ترجمة الشيخ تقي الدين الهلالي
نسبه
هو العلامة المحدث و اللغوي الشهير و الأديب البارع و الشاعر الفحل و الرحالة المغربي الرائد الشيخ السلفي الدكتور محمد التقي المعروف ب محمد تقي الدين ، كنيته أبو شكيب ( حيث سمى أول ولد له على اسم صديقه الأمير شكيب أرسلان ) ، بن عبد القادر ، بن الطيب ، بن أحمد ، بن عبد القادر ، بن محمد ، بن عبد النور ، بن عبد القادر ، بن هلال ، بن محمد ، بن هلال ، بن إدريس ، بن غالب ، بن محمد المكي ، بن إسماعيل ، بن أحمد ، بن محمد ، بن أبي القاسم ، بن علي ، بن عبد القوي ، بن عبد الرحمن ، بن إدريس ، بن إسماعيل ، بن سليمان ، بن موسى الكاظم ، بن جعفر الصادق ، بن محمد الباقر ، بن علي زين العابدين ، بن الحسين ، بن علي و فاطمة بنت النبي محمد صلى الله عليه و سلم .
و قد أقر هذا النسب السلطان الحسن الأول حين قدم سجلماسة سنة 1311 ه .
نشأته
ولد الشيخ سنة 1311 ه بقرية "الفرخ" ، و تسمى أيضا ب "الفيضة القديمة" على بضعة أميال من الريصاني ، و هي من بوادي مدينة سجلماسة المعروفة اليوم بتافيلالت الواقعة جنوبا بالمملكة المغربية.
و قد ترعرع في أسرة علم و فقه ، فقد كان والده و جده من فقهاء تلك البلاد.
رحلاته لطلب العلم و خدمته للدعوة(1/1)
قرأ القرآن على والده و حفظه و هو بن اثنتي عشر سنة ثم جوده على الشيخ المقرئ احمد بن صالح ثم لازم الشيخ محمد سيدي بن حبيب الله التندغي الشنقيطي فبدأ بحفظ مختصر خليل و قرأ عليه علوم اللغة العربية و الفقه المالكي إلى أن أصبح الشيخ ينيبه عنه في غيابه ، و بعد وفاة شيخه توجه لطلب العلم على علماء وجدة و فاس آنذاك إلى أن حصل على شهادة من جامع القرويين . ثم سافر إلى القاهرة ليبحث عن سنة المصطفى صلى الله عليه و سلم، فالتقى ببعض المشايخ أمثال الشيخ عبد الظاهر أبو السمح و الشيخ رشيد رضا و الشيخ محمد الرمالي و غيرهم ، كما حضر دروس القسم العالي بالأزهر و مكث بمصر نحو سنة واحدة يدعو إلى عقيدة السلف و يحارب الشرك و الإلحاد. و بعد أن حج توجه إلى الهند لينال بغيته من علم الحديث فالتقى علماء أجلاء هناك فأفاد و استفاد ؛ و من أجل العلماء الذين التقى بهم هناك المحدث العلامة الشيخ عبدالرحمن بن عبدالرحيم المباركفوري صاحب "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي " و أخذ عنه من علم الحديث و أجازه وقد قرّظه بقصيدة يُهيب فيها بطلاب العلم إلى التمسك بالحديث والاستفادة من الشرح المذكور، وقد طبعت تلك القصيدة في الجزء الرابع من الطبعة الهندية ؛ كما أقام عند الشيخ محمد بن حسين بن محسن الحديدي الأنصاري اليماني نزيل الهند آنذاك وقرأ عليه أطرافا من الكتب الستة و أجازه أيضا . ومن الهند توجه إلى "الزبير" (البصرة) في العراق، حيث التقى العالم الموريتاني السلفي المحقق الشيخ محمد الأمين الشنقيطي، مؤسس مدرسة النجاة الأهلية بالزبير، وهو غير العلامة المفسر صاحب "أضواء البيان" و استفاد من علمه، و مكث بالعراق نحو ثلاث سنين ثم سافر إلى السعودية مرورا بمصر حيث أعطاه السيد محمد رشيد رضا توصية وتعريفاً إلى الملك عبدالعزيز آل سعود قال فيها: (إن محمدا تقي الدين الهلالي المغربي أفضل من جاءكم من علماء الآفاق، فأرجو أن تستفيدوا من علمه)(1/2)
