هذه النافذة
14/10/2001
27/7/1423
اللهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك .
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته ، وعلى آل بيته الأطهار ، وأصحابه الأخيار ، وزوجاته الطيبات القانتات ، وعلى من تبعهم بإحسان . ثم السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
هذه نافذة خاصة بقلم المشرف على هذا الموقع المبارك ( الإسلام اليوم ) .
وكثير مما يحسن قوله هنا الآن ، قلته في مقدمة الموقع .
أ- فلقد تحدثت عن حفاوة النبي صلى الله عليه وسلم بالإعلام في دعوته وتوظيفه بطريقة عجيبة ، توجب على المسلم المعاصر وهو يشهد هذا التواصل المذهل أن يسلك نفس الطريق ، وأن يتذرع لدعوته بالوسائل ذاتها .
ب- وأن الإنترنت فضاء رحب مليء بالفرص المتعددة ، من تصفح للملايين من المواقع الغنية بأنواع المعلومات ، إلى المحادثات الحية والمباشرة عبر الصوت والصورة والكتابة ، إلى البريد الإلكتروني والمجموعات الإخبارية ، إلى البث المباشر وغير المحدود للإذاعات والقنوات الفضائية عبر الشبكة ... الخ .
جـ - وأن كل جهد يتلافى التفريط الإعلامي المريع هو أمر بالغ الأهمية لا يحتمل التهاون ولا التأخير ولا الانتظار . وهذا الموقع ( الإسلام اليوم ) جاء لهذا المقصد ، يقدم الأصالة الإسلامية ، ويعتمد المعاصرة أسلوباً في العرض والمعالجة والتناول .
إن هذا الأفق الجديد ( الإنترنت ) يضيق علينا دائرة التعذير للنفس والتحجج بالعجز تنطلق القدرات والإبداعات بكامل طاقاتها ، إلى أبعد مدى تصل إليه .
د - وأن أمامنا في هذا العمل هدف محدّد واضح إلى درجة التألق ، وهو خدمة ديننا والدفاع عنه والدعوة إليه ، ودعوة المسلمين الشاردين ، ودعوة غير المسلمين .
ولذا فلا مكان في موقعنا للنيل من هذا الشخص أو تلك الجهة أو من هيئة أو جماعة أو حزب أو مؤسسة رسمية أو غير رسمية كما أنه لا مكان فيه للدعاية لشيء من هذا .(1/1)
فلدينا من أولويات العمل وضروريا ته ، ومساحة الدين العريضة المتفق عليها ما يستفرغ كل طاقاتنا ، ويستوعب كل جهودنا .
هـ - وأن الموقع سيجند نفسه لترسيخ قيم الاعتدال والموضوعية والتسامح ، بعيداً عن التداخلات التي تعوق مسيرة العمل والدعوة ، وتضعف من وهج الخطاب الإسلامي وانسيابيته ، وتشغله بالهموم الذاتية .
إن الاعتدال في النظر والتقويم والمواقف والتربية منهج إسلامي أصيل ، ومن الضروري حفر مجرى واسع له ، يؤكد أن الإفراط والتفريط وجهان لعملة واحدة ، وأنهما طارئان على المنهج الشرعي .
و- وأن الموقع سيجند نفسه أيضاً لترسيخ قيم الحوار الإسلامي الناضج ، الراقي في موضوعه ، و هدفه ، وفي لغته ، البعيد عن المهاترات والسباب والتشاتم ، فالرأي الآخر معتبر لا يصادر ولا يلغى طالما التزم الضوابط الشرعية ، واستخدم لغة الحوار العلمي الرزين .
ز – ونوافذ الموقع متعددة ، من دعوة غير المسلمين بلغتهم ، ومن خلال مواد خاصة متميزة ، إلى عرض معاني القرآن الكريم ، إلى نافذة الأسرة ، والثقافة ، والفتوى ، ونافذتكم هذه : ( قلم المشرف ) ..
ومن همنا العناية بالخبر الإسلامي المتفائل الذي يزرع شيئاً من الفرحة في النفوس ، ويتجاوز الصورة التقليدية القائمة على الندب واليأس والإحباط ، ففي الواقع الإسلامي العريض الكثير من البشائر والجهود الطيبة والمشاركات الحميدة التي تستحق الإشادة ، وتستأثر بالاهتمام .
وهذه النوافذ هي ثمرة جهود مخلصة لعدد من المتعاونين الذين وجدوا في فراغهم القليل فرصة لهذه المشاركات المشكورة .
فجزاهم الله خير الجزاء .(1/2)
ح – ونحن هنا نحاول تقديم الإسلام بنصاعته الأولى ونقائه الأصيل ، على منهاج النبوة ، والمحجة البيضاء التي كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاءه الراشدون ، وأصحابه المهديون ، والتا بعون لهم بإحسان ، وأئمة الإسلام والأعلام من الفقهاء والأئمة والدعاة عبر العصور ، إلى يوم الناس هذا ، نقيا من شوائب البدع وضلالات الفرق محرراً من ربقة التقليد وعصبيته .
هداه الكتاب والسنة ، عليهما الاجتماع وإليهما الرد عند الاختلاف ( فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر (
ط – أما هذه النافذة الخاصة فهي مجموعة فقرات :
أولها : فقرة المقال الأسبوعي الذي يعالج موضوعاً من الموضوعات التربوية أو الفكرية أو العلمية أو الواقعية بحسب المناسبة .
ويثري هذا المقال تعليقات القراء وملاحظاتهم ، والتي ستكون بدورها مادة دسمة لمقالات جديدة .
وثانيها : تعليقات علمية من القرآن والسنة ، وهي مادة تجمع بيين الفائدة والطرافة ، وتنزل مرتبة ترتيبااً تسلسلياً من أول القرآن الكريم ...
أما السنة فقدد اعتمدت مختصر الإمام المنذري لصحيح مسلم لكتابة التعليقات والفوائد عليه .
وثالثها : مختارات من بريدي الإلكتروني ، تتفرع إلى رسائل توجيهية ، أو اجتماعية ، أو دعوية ، أو ردود ، أو مناقشات .
وإلى مسائل علمية فقهية أو حديثية أو تاريخية أو غيرها .
رابعها : عفو الخاطر ، وهو مكتوب يقرأ من عنوانه ، لفتات ونظرات ، وتجارب وخبرات ، وقصائد ومناسبات ، وكلمات عابرات ، وربما كنت أقيد بعضها على أوراق التقويم ، أو في مذكرة خاصة ، وقد يوجد في كلمة صغيرة ما يغني عن حديث طويل .
آمل أن يجد الأحبة في هذه النافذة بعض الفائدة ، وإن لم تكن بحجم طموحهم وتطلعهم .
ولا غنى لنا – بعد الله تعالى – عن النقد والتقويم والتصحيح والاستدراك والمشاركة .(1/3)
جزى الله كل من نصح وأعان خيراً ، وبارك الله في الجهود ، والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين .
والسلام عليك ورحمة الله وبركاته ...(1/4)
إعلان عن مفقودات ..!
25/01/2002
11/11/1423
نعم، و في مقالة عريضة تنشر هنا!
لا بأس أن تقرأ ما بين السطور، فربما كنت معنياً بهذا الحديث.
فأين أنت إذاً أيها الوفاء المتجسد إنساناً يدب على الأرض؟
أين أنت أيها القلب المتقد حباً وصفاءً وصدقاً.. تتغير عليه الأحوال ولا يتغير، حتى لكأنه المقصود بقول المتنبي:
وحالاتُ الزمان عليك شتى **** وحالك واحد في كل حال !
أم تراك أبيت إلا أن تصدق قول الآخر:
أيقنت أن المستحيل ثلاثةٌ **** الغولُ والعنقاء والخل الوفي
إن البصر الثاقب ليعرف أولئك الذين يَمْهدون لأنفسهم، ويصطادون الفرص، ويذرفون الدموع، ويجيدون التلون، ويلبسون لكل حالة لبوسها، لكنه لم يعرفك فيهم، ولم يرك من بينهم ولهذا افتقدك فنادى عليك:
وداع دعا إذ نحن بالخيف من منى **** فهيج أحزانَ الفؤادِ وما يدري
دعا باسم ليلى غيرَها فكأنما **** أطار بليلى طائراً كان في صدري
دعا باسم ليلى أسخن الله ُ عينه **** وليلى بأرض الشام في بلد قفر
عرضتُ على قلبي العزاء فقال لي: **** من الآن فاجزع لا تملَّ من الصبر
إذا بان من تهوى وشطَّ به النوى **** ففرقةُ من تهوى أَحَرُّ من الجمر
لقد نظمت فيك الأشعار بعد ما تربعت على عرش الفؤاد، واستوليت على سويدائه، وكنت إنسان عينه، وعين إنسانه، وها أنا أُدبج فيك المقالات التي لا تتجاوز أن تكون غَرفة من بحر خواطري حولك .
ربما اضطربت الحروف في عينيك الآن، وتساءلت: أتراه يقصدني؟
وهل أقصد إلا أنت؟
بودي أن أعرف! أتغير قلبك..ذلك المشرق بالصدق والإخلاص والنقاء؟ أم غالبته عوارض الحياة وكدوراتهُا فلونته بغير ما اعتاد؟
أتغير خلقك الشريفُ الذي هو أنموذج يحتذى، ومثل يُتَّبع، ومحل إعجاب لمن عرفك ومن لم يعرفك أم لا زلت على عهدي، ولم تتغير بعدي، ولكن حال بيني وبينك الحال؟(2/1)
أتراك تجد ما أجد، من وَجْدِ البعد، ومرارة الهجر، حتى إني لآوي إلى مخدعي لهجعة نوم فينتابني خيالُكَ اللطيفُ فأهش له وأبش، وأبثه شكواي وشجني، وأسائله حتى لأذكر قول القائل:
وقفت على ربع لمية ناقتي **** فما زلت ابكي عنده وأخاطبه
وأسقيه حتى كاد مما أبثه **** تكلمني أحجاره وملاعبه
إن المرء ليعرف في حياته الكثير من الناس ممن زاملهم أو جاورهم، أو رافقهم في صِبا ، أو شاركهم في مجهود، أو جالسهم يوما، أو أحبهم أو أحبوه، ثم تفرقت بهم السبل، وذهب كل إلى شأنه، ونسي بعضهم بعضاً حتى يلتقوا فيبتسم بعضهم إلى بعض، ويتذاكرون العهد القديم الذي يظل جميلاً؛ لأنه قد مضى وانقضى، ولا سبيل إلى رده، لكن مثلك هيهات أن يُنسى حتى ينسى الإنسان قلبه، أو يسلوَ عن نفسه، فلقد كنتَ سرورَ العين ونشوةَ الضمير، ونعمةَ الحاضر، وتطلعَ المستقبل.
ولئن قالت العرب: إن الشيء من مَعْدنه لا يستغرب، فلعمر الله لقد صدقوا، فالشيء من غير معدنه غريب، وما كنتَ إلا الشفافية التامة تجسدت في لحم ودم، وتمثلت بإذن ربها بشراً سويا.
لقد عدتُ إلى نفسي وحاققتها عما جنت وفعلت، وما فرطت وقصرت .. وقلت لها: يداكِ أوكتا وفوكِ نفخ، وَأَرْدَفْتُ: هذا أثر غفلتِكِ وسوءُ تدبيركِ، وإجحافكِ بحقوق الجليس والأنيس !.
فاعتذرت إليّ أن التكلفَ والاحتياطَ في معاملة الصاحب إنما ينشأ عن نقص الأخوّة، وأن عَقدَها إذا استحكم وتم ورسخ، لم يؤثرْ فيه جفاء، ولم يكدره بعاد.
أفترى عذرها لديكَ مقبول، وكيف لا وأنت من الكرام؟
أم تُراك تقول فيها ما لا تقول فيك.
أم أنت تعتب الآن على هذه الكلمات المرقومة على قارعة الطريق يقرؤها الرائح والغادي، فيتساءلون عن معانيها ومراميها ويديرون رؤوسهم ويقلبون أيديهم؟
أتراه حديثٌ عام أم خاص ؟ أم أفكار أم أشخاص ؟.(2/2)
فلا عليك إذاً، فإنك وإن أدركت مالم يدركوا، ووقعتَ من مدارك القول على مالم يقعوا، إلا أن الناس جبلوا على البحث عن ما وراء الوراء، وأولعوا بالإغراق في التحليل والتعليل، وانعقد في قلوبهم أن استقراء المعنى المباشرِ سطحيةٌ وسذاجة، فهم ولا بد تاركوا العِنان لخيالهم بحثاً عن معنى يتعداك إلى سواك، ويجعل من الإطار المخصوص فكرة ذات شمول وذيول.
أيها الوفاء!
من نفاك فقد احتكر لنفسه الكمال، وأنحى على غيره بالملام، والجنة على المستكبرين حرام.
ولذا فليكن من العدل والإنصاف من النفس أن تقول:
إن التربة التي غرس فيها لم تكن محلاً صالحاً، فلم يُكتب فيها نماؤه، ومن ثم ذبل عودُهُ، وَجَفَّ ماؤه، وغاض رُواؤه، وهذه سنة الله في العباد، ما اجتمعوا إلا ليتفرقوا:
لكل امرئ ضيف يسر بقربه **** ومالي سوى الأحزان والهم من ضيفِ
له منطق يرمي القلوب بأسهمٍ **** أشد من الضرب المدارك بالسيف
يقول خليلي:كيف صبرك بعدنا **** فقلت:وهل صبر فيسأل عن كيف؟!
وفاءً لحقك أسأل الله أن تكون سعيداً في حياتك موفقاً في عملك، صالحاً في دينك، وألاّ تسبب هذه الكلمات جُرحاً لروحك الرقيقة، وطبعك الهادئ ونفسك الراضية، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.(2/3)
الإرهاب ...والعمليات الاستشهادية
06/04/2002
23/1/1423
كعادتهم الكريهة في اختراع الأسماء البراقة لإرهابهم المنظم، قامت الطغمة اليهودية بتسمية جرائمهم في إعادة احتلال الأرض الفلسطينية باسم " السور الواقي" إمعاناً في الخداع والتضليل .
ومن قبلهم سمّى الأمريكان حربهم الأخيرة " النسر النبيل " والنسر عادةً مايحوم حول الجِيَف .
ولست أرى فرقاً. فالحرب الإسرائيلية هي امتداد للحرب الأمريكية ، أو بعبارة أدقّ: فاليهود يخوضون هذه الحرب نيابة عن الأمريكان، إذ إن المحطة الثانية للحرب على الإرهاب ـ زعموا ـ هي القضاء على المقاومة الفلسطينية واستئصالها، والقضاء على السلطة، وربما إعادة الإدارة المحلية المباشرة.
وهذه الحرب وإرهاصاتها كشفت عن خطورة جادة، إنهم لايفرقون بين أحد وأحد، فالكل هدف لهم، وهم لايقبلون التنازلات الجزئية، لايقبلون إلا " العمالة ".
وكانت مشاهد القتل والدمار المروع، التي سجلتها عدسات المصورين، ونقلتها وسائل الإعلام شيئاً بشعاً يفوق الاحتمال ، فضلاً عن الشهادات المحايدة، كشهادة وكالة غوث اللاجئين التابعة للأمم المتحدة وغيرها ...
وصار الناس يصحون وينامون على كوابيس من هذا الرعب الممزوج بالإحباط ومشاعر القهر والحنق.
لايأخذهم عن هذا إلا خبر عملية استشهادية تعيد شيئاً من توازن الرعب!
ويبدو أن الأمريكان يرون تشابها بين هذه العمليات -التي هدفها التحرير- وبين العمليات التي استهدفتهم في 11 سبتمبر .
وإذا كان المقصود التشابه في الأسلوب فهم أول من نفذه خلال حربهم الأهلية، ثم استخدم ضدهم في الحرب العالمية الثانية بما يسمى عمليات " الكاميكاز " .
وأساليب الحرب فنون وضروب، والمهم هو عدالة الحرب وأخلاقيتها.(3/1)
وليس غريباً أن يوقع ستون مثقفاً أمريكياً يمينياً على وثيقة " من أجل ماذا نقاتل؟ " التي تشرّع للحرب على الإرهاب ـ زعموا ـ وتعدها حرباً أخلاقيةً ، وقد قام موقع ( الإسلام اليوم ) بترجمتها في أول صدورها، وثمة تحضير جيد لنقض هذه الوثيقة التي أعدها " مركز القيم "، وإنما القصد –الآن- الإشارة إلى عدالة الحرب الرامية إلى تحرير الأرض، وطرد العدو المحتل الغاصب.
ولا يوجد -حتى في تعريفهم للإرهاب- ما يدين هذه الحرب، أو يصادر حق الشعوب في الدفاع ورفض الاستعمار والاستيطان، ولكنها دعاوى الأقوياء التي لا تطلب دليلاً .
وقد التقيت قبل أيام مندوباً لصحيفة " وول ستريت جورنال " وهي واحدة من أشهر ثلاث صحف أمريكية، فكان يقول: لاتوجد قيم ولا أخلاق، وإنما هي القوة، والقوة وحدها، ومنذ خمسة الآف سنة، والقوي يفرض مايريد، وكلما أمعن في القوة كسب أكثر، فالأمريكان حين استأصلوا الهنود الحمر، والإنجليز حين استأصلوا سكان استراليا الأصليين نجحوا في حسم المعركة.
بينما البِيْض في جنوب أفريقيا -لأنهم كانوا أرحم ولم يستأصلوهم بالكلية- انقلبوا عليهم وانتصروا في النهاية!
وبالأمس انفضَّ مؤتمر تابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي في " كوالالمبور " وكان أفضل نجاح حققه هو الفشل في تحديد تعريف دقيق للإرهاب!!
والحرب العادلة في القرآن الكريم ضروب منها :
1- قتال الذين يقاتلوننا .
2- القتال لحماية المستضعفين .
3- قتال الذين أخرجونا من ديارنا وأموالنا بغير حق .
وكل هذا متحقق في عدوان ما يسمى بإسرائيل على الفلسطينيين بل على العرب والمسلمين.(3/2)
ومن هنا جاء السجال حول العمليات الاستشهادية التي تكاد تكون هي الحيلة العسكرية الوحيدة الباقية في أيدي المستضعفين، ومن هنا كثر الحديث والجدل حول هذه العمليات الاستشهادية وأقيمت ندوات وحوارات وكتبت مقالات وطبعت نشرات ... مابين مؤيد ومعارض ومتحمس ومندفع ومتحفظ ومتردد ، ودارت تساؤلات حول العديد من مفردات هذه المسألة وتفصيلاتها، فمثلاً :
ما الحكم في هذه المسألة على ضوء الكتاب والسنة ، وأقوال سلف الأمة -رحمهم الله تعالى-؟
ما حدود ومجال تنفيذها ؟ بمعنى: هل تكون ضد الكفار في بلادهم فقط، أو تكون ضدهم خارج حدودهم في بلاد لهم نفوذ ومصالح فيها؟
هل تقام ضد الأهداف العسكرية فقط، أو على كل مايؤثر على العدو؟
ما حد الإثخان فيها ..فإذا كان المقصود بهذه العملية رجل واحد، ولكنه مهم بالنسبة للعدو كأن يكون قائداً كبيراً مثلاًً أو بارجةً ...بخلاف لو كان الهدف عدداً كبيراً من العامة أو الأشياء التي لاتشكل أهمية للعدو فما المقياس في ذلك؟
هل يشترط إذْنُ الوالدين فيها إذاكانت جائزة شرعاً؟
هل تجوز في بلاد المسلمين ضد غيرهم؟
هل من يقوم بها يُعَدُّ شهيداً أو منتحراً؟ وهل ندعو له ونترحَّم عليه؟
ما الاسم الشرعي والصحيح لها؟
والعمليات الاستشهادية – كما يسميها من يسوغها شرعاً - من المسائل الحادثة التي لم أجد -بعد البحث والتردد- نصاً عليها في كتب الفقهاء المتقدمين؛ وذلك لأنها من أنماط المقاومة الحديثة التى طرأت بعد ظهور المتفجرات وتقدُّم تقنيتها.
وهي -في الغالب- جزء مما يسمى "حرب العصابات" التى تقوم بها مجموعات فدائية سريعة الحركة، وقد برزت أهمية مثل هذا اللون من المقاومة في الحرب الأهلية الأمريكية، وفي الحرب العالمية الثانية وما بعدها، وصارت جزءاً من نظام الحروب الذي يدرس في المعاهد والأكاديميات الحربية.
وقد احتاج إليها المسلمون في الحياة المعاصرة على وجه الخصوص؛ لأسباب عديدة:(3/3)
1- منها ماجُبِلوا عليه من الفدائية والتضحية وحبِّ الاستشهاد، ورخص الحياة عليهم إذا كانت ذليلة، فالموت العزيز لديهم خير من الحياة الذليلة.
فياربِّ إن حانت وفاتي فلا تكن
على شَرْجَعٍ يُعْلى بخضر المطارف
ولكن أَحِنْ يومي شهيداً بعصبة
يصابون في فجٍّ من الأرض خائف
عصائبُ من شيبان ألف بينهم
تقى الله ... نزالون عند التزاحف
إذا فارقوا دنياهم فارقوا الأذى
وصارواإلى موعودما في المصاحف
2- ومنها مايتعرضون له في عدد من بلادهم من سطوة أعدائهم وجراءتهم عليهم؛ نظراً لتخلفهم العلمي والتقني والحضاري، وتفوق أعدائهم في هذا المضمار، فصارت بعض البلاد الإسلامية كلأً مباحاً للمستعمرين والمحتلين، وهذا مانشاهده في أرض فلسطين المباركة، وفي كشمير، وفي أرض الشيشان، ومن قبلُ في أفغانستان.
3- ومنها ضيق الخيارات لديهم، فإن من عوامل قوة الإنسان أن تعدم الخيارات لديه أو تقل، وبهذا تطيب له الحياة؛ لأنه لا شيء لديه يخسره، وهذا يمنحه طاقة جديدة، ولهذا كانت نهاية الخسارة بداية الربح.
وبمراجعة الحالات المشابهة في النصوص الشرعية، و الوقائع التاريخية نجد مايمكن الاستئناس به في أمر هذه المسألة :
1- ففي مصنف ابن أبي شيبة عن محمد بن إسحاق ( وهو صدوق مدلِّس ) عن عاصم بن محمد بن قتادة قال: قال معاذ بن عفراء: يا رسول الله، مايضحك الربَّ من عبده؟ قال: غمسه يده في العدو حاسراً. قال: فألقى درعاً كانت عليه، فقاتل حتى قتل.
وصححه ابن حزم في المحلى (7/294)
وذكره الطبري في تاريخه (2/33) عن عوف بن الحارث، وهو ابن عفراء، وهكذا في سيرة ابن هشام (3/175).
2- وقد روى ابن حزم في المحلى (نفسه) عن أبي إسحاق السبيعي قال: سمعت رجلاً سأل البراء بن عازب: أرأيت لو أن رجلاً حمل على الكتيبة، وهم ألف، ألقى بيده إلى التهلكة؟ قال البراء: لا، ولكن التهلكة أن يصيب الرجل الذَّنْب فيلقي بيده، ويقول: لا توبة لي .(3/4)
قال: ولم ينكر أبو أيوب الأنصاري، ولا أبو موسى الأشعري أن يحمل الرجل وحده على العسكر الجرار، ويثبت حتى يقتل.
3- وقصة أبي أيوب في القسطنطينية معروفة مشهورة، وفيها أن رجلاً من المسلمين حمل على صف الروم حتى دخل فيهم، فصاح الناس، وقالوا: سبحان الله! يلقي بيديه إلى التهلكة؟ فقام أبو أيوب. فقال: أيها الناس إنكم تتأولون هذه الآية هذا التأويل إنما نزلت فينا معشر الأنصار، لما أعز الله الإسلام وكثر ناصروه فقال بعضنا لبعض سراً، دون رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إن أموالنا ضاعت، وإن الله قد أعز الإسلام وكثر ناصروه، فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ماضاع منها فأنزل الله على نبيه -صلى الله عليه وسلم- الآية …إلى آخر الحديث .
وهو في سنن الترمذي (2898) وقال : حسن صحيح غريب .
ورواه أبو داود (2151).
4- كما روى أهل السير، وابن المبارك في كتاب الجهاد (1/134) قصة البراء بن مالك وإلقاءه نفسه بين المرتدين من بني حنيفة .
وفي بعض المصادر كالسير (1/196) وغيرها أنه أمر أصحابه أن يحملوه على ترسٍ على أَسِنَّة رماحهم ويلقوه في الحديقة، فاقتحم إليهم، وشد عليهم، وقاتل حتى افتتح باب الحديقة، وجرح يومئذٍ بضعةً وثمانين جرحا، وأقام عليه خالد بن الوليد –يومئذٍ- شخصاً يداوي جراحه.
ونحو هذا في ثقات ابن حبان ( 2/175 ) و تاريخ الطبري (2/281) و غيرهما .
وقريب منه قصة البراء -رضي الله عنه- بتستر .
5- وروى أحمد عن أبي إسحاق، قلت للبراء: الرجل يحمل على المشركين، أهو ممن ألقى بيده إلى التهلكة؟ قال: لا؛ لأن الله -عز وجل- بعث رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فقال: (فقاتل في سبيل الله لا تُكَلَّفُ إلا نفسك)إنما ذاك في النفقة .(3/5)
6- وقد جاء في صحيح مسلم -رحمه الله- من حديث صهيب الطويل المعروف، قول الغلام ـ الذي عجزوا عن قتله ـ للملك: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك، قال: وماهو؟ قال: تجمع الناس في صعيد واحد، وتصلبني على جذع، ثم خذ سهماً من كنانتي، ثم ضع السهم في كبد القوس، ثم قل: باسم الله رب الغلام، ثم ارمني، فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني … الحديث، وفيه أن الملك فعل ما أمره به، فمات الغلام، فقال الناس: آمنا برب الغلام، آمنا برب الغلام، آمنا برب الغلام .. الحديث. والحديث في المسند (22805) وغيره.
فهذا الغلام قد أرشد الملكَ إلى الطريقة التي يتحقق بها قتله، ثم نفذها الملكُ، وتحقق بها ما رمى إليه الغلام من المصلحة العظيمة العامة من إيمان الناس كُلِّهم بالله بعدما بلغهم خبره، وما أجرى الله له من الكرامة.
7- وفي حديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله: ( الذين يلقون في الصف الأول فلا يلفتون وجوهم حتى يقتلوا، أولئك يتلبطون في الغرف العلى من الجنة، ويضحك إليهم ربك، إن ربك إذا ضحك إلى قومٍ فلا حساب عليهم).
رواه ابن أبي شيبة (4/569) و الطبراني، وأبو يعلى، وابن المبارك في الجهاد، وأبو نعيم في الحلية وغيرهم. وقال المنذري: رواته ثقات .
8- كما روى ابن أبي شيبة عن مدرك بن عوف الأحمسي قال: كنت عند عمر -رضي الله عنه- فقال….وفيه: يا أمير المؤمنين، ورجل شرى نفسه، فقال مدرك بن عوف: ذاك والله خالي يا أمير المؤمنين، زعم الناس أنه ألقى بيده إلى التهلكة فقال عمر: كذب أولئك، ولكنه ممن اشترى الآخرة بالدنيا.(3/6)
9- وقال محمد بن الحسن الشيباني في السير (1/163): أما من حمل على العدو فهو يسعى في إعزاز الدين، ويتعرض للشهادة التي يستفيد بها الحياة الأبدية، فكيف يكون ملقياً نفسه إلى التهلكة؟ ثم قال: لابأس بأن يحمل الرجل وحده، وإن ظن أنه يقتل، إذا كان يرى أنه يصنع شيئاً، فيقتل أو يجرح أويهزم، فقد فعل ذلك جماعة من الصحابة بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم أحد، ومدحهم على ذلك، وقيل لأبي هريرة: ألم تر أن سعد بن هشام لما التقى الصفان حمل فقاتل حتى قتل، وألقى بيده إلى التهلكة، فقال: كلا، ولكنه تأوّل آيةً في كتاب الله (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله(فأما إن كان يعلم أنه لا ينكي فيهم، فإنه لا يحلُّ له أن يحملَ عليهم؛ لأنه لا يحصل بحملته شيء مما يرجع إلى إعزاز الدين، ولكنه يقتل فقط، وقد قال تعالى: (ولا تقتلوا أنفسكم ...) فإذا كان لا ينكي لا يكون مفيداً فيما هو المقصود، فلا يسعه الإقدام عليه .
10- وقد ذكر الحافظ ابن حجر في مسألة حمل الواحد على العدد الكثير من العدو أن الجمهور صرحوا بأنه إذا كان لفرط شجاعته، وظنه أنه يرهب العدو بذلك أو يجرئ المسلمين عليهم أو نحو ذلك من المقاصد الصحيحة فهو حسن .
ومتى كان مجرد تهورٍ فممنوع، لا سيما إن ترتب على ذلك وهن المسلمين. ( وانظر: سبل السلام 2/473 )
11- وقيده في حاشية الدسوقي (2/208) بأمرين:
أ- أن يكون قصده إعلاء كلمة الله.
ب-وأن يظن تأثيره فيهم.
12- وذكر ابن العربي (1/166) أن الصحيح جواز إقدام الرجل الواحد على الجمع الكثير من الكفار: لأن فيه أربعة أوجه:
الأول: طلب الشهادة.
الثاني: وجود النكاية.
الثالث: تجرئة المسلمين عليهم.
الرابع: ضعف نفوس الأعداء؛ ليروا أن هذا صنع واحد منهم، فما ظنك بالجميع؟
13- وقال ابن تيمية كما في الإنصاف (4/116): يسن الانغماس في العدو لمصلحة المسلمين، وإلا نهي عنه، وهو من التهلكة.(3/7)
ويلحظ في غالب هذه النصوص و الأخبار أنها في رجل أو رجال انطلقوا من جماعة المسلمين وعسكرهم صوب العدو.
ولكن في بعضها -كما في قصة الغلام المؤمن- ماليس كذلك. والذى يترجح من مجموعها ـ و الله أعلم ـ أنه يجوز القيام بعملية من هذا النوع المسؤول عنه بشروط تستخرج من كلام الفقهاء، ومن أهمها:
1-أن يكون ذلك لإعلاء كلمة الله.
2- أن يغلب على الظن، أو يجزم، أن في ذلك نكاية بالعدو، بقتل أو جرح أو هزيمة، أوتجريءٍ للمسلمين عليهم، أوإضعاف نفوسهم حين يرون أن هذا فعل واحد فكيف بالجماعة .
وهذا التقدير -بحصول النكاية وإلحاق الضرر بالعدو المحارب- لا يمكن أن يوكل لآحاد الناس وأفرادهم، خصوصاً في مثل أحوال الناس اليوم، بل لابد أن يكون صادراً عن أهل الخبرة والدراية والمعرفة بالأحوال العسكرية والسياسية من أهل الإسلام وحماته وأوليائه، فإن مراعاة التوقيت واستحضار الأبعاد السياسية والإعلامية مما لايمكن تجاهله أو إغفاله.
3-أن يكون هذا ضد كفار أعلنوا الحرب على المسلمين، فإن الكفار أنواع، منهم المحاربون، ومنهم المسالمون، ومنهم المستأمنون، ومنهم الذميون، ومنهم المعاهدون، وليس الكفر مبيحاً لقتلهم بإطلاق، بل ورد في الحديث الصحيح كما في البخاري (2930) عن عبدالله بن عمرو عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ( من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة ، وإن ريحها يوجد من مسيرة أربعين عاما ) ورواه النسائي وأحمد وابن ماجه وغيرهم.
والأصل إجراء عقود المسلمين على الصحة وعدم التأويل فيها؛ لأن هذا يفضي إلى الفوضى والفساد العريض.
4-أن يكون هذا في بلادهم -إن كانت في حال حرب مع المسلمين-، أوفي بلادٍ دخلوها وتملكوها وحكموها وأراد المسلمون مقاومتهم وطردهم منها، فاليهود في فلسطين، والروس في الشيشان، ممن يمكن تنفيذ هذه العمليات ضدهم بشروطها المذكورة.(3/8)
ومن التضليل والتحيز في المصطلح أن يسمى هذا " إرهاباً " إذا كنا سنجاري الصيغة العالمية في إدانته، أما إذا صح لنا تقسيم الإرهاب إلى: إرهاب مذموم، وإرهاب محمود، فهذا ممكن، وليكن الدفاع عن الأوطان، والأعراض، والأديان، من الإرهاب المحمود "تُرْهِبُون به عدوَّ الله وعدوَّكم " والمسألة بكل حال هي مسألة مصطلح .
5-أن تكون بإذن الأبوين؛ لأنه إذا اشترط إذن الأبوين في الجهاد بعامته، فإذنهما في هذا من باب أولى، والأظهر أنه إذا استأذن والديه للجهاد فأذنا له، فهذا يكفي، ولا يشترط الإذن الخاص، والله أعلم.
ومن يقوم بهذه العمليات -وفق الشروط المعتبرة شرعاً- فهو -بإذن الله- شهيد إذا صحت نيته، إنما الأعمال بالنيات، فيدعى له ويترحم عليه .
أما حد الإثخان فهو خاضع لتقدير أهل الشأن والخبرة -كما ذكرنا-، بحيث يتحقق العلم، أو يغلب على الظن أنها ستوجع فيهم قتلاً أو جرحاً، أو تحدث فيهم ضرراً بليغاً، أو تنشر فيهم رعباً، أوتحملهم على الرحيل إلى ديارهم، دون أن يكون لها مردود سيِّء أكثر من ذلك أو بقدره مثل الانتقام من الأبرياء، أو تهديم المدن والقرى، أو الانجرار إلى حرب شاملة لايقوى عليها المسلمون، ولم يستعدوا لها، وما أشبه هذا مما يملك النظر فيه من آتاه الله الفهم وبعد النظر وقوة الإدراك.
والاجتهاد في هذا الباب وارد وهو عرضة للخطأ والصواب ، ولكن يتقي المسلمون ربهم مااستطاعوا .
نسأل الله أن يكفَّ بأس الذين كفروا، والله أشد بأساً وأشد تنكيلاً، وهو وحده المستعان.(3/9)
التطرف والتطرف المضاد
02/12/2001
17/9/1423
ربما كانت كلمة (( التطرف )) من أكثر الألفاظ إلحاحاً على ألسن الكتبة والإعلاميين والساسة في هذا الوقت ، ولعل أحداث نيويورك وتداعياتها دفعتها دفعاً إلى مقدمة المصطلحات الدارجة التي تعبر عن بعض مكنونات النفس وتغني عن تطويل وسرد عريض ، وهي كلمة مولدة غير أصيلة ، ويفترض أنها تعني عند من يطلقها وقوف الإنسان في طرف بعيد عن مركز الوسط .
ومتاهة المصطلحات سبب وطيد للتباعد في المواقف ، وتحول الحوار إلى نوع من الصراخ في قوم لا يسمعون ، إذ إن التطرف هو محاولة للتعريف بحسب الموقع الذي يشغله المرء .
فأنت إذا افترضت نفسك تعبيراً عن الوسط ، الذي هو رمز الاعتدال والتوازن والفضيلة ، وهو مقام يتفق الجميع على نشدانه وتطلبه ، فالفضيلة وسط بين رذيلتين ، كما كان يقول أرسطو ، وقرر هذا علماء الإسلام كالغزالي وابن تيمية وابن القيم وغيرهم ، وهو أحد معاني الأمة الوسط في القرآن الكريم يقول سبحانه وتعالى : ( وكذلك جعلناكم أمة وسطاً ) .
إذا افترضت نفسك ممثلاً لهذه القيمة الراقية " الوسطية " فأنت تحدد مواقع الآخرين تبعاً لذلك ، فهذا يمين ، وهذا يسار ، وذاك يمين اليمين ، وذاك يسار اليسار ، وهذا متطرف ، وهذا غير متطرف .
ولنا أن نعتبر هذا امتداداً للمبالغة في رؤية الذات وتقدير قيمتها واعتبارها ميزاناً للحكم والتقدير ، وربما محاولة لرسم منهج تفكير الآخرين دون ترك الخيار لهم .
إن من الأشخاص من يوجد في نسيج تكوينهم العقلي والنفسي مبدأ التوازن والاعتدال ، وهذه قيمة شريفة ، ونعمة غالية ، ولقد كان العلماء يجعلون الفضيلة العليا هي فضيلة العدالة التي تتمثل في التوافق والانسجام بين قوى النفس عن طريق العقل ، فلا تبغي إحداها على الأخرى ، فيكون ثمت توازن بين قانون العقل وحركة النفس .(4/1)
وبإزاء هؤلاء جبل آخرون على نوع من الحدة المتمثلة في تفوق صفة من صفات النفس على غيرها ، كصفة الغضب ، أو صفة الشهوة ، ويفتقد التوازن داخل نظام العقل وحركة النفس ، فأحياناً يكون العقل ذا سلطة مستبدة على النفس ، وأحياناً العكس ، وفقدان التوازن هنا مؤهل لصنع أنظمة غير وسطة في مناهج التفكير والتربية ، بل والعلم والمعرفة .
وهذا التكوين الفطري ذو علاقة وطيدة بنوع الاختيار العلمي والعملي الذي ينحو إليه المرء في غالب الأحيان ، ما لم يقاومه ما هو أبلغ تأثيراً ، وأعظم وقعاً .
ونتيجة لهذا فإنك تجد اختيارات الإنسان وآراءه ، وأنماط سلوكه وحياته متجانسة ؛ لأنها تخرج من مشكاة واحدة .
ولحسن الحظ فإن غالب الناس هم في دائرة الوسط والعدل من حيث نظام التعامل الحياتي في أصل تكوينهم ، ودائرة الوسط ليست صيغة واحدة ، لكنها إطار عام يحتوي طبقات عريضة من الناس .
ويبقى أن هذه الوسطية الفطرية التي يتحلى بها أكثر الناس ليست سوى مؤهل بقبول الحق والتأثر به والتسليم له ، فهي نوع استعداد لا يفيد ما لم تنطبع عليه آثار الهداية الربانية .
ولهذا جاء في الكتاب والسنة تشبيه الوحي بالمطر ، وتشبيه النفس القابلة للهدى بالأرض الطيبة ، وأخص من ذلك تشبيه القلب الخاشع بالأرض الحية ، والقلب الغافل بالأرض الميتة ، قال الله جل شأنه : ( ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون ) .
ثم عقب بقوله : ( اعلموا أن الله يحي الأرض بعد موتها قد بينا لكم الآيات لعلكم تعقلون ).
قال ابن كثير في تفسيره : فيه إشارة إلى أن الله تعالى يلين القلوب بعد قسوتها ، ويهدي الحيارى بعد ضلتها ، ويفرج الكروب بعد شدتها ...(4/2)
وفي البخاري (77) ومسلم (4232) وأحمد (18752) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( مثل مابعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً ، فكان منها نقية قبلت الماء ، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير ، وكان منها أجادب أمسكت الماء ، فنفع الله بها الناس ، فشربوا منها وسقوا وزرعوا ، وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لاتمسك ماءً ولاتنبت كلأً ، فذلك مثل من فقه في دين الله ، ونفعه مابعثني الله به فعلم وعلم ، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به ) .
فيتحصل من هذا المعنى أن الاعتدال يقوم على ركنين :
الأول : الاتباع الصادق لما جاء عن الله ورسوله ، وتحكيم الوحي في كل شاردة وواردة ، وصغيرة وكبيرة .
الثاني : قابلية المحل لذلك ، بكون المرء مستعداً لذلك في تكوينه وجبلته .
فالوحي هو النور ، والمحل القابل لذلك هو كالمشكاة التي ينبعث منها النور ، ولذا قال الله سبحانه وتعالى : ( مثل نوره كمشكاة فيها مصباح ...) على أحد الوجوه في تفسير الآية الكريمة ( انظر : ابن كثير 3/290)
والوحي هو المطر ، والمحل القابل هو الأرض الطيبة المستعدة كما في النصوص الأخرى .
وبهذا يكون المعيار هو الوحي الرباني من الكتاب والسنة ، والناطق بهذه الحجة هم أهل الاعتدال من حملة الشريعة في كل زمان ومكان ، وهذا المعنى ظاهر في الحديث المرسل من طرق : ( يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ، ينفون عنه تأويل الجاهلين ، وانتحال المبطلين ، وتحريف الغالين ) وانظر التمهيد ( 1/59) .
فهذا النص ومثله كثير ، يكشف أن المهتدين بنور الكتاب والسنة من أهل العدل والإنصاف والتوسط هم الجادّة التي يرد إليها من نفر عنها .
والغلو بكل صوره وأشكاله هو الاستثناء الذي يعزز القاعدة ويؤكدها .(4/3)
ولهذا حذر النبي صلى الله عليه وسلم من الغلو ، كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما عند النسائي (3007) وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( بمثل هؤلاء فارموا ـ يعني حصى الجمار ـ وإياكم والغلو في الدين ؛ فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين ) .
وكان الصحابة رضي الله عنهم هم الوسط العدول الشهداء على الناس ، والذين يرد إليهم من غلا وأفرط ، أو جفا وفرط .
والتطرف في الإطار الإسلامي هو تعبير عن فهم منحرف ، أو تطبيق منحرف للتعليمات الشرعية ، وإن كان قد يتكئ على حجج شرعية ، أو ينطلق من غيرة دينية ، كما في أول وأقسى نموذج في التاريخ الإسلامي ، وهو نموذج الخوارج ، الذين لم يقنعوا بمستوى فهم وتطبيق الصحابة حتى انشقوا عن نسيج الأمة ، ووجهوا سهامهم إلى نحورها ، بل كان أصلهم يمت إلى صاحب النفس المريضة الذي اعترض على النبي صلى الله عليه وسلم في عدله ، وخاطبه قائلاً : اعدل يامحمد ! فكانت تلك نواة الشريحة التي تصطفي نفسها ، وتستشعر صدقها وطهارتها وإخلاصها ، وتزن الآخرين بالجور أو الحيدة عن الصراط السوي .
لكن من الخطأ أن يتم تقديم هذا الأنموذج دائماً على أنه صورة التطرف ، حتى يقع في نفوس الكثيرين أن التطرف بضاعة إسلامية ، بينما يتم التغافل والتجاهل للتطرف اليهودي ، والذي تمثله أحزاب وجماعات رسمية وكبيرة تتبجح بغلوها ، ولا تستحي من الجهر بمطالباتها الصارمة إزاء خصومها ، دع عنك الغلو المرسّم المبرمج الذي أصبح جزءاً من السياسة اليهودية ، وغدا قاسماً مشتركاً لدى جميع الأطراف .
ومثله التطرف المسيحي الممثل في الجماعات والمنظمات الكثيرة في الولايات المتحدة ، والتي تجاوز عددها المائة ، ويقدر أتباعها بعشرات الملايين .(4/4)
ولقد كانت الأحداث الأخيرة فرصةً لهؤلاء ليكشفوا مكنوناتهم ضد الإسلام والمسلمين ، وكان منهم من يطالب بسحق كل ما هو إسلامي ، ومنهم من يطالب بتدمير مقدسات المسلمين ، وتعالت أصوات رسمية تتهم الإسلام ذاته ، وتعتبره ديناً سيئاً وشريراً !
والتوجه الرسمي الآن الذي يقيم للمسلمين والعرب ديكتاتورية خاصة داخل الولايات المتحدة الأمريكية ويستثنيهم من النظام العام ، ويبخل عليهم بالحقوق التي يتملكها كل من سواهم ... هذا التوجه هو نفسه ضرب من التطرف المقيت ، كما أن إسراف الحلفاء في غطرسة القوة ، وتجاهلهم لأبسط حقوق الإنسانية ، وعدوانهم على شعب أفغانستان ، واستهانتهم بالدماء وحقوق الإنسان ، لهو صورة صارخة من التطرف البغيض ، لكنه تطرف القوي الباطش الذي لا يحتاج إلى برهان على ما يفعل والله المستعان .
فنحن في غابة الأشرار منطقها **** من كان ذا قوة فليلق تمكينا
وهناك التطرف العلماني في العالم الإسلامي الذي يصر على نقل التجربة الغربية ، بل على استنساخ المجتمعات الغربية في ديار الإسلام ، ويزيد على ذلك اقتباس الجانب الدموي المتعسف من التجربة الشيوعية لملاحقة المتدينين ومحاصرتهم ، إعلامياً ووظيفياً واجتماعياً وسياسياً .
إن دائرة ردود الأفعال لا تنتهي ، والتطرف يولد التطرف ، ولعل أفضل بيئة لتشجيع الفكر المنحرف هي البيئة التي تحرم الناس من حقوقهم الفطرية والشرعية ، وتصادر هم ، وتحرمهم من فرصة الهدوء النفسي والاستقرار العاطفي ، وتمتحنهم في أنفسهم وأديانهم وأهليهم وأموالهم .(4/5)
إن التطرف الذي هو ( تجاوز عدل الشرائع السماوية والفطر الآدمية ) هو أزمة بحق ، وتاريخ الحضارات كلها يكشف عن نماذج كثيرة لهذا التطرف ، وتعد رسالة الإسلام الأنموذج الأول والأمثل لمعالجة هذا الانحراف ، لكن مع هذا كله فلسنا هنا بصدد أن نعيش ردود أفعال ونتبادل مع الغرب والعالم الأوصاف ، إن هذه معركة ربما تكون غير ملحة ، وقد لاتصنع شيئاً لصالحنا ، لكن المهم أن ندرك أهمية بناء الوعي في أفراد الأمة ؛ لنعرف مواقع التطرف الخارجة عن الإطار الإسلامي ، ولعل من حسن الفهم هنا أن ندرك أن الغرب يمارس صناعة التطرف ، ويصدرها ، وقد تكون بعض الأطراف مستهلكاً لشيء من هذا ، لكن لابد أن ندرك أن الأزمة ليست في التطرف يوم يكون حالة تعرض لدى بعض الفئات ، لكن يصبح الأمن العالمي مهدداً حقيقةً حينما يكون التطرف قانوناً له شرعيته كما ترسم ذلك دوائر سياسية ومؤسسات متنفذة في الأوساط الغربية قد يتجاوز تأثيرها إلى دوائر شتى ، ولعل الأنموذج اليهودي هو المرشح عالمياً لهذا لو أعطيت الشعوب حرية الموقف والتعبير .
إننا هنا أمام ضرورة توسيع مساحة التفكير ، وألا نسمح للغرب أن يرسم مفهوم التطرف ، وأن نعي أن التطرف يتجاوز دائرة القانونية ليتحول إلى رسالة حضارية تٌطَالَب عقولٌ في العالم كله وليس في الغرب أو الشرق أن تستوعبه كحضارة راقية.
هنا ندرك أن الغرب يعيش أزمة ، وأن كنا نعيش شيئاً منها ، فيجب أن نكون مستعدين لتجاوز مشكلتنا .
وتجاوزها يتم عبر الحفاوة بالاعتدال وترسيمه ، وإشاعة المفاهيم الشرعية الصحيحة التي تنهي حالة الاضطراب والتناقض .(4/6)
التفجير وتداعياته!
15/05/2003
14/3/1424
1- تسامع الجميع بالتفجيرات؛ التي حدثت في الرياض , ليلة الثلاثاء الموافق 12/3/1424هـ؛ والتي استهدفت مجمعات سكنية؛ يفترض أنه يقيم فيها أجانب , وراح ضحيتها عشرات القتلى , ومئات المصابين , من الأمريكان, والسعوديين, وغيرهم!
وأي معالجة للحدث يجب أن تكون منطلقة من إدانة صريحة واضحة, لا لبس فيها لهذا العمل الشائن المحرّم !
فالشريعة جاءت بحفظ الأمن ( وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) ( وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنا) ( رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً ) (فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْف) .
وحفظ الدماء ( أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً ) (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً) .
وحفظ العهود (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) ( وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً) (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ) .
ومدار الشريعة على تحقيق المصالح وتكميلها, ودرء المفاسد وتعطيلها ، ومثل هذه الأعمال تشكل الشرارة الأولى لإثارة الفتنة, والاحتراب الداخلي الذي يدمّر الطاقات, ويشتت الجهود ويهدر المكتسبات, ويعيق التنمية في مجالاتها المختلفة, ويؤخر مسيرة الإصلاح والدعوة ويفتح الباب أمام الطموحات الكامنة, والتناقضات المذهبية, والقبلية, والإقليمية, والفقهية التي لا يخلو منها مجتمع .
وربما شكل فرصة مناسبة للتدخلات الخارجية؛ التي تتذرع بملاحقة الإرهاب , كما تسميه, أو بالمحافظة على المصالح الاقتصادية , أو بتحرير الشعوب إلى آخر المعزوفة المعروفة !(5/1)
إن الموقف المبدئي الشرعي الصريح يجب أن يكون قدراً مشتركاً لدى جميع المؤمنين وجميع العقلاء برفض هذا العمل وتحريمه, وإدانته شرعاً ؛ وبإدراك الآثار السلبية الناجمة عنه محلياً, وإقليمياً .
2-وهذه الإدانة يجب ألا تكون محاولة لتبرئة النفس من الاتهام , وكأن المتحدث يريد أن يبعد التهمة عن شخصه فحسب !
إن المسؤولية أعظم من ذلك, ونحن جميعاً في خندق واحد , وسفينة واحدة , والخرق فيها يفضي إلى غرق الجميع , ويجرنا إلى دوامة من العنف لا يعلم نهايتها إلا الله ! وانفلات الأمن أسهل بكثير من إمكانية ضبطه وإعادته .
وهذا الإحساس الجاد بالمسؤولية هو الذي يحمل المرء على رفض هذه الأعمال! أياً كانت مبرراتها .
لقد دأبت بعض وسائل الإعلام على توسيع دوائر الاتهام, ومحاولة جرِّ أطراف عديدة إلى الميدان؛ لتصفية حسابات شخصية, أو حزبية, أو ما شابه .
وهذا يجب أن يتوقف , ولا يجوز أن نعيد إنتاج التهم الأمريكية؛ التي أدانت الإسلام والعرب والسعودية ؛ واعتبرت المجتمع بمؤسساته العلمية والسياسية والتربوية مسؤولاً عما يحدث .
والإحساس بالمسؤولية الشرعية , بل والوطنية؛ يقتضي عزل الحادث في أضيق نطاق, وعدم توسيع دائرة التهمة ؛ لأننا بهذا التوسيع نصنع تعاطفاً معه, ومع منفذيه لدى شرائح جديدة في المجتمع .
لقد فتحتُ حواراً موضوعياً -بعيداً عن التكلف والتصنع والمجاملة- مع شرائح من طلاب الدراسات الشرعية, ومن طلابي في الحلقة العلمية؛ فوجدت إطباقاً على رفض العمل الذي وقع وتحريمه ، وإن كان الناس يختلفون في الجهة المسؤولة عنه , أو في الحديث عن أسبابه , وهذا من حقهم أن يختلفوا فيه .
إن السعي للوصول إلى مكاسب شخصية, أو فئوية لطرف ما بتوظيف هذا الحدث؛ هو استثمار خاطئ لأزمة حقيقية, لن تستثنى أحداً من تبعاتها وآثارها !(5/2)
3- إن من أعظم المخاطر أن تتسع شقة الانشطار, والانشقاق في المجتمع, وأن يجد الناس أنفسهم في مواقف متقابلة يتداخل فيها الشرعي بالقبلي بالمنطقي بالشخصي ، وهذه هي الفتنة بعينها : (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ) .
وقد تكون الشرارة الأولى عملاً فردياً؛ يفتح الباب أمام الطموحات المتناقضة, ويتم توظيفه من الأطراف المختلفة, كل حسب رؤيته الخاصة ، وهذا يُحتّم على المسؤولين في هذه البلاد أن يتعاملوا بمنتهى الشفافية مع الحدث وتداعياته, وأن يقطعوا الطريق على المزايدات التي تصب الزيت على النار .
يجب العدل في التعامل مع المتهمين, وعدم استخدام أساليب الترهيب النفسي معهم, أو مع أسرهم وذويهم, أو التعذيب, أو التجاوز؛ لأن هذا ليس من الإسلام, ولا يزيد الحقد إلا تأججاً ، والعقل والحكمة تقتضي إلجام الغضب , والعدل أساس الملك ( وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) .
4- الموقف من الإدارة الأمريكية, ورفض سياساتها التعسفية الاستعلائية الانفرادية؛ ليس حكراً على بلد متدين كالسعودية , ولا على دول عربية ولا إسلامية ؛ فالكراهية لتلك السياسات الفاسدة تتنامى في سائر أنحاء أوروبا , وأمريكا الجنوبية , والصين , وغيرها !
وثمت عامل إضافي يخص العالم الإسلامي وهو أنه المستهدف الأول بدينه وثقافته وأرضه وخيراته ومنهج حياته , كما هو مشاهد للعيان .(5/3)
والعربي والمسلم بطبيعته يرفض الذل , ولولا قيد الدين وأثره في منع الناس من الاندفاع , لكان الأمر أشد وأعظم وأنكى! وفي الحديث يقول النبي صلى الله عليه وسلم : " الإيمان قيد الفتك؛ لا يفتك مؤمن " .
لقد تجاوز الأمريكيون الحد في الاستخفاف بالشعوب, وتجاهل إرادتها! ومع هذا؛ فإن من الحكمة القول : بأن الإدارة الأمريكية , أو بعض متطرفيها قد يطيب لهم اضطراب الأمن في أي بلد إسلامي ؛ لأنه قد يمنحهم ذريعة حاضرة , أو مستقبلية في التدخل بحجة المتابعة الأمنية , أو الحفاظ على المصالح , أو إغلاق هذه المؤسسة , أو تلك ، وقد تتطور الأمور بشكل لا يمكن التحكم فيه .
وعلينا أن ننفذ غضبنا على هؤلاء المتطرفين, من خلال آلية عملية واقعية؛ كالمقاطعة الاقتصادية على مستوى الأفراد, والشركات, ورجال الأعمال والحكومات .
ومثل ذلك المواقف السياسية الناضجة, وتهيئة البدائل في العلاقات, والاتفاقيات .
ومثله الدعوة في الولايات المتحدة, وتدعيمها, وبناء المؤسسة الجادة؛ التي تدافع عن قضايا العرب والمسلمين في أمريكا وأوروبا .
ومن ذلك الإعداد لتطوير بلادنا, وتقويتها, وتعزيز روح الشورى, والمشاركة والتعاون , والوقوف أمام التجاوزات بصراحة وحزم, ولكن بشكل سلمي, لا يعتمد العنف وسيلة للتغيير.(5/4)
5- يجب صناعة الجو والمناخ الصالح؛ الذي تشيع فيه روح العدالة والإنصاف, وتحفظ فيه حقوق الناس كافة ؛ ويتمتع الفرد فيه بذات الفرصة التي يتمتع فيها أخوه الآخر ، ويملك الفرد أن يعبِّر عن رأيه ووجهة نظره ؛ بالكتابة , أو الخطابة , أو أي صورة من صور التعبير الرشيد ؛ ويتحمل مسؤولية هذه الكلمة وتبعتها في الدنيا والآخرة , ويحاسب كل من أخل بمبدأ , أو تجاوز حداً , أو تعدى على مقدس, أو أساء إلى أحد , ضمن المعايير الشرعية التي يتفق عليها الجميع . وضمن هذا الإطار تأتي شريعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي يجب دعمها, وتنظيمها, وتطوير آلياتها, ومجالات عملها .
إن المجتمع العادل-الذي يتمتع بالحقوق والحريات المضبوطة بضابط الشرع فحسب- هو مجتمع محروس بعناية الله , محفوظ من الانسياق وراء الاعتبارات الخاصة , والرؤى الضيقة, وهو الذي يشعر كل فرد فيه بمسؤولياته تجاه القضايا والقرارات الصغيرة والكبيرة .
والمعروف أن أساليب التعبير العنيفة- ومنها القتل, والتفجير, والاغتيالات- تأتي عادة في ظل انسداد السبل الطبيعية, وعدم قدرة الناس, أو فئة منهم على التعبير والحوار الحرِّ ؛ ويعمقها الشعور بالغبن, والحيف, والظلم, والتهميش !
ومثل هذا الحدث -مهما يكن مؤلماً- يجب أن يكون منطلقاً لحركة تصحيحية إصلاحية جادة داخل مؤسسات الدولة .
والإطار المبدئي الذي يمكن الانطلاق منه لهذا الإصلاح؛ هو مبدأ الحوار النزيه, المحتكم إلى مسلمات الشريعة ومقرراتها ( فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) . ومن حق كل إنسان أن يشارك ويقدم ما لديه؛ فالبلد بلده, والمصلحة له ولمن بعده , ولا يُستبعد من هذا الحوار صاحب فكر بحجة الغلو أو غيره؛ فالفكر يعالج ويصحح بالفكر, والحوار, والحجة, والبرهان .(5/5)
وأفضل الفرص لنشوء وانتشار الفكر المنحرف؛ هي الأجواء المغلقة الخانقة ! المهم هو عدم الاحتكام إلى السلاح والقوة في حل الإشكاليات, أو تحقيق المطالب .
6- إن أوضاع الشباب في السعودية تحتاج إلى معالجة شاملة؛ لتوسيع مشاركتهم في العمل الاجتماعي, وإعطائهم الفرص المناسبة للحياة الكريمة, وتشغيلهم, وتأهيلهم عبر مؤسسات رسمية وخيرية, وملء فراغهم بالمفيد النافع, والأخذ بأيديهم إلى الجادة المعتدلة, وتعزيز التيار المتوازن الملتزم بالقيم, وعزل الأطراف الموغلة؛ بالتساهل, أو التشدد . وهذه مسؤولية الحكومة بالدرجة الأولى ثم رجال الأعمال ورجال التربية .
إن أكثر من0 6% من الشعب السعودي؛ هم من الشباب دون سن العشرين . وهؤلاء يكادون أن يكونوا محرومين من الفرص التي يستحقها أمثالهم؛ من الناحية المادية والوظيفية التي تحقق احتياجاتهم, وتمنحهم الخبرة والتجربة .
إن الشباب قنبلة موقوتة, مرشحة للانفجار في أي اتجاه! وعلينا ألا ننتظر لكي تقع المشكلة حتى نعالجها؛ بل أن نمتلك رؤية مستقبلية ناضجة؛ تستطيع أن تقرأ أثر المتغيرات, وأن ترسم الحل, وأن تنفذه.
ونحن بحمد الله دولة نفطية؛ لديها إمكانيات مادية هائلة, وخبرات بشرية جيدة, ومساحات متسعة من الأرض, ومستقبل واعد -بإذن الله- إذا توفرت الإرادة للإصلاح؛ كما قال سبحانه ( إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً) .
إن الحدث ناقوسُ خطرٍ يعلن عما وراءه! وعلينا أن نفهم الرسالة جيداً, ونتعامل معها بمسؤولية وتقوى على مستوى الحاكم والمحكوم وعلى مستوى المرسل والمتلقي .
والله أعلم(5/6)
التوظيف الإيجابي للحدث
16/02/2003
15/12/1423
كان الغرب يعد العالم بالرفاهية و الاستقرار ، وبعالم لا يسمع أزيز آلة الحرب ، ولكن خلافاً للتوقعات افتتح القرن الجديد بتلك الحرب العمياء الظالمة التي أصبح فيها هو الخصم والحكم ضد شعب أفغانستان المسلم .
وقد صدرت التصريحات المسؤولة تتحدث عن استهداف مواقع أخرى ، ربما تصل إلى ستين موقعاً في العالم .
وهاهي الحرب كما توقعنا سابقاً تلتف على عنق الشعب العراقي المسلم العريق من خلال هذا التحالف العسكري و الاستخباراتي القائم على الجور و العسف والاستعباد ، فيجب على المسلمين جميعاً أن يوحدوا صفهم لصد العدوان ورده عن بلادهم.
إن المسلمين جميعاً يدينون هذه الضربات التي تستهدف شعباً أعزل بريئاً ، وتحصد المدنيين وغيرهم ، وهاهي الأصوات الإسلامية تتنادى في كل مكان وتطالب بممارسة الضغوط لمنع الحرب وصد خطرها ، بل هاهي الأصوات الشعبية في سائر بلاد العالم تنظم المسيرات الحاشدة الرافضة لقانون الحرب وشريعة الغاب ، يحدث هذا في أنحاء أوروبا وأمريكا واليابان والدول الشرقية والغربية .
ولكن كما قيل :
ودعوى القوي كدعوى السباع **** من الناب والظفر برهانها
فقد عودتنا إسرائيل أنه إذا جرح جندي على الشريط الحدودي ردت إسرائيل بغزو لبنان .
وكما يقول صاحب ( فكرة أمريكا ) : ومن جورج واشنطن إلى جورج بوش فالنهم الأمريكي لسفك الدماء يخلق لديهم أبداً ذهنية المأزق .
ويقول أحد المؤرخين : إنهم مثل اليهود مسكونون دائماً بهاجس الخطر الذي يهدد وجودهم وثروتهم ، إنه خطر الهنود ، وخطر الكاثوليك ، وخطر الإسلام وخطر الأيديولوجيات الخارجية وخطر المهاجرين الغرباء ...
وهم يعلقون دائماً على صدور الجثث : لقد كنا في حالة دفاع عن النفس ..!(6/1)
إن لديهم فلسفة أمنية تقتل حتى على مجرد الظن ، وفي تراثهم المقدس فضاء واسع من الاستعارات العمياء التي قد تتصل ولو على سبيل المصادفة بحادثة معينة أو شخص مغاير ليصبح سفك الدم عملاً مقدساً .
ولا أعتقد أن الدافع لإذكاء نار الحروب هو مجرد الخوف الحقيقي على النفس ، بقدر كون النظام الرأسمالي يعاني بطبيعته انسداداً وأزمات لا يخرج منها إلا بحرب يعدّ لها بين عقد من الزمان وأخر ، وقد يتم من خلال الحرب ترحيل بعض مشكلاته أو استئصالها .
إضافة إلى تحقيق الأهداف التوسعية والوصول إلى مناطق النفوذ في جهات كانت تشرئب إليها الأعناق.
إن هذا يعد جزءاً من استثمار الغرب للحدث وتوظيفه لمصا لحهم .
فهم سيقومون بمراجعة وتصفية عدد من الملفات القديمة العالقة أمنياً وعسكرياً.
وسيراجعون الوضع الاستراتيجي من الناحية الأمنية والاقتصادية والسياسية .
وسيعملون على إعادة البناء بسرعة ( فهم أسرع الناس كرة بعد فرة ) ، وبحجم الخسائر الهائلة التي تحيق بهم إلا أنهم يعملون على تحويلها إلى مكاسب ، ويقومون بتحويل الفواتير إلى جهات تتولى سدادها .
و سيملأون الآذان حديثاً عن الديموقراطية والحرية وحقوق الإنسان .
ولقد علمنا القرآن الكريم كيف نستفيد من الأحداث ، وأكد أئمة الإسلام أن الله لايخلق شراً محضاً ، ولابد في النوازل التي تقع على الأمة من جوانب خير ومصلحة تخفى على قوم وتبين لآخرين ، وقد تظهر اليوم أو غداً ، وإن غداً لناظره قريب ، ومن الخير أن تفتح الأحداث أبواباً من المقاومة بكل معانيها ودلالاتها ، وأن تربي المخلصين والجادين على الرقي بالنظر والتفكير والعمل إلى مستوى أفضل ، وعلى التوجه نحو الاهتمامات الفاضلة والمقاصد العليا بدلاً من الاسترسال وراء الجزئيات ومواطن الخلاف .(6/2)
وكانت الآيات تنزل في مناسباتها ، حرباً أو سلماً ، نصراً أو هزيمة ، حادثة فردية أو جماعية ، أو حتى أسرية أو شخصية لتربي المسلمين من خلال الحدث ، كما في الآيات في آل عمران تعقيباً على هزيمة أحد ، وفي الأنفال تعقيباً على بدر ، وفي الأحزاب تعقيباً على تحزب طوائف الكفر وملله ضد المسلمين ، بل وفي المجادلة تعقيباً على مشكلة عائلية خاصة ، فهذا منهج قرآني ، وفي سورة الحشر تعقيباً على إحدى المعارك مع اليهود يقول تعالى : " فاعتبروا يا أولي الأبصار "، وفي قوله تعالى :"إن مع العسر يسرا" تصريح بقانون يقول بأن كل أزمة أو نكبة فهي في الوقت ذاته فرصة جيدة إذا أحسن استخدامها ، واليسر هنا ( مع ) العسر ، وليس ( بعده ) كما يقول بعض الناس ، و( لن يغلب عسر يسرين ) ومن اليسر أن ينهمك الناس في حركات تصحيحية جادة على الصعيد الفردي والأسري والجماعي والشعبي والحكومي ، ربما كان متعذراً في وقت ما ، لكن يبدو ممكناً عند حدوث الزلزال الذي يهيئ النفوس للتغيير !
وفي سنة الرسول صلى الله عليه وسلم يقول : ( إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة فاستطاع ألا يقوم حتى يغرسها فليغرسها ) رواه الإمام أحمد في مسنده عن أنس بن مالك رضي الله عنه .
إن البعض قد يضيق من انخراط الناس وانهماكهم في أعمالهم الصالحة و في أعمالهم الدنيوية وقد يظن أن هذا يتنافى مع احتدام الشعور بالحزن أو الغضب على ما يجري ، والواقع أن هذه وصفة نبوية ، فالحياة مستمرة ، والدعوة قائمة ، والجهاد قائم ، والعلم قائم ، والناس عاملون، هذا في دنياه ، وهذا في أخراه ، وهذا في زرعه ، وهذا في بره ، وهذا في بحره ، وهذا في فضائه ، وهذا في ميدانه " قل كل يعمل على شاكلته "حتى يأذن الله بخراب الكون .
وخطابنا يجب ألا يركز على النُّواح بقدر ما يركز على العمل ، و العمل الجاد.
وهذا هو التوظيف الأول للحدث : توظيفه باتجاه الأعمال الجادة النافعة على قاعدة ( فليغرسها ).(6/3)
الثاني : توظيفه باتجاه بناء الوعي ، ولهذا جاء في القرآن الكريم " ألم غلبت الروم.."
يجب أن يثمر الحدث وعياً وإدراكاً سليماً وتصوراً جيداً .
إن وسائل الإعلام قد تؤدي دوراً جيداً إذا أحسن استثمارها وقد تساهم في قتل الوعي وتغييبه ، وقد يقرأ الإنسان خبراً صغيراً في زاوية لا يعلم مصدره ولا مصداقيته ثم يبني تصوره كله عليه ويظن أنه أدرك ما فات الآخرين ، بينما هو يعيش في عصر المعلومات ، ويملك أن يحصل على أدق المعلومات من مصادرها في بضع ثوان ، وأن يحصل على معلومات كافية ودقيقة ، وليس مجرد معلومة مجتزأة أو ناقصة وربما كانت مجرد إشاعة !
إن الوعي هو الذي يجعل الأمة تستشعر قضاياها وتعيش مشكلاتها ، ولقد سمعت خبراً مدهشاً ثم خرجت إلى الشارع فرأيت شباباً يرفعون الأعلام على سياراتهم فقلت : وحزين يتسلى بحزين ..
فإذا هم يهتفون للنادي الرياضي بحرارة !
إنه حقاً عصر المعلومات، ومن الخطورة أن يكون عقلاؤنا وذوو الرأي فينا غائبين أو معتمدين على شائعات تطلق هنا أو هناك .
الثالث : توظيفه بإحياء المفاهيم الشرعية الغائبة ، كمفهوم الولاء للمسلمين وما يترتب عليه من محبتهم والفرح بنصرتهم والوقوف معهم ، ومفهوم البراءة من الكافرين على حد قول الخليل عليه السلام :" إنابرءاء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده ".
وفي مثل هذه المناسبات يكون الطرق والحديد ساخن ، كما في قوله تعالى : " يا أيها الذين أمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالاً ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر ".(6/4)
وقد سمعنا مالا نعتبره فلتات لسان ، بل تيار غالب في وسائل الإعلام الغربية ، وفي كثير من التصريحات الرسمية التي تدين الإسلام وثقافته وعقيدته وتاريخه وأهله وتهددهم وتوعدهم ، وهي تحضر اليوم لضرب العراق كحلقة ثانية في مسلسل الحرب على الإرهاب ... والله وحده يعلم أين تكون ضربتها الثالثة ؟!
قضينا من تهامة كل وتر **** وخيبر ثم أجممنا السيوفا
نخيرها ولو نطقت لقالت **** قواطعهن:دوساً أو ثقيفا
في الشدائد نحتاج إلى قيم الصبر والحلم والتلاحم والتفاؤل والبر .
الرابع :توظيفه باتجاه الفاعلية والإيجابية ، فيجب أن نحدد أولاً :ما هي الواجبات التي يتحتم علينا فعلها ؟
ثم نحدد : ما هو الممكن من هذا الواجب ؟
ماذا نستطيع أن نفعل تجاه أنفسنا وتجاه إخواننا المسلمين ؟
إن تحولنا إلى منظرين نوزع المسؤوليات والتبعات على الآخرين ليس حلاً ، ولايزيدنا إلا فرقة ، وليس من حكمة الشريعة ولا من سواء العقل أن نلقي باللائمة حيناً على أمريكا ، و حيناً على اليهود ، وحيناً على الشيطان ، و حيناً على الحكام ، و حيناً على الشعوب ، و حيناً على قادة الفكر والعلم والرأي ، ونخرج نحن دون مسؤولية وكأننا لسنا من هذه الأمة ، بينما النص القرآني يقول : " هو من عند أنفسكم "
لنحاول المستطاع المقدور عليه ، ومن ذلك الإغاثة والنزول فيها بقوة دون أن نشعر أننا متهمون أو نتقبل التهمة .
ومنه استثمار الحدث للدعوة ، فقد نتمكن من تواصل كان مقطوعاً مع إخواننا في العراق ، وقد تفتح لنا آفاق في المجاهدة والإصلاح الإعلامي والاجتماعي والتعليمي والسياسي لم تكن متاحة من قبل ، وقد قيل :
إذا هبت رياحك فاغتنمها **** فعقبى كل عاصفة سكون(6/5)
الخامس : توظيفه باتجاه كسر الحواجز مع أفراد الأمة وشبابها ، فهم ميدان الدعوة ، والدعوة وظيفتنا ، وهؤلاء هم درء الإسلام وحرسه وحماته ، ولذا لابد من تحقيق التواصل مع كافة أفراد الأمة ، مهما اختلفنا معهم في الآراء والمواقف والاجتهادات ، ومهما فصلت بيننا وبينهم الاهتمامات والتوجهات .
السادس : توظيفه باتجاه تحقيق وحدة الأمة بكافة أطيافها والقضاء على التنازع والخصام ، إنه ليس من حق الإسلام ولا من حق المعركة أن ينشغل المسلمون بعضهم ببعض لا باللسان ولا بالسنان .
ومن الخطورة بمكان أن يتأول أحد في قتل أخيه المسلم بتأويل أو غيره ، وفي الحديث :( إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار ) ( لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض ) " ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها .." الآية ، وعند البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لن يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً ) وعند أبي داود عن أبي الدرداء رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( لا يزال المؤمن معنقاً صالحاً ما لم يصب دماً حراماً فإذا أصاب دماً حراماً بلّح ) وعنه رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا من مات مشركاً أو مؤمن قتل مؤمناً متعمداً ) وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (من قتل مؤمناً فاعتبط بقتله لم يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً ) قال خالد بن دهقان سألت يحيى بن يحيى الغساني عن قوله : اعتبط بقتله قال : الذين يقاتلون في الفتنة فيقتل أحدهم فيرى أنه على هدى لا يستغفر الله يعني من ذلك قال أبو داود : فاعتبط يصب دمه صباً.(6/6)
السابع : الانخراط في النقد والإصلاح داخل إطار المجموعات الإسلامية والتخلص من نمطية الفرد والرمز ، إلى روح الشورى والمراجعة والتصحيح والتدارس ، وهكذا داخل مؤسسات المجتمع الرسمية ، وغير الرسمية ، والأزمة تنبعث من داخلنا ، وحلها هو من عند أنفسنا لا غير.
الثامن : الانخراط في النقد والإصلاح داخل المجتمعات الإسلامية باتجاه العودة الصادقة إلى الله والتوبة من المنكرات والذنوب الفردية والجماعية ، الاقتصادية منها والإعلامية والإدارية والسعي الجاد في التصحيح .
التاسع : إحياء القضية الكبرى قضية فلسطين ، وهنا فرص كبيرة لربط الأحداث بها ، وأنه لن يحصل سلام إلا إذا عاد الحق لأصحابه .
إن من أهداف الحملة الأمريكية على العراق حماية أمن إسرائيل ، وتدشين السلام على الشروط اليهودية في ظل انكسار عربي نهائي كما يظنون ويقدرون ، فعلينا أن نصر على حقنا، وأن نقف وراء المدافعين عن الحوزات ، الحارسين للحرمات من أبطال فلسطين الأشاوس .
العاشر : الحذر من امتداد اللعبة إلى مواقع أخرى في كشمير أو الشيشان أو منطقة الخليج والجزيرة واليمن ، وما أسهل أن يفتح ملف التسليح السوري أو الإيراني ، أو ملف حماس وحزب الله ، أو ملف الأقليات وحقوق المرأة وقضايا التعليم وربطه بالإرهاب في هذا البلد أو ذاك ، وأن تقحم الأمم المتحدة في الأمر لإعداد التقارير والمتابعة والتهديد ثم الحصار ... ثم ... والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لايعلمون .(6/7)
الثمرة المرّة
27/04/2003
3/3/1424
ينام الناس ويصحون على وقع التهديدات الأمريكية الظالمة , التي حوّلت هدوء الخليج صخباً ! وجعلت سكينتَه قلقاً لا يهدأ ! فها هي الحرب الثالثة خلال عقدين من الزمان تدمر كل شيء بأمر ربها !، وها هو الطموح الأمريكي يتحول إلى " حركة عالمية لتحرير الشعوب!"
ويشعر الجميع بالعجز أمام هذه القوة المتغطرسة ، وهذا الاندفاع التوسعي ، حكاماً ومحكومين !
وها هي دول العالم تتسلل لواذاً من التحالف ضد الإرهاب ارتياباً بالدوافع الحقيقية واستقلالاً بالمصالح الذاتية.
بينما المعنيون بهذه الحرب - من المسلمين والعرب وأهل الخليج - ربما هم أقل الناس رفضاً واحتجاجاً ، وكأن الأمر لا يعنيهم !
صحيح أننا لا نطالب بتوقف الحياة وبرامجها وأعمالها ، فهذه الحرب الظالمة ليست نهاية التاريخ ، وربما يجعل الله من ورائها دحراً للقوى المتسلطة , وإرغاماً لأنوفها ولو بعد حين .
ولكن من الوعي والرجولة أن تكون مواقف الناس واضحة لا تحتمل اللبس . وأن يعلنوا رفض العدوان الأمريكي , وتدخله السافر في بلاد لها وجودها , واستقلالها , وامتدادها التاريخي الكبير.
لقد تعودنا على تبرئة أنفسنا , بصورة تلقائية , وإدانة خصومنا قريبهم وبعيدهم بأنهم المسؤولون عن مصائبنا , وعن تخلفنا , وعن عجزنا . وهذا سر فشلنا وإخفاقنا، أننا لم نطرح السؤال الصحيح ، ولم نجب الإجابة الصحيحة!
السؤال الصحيح هو: ( أَنَّى هَذَا ) ما هي الثغرات التي أُتِينا منها ؟ وكيف حدث هذا لنا ؟!
وليس أن نسأل : من فعل هذا بنا ؟
والجواب الصحيح ( هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُم ).
وتعجبني هنا كلمة الأستاذ مراد هوفمان: ليس الاستعمار هو سبب تخلف العالم الإسلامي، ولكن التخلف هو سبب استعمار العالم الإسلامي.(7/1)
إن خطورة الموقف التاريخي الذي تعيشه الأمة بشعوبها وحكوماتها ؛ يقتضي قدراً كبيراً من المصارحة والوضوح والمكاشفة , التي لا تقوم على التلاوم والسباق في التخلي عن المسؤولية ؛ ولكن على العمل المخلص لاكتشاف مواضع المرض ومعالجته.
إنك تسمع كلاماً كثيراً ، وتحليلات ، وعواطف صادقة ، وترى وجوهاً أمضَتها الجراح، وعيوناً أنهكها السهر , وأضنتها الدموع , ولكن هل يكفي أن نتبارى في الأزمات ؛ أيّنا أندى صوتاً، وأقوى عبارة، وأشد وطأة !
وهل يكفي أن نتململ في الأزمة الطارئة كرد فعل عضوي ، وكأن حالنا وحياتنا وأمورنا عادية لولا الأزمة ؟ أم يجب أن نعي أن الأزمة مقيمة بيننا راسخة في عقولنا وقلوبنا وأنماط حياتنا .. وربما قال قائل فصدق أو كاد: إن لدينا ملياراً ومائتا مليون أزمة .. بعدد أفراد هذه الأمة المنهكة العليلة !
إن مظاهر هذه الأزمات هي الثمرات المرة لذنوبنا وأخطائنا التي نرفض بإصرار الخلاص منها، وربما تجرأنا فألبسناها ثوب الدين والشريعة لمنحها مزيداً من الرسوخ والاستقرار، وحجبها عن عيون الناقدين والمصلحين !
وحين نقول الذنوب يجب ألا نمارس انتقائية غير مفهومة , تعتبر أن المعاصي هي انحرافات السلوك الشخصي فحسب ، أو الإخلال التعبدي فحسب ، فهذه ذنوب، لكن ثمت ذنوب الجماعة والأمة في تخلفها عن أداء دورها الرسالي ، وعن تحصيل المصالح العامة ، وامتلاك ناصية العلم ، ومواصلة المسيرة التي بدأها أولونا.
فمن المؤكد أن ثمت انقطاعاً في مسيرتنا العلمية والحضارية منذ قديم ، واختلالاً في مفاهيمنا وانفصالاً بين الشريعة والحياة ، وبين السلوك الشخصي والجماعي ، وبين العبادة والمعاملة .(7/2)
وهذا القهر القاتل المدمر الذي يعانيه الفرد المسلم اليوم ؛ هو ثمرة مرة لهذه الأحقاب المتطاولة من الغياب والانقطاع الإسلامي ، وما لم نفلح في تحويل مشاعر القهر إلى برنامج عملي رشيد طويل النفس فسنظل كما نحن ، نصرخ ولكن دون جدوى على قاعدة المثل العربي :
أوسعتهم شتماً, وراحوا بالإبل
فهل تفلح هذه الأزمات الطاحنة المتلاحقة في صناعة مستقبل أفضل لأجيالنا ؟! أم ترانا سنورث لهم سجلات من الشتائم فحسب ؟!
وهل ستضع هذه الحركة العالمية التي تستهدف وجودنا وإيماننا وثرواتنا وتاريخنا .. أقدامنا على الطريق الصحيح؟! أم ستزيدنا انشقاقاً , وتخالفاً , وهزيمة نفسية تضاف إلى الهزيمة الحسية الواقعية ؟!
وهل سنتعاطى المهدئات الوقتية , ريثما يهدأ القصف , وينتهي الفصل الأول من هذه المأساة المحزنة ! .. أم ترانا سندرك أن الموقف يتطلب ما هو أوسع من ذلك وأبعد .. ؟
اللهم لا يأس من روحك وفرجك! فألهم عبادك المؤمنين رشدهم! وخذ بنواصيهم إلى طريق العزة والكرامة والمجد! واكفهم شر نفوسهم ، وشر كل ذي شر !
والحمد لله وحده .(7/3)
الدفاع عن العقيدة أولى ...!
13/07/2002
3/5/1423
تصلني رسائل كثيرة حول موضوع يتكرر ويعاد، خلاصته أننا نعرف عنك العزوف عن الدفاع عن نفسك، وابتعادك عن حرب الردود، ولكن ليس صحيحاً أن هذا هو الصواب دائماً، فثمة أمور ربما كانت ملتبسة على بعض الناس وفهموها عنك خطأً فبيانها كاشف لهذا اللبس، كما أن الرد على بعض الطعون يسرع بإطفاء الفتنة...إلخ.
وأقول: إن من حق المرء أن يدافع عن نفسه، لكن هذا ليس واجباً في الأصل، والدفاع عن النفس والانهماك فيه مشغلة للذهن، وصرف للجهد عن قضايا الإسلام والمسلمين.
ولن يؤدي إلى إطفاء نيران الفتن، بل هو سيزيدها اشتعالاً؛ لأنه سيقدم مادة جديدة يتم التعليق عليها وإخراجها والبحث عن عثراتها، وهو سيؤكد أن ثمة فريقين يختصمان، بينما الأولى أن تظل القضية أن طرفاً يهاجم، وآخر يلوذ بالإعراض عنه، والاشتغال بما هو أهم، وفي النهاية لا يصح إلا الصحيح.
يوجد -أخي الكريم- ما يزيد على أربعة مليارات إنسان فهموا ربهم خطأً، أو حتى كفروا به وأنكروا وجوده ، فلماذا لا ننشغل بكشف هذا اللبس في حدود طاقتنا؟
يوجد -أخي الكريم- ما يزيد عن مليار مسلم، ينتشر بينهم الضلال، وتروج البدع، وتعبد القبور، ويدعى الأولياء، وتمارس الفواحش، ويتعاطى الربا.. وتقع أجزاء من بلاد المسلمين تحت وطأة الكافرين وسلطانهم، كاليهود والنصارى والملحدين ... ويتعرضون لأبشع صور التعذيب والنكال والقتل والاغتصاب، وتعيش شعوب إسلامية فيما يشبه حالة الاحتضار. في طائفة من محن وأخطاء وخطايا يعيشها المسلمون.
وهذا ليس هجاء لهذه الأمة المصطفاة، فهي في قلوبنا ووجداننا، ونحن -بحمد الله- ممن يحفظ لهم وصف الإسلام، وإن وقعوا في الآثام، وحتى أولئك الذين وقعوا في الشرك جاهلين نؤثر عذرهم بالجهل، وبقاءهم على الأصل. ورحمته وسعت كل شيء، فنسأله ألا يحجبها عنا بذنوبنا، ولا عن أحدٍ من المسلمين، ويفترض أن نستفيد من خصمنا الكثير.(8/1)
نستفيد الانتباه إلى أي ملاحظة أو خطأ وقع فيه الإنسان "وكل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون" أخرجه الترمذي (2499) وابن ماجة (4251) من حديث أنس -رضي الله عنه- وإن كان الناقد محباً قلنا: رحم الله امرأً أهدى إلينا عيوبنا. وإن كان شانئاً، قلنا:
عداتي لهم فضل عليّ ومنة **** فلا أبعد الرحمن عني الأعاديا
هم بحثوا عن زلتي فاجتنبتها **** وهم نافسوني فاكتسبت المعاليا
وبعض الناس قد يركب متن الخطأ إصراراً وعناداً واستكباراً، وهذا ضعف في الشخصية، ونقص في الثقة بالنفس.
وآخرون قد يتنصلون، ويتراجعون، ويعتذرون عن الصواب، أو ينطقون بالخطأ وقصدهم حماية أنفسهم، أو السلامة من لسان فلان وفلان، وهذا أيضاً ضعف في الشخصية، ونقص في الثقة، وقلة أمانة.
كما نستفيد من خصمنا الاعتياد على سماع النقد، بل والسب والشتم والاتهام والجرح، ولا أحد يسلم قط، ومن تعود على سماع المديح المحض والثناء والإطراء ربما ثقل عليه سماع النقد والملاحظة، حتى لو كانت من وادّ ناصح، وبأسلوب لين، وحتى لو كانت حقاً جلياً.
وربما كان سماع الثناء المجرد سبباً في إعجاب المرء بنفسه، وذهابه وتيهه، والله أعلم بعباده.
والذي نختاره لإخواننا الشباب في بلاد العرب، وفي بلاد المهجر، وفي كل موقع، ألا يدافعوا إلا عن دينهم، ولا يشغلوا أنفسهم إلا بالحق، حتى لو سمعوا من يتكلم، أو يزيّف أو يتهم، وحتى لو رأوا أن الناس اقتنعوا بما يقول هذا وأجلبوا وراءه، وتناولوا فلاناً وفلاناً بالعيب والثلب، فالأمر هين، ومسائل الأشخاص والأعيان لا يجب أن تكون ميدان خصومة ولغط، والكف والإعراض أولى.(8/2)
ونختار أيضاً: العمل الجاد المثمر، تعلماً، وتعليماً، ودعوة، وتعاوناً بين العاملين، وسعياً في التربية والإصلاح، وانتماء حقاً للأمة بشمولية هذا الانتماء وعمقه وامتداده، مشاركة في ميادين الخير، إعلاماً، واقتصاداً، ونشاطاً اجتماعياً، وتنمية للمواهب والطاقات، ورعاية للإبداع.
إن هذه الأغلوطات والمسائل الصغيرة لا تنمي عقلاً، ولا تبني ثقافة، ولا تؤسس علماً، ولا تشيد بناءً، ولا تحفظ وداً، ولا تصلح فاسداً، ولا تقيم معوجاً.
ولو أن امرأً شغل نفسه وحياته بسب فرعون وهامان وقارون وأبي جهل وأبي لهب ورؤوس الكفر والشرك، فهو يسبهم ويفضحهم ويلعنهم، لكان مذموماً ملوماً على تفريطه بالطاعات، وتركه للواجبات ، وانشغاله عن ذكر الله –تعالى- بذكر فلان وفلان، ولربما مات مسلم لا يعرف هؤلاء، ولم يسمع بأسمائهم فكان من أهل الدرجات العلا، وهذا صح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من حديث المغيرة بن شعبة -رضي الله عنه-:"لا تسبوا الأموات فتؤذوا الأحياء" رواه الترمذي (1982)، وأحمد (18210) وفي رواية:"فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا" أخرجه البخاري (1393) عن عائشة -رضي الله عنهما- قال هذا في أبي جهلٍ فرعون هذه الأمة.(8/3)
إن النفس المشغولة بالبحث عن عثرات الناس وجمعها ومحاصرتهم بها نفس مريضة ولا بد، والنار تأكل بعضها إن لم تجد ما تأكله، ومن ظلم المرء لنفسه أن يختصر الآخرين في زلاتٍ محدودة، فإن النفس البشرية فيها من العمق والاتساع والتنوع ما يجعل كل إنسان فيه جوانب من الخير لو فُعّلت واستخرجت ووظفت لكان من ورائها خير كثير، ولذلك كان المصلحون نابغين في هذا الجانب، جانب تحريك الخير الكامن في نفوس الناس، وهذا يكون بالثناء المعتدل الصادق، مثلما تجده في ثناء النبي -صلى الله عليه وسلم- على قبائل، وأحياء، وأعيان، ومواطن.كما يكون بحفظ جاه الناس، ومكانتهم، وعدم ازدرائهم، ولهذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم-:"من دخل دار أبي سفيان فهو آمن" أخرجه مسلم (1780) عن أبي هريرة -رضي الله عنه- وقال:"الكبْر بطر الحق وغمط الناس" أخرجه مسلم (91) عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- وغمط الناس: ازدراؤهم، وبطر الحق: ردُّه. ويكون بالتواضع وترك الاستعلاء، ولهذا قال -صلى الله عليه وسلم-:"هون عليك؛ فإني لست بملك إنما أنا ابن امرأة تأكل القديد" أخرجه ابن ماجة (3312) عن أبي مسعود -رضي الله عنه-.(8/4)
ويكون بقبول الحق والخضوع له، ولو جاء من غير مظنته، ولهذا قال -صلى الله عليه وسلم-:"صَدَقَكَ وهو كذوب ذاك شيطان" أخرجه البخاري (3275) عن أبي هريرة -رضي الله عنه- وصَدَّق رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-قول اليهودية في عذاب القبر، انظر ما رواه البخاري (1372) ومسلم (586) من حديث عائشة -رضي الله عنها- ويكون بالفرح بالنجاح الذي يحققه الآخرون، فلا نشعر أن نجاحهم على حسابنا، الميدان رحب، والفرص عديدة، وقد نجح أعداء الإسلام الصرحاء في الكثير الكثير، وعلى حساب ديننا وأمتنا فلم يزعجنا ذلك، أو على الأقل لم يظهر على قسماتنا وملامحنا ولغتنا الانزعاج، وكان ذلك أولى بنا؛ لأننا أمام باطل محض، بينما ما نعيبه على إخواننا المسلمين هو على أسوأ الأحوال باطل مشوب بحق.
إنني أحس أن الشباب المسلم بحاجة إلى تصحيح طرائق النظر والتفكير؛ لأن القوالب الخاطئة في النظر والتفكير تولد نتائج خاطئة، وهذا أولى من ملاحقة مفردات المسائل وتصحيحها؛ لأنه إذا كان المصنع مبنياً بطريقة معوجة، وكانت القوالب غير منضبطة ولا منتظمة، فلابد أن يكون الإنتاج معوجاً وغير منضبط، وإصلاح المصنع وتصحيح قوالبه هو المتعين، أما ملاحقة المنتج، فردةً فردةً، وواحدة تلو الأخرى لتعديلها، فهو عمل شاق وقليل الجدوى.
ولا يفوتني أن أستدرك ما قد يقوله بعض الأحبة: وهل هذا يعني إلغاء باب الذب عن عرض المسلم؟
كلا. وهيهات، المسألة المطروحة ليست هذه، هي مسألة صراعات واحتدام نزاع وضياع أوقات، ولبس وشماتة عدو... فالانسحاب من هذا الميدان إلى ما هو أنفع هو اختياري، ولا بأس أن يذب المسلم عن عرض أخيه المسلم.
وقد اقتصرت هنا على ما أظنه لب المسألة، وتركت الدخول في التفاصيل، ولعل عذري أنني أظن في هذا مساهمة صغيرة صغيرة في تعديل المصنع، وصياغة القوالب. والله أعلم.(8/5)
الليلة رمضان !
05/11/2002
30/8/1423
ها قد تجلى هلال رمضان ، وتصايح المسلمون : الليلة صيام ، بارك الله لكم في الشهر ، ولا حرمكم عظيم الأجر .
الصوم نموذج لعبادات الإسلام تتجلى فيه عقائده ومعاقده وأصوله .
الإيمان بالله تعالى وكمالاته ، والإقرار بالعبودية له يتحقق بالإمساك عن مفسدات الصوم سراً وعلانية ، فالصائم يؤمن بربه ويراقبه حتى في دخيلة قلبه ، ولو أمسك دون نية وقصد لما كان صائماً ، ولو نوى أنه مفطر نية قاطعة جازمة لكان مفسداً لصومه .
وهذا يربي المؤمن على مراقبة الله تعالى واستحضار مشاهدته للعبد في كل أحواله وتقلباته ومعاصيه وطاعاته ، فيولد لديه إقبالاً على الطاعة ونشاطاً فيها ، وانكفافاً عن المعصية وحياءً من مقارفتها وهو بمرأى ومسمع من ربه الذي يؤمن به ويخافه ويرجوه .
والإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم يتمثل في التزام الصوم الشرعي وفق ماجاء به النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم توقيتاً وبدءاً وانتهاءً وأحكاماً وآداباً .
والصوم كان فرضاً على الأمم الكتابية السابقة ، لكن لا يلزم من هذا أن يتفقوا معنا في تفصيلات الصيام ومفردات الأحكام وهذا يستتبع صدق الإيمان به صلى الله عليه وسلم ومحبته واتباعه في سائر الأعمال والعبادات التي جاء بها ، والحرص على السنن التي تجعله أقرب إلى الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في شؤون حياته كافة .(9/1)
والإيمان بالغيب والآخرة والجزاء والثواب والعقاب ظاهر في إيثار الجوع والعطش والعناء الذي يثمر مرضات الله وثوابه بالجنة والنعيم على التمتع بطيبات الحياة الدنيا مع انتظار الوعيد والعقوبة في الآخرة ، وهذا يعدل الميزان لدى المسلم ، فلا ينظر إلى الأمور نظرة دنيوية بحتة في مصالحها ومفاسدها وحالاتها ومآلاتها ، بل يوفق بين نظرة الدنيا ونظرة الآخرة ، فيقدم مرضاة الله وطاعته ولو كان فيها فوات شيء من نعيمه العاجل ، أو من راحته ، أو من ماله ، أو من جاهه ؛ لأن حساباته ليست مادية خالصة .
النظام الخلقي يتجلى في الصبر الذي هو قرين الصوم وسميه حتى سمى الصوم صبراً ، كما قال بعض المفسرين في قول الله تعالى : " واستعينوا بالصبر والصلاة " قال : بالصوم والصلاة .
وسمى رمضان شهر الصبر ، والصبر جزاؤه الجنة .
والصبر هو سيد أخلاق الإسلام ، وبغير صبر لايثبت المسلم أمام التحديات في دينه ودعوته ، ولا يتحمل مشكلات الحياة وتبعاتها ومصائبها التي لا ينفك عنها بحال ، فالفوز في الآخرة والسعادة في الدنيا ثمرتان من ثمار الصبر .
الصبر هو إكسير الحياة الذي يحول بإذن ربه الصعاب إلى لذائذ ، والهموم إلى أفراح ، وكم أتمنى من الشباب الشاكين والشيوخ الباكين ، والنسوة المتبرمات أن يكتبوا حكمةً تتعلق بالصبر ، ويجعلوها أمام نواظرهم ؛ ليعلموا أن الصبر هو علاج كل داء ، وحل كل مشكلة ، وتذليل كل عقبة .
ويتجلى النظام الأخلاقي في الرقي بالنفس إلى مدارج العبودية والتخفف من أوهاق الطين ، وثقل الأرض ؛ لتستشرف النفس آفاق الإيمان وتستشعر شيئاً من الأنس بالقرب من فاطرها وبارئها ، وتسبح في ملكوتها ، فالإنسان إنسان بروحه وشفافيتها قبل أن يكون إنساناً بجسده . أقبل على النفس فاستكمل فضائلها فأنت بالروح لا بالجسم إنسان(9/2)
ويتجلى في الإيثار والإحسان ومعايشة آلام الآخرين ومقاسمتهم السراء والضراء ، وذوق شيء مما يجدون ، ولئن ذاقه الصائم تعبداً واختياراً ، فلقد ذاقوه عجزاً واضطراراً ، ولئن عاناه وقتاً محدوداً ، فلهو عندهم عناء ممدود .
ولهذا كان رمضان شهر الزكاة كما سماه عثمان رضي الله عنه ، ونهايته زكاة الفطر التي يشارك المسلمون فيها الإحساس بفرحة العيد ، فلا يدع أحداً منهم إلا واساه ، حتى فقرائهم يخرجون صدقة الفطر إن قدروا .
ويتجلى في الإمساك بزمام النفس عن اندفعاتها وحماقاتها مع صاحبها ومع الخلق ، فالصائم مزموم بشعور دائم ، يحمله على الكف عما لايجمل ولايليق ، وربما أدرك كثير من الصوام هذا المعنى حتى قبل أن يهل الشهر .
كما يحقق الصوم معنى الانتساب الأممي وتبعاته ومظاهره ، فهو عبادة يشترك فيها المسلمون في كل مكان مما يعمق معنى الإخاء الديني ، والولاء الشرعي ، ويذكر بوجوب الانعتاق من الروابط المنافية لذلك ، ووضع الروابط العادية البشرية في موضعها الصحيح ، فلا تتحول إلى ععلاقة تناظر العلاقة الربانية بين أهل الإسلام .
وكم يتمنى المرء أن يستطيع المسلمون توحيد صيامهم وفطرهم ؛ ليتعمق معنى الأمة الواحدة ، وتذويب الفواصل والعوائق التي تتراكم بمرور الزمان ، ويجعل الجسد الواحد رقعاً متناثرة ً ، يهدم كل طرف منها ما بناه الآخر .
فإذا لم يتحقق هذا فلا أقل من أن يوحدوا صيامهم وفطرهم في البلد الواحد ، خصوصاً في الدول الغربية كأوربا والولايات المتحدة واستراليا .
إن من غير المقبول أن يتعبد أحد المسلمين بالصوم ، بينما أخوه في الدين إلى جواره يتعبد بالفطر والعيد ، ويرى الصيام حراماً وإثماً .
ولا من المعقول أن يصوم مسلم يوماً على أنه يوم عرفه ، بينما جاره في المنزل يأكل على أنه في يوم عيد لا يجوز صيامه .(9/3)
إن تجاوز هذه التناقضات يتطلب صدقاً وارتفاعاً عن المصالح الخاصة ، والانتماءات الحزبية ، أو الوطنية ، وإيثاراً لروح الجماعة على أنانية الذات ...فهل نحن فاعلون ؟!
والصوم يذكر المسلم بالجهاد الذي هو حراسة هذا الدين وذروة سنامه ، وسطوته على مناوئيه ، فلقد كان تاريخ الشهر ملتبساً بالمواقع الفاصلة من بدرٍ ، تاج معارك الإسلام ، إلى فتح مكة التي كانت إيذاناً ببسط الإسلام سلطته على جزيرة العرب ، إلى حطين ، إلى عين جالوت ، إلى معارك الجهاد ضد المستعمرين في الماضي والحاضر .
والكتاب الذي آذن المسلمين بأنه كتب عليهم الصيام ، هو الذي آذنهم بأنه كتب عليهم القتال .
وإن لم يكن قتالاً لنصرة عنصر ، ولا لتسلط ، ولا لجباية مال ، لكنه لتكون كلمة الله هي العليا " حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله " .
والجهاد إيذان بأنه ليس كل الناس يؤمنون بالدعوة ، بل هناك من الرؤوس المتغطرسة ما لا يلين إلا بالقوة ، والحديد بالحديد يفلح ، ولهذا بعث الله رسوله بالكتاب والحديد ، كما قال سبحانه : " لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز " .
فالكتاب والبينات أصل الرسالة ولبها ، والحديد سورها وحمايتها . فما هو إلا الوحي أو حد مرهف تقيم ضباه أخدعي كل مائل
فهذا دواء الداء من كل عاقل وهذا دواء الداء من جاهل
والذين يقارعون البغي والظلم في فلسطين والشيشان وغيرها من بلاد الإسلام التي احتلها الأعداء ، واستباحوا بيضتها ، هم النواب عن الأمة في الحفاظ على هذه الشريعة العظيمة ، فحق على الأمة أن تكون من ورائهم بالنصرة الصادقة ، وليس بالعاطفة وحدها .(9/4)
فهل يعود رمضان الذي عرفه المسلمون ينبض بالروح والحياة والعطاء ، وليس بالنوم وضياع الأوقات ، والتسابق إلى اللذائذ ، والسهر ، وسوء الخلق . اللهم رد المسلمين إلى دينك رداً جميلاً ، واجمعهم على طاعتك ، واحفظهم من كل سوء ، وصحح أعمالهم ، وتقبلها منهم ، وتجاوز عنهم ، ووفقهم لكل خير ، واكشف عنهم كل سوء ، والحمد لله رب العالمين .(9/5)
المقاومة السلبية ...هل تنجح ؟
31/10/2001
15/8/1423
نجاح غير عادي! أن يدرك حلفاء اليهود أن دعمهم لإسرائيل يكلفهم الكثير ، وأن صبر العرب والمسلمين إزاء انحيازهم المكشوف لليهود آخذ في النفاد.
إن أبرز ميزةٍ في هذه الأمة ، في هذا الظرف ، كثرتها العددية ، وقلة فاعليتها ، وحتى هذه يمكن استثمارها وتوظيفها في الأدوار السهلة ، التي تحتاج إلى أعداد كبيرة ، ولا تتطلب جهداً متميزا ، ولا وقتاً طويلا ، وعملية الهجوم على المواقع اليهودية في (الإنترنت) وتدميرها نموذج لهذا الاستثمار .
كما أن المقاطعة للبضائع اليهودية والأمريكية نموذج آخر . فشبكة مطاعم (ماكدونالدز) الأمريكية تبرعت بريال من قيمة كل وجبة لمستشفيات الأطفال الفلسطينية حسب ما أعلنته إذاعة (BBC)، وذلك بسبب الخسائر التي منيت بها بعد الانتفاضة في رمضان من عام 1421هـ، وفي صيف 1997م ، وبعد حملة دامت أربعة أشهر قدَّمت شركة نايكي ( nike ) اعتذاراً للمسلمين في العالم ، وأوقفت مبيعات أحذية ظهر فيها ما يبدو أنه لفظ الجلالة ، وتم سحبها من الأسواق .
كما أن الشركة وافقت على إعداد وتمويل دورات تدريبية لموظفيها حول آداب التعامل مع المسلمين ، على أن يتم ذلك بالتشاور مع ممثلين للجالية الإسلامية في الولايات المتحدة . كما وعدت الشركة بإقامة ملاعب للأطفال المسلمين في عدة مدن أمريكية ، وقد تم بناء أحد هذه الملاعب .
وفي أغسطس 1999م وبعد ضغط من عدة منظمات إسلامية ودول عربية أعلنت شركة كنج برقر
(BURGER KING ) إلغاءها لمشروع المطعم الذي قررت تدشينه في الضفة الغربية .
و قد قاد الحملة ضد الشركة منظمة) ( A M J ) المسلمون الأمريكان للقدس ) بالتعاون مع منظمة كير (CAIR ) وطلبوا من الشركة إلغاء المطعم ؛ لأنه في أراض محتلة ، فخضعت الشركة للضغوط الإسلامية لكنها لم توفِ بوعدها ، فجددت المقاطعة لها مرة أخرى ، وما زالت .(10/1)
إن سلاح المقاطعة الاقتصادية من الأسلحة الفاعلة ، والمستخدمة منذ عصر حصار الشِعْب إلى العصر الحديث ، حيث تتعاظم قيمة الاقتصاد . ولذلك استماتت الولايات المتحدة في تدمير المقاطعة العربية والإسلامية للشركات والبضائع اليهودية ، وللشركات المتعاملة مع اليهود . وبالفعل ، فقد تهتكت المقاطعة ، وصارت أثرا بعد عين ، ويبدو أنه من المستبعد حدوث مقاطعة رسمية شبيهة في ظل العولمة الاقتصادية التي تسعى إلى محو الحدود التجارية بين الدول ، بما لا يسمح لأي دولة أن تتصرف وفق مصالحها الوطنية والقومية .
لكن الشيء الذي يمكن أن يحدث هو المقاطعة الشعبية، حين ترتفع وتيرة الوعي لدى الشعوب المسلمة ، بحيث يختار المشتري البضائع والسلع والشركات العربية والإسلامية ، أو حتى أيّ بضاعة أخرى ليست أمريكية ولا إسرائيلية .
ولا أحد يستطيع أن يجبر المواطن العادي على شراء سلعة بعينها ، أو التعاون مع شركة بعينها ، أو عرض منتجات هذا المصنع أو ذاك . وهذا ما فعله غاندي (1869-1948) بمقاومته السلبية ، ومقاطعته للعادات والمنتجات الأوربية ، وحمله الهنود على هذا الأسلوب رغم تخلفهم ، وعدم وجود قرار يدعمهم .. حتى آتت تلك الجهود أكلها وأعلنت بريطانيا سحب آخر جندي إنجليزي من الهند سنة 1947م . وإذا كان من السذاجة أن نتصور أن المقاطعة ستؤدي إلى انهيار الاقتصاد الأمريكي أو اليهودي ، فإننا يمكن أن نجزم بأن أرباح الكثير من الشركات والمؤسسات ستتراجع قليلا أو كثيرا ، وهذا سيحدوهم إلى إعادة النظر في مواقفهم ، وسيضطرهم إلى البحث عن الأسباب ومعالجتها وفق مصالحهم المادية .(10/2)
لقد ألحقت المقاطعة العربية بإسرائيل خسائر تقدر بـ 48 مليار دولار منذ قامت المقاطعة . يؤكد هذا ما نشرته جريدة الحياة ، في تاريخ (28 /شعبان /1421هـ ) في صفحتها الاقتصادية عن خسائر شركات التكنولوجيا اليهودية في الولايات المتحدة، إذ بلغت منذ بداية الانتفاضة المباركة عشرين مليار دولار ، نعم أؤكد أن الرقم صحيح :عشرون مليار دولار . قد يكون هناك انخفاض عام في هذا القطاع ، وقد تؤثر تجاذبات الانتخابات الرئاسية ، لكن لا يمكن التهوين من أثر الانتفاضة بحال .
وأصدق إخواني القول : لقد كنت أداري ابتسامة ساخرة على شفتي وأنا أقرأ سؤالا ورد إلي من بعض الإخوة في مصر قبل أسابيع يتخوف فيه من آثار المقاطعة على المسلمين العاملين في تلك الشركات ، وإمكانية فقدانهم أعمالهم .. وقد قلت في نفسي :
أبشر بطول سلامة يا مربع !
ثم أردفت : يبدو أن الأخ الكريم أخذ الأمر بجدية كبيرة ، وأنه مفرط ففي التفاؤل .
وما هي إ لا أيام حتى أعلنت شركة سانسيبري أنها لا تساند اليهود ، وأكدت مصادر إعلامية أن بعض هذه الشركات قد انخفضت مبيعاتها في مصر إلى 80 % ، ونشر في بعض الصحف صرخة باسم الموظفين العاملين في تلك الشركات؛ بأنهم سيواجهون التشريد بسبب هذه المقاطعة .
إن أمريكا تمارس سياسة المقاطعة ، أو ما تسميه هي بالعقوبات الاقتصادية ضد شعوب بأكملها، مما جعلها تعاني من الموت والدمار دون أن يستدر ذلك عطف الأمريكان أو شفقتهم ، ولم تتحرك في ضمائرهم أية لوعة من أجل صور الأطفال الجياع البائسين !(10/3)
وما بين عامي 1993- 1996م استخدمت الإدارة الأمريكية سلاح المقاطعة الاقتصادية ستين مرة ضد 35 بلداً ، وأحيانا بحجج واهية نفخت فيها المصالح السياسية ، ويقدم كتاب " العقوبات الاقتصادية والدبلوماسية الأمريكية " من تأليف : ريتشارد هاس معلومات مهمة حول أهداف العقوبات ونتائجها. فلماذا يتردد المسلمون في استخدام سلاح المقاطعة السلبية ، ليؤدي بعض النتائج ، أو ليشعر المسلم على الأقل بأن ثَمَّةَ دورا - ولو محدوداً- يستطيع أن يقوم به ؟ إنه جزء من الإنكار القلبي أو العملي السهل الذي لا يخسر فيه المرء أكثر من أن يختار بضاعة عربية أو إسلامية أو يابانية ، أو حتى أوربية عند الحاجة وربما تكون بالميزات ذاتها ، وبالسعر ذاته .
وفي قصة ثمامة بن أثال سيد بني حنيفة عبرة ، فقد قرر ألا يصل إلى كفار مكة حبة حنطة حتى يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ) البخاري 4024- ومسلم 3310) فكتبت قريش إلى النبي - صلى الله عليه وسلم- يناشدونه بالله والرحم فأذن له النبي - صلى الله عليه وسلم- أن يحمل الميرة إليهم.
وهذا كما أنه دليل على مشروعية استخدام هذا الأسلوب ، إلا أنه دليل على الروح الإنسانية الصادقة التي تميز بها الإسلام ، وحكم بها العالم ردحا من الزمان ...
ملكنا فكان الصفح منا سجية **** فلما ملكتم سال بالدم أَبْطُح
ولا عجب هذا التفاوت بينا **** فكل إناء بالذي فيه ينضح
وفي سبيل تفعيل هذه المقاطعة، لا بد من :
أولا : تعدد اللجان والمواقع الساهرة على إحيائها وتنظيمها ومواصلتها ، وتواصل المسلمين مع هذه المواقع الإلكترونية ، أو اللجان الشعبية للتعرف على الجديد ، والتوثق من المعلومات ، ولا بد من الإشادة بالمبادرات السباقة في هذا الإطار ،كالمؤتمرات واللجان المختصة في الأردن والسودان ولبنان والخليج وغيرها .(10/4)
ثانيا : الوعي الشعبي الشامل ، بحيث لا تكون هذه أفكار شريحة خاصة ، أو نخبة معينة ، وجمهور الناس بمعزل عنها ، هذه تبعات يسيرة يجب أن يتحملها الطفل الصغير ، كما يتحملها الشيخ الطاعن ، والعجوز الفانية ، ويتحملها المثقف كما يتحملها العامّي ، وما لم يتم توسيع رقعة هذا الوعي وتلك القناعة ، فلن يكون ثمّةَ مقاطعة حقيقية . وجدير بالاهتمام أن نشر الفتاوى الشرعية يدعم هذا التوجه ، وقد صدرت فتاوٍ عدة عن شيوخ أجلة ، وحبذا أن يصدر شيء كهذا عن المجامع الفقهية، والهيئات العلمية، ولجان الفتوى في العالم الإسلامي ، وذلك حتى يفهم الناس أن المقاطعة هي مطلب شرعي إلى جانب كونها ضرورة وطنية.
ثالثا : المرحلية ، إذ إن الاستغناء عن جميع تلك السلع يعتبر أمرا غير واقعي بالنظر إلى جماهير الناس ، وسرعة ركونهم إلى الرخاء والرفاهية ، وتأثرهم بالدعاية المضادة ، وبالنظر إلى تداخل العالم وتواصله وصعوبة الإبحار ضد التيار لدى العامة ولذا نقترح مايلي:
أ - مقاطعة الشركات والسلع اليهودية ، خصوصا في الدول التي تتعامل اقتصاديا مع إسرائيل ، وفي البلدان غير الإسلامية . ويجب التعرف على هذه الشركات بصورة جيدة ، والاستفادة من قوائم اللجان المسؤولة عن المقاطعة العربية السابقة لإسرائيل ، ومن الكتب المتخصصة ، ومنها : كتاب " اللوبي اليهودي في العالم "من تأليف : نديم عبدة ، مع مراعاة التحديث ، وعدم الاكتفاء بالمعلومات التاريخية .
ب - مقاطعة الشركات الأمريكية الداعمة لإسرائيل ، أو المتعاطفة مع اليهود ، وبخاصةٍ الشركات الكبرى ، والتي يوجد لها بدائل جدية كشركات السيارات ، والأغذية ، والملابس ، والأثاث ، والتجميل ، والمصارف ، والإعلام ، والتكنولوجيا …(10/5)
يجب أن نضع المسلم العادي أمام مسئوليته المتواضعة ، ونساعده على أدائها ، ونهتف بصدق للنجاح الذي يحققه ، ومن هذا الإنجاز الفردي القليل سيحفر نهر التحرير مجراه ، وتتحرك دوافع الإيجابية و المشاركة في ضمير الأمة، وبهذا تتحول ( الصيحات الغامضة ) إلى برنامج علمي واقعي معقول …
فهل بدأنا .. ؟
أشك ، وأتمنى !
أما التمني … فشاهده في قلب كل مسلم .
أما الشك فشاهده شاعر النيل الصوفي المتألق :
( محمود حسن إسماعيل ) (1327-1397هـ) في صرخته :
(( طريق الضياء )) معبراً عن مأساة النازحين :
بدأنا نمزق ثوب العدم **** ونلطم بالحق وجه السُّدُم
بدأنا كما بدأ الهالكون **** إذا الصور في جانبيهم ألم ّْ
بدأنا كما بدأ التائهون **** رمى الفجرَ في ناظريهم علم
بدأنا كما انتبه الضائعون **** على صيحة من هدير القمم
بدأنا كما انتفض اليائسون **** على ثورة النور في لَيْلِ هَمّ
بدأنا وفينا الأسى والهوان **** وفينا العذاب ، وفينا السقم
وفينا .. وفينا
وفينا المظالم والظالمون **** وحوش ، وبيد، ومرعى غنم
وفينا الكرامة مهجورة **** حصنة لوثتها التهم
وفينا المذلة للغاشمين **** كأنا - ولولم يشاؤوا- خدم
وفينا الدسيسة قدِّيسةٌ **** تدس الردى في عبير وسمّْ
ودقت علينا طبول السماء **** فقمنا لها من رفات الحُُلُم
صحونا وكنا الرماد الهشيم **** فعدنا اللظى الصارخ المحتدم
تباركت يارب ..هذا الجحيم **** من الرق ما كابدته أُمم
بدأنا ندمر طاغوته **** وطغيانه الزاخر المرتطم
بدأنا نشق طريق الحياة **** لفانين شابوا بوادي العدم(10/6)
اليسرى تكفي لحمل الحجر !
31/10/2001
15/8/1423
" شادي " شاب في السابعة عشرة من عمره ، من شباب الانتفاضة الثانية ، يرقد في مستشفى الشميسي بالرياض التابع لوزارة الصحة .
أصابه طلق ناري في رقبته من الجهة اليمنى ، وخرج من الجهة اليسرى ، يكاد أن يكون مشلولاً شللاً تاماً ، غير أن يده اليسرى تتحرك قليلاً .
والزوار محتشدون حوله ، اتصلت به والدته من فلسطين لتطمئن عليه ، فتكلم بصعوبة ليقول : شلل كامل ، غير أن اليسرى تتحرك شيئاً ما .. زغردت الوالدة بنشوة صادقة لتقول : تكفي اليسرى لحمل الحجر ، نحن لا نريدك لشيء آخر غير هذا !
إن من سوء حظ اليهود أن يساكنوا هؤلاء القوم الجبارين ، الذين اشتكى أجدادهم من أجدادهم ، لقد قاتلوهم ثم قاتلوهم ، ثم قالوا : لو لم يبقَ إلا الحجر والتراب لواجهناكم به !
ولعلهم سلسلة في حلقة البعث الموعود من أولي البأس الشديد المسلطين على اليهود .
لقد تشبع الحجر برمزية تاريخية وشرعية واقعية تدعو إلى التأمل !
فهاهو القرآن يعيب على اليهود قسوة قلوبهم فيشبهها بالحجارة " ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة .." .
وفي قلوب البشر ما هو أقسى من الحجر ، وكيف لا ، وهم يطلقون الرصاص الحي على صبية صغار ، أو نساء ، أو شباب عزل ، ويتقصدون الإصابة في الرأس ، أو الصدر ، أو العنق ..
بلي الجديد ، ومسنا القرح
فمتى تفيق أخي .. متى تصحو؟
وَ لوعتاه ..كم انقضت حقب
وامتد ليل ما له صبح !!
وبغى وحوش ليس يردعهم
خلق ، ولا دين ، ولا نصح
وإن كان في الحجارة شيء من نداوة ، أو مسارب يتخللها الماء .. ليتفجر بعد أنهاراً أو عيونا .. فهيهات أن يكون في قلوب هؤلاء القساة سبيل إلى شفقة ، أو رحمة ، أو ليان .(11/1)
وحين احتدمت عداوة اليهود للرسول -صلى الله عليه وسلم- ، وهموا بقتله ، كانت أفضل وسيلة لديهم هي إلقاء الحجر عليه من عالي البناء ، فنجاه الله ، وباءوا بإثم الغدر والخيانة والفساد ، وهاهم المسلمون ينتقمون لنبيهم بالآلة نفسها ، لكن في وضح النهار ، بعيداً عن الغدر والمكر والنكث .
ومما يستطرف أن أبرز حالة رجم في الإسلام كانت رجم اليهوديين الزانيين على ما هو موجود في الكتاب المقدس ، فنفذ الرسول -صلى الله عليه وسلم- فيهم حكم الله الذي أماتوه .
ثم انقطعت العلاقة المباشرة بين اليهود والحجر ، لتبرز في المعركة الخاتمة ، حين ينادى الشجر والحجر : يا مسلم هذا يهودي تعال فاقتله .
وهاهو الحجر يعلن حلفه مع المسلمين ضد قساة القلوب من اليهود ، ليعيد إلى الأذهان تلك النبوة الصادقة والأكيدة .
ونحن أمام عدوان على المقدسات كعدوان أصحاب الفيل ، عدوان يتترس بقوة متغطرسة ليس أمامها ما يكافؤها ، ولهؤلاء ، كما لأولئك أن يجعل كيدهم في تضليل ، وطير أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل . وعلى الإجمال فبراءة الاختراع لهذا السلاح الفعال هي مسجلة خصيصاً للمسلمين ، وبالذات للفلسطينييين.! إن النصوص التي بيننا تدل على أن حلم التوسع الجغرافي لليهود بعيد المنال ، فالمعركة معهم – وفق نصوص السنة – هي بالشام ، ببيت المقدس ، وأكناف بيت المقدس ، وتحديداً ثمة معركة على نهر الأردن ، أنتم شرقيه وهم غربيه ، ولم يكن يدري الراوي ، أين الأردنّ يومئذ !
" ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا : هذا ما وعدنا الله ورسوله ، وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما ".
فالشام عقر دار الإسلام ، وبيت المقدس -بإذن الله- باق للمسلمين، وإن كان لليهود فيه ، أو في غيره جولة ، فللمسلمين جولات ظافرة منصورة .
حتى الدجال الذي ينتظره اليهود يظهر على الأرض كلها إلا مكة والمدينة وبيت المقدس ( ابن أبي شيبة ، وأحمد ، والطبراني ، وسنده جيد )(11/2)
وقد أخبر الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن خراب مكة ، والمدينة ، ولم يخبر عن خراب المقدس ، حيث الحلقة الأخيرة من حلقات الصراع مع اليهود .
والمعركة إسلامية ، وقودها الشبباب المسلم الصابر ، الذي ليس له انتماء إلا دينه ووقرآنه ، وشعارها الإسلام – وليس غيره – فالحجر أعلن تحالفه مع المسلم ، لإسلامه ، لا لقوميته ولا جنسه ، ولا عنصره . وهاهم حاخامات اليهود يفاجئون العالم بتصريحاتهم العنصرية ضد الإسلام ، فالحاخام يوسف زعيم حركة شاس ، ثالث تجمع سياسي في إسرائيل ، والمشاركة في غالب الحكومات يصف العرب والمسلمين بأنهم كالأفاعي.
و الحاخام إبراهام شابير الذي كان الحاخام الأكبر في إسرائيل ، يقول: " نريد شباباً يهودياً يدرك أن رسالته الوحيدة هي تطهير الأرض من المسلمين ..يجب أن نتخلص منهم كما نتخلص من الجراثيم والميكروبات."
أما الحاخام الأكبر لإسرائيل سابقاً ، مردخاي إلياهو ، فإنه يقول مخاطباً مجموعة على وشك الالتحاق بالجيش الإسرائيلي : " القرآن هو عدونا الأكبر والأوحد ، هذا العدو لا تستطيع وسائلنا العسكرية مواجهته .. كيف يمكن تحقيق السلام في وقت يقدس العرب والمسلمون فيه كتاباً يتحدث عنا بكل هذه السلبية ؟ على حكام العرب أن يختاروا : إما القرآن أو السلام ! "
أما إسحاق بيريس ، فيقول في موعظة دينية : " إذا استمر ارتفاع الأذان الذي يدعو المسلمين إلى الصلاة في كل يوم خمس مرات ، في القاهرة وعمان والرباط ، فلا تتحدثوا عن السلام ." (البلاد 30 رجب 1421هـ)
نعم ، في اليهود أصوليون ، ومتطرفون ، وعلمانيون ، كما في العرب وسائر الشعوب ، ولكن الشأن الوحيد الذي يلتف حوله اليهود هو التوراة ، والمعنى الديني والانتماء العرقي كما أن النداء الوحيد الذي تتجاوب معه الرقعة العربية والإسلامية ، هو نداء الإسلام والجهاد .
وهذه الانتفاضة خير مصداق ، فالأيدي التي ترشق اليهود بالحجارة هي الأيدي المتوضئة .(11/3)
والحناجر التي تهتف بالملايين من اليمن إلى المغرب ، إلى مصر ، إلى الأردن ، إلى بلاد المهجر ..
إنما تهتف لشعب يمثلها وينوب عنها ، لتقول: إن القضية لا تموت ، وإن ركام السنين المتطاولة ينقشع في لحظة ، وهذا لا يعارض أن هذه الانتفاضة الشاملة وأصداءها هو تفريغ لاحتقان تعيشه الأمة بسبب أزماتها المتفاقمة .
فالشعب الفلسطيني مارس حقه ، وعرف في هذا العمل طريقه ، فلم يعد يستأجر لقضايا أجنبية عن وجدانه ، ولا يعمل لحساب هذا أو ذاك ، بل لحساب مستقبله وأمته ومقدساته ، وهو بحاجة يقيناً إلى مزيد من هذه المعرفة التي تؤصل إسلامية المعركة ، وتنفي أي خيار آخر .
والمسلمون في كل أرض يتلاحمون مع إخوانهم في الأرض المباركة ؛ ليذوب الجليد بين المسلم وأخيه ، ولتختفي المناكفات والمعاتبات والتقاطعات القديمة ، والتي عمقتها حرب الخليج الثانية ؛ ليلتف الجميع حول قضية واحدة ، وفي مواجهة عدو مشترك ، وهذا كسب لا يستهان به .
فلنبن عليه قراراً بالدعم المتواصل للانتفاضة ، وإصراراً على استمرارها.
ولنبن عليه حسن استضافة للإخوة الفلسطينيين المقيمين في أي أرض إسلامية ، بما في ذلك توفير فرص العمل والدراسة والعيش الكريم .
ولنبن عليه اهتماماً بالفلسطينيين في جميع البلاد العربية والإسلامية ، وخصوصاً التجمعات والمخيمات في الأردن ، وسوريا ، ولبنان ، والضفة ، تربيةً وتعليماً ، وإعداداً ودعوةً .
ولنبن عليه دعم الفلسطينيين داخل إسرائيل ، والتواصل معهم ، فهي ورقة مهمة يمكن أن تؤدي دوراً لا يستهان به .
بل وأكثر من ذلك يمكن العمل على استثمار التناقضات القائمة في المجتمع اليهودي ، كما يستغلون هم التناقضات القائمة بيننا ، ولقد ذكر الله -تعالى- أن قلوبهم شتى " ذلك بأنهم قوم لا يعقلون ".
وهذا يقودنا إلى شأن آخر حول وسائل مواجهة المكر اليهودي ، ودعم الانتفاضة الفلسطينية .(11/4)
أيها العراقيون
05/04/2003
3/2/1424
حين نتحدث إليكم أيها الشرفاء فإننا نتحدث بقلوب يقلقها الشعور بالقهر والحزن والخوف ، ويهدئها الشعور بالاعتزاز والرضى والأمل ...
لقد أصبحت الحرب جزءاً من حياتكم فتكيفتم معها وألفتم وقعها وتحملتم مرارتها وآلامها ، ولعل كثيراً من محبيكم والمتعاطفين معكم لم يخوضوا هذه التجربة ، فلا يزال في قلوبهم غضاضة وطراوة تفزع من هذه المعاناة وتستفظعها .
وحين نتحدث إليكم فإننا نحن شركاؤكم في السراء والضراء ، والشدة والرخاء، فمصابكم في كل بيت وحزنكم في كل قلب ، ودموعكم في المآقي ، ومعاناتكم أصبحت طُعْماً نقتاته صباح مساء .
كما أن مكاسبكم التي تنالون بها من عدوكم ، هي مكاسب لكل مسلم غيور ، ولكل مظلوم على ظهر هذه الأرض ، فمن آذته آلة الحرب الأمريكية الباغية وملحقاتها، فهو يرى في صنيعكم انتقاماً ربانياً بأيدي بعض عباده من أولي البأس الشديد أمثالكم يصبه تعالى على من طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد .
تذوب حشاشات العواصم حسرة **** إذا دميت في كف بغداد أصبع
ولو بردى أنت لخطب أصابها **** لسالت بوادي النيل للنيل أدمع
لقد عبر إخوانكم عن التمازج والتفاؤل مع قضيتكم العادلة أصدق تعبير ، ولقد وجدت بعض الحكومات نفسها منساقة باضطرار مع عواطف جماهيرها لتظهر من حسن المقال مالا يستر رديء الفعال !
أيها الأحبة في العراق !
إنكم تقاتلون عدواً تخطى غيركم إليكم ، وربما تخطاكم إلى غيركم ، فمطامعه لا تقف عند حد ، فأعظموا فيه النكاية ، واستميتوا ، فدىً لكم من لا يقدر صنيعكم ، ولا تظنوا بنفس ولا مال ، فاليوم يوم الملحمة ، وليس بمستنكر عليكم وأنتم أهل الإسلام والفداء أن تصنعوا للعلج الكافر عقدة اسمها ( عقدة العراق ) تنسيه عقدة فيتنام ، وتكف يده القذرة عن الامتداد إلى جيوب الناس !
أيها العراقيون :(12/1)
إن أمتكم مهما تخلفت في ميادين الحياة مما جرأ عليها عدوها فلن تتخلف في ميدان التضحية والإقدام والفدائية ، ولقد استخف بكم عدوكم حين زج بعشرات الآلاف من جنوده لتدنيس أرضكم الطيبة .
قد شمرت عن ساقها فشدوا **** وجدت الحرب بكم فجدوا
فشدوا وأروهم كيف يكون الاستبسال ، وأذيقوهم قسوة الصحراء !
إنما الإسلام في الصحرا امتهد **** ليجيء كل مسلم أسد
ليس كالمسلم في الخلق أحد **** ليس خلق اليوم بل خلق الأبد !
إن الإسلام هو الذي يلهم أهله البسالة ويربيهم على معنى البطولة والاستشهاد .. فلا يموتن أحد منكم إلا وقد خطف معه من أرواح هؤلاء المغتصبين ، ولكن هو إلى الجنة إن شاء الله وهم إلى النار وبئس القرار .
ولقد أعطتنا العمليات الاستشهادية جرعة من التفاؤل والأمل إن لم يكن بنصر ساحق بينهم ، فبنكاية تلحق المستعمرين الكافرين ، والعاقبة بعد للمتقين .
أيها العراقيون :
إنما تنصرون وترزقون بضعفائكم ؛ بدعائهم واستنصارهم كما قال إمام المجاهدين عليه الصلاة والسلام ...
فليكن في قلوبكم عزمُ صادق وإرادة قاطعة ، حاكمكم ومحكومكم ، وغنيكم وفقيركم وكل من له شيء من الولاية على فرد فما فوقه أن يسارع في رفع جميع المظالم في النفس والمال والأرض والعرض ، وأن لا يحتقر من ذلك شيئاً وإن قل ، ولا يعطي نفسه فرصةً للتأويل والتعذير .
فإذا غيرتم هذا ولو بإرادة جازمة يعلمها ربكم في نفوسكم وقلوبكم فسوف يغير الله ما بكم ، ويدفع عنكم الظلم الطارئ عليكم من خارج أرضكم .
أيها العراقيون :
يقول ربكم تبارك وتعالى : ( يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيراً يؤتكم خيراً مما أخذ منكم ويغفر لكم والله غفور رحيم ) .(12/2)
فليعلم الله في قلوبكم جميعاً وخصوصاً عليتكم وأولي الأمر منكم وأهل الرتبة والجاه توجهاً صادقاً إلى تحكيم شريعته واقتفاء سنة نبيه عليه الصلاة والسلام وإعلان ذلك بين الناس بلا تردد ولا جمجمة ، ولا انتظار .
وليكن من أول ذلك إنفاذه في خاصة نفوسكم وبيوتكم وأشخاصكم واعتماد اللغة الشرعية في إعلامكم وسركم وإعلانكم .
إنكم إن استجمعتم هذه النية واعتمدتم هذه الخطة حضيتم بعون لا مثيل له ومدد لا انقطاع له ليس من العالم الإسلامي المتعاطف معكم فحسب ، بل من ربكم الذي هو مالك الملك يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء ويعز من يشاء ويذل من يشاء ، ويولج الليل بالنهار ويولج النهار بالليل ويخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ويقول للشيء كن فيكون .
فيا أهل العراق كافة لا تفوتوا هذه الفرصة التاريخية وأعلنوها صيحة سماوية خالصة ربانية أن الإسلام منهجكم ، والشريعة حكمكم ، والمسلمين كافة إخوانكم .
