليه وهو مقف فقال: [إنه يخرج من ضئضئي هذا قوم يتلون كتاب الله رطباً لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية]، وأظنه قال: [لئن أدركتهم لأقتلهم قتل ثمود]. (متفق عليه)(28/2)
2- وقال البخاري رحمه الله: حدثنا أبو اليمان أخبرنا شعيب عن الزهري قال أخبرني أبو سلمة بن عبدالرحمن أن أبا سعيد الخدري رضي الله عنه قال: بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقسم قسماً إذ أتاه ذو الخويصرة -وهو رجل من بني تميم- فقال: يا رسول الله اعدل! فقال صلى الله عليه وسلم: [ومن عدل إذا لم أعدل؟ قد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل؟] فقال عمر: يا رسول الله إئذن لي فأضرب عنقه، فقال: [دعه، فإن له أصحاباً يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم، يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ينظر إلى نصله فلا يوجد فيه، ثم ينظر إلى رصافه فما يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى نضيه وهو قِدْحُهُ فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى قُذَذِهِ فلا يوجد فيه شيء، قد سبق الفرث والدم، آيتهم رجل أسود إحدى عضديه مثل ثدي المرأة أو مثل البضعة تدردر!! ويخرجون على حين فرقة من الناس]. قال أبو سعيد: فأشهد أني سمعت هذا الحديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأشهد أن علي بن أبي طالب قاتلهم وأنا معه، فأمر بذلك الرجل فأتى به حتى نظرت إليه على نعت النبي صلى الله عليه وسلم حين نعته.
3- وقال مسلم رحمه الله: وحدثني محمد بن المثني حدثني ابن أبي عدي عن سليمان عن أبي نضرة عن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر قوماً يكونون في أمته يخرجون في فرقة من الناس سيماهم التحالق (أي حلق رؤوسهم)، قال: [هم شر الخلق أو أشر الخلق، يقتلهم أولى الطائفتين إلى الحق]، قال: فضرب النبي صلى الله عليه وسلم لهم مثلاً أو قال قولا الرجل يرمي الرمية، أو قال الغرض فينظر في النصل فلا بصيرة، وينظر في الفرق فلا يرى بصيرة، قال أبو سعيد: وأنتم قتلتموهم يا أهل العراق!!(28/3)
4- وقال مسلم أيضاً: حدثنا شيبان بن فروخ حدثنا وهو ابن الفضل الحداني حدثنا ابن نضرة عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [تمرق مارقة عند فرقة من المسلمين يقتلها أولى الطائفتين بالحق].
5- وقال البخاري رحمه الله: حدثنا محمد بن كثير، أخبرنا سفيان، عن الأعمش عن خيثمة، عن سويد بن غفلة، قال: قال علي رضي الله عنه: إن حدثتكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلأن أخر من السماء أحب إلي من أن أكذب عليه، وإذا حدثتكم فيما بيني وبينكم فإن الحرب خدعة، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [يأتي في آخر الزمان قوم حدثاء الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون من خير قول البرية، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجراً لمن قتلهم يوم القيامة].
6- وقال ابن ماجة رحمه الله: حدثنا بكر بن خلف أبو البشر، ثنا عبدالرزاق، عن معمر، عن قتادة، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [يخرج قوم في آخر الزمان -أو في هذه الأمة- يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم أو حلوقهم سيماهم التحليق، إذا رأيتموهم أو إذا لقيتموهم فاقتلوهم].
7- قال البخاري رحمه الله: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا عبدالواحد حدثنا الشيباني حدثنا يسير بن عمر قال قلت لسهل بن حنيف: هل سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول في الخوارج شيئاً؟ قال: سمعته يقول وأهوى بيده قبل العراق: [يخرج منه قوم يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الإسلام مروق السهم من الرمية].(28/4)
8- قال الإمام مسلم رحمه الله: حدثنا محمد بن رمح بن المهاجر أخبرنا الليث عن يحيى بن سعيد عن أبي الزبير عن جابر بن عبدالله قال: أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجعرانة منصرفة من حنين وفي ثوب بلال فضة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقبض منها يعطي الناس فقال: يا محمد اعدل! قال: [ويلك!! ومن يعدل إذا لم أكن أعدل؟ لقد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل!] فقال عمر بن الخطاب: دعني يا رسول الله فأقتل هذا المنافق. فقال: [معاذ الله أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي!!] إن هذا وأصحابه يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون منه كما يمرق السهم من الرمية.
وقال الإمام أحمد رحمه الله: ثنا عبدالرزاق أنا معمر قال سمعت أبا غالب يقول لما أوتي برؤوس الأزارقة فنصبت على درج دمشق جاء أبو أمامة فلما رآهم دمعت عيناه فقال: كلاب النار!! (ثلاث مرات)، هؤلاء شر قتلى قتلوا تحت أديم السماء وخير قتلى قتلوا تحت أديم السماء الذين قتلهم هؤلاء. قال فقلت: ما شأنك دمعت عيناك؟ قال: رحمة لهم!! إنهم كانوا من أهل الإسلام. قال: قلنا: أبرأيك قلت هؤلاء كلاب النار؟! أو شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: إني لجريء!! بل سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مرة ولأثنتين ولا ثلاث. قال فعد مراراً.
ثانياً: وقوع الأمر كما حدث به صلى الله عليه وسلم:(28/5)
1- قال مسلم رحمه الله: حدثني أبو الطاهر، ويونس بن عبدالأعلى، قالا: أخبرنا عبدالله بن وهب أخبرني عمرو بن الحارث عن بكير بن الأشج عن بسر بن سعيد عن عبيد الله بن أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الحرورية لما خرجت وهو مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه قالوا: لا حكم إلا لله!! قال علي: كلمة حق أريد بها باطل، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصف ناساً إني لأعرف صفتهم في هؤلاء، يقولون الحق بألسنتهم لا يجوز هذا منهم وأشار إلى حلقه من أبغض خلق الله إليه منهم أسود إحدى يديه طي شاة أو حلمة ثدي، فلما قتلهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: انظروا. فنظروا فلم يجدوا شيئاً، فقال: ارجعوا فوالله ما كَذَبْتُ ولا كُذِّبْتُ (مرتين أو ثلاثاً)، ثم وجدوه في خربة فأتوا به حتى وضعوه بين يديه!!
قال عبيد الله: وأنا حاضر ذلك من أمرهم وقول علي فيهم.(28/6)
قال الإمام مسلم رحمه الله: حدثنا عبد بن حميد حدثنا عبدالرزاق بن همام حدثنا عبدالملك بن أبي سليمان حدثنا سلمة بن كهيل حدثني زيد بن وهب الجهني أنه كان في الجيش الذين كانوا مع علي رضي الله عنه الذين ساروا إلى الخوارج فقال علي رضي الله عنه: أيها الناس إنس سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يخرج قوم من أمتي يقرأن القرآن ليس قراءتكم وإلى قراءتهم بشيء!! ولا صلاتكم إلى صلاتهم بشيء، ولا صيامكم إلى صيامهم بشيء. يقرأون القرآن يحسبون أنه لهم وهم عليهم، لا تجاوز صلاتهم تراقيهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، لو يعلم الجيش الذين يصيبونهم ما قضى لهم على لسان نبيهم لا تكلوا عن العمل، وآية ذلك أن فيهم رجلاً له عضد وليس له ذراع على رأس عضدة مثل حلمة الثدي عليه شعرات بيض، فتذهبون إلى معاوية وأهل الشام وتتركون هؤلاء يخلفونكم في ذراريكم وأموالكم؟! والله إني لأرجو أن يكونوا هؤلاء القوم فإنهم قد سفكوا الدم الحرام، وأغاروا في سرح الناس فسيروا على اسم الله.
2- قال مسلم رحمه الله: حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي حدثنا ابن عليه وحماد بن زيد، وحدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا حماد بن زيد (ح) وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب واللفظ لهما قالا حدثنا إسماعيل بن علية، عن أيوب عن محمد عن عبيدة عن علي قال ذكر الخوارج فقال: فيهم رجل مخدج اليد، أو مؤدن اليد، أو مثدون اليد، لولا أن تبطروا لحدثتكم بما وعد الله الذين يقاتلونهم على لسان محمد صلى الله عليه وسلم قال: قلت آنت سمعته من محمد صلى الله عليه وسلم؟ قال: أي ورب الكعبة، أي ورب الكعبة، أي ورب الكعبة!!(28/7)
3- قال الإمام أحمد رحمه الله: ثنا إسحاق بن عيسى الطباع حدثني يحيى بن سليم عن عبدالرحمن بن عثمان بن خيثم عن عبيد الله بن عياض بن عمرو القاري قال: جاء عبدالله بن شداد فدخل على عائشة رضي الله عنها، ونحن عندها جلوس مرجعهم من العراق ليالي قتل علي رضي الله عنه فقالت له: يا عبدالله بن شداد!! هل أنت صادقي عما أسألك عنه تحدثني عن هؤلاء القوم الذين قتلهم علي رضي الله عنه؟ قال: ومالي لا أصْدُقُكِ؟! قالت: فحدثني عن قصتهم. قال: فإن علي رضي الله عنه لما كاتب معاوية وحكم الحكمان، خرج عليه ثمانية آلاف من قراء الناس فنزلوا بأرض يقال لها حروراء من جانب الكوفة، وإنهم عتبوا عليه فقالوا: انسلخت من قميص ألبسكه الله تعالى واسم سَمَّاك الله تعالى به، ثم انطلقت فحكمت في دين الله فلا حكم إلا لله تعالى، فلما بلغ علياً رضي الله عنه ما عتبوا عليه وفارقوه عليه، فأمر مؤذناً أن لا يدخل على أمير المؤمنين إلا رجل قد حمل القرآن، فلما أن امتلأت الدار من قراء الناس دعا بمصحفٍ إمامٍ عظيم فوضعه بين يديه فجعل يصكه بيده ويقول: أيها المصحف حدث الناس!! فناداه الناس فقالوا: يا أمير المؤمنين ما تسأل عنه؟! إنما خرجوا بيني وبينهم كتاب الله يقول الله تعالى في كتابه في امرأة ورجل {وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما}. فأمة محمد صلى الله عليه وسلم أعظم دماً وحرمة من امرأة ورجل، ونقموا علي أن كاتبت معاوية. كتب علي بن أبي طالب وقد جاءنا سهيل بن عمرو ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية حين صالح قومه قريشاً فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم: [بسم الله الرحمن الرحيم] فقال سهيل: لا تكتب بسم الله الرحمن الرحيم. فقال: كيف نكتب؟ فقال: اكتب باسمك اللهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [اكتب باسمك اللهم]، فكتب: هذا ما صالح محمد رسول الله فقال: لو أعلم أنك رسول(28/8)
الله لم أخالفك فكتب: هذا ما صالح محمد بن عبدالله قريشاً، يقول الله تعالى في كتابه {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر} فبعث إليهم علي عبدالله بن عباس رضي الله عنه، فخرجت معه حتى إذا توسطنا عسكرهم قام ابن الكواء يخطب الناس فقال: يا حملة القرآن هذا عبدالله بن عباس رضي الله عنه فمن لم يكن يعرفه فأنا أعرفه، من كتاب الله ما يعرف به هذا ممن نزل فيه، وفي قومه (بل قوم خصمون)، فردوه إلى صاحبه ولا تواضعوه كتاب الله!! فقام خطباؤهم فقالوا: والله لتواضعنه كتاب الله ثلاثة أيام فرجع منهم أربعة آلاف، كلهم تائب فيهم ابن الكواء حتى أدخلهم علي على الكوفة، فبعث علي رضي الله عنه إلى بقيتهم فقال: وقد كان من أمرنا وأمر الناس ما قد رأيتم فقفوا حيث شئتم حتى تجتمع أمة محمد صلى الله عليه وسلم بيننا وبينكم أن لا تسفكوا دماً حراماً أو تقطعوا سبيلاً أو تظلموا ذمة، فإنكم إن فعلتم نبذنا إليكم الحرب على سواء إن الله لا يحب الخائنين.
فقالت له عائشة رضي الله عنها: قد قتلهم؟!! فقال: والله ما بعث إليهم حتى قطعوا السبيل وسفكوا الدم، واستخلفوا أهل الذمة. فقالت: آلله؟! فقال: الله الذي لا إله إلا هو لقد كان!!
قالت: فما شيء بلغني عن أهل الذمة يتحدثون يقولون ذو الثدي، وذو الثدي!! قال: قد رأيته، وقمت مع علي عليه في القتلى فدعا الناس فقال: أتعرفون هذا فما أكثر من جاء يقول قد رأيته في مسجد بني فلان يصلي، ورأيته في مسجد بني فلان يصلي،، ولم يأتوا فيه بثبت يعرف إلا ذلك. قالت: فما قول علي رضي الله عنه حين قام عليه كما يزعم أهل العراق؟ قال: سمعته يقول: صدق الله ورسوله!! قالت: هل سمعت منه أنه قال غير ذلك؟ قال: اللهم لا. قالت: أجل صدق الله ورسوله. يرحم الله علياً رضي الله عنه أنه كان من كلامه لا يرى شيئاً يعجبه إلا قال: صدق الله ورسوله، فيذهب أهل العراق يكذبون عليه ويزيدون عليه في الحديث.(28/9)
4- قال عبدالله بن أحمد رحمه الله في السنة: حدثني أبي حدثنا هاشم بن القاسم حدثنا حشرج بن نباته العبسي حدثني سعيد بن جهمان قال: لقيت عبدالله بن أبي أوفى وهو محجوب البصر فسلمت عليه. فقال لي: من أنت؟ قال قلت: أنا سعيد بن جهمان. قال: فما فعل والداك؟ قال قلت: قتلته الأزارقة. قال: لعن الله الأزارقة حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم كلاب أهل النار. قال. قلت: الأزارقة وحدهم أم الخوارج كلها؟ قال: بل الخوارج كلها.
5- وقال عبدالله بن أحمد في كتاب السنة: حدثني أبي حدثنا يعقوب بن إبراهيم حدثنا أبي عن ابن اسحاق حدثني أبو عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر عن مقسم أبس القاسم مولى عبدالله بن الحارث بن نوفل قال: خرجت أنا وتليد بن كلاب الليثي حتى أتينا عبدالله بن عمرو بن العاص وهو يطوف بالبيت معلقاً نعله بيده، فسألته هل حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين كلمه التميمي يوم حنين؟ قال: نعم: أقبل رجل من بني تميم يقال له ذو الخويصرة فوقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يعظ الناس فقال: يا محمد قد رأيت ما صنعت في هذا اليوم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [وكيف رأيت؟] قال: لم أرك عَدْلَت؟! فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: [ويحك إذا يكن العدل عندي فعند من يكون؟] فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله ألا نقتله؟ قال:[لا دعوه!! فإنه سيكون له شيعة يتعقمون في الدين حتى يخرجوا منه كما يخرج السهم من الرمية، فينظر في النصل فلا يوجد شيء، ثم في القدح فلا يوجد شيء، ثم في الفوق فلا يوجد شيء، سبق الفرث والدم].
بقاء الخوارج إلى آخر الدنيا:
1- قال ابن ماجه رحمه الله: حدثنا هشام بن عمار ثنا يحيى بن حمزة ثنا الأوزاعي عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [ينشأ نشء يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم كلما خرج قرن قطع].(28/10)
قال ابن عمر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [كلما خرج قرن قطع أكثر من عشرين مرة حتى يخرج في عراضهم الدجال]!!
2- قال مسلم رحمه الله: حدثنا شيبان بن فروخ حدثنا سليمان بن المغية حدثنا حميد بن هلال عن عبدالله بن الصامت عن أبي ذر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إن بعد من أمتي أو سيكون بعدي من أمتي قوم يقرأون القرآن لا يجاوز حلاقيهم، يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرمية، ثم لا يعودون فيه، هم شر الخلق والخليقة] فقال ابن الصامت: فلقيت رافع بن عمر الغفاري أخا الحكم الغفاري قلت: ما حديث سمعته من أبي ذر كذا وكذا فذكرت له هذا الحديث فقال: وأنا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
3- قال الإمام أبو عبدالله محمد بن يزيز القزويني الشهير بابن ماجه: حدثنا أبو بكر ابن أبي شيبة وعبدالله بن عامر بن زرارة قالا ثنا أبو بكر بن عياش عن عاصم عن زر عن عبدالله بن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [يخرج في آخر الزمان قوم أحداث الأسنان سفهاء الأحلام، يقولون من خير قول الناس، يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، فمن لقيهم فليقتلهم فإن قتلهم أجر عند الله لمن قتلهم].
4- قال الإمام أحمد رحمه الله: ثنا بهز وعفان المعنى قالا ثنا حماد يعني بن سلمة قال عفان في حديثه حدثني سعيد بن جهمان قال: كنا مع عبدالله بن أبي أوفى نقاتل الخوارج وقد لحق غلام لابن أبي أوفى بالخوارج فناديناه: يا فيروز هذا ابن أبي أوفى. قال: نعم الرجل لو هاجر. قال ماذا يقول عدو الله! قال يقول: نعم الرجل لو هاجر!! فقال هجرة بعد هجرتي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! (يرددها ثلاثاً)، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [طوبى لمن قتلهم ثم قتلوه]
العبر والفوائد من هذه الأحاديث:(28/11)
1- لو لم يكن من دلائل نبوة النبي صلى الله عليه وسلم إلا هذه الأحاديث التي حدث بها في وصف طائفة الخوارج، ثم وقوع الأمر برمته على هذا النحو الذي أخبر به لكفى هذا دليلاً على النبوة، وها نحن نعيش الآن بعد ألف وأربعمائة سنة ونيف من السنين من لحوق النبي صلى الله عليه وسلم بربه، وآيات صدقه في ظهور هذه الطائفة على النحو الذي وصفها به، وانطباق الأوصاف التي وصفهم بها عليهم، وخروج طوائف منهم في العصور السابقة دليل عظيم على صدق النبي صلى الله عليه وسلم.
2- لا يخفى أنه قد يوصف بالخروج من لا يكون كذلك كما يوصف بالإيمان من لا يكون مؤمناً، وبالنفاق من لا يكون منافقاً، وبالكفر من لا يكون كافراً، وبالردة من لا يكون مرتداً، فلا يغتر بقول من ينزل أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم في غير منازلها...
فإنه قد اتهم بالخروج عبدالله بن الزبير رضي الله عنهما، والحسين بن علي رضي الله عنهما، وكثير من فضلاء التابعين كسعيد بن جبير، وعبدالرحمن بن الأشعث، وعبدالرحمن بن مهدي، وسعيد ابن المسيب، وكثيرون غيرهم، وهذا عدا شيخ الإسلام ابن تيمية، والشيخ محمد بن عبدالوهاب وغيرهم.
3- الصفات الأساس في وصف هذه الطائفة أنهم يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم، وأنهم يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان وأنهم يكفرون بالكبيرة، ويقولون بخلود الموجودين في النار.
وهذا ما عرفت به هذه الطائفة عبر العصور، وظهورها على هذا النحو إلى قيام الساعة من أدلة صدق النبي صلى الله عليه وسلم.
***********
******(28/12)
بسم الله الرحمن الرحيم
مفصل دلائل النبوة (10)
إخباره صلى الله عليه وسلم بالنار
التي تخرج من الحجاز تضيء لها أعناقالإبل ببصرى الشام ووقوع الأمر كما أخبر به في عام 645هـ
بقلم: عبدالرحمن بن عبدالخالق
ومن أعلام نبوة النبي صلى الله عليه وسلم وآيات صدقه إخباره بخروج نار من أرض الحجاز تضيء لها أعناق الإبل ببصرى، ووقوع الأمر كما أخبر صلى الله عليه وسلم وذلك في عام 645هـ من الهجرة.
فقد روى الإمام البخاري رحمه الله قال: حدثنا أبو اليمان أخبرنا شعيب عن الزهري عن سعيد بن المسيب، أخبرني أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز تضيء أعناق الإبل ببصرى].(29/1)
قال ابن حجر رحمه الله في فتح الباري: "قوله [حتى تخرج نار من أرض الحجاز] قال القرطبي في التذكرة: قد خرجت نار الحجاز بالمدينة، وكان بدؤها زلزلة عظيمة في ليلة الأربعاء بعد العتمة الثالث من جمادي الآخرة سنة أربع وخمسين وستمائة واستمرت إلى ضحى النهار يوم الجمعة فسكنت، وظهرت النار بقريظة بطرف الحرة ترى في صورة البلد العظيم عليها سور محيط عليه شراريف وأبراج ومآذن، وترى رجال يقودونها، لا تمر على جبل إلا دكته وإذابته، ويخرج من مجموع ذلك مثل النهر أحمر وأزرق له دوي كدوي الرعد يأخذ الصخور بين يديه وينتهي إلى محط الركب العراقي، واجتمع من ذلك ردم صار كالجبل العظيم، فانتهت النار إلى قرب المدينة ، ومع ذلك فكان يأتي المدينة نسيم بارد وشوهد لهذه النار غليان كغليان البحر، وقال لي بعض أصحابنا: رأيتها صاعدة في الهواء من نحو خمسة أيام، وسمعت أنها رؤيت من مكة ومن جبال بصرى، وقال النووي: تواتر العلم بخروج هذه النار عند جميع أهل الشام، وقال أبو شامة في ذيل الروضتين: وردت في أوائل شعبان سنة أربع وخمسين كتب من المدينة الشريفة فيها شرح أمر عظيم حدث بها فيه تصديق لما في الصحيحين، فذكر هذا الحديث، قال: فأخبرني بعض من أثق به ممن شاهدها أنه بلغه أنه كتب بتيماء على ضوئها الكتب، فذكر نحو ما تقدم.
ومن ذلك أن في بعض الكتب: أول جمعة من شهر جمادي الآخرة في شرقي المدينة، وسال منها واد مقداره أربع فراسخ وعرضه أربع أميال يجري على وجه الأرض ويخرج منه رماد وجبال صغار، وفي كتاب آخر: ظهر ضوؤها إلى أن رأوها من مكة، قال: ولا أقدر أصف عظمها، ولها دوي. قال أبو شامة: ونظم الناس في هذا أشعاراً، ودام أمرها أشهراً، ثم خمدت" انتهي.(29/2)
وقد وصف الإمام ابن كثير رحمه الله في كتابه البداية والنهاية خير هذه النار ثقلاً عن أبي شامة المقدسي فقال في أحداث سنة أربع وخمسين وستمائة: "فيها كان ظهور النار من أرض الحجاز التي أضاءت لها أعناق الإبل ببصرى، كما نطق بذلك الحديث المتفق عليه، وقد بسط القول في ذلك الشيخ الإمام العلامة الحافظ شهاب الدين أبو شامة المقدسي في كتابه الذيل وشرحه، واستحضره من كتب كثيرة وردت متواترة إلى دمشق من الحجاز بصفة أمر هذه النار التي شوهدت معاينة وكيفية خروجها وأمرها، وهذا محرر في كتاب: دلائل النبوة من السيرة النبوة في أوائل هذا الكتاب، ولله الحمد والمنة، وملخص ما أورده أبو شامة أنه قال: وجاء إلى دمشق كتب من المدينة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، بخروج نار عندهم في خامس جمادي الآخرة من هذه السنة، وكتبت الكتب في خامس رجب، والنار بحالها، ووصلت الكتب إليها في عاشر شعبان ثم قال:
بسم الله الرحمن الرحيم، ورد إلى مدينة دمشق في أوائل شعبان من سنة أربع وخمسين وستمائة كتب من مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيها شرح أمر عظيم حدث بها فيه تصديق لما في الصحيحين من حديث أبي هريرة. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز تضيء لها أعناق الإبل ببصرى] فأخبرني من أثق به ممن شاهدها أنه بلغه أنه كتب بتيماء على ضوئها الكتب. قال: وكنا في بيوتنا تلك الليالي، وكان في دار كل واحد منا سراج، ولم يكن لها حر ولفح على عظمها، إنما كانت آية من آيات الله عز وجل.
قال أبو شامة: وهذه صورة ما وقفت عليها من الكتب الواردة فيها:(29/3)
لما كانت ليلة الأربعاء ثالث جمادي الآخرة سنة أربع وخمسين وستمائة ظهر بالمدينة النبوية دوي عظيم، ثم زلزلة عظيمة رجفت منها الأرض والحيطان والسقوف والأخشاب والأبواب، ساعة بعد ساعة إلى يوم الجمعة الخامس من الشهر المذكور، ثم ظهرت نار عظيمة في الحرة قريبة من قريظة نبصرها من دورنا من داخل المدينة كأنها عندنا، وهي نار عظيمة إشعالها أكثر من ثلاث منارات، وقد سالت أودية بالنار إلى وادي شظاً مسيل الماء، وقد مدت مسيل شظاً وما عاد يسيل والله لقد طلعنا جماعة نبصرها فإذا الجبال تسيل نيراناً، وقد سدت الحرة طريق الحاج العراقي، فسارت إلى أن وصلت إلى الحرة فوقفت بعد ما أشفقنا أن تجئ إلينا، ورجعت تسيل في الشرق فخرج من وسطها سهود وجبال نيران تأكل الحجارة، فيها أنموذج عما أخبر الله تعالى في كتابه: {إنا ترمي بشرر كالقصر كأنه جمالة صفر} وقد أكلت الأرض، وقد كتبت هذا الكتاب يوم خامس رجب سنة أربع وخمسين وستمائة والنار في زيادة ما تغيرت، وقد عادت إلى الحرار في قريظة طريق عير الحاج العراقي إلى الحرة كلها تشتعل نبصرها في الليل من المدينة كأنها مشاعل الحاج، وأما أم النار الكبيرة فهي جبال حمر، والأم الكبيرة التي سالت النيران منها من عند قريظة، وقد زادت وما عاد الناس يدرون أي شيء يتم بعد ذلك، والله يجعل العاقبة إلى خير، فما أقدر أصف هذه النار.