، فبقي في ضيافة الملك عبد العزيز بضعة أشهر إلى أن عين مراقبا للتدريس في المسجد النبوي وبقي بالمدينة سنتين ثم نقل إلى المسجد الحرام والمعهد العلمي السعودي بمكة وأقام بها سنة واحدة . و بعدها جاءته رسائل من إندونيسيا ومن الهند تطلبه للتدريس بمدارسها، فرجح قبول دعوة الشيخ سليمان الندوي رجاء أن يحصل على دراسة جامعية في الهند ، وصار رئيس أساتذة الأدب العربي في كلية ندوة العلماء في مدينة لكنهو بالهند حيث بقي ثلاث سنوات تعلم فيها اللغة الإنجليزية و لم تتيسر له الدراسة الجامعية بها. و أصدر باقتراح من الشيخ سليمان الندوي وبمساعدة تلميذه الطالب مسعود عالم الندوي مجلة "الضياء". ثم عاد إلى الزبير (البصرة) وأقام بها ثلاث سنين معلما بمدرسة "النجاة الأهلية" المذكورة آنفا. و بعد ذلك سافر إلى جنيف بالسويسرا و أقام عند صديقه،أمير البيان، شكيب أرسلان ، و كان يريد الدراسة في إحدى جامعات بريطانيا فلم يتيسر له ذلك ، فكتب الأمير شكيب رسالة إلى أحد أصدقائه بوزارة الخارجية الألمانية يقول فيها : (عندي شاب مغربي أديب ما دخل ألمانيا مثله، وهو يريد أن يدرس في إحدى الجامعات، فعسى أن تجدوا له مكانا لتدريس الأدب العربي براتب يستعين به على الدراسة) ، وسرعان ما جاء الجواب بالقبول، حيث سافر الشيخ الهلالي إلى ألمانيا وعين محاضراً في جامعة "بون" وشرع يتعلم اللغة الألمانية، حيث حصل على دبلومها بعد عام، ثم صار طالباً بالجامعة مع كونه محاضراً فيها، وفي تلك الفترة ترجم الكثير من الألمانية وإليها، وبعد ثلاث سنوات في بون انتقل إلى جامعة برلين طالباً ومحاضراً ومشرفاً على الإذاعة العربية ، وفي سنة 1940م قدم رسالة الدكتوراه، حيث فند فيها مزاعم المستشرقين أمثال: مارتن هارثمن، وكارل بروكلمان، وكان موضوع رسالة الدكتوراه "ترجمة مقدمة كتاب الجماهر من الجواهر مع تعليقات عليها"، وكان مجلس الامتحان والمناقشة من عشرة من(1/3)
العلماء، وقد وافقوا بالإجماع على منحه شهادة الدكتوراه في الأدب العربي. و أثناء الحرب العالمية الثانية سافر الشيخ إلى المغرب ، وفي سنة 1947م سافر إلى العراق و قام بالتدريس في كلية "الملكة عالية" ببغداد إلى أن قام الانقلاب العسكري في العراق فغادرها إلى المغرب سنة 1959م. و شرع أثناء إقامته بالمغرب ،موطنه الأصلي، في الدعوة إلى توحيد الله و نبذ الشرك و اتباع نهج خير القرون. و في هذه السنة (سنة 1959م) عين مدرسا بجامعة محمد الخامس بالرباط ثم بفرعها بفاس ، وفي سنة 1968م تلقى دعوة من سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز رئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة آنذاك للعمل أستاذاً بالجامعة منتدباً من المغرب فقبل الشيخ الهلالي وبقي يعمل بها إلى سنة 1974م حيث ترك الجامعة و عاد إلى مدينة مكناس بالمغرب للتفرغ للدعوة إلى الله ، فصار يلقي الدروس بالمساجد و يجول أنحاء المغرب ينشر دعوة السلف الصالح. و كان من المواظبين على الكتابة في مجلة (الفتح) لمحب الدين الخطيب، ومجلة (المنار) لمحمد رشيد رضا رحم الله الجميع.