يا أهل العراق :
لقد وفد إليكم من أبناء الإسلام النجباء من لم تسعهم الأرض وهم يشهدون القصف المجرم عليكم ، فانطلقوا وقد باعوا لله نفوساً كريمة ، يطلبون الشهادة في سبيل الله ، ويرومون قتل المعتدين المتجرئين وهم يعلمون أن العديد البشري لديكم من المدربين المسلحين كثير ، ولكنهم يأبون إلا المشاركة والتعبير عن التضامن في إحدى صوره النبيلة وقد قيل :
يجود بالنفس إن ضن البخيل بها **** والجود بالنفس أقصى غاية الجود
وجدير بقوم كهؤلاء أن يكون لهم من حسن الرعاية والتوظيف ما يتناسب مع طبيعة الموقف والمعركة والمرحلة التي تمر بها الأمة وتمر بها هذه المنطقة الملتهبة خاصة وأنتم تواجهون اليوم عدواً قوياً مدججاً يستثمر كل ما يملك من الطاقات ويجندها مادياً وإعلامياً ،فليكن لكم به مشغل أي مشغل وحذار من الانجرار إلى معارك جانبية قد يغري بها الشيطان عند المضايق .(12/3)
كلأكم الله برعايته ، وتولاكم بعنايته ، وحقن دمائكم ، وحفظ أعراضكم وأموالكم وبلادكم ، ورد عدوكم ، وهداكم إلى محبته وطاعته ورشده آمين .(12/4)
تحية للشعب المقاوم
23/03/2002
9/1/1423
لا يضيف جديداً أن يحضر نائب الرئيس الأمريكي الاجتماع الأمني المغلق، والذي هو حلقة ضيقة من الوزراء المختصين ... فالتحالف الاستراتيجي بين أمريكا وإسرائيل ليس دعوى يبحث الناس لها عن دليل، بل حقيقة قائمة لا يرقى إليها الشك .
وليس مهماً أيهما في قبضة الآخر، وأيهما ذيل الكلب أو رأسه .
المهم، كيف يتعامل العرب والمسلمون مع هذا الواقع؟
إن أمريكا ملتزمة بأمن إسرائيل وتفوقها الاستراتيجي على حساب الجانب العربي والإسلامي، بينما مصالح أمريكا الاقتصادية كلها في الوطن الإسلامي، وإسرائيل عبء على الاقتصاد الأمريكي.
وإبّان ضرب أفغانستان، بدت أمريكا وكأنها تعدّل من لهجتها، وتتحدث عن دولة فلسطينية، وكأن الهدف منع الصراع العربي الإسرائيلي من أن يؤثر سلباً في مجرى الحرب على الإرهاب كما تسميها!
وعلى ذلك مارست الحكومة الإسرائيلية تصعيداً خطيراً، واغتيالات بالجملة، ومزيداً من الاحتلال، وضغطاً حتى على المؤسسات الرسمية للسلطة، ولم تحرك مشاهد القتل والدمار، ولا دموع الثكالى، ولا جثث الصغار أي ساكن في نفسية رجال الإدارة الأمريكية.
فالطرف الفلسطيني هو الظالم الذي يطلب إليه ضبط النفس، والتوقف عن ممارسة العنف والإرهاب .
وحتى بعض المثقفين من أمثال ( هنتينجتون ) يعدّون ما يجري حرباً يشنها المسلمون ضد اليهود، كما في مقاله( عصر حروب المسلمين ) المنشور في نيوزويك، في عددها السنوي الخاص.
ويبدو أن ضربة محتملة على العراق تحمل أمريكا على تهدئة مؤقتة للقضية على غرار ما جرى في الحرب على أفغانستان، وإسرائيل تعي أهمية هذه التهدئة من أجل القضاء على قوة عربية مجاورة، وإحداث المزيد من التفكك والانهيار في الأمة المسلمة، وتعريضها لخطر التمزق والحروب الداخلية.(13/1)
إن إسرائيل والغرب يتعاملون مع العرب والمسلمين تعاملا ًيقوم على الازدراء والتحقير، وهم يعتقدون أن ما يقوله المسلمون -قادة وشعوباً- لا يمكن أن يؤخذ مأخذ الجد، وأنه لا شيء يقنع العرب والمسلمين مثلما يقنعهم استخدام القوة والحسم .
وقد يكون من الاستثناءات القليلة التي حققت نجاحاً مبهجاً في واقعنا الأليم: الانتفاضة الفلسطينية المباركة، التي جعلت الآلة الإسرائيلية المتفوقة تترنح أمام مطارق الأبطال الذين باعوها رخيصة في سبيل الله، ولذلك ظلت الانتفاضة رقماً عصياً على العدو، وورقة رابحة في أيدي المخلصين وجرب اليهود سياسة ليِّ الذراع والإمعان في العسف، فما أنجحوا ولا أفلحوا .
ومن حق الأمة -والشعب الفلسطيني خاصة- علينا جميعاً أن نشيد بهذه الانتفاضة ونقف وراءها جميعاً صفاً واحداً، ويداً واحدة، وأن نعدّها دليلاً على أن هذا الشعب أمين على أرضه، وجدير بها.
ومن أبرز معالم النجاح الفلسطيني في إدارة المعركة على أرض الإسراء والمعراج ما يلي:
1ـ لقد نجح الفلسطينيون في تحديد ميدان المعركة، وهو الأرض المحتلة، فصراعهم هو مع من سلبوا أرضهم، وهدموا منازلهم، وقتلوا أطفالهم، وشرّدوا رجالهم، وبهذا حفظوا قوتهم من التشتت والتفتت، ولم ينقلوا المعركة جديّاً إلى ميادين أخرى.
2ـ ونجحوا في إدارة المعركة وتوليها بأنفسهم، فالشعب الفلسطيني وحده يقاتل في أرضه، والشعوب المسلمة من ورائه بالدعم والمساندة والتأييد، وهذا أحفظ للقضية، وأبعد عن اختلاف الرؤية من دخول عناصر من شعوب أخرى للحرب والمواجهة العسكرية المباشرة مع العدو المحتل.
3ـ ونجحوا في حفظ وحدتهم وضبط اختلافاتهم، التي هي جزء من المشهد الإسلامي في كل مكان، لكن الإخوة في فلسطين نجحوا في تحجيمها والتعامل معها، بحيث لا تفضي إلى صدامات تستنزف طاقاتهم وتريح عدوهم .(13/2)
ولا يشك من عرف اليهود وحيلهم وألاعيبهم أنهم بذلوا ما يشبه المستحيل في دقِّ إسفين الخلاف بين الفصائل الفلسطينية، ولكنهم فشلوا لحد الآن، وهذا -في تقديري- ربما كان من أهم أسباب النجاح.
وربما كان هذا ما يفسر الضغط الهائل الذي تمارسه إسرائيل على السلطة الفلسطينية؛ إذ قد يعتقدون أن هذا الضغط يفضي إلى انشطار في الصف الفلسطيني يجعل سهامهم موجهة إلى نحورهم.
4ـ ونجاح آخر لا يقل أهميةً عما سبق، هو شمولية العمل الفلسطيني وعدم انحصاره في العمل العسكري، فالشعب يحتاج إلى الإغاثة، وإلى التعليم، وإلى العمل، وإلى التربية، وهذه الشمولية ضرورية لنبقى قريبين من نبض هذا الشعب، متحسسين لآلامه، مشاركين في معاناته .
5ـ وثَمَّ نجاح خامس، وهو القدرة على المواءمة بين السياسي والعسكري، فهما مترابطان لا ينفكان، والعملية العسكرية لكي تكون مثمرة تحتاج إلى قراءة صحيحة للأجواء المحيطة، والتخيير بينها وبين العملية السياسية يحتاج إلى ذكاء ووعي.
لقد أحسن الفلسطينيون التوقيت، وأثبتوا -في هذا الظرف العصيب من تاريخ الأمة- أنهم أمناء على القضية، وأنهم أحقُّ بها وأهلها.
وإن من الصبر معهم أن تظل شعوب المسلمين عصية على التطبيع مع العدو الغاصب وفيّةً لشهداء فلسطين ومجاهديها رجالاً ونساء ، وسيكون لنا مع موضوع التطبيع حديث خاص.
إن عاماً واحداً يكلف العدو أكثر من ملياري دولار، أي: ما يعادل 2.5% من الناتج القومي.
وحسب تقرير (البنك المركزي الصهيوني) فإن المعدل الإنتاجي العام انخفض بنسبة 6% منذ بداية الانتفاضة، في حين أن المعدل نفسه كان قد ارتفع بنسبة 5.5% خلال الفترة نفسها من العام السابق.
وانخفض الإنتاج الصناعي بنسبة 11% وتأثرت بشكل جاد المصانع وأدوات النقل وأجهزة الاتصال، وكثير من مبيعات السلع، والمواد الإعلانية، وقطاع السياحة، والتجارة، والزراعة وغيرها.(13/3)
وهناك خسائر الأرواح التي تقدر بالمئات، فضلاً عما تحدثه الانتفاضة من آثار نفسية سيئة تحمل الكثير من اليهود على الهجرة المعاكسة .
فدعونا -في زمن التشرذم والانشقاقية- نوجِّه تحية صادقة لهذا الاصطفاف الموحَّد في مواجهة الطغيان اليهودي والطغيان الأمريكي، ولهذا النجاح الإسلامي الذي جاء في وقت تعاظمت فيه الإخفاقات، وتفاقم اليأس، وعزَّ النصير.
إلى المدى أنت أهْدى
وبالسراديب أعْرَفْ
وبالخيَارات أدْرى
وللغرابات أكشفْ
وبالمهمَّات أمضى
وللِملمَّات أحصَفْ
فلا وراءك ملْهى
ولا أمامك مصرفْ
ولا من البعد تأسَى
ولا على القرب تأسَفْ
لأن همَّك أعلى
لأن قصدَك أشرفْ
لأن صدرك أمْلى
لأن جيبَك أنظَفْ
قد يكسِرُونك لكن
تقومُ أقوى وأرهفْ!
قد يقتلونك تأتي
من آخر القتل أعصَفْ
لأن جذْرك أنْما
لأن مجراك أرْيَفْ
لأن موتك أحْيا
من عُمْر مليون مُتْرفْ
فليقذفوك جميعاً
فأنت وحَدك أقذفْ
فيتلفون ويزكو
فيك الذي ليس يتلفْ
لأنك الكلُّ فرداً
كيفية لا تكيَّفْ
شكراً لك أيها الشعب الجدير، وإذا لم تقف معك شعوب الإسلام في كل مكان فلا خير في العيش إذاً ... والسلام(13/4)
تنويع الخطاب الدَّعَوِيّ
09/02/2002
26/11/1423
كتب إليّ بعض الإخوة يسألون عن بعض الأمور المهمة و التي نُسِبَ بعضها إلي، و هي من الأمور الحساسة على الفرد و المجتمع :
هل يجوز القيام ببعض العمليات التي تؤدي إلى التنكيل بالمجتمع من أعمال عنف في الدول الإسلامية التي لا يوجد فيها حروب معلنة ، وما رأيكم في العمليات التي تنفَّذ بحجة نصرة الدين في بعض الدول الغربية وبعض الدول الإسلامية ؟
وهذه المسائل وما كان من بابتها فهو -لاشك- من القضايا المهمة التي تحتاج إلى وضوح في العمل الإسلامي اليوم، وهنا ينبغي الاعتناء بالتأصيل العلمي لهذه القضايا، واستصحاب قواعد الشريعة ومقاصدها، فإن الشريعة مبنية على تحقيق المصالح ودرء المفاسد؛ ولهذا كانت مسائل الشرائع الإلهية تُحصِّل مصلحة كلية راجحة ، أو تدفع مفسدة كلية أو مفسدة راجحة ، فهذا هو شأن سائر الأمر والنهي في القرآن والحديث ، وهو يتنوع باختلاف قدر المسائل كما قرره الإمام ابن تيمية والشاطبي وغيرهما ، وثمة تعليقات على جهة الإشارة لا التفصيل أُجْمِلُ أَحْرُفها بالتالي :
1-الدول المسلمة بأهلها وواقعها تبقى لها أحكام دول الإسلام ولو تسلَّط على الحكم والسلطان فيها من عُرِف بالنفاق ومعاندة الدعوة ، فهذا كله لا يذهب العصمة الإسلامية التي تمارس في الواقع العملي مع أهلها ومجتمعها ، وعلى هذا التقدير لا يجوز ممارسة أعمال العنف -كما تسمى في داخل هذه الدول والمجتمعات بحجة الضغط على السلطة أو التنكيل بها-فإن الإسلام عصم دماء المسلمين وأموالهم وحقوقهم ، والإجماع منعقد على حرمة حقوق المسلمين حتى لو اضطروا للبقاء في دول كافرة ومجتمعات كافرة ، وكنتيجة أخرى للوضع الذي تمارسه سلطة ما خرجت عن المنهج الإسلامي، واتخذت منهجاً مضاداً للإسلام، فهذه السلطة لا تزيل عن المسلمين -في هذه الدولة- حرمة ديارهم فتصير ديار حرب لها أحكام ديار الحرب ، بل هي دار إسلام لها حرمتها .(14/1)
2-من المهم أن يكون دعاة الإسلام وشباب الصحوة والدعوة على وضوح في منهج الدعوة ومعرفة مقاصد الإسلام الكبرى، وهذا يشار به إلى الانعتاق من سلطة النفس، ومحدودية التفكير ، والوعي بحقيقة الدعوة، وطرائق معالجة الأوضاع المتردية - أحيانًا - في بعض المجتمعات ، ومراعاة السنن الشرعية والكونية في منهج التغيير والإصلاح .
3-من المهم –كثيراً- أن ندرك الإمكان الشرعي والواقعي الذي نعيش فيه ، ونعمل على إيجاد تطبيق للمعاني الإسلامية في المجتمعات الإسلامية خاصة التي يُمَارَسُ ضدَّها تغييبٌ شديد يحاول طمس هويتها ، فبعض المجتمعات التي بهذه الصورة يفترض أن يكون القدر -الذي يحاول أهل الدعوة تحقيقه معهم- متناسباً في الإمكان مع الواقع الذي عاشوه ، لقد كان النجاشي في الحبشة ملكاً صالحاً ومؤمناً صلّى عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد وفاته ، وأثنى عليه خيراً مع أنه لم يكن يحكم بين النصارى بالقرآن ، ولا يقيم كثيراً من شعائر الإسلام -كما ذكر ذلك ابن تيمية- فهذا مبلغه من الإمكان .
4-يفترض على أهل الدعوة وشباب الصحوة أن يؤمنوا حقاً بأن هذه الشعوب الإسلامية ما تزال فيها الفطرة ، وعصمة الإسلام ومحبته ، ومحبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى من انحرف في سلوكه بدرجة مُزْرية ، هذا في الجملة أمر مؤكد ، فمثل هذه العصم الكبار ، والمعاني الثابتة ، يجب أن تُحيا في صفوف سائر المسلمين حتى العصاة بل المجاهرين بكبائر الإثم ، فليس صحيحاً أن كثيراً من الخطاب الذي يقدمه شباب الدعوة إلى عوام الناس وسوادهم ليس فيه إلا لغة النهي عن المنكر .
إن لغة الأمر بالمعروف يجب أن تكون هي الأصل في الخطاب ، وبناء الإيمان في قلوب سواد الناس حتى لو بقي على بعض المعاصي ، فإن عنايته بأصول الإسلام وعِصَمِهِ الكبار هذا هو الأهم تحقيقه مع عباد الله ، وهو مقدمة ترك المعاصي .(14/2)
5-يجب أن ندرك أننا حين نفكر بقلب المجتمعات الإسلامية إلى مجتمعات صحابية في الديانة والعلم فهذا يعني: أننا لم ندرك حقيقة السنن التي قدرها الله في هذه الأمة، صحيح أن الأمة فيها نُزّاع من الأخيار الأبرار ، وفيها -بحمد الله- طبقة واسعة من أصحاب العلم والدين والخلق والفضيلة ، لكن جمهورها فيه جهل وتقصير مع خير كثير ، فهذه الظاهرة يسعى لتخفيفها- وإن كان الأمر والنهي والدعوة يُقَال فيها- بترك المحرمات وفعل المشروعات ؛ لكن ندرك أن الناس كإبل مئة، كما قال -عليه الصلاة والسلام- : ( الناس كإبل مئة لا تجد فيها راحلة ) رواه مسلم عن ابن عمر. فهذا المعنى كما أنه على مستوى العمل فهو على مستوى التطبيق للأمر الشرعي أيضاً .
6-من المهم أن يتخلص بعض دعاة الإسلام من هيمنة التشاؤم على منهجهم ولغتهم وتعاملهم مع عوامّ وسواد المسلمين ، إنه حينما يكون الداعية وطالب العلم يدرك أنه لا يستعمل الأوراق الأخيرة والنَّفَس النهائي في محاولات الإصلاح والدعوة فهو - هنا - يتخلص من كثير من الأخطاء ، وربما صار الشعور باليأس من الإصلاح متأثراً بهذه التوقعات .
إن الأمة -اليوم- مع ما فيها على مستوى النخبة (أهل العلم ودعاة الإسلام) أو حتى على مستوى شباب الصحوة، أو حتى على مستوى سواد الأمة، كلّ هذه الفئات الثلاث مُهيَّأةٌ للعمل والقيام بدين الله ، ودفع السيئة بالحسنة ، والمجادلة بالتي هي أحسن ، وأمر المؤمن خير كله في السراء والضراء ، كما في صحيح مسلم عن صهيب -رضي الله عنه- قال : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : ( عجباً لأمر المؤمن إنّ أمْرَه كلَّه له خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن ، إن أصابتْهُ سرّاءُ شكَرَ فكان خيراً له ، وإن أصابته ضرّاءُ صبَرَ فكان خيراً له ) .(14/3)
7- من الحكمة الشرعية - فيما أرى - أن يتخلص الخطاب الإسلامي من التعامل بلغة واحدة ، حيث تجد بعض أهل الدعوة والعلم جَمَع أزمة الأمة في الواقع السياسي الذي تعيشه ، فتراه لا يمارس إلا هذه اللغة وأن الواقع السياسي هو قضية كل قضايا الأمة !! وتجد نمطاً آخر من الخطاب الإسلامي لا يخاطب إلا أهل الصلاح والبر والتقوى ، يؤدبهم بالمشروعات والفضائل حيث لا يتصور –هنا- الكلام في الأصول الواجبة ؛ لأن هذه النخبة متفاعلة معها ، وربما يكون هذا الخطاب أداة لفصل المجتمع الإسلامي إلى طبقات تعيش العزلة والصراع الشعوري - أحياناً - فيما بين أهل الصحوة وبقية طبقات المجتمع المسلم الذي قد لا يكون ذا طابع دعوي لكنه مسلم وفيه خير .
إن الرسل بعثوا إلى قوم مشركين، وهكذا أتباعهم يجب أن يخاطبوا كل أحد، فإن جميع عباد الله يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، ومن المهم –هنا- أن يعمل شباب الصحوة ودعاتها على كافة المواقع الدعوية، وأن يصبّر بعضهم بعضاً، ويصدّق بعضهم بعضاً، ويعذر بعضهم بعضاً فيما يقبل الاختلاف والتنوع والاجتهاد .
وهنا يجب أن يكون دعاة الإسلام أكثر تأصيلاً وواقعية، فإن تقدير دائرة ما يقبل الاجتهاد وما لا يسع فيه الخلاف وأمثال ذلك من أكبر مقاصد الشريعة ، وأدقّ مقامات العلم ، فهذا يستلزم أن تحكم هذه القضايا بالأدلة الشرعية من الكتاب، والسنة، والإجماع .(14/4)
8-من المهم أن يُربَّى شباب الدعوة -وسواد المسلمين عموماً- على قواعد الشرع الصحيحة في التعامل ، والحكم على القضايا والمجتمعات والأعمال الإسلامية ، وحتى من الأعيان من أهل العلم، أو الدعوة، أو الحركة داخل الجماعات التي توجد في كثير من البلاد الإسلامية ، وهنا فإن كل من أهمّه هذا الدين والدعوة إليه، وقصد هَدْيَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم - في دعوته حسب ما أمكنه، فهذا مما ينبغي أن يعظم قدره ويثنى عليه بخير، ويعان على طاعة الله والدعوة إلى دين الإسلام ، وما يكتنفه من الخطأ يصحّح بالدليل والرفق فإن الله - تعالى - قال عن الخضر : "فوجدا عبداً من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما" فهكذا أهل الدعوة إلى دين الإسلام عليهم أن يُرَبُّوا أنفسهم على الرحمة والعلم ، فإن الداعي لا بدّ له من جمعهما، وكل يؤخذ من قوله ويرد فهذه من القواعد المهمة، فليس ممكناً أن يكون الدعاة وأهل العلم لا يقولون إلا صواباً ، فإنهم ليسوا معصومين، بل منهم من يخطئ فيصيب غيره ، ولا يجمع الله الأمة على الخطأ ، وعليه فينبغي أن نعلم أن من أكبر مقاصد الشريعة جمع القلوب على الدين والهدى، والرفق في البيان والدعوة ، وهنا ينبغي أن يتربى الناس على أن الصواب صواب ، والخطأ خطأ لكن الخطأ الواحد ليس يقتضي ضرورة مصادرة الآخرين أو الرمي بالشَّين ، ومما يؤسف كثيراً أن طائفة من الأمة ممن هم على الإسلام ويقتدون بالكتاب والسنة في دعوتهم قد تفرغ بعضهم لبعض ، واتخذ نوع من هؤلاء العلم بغياً بينهم كما اتخذه أهل الكتاب من قبل ، وهذا من أخلاق الأمم الكافرة التي دخلت على بعض فضلاء المسلمين ، وصار كثير منهم لا يحسب غيره ـ من دعاة الإسلام ـ على شيء ، كما أن اليهود والنصارى كان هذا خلقهم "وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء " وهنا يذكر الإمام ابن تيمية أن هذه الصور من التشبه العلمي بأحوال وأخلاق(14/5)
أهل الكتاب التي دخلت على بعض أهل العلم والشريعة في هذه الأمة .
إن كثيراً من الشباب - وربما بعض الدعاة - يشتد في محاربة صورة من صور التشبه في اللباس –مثلاً- على مستوى الأطفال ، وهذا نظر جيد، لكنه ربما يمارس أو يغفل عن معالجة صور أخرى للتشبه بالكفار ضررها متعدٍّ إلى مستوى التأثير على حركة الدعوة والإصلاح .
9-علماء الإسلام الكبار ودعاته يعرف لهم قدرهم وفضيلتهم، لكن يعلم أن الهدي هدي رسول الله ، والدين هو ما شرعه الله ورسوله ، فأنْ يعرف لأحد حقه لا يعني أن كلامه لا يقبل النظر والمراجعة والخطأ، بل الرد والترك إلى سُنَّة ظهرت وحقٍّ بَانَ بالدليل ، وما زال علماء الإسلام يتراجعون ويختلفون، بل هذا هو الواجب على أهل العلم ورجال الدعوة .
وهنا من الخلق الفاضل ألاّ يتقحم الشباب المقبل على الدعوة والشارع في طلب العلم ما ليس هو مما قُدِرَ له من قضايا الأمة الكبرى أو مسائل العلم الكبرى التي تحتاج سعةً في العلم ، وحذقاً في الرأي ، وسداداً في العقل ؛ فأن يعرف كل واحد ما أمره الله ورسوله به ، وما ندب إليه في شرع الله هذا هو موافقة الهدى والعمل بأدب الله الذي أدب به أهل الإيمان ، والله -سبحانه - يبتلي العباد بما آتاهم .
10-من المهم أن نعي أن الأمة تحتفظ بمقدرات كامنة في نفوس سواد أهل الإسلام، مع إدراك أن جمهور هذا السواد يُغيَّب كثيراً عن أصالته وديانته وولائه للدين تحت المشاريع التي تقدمها التجمعات المعادِيَة للأمة ودينها ، عبر الفضائيات، ومناهج التعليم ، ومجالات الوعي والتربية، وهنا يجب على دعاة الإسلام وشباب الصحوة أن يخوضوا معارك جادّة مع هذه المشاريع بالسلاح نفسه.(14/6)
إن انحصار مفهوم الجهاد في عرف كثير من المسلمين على السيف غفلة عن حقيقة الإسلام وهدي الرسل، وإن الله أمر نبيه أن يجاهد الناس بالقرآن والسيف، ولئن كانت هذه المشاريع التي تمارِسُ تغييبَ الوعي في كثير من المجتمعات الإسلامية أكثر امتيازاً في الإمكانات الاقتصادية والتخطيطية، فإن الدعاة وشباب الصحوة يحتفظون بالتناسب بين المقدرات الكامنة في نفوس هذه المجتمعات والدعوة التي يقدمونها، والتي يجب أن تُعْنَى ببناء الثوابت والأصول الإسلامية الإيمانية ، ولا تستعجل أمرها فلئن تأخر قوم عن الاستجابة فهذا لا يعني بلوغ اليأس ، أو حتى فساد المنهج الذي يعالج به هذا الوضع أو ذاك .
وأخيراً . . . ليكن همُّ كلِّ واحدٍ في هذه الأمة أن يبلِّغ عن الله ، ورسوله ، ولو آية أو حديثاً ، وألاّ يمتلكه الحزن الذي يُقْعِد عن العمل لدين الله ، أو اتخاذ طريق ليست مشروعة في التعامل ، أو الشعور بعدم القدرة و الطاقة فيميل إلى الصفائية والمثالية والانتقاء ، فيجد نفسه أخيراً مراجعاً لإخوانه دعاة الإسلام وشبابه، ثم قائماً عليهم حكَمَاً وسلطاناً على أقوالهم وأعمالهم ، يلاحظ كل شاذة وفاذّة في صفوف أهل الدعوة ، وهنا ربما خَالَطَه شعور أن هذه هي الأصالة والديانة ، وكثيراً ما يكون هؤلاء ممن يعيش تعثراً في التصحيح والعمل والتربية والبناء؛ فينعكس على متابعة ظِلِّ إخوانه، فلا يرى في الظِّل الصورة الحسنة ؛ لأنه لا يرى أخاه بل يرى ظله، وهو لا يعرف الظل ولا يميز به، والظل قدر مشترك ، وهنا ربما ناسب ما يقول ابن حزم -رحمه الله- : إن الاشتراك هو أخص أسباب الغلط في المعارف والقيامات بين الناس .(14/7)
حدثوني عنكَ (1/2)
27/04/2003
3/3/1424
لن أحدثكم جميعاً هذه المرة ، سأختار منكم بضعة نفر لحديث خاص أهمس به في آذانهم، لتنتقل همساته إلى من بجوارهم ، حديث إشفاق، وليس حديث إعناتٍ وتشنيع وإحراق.
إنني أحدثكم أيها النفر، ولي حديث آخر مع شقنا الثاني من بنات آدم وحواء ، مع الأخوات المؤمنات بعنوان : ( حدثوني عنكِ ).
* وما حدثنا به عنك ليس قولاً من أطراف اللسان ولا حديث المجالس ولا تزّيد الرواة ولا اختلاق النقلة بل هو حديث مستفيض، إن لم يصدق كله صدق بعضه، والمؤمن للمؤمن كاليدين تغسل إحداهما الأخرى والمؤمنون نصحة والمنافقون غششة .
وكم مرة أتحفتكم بنصيحتي **** وقد يستفيد البغضة المتنصح
1- الهمسة الأولى لأخي محبوب أيها الصديق المراهق : الإنترنت منتج طارئ على حياتك، وهي وسيلة محايدة ووعاء قابل، يستخدم للخير فينفع ويتجاوز الحدود، ويستخدم لغيره فيضر ويدمر الجهود.
وأنت ربما بدأت بشعور طيب وطموح محمود، لكن مالي أراك تغلق الباب عن أهلك ، عن زوجتك وأطفالك وتقعد الساعات إلى الفجر متسمراً وراء جهاز الكمبيوتر مشدود الأعصاب.
ألم يخطر في بالك أن ثمت من مشى وراء خطواتك واستخرج من المهملات إدانات برسائل سخيفة ، ومحادثات جنسية واتصالات وعلاقات غرام وجلسات عبر الماسنجر وفي التشات وشبكة روابط يضل فيها الدليل الهادي ؟
إنها الخطوة الحرام التي تجر إلى ما بعدها !
خل الذنوب صغيرها **** وكبيرها ذاك التقى
واصنع كماش فوق أرض **** الشوك يحذر ما يرى
لا تحقرن صغيرة **** إن الجبال من الحصى
يقول أحد الباحثين في الصفحات الإباحية : غالباً ما تبدأ العملية بفضول بريء ثم تتطور إلى الإدمان .
ألم تعلم أن أمريكا هي أولى دول العالم في إنتاج المواد الإباحية ؟(15/1)
وأنت بتسللك لهذه ا لمواقع تقع فريسة عدوك ليس بالضرورة أن تتحول إلى عميل للسي آي إيه ، ولكنك ستقدم الكثير من مالك لجيوب المفسدين وستفقد الكثير من تفاعلك مع مشكلات إخوانك المسلمين وهمومهم، ومنها قضايا أمتك.
* إن أمريكا تصنع من السجائر بمعدل ثمان سجائر لكل إنسان يومياً وهذا كاف لإبادة الجنس البشري أو يكاد ...
فأنت بمقاطعة لمعصية الله تقاطع أيضاً موقعاً أو بضاعة جعلها عدوك فخاًَ لاصطيادك.
وها أنت ترى تكرار سماعك للأصوات الرخيمة والكلمات الغزلية يفسد ذوقك فلا تجد في حليلتك غنى ولا ترى فيها جمالاًَ ، ولا تطربك كلماتها الحانية وغزلها الصادق .
ولو أنك اطلعت منها على مثل ما يقع منك لم تتردد في طلاقها البتة، ولو وقع في بالك أنها وهي معك على الفراش تتخيل أنها في أحضان شخص آخر،ما هان عليك ذلك.
ومن الإنصاف أن تحاسب نفسك على هذا وأن تعلم أن الله مطلع عليك :" إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض لا في السماء "
يا من يرى مد البعوض جناحها **** في ظلمة الليل البهيم الأليل
ويرى مناط عروقها في نحرها **** والمخ من تلك العظام النحل
ويرى مكان الوطء من أقدامها **** في سيرها وحثيثها المستعجل
امنن علي بتوبة تمحو بها **** ما كان مني في الزمان الأول
لقد بعثتَ بصورك إلى بعض نساء القوم وربما وقعت في يد صديق فحزن، أو عدوٍ فشمت، وربما جرك الأمر إلى إركاب وخلوة ومتعة حرام .. فتذكر هذا الجسد الجميل وهذا الطرف الكحيل وهذا الشعر الفاحم وهذا الإهاب الناعم وهذا الصوت الرخيم وهذا القد القويم .. وقد لعبت به يد المثلات ، وتنوعت عليه الآفات، فهذه بنت عشرين فاجأها السرطان في المخ، وهذا شاب في غضاضة الشباب ابتلى بتليف الكبد الوبائي، وزميلك صاحب الفشل الكلوي، وجارك صريع السيارة، وابن عمك قتيل السكتة..
أتيت القبور فناديتها **** ن المعظم والمحتقر
وأين المدل بسلطانه **** وأين القوي على ما قدر(15/2)
تفانوا جميعاً فلا مخبر **** وماتوا جميعاً وأضحوا عبر
تروح وتغدو بنات الثرى **** فتمحو محاسن تلك الصور
فيا سائلي عن أناس مضوا **** أما لك فيما مضى معتبر ؟
ولقد قلت لنفسي وأنا بين المقابر ..
هل رأيت الأمن والراحة إلا في الحفائر..
فأشارت فإذا للدود عيث في المحاجر ..
انظري كيف تساوى الكل في هذا المكان ..
وتلاشى في بقايا العبد رب الصولجان ..
والتقى العاشق والقالي فما يفترقان ..
أيها القبر تكلم أخبريني يا رمام ..
هل طوى أحلامك الموت وهل مات الغرام ؟
من هو الميت من عام ومن مليون عام ؟
هؤلاء صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية وأولئك على الأثر ما بين مريض ومنتظر ..
قطع تآبين مضرجة **** مصبوغة بدم بغير يد
قطع تقول له تموت غداً **** وإذا ترق تقول بعد غد
وإلى هذا وذاك .. فقل حماك الله ووقاك أفصحيح ما بلغني عنك أنك تسهر الليل آخر أسبوعك في استراحة مع رفقة ما أعانتك على هدى ولا ردتك عن ردى، تشاهدون القنوات الفضائية وآخر ما يعنيكم هو شأن إخوانكم المسلمين في العراق وفلسطين .. أما جُل وقتكم ففي متابعة الغواني والراقصات عارضات الأجساد .. حسان الوجوه قباح الأرواح .
مما أضر بأهل العشق أنهم **** هووا وما عرفوا الدنيا وما فطنوا
تفنى عيونهم دمعاً وأنفسهم **** في إثر كل قبيح وجهه حسن
أفترى هذه الجارية تقبلك أو تنظر إليك وعندها من هو أصح منك جسماً وأنضر وجهاً وأوسع ثروة وأعرض جاهاً، وأنت لا زلت تسدد ديون السيارة وإيجار البيت .. أفلا تكفُّ وتَعفُّ .. وتعقل فإن العقل هو ما زجرك عن المعصية وحماك من المرتع الوخيم ..
وربما كان من خير وقتك ما تصرفه في مشاهدة الرياضة ومتابعة الدوري ، وهذا وإن كان أخف وألطف إلا أنه محفوف بتعصب كروي وإدمان، وإضاعة وقت ، وانشغال بال ، وضعف همة.
كم من فتاة مثل ليلي
وفتى كابن الملوّح
أنفقا الساعات في الشاطئ
تشكو وهو يشرح
كلما حدث أصغت
وإذا قالت ترنح
أحفيف الموج سرّ ضيعاه ؟(15/3)
لست أدري !
2-الهمسة الثانية في أذن أخي سعيد أيها السعيد : لقد خلقك الله من حيوان يوجد في الدفقة الواحدة منه مئات الملايين، وتنقلت من ضعف إلى ضعف وخرجت من بطن أمك بلا قشر واهن القوى عاجزاً فقيراً ليس معك لباس ولا طعام ولا شراب ولا كساء .. ثم سخر الله لك من خلقه ما سخر " والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون " .
دعني أبدأ معك الحديث من آخره ..
لقد انغمست في التجارة وحسناً فعلت نعم المال الصالح للرجل الصالح، ولقد كان أبو بكر بزازاً، وعثمان ثرياً جهز جيش العسرة، وطلحة وسعد وابن عوف من أصحاب الملايين وعبد الله بن المبارك وغيرهم كانوا ذوي سعة ويسار، ونجد اليوم في كل منطقة من التجار الموسرين الباذلين من يشار إليهم بالبنان في نجد وفي الشرقية والغربية والجنوبية ، ودول الخليج وعالم الإسلام .
وها هو الجم الغفير من إخوانك وأصحابك وزملائك قد ولجوا هذا الباب وقطعوا فيه سيراً حسناً وأثروا وانتفعوا ونفعوا ووفوا لمبادئهم والتزموا بقيمهم ولم يتغيروا على من حولهم، فقيمة الإنسان في ذاته وليست في ممتلكاته.
دعيني للغنى أسعى فإني **** رأيتُ الناسَ شرُّهُمُ الفقيرُ
وأبعدهم وأهونهم عليهِم **** وإن أمسى لهُ حسبٌ وخيرُ
ويُقصيهِ النّديُّ وتزدريهِ **** حَليلتُهُ وينهرُهُ الصغيرُ
ويلقى ذا الغِنى ولهُ جَلالٌ **** يكادُ فؤادُ صَاحبِهِ يَطيرُ
قليلٌ ذنبُهُ والذنبُ جمٌّ **** ولكِن للغنى ربٌّ غفُورُ
أما أنت، وإن كنت لا أعرف شكلك ولم أجتمع معك ولم أرك يوماً من الدهر إلا أنني أعتب عليك أن الناس وضعوا ثقتهم فيك لصلاحك فجدير بك أن ترعى هذا المعنى حق الرعاية وأن لا تخاطر بأموالهم ولا تغرر بها ، بل ترعاها حق رعايتها، وألا تعمي عليهم وجوه المتاجرة.(15/4)
ثم إني أرى لك ـ والأمر إليك ـ أن تجعل في قلبك نية صادقة يعلمها الله أن تعزل نسبة من ربحك لأعمال الخير للفقراء والمجاهدين وأبواب الدعوة والاحتساب على طريقة صاحب الحديقة ( ثلث له ولعياله ، وثلث يرده فيها، وثلث للفقراء والمساكين ).
" وما تنفقوا من خير يوفّ إليكم وأنتم لا تظلمون" .
والثالثة وأنالك فيها ـ والله ـ من الناصحين تعاهد قلبك كل حين عن شعور بالترفع عن عوام الناس وسقطهم وفقرائهم وضعفائهم فبهم ترزقون وتنصرون.. فليكن عليك أثر التواضع لعظمة الله ومجده، وأعلم أن النفس شديدة الطموح فألجمها بالمراقبة، واستنصح من حولك من المخلصين ليكونوا عوناً لك على نفسك واجعلهم سياجاً بينك وبين مقارفة الحرام.
إنني أحمد لك اتجاهك في تثمير المال ، وأثني على حسن اختيارك، فالمال عصب الحياة ، ولعلك لا زلت على ذكر لحديث قديم ( دلوني على السوق ) وأنت اليوم ترى وتدرك أن الاقتصاد من أهم أسباب القوة للأمم والشعوب والجماعات والأفراد.. فسر في طريقك مباركاً موفقاً وحاذر المزالق، ولأن تبقى لنا دون مال، خير من يأخذك المال عنا وخير منها أن تصيب الحسنين !
وما المال والأهلون إلا وديعة **** ولا بد يوماً أن ترد الودائع
وما الناس إلا عاملان فعامل **** يتبر ما يبني وآخر رافع
فمنهم سعيد آخذ بنصيبه **** ومنهم شقي بالمعيشة قانع
وما المرء إلا كالشهاب وضوئه **** يعود رماداً بعد إذ هو ساطع
وإذا دعاك أهلك أو ولدك إلى الإمساك فبادرهم وأصرخ في وجوههم :
أريني فقيراً مات عدماً لعلني **** أرى ما ترين أو غنياً مخلداً(15/5)
حرب الأمس واليوم
29/03/2003
26/1/1424
دعونا نمنح أنفسنا فرصة الفرح بالضرر الفادح الذي لحق بقوات الغزو الأمريكي للعراق ، وبالمقاومة الصلبة التي فاجأتهم حيث استقبلوا بالرصاص بدل الزهور ، دون أن نؤجل هذا الفرح طمعاً بنصر أوسع ننتظره ، وهو في علم الغيب .
أخافُ على نفسي وأرجو مفازها **** وأستار غيب الله دون العواقب
ألا من يريني غايتي قبل مذهبي **** ومن أين والغاياتُ بعد المذاهبِ؟
ودعونا نفرح مرةً أخرى بعدم تحول الشعب العراقي إلى قطيع من اللاجئين يستجدي لقمة العيش من أيادي الهيئات الدولية والخيرية ، بل ثبت وتمسك بحقه وحقله .
ليس من المستبعد أن تكون آلة الحرب الضخمة ، وحمم النار التي تصب على العراق بلا حساب قادرةً على حسم النتيجة الأولية لهذه الحرب لصالح الطرف الأقوى ، وعلى اضطرار فئات من هذا الشعب إلى الرحيل نحو المجهول .
لكن هانحن نرى الشعب الفلسطيني مثلاً يقاوم ببسالة وضراوة وصبر وإصرار بعد هذه الحقب الطويلة من الاستعمار ، مع الأخذ بالاعتبار الفارق بين استيطان يهودي مكشوف ، وسيطرة أمريكية محتملة على العراق .
إن الاندفاع الأمريكي نحو التوسع والسيطرة قوي جداً ، وليس هو استثناء من الاندفاعات الإمبراطورية التاريخية ، غير أنه مسرف في حسن ظنه بنفسه ، وإظهار براءته وسلامة أهدافه ونبل مقاصده ، وهو مسرف أيضاً في الاستخفاف بالقوى التي لا تتفق مع رؤيته للأمور .
ولعل هذا وذاك هما المسؤولان عن سؤ التقدير الذي وقعت فيه القوات الغازية التي يسمونها خداعاً وتضليلاً بـ"قوات التحالف" .(16/1)
تقفز إلى ذهني وأنا أشاهد الموقف الآية الكريمة التي نزلت بشأن غزوة بدر "وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ"[الأنفال:48] والشيطان لم يكن مريداً للتغرير بالكافرين وهزيمتهم ، ولا وقوعهم في قبضة المؤمنين ، ولكن الرغبة العمياء لا تمنح الإنسان فرصةً التأمل والنظر وحسن التقدير .
والظن أن قوى المعارضة المندفعة مع الركب الاستعماري ذات أثر في الصورة المرتسمة عن الداخل العراقي ، والتي ظنت أن الحرب نزهة صحراوية لن تتجاوز بضعة أيام ، بل يمكن تجنبها من خلال ضربات نوعية سريعة تعطي الشعب فرصةً للانتفاض والانقضاض .
إن الشعب العراقي اليوم يعيش تحت وطأة ظلم جديد ، وغزو فاجر ، يتحدث عن تحريره وحقوقه ، ويبشره بالديموقراطية القادمة عبر الصاروخ والدبابة ، ويحاول تحويله إلى أرتال من الجياع والمرضى والمصابين ليمن عليه بعد ذلك بالمساعدات الإنسانية التي تستقطع من أرصدة بلده ، بينما تذهب ثرواته وخيراته إلى جيب المعتدي !
وهذا سر من أسرار قوته ، فإن المظلوم منصور ولو بعد حين "وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا"[الإسراء:33]
وحين أذن الله تعالى بالقتال علل ذلك بقوله :" أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ"[الحج :33] الآيات .
وفي المسند أن عمر رضي الله عنه سأل رجلاً ممن أنت فقال : من عنزة فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( حي من هاهنا مبغي عليهم منصورون ) .(16/2)
ولعل هذا من أسباب اختلاف الصورة اليوم عما كانت عليه أثناء حرب الخليج الثانية ، حين احتلال العراق الكويت ، حيث كان معتدياً ظالماً ، فانكسر انكساراً سريعاً ، ولم يفلح في أي مقاومة ، بينما هو اليوم معتدى عليه في أرضه ، ومقصود بالتدمير والقضاء على قدراته الحاضرة والمستقبلية ، فهذا عزز موقفه في الدفاع والمقاومة .
ومن تأمل سير الأحداث واستقرأ سنن الله فيها رأى العجب في لطائف الحكم الربانية ، وكيف يجري الله تعالى القدر وفق علمه وحكمته وعدله ، وإن كان هذا المعنى قد يغيب عمن يشهد اللحظة الحاضرة ويندمج فيها ، فتستغرقه عن رؤية ما قبلها ، أو توقّع ما بعدها .
وكان جديراً بمن عانى مرارة الظلم أن يكون أبعد الناس عنه ، وأشدهم نفوراً منه، وأعظمهم خوفاً من عاقبته وشؤمه ، ولهذا يقال في مأثور الحكمة : (( من أعان ظالماً سلط عليه )) !
إن من الخطأ الانسياق في هذه الحرب تحت مسوغات خاصة ذاتية ، بينما أهدافها الحقيقية تتجاوز العراق ونزع أسلحته ، بل وتغيير نظامه إلى إعادة صياغة المنطقة ، ورسم خريطتها وفق رؤية أمريكية إسرائيلية .
وهذه الحرب تأسيس خطير لمبدأ التدخل المباشر في شؤون الدول ، وخوض المعارك بهدف تغيير الأنظمة ، فضلاً عما قد يتمخض عنها من انكسار حاد في النظام والوجود العربي والإسلامي .
وتمهيد للتطبيع الكامل وصفقة السلام المذلة ، وفق "خارطة الطريق" أو غيرها مما تتفتق عنه قرائح الليكوديين !
وربما كانت العراق حلقةً في سلسلة ممتدة ترمي إلى القضاء على جميع ألوان الاستقلال في الإرادة والقرار ، أو العمل والتخطيط ، أو التصنيع وامتلاك القوة في المنطقة الإسلامية كلها ، وزحزحة كل مشروع يشكل خطراً حالياً أو مستقبلياً على الوجود الغربي والتفوق الإسرائيلي في المنطقة .(16/3)
قد تتمكن الآلة المتفوقة من حسم المعركة في نهاية المطاف ، وإقامة الأنموذج الذي تنشده ليكون قدوةً لجيرانه ، ومنطلقاً لحروب أخرى تشن هنا وهناك ...
ولكن تظل السنة قائمة " وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ"[البقرة:251]
فصاحب الحق أطول نفساً وأمد صبراً ، وأقدر على التضحية والفداء ، وهو إذا مات يورث الأحفاد الوصية بمحاسبة المعتدي والانتصاف منه .
فإذا رأيت جريمة الجاني وما اجترحت يداه
فانثر على قبري وقبر أبيك شيئاً من دماه !
وما زالت ذكريات المقاومة الباسلة للاستعمار ماثلة في الأذهان ، أو ظاهرة للعيان ، في العراق والشام ومصر وبلاد المغرب وغيرها ، وما الاحتلال الجديد عنه ببعيد .
قل للفرنسيس إذا جئته **** مقالة من ناصح بر فصيح
دار ابن لقمان على حالها **** والقيد باق..والطواشي صبيح
"وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ" .(16/4)
حريق الرئاسة .. حريق الأخلاق ؟!
02/04/2002
19/1/1423
مجلة " الماريان " الأسبوعية الفرنسية نشرت مقالاً في عدد هذا الأسبوع (25-31 مارس 2002) في الصفحة السابعة عشرة يقول :
" خمس عشرة طالبة أحرقن أحياءً لأنهن لم يرتدين الحجاب !
في المملكة العربية السعودية حريق في مدرسة نجت منه المبادئ الأخلاقية فماتت الطالبات .
عندما شب حريق في مدرسة للبنات في مدينة مكة استعد رجال الإنقاذ والدفاع المدني للتدخل ، ولكن بالنسبة لممثلي الشرطة الدينية المكلفين بالمحافظة على احترام نظام الأخلاق في المملكة كان فصل الرجال عن النساء يأتي في المقام الأول ، وقبل كل شيء ، مهما كانت الظروف ، حتى لو كلف الأمر حياة الأبرياء .
وفي مواجهة ألسنة اللهب منعت هذه الشرطة المشؤومة ( الهيئة ) المتيقظة جداً حول هذا الموضوع ، منعت الطالبات من الخروج من المدرسة التي تحترق ؛ لأنهن نسين في خضم المعمعة أن يرتدين الحجاب ، مع أنه لباس إسلامي إجباري في المملكة العربية السعودية .
وبنفس التفكير منع هؤلاء الغيورون وحماة الأخلاق الحميدة أفراد الدفاع المدني من الذكور من دخول هذه المدرسة لإنقاذ الطالبات خوفاً من أن يحدث اختلاط بين الرجال والنساء .
الحصيلة : وفاة خمس عشرة طالبة ، وجرح خمسين ، وحتى يكون هناك نوع من الطمأنينة أمر الملك فهد بتكوين لجنة تحقيق وتوعد بعقاب رادع لمن تسبب بهذا الحدث " انتهى الخبر .
إن مجانبة الحقيقة في هذا الخبر لم تكن مع الأسف من الصحيفة الفرنسية التي تدخلت بخبث معهود و أضافت من خيالها الحاقد قدراً معقولاً .
إن المجانبة ـ و ياللأسف ـ تمت صياغتها في عدد من مطبوعاتنا المحلية التي لا تلتزم الموضوعية والحياد ، بل تتدخل في صميم الخبر لتعبر عن انفعالاتها الخاصة ضد شريحة من شرائح المجتمع ، وضد مؤسستين كبيرتين : رئاسة البنات ، ورئاسة الهيئات .(17/1)
ونحن نسمع كثيراً عن تحري الدقة والموضوعية ، وعن احترام الرأي الآخر ، وعن الحرص على وحدة المجتمع والحذر من تشققه وانفراط ألفته ، ولكننا نجد في مثل هذا شيئاً آخر مختلفاً عما يقال .
إن هذه المؤسسات قامت منذ عهد متقدم تحت إشراف ورعاية العلماء وضبطهم ، وهي كغيرها من أجهزة الدولة تخفق وتنجح ، لكن ليس شأنها مغايراً لأي مؤسسة أخرى مهما كان لها من الخصوصية والدعم .
وعلى رغم النظام الأخلاقي الذي نفتخر به ، ويعد إحدى خصوصيات تجربة التعليم النسائي في المملكة ، والقائم على فصل الجنسين ، وإحاطة العملية التعليمية النسائية بسور من الحفظ والصون ، إلا أن المرأة وصلت إلى أعلى الرتب العلمية في كافة حقول المعرفة ، وتدنت نسبة الأمية بشكل غير عادي .
وما نجح تعليم المرأة إلا لهذا ، فلم يكن الناس ليسلموا فلذات أكبادهم وزهرات حياتهم إلا لمن وثقوا بعلمه ودينه وتقواه.
وبقدر دهشة الكثيرين من التناول المتحيز لهذه القضية الحساسة المحزنة ، إلا أن الدهشة اتسعت حينما تسامعوا بقرار دمج الرئاسة بالوزارة ، والذي كان مفاجئاً وغير متوقع .
إن مخاوف الناس من أن يأخذ التعليم النسائي خطاً مختلفاً عما كان عليه لا تزال قائمة ، وقد جاء هذا القرار ليغذيها و ينميها ، ثم عادت بعض وسائل الإعلام المطبوعة لتتناول هذا القرار بطريقتها الخاصة ، وتنقله إلى أبعد مدى فتتحدث عن اختلاط التعليم ، وعن تغيرات جوهرية في مسألة المرأة ، بل في مسألة الضبط الأخلاقي في المجتمع كله ... فلمصلحة من يقع هذا ؟
ومما زاد من ردة الفعل أن هذا القرار جاء في توقيت صعب لا تخفى ملابساتهما دفع الكثير إلى الاستنتاج وبسهولة أن الأمر مرتبط بالأحداث العالمية الأخيرة ، وبدوامة تقديم التنازلات في حياتنا الإسلامية وأنظمتنا التعليمية ، مما أعاد الخوف والقلق القديم .(17/2)
إنهم جميعاً يتابعون تجارب التعليم وتحولات قضية المرأة في بلدانٍ مجاورة ، والتي تمت بحجة مسايرة العصر وملاحقة الركب ، وكأن هذا لا يكون إلا بترك خصائصنا وشريعتنا وأخلاقنا ، ولننظر في أي بلد إسلامي ما هي الحقوق التي ظفرت بها المرأة ؟ بل وما هي الحقوق التي ظفر بها الرجل أيضاً ؟
والذي زاد من الألم مما جرى هو منع الشريحة الواسعة من المجتمع بتحفظاتها و مسوغاتها من الإدلاء بصوتها و حرمانها من حق التعبير الرشيد ، فلم نقرأ في مطبوعاتنا المحلية إلا رأياً واحداً وصوتاً واحداً ، وكأن كلاً يمارس الاستبداد بطريقته الخاصة .
وكثيرون لم يملكوا وسيلة تسمح لهم بالتعبير عن مخاوفهم وقلقهم ، بل وتطلعاتهم واحتجاجاتهم إلا عبر ساحات الإنترنت ، أو رسائل الجوال ، أو المساهمات الفردية ، خصوصاً وهم يقفون أمام أحداث ومتغيرات لها مساس مباشر بهم وبأسرهم وبناتهم و حاضرهم ومستقبلهم .
ورغم هذا أثبت هؤلاء الشباب قدراً جيداً من التوازن و الانضباط في تنقلهم بين العلماء ، وتواصلهم مع أولي الأمر ، وظل الأمر في دائرة التحرك المقبول الذي ينم عن وعي ويقظة واتزان يظل طابعاً عاماً بحمد الله لهذا المجتمع .
إن التعبير الرشيد عن مثل هذه القناعات ضروري لحفظ المجتمع ، وتحقق القدر المعتدل لكل أفراده ليجدوا أنفسهم و تنفسهم .
و مما يحمد كثيراً أننا حين نفزع أو نخاف نخاطب أنفسنا ، ونخاطب بعضنا بعيداً عن النجوى واليأس والاستبطان .
وإن من الضروري تماماً تهدئة هذه المشاعر المتأججة ، و تطمين هذه النفوس القلقة بما يحفظها ويريحها ، وذلك بما تتطلع إليه من استدراك هذا القرار، والتحول إلى الحل الأجدى، وهو معالجة السلبيات و الأخطاء في الرئاسة، مع بقاء على استقلاليته وتميزه، وليس هذا أول قرار يتدارك لتحقيق المصلحة الأهم والأعم، وسواء تم ذلك أم لم يتم فلابد من التأكيد على مايلي:(17/3)
1-التأكيد الصارم على الاستمرارية و الديمومة في المحافظة على النظام الأخلاقي في الرئاسة و تعليم المرأة ، وتعزيز ذلك بالقرارات والتعميمات التي تمنع أن يفهم أحد من قرار الدمج رسالة خاطئة .
فالضبط الأخلاقي في التعليم ، وتعليم البنات ، بل والمجتمع هو جزء صلب من كيان هذا المجتمع ولحمته يجب ألا يسمح لأحد بالمساس به ، وإلا كان كالذي يخرق السفينة ليغرق أهلها .
2- تعزيز الضمانات القائمة بعدم حصول التخوفات المتداولة في الأوساط ، والمعبرة عن احتمالية تغيير نمط تعليم المرأة ، أو دمج التعليم ، أو التغيير في المناهج .
ومن حق الناس أن يطمئنوا على أولادهم ، على مستقبلهم .
3- الالتزام بالتقليد التاريخي القائم على خصوصية تعليم المرأة وإسناده للمشهود لهم بالدين والورع والتقوى والأمانة ، مع الخبرة والضبط الإداري .
فإن هذا أحد الأسس التي قام عليها تعليم المرأة منذ قام ، وقد كان أول المشرفين على هذا الجهاز هو سماحة المفتي العام الشيخ / محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله تعالى .
4- التفكير الجادّ في تنويع الوسائل الإعلامية التي تمكن الجميع من التعبير عن آمالهم وتطلعاتهم ومخاوفهم ، فإن من أعظم ضمانات وحدة المجتمع واستقراره أن تملك شرائحه وفئاته حق التعبير الرشيد عن وجهة نظرها بعيداً عن المصادرة والإقصاء .
نسأل الله أن يحفظ مجتمعنا و بلادنا و المسلمين من كل سوء ، وأن يجمع قلوبنا على طاعته و محبته إنه جواد كريم .(17/4)
حم لا ينصرون
15/04/2002
2/2/1423
مواجهة اليهود مع الإسلام قديمة قدم هذا الدين، فقد أجلبوا في وجه الرسالة وروجوا التهم وصنعوا النفاق وحزبوا الأحزاب وتحالفوا حتى مع الوثنية الجهلاء وهم أهل الكتاب، ونكثوا العهود والمواثيق التي أبرموها والتزموها، وليس أشد صلفاً ولا أعظم جرماً من السعي لقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم أو تعويق دعوته بالتأثيرات السحرية وغيرها.
وبهذا حق عليهم وعد الله بالإخراج والتشريد في أصقاع الأرض "هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم" حتى صاروا يعرفون بشذاذ الآفاق، فهم أقليات مشتتة تحت كل نجم منهم شريد أو طريد، وشرهم مع هذا باق بالمكر والحيلة والاستحواذ، ولهذا حقت عليهم اللعنة، وختم عليهم بالبوار.
"وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب".
حينما أعلن اليهود عن قيام ما يسمى بـ[إسرائيل] كسبوا تعاطف العالم من خلال الخدعة القائلة بأن العرب يريدون أن يلقوا بهم في البحر، وربطوا بذكاء بين ما يمكن أن يصنعه لهم العرب وبين ما صنعه لهم النازيون فيما يعرف بـ[الهولوكست].
وانتقلوا بعدها إلى دعوى جديدة مفادها أنهم شعب ديمقراطي متحضر يريد السلام والأمن في جزيرة متوحشة من العرب المتبربرين العطاش إلى الدم.
ومع فاعلية هذه الدعاوى إلا أنهم - يبدو - لم يعودوا يشعرون بكبير أهمية لها، ولذا انتخبوا حكومة الحرب وقالوا بلسان عبري ألكن "لا" للسلام "لا" للتعايش مع العرب أو الفلسطينيين.
ويكفي أن تظل أمريكا حليفةً أبديةً لهم تحتويهم تارة ويحتوونها تارات.
إن الحرب ذات أهمية للمجتمع الإسرائيلي ذي النسيج المفكك غير المتلاحم، وقد كان واضحاً أن لا نجاة لهم مع وجود سلام حقيقي، وهذا ينسجم مع الخبر القرآني الصادق عنهم "كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فساداً والله لا يحب المفسدين".(18/1)
ولذا فالحرب أو التهديد بالحرب هو الشيء الوحيد الذي يبقي على المجتمع الإسرائيلي متلاحماً في مواجهة العدو المشترك.
وفي أيام الشيوعية كانت إسرائيل تتطلع إلى دور مقاومة الزحف الشيوعي على الشرق الأوسط، نيابةً عن الأمريكان، وبتعبير أعم: إلى دور المدافع عن المصالح الغربية.
ولهذا ظن البعض (د . عبد الوهاب المسيري مثلاً) أنه مع سقوط الشيوعية وظهور تيار العولمة ربما تتقلص أهمية إسرائيل الاستراتيجية بالنسبة للغرب.
لكن يبدو أن الأمر لن يكون بالضرورة كذلك خصوصاً بعدما تعاظم الشعور الأمريكي بالخطر الإسلامي، فقد استطاعت إسرائيل أن تجعل من نفسها أداةً رئيسةً لمواجهة التهديدات الجديدة، وأهمها هذا الخطر الإسلامي والتيارات الأصولية، وما يسمى بالتطرف والإرهاب ، فحجزت لنفسها مقعداً جديداً في غاية الأهمية.
وبهذا تبدو الحرب الإسرائيلية على مناطق السلطة الفلسطينية جزءاً من الحرب الأمريكية على الإرهاب، وتصفية لقواعد المقاومة الإسلامية والوطنية في فلسطين، وربما لبنان مستقبلاً.
هذا الدور الذي لم تقم به السلطة كما يريدون، هم يريدون شرطياً يلاحق عناصر المقاومة ويقتل أو يأسر لا ليسجن أو يحاكم بل ليسلم المعتقلين إليهم.
إنهم لن يقبلوا بأقل من دور [العملاء]، أما التنازلات مهما كبرت فهي لا تكفي، لقد سقطت جنين ومخيماتها، ودفنت إسرائيل الشهداء في مقابر جماعية؛ لإخفاء جريمتها البشعة وقامت الدبابات والطيارات والجرافات بهدم منازل المخيم بيتاً بيتاً على رؤوس من تبقى من الأهالي، ونسفت الجوامع والمساجد والمستوصفات وكل المؤسسات المدنية، وقامت قوات الاحتلال بحملة إعدامات وحشية بعدما نفدت ذخيرة المقاتلين، وظلت مئات الجثث المتفرقة في الشوارع لا يسمح بنقلها، وتشتت شمل الأسر بسبب النزوح الكامل، فالآباء يبحثون عن أبنائهم والأبناء يبحثون عن آبائهم...
يا أيها اليهودْ
لا تسكروا بالنصرْ
إذا قتلتم خالداً
فسوف يأتي عمرو(18/2)
وإن سحقتم وردة
فسوف يبقى العطرْ ..
× ×
يا أيها اليهود
لن تفلتوا من يدنا
فنحن مبثوثون في الريح .. وفي الماء .. وفي النبات
ونحن معجونون بالألوان والأصوات
لن تفلتوا .. لن تفلتوا ..
فكل بيت فيه بندقية .. من ضفة النيل إلى الفراتْ
لن تستريحوا معنا ..
كل قتيل عندنا
يموت آلافاً من المراتْ
× ×
يا آل إسرائيل لا يأخذكم الغرورْ
عقارب الساعة إن توقفت .. لابد أن تدورْ
إن اغتصاب الأرض لا يخيفنا
فالريش قد يسقط من أجنحة النسورْ
والعطش الطويل لا يخيفنا
فالماء يبقى دائماً في باطن الصخورْ
من كل باب جامع .. من خلف كل منبر مكسورْ
سينهض القتلى إليكم .. حاملي أكفانهم
قد أيقظتهم نفخة في الصورْ
وثم عبرتان بالغتا الأهمية من عبر الحرب الضارية والمقاومة الباسلة:
(الأولى): إن هذه الحرب على ضراوتها لتؤكد أن إسرائيل مشروع قلق قابل للهزيمة، وأن الهالة الإعلامية التي تحاط بها أكذوبة غير بريئة ، إن انتصارات إسرائيل السابقة لا تعكس قوتها بقدر ما تعكس ضعف العرب والمسلمين.
والشبان الذين تصدوا لإسرائيل هم الجيل الذي تعرض للترويض والتهجين، وتربى على [ثقافة السلام] وظن أن أدمغتهم غسلت من مفردات الجهاد والمقاومة والتضحية والاستشهاد.
والجماهير التي خرجت في كل بلاد الإسلام متضامنة مع هذا الشعب الباسل هي التي تخرجت من مدارس صيغت مناهجها على وفق أوهام التطبيع والسلام.
لقد هزم الجزائريون فرنسا، وهزم الأفغان السوفييت، وهزم الفيتناميون أمريكا ومن الضرورة أن نضع في الاعتبار الخلل في توازن القوى، إلا أنه لكي تكتمل الصورة علينا أن نتذكر أننا نملك الكثير:
(1) نملك الاستعداد للتضحية والموت في سبيل الله، وشهادة القرآن عن عدونا "ولتجدنهم أحرص الناس على حياة".
إن بطولات الاستشهاديين شيء لم يكن للناس به عهد إلا في دنيا الأساطير.
ومادام عشاق الشهادة في الحمى **** فكل الذي شاد الطواغيت باطل(18/3)
ويرحل قتلانا وفي الحلق غصة ***** يريدون عمراً ثانياً كي يقاتلوا
سنُهدي كما أهدوا ونشوي كما شووا **** فمخزوننا من هذه النار هائل
إن شهداء الانتفاضة الثانية حتى الآن يزيدون على (1500) بينما الجرحى يزيدون على (36000) غالبهم دون سن العشرين.
(2) ونملك الإيمان بعدالة قضيتنا، فقد أخرجنا من ديارنا وأموالنا بغير حق، وحوربنا في رزقنا وأهلنا وولدنا.
(3) ونملك سحب اليد من أي علاقة مع إسرائيل، وهاهي وزيرة خارجية السويد تطالب بإصرار بقطع علاقات بلادها مع إسرائيل ... بينما دول عربية لا زالت تحتفظ بهذه العلاقة.
(4) ونملك تفعيل المقاطعة الاقتصادية رسمياً وشعبياً ضد إسرائيل وحلفائها، وقد خسرت الشركات الأمريكية ملايين الدولارات بسبب المقاطعة، وتعرض بعضها للإفلاس.
ومن الحكمة أن لا نمنحهم طمأنينة فيما يتعلق بالنفط فإن مجرد (التلويح) سيكون له أثره الفعال، دعك من الإقدام عليه.
(5) ونملك تفتير العلاقات مع أمريكا، والبحث الجاد عن بدائل أخرى في التحالف المناوئ للغرب كالصين وبعض دول الاتحاد السوفييتي.
(6) ونملك المال الذي نشد به أزر الشعب الصابر، ونمكن به المقاومة من الحصول على السلاح، فضلاً عن لقمة العيش، وجرعة الدواء وقطعة الكساء والكتاب المدرسي.
إن حملات التبرع التي تنظم في عدد من الدول الخليجية لهي بادرة طيبة، وسوف تكبر وتنمو كلما اطمأن الناس إلى وصول هذه الأموال لأهلها الجديرين بها.
إن المال سلاح فعال في هذه المعركة، وإسرائيل تجني سنوياً مليارات الدولارات من اليهود المتعاطفين معها في العالم، فضلاً عن الدعم الحكومي الأمريكي... والتعويضات وغيرها.
فلماذا يظل أثرياء المسلمين محجمين؟
والله تعالى جعل الجهاد بالمال قرين الجهاد بالنفس، بل مقدماً عليه "وجاهدوا في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم".(18/4)
نعم نحن ندرك العين الأمريكية المتلصصة على التبرع، والمتسرعة إلى التهم بدعم الإرهاب ... ولهذا نقول لكل خائف: فليدعم الأعمال الخيرية، وليساهم في رفع المعاناة عن المضطرين من أبناء هذا الشعب ... وما أكثرهم!
إن الشعب الفلسطيني يقاتل بالنيابة عن المسلمين جميعاً وإذا كان هذا الشعب ضحى بحياة أبنائه وبذل من روحه وقوداً لهذا الجهاد، فيجب على بقية الشعوب المسلمة أن تنصره بالمال أداءً لفرض فرضه الله علينا، ليس تبرعاً أو تطوعاً، وإذا كان قصارى ما تتمناه في لحظة اندفاعك أن تكون مع المقاتلين في الميدان فيكفي أن تدفع ديتك، وتبقى حيث أنت تجاهد في محاور أخرى.
(7) ونملك التعبير عن الرفض والاحتجاج بكل الوسائل المشروعة، بالكلمة، بالخطبة، بالدرس، بالقصة، بالقصيدة، بالبرنامج...
هناك من يقدرون على إقامة الأمسيات والمهرجانات التضامنية، وهناك من يستطيعون أن يوصلوا صوتهم إلى العالم عبر وسائل الإعلام أو الفضائيات أو الإنترنت.
وهناك من يعملون المسيرات الاحتجاجية ... والكثير يتساءلون عن حكمها.
وهي عندي من المسكوت عنه في الشريعة، والمسكوت عنه من العادات والمعاملات هو في دائرة العفو كما قرره جماعة أهل العلم، فهي إذاً من المباحات، والذين يقومون بهذا العمل لغرض صحيح دون إفساد ولا أذية ولا تجاوز لما حرمته الشريعة هم موفقون راشدون.
لكن هذه المسيرات تظل وسيلة لا غاية.
فإذا كانت الأنظمة في بلد ما (كهذا البلد) تمنع استخدامها بحكم عدم الاعتياد، أو لاعتبارات أمنية أو تاريخية ...فلا ضرورة إذاً للوقوف عندها وثمت وسائل أخرى تقوم مقامها.(18/5)
(8) نملك سلاح الوحدة وتجاوز خلافاتنا وأنانياتنا أما الخلاف الشرعي الذي لا يقبل التجاوز فنملك أن نتفق على المنهج الشرعي في التعامل معه، نملك أن نتفق على مجملات الشريعة وقواعدها وعصمها الكبار لنتحرك في الأزمات باعتبارنا أمةً واحدة، بدلاً من أن تكون سهامنا مصوبةً إلى نحورنا، وجهودنا مثل جوادِّ الغنم يطأ بعضها بعضاً!
(9) ونملك الدعاء الصادق الذي يقرع أبواب السموات لا يحجزه بغي ولا ظلم في هدأت الأسحار، وخشعات السجود، ولحظات الرقة، وساعات الاستجابة، في قنوت فردي أو جماعي، في نفل أو فرض.
(10) ونملك مليار ونصف المليار من المتعاطفين الذين يحتاجون إلى شحذ الهمة وتقوية العزيمة، وتهيئة المضمار، وتيسير الأسباب، ولو أن يشاركوا بالعاطفة الحية، والوعي الرشيد، والكلمة المساندة، والإعداد للمستقبل، فالمشوار طويل.
(الثانية): إن المعركة مع اليهود وحلفائها ممتدةٌ زماناً ومكاناً وميداناً، ممتدة إلى الوعد الآخر (يا مسلم ... يا عبد الله ...) وهي ممتدة جغرافياً إلى كل منطقة خطر يظنون أن سيأتيهم منها تهديد يوماً من الدهر ... سوريا، إيران، العراق، اليمن، ...الخ
وهي ممتدة ميداناً في محاور متداخلة من السياسة إلى الاقتصاد إلى الإعلام إلى السياحة إلى الأمن ...
إن منطقة الخليج بنفطها وخيراتها وثرواتها وموقعها الاستراتيجي حجر أساس في المعادلة المطروحة إسرائيلياً وأمريكياً، والحلم اليهودي بالجمع بين رأس المال الخليجي والعقل الإسرائيلي، الذي يروجون له كخيار وحيد يكفل أمن المنطقة واستقرارها... لا يزال مطروحاً لديهم بقوة.
وفي هذا الإطار يأتي القضاء على القوى الإقليمية (كالعراق وإيران ) ويبدو أن هذا خطر لا يمكن تناسيه، وربما لا يكون بعيداً والله أعلم، إن صدقت ظنوني.(18/6)
إن دوائر الحرب على الإرهاب - زعموا - تتسع، فسوريا في مرمى التهديد، ولبنان على حافة الحريق، وقد صرح وزير الخارجية الأمريكي بأن السعودية تدعم الإرهاب، وهو يرمي إلى دعم الفلسطينيين.
هم يريدون سلاماً يفصلونه وفق مقاسهم، يسمح بتصفية من يعكر عليهم، ويمنحهم فرصة التنعم بخيرات المنطقة وثرواتها، والمشاركة في مشاريعها وخططها وصناعة عقلها وثقافتها.
يعتقد العدو أن ليس لدينا أوراق جادة نستطيع أن نحركها، ولهذا فلا معنى أن نطرح نحن السلام كخيار استراتيجي وحيد.
لماذا نحن متهالكون على السلام ؟ " إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله مالا يرجون " المعركة طويلة وعلينا أن نعيد ترتيب أوراقنا وأن نعمل بجد وبنفس الطويل ونتلافى المعارك الخاصة، المعارك الذاتية.
كل المخلصين لأمتهم ولمستقبلهم يجب أن يشاركوا في التفكير الواعي الذي نعيد به صياغة حياتنا وفق المتغيرات والمخاطر القائمة.
لعلي انتهيت ولم أبدأ بعد ... فإلى حديث آخر.(18/7)
خطَّاب حيٌّ يُرزق !!
11/05/2002
28/2/1423
نعم !! بإذن القائل في تنزيله :( " وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) .
لقد ذهب (( سامر بن صالح السويلم )) يتطلب الشهادة مظانّها فوقف إلى جانب جهاد إخوانه المسلمين في أفغانستان ، ثم رحل إلى الشيشان ، مُوحّد الهم ، ولا يشغله سوى هم الجهاد في سبيل الله ، ونصرة قضايا المسلمين في كل مكان .
وكأنما دخلت المصيبة بفقده كلَّ بيت ، فهو تعبير شفاف صادق عن تعاطف المسلمين مع إخوانهم ، وجهادهم ضد العدو المحتل ، وسعيهم في تحرير أرضهم من الغاصبين .
ومن يصدق أن هذا الاسم الهائل الذي أقض مضاجع الروس ، حتى كان موته آثر لديهم من إبادة شعب بأكمله.... إنه في الثلاثين من عمره ، أو بعدها بقليل ، قضى منها أربعةَ عشرَ عاماً في جهاد متواصل لا ينقطع لقد كان (( الخطاب )) كما أحب أن يُسمّى ، مألَفَة للقلوب، محضناً للتربية الرشيدة على الهدف السامي ، قانعاً من دنياه باليسير ، معرضاً عن القيل والقال ، والمراء والجدال ، سلم منه المؤمنون وتعنّى منه الكافرون المعتدون .
ولم تكن دهشتي شديدة حين سمعت من إخوانه وصاياه الناضجة التي تركها من بعده لمن يواصلون الطريق، والتي هي :-
(1) الذي لا تكسبه صديقاً لا تكسبه عدواً.
(2) عدم التدخل في القضايا الداخلية للناس إلا بالإصلاح .
(3) القتال دائماً مع الكفر البَواح ( يريد : القتال ضد الكفر البَواح ) .
(4) لا تُقم الجهاد في مكان إلا إذا تبنّاه أهله.
(5) استشارة العلماء الأفاضل ، وأهل الحكمة والخبرة بشكل دائم ، والابتعاد عن الاجتهاد الشخصي قبل أي عمل .
(6) اقرأ عدوَّك ، ولا تستهن به ، واختبر رد فعله أولاً .
(7) استخدم عنصر المفاجأة ، واستغل نقاط ضعف عدوك .
(8) استعن بأهل الكفاءة ، ثم الأصدقاء ، بعد الإعداد المتقن .(19/1)
(9) الابتعاد عن التحزب ونبذ الفرقة ، واتباع السنة ، والبعد عن الترف ، والعمل لنصرة هذا الدين .
لقد كانت حياته – رحمه الله وتقبله في المهديين – ترجمة أمينة لهذه الكلمات الموصية ؛ ولهذا عظم المصاب به على الإخوة المجاهدين ، بل على عموم المسلمين ، ونسأل الله أن يحسن فيهم الخلافة ، ويعوضهم خيراً .
لقد رحل سامر وترك زوجته الداغستانية ، وطفلته سارة ( 5 سنوات )، وصالحاً ( 3 سنوات ) وساجدة ( سنة ونصف ) دون أن يترك لهم شيئاً من متاع الدنيا الرخيص ، وترك والدته المتصبرة التي تحس باللوعة وحرارة الفقد ، ولكنها تدفع ذلك بقوة الإيمان واليقين ، فتعزّي زوارها بدل أن يعزوها ، وتدعو أبناءها إلى أن يقتدوا بأخيهم ويقتفوا سيرته ونهجه.
نعم !! رحل وترك لهم الذكرى الطيبة التي يحملها كل مسلم متابع لجهاد إخوانه في الشيشان ، والذي أصبح الخطاب رمزاً من رموزه وعلماً من أعلامه ، ولسان حاله يقول :
باللهِ يَا صِبيتي لا تهلكوا جزعاً **** على أبيِكم .. طريقُ الموتِ أقدارُ
تركتُكم في حمى الرحمنِ يكلؤكُم **** من يحْمِهِ اللهُ لا توبقْه أوزارُ
وأنتمُ يا أُهيلَ الحيِّ! صِبيتُكُم **** أمانةٌ عندكم .. هلْ يهمل الجارُ؟!
إني أحسب الرجل - والله حسيبه – طاهرَ القلب ، صادق النية ، نقي السيرة ، طاهر السريرة ، كان رحمة للمؤمنين ، وعذاباً على أعداء الدين ، فاللهم ارفع درجته في المهديين، واخلفه في عقبه في الغابرين، واغفر لنا وله ولجميع المسلمين ، اللهم افسح له قبره ونور له فيه.
وهذه كلمات للأخ الأستاذ تركي اليحيى ترسم صادق الشعور تجاه الراحل العظيم :
ملأ الجبَانُ مِنَ السُّمومِ خِطَابَا **** فَدَعَا الِخطَابُ إِلَى العُلا خَطّابَا
يَا مَنْ عَشِقْتَ الخُلدَ تَخْطُبُ حُورَهَا **** للهِ دَرُّكَ عَاشِقاً خَطَّابَا!
مَنْ لِي بعشقٍ مثل عشقِكَ يبتغي **** حورَ الجنانِ كواعباً أترابَا!(19/2)
ناداك من ملأ السماءِ ملائكٌ **** مَا ضلَّ سَعيُكَ يا فتى أو خابَا
كم خضتَ أهوالَ الوغى من أجلها! **** وظللتَ تَقْرعُ للرّدى أبوابَا
تغشي الكريهةَ بل تحبُّ لِقَاءَهَا **** وتُغِيرُ لا وَجِلاً وَلا هَيَّابَا
ما زلت في الشيشان طوداً شامخاً **** ليثاً هصوراً فارساً وثَّابَا
كم ذا سفكتَ من ا لدماءِ دم العِدا **** رأت الجبالُ فكبَّرت إعجابَا
ورحلتَ لم يُر من دمائِكَ قَطرة **** هل كان موتُك للعدى إغضابا !!
أكرِمْ بغلظةِ فاتكٍ يَفْري العدا!! **** ما ذمَّ يوماً مسلماً أو عابَا
يكفيكَ أن تلقى الإلهَ مُسَلَّمَاً **** ما كنتَ يوماً فاحشاً سبابا
أفعالُكَ الغرّاءُ مَفْخَرَةٌ إذا **** كانت مفاخرُ قومنا ألقابَا
ستظلُّ يا خطابُ! رمزاً للعُلا **** وتظل بدراً ساطعاً أحقابَا
ولئن قُتلتَ ففي العرينِ بقيةٌ **** ما زال شيمةُ أمتي الإنجابَا
وَلدتْ بموتِكَ ألفَ ألفِ غَضَنْفَرٍ **** يتلون فينا الفتحَ والأحزابَا
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وسلم .(19/3)
دعوة للجهاد العام !
31/10/2001
15/8/1423
يتحدث الكثيرون ويسألون عن الجهاد وحكم الجهاد ، وهم يستبطنون السؤال عن حالة خاصة من أحواله ، ووضع محدد من أوضاعه ، وهذا يُحدث إشكالية واضحة بين الجهاد باعتباره لغة شرعية لها مدلولها ومضمونها وشمولها وتنوعها ، وبين تنزيل هذه اللغة على حال معين .
وبتبسيط المسألة وتقريبها يتلخص أن للجهاد معنيين :
معنى عام : وهو بذل الجهد في إقامة دين الله والدعوة إليه وبسط سلطانه في الأرض وإصلاح أحوال الناس الدنيوية ، بما يتطلبه ذلك من أنواع العلوم والمعارف والأعمال والوسائل ، وهذا لا شك واجب يتعين على الأمة في مجموعها ، ويجب على كل فردٍ منها ما يناسبه ، من علمٍ شرعي ، أو دنيوي ، أو جهاد بدني ... الخ .
والمعنى الخاص : والمقصود به قتال الكفار ومَنْ في حكمهم ، وهذا واجب على أهل البلاد التي سيطر عليها الكفار أو احتلوها ، ويجب على بقية المسلمين مؤازرتهم ونصرتهم بما يمكن من الدعم المادي والمعنوي .
أما القول بتعيين الجهاد البدني - بمعنى القتال- وهو المعنى الخاص ، وإيجابه على كل أفراد الأمة كافة في بلد معين ، وفي زمن معين ، وهو الزمان القائم فهو مستبعد ولا وجه له .
اللهم إلا أن يقال جدلاً بأن لدينا عدداً كبيراً من فروض الأعيان المتزاحمة والتي لا يمكن القيام بها كلها جملة فآل الأمر إلى المفاضلة والاختيار .
إن كل أحد يقطع بأن الدعوة لم تبلغ مداها ، ولم تتحقق بها الكفاية منذ قرون ، والأمر -الآن- أشد ما يكون حاجة إلى دعوة الأمة بكل فئاتها إلى تصحيح علمها وعملها وعقائدها وعباداتها وسائر شؤونها ، بل لا يزال الكثير من الناس على الكفر والشرك ونسبة هؤلاء تزيد على 80% من البشرية ما بين يهود ونصارى ووثنيين وبوذيين وسيخ وهندوس وبراهمة و .... و..... الخ .(20/1)
وكل أحد يقطع بأن العلم الشرعي لم ينتشر بين الناس كما يجب ، بل الكثيرون منهم يجهلون حتى ما يجب على المسلم أن يعرفه عيناً من دينه .
وكل أحد يقطع بأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لم تقم به الأمة المنصوصة في القرآن " ولتكن منكم أمة .. " ، والأمر أبعد ما يكون !
وكل أحد يقطع بأن المسلمين يعانون نقصاً حاداً في الكفاءات والخبرات التي لا بد منها لدينهم ولدنياهم ، كالاقتصاد ، والإعلام ، والإدارة ، والطب ، وعلوم الأرض والبحار والفضاء وغيرها مما لا يأتي عليه الحصر .
وكل ما سبق فروض كفايات تحولت بالنقص الحادث في تحقيقها إلى فروض أعيان .. وبهذا غدونا أمام قائمة طويلة من فروض الأعيان لا تصلح معها الانتقائية المزاجية ، و لا اختيار الأسهل الذي نظن أنه لا يكلفنا أكثر من أرواحنا !
وما أسهل بذل الروح عند المؤمنين !
لكن .. ما أكثر المتذمرين المترددين حين تطالبهم بعمل طويل يستغرق السنوات ليتوفر على علم أو تخصص أو إبداع أو تفوق! والغالب ليس لديهم وقت لذلك ، وهم يظنون أن كل آلام المسلمين ومصائبهم وإخفاقاتهم تنتهي بوجود دولة ما تعلن أنها إسلامية .
وليس من شك أن تحكيم الشريعة وتطبيقها من أهم وأعظم المطالب التي يسعى لها المسلمون ، وعلماؤهم ودُعاتهم ومجاهدوهم على وجه الخصوص .
بيْد أن التراجع العام في مستوى الأمة لا ينتظمه جانب معين ، ولا يتلخص في وطن دون آخر ، ولا يصلحه إلاحركة إصلاح عامة تستهدف تدارك التفكير والعلم والعمل في شرائح الأمة كلها ، وهذا يتطلب مشروعاً متكاملاً لبناء دين الأمة ودنياها ، وأول مراحل هذا المشروع هو تصوره تصوراً صحيحاً ، إذ إن فاقد الشيء لا يعطيه .
وقد طرحت مشاريع عديدة للأمة وأخفقت؛ لأنها لا تعتمد اعتماداً جوهرياً على الطرح الإسلامي المدروس ، ولأن الأمة المستهدفة بالتغيير في غيابةٍ عن وعيها ومسؤوليتها ، وليست مواكبة لهذه المشاريع ولا متفاعلة معها .(20/2)
واليوم أصبْحت تجد من الغيورين المتحمسين مَنْ لو قلت له : خض هذا البحر لما تردد ولا تلجلج لأن دافع الحماسة قد بلغ منتهاه !
لكنك حين تقول له : واصل دراستك وكن متفوقاً ، وخطط لسنوات قادمة لتكون شيئاً مذكوراً في حياة الأمة ومستقبلها لرجع خائباً مكسور الجناح مُحْبطاً ، إذ إنه لا معنى عنده أن نرتب أحوالنا لبضع سنوات بينما الأطفال يقتلون، والنساء ترمل، والأعراض تُنْتَهك، والدماء تسفك، والجراح تسيل، وأنات المقهورين والموجوعين تصك الآذان !
إن بعض الاندفاع قد يضاعف المعاناة بدلاً من حلها .
وهاهنا يبرز معنى "الجهاد" الذي هو بذل أقصى الوسع وغايته واستفراغ الطاقة في تحصيل المراد .
وقد يكون في بعض النفوس ميل إلى الجهاد البدني لأنه يحقق النِّكاية السريعة والانتقام بينما تعزف عن الجهاد الذي قد لاترى ثمرته إلابعد حين أو لاتراها أبداً، وقد طلب قوم الإذن لهم بالقتال فأمروا بكف اليد ، فلما كتب عليهم القتال عَصَوْا وصاروا يخشَوْن الناس كخشية الله أو أشد خشية "وقالوا : ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب" !
والغفلة عن المستقبل ستجعلنا مشغولين أبداً بإطفاء الحرائق هنا وهناك عن العمل الجاد الذي يخفف المعاناة عن أجيالنا اللاحقة .
وليس من تعارض بين هذا الهم المستقبلي الضروري وبين جهود مدروسة للتعاطي مع قضايا المسلمين الساخنة كقضية فلسطين والشيشان وكشمير وغيرها .. ومع ما يجِدّ من قضايا ورزايا ، فالمعاناة تتجدّد ، والضرورة تقتضي ألا ندع الجرح المفتوح -الآن- دون علاج .
لكن الفكرة التي يجب التركيز عليها أن علاج الجرح المفتوح على أهميته يجب ألا ينسينا التفكير في مستقبل أجيالنا ..التي سوف تتساءل: هل خلفنا لها شيئاً آخر غير الجراح ؟!(20/3)
ربما يكون التفكير الأنسب في الظروف القاسية التي تعانيها الأمة ، والتي صارت واقعاً عملياً منذ عشرات السنين كما يعرفه من قرأ التاريخ الحديث واطلع على مآسي المسلمين فيه - أن يفكر الفرد الواحد في الموقع الذي يفرغ فيه طاقته ، ويؤدي من خلاله دوره وبتحديده يبدأ المسير إليه ، بخطاً ثابتة ، فيكون قد رسم الهدف وحدد الطريق وبدأ السعي .. وهذا يصل وفق السنة الربانية ، ومن ثم تتزايد الأعداد الإيجابية التي تمارس دورها بشكل صحيح ، بدلاً من أن تكون هذه الأعداد تتساءل فقط عن دورها ثم لا تعمل شيئاً بعد .
ولا يلزم أن يكون تفكير الفرد الواحد -دائماً- هو أن يرفع المعاناة عن الأمة كلها ، فالواحد القادر على رفع المعاناة كلها هو الله عز وجل .
أما البشر فيكفي أن يستفرغ المرء جهده وطاقته ولا يدخر منها شيئاً ، ثم لا يضيره أن تتحقق النتائج على يد غيره بعد ما يكون أسس وبدأ البناء .
إن رَفْع المعاناة أو تحقيقها يتطلب عدداً كبيراً من الواعين المخلصين المضحين وفي جميع الميادين ، وهذا ما يجب السَّعْي فيه ، ولأن ينجح فرد في إعداد مجموعة من شباب الأمة إعدادً علمياً وعقلياً وخلقياً وجسدياً أحب وأنفع من أن يلقي بنفسه في أُتون نار تلظى ، ولو كان سيذهب شهيداً. فنحن نطالع مصلحة الأمة في دينها ودنياها ، وليس مصلحته الشخصية وحدها .
وقد يحدث ويقع أن يكون لفرد أو جماعة من البلاء وحسن الأثر والوقع في الجهاد القتالي المباشر ما ليس لغيرهم إما لخبرة أو شجاعة أو حسن تنظيم أو بعد نظر أو صلاح نية ..
وفي مثل هذه الحال قد يكون هؤلاء أولى من غيرهم بالعناية بتوجيه المعركة في المناطق الساخنة من بلاد المسلمين كفلسطين والشيشان ، وهذه من المواقف البطولية التي تستحق الإشادة المتكررة؛ لأنها تعبير عن وجود الأمة وحيويتها وإحياء لقضاياها ، ولو لم يكن من آثارها إلا هذا الالتفاف المبهج لكفى ووفى .(20/4)
لكن يجب أن يكون هذا بمعزل عن افتعال معارك في بلاد المسلمين ومجتمعاتهم تسيل فيها الدماء وتزهق فيها الأرواح ويضطرب الأمن ويشيع الخوف ويفقد الناس قدرة الحفاظ على ضرورياتهم من الدين والنفس والعرض والعقل والمال ، وهي التي جاءت الرسالة السماوية لحفظها وصيانتها ..
فكيف تهدر باسم جهاد موهوم يُفْتَأَتُ فيه على جماعة المسلمين وعامتهم ؟
إن النجاح يكمن في أن يستخدم المرء عقله قبل يده ، وقد قيل :
رام نفعاً فضرَّ مِنْ غيرِ قصْدٍ **** ومن البرّ مايكونُ عُقوقا !
وأصحاب المنهج الإسلامي بحاجة إلى أن يَطْمَئِنّوا إلى النجاحات والإنجازات التي حققوها لدعوتهم ومجتمعاتهم ، وأن يؤسسوا عليها ، ويشيدوا البناء . وهم في الوقت ذاته بحاجة إلى أن يُطَمْئِنوا غيرهم من الناس إلى سلامة منهجهم ووضوحه وأنه لا يقوم على تدمير المكتسبات ولا يتقاطع مع مصالح الناس وحاجاتهم .
وهذه الروح السّارية في أجسادنا نعمة رائعة من عطايا الربّ الكبير المتفضل لايحسن أن يتبرم المرء بها ، ويلقي بها في أي محرقة دون أن يفكر في النتيجة الحاصلة .
ولأنها نعمة بهذه العظمة ، فقد وصف الله الشهداء في سبيله الذين أَفَنْوا حياتهم في طاعته ومرضاته وإعزاز دينه بالحياة فقال :" ولاتحسبَنَّ الذين قُتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياءٌ عند ربهم يرزقون ".
والله من وراء القصد .
وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .(20/5)
دوائر الإصلاح
02/02/2002
19/11/1423
( كتب هذا المقال في 4/4/1422هـ، قبل أحداث الحادي عشر من سبتمبر)
سألني أحد الشباب عن منطقة الحركة ومنطقة السكون التي يجب أن تحكم اهتماماتنا، وتحدد أولوياتنا، وعن موقعي من ذلك، ويصر السائل الكريم على رؤيتي الشخصية.
وفي اعتقادي أن ثمة عوامل تسهم في تشكيل اهتماماتنا وترتيب أولوياتنا سواء كنا أفراداً أو جماعات، أو حتى دولاً وأمما.
ومن أهم هذه العوامل الماثلة في الوقت الحاضر:
أ ـ حجم المتغيرات الدولية، والمتغيرات الإقليمية والمحلية الناجمة عنها، والتحديات التي تفرزها على كافة الصعد.
ب ـ مدى النضج في التجربة العلمية والعملية واكتمالها.
ج ـ مدى الشعور بالمسؤولية ـ عمقاً واتساعاً ـ تجاه ما تقوله أو تعمله وتأثيره ومداه، وطريقة تلقيه.
د ـ قدر المصداقية مع الله، ومع النفس، ومع الناس، والقدرة على التجريد والشفافية، ولو إلى حد ما.
وكل هذه العوامل تؤثر في أي تصور أو تعديل أو تصحيح يقوم به فرد أو جماعة أو مؤسسة أو دولة.
وصاحبك الذي تصرُّ على مطالعة شيء من تجربته الشخصية الصغيرة، قد جاوز الآن سن الأشد، بل جاوز الخامسة والأربعين من عمره، قضى جل هذه السنين بحمد الله في جو علمي تربوي، وتربى منذ أن كان في الثالثة عشرة من عمره في أحضان مجموعة دعوية كان لها الفضل بعد الله في الأخذ بيده،وهذا أورثه الاهتمام بالعلم والدعوة ومناقشة أوضاع الأمة المسلمة في كل مكان.
ثم آثر منذ فترة مبكرة أيضاً أن ينتقل من هذا الجو إلى جو الصحوة العام، ويتعايش مع الناس دون حواجز أو انتماءات خاصة، فعايش جيل الصحوة، وأثر وتأثر ما يزيد على عقد من الزمان، تخلله حربان إقليميتان كبيرتان هما حرب الخليج الأولى ثم الثانية، بكل تداعياتها وظروفها.(21/1)
ثم آثر أن يتعايش مع محيط الأمة الأوسع، وأن يتعامل مع قضاياها وآلامها وآمالها، وأن يتلمس أدواءها، وأن يشارك الساعين في تحقيق وحدتها وانسجامها، والعاملين على إيجاد البدائل الصالحة لانحرافاتها وأخطائها، الحريصين على رفع حالة اليأس والإحباط والقنوط لدى شرائحها وفئاتها، بل وشبابها ودعاتها، وذلك بعدم الوقوف عند حد النقد المجرد ... إنما تخطيه إلى تشجيع المبادرات الإيجابية ودعمها وتنشيطها سواء كانت عملاً اجتماعياً، أو جهداً إعلامياً، أو مؤسسة تعليمية، أو جمعية خيرية، أو داراً اقتصادية، أو مبادرة سياسية ... أو ما شاء الله.
إن الهزيمة النفسية الناتجة عن جلد الذات المجرد، أو عن الرؤية السوداوية لا تنتج عملاً مثمراً للأمة، بل تمكن للمنكر من الرواج والاستقرار دون عناء.
ولابدّ من تفهم فرص التغيير الممكنة في ظل حالة دولية تضع هامشاً ضيقاً للرفض المحض، وهامشاً أوسع للمشاركة والتصحيح.
وهكذا يتعين استثمار المؤسسات القائمة للإصلاح والدعوة والتواصل مع جمهور الأمة الذي له الحق الكثير علينا.
كما يتعين أن نشعر بالانتماء لهذه الأمة بشموليتها واتساعها، وأن تكون أرضها الواسعة الممتدة، وإنسانها المتنوع ميدان حركتنا وتصحيحنا، يستوي في ذلك ملامسة المعاناة المريرة في مناطق الالتهاب كفلسطين والشيشان وكشمير وغيرها، أو التجاوب مع طموحات مثقفيها وعلمائها ودعاتها للنهوض بعلومها وعقولها، أو تحقيق القدر الضروري من العلم الشرعي الذي يثمر صفاء العقيدة وصلاح العمل واستقامة السلوك، أو الدأب في توفير متطلبات العيش الكريم، فإن المشغول بضرورياته المادية معذور، وغير قادر على حمل الهم الكبير.(21/2)
وهذا الانشغال بالأمة يحدث انصهاراً وتوافقاً مع همومها ومشكلاتها وتطلعاتها، ويمنع من الانخزال والاعتزال عنها ، الذي يؤدي بدوره إلى رشقها بالكفر تارةً وبالضلالة تارةً أخرى ، وهذا يؤدي بدوره إلى تصويب أسلحتنا إلى نحرها بحجة جهاد موهوم.
فنحن إذاً نقدم خيار الدعوة على خيار الجهاد، وإن كان الجهاد القائم على مدافعة العدو الخارجي في صلب همومنا، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يوصي قادة الفتح بدعوة الناس قبل قتالهم.
ومن و جهة النظر الخاصة، فإن الدوائر الثلاث الآنفة الذكر ـ دائرة المجموعة التربوية الخاصة، ثم دائرة الصحوة الواسعة، ثم دائرة الأمة بشموليتها وسعتها وتنوعها ـ هي دوائر تتكامل ولا تتقاطع وتتعاضد ولا تتعاند، أو هكذا يجب.
ولابد من وعي منضبط يمكن به معالجة الأخطاء والمعايب الراسخة والمتجددة وإعلان النكير عليها دون أن يفضي بنا الأمر إلى نبذ وحدة الأمة وضرورة جمع شملها في مواجهة التحديات التي لا قبل للأفراد المتفرقين أو المجموعات المتناحرة بمواجهتها ، ولا أقل من برامج مشتركة على مستوى الأمة.
وإن الإحساس بالموقع، وبالمرحلة التاريخية، وتنوع التحديات الدولية والمحلية تملي علينا قائمة متجددة من الإلحاح والعناية بالقضايا والموضوعات والمحاور والبرامج، لا يفترض أن تكون متطابقة في كل وقت، بل يتم تحديثها ومراجعتها كلما دعت الحاجة.
ومن الضرورة بمكان أن تكون آلية المعالجة ولغة الخطاب منسجمة مع الموضوع المطروح، ومع الشريحة المستهدفة.
فإن الخطيب ـ مثلا ً ـ يختار الموضوع الملائم للحال والمقام، ثم يختار الزاوية التي سيطرقه من خلالها، ثم يختار الأسلوب المناسب، فمن مسألة علمية هادئة، إلى وعظ مؤثر، إلى تحذير مندفع، إلى مزيج من هذا وذاك.(21/3)
ولا يفترض أن يكرر الخطيب نفسه إن كان مبدعاً متجدداً، بل يعمد إلى التنويع المحبب، الذي هو قاعدة كونية وسنة شرعية، والمؤكد أن نوع الاهتمام الذي يمنحه الإنسان لقضية قد يزيد وينقص، ويؤثر هذا في معالجته للقضية سلباً وإيجاباً.
وكلما تعددت الموضوعات وتنوعت توزع الاهتمام بينها، والطاقة تظل محدودة.
وقد يحملنا الخوف على الإحجام عن اكتساب طرق، أو وسائل جديدة للدعوة والخوف دافع فطري غريزي، لكنه لابد أن يمزج بغيره ويرشد حتى يعتدل وينضبط .
ولو قيل لفرد من جيل سابق عن السيارة وتوسع استخدامها كما يقع وحجم ضحاياها ومخاطرها الآن، أو عن الكهرباء التي دخلت كل غرفة وزاوية على خطورتها القاتلة ... لما تردد في رفضها ومجانبتها، وربما التمس سبيلاً شرعياً لتحريمها وبالذات أنه لم يدرك الثمرات الإيجابية التي لا مست الواقع حتى غدت في حكم الضرورات التي لا مخلص منها ولا غنى عنها، وقديما قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله : يجدُّ للناس من الأقضية بقدر ما يجدُّ لهم من الفجور .
وإذا كان الاجتهاد الصحيح المنضبط الذي لم يتردد فيجمد، ولم يندفع فينفلت هو من أهم الثوابت الشرعية، فهو أيضاً أساس المتغيرات.
ولقد كانت حرب الخليج الثانية دقاً لطبول مرحلةٍ جديدة الملامح والسمات والآليات سموها النظام العالمي الجديد، القائم على أنقاض الحرب الباردة، وكان من الواضح لكل ذي عينين أن هذا النظام الجديد سيوفر شيئاً من الحريات المتنوعة ويدعو إلى حقوق الإنسان، إلى حقوق المرأة، إلى عولمة الاقتصاد، وأنماط السلوك.
وكان جديراً أن يتحقق شيء من المبادأة الإسلامية التي تكسر الروتين المعتاد بالتفوق العلماني الذي يقدم نفسه، وكأنه نصير حرية التعبير، وحرية الفكر وحرية الإبداع.(21/4)
وإن مشاركة أولياء الإسلام وتسارعهم في عرض التصور الأمثل للحرية التعبيرية المنضبطة بضوابط الشرع البعيدة عن العدوان على النفس أو على الآخرين ... لا يعني بحال أنهم يجب أن يكونوا ضد السلم الاجتماعي الذي لا بقاء للأمة ولا للدعوة إلا به، وهكذا طرح شعار (الكلمة الحرة ضمان ...) وهذا لا يعنى بحال تجاهل الانضباط الشرعي الذي يوفر استقرارا للدعوة ، وقبله للأمة .
كما أن ثمة خطين أحمرين كنا ولا زلنا نعتقد بوجوب الحذر منهما في هذا السياق:
أولهما: الغلو في الدين، فإنما أهلك الناس الغلو في الدين، وفتنة الغلو هي أول فتنة حدثت في الإسلام، وترتب عليها شرخ هائل في كيان الأمة، واستحلال بعضهم دماء بعض وأموالهم.
فانجرار الأقدام إلى مزلق التسرع في التكفير والتشخيص سوف ينأى بهؤلاء عن جو الأمة الواحدة إلى الانخزال والانشطار والاستئثار بالحق وإلغاء الآخرين ومصادرتهم وإسقاطهم لو أمكن.
والثاني: هو نتيجة عن الأول وتفريع عليه، وهو اعتماد أساليب المواجهة والقوة في الدعوة والإصلاح في ظل ظروف وأوضاع لا تستدعي هذا، بل تجعل هذا الخيار إلغاء للفرص الضخمة الممكنة، وحرماناً من المشاركة في مؤسسات الأمة القائمة وإمكانياتها الهائلة للتواصل والتغيير والتأثير.
إن المكاسب التي تزخر بها بلاد الإسلام توجب على الدعاة طرح أسلوب المشاركة المتميزة في الواقع العملي، فهو المحك والميدان الحقيقي لاختبار القدرة على الإصلاح إذ الشعار المجرد لا يكفي، وقد يرفع أحياناً لمجرد التحدي وإثبات عجز الآخرين.
ولا شك أن حقن دماء المسلمين وحفظ حياتهم وأعراضهم وأموالهم وأديانهم من الضرورات التي جاء الشريعة بحفظها، وكان مدار جميع الأحكام عليها، والواقع لا يحتمل أي مخاطرة من هذا القبيل.
والفرق كبير وهائل بين نقد شرعي منضبط ملتزم بما ذكرنا، وبين دعوة إلى زلزلة الاستقرار الذي يعيشه المسلمون في أي قطر.(21/5)
وإذا كان بعض المتلقين حاولوا ـ لشيءٍ في النفوس ـ أن يربطوا الأول بالثاني، فقد آن الأوان لأن يتمايز هذا عن ذاك، حفاظاً على فرص النقد النزيه الهادف، وحفاظاً في الوقت ذاته، على وحدة الأمة وطمأنينتها وسكينة عيشها .(21/6)
رؤية حول أحداث أمريكا
29/10/2001
13/8/1423
يكثر التساؤل هذه الأيام حول ما حدث في نيويورك وواشنطن، وهذه كلمات أحببت فيها بيان الرأي حول بعض ملابسات الحدث، وهي في جزء منها اجتهادٌ قابلٌ للنظر والمراجعة .
أولاً: الحديث عنها من الجانب الواقعي بوصفه أمراً قد حدث وقدِّر ووقع ولا سبيل إلى ردِّه، فهو مولود فاسد خرج من رحم الغطرسة والظلم والاستخفاف بكرامة الشعوب ، وثمرة مرة لشجرة غرسها الأمريكان فقد نجحت أمريكا نجاحاً باهراً في صنع الأعداء وتوسيع دائرة الناقمين عليها، وهذا واضح في هذا الحدث، فإن إصبع الاتهام ظلت تدور في فضاء واسع من المتهمين.
ولم يعد المرشحون للانتقام من أمريكا محصورين في طائفة أو شعب ، فالياباني و الفيتنامي و العربي لهم ترات ، بل الأوروبيون الذين بدؤا يحسون بالاضطهاد الأمريكي مرشحون أيضاً، ولذا فإن مظاهراتهم ضد مؤتمرات التجارة العالمية مظهر من مظاهر العداء.
والمسلمون على تباعد ديارهم نالوا حظاً وافراً من هذا البغي الأمريكي، وما يجري في فلسطين هو نوع من الذبح الأمريكي بسكين يهودية.
وبهذا لم تدع أمريكا لأحد فرصة إلا أن يكرهها و يمقتها، ولذا فليس عجباً أن يتساءل الأمريكي : لماذا هو بالذات المرشح الأول لعمليات الإرهاب ؟ولماذا هو المنادى دائماً للعودة إلى وطنه تحسباً من أعمال إرهابية؟
وسيجد الأمريكيون أنفسهم بحاجة إلى وقفة شجاعة تخلصهم من مسلسل الذعر المنتظر، بإصلاح سياستهم في العالم، كما وقف "نيكسون" قبل موقفاً شجاعاً بإعلان الانسحاب من فيتنام بعد أن كادت أمريكا تغرق في ذلك المستنقع ، فأنقذ شعبه وبلاده من نتائج حرب خاسرة .
وإن الأمريكيين بحاجة إلى مثل هذا الموقف لإصلاح السياسة الأمريكية وتخليصها من مسلسل عداوات الشعوب .(22/1)
إن نتائج الظلم لا يمكن ضبط حساباتها ، ولا تقدير ردود أفعالها ، وذلك أن ردود فعل المقهورين و المظلومين كشظايا القنابل الانشطارية تطيش في كل اتجاه، وتصيب من غير تصويب .
إن ردود أفعال المظلومين و الموتورين لا يمكن التحكم في مداها ولا اتجاهها ، وإنها تطيش متجاوزة حدود المشروع والمعقول،مخترقة قوانين الأديان والأعراف.
وتكفر أول ما تكفر بالقانون الذي لم يوفر لها الحماية أولاً؛ فلذا لن يصبح حامياً لأعدائها. وهذا ما نراه في بعض العمليات التي تنطلق متجاوزة حدود الدين والقانون ومصلحة المنفذ ذاتها وحياته.
ولذا فإن العلاج الأول والحقيقي هو نزع فتيل الظلم الذي يشحن النفوس بالكراهية و المقت ، ويعمي البصائر والأبصار عن تدبر عواقب الأمور ، والنظر في مشروعيتها أو نتائجها.
وإن ( أحرص الناس على حياة) سيظلون في حيرة عند التعامل مع من يلغي حياته من حساب الأرباح ، ويسجل نفسه كأول رقم في قائمة الضحايا.
ثم إن القدرة على إلحاق الأذى والضرر تظل متاحة في كل الظروف، وربما بطريقة أبشع وأعنف، ومن المصلحة ألا نسمح بالتداعيات وردود الأفعال لأن تتكرر، فلا يصلح أن يكون هذا الحدث بداية لسلسة من الأحداث الدامية المشابهة، باعتبار أن القرار الغربي خضع لردود الفعل دون وعي أو بصيرة.
إن عدداً قليلاً من الناس دون أن يملكوا كبير شيء يقدرون على إلحاق الضرر إذا لم يكن لديهم وازع أخلاقي ذاتي .
وإن حماية المدنيين أمر عسير جداً، خاصة في وقت تداخلت فيه المصالح وتشابكت، وانتشرت الأسلحة حتى ربما أصبحت بعض الجماعات تملك أسلحة الدمار الشامل، كما يشاع في بعض التقارير.
ولذ ا فإعادة النظر في أسلوب التعامل مع قضايا الشعوب أصبح ضرورة أكثر من أي وقت مضى .
إن هذا الحدث صاحبه تَأَثُّر له ما يبرره، وإن كنا نلاحظ أن حشد التعاطف والتحالف تم بصورة مبالغ فيها،وأن مجاملة أمريكا كانت ظاهرة في كثير من ردود الفعل .(22/2)
فليس هذا الحدث الوحيد، ولكن هناك أحداث لا تقل شناعة جرت في عصرنا هذا وكنا نحن جميعاً شهودها.
فمن ينسى مشاهد الذبح في صبرا وَ شاتيلا والتي تستمطر دموع الصخر ، ومن الذي نسي أحداث "سربنتسا" في اليوم الذي انسحبت فيه القوات الدولية ودخل الصرب فقتلوا نحو عشرة آلاف من المدنيين و ركموهم في القبور الجماعية.
ومن الذي ينسى أحداث " رواندا" يوم سبحت جثث القتلى العزل في البحيرة وذهبت طعاماً للتماسيح .
أما "هيروشيما" وَ " ناجازاكي" وَ "فيتنام" فقد أصبحت تاريخاً من التاريخ! وقتلاها بمئات الألاف وبسلاح أمريكي.
فلماذا لم تحظ تلك المآسي بحظها الحقيقي من الاهتمام؟ ، ولماذا تُختار لنا الأحداث التي ينبغي أن نهتم بها أكثر ؟ والأحداث التي ينبغي أن ننساها؟
لقد دمرت الحرب العالمية وروعت،وحصدت ملايين البشر ، ولكن الحدث الذي لايزال يُذكر ويُشهر ويُناح عليه هو محرقة اليهود، وكأن الحدث - لو صح- المأساة الوحيدة.
وهانحن اليوم نرى هذا الحدث يُبْرَز وكأنه المظهر الوحيد للإرهاب ، وكأن الإرهاب لا يكون إرهاباً إلا إذا كان في هذا الاتجاه.
إننا نعجب ونحن نسمع صيحات التهديد بالانتقام المدمر، ونحن نرى سفاحي صبرا وَ شاتيلا قد صاروا قادة دول ! وكل ما فعلته المحكمة الدولية هو حفظ القضية.
وسفاحوا البوسنة يحاكمون محاكمة باردة بطيئة، ربما تنقرض الأجيال ولم تصدر فيها الأحكام.
ومنذ أحد عشر شهراً والمجزرة مستمرة في فلسطين، يصل إلى اليهود الدعم الأمريكي غير المحدود ، ويصل الفلسطينيين النصح الأمريكي (بضبط النفس) وقد جاء دور الفلسطينيين ليهدوا النصيحة ذاتها للأمريكيين.
وإذا صح أن كل أزمة هي فرصة في الوقت ذاته، فهذا يصدق على أمريكا اليوم ، فهي أمام فرصة لمراجعة سياساتها الخارجية ، وأن تقف وقفةًً صادقة مع نفسها، باعتبارها شريكاً أساساً في العملية .(22/3)
وأمريكا اليوم أمام اختبار لجدية دعاواها في العدل والحرية ، في التصرف الذي سيفرزه هذا الحدث .. فإذا ما استهدفت المدنيين الأبرياء الذين لم يشاركوا ولم يعلموا ولم يرشحوا ؛ لأنهم في بلد غير ديمقراطي - حسب التسمية والمعايير الغربية - فهي تعطي مبرراً جديداً لاستهداف المدنيين في البلدان الديمقراطية التي يشارك الأفراد فيها باختيار قياداتهم.
إن الولايات المتحدة ستخطئ خطأً تاريخياً إذا أفلحت من جديد في حشد عداوة المسلمين لها ضمن آلية معالجة هذا الحدث، وإذا أخذت البريء بذنب المتهم، أو اعتبرت ثقافة المسلمين وعقيدتهم ومناهج تعليمهم وطرائق حياتهم مسؤولة عن هذا الاتجاه .
إن الولايات المتحدة وهي تطرح شعارات الحرية وحقوق الإنسان وغيرها تمارسها بصورة انتقائية مصلحية ولا تتعامل معها كقيمة جوهرية حقيقية .
وفي مناطق عديدة في العالم من الصين إلى تركيا إلى الجزائر إلى الشيشان إلى فلسطين تبدو المسألة للمواطن الإسلامي في غاية الوضوح، أن ثمة انحيازاً صارخاً ، وانتقائية مفرطة.
وأمريكا الآن أمام اختبار عسير في تطبيق مبادئ العدالة وحفظ حقوق الإنسان وحقوق الشعوب .. والتزام المعايير التي تدعو إليها ، وليس من المعقول أن تطرح مصادر القرار فكرة: هل أنت معي أو ضدي ؟ هناك خيارات أوسع من هذا، وهناك في النهاية أسلوب ممارسة الاختلاف معك أو مع غيرك .
لقد جاء هذا الحدث آية كاشفة أن القوة البشرية مهما عظمت فهي محدودة ، وأن العلم وإن اتسع فهو قاصر .
فمن كان يظن أن هذه الدولة بصواريخها العابرة ، وبوارجها الماخرة، وقوتها الضاربة، تؤخذ بغتة بمثل هذه الضربة ، فإذا بها أمامها كأي دولة نامية لاحول لها ولاقوة.
من كان يظن أن نظام الاستخبارات الدقيق الذي صُوِّر للناس على أنه يرصد تحركاتهم وهمساتهم في غرف النوم تبقى فيه هذه الفجوة الواسعة التي تدخل منها طائرات مفخخة.(22/4)
إنها شواهد على أن قدرة البشر محدودة، وعلمهم قاصر ، وأن مظاهر القوة لا تعني التناهي ولا الإحاطة ، ولكن غرور البشر يجهل هذه الحقيقة وتُسكِرُهُ نشوة القوة، فيقول: (من أشد منا قوة أو لم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة) وحينها تأتي أحداث تكشف للمغرورين بقوتهم وعلمهم ما فيها من قصور (فلما قضينا عليه الموت مادلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين ).
إن الحدث يكشف للقوى العالمية المتنفذة أن اعتماد الحلول الأمنية لا يحقق الهدف وحده، ما لم يكن مصحوباً بدرجة عالية من الواقعية الحوارية ، والتنفيس ، وتفهم وجهات نظر الآخرين وخصوصياتهم والاستماع الجيد إليهم .
ثانياً: التنظير لما حدث من الجانب الشرعي على ضوء النصوص ، وعلى ضوء التطبيق النبوي والراشدي لأخلاقيات التعامل في الحرب والسلام ، وهذا لا يعني استباق نتائج التحقيق ، فإننا قد تعودنا توجيه أصابع الاتهام إلى المسلمين وعلينا التريث والانتظار حتى لا نقع في فخاخ يصعب الخروج منها .
ولكن من حيث المبدأ فالإسلام يمنع استهداف الأبرياء من النساء والأطفال ومن في حكمهم حتى حين تكون الحرب قائمة بين المسلمين والكفار، وليس الكفر بمجرده موجباً للقتل،فقد يكون الكافر ذمياً أو معاهداً أو مستأمناً أو رسولاً أو مستجيراً يجار حتى يسمع كلام الله ثم يُبْلَغُ مأمنه كما فى سورة التوبة.
ولقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء الراشدون من بعده يؤكدون معاني الحماية للضعفة ومن ليس من أهل القتال ويتعاهدون رعايتها.
فعن ابن عمر - رضي الله عنهما- قال: وجدت امرأة مقتولة في بعض مغازي النبي - صلى الله عليه وسلم - فنهى عن قتل النساء و الصبيان . متفق عليه(22/5)
وأخرج أبو داود بسند صحيح عن رباح بن الربيع –رضي الله عنه- قال: كنا مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم- في غزوة فرأى الناس مجتمعين فبعث رجلاً فقال: انظر علام اجتمع هؤلاء؟ فجاء فقال: على امرأة قتيل! فقال – صلى الله عليه وسلم-: ماكانت هذه لتقاتل! قال: وعلى المقدمة خالد بن الوليد، قال : فبعث رجلاً فقال: قل لخالد : لا يقتلن امرأة ولا عسيفاً.
وفي رواية لابن ماجه : انطلق إلى خالد بن الوليد فقل له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك ، يقول : لا تقتلن ذرية ولا عسيفاً .
والعسيف: الأجير ، فالعمال الأجراء حتى لو حضروا المعركة لايجوز قصدهم بالقتال إذا كانت خدماتهم لا تتصل بالقتال، فغيرهم ممن لم يحضروا إلى ساحة المعارك هم أولى بأن تشملهم تلك الحصانة من أن توجه إليهم الأسلحة، ولو كانوا في بلاد الأعداء. وفي سنن أبي داود عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كان إذا بعث جيشاً قال له " انطلقوا باسم الله ، لا تقتلوا شيخاً فانياً، ولا طفلاً صغيراً ، ولا امرأة ، ولاتغلوا "
وفي الموطأ عن يحيى بن سعيد أن أبا بكر بعث جيوشاً إلى الشام فخرج يشيعهم فمشى مع يزيد بن أبي سفيان ثم قال : إنك ستجد قوماً حبسوا أنفسهم لله – يعني الرهبان- فدعهم وما حبسوا أنفسهم له .
ولعل من المناسب التذكير بعرْض مَلَكِ الجبال على رسول الله- صلى الله عليه وسلم - أن يُطْبِق الأخشبين على أهل مكة ، فقال-صلى الله عليه وسلم- : بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبده لا يشرك به شيئاً ، مع أن الإجهاز عليهم سيكون أمراً ربانياً من عند الله، وليس استئصالاً يتحمل تبعته الرسول والذين آمنوا معه .
فهؤلاء وهؤلاء هم محل للدعوة، وميدان للخطاب والبلاغ، والتقصير معهم في هذا الشأن في فترة من الفترات ليس ضربة لازب، فهناك جهود إسلامية واعدة بهذا الخصوص.(22/6)
هذا - فضلاً - عن أن الميادين المدنية ، كالطيران المدني ، والأسواق ، والأماكن العامة هي فضاء مفتوح يلتقي فيه المسلمون بغيرهم ، والكبار بالصغار ، والرجال بالنساء والصبيان،فهي لا تصلح بحال أن تكون هدفاً حتى حين نكون في حالة حرب مع دولة ما.
ومن المصلحة الإنسانية العامة أن تظل بمنأى عن التجاذبات في كافة الأحوال والظروف.
ثالثاً : بالنظر إلى هذا الحدث وفق مقاصد الشريعة التي جاءت بتحصيل المصالح ودرء المفاسد، فإنه يمكن تقييم هذا العمل ضمن الإطار المصلحي وهذا يدخل فيه :
1- إمكانية أن يفرز الحدث سعياً جاداً لتصفية البؤر الجهادية في العالم خشية أن تفرز مثل هذا العمل ، وهذا ربما ينعكس على فلسطين والشيشان وكشمير ,وغيرها من المناطق الإسلامية وإن كنا لا زلنا نطمع أن يُغَلِّبَ القومُ صوتَ العقل والحكمة، وألا يستجيبوا للضغوط اليهودية أو الشعبية الداخلية العمياء ، وإذا كانت المجموعات التي تقاوم الاحتلال تعاني انسداداً بسبب العولمة فقد تُحكِمُ هذه الأعمال الخناق عليها أو تحاول .
2- وقد يمتد هذا إلى كثير من الأعمال الإسلامية الدعوية، والثقافية ، والخيرية، والتعليمية التي قد يصنفونها على أنها البيئة التي تضع القوالب ، وتهييء المناخ. علماً أننا نعتقد أنهم هم الذين يصنعون المناخ باستعدائهم للشعوب وإعراضهم عن معاناتها.
3- وقد تتعرض الشعوب الإسلامية أو بعضها للأذى من هؤلاء الظالمين ، وكان الله في عون الشعب الأفغاني الذي لم يذق طعم الراحة والهدوء من عشرات السنين ، والذي يخشى أن يشهد المتناقضات ، ما بين غزو روسي ، إلى غزو أمريكي .(22/7)
4- المعاناة الإسلامية داخل المجتمعات الغربية والتي صار المسلمون بموجبها في وضع لا يحسدون عليه ، وتعرضوا لبعض التضييق والاعتداء وكانت البداية في الهجمة الإعلامية التي وجهت مسؤولية الحدث تلقائياً إلى المسلمين، متجاهلة أن آخر حدث إرهابي شهدته الولايات المتحدة في اكلاهوما كان من مسؤولية اليمين الداخلي المتطرف وقد يكون اليهود المتنفذون إعلامياً وراء التسرع في الاتهام ، وهم ممن يستغل الأحداث بنذالة تجدر بهم ، ويتجاهلون المعاناة الإنسانية ، بل هم يتاجرون بجراح الآخرين .
إن الغرب يشكل متنفساً للمسلمين المضطهدين حتى في بلادهم في العديد من الحالات، وربما لولا القَدْرُ القائم من الرقابة الدولية لكانت الأوضاع في تلك البلاد أشدّ وأقسى .
وقد تحدث نكسة في هذا المضمار بسبب تعميم المسؤولية الذي يخشى أن تعتمده مصادر القرار في الغرب.
5- تنميط الصورة القائمة للمسلم في نظر المواطن الغربي على أنها صورة السفَّاح الذي لو تمكن لأثخن في الناس وصادر حقوقهم ، والإنسان العادي ينقل هذه الصورة الذهنية من الأشخاص إلى الثقافة والجنس والدين ، فيحملها مسؤولية هذا التصور.
وهذا يحول دون تقبل الإسلام أو التفكير فيه، ويعقد مهمة المؤسسات الدعوية في الغرب ، ويبني جداراً عازلاً يصعب هدمه أو تجاوزه ، علماً أن الجهود الإسلامية تظل محدودة لا تصل إلا إلى شريحة معينة ، أما الجماهير فتظل أسيرة التنميط الإعلامي بل ربما انتقل هذا إلى شعوب إسلامية لا تعرف حقيقة الدعوة والدعاة ، ولا برامج الإسلاميين إلا من خلال مثل هذه الأحداث، وعلى ضوئها ترسم الصورة بأحادية لا تستكثر من جمهور يميل إلى التعميمية والانسياق وراء الانطباعات الأولية .
وبعد فهذا ما يبدو في حدود النظر القاصر،ومعطيات الظروف الحالية، وقد يجعل الله فيما قدر وقضى خيراً لعباده بخلاف ما يظنون ويحتسبون، والله يعلم وأنتم لا تعلمون.(22/8)
نسأل الله عز وجل بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يحفظ المسلمين في أديانهم ودمائهم وأعراضهم وبلادهم، وأن يكفيهم شر عدوه وعدوهم، كما نسأله جل وعلا أن يعز دينه، ويعلي كلمته، وينصر أولياءه، وأن يصلح أحوال المسلمين، ويجمع كلمتهم على الحق والدين، وينصرهم على القوم الكافرين.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين ،،،(22/9)
رجل
30/10/2001
14/8/1423
في القرآن الكريم في قصة موسى حين قتل القبطي، وهمّ بقتل الآخر أو البطش به وتفاقم أمره وانتشر، تجد قول الله تعالى: (وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى) (القصص:20). وفي سورة يس في قصة أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون تجد قوله تعالى: (وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى) ( يس:20)
وفي سياق هاتين القصتين تجد الحقيقتين التاليتين:
أولاهما: النص يبرز كلمة (رجل) وهي تعني شخصاً مفرداً ، فهو رجل واحد ينقذ الموقف بخصائصه الذاتية والإيمانية ، ولا يستوحش من غربته بين أهله أو تفرده في طبقته ، فيحيط موسى علماً بالمؤامرة الدنيئة التي يحيكها القصر الفرعوني للقضاء عليه وعلى دعوته ويقترح عليه الحل ، وهو الخروج من قريته والفرار بنفسه ، وفي قصة يس يعلن أمام الملأ نصرة المرسلين ويدعو إلى اتباعهم متحدياً بذلك رؤوس الضلالة صارخاً به في وجه الجماهير المؤممة.
وعلى رغم أهمية العمل الجماعي والعمل المؤسسي ، وأهمية التعاون على البر والتقوى ، والتناوب في أداء فروض من الكفايات ، إلا أن الواقع كثيراً ما يفتقر إلى الفردية خاصة في مثل فترات الضياع التي تمر بها الأمم وتوشك أن تأتي على وجودها وتميزها ، حيث لا يبقى ثَمَّ جهة مسؤولة بعينها عن اكتشاف المواهب أو عن تحديد الأدوار ، وهذا هو الحال الذي يعيشه المسلمون الآن في كثير من بلادهم ، هنا تبرز الحاجة إلى تكثيف المبادرات الفردية من الداعية والتي لا بد وأن تسد بعض النقص ، وأن تتلاقى يوماً ما على خطة راشدة يكون فيها للمسلمين فرج ومخرج. وحتى رسم برنامج لعمل شرعي يستهدف الإصلاح العام فبدايته غالباً وشرارته تنطلق من جذوة قلب يحترق لحال المسلمين.
وحتى التماس خطة لرعاية الكفاءات وإنضاجها وتحديد مداراتها فهو الآخر يحتاج إلى شيء من ذلك.(23/1)
ليس هذا تقليلاً من أهمية تضافر الجهود وتكاتفها ، ولا تهويناً من شأن المبادرات الجماعية التي آتت وتؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ، ولكنه تأكيد على الدور الفردي المساهم في إيجادها وعلى الدور الفردي الذي لا يقف عندها.
وثانيهما: أن كلمة (رجل) تعني الثناء على خصائص الرجولة والشهامة والأريحية.
إنه ( رجل) وكفى، فالرجولة وعاء يحتوي عدداً من الخلائق والشيم الفطرية كالقوة والصدق والتضحية والصبر .
رجل والرجال قِلٌّ ومايقـ صم عُود الرجال غير الصمود.
ولهذا فالرجل في الموقفين لم توهن إرادته العقبات ، ولم تثن عزيمته العوائق وتغلّب على الصعاب : بعُد المسافة ( من أقصي المدينة ) ، ضيق الوقت (يسعى ) ، خطورة الموقف ، والدافع كان نبيلاً لا يرتبط بمصلحة ذاتية أو قرابة ، ففي قصة موسى (إني لك من الناصحين )(القصص:20) وفي قصة صاحب يس يظهر جلياً حدبه على قومه ، وحبُّ الخير لهم حتى بعد أن وثبوا عليه وأقعصوه ورجموه.
قال تعالى له:(ادخل الجنة) فتمنى لهم الخير فقال : ( يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين ) ( يس:26) قال ابن عباس : " نصح لقومه في حياته بقوله : اتبعوا المرسلين ، وبعد مماته بقوله : يا ليت قومي يعلمون " ( رواه ابن أبي حاتم) .
وقال قتادة : " لا تلقى المؤمن إلا ناصحاً ، لا تلقاه غاشاً، لما عاين من كرامة الله قال : يا ليت قومي يعلمون " ( رواه الطبري) .
إن الخصائص الذاتية الفطرية ذات أثر كبير في سلوك الإنسان سلباً أو إيجاباً ، أياً كان توجهه ، والإيمان لا يلغيها إنما يهذب رديئها ويستثمر جيدها ، ولهذا قال رسول الله في الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة : " تجدون الناس معادن ، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا ، وتجدون خير الناس في هذا الشأن أشدهم له كراهية حتى يقع فيه ، وتجدون شر الناس ذا الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه " .(23/2)
ولذلك كان أصحااب اللمروءة والسؤدد والرجولة في الجاهلية هم أهل ذلك في الإسلام لما حسن إسلامهم ، ولا يكاد يعرف ممن تلبسوا بالنفاق أحد أسلم وحسن إسلامه ، وأبلى في الدعوة والجهاد إلا أقل القليل ، ولهذا لما ذكر الله المنافقين في سورة النساء وتوعدهم قال تعالى ) : إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين..)
)النساء :146) ولم يقل من المؤمنين .
إن الطبائع المتذبذبة ، والخلائق الرخوة التي ألِفت التقلب، وجبلت عليه لحرية بالنكوص والتراجع وغير جديرة بحمل الأمانة والصبر عليها .
ولقد ترى في هذا الزمان وفي كل زمان من الناس الذين لم يؤمنوا بدين وولم ينتظروا وعداً أخروياً من تحملهم أريحيتهم وقناعاتهم على ضروب من الصبر والمغامرة والفداء تتمنى مثلها لكثير من أهل الإيمان.
وأما في عالم المؤمننين وفي تأريخهم خاصة فأنت تجد منننن ذلك الكثير الطيب المبارك ، ولأصحاب الخصائص هؤلاء ارتباط وثيق بالمعنى الأول ، فهم أصحاب المبادرات ، وهم أحق بها وأهلها والواحد منهم كأنه جماعة من الناس اجتمع فيه من ضروب الكمال ما ينوء بالعصبة أولي القوة ، ولهذا قال تعالى عن إبراهيم عليه السلام : (إن إبراهيم كان أمة)
(النحل : 120)(23/3)
صلى الله عليه وسلم
03/03/2002
19/12/1423
لم يكتب لأحدٍ من البشر من الأثر والخلود والعظمة ما كتب لصاحب النسب الشريف - صلى الله عليه وسلم- .
ولقد دونت في سيرته الكتب ، ودبجت في مديحه القصائد، وعمرت بذكره المجالس ، وبقيت عظمته قمة سامقة لاتطالها الظنون .
تقلبت به صروف الحياة من قوة وضعف ، وغنى وفقر ، وكثرة وقلة ، ونصر وهزيمة ، وظعن وإقامة ، وجوع وشبع ، وحزن وسرور ، فكان قدوة في ذلك كله، وحقق عبودية الموقف لربه كما ينبغي له .
ظل في مكة ثلاث عشرة سنة ، وما آمن معه إلا قليل ، فما تذمّر ولا ضجر ، وجاءه أصحابه يشتكون إليه ويسألونه الدعاء والاستنصار فحلف على نصر الدين وتمام الأمر ، وأنكر عليهم أنهم يستعجلون ، فكان الأمر كما وعد ، علماً من أعلام نبوته ، ونصراً لأمر الله ، لا للأشخاص .
وكان من نصره أن تأتيه وفود العرب من كل ناحية مبايعة على الإسلام والطاعة فما تغير ولا تكبّر ، ولا انتصر لنفسه من قوم حاربوه وآذوه وعاندوا دينه .
كما كان يقول أبو سفيان بن الحارث :
لعمرك إني يوم أحمل راية *** لتغلب خيل اللات خيل محمدِ
لكالمدلج الحيران أظلم ليله *** فهذا أواني حين أهدى وأهتدي
هداني هادٍ غير نفسي ودلني *** على الله من طردته كل مطرد
وما حملت من ناقة فوق ظهرها *** أبر وأوفى ذمة من محمد
فاستل العداوات ، ومحا السخائم ، وألّف القلوب ، وأعاد اللُّحمة ، وعرف عدوُّه قبل صديقه أنها النبوة ، وأنه لم يكن صاحب طموح شخصي ولا باني مجد ذاتي ، وإن كان الطموح والمجد لبعض جنوده .
تعجب من عفويته وقلة تكلفه في سائر أمره ، واحتفاظ شخصيته بهدوئها وطبيعتها وتوازنها مهما تقلبت عليها الأحوال، واختلفت عليها الطرائق .
قل إنسان إلا وله طبعه الخاص الذي يبين في بعض الحال ويستتر في بعض ، ويترتب عليه استرواح لقوم دون آخرين ، ويحكم العديد من مواقفه وتصرفاته حاشاه -صلى الله عليه وسلم- .(24/1)
فهو يُقْبِل بوجهه على كل جليس ، ويخاطب كل قوم بلغتهم ، ويحدثهم بما يعرفون ، ويعاملهم بغاية اللطف والرحمة والإشفاق ، إلا أن يكونوا محاربين حملوا السلاح في وجه الحق ، وأجلبوا لإطفاء نوره وحجب ضيائه .