قال أبو شامة: في كتاب آخر ظهر في أول جمعة من جمادي الآخرة سنة أربع وخمسين وستمائة ووقع في شرقي المدينة المشرفة نار عظيمة بينها وبين المدينة نصف يوم: انفجرت من الأرض وسال منها واد من نار حتى حاذى جبل أحد، ثم وقفت وعادت إلى الساعة، ولا ندري ماذا نفعل، ووقت ما ظهرت دخل أهل المدينة إلى نبيهم عليه الصلاة والسلام مستغفرين تائبين إلى ربهم تعالى، وهذه دلائل القيامة.(29/4)
قال: وفي كتاب آخر لما كان يوم الاثنين مستهل جمادي الآخرة، سنة أربع وخمسين وستمائة وقع بالمدينة صوت يشبه صوت الرعد تارة وتارة، أقام على هذه الحالة يومين، فلما كانت ليلة الأربعاء ثالث الشهر المذكور تعقب الصوت الذي نسمعه زلازل، فلما كان يوم الجمعة خامس الشهر المذكور انبجست الحرة بنار عظيمة يكون قدرها مثل مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي برأي العين من المدينة نشاهدها وهي ترمي بشرر كالقصر، كما قال الله تعالى ، وهي بموضع يقال له أجيلين، وقد سال من هذه النار واد يكون مقداره أربعة فراسخ، وعرضه أربعة أميال، وعمقه قامة ونصف، وهو صخر يذوب حتى يبقى ويخرج منها أمهاد وجبال صغار، وتسير على وجه الأرض وهو صخر يذوب حتى يبقي مثل الآنك، فإذا جمدت صار أسود، وقبل الجمود لونه أحمر، وقد حصل بسبب هذه النار إقلاع عن المعاصي، والتقرب إلى الله تعالى بالطاعات، وخرج أمير المدنية عن مظالم كثيرة إلى أهلها.(29/5)
قال الشيخ شهاب الدين أبو شامة: ومن كتاب شمس الدين بن سنان بن عبدالوهاب بن نميلة الحسينس قاضي المدينة إلى بعض أصحابه: لما كانت ليلة الأربعاء ثالث جمادي الآخرة حدث بالمدينة بالثلث الأخير من الليل زلزلة عظيمة أشفقنا منها، وباتت باقي تلك الليلة تزلزل كل يوم وليلة قدر عشر نوبات، والله لقد زلزلت مرة ونحن حول حجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم اضطرب لها المنبر إلى أن أوجسنا منه إذ سمعنا صوتاً للحديد الذي فيه واضطربت قناديل الحرم الشريف، وتمت الزلزلة إلى يوم الجمعة ضحى، ولها دوي مثل دوي الرعد القاصف، ثم طلع يوم الجمعة في طريق الحرة في رأس أجيلين نار عظيمة مثل المدينة العظيمة، وما بانت لنا إلا ليلة السبت وأشفقنا منها وخفنا خوفاً عظيماً، وطلعت إلى الأمير كلمته وقلت له: قد أحاط بنا العذاب، ارجع إلى الله تعالى، فأعتق كل مماليكه ورد على جماعة أموالهم، فلما فعل ذلك قلت اهبط الساعة معنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فهبط وبتنا ليلة السبت والناس جميعهم والنسوان وأولادهم، وما بقي أحد لا في النخيل ولا في المدينة إلا عند صلى الله عليه وسلم، ثم سال منها نهر من نار، وأخذ في وادي أجيلين وسد الطريق ثم طلع إلى بحرة الحاج وهو بحر نار يجري، وفوقه جمر يسير إلى أن قطعت الوادي الشظا، وما عاد يجيء في الوادي سيل قط لأنها حضرته نحو قامتين وثلث علوها، والله يا أخي إن عيشتنا اليوم مكدرة والمدينة قد تاب جميع أهلها، ولا بقي يسمع فيها رباب، ولا دف ولا شرب وتمت النار تسيل إلى أن سدت بعض طريق الحاج وبعض بحرة الحاج، وجاء في الوادي إلينا منها يسير وخفنا أن يجيئنا فاجتمع الناس ودخلوا على النبي صلى الله عليه وسلم وتابوا عنده جميعهم ليلة الجمعة، وأما قتيرها الذي مما يلينا فقد طفيء بقدرة الله وأنها إلى الساعة وما نقصت إلا ترى مثل الجمال حجارة ولها دوي ما يدعنا نرقد ولا نأكل ولا نشرب، وما أقدر أصف عظمها ولا ما منها من(29/6)
الأهوال، وأبصرها أهل ينبع، وندبوا قاضيهم ابن أسعد وجاء وعد إليها، وما صبح يقدر يصفها من عظمها، وكتب الكتاب يوم خامس رجب وهي على حالها والناس منها خائفون، والشمس والقمر من يوم ما طلعت ما يطلعان إلا كاسفين فنسأل الله العافية.
قال أبو شامة: وبان عندنا بدمشق أثر الكسوف من ضعف نورها على الحيطان، وكنا حيارى من ذلك إيش هو؟ إلى أن جاءنا هذا الخبر عن هذه النار.
قلت: وقد كان أبو شامة قد أرخ قبل مجيء الكتب بأمر هذه النار فقال: وفيها في ليلة الاثنين السادس عشر من جمادي الآخرة خسف القمر أول الليل، وكان شديد الحمرة ثم انجلى، وكسف الشمس، وفي غده احمرت وقت طلوعها وغروبها وبقيت كذلك أياماً متغيرة الليل اللون ضعيفة النور، والله على كل شيء قدير، ثم قال: واتضح بذلك ما صوره الشافعي من اجتماع الكشوف والعيد، واستبعده أهل النجامة.(29/7)
ثم قال أبو شامة: ومن كتاب آخر من بعض بني الفاشاني بالمدينة يقول فيه: وصل إلينا في جمادي الآخرة نجابة من العراق وأخبروا عن بغداد أنه أصابها غرق عظيم حتى طفح الماء من أعلى أسوار بغداد إليها، وغرق كثير منها، ودخل الماء دار الخلافة وسط السلاح شيء كثير، وأشرف الناس علىالهلاك وعادت السفن تدخل إلى وسط البلدة، وتخترق أزقة بغداد، قال وأما نحن فإنه جرى عندنا أمر عظيم: لم كان بتاريخ ليلة الأربعاء الثالث من جمادي الآخرة ومن قبلها يومين، عاد الناس يسمعون صوتاً مثل صوت الرعد، فانزعج لها الناس كلهم، وانتبهوا من مراقدهم، وضج الناس بالاستغفار إلى الله تعالى، وفزعوا إلى المسجد وصلوا فيه، وتمت ترجف بالناس ساعة بعد ساعة إلى الصبح، وذلك اليوم كله يوم الأربعاء وليلة الخميس كلها وليلة الجمعة، وصبح يوم الجمعة ارتجت الأرض رجة قوية إلى أن اضطرب منار المسجد بعضه ببعض، وسمع لسقف المسجد صرير عظيم، وأشفق الناس من ذنوبهم، وسكنت الزلزلة بعد صبح يوم الجمعة إلى قبل الظهر، ثم ظهرت عندنا بالحرة وراء قريظة على طريق السوارقية بالمقاعد مسيرة من الصبح إلى الظهر نار عظيمة تنفجر من الأرض، فارتاع لها الناس روعة عظيمة، ثم ظهر لها دخان عظيم في المساء ينعقد حتى يبقى كالسحاب الأبيض، فيصل إلى قبل مغيب الشمس من يوم الجمعة، ثم ظهرت النار لها ألسن تصعد في الهواء إلى السماء حمراء كأنها القلعة، وعظمت، وفزع الناس إلى المسجد النبوي وإلى الحجرة الشريفة، واستجار الناس بها وأحاطوا بالحجرة وكشفوا رءوسهم، وأقروا بذنوبهم وابتهلوا إلى الله تعالى، واستجاروا بنبيه عليه والصلاة والسلام، وأتى الناس إلى المسجد من كل فج ومن النخل، وخرج النساء من البيوت والصبيان، واجتمعوا كلهم وأخلصوا إلى الله، وغطت حرة النار السماء كلها حتى بقى الناس في مثل ضوء القمر، وبقيت السماء كالعلقة، وأيقن الناس بالهلاك أو العذاب، وبات الناس تلك الليلة بين مصل وتال(29/8)
للقرآن وراكع، وساجد، وداع إلى الله عز وجل، ومتنصل من ذنوبه ومستغفر وتائب ولزمت النار مكانها وتناقص تضاعفها ذلك ولهيبها، وصعد الفقيه والقاضي إلى الأمير يعظمونه، فطرح المكس وأعتق مماليكه كلهم وعبيده، ورد علينا كل ما لنا تحت يده، وعلى غيرنا، وبقيت تلك النار على حالها تلتهب التهاباً، وهي كالجبل العظيم ارتفاعاً وكالمدينة عرضاً، يخرج منها حصى يصعد في السماء ويهوى فيها ويخرج منها كالجبل العظيم نار ترمي كالرعد، وبقيت كذلك أياماً ثم سالت سيلاناً إلى وادي أجيلين تنحدر مع الوادي إلى الشظا، حتى لحق سيلانها بالبحرة بحرة الحاج، والحجارة معها تتحرك وتسير حتى كادت تقارب حرة العريض، ثم سكنت ووقفت أياماً، ثم عادت ترمي بحجار خلفها وأمامها، حتى بنت لها جبلين وما بقي يخرج منها من بين الجبلين لسان لها أياماً، ثم إنها عظمت وسناؤها إلى الآن، وهي تتقد كأعظم ما يكون، ولها كل يوم صوت عظيم في آخر الليل إلى ضحوة، ولها عجائب ما أقدر أن أشرحها لك على الكمال، وإنما هذا طرف يكفي، والشمس والقمر كأنهما منكسفان إلى الآن، وكتب هذا الكتاب، ولها شهر وهي في مكانها ما تتقدم ولا تتأخر.
وقد قال فيها بعضهم أبياتاً:
يا كاشف الضر صفحاً عن جرائمنا
لقد أحاطت بنا يا رب بأساء
نشكو إليك خطوباً لا نطيق لها
حملاً ونحن بها حقاً أحقاء
زلازل تخشع الصم الصلاب لها
وكيف يقوى على الزلزال شماء
أقام سبعاً يرج الأرض فانصدعت
عن منظر منه عين الشمس عشواء
بحر من النار تجري فوقه سفن
من الهضاب لها في الأرض أرساء
كأنما فوقه الأجبال طافية
موج عليه لفرط البهج وعثاء
ترمي لها شرراً كالقصر طائشة
كأنها ديمة تنصب هطلاء
تنشق منها قلوب الصخر إن أزفت
رعباً وترعد مثل السعف أضواء
منها تكاثف في الجو الدخان إلى
أن عادت الشمس منه وهي دهماء
قد أثرت سفعة في البدر لفتحها
فليلة التم بعد النور ليلا
تحدث النيران السبع ألسنها
بما يلاقي بها تحت الثرى الماء(29/9)
وقد أحاط لظاها بالبروج إلى
أن كاد يلحقها بالأرض أهواء
فيا لها آية من معجزات رسول
الله يعقلها القوم الألباء
فباسمك الأعظم المكنون قد عظمت
منا الذنوب وساء القلب أسواء
فاسمح وهب وتفضل وامح واعف وجد
واصفح فكل لفرط الجهل خطاء
فقوم يونس لما آمنوا كشف العذاب
عنهم وعم القوم نعما
ونحن أمة هذا المصطفى ولنا
منه إلى عفوك المرجو دعاء
فارحم وصل على المختار ما خطبت
على علا منبر الأوراق ورقاء
قال ابن كثير رحمه الله: والحديث الوارد في أمر هذه النار مخرج في الصحيحين من طريق الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز تضيء أعناق الإبل ببصرى] وهذا لفظ البخاري.
وقد وقع هذا في هذه السنة -أعني سنة أربع وخمسين وستمائة- كما ذكرنا، وقد أخبرني قاضي القضاة صدر الدين علي بن أبي القاسم التميمي الحنفي الحاكم بدمشق في بعض الأيام في المذاكرة، وجرى ذكر هذا الحديث وما كان من أمر هذه النار في هذه السنة فقال: سمعت رجلاً من الأعراب يخبر والدي ببصرى في تلك الليالي أنهم رأوا أعناق الإبل في ضوء هذه النار التي ظهرت في أرض الحجاز.
قلت: وكان مولده في سنة ثنتين وأربعين وستمائة، وكان والده مدرساً للحنفية ببصرى، وكذلك كان جده، وهو قد درس بها أيضاً، ثم انتقل إلى دمشق فدرس بالصادرية وبالمعدمية، ثم ولي قضاء القضاة الحنفية، وكان مشكور السيرة في الأحكام، وقد كان عمره حين وقعت هذه النار بالحجاز ثنتا عشرة سنة، ومثله ممن يضبط ما يسمع من الخبر أن الأعرابي أخبر والده في تلك الليالي، وصلوات الله وسلامه على نبيه سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(29/10)
وقال ابن الساعي في تاريخ سنة أربع وخمسين وستمائة: في يوم الجمعة ثامن عشر رجب - يعني من هذه السنة كنت جالساً بين يدي الوزير فورد عليه كتاب من مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم صحبة قاصد يعرف بقيماز العلوي الحسني المدني، فناوله الكتاب فقرأه وهو يتضمن أن مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم زلزلت يوم الثلاثاء ثاني جمادي الآخرة حتى ارتج القبر الشريف النبوي، وسمع صرير الحديد، وتحركت السلاسل، وظهرت نار على مسيرة أربعة فراسخ من المدينة، وكانت ترمي بزبد كأنه رءوس الجبال، ودامت خمسة عشر يوماً. قال القاصد: وجئت ولم تنقطع بعد، بل كانت على حالها، وسأله إلى أي الجهات ترمي؟ فقال: إلى جهة الشرق، واجتزت عليها أنا ونجابة اليمن ورمينا فيها سعفة، فلم تحرقها، بل كانت تحرق الحجارة وتذيبها، وأحضر قيماز المذكور شيئاً من الصخر المحترق وهو كالفحم لوناً وخفة. قال: وذكر في الكتاب وكان بخط قاضي المدينة أنهم لما زلزلوا دخلوا الحرم وكشفوا رءوسهم مستغفرين حتى سكنت الزلزلة إلا أن النار التي ظهرت لم تنقطع، وجاء القاصد المذكور ولها خمسة عشر يوماً وإلى الآن.
قال ابن الساعي: وقرأت بخط العدل محمود بن يوسف بن الإمعاني شيخ حرم المدينة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، يقول: إن هذه النار التي ظهرت بالحجاز آية عظيمة، وإشارة صحيحة دالة على اقتراب الساعة، فالسعيد من انتهز الفرصة قبل الموت، وتدارك أمره بإصلاح حاله مع الله عز وجل قبل الموت، وهذه النار في أرض ذات حجر لا شجر فيها ولا نبت، وهي تأكل بعضها بعضاً إن لم تجد ما تأكله، وهي تحرق الحجارة وتذيبها، حتى تعود كالطين المبلول، ثم يضربه الهواء حتى يعود كخبث الحديد الذي يخرج من الكير، فالله يجعلها عبرة للمسلمين ورحمة للعالمين، بمحمد وآله الطاهرين.
*************
********(29/11)
بسم الله الرحمن الرحيم
المؤمن بين مخافتين
بقلم: عبدالرحمن بن عبدالخالق
يعيش المؤمن حياته بين مخافتين: حزن على ما مضى ووقع، وخوف وإشفاق مما يأتي، وهو بين هاتين المخافتين يحمل قلباً كسيراً حزيناً، وهماً وكرباً ثقيلاً، ولا يفارق ذلك إلا عندما يعايش الموت. فكيف كان ذلك؟
هم الذنوب والمعاصي:
الهم الأول للمؤمن في الحياة هي ذنوبه ومعاصيه، وما سلف منه من تفريط في حق الله تعالى، والذنب عند المؤمن كبيرة وصغيرة، كبير، فهو لا ينظر إلى كبر الذنب وصغره، ولكنه ينظر إلى من عصى، ويعلم أنه كلما ارتقى في سلم الإيمان كلما عظم الذنب في حقه، فالصغيرة من الكبير كبيرة، والهفوة من العظيم عظيمة!!
ألا ترى الرسل كيف كانوا يعدون على أنفسهم ذنوباً لو كانت لنا لحسبناها طاعات، ولاتخذناها قربات، فمن منا لا يتمنى أن يكون هو الذي قال ما قال إبراهيم عليه السلام: {إني سقيم} {بل فعله كبيرهم هذا} ليحطم أصنام القوم {وهذه أختي} ليحمي امرأته من جبار، ولكن إبراهيم يقول يوم القيامة: [إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني قد عصيت ربي فكذبت ثلاث كذبات]!!
ومن منا لا يرجو أن يكون دافع عن مظلوم كما فعل موسى، الذي قتل عدواً بطريق الخطأ، ومع ذلك يقول عليه السلام [ربي إني ظلمت نفسي فاغفر لي] ويقول يوم القيامة: [إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني عصيت ربي، فقتلت نفساً لم أومر بقتلها].
ومن منا لا يرجو أن يدعو على أهل الشر والفساد والكفر والعناد أن يستأصلهم الله من الأرض ويريح البلاد والعباد من شرورهم فيقول: [رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً إنك إن تذرهم يضلوا عبادك، ولا يلدوا إلا فاجراً كفاراً](30/1)
ويظن أن دعاءه هذا قربة يتقرب بها إلى الله، ولكن نوحاً عليه السلام يذكر ذلك ويؤرقه ويظل خائفاً من دعائه هذا الذي استجابه الله له، ويقول لمن طلب منه الشفاعة: [إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني عصيت ربي، فدعوت على قومي]..
ومن منا له عمل صالح، ومنزلة عالية كما لخاتم الأنبياء والمرسلين، وسيد الناس أجمعين، ومع ذلك فقد قال له رب العالمين: {ألم نشرح لك صدرك ووضعنا عنك وزرك الذي أنقض ظهرك} وقال تعالى له: {إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطاً مستقيماً}.
وهل يتصور للنبي الخاتم صلى الله عليه وسلم من ذنب إلا أن يكون شيئاً فعله خلاف الأولى!!
والخلاصة أن المؤمن يرى الذنب أكبر وأشمل مما يراه من لم يعرف حقيقة الإيمان، ويحس بوطأة ذنوبه، وإن كانت صغائر كأنها جبل يوشك أن يقع عليه، وأن الله إن لم يغفرها له ليكونن من الخاسرين، قال صلى الله عليه وسلم: [المؤمن يرى معصيته كجبل يوشك أن يقع عليه، والمنافق يرى معصيته كذباب وقع على أنفه]!! وما أسهل الذنب عند من يرى أن مثله مثل ذباب، وهل أسهل من أن يذب الإنسان عن نفسه ذبابة، ويبعدها عنه، وما أثقل الذنب عند من يرى أن ذنوبه كالجبل الجاثم فوق رأسه وصدره، وهم دائم التفكير في كيفية إزاحته عنه.
والذنب يتسع عند المؤمن، لأنه يعلم أن غفلة ساعة عن ذكر الله ذنب، وفوت نعمة لم يشكر الله عليها ذنب، ومرور لحظة لا يراقب الله فيها، ولا يخافها ذنب، وكل مخالفة لأمر الله وإن صغرت ذنب، وأعضاء البدن كلها جوارح، فالقلب جارحة، وهو أعظم الجوارح، والعين جارحة، والسمع جارحة، واليد والرجل واللسان والأنف [فالعين تزني وزناها النظر، واليد تزني وزناها البطش، والرجل تزني وزناها الخطو، والأنف يزني وزناه الشم، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه].(30/2)
والسؤال يوم القيامة عن عمل كل الجوارح. قال تعالى: {ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عن مسؤولاً}.
والسؤال عن الغمزة واللمزة والهمزة، واللفظة، بل وخطرات القلوب، وأحاديث النفوس، وخفايا الصدور، وفلتات الألسنة: {ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد} {قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله} {يوم تبلى السرائر* فما له من قوة ولا ناصر} {ويل لكل همزة لمزة} {فمن يعمل مثال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره}.
والمؤمن يعيش وهو يحمل هم ذنوبه ومعاصيه، ولا تزال شخوصها تؤرقه بالليل والنهار، وهذه إحدى همومه!!
هم الخاتمة:
والهم الثاني الأكبر الذي يحمله المؤمن هم الخاتمة، ولحظات النهاية، وساعة الغروب!! وذلك أن على هذه الساعة الأخيرة يتوقف المصير، وتكون الجنة أو النار، وقد يكون الشوط كله عند الساعة الأخيرة في الخير ثم تكون الخاتمة شراً وكفراً عياذاً بالله من سخطه وعقوبته، وقد يكون الشوط كله شراً أو كفراً ثم تكون الساعة الأخيرة إيماناً ويقظة وعوداً إلى الله فتكون الخاتمة السعيدة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة ثم يكون علقة في مثل ذلك، ثم يكون مضغة في مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فيؤمر بأربع كلمات يكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد..
فوالذي نفس محمد بيده إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيغلب عليه الكتاب فيعمل بعمل النار فيدخلها، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها] (متفق عليه).
وقال صلى الله عليه وسلم أيضاً: [إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة] (متفق عليه).(30/3)
وما دامت هذه الخاتمة مجهولة للعبد فما يدري كيف تكون ساعة النهاية من أجل ذلك يظل المؤمن خائفاً مترقباً، ويظل هذا الهاجس يؤرقه، ويفزعه.
وخوف المؤمن في كل ذلك أن تخونه نفسه، وأن يغلبه شيطانه، وأن تزل به قدمه، وأن يكبو به جواده كبوة لا يقوم بعدها أبداً، وقد يكون الزلل عند أول اعتراض على أمر!! أو أول تكذيب لخبر، أو غرور يحمل على الكبر أو أمن يؤدي إلى التفريط، أو لحظة عناد للحق أو هوى يباعد خطوة عن الطريق ثم تتبعها خطوات إلى أن يتباعد ما بين الطريقين طريق الله، وطريق الهوى، أو قعود عن السير حتى يتفارط الركب، ويتعذر اللحاق، وتذهب رفقة أهل الإيمان، ويرى المؤمن نفسه بعد وقت وليس حوله إلا منافق مطموس على قلبه في النفاق.
والمؤمن يعلم أن الله توعد فقال سبحانه وتعالى: {يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون* واتقوا فتنة لا تصبين الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب}.
فهذا خطاب للمؤمنين وتحذير لهم أن يتقاعسوا عن الغزو، وأن يجلسوا عن الجهاد، وأن التقاعس والقعود قد يعاقب الله عليه بأن يحول بين المؤمن وقلبه فيرى الإيمان ولا يتبعه، ويعلم الحق ويحال بينه وبينه. ويتمنى الصلاح ولا يناله، وتصيبه الفتنة مع الذين ظلموا وينقلب منقلبهم، ويرد موردهم!! {واعلموا أن الله شديد العقاب}.
الأعداء من كل جانب:
والهم الثالث للمؤمن هو هم أعدائه الذين يحيطون به من كل اتجاه، فهم عن يمينه وشماله، وأمامه وخلفه، وسهام هؤلاء الأعداء تنوشه من كل اتجاه.
فلو كان سهماً واحداً لاتقيته
ولكنه سهم وثانٍ وثالث(30/4)
فأول أعدائه نفسه التي بين جنبيه والتي لا تفتأ تثبط همته عن الخير، وتدعوه إلى الراحة والدعة والسلامة والأمن، وتزين له الدنيا الغرارة، وتحدثه بالمعصية تلو المعصية، وتمنيه بالمغفرة والرحمة، وتهون عليه مخالفة الأمر، وارتكاب المحظور {إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي}.
وعدو المؤمن الثاني هو شيطانه الموكل به، والذي لا يفارقه منذ لحظة الولادة وإلى لحظة الممات، جاثم على صدره إن غفل المؤمن عن ذكر الله وسوس وإن ذكر الله خنس، وكلما طرده المؤمن عن نفسه عاد، وكلما لعنه استشاط، وكلما جد المؤمن في سيره إلى الله جد الشيطان في نصب المكائد له، وكلما هتك المؤمن شركاً له، نسج الشيطان له شركاً آخر، كلما فر المؤمن من مكيدة كانت له أخرى بالمرصاد، وهذا الشيطان عدو لدود، يأتي المؤمن في ثياب صديق حميم، وناصح كريم.. ألم يقل لأبينا آدم {هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى} ألم يحلف لأبينا بالأيمان المغلظة {إني لكما لمن الناصحين}.
وهل سنكون نحن أقوى عزماً على الطاعة من آدم الذي علمه الله أسماء كل شيء.
قال تعالى: {فدلاهما بغرور} وقال تعالى: {فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه} وهذا الشيطان يعرض للأنبياء والمرسلين والعلماء والفقهاء والصالحين، وتلبيسه تلبيس، وقد شاب في المكر والكيد، وتقادم به الزمان ولعله علم من طرائق الشر ما لم يكن يعلم عند أول انحراف له عن الصراط يوم دعي إلى السجود لآدم فأبى، فكيف النجاة مما هذه حاله في الشر وحالنا نحن مع ما نملك من السذاجة والغفلة والغرور، اللهم رحماك. بك نستعيذ وإليك نلجأ، وأنت حسبنا وكفى، لا عاصم من هذا الشر غيرك، ولا معيذ لنا من الشيطان سواك، اللهم اجعلنا من عبادك الذين قلت فيهم: {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان}.(30/5)
والعدو الثالث للمؤمن هم شياطين الإنس الذين ملئت بهم الأرض، والذين فاق بعضهم في التلبيس والإغواء والكيد لأهل الإيمان فاقوا الشيطان نفسه ولسان حالهم ما قال القائل:
وكنت امرءاً من جند إبليس
فارتقى بي الشر حتى صار إبليس من جندي
وشياطين الإنسان يأتيك أحدكم يلبس لباس النصح لك وقلبه يمتلئ حقداً وغلاً، ويدعوك إلى النار وهو يخيل لك أنه يدعوك إلى الجنة، يدعوك إلى الكفر بالله ومعصيته، ويزين لك ذلك، ويريد منك أن توافقه على ما هو فيه [وودت الزانية لو زنت كل النساء].
وقد يكون من شياطين الإنس من طمست بصيرته وعمى قلبه عمى كاملاً فيظن أن ما هو فيه من الكفر والنفاق هو الخير والفلاح، ويريد من غيره أن يكون معه على ذلك: {وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون* الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون}.
والويل كل الويل لمن كان صاحبه وجليسه وأنسيه وصديقه وخليله شيطاناً من هذه الشياطين [والمرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل].
وهؤلاء الشياطين كثيرون في الأرض اليوم لا كثرهم الله، وهم اليوم أعظم ضراوة منهم بالأمس فمن علامات الساعة أن ينشأ قوم قلوبهم قلوب الشياطين، وجثمانهم جثمان إنس.
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء يلبسون لباس الحملان، وقلوبهم قلوب الذئاب يطهرون الحرص عليك والمحبة لك، والإخلاص لك وهم ساعون في هلاكك..