شيوخه
من شيوخه رحمه الله :
*
الشيخ محمد سيدي بن حبيب الله الشنقيطي
*
الشيخ عبدالرحمن بن عبدالرحيم المباركفوري
*
الشيخ محمد العربي العلوي
*
الشيخ الفاطمي الشراوي
*
الشيخ أحمد سوكيرج
*
الشيخ محمد بن حسين بن محسن الحديدي الأنصاري اليماني
*
الشيخ محمد الأمين الشنقيطي (غير صاحب "أضواء البيان")
*
الشيخ رشيد رضا
*
الشيخ محمد بن إبراهيم
*
بعض علماء القرويين
*
بعض علماء الأزهر
مؤلفاته
مؤلفات الشيخ تقي الدين الهلالي رحمه الله كثيرة جدا و جمعها ليس بالأمر الهين لأنها ألفت في أزمنة مختلفة و بقاع شتى ، و منها :
*
الزند الواري والبدر الساري في شرح صحيح البخاري [المجلد الأول فقط]
*
الإلهام والإنعام في تفسير الأنعام
*
مختصر هدي الخليل في العقائد وعبادة الجليل
*
الهدية الهادية للطائفة التجانية
*(1/4)
القاضي العدل في حكم البناء على القبور
*
العلم المأثور والعلم المشهور واللواء المنشور في بدع القبور
*
آل البيت ما لهم وما عليهم
*
حاشية على كتاب التوحيد لشيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب
*
حاشية على كشف الشبهات لمحمد بن عبدالوهاب
*
الحسام الماحق لكل مشرك ومنافق
*
دواء الشاكين وقامع المشككين في الرد على الملحدين
*
البراهين الإنجيلية على أن عيسى داخل في العبودية وبريء من الألوهية
*
فكاك الأسير العاني المكبول بالكبل التيجاني
*
فضل الكبير المتعالي (ديوان شعر)
*
أسماء الله الحسنى (قصيدة)
*
الصبح السافر في حكم صلاة المسافر
*
العقود الدرية في منع تحديد الذرية
*
الثقافة التي نحتاج إليها (مقال)
*
تعليم الإناث و تربيتهن (مقال)
*
ما وقع في القرآن بغير لغة العرب (مقال)
*
أخلاق الشباب المسلم (مقال)
*
من وحي الأندلس (قصيدة)
وفاته
في يوم الإثنين 25 شوال 1407ه الموافق ل 22 يونيو 1987م أصيبت الأمة الإسلامية بفاجعة و مصيبة يصعب على القلم وصفها ، و هي مصيبة موت الشيخ تقي الدين الهلالي رحمه الله و ذلك بمنزله في مدينة الدار البيضاء بالمغرب. و قد شيع جنازته جمع غفير من الناس يتقدمهم علماء و مثقفون و سياسيون.
و قد قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : " اِنَّ اللَّهَ لاَ يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا، يَنْتَزِعُهُ مِنَ الْعِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى اِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا، اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالاً فَسُئِلُوا، فَاَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَاَضَلُّوا" (رواه البخاري)
فنسأل الله الكريم أن يرحم الشيخ رحمة واسعة و يدخله فسيح جناته.
المصدر: http://www.alhilali.net(1/5)
عنوان الكتاب:
أتوعد سنات الرسول بمحوها
تأليف:
محمد تقي الدين الهلالي
الناشر:
الجامعة الإسلامية، المدينة المنورة
السنة الخامسة، العدد الثاني، شوال 1392هـ، نوفمبر 1972م(2/1)
ص -23- ... أتوعِد سنات الرسول بمَحوها
شعر الدكتور محمد تقي الدين الهلالي المدرس في كلية الدعوة وأصول الدين بالجامعة
وقلت في أحد الرؤساء من أهل المغرب كان يحارب توحيد الله واتباع سنة رسوله صلى الله عليه وسلم وغره منصبه فأخذ يبعث الجواسيس ليحضروا دروسي وجمعني معه مجلس فأراد أن يوبخني ويهددني فأغلظت له القول ولم أعبأ بتهديده فكاد لي ولجماعتي السلفيين الذين معي كيدا عظيما فرد الله كيده في نحره كما جاء في القصيدة. وكم حاول أعداء السنة إطفاء نور الله تعالى فأحبط الله أعمالهم وتفضل بالنصر على أنصار توحيد الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فله الحمد والشكر ونسأله أن يجعلنا منهم ويحيينا ويميتنا على الحنفية ملة إبراهيم والحمد لله رب العالمين.