كل طعام تيسر من الحلال فهو طعامه ، وكل فراش أتيح فهو وطاؤه ، وكل فرد أقبل فهو جليسه .
ما تكلف مفقوداً ، ولا رد موجوداً ، ولا عاب طعاماً ، ولا تجنب شيئاً قط لطيبه ، لا طعاماً ولا شراباً ولا فراشاً ولا كساءً، بل كان يحب الطيب، ولكن لا يتكلفه .
سيرته صفحة مكشوفة يعرفها محبوه وشانئوه ، ولقد نقل لنا الرواة دقيق وصف بدنه ، وقسمات وجهه ، وصفة شعره ، وكم شيبة في رأسه ولحيته ، وطريقة حديثه ، وحركة يده ، كما نقلوا تفصيل شأنه في مأكله ، ومشربه ، ومركبه ، وسفره ، وإقامته ، وعبادته ، ورضاه ، وغضبه ، حتى دخلوا في ذكر حاله مع أزواجه أمهات المؤمنين في المعاشرة ، والغسل ، والقسم ، والنفقة ، والمداعبة ، والمغاضبة ، والجد، والمزاح ، وفصلوا في خصوصيات الحياة وضروراتها .
ولعمر الله إن القارئ لسيرته اليوم ليعرف من تفصيل أمره ما لا يعرفه الناس عن متبوعيهم من الأحياء ، ومالا يعرفه الصديق عن صديقه ، ولا الزوج عن زوجه ، ولا كان أهل الكتاب يعرفونه شيئاً يقاربه أو يدانيه عن أنبيائهم وهم أحياء ؛ وذلك لتكون سيرته موضع القدوة والأسوة في كل الأحوال ، ولكل الناس.
فالرئيس والمدير والعالم والتاجر والزوج والأب والمعلم والغني والفقير ...
كلهم يجدون في سيرته الهداية التامة على تنوع أحوالهم وتفاوت طرائقهم .
والفرد الواحد لا يخرج عن محل القدوة به -صلى الله عليه وسلم- مهما تقلبت به الحال ، ومهما ركب من الأطوار، فهو القدوة والأسوة في ذلك كله.
وإنك لتقرأ سيرة علم من الأعلام فتندهش من جوانب العظمة في شخصيته فإذا تأملت صلاحيتها للأسوة علمت أنها تصلح لهذا العلم في صفته وطبعه وتكوينه ، ولكنها قد لا تصلح لغيره .(24/2)
ولقد يرى الإنسان في أحوال السالفين من الجلد على العبادة ، أو على العلم ، أو على الزهد ما يشعر أنه أبعد ما يكون عن تحقيقه حتى يقول لنفسه :
لا تعرضن لذكرنا مع ذكرهم *** ليس الصحيح إذا مشى كالمقعدِ
فإذا قرأ سيرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحس بقرب التناول وسهولة المأخذ ، وواقعية الاتباع .
حتى لقد وقع من بعض أصحابه ما وقع فقال لهم : " أنا أخشاكم لله ، وأتقاكم له، وأعلمكم بما أتقي".
وقال :" اكلفوا من العمل ما تطيقون " .
وقال : " إن هذا الدين يسر ، ولن يشادَّ الدينَ أحدٌ إلا غلبه فسددوا وقاربوا وأبشروا ، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة ، والقصدَ القصدَ تبلغوا ".
ولهذا كان خير ما يربى عليه السالكون مدارسة سيرته وهديه وتقليب النظر فيها وإدمان مطالعتها واستحضار معناها وسرها ، وأخذها بكليتها دون اجتزاء أو اعتساف .
إن الله -عز وتعالى- لم يجعل لأحد وراء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذا المنصب الشريف : منصب القدوة والأسوة ؛ لأنه جمع هدى السابقين الذين أمر أن يقتدي بهم " فبهداهم اقتده " إلى ما خصه الله -تعالى- وخيَّره به من صفات الكمال ونعوت الجمال ، ولهذا قال -سبحانه- : " لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً ".
إن حياته -صلى الله عليه وسلم- وحياة خلفائه الراشدين هي المذكرة التفسيرية والترجمة العلمية لنصوص الشريعة .
ومن الخير أن تظل هذه السيرة بواقعيتها وصدقها محفوظة من تزيد الرواة ، ومبالغات النقلة التي ربما حولتها إلى ملحمة أسطورية تعتمد على الخوارق والمعجزات ، وبهذا يتخفف الناس من مقاربتها واتباعها ليكتفوا بقراءتها مع هزِّ الرؤوس وسكب الدموع وقشعريرة البدن .
إن الآيات التي تأتي مع الأنبياء حق ، لكنها الاستثناء الذي يؤكد القاعدة ، والقاعدة هي الجريان مع السنن الكونية كما هي .(24/3)
وكثيرون من المسلمين ، وربما من خاصتهم يستهويهم التأسي بالأحوال العملية الظاهرة في السلوك والعبادة وغيرها ، فيقتدون به -صلى الله عليه وسلم- في صلاته " صلوا كما رأيتموني أصلي " وحجّه " خذوا عني مناسككم " وسنن اللباس والدخول والخروج …
وهذا جزء من الاتباع المشروع ، بيد أنه ليس كله ، ولا أهم ما فيه ، فإن اتباع الهدي النبوي في المعاملة مع الله تعالى ، والتجرد والإخلاص ، ومراقبة النفس ، وتحقيق المعاني المشروعة من الحب والخوف والرجاء أولى بالعناية وأحق بالرعاية ، وإن كان ميدان التنافس في هذا ضعيفاً ؛ لأن الناس يتنافسون –عادة- فيما يكون مكسبة للحمد والثناء من الأمور الظاهرة التي يراها الناس ، ولا يجدون الشيء ذاته في الأمور الخفية التي لا يطلع عليها إلا الله ، وربما تحرى امرؤ صفة نبوية في عبادة أو عمل واعتنى بها وتكلف تمثلها فوق المشروع ، دون أن يكلف نفسه عناء التأمل في سر هذه الصفة وحكمتها وأثرها في النفس .
وهذه المسائل ، حتى التعبدية منها ؛ ما شرعت إلا لمنافع الناس ومصالحهم العاجلة والآجلة ، وليست قيمتها في ذاتها فحسب ، بل في الأثر الذي ينتج عنها فيراه صاحبه ويراه الآخرون .
وإنه لخليق بكل مسلم أن يجعل له ورداً من سيرة المصطفى -عليه السلام- ، إن كان ناشئاً فمثل ( بطل الأبطال ) لعزام، وإن كان شاباً فمثل ( الشمائل المحمدية ) لابن كثير أو الترمذي ، و ( الفصول ) لابن كثير ، أو ( مختصر السيرة ) أو ( الرحيق المختوم ) أو ( تهذيب سيرة ابن هشام ) وإن كان شيخاً فمثل ( سيرة ابن هشام ) أو ( ابن كثير ) وإن كان متضلعاً بالمطولات فمثل ( سبل الهدى والرشاد ) وكتاب ( نضرة النعيم ) .
رزقنا الله حب نبيه وحسن اتباعه ظاهراً وباطناً وحشرنا في زمرته مع الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا .(24/4)
علمها عند ربي
22/09/2002
15/7/1423
حينما كنت أهم بإعداد مادة لمقالي هذا الأسبوع ، كان الموضوع الحاضر في الذهن هو أحاديث الفتن والطريقة السليمة لقراءتها والتعامل معها.
وقد حسم هذا الخيار مجموعة من رسائل الإخوة الأفاضل تستفسر عن مثل هذا الأقاويل المتناقلة في المواقع والمنتديات ، ونصيبها من الصدق .. وكيف الموقف منها ومن مثيلاتها.
وقد جاء في السنة طائفة كبيرة أصطلح على تسميته بـ ( أحاديث الفتن ) وهي تتعلق بأخبار آخر الزمان وما يقع فيه، والقتال الملاحم ونحو هذا .
ويلحظ أولاً :أن في هذا الباب الصحيح وغيره ، والضعف عليها أغلب ، ولذا تجد الكتب المتخصصة في الفتن مظنة للضعيف ، ككتاب نعيم بن حماد وأبي عمرو الداني وابن كثير وغيرهم كثير ، وإن كان يقع فيها الصحيح ، وفي البخاري ومسلم طرف وافر من ذلك .
والتحقق من صحة الحديث شرط في اعتباره ، وإن كان ا لسياق المتعلق بالاعتقاد أو بالحلال والحرام ، والأصول عامة أوكد في التحري من أبواب الفضائل والفتن والسير وغيرها.
لكن يقع لبعض القراء تساهل مرذول في سوق روايات التوراة والإنجيل وسفر دانيال وكتب التنجيم والتنبؤات جنباً إلى جنب مع الأحاديث النبوية ، بزعم أنها تعززها ، وهذا يكشف هشاشة المنهج العلمي لدى الكثيرين وخضوعه للذوق والعاطفية .
ثم إن فهم هذا الذي صح منها وتنزيله على محله هو من المواقع الخطرة التي يستزل الشيطان فيها بعض المؤمنين .
وإذا كان الخلاف يقع في المسائل العلمية الظاهرة فكيف بالمسائل الغيبية المستقبلية الغامضة ؟!(25/1)
لكن يقع أن بعض المتورعين عن الخوض في مسائل الفروع البينة بحجة أن لا علم لديهم ويهجمون على اللون الآخر بلا تأنٍ ، ولا روية ، ولا يستحضرون هيبة الشريعة فيها كما يستحضرونها في غيرها ، وقد كان من الشراح وأهل العلم السابقين من يقع لهم نوع استعجال في بعض علامات الساعة وأشراطها ، ربما بسبب قوة اليقين وقصر الأمل، ولكن لا يتعدى هذا لديهم الاستعداد للمعاد وذم أهل الزمان ونحو هذا.
لكن لم يتجرأ أحد ممن يعتد به في تحديد التواريخ وتقحم حرمة الغيب وتعريض نصوص الوحي للبس والريبة والشك لدى عوام المسلمين .
وهذه ثانية .
أما الثالثة فإن أحاديث الفتن لا تنسخ المحكم من الشريعة ، بل المؤمن: مطالب بالعمل به ، وإجرائه على وجهه حتى يقوم يقين قاطع بخلافه .
وجانب الأصل قوي ثابت عزيز لا ينتقل عنه إلا بمثله ، وليس من التقيد بسلطان الشريعة أن يدع المرء مخالطة الناس وأمرهم ونهيهم وتعليمهم اتكاءً على أحاديث الاعتزال عند فساد الزمان مثلاً لمجرد شعور عارض ، وإن كان هذا قد يقع بالنظر إلى حال شخص بعينه ، أوفي زمان ومكان خاص ، وليس بالنظر إلى عموم الأمة .
فمن الخلل البيّن أن تبنى مواقف دعم ومساندة ، أو انقطاع وإغفال ، أو حمدٍ أو ذم أو غير هذا لمجرد خاطر عرض في الذهن أن هذا قد يكون هو ما أخبرت به الأحاديث ، بل يبنى هذا على قاعدة الشريعة في الولاء والبراء والحب والنصرة والمصلحة ونحو ذلك .
ورابعاً:فإن هذا الباب مزلة أقدام ومظلة أفهام كما قيل ، ولا يحسن التشاغل به إلا للحذاق المتقنين من علماء الحديث والسنة والفقه في الدين .
وبعض الكتبة صيروا أحاديث الفتن وأشراط الساعة كتركيبة لعب الأطفال يحاولها من هنا ومن هنا حتى يبدو له أنها طاوعته وأذعنت له ، ويختصر بهذا بحوثاً عريضة في تحديد الأشراط وتمييز كبيرها من صغيرها ، وترتيب حدوثها وتسلسلها ، وتثبيت صحيحها من سقيمها .(25/2)
ولست أرى وجهاً من الأهمية للإلحاح على هذه المسائل سوى استعجال الغيب , والبرم بالواقع , والنقص في تحري الأسباب الصحيحة , وضعف التوكل على الله .
إن ثمت مقامات حصينة ذات خطورة بالغة , يجب الحذر من مقاربتها لئلا يلتبس على الناس دينهم , مثل دعوى الساعة ومحاولة تحديدها .
ولا يغني في ذلك دعوى إجماع المؤرخين على أعمار الأمم السابقة , فمن نقل هذا الإجماع ؟ وما مدى صحته ؟ وما مدى دقته , وقد جرت عادتهم على جبر الكسور والاكتفاء بالرقم الكلي , والاختلاف في أصول بعض الحوادث التاريخية , وترتيب بعثة بعض الأنبياء .
وهل إجماع المؤرخين يدخل في الاستدلال الشرعي ؟ !
ولا يغني أن يقول أحد : إن أبعد حدٍ لقيام الساعة هو نهاية القرن مثلاً , وأقرب حدٍ هو غداً ؛ لأن معناه أن الناس الذين قد يشهدون نهاية القرن سيقطعون بأن الساعة بالنسبة لهم تقع غدًا .
إن المحكم من كتاب الله تعالى لم يدع مجالاً للإدعاء أو التلصص على هذا الغيب الرباني المغلق .
قال تعالى : " يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو ثقلت في السموات والأرض لا تأتيكم إلا بغتة يسألونك كأنك حفي عنها قل إنما علمها عند الله ولكن أكثر الناس لا يعلمون "[الأعراف: 187]
ومثل هذا المعنى في سورة يوسف (107) والنحل (77) ولقمان (34) والأحزاب(63) وفصلت (47) والزخرف (85) , وغيرها .
فهل ننتظر بياناً أشفى وأكفى من هذا , أو نهياً وزجراً عن التعرض لمقام الغيب بمحاولة أو ادعاء ؟
ويقول سبحانه وتعالى : " إن الساعة آتية أكاد أخفيها ..."[طه:15] .
قال جماعة من أهل التفسير : أكاد أخفيها من نفسي .
وهذا منقول عن ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد وآخرين .
وقرأ ابن مسعود وأبي بن كعب وغيرهم : أكاد أخفيها من نفسي .
قال الفراء : المعنى : فكيف أظهركم عليها ؟(25/3)
وقال المبرد : وهذا على عادة العرب ؛ فإنهم يقولون إذا بالغوا في كتمان الشيء : كتمته حتى من نفسي , أي : لم أطلع عليه أحداً ...
والنصوص القرآنية في هذا الباب متوافرة ظاهرة المعنى فكيف يغفل عنها أهل القرآن ويتلبسهم وهمٌ ليس له أثارة من علم ولا هدى ولا كتاب منير ؟!
أو لست ترى من العجب أن يحصل لبعض أهل الإسلام شكوك في هذه المسائل تتردد على عقولهم فيبدؤون فيها ويعيدون حتى يظنوها من اليقين , ولأدنى ملابسة أو شبهة , وما هي من اليقين بسبيل , ثم قد يضعف يقينهم في مسائل ضرورية محكمة تعبدوا باعتقادها علماً , أو بإيقاعها عملاً !
أتراهم انساقوا مع ما عليه بعض أهل الكتاب من الولع بالغيب والتعلق بالنبؤات العقلية المجردة , واللهث وراء الخرص والحدس , وتوقع المفاجآت الخارقة , مع العزوف عن الأسباب ؟
فما بالهم إذا لم يحذوا حذوهم في امتلاك ناصية العلم واكتشاف السنن والنواميس المودعة في الطبيعة والكون وتسخيرها لتحقيق خدمة الناس , وتسهيل مصالحهم أو تحصيل القوة التي بها يحمون ديارهم وذمارهم ؟
أم تراه اليأس والإحباط الذي استولى على النفوس فلم يعد لديها همة أو طموح أو تطلع في العمل والمدافعة والإصلاح ، وصارت تكتفي بالترقب والانتظار , وكأن لا بارقة أملٍ في الوجود , ولا وميض نور في الأفق فلنخلد إلى حلم لذيذٍ ندافع به مرارة الواقع .
إن المؤمن الصادق هو الأولى بالصبر والمصابرة والمدافعة وتفجير شلالات الأمل في ظلمات القنوط (إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون) .
فلتعظم ثقتنا بربنا , ولنصحح فهمنا لديننا , ولنصدق في تحقيقه , ثم لا يضيرنا ما وراء ذلك، فالله هو المستعان .(25/4)
على هامش الانتفاضة
31/10/2001
15/8/1423
يُكْبِر المسلمون جميعاً الوقفة الصامدة للشعب الأعزل المقهور ، رغم نزيف الدماء ، والحيف العالمي، والعجز الإسلامي .
لقد أصبحت كلمة (( الانتفاضة )) مشبعة بالمعاني الرمزية الخارقة ، وفتحت باباً للمقاومة يصعب على العدو سده .
وهذه أفكار من وحي الانتفاضة :
1- لقد أثبتت الأحداث أن الصبيان العزل الجياع يستطيعون أن يصنعوا شيئاً ، وهذه تعرية لفقد الإرادة لدينا ، فمع الإرادة الصادقة يكتشف المرء فرصاً كبيرةً للعمل والإبداع .
نعم : ليس بالضرورة أن هذا العمل سيقلب موازين القوى ، أو سيقدم حلولاً جذريةً ، لكنه سيفتح آفاقاً جديدة أمام الأجيال الجديدة .
2- هل نستطيع أن نعلن انتفاضةً مماثلةً ودائمةً على أنانياتنا وحظوظنا الشخصية ، ومصالحنا الذاتية ، فلا ندخل في حسابات استثمار خاصة لهذا الحدث أو ذاك ، ولا نقبل أن يوظف بخدمة فردٍ ، أو حزبٍ ، أو طائفةٍ ، أو جهة ، ولا أن يكون فرصةً لتحقيق مكاسب من هذا القبيل ؟ .
إن الأمة في حالة صراع دائم مع اليهود ، لكنها يجب أن تكون في صراعٍ دائمٍ مع سلبياتها .
فهل نرتفع عن مستوى النظرة الضيقة ؟ ونلغي من حسابنا المكتسبات الخاصة، لنجعل ديمومة المقاومة هدفاً أعلى تذوب في طياته وتضاعيفه كل الأهداف الصغيرة ؟ .
إن الأمة مجموعة أفراد تزيد على المليار يتشكلون في تجمعات عديدة ، مختلفة الشيات والألوان والملامح ، حزبية ، ومذهبية ، وجغرافية ...
وليس ثمة شك أن المصالح متقاطعة في العديد من الحالات ، فلنجعل المصلحة العليا للأمة هي شعارنا الصادق ، وإن ترتب على ذلك فوات بعض مصالحنا الشخصية ، أو الحزبية ، أو الوطنية .
إن تقديم الانتماء للذات ، أو للحزب ، أو للطائفة ، أو للبلد ، على الانتماء العظيم للأمة ، هو الذي خلق هذه الازدواجية ورسخها ، وإلا ففي الحقيقة أن مصلحة الأمة العامة هي بالتالي مصلحة محققة لجميع أفرادها .(26/1)
يبدو أحياناً أننا مستعدون للقتال على الغنائم حتى قبل الظفر بها ، وبمجرد مانجد صدى إعلامياً ، أو تعاطفاً شعبياً ، ندخل في دائرة جديدة : من سيستفيد من هذا التجاوب ؟ هذا الفصيل ؟ أم تلك المجموعة ؟ أم ذاك الحزب ؟ .
ثم ندخل في دوامة أخطر من السعي إلى تفويت المصالح على الآخرين ؛ لأنها – فيما يبدو لنا – ستكون على حسابنا ، أو لأننا نعتقد أنهم استغلوا الحدث بطريقة ما ، فلنقطع الطريق عليهم .
إن هذا هو مايحلم به العدو تماماً ، وهو الذي يقع دائماً .
استثمار المصالح المتناقضة ، هو الثغرة التي ينفذ منها العدو إلى صفوفنا.
إن من مصلحة الشعب الفلسطيني أن يتسامى فوق الاعتبارات الجزئية ، والمصالح الآنية ، ولا يسمح لأي مؤثر أن يصرف السهام عن صدور العدو المشترك إلى صدور الجيرة والمساكين .
وهذا يقودنا إلى الأمر الثالث ، وهو :
أن التحدي اليهودي يمكن استثماره لتحقيق نوع من التقارب الإسلامي .
إن الوحدة بين المسلمين – وبكل صراحة – لا ترقى أن تكون حلماً ، فضلاً عن أن تكون واقعاً مشهوداً ، فالتناقضات أعمق من أن يمكن ردمها ، أو القضاء عليها .
لكن هذا لا يعني فقدان الأمل .
أ – فهناك مواقف متباعدة يمكن أن تتقارب ، أو تتوحد ؛ لأن الهالات الوهمية المحيطة بها أكبر من حقيقة الاختلاف الموجود ، وفي حالات كثيرة يكون هناك تطابق في الأصول والقواعد العامة ، والمنطلقات الثابتة ، والاختلاف في جزئيات ، أو تطبيقات ، أو في حجم الاهتمام أو نوعيته .
ب – وهناك نقاط اتفاق كثيرة ، وكبيرة ، يمكن توظيفها ، والعناية بها ،، عوضاً عن الدندنة الدائمة حول مسائل الاختلاف .
ودون أدنى شك ، فالانفعالات النفسية ، والانطباعات الشخصية تضخم جوانب التباين ، حتى تكون كالكف التي يقربها صاحبها من ، عينه فتحجب عنه رؤية الكون كله .(26/2)
إن مساحات الاتفاق بين العديد من شرائح الأمة واسعة ، سعة هذا الدين الذي جمع بعد الفرقة ، ووحد بعد الشتات ، وأغنى بعد العيلة ، وأعلنها في الكتاب الكريم [ إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون ].
ثم أبلغ نبيه العظيم - صلى الله عليه وسلم- ، فصاح بالناس : " لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض " ، " سباب المسلم فسوق ، وقتاله كفر " .
وانطلاقاً من مساحات الاتفاق يمكن الخروج بمواقف موحدة في بعض الأزمات ، وتظافر وتناصر في بعض الميادين .
كما يمكن الاتفاق على مشاريع جزئية ، أو برامج محدددة ، إنْ في الإعلام ، أو في الاقتصاد ، أو في التنمية ، أو في ااالتعليم ، أو في الدعوة ، أو سواها .
يكفي أن نتفق على هذا البرامج ، أو نتوحد حول هذا المشروع ، ثم ليكن لكل منا طريقه الخاص .
ج – ثم هناك ترتيب العداوات ، فيما يتعلق بالخصوم الحقيقين ، فهناك عدو ، وهناك أشد عداوة ، وإذا أمكن مواجهة الجميع ، فحبذا وقرة عين ، لكن حين يكون الجهد محدوداً ، وحين يكون القتال على أكثر من جهة غير ممكن ، فمن حكمة الشرع حينئذ أن وفر الجهد للعدو الأكبر ، وهذا لايمنع من مدافعة الآخر وفق رؤية متكاملة مدروسة .
رابعاً وأخيراً : فإن الانتفاضة المباركة في الأرض المباركة ، هي نيابة عن الأمة كلها في مدافعة المغتصب ، وفضح ألاعيبه ، وكشف أساليبه ، وتعرية وحشيته وغطرسته أمام العالم .
وهي تذكير حي بقضية الاستعمار اليهودي الصلف الذي دنس هذه الأرض ، وفصلها عن بقية الجسد الإسلامي .
وقد كانت صيحات المسلمين على منابرهم خلال هذا التصعيد الأخير هي صيحات التنادي للجهاد بشموليته وسعة مفهومه .(26/3)
فلنصدق الوقفة مع إخواننا في الضراء ، ولنشاركهم مرارة عيشهم ، إن لم يكن حضورياً ، فليكن شعورياً ، ولنقتسم معهم لقمة الخبز ، وليكن لهم من قلوبنا ، وعقولنا ، ومجالس درسنا وحديثنا ، وإعلامنا ، وصلاتنا ، وتواصينا مايشد على أعضادهم ، ويواسي جراحهم لنكن( مطريين) هذه المرة :
بنو مطر يوم اللقاء كأنهم **** أسود لها في غيل خفان أشبل
هُمُ يمنعون الجار حتى كأنما **** لجارهمُ بين السماكين منزل
لها ميم في الإسلام سادوا ولم يكن **** كأولهم في الجاهلية أولُ
هُمُ القوم،إن قالوا أصابوا،وإن دعوا **** أجابوا،وإن أعطوا أطابوا وأجزلوا
فما يستطيع الفاعلون فعالهم **** وإن أحسنوا في النائبات وأجملوا(26/4)
فلنفرح بالعيد
04/12/2002
29/9/1423
أبادلكم التهنئة بالعيد المبارك ، جعلها الله لنا ولكم ولكل المسلمين أفراحاً موصولة .
هكذا العيد أيها الأحبة ، أفراح ومباهج وصفاء ونقاء ، "قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون" .
فلتتصافح القلوب ، ولتتصاف النفوس ، ولنجدد ميثاق الإخاء الإسلامي بين أولياء الله وحزبه من أهل "لا إله إلا الله" تعاوناً على البر والتقوى ، وتواصياً بالحق والصبر ، ونصرة للظالم والمظلوم ، فلن يذوق طعم الفرح بالعيد قلب تأكله الأحقاد ، أو ضمير يسكنه الغش ، أو نفس يتلبسها الهوى .
ولنحلم بغدٍ مشرق تلوح تباشيره في الأفق البعيد ... فما أضيق العيش لولا فسحة الأمل! لم لا نفرح بالأحلام اللذيذة ؟!
لقد سن أبو الطيب المتنبي للناس سنّة غير حميدة حين سوّد صفحة العيد بداليته المتشائمة :
عيدٌ بأية حالٍ عُدت يا عيدُ **** لما مضى .. أم لأمرٍ فيك تجديد
أما الأحبة فالبيداء دونهُمُ **** فليت دونك بيداً.. دونها بيد
وصارت سنة.. فما شاعر إلا ويندب حظه يوم العيد ، كما ندب أبو الطيب ، ولو أنها حظوظ شخصية ، ومعاناة خاصة، وهموم ذاتية ، والله أعلم .
ما الذي سيحدث للأمة لو أن أبا الطيب ظفر ببغيته، وأصبح أميراً على العراقين ؟!
وغير كثير أن يزورك راجل **** فيرجع ملكاً للعراقين واليا
وهكذا تحفظنا منذ طفولتنا قول الشاعر الأميري :
ما العيد والقدس في الأغلال رازحة **** وفي الخليل ملمات وتشريد
وصيحة المسجد الأقصى مخنّقةُ الـ **** أصداء بالدم والويلات ترديد
واللاجئون صيام العيد فِطرهُمُ **** وجل أفراحهم هم وتسهيد
يا رب أخذك للباغين أخذ ردى **** والفتح والنصرحتى يصدق العيد
وقول جارنا الشاعر المقل المبدع محمد الشبل:
يا عيد.. أنت على المدى إشراقة النفس العليلة
وسعادة القلب الذي .. لم يلق في الدنيا سبيله
لكنها الأيام تسلب منك فرحتك الجميلة
وتحيل صفو العيش فيك إلى أمانٍ مستحيلة ..(27/1)
يا فرحة العيد التي ثقلت على صدر الزمن
يا فرحة العيد المؤطر بالمآسي والمحن
عودي..
إذا عادوا ، إذا عادوا إلى أرض الوطن
عودي إذا عاد الفتى والطفل والشيخ المسن
وتلفتوا في لهفةٍ للأرض.. للحقل الأغن ..
في نفس شاعري مسترسل يعمق هذا المعنى .. ويأبى قبول فرحة العيد بغير تحقيق النصر .
إن لبلوغ الأمل المنشود على الصعيد الفردي والأممي فرحةً أخرى تختلف في مباهجها وطعمها عن فرحة العيد الراتبة المألوفة.
وقد علم الله الحكيم أن الأمة ستركب طبقاً بعد طبق ، وستأخذ مأخذ الأمم قبلها في التفريط ، والاتكاء على الماضي العريق ، والتخاذل عن الواجب ، وستضر بها أزمات ومحن ومصائب.. وشرع لهم سبحانه أن يفرحوا بعيدهم ، شكراً على تمام العبادة ، والهداية إلى الشريعة ( ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون ) .
ونأى الرسول الهادي صلى الله عليه وسلم بالمسلمين عن موافقة أهل الشرك أو أهل الكتاب في أعيادهم ورسومهم ، لا ليدع المسلمين دون عيد وفرحة ، ولكن ليخصهم بهذين العيدين الكبيرين المرتبطين بالتعبد صوماً ، أو حجاً ، وهما عيد الفطر وعيد الأضحى .
وما من شك أن المسلمين كانوا يقيمون هذه الأعياد ، ويجتمعون ويوسعون على الفقير والمسكين ، ويترخصون من الأعمال بما لا يرتضونه في غيرها ( دعها، فإنه يوم عيد ) .
يفعلون ذلك حتى حين يكونون في معاناة أو ترقب أو محنة ...
إن النفس البشرية قد تمل من فرط الإلحاح على معنى واحد ، ولو كان صواباً في ذاته ، فالجد الصارم يملّ ، ولا بأس أن نوقف معزوفة الحزن والندب لنُشِمَّ قلوبَنا شيئاً من عبير الفرحة بالشرع والهداية والتوفيق .
وثمة معنى لطيف يتصل بهذا السياق ، وهو التذكير بأنه لا شيء من أمر الحياة الدنيا يدوم .
فيومٌ علينا ويومٌ لنا **** ويومٌ نساء ويومٌ نُسَرّْ(27/2)
والله تعالى بيده الأمر ، يخفض القسط ويرفعه ، كل يوم هو في شأن ، وليست الذلة والمرارة التي تعيشها الأمة الإسلامية حتماً صارماً لا يزول ، والتاريخ لا يعرف الكلمة الأخيرة ، بل هو في دورات متعاقبة يتحقق فيها التقديم والتأخير ، والعلو والهبوط ، والتمكين والاستضعاف ، ولا شيء يدمر إمكانيات الأمة ، ويجرها إلى اليأس والقنوط والانتحار مثل الإحساس بالعجز والتوقف عند حالٍ خاص.
لقد أدركنا العيد هذا العام ونحن هدف مغرٍ للمغامرات الأمريكية وتفتحت شهية الأحلاف للضرب ذات اليمين وذات الشمال ، ومحاكمة الثقافة الإسلامية والتاريخ الإسلامي وإدانة المجتمعات المسلمة ، والتدخل المباشر لتغيير مناهج المسلمين وأفكارهم وإعلامهم واقتصادهم .
ولقد رأيت المرارة وقرأت الحزن الدفين في وجوه من لقيتهم ، وفي كلماتهم وعباراتهم وأحاديثهم .
وهذه حالة فاضلة من حيث صدق الولاء لهذا الدين ، وعمق التفاعل مع جراح الأمة وآلامها ونكباتها .
لكن تعديل المزاج بجرعة من الفرحة الغامرة ، والضحكة الصادقة ، واستعادة البراءة الطفولية قد تعيد تشكيل النفس وتجدد عزيمتها وترفع همتها ، ومن الحكمة البالغة القدرية أن الله تعالى غشَّى المسلمين النعاسَ حين احمرت الحدق واشتد الخوف وأصابهم القرح في أحد ، فكشف به عنهم غائلة الشر ، وأعاد به إليهم السكينة والرضا والاطمئنان .
إن العيد جزء من نظام الأمة الرباني ، يصل ماضيها بحاضرها ، وقريبها ببعيدها ، ويربي ناشئتها على الانتماء الحق لها ، ويربط أفراحها بشرائع دينها ، التي هي معراجها إلى الكمال والقوة والانتصار .
وليس يحسن أن تجوز عليه المتغيرات فينسى الناس كونه عيداً ليتحول عندهم إلى مناحة.(27/3)
لنرغم أنف الشعراء ... ولنفرح بالعيد ، كما هي سنة الأنبياء ، وها نحن نلتقط خيط الأمل من نقطة ضوء تلوح في آخر النفق ... يقدحها طفل فلسطيني برمية حجر، ، أوعامل دؤوب في حقل من حقول الإصلاح والبناء والتعمير والإحياء .
عيدكم مبارك ، وتقبل الله منا ومنكم ، وغفر الله لنا ولكم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(27/4)
في مفهوم الوسطيّة
15/10/2001
28/7/1423
الحمد لله ، والصلاة على رسول الله ، وبعد :
الحديث عن الوسطية يستدعي الوقوف لتكوين مفهوم حول الماهية العلمية للوسطية ، باعتبارها منهجاً شرعياً بعث به سائر الرسل عليهم الصلاة والسلام أولاً.
وباعتبارها قانوناً يمثل أفضل صياغة للمعادلة بين العقل والنفس ثانياً .
ربما كان الاعتراف بصحة مفهوم الوسطية ، وتأهيله للتأسيس والصياغة في العلم والعمل ، يعد حقيقة مسلمة لا جدال حولها.
لكن هذا لا يعني الخلاص من إشكالية الصياغة التطبيقية لهذا المفهوم ، والتي يقع حولها الاختلاف بين كثير من الإسلاميين اليوم.
بل إنك إذا نظرت إلى التاريخ الإسلاميّ ، وبخاصةٍ التاريخ العلمي المعرفي ، وجدت الإشكال في صياغة المفهوم الوسطي من أكبر العقبات التي تواجه أصحاب الاهتمامات المعرفية في تاريخ الأمة.
إن الجدل حول جدوى هذا المفهوم الأصيل " الوسطية " ، لم تكن قائمة -قط- حول التسليم به من حيث المبدأ ، لكن كان مثار الجدل الخلاف حول الصياغة العلمية التأسيسية ، أو حول النموذج التطبيقي ، ومحاولة تحديد المدلول الشرعي والعقلي للوسطية في هذين الجانبين.
فمع القبول العام بمبدأ الوسطية والتسليم به ، إلا أن تحديد الرؤية الشرعية الواضحة لهذا المبدأ ظلت مثار جدل.
وربما يكون من اليسير رؤية الخلاف في التطبيق في مساحة العمل الإسلامي اليوم والذي قد يصل إلى حد التناقض في العمل والأهداف ، والذي يقوم على تسليم نظري على الأقل بالوسطية.
نعم . ليس بالضرورة أن الخلافات هي نتاج مفهومات قَبْلية مُسبقة ، فقد تكون -في كثير من الأحيان- إفرازات للمحيط الاجتماعي والنفسي و السياسي والاقتصادي .....الخ.
وعلى أي حال فإنه يمكن التأسيس لرؤية مناسبة لهذا المفهوم الشرعي الشمولي في العلم والتطبيق ، من خلال التأمل في الحديث النبوي الذي رواه البخاري في" كتاب الإيمان" من صحيحه ، حيث قال:(28/1)
" باب : الدين يسرٌ ، وقول النبي -صلى الله عليه وسلم- : أحب الدين إلى الله الحنيفيّة السَّمْحة".
ثم ساق بسنده عن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال : " إن هذا الدين يسرٌ ، ولن يُشاد الدينَ أحدٌ إلا غلبه ، فسدِّدوا وقاربوا وأبشروا ، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة ".
فهذا الخطاب النبوي يمثل صياغة شرعية للوسطية.
وربما كان من المهم الإدراك بأن كثيراً من الصياغات التي يُؤَسَّس بها لبناء مفهوم ثابت ، قد تتحول تحت تأثير واقع معين ، ورؤية اجتهادية خاصة ، إلى أُسس مناقضة للمفهوم الشرعي بدلاً من كونها أسسا بنائية فيه.
وهذه مشكلة ربما تواجه أي مفهوم ثبوتي آخر ، يكون من المسلمات المتفق عليها لدى جميع الأطراف ، لكن يقع الإشكال في فهمه وصياغته ، واستئثار كل طرف بتعريفه الخاص ، ونموذجه الخاص.
إن المفهوم الثبوتي لأي مُسَلَّمة أو مبدأ شرعي يحسن أن يحدّد ويؤكد من خلال معانٍ وأصول وقواعد ثابتة ، لا أن يحول إلى صياغة اجتهادية مطلقة.
لأنه حينئذ قد يتحول إلى نموذج تطبيقي لا يؤمن إلا بمفهومه الخاص .
وهنا نرى أن كثيراً من الأشكال في العمل الإسلامي اليوم لا تعترف بغير المفهوم الخاص الذي تنادي به.
وصار يتولد من كثير من المفاهيم والمسلمات الثبوتية صياغات تمثل رؤية واحدة لا تؤهل للتعامل مع أشكال العمل والدعوة.
إنه ليس من الضروري ، بل ولا من الممكن ، القدرة على صياغة رؤية شمولية مؤهلة لاستيعاب سائر الأنماط العلمية والدعوية في الأمة.
ولكن الضروري والممكن أن يطرح للاستيعاب العام لأهل الإسلام ، ولا سيما أصحاب العلم والعمل والدعوة هو المنهج العام ، وأخص أشكاله المقررة : مفهوم الوسطية ، ومدلوله الشرعي العام.
ولن يحظى الفهم العام للوسطية بالإجماع نفسه الذي يحظى به المبدأ الأصلي؛ لأن الفهم اجتهاد تفصيلي ، وثبوتية المبدأ لا تستلزم ثبوتية الاجتهاد في فهمه وتحصيل معناه.(28/2)
ولذا يحسن أن نفرق بين ثلاثة مستويات هنا :
الأول : الإيمان بالمبدأ باعتباره قاعدة شرعية ضرورية.
الثاني : فهم القواعد الشرعية المتعلقة بهذه المبادئ الثبوتية.
الثالث : الفهم الخاص المبني على الاجتهاد في إمكانية معينة.
فهذا المستوى الثالث لا يحظى بالتسليمية المطلقة التي يحظى بها المبدأ الأصلي ، ويحظى بها الفهم العام المبني على القواعد الشرعية.
والرؤية الخاصة الاجتهادية لفئة أو طائفة لا تحتمل القداسة والثبوت المطلق بل هي على أحسن الأحوال: صواب يحتمل الخطأ.
وهذا التفريق ضروري لجهة معالجة الإشكالات التي تثور اليوم في كثير من مجالات العمل والعلم والدعوة في الواقع الإسلامي ، حيث يعزى معظمها إلى فرض اجتهاد خاص ، لأنه مبني عندهم على مبدأ عام مسلّم ، وهنا يقع الخطأ في عدم التفريق بين المدلول القواعدي الكلي ، وبين المدلول الاجتهادي الخاص .
وربما يكون ذلك -أحياناً- صياغة جديدة معاصرة لأنماط التقليد والتعصب بين أهل الإسلام ، وترسيم لها بأسماء ذات قيمة مطلقة شرعية ، أو بأسماء مصادمة للتقليد في أصلها .
إن تأكيد رسم المشكلة وتحديد موضع الداء ضروري ؛ لأن عدم فهم صورة الإشكال وموضعه يترتب عليه عدم فهم إمكانية التصحيح وطريقه .
وإذا أخذنا الحديث النبوي المتقدم -يمكن بصورة تقعيدية- أن يقال :
الدين يسر ، واليسر هو الوسط ، فالدين وسط ، والأمة وسط ، كما نطق التنزيل .
وهنا نرى النبي -صلى الله عليه وسلم- رسم قواعد الوسطية على التحقيق :
-1 السداد في قوله :" فسددوا " إن السداد هو إصابة عين الشيء، وتسدد السهم إذا أصاب غرضه وهذا يعطي أن الوسطية والتيسير لا يعني تجاوز القصد الشرعي، والتحقيق لأحكام الشريعة على وفق الدليل من الكتاب والسنة ، وأن الوسطية والتيسير لا تعني التهوين من شأن حدود الشريعة وعصمها، والاتباع لما تهوى الأنفس في منهج الدعوة والقضاء والإفتاء والتعليم بل والتعامل مطلقاً.(28/3)
إنّ من يفتقد الاتصال الجاد القاصد إلى أحكام الشريعة وأدلتها فهو يفتقد أحد قواعد الوسطية النبوية .
-2 لما كان وضع القاعدة الأولى " السداد " قد يوحي أو يولّد عند بعض من لا يتمتع بسعة في الفقه والمعرفة بحكمة الشريعة ومقاصدها قدراً من الإلحاح في المطالبة بتطبيق الرؤية الواحدة الاجتهادية واستتمام تطبيق الأحكام الشرعية في الذات والغير ، جاء قوله : " وقاربوا " ليرسم قاعدة مكملة للقاعدة الأولى .
إن السداد لا يكون ذا إمكانية في التحصيل والتطبيق إذا لم يصاحبه إيمان بقصور النفس والعقل عن رتبة الطلب العليا مهما كان وضوح الشريعة فيها . إن الله خلق آدم خلقاً لا يتمالك كما في الصحيح عن أبي هريرة .
وهنا يعلم أن النفس الآدمية ليست نفساً تمامية إلا بنوع من العصمة والاصطفاء الإلهي ، ولهذا جاء قوله : " وقاربوا " والمقاربة ليست هي " التمام " .
بل يتحصل: إن فرض قاعدة " التمام " في المفهوم الشرعي للوسطية يعد من أخص المناقضات لهذا المفهوم الشرعي ، هذا في التمام الذي هو شرعي ثبوتي، فكيف التمام فيما هو محصل اجتهادي ؟
إذا تم شيءٌ بدا نقْصُهُ ترقَّبْ زوالاً إذا قيل تَمْ
إنَّ الوسطية تعني -لزوماً- الاعتراف والإيمان بعدم لزوم التمامية بل عدم إمكانيتها .
-3 ولما كان اعتبار الوسطية بهذين الأصلين " السداد ، والمقاربة " ، قارنهما قاعدة " البشارة ".
إن الأصلين ، الأول والثاني " السداد ، والمقاربة " هما البناء العلمي لهذا المفهوم الثبوتي " الوسطية ". ثم هذه القاعدة " البشارة " هي البناء المحصل لتجاوز الأزمة الذاتية الشخصية الولائية . إن الدين والعمل له لا يجوز أن يتحول إلى مجالات ولائية خاصة ، ومن الغلط أن يكون العمل الإسلامي استجابة ولائية ساذجة لحزب أو جماعة أو دائرة أو غير ذلك .(28/4)
وبقدر ما نؤمن بعمل إخواننا في الدوائر والجماعات القائمة على اتباع الكتاب والسنة والدعوة إلى دين الله نؤكد رفع مقام دين الله عن الأثرة الولائية. فالعمل للدين هو استجابة لله ورسوله وهنا ترى أهمية قوله : " وأبشروا" . إن كثيراًَ من أشكال الخلاف والإقصاء هو نتيجة لموقف ولائي لا يمثل عند التحقيق لزوماً شرعياً . ومن هنا صار من قواعد الوسطية ربط العمل لدين الله بمقصد وجه الله سبحانه وحده.
إن ثمة فرقاً بين المطالبة بقطع الصلات الولائية ، فهذا ليس من العقل ولا من الشرع ، لكن لا يجوز أن تتحول التجمعات الإسلامية الكثيرة اليوم إلى مقاصد ولائية يصاغ المفهوم تحت تأثيرها . إنَّ المفهوم الشرعي لأيِّ قضية يفترض أن يكون متعالياً على المقدرات الولائية الخاصة بقدر الإمكان.
4- "واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة" إن من قواعد الوسطية اعتبار القدْر الممكن من العمل في ذات الشخص وفي محيطه الدَّعوي والتزام هذا القدْر .
إن الوسطية تعني: أن يعمل كل لما خلق له ، وأن يتحقق الترفع عن مقام التعاند على الأشكال الممكنة.
ومبدأ الإمكان في العمل يرشح كثيراً لمبدأ الإمكان حتى في المفهوم والتطبيق. ومن هنا كانت المحافظة على قدْر من العمل المؤسس شرعاً يستدعي لزوم الاعتراف بضرورة العمل مع إدراك محدودية الإمكان.
وهذا يحصّل فرصة جيدة للإيمان بتعددية العمل الإسلامي في شتى أشكاله ، ويجب ألا يتناول الإقصاء إلا من خرج عن أصول الشرع الثابتة المتحققة باعتبارٍ عِلمي لازم وليس بمأخذ اجتهادي خاص.
وربما كان من المشكل أن كثيراً لا يحصلون مفهوم الوسطية إلا بتجاوز إحدى هذه القواعد النبوية الأربع.
فقد ترى من يتجاوز القصد لمقام الشريعة على التحقيق والعناية لدعوى وسطية يراها ، فيسبح في مفهومات غامضةٍ لا حدود لها .(28/5)
وفي مقابل ذلك ترى من يبالغ في المطالبة بالتمام مع أن الشارع قصد تحقيق المقاربة فيما هو شرعي فكيف باجتهاد خاص يصر عليه كثير من أهل الإسلام اليوم ، ويبنون عليه إقصاء من لم يحقق توافقاً مع اجتهادهم فضلا عمن يخالفهم ، وهنا يؤسِف أن الإقصاء يكون باسم أحد الثوابت المبدئية كالخروج عن الوسطية أو اتباع الكتاب والسنة أو اتباع السلف وأمثال ذلك.
ولا يحصل هنا تفريق بين لزوم المبدأ ، وعدم لزوم الفهم الخاص فيه . ويقع التنازع بين الأطراف بدعوى تحقيق المبدأ مع الغفلة عن أن المخالفة لم تقع للمبدأ وإنما وقعت لاجتهاد خاص.
إن افتقاد الكثير من أصحاب العمل الإسلامي اليوم للفهم الشرعي الصحيح للوسطية جعل كثيراً من صور العمل الإسلامي تتجه إلى الرؤى المتقابلة فصار قانون التضاد يمثل واقعاً في الأعمال الإسلامية بقدرٍ كان ينبغي ألاّ يوجد ، مع أنه بحمد الله لا زال في أهل الإسلام ودعاته خير كثير واعتدال محمود.
ربما كان من المفيد ألاّ نشعر بأن حل مشكلة عدم تحقيق الوسطية تكون بإلغاء التعددية القائمة في العمل الإسلامي اليوم.(28/6)
هذا ليس ضرورياً فيما أرى ، فضلاً عن كونه ليس ذا إمكانية تطبيقية بل من المناسب محاولة جعل هذه التعددية قوة تكاملية لاستيعاب سائر الفروضات. إن الوسطية لا تعني إلغاء التعددية بل تعني تقريرها وترشيدها وربما كان هذا مفهوماً صعباً عند كثيرين ، لكنك إذا تحققتَ في أصول الشريعة وقواعدها وجدته واضحا في هدي الرسول -صلى الله عليه وسلم- وفي هدي خلفائه، وهذا باب واسع لا يستوعب الأمة سواه ، وقد مدح الله –تعالى- من يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، والأحسن يختلف من حال إلى حال ، ومن زمان أو مكان إلى آخر ، ومن شخص إلى آخر ، وقد جعل الله للأمة مندوحة في دائرة الاختيار ، ومع التسليم بترجيح أن الحق واحد في مواطن النزاع كما اختاره جمهور الأصوليين إلا أن القول بكونه في هذا الفريق أو ذاك محل اجتهاد والعبرة بحجة الشرع وقواعده ومعاقده ، وليست بتوفر القناعة الذاتية لدى هذا أو ذاك .
نسأل الله أن يهدينا إلى سواء السبيل والحمد لله رب العالمين.(28/7)
قراءة المستقبل
16/09/2002
9/7/1423
من الأبيات السائرة التي تتردد في عدد من السياقات العلمية والوعظية البيت اليتيم الذي ينسب إلى أبي إسحاق الغزي :
ما مضى فات والمؤمل غيب **** ولك الساعة التي أنت فيها
وإذا صح زعم ابن أبي دؤاد في أن العربي شاعر بطبعه، ولابد أن يقول البيت والبيتين، فإن هذا يوشك أن يكون متحققاًَ في تعطل ملكة النقد والتمحيص العلمي للمعاني المبثوثة في الشعر، فقد جرى العرف لدى الكثير أن الخبر المخلَّد في الشعر لابد أن يكون صحيحاً، وأن الشعر كله حكمة .
وفي لغة الشرع فإن ( من الشعر حكمة) كما عند الترمذي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وهذا تبعيض يصدق على القليل والكثير، ولكن في محكم التنزيل ما يوحي أن الرشد في الشعر استثناء من القاعدة "والشعراء يتبعهم الغاوون*ألم تر أنهم في كل واد يهيمون*وأنهم يقولون ما لا يفعلون*إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون"[الشعراء :224-227] .
هذا البيت اليتيم لا يستقيم للنقد، وقد يصح أن الإنسان هو ما مضى وما يستقبل، وألا شيء بعد حاضراً، وأن الساعة التي أنت فيها هي نهب ماض، أو أمل مستقبل، ولا شيء فيها حاضر على التحقيق .
وعناية البشر بالتاريخ ظاهرة، تدويناً لأحداثه، وترجماناً لأبطاله، وتحليلاً لدوافعه ،بينما لا تجد الحفاوة ذاتها بأمور المستقبل، مع أن التاريخ إنما يقرأ ليعتبر به وتحفظ دروسه للزمن القادم .(29/1)
والإنسان مجبول على التطلع للمستقبل واستقراء أحداثه وتحولاته واستجلاء غوامضه وخوافيه، ولهذا أقرَّت الشريعة في هذا الباب ما كان نافعاً للعباد مبنياً على معرفة النتائج من أسبابها، أو إتيان البيوت من أبوابها، وفي قصة يوسف عليه السلام طرف من ذلك يقول الله تبارك وتعالى : " قال تزرعون سبع سنين دأباً فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلاً مما تأكلون*ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلا مما تحصنون * ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون"[يوسف: 47-49] فهي رؤية مستقبلية ناضجة مستنيرة بنور الوحي والإلهام، ووضع للحلول والاستراتيجيات المكافئة، ورحمة بالعباد والبلاد .
وهذا ما حاوله الغرب حتى أبدع فيه، وصار يعتني بدقة المعلومة، ويحسن توظيفها، ويدرس كافة الاحتمالات والتحوطات، لا رجماً بالغيب، ولا تظنياً وتخرصاً، بل بناءً على استقراء النواميس والسنن، والاعتبار بمعطيات اليوم، وتجارب الأمس .
وفي التنزيل الحكيم : " قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم وما الله بغافل عما يعملون"[البقرة : 144] .
فهذا استشراف وترقب لتغيير وجهة الصلاة فاض من قلب المصطفى عليه الصلاة والسلام وامتد من جوانحه إلى جوارحه، فصار يقلب طرفه في السماء منتظراً شريعةً ربانية جديدة تحوّل قبلة الصلاة من بيت المقدس إلى الكعبة المشرفة، وهكذا كان .(29/2)
وربما تمنى وتطلع صلى الله عليه وسلم إلى المستقبل الذي لا سبيل إلى تحويله، ولكن الوله والشوق يحدو إليه، حتى إنه نام مرةً صلى الله عليه وسلم في بيت أم حرام بنت ملحان وهي تفلي رأسه ثم استيقظ وهو يضحك قالت: فقلت ما يضحكك يا رسول الله ؟ قال: ( ناس من أمتي عرضوا علي غزاة في سبيل الله يركبون ثبج هذا البحر ملوكاً على الأسرة أو مثل الملوك على الأسرة) يشك أيهما قال، قالت: فقلت : يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم فدعا لها ثم وضع رأسه فنام ثم استيقظ وهو يضحك قالت فقلت ما يضحكك يا رسول الله؟ قال: (ناس من أمتي عرضوا علي غزاة في سبيل الله...) الحديث رواه البخاري ومسلم وغيرهما .
وود أنه رأى إخوانه الذين لم يأتوا بعد، وحدث بما لهم من الخصوصية والثواب .
وجاءت مواعدة الخصوم عواقب ما تأتي به غِيَرُ الأيام كثيراً في الكتاب المبين : " قل انتظروا إنا منتظرون"[ الأنعام:158] وقال سبحانه: " فتربصوا إنا معكم متربصون"[التوبة:52] وقال : " ولتعلمن نبأه بعد حين"[ص:88] .
وهذا التطلع للمستقبل ليس هروباً من الحاضر، ولا قفزاً على السنن الربانية، ولكنه الأمل الذي يدفع إلى العمل .
أعلل النفس بالآمال أرقبها **** ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل
والراشدون من رجال هذه الأمة المتبعون كانوا يعدون النظر في المستقبل وتوقع أحداثه والتحوط لها من الأسباب التي جاءت بها الشريعة، وكانت تخوفاتهم على الملة وأهلها ورجاءاتهم في حفظها وحياطتها ونصرتها تطلعات مستقبلية معززة بتلمس الأسباب فعلاً وتركاً يفعلون هذا في أسفارهم وتجاراتهم وجهادهم ودعوتهم .
ومن ذلك كتمان الأخبار كما في فتح مكة مثلاً، أو إشاعتها كما في قصة دوس، وقول كعب بن مالك رضي الله عنه
قضينا من تهامة كل حق **** وخيبر ثم أجممنا السيوفا
نخيرها ولو نطقت لقالت **** قواطعهن : دوساً أو ثقيفا(29/3)
وكان عمر رضي الله عنه محدثاً ملهماً قلما قال لشيء : أظنه كذا..إلا كان كما قال، وكان يقول :
تفاءل بما تهوى يكن فلقلما **** يقال لشيء كان إلا تحققا
وهذا هو التفاؤل الإيجابي الحذر، وليس التمنيات العريضة الفارغة .
وهكذا استقبلت أنفسهم خبر الصدق عن هذا الدين وأهله وما سيقع له من التفوق والانتشار، وما سيطرأ عليه من النقص والخلل والفتنة .
كما أن من المحقق أيضاً أن الراشدين من رجال هذه الأمة لم يعتبروا هذه مواعدات شخصية لذواتهم، ولا تعذيراً للنفس بترك العمل والمجاهدة والتصحيح المفترض، ولاحجة شرعية بتجاوز الأسباب وإغفال السنن .
حتى الموعودون بالجنة تبشيراً صادقاً لم يعن هذا لهم خروجاً على قانون الشريعة، ولاتنصلاً من الأمر والنهي، ولولا ما علم الله عنهم من الثبات على دينه ومحاذرة التجاوز ما كانوا أهلاً لذلك الوعد الكريم.
ومن الخلل المصاحب لهذا الضرب في الحياة الإسلامية المعاصرة اعتبار ضمان المستقبل لهذا الدين، وهذه الأمة تكأة للقعود والتواكل ومضغ الحديث مكتفين بأن دين الله منصور، بينما هو منصور بجهود مباركة زكت فيها النية وحالفها الصواب، وقرأت المعطيات وتذرعت بالأسباب.
ومن ذلك الغفلة الشديدة عن قراءة المقدمات والبوادر والوقوع في أسر المفاجآت والانسياق لردات الأفعال الوقتية العابرة دون أن نمتلك نظاماً فكرياً منهجياً جاداً، ولا رؤية موضوعية واعية، وربما صح هذا بإطلاق أو كاد، فالعالم الإسلامي بحكوماته ومؤسساته وتياراته يفتقر إلى مراكز الدراسات الحديثة التي تشكل " العقل المدبر " له.
وفي تقديري أنه حتى في الدوائر الأكثر تحديداً فثمت غياب مخيف للتفكير الاستراتيجي المستجمع للشروط .
وهذه دعوة إلى الجامعات العلمية والمؤسسات القادرة والتجمعات المهمومة بحاضر الأمة ومستقبلها أن تولي هذا الأمر اهتمامها، وأن تعنى بتربية شباب الأمة ورجالها على التفكير الواعي، وأن يجمعوا إلى الإخلاص الصواب .(29/4)
والمسلمون اليوم يعايشون أزمات متلاحقة تضرب في جوانب حياتهم كلها بلا استثناء، وفي دولهم كلها بلا استثناء، ولعله يصح لنا أن نقول بثقة : إن الأزمة في حقيقتها مقيمة مستقرة في ذواتنا وشخوصنا، وما الأزمات الطارئة إلا بعض تجلياتها وآثارها، وكأن العالم الإسلامي في حالة مخاض متواصلة يجد متاعبها وآلامها، ويدفع ثمنها، ولكنه لايشهد لها أثراً ولا يبصر لها نهاية .
وفي مثل هذه الحال يغدو التفريط والتساهل في دراسة المستقبل واحتمالاته ورسم الخطط المكافئة تفريطاً في الضروريات وغفلة عما أوجب الله على العباد من التدبر والنظر والتخطيط، ولعل من أثر ذلك الانشغالات الجزئية بهموم خاصة عن هم الأمة الكبير .
ولعل من طريف ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في أوقات الحرج يسائل أصحابه :
( هل رأى أحد منكم رؤيا ؟) والرؤيا الصالحة هي أحد النوافذ إلى قراءة المستقبل إذا كانت على حد الاعتدال والتوسط، وسيرد عنها حديث خاص بإذن الله .
إنه لمن المدهش أن تجد في ظل غياب التفكير الجاد في أمر المستقبل، سواءً كان المستقبل الشخصي للفرد في حياته العملية والاقتصادية والاجتماعية، أو المستقبل العام للأمة أو مجموعاتها أن تجد حضوراً مذهلاً للكهنة والعرافين والمنجمين الذين يفيضون على الناس خليطاً من التجربة العادية، ومن وحي الشياطين، ومن الحدس والبراعة، ومن الخداع والاستغفال، ويتفننون في توظيف المشتركات البشرية التي لا يخلو عنها أحد فيستهوون بذلك السذج والبسطاء، ويخدرون عقول العامة، ويتقحمون حرمة الغيب المصون " قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله وما يشعرون أيان يبعثون"[النمل:65] وهذا ما تجده في برامج الحظ والأبراج في القنوات الفضائية أو الإذاعات أو الصحف، وهو ما تجده أيضاً في الزوايا المظلمة التي يقبع فيها السحرة ومستخدمو الجن والمشعوذون حيث تذبح الأديان والعقول، وتهدر الأموال بلا حساب .(29/5)
وللمرء أن يطول عجبه من أمر هذه الأمة في غفلتها عما أوجب الله عليها، وهجومها على ما حرم، وانتهاك بعض منتسبيها لأستار الشريعة وادعاؤهم ما ليس لهم به علم .
إن المنطقة الإسلامية تمر بتحولات عميقة، ولا أزعم أن ثمت تغييراً شمولياً يتم تحضيره، لكن ربما تشهد المنطقة أحداثاً جادة، وأزمة مفتوحة يعلم الله وحده نهايتها، وقد يحق لنا أن نتحدث عن فترة انتداب جديدة، وعن فوضى قد تضرب أجزاء من المنطقة في جانب أو آخر .
وإذا كان هذا من الغيب، فهو من الغيب الذي جعل الله له مفاتيح تلتمس بدراسة المقدمات والأسباب، وقراءة الواقع في المنطقة ذاتها، وتحري أهداف السياسة الغربية، والأمريكية خاصة، في مرحلتها المقبلة والعوامل المؤثرة فيها، واستحضار التجارب المشابهة .
فهل يصحو المخلصون من سباتهم ويتفطنون لهذا، وهل يستمع المعنيون إلى أصوات الرشد التي تدعو إلى تجاوز الماضي، ومواكبة الأحداث، وتطوير الذات، والامتثال لمخاطبات التغيير الناصحة المشفقة " إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب"[هود:88] .
والحديث موصول بإذن الله لاحقاً حول هذه الجمل .(29/6)
قلق الحرب
29/10/2001
13/8/1423
تدق أمريكا طبول حربها الكونية الأولى في مطلع الألفية الميلادية الثالثة ، وتحشد لها إمكاناتها السياسية ، والعسكرية ، و المخابراتية كما لم تصنع من قبل ، في الوقت الذي تكمل الانتفاضة الفلسطينية الثانية عامها الأول مخلفة أكثر من ثلاثين ألف جريح ، وثلاثة آلاف معوق ، وسبعمائة قتيل ، نسأل الله أن يتقبلهم شهداء في سبيله.
وقصارى ما يحدث هو تهدئة الوضع في الأراضي المحتلة ؛ من أجل تركيز الأنظار على المشهد الجديد ومنع التداخلات السلبية ، و هذا يعيد إلى الأذهان ازدواجية المعايير الانتقائية في سياسة الغرب وعلى رأسهم أمريكا حين التعامل مع القضايا الخارجية ، ولأن شهادتنا فيهم مجروحة ، فننقل شهادة المفكر الأمريكي اليهودي الكبير ( نعوم تشومسكي) في كتابه [ ماذا يريد العم سام ؟] وهذا المفكر وإن كان ضد سياستهم وضد إسرائيل أيضاً ، ويظهر العداوة للإسلام ، إلا أنه لخص أهداف السياسة الأمريكية في أمرين :
أولاً : حماية المجال الأمريكي ؛ إذ تستحوذ أمريكا على أكثر من 50% من ثروات العالم .
ثانياً : إعاقة عملية التقدم والنمو الاجتماعي في العالم ، و يضرب لذلك مثلاً بدول أمريكا الجنوبية .
و شاهد آخر هو المفكر الفرنسي (روجيه جارودي) في كتابه (أمريكا طليعة الانحطاط) يقول : (إن قادة الدول الصناعية السبع في قمة ليون عام 1996م ركزوا على مكافحة الإرهاب ، ولكنهم نسوا أو تناسوا أنهم أكثر الدول إرهابًا في العالم ؛ بل أكثر الدول اغتصابًا لحقوق الإنسان ، ففي راوندا قتل نصف مليون من سكانها بالسلاح الغربي ، إن موت يهودي يعتبر إرهاباً ، ولكن مجزرة بحجم صبرا وشاتيلا يتم السكوت عنها)!.(30/1)
وهذا يقود إلى الإشكالية التعريفية القديمة الجديدة بشأن الإرهاب ، وعدم الاتفاق على معنى محدد له ؛ فإن الشعوب العربية والإسلامية التي تسعى لنيل استقلالها ، وطرد المستعمر كما في فلسطين حيث الاستعمار الاستيطاني المخالف حتى للقوانين الدولية ، وفي الشيشان حيث التدخل العسكري وفي غيرهما... هذه الدول لها حق مشروع في الدفاع عن نفسها ، لكنها أصبحت تصنف في قائمة المجموعات الإرهابية ، بينما الجلاد المغتصب يوصف بأنه مثال للعدل والحرية والديموقراطية .
ومع الأسف فإن كثيرًا من الإعلاميين ومن وسائل الإعلام العربية والإسلامية صاروا ينساقون مع هذه الأكذوبة والتلبيس ، فيتبعون سنن هؤلاء في مفاهيمهم ، و مصطلحاتهم ؛ لأنها هي الأخرى تفرض على أنها مفاهيم ومصطلحات عالمية يلتزم بها الجميع .
إن أخشى ما نخشاه أن يأتي الدور على المجموعات الجهادية المقاومة للاحتلال باسم مكافحة الإرهاب.
الحرب القادمة :
إن العالم يبدو وكأنه يدخل في نفق صعب في هذه الحرب ، فهناك عجز في الأدلة فيما يتعلق بالقائمين بالتفجير ؛ حيث إن عددًا يزيد عن السبعة من الأسماء تبين أنهم أحياء عند أهلهم يرزقون ، وما يزيد عن الخمسة عشر لا يوجد أدلة كافية عنهم ، وهناك شكوك عريضة حول عدد من الأسماء التي لا يعرف لها انتماء إسلامي .(30/2)
وقد عودنا الإعلام الأمريكي أنه كثيرًا ما يغطي قضايا المحاكم والمرافعات، في قضايا بسيطة أو تافهة فيحشد لها عشرات الشهود ، ومئات المحامين ، وعشرات الآلاف من الصفحات، ويستغرق البت فيها سنوات ، ولم ينس الناس بعد متاهة التحقيقات الطويلة والبطيئة في مقتل الرئيس جون كيندي ثم انتهت إلى لا شيء ، أو محاكمة اللاعب الأمريكي سامبسون في قتل عشيقته والتي تمت بالحركة البطيئة وانتهت إلى تبرئته برغم تضافر الأدلة وانحصار التهمة ، بينما نرى اليوم قضية بهذا الحجم ، وهذه الخطورة يتم توجيه أصابع الاتهام فيها دون أدلة كافية ، ويصدر الحكم بعجلة متناهية ، ويُسعى في تنفيذه .
ثم إن الحرب مجهولة .. ضد من ؟! إنها كما قال بعضهم : ( ضد أشباح ) فهي غير واضحة وهذا يعطي فرصة للللتحليل والتأويل ، كما أن بداية الحرب وزمانها غير واضحين ، وآلتها غير محددة ، فهي ليست حربًا عسكرية تقليدية ، لكنها خليط من هذا ومن الحرب السياسية والمخابراتية ، ويخشى أن يكون ميدانها المجتمعات الإسلامية في طولها ، وعرضها وفي ثقافتها .. وفي أخلاقها .. وتعليمها .. ودينها !!(30/3)
لقد استغل أعداء الإسلام – وأشدهم عداوة اليهود والمتعاطفون معهم – هذا الحدث للتأليب على المسلمين ، وتحميل عقيدتهم وثقافتهم مسؤولية ما جرى ، وتعميم هذه المسؤولية بحيث تطال كل ما هو إسلامي ، مع أننا نعلم أن أمريكا لمّا شهدت انفجارات "أوكلاهوما" - التي نفذها اليمين المتطرف - ؛ اكتفت السلطات بالقبض على الجاني ثم إعدامه ، ولم يكن هناك تعميم للجرم ، ولا ملاحقة للجماعة وتجميد للأرصدة وبحث في أصول الفكر ، ولا التحقيق مع كل من قابل الجاني أو اتصل به ، أو رآه يوماً من الأيام ولو في المنام . وكذا فعل اليهود عندما اغتيل رئيس وزرائهم إسحاق رابين ، اكتفوا بالقبض على القاتل وسجنه مدى الحياة ، من غير أن يُطال اليمين المتطرف ، أو يُلاحق غير من ارتكب الجريمة ، فلماذا يراد الآن أن يحشر الإسلام في قفص الاتهام ، ويعمم جرم لم يثبت فاعله لتشمل المسؤولية مسلمين ضعفاء عزّل في بلاد فقيرة .
على أن هذه ليست المرة الأولى ولن تكون الأخيرة التي يواجه فيها المسلمون تأليباً عليهم، فقد بدأ هذا التحالف منذ بداية الدعوة الأولى يوم حُصر المسلمون في الشِّعب ، وواجهه المسلمون في دويلتهم الأولى في المدينة يوم تحزبت الأحزاب ، وتظاهر عليهم المشركون واليهود والمنافقون ( إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً)(30/4)
وواجه المسلمون تحالف أوروبا من أقصاها إلى أقصاها في حملات الحروب الصليبية التي اجتمعت فيها الممالك النصرانية المتفرقة ، بل والمتناحرة كلها في هجوم صليبي جارف على بلاد الإسلام، وواجهت هذا التحالف في بداية العصور الحديثة يوم اتفق المستعمرون على المسلمين واقتسموا ديارهم ، فهذا التحالف اليوم لا يعدوا أن يكون درجة في سُلَّم مر على الأمة في تاريخها ما هو مثله أو أشد ، والشأن فينا نحن أمام هذا الحشد الضخم ، والهلع الذي ركب قلوب الكثيرين أمامهم ، إنها ساعة امتحان القلوب للتقوى كما امتحنت قلوب المؤمنين يوم تحزبت عليهم الأحزاب ، وسدت منافذ النجاة ، ولم يبق إلا السبب الواصل بمالك الملك ومدبر الأمر ، فما وهن يقينهم ولا ضعف إيمانهم، ولكن كان حالهم كما وصفهم ربهم العالم بهم (ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيماناً وتسليماً).
وأما الواهنون ومن في قلوبهم مرض فكانوا كما هم اليوم (يقولون هل لنا من الأمر من شيء ...).
قلق الحرب
إن طبول الحرب تصنع قلقًا في النفوس ، وتوترًا واضطرابًا ،حتى لتمنع الإنسان التمتع بنومه ، وطعامه ، وشرابه ، وأهله ، وتجعله مشدود الأعصاب خائفًا .. وهذا الخوف يتمثل في مظاهر منها :
1- المخاوف الاقتصادية : فأسعار الأسهم ، والنفط ، وحركة البورصات تأثرت كلها سلباً بهذا الجو من القلق والترقب .(30/5)
2- اتخاذ القرارات الحاسمة غير المدروسة وفقد القدرة على التركيز والتفكير السليم ، ولهذا يوصي العلماء بأن على الإنسان ألاّ يتخذ أي قرار مهم ، أو ذي بال ، وهو في مثل هذه الحال ، بل الشريعة الإسلامية جاءت بهذا ، فقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم- أنه نهى أن يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان وقد قاس العلماء على الغضب كل ما شابهه من الأحوال كشدة الخوف ، أو شدة الجوع ، أو شدة العطش ، أو ما أشبه ذلك من الأحوال التي تخرج الإنسان عن توازنه وانضباطه .
3- اضطراب التفكير والتصور ، ولهذا تناول البعض أحاديث فتن آخر الزمان وأنزلوها على الوقائع الجارية بطريقة غريبة متكلفة ، علماً أن هذه من الأمور الغيبية القدرية التي نراها بعيوننا فنصدق بها قائلين : هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله ، وليست من الأمور الشرعية التي كلفنا بفعلها ، ولهذا جاء في صحيح البخاري عن معاوية - رضي الله عنه - أنه بلغه أن بعض الصحابة يحدثون بأحاديث عن مَلِكٍ من قحطان فغضب ، وخطب وحمد الله وأثنى عليه ثم قال : " إنه بلغني أن أقوامًا يخبرون عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأحاديث ما جاءت في كتاب الله ولا نقلها الناس عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فأولئك جهالكم" ثم قال : "إياكم والأماني التي تضل أهلها " ولا شك أن معاوية - رضي الله عنه - لا يقصد – والله أعلم – إنكار ما ثبت برواية الثقات عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، لكنه ربما ألمح إلى معنى آخر ، وهو خطورة وضع هذه الأحاديث وتركيبها وتنزيلها على أحوال معينة ، أو ظروف خاصة ، أو أشخاص بأعيانهم ؛ لأن في هذا مدعاة للاضطراب في أحوال الناس وأمورهم حين ينزلون هذه النصوص على الوقائع بحسب أهوائهم ، أو نظرتهم القاصرة !(30/6)
4- غياب الأهداف ، ففي أوقات الأزمات تغيب الأهداف الواقعية المحددة ، ولذلك يظل الكثيرون يسألون : ما واجبنا ؟ ما دورنا ؟ ماذا يتعين علينا أن نصنع ؟ ويريد هؤلاء السائلون أن تحدد لهم هدفًا سريعًا ومباشرًا وواضحًا وممكنًا وآنيّاً وفعالاً هذا مالا سبيل إليه في كثير من الأحيان ، كما حصل في بداية الانتفاضة حيث كان بعض الشباب يقول : أريد الذهاب إلى فلسطين ، ومقاتلة اليهود ، وهذا الشعور بحد ذاته طيب وجميل ، وعلينا أن نحافظ على ديمومته ، وعلى فاعليته وتأطيره ، وتوجيهه الوجهة الصحيحة ، إلا أن الطريق إلى فلسطين غير سالكة والإمكانية غير موجودة ، وأنت غير مؤهل في مثل هذه الظروف لهذه المهمة بالذات ، لكن لديك مهمات أخرى كثيرة يمكنك القيام بها مما سأشير إلى شيء منه بعد قليل.
وهكذا يضيع كثير من الشباب في إشكالية عجيبة ، وهي أن الأمر الذي يحلمون به ويتطلعون إليه قد يكون أمرًا محالاً ، أو صعبًا على أقل تقدير ، بينما الأمور التي بإمكانهم وقدرتهم أن يعملوها تتحول عندهم إلى جزئيات لا يقيمون لها وزنًا ، فلا تشبع طموحاتهم ولا ترضي رغباتهم.
إن دورك لم يبدأ الآن لكنه بدأ من بداية رشدك ووعيك ، ولن ينتهي بنهاية الحدث ولكن بموتك 0
ولتبدأ الآن بأداء دورك جيدًا ، شريطة ألا ينتهي هذا الشعور بنهاية الحدث مهما كانت نهاية الحدث0
إنه ليس من الرشد ولا من الحمّية الحقة لدين الله ، والغيرة لحدوده أن ننام نومة أهل الكهف ثم لا نصحو إلا عند أزمة تحل ، فنطرح هذا السؤال بقوة ثم ننام بعدها إلى مثلها 0
وصفات شرعية :
إن هذا القلق والتوتر الذي ينتاب الكثير من الناس لا يكون إلا مع ضعف الإيمان ، ولكي نستطيع أن نتغلب على هذه المشاعر لا بد من أمور :
أولاً : تجريد التوحيد وتجديده ، فإن الله - تعالى - هو رب الكون ومدبره ، ولا يقع شيء إلا بإذنه، له الخلق والأمر [ كل يوم هو في شأن ](30/7)
فعلى المسلم أن يجدد إيمانه بربه ، وثقته به ، وتوكله عليه ، فإنه - سبحانه - أغير على دينه ، وعباده المؤمنين من كل أحد [ إن الله يدافع عن الذين آمنوا ] .
وتحقيق الإيمان المطلق بالقضاء والقدر ، وأنه لا يقع في الكون شيء دقَّ أو جلَّ كبُر أم صغُرَ إلا بقضاء الله وقدره [ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله] [إنا كل شيء خلقناه بقدر] [قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون]
ثانياً : التوبة والاستغفار والتسبيح : [ فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون ] قال العباس وعلي - رضي الله عنهما - : ما نزل بلاء إلا بذنب ولا رفع إلا بتوبة
ثالثاً : العبادة والعمل الصالح ، فقد روى مسلم في الفتن عن معقل بن يسار أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (العبادة في الهرج كهجرة إليّ) وفي هذا إشارة إلى ملمحين مهمين :
أولهما : الاشتغال بالشيء المثمر من المحافظة على الصلاة واللهج بالذكر ، والإلحاح بالدعاء والصوم ، والبذل ، والحرص على الدعوة إلى الله ونحوها ، بدلاً من استطرادات الأحاديث ، ومداولات الأسئلة التي قد لا تؤتي ثمرة ، بقدر ما تشغل البال وتقلق النفس .
ثانيهما : إرجاع النفس إلى طبيعتها وسجيتها بهذه الجرعات المهدئة من طاعة الله وذكره حتى تفكر بشكل صحيح ، وتعمل بشكل صحيح أيضاً .(30/8)
رابعاً : الصبر ، فإنه لا إيمان إلا بالصبر ، وعلينا ألاّ نملَّ من التواصي بالصبر ، بل نصبر على ذلك ، لأنه علاج لكثير من المشكلات المزمنة ( والعجلة من الشيطان ، والأناة والحلم من الله) فالأناة والتروي تجعل المرء دارسًا لقراراته ، مقبلاً على أمره بإدراك ونظر صحيح، فلا يتصرف بطريقة عشوائية ، مرتجلة ، وفي الصحيحين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (ليس الشديد بالصرعة ، وإنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب) وفي رواية ( إنما الشديد الذي يصرع غضبه) وهذا غاية الشجاعة مع النفس وهي إحدى مظاهر الكمال الإنساني .
خامساً : ترك التنازع والاختلاف [ ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين ] فإن الاختلاف يحدث الفشل ويذهب الريح ويؤلب الأعداء ، ويشتت الجهود ، وربما انشغل أقوام بأنفسهم عن عدوهم من جرائه ، وقد عاب الله - تعالى - على أهل الكتاب من قبلنا وعلى من يتبعهم من هذه الأمة تفرّقَهم وتنازعَهم فقال : [ تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى ذلك بأنهم قوم لا يعقلون ] والعقل الرشيد يملي على الإنسان أن يكون في غاية الحرص على رأب الصدع بين الطوائف والشرائح التي تُكَوِّن سَدَى المجتمع الإسلامي ولحمته .
سادساً : التفاؤل ، فقد كان - صلى الله وعليه وسلم - يعجبه الفأل ، وفي الصحيحين عن أنس قال : كان النبي - صلى الله وعليه وسلم - أشجع الناس ، وأحسن الناس ، ولقد فزع أهل المدينة ليلة فخرجوا نحو الصوت ، فاستقبلهم النبي - صلى الله وعليه وسلم - وهو على فرس لأبي طلحة عري وهو يقول : (لن تراعوا ، لن تراعوا ...)(30/9)
ولذا فإن من أعظم ما ينبغي أن يعالج في قلوب فئة ليست قليلة من المسلمين اليوم، هذا الشعور بالوهن والعجز ، وقلة الحيلة ، وبرغم اتفاقنا على خطورة الحدث وتداعياته إلا أننا نفزع إلى مسلمات يقينية دالة على أن هذه الأمة باقية إلى قيام الساعة ، وأنها أمة تستعصي على الفناء فقد دعا النبي – صلى الله عليه وسلم – ألا تهلك أمته بسنة بعامّة ، وقد أجيبت دعوته ، فبقيت هذه الأمة على مدار التاريخ تمرض ولكن لا تموت. ولذا فإنا نعجب من حالات الفزع والذعر الذي بدأنا نلمسه في كلام متكلمين وإرجاف مرجفين، فأين ثبات المؤمنين وعزم أولي العزائم ، إن هذه الأمة قد دهمتها خطوبٌ ومحن أعظم فصبرتْ لها وتجاوزتها ، ومرتْ بأطوار كانت فيها أشد ضعفاً وتفرقاً مما هي الآن فحفظ الله الضيعة وجبر الكسر وجمع الشَّمل، ومن يذكر ما جرى على أهل الإسلام يوم كان الإعصار التتري المدمر يطوي مدن الإسلام إلى أن طوى بساط الخلافة ، وقوَّض حاضرة الدولة ، إن من يتصور ذلك التاريخ ويحاول أن يعيش بوجدانه تلك المرحلة ، سيشعر أنها قد وقعت الواقعة والقارعة والحاقة والصاخة ، وأن بساط الإسلام قد طوي ، وأمته آذنت بالفناء ، ولكنها بعد قرنين فَتَحت القسطنطينية وطَرقَت أبواب فِيَنَّا ، فيا أهل الإسلام أبشروا وأمّلوا ما يسركم فإن أمتكم لن تموت بالضربة القاضية ، على أن التفاؤل المشروع هو التفاؤل الإيجابي الفاعل المنتج الذي يرفع المعنويات ويدفع للعمل، وليس ما رأيناه من حال فريق وجد ملاذه بالفزع إلى توقع المعجزات وانتظار الخوارق ، والتوكل بصورة مغلوطة تلغي الأسباب وتنتظر المعجزات ، ونحن نعلم أن المعجزات قد ذهبت مع الرسل ، وأننا نعيش عالم الأسباب المسخرة لنا ، نستخدمها ولا نتكل عليها ، ولذا فبين هذا وذاك موقف آخر وهو الثبات والصبر والتعامل مع الأحداث بيقين المؤمن ورضاه ، بلا عجز ولا تواكل ، وإنما في التعامل مع الحدث وفق الأسباب المتاحة ، والنظرة(30/10)
الواقعية ، وحساب الأرباح والخسائر ، وحفظ المصالح ، وتقليل المفاسد ، بعيداً عن الوهن والخور ، أو الرعونة والتعجل ، وابتغ بين ذلك سبيلاً ، وسنن الله جارية حتى مع الأنبياء ، فقد انتصر النبي - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون في بدر وهم أذلة ، وهزموا في أُحد ، وعقدوا صلحاً في الحديبية ، وفتحوا مكة ، وأدبروا يوم حُنين ، والتاريخ له سنن ولكن نفسه طويل ، ونحن نعجل والله لا يعجل " بل لهم موعدٌ لن يجدوا من دونه موئلاً".
سابعاً : تحقيق مبدأ الأخوة الإسلامية في أجلى صورها ، وذلك بشعور القلب وحركة اللسان وعمل البدن وفق المعطيات المتاحة .
ومن ذلك :
1- الولاء للمؤمنين وعدم إعانة الكافرين عليهم ، إذ إن الحكم في مناصرة الكافرين على المسلمين ، وتولي اليهود والنصارى جليٌّ مُشرق لا لبس فيه ولا غموض ، تواردت عليه آيات الكتاب ، وأبدأَ القرآن فيه وأعاد " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدى القوم الظالمين" وقال تعالى "يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة . . "، قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - في نواقض الإسلام : "الناقض الثامن : مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين، والدليل قوله - تعالى - : " ومن يتولهم منكم فإنه منهم". والمطلوب من المسلمين تحقيق الأخوة فيما بينهم ، ونصرة بعضهم بعضاً ، فإن عقد الولاء قائم في محكم التنزيل ونصوص السنة "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ولا يخذله، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم ، كل المسلم على المسلم حرام ، دمه وماله وعرضه . . ".(30/11)
وفي خطبة الوداع يقول -صلى الله عليه وسلم - : (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام ، كحرمة يومكم هذا ، في شهركم هذا ، في بلدكم هذا ) وليس صحيحًا أن يكون انتماؤنا لإخواننا المسلمين وقتياً لا دائماً ، أو متخاذلاً نائماً ، لا يستيقظ إلا عند الأزمات ، فنهبّ لنجدتهم ومؤاخاتهم ثم نرجع لنومنا فور ذهاب تلك الأزمة .
2- ومن ذلك السعي في إغاثة المنكوبين وإعانتهم من الأطفال والشيوخ والنساء والمشردين، وأن يكون لإخوانهم زمام المبادرة والسبق ، وليس لمنظمة الصليب الأحمر أو برنامج الغذاء العالمي أو غيرهم من الدول الشرقية والغربية ، ونحن نعلم أن ملايين من الأفغان مقيمون أصلاً في مخيمات بباكستان ، وظهرت مع الظروف المتجددة مجموعات بل ملايين أخرى منهم يوماً تلو الآخر ، وكل هؤلاء وأولئك أوضاعهم مأساوية صحياً وغذائياً ومعيشياً .
3- الحذر الشديد من الوقوع في فخاخ تنصب للمسلمين قد يوقعهم فيها ذهول الصدمة ، أو ثورة الحماس . إن أكثر ما نحتاج إليه في أمور كثيرة من حياتنا هو التوازن ، والانطلاق من الثوابت الراسخة ، من غير أن يفقدنا التأثر بالأفعال وردود الأفعال توازننا المطلوب ، ولا نحتاج إلى كبير عناء لنكتشف أن كثيراً من خطايانا وأخطائنا كانت نتيجة جنوح في النظرة بعيداً عن التوازن والاعتدال المطلوب .(30/12)
إن للمشاعر حقها في أن تغلي وتفور ، أما الأفعال فلابد أن تكون مزمومة بهدي الكتاب والسنة ، ومقاصد الشرع وضوابط المصلحة، ولا يكون ذلك إلا بالرجوع إلى أهل الرسوخ من العلماء الربانيين الورعين ، الذين لا يجاملون لمصالح خاصة ، ولا يتملقون عواطف عامة، وقد كان العلماء على تعاقب العصور صمام أمان عندما تطيش الآراء وتضطرب الأمور "ولو ردوه إلى الله وإلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم" ولذا فإن من أعظم ما يوصى به في مثل هذه الأحداث العامة كبح جماح الانفعالات ، بحيث لا تنتج اجتهادات خاصة ربما جنى بعضها أول ما يجني على المسلمين ومصالحهم ، وأن يكون عند الشباب بخاصة برغم حرارة الانفعال وشدة التأثر تبصر في معالجة الأمور ، وحسن تأتٍّ في التعامل مع أحداث خطيرة لها ما بعدها ، فينبغي ألا يخرجنا التأثر إلى التهور ، ولا الحماس إلى الطيش ، وإن حماس الشباب طاقة فاعلة منتجة إذا وجهت في الطريق الرشيد ، وعلى كل شاب ألا يجعل من حماسه صهريج وقود يمكن أن يشعلهُ أي عابث ، وإن العبرة ليست بتنفيس المشاعر ، وتفريغ العواطف ، ولكن العبرة بتحقيق المصالح ، ودرء المفاسد ، وهذا لا يخبره ولا يقدره إلا أهل العلم والورع ، لقد بينّا في بداية الأحداث حرمة ما جرى تجاه المدنيين في ديار الكفر ، ونحن اليوم أكثر تأكيداً على حرمة مثل هذه الأعمال في بلاد الإسلام ، فإن الشعوب الإسلامية لا تحتمل المزيد من المصائب والقلاقل ، ومن واجبنا أن نتصرف بمسؤولية وانضباط في مثل هذه الظروف الصعبة حتى تنجلي الغمة وتطمئن الأمة .
إن شرارة واحدة تؤجج نارًا يصبح كثيرون حطباً لها .(30/13)
ودعوة الله إنما تنمو وتكبر وتنتعش وتعيش في أجواء السكينة والاستقرار ولهذا قال الزهري عقب صلح الحديبية : إن الناس أمن بعضهم بعضًا فلم يكن أحد يعقل في الإسلام إلا دخل فيه ، حتى دخل في الإسلام بعد الصلح وقبل الفتح أضعاف من دخلوا فيه قبل ذلك ، حتى إن الرسول - صلى الله عليه سلم - جاء إلى الحديبية بنحو أربعة عشر مائة ثم جاء في فتح مكة بما يزيد على عشرة آلاف ، وما بينهما إلا وقت يسير .
نسأل الله – عز وجل – أن يبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعته ويذل فيه أهل معصيته ، وأن يعز الإسلام ، وينصر المسلمين ، ويجمع كلمتهم على الحق ، ويدفع عنهم المصائب والمحن .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه .(30/14)
قواعد للحوار مع أهل الكتاب
29/06/2002
18/4/1423
الحوار مع أهل الكتاب مقام يطول الحديث فيه، مع ضرورته والحاجة إليه، لكن هنا إشارة إلى بعض المعتبرات في قواعد ذلك على حرف مجمل:
1- الحوار مع أهل الكتاب يجب أن يكون لغة قادرة على التقويم والتعريف بالإسلام وأصوله وقضاياه، وموقف الإسلام العلمي من الديانة الكتابية [ اليهودية ـ النصرانية] أي : التقييم العلمي في الكتاب والسنة للديانة الكتابية، والفرق بينه وبين الموقف التطبيقي مع أهل الكتاب .
2- اعتبار القدر المشترك في الديانة السماوية المتمثل في صحة النبوة والوحي، ولزوم الاتباع للأنبياء، وتحصيل لوازم هذا القدر المشترك، وهذا هو المذكور في قول الله ـ سبحانه وتعالى ـ : " يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً "الآية [آل عمران : 64] وهذه قاعدة عقلية فاضلة في مقام جمع المختلف أو رد الاثنين إلى الواحد، فيعتبر المختلف بالمؤتلف، والثنائية بالأحدية، وهذا معتبر أيضاً بكتاب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى هرقل كما في الصحيحين، ويتبع هذا تصحيح الفهوم المنحرفة، وردها إلى الصدق الذي جاءت به النبوة الخاتمة.
3- يفترض عدم المبادرة بالتصريح بالمفهوم الإقصائي الإلغائي كمقدمة أولية.
إن الإقصاء للديانة المحرفة وإن كان حقاً، لكنه في مقام الحوار يفترض أن يكون من المبادئ الثانية التي تكون نتيجة علمية لزومية، وليس مبدأ ولائياً مجرداً .
ثمة فرق حين يحصل الإقصاء من نتاج النظر الصحيح مع التقرير العلمي فيكون ضرورة عقلية ملحة، أو يكون لغة ولائية مبدئية ،هذا الثاني مقامه الخطاب الإسلامي، لا الحواري مع أهل الكتاب .
4- يفترض أن يكون تحصيل الإقناع معتبراً بالقضايا الأساسية في الإسلام، واستعمال المبادئ العقلية الكلية المصدقة لهذا .(31/1)
إن الحوار يجب أن يستعمل لغة واعية قادرة على الإلزام العقلي، ولهذا أيد الرسل بالآيات والمعجزات المختلفة .
5- كما يفترض استغلال واقع الكتابيّين العلمي والخلاف في المفهوم الأساسي في كثير من القضايا داخل التجمعات الطائفية، اليهودية والنصرانية، والتاريخية والواقعية .
6- من المهم ألا تكون القضايا التي هي موضوع الحوار قضايا حسمها الإسلام بمبدأ التسليم الإيماني، بل تكون موضوعات قبليَّة يمكن من ليس معه مبدأ التسليم ـ وهذا حال الكتابي ـ أن يجد له موقع تعامل مع موضوع الحوار .
إن الحوار غير المطالبة، هذا قدر لا بد من إدراكه .
7- من المبادرات المهمة في مقدمة الحوار التعريف بمقام موسى بن عمران، وعيسى بن مريم - عليهما الصلاة والسلام- والأثر السماوي في دين أهل الكتاب، واعتراف الإسلام بهذا، حتى فرق في المعاملة بين الكتابيين وغيرهم .
8- محاولة فك المفهوم الولائي عن مادة الحوار، واستبعاد اللغة الولائية الخاصة .
9- الدخول على الكتابي من خلال الإشكاليات المعقدة في الديانة الكتابية، ولا سيما النصرانية، خاصة أن هذه الإشكاليات تحتل موقعاً أساسياً في الديانة .
10- فشل الديانة الكتابية المحرفة في التطبيق الاجتماعي والإنتاجي ( تجارب الكنيسة مع العلم ) .
11- اعتبار الآثار العلمية في الوحي الإسلامي ( القرآن والحديث ) الإعجاز العلمي، والقدر الجاد منه، دع عنك ما هو من باب التظني والحشد .
12- اتخاذ التي هي أحسن في مقام المناسبة : "ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم"[العنكبوت : 46] إلى غير ذلك من آليات الحوار .(31/2)
وما أشرت إليه مناسب لمقام أهل الكتاب لا يناسب على هذا الوجه سائر الكفار أو من كان مخالفاً من المسلمين، بل لكل مقام مقال، وإن كان ثمة قواعد مشتركة في الحوار أياً كان موقعه، وحجة القرآن الكريم هي أعظم الحجج؛ لما فيها من الثبوت القطعي وقوة الدلالة، وترسيخ المبادئ والأصول والقواعد الكلية، التي يفضي التسليم بها إلى القبول بما وراءها .
وأما المصادر في النصرانية، فقد صنف علماء الإسلام في هذا مثل: (الجواب الصحيح) للإمام ابن تيمية، و(هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى) لابن القيم، وما ذكره أبو محمد بن حزم في (الفِصَل) والشهرستاني في (الملل والنحل)، والرازي في (اعتقادات فرق المسلمين والمشركين) قدر كبير من القول، وفي التصنيف المعاصر والقول في النصرانية المعاصرة كتابات كثيرة شهيرة، ومن الكتب في هذا كتب الشيخ محمد أبو زهرة على بعض الملاحظات، والله يتولانا جميعاً، وهنا فإن أفضل اعتبار لحال النصارى وأقوالهم هو ما ذكره القرآن، وهذا مقامٌ معرفتُه متيسرة لسائر المسلمين، ومن تدبَّر القرآن في الآيات التي يذكر فيها النصارى وأهل الكتاب تحصل له علم كافٍ وتقدير لهذا الموضع .
والله أعلم، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .(31/3)
كونوا أنصار الله
15/10/2001
28/7/1423
يتوقف الناظر في القرآن عند خواتيم سورة الصف التي اشتملت على النداء المبارك الذي صدرت به هذه الأحرف : "يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله " وهو دعوة صريحة للمؤمنين من هذه الأمة خاصة أن يجعلوا شعارهم نصرة الله ، بنصرة دينه وشريعته وأمته ، وأن يكون ذلك همهم و وكدهم ، وليس نصرة شخص أو طائفة أو جماعة أو أسرة أو دولة أو نحلة ...
ثم ذكرهم بقول عيسى عليه السلام للحواريين : من أنصاري إلى الله ؟ قال الحواريون : نحن أنصار الله ...
والملاحظ هو اختلاف الصيغة والتركيب ، فعيسى عليه السلام قال : من أنصاري إلى الله ؟ فأضاف النصرة إليه لكنها ليست نصرةً لشخصه لأنه فلان ولكن لأنه يدعوهم إلى الله ، والفارق واضح بين الصيغتين ، فالصيغة العيسوية تناسب بني إسرائيل ، بل النخبة المختارة منهم : الحواريين ، والذين التزموا بالنصرة ، ومع ذلك وجد من بعضهم التردد والتساؤل .
أو أن تلك الصيغة تناسب بعثة عيسى إليهم خاصة في زمان محدود ، فكان وجود النبي بينهم من أهم ضمانات الاستمرار على الحق وعدم النكوص وكأن الحواريين بقولهم : نحن أنصار الله أظهروا تجرداً تاماً وديمومةً على النصرة أكثر مما في مكنتهم وطاقتهم والله أعلم .
أما : كونوا أنصار الله ، فلهذه الأمة التي يقوم وجودها أصلاً على الارتباط بمنهج الله وحده سواءً وجد الرسول بينهم صلى الله عليه وسلم أم لم يوجد ، فهي أمة خاتمة وليست مؤقتة ، ولهذا خوطبت بمثل قوله سبحانه : "وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم" ؟ .
كما أن دعوته عليه السلام لم تكن خاصةً محصورةً في فريق أو قبيل أو جنس بل هي دعوة للعالمين ولذا فالإيمان والجهاد ماضيان إلى قيام الساعة كما في قوله عليه الصلاة و السلام في الحديث المتفق عليه : ( لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد و نية ... )(32/1)
وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر أيضاً ( الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة : الأجر والمغنم ) .
ومثله حديث : ( لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين إلى قيام الساعة ... ) والأحاديث في هذا المعنى كثيرة .
لذا نوديت الأمة أن تربط نصرتها بالله لا بغيره ، علماً بأن نصرة الرسول عليه السلام هي نصرة لله ، ونصرة للمؤمنين كذلك ، ولكن الملمح المهم هو عدم ربط النصرة بوضع معين ، بل هي نصرة باقية ما بقي الليل والنهار ، وأنه في حال القوة والضعف والغنى والفقر والكثرة والقلة والعزة والذلة ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها .
إن في هذا لبلاغاً لقوم عابدين ، ألا يربطوا نصرتهم لربهم ودعوتهم بنصرة شخص بعينه ، وأن يضعوا الأشخاص عند قدرهم بلا غلو ولا جفاءٍ ، وأن يحفظوا دعوتهم وملتهم من أن يتسرب إليها شوب من انحراف الأمم الكتابية في منح رهبانهم وأحبارهم من التقديس والدينونة لهم بما لم يأذن به الله ، وأن يكون ولاؤهم للمنهج وللطريق وللشريعة وللكتاب والسنة وليس لفلان أو فلان ...
ولكل قوم أئمة وسادة ولكن هؤلاء الأئمة إنما يستحقون هذا اللقب الشريف بالتزامهم المنهج وصدقهم مع الله ورسوله فإذا فرطوا أو قصروا حرموا منه واستبدل بهم غيرهم ، وهذا لا يحدث إلا في أمة واعية يقظة حية لا تبني دينها على التقليد والتبعية والهوى الأعمى ، وإنما تبني دينها على العلم والهدى والنص والدليل ، فهي ليست قطيعاً يساق دون وعي لا يدري من أمره شيئاً إلا الثقة العمياء بمن ينعق به ، كلا إنها الأمة التي نوديت بأن تنصر الله وحده ، ونصرتها لمن دونه إنما هي مشروطة بأن يكونوا من أنصار الله فمتى أخلوا بهذه النصرة لم يكونوا جديرين بأن يتبعوا أو يقتدى بهم .(32/2)
فأين هذا اللهدى الواضح مما تجده اليوم في الأمة ، في جماهيرها ، وفي جماعاتها الداعية إلى الله وفي طلبة علمها ، من الانجفال وراء الأشخاص ، أشخاص الدعاة وأشخاص العلماء وأشخاص القادة بلا وعي ولا تبصر ولا مناقشة ولا مراجعة ولا تصويب ولا تثريب .
إن الله تعالى حين قرر قانون الانتصار الراسخ العظيم ، أبرز فيه هذا المعنى بقوله : "ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز" .
وكل أحد من فرد أو جماعة أو حزب قد يدّعى نصرة الله ونصرة دينه ، وأنه ما قام غضباً لنفس ، ولا طمعاً في دنيا ، ولا منافسة في سلطان ، ولذلك كان التعقيب الرباني لتحديد من هم الذين ينصرون الله ؟ هل هم المدّعون ؟
كلا . إنهم "الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ، ولله عاقبة الأمور" .
وأنت تلاحظ جيداً أن الله تعالى أعطاهم صفات لا تبين إلا في المستقبل "إن مكناهم في الأرض أقاموا ..." وكم من مدع ينكث وعده ويتخلى عن عهده وينهمك في دنياه .
إن الكثيرين ينساقون مع الأحلام الوردية الجميلة ، ويرسمون المستقبل بريشة مبدعة خيالية خالية من المآخذ ، لكن حين يصبح هذا المستقبل واقعاً مشهوداً ، وليس حلماً منشوداً ، تتغير المعالم وتختلف القلوب وتتحرك المطامع ، ويصبح الجمع شتيتاً ، وتبدأ التهم .
إن الصيغة لم تربط لنصر بالذين يعدون أنهم سيقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ، لكن بالذين علم الله من حالهم المستقبلي أنهم إن مكنوا في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر .(32/3)
إن الوقوع في أسر التشخيص ونسيان المبدأ أو تماهي المبدأ في الفرد أو المجموع يشكل منعطفاً خطيراً في تاريخ الدعوات والأمم ولا شيء كالقرآن يعيد إلى الناس توازنهم ويحفظ لهم المبادئ التي وجدوا من أجلها ، ولهذا جاء هذا النداء المصاحب لحركة الجهاد والدعوة ، مذكراً بأن الولاء للدين ولله ورسوله فوق الولاء للأشخاص والجماعات والتكوينات فهل من مدّكر ؟(32/4)
ليشهدوا منافع لهم
08/02/2003
7/12/1423
حفلت الآيات الكريمة التي وردت في سياق تشريع العبادات بإبراز المقاصد الشرعية منها، وذلك لما علمه الله تعالى في جبلة الناس من النسيان والغفلة.
وحين يطول الأمد وتقسو القلوب تتحول العبادات عند بعض المؤمنين إلى رسوم وعادات يؤدونها بمظاهرها وصورها، ولا يتحسسون قلوبهم إثرها، بل يغرقون في دقائقها وتفصيلاتها، ثم تأتي مرحلة أخرى جرت على أهل الكتب كلهم بسبب الغفلة عن المقاصد الشرعية، وهي أن يضاف إلى العبادة ما ليس منها مما أوحاه إليهم الانهماك في ظاهرها والانقطاع عن روحها ولبها ومقصدها.
ومن تأمل هذا ووعاه أدرك طرفاً من الحكمة البالغة في تكرار القصد من تشريع العبادة.
ففي شأن الصلاة وهي أم العبادات، يأتي السياق القرآني مؤكداً على أثرها في صياغة سلوك المسلم؛ لأنها ( تنهى عن الفحشاء والمنكر ).
وفي شأن الزكاة، كان التأكيد على أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يأخذ من أموالهم صدقة يطهرهم ويزكيهم بها، وتكون سبباً في صلاته عليهم، ولهذا كان صلى الله عليه وسلم إذا جاءه قوم بزكاتهم قال: ( اللهم صل على آل فلان ).
وفي شأن الصوم ، وضمن سياق مفصل مؤثر قال الله تعالى: " لعلكم تتقون ".
وفي شأن النسائك ، وهي الذبائح والنحائر المرتبطة بمشعر الحج، يقول تعالى: " لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم ".
بل في الحج ذاته يبين تعالى أن المقصد من النسك كله هو " ليذكروا اسم الله " ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها:( إنما جعل الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة ورمي الجمار ؛ لإقامة ذكر الله ).
رواه الدارمي ( 1780 ) وغيره موقوفاً .
ورواه أبو داود ( 1613 )، وأحمد ( 23215 ) ، ( 23328 ) ، ( 23929 ) مرفوعاً، وكأنه بالموقوف أشبه.(33/1)
فهل يستشعر المؤمن وهو يطوف بالبيت هذا المعنى أو تغلب عليه روح المنافسة والانتصار فهو يزاحم بمنكبيه، ويصارع بيديه، ويجادل بصوته، وكأنه في حلبة عراك؟
أو هل يدرك هذا وهو يدفع من المشاعر وقد احتدم الزحام واصطك الحاج، وصارت رغبة النفس أن تسبق إلى غايتها الجديدة، وتفاخر الناس بذلك، فما يقطعونه في ساعات قد تحقق لي في دقائق وقد كان من سنته عليه السلام في الدفع من عرفة:( السكينة السكينة فإن البر ليس بالإيضاع ).
إن البر هو مقصود الحج، وهو لا يتحقق بالإسراع والعجلة والحطم، وإنما بالسكينة والإخبات.
أو هل يستشعر الحاج هذا المعنى وهو يرمي الجمرات، وقد استجمع في نفسه ذكريات ما رأى أو سمع من شدة الموقف، والموت تحت الأقدام والحديث المسترسل بعدُ مع الصحبة عن الرمي وما جرى فيه ، والحيلة والقوة والشدة.
إن هذه العبادات الجماعية تربية ربانية على أداء الواجب بإتقان وإخلاص، وعلى رعاية حقوق الآخرين ومنازلهم، وإكرام كبارهم، والرحمة بصغارهم، والشفقة على غريبهم وضعيفهم وجاهلهم؛ ولهذا قال سبحانه:" الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج ".
فهو تخففٌ من الدنيا وحظوظها ينأى به المحرم عن الرفث، وهو الجماع ودواعيه، وهو من محظورات الإحرام باتفاق، ويلتحق بهذا ترك فضول الحديث عن النساء مما يثير الغرائز ويحرك الشهوات.
كما ينأى به عن الفسوق، وهو المعاصي كلها، وكان الأوزاعي يرى فيمن سب أو شتم أن عليه فدية لهذه الآية.
ولئن كان مذهب الأوزاعي مرجوحاً في هذا، فإن الفسوق للحاج انتهاك لحرمة النسك، وجراءة على الحرم المقدس، فضلاً عن كونه محرماً أصلا.(33/2)
أما الجدال فهو المخاصمة بالباطل، والاسترسال وراء نوازع النفس وأنانياتها التي تأبى إلا أن تكون الغلبة والكلمة الأخيرة لها دون أن تلتفت إلى حق وباطل، أو خطأ وصواب، أو على أدنى الأحوال، أن تلتفت إلى الاحتمال، ولقد كان الشافعي رحمه الله يقول: قولي صواب يحتمل الخطأ وقول غيري خطأ يحتمل الصواب.
ويقول بعض الظرفاء: حري بأمثالنا أن نقول : قولنا خطأ يحتمل الصواب !
وجرعة يبتلعها المرء من غيظ عابر ، خير من معركة يخوضها مع جليسه أو صاحبه لا تقرب من جنة ولا تباعد من نار، ولا تدل على هدى، ولا تصد عن ردى، ولكن أين المعتبر؟ .
وكل ما شرع الله في الحج، وفي غيره فهو لمصلحة عبادة العاجلة والآجلة، ولهذا قال تعالى في أمر النسك:" ليشهدوا منافع لهم ".
والمنافع تشمل الأجر في الآخرة، كما ذكره قوم من المفسرين، والتجارة في الدنيا كما ذكره آخرون، والمصالح وراء ذلك كما ذكره الطبري عن مجاهد قال : التجارة ، وما يرضي الله من أمر الدنيا والآخرة.
قال الطبري : عنى بذلك ليشهدوا منافع لهم من العمل الذي يرضي الله، والتجارة، وذلك أن الله عم لهم منافع جميع ما يشهد له الموسم، ويأتي له مكة أيام الموسم من منافع الدنيا والآخرة، ولم يخص من ذلك شيئاً من منافعهم بخبر ولا عقل.
إن الله تعالى غني عن عباده ، وحينما رأى الرسول صلى الله عليه وسلم رجلاً أو شيخاً يهادى قد نذر الحج ما شياً، قال:( إن الله عن تعذيب هذا نفسه لغني ) .
رواه البخاري ( 1732 )، ومسلم ( 3100 ).
وحينما ذكر الله تعالى النحائر، قال:"لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم".
ولقد يطول عجب المرء من غفلة كثير من المسلمين الصلحاء عن قيم الحج ومراميه وآثاره في النفس والسلوك والحياة، ولو سألوا عن هذا المعنى كما يسألون عن تفصيلات ما يعرض لهم من الأحكام لكان هذا خيراً لهم وأقوم.(33/3)
والموسم يدركنا العام، والعالم الغربي يحكم خناقه على الرقعة الإسلامية، ويزمع مباشرة ترتيب أوراقها بعد أفغانستان، وهو يعزز نفسه بتحالفات واسعة جرى عليها أمره من زمن بعيد، في حين يظل غالب المسلمين في غفلة عن هذا منهمكين بخلافاتهم الخاصة والصغيرة، وكأننا إذ أيسنا وعجزنا عن عدونا أبينا إلا أن نحقق انتصاراً على أنفسنا.
كما يدركنا الموسم وطوفان العولمة يمضي في طريقه بادئاً بعولمة الاقتصاد ممعناً في عولمة الثقافة والفكر والإعلام والسياسة متذرعاً بالمؤسسات الدولية من البنك الدولي إلى صندوق النقد الدولي إلى منظمة التجارة.
والحج مؤتمر للعبادة، كما هو مؤتمر للتجارة، كما هو مؤتمر للسياسة، لا بمفومها الضيق الخاص الذي يحول الاجتماع إلى فرقة، ولكن بمفهوم السياسة الإسلامية العليا التي تنتظم مصالح الأمة وترسم خططها وتلتمس طريقها في هذه اللجج المضطربة.
اللهم بصر عبادك بأمر نسكهم ، وارزقهم المنافع التي شرعت لهم، وأنقذهم من أنانياتهم وشهواتهم؛ ليسعدوا في عبوديتك وطاعتك ويحققوا مراد أحكامك.
والحمد لله رب العالمين .(33/4)
هذه مشكلتي
29/04/2002
16/2/1423
ومن الذي ليست لديه مشكلة؟
المشكلات جزء من الحياة، ولولا البعد والحرمان ما عرف المرء طعم اللقيا والوصال، ولو لا الفقر ما عرف الغنى، ولو لا الحزن ما عرف السرور.
وبهذا تأذن الحق تبارك وتعالى أن هذه الدنيا دار عبور تمتزج فيها الآلام بالمسرات، ويختلط فيها الضحك بالبكاء، وبمقدار المعاناة وقسوتها يكون الفرح بانكشافها وزوالها وتبدل أحوالها.
كل بيت فيه مشكلة، وكل إدارة أو مؤسسة أو بلد فهو كذلك، بل وكل نفس فيها مشكلة، وإذا كان الإنسان يدري أن نفسه لا تواتيه على ما يريد، ولا تطاوعه فيما يهوى، وأن فيها عليه من التلوم والتضجر والنكوص ما لا يكاد يحتمل، فكيف ظنه بالآخرين؟
وكيف ظنه بالتعقيد الناتج عن الاجتماع بين فئة من الناس، أسرة كانوا، أم جيراناً، أم زملاء عمل، أم شركاء مهنة، أم رفاق طريق؟
ومع هذا ففي الجماعة من الخير والأنس والمصلحة ما لا يظفر به الفرد المعتزل بذاته، وفي العزلة من الشرور ما ينيف على ما يكرهه المرء في الجماعة.
وكم من فرد عالج المشكلة بالانخزال والاعتزال، فتداوى بالتي كانت هي الداء، وصار يتمنى ما كان يتعنى.
قد تضيق المرأة من خلق زوجها وترى أن الحل في الطلاق، فإذا انفصلت قتلتها الوحدة، وبدأت تفكر بطريقة أخرى عكسية.
وقد يضيق الموظف بعمله فيفارقه، وبعد حين يسوق الشفاعات ويكرر المحاولات ليعود إليه.
فليس من الرشد إذاً أن يكون الحل السريع هو الحسم الذي نظن أنه يقضي على المشكلة من جذورها، وهو ربما صنع لنا معاناة أكبر مما كان.
والمختصون يضعون خطوات عملية لمواجهة المشكلة تتلخص في:
1- الإحساس والشعور بالمشكلة.
2- ثم تحديدها تحديداً دقيقاً.
3- ثم البحث والاستقصاء وجمع المعلومات والتعرف على الأسباب.
4- وبعد ذلك يأتي وضع البدائل والفرضيات وتقويمها والحكم عليها.
5- لنصل بعدُ إلى اختيار الحل المناسب.(34/1)
وهذه الخطوات فرع عن القدرة على الهدوء في مواجهة المشكلات، ومقاومتها.
إن المشاعر الوقتية العاطفية تغلق منافذ التفكير، وتوهم أنه لا بّد من المفاصلة الحادّة مع موضوع المشكلة أو مع أطرافها.
قد تنبع المشكلة من أعماقك، أو من تاريخك الطويل الذي لا تملك الانسلاخ عنه، أو من واقعك المفروض عليك...
في أحيان كثيرة، نحن نحاصر أنفسنا بالمشكلات والعقبات، نعم هي موجودة قطعاً، لكن لدينا إمكانيات جيدة لتجاوزها، وعدم الوقوف عندها، مستعينين بالله، معتصمين بحبله، مرددين كل حين: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ).
ومن الأدعية المأثورة في بعض الروايات عن الأنبياء السابقين: (اللهم لك الحمد، وأنت المستعان، وعليك التكلان، وإليك المشتكى، وبك المستغاث، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم).
نستطيع النظر إلى المشكلات بحجمها الطبيعي، فنسعى في علاجها أو تخفيفها، دون أن تعوقنا عن المسير، أو تقعدنا عن العمل والإنجاز، ونستطيع أن نرجئ بعض المشكلات التي تستعصي على الحل الآن، منتظرين فيها فرج الإله العظيم، الذي بيده التدبير.
وفي سنن الترمذي (3571) عن ابن مسعود مرفوعاً: (أفضل العبادة انتظار الفرج) وهو معلول.
ورواه البزار عن أنس، وفي سنده ضعف وجهالة (المجمع 10/147) ورواه البيهقي في الشعب عن علي (7/204) ثم عن ابن عباس.
وقال ابن الجوزي: لا يثبت (العلل 2/864، والفيض 2/44( .
لكن مما لا شك فيه أن ترقب التفريج من الله عبادة ؛ لأنه أحد معاني الصبر، ومن الأسرار البديعة في هذا المقام أن هناك مشكلات كثيرة قابلة للحل، لكن دون قفز على المراحل، أو تسرع يفضي إلى الحرمان، وهناك مشكلات ليس لها حل الآن، فالحل في تأجيلها والصبر عليها حتى تحين فرصة البحث عن حل.(34/2)
وهكذا يبدو الصبر ضرورة لازمة في الحالتين، ومن هنا ورد الأمر به، والحث عليه في القرآن الكريم، حيث أحصيت كلمة الصبر ومشتقاتها فوجدتها جاءت في نحو مائة وثلاث آيات، بسبع وعشرين تصريفاً.
بدون التجمل بالصبر تذهب جهودنا أدراج الرياح ؛ ولهذا قال عمر ـ رضي الله عنه ـ: وجدنا خير عيشنا بالصبر. رواه البخاري تعليقاً (6104).
إذن نستطيع أن نحل المشكلات، بإذن الله، ونستطيع أن نخفف قسماً آخر منها، ونستطيع أن نتكيف مع الشريحة الثالثة من تلك المشكلات التي لم نجد لها حلاً حتى الآن، لكن يجب أن نعي تماماً أن الإنسان لو أمسك بيده مربعاً بحجم الكف ثم قربه من عينه، فهو سيحجب الرؤية عنه لا محالة، وهكذا المشكلات حين نعطيها حجماً أكبر، ونمنحها من وجداننا، وتفكيرنا، وحياتنا، فهي بذلك تحتل حيزاً أوسع، وتبدو لنا عائقاً جدياً أمام الانطلاق والعمل، ولذلك يقول المتنبي:
وتكبر في عين الصغير صغارها **** وتصغر في عين العظيم العظائم
ويقول:
إذا اعتاد الفتى خوضَ المنايا **** فأهون ما يمر به الوحول!
دون أدنى شك… سيجد الإنسان عوائق من أهله، خوفاً عليه وإشفاقاً، أو كراهية؛ لأنه يخالف مألوفاتهم وعاداتهم وتقاليدهم، أو حباً.. ومن الحب ما قتل.
وسيجد عوائق من مجتمعه الخاص، مدرسة أو جامعة، أو إدارة، ومن محيطه العام الذي يهتم بملاحظة أفراده، والتعليق على مسالكهم.
بل سيجد عوائق من نفسه، التي يجرها إلى الخير، وتجره إلى الشر، ولسان حاله يقول لها: مالي أدعوك إلى النجاة.. وتدعينني إلى النار؟
لكنه سيجد من مدد الله وعونه، خصوصاً للداعين والمبتهلين والمتضرعين، وسيجد من الإرادة الصلبة التي جعلها الله في نفسه، وسيجد من معونة إخوانه المؤمنين، ورفاق طريقه، خير عون وزاد.(34/3)
وحتى حين تكون المشكلة نابعة من أعماقنا... يجب ألا تكون سوراً مضروباً علينا، لم لا ننهض من جديد، ونلملم جراحنا، ونستجمع شتات إرادتنا.. ونتطلع إلى المستقبل، بدلاً من كثرة الالتفات إلى الوراء…
أليس الله هو التواب؟ أو لسنا بالخطائين؟
توضأ القلب من ظني…بأنك غفار وصلى.. وكانت قبلتي الأمل
دع الهوى لذويه يهلكوا شغفاً.. أو فاقتل النفس فيه مثل من قتلوا
فليفزع المؤمن إلى ربه، وليستمسك بصحبة من يعينه على مشقة الطريق، وليشحذ عزيمته، ولينهض كلما كبا وهو لابد واصل.(34/4)
وجعلناكم أكثر نفيرا
31/10/2001
15/8/1423
ذكرني أحد جلسائي بأبيات من الشعر ، كنت نسيتها ، وهي من أثير الشعر إلى نفسي ..
خلت فلسطين من أبنائها النجب **** وأقْفَرت من بني أبنائها الشهب
طارت على الشاطئ الخالي حمائمُه **** وأقلعت سفن الإسلام والعرب
يا أخت أندلس صبراً وتضحية **** وطولَ صبر على الأرزاء والنَّوَب
ذهبتِ في لجَّةِ الأيام ضائعة **** ضياعَ أندلسٍ من قبل في الحِقَب
وطوحت ببنيكِ الصيد نازلة **** بمثلها أمة الإسلام لم تصبِ
وتداعت بي الذكريات إلى كتيب كنت قرأته زمن المراهقة ، وشدني بتفسيره الجديد لآيات سورة الإسراء :
" وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب ، لتفسدن في الأرض مرتين ، ولتعلن علواً كبيراً ، فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عباداً لنا أولي بأس شديد ، فجاسوا خلال الديار ، وكان وعداً مفعولاً ، ثم رددنا لكم الكرة عليهم ، وأمددناكم بأموال وبنين ، وجعلناكم أكثر نفيرا ، إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم ، وإن أسأتم فلها ، فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم ، وليددخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة ، وليتبروا ما علوا تتبيرا ، عسى ربكم أن يرحمكم ، وإن عدتم عددنا ،، وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا " أظنه الشيخ : أسعد بيوض التميمي ، يقرر في ذلك الكتاب أن وعد الآخرة هنا هو الاحتشاد اليهودي الحالي ، وما أمد الله به شعب بني إسرائيل من الأموال والبنين والنفير ، وما يتبعه من تسليط غيرهم عليهم ليسوءوا وجوهههم ، "وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة، وليتبروا ما علوا تتبيرا" .
وذلك مرتبط موضوعياً بقوله - تعالى- في آخر السورة ذاتها : " فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفاً " .(35/1)
وسواء كان هذا التنزيل للآيات سديداً ، كما مال إليه جمع من المعاصرين ، كتاباً ومتحدثين ومفسرين ، أو كان الأمر كما قاله الطبري في تفسيره (9/27) : " وأما إفسادهم في الأرض المرة الآخرة ، فلا اختلاف بين أهل العلم ، أنه كان قتلهم يحيى بن زكريا ... " .
فإن قوله - تعالى- : " وإن عدتم عدنا " متضمن للإفسادات المتلاحقة التي يجترحها شعب إسرائيل ، والعقوبات العادلة التي يتلقاها دون اعتبار .
وفي سورة الأعراف : "وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب . ".
وهذا ؛ لأنهم رفضوا الرحمة التي وعدوا بها " عسى ربكم أن يرحمكم " وهي بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم- الذي كان رحمة لهم وللعالمين ، فحقت عليهم كلمة العذاب ، ففرقهم الله –تعالى- في الأرض أمماً ، وسلط عليهم الجبارين ، وفي كتابهم التوراة تجيء هذه الكلمات المتقاطعة :
· " واستأصلهم الرب من أرضهم بغضب ، وألقاهم إلى أرض أخرى " .
· " يجلب الرب عليك أمة من بعيد ، من أقصى الأرض ، كما يطير النسر ، أمة لا تفهم لسانها ، أمة جافية الوجه ، لا تهاب الشيخ ، ولا تحن إلى الولد "
· " ويبددك الرب في جميع الشعوب من أقصى الأرض إلى أقصاها ، وفي تلك الأمم لا يكون قرار لقدمك ، بل يعطيك الرب هناك قلباً مرتجفاً ، وكلال العينين ، وذبول النفس ، وتكون حياتك معلقة قدامك ، وترتعب ليلاً ونهاراً ، ولا تأمن على حياتك " .
· " يرد الرب سبيلك ، ويرحمك ، ويجمعك من جميع الشعوب التي بددك إليهم ، إن يكن بددك إلى أقصى السماوات فمن هناك يجمعك الرب .. ويحسن إليك ، ويكثرك أكثر من آبائك ".
إن اختيار اليهود لفلسطين بالذات كان قطعاً لاعتبارات دينية وتاريخية ، وليس اقتصادية أو سياسية ، ولذا دفعوا ويدفعون الثمن غالياً لهذا الاختيار ، فقد يجوز لو أنهم اختاروا أي بلد آخر في العالم ، أو في العالم الإسلامي لاستقروا فيه ، ونسي ، ونُسوا .(35/2)
ولكن كيف تُنسى أرض نوه الله بذكرها في القرآن ؟ كيف تمحى الأرض المقدسة من ذاكرة المسلمين ؟ كيف تغيب القرى التي بارك الله فيها ؟ كيف يهدر المسجد الأقصى الذي بارك الله حوله ؟
أم كيف لهم أن يختاروا غيرها ، وهي موعد الملاحم التي يصرخ فيها الشجر والحجر : يا مسلم ، يا عبدالله ، هذا يهودي ورائي فاقتله !
" هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا ، وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله ، فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا ، وقذف في قلوبهم الرعب ، يخربون بيوتهم بأيديهم ، وأيدي المؤمنين ، فاعتبروا يا أولي الأبصار " .
إنها السنن ، أهل القلاع والحصون والمنعة والسلاح يخطئون في حساباتهم ، فيضطرون للتراجع والانسحاب ، ويخربون بيوتهم بأيديهم مباشرة ، وبأيدي المؤمنين المنصورين عليهم .
وها هو حلم إسرائيل الكبرى ، وشهوة التوسع والابتلاع .. ترتد أعباءً مادية، ومعنوية ، داخلية ودولية ، ومن ثم تتحول تلك الأحلام إلى تصورات واقعية ، لا تلغي من حولها ولا تعتد بقوتها ، ولا تبالغ في الاعتماد على العنصر الخارجي .
وإذا كان للعولمة آثار سيئة ضخمة في شتى مجالات الحياة ، فربما كان من إيجابياتها أن الدور الريادي والمنفرد الذي كانت تقوم به إسرائيل في خدمة المشروع الغربي لم يعد بذاك الوهج والقوة والمركزية ، فنطاق المصالح أصبح أوسع وأشمل ، وتأمين المستقبل صار أسهل وأمكن ، والتبرم الشعبي مما يقتطع من قوته لصالح اليهود بدأ ينمو ، ومثله التبرم الثقافي والعلمي من الاستخدام السيء لقانون معاداة السامية ، والذي يؤخذ به كثير من المؤرخين والمحللين والباحثين بحجة العنصرية ومعاداة اليهود لمجرد تشكيكهم في المحرقة ، أو في بعض جوانبها وتفصيلاتها .(35/3)
الكثيرون يصيبهم الرعب حينما يسمعون التقارير المؤكدة عن امتلاك اليهود لمئتي رأس نووي ، أو امتلاكهم لسلاح الجمرة الخبيثة ، أو تطويرهم لأنواع أخرى من الأسلحة الجرثومية أو سواها .
وهذا دون شك أمر مقلق فعلاً ، ومن حق الشعوب المستهدفة أن تبدي دهشتها واعتراضها .
لكن .. من يدري ؟ ها هي الدول الشرقية تعاني من تبعات تدمير الأسلحة النووية التي خلفها لها الاتحاد السوفيتي ، وتعاني من تكاليف الرقابة الفنية والأمنية عليها ، ها هو السلاح الذي كان مصدر رعب وقوة يصبح في الدول ذاتها مصدر ضعف وخوف .
العولمة تقدم آليات جديدة للصراع ، في مقدمتها تكنولوجيا المعلومات ، وشبكة الاتصالات ، وسباق الإبداع والابتكار .
بالتأكيد ؛ هذا لا يلغي آليات الصراع التقليدية ، لكنها لم تعد في الصدارة في هذه المرحلة .
إسرائيل متفوقة في الأولى ، كما هي متفوقة في الثانية أيضاً ، وكما كانت تقدم نفسها على أنها الحارس الأمين لمصالح الغرب المادية ، فهي تقدم نفسها أيضاً على أنها النموذج الحضاري المتفوق في الأرض العربية .
فهل نعي ما يجب علينا فعله في دوامة هذا الصراع ؟ !(35/4)
يجب ألا يموت الأمل !
24/11/2001
9/9/1423
الأمل هو حادي العمل ، ولا ينشط المرء للعمل إلا ولديه طموحات وأهداف يسعى إلى تحقيقها ، وهذا بعض ما يميز الإنسان عن سائر الحيوان الذي يسير بالغريزة فحسب .
وعندما يفقد الإنسان الأمل بالكلية يكون أمام نكسة نفسية يصعب أن يتعافى منها.
أعلل النفس بالآمال أرقبها *** ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل
ولهذا كان أخطر ما تواجهه الأمة هو اليأس الذي يقعدها عن العمل والإنتاج ، وينحرف بمسيرتها عن الصراط اللاحب المستقيم إلى منعرجات السبل والأهواء .
هذا شابٌ وضع أمله كله في شخص شيخه ، عالماً كان أو داعيةً أو مربياً ورأى فيه رمزية غير عادية ، تحكي صور ابن حنبل أو ابن تيمية أو ابن عبد السلام أو المنذر بن سعيد .. أو هذا العالم الفحل ، أو ذلك المناضل الفريد ، وصار هذا الملم يُسقى يوماً فيوما ويُروى ويكبر ...
ولكن مضت الأيام وكبر الشاب ، وصار له رأيه ونظره وتفرده ، وتساوقت الأحداث ، وتفاوتت العقول ، وتضاربت الاجتهادات ، فلم يعد يجد الكلمة الأخيرة التي يصدر عنها دون تردد كما كان من قبل .
وربما وجد من متبوعه شيئاً من الضعف أو التباطؤ في المواقف العملية ، سمّه حكمةً أو خبرةً ، أو جبناً أو ما شئت ... المهم خاب الأمل !
وآخر ترعرع في ظل مجموعة من المجموعات الدعوية يرى من خلالها الحياة بأحداثها ومساراتها وتطلعاتها ، وهي في قرارة العاطفة أمل الأمة والإسلام ، وهو يحسب خطواتها ، ويعد لياليها ويقايس نجاحاتها ، ويمتزج بها لحماً ودماً وعقلاً وقلبا حتى لا يتخيل نفسه خارج إطارها إلا تفل واستعاذ ، وتغدو هي الصورة العملية للتطبيق الإسلامي وهي الكمال الذي لا يرى كمالاً خارجه إلا ودّ أنه رُدّ إليه ، ولا يرى نقصاً فيه – وهيهات – إلا تأوله أو نفاه أو تعاظمه.(36/1)
ولكن هذه الصورة الجميلة تهتز أمام المتغيرات والأحداث ، ويكبر الناس ويتفردون باجتهاداتهم ، ويضيق عنهم الإطار الجماعي المرسّم ، فتتفرق بهم طرق الدعوة والخير ، ويمضي كلٌ إلى حال سبيله ...
وهكذا يعجز العقل عن التفسير والتحليل ، أهو التراجع ؟ أم التنازع ؟ أم ... أم ... ؟
وثالث رأى في مشروع ما ، علمي أو عملي أو سياسي أو قتالي ، أنه الحل الوحيد ، ولا حل إلا به ، ولا مخرج للأمة إلا عن طريقه ، ولا نجاة ولا عصمة ولا صدقية إلا لمن استمسك به ...
وفي هذه الأمثال ، وغيرها كثير ، مواضع للعبرة .
أولها أنه لا يحسن الإسراف في تقدير شيء ما فوق قدره ؛ لأنه ما رفع أحدٌ أحداً فوق قدره إلا وأنزل دون قدره بعد ذلك ،والحسنة وسط بين سيئتين .
لا بأس أن أتطلع لهذا العالم أو الداعية أو المصلح ، ولا بأس أن تتحرك آمالي الغافية ، لكن لم لا أضع مجالاً أو هامشاً على الأقل للمتغيرات والاحتمالات ، حتى لا أصاب بصدمة لو حدث خلاف الظن ؟
إنه ليست من المحتم أن يكون الأمر كما تصورته ، وليس ما تصورته هو بالضرورة ما يجب أن يكون ، والخيارات تظل مفتوحة ، ومن الفاضل جداً أن يعتدل الإنسان في قناعته في مشروع ما ، أو شخصٍ ما ، بحيث لا يفرط في الإلحاح على أهليته لهذه المرتبة ، أو هذا المقام ، فالغلو والجفاء كلاهما ليس من سبيل المؤمنين ولا من هدي المرسلين.
إننا نخطئ خطأً جسيماً حينما نتكئ تماماً على فردٍ أو جماعة أو مشروع باعتباره المخرج الوحيد ، والمخلص ، والمنقذ ، والرمز ، والأمل ، والحل ، ونمنحه من عاطفتنا وحماسنا ما لا يطيق ولا يحتمل ، ثم نطالبه بالمستحيل .
وهذا يقودنا إلى الموضع الثاني من مواضع العبرة ، وهو أننا بتناقضاتنا الفردية والجماعية والأممية نلقي بتبعاتنا على هذا الأمل الذي صنعناه ورسمناه ، فهذا يريد شيئاً ، وذاك يريد نقيضه ، وكل يغني على ليلاه .(36/2)
فإما أن نجعل هذا المشروع مجمعاً للمتناقضات ، وهذا مصير بائس ، ونهاية أليمة ، وإما أن تبدأ الآمال المغرقة في التفاؤل في الانهيار والتلاشي .
إن تراكمات التراجع التاريخي ، وسلبيات الواقع بكل تجلياته ستكون على كاهل هذا المشروع البكر الوليد الناشئ ، وتجاوز الواقع والقفز عليه شيء غير ممكن .
إن كل مأساة تقع ، أو مصيبة تنزل ، أو عدوان يحتدم ، أو مظلمة تتفاقم ، أو ضُرٍ في بحر أو برٍ ... حتى مما له جذور قديمة ، وأسباب راسخة , هو مما يجب أن يكون هدفاً للتغيير ، ويجب أن تغيره هذه الجماعة ، أو هذا الفرد ، أو هذه الدائرة ، أو هذا العمل الدعوي أو الجهادي ، هكذا نتصور أحياناً .
ونتصور مع هذا أن هذا تغيير المنشود المفروض يجب أن يقع تحت سمعنا وبصرنا وإدراكنا ، فلا مجال لخطة طويلة المدى ، بعيدة الأجل تعدنا بإصلاح منتظر يشهده أولادنا أو أحفادنا ... نريد أن نرى النتائج في عمرنا وخلال حياتنا ، وإلا فمعناه أن العمل فاسد ، والأمل خائب ، والثقة في غير محلها ، وكل تعامل مع قضية مستجدة يجب أن يكون وفق مرئياتنا وتطلعاتنا ، وأن يدغدغ عواطفنا ، ويتعامل على أساس القوة والقدرة والمنطق النضالي .