والعدو الرابع للمؤمن عدو من نفسه وأهله، يحبك ويوادك، ولا يريد لك إلا الخير، ولكنه تأتيك عداوته أولاً من حرصك عليه، وشفقتك به، ورحمتك له، أولادك وزوجتك تحبهم وتتمنى لهم الخير، وهم كذلك، ولكن قد تحملك مودتهم وحبهم والشفقة بهم والرحمة لهم، أن تقعد عما أوجبه الله عليك من الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والزكاة المفروضة، والحج الواجب، وقول كلمة الحق حيث تضرك!! إنهم يجبنون ويبخلون!!(30/6)
إن الأولاد والزوجة يجعلون الرجل جباناً وبخيلاً.. جباناً يخاف أن يجاهد بنفسه فيموت، وتترمل امرأته، ويتيم أولاده، ويخاف أن يجاهد بماله فيفتقرون وينالهم العوز. {يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم فاحذروهم وإن تعفو وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم* إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم* فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا وأنفقوا خيراً لأنفسكم ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون* إن تقرضوا الله قرضاً حسناً يضاعفه لكم ويغفر لكم والله شكور حليم* عالم الغيب والشهادة العزيز الحكيم}.
والمؤمن يعيش وهو يرى هؤلاء الأعداء حوله يكتنفونه من كل مكان، نفسه التي بين جنبيه، وشيطانه المتربص به، والقائم على رأسه {ثم لآتيهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم، ولا تجد أكثرهم شاكرين}.
وشياطين الإنس المحيطون به من كل جانب، وأهله، وأولاده، وأدنى فتنتهم أن يخاف عليهم فيقعد عن واجب أو يفعل محرم فكيف إن كانوا هم أنفسهم دعاة إلى الشر مثبطون عن الخير. قال تعالى في شأن الغلام الذي قتله الخضر فاقتلع رأسه: {وأما الغلام فكان أبويه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغياناً وكفراً فأردناه أن يبدلهما ربهما خيراً منه زكاة وأقرب رحماً}.
ومن يرى كل هؤلاء الأعداء من حوله وبين جنبه يحمل هماً لا يطاق، ويسعى جاهداً في النجاة والفكاك فهل ينجو ويسلم..
ولكننا سبي العدو فهل نرى
نرد إلى أوطاننا غداً أو نسلم؟
والمؤمن يعيش وهو يحمل هذا الهم الواقع الذي يعيشه في يومه وليلته هم ما سلف من ذنوبه، وهم بقائه على الخير حتى يموت وهم أعدائه الذين ينوشونه من كل جانب، وهذه الهموم المجتمعة هم واحد وحزن واحد هو هم ما هو واقع الآن، ويبقى هم ما يأتي، فما هم ما يأتي؟
القبر أول الهموم:(30/7)
وهموم ما يأتي هموم ثقيلة وليس شيئاً منها مظنوناً بل هي هموم وغموم مقطوع بها لا محيد عنها ولا مفر منها فأولها القبر، وهل من القبر مفر؟! وهل لأحد منه مهرب؟ والقبر ما هو؟
إنه بيت الظلمة والضيق، والدود والنتن والوحدة؟! إن أخلص أصدقائك، وارحم خلانك وخاصة أهلك هم من يهيلون التراب عليك، ويحكمون سد القبر خلفك، ويلون ظهورهم لك، ويتركوك وحدك!! وقد قال صلى الله عليه وسلم: [وإن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها وإن الله ينورها بصلاتي عليهم] اللهم صلي وسلم وبارك على عبدك المجتبى ورسولك المصطفى.
وإن أحداً من أهل الإيمان لو نجا من ضمة القبر لنجا منها سعد بن معاذ الذي اهتز عرش الرحمن لموته والذي استبشر بموته أهل السماء!! فكيف بنا؟! كيف والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: [ما من صاحب كنز لا يؤدي زكاته إلا مثل له يوم القيامة شجاعاً أقرع بأخذ بشدقيه ويقول له أنا مالك أنا كنزك].
لقد صليت يوماً في البر وتسللت خنفساء إلى ثيابي وظلت تخرخش في ثوبي وتعضني عضاً خفيفاً، فوالله ما خشعت في صلاتي، وقد ازعجتني إزعاجاً بليغاً، فكيف لو كانت عقرباً!! فكيف لو كانت حية!! فكيف لو كانت وهذه الحية في ذلك القبر الضيق ولا مجال للفرار منها، فكيف والرسول صلى الله عليه وسلم لا يقول إلا صدقاً، ولا ينطق إلا حقاً، وقد أعلمنا أن القبر إما حفرة من حفر النار، أو روضة من رياض الجنة.
هموم الموقف:
وهم القبر هم، وهو دون هم الموقف العظيم، واليوم الكبير الطويل، العبوس القمطرير!! اليوم الذي طوله خمسين ألف سنة من سنوات هذه الأرض يوم يقوم الناس لرب العالمين في عرقهم ورشحهم إلى أنصاف آذانهم: {إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوماً ثقيلاً}.
{إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءاً ولا شكوراً إنا نخاف من ربنا يوماً عبوساً قمطريراً}.(30/8)
{إن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود* وما نؤخره إلا لأجل محدود يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه فمنهم شقي وسعيد}.
إن هم يوم القيامة هو هم الهموم، والمؤمن يعيش حياته كلها من هذا اليوم مشفق مغموم مكروب مهموم!! مبتسماً بفمه باكياً بقلبه وفؤاده يعيش مع الناس بجسمه ويفارقهم بهمومه وحزنه.
الفزع الأكبر:
وكل هذه الهموم تصغر إذا ذكر الهم الأعظم، وجاء ذكر الفزع الأكبر، إنه النار التي لا محيد لمؤمن عن ورودها، والعبور على الصراط فوقها: {وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتماً مقضياً ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثياً}.
والعبور فوق الصراط أقرب ما يوصف به العبور فوق جسر مضروب فوق الشمس!! بل الشمس والقمر حجران صغيران من أحجار جهنم!!
أمام المؤمن مفاوز كبيرة:
وهكذا يصبح أمام المؤمن مفاوز كبيرة كبيرة، كل مفازة أكبر من أختها، ولا يقطعها إلا مسافر لا يلوي على شيء، ولا يتطلع إلى راحة، ولا يهدأ له بال حتى يلقى عصا التيار في المرحلة الأخيرة في الجنة، وأما ما دون ذلك فحاله كما وصى الرسول صلى الله عليه وسلم عبدالله بن عمر: [يا عبدالله كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل].
وكما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حالاً وقالاً: عندما طلب منه أن يأخذ من الدنيا قسطاً أكبر غير القوت والبلغة: [مالي ومالها ما أنا إلا كراكب استظل تحت ظل شجرة ثم تركها].
القوم وكأنهم قد فرغوا من حساب الله:
ولا يفت في عضد المؤمن أن يرى عامة أهل الإسلام غافلين لاهين يشربون كأسهم حتى الثمالة، يضحكون ملء أفواههم، وينامون ملء جفونهم، ويأكلون ملء بطونهم، ولا يحملون هماً لفائت من ذنب، ولا آت من فزع، يفعلون ذلك وكأنهم قد فرغوا من حساب الله، ولم يبق لهم إلا دخول الجنة!! وهذه حال عامة أهل الإسلام ينتظر أن يموت ليدخل الجنة هكذا بغير حساب ولا عذاب.
لا أمن إلا لأهل المخافين:(30/9)
والحال أنه لا أمن إلا لأهل الخوف. قال تعالى: {ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة ذلك الفوز العظيم} فأهل الإيمان والتقوى: مخافة بالليل والنهار، وهؤلاء هم الذين ينفي الله عنهم الخوف مما هم مقدمون عليه والحزن مما خلفوه وراء ظهورهم، ولا تكون هذه البشرى المقطوع بها إلا عند الموت قال تعالى: {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهى أنفسكم ولكم فيها ما تدعون نزلاً من غفور رحيم}.
وتنزل الملائكة على هؤلاء إنما يكون عند الموت تأتيهم ملائكة الرحمة بحنوط من الجنة ويأخذون روحه من يد ملك الموت فيحنطوها بذلك الحنوط ويكفونها بذلك الكفن ويصعدون بها إلى السماء التي فيها الله!! ويبشرون بالجنة.
وأما قبل ذلك فربما بشر أهل الجنة وأولياء الله ببشرى غير مقطوع بها وهي الرؤيا الصالحة كما قال صلى الله عليه وسلم: [لم يبق من النبوة إلا المبشرات: قالوا وما المبشرات يا رسول الله؟ قال: الرؤيا الصالحة، يراها الرجل الصالح أو ترى له، ولكن المؤمن وإن رأى مثل ذلك أو رؤيت له لا يعول عليها، ولا يتكل عليها، ولا يفرط في شيء من العمل الصالح من أجلها، ولا يرتكب صغيرة أو كبيرة تهاوناً واتكالاً اطمئناناً إلى هذه الرؤيا.. كيف والرسول نفسه صلى الله عليه وسلم كان يقول: [والله إني لرسول الله لا أدري ما يفعل بي غداً].(30/10)
ومن أجل ذلك بشر رسول الله صلى الله عليه وسلم أناساً بأعيانهم بالجنة. فقال: [أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي في الجنة، وسعد بن أبي وقاص في الجنة وعبدالرحمن بن عوف في الجنة، وطلحة في الجنة، والزبير في الجنة، وسعيد بن زيد في الجنة، وبشر غير هؤلاء كذلك كبلال بن رباح، وعبدالله بن سلام، وعبدالله بن عمر بن الخطاب].
وقد كانوا جميعاً يخافون ويعملون ويجدون وهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول وهو على فراش الموت: [وددت أن عملي كله كفافاً لا لي ولا علي.. ووالله لو أن لي طلاع الأرض ذهباً لافتديت بها من عذاب الله قبل أن أراه] (رواه البخاري).
والخلاصة أن أهل التقوى والخوف من الله هم الذين يؤمنون ويسلمون ويقال لهم: {يا عبادي لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون}.
وفي الجنة تكون أول كلمات أهل الإيمان التي يقولونها {الحمدلله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور}.
فلقد كانت حياتهم في الدنيا أحزاناً أثر أحزان وهموماً تتبعها هموم، وغم يتلوه غم، وهم في كل حياتهم خائفون مشفقون.
وعندما يجلس أهل الجنة أول مجالسهم في جنات النعيم على سرر متقابلين يقبل بعضهم على بعض بعد مجلس شراب تنازعوا فيه الكئوس، ودارت عليهم بها الغلمان المخلدون كأنهم اللؤلؤ المكنون يقول بعضهم لبعض {قالوا إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم إنا كنا من قبل ندعوه إنه البر الرحيم} (الطور:26-28).
وبينما هم كذلك في سرورهم وحبورهم ولذتهم وطعامهم وشرابهم ونسائهم يكون أهل النار في صراخهم وعذابهم يدعون على أنفسهم بالهلاك والثبور لأن جريمتهم أنهم أمضوا حياتهم مسرورين فكهين لا يحملون هماً ولا غماً: {وأما من أوتي كتابه وراء ظهره فإنه يدعو ثبوراً ويصلى سعيراً إنه كان في أهله مسروراً إنه ظن أن لن يحور}.
***********
*****(30/11)
بسم الله الرحمن الرحيم
الله سبحانه وتعالى كما عرفنا بنفسه
بقلم: عبدالرحمن بن عبدالخالق
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، ورسولاً إلى الناس أجمعين سيد الأولين والآخرين محمد بن عبدالله ورسوله الأمين.
وبعد،،
فإن البشر لا يستطيعون بأنفسهم معرفة خالقهم ورازقهم، وإلههم الذي لا إله إلا هو سبحانه وذلك لاحتجابه عنهم بعظمته وكبريائه وعلوه على خلقه، لا تدركه أبصارهم، ولا تسمعه آذانهم إلا لمن شاء الله منهم وهم أفراد قليلون من رسله وأنبيائه.
ولما كانت حاجة البشر إلى معرفة خالقهم ورازقهم وإلههم وربهم الذي لا إله إلا هو، ولا رب لهم سواه أعظم من حاجتهم إلى الهواء الذي يتنفسونه، والماء الذي يشربونه، والطعام الذي يأكلونه فإن معرفة الرب والإيمان به، وطاعته هي غاية وجودهم، وسبب إنشائهم وخلقهم، وعليها يتوقف سعادتهم وشقاوتهم، فمن آمن فقد فاز ونجا، ومن كفر فقد خسر وهلك.
و لما كان سبب ضلال البشر ناشئاً عن الجهل بالله أو العناد والمكابرة بعد العلم به.
ولما كان الجاهلون بالله إما جاهلون لا يعلمون، وإما جاهلون ويظنون أنهم يعلمون وإما جاهلون قد نسبوا لله صفات ليست من صفاته وتخيلوا ربهم وإلههم على غير ما هو عليه، وقالوا على الله بلا علم، ونسبوا له الولد وهم يظنون أنهم ينزهونه، وشتموه وهم يظنون أنهم يسبحونه.
ولما كان من أصناف الجهل بالله العلم بجانب من صفاته والجهل بجانب آخر مما ينتج عنه اختلال في الفهم والعلم وانجراف في العمل والسلوك..(31/1)
من أجل هذا كله -ولحكم أخرى- أحببت أن أجمع هذا المختصر الوافي إن شاء الله في بيان صفة الرب كما عرفنا هو بنفسه سبحانه عن طريق وحيه إلى رسله غير متقول على الله -بحول الله وقوته-، ولا مسند قولاً إلا إلى كتابه وسنة رسوله الثابتة الصحيحة عنه، وأرجو أن يجمع هذا المختصر الوافي المعاني الإجمالية لصفات الله سبحانه وتعالى، ليعرف المؤمن ربه على الحقيقة، ويتخذ السبيل إليه : {ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين}.
1- الله خالق كل شيء:
أول ما يجب على العباد معرفته أن الله سبحانه وتعالى هو خالق كل شيء فكل ما يرونه ولا يرونه من المخلوقات هي من خلق إله واحد لا إله إلا هو، لم يشاركه أحد في خلق ذرة منها، ولم يساعده أحد في إبداع هذا الخلق وإظهاره {قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض وما لهم فيها من شرك، وما له منهم من ظهير} أي أنه سبحانه ليس له معين من خلقه أعانه في خلق ذرة في السموات والأرض. قال تعالى: {الله خالق كل شيء وهو السميع العليم}..
وسواء كان هذا الخلق من الذي يراه العباد على هيئته ولا دخل لهم في وجوده كالأرض التي يعيشون عليها، والشمس والقمر والنجوم والكون الفسيح الذي يعيشون فيه، والذي لا تشكل الأرض وما عليها منه إلا كمثقال حبة رمل واحدة وأقل من ذلك في صحراء مترامية الأطراف، أو كان هذا الخلق مما يصنعه البشر بأيديهم كمساكنهم وآلاتهم وأدواتهم ومركباتهم فإنها من خلق الله أيضاً، مادتها، وصانعها، وفكرتها. قال تعالى: {والله خلقكم وما تعلمون}. فالله سبحانه وتعالى هو خالق الصانع وصنعته، فهو الذي خلق عقله وسمعه وبصره ويده ورجله، وهو الذي ألهمه العلم بما يصنع، وعلمه ما يعمل وهو الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى.
فأفعال المخلوقات وإن نسبت إليهم لأنهم هم فاعلوها فإنها من خلق الله إيجاداً وتقديراً وإلهاماً وتيسيراً، وإقداراً وتعليماً.
2. الله مالك كل شيء:(31/2)
وكما أن الله سبحانه وتعالى هو خالق كل شيء فهو مالك كل شيء، فالملك كله عاليه وسافله مشارقه ومغاربه كله ملك لله {تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير}.
وقال تعالى: {له مقاليد السموات والأرض} والمقاليد هي المفاتيح، فهو مالك خزائن السموات والأرض وما فيها.
والله سبحانه وتعالى يملك ما في السموات والأرض ذاتاً لأنه هو خالقها ومنشئها، ومخرجها من العدم ومبدعها، ويملك ما في السموات والأرض تصريفاً فما من حركة أو سكون في المخلوقات إلا وهي بمشيئته وأمره، ولا تملك ذرة واحدة في الكون لنفسها نفعاً ولا ضراً ولا مساراً ولا سكوناً.. بل الله مالك ذلك كله.
وكل مخلوق جعل الله له مشيئة وإرادة واختياراً فإنما مشيئته وإرادته، واختياره وفق اختيار الله ومشيئته، فلا يشاء أحد لنفسه أو لغيره شيئاً إلا إذا شاء الله، ولا ينال أحد لنفسه أو غيره خيراً إلا بإذنه، ولا يدفع عن نفسه أو غيره ضراً إلا بإذنه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن..
قال تعالى: {قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء، وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير، تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل، وترزق من تشاء بغير حساب}.
فالله سبحانه وتعالى هو المالك والملك على الحقيقة يملك خلقه ذاتاً وتصريفاً ولا يملك مخلوق لنفسه ولا لغيره نفعاً أو ضراً، حركة أو سكوناً، إلا بإذنه ومشيئته.
3- الله سبحانه وتعالى قد أحاط بكل شيء علماً:(31/3)
وكل شيء خلقه الله سبحانه وتعالى فقد خلقه بعلمه، ولا يعزب عنه من خلقه سبحانه صغير ولا كبير في كل لحظة وآن، فمخلوقات الله سبحانه وتعالى جميعها بدءاً من الذرة الصغيرة وما دونها، ونهاية بالمجرة الكبيرة وما فوقها، من السموات والعرش والكرسي، وما شاء الله أن يكون كل هذه المخلوقات مخلوقة موجودة بعلم الله، ولا يخرج صغير ولا كبير منها عن علمه في أية لحظة من لحظات وجوده، ولا يقع تصريف وعمل أو تغيير وتبديل في المخلوق إلا بعلم الله سبحانه وتعالى فلا تسقط قطرة ماء من السماء إلا بعلمه، ولا تسقط ورقة من شجرة إلا بعلمه، ولا ينتقل كائن من حال إلى حال أثناء تطوره نطفة فعلقة فمضغة إلا بعلمه {وما من دابة في الأرض إلا على الله ورقها ويعلم مستقرها ومستودعها} أين تضع بيضها وأين تخفي صغارها، وأين تخزن قوتها. كل غله وحشرة فما فوقها، الله سبحانه وتعالى عالم كل لحظة بما هي عليه، وما تصنعه، وقد أحاط علمه بجميع مخلوقاته فلا يعزب عنه سبحانه وتعالى صغير أو كبير منه.
قال تعالى: {وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو، ويعلم ما في البر والبحر، وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين* وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه ليقضي أجل مسمى ثم إليه مرجعكم ثم ينبئكم بما كنتم تعلمون}..
الله سبحانه وتعالى مقدر مقادير خلقه:
ما من شيء خلقه الله سبحانه وتعالى إلا وقد علمه قبل أن يخلقه، وقدر عمله ومساره، ومآله وكتب كل ذلك. قال تعالى: {إنا كل شيء خلقناه بقدر}، وقال تعالى: {وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون} والكتاب هنا هو كتاب الأعمال.(31/4)
وقال تعالى: {وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين}.
والكتاب هنا هو كتاب المقادير وهو اللوح المحفوظ.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أول ما خلق الله القلم فقال له أكتب. قال: ما أكتب. قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة].
وقال صلى الله عليه وسلم: [يا غلام احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده أمامك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، جفت الأقلام وطويت الصحف] ومعنى جفت الأقلام وطويت الصحف أي انتهى الرب سبحانه وتعالى من كتابة مقادير خلقه، وذلك قبل أن يخلقهم سبحانه وتعالى بخمسمائة عام.
لا يستطيع مخلوق أن يعلم سعة علم الله:
علم الله سبحانه وتعالى قد وسع المخلوقات كلها، ما وجد منها وما لم يوجد، ووسع علمه سبحانه ما لم يمكن وجوده، ولو وجد كيف يكون وجوده. قال تعالى فيما لم يقدر وجوده، لو وجد كيف يكون. قال تعالى: {لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالاً} وقال تعالى في أهل النار لو خرجوا منها وردوا مرة ثانية إلى الدنيا كيف سيكون حالهم: {ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون}.
والرب سبحانه وتعالى الذي علم خلقه كله قبل أن يوجدهم، وعلم ما يصدر من كل ذرة من مخلوقاته، وكيف يكون مصيرها ومآلها، وعلم ما لا يكون من مخلوقاته، ولو كان كيف يكون.
هذا الرب سبحانه وتعالى لا يستطيع أحد أن يقدر علمه، وقد ضرب لنا سبحانه وتعالى مثلاً لسعة علمه، فقال سبحانه: {ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام، والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفذت كلمات الله إن الله عزيز حكيم}.(31/5)
أي لو تحولت جميع أشجار الأرض فصنع خشبها كله أقلاماً وتحولت البحار كلها المحيطة بها مداداً، وجلس كاتبون يكتبون علم الله بهذه الأقلام، وبهذا المداد لنفذ المداد كله، ولم تنفذ كلمات الله سبحانه وتعالى.
وجميع ما علمته الملائكة والجن والإنس من علم الله لا يقع إلا كما تقع القطرة من المحيط. قال تعالى: {وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً} وقال: {ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء}، وقال الخضر لموسى عليهما السلام: [يا موسى ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كما نقص هذا العصفور من البحر].
وإن من خلق الله سبحانه وتعالى ما لا تسعه عقولنا، ولا تستطيع الإحاطة به على النحو الذي هو عليه، فسعة الكون لا تسعه عقولنا، والعرش لا يقدر قدره إلا الله، وهو مخلوق وملك واحد من ملائكة الله تخفق الطير خمسمائة عام ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه، فكيف بالملك نفسه!!
ورأى نبينا صلى الله عليه وسلم جبريل وقد سد الأفق وله ستمائة جناح!! ورأى النبي صلى الله عليه وسلم شجرة المنتهى يغشاها ما يغشاها من أنوار. قال عنه الرسول صلى الله عليه وسلم: [لا أدري ما هي]!!
ومع تقدم علومنا الدنيوية فلم نكتشف حقيقة الذرة بعد، ولا ماهية الضوء، ولا الأسرار الكامنة في تركيب جسم الإنسان بل الإنسان ما زال عند أهل العلم به من الأطباء والحكماء!! "الكائن المجهول"..(31/6)
فالأسرار التي لا تعلم من خلقه وتركيبه ونفسه أكثر كثيراً من الأمور المعلومة منه، والأسئلة التي لا جواب عليها حول خلق الإنسان نفسه أكثر كثيراً من الأسئلة التي وجدنا لها الجواب!! ومن الأسئلة التي لا جواب عليها: لماذا يحتفظ جسم الإنسان بهذه الدرجة الموحدة من الحرارة، ولماذا كان في هذه الدرجة ولم يكن أعلى منها أو أقل منها وما الذي يحفظ هذا التوازن الحراري فيه، ولما يسارع الجسم البشري يدرء خطر المرض عنه، وما الذي ينظم جميع أجهزة درء الخطر، فيأمر بارتفاع الحرارة، وتوجيه الجنود المدافعة للجراثيم الغازية، وما الذي ينظم عملية الدفاع والهجوم، وسحب الاحتياطي، وتقديمه إلى أماكن الخطر، وإزالة الجرحى، وتنظيف موقع المعركة، وما الذي يجعل جميع أجهزة الجسم تقوم بوظائفها التي تقوم بها وهي وظائف معقدة جداً من البناء والهدم والتغذية، والتخلص من الفضلات، وتنظيم أخلاط الجسم هذا، وفي جسم الإنسان نحو ستة مليارات من هذه الخلايا وهي جميعها تتجدد على مدى ستة أشهر تجدداً كاملاً.
من الذي يدير هذه العملية الكبرى المعقدة التي تحتاج إلى كل كمبيوترات الأرض لتنظيمها في جسم بشري واحد!!
سبحان من جلت قدرته عن الوصف، ومن أحاط علماً بكل شيء، ومن لا يسع العباد علماً به ولا بمخلوقاته. قال جل وعلا: {يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علماً}.
الله رب العالمين:(31/7)
الله سبحانه وتعالى هو رب العالمين، عالم الملائكة، وعالم الإنس وعالم الجن، والطير والوحش، والسموات والأرض فكل ما سوى الله من الموجودات من عوالم فالله ربها جميعها إذ هو سبحانه وتعالى موجودها من العدم، ومبدعها على غير مثال سابق {بديع السموات والأرض} وهو المالك لكل ما في السموات والأرض، والمتصرف في كل ما في السموات والأرض والسيد لكل ما في السموات والأرض، وكل هذا من معاني ربوبيته سبحانه وتعالى، فالرب هو السيد والمالك والمربي ،وكل هذه الصفات هي من صفات الله سبحانه وتعالى.. فليس لكل العالمين مالك يملكهم إلا هو الذي خلقهم وذرأهم وبرأهم، وليس للعالمين من سيد يطيعون أمره طوعاً وكرهاً إلا هو سبحانه وتعالى فجميع خلقه مسلمون له طوعاً أو كرهاً، ولا خروج لأحد منهم عن إرادته ومشيئته وأمره الذي أمضاه فيهم وقدره لهم، فالله هو رب جبريل وإسرافيل وميكائيل، ورب محمد ورب إبراهيم، ورب جميع الرسل والأنبياء، وهو رب الملائكة جميعاً، ورب الإنس والجن جميعاً، ومن جحد ربوبية الله من الخلق، فهو جاحد كاذب لا يضر إلا نفسه، ولا يخرج بجحده هذا عن ربوبيته لله سبحانه وتعالى لأن الله هو الذي أوجده وهو الذي يقيمه ويحييه ويميته ويمرضه، ويشفيه إن شاء، ويعاقبه إذا أراد، ويرحمه إذا شاء، فالأمر كله له، والتصرف في الخلق كله له، وليس لأحد معه شركة في هذه الربوبية.