لقد طال ليلي والجوى مالئ صدري ... وبرح بي شوق إلى ربة الخدر
أقضي نهاري دائم الفكر والأسى ... وليلي تسهاد إلى مطلع الفجر
وأكتم أسراري حذار من العدى ... ومهما أبح فالحب أفقدني صبري
تذكرت أيام الوصال فكاد من ... تذكرها قلبي يطير من الصدر
فيا ويح قلبي ما يلاقي من الهوى ... ومن فرط آلام الصبابة والهجر(2/2)
ص -24- ... وعاذلة جاءت بلوم كأنه ... نعاب غراب للفؤاد عذابيري
ولست بسال لو أطلت ملامتي ... فكفى عن الإسفاف والمنطق الهجر
وكيف سلوى بعد ما شاب مفرقي ... وأنفقت في حبي لها زهرة العمر
ألم تعلمي أن الملام وأن غدا ... عديما من الجدوى فبالحب قد يغرى
وطفت بلاد الله شرقاً ومغرباً ... على قدمي طورا وطورا على مهر
وأنضيت بعرانا وحلقت في السما ... على جائبات الجو كالنجم إذ يسرى
وطورا على فلك عظيم كأنه ... ثبير يروع الحوت في لجة البحر
حليف اغتراب في ثواء ورحلة ... وإن كنت في أهل كثير ذوي وفر
(وما غربة الإنسان من شقة النوى ... ولكنه) في الدين والخلق والبر
إلى الله أشكو غربة الدين والهدى ... وطغيان أهل الكفر والفسق والغدر
وأرعن غمر جاء يرعد مبرقا ... يحرق أنيابا من الغيظ والكبر
فقلت له شؤشؤ لك الويل إنما ... وعيدك تطنان الذباب على النهر
وليس يضير النهر صوت ذبابة ... ومهما دنت تردى وتهوى إلى القعر
أتوعد سنات الرسول بمحوها ... تعرضت للتدمير ويلك والثبر
ومن يقل سنات الرسول فإنه ... يعذب في الدنيا وفي فتنة القبر
ويسأله فيه نكير ومنكر ... وما من جواب عنده غير لا أدري
وذي سنة الجبار في كل من غدا ... يحارب دين الله في السر والجهر
ألم تدر أن الله ناصر دينه ... وموقع أهل البغي في دارة الخسر
وكم قد سعى ساع لإطفاء نوره ... بكيد فرد الله كيده في النحر
وتنصر إشراكا وفسقا وبدعة ... وناصر هذي خاسر أبد الدهر
دعا المصطفى قدما عليه بلعنة ... ومن يلعن المختار فهو إلى شر
وتلعنه الأملاك من فوق سبعة ... كذلك أهل الارض في السهل والوعر
تحدد للوعاظ ما يدرسونه ... وأنت يمين الله أجهل من حمر(2/3)
ص -25- ... (لقد هزلت حتى بدا من هزالها ... كلاها) وحتى سامها كل ذي عسر
تدس جواسيسا لئاما بوعظهم ... لتلفيق أخبار من المين والمكر
لقد فقت الاستعمار في اللؤم والخنا ... وفي الكيد والبهتان والختل والختر
تحارب من يدعو لسنة أحمد ... وتلك لعمرو الله قاصمة الظهر
فيا ناطح الطود المتين بهامة ... مدورة جوفا حذار من الكسر
وليس يحيق المكر إلا بأهله ... وحافر بئر الغدر يسقط في البئر
وكم حافر لحدا ليدفن غيره ... على نفسه قد جر في ذلك الحفر
وكم مشرك طاغ تردى بشركه ... وسادن قبرياء بالخزي والخسر
وكم رائش سهما ليصطاد غيره ... أصيب بذاك السهم في ثغرة النحر
هل أنت يا مغرور إلا معبد ... حقير كفأر صال في غيبة الهر
وقبرة أضحى لها الجو خاليا ... من النسر والثعبان والباز والصقر
فلا تفرحن يوما سيأتيك صائد ... ويسقيك كأس الحتف كالصاب والصبر
(فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة ... وإن كنت تدري)زدت وزرا على وزر
(وإن أنت لم يفخر عليك كفاخر ... ضعيف ولم يغلبك) كالساقط القدر
(فيا عجبا حتى كليب تسبني ... كأن أباها) من لؤي ومن فهر
أتغتر بالإمهال تحسب أنه ... عدمتك إهمالا وذا ديدن الغمر