وكأن الأمة المسلمة مستثناة من النواميس الإلهية التي تجعلها عرضة للصعود والانحدار ، والقوة والضعف ، والغنى والفقر ، والتمكين والاستضعاف .
وإذا كان من يشعر بالمسؤولية يحسب خطوته وكلمته أكثر فأكثر ، ويدرس الخيارات بعناية وترقب ، ويقيس الأرباح والخسائر ، فإن من خسر كل شيء وأفضى إلى شفير اليأس قد يمضي دون حساب .
كلا .
إن المهم هو أن يكون ثمة خطوة صحيحة وصادقة ومدروسة بعناية بعيداً عن الارتجال ، وأوهام القفز والتجاوز التي تخاطب العواطف وتعاند العقول .
ونحن مؤمنون بالأسباب حتى في دقيق الأمور فضلاً عن عظيمها .(36/3)
ولقد أخطأت يوماً فوضعت مفتاح الباب لباب آخر فوجدته يتعصى عليّ ... فقلت لنفسي : سبحان الله ، كيف لا أعتبر من هذا المثال الصغير لما فوقه ؟
إن غيرة المؤمن وتطلعه للنصر يجعله أحياناً ينتظر من دولة وليدة واعدة تحقيق حلم ضخم ينتسب إلى عهود الخلافة التي تجتمع عليها كلمة الأمة فيحملها بذلك تبعة تنوء بها ، وربما كانت وعداً صادقاً بناءً لو ظلت في حدودها وناسبت بين الواجب والممكن ، ونأت عن انتظار الخوارق إلى فعل الأسباب .
وثالث هذه المواضع أن التنوع في المسالك والأسباب ، وإحكام التوازن بينها يحفظ للأمة آمالها ، ويجعلها بمنجاة من نوبات القنوط وعصفات اليأس المستحكم .
فطرق الخير كثيرة ، وليس النجاح محصوراً في عمل بعينه ، ولا يتوفر وعد إلهي بتخصيص شيء عن شيء إلا مجمل ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وكل عامل على وفق السنة النبوية فهو راشد بإذن الله ، فإذا صحت نيته فعمله صالح ، داعيةً كان ، أو معلماً ، أو منفقاً ، أو مصلحاً ، أو مجاهداً ، أو مديراً ، أو خطيباً ، أو ما شاء الله .
ولقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم نموذجاً وقدوةً لكل فرد من هؤلاء ، وجاء هديه شاملاً لأبواب الإيمان كلها ،حتى قال عليه الصلاة والسلام فيما رواه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه : ( الإيمان بضعة وسبعون ـ وفي لفظ ـ بضعٌ وستون شعبة ... ) الحديث .
الخير ضروب وألوان وأشكال وأمثال ، ولا يحسن تضييق ما وسع الله ، ولا تحجيره ، ولا يسع الناس إلا شريعة ربهم ، أما اجتهادات البشر فتظل مسكونةً بأثر الماء والتراب ، وإن تألقت وتنمقت .
ولذا فالأمة بحاجة ملحة إلى نظام يتسع للجهود المتنوعة ، والطاقات المختلفة ، والمشاريع المتعددة ، وهي بمجملها تشكل أمل المسلمين وطموحهم ، وإذا تراجع شيء منها عضده الآخر ، وقد يفلح قومٌ في عمل فوق الظن ، ويضعف آخرون ، والنظر يخطئ ويصيب .(36/4)
والأمة ليس محصورة في فئة من الدعاة أو العلماء ، بل كل من صح له وصف الإسلام فهو من الأمة ، وإن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر كما عند البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .
وقد يكون من أهل النكاية في العدو ببأسه وشجاعته ، أو هو من أهل العائدة والفائدة للمسلمين بعلمه أو حرفته أو رأيه أو لسانه أو يده من ليس معدوداً من المتقدمين في علم أو عبادة أو سمت ، والأرزاق عند الله يقسمها كيف شاء !
ورابع هذه العبر أن يتهم المرء رأيه ، نعم ، له أن يقتنع به ولابد ، وأن يعرضه ، وليتحمس له في حدود المعقول المألوف ، دون أن يجعله الحق الذي يرد الناس إليه ، فقد تكون أتيت من قبل إصرارك على أنموذج خاص لاترى الحق إلا من خلاله ، ولاتبصر النجاح إلا فيه ، وغاب عنك ماهو أنجع منه وأسنع .
ولقد خرج الصحابة رضوان الله عليهم إلى الحديبية لايظنون إلا أنهم فاتحو مكة ومطوفون ببيتها العتيق ، وأراد الحكيم العليم غير هذا ، وأبرمت معاهدة الصلح التي رأوها إعطاءً للدنية في الدين كما قال عمر رضي الله عنه : " فعلام نعطي الدنية في ديننا ؟ " .
لقد عجزت غيرة بعض الصحابة وحماستهم وقناعتهم الراسخة المستقرة بالفتح والعمرة عن استيعاب موقف الحكمة النبوية ، وتمثل هذا في شخص عمر على قوته وصحة يقينه ، ولهذا يقول أبو وائل شقيق بن سلمة : لما قدم سهل بن حنيف من صفين أتينا نستخبره ، فقال : اتهموا الرأي فلقد رأيتني يوم أبي جندل ولو أستطيع أن أردّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره لرددت والله ورسوله أعلم وما وضعنا أسيافنا على عواتقنا لأمر يفظعنا إلا أسهلن بنا إلى أمر نعرفه قبل هذا الأمر ما نسد منها خُصم إلا انفجر علينا خُصم ماندري كيف نأتي له .(36/5)
وأختم هذا الحديث العابر بهذه الحادثة العجيبة التي تكشف عن الرؤية المتزنة في الأحداث والمتغيرات ، وكيف استطاع رجل كابن عمر ، أن يلتقط من موقف أقرب إلى اليأس حبل الأمل ، والإشادة ببقاء هذه الأمة وديمومتها وخيريتها ، وأنها أكبر من الأفراد والجماعات والدول ، وأمنع من الجبال ، وأعصى على العوادي ، وإن كان يوهن عزمها ، ويرخي قبضتها داء الخلاف والتطاحن والتشاحن .
روى مسلم في صحيحه أن عبدالله بن الزبير لما قتل في حربه مع الحجاج في مكة ، وأمر الحجاج بصلبه على جذع في عقبة المدينة ، فجعلت قريش تمر عليه والناس ، حتى مر عليه عبد الله بن عمر فوقف عليه فقال : السلام عليك أبا خبيب ، السلام عليك أبا خبيب ، السلام عليك أبا خبيب ، أما والله لقد كنت أنهاك عن هذا ، أما والله لقد كنت أنهاك عن هذا ، أما والله لقد كنت أنهاك عن هذا ، أما والله إن كنت ما علمت صواماً قواماً وصولاً للرحم ، أما والله لأمة أنت شرها لأمة خير .
ثم نفذ عبد الله بن عمر فبلغ الحجاج موقف عبد الله وقوله ، فأرسل إليه فأنزل من جذعه ، فالقي في قبور اليهود ثم أرسل إلى أمه أسماء بنت أبي بكر فأبت أن تأتيه ... الخبر .
إنها مواطن عبرة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد .(36/6)
الأمة الواحدة
31/10/2001
15/8/1423
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين .
فإن هذا العنوان يذكرني بعنوانٍ قديم كنت ... ألقيته قبل عشر سنوات وربما أكثر من ذلك ، وكان بعنوان ( الأمة الغائبة ) وأذكر على إثر تلك المحاضرة أن إحدى الأخوات اتصلت بي آنذاك وكانت مغضبة، وكان من عتبها: أن الزعم بأن الأمة غائبة معناه: الادعاء بأن الأمة تعيش في جاهلية وضلال وفساد وضياع ، وأنه لم يبق على الأرض أحد ممن يوصف بأنه من المسلمين، وكأن هذا الفهم -في تقديري- قد أبعد النُّجعة عن المعنى المقصود .
إننا حينما نتكلم عن الأمة الغائبة إنما نعني: أن الحضور المشهود الحقيقي الوارد في القرآن عن هذه الأمة : " لتكونوا شهداء على الناس " قد ضعف جداً، ولم يعد له ذلك الوجود القوي التاريخي المتألق المعروف ، وإلاّ فإن المتفق عليه عند المسلمين كافة من أهل العمل والدعوة وغيرهم أنه لا جاهلية مطلقاً بعد بعثة الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - وأن الأمة لا يزال فيها كثير من أهل الخير ، والتقوى ، والصلاح ، والأمة في جملتها: هي أمة مسلمة اجتمعت على كتاب ربها وعلى سنة نبيها - محمد صلى الله عليه وسلم -، وهم من أهل القيام بأركان الإسلام ، ومن أهل الإيمان بأركان الإيمان ، ومن أهل أداء الواجبات والالتزام بالأخلاق الكريمة في الجملة .
ولا تخلو الأمة من مثل هؤلاء بل غالب الأمة ملتزم بأصل ذلك ، ونحن - بحمد الله - ممن يعتقد: أن الأصل في هذه الأمة الإسلام .(37/1)
وأنه حتى أولئك الذين وقعوا في بعض ما وقعوا فيه من المكفرات إلا أنهم وقعوا في ذلك عن جهل في الغالب ، ومن كان مثلهم جاهلاً ولم يوجد من يعلمه ، ويرفع عنه الجهل ، ويقيم عليه حجة الرسالة، فالأصل بقاؤه على الإسلام ما دام يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، وإن كان وقع منه ما يُعدُّ كفراً إلا أنه يحكم على الفعل، ولا يُحكم على الأشخاص والأعيان بأنهم من الكافرين إذا كان مثلهم يجهل ، أو كانوا من المتأولين .
فالمقصود: أننا من أشد الناس نهياً عن الوقوع في تكفير الأمة ، فضلاً عن تكفير الأفراد والأعيان ، فإن هذا مزلق في غاية الخطورة وله أسوأ الآثار ، وربما أقول : إن من أسباب طرقي لموضوع الأمة الواحدة: هو مثل هذه المعاني التي تنتشر أحياناً عند بعض الشباب ، وتجعلهم يختزلون الأمة في طائفة أو مجموعة أو فرقة أو فئة ، ويبتعدون عن سواد الأمة وعامتها ودهمائها وإن كان فيهم ما فيهم ، إلا أنه فرق بين من يشفق على الأمة وينصح لها ، ويحرص على إصلاحها ويشعر بأنه فرد منها ، يؤلمه ما يؤلمها ويسعده ما يسعدها ويحرص على تداركها ، وبين من يبتعد عن هذه الأمة فيرميها بالعظائم من التكفير أو التبديع أو التفسيق أو التضليل أو غير ذلك .
إنه لا جاهلية مطلقاً بعد بعثة الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - فقول النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كما في الحديث الذي رواه البخاري لأبي ذر : (إنك امرؤ فيك جاهلية) رواه البخاري (30)، ومسلم (1661). يرشح لمعنى أن الجاهلية قد تطلق على المعاصي ، ولهذا بوّب البخاري - رحمه الله - في صحيحه : " المعاصي من أمر الجاهلية ولا يكفر صاحبها بارتكابها إلا بالشرك " فالجاهلية تطلق على معنى الكفر ، وقد تطلق على ما دونه من المعاصي، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - عدَّ تعيير أبي ذر للرجل الذي كانت أمه أعجمية ـ وقال له : يا بن السوداء ـ من الجاهلية.(37/2)
وروى مسلم (934) من حديث أبي مالك الأشعري أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: (أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب ... ) ولا يلزم من هذا تكفير الأمة ، ومع ذلك فنحن نقول : لا داعي لأن نطلق لفظ الجاهلية على الأمة كلها ، فإنه لا جاهلية مطلقاً في الأمة .
نعم. قد توجد الجاهلية في أفراد، وقد توجد في بلد دون بلد، أو في مكان دون مكان لكن أن تكون الجاهلية في الأمة كلها مطلقاً بعد بعثة الرسول - صلى الله عليه وسلم - فهذا لن يكون إلا في آخر الزمان كما في حديث حذيفة الذي رواه ابن ماجه (4049) بسند صحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب حتى لا يدرى ما صيام ولا صلاة ولا نسك ولا صدقة، وليسرى على كتاب الله - عز وجل - في ليلة فلا يبقى في الأرض منه آية، وتبقى طوائف من الناس الشيخ الكبير والعجوز يقولون : أدركنا آباءنا على هذه الكلمة : لا إله إلا الله، فنحن نقولها ( .
فالمقصود أن الأمة باقية ولله الحمد ، وقد رأيت أن أحد الباحثين المجوّدين وهو الدكتور ماجد الكيلاني ، كتب كُتباً في الأمة وذكر أن الأمة تمر بثلاث مراحل :
المرحلة الأولى : مرحلة القوة ، وهي تعلق الأمة بالرسالة ، وقد يسميها مرحلة الصحة أو العافية .
المرحلة الثانية : مرحلة المرض، وهي مرحلة تعلق الأمة بالأشخاص سواء كانوا قبائل أم أفراداً أم أسراً أو ما أشبه ذلك.
المرحلة الثالثة : مرحلة الموت ، وهي مرحلة تعلق الأمة بالشهوات والمال والسلطان والجاه وغيرها من الأمور الدنيوية.
وكأن هذا التقسيم مقتبس من المثل الذي يقول : العظماء يتعلقون بالأفكار ، والمتوسطون يتعلقون بالأشياء، والضعفاء يتعلقون بالأشخاص .(37/3)
وفي تقديري أن هذا التقسيم لا يخلو من ملاحظة ، خصوصاً في شِقّهِ الأخير فإن الأمة المسلمة تمرض لكنها لا تموت ، تمر بمرحلة المرض لكن يدافع هذا المرض دواءٌ ربانيٌ نبويٌ هو التجديد الذي أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - ( إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة من يجدد لها دينها ) رواه أبو داود (4291) بسند جيد .
ثم إن لفظ الأمة في القرآن الكريم ورد بمعان عدة ، حتى إن الفيروز آبادي في ( بصائر ذوي التمييز) ذكر له عشرة معانٍ ، وأظن أن هذه المعاني يمكن اختصارها إلى خمسة:
المعنى الأول: أمة بمعنى: إمام أو قدوة كما في قوله تعالى في سورة النحل: " إن إبراهيم كان أمةً قانتاً لله حنيفاً ولم يك من المشركين" فمعنى قوله : أمة أي أنه كان قدوة في الخير كما نقل عن أكثر المفسرين والسلف، ويجوز أن يكون المعنى في هذه الآية (كان أمة ) يعني: أنه كان أمة وحده؛ لأنه لم يكن في الأرض مؤمن سواه ، ولهذا جاء هذا المعنى عن ابن عباس - رضي الله عنه - وجاء عن سعيد بن جبير ، وقال فروة بن نوفل الأشجعي: قال ابن مسعود: إن معاذاً كان أمة قانتا لله حنيفا فقلت في نفسي: غلط أبو عبد الرحمن ، إنما قال الله :" إن إبراهيم كان أمة "، فقال: تدري ما الأمة؟ وما القانت؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: الأمة الذي يعلم الناس الخير، والقانت: المطيع لله ورسوله، وكذلك كان معاذ يعلم الخير، وكان مطيعاً لله ورسوله. [انظر تفسير ابن كثير، الآية 123 من سورة النحل].(37/4)
المعنى الثاني : الأمة بمعنى: المدة من الزمن " وقال الذي نجا منهما وادّكر بعد أمة " يعني بعد زمن ، وكذلك قوله تعالى :" ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ليقولن ما يحبسه " يعني إلى وقت محدود ، فقد تطلق الأمة ويقصد بها: الزمن، وهنا نلحظ نوعاً من الترابط بين الأمة وبين الزمن ؛ لأن الأمة لها زمن تنتهي فيه ، ولهذا يقول الله تعالى : " ولكل أمة أجل " فكأن المعنى أخرنا عنهم العذاب إلى أجل ، وادَّكر بعد أجل ، بعد فترة معينة فهذا رابط بين المعنيين .
المعنى الثالث : المذهب والطريقة سواء كانت حقاً أو باطلاً " بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة "، " وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة " يعني على طريقة ومنهج ، وإن كان منحرفاً وضالاً لكنهم التزموه ؛ لأنهم وجدوا عليه الآباء والأجداد .
المعنى الرابع : الجماعة من الناس أو الطائفة حتى ولو كانت قليلة تسمى أمة ، كما في قوله تعالى : " ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون " أي جماعة ، وكذلك قوله تعالى : " كلما دخلت أمة لعنت أختها " يعني طائفة أو جماعة .(37/5)
المعنى الخامس وهو الأخير والمقصود : أن الأمة في القرآن تطلق ويراد بها: القوم المجتمعون على الدين الواحد ، وقد ورد هذا في آيات كثيرة جداً من القرآن منها قوله تعالى : " كان الناس أمة واحدة " فقد صح عن ابن عباس وغيره أنه قال : كان الناس أمةً واحدة على الهدى؛ وكان بعد آدم عليه الصلاة والسلام عشرةُ قرون من ذريته كلهم كانوا على الإيمان والتوحيد ، حتى جاءت الشياطين فاجتالتهم عن دينهم فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين . فهذا معنى قوله : (أمة) وكذلك قوله تعالى : " كنتم خير أمة أخرجت للناس " فالمقصود: أنهم كانوا أمة خير للبشرية لم يُخْرَجُوا لأنفسهم ليعيشوا لذواتهم وهمومهم الخاصة، وإنما أخرجوا ليعيشوا للناس معلمين ، ومرشدين ، وهادين ، وقائدين لهم إلى الجنة، قال أبو هريرة رضي الله عنه كما في صحيح البخاري (4557) لما تلا هذه الآية : " كنتم خير أمة أخرجت للناس " : خير الناس للناس، تأتون بهم في السلاسل في أعناقهم، حتى يدخلوا في الإسلام ، و جاء عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال في قوله)) : كنتم خير أمة أخرجت للناس )): هم الذين هاجروا مع الرسول –صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة . وقال عمر - رضي الله عنه - وقد تلا هذه الآية: لو شاء الله عز وجل لقال : أنتم ، فكنّا كلّنا . ولكنه قال : " كنتم خير أمة أخرجت للناس " في خاصة أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - ومن صنع مثل صنيعهم ، و قال أيضاً –رضي الله عنه- : تكون لأولنا ولا تكون لآخرنا ( انظر تفسير الطبري ، والدر المنثور- الآية 110 سورة آل عمران ) وكأنه –رضي الله عنه- لمح هذا المعنى في قوله : ((كنتم )) فهو فعل ماضٍ ، وهم كانوا في عصورهم الأولى " خير أمة أخرجت للناس" حين كانوا يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالله ؛ أما إذا فرّطوا في ذلك وتحالفوا على غير تقوى الله والإيمان به وقصّروا فيما أمر الله به من الشهادة على الناس فإنه لا يكون لهم ذلك(37/6)
.
وقال قتادة : بلغنا أن عمر بن الخطاب في حجة حجها رأى من الناس رعة (أي هيئة غير حسنة) فقرأ هذه الآية (( كنتم خير أمة أخرجت للناس )) ثم قال : من سره أن يكون من تلك الأمة فليؤد شرط الله - تعالى - فيها ) رواه ابن جرير في تفسيره ( الآية 110 من سورة آل عمران) .وشرط الله الذي أشار إليه عمر هو قوله تعالى)) : تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله )) .
إن هذه الآيات وغيرها مما في معناها قررت لنا قاعدة إسلامية عريضة عظيمة إجماعية وهي : أن الله سبحانه وتعالى قد عقد راية الإخاء والولاء والمودة والمحبة بين أهل الإسلام ، وهذا قرار إلهي عظيم صارم لا مجال للتردد فيه ، يقول الله - سبحانه وتعالى -: " إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون " والشيء اللافت للنظر في هذه السورة واسمها (الأنبياء) أن الآية نفسها تكررت في سورة بعدها وهي سورة (المؤمنون) ولاحظ الاسمين الأنبياء ، والمؤمنون ، في السورة الأولى ذكر الله قصص الأنبياء وأسماءهم ، ذكر موسى وإبراهيم وهارون وعيسى وزكريا ويحيى وذا الكفل وذا النون وغيرهم من الأنبياء ، ثم أثنى عليهم بما أثنى به ، ثم قال : " إن هذه أمتكم أمة واحدة " وأدخل معهم مريم - عليها السلام - ولو لم تكن من الأنبياء ولكن الله تعالى ألحقها بهم لفضلها ومزيتها، ولأنها كانت أمَّاً لعيسى عليه الصلاة والسلام ، فذكر الله هؤلاء الأنبياء ، ثم قرر هذه القاعدة : " إن هذه أمتكم أمة واحدة " فما مرجع الضمير ؟ وهل المقصود أن الأنبياء أمتكم ؟ أو المقصود هذه الأمة المحمدية الخاتمة هي أمتكم ؟(37/7)
اختلف المفسرون في هذا المعنى ، والأقرب - والله تعالى أعلم -: أن هذه آيات كرَّس الله تعالى فيها معنى الأمة الواحدة ، وأنها بدأت بوجود آدم عليه الصلاة والسلام ، وعَبَرت المراحل والسدود والحدود والأزمنة كلها ، حتى آلت النوبة فيها إلى خاتم الرسل وسيدهم محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام، فكان حامل الراية وخاتم المرسلين ، وإمامهم في الدنيا ويوم الدين ، وكانت أمته هي خير الأمم وآخرها ، وهي وريثة هدي الأنبياء ودعوتهم ، ولهذا لا يوجد على ظهر الأرض منذ بُعث الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - أمة تحمل النور المتمثل في القرآن الكريم، وهذا الكتاب المعصوم من التحريف والتبديل، والزيادة والنقص " لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه"، " إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون " .
والأمة التي تُمثل قدراً من الالتزام بقيم القرآن ومعاييره وأوامره ونواهيه عبر العصور وإن كان يحصل لها من الخلل ما يحصل وإن كان فيها من النقص والجهل والظلم والانحراف الشيء الذي لا يخفى إلا أنها مع ذلك تظل أفضل من الأمم الكتابية الأخرى بمراحل ، فعندها في مقابل ذلك من الخير والهدى والإيمان والعلم وآثار النبوة ما ليس عند غيرها في واقع حياتها العلمي والعملي ، فضلاً عن أنها تمتلك النور الذي لو عملت به لصلحت، وأصلحت ألا وهو الكتاب والسنة الصحيحة .(37/8)
وإشارته سبحانه وتعالى بعد ذلك " وتقطعوا أمرهم بينهم " هي إشارة إلى ما وقعت فيه الأمم الكتابية السابقة من الخلاف والتناحر والتباغض، واختلاف القلوب والمواقف، وتحذير من الله - تعالى - أن هذه الأمة التي أخبر الله أنها أمة واحدة يجب عليها أن تلتزم بالوحدة وألا تسلك مسلك الأمم الكتابية قبلها في الخلاف وأنهم تقطعوا أمرهم بينهم، كأن هناك أمراً واحداً بجمعهم فقاموا وتقطعوه ، فكل فئة منهم أخذت قطعة من هذا الأمر ، وهذا هو المعنى الذي تجده في السورة الثانية ، وهي سورة (المؤمنون) فإن الله ذكر الأنبياء موسى وعيسى وهارون ثم قال سبحانه : " وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون " فأكد المعنى نفسه وقرر وحدة الأمة وأنها ليست أُمماً ، ثم قال : " وتقطعوا أمرهم بينهم زبراً كل حزب بما لديهم فرحون " فهم تقطعوا هذا الأمر بينهم ، ثم قال: "زبُراً " والزبُر : جمع زَبور والزبور : هو الكتاب ؛ لأنه مزبور ، أو مسطور ، أو مكتوب قال الشاعر :
تمنى كتاب الله أول ليله تمني داود الزبور على رِسْلِ
" وآتينا داود زبوراً " فالزبر هي الكتب ، هؤلاء تقطعوا أمرهم بينهم زبراً كأن كل فئة أخذت بجزء من الدين وجانب منه وغفلت عما سواه ، وفرحت بهذا الذي أوتيت من العلم وغفلت عما عند غيرها " فتقطعوا أمرهم بينهم زبراً " .(37/9)
وهذا فيه إشارة إلى مشكلة الخلاف العلمي الذي يعصف بالأمة والذي لا يكون مبنياً على حجة شرعية ولا على أصول صحيحة ، وإنما داخله شيء من الهوى، أو الغرور، الذي جعل الأمر خلاف تضاد لا خلاف تنوع، فهي إشارة إلى خطورة الخلاف العلمي، أو التجاذب العلمي الانتقائي ، الذي يتجلبب بجلباب العلم ولكنه يأخذ ببعض الكتاب ويدع بعضاً ، أو يضخم بعض الأمور على حساب بعضها الآخر ؛ ولهذا قال الله - سبحانه وتعالى -: " كل حزب بما لديهم فرحون " فهذا يوحي إلى أنهم نسوا انتماءهم إلى الأمة وتحولوا إلى أحزاب متناحرة ، وليس الخلاف المشروع المنسجم مع الأصول الشرعية والقواعد المرعية والذي كان موجوداً في عهد الصحابة - رضي الله عنهم - والتابعين ومن بعدهم من الأئمة الأربعة وسواهم .
فاجتماع هذه الأحزاب ليس على عواصم الدين ومحكمات الشريعة وقواعد الملة، وإنما هو على خصوصية معينة اختزل الدين فيها واختارها وغفل عما سواها ، فهم اجتمعوا على الخصوصيات لا على الأعمال ، وهؤلاء فهموا شيئاً وتحالفوا عليه، ونابذوا من خالفهم فيه وأولئك تحالفوا على شيء آخر ، وهكذا وُجِد الخلاف في الأمة " كل حزب بما لديهم فرحون " .(37/10)
وهنا أُشير إلى معنى مهم وهو أن الله - سبحانه وتعالى - في مواضع من القرآن الكريم ومن السنة النبوية منه ما يبلغ مبلغ التواتر وهو أن الله - سبحانه وتعالى - جعل للمسلمين من المظاهر والعقائد والمعاني والأحوال والأحكام ما يخالفون به غيرهم من الأمم المنحرفة كاليهود والنصارى ، ونهانا الله - سبحانه وتعالى - عن التشبه بهم كما في قوله تعالى : " ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم " فنهانا عن التشبه بهم في أعمال القلوب ، كما نهانا عن التشبه بهم في الخلاف ، ولهذا قال الله - سبحانه وتعالى - لما ذكر اليهود وما جرى لهم : " تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى ذلك بأنهم قوم لا يعقلون " فأشار إلى أن الخلاف الذي يصل إلى هذا الحد لا يقع إلا من قوم ضعف عليهم الدين، وضعف عليهم العقل أيضاً ؛ لأن العقل يقتضي أن يكون بينهم نوع من التناصر والتلاحم والتقارب يستطيعون أن يتغلبوا به على مشكلاتهم وعلى ما يواجههم ، فالمحكمات في القرآن والسنة دلت على أن هذه الأمة ينبغي أن تكون متميزة عن الأمم الأخرى في أعمالها ، وعقائدها ، وسلوكها ، وخصوصياتها لكن ليس هذا التميّز مطلباً شرعياً داخل هذه الأمة إلا عن المنحرفين كأهل البدع، وأهل المعاصي والفسوق وغيرهم ممن يجاهرون بذلك ويتظاهرون به ، وإلا فالأصل ألا يحرص المسلم على ألا يتميز عن إخوانه المسلمين ، بمعنى أن يكون التميز هدفاً بذاته ومقصداً يختاره إما في هيئته ولباسه أو في عمله أو غير ذلك ، إلا ما كان من أمر الدين ومن أمر الشرع الذي أهمله الناس فهو يحيي ما اندرس من أمر الملة ، فإنه يحيي السنة التي قد أميتت ، أما كون الإنسان يتعمد أن يخالف الناس في أشياء ليست من السنة ، فإن هذا قد يكون من الشهرة التي ورد النهي عنها والتحذير منها كما في حديث ابن عمر مرفوعاً : ( من لبس ثوب شهرة ألبسه الله(37/11)
يوم القيامة ثوب مذلة) رواه أبو داود (4029) وابن ماجه (3606) بسند حسن .
وقد كان السلف يكرهون الشهرة حتى في بعض الأعمال التي قد يكون لها أصل ، لكن هذا الأصل ليس بظاهر أو ليس بقوي ، فيحبون موافقة الناس ويكرهون مخالفتهم إذا لم يكن في الأمر تشريع أو سنة صحيحة، وقد رأيت بعض الإخوة من جراء انغماسهم في الولاء الخاص وغفلتهم عن الولاء العام يضخمون ويبالغون في بعض الوارد ، فليس من الفقه فيما يبدو لي الحرص على التميز عن جمهور المسلمين بمعنى معين لذات التميّز ؛ لأن هذا نوع من العلو أو التفوق عليهم ، أو طلب الرياسة فيهم ، وإنما يتميز الإنسان بسنة أهملوها فيعمل بها ، أو بتقصير شاع عند الناس فيتخلى عنه ، أو بعمل خير عمله وقصد أن يقتدي الناس به وهذا باب واسع وبين هذا وذاك فرق ليس يخفى .
إن الله - تعالى - عقد أواصر الأخوة بين المؤمنين ، والرسول - صلى الله عليه وسلم - أكد هذا المعنى في كثير من الأحاديث التي بينت حقوق المسلم على أخيه ، ولا يتسع المجال لسرد هذه الأحاديث ، لكن أذكر بعض هذه الحقوق على سبيل الإجمال :(37/12)
أولاً : الحقوق القلبية ، وأعني بها : ما يتعلق بقلب المسلم ومحبته لأخيه المسلم وحسن ظنه به وسلامة صدره قِبَله ، والفرح بما يصيب إخوانه المسلمين من الخير والحزن لما يعرض لهم من الشر ، فإذا علم المسلم بأمر خير أصاب إخوانه المسلمين وجب عليه أن يُسَّر بذلك ويفرح ويغتبط " قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا " لأنه يرى أن ما أصاب إخوانه المسلمين من الخير أصابه ، وما كسبوه من المال كأنما كسبه ، وهكذا كل خير وقع لهم ، وعلى النقيض من ذلك يحزن لكل مصاب يقع بهم ، حتى ولو كان فرداً عثر في شرق الأرض أو غربها ، أو مسلمة انتهك عِرضها ، أو شعب من الشعوب نزل به نازلة، أو أصابته جائحة أو اعتدى عليه معتدٍ ، فيشعر بالحزن لهذا ، وهذا أقل ما يجب للمسلم على المسلم وهذا النوع من الحزن حزن مشروع ، نعم. لم يتعبدنا الله - سبحانه وتعالى - بالأحزان وحدها ، لكن هذه المعاني القلبية هي الوقود والدافع الذي يحمل الإنسان على الفعل ، فإن أقل ما يفرزه هذا الشعور -إذا كان صحيحاً- الفرح للمسلمين إن أصابتهم سراء أو الحزن إذا أصابتهم بأساء أو ضراء أن ينتج :
ثانياً : الحقوق اللسانية : لأخيك المسلم عليك ، كرد السلام ، وتشميت العاطس والثناء بالخير على من يستحقه ، والتعليم للجاهل ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر والدعاء والتضرع لهم وهذا بعض أثر الشعور القلبي الذي تحمله لإخوانك المسلمين فإن الدعاء لهم أمر لا يستهان به ، وربما دفع الله بالدعاء شراً عن المسلمين ، وكما قال الله سبحانه وتعالى : " ادعوا ربكم" وقال جل شأنه : " ادعوني أستجب لكم " وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " الدعاء هو العبادة " والحديث صحيح رواه الترمذي (3247)، وأبو داود (1479). ومن مأثور قول الشافعي -رحمه الله- :
أتهزأ بالدعاء وتزدريه **** وما تدري بما صنع الدعاء؟
سهام الليل لا تخطي ولكن **** لها أجل وللأجل انقضاء(37/13)
ولو لم يكن من آثار هذا الشعور الطيب وهذا العمل الذي يعمله المسلم من حركة اللسان بالثناء على أهل الخير ، أو التوجيه، أو التعليم ، أو النصرة ، أو الدعاء ، إلا تحقيق معنى الانتماء لهذه الأمة لكفى ؛ لأنه لا يصح بحال من الأحوال أن تنتمي لهذه الأمة وتزعم أنك فرد من أفرادها ، ثم لا تقدِّم لإخوانك الذي يشاركونك هذا الانتماء أي مشاركة، وسيان عندك فرحوا ، أم حزنوا ، انتصروا أم انهزموا ، أخطؤوا أم أصابوا.
فهذا لا يكون أبداً ، وإنما الحال كما قال القائل :
بالشام أهلي وبغداد الهوى وأنا **** بالرقمتين وبالفسطاط جيراني
ولي بطيبة أوطان مجنحة **** تسمو بروحي فوق العالم الثاني
دنيا بناها لنا الهادي فأحكمها **** أعظم بأحمد من هادٍ ومن بانٍ
ولست أدري سوى الإسلام لي **** الشام فيه ووادي النيل سياني
وأينما ذكر اسم الله في بلدٍ **** عددت ذاك الحمى من لب
إذاً ينبغي أن نحقق الانتماء لهذا الدين ، بالتعاطف مع إخواننا المسلمين ولو كان ذلك باللسان، وأقل ما يستطيع أن يقدمه الإنسان كلمة حق، أو دعوة صالحة لأخيه المسلم بظهر الغيب .
ثالثاً : الحقوق المالية ، كالصدقة ، والزكاة ، والإحسان ، وإطعام الجائع ، وكسوة العاري ، وغير ذلك من الحقوق التي جعلها الله في أموال المسلمين ، قال الله تعالى : " والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم " وقال بعض العلماء بل ورد مرفوعاً ولكنه لا يثبت في المال حق سوى الزكاة .
وقد يكون عند المسلمين في بعض الظروف من الفاقة والفقر وشدة الحاجة والعوز ما يوجب على أهل الغنى ، والجدة ، واليسار أن ينفقوا ، ويبذلوا لإخوانهم المسلمين .(37/14)
رابعاً : الحقوق البدنية ، كنصرة المظلوم ، وفك الأسير ، وإغاثة المستغيث ، ونجدة الملهوف ، والمساعدة بما يستطيعه الإنسان ، كما ورد تفصيل ذلك كثيراً في السنة ، بل هناك ما هو أبعد وأوسع من هذا التقسيم ، وهو ما يعبر عنه بعض العلماء المعاصرين بأنه : توفير الحاجات الإنسانية لكل منتمٍ لهذه الأمة ، ويصنف العلماء المتأخرون الحاجات الإنسانية إلى خمسة أصناف تقريباً :
الأول : الحاجات الحيوية ، كالطعام ، والشراب ، واللباس والمسكن ، والزواج فهذه الأشياء إذا نقصت الإنسان فإنه يفكر بها ، ولا يعود قادراً أن يقدم خيراً لأمته ، أو لبلده أو لأسرته ، أو لوالديه فلهذا كانت أول الحقوق ، وهكذا تجد الترتيب في القرآن الكريم .
الثاني: الحاجة إلى الأمن ، وهو أن يأمن الإنسان على حاجاته الأساسية ، ويتحرر من الخوف سواء كان خوفاً من الإيذاء الجسدي أو الإيذاء النفسي والمعنوي ، أو خوفاًً من الحرمان من حاجاته الضرورية كحرمانه من الطعام أو الشراب أو اللباس ، أو السكن أو ما أشبه ذلك ، ولهذا هنا تجد في القرآن الكريم في غير موضع كما في قوله تعالى : " الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف " فبدأ بالحاجات الحيوية العضوية ، وثنّى بالحاجات النفسية " وقال الله – تعالى - في الآية الأخرى : " فأذاقها الله لباس الجوع والخوف" فإن الخائف لا يستطيع أن ينتج، ولا أن ينجز، ولا أن يقوم بعمل.
الثالث: الحاجة إلى الانتماء ، وذلك أن الإنسان بطبعه كائن اجتماعي جبله الله - سبحانه وتعالى - على حب الأُنس بالآخرين ، والركون إليهم ، والحديث معهم ، ولهذا يقال : إن الإنسان لو جلس فترة طويلة لا يتكلم ربما يموت ، وقد جرى أن ملكاً من ملوك قبرص جمع مجموعة من الأطفال وأبقاهم فترة طويلة معزولين عن الناس ووفر لهم حاجاتهم، فهم يأكلون ويشربون ، لكن لا يكلمهم أحد، ولا يكلمون أحداً ، فلم تمر بهم فترة طويلة حتى ماتوا .(37/15)
فالإنسان محتاج لمن يكلمه ، ويأخذ عنه ، ويحاوره ، وقديماً قيل:
ولابد من شكوى إلى ذي مروءة **** يواسيك أو يسليك أو يتوجع
وأنت ترى الإنسان يكلم شخصاً وهو لا يقصد أن يشتكي إليه بقدر ما يقصد أن يبوح له بهمه، ويسمعه مايقاسيه من العناء ، وهنا جانب مهم جداً وهو الشعور بالانتماء ، فلا يستطيع الإنسان أن يعيش في عزلة عن الناس ، ولذا تجد الخطاب في القرآن الكريم خطاباً جماعياً " يا أيها الذين آمنوا "، " والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات " وقال الله - تعالى -: " قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم " ، " وقل للمؤمنات " وقوله تعالى : " وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان " وفي هذا إيماء وإشارة إلى حاجة الإنسان لمعنى الانتماء ، وأنه لا يتحقق معنى الإسلام بدونه ، فالصلاة جماعة ، والحج جماعة ، والصوم جماعة ، فكيف نستطيع أن نطبق أخلاقيات الإسلام إلا بالمعايشة ؟ كيف تعرف إن كنت حليماً أم لا؟ إن كنت صبوراً أم لا؟ إن كنت كريماً ؟ إن كنت شجاعاً ؟ إلا من خلال مجموعةٍ تُعايِشُهم ، وتعاملهم وتتفاعل معهم، يصبرون عليك وتصبر عليهم ، يحلمون عنك وتحلم عنهم ، إلى غير ذلك .(37/16)
الرابع: الحاجة إلى التقدير ، وذلك أن الإنسان بعد ما ينتمي إلى هذه الأمة يكون عنده حاجة فطرية إلى أن يجد منهم التقدير ، و ينال احترام الآخرين الذين ينتمي إليهم ، ويشعر أنه مفيد لهم ولو في بعض الأمور ، وأن له بعض التأثير فيمن حوله، حتى إن الإنسان لولم يحصل على مثل هذه الأشياء لربما لجأ إلى ما يسميه العلماء (السلوك التدميري ) ، أو (النشاط المشوش غير الناضج) من أجل إثبات ذاته ، ولهذا ترى كيف أثنى الرسول - صلى الله عليه وسلم - على قبائل ، وعلى أشخاص ، وعلى أمم وعلى بلاد ، وعلى جهاد أناس بأعيانهم ، وهذا كثير جداً في السنة ، حتى صنف فيه أهل العلم ، كمصنف الإمام أحمد في (فضائل الصحابة) ، وفيه ما قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - في شأن أبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، وأشج عبد القيس ، وما أثنى به عليهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - فهم يستحقونه ، ويكفيهم فخراً أن يثني عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم وقبل ذلك ثناء الله عليهم - سبحانه وتعالى - في القرآن الكريم "لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار" إلى غير ذلك من المواطن ، وتجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - أيضاً يثني على حديث العهد بالإسلام ، ولا يلزم أن يكون الأمر ثناءً مجرداً ، فأحياناً تكون لفتة لها معنى كما قال الرسول - صلى الله عليه وسلم: ( من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ) رواه مسلم (1780) وقال لهم : (من أغلق عليه بابه فهو آمن ، ومن دخل المسجد فهو آمن) رواه أبو داود (3022) . فمن الذي سيترك بيته، أو بيت الله الحرام ويدخل دار أبي سفيان ، ولكن هذه كانت لفتة فيها نوع من الاعتبار والتقدير لأبي سفيان ، وفيها تأليف له على الإيمان وعلى الإسلام ، وكان آنذاك حديث عهد بالإسلام، كما تألَّف قلوب أقوام بالأموال وغيرها ، فإن الجاه له مكانة في النفس لا تقل عن مكانة المال ، فحاجة الإنسان إلى ذلك أمر فطري جبلي ركبه الله فيه ، وجعل في(37/17)
الشريعة ما يكمله وما يلبيه .
الخامس: الحاجة إلى تحقيق الذات ، يحتاج الإنسان أن يحقق ذاته تلبيةً لشعور داخلي فنجد أن قول الرسول صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم (3084) : ( إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له) ورواه الترمذي (1376)، والنسائي (3651) يتردد في أذهان كثير من الناس فيفكرون في هذه المعاني فيسعون لتمثلها من خلال مضاعفة العمل والإنتاج ، ومحاولة أن يخلِّد الإنسان نفسه بعمل معين ، طمعاً فيما عند الله - سبحانه وتعالى - من الثواب ، تجد من يحرص على أن تكون وراءه صدقة جارية تبقى بعد موته ، أو علم ينتفع به ، ويتداول ويترحم عليه بسببه بعد موته ، أو ولد صالح يكون امتداداً لأبيه وبقاءً لاسمه ، وبقاءً لأجره وثوابه ، فهذا مما يدخل في تحقيق الذات .
وهذه هي الحاجات التي تدور حولها متطلبات الإنسان .
وللحديث بقية(37/18)
الأمة الواحدة
01/11/2001
16/8/1423
إن مما يجدر تأكيده تتمة لما سبق: أن هذه المطالب التي شرعها الله - تعالى - من حق المسلم على أخيه ، ومن حق المسلم على الأمة التي ينتمي إليها مرتبطة بأصل النسبة لا بكمالها، فكل من صدق عليه أنه من المسلمين فله جزء من هذه الحقوق ، حتى لو كان مفرطاً ، أو عاصياً أو متلبساً ببدعة معينة ، نعم هناك تفاوت كبير في الحقوق ، هذا التفاوت يعتمد على عدة أشياء ، فحق الوالدين ليس كحق غيرهم، وحق القرابة ليس كحق الأباعد ، وحق المجاور ليس كحق البعيد ، وحق العالم ليس كحق الجاهل ، وحق الفاضل ليس كحق المفضول، وحق الإنسان الذي له تأثير ونكاية بالعدو ، ونفع في الأمة ليس كحق آحاد الناس الذين ليس لهم ذلك . فأصل الحق مرتبط بأصل الانتماء ، وكمال الحق مرتبط بكمال الانتماء .(38/1)
لكل مسلم على أخيه حق وعليه له واجب ، عليك حق أن تنصحه ، وترشده ، وتدعوَ له وتذكره ، وتعلمه ، وتساعده ، ولك عليه حق ، فمن قام بواجبه فيمكنه أن يطالب بحقه لكن إذا فرط في واجبه فليتوقع أن يخل الناس بواجباتهم . إن المسلمين يتفقون على أصل الدين ، وعلى المحكمات القطعية التي جاء الدين بها ، هم يؤمنون بإله واحد لا شريك له ، في ذاته ، وفي أسمائه وصفاته، و في ربوبيته ، و في ألوهيته ، فهو المستحق للعبادة وحده ، وهم يؤمنون بنبيّ واحد هو خاتم الأنبياء والمرسلين وإمامهم ، جاء بأفضل الشرائع وآخرها ، وهو واجب الاتباع إلى قيام الساعة ، ويتجهون إلى قِبلة واحدة ، ويقرؤون قرآناً واحداً -يقطعون كلهم بأنه محكم محفوظ من الزيادة والنقصان لم تَطُلْه يد التحريف والتبديل والتغيير في ألفاظه ومجملات معانيه - ويصومون شهراً واحداً ويحجون بيتاً واحداً، ويقفون بعرفة موقفاً واحداً ، تاريخهم واحد ، ومصيرهم ومستقبلهم واحد ، حتى التحديات التي تواجه المسلمين هي تحديات واحدة في الجملة ، فإننا نجد الأذى الذي موجهاً إلى المسلمين يوجه إليهم شعوباً وأمماً بلا تمييز بين أقوياء الإيمان وضعفاء الإيمان ، وبين العلماء والجهلاء ، وبين الصلحاء والفاسدين ، وهذا يؤكد على الأمة: ضرورةَ أن تعمل على تحقيق معنى هذا الانتماء .(38/2)
لقد أشار ابن عباس - رضي الله عنه - إلى المحكمات في الدين التي هي القواعد العامة التي ينبغي الاجتماع عليها ، يقول: إن في الأنعام آياتٍ محكماتٍ هنّ أم الكتاب، ثم قرأ: "قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم "… الآيات أخرجه الحاكم في المستدرك (2/317) وقال: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه. وعن ابن مسعود – رضي الله عنه – قال:من أراد أن يقرأ صحيفة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – التي عليها خاتمة، فليقرأ هؤلاء الآيات: " قل تعالوا أتلُ ما حرم ربكم عليكم ألا تشركُوا به شيئاً " إلى قوله : " لعلكم تتقون " أخرجه الترمذي) 3072( وحسنه.
والآيات من سورة الأنعام هي قوله تعالى : " قل تعالوا أتلُ ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون . ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشُدَّه وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفساً إلى وسعها وإذا قُلتم فاعدلوا ولو كان ذا قُربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون. وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرّق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون ".
حاول أن تتأمل هذه الأوامر ومدى اهتمامنا بها ، ومدى التركيز في الحديث والخطاب الشرعي عليها ، ومع انهماكنا وانشغالنا بقضايا قد لا تمتّ لهذه الآيات بصلة "ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده" "وأوفوا المكيال والميزان بالقسط" "لا نكلف نفساً إلا وسعها" "وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى" "وبعهد الله أوفوا" " ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون" "وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل" أمر بالوحدة على صراط الله المستقيم ، ونهى عن اتباع السبل فتفرق بكم عن سبيله " ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون" .(38/3)
إذاً ، نحن أمام محكمات قطعية تتعلق بالعقائد ، والأخلاق ، وبالعمل والسلوك ، أمر الله - تعالى - بما كان من خير ، ونهى - سبحانه وتعالى - عن ما كان من شر ، أمر بالتوحيد ونهى عن الشرك ، هذه الأشياء العامة هي التي ينبغي أن يجتمع المسلمون حولها ، ويدندنوا في محيطها .
إن هذه المسلّمات ، وما شابهها مما اتفق عليه أهل العلم على أ نه لا ينقص منها ولا يزاد عليها ، وما سواها يتفرع عنها إلى :
القسم الأول : هنا يقع - أحياناً - نوع من الإضافات فيما ينبغي أن يجتمع الناس عليه ، فمن الإضافات ماهو انحرافات وبدع وأساطير تلبّسها الناس وأقحموها في الدين ، بل ظنوها من أصول الدين ، وربما والَوا فيها ، وعادَوا عليها وأحبوا من أجلها ، وأبغضوا من أجلها ، وقد تكون مناقِضةً لما بعث به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وهذا كثير جداً في معظم المجتمعات الإسلامية ، ولكل قوم شيء من ذلك ورثوه عن الآباء والأجداد ، وظنوه ديناً يتدينون به ، هذا القسم الأول .
القسم الثاني: أشياء تكون من الدين ، أو تكون اجتهاداً مبنياً على نص ، ولكن القوم يرفعونها من كونها فرعاً إلى جعلها أصلاً ، أو من كونها أمراً خلافياً اجتهادياً إلى كونها أمراً قطعياً ضرورياً.
القسم الثالث: أشياء هي من الدين يقيناً بلا خلاف ، وقد تكون من أصول الدين ولكن يقع فيها - أحياناً - نوع من الإلحاح الزائد حتى تكبر في نفوسهم ، وتعظم عما جعل الله - تعالى - لها من القدر ، وربما هذا يكون على حساب أصول أخرى يقع فيها إجحاف وتفريط، وأمثلة ذلك كثيرة ربما يأتي شيء منها.(38/4)
إن هناك انتماءات وانتسابات بديلة، أو مزاحمة لهذا الانتساب الشرعي الديني الذي تحدثنا عنه، وكثير من المصلحين والغيورين والمحبين يجتهدون في الإلحاح على جوانب النقص الموجودة في الأمة عملاً على استدراكها ؛ فيتولد من ذلك نوع من الانخزال عن الأمة أو الانكفاء عنها ، بل ربما يغفلون عن التأكيد على معاني الأخوة الإيمانية .
هناك من يرى أن الحديث عن الأمة ومجالاتها وكثرتها وعددها وعديدها وامتدادها نوع من فقدان التركيز أو فقدان العناية والخصوصية ، وهنا سؤال يتكرر : ما بالنا تردد –دائماً- أن الأمة مليار ومائتا مليون مسلم ؟
وأقول : بل لماذا لا نكرره ؟ ينبغي أن يكرر هذا المعنى ويُبدأ ويُعاد ؛ لأن هؤلاء لهم أصل الانتماء في مجملهم إلا من خرج عن الإسلام منهم .
وبعضنا لا يكاد يتذكر الأمة في مجملها إلا عند الشدائد والمصائب ، فكأننا غافلون نحتاج إلى مِطرقة معينة حتى نستيقظ ، فإذا حصلت للمسلمين مصيبة في إندونيسيا مثلاً ، وشاهد الناس جثث القتلى المتفحمة من أثر النار ، أو رأوا التمثيل بالجثث ، أو رأوا من يأكلون لحوم الأحياء من المسلمين نكاية وبغضاً وكراهيةً تحركت العواطف والمشاعر تجاه إخواننا حركة وقتية عارضة ثم ما تلبث أن تنطفئ وبسرعة كاحتراق السعفة ، وإذا وقع للمسلمين معاناة في إفريقيا كمجاعة أو جفاف أو حروب طاحنة ، أو غير ذلك ، فإن المسلم قد يتفطن لذلك خصوصاً إذا أفلحت وسائل الإعلام في التوكيد وإبراز هذا المعنى ، وسرعان ما تنطفئ هذه الجذوة ونعود إلى غفلتنا وإذا لاحت لنا نذر أزمة -في أفغانستان مثلاً- لهجنا بذكرها وخفنا عليها ، فإذا ذهبت هذه الأشياء عدنا أدراجنا إلى ما كنا عليه .(38/5)
إن ثمة ضرورة إلى أن نؤكد للمسلم العادي وللشاب المتدين في محل التعليم ، أو في حلقة الدرس أو في المجلس أوفي المحضن التربوي أهمية انتسابهم لهذه الأمة وشعورهم بالأخوة لكل من كان داخل هذا الإطار ، وإن كان شعوراً يرتفع وينخفض ويزيد وينقص .
أما الانتماءات التي زاحمت الانتماء الأصلي فهي كثيرة منها :
أولاً : الانتماء للقوميات والشعوب : الإسلام دين عالمي كوكبي ليس له قومية معينة ليس ديناً عربياً وليس ديناً كما يقول بعضهم (أفرو آسيوي) ؛ لأن معظم انتشاره في إفريقيا وآسيا، بل تجد الإسلام ينتشر في أوروبا شرقيها وغربيها في أستراليا في الأمريكيتين ينتشر بقوة ، ويكتسب كل يوم أنصاراً جدداً ومواقع جديدة وقد قرأت كتاباً للدكتور (جمال حمدان) قبل سنوات طويلة وكان يقول فيه : إن عدد المسلمين حوالي ثلاثمائة وخمسين مليوناً، وهم يشكلون –ربما- سبع سكان الكرة الأرضية ، و يتوقع أن يزداد عدد المسلمين، وأن يرتفع إلى خمس سكان الأرض ، فتقرأ اليوم أن عدد المسلمين حسب الإحصائيات فعلاً خمس البشرية .
الإسلام دين يزحف بقوة ، بالفطرة ، وبجهود الدعاة ، ولو أن الإسلام وفق لدعاة مخلصين يعرفون كيف يعرضونه، وكيف يتسللون به إلى القلوب لاكتسح الديانات الأرضية كلها .
مشكلة الانتماء إلى القوميات والشعوب هي إحدى المشكلات القديمة ، فتجد كثيراً من الناس ينتمون إلى قومية كالقومية العربية مثلاً ، وتعرفون تراث القومية العربية وأدبيات القومية العربية، وكيف كان يقول أحد شعراء الشام النصارى :
هبوا لي ديناً يجعل العرب أمة **** وسيروا بجثماني على دين برهم
ألا حبذا كفر يوحد بينهم **** وأهلاً وسهلاً بعده بجهنم
وآخر يقول :
آمنت بالبعث رباً لاشريك له **** وبالعروبة ديناً ماله ثان(38/6)
فكان غلاة القوميين خصوصاً يطرحون القومية العربية كانتماء بديل عن دين الإسلام، ونحن لا نرى أن مجرد الانتساب للعرب بديل عن الإسلام ، وإن كانت هذه نسبة لها فضلها ومكانتها ، والذين كانوا يبغضون العرب كانوا منحرفين عن الدين، وكانوا يسمون (الشعوبيين) ، وقد كتب الإمام ابن تيمية - رحمه الله - في كتابه (اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم) فصولاً جيدة في هذا الباب.
وخلاصة الأمر: أن الانتماء إلى القوم، أو إلى الشعب ليس مشكلاً؛ هذا الشعب المصري ، وهذا السوري وهذا العراقي ، وهذا السعودي وهذا الكويتي أو غير ذلك ، بل هذا أمر عادي كأن ينسب الإنسان لشيء آخر فليست المشكلة في مجرد الانتماء المشكلة أن يكون هذا الانتماء على حساب الانتماء الأصلي والولاء الأصلي لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين وأن تكون هذه النسبة لها تداعياتها، فيكون أهل هذا الشعب يتناصرون فيما بينهم وعندهم معان خاصة ، ولهم من الشعوب الأخرى موقف معين ، وقد تشيع بينهم مفاهيم وتصورات عن الشعوب الأخرى ، وكلما نزلت نازلة أوجدّت قضية تحالفت هذه الشعوب بعضها ضدّ بعض ، فأصبح هذا الشعب ضد الشعب الآخر ، وصار هناك اضطهاد في كل نازلة وفي كل قضية ، فصار هذا الانتماء الشعبي –أحياناً- مقدماً على الانتماء الإسلامي .
أما لو كانت هذه الشعوب تشعر –باستمرار- بالتكاتف فيما بينها ، كما يحدث -على سبيل المثال- حينما تتكاتف الشعوب الإسلامية مع معاناة الشعب الفلسطيني ، فتجد المغربي والعراقي والشامي والمصري والخليجي والكردي ، والغربي من المسلمين يشعرون بالتلاحم يشعرون بالمعاناة ، فيدعون لإخوانهم وينصرونهم ، ويتكلمون في قضاياهم ، ويدعمونهم بالمال وبما يستطيعون من الإمكانيات فلا إشكال في هذا.(38/7)
ثانياً : الانتماء للوطنيات والدول ، فإن هذه الوطنيات مرتبطة –غالباً- بما ذكرناه قبل قليل من أمر الشعوب وأيضاً لا نقصد إلى إنكار محبة الإنسان الفطرية لوطنه كما قيل:
وحبب أوطان الرجال إليهم **** مآرب قضاها الشباب هنالك
إذا ذكروا أوطانهم ذكّرتهم **** عهود الصبا فيها فحنوا لذلك
والرسول - صلى الله عليه وسلم - ذكر لكثير من البلاد الإسلامية فضلها ، كفضل مكة والمدينة وجزيرة العرب واليمن ، والشام ، وعمان ومصر ، إلى غير ذلك فمجرد أن تكون منتسباً إلى وطن ليس مشكلاً المشكلة أن يتحول هذا إلى ولاء بديل عن الولاء الأصلي ، كما قال أحمد شوقي في قصيدته المشهورة:
وجه الكنانة ليس يغضب ربكم **** أن تجعلوه كوجهه معبودا
ولوا إليه في الدروس وجوهكم **** وإذا فزعتم فاعبدوه هجودا
فتراه يستخدم الألفاظ الشرعية الخاصة بعبادة الله - سبحانه وتعالى - ويجعلها موجهة للوطن ومن قصيدة للزركلي مشهورة يقول:
وطني لو صوروه لي وثناً **** لهممت ألثم ذلك الوثنا
وهناك في المقابل بعض التعبيرات التي لا تستحسن، مثل تحريف كلمة الوطنية إلى وثنية؛ لأنها قد تعطي انطباعاً خاطئاً عند بعض الناس وأنهم يرون أن الإسلام ضد خدمة الإنسان لأهل بلده ومحبته لهم ، وهذا ليس صحيحاً ؛ لأن الله - سبحانه وتعالى - جعل للجيران حقوقاً فالجار الأدنى له حق ، والجار الأبعد له حق ، وهكذا الأقربون وهم أولى بالمعروف ، وحق أهل بلدك عليك أكثر من حق الأبعدين إذا تساوت الحاجة ، فليس هناك تناقض بين محبة الإنسان لوطنه, أو عنايته بأهل بلده تعليماً , ودعوة , وخدمة , وإصلاحاً , وغير ذلك وبين انتمائه للإسلام ، إنما التناقض هو أن يكون انتماء الإنسان لوطنه بديلاً عن انتمائه لدينه أو على حساب انتمائه لأمته الإسلامية .(38/8)
ثالثاً: الانتماء للقبائل : وهذا كثير ، والله - سبحانه وتعالى - قد امتن علينا ، فقال : " وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا " فليست المشكلة في كون الإنسان ينتمي إلى قبيلة كذا أو كذا ، إنما المشكلة هي العصبية لهذه القبيلة ، ولهذا قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ( أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب ...) رواه مسلم (934) المشكلة النصرة بالباطل والمنافرة والمفاخرة والمباهاة ، والحب والبغض وأن تكون هذه الأشياء هي علامة الولاء ، فتجد الواحد يسعى إلى تقريب من كانوا من قبيلته في الإدارة التي هو فيها ولو كان غيرهم أكفأ منهم ، وهكذا في التجارة وفي التزويج ، وغير ذلك، فيكون هناك استقطابات داخل المجتمع المسلم ، بل داخل البلد الواحد والمدينة الواحدة تجد نوعاً من التجاوزات والتحالفات هذا قَبَليّ ، وهذا غير قَبَليّ، وهذا من قبيلة كذا ، وهذا من قبيلة كذا ويترتب عليه معانٍ عظيمة وليست مجرد انتساب يقصد به التعريف فقط .
رابعاً: المذاهب والنحل : كالمذاهب الفقهية التي كانت في يوم من الأيام سبباً للخصومة وسالت بسببها دماء ، وقطعت بسببها أرحام وأواصر ، بل ربما كانت في وقت من الأوقات فرصة لتدخل الأعداء وضربهم بلاد المسلمين .
خامساً : الشيوخ والقادة: فإن كثيرين يتعصبون لشيخ أو شخص ، ويوالون فيه ويعادون ، وربما يكون هو ممن ينهاهم عن التقليد ، فيقلدونه ، وينتقلون من تقليد الفاضل إلى تقليد المفضول .(38/9)
سادساً : الجماعات والأحزاب : سواء كانت جماعات علمانية أو سياسية ، فتجد كثيرين قد يرشحون شخصاً ، وهم يعرفون أنه يطرح مشروعاً علمانياً ، أو منحرفاً ، ويرون أنهم يفصلون بين انتمائه السياسي وبين انتمائه الديني ، المهم أنه من هذا الحزب أو هذه المجموعة ، وهكذا الجماعات ، والأحزاب الإسلامية التي يتربى الكثير من الأفراد فيها أحياناً على الانتماء إلى الجماعة والتشبع بمفاهيمها وأفكارها ، ويكون هذا على حساب الانتماء العام ويقع بسبب ذلك نوع من الجفوة بين المجموعات.
ومما يضعف الانتماء العام المسائل والأغلوطات التي يتشاغل بها كثير من طلبة العلم ؛ كمسألة العذر بالجهل ، فقد أصبح كثير من الجماعات الإسلامية وطلبة العلم يفرزون إلى مجموعات : هؤلاء يعذرون ، وهؤلاء لا يعذرون ، أو مسألة الحاكمية مثلاً وما يتعلق بها ، انقسموا أقساماً كثيرة بسبب اختلافهم في هذه القضية التي فيها مجال للاجتهاد ، أو مسألة دخول العمل في مسمى الإيمان ، هل يدخل أولا يدخل ؟ ولم تتحول هذه القضايا إلى قضايا علمية تبحث بهدوء و بنفس راضية ، وتدارس للأدلة والوجوه ، إذ لو كان الأمر كذلك لكان مطلوباً ، ولكن المسألة تحولت إلى نوع من التجاذبات والتحزبات ، حتى إن كثيرين ربما لا يتقنون هذه المسائل ولا يعرفون أبعادها ولا أدلتها ، ولا درسوها ، لكن هؤلاء تعصبوا لهذا ، وهؤلاء تعصبوا لهذا ، وترتب عليه قبولهم بهذا القول أو ذاك .
إن هناك عوامل كثيرة تدعونا إلى ترميم وحدة الأمة على الأقل من الناحية النظرية ، من هذه العوامل :
1/ التمزقات والفتن الداخلية التي تعصف بالمسلمين ، وتجعلهم يضطربون إزاء كل قضية مستجدة تطرأ عليهم .
2/ التحديات الخارجية، والمتمثلة -على وجه الخصوص- فيما نسميه (العولمة) عولمة السياسة، والاقتصاد ، والثقافة ، والقيم ، وأخيراً عولمة القوة .(38/10)
إن الطريق - أيها الأحبة – طويل، ويحتاج إلى تربية وإعداد وبناء ، ولا يجوز أن تسيطر علينا فكرة أنه لا بد أن نقوم بعمل نشهد نتائجه بأعيننا ، وأن يتم هذا العمل ويتحقق خلال الفترة الزمنية التي نعيش فيها على ظهر الأرض وعلى قيد الحياة ، كلا بل ينبغي أن نقوم بعمل جاد ومثمر وفاعل ولو كان بطيئاً ، وإن لم يظهر أثره إلا بعدنا.
ليس المقصود أن نشهد انقلابات على هذه الانتماءات التي تحدثت عنها ، خصوصاً ما كان منها انتماءً مباحاً ، بل إن هذه الانقلابات أحياناً لا تزيد المشكلة إلا استفحالاً ؛ لأنها تكوّن تكتلات جديدة، وتجمعات ، وانتماءات حادثة بين من يؤيدون ومن يعارضون ، وقد كان في الصحابة المهاجرون والأنصار ، والإسلام لم يلغ هذه الأسماء ، بل قررها وجعل فيها مجالاً للمنافسة في الخير والمسابقة في الطاعة ، و حسن البلاء في الجهاد ، وغير ذلك.
كما أن الوحدة المفتعلة بين المسلمين لا جدوى منها الآن ، فبعضهم قد يتحمس إلى توحيد الأمة ، أو توحيد الجماعات العاملة للإسلام ، أو توحيد العلماء مثلاً دون أن يكون عندهم تصور واضح عما يمكن التوحيد عليه، وعن البرنامج الذي يمكن أن يجمعهم والمنهج الذي يمكن أن يوحدهم.
ولكن نقول : يكفي التوقف عن الخصام والشقاق والتشاحن والبغضاء بيننا ، وتحل محل ذلك أخوة الإسلام ، وأن تبدأ أنماط معقولة من التعاون على البر والتقوى ، وفي المشاريع المشتركة علمية كانت ، أو اقتصادية، أو دعوية ، أو إعلامية ، أو غير ذلك ، وأن نعمق وحدة العقيدة في الأمة ، ونجتهد في تصحيح مفاهيم الناس حول القضايا الضرورية ومجملات الدين التي لابد من تعليمها لهم عن عقيدتهم ، عن ربهم ، عن نبيهم ، عن قرآنهم ، عن تاريخهم ولو لم يتحقق وحدة الكيان الإسلامي بشكل عام في هذه المرحلة .
يكفي أن نربي الشباب في محاضنهم على أصل الانتماء لهذه الأمة ، وألا تكون انتماءاتهم الثانوية بديلا عن هذا الانتساب العام .(38/11)
والله تبارك وتعالى أعلم ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين .(38/12)
الانتظار عقدة أم عقيدة ؟
01/11/2001
16/8/1423
كتب إليّ أحد الأصدقاء سؤالاً عن قصة المهدي ، وما يشاع في الإنترنت عن ظهوره ، وعلاماته ، والرؤى المتعلقة به . وزجّ باسمي ، في دهاليز هذا الموضوع .
وقد كتبت للأخ ـ في حينها ـ جواباً ؛ أبين فيه أن ما يشاع ليس له أصل وإنما هي أشياء ، لا علاقة لها بالواقع ، ولا تعدو أن تكون إشاعات مُبطلة ، أو تمنيات من بعض النفوس اليائسة المُحْبَطَة .
ووعدته أني سوف أعالج هذا الموضوع ؛ لأنه يُعبر عن معاناة تعيشها الأمة . هذا الموضوع دعاني إلى مراجعة كلمة الانتظار في القرآن الكريم .
وأعتقد أن هذا مسلكٌ حسن ، أن نراجع كتاب الله تعالى ، الذي فيه الهدى والنور كلما وقعت واقعة من مثل هذه القضايا ، أو تداعت إلى النفوس ، أو ظهرت ظاهرة تحتاج إلى علاج .. فنظرت في الآيات التي ذُكر فيها لفظ : الانتظار ، أو ما يماثله مثل: التربص ، ونحوها ؛ فوجدت أن الآيات التي تدور في هذا المعنى تنقسم إلى ثلاثة أقسام :
القسم الأول :
آيات جاءت في الوعيد بانتظار العقوبة للكافرين في الدار الآخرة ، فيقول لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( انتظروا ( أو ما أشبه ذلك ،كما في قوله تعالى في سورة السجدة : "وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ" (السجدة : 28-29) والمقصود بالفتح هنا - والله أعلم - يوم القيامة ؛ بدليل قوله : "لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُون * فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ" (السجدة: من الآية 29-30) أي : انتظر نهاية الأمر ، وما وُعدوا به من البعث ، والجزاء ، والحساب ، وهم ينتظرون هذا الأمر أيضاً .(39/1)
ومثله قوله تعالى : " يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرا ً" (الأنعام: من الآية158) ، وقد صح تفسير هذه الآية بأنه : طلوع الشمس من مغربها ؛ إذ مع طلوعها لا ينفع نفساً إيمانها .
وقد يصح أن نقول : إن هذا نوع من آيات الله ، ولذلك قال : " بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ" (الأنعام: من الآية158) لكن هناك - أيضاً – آيات لله -سبحانه وتعالى - أخرى ، مثل : الغرغرة ، فإن الله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يُغرغِرْ .
إذاً ينتظرون الساعة الكبرى التي إذا ظهرت علاماتها الواضحة الكبيرة ، كطلوع الشمس من مغربها ؛ لا ينفع نفساً إيمانها .أو ينتظرون القيامة الصغرى التي هي موتهم ؛ فإن الإنسان إذا مات قامت قيامته والعلامات المباشرة للموت هي الغرغرة ، ومشاهدة الإنسان للملائكة ؛ وهم ينزلون لقبض روحه ، فحينئذٍ لا ينفع نفساً إيمانها أيضاً .
ولذلك نجد أن الآية دعت إلى العمل ، وإلى الإيمان ، وإلى الإصلاح قبل أن يحال بين الإنسان وبينه بالقيامة الكبرى ، أو الصغرى ؛ لأن قوله : "لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً " (الأنعام: من الآية158) هو: تحضيض ، وتحثيث على العمل ، على الإيمان ، على أن تكسب خيراً ، قبل أن تصل إلى حالٍ لا تتمكن فيها من ذلك .
فالانتظار - هنا - ليس معناه أن تضع خدك على يدك ، تنتظر شيئاً وتترقبه ؛ بل معناه أن تسارع ، وكأنك تسابق شيئاً تخشى أن يقع .
القسم الثاني :(39/2)
انتظار الوعيد بعقوبات في الدنيا ، إن الكفار - أحياناً - قد يستعجلون العقاب ، على سبيل استبعاده والأمن منه ، كما في قصة هود - عليه السلام - فإن قومه قالوا له : ( أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ* قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ " – إلى قوله – " فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِين َ" ( الأعراف:71) ، فهم طلبوا العقوبة ، واستعجلوها فقال لهم : ( فَانْتَظِرُوا) ، وهكذا في سورة يونس : " فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِم ْ" (يونس: من الآية102) أي بالعقوبات ، والمثُلات ، والنوازل ، والمصائب ؛ ولهذا يقول : "قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْْتَظِرِينَ" (يونس: من الآية102) أيضاً في سورة هود : "وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ*وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ" (هود:122(.
فانظر كيف جمع بين العمل ، والانتظار ، وتحدَّى الكافرين "اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ* وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ" يعني : منتظرون ما يحكم الله تعالى به بيننا وبينكم ؛ ولهذا قال : "فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّه"(الأعراف: من الآية87) ( قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِين َ) ( الطور:31) وهكذا يكون الانتظار هنا لعقوبات الله تعالى التي تحل بالكافرين .
القسم الثالث :(39/3)
انتظار آية من آيات الله تعالى ، فالكفار كانوا يطلبون من النبي -عليه الصلاة والسلام - أن يأتيهم بآية من عند الله ، فقد طلبوا أن يقلب لهم الصفا ذهباً ، أو أن يُسقط عليهم من السماء كِسفاً ، ونحو ذلك من المعجزات ، فكان الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول لهم : "إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ" كما أمره الله - عز وجل - ، وكما في سورة يونس : "وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِين َ) (يونس:20) فنلاحظ في هذه الأنماط الثلاثة من الآيات فوائد مهمة جداً :
الأولى : تفويض الغيب إلى الله -سبحانه وتعالى - في الأمور التي ينتظرها الإنسان ؛ ولهذا قال : ( فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّه ) فنزول عقوبة من الله - سبحانه وتعالى - ، وقيام الساعة من غيب الله الذي لا يظهر عليه أحداً ؛ قال سبحانه: " إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى" (طه:15) فالغيب لله - عز وجل -، ولا يظهر الله على غيبه أحداً "إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ" (الجن: من الآية27) وهناك أمور من الغيب لا يعلمها إلا الله - عز وجل -فلا يعلمها مَلَك مقرَّب ، ولا نبي مرسل ؛ ولذلك فإن علم الغيب مما استأثر الله به، ولا يحل لأحد غير مَن أذن الله له أن يتقحَّمهُ بأيَّ وسيلة من الوسائل ، وقد يجد الإنسان - أحياناً - شعوراً نفسياً ، أو أمراً ينقدح في قلبه وقد يُلهم شيئاً ، فيظن ظناً لكنه لا يجزم بشيء ، وقد يرى رؤيا خيرٍ للمسلمين ، أو رؤيا شرٍ لأعدائهم ، لكن التعبير يظل ظناً كما في سورة يوسف عليه السلام : "وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا" (يوسف: من الآية42) ، فلم يجزم وهو نبي يأتيه الوحي ؛ ولم يقطع في تفسير الرؤيا بشيء ، وإنما ظن ظناً .(39/4)
وكذلك الرسول - صلى الله عليه وسلم - لما حدَّثه رجل برؤيا رآها ؛ فعبرها له أبو بكر ثم قال :فأخبرني يا رسول الله – بأبي أنت – أصبت أم أخطأت ؟
قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم - : (أصبتَ بعضاً وأخطأتَ بعضاً ( .
قال : فوالله لتحدثني بالذي أخطأت ؟
قال : ( لا تقسم ) .البخاري ( 7046) مسلم (2269) .
فهذه : التوقعات ، والاحتمالات ، والظنون ، والآمال ..باب واسع ؛ لكن لا تعطي الإنسان يقيناً بشيء من علم الغيب ؛ ولهذا قال : " فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّه " (يونس: من الآية20) لأن الانتظار يتعلق بأمر مستقبل .
الثانية : أن الله - سبحانه وتعالى - أخرج البشر حتى الأنبياء من أي أمر يتعلق بالعقاب الرباني الذي ينتظر العباد ؛ ولذا فإن الله – عز وجل - يخاطب رسوله -صلى الله عليه وسلم - بقوله : " لَيْسَ لَكَ مِنَ الأ َمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ" (آل عمران:128) "وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُم" (يونس: من الآية46) ففيه إشارة إلى : أن هذه من أمور الألوهية ؛ التي ينبغي للعبد أن يذعن لها ، ويستسلم لقضاء الله ، وقدره ، وأمره ، وإرادته ، فلا يقحم نفسه في شيء لا يخصه ؛ ولهذا جاء في هذه المواضع الإشارة إلى من طلبوا الآيات أن يجابوا : بأن هذا أمر من أمر الله - سبحانه وتعالى - وأنه لم يَكِلْه إلى أحدٍ من خلقه .
الثالثة : الحث على العمل ، والإصلاح ، والمسارعة ، وأن يسابق الإنسان قيامته الصغرى ، أو قيامة الناس الكبرى ، ليس بالانتظار ، وإنما بالعمل الجاد المثمر ، المبني على الأسباب الشرعية ، والأسباب الطبعية التي وضعها الله - سبحانه وتعالى-.(39/5)
إننا لا نجد نصاً في القرآن الكريم ، ولا في أحاديث الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - يضعنا على قائمة الانتظار والترقب ؛ بل حتى الساعة نفسها ، فكل مؤمن يؤمن بها ، ويعلم أنها قائمة ، وقادمة لا ريب فيها ، ومع ذلك فإننا لم نؤمر بترقبها ، أو استعجالها ؛ ولهذا روى الإمام أحمد في مسنده (12981) بسند صحيح عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : "إن قامت الساعة ، وبيد أحدكم فسيلة -وهي النخلة الصغيرة – فإن استطاع ألا يقوم حتى يغرسها فليفعل " .
إنه لم يقل : وأحدكم يصلي في ركعة ، فليكملها ، وإنما قال:"بيده فسيلة" ؛ فقد يتبادر إلى الأذهان ، : أن هذا أمر دنيوي ، ومع هذا قال - صلى الله عليه وسلم - : ( فإن استطاع ألا يقوم ) أي من مكانه .
فالعمل الدنيوي المباح فيه أجر إذا كان بنيَّة صالحة ، فكيف إذا كان هذا العمل فيه خير للعباد وفيه مصلحة لهم في دنياهم ؟! كأن يُغيث ملهوفهم ، أو يساعد ضعيفهم ، أو يعطف على صغيرهم ، أو يرفق بهم، أو يعين محتاجهم ، أو يطعم جائعهم ، أو يكسو عاريهم ، فكيف إذا كان هذا العمل فيه مصلحة دينية ـ أيضاً ـ للعباد ؟! بأن يهدي الضالين ، والكافرين، أو يرشد المسلمين المنحرفين ، أو يعلم الجاهلين ، أو يجمع المتفرقين ، أو يصلح الفاسدين فكم في هذا من الأجر والثواب .
بل إن في بعض روايات الحديث "إذا سمعت بالدجال ، وبيدك فسيلة" الأدب المفرد للبخاري (480) فبعض الناس يترقبون مثل هذه الأشياء فيولِّد عندهم هذا الترقب نوعاً من الكسل ، والخمول، والانتظار الذي يجعل الإنسان يشعر أنه أمام صمت مطبق وقعود مخذل .
إن المسألة مسألة عمل جاد ؛ وقيمة العمل من أعظم القيم التي جاء الإسلام لتقريرها ، وترسيخها في النفوس .(39/6)
وفي صحيح مسلم ذكر لحادثة لها دلالتها المهمة في هذا الباب فقد أخرج في صحيحه ( 2899) عن يسير بن جابر قال : هاجت ريح حمراء بالكوفة ، فجاء رجل ليس له هجيرى إلا يا عبد الله بن مسعود جاءت الساعة قال : فقعد وكان متكئاً ـ وهذا علامة اهتمام ، وربما يكون علامة غضب وإنكار أيضاً ـ فقال : إن الساعة لا تقوم حتى لا يقسم ميراث ولا يفرح بغنيمة ، ثم قال :بيده هكذا ونحاها نحو الشام ، ثم ذكر بعض الملاحم الكبرى التي تقع بين يدي الساعة ، والتي هي من أشراطها.
لقد أنكر ابن مسعود هذا الهلع وسوء التقدير للأمر ؛ لأنه العالم الحاذق الفَهِم اللَّقن الذي تلقى عن الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم – وبيَّن له هذا المعنى، وأن الساعة لا تقوم حتى تقع هذه الأشراط التي أخبر بها الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم .(39/7)
الانتظار عقدة أم عقيدة ؟
01/11/2001
16/8/1423
انتظار المهدي :
ورد في شأن المهدي أحاديث ، ربما تزيد على مئة ، ما بين موضوع ، وضعيف ، وحسن . وربما يكون فيها الصحيح ، وهو قليل جداً .
منها : حديث علي بن أبي طالب ، مرفوعاً ( المهدي مِنّا - أهلَ البيت - يصلحه الله في ليلة ) رواه أحمد (645)، وابن ماجه (4085)، وحسّنه بعضهم لكن سنده ضعيف . ففيه : ياسين بن شيبان العجلي ، قال البخاري : فيه نظر ؛ وهذه من ألفاظ الجرح عنده .
وقال الذهبي : ضعيف ، وقال أبو زرعة ، وابن معين : ليس به بأس .
وأحاديث أبي سعيد الخدري ، جاء عنه ثلاثة أحاديث في هذا الباب ، خرَّجها الحاكم ، وخرَّج بعضها أبو داود ، والترمذي ، وابن ماجه ، وأحمد ، وغيرهم .
منها حديث: "يخرج في آخر أمتي المهدي" ؛ وهو عند الحاكم (8716) ، وصححه ووافقه الذهبي ، وفي سنده اختلاف .
ومنها حديث: "المهدي منّي أجلى الجبهة ، أقنى الأنف يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً يملك سبع سنين " رواه أبو داود (4285).
ومنها حديث : ( الرايات السود ) عن ثوبان – رضي الله عنه – مرفوعًا "إذا رأيتم الرايات السود خرجت من قبل خراسان فأْتوها ولو حبواً ، فإن فيها خليفةَ الله المهدي" ؛ رواه الحاكم (8578) وأحمد (22387) وهذا الحديث جاء من طرق كلها ضعيفة ، ولا يصح فيه شيء ، وإن كان بعضهم تسامح ، وصححه بمجموع طرقه ، وقد تمسك بهذا الحديث أقوامٌ في دعوى أن المهدي من ولد العباس ، وأن الدولة العباسية كان فيها المهدي ، وكان هناك من تسمَّى بهذا من خلفائهم؛ ولذلك قال ابن حزم - وهو أُمويُّ الهوى-:
ومذ لاحت الراياتُ سوداً تبينت **** جموع الهدى أن لا سبيل إلى الرشد
وكانت رايات بني العباس سوداً ، وليس ببعيد أن يكون هذا الحديث الضعيف قد وضع بِرُمّته ؛ أو حُرِّفَ لفظه بسبب التعصب لدولة بني العباس .(40/1)
حديث أم سلمة - رضي الله عنها - (المهدي من عترتي ، من ولد فاطمة) رواه أبو داود (4284)، وابن ماجه (4086) ، وسنده ضعيف ، فيه علي بن نُفَيل ، ذكره العقيلي في الضعفاء ، وقال : لا يتابع على حديثه في المهدي ولا يعرف إلا به والراوي عنه زياد بن بيان ، ذكر البخاري حديثه هذا ثم قال : وفي إسناده نظر؛ ولهذا رجَّح المنذري أنه من كلام سعيد بن المسيَّب .
وهناك أحاديث كثيرة ثابتة في جملتها ، وإن كان غالبها لا يصل إلى درجة الصحيح ، بل ربما لا يصل إلى درجة الصحيح منها إلا حديث واحد ، والحسن فيها قليل – أيضاًَ- ، وغالبها ضعيف .
وقد كتب كثير من العلماء في موضوع المهدي ، منهم نعيم بن حماد في كتاب : ( الفتن ) ونعيم - وإن كان إماماً في السنة - إلا أنه كثير الوهم ، وقد ذكر هذا الدارقطني ، والذهبي ، وابن حجر ، بل قال مسلمة بن القاسم : له أحاديث منكرة في الملاحم ، تفرَّد بها .
وصنَّف أبو نعيم الأصفهاني كتاباً في المهدي ، ويوسف بن يحيى السلمي كتابا مطبوعاً اسمه : " عقد الدرر " وصنف ابن كثير ، والسيوطي ، والسخاوي ، والصنعاني ، والشوكاني ، وغيرهم ، وخلق من المعاصرين في هذا .
وقد ذكر ابن خلدون في المقدمة : أن المشهور بين الكافة من المسلمين إثبات المهدي ، وهذا لا شك أنه هو الصحيح ؛ فإن جماهير أهل العلم والأئمة قالوا بثبوت أحاديث المهدي ، من حيث الجملة ، وإن كان غالب الأحاديث فيها لا يخلو من مقال ، وهناك من نصَّ على تواتر هذه الأحاديث – أيضاً- ، خصوصاًَ من المتأخرين ، كما أن هناك من نُقل عنه إنكار أحاديث المهدي كلها .
فقد نقل عن مجاهد إنكار هذا ، وادعاء أن المهدي هو المسيح ابن مريم وجاء في هذا حديث
( لا المهدي إلا عيسى ابن مريم) عند ابن ماجه (4039) ، والحاكم (8412) وهو ضعيف ، وكذلك نقل عن الحسن البصري ، كما أن ابن خلدون ممن أنكر هذا ونفاه .(40/2)
وأما من المتأخرين ، فالشيخ محمد رشيد رضا ، والشيخ عبد الله بن زيد آل محمود ومحمد محي الدين عبد الحميد وغيرهم .
وخلاصة ما مضى : أنه جاء في السنة أحاديث كثيرة جداً ، مترددة ما بين الموضوع والضعيف ، والحسن، ويقلُّ فيها الصحيح ، وأن الإيمان بخروج المهدي وظهوره أمر ثابت في الجملة .
المهدية بين السنة والشيعة :
أهل السنة يؤمنون برجل من آل بيت النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يخرج في آخر الزمان خروجاً طبعياً ،، يولد كما يولد غيره ، ويعيش كما يعيش غيره ، وربما يقع منه الخطأ ، ويحتاج إلى إصلاحٍ مثل غيره من الناس ، ثم يكتب الله على يديه خيراً كثيراً ، وبرًّا ، وصلاحاً للأمة ، وعدلاً ، ويجمع الله به شمل المسلمين .
ليس هناك أكثر من هذا ؛ كما هو وارد في الأحاديث .
ولم يرد في أيِّ نص من النصوص أننا متعبدون بانتظاره ، أو ترقُبه ، بل لا ينبغي لأي مسلم أن يقبل مثل هذا الادعاء بمجرد الاشتباه ؛ حتى تقوم الأدلة الكافية فإن المدعين كثير ، منذ فجر التاريخ ؛ كما سوف أشير إلى شيء من ذلك .
والمسلم مطالب بالتثبت ، والتحري ، والأناة ، وألا يستعجل الأمور بمجرد الرغبة أو الهوى النفسي .
ولا يتوقف على خروجه أي شعيرة شرعية نقول إنها غائبة حتى يأتي الإمام المهدي، فلا صلاة الجمعة ، ولا الجماعة ، ولا الجهاد ، ولا تطبيق الحدود ، ولا الأحكام ، ولا شيء من ذلك مرهون بوجوده ؛ بل المسلمون يعيشون حياتهم ، ويمارسون عباداتهم ، وأعمالهم ، ويجاهدون ، ويصلحون ، ويتعلمون ، ويُعلِّمون ، فإذا وُجد هذا الإنسان الصالح ، وظهرت أدلته القطعية - التي لا لَبْس فيها - اتّبعوه . وعلى هذا درج الصحابة والتابعون لهم بإحسان ، وتتابع على هذا أئمة العلم على تعاقب العصور . ففكرة سيطرة الترقب ، والانتظار ، والمبالغة بهذا أمر حادث .
المهدي عند الشيعة :(40/3)
المهدية عند الشيعة عقيدة أساسية جداً ، بل المذهب يقوم على هذه الفكرة ، وطوائف الشيعة جميعها تختلف في أشياء كثيرة ، لكنها تتفق في فكرة ما يسمونه (الإمام الغائب) ، ويعنون به الإمام المهدي ، وإن اختلف المهدي عندهم.
وأول دعوى ظهرت في هذا الباب ؛ هي ادعاء أن الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم - سوف يعود ، وأنه لم يمُتْ ، وأول من ادعاها عبد الله بن سبأ اليهودي ، وقال : العجب من قومٍ يزعمون أن عيسى - عليه السلام - سوف ينزل وينكرون خروج النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ، ومحمد أحق بالرجوع من عيسى .
وهذه الفكرة الخيالية فكرة فاجرة ، أراد منها هذا الرجل العبث بمقدس من مقدسات الإسلام ، وهو عقيدة ختم النبوة ، فإن الله تعالى ختم النبيين بمحمد -صلى الله عليه وآله وسلم- "مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ" (الأحزاب: من الآية40) " وقال - صلى الله عليه وسلم – "أنا خاتم النبيين لا نبي بعدي " رواه الترمذي (2219) وأبو داود (4252)(40/4)
وهذه من العقائد القطعية عند المسلمين ؛ ولهذا أكفر المسلمون جميعاً عوامهم وخواصهم ، علماؤهم وقادتهم ، كل من ادعى نبياً بعد رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وحكمت المحاكم الإسلامية بأن (القاديانية) و(البهائية) فرق كافرة خارجة عن الإسلام ؛ لأنهم ادعوا نبوة رجلٍ من قادتهم كميرزا غلام أحمد ، أو غيره بعد الرسول - عليه الصلاة والسلام - ، فكفروا بذلك ؛ لأنهم خالفوا قطعياً من قطعيات الدين ، وعبد الله بن سبأ اليهودي تحايل على هذه الفكرة ، فزعم أن الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم – سيخرج من قبره ، ولم يقل : هناك نبي آخر ، وهذا تمهيد ؛ لأنه إذا انخرمت هذه القاعدة ، وأصبح الناس ، أو طائفة منهم يترقبون خروج الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم - سهلت القضية؛ لأنه قد يخرج عليهم أيُّ شخص ، ويدعي أنه هو الرسول ، وأنه خرج من قبره ، وليس شخص آخر ادعى النبوة بعد الرسول – عليه الصلاة والسلام - ، وها هنا تكون الخطورة .
وهذا خروج عن قواعد المسلمين ، وخروج عن قانون الشريعة ، وخروج على إجماع الصحابة ، وإجماع السلف ، وإجماع التابعين ، ومن يدعي مثل هذه الأشياء هو بين أمرين :
1ـ إما أنه شخص فيه هوس وجنون ، فهذا محله المصحَّات النفسيَّة .
2ـ أو أنه شخص عاقل فينبغي أن يُقنع ، ويفهَّم ويبين له ، فإن أصرَّ؛ فلا بد من محاكمته، كما حاكم المسلمون الطوائف القاديانية في باكستان وغيرها ، وأصدروا فيهم حكماً واضحاً حتى لا يلتبس الأمر على الناس .
كما جاءت من عند ابن سبأ دعوى أن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - هو المهدي وكان يقول : لو أتيتمونا بدماغه في سبعين صرة ما صدقنا أنه مات ، وأنه سيعود ، ويملأ الأرض عدلاً ؛ كما ملئت جَوْراً .
ثم انتقلت دعوى بعد ذلك ، إلى محمد بن الحنفيَّة ، الذي هو ابن علي بن أبي طالب .(40/5)
وممن ادعى المهدية لمحمد بن الحنفية المختار بن أبي عبيد ، والمختار كان في العراق ، وكان يدعي أن الملائكة تأتيه ، وقد قال ابن عمر - رضي الله عنه - لما قيل له : إن المختار يقول: إن الوحي يأتيه. قال : صدق "وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ " (الأنعام: من الآية 121) ، ولم يجامله مع أن زوجة ابن عمر صفية بنت أبي عبيد هي أخت المختار.
وأن هؤلاء الذين يدعون مهدية ابن الحنفية يسمَّون الكيسانيَّة ، ومنهم الشاعر المعروف بكثيّر عزة ؛ وكان يقول :
ألا إن الأئمة من قريشٍ **** ولاةُ الحق ؛ أربعة سواءُ
عليٌّ ، والثلاثة من بنيهِ **** هم الأسباط ؛ ليس بهم خفاءُ
فسبطٌ سبط إيمان وبرٍّ **** وسبط غيَّبتهُ كربلاءُ
وسبط لا يذوقُ الموت حتى **** يقودُ الخيلَ يَقْدمُها اللواءُ
تغيَّب لا يُرى فينا زمانا **** برضوى؛عنده عسلٌ وماءُ
ويقول كُثيّر في قصيدة أخرى :
ألا قل للوصيَّ فدتك نفسي **** أَطَلْتَ بذلك الجبلِ المقاما
أضر بمعشرٍ والَوك منا **** وسَمَّوك الخليفة والإماما
وعادوا فيك أهل الأرض طرًّا **** مقامك عنهم ستين عاما
وما ذاق ابن خولة طعم موتٍ **** ولا وارت له أرض عظاما
وإن له لرزقاً كل يومٍ **** وأشربة ؛ يَعلُّ بها الطعاما
ولما خرج محمد بن عبد الله بن حسن على أبي جعفر المنصور تلقب بالمهدي ؛ طمعاً أن يكون هو الموعود به في الأحاديث ، ثم هزم جيشه وقتل سنة 145هـ واحتزّ رأسه وحمل من المدينة إلى العراق ، ومع ذلك انقسم اتباعه ، فمنهم من آمن بأنه مات ؛ فانقشعت عنه هذه الفكرة ، وآخرون زعموا رجعته ، وأنه - وإن ظهر لنا أنه مات - إلا أنه سيعود .
وفئة ثالثة ، نقلت المهدية إلى غيره ، والغريب أن هذا أمر يتكرر ؛ فعندما وقعت أحداث الحرم ، وكان معهم من زعموه مهدياً ، فقتل ، ومع ذلك قال بعض الذين تَشبَّعوا بهذه الفكرة ، وامتلأت بها نفوسهم : إنه لم يقتل ، ولكنه هرب .(40/6)
فالإنسان يكذَّب الحس ، وما أبصره بعينه ؛ لأنه تشبَّع بمعنىً معين ، ويصعب عليه أن يقول : إنه أخطأ ، أو أنها كانت فكرة تبيَّن له انحرافها ، أو غشاوة تجلى عنه ضبابها .
فقضية الانتظار عند الشيعة ، ومن ثم انتقال الأدوار بعد فقد من كان يؤمل به أن يكون هو المهدي قائمة ، فبعد محمد بن الحنفية ، هناك من ينتظر محمد بن جعفر ، الذي هو جعفر الصادق .
وبعد أن مات محمد بن جعفر ، صار هناك من ينتظر إسماعيل بن جعفر ، وهم من يُسمَّون (الإسماعيلية) ، وهم من فرق الباطنية ،وبعد أن مات إسماعيل من غير ولد صار هناك من ينتظر محمد بن إسماعيل ، وهؤلاء هم القرامطة الباطنيون . وأشهر فرق الشيعة هم من يسمَّون: (الاثني عشرية) وهم يقولون باثني عشر إماماً ،آخرهم هو محمد بن الحسن العسكري ، وهو عندهم إمام معصوم ، اختفى في السرداب قبل أكثر من ألف ومئتي سنة ، والواقع أن الحسن العسكري لم يُنجب ، ومات عقيماً ؛ ولهذا قيل:
ما آن للسرداب أن يلد الذي **** كلّمتموه ؛ بجهلكم ما آنا!
فعلى عقولكم العفاءُ فإنكم **** ثلثتمُ العنقاء ، والغيلانا
أما المهدي العباسي فقد سماه أبوه أبو جعفر المنصور محمداً ؛ ولقبه بالمهدي لأنه كان يواجه مشكلة المهدي من آل البيت ، فاضطر أن يواجه الحرب بمثلها ، وكان يقول - في مجالسه الخاصة - : والله لا مهدي آل البيت مهدي ، ولا ولدي ـ أيضاً ـ مهدي ؛ لكن نحن نقاوم هذا بهذا .
فادعى ابن أبي جعفر المنصور المهديَّة ؛كما لقبه أبوه ؛ وذلك منافسة للنفس الزكية .
فهناك مهديون كُثُر ، أو مُتَمَهْدُوْن كثير . مثل: المهدي ابن تومرت ، في بلاد المغرب ، وهو مؤسس دولة الموحدين في المغرب .(40/7)
وهناك - أيضاً - المهدي السوداني ، وهو محمد ، أو أحمد بن عبد الله ، الذي قاد حركة المهدية التي لا تزال حزباً ، جماعته قائمة في السودان إلى اليوم ، وكان يقول : إنه من آل البيت ، ويدَّعي أنه يأتيه الوحي ، وأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كلَّمه كفاحاً ، وأخبره أنه المهدي ، وتجمع حوله أناس كثيرون ، وإن كان من خير في هذه الحركة المهدية، فهي أنها ساهمت في طرد الاستعمار من السودان .
وهناك مهديون لم يحالفهم الحظ ، كما يقول الإمام ابن تيمية : أعرف في زماننا غير واحد من المشايخ من أهل الزهد ، والتقوى ، والعبادة ، يظن كل منهم أنه المهدي ، وربما يخاطب أحدهم بذلك مرات في اليقظة ، وإنما تخاطبهم الشياطين .
كما ذكر الحافظ ابن حجر - رحمه الله – أحدَهُم في كتاب ( الدرر الكامنة في أعيان المئة الثامنة) وعبر عنه بقوله : حصل له انحراف في المزاج ، فادعى دعاوى عريضة من الرؤية (رؤية الله سبحانه وتعالى) ومن الإسراء ، وأن الله كلّمه ، وأخبره أنه هو المهدي .
ولنا تعليقات على هذه الحوادث التاريخية نعرضها في الحلقة القادمة .(40/8)
الانتظار عقدة أم عقيدة ؟
09/11/2001
24/8/1423
عرضنا في الحلقة الماضية الأحاديث الواردة في المهدي ، وبعض الأحداث التاريخية المرتبطة بهذه القضية ، ونعرض في هذه الحلقة تعليقات على ماسبق عرضه نختم بها الكلام حول هذا الموضوع .
التعليق الأول: أننا نلاحظ أن سيطرة اليأس على الإنسان قد تدفعه دفعاً إلى البحث عن مخرج ولو كان هذا المخرج وهميًّا ، حتى يتمسك به أمام فشلٍ كبير أصابه في مشروع كان قد علّق عليه آماله فيفزع إلى هذا المهرب الوهمي .
ولذا نجد المهديَّة رائجة عند الشيعة ؛ لأنهم كانوا أقليَّة وكان الحكم ـ غالباً ـ في يد أهل السنة ، فكانوا يشعرون بالحرمان ، وكان أئمتهم بعيدين عن مراكز التأثير ، والقرار ، فعوّضوا عن هذا بمثل هذه المعاني التي يحفظون بها روح الأتباع ، ويحافظون بها على ارتفاع معنوياتهم ، وربما كان هذا شيئاً نفسياً بمعنى : أن منهم من يتعمد ذلك ، ومنهم من تتلبسه هذه الفكرة فيظنها صواباً ، ويُشيع هذا الأمر ، ويكون عنده قناعة حقيقية يستطيع أن يوصلها إلى الآخرين الذين يلاحظون أنه يتكلم بجدٍ ، وصدق ، وإخلاص وصرامة ، فينتقل هذا الأمر إليهم أيضاً .
فكانت فكرة المهديَّة مهرباً للشيعة أمام عدم وجود فرصةٍ لهم في الوصول إلى السلطة والحكم، ومع ذلك كان لهم ثورات كثيرة ، لكنها فشلت ، وفي كتاب( مقاتل الطالبيين ) للأصفهاني أخبار عن هذه الثورات ومآلاتها .
وكذلك ، أهل السنة في بعض الحالات ، التي أصابهم فيها اليأس والإحباط وفشل بعض مشاريعهم ؛ صار بعضهم يهرب إلى هذه الفكرة – أيضاً-. ففي أسبانيا لما جاء الأسبان ، وطردوا المسلمين منها بدأ بعض المسلمين ، مثل : بني الأحمر ، يهربون إلى فكرة ادعاء وجود مهدي ، وكانوا يترقبونه ، وينتظرونه ، ويظنون أن هذا المهدي المنتظر الموعود سوف يأتي لينصرهم على الأسبان ، ويأخذ بثأرهم .(41/1)
كذلك بعض المسلمين في القوقاز ، كانوا يعتقدون بعودة الشيخ (منصور) الذي قاد حركة من حركات الاستقلال ، وظهر قبل الشيخ (شامل) بفترة ، وكانوا يظنون أنه سيعود مرة أخرى ؛ حتى يقود جهادهم .
والأكراد كذلك ، ومعروف أن الأكراد شعب يعاني مرارات طويلة عريضة ، ربما في معظم بلاد العالم ، وعبر فترات طويلة من التاريخ ، باستثناء صلاح الدين الأيوبي ، وسلالته ؛ ولذلك كان الأكراد يعتقدون برجعة قائد من قوادهم ، وهو حسن بن علي .
وربما حصل الشعور بالإحباط إثر فشل مشروع كبير في حجمه ، أو في الآمال المعلقة به كمشروع جهادي ، أو حركي تشرئب إليه الأعناق ، وترتبط به الآمال ، وتراه المنقذ من المحنة ، والمخرج من الفتنة ، فإذا ما أخفق هذا المشروع تحطمت تلك الآمال ، وأحبطت تلك النفوس ، ويئست من كل عمل ، فوجدت في الانتظار مهربها .
وإنه من الخير للأمة ألاّ تعلق آمالها على مشروع بعينه ، فمساحة العمل للدين أكبر من أن يستوعبها هذا المشروع أو ذاك ، وإذا حصل إخفاق في جانب فثمة نجاحات في جوانب أخر ، وبذلك تسلم النفوس من عقابيل الإحباط واليأس المدمرة.(41/2)
فجو الهزيمة ، والإخفاق ، والإحباط ، هو البيئة المثلى لرواج دعاوى المهدية ،الانتظار ، خاصة لدى أولئك الذين لا يملكون برنامجاً عملياً إيجابياً يملؤون به فراغ أنفسهم ويصرَّفون فيه طاقاتهم ، واليائس الذي لا يعمل شيئاً ذا بال يخيّل إليه أنه لا فائدة من العمل ، وأن الأمر أكثر من إمكانيات البشر ؛ ولهذا فلا حلَّ - عندهم - إلا بتدخل إلهي غير خاضع للسنن المعتادة يُنصب بموجبه مبعوث العناية الإلهية ، وهو المهدي ، فيثخن في الأعداء قتلاً وتدميراً ، ويقود الأمة ويقضي على خلافاتها ، وجراحاتها ؛ وبهذا نُعَذَّر لأنفسنا -أيضاً- بألاّ نقوم بعملٍ جاد مثمر ، ونقعد ونترك المدافعة التي أمرنا بها "وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرض وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ" ( البقرة: من الآية251) بحجة هذا الانتظار الموهوم.
وهذا الشعور مركب -عندي- من حالين:
الأولى : الهزيمة النفسية المريرة ، التي تواجه مجموعة من الناس ، أو جماعة ، أو حتى شعباً من الشعوب ؛ بسبب تبخر الآمال التي كانوا يعقدونها على شيء معين ، ولذلك كلما انتقل مهديٌ ومات انتقل الناس إلى من بعده ، أو ادعوا أنه لم يمت ، أو أنه سوف يعود .
الثانية : الطمع في التغيير الكلي ، وعدم القناعة بالتدرج ، ومراعاة السنن الإلهية والإصلاح المرحلي ، أو الجزئي ، وإنما يحلم الإنسان -بعدما يرى الفساد قد عمَّ وطم- أن هذا الفساد كله سوف يزول في غمضة عين وانتباهتها .
نعم ، نحن مؤمنون بأن الله تعالى يغيّر ما شاء بقدرته، وأنه :
ما بين غمضة عينٍ وانتباهتها **** يُغيّر الله من حالٍ إلى حالِ(41/3)
لكن الله - سبحانه وتعالى - جعل سنناً في المدافعة ، والإصلاح ؛ يتم بموجبها إحداث التغيير الذي أمرنا الله - سبحانه وتعالى - أن نعمله ؛ ولهذا قال الله - عز وجل - : "إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ" (الرعد: من الآية11) .
فهناك من يحلمون بقضية جوهرية حاسمة تنهي الأمر ، والمصيبة أنه لا بد أن يتم ذلك في حياتهم ، أما أن أغرس فسيلة ، وأتابعها أنا وأولادي من بعدي ، فهذا مما تستطيل عزائمهم عَمَلَهُ وانتظارَ نتائجِه . إنهم لا ينتظرون ثمرات جهدهم وعملهم ومشاريعهم الدؤوبة ، ولكن ينتظرون شيئاً لم يعملوا له إلا هذا الانتظار الحالم .
وهنا ملحوظتان :
الأولى :الذين يعملون عملاً منتجاً مفيداً ، فيشتغلون ، بإغاثة ، أو تعليم ، أو دعوة وإصلاح ولديهم مشاريع ، وطموحات ، وأنشطة يرعونها ، ويفرغون فيها طاقاتهم وآمالهم ، فإن هذه الأفكار لا تروج عندهم ، يسمعونها دون أن يكون عندهم تشبُّع بها حتى لو كانوا بُسطاء ؛ لأن عندهم من العمل الجاد المثمر ما يملأ عليهم عقولهم ونفوسهم ، وحياتهم ، ولا يعولون على مثل هذه المعاني ، ولو تحققت في يوم من الأيام لكانوا شركاء الناس فيها ، لكنهم لا يعوّلون عليها أو يتوقفون عندها .
أما أولئك الذي يتعلقون بمثال بعيد المنال ، وفي الوقت نفسه لا يعملون شيئاً لتحقيق هذا إلا مجرد التربص والانتظار ؛ فإنهم قد ينظرون لأعمال الآخرين بنوع من السخرية ويقول أحدهم : أنت ماذا تستطيع أن تصنع ؟! هل تستطيع أن ترد الرياح العاتية ، أو السيل الجارف بيديك الضعيفتين ؟ فالحل عنده هو التغيير الشامل الكامل ، وسوف يتم على يد المنتظر .(41/4)
ولهذا كانت غالب دعاوى المهدية في التاريخ ، تتكون في أجواء مشحونة بالتوتر ، مأزومة بأزمات معيَّنة ، كالتغيرات الاجتماعية ، أو السياسية ، ودعاوى المهديَّة كلها تكون في حال انسداد لا يرى فيه كثير من الناس - وخصوصاً شبابهم - مخرجاً ، أو ضوءاً في آخر النفق ، فيلجؤوا إلى مثل هذه المعاني .
الثانية : أن المهدية كانت في التاريخ مصاحبة -في الغالب- للشيعة ، بينما لو حاولنا أن ننظر إلى واقعنا المعاصر اليوم ؛ لرأينا أمراً عجيباً ، قد انقلبت الآية ، فأصبح الشيعة الذين تاريخهم كله يقوم على الترقب ، والانتظار ، وأخرجوا لنا عشرات المهديين ، وكانوا يقولون : إنّ الجمعة لا تقام إلا مع المهدي ، وإن الجهاد لا يقام إلا مع المهدي ، وعطلوا كثيراً من الأعمال بانتظاره ، ولكنهم بعد هذه الفترة الطويلة تلقنوا درساً ، فطوروا الانتظار عقيدة ؛ وإن لم يلغوا فكرة المهدي ، فأغلبهم لا يزالون يعتقدون بالمهدي الموعود عندهم ، لكن مع ذلك أوجدوا بدائل وتحركوا خارج إطار هذه الفكرة ، وبدؤوا يعملون ويخططون وينتجون ؛ ولهذا قامت لهم دول ، وأحزاب وجماعات ، وإعلام ، ونشاط منقطع النظير على صعيد الواقع ؛ بينما تحوَّل أهل السنة إلى الحديث الطويل حول المهدي ، وانتظاره ، وترقب خروجه ، وهل هو فلان ، أو فلان ؟! إلى غير ذلك .
وهذا من الانعكاس الغريب في المفاهيم ، ويفترض أن يتنبه شباب أهل السنة إلى أنهم بهذا قد دخلوا مدخلاً صعباً ، وأنهم قد انتهوا من حيث بدأ الآخرون ، وهذا أمر ليس محمود العاقبة بعد أن توالت نذر التاريخ في كشف خطورته ، وبيان عواقب الركون إليه .
التعليق الثاني : الذين ادّعو المهدية قسمان :(41/5)
الأول : منهم المدّعي الكاذب الذي يعرف أنه كاذب ، وهو يخادع الناس ، ويستدرجهم إلى طاعته واتبّاعه ، فلو نظرنا إلى الدولة الفاطمية ؛ فإنها قامت على أساس ادعاء المهدية ، كذلك دولة الموحدين ، التي أسسها المهدي بن تومرت ، قامت على هذه الدعوى أيضاً .
فهؤلاء قوم رفعوا هذا الشعار ؛ لأغراض سياسية ومصالح مادية ، وبلغوا مرادهم فيها ، وآخرون رفعوها للمصالح نفسها؛ لكنهم لم يحصلوا على مرادهم الدنيوي .
الثاني : أن هناك من تتلبسهم بعض الوساوس والخيالات ، أو كما عَبّر عنه الحافظ ابن حجر بِلُغَتِه : انحراف المزاج ، وهذا أمر معروف عند علماء النفس المعاصرين ، أن من الناس من يقع في اضطراب نفسي ، أو انفصام في الشخصية ؛ فيبدأ - بموجبه - يظن أنه هو عيسى ابن مريم ، أو المهدي ، أو ما هو أعظم من ذلك على ما هو معروف .
التعليق الثالث : أن الإلحاح المفرط على قضية من القضايا هو انحراف بحد ذاته ؛ حتى لو كانت هذه القضية مشروعة من حيث الأصل .
فعلى سبيل المثال : مسألة تنصيب الإمام ، لا خلاف عليها عند المسلمين ، إلا خلاف شاذ للأصم ، وأما جماهير المسلمين ، وأهل السنة كافة ، فإنهم يرون أن مسألة تنصيب الإمام ضرورة شرعية لابد منها .
لكن الإفراط في التعاطي مع هذه القضية عند الشيعة جعلها معقد الولاء والبراء ، ومفصل الأمر بينهم وبين الناس ، وبنوا عليها بناءً عظيما ؛ حتى إنك إذا قرأت كتبهم ، ونظرت في قواعدهم وعقائدهم بَدَا لك وكأن الكون كله لم يخلق إلا من أجل الإمامة ، وبالذات من أجل الإمام علي بن أبي طالب ، والأئمة من بعده ، وأن الدنيا لم تخلق إلا من أجلهم ، وأن الكون لا يكون إلا بهم ، وأن الآخرة هي منهم ولهم ، وأن قيادة الناس ، وإصلاح أمورهم لا يتم إلا بهم ، وأن حفظ الدين لا يكون إلا عن طريقهم ، إلى غير ذلك من الارتباطات التي لا دليل عليها ، ولا صحة لها ، فهذا نموذج .(41/6)
فينبغي لأهل السنة أن يتفطنوا لهذا المعنى ، وأن الإلحاح الزائد في قضية من القضايا قد يكون هو انحرافاً بذاته ، فأنت تؤمن بهذه القضية؛ لكن تعطيها حجمها الشرعي ، دون إفراط ، ولا تفريط .
وكذلك قضية المهدية ، فهناك من قد ينكر أحاديث المهدي إطلاقاً ، وربما كان بعض الذين أنكروها بسبب الممارسات الخاطئة ، والدعاوى الكثيرة -عبر التاريخ- التي تمسكت بهذا المعنى ؛ فأنكروا هذا حتى يسدوا الباب ، وربما يكون هذا بسبب عدم معرفتهم ، واطلاعهم على السنة ، فهذا طرف ، لكن الطرف الثاني هو من يبالغ في تبنّي فكرة المهديّة ، حتى إن هذه الفكرة تأكل ، وتشرب ، وتصحو ، وتنام معه ، ويصبح الأمر غلواً في الإلحاح على هذه القضية ، وهذا خطأ آخر أيضاً .
وقل مثل ذلك في القضايا كلها حتى أمر العبادة ، فلو أن أحداً أفرط في الخوف من الله ، لآلَ به الأمر إلى الوقوع في مذهب الخوارج ، أو أفرط في الرجاء ، لآل به الأمر إلى الوقوع في مذهب المرجئة ، أو أفرط في الحب ، لآل به الأمر إلى الوقوع في مذهب الصوفية ، وهكذا كل المعاني الشرعية ، والأصول التي لها أصلٌ شرعي يؤمن بها الإنسان، ويعطيها حجمها الشرعي دون إفراط ، ولا تفريط ، ولا غلو ولا جفاء ، وهذا المعنى في غاية الأهمية ، وهو جزء من معاني الوسطية التي تحتاج إلى حديث خاص "وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً " ( البقرة: من الآية143) أي أن يكون الإنسان معتدلاً بين الغالي والجافي ، ولو تأملت المسائل التي يقع فيها الاختلاف بين المسلمين بعامة ، وبين الدعاة أو الجماعات بخاصة ، لوجدت فيها شيئاً كثيراً من هذا .
فهناك جماعة قد تُفْرِط في قضية الحاكمية ، حتى تكفِّر الحكومات ، والعلماء ، والشعوب التي رضيت بهذا .(41/7)
وهناك -أيضاً- من يفرِط في هذه القضية ويهون من شأنها ، ويرى أن الناس أحرار في أن يحكموا بأيَّ قانونٍ شاؤوا ، وأيَّ نظام اختاروا ، دون أن يكون عندهم من الله -تعالى- في هذا برهان ، وهذا طرف آخر غال في التفريط .
وهناك الاعتدال الذي يعطي كل قضية حجمها الحقيقي ومقدارها الشرعي " قد جعل الله لكل شيء قدْرا " من غير غلوّ ولا تفريط ، والشيء الملاحظ جليا أن الغلو في قضية يصاحبه التفريط الغالي -أيضاً- في قضايا أُخر مساوية في الأهمية ، إن لم تكن أهم .
التعليق الرابع: أن هناك بديلاً شرعياً عظيماً يغفل عنه ؛ بسبب الانهماك في قضية المهدي ، وتوقع خروجه وهي قضية التجديد التي وردت في حديث أبي هريرة : "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة من يجدد لها دينها " أخرجه أبو داود (4291) وهو حديث صحيح تلقته الأمة بالقبول .
فقضية التجديد هذه هي الفكرة الشرعية الصحيحة ، التي قام بها الأئمة .
قام بها أبو بكر - رضي الله عنه - بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - برد الناس إلى الحق ، ومحاربة المرتدين ، وقام بها عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - في بني أمية ، وقام بها الشافعي، وأحمد ، والعلماء بعدهم عبر العصور .(41/8)
وكل أحد قام بها في مجاله ، فهذه القضية هي التي من شأنها أن تصلح واقع الناس وتحرَّك هممهم نحو الإصلاح ؛ لأن الصواب : أن التجديد ليس مهمة فرد ننتظره ، كما ننتظر المهدي ، وإنما التجديد مهمة الأمة كلها ؛ فالرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: " مَن يجدد لها" و(مَن) هاهنا من ألفاظ العموم ، أعم من أن تكون خاصة بفرد ، أو جماعة ، أو طائفة من الناس ، بل قد يشمل هذا أعداداً غفيرة من الناس ، في كل مجالات الحياة ، ومن الذي يستطيع أن يجدد أمر الدين للأمة كلها في العلم ، والعمل ، والعبادة ، والاقتصاد ، والإعلام ، وفي سائر شؤون الحياة ، هذا لا يمكن أن يقوم به فرد ولا أفراد ، وإنما يقوم به طوائف كثيرة من الناس ، ومع ذلك يظل وضع الأمة محتاجاً إلى مزيد من الإصلاح ، ومزيد من التجديد ؛ وهكذا ماذكر الرسول - عليه الصلاة والسلام - عن الطائفة المنصورة ، التي لا تزال قائمة بأمر الله ، لا يضرها من خذلها ولا من خالفها ، حتى يأتي أمر الله ، فهذه الطائفة مهمتها تجديدية إصلاحية ، فمنهم من يقوم بالتعليم ، ومنهم من يقوم بالجهاد ، ومنهم من يقوم بشؤون الاقتصاد ، ومنهم من يقوم بأمور العلم ، ومنهم من يقوم بأمور الدعوة ، ومنهم من يقوم بالإغاثة ... وهكذا .
فنحن بحاجة إلى إخراج الأمة ، شبابها ، وجماعاتها ، وشعوبها من اليأس ، هذه مسؤوليتنا جميعاً .
وأطرح في النهاية أربع نقاط:
الأولى : ضرورة إحياء الحوار حول قضايا الأمة الكبيرة ،وتربية نظام الاستماع بين شباب الأمة ، ورجالاتها ، ولدى القيادات على وجه الخصوص ، وإن كانت قيادات فكرية أو علمية ، أو سياسية ؛ لأن الناس إذا اسُتمِع إليهم زال بعض ما في نفوسهم ، وأصبح لديهم قدرة على التفاهم ، والتفاوض ، والأخذ ، والعطاء ، وفي ذلك حفظ لوحدة الأمة وطاقاتها وشبابها ، وتجميع لها في مواجهة الأخطار المحدقة بها .(41/9)
الثانية: تشجيع البرامج العملية ، على صعيد الدعوة ، والتعليم والإعلام ، والإغاثة ، ومن ذلك تشجيع المؤسسات الخيرية ، والجهود الخيرية أيَّاً كانت ، وإبرازها ، فلابد من رفع حالة اليأس والإحباط ؛ لأن اليائس لا يصنع شيئاً ، وقد يضر نفسه ، وهو لا يدري ؛ لأنه يفكر بطريقة محبطة يائسة .
الثالثة : ضرورة إيجاد فرص العيش الكريم لشباب الأمة ، وأُسَرِها ومجتمعاتها ، فإن حالة الفقر ، والبطالة ، تجعل هؤلاء وقوداً لأي فكرة منحرفة.
الرابعة : وجوب حماية الأمة من لوثات الانحراف الفكري ، والسلوكي ، ولا شك أن الانحراف الفكري ، والسلوكي هو الذي يفرز ردَّات الفعل السيئة .
لقد أصبحنا نرى في بعض وسائل الإعلام العربية ، وفي الإنترنت ، ومواقع الحوار نيلاً من جلال الله وعظمته ، وقدسيته ، ونيلاً من الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومن مقدسات المسلمين ، ومن الرموز الشرعية الإسلامية . إن علينا أن نسمح بالحوار ؛ على أن يكون منضبطاً بضوابط شرعية ، لا أن نعطي المرضى ، والملوَّثين ، وضعفاء النفوس ، فرصة الإساءة إلى الإسلام وبهذا البذاء والتسفل ؛ فإن هذا يولد ردود فعل عنيفة وشاذة أحياناً ، فلا بد من حماية المسلمين من لوثات الفكر المنحرف ، والسلوك المنحرف التي تضخها في مجتمعات المسلمين وسائل الإعلام ، والقنوات الفضائية ، ومواقع الإنترنت وغيرها ، فلابد أن يكون هناك جهود متضافرة لحماية المجتمعات الإسلامية من هذا كله .
نسأل الله أن يعز الإسلام والمسلمين ، ويذلّ الشرك والمشركين ، وأن ينصر المسلمين في كل مكان ، وأن يكفيهم شر الأشرار ، وكيد الفجار ، ما اختلف الليل والنهار ، وأن يوفقنا لصالح القول والعمل، إنه على كل شيء قدير وصلى الله وسلم على نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين .(41/10)
الشريعة والحرية
17/11/2002
12/9/1423
كلمة الحرية كلمة فاضلة جميلة ، تدل على معانٍ راقية تنتمي إلى الخلاص والنقاء والعتق ، كما يقال : حر وعبد و يقال : الحر هو الخيار من كل شيء ؛ فالفرس الحر هو الفرس الجيد المضمَّر العتيق ، ويقول الناس: هذا طين حر، أو رمل حر أي : أنه خالص جيد ، وكذلك السحابة الحرة كثيرة المطر والمرأة الحرة: هي الكريمة ، ومن أمثال العرب : تجوع الحرة ، ولا تأكل بثدييها .
وكانت هند تقول للنبي صلى الله عليه وسلم : أوَ تزني الحرة ؟! .
ومن مأثور أشعارهم قول الشاعر المعروف عبد بني الحسحاس :
إن كُنْتُ عبَدْاً فَنَفْسِي حُرَّةٌ كَرَماً **** أَو أَسْوَدَ اللونِ إِنِّي أَبْيَضُ الخُلُقِ
ولهذا يقول بعض أصحاب السلوك: الحر هو من خلع عن نفسه رق الشهوات ومزق سلطان الهوى بسيف المخالفة والعصيان ، حتى نقل عن الجنيد وهو سيد الطائفة -رحمه الله- أنه كان يقول: لو صحت الصلاة بشيء غير القرآن ؛ لصحت بقول الشاعر:
أَتَمنَّى عَلَى الزَّمَانِ مُحَالاً **** أَنْ تَرَى مُقْلَتَايَ طَلْعَةَ حُرِّ
وأنا أقول تفقهاً : لو صحت الصلاة بغير القرآن صحت بالسنة ومنها: حديث ( تعس عبد الدرهم ) .
إن كثيراً من الناس لا يفهمون الحرية إلا في مقابل العبودية ؛ فهذا قِنٌّ ، رقيق ، مستعبد ، وهذا حر أُعتق ، أو لم تجر عليه قوانين العبودية من قبل .(42/1)
وهذا هو المعنى الحسي المباشر ، وهو موجود في جميع الأمم و الحضارات : اليونانية ، والصينية ، والرومانية كانوا يسترقُّون الأحرار ، ويتساءلون عن مدى وجود الروح في نفس الرقيق ، وربما استجازوا قتلهم ، وكان أحدهم لا يقبل أن يأكل مع رقيقه ، أو أن يأكل في إناء أكل فيه ، أو أن يجلس إلى جانبه ، أو أن يصافحه بيده ؛ لأنه رمز من رموز الرجس ، حتى لو لم يكن عبداً بالمعنى الصحيح كأن يتعلق الأمر بشكله وهيئته ، فإنه درج الكثير من الغربيين على النظر إلى السود ، على أنه أمارة على العبودية ؛ ولذلك كانوا ومازالوا يكنون للسود ، معاني من العنصرية لا تخفى .
نعم !جاءت الأنظمة الحديثة عندهم ، وقررت التساوي في الحقوق والواجبات بين المواطنين ؛ لكن تبقى معانٍ كثيرة في نفوسهم يتعاملون بها مع هؤلاء ؛ ولهذا تجد أن الحارات التي يوجد فيها السود – هي أكثر الحارات ازدحاماً بالجرائم ، وانتشاراً للمخدرات ، وشيوعاً للفقر ؛ نظراً لحالات الإهمال في الرعاية الاجتماعية.
إن كلمة الحرية من ا لكلمات الرنانة ؛ التي تتوق إليها النفوس ، وقد جُبل الإنسان على تطلبها ، والتطلع إليها ، بل وحتى الحيوان ، فحينما تغلق الباب في وجه القط تجده يموء ، ويتمسح ، ويحاول أن يبحث له عن مخرج ، وكذلك الطيور التي جربت أن تصفق بأجنحتها ، وتشق أجواز الفضاء ، إذا قُيدت فإنها تضيق بذلك ، وربما ماتت بهذا السبب ، ولذلك يقول القائل :
إن الطيورَ وإن قصصتَ جناحَهَا **** تسمو بفطرتِهَا إلى الطيرانِ(42/2)
ولهذا كان السجن قيداً للحرية ، وكان عقاباً ( وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلِيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ) (يوسف: من الآية32) وهو في الواقع قيد ، ولكنه من جانب آخر انطلاق للروح ، و للذهن ، و للعقل ، ولذلك يجد المسجون إذا وُفِّق وأُلهم من فراغ الوقت ، وطول النفس ، والفرص الكبيرة ليقرأ ، وليحفظ ، وليتعلم ، وليتدرب ، وليتأمل ، ما يجعل وقته كله رهناً لإرادته ، فهو يفعل في وقته ما يشاء .
ولأن كلمة ( الحرية ) جميلة مأنوسة فطالما وظفت في غير سياقها ومورس باسمها أنماط من الاستعباد والإذلال .
إنه باسم الدفاع عن الحرية تغزو الولايات المتحدة -مثلاً- بلداً آمناً ، وتأتي فيه على الأخضر واليابس ، وتقتل آلافاً من الأبرياء الذين ليس لهم ناقة ولا جمل ، وتعاقب شعوباً بأكملها على جريمة لم يقترفوها، وتتلاعب بالاتفاقيات والقوانين الدولية التي كانت هي وراء إقرارها وتشريعها.
وباسم الحرية يعتدي أصحاب القلوب المريضة ، بل الميتة على القيم والمقدسات الشرعية ؛ فيسيئون الأدب مع رب العالمين ، أو مع رسله المكرمين - عليهم الصلاة والسلام- ، أو مع الشرائع السماوية ، كما نجده في بعض القنوات الأمريكية وفي بعض المواقع الإلكترونية .
إن مثل هذا العمل عمل مرذول مرفوض وحتى الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ، لابد أن يحترموا من يدينون بهذا الدين ، وأن يبتعدوا عن إثارة مشاعرهم ، أو استفزازهم بمثل هذه السخرية التي لا تنم عن مسؤولية ، ولا عن إحساس ، فضلاً عن أنه يستحيل أن تصدر من إنسان محترم ، يعني ما يقول.(42/3)
إن الحرية لا تعني افتراء الكذب على الله ، وعلى الناس ، ولا تعني لبس الحق بالباطل ، أو تحريف الكلم عن مواضعه ، ولا تعني النجوى بالإثم والعدوان ، ولا تعني قول الزور ، ولا تعنى حرية شتم الآخرين أو سبهم أو قذفهم أو التطاول على حقوقهم ، ولا تعني إساءة الظن ، ولا أن يسخر قوم من قوم ، بلون أو نسب أو حسب أو مال أو جاه ،ولا تعنى ترويج الشائعات الكاذبة المقلقة للمجتمع المسلم ، كما لا تعني الانفعال مع بعض الأخبار قبل تبين صحتها .
إن الحق هو: شرط الحرية ( إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً ) (الأحزاب:72) ولهذا يخاطب بعضهم الحرية قائلاً : أيتها الحرية ! أيتها الحرية ! أيتها الكلمة الجميلة ، كم من الجرائم قد اقترفت باسمك .
مفهوم الحرية
الحرية مفهوم غني جداً ، وهي تلك الملكة الخاصة التي تميز الإنسان من حيث إنه كائن موجود وعاقل يصدر في أفعاله وتصرفاته عن إرادته هو ، وعن قناعته هو ، وليس عن إرادة أخرى مفروضة عليه .
فالحرية بهذا تعني انعدام القسر الخارجي من الإنسان لأخيه الإنسان ، ولقد طالما عانت البشرية من تسلط بعضها على بعض ، وظلم بعضها لبعض ، وبخس القويّ لحق الضعيف.
ما هي الظروف الخارجية التي قد تقيد إرادة الإنسان ؟(42/4)
هناك أولاً : السلطة التي تفرض على الإنسان ما يقول ويفعل ، هذا نوع من تقييد الحرية ، فالإنسان الذي يتعرض للقسر والتسلط ، لا يمكن أن يكون حراً في إرادته ؛ لأنه لا يتحدث بقناعته الخاصة بقدر ما يتحدث عن قناعة الآخرين أو إراداتهم ، فحينما يكون هناك نوع من التضييق ، أو الضغط ، أو الحصار على الإنسان ، فإنه لا يستطيع أن يكون حراً طليقاً في قوله أو في فعله ، والسلطة العليا في الإسلام هي لضمان حرية الناس فيما وسّع الله عليهم ، ولذا فدائرة التنفذ فيها محدودة غير مطلقة .
والأحكام الشرعية تمنح الإنسان - في الغالب - خيارات متنوعة تلبي حاجات الفرد والجماعة ، ومن هنا اتسعت دائرة المباح في الشريعة ، ثم دائرة المستحب ومقابلها المكروه ، بينما تضيقت دائرة المحرم ومقابلها الواجب.
ولذا اعترض الإمام ابن تيمية وغيره على تسمية الأحكام بالتكاليف ؛ لأنها ليست كذلك بالضرورة ، مع أنها من عند الله تعالى الذي له الخلق والأمر .
هذا نموذج ، وربما كان من أكثر النماذج اشتهاراً و ذيوعاً ، وأكثر الناس يقتنعون بهذا الأمر ، ويرون أنه ليس بحاجة إلى إطالة الحديث فيه .
لكن ثمت نماذج أخرى فقد يكون الضغط على الإنسان من عرفٍ اجتماعي يحاصر الإنسان ، ويمنعه من قول الحق ، أو الدعوة إليه ، أو السعي في الإصلاح ، وهذا كثير جداً ، فإننا نجد أن المجتمعات كلها ، ومنها المجتمعات الإسلامية يكون لها قيم وعادات ومألوفات وتقاليد ، ليس بالضرورة أنها هي الإسلام ، أو هي النمط الشرعي الصحيح والناضج والموافق لنصوص الكتاب والسنة ، لكن هذه الأعراف والتقاليد والمألوفات الاجتماعية تضغط على الإنسان ، بحيث تمنعه من أن يكون واضحاً ، وأن يكون حراً في نظره ودراسته وعلمه وعمله و إرادته وتصرفه .(42/5)
إن للمجتمع في نفس كل إنسان مندوباً يدافع عنه ويمثله ، فالمجتمع هنا أو شريحة منه خاصة تقوم بهذا التقييد والمحاصرة ، وهنا يجب التفريق بين مراعاة المصالح والتدرج في التغيير وبين الاستسلام للواقع وترك المجاهدة .
وثمت أمر ثالث شديد التأثير ألا وهو القوى والطبائع الذاتية في الإنسان من العواطف والتصورات والأهواء والطباع الشخصية ، ولو في غير وعي الإنسان أو إرادته كما كان السلف -رحمهم الله- يسمون هذا الشهوة الخفية ، ويعنون به أن الإنسان عنده دوافع ونوازع ، هو لا يدري بها ، لكنها تؤثر فيه ، وتحكم تصرفاته وأقواله وأفعاله وقراره ورؤيته ، وربما اجتهاده دون أن يشعر هو بها ، بعضها نزع إلى تكوينه وما جبل عليه من قوة أو ضعف ، أو لين أو يبوسة .. فضلاً عن الخلفيات الثقافية ، والخبرات الحياتية ، وأنماط التربية التي تلقاها الإنسان ، وقد أشار الإمام ابن تيمية -رحمه الله - في تفسيره لسورة العلق إلى أن الإنسان يوجد في بدنه أشياء مادية حسية خفية عنه ، فقد يوجد شامة سوداء في ظهره ، أو في فخذه لم يفطن لها، ولم يرها ؛ لأنها ليست في مرمى بصره ، فكذلك يوجد من المعاني الخفية العظيمة شديدة التأثير عليه ما لا يدري به ، ولا يحسه ، ولكنه ربما بشيء من مراقبة النفس ، وملاحظتها يكتشف هذا الأمر. وقد لا يستطيع أن يتخلص منه ، لكنه يقدر أن يتعامل معه بشكل صحيح ، وأن يوظفه توظيفاً سليماً ، وأن يحجم أثره على نفسه .
يقول شداد بن أوس: ( يا بقايا العرب! إنما أخاف عليكم الشهوة الخفية ) .
ولما سئل بعضهم ذكر طلب الرياسة ، فكون الإنسان مجبولاً على حب الشهرة أو الرياسة ، و التصدر عند الناس يؤثر في قراراته ، ويؤثر في آرائه ، ويؤثر في اجتهاداته ، ويؤثر في مواقفه ، ويؤثر في أخلاقه ، حتى لو لم يكن هو مدركاً أو واعياً بهذا التأثير .(42/6)
ولذلك فإن من الحرية ألا يتصرف الإنسان بمقتضى أول خاطر يخطر على باله ، وهذا ما يسمونه بالحرية الأخلاقية ، يعني أن الإنسان يتصرف بشكل مسؤول ، وفق مبادئ صحيحة ومدروسة ، يسلم لها العقل ، وتقبلها الإرادة .