الله سبحانه وتعالى إله العالمين:(31/8)
لما كان سبحانه وتعالى هو رب العالمين، وخالق الخلق أجمعين والمتصرف في الخلائق كلها، والعوالم جميعها، ولا ينازعه في هذا الأمر غيره، فليست له صاحبة ولا ولد وليس له ند، ولا شبيه، ولا نظير، ولا كفء، بل جميع خلقه تحت قهره وأمره، ورهن تصرفه وحكمه، لا يملك أحد منهم لنفسه نفعاً ولا ضراً إلا بإذنه، لما كان ذلك كان الله هو إله العالمين الذي لا إله لهم غيره، فهو الرب الذي تألهه كل مخلوقاته من هداهم إلى نوره وأعلمهم طريق عبادته، فهؤلاء يقدسون الله ويعبدونه ويعظمونه، ويألهونه، ويحبونه، ويخافونه، ويخشونه، يرجون رحمته، ويخافون عذابه، فالملائكة كلهم أجمعون على هذه الحال من مخافته، وخشيته، ومحبته، وطاعته، وعبادته، وتسبيحه وتقديسه: {يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون}، {يسبحون الليل والنهار لا يفترون} {والذين عند ربك لا يستكبرون عبادته وله يسجدون}.
والرسل والأنبياء والمؤمنون من الإنس والجن يخافون ربهم ويحبونه ويعبدونه، ويتقون عذابه، ويسارعون في الخيرات ويدعونه رغباً ورهباً، ويجاهدون في سبيله، ويخلصون دينهم له، ويقدسون ربهم، ويسبحونه، ويوقنون أنهم هو سبحانه وتعالى إلههم وربهم ليس لهم إله دونه ولا رب لهم سواه، ولا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء لهم. وقد أثنى الله عليهم فقال: {وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم* ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلاً هدينا ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين* وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين* وإسماعيل واليسع ويونس ولوطاً وكلاً فضلنا على العالمين* ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم* ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون}.(31/9)
وقال تعالى: {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون* كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله* وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير* لا يكلف الله نفساً إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت* ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا* ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا* ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به* واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين}.
وقال تعالى: {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضواناً سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطئه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة أجراً عظيماً}.
وقال تعالى: {وزكريا إذ نادى ربه رب لا تذرني فرداً وأنت خير الوارثين}.
وقال تعالى: {قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصاً له الدين وأمرت لأن أكون من المسلمين* قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم* قل الله أعبد مخلصاً له ديني}.
وقال تعالى: {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين}.
وقال تعالى: {قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن اتبع إلا ما يوحى إلي قل هل يستوي الأعمى والبصير أفلا تتفكرون}.
وقال تعالى: {قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون}.(31/10)
فالرسل جميعاً عابدون له خائفون منه مسبحون بحمده راجون رحمته، خائفون من عذابه، قد جعلوا حياتهم كلها له، وأسلموا له في الصغير والكبير، وكذلك سائر أهل الإيمان من الإنس والجن، هذا دينهم وعملهم ومنهجهم، لا إله لهم يعبدونه إلا الله، الذي أوقفوا حياتهم كلها له {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين}.
وأما من أنكر هذه الألوهية من كفار الإنس والجن فإنما جحدها جحداً، وعمى عنها عماية، وكفر بها كفراً، ولا يضر بهذا الجحود والكفر والعمي إلا نفسه، وسواء اتخذ له إلها من دون الله يعطيه ما يعطي الإله من الحب والطاعة والخوف والخشية والإنابة والعبادة، أو لم يعرف له إلهاً ولا رباً ولا خالقاً فعبد هواه وشهوته، وعاش في هذه الدنيا يأكل ويتمتع كما تأكل الأنعام ثم تكون النار مثوى له، فهو كالأنعام بل أحط قدراً. قال تعالى: {ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها، ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون}.
وقال تعالى: {والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم}.
**********
*****(31/11)
article30.gif - 14793 Bytes(32/1)
لو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما يئس من رحمته ولو يعلم المؤمن ما عند الله من العذاب ما طمع في جنته أحد
بقلم: عبدالرحمن بن عبدالخالق
السموات والأرض مسلمة لله:
لا يوجد من خلق الله خارج عن الطاعة الاختيارية إلا كفار الجن والإنس فقط من جميع الموجودات، وأما سائرها فهي مسلمة لله طوعاً.
فالجمادات التي لا نعلم نحن لها إرادة، ولا نرى لها سمعاً ولا بصراً، الحق أن لها إرادة ولها سمع وبصر وحس وإدراك، يعلمه منها خالقها سبحانه وتعالى.
فالرب سبحانه وتعالى يخاطبها بخطاب العقلاء، ويأمرها وينهاها، وهي ممتثلة له بإرادتها واختيارها، ولها من الأحاسيس المرهفة ما لا يوجد في الإنسان الكافر الذي أظلمت نفسه وفسد حسه، وانطمست بصيرته، وقد أخبرنا سبحانه وتعالى أنه خاطب السموات والأرض يوم خلقها، وأنها أجابته سبحانه وتعالى ممتثلة لأمره. قال تعالى: {قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أنداداً ذلك رب العالمين* وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواءاً للسائلين* ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرها قالتا أتينا طائعين* فقضاهن سبع سموات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء بمصابيح وحفظاً ذلك تقدير العزيز العليم} قالتا: أتينا طائعين بجمع المذكر السالم الذي يستعمل للعاقل ولم تقولا أتينا طائعات.
وقال تعالى: {إذا السماء انشقت وأذنت لربها وحقت} ومعنى أذنت: أي استمعت.
وقال تعالى: {لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله}.
وقال صلى الله عليه وسلم: [هذا أحد جبل يحبنا ونحبه].(33/1)
وقال صلى الله عليه وسلم: [إني لأعلم حجراً كان يسلم علي وأنا بمكة]، وكان الصحابة يسمعون تسبيح الحصا في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب إلى جذع نخلة فلما صنع له المنبر وقام الرسول عليه في أول جمعة، بكى الجذع وصرخ صراخاً سمعه أهل المسجد، ونزل النبي من المنبر وأتى الجذع فالتزمه.. الخ، وأدلة إدراك هذه الجمادات أكثر من أن تذكر هنا ويكفيك فيها قوله تعالى: {ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب ومن يهن الله فما له من مكرم إن الله يفعل ما يشاء}.
وقوله تعالى: {ولله يسجد ما في السموات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون}.
وقوله تعالى: {تسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن وإن شيء إلا يسبح بحمده، ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفوراً}.(33/2)
وهكذا فالخلائق جميعها ربها واحد، وإلهها واحد، وهو الله سبحانه وتعالى الذي لا رب لهم سواه ولا إله لهم غيره. ولم يشذ عن الطواعية لله، وعبادته اختياراً إلا كفار الإنس والجن فقط دون سائر ما خلق الله في السموات والأرض، وخروج هؤلاء الكفار من الإنس والجن عن طاعة الله اختياراً لا يعني أنهم غير مسلمين لله قهراً وجبراً، وكرهاً، وذلك أنهم مسلمون له سبحانه وتعالى بالجبر والكره، فمشيئة الله نافذة فيهم، وقضاؤه وقدره حتم عليهم، فما شاء لهم كان، وما لم يشأ لهم لم يكن، ولا مشيئة لأحد منهم إلا أن يشاء الله، فهو الذي شاء أن يضلوا ويكفروا، ولو شاء أن يهديهم لهداهم، ولو شاء ألا يكفروا لما كفروا، ولو شاء ألا يشركوا به ما أشركوا، ولكنه خذلهم وحرمهم الهداية لأنهم لا يستحقونها، وليسوا أهلاً لها. قال تعالى: {سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا أباؤنا ولا حرمنا من شيء كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون* قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين}..
الرحمن، وليس لرحمته منتهى
لا يمكن للعباد أن يعرفوا الله علي الحقيقة، وأن يؤمنوا به الإيمان الصحيح إلا إذا علموا أن الرب سبحانه وتعالى هو الرحمن الرحيم، وأن عذابه هو العذاب الأليم.
وما لم يعلم العباد هاتين الصفتين على الحقيقة يضل سعيهم في الحياة الدنيا، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً. قال تعالى: {نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم، وأن عذابي هو العذاب الأليم}..
وقال صلى الله عليه وسلم: [لو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما يئس من رحمته أحد، ولو يعلم المؤمن ما عند الله من العذاب ما طمع في جنته أحد]!!
بهاتين الجملتين جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أثر الإيمان بصفات الجمال والجلال للرب العظيم سبحانه وتعالى، واختصر الطريق أمام من يريد أن يعرف صفات الرب على الحقيقة.(33/3)
من أسماء الله سبحانه وتعالى الرحمن الرحيم، وكل أسماء الله حق، وكل اسم لله فإن الله سبحانه وتعالى يتصف بمعناه حقيقة على النحو الذي يليق به سبحانه وتعالى، وكذلك كل صفة وصف بها نفسه سبحانه أو وصفه بها رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن الله يتصف بها على الحقيقة، وعلى النحو الذي يليق بالله سبحانه وتعالى.
ومن صفات الجمال لله جل وعلا أنه الرب الرحمن الرءوف الرحيم، والحليم الكريم، الغفور الودود، التواب، البر الرحيم، الولي الحميد، السميع العليم، ومن آثر صفاته هذه الجنة وما أعد فيها لأوليائه وأهل طاعته..
ومن صفات جلاله وعظمته وكبريائه أنه سبحانه وتعالى الملك العظيم الجبار المتكبر، القهار المنتقم شديد العقاب، صاحب الطول الذي يؤاخذ بالذنب ويعاقب على المعصية، ومن آثار صفاته هذه خلق النار، وما أعد فيها لأهل معصيته وانزال عذابه وغضبه في أهل الكبر والكفر والعصيان.
وللمعرفة التفصيلية بهاذين النوعين من الصفات نقول:
الرحمن الرحيم:
الله سبحانه وتعالى هو الرحمن الرحيم، وقد وسعت رحمته كل خلقه بإيجادهم: فالوجود في حد ذاته رحمة بالموجود، وما يسره لكل موجود من أسباب حياته وبقائه،ولطفه وعنايته، ودفع الضر عنه، وإنعام الله على كل موجود لا يمكن حصرها، ولا يسع مخلوق تعدادها. قال تعالى: {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار} وقال تعالى: {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الله لغفور رحيم} وقال تعالى: {وما بكم من نعمة فمن الله}.
الجواد الكريم:
ومن معاني رحمته سبحانه وتعالى أنه الجواد الكريم الذي لا حد لعطائه، ولا نهاية لإنعامه وإفضاله، ومهما كان سؤال العبد له وطلبه منه، فإنه يعطيه، ولا يثقله سبحانه العطاء، ولا يتبرم بالسؤال، بل يحب من عباده أن يسألوه، وأن يلحوا في السؤال، وأن يطلبوا المزيد كلما أعطوا، قال تعالى: {وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادي سيدخلون جهنم داخرين}.(33/4)
وهذه دعوة منه جل وعلا لعباده ليسألوه. وذلك أن فقر العباد إليه جبلي خلقي فلا يوجد مخلوق قط في السموات والأرض يستطيع أن يستغني في وجوده أو بقائه عن إلهه ومولاه طرفة عين.
وأما الرب سبحانه وتعالى فإنه غني بذاته عن جميع خلقه، ولا يحتاج إلى أحد منهم، ولا إلى شيء من مخلوقاته مهما عظم، فلا العرش ولا الكرسي ولا السموات ولا الأرض ولا الملائكة، ولا الإنس ولا الجن بنافعين الرب شيئاً، ولا الرب سبحانه وتعالى محتاج إلى شيء منهم، ولا مستعيناً بهم، تعالى الله أن يحتاج إلى غيره، أو يفتقر إلى سواه، بل الله موجد هذه الموجودات ومقيمها وهو يعدمها إذا شاء، وهو الذي يبقيها إذ أراد، ويحولها إذا شاء.
فليس له من عباده في السموات والأرض معين ولا ظهير {وماله فيهما من شرك وماله منهم من ظهير}.
وملك الله سبحانه وتعالى غير محدود وكذلك عطاؤه وإنعامه وإفضاله غير محدود كذلك، فهو يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، ويعطي سبحانه وتعالى وهو يحب العطاء بل ويطلب من عباده أن يسألوه، ولا يملوا من سؤاله، وكلما سألوه كلما أحبهم، وقربهم وأعطاهم.(33/5)
والله سبحانه وتعالى هو الذي يملك الدنيا والآخرة {وإن لنا للآخرة والأولى} ولكنه أعلم عباده أن الدنيا فانية، وأن سبحانه وتعالى لم يخلقها للبقاء، وإنما خلقها مدة قليلة من الزمن للابتلاء والاختبار، ولذلك جعل أرزاقها مناسبة للمهمة والغاية التي خلقها لها، فلم يبسط رزقها بسطاً يشغل المؤمنين والكافرين عن طاعته: {ولو بسط الله الرزق لعباده لبغو في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء إنه بعباده خبير بصير} ووسع في الحياة على من يشاء من أهل طاعته وأهل معصيته اختباراً وابتلاءاً لهذا وهذا، وضيق على من يشاء من أهل طاعته وأهل معصيته اختباراً وابتلاءاً لهما كذلك وأراد سبحانه وتعالى من عباده أن تتعلق همتهم بنعيم الآخرة إذ هو النعيم الباقي، وأن يكونوا في الدنيا على أهبة الاستعداد للرحيل، وألا يجمعوا من الحطام ما يشغلهم عن المهمة التي خلقوا لها، والاختبار الذي أقيموا فيه: {إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعاً بصيراً}.
ولما رأى أهل العمى والضلال أن الأرزاق في الدنيا قد تقل أحياناً عن حاجة العباد ظنوا هذا بخلاً من الله على خلقه كما قالت اليهود: {يد الله مغلولة} أي أنه بخيل. تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.(33/6)
بل الله سبحانه وتعالى هو الجواد الكريم، وكل نعمة بالعباد فهي منه وحده جل وعلا، ولكنه لم يشأ بسط الرزق للناس في الدنيا حتى لا يطغيهم الغنى.. {كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى} وحتى يلجئوا إلى ربهم وخالقهم ومولاهم عند ضرهم وفقرهم واحتياجهم.. فإن الشدائد تذكر بالله، وتلجئ العباد إليه، وهذا خير لهم. قال تعالى: {وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء لعلهم يضرعون} فأخذ الله عباده بالبأساء وهي الشدة والفقر، والضراء كالمرض ونحوه ليرجعوا إلى ربهم ويتضرعوا له، وهذا خير لهم أن يغدق عليهم النعم طيلة حياتهم فيلتهوا وينشغلوا بما هم فيه من النعيم عن معادهم، وحسابهم. قال تعالى: {ولنذيقهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون} فالشدائد والمصائب مما يبتلى الله به عباده في الدنيا هي من باب إحسانه إلى عباده، وإنعامه عليهم لأنها تربية وتذكير وتقويم وتعليم وتعريف بخالقهم وإلههم وموالهم، ليلجئوا إليه ويسألوه النعيم الباقي والحياة السرمدية الأبدية التي لا تنتهي في جنان الخلد، والنعيم..
الجنة أثر من آثار رحمته:
وهنا يتجلى كرم الرب ورحمته وإحسانه وسعه عطائه، فإن أقل العباد منزلة في الجنة من يعطيه الله ملكاً يوازي عشرة أمثال الأرض التي نعيش عليها، وفيها من الجنان والقصور والحور والأنهار، والأثاث والزخارف والبهجة والسرور ما لا يبلغه الوصف، ولا يفنيه جميع البشر لو اجتمعوا على ملك واحد منهم فقط، بل إن قطفاً واحداً من قطاف الجنة لا يفنيه البشر ولو اجتمعوا عليه، وكل هذا لعبد واحد من عباد الله هو أدناهم منزلة، وأقلهم درجة، فكيف بأعلاهم درجة ومنزلة؟!
ومن العباد من يكون له في الجنة بيوتاً لا يحصيها العد فإن من قرأ سورة الإخلاص عشر مرات بنى الله لها بيتاً في الجنة.(33/7)
وإن من العباد من يقرأها كل يوم آلاف المرات، وقد قال عمر رضي الله عنه لما سمع هذا الحديث: يا رسول الله هل نكثر؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [الله أكثر] فعطاء الله عباده المؤمنين أكبر وأكثر مما يتصور ويتخيل، بل إن ما ادخره الله لهم وأخفاه عن عيون كل الخلائق وأسماعهم بل وقلوبهم حيث لا يخطر مثله في قلب بشر، هذا الذي ادخره الله لعباده وأخفاه عن كل خلقه أعظم وأكبر وأجل من كل ما أخبرهم الله به من النعيم، وما وصفه لهم. قال صلى الله عليه وسلم: [قال تعالى: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر].
وأهل هذا النعيم آلاف مؤلفة مما لا يحصيهم إلا الله الذي خلقهم وهداهم، سبحانه وتعالى فإن للجنة ثمانية أبواب ما بين مصراعي الباب كما بين مكة وهجر (البحرين)، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليأتين على هذه الأبواب يوم وهي كظيظة من الزحام!! وكل ينال في الجنة موقعاً أدناه قدر الأرض وعشره أمثالها. قال تعالى: {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين}.
وقال تعالى: {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماء والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم}.
أعظم ما في الجنة الخلود:(33/8)
هؤلاء الذين يدخلون الجنة والذين لا يحصيهم العد، والذين ينال كل منهم هذا الملك العريض في الجنة، يبقون فيها بقاءاً سرمدياً، لا ينقطع ولا يحول أبداً. فهم فيها مخلدون خلوداً لا انقطاع له، فهل يمكن تصور هذا وتخيله؟! وهل يمكن تصور مدى النعيم والسعادة والحبور الذي يعيش فيه أهل الجنة حيث هذا الملك العريض لكل واحد منهم، وحيث الثمار التي لا تفنى، والثياب التي لا تبلى، والشباب الذي لا ينقضي، والمتعة الدائمة بالزوجات المطهرات، والشراب الذي لا ثمول فيه، والأصحاب الصالحون، والطعام الذي لا أثر له، ولباس الحرير مع غاية السرور والحبور والرضى، مع حضور كل ما يشتهون، ويدعون وتحقق كل ما يرغبون ويتمنون في التو والساعة دون عناء أو مشقة، بل في أقل من لمح البصر يحضر ما يتمناه أحدهم، بل ما يخطر على باله يكون أمامه في التو واللحظة!! هذا وهم مع هذا لا يمرضون ولا يبصقون، ولا يبولون ولا يتغوطون ولا يتنخمون، وإنما تخرج آثار طعامهم رشحاً وعرقاً على أجسادهم أطيب من المسك!!
وهم على هذه الحال أبداً وسرمداً لا يكدرهم فقد عزيز، ولا فراق أو رحيل، بل لا يسمعون كلمة واحدة تكدر خاطرهم، أو تزعجهم {لا يسمعون فيها لغواً ولا تأثيماً إلا قيلاً سلاماً سلاما}، ومع ذلك فهم يتمازحون ويضحكون على مجالس الشراب واللهو، بلا لغو ولا تأثيم ولا سباب {يتنازعون فيها كأساً لا لغو فيها ولا تأثيم}.
وهم على هذه الأحوال من السعادة والحبور ينتقلون من نعيم إلى نعيم، ويتقلبون في المسرات وكل مسرة أعظم من أختها، وهم في كل ذلك لا يخافون أن تتبدل أحوالهم، ولا أن يقطع الرب عنهم ما هم فيه من السعادة والسرور والحبور.
وهذا كله قطرة من عطاء الرب الذي لا ينفذ وكرمه الذي لا يحصر، وملكه الذي لا يحد.
وهذا الإكرام والإنعام الذي يتفضل الله به على عباده المؤمنين هو ثمرة من ثمرات أسمائه وصفاته فهو من معاني اسمه الرحمن الرحيم الجواد الكريم البر الرحيم.(33/9)
أعجب صفات الرب أنه التواب الرحيم:
ومن صفاته سبحانه وتعالى أنه التواب الرحيم فإن هؤلاء المنعمون في الجنة هذا النعيم المقيم والذين يكرمهم الله هذا الإكرام الذي لا يحده الوصف، ولا يحيط به الخيال، منهم من كان قد سب الله وشتمه، واعتدى على أنبيائه ورسله، وقتل أولياءه وحزبه، بل وحرقهم بالنار، ومنهم من كان ارتكب الكبائر، وفعل المنكرات والموبقات!! ولكن تداركته رحمة ربه قبل موته فأقلع عن ذنبه، واستغفر ربه وتاب من أفعاله المنكرة القبيحة، واستقام في آخر عمره ولو ساعة من نهار، كانت كافية في أن يهدم الله جميع ما سلف منه من الكفر والشرك والمعاصي والآثام، وأن يقابله الله سبحانه وتعالى بالمغفرة والمسامحة، وستر كل هذه العيوب، بل ومجازاته على سيئاته تلك حسنات. قال تعالى في وصف عباد الرحمن: {والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر، ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاماً يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهاناً إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفوراً رحيماً}.
فانظر ما أكرم هذا الرب سبحانه وتعالى، وما أعظم حلمه ورحمته، كيف يكرم هذا الإكرام الزائد من عصاه وآذاه، وسبه وشتمه؟! وانظر كيف حلم عليه في الدنيا، فلم يؤاخذه بذنبه، وكيف ألهمه رشده بعد ذلك، وآتاه تقواه، ويسر له سبيل الاعتذار ثم قبل منه!! وقابله بسيئاته حسنات، وبذنوبه مغفرة، إنه الرب العظيم الرءوف الرحيم، الودود التواب، الذي يقيل العثرة ويغفر الذنب.
فقير ضعيف مدفوع عن الأبواب ويحبه الله:(33/10)
ومن معاني رحمته سبحانه وتعالى أن تجد عبداً ضعيفاً متضعفاً، فقيراً مسكيناً مدفوعاً عن أبواب الناس لذلته وفقره وعجزه، وقله حيلته، ويهون على الناس أذاه وظلمه، ودفعه عن أبوابهم، وقد يكون هذا العبد الذليل الفقير ولياً لله، عبداً صالحاً له من الكرامة على الله بحيث أنه لو أقسم على الله لأبره!! ولو سأل الله ما رده!! قال صلى الله عليه وسلم: [رب أشعث أغبر مدفوع عن الأبواب لو أقسم على الله لأبره].
ومثل هذا العبد يكلؤه الله بعناية تفوق الوصف في الدنيا ويعادي الله من أجله أهل الأرض كلهم لو اجتمعوا على ذلك. قال صلى الله عليه وسلم: [قال تعالى: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالمحاربة].
ومثل هذا العبد لأن تزول السموات والأرض أهون عند الله من إراقة دمه!!
فانظر في صفات هذا الرب العظيم الكبير وفي العرش المجيد الذي لا يحد سلطانه، ولا يبلغ أحد مطاولته، ومغالبته، وكل الخلائق تحت قهره وأمره، وكيف يحتفى بعبد فقير ضعيف يهون على الناس دفعه وأذاه ولو توجه بالدعاء أن يهلك الله من عليها من الكفار لما رد الله سؤله.. وقد قال نوح عليه السلام يوماً: {رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً} فجاءه الجواب {ولا تخاطبني في الذين ظلموا أنهم مغرقون} ودعا خبيب بن عدي على من اجتمعوا عليه ليقتلوه بمكة [اللهم أحصهم عدداً واقتلهم بدداً] فلم يبق الله منهم أحداً إلا أخذه القتل كافراً.
وقال موسى عليه السلام قبل ذلك: {ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم}.
فجاءه الجواب: {قد أجيبت دعوتكما فاستقيما ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون}.
وقد كان نوحاً منبوذاً في قومه يقال له: {إنا لنراك في ضلال مبين} وقيل له: {لئن لم تنته يا نوح لتكونن من المرجومين}.
وأما موسى فقد كان من قوم قال عنهم أعداؤهم: {فقالوا أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون} وكانوا تحت ذل أعدائهم الكفار وقهرهم.(33/11)
إحسان الله سبحانه وتعالى بعباده المؤمنين وأهل طاعته لا يحده الوصف، ولا تبلغه الكلمات، ولا يحصيه العد، وكل ذلك أثر من آثار صفات رحمته جل وعلا..
فهو الرحمن الرحيم، الغفور والودود الجواد الكريم المنان الذي ليس لبركته منتهى، ولا لعطائه حد ولا لإحسانه غاية.(33/12)
بسم الله الرحمن الرحيم
ويحذركم الله نفسه
بقلم: عبدالرحمن بن عبدالخالق
العلم بصفات الجلال من خلال آثار هذه الصفات في الخلق:
العلم بصفات الله سبحانه وتعالى يكون من خلال العلم بمعاني أسمائه ولا يتحقق هذا العلم إلا من خلال معرفة هذه الصفات في الخلق والناس، فإذا علمنا أن الله سبحانه وتعالى هو الخلاق فإن هذا المعنى لا تتضح إلا بالعلم بمخلوقات الله وإذا علمنا أن الله هو الرحمن الرحيم فإن المعرفة الحقيقية بمعاني رحمة الله لا تتأتى إلا بمعرفة آثار هذه الرحمة في الخلق والناس والدنيا والآخرة، وهكذا إذا علمنا أن الله شديد العقاب، يؤاخذ بالذنب، ويعاقب به فلن نعلم حقيقة هذه الصفة إلا إذا عرفنا آثارها في الخلق والناس.
الله سبحانه وتعالى هو الرب الرحمن الرحيم، الحليم الكريم المنان، الرءوف، السميع العليم، الغفور الودود، ذو المن والإحسان، والذي وسع كل شيء رحمة وعلماً.
وهو نفسه سبحانه الملك القهار الغالب، الجبار المتكبر الذي يؤاخذ بالذنب، شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو العزيز الحكيم.
وإذا قرأت القرآن الكريم وجدت أن الله سبحانه وتعالى لا يذكر رحمته إلا وذكر صفات عذابه ونقمته.
وأنه يذكر عباده دائماً أنه الرحمن الرحيم، وأن عذابه هو العذاب الأليم.
قال تعالى: {نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم، وأن عذابي هو العذاب الأليم}.
وقال تعالى: {حم* تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم* غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير}.
فذكر عباده في مطلع هذه السورة (سورة غافر) أنه الله العزيز العليم، وأنه غافر الذنب، وهذا من صفات رحمته وإحسانه وبره بعباده المؤمنين التائبين، وأنه سبحانه شديد العقاب، وهذا في عباده الظالمين الكافرين الفاسقين..
وأنه سبحانه ذو الطول الغني عما سواه، الذي له الملك كله، وله الأمر كله..(34/1)
وقال تعالى في ختام سورة الرحمن التي خاطب الله فيها الإنس والجان، ودعاهم إلى الإيمان به، وبين لهم أنه مندوحة لأحد منهم عن الإيمان به والإذعان له، وأنه أحداً منهم لن يخرج من قبضته وملكه وقهره، ثم ذكرهم سبحانه وتعالى بكيفية عقوبته على الذنب فقال: {فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان* فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان* يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والأقدام* فبأي آلاء ربكما تكذبان* هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون يطوفون بينها وبين حميم آن* فبأي آلاء ربكما تكذبان}..