وما نحن إلا خادمون لسنة ... أتت عن نبي الله ذي الفتح والنصر
وخادم سنات الرسول حياته ... كخادمها من بعد ما صار في القبر
وما غاب إلا شخصه عن عيوننا ... وأنواره تبقى إلى الحشر والنشر
فيا مبغضي هدى النبي ألا أبشروا ... بخزي على خزي وقهر على قهر
سلكتم سبيلا قد قفاها إمامكم ... أبو جهل المقصوم في ملتقى بدر
وعاقبة المتبوع حتم لتابع ... كما لزم الإحراق للقابض الجمر
فإن أنتم كذبتم بوعيده ... فكم كذبت من قبلكم أمم الكفر(2/4)
ص -26- ... فصب عليهم ربهم سوط نقمة ... فصاروا أحاديث المقيمين والسفر
(فيارب هل إلا بك النصر يرتجى ... عليهم) إليك الأمر في العسر واليسر
قلوا سنة المختار يبغون محوها ... وكادوا لها فاجعل لهم كيدهم يفري
هم استضعفونا اليوم من أجل أننا ... قليل وقد يعلو القليل على الكثر
ولا سيما أن كاد لله قائما ... وأعداؤه للبغي من جهلها تجري
وإدراك إحدى الحسنين محقق ... لمن يقتدي بالمصطفى من ذوي الحجر
ومن ظن أن الله مخلف وعده ... وخاذل أنصار النبي بذا العصر
فذاك غليظ الطبع أرعن جاهل ... عريض القفا بين الورى مظلم الفكر
تكفل بالنصر العلي لحزبه ... حياتهم هذى وفي موقف الحشر
ففي غافر قد جاء ذلك واضحا ... ولكنه يخفى على الفدم والغمر
سلام على أنصار سنة أحمد ... فهم أولياء الله في كل ما دهر
إليهم أجوب البر والبحر قاصدا ... فرؤيتهم تشقى السقيم من الضر
هم حفظوا الدين الحنيف وناضلوا ... عن الحق بالبرهان والبيض والسمر
هم خلفوا المختار في نشر سنة ... بفعل وأقوال تلألأ كالدر
هم جردوا التوحيد من كل نزعة ... من الشرك والإلحاد والزيغ والمكر
فلا قبة تبنى على قبر ميت ... ولم يعبدوا قبرا بذبح ولا نذر
ولا بطواف أو بتقبيل تربة ... فذلك فعل المشركين ذوي الكفر
ولا رحلوا يوما لغير ثلاثة ... مساجد خصت بالفضائل والأجر
ولم يستغيثوا في الشدائد كلها ... بغير إله الناس ذي الخلق والأمر
ولم يصفوا الرحمن إلا بما أتى ... بنص كتاب الله والسنن الزهر
يقرون آيات الصفات جميعها ... كما فعل المختار مع صحبة الغر
فلو كان في التأويل خير لبادروا ... به فهم الفرسان في النظم والنشر
(أولئك آبائي فجئني بمثلهم ... إذا ما) اجتمعنا في المجالس للفخر(2/5)
ص -27- ... وقد أكمل الرحمن من قبل دينه ... فلم يبق من زيد لزيد ولا عمرو
بمائدة قد جاء بالنص ختمه ... وإتمام أنعام يجل عن الحصر
وكم زائد في الدين أصبح ناقصا ... يبدل دين الله بالحدس والحذر
ومن ظن تقليد الأئمة منجيا ... فأفتى بتقليد فياله من غر
كمنتحل عذرا ليغفر ذنبه ... أضاف له جرما تجدد بالعذر
ألا إنما التقليد جهل وظلمة ... وطالبه خلو من العلم والخير
كطالب ورد بعدما شفه الظما ... جرى خلف آل لاج في مهمة قفر
فإن قمت بالإفتاء أو كنت قاضيا ... فإياك والتقليد فهو الذي يزري
وجرد سيوفا من براهين قد سمت ... عن الحدس والتخمين والسخف والهتر
وطرفك سرح بالكتاب فإنه ... رياض حوت ما تشتهيه من الزهر
ومن بعده فاعلق بسنة أحمد ... فأنواره تسمو على الشمس والبدر
ولا تحكمن بالرأي إلا ضرورة ... كما حلت الميتات أكلا لمضطر
ومهما بدا أن القضاء على خطا ... أقيم فبادر للرجوع على الفور
ومن يقض بالتقليد فهو على شفا ... كهشوا غدت في كافر حالك تسري