فالفعل الحر حينئذ هو الفعل الصادر عن رويّة و عقل و تدبر ، وليس الفعل الذي ينطلق من الإنسان لأول وهلة .
مثلاً قد يرى الإنسان ما يحرك غريزته الجنسية أو الشهوانية ، فحينئذٍ إذا اندفع وفق هذا الشعور ، واستجاب للشهوة ، ووقع في الحرام – أياً كانت درجة تحريمه – وهو يبرر لنفسه بأنه حر ؛ لأنه يقول: رأيت عملاً وأعجبني ففعلته وأردت أن أفعله ! بينما هو في الواقع وقع في الرّق ، ولهذا قال بعضهم :
أطعتُ مطامعي فاستعبدتني **** ولو أني قنعتُ لكنتُ حراً
وقيل: العبد حرٌ ما قَنِع ، والحر عبدٌ ما طَمِع .
قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه :( تعس عبد الدرهم تعس عبد الدينار ..الخ ) .
فسماه عبداً لهذه الأشياء بسبب سوء استخدامه لهذه الحرية ، واستجابته لأول نازع وفرط انهماكه في هذه الأشياء التي أراد أن يستعبدها فاستعبدته ، ولهذا كانت قمة الحرية هي كمال العبودية لله - تبارك وتعالى- فالعبيد الحقيقيون لربهم هم الأحرار ؛ لأنهم تخلصوا من أكثر الأشياء تأثيراً على نفوسهم ، وهو العبودية للنفس والهوى ، والإرادة المنحرفة .
وكان القاضي عياض يقول :
وَمِما زَادَني شَرفَاً وَتِيهاً **** وَكِدْتُ بِأَخْمُصِي أَطَأُ الثُّرَيّا
دُخُولِي تَحْتَ قَوْلِكَ يَا عِبَادِي **** وَأَن صَيَّرْتَ أَحمَْدَ لِي نَبِيّا
فهو تمرد على شهوته ، و إرادته المنحرفة ، فصار عبداً لله سبحانه وتعالى، وتحرر من عبودية الهوى أو عبودية الشهوة أو عبودية المال أو عبودية الوظيفة أو عبودية المنصب أو أي عبودية أخرى تجعل النفس أسيرة لها.(42/7)
ومثل ذلك دافع الغضب والانفعال ، فإنه يغطي على العقل والروية ، وينسي الإنسان تقدير المصلحة والمفسدة ، ويحمله على موقف شائن , سواء في حق نفسه أو زوجه أو ولده أو زميله أو أسرته أو مجتمعه أو أمته أو دينه ، وإذا هبت ريح الغضب أطفأت مصباح العقل والحكمة.
إنني لا أحترم ذلك الإنسان ، الذي يرى في قَدَرِ الله سبحانه وتعالى شيئاًَ لا يسره فيصيح
[ والله قهر ، والله حرام أن يحصل هذا ].(42/8)
الشريعة والحرية
24/11/2002
19/9/1423
إن كلمة الحرية، أو حقوق الإنسان أو الأقليات أو المرأة أو الطفل من الأطروحات التي أصبح الحديث عنها يقع بوتيرة متسارعة عالمياً وإقليمياً ومحلياً .
ولابد لنا أن نتدبر كيف نتعامل مع هذه الأطروحات، وهذا الفيض الزاخر المؤثر .
إن كثيراً من المسلمين لا يفقهون أكثر من أن يصدوا هذه التيارات باعتبارها " كلمة حق أُريد بها باطل " كما قال علي رضي الله عنه، و موقف الدفاع بطبيعته ضعيف، والإسلام أعطى أتباعه الفاقهين مواقع متقدمة وسامية، فيجب أن نقرر المبدأ أولاً، وأننا ـ من منطلق ديننا وشريعتنا، وبعيداً عن ردود الفعل ـ نرى للإنسان حقوقاً، بل هي أكثر من حقوق، هي واجبات ،كما أن عليه حقوقاً وواجبات، وهكذا المرأة والطفل..وكل أحد، بل وللحيوان حقوقاً، ربما تجد من تفاصيلها في الشريعة، ما لا تجد من تفاصيل حقوق الإنسان في بعض الأنظمة الوضعية .
فنحن نقرر بوضوح أن هذه الحقوق جزء من الشريعة الربانية، التي ما جاءت لتغادر شيئاً من أمر الحياة إلا وضبطت قواعده , وأرست نظمه، على كافة المستويات .
وجاءت الشريعة من الخالق، الذي هو أعلم بمن خلق، فجاءت موافقة لطبيعة الإنسان، وطموحاته وأشواقه وفطرته وحقوقه .
كما أننا يجب أن نقرر بوضوح أن هذه الحقوق مهضومة مبخوسة في كثير من البلاد الإسلامية، وفي غيرها من بلاد العالم , وبالتالي فلا تثريب على أحد في نقد مصادرة الحريات المشروعة، والدعوة إلى إعطاء كل ذي حق حقه.(43/1)
إن أي ظلم يقع في مجتمعات المسلمين، خصوصاً في جانب أولئك العاجزين، الذين لا يستطيعون أن يدافعوا عن أنفسهم، ولا أن يطالبوا بحقوقهم، سواءً كانت حقوقاً مادية أو وظيفية أو علمية أو اجتماعية أو غيرها، فهو سبب أكيد للعقوبة الربانية العاجلة، يقول الله تبارك وتعالى :" وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً"[الكهف:59] ويقول سبحانه وتعالى :" وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ"[هود:102] .
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث المتفق عليه : ( إن الله لَيملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته( .
روى ابن ماجه في سننه عن أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه قال : [ لما رجَعَتْ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجرة البحر، قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : (ألا تخبروني بأعجب شيء رأيتم في أرض الحبشة ؟) فقال قوم منهم : بلى يا رسول الله ! بينما نحن جلوس في الحبشة، إذ مرت امرأة تحمل على رأسها قلة من ماء، فجاء شاب من شبابهم، فوضع يده على كتفها فدفعها بقوة، فوقعت على ركبتيها، فلما قامت، قالت له : سوف تعلم يا غُدَر، إذا وضع الله سبحانه وتعالى الكرسي لفصل القضاء، وجمع الأولين والآخرين، وتكلمت الأيدي والأرجل بما كانوا يكسبون، سوف تعلم ما يكون أمري وأمرك غداً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (صدقت ! صدقت !كيف يقدّس الله أمة لا يؤخذ لضعيفهم من شديدهم) وهذا الحديث رواه - أيضاًَ- البيهقي في شعب الإيمان، وغيره عن عطاء بن السائب عن محارب بن دثار عن ابن بريدة عن أبيه رضي الله عنه .(43/2)
يجب إذن أن نقف إلى جانب المظلومين في مجتمعاتنا وأُسرنا وجيراننا وأهل بلدنا، وفي المسلمين عامة، وأن نسعى في إيصال الحقوق لأهلها، وأن نقف إلى جانب الفئات المظلومة المضطهدة، وهذا جزء من هدف الجهاد، الذي هو حماية المستضعفين من الرجال والنساء والولدان ،كما نص الله سبحانه وتعالى عليه في محكم القرآن .
لقد سمع عمرو بن العاص رضي الله عنه المستورد بن شداد، وهو يقول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : (تقوم الساعة، والروم أكثر الناس )، فقال له عمرو بن العاص رضي الله عنه : أبصر ما تقول، قال : أقول ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أما لئن قلت ذاك، إن فيهم لخصالاً أربعاً :
(1) إنهم لأحلم الناس عند فتنة .
(2) وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة .
(3) وأوشكهم كرّة بعد فرّة .
(4) وخيرهم لمسكينٍ ويتيمٍ وضعيف .
(5) ثم قال : وخامسة حسنةٌ جميلة، وأمنعهم من ظلم الملوك .
إن هذا من بقايا الفطرة السليمة، أو لَعَله من بقايا هدي الأنبياء عند هؤلاء الأقوام، وإنك لا تدري أتعجب من هذه الخصال، ووجودها في الروم منذ آنذاك، أم تعجب من عقلية عمرو بن العاص الفذة التي سبرت أحوالهم، وعرفت جوانب القوة والضعف فيهم، واكتشفت هذا ا لجانب، وما لم يستطع الإنسان معرفة عدوه، فلن يستطيع أن يتغلب عليه، أم تعجب من العدل والإنصاف والتجرد الإسلامي حتى مع الخصوم التاريخيين ؟!!
إن كثيراً من الدوائر الإسلامية اليوم تعجز عن دراسة الغرب، وعن معرفة تياراته واتجاهاته، وكيفية اتخاذ القرار فيه.
إننا حين نتحدث عن حقوق الإنسان أو الحرية أو حقوق المرأة، يجب ألا نتصور أن مشكلتنا مع الغرب، هي في الحقوق كمبدأ، أو أن نجعل موقفنا هو سرد المخالفات العملية لديهم لهذه التصورات، بل ينبغي أن نسابق نحن إلى تقرير هذه المبادئ، من رؤية إسلامية قرآنية صحيحة، فحقوق الإنسان قيمة شرعية ثابتة .(43/3)
وقد قال عمر رضي الله عنه لابن عمرو بن العاص أمير مصر في القرن الأول: [متى استعبدتم الناس، وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا !] وعوَّد الأقباط كيف يستطيعون أن يطالبوا بحقوقهم التي ظلوا سنين طويلة جداً لم يطالبوا بها، حينما كان يحكمهم الرومان وهم أهل دينهم، فلما حكمهم الإسلام علمهم كيف يأخذون حقوقهم، وكيف يرفضون الظلم، حتى لو جاء من خليفة أمير المؤمنين عندهم ؟!
وهذه الكلمة لم تعرفها أوربا إلا سنة (1790) تقريباً، أيام الثورة الفرنسية، لما أصبحت شعاراً للثورة (الإنسان يولد حراً )، بعد أكثر من (1000 سنة) تعلموا هذا المبدأ وقرروه، واعتبروه فتحاً جديداً !
إن حقوق الإنسان في الغرب تقوم على مبدأ واحد، وهو كما نص عليه ميثاق الأمم المتحدة، وتحدثت عنه المعاهد التي قدمت شروحاً لهذه الحقوق، وهو: [كرامة الإنسان] وكرامة الإنسان عندهم تتفرع إلى أمرين أساسيين :
الأول: الحرية وهي تتعلق بإعطاء الإنسان حقه، في التعبير، والتملك، والزواج، والبيع, والشراء، والسفر... الخ .
الأمر الثاني :
المساواة أي: أن تكون الحقوق متساوية بين الأفراد ؛ لأن من غير المعقول، أن يعطى فرد حرية كاملة، ويحرم منها الآخرون، فهذا هو أساس حقوق الإنسان، فإذا نظرنا إلى نص القرآن الكريم وجدنا التعبير القرآني هو لفظ الكرامة ذاته : "وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً"[الإسراء:70] .(43/4)
إنه في الوقت الذي كان الغرب يبحث، هل للمرأة روح، أو هل للعبد الرقيق روح ؟ كان العلماء المسلمون يبحثون : أيهما أفضل الإنسان أم الملَك !، وقال المحققون منهم : إن الإنسان إذا التزم بأمر الله سبحانه وتعالى، وأطاع الله واتّبع الأنبياء، فهو أفضل في النهاية؛ لأن نهاية المؤمن الجنة ورضوان الله سبحانه وتعالى، بينما الملائكة يظلون كما هم، والله سبحانه وتعالى أعلم، وإن كانت بدايتهم أفضل لأنهم خلقوا من نور, والعبرة بكمال النهاية لا بنقص البداية.
والإسلام حينما يقرر حقوق الإنسان من الجانب النظري , أو التطبيق النموذجي الأول، لا يقررها بناء على مطالبات أو مغالبات أو ثورات، وإنما ابتداء بتشريع من رب العالمين . ويُعَلِّم الإنسان كيف يأخذ هذه الحقوق، وكيف يطالب بها، وكيف يحافظ عليها، بدلاً من أن تكون أُخِذت بالقوة والقهر .
نحن ليس عندنا مشكلة مع حقوق الإنسان، ولا مع الحرية باعتبارها مبادئ تنطلق من تاريخنا ومن شريعتنا ومن ديننا، لكن مشكلتنا مع الغرب، ومآخذنا على برامجهم المتعلقة بحقوق الإنسان، هي في جوانب محددة مثل توسعهم في الحرية الشخصية، إلى القدر الذي يضر بالإنسان، ويهدد الفضيلة، أو توسعهم في حرية التعبير إلى القدر الذي يضر بقيم التدين، ويمس المقدسات، ويزعزع عقائد الأمة، ويمس استقرارها.
أما صيانة حقوق الفرد، وتحقيق العدل والتساوي في الفرص المتاحة للجميع، فهذا من الحقوق التي أقرها الإسلام .(43/5)
إن الغرب حينما يطرح حقوق الإنسان، ربما يطرح برنامجاً خاصاً ذاتياً، ولهذا ترى الممارسات الاستعمارية خارج حدود الدول الغربية مختلفة تماماً عما يتحدثون عنه، ولقد كتب المؤرخ الأسترالي الإنجليزي (كليرتورنبل) كتاباً اسماه (الحرب القذرة)، وتحدث عن تسلط الإنجليز على استراليا، وعدوانهم في إحدى الجزر حتى إنهم أبادوا أهلها بالكلية، وحتى أكلوا لحوم بعض أفرادها وهم أحياء ؛ أي : يقطعونهم ويأكلون لحومهم , كان هذا يحدث بينما الدعاية الاستعمارية خارج تلك المنطقة تتحدث عن أن أولئك الناس هم أكلة لحوم البشر، وأن المستعمرين جاءوا لتحريرهم، مع أنه في الواقع كما يقول المؤلف نفسه: لم تسجل ولا حالة واحدة قام بها أحد من هؤلاء بأكل لحوم المستعمرين الإنجليز .
يجب أن نحدد ما معنى كلمة (إنسان) ، هل المقصود به الإنسان من حيث خلقه الله، كما هو في التعريف الإسلامي، أَياً كان لونه أو جنسه أو بلده أو مقامه، أم الإنسان الأبيض أشقر الشعر أزرق العينين، أما الملون أو الأسود في أفريقيا أو آسيا أو غيرها، فإنه ربما يكون من الصعب وصفه بالإنسانية أصلاً ؟!
ليأتنا الغرب إن شاء في تاريخه كله أو في واقعه المشهود بنظيرٍ لكلمة عمر المشهورة رضي الله عنه: [إني لم أبعث عمالي إليكم ليضربوا أبشاركم، ولا ليأخذوا أموالكم، ولكن ليعلموكم دينكم، ويقسموا فيكم فَيْئَكم]، أو قوله رضي الله عنه : [أيما عامل ظلم لي أحداً، وبلغتني مظلمته، فلم أغيرها، فأنا ظلمته] أو قوله : [أرأيتم إذا استعملت عليكم خير من أعلم، ثم أمرته بالعدل، أكنت قضيت ما علي ؟ قالوا: نعم. قال: كلا، حتى أنظر أَعَمِلَ بما أمرته به أم لا ؟!] فهو يعلم رعيته كيف يسائلونه ويحاسبونه!
وقد ظلم أحد الولاة رجلاً من الرعية، فجاء إلى عمر، وشكاه إليه، فبعث إليه عمر يقول: أنصف فلاناً من نفسك، و إلا فأقبل والسلام . فرد الرجل إلى صاحبه مظلمته .(43/6)
ولما بلغه أن سعد بن أبي وقاص بالكوفة ؛ قد بنى لنفسه قصراً، وجعل عليه حاجباً من غير ما حاجة؛ فأرسل مفتشَه محمد بن مسلمة، وأمره أن يأخذ زيتاً وحطباً، ويحرق باب هذا القصر، وبعث معه بكتاب إلى سعد قال فيه: [بلغني أنك بنيت قصراً، واتخذت حصناً يسمى بيت سعد، وجعلت بينك وبين الناس باباً، فليس بقصرك، ولكنه قصر الخبال، لا تجعل على منزلك باباً ؛ يمتنع الناس من دخولهم، وتنفيهم به عن حقوقهم]، وكتب إلى عمرو بن العاص واليه على مصر يقول: [بلغني أنك تتكئ في مجلسك، فإذا جلست فكن كسائر الناس] .
إن هذه الأمثلة، وهي نموذج صغير جداً تؤكد أن قيم الإسلام في حقوق الإنسان هي شيء آخر لا نظير له فيما يعرفه الناس أو يسمعونه، نعم عمر كان يأخذ الناس بالعزيمة، لكن الواقع الذي صنعه الإسلام آنذاك كان ملائماً لمثل هذه النماذج الراقية.
إن من الخطأ أن ننظر بعين التوجس والريبة إلى حقوق الإنسان، أو حقوق المرأة، أو الحرية، بل ينبغي أن نتحدث عنها نحن ابتداءً , ونقررها تقريراً شرعياً , ونبين ما شرع الله - تعالى- في شأنها , ونصحح الأوضاع المنحرفة في واقعنا الإسلامي حول هذه القضايا، حتى نستطيع بذلك أن نواجه الهجمة الغربية، التي تحاول أن تستهدف العالم الإسلامي بقيمها ونظرياتها الخاصة، وأن نجد هذه المصطلحات في قواميسنا وفق رؤيتنا الخاصة الذاتية، وليست وفق رؤية الآخرين .
إن ثمة حاجة ماسة وملحة إلى أن يقوم علماء المسلمين وفقهاؤهم بإعداد الدراسات، وتقديم النماذج التي تنفي أن يكون النموذج الغربي هو الخيار الوحيد الذي يجب تعميمه.(43/7)
إننا حين نتحدث عن المساواة والحرية نجد أن الغرب بنظامه الليبرالي الرأسمالي يقدم الحرية على المساواة، وبهذا صنع البون الشاسع بين الأفراد في الثروات و الممتلكات، والتفاوت الكبير في الطبقات، وهذا جزء من طبيعة النظام الرأسمالي، الذي يقدم الحرية للفرد على المساواة للمجموع، بينما النظام الشمولي الشيوعي، كان يقدم ما يسميه المساواة على الحرية .ولهذا قام بمصادرة حريات الأفراد، وحرية التملك، وحرية الكلمة والتعبير، وحقوق الناس بشكل عام، وصار الناس يعيشون في دكتاتورية، قد يسمونها دكتاتورية الطبقة الكادحة، لكنها تظل تسلطاً وظلماً وعدواناً، بينما في النظام الإسلامي، لا يتم تقديم هذا على ذاك، وإنما تقدم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة، كما يقول الفقهاء والأصوليون: يقدم ما هو نفع متعدٍ على ما هو نفع خاص أو لازم.
ومن هذا المنطلق قد تكون الحرية – أحياناً - مصلحةً عامة فتقدم، أو تكون المساواة مصلحةً عامة فتقدم، فضلاً عن التحديد الواضح لمعنى الحرية وحدودها , ومعنى المساواة وأنها العدالة، وليست التساوي المطلق الذي قد تكون حقيقته الظلم ببخس حقوق العاملين أو المبرزين، فمثل هذه المعاني مما ينبغي لفقهاء المسلمين أن يدرسوه، وأن يقدموه، وأن تتعلم الأمم الإسلامية ما هي حقوقها ؟ وكيف تستطيع أن تحصل عليها ؟ وكيف تستطيع أن تمارسها بشكل جيد ؟
وهناك من يفهم من الحقوق والحريات معنى مطلقاً، وهذا وهم فلا أحد يقول بحق للإنسان مطلق أو حرية مطلقة، لا بدمن تقييدها على الأقل برعاية حقوق وحريات الآخرين، وإسلامياً لا بد من تقييدها بضوابط الشريعة المحكمة الربانية , التي يذعن لها العباد ؛ لأنها من رب العباد "أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ"[الملك:14] .(43/8)
وهناك من يرى أن ممارسة الإنسان لحقوقه يترتب عليها ضياع المجتمع، أو انحراف الناس، وهذا معنى ليس بمطرد، بل إن الإنسان إذا أعطي ثقة معتدلة تربى على استعمالها , وتولد لديه الإحساس بالمسؤولية عنها.
لو نظرت على مستوى العائلة – مثلاً - هل النموذج التربوي الفاضل الذي ينبغي يقوم على القسر والكبت وحرمان الطفل من حقوقه , أم يقوم على الإهمال والحرية المطلقة والغفلة عن الطفل ؟
والوسط العدل أن يكون ثمت نوع من الحرية للطفل، وتعويده كيف يمارس هذه الحرية , وكيف يستخدمها، مع تربيته على الخوف من الله سبحانه وتعالى، ومعرفة الخطأ ومعرفة الصواب، ومعرفة الخير ومعرفة الشر، هنا توسط واعتدال، لا يهمل الطفل ويترك باسم الحرية، ولا تفرض عليه القيود، والقهر والقسر باسم الرقابة أو باسم التربية .
وهكذا إذا ارتقيت مرحلة - مثلاً- إلى المدرسة , هل المدرسة هي عبارة عن مؤسسة فقط لتلقين الطلاب وحقن المعلومات، وفرض النظام الصارم على الطالب دون أن يكون هناك مجهود آخر ؟! أم إنها على النقيض من ذلك، تهمل الطالب وتدعه وشأنه يمارس ما يشاء، وقد تتحول إلى بؤرة لعلاقات السوء، أو تبادل المحرمات، هذا خطأ آخر أيضاً، و القسط والعدل أن يتخذ المجتمع بين ذلك سبيلا، فتقوم المدرسة بتربية الطالب على قوة الشخصية وبناء النفس، والثقة بذاته دون غرور، وعلى معرفة واجباته تجاه نفسه والآخرين , والقيام بها والمحاسبة على تركها، ويكون الأمر في ذلك على سنن الاعتدال، وهكذا الحال فيما يتعلق بالمؤسسات الدعوية , سواء كانت حلقة لتحفيظ القرآن الكريم، أو مجموعة للدعوة، أو مكتبة، أو درساً في مسجد .(43/9)
فرق بين أن يقوم النظام على فرض هذه الأشياء، وإلزام الآخرين بها، ومصادرة رأيهم ومنعهم من الاعتراض أو السؤال أو المناقشة، فهذا إهدار لشخصية الإنسان، يقضي على كيانه ويجعله ظلاً لغيره، ولا يعني الأمر أن تتحول الأمور إلى فوضى، بل لابد أن يكون هناك قدر من التوفيق بين حق الفرد وحق الجماعة، بين المصلحة العامة والمصلحة الخاصة، بين ما سميناه بالمساواة أو العدل، وما سميناه بالحرية، وهكذا إذا انتقل الأمر إلى إطار المجتمع العام .
نعم ! ينبغي أن يتدرب الإنسان على الحرية المنضبطة، ويتدرب على كيفيه استخدامها بحيث لا يستخدمها استخداماً سيئاً أو منحرفاً بالسب أو الشتم أو عبارات التكفير والتجهيل أو الكلام في الأشخاص والأعيان بغير وجه حق، ينبغي أن يكون لدى الإنسان إحساس بالمسؤولية، وبالتالي ينبغي أن يكون هناك محاسبة لأي شخص يخل بهذه المسؤولية، ويتجاوز حدودها .
إن الإنسان العاقل الحريص على مصلحة أمته ومجتمعه يدري أنه قد يكون الخطر على هذه المجتمعات الإسلامية من سوء استخدامها لحقوقها , بقدر ما يكون الخطر من حرمان هؤلاء الناس من حقوقهم، مما يترتب عليه شعورهم بالانفصال عن هذه الأمة، وبالتالي تعبيرهم عن أشخاصهم، وأنفسهم، وأفكارهم بأساليب مدمرة قاتلة، ربما تسبب كثيراً من المشاكل في هذا المجتمع .
وحين نتحدث عن الحرية، فليس من الضروري أن نفترض أنها كلمة تعني : " نظرية غربية " أو كأنها تستدعي رفض العبودية مطلقاً .
إن الإملاء الإسلامي يستوعب كلمة الحرية , وكلمة العبودية، ولهذا كان أساس الإسلام العبودية لله وحدة، فالحرية في مفهوم الإسلام تعني : إلغاء السلطة المطلقة على الفرد , التي تحاول أن تنوب عنه في الملكات التي أعطاها الله إياه .(43/10)
إن عبودية الله تحقيق للحرية الفردية، ولهذا رغب الإسلام في عتق الرقيق , وأسقط عمن يعاني ظروف الرق بعض التكاليف , وطوق مساحة الرق إلى سبب واحد , منتج له من حيث الأصل , وهو الرفض لعبودية الله , وكأن هذا تعبير عن قيمة الحرية التي تحدث عنها القرآن في سياق "فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً"[النساء:90] يمكن هنا أن نتداول مفهوماً للحرية في نظر الإسلام أنها المسؤولية الذاتية .
ومن هنا !تأتي كلمة الأديب الشهير (علال الفاسي) في كتاب (من عبودية البدن إلى عبودية العقل) حيث يقول :إن تاريخ الإنسان هو تاريخ البحث عن الحرية .
والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .(43/11)
المسافة بين القول والعمل
31/10/2001
15/8/1423
بل إن شئت فقل : هي المسافة بين الدعوى والعمل ، فإن القول الصادق ، القول الجاد ، هو جزء من العمل ، هو عمل اللسان ، وهو أول عمل شرعي حسي يقوم به المكلف حين ينطق بالشهادتين ، معلناً الدخول في الإسلام.
وهذا العنوان مقتبس من قصيدة الطغرائي الشهيرة " لامية العجم " حيث يقول :
غاض الوفاء ، وفاض الغدر ، واتسعت مسافة الخلف بين القول والعمل
لكن الشيء الذي أعنيه تحديداً ـ الآن ـ هو أهمية العمل كقيمة أساسية في الإسلام ، لحفظ الدين ، وعمارة الدنيا ، وأن وجوب العمل قاعدة ضخمة مستقرة ، تحتشد حولها مئات النصوص القرآنية والنبوية .
العمل أساس نجاح الفرد ، أو فشله ، وأساس قوة المجموع أو ضعفه ، وأساس السعادة الدنيوية ، وأساس النجاة الأخروية .
وبالتعبير الشرعي ، فـ "العمل الصالح " هو القيمة المعتبرة ، والتي تترتب عليها آثارها المحمودة في العاجل والآجل .
وهذا العمل الموسوم بالصلاح ، هو الذي تتحقق فيه الشروط الضرورية ، والتي جملتها :
أ - صلاح النية ، وحسن المقصد ، وهو ما يعبر عنه بـ (الإخلاص ).
ب - موافقة السنة ، والتزام الشرع ، وهو ما يعبر عنه أحياناً بـ (المتابعة) أو بـ (الصواب) . وهما مجتمعان في قوله تعالى : "ليبلوكم أيكم أحسن عملاً ".
فحسن العمل يدور على هذين القطبين ، أي : أكثر إخلاصاً لله ، وأكثر إصابة للشريعة ، والتزاماً بالمنهج ، ولهذا لم يأت في النص القرآني التعبير بـ : أيكم أكثر عملاً ..وكلمة الفضيل بن عياض في هذا الباب معروفة ، قال في تفسير آية الملك : " أحسن عملاً" : أخلصه وأصوبه ؛ فإن العمل إذا كان خالصاً ، ولم يكن صواباً لم يقبل وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل ، فلا يقبل حتى يكون خالصاً صواباً .( وانظر : العبودية لابن تيمية ).(44/1)
ولقد حاولت أن أحصي المواضع التي وردت فيها كلمة " العمل الصالح " في القرآن الكريم ، بتصريفاتها ، مع المحافظةعلى اللفظين ، فوجدتها نحواً من تسعين موضعاً . أما كلمة " العمل " مع وصف آخر غير الصلاح ، أياً كان ، أو مطلقة غير موصوفة ، فهي أكثر من ذلك بكثير ، إنها حسب إحصاء سريع ... نحو من ثلاثمائة وستين موضعاً ، ولا يخلو سرد تصريفاتها من فائدة : عمل ، يعمل ، يعملون ، اعمل ، اعملوا ، عامل ، عاملون ، عاملة ، عمل ، أعمال ... الخ .( انظر : معجم ألفاظ القرآن ، إخراج مجمع اللغة العربية 2 / 249 - 252 ) .
إنها إشادة صريحة بأهمية العمل وقيمته وضرورته للحياة ، بل وللموت أيضاً ، حتى الموت هو عمل يتدخل فيه جانب الإرادة ، ولهذا قال سبحانه : "فلا تموتنّ إلا وأنتم مسلمون ".
ولقد قامت في مدارس الفلسفة الغربية - والأمريكية منها على وجه الخصوص - سوق رائجة حديثاً للاتجاهات التي تهتم بالعمل والإنجاز والأداء ، وتعتبر هذه فلسفة الحياة الحقيقية ، دعك من الفلسفة التي يسمونها "براجماتية " وهي النفعية الواقعية التي تعتبر أن مقياس الحقيقة في المعرفة هو وجود نتائج عملية ملموسة لهذه المعرفة ، أي : أن المعرفة الحقيقية هي المعرفة المفيدة للممارسة ، وليست المعرفة النظرية المجردة ، المقطوعة الصلة بالواقع ( انظر : قاموس المصطلحات السياسسية والاقتصادية والاجتماعية ، سامي ذبيان وآخرون ، ص 85 ) .
إن تلك الإشادة الربانية بقيمة العمل تحمل تسفيهاً مباشراً ، لاتجاهين جائرين عن المحجة :
( أولهما) الاتجاه العامل على غير هدى ولا بصيرة ، والذي لا معرفة له بالأسباب الشرعية والطبعية ، أولئك الذين يوصف عملهم بأنه سيِّء ، أو شر ، أو حابط ، أو خبيث ، أو خاسر .. فإن كان هذا العمل دينياً لم يقبل ، ولم يرفع ، ولم تحصل به نجاة في الدار الآخرة .(44/2)
وإن كان دنيوياً لم يؤت ثمرته المطلوبة ، ولم ييحقق نتيجته المرقوبةة ، لأنه لم يكن ممممبنياً على نظر صحيح ، أو تجربة صادقة .
ولهذا قال تعالى :" وجوه يومئذٍ خاشعة ، عاملة ناصبة ، تصلى ناراً حامية ، تسقى من عين آنية " وقال : "قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً ... "الآيات.
ويندرج في هذا التيار كل نحلة أو مذهب أو طريق يضل عن صراط الله ، فيعبد الله على جهل وضلال ، كالمتعبدين والعاملين الناصبين من أهل البدع ، خوارج كانوا ، أو صوفية ، أو غير ذلك . كما يندرج أصحاب المدارس المنهجية التغييرية التي لم تحسن قراءة النواميس والسنن الإلهية ، فبنت أسلوبها في العمل والحياة على تلك القراءة الفاسدة ، فكان أمرها كما قال الله تعالى : "قد مكر الذين من قبلهم فأتى الله بنيانهم من القواعد ، فخر عليهم السقف من فوقهم ، وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون ".
وأجلى صورة معاصرة لذلك الشيوعية بقاعدتها الفلسفية ، وبنائها السياسي والحضاري ، الذي تهاوى بطريقة لم يكن يتوقعها أكثر المتفائلين ، وعادت إنجازاته عبئاً عليه ...كيف يتخلص منها ، كيف يوقف تراجعها السريع ، كيف يحافظ على الحد الأدنى منها ؟ .... الخ .
أما ( الاتجاه الآخر) فهو الاتجاه الراكن إلى القعود ، وترك العمل ، والإخلاد إلى الدعة ، الاتجاه الغافل عن سنن الله ، فهو يريد أن تأتيه أمانيه طوعاً بلا كدٍ ولا تعب ، وهذا ، وإن كان صعب التحقق لما في طبع الإنسان من الحركة والفاعلية ، إلا أنه متحقق من وجوه أخر ، تبدو في أولئك المسترسلين وراء كل شهوة أو رغبة، المتقنعين تحت اسم أو شعار ظنوا أنه يكفيهم ..(44/3)
فاليهود كانوا يقولون : لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة . ثم جاء النصارى فقالوا مثل قولهم ، وادعوا أنهم أبناء الله وأحباؤه ثم خلف من بعدهم خلف من المسلمين ورثوا الكتاب - يأخذون عرض هذا الأدنى ...ويقولون : سيغفر لنا ! ، وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه، نعم؛ كانت الآية لليهود والنصارى ، لكنها للمسلمين واجبة أيضاً ؛ إذ السنة واحدة ، وكما قال حذيفة رضي الله عنه : نعم الإخوة لكم بنو إسرائيل ، إن كان لكم الحلو ، ولهم المر ... !
كما أنه متحقق في أولئك الذين لا هدف لهم ، ولا غاية يسعون إليها ، فهم أسرى للصروف ، والظروف ، والأعمال التفصيلية ، والمجريات اليومية والأحداث الآنية ، لا ينتظم سلوكَهم منهجٌ ، ولا يربط بين أعمالهم رابطٌ غارقون في أعمال ليس لها معنى ، فأحدهم يعمل في الوظيفة ليسدد أقساط البيت ويسكن في البيت لينام ويأكل ويشرب ، ويشرب ويأكل وينام ليستقوي على أداء العمل .... !، دوامة آلية ليس لها روح ، ولكن الغارق فيها قد يلهو حتى عن إدراك الخلل ... بل الخواء الذي يكتنفه . وأبعد من ذلك مهوى ، أصحاب المدارس الفلسفية الخاوية ، كالسوفسطائية من المتقدمين ، والعدميين من المتأخرين ، الذين يرون ألا قيمة للعقل ، ولا قدرة له على المعرفة ، وما يعده الإنسان وجوداً هو في الحقيقة لا شيء ، ويرفضون القيم الأخلاقية ، ويَسْعَوْن للهدم دون أن يمتلكوا البديل الصالح ، ولقد كانت العدمية هي الأيديولوجية السياسية لحزب روسي نشأ عام 1870م ، وكان هدفه تحطيم النظام الاجتماعي القائم ، دون أن يكون في نيته إحلال أي نظام آخر محله ... وقد اشتهرت فلسفة العدمية بربطها بهذا الحزب .
وكثيرون يتبرمون من واقع معين ، ويسعون في تدميره ، ولا يعنيهم أن يكون البديل عنه هو الفوضى ... وعلى حد قول القائل : عليّ وعلى أعدائي ...
أو قول الشاعر العربي:
رُبَّ يومٍ بكيت منه فلما **** صِرْتُ في غيره بكيت عليهِ(44/4)
المسافة بين القول والعمل
15/10/2001
28/7/1423
كثيرون يعتبرون مجرد انتحالهم لاسم الإسلام كافياً لتحقيق أمانِيِّهِمْ ، ولا شيء وراء ذلك .
إنك تعجب حقاً ، هذا الدين الذي حملت مضامينه تلك الحفاوة الشديدة بالعمل ، وربطت كل أسباب التوفيق والسعادة به ، ونزعت عن تاركيه كل صفات الخيرية ..
ثم يطول الأمل ، وتقسو القلوب ، ويصبح المسلم في حاجة إلى من يذكره، ويؤكد له أن مجرد انتحال الاسم لا يعني شيئاً ، ولا يغني شيئاً .
هل مجرد إدعاء الإنسان أنه عاقل - مثلاً - أو غني ، أو قوي ، أو صحيح البنية ، أو عالم أو سعيد ، أو .. أو .. يجعله كذلك ؟ أو يغير من واقعه شيئاً ؟ إن مجرد الأمانيّ العابرة ، والأحلام الطائرة ، لا تنفع ولا تدفع ، إذا لم تكن زاداً ووَقُوداً لفعل الأسباب الشرعية والطبعية ، واجتناب الموانع والعوائق والأوهام .
فدعوى ( الإسلام ) ، أو ( السنة ) ، أو( الحديث ) ، أو ( السَّلفية ) ، أو ( الاتِّباع ) .... معيارها صدق التمثل والعمل ، والالتزام الحقيقي ظاهراً وباطناً.
وهنا لابدّ من التفطن لثلاثة أمور :
أولها: إن هناك الأدعياء الذين يكتفون بالاسم ، ورفع الشعار ، ثم ينامون قريري العيون .
ثانيها : إن هناك من يطبق فهماً منقوصاً سبق إلى ذهنه ، وظنه هو الحق ، فهناك من يرى الإسلام عبادةً فحسب ، أو زهداً فحسب ، أو قتالاً فحسب ، أو ما شاء له تصوره ... ويتمسك بهذا ، معرضاً عما سواه ، وقد يرى الإسلام مظهراً وشكلاً مجرداً دون مضمون حقيقي .
ثالثها : إن هناك من يفهم الأمر على حقيقته ، لكنه لا يعمل به ، وهاهنا ؛ لا مشكلة في الفهم والإدراك ، لكن المشكلة في التنفيذ .(45/1)
إن هناك أسماءً صحيحةً ، وعناوين مقبولة ، لكنَّ مجردَ التَّسَمِّي بها لا يفيد حتى يُضافَ إليه العمل والتحقق بالوصف والمعنى ، وإلا كان تزكية للنفس بغير حق. وكثيراً ما يستمسك الناس بالاسم ، بل ويتعصبون له ، ويغضبون ممن ينفيه عنهم ، لكنهم يمعنون في التكذيب العملي لهذه الدعوى العريضة .
وقد كانت آيات القرآن الكريم حاسمة في هذا المقام . "ليس بأمانيكم ، ولا أماني أهل الكتاب ، من يعمل سوءاً يجز به ،ولا يجد له من دون الله ولياً ولا نصيراً ، ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا " النص واضح وصريح ، الانتماءات والأسماء وحدها لا تكفي ، ولو كانت شريفة وصحيحة في ذاتها ، حتى يقترن بها العمل ، الميزان مرتبط بـ " من يعمل ... "، أو " من يعمل ... " ولهذا كان بعض السلف يقولون : إن هذه أخوف آية في كتاب الله -تعالى- .
يقول الحافظ ابن كثير : " والمعنى في هذه الآية أن الدين ليس بالتحلي ، ولا بالتمني ، ولكن ما وقر في القلب ، وصدقته الأعمال , وليس كلُّ من ادعى شيئاً ، حصل له بمجرد دعواه، ولا كل من قال: إنه على الحق سمع قوله بمجرد ذلك ، حتى يكون له من الله برهان " ( 1 / 557 ) وكلمة الحسن البصري - رحمه الله - مشهورة ، وهي التي ساقها ابن كثير في صدر كلامه السابق .
ثم ؛ هذه الأسماء التي يدعيها المدعون ، ينبغي فرزها إلى صنفين متمايزين :
الصنف الأول : أسماء وانتسابات مشروعة مطلقاً ، والنسبة إليها هي من باب تقرير الواقع ، والاعتراف به ، وإعلانه ، وذلك مثل قول المسلم : أنا المسلم ، والحمد لله . فهذا انتساب محمود بكل حال ، وانتماء شريف عظيم ، وواجب على قائله تأييد قوله بفعله .(45/2)
الصنف الثاني : أسماء وانتسابات شريفة في نفسها لكن لا ينبغي تزكية النفس بها مطلقاً ، ولا ادعاء تحصيلها ، مما يوهم كمال الإنسان ، واستيلاءه على الذروة العليا ، ومنها لفظ الإيمان ، فلا يحسن بالمرء أن يقول : أنا مؤمن ، على سبيل التزكية ، والثناء على النفس ، ولذلك قال الإمام أحمد - رحمه الله - : أذهب إلى حديث ابن مسعود في الاستثناء في الإيمان ؛ لأن الإيمان قول وعمل ، فقد جئنا بالقول ، ونخشى أن نكون قد فرطنا في العمل فيعجبني أن نستثني في الإيمان ، نقول : أنا مؤمن إن شاء الله –تعالى- . وحديث ابن مسعود الذي أشار إليه الإمام هو ما رواه ابن أبي شيبة ( الإيمان 90 ) وأبو عبيد ( الإيمان 17 ) أنه قال : من شهد أنه مؤمن فليشهد أنه من أهل الجنة .
وفي لفظ عن الإمام أحمد أنه قال : أنا مؤمن -إن شاء الله- ومؤمن أرجو ، لأنه لا يدري كيف أداؤه للأعمال ، على ما افتُرِضَ عليه أم لا . واننظر بقييية الروايات عن أحمد في المسائل والرسائل بتنسيق وتحقيق : عبدالإله الأحمدي ( 1 / 117 - 125 ).(45/3)
وذلك أن الإيمان المطلق يتضمن فعل ما أمر الله به كله ، وترك ما نهى الله عنه كله ، فإذا قال : أنا مؤمن ، بهذا الاعتبار ، فقد شهد لنفسه أنه من الأبرار المتقين ، القائمين بفعل جميع الأوامر ، وترك جميع النواهي ، فهو من أولياء الله ، وهو من أهل الجنة ، كما قال ابن مسعود ( وانظر : فتاوى ابن تيمية 7 / 446 ) . إذاً فترجيح الاستثناء ، كأن يقول : أنا مؤمن -إن شاء الله- ، أو أرجو أنني مؤمن ، هو من باب نفي التزكية عن النفس ، وعدم دعوى الإيمان المطلق ، ولهذا لا يحسن بأحدٍ أن يقول : أنا مؤمن حقاً ، أو قطعاً ، أو أَلبتة ، أو عند الله .. لما يشعر ذلك به من دعوى الكمال ، وتزكية النفس بالأقوال دون الأعمال , هذا مع أن لفظ الإيمان لفظ شرعي ، وقد جاء في القرآن الكريم : " قولوا : آمنا .." "ربنا آمنا ..." " إني آمنت بربكم " الخ ، فما بالك بالألفاظ الاصطلاحية التي لم ترد في نص كتاب أو سنة ، والتي تحمل معنى التزكية المطلقة ، كلفظة (أنا سلفي) - على سبيل التمثيل- أليست أولى بالتقييد والضبط ؟ أليست السَّلفية قولاً وفعلاً ؟ أليست منهجاً وسلوكاً ؟ هل أضمن أنني أفهم ما كان عليه السَّلف من المعاني، والأعمال، والأقوال، والأحوال ؟ أم أضمن إذ فهمتها أنني تمثلتها في واقع حياتي، حتى حق لي أن انتحل النسبة الشريفة هذه ؟
أما حين تكون المسألة بيان حال ، أو تقرير واقع في جانب معين ، فالأمر يختلف ، كأن يقول : أنا على طريقة السلف في الإيمان ، أو على طريقة السلف في الأسماء والصفات ، أو على طريقتهم في الاعتقاد .. فهذا لا بأس به عندي ، والله أعلم .
والخلاصة أن المؤمنين يجب أن يُراعوا أهمية العمل والتحقيق ، وليس مجرد الانتساب والدعوى .(45/4)
فمتى يعي المسلمون هذا ؟ ومتى يعي طلبة العلم والمنتسبون إلى الدعوة أن التفاخر بالنسبة لا يجدي شيئاً ، حتى يقترن بالعمل ؟ وأن التزكية الشرعية ليست بادعاء وصفٍ محمود ، يصدق أو لا يصدق ، بل بالتحلي بنقاء السريرة ، وصفاء السيرة ، وصلاح العمل ، وتدارك العيب ، وحسن الخلق والإنحاء على النفس بالملامة ، وكمال الصدق مع الله .
" قال الله هذا يومُ ينفع الصادقين صِدْقُهم لهم جناتٌ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم"(45/5)
أمريكا والإرهاب
23/02/2003
22/12/1423
كتب هذا المقال قبل ستة أشهر , وكانت فحواه الظن المجرد بأن الإدارة الأمريكية تتجه إلى الصدام مع العالم كله ومؤسساته بدلاً من الصدام مع طرف ما تصفه بالإرهاب وهذا ما بدا اليوم واقعاً مشهوداً للعيان في مسألة الحرب على العراق , ومواجهة العالم كله بلا مبالاة !.
ولاشك أن نهاية الحرب الباردة قد غيرت الكثير من الأوضاع , وأصبح مسوقاً في دوائر الغرب والولايات المتحدة بوجه خاص أن العالم مقبل على حياة أفضل ومهيأ لقدر من التعايش والعدالة بين أجناسه وشعوبه وأممه بمختلف تشكلاتها ونماذجها؛ لكن هذه الطمأنة لم تكن تتمتع بقدرة على التطبيق من حيث إن المشكلة التي كانت تمثلها الشيوعية لم تكن هي المشكلة الوحيدة التي تهدد الأمن العالمي، وهنا يبدو النظام العالمي الجديد بعد الشيوعية يحتفظ بقدر من التطرف والاستبداد ؛ لأنه نظام أحادي التكوين والتركيب .
وفي ظل هذا النموذج الجديد المبشر به باسم الديمقراطية وحقوق الإنسان وحرية التجارة اتجهت الولايات المتحدة لفرض خياراتها على مجموعة من حلفائها الأوربيين , فضلاً عن دول العالم الثالث , وهذا يعني أن الولايات المتحدة التي أصبحت بعد سقوط الاتحاد السوفيتي الدولة الأقوى في العالم صارت تخلق أسباب تخولها ملاحقة كل أشكال الطموح والتميز في العالم ، والذي قد يسبب يوما ما مزاحمة للإدارة الأمريكية , ولم يكن مفاجئاً أن تخرج الولايات المتحدة أكثر من مرة عن الخارطة الدولية في الأمم المتحدة ؛ لتتبنى قرارات أحادية الجانب , أو تعترض على إجماع دولي .(46/1)
حين واجهت الولايات المتحدة ضربات الحادي عشر من سبتمبر تحرك القرار الأمريكي لمواجهة ما يسميه بالإرهاب ضمن مطالبة الدول بالتحالف مع الولايات المتحدة , دون أن تقدم الإدارة الأمريكية خطة تحدد مفهوم الإرهاب , وصور معالجاته , بل تمثلت الحركة الأمريكية في ترسيم ( العنف والعنف المضاد ) كخيار للعالم في هذا القرن ، ومن المؤكد أن الإدارة الأمريكية مع شمولية نظرتها في تصنيف الإرهاب , وأن كل من يعارضها سيكون ملاحقاً في هذه الحرب , التي قد تأخذ في البداية تجارباً على مجموعة من الضعفاء, كما هو الحال في ضرب المدنيين في أفغانستان، وهذا يعني أن هذه الحرب لن تقف - حسب طموح إدارة الصراع في الولايات المتحدة - حتى تنتهي كل أشكال الاستقلالية والطموح الذي يختار مساراً آخر قد لا تتذوقه الإدارة في الولايات المتحدة ، وهنا فإن الاصطدام الأمريكي لن يكون بدول العالم الإسلامي فقط - التي حافظ الغرب على تخلفها التقني - بل سيكون الحياد ذاته شكلاً من أشكال الإرهاب في نظر الإدارة الأمريكية , حتى مع الدول الأكثر تقدماً وقدرة على تقرير مستقبلها الخاص ، وهذا يعني أن الخطة المعلنة ستصنع كارثة عالمية تتجه لتقويض الأمن المدني , وضرب جميع صور الاستقلال السياسي والثقافي في العالم .
ومن المؤكد أن خصومة الولايات المتحدة في هذه المرحلة لم تعد مع جماعة أو منظمة خاصة، بل بدأت تتجه للصراع مع العالم أكثر من أي وقت مضى ، ومن المؤكد أيضاً أن الرأي العام العالمي لا يشعر بعدالة كافية في الحركة الأمريكية ، وبات أكثر ذكاء ووضوحاً في رفض المزايدة الأمريكية تجاه قضية الإرهاب .
إن التقرير الاستراتيجي الأمريكي يفوض الإدارة الأمريكية في مصادرة كل صور القوة والمنافسة لتظل الولايات المتحدة هي القوة الوحيدة في العالم .
الإسلام والإرهاب:(46/2)
لا يحظى مصطلح الإرهاب بمصادقة واعتراف في الثقافة الإسلامية التي تنطلق من قيم الإسلام كنظرية أو فكرة لصناعة العدوان على الآخرين أو ضرب الحقوق .
وهنا لسنا نتحدث عن مسيرة يومية لكل فرد في العالم الإسلامي ، أو أفكار خاصة يراها طائفة من المسلمين، فالحديث عن الإسلام يعني الحديث عن النظرية الإسلامية المحضة من جهة ، أو عن التطبيق العام على مستوى الأمة كافة .
إن الإسلام دين يؤمن به أكثر من مليار إنسان في العالم ، وأكثرية الناس في مناطق الأهمية الاستراتيجية هم من المسلمين ، ويمتد هذا الدين لأكثر من أربعة عشر قرناً ، ولم يخلق مشكلة لأحد في العالم طوال هذا الامتداد ، لكنه مع ذلك يؤمن بحق الدفاع عن النفس وتأمين الحرية الخاصة، وعلى هذا فمن التسطيح للمشكلة أن تعرض على أن الإرهاب إملاء من الثقافة الإسلامية ؛ فإن هذا يعني أن العالم والولايات المتحدة - بوجه خاص - يواجه أكثر من مليار إنسان , ومناطق متناثرة في العالم كلها تصنع الإرهاب!!! ولعل هذه هي النتيجة التي يسعى إليها من يديرون دفة الحرب ، ويدقون نواقيسها .
إننا هنا معنيون بمخاطبة الفرد في العالم كله ، وهذا يعني أن نقدم حقائق بسيطة تسمح للآخرين أن يفهموا موقفنا - نحن المسلمين- من الإرهاب حتى لا نسمح لآلة الإعلام ؛ الذي لا يحترم الموضوعية والدقة بمزيد من الإسقاطات التي تخدع الكثيرين في الغرب، وخصوصاً الشعب الأمريكي .
إننا ندرك أن الإسلام حقيقة ربانية عادلة , تقدم الخير للبشرية كلها ؛ وقد جاء النبي الخاتم(46/3)
( رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ) أي : للعالم كله ، حتى أولئك الذين لم يؤمنوا به , حفظ حقوقهم , وأعطاهم في ظل حكمه التاريخي مستوى من العدالة لم يحلموا به ، يقول : غوستاف لوبون المؤرخ البريطاني الشهير : ما عرف التاريخ فاتحاً أعدل ولا أرحم من العرب، صحيح أننا نمتلك رؤية خاصة , تحدد هويتنا الإسلامية , وصحيح - أيضاً - أننا نتقاطع في مجموعة من المفاهيم والقيم مع مجموعة مفاهيم لأمم وشعوب أخرى، ومن الواضح أننا على اختلاف مع كثير من المفاهيم الغربية , ولنا خيارنا الخاص , كما ندرك أن الآخرين يمارسون خيارهم الخاص .
إنه في الوقت الذي يرسم فيه الإسلام امتياز المسلم وخصوصية هويته تحت مجموعة من القيم والمفاهيم ؛ فإن الإسلام رسم ضمن هذه الهوية أصول العلاقة المشتركة مع الآخرين , بما يسمح بإرساء قواعد العدالة , واحترام الحقوق في العلاقات الخاصة والعامة , ويسجل في تاريخ الإسلام أن رسول الله صلى الله عليه وسلم زار شاباً يهودياً في مرضه , ودعاه للإسلام فقبل دعوته, وأسلم تحت رسالة الأخلاق .(46/4)
إن من قيم الإسلام الدعوة إلى العفو , وخلق مساحات أوسع للتسامح ، وحماية الأمن المدني حتى يتمتع الفرد بقدرة كافية لقراءة القيم الإسلامية , وصناعة الحياة الأفضل، وتحت هذا الامتداد يكون من التسطيح الظن بأن المسلمين , أو حتى فئة منهم يستهدفون قيم العدل والحرية المعلنة للشعب الأمريكي , أو أن قيم المسلمين تفرض عليهم قتل الآخرين دون أي نظام أخلاقي لمجرد أنهم يخالفونهم، أو لكونهم يمارسون العدل أو الحرية، هذا التصور ببساطة يُعدُّ صناعة لكارثة , قد يكون الطرف الأكثر خسارة فيها هو الشعب الأمريكي قبل أي مجتمع في العالم ، وإذا أردنا أن نكون منصفين ؛ فإن علاقة المسلمين بالغرب صنعها الغرب أكثر بكثير مما صنعها المسلمون ، وليست الحروب الصليبية بدمويتها وفداحتها في التاريخ الماضي هي الاحتكاك السلبي الوحيد من قبل الغرب ضد الإسلام والمنطقة الإسلامية ، فإن ذكريات الاستعمار , ومصادرة حق الشعوب , وضرب المقاومة الوطنية هي الأكثر حضوراً في الذهنية الإسلامية والعربية اليوم ، لكن الذي يبحث عن مواقف سلبية إسلامية ضد الغرب؛ سيجد صعوبة بالغة في الحصول على أي أدلة تاريخية صادقة.(46/5)
أمريكا والإرهاب
01/03/2003
28/12/1423
الجهاد والإرهاب
من الواضح أن الإرهاب لم يكن أحد القيم التي يريدها الإسلام لمعالجة المشكلات مع الآخرين ، أو فرض مفاهيمه على الآخرين .
ولا يتم تداول كلمة ( الإرهاب ) كمصطلح إسلامي أو شرعي ، وهنا يمكننا أن نتساءل :
هل يمكن أن يقبل أحد في تحديد الإرهاب أن كل ما كان ضد الولايات المتحدة - مثلاً - فهو إرهاب ؟ !
كيف يمكن أن نضمن للشعوب الأخرى حقها في الدفاع عن مصالحها وحقوقها إذا كانت الولايات المتحدة هي الطرف المعتدي ؟
تحت أي غطاء تقوم الولايات المتحدة بشن الحروب المدمرة هنا وهناك؟ أليس تحت مبرر الحرب على الإرهاب ؟!!
إذاًً فثمت حرب عادلة ومشروعة .
فمن يملك حق تحديد ملامح هذه الحرب ؟
ومتى تكون مقبولة ؟
ومتى تكون مرفوضة ؟
نعم ! الإسلام يحدد موقفه على ضوء التعريف الذي يمكن منحه للإرهاب ، وليس من الممكن أن ( يوقع على بياض ) كما يقال !
فما يندرج تحت الإفساد في الأرض , أو الظلم , أو العدوان على الأبرياء فهو مرفوض أياً كانت تسميته ، وفي أي أرض وقع ، سواء وقع في أمريكا , أو أفغانستان أو فلسطين , أو اليابان أو نيكارجوا , أو لبنان أو العراق , أو فيتنام , أو ليبيا ... الخ .
وما كان دفاعاً مشروعاً عن النفس , أو مقاومة للمحتل , أو طرداً للمستعمر فهو عدل مقبول سائغ .
وحتى في هذه الحالة ؛ فإن للحرب في الإسلام نظاماً أخلاقياً صارماً , تتم الإشارة إليه بعدُ .
وهناك أشكال متعددة من الإرهاب فمنها :
1-الإرهاب الاستعماري ، الهادف إلى نهب خيرات البلاد .
2- الإرهاب الاستيطاني ، كما في إسرائيل , وجنوب إفريقيا سابقاً .
3- الإرهاب الفكري ،كالذي تمارسه الصهيونية ضد من تسميهم بأعداء السامية .
4- الإرهاب الدولي ، الذي تمارسه دول وحكومات ضد غيرها تحت مسميات فضفاضة .
5- الإرهاب الاقتصادي ، الذي تمارسه دول الشمال الغني مع دول الجنوب الفقير .(47/1)
أما كلمة ( الجهاد ) التي يتم تداولها كرديف للإرهاب في أدبيات الغرب عامة ، فهي مفهوم حياتي واسع , لا يختص بالمواجهة المسلحة مطلقاً .
وفي نصوص الكتاب الكريم نجد :
1- الجهاد بالقرآن "فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً"(الفرقان:52) ، وهذا يعني: الدعوة والحجة والبيان والمجادلة بالحسنى .
2- جهاد النفس "وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ " (العنكبوت:69) فيدخل في معنى الآية : مجاهدة النفس على الخير والتزكية والإيمان ، وكفها عن الشر والشهوة والفتنة ، ومثله قوله تعالى :"وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ"(العنكبوت:6) .
3- الجهاد بالمال ، وهذا يعني صرفه في مصارف الخير المتنوعة ، ويشمل ذلك صرفه للمقاتلين في سبيل الله ، وهذا ورد في عدة مواضع من القرآن الكريم .
4- الجهاد بالنفس ، هذا يشمل الأعمال الصالحة التي يقوم بها المؤمن ، كالقتال المشروع في سبيل الله , والتعليم والدعوة , و غيرها .
ومن المدركات التاريخية المقررة أن أكبر بلد إسلامي اليوم -من حيث عدد السكان – ( إندونيسيا ) دخلها الإسلام ليس عن طريق الحرب ، بل بالرسالة الأخلاقية .
وبالرغم من انحسار السلطة الإسلامية عن مناطق كثيرة حكمها الإسلام تاريخياً إلا أن أهلها الأصليين ظلوا مسلمين ، وحملوا رسالة الحق ودعوا إليها وتحملوا الأذى والتعذيب والظلم في سبيلها ، كما نجده في بلاد الشام ومصر والعراق والمغرب والقوقاز والبلقان وأسبانيا التي أقيمت للمسلمين فيها محاكم التفتيش , وهذا يدل على أن تأثير الإسلام فيهم كان أخلاقياً إقناعياً ، بخلاف الاستعمار الغربي الذي أخرج بالقوة من البلاد الإسلامية ولا يتذكر الناس عنه إلا المآسي والآلام والقهر والتسلط.(47/2)
إن من الخطأ الفادح أن يتصور البعض أن كلمة الجهاد هي رديف لكلمة ( القتال ) أو
( الحرب ) والتي لا تعني إلا جزءاً خاصاً من مفهوم الجهاد .
إن الإسلام تحت اسم الجهاد يدعو إلى حماية المجتمعات من الظلم والتسلط والدكتاتورية التي تصادر الحقوق والحريات ، وتلغي نظام العدل والأخلاق , وتمنع الناس من سماع الحقيقة أو اعتناقها , أو تضطهدهم في دينهم.
كما أنه تحت الاسم ذاته يسعى إلى تحقيق الإيمان بالله وعبادته وتوحيده و نشر قيم الخير والفضيلة والأخلاق بالحكمة والموعظة الحسنة , كما قال سبحانه : " ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ"(النحل: من الآية125) .
كما يدعو إلى الإصلاح الاجتماعي في مقاومة الجهل والخرافة والفقر والمرض والتفرقة العنصرية .
ومن أهدافه الأساسية حماية حقوق المستضعفين الخاصة والعامة من تسلط الأقوياء والمتنفذين.
وفي القرآن الكريم :"وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً"(النساء:75).
قال الزجاج : أي: ما لكم لا تسعون في خلاص هؤلاء المستضعفين ؟
وهذا قول ابن عباس , وغيره من أئمة التفسير .
وبهذا يكون من صور الجهاد في الإسلام مقاومة الظلم ومقارعته " رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا "( النساء: من الآية75 ) فهو يضمن حق الأمم في مدافعة الظالمين المعتدين .
ويحرم الإسلام الظلم حتى للمخالف في الدين ، كما قال سبحانه : "وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى "(المائدة: من الآية8) .(47/3)
ويقول للمؤمنين في شأن قريش التي منعتهم من دخول المسجد الحرام بمكة:" وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا"(المائدة: من الآية2) , والشنآن هو البغض والعداوة , أي لا تحملكم بغضاء وعداوة شعب أو أمة على أن تعتدوا عليهم أو تظلموهم وتصادروا حقوقهم .
وفي الحديث عن أنس - رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم (اتقوا دعوة المظلوم ، وإن كان كافراً فإنه ليس دونها حجاب ) رواه الإمام أحمد في مسنده , وهو حديث صحيح الإسناد .
كما أن من صور الجهاد مقاومة الدكتاتوريات التي تريد المحافظة على الخرافة والجهل ، وعدم إعطاء مساحة لقيم الإيمان بالله ، والأخلاق في الحركة الاجتماعية .
الإسلام والقتال :
وفي موضوع القتال يمكن أن نرسم بعض الحقائق المهمة في التصور الإسلامي، ومن بينها ما سبق أن الجهاد وإن كان أوسع من مفهوم القتال ؛ فإنه يبقى من الوضوح أن نقول: إن القتال في الإسلام فريضة مشروعة ( كُتِبَ عَلَيْكُم القتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ)، وذلك حين يكون خياراً لمعالجة المشكلات , أو مواجهة الظلم والعدوان والدفاع عن الحريات والحقوق الخاصة، وحين نؤكد اعتراف الإسلام بالقتال والدفاع والحرب فهذا جزء من منظومة القيم في الإسلام كما نفهمها , ويمكن لكل منصف أن يدرك معقولية مثل هذا القرار في الإسلام .
لقد دخل المسلمون في تاريخهم الطويل معارك وحروباً تحت هذا المبدأ .
ومع أننا ندرك تماماً أنه ليس ضرورياً أن ما يصنعه مجموعة من المسلمين فهو إملاء إسلامي شرعي في نظر الآخرين، وأن التاريخ الإسلامي ليس دائماً سجلاً للفضائل المحضة ، ولكن دعونا نتذكر:
كم قتل المسلمون من المدنيين في القرن المنصرم ؟!
وكم قتلت الشيوعية ؟!
وكم قتلت المجموعات والدول الغربية ؟!
ومن الذي أشعل أكبر حربين عالميتين خلال نصف قرن ، وجرّ إليها القريب والبعيد ؟!(47/4)
إن العالم يتذكر بمرارة ضرب المدنيين بالأسلحة النووية في هيروشيما وناجازاكي ، ويتذكر المجازر الدموية في البوسنة والهرسك , والتباطؤ الدولي عن إيقاف نزيف الدماء هناك , ولقد قتل في إندونيسيا - عام 1965م في إثر انقلاب مدعوم من الولايات المتحدة - مئات الألوف , غالبهم من الفلاحين , ولم تُخف الصحافة الوطنية في الولايات المتحدة اغتباطها بما يحدث , كما قتل مئات الآلاف في العراق من الأطفال في ظل الحصار الدولي منذ عام 1991م.
ويشاهد العالم بعينيه ما تفعله القوة الغاشمة الإسرائيلية - المدعومة من الولايات المتحدة - بالعزّل في فلسطين الذين تحتل ديارهم , وتعامل حتى مواطنيها منهم معاملة عنصرية سافرة.
وإذا كان هؤلاء - الذين رسموا في العصر الحديث مذابح جماعية - يشعرون بمبررات في داخلهم ؛ فهذا يدل على عمق المشكلة الأخلاقية التي تواجه العالم .
إن الإسلام حين يدعو لاعتماد خيار القتال ؛ فهذا يأتي ضمن نظام يتّسم بالدقة والعدالة ، وإعطاء فرصة للسلام , فهناك مجموعة من الشروط ترسم نظام القتال الذي يشرعه الإسلام للمسلمين , وهو هنا إحدى صور الجهاد ، لكن من الواضح أنه ليس عدوانياً على أحد , بل يقوم لحماية الحقوق ونصر المستضعفين ومحاربة الظلم والتعسف , ونشر قيم العدل أمام رفض مجموعات الدكتاتورية الانفتاح على الآخرين , والسماح للفرد في المجتمع باختيار القيم الفاضلة .
وفي هذه الدائرة , يمكن أن نفهم صورة القتال في الإسلام ,كنظام لنشر وحماية الحريات المدنية والحقوق ، والمسلمون حين يشاركون في هذا القتال فإنهم يتمتعون بعلاقة روحية في داخلهم تجعلهم الأكثر كفاءة من الناحية المعنوية .
وإذا كان المثل يقول : إن الأخلاق تُعرف حال القوة والقدرة - وهذا في نظرنا صحيح - فإن الإسلام حال قوته ونفوذه كان يرسم قيماً أخلاقية عالية , حتى مع الذين يضطر إلى محاربتهم .(47/5)
وفي أمثلة سريعة , يرد أبوعبيدة إلى أهل حمص المال , الذي أخذه منهم مقابل الحماية ؛ خشية ألا يقدر على حمايتهم ، وهو يقوم بها في الوقت ذاته .
ويأمر الخليفة عمر بن عبد العزيز بتشكيل محكمة ميدانية , للنظر في دعوى أهل سمرقند , بعدم صحة إجراءات الحرب ، فتأمر المحكمة الجيش الإسلامي بالانسحاب الفوري ، وهكذا كان ينسحب الجيش وسط دهشة أهل المدينة وذهولهم .
وهذه الحرب العادلة محكومة وفق الشريعة الإسلامية بالنظام الأخلاقي الذي لا يسمح بالتجاوز , حتى نجد في وصية الخليفة الأول , الصديق - رضي الله عنه- ليزيد : لا تقتل امرأة ولا صبياً ولا هرماً .
وكذلك كان عمر - رضي الله عنه - يوصي جيشه ويقول : لا تقتلوا امرأة ولا صبياً ولا شيخاً هِمَّاً , يعني كبيراً .
وكان أبو بكر يوصي بعدم قتل الرهبان في الصوامع .
وقال عمر : اتقوا الله في الفلاحين , الذين لا ينصبون لكم الحرب .
وهذا باب تطول قراءته , ويعرف في مواضعه من كتب الفقه الإسلامي .
لقد كان لفقدان المسؤولية في تصنيف الإرهاب أثر في رفع روح التوتر ضد الولايات المتحدة , ليس بين المسلمين فحسب, بل حتى لدى شعوب أخرى في العالم ...
قد يبدو للأقوياء أن من السهل والمناسب إسقاط المشكلات على الضعفاء , تحت مجموعة من الذرائع , وهذا ما نقرؤه في اتجاه بعض الدوائر في الغرب , في جعل الطرف الرئيس في مشكلة الإرهاب المسلمين , وليس غيرهم .(47/6)
أمريكا والإرهاب
08/03/2003
5/1/1424
الدين في مفهوم المسلمين
يبقى مفهوم الدين واضحاً في عقل المسلم البسيط أنه: عبارة عن عبادة الله وتحقيق قيم الخير والعدل التي شرعها الإسلام ؛ لإقامة حياة أفضل في الدنيا، وسعادة أبدية في الآخرة.
إن الدين لم يكن يوماً ما مشكلة عند المسلمين ؛ لأنه مفهوم واسع يمكن أن يستوعب في رسالة الإسلام كل شؤون الحياة ، ويمثل الإسلام في هذا المقام انفتاحاً واسعاً لصناعة نظام أخلاقي يمكن أن يعيش تحته الآخرون في أمن واستقرار، الدين في الإسلام ليس قضية شخصية أو مجرد رمزية في دائرة محدودة من دوائر الحياة بل يعني صناعة الحياة ليس للمسلمين فقط بل لكل من يكون مستعداً للسلام والعدل واحترام الحقوق ، ويمكن أن نقول ببساطة إنه يعني البحث عن السعادة والأمن والتكامل الأخلاقي. وتحت هذا المفهوم يبقى أن المسلمين ليسوا بحاجة إلى العلمانية ؛ لسبب بسيط أنه لا توجد مشكلة لهم مع الدين .
إن الفرد في الغرب قد يفهم الدين في دائرة معينة تتعلق بالجانب التعبدي المحض بين الإنسان وبين الله ، بينما هو في الإسلام معنى شمولي ينظم سير الحياة كلها وفق قواعد عامة وأصول مرنة تكفل إمكانية الإفادة من الجديد في العلوم والتقنيات والتسهيلات المادية وغيرها ، وتحافظ في الوقت ذاته على تميز المسلم وأنموذجه الثقافي الخاص، نتصور أن من مشاكلنا مع الغرب أنهم لا يفهموننا كما يجب وكما هي الحقيقة، ومن المؤسف أن تقع مجموعات من الأسوياء في العالم تحت تصوير ساذج يفتقد الأمانة في رسم هوية المسلم أو تحديد مفهوم الدين عند المسلمين .
إن من أسس الدين في الإسلام أنه يعطي مساحة لفهم الذات واحترام المبادئ والحريات الخاصة ، كما يرفض الإسلام محاولة تحويل الدين إلى أداة لتبرير الأخطاء أو صناعة العدوان.(48/1)
وربما كانت مشكلة فهم كلمة ( دين ) وكلمة ( جهاد ) والربط بينهما من إشكاليات الفهم لدى بعض الغربيين . وإذا تحقق فهم الدين بهذا المعنى الواسع وفهم الجهاد بذاك المعنى الواسع أيضاً زال كثير من الالتباس في الباب .
وهكذا تحدث الانتقائية - أحياناً - في التقاط جزئية خاصة ومعالجتها كما لو كانت هي الإسلام فقط مع عزلها عن المنظومة الثقافية التي تنتمي إليها ، يحدث هذا في المجال السياسي والاجتماعي والثقافي على السواء . نلاحظ أحياناً أن بعض الدوائر في الغرب تجامل في إعلان احترام الإسلام كديانة ، لكن لا نجد مساحة لهذا الإعلان في التعامل مع المسلمين ، وكأن بعض هذه الدوائر تريد أن تفهم الإسلام كما يحلو لها ! هناك فرق بسيط هو أن المسلم العادي يشعر أن الإسلام نظام شامل للحياة ، والفرد في المسيحية لا يجد هذا الشعور بل يبقي الدين دائرة ضيقة في نظر المسيحيين ، وهنا قد لا يستوعب الفرد في الغرب العلاقة عند المسلمين بين الدين والدافع الذي يحرك الإنسان في أي اتجاه في الحياة .
إن الدين يبقى في نفوس المسلمين الملاذ الآمن والأكثر فعالية لمقاومة كل أشكال التحديات،
وهنا يمكن أن نقول للعالم كله: إن تصعيد التحدي ضد المسلمين- من قبل أي قوة في العالم - سيجعل من الصعب في الأخير أن تتمتع هذه القوة بالهدوء والاستقرار ؛ لأن المسلم العادي يمكن أن يستوعب المحرك الديني في داخله لمقاومة العدوان ومن المؤكد أن هذا المحرك سيجعل من الفرد أكثر مرارة وسيكون أكثر فعالية في صناعة الأفراد من كل أنظمة التدريب النظامية، وفي الوقت نفسه فإن المحرك الديني سيجعل من الفرد العادي في الإسلام أنموذجاً لصناعة الخير والسلام واحترام الحقوق والحريات في ظل نظام العدالة .(48/2)
المسلمون يعلمون جميعاً أن نبيهم محمداً صلى الله عليه وسلم نبي الرحمة ونبي الملحمة أي: القتال ، والأصل في دعوته ورسالته الرحمة لكنه يتحول إلى القتال حين تقف بعض القوى في صف رفض الرحمة والأخلاق وحرمان الآخرين منها أو محاولة سلب الحقوق ومصادرة الحريات الخاصة ؛ فإن الإسلام يمكن أن يعبئ في أقل من أربع وعشرين ساعة الملايين من المسلمين المستعدين للتضحية في سبيل الدفاع عن الإسلام دون أي علاقة اتصال تجري بين هؤلاء ، واليوم نعلم- ونحن على ثقة في قراءتنا للعقل المسلم العادي - أن عشرات الملايين من المسلمين سيبدون استعداداً للدفاع عن فلسطين والمسجد الأقصى لو افترضنا وضع استفتاء في العالم الإسلامي ، وهذه النتيجة التي نعلمها ستكون تجاوباً عفوياً مع حالة الظلم الممارسة في الأرض الفلسطينية ، وهذا أحد مبادئ الإسلام التي رسمها في علاقة المسلمين بعضهم مع بعض مهما كان قدر الفوارق السياسية والاجتماعية والعرقية التي يمكن أن تختصر وتمحى بشكل مفاجئ أمام حركة الدين الروحية التي تضمن التجاوب بين المسلمين، وحين نتحدث عن هويتنا الخاصة ؛ فإن الدين يعد في الأساس عند المسلمين قيمة روحية عالية ونرى أن تعلقهم به هو الأقوى مقارنة بغيرهم لأسباب تتعلق بالإسلام ذاته ، ومن السذاجة التفكير في تجريد المسلمين منها ، وهذه القيمة تتجه في الأساس إلى السلام لكن يمكن أن تكون قوة مضادة لكل محاولات التعدي التي تواجه المسلمين أو مجموعات منهم .
إن المسلم الذي لا يُعطى مساحة كافية للتدين معرض لردة الفعل القوية ضد من يشعر بعداوتهم له أكثر من المسلم المستقر في سلوكه أو المنتمي إلى مدرسة إسلامية أو معهد شرعي ولهذا فمن الطيش توجيه الاتهام إلى المدارس الإسلامية أو المناهج الشرعية في العالم الإسلامي وأقل ما يقال: إن العِلْم الشرعي يضبط العداوة وينظمها ويحافظ على أخلاقيتها وهدوئها.
الموقف من الحرب ضد الإرهاب :(48/3)
إنّ مبادئ الإسلام تجعلنا مرتبطين بنظام أخلاقي واضح ؛ فمن الصعب أن نتحرك باتجاه خيارات خاصة لا تحترم حقوقنا أو حتى حقوق الآخرين في أي مكان في العالم ؛ لأن الإسلام يرفض الظلم، ومن الخطأ أن نركض في حرب لم ترسم تحت نظام العدالة وسيادة القانون الأخلاقي ، وربما نكون مقصودين في هذه الحرب وملاحقين بأسماء مستعارة تعطينا درجة من التبرير ؛ لتصفية وجودنا الخاص في آخر مطاف هذه الحرب أو في بعض فصولها، وهنا ! يمكن أن نتضامن مع الحرب ضد الإرهاب حينما تتجه الحرب إلى مفهوم التصحيح والقضاء على كل صور الإرهاب الذي يعني العدوان ومصادرة الحقوق والحريات في كل أشكال الإرهاب المتمثلة في الإرهاب السياسي والعسكري والاقتصادي والثقافي ، وهذه تعد الدوائر الخاصة لممارسة الإرهاب المنظم في العالم من مجموعة قوى السيطرة والاستعمار التي تريد إسقاط المشكلة على الطرف الخارج عن اللعبة، فحين تتحدث الإدارة الأمريكية عن إرهاب دولة أو مجتمع أو ثقافة تهدد الولايات المتحدة ، فلماذا لا يكون تهديد الولايات المتحدة ، بل تحركها لضرب الأمن المدني في بعض الدول والمجتمعات ، وخلق دوائر للتوتر في العالم ، شكلاً من أشكال الإرهاب الذي يحتاج لملاحقة دولية !!
إن الإسلام يؤيد موقف التضامن مع الآخرين ؛ لإرساء قواعد الأمن والاستقرار والسلام ومكافحة الفقر والأمراض والجريمة الفردية والجماعية ، وهنا ! يمكن أن يعمل المسلمون مع الآخرين لبناء عالم يعتمد على الاستقرار والتوازن دون كلل ، وهذا يستدعي - ونحن نخاطب كل المخلصين في العالم - الضغط على الإدارة الأمريكية ؛ لرسم صورة صحيحة لمشكلة الإرهاب من أجل معالجة دولية جادة .
العالم ومشكلة الإرهاب :(48/4)
لعل من أكبر المشكلات - التي يواجهها العالم - مشكلة الإرهاب ، والمسلمون من أكثر الشعوب تضرراً بهذه الظاهرة بل ليس غريباً أن معاناة المسلمين من الإرهاب في القرنين الماضيين أكثر من أي شعب آخر ، لكن مع اعتبار الإرهاب مشكلة تواجه العالم فهذا يستدعي خلق نظام يتسم بالقوة والأخلاقية ؛ لمواجهة هذه المشكلة ، ومع هذا فإنه من وجهة النظر الإسلامية المؤسسة على شمولية النظرة للحياة وصناعة الخير للعالم ندرك أن العالم يعاني مجموعة كثيرة من المشكلات وليس الإرهاب فقط ! فهناك انتشار واسع للجهل والأمية والخرافة في حياة ملايين من البشر كما أن عشرات الملايين في العالم يعانون الأمراض ويفتقدون أبسط حقوق العلاج والصحة ، كذلك يوجد مئات الملايين في العالم يعيشون تحت خط الفقر ومن الواجب علينا أن نشعر بهؤلاء وأن ندرك أن مشكلات العالم لا يمكن أن تختصر في شيء واحد لصالح طرف واحد ليس له امتياز إلا أنه الأقوى ويمكن أن يستخدم القوة ضد المعارضين.
إن تردي الحياة المدنية والحريات لمئات الملايين في العالم يجعل من غير الأخلاقي ألا نفكر بهؤلاء ونصر على تحديد المشكلة الخاصة في نظرة أحادية الجانب، وكموقف أكثر وضوحاً ؛ فإننا نعتبر الوقوف مع مشكلة الإرهاب فقط وتجاهل المشكلات الأخرى يعني: أن العالم وبإرادة القوة يتجه لكارثة ستجعل الأمن في العالم كله مؤهلاً لمزيد من المفاجئات التي تدمر الحياة المدنية أو على أقل تقدير تخلق حالة من عدم الاستقرار والشعور بالرعب ، وحينها سيكون العالم أكثر معاناة من فترة الحرب الباردة أو أي فترة أخرى .(48/5)
إن سلاح القوة والقدرة على إلحاق الضرر ليس حكمة صائبة حتى في صناعة السيادة والسيطرة على الآخرين فضلاً عن الجدية في معالجة الأخطاء وترسيخ الأمن، ومن المؤكد أن الأمن المدني في العالم اليوم لا يشهد حالة من الاستقرار نظراً لإصرار الإدارة الأمريكية على نشر الفوضوية في التفكير وتبني الملاحقات التي لا تستند للقانون والعدالة، ولقد بات واضحاً - لدى الإنسان العادي في العالم كله - أن الإدارة الأمريكية ليست جادة في الإصلاح العالمي بل تسعى لمزيد من السيطرة وضرب الاستقرار في أماكن عديدة من العالم وكأن الإنسان المؤهل للحقوق هو الإنسان الأمريكي فقط !
لذا فإننا نؤكد أننا ـ نحن المسلمين ـ نمتلك إمكانية لفهم كل أساليب التعامل المناسبة لمواجهة الخيارات التي يرسمها طرف ما ، ومن المؤكد أننا سنكون الأكثر استعداداً لاحترام الأخلاق والعدالة وفي الوقت ذاته الأكثر استعداداً للتضحية إذا اقتضى الأمر .
وفي هذا يقول أحد شعرائنا :
لي وإنْ كنتُ كقطرِ الطَّلِّ صَافِي **** قصفةُ الرعدِ وإعصارُ السوافي
أتحاشى الشَّر جهدي فإذا ما **** لجَّ في عسفي تحداه اعتسافي
خلقٌ وَرَّثَنِيِهِ أحمد **** فجرى ملءَ دِمائي وشِغافي
لم يغيره على طولِ المدى **** بطشُ جبارٍ ولا كيدُ ضعافِ
والحمد لله أولاً وآخراً .(48/6)
بيني وبين ابن جبرين
12/03/2002
28/12/1423
ثمة قضايا كنت أُتَابعُ بها منذ زمن، تثار وتذكى حيناً بعد حين، وكان يقيني أن التشاغل بتفتيت مثل هذه الإثارات انصراف عن الأهم المجدي مما قصدنا إليه، وجعلناه هدفاً نجهد أن ننفق فيه ما أبقى الله لنا من أعمار .
ومع أن القضية تتعلق بشخصي، إلا أني على يقين أن قضيتنا أكبر من ذواتنا، وأن الذي يهمنا ما يقال عن عقيدتنا وديننا وليس عن أشخاصنا.
ولذا تفارطت السِّنون تباعاً وأنا في غاية الإعراض عن التشاغل بهذه القضايا أو التعليق عليها، أو التعقيب على الردود حولها .وكنت أرى أن المسألة ستتحول بمضي الزمن من مرافعات شخصية إلى قضية علمية بحتة، متجردة إلى حد كبير من انفعالاتها وحساباتها الوقتية.
ولذا فإن رسالة وصلتني من سماحة الشيخ/ عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين –حفظه الله- جعلتني أقف لهذا الموضوع هذه المرة وأبيِّن فيه ما عندي، وعسى أن يجعل الله في هذا الأمر خيراً لنا جميعاً .
وكانت رسالة الشيخ عبارة عن سؤال وصله من أحد الإخوة الغيورين ضمَّنه عدة أسئلة ترجع إلى سؤالين هما مَثار الجدل لهذه القضايا أقتصر عليهما.
يقول السائل :
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
نود من فضيلة شيخنا عبدالله الجبرين الجواب عن الأسئلة الآتية :
ما حكم الشرع فيمن قال عن مغنٍّ يجاهر بفسقه ما نصه : " هذا لا يغفر الله له ! إلا أن يتوب لأن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر بأنه لا يعافى " كل أمتي معافى " .. لأنهم مرتدون بفعلهم هذا ردة عن الإسلام !! هذا مخلد – والعياذ بالله – في نار جهنم إلا أن يتوب ! ! لماذا ؟ لأنه لا يؤمن بقول الله عز وجل : " ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلاً " بالله عليكم الذي يعرف أن الزنا حرام وفاحشة ويسخط الله هل يفتخر أمام الناس ؟ أمام الملايين أو مئات الألوف من الناس ؟ ! لا يفعل هذا أبداً ..؟(49/1)
فبالله عليك يا شيخ عبدالله الجبرين ما حكم الشرع فيمن قال ذلك ؟ وهل يعد من الخوارج ؟ وهل نحذر منه نصيحة لله ولرسوله وللمسلمين ؟ وهل نصرح باسمه ؟ علماً أنه قد نوصح ولم يرجع ؟
وما حكم الشرع فيمن فرق بين الطائفة المنصورة والفرقة الناجية وقال أيضاً : " إن الشيخ عبدالعزيز بن باز ـ رحمه الله ـ قد وافقني على ذلك ؟!!
علماً بأن الشيخ - رحمه الله - قد سئل عن ذلك فقال لم أوافقه على ذلك ، بل قال الشيخ رحمه الله : " الفرقة الناجية هم الطائفة المنصورة " .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وقد تكرم الشيخ عبدالله -حفظه الله- فكتب على الرسالة التعليق التالي، وبعث بها وبالتعليق إلي، ونص التعليق هو:" عليكم السلام ورحمة الله وبركاته وبعد أرى أن تحال إلى فضيلة الشيخ سلمان بن فهد بن عودة ؛ ليتولى الإجابة عنها ، فله - وفقه الله - اختصاص بهذه المواضيع ، ويمكن تولي مناقشة هذه المسائل معه ، وسوف يقتنع السائل بما لديه من الجواب إن كان قصده الصواب ، والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم 22/12/1422هـ عبدالله بن عبدالرحمن الجبرين التوقيع .
وإنني حريص على التعقيب بما لا يجرح شعور الأخ السائل، مبيناً في ذلك ما يزيل اللبس ويكشف الإشكال –إن شاء الله- فالقول الأول المتعلق بالغناء ورد في كلمة ألقيتها بعنوان (جلسة على الرصيف) ومثله القول الأخير المتعلق بالفرقة الناجية، والطائفة المنصورة .(49/2)
وقد أشار الأخ الكريم إلى أن المتكلم نوصح فلم يرجع، وكأنه فهم من هذه الكلمات أنني أكفر أصحاب المعاصي، وهذا الكلام وإن كان يوهم ظاهره ما أشار إليه الأخ السائل لو كان منبتاً عن سياقه، وعن حال قائله. ولكن من المعلوم أنه كلام كنت ألقيته ارتجالاً في محاضرة عامة، والكلام الشفوي لا يستحضر المتكلم فيه إيراد المحترزات واللوازم بقدر ما يحرص على إيضاح الفكرة العامة التي يتكلم فيها، ومن المعلوم لدى أهل العلم أنه لا يؤخذ أحد بمفهوم كلامه إذا كان له منطوق كلام صريح بخلافه، كما قرر ذلك الإمام ابن الوزير في (العواصم والقواصم) وحكاه اتفاقاً بين أهل النظر.
والأصل أن حال المتكلم ومشهور قوله كافية في إيضاح مراده، ومع ذلك فإني أوضح الأمر لمن يكفيه الإيضاح فأقول: إن أهل الإسلام كافة لا يكفرون أصحاب الذنوب ما لم يستحلوها ، لا يخرج عن هذا إلا فرقة الخوارج ومن سلك سبيلهم ، ممن استحلوا دماء المسلمين وأعراضهم وأموالهم بغير حق .
وهذا المذهب الفاسد معروف من ينتحله ويذهب إليه، وليس ثمة حاجة إلى اقتناص شوارد يدان بها هذا أو ذاك، فإن الأصل في المسلم السلامة، وإذا ادعى مسلم أنه لا يقول بهذه المقالة فالجدير أن تقبل دعواه، ويوكل أمره إلى الله، ولا يكلف بالتزام القول ثم الرجوع عنه.
لقد جاء المنافقون إلى النبي- صلى الله عليه وسلم- في أعقاب غزاة تبوك يعتذرون إليه، فقبل منهم، واستغفر لهم، ووكل سرائرهم إلى الله .
ونحن اليوم ننادي بتحقيق هذا القدر من التعامل الحسن بين المؤمنين الذين جمعتهم لحمة الدين والإخاء الشرعي، أن يقبل بعضهم من بعض، ويستغفر بعضهم لبعض ويحسنوا الظن فيما بينهم، ويكلوا السرائر إلى الله .(49/3)
وهذا القول المذكور لا يُقصد به المعنى الذي ظنه السائل، خاصة وأن في نص الكتاب المطبوع ذكر الزاني، وتغريره بالفتيات، وذمه من لا يفعل مثل فعله، وأنه يعد الزنا من الفتوة والرجولة والكمال، ويستخف بمعصيته مع أن الله - تعالى- يقول: " ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا " فهل يفتخر الذي يؤمن أن الزنا فاحشة تسخط الله ؟!
وهذا يعني أن المقصود ليس الغناء أصلاً، وإنما التمدح بالفجور والزنا والثناء عليه وعلى أهله وانتقاص من لا يفعله بأنه ليس لديه الفتوة، والرجولة والقوة، وبين هذا وذاك فرق كبير.
إن الألفاظ وعاء المعاني، فإذا ظهر المعنى حسن التجاوز عن اللفظ ولو كان فيه نقص أو إخلال أو حتى خطأ .
وقد حكى لنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - قصة الرجل الذي قال: " اللهم أنت عبدي وأنا ربك "، فغلبه الحال عن المقال .
فلا تحمل مقالات الناس فوق قدرها ونصابها، ولا تعزل عن سياقها الخاص والعام، ولا يتطلب من ورائها معنى وقر في ذهن السامع أو القارئ فأصر على الإلزام به؛ لأن المقصود ـ إن شاء الله ـ هو البيان والنصيحة، مع الشفقة والرحمة، وحب الخير للناس .
إن للخوارج مسلكين فاسدين يعزز أحدهما الآخر :
أولهما: مسلك الغلو في الاعتقاد، الذي ظنوه تعظيماً لحرمة الشريعة، وخرجوا به عن حد الاعتدال إلى الإفراط بتكفير أصحاب المعاصي .
وثانيهما - وهو تفريع على الأول-: يتمثل في العدوان على المسلمين والجور في معاملتهم، فاستحلوا دماءهم وأموالهم وأعراضهم .
وليس في جمهور المسلمين - بحمد الله - من ينتحل صريح رأي الخوارج في الغلو والتكفير بالمعصية إلا فئة قليلة لا شأن لها، وعسى الله أن يكف بأسهم، ويهدي قلوبهم، ويحفظ المسلمين من شرهم.(49/4)
ولكن هناك من يتجرأ على دماء المسلمين وأموالهم بتأويل فاسد، وهذا خطير، وقد كتبت حوله الكثير، وحذرت من مغبته، وإن كان علاج مثل هذا يتطلب الجد في إزالة أسبابه ودوافعه والتي منها الحجر على الدعوة ومحاربتها، واضطرارها إلى المخابئ البعيدة عن التدارك والتصحيح .
ويوجد وراء هذا وذاك من أهل الخير والتفقه ممن لا يقولون بقول الخوارج وربما أعلنوا عليه الحرب والنكير، لكنهم يقتبسون منهم مسلكهم في القسوة على مخالفيهم ، ومحاصرتهم بالتهم، فهذا زنديق، وهذا مبتدع ضال، وهذا خارجي، وهذا مرجئ .
دون أن يكون لهم في ذلك بصر ولا أناة، أو يكونوا من أهل العلم المحتكم إليهم في هذه المسائل، وقد يصبح معقد الولاء والبراء على مثل هذه الأغلوطات، وربما استقر في ذهن الشاب (حديث السن) معنى قريب فتشبث به وجادل حوله، وأضاع فيه أثمن سني عمره،إذ كان خليقاً أن يصرف في البناء والتكوين العلمي والسلوكي.
إن التصحيح والبيان واجب، على أهله الذين هم أهله، ممن يملك العلم والرحمة معاً " آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علماً ".
ولقد يدرك أولو الألباب الجهود الإسلامية التي يأكل بعضها بعضاً، ويدمر بعضها بعضاً، مع مسيس الحاجة إليها والعجز المستحكم عن مدافعة العدو الصريح الذي سلب الديار، ونهب الأموال، وصار يتدخل في خصوصيات المسلمين ومعاقد حياتهم .
وأظهر منه ضعف تبليغ الإسلام إلى البشرية ، ففي الوقت الذي يحتدم الجدل والتمحك بيننا في مسائل ما كانت لتبلغ ما بلغت لولا أننا ألححنا عليها وأكثرنا من الدوران حولها ، في الوقت نفسه يظل أربعة من كل خمسة في الأرض كلها من غير المسلمين ، وممن لم تبلغهم رسالة الإسلام غالباً .(49/5)
ونحن نرى أن هذه وتلك هي المعارك الجادة التي يجب أن نتأهل لها ، أما العراك مع إخواننا فنؤثر طيه وتجاوزه، وقبول العذر، وإحسان الظن، ونؤثر لكل شاب يُجر إلى مثل هذه المنازلات ألا ينجر إليها بحال، وأن يؤثر العفو والصفح والتسامح، وعدم أخذ الأمر بالشدة، وللإخوة الذين يقولون إنهم يدافعون عن بعض الدعاة أو يحمون أعراضهم أقول: أحسنتم وأجملتم، ولكن كان أولى بكم أن تنشغلوا بما هو أهم من ذلك من الدفاع عن الإسلام والعقيدة، وتصحيح أحوال المسلمين، أو دعوة غير المسلمين أو بناء الدنيا أو بناء الدين .
إنه قد لا يضير إنساناً أن يموت موحداً ، ولكنه يسيء الظن بي عن اجتهاد ، أو عن تقليد لمن ظهر له صلاحه ، ولكنه يضيره أن يموت جاهلاً بالله أو بدينه وشريعته ، أو بكتابه ، أو برسله .
وإذ نحن مسلّمون بمحدودية الجهد الذي نبذله فلم لا نختار له أهم المواقع وأنفعها ؟(49/6)
بيني وبين ابن جبرين
17/03/2002
3/1/1423
المسألة الأخرى التي وردت في سؤال السائل الغيور وفقه الله هي أنني أقول بالتفريق بين
( الفرقة الناجية ) و ( الطائفة المنصورة ) وأنني أزعم أن ابن باز رحمه الله وافقني على ذلك ، ولكن الشيخ نفاه ، وقال بأنهما واحد .
وبحث هذه المسألة لا بأس به ، فهي من المسائل العلمية التي لا يخلو تأملها من فائدة ، ولكنها ليست من المسائل الكبار ، بل هي من جنس بحث العلماء في التوفيق بين الأحاديث ، كما صنع الطحاوي وابن قتيبة وابن حجر وابن تيمية والنووي وغيرهم ، ومن جنس بحث المفسرين في دلالات الألفاظ القرآنية وتطابقها أو تفاوتها ، فإن أفراد هذه المسائل قد يعرض للناظر فيها بعض التردد ، أو الخطأ غير المقصود ، وهذا مرفوع حرجه عن الأمة ، كما في حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه ، والقائل فيه باجتهاد بين أجر وأجرين .
وقد تكلم أهل العلم فيما هو أولى بالنظر من ذلك كمسألة الفرق بين الإسلام والإيمان ، فمنهم من قال هذا هذا ، ومنهم من حمل كلاً على معنى ، ومنهم من فرق في حال دون حال ، وبكل قال أئمة ذوو قدر واعتبار ، ولا تعنيف على أحد منهم فيما ذهب إليه ؛ لأن المسألة علمية لها دقة وخصوص ، وقد بسط القول فيها ابن تيمية في كتاب الإيمان .
ومثله كلام المفسرين حول المقتصد والظالم لنفسه والسابق بالخيرات .
وما أبديته في بحثي المطبوع ضمن ( رسائل الغرباء ) هو نوع من التفسير للنص ، وهو عندي صواب يحتمل الخطأ ، وعند الأخ السائل خطأ لعله يحتمل الصواب إن شاء الله ، إذ لا قطعية في هذه المسألة ، وليست من معاقد الإجماع ، بل هي من موارد الظنون .(50/1)
وكأن بعض الناس أطلق أنني أقول : هذه غير تلك ، ولم يفصح عن المعنى ، والحق أنني أذهب إلى العموم والخصوص ، وأزعم أن الطائفة المنصورة هي بعض الفرقة الناجية ، فالفرقة أعم ، والطائفة أخص ، والنجاة حاصلة لكثير من المسلمين ، ولو كانوا غير منصورين ، فالصحابة الذين اختلفوا وتنازعوا كلهم ناجون ، ومنهم المنصور ومنهم غير المنصور ، ويحسن مراجعة كلام ابن تيمية في هذا المعنى في الفتاوى ( 4/443 – 450 ، 467 – 470).
وهذا المعنى ثابت في الكتاب المنزل في قوله عز وجل : " وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون "[التوبة : 122] .
فجعل الطائفة جزءاً من الفرقة وأخص منها ، وهذا معروف لغة أن الطائفة أقل ، حتى يقال : طائفة الثوب ، وطائفة النخل ، وقد يسمى الواحد طائفة كما في آية النور عند بعض المفسرين "وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين "[النور:2] .
وساعد على هذا القول أن اللفظين مختلفان في دلالتهما وفي وصفهما ، فهذه فرقة ، وتلك طائفة ، وهذه ناجية ، وتلك منصورة ، واختلاف المبنى يدل على تفاوت في المعنى ، وكان هذا هو الأصل ، والله أعلم .
وبكل حال يعلم بأنني لا أقول : إن هذه غير تلك كما قد يلتبس على قوم ، ولكنني أقول : هذه ( من ) تلك ، أي : بعضها ، فقد يقع لقوم النجاة من الانحراف دون النصرة ، ويقع لآخرين هذا وهذا .
وقد بسطت القول في غير هذا الموضع ، ولا أرى الإطالة في المسالة ، فهي مبحث عارض يحسن تجاوزه ، والقول بأنهما لفظان مترادفان لافرق بينهما البتة له وجه .
وقد علق على البحث الشيخ محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله في سلسة الأحاديث الصحيحة (1/932 ) ( وأما ما أثاره في هذه الأيام أحد إخواننا الدعاة من التفريق بين (الطائفة المنصورة ) و ( الفرقة الناجية ) فهو رأي له لا أراه بعيداً عن الصواب(50/2)
، فقد تقدم هناك النقل عن أئمة الحديث في تفسير الطائفة المنصورة أنهم أهل العلم بالحديث وأصحاب الآثار ،
وبالضرورة تعلم أنه ليس كل من كان من الفرقة الناجية هو من أهل العلم بعامة بله من أهل العلم بالحديث بخاصة .
ألا ترى أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هم الذين يمثلون الفرقة الناجية ؛ ولذلك أمرنا بأن نتمسك بما كانوا عليه ، ومع ذلك فلم يكونوا جميعاً علماء ، بل كان جمهورهم تابعاً لعلمائهم ؟
فبين ( الطائفة ) و (الفرقة ) عموم وخصوص ظاهران ، ولكني مع ذلك لا أرى كبير فائدة من الأخذ والرد في هذه القضية ؛ حرصاً على الدعوة ووحدة الكلمة ).
ويعلم أن بين اللفظين ترادفاً ظاهراً من حيث إن استجماع أسباب النجاة سبيل إلى تحصيل النصرة ، وأن النصرة لا تكون إلا لأهل النجاة ، وهذا قدر مشترك بينهما ، لكن هل يلزم من هذا الترادف التطابق التام من كل وجه ؟
هذا محل النظر .
إذ يمكن أن يكون بينهما تطابق محض كما اختاره بعض الإخوة ، ويمكن أن يكون بينهما عموم وخصوص كما أشرنا وأخترنا ، والعموم والخصوص لا ينافي الترادف والاشتراك العام .
وإذ قيل كما هو ظاهر مراد السائل : إن هذين الحرفيين ( النجاة ) و ( النصرة ) من قبيل المتواطئ ، فإن المترجح لدي أنها من قبيل ما يسميه العلماء بالمشكك ، ومعلوم عند كثير من المحققين من نظار أهل السنة وغيرهم أن المشكك داخل في المتواطئ لا يخرج عنه وهو باب واحد من الألفاظ المشتركة المناسبة لمعنى أو أكثر وتنوع مناسبته بحسب الإضافات فإن اللفظ المطلق ليس له حكم اللفظ المركب باتفاق أهل النظر .(50/3)
والتفاوت في المقامات العلمية أو العملية هو من الأمور القطعية ، فالجنة درجات ، وأهلها متفاوتون بحسب مقاماتهم في الدنيا ، منهم النبيون ، ومنهم الصديقون ، ومنهم الشهداء ، ومنهم الصالحون ، ومنهم دون ذلك ، ومنهم من يدخل بغير حساب ، ومنهم من يدخل النار ثم يخرج منها ، وفي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (... إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة أراه فوقه عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنة ) .
ولأهل العلم مآخذ شتى في أقسام الناس وطبقاتهم ومنازلهم ، وقد صنف فيه أهل السلوك ، وتفاوتوا بحسب الخصال التي اعتمدوها ، وبحسب البسط أو الإيجاز وغير ذلك .
وهذا من أسرار الشريعة في العدل بوضع كل شيء في موضعه ، وإعطاء كل ذي حق حقه ، وفي الترقي بالناس مرحلة بعد أخرى ، فالسائر كلما وصل مرحلة لاحت له معالم فوقها فتطلع إليها وجاهد في تحصيلها " والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا "[العنكبوت:69] .
وهذا لب المسألة أن يعظم حرص المرء على العلم الذي ينفعه في نفسه ، ولا يتحول العلم إلى خصومات بين أهله تقطعهم عن الطريق وتشغلهم عن الغاية .(50/4)
حتى يغيروا ما بأنفسهم
31/10/2001
15/8/1423
ثمت متوالية حسابية ساذجة يرددها الكثيرون ، حثاً لغيرهم على الدعوة والإصلاح ، وتثميناً للجهد والعمل الفردي الذي يقوم به الداعية والمربي .
تقول : أنت تدعو شخصاً واحداً ، والواحد يصبح اثنين ، ثم أربعة ..
وهكذا حتى تشمل الدعوة كل أفراد المجتمع .
وفكرة إقناع الآخرين بتقديم ما لديهم ، ولو كان يسيراً محدوداً ، هي بالتأكيد فكرة صحيحة ، منسجمة مع العدل الشرعي الذي يطالب الإنسان بقدر ما لديه.
وفي الإرشاد النبوي ، فيما رواه عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( بلغوا عني ولو آية ) رواه البخاري ( 3461 ) وغيره .
والظاهر أن المقصود آية من القرآن ولو قصرت ، وفهم ابن حبان ( 14/14) منها معنى الحكم أو الحجة فجعلها شاملة لتبليغ القرآن والسنة ، وهو جيد فلم يجعل النبي صلى الله عليه وسلم مهمة البلاغ محصورة في العلماء المتمكنين ، ولا في الحفظة المكثرين .
وفيما يتعلق بالحديث النبوي الشريف تخصيصاً ، فقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم لمن سمع مقالته ووعاها ، وبلغها لمن لم يسمعها ، فقال في الحديث الذي رواه جماعة من الصحابة رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( نضر الله أمرءاً سمع مقالتي فوعاها فبلغها كما سمعها ، فرب مبلغ أوعى من سامع .. الخ )
والحديث صحيح ، جاء من طرق عن ابن مسعود ، وزيد بن ثابت ، وجبير بن مطعم ، وأبي سعيد ، والنعمان بن بشير ، وأنس ، وأبي الدرداء ، قال الحاكم ( 1/88 ) : وعن جماعة من الصحابة ، منهم عمر وعثمان وعلي ومعاذ بن جبل وابن عمر وابن عباس وأبو هريرة وغيرهم .
إذاً نحن متفقون على الدعوة إلى الإيجابية والمشاركة والعطاء ، ولو بالقليل ، فإن السيل من نقط .(51/1)
وها هنا معادلة صعبة يلجأ إليها الذين يتهربون من أداء واجباتهم ، ويحتجون بأن العمل اليسير الذين يستطيعونه غير ذي جدوى ، وأن الموقف يتطلب عملاً إيجابياً ضخماً يغير موازين القوى ، وهذا ماليس بمقدورهم .
وهكذا نضيع بين مجهود ممكن ، ولكنه – في نظرهم – غير مؤثر ، وبين عمل مؤثر ، ولكنه غير ممكن . ونستطيع هنا أن نقبض على ( مهرب نفسي) أو لون من الخداع الذي نحرر به أنفسنا من التبعة ، لنقع في قبضة الأوهام والحيل النفسية .
إن تصور مجهودك المتواضع ، وهو يضاف إلى مجهودات الملايين المتواضعة أيضاً يمكن أن يعدل الميزان .
وأذكر هاهنا حادثة طريفة ، زرت قبل شهور أحد الشيوخ المرضى الذين أقعدهم المرض عن كل شيء ، فهو لا يتحرك ، ولا يتكلم ، ولا يستطيع القيام بأدنى عمل ، غير أنه يسمع ويبصر .
فوجدت الرجل ينتظرني على أحر من الجمر .. وما ذا هناك ؟
وجدت عنده هذه الورقة التي هي أشبه بالكلمات المتقاطعة ، ووجدته حفياً بها ..
إ ق ت ر ا ح ، ت و ح ي د ، ا ل ل غ ا ت ، ال إ ن س ا ن ، ت و ح ي د ، ا ل إ ن س ا ن ، ل غ ا ت ، ا ل إ ن س ا ن ، ك ل ا م ، م ن ك ل ، ل غ ة ، أ ك ث ر ، ح س ب ا ل أ س هـ ل ، ح ر و ف ،ح ر و ف ت ق ر أ ، ت ك ت ب ، ت ش م ل ، ك ل ، ل هـ ج ة ، ت س م ى ، ل غ ة ، ا ل إ ن س ا ن ، ب و ا س ط ة ، ا ل إ ن ت ر ن ت ، و ا ل ق ن و ا ت ، ا ل ف ض ا ء ي ة ، ي س ت ط ي ع ، ي د ر س ، ك ل ، إ ن س ا ن ، ف ي ، ا ل ع ا ل م ، ي س ت ف ي د ، و ت ك و ن ، ا ل ل غ ة ، ا ل ث ا ن ي ة ، وب ع د ، م د ة ، ت ك و ن ، ه ي ، ا ل ل غ ة ، ا ل ر س م ي ة .. .
دعك الآن من مضمون هذه الحروف ، وفكر قليييلاً كيف استطاع توصيل فكرة كهذه ، لا تخلو من تعقيد ؟ فكرة البحث عن لغة عالمية مشتركة .(51/2)
إن لديه لوحاً كتبت فيه الحروف كلها ، فإذا أراد شيئاً أدرك من حوله أنه يريد أن يفضي لهم بشيء ، فأحضروا اللوح ثم ظلوا يشيرون إلى الحروف حرفاً حرفا حتى يصلوا إلى الذي يريد فيفهمون من حركة عينه كموافقة على ذلك الحرف فيكتبونه ، ثم يبدؤون سيرتهم مع الحروف مرة أخرى .. وهكذا استغرقت عملية كتابة الحروف السابقة ثلاثمائة وخمساً من المحاولات الصائبة .. ولك أن تحسب المحاولات المخفقة ، كما استهلكت وقتاً يزيد على الشهرين كان يمثل حالة مخاض ذهني مؤلم !
من منا لا يملك قلماً ؟ وورقاً ؟ وفكرة ؟ أو اقتراحاً ؟ أو نصيحة ؟ أو تأييداً ؟ أو معارضة ؟ أو ما شاء الله ؟ وهل يفتقر مثل هذا إلى همة أصلاً ؟
إن كلمة ( إنسان ) ذاتها مشتقة من النوس ، وهو الحركة ، كما في اللسان ووغيره فالإنسان بطبعة متحرك وفعال ، ولذلك كان أصدق الأسماء حارثاً وهماماً ، كما في حديث أبي وهب الجشمي : ( أحب الأسماء إلى الله عبدا لله وعبدا لرحمن ، وأصدقها حارث وهمام ) ، وهو في أبي داود ( 4950 ) والنسائي وأحمد والبخاري في الأدب وغيرهمم والراجح أنه مرسل كما في علل ابن أبي حاتم وغيره .
وذلك لأن وجود الهم والإرادة ، ثم العمل والحركة من أبرز ميزات وخصائص الإنسان ، سواء كان ذلك لأمر الدنيا أو كان لأمر الآخرة .
وحين يفقد الإنسان هذا أو ذاك بالكلية يفقد معنى وجوده ، فالذي ليس لديه أدنى رغبة في عمل شيء ما ، أو لديه الرغبة ولكن ليس لديه أدنى قدرة على هذا العمل ، هو كائن بلا معنى ، ولذلك فمعظم حالات الانتحار ، الانتحار الفردي أو الجماعي الأعمى ، هي من هذا القبيل .
وبالمعيار الشرعي فلا وجود لحالة لا يملك الإنسان فيها أن يعمل أي شيء .(51/3)
فالقلب ما دام حياً يصنع الكثير ، فهو منطلق الخير والصلاح وهو مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله ، وهو من الجهاد ، ( ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن ) وهو محل الإنكار ( فمن لم يستطع فبقلبه ) ، وهو موضع النية ، ومنطلق الدعاء ومكان الخشوع .
ورب دعوة صادقة لم ينطق بها فم ، ولا تحرك بها لسان ، لكنها بلغت محلها .(51/4)
حتى يغيروا ما بأنفسهم
15/10/2001
28/7/1423
هذا جزء من آية كريمة وردت بالنص ذاته في موضعين:
) الأول ( في سورة الأنفال ، وهي في مساق التغيير من الجيد إلى الرديء ؛ ذلك بأن الله لم يك مغيراً نعمةً أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم .
) والثاني ( في سورة الرعد ، حيث ذكر المعقبات قبل هذه الآية ، وذكر بعدها قوله:
( وإذا أراد الله بقوم سوءاً فلا مرد له وما لهم من دونه من وال( .
قال المفسرون : إن الله لا يسلب قوماً نعمه حتى يغيروا ما بأنفسهم فيعملوا بمعصيته .
ودون شك فإنه إذا كان التحول السلبي يتم وفق قاعدة تغيير ما بالنفوس فإن التغيير الإيجابي يكون كذلك من باب أولى .
ولعل في تواطؤ الآيتين على ذكر التغيير نحو النقص إشارة إلى أنه أسهل وأكثر حدوثاً في تاريخ البشر.
ومن هنا أطلق المفكر الجزائري الشهير ( مالك بن نبي ) مقولته : أن التاريخ يخضع لقانون النفوس .
إن كثيراً من المسلمين ، بل من خاصتهم ، يرددون هذه الآية الكريمة تبركاً بكلام الله تعالى ، وأنساً به ، لكنهم يعطلون المفعول الاجتماعي و السنني لها .
ولقد شهد تاريخ المسلمين حركات تصحيحية كثيرةً ، وطرحت مشاريع للتغيير والنهضة منذ المائة الثانية ، وإلى اليوم ، بعضها يعتمد الإصلاح السياسي ، وبعضها يعتمد الإصلاح العلمي ، وبعضها يعتمد الإصلاح التربوي والاجتماعي ، وكل ذلك داخل الإطار المرجعي الإسلامي .
كما شهدت مجتمعات المسلمين في العصور المتأخرة أنماطاً من المشاريع التغييرية الطارئة عليها البعيدة عن تاريخها ، كالمشروع الاشتراكي ، والمشروع العلماني ، والمشروع القومي .
وهذه الحركات التصحيحية ، وتلك المشاريع التغييرية قد تكون أحدثت أثراً ما ، بل لا بد أنها أحدثت أثراً ما .. لكن تظل دائماً دون مستوى طموحاتها وتطلعاتها.
فهل المسألة تعود إلى خلل في أطروحا تها العلمية والعملية ؟(52/1)
هذا ممكن بالنسبة للمشاريع الغريبة عن دين الأمة وتاريخها وثقافتها ، لأنها تحاول استنبات البذور في تربة مختلفة ، ومناخ متغير .
وهو ممكن أيضاً بالنسبة للحركات الإصلاحية التي اعتمدت منهجاً جزئياً ، ناقصاً ، فأفلحت في إصلاح جانبي كانت ترمي إليه ، ولكنها لم تفلح في تغيير واقع الأمة كلها.
وفي نظري أن هذا يمثل في جانبه الآخر نجاحاً ، أعني أن وجود أهداف واضحة محددة وقريبة وفي حدود الممكن ، ولو على المدى الطويل ، ولو في جانب معين من جوانب الحياة ، أو في رقعة معينة من الأرض ، أو شريحة خاصة من الأمة.. ثم تحقيق هذه الأهداف .. هو نجاح ظاهر ، ، لأن مرحلية التاريخ لا تطاوع طموحات الناس وتطلعاتهم ، ولأن المؤثرات متناقضة وفعالة في الوقت نفسه ، فأنت تبني وغيرك يهدم ...وهنا نسأل : متى يبلغ البنيان يوماً تمامه..؟
لكن دعونا نتأمل المشاريع الشمولية الصادقة علمياً ، والمبرمجة عملياً ...
لنرى أنها وقفت دون أهدافها، واكتفت باستبطان هذه الأهداف وجدانياً ، أو تحريك المشاعر بصوغ العبارات الجميلة ، وإزجاء الوعود العذبة.
هذا لا ينفي أبداً أنها حققت أهدافاً أخرى جانبية ، تعليمية ، أو إنسانية ، أو اجتماعية .
أظن أن المشكلة هنا ليست في الأطروحة التغييرية ، بقدر ما تكمن في عدم قابلية الأمة لمضمونها ، وفاقد الشيء لايعطيه .
الذين يطرحون مشروع الوحدة سيجدون أن الأمة منذ قرون متطاولة منقسمة على نفسها انقساماً يصعب ردمه ، وهي تختلف بشدة حول مشروع الوحدة !
والذين يطرحون مشروع التغيير الجهادي يجدون أنفسهم أحياناً في مواجهة الأمة ، وأن سهامهم قد صوبت إلى نحورها .
وهكذا ..
فلكي يحقق العلاج أثره لابد أن يكون الجسم متقبلاً و المزاج صالحاً ، وإلا فيكون الأثر بحسب ذلك .
وبحسب ذلك يمكن أن تكون المشاريع الشمولية تطلعاً مثالياً لا يلامس الواقع ، لأن الجسم الذي تتكيء عليه في تحقيقها واهن رخو .(52/2)
ولذلك صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رحى الإسلام تدور لخمس وثلاثين سنة ..
وصح عنه أن الخلافة بعده ثلاثون سنة ..
وصح عنه أنه لا يزال دينهم عزيزاً إلى اثني عشر خليفة ..
وصح عنه أن الباب يكسر فلا يغلق أبداً .. في طائفة ضخمة من النبوات الصادقة التي من شأنها أن تشكل عزاءء .. أي عزاء .
ولذا فإن إفراط المركزية حول التغيير السياسي الشامل ربما أضعف من فاعلية الخطاب الإإسلامي من جوانبه الأخرى ، الدعوية والعلمية والاجتماعية والاقتصادية ، وشكل وطأة يصعب تحقيقها ، ويصعب الخلاص منها .
وإن يكن هذا الإفراط في المركزية ـ ربما ـ وجهاً آخر للانعزالية الصوفية التي تنأى بالناس عن واقعهم ومجريات حياتهم ، وتأخذهم في المثل بعيداً بعيداً .
بينما في جانب الدعوة والإصلاح ومقاومة عوامل التيه والانحلال في الأمة تجد نصوصاً أخرى تؤكد بقاء ذلك وديمومته ، كما في روايات الطائفة المنصورة المتواترة .
وهذا المعلم المهم في السنة النبوية يلهم المتأمل جانباً من النظرة العملية الواقعية ، التي لا تحلّق في الخيال العصي على التحقيق ، ولا تركن إلى الدعة واليأس والإحباط ، وكان بين ذلك قواما .
إنه ثمت برامج كثيرة تنتهي من حيث بدأت ، وهي ترفع شعار إعادة اللحمة الإسلامية ، والحياة الإسلامية إلى الأمة كلها ، وربما تنظر من خلال شمولية الغاية إلى المشاريع الجزئية نظرة دونية .
وهنا تصدق المقولة التي مفادها أن أصحاب المشاريع التغييرية قد لا يصنعون شيئاً ، بينما من لا يحملون أي مشروع هم من يحدثون التغيير الحقيقي في المجتمع ، ولو كان بطيئاً .
والشيء الغريب أنه على رغم الطُّموح الطَّموح للتغيير الشمولي إلا أنه يبدأ عادة من خارج النفس في غالب المشاريع الإصلاحية ، حيث أعتاد الناس على تسلتيط الأضواء على ما حولهم .(52/3)
بينما النص القرآني المحكم يرشد إلى أن البداية الصادقة الجادة يجب أن تكون من داخل النفس والمفترض أن يسعى المرء في صلاح نفسه أولاً ، ثم يسعى في صلاح نفوس الآخرين ثانياً ، ليكون ذلك سبيلاً إلى تغيير ما بنا ، كما نصت الآية .
فالإصلاح يبدأ من داخل النفس ليمتد إلى المحيط حولها .
بينما عند الكثير : الإصلاح يستهدف المحيط دون أن يلامس النفس .
ولا يزال الشعور بالعزة التاريخية والمجد الأثيل يحول دون فهم الأولويات وترتيبها وضبطها.(52/4)
حتى يغيروا ما بأنفسهم
31/10/2001
15/8/1423
قضية التغيير قضية شائكة ، وعويصة ، ولكن هذا لا يعني عدم طرقها أو الخوض فيها .
والمشكلة التي تتكرر تاريخياً أن بعض الغيورين والصالحين قد يغلبهم ما يجدون من الحماس لدينهم والغيرة على دعوتهم والرغبة في الإصلاح فيندفعون مع الإخلال بشروط التمكين ، فيهلكون ويُهلكون ، وقد أشار إلى هذه الفكرة الإمام ابن خلدون في مقدمته ، إشارة الخبير العارف بأحوال الأمم ، وسنن التغيير حيث يقول ( 280- 281 ) : [ومن هذا الباب أحوال الثوار القائمين بتغيير المنكر من العامة والفقهاء ، فإن كثيراً من المنتحلين للعبادة وسلوك طرق الدين يذهبون إلى القيام على أهل الجور من الأمراء داعين إلى تغيير المنكر والنهي عنه ، والأمر بالمعروف رجاء في الثواب عليه من الله ؛ فيكثر أتباعهم والمتشبثون بهم من الغوغاء والدهماء ، ويعرضون أنفسهم في ذلك للمهالك ، وأكثرهم يهلكون في تلك السبيل مأزورين غير مأجورين ، لأن الله سبحانه لم يكتب ذلك عليهم ، وإنما أمر به حيث تكون القدرة عليه ؛ قال صلى الله عليه و سلم : ( من رأى منكم منكراً فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه ) وأحوال الملوك والدول راسخة قوية لا يزحزحها ويهدم بناءها إلا المطالبة القوية التي من ورائها عصبية القبائل والعشائر كما قدمناه .
وهكذا كان حال الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في دعوتهم إلى الله بالعشائر والعصائب ، وهم المؤيدون من الله بالكون كله لو شاء ؛ لكنه إنما أجرى الأمور على مستقر العادة والله حكيم عليم .(53/1)
فإذا ذهب أحد من الناس هذا المذهب وكان فيه محقاً قصّر به الانفراد عن العصبية ، فطاح في هوة الهلاك . وأمَّا إن كان من الملبسين بذلك في طلب الرئاسة ، فأجدر أن تعوقه العوائق وتنقطع به المهالك لأنه أمر الله لا يتم إلا برضاه وإعانته والإخلاص له والنصيحة للمسلمين ؛ ولا يشك في ذلك مسلم ، ولا يرتاب فيه ذو بصيرة ].
وهذا ما جرى فعلاً في عدد من التجارب الإسلامية المعاصرة ، التي نظرت إلى ما معها من الحق ، وما لديها من القوة ، ولكنها لم تنظر إلى ما يواجهها وينتظرها ، وما مع الآخرين وما لديهم ، فاصطدمت بصخرة الواقع الثقيل الذي يصعب تغييره على غير المتمرسين الصبورين .
هذا فضلا عن أن سنة التغيير نفسها تحتاج إلي سبر ومعرفة من خلال نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية ، وعبر التاريخ وتجاربه وأحداثه .
إنّ العناية بجانب واحد فحسب ، واعتبار أن تغييره هو الحل ، كتغيير الحاكم مثلاً ، هو تقصير في النظر واختزال للمسألة ، وإلغاء للمجتمع بأبعاده المختلفة ، فالإصلاح يتطلب تصوراً شمولياً يستهدف تربية الأمة بكل جوانبها على الإسلام وقيمه وأحكامه ، وإعداد الكوادر العلمية المتنوعة في ميادين الحياة كلها ، وممارسة التجارب العملية التي هي محك لكثير من الأفكار النظرية المجردة .
نعم . مسؤولية الحاكم خاصة وضخمة وليست تقارن بمسؤولية وتبعة آحاد الناس ، لكن هناك قوى ووسائل وتشابكات يراعيها كل أحد حتى الحاكم نفسه ، لا بد أن يضعها في اعتباره ، ويعرف كيف يتعامل معها .
والشرع وإن جاء بأصول وأحكام محددة وواضحة ، إلا أنه راعى في تحويلها إلى صورتها العملية اعتبارات الواقع وظروفه وإمكانياته ، ومن ذلك أن جميع الأحكام الشرعية مرهونة بالاستطاعة كما في قوله تعالى : ( فاتقوا الله ما استطعتم ) ، ( لا يكلف الله نفساً إلا وسعها ) ، ( .. من استطاع إليه سبيلاً )
وكما في السنة ( .. فإن لم يستطع .. ) ( صل قائماً فإن لم تستطع فقاعداً ) .(53/2)
والاستطاعة تكون للفرد وللجماعة ، وتحديد مدى وجودها من عدمه يخضع لاعتبارات كثيرة ويعتمد على الرؤية الشاملة والفهم الثاقب وإدراك متطلبات االموقف ، والفعل ، والفعل المضاد .
وبالعجز تسقط جميع الواجبات كما هو مقرر في موضعه من كلام العلماء .
لكن يبقى وجوب السعي لتدارك هذا العجز ، وعدم الركون إليه ، وفرضٌ على الأمة أن تسعى في رفع كفاءتها وقدرتها العلمية والعملية ، والمستحيل لا وجود له إلا في عقول العاجزين كما يقول بعض الحكماء .
فليس المقصود بالعجز هنا فلسفة تبرير الضعف والقعود والإخلاد ، لكن المقصود عدم الاستطاعة الذي ينتقل به المرء أو الجماعة أو الأمة من واجب إلى واجب آخر ، وليس إلى القعود والاستسلام لليأس .
وهناك قاعدة المصلحة والمفسدة الشرعية ، و فروع هذه القاعدة كثيرة ، وهي من القواعد المهمة في حياة المسلمين الللعملية ، ويقع الخلط واللبس فييها كثيراً ، بسبب سوء فهم القاعدة أو سوء فهم الواقع .
فالشرع جاء بتحصيل المصالح و تكميلها ، وتعطيل المفاسد وتقليلها ، وإذا تعارضت مصلحتان اختير أعلاهما ، وإذا تعارضت مفسدتان دفع أعلاهما ، وإذا تعارض تحصيل مصلحة أو دفع مفسدة قدم دفع المفسدة عند التساوي وعند رجحان الدفع ، و إلا رجح جلب المصلحة … وهكذا.
وبناءً على هذه القواعد السابقة وغيرها جعل الشرع للأحكام العامة مرحليات متعددة ، كالجهاد مثلاً ، يكون فرض عين ، ويكون فرض كفاية ، ويكون مأذوناً ، ويكون ممنوعاً محرماً إذا أفضى إلى مفسدة أعظم . ويكون باليد و ويكون باللسان ويكون بالقلب بحسب المقدرة العامة والخاصة .
وهكذا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، يكون باليد ، ويكون باللسان ويكون بالقلب ، وهذا مرهون بالاستطاعة كما في حديث أبي سعيد ، وهو في صحيح مسلم ، ومرهون بتحقيق المصلحة ، فلو كان مستطيعاً ، ولكنه علم وقرر أن في فعله مفسدة أعظم كان حراماً ، ولهذا قال تعالى : ( فذكر إن نفعت الذكرى ).(53/3)
وهذه الأمور وتطبيقاتها الواقعية تحتاج إلى علم بالشرع ومعرفة بالواقع كما ذكره ابن تيمية في فتواه عن المسألة التترية وتحتاج إلى كمال إخلاص وتجرد من الهوى وحظوظ النفس ، ومن التقليد للنفس أو للغير ، ولا يحسن أن يتحول الحوار حولها إلى نوع من التنابز بالألقاب ، والتراشق بالتهم ، فهذا يتهم هذا بالتهور الأرعن ، أو بطلب الدنيا ، وهذا يتهم هذا بالتخاذل أو بالجبن أو بالخور أو بطلب الدنيا أيضاً !.
بل ينبغي إيثار حسن الظن بالآخرين في نياتهم واجتهاداتهم ، وحملها على أحسن المحامل ، وهذا لا يلزم منه تصويبهم فيما يرى أنهم أخطؤا فيه ، فالحق فوق الجميع ، وقد قال بعض الأئمة : فلان عزيز ، والحق أعز منه .
ويجب دراسة هذه التجارب وغيرها من تجارب الدعوة المعاصرة وغير المعاصرة بموضوعية وإنصاف وتجرد تام لا يحمل فيه الشنآن على الظلم والحيف ( ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا ، اعدلوا هو أقرب للتقوى ) وقبلها : ( يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ) ..فتتحول المحاسن إلى عيوب .(53/4)
خطبة الجمعة رؤية تصحيحية
31/10/2001
15/8/1423
1-تمهيد :
نشتكي كثيراً من سيطرة الآخرين على الإعلام ، وهذا صحيح ، بَيْدَ أنه ليس كلَّ الحقيقة ؛ لأن هذه السيطرة هي أحد أخطائنا الاستراتيجية العَصِيَّةِ على العلاج. أما الشِّقُ الآخرُ من الحقيقة فهو أن الميدان الذي نملكه واسع أيضاً ، ولكنا أخفقنا في استثماره لأسباب كثيرة .
فنحن -أحياناً- نشعر بأنه لا منافسَ لنا ، فنتحرك ببطء شديد ، وأحيانا نشعر بأن الدائرة تضيق علينا؛ فنهرب إلى معادلة شديدة الاستحالة ، وهي: إن ما نملكه لا قيمة له ، والشيء القيم لانستطيعه .
وبين هذا وذاك يخلد المرء إلى التبعيّة والتقليد والمحاكاة ، ويضم إلى ورد الصباح : ليس في الإمكان أبدع مما كان .
لقد تحسن الأمر كثيراً ، فلقد كان الخطباء يرددون خطب ابن نباتة المصري حتى وقت قريب !
والحق أن سندنا الأقوى هنا هو الدين .
نعم . الدين الذي ساق هذه الملايين إلى ساحة الخطبة طوعاً واختياراً .
والدين الذي استنصتهم ، وكاشفهم أن من مس الحصى فقد لغا ، ومن لغا فلا جمعة له .
والدين الذي هو اللغة المشتركة بيننا وبينهم ، فبسمه نتحدث وبسمه يستمعون
فإذا أحسنا التعامل مع قضاياه وحقائقه أمسكنا بالزمام ، وإلا فسيكون الضعف من حيث كانت القوة .
2-المضمون :
وهذا يقود إلى جوهر الموضوع .
فحجر الزاوية هو حسن اختيار موضوع الحديث ، وطول التفكير فيه ، ليكون قادراً على المواءمة بين مطالب الشرع ، وحاجات الواقع ، وتطلعات المستقبل .
إن التوفيق في اختيار الموضوع بحد ذاته ، نجاح حتى لو حدث نقص في تغطيته .
والاتكاء على مُحْكمات الشرع ومُجْملاته أليق وأوفق ، فالحديث عن الله وكمالاته ، ونعمه وأعطياته ، والقرآن وفتوحاته ، والرسول وكراماته ، ثم الإيمان وأركانه ، والإسلام وأعلامه ، والإحسان وبيانه ..(54/1)
وتأييد ذلك ببديع القول، ولطيف الإشارة ، ومساق المثل ، وأعجوبة القصة ، وبليغ الشعر، ومكتشف العلم الحديث ، وعبرة التاريخ .
مراعىً في ذلك المقصود الأسمى في تحريك القلوب ، وتصفية العقول ، وضبط السيرة .. دون إيغال في جدليات لا تناسب المقام ، أو تذهب ببهجة الكلام . أما تفصيلات الأحكام فلها حيزها المحدود ، فلا تستأثر بالأمر ، ولا يخرج الحديث إلى تشقيق مفرط ، أو تشهير محبط ، أو محاكمة بين الأقران ، أو تهديد بلاهب النيران .
اللهم إلا إذا جاء الحديث عن قطعيات ومحكمات ، من واجبات أو محرمات ؛ فهناك يكون الاقتداء بمنهج القرآن في الوعد والوعيد .
وأيُّ تَثْريبٍ على خطيب يأمر بالصلاة والزكاة ، أو ببر الوالدين وصلة الأرحام ، أو بالإحسان إلى الجيران ، أن يشفع حديثه بوعد صدق للعاملين ، وجنة عرضها السماوات والأرض، أعدت للمتقين ؟!
أم أيُّ تثريبٍ على خطيبٍ ينهى عن الشرك وأسبابه ، أو العقوق ، أو بخس الحقوق ، أو فواحش الأخلاق ، أو محكمات المنهيات في الشريعة أن يَزَعَ النفوس بوعيد ترجف له القلوب ، وتصطك له الأسماع ؟
ولعل هذا وذاك خير من عزل الوعد والوعيد عن أسبابها ، وإفرادهما إفراداً يرسل النفوس مع رجاء ، أو يقطعها من خوف .
أما مواطن الاختلاف، وتعارك الأسلاف ، فحقيق بمن مرّ عليها أن يمر مرور الكرام ، عارضاً لكل أحد حجته ، ملتمساً عذره ، غير مهدّدٍ ولا متوعد.
على أن الأمر كله في ذلك موصول بكل جديد، ومستفيدٌ من عبر الزمان وأحواله وتقلباته ، ومن شهادة الواقع ومعاناته ، ومن فتوح العلم ومنجزاته .
ثم إن حاجات الواقع أوسع من ذلك وأفسح .
فقضايا الاجتماع ، والعلاقات الاجتماعية بمداراتها المختلفة وتشعباتها ومشكلاتها- حقيقة بالنظر الإصلاحي العميق .
ومثلها قضايا الاقتصاد وتطوراته وشؤونه وميادينه .. والفقر والبطالة وآثارها ... ومعيار طلب الدنيا وطلب والآخرة .(54/2)
وهكذا الشأن في مسائل الإعلام ووسائله ، وخيره وشره ، وحلوه ومره .
ثم أمور السياسة: مداراتها، واتجاهاتها، وخطئها وصوابها ، ثم منجزات العلم في كل الميادين ، من طب ، وصناعة ، وفلك ، وتربية ، وإدارة ، وحاسب ، واتصال ...
وهذه البنود شديدة اللصوق بحياة الناس الأسرية والفكرية ، ولذا فهم شديدو التعلق بطرقها ، متى كان الطارق حاذقاً ، والمحلّ موافقاً والحال مواتيا .