ثم بين سبحانه وتعالى في وصف طويل كيفية إنعامه وإكرامه وإحسانه إلى عباده المؤمنين فقال: {ولمن خاف مقام ربه جنتان* فبأي آلاء ربكما تكذبان* ذواتا أفنان* فبأي آلاء ربكما تكذبان* فيهما عينان تجريان* فبأي آلاء ربكما تكذبان متكئين على فرش بطائنها من استبرق وجنى الجنتين دان* فبأي آلاء ربكما تكذبان* فيهن قاصرات الطرف لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان* فبأي آلاء ربكما تكذبان* كأنهن الياقوت والمرجان* فبأي آلاء ربكما تكذبان* هل جزاء الإحسان إلا الإحسان} ثم بين سبحانه نعيماً دون هذا النعيم لعباده المؤمنين.
ثم ختم ذلك سبحانه وتعالى بقوله: {تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام}..، فختم هذه السورة العظيمة ببيان أنه الرب الإله المتصف بصفات الجلال، وهي صفات العظمة والكبرياء، والقهر والبطش، وصفات الإكرام وهي أنه الرب الرحمن الرحيم الرؤوف الكريم ، ومن أجل ذلك نال أهل معصيته ما نالوا من النار والخسار والدمار، ونال أهل طاعته ما نالوا من الجنة والنعيم والرضوان والإكرام..
وفي سورة النجم يعلم الله سبحانه وتعالى بصفات جلاله وجماله، ورحمته وعظمته وكبريائه، مذكراً أن هذه الصفة مع هذه الصفة، وأنه الرحمن والجبار والرحيم وشديد العقاب، وأنه الغفور وشديد العقاب..(34/2)
قال تعالى: {وأن إلى ربك المنتهى وأنه هو أضحك وأبكى وأنه هو أمات وأحيا* وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى* من نطفة إذا تمنى* وأن عليه النشأة الأخرى* وأنه هو أغنى وأقنى* وأنه هو رب الشعرى* وأنه أهلك عادا الأولى* وثمود فما أبقى* وقوم نوح من قبل إنهم كانوا هم أظلم وأطغى* والمؤتفكة أهوى * فغشاها ما غشى* فبأي آلاء ربك تتمارى* هذا نذير من النذر الأولى* أزفت الآزفة* ليس لها من دون الله كاشفة* أفمن هذا الحديث تعجبون* وتضحكون ولا تبكون* وأنتم سامدون* فاسجدوا لله واعبدوا}..
فهو الذي أضحك أهل الجنة عندما رحمهم ومن عليهم، وأبكى أهل النار بكاء لا انقطاع له بكفرهم وعنادهم، وهو الذي أحيى بالإيمان من شاء، وأمات بالكفر من أراد، وهو الذي أهلك الظالمين وأنزل بهم بأسه الذي لا يرد {وأنه أهلك عاداً الأولى، وثمود فما أبقى} (أحداً منهم يمشي الأرض)، وقال تعالى: {فهل ترى لهم من باقية} {وقوم نوح من قبل أنهم كانوا أظلم وأطغى والمؤتفكة}، (قرى لوط في وادي الأردن التي قلبها على أهلها عند الصباح) {إن موعدهم الصبح} {أليس الصبح قريب}!! {فغشاها ما غشى} من المطر الخبيث وهذه آثاره لليوم (البحر الميت)، والحجارة التي حصدتهم عن آخرهم {إنا أرسلنا عليهم حاصباً إلا آل لوط نجيناهم بسحر} {وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل منضود مسومة عند ربك، وما هي من الظالمين ببعيد}.
قال تعالى: {وقوم نوح} (أي أهلكناهم) {إنهم كانوا هم أظلم وأطغى} أي من قوم هود، وقوم صالح، وإخوان لوط!! ثم قال تعالى مخاطباً: {فبأي آلاء ربك تتمارى هذا نذير من النذر الأولى}.
جميع أهل الإيمان يخافون عقوبة الله:(34/3)
اعلم -رحمني الله وإياك- أن جميع أهل الإيمان والعلم بالله يخافون الله سبحانه وتعالى، فالملائكة مع شدة خلقهم، وعظيم بنائهم وقوتهم {يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون} وهم كما وصفهم ربهم سبحانه وتعالى: {لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون* يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون}!!
وأهل الإيمان جميعاً من الإنس والجن يخافون ربهم سبحانه وتعالى وكلما ازدادت معرفتهم وعلمهم بالله كلما ازدادوا منه خوفاً وله سبحانه وتعالى خشية، وذلك أنه سبحانه وتعالى يعاقب بالذنب، ويؤاخذ به، وأن من عصاه فقد تعرض لسخطه وعقوبته.
ذنوب لا يغفرها الله لأحد من خلقه:
وثمة ذنوب لا يغفرها الله سبحانه وتعالى لأحد من خلقه ولو كان أعظم الطائعين وأقرب المقربين.. فالشرك به لا يغفره الله لأحد من خلقه مهما كان، لا لملائكته ولا لرسله ولا لأوليائه. قال تعالى عن الملائكة: {ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين}.
وقال تعالى في شأن الرسل: {ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون}. وقال تعالى لأشرف رسله وأكرم خلقه من البشر: {ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين* بل الله فاعبد وكن من الشاكرين}.
ومن المعاصي التي لا يغفرها الله لأحد من خلقه قط: الكذب عليه سبحانه وتعالى، وترك أمره كبراً وتعالياً. قال تعالي: {فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جاءه أليس في جهنم مثوى للكافرين}..
وقال تعالى: {ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء، ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم، اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق، وكنتم عن آياته تستكبرون}.(34/4)
وقال تعالى في شأن أشرف خلقه وأعظم رسله: {ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين فما منكم من أحد عنه حاجزين}.
المؤاخذة بصغار الذنوب وكبارها:
وكل من عصى الله سبحانه وتعالى فهو معرض للعقوبة والمآخذة مهما كانت قدمه في الخدمه، وسابقته في الفضل ما لم يغفر الله سبحانه وتعالى له.. فإن الرب هو الإله العظيم الكبير، ومعصيته شيء عظيم مهما كانت هذه المعصية.. لقد عصى آدم الذي خلقه الله بيديه، وأسجد له ملائكته وعلمه أسماء كل شيء، فلما عصى آدم ربه تعرض للمساءلة، ولو أنه لم يتب ولم يستغفر لحلت به العقوبة. قال تعالى: {فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم}.
وقد علم آدم عندما عصى الله أثر المعصية وجزاءها فقال مناشداً ربه الصفح عنه وعن زوجه {ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين}.
وكل رسول من رسل الله بدرت منه بادرة خلاف الأولى يظل خائفاً منها من يومه ذاك إلى يوم القيامة..
يقول آدم في حديث الشفاعة: [إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله، ولن يغضب بعده مثله، قط وإني عصيت ربي فأكلت من الشجرة اذهبوا إلى غيري!! نفسي نفسي نفسي!!].
ويقول نوح: [إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني عصيت ربي، فدعوت على قومي. نفسي نفسي نفسي].
ويقول إبراهيم عليه السلام وهو خليل الرحمن: [إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني قد عصيت ربي فكذبت ثلاث كذبات. نفسي نفسي نفسي]!!
ويقول موسى عليه السلام -نفس مقالة الرسل قبله-: [إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني عصيت ربي، فقتلت نفساً لم أومر بقتلها، اذهبوا إلى غيري. نفسي نفسي نفسي].(34/5)
وقد كان من فضل سبحانه وتعالى على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الرسل، وسيد المرسلين أن الله خصه بأن غفر له ذنبه في الدنيا وهو حي ما تقدم منه وما تأخر.
وعصاة المؤمنين بكبائر الذنوب -دون الكفر والشرك والإباء والعناد والتعالي على الله- معرضون للعقوبة وهم تحت المشيئة الإلهية من شاء الله عذبه ومن شاء رحمه.
والعقوبة على الكبائر شيء عظيم جداً فإن من ترك الزكاة من أهل الإيمان يعذب على تركها خمسين ألف سنة، يحمى له ذهبه وفضته التي كنزها ثم تصفح صفائح يكوى بها جبينه وجنباه وظهره في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ثم يحاسب بعد ذلك: إما إلي الجنة، وإما إلى النار، وصاحب الإبل التي لا يؤدي زكاتها يبطح لها يوم القيامة بقاع قرقر ثم يؤتى بها جميعها لا يترك منها فصيل: تعضه بأنيابها، وتطؤه بأخفافها كلما مر عليه أخراها رد عليه أولاها، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة قبل أن يرى مصيره إلى الجنة أو إلى النار.
هذا في مانع الزكاة فقط وإن كانت له كبائر أخرى فقد يجتمع عليه عقاب هذا وهذا.
ومن عصاة المؤمنين من يمكث في النار من شاء الله أن يمكث ولا يخرجون منها إلا حمماً سوداء يعاد بناؤهم من جديد ليسكنوا الجنة في نهاية المطاف.
ومن عصاة المؤمنين من يعذب في قبره في صغير أو كبير ما شاء الله أن يعذب.
والحساب عند الله سبحانه وتعالى على كبير الذنب وصغيره.
وكما أن الثواب على عظيم الطاعة كالجهاد في سبيل الله والشهادة وقليل الطاعة كإطعام لقمة، والتصدق بدرهم، وسقي كلب شربة ماء [وفي كل كبد رطبة أجر].
قال تعالى: {فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره}.
{وقالوا يا وليتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، ووجدوا ما عملوا حاضراً ولا يظلم ربك أحداً}.
عذاب الله للكافرين:(34/6)
وأما أعداء الله من الكافرين والمعاندين فإن عقاب الله سبحانه وتعالى لهم شيء عظيم كبير.. وإنزال الله سبحانه وتعالى عقوبته بالكافرين والمنافقين من آثار صفات جلاله وعظمته وكبريائه فإنه سبحانه وتعالى هو القهار الجبار شديد العقاب، ذي الطول.
فأول أعداء الله هو إبليس اللعين، طريد الرحمة، الرجيم، وقد كان ما ناله من سخط الله وعذابه عقوبة على تكبره وتعاليه عن أمر خالقه وإلهه سبحانه وتعالى فلما تكبر عن طاعة ربه جل وعلا جاءه الأمر الإلهي: {فأخرج منها فإنك رجيم وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين}.
ثم كان مصير ومآل كل من اتبع هذا الشيطان الرجيم أن يناله ما ناله من اللعن والطرد والإبعاد: {قال اخرج منها مذءوماً مدحوراً لمن اتبعك منهم لأملئن جهنم منك ومنهم أجمعين}.
فلما أطاعه أحد ولدي آدم في قتل أخيه كان مآله أن يتحمل إثم نفسه، وإثم كل من اتبعه في قتل مسلم ظلماً وعدواناً . قال صلى الله عليه وسلم: [ما من نفس تقتل ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل منها لأنه أول من سن القتل].
ولما عصى قوم نوح ربهم، وأصروا على كفرهم وعنادهم وشركهم وعباده آلهة مفتراه لم يإذن الله لهم في عبادتها: {وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن وداً ولا سواعاً ولا يغوث ويعوق ونسراً}.
فلما أصروا على الكفر والشرك كان مآلهم كما قص الله علينا {مما خطيئاتهم اغرقوا فأدخلوا ناراً فلم يجدوا لهم من دون الله أنصاراً}.
ولما تبعهم في الكفر عاد قوم هود أهلكهم الله بالريح العقيم وجعل إهلاكهم آية لمن بعدهم، وجاءت ثمود فصنعوا مثل ما صنع من سبقهم من أهل الكفر والعناد، فكان مآلهم كمآلهم.
قال تعالى: {فكلاً أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصباً، ومنهم أخذته الصيحة، ومنهم خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم، ولكن كانوا أنفسهم يظلمون}.(34/7)
وقال تعالى في سورة هود بعد ذكره سبحانه لإهلاك الظالمين: {ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين إلى فرعون وملئه فاتبعوا أمر فرعون وما أمر فرعون برشيد* يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد المورود* واتبعوا في هذا لعنة ويوم القيامة بئس الرفد المرفود* ذلك من أنباء القرى نقصه عليك منها قائم وحصيد* وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك، وما زادوهم غير تتبيب* وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد}.
ومن قرأ القرآن كله رأى أن عامة قصصه في ذكر مصارع الغابرين وما فعله سبحانه بالمكذبين والكافرين من العقوبة والنكال والدمار وأنه سبحانه وتعالى اتبع بعضهم بعضاً في الهلاك. قال تعالى: {ثم أرسلنا رسلنا تترى كلما جاء أمة رسولها كذبوه فأتبعنا بعضهم بعضاً وجعلناهم أحاديث فبعداً لقوم لا يؤمنون}.
هذا مع إخباره سبحانه وتعالى أن له الحمد في الأولى والآخرة على إهلاك الظالمين، وتطهير الأرض منهم. {فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين}.
وأن هؤلاء المكذبين الضالين ليس هناك من بكى عليهم ولا ذرف دمعة من أجلهم {فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين}.
وقد قال صالح وهو يرى قومه يهلكون: {قال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين}.
وقال شعيب وهو يرى عذاب الله يحل بقومه: {قال يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم فكيف آسي على قوم كافرين}.
وأما الرب القدير سبحانه وتعالى فإنه أهلكهم ولا يخاف أن يسائله أحد، فإنه الإله المتفرد الذي لا إله غير ولا رب سواه.. قال تعالى عن قوم صالح: {فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها ولا يخاف عقباها}.(34/8)
والقرآن في معظمه كتاب نذارة وتحذير من عقاب الله جل وعلا مع كونه كذلك كتاب بشارة. قال تعالى: {وكذلك أنزلناه قرآناً عربياً، وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكراً}.
وقال تعالى: {الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً قيما لينذر بأساً شديداً من لدنه!! ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجراً حسناً} الآيات.
وقال تعالى: {يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد}.
أهوال النار والقيامة تنبئك بصفات الله سبحانه وتعالى:
ومن أراد أن يعلم صفات الجلال من الرب العظيم على الحقيقة فليقرأ ما أنزل الله من أوصاف العذاب والنكال وأهوال يوم القيامة، وما خلقه الله وأعده لأعدائه من النكال والعذاب والآلام والخزي والندامة، وليتفكر في هذا وليتعظ، وسيعلم أن من خلق هذا كله وأعده ليعاقب به أعداءه إله قوي قاهر جبار شديد العقاب، أخذه أليم شديد.
قال تعالى: {فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا اعتدنا للظالمين ناراً أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقاً}.
وقال تعالى: {إنا اعتدنا للكافرين سلاسل وأغلالاً وسعيراً}.
وقال تعالى: {إن المجرمين في ضلال وسعر يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر}.
وقال تعالى: {إن جهنم كانت مرصاداً للطاغين مآباً لابثين بها أحقاباً لا يذوقون فيها برداً ولا شراباً إلا حميماً وغساقاً جزاءاً وفاقا إنهم كانوا لا يرجون حساباً وكذبوا بآياتنا كذاباً وكل شيء أحصيناه كتاباً فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذاباً}.
وقال تعالى: {فإذا انشقت السماء فكانت ورده كالدهان فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والأقدام هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون يطوفون بينها وبين حميم آن}.(34/9)
وقال تعالى: {فيؤمئذ لا يعذب عذابه أحد ولا يوثق وثاقه أحد}. أي لا يعذب أحد أعداءه كما يعذب الله أعداءه، ولا يوثق أحد أعداءه كما يوثق الله أعداءه.
وقال تعالى: {وأما من أوتي كتابه بشماله فيقول يا ليتني لم أوت كتابي* ولم أدر ما حسابي* يا ليتها كانت القاضية* ما أغنى عن ماليه* هلك عني سلطانية* خذوه فغلوه* ثم الجحيم صلوه* ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعاً فاسلكوه* إنه كان لا يؤمن بالله العظيم* ولا يحض على طعام المسكين* فليس له اليوم ههنا حميم* ولا طعام إلا من غسلين* لا يأكله إلا الخاطئون}..
من أجل هذا يخاف المؤمنون ربهم سبحانه وتعالى:
ولما علم العباد المؤمنون أن ربهم سبحانه وتعالى شديد العقاب يأخذ الذنب، ويعاقب بالذنب، وأن عذابه ليس كعذاب المخلوقين، إن المخلوق الذي يقدر على غيره لا يملك أن يعذبه إلا إلى قبض روحه، وأما الرب سبحانه وتعالى فإنه كتب الخلود أبداً في العذاب لأعدائه في أشد ما يعذب به المخلوق وهو النار: {إنه من يأت ربه مجرماً فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيى}.
لما علم المؤمنين أن ربهم يؤاخذ بالذنب، ويعاقب العقاب الأليم خافوه أشد الخوف، وباتوا ليلهم وظلوا نهارهم على وجل عظيم وخوف كبير.
وحق لهم ذلك فإن الله سبحانه وتعالى {هو أهل التقوى وأهل المغفرة}.
وتحذير الله عباده من عقوبته لا يختص بالكافرين، بل والمؤمنين لو خالفوا أمره كما قال تبارك وتعالى مخاطباً عباده المؤمنين أن يعصوه ويوالوا أعداءه من الكافرين {لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير* قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله ويعلم ما في السموات وما في الأرض والله على كل شيء قدير* يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً ويحذركم الله نفسه والله رءوف بالعباد}..(34/10)
ومعنى {يحذركم الله نفسه} أي يحذركم من نفسه من عقابه وسخطه إذا خالفتم أمره سبحانه وتعالى.
**********
*****(34/11)
كلمة في رثاء أستاذي وشيخي محمد ناصرالدين الألباني
رحمه الله
بقلم: عبدالرحمن بن عبدالخالق
كنت أقرأ عن الحب من أول نظرة، ولم أعرفه إلا عندما وقع نظري على أستاذي محمد ناصرالدين الألباني لأول مرة، وكان ذلك بعد أن سجلت اسمي في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة عند أول افتتاح لها، وتعيين الشيخ الإمام محمد بن ابراهيم مفتي المملكة –رحمه الله- رئيساً لها ثم اختيار سماحة والدي الراحل الشيخ عبدالعزيز بن باز نائبا للرئيس.
وانتقل شيخنا ابن باز –رحمه الله- من الرياض إلى المدينة وشرع في استقطاب وانتداب علماء السنة من كل حدب وصوب، ووقع الإختيار لتدريس الحديث النبوي على شيخنا محمد ناصرالدين الألباني، ولم نكد نسمع بمجيئه حتى سارعنا لاستقباله، وعندما وقع بصري عليه لأول مرة امتلأ قلبي محبة له. وقبل أن ينطق أمامي بكلمة، رأيت رجلاً فارع الطول أبيض شديد البياض شعر لحيته رمادي أشهب له عينان زرقاوان كأنهما بحيرتان صافيتان ينبعث منهما شعاع إذا صوبهما يكاد يصل إلى أعماقك وتحس أنه يقرأ أفكارك.
في أول مجلس ضمنا في ديوان سماحة والدنا الراحل عبدالعزيز بن باز رحمه الله، اعتقدت ان الله قد ابتعث لنا محدثاً من العصور السابقة، فقد كانت صورة شيخنا ناصرالدين تماماً كالصور الني كانت ترتسم في عقولنا عن البخاري والنسائي والسجستاني والنيسابوري. لقد كان شيخنا الألباني صورة مطابقة في الشكل الذي كان في خيالنا لأولئك الأئمة ثم في الموضوع علماً بالسنة، وإحاطة بالحديث، وأخذاً بالعزائم، وصدقاً وورعاً..
وعندما طابق شيخنا الألباني ما كان في خيالنا عن محدثي الإسلام الأولين وقعت المحبة. لقد اعتقدت وقتها أنني في صحبة رجل من السلف الأولين.(35/1)
لازمت الشيخ –رحمه الله- بعد هذا المجلس، وشعرت أنني مع أب ثالث بعد أبي وشيخي عبدالعزيز بن باز رحمه الله، ووالدي الشيخ عبدالخالق رحمه الله.. لقد رأيتنا مع جبل من جبال الحفظ والعلم: عالم دؤوب صبور على البحث والتنقيب، والتحقيق، لا يعرف الكلال ولا الشكوى، يبذل العلم لكل أحد، ويتمنى أن يتعلم طلاب العلم كلهم هذه الصناعة الدقيقة التي أتقنها وهي علم الحديث، يبذل ثمرة بحثه ولو كانت لأيام طوال حول تحقيق حديث، أو فائدة أو أثر يبذله لمن يطلبه مجانا وبغير عوض.
لقد تعلمنا من شيخنا علماً كثيراً كان أبرزه التفكير العلمي، وعدم إطلاق الكلام على عواهنه، وتحقيق عزو كل نقل إلى صاحبه.
تعلمنا منه دروساً غالية في الدعوة إلى الله كان أهمها الإهتمام بالغرس قبل الإهتمام بالحصاد، والعمل للإسلام في كل اتجاه، وبذل العلم للكافة والبعد عن حصره في الدوائر الضيقة.
تعلمنا منه أن ننزع ربقة التقليد وأن نكون من أهل البصيرة والنظر. ولا شك أن هذا قد كان درساً عظيماً ولكنه كان أكبر من عقولنا يوم تلقيناه، فقد كنت آنذاك في بداية العقد الثالث من عمري وحصيلتنا من العلم قليلة ومعرفتنا بعلماء المسلمين محدودة، وغطى ضوء أستاذنا ناصرالدين –في عقولنا- على كل ضوء فأخذنا أقواله كلها.. ثم علمنا بعد ذلك أن اختيارات الشيخ في بعض منها نظر، وأن القول الذي سمعناه منه مراراً وتكراراً عن مالك بن أنس رحمه الله "كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب هذا القبر" يعني النبي صلى الله عليه وسلم ينطبق كذلك على شيخنا ناصرالدين.
تعلمنا من شيخنا ناصرالدين العدل والانصاف، والشهادة بالحق والقيام بالقسط.
أما الشيء الذي رأيناه فيه، ولم نستطع أن نتعلمه ونتخلق به فهو الدأب والمثابرة والصبر وسهر الليالي لتحقي نص، وتصحيح عزو، والتحقق من شخصية راوٍ.. أقول عن نفسي لقد رأيت هذا من شيخي الراحل ولكني أشهد أنني لست من هذا الأمر في قليل ولا كثير.(35/2)
فما زلت أحب أن أكون مقلداً في الحديث لعلماء الإسلام العظام رجال الاستاذ وخاتمتهم عندي شيخي ناصرالدين.
لقد كان شيخنا ناصرالدين رحمه الله شمساً أضاءت أرض الإسلام.. لقد أحدث انقلاباً هائلاً في حياة طلاب العلم في شرق الأرض ومغربها. فقد نبه المسلمين إلى ضرورة الأخذ بالحديث الصحيح وحده، وترك ما عداه، وأنه لا يجوز التساهل في ذلك، وأنه يجب تنقية تراث المسلمين كله في التفسير والتاريخ، والمواعظ، والفقه مما دخله من الحديث الضعيف والموضوع، وأنه يجب على كل مؤلف، وخطيب وواعظ ومتكلم إلا ينسب لرسول الله إلا ما صح عنه،.. لقد كان الناس عمومهم في غفلة شديدة عن هذا الأمر قبل أن يبدأ ناصرالدين مسيرته في العلم والدعوة، ثم بجهاده وجهوده حول هذا الأمر إلى واقع يسري في العالم الإسلامي كله.
ولقد هيأ الله لشيخنا ناصرالدين ما لم يتهيأ لغيره من علماء الحديث المعاصرين من وسائل النقل والنشر والشهرة، ولذلك ذاع صيته وعرفه القاصي والداني، وأذعن الجميع لعلمه، وشهد له الموافق والمخالف.
ومع ما كان فيه من العمل الدؤوب في التحقيق والتأليف والدروس والدعوة والمناظرات، فلم ينس أبناءه وتلاميذه.
في يوم الجمعة 21 جمادي الآخرة 1420 هـ – 1/10/1999 تلقيت سلامه وتحيته وسؤاله عني يحمله ابن أخيه الشيخ عبدالله آدم الألباني.
وفي يوم السبت 22 جمادي الآخرة 1420 – 2/10/1999 تلقيت نبأ وفاته.
فرحمه الله رحمة واسعة، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خيراً، وجمعنا وإياه مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين يوم القيامة.(35/3)
رفعت الإقلام.. وجفت الصحف
وقضى نحبه علم الأمة وشيخ السنة
الإمام الألباني
للشيخ محمد إبراهيم شقرة
نعم لقد جفت الصحف، ورُفعت الأقلام، وثبتت الأقدار في مستقرها، بعد أن قطعت الأشواط الزمانية التي قُدرت لها فوق صعيد الحياة، وألمّ بها الوهنُ، وأقعدها العجز، وأسلمها إلى النهاية، الصائرة إليها الأشياء كلها، ومنها، وعليها، حين غاب عنها صاحبها، وآثر اللحاق بالملأ الأعلى.