ومن يفت بالتقليد فهو قد افترى ... وفي النحل نص جاء في غاية الزجر
لعمرك ما التقليد للجهل شافيا ... وأما نصوص الوحي فهي التي تبري
وصل وسلم يا إله على النبي ... صلاة تدوم الدهر طيبة النشر
فدونكما بكرا عروبا خريدة ... مهفهفة غيدا عروسا من الشعر
يضئ ظلام الليل نور جمالها ... وليس لها إلا القراءة من مهر
قصدت بها نصرا لسنة أحمد ... وناصرها لا شك يظفر بالنصر
وعدتها تسعون من بعد خمسة ... وأختمها بالحمد لله والشكر(2/6)
عنوان الكتاب:
أخلاق الشباب المسلم
تأليف:
محمد تقي الدين الهلالي
الناشر:
الجامعة الإسلامية
السنة الأولى، العددالثاني، رجب1388هـ/تشرين أول 1968م(3/1)
ص -19- ... أخلاق الشباب المسلم
للدكتور: محمد تقي الدين الهلالي المدرس في الجامعة
قال الله تعالى في سورة (الإسراء: 70): {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً}.
قال القاسمي في تفسيره: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ}: "أي بالنطق والتمييز والعقل والمعرفة والصورة والتسلط على ما في الأرض والتمتع به, {وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} أي يسّرنا لهم أسباب المعاش والمعاد بالسير في طلبها فيهما وتحصيلها {وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} أي فنون المستلذات التي لم يرزقها غيرهم من المخلوقات {وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} أي عظيما, فحقّ عليهم أن يشكروا هذه النعم بأن يعبدوا المتفضل بها وحده ويقيموا شرائعه وحدوده" اهـ.
فتفضيل الله للإنسان وتكريمه له بجعله الحاكم المتصرف، وتسخيره له ما في الأرض من حيوان ونبات وجماد يتصرف فيه كيف يشاء، ويسيّره في خدمته، لم يكن بقوة الجسم ولا بخواص الأعضاء، فإن كثيراً من الحيوان كالأسد والنمر والفيل والدب والفرس والبعير أقوى منه بكثير، وللحيوان مزايا في خلقه ليست للإنسان، فمنه ما أعطي مزية السرعة في الجري والسبق كالنعامة والغزال، ومنه ما أعطي من حاسة الشم أو البصر أو السمع ما يفوق الإنسان بكثير، فالمزية الكبرى والنعمة العظمى التي وهبها الله الإنسان وفضّله بها هي العقل والأدب كما قال الشاعر:
ما وهب الله لامريء هبة ... أفضل من عقله ومن أدبه
هما جمال الفتى فإن فُقِدا ... ففقده للحياة أجمل به(3/2)
والمراد بالأدب هنا الأدب النفسي وهو الخلق الحسن، وبه تتفاوت الأمم ارتقاء وانحطاط، وقوة وضعفا, وسيادة وعبودية، فما من أمة كثر حظها من خلق الحسن إلاّ بلغت أوج الرقي وغاية السعادة، وإن كانت قليلة العدد, أو كانت أرضها ضيقة، أو قليلة الغناء والخير غير صالحة للزرع والضرع، قليلة الحواصل والثمرات، ضعيفة الغلات فإن جميع ما في الأرض من(3/3)
ص -20- ... الخيرات والبركات يحمل إليها، كما قال تعالى في سورة (النحل: 112): {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ}.
المراد بالقرية هنا أهلها، وهم الأمة والشعب، وكما حكى الله عن إبراهيم الخليل في دعائه لأهل مكة في سورة (البقرة: 126): {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَات}, وفي سورة (إبراهيم: 57): {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ}.