يظن البعض أن خوض السياسة هو وحده الذي يكسب الخطيب تألقه ، ويحشد حوله الناس .
والصواب أن ا لمممموضوع الحي ، والتناول السديد ، ورشاقة الأسلوب ، وجودة الإلقاء ، وحسن الانتقال .. هي ضمانات الإبداع ، ومحققات الالتماع ، وجالبات الاستماع .
وكم من واعظٍ بضاعته التبشير والتخويف ، تحتشد حوله ألوف بعد ألوف !
وكم من فقيهٍ متحدث في الحلال والحرام .. والناس حوله فئام إثر فئام !
وكم من مفسّر .. ومفكّر .. ومنظّر .. وما شأن برامج الإذاعة والتلفزة عنا ببعيد !
أيُّ معنى لخطيب يتحدث في الزنا والفاحشة، ولا يعرّج على الإيدز وإحصائياته المذهلة ، ونظائره من الأمراض الجنسية !
وأيُّ معنى لخطيب يتكلم في النكاح، والطلاق، ولا يعرّج على أثر الإعلام والمسلسلات الرومانسية، والروايات الغرامية ، ولا يستشهد بالإحصاءات والأرقام ، ويذكر كل ذلك بلسان العارف الخبير المطّلع ، لا بلسان الناقل المتلقف المتخطّف !
وأيُّ معنى لخطيب يتحدث عن الإعلام ، ثم يجمل الحديث عن الإنترنت ووسائل الاتصال باعتبارها رجساً من عمل الشيطان ، أو شراً محضاً ينبغي محاربته ونبذه !
إن ثقافة الخطيب الشخصية ذات أثر بعيد في نجاحه ، ويفترض أن ما يلقيه المتحدث في موضوعه لا يتجاوز 10% مما قرأه حول الموضوع.(54/3)
و حين تتناول هذا الموضوع، أو ذاك، فتذكرْ أن في مستمعيك من يفوقك - ولو في موضوع خاص – فجاهد نفسك في الدقة العلمية ، وإصابة المرمى ، وإن أعوزك الأمر فلُذْ بتعميم العبارة ، وتوسيع الإشارة ، وحاذر من حكاية الأوهام ، بحجة أنك لست في باب الحلال والحرام ، فإنك تخسر بذلك كل يومٍ فئةً تدري أن ما تحكيه ليس بصواب، فتنجفل إلى الباب !
و أَقْمِنْ بالخطيب – والحديث يجر بعضُه بعضاً – ألا يصغي بأُذُنِهِ لخبر محتمل ، أو رواية مترددة ، أو ظن أو تخمين ، حتى يعلم علم اليقين !
وما أحراه أن ينأى بنفسه عن الحديث عن الأشخاص، والأعيان تصريحاً أو تلميحاً !
وما أجدره أن يجانب لغة السب والتقريع والتوبيخ ، ورديء القول ، وشنيع المقال ؛ فالعفة من الإيمان ، والبذاءة في النار .
وليكن في وارد البال أنه كلما كان الموضوع أكثر تحديداً – في هذا الباب – وأكثر دقة ، وأبعد عن التعميم كان ذلك أدعى لسهولة الإعداد ، وأيسر لتحقيق المراد ، وأقرب إلى الفهم ، وأوضح في الحكم .
ومن تناول الموضوع بعموميته حام حوله ، ولم يُصِبْ كَبِدَهُ .
ولأن هذه المسائل مترابطة بسنة الحياة ، فليس بِبِدْعٍ من القول أن تتناول الخطبة الواحدة عدداً منها من جوانب شتى .
إذ لا يمكن فصل موضوع الزواج عن باب الاقتصاد ، ولا عن باب الإعلام ، ولا عن مبتكرات العلم الحديث ، فضلاً عن الوعد والوعيد ، والقرآن والحديث .
أما عن تطلعات المستقبل فالقاعدة فيها النظر إلى مستقبل الإنسانية: علماً، وفكراً، وسياسة، واقتصاداً ، إذ المسلمون جزء من هذا العالم لا يملكون عَزْلَ أنفسهم عنه بحال ، فهم به متأثرون كثيراً ، ومؤثرون قليلاً ، بل نادراً ، والله المستعان .
ولكن استراتيجيات الدعوة، وخططها وطموحات أهلها مربوطة بهذا الأفق الواسع الكبير ، ولا ينجح في الفِلاحة من لا يعرف طبيعة الأرض.(54/4)
ثم هناك ، بعد هذا وذاك ، مستقبل الإسلام والمسلمين ، والدعوة والدعاة، وقدرتهم على إدارة الحياة، وتوجيهها وفق شريعة الحق والعدل .
وهذه المناحي الثلاثة تحتاج من الخطيب الحاذق لَمَسَاتٍ واعيةً ، ونَفَثَاتٍ هاديةٍ ، وتأصيلاً بديعاً ، وترسيماً رفيعاً ، يصل الأمس باليوم ، واليوم بالغد ، ويستشرف أفق المستقبل الواعد ، ما أعيت الحيلة فيه في الحالِ الحالّ ، من غير هروبٍ ، ولا مجازفة ، ولا تخدير .
مع محاذرة التوقعات المحدّدة ، والتخوفات المردّدة ، والآمال الكِذاب ، والأحلام العِذاب .
ولقد أصبح المستقبل، ودراساته علماً قائماً بذاته ، له مدارسه ومراكزه ومؤسساته ، وله متخصصوه، وكتّابه ومؤلفاته ، وهو كالنتيجة للمقدمة ، والثمرة للسبب ، والأثر للمؤثر ، وإن كان الظن يصدق ويكذب .
وأَعْلَمُ ما في اليومِ والأَمْسِ قبله **** ولكنَّني عن علمِ ما في غدٍ عَمِي
هذه وَقَفَاتٌ سريعةٌ غيرُ مفقَّطةٍ ولامُنَقَّطَةٍ حول مضمون الخطبة وموضوعها وفحواها ومعناها .
ويستتم الحديث بحوله تعالى حول إطارها ومبناها ، ومبدئها ومنتهاها ، وأسلوبها وشكلها وطريقتها ، وهو ما عسى أن يكون ميداناً آخر لبعض الحديث .(54/5)
خطبة الجمعة رؤية تصحيحية
15/10/2001
28/7/1423
اللغة والأسلوب وطريقة التعبير ، سواءٌ أكانت لفظية منطوقة ، أم كتابية مسطرة، هي وعاءٌ للحقائق والمعلومات، والأفكار التي تحملها .
ودون شك فإن المضمون الجميل ، حقه أن يُقَدَّم في قالب جميل يليق به ، ولذلك قال بعض المفكرين : إن الطريقة التي تقدم بها الفكرة هي جزء من الفكرة ذاتها .
وهذا صحيح .
ولعل جزءاً منه يتبين في مثل صفة الرسول- صلى الله عليه وسلم- حال الخطبة ، ففي صحيح مسلم من حديث جابر بن عبدالله أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا خطب احمَرّت عيناه ، وعلا صوتُهُ ، واشتد غضبُهُ حتى كأنّه منذرُ جيش ، يقول: صبّحكم ومسّاكم ، ويقول : ( بُعِثْتُ أنا والساعةَ كهاتين ، ويَقْرِنُ بين إصبعيه: السبابةِ والوُسطى ، ويقول : أما بعد ؛ فإن خيَر الحديثِ كتابُ الله ، وخيرَ الهدي هديُ محمد . وشرُّ الأمور محدثاتُها , وكلُّ بدعةٍ ضلالةٌ ، ثم يقول : أنا أولى بكل مؤمنٍ من نفسه .من ترك مالاً فلأهله ، ومن ترك ديْناً أو ضياعاً فإليَّ وعليَّ ( .
فحين كان صلى الله عليه وسلم يتكلم عن أمر التخويف والتحذير ؛ كان هذا يبدو على قسمات وجهه ، ونبرات صوته ، من غير تكلف ،ولا تعمّل .
وحين انتقل إلى تقريب الساعة وبيانها استخدم صلى الله عليه وسلم ، صيغة عملية ملفتة ، وهي الجمع بين إصبعيه ، حتى يضم إلى الدِّلالة اللفظية إيضاحاً عملياً مشهوداً يستقر في الذهن .
وحين تدرّج إلى ذكر بعض النتائج والفوائد جاءت على صيغة فَقَراتٍ مفصولة موجزة ، يأخذ بعضها بِزِمامِ بعض ، وتنطلق إلى أذن السامع كأنها حبَّاتُ عِقْد نظيم .
وحين ختم بقوله ( أنا أولى بكل مؤمن من نفسه ... الخ ) كان من الواضح أن اللهجة قد هدأت وأن الدورةَ الطبيعيةَ للحديث قد بلغتْ نهايتَها .(55/1)
ولذلك قال النووي تعليقاً على هذا الحديث ( 6/156) " يُسْتَدَلُّ به على أنه يُستحبُّ للخطيب أن يُفَخِّم أمرَ الُخطبةِ ، ويرفعَ صوتَهُ ، ويَجْزُلَ كلامُهُ ، ويكونَ مطابقاً للفصل الذي يتكلم فيه من ترغيب ،أو ترهيب، ولعل اشتداد غضبه كان عند إنذاره أمراً عظيماً ، وتحذيره خَطَْْبًا جسيمًا .. " .
إن تعبير " السحر " الوارد في حديث جابر بن سمرة في مسلم تلخيص دقيق لمهمة " البيان " ، فهو يَسْبي العقولَ ، ويأخذُ بالألبابِ ، ويُطْرِبُ الآذانَ ، ويُحَرِّكُ المشاعرَ ، ويُبَدِّلُ القناعاتِ ، ويصنَعُ العجائبَ .
ولذا فإن الحس الأدبي المرهف ، والذوق الرفيع من أسباب النجاح والتوفيق في الخطاب ، خطبةً كان ، أو مقالةً ، أو شيئاً آخر .
ورُبَّ أسلوبٍ راقٍ كان مرافعةً ناجحة عن قضية من قضايا المُبْطِلين . ورُبَّ أسلوبٍ ضعيفٍ متهالكٍ كان جِنايةً على فِكْرَةٍ عظيمةٍ نبيلةٍ .
والذي يحدث –أحيانًا- أنّ مَنْ يتشبعُ بنظرٍ صحيح يُخيَّل إليه أن صواب الحجج العقلية والنقلية التي يملكها يُعفيه من إخراجها في القالب الأدبي الشاعري الآسر .
والحقُّ أنَّ عليه أنْ يدرك أنَّ جودةَ العرضِ ، وحسنَ الصياغةِ ، وملائمةَ الخطابِ اللفظي يُضْفِي على نَصَاعَةِ الحجة مزيداً من القوة والإقناع والتأثير .
ثم إن سَعَةَ الأُفُقِ ، كما تكون في شمولية الفكرة ، وتناسُبِها مع قِطاعٍ عريضٍ من الناس ، تكون –أيضًا- في شمولية الأُسلوبِ ، وخروجِهِ عن الإطار الخاص .
إن الخطيب الذي يستحضر أنه يخاطب الأمة ممثلة في هذه المجموعة المُصِيخَةِ له ، يبني جسوراً قوية عابرة إلى تقارب الأمة بعضِهها مع بعض ، بشرائحها وفئاتها وشعوبها .
والذي يختزل هذه الفئة ويستلها ثم يخاطبها خطاباً خصوصياً مستديماً .. قد ينساق – من حيث يدري أو لا يدري – إلى نقيض ذلك ، فيعمّق الفوارق بين فئات الأمة .(55/2)
ولو أن الفوارق كانت تميزاً لفئة بمزيد فهم ، أو علمٍ ، أو عملٍ .. أو مَزِيَّةٍ شرعيةٍ ، فإن الأمرَ- حينئذ- صائبٌ لا عَتْب فيه ، فكل فئة تنقل من حيث هي، إلى ما هو أرقى وأنقى وأبقى .
أما حين تكون تلك الفوارق مناطقية أو إقليمية أو مصطنعةً فترسيخها ترسيخ للفرقة بين المؤمنين .
واللغة جزء من ذلك ، فالاتكاء على لهجة خاصةٍ ، والحفاوة بمصطلحاتها ، ومفرداتها ، وأمثالها ، وتراكماتها .. يحول دون شمولية المعالجة ، وسَعَةِ الطرح ، وامتداد التواصل .
واللغة الفصحى السهلة ، البعيدة عن التقعر والإغراب ، هي القالب اللائق بالخطبة التي يسمعها جمهور عامٌ ، فلا يترقى الخطيب إلى لغة المعاجم والقواميس ، التي تحجب ا لفكرة عن سامعه ، ولا ينحط إلى لغة السوق المبتذلة التي تُزْهِدُ الناسَ فيما لديه ، أو تَصْرِفُهم عنه ، ولا يمنع هذا وذاك من الإحماض بين الفيْنة والأخرى بلفتةٍٍ عابرةٍ مفهومة تربط الفلاّح بالخطبة ، وتشدّه إلى معناها ، أو أخرى لذي اختصاصٍ تبهَرُهُ وتُزَكِّي فهمَهُ .
ولأن الخطبة عادةٌ تتكرر ، وشريعةٌ تنتظم ، ودأْبٌ يدوم ، فإنه يجمل بالخطيب أن يقتدي بهدي القرآن العظيم في تصريف الآيات ، وتنويع العِبَر، واستشراف الإبداع ، وأن يُعطِيَ لِخُطبته عُصارةَ جُهْده ، وخُلاصةَ كَدِّه .
فالوقت الكافي الذي يصرفه في إعداد مادتها ، وصياغتها ، ومراجعتها ، وتقليب النظر فيها ، سيجعل منها مادةً دَسِمَةً غنية ثريةً ، وسيشعر المستمع – لا محالة – أنه محل الاحترام والتقدير ، حين استفرغ المتحدث جُهْدَهُ لأجله ، فقدَّم له هذه المادة المنتقاة المرتبة ، إنها ليست سُلالَةً من كتاب ، ولا ارتجالاً مُرْتَبِكًا من غيرتَأَهُّلٍ ، ولا تسديدَ فراغٍ ، ولا عِبْئًا يتطلع صاحبه إلى الخلاص منه .(55/3)
فذلك الخطيب الحاذق .. اختار محامِدَهُ التي استهل بها حديثه بعناية ظاهرة ، ونوّع فيها ، وناسَبَ بينها وبين موضوع خُطبته ، واستبعد منها كل وَحْشِيٍّ في اللفظ أو في المعنى ، وحلاّها بدُرٍّ نظيم ، من قبَسَاتِ الهدي الكريم ، ولم يُطِلْ فَيُمِلَّ ، ولم يقصّرْ فيُخِلَّ ، ولم يكرر تكراراً يبعث على السآمة ، ولم يُغْرِب إغراباً يجرُّ إلى الملامة .
وربما ركن بين الفيْنة والفيْنة إلى الاستفتاح بخُطبة الحاجة ، أو خُطبة النِّكاح – كما سماها بعض المصنفين والشراح - دون التزامٍ صارم بها .
فلقد وردت بها السنة في حديث جابر في مسلم ، وفي سواه من الأحاديث ، بيد أن هذا لا يعني أن ثمَّةَ التزاماً صارماً لا يتخلف بل إنّ ألفاظها ذاتها تختلف بين رواية وأخرى ، وقارن مثلاً حديث جابر المنوه عنه سابقاً ، بحديث ساقه مسلم إلى جواره عن ابن عباس- رضي الله عنهما- في قصته ضماد .
وبعض أهل العلم قصرها على مجلس عَقْد النكاح ، ولكن هذا ما لا يسعفه الدليل .
وقد جاء في صحيح السنة صيغ مختلفة لدعاء الاستفتاح في الصلاة ، وهو مما يتلوه المرء في سرّه ، فيكون أشدّ عليه إقبالاً ، وأكثر استحضاراً ، فما بالك فيمن يسمعه غيره ؟
فلتكن فقراتٍ صالحةً معتدلة منوعة ، ومن دون التزام صارمٍ بنوع منها يستلّ من المستمِع المتوِّثب روحَ التطلع والتوقع ، ليمنحه عِوَضاً عنه الإخلاد والاسترسال وراء هواجس النفس وشواغلها . ولتكنِ الخطبةُ كلُّها قصداً ، لا تهويلَ ولا تطويلَ ، ولا ابتسارَ ولا اختصارَ ، ولكنْ قصدٌ عدلٌ ، كما كانت خطبة محمد -صلى الله عليه وسلم- قصداً ، وصلاته قصداً ، كما في حديث جابر بن سمرة عند مسلم وغيره .
وليتخير من جوامع الدعاء المأثور ما يليق بالحال والمقََام والموضوع ، دون اعتداءٍ ولا إفراط ، فإن الله لا يحب المعتدين ، ويتلوه بتخشُّع وتضَرُّع، وحضورِ قلب وابتهال ، فهي ساعة إجابةٍ يُرجى أن تفتح لدعوته فيها أبوابُ السماء .(55/4)
وليتجنبِ السجعَ المتكلَّفَ في دعائه وخطبته ؛ فإنه مذموم ، إلا ما جاء منه عفواً دون عناء ، وفي الحديث المتفق عليه عن متكلِّفِ السجعِ أنه من إخوان الكهان .
ولا أعرف على التحديد سبباً وجيهاً لتجنب الخطباء الشعرَ جملةً وتفصيلًا .
نعم . لا يصلح أن تتحول الخطبة إلى أمسية شعرية ، ولا أن يكون الغالب عليها الشعر ، لكن بيت أو بيتان تسوقهما المناسبة ، فيهما من التنويع والجاذبية الكثير ، ولقد كان صلى الله عليه وسلم يستزيد من الشريد بن سويد كما في صحيح مسلم ، ويقول له : هل معك من شعر أميةَ بنِ أبي الصَّلْتِ شيءٌ؟ قال : فأنشدته مائة قافية ( يعني مائة بيت أو مائة قصيدة ) والتوسط في هذا وغيره مطلوب وكلُّ شيءٍ في إبَّانِهِ حسنٌ ، وإنَّ منَ الشعرِ لحكمةًّ .(55/5)
فقه الموقف
22/12/2001
7/10/1423
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه .. أما بعد ،
فإن هذه الشريعة الخاتمة التي بعث بها محمد صلى الله عليه وسلم مبنيةٌ على قاعدة تحقيق المصالح ودرء المفاسد ، وهذا أصل مقادها وقواعدها عند سائر أئمة العلم والدين بل هذا أصل مقاصد الشرائع والرسالات السماوية جميعاً .
وخير المصالح وأجلها تحقيق التوحيد ، وشر المفاسد وأعظمها الشرك والكفر بالله .
وهذه الشريعة الخاتمة هي أقوم الشرائع في تحقيق هذا الاعتبار ، ولهذا فإن سائر أحكامها الخاصة والعامة اللازمة والمتعدية في العبادات والمعاملات والعقود والعهود جاءت على هذا النسق .
ومن هنا كان التفقه في الدين من أخص أبواب الخير ، وأشرف مقامات الاتباع لهدي المرسلين عليهم الصلاة والسلام .
ولابدّ للأمة من قائمين بهذا الأصل الذي هو معرفة أحكام الشريعة ومقاصدها لتحقيق العبودية لله بما شرع وليقوم الناس بالقسط ، فالالتفات إلى تحقيق مناط الأحكام والتصورات التي يعتبرها القائمون في هذه الأمة بتقرير مسائل الشريعة ، واستعمال الفقه في النوازل والحوادث التي تتعلق بحقوق الأمة كافةً هو من حفظ مقام الديانة ، وحفظ الدماء والأعراض والأموال ، ومنع الفساد في الأرض ، واستعمال الفقه في هذا الباب له اختصاص بمقام العلم ، والقول فيه بلا علم هو من موجبات الفساد وأسباب ظهور البغي والعدوان .
وهذا حديث موجز في فقه الموقف من الأحداث والنوازل الكبار للأمة نعرضه من خلال النقاط التالية :
1ـ يستعمل لفظ الفقه في دوائر التخصص بمعنى فقه أحكام المسائل التفصيلية من العبادات أو المعاملات وهي المسائل التي تكلم الفقهاء في أحكامها وأدلتها سواء كانت من معاقد الاتفاق وموارد الإجماع ، أو كانت من مسائل الخلاف بين الأئمة والفقهاء ، وهذا لاشك أنه من الفقه في الشريعة ولكنه ليس كلَّ الشريعة ولا كلَّ الفقه .(56/1)
ولا جدال في اعتبار هذا اللون من الفقه ولا في فضله ، بل الشأن في قصر قاعدة الفقه ونظامه عليه .
فحين يكون النظر في مسألة خاصة من آحاد مسائل الفروع ، وربما كانت عند التحقيق مما وسّع الشارع فيه ، وقد لا يكون فيها سنة ، وقد تكون دائرةً في باب الندبِ ، أو مترددةً بين الندب والإباحة ، أو بين الإباحة والكراهةِ ، أو حتى بين الكراهة والتحريمِ ، أو الصحة والفساد .
فإن هذه المسائلَ تضل مقصورةً على محلها ولا يتعدى حكمها إلى التعلق بما هو من ثوابت الشريعة وقواعدها ، وحقوق الأمةِ العامة ومصالحها .
ومع هذا ترى في مثل هذه المسائل عنايةً لدى الناظرين من الشيوخ والطلبة المتفقهين ، وتجد سبر الأدلة وتحقيقها وجمع الأقوال وتحصيل الراجح وإطالة النظر في اعتبار الحكم وتحقيق مناطه ، وترى من ليس من أهل الاختصاص بهذا العلم يقع له هيبةٌ وإحجام عن القول فيها لما يوجبه ذلك من الافتيات على الشريعة .
وهذه لاشك حال فاضلة ، وإذا تحقق باعتدال وقصد فهو من تعظيم مقام الشريعة ، ولهذا يذم من قصر فيه من أهل الطلب ممن يستعجل القول في الأحكام والفصل في الخلاف .
لكن ما هو أولى بالذم من هذا ما يعرض لبعض الناظرين والطالبين ممن يتخوض في تقرير أحكام النوازل وبناء المواقف على اعتبارات شرعية ، وهو لم يحقق ما تقتضيه أصولها وقواعدها من الفقه والاستنباط مع أنها قد تكون مواقف تعد بحق فواصلَ في تاريخ الأمةِ .(56/2)
إن من نقص الفقه في دين الله أن يصير الناظر أو المتكلم إلى مسألة مفصلةٍ قد جمع العلماء حكمها ودليلها وقاصيها ودانيها ، فيمعن النظر ويطيل النفس في التحصيل ، وربما تكلف بعضهم فوق قدر المسألة عند العلماء ، لكنه حين يصير إلى قول في موقف أو قضية عامة مركبةٍ معقدةٍ يأخذها بظاهر من النظر ، وقليلٍ من الاعتبار ، ويهجم عليها بلا تردد ولا روية ، حتى إن قضايا النوازل تصبح مادةً لحديث كل أحدٍ : في أسبابها ومفاصلها ومآلاتها ، ويصدق هنا قول ابن عمر رضي الله عنهما لبعض أهل العراق : ما أسألَكم عن الصغيرة وأجرأكم على الكبيرة .
والغريب أن مسائل النوازل حين تكون من جنس المسائل المفصلة التي تكلم فيها الفقهاء لا يقع فيها استعجال في الغالب لتجردها عن المقارنات العامة ، ولقرب شبهها بالمسائل المفصلة المعروفة عند الفقهاء .
لكن حين تكون النازلة حدثاً عاماً ،وتكون مادتها مركبةً من مؤثرات شتى فكأن هذه المؤثرات جردت عنها هيبة الشريعة فيصير القول فيها عند العامة وبعض الخاصة من جنس القول في المسائل المبنية على توسعة الشريعة وبحبوحتها والتي يدرك فقهها جمهور أهل الإسلام ويفوت على هؤلاء ما يقتضية الموقف من الأثر المتعلق بحقوق الأمة الكلية وضروراتها التي جاءت الشريعة بحفظها وتحصيلها .
إن الموقف هنا يجب أن يكون محصلاً من أدلة الشريعة بحق ، مبنياً على قواعد الهدى والرحمة التي بعث بها عليه الصلاة والسلام .
في الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال : "لما حصر رسول الله صلى الله عليه وسلم الطائف فلم ينل منهم شيئاً قال : ( إنا قافلون غداً إن شاء الله ) فثقل عليهم وقالوا : نذهب ولا نفتحه ، فقال اغدوا على القتال فغدوا فأصابهم جراح فقال : (إنا قافلون غداً إن شاء الله ) فأعجبهم ، فضحك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفي لفظ "فتبسم" .(56/3)
وفي هذا الحديث من الفقه أن بعض النفوس المؤمنة لصدق يقينها تتطلب مقام الصبر والبلاء في ذات الله ولا يلزم أن يكون هذا الأمر مقصوداً للشريعة ، ومعلومٌ أن الرسول صلى الله عليه وسلم أكمل تحقيقاً لمقام الجهاد والصبر والصدق من غيره لكن لكمال علمه لم تغلب عليه حال واحدة ، بل واءم ووازن بين الأحوال المقارنة للموقف ، فراعى مصلحة الجهاد وراعى حق أصحابه رضي الله عنهم وراز قوتهم وتحملهم في هذا الموقف الخاص .
إن الكثير من الحوادث والنوازل يكون لها أبعاد قريبة يدركها كل أحد ، ويتكلم فيها العالم وغيره ، وهذه من الوضوح والإحكام بحيث لا تكون محل تردد ، لكنها لا تستأثر بالحكم والبت ؛ لأن ثمة جوانب أخرى ترفع المسألة عن كونها من الفرعيات اليسيرة ، وتتطلب أن يلزم المسلم جانب التحوط والهيبة والورع حماية لدينة وتقواه ، ورعاية لحقوق الأمة ومصالحها وحاضرها ومستقبلها ... وللحديث بقية(56/4)
فقه الموقف
28/12/2001
13/10/1423
حقيقة الاجتهاد في النوازل هو رد حكم النازلة إلى قضاء الله ورسوله وهذا مقامٌ يختص بتمام الفقه فيه أهل العلم بالشريعة ، وقد تستدعي كثير من النوازل العلم بما يلابسها ويقارنها من الأحوال التي لا تنفك عنها ، فالحكم على الشيء فرع عن تصوره وهذه من قواعد النظر المسلمة .
ومن هنا فإن تجريد الحدث عن لوازمه وارتباطاته من المعارف والأحوال يُعد نقصاً في التصور ينتج عنه تأخر الحكم عن مرتبة الصحة ، ومما يعرض لبعض الناظرين استعمالُ ما هو من مفصل الأدلة ؛لتخريج النازلة على أحد الفروع المقولة لدى الفقهاء في مصنفاتهم ، وهذا من حيث الأصل هو من الاجتهاد المناسب ، لكن محل المؤاخذة حين يستعمل في حكم الحوادث العامة المعقدة والتي تتنازعها مؤثرات وموادُ عديدة فيجردها الناظرُ من كل ذلك ويُخرجُها مع فرع فقهي مخصوص وربما كان من موارد الخلاف بين الفقهاء ثم يجعل هذا منتهى البحث والنظر .
ولعل هذا أثرٌ للقصور عن تحصيل فقه المقاصد ومراعاته في اعتبار الأحكام ، ومن هنا فإنه وإن حسن اعتبار الفروع والتخريج على المناسب منها في النوازل فإنه لا بد مع ذلك من اعتبار قواعد الشريعة وأصولها المذكورة في كلام الله ورسوله ومعاقد إجماع أهل العلم .
بل يتحقق لكل عارفٍ أن الاعتبار الثاني أصل في أحكام النوازل العامة والاجتهاد فيها .
ولهذا ترى في سنة الخلفاء الراشدين وأئمة الفقه والحديث العناية بتحقيق هذا الاعتبار فيما يعرض لهم من النوازل .(57/1)
ففي الصحيح عن ابن عباس أن عمر بن الخطاب خرج إلى الشام حتى إذا كان بسرغ لقيه أهل الأجناد أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه ، فأخبروه أن الوباء قد وقع بالشام . قال ابن عباس : فقال عمر : ادع لي المهاجرين الأولين فدعوتهم ، فاستشارهم واخبرهم أن الوباء قد وقع بالشام فاختلفوا ، فقال بعضهم : قد خرجت لأمر ولا نرى أن ترجع عنه . وقال بعضهم : معك بقية الناس وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نرى أن نقدمهم على هذا الوباء . فقال : ارتفعوا عني ثم قال : أدع لي الأنصار فدعوتهم له ، فاستشارهم فسلكوا سبيل المهاجرين ، واختلفوا كاختلافهم . فقال ارتفعوا عني ثم قال : أدع لي من كان ها هنا من مشيخة قريش من مهاجرة الفتح ، فدعوتهم فلم يختلف عليه رجلان ، فقالوا : نرى أن ترجع بالناس ولا تقدمهم على هذا الوباء .
فنادى عمر في الناس إني مصبح على ظهر فأصبحوا عليه . فقال أبو عبيدة بن الجراح : إفراراً من قدر الله ؟
فقال عمر : لو غيرك قالها يا أبا عبيدة ـ وكان عمر يكره خلافه ـ نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله .
وقد صّدقت رواية عبد الرحمن بن عوف المرفوعة هذا الاجتهاد الراشدي وفي هذا الأثر من الفقه : أخذ أمور العامة بعزمٍ وتأمل ومراجعة ، وفيه قبول اختلاف المجتهدين في النوازل فإن المهاجرين والأنصار وهم مادة الصحابة ومقدموهم اختلفوا ، ولم يحفظ بينهم في هذا الاختلاف تذامٌ ولا تطاعن ولا تضييق لمقام الاجتهاد .
وكأن أهل الشوكة والصبر فيهم كانوا يميلون إلى المضي وعدم الرجوع ، وأهل الفقه في الجملة يميلون إلى الرجوع ، وهؤلاء أعرف بمقام الشريعة ، والأولون غلب عليهم تعظيم مقام الإرادة والعزم .
وفيه ترك الرهق الذي لا يستطاع وعدم ابتلاء بقية أهل العلم والإيمان والجهاد به ، وقريب من هذا المعنى سبق في خبر حصار الطائف .(57/2)
وهذا الأثر وأمثاله ، يدلُ على أن تحصيل الموقف الشرعي لابد أن يتحقق في صاحبه ديانةٌ وعلمٌ وفقه وأناة ؛ فإن مقام الديانة يدفع الظلم ، ومقام العلم يدفع الجهل ، وهما موجبا الخطأ ، قال الله تعالى : [ إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبيين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً ] .
والقول في مواقف الأمة من أعظم الأمانة التي تنوء بحملها الجبال ، وإن من تقوى القلوب ألا يتحدث في المواقف العامة من لم يزن قوله بميزان الشريعية كما في قوله تعالى : [ إلا من شهد بالحق وهم يعلمون .. ] قال غير واحد : الحق : الصدق .
إنه لا يكفي لموافقه الشريعة أن يكون الموقف مبنياً على مقام الصدق وحسن الإرادة دون أن يتحقق له مقام العلم والمعرفة ؛ فإن مقام العلم هو الذي يحقق موافقة مراد الشريعة وليس مقام الصدق .
ولهذا أمر الله تعالى باعتبار العلم عند الحوادث والنوازل كما قال سبحانه : [ وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به و لو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ) وألو الأمر هم أولوا الفقه في الدين وهم أولوا العقل والفهم كما ذكره ابن جرير عن بعض متقدمي العلماء .
إن مما يفوت كثيراً من عامة المسلمين وبعض خاصتهم عدم تحقيق الرد إلى الله والرسول ، ولئن كان مظنوناً في جملتهم حسن القصد وصلاح النية في المواقف التي يتخذونها في حاضر الأمة وغابرها ، وهذا من فضل الله ورحمته ، إلا أن التقصير في تحقيق العلم والفقه ونقص قيمة الوعي وسلامة التفكير هو من موارد الفتنة وموجبات الفساد .(57/3)
ومن له حظ من العلم والاجتهاد في تقرير أحكام الشريعة في هذه النوازل لا يصلح أن يكون فقهه ومدركه من جنس فقه العامة ومدركهم وبصرهم ؛ فإن الله تعالى قال : [ قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ] بل هذه درجةٌ مخصوصةٌ من العلم شأنها كما قال الإمام الشافعي في الرسالة : هذه درجة من العلم ليس تبلغها العامة ، ولم يكلفها كل الخاصة ، ومن احتمل بلوغها من الخاصة فلا يسعهم كلهم كافة أن يعطلوها ، وإذا قام بها من خاصتهم من فيه الكفاية لم يحُرج غيره من تركها إن شاء الله ، والفضل فيها لمن قام بها لا من عطلها .
ومما يعرض لبعض أهل الاجتهاد في النوازل المبالغةُ في منازعة من يخالفه من ذوي العلم والدين ، وهذا من ضعف الفقه ؛ فإن اختلاف المجتهدين في مثل هذا أمر تفرضه حال الحدث ومادته وطبيعته ، مع تفاوت الأفهام والمدارك والعلوم.
ومن أسباب هذا التضييق لمقام الاجتهاد أن يكون الحدث مركباً من مواد شتى ، ويكون منه وجه محكم ظاهر يعرفه العامة والخاصة ويعتبرونه ، فيقصرون الأمر على هذا الوجه البين ولا يلتفتون إلى سواه .
وهذا يقع كثيراً أن يرد أكثر العامة ، بل وبعض الخاصة ، الأمر إلى جانب من جوانبه الصحيحة والبينة ، ولكنهم يقصرون الأمر عليه ، ولا يتفطنون إلى الجوانب الأخرى التي خفيت عليهم .
لكن أهل العلم والاعتبار يقع لهم نظر آخر ، لمحل آخر من هذا الحدث لا يدركه العامة ، وهذا من أسرار قوله سبحانه : [ يستنبطونه ] فإن الاستنباط يكون فيه نوع معالجة وجهد ، فهو من خصائص أولى العلم الذين يدركون جوانب من الأمر يغيب إدراكها أو استحضارها عن غيرهم .
إن الوجه المحكم في الشريعة الذي لا تنفك عامة الأحداث عنه يجب أن يبقى لحمة أهل الإسلام وعصمة اجتماعهم ، لكن يبقى لخاصتهم حق النظر في إحكام الموقف وتسديده على وفق قواعد الشريعة ، التي جاءت بتحقيق المصالح ودرء المفاسد .(57/4)
وهنا نظر من الفقه ، وهو أن يكون الحكم المستنبط باجتهاد دقيق لا يفطن له كل أحد ، قد لا تظهر مناسبته عند بعض العامة ، بسبب الحكم الآخر الظاهر المحكم ، فيظن من يظن أن ذلك النظر الدقيق المستنبط يقتضي التفريط في الوجه المحكم أو مناقضته .
وليس الأمر كذلك عند من له علم وفقه .
وقد جاء في السنة قصة صلح الحديبية المخرجة في البخاري وغيره في سياق طويل ، وكيف أن الشروط التي قبلها صلى الله عليه وسلم وإن رأي فيها بعض الصحابة ، بل بعض خواصهم وأكابرهم ، مفارقة لمقام الجهاد وعلو المؤمنين ، لكنه كان الخير والحق والصواب ، وسماه الله فتحاً [ إنا فتحنا لك فتحاً مبينا ] .
وهذه السورة نزلت مرجعه عليه الصلاة والسلام من الحديبية ، وهم يخالطهم الحزن والكآبة كما ثبت في صحيح مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه .
ومن فاضل فقه الصحابة في هذا الوجه الذي قد يراه منافياً للوجه المحكم ما جاء في الصحيحين وغيرهما في غزوة مؤته ، فقد روى البخاري وغيره عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم نعى زيداً وجعفراً وابن رواحة للناس قبل أن يأتيهم خبرهم فقال : ( أخذ الراية زيد فأصيب ثم أخذ جعفر فأصيب ثم أخذ ابن رواحة فأصيب ، وعيناه تذرفان ، حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله حتى فتح الله عليهم ) .
وأهل العلم وإن اختلفوا في تفسير هذا الحرف الآخر ، إلا أن من أرجح الأقوال أن الفتح المذكور تحيز خالد بالمسلمين عند عدوهم ، وسواء فسر هذا الحرف بهذا أو به وبغيره أو حتى بغيره ؛ فإنه يعلم بالإجماع أن تحيز خالد بالمسلمين كان محموداً وقد أقره الرسول صلى الله عليه وسلم وامتدحه وإن كان هذا لم يظهر مبدأ الأمر لبعضهم .
وفي الحديث من الفقه أن مقام حسن القصد والصبر وبذل النفس لا يحكم وحده سائر المواقف ، بل هذه الشريعة جاءت بمراعاة القواعد الشمولية العامة ، وهذا من فقه خالد لمقاصد الجهاد .(57/5)
ومن أخص ما يجب على أهل الإسلام ألا يتخذوا العلم بغياً بينهم ؛ فإن الوحي نزل ليرد الناس إليه ويجتمعوا به على الحق ، وسائر أوجه الحق لا تظهر لكل أحد ، ويقع فيها ما هو من موارد النزاع المقر في الشريعة .(57/6)
فقه الموقف
05/01/2002
21/10/1423
حقيقة الخلاف الذي أقرته الشريعة :
الناظر في آيات القرآن الكريم يجد أن الله تعالى ذكر الخلاف والنزاع في مورد الذم كثيراً وذكره أحياناً على أنه حال تعرض للمؤمنين كما في قوله سبحانه : " فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول " ، وقوله تعالى :" وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله " .
وهذه الحال العارضة المقبولة هي التي تقع بين علماء الأمة من الصحابة فمن بعدهم ، ومثل هذا لا يوجب الذم ولا الطعن ولا التأثيم باتفاق العلماء .
فإن من علم منه الاجتهاد السائغ لا يجوز أن يذكر على وجه الذم والتأثيم ، حتى لو عُلم خطؤه ، فإن الله قد غفر له هذا الخطأ ، وأصل اجتهاده محمود في الشريعة ، وهو متردد بين أجر وأجرين ، كما ثبت في حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه المتفق على صحته .
وتحريم الطعن والذم لا يوجب قبول الخطأ ، ولا ترك البيان .
وليس من شرع الله ولا قدره أن يتفق علماء الأمة في سائر مواضع الاجتهاد ، فمن لم يقدر لهذا المقام قدره فقد اتخذ العلم بغياً ، وهذا من أعظم أسباب الفساد الذي وقع لأهل الكتاب وخرجوا به عن حقيقة الإسلام الذي بُعث به جميع المرسلين ، ولهذا قال تعالى : " إن الدين عن الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب " .
وإذا كان المجتهدون يؤمرون بالتعاذر وعدم الطعن على المخالف فكيف بالعامة الذين لا اجتهاد لهم أصلا ، وإنما فاضلهم هو مقلد لأهل العلم .(58/1)
إن الخلاف المبني على مقام الديانة والعلم ، أعني اختلاف أهل الاجتهاد المعتبر في الأمة ، إذا تحولت الآراء المتعددة فيه إلى ولاءات خاصة ، ومفهومات للحزبية والطائفية ، فإنه يخرج بذلك عن كونه رحمة ومتابعة لحكم الله ورسوله ، ليكون تمزيقاً لأهل الإسلام ، ورجوعاً إلى أمور الجاهلية ، واتباعاً لسنة أهل الكتاب المنحرفين عن هدي أنبيائهم .
ومما يجب على أهل العلم فقهه وتعليمه للناس ألا تستباح قواعد الشريعة ومقاصدها بالمخالفة والرد ؛ لتأويل يستعمله ناظر ولو كان حسن القصد والإرادة .
ومما يعلمه المتأمل أن جمهور البغي الذي يحصل في الأمة هو بسبب تأويل سائغ عند أصحابه ، ولكنهم تحللوا به من عواصم الشريعة ومحكماتها لمعنى غلب في نفوسهم ، تزيده الغيرة ، وينقصه العلم .
وإذا كان كل عامل صادق في هذه الأمة يعنيه أمر اجتماعها والتفافها ، وترك التنازع والاختلاف المذموم بين خاصتها ، خصوصاً في أزمنة الضائقة والضعف وتسلط العدو .
فإن من المعلوم قدراً وشرعاً أن هذا الاتفاق لا يكون باتحاد القول والنظر والاجتهاد في مفردات المسائل وآحادها ، إذ هذا لم يقع لأبي بكر وعمر والراشدين ، بل لم يقع للخيرة من أ صحاب محمد صلى الله عليه وسلم حال حياته ، إذ اختلفوا في تفسير هذا الحرف (( لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة (( .
فاختارت مدرسة المقاصد أن الأمر مبناه على الإسراع وعدم التشاغل وصلوا في الطريق ، لا إهداراً للأمر النبوي الصريح ، ولكن إعمالاً لمقصده ، وجمعاً بينه وبين نصوص الأمر بالصلوات والمبادرة إليها وعدم تأخيرها عن وقتها الفاضل .
واختارت الطائفة الأخرى الوقوف عند النص وعدم تجاوزه ، فلم تصل حتى وصلت بني قريظة ، وقد فات الوقت ، أو فات وقت الاختيار ، كلاهما محل احتمال .
ومعظم المسائل التي اختلف فيها من بعدهم في أبواب الفقه أو التفسير أو غيرهما ، فإنما قفوا بذلك أثرهم ، وكان لهم متبوع من الصحابة رضي الله عنهم .(58/2)
وهذا الاختلاف راجع إلى اختلاف في قدر العلم وسعته ، أو اختلاف في تكوين العقل ومدركه وحدته ، أو اختلاف في الطبع وما يغلب على المرء من الحال والمزاج ، أو اختلاف في الموقف والظرف المحيط بالمجتهد .. كما أن الله تعالى جعل شريعته وكتابه على مقتضى قواعد اللغة التي يكون فيها ما هو قطعي الدلالة وما ليس كذلك ، وما هو مفسر وما هو مجمل ، وما هو محكم وما هو متشابه ، وما هو ناسخ وما هو منسوخ ، ولو شاء لجعلها حرفاً واحداً لا يختلف عليه الناس ، غير أنه سبحانه أنزلها لناس خلقهم وهو أعلم بهم " ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير " .
ولهذا جمع تعالى بين هذين المعنيين في قوله تعالى : " ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين " .
فهو الخالق المالك المتصرف ، وهذا من معنى الربوبية .
وهو الإله المعبود الآمر الناهي ، وهذا من معنى الألوهية .
وبهذا يتبين أنه يستحيل قدراً وشرعاً أن يتفق أهل الإسلام في جميع ما يعرض لهم من المسائل ، حتى المسائل التعبدية العملية الخالية من التعقيد والتداخل ، وحتى المسائل التي هي من موارد النصوص ، فقد يقع للناظر في النص اعتقاد أنه ليس على ظاهره ، أو أنه منسوخ ، أو أنه ضعيف ولو كان الأمر بخلاف ذلك .(58/3)
فلم يبق إلا أن يعتصم أهل الإسلام بالمنهج الشرعي في فقه الخلاف السائغ ، وأن يسعهم ما وسع الموفقين من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وسلف هذه الأمة من التوسعة في العذر ، وحفظ مقام الأخوة الدينية ، وإحسان الظن ، وترك البغي والتسلط ، وأن يعتصموا بعصم الإسلام الجامعة ولا يتفرقوا بموجب الاجتهادات الخاصة ، والآراء المتنازعة ، ولهذا قال سبحانه : " يأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون " .
فالأخوة الدينية لفظ جامع ينتظم كل من صح له عقد الإسلام كائناً ما كان خطؤه ، فمن كمل له الإسلام والإيمان كملت له حقوق الأخوة .
وهي لا ترتبط بالموافقة أو المخالفة في رأي أو مذهب أو اجتهاد إذا كان من المسائل التي يسوغ فيها الخلاف .
ولهذا جاء في الآية بعدها قوله تعالى : " ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعدما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم " .
وها هنا تجد النهي عن التفرق مطلقاً ، فالتفرق مذموم بإطلاق ، حتى جاء في الحديث الذي رواه أبو داود عن أبي ثعلبة الخشني ما يدل على النهي عن التفرق الحسي فضلاً عن المعنوي ، حيث قال رضي الله عنه : كان الناس إذا نزلوا منزلاً تفرقوا في الشعاب والأودية فقال صلى ا لله عليه وسلم : ( إن تفرقكم في هذه الشعاب والأودية إنما ذلكم من الشيطان ) فلم ينزل بعد ذلك منزلاً إلا انضم بعضهم إلى بعض حتى يقال : لو بسط عليهم ثوب لعمهم .
وهذا المعنى كثير التردد في الكتاب العزيز ، خصوصاً حين الحديث عن الأمم الكتابية وما عرض لها في دينها .
أما عن الاختلاف فلم يرد النهي مطلقاً ، بل مقيداً يتبين به أن ثمة خلافاً مذموماً ، وخلافاً محموداً .(58/4)
ولهذا قال هاهنا : " واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات " فهذا الاختلاف في موضع الذم ؛ لأنه إعراض عن البينات والهدى ، واتباع للهوى .
وفي مواضع أخرى ربط الاختلاف بالبغي والعدوان .
فمن كان يحسب أن اجتماع الأمة يكون باتفاقها العلمي الشرعي على مفردات المسائل وآحادها وتطابق النظر فيها فقد رام محالاً ، وتمنى ما قضت الشريعة ومضى القدر النافذ بخلافه .
لكن المطلوب أن يكون ثمة اتفاق على الأصول والمحكمات في الشرع الذي جاءت جمهرة نصوص الكتاب والسنة بتقريرها ، وتوافر العلماء عليها خلفاً عن سلف وهو محل الإجماع الثابت المستقر .
ثم يكون الاتفاق على طريقة التعامل مع الخلاف بحيث لا يخرج عن إطاره ، ولا يؤثر على حقوق الإخاء الديني بين خاصة المسلمين وعامتهم ، ولا ينتج تفرقاً مذموماً وبغياً بين المؤمنين ، ولا يمنع من الرد والنصيحة والبيان وإظهار الحجة دون أن يكون ذلك ملزماً ، أو أن يظن به صاحبه أنه حسم لمادة الخلاف .
إننا كثيراً ما نتوجع على الوحدة الضائعة ، ونقصد بهذا أن يجتمع الناس على ما نظن وما نرى ، وهذا ما لم يتوفر للخاصة من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وأئمة السلف الصالح ، ولكن في ا لأزمات الحادة التي تضرب الأمة تمس الحاجة إلى نوع من التأليف ، وتجاوز الحظوظ الشخصية ، ومقابلة السيئة بالحسنة ، والاشتغال بالعمل الجاد المثمر .
وهذا رجل جاهلي من إياد ، وهو لقيط بن يعمر يشخص الحال ، ويصف الدواء وصف الذي فاته نور الهداية ، لكن لم يفته درك العقل والتجربة ، ومناسبتها ما نراه من اليوم من المكر الغربي الذي تجاوز حد التخمين ليصبح حقيقة واقعة :
بل أيها الراكب المزجي على عجل **** نحو الجزيرة مرتادا ومنتجعا
أبلغ إياداً وخلل في سراتهم **** إني أرى الرأي إن لم أعص قد نصعا
يا لهف نفسي إن كانت أموركم **** شتى وأحكم أمر الناس فاجتمعا
ألا تخافون قوماً لا أبالكم **** أمسوا إليكم كأمثال الدبا سرعا(58/5)
فهم سراع إليكم بين ملتقط **** شوكاوآخريجنى الصاب والسلعا
لو أن جمعهم راموا بهدته *****شم الشماريخ من ثهلان لانصدعا
في كل يوم يسنون الحراب لكم **** لا يهجعون إذا ما غافل هجعا
خزر عيونهم كأن لحظهم **** حريق نار ترى منه السنا قطعا
لا الحرث يشغلهم بلا يرون لهم **** من دون بيضكم ريا ولا شبعا
وأنتم تحرثون الأرض عن عرض **** في كل معتمل تبغون مزدرعا
وتلبسون ثياب الأمن ضاحية **** لا تفزعون وهذا الليث قد جمعا
وقد أظلكم من شطر ثغركم **** هول له ظلم تغشاكم قطعا
مالي أراكم نياما في بُلهنية (1) **** وقد ترون شهاب الحرب قدسطعا
فاشفوا غليلي برأي منكم حسن **** يضح فؤادي له ريان قد نقعا
قوموا قياماً على أمشاط أرجلكم **** ثم افزعوا قد ينال الأمرمن فزعا
يا قوم إن لكم من أرث أولكم **** عزا أحاذر أن يودي فينقطعا
يا قوم لا تأمنوا إن كنتم غيرا **** على نسائكم كسرى وما جمعا
هو الفناء الذي يجتث أصلكم **** فشمروا واستعدوا للحروب معا
هذا كتابي إليكم والنذير معا **** فمن رأى مثل ذا رأياً ومن سمعا
لقد بذلت لكم نصحي بلا دخلٍ **** فاستيقظوا إن خير القول ما نفعا
والله أعلم .
وصلى الله على محمد وعلى آله وسلم .(58/6)
فقه الموقف
12/01/2002
28/10/1423
الموازنة بين القصد والولاء ، وبين الفقه والتصور ، وذلك أن القصد والولاء هو من باب الإرادة والعمل ، والفقه والتّصور هو من باب العلم والمعرفة .
وكلا البابين من الإيمان ، فإن الإيمان قول وعمل كما قرره سلف هذه الأمة وأصّلوه ، وهما من معتبر الشريعة في اتخاذ الحكم والموقف ، ولا بد فيهما من الموازنة .
فالإرادة إذا تجردت عن العلم تحصل منها نوع مخالفة للشريعة وأحكامها .
والعلم إذا تجرد عن الإرادة أو جرى معه نوع تقصير فيها ؛تحصل نوع مخالفة للشريعة من وجه آخر .
والناظرون من أهل الإسلام اليوم لهم مقام محمود في بابي الإرادة والعلم بحمد الله ، ولكن ما يقع فيه شيء من الفوت والقصور لبعضهم هو الموازنة وضبط الاعتدال بين الولاء والتصّور ، أو بين الفقه والقصد ، أو بين العلم والعمل .
فترى بعض المواقف ناتجة عن أثر الولاء الذي هو بذاته حق ، وهو أحد أوجه الحكم في الحدث أو النازلة ، ولكنه لا يستقل ولا ينفرد به ، ومن هنا يكون الحكم المستعمل فيه حكماً ولائياً عاطفياً ليس فيه مادة تناسبه من الفقه والعلم والتصور اللازم شرعاً .
وترى مواقف أخرى تعتبر بالعلم والفقه فحسب ، وتقصر عن مقام الإرادة والولاء فيدخل بذلك على الحكم قصور وتأخر عن موافقة الشرع .
وبيان هذا المعنى أن علم الشريعة مبني على الرحمة ، والرحمة من مقامات الإرادة ؛ ولهذا قال تعالى لما ذكر قصة موسى والخضر عليهما السلام : ( فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) (الكهف:65) ، فجمع بين مقام العلم والفقه ، وبين مقام الرحمة التي هي من الإرادة .(59/1)
ولهذا كانت الكتب المنزلة على الأنبياء مشتملة على هذا التركيب والتوازن بين الولاء والتصور ، كما في قوله سبحانه : ( ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَاماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ ) (الأنعام:154(
وقال عن كتاب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم : ( إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) (النمل:76(
فجمع بين كشف الاختلاف الذي جرى لبني إسرائيل ، وهو العلم ، وبين الرحمة ، وهذا في القرآن كثير ، وهو معبر عنه في مواضع بالهدى ودين الحق ، أي : العلم النافع والعمل الصالح كما فسره بذلك كثير من السلف والأئمة .
والموازنة بين الإرادة وبين العلم في تقرير الحكم وضبط الموقف في النوازل والمسائل العارضة من التحقيق لأدب الشريعة والاتباع لآثار الرسل ، ولهذا كان محمد صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين ، ووصف الكتاب بالرحمة في غير موضع ، مع أنه هدى ونور .
إن في بعض النفوس ميلاً إلى الشوكة والمنعة والتحريب والنكاية ، وربما غلب عليها لذلك باب الإرادة والفعل ، فلا يرى إلا ما اقتضته طبيعته ، ويغفل عن غيره من أوجه النظر .
وفي بعض النفوس ميل إلى العلم والمعرفة والنظر ؛ فيعرض لها من الأحوال المترتبة على ذلك ما يناسبها ، وتقصر أو تغفل عما سواه ، مما هو من مراد الشريعة .
وفي بعض النفوس ميل إلى القوة والشدة ، وفي أخرى ميل إلى الضعف والسلامة .. وهكذا .
ومعلوم أن تجريد النفوس عن ميلها الفطري ليس مقدوراً عليه في الجملة ، ولا مناسباً ؛ ولذلك جاءت الشريعة بالأمر بالموازنة بين ما هو حق بذاته ، والأمر بدفع ما ليس بحق ، فإنه يعرض للنفس في باب العلم ، وفي باب الإرادة ما هو نوع شبهة أو تأويل ، والله تعالى خلق النفوس وسواها ، وألهمها فجورها وتقواها.(59/2)
وإذا كان من المقرر في الشريعة النهي عن اتخاذ العلم بغياً بين أهله ولو كان قول الباغي معتبراً موافقاً في الأصل ، إلا أن البغي زيادة طارئة مذمومة .
فكذلك من باب أولى أن الشرع يمنع اتخاذ أحوال النفوس المختلفة بين بني آدم سبباً للبغي والعدوان .
وكما أن من الناس من يبغي بما معه من العلم المصدق ، فإن منهم من يبغي بما معه من أحوال النفس وطبائعها ، وقد تكون بعض هذه الأحوال محمودة في الجملة كالقوة أو الشجاعة أو الصبر أو الكرم ، لكن لا يلزم أن تكون محمودة في كل الموارد ، ولا يجوز أن يبغي بها صاحبها على من ليس من أهلها .
وبعض الناس قد يبغي بما معه من القول الذي هو من باب الظن والاحتمال ، وليس من العلم المصدق .
ومثله من يبغي بما معه من أحوال النفس التي ليست محمودة في الشريعة ، فضلاً عن البغي ببعض الظلم والهوى .
وإذا تقرر -كما ألمحنا - ذم الله تعالى لمن اتخذ العلم الصادق الذي بعث الله به رسله بغياً على غيره ، فغيره أولى بهذا الذم وأجدر .
والبغي له صور وأمثال ، وهو من المعاني التي يعرفها الناس ، وليس تخفيها الحروف ولا صيغة الكلام ..
ولهذا كان من فقه علي بن أبي طالب رضي الله عنه الذي تلقاه عنه أئمة الإسلام وفقهاء السنة ألا يتحدث ببعض العلم المأثور لمن قل فقهه وتأخرت رتبته .
قال الإمام البخاري رحمه الله : ( باب من ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر فهم بعض الناس عنه ) ثم أورد حديث عائشة رضي الله عنها قالت : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( يا عائشة لولا قومك حديث عهدهم ـ قال ابن الزبير : بكفر ـ لنقضت الكعبة فجعلت لها بابين باب يدخل الناس وباب يخرجون ) ثم بوب البخاري رحمه الله ( باب : من خص بالعلم قوماً دون قوم ، كراهية أن لا يفهموا ) ثم ساق قول علي رضي الله عنه : ( حدثوا الناس بما يعرفون ، أتحبون أن يكذب الله ورسوله ( .(59/3)
وذكر الحافظ أن المراد : بما يفهمونه ، ثم ذكر أثر ابن مسعود المروي في صحيح مسلم : ما أنت محدثاً قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة .
ثم ذكر عن أحمد ومالك وأبي يوسف ، ومن قبلهم عن الصاحب الحافظ أبي هريرة ما يعزز هذا المعنى .
ولعل من لطيف فقه هذا الباب أن المرء قد يفرح بما يوافقه في باب من أبواب العلم، ومثله الفعل والإرادة ، فيحجبه ذلك عما هو أوسع وأنفع ، ويحمله ذلك على بطر الحق وغمط الناس ، والموفق من وفقه الله .
والحديث موصول إن شاء الله .(59/4)
فلنتحالف ضد إرهاب أمريكا
01/10/2002
24/7/1423
للإدارة الأمريكية سجل في الإرهاب لا يُنَافَس ، ولأنها الدولة الأهم ، والأولى في العالم ؛ فقد تولّد لديها نزعة إمبراطورية متعاظمة ، تمثلت في غمس يدها في الصراعات الدولية ؛ لبسط نفوذها، وحماية مصالحها على حساب: العدالة ، والخير ، والأخلاق .
ولو أننا بنينا أهراماً من جماجم قتلى العدوان الأمريكي في بلاد العالم ؛ لكان شموخها يفوق شموخ برج التجارة العالمي المنهار بضع مرات .
وإذا اعتقدت في هذا شيئاً من المبالغة ؛ فواصل قراءة هذا المقال .
وقد أظهرت الإدارة الأمريكية بسلوكها الشائن أنها تفتقر إلى الخبرة ، والحسّ التاريخي ، وستدفع ثمن ذلك على المدى البعيد !
وهذا ما يؤكده الباحثون الأمريكيون المرموقون ، من أمثال: (بول كندي) ، و (جيمس دفدسون)، و (ليسترثرو) الذي يرى: أن الولايات المتحدة قد انهارت بالفعل .
فضلاً عن الفصول والتحليلات الجادة ، التي دونها المفكر الشهير ( نعوم تشومسكي ) ، ومن آخرها "تشريح الإرهاب" في كتاب .
وقد هممت أن أدون جرائم أمريكا ، فوجدتني أحاول محالاً ! واستعيد آلاف الملفات الملئية بالأرقام ، والإحصائيات ، والحقائق الدامغة .
وإذا كانت العرب تقول: يكفي من القلادة ما أحاط بالعنق . فدعونا نستذكر – فقط - بعض عنوانات هذه الجرائم الإرهابية الغادرة ، كمقدمة فيما نريد أن نخلص إليه :
1- 1899م التدخل الأمريكي في الفليبين ، وراح ضحيته مئات الألوف من الفليبينيين ، الذين دفعوا حياتهم ثمناً لنداء : ( الحرية والعدالة ) على حد تعبير الصحافة الأمريكية ذاتها .
2- في الذكرى السابعة والخمسين للقصف الذريّ على مدينة هيروشيما ؛ ذكر راديو اليابان الدولي أنه: تم إضافة 4977 اسماً ، تم التأكد حديثاً من أن وفاتهم كانت إثر القصف !!
في ( القبر الأجوف ) يرقد فقط مائتان وست وعشرون ألف وثمانمائة وسبعون ضحية ! الرقم صحيح !(60/1)
وكان القصف في 6 أغسطس 1945م ، وهذه أول قنبلة نووية شهدتها البشرية .
3- 1951م في كوريا ، بدعوى صد العدوان الشيوعي الشمالي ضد كوريا الجنوبية ، ولا يزال في كوريا الجنوبية ثلاثين ألف جندي أمريكي .
4- 1954م في إيران ؛ وقتل الآلاف من الجماهير ، وأعلن مسؤول في الخارجية الأمريكية أنه:كان علينا أن نتدخل لحماية مواردنا !
نعم ! لحماية مواردهم ، التي وجدت اتفاقاً في أراضي الغير !!
5- 1965م في إندونيسيا ؛ انقلاب مدعوم أمريكياً ، المجازر تصل إلى قريب من مليوني قتيل ، من الفلاحين ، والفقراء ، وقد شبهت أجهزة الاستخبارات الأمريكية ما حدث هناك بالجرائم التي اقترفها هتلر وستالين ، وقامت مظاهرات الفرح في أمريكا ، ولم تخف الصحافة الوطنية سرورها بما جرى !!
6- 1973م في تشيلي ؛ انقلاب أمريكي ، ومصرع الآلاف فيما عرف بـ ( استاد الموت ) .
7- فيتنام ؛ التي غزاها نحو مليون جندي ، ولمدة أحد عشر عاماً ، واستخدمت فيها أنواع الأسلحة المحرمة دولياً ، وامتدت إلى عام 1975م .
وبعد ثلاثين عاماً من توقف الولايات المتحدة عن رش المواد الكيماوية هناك ؛ كشف حديثاً عن معاناة مليون شخص ، من بينهم مائة وخمسون ألف طفل مشوه ، من آثار المواد الكيماوية ، التي كانت تلقيها الطائرات الأمريكية على الغابات ؛ لحرمان المقاتلين من الاحتماء بها .
8- تدخلات عديدة في نيكاراجوا ، منذ 1912م ، راح ضحيتها نحو مائتي ألف من السكان ، وشهدت البلاد حالات تعذيب بشعة ، ومجازر وحشية ، وتدميراً هائلاً !
وقد أدانت المحكمة الدولية الولايات المتحدة بهذا العدوان دون جدوى .
9- نظام جنوب إفريقيا العنصري ، بدعم من الغرب ؛ يقتل مليوناً ونصف مليون إنسان ، ويمارس عمليات تخريب ، كانت كلفتها ستين مليار دولار ، خلال حكم الرئيس ريجان .(60/2)
10- ذكرت مصادر رسمية أن: نحو مليون طفل عراقي ماتوا بسبب الحصار ، ونقص الأغذية ، والأدوية والمستلزمات الإنسانية . ( وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) (التكوير) .
وقد بات في حكم المؤكد إطلاق قنابل مشعة باليورانيوم المنضب ، وذكرت تقارير عدة ، منها تقارير منظمة اليونيسيف: أن عدد الإصابات بسرطان الدم زاد بنسبة أكثر من ستة أضعاف ، عما كان عليه في السابق .
وحين سئلت وزيرة الخارجية الأمريكية (أولبرايت) عما يحدث قالت : إنه خيار صعب ، ولكن الثمن يستحق ذلك !
11- أما في فلسطين ؛ ففي قوائم شهداء الانتفاضة الحالية ، نحو ألف وثمانمائة اسم بالتفصيل ، وحسب مصادر نقابة الأطباء ؛ فإن 25% منهم هم من الأطفال ، أما الجرحى فيزيدون عن مائة ألف .
وفي سجن (تلموند) يقبع الرجال الصغار من الأطفال الفلسطينيين ، في ظل ظروف صعبة للغاية ، ويقدر عددهم بأكثر من مائتي طفل ، إنهم يحملون هماً أكبر من أعمارهم !
ولقد شرد العدوان الإسرائيلي أكثر من سبعمائة وخمسين ألف فلسطيني من مدنهم وقراهم ، ومزارعهم ، وشن حرب إبادة على هذا الشعب الأعزل ، بحيث أصبح الموت والدمار مشهدًا يتكرر كل ساعة ، فضلاً عن الحصار ، وما يستتبعه من ظروف اقتصادية ، وإنسانية مأساوية .
والولايات المتحدة هي ( الراعي الرسمي ) لهذا الإرهاب ، و( الداعم) الأكبر ، و( المحامي ) عنه في المحافل الدولية .
وإن المرء ليشعر بالعجز ! حينما يحاول أن يدلّل على الحقائق الواضحة الجلية ، أو يدون في إحصائيات حجم القتل ، والدمار ، والتخريب في فلسطين خلال أكثر من خمسين عاماً .
12- وفي أفغانستان ؛ قتل وجرح أعداد ضخمة ، غير محدودة من المدنيين الأفغان ، ودمرت منازلهم ، وممتلكاتهم أثناء القصف الجوي ، من قبل قوات التحالف ، واستخدمت الأسلحة العنقودية ، وغيرها ، و قد تكشف الأيام المقبلة عما هو أكبر من ذلك !(60/3)
وقد دعت المنظمات الدولية الإنسانية إلى فتح تحقيقات في الانتهاكات القائمة ، والتي منها: وفاة مئات السجناء من الطالبان ، وغيرهم في قلعة (جانجي) ، والعثور على أعداد كبيرة من الجنود المختنقين .
13- ومن قبل قامت القوات الأمريكية اعتباطاً ؛ بضرب مصنع الشفاء للأدوية في السودان (1998م) ، وضرب أفغانستان بالصواريخ في نفس السنة .
وقد مات مئات الألوف من أطفال السودان ؛ بسبب نقص الأدوية .
14- وفي جوانتانامو في كوبا ؛ يعتقل نحو سبعمائة أسير مسلم ، في ظروف غير إنسانية ، دون محاكمة ، ولا توجيه تهمة ، وتبخل عليهم الإدارة الأمريكية حتى بلقب ( أسير حرب ) ! ولا تسمح لأهلهم بزيارتهم ، ولا بالاتصال الهاتفي ، أو التحادث عبر الإنترنت !
لقد وعد الرئيس الأرعن شعبه ؛ بأنه سيجلب الإرهابيين من ( جحورهم ) إلى العدالة ! وحين عجز ؛ اختطف أعداداً من الشباب ، من باكستان ، ومن أطراف أفغانستان ؛ ليذر الرماد في عيون شعبه !
هذا شأن تطول قراءته ، إننا نستعرض تاريخاً طويلاً ، ونُطِلُّ على غابة متشابكة الأشجار ، مليئة بالوحوش الضواري والحملان الوديعة !
ولقد تجاهلت الإدارة الأمريكية كل هذا ، ثم قدمت نفسها على أنها: نموذج الخير ، والعدالة ، والأخلاق . وقال قيصرها : إن من لم ينحز إلى صف الولايات المتحدة في حربها ضد الإرهاب ؛ فإنه ينحاز إلى الإرهابيين ، ويكون قد اختار مصيره !
وبهذا وقع في شر أعماله ، وأسس لأزمة العلاقات ، التي قد تتحول إلى صراع أيديولوجي سياسي بين الولايات المتحدة ، وبين بقية دول العالم ، كما يستشرفه المفكر الأمريكي (فوكوياما) .
فالمعركة لم تعد مع منظمة أو دولة ، بل تتجه إلى أن تكون صراعاً مريراً ، بين الولايات المتحدة والعالم الذي لم يعد يشعر بمعقولية النزعة الصدامية ، لدى القيادة الأمريكية .(60/4)
وحسبما نستقرؤه في السنن الربانية ؛ فإن هذه القوة العظمى تسير في الطريق الخطأ ، ليس بالنظر إلى الحق والعدل - فهذا أمر مسلم - ولكن بالنظر إلى مصالحها المستقبلية .
إن السنة آتية لا ريب فيها ، وإن استبطأها الناس واستعجلوها : ( وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء * وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ * وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ * وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ * فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ) (إبراهيم)
( أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ) : هذه نظرية ( نهاية التاريخ ) .
( وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ) : فها هو الدور الأمريكي ، الوريث للاستعمار ، والقوى الغاشمة قبله .
(وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ ) وهذا يتمثل الآن ، في العملية الاستخباراتية ، والعسكرية ، والسياسية التي تستخدم كل أساليب المكر ، والخبث وفنون الخداع .
ومن أعظم هذه الأساليب : ( صناعة الأحلاف ) على غرار ما حدث في حرب الخليج ، وفي الحرب الأفغانية .
وكأننا بدأنا نشهد بداية انفراط هذا العقد ، في الحرب الجديدة المزمعة على العراق .(60/5)
كما نشهد تصاعد المعارضة الداخلية في أمريكا وبريطانيا ، للغة العنف ، والقتل ، والتهديد .
فدعونا ! نستثمر هذا المناخ على المستوى الرسمي ، والشعبي ؛ لحماية العراق ، والعرب ، والمسلمين ، ولرد الكرة إلى الملعب الأمريكي .
كيف ؟
هذا هو السؤال الذي أنتظر منكم التعليق عليه ، وسيكون محل الحديث في مقال تالٍ بإذن الله .(60/6)
فلنتحالف ضد إرهاب أمريكا
13/10/2002
7/8/1423
يبدو أن الإدارة الأمريكية حينما توزع التهديدات يمنة ويسرة تصنع نوعاً من الابتزاز والتخويف.
فهي حيناً تتحدث عن تغيير نظام الحكم، وهذه سابقة خطيرة أن تكون المسألة بهذا الوضوح.
وحيناً عن إزالة أسلحة الدمار الشامل، دون أن تفلح في تحديد سبب هذا التصعيد المفاجئ لقضية العراق، إذ لا جديد في الموضوع.
وحيناً يتم تسريب إعلامي يقول بأن الهدف هو ضرب دول ترهب شعوبها والتأسيس لنشر الديمقراطية في المنطقة !
وهكذا تمتزج المكيافيلية ( الغاية تبرر الوسيلة ) بالديمقراطية القائمة على الخيار الشعبي.
ومسكينة أنت أيتها الديمقراطية كم من الجرائم قد اقترفت باسمك !!
وهذا يعيد إلى الأذهان التقرير الخطير المنشور باسم ( تهديد الإسلام الاستراتيجي ) والذي كتبه المستشار اليهودي ) إهيز كل درور )، رسم فيه العناصر الاستراتيجية لمواجهة الإسلام المتمرد كما أسماه، وختم بقوله :( ومع الأسف فإنه من الضروري للغرب أن يقوم بتسوية قيمه الغربية حتى يتمكن من القيام بأعمال [ غير أخلاقية ] في سبيل درء المفاسد الكبرى ) وقد قام موقع الإسلام اليوم (www.islamtoday.net ) بترجمة ملخص لهذا التقرير .
وسيان قامت الحرب أم قعدت فإن من الواضح أن الإدارة الأمريكية جادة في خلط الأوراق في المنطقة الإسلامية، وإعادة ترتيبها على ضوء مستجداتها الأمنية ومصالحها الاقتصادية، واستراتيجياتها المتطورة، ولو استدعى الموقف قلب الخارطة وإعادة تشكيل الحدود .
وعلينا أن نستعد لسنوات من القهر والتسلط يطال المسلمين في فلسطين والعراق، ويمتد إلى دول عدة تصنف على أنها تؤوي الإرهاب أو تفرخ الإرهابيين.
وأقل ما يتوقع من ذلك هو ممارسة الضغوط الجدية عن كثب لتحقيق الشروط الأمريكية ، وهذا تحد تاريخي ليس من السهل استيعابه وتربية الناس على إدراك مقتضياته ووسائل مواجهته .(61/1)
ومشاركة في البحث عن المخرج الصحيح أقدم هذه العناوين المختزلة لرؤى شمولية قد يبدو أن طلعات الخيال تكتنفها، لكن لا بأس، فأحلام اليوم حقائق الغد، وإن غداً لناظره قريب.
(1) لسنا نعلق كبير أمل على تناقضات الأحلاف بشأن العراق فالتجارب شاهدة بأن القوي في النهاية يفرض إرادته ويسكت الجميع لرغبة أو رهبة .
لكن الحرب إذا قامت ستدخل المنطقة في دوامة من الفوضى والاضطراب تستنزف المزيد من الجهد والطاقة وليس يبعد أن يكون هذا جزءاً من استراتيجية قادمة تمهد لتغييرات جوهرية .
ولهذا يتحتم علينا أن نستميت في تفادي الحرب حفاظاً على شعب العراق وعلى المنطقة كلها .
يجب أن يتبلور موقف رسمي وشعبي واضح ورافض للحرب وأن يتواصل هذا الموقف مع القوى الدولية الرافضة أو المترددة دعماً ومساندة وتهيئة لمناخ مستقبلي من التعاون ومع القوى الرافضة في الداخل الأمريكي لممارسة ضغوط شعبية وإعلامية على الإدارة الأمريكية .
وعلى الصعيد العراقي ـ مهما كانت قناعتنا بالوضع الرسمي ـ يتحتم أن يقوم القلقون على مستقبل الأمة والمنطقة بدور جاد مع النظام العراقي ، والتفاهم على صيغة تؤدي إلى تجنب الحرب وقطع الطريق على المتآمرين ، وأن تقوم كل الأطراف بمسؤلياتها بمنتهى الحكمة والحزم .
( 2) أساس كل تغيير أو إصلاح يبدأ من داخلنا " حتى يغيروا ما بأنفسهم " ، " وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً " .
وهذا منهج قرآني محكم " قل هو من عند أنفسكم " .
فعلينا أن نعود إلى الله عودة صادقة شاملة، على مستوى الأفراد والأسر والجماعات والدول، وأن نحكم شريعته في ذواتنا وعلاقاتنا وكثيرنا وقليلنا.
وهذه القاعدة العظيمة في الفرار إلى الله يتفرع عنها مفردات لا تكاد تنتهي.(61/2)
أ- تبادل التصحيح الهادف الصادق القائم على النصيحة وليس الفضيحة، وعلى الإشفاق لا على الإحراج، وعلى الإدراك الميداني الممكن، لا على الرؤية المعزولة عن سياق الحدث، أو النظرة الذاتية الخاصة.
إنه لا شيء يستجمع التعرف على نقائصنا والقدرة على تجاوزها مثل التصحيح القائم على الرحمة والمحبة " والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر .."
ب- إيثار المصلحة الأممية العليا على المصالح الخاصة والذاتية لفرد أو طائفة أو فئة .
ج- إن العدل يجب أن يكون أساس العلاقة بين الناس في المجتمع المسلم، ولنتأمل كيف بدأ ربنا تبارك وتعالى بذاته المقدسة في تحريم الظلم فقال : ( يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرما، فلا تظالموا ) رواه مسلم من حديث أبي ذر رضي الله عنه .
فالخروج من المظالم ورد الحقوق لأهلها هو ضمانة لوحدة الصف وأمان من العدو المتربص .
ومن أخص صور الظلم ما يقع على الضعفاء والفقراء والعاجزين من النساء والصبيان والعمال ونحوهم أمام القوي الذي لا يراقب فيهم إلاً ولا ذمة .
د ـ إن العالم العربي يشهد معدلاً لنمو الدخل الفردي هو الأقل في العالم ـ حسب تقرير التنمية الإنسانية لعام 2002م ـ حيث لم يتجاوز النمو نصفاً بالمائة سنوياً خلال عقدين .
وإذا استمر هذا التدني فسيحتاج المواطن إلى ( 140( سنة حتى يضاعف دخله ، بينما يستطيع الفرد في مناطق أخرى من العالم مضاعفة دخله مرةً كل عشر سنوات .
وفي مقابل هذا فإن عناصر الإنتاج تنخفض بمعدل 2،0% في حين تتصاعد وتيرتها في مناطق أخرى .
إن هذا يحتاج إلى معالجة جادة تساهم في تلبية تطلعات الناس لحياة هانئة ، وفي تطلعات المعنيين بأمر الأمة إلى رفع إنتاجية الفرد وعطائه .
والشراكة الحقيقية هي التي تحقق انتماء الفرد لأمته ، وتحول دون استغلاله أو المزايدة عليه من قوى خارجية .(61/3)
هـ- الركض والهرولة نحو التطبيع الإسلامي – الإسلامي، وجعل السلام أساس العلاقة بين المؤمنين، فالمؤكد أن العدو يراهن على الصراعات البينية، وسيجتهد في خلق نزاعات داخلية تزيد الأمة إنهاكاً وفشلاً وذهاباً للريح.
إن ثمت مسوغات للاختلاف لكن علينا أن نجعلها أقل ضرراً ، وأن نتخير الميدان الذي نفرغ فيه طاقتنا المحدودة وألا نجعلها هشيماً تذروه الرياح .
نحن في أمس الحاجة إلى بناء علاقات متوازنة حتى مع أولئك الذين نختلف معهم .
و- تفعيل القضايا الإسلامية واستثمارها بصورة إيجابية، كقضية فلسطين والسودان وغيرها.
إن ثمت إلحاحاً ضرورياً على دعم المسلمين في هذه المواقع سياسياً ومادياً، لأنها مواطن ضعف يخطط اليهود ومن وراءهم لتوظيفها واستغلالها في تحقيق مصالحهم.
لا أحد يجهل علاقة القضية الفلسطينية بجيرانها، أو القضية السودانية بليبيا ومصر وأفريقيا ، وهكذا .
(3) أما على الصعيد الخارجي فيمكن السعي الجاد لتحريك ضحايا الظلم الأمريكي وتنظيم مطالباتهم ، وتزويدهم بما يمكنهم من إيصال صوتهم إلى العالم ومؤسساته، وفتح جميع الملفات المعلقة التي تكشف عن معاناة الشعوب ومصادرة حقوقها.
لقد رصدنا ملايين القتلى، وملايين المشوهين من ذوي العاهات وغيرهم في غير ما موطن، وهم يتجرعون آلامهم، ويلعقون جراحهم، بينما يتفنن الأمريكي ( المتحضر ) في حساباته وتكاليف معاناته، فلماذا لا تتم مشاغلته بمثل ذلك،ومطالبته بالمثول والتعويض.
( 4) وبدلاً من أن نخاطب أنفسنا بالشجب والاستنكار وهجو الخصوم، بمقدورنا مخاطبة العالم بلغته الحية ووسائل إعلامه المتجددة، كتابة وشفاهاً دفاعاً عن قضيتنا وإيماناً بعدالتها، وكشفاً للظلم الذي حاق بأمتنا، ونشراً لعار المعتدين.
إن المال، وهو طوع أيدينا، يمكن أن ينطق الساكتين بالحجة، ويحوز إلى جوار حقنا عقولاً وأقلاماً وألسنة تقول مالا نقدر نحن على أن نقوله، وتقارع عنا بغير جمجمة ولا تردد !(61/4)
( 5) ثم إن فرحنا بسقوط الجدار الحديدي البلشفي لم يكد يكتمل حتى بدأنا نتجرع مرارة التفرد الأمريكي، وغرور السلطة وانتفاشها.
والشر إن تلقه بالخير ضقت به **** ذرعاً وإن تلقه بالشر ينحسم
فلماذا لا ندفع الشر بالشر ؟! ونقيم حبالنا مع قوى عالمية أخرى قائمة أو واعدة في آسيا وأوربا وغيرهما فلدينا من الموارد والخيرات والخزائن من النفط والغاز وسواهما ما يتحلب له لعابهم مصداقاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم : (فبينا أنا نائم أتيت بمفاتيح خزائن الأرض فوضعت في يدي ) قال أبو هريرة : وقد ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنتم تنتثلونها رواه البخاري ومسلم وغيرهما.
ولديهم من التقنية والتقدم المادي ما نبحث عنه، والحياة تقوم على التبادل والتباذل والمقايضة.
إن الموقف بحاجة إلى إرادة جادة تستهدف توظيف الآخرين في تعزيز مواقعنا الذاتية، ومشاغلة الخصوم، وترشيد المستقبل بإذن الله.
وهذا يمكن أن يتم وفق رؤية شمولية بحيث تقوم الفعاليات المتنوعة بتحمل مسؤولياتها وأداء دورها، ولن يكون هذا حتى نودع لغة التلاوم ، ونكف عن توزيع المسؤوليات على الآخرين واستثناء ذواتنا.
ومن غير شك فإن التشاؤم والإحباط واليأس لن يصنع لنا أكثر من ديمومة العناء والتخلف والمغامرة، وافتعال المعارك الذاتية التي نفرغ بها طاقتنا المكبوتة .
فالتفاؤل هو الحادي الذي على نبراته يسير الركب مؤمناً بالله وبوعده الصادق، واثقاً بمستقبل هذه الأمة، مدركاً لإمكانياتها وقدراتها .
إن المسلمين يمتلكون ـ بفضل الله ـ إمكانية لفهم كل أساليب التعامل المناسبة ، ومواجهة الخيارات التي يرسمها طرف ما ، ومن المؤكد أنهم الأكثر استعداداً لاحترام الأخلاق والعدالة الحقيقية ، وفي الوقت ذاته هم الأكثر استعداداً للتضحية إذا اقتضى الأمر :
لي وإن كنت كقطر الطل صافي **** قصفة الرعد وإعصار السوافي
أتحاشى الشر جهدي فإذا ما **** لج في عسفي تحداه اعتسافي(61/5)
خلق ورثنيه أحمد **** فجرى ملء دمائي وشغافي
لم يغيره على طول المدى **** بطش جبار ولا كيد ضعاف
والله الهادي ، وهو وحده المستعان .(61/6)
قراءة في هموم العمل الدعوي
18/01/2003
15/11/1423
( هذه ورقة كتبتها قبل أكثر من سنتين , وأعدتُ صياغتها مرات , وآثرتُ نشرَها على رغم الأحداث المتجددة في العالم الإسلامي).
الحمد لله وحده لا شريك له ، والصلاة والسلام على النبي محمد، وآله وصحبه .
أما بعد :
فإن الأصل في هذه الأمة الاجتماع على كتاب الله ، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وهذا وإن كان هو الأصل الشرعي ؛ إلا أن الواقع التاريخي للأمّة تمثّل فيه كثير من الافتراق والصراع وهذا شأن تطول قراءته ، إلا أننا في هذه المرحلة المعاصرة من تاريخ الأمة يجب أن نقدّر طبيعة الواقع الذي نعيشه ، وذلك في مشاريع النهضة التصحيحية التي أضحت البشرية اليوم بأشد الحاجة إليها .
والحضارة المعاصرة وإن تمكنت من ضبط الحركة العالمية بصورة لا نظير لها في التاريخ ؛ إلا أنها تفتقد النظرة الشمولية للإنسان .
وإذا تعاملنا مع هذا الواقع بهدوء ؛ أدركنا أن الإسلام وحده هو المؤهّل لتقديم الصياغة العامة للبشرية .
وهذه الورقة ذات طابع أخوي إسلامي . نعم ! يجب أن نتحدث وأن نكون صرحاء ؛ لنتعارف فيما بيننا بشكل أفضل وليعرفنا غيرنا .
إن أخص مشاريع الإعلام الغربي إقصاء الوجود الإسلامي في العالم الإسلامي نفسه ، ومحاولة وضع صورة ضبابية - على أقل تقدير - عن الإسلاميين , ومن حق الإسلام علينا أن نكون واضحين ؛ فإن الوضوح من مقدّرات البناء والإيمان .
جاءت هذه الورقة ؛ لتتحدث عن جملة من المشاعر والاجتهادات في الرؤية المنهجية . جاءت هذه الورقة ؛ لتكون بداية أو تأسيساً ، لصياغة مشاريع تصحيحية تمثل الرؤية والتطبيق معاً .
العالم الغربي يطرح ورقة ( العولمة ) اليوم وهو يمتلك مقدرات ، بل ومؤهلات قوية التأثير ، ويحاول أن يوحّد شكله الحضاري في رؤية واحدة .(62/1)
ونحن- أهلَ الإسلامِ – يجب أن نقدم اليوم ( عَوْلَمَتَنا الإسلامية ) ، وهي رؤية الإسلام للحياة كلها . ألسنا نؤمن برسالة الإسلام وعمومها للبشرية وأبديتها ؟!
وحين ننادي بالوحدة الإسلامية لسنا نقع في دائرة التأثير الغربي فنفرض عولمتنا ؛ لكونه فرض عولمته ؛ إن الإسلام عالمي من حين بدأ ، وهو الرسالة السماوية الباقية للعالم كله (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) [الأنبياء:107] ، ( إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ) [يوسف: من الآية104].
إن اجتماعنا ليس محاكاة للمحاولة العالمية في مشروع ( العولمة ) ، لكنه تجديد للأصالة ؛ فإن من أصول ديننا الاجتماع (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا) [آل عمران: من الآية103] .
إن العمل الإسلامي في البلاد الإسلامية أو غير الإسلامية له وجود مؤثر بحمد الله , وهو وإن كان يصطدم بكثير من العقبات ؛ إلا أن الله – سبحانه - يهيئ له أسباب القوامة على الناس ، وهذا ما نراه واضحا في واقع الأمة - بحمد الله - .
وكثيراً ما نتحدث عن معوقات العمل الإسلامي هنا وهناك ، ونتحدث عن الصراع مع غير الإسلاميين ، ولكني على يقين أن أثر المعوقات داخل الصف أكثر بكثير في التأثير على إنتاجية العمل الإسلامي وقوامته .
وكثيراً ما نتحدث عن الأعداء ، وهذا له ما يبرره، لكن يفترض ألا يكون خطونا استجابة لهذا العدو أو ذاك ، إنهم يشعرون بالنصر كثيراً حينما يرون أن أصحاب العمل الإسلامي يعرفونهم أكثر من معرفتهم بأنفسهم وواقعهم .
أيُّ نصر يعطيه كثيرون منا لأعدائنا حينما يكون العدو مؤثراً بمجرد ذكر اسمه ولو على المستوى النفسي , وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول أحدنا تعس الشيطان !
من أزماتنا اليوم عدم قدرة الكثيرين منا على المعادلة والموازنة الصحيحة , ومع ذلك فإن من الاعتدال أن ندرك أن في الأمة خيراً كثيراً وبركة من رب العالمين .(62/2)
ويجب أن ندرك أن الإسلاميين اليوم لهم واقع يعترف به العالم كله .
وحين نتحدث عن بعض السلبيات في العمل الإسلامي , فإن هذا يعني الإيمان بالإيجابيات في هذا العمل ، وأن واقعنا ليس سلبياً محضاً ، كما أنه ليس سليماً من الخطأ والتقصير . وإذا تأملنا في الجانب السلبي في واقعنا الإسلامي أدركنا أنه ممكن التجاوز ، ولا يمثل تعقيداً ذاتياً في أكثر الأحوال ، وإن كان الكثير منا ينظرون إليه على أنه كذلك .
إن بعض المشكلات في واقعنا ليس تعقيدها ذاتياً بقدر مانشارك من حيث نريد أو لا نريد في ترسيم ذاك التعقيد .
يجب أيها الإخوة أن نكون وسطاً كما شرع ربنا لنا ذلك : (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ)[البقرة: من الآية143] فالوسطية هي شريعة الله لهذه الأمة , والحكم على أي قضية يرتبط ارتباطاً ضرورياً بالوسطية ؛ ولهذا جاء قوله : ( لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) .
وكما ندرك من سياق الشهادة على الأمم ؛ فأحق الناس بهذا العدل والوسطية هم إخواننا المسلمون .
وهذه الورقة لا تتحدث عن مجموعة ، أو منهج معين ، أو تتخاطب مع واقع في بلد أو إقليم خاص ، بل هي حديث ينطلق من المنهج الإسلامي العام المنزّل في كتاب الله المشرّع, وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا الحديث يقع تحت هذا المنهج الرباني الخالد المتمثل في هذين المصدرين ( القرآن والسنة ) فنحن نعترف بإخواننا المسلمين، ولكننا لا نعترف بالخطأ أياً كان مصدره .
وهذه الورقة ليست وصاية تتخاطب مع وحدة منهجية معينة , بل هي جملة من المخاطبات ، ولغة من الحوار مع إخواننا في العمل الإسلامي ؛ لنحاول أن نتقدم أكثر ، وأن نقدم الوعي للجيل الإسلامي القادم الذي ينتظر منا الكثير .(62/3)
ومن هنا يجب علينا أن نتخلص من أنانيتنا ، وخصوصيتنا ، وأن ندرك أن الجيل القادم - حسب واقع ( العولمة الغربية ) - يصعب عليه أن لا يرى الصراع محتدماً إلا في التجمعات الإسلامية وحدها ، وهذا يعني أن علينا أن نحاول أن نكون على مستوى المسؤولية ، وأن ندرك حجم التأثير الذي يتمثله المشروع الغربي على شعوبنا المسلمة ، وأن هذه الشعوب غير مستعدة ، بل غير قادرة على استيعاب لغة الصراع أياً كان مبررها فيجب أن نمتلك أكثر من لغة , وهذا لا يعني تجاوز المبادئ وإلغاء الصراع الحضاري والديني مع أعداء الأمة , هذه حقيقة مسلّمة , لكن يجب أن نتجاوز صراعاتنا الخاصة التي لا تمثل قيمة جادة في أكثر الأحوال والمواقف .
وبعد هذه المقدمة العامة أدخل في أحاديث حوارية بكلمات مرقومة ، هي إشارات وتنبيهات لإخواننا في الله أصحاب العمل الإسلامي بأصنافهم العلماء والدعاة ، والشباب والعامة .
إنه خطاب دعوي اجتماعي يتناول كل فئات المجتمع أو التجمع الإسلامي ، وأسأل الله حسن القصد ، وسداد القول .
وإنني لآمل من الأحبة القراء أن يشاركوا في هذه الورقة المتواضعة بتعليقاتهم ومداخلاتهم التي ستثري هذا الموضوع وتكمِّله وتصوّبه ، وأخص أهلَ الرأي والعلم والخبرة .
1- جاء الإسلام رسالة عامة للبشرية ، وهو دين الله الخاتم في هذه الأرض , و يجب علينا أن ندرك هذه القيمة الشرعية لرسالة الإسلام , وأنه يصلح منهجاً لحكم البيئات المختلفة وصياغتها .
ومن أخص الإشكاليات اليوم في التجمعات الإسلامية تشبّع كثير منها بالرؤية الإقليمية للإسلام حتى أصبحت هذه الرؤية المخصصة هنا وهناك من موجبات الصراع بين الإسلاميين أنفسهم .
إن كثيراً من المناهج والمشاريع الإسلامية المقدمة اليوم تتأثر بواقعها وظروفها الخاصة أكثر من اللازم ، ويصبح التواصل معها خارج هذه الظروف أمراً صعباً ، بل تتسارع في بعض الأحوال إلى التواصل التصادمي مع الآخرين .(62/4)
إن اجتهادنا ضمن دائرة معينة , ولو كان اجتهاداً مشروعاً إلا أنه ليس من الضرورة تصور أنه يمثل الإسلام نفسه الذي من أخص أصوله مناسبته لكل زمان ومكان , ربما كان اجتهاد مجموعة من أصحاب العمل في رسم رؤيتهم الخاصة تحت دلالة الشريعة وعنايتهم الخاصة بالاستدلال يمنحهم تسليماً شعورياً أن رؤيتهم شرعية ، وهذا يعني أن التقاطع معها أو الاختلاف يعني التقاطع والاختلاف مع الشريعة نفسها حين لا يدرك هؤلاء الإخوة غلطاً شرعياً في رؤيتهم ، فمن غير الممكن السماح لأحد بالاختلاف أو عدم التسليم لهذا الاتجاه ، وهذا محل نظر ، فربما كان في الاستدلال من أصله خطأ خفي ، وربما كانت هذه الرؤية شرعية في واقعها الذي درست فيه ، لكن الشريعة لا تقضي بها في كل الأحوال التي تحمل اختلافاً في واقعها .
من المهم أن نعرف أن التقاطع مع خياراتنا الخاصة التي نجتهد في رسمها رسماً شرعياً ليس بالضرورة تقاطعاً مع الشريعة .
صحيح أنه يجب أن نقدم لواقعنا المختلف صياغات تعددية تستوعب هذا الاختلاف، لكن مع اصطحاب الفرق بين الرؤية الخاصة المتناسبة مع واقع خاص، والرؤية الشمولية في التخاطب مع إخواننا المسلمين .
يجب أن ندرك أن الرؤية المكونة من معطيات اجتماعية وتربوية خاصة ، إضافة إلى اجتهاد نسبي هي رؤية مؤهلة للتخاطب مع واقع تتمثل فيه مقومات هذه الرؤية ، وأن الرؤية الإسلامية الربانية تتجاوز هذا الإطار الخاص .
2- ومن الامتداد المنهجي هنا أن نقف يسيراً مع إشكالية الموازنة بين النظرية والتطبيق فكثيرون يظنون أن صحة النظرية يعني صحة التطبيق ، وهذا وهم ابتُلي به كثير من أصحاب العمل الإسلامي اليوم ، وربما صحّ عند كثيرين التلازم بين النظرية والتطبيق في الشمولية والصحة , وغير ذلك .(62/5)
ولست هنا أريد أن أعطي تقاطعاً بين النظرية والتطبيق ، بل المقصودُ أن العلاقة بينهما غير لازمة إلى حد كبير ، وبعبارة أقرب إلى مفهومنا العلمي إن النظرية أحد مؤهلات التطبيق، لكنها ليست وحدها المرسّم له، ولهذا نرى ارتباط التكليف الشرعي بالقدرة والاستطاعة.
إن فقدان الإمكان للتطبيق يعني كثيراً خللاً في المطالبة .
يفترض أن نؤمن بحقيقة شرعية عقلية تعني هذا المعنى، محصلها أن المطالبات الممكنة ليست بالضرورة هي الأفضل من حيث المبادئ النظرية , وحديث بناء الكعبة خير مثال على ذلك ، وحتى في أصل التشريع ، فإن اقتضاء الأدلة الشرعية للأحكام يكون على وجهين- كما ذكره الشاطبي في الموافقات (3/51) , ونحوه في إعلام الموقعين (3/2)
أحدهما : الاقتضاء الأصلي قبل طروء العوارض , وهو الواقع على العمل مجرداً عن التوابع والإضافات ، كالحكم بإباحة الصيد والبيع والإجارة وسن النكاح وندب الصدقات غير الزكاة , وما أشبه ذلك .
والثاني : الاقتضاء التبعي, وهو الواقع على المحل, مع اعتبار التوابع والإضافات ، كالحكم بإباحة النكاح لمن لا أرب له في النساء , ووجوبه على من خشي العنت , وكراهية الصيد لمن قصد به اللهو , وكراهية الصلاة لمن حضره الطعام , أو لمن يدافعه الأخبثان .
وبالجملة : كل ما اختلف حكمه الأصلي لاقتران أمرٍ خارجي .
إننا نؤمن بأهمية التناسب بين النظرية والتطبيق , ولئن كانت النظرية تؤثر في التطبيق فمن المنطقي ـ ونحن نضع (نظرية اجتهادية) في أي مجال : دعوي، اجتماعي، أخلاقي، اقتصادي ـ أن نحاول الاعتراف بالتطبيق , بمعنى أن نقدم نظريات تطبيقية , أي :يتدخل التطبيق في صياغة شكل النظرية ، وأقف مع هذا أكثر في الامتداد الثالث :(62/6)
3- من غير المنطقي أن تضع نظرية ، أو رؤية في أي مجال تأثيري في التربية ، في المنهج العلمي ، في المنهج الحركي ، في الدعوة وحركتها , أو غير ذلك وأنت لا ترى إمكانية التطبيق لهذه الرؤية أو النظرية , ومن حكمة التشريع أن أصول الدين توحيد الله ، والإيمان به وبرسله ، ونحوها ، لا يمكن أن تقع تحت عدم الإمكان؛ ولهذا اتفقت عليها الرسل والأنبياء ، وخوطب بها سائر بني آدم .
إن من الأزمات اليوم أن ثمت كماً كبيراً من النظريات المجردة غير المؤهلة للتطبيق أو القابلة له ، وكثير من أصحاب العمل الإسلامي اليوم يواجهون هذه الإشكالية ، وربما تجاوز كثير منهم هذا بالإصرار على الصراع مع الواقع لفرض نظرية ، أو رؤية اجتهادية وربما قضى الكثير من الوقت في هذه الدائرة ، وحاول تهدئة نفسه بشعور مجاهدة يتمثل في هذا الصراع .
وهنا يقع تمكين الأزمة وتعميقها ، وهو حين يلقي بشكل عفوي أو حماسي جلباباً شرعياً على مشكلة منتجة طارئة يجعل الاحتكاك بها أو محاولة كشفها وتصحيحها نوعاً من العدوان على قداسة شرعية !!
إن التصحيح الإسلامي في أي مجال يجب ألا يكون متعالياً على الواقع ، إن هذه القضية ذات تعقيد نفسي أكثر من كونها ذات تعقيد معرفي أو عقدي .
هناك نصوص شرعية كثيرة في ذكر الطائفة الناجية إلى قيام الساعة ، فيأخذها كثيرون بغير فقه مع ما عشقوه في نفوسهم من الصفائية الخاصة ، ثم يقدمون رؤية صفائية ذات طابع خصوصي ، وترسيم اجتهادي ، وتكون هذه الرؤية متعالية على الواقع ، وربما مثلت لمجموعة معينة نوعاً من الاصطفاء الشرعي الخاص يتجاوزون بها واقعهم ومجتمعهم ، وربما الأمةَ بنوع من الاعتذار النفسي كتصنيف الأمة التي لا تتعامل مع هذا الرأي الخاص تصنيفاً عقدياً , أو اجتماعياً أو نحو ذلك ، قد يكون شيء من ذلك صحيحاً ، لكن من الصعب إلزام الناس الخطأ وتعويق تجاوزهم له .(62/7)
والفرقة الناجية - التي خصها الرسول صلى الله عليه وسلم - منهجها هو منهج الإسلام الذي بعث به الرسول صلى الله عليه وسلم أي أنها هي التي تمثل الوضوح الإسلامي ، ومن خصائصه إمكانية تطبيقه في كل زمان ومكان .
يفترض أيها الإخوة ! أن نكون واقعيين ، وهذا لا يعني أن نتجاوز القواعد الشرعية من أجل الواقع .
إن الإسلام جاء ليحكم على الواقع ويقدم التصحيح , وفي حديث بناء الكعبة على قواعد إبراهيم السابق إشارة إلى الرؤية الشرعية النظرية المجردة ( إلحاق الحِجْر , فتح بابين للكعبة ... الخ ) جنباً إلى جنب مع الرؤية الشرعية العملية الواقعية ( بقاء الكعبة على ما هي عليه إلى اليوم وإلى أن يشاء الله ...) وكلاهما دين وشريعة فما تمناه صلى الله عليه وسلم كان شريعة , وما فعله من تركها على ما هي عليه مراعاة لواقع معين هو شريعة أيضاً , وأمثال هذا كثير . فهكذا يجب أن ندرك ونفكر ، لكن مع هذا ليس من الحق أن نضع امتيازنا على حساب أمتنا التي مر عليها تاريخ طويل من الصراع ، والضعف والجهل بالشريعة ، مع التسلط الثقافي الغربي المعاصر .
وأنتقل إلى إيضاح ذلك في الامتداد الرابع إن شاء الله .(62/8)
قراءة في هموم العمل الدعوي
26/01/2003
23/11/1423
في المقال سبق تحدث الشيخ سلمان بن فهد العودة بعد مقدمة مهمة عن عدة قضايا محورية أولها عن إشكالية تشبع كثير من التجمعات الإسلامية بالرؤية الإقليمية للإسلام وما ترتب عليه من موجبات الصراع بين الإسلاميين أنفسهم .
وثانيها عن إشكالية الموازنة بين النظرية والتطبيق والافتراض الخاطئ بأن صحة النظرية تعني حتمية التطبيق .
وامتداداً لما سبق تحدث فضيلته عن إشكالية طرح نظريات غير قابلة للتطبيق وما يترتب على ذلك من إلباس هذه النظريات لباساً شرعياً يجعل من الاقتراب منها نوعاً من الإعتداء على قداسة شرعية!
ويوصل في هذه الحلقة الثانية امتدادات أخرى لما سبق.
4- أيها الإخوة يجب أن نتجاوز الخطاب الخاص الموجه إلى التجمعات الخاصة ذات الطابع الموحد باسم ( جماعة ) ، أو ( منهج ) أو ( حزب ) ، أو ( علاقة ) أو نحو ذلك ، وليس معنى هذا ضرورة رفض التجمع الذي يقع به خير كثير أو تقتضيه أسباب مختلفة . إن وجود التجمع لا يلزم منه الاقتصار عليه .
إن العالم الغربي - ضمن مشروع ( العولمة ) – واضح في مخاطبة كل فرد أياً كانت ظروفه وأياً كان واقعه ، ونحن أحق بها وأهلها ، يجب أن نخاطب إخواننا المسلمين أياً كانت ظروفهم الواقعية في التربية والأخلاق والثقافة ، وغير ذلك .
إننا نمضي كثيراً من الوقت والجهد في ترتيب تسابقنا الخاص ، وتصنيف بعضنا بعضاً، وهذه فيما أحسب سذاجةٌ يعاني منها كثيرون . نعم ! إننا حين نضع الرؤية الخاصة بنا ميزاناً لنفوسنا ولغيرنا , فإننا نكون سذّجاً ؛ لأننا نعيش تقابلية غير ممكنة الاستيعاب , ومن هنا كان المفترض أن نخضع جميعاً للإسلام ولحكمه وميزانه ، وأن ندرك واقعنا الخاص بشكله البشري المعقول , وأن من غير العدل قصر دين الله ورسالة الإسلام أو حصرها في رؤية أو محاولة خاصة , ولو كانت تتمتع بمشاعر ومقاصد فاضلة ، ونيات حسنة ، وأهداف نبيلة .(63/1)
وفي تقديري أن من الإشكاليات اليوم تلخيص الإسلام برؤية يرسمها شخص أو أشخاص ربما لم يصلوا رتبة الفتوى , فضلاً عن الاجتهاد !
أيها الإخوة والأخوات! يفترض أن نتخلص من النظرة الجاهلية لمجتمعاتنا ، وأن ندرك أن في مجتمعاتنا خيراً كثيراً ، وقابلية للتصحيح ، وأنها محل الدعوة والمجاهدة والصبر على التواصي بالبر والتقوى والحق والصبر ، وأن نهدّئ من الطرح الخاص الذي يرسخ الحدود والفواصل بين فئات الأمة لمصلحة الخطاب العام الذي يعيد الثقة بالأمة الواحدة كما يسمها الله سبحانه في كتابه: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) [الأنبياء:92] .
من الصعب أن ينقلب الإسلام إلى مفهوم حزبي واحد , أو رؤية لجماعة إسلامية واحدة ، فيكون مشروعها بتمام صياغته هو الإسلام أو أرقى رؤية للإسلام .
إن كثيراً من إخواننا قد يعترضون كثيراً بالحقيقة النبوية ( الفرقة الناجية , أو الطائفة المنصورة ) صحيح أنه تواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحاح والسنن والمسانيد أنه لا تزال طائفة من أمته على الحق ظاهرين ، لكن هذه الطائفة يجب أن تعرف من منهاج النبوة نفسه أنها الطائفة القائمة بأمر الله ، كما وصفها الرسول صلى الله عليه وسلم أي القائمة بالإسلام كما جاء من عند الله المتمثل بالكتاب والسنة وإجماع الصحابة .
وهذا يتطلب قدراً من الفقه للإسلام ، ومعرفة الحقائق الشرعية على وجهها الصحيح ، ولئن كان علماء الأمة وأئمتها الأوائل وضعوا قواعد الاعتقاد ، وقواعد الشريعة ؛ فإن صور التطبيق في الحكم على الأحوال الطارئة لا يزال بحاجة إلى فقه ورؤية شرعية .(63/2)
إن إخبار المصطفى صلى الله عليه وسلم بهذه الفرقة الناجية لم يكن من أجل أن تتخذ شعاراً يصادر به المسلم أخاه المسلم ، أو يجتاح عرضه ، وربما دمه أحياناً ، أو ليكون ذريعة للقطيعة مع الأمة التي تحقق لها وصف الإسلام ، وإن أخلّت بكثير من أحكامه وواجباته ومقوماته .
لقد كان من أُسُسِه - عليه الصلاة والسلام - ( المسلم أخو المسلم ) ، (كل المسلم على المسلم حرام ) ، ( وكونوا عباد الله إخواناً ) وعليه يجب أن ندرك أنها من أسس الفرقة الناجية .
يجب أن نفرق - كما جاءت الشريعة بذلك - بين ثوابت الإسلام ، والاجتهاد الخاص الذي يستعمله من هو أهل للاجتهاد ، فضلاً عمن هو دون ذلك .
إن الإشكالية تقع في كون بعضنا ينتج رؤية مبنية على جملة من الثوابت الشرعية ، مع جملة من الحركة المعرفية الاجتهادية التي تكون - في كثير من الأحيان - هي المنتج للصياغة المنهجية ، فيتمثل عند كثيرين أن المخالفة للحركة المنهجية ، أو لهذه الرؤية يمثل مخالفة للإسلام ؛ ولهذا يعيش كثيرون روح الجهاد الخاصة في مثل هذه الظروف ، وكأن الفرقة الناجية المخبر عنها في الأحاديث النبوية يجب أن تكون مجموعة دعوية خاصة ، أو جماعة ذات علاقة واقعية بشرية قائمة وارتباط ذاتي في التعامل .(63/3)
أو كأنه يجب أن تكون - من خلال منهج اجتهادي خاص في التصحيح والتربية والدعوة - وحدها الممثل للفرقة الناجية ، وربما حاولنا ( عند ظهور من يحاكينا في الرؤية والفهم ) إضافة أو ترسيم مسائل اجتهادية جديدة بالطابع الثبوتي لنبقى أصحاب الاختصاص الشرعي الاصطفائي وحدنا ، حتى ليغدو التميز عن غيرنا هدفاً نسعى إليه ولو بالإلحاح على بعض الفروع والأحكام , أو حتى الفتاوى الفقهية الخاصة في مسائل يسيرة كصدقة الفطر , أو جلسة الاستراحة , أو استخدام لغة معينة في الفقه والصياغة ، مع أن التميز المحمود المشروع إنما هو عن غير المسلمين أو عن الفجار ، أما المسلم العدل فقد يفضي تقصّد التميز عنه إلى نوع من الشهرة .
كان في مقدمة رسالة الإمام ابن تيمية ( الواسطية ): ( أما بعد : فهذا اعتقاد الفرقة الناجية المنصورة إلى قيام الساعة أهل السنة والجماعة ...)
وفي المناظرة قال له بعض علماء الفرق المخالفة لهذا المعتقد المفصل: يكون أئمتنا غير ناجين لمخالفتهم هذا المعتقد ؟ ! فقال الإمام ابن تيمية: أنا أقول: كل من اعتقد هذا المعتقد فهو ناج عند الله ؛ لكونه هو المذكور في النصوص الصريحة ، ومن خالفه فلا أحكم عليه بعدم النجاة في الآخرة ، بل هو وربه ، والله لا يعذب إلا من عصى من بعد ما تبين له الهدى .
إننا نؤمن تماماً بعقيدة أهل السنة والجماعة ، ونؤمن كذلك بمنهج أهل السنة والجماعة ، لكن يجب أن ندرك أن هذه العقيدة هي حقائق شرعية صريحة ، وكذلك قواعد المنهج ، هي حقائق شرعية صريحة وليس نظراً واجتهاداً تحاوله جماعة أو حركة .
لقد نعى الإمام ابن تيمية كثيراً على الذين يرسمون مذهب السلف بأوجه من نظرهم ، واجتهادهم ، وذكر أن هذه طريقة مخالفة لطريقة السلف أنفسهم ، بل هي من طرق مخالفيهم ، وأن طريقة السلف تكون بالتواتر ، والإجماع في الحقائق الشرعية المتمثلة في عقيدتهم ومنهجهم . هذه حقيقة علمية يجب أن ندركها .(63/4)
نعم . إنك حين تقول عن مقالة أو فعل : إنها موافقة لمذهب السلف أو مخالفة له ، فيجب أن تكون المقالة أو الفعل موافقة أو مخالفة لأئمة السلف ، أو صريح النصوص .
ولم يكن من شأن أئمة الإسلام _ الصحابة ثم الأئمة بعدهم _ إدخال مسائل الخلاف والاجتهاد في الإضافة السلفية ، أو عصمة الصحة بأي شعار أو مفهوم ، أو حتى إيحاء ، ولا شك أن الاختصاص برؤية معينة قد لا يمثل معضلة كبرى ؛ إذا ما أدركنا الاختصاص والمحدودية في هذه الرؤية ، وإن كنا نفضل أن تكون رؤيتنا أكثر استيعاباً حتى تكون أكثر هداية .
5- يجب أن نحدد الثوابت بشكل واضح ، وأن نتجاوز إشكالية الربط بين هذه الثوابت وبين الصور الإلحاقية لها التي هي إنتاج للاجتهاد والنظر ، وأن ندرك أن هذا الربط لا يمثل عصمة ضرورية لهذه الإلحاقات الاجتهادية .
والتخريج على الثوابت أصبح اليوم يمثل معضلة علمية ، لقد استعمل الفقهاء في مذاهبهم التخريج الفقهي على القواعد ، أو حتى على قول الإمام , وطرأ في المعرفة السلفية المعاصرة عند بعض فضلاء الدعاة التخريج على الثوابت ، فأنتجوا فروعاً كثيرة ألحقت في القيمة المبدئية بالثوابت السلفية ، وهذا في الغالب هو سبب الانقسام اليوم في الرؤية السلفية ، بل وعدم وضوح الاتصال السلفي في عدد من المناهج المنتسبة للسلفية اليوم .
إن السلفية يفترض ألا تكون متجاوزة للهدي الإسلامي ، وهذه حقيقة شرعية وعقلية لازمة ، ويجب أن يبقى الأصل أصلاً ، والخلاف خلافاً ، والاجتهاد اجتهاداً .
ولئن كان بعض الإخوة اليوم ينقمون على من يريد أن يحوّل الأصل إلى اجتهاد ، فكذلك يقع اللوم على من يحول الاجتهاد والخلاف إلى أصل .(63/5)
6-أيها الإخوة يفترض أن تكون الدعوة قادرة على استيعاب كل إشكاليات العالم المعاصر , وليس غريباً أن نكون منقسمين تجاه هذه النظرة قبولاً أو رفضاً ، ولكن ربما كان من الخير أن نفكر في سببية انقسامنا أمام وجهات النظر ، والأطروحات المقدمة من داخلنا أو خارجنا .
إن الاختلاف ينبغي أن يكون مقبولاً ، نعم ! لكن ليس من الخطأ أن نعرف سبب اختلافنا ، بل هذا هو حقيقة الفهم للخلاف .
يتفق الإسلاميون على رفض المشروع العلماني فكراً أو تطبيقاً مع إدراك أن الرؤية العلمانية تعترف بدائرة مخصصة للدين ، ولكنها تفرغ الدوائر الأخرى من الأثر الديني وفي الرؤية الإسلامية: ( وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ )(الأنفال: من الآية39) وهذا الموقف الواضح يمثل رؤية شرعية مشرقة وعمقاً إسلامياً ، ولكن حينما تتحرك في داخل المشاريع الإسلامية تجد في كثير من الأحوال إشكالية البناء على وفق هذا الموقف ، وهنا ربما استعمل كثير من الإسلاميين محاولة جادة للهيمنة الشرعية على الدوائر التي تمثل شكلاً استقلالياً : الاقتصاد ، الإعلام ، المجتمع وحركته ، التربية ، النظم ، والتعامل ، تتمثل في الاقتصار على لغة الحكم على الأشياء , خاصة أحكام الرفض والمنع دون رسم واضح للبديل الشرعي, أو الصياغة الشمولية لهذه الدوائر القائمة التي تزاحم العلمانية عليها لفرض وجودها ، وقد نجحت في بعض الأحوال ، ومن أسباب فرض العلمانية وجودَها أو حتى تأثيرها الذي قد لا يدرك كثيرون من العامة مبادئه الأولى الفراغ الذي تركه الإسلاميون في هذه الدوائر .
إن إعطاء أحكام المنع والتحريم لصورة في الاقتصاد والاجتماع ونحوها ليس كافياً .
لتكن هناك مبادرات إسلامية يعيش الناس في ظلها اقتصادياً واجتماعياً ، وهذا شمولية الرسالة .(63/6)
فالإسلام لم يأت ليلاحق أشكال التجاوز البشري فقط في أي مجال من مجالات الحركة البشرية ، والرسالة الإسلامية تضمن صياغة مشاريع النهضة الشمولية في أي دائرة .
يفترض - أيها الإخوة - أن نمتلك صياغة ذات قيمة عملية في كل الدوائر : الثقافية ، الاجتماعية ، الاقتصادية ، التربوية .
والحركات الإسلامية اليوم تعاني مشكلة في تبشيرها بالمشروع الإسلامي ، من حيث عجزها عن مواكبة التبشير العقدي بصياغة حياتية تقدم البديل الشرعي , بينما هي تواجه مشاريع علمانية متمكنة في الواقع ، وربما كان من أهم الأسباب هنا القصور في المرجعية العلمية القادرة على التعامل مع الحال القائمة .
إن امتلاك مشروع تطبيقي يعني كثيراً من الواقعية في الطرح الإسلامي ، وأنت لم تفعل شيئاً كثيراً بمجرد الحكم على الواقع بالتجاوز أو النقص ، أو حتى بتجاهل الواقع الثقافي والاجتماعي والتربوي .
يفترض أن نتجاوز مرحلة الحديث المجرد عن الحدود الثقافية والاجتماعية والتربوية والاقتصادية إلى صنع مشاريع النهضة ، وأن نتجاوز مرحلة التخصص الضيقة في دعوتنا، بل علينا أن نفلح في تجاوز أزمة المفهوم الضيق للدعوة والإسلام ، والطرح الذي يمارسه بعض الدعاة اليوم يمثل تقنيناً حدودياً للأثر الإسلامي حتى أصبح كثير من الإسلاميين لا يملك إلا خطاباً واحداً يناسب أنموذجاً واحداً من المجتمع والبقية في دائرة الصراع أو التجاهل .
والملاحظ أن لغة كثيرين منا ومشاريعهم المقدمة غير كافية لاستيعاب حركة المجتمع ، وظروفه القائمة ، والإسلام جاء واقعياً في خطابه ، وفي تشريعاته ، ولهذا صارت الشريعة متدرجة في كثير من الأحكام .(63/7)
بعضنا اليوم يتجاهل هذه القيمة أو لا يفقهها تماماً ، والإسلام ليس ورقة تمنحنا الوصاية على الناس ، أو حركة لمراقبة الفرد من الداخل البشري ، إنه مراقبة بين العبد وربه ، ولهذا يجب أن يكون مقصودنا تديين الناس لرب العالمين ، وليس أن نحظى بالتبعية والالتفاف حولنا .
7- من إشكاليات الرؤية عند بعض الإسلاميين تقديم المطالبة الكمالية للإسلام ، ورسم صورة مثالية للالتزام والتدين ، والمطالبة بالنموذج الكلي في التدين ، وتمييز الدعاة أنفسهم بلغة خاصة ومظهرية خاصة , وربما صعبت الحركة داخل المجتمع أو بعبارة أظهر أصبحنا إلى حد كبير غير قادرين على الاندماج داخل مجتمعاتنا الإسلامية، وأصبح المجتمع الإسلامي في كثير من الأقاليم عاجزاً عن فهم التطبيق الإسلامي ، فإنه لا يشاهد إلا حركتنا الخاصة ، وهي حركة لها واقع محدود , وغير مؤهلة للتطبيع الاجتماعي ، وأصبحنا نتعاطف مع مجتمعاتنا في الأزمات فقط ، وربما نظرنا إلى الواقع الاجتماعي نظراً معقداً يتعذر علينا أن نندمج معه بشكل صحيح .
أيها الإخوة هذه في تقديري من مشكلات عملنا اليوم ، ولئن كانت هناك بداية رؤية إسلامية واعية تجاوزت هذه العقدة فما زال الواقع تحت سيطرة (النظرة الكمالية) في المطالبة .
من المهم أن نعي أن مجتمعاتنا قد تعجز عن الانتظار والإملاءات الخاصة التي بعضها ليس له وضوح شرعي .
والإسلام الذي يتعلق به حق الأخوة والحقوق الإسلامية ليس مقصوراً على التمسك الخالص التام ، بل هو تحقيق أصل الإسلام ، ويفترض أن نفتح علاقات ولائية صادقة مع كل أشكال المجتمع وطبقاته مع الدعوة إلى التمام والإيمان ، وترك منكر القول والفعل ، وألا نكون وحدنا وننتظر أن يتحول المجتمع إلى رؤية نقدمها .(63/8)
إن هذه الرؤية لو كانت تمثل الإسلام تماماً لم يكن من الشرعي ولا من العقلي الوقوف في العلاقة الولائية التعاملية عندها ، فضلاً عن كونها محاولة خاصة قد تكون أحياناً غير مؤهلة للتطبيع الاجتماعي لكونها تقف وراء إلحاح معين في مفهوم نسبي ولو كان ذا قيمة مبدئية عالية ، وهذا ما نتواصل في الحديث عنه في الرقم التالي .(63/9)
قراءة في هموم العمل الدعوي
01/02/2003
29/11/1423
8- بعض صيغ العمل الإسلامي اليوم تتعلق بإلحاح نسبي يصبح في كثير من الأحوال هو قوامها الحركي والثقافي ، وربما ساعد على هذا التأكيد ما يحمله هذا المفهوم من قيمة مبدئية ، أو قدرة على تجاوز المرحلة عند نجاحه ، وخذ مثلاً: (المفهوم السياسي) إنه مفهوم نسبي ؛ لأن الإسلام ليس لغة أو رؤية أو نظرية سياسية فحسب ، ومن هنا كان مفهوماً نسبياً ، وهذا لا يعني أنه لا يحمل قيمة مبدئية خاصة .
إن المفهوم السياسي أساس في الإسلام ، بل أكثر المعارك ضراوة في العصر الحديث هي معركة الإسلام والعلمانية ، وأيضاً فإن المشكلة السياسية اليوم على مستوى الأمة مشكلة عميقة ومتداخلة مع غيرها ، لكن مع هذا القدر من الصدقية ؛ فإن من الصعب أن نتحول إلى إلحاح خاص على هذه المسألة ونحن نقدم الإسلام .
فرق - أيها الإخوة - أن نتكلم من واقع كوننا سياسيين فحسب ، أو أن نتكلم من واقع كوننا إسلاميين , والسياسة جزء من الإسلام .
وهذا المثل ( المفهوم السياسي ) يقال في غيره أياً كان هذا الغير . لماذا ؟
لأن الإسلام ليس رؤية نسبية ، ولأن مشكلة الأمة اليوم لا تتسم بالنسبية ، ولئن كان أهل الكتاب نسوا حظاً مما ذكروا به ؛ فإن هذا في الغالب هو الوجه الآخر للإلحاح على بعض جوانب الشريعة ومنحها فوق حقها .
9- إذا نظرنا في واقعنا الإسلامي وصيغ العمل الإسلامي وجدنا قدراً كبيراً من الاختلاف والتمايز ، وإني أجد أن من غير المهم أن نشتغل كثيراً في التنظير لتوحيد العمل الإسلامي في هذه المرحلة ، لماذا ؟
لأننا لا نملك آلية التوحيد ، وأيضاً فإن هذا الواقع من غير المهم أن نسعى لتوحيده ، فربما كان توحيد العمل يمثل إلغاءً عند كثيرين ، وهذا يعني توليد الصراع من أجل توحيد العمل .(64/1)
يفترض أن نكون واقعيين ، ونعرف قدر إمكانيات العمل التي نمتلكها ، لكن ربما كان من الخير أن نعي أنفسنا كثيراً , وندرك أن هذا الاختلاف يمكن أن يتحول إلى تعددية إسلامية حميدة تستوعب الواقع كله .
إن المجتمعات بل والأفراد تختلف عقولهم ونفوسهم والمؤثرات التي يقعون تحتها، وهذا يجعل التعددية مطلباً ملحاً مع المحافظة على أصول الدين وثوابت الشريعة وجعلها مرتكز الاجتماع. والعمل الإسلامي اليوم رغم اختلافه وتمايزه في كثير من الأحوال ؛ إلا أنه يملك تجمعاً مؤهلاً للصياغة الشمولية إذا استطعنا الاعتراف والإيمان بثلاث حقائق :
أولاً: تجاوز خلافاتنا الخاصة ، والتخلي عن المطالبة الذاتية .
ثانياً: عقد وفاق ولائي على مستوى المشاعر، والثقافة العمومية للإسلاميين، وذلك بإقرار حق الاجتهاد الشرعي بحدوده ، فالاجتهاد من أهم الثوابت وهو روح المتغيرات ، وأساس الاختلافات .
ثالثاً: القدرة على الإيمان بالترقي، والتجديد في الصياغة ، والتطبيق الذي نمثله ، والتخلص من الرؤية السرمدية لمشاريعنا الخاصة .
أيها الإخوة حين ندرك مقدراتنا التي نملكها ندرك أننا أقوياء فعلاً ، وأننا نؤثر في المجتمعات كلها، ومن أخص مقدراتنا تحويل الواقع الخلافي إلى تعددية رشيدة قابلة للحوار والتصحيح مع الاحتفاظ بحق الاجتهاد الشرعي ، والمحافظة على الثوابت والأصول.
من غير المنطقي عقلاً وشرعاً أن تتحول اجتهاداتنا الخاصة إلى قرارات ملزمة لغيرنا من إخواننا ، ومن غير العقلي والشرعي ألا ّ نؤمن إلا برؤيتنا الخاصة ، ومشاريعنا الاجتهادية، إننا هنا نقع في غلط شرعي ونحن نمثل العمل الإسلامي .(64/2)
يجب أن تكون الأصول الشرعية واضحة ، وثوابت الإسلام متاحة لكل فرد في المسلمين وما عدا ذلك فهو صياغة خاصة تجريبية ، قابلة للمعارضة والتجاوز والتطوير والمخالفة وفق ضوابط الاجتهاد الشرعي المحكم ، مع أني أُفضل كثيراً أن نتجاوز لغة المعارضة في داخلنا ، وأن نُربي الجيل القادم على التعددية والحوار ضمن القواعد الشرعية المنضبطة .
إن المدارس الفقهية الأربع في التاريخ الإسلامي (الحنفية ، المالكية ، الشافعية ، الحنبلية) كانت استجابة للواقع الإسلامي اللاحق لعصر الأئمة ، وقدمت رؤية علمية عالية في الفقه الإسلامي ، لولا بعض حركة التعصب التي تطرأ أحياناً في صفوف الأتباع, وهكذا الأمة اليوم ، إنها تطالبنا بتنويع الطرح والمشاركة الجادة في كل المجالات لنصنع أمة متكاملة الرؤية والتأثير ، ولنحقق قدراً من القواسم المشتركة بين فئاتها يصح معها أننا أمة واحدة .
إن التفاوت والاختلاف - مهما تعاظم في نفوسنا - لايعد شيئاً ذا بال إذا قورن بمساحة الاتفاق العريضة المستندة إلى محكمات هذه الشريعة وأصولها .
10-هذه الرؤية لا تعني أن نقع في الخلط الشرعي أو ألاّ نميّز الحق من الباطل ، إن التمييز بين الحق والباطل أصل في الإسلام ، بل هو من حقائقه الشرعية والقدرية ، لكن يجب أن نقدر أن الباطل هو ما يخالف الإسلام نفسه وليس ما يخالفنا نحن ، ومن هنا يفترض ألا نركب لغة الصراع بين الحق والباطل إلا ونحن متحققون من واقع الحال ، إن ثمت أصولاً شرعية كثيرة أحياناً يساء استخدامها حتى لدى بعض الخيرين .
11- يفترض بعض إخواننا أن من الصواب الإسلامي أن يقدم رؤية تطبيقية اجتهادية خاصة به تحظى بروح سرمدية البقاء ، وهذا في تقديري ليس مهماً ، ولا يمثل إمكانية التطبيق العملي ، بل يبقى ظلاً له رسمه ، وليس له أثره .(64/3)
يفترض ألا نصر على تقديم مشاريع طويلة الأمد من المشاريع ذات البعد التغييري الشمولي، وحين نمضي جهداً وعمراً في رسم مشروع يحظى بروح طويلة للبقاء ، فنحن هنا نخسر الواقع أكثر مما نتصور , ولهذا لا ترى لكثير منا أثراً في الواقع الحضاري للأمة ، بل هذا موقع يتسم بجفاف التأثير الإسلامي اليوم .
وتسارع التغيرات العالمية يعني أننا نعيش لغة المرحلية في المشاريع الاجتهادية ، نظراً لتعدد مقومات تحريك المجتمع الإسلامي والتأثير عليه ، ونحن يجب أن نتعامل مع هذه المحركات المؤثرة على مجتمعاتنا بواقعية يلمسها الناس ويدركون تناسبنا مع الواقع , بل ومع متطلباتهم انطلاقا من تأصيل الشريعة .
إن هذا العصر الذي نعيشه يمتاز بسرعة في الآلية الإنسانية انعكس على سرعة الذهنية الإنسانية نفسها ، ومن هنا أصبح الإنسان أكثر استعداداً للتطور , وصار لديه قابلية كبيرة للتجديد ، هذه القابلية تفرض علينا أن نقدم مشاريع تحمل روحاً تطويرية ، ولغة تجديدية في الرؤية الثقافية والفكرية والأشكال الحضارية كلها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والتربوية سواء على مستوى القرار ، أو على مستوى التعامل .
لكن يفترض ألا يكون التجديد ثورة على المجتمع من داخله .
ويجب أن نسعى في تحقيق الأصالة الثقافية مع الواقعية التأثيرية , وكما أنه من غير المنطقي أن ننقطع عن تراثنا وتاريخنا فإن من غير المنطقي أن ننقل الصور التاريخية كما هي ليعرفها من لم يكن يعرفها ، التاريخ يعطينا الفكرة ويدع لنا رسم إطارها ، والتاريخية المطلقة شكلت عقبة في تطور فكر الأمم ، ونحن - أهل الإسلام - وإن كنا نمتلك تاريخية أصيلة إلا أننا يجب أن نكون معتدلين ، وأن ندرك أن الإسلام المنزل من عند الله ليس هو التاريخ الإسلامي بكل إشكالياته ، وتطوراته الثقافية والسياسية والاجتماعية.(64/4)
يجب أن يستعمل الإسلاميون ورقة جادة في هذه المواقع الاتصالية وهذه الحركة الإعلامية المتطورة ، وهذه اللغة الثقافية القائمة للتخاطب مع العالم كله, أوعلى أقل تقدير للتخاطب مع شعوبنا المسلمة، وإخواننا المسلمين في العالم كله .
يجب أن نؤمن بالتواصل الثقافي بين الإسلاميين ، وتطبيع لغة الحوار ، والاستعداد للتصحيح حسب قواعد الإسلام ونصوصه ، وأن نخرج في هذه الآلية العالمية ونحن نقدم شكلاً صادقاً عن ديننا وإسلامنا حتى على مستوى المظهر العادي ، فضلاًَََ عما وراءه .
12- يفترض أن نكون سباقين أمام مجتمعاتنا وأمتنا ، وأن نمارس التحدي الحضاري في كل أشكاله ، فمن الصعب أن ترى بعض الدعاة الإسلاميين لا يعرف مظاهر التحدي الحضاري إلا بعد تطبيعها في مجتمعه .
يجب أن نتجاوز عقلية الانغلاق ، وأن نعرف بصورة إسلامية كل شيء في الحركة الحضارية المعاصرة ، وأن نقدم الرؤية الإسلامية الواعية في كل شيء مع الإيمان بحق التخصص ، والتعددية التفسيرية الممكنة شرعاً ( وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً)(الإسراء: 12) (وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُون َ) (الأعراف:181)
13-من أخص الإشكاليات القائمة غياب الوعي داخل الأمة ، ليس على مستوى العامة بل على مستوى كثير من أصحاب المواقع والمخاطبة .
إن هذه الأمة - بحمد الله - تحمل قيمة مبدئية لا يمكن لأي تغيير بشري أن يغيبها ، حتى يأذن الله بخراب هذا العالم ، لكن مع هذا ندرك كثيراً أن المشاريع العالمية التي صنعها أعداء الأمة في شتى المجالات في غفلة الأمة وسباتها زادت من تغييب الوعي بحقائق الإسلام وشموليته .
ومن صور الوعي الغائبة ( عالمية الإسلام ) فهذه الحقيقة ليست حاضرة في أذهان كثيرين حينما تضع رصداً أو قراءة للمناهج الإسلامية المعاصرة تدرك هنا الاختصار لهذه العالمية .(64/5)
يفترض أن يكون الإسلام كما هو من عند الله ، وألا يتحول إلى ممارسات تقفز على الحقائق الشرعية والواقعية .
أيها الإخوة هنا قضية مهمة وهي أن من الصعب أن ندرك حضور الهيمنة الشخصية في عدد من المشاريع الإسلامية , وأن كثيرين يتدخلون بشكل شخصي من وحي وأثر طباعهم الخاصة لصياغة الرؤية المنهجية لمشروع إسلامي ما .
من الحرج الكبير أن تكون طبيعتنا النفسية والتعاملية والظروف الخاصة بنا هي الحاكم على رؤيتنا في قضايانا الخاصة والعامة .
قد ترى رؤية ما فتدرك بشكل واضح أنها إنتاج لطبيعة خاصة أكثر من كونها إنتاجاً علمياً ذا طابع معتدل ، ومن الصدق أن نحاول الاعتراف بتجاوزنا في الصياغة لمشاريع العمل الإسلامي في بعض الأحيان .
14- لعل من الصواب أن ندرك أن التكوين النفسي الخاص يمارس هيمنة داخل قراراتنا العامة والخاصة .