وما كان يكون للأقدار أن تتخلف عن مواقعها، وقد أوثقها الله إليه بإرادته الحكيمة مذ كانت إرادته، مذ كان ولم يكن شيء، فهو الأول والآخر والظاهر والباطن، وهو الحكيم الخبير، فلا راد لها إلا بأقدار أخرى تقضي إرادته الحكيمة بغير الذي قضت به، فأين المهرب من قدرٍ، وقد سيقت معه وإليه إرادات المخلوقات كلها بقوتها، وضعفها والقت عنده راحلة العمر حبلها، توثق به إلى النهاية الحتم التي لا تختلف عليها إرادات البشر جميعها، إلا بما يكون منها من طواعيةٍ راضية، وتسليم لابث، رضيت ذلك أم كرهت !؟! ذلكم أنه كائن لا محالة.(36/1)
وأَجاء الله قدره إلى الروح القوية، التي ظلت زهاء ستة عقود تحتضن لواء السنة في عزيمةٍ لا تعرفُ التردد، وصبر لا يعرف الضجر، وإقدامٍ لا يعرف النكوص، ودأب موصول لا يعرف الوهن، وسهر عُمّيت الطرائق على الإجهاد إليه، ودقّة صبور تقاصر عنها الهمم، وأمانة واعية أذكرت أهل العلم بما يجب عليهم من حقوقها، واستقصاء أحاط علماً بكل ما ندّ من قواعدها وخفي من أصولها، وشغف ظلّ مشبوبا به قلبه حتى سقط القلم من بين أصابعه، واستحضار للنصوص والآثار والسنن والبلاغات بأحكامها، وعزوها إلى مظانِّها، والتأليف بينها، والناسخ والمنسوخ منها، والاستنباطات الفقهية الحسنة، إلى غير ذلك من علوم السنة التي وضع لها خدّه وعشقها قلبُه، وأناخ على صدره منه همُّها واستوى عليه سوقها، وأصاب كلّ طالب علم محب للسنة ما قدر عليه من ثمرها. ولم تعرف السنة النبوية في شطر عمرها الثاني مثله في قوة سَبرِه، واستدراكه على السابقين، وتيسرٍ وتسهيلٍ للاحقين، واختصار للمتون وتوليف بينها وإعمال دقيق محكم لقواعدها وأحكامها وتتميم للنقص الذي بدا عُواره فيها ورد وضبطٍ وتقويم للخلل الذي وقع عليها، وتبيان لعلل التي حلّت بها، وتصويب للأخطاء التي عكَّتها، وثبتت زماناً مديداً لها، وسلّم بها العلماء تسليما مطلقاً لطول العهد بها، لخفاء عللها على السابقين وكان علم السُّنة قد صار إلى غياهب النسيان، وانقطع به عقوداً طويلة، حتى صار الاشتغال به ضرباً من المستحيل، بل وصار يكاد أن يعاب من يهمُّ بالاشتغال به إلا ما يكون من طباعة كتبها، والاهتمام بحفظ نصوصها بأسانيدها أو مجّردة منها، حفظاً يكون الحافظ به نسخة جاد بها حفظ الحافظ على النسخ التي أخرجتها المطبعة من تحت أضراسها لكتاب من كتبها ليظل الكتاب محفوظاً كما هو بأخطائه وأغاليطه التي علقت بصحائفه من أول مرة طبع فيها فقد أكتسب هذا الكتاب قدسيةً، تسمو إلى قدسية المصحف، على أن ليس في آياته خطأ ينفي عنه(36/2)
الصواب ولم يعدُ الحفظ هذا بل لربما شُهِر الحافظ حتى ليقال فيه لقد أدرك بركةً عزّ على الناس نوالها، وهذا حقٌ لا ريب فيه وبخاصة وإن كان الحفظ أخذاً بإجازة، ولكن أن يبقى عند حدود الحفظ فذلك يقبل حتى من العوام الذين يجيدون حفظ القرآن.
فلما طلع النجم الأكبر وسطع ضوؤه، وتلألأ في سماء الشام سناه قال قائل السُّوءى : أأعجميٌّ وعربيٌ، وتناحلت الذّم عليه السنٌ بأسوأ من هذه القالة فيه وتلاحت مقاول الحسد تصد بالكلام عنه، ولكأنما حُبست عن الخير كله قولاً وفهما لأسبابه، وناءت بعجزٍ أصمّها عن سماع شيء مما وهبه الله سبحانه ورضيه له مباركاً فيه، وأسلس له قياده.
وقد عرفت ديار الشام نفراً من أهل العلم كانوا يعنون بالسّنة لكنها عناية لم تخرجهم عن قيد المذهبية التي كانوا قد وجدوا آبائهم عليها فكانت مذهبيتهم تقهرهم على ليِّ أعناق النصوص التي يحفظونها ليّاً يدينها من المذاهب التي صارت لها قدسية تعلو قدسية السنن والآثار ليكون المذهب الذي نشأ عليه أحدهم هو الأول قبل الآخر، والآخر بعد الأول لا يطاول بحق، إلا أن يتحول المتمذهب عن مذهبه الذي لم تستطع قدسيته أن تحول دون تحوله عنه، وذلكم حين يصعب جداً عليه أن يسيغ بعض المسائل التي كان التسليم بها قبلُ هو النجاة والمرقاة، كالشيخ القاسمي رحمه الله، وغالبية أهل بلاد الشام على المذهب الشافعي.(36/3)
فلما أن طلع نجم ذلك (الأعجمي) زعموا، وزعموا مطيّة الكذب، ومرتع الهوى وسوق الدّقل ! ومباءة العجز الباهظ فيا حسرة على المسلمين، ما يأتيهم من عالم أفاء الله عليه بعلم الكتاب والسنة إلا كانوا عنه معرضين، وله مُعادين، وعن قوس واحدة له رامين، ولكأني به رحمه الله على حياءٍ سابغ حين يعرض لذكر قوله عليه السلام : "إن الله لا ينزع العلم منكم بعد ما أعطاكموه انتزاعاً ولكن يقبض العلماء بعلمهم ويبقى جهّال، فيُسألون فيُفتون، فيَضلُّون ويٌضِلٌّون " وهو ممن نقطع من تلكم الطائفة التي بموتها يموت العلم وتنقطع مادته الصالحة وذلكم من خشية أن يقول الأفَّاكون الخرَّاصون المبطلون أنه إنما يعني نفسه.
وحتى لو أنه أراد أن يريد نفسه لما جاوز عتبة الحق والصدق والحقيقة، ويكون تحديثاً منه بنعمة الله، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.(36/4)
ولقد عهدنا منه حين كان يثني أحد عليه بعلمه يقول : ما أنا إلا طويلب علم صغير ثم كلمة الصِّدِّيق على لسانه : " اللهم اجعلني خيراً مما يظنون واغفر لي ما لا يعلمون، ولا تؤاخذني بما يقولون "، وكثيراً ما كانت دموعه تخالط كلماته فتقطع حروفها ولا يكاد يبين عن كلماته إلا من بعد انقطاع دموعه ولقد لقي رحمه الله من المشايخ المذهبيين ما لقي العلماء الربانيون من قبله من سوء الظن بكل مُؤثِّمة من القول والرَّمي بسابغات التُّهم، والزمان يتداعى حاضره بماضيه وأوله بأخره وشاهده بغائبه، حتى يكون كأنما هو كله بكل ما حواه مخلوقاً ليكون شاهداً على نفسه أنه زمان واحد يذكر بخلق السماوات والأرض { أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون } وأن كثيراً مما خلق الله في أجزاء هذا الزمان العتيد الطويل الممتد فوق رقعة الأرض والسماء يتساوون في الأذواق والعقول، وإن تفاوتوا في صورهم وأشكالهم وأن أسوأ الأذواق وأردأ العقول عقول الذين تلطخوا بمنابذة السنة المطهرة وأذواق الذين باتوا على جمر العداوة لأحكامها وآدابها فناءوا جميعاً بأوزار الناس الظَّانِّين فيهم الظَّن الحسن وما هم إلا من خبال الأوهام المُوَشَّاة بضلال الرَيب ورِيَب الضلال، لا يُليذُهم مكرمهم السيء إلا إلى مكر مثله أو أسوأ.(36/5)
وكان للشيخ حظ من مثل هذا، نودي به في الناس أنه " الإمام " بلا منازع ناخت ببابه رواحل علم السنة فندب الله لها من أراد به خيراً ليأخذ من أوقارها ما يقدر على أخذه فما نقص منها شيء إلا وصار إليها أضعاف أضعاف ما نقص -- بدأب الشيخ وصبره وإحاطته - ومن دخل مكتبته التي أنشأها بقلمه لا يكاد يصدق أن تلك المخطوطات المنضودة فوق رفوفها، وسطَّرها قلمه واجتناها عقله ورصفها بجَلَدِه هي صنعته وَحدَه " وبخاصةٍ منها "سلسلته الذهبية " الصحيحة والضعيفة التي تنعم الأمة إلا بأقل من نصفها قبل موته ولو أني حلفت يميناً فيها أنه ما من حرف ولا كلمه فيما صنف إلا وهو من خطه هو، لذا كانت البركة الخالدة فيما مَنَّ الله عليه من علم أفاض به معرفة باقية في عقبة إلى ما شاء الله ولو أنه سلك طريق التأليف التي أمعن في سلوكها الحاطبون في ظلمات الخَتلِ، والنهب والسطو، وسخَّر طوائف من الجهلاء بأجر حسن يبغون التكسب الرخيص من وراء الأردية الفضفاضة أو الحازقة الحاقبة التي يودون أن يستروا بها عوراتهم، وقبيح فعلاتهم وما هم بفاعلين،وما أقبحها من عورات سمّنها الجشع الطُّلَعة، وأهزلها من بعد تجشُمُها محولات الإبقاء على ظنون الناس المخدوعين فيها فما أصابت إلا حزنًا على ما فاتها، وإلا هلعاً من خوف على ما حسبته أنه خالد محبوس عليها، فهي بينهما على وجل غير مجذوذ، وأني يكون لها أن تضع خفافها إلا حيث يقضي به عليها هواها ؟.(36/6)
ولقد طوَّفت السنة بآفاق الأرض، وتبحث عن مستقر لها فما وجدت في هذا القرن الجائلة فيه الفتن آمن لها منه، ولا أعطف لها من قلبه، ولا أحفظ لها من صدره فوهبت له نفسها في ثقة راضية، ورضيته أن يكون لواءها العالي الرفيع تحمله في قوة وجلادة ينتاب به ليل نهار نوادي العلم وتغشى به جموع طلابه وترتاد به ثَنيّات المعارف وتطلع بشارفة شوارفها فترد إليه شواردها وشواهدها كيلا يكون لغيره ما أرادته له من شرف شارف به من شرّفة الله من قبل أن يكون من أشرف شرفائها كالبخاري ومسلم وغيرهما من نبلاء الحفظة والمحدثين فزهت به أرض الشام غوطتها وبلقائها حيث منشؤه، ومُهاجَره، ومُقامه الذي كرّمه، وثواؤه، وتغنت بذكره أرض الكنانة، وفتحت له ذراعيها أرض الجزيرة والفراتين وتساعت إلى بابه في جهار ( وخفاء) دور النشر تطلب ود قلم بصبيب عطائه.
وأحمد الله ربي سبحانه أن أولاني صحبة كريمة فائقة له دامت نحواً من خمس وثلاثين سنة، ما كانت لتدوم على صفاء وبرور لولا ما أوقرت له فيها من صادق المودة والرعاية وشجاعة النصرة والحماية ما لم يكن لأحد سواي، لم أر لي عليه بهذا كله حقاً يؤمّل إلا ما أرتجيه من حسن ثواب الآخرة.
وطلاب العلم في زماننا يصدُق فيهم قول نبينا صلى الله عليه وسلم " والناس كإبل مائة لا تجد فيها راحلة " وقد أوشك الناس أن يدركوا بطلاب العلم وما ينشرون في الناس من كفاف الحروف والمعاني علامة من علامات الساعة وهي :"فشوّ القلم " وليس أدلّ على وجود هذه العلامة أن طلاب العلم أنفسهم في زماننا -على أنهم طلاب علم - ليسوا عالمين بأنهم هم أنفسهم، فهي هم وهم هي، وبأنها علامة قائمة فيهم وأنهم هم نتف متفرقة منها وأن الاكثار من الكتابة والتأليف وإن ظُن أنه سيكون به ومنه ومعه علم يعني (فشو القلم ) أوسع فيهم جهلاً وغروراً.(36/7)
ملاحظة هامة : أرجو طلاب العلم واحداً واحداً في أقطار الأرض وجهاتها أن لا يشير أحدهم لنفسه بأصبع الاتهام (بأنه المعني بذلك ) إلا إن علم من نفسه علم اليقين (بأنه كذلك) والواحد فرد شائع كما يقال، وذلك خشيةً من أن يكون الظن منهم لا يوافق ( مَطرحَه أو مُطّرَحه ) فيرتد إليه سهم ظّنه مُصِمّاً " والعهد بنا بمثله قريب.
واحسبني صادقاً والناس معي بصدقهم أن كانوا مصدّقيّ فيما أقول : مصدقاً لما بين يديّ من شهادة ستين سنة، صدّقت بهيمنة دعواها صدقها، وبتصديق الشيخ لها بما شهدت كتبه بصدق ما حوته من علم صادق مصدق، ما نطق به لسان الأيام عدلاً وصدقاً لا لَبس فيه ولا ريب بأخذ العهد الصادق الموروث عن النبي الصادق المصدق فلكأنما كان وعد صدق من الشيخ أو مع الشيخ في حياته أو من بعد موته أن يظل منهجه في عقبه ثلجاً، يُحدّث الناس أنه سيبقى صادقاً (بكلّه) و (بأجزائه كلها ) لما أصدق بظاهر رسمه وشكله وبما أخفى من فحواه ووحيه، وبما أرتع القلوب والعقول في شجره ونجمه وبما سقاها من نمير ينعه ورضاب ثمره حتى أضحى الدليل من آي الكتاب، ونصوص السنة، وآثار علماء سلف الأمة مطلب العالم، وبغية المتعلم، ونشدان المتأدب، والتمست طرائق البحث الاستقرائي، والنظر الرَّويّ، والسبر الدُّريّ، ولم يعد لطالب العلم مكان إلا بذلك، وصار الدليل من هذه كلها أو من بعضها يطلب من قبل أن تساق المسألة من مسائل الفقه، كبيرة كانت أم صغيرة، فإما إثباتٌ بدليل، وإما نفي بدليل لتحيا التي تحيا منها عن بيّنة، ولتزول التي تزول منها عن بيّنة فيبقى علم الكتاب والسنة على جلاء المحجة، فصارت المسائل تباهي بادلتها أخواتها من المسائل الكاثرة على جُنح الظلام وفوق أريج الصبا وعلى متن عافية النهار في تسابق بين المهرة البهرة الخُلّص البررة، الذين أصابوا من كرائم العلم، وطرائف الحكمة، وأنشدوا أنفسهم الله سبحانه أن يكونوا على سواء القصد في إيراد المسائل(36/8)
العلمية بأجلى وأحلى وأغلى صفة الإيراد.
وما كان العلم أن يكون إلا في غرر المُعجزين القادرين الواهبين أوقاتهم للعلم الذي طويت صفحته، فنشرها الشيخ نشراً أوهى به قرون القرون، وشهدت له بفضل السبق به قادمات القرون، ومن أمّل أن يقوم مقامه بعزائم السنة والأثر، فليفرح بجهل ملبس غاص في وحله، وليهنأ بامنية قصيرة الأجل نَعِمَ بها يوماً ذهبت مع الشيخ إلى قبره، ومن عاد على نفسه بها من ظنٍّ أنه قادر عليها، فقد أفضى إلى سراب بقيعة، أو إلى سيل عَرِمٍ جارف.
وطال الشوط أم قصر فإن المرقد الأخير ينتظر الوافد إليه، على شوق إليه، مراً كان أم حلواً لهذا الوافد، فالعمل الذي يستقبله عند مرقده هو ما كان منه اثناء الشوط لا يزاد عليه ولا ينقص منه،{ فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره }.
وسقط القلم من بين أصابع الشيخ، وذاب الصوت القوي الندي اللطيف، الذي ملأ طباق الأرض علماً، وسكت اللسان الذي جالت الحكمة والآي من فوقه، وأطبقت الشفتان اللتان طالما تحركتا بالفقه والتأويل، وحيل بين الثرى وبين الثريا برحيله، وتطامنت الرؤوس من حزن أن لا يكون لها لقاء في حِلَق الدرس والتلقي بين يديه، وصفّقت قلوب طار أصحابها من فرح أحاط بها بغيابه، وتنفست الصُعداءَ صدور تربّع الحقد والحسد من فوقها، واستبشرت نفوس بُشمت بالسوء والبغضاء أن أعجزها إدراك فضيلة القبول التي سعت إليه من شتى أقطار الأرض، فكان بها بحق مجدد القرن، ومَفزَع العلم.(36/9)
لكن … مهلاً، مهلاً، مهلاً يا هؤلاء لقد وطئت أقدامكم أرضاً وعرة وأرهقتم نفوسكم في طرائق صعبة، وركبتم لجة بحرٍ هائجٍ موجه، ولستم والله بمنجي أمانيكم بمثل الذي أنتم عليه، وإن كان لكم رجاء فهو معلق بذنب ضبِّ، فاسعوا به إلى ذي عوجٍ في رأيه، أو إلى مبطون أفلت زمام أسره، فقد وقى الله سبحانه السنة التي احتضن لواءها علمها الأشم ستة عقود كاملة، وقام وسيبقى حصناً منيعاً لها نفرٌ من تلامذته من بعده، نذروا أنفسهم للسنة وعلومها والدعوة الغرّاء وكرامتها، ما داموا أحياء في غربة خضراء مريعة خصبة، طَلُّها هطل، ونورها فوح، وعطاؤها بركة وفرٌ، فخير لكم ألا تكونوا على وجلٍ منهم، ولا على مكرٍ بهم، فأُمةٌ محمد صلى الله عليه وسلم إمامها - وقد بشرها وأنذرها - ما يكون لها أن تختلف قلوبها، ولا أن تصيب من فرقة عقولها، ولا أن تجثوا من ذل النزاع على ركبها، ليكون التمكن لعدوها من رقابها، يستبيح بيضتها ويكسر شوكتها، ويرضخ عزتها.
ولن يجعل الله للأمة سلطاناً على عدوها بالعدل في الحكم، والسؤدة بالعلم، والاستحواذ بالحق، إلا أن تأوي إلى كَنَف الكتاب الكريم، والهدي النبوي الحكيم، وأثر السلف القويم.
وحقاً إنه لمصاب سابغ جلل، وخطب جسيم لا يحتمل، وبلاء وبيل مروع إثر بلاء من قبله حلَّ، وليس من شيء يهيض جناح الأمة مثل موت العلماء، فرحم الله الشيخين الأنورين، فقد والله ما مُنيت الأمة منذ عقود طويلة بمثل ما مُنيت به من موتهما: الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز الزاهد الداعية، دثار الحكمة، ورواء التأويل، والشيخ محمد ناصر الدين الألباني، محدث العصر، ورافع لواء السنة، وشمس الأمة، رحمهما الله، وأجزل لهما الأجر، ووفّانا نعمة الشكر على ما أبقيا فينا من بعدهما،ونعمة الصبر على مصابنا فيهما.(36/10)
ومع عُظمِ البلاء يكون عُظمُ الأجر، وعُظمُ الأجر لا يكون إلا وصوبه الصبر ومن سخط كان له السخط، ومن رضي كان له الرضى، ولا يخفف من شدة وقع البلاء مثل ثلاث : عموم البلاء، والصبر على شدته، والأجر الذي يوفاه الصابرون، ورابعة هي : وِكاءُ الثلاث : ذكر موت النبي صلى الله عليه وسلم (إذا أصاب أحدكم مصيبة فليذكر مصيبته بي، فإنها من أعظم المصائب)
اللهم فآجرنا في مصيبتنا وأخلف لنا خيراً منها. واجمعنا بهما تحت لواء الحمد، لواء محمد صلى الله عليه وسلم.(36/11)
بسم الله الرحمن الرحيم
بابا روما ، وصهينة النصرانية
بقلم: عبدالرحمن بن عبدالخالق
الزيارة التي يقوم الآن بها بابا روما إلى القدس وفلسطين ليقدم فيها اعتذاره التاريخي عن أعمال النازية مع اليهود. تأتي هذه الزيارة تتويجاً لخمس وثلاثين عاماً أمضاها هذا البابا في خدمة الصهيونية، واستطاع فيها أن يصهين النصرانية، وأن يزرع فيها عقائد جديدة تختلف جذرياً عن النصرانية الأولى، وخاصة في موقفها من اليهود.
فقد بدأ هذا البابا أول مشروعه الصهيوني منذ تولي البابوية في تبرئة اليهود المعاصرين من دم المسيح، وجاء قراره هذا ليخالف العقيدة الأساسية التي تقوم عليها النصرانية، بل هي أم عقائدهم.
وهي أن اليهود هم الذين سعوا لقتل المسيح عليه السلام، واتهموه صغيراً بأنه مولود من الزنا، واتهموه كبيراً بأنه مبتدع مهرطق، كافر، وأنه يستحل القتل، وبهذا حكموا عليه به، وسلموه إلى الحاكم الروماني ليقتله ويصلبه، وأنه لما حاول ببلاطس الروماني أن يتهرب من قتله هددوه بالقيصر وأنه لما قال لهم: (أنا برئ من دم هذا البار فانظروا أنتم في الأمر!!) أجابوه جميعاً قائلين: (ليكن دمه علينا وعلى أولادنا) (انجيل متى27).
وهذا نص الانجيل بلفظه العربي:
"يسوع أمام ببلاطس: ووقف يسوع أمام الحاكم، فسأله الحاكم: (أأنت ملك اليهود؟) أجابه أنت قلت!) وكان رؤساء الكهنة والشيوخ يوجهون ضده الاتهامات وهو صامت لا يرد فقال له ببلاطس: (أما تسمع ما يشهدون به عليك؟) لكن يسوع لم يجب الحاكم ولو بكلمة، حتى تعجب الحاكم كثيراً.(37/1)
وكان من عادة الحاكم في كل عيد أن يطلق لجمهور الشعب أي سجين يريدونه. وكان عندهم وقتئذ سجين مشهور اسمه باراباس، ففيما هم مجتمعون، سألهم ببلاطس: (من تريدون أن أطلق لكم باراباس أم يسوع الذي يدعى المسيح ؟) إذ كان يعلم أنهم سلموه عن حسد، وفيما هو جالس على منصة القضاء أرسلت إليه زوجته تقول (إياك وذلك البار! فقد تضايقت اليوم كثيراً في حلم بسببه) ولكن رؤساء الكهنة والشيوخ حرضوا الجموع أن يطالبوا بإطلاق باراباس وقتل يسوع، فسألهم ببلاطس: (أي الاثنين تريدون أن أطلق لكم) أجابوا: (باراباس) فعاد يسأل: (فماذا فعل يسوع الذي يدعى المسيح) أجابوا جميعاً: (ليصلب!) فسأل الحاكم: (وأي شر فعل؟) فازدادوا صراخاً (ليصلب) فلما رأى ببلاطس أنه لا فائدة، وأن فتنة تكاد أن تنشب بالأحرى، أخذ ماء وغسل يديه أمام الجمع وقال: (أنا برئ من دم هذا البار فانظروا أنتم في الأمر) فأجاب الشعب (ليكن دمه علينا وعلى أولادنا) فأطلق لهم باراباس وأما يسوع فجلده، ثم سلمه إلى الصلب". (انجيل متى 27).
ومنذ اليوم الذي كتب فيه الانجيل ولم تتغير هذه القضية عند النصارى وهي أن اليهود كفار قد سعوا في قتل المسيح بل قتلوه وصلبوه حسب اعتقاد النصارى وادعاء اليهود أنفسهم منذ ذلك الوقت وإلى يومنا هذا. قال تعالى عنهم في القرآن الكريم: {وبكفرهم وقولهم على مريم بهتاناً عظيماً وقولهم أنا قتلنا المسيح عيسى بن مريم رسول الله} فهذه دعواهم وتبجحهم وافتخارهم بهذا الأمر.
ولم يطرأ قط على عقائد اليهود في المسيح منذ ذلك اليوم وإلى يومنا هذا أي تغيير بل مازال المسيح عندهم ابن زنا، مهرطق كاذب مدع للنبوة وليس بنبي..(37/2)
فأتى البابا وهو رأس الكنيسة الغربية كنيسة روما التي تمثل نحو نصف نصارى العالم ليعلن أن يهود اليوم غير يهود الأمس وأنهم برءاء من دم المسيح، هذا تبديل كامل للدين، وهرطقة عظيمة تنسف العقيدة النصرانية من أساسها.. ثم إن هذه التبرئة لا تقوم على أي أساس أخلاقي إذ رفع التهمة عن المجرم دون سبب ليس له من تفسير إلا مناصرة الإجرام، فاليهود الذين سعوا في قتل المسيح مجرمون، وأبناؤهم الذين جاءوا على إثرهم واعتقدوا عقائدهم وسبوا المسيح بما سبه آباؤهم، ومازالوا يفتخرون بقتله وصلبه -حسب زعمهم- هم مجرمون مثل آبائهم.
ومع هذا فقد جاء هذا البابا وافتتح مشروعه الصهيوني بهذا التبديل في عقائد النصرانية خدمة لليهود فإن تبرئة اليهود المعاصرين من جريمة آبائهم السابقين لا تنبني على أي أساس أخلاقي أو ديني، وإنما كانت من أجل التمهيد لإزالة ما في نفوس النصارى بل ما في عقائدهم نحو اليهود، لتبدأ حقبة جديدة تصبح النصرانية فيها ديناً في خدمة اليهودية.. وهذه هي المهمة التي قام بها هذا البابا منذ توليته.
وقد استغل اليهود هذه الحقبة أيما استغلال فكانت الدعوة اليهودية في أوساط الشعوب النصرانية أنهم أمة مظلومة مهضومة تحتاج إلى وطن تسكنه، وأن هذا الوطن هو الأرض التي بشرت بها التوراة التي يؤمن بها اليهود والنصارى، وأنهم يجب أن يتعاونوا في قتل أعداء النصارى واليهود الذين اغتصبوا هذا الوطن هذه المدة الطويلة من الزمان.
ثم كانت الفرية العظمى التي نشرها اليهود وأقرها البابا وتبنتها الكنيسة الغربية، وهي أن عودة المسيح إلى الأرض مرهونة بأن تكون القدس بيد اليهود، وأن بناء الهيكل الذي بشر به المسيح بعد عودته لن يكون إلا إذا أصبحت القدس بأيدي اليهود.(37/3)
وهذه الفرية تكذب ما جاء به الانجيل، وما لعن به المسيح عيسى بن مريم اليهود إلى يوم القيامة.. فقد قال لهم: (الويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراؤون! فإنكم تبنون قبور الأنبياء وتزينون مدافن الأبرار، وتقولون: لو عشنا في زمن آبائنا لما شاركناهم في سفك دم الأنبياء فبهذا تشهدون على أنفسكم بأنكم أبناء قاتلي الأنبياء! فأكملوا ما بدأه آباؤكم ليطفح الكيل!
أيها الحيات أولاد الأفاعي كيف تفلتون من عقاب جهنم لذلك ها أنا أرسل إليكم أنبياء وحكماء ومعلمين، فبعضهم تقتلون وتصلبون، وبعضهم تجلدون في مجامعكم، وتطاردونهم من مدينة إلى أخرى، وبهذا يقع عليكم كل دم زكي سفك على الأرض: من دم هابيل البار إلى دم زكريا بن برخيا الذي قتلتموه بين الهيكل والمذبح الحق أقول لكم: إن عقاب ذلك كله سينزل بهذا الجيل.