ومن أقام في مكة شرّفها الله حتى قبل عصر الطائرات يرى فيها من فواكه الهند وأندونيسيا والشام ومصر ما لا يكاد عجبه ينقضي منه، مع أنها أرض جبلية قاحلة. ومن أقام في البلاد البريطانية يرى أكثر ما يؤكل فيها ويلبس ويقتنى ويتخذ للزينة مجلوباً إليها من أطرف الدنيا وهي جزائر في البحر ضيّقة الرقعة، شديدة البرد، لو اقتصر أهلها على ما يخرج من أرضهم لوقعوا في مسغبة.(3/4)
فإن قلت: هذه مكة دعا لأهلها خليل الله فاستجاب الله دعاءه، ويوجد فيها قوم صالحون يعبدون الله ويطيعون أمره، والحجاج ضيوف الله تعالى يقصدونها من كل فج عميق للحج والعمرة، شعثاً غبراً، يدعون ربهم رغبا ورهبا، خاشعين الله، أما بلاد البريطانية فأيّ مزية في أهلها، وهم أساتذة الاستعمار والغزو، وكم شعوباً أناخوا عليها بكلاكلهم مئات السنين، فما تخلصت من استعبادهم إلاّ بعد اللّتيا والتي, فبماذا استحقوا ذلك العيش الرغد، وتلك الثمرات؟ فأين الأدب النفسي والخلق الحسن من أخلاقهم الاستعمارية؟ فالجواب: أن العدل والمساواة في الحقوق والواجبات هما أساس العمران، وهما موجودان عندهم بلا شك.
أما استعمارهم للبلدان فللكلام عليه مقام آخر يطول شرحه.
وقال في سورة (التحريم:6): {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} قال الحافظ ابن كثير في تفسير هذه الآية: "معناها: أدبوهم وعلّموهم. وقال عن ابن عباس في الآية: "اعملوا بطاعة الله، واتقوا معاصي الله، وأمروا أهليكم بتقوى الله"، وقال قتادة: "تأمرهم بطاعة الله، وتنهاهم عن معصية الله، وأن تقوم عليهم بأمر الله وتأمرهم به وتساعدهم عليه، فإذا رأيت لله معصية قذعتهم عنها وزجرتهم عنها"..وهكذا قال الضحاك ومقاتل: "حق على المسلم أن يعلّم أهله من قرابته وإمائه وعبيده ما فرض الله عليهم وما نهاهم الله عنه".
وفي معنى هذه الآية الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي من حديث عبد الملك ابن الربيع بن سبرة عن أبيه عن جده قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مروا الصبي بالصلاة إذا بلغ سبع سنين، فإذا بلغ عشر سنين فاضربوه عليها". قال الفقهاء: "وهكذا في(3/5)
ص -21- ... الصوم ليكون تمريناً له على العبادة والطاعة ومجانبة المعاصي، وترك المنكر، والله الموافق" اهـ.
أقول: يمكن أن يقول القائل: إن التربية في هذا الزمان قد بلغت عند الأمم الراقية درجة عالية، وهي تقتضي عدم ضرب الصبيان، فهناك وسائل أخرى في الترغيب والترهيب والثواب والعقاب تغني عن الضرب، وتحبّب إلى الناشيء التعلم والعمل المثمر, فأقول في جوابه: هذا رأي يقال، والعمل في الأمم الراقية على خلافه، ففي البلاد الألمانية يفرض على كل التلميذات الحضور إلى الكنيسة مع معلمه يوم الأحد، ويشهد الصلاة والوعظ، فإن لم يحضر بلا عذر أدّب على ذلك بالضرب، وإن ترك الصلاة في الكنيسة ثلاثة آحاد متوالية طرد من المدرسة، أما الأيام الستة الباقية من الأسبوع فإن الكنيسة تبعث القسّيسين إلى المدارس يصلّون بالتلاميذ في داخل المدرسة، ويعلّمونهم دينهم ساعتين في كل يوم، ولا يستطيع التلميذ أن يتغيب في هاتين الساعتين إلاّ إذا كان على دين آخر غير المسيحية.