صحيح أن الإسلام ليس أحكاماً مجردة ، وطبيعة الاجتهاد يقتضي استصحاب الحال ، والطبيعة الخلقية للمجتهد والناظر ، وقد اختلف الخيّران ( أبو بكر وعمر ) في شأن أسرى بدر ، وعلق رسول الله صلى الله عليه السلام بأن الله يقوي قلوب رجال فيه , ويلين قلوب آخرين فيه, وهذا متصل بصفة فطرية لكل منهما , فأبو بكر كان مألفاً محبباً في قومه , وعمر كان أيّداً شديداً ؛ ولذا سمي هذا بالصديق وهذا بالفاروق .
ولعل من غير الممكن الانفكاك عنه ، بل وليس من الشرعي أن نقصد هذا القصد ، لكن مع هذا تبقى ضرورة الاحتفاظ بعلاقة متناسبة بين الحقيقة الشرعية وبين الأثر النفسي الخاص .
من غير المنطقي أن تكون رؤيتنا تتمتع بذوقية خاصة متأثرة بشكل رئيس بالطبيعة التي نتمتع بها ، ونحن ندرك أن كثيرين يحكمون بالذوق النفسي والعقلي المنتج للعلاقة مع الواقع ، ولذا فإن تباين المواقف في كثير من الأحوال ليس نتيجة اجتهاد شرعي ، بل هو نتيجة ذوقية غائبة عن الإدراك .(64/6)
15-حين نحاول الوصول إلى قناعة عمومية بأهمية الوعي داخل صفوف الأمة كلها ، ينبغي أن نكون واقعيين ، وأن ندرك أن غياب الوعي ظاهرة لا تتعلق بالعامة والجماهير، بل هي ظاهرة داخل صفوف النخبة في التقدير الاجتماعي القائم .
والجلوس في المقاعد الأمامية ( الرموز ، الدعاة ، المربّون ،... ) لا يمثل بشكل ضروري حصانة خاصة بتدني مستوى الوعي والإدراك .
ولعل المركزيات لدى كثير من الإسلاميين متأثرة بالواقع الاجتماعي القائم في الرسم القيادي ، فكثيرون يكتشفون أنفسهم في مواقع التأثير ، وهم لا يملكون الأهلية الخاصة بهذه المواقع التي يفاجئون بها .
ولهذا تولد التسابق على السلطة الدينية ، وهي حق تبعية المجتمع وهذه إشكالية تربوية حادة التأثير على المجتمع .
16-هناك إقبالية ظاهرة متزايدة لدى الإسلاميين ، بل لدى الأمة كلها في رفض التعصب الفقهي والتقليد ، ومحاولة إيجاد علاقة شمولية على مستوى الخاصة والعامة مع الدليل ، وهذا تطلع حسن وجميل ، لكن من حيث الحقيقة فإن هذه المحاولة مختصرة في تجاوز صورة أو صور معدودة للتقليد والتعصب ، كتجاوز التقليد والتعصب لمذهب فقهي من المذاهب الأربعة ، أو بعض الأشكال المعاصرة ، لكن تجد على مستوى الخاصة والعامة ممارسات للتقليد والتعصب ربما رسم كثير منها باسم الدليل والاجتهاد ، واتباع الحق وأمثال ذلك ، والألفاظ غير المعاني .
وكثيرون ينتقلون من التعصب الفقهي لمذهب حنفي أو حنبلي أو شافعي إلى التعصب لفقيه أو منهج معاصر , أو ينتقل من التعصب الفقهي إلى الذوبان في منهجيات دعوية تقوم على الاجتهاد .
ربما كان هذا واقع الجمهور والأتباع ، لكن يجب أن ندرك أن هناك تناسباً بين طرح الخاصة سواء في المجال الفقهي أو الدعوي أو التربوي وبين الأتباع ، قد ينظر كثيرون إلى علاقة عفوية في هذا الواقع ، لكني على يقين أنها علاقة تأثيرية جادة , وإن لم تتم بصورة قصدية هادفة .(64/7)
حين نتكلم عن التعصب والتقليد فإننا كثيراً ما ننظر بشكل تلقائي إلى الأمام لنتعرف على الطرف المقلَّد الذي نتواصل معه ، لكن ربما يحسن أن ندرك أن التعصب والتقليد ليس بالضرورة ثنائي القوام، وكثيرون من الدعاة وطلاب العلم وأشكال المتخصصين يتعصبون لنفوسهم وهم لا يشعرون .
أحياناً يكون الإلحاح في تقديم الاجتهاد - في أي مجال أو تخصص- ممارسة غير واعية لتكريس التعصب ، بل وتطبيقه بشكل صارم , والشأن القضاء على التعصب والتقليد المذموم ، وليس في الانتقال من صورة إلى صورة أخرى مماثلة لها أو دونها !
17-أيها الإخوة حينما نتحدث عن نشر الوعي ، فأول صور الوعي نشر العلم الشرعي والأخلاق الفاضلة ، فبهذين تحرك عقول الناس ونفوسهم في مشاريع الإصلاح الشرعي ؛ ولهذا فإن الرسل وأولي العلم الربانيين كذلك ، وفي قول الله تعالى عن الخضر صاحب موسى : (فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) [الكهف:65] ، يذكر الإمام ابن تيمية عن هذه الآية أن من خصائص الأنبياء وأتباعهم أولي العلم الجمع بين العلم والرحمة ؛ لأن الناس لا يُدَيَّنون بواحد منهما فقط ، ولهذا جاء قوله تعالى : ( وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْر)[آل عمران: 159] .
نعم! على المصلحين أن يعرفوا العلاقة مع العامة ، وأن يدركوا أنهم ليسوا سادة على السواد من الأمة ، وليسوا أوصياء على الناس ، بل هم دعاة , ومن حق الأمة أن تشاركهم الرأي والتأثير والدعوة .(64/8)
علينا تجاوز عقدة مركزية الدعوة والرأي والمشورة ، وتفعيل التجمع الإسلامي كله ، وفتح العلاقات والحوار ، والتربية عليه داخل الدوائر الإسلامية ، وتجاوز عقدة الزعامة والوصاية ، وتطبيع الحوار بين الخاصة والعامة ، وتأمين حركة الدعوة وحرية الكلمة والمشاركة والنقد التي تقع داخل حدود الشريعة ومقاصدها .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته(64/9)
ما بعد العراق
12/04/2003
10/2/1424
قوات غازية تجتاح عدة ولايات أمريكية -بما فيها واشنطن- وتقتحم البيت الأبيض، واختفاء الرئيس الأمريكي ونوابه ومساعديه وسط حالة من الفزع والذهول !.
الثوار الغاضبون المحتجون على السياسة الأمريكية يحتلون الشوارع، ويهتفون ضد الإدارة، ويتهمونها بممارسة جرائم حرب وإبادة، وبتضليل الشعب، وبانتهاك وخرق القوانين ومصادرة الحقوق.
مجموعة من السجناء تقتحم السجن، وتنضم إلى الثوار .
مدمنو مخدرات يرفعون لافتات تقول:"كفى ترويعاً للشعب كفى ترويعاً للآمنين" .
محتجون يدمرون تمثال الحرية، ويضعون عليه خرقة مكتوب عليها : انتهى وقت الخداع، اكشفوا الأقنعة عن وجهوكم البشعة يا تجار النفط، الشعب يرفضكم ولن يختاركم بعد اليوم .
أيدٍ خفية تحرص على الفوضى والدمار؛ نكاية بالإدارة وإظهاراً للشماتة بها .
خمسون ألفاً من اللصوص في سان فرانسيسكو يتجولون في الشوارع .
هل أنت في حلم لذيذ ؟!
هذا الحلم اللذيذ المنبعث من عمق الخيال هو انعكاس لما يجري في عاصمة الرشيد اليوم، ولعله صورة من صور المستقبل.
لقد هجم عليّ البارحة موجة عارمة من الحزن والكآبة، لا أظن أحداً من المسلمين بقي بمعزل عنها وهو يرى ويسمع سقوط مدينة الخلافة بأيدي علوج الروم.
يا دجلة الخير ما يُغليك من حنق **** يغلي فؤادي وما يشجيك يشجيني
ما إن تناهت سياط البغي ناصعة **** في مائك الطهر بين الحين والحين
ووالغات خيول البغي مصبحة **** على القرى آمنات و الدهاقين
أدري بأنك في حزن وفي لغب **** والناس حولك عدوا بالملايين
يرون سود الرزايا في حقيقتها **** ويفزعون إلى حدس وتخمين !
الوداع يا بغداد، يا بلد المنصور والرشيد والنعمان وأحمد والكرخي والجنيد وإسحاق ومطيع وحماد، يا منزل القادة والخلفاء والمحدثين والفقهاء والزهاد والأتقياء والشعراء والظرفاء، يا مثابة العلم والتقى، وموئل المجد والغنى، يا دنيا فيها من كل شيء شيء .(65/1)
الوداع يا دار السلام، ويا موئل العربية، ويا قبة الإسلام، ويا منارة التاريخ، ويا منبر الحضارة.
منذ أوائل الألف الخامس (قبل الميلاد) تاريخ موغل في القِدم، شهد سهل الرافدين قفزة مهمة في التاريخ، بالانتقال من القرى الزراعية إلى حياة المدن، ومر على هذا السهل زمن كانت فيه شبكات القنوات معجزة من معجزات الري في العالم .
مرت عليه قرون وأجيال وأمم لا يحصيها إلا الله تبارك وتعالى، السامريون وهم من أقدم بناة الحضارة في التاريخ كله، ومن العراق انطلقت أكبر إمبراطورية معروفة في التاريخ، ثم جاء البابليون والآشوريون والكلدانيون، وكان الفتح الإسلامي درة العقد في هذا البلد الطيب، فحفظ للإسلام وده ووفاءه وبقاءه، وظلت العراق عاصمة للخلافة مئات السنين.
بنيت بغداد في عصر أبي جعفر المنصور؛ لتكون عاصمة الخلافة، وبلغت أوجها في عهد الرشيد، ولذلك كانت تسمى (عاصمة الرشيد)، كما تسمى دار السلام والمدورة والزوراء وبغداد.
التاريخ يعيد نفسه، ففي عام 656هـ انطفأت تلك الشعلة الوهاجة، وذلك عندما أقبل التتار -بقيادة هولاكو حفيد جنكيز خان- واستباحوا بغداد، واصطبغت دجلة بلون الدم؛ لكثرة ما ألقي فيها من الجثث، كما اصطبغت بلون الحبر؛ لكثرة ما ألقي فيها من الكتب، فكانت نهاية لمجد وحضارة، واشتعلت الحرائق حتى اعتكر دخانها غيماً أسود عظيماً في سماء بغداد، واغتيلت حضارة من أغنى الحضارات الإنسانية، إنها حضارة الإسلام.
توجيهات قرآنية(65/2)
أولاً : يقول الله عز وجل: "وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ"[الأعراف:34] قد يكون هذا الأجل الذي ضربه الله للأمم -كما يضرب للأفراد آجالاً- انقراضاً وزوالا بالكلية، وقد يكون انتكاساً وضعفاً وتراجعاً يحيط بأمة من الأمم أو شعب من الشعوب، والله تعالى- كما يقول نبيه عليه الصلاة والسلام-: ( وكل شيء عنده بأجل مسمى ) رواه مسلم، فللأمم آجال كما للأفراد، ولها نهوض وهبوط، ولها شباب وهرم، ولكن هذه الأمة المحمدية تتميز عن الأمم الأخرى بأن أجلها لا ينتهي إلا بقيام الساعة، فإنها أمة تمرض، ولكنها لا تموت.
ثانياً: "إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ "[آل عمران:140-141] أيام الدنيا دول لا يدوم فيها حزن ولا سرور، ولا ذل ولا عز، ولا غنى ولا فقر، وإنما الدهر بالإنسان دوار، كما يقول بعض الشعراء من أبناء الخلفاء:
ملكنا أقاليم البلاد فأذعنت **** لنا رغبة أو رهبة عظماؤها
فلما انتهت أيامنا علقت بنا **** شدائد أيام قليل رخاؤها
وكان إلينا في السرور ابتسامها **** فصار علينا في الهموم بكاؤها
وصرنا نلاقي النائبات بأوجه **** رقاق الحواشي كاد يقطر ماؤها
إذا ما هممنا أن نبوح بما جنت **** علينا الليالي لم يدعنا حياؤها(65/3)
يقول الأمريكيون: إن هذه نهاية التاريخ، كما سطر (فوكوياما) في كتابه المشهور، ونظريته الذائعة. ولعلنا نقول : بل هو تاريخ النهاية، والله سبحانه وتعالى يقول في محكم تنزيله عن الظالمين المجرمين : "أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ"[إبراهيم:44] كنت أقرأ هذه الآية، ثم أتعجب وأقول: سبحان الله منزل القرآن، كل البشر يعرفون أن لهم نهاية، وأن لهم أجلاً يموتون فيه، فمن هؤلاء الذين أقسموا ما لهم من زوال؟! ثم رأينا بأعيننا هؤلاء القوم الذين غرتهم قوتهم وغطرستهم وغرهم من ربهم الغرور، فصاروا يتكلمون بأن حضارتهم هي نهاية التاريخ، وأن بقاءهم سوف يكون أبدياً سرمدياً، فأقسموا ما لهم من زوال، وسكنوا في مساكن الذين ظلموا أنفسهم.
هذه الوثبة العالية للقوة الأمريكية هي من المداولة المذكورة في كتاب الله عز وجل "وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ" وهي نتيجة للاستفادة من السنن الربانية، فهؤلاء تذرعوا بالسنن، فاكتشفوا واخترعوا وتعلموا وجربوا واتحدوا وتعاونوا، حتى وصلوا إلى هذا المستوى من القوة الاقتصادية والتقنية والعسكرية التي بها استطاعوا أن يستفردوا هذه الفترة بحكم العالم تقريباً، فصار العالم أحادي القطب تديره أمريكا وفق مزاجها ونظرها.
إن انتصارهم ليس انتصاراً عسكرياً فحسب، وعندما نرى ذلك الجندي المتغطرس يظهر قوته، ويرفع علَمه على أرضنا، نشعر بالغيظ والمقت، لكننا ندري أن هذا النصر الذي يقتطفه الآن إنما هو نتاج مجموعة من التفوقات التي حصلت عليها إدارته في غيبة وغفلة من الأطراف الأخرى.(65/4)
فهم استفادوا من هذه السنن الربانية، حتى وصولوا إلى ما وصلوا إليه، فانتصارهم ليس انتصاراً عسكرياً فحسب، بل هو انتصار حياتي علمي تقني اقتصادي إداري سياسي وهو جزء من سنة الابتلاء التي تقابل بالصبر وتقابل بالمدافعة، ولهذا فإن في قول الله عز وجل: " وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ"[البقرة:251] دليلاً على ذلك،ودليلاً على أن ما يصنعه الله في أرضه وعباده من القضاء والقدر لا يمكن أن يكون شراً محضاً ولابد أن يكون فيه جوانب من الخير والحكمة، وإن كانت هذه الجوانب قد تخفى على بعض العباد خصوصاً في وقت الأزمات، حينما يستحر الحزن والقلق والكآبة والتوتر في قلوب الناس، ولكن المؤمن يظل راضياً، مدركاً أن وراء الأمر -من حكمة الله تعالى وحسن تدبيره- ما يحمد الناس له العواقب.(65/5)
رابعاً: "أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ"[آل عمران:165] نريد أن نلوم أمريكا، وكم يسرنا ونطرب حين نسمع من المحللين والكتبة والإعلاميين والخطباء وغيرهم من يتكلم في هذه الدولة الظالمة، وأعتقد أن كل ما يقال عنها هو جزء قليل مما تستحق، ولكن علينا ألا نغفل أن هذه الإدارة المتغطرسة الظالمة التي لا يمكن أن يخفى قبحها، لم تكن لتبلغ فينا ما بلغت لولا أننا أوتينا من قبل أنفسنا، وهاهو ربنا سبحانه وتعالى يقول للمبشرين بالجنة : " قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" فينبغي علينا أن نقول هذا لأنفسنا الآن والجراح ساخنة والدماء نازفة والآلام حية، هو من عند أنفسنا، علينا أن نعتبر هذه فرصة لنصحح فيها أوضاعنا، ونصلح فيها أحوالنا، ونستدرك ونعود إلى الله سبحانه وتعالى بتوبة صادقة على مستوى الفرد والجماعة والأسرة والمجتمع والدولة والأمة.(65/6)
ما بعد العراق
19/04/2003
17/2/1424
ثالثاً : ما بعد الحرب
لقد ذهبت الحرب بالكثير الكثير، لقد ذهبت بالشعارات الجوفاء التي طالما تحدث عنها هؤلاء الناس، والتي تتكلم عن الحريات وعن القوانين الدولية وعن حقوق الإنسان وعن العدالة والقيم الأخلاقية، فإذا بهذه الحرب تكشف عن الوجه الأسود الذي لا يمكن أن يستر أو يخفى !
أين الشعارات أين المالئون بها الد **** دنيا ؟ لكم زوروا التاريخ والكتبا
فلا خيول بني حمدان راكضة **** زهواً ولا المتنبي مالئ حلبا
وقبر خالد في حمص تلامسه **** فيرجف القبر من زواره غضبا
يا ابن الوليد ألا سيف تؤجره **** فإن أسيافنا قد أصبحت خشبا
لقد انكشف الزور وبانت هذه الشعارات التي طالما ضللت كثيراً من شباب الأمة
والعالم، فظنوا أن هذه الحضارة استثناء، وأنها لون ونمط من الحرية للبشر كلهم، وأنها تجردت عن كل المعاني الرديئة، فإذا بها تبين في أكلح وأقبح صورها :
عدوان على الآمنين .
استهداف للأبرياء .
تحدٍ للقوانين .
محاولة لمصادرة الحقيقة والقضاء عليها .
ولهذا انكشف أن الحرية الإعلامية المدعاة أو الحرية السياسية ليست إلا نوعاً من التسلط، وربما تكون أحياناً بقفازات ناعمة، ومظاهر جميلة، وعبارات معسولة تخفي وراءها ما تخفي.
الكل يعاني نوعاً من التسلط ، ربما في كثير من دول العالم الإسلامي تواجه الشعوب نوعاً من التسلط الواضح المكشوف، سواءً من تسلط الإعلام أو مصادرة الرأي والحرية ، لكن شعب الولايات المتحدة الأمريكية ربما يعاني نوعاً آخر من التسلط؛ بمحاولة غسيل عقول الناس وحجب الحقيقة عنهم والتأثير على إرادتهم بحيث يتقبلون هذه الأشياء بقناعة، فأنت تعمل ما تريد ما دمت تعمل ما نريد.(66/1)
ذهبت هذه الحرب بالقوانين الدولية والمنظمات التي كان الحديث يتم حولها، وتبين أن ما يتحدثون عنه من استقلال الدول ما هو إلا هراء، فهذه دول مستقلة يتم العدوان عليها وغزوها لأغراض مختلفة، ويعتبر الذين يدافعون أو يقاومون خارجين عن القانون الدولي مخالفين للأنظمة، يتم اعتقالهم وأسرهم وقتلهم ومحاكمتهم وضربهم وتعذيبهم.
وقوانين الحرب التي تقتضي عدم العدوان على الأبرياء وعلى المؤسسات الإعلامية ذهبت في دوامة هذه الحرب العمياء الظالمة.
أدعياء الحرية في الولايات المتحدة الأمريكية يهاجمون الإسلام ونبيه -عليه الصلاة والسلام- ويتهمونه بالدموية والعنف والإرهاب، بينما نحن نتحدى أن يكون عدد القتلى في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- من المسلمين وغيرهم، يقاوم عدد القتلى في اليوم الواحد في هذه الحرب الظالمة، فضلاً عن ما قبلها من الحروب وما قد يكون بعدها.
ذهبت هذه الحرب بالحياد والاستقلال السياسي والثقافي والعسكري ، فالولايات المتحدة الأمريكية تحاول أن تفرض نفسها كسلطة عالمية بلا منازع ولا مقاوم ، ومن حقها الإجهاز على كل محاولات الاستقلال والتميز وتحصيل القوة .
ذهبت هذه الحرب بالنظام العربي الذي تبين من خلاله أنه نظام مكشوف عاجز غير قادر على المقاومة ولا الاستقلال بالقرار.
ذهبت هذه الحرب ربما بالإدارة الأمريكية التي انغمست في رمال متحركة لا تعرف إلى أين تودي بها ؟
ولعل الانتخابات القادمة تصدق هذا الظن أو تكذبه ، خصوصاً إذا لم تفتعل الإدارة مواجهة جديدة وتشغل الشارع بها!.(66/2)
فهل جاءت هذه الحرب لهم بشيء ؟ نعم جاءت بمناطق نفوذ، ونفط وقوة كبيرة وهيبة في أماكن شتى من العالم، ففيما يتعلق بالنفط مثلاً فإن الشركات الأمريكية سوف تظفر بحصة الأسد بعلاقتها مع أي إدارة عراقية، وبدورها الأساس في الحرب، وسيكون لذلك فائدة إضافية وهي تدمير ما يسمى بمنظمة (أوبك)، أو تحجيمها عن أن تقوم بأي موقف فيه إضرار بالمصالح الأمريكية ، يقول المستشار الاقتصادي للرئيس الأمريكي : إن نجاح الحملة العسكرية على العراق سوف يصب في صالح الأعمال والشركات الأمريكية .
إن معنى تغيير النظام في العراق هو ضخ ما بين ثلاثة إلى خمسة ملايين برميل نفط يومياً بشكل إضافي إلى سوق النفط ، وربما بعد خمس سنوات يضخ عشرة ملايين برميل يومياً من النفط العراقي إلى أسواق العالم ، وسوف تكون حصة الأسد من ذلك للشركات الأجنبية.
ماذا ستفعل الحرب بوحدة العراق ؟
قد يتخوف الكثيرون أن تتحول العراق إلى دول، فدولة للأكراد ودولة للشيعة ودولة للسنة، وهذا لا يبعد أن يكون، ولو لم يكن بالاحتمال القوي ، إن العراق كدولة موحدة لا يتعلق وجوده بالرئيس ولا بالحزب الحاكم ، فالرئيس العراقي ليس هو( تيتو يوغسلافيا) الذي جمع رقعا متفرقة حتى تثور المخاوف من بعده حول وجود العراق من عدمها ، وحيال عدد من الحالات السابقة لم تظهر نزعات انفصالية جدية إلا عند الأكراد، الذين يشكلون حوالي 15 إلى 20% من الشعب العراقي ، ومع ذلك فإن الأكراد يفضلون نوعاً من العلاقة مع حكومة مركزية، نعم قد تعم الفوضى في المرحلة الانتقالية - كما يسمونها - خصوصاً مع مصالح الدول المجاورة التي لكل واحدة منها أجنده خاصة فيما يتعلق بالعراق أو بالجزء المتاخم لها، ويتضح هذا جلياً في إيران وتركيا وغيرها.
هل ستأتي الحرب بالديمقراطية ؟(66/3)
تستطيع أمريكا أن تلون غزوها كما تشاء ، لكن هذا التلوين لا يعدو أن يكون ورقة التوت ليس أكثر، فالديمقراطية المزعومة هي ضرب من الخيال، ليس لأن العراقيين ألفوا الاستبداد مثلاً فهم غير قادرين على تجاوز هذا ، لكن لما قد يحدث من الفوضى أولاً ، وهذا متوقع ، بل نحن نراه اليوم في بغداد والبصرة والموصل وتكريت وفي غيرها من مدن العراق ؛ ولأن أمريكا جاءت لتبقى، وليس المهم عندها شكل الحكام، أو نوع الحكم، بقدر ما المهم هو ضمان ولاء المقيمين في بغداد لها ولمصالحها.
العراقيون وإن كانوا غير متعاطفين مع النظام السابق، إلا أنهم يكنون كرهاً أكبر لأمريكا، خصوصاً منذ أن فرضت عليهم الحصار على مدى أكثر من ثلاث عشرة سنة، وقتلت من أطفالهم ما يزيد عن مليوني طفل، بسبب الأمراض التي لا تجد لها شفاء .
إضافة إلى شعورهم الوطني المعروف ، فهم من أول من ثار على الاستعمار البريطاني .
تفيد التقارير الأمريكية أنه سوف يكون على أمريكا نشر ما يزيد على أكثر من خمسة وسبعين ألف جندي؛ للحفاظ على الاستقرار في العراق على مدى سنة كاملة على أقل تقدير، إضافة إلى الحاجة الماسة إلى وجود خمسة آلاف جندي على مدى خمس سنوات في العراق ، دعك من اتفاقيات الدفاع المشترك أو الحماية !.
إذاً الديمقراطية نموذج هش يمكن أن يوجد منها في العراق ما هو مفصل على وفق المصالح الأمريكية، مما يحقق للناس بعض الحرية الشخصية، وما يحقق لهم المتعة العابرة وقدراً من المشاركة يضمن استقرار البلد ليس أكثر .(66/4)
ما بعد العراق
27/04/2003
25/2/1424
الأهداف المعلنة للحملة الأمريكية على العراق كانت تدمير الأسلحة والذخائر الكيماوية والبيولوجية وإسقاط نظام البعث القائم الذي يرونه تهديداً لإسرائيل ولمصالحهم الحيوية ، وبالتالي قد يطرحون ما يسمى بالتحول الديمقراطي في العراق على النمط الغربي العلماني كمثل يحتذى لدول الجوار وفي تقديري فإن أهم أهداف استراتيجية الأمن القومي الأمريكي في المدى القريب والمتوسط ما بين 15 إلى 20 سنة هو إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط السياسية الغني بثرواته والذي ينفرد بأفضل وأخطر مركز بين الأقاليم في العالم والذي تمثل بعض دوله في نظر واشنطن بيئة مناسبة لنمو التطرف الديني والإرهاب.
والهدف الثاني هو تغيير نظم الحكم في عدد من الدول العربية المحورية لإقامة حكومات حليفة للغرب، وفي نفس الوقت تتمتع بنوع من القوة والنفوذ وقدر مناسب من التأييد الشعبي بما يتيح لهم في بضع سنوات مقبلة محاولة تجاوز الأشكال الديمقراطية بدرجة أو بأخرى، ومع ذلك فإن الولايات المتحدة تعتزم الانفراد بحكم عسكري أو مدني مباشر في العراق لفترة معينة بما يحمي المصالح الحيوية والأمنية للولايات المتحدة في المنطقة العربية بأسرها وبما يحقق اتخاذ العراق قاعدة انطلاق لعمليات عسكرية مرجحة في المستقبل المنظور ضد سوريا أو إيران أو الدول المجاورة بما يخدم أمن إسرائيل، والتخطيط الأمريكي لمزيد من السيطرة على الثروات الطبيعية في الخليج وفي بحر قزوين وفي أسيا الوسطى.
إضافة إلى تعزيز الوجود العسكري الأمريكي في أراضي العراق وفي بحارها وأجواءها وحرمان القوى الكبرى المنافسة من بناء وتنمية مصالحها في الشرق الأوسط.(67/1)
إن الإدارة الأمريكية ترى أنه يمكن الوصول إلى السعودية أو مصر أو سوريا أو لبنان أو إيران عبر العراق بسهولة أكثر وكلفة أقل ويبدوا أن هذا من الأهداف الأساسية للحرب، فالهجوم على العراق واحتلاله يجعله مركزاً لتخويف إيران وسوريا ويمكن من خلاله التحرك باتجاه السعودية ودول الخليج لإحداث تغييرات تتوافق مع السياسة الأمريكية كما أنه يمكن من خلاله التحرك باتجاه سوريا ولبنان للسيطرة على كل فلسطين والقيام بعملية تهجير واسعة ضد الفلسطينيين وخصوصاً أن قادة اليهود باتوا مقتنعين أن تغييرات جذرية قد حصلت بعد انتفاضة الأقصى وأدت إلى إسقاط اتفاقية أوسلو ومن ثم فإنهم يعتقدون أن الظروف بعد الحادي عشر من سبتمبر قد تغيرت وأن اتفاقية أوسلو وملحقاتها لم تعد مقبولة.
وبطلب من الإدارة الأمريكية أعد الدكتور ماكس زنجر المختص في تحليل السياسات - وهو مؤسس معهد هدسون للدراسات الاستراتيجية- وثيقة رسم فيها وجهات محتملة للعالم خلال العقدين المقبلين وأهمها هو:
أولاً : أن الولايات المتحدة الأمريكية سوف تقوم بهجمات عدة ضد دول، وربما يؤدي ذلك إلى سقوط حكومات إسلامية، وستمتلك مصر وإيران والسعودية أسلحة نووية وأن دولاً أخرى ستمتلك أسلحة بيولوجية تستخدمها في النزاعات فيما بينها وأن إسرائيل ستظل موجودة إلى ما بعد عشرات السنين إلا أنها سوف تواجه خطراً كبيراً على وجودها وقد تتعرض للإبادة بواسطة سلاح إسلامي غير تقليدي يتوافر بكثرة في الشرق الأوسط.
ثانياً: كما تحدث التقرير بتفصيل عن هذا السيناريو وقسم الدول الإسلامية إلى حكمين، الدول المؤيدة لما سماه بالإسلام الكفاحي أو الإسلام المقاوم والدول المعارضة له، أما الإسلام الكفاحي الجهادي المقاوم فسوف يسيطر على الدول العربية والجاليات الإسلامية في أوروبا وأفريقيا، وأما تركيا فإنها سوف ترفض هذا اللون من الإسلام.(67/2)
تتضمن الوثيقة خطة لمكافحة الإسلام يقسمها لعشر مراحل منها حل الصراع العربي الصهيوني، وذلك بحل مشكلة اللاجئين من خلال إعادة توطينهم، أما أين ؟ فالله أعلم، وحضر استخدام الإرهاب، وهنا نطرح سؤالاً: ما هو الإرهاب ؟ وسيكون الجواب عندهم وحسب مقاسهم.
ومن ضمن المراحل دولة فلسطينية ملتزمة بأمن إسرائيل ضمن خارطة الطريق أو غيرها، ويفترض أنه من الممكن العمل على إخضاع الفلسطينيين حتى يخنعوا للحل الذي تريده إسرائيل، ومن هنا فإن المنطقة متجهة إلى مرحلة شديدة السواد وفق هذه السيناريوهات التي ترسمها الإدارة الأمريكية، وتحاول فرضها ليس على العالم الإسلامي فحسب بل على العالم كله ، لكن تبقى إرادة الممانعة والرفض والإصرار على التغيير وفرض الوجود تبقى قادرة على إفشال هذه المخططات وعلى البقاء على ساحة الحياة "إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا*وَأَكِيدُ كَيْدًا*فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا"[الطارق:15-17].
هناك تقرير استراتيجي أمريكي كل بضع سنوات ، وهذا هو التقرير الأخير الذي صدر بعد أحداث أيلول بسنة تقريباً بعنوان استراتيجية الأمن القومي للولايات المتحدة الأمريكية وخرج في 20 أيلول سبتمبر 2002 وهو يرسم السياسة الأمريكية ومفاصلها الرئيسة .
أولاً: السياسية الأمريكية بشكل عام تستهدف تحقيق الحلم الأمريكي بإقامة دولة لها الريادة في المجتمع العالمي وفي نفس الوقت يتمتع أفرادها بمستوى عالٍ من الأمن والمعيشة ولذلك يقول ريجان أحد الرؤساء الأمريكيين في تجديد انتخابه: أيها الأمريكيون تعالوا لنقيم الجنة على هذه الأرض.(67/3)
فهذا الحلم الذي يسعون إليه رفاهية في الداخل وأمن قومي مستتب إضافة إلى السيطرة على العالم، وقد تطورت الأسس التي قامت عليها عبر الأوضاع المحلية والمتغيرات الدولية ففي البداية كانت استراتيجيتهم تقوم على العزلة التي عبر عنها الرئيس مونرو حينما رسم خريطة الولايات المتحدة الأمريكية ووضع حولها أسلاكاً شائكة ووضع أمامها شعاراً يقول:نحن نرحب بالزائر إذا لم يكن معه بندقية.
معنى ذلك أنهم منعزلون على أنفسهم، ولكنهم يرحبون بالزائر ومن هنا كانت أمريكا مكاناً لاستقبال المهاجرين من أنحاء العالم.
المرحلة الثانية هي المشاركة في صياغة النظام الدولي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وملء الفراغ الذي نجم عن تراجع الدور الأوروبي في العالم الإسلامي وغيره.
ثم جاءت المرحلة الثالثة وهي الحرب الباردة واستراتيجية الأحلاف العسكرية حتى سقوط الاتحاد السوفيتي.
ونستطيع أن نقول إن المرحلة الرابعة التي نعيشها هي هذه المرحلة التي يتكلم عنها هذا التقرير الذي أعدته لجان عمل وأوصلته إلى البيت الأبيض ووزع في 23 صفحة .
ويؤكد هذا التقرير أن الرؤية الجديدة للإدارة الأمريكية لا تقوم على رد الاعتداء وإنما تأخذ زمام المبادرة بالهجوم على أي طرف يحتمل أن يكون عدواً في المستقبل، حتى ولو من دون دليل أو من دون أسباب تؤكد نية الاعتداء، وهذا ما يسميه التقرير بالضربات الاستباقية إذاً هم يقولون: إنه لا ينبغي لنا أن ننتظر حتى تأتي الضربة أو العدوان وإنما أقرب وسيلة للدفاع هي الهجوم فعلينا أن نقوم بضربات استراتيجية ذات أسبقية لكسب الموقف، ولعل مما يؤكد مصداقية هذا التقرير بدايتهم من العراق.(67/4)
وهم يقولون في التقرير نفسه إننا نسعى إلى أعمالنا ومشاريعنا ضمن إطار عالمي من التحالف، ولكننا مستعدون أن نمضي قدماً بمفردنا إذا كانت المصلحة تقتضي ذلك، وهكذا فعلوا هنا فهم قد تجاوزوا المنظمات الدولية وتجاوزوا حلفاء الأمس الذين اجتمعوا معهم فيما يسمى الحرب على الإرهاب وانطلقوا بمفردهم مع حلفائهم البريطانيين في حرب منعزلة استباقية.
إذاً تقوم أمريكا على أساس نظرة استراتيجية تمارس ضربات استباقية لكل ما يمكن أن يشكل خطراً مستقبلياً، وبناء على ذلك فهم سوف يقومون بحرمان كل دول العالم التي تنضوي ضمن سياستهم وأهدافهم من الحق في التقدم والتصنيع والتسليح؛ لأنهم ربما يشكلون خطراً عليهم، وهذه يسمونها عادة بـ "الدول المارقة " كما يتحدثون عن كوريا الشمالية أو عن سوريا أو عن إيران أو غيرها.
تقدم أمريكا نفسها على أنها شرطي العالم تراقب وتحاسب وتكافئ وتعاقب وتمنع من الحصول على التقنية، وتنشر ثقافتها ورؤيتها الخاصة المتعلقة بالحرية أو الحرب والسلام أو الحقوق والتعليم أو الإرهاب أو تمويل الجمعيات الخيرية وغيرها وتفرضها على الحكومات والشعوب.
يقول هذا التقرير في هذه الاستراتيجية : سنحول المحنة إلى فرصة سانحة .
يعني أنهم سيحولون الأزمة التي مرت بهم بعد 11 سبتمبر إلى فرصة ليقوموا باستدراك كثير من الخلل والنقص والعيب الذي يعتري سياستهم، و من لا ينطوي تحت لوائهم فهو مارق أو خارج عن القانون إذ هم الذين يكتبون القانون وهم الذين ينفذونه!
(فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون) .
ودعوى القوي كدعوى السباع **** من الناب والظفر برهانها(67/5)
يتحدث التقرير بشكل متعاظم عن أهمية الشكل الاقتصادي وكأنه يقول : إن العالم عبارة عن شركة اقتصادية وإن الولايات المتحدة الأمريكية هي رئيس هذه الشركة، فالاتحاد السوفيتي مع أنه كان دولة تملك قوة عسكرية ضاربة إلا أن الذي هزمه هو الاقتصاد، ولذلك تسعى الولايات المتحدة الأمريكية إلى أن تكوّن ضمن تحالفات دولية قوة اقتصادية وشراكات اقتصادية تضمن لها تفوقاً دائماً، ثم يخلص التقرير إلى أهمية وجود قوات أمريكية في مناطق مختلفة من العالم ومنها منطقة الخليج لحماية حلفائها وأصدقائها من أي خطر محتمل.
إن آلية العلاقة بين العالم الإسلامي والولايات المتحدة قد اختلفت اليوم اختلافاً كبيراً في ظل هذا التحول الاستراتيجي الجديد، وهذا يفرض على دول العالم الإسلامي جميعاً وهي طرفٌ أساس في هذه العلاقة أن يراجع مفاهيمه، وهو بين خيارين لا ثالث لهما:
إما أن يرسم لنفسه رؤية خاصة صادقة تقوم على قيمه ومبادئه أولا،ً وتقوم على مصالحه ثانياً، وتتكيف مع هذا الواقع المتغير.
فإن لم يفعل فسيظل مكتفياً بالمراقبة والانتظار، ومن الواجب على أي دولة من دول العالم أن يكون لها رؤيتها الخاصة المعبرة عن تطلعاتها ورغبات شعوبها وعن قيمها ومبادئها ومصالحها وحاضرها ومستقبلها.
ففيما يخص العالم الإسلامي هناك حماية إسرائيل والتأكيد على تفوقها وعلى التحالف الاستراتيجي الأمريكي معها، إن أمريكا ملتزمة بالتحالف مع إسرائيل وملتزمة أيضاً بضمان التفوق العسكري وغير العسكري لهذه الدولة المسخ، ليس فقط في مواجهة دولة إسلامية، بل في مواجهة العالم الإسلامي كله مجتمعاً.
والتقرير المشار إليه يوجه لهجةً رادعةً صارمةً إلى الدول الإسلامية التي تعارض السياسة الأمريكية بشكل جزء أو كلي كإيران وسوريا والسعودية وغيرها ويتهم هذه الدول بدعمها للإرهاب، وأن هذا الدعم إذا لم يتراجع سوف يعرضها لضربات موجعة.(67/6)
إن دعم الشعب الفلسطيني يعتبر دعماً للإرهاب ، ودعم الجمعيات الخيرية هو دعم للإرهاب، بل لست أبالغ إذا قلت إن إقامة المدارس والمؤسسات والمساجد والأربطة وجوانب النشاط الإنساني والخيري هو دعم للإرهاب، والدوائر الأمريكية تقوم بمتابعته ومراقبته ومحاسبة القائمين عليه حساباً دقيقاً.
يتحدث التقرير عن محاربة الإرهاب دون أن يحدد المقصود بالإرهاب! إنهم يمارسون نوعاً سيئاً من الإرهاب البشري البشع بآلياتهم العسكرية الضخمة في حق المدنيين وغير المدنيين في العراق وفي أفغانستان وفي فلسطين، لكن كل هذا له غطاء مزور من الدفاع عن النفس والمحافظة على الحياة وعلى الحقوق وعلى الحريات، أما ما يقوم به المسلمون فهو الإرهاب بعينه.
لقد قبضوا على يهودي في الولايات المتحدة الأمريكية يسعى لتفجير مؤسسات ومراكز إسلامية فلم يقيدوا هذه الجريمة على أنها نوع من الإرهاب ولكن اعتبروها نوعاً من الاعتداء على الممتلكات الخاصة فهم إذاً يتحكمون في مصطلح الإرهاب ويضعونه على من يشاءون ويرفعونه عمن يشاءون.
النقطة الأخيرة هي التدخل في الشئون الداخلية للدول وهذا أمر واضح فربما لفترة قادمة الله أعلم بأمدها ستواجه كثير من الدول الإسلامية ألواناً من التدخل المؤذي في شئونها الخاصة، في إعلامها، في مناهج تعليمها، في المناهج الدينية والكليات الشرعية، في قضايا المرأة، في قضايا الأقليات كما يسمونها، في الحريات الدينية إلى غير ذلك من العبارات التي كثيراً ما تتردد في التقارير التي تصدر سواء عن وزارة الخارجية أو عن منظمات الحقوق أو عن وزارة الدفاع وغيرها.
و لا شك أن الدول الإسلامية كلما أبدت نوعاً من طأطأة الرأس والاستسلام والقبول أغرتهم بمزيد من التدخل، وكلما استطاعت أن تراهن على شعوبها وتوحد صفها وتقاوم وتفرض سيادتها فإنهم يعيدون حساباتهم ويؤخرون مخططاتهم .(67/7)
هناك ما يسمى بمبادرة الشراكة الأمريكية الشرق أوسطية والتي أعلنتها وزارة الخارجية الأمريكية قبل بضعة أشهر ورصدت لها 29 مليون دولار ربما هذه فقط نفقات الدعاية للمشروع، وأما المشروع نفسه فلا شك أنه سوف يستغرق مبالغ ضخمة ، لكن السؤال من سيدفع فاتورة هذه المبالغ ؟
الهدف الأساسي لما يسمى بالشراكة الأمريكية الشرق أوسطية هو إلحاق النظم العربية كلها بالمنظومة الأمريكية بواسطة إدارة مفروضة بقوة السلاح وقوة التهديد وقاعدتهم تقول: تكلم بلطف واحمل عصا غليظة، وذلك في ظل اختلال واضح للقوى بين العالم الإسلامي والعالم الغربي، بل بين العالم الإسلامي ودولة إسرائيل بمفردها.
إن الإدارة الأمريكية بتوجهها الصهيوني المسيحي المتطرف مصرة على التدخل في خصوصيات المسلمين وعلى ممارسة لون من التغيير في داخل المجتمع الإسلامي على المستوى الثقافي والعلمي والتعليمي والسياسي وغيره.
وهاهنا السؤال: هل يمكن بروز محور عالمي جديد يواجه هذه القوة المستفردة المتغطرسة؟
هذا السؤال يطرحه الكثيرون ، وفي تقديري أن هذا هو المتفق مع السنن الإلهية فإن الله سبحانه وتعالى يقول: "وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ"[البقرة:251] فسنة المدافعة قائمة في الغالب والآن هناك استفراد أمريكي، وإن كنا ندرك أن ثمة قوى لا توافق الإدارة الأمريكية على منطلقاتها، لكنها لم تصل بعد إلى أن تبلور نفسها وموقفها بحيث تستطيع أن تواجهه أمريكا وعدوانها.
لماذا لم يبرز حتى الآن محور جديد سواء في أوروبا أو في الصين أو في آسيا أو في غيرها ؟(67/8)
كثير من هذه الدول قد تطرح هذا المحور المشاكس؛ لأجل الضغط على الولايات المتحدة الأمريكية فحسب، لكن ليس بشكل جدي وعملي لعدة أسباب أولاً: الشراكة الاستراتيجية مع الولايات المتحدة الأمريكية؛ فإن معظم دول العالم بما فيها الصين وأوروبا مرتبطة مع الولايات المتحدة الأمريكية بشراكة استراتيجية اقتصادية وسياسية يصعب عليها التخلي عنها.
ثانياً: التفوق الأمريكي الساحق في مجال القوة العسكرية، فيكفي أن تعرف مثلاً أن ميزانية الدفاع الأمريكية عام 2001/ 2002م لسنة واحدة تعادل 370 مليار دولار بما يعادل الميزانية العسكرية للدول الست الكبرى مجتمعة.
هذا التفوق الهائل في مجال القوة العسكرية، فضلاً عن تفوقها في مجال التقنية والتصنيع يجعل كثيراً من الدول تحجم عن مثل هذا الموقف.
إن دول أوروبا تشعر أن الهوة بدأت تتسع مع أمريكا وأن حلف الأطلسي بدأ يتحجم دوره، بل بدأ يفقد دوره وفي مؤتمر السياسة الأمنية الذي عقد في ميونخ في ألمانيا بدأت بوادر الخلاف بين أمريكا وبين دول أوروبا مع أن هذا المؤتمر يمثل أحد المؤسسات التي ترسم السياسة العالمية تقريباً، ومع ذلك برز فيه نوع من الخلاف، لكن السؤال متى يتحول هذا الخلاف إلى نوع من المواجهة مع الاستفراد والغطرسة الأمريكية ؟
نحن أمام مرحلة جديدة صعبة وطويلة والمهم ألا ننسى بعد هدوء الأحداث أننا فعلاً دخلنا إلى مرحلة جديدة وأن لهذه المرحلة تبعاتها ومقتضياتها الواجبة علينا أفراداً ومجموعات وشعوباً وحكومات.(67/9)
من الخطأ أن نفترض أن جميع الخيوط هي بأيدي هؤلاء القوم أو أولئك ؛ فإن الضعف يبدأ من القوة، والقوة تبدأ من الضعف والإشارة القرآنية معبرة "خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً "[الروم:54] وقد رأينا كيف أن الشعب الفلسطيني بضعفه وقلة إمكانياته استطاع من خلال الحجر ـ الذي يرمي به عدوه ـ أن يقلب كثيراً من القوى والموازيين.
علينا أن ندرك أن في أيدينا خيوطاً كثيرة وأعظم خيط في أيدينا أن نستمسك بحبل الله عز وجل فإنه الركن إن خانتك أركان، والله جل وعلا يقول: "وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا"[آل عمران:103] فإن الاستمساك بحبل الله والصدق مع الله تبارك وتعالى وإرادة التغيير في نفوسنا جديرة بإذن الله عز وجل أن تصنع لنا شيئاً كثيراً في هذه المرحلة الحرجة والخطيرة من تاريخنا.
علينا أن نحذر من التشاؤم واليأس من الإصلاح في ظل الظروف التي نعيشها الآن لنعطي أنفسنا فرصة في أن نفرح بفضل الله تعالى وبرحمته وبمستقبل منشود وبألوان من الخير وإن أصابنا غم وكآبة من جراء ما نرى ونشهد من التفوق العدواني والتسلط على البلاد الإسلامية.(67/10)
إن الإنسانية في الإصلاح قائمة الآن وهي موجودة في أيدينا ووفق رؤيتنا وإذا كنت قبل قليل ذكرت لكم أن التقرير الأمريكي يقول: سنحول المحنة إلى فرصة سانحة لنا للتغير واستدراك ألوان من الخلل الموجود لدينا، فعلينا نحن أن نطلق الشعار ذاته، إنه شعار قرآني "فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا*إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا"[الشرح:5-6] يسر من عند الله عز وجل لا شأن للبشر فيه ، لكن ثمة يسر آخر يصنعه الناس يستخدم فيه الناس قدراتهم وإمكانياتهم وطاقتهم وما أعطاهم الله عز وجل لتحويل هذا العسر إلى يسر وكما يقول سبحانه : "فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ*وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ"[الشرح:7-8] ارغب في العبادة و الاستعانة بقدرته جل وعلا وقوته واستخدام ما أقدرك الله عليه .
العالم الإسلامي اليوم يملك قوات لا يستهان بها في العديد البشري والموقع الجغرافي و الثروات الهائلة و إمكانيات كبيرة وكثيرة يمكن أن نراهن عليها فيما لو وجدت إرادة التغيير في العالم الإسلامي، إذاً بإمكاننا أن نصنع الإصلاح وفق رؤيتنا الإسلامية الخاصة متى ما وجدت الإرادة لدينا.
من المهم وجود المؤسسات والتجمعات والمبادرات العامة والخاصة في المجتمعات الإسلامية.
إن البناء هو خير تعبير عن الدفاع، نحن الآن في موقع حرب و أزمة و نازلة، بل في هزيمة، إن البناء هو خير تعبير عن هذا الدفاع والحدث أحياناً يصنع لدينا عقلية الدفاع أكثر مما يصنع لدينا عقلية البناء والواجب أن نسعى وننهمك في مشاريع إصلاحية بنائية في الدعوة والتعليم والاقتصاد و العلم و العمل وفي كل مجالات الحياة التي نحتاجها، إن الهزيمة التي منينا بها ليست هزيمة عسكرية فحسب، وهكذا الإصلاح يجب أن يكون إصلاحاً شمولياً في نواحي الحياة كلها.(67/11)
إن من المهم إحياء روح الأممية في العالم الإسلامي، ما زلت أتذكر عام 1981 حينما ضربت إسرائيل المفاعل النووي العراقي وأن كثيراً من الناس من الإسلاميين وغيرهم ربما شعروا بنوع من البهجة والاغتباط لأنهم اعتبروا أن تلك القوة هي ملك لحزب البعث فحسب، وهانحن نشهد اليوم أن تلك الضربة ربما كانت تمهيداً لما نراه الآن من القضاء على أصل النظام في العراق ولا أعني بالنظام النظام الحاكم، ولكن أعني النظام الذي يضبط حياة الناس ويمنعهم من الفوضى ويحفظ لهم حقوقهم ومصالحهم.
إن ذلك الاغتباط الذي عاشه بعضنا يوماً ما بضرب المفاعل النووي العراقي أو الذي عاشه آخرون بهزيمة الجيوش العربية أمام "إسرائيل"؛ لأنهم يقولون: هذه جيوش لو انتصرت لظلت على ما هي عليه، إنما يعبر هذا عن قدر من عدم الشعور بالأخوة الإيمانية بين أفراد العالم الإسلامي، وعدم حزن المسلم لكل ما يصيب أخاه المسلم حتى لو كان على خلاف معه أو كان له أجنده خاصة أو نظام خاص فإن روح الإسلام ينبغي أن تكون أقوى من الفواصل بين المسلمين ما دام الإسلام هو المرجع الأساسي لها.
وإذا كان لدينا إمكانية القوة في العالم الإسلامي والله تبارك وتعالى يقول لنا: " وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ"[الأنفال:60] فإن الواجب على العالم الإسلامي اليوم هو السعي الصادق الجاد في الإعداد بكل صوره وألوانه وأشكاله.(67/12)
" مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ " كل القوة مطلوب أن نعدها نعم يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم: ( ألا إن القوة الرمي ألا إن القوة الرمي ألا إن القوة الرمي ) هذا لون من القوة العسكرية يتعلق بالرمي ولا شك أننا نرى اليوم أن رمي الصواريخ ورمي القنابل ورمي المدافع يحدث أثراً كبيراً في المعركة يتحكم غالباً في نتائجها كما رأيناه في أفغانستان والعراق ويوغسلافيا وغيرها.
فالرمي هو أساس القوة العسكرية، لكن علينا أن ندرك أن القوة العسكرية هي الحماية والإطار الذي يحفظ العالم الإسلامي ويحفظ مكاسب المسلمين وإنجازاتهم، ولكننا نحتاج معها وقبلها وبعدها إلى قوة علمية، قوة في الإدارة، قوة في الاقتصاد، قوة في التصنيع، قوة في الوحدة وترك التفرق.
إن الاتحاد قوة والاختلاف فرقة وعذاب ، ونحن نجد أن عدونا اليوم يتترس بأكثر من 285 مليون إنسان يشكلون ما يسمى بالولايات المتحدة الأمريكية، ومن خلال قدرته على توظيف كل القوى والطاقات والأحزاب بمختلف الاتجاهات لدعم وخدمة هذا الكيان المتسلط على العالم اليوم، ولذلك صار لها هذه القوة، بينما قَتَلَ المسلمين جميعاً أفراداً وجماعات وشعوباً ومدناً ودولاً داء التفرق والاختلاف فيما بينهم، وأصبحت ترى العدو يسهل عليه أن يوظف هذه التناقضات الإثنية و المذهبية والحزبية والطائفية في تدمير بعض المسلمين بعضاً، والقضاء على قوتهم وإنسانيتهم وتوفير قدراته الذاتية.(67/13)
وأخيراً لابد من استشعار المسئولية الفردية "إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا*لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا*وَكُلُّهُمْ آتِيه يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا"[مريم:93-95] إن علينا مسئولية فردية وشخصية كبيرة تجاه بناء الفرد ذاته، نجاحك في مدرستك أو تعليمك أو وظيفتك أو بيتك نجاحك في تفكيرك وعقلك نجاحك في تعاملك مع الحدث نجاح الأسرة نجاح المؤسسة التجارية نجاح المؤسسة الدعوية نجاح المؤسسة الإعلامية كل هذه الأشياء ذات أثر كبير كلها تصب في نجاح الأمة.
ينبغي علينا في مثل هذه الظروف أن نحيي روحاً من روح الاجتماع في مسئوليتنا الفردية، أن نعقد اجتماعات ومجالس في الحي وفي المدرسة و على مستوى الأسرة وعلى مستوى البلد وعلى مستوى الجامعة أو المؤسسة وأن نتدارس قضايانا والمخاطر المحيطة بنا، وأن نستمع ونقرا ونتناقش ونتدرب على روح الحوار والاستماع إلى الآخرين وتقديم الرأي وتصحيح الرأي .
إننا بحاجة إلى أن نصحح أوضاعنا على الصعيد الفردي والجماعي قبل أن تنزل بنا النازلة أو تحل علينا الكارثة والله المستعان.(67/14)
مرجعية الحرية
22/12/2002
18/10/1423
مفهوم الحرية ، يمكن أن يعني حسبما سبق : طلاقة الإرادة البشرية من القسر ، أو من هيمنة سلطةٍ عليها سواءً كانت سلطة خارجية ، أو كانت سلطة داخلية ؛ فالسلطة الخارجية قد تكون سلطة سياسية ؛ تُكمم الأفواه ، أو تملي على الناس ما يجب أن يقولوا ، و قد تكون سلطة دينية تحتكر فهم النص أو قراءته ، و تصادر حق الآخرين في ذلك ، و قد تكون سلطة اجتماعية تفرض على الأفراد الانصياع لأوامرها و قراراتها .
و نعبر عن هذه السلطات بأنها خارجية ؛ لأنها من خارج الذات ، ومع ذلك فإن هذه السلطات في الأصل لابد منها ؛ فلا يتخيل وجود مجتمع بدون سلطة سياسية كما قال الأفوه الأودي :
لا يَصلُحُ النَّاسُ فَوضَى لا سَراة لَهم **** ولا سَرَاة إذا جُهالُهم سَادوا
وكذلك مجتمع بدون هوية ، بدون دين ، بدون قاعدة لا معنى لكونه مجتمعاً ، أي مجتمع بشري لا بدّ أن يكون لديه مجموعة من الأعراف والعلاقات و الروابط ؛ المؤثرة في الضبط الاجتماعي والاستقرار الإنساني ؛ لكن المحذور أن يتحول هذا الدور إلى نوع من التسلط ، أو العدوان على حقوق الآخرين ، وهنا لابد أن نستخدم كلمة التوازن ، في معرفة الضابط بين القدْر المشروع من هذه المراقبة أو السلطة ، و بين القدْر الذي يتعدى حده ليكون عدواناً على إرادة الآخرين وحرياتهم .
هناك النوع الآخر من السلطات ، وهو ما يمكن أن نعبر عنه بالسلطة الذاتية وهو أن لدى الإنسان مجموعة من: الطباع ، و الأخلاق ، والركائز الجبلّية ؛ التي تؤثر في نظرته للأمور ، و قراراته ؛ كأن يكون شجاعاً ، أو متهوراً ، أو ضعيفاً متردداً ، أوحاداً ، أو ليّناً إلى غير ذلك من الخصال والطبائع المركبة في بني الإنسان ، والتي تؤثر في إرادتهم ، و تؤثر في قراراتهم ، وتؤثر في أحكامهم ، وحتى في اختياراتهم الشرعية أحياناً .(68/1)
إضافة إلى العوامل البيئية ، و النفسية ، و التاريخية ، و المصلحّية ، و نستطيع أن نقول تأسيساً على هذه المسألة: أن ثمت ما يمكن أن يسمى بمرجعية الحرية على سبيل التجوز في المصطلح لا غير و تتمثل في أربعة أشياء:
أولاً:المرجعية النصيّة أو الشرعية، أي سلطة النص الشرعي على المؤمنين .
ثانياً: المرجعية العلمية ونعني بها العلماء المعبرين عن الشريعة ؛ كما سماهم ابن القيم - رحمه الله- في كتابه : إعلام الموقعين عن رب العالمين.
ثالثاً: السلطة السياسية.
رابعاً: السلطة الاجتماعية.
ففيما يتعلق بالنص ، وهو القضية الأولى ؛ فإن لكل حضارة في الدنيا أياً كانت مرجعية ً مقدسة لديها ، لا يمكن المساس بها ، قد تكون مستمدةً من قيم ، أو دين ، وقد تكون الحضارة مادية تقدس اللذة أو العقل ، أو المادة ، أو المصلحة ، أو غير ذلك .
فلا يمكن أن توجد حضارة إلا ولها مرجعية دينية ، أو ثقافية.
وفي المرجعية النصية ، فإن هوية هذه الأمة هي الإسلام ، والدين هو أهم المسلمات ، وهو اختيار أفراد الأمة ومجتمعاتها ، وحتى اختيار أقلياتها .
فإن الشعوب المفتوحة ، التي دخلت في الإسلام كالبربر أو الشعوب الأفريقية ، أو شعوب مصر ، أو الشام ، أو غيرها ذابت في الإسلام ، وتقبلته ، وآمنت به ، وحملت رسالته ، وجاهدت في سبيله.(68/2)
إننا لا نعرف في تاريخ الإسلام أبداً أن شعباً ، أو حتى فرداً دخل في الإسلام بالقسر والإكراه ، وفي النص القرآني الكريم يقول الله – تعالى : ( لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ) (البقرة: من الآية256) ، فلم يُكرَه أحدٌ على الدخول في الإسلام ، بل إن من مُسلمات الدين أنه لو دخل أحدٌ في الإسلام بواسطة الضغط والإكراه فإن إسلامه لا يكون صحيحاً عند الله ؛ لأنه حينئذٍ مُكرَه ، والمكره لا تتعلق به الأحكام الشرعية ، ولهذا يقول الله سبحانه وتعالى: ( مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) (النحل:106).
وهذه قضية لا توجد في تاريخ الأمم الأخرى ؛ ففي أسبانيا لما سقطت في يد النصارى أقاموا محاكم التفتيش للمسلمين ، ووجدت ظاهرة ( العرب المورسكيين) الذين كانوا يضطرون إلى تغيير دينهم من باب الخوف ، وتغيير أسمائهم ، ويستخْفون ويتعرضون لألوان من المصادرة والقتل والسجن ، بينما في التاريخ الإسلامي كله لم توجد مثل هذه الظاهرة ، وهذه قضية مهمة جداً تحسب لعظمة هذا الدين وعدالته ومناسبته للشعوب كلها.
فالمقصود أن دين الإسلام هو دين لكل شرائح الأمة : للعرب ، والأكراد ، والبربر ، والعجم ، والفرس ، دين لجميع الشعوب التي ذابت و تماهت و أصبحت جزءاً من الأمة الجديدة ( الأمة المسلمة ) فالدين هو المرجعية الأصلية و الهوية الأساسية لهذه الأمة.
إن الأصول في المرجعية الإسلامية الشرعية ثابتة ، و الفروع فيها اجتهادية متغيرة ، إن النص ثابت وهو القران الكريم ، و صحيح السنة الثابتة عن الرسول صلى الله عليه وسلم ، لكن التفسير محتملٌ ، ليس له قداسة النص إلا أن يكون تفسيراً قطعياً لا يحتمل الوجوه والتأويلات.(68/3)
إن الشريعة ثابتة ، لكن الفقه اجتهادي ، ولذا كان للشافعي قولان ، و غيّر تلاميذ ابي حنيفة ثلثي مذهب إمامهم ، و تعددت الروايات عن الإمام أحمد في المسألة الواحدة ، ولم يكونوا يخرجون بذلك عن كلمة عمر الشهيرة [ ذاك على ما قضينا ، و هذا على ما نقضي ] وقوله لأبي موسى : [ ولا يمنعنك قضاء قضيته بالأمس ثم هديت فيه إلى رشدك أن تراجع الحق، فإن الحق قديم ] ، وجاء رجل للإمام أحمد بكتاب قال : سميته اختلاف العلماء ، فقال له الإمام أحمد لا تسمه اختلاف العلماء ، سمه : كتاب السعة .
فالمرجعية الشرعية ثابتة ، سواء تمثلت في النص المطلق ، أو تمثلت في القطعيات التي بُنيت على النص كقطعيات الاجتهاد ، التي توارثتها الأمة خلفاً عن سلف ، و لم يوجد حولها داخل الأمة و خاصةً علمائها و فقهائها و قرائها أي خلاف أو تعكير أو شغب .
أما المؤسسات التي تعالج ، و تنتج الحلول والبرامج من هذه النصوص ؛ فإنها تخضع للاجتهاد وليس لها القداسة ، و ليست نقيضاً للتفكير، أو البحث العلمي ، أو التطبيق الفني ، أو الإبداع الأدبي ؛ و لكنها لا تجعل هذه الآليات المتحدث عنها أهدافاً ، و إنما تجعلها وسائل لهدفٍ أسمى وهو الرقي بالأمة وتحقيق ربانيتها والتزامها ومصلحتها .
إننا نجد اليوم من يتحدث عن [الإبداع الأدبي] وكأنه نقيض لمسلمات الدين ، و يعتدي على مُسلّمات الأمة بالرواية التي تخاطب الغرائز أو تصور المجتمع على أنه مجموعة من الانحرافات والشذوذات والأخلاق الفاسدة كما نجد في رواية [ الخبز الحافي ] أو [ وليمة لأعشاب البحر] أو[ آيات شيطانية ] التي تجعل من مقدس الأمة مادة للسّخرية أو العبث .
ما معني الإبداع الأدبي إذا انفصل عن الأمة ، ولم يصب في مصلحتها أو بنائها أوتحقيق أهدافها ، بل انشق عليها ، و خرج عن نظامها و قانونها !!(68/4)
كما أن المُسلّمات القطعية القائمة في هذه الأمة ؛ ليست محل جدل و اجتهاد ، و لا يمكن إنتاج ثوابت جديدة ؛ لتحقن في وريد الأمة ودمها ووجدانها .
بل المفترض في الثوابت أنها معلومة بالضرورة ولا يجوز لأحد أن يعبث بها أو يجعل ثمت هالة وحالة من الغموض ، و التردد ، و الشك حولها ، و أي نقله حضارية للأمة يفترض أن تبدأ بتجديد الثوابت لئلا يتحول الأمر إلى صراع داخلي .
إن الثوابت هي القيم والمبادئ التي يقوم عليها وجود الأمة ، و تنطلق منها حياتها العلمية والعملية والأدبية ؛ فهي أساس النظام السياسي ، وهي منطلق المناهج التعليمية ، وهي روح الخطة الإعلامية ، وهي سر اجتماع هذه الأمة ، وسر شخصياتها وأفرادها و طوائفها و شيعها و أحزابها .
إن وجود فردٍ أو أفراد لا يؤمنون بهذه المرجعية ولا يؤمنون بهوية الأمة ليس مستغرباً ؛ فإننا نجد أنه حتى في زمن النبي صلى الله عليه وسلم كان هناك المنافقون أفراداً ، أو مجموعاتٍ محدودة معزولة ، ضعيفة التأثير على مجرى الأحداث ، وكانوا يعاملون ظاهراً على أنهم أفراد من ضمن هذه الأمة ، لكن فرقٌ بين هذا وبين أن يتحول الشك في القيم والمبادئ والثوابت إلى قاعدة عامة ، و إلى خطاب عام ، و إلى حوار لا ينتهي على مرأى و مسمع من أفراد الأمة .
لو أن إنساناً كان يرفض العمل لوجود أزمة نفسية أو مشكلة أو ضعف أو تحدٍ معين فيرفض العمل ، أو يرفض الدراسة ، أو يرفض الزواج أو حتى قل يرفض الحياة و يشرع في الانتحار ؛ فإن هذه تظل حالاتٍ محدودة التأثير ، لكن لو صارت هذه الحالات مبدءاً عاماً للأمة ، ورفض الناس كلهم العمل أو الدراسة أو الزواج ، أو قام الناس بحفلةٍ جماعية لعملية انتحار شاملة ، لكان هذا كارثة مدمرة للأمة ، فإنه لا قيمة للأمة بدون حياتها ، بدون رباط الزوجية ، بدون العمل ، بدون التفكير ، بدون العلم ، بدون الدراسة .(68/5)
السلطة الثانية: هي سلطة المجتمع ، و لا شك أن للمجتمع سلطةً لا يمكن تجاوزها من خلال مجموع العادات و الأعراف و المجريات التي تقع فيه ، ونجد أن النبي صلى الله عليه وسلم أصّل ذلك ، وأحال إليه في بعض المواضع ؛ فإنه ترك بناء الكعبة رعاية لحال الناس وشفقة عليهم ، و منع من قتل المنافقين لئلا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه ، ومرر بعض الأشياء المرجوحة ؛ لأنها أصبحت راجحة بالنظر إلى مصلحةٍ اجتماعية عامة تتحقق للأمة من خلالها .
لكن هنا لابد من التوازن ؛ فإنه لا يعني بحالٍ من الأحوال أن يتم تجاهل كثير من المصالح الشرعية المعتبرة رعاية لحال الناس ، بحيث يكون المجتمع هو المرجعية في القضايا التي ليست من اختصاصه فليست اجتماعية بحتة ، وإنما قد تكون قضايا دينية ، أوقد تكون مصلحية لا يدرك هو أبعادها، أو قد يكون المجتمع منشقاً على نفسه ، وهنا يصبح ثمت مجال لاختيار الأفضل والأرقى وتبرز فرصة للتصحيح والاستدراك.
إن في المجتمع ما يسمى بالعادات و التقاليد ، وهي جزء من النّظام السائد في المجتمع و جزء من العرف القائم المحترم في الأصل ، فليس ما يسمى عادة أو تقليداً مذموماً بذاته أو محموداً ، بل منها ما هو صالح لأن يستمر ويدوم ؛ لأنه يبنى على مسلمات ثابتة و مستقرة ، وهذا كثير ، ومنها ما يحتاج إلى إزالة أو تعديل.
ففي المجتمعات الإسلامية ما هو صالح بإطلاق مثل : الترابط الاجتماعي ، وصلة الرحم ، وبر الوالدين ، وصلة القربى ، والإحسان إلى الكبار و رعايتهم ، والشفقةِ على الصغار ، والكرم والجود ، والفضائل الأخلاقية العريقة العميقة ، التي أصبحت جزءاً من معهودات المجتمع وعاداته ، وهي في الأصل ذات أصول شرعية دينية إسلامية .
وثمت أشياء صالحة في بعض الأحوال دون بعض ، فقد تصلح لظرفٍ و لا تصلح لآخر ، وقد تصلح للفقر، ولا تصلح للغنى ، وقد تصلح للأمن ، ولا تصلح للخوف ، وقد تصلح للجهل ، ولا تصلح للعلم .(68/6)
وهذا باب يطول استقصاؤه ، ومثاله أنماط الكرم التي يقدمها الناس ، فتختلف من حالٍ إلى حال ، و قد يكون الكرم في الماضي لهُ تعبير و في الحاضر لهُ تعبير آخر مختلف .
ومن العادات والأعراف ما هو سيئ ، وربما يكون منابذاً للشريعة ، لكن يحتاج في الخلاص منه إلى نوع من الحصافة والحنكة والوعي ؛لئلا يتحول تغييره إلى مشكلةٍ أكبر ، أو يكون تغييره سبباً في ترسيخه و تدعيمه ، وعادة ما تكون الانقلابات غير المدروسة سبباً في نتائج عكسية .
ومن العادات والتقاليد وهو الأكثر ما يكون مزيجاً من هذا وذاك ، وقد يصعب على كثيرين تمييزه ، واستخلاص جيده من رديئه ومثاله قضية النسب ، فالنسب من حيث ثبوته سبب في صلة الرحم ومعرفة الأقارب والتوارث والتواصل إلى غير ذلك من الأحكام الشرعية ، لكن هذا الأصل بُني عليه من فجر التاريخ نوع من العصبية القبلية ، التي حذر منها النبي صلى الله عليه وسلم ، ومع ذلك ظلت موجودة على مستوى الجيوش ، وعلى مستوى السلطة ، وعلى مستوى العلاقات ، وتوارثها الناس اليوم ، و أصبحت إحدى العوامل المؤثرة في انشطار المجتمع واختلافه ، أنه ينقسم إلى مجموعة من الشرائح ، والتكوينات الأسرية القائمة على أنساب متميزة ، فلم يقتصر الأمر على مجرد تعارف ، أو انتساب ، وإنما تحول إلى نوع من التعصب ، والتناحر والتنافس تضيع في حماه مسألة الكفاءة والجدارة والأفضلية ، فهنا أصبح في الأمر نوع من الالتباس ، بينما هو أصلي وصحيح ومشروع ، وبينما هو طارئ ومذموم ومنبوذ.(68/7)
السلطة الثالثة: السلطة العلمية، و الأمر فيها لا يخلو من إشكال ، فإننا نجد تفرقاً كبيراً ، وأعداداً غفيرة من العلماء والفقهاء والقراء والمتعلمين والمتخصصين في مجال الشرعيات ، وهم لا يجمعهم كتابٌ حافظ ، ولا تضمهم مؤسسة بعينها ،بل الغالب أن كثيراً من الأقوال والآراء والاجتهادات ترجع إلى رأي خاص ، واجتهاد شخصي أكثر مما ترجع إلى اجتهاد جماعي و مدارسة عامة ، كما كان الأمر في عصر الصدر الأول حين كان عمر رضي الله عنه يجمع الصحابة إذا أشكل عليه أمر ويستشيرهم ، ولهذا كان من الكلمات الدارجة : [لو عرضت هذه المسألة على عمر لجمع لها أهل بدر] ولكن مع ذلك فإن الأمر لا يخلو من إشكال فيما يتعلق بالتعامل مع المؤسسة الدينية ، سواء كانت رسمية أو شعبية أو جماعية أو فردية ؛ فإن النفس الإنسانية ترتاح لسماع المديح ولو كان كاذباً ، و تنفر من سماع النقد و لو كان جاداً عادةً ، ولا يقمعها من هذا الارتياح إلا رادع التقوى والمراقبة لله سبحانه وتعالى والزهد في الدنيا ، ومطامعها ، فهذا الزهد يضعف مراكز الأنانية في النفس ، فتعتاد تقبل النقد ، والتصحيح ، و مثله التدريب و التعويد الذي يهون وقع هذه الأشياء و يذهب حزنها ؛ فإن الشخص الذي تعود ألا يسمع إلا الإطراء والثناء والتأييد وهز الرؤوس يصعب عليه أن يتقبل النقد أو المعارضة أو الرفض ، وهذا أمر طَبَعِي ، بل أكثر من ذلك ، فلو أن إنساناً تعود على سماع النقد عشرين سنة ، ثم فقد النقد أسبوعاً ؛ ليسمع خلاله مديحاً خالصاً محضاً ، لاحتاج بعد الأسبوع إلى استعداد جديد ، وتأهيل جديد وتدريب قاس ؛ لقبول النقد الذي ينتظره .(68/8)
إننا نجد أن الولاء السياسي أو العلمي أو الدعوى ربما يأخذ أكبر من حجمه ، أو يتم التعبير عنه و تفسيره بطريقة غير دقيقة ، فهناك من ينفر من نقد من ينتسب إليهم من المشايخ ، أو العلماء أو الدعاة ، و بمجرد ما يسمع صوتاً باعتراض، ولو كان لطيفاً ؛ فإنه يُستفز للمقاومة والرد ، وقد يطلق على الخصم عبارات التصنيف والتهمة والمحاصرة ، ثم ينبري للدفاع ، ولا بأس بحرية الإنسان في الدفاع عما يعتقد ، لكن مع مراعاة أن الانهماك في الدفاع يفضي إلى نوع من المغالبة والمبالغة في الترميز ، وتكريس الصدارة بطريقةٍ لا حاجة إليها ، وربما يكون ذلك تعميقاً للانشقاق في المجتمع الإسلامي ، أو داخل الصف الدعوي والصف العلمي خصوصاً إذا كان الدفاع ينطلق من ولاءٍ راسخ، أو تبعية مطلقة .
إن التمحور حول الأشخاص بالتبعية أو الإقصاء لهو معاناة مستحكمة ، وإذا تم غض الطرف عنه في ظرف من الظروف التي مضت؛ فإن من غير الممكن أن نغض الطرف عنه الآن ، و يجب أن ندفع من جهدنا ومن عرقنا ومن حقوقنا الشخصية ومن أعصابنا لأن نعيد إلى الأمة لحمتها ووحدتها ، وأن نبعدها عن عوامل التفرقة والانشطار.
نعم ! إن إحقاق الحق ، ورد الخطأ مطلب شرعي، وحفظ مقامات الناس هو مطلب شرعي آخر ، والشريعة تتكامل ولا تتقاطع.
يجب أن يُمنح الشباب بعض الحرية في النقد ، وشيئاً من الحرية في مدى استحقاق من نسميهم ، وجدارتهم بهذه الألقاب التي نضفيها عليهم .
نعم! نحن نطالب بتحسين لغة الحوار ، وتجاوز سلبياته ، لكن لا يجب أن نفترض المستحيل ولا أن نفترض أن القدرة على الحوار الهادئ يمكن أن تتم بين يوم وليله ، دع الناس يعبرون عن رأيهم الآن ، ثم قم أنت بالتوجيه ، وسوف يتم التدارك بعد ذلك ، وتهدأ اللغة بعدما يزول الاحتقان ، ولو إلى حد ما!(68/9)
إذا كنا نحن ننتقد الحكومات والسلطات التي تضيق بالرأي الأخر ؛ فلماذا نمارس الخطأ ذاته في محافلنا ومجامعنا ومنتدياتنا وحلقاتنا وجماعاتنا ودوائرنا .
إن النقد لا يدمر الأشخاص الجديرين كما نتوهم بل هو يبنيهم ، ويزيدهم تألقاً وطموحاً وثقة ، ويثير فيهم عوامل الإبداع ، وينفض عنهم غبار التقليد والركون ، ويقضي على سلبيات العظمة الوهمية ، والكبرياء الكاذبة ، والتعالم والادعاء الذي يسرع لمن تعود ألا يسمع إلا الإطراء والمديح والتأييد.
يجب أن تتعود آذاننا على سماع نقد أولئك الذين نحبهم ، ما دام النقد ليس اتهاماً ولا تجريحاً ولاطعناً ولا سباباً ؛ فإذا تحول إلى شيء من هذا فهو اللغو الذي نعرض عنه ( وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ) (القصص:55).
رابعاً: السلطة السياسية:ما نقوله في السلطة العلمية نقوله في المرجعية السياسية ؛ فإن كثيراً من الدول اليوم أصبحت ترى أن وجود ما يسمى بالمعارضة ، سواء تشكل في أحزاب أو مجموعات أو شرائح أو غيرها صار جزءاً مكملاً في المشهد السياسي ، فإذا لم توجد ؛ فإنهم يسعون في إيجادها ، ولذلك فإن النقد الهادف البعيد عن التجريح أو السباب أو التهويل أو المصادرة لا يدمر المجتمعات والدول والحكومات ،بل يزيدها شفافية ، ويعينها على تلافي النقائص والعيوب ، ويكشف عن الأدواء والأمراض التي تكبر وتنمو في جو التعميم والتعتيم والتكتيم والتكميم .
إن كثيراً من الأمراض إنما تنشأ في الظلام ، فإذا عرضت لأشعة الشمس فإنها تقتل الجراثيم ، وبذلك يعيش الناس عيشة طبيعية سوية سليمة ، ولديهم قبول للمناقشة والأخذ والرد والحوار ، وواقعية واعتدال في معارضتهم ، كما لديهم واقعية واعتدل في تأييدهم ، وقبولهم.(68/10)
إن الشعوب الحرة هي الشعوب الجديرة بالبقاء والحياة القادرة على تجاوز الصعاب ، ومن الخطأ الظن بأن الحرية هي مجرد قرار ، لا ! إنها برنامج للحياة والبناء ؛ ولكن هذا القرار ، يصلح أن يكون شرارة تقدح زناد الحرية ، وتطلق صفّارة البدء ، ومن الطريف أن الجاحظ في كتاب الحيوان ، ذكر أن البلابل إذا سجنت في أقفاص فإنها لا تتناسل ولا تتوالد ، وقد التقط هذا المعنى الجميل شاعر الشام عمر أبو ريشة ، وكتب قصيدة عنوانها بلبل :
ألفيته ينثر ألحانَه **** كأنما ينثرُ مِن كبده
وإلفُه المشفقُ ظِلٌ له **** باقٍ كما كان على عهده
مدله اللفتات مستوحشٌ **** طاوٍ جناحيه على وجده
كم أطبقت منقاره غصّة **** فمدهُ ينقر في قيده!!
أسقمه العيش على وفره **** لما رآه ليس من كده
وأين مخضل الجنى حوله ؟ **** من زنبق الروض ومن ورده
طوى المنى نوحاً و لكنما **** لم يغنه النوحُ و لم يجده
فعاف دنياه ولم يتخذ **** عشاً ولم يحمل سوى زهده
كأنه من طول ما مضّه **** من عبث الدهر ومن كيده
أبى عليه الكبر أن يورث الـ **** أفراخ ذل القيد من بعده!
لو يعلم الصياد ما صيدُه **** لم يجعل البلبل في صيده!(68/11)
مرجعية الحرية
28/12/2002
24/10/1423
بين المساواة والعدالة:
الحرية والمساواة وجهان لعملة واحدة ، والإسلام سوى بين الناس في أصل خلقتهم وتكوينهم
( إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ) (الحجرات: من الآية13) ،
( اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ) (النساء: من الآية1) وكذلك في الحساب ( أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْض) (آل عمران: من الآية195) . وبعض الناس يفضل تعبير العدالة على تعبير المساواة ؛ لأن ثمت فروقاً بين الناس لا يمكن تجاهلها أو تجاوزها ، ومن ذلك الفروق بين الذكر والأنثى ؛ فهناك فروق عضوية بيولوجية، وهناك فروق نفسية سيكولوجية ، فجسم المرأة غير جسم الرجل ، ونفسية المرأة غير نفسية الرجل ، وقد قرأت اليوم -ربما بالصدفة- خبرين صدرا منذ مدة :(69/1)
الخبر الأول : يتحدث عن أن الفرق بين الرجل والمرأة أعمق مما كان يعتقد ، والمصدر وكالة إسيوشيتبرس، أن علماء أمريكيين قالوا: إن الاختلافات البيولوجية بين الرجل والمرأة أعمق مما كان يعتقد في السابق ، و أضافوا أن دراستهم أثبتت ضرورة أخذ الجنس باعتباره متغيراً أساسياً عند إجراء البحوث الطبية ، وجاء في تقرير أعده الباحثون في المعهد الطبي الأمريكي ؛ أن الاختلافات بين الذكور والإناث تصل لمستوى الخلية البشرية ؛ وقال العلماء الأمريكيون في المعهد الطبي : إن الجنس يعد من المتغيرات البشرية الأساسية المهمة ، التي يتوجّب أخذها بعين الاعتبار عند تصميم و تحليل الدراسات في جميع المناطق ، وعلى جميع المستويات الطبية والصحية المتعلقة بالبحوث ، وكان الباحثون الطبيّون في الماضي يفترضون أن الاختلافات بين الرجل والنساء تقتصر على أجهزتهم التناسلية فحسب ، وفيما عدا ذلك لا يوجد أي تباينات في استجابتهم للعقاقير الطبية المختلفة ، وقال هؤلاء في تقرير أعدوه تحت اسم استكشاف الإسهامات البيولوجية في الصحة البشرية : هل للجنس أي تأثير ؟(69/2)
إن هيئة العلماء ترى أن الاختلافات بين الجنسين تصل لمستوى الخلية البشرية ، إذ يختلف الرجال عن النساء في أنماط مرضهم ، وفي دورات حياتهم ، ويرى التقرير أن هناك اختلافاً في تعرض كلا الجنسين للأمراض؛ كما أن أفراد الجنسين يعتمدون على أساليب مختلفة لحفظ الطاقة ، وتمتد الاختلافات إلى عمليات الأيض ، أو ما يسمى بالتمثيل الغذائي المتصل ببناء البروتوبلازما ، ويعتقد العلماء أن هذه الاختلافات من شأنها أن تحدث فرقاً في استجابة الذكور والإناث للعقاقير المختلفة ؛ بل يدعوا الباحثون إلى إجراء مزيد من البحوث ؛ لمعرفة كيفية استجابة الجنسين للأمراض والعقاقير ، و إلى تصميم برامج بحثية ، تأخذ هذه الفروق بعين الاعتبار ، وقالت الهيئة: يجب أن تصمم الدراسات بحيث يمكن تحليل نتائجها وفقاً للجنس ، ويجب ذكر جنس الأشخاص الذين تجرى عليهم التجارب والبحوث والدراسات ، هذا بالإضافة إلى وجوب احتواء البحوث والدراسات العلمية على معلومات تتعلق بحالة الدورة الشهرية للنساء اللواتي تشملهن البحوث والدراسات .(69/3)
الخبر الثاني : عن دراسة عسكرية بريطانية أثبتت أن عدد المصابات من المجندات البريطانيات في الجيش أثناء التدريب زادت أكثر من الضعف بعد تطبيق سياسة المساواة بين الجنسين في التدريب ، وتوصلوا إلى أن المجندات يتعرضن لمخاطر كبيرة بعد تطبيق السياسة الأخيرة ، وذلك بعد أن عقدوا مقارنة بين الأسلوب المتبع قبل تطبيق النظام بالمساواة وبعده ، وذكرت الدراسة التي نشرتها مجلة الجمعية الطبية الملكية في بريطانيا ؛ أنه بعد تطبيق النظام بقيت نسبة التسريح الطبي ـ بسبب إصابات مثل: الكسور ، وآلام الظهر، والتهابات الأوتار ـ بين الرجال أقل من 1.5% ، بينما ارتفعت عند النساء إلى نسبة 11% وزيادة ، بعد أن كانت 4.5% فقط ، وقال المقدم طبيب ( بيمين) الذي أشرف على الدراسة: إن الفروق في حجم عظم النساء وكتلة العضل ؛ يجعل الضغط أكبر على الهيكل العظمي للمرأة بنسبة تتراوح بين ( 33 - 39% ) عما هو عند الرجال أثناء التدريب ، ودرس الباحثون حالات إنهاء الخدمة لأسباب طبية بين 5690 رجل ، وبين 790 امرأة تم تجنيدهم ، وبناء عليه خرجوا بهذه النتيجة .(69/4)
فلا يمكن تصور مساواة مطلقة بين الرجل والمرأة ، لكن لا يعني هذا أن الإسلام يقوم بالتمييز لصالح الرجل ضد المرأة ، إن ثمت أشياء يميز الإسلام فيها لصالح الرجل ، وثمت أشياء أخرى يميز الإسلام فيها لصالح المرأة ، وقسم ثالث أبرم الإسلام فيه عقد المساواة التامة بين الجنسين ، وعلى سبيل المثال فيما يتعلق بالحقوق حقوق الأبوين ؛ فالإسلام أوصى بالأم ثلاثاً ، بينما أوصى بالأب مرة واحدة ( أمك ثم أمك ثم أمك ثم أبوك) ؛ فهذا تمييز لصالح المرأة ، وقدم الله الإناث في غير موضع (يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ)(الشورى: من الآية49) وقال : (هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ) (البقرة: من الآية187) ، و هناك مساواة في حالات كثيرة ، مثل ما نجد في الميراث ؛ أن ثمت حالات ترث المرأة فيها مثل الرجل، فالأخوة لأم، ذكرهم وأنثاهم سواء ، وهناك حالات ترث فيها المرأة أكثر من الرجل باعتبار نوع القرابة مع المتوفى ، وهكذا قال سبحانه : (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ)(البقرة: من الآية228) ، وفي الحديث ( النساء شقائق الرجال ) .
والإسلام وضع هذا ضمن إطارٍ عام وتنظيم عام ، لا يمكن أخذ هذه الجزئية إلا بالنظر إلى جوانب أخرى في النظام الإسلامي فيما يتعلق بـ :
- من الذي يدفع المهر؟
- من هو الذي يتولى الأنفاق ؟
- ما هي مسئوليات الرجل ؟
- ما هي مسئوليات المرأة ؟
ويبقى أن الإسلام جعل للرجال على النساء درجة ، وأعطى القوامة للرجل زوجاً كان أو أباً ، وفضل جنس الرجال على جنس النساء ، وهذه شريعة واضحة لا لبس فيها ، ولا يمنعنا من تقريرها سوء استخدام بعض الرجال لها.(69/5)
حينما نتكلم عن جانب النقص في المرأة ( ناقصات عقل ودين ) نذكر أن هذا ليس سباباً أو سخرية أو تنقصاً أو استهزاء بالمرأة كما يفعله بعض الرجال اليوم حينما يستدلون بهذا الحديث في مجال المغالبة والتحقير ، بل كان في مقام الثناء والإطراء ؛ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقول للنساء : ( ما رأيت من ناقصات عقل ودين ؛ أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن ) فالمقام مقام تقرير قدرة المرأة على التأثير على الرجل ، وسلب عقله ، وشدة الجاذبية له ، وهذا جزء من الاختلاف العضوي والنفسي الذي يميز المرأة بحسب المهمات المنوطة بها.
ومع أنه قال : ( ناقصات عقل ودين ) فقد حدد النقص ـ لئلا تذهب فيه أهواء الرجل ـ بأن المرأة إذا حاضت لم تُصل ولم تصم ، وهذا أمر مُسلّم ، وكذلك هي لا تأثم على هذا ولا تؤاخذ به ، بل لو احتسبت ذلك لأجرت عليه ، وأيضاً أن شهادتها بشهادة رجلين في القضايا ، التي لا تدري فيها كما يدري الرجل ؛ بينما القضايا التي تخصها كالشهادة - مثلاً- على الرضاع ، أو الشهادة على البكارة تقبل فيه شهادة المرأة بما لا تقبل فيها شهادة الرجل ، وتقبل فيه شهادة امرأة واحدة ، زد على ذلك ؛ أن الرسول صلى الله عليه وسلم نص على كمال بعض النساء ( كمل من النساء أربع ، وذكر مريم ، و آسية امرأة فرعون ، وفاطمة ، وخديجة ) ؛ فأشار إلى كمالهن ، ومن المعلوم أن كمالهن لا يعني أن الواحدة منهن لم تكن تحيض ـ مثلاً ـ لكن لها كمال ووفور في عقلها وفي شخصيتها وفي نظرها وفي سداد رأيها ، وفي غير ذلك ، فالنقص المثبت ليس نقصاً من كل وجه ، بل نقص بمعيار خاص .(69/6)
وكما أن المساواة أو العدالة ؛ نظام شرعي ، فهي نظام قدري ؛ فإننا نجد في أصل الحياة والوجود أن العمر الذي يعيشه الإنسان ، مرتبط بالكثرة العددية للبشر ؛ فيومَ كان الناس قليلاً عديدهم ،كانوا يعيشون سنين طويلة ألف سنة وأكثر من ذلك ، ولما زادت نسبة وجود البشر على ظهر الأرض قلت أعمارهم ، وهذا يرجع إلى حكمة إلهية ربانية في التوازن ، ولو ظل الناس أحياء كلهم على هذا لحالوا دون مجيء الأجيال الجديدة ، فالذي يموت إنما يدع الفرصة للأجيال التي تأتي بعده , يموت قوم ليخلفهم آخرون .(69/7)
مسلمون وكفى ...!
23/10/2002
17/8/1423
منذ فترة طويلة وأنا مهموم بالبحث عن الأسباب التي أدت إلى تخلف الأمة الإسلامية في هذا الوقت ، بل ومنذ مئات السنين ، وتراجعها عن دورها الريادي والحضاري ، وفشلها في كثير من شؤون الحياة .
هذا السؤال ليس جديداً ، بل ربما كان المسلمون يطرحونه قبل قرون , ولما حصل انحسار الإسلام عن بلاد الأندلس ، وسقطت بأيدي النصارى بعد ثمانية قرون من الحكم الإسلامي أحدث هذا دوياً هائلاً في العالم الإسلامي ، وتساءل المسلمون عن سر هذه المصيبة وهذا التخلف ، وكتبوا ما كتبوا ، وقالوا ما قالوا ، من منثور ومنظوم ، ولما جاء الغزو المغولي التتري حصل مثل ذلك ، وكذلك لما جاء الغزو الصليبي ، ولما جاء الغزو الاستعماري وهيمن على معظم الرقعة الإسلامية ، واستسلم له المسلمون لفترة تكرر مثل هذا السؤال أيضاً ، والآن أصبح السؤال يطرح بشكل أكثر إلحاحاً ، وكتب فيه من كتب من العلماء ، ومن أشهر ما كتب ( لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم ؟) للأمير شكيب أرسلان ، ومن أنقرة إلى القاهرة إلى دمشق إلى جاكرتا إلى الرياض إلى مناطق كثيرة من العالم ؛ فإن هذا السؤال يطرح بقوة : ما السبب وراء تخلف المسلمين ، وتقدم غيرهم ؟!!
الكثير يطرحون سؤالاً وهو : من فعل هذا بنا ؟! ، من العدو الذي أحدث فينا هذا الضعف ومن تسبب لنا بهذا التخلف والتأخر ؟ ومن جرنا إلى هذا المصير ؟!
بيد أن القرآن الكريم يرشدنا إلى ضرورة تغيير السؤال ، وأن أول مرحلة في الإصلاح هي أن نعيد صياغة السؤال بشكل آخر ، بدلاً من سؤال من فعل هذا ؟ علينا أن نتساءل : كيف حدث هذا لنا ؟ لنؤكد أن المشكلة تبدأ من عندنا ، وليست شيئاً خارجياً مفروضاً علينا .(70/1)
وهذا المعنى متضمن في عشرات الآيات القرآنية ، من أبرزها وأوضحها قول الله : " وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى "[الأنعام:164] ، وقولهI: " مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ "[النساء:79] وقولهI : "وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ "[النساء:111] وقولهI :" قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ"[آل عمران:165] وقولهI :" وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ"[الأعراف:160] وقولهI : " وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ"[النحل:118] وقولهI:"ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ"[الأنفال:53] وقولهI :" إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ "[الرعد: 11] .
هذه الآيات وما شابهها تقوم مقام القاعدة القرآنية الشرعية القطعية ، التي تؤكد أن مبدأ التغيير هو من النفس ، ويفترض أن نخلص من هذه النصوص القرآنية التي هي غاية الوضوح والسهولة إلى أن التغيير الحقيقي في المسلمين يجب أن يبدأ من عند أنفسهم ، فتغيير وبناء الشخصية الإسلامية هو المنطلق ، والحجر الأساس في عملية الإصلاح المنشودة ، وهناك جانبان أساسيان في موضوع تغيير النفس يشملان كل ما وراءهما :
الأول:جانب التصورات والعلوم ، والتي يتفرع عنها تصحيح مناهج النظر والتفكير والتحليل.
الثاني: جانب الإرادة والقصد ، جانب العمل والأداء والممارسة .(70/2)
الإنسان ما هو إلا علم وعمل ، والشريعة بل الرسالات السماوية كلها جاءت لإصلاح هذين الأمرين ، إصلاح نظر الناس وعلمهم وتصوراتهم عن الأشياء بحيث تبدو صحيحة ، وإصلاح أعمالهم بحيث تكون متوافقة مع العلم الصحيح ، هذا هو مدار الأمر.
قبل أن نسترسل في هذا الجانب , دعونا نقف قليلاً مع بعض الإحصائيات التشخيصية المتعلقة بواقع الأمة الإسلامية .
رجل من كبار المستشرقين ؛ بل هو عميد المستشرقين ( برناند لويس ) كتب مجموعة من المؤلفات قديمة وجديدة عن الإسلام والمسلمين ، لكن من آخر ما كتب ( تأثير الغرب ورد فعل الشرق الأوسط ) ، وهنا تقرأ هذه المجموعة من الإحصائيات :
- المسلمون ربع سكان العالم ، ولكن حصتهم من الثروة العالمية تقل عن ( 6% ) .
- ثلثا فقراء العالم الذين يعيشون بأقل من دولارين يومياً هم من المسلمين ، وهذه النسبة ( نسبة الدخل للفرد المسلم ) تنخفض بمعدل ( 2% ) سنوياً ، وهو أكبر انخفاض يقع للفرد فيما يسمى بدول العالم النامي .
- لا يوجد بلد إسلامي واحد بين البلدان الثلاثين التي صنفت على أنها أغنى ثلاثين دولة في العالم .
- من بين منتجات الدول المميزة في كل مجالات الإنتاج هناك خمسة آلاف منتج تعتبر مميزة لا يوجد واحد منها من بلد إسلامي .
- إذا ما استثنينا النفط ، والكافيار ( بيض السمك ) ، والسجاد الإيراني ؛ فإن الدول السبع والخمسين الأعضاء في منظمة المؤتمر الإسلامي لا تقدم شيئاً وراء هذا للسوق العالمية .
- مديونية الدول الإسلامية تقدر بمئات المليارات من الدولارات ، ونسبة الاكتفاء الذاتي عند المسلمين تنخفض بشكل مستمر( السلعة التي يكتفون فيها ذاتياً ) .
- الفرد المسلم يعيش متوسط حياة أقل بعشرين سنة من متوسط نظيره في بلاد الغرب ؛ لاعتبارات الخدمة الصحية والغذائية والتوعوية ، ولا تستبعد أثر القهر والشعور بالمهانة!(70/3)
- أربعون بالمائة من الشباب المسلم المتعلم لا يحصلون على مهنة لائقة لهم في بلدانهم ؛ فإما أن يبقوا عاطلين في بلادهم عن العمل ، وإما أن يضطروا إلى الهجرة كما يهاجر شباب المغرب وتونس والجزائر وغيرها إلى فرنسا ، أو يهاجر شباب مصر والشام إلى أمريكا أو أوربا .
- بينما تتراوح نسبة البطالة في الغرب ما بين (5- 12 % ) خلال العقدين الماضيين ؛ فإن نسبة البطالة في العالم الإسلامي تزيد على ( 20% ) وهي آخذة بالازدياد .
نتيجة البطالة أن يفتقر الناس والشباب والمتخرجون إلى الوظائف والعمل ، ويترتب على هذا عدم إمكانية توفير السكن ، وهذا يعني أن كثيراً من الشباب المسلمين لا يستطيعون الزواج وتكوين العائلات ، وهذا يترتب عليه كثرة العنوسة في العالم الإسلامي ، ولذلك في إيران: يحتمل أن ينتهي المطاف بـ ( 40% ) من الفتيات اللاتي هن دون سن العشرين إلى العنوسة ، ونشرت الصحف هنا في السعودية قبل شهور تقريراً مخيفاً عن العنوسة هو قريب من هذا الرقم .
- نقص المياه هو مشكلة يومية في العالم الإسلامي كله .
- وفقاً لدراسة أعدتها منظمة الصحة العالمية ، يعتبر بلد إسلامي واحد فقط هو عُمان من بين الدول الأربعين التي توفر لمواطنيها الرعاية الصحية وفق المعايير الحديثة.
- من الناحية السياسية لا يتمتع العالم الإسلامي إلا بنفوذ ضئيل جداً في التأثير على السياسات العالمية ، وتوصد الأبواب في وجه الدول الإسلامية للدخول إلى منتدى صناع القرار في العالم ، حيث تتحكم حفنة قليلة من الدول الغربية في هذا الأمر .
- من بين أبرز ثلاثين نزاعاً محتدماً في العالم ، هناك ثمان وعشرون نزاعاً في العالم الإسلامي تعني المسلمين أو العالم الإسلامي حكومات أو شعوباً .
- في العقود الثلاثة الماضية لقي ما لا يقل عن مليونين ونصف مليون شخص من المسلمين حتوفهم في حروب جرت داخل العالم الإسلامي .(70/4)
- يقبع ثلثا السجناء السياسيين في العالم في سجون العالم الإسلامي .
- (80% ) من أحكام الإعدام في العالم تمت في دول إسلامية . (1)
- يشكل المسلمون في العالم حوالي (80% ) من اللاجئين في العالم .
- كل الدول التي عانت من انهيار ، وأصبحت دولاً عاجزة تنتمي للعالم الإسلامي ، مثل ما حدث من انهيار دولة الصومال .
- العالم الإسلامي هو أقل مناطق العالم استثماراً في ميدان البحث العلمي ، والتقنية ، وخدمة المعلومات .
هذه معلومات حديثة ، ومعلومات إحصائية تدل على قدر من التخلف في العالم الإسلامي في مجال الصحة ، في مجال التعليم ، في مجال الاقتصاد ، في مجال حقوق الإنسان ، ربما هذه الأسئلة تجد من يخدمها ؛ لأنها قضايا مطروحة عالمياً ، وبالتالي هناك مقارنة بين العالم الإسلامي وبين غيره من دول العالم ولسنا بصدد التعليق أو الاستدراك ؛ لأن العملية وصفية محضة .
لكن ثمت نمط آخر من الأسئلة يكمل الصورة .
عملت استبياناً للرأي شارك فيه بضع مئات من الشباب في عملية توقعية محضة ليست بالضرورة متطابقة مع الصورة الحقيقية ، ولكنها تقريبية ، وطارحتهم مجموعة من الأسئلة السلوكية والتعبدية التي تمثل لوناً آخر من التخلف ، ولا يمكن فصل هذا الجانب عن ذاك ، إذ إن هذا الفصل ذاته يعني نوعاً من الازدواجية في النظرة ، والتمزق في الشخصية .
وقد جاءت الأسئلة كما يلي :
س:كم نسبة الذين يصلون الصلاة جماعة في المجتمعات المسلمة ؟
ج:أكثر من نصف الأصوات تقول : (20% ) .
س:كم نسبة الذين يصلون من المسلمين في بيوتهم ؟
ج:( 20% ) .
س:كم نسبة الذين يصلون أحياناً ويتركون الصلاة أحياناً أخرى ؟
ج:( 30% ) .
س:كم نسبة الذين يختتنون من المسلمين ؟
ج:نحو ( 80% ) .
س:كم نسبة الذين يعقدون عقود الزواج الشرعية ؟
ج:تقدر نسبتهم بنحو ( 75% ) .
س:كم نسبة الذين يدفنون موتاهم بحسب الطريقة الشرعية ؟
ج:أكثر من ( 90 % ).
س:كم نسبة من يدفعون الزكاة ؟(70/5)
ج:من الصعب جداً إحصاء من يدفعون الزكاة ؛ لأن الزكاة ليست هي مالاً يدفع لمصلحة جباية الزكاة فحسب ، وحتى في العصر الإسلامي الأول لم تكن الدولة هي التي تأخذ أموال الزكاة كلها ، فقط بعض الزكوات تجبى عن طريق السلطان أو الخليفة ، وهناك أموال زكوية يدفعها صاحبها ، وهو مؤتمن عليها ، واليوم معظم الزكوات يدفعها أصحابها بأنفسهم للمستحقين ، وفي كثير من البلاد الإسلامية لا يوجد جباية للزكاة أصلاً ، لكن توقع (70%) من الذين تعرضوا للسؤال أن نسبة الذين يخرجون زكاتهم من المسلمين هي (55% ) .
س:كم عدد الذين يصومون شهر رمضان من المسلمين ؟
ج:(70% ) ؛ لأن كثيراً من الناس لديهم إقبال على الشعائر التعبدية المحضة ، لكنهم أكثر تفريطاً فيما يتعلق بالجوانب المالية ؛ لوجود نوع من الشح ، أو حب الدنيا ، أو الأثرة في النفوس ، هناك أشياء أخرى يصعب الحديث عنها بشكل دقيق مثل جوانب الالتزام الأخلاقي مع النفس ، أو مع الزوج ، أو مع الوالدين أو مع الآخرين أو مع أفراد المجتمع أو مع الأعداء .(70/6)
مسلمون وكفى...!
26/10/2002
20/8/1423
وفيما يتعلق بالجانب الأول ( الحياتي أو المعاملاتي ) ففي العديد من الحالات يصبح المسلمون استثناءً سلبياً داخل مجتمعات أكثر رقياً وتطوراً ، وهذا أمر في غاية الخطورة ؛ لأنه يعطي الآخرين انطباعاً مباشراً بأن سبب هذا التخلف يعود إلى تعاليم الدين ذاته " رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ "[الممتحنة:5] .
والمشكلة تعود في بعض أجزائها إلى اغترار بعض المسلمين بانتسابهم ، ووقوفهم عنده يظن أن مجرد الحصول على الصفة أو اللقب يعيضهم من الالتزام والتقيد بمقتضى الشريعة .
أو أن حصوله على جانب من الصلاح يعفيه عن استكمال النقص أو قبول النصيحة .(71/1)
ولقد نعى الله –سبحانه وتعالى-على أهل الكتاب مثل هذا المعنى " وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ "[المائدة:18]. يقول حذيفة- رضي الله عنه- : [ نِعمَ الإخوة لكم بنو إسرائيل إن كان لهم المر ولكم الحلو ] يعني أن الأشياء التي حكاها الله- سبحانه وتعالى -عن اليهود أو النصارى ، وحذر منها ، وعابهم عليها ، هي حق عليهم وحق عليكم ، وإلا لما حكاها لنا ، وإنما ذكرها الله لنا للاعتبار ، ولهذا قال – سبحانه وتعالى- بعدما ذكر قصة بني النظير:" فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَار"[الحشر: 2] ، والاعتبار هو: القياس ، والنظر ، وربط الشيء بمثله ؛ فإذا كان الله – سبحانه وتعالى-يعيب على أهل الكتاب من قبلنا ألواناً من المخالفات والانحرافات ؛ فما ذلك إلا لنتجنبها، ولهذا كان مما يقرؤه المسلم في كل صلاة ، بل في كل ركعة " اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ "[ الفاتحة:6-7] ، يقول العلماء: المغضوب عليهم هم اليهود ، والضالون هم النصارى ، وهذا ليس قصراً للآية على هؤلاء ، وإنما هو من التفسير بالمثال أي من كان عنده علم ، وعنده صدق في تصوراته ، ولكن لم يكن عنده عمل ؛ فهذا فيه نسبة من المغضوب عليهم ، ومن لم يكن عنده تصور ، وإنما عنده عمل على غير هدى وبصيرة ؛ فإنه يلحق بالضالين .
فمن قصّر في جانب التصورات والعلوم ، أو أخل بها ففيه شبه من النصارى للجهل الموجود عندهم ، ومن قصر في جانب العمل ففيه شبه من اليهود ، ولهذا المسلم يدعو ربه أن يجنبه طريق هؤلاء وهؤلاء .(71/2)
والمتأمل يجد أن الله –سبحانه وتعالى-جعل اسم هذا الدين : الإسلام وكلمة (الإسلام) تدل على العمل والتحصيل بمعنى: الاستسلام لله –سبحانه وتعالى- ؛ فالإسلام علم ، وعبادة ، وتوحيد لله –سبحانه وتعالى- وهو خلق وسلوك ، وهو أداء وإتقان للعمل ورعاية للأمانة ، ولهذا بوب البُخاري في صحيحه :
- الصلاة من الإيمان "وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُم "[البقرة: من الآية143] يعني: صلاتكم إلى بيت المقدس .
- أداء الخمس من الإيمان .
- أداء الزكاة من الإيمان .
- صيام رمضان من الإيمان .
- قيام ليلة القدر من الإيمان وهكذا .
ففي الإسلام مزج وتشابك قوي بين العلم الصحيح والعمل الصحيح ، وكلها إيمان وكلها إسلام ، وكلمة الإسلام وكلمة الإيمان هي تدل بذاتها على هذه المعاني ، ولهذا سمى الله – سبحانه وتعالى- المسلمين ( مسلمين ) ، وقال: " هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْل "[الحج:78] بينما تجد اليهودية ليس في هذا المعنى ، وإنما اليهودية نسبة إلى يهوذا وهو شخص، وكذلك النصرانية ليس في هذا المعنى ، وإنما قد تكون نسبة إلى بلد وهي النصرانة أو الناصرة التي يقال: إن عيسى – عليه السلام- ولد فيها أو تكون نسبة إلى عيسى الناصري ، والبوذية نسبة إلى بوذا ، فالإسلام يتميز عن الديانات السماوية السابقة ، وعن المذاهب الأرضية بأنه دين يقوم على العمل ليس وراثة ، ولا أماني ، ولا ادعاءات، ولم يسم أتباعه بالمحمديين ولا بالمكيين حتى لا يظن الناس أن الإسلام هو عبارة عن قومية أو جنسية أو نسب. كلا بل الإسلام عمل والناس الذين كان آباؤهم وأجدادهم من الوثنيين ، وسدنة الأصنام ، ومحاربي الدعوة صار كثير منهم من السابقين الأولين للإسلام، وأولاد الصلحاء الأتقياء الأنقياء ربما صار أبعد ما يكون عن الخير والهدى والإسلام ، وفي القرآن الكريم تجد فيما تجد قصة نوح وابنه وقصة إبراهيم وأبيه ، وقصة امرأة نوح وامرأة لوط وقصة امرأة فرعون ...(71/3)
ولهذا لو أن الإنسان دخل في الإسلام من غير إرادته وبغير إيمان واعتقاد ، بل نتيجة الإكراه والضغط عليه فإنه لا يكون مسلماً عند الله – سبحانه وتعالى-، ولهذا قال سبحانه وتعالى:" لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ "[البقرة: من الآية256] أما قول أبي هريرة – رضي الله عنه- لما قرأ : " كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ "[آل عمران: من الآية110] : تقودون الناس إلى الجنة بالسلاسل . فليس معناه أنكم تكرهون الناس على الدخول في الإسلام ، والتاريخ كله لم يشهد أن أحداً أكره على الدخول في الإسلام ، لا فرد ، ولا شعب ، ولا جماعة ؛ وإنما المقصود أن المسلمين بجهادهم ، وصبرهم أزالوا العقبات التي كانت تحول بين الناس وبين الاستماع إلى دعوة الإسلام ، فدخل من دخل من الناس في دين الله إيماناً وإعجاباً بعدله ، ومنهم من يدخل لرغبة أو رهبة ، ثم يحسن إسلامه بعد .
فالإسلام هو استسلام لله – سبحانه وتعالى- ، وهو عمل يقوم به الإنسان ، حتى الرسول نفسه – صلى الله عليه وسلم -كان يكلف بكل التكاليف ، ويطالب بكل المطالبات حتى يقول الله- سبحانه وتعالى-له: " يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ"[الأحزاب:1] ، ويقول سبحانه وتعالى :"وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ "[الزمر:65] .
إن من شرائع الإسلام النصيحة للنفس وللغير .
وإن من الحواجز التي تحول بين الناس وبين قبول النصيحة أو قبول التصحيح هو تزكية النفس ، وعدم رؤية العيوب . نعم! لقد ورد في القرآن الكريم فضل هذه الأمة والثناء عليها ، ولكن هذا الفضل ليس فضلاً يتوارثونه ؛ لأنهم عرب ، أو لأنهم عاشوا في الأمصار والبلاد العربية ، فالأرض لا تقدس أحداً ، والقبيلة لا تقدس أحداً ، وإنما يقدس الإنسان عمله كما قال سلمان -رضي الله عنه- .(71/4)
ولذا يقول الله -سبحانه وتعالى-: " كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ"[آل عمران: من الآية110] ؛ فهذه الفضيلة لأمة، ليست لجنسية معينة ، وإنما لمن آمن بالله ، وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر ، وقام بأمر الله -عز وجل- ، وكذا قوله سبحانه وتعالى:" وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً"[البقرة:143] هذه الوسطية، والفضيلة " لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً"[البقرة:143] ؛ فهي لا تكون إلا لمن قاموا بالشهادة ، وكانوا نموذجاً وقدوة في أمورهم الخاصة والعامة والفردية والجماعية ، ولهذا كان عمر – رضي الله عنه- يقول : " كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ " كنتم فيما مضى . ويعني بهذا من سبق من أصحاب محمد – صلى الله عليه وسلم- لأنهم كانوا هم المعلم والمنارة التي يقتدي بها الخالفون من بعدهم.
إن مئات الملايين من المسلمين اليوم يرون أن مجرد انتسابهم لهذا الدين يكفي في نجاتهم في الآخرة ، ويكفي في صلاحهم في الدنيا ، حتى لو لم يطبقوا حقيقته ، وقيمه ، وتعاليمه ، وربما تجد عند أحدهم من الثقة بالفوز والنجاة في الدار الآخرة أعظم من ثقة العشرة المبشرين بالجنة ، وأما ما يتعلق بالدنيا ؛ فربما تجد الواحد منهم يكدح فيها ليل نهار ، ويضني بدنه وجوارحه ، لكن دون جدوى ؛ لأنه لا يأخذ بالأسباب المادية المعتبرة ، والكثيرون قد يطلبون قضاء حوائجهم وتفريج كرباتهم ، وسداد ديونهم ، وتزويج عوانسهم ، و إزالة مشكلاتهم ، ورد غيابهم ، و نصرتهم على عدوهم عند الأولياء ، أو المشاهد وعند القبور ، أو يتوقعونها هدية رخيصة تأتي دون ثمن وعناء ، ولم لا..! أو ليسوا بالمسلمين ؟!(71/5)
إن السنن والنواميس لا تحابي ولا تجامل أحداً ، والله – سبحانه وتعالى- يقول: " لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً "[النساء:123-124] .
إن كوني من الصالحين لا يسمح لي أن أجعل الصلاح ترساً أرفعه في وجه كل من يريد نصحي ، أو الاستدراك علي أو تصحيح خطأ مظنون أو مقطوع .
وهل الصلاح إلا قبول النصيحة من الآخرين ؟!
وفي هذا المقام فإن من الضرورات الملحة قيام المعنيين بالإصلاح والتربية على تجديد هذا المعنى الكبير في نفوس المسلمين ، وهو أن الإسلام نفسه دين العمل: العمل للدنيا ، والعمل للآخرة ، والعمل للنفس ، والعمل للغير ، وأن المرء يثاب على عمله حتى عمله الدنيوي ، ولذا يقول النبي –صلى الله عليه وسلم- فيما رواه البيهقي عن عائشة –رضي الله عنها-، وسنده جيد : ( إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه ) وهذا يشمل كل عمل يقوم به المرء مما هو داخل في دائرة المباح فضلاً عن المستحب أو الواجب ، سواءً كان وجوبه بأصل شرعي ، أو كان لتحمله لمسؤولية العمل وتبعته بموجب العقد والاتفاق .
وفي الحديث الآخر عند أحمد وسنده صحيح ( إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليفعل ) وهكذا يرفع الإسلام من قيمة العمل حتى حين يتيقن الإنسان ألا ثمرة تحتسب له من ورائه، ويوجه المسلم إلى احتساب الأجر والثواب وهو يغرس فسيلة قد ينتفع بها إنسان أو طير .
ومن الواجب الملح التربية على أن هذا النسب الشريف (الإسلام ) يتطلب أن يكون المرء على القدر الشرعي المقبول اللازم من أداء واجبات هذا الانتساب ، وترك منهياته أومحرماته .(71/6)
ويجب أيضاً أن يتم الفصل بوضوح بين الإسلام ، وبين ممارسة المسلم ( فرداً أو جماعة أو دولة ) فالإسلام دين رباني محكم مهيمن ، وهو المرجعية للحكم على الأشياء وتصحيحها .
أما عمل الناس وسلوكهم فهو قابل للنقد والمراجعة والتصحيح والنصيحة والملاحظة .
فكم يعزى إلى الإسلام ذنب **** وكل الذنب ذنب المسلمينا
والنصيحة نفسها عمل بشري قابل للمراجعة ما دامت تتعلق بأمر محتمل ، ليس من قطعيات الشريعة أو ضرورياتها ، والله أعلم .(71/7)
وحدة الصف لا وحدة الرأي
25/05/2002
13/3/1423
إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وذريته وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً .
في محكمات الكتاب الكريم ، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم الآيات الكثيرة والأحاديث الصحيحة البليغة الآمرة بالاجتماع ، والناهية عن التفرق ، حتى أصبح هذا الأمر من البدهيات المستقرة عند كل مسلم ، يقول الله تعالى : (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ، وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ، وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)[آل عمران: 103 ـ 105] .(72/1)
ويقول الله تعالى: (وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)[الأنفال: من الآية46] ، ويقول الله تعالى : (وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ )[العصر: 1ـ3] إلى غير ذلك من النصوص ؛ ولهذا أصبحت الجماعة والاجتماع على الخير والطاعة من ضروريات الدين ومحكماته ، والعبادات العامة كالصلاة ، والصوم والحج ، والأعياد وغيرها دليل عملي على ذلك .
ووصايا النبي صلى الله عليه وسلم والأحاديث في هذا كثيرة جداً ، لعل من أشهرها حديث مسلم (1715) ( إن الله يرضى لكم ثلاثاً (وذكر منها) أن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا ) فهذه الحقيقة واضحة وبدهية ومستقرة في حس كل مسلم ، لكن الشأن في تفعيلها ؛ لأن كثيراً من الإخوة يكون عندهم غيرة شديدة جداً على الدين ، وحرص عظيم على الوحدة ، لكن يفتقدون آلية تطبيق هذه الوحدة ، وبذلك يصبح الإنسان ـ وهو يتباكى على وحدة المسلمين ، وعلى اجتماع كلمتهم ، واجتماع صفهم ـ كأنه يريد من الناس أن يجتمعوا على قناعاته ، وآرائه ، واختياراته ، واجتهاداته ، وهذا أمر متعذر ؛ لأن الناس لم يجتمعوا على من هو خير منه ؛ فأولى أن لا يجتمعوا عليه .
إنما الشأن في القدرة على وجود منهجية نتقبل فيها الخلاف ، بحيث تكون فيها الوحدة على أصول شرعية صحيحة ، وليست على آراء أو اجتهادات خاصة لفرد أو فئة أو طائفة من الناس .
أما وحدة الصف فتعني في الأصل أمة واحدة تحت سلطان واحد يحكمها بشريعة الله سبحانه وتعالى ، وهذا كان منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم عهود الخلفاء الراشدين ، ثم عهود الأمم والدول الإسلامية المستقرة التي كانت تحكم المسلمين في مشرق الأرض وفي مغربها ، ويدين لها بالطاعة أهل الإسلام كافة .(72/2)
ولهذا جاء في السنة النبوية من الأحاديث ، والأحكام الصارمة في هذا ما يتعجب منه الإنسان ، منها على سبيل المثال قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( من فارق الجماعة شبراً فمات فَمِيتَةٌ جاهلية ) والحديث متفق عليه عند البخاري (7054) ومسلم (1849) من حديث ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم : ( من خلع يداً من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له ) و المعنى أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد بالغ في التحذير من الخلاف والفرقة ، والحث على الاجتماع والوحدة بحيث إن من خالف ذلك لقي الله ـ تعالى ـ يوم القيامة وليس له حجة ، ( ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية ) رواه مسلم (1850) عن ابن عمر ـ رضي الله عنه ـ وكذلك الحديث الثالث ( إنه ستكون هَنَاتٌ وَهَنَاتٌ ـ أي: أحوال وفتن ـ فمن أراد أن يُفَرِّق أمر هذه الأمة , وهي جميع فاضربوه بالسيف كائناً من كان ) رواه مسلم (1852) عن عرفجة ـ رضي الله عنه ـ ، وإذا كان هذا أمراً مضى ، وعقد المسلمين قد انفرط منذ فترة طويلة ، وتحولت الدولة الإسلامية الكبيرة إلى دول كثيرة تحكم بأجزاء من الشريعة ، ولا تحكم بأجزاء أخرى , ويكون بينها من الاتفاق ومن الاختلاف ما هو معروف مشهور ، فلا شك أن ذلك الواجب المطلوب من المسلمين في الأصل ، ينتقل إلى المحافظة على المعنى الذي ترمي إليه الشريعة ، وهو صلاح دين المسلمين وصلاح دنياهم ؛ لأن أصل نظام الخلافة ، ونظام الحكم في الإسلام إنما شرع من أجل حفظ الدين وحفظ الدنيا ، كما قال ابن تيمية في السياسة الشرعية : إن المقصود هو حفظ الدين وسياسة الدنيا به .
فينتقل الواجب إلى المحافظة على المعنى ، وهو صلاح دين المسلمين وصلاح دنياهم ، فمما يدخل في هذا ويجب على المسلمين السعي في تحصيله :(72/3)
أولاً : سلامة الصدور والنفوس من الأغلال ، والأحقاد ، والكراهية ، والضغائن ، والبغضاء وأن يحل محلها التسامح والتغافر والتعاذر والرحمة والشفقة (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بينهم) [الفتح: من الآية29] ، والآيات في هذا المعنى كثيرة .
ثانياً : التعاون على البر والتقوى , وترك التعاون على الإثم والعدوان ، كما أمر الله ، والتواصي بالحق والتواصي بالصبر .
ثالثاً : العمل ما أمكن في خطوط متوازية ومتعاضدة غير متقاطعة ولا متعاندة ؛ لأن في الناس من لديه همة لإحياء شعيرة من شعائر الدين ، وفيهم من لديه همة لإحياء شعيرة أخرى ، وفي كل خير ، وافتعال الخصومة أو التعاند بين هذه الأعمال الإسلامية المختلفة قد يضيع كثيراً من الجهود ، ويهدر كثيراً من الطاقات ، ويُقعِد الناس عن العمل ، ويحدث عند كثير من العوام ـ بل عند بعض المبتدئين من طلبة العلم ـ نوعاً من البلبلة ، والاختلاط ، والتردد ، والضعف ، وقد يؤثر كثيرٌ منهم أن يبتعد عن المجالات الإسلامية ، والعمل الإسلامي ، والخير والدعوة ، والعلم لما يرى من العداوات ، والبغضاء والتناحر ، ويطلب السلامة لقلبه والسلامة لنفسه في أجواء آمنة هادئة مستقرة ، حتى ولو لم يكن فيها عمل ولا خير ، ولكنها أجواء طبعية بعيدة عن مثل هذا التوتر .(72/4)
رابعاً : إحياء مبدأ النصيحة ، ومبدأ النصرة كما في الحديث الذي رواه البخاري (6952) عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً) فقال رجل : يا رسول الله أنصره إذا كان مظلوماً ؛ أفرأيت إذا كان ظالماً كيف أنصره ؟ قال: ( تحجزه أو تمنعه من الظلم ؛ فإن ذلك نصره ) ، وفي لفظ ( تأخذ فوق يديه ) عند البخاري (2444) من حديث أنس ـ رضي الله عنه ـ ، وفي لفظ ( تأخذ من نفسه لنفسه ) أي : تأخذ منه ولا تنصره على الباطل ، ولا تواليه ولاءً مطلقاً عاماً في الخير والشر ، وفي الحق والباطل ، وإنما تكون معه على الخير ، وتكون ضده على الخطأ ؛ فلا عصبية لشيخ ولا لمتبوع ، ولا لإمام ، ولا لشخص ، ولا لداعية ، ولا لجماعة ، ولا لطائفة ، ولا لمذهب ؛ وإنما الولاء للحق ، والحق يكون تارة مع هذا وتارة مع هذا ، وأحياناً يكون في الموقف الواحد جزء من الحق مع هذا ، وجزء من الحق مع ذاك ، ويمكن للإنسان مع التدرب أن يتعود كيف يستطيع أن يبحث عن الحق ، لا يلزم أن يصيبه دائماً , لكن أن يبحث عنه هنا وهناك ، حتى لو كان في مقتبل تكوينه ودراسته .
خامساً: ومما يدخل في ذلك الاجتماع على محكمات الشريعة كما يسميها العلماء ، التي أجمع عليها السلف الصالح ، وقبول الخلاف فيما اختلفوا فيه .
فنتفق ونُجمع على ما اجمعوا عليه من محكمات الشريعة ، ونقبل الاختلاف فيما اختلف السلف الصالح فيه ؛ فإذا ثبت أن الصحابة رضي الله عنهم قد اختلفوا ، أو الأئمة من السلف الصالح فلا تثريب ولا غرابة أن يقع هذا الاختلاف فيمن كان بعدهم .
وهناك أشياء تناقض هذا المعنى ، وهي كثيرة منها:(72/5)
أولاً : تنزيل النصوص على غير وجهها واعتبار أن الأحاديث الواردة بلزوم الجماعة تنطبق على جماعة خاصة ، أو تنظيم معين ، أو حزب ، أو طائفة ؛ فهذا لا شك أنه قلب للحديث النبوي من كونه دعوة للمسلمين للاجتماع على هذه السلطة العامة المتفق عليها إلى أن يكون اختلافاً ؛ فكل طائفة أو جماعة أو حزب يعتبر هذه الأحاديث خاصة به ، ويلزم الناس بالاتفاق عليه وبيعته وطاعته واتباعه ، ويعتبر من ليس كذلك ؛ أنه قد نزع يداً من طاعة ، وخلع ربقة الإسلام من عنقه ، وإن مات على ذلك فميتته جاهلية ، ويلقى الله يوم القيامة ولا حجة له إلى غير ذلك مما يقع للناس كثيراً ، وهذا مصداق ما أخبر الله ـ تعالى ـ به (كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ)(المؤمنون:53) ؛ فكل طائفة أو جماعة ترى نفسها واجبة اللزوم واجبة الاتباع ، ولا ترى هذا الحق لغيرها .
ثانياً: أن يقوم وجود المرء على أساس تقويض جهود إسلامية أخرى صحيحة ، ليست جهوداً ضالة ، ولا مبتدعة ، ولا محاربة للإسلام ؛ وإنما جهود صحيحة ، وعلى منهج ـ في الجملة ـ سليم ، لكنه يختلف معها في مسائل وجزئيات واجتهادات في تنزيل بعض النصوص على بعض الأحوال ، وهذا مما لا سبيل إلى الفرار منه ؛ فمن الخطأ أن يكون الجهد في ما يكتب ، وما يقال يصب في محاولة مصادرة الآخرين ، أو القضاء عليهم ، أو التحذير منهم أو ما أشبه ذلك من المعاني ، حتى لو افترض أن عندهم شيئاً من التقصير ؛ فهناك من هو أشد تقصيراً منهم ، هناك الكفار الأصليون الظاهرون وجوداً ، والظاهرون قوة وتمكيناً ، وهناك أهل البدعة الظاهرة المتحزبون على بدعهم ، فالاختلاف والتناحر داخل الإطار العام ، الذي أجمع عليه السلف الصالحون ، ليس من المصلحة في شيء .(72/6)
ثالثاً : الاجتماع على معان خاصة ، أو فروع اجتهادية محتملة ، قد تفصلنا عن الآخرين ، وتجعلنا عرضة للانشقاق ولو بعد حين ؛ لأنها بطبيعتها ليست ثابتة ، بل متغيرة ، و ليست أصولاً بل فروع حولناها إلى أصول بالإلحاح عليها ، وتكبيرها ، وإلا فهي في ابتداءها قد تكون فروعاً اجتهادية ، أو محاولات دعوية لها جوانب خير ، لكن لا يصح أن تتحول إلى أصول .(72/7)
وحدة الصف لا وحدة الرأي
01/06/2002
20/3/1423
محكمات الشريعة
المحكم في المعنى اللغوي يشمل ثلاثة معانٍ :
أولاً: أن هذا المحكم محفوظ لا يمكن تغييره ولا تبديله فتقول: هذا شيء محكم أي : ليس بمنسوخ فهو ثابت لا يمكن تغييره ولا استبداله.
ثانياً: الواضح البين المفسَّر الذي ليس فيه غموض ولا خفاء.
فهذه المحكمات مع كونها ثابتة مستمرة؛ فإنها واضحة ظاهرة سهلة الفهم، سهلة القبول، سهلة التلقين لعامة الناس .
ثالثاً :كون هذه المحكمات أصولاً ثابتة، ومراجع ترجع إليها الفروع، ويعاد إليها ما خرج منها ؛ فهي أصول ثابتة يتفرع عنها أشياء أخرى .
فهذه المحكمات التي نطلب أن يكون الاتفاق عليها وليس على غيرها هي المسائل الواضحة البينة الأصلية التي جاءت بها الشريعة الربانية، وأجمع عليها الصحابة – رضي الله عنهم - والسلف الصالحون من وجوب عبادة الله – عز وجل - وتحريم الكفر والشرك والنفاق، وتحريم الظلم والربا والفواحش، ومن أركان الإسلام الخمسة المعروفة، وأصول الإيمان الستة المعروفة، وقواعد الأخلاق التي جاء بها النبي - صلى الله عليه وسلم - بل جاء بها الأنبياء كلهم كوجوب الصدق، وتحريم الكذب ووجوب العدل وتحريم الظلم، ووجوب البر وتحريم العقوق، وما أشبه ذلك.
ومن ذلك جوامع المنهيات الثابتة في القرآن والسنة كما في حديث السبع الموبقات وغيرها.
ويتحقق من خلال هذه المحكمات أمران عظيمان :
الأول: المحافظة على الدين، على الإيمان بالله ـ تعالى ـ والملائكة، والكتب، والرسل، والنبيين، والإيمان بالقدر، والإيمان بالجنة والنار وما يتعلق بذلك كله، والمحافظة على طاعة الله – عز وجل -، بتطلب رضى الله - تعالى - عن المسلم في الدنيا، وتحقيق النجاة في الدار الآخرة من النار ودخول الجنة .(73/1)
وهذا يتحقق للمؤمنين المسلمين الذين آمنوا بالله ورسوله واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون، وهم الذين يتحقق لهم هذا الأمر على سبيل التحقيق، ولا يتحقق لغيرهم.
الثاني: المحافظة على الدنيا، وهذا ما يعبر عنه العلماء والأصوليون بحفظ الضروريات الخمس التي لابد من حفظها وهي : حفظ الدين، وحفظ العرض، وحفظ المال، وحفظ النفس، وحفظ العقل.
وكل الأوامر الشرعية والنواهي ؛ فهي تدور حول تحقيق هذه الأشياء الخمسة. وهذه الأشياء تتحقق للمؤمنين ولطوائف من غير المؤمنين ممن عمتهم رحمة الإسلام كالذين يقعون تحت سلطة الإسلام أو يدفع الله - تعالى - عنهم بالإسلام بعض الضرر، والتاريخ زاخر بالأخبار كما قال سعد بن محمد بن الصيفي المعروف بحيص بيص :
ملكْنا فكان العفو منّا سجيةً **** فلما ملكتم سال بالدم أبطحُ
وحلَّلتم قتل الأسارى وطالما **** غدونا على الأسرى نعف ونصفح
فحسبكمُ هذا التفاوتُ بيننا **** وكلُّ إناءٍ بالذي فيه ينضحُ(73/2)
ومن أمثلة المحكمات ما رواه الترمذي (3070) وحسنه والبيهقي في شعب الإيمان (7539) عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال : من سره أن ينظر إلى وصية محمد – صلى الله عليه وسلم - التي عليها خاتمه ؛ فليقرأ هؤلاء الآيات (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ، وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [ الأنعام:151-153].(73/3)
ولذلك أخرج ابن أبي شيبة في مصنفه (35844) عن كعب الأحبار أنه قال : كان أول ما نزل من التوراة عشر آيات، وهي العشر التي أنزلت في آخر سورة الأنعام، وهي ما يسمونها بـ " الوصايا العشر " وعليها مدار الرسالات السماوية، والرسل ـ صلى الله عليهم وسلم جميعاً ـ اتفقوا في أشياء واختلفوا في أشياء، ومما اتفقوا عليه هذه الوصايا العشر التي عليها مدار صلاح الدين والدنيا، وأما ما اختلفوا فيه، فمن الفروع، في الأحكام، والحلال والحرام وغير ذلك من المسائل المؤقتة القابلة للتغيير والتبديل والنسخ، ولهذا قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : " إن في الأنعام آيات محكمات هن أم الكتاب" ثم قرأ: (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ)[الأنعام: 151] " رواه الحاكم(3291) وابن أبي حاتم في التفسير، فكأنه سئل عن قول الله – عز وجل - : (مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ) فأجاب بذلك، [آل عمران: من الآية7] ؛ ومثل ذلك ما رواه الطبري في تفسيره أنه قال ـ يعني ابن عباس ـ : المحكمات هي الآيات الثلاث من سورة الأنعام، وكذلك من سورة الإسراء (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً) إلى قوله تعالى :(ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً) [الإسراء:39] فهذه الآيات فيها تحديد للمحكمات والقطعيات والضروريات، التي عليها مدار الاجتماع، ومدار وحدة الكلمة .
والمحكمات الواردة في هذين الموضعين من القرآن الكريم عشرة :
أولاً: وجوب عبادة الله وتحريم الشرك به .