يا أورشليم، يا أورشليم، يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها، كم مرة أردت أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها، فلم تريدوا! ها إن بيتكم يترك لكم خراباً! فإني أقول لكم إنكم لن تروني من الآن، حتى تقولوا: مبارك الآتي باسم الرب.
علامات نهاية الزمان:
ثم خرج يسوع من الهيكل، ولما غادره تقدم إليه تلاميذه، ولفتوا نظره إلى مباني الهيكل فقال لهم: أما ترون هذه المباني كلها؟ الحق أقول لكم: لن يترك هنا حجر فوق حجر إلا ويهدم). (انجيل متى 24).
إن أعظم جريمة يتوج بها كاهن روما الأعظم (بولس الثاني) ويختم بها حياته في خدمة الصهيونية هو هذا البيان الذي صدر باسم الفاتيكان في 16/3/1998، والذي تم إعداده في عشر سنوات والذي يجعل ما تعرض له اليهود خلال الحرب العالمية الثانية هو أعظم أحداث القرن الماضي، وأن على كل نصارى العالم الاعتذار لليهود والتكفير عن ذنبهم تجاههم.(37/4)
ويدعو البابا الذي صدر البيان باسم الكنيسة الكاثوليكية قائلاً: (في التطلع إلى مستقبل العلاقات بين المسيحيين واليهود ندعو في بادئ الأمر إخواننا وأخواتنا الكاثوليك إلى تجديد اطلاعهم وإدراكهم للجذور العبرية لإيمانهم، ونسألهم أن يتذكروا دوماً أن يسوع كان من سلالة داود وأن مريم العذراء والرسل ينتمون إلى الشعب اليهودي وأن الكنيسة تستمد عونها من جذور شجرة الزيتون الطيبة التي طعمت بجذوع الزيتون البري لغير اليهود.
وأن اليهود هو أخوتنا العزيزون كثيراً بل في الواقع هم بمعنى ما "اخوتنا الأكبر سناً".
في نهاية هذه الألفية ترغب الكنيسة الكاثوليكية في التعبير عن أسفها إزاء الأخطاء والهفوات التي قام بها أبناء وبنات الكنيسة في جميع العصور، إنه فعل توبة (Teshuva) ما دمنا كأبناء كنيسة مرتبطين بالخطايا كما نحن مرتبطون بأفضال كل أبنائنا، إن الكنيسة تنظر باحترام عميق ورحمة صادقة إلى تجربة الإبادة -المحرقة- التي عانى منها الشعب اليهودي خلال الحرب العالمية الثانية، وليست المسألة مجرد كلمات بل إنها بالفعل تعبير عن التزام وثيق، أننا قد نخاطر بتسبب موت ضحايا أبشع عمليات القتل وأفظعها، مرة أخرى لم نملك الرغبة الأكيدة والمتقدة بالعدالة، وإن لم نلزم أنفسنا لأن نضمن عدم غلبة الشر على الخير أبداً كما حدث بالنسبة إلى ملايين الأطفال من الشعب اليهودي.. فالإنسانية لن تسمح بحدوث كل هذا مرة جديدة.
إننا نصلي لأن يؤدي أسفنا للمأساة التي عانى منها الشعب اليهودي في هذا القرن إلى قيام علاقة جديدة مع الشعب اليهودي، ونتمنى أن يتحول إدراك خطايا الماضي إلى إرادة راسخة أكيدة لبناء مستقبل جديد لا يكون فيه بعد الآن عداء لليهودية بين المسيحيين، أو عداء للمسيحية بين اليهود.. وإنما احترام متبادل مشترك بما يناسب أولئك الذين يعبدون خالقاً واحداً ورباً واحداً ولديهم أب واحد في الإيمان هو إبراهيم.(37/5)
أخيراً ندعو كل الرجال والنساء ذوي الإرادة الطيبة التأمل عميقاً في معنى المحرقة، وأن الضحايا من قبورهم والناجين من خلال الشهادة الحية لما عانوه أصبحوا اليوم صوتاً عالياً يجذب انتباه البشرية جمعاء، ونتذكر هذه التجربة الرهيبة بأن نصبح مدركين تماماً للعبرة التي تتضمنها: أن البذور الفاسدة للعداء لليهودية والعداء للسامية يجب ألا نسمح لها بعد الآن أن تتجذر في قلب أي بشري). ( الكاردينال ادوارد ادريس كاسيدي، والأب بيار دوبريه، والأب ريمي هوكمان 16/3/1988).
وهذا الاعتذار الذي يفعله البابا ليس دينياً ولا أخلاقياً، فإن اليهود ليسوا وحدهم من عانى من بطش النازية، وإنما عادى هتلر والنازيون جميع الأعراق وخاضوا حرباً مع الجميع وعداء هتلر لليهود كان عداءاً سياسياً، ولم يكن دينياً، فإن هتلر لم يعاد اليهود بسبب نصرانيته لأنه كان لا دينياً علمانياً ونظريته في تفوق الجنس الآري على كافة الأجناس ليست مستقاة من الدين، ثم إنه عادى اليهود لدورهم الكبير في هزيمة ألمانيا في الحرب الأولي وعملهم على تفتيتها وتدميرها، وليس لأنهم يهود، فما دخل البابا أن يعتذر عن خطأ إن كان هذا خطأ لم ترتكب باسم المسيح ولا باسم النصرانية!! ولقد كان الاعتذار عن الحروب الصليبية، والإجرام النصراني، وحروب الإبادة للمسلمين، ومحاكم التفتيش التي صنعت باسم المسيح أولى بالاعتذار من ذنب لم ترتكبه النصرانية.
ثم إن قوله (إن يسوع كان من سلالة داود وإن مريم العذراء والرسل ينتمون إلى الشعب اليهودي) كلمة حق أريد بها باطل، فيسوع هو من سلالة داود نعم، ولكن اليهود جعلوه ابن زنا، واتهموا أمه العذراء البتول!! وما زالوا على هذا المعتقد الخبيث. فهل يظلون مع ذلك إخوة للنصارى في الدين؟!! ما هذا الكذب والإفك وتبديل الدين الذي يمارسه هذا الكاهن الأعظم!! خدمة لليهود وصهينة للنصرانية!! وعداءاً للإسلام.(37/6)
ونقول للبابا: فسر لنا كيف يعبد النصارى واليهود إلهاً واحداً، والحال أن المسيح ابن مريم الذي جعلتموه ابن الله مع ما اسميتموه بالأب وروح القدس إلهاً واحداً، هذا المسيح هو عند اليهود في كل عصورهم وإلى اليوم ابن زنا، ومقالتهم هذه في مريم وابنها عليهما السلام هي هي لم تتغير. أما أن النصارى جميعاً واليهود أبوهم إبراهيم فكذب، فلا إبراهيم عليه السلام أباً لكل النصارى في النسب ولا هو لليهود أب في الملة والدين، بل قد قال المسيح لليهود الذين قالوا أبونا هو إبراهيم: (لو كنتم أولاد إبراهيم لعملتم أعمال إبراهيم ولكنكم تسعون إلى قتلي وأنا إنسان كلمتكم بالحق الذي سمعته من الله وهذا لم يفعله إبراهيم). (انجيل يوحنا 8).
لقد ارتكب البابا جناية عظمى على النصرانية، وجعل الكنيسة الكاثوليكية في خدمة الصهيونية الذين كانوا وما زالوا أشد الناس عداوة للكنيسة.
واعتذار البابا لليهود عن الذنب الذي لم ترتكبه الكنيسة اعتذار في غير موقعه. واستنكافه أن يعتذر للمسلمين عن الجرائم الكبرى التي ارتكبتها الكنيسة مع المسلمين في حروبها الصليبية على مدى ثلاثمائة سنة.
وفي إبادتهم جميع المسلمين في الأندلس في ظل ما عرف بمحاكم التفتيش. استنكاف البابا أن يعترف بذلك جرم آخر في حق الكنيسة.
لقد أسقط البابا (بولس الثاني) الكنيسة الغربية إلى الأبد.
***************
********(37/7)
كلمات في رثاء شيخ الإسلام والمسلمين
محمد الصالح العثيمين
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على عبد الله ورسوله الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين،، وبعد
رحل اليوم بقية السلف الصالحين، وأثر من آثار الأولين، وعلم من أعلام الإسلام العاملين، شيخنا وشيخ المسلمين محمد الصالح العثيمين:
العالم المربي الناصح للإسلام والمسلمين، والناشر بعلمه وقلمه وتعليمه وسلوكه وأدبه لرسالة الإسلام في العالمين.
عرفته قبل ربع قرن أو يزيد من كتبه ورسائله، فعرفت فيه العالم المتقن المحقق المعلم. ولما عرفني هو لم يكن يترك زائراً إليه إلا ويرسل التحية.
وهالني عندما لقيته أنني أقف مع رجل من رجال سلفنا الأقدمين: تواضعاً وخلقاً وزهداً في الدنيا، وحرصاً على الإسلام ونصحاً للمسلمين، وعملاً لجمع الكلمة ورأب الصدع، واهتماماً في أمر المسلمين في كل الدنيا.
ولما جالسته وعرفته عن قرب رأيته رجلاً من رجال الآخرة، ليست الدنيا عنده في الحساب إلا ليعبر منها إلى داره. قد اتخذ العلم والتعليم ونشر الإسلام ديناً عمل بذلك أكثر من خمسين عاماً دأباً: مربياً وعالماً عاملاً، فانتشرت غراسه في كل مكان وحصد الناس خير ما زرع من أرض الشيشان صعوداً إلى الأمريكيتين غرباً، وفي كل بلد وقطر له زهرة يانعة بل شجرة باسقة تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
رحل شيخنا وعالمنا وحبرنا في إثر إخوانه وأقرانه الذين كانوا إذا ذكر واحد منهم ذكروا جميعا فقيل: ابن باز وابن عثيمين والألباني.
بقينا اليوم ننظر يمنة ويسرة، نقلب الطرف في الخافقين فيرجع إلينا البصر خاسئا وهو حسير. دمعة على العالم الإسلامي أذرفها بعد رحيل آخر الأعلام المصلحين.
بقلم: عبدالرحمن بن عبدالخالق(38/1)
تحطيم الأصنام أمر إلهي وسنة نبوية
بقلم: عبدالرحمن بن عبدالخالق
ما تناقلته الأخبار من أن حكومة أفغانستان تقوم بتحطيم الأصنام وطمسها، أمر يجب أن يَسْعَد ويفرح به كل مسلم في جنبات الأرض كلها، وذلك أنه موافق للأمر الإلهي، وفعل النبي صلى الله عليه وسلم، وخلفائه الراشدين.
فقد أنزل الله سبحانه دينه، وأرسل رسله ليعبد وحده لا شريك له، وعندما وقع الشرك لأول مرة في الأرض قبل نوح عليه السلام وعبدت الأصنام من دون الله وكانت تماثيل لرجال صالحين "وَدْ و سواع ويغوث ويعوق ونسر" أرسل الله رسوله نوحاً من أجل الزجر عن هذه الأصنام، وعباده الله وحده لا شريك له.
وقد أخبرنا سبحانه أن قومه لم يطيعوه في ذلك قال تعالى: {وقالوا لا تذرن آلهتكم ، ولا تذرن ودًا ولا سوعاً، ولا يغوث ويعوق ونسراً} وأن قومه أصَروا على الكفر والشرك حتى أغرقهم الله هم وأصنامهم.
ثم لما وقع الشرك مرة أخرى في الأرض وعُبدت الأصنام أرسل الله عبده ورسوله إبراهيم عليه السلام، وقد حذر إبراهيم منها بلسانه في أول الأمر، ثم حطمها بفأسه ثانياً: وقال لقومه {و تالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين فجعلهم جذاذاً إلا كبيراً لهم لعلهم إليه يرجعون} الآيات. وقد أثنى الله على إبراهيم وعلى فعله الذي فعل بأصنام قومه وتماثيلهم، مع أنه تعرض بعد ذلك لغضب قومه، بل إنهم قد أجمعوا على حرقه بالنار {قالوا اقتلوه أو حرقوه} {قالوا: حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين} وقد أنجاه الله منهم، ونصره عليهم.(39/1)
وأعظم الرسل جاء بهدم الأصنام وكل صور الشرك هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم الذي أنجى الله به البشرية عامتها من عبادة الصور والأصنام، ورحم الله ببعثته العرب على وجه الخصوص فخلصهم الله من عبادة الصور والأصنام التي أطبق عليها العرب أشرافهم وضعفاؤهم، فقد كان لكل قبيلة صنمهم الخاص بهم، وكان لقريش سيدة العرب، وسادنة الكعبة وحماة البيت الحرام صنمهم المعظم والمبجل والمدلل "هُبل" الذي لم يجدوا له مكاناً أشرف من جوف الكعبة فوضعوه فيها مع تماثيل أخرى لأبيهم إبراهيم، وأبيهم إسماعيل الذين صوروا لهما تماثيل وهما يستقسمان بالأزلام!! ووضعوا هذه الأصنام المعظمة المبجلة في جوف الكعبة!!.
وأما أصنام العرب الآخرين فقد كانت توضع على سطح الكعبة، ولما دخل النبي مكة عام الفتح كان فوق الكعبة ثلاثمائة وستون صنماً!. عدَا ما كان على الصفا والمروة، فقد كان على الصفا "أساف" وعلى المروة "نائلة" ولم يكن ثمة قرية إلا وللعرب فيها صنم معظم يزار ويذبح ويسجد له، فقد كان للأوس والخزرج "مناه" بساحل البحر، ولثقيف "العزى" بالطائف، (اللات) كذلك، ولقبيلة دوس (ذا الخلصة).. هذا عدا أصنام المنازل والبيوت فلم يكن يخلو بيت للعربي الجاهلي إلا وفيه صنم يُعْبَد، من الأحجار والخشب أو التمر أحياناً فإذا جاع أكله!!.(39/2)
ولما جاء الرسول صلى الله عليه وسلم بالهدى والنور من ربه وبعبادة الله وحده، وترك ما يعبد من دون الله أمر بهدم هذا كله، فكان من أسلم في أول الأمر كره هذه الأصنام ونبذها ثم لما قَدَرَ المسلمون عليها بعد فتح مكة أنزلت الأصنام من فوق الكعبة، وحطمت تحت أقدام المسلمين وكان رسول الله أول من فعل ذلك فكان يضرب الصنم برمحه وهو يطوف بالبيت ويقرأ قول الله تعالى {وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً}. ثم دخل الكعبة فأمر بإخراج الأصنام من جوفها وتحطيمها، ولما رأي الصنم المصنوع لإبراهيم وإسماعيل وهما علي صورة من يَستَقْسِم بالأزلام: قال صلى الله عليه وسلم [تالله ما استقسما بهما قط] بل وأمر بغسل جدران الكعبة من داخلها من الصور التي رسمت بالألوان لإبراهيم وإسماعيل عليهما السلام.
ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل فرسانه وجيوشه إلي ضواحي الجزيرة لهدم أصنام العرب فأرسل خالد بن الوليد رضي الله عنه فحرق (العُزي) أعظم أصنام العرب، وكانت صنماً عاماً ليس لثقيف وحدهم بل للعرب كلهم وقد كانوا يقولون (من عبد العزى اعتز).. ومن أجل ذلك نادي أبو سفيان يوم أحد (لنا العزى ولا عزي لكم!!) علماً بأن أبا سفيان قُرشي ولكن لأن العزى قد كان صنم العرب كلهم الذي يعتزون به ويشدون الرحال إليه، والشاهد أن خالد رضى الله عنه ذهب إليه مع مجموعة من فرسان النبي ولم يرجع حتى أشعل النار فيه.. وتركه محرقاً كالبعير الأجرب.. وكذلك أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم جرير بن عبد الله البجلي إلي هدم (ذي الخلصة) وكان صنماً خاصاً بقبيله دوس.. فقال جرير للنبي ولكنني رجل لا أثبت علي الخيل، فادع الله لي. فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم فذهب وأشعل فيها النار!!
وطهر الله الجزيرة العربية بأسرها من رجس الأوثان وعاد العرب جميعهم إلى التوحيد، ولولا ذلك لكان لكل منا اليوم في بيته صنم يعبده، فالحمد الله على هدايته..(39/3)
وقد سار خلفاء الرسول صله الله عليه وسلم الراشدون بعده على سيرته فلم يتركوا في أرض الإسلام التي فتحوها قبراً مشرفاً ولا تمثالاً منصوبا، وهذا على بن أبى طالب يقول لأحد قواده وهو أبو الهياج الأسدي: "ألا أبعثك على ما بعثنى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ألا تدع قبراً مشرفاً إلا سويته ولا تمثالاً إلا طمسته" (رواه الإمام مسلم)..
بل إن الرسول صلى الله عليه وسلم نهي عن تصوير الصور والتماثيل ولو كانت لشيء لا يعبد حماية منه صلى الله علية وسلم لجانب التوحيد، وزجراً عن مضاهاة خلق الله سبحانه وتعالى كما جاء في قوله صلى الله عليه وسلم [أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون] وقال صلى الله عليه وسلم: "من صور صورة أمر يوم القيامة أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ".
ولنا بحث مستفيض فيما يحرم من الصورة وما يجوز فراجعه إن شئت (أحكام التصوير في الشريعة الإسلامية).
والمهم البيان هنا أن ما قامت به حكومة أفغانستان نحو التماثيل والصور التي يعبدها المشركون الجاهلون هو مما يوافق الحق، وما أمرنا الله به ورسول.. ولا عبرة بمناشدات الجاهلية سواءاً كانت هيئة رسمية كالأمم المتحدة أو كانوا أفراداً من الجهال أو المشركين الذين يظنون أن هذا التراث الجاهلي الوثني يجب حفظه واحترامه، فإن هذا التراث نجس لا يجوز الاحتفاظ به، ولا احترامه ولا تقديسه، ومن فعل ذلك فهو جاهل مشرك.(39/4)
ومهما كانت الصورة والتمثال فإنه لا يجوز تعظيمهما ولا احترامها، ولو كانت للملائكة، أو الرسل كعيسى عليه السلام أو غيرة من الأنبياء، أو الصالحين، أو الملوك والرؤساء والزعماء.. فلا يجوز اقتناء صوره للملائكة أو النبي أو الصحابة أو غيرهم مما هم دونهم، فمن عظم شيئا من ذلك أو عبده فهو كافر مشرك، ومن احتفظ به مجرد احتفاظ كان مرتكبا لإثم ومن صورة كان مرتكبا لكبيرة عظمي، ولا يجوز بيع الأصنام ولا شراؤها، ولا قبولها تملكا بأي صورة من الصور فقد نهى رسول الله عن ثمن الصورة وعن بيع الأصنام، ومن دعا إلى احترام ذلك والحفاظ عليه فهو جاهل بالدين والشريعة التي أرسل بها خاتم الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليه..
ومن أجل ذلك كله نؤيد ونحب ما قامت به حكومة أفغانستان ونطالب حكومات المسلمين جميعاً أن يحذوا حذوهم بتحطيم الصور والأصنام لأي من كان وألا تأخذهم في ذلك لومه لائم.
ولا عبره لما يقوله بعض الجهال من أن سليمان عليه السلام كان الجن يصنعون له التماثيل كما قال تعالي {يصنعون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات} الآية، فإن هذا من شرع من قبلنا، وهو منسوخ بشرعنا شرع النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم.. وأيضا فإن تماثيل سليمان لم تكن آلهة تعبد، وإنما كانت مجرد صور للزينة، وقد جاء شرعنا بالنهى أن تٌتخذ الصور للزينة!!
ولا عبرة كذلك بما يقال إن المسلمين قد تركوا أصنام وتماثيل الكفار.. وهذا تدليس وكذب فإن العهود التي أبرمها المسلمون مع النصارى وهم من عباد الأصنام فقد صنعوا التماثيل للمسيح والعذراء والحواريين ومن يسمونهم بالرسل وعبدوها.. بل عبدوا الصليب الذي هو أعظم أصنامهم بل هم الصنم الأعظم الذي لا يتركون شيئاً إلا وطبعوه عليه زينةً، وعلامة تجارية!! وزخرفاً وحٌليا ونصباً على الجدران والأبنية.. الخ(39/5)
أقول هذه العهود التي أبرمها المسلمون مع النصارى كانت تقتضي ألا يظهروا شيئاً من ذلك وأن يبقي في كنائسهم فقط، ومن أجل ذلك امتنع عمر رضى الله عنه أن يصلى في كنيسة بيت المقدس عندما دعاه الحبر الأعظم للنصارى أن يصلى في الكنيسة، قال له: (إنا لا نصلى في كنائسكم من أجل الصور التي فيها)!!!
وقد أزال المسلمون من بلاد الشام والعراق، ومصر التي فتحوها كل الأصنام المنصوبة، وما بقى إلي اليوم إنما كان مدفوناً لم يطلع عليه ولم يره المسلمون الفاتحون، ولو كان شيء من ذلك مشرفاً ظاهراً لما تردد أولئك السلف الصالح في هدمه وإزالته.
وسيأتي اليوم الذي يطهر الله فيه الأرض من كل هذا الغثاء والبلاء، ويعلو دين الله ويعبد الله وحده في الأرض كلها.
***********
*****(39/6)
كلمات في رثاء شيخ الإسلام والمسلمين
محمد الصالح العثيمين
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على عبد الله ورسوله الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين،، وبعد
رحل اليوم بقية السلف الصالحين، وأثر من آثار الأولين، وعلم من أعلام الإسلام العاملين، شيخنا وشيخ المسلمين محمد الصالح العثيمين:
العالم المربي الناصح للإسلام والمسلمين، والناشر بعلمه وقلمه وتعليمه وسلوكه وأدبه لرسالة الإسلام في العالمين.
عرفته قبل ربع قرن أو يزيد من كتبه ورسائله، فعرفت فيه العالم المتقن المحقق المعلم. ولما عرفني هو لم يكن يترك زائراً إليه إلا ويرسل التحية.
وهالني عندما لقيته أنني أقف مع رجل من رجال سلفنا الأقدمين: تواضعاً وخلقاً وزهداً في الدنيا، وحرصاً على الإسلام ونصحاً للمسلمين، وعملاً لجمع الكلمة ورأب الصدع، واهتماماً في أمر المسلمين في كل الدنيا.
ولما جالسته وعرفته عن قرب رأيته رجلاً من رجال الآخرة، ليست الدنيا عنده في الحساب إلا ليعبر منها إلى داره. قد اتخذ العلم والتعليم ونشر الإسلام ديناً عمل بذلك أكثر من خمسين عاماً دأباً: مربياً وعالماً عاملاً، فانتشرت غراسه في كل مكان وحصد الناس خير ما زرع من أرض الشيشان صعوداً إلى الأمريكيتين غرباً، وفي كل بلد وقطر له زهرة يانعة بل شجرة باسقة تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
رحل شيخنا وعالمنا وحبرنا في إثر إخوانه وأقرانه الذين كانوا إذا ذكر واحد منهم ذكروا جميعا فقيل: ابن باز وابن عثيمين والألباني.
بقينا اليوم ننظر يمنة ويسرة، نقلب الطرف في الخافقين فيرجع إلينا البصر خاسئا وهو حسير. دمعة على العالم الإسلامي أذرفها بعد رحيل آخر الأعلام المصلحين.
بقلم: عبدالرحمن بن عبدالخالق(40/1)
بسم الله الرحمن الرحيم
ليس رسول الله صلى الله عليه وسلم هو حب الأكوان.!
بقلم: عبدالرحمن بن عبدالخالق
لست أدري لماذا اختارت اللجنة التي أسست بزعم نشر محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون شعارها (أنت حب الأكوان) فإن هذا الوصف لا يصح أن يوصف به رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل ولا الله سبحانه وتعالى، ولا أحد من أوليائه وعباده الصالحين، فإن الأكوان وهي ما عدا الله سبحانه وتعالى منها مؤمن وكافر وفيها أماكن رضوان الله سبحانه وتعالى، وأماكن سخطه وعقابه ولعنته.
فإبليس كون من الأكوان وهو عدو لله ورسوله ملعون مطرود من رحمة الله، وكذلك كل جنوده وأوليائه من الجن والانس، وهؤلاء جميعاً أعداء الله سبحانه وتعالى وأعداء أوليائه من الأنبياء والمرسلين، قال تعالى: (ويوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون)، وقال تعالى:( هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن(، وقال تعالى: (وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً من المجرمين وكفى بربك هادياً ونصيراً).
والذين يعادون رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمته التي بعث فيها أضعاف أضعاف من يؤمنون به ويحبونه ويوالونه من المسلمين والمؤمنين، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما أنتم في الأمم إلا كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود). (متفق عليه)(41/1)
وهذا أمر مشاهد قائم منذ دعا رسول الله إلى الاسلام وإلى يومنا قد كان الذين عادوه وحاربوه وسبوه أضعاف من آمن به وأحبه ونصره، وكل هؤلاء الكفار هم من الأكوان. والسموات والأرض والجنة والنار من الأكوان، فالجنة دار الرضوان، والنار دار الأشقياء أعداء الله وفيها كل ما لعن الله من الإنس والجن، وألوان العذاب التي هي من لعنة الله فيها شجرة الزقوم وأدوات العذاب قال تعالى: (إنا أعتدنا للكافرين سلاسل وأغلالاً وسعيرا) وقال تعالى: (وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغياناً كبيراً) وكل هذه أكوان ليست محبوبة عند الله ولا عند أوليائه.. ولا توصف بأنها تحب أولياءه؟
وفي الأرض قطع ومواضع هي محل محبة الله ورضوانه ومواضع هي مواضع سخطه وعقابه، فأحب البقاع إلى الله مساجدها، وشر البقاع إلى الله أسواقها.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن جبل أُحد (هذا جبل يحبنا ونحبه) وقال عن ديار ثمود (لا تدخلوا على هؤلاء القوم المعذبين إلا باكين أو متباكين لا يصيبكم ما أصابهم) وكان إذا مر رسول الله بوادي مُحَسِّر أسرع فيه مع أنه جزء من أرض المسجد الحرام... ولكنه مكان عقوبه فكان الواجب الفرار منه..