ثانياً : وجوب بر الوالدين والإحسان إليهما .
ثالثاً : وجوب حفظ النفس، وتحريم القتل بغير حق سواء كان قتلاً للقريب كالأولاد، أو للبعيد.
رابعاً : تحريم الفواحش ما ظهر منها وما بطن.(73/4)
الفواحش الظاهرة كالزنا، وشرب الخمر، والربا وغيرها.
والفواحش الباطنة كالفواحش القلبية مثل: الغل، والحقد، والحسد، والنفاق، وغيرها من المعاني الباطنة، ومثله ما يقع في الخفاء من الفواحش .
خامساً : حفظ المال وأداء الحقوق فيه للمحتاجين، ومن ذلك عدم العدوان على أموال اليتامى وغيرهم.
سادساً : وجوب الوفاء بالعهد والميثاق سواء كان عهداً مع الله - تعالى - أو عهداً مع خلقه، وكلما كان هذا العهد أوثق كان الوفاء به أعظم .
سابعاً : وجوب العدل - وهذا من أعظم الأصول - في الأقوال والأعمال، ووجوب الوزن بالقسط (وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ) [الرحمن:9].
ثامناً : تحريم الكبر، وتحريم الأخلاق المذمومة كلها بعامة، والأخلاق المذمومة تعرف بالشريعة، وتعرف بالعقل، وتعرف بالفطرة.
تاسعاً : وجوب اتباع صراط الله المستقيم وتجنب السبل المضلة (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) [الأنعام: 153]
عاشراً : ترك قفو الإنسان ما ليس له به علم، واستشعار الإنسان المسؤولية عن السمع والبصر والفؤاد واللسان (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً) [الإسراء: 36].
ومما يدخل في هذا أن كثيراً من الناس ينهمكون في ضرورة تكوين رأي عن كل قضية، وقد لا يكونون متأهلين لذلك، إما بحكم حداثة السن، أو قلة الفقه في المسألة، أو قلة الاطلاع على تفاصيلها، أو للانشغال بما هو أولى وأهم منها، ومع ذلك قد يصر على أن يكون له رأيٌ في كل مسألة يرى الناس يصطرعون حولها أو يختلفون فيها، وكان الأولى به أن يتجاوز هذه النقطة ويتركها إلى ما هو أولى وأهم منها.(73/5)
يقول ابن تيمية : إن الرسل كلهم - عليهم الصلاة والسلام - متفقون في الدين الجامع في الأمور الاعتقادية والأمور العلمية كالإيمان بالله تعالى والملائكة والكتاب والنبيين ... إلى غير ذلك وكذلك الأصول العملية كالأعمال المذكورة في سورة الأنعام ؛ فهذا من الدين الجامع الذي اتفق عليه الرسل جميعاً عليهم الصلاة والسلام.(73/6)
وحدة الصف لا وحدة الرأي
09/06/2002
28/3/1423
التأسيس لوحدة الصف
إن بناءَ الوحدة الأُخَويَّة الإيمانية بين المسلمين بعامة، والدعاة وطلبة العلم بخاصة على هذه العِصَم الكبار من أصول الشريعة، ومحكمات الدين ضمانٌ لديمومتها واستمرارها وحماية لها من التصدع والانشقاق والانهيار؛ لأن هذه المسائل واضحة لا لَبْس فيها، وهي أصول وقواعد يرد إليها غيرها، وهي –أيضاً- ثابتة مستقرة لا مجال للخلاف، أو التردد، أو الشك، أو الطعن فيها، فلا يمكن -بعد أن تمضي علينا سنوات ونقطع جزءاً من الطريق- أن نعود أدراجنا لنجادل في هذه المحكمات –مثلاً- أو في هذه الثوابت، أو في هذه القواعد المستقرة؛ فينشق منها مجموعة تخالف في أصل أو ثابت، فهذا يعدُّ نوعاً من الضلال، ولذلك إذا كانت الوحدة مبنية على هذه الأصول الكبار العظيمة، ووفق الفهم الشرعي السليم البعيد عن الانحياز فإنها تكون وحدةً راسخة ثابتة مستقرة لا تتغير بالمتغيرات؛ والمتفقون عليها بمأمن من الخلاف الذي يُحْدِث الفرقة والانشقاق، بينما بناء الوحدة على غير هذه الأسس أو عليها، ولكن مضافاً إليها شروط، وفروع، وتفاصيل، واجتهادات، ومفردات أخرى يجعل هذه الوحدة عرضةً للخلاف كلما مر جزء من الوقت، وكلما تنوعت الاجتهادات، وكلما كثر الناس، وكبرت عقولهم، واتسع علمهم، وبحثوا وحققوا.(74/1)
ولذلك تجد الطلبة –مثلاً- حينما يتلقون عن شيخهم أول الأمر؛ فإنهم يأخذون اجتهاداته وترجيحاته مأخذ التسليم؛ لأنه ليس عندهم تأهل علمي للبحث، والتحري، والمراجعة، والتصحيح، والتحقيق، لكن عندما يكبرون، وتتسع علومهم ومداركهم، ويتحولون إلى نوع من الاجتهاد، والبحث في الكتب، والنظر في أقوال أهل العلم، يبدؤون بمخالفة شيوخهم في الاجتهادات أحياناً، وقد يختارون من الأقوال غير ما اختار شيوخهم، وقد يوافقونهم على بعض الأمور، وقد يوافقونهم على جزء من القول، ويخالفونهم على جزء آخر منه، فهنا لم تكن الوحدة، ولم يكن الولاء مبنياً على هذه المفردات، أو على هذه الفروع، أو على هذه الاجتهاديات القابلة للمراجعة، وللنظر وللتصحيح، فلو كانت الوحدة مبنية على هذا لكان بناءً على غير أساس، أو على أساس من الملح إذا جاءه المطر ذاب وانهار، أما إذا كان البناء مبنياً على قواعد راسخة وصلبة من البناء القوي المتين المحكم فإنه يكون بمنجاة من التعرض للخلل أو الاهتزاز يوماً من الأيام.
فإذا كانت الوحدة وكان الولاء مبنياً على اختيار قول فقهي خلافي، ومنابذة من خالف هذا القول سواءً كان في مسائل العبادات أو المعاملات أو غيرها، أو بنيت الوحدة على فرع ينتج من تطبيق مبدأ على محلّه، فقد يكون المبدأ متفقاً عليه، لكن تطبيقه على المحل موضع اختلاف بين النظار والفقهاء، كذلك إذا بنيت على رأي خاص في بعض النوازل وبعض المسائل الاجتهادية الطارئة.(74/2)
فمثلاً: قوم اجتمعوا وتحالفوا على التزام جلسة الاستراحة في الصلاة، واعتبار أن من الشروط الإيمان بأن هذه الجلسة مطلوبة، بل يبالغ بعضهم ويقول: إن هذه الجلسة وإن كانت مستحبة إلا أنها أصبحت شعاراً لنا يميزنا عن غيرنا من الناس من المسلمين، مع أن التميّز عن عامة المسلمين ليس مطلوباً في الأصل إلا أن يكون تميّزاً بحقٍ لابد للإنسان منه، من غير أن يتقصد أو يتعمد التميّز أو الشهرة عن جماعة المسلمين، وإذا كان الاتفاق والولاء والوحدة مبنية على الجهر بالبسملة في الصلاة، أو الإسرار بها، أو على وضع اليدين على الصدر أو أسفل من ذلك، أو على القنوت في الصلاة أو ترك القنوت، أو على القول بإبطال الحجامة للصيام، أو على الحكم بتكفير شخص أو جماعة، أو فئة، أو طائفة، أو بدعية هؤلاء مما ليس أمراًً قطعياً ولا ظاهراً؛ وإنما قد يكون -على أحسن الأحوال- محلَّ نظر وتردد واجتهاد، وقد يكون خطأً من قائله؛ فإذا كان الاجتماع مبنياً على مثل هذه المعاني فإن معنى ذلك أن الوحدة عرضة للتغيّر بعد حين، وهو اجتماع -لا محالة- آيل إلى الفراق؛ لأن هذه الأمور مع تقدم الوقت، وسماع الإنسان أدلة أخرى ووجهات نظر أخرى تتغير قناعته، ويبدأ التحرير والبحث والتحقيق؛ خصوصاً إذا كان عنده قدر من الولاء للحق والرغبة في الوصول إليه؛ فيؤول الأمر إلى انشقاق طويل عريض.(74/3)
والاجتماع لا يكون إلا على قبول الاختلاف، فقد اختلف الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- في حالات متعددة والوحي يتنزل عليهم صباح مساء، ومن ذلك قصة موسى -عليه الصلاة والسلام- لما ذهب إلى ربه وترك أخاه هارون مع قومه، وقال له:"اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ"[الأعراف:142]؛ فعبد بنو إسرائيل -من بعد موسى- عجلاً "وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ"[الأعراف:148]؛ فنهاهم هارون -عليه الصلاة والسلام- عن ذلك وقال: إنما هذا من الشيطان وإنما فتنتم به, وأمرهم باتباع موسى -عليه الصلاة والسلام-، ولكنه بقي معهم، فلما جاء موسى -عليه الصلاة والسلام- ورأى ما رأى غضب "وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ"[الأعراف:150]، وعاتبه على ذلك: "قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي"[طه: 92, 93] فكان موسى يعتب على هارون، ويطالبه بموقف آخر مختلف غير الذي فعل؛ فيقول له هارون:"يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي"[طه:94] أي: أنا نظرت إلى الموضوع من زاوية ثانية رأيت ألاّ أفرق هؤلاء، وأن أبقى معهم حتى تعود وترى فيهم رأيك وأمرك؛ ولهذا قال قتادة عند هذه الآية: قد كره الصالحون الفرقة قبلكم.
فهارون -عليه الصلاة والسلام- كان مأخذه الحرص على بقائهم واجتماعهم حتى يأتي موسى -عليه الصلاة والسلام- فيعالج الأمر بما يراه، مع أنه بذل لهم النصيحة والوسع, فهذا نموذج للاختلاف في معالجة بعض المواقف الطارئة أو المستجدة, أو ما يسمى -لدى الفقهاء- بالنوازل, حتى بين الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-.(74/4)
وذلك أنه اختلاف اجتهادي إجرائي مبناه على تحصيل مصلحة الإسلام العليا, وليس توحيد الله -تعالى- محل خلاف, بل هو دعوة الأنبياء جميعاً, ولا رفض الشرك وأهله محل خلاف, بل هو جزء من شهادة أن لا إله إلا الله, وإنما الاختلاف جرى في طريقة تحصيل أعلى المصلحتين, ودفع أعلى المفسدتين, ونعوذ بالله أن يبلغ الجهل بأحد أن يصنف هذا التفاوت على أنه خلاف في الأصول والثوابت, فهذا تنقيص من مقام الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-.
ومن هذا الباب قصة موسى والخضر، التي حكاها الله –تعالى- في كتابه في سورة الكهف وقد اعترض موسى على الخضر ثلاثًا فقال:"أخرقتها لتغرق أهلها" "أقتلت نفساً زكية بغير نفس" "لو شئت لاتخذت عليه أجرا" وبيَّن له الخضر بعدُ سرَّ ما رآه , محتجاً بالوحي "وما فعلته عن أمري".
وهذا درس عظيم رفيع في فقه الصحبة والتعامل مع الخلاف والتراجع, ودرس رديف في الصبر وطول النَّفَس؛ لأن كثيرًا من الناس لا يصبر على ما لم يُحِطْ به خُبْرا.
وموسى -عليه الصلاة والسلام- كان نبياً رسولاً من أولي العزم, وكانت الأولى منه نسياناً, والثانية إنكاراً على ما ظهر له مخالفته للشريعة... ويتأمل ماذا كانت الثالثة؟ فالله أعلم.(74/5)
وكذلك قصة احتجاج آدم وموسى، وهي في البخاري (6614) ومسلم (2652) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال:"احتج آدم وموسى فقال له موسى: يا آدم أنت أبونا خيبتنا وأخرجتنا من الجنة! قال له آدم: يا موسى! اصطفاك الله بكلامه وخط لك بيده, أتلومني على أمر قدره الله علي قبل أن يخلقني بأربعين سنة؟! فحج آدمُ موسى, فحج آدمُ موسى" ثلاثا, وهذا الحديث ليس هذا محل تفصيله, ولابن تيمية رسالة لطيفة بعنوان (الاحتجاج بالقدر) يمكن مراجعتها، وإنما المقصود هنا أنه حصل بين آدم وبين موسى -عليهما السلام- نوع من المراجعة والاختلاف, فموسى -عليه السلام- عاتب آدم -عليه السلام- على شيء، وآدم -عليه السلام- رد بجوابٍ آخر, والنبي –صلى الله عليه وسلم- حكم بينهما وبين أن حجة آدم -عليه السلام- أغلبُ وأصوب؛ لأنه احتج بقدر على أمرٍ مضى وانقضى وعلى أمرٍ قد تاب منه وأناب و اجتباه ربه وتاب عليه وهدى.
وفي قصة موسى ومحمد -عليهما الصلاة والسلام- في حادثة المعراج, وأن النبي –صلى الله عليه وسلم- لما مر على موسى -عليه السلام- وأخبره بالصلوات الخمسين وفرضيتها, قال: إني قد عالجت بني إسرائيل قبلك أشد المعالجة, وإن أمتك لا تطيق ذلك, ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف؛ فرجع النبي –صلى الله عليه وسلم- حتى كان آخر ذلك أنه قال –صلى الله عليه وسلم- له راجع ربك, فقال –صلى الله عليه وسلم-:"قد استحييت من ربي" انظر ما رواه البخاري (349) ومسلم (162) من حديث أنس -رضي الله عنه-.(74/6)
فهنا مراجعة, ومحاولة إقناع واقتراح وإلحاح، لكنها –أيضاً- في حدود معينة, ولا شك أن موسى -عليه السلام- كان له مأخذ من خلال تجربة ومعايشة مع بني إسرائيل, ورأى في بني إسرائيل من التلوّم، والضعف، والتراجع، والتردد ما جعله يقول هذا, والنبي -صلى الله عليه وسلم- استجاب له أولاً، وثانياً، وثالثاً, حتى استحيا من ربه, وكان في هذا حكمة بالغة؛ لأن في هذه الأمة المحمدية الخاتمة من الفضل والمكانة، والسؤود والرفعة ما ليس لبني إسرائيل.
فهذا أمرٌ جبل الله –تعالى- عليه العباد, ومن الخطأ أن نظن أن فلاناً أتقى لله -تبارك وتعالى- لأنه أشد في الدين أو في المواقف؛ فالشدة هنا قد تكون في طبعه، وهي خارجة عن اللزوم الشرعي.(74/7)
عن عبد الله قال: لما كان يوم بدر، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:"ما تقولون في هؤلاء الأسرى؟" قال: فقال أبو بكر: يا رسول الله، قومُك وأهلُك، استَبْقِهِمْ، واستأْنِ بهم، لعل الله أن يتوب عليهم، قال: وقال عمر: يا رسول الله، أخرجوك وكذَّبوك، قَرِّبهم فاضرب أعناقهم. قال: وقال عبد الله بن رواحة:يا رسول الله، انظر وادياً كثير الحطب، فأدخلهم فيه ثم أَضْرِم عليهم ناراً. قال: فقال العباس: قَطَعْتَ رَحِمَك. قال: فدخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولم يرُدَّ عليهم شيئاً، قال: فقال ناسٌ: يأخذ بقول أبي بكر، وقال ناس: يأخذ بقول عمر، وقال ناس: يأخذ بقول عبد الله بن رواحة. قال: فخرج عليهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال:"إن الله لَيُلِيْنُ قلوب رجالٍ فيه، حتى تكون أَلْيَن من اللبن، وإن الله ليشُدُّ قلوب رجال فيه، حتى تكون أشد من الحجارة، وإن مَثَلَك يا أبا بكر كَمَثَل إبراهيم -عليه السلام-، قال:"فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم" ومَثَلُك يا أبا بكر كَمَثَل عيسى، قال:"إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم" وإن مثلك يا عمر كمثل نوح، قال:"ربِّ لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً" وإن مثلك يا عمر كمثل موسى، قال:"ربِّ اشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم" ..." الحديث رواه الترمذي (1714) وأحمد (3632).(74/8)
فاللين هنا محمود؛ لأنه في الله –سبحانه وتعالى- لكنه تكويني وجبلي, فقد يكون من طبعي أنني لين, وأحب أن يسلم الناس, وأن يؤمنوا وأن يتقوا الله –سبحانه وتعالى- فأرفق بهم، وأوسع عليهم رغبة في تأليفهم على الإسلام، وهذا نموذجه أبو بكر -رضي الله عنه-, ولهذا قال:"إن الله ليلين قلوب رجال فيه"، وليس هذا اللين خارجاً عن الشريعة, مثل أن يكون إقراراً لهم على معصية، أو موافقة لهم على مخالفة شرعية صريحة، أو ما أشبه ذلك من المعاني، كذلك التشديد لما قال:"ليشدد قلوب رجال فيه" هذه الشدة ليست مذمومة، فليست تنطعاً ولا غلواً، ولا إجحافاً، ولا إهداراً لحق الآخرين، وإنما هي شدة في الله -تبارك وتعالى- ولهذا قال:"حتى تكون أشد من الحجارة" فلا يفهم أن هذه قسوة مذمومة كقوله –تعالى-:"ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً"[البقرة: 74], وإنما هي شدة في الحق سببها الغضب لله -عز وجل-, والخيمة لدينه, فاللين مثاله أبو بكر -رضي الله عنه-, والشدة مثالها عمر -رضي الله عنه-، وأبو بكر أفضل من عمر -رضي الله عنهما- فلو وزن إيمانه بالأمة لوسعهم، وهو صدّيق هذه الأمة وأفضلها بعد نبيها –صلى الله عليه وسلم-، وقد جاء في مدحه من الفضائل ما لم يأت لغيره من الصحابة -رضي الله عنهم وأرضاهم-.
فليس اللين -في حد ذاته- علامة على صدق التدين، كما أن الشدة والقوة ليست علامة على صدق التدين أيضاً.
التدين قد يكون سواء, لكنني عبرت عن التدين من خلال تكويني الذي جبلني الله –تعالى- عليه، وهو اللين، وأنت قد تكون عبرت عن هذا التدين بما جبلك الله –تعالى- عليه وهو القوة والشدة، وفي كلٍّ خير.(74/9)
فها نحن نرى الخلاف -بعد ما رأيناه مع أنبياء الله ورسله- بين أصحاب محمد –صلى الله عليه وسلم- في مسألة اجتهادية تتعلق بالأسرى، ولهذا نظائر كثيرة جداً لا يمكن إحصاؤها، كاختلافهم في بني قريظة وهو معروف، واختلافهم في تولية بعض الأمراء كقصة أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- في سورة الحجرات، واختلافهم فيما لا يحصى من المسائل الفقهية في العبادات، والبيوع، والأنكحة، وغيرها.
وهذا كله مما لا حيلة في دفعه ، فهو أمر واقع لا مفرَّ منه؛ لأنه مترتب على طريقة تفكير الناس وتكوينهم وطبيعتهم وما جَبَلَهُم الله –تعالى- عليه، وأيضاً على علمهم ومدى ما وصلوا إليه من تصحيح نصٍ أو تضعيفه، ومن فهمه على وجهه أو على وجه آخر, أو ما أشبه ذلك من الاعتبارات التي ذكر كثيرًا منها الإمام ابن تيمية في كتابه "رفعُ الملامِ عن الأئمةِ الأعلامِ".
والمعاندة لهذا الاختلاف مما لا مصلحة فيه؛ لأنها معاندة للفطرة, ومعاندة للجبلة والطبيعة التي فطر الله الناس عليها، فلم يبق إلا تسويغه وقبوله وفق ضابط أصلي وهو ألاَّ يقع هذا الخلاف في الضروريات وفي المحكمات التي أجمع عليها السلف –رضي الله عنهم-، ولا مانع من استقراء ضوابط أخرى في بعض الأحيان مما يكون في حدود الاعتدال، وتكون للمدارسة والمراجعة، ولا يكون هذا إخلالاً بالمحكمات، وهذا مما لابد منه، وهو أمر واضح مستقر -كما أسلفنا-.
(في الفروع لا الأصول)
ويكون الخلاف في الفروع وليس في الأصول، فالسلف متفقون –مثلاً- على أن الصلاة ركن من أركان الإسلام, وأن من جحد وجوبها فهو كافر؛ لكنهم مختلفون في صفة الصلاة وتفاصيلها، وفي بعض شروطها، وفي بعض واجباتها، وفي حكم تاركها؛ فلا يجوز أن تحوّل نقطة من هذه النقاط إلى محل وحدة، وأن الخلاف فيها يفضي إلى فرقة، وتنازع، وتحزب، واتهام.(74/10)
جاءني سؤال من بعض الإخوة يقول: إن عندنا قوماً في بعض الدول الإسلامية -دول المغرب العربي- يقولون: إن من جادل في كفر تارك الصلاة فهو ليس من الفرقة الناجية, وهذا الكلام ليس بصحيح لعدة أمور:
أولاً: هذا القول لم يقل به أحد من السلف.
ثانياً: هذا القول يترتب عليه أن يكون الإمام مالك والشافعي وأبو حنيفة ليسوا من الفرقة الناجية؛ لأنهم لا يقولون بكفر تارك الصلاة.
ولذا فقد أُرَجِّح أن تارك الصلاة كافر, أو أرجح كما رجَّح الإمام ابن تيمية أن التارك بالكلية الذي يترك ولا يصلي ليلاً ولا نهاراً، ولا في رمضان ولا غيره، ولا جمعة ولا جماعة، ولا بالمناسبات بل هو مقاطع للصلاة مقاطعة تامة أن هذا يكون في عداد الكافرين؛ للنصوص الواردة.
ولكن تبقى المسألة من مسائل الفقه التي وقع فيها الخلاف بين السلف, فكوني أرجح قولاً وأختاره, هذا لا تثريب فيه , لكن كوني أنقل اختياري وترجيحي وأدخله ضمن المحكمات التي لا تكون الوحدة ولا الاجتماع إلا عليها, ومن خالف فيها أخرجته من الفرقة الناجية أومن السلف الصالح، فهذا غلط ظاهر, وفيه مصادرة لاجتهادات ربما كانت أصوب من غيرها.
وكذلك نجد أن السلف متفقون على ربانية القرآن الكريم, وأنه من عند الله –سبحانه وتعالى- وأنه منزل غير مخلوق, ومتفقون على مرجعية القرآن, ولكنهم قد يختلفون في تفسير آية من القرآن الكريم، هل الآية محكمة أو منسوخة؟ وقد يختلفون في بعض الحروف والقراءات الواردة في القرآن الكريم.
وكذلك هم متفقون على مرجعية السنة النبوية "وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا"[الحشر:7] ولكنهم قد يختلفون في تصحيح حديث أو تضعيفه, أو الجمع بين الأحاديث التي ظاهرها التعارض، ويختلفون في فهم بعض النصوص؛ ولهذا جرى الخُلْف بينهم –رضي الله عنهم-، حتى في بعض الأشياء الظاهرة التي قد يستغرب البعض كيف اختلفوا فيها؟!(74/11)
فقد اختلفوا في الأذان, وهو يُردَّد كل يوم وليلة خمس مرات منذ عهد النبي –صلى الله عليه وسلم-، ومع ذلك اختلف النقل في صفة الأذان، وفي صفة الإقامة، وفي القنوت، وفي الجهر بالبسملة، وفي مواقيت الصلاة، وفي حروف القراءات، وفي أنواع التشهد، وفي صفة الحج وغيرها من أحكام الأنساك، وفي مقادير الزكاة، والأموال الزكوية وغير الزكوية.
واختلفوا من ذلك في شيء عظيم، كما هو معروف في مظانّه من كتب الفقه. ووجود هذا الاختلاف لا يعني أن الإنسان ينتقي حسب ما يشتهي، بل يدع هذا لطلبة العلم الذين يرجحون وفق ضوابط وقواعد مقررة معتبره.
(في الوسائل لا المقاصد)
ويكون الخلاف في الوسائل وليس في المقاصد, فالمقاصد شرع متفق عليه كما ذكرنا , مما هو في حفظ الضروريات الخمس, والدعوة إلى الله –تعالى- كمثال هي من المقاصد الشرعية المتفق عليها, وأجمع المسلمون على وجوب الدعوة إلى الله –تعالى-، وأنها فرض إما عيناً أو كفاية:"ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ"[النحل: 125]، "وَادْعُ إِلَى رَبِّك"[الحج: 67]، "قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ"[يوسف:108] لكن وسائل الدعوة تختلف من زمان إلى زمان، ومن بلد إلى بلد؛ لأن الأصل في هذه الوسائل الإباحة, وقد يجدُّ للناس وسائل جديدة, وتنتقل بعض الوسائل من الإباحة إلى الوجوب أحياناً لعارض يجعل الدعوة والتبليغ لا يتحقق إلا بواسطتها؛ فنجد أن الاختلاف في وسائل الإعلام اليوم، أو وسائل الاتصال من الاختلاف السائغ الذي لا يوجب الاجتهاد فيه نوعاً من المغاضبة ولا التفرق, بل يجب أن ندرك أن الهدف والمقصد هو نشر الدعوة إلى الله –سبحانه وتعالى-، وإيصالها إلى الناس وإلى المحتاجين وإلى من يجهلونها، ومخاطبة شرائح عريضة بمثل هذا الأمر دون حجر، أو تثريب، أو تشغيب.
(اختلاف تنوُّع)(74/12)
ويكون الاختلاف في أمور مما يسميه العلماء اختلاف التنوع, فهناك –مثلاً- فروض الكفايات، هناك من يقوم بأمر الدعوة إلى الله وتبليغ الدين، وهناك من يقوم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فإن الله -سبحانه وتعالى- يقول:"وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ"[آل عمران:104] أي: أمة من مجموعكم, فينبري لهذا العمل طائفة من الناس, وهناك فروض يقوم بها أقوامٌ آخرون، والجهاد أيضاً هو من الفروض التي ينبري لها أقوام سخرهم الله –سبحانه وتعالى- واستعملهم في ذلك ممن يجودون بأرواحهم إذا ظن الناس وأحجموا, وهناك العلم والتعلم تقوم به طوائف من العلماء، والمتفقهين، والمعلمين الشرعيين وغيرهم, وهكذا جميع متطلبات الحياة, بل إن الذين يقومون على معاش الناس، وعلى مصالحهم وصحتهم وعلاجهم، وسفرهم وإقامتهم وحمايتهم، كل هؤلاء يقومون بفروض كفايات تحتاجها الأمة, ولا بد لها منها سواء عرفوا هذا أم لم يعرفوه، احتسبوا فيه أم لم يحتسبوا إلا أنهم في الجملة يقومون بأشياء من فروض الكفايات، ولا يلزم لمن فتح الله –تعالى- له باب خير أن يزدري ما لدى الآخرين؛ لأن هذا يدخل في قول الله –تعالى-:"وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ"[المائدة: 13]، فالشريعة والملة لا يستطيع أن يحيط بها فرد واحد, وإنما لابد فيها للأمة كلها, فيقوم أقوام بجانب، ويقوم آخرون بجانب، ونسيان حظ مما ذكرنا به هو من أسباب العداوة والبغضاء.(74/13)
يقول الإمام ابن تيمية -مجموع الفتاوى (1/12 ـ 17)-:"فأخبر الله -تعالى- أن نسيانهم -يعني أهل الكتاب- حظاً مما ذُكِّروا به، وهو ترك العمل ببعض ما أمروا به كان سبباً لإغراء العداوة والبغضاء بينهم, وهذا هو الواقع في أهل ملتنا, مثلما نجده بين الطوائف المتنازعة في أصول دينها وكثير من فروعه، ومثلما نجده بين العلماء والعباد ممن يغلب عليهم الموسوية، أو العيسوية -يعني: التشبه باليهود، أو التشبه بالنصارى- حتى يبقى فيهم شبه من الأمتين اللتين قالت كل واحدة ليست الأخرى على شيء -يعني كما قال الله –تعالى-:"وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ"[البقرة:113]، وهكذا النصارى قالوا:"لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ"[البقرة:113]؛- ثم قال: كما نجد المتفقه المتمسك من الدين بالأعمال الظاهرة، والمتصوف المتمسك منه بأعمال باطنة، كل منهما ينفي طريقة الآخر, ويدعي أنه ليس من أهل الدين، أو يعرض عنه إعراض من لا يعده من أهل الدين- أي: إما يدعي هذا بقوله أو بفعله- فتقع بينهما العداوة والبغضاء، وذلك أن الله –سبحانه وتعالى- أمر بطهارة القلب، وأمر بطهارة البدن, وكلا الطهارتين من الدين الذي أمر الله به وأوجبه... فنجد كثيراً من المتفقهه والمتعبده إنما همه طهارة البدن فقط ويزيد على المشروع اهتماماً وعملاً ويترك من طهارة القلب ما أمر به إيجاباً أو استحباباً، ولا يفهم من الطهارة إلا ذلك- يعني: طهارة البدن- ونجد كثيراً من المتصوفة والمتفقرة -أي : الفقراء- إنما همته طهارة القلب فقط حتى يزيد فيها على المشروع اهتماماً وعملاً، ويترك من طهارة البدن ما أمر به إيجاباً أو استحباباً, فالأولون -الذين هم المتفقهة- يخرجون إلى الوسوسة المذمومة في كثرة صب الماء، وتنجيس ما ليس بنجس, واجتناب ما لا يشرع اجتنابه, مع اشتمال قلوبهم على أنواع من الحسد والكبر والغل لإخوانهم -ولا يقصد التعميم وإنما طائفة من الناس- وفي ذلك(74/14)
مشابهة بينة لليهود, والآخرون -يعني: المتصوفة- يخرجون إلى الغفلة المذمومة؛ فيبالغون في سلامة الباطن حتى يجعلون الجهل بما تجب معرفته من الشر الذي يجب اتقاؤه، يجعلون ذلك من سلامة الباطن، ولا يفرقون بين سلامة الباطن من إرادة الشر المنهي عنه وبين سلامة القلب من معرفة الشر المعرفة المأمور بها، ثم مع هذا الجهل والغفلة قد لا يجتنبون النجاسات ، ولا يقيمون الطهارة الواجبة مضاهاة للنصارى، وتقع العداوة بين الطائفتين بسبب ترك حظ مما ذكروا به، والبغي الذي هو مجاوزة الحد إما تفريطاً وتضييعاً للحق، أو عدواناً وفعلاً للظلم, والبغي تارةً يكون من بعضهم على بعض، وتارةً يكون في حقوق الله –تعالى- وهما متلازمان، ولهذا قال الله –تعالى-:"بَغْياً بَيْنَهُمْ"[آل عمران:19]، فإن كل طائفة بَغَتْ على الأخرى فلم تعرف حقها الذي بأيديها، ولم تكُفَّ عن العدوان عليها... فظهر أن سبب الاجتماع والألفة جمعُ الدين, والعمل به كله, وهو عبادة الله وحده لا شريك له, كما أمر به باطناً وظاهراً.
وسبب الفرقة: ترك حظٍّ مما أُمِر العبد به, والبغي بينهم.
ونتيجة الجماعة: رحمة الله, ورضوانه, وصلواته، وسعادة الدنيا والآخرة, وبياض الوجوه.
ونتيجة الفرقة: عذاب الله, ولعنته, وسواد الوجوه, وبراءة الرسول منهم" انتهى كلامه -رحمه الله-.
وإذا كان الشيخ -رحمه الله- تكلم بهذا المثال الذي ينبع من صميم واقعه ومعاناته؛ فإن بإمكانك أن تنقل هذا المثال إلى كثير من المتنافسين اليوم حتى من أهل الخير، وأهل الاتباع، وأهل السنة، فتجد بينهم من المنافسة في الأمور العلمية، أو العملية، أو التعبدية، أو أصناف الخير ذلك ما يفضي إلى هذه المجافاة، وإلى ازدراء وتحقير ما عند الآخرين، وإلى البغي والعدوان والاستطالة عليهم, وما أشبه ذلك من مصادرة الجهود والتقصير في حقوق الأُخوّة.(74/15)
وحدة الصف لا وحدة الرأي
15/06/2002
4/4/1423
? قسمة ثلاثية
هناك قسمة ثلاثية دارجة في كثير من الأشياء : أعلى وأدنى ووسط .
يقع هذا في المال، هذا غني وذاك فقير وهذا وسط، وغالب الناس يقعون في منطقة الوسط، ويقع هذا في الجمال؛ فهناك من هو مفرط الجمال، وهناك من هو دميم وهناك الوسط وهم غالبية الناس، ويقع هذا في القوة فهناك الأيّدُ الشديد، وهناك الضعيف، وهناك الوسط بينهم، ويقع ذلك في العلم؛ فهناك العالم المتبحر، وهناك الجاهل المركب، وهناك الوسط وهم غالب الناس، ويقع هذا في الدين وفي الصدق وفي الأخلاق وفي البر ...
ففي كل الأشياء أوجلّها هناك قسمة ثلاثية تقريبية يمكن أن يقسم الناس أو يصنفوا إليها، فمن الناس من يستولي على الذروة العليا، ويكون في أسنى المقامات، ومنهم من يكون في أحط المنازل وأقلها، ومنهم الوسط وهم الغالب الكثير السواد الأعظم وقد يكون من ذلك الاعتدال، فهناك من يكون في غاية الاعتدال وهناك من هو ضعيف الاعتدال، وهناك من هو متوسط في ذلك .
فلم لا نقبل بأن يتكامل الصف الإسلامي ويتشكل في ثلاث دوائر عريضة ؟
الدائرة الأولى : دائرة الوسط، وهي الكثرة الكاثرة من العلماء والمصلحين والدعاة والعامة، التي لديها قدر من الاعتدال وقدر من التوسط وإن كانت تتفاوت فيما بينها، فهي ليست على قلب رجل واحد، لكن يحكمها هذا الإطار العام .
الدائرة الثانية : الدائرة التي تأخذ بالقوة والشدة وهي دائرة تنبري للمواقف الصعبة وتتصدى لها يتناسب هذا مع تكوينها الشخصي وبنائها النفسي ويحقق في الوقت ذاته القيام بجوانب من الشريعة قد يفوت غيرهم القيام بها لكن شريطة ألاّ تشتمل هذه القوة والشدة على خروج عن الحد الشرعي عن المحكمات التي ذكرناها إلى نوع من الغلو في الدين.(75/1)
ونجد أن الحاجة إلى هذه الدائرة ضرورية؛ لأن هناك قطاعاً من الناس لا يصلح لهم ولا يتجاوب مع تكوينهم وعقولهم إلا هذا، ولأنك تجد أيضاً في عدوك وخصمك من المتطرفين والغلاة والمبالغين في الشدة والقسوة من لا بد أن يواجهوا بمثلهم، وكما يقال :
الشرُّ إن تلْقَه بالخير ضِقتَ به **** ذرعاً وإن تلْقَه الشرِ ينحسمِ
والناسُ إن تركوا البرهان واعتسفوا **** فالحرب أجدى على الدنيا من السَلَمِ
الدائرة الثالثة : هي التي يغلب عليها اللين والتسامح , وربما شيئاً من التساهل، لكن شريطة ألاّ يتحول هذا إلى تشكيك في الثوابت , ولا زلزلة للقناعات الضرورية والمحكمات المتفق عليها , وهذا لا بد من القبول به ضمن الإطار العام الذي قررناه وأصّلناه .
ويشترط لهذه الدوائر الثلاث - لكي تؤدي دورها بصدق - شروط أهمها:
أولاًَ : عدم نسيان ما عند الآخرين، بحيث لا تفرض دائرة من هذه الدوائر نظامها وبرنامجها على الآخرين, فترى أن ما تقوم به أو ما تتجمع عليه هو المنهج والحق الذي يجب على الآخرين اتباعه والانسياق معها عليه , بل تكتفي باعتقاد أن هذا هو المناسب لها ولتكوينها ومواهبها وطاقاتها , وغيرها على خير أيضاً, بحيث نقول: هذا هو الدور الذي ننتدب أنفسنا للقيام به, وهذا هو المتوافق مع تكويننا العقلي والنفسي, وهذا جزء من الحكمة الإلهية في التنوع البشري في الأعمال والمهمات, والآخرون أيضاً لهم أدوار مماثلة , وقد تكون فاضلة أيضاً, فيكون الشعار أن كلاً منا على ثغر من ثغور الإسلام, فاللهَ اللهَ أن يؤتى الإسلام من قِبله، ولا يكون الشعار أن هؤلاء ليسوا على شيء , وأولئك يقولون : هؤلاء ليسوا على شيء , كما قال أهل الكتاب من قبلنا .
ما أنا عليه أو ما أنت عليه هو صورة من صور الحق، ولكن الحق ليس منحصراً فيما عندك أو فيما عندي، بل الحق أوسع من ذلك .(75/2)
ثانياً: ويشترط التزام كل طائفة بضوابط شرعية لابد منها , وأقل ما يقال في هذه الضوابط أن تكون التزاماً بمحكمات الشريعة التي ذكرناها , فلا يتحول الأمر إلى فوضى أو تسيب أو غلو مذموم أو تضييع وتمييع للدين وأصوله ومحكماته , أو حتى ادعاء الإنسان للوسطية في غير مصداقية , وفي البخاري (39) ومسلم (2816) من حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال : ( إن الدَّين يسر ولن يشادَّ الدين أحد إلا غلبه، فسدِّدوا وقارِبوا، وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدُّلْجة، والقصدَ القصدَ تبلغوا) فهذا يشهد لما ذكرنا .
وينبغي أن تكون الردود ـ وإن شئت قل التراشق ـ فيما بينهم على أضيق نطاق ممكن , وحبذا ألاّ يكون تراشق , وأن يكون التحاور بالحسنى , وتقديم حسن الظن , وحفظ الحقوق ومعرفة الثغرة التي هم عليها , والجهد والجهاد الذي يقومون به , وعدم تشاغلهم ببعض , ويمكن لمن يعتقد حقاً أن يبينه ولا يلزم أن يكون هذا البيان من خلال التقاطع مع الآخرين , أو الرد على زيد أو نقض ما جاء به عبيد, وإن كنت أرى -من وجه آخر - ضرورة تطبيع شباب الصحوة وطلبة العلم وعموم الناس على تقبل الخلاف في الرأي , وأن الخلاف لا يفسد للود قضية , وأن تنوع آراء العلماء لا يعني الوقوع في الخلاف المذموم بالضرورة, ولا يعني انشطار الصف, وإنما المشكلة هي فيما زاد على الخلاف من تحول الخلاف إلى بغي وعدوان وفجور في الخصومة.(75/3)
والمشكلة الأعظم هي في الأتباع الذين يتعصب بعضهم لهذا، وبعضهم لهذا ويضخمون الأمور ويبالغون في النقل ويكذبون؛ ولذلك يقول الإمام ابن تيمية : " ومن نصب شخصاً كائناً من كان، فوالى وعادى على موافقته في القول والفعل فهو من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً , وإذا تفقه الرجل وتأدب بطريقة قومٍ من المؤمنين مثل أتباع الأئمة والمشايخ؛ فليس له أن يجعل قدوته وأصحابه هم المعيار فيوالي من وافقهم، ويعادي من خالفهم، فينبغي للإنسان أن يعود نفسه التفقه الباطن في قلبه والعمل به فهذا زاجر , وكمائن القلوب تظهر عند المحن ... وليس لأحدٍ أن يدعو إلى مقالة أو يعتقدها؛ لكونها قول أصحابه, ولا يناجز عليها بل لأجل أنها مما أمر الله به ورسوله , أو مما أخبر به الرسول –صلى الله عليه وسلم-، ولا ينبغي للداعي أن يقدم فيما استدلوا به إلا القرآن الكريم أولاً؛ فإنه نور وهدى، ثم يجعل كلام إمام الأئمة محمد –صلى الله عليه وسلم- ثم كلام الأئمة , ولا يخلو الداعية من أمرين :
الأول: أن يكون مجتهداً؛ فالمجتهد ينظر في تصانيف المتقدمين من القرون الثلاثة , ثم يرجِّح ما ينبغي ترجيحه .
الثاني: المقلِّد يقلد السلف أيضاً؛ إذ القرون المتقدمة أفضل مما بعدها، إذا تبين هذا؛ فنقول كما أمرنا ربنا (قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (البقرة:136)، ونأمر بما أمرنا به, وننهى عما نهانا عنه في نص كتابه, أو على لسان نبينا محمد –صلى الله عليه وسلم- كما قال تعالى : (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوه) (الحشر: من الآية7)؛ فمبنى أحكام هذا الدين على ثلاثة أقسام : الكتاب، والسنة، والإجماع . انتهى كلامه .(75/4)
? محاذير وتنبيهات
وفي سياق هذا الموضوع هناك محاذير ينبغي التنبه لها :
أولاً: من المحاذير المهمة البحث عن نقاط الاتفاق , وليس عن نقاط الخلاف؛ لأن الذي يدخل بروح التفحص والاختبار سيجد إما في عمومية اللفظ أو ملابسة الموقف أو ظروف الاجتهاد ما لا يروق له , وأمور الناس ينبغي أن تؤخذ بالستر والعافية وحسن الظن .
ثانياً : اجتماع الكلمة والولاء بين المؤمنين عامة مبني على أصل الإيمان , وأصل الإسلام , فكل من ثبت له الإسلام والإيمان ثبت له أصل الإخاء، والإيمان يزيد وينقص، وكذلك الإسلام يزيد وينقص , فلكل مؤمن ومسلم من الحقوق العامة القدر الذي جاءت به النصوص الشرعية , ويكمل الحق بكمال الإيمان وكمال الإسلام , أما ما تراه خطأً يحتاج إلى تصحيح وتصويب؛ فإن الأخوّة لا تمنع التصحيح والتصويب والاستدراك المشفق الرحيم الناصح , والتصويب والتصحيح والاستدراك لا يمنع من القيام بالحقوق الأخرى , وقد يجتمع في المرء الواحد إيمان ونفاق , ويجتمع له ولاء وبراء، ولذلك يضرب العلماء ـ مثلاً ـ بالفقير السارق تقطع يده لسرقته , ويعطى من الزكاة لفقره، ولا ينبغي إقامة أحد الأمرين أعني: ( الولاء، والبراء ) للمؤمن بتقويض الآخر , بل يجمع بينهما كما جمع بينهما ربنا قال الله ـ تعالى ـ: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْض)[التوبة: 71] فأصّل وأسّس لقاعدة الإخاء الديني بين المؤمنين، فكل من صح له وصف الإيمان تم له وصف الأخوة، وهكذا الآية الأخرى (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) [الحجرات: 10] ثم أصَّل لقاعدة النصيحة والتصحيح بقوله – سبحانه وتعالى -: (تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) [آل عمران: 110]، فالإيمان لا يمنع النصيحة والإصلاح, والنصيحة والإصلاح لا تمنع أداء حقوق الإخاء الديني بين المؤمنين .(75/5)
ثالثاً : التصحيح مطلب , لكن بالرحمة والشفقة، وبقلب محب ناصح يتحرى الخير، ويؤثر حسن الظن، ويقدم العذر، ويحفظ حقوق الأخوّة , ويجب الحذر من حظوظ النفس الخفية التي قد تحدث فرحاً بالغلط الذي قد يقع من أخيك .
رابعاً: إياك أن تظن أن المقصود بهذا الكلام غيرك فرداً أو جماعة أو شريحة , أنا أقصدك أنت شخصياً، وبذاتك وعينك , فالذي نعانيه ونواجهه أن الداء مستحكم في الأمة، ومصاب الأمة بكل وضوح، هو من ذاتها قبل عدوها، والمشكلة تقع في داخلنا وفي ضمائرنا، وما لم نُعْمِل مبضع الجراح في عقولنا وقلوبنا وتصرفاتنا وأقوالنا وأعمالنا فلن نفلح .
إننا ننتظر دائماً من الآخرين أن يغيروا مواقفهم , ولكننا لا نقوم نحن بهذا الدور، ونخلط بين الثبات على الدين وبين التمسك برأي؛ لأنه سبق إلى آذاننا أو تلقيناه عن شيخ أو معلم، حتى لو كان رأياً مرجوحاً .
خامساً: خطورة الاشتغال بالتصنيف , وهو داء أمم قبلنا، وداء كثير من الجماعات، فإذا رأيت من شخصٍ ما لا يروق لك أو ما لا يعجبك سارعت بتصنيفه ووضعه ضمن جماعة معينة أو قائمة من القوائم المعدة سلفاً في عقلك, وكأنك فرغت منه وحاولت أن تضع حاجزاً بينك وبينه أن تتعاون معه , وبينه وبين الآخرين أن يستفيدوا منه بأن تقول : هذا سلفي، أو إخواني، أو تبليغي، أو قطبي، أو هذا من المجموعة الفلانية، أو من الطائفة الفلانية، أو من المدرسة العلانية , وهذا يكون بغير علم أحياناً , ويكون ببغي أحياناً كثيرة، ويتم دون أن تعرف ما عند هذا الإنسان على سبيل التفصيل , ودون أن تعرف من نسبْتهم إليه أيضاً , والحكم في مثل هذا يتطلب تحقيق ثلاث صفات :
أولاً : أن تكون من أهل العلم والرأي والبصيرة والإنصاف .
ثانياً : أن تكون عالماً بما عليه هذا الشخص من الجمل والمبادئ العامة لتتمكن من الحكم فالحكم على الشيء فرع عن تصوره .(75/6)
ثالثاً : أن تكون عارفاً بالمدرسة أو الجهة أو الجماعة التي نسبته إليها , وهذه الأمور مما تنقطع دونها أعناق المطي , لكن الكثيرين من أسهل الأمور عليهم إذا رأوا شخصاً وافق أو ظنوا أنه وافق جماعة أو فئة أو طائفة في جزئية معينة صنفوه أنه منهم ثم فرغوا منه وتركوه .(75/7)
واجب الوقت
15/03/2003
12/1/1424
غلب على مدارسنا الفكرية والدعوية نمط من التفكير يميل إلى اليأس والإحباط ويعالج النوازل والملمات بجرعات غير نقية من المواعدات المستقبلية التي لايد للإنسان فيها عوضاً عن المطالبة بالعمل والجهاد ، واستنفار القوى والطاقات واستثمار الأحداث لإعادة صياغة الفرد والأمة .
كتب إلي أحد الشباب يقول : نحن نعيش في إحباط وخوف وهواجس رهيبة بعد هذه الأحداث حتى يجزم بعضهم بأنها بداية النهاية ليوم القيامة كما في (الهرمجدونية) فترك الكثير منا العمل ونية الزواج والتفكير في المستقبل العملي ... الخ . وهذا الجزم ـ أخي الحبيب ـ هو من الرجم بالغيب ولماذا نستنكر عمل العرافين والمنجمين وقارئي الكف والفنجان ثم نأتي ما هو مثله وأشد منه .
إن قارئة الكف قد تؤثر بالإيحاء على سلوك فرد واحد أو تضر بمستقبله بينما الخراصون المتهوكون في قضايا الأمة قد يضرون بمستقبل مئات من الناس ممن اتبعوهم بغير علم.
وليس أضر على الأمة في هذه الأزمة من أن تقرأ المستقبل قراءة مغلوطة فتركن إلى دعة أو سكون أو استرخاء بحجة القدر الماضي أو تتجرأ على قرار غير حصيف اتكاءً على صورة مستقبلية تداعت إليها من نظرة يائس أو خيال نائم حالم أو تصورات دعي متعالم ...
ويصادف هذا شعوراً لدينا بالعجز والإغلاق وألا دور نؤديه ولا مهمة نضطلع بها ... إذاً يكفينا أن نرسم المستقبل نظرياً كما نحب ولنجعل لنا فيه الحلو ... ونسقي أعدائنا المر ... لينتهي الأمر .
إن أمامي وأمامك ـ أيها الغالي ـ قائمة طويلة من المسؤوليات الخاصة التي أقرتها الشريعة فلا ينسخها تأويل ولا تبطلها رؤيا وما لم نسع في تحقيقها فسنظل ندور في حلقة أزمات متصلة متلاحقة لا مخلص منها فالأزمة الحقيقية هي في دواخلنا وأعماقنا وذواتنا ومن هناك يأتي الفرج والخلاص .(76/1)
إن العمل النافع سواء كان دنيوياً أو أخروياً هو من الأسباب المطلوبة من المسلم، وغالباً لا يقع في مثل هذه المزالق إلا من يعاني من الفراغ وضياع الوقت وعدم الانتظام في برنامج أو مشروع علمي أو عملي . فهو يمنّي نفسه بالترقّب والانتظار ، وقد يرى الناس وهم يعملون فيرثي لحالهم ويشفق عليهم وربما حاول أن يثنيهم عن عملهم ؛ لأنه يظن أنهم لم يدركوا ما أدرك ، وأنهم يعملون في غير طائل !.
وفي مثل هذه الأوقات العصيبة والحاسمة يحتاج الفرد المسلم المتطلع لأداء دور إيجابي إلى أمور :
أولاً: السكينة والطمأنينة: " هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ " (الفتح: من الآية4) " ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاساً يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ "(آل عمران: من الآية154).(76/2)
فليطمئن المسلم إلى مستقبله وإلى حفظ دينه وملته وأمته ، ولا يسمح للقلق والخوف المفْرِط أن يسيطر عليه حينما يسمع أو يقرأ بعض التحليلات الإخبارية التي قد يكون بعضها نوعاً من الحرب النفسية أو التلاعب بأعصاب الناس .ولينظر في الماضي ؛ كم واجه الإسلام من حروب ومحن وإحن وكوارث ثم خرج منها قوياً عزيزاً منيعاً ، ومن ذا يكون في وحشية التتر ؟! أو دموية الصليبين ؟! أو همجية الاستعمار؟! أو قسوة اليهود ؟! ولينظر في حاضر الإسلام وكيف يكسب الإسلام في كل لحظة مواقع جديدة، وناساً يدخلون فيه ، وناساً من أهله يعودون إلى صفائه ونقائه ، وإنجازات لرجاله ودعاته في مشاريع ومؤسسات وكتب ومواد إعلامية وجماهير تحتشد لهم ، وجموعاً تؤم المساجد والمناسك ، وصلاحاً هنا وهناك ، وتقدماً في المواقع يجب أن تفرح به ولا يحجبنا عن الفرح الطمع فيما هو أعظم ، من حصول النصر النهائي وقيام دولة الخلافة الراشدة ، أو الطمع في سقوط القوى العظمى .. فثمت سنن ونواميس ، ونَفَسُ التاريخ طويل ، وعلينا ألا نعجل "قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ "(يونس:58) .
إن اضطراب النفس وارتباكها لا يصنع شيئاً، ولكنه يحول دون التفكير السوي ودون العمل المنتج، وقد يجر إلى القعود أو التراخي أو الاستسلام ، أو يفضي إلى الاندفاع الجامح دون بصرٍ بالعواقب.
ولا تغل في شيء من الأمر واقتصد **** كِلا طرفي قصد الأمور ذميم
ولم يكن أحد أشد حماساً لهذا الدين وحدباً عليه من محمد صلى الله عليه وسلم ، وفي ذروة الشدائد كان يدعو ويتضرع ، ولكن لاتفارقه سكينة الرضا ، كيف وقد خاطبه ربه فقال :" ألم نشرح لك صدرك ؟"(76/3)
ثانياً : ومما يعين على السكينة ويزرع الاطمئنان الركون إلى الله تعالى توكلاً وتألهاً وتعبداً ورضا ، وفي الصحيح : (من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً وجبت له الجنة ) وفيه أيضا : ( العبادة في الهرج كهجرة إليّ) . والهرج : الفتن ، وفي توجيه الله لحبيبه محمد صلى الله عليه وسلم " فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب " وذلك أن العبادة تورث سكوناً وهدوءاً وثباتاً واستقراراً نفسياً وعقلياً يحرم منه المضطربون المتهوكون الذين يظنون أن مقاليد الأمور بيد غير الله .
إن عبادة القلب والجوارح هي من التوبة والإنابة التي بها تُستدفع الكوارث والنّكبات وتُستجلب المنح والعطايا والهبات ، ولا عزّ للأمة أفراداً وجماعات وشعوباً وحكومات إلا بالتوبة الصادقة والرجوع إلى الله تعالى واللياذ به. وبذلك يكون إصلاح النفس والقلب والجوارح والسلوك ، وصلاح الفرد صلاح للأمة، والبداية تكون من النفس ، وإذا كنا غير قادرين على تدارك خلل في ذوات نفوسنا – القرار فيه يبدأ وينتهي من عندنا – فكيف نحلم بالتدارك على المستوى العام أو على المستوى العالمي في ظروف ذات تعقيد وتداخل ، وقد تريد أنت شيئاً ويريد غيرك سواه؟! نحن نرى كثيرين منا لم يحققوا نجاحاً مع ذواتهم في إدارتها إدارةً شرعية تقوم على حفظ الحقوق وأداء الأمانات وبذل الخير وفق السنن والآيات الشرعية والكونية .
ثالثاً : الإلحاح في الدعاء والتضرع فإنه مما يستدفع به البلاء ، وتستنزل به الرحمة ، ولن يعدم مليار مسلم أن يكون بينهم من لو أقسم على الله لأبره ، فليكن لإخوانك المسلمين من دعائك وتضرعك نصيبٌ ، أشركهم معك ، واصدق في دعائك ، وليتواطأ مع هذا الدعاء صفاء السريرة وحب الخير للناس في العاجل والآجل .
وسارية لم تسر في الأرض تبتغي **** محلاً ولم يقطع بها البيد قاطعُ
سرت حيث لم تسر الركاب ولم تنخ **** لورد ولم يقصر لها القيد مانع(76/4)
تحل وراء الليل والليل ساقط **** بأرواقه فيه سمير وها جع
تفتّح أبواب السماوات دونها **** إذا قرع الأبواب منهن قارع
إذا أوفدت لم يردد الله وفدها **** على أهلها والله راءٍ وسامع
وإني لأدعو الله حتى كأنما **** أرى بجميل الظن ما الله صانع
رابعاً : الهدوء في التعامل مع الأخبار والتحليلات والتصريحات والمواد الإعلامية ، فإن مزيد الانهماك فيها ربما صنع لدى المتلقي قدراً من البلبلة والحيرة والتردد، ثم الخوف المفرط. وكثير من هذا الضخّ الإعلامي هو مواد مشققة مفرعة، يعاد إنتاجها بطرق مختلفة ، أو وجهات نظر وتحليلات وظنون وتوقعات قد ينتفع اللبيب بها إذا أحسن قراءتها والتعامل معها , وعرف ما يأتي وما يذر، وما يأخذ وما يدع ، أما غير الفطن فربما كانت شقوة له ، تحرمه هناءة حياته وطيب عيشه ، وتعوقه عن سيره ، دون أن يظفر من ورائها بطائل ، أو يكون من معالجتها بسبيل.
خامساً: الحذر من ترويج الشائعات والأقاويل والأخبار المرتبكة والتحليلات المغرقة في التشاؤم ، فإننا في عصر صارت قوة الدول تبنى على مقدار ما لديها من سعة المعلومات ودقتها، إننا في عصر (( المعلوماتية ))، وكم من خبر يروج ويتم تداوله وتبنى عليه نتائج قريبة وبعيدة ، وقرارات واجتهادات ، وهو غير مؤكد ولا ثابت .. فكيف تظن بمثل هذه الرؤية المبنية على شائعة أو ظن , أو خبر مكذوب , أو رواية مضطربة , أو معلومة ناقصة , أو مضللة، والحصول على المعلومة لم يعد صعباً ولا عسيراً ولا مكلفاً متى توفرت الإرادة ، وأدركت الأمة الأهمية القصوى لهذه المعلومات.(76/5)
أليس من المحزن أن تكون عدوتنا الأولى ، أو ما يسمى بـ ( إسرائيل ) من أكثر دول العالم تقدماً معلوماتياً ، بينما نحن في العالم الإسلامي ربما لا نملك حتى القدر الضروري من ذلك! فضلاً عن فقدان الكثيرين لمنهج التعامل مع المعلومات والأخبار ، مع وضوح هداية القرآن في ذلك ونصاعتها "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ.... " الآية فيأمر سبحانه بالتثبت والتبين في الأخبار , وعدم الاندفاع في تناولها أو بناء النتائج والقرارات عليها. ويقول الله سبحانه : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً"(النساء: من الآية94) فيؤكد المعنى الأول خصوصاً في مقام الجهاد في سبيل الله ، ويحذر من الجراءة على دماء المسلمين ، أو التسرع في تكفيرهم مما يترتب عليه استحلال دمائهم وأموالهم وأعراضهم . وإذا كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم المخاطبون أول مرة بهذا النداء يوعظون بقوله سبحانه وتعالى : " تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا "(النساء: من الآية94) فكيف نقول نحن عن أنفسنا إذاً ؟!ويقول تعالى : "وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ.." الآية. فيشدد النكير على أولئك الذي يشيعون أمر الأمن أو الخوف في غير مناسبته وأوانه، ويرشدهم إلى رده إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وإلى أولى الأمر، لا ليعلموه كلهم ولكن ليعلمه "الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ "(النساء: من الآية83) ، فحتى أولو الأمر من أهل الحكم أو العلم ليسوا كلهم أهلاً لفهمه وإدراكه ، وهذا ظاهر جداً في المضايق والمسائل العويصة والمصيرية ، أما تعاطي القضايا العادية فهذا مختلف عما نحن بصدده .(76/6)
إنه قد يستمع المرء إلى برنامج في إذاعة أو قناة فضائية أو يقرأ مقالاً في جريدة غير رصينة فيخيل إليه أنه أحاط بالأمر من جوانبه وأنه النذير العريان ، ويصنف هذا على أنه وعي ويقظة " وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً "(الإسراء: من الآية85) .(76/7)
واجب الوقت
22/03/2003
19/1/1424
واقتداء بسنة النبي صلى الله عليه وسلم في وصيته لمعاذ بن جبل حين قال له أمسك عليك هذا فإن الوصية السادسة هي حفظ اللسان فإنه في أزمنة الفتن أشد من وقع السيف ومن أعظم المخاطر المحدقة أنها تستفز بعض العواطف التي لم تتربّ في محضن ولم تتلق تعليماً ولم عايش تجربة فتنجر إلى تكفير أو تفسيق أو تبديع أو تخوين لهذا الطرف أو ذاك لمجرد عدم استيعابها لمواقف الآخرين أو حتى قل لحصول خلل أو خطأ ما.. لكنه لا يعالج بمثل هذه الطريقة .
وما أشد وطأة القيل والقال والتلاعن والتطاعن في وقت وصلت فيه الأمة في قعر هاوية بتخلفها وجهالتها وعجزها عن تحصيل الأسباب الحقيقية للعزة والسمو .
إن أقل ما يجب هو أن نلجم ألسنتنا بلجام التقوى والخوف والإيمان عن أعراض المسلمين بتأويل أو بغير تأويل ... لنصلح أنفسنا أولاً ... ثم لن نجد بعد ذلك ما يبيح لنا الاشتغال بأصحابنا حين سلم منا أعداؤنا ... والله المستعان .
إنه ليس مما يفرح به أن نرى إقبالاً على تعاطي ألفاظ الكفر وكأنها تحية المسلم لأخيه ...
تحيةُ بينِهم ضربٌ وجيع
سابعاً :استفراغ الوسع والطاقة في تحريك الجهود الإسلامية واستخراجها وحث الكافة على العمل والمشاركة والإبداع ، لنرفع شعار :[ لا مكان للبطالين بيننا] ، وعلى كل امرئ مسلم أن يبذل وسعه وطاقته وقدرته كلها ولا يدّخر منها شيئاً ، في عبادة أو علم أو عمل أو دعاء أو دعوة أو أمر بمعروف أو نهي عن منكر أو إصلاح ذات بين أو إغاثة ملهوف أو تفريج كربة أو وصول منقطع أو إيواء مشرد أو هداية ضال أو تهدئة مندفع ..وكل معروف صدقة .
إن هذا توظيف موفق للطاقات المتوفرة لدى المسلمين ، فالكثرة العددية هي إحدى ميزات هذه الأمة ، وإن كان قائلنا يقول :
كثر ولكن عديد لا اعتداد به **** جمع،ولكن بديد غير متسق
حارت قواعدنا زاغت عقائدنا **** أما الرؤوس فرأي غير متفق(77/1)
البعض يحسب أن الحرب جعجة **** والبعض في غفلة والبعض في نفق
إلا إننا نعتقد أنه لو تم تفعيل ( 10% ) من هذا الرقم الهائل لكان لدينا أكثر من مائة مليون فرد .. كلهم يعملون .. بينما ربما لا يتجاوز عدد اليهود في العالم كله ثلاثة عشر مليونا !.
ليس من المستحيل ولا الصعب أن ينهمك الناس ، والشباب خاصة، في مشاريع جماعية مثمرة لخدمة دينهم، أو خدمة دنياهم ، ولا عز للدين بلا دنيا، ولا صلاح للدنيا بلا دين :
إذا الإيمان ضاع فلا أمان **** ولا دنيا لمن لم يحي دينا
ومن رضي الحياة بغير دين **** فقد جعل الفناء لها قرينا
وهذا يتطلب جدية في صناعة البرامج العملية ، وتضافراً للجهود ، وتعاوناً بين القطاعات ، ونصاعة الأهداف.
يجب أن يتسع الميدان للعاملين ، وألا يعتذر لأي منهم بضيق المساحة ، كما لا يقبل عذر من أي أحد كان بأنه ليس لديه ما يقدمه، فلا أحد أقل من أن يفيد، ولا أحد أكبر من أن يستفيد.
ثامناً : إعداد الأمة , وخصوصاً شبابها , نفسياً وعقلياً وعسكرياً وشغلهم بما يبنيهم ويخدم مصالحهم ومصالح أمتهم , ولم لا تفتح الأبواب للتجنيد الإجباري , ليس فقط التجنيد العسكري , بل لكافة الخدمات الاجتماعية , والتي يجني الشاب من ورائها الخبرة والثقة ويتعلم كيف يواجه الصعاب ... وكيف يتربى في جو من الجدية والعمل ويتخلص من الترف والرفاهية الزائدة .
إن أكثر من 70% من سكان السعودية هم من الشباب , ربما دون سن العشرين , ومن الخطأ الكبير أن تضيق أمامهم الفرص أو تغلق الأبواب , فلا وظيفة ولا عمل ولا دراسة ولا ترفيه ولا مجال لممارسة بعض التجارب أو التعود على الأعمال أو محاولة الإبداع .
فهذه قنبلة موقوته يمكن أن تنفجر وتتشظى في هذه الاتجاه أو ذاك ما لم يتوفر المخلصون على التفكير الجاد فيها .(77/2)
تاسعاً : الانهماك في حركة تصحيح واسعة النطاق , تستثمر الزلزال الذي تحدثه الأزمات , ليس لتصفية الحسابات مع هذا الطرف أو ذاك ، ولكن لتصفية الحساب مع سلبياتنا وأمراضنا ومعايبنا التي بها هزمنا .
يتمسك الفرد والجماعة , والمجتمع , والدولة بمألوفات معينة غير قادرين على اكتشاف خللها , وهي بحكم الإلف تمر عبر قنوات التفتيش دون اهتمام ويتقبلها الجميع رغم أنها لا تنسجم مع أصولنا ومصالحنا الشرعية .
وفي فترات الأزمات يبدو قدر من الاستعداد للاستدراك والتصحيح , فجدير بنا استثماره وتطويره , لا ليكون أسلوباً مؤقتاً في تجاوز المشكلة , بل ليكون أداة لتحويل الأزمة إلى فرصة , وتحقيق مفهوم قوله تعالى : " فإن مع العسر يسرا " فربما انجلت العسرة عن ألوان من الخير والفضل لحاضر الأمة ومستقبلها لم تكن في واردنا قبلُ ... ولكن الله يتفضل على عباده .
إنه لا أحد يقول إن واقعنا على أي مستوى , يمثل حقيقة الإسلام , ولهذا يجب أن نستمسك به , بل الكل يعترف بالخلل , فلنحّول هذه القناعة النظرية الذهنية إلى برنامج تفصيلي نتعرف بواسطته على مفردات عيوبنا الشعبية والرسمية , والعلمية والعملية , الدعوية والاجتماعية ... ونتعاون في الخلاص منها , والتأسيس لمستقبل أفضل .
وقوام ذلك أن نتحدث بالصراحة والصدق فيما بيننا بعيداً عن أجواء التصنع والتملق والرياء والتغرير .
إن الأمة تمر بمنعطف خطير , ولم يعد الأمر يتسع للمزيد من الاسترخاء والتهاون والمجاملة .
وفي ظني أن ثمت قدراً من الحرية يتاح الآن في قنوات الإنترنت أو الفضائيات أو غيرها ... ومن المهم أن نتعلم كيف نستخدم هذه الحرية لا لنظهر مساوئنا وقلة أدبنا وضيق صدورنا بالحوار , بل لنتدرب على الهدوء في معالجة الاختلاف وسعة الصدر والأفق .(77/3)
عاشراً : ومع أهمية عصر الجهود كلها وتثميرها علينا أن ندرك أن جهودنا تظل محدودة، لاعتبارات تربوية وإدارية وفكرية ، ومع محدوديتها فكثيراً ما يضعف أثرها بسبب التشتت والتوزيع على مساحة عريضة جداً .
نحن مجموعة من الخيريين نتشاكى هوان الأمة وضعفها ونَحِنُّ إلى عزتها وقوتها، وبعد قليل نتحدث بعفوية فنبدأ بالولايات المتحدة وإسرائيل ، ثم نُثَنّي بأوربا، ثم نتناول العالم الغربي، ثم العالم كله، ثم نبدأ بالرقعة الإسلامية ومن فيها، ثم من يخالفوننا في الأحوال ، ثم من يخالفوننا في الفروع، ثم من لا نتفق معهم في الاجتهاد الخاص والمعالجة الآنية، وربما تفاقم الأمر إلى من لا نتطابق معهم في الذوق والمزاج والتركيبة النفسية.
من الخير أن نعتاد العمل في دوائر الاتفاق التي يقبلها عامة الناس .
وفي جميع كتب الفقه يعقدون باباً للصلح، ويذكرون أحكامه وأدلته ، وأخبار العهود والمواثيق النبوية والراشدية مع أصناف الناس.
وفي جميع الحالات المشابهة تبدو الحاجة ملحة إلى ترتيب الأولويات ومراعاة قواعد المصلحة والمفسدة , والاعتبار بالقدرة الشرعية المتحصلة لأهل الإسلام ، وليس المسلمون استثناء من غيرهم في اتخاذ الأسباب وتوفير القدرات.
ولا شك مطلقاً أن السابقين الأولين بمكة قبل الهجرة كانوا أصدق الناس ديناً وأشدهم تضحية , ومع ذلك أمروا بالكف ، وقال عنهم ربهم العليم :"فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً"(النساء: من الآية77).
ولذا قال بعض الحكماء : أسرع الناس إلى الفتنة أعجلهم فراراً عنها.
إن هذه الطاقة الإسلامية المحدودة لا تتحمل أن تكون وقوداً لمعارك لا أول لها ولا آخر مع شتى المخالفين.(77/4)
إن جهدك المحدود لو وُظِّف في مجال محدد لأثمر ، وأنت في مقام مواجهة تفرض عليك تحديات لا مخلص منها , وليس لك أمامها خيار، فمن اللازم أن تتوفر في مثل هذا القدرة على الحركة، وعدم الجمود على مواقف ثابتة ، بل يتقدم المرء أو يتأخر ، وقد يأخذ ذات اليمين وذات الشمال بحسب المصلحة.
نحن هنا لا نتحدث عن القناعات العقدية ولا عن المواقف المبدئية ، بل عن المواقف العملية التي يبذل الإنسان فيها مجهوده ، ويستجمع قدرته.
إذا كان المقصود هو مجرد الحديث فلنقل عن أعدائنا ما شئنا ، لكن حين ننتقل إلى الميدان العملي ؛ فعلينا أن نختار الأهداف بعناية .
وفي داخل المجتمعات الإسلامية فإن ثمت تناقضات كثيرة وواقعية لا يمكن تجاهلها، منها: الفكرية , ومنها المناطقية , ومنها القبلية ومنها .. وقد يبدو جيداً أن العدو يراهن على إطلاق العنان لهذه التناقضات ؛ لنتصادم ويفني بعضها بعضاً ، وليس سراً أن بعض الأجنحة المتصارعة في أكثر من بلد إسلامي زودت بأسلحة إسرائيلية ، والتجربة الأمريكية في أفغانستان هي آخر شاهد على أن الإدراة الأمريكية تحافظ على أفرادها ؛ فالفرد الأمريكي إنسان متحضر راقٍ يسحق الحياة، وليمت بدلاً عنه ألف من العرب المسلمين الذين يرفضون الحداثة , واللحاق بركب التقدم !
ويخشى العقلاء كثيراً أنه في جو السذاجة وقلة التجربة والأنانية وعدم وضوح الأهداف ، فإنه من الممكن أن تتكرر القصة , وأن تنطلي اللعبة على كثيرين قد يظنونها في بداية الأمر تحقيقاً لأهدافهم وتطلعاتهم ومصالحهم الذاتية .
الحادي عشر : وعلى وجه الخصوص فإن من الضرورة بمكان أن نتجنب المصادمة مع إخواننا في الملة والدين ، وترك المصادمة لا يعني ترك الدعوة ، بل يعني التأسيس الصادق للدعوة وانطلاقها بلا عوائق ، ولا يعني ترك التناصح بيننا، بل تفعيل التناصح، لكن يعني تجنب أسلوب المصادرة والإلغاء والاستخفاف بالآخرين.(77/5)
وبغض النظر عن مدى تطابق الرؤية في الحكم على هذه المجموعة أو تلك إلا أن القدر المقترح الآن هو الموادعة والمتاركة والانشغال بالهم الأكبر ، وإقبال كلٍ على مشروعه ونموذجه وعمله البنائي الإصلاحي.
وإذا تعذر أن يصل أهل الإسلام إلى موقف موحد في القضايا الكبار- ولعله متعذر فعلاً -فليسيروا في خطوط متوازية غير متقاطعة ولا متعاندة ، وليدَعوا جزءاً من مهمة تصفية الخصوم للمستقبل ، لئلا يلفيهم الزمان القادم وهم بلا أعداء!
إنها نفثة مصدور ، تؤلمه الرغبة الانشقاقية الكامنة في أعماقنا، المتربصة لفرصة تسمح لها بالظهور والتبرج كأسوأ ما تكون الأنانية في سيطرتها الفردية والجماعية على حياتنا وأعمالنا ، ويزكى ذلك غياب روح الفريق في برامجنا , حتى لا نفرح بإنجازات يحققها الآخرون ونحرم أنفسنا من لذة الانتصار , بينما يفرح فريق الكرة كله لهدفٍ يسجله حارس المرمى !
والله تعالى ينهى عن التفرق والتنازع عامة ، ويخص من ذلك حال لقاء العدو ، كما قال سبحانه : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا "(الأنفال: من الآية45) .
فالنتيجة الحتمية للتنازع هي الفشل وذهاب الريح.
إننا بحاجة إلى فقه أوسع لمقاصد التشريع وأصوله الأولى والتي من مقاماتها الأولى أن التشريع مبنى على الوسع والاستطاعة , وأن التشريع من مقصوده تحصيل المصالح ودرأ المفاسد , ومن مقصوده تحصيل اجتماع المؤمنين الذي يتعذر تحققه إلا بقدر من الإسقاط والعفو والتسامح وفتح محل الاجتهاد الذي يتجاوز دائرةَ خاصةِ أهل العلم إلى سائر أهل الدعوة والعمل للدين ليضع كلٌ مما أوتي ما يحصل به تحصيل مصلحة أو درأ مفسدة .(77/6)
لقد تربينا في طفولتنا وربما في مجالسنا العلمية على روح الانتقام والثأر والإصرار على حقوقنا حتى مع أقرب الناس إلينا ... وربما لا تكون الحقوق ظاهرة جلية , والآن يقتضي الوقت أن نتربى على قيم التسامح والإيثار والرحمة والتنازل لإخواننا والصبر عليهم ؛ لأن المكان يضيق فإذا كبرت ذواتنا تقاتلنا من أجلها وشاعت الأثرة وزاد الشر تسلطاً علينا , واتسعت الهوة بيننا فلنجعل الخلاص من أنانيتنا ومصالحنا الذاتية وذكرياتنا الأليمة شعاراً لنا , ومن ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه , والله واسع عليم .
لنجرب أن ننام الليلة وقد أخلينا قلوبنا (للطوارئ) من كل حسد أو حقد أو بغضاء أو كراهية لأحد من المسلمين , ممن نعتقد أنهم ظلمونا في نفس أو أهل أو مال أو عرض , وأن نسامحهم جميعاً , ونتوجه إلى خالق السماوات والأرض بقلوب صافية أن يسامحهم ويغفر لهم ويعينهم على تجاوز عثراتهم وإدراك عيوبهم...
نحن نغسل وجوهنا وأيدينا يومياً عشرات المرات , فلنجرب هذه المرة أن نغسل قلوبنا من كل مالا يرضي الله , والقلب موضع نظر الرب تبارك وتعالى ( إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم) .
إنها عملية سهلة جداً , ولكنها مفيدة , حتى على صعيد الأنس والراحة والسعادة الذاتية فجربها والله معك .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
الصفحة 1 2(77/7)
من لأسرى المسلمين ؟
04/08/2002
25/5/1423
تعيش مجموعة من الأسرى المسلمين في معسكر " إكس راي " بجوانتانامو وضعاً متفرداً صعباً يستوجب من أهل الإسلام وقفة تعاطف ومناصرة جادة ، ولابد من تحريك هذا الموضوع على أكثر من صعيد ، ولعل هذه الكلمة مشاركة في هذا المجهود الواجب .
ويتعين مثل هذا العمل لأسرى الفلسطينيين في إسرائيل ، وأسرى المسلمين في سجون روسيا والولايات المتحدة الأمريكية وغيرها.
والأسر ظاهرة مرتبطة بالحياة البشرية ، وبالحرب على وجه الخصوص ، والأسير أخيذ الحرب ، وقد تطلق على من يؤخذ سلماً ، أو من يسجن أو يؤسر .
وكان الأسير في الأمم المتوحشة مهدر الحقوق ، من حقهم أن يصلبوه أو يُحرقوه أو يقتلوه أو يعذبوه بما شاءوا دون مسائلة بل يوجد عند بعض الأمم والشعوب القديمة كالشعب الأقيانوسي عادة أكل لحم الأسير .
والأسر بمرارته وغربته وغموض مستقبله وانقطاع الإنسان عن أحبته وأهله وزوجه وولده وقرابته يشوي الأسير بنيران الشوق واللهفة والمحبة والتوقع ، ولذلك كان الأسر فرصة للإبداع وللشعر وللكتابة ، وهذه المعاناة الصادقة الجادة كانت وراء الكثير من الإبداع العلمي والأدبي والحيوي ، ويحفظ التاريخ لنا من ذلك ما لا يمكن حصره ، خصوصاً وأن المأسور والمسجون غالباً ما يعيش نوعاً من الفراغ .
المعتمد بن عبّاد الأمير الشهير أسر في الأندلس وسيق للمغرب وسجن بأغمات إلى أن مات ، فكان يقول لما زارته بناته في الأسر يوم العيد :
فيما مضى كنت بالأعياد مسرورا **** فساءك العيد في أغمات مأسورا
ترى بناتك في الأطمار جائعة **** يغزلن للناس لا يملكن قطميرا
خرجن نحوك للتسليم خاشعة **** أبصارهن حسيرات مكاسيرا
يطأن في الطين والأقدام حافية **** كأنها لم تطأ مسكاً وكافورا
من بات بعدك في ملك يُسرُّ به **** فإنما بات بالأحلام مغرورا
وللمتنبي شاعر العربية قصائد مشهورة منها القصيدة التي قالها وهو سجين :(78/1)
دعوتك لما براني البلى **** وأوهن رجليَّ ثقلُ الحديدِ
دعوتك عند انقطاع الرجا ء **** والموت مني كحبل الوريدِ
وقد كان مشيهما في النعال **** فقد صار مشيهما في القيودِ
ومنها ما كتبه لرجل يقال له أبو دلف حين أرسل له هدية في سجنه ، وكان قد ذكره عند السلطان بسوء :
أهون بطول الثواء والتلف **** والسجن والقيد يا أبا دلفِ
غير اختيار قبلت برّك بي **** والجوع يرضي الأسود بالجيفِ
كن أيها السجن كيف شئت فقد **** وطنت للموت نفس معترفِ
لو كان سكناي فيك منقصة **** لم يكن الدر ساكن الصدفِ
ومن غرر قصائد علي بن الجهم التي قالها في الأسر ، وهو شاعر فحل مشهور سُنّي :
قالوا:حبستَ فقلت:ليس بضائري **** حبسي وأيُّ مهند لا يُغمدُ
لا يؤيسنك من تفرج كربة **** خطب رماك به الزمان الأنكدُ
كم من عليل قد تخطاه الردى **** فنجا ومات طبيبه والعُوَّدُ
صبرًا فإن الصبر يعقب راحة **** ويَدُ المهيمن لا تطاولها يدُ
ولكل حال معقب ولربما **** أجلى لك المكروه عما يُحمدُ
و لصالح بن عبد القدوس قصيدة متداولة ، وروي بعضها لعبد الله بن معاوية :
خرجنا من الدنيا ونحن من أهلها **** فلسنا من الأموات فيها ولا الأحيا
إذا جاءنا السجّان يوماً لحاجة **** عجبنا وقلنا : جاء هذا من الدنيا
ونفرح بالرؤيا فجل حديثنا **** إذا نحن أصحبنا الحديث عن الرؤيا
فإن حسنت كانت بطيئاً مجيئها **** وإن قبحت لم تنتظر وأتت سعيا
ومن شهير هذا الباب القصائد الرومية لأبي فراس الحمداني ، ومن غررها ودررها القصيدة المشهورة :
أراك عصيَّ الدمع شيمتك الصبرُ **** أما للهوى نهيُ عليك ولا أمرُ
بلى أنا مشتاق وعندي لوعة **** ولكن مثلي لا يذاعُ له سرُّ
تكاد تضيء النار بين جوانحي **** إذا هي أذكتها الصبابة والفكرُ
معللتي بالوصل والموت دونه **** إذا متُ ظمئاناً فلا نزل القطرُ
أسرتُ وما صحبي بعزل لدى الوغى **** ولا فرسي مهرٌ ولا ربه غمرُ(78/2)
ولكن إذا حم القضاء على امرئ **** فليس له بر يقيه ولا بحر
وقال أصيحابي:الفرارُ أو الردى **** فقلت :هما أمران أحلاهما مُرُّ
ولكنني أمضي لما لا يعيبني **** وحسبك من أمرين خيرهما الأسرُ
تهون علينا في المعالي نفوسنا **** ومن خطب الحسناء لم يغلها المهرُ
ومن عيون الشعر المعاصر قصيدة " رسالة في ليلة التنفيذ " للشاعر هاشم الرفاعي :
أبتاه ماذا قد يخط بناني ؟ **** والسيف والجلاد ينتظراني
وقصيدة الأستاذ سيد قطب " من وراء القضبان " :
أخي أنت حر وراء السدود **** أخي أنت حر بتلك القيود
إذا كنت بالله مستعصماً **** فماذا يضيرك كيد العبيد ؟
ولأن الأسر جزء من الحياة البشرية كما هو الشأن في الحرب ذاتها ، فإن الإسلام قد نظم شأن الأسير وكيفية التعامل معه وفق المنهج الرباني القائم على العدل والإحسان ، ومن خلال عرض سريع نتبين طريقة الإسلام في التعامل مع الأسير ، وطريقة القانون الوضعي الذي جاء بعد الحرب العالمية الثانية ، وبعد المشاكل الطويلة العريضة والقتلى والأسرى بمئات الآلاف ، بينما النظام الإسلامي جاء ابتداءً دون معاناة ولا اعتبارات وقتية ولا ضغوط خاصة .
نظام الأسرى في الإسلام
شرع الله سبحانه الأسر كما في قوله تعالى : "حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق" والحرب الشرعية العادلة لابد منها لمقاومة المعتدين والظالمين ودفع العدوان وإزالة العقبات التي تحول بين الناس وبين معرفة الحق واتباعه ، فإن الأسر جزء من مقتضيات الحرب ، ولهذا قال سبحانه : " فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب " وهذا طبيعي فلا يتوقع أحد أن يقال : إذا لقيتم الذين كفروا فانثروا الورود والرياحين في وجوههم ؛ لأن المقام مقام حسم ومصارمة ، يقول المتنبي :
ووضع الندى في موضع السيف بالعلا **** مضر كوضع السيف في موضع الندى
وقال أحمد شوقي :
والشر إن تلقه بالخير ضقت به **** ذرعاً وإن تلقه بالشر ينحسم
ولآخر :(78/3)
والناس إن تركوا البرهان واعتسفوا **** فالحرب أجدى على الدنيا من السلم
فالحرب جزء من الحياة متى كانت حرباً عادلة لا يُقصد بها مجرد التوسع الإمبراطوري الظالم ، ولا العدوان والبغي بغير حق ، وكم لهذه الحروب من أثر في بناء الحضارة وتجديد نسيجها واستئصال آفاتها .
وفي كتاب الله تعالى آيتان تتحدثان عن الأسرى :
الأولى : قول الله سبحانه وتعالى : " ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض " وهذه الآية نزلت بعد معركة بدر لما أسر المسلمون من أسروا من المشركين .
الثانية : قوله تعالى : " فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منّا بعد وإما فداءً حتى تضع الحرب أوزارها " وفي كلام أهل العلم اختلاف ، لكن الراجح أنه ليس بين الآيتين تعارض ولا نسخ فإن المعنى واحد ، فالله تعالى يقول في الآية الأولى : "ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض " فإذا أثخنوا في قتل أعداءهم حتى يكون عندهم خوف ورعب فبعد ذلك يأتي النص الآخر الذي يأذن بالأسر بعد الإثخان " إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق " فالأسر يكون بعد الإثخان وليس معه أو قبله ، فليس ثمت نهي عن الأسر ، وإنما أمر أن يكون الإثخان هو الأول ، وبعده يأتي الأسر .
فالإثخان لتحطيم قوة العدو وكسر شوكته ثم يكون الأسر ، والحكمة فيه ظاهرة ؛ لأن إزالة القوة المعتدية المعادية هو الهدف الأول من القتال ، ولهذا يقول الشيخ رشيد رضا في تفسير المنار : [جملة القول في تفسير الآيات أنه ليس من سنة الأنبياء ولا مما ينبغي لأحد منهم أن يكون له أسرى يفاديهم أو يمنُ عليهم إلا بعد أن يكون له الغلبُ والسلطان على أعدائه وأعداء الله الكافرين ] .(78/4)
من لأسرى المسلمين ؟
10/08/2002
1/6/1423
حقوق الأسير في الإسلام
1- من حق الأسير عدم إكراهه على ترك دينه فلا يُكره على الدخول في الإسلام، وإنما يُدعى إلى الإسلام بالتي هي أحسن، وفي العصر الحاضر يعرف هذا بالحرية الدينية، يقول الله تعالى : "يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيرًا يؤتكم خيرًا مما أخذ منكم ويغفر لكم والله غفور رحيم"[الأنفال:70] ففيها استمالة لهؤلاء الأسرى، وتجديد الدعوة لهم، وفتح باب التوبة أمامهم، وترغيبهم بما يعوضهم عما دفعوا من الفداء، ويعدهم إن هم دخلوا في الإسلام طائعين مختارين بالرزق الوفير في الدنيا والآخرة والمغفرة لما سلف من ذنوبهم قبل الإيمان، وفي هذا دليل واضح على أنهم لا يكرهون على الدخول في الإسلام، ولم يقع قط أن أكره أسير على أن يدخل في الإسلام، ومن الأدلة على ذلك قصة ثمامة بن أثال الحنفي وهي في البخاري (4372) ومسلم (1764) من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه - وكان مشركاً أسره جيش المسلمين وربط في المسجد فأتاه الرسول صلى الله عليه وسلم وقال له: (ما عندك يا ثمامة) فقال : عندي خير يا محمد إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل منه ما شئت، فتركه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فلمّا كان من الغد قال له مثل ذلك، وفي اليوم الثالث قال النبي صلى الله عليه وسلم : (أطلقوا ثمامة) فأطلقوه فإذا به يذهب ويغتسل ويعود فيقول : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله، والله يا محمد ما كان على ظهر الأرض وجه أبغض إلي من وجهك فقد أصبح وجهك أحب الوجوه كلها إليّ، والله ما كان على ظهر الأرض دين أبغض عليّ من دينك فأصبح دينك أحب الدين كله إليّ، والله ما كان على وجه الأرض بلد أبغض إليّ من بلدك فأصبح بلدك أحب البلاد كلها إليّ .(79/1)
وهكذا أثرت هذه المعاملة الحسنة والخلق الكريم، في استمالة قلب رجل غير عادي، إنه ليس من بسطاء الناس أو سذجهم، بل هو سيد قومه، ولم يكن إسلامه إسلام تقية أو خوفاً على نفسه وحياته .
2- ومن حقوقه إطعامه ما يكفيه من الطعام والشراب، ولهذا يقول الله سبحانه وتعالى : "ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً * إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكوراً" [الإنسان:8-9] ففي هاتين الآيتين دليل على أن إطعام الأسير قربة يتقرب بها المؤمن إلى ربه سبحانه وتعالى، ولهذا قال : "نطعمكم لوجه الله" وفيها أن المؤمن يؤثر الأسير حتى على نفسه "ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً" ومعنى هذا أنه لم يطعمه مما فضل من قوته، وإنما يطعمه من طيب طعامه مع حاجته إليه ومحبته له، ولذلك كان منع الطعام عن الأسير من الكبائر كما جاء في حديث ابن عمر – رضي الله عنهما – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال : "عُذبتْ إمرأة في هرة ، سجنتها حتى ماتت، فدخلت فيها النار، لا هي أطعمتها ولا سقتها إذ حبستها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض" رواه البخاري (3482) ومسلم (2242) .
فلما كان الحبسُ مانعاً للمحبوس من التصرف في أمر معاشه وكسبه وجب على حابسه أن يقوم بحقه، ولو كان ذلك في حق الحيوان، فما بالك بالإنسان الذي كرمه الله تبارك وتعالى "ولقد كرمنا بني آدم" [الإسراء:70] ويكفي أن الله سبحانه قرن حق الأسير بالمسكين واليتيم "مسكيناً ويتيماً وأسيرًا" [الإنسان:8] حثاً على القيام على إطعامه والإحسان إليه، وقد يكون هذا الإحسان سبباً في هدايته، كما كان الأمر في شأن ثمامة رضي الله عنه .(79/2)
3- حقه في الكسوة والثياب المناسبة التي تليق به وتجدر بمثله وقد روى البخاري في صحيحه من حديث جابر- رضي الله عنه - قال : "لما كان يوم بدر أتي بأسارى وأتي بالعباس، ولم يكن عليه ثوب فنظر النبي صلى الله عليه وسلم له قميصاً، فوجدوا قميص عبد الله بن أبيّ يقدر عليه فكساه النبي صلى الله عليه وسلم إياه . . " البخاري (3008)، فالإسلام يضمن للأسير حق الكسوة والثياب المناسبة .
4- المأوى والسكن المناسب أياً كان فقد يُسكن في المسجد أو يُسكن في سجن خاص ويكون ملائماً أو حتى في بيوت بعض المؤمنين، وفي عهد النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن هناك دار خاصة للأسرى ولا للسجن، ولهذا ربما سجن الأسير في المسجد، وربما وزع الأسرى على المسلمين في بيوتهم إلى أن يُنظر في شأنهم، وقد روى البيهقي في سُننه (9/89) عن ذكوان عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها بأسير وعندها نسوة، فلهينها عنه فذهب الأسير فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا عائشة : (أين الأسير؟) قالت: نسوة كُنَّ عندي فلهينني عنه، فذهب فقال : رسول الله – صلى الله عليه وسلم – "قطع الله يدك" وخرج فأرسل في أثره فجيء به فدخل النبي – صلى الله عليه وسلم – وإذا عائشة – رضي الله عنها – قد أخرجت يديها فقال مالك قالت يا رسول الله إنك دعوت علىَّ بقطع يدي وإني معلقة يدي أنتظر من يقطعها، قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أجننت؟ ثم رفع يديه وقال : (اللهم من كنت دعوت عليه فاجعله له كفارةً وطهورًا)، قال الذهبي عن هذا الحديث : إسناده جيّد .(79/3)
وقد ذكر ابن كثير في البداية والنهاية (5/191) أن الرسول صلى الله عليه وسلم فرق أسرى بدر على أصحابه، وروى الإمام أحمد (2216) عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل ناساً من الأسرى الذين كانوا يتقنون القراءة والكتابة يُعلمون أولاد الأنصار القراءة والكتابة، وجعل ذلك فداءهم وفكاكهم، ومن المعلوم أن الأسير كي يُعلم ويكتب لابد أن يكون طليقاً غير مقيد ولا مربوط، وقادراً على الذهاب والإياب، والوثاق إنما جُعل لمنعه من الهرب فإذا أمكن منعه بلا وثاق فلا حاجة إليه .
5- لا يفرق في الأسرى بين الوالدة وولدها أو بين الولد ووالده وبين الأخ وأخيه، وهذا ورد في حكم السبي، و السبي نوع من الأسر، وإن كان يطلق في الغالب على النساء والذرية، والتفريق بينهم وبين الأسرى إنما هو أمر اصطلاحي، وإلا فالكل أسرى، وقد جاء في حديث رواه الإمام أحمد (23499) وأهل السنن الترمذي (1283) وابن ماجه (2250) من حديث أبي موسى وأبو داود (2696) من حديث علي – رضي الله عنه -عن أبي الدرداء رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (من فرق بين والدة وولدها ـ يعني من السبي ـ فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة) قال الترمذي : وهذا حديث حسن غريب، والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم، كرهوا التفريق في السبي بين الوالدة وولدها وبين الولد والوالد وبين الإخوة .
وأعجب من ذلك أن الدارمي (2479) روى هذا الحديث، وذكر في أوله أن أبا أيوب رضي الله عنه كان في جيش ففرق بين الصبيان وبين أمهاتهم من الأسرى فرآهم يبكون فجعل يرد الصبي إلى أمه ويقول : إن رسول صلى الله عليه وسلم قال : ( من فرق بين والدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة ) .
فانظر كيف بلغ الرفق والرحمة والشفقة والعدل بالمسلمين في الجمع بين الإخوة وبين الآباء والأمهات والأولاد من الأسرى .(79/4)
6- عدم تعريضهم للتعذيب بغير حق فلا يمكن أن نعذبهم مثلاً لأنهم قاتلونا، ولم ينقل في الشرع أنه أُمر بتعذيبهم، ولا أنه حصل لهم تعذيب خلال عصور العزة الإسلامية، وذلك لأنه إذا كان المسلم مأمورًا بإكرامهم وإطعامهم وسقيهم والجمع بينهم فإن تعذيبهم يتنافى مع هذا الأمر، اللهم إلا أن يكون هناك حالات خاصة يتطلب الأمر فيها أن يُمس بشيء من العذاب قليل لا يؤثر عليه من أجل كشف أمور يُعلم أنها موجودة عنده كما في حديث ابن عمر – رضي الله عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قاتل أهل خيبر حتى ألجأهم إلى قصرهم فغلب على الأرض والزرع والنخل فصالحوه على أن يجلوا منها ولهم ما حملت ركابهم ولرسول الله – صلى الله عليه وسلم – الصفراء والبيضاء ويخرجون منها واشترط عليهم أن لا يكتموا ولا يغيبوا شيئاً فإن فعلوا فلا ذمة لهم ولا عهد فغيبوا مسكا فيه مال وحلي لحي بن أخطب كان احتمله معه إلى خيبر حين أجليت النضير فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لعم حيّ ما فعل مسك حيّ الذي جاء به من النضير فقال : أذهبته النفقات والحروب فقال : العهد قريب والمال أكثر من ذلك فدفعه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إلى الزبير فمسه بعذاب وقد كان حيّ قبل ذلك دخل خربة فقال : قد رأيت حيّ يطوف في خربة ههنا فذهبوا وطافوا فوجدوا المسك في الخربة . . " الحديث رواه البيهقي في السنن الكبرى (9/137) وقال ابن حجر في الفتح (7/479) إسناد رجال ثقات .
وأما قتل النبي صلى الله عليه وسلم بعض الأسرى فذلك لأن لهم سوابق وجرائم في حق المسلمين استوجبت قتلهم، ولهذا جاء في التاج والإكليل أنه قيل لمالك: أيعذب الأسير إن رُجي أن يدل على عورة العدو ؟! فقال : ما سمعت بذلك.(79/5)
وكان جماعة من السلف يكرهون قتل الأسرى، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يقتل من الأسرى خلال حروبه الطويلة إلا عددًا قليلاً كانوا من أكابر عتاة المشركين وقادة الحرب الضروس الفاجرة ضد الإسلام وأهله، ويمكن أن نطلق عليهم حسب التعبير المعروف اليوم (مجرمي حرب) وقد روى مسلم في صحيحه (1779) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بلغه مقدم أبي سفيان ومن معه شاور أصحابه فيما يصنع، وفي القصة أنهم ظفروا بغلام، فأخذوه، فكان أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يسألونه عن أبي سفيان وأصحابه، فيقول : مالي علمٌ بأبي سفيان، ولكن هذا أبو جهل وعتبة وشيبة وأمية ابن خلف، فإذا قال ذلك ضربوه، فقال : نعم أنا أخبركم هذا أبو سفيان، فإذا تركوه فسألوه فقال : مالي بأبي سفيان علم، ولكن هذا أبو جهل وعتبة وشيبة وأمية بن خلف في الناس فإذا قال : هذا أيضاً ضربوه ورسول الله – صلى الله عليه وسلم – قائمٌ يصلي فلمّا رأى ذلك انصرف، قال : "والذي نفسي بيده لتضربوه إذا صدقكم وتتركوه إذا كذبكم".
فهذا دليل على أنه ينبغي ألا يكون هناك عدوان على الأسرى، ولا تعذيب لهم بغير حق، وإذا كانت هذه الأشياء كلها مطلوبة فالإسلام يوجب أن يكون لهم العلاج المناسب والمعاملة الحسنة وأن لا يظلم أحد منهم في نفس أو أهل أو مال .
من أحكام الأسر في الإسلام
1- يجوز للمسلم إذا لم يقدر على المدافعة في حرب من الحروب أن يستأسر للعدو، وقد ذكر البخاري في صحيحه (3989) قصة خبيب بن عدي ومن معه، وكيف أنهم استأسروا للكفار ثم جاءوا بهم وباعوهم في مكة، وصلبوهم، وقال خبيب رضي الله عنه قصيدته المشهورة :
ولست أبالي حين أقتل مسلماً **** على أي جنب كان في الله مصرعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ **** يبارك على أوصال شلوٍ ممزعِ(79/6)
2- فكاك الأسير المسلم من القربات والطاعات وفضائل الأعمال، فقد روى البخاري في صحيحه (3406) من حديث أبي موسى رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (فكوا العاني ـ يعني الأسير ـ وأطعموا الجائع وعودوا المريض) وفي البخاري (3047) ومسلم (1370) من حديث أبي جحيفة لما سأل علياً رضي الله عنه هل عندكم شيء من الوحي إلا ما في كتاب الله ؟ قال: والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما أعلمه إلا فهماً يعطيه الله رجلاً في القرآن، وما في هذه الصحيفة قلت : وما في الصحيفة ؟ قال : العقل، وفكاك الأسير، وأن لا يقتل مسلم بكافر " .
ففكاك الأسير من الطاعات والقربات التي ينبغي أن يسعى المسلمون إليها ما استطاعوا، ومهما بذلوا في سبيل ذلك من الجاه والقوة والمال والجهد والمخاطرة، خاصة مع تطور وسائل الاتصال والتأثير والضغط وإمكانية العمل المثمر لفك الأسرى وتحسين ظروفهم .
3- روى البخاري في صحيحه معلقاً في كتاب : الطلاق ، باب : حكم المفقود في أهله وماله عن الزهري أنه قال : الأسير إذا عُلم مكانه فإنه لا تتزوج امرأته ولا يقسم ماله، فإذا انقطع خبره فسنته سنة المفقود. على الخلاف المعروف بين الفقهاء .
4- بوّب البخاري في صحيحه كتاب الفرائض "باب ميراث الأسير" ثم قال : "وكان شريح يُوَرِّثُ الأسير الذي يكون في أيدي العدو، ويقول : هو أحوج إلى المال من غيره " وهكذا عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه قال : " أجز وصية الأسير وعتاقه، وما صنع في ماله ما لم يتغير عن دينه، فإنما هو ماله يصنع فيه ما يشاء " .
5- إذا أُسِر أسير كافر ثم قال : إني مسلم فما الحكم ؟(79/7)
روى مسلم في صحيحه (1641) عن عمران بن حصين قال : كانت ثقيف حلفاء لبنى عقيل فأسرت ثقيف رجلين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من بني عقيل وأصابوا معه العضباء فأتى عليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وهو في الوثاق، قال : يا محمد . فأتاه فقال : (ما شأنك ؟) فقال : بم أخذتني ؟ وبم أخذت سابقة الحاج ؟ فقال : إعظاماً لذلك (أخذتك بجريرة حلفائك ثقيف) ثم انصرف عنه، فناداه فقال : يا محمد يا محمد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رحيماً رقيقاً، فرجع إليه فقال : (ما شأنك ؟) قال : إني مسلم قال : (لو قلتها وأنت تملك أمرك أفلحت كل الفلاح) ثم انصرف ... ثم إن الرسول بدا له ففداه برجلين من المسلمين وأمسك الناقة لنفسه .
وقد جاء ما يدل على قبول إسلام الأسير، ومن ذلك الحديث الذي رواه البخاري (4269) ومسلم (96) واللفظ له في قصة أسامة بن زيد حينما قتل رجلاً مقاتلاً بعدما قال : لا إله إلا الله، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : (أقتلته بعدما قال : لا إله إلا الله؟ فكيف تصنع بـ لا إله إلا الله إذا جاء يوم القيامة ؟) .
فإذا أسلم الأسير فقد عصم دمه لحديث (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله، فإذا قالوا لا إله إلا الله عصموا مني دماءهم وأموالهم...) البخاري (25) ومسلم (21) واللفظ له .(79/8)
6- أسير الحرب يُعتبر أسير الدولة المسلمة، وليس أسيرًا للشخص الذي أسره، ولذلك فالرأي فيه للإمام , وعلى الإمام أن ينظر ما فيه مصلحة المسلمين، فله أن يمنّ على الأسرى بدون مقابل كما أطلق الرسول صلى الله عليه وسلم ثمامة بن أثال سبق تخريجه، وكما أطلق النبي صلى الله عليه وسلم ثمانين رجلاً في غزوة الحديبية، وكانوا نزلوا لقتال النبي صلى الله عليه وسلم فعفا عنهم، والحديث في صحيح مسلم (1807)، وله أخذ الفدية كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع أسرى بدر وغيرهم مسلم (1764)، وله مبادلتهم بأسرى مسلمين عند الكفار كما في حديث عمران بن حصين الذي سبق، وكما في حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه" أن الرسول صلى الله عليه وسلم بعث بامرأة من المشركين وقعت في الأسر إلى مكة، وفي أيديهم أسارى من المسلمين ففداهم الرسول بتلك المرأة" وهو حديث صحيح انظر : مسلم (1755) والإمام أحمد (16502) والنسائي (8665) وابن ماجة (2846) .
7- هل للمسلمين أن يقتلوا الأسير إذا رأوا المصلحة في ذلك كما قتل النبي صلى الله عليه وسلم بعض الأسرى ممن كان بقاؤه خطراً على المسلمين مثل عبد الله بن خطل ففي صحيح البخاري (1846) ومسلم (1357) واللفظ للبخاري عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة عام الفتح وعلى رأسه المغفر فلما نزعه جاء رجل فقال : إن ابن خطل متعلق بأستار الكعبة فقال : (اقتلوه)، وكذلك قتل الجاريتين اللتين كانتا تغنيان بهجاء النبي – صلى الله عليه وسلم – انظر : أبو داود (2684)، وكذلك أبو ليلى الشاعر الذي قال يا محمد من للصبية ؟ فقال : (النار) وقتله؛ لأنه غدر مرة بعد أخرى انظر ما رواه الحاكم في المستدرك (2618) والبيهقي في السنن الكبري (6/323)، إلى غير ذلك من الأحداث، فهل للإمام أن يقتل الأسير بعد أسره أو ليس له ذلك ؟(79/9)
في المسألة خلاف فقهي، والراجح فيها ـ والله أعلم ـ أنه لا يقتله لمجرد التشهي، لكن يمكن أن يقتل المسلمون من ثبتت عليه جرائم وأعمال ومخالفات يستحق عليها العقوبة، كما حصل في القصص التي نقلت عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ولهذا كره الحسن وعطاء ـ وهما من فقهاء السلفـ قتل الأسير، وجاء الحجاج بأسير مكبّل إلى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، فقال له : قم يا عبد الله بن عمر فاقتله . فقال ابن عمر : ما بهذا أمرنا، فإن الله يقول : "فإما منا بعد وإما فداء" أي بعد الأسر، فلم يذكر القتل، وإنما ذكر المنّ أوالفداء، وفيه قصة أخرى لابن عمر رضي الله عنهما لما أمره أمير بقتل أسير، فقال : أما وهو مصرور فلا .
والصَّرُّ هو التقييد والتكبيل، فكأن ابن عمر يقول : أما وقد أسرته ووثقته فأصبح أسيرًا فلا، يعني لو قتلته في ميدان المعركة فهذا باب آخر، ولهذا قال ابن مفلح من فقهاء الحنابلة : ومن أسر أسيرًا حَرُمَ على الأصح قتله . وهذا هو المذهب، وحكى الحسن بن محمد التميمي أن هذا كان إجماع الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم أنهم لا يقتلون الأسير .
هذا جانب من عظمة الإسلام ومن نظام الإسلام في التعامل مع الأسرى الذين هم كفار أولاً، وأعداء ثانياً، ومحاربون مقاتلون تم أسرهم في ميدان المعركة ثالثاً .(79/10)
من لأسرى المسلمين ؟
26/01/2003
23/11/1423
الأسير في الاتفاقات الدولية
ربما سمع الناس ـ بسبب الكلام في أسرى غوانتانامو وما يتعلق بهم ـ الكثير عن اتفاقية جنيف للأسرى ، فما هذه الاتفاقية ؟
المبادئ الأساسية المتعلقة بحقوق الأسرى وضعت سنة 1864م وكان فيها أربع اتفاقيات ، ووقع عليها حوالي (190) دولة من دول العالم وأدرج فيها عدد من الحقوق .
وفي وقت لاحق عام 1977م تم إدراج لوائح جديدة فيما يسمى ببرتوكول إضافي أشار بوضوح إلى وجود مجموعات أو شرائح متعددة من أسرى الحروب .
والولايات المتحدة الأمريكية لم توقع على هذه الاتفاقية ، وإنما وقعتها دول أخرى ، وأهم النقاط الموجودة في هاتين الوثيقتين تتلخص فيما يلي :
أولاً : اتفاقية جنيف ، بمقتضى الفقرة الرابعة من هذه الاتفاقية ، فإن مصطلح أسرى الحرب ينطبق على الأفراد المنتمين للشرائح التالية :
القسم الأول : أفراد القوات المسلحة لأحد طرفي النزاع ، ويدخل في ذلك :
1ـ المليشيات أو المتطوعون الذين يشكلون جزءًا من هذه القوات أي : ليسوا من أفراد القوات المسلحة ، ولكنها مليشيات تابعة لهم أو متعاونة معهم .
2ـ الأفراد المنتمون لمليشيات أخرى ، أو المتطوعون ، ومن بينهم أعضاء حركات المقاومة المنظمة ما دامت تنطبق عليهم الشروط التالية :
أ ـ أن يخضعوا لقيادة شخص مسؤول عنهم .
ب ـ أن يكون لهم علامة محددة بزي أو صفة معينة يتميزون بها عن بُعد .
ج ـ أن يحملوا السلاح علانية .
د ـ أن يلتزموا في العمليات التي ينفذونها بأعراف وقواعد الحرب المتبعة .
القسم الثاني ـ ممن تشملهم هذه الاتفاقية ويعتبرون أسرى حرب ـ : أعضاء القوات المسلحة النظامية ، ممن يعلنون الولاء لحكومة أو سلطة قد لا يعترف بها النظام الحاكم في تلك الدولة ، أو سكان أي أرض تتمتع بالاستقلال في حال حملهم السلاح لمقاومة أي غزو بشرط حمل السلاح بشكل علني والالتزام بأعراف وقواعد الحرب .(80/1)
ثانياً : في حالة وجود أي إشكال أو شك في كون هذا الأسير تنطبق عليه الشروط السابقة أو لا تنطبق عليه ، فإنه في هذه الحالة يتمتع بالحماية في ظل الاتفاقية إلى أن تتولى المحكمة المؤهلة البت في أمرهم وما إذا كانوا أسرى حرب أو ليسوا أسرى حرب .
ثالثاً : ما يتعلق بالبروتوكول الإضافي الذي أضيف بعد ذلك ، وهذا يقول إن أي مقاتل يقع في أسر قوة مناوئة يعتبر أسير حرب ، أي مقاتل على الإطلاق ، والمقاتل عندهم الذي يلتزم بأعراف وقواعد الحرب ، وحتى حينما يخالف هذه القواعد والأعراف فإن من حقه أن يُعامل كأسير حرب في حالة أسره .
ونلاحظ أن هناك أمثلة من الواقع تدل على الطبيعة التنفيذية لهذه اللوائح ، وكيفية فهمها وإجرائها لدى الولايات المتحدة الأمريكية وغيرها ، ومن ذلك :
1- مقاتلو جبهة الفيتو كونغ خلال حرب فيتنام أخذوا على اعتبار أنهم أسرى حرب على الرغم من أنهم كانوا يرتدون زياً أسودًا ولا يحملون إشارة مميزة .
2- بالرغم من عدم اعتراف الولايات المتحدة الأمريكية بالنظام في الصين الشعبية خلال الحرب الكورية إلا أنها كانت تعامل المحتجزين لديها من الأسرى الصينيين على أنهم أسرى حرب .
3- على رغم أن بعض الطيارين الألمان خالفوا أعراف الحرب ، وقاموا بمهاجمة أهداف مدنية غير عسكرية خلال الحرب العالمية الثانية إلا أنهم أخذوا وضع أسرى الحرب ، وتم منحهم هذه الصفة خلال الأسر .
أسرى [ غوانتانامو](80/2)
يوجد حالياً أكثر من خمسمائة معتقل في هذه الجزيرة التي تقع في البحر الكاريبي ، وهؤلاء يشكلون أكثر من اثنين وثلاثين جنسية ، منهم مائة وخمسون من السعودية ، ومنهم نحو مائة من اليمن ، وآخرون من الكويت والجزائر ومصر وغيرها ، على رغم أن الجنسيات تتغير من وقت لآخر ؛ لأنها غير منضبطة بشكل دقيق ، وهؤلاء يعيشون في زنزانات انفرادية مؤقتة يبلغ بُعد الزنزانة الواحدة طولاً وعرضاً حوالي مائتين وأربعين سنتيمتراً ، أي : مترين وأقل من النصف طولاً وعرضاً ، وهي محاطة بأسلاك شائكة تفصل بينها ، وأما الأرضية فإنها مرصوفة بالخرسانة ، ولهم إمام مسلم يؤمهم ، وهو من البحرية الأمريكية ، ويعطون ثلاث وجبات يومياً ، هذه معلومات نقلتها عدد من وسائل الإعلام ، وبالذات جريدة الرأي العام الكويتية ، وقد كتبت عشر حلقات من الميدان ، وحاولت أن تقدم تغطية وافية لوضع الأسرى في هذا المعتقل ، وثمت أحداث لابد من الوقوف عندها :
أولاً : نقل الأسرى من أفغانستان إلى غوانتانامو هو نقل إلى أرض غير أمريكية ، نقلوا لها لأنه لا يسري عليها حكم القانون الأمريكي ، وبالتالي تصبح الحكومة فيها بمندوحة عن أن تلتزم بالنظام العام .
ثانياً : تم نقلهم بطريقة وحشية ، وكأنهم حيوانات مفترسة ، فقد وضعوا في أقفاص حديدية ، وحجبت كل حواسهم عن العمل ، وحجبت عيونهم وآذانهم ، وكممت أفواههم ، وشلت حركات أيديهم وأرجلهم بقيود حديدية شديدة القسوة ، بل تم تخدير بعضهم خلال الطريق ، ولما وصلوا إلى هناك تم حلق رؤوسهم ولحاهم بحجة أن فيها القمل أو أنها غير نطيفة ثم تم رشهم بعد ذلك بالمبيدات .(80/3)
ثالثاً : رفضت أمريكا على لسان عدد من مسئوليها اعتبار هؤلاء أسرى حرب ، وقد اعترض على هذا التعسف الرأي العام العالمي ، فهناك منظمات حقوق الإنسان ومنظمات العفو الدولية واللجان المختصة في عدد من البرلمانات الأوروبية ومفوضية الأمم المتحدة وعدد من اللجان العربية والإسلامية وكثير من المؤسسات العالمية والدول قد أعلنت رفضها هذا التعسف ، وبناء على ذلك رضخت أمريكا للضغوط ، وقالت : إن من كانوا تابعين لحكومة طالبان فهم أسرى حرب ، أما من كانوا تابعين للقاعدة فليسوا كذلك ، وهذا أيضاً لون من التحكم لا مسوغ له.
رابعاً : استخدمت أمريكا التمييز العنصري في معاملة هؤلاء الأسرى ، فالشاب الأمريكي الطالباني المشهور "جون روكر" نقل بطريقة مختلفة إلى بلده ، وعومل بطريقة مختلفة وسوف يعرض على محكمة مدنية ، فهل لأنه أبيض البشرة ؟!أو لأنه أمريكي الجنسية ؟!
نحن لا نعترض على أن تكون معاملة هذا الشاب جيدة ، بل نطالب أن تكون معاملته أفضل مما هي عليه ، لكننا نتساءل لماذا هذا التمييز العنصري بين أناس تهمتهم في نظر الأمريكان واحدة ؟
خامساً : هناك أسرى في يد الأمريكان في أفغانستان وفي باكستان ، وهؤلاء لا يُعرف على وجه التحديد عددهم ، ولا يُعرف أين يعيشون ؟
ولا تُعرف الظروف التي يعيشون فيها ، فهم يعيشون بعيدًا عن الأنظار .
سادساً : إضافة إلى هؤلاء الأسرى فإن هناك أسرى في السجون الأفغانية ، وهم كثير ، وربما يتناقص عددهم يوماً بعد يوم ، وفي جريدة القبس نشر تحقيق عن سجن اسمه (شاذر غان) فيه أكثر من ثلاثة آلاف محشورون في ثلاث زنزانات في أحوال مأساوية .
ثلاثة آلاف لا يوجد عندهم طبيب ولا يستطيع واحد منهم الاستحمام ، لا يعطى سوى لقمة واحدة من الطعام يومياً ، وقد ظهر الجوع على وجوههم وعلى قسماتهم .(80/4)
أما معاملتهم فحدث ولا حرج والكلام عن هؤلاء يطول ، وقد نشرت معلومات كثيرة وتقارير ودراسات عن الأفغان العرب في أفغانستان وغوانتانامو ، وهذه التقارير والدراسات غيض من فيض وقليل من كثير مما يضج به الواقع .
أما المقابر الجماعية والتصفية والعنف والعسف فهذا باب يطول ، وهناك عدد من العرب تزدحم بهم السجون والحاويات والأقفاص والقبور ، وهم يباعون بالمزاد بأسعار محددة ويقع الكثير من المشترين ضحية الخداع والنصب .
تعليقات على هذه المعلومات :
1- وزير الدفاع الأمريكي أوجد مجموعة من الخيارات أمام هؤلاء فقال : يمكن أن يعرضوا للقضاء المدني ، ويمكن أن يُعرضوا للقضاء العسكري ، ويمكن إعادتهم إلى بلادهم ، ويمكن إطلاقهم فورًا ، ويمكن أسرهم لفترة غير محدودة ، ولما سئل هل يمكن إعدام أحدهم أو بعضهم ؟
قال : بالطبع .
فهذا يدل على أن مسألة القانون الدولي والحديث عن حقوق الإنسان قضية انتقائية في نظر الولايات المتحدة الأمريكية ، وأنها تطبق منها ما تشاء وتستبعد ما تشاء ، وقد تطبقها جزئياً في داخل بلدها ، لكنها تعتبر أن الشعوب والأمم الأخرى لا تستحق هذه الكرامة التي تمنحها لشعبها ، وهذا يؤكد أنه ليس لديهم معلومات صحيحة وافية عن هؤلاء الأسرى ، ولذلك فهم يضربون في التيه ، فمن الممكن أن يحاكموا محاكمة مدنية أو عسكرية ، والأحكام شبه جائزة يمليها وزير الدفاع ، وهي تتراوح بين القتل والإطلاق بلا قيد ولا شرط أو لفترة غير محدودة ، وهذا كلام غير منضبط .(80/5)
2- قام مجموعة من المحامين والصحفيين بل والقسس من الأمريكيين برفع دعوى ضد الرئيس الأمريكي ووزير الدفاع وضد ألف جندي من الجيش الأمريكي بسبب خرقهم للدستور حين حرموا هؤلاء الأسرى من حرياتهم دون إجراء قانوني ، وبسبب عدم إخبار هؤلاء الأسرى بطبيعة التهم الموجهة إليهم ، وبسبب اعتقالهم ، ولعدم تمكينهم من الاتصال بمحامين أو الاتفاق معهم ، ولا شك أن هذه المحاولة وإن كانت رفضت من قبل المحكمة إلا أنها محاولة يجب أن تتكرر ، وأن يسعى المسلمون والقادرون إلى تحريك هذه القوى من داخل المجتمع الأمريكي ومن خارجه ؛ لممارسة مزيد من الضغوط على الحكومة الأمريكية .
3- الغالبية من الأسرى خصوصاً في غوانتانامو هم من الشباب الذين ليس لهم علاقة بأي تنظيم ، وإنما ذهبوا في أعمال إغاثية أو دعوية أو تجارية ، بل بعضهم ذهبوا قبل الأحداث بفترة طويلة ، ومنهم شباب في مقتبل أعمارهم ، ومنهم من لم يحمل السلاح قط ، وقد أثبتت بعض أجهزة الكشف الأمريكية أن من هؤلاء الشباب من لم تلمس يده سلاحاً في تاريخه كله ، ومن هؤلاء المجاهدون الذين ذهبوا لأفغانستان أثناء الاحتلال السوفييتي السابق ، وبقوا هناك ، ومنهم المتطوعون بشكل منفرد من قبل أنفسهم ، وهؤلاء جمع كبير لا يمكن إحصاؤهم ، بل غالبية من ذهبوا كذلك ، وفيهم العرب المقيمون أصلاً في أفغانستان إما بسبب ظروف سياسية كأن تكون بلادهم لا تقبلهم ، أولا تعطيهم فرصة التمثيل ، وإن كانت تتحدث عن الديمقراطية مثلاً إلا أنها لا تمنح التيارات الإسلامية التمثيل الحقيقي ، فيذهبون إلى هناك ، وقد يكون ذلك لأسباب اجتماعية أو اقتصادية .
وعلى سبيل المثال هناك عدد غير قليل من المقيمين في أفغانستان من العراقيين الذين يعرف الجميع ظروف بلادهم .(80/6)
والأمريكان يعتقدون كما تقول جريدة القبس بأن اثنين في المائة فقط هم من أسرى القاعدة على الأقل ، هذا هو الأمر الذي توصلوا إليه في نهاية المطاف . وهؤلاء جميعاً عوملوا بهذه المعاملة القاسية الشرسة التي أشرت إليها ، وقامت كثير من وسائل الإعلام من الصحافة والقنوات الفضائية وغيرها بحملة إعلامية ضارية ضدهم دون تعقل ولا تحرز ولا انتظار .
4- هناك شاب جزائري الأصل اسمه "مهدي غزالة" سويدي الجنسية عمره في الواحدة أو الثانية والعشرين من عمره موجود في غوانتانامو حقق معه من قبل مجموعة سويدية ، وبحضور المخابرات الأمريكية ، وقد أبدىسفير سويدي ودبلوماسي مشهور محترم عندهم احتجاجه على هذا العمل ، وقال : كيف نحقق معه بحضور الاستخبارات الأمريكية ؟ يجب أن يكونوا بعيدين عن هذا التحقيق ؛ لأن هذا نوع من التدخل ، ولأنه ربما يبوح بمعلومات تكون ضررًا عليه ، وقد تستخدم ضده .
فانظر إلى هذه الشفافية ، وهذا الحرص عندهم على تتبع رعاياهم ، والحرص على مستقبلهم .
وفي تصريح لوزيرة الخارجية في السويد أبدت اعتراضها على أن يُسلم إلى دولة إسلامية يمكن أن تطبق عليه حكم الإعدام .
هذا الشاب الجزائري يظهر أنه من ضمن الأبرياء الذين لا ناقة لهم ولا جمل ، ولذلك كتب رسالة لوالديه وإخوانه ، يقول : " أنا بخير والحمد لله ، وأعتذر لعدم مراسلتكم في الآونة الأخيرة ؛ لأني كنت في طريقي إلى باكستان واعتقلت هناك على أيدي رجال الجيش ، وقد تم التحقيق معي ، وقلت لهم بأني كنت في طريقي إلى جامعة إسلامية في باكستان ، وأكد المحقق لي أنه في حال ثبوت مصداقية هذا الأمر فإنه سيتم إرسالي إلى السويد ... أنا في شوق كبير للعودة إليكم ، فصلّوا كي أعود وأبقى معكم إلى الأبد ، تحياتي لإخوتي الصغار الذين اشتقت إلى أن ألاعبهم في الحديقة ، واشتري لهم الحلوى ، ولكن بشرط أن يجتهدوا في الدراسة ، وختم بعبارة ( الله معنا ) " .(80/7)
5- هناك أسترالي واحد في هؤلاء الأسرى اسمه "ديفد" ومع ذلك شكلت مجموعة من أهل بلده جماعة خاصة للدفاع عنه اسمها جماعة [ العدالة لديفد ] للدفاع عنه والمطالبة بحقوقه ، وقالوا هو محتجز في قفص يرفض معظم الأستراليين أن يستخدموه لكلابهم فضلاً عن أولادهم .
وكذلك الإخوة الكويتيون شكلوا لجنة سموها لجنة الأسرى ، وفي عدد من دول الخليج سعى البعض إلى تأسيس لجنة اسمها لجنة {الدفاع عن المعتقلين في سجن غوانتانامو} وهذه اللجنة تسعى لتحقيق عدد من الأهداف الطيبة مثل الدفاع عن هؤلاء المعتقلين ، والدفاع عن أسرهم ، واستكمال إجراءات الوكالة عنهم ، والاتصال بهم وبأسرهم في كل مكان ، وجمع التبرعات وشرح القضية من الناحية الإعلامية ، والمساعدة المادية لهم ولأسرهم ، وتلك لاشك أهداف طيبة نبيلة .
6- إن أمريكا تمارس حرباً نفسية واضحة لابد أن نكون يقظين لها فيما يتعلق بهذا الموضوع ، فالحركة التي تعملها ذات مردود إيجابي داخل الشعب الأمريكي ، فإنه من خلال الأسر والنقل والتغطية الإعلامية عملوا ترويجاً إعلامياً أوجد كثيراً من الطمأنينة أن الحكومة فعلت ووصلت وحققت إنجازاً ، وإن كان الأمر قد يتعلق بأشياء لا حقيقة من ورائها ، ومن خلال هذا الأمر أحبوا أن يوصلوا رسالة إلى غيرهم من الأمم والشعوب على طريقة عنترة الذي يقول : إنني آتي الضعيف فأضربه ضربة يطير لها قلب الشجاع .(80/8)
وربما كان هؤلاء الأسرى ليسوا أكثر من وسيلة إيضاح ، أريد أن يؤدب بهم غيرهم ، ولهذا فالأمريكان بدءوا يتظاهرون بالصبغة الإنسانية ، ويسمحون لوسائل الإعلام أن تأتي لهذا السجن ، وسمحوا بالتصوير ، وروجوا كثيراً من الأخبار عن الطعام الطيب الذي يُقدم لهم ، وعن الصلاة وعن توزيع المصاحف عليهم ، وعن حسن المعاملة ، وصور المعتقلين أصبحت توزع على عدد من وكالات الأنباء ، وهكذا بدأ الكلام يشاع عن إمكانية إعادة بعضهم إلى بلادهم كما جاء في عدد من التصريحات , وعن إمكانية إطلاق سراحهم ، ولماذا بدأ الكلام الآن عن الجوانب الإنسانية ؟
في أحد الاحتمالات أنهم أدركوا أنهم لم يظفروا بشيء ، فأحبوا أن يكسبوا من الجهة الأخرى ، وأن يظهروا بمظهر الإنسانية ، ولذلك يحق لنا أن نتساءل لماذا لا تسمح أمريكا مثلاً بتغطية صور وجثث القتلى الذين يقتلون في أفغانستان ؟ حتى من المدنيين ؟ وقد تم خلال هذا الأيام إلقاء القنابل على عُرس ، وقتل أكثر من مائة وخمسين من الأطفال والنساء والأبرياء ، ومع ذلك يتم التكتم على مثل هذه الأشياء ، ولا يُسمع بتغطيتها بشكل صحيح .
7- هناك صمت عربي وإسلامي إزاء ما يجري ، وكأن كل أحد يخشى أن يتهم بالإرهاب ، فلا يرفع رأسه ولا يحرك لسانه .
إن هؤلاء الإخوة يحملون جنسيات دول عربية وإسلامية ، وكما قال أحد المسؤولين في مجلس التعاون الخليجي : " لا يمكن لأي دولة أن تتخلى عن رعاياها هم أبناؤنا ، ولا يمكن أن يتركوا تحت رحمة الأمريكان " .
فنحن ينبغي أن نسعى لأن نعزز الأقوال بالأفعال ، وأن يكون هناك جهود صادقة للوقوف معهم ، وهناك مسؤوليات كبيرة على عواتقنا تجاه هؤلاء الشباب :(80/9)
أولاً : الدعاء لهم ، وأذكر هنا قصة ملخصها أن امرأة كان لها ولد أسير عند الروم فجاءت لأحد علماء السلف ، وقالت له ، وهي تبكي : إن ولدي أسير ، وهو وحيدي ، فأرجو أن تسعى في فكاكه ، فوعدها خيرًا ، وطلب منها أن تأتيه بعد أسبوع ، وخلال هذا الأسبوع اجتهد وابتهل إلى الله بالدعاء الصادق ،وتضرع إليه حتى كاد أن يكون وقف الدعاء على هذا الأسير ، حدث أن جاءت المرأة إلى الشيخ وهي تدعو له وتقول : فرج الله عنك كما فرجت عن ولدي ، فقد وصل ولدها ، وكان يحدثها عن طريقة خلاصه من الأسر ، وكيف كانت تظهر العناية الإلهية فيها ، فينبغي أن ندعو لهؤلاء الإخوة ، ولو لم يكن من هذا الدعاء إلا أداء بعض حقهم ، والشعور بمشاركتنا في ألمهم وكربتهم وغربتهم .
وقد كتب أحدهم لأهله في الكويت رسالة يقول فيها : إنه بلغ بنا الأمر مبلغه ، ونحن نعمل إضراباً عن الطعام ، ولا يمكن أن نصبر على هذا الأمر ، فإما أن يطلقونا أو يحاكمونا أو يقتلونا ، لا صبر لنا وراء ذلك .
ثانياً : أهمية الاتصال بالجهات الرسمية ، وفي دول الخليج على وجه الخصوص ، والتأكيد على أهمية ممارسة الضغوط ، ومطالبة الأمريكان بإعادة هؤلاء إلى بلادهم لتتولى هي النظر في أمرهم .
ثالثاً : تكوين اللجان المتخصصة لمتابعة قضيتهم من الناحية القانونية ومن الناحية الإنسانية .
إن حرب أمريكا على أفغانستان لم تخضع لقانون ، ولم تستفت أمريكا القانونَ الدولي حينما ضربت المدنيين وغير المدنيين في أفغانستان ، وإنما هي فعلت ما تقتضيه مصالحها وسياستها ، واستخدمت لغة القوة عندها فقط ، ولم تستفت القانون الدولي حينما قتلت الأبرياء والمدنيين ولم تعتذر عن هذا الأمر .(80/10)
وأمريكا في اعتقالها لهؤلاء أيضاً لم تستفت القانون الدولي ، وإنما كان هذا عملاً اعتباطياً غير مدروس لمجرد استعراض القوة ، وربما كان ذنب هؤلاء أنهم لم يستطيعوا الفرار ، وهي تعاملهم الآن بطريقة غير نظامية ولا قانونية ، فلذلك ينبغي أن يدخل الناس من هذا المدخل ، وأن يكشفوا الغطرسة الأمريكية ، وأن هؤلاء أسرى ، وربما كانوا مختطفين من بعض الوجوه ، وينبغي الوقوف إلى جانبهم .
رابعاً : الدعم المادي السخي ، سواءً تمثل في فداء بعض الأسرى ، أو تمويل الدفاع عنهم ، أو المساعدة في إبراز قضيتهم إعلامياً ودولياً ، أو خلافتهم في أهلهم ومن وراءهم بخير ، فهذا من الإنفاق في سبيل الله ، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون .
خامساً: القيام بحملات إعلامية متواصلة لحمايتهم ، وكشف مصير غيرهم ممن لايعرف أين انتهى بهم المطاف ؟ فإنني أعتقد أن في باكستان وأفغانستان أعداداً ربما تكون كبيرة جدًا ، وأنا أعرف كما يعرف غيري عددًا من أبناء بلدنا ممن انتهت بهم الطرق إلى مصير غامض ، فهم ليسوا في القتلى ، وليسوا في كوبا ، ولا أحد يعلم إلا الله سبحانه مصيرهم ، فينبغي أن يكون هناك تدخل عاجل من الجهات الرسمية والشعبية ، ومن كل القادرين ، ومن المؤسسات واللجان الحقوقية في كشف مصير هؤلاء وحمايتهم وضمان العيش الكريم لهم وإعادتهم إلى بلادهم .
سادساً : ضرورة التعامل مع هذه الظواهر التي حصلت ووقعت بصورة هادئة متعقلة تنظر للمستقبل أكثر مما تنظر للماضي ، وتسعى في معالجة الأسباب وتهيئة الظروف المناسبة والمناخ الملائم الذي يستوعب طاقات الشباب ويصرف جهودهم بطريقة صحيحة وبطريقة شرعية ، ويؤمن لهم العيش الكريم والاحتياجات الضرورية الفطرية ، ويساعدهم على أن يشقوا طريقهم في الحياة ، وأن يتغلبوا على المصاعب والمتاعب .(80/11)
إن هذا واجب على كل القادرين ، علينا أن نسعى جاهدين لأن تتحول المجتمعات الإسلامية إلى بيئات خصبة للعيش الكريم للإبداع وللإنجاز ، ولتحقيق الإنسان ذاته ولتحقيق الإنسان مطالبه سواء كانت مطالب ذاتية أم مطالب شرعية ، والمؤسسات الحكومية والشعبية والجماعات الإسلامية وأفراد العلماء والدعاة وسائر المعنيين بقضايا الأمة عليهم تبعة كبيرة ومسؤولية ضخمة تتجاوز حدود المعالجة الآنية إلى الرؤية المستقبلية وتستحضر الرقابة الربانية على من ولي شيئاً من أمر هذه الأمة دق أو جل ، والله المستعان .
والحمد لله رب العالمين ، صلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .(80/12)