حب الأكوان والحقيقة المحمدية في الفكر الصوفي:
وهذا الشعار (أنت حب الأكوان) منقول من المعتقد الصوفي فيما سمي (بالحقيقة المحمدية) وهو الزعم بأن الرسول صلى الله عليه وسلم هو أول موجود في الوجود، وأن وجوده قد كان قبل خلق السموات والأرض واللوح والقلم، والعرش والملائكة، وأن من وجود الرسول ومن نوره خلق الله جميع الأكوان بعد ذلك العرش والكرسي، والملائكة والسموات والأرض والانس والجن والجنة والنار..... الخ.(41/2)
فالأكوان جميعاً وهي كل ما عدا الله موجودة من نور الرسول. والرسول سابق في الوجود على كل هذه الأكوان... والذي صاغ هذه العقيدة على هذا النحو هو ابن عربي الزنديق حيث يقول في فتوحاته المكية (بدء الخلق الهباء وأول موجود فيه الحقيقة المحمدية الرحمانية الموصوفة بالاستواء على العرش الرحماني وهو العرش الإلهي (الفتوحات 1/152).
وقال الكاشاني شارح فصوص الحكم لابن عربي (إن محمداً أول التعينات التي عين بها الذات الأحمدية، قبل كل تعين... الخ)(41/3)
وفي كتاب تبرئة الذمة في نصح الأمة للبرهاني قال: (فضل النبي صلى الله عليه وسلم وأسبقية نوره، وبيان أن كل الديانات مستمدة منه) قال: (وحديث سيدنا جابر رضي الله عنه يثبت أسبقية نوره صلى الله عليه وسلم، فقد روى عن عبدالرازق بسنده في كتابه (جنة الخلد) عن جابر عن عبدالله الانصاري قال: قلت يا رسول الله بأبي أنت وأمي أخبرني عن أول شيء خلقه الله تعالى قبل الأشياء قال: (يا جابر إن الله تعالى خلق قبل الأشياء نور نبيك من نوره، فجعل ذلك النور يدور بالقدرة حيث شاء الله تعالى ولم يكن في ذلك الوقت لوح ولا قلم ولا جنة ولا نار ولا ملك ولا سماء ولا أرض ولا شمس ولا قمر ولا جن ولا انس فلما أراد الله أن يخلق الخلق قسم ذلك النور أربعة أجزاء: فخلق من الجزء الأول القلم، ومن الجزء الثاني اللوح، ومن الثالث العرش، ثم قسم الجزء الرابع أربعة أجزاء فخلق من الجزء الأول نور أبصار المؤمنين، ومن الثاني نور قلوبهم، وهي المعرفة بالله، ومن الثالث نور أنسهم وهو التوحيد: لا اله إلا الله محمد رسول الله ثم نظر إليه فترشح النور عرقاً فتقطرت منه مائة ألف قطرة وعشرين الفا وأربعة ألاف قطرة فخلق الله من كل قطرة روح نبي ورسول، ثم تنفست أرواح الانبياء فخلق الله من أنفسهم أرواح الأولياء والسعداء والشهداء والمطيعين من المؤمنين إلى يوم القيامة، فالعرش والكرسي من نوري، والكروبيون من نوري، والرحمانيون من نوري، والجنة وما فيها من النعيم من نوري، والشمس والكواكب من نوري، والعقل والعلم والتوفيق من نوري، وأرواح الأنبياء والرسل من نوري، والسعداء والصالحون من نتائج نوري. ثم خلق الله آدم من الأرض، وركب فيه النور وهو الجزء الرابع، ثم انتقل منه إلى شيث. وكان ينتقل من طاهر إلى طيب إلى أن وصل إلى صلب عبدالله بن عبدالمطلب، ومنه إلى وجه أمي آمنة، ثم اخرجني إلى الدنيا فجعلني سيد المرسلين وخاتم النبيين وقائد الغرالمحجلين، هكذا بدء خلق نبيك(41/4)
يا جابر) – ويضيف البرهاني قائلاً:
(ويظن البعض أن سيدنا جبريل عليه السلام كان الواسطة بين الله تبارك وتعالى وبين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ومن ظن هكذا فقد دلل على عدم معرفته، إذ لو صح أن سيدنا جبريل عليه السلام كان الواسطة بين الله تعالى ورسوله سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لتعين وجود خلل في كلمة التوحيد فبدلاً عن لا اله إلا الله محمد رسول الله تكون: لا إله إلا الله محمد رسولُ رسولِ الله.
وحديث سيدنا جابر رضي الله تعالى عنه يوضح كل ذلك، ولا بد لنا أن نورد هنا ما دار بين النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وبين سيدنا جبريل عليه السلام، عندما كان سيدنا جابر رضي الله عنه يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أول شيء خلقه الله تعالى، بالرغم من أننا قد سبق أن اوردنا في باب مراتب الغيب، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما رأى استغراب سيدنا جبريل عليه السلام عندما قال صلى الله عليه وسلم لسيدنا جابر رضي الله تعالى عنه عن أول شيء خلقه الله تعالى (نور نبيك يا جابر) سأله قائلاً: يا جبريل كم عمرت من السنين؟ فقال جبريل عليه السلام (يا رسول الله لست أعلم غير أن في الحجاب الرابع نجما يطلع في كل سبعين ألف سنة مرة ورأيته سبعين ألف مرة) فقال صلى الله عليه وسلم (وعزة ربي أنا ذلك الكوكب) رواه أبو هريره رضي الله تعالى عنه بلفظ أنه صلى الله عليه وسلم سأل جبريل عليه السلام قائلاً: (يا جبريل كم عمرت من السنين؟) الخ الحديث. ويستطرد البرهاني قائلا:(41/5)
ثم سأل الرسول صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام عن المكان الذي يأتي منه بالوحي فقال: (حيثما أكون في اقطار السماوات أسمع صلصلة جرس فاسرع إلى البيت المعمور فأتلقى الوحي فاحمله إلى الرسول أو النبي) فقال له صلى الله عليه وسلم: (اذهب إلى البيت المعمور الآن واتل نسبي) فذهب سيدنا جبريل عليه السلام مسرعاً إلى البيت المعمور وتلا نسب النبي صلى الله عليه وسلم قائلاً: (محمد صلى الله عليه وسلم بن عبدالله بن عبدالمطلب... الخ) فانفتح البيت المعمور، ولم يسبق أن فتح له قبل ذلك، فرأى جبريل عليه السلام النبي صلى الله عليه وسلم بداخله فتعجب فعاد مسرعاً إلى الأرض فوجد الرسول صلى الله عليه وسلم في مكانه كما تركه مع سيدنا جابر رضي الله تعالى عنه فعاد بسرعة خارقة إلى البيت المعمور فوجده صلى الله عليه وسلم هناك، ثم عاد مسرعاً إلى الأرض فوجده صلى الله عليه وسلم مازال جالساً مع سيدنا جابر رضي الله تعالى عنه فسأل جبريل عليه السلام سيدنا جابر رضي الله تعالى عنه صلى الله عليه وسلم قائلاً: (هل ترك رسول الله صلى الله وسلم مجلسه هذا؟) فقال سيدنا جابر رضي الله تعالى عنه: (كلا يا اخا العرب فاننا لم ننته بعد من الحديث الذي تركتنا فيه) فقال جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم: (إذا كان الأمر منك وإليك فلماذا تعبي؟) فرد عليه صلى الله عليه وسلم قائلاً: (للتشريع يا أخي جبريل) وتلا قوله تعالى (ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه وقل رب زدني علما). انتهى منه بلفظه.
فهل هذه العقيدة في الرسول صلى الله عليه وسلم التي أجمع عليها من ينتسب إلى التصوف في العصور المتأخرة هي التي عناها من وضع هذا الشعار (أنت حب الأكوان) أم أن لهم تفسيراً أخر لذلك؟(41/6)
وإذا كان لهم تفسير آخر فما معنى نشر قصيدة تتضمن هذا المعتقد عنواناً ونصاً. فقد نشروا قصيدة لمن سموه (ابن الدريهم) بهذا العنوان: (ذات القوافي قصيدة في ثلاثين قافية يمدح فيها رسول الله مسمياً أياه صلى الله عليه وسلم ( سيد الوجود) فمن قال إن محمداً صلى الله عليه وسلم هو سيد الوجود؟!
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو سيد ولد آدم وليس سيداً للوجود فإن الوجود يشمل وجود الرب ووجود كل موجود من الملائكة والسموات والأرض وليس رسول الله سيداً لكل موجود !!.
فما معنى تسمية الرسول بسيد الوجود !! وأين جاء تسمية الرسول بسيد الوجود في كتاب أو سنة أو قول صاحب أو قول إمام يقتدى به!!
وسيد الوجود هو الله سبحانه وتعالى وحده فهو السيد لكل ما سواه كما قال صلى الله عليه وسلم (إن الله هو السيد) قال تعالى: (الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل ) وأما من عدا الله فإذا أطلق عليه لفظ السيد فهو بحسبه فالنبي صلى الله عليه وسلم هو سيد ولد آدم يوم القيامة لأن له الشفاعة العظمى ولأن آدم ومن دونه يستشفعون به إلى الله يوم القيامة لدخول الجنة كما قال صلى الله عليه وسلم (أنا سيد ولد آدم ولا فخر) الحديث.
والحسن بن علي رضي الله عنهما سيد، كما قال صلى الله عليه وسلم: (إن ابني هذا سيد وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين)
وقد كان الأمر كما وصف رسول الله فإن جميع المسلمين رجعوا إلى رأيه: معاوية بن أبي سفيان ومن معه، وكذلك من كان مع الحسن ورجع الجميع إلى الصلح الذي اقترحه فاجتمعت كلمة المسلمين به. فهو سيد في هذا الزمان ولهذا الفعل العظيم.
وفي البيت الثاني من قصيدة ابن الدريهم:
نبي له فضل على كل مرسل ... وآياته في الكون تتلى وتشرح
وفي بقية القوافي و (تنشأ، تنسخ، وتؤخذ، وتنشر، الخ)
وهذا البيت ترجمة لتلك العقيدة أن الرسل جميعاً يأخذون علومهم من الرسول محمد وأنه هو الذي أوحى إليهم.(41/7)
والآيات لا تنسب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بل تنسب إلى الله سواءً كانت الآيات المتلوة المنزلة من الله إلى رسوله، أو المعجزات الإلهية التي أجراها الله على يديه.أوآياته في الخلق. ولا يقال عن شيء من ذلك (آيات الرسول )!!.
وفي البيت الأول في قصيدة ابن الدريهم هذا يقول:
ُإذا لم أزر قبر النبي محمد ... ... وأسعى على رأسي فإني (أحمق)!!
وفى بقية القوافي: مشوش، منغص، مغفل، مذمم.. إلخ.
وشد الرحال إلى قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس مشروعاً ولا هو قربة إلى الله كما قال صلى الله عليه وسلم (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا والمسجد الحرام والمسجد الأقصى). وابن الدريهم هذا جاهل من الجهال وإذا جعل نفسه أحمق أو مغفلاً أو أرعن إذا لم يسع على رأسه إلى قبر رسول الله فإنه على كل أحواله في الصدق والكذب جاهل أحمق يتعبد بغير المشروع.
والسؤال لمن ادعوا محبة الرسول؟ ما قيمة نشر مثل هذا الشرك والجهالة في الناس!؟ باسم محبة الرسول صلى الله عليه وسلم؟
وفي موقعهم على الإنترنت والذي سموه أيضاً باسم (أنت حب الأكوان) علقوا مجموعة من الأغاني والسماع الصوفي بالألحان المبتدعة وضرب الدفوف للرجال. وكل هذا من البدع المنكرة والسماع الصوفي عندما بدأ في أمة الإسلام في أواخر القرن الثاني لم يبدأه إلا الزنادقة. يقول الإمام الشافعي رحمة الله عليه (تركت بغداد وقد أحدث الزنادقة فيها شيئاً يسمونه السماع)؟…
وهذه الأغاني إلى جانب أنها بدعة منكرة فإنها لا تليق بالنبي صلى الله عليه وسلم ولا بالرجال.
وللأسف أن تلك الأغاني والأناشيد قد اشتملت على تلك العقائد الفاسدة.(41/8)
كنا نتمنى أن تنطق هذه الحملة في هذا الوقت العصيب للذب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ونصره، ونصر دينه، نشر نوره في العالمين، وذلك أن حملة الكفر العالمية الآن قد جعلت هدفها الأول هو الرسول صلى الله عليه وسلم. ففي كل يوم يطلع علينا كبير من كبراء الكفر في الغرب والشرق ليعلن أن رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم هو أول إرهابي، وأن الإسلام الذي جاء به هو دين الشياطين.
وهذه هي الشبكة العنكبوتية "الإنترنت" فيها عشرات المواقع المتخصصة في سب رسول الله ولعنه وشتمه وقد جعلت منه أسوأ رجل شهده العالم. وحسب من أراد الإطلاع أن يفتح برنامج المحادثة (البالتوك) في المواقع العربية ليرى ما ينال رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشتم والسب واللعن على مدار الأربع والعشرين ساعة، وليرى عشرات الآلاف من الشبهات والشكوك والمطاعن في القرآن الكريم والرسول صلى الله عليه وسلم وشريعة رب العالمين!!
وكنا ومازلنا نود أن تكون هذه اللجنة التي انطلقت بهذه (الفعاليات) الواسعة وبهذه الإمكانيات من أهل الخير والإحسان أن يكون هدفها نصر رسول الله صلى الله عليه وسلم ونشر محامده وشمائله في العالمين، والدعوة إلى نشر دينه.
ومن أجل ذلك نهيب بهم، تغيير هذا الشعار الكاذب (أنت حب الأكوان)، ونبذ هذه البدع. والتحذير من هذه العقيدة الضالة في أن رسول الله هو أول موجود في الوجود، وأنه المستوي على عرش الله، وأنه الذي يمد كل الرسل والأنبياء... تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرا.
ولن يفيدكم وضع صورة الانفجار الكبير الذى يفسر به الملاحدة نشأة الكون ليكون ذلك رمزا لهذه العقيدة الضالة. فإن أهل الإيمان يعتقدون أن الله سبحانه وتعالى هو الأول الذى ليس قبله شىء. وأنه سبحانه كما أخبر عنه رسوله صلى الله عليه وسلم (كان الله ولا شىء معه وكان عرشه على الماء وكتب فى الذكر كل شىء).(41/9)
وأما وضعكم فى شعاركم الكاذب فتى وفتاة ينظران الى السماء فلا يعنى هذا إلا صرف الناس عن عبادة الله إلى عبادة غيره. وصلى الله على عبده ورسوله محمد الصادق.(41/10)
(أنت حب الأكوان) شعار كاذب بغير إسقاط
بقلم: عبد الرحمن بن عبد الخالق
أخي الكريم فيصل الزامل أرغب إليك في نشر هذا الإيضاح في زاويتك التي انتقدت فيها مقالي (ليس رسول الله هو حب الأكوان) فلم يكن نقدي بحمد الله من فرط الحساسية ولا من باب الإسقاط وإنما كان بيانا لشعار كاذب، وتساؤلا بحق ومازال التساؤل قائما: لماذا تنطلق حملة من أجل محبة النبي –ومحبته صلى الله عليه وسلم من أشرف الفرائض– تحت شعار كاذب: (أنت حب الأكوان)؟ ولماذا يكفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم والذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة؛ ولا يكفر الذين قالوا إن محمدا هو سيد الوجود؟ علماً أن هذه المقالة أكبر في الكفر من مقالة النصارى؟. ولماذا نحب رسول الله بما كان يبغضه صلى الله عليه وسلم وينهى عنه؟
فأما أن (أنت حب الأكوان) شعار كاذب فلأن الأكوان بالألف واللام تعنى جميع الخلق. لأن كل الخلق قد خلق بكن فكان ومن هذه الأكوان ما يحبه الله ويرضاه ومنهاأعداء الله ومواقع عذابه وسخطه؛ فالكفار من الإنس والجن وعلى رأسهم إبليس أكوان لا يحبها الله ولا رسله ولا عباده المؤمنين قال تعالى (هو الذى خلقكم فمنكم مؤمن ومنكم كافر والله بما تعملون بصير) ومن قال إن الأكوان) هكذا بالألف واللام اللإستغراقية تحب الرسول فهو كاذب. هذا فى مدلول اللفظ، وأما إذا اعتقد العقيدة التى وراء هذا الشعار من وحدة الوجود، وأن كل موجود قد كان من نور الرسول محمد فهو كافر.(42/1)
وسيد الوجود هو الله وحده سبحانه وتعالى، والقول بأن محمداً سيد الوجود كفر بالله، لأن الوجود (بالألف واللام) يشمل وجود الخالق ووجود المخلوق؛ فالموجود اثنان الخالق سبحانه وتعالى، والمخلوقات. وقول القائل محمد سيد الوجود يعنى بالوضع اللغوى أنه الحاكم الآمر ومن له السيادة على جميع الوجود ويدخل فى هذا الله سبحانه وتعالى، ولا يخفى ما يعنيه هذا اللفظ من الكفر. هذا من حيث الوضع اللغوى وأما من أطلقه وهو يعنى ما عناه من أطلقوه أولا: من أن الرسول محمدا هو أول موجود ومنه خلق كل الوجود فلا شك فى كفره كفرا لم تكفره اليهود ولا النصارى.
والقول بأن رسول الله هو المتفضل على كل الرسل والأنبياء –كذب– فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يعلم من شأن النبوات شيئاً قبل أن يأتيه وحي السماء. وهذا اللفظ كذب بالمعنى اللغوى، وأما إذا عنى به ما يسمى (بالحقيقة المحمدية) وهو أن الرسول محمدا هو الذى يمد جميع الرسل والأنبياء وأنه لا وحى لهم إلا عن طريقه فلا يخفى كفره.
والقول بأن قبر النبي يٌسعى إليه كذب على الله ورسوله... والتقرب إلى الرسول بغناء الرجال بالدفوف والطبول وآلات الطرب بدعة منكرة، واثم عظيم... وكل هذا من (فعاليات) الحملة... فأين هنا الحساسية والإسقاط!!
وقد قلنا إن هذه الشعارات والعبارات لها مضمون معروف في الفكر الصوفي... ولم نقل إن الذين أطلقوها الآن يريدون هذا المضمون فإن كانوا يجهلون هذه المضامين فتلك مصيبة وإن كانوا يعلمونها فالمصيبة أعظم من ذلك؟(42/2)
وكل هدفنا هو أن تنطلق هذه الحملة في محبة النبي صلى الله عليه وسلم التي هي من أعظم القربات إلى الله تحت شعار صادق، وعلى أساس من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وذلك بتثبيت دلائل النبوة، ونشر سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وفضائله والتخلق بأخلاقه والتأسي به، وتقديم محبته على النفس والأهل والمال والولد. والذب عن دينه وسنته صلى الله عليه وسلم سائلا الله سبحانه أن يوفقنا جميعا إلى محبته ورضوانه.(42/3)
بسم الله الرحمن الرحيم
تساؤلات حول مصطلح الوسطية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث بالدين القويم، إلى يوم الدين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد.
فمنذ بضعة عشر عاماً فقط أصبح لفظ الوسطية متداولاً بصورة واسعة، واستعمله كثير ممن ينسبون إلى الفكر الإسلامي، والسياسة، والعلم الشرعي.
وأصبح شأنه كشان كثير من المصطلحات التي لا اتفاق حول مدلولها، يعطيه كُلٌ معنى مغايراً لما يعطيه الآخر.
ولما كان لفظ الوسطية يطلق ويراد به المنهج والشرعة والدين، أو يطلق ويراد به تيار مخصوص من تيارات الأمة، أصبح لزاماً على من يستعملون هذا اللفظ الحادث أن يعلموا ماذا يريدون منه، وماذا يريدون به؟.
وأنا أطرح مجموعة من التساؤلات حول هذا المصطلح الجديد في الفكر الإسلامي.
حيث يقول عنه د. محمد عمارة: (إن مصطلح الوسطية من المصطلحات التي عدت عليها العاديات وجارت عليها النائبات فأخرجتها عن معناها الإسلامي الأصيل وأبعدتها عن كونها أخص خصائص منهج الإسلام في الفكر والحياة والنظر والممارسة والتطبيق والقيم والمعايير والأصول.. إلى معان أبعدت النجعة عن فحواها وخالفت أصل مسماها وما عادت تمت إلى الوسطية بصلة، ولا تتعلق فيها بسبب) (انظر معركة المصطلحات بين الغرب والإسلام – د. محمد عمارة – ص 189).
1- هل الوسطية لفظ يراد به الإسلام الحق؟ والحنيفية السمحة؟ والشرعة والمنهج الذي بعث به الرسول صلى الله عليه وسلم؟ أم هو لفظ يراد به الدلالة على منحى خاص؟ ومجموعة مخصوصة من أمة الإسلام اختاروا من عقائده وأحكامه ما رأوا أنه الدين الوسط؟ واعتقاد الفرقة الناجية؟ فيكون بذلك لفظ الوسطية كلفظ (أهل السنة والجماعة) والسلفية والفرقة الناجية ونحو ذلك؟(43/1)
2- هل لهذه (الوسطية) اليوم مرجعية دينية يرجع إليها؟ وتحكم على أن هذا المعتقد أو العبادة أو العمل داخل في معنى الوسطية أو خارج عنها؟ وأين هذا المرجع كتاباً أو أماماً أو شيخاً؟
قد يقال الحنفية أو الشافعية فيعلم بذلك منهج ومذهب، يقال الأشعرية، والمعتزلة فيعلم منهج في الاعتقاد والعمل، والآن إذا قيل الوسطية فماذا يعني ذلك من الدين: عقيدة وشريعة؟!
3- إذا كان اللفظ –ولم يمض على تداوله إلا عقد واحد من الزمان أو يزيد قليلاً- أصبح يتكلم فيه أصناف شتى من الناس، وكل يخرج بمفهوم في العقيدة والعمل غير ما يعرضه الآخر، ومنهم من بات يخصص (الوسطية) فيقول الوسطية المستبصرة مما يعني عند قائل ذلك أن هناك وسطية أخرى عوراء أو عمياء..
4- عندما يطلق بعض الناس لفظ الوسطية ويريدون بها حسب قولهم الإسلام المعتدل فإن هذا يعني أن هناك إسلاماً غير معتدل عند بعض الناس، فما هو هذا الإسلام الشاذ وغير المعتدل؟ وما ملامح هذا الإسلام الوسط؟!
وهذا سيحتاج إلى بيان معنى الوسطية في العقائد والعبادات والمعاملات.. والشرعة والمنهج، وإلى بيان الخارجين عن هذه الوسطية وسيكون هذا تصنيفاً جديداً لأهل الإسلام يضاف إلى التصانيف السابقة في مسميات الفرق والعقائد..
5- أليس من الخير لأهل الإسلام أن يكتفوا بالتصنيف القديم والأسماء التي اشتهرت بها من قبل وأصبح لها مدلول معلوم كأهل السنة والجماعة، ونحو ذلك؟.
وأما العدل والإحسان والإنصاف فإن نصوص الدين كافية في بيان المعنى المراد، والحق، فلماذا نثقل كاهل المسلمين بتسميات أخرى تزيد في الفرقة والشقاق؟
والخوف الأكبر من أن ينتمي إلى هذا المسمى الجديد كل من هب ودب، وينسب إلى مسمى الوسطية ما يشتهي ونخرج في النهاية بمذهب ملفق من أقوال شتى، وأقوام مختلفين.(43/2)
6- بعض من يطلق من يطلق الوسطية يريد بها الوسط الهندسي لنقطة بين طرفين متباعدين، أو موقع بين طرفين، وليس هذا ممدوحاً في الإسلام على كل حال فإن هذا يكون نفاقاً أحياناً فإن النفاق موقف بين الكفر والإيمان كما قال تعالى عن المنافقين:
{مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء}.
ولا بد للمسلم أن يكون مع أهل الإيمان دائماً ومع الحق أبداً {يأيها الذين آمنوا أتقوا الله وكونوا مع الصادقين}، {يأيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم}، {يأيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط}، {قل يأيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون}، {فماذا بعد الحق إلا الضلال فأني تصرفون}، [إن الحلال بين وإن الحرام بين]... الحديث.
7- وهناك توسط ممدوح جاء به الإسلام، كالتوسط بمعنى الاعتدال في الانفاق بين الإسراف والتقتير، {ولا تجعل يدك مغلوله إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط} والتوسط في المشي بين السعي والتماوت، {واقصد في مشيك}.
والتوسط في قراءة الليل بين الجهر والسر، {ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها}.
والاعتدال في الحب والبغض [أحبب حبيبك هوناً ما عسى أن يكون بغيضك يوماً ما، وأبغض عدوك هوناً ما عسى أن يكون حبيبك يوماً ما]. صحيح الجامع ص 176.
وإذا كان التوسط في الإسلام ممدوحاً تارة ومذوماً أخرى فإن مصطلح الوسطية إذا أخذ على عمومه فإنه سيكون باباً للفساد، أليس كذلك؟!
8- ستكون (الوسطية) جناية جديدة جديدة على أمة الإسلام إذا أريد بها إسقاط بعض أحكامه وإلغاء بعض تشريعه.
فكثير ممن يتصدون لشرح هذه (الوسطية) بجعلها إسلاماً بلا جهاد، ولا قتال، ولا أمر بمعروف ولا نهي عن منكر، ولا {قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون.... الآيات} ولا {لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم}... ولا {وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولداً ما لهم به من علم ولا لآبائهم كبرت كلمة تخرج من افواهم إن يقولون إلا كذبا}!!(43/3)
9- في رأيي أن لفظ الوسطية، لفظ حادث والذين أحدثوه قد اختلفوا فيه، ولا يستطيع أحد أن يدعي أنه المرجع فيه، أو أن فلاناً من الناس هو الذي تنسب الوسطية إليه، ولذلك فإنني أرى أنه سيزيد المسلمين بلاءاً ولن يخدم قضية من قضاياهم، بل سيكثر النزاع حوله، والتنازع فيه، وهكذا الشأن في كل بدعة ابتدعت في الإسلام.
10- ألا يكفينا لفظ الإيمان والإسلام، وأهل السنة والجماعة، وجماعة المسلمين ليكون ذلك شعاراً للمرحلة ولكل مرحلة.
11- وإذا كان القصد هو النهي عن الغلو، والتطرف والشذوذ، فليكن البحث والشعار حول موقف الإسلام من الأمر الفلاني، أو حكم الإسلام في القضية الفلانية... وهكذا.
فإن الإسلام شعار معلوم ودين واضح المعالم: كتاب منير، وسنة مشرقة، وأمة مهتدية، وأعلام على الهدى: (صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم ومن تبعهم بإحسان).
وكتبه
عبدالرحمن بن عبدالخالق(43/4)