ولما كان سكان البلاد الألمانية على مذهبين مختلفين، كاثولكيين وبروتستانتيين، كان الواجب على وزارة التعليم يقضي بإعداد المدارس لكل الفرقتين في كل مدينة أو قرية يكون سكانها مختلفين في المذهب حتى يتمكن التلميذ الذي أبوه كاثوليكي أن يجد مدرسة على مذهبه, وكذلك التلميذ الذي يكون أبوه برتستانتي يتعلم في مدرسة موافقة لمذهبه، فإن وجدت مدينة أو قرية سكانها كلهم على مذهب واحد، وسكن بينهم عدد قليل من أهل المذهب الآخر، يبعثون أولادهم إلى المدينة الأخرى ليجد مدرسة على مذهبهم، هذا في المدارس الابتدائية والثانوية، أما الجامعات ففي كل جامعة كلية لاهوت مختصة بتعليم الدين، وهذه الكلية محترمة جداً يؤمّها الأساتذة في الأعياد والمناسبات للصلاة والسماع الوعظ، ويتخرّج منها كل سنة كثير من الدكاترة في علم الدين، وكلهم يجدون أعمالا في الكنائس والإرساليات، وتعليم الدين في المدارس العامة.(3/6)
وهناك مدارس دينية خالصة تديرها الكنائس، ولها مناهجها الخاصة لا تدخل تحت وزارة التربية والتعليم، وبهذه المناسبة أذكر هنا نبأ تاريخيا يخفى على أكثر الناس، وذلك أن هتلر اختلف مع الكنيسة الكاثولكية في قضيتين: إحداهما أنه أوجب على المدارس الدينية التابعة للكنيسة أن تطبق منهج وزارة التعليم، فعدّت الكنيسة الكاثولكية ذلك تدخلا في شؤون الدين، وعدواناً على الكنيسة، والثانية أنه استولى على الذهب المخزون في الكنيسة, وفرض رواتب يعطونها من وزارة المالية، ولهاتين القضيتين انظمّ الكاثولكيون إلى اليهود في عداوة هتلر، وأخذوا يكيدون له.
وهذا كله يبطل ما ينشره دجاجلة الاستعمار الروحي من زعيمهم أن الأمم الأوروبية التي بلغت أوج الرقي هجرت الدين وضربت به عرض الحائط، وكان ذلك سبب تقدمها،(3/7)
ص -22- ... والأدلة على كذب هذه الدعاية أكثر من تحصى، وقد نشرت في مجلة دعوة الحق أدلة بالأرقام مأخوذة من سفارات الدول الراقية في أوروبا على تدين شعوبها، وقلة المارقين من الدين فيها، هذا مع أنّ دين النصرانية لا يتكفل بتدبير شئون الدين والدنيا كما يفعل الإسلام الحنيف، بل يقول من جملة ما يقول: "أعط ما لله لله وما لقيصر لقيصر". أما الإسلام فيقول: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي اْلأََرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى}.
ويقول في سورة (المائدة: 18): {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ}, ويقول في سورة (الأعراف: 128): {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}, ويقول في سورة (النجم: 25): {فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى}, ففي نظر الإسلام كل شيء لله، وليس لقيصر شيء، بل قيصر نفسه مملوك لله.
وقد جرب المسلمون السابقون التمسك بالإسلام فوجدوه كفيلاً بسعادة الروح والبدن، وضابطا لمصالح الدين والدنيا، فالعجب من قوم يكون عندهم هذا الدين الحنيف محفوظا خالصا، لا تشوبه شائبة، ويرون كيف سعدت به أسلافهم، ثم يتنكرون له ويجهلونه ويجهلون عليه، ويردّدون أقول أعدائه، وينشرونها بين قومهم، مع ما فيها من الكذب والتدليس والتمويه والتحريف.
وقال تعالى في سورة (طه: 132): {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى}.(3/8)
قال الحافظ ابن كثير في تفسيره: "وقوله تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} أي استنقذهم من عذاب الله بإقام الصلاة، واصبر أنت علي فعلها كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارا}, قال ابن أبي حاتم بسنده إلى زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر بن الخطاب كان يبيت عنده أنا ويرفأ (كذا)، وكان له ساعة من الليل يصلي فيها، فربما لم يقم فنقول: لا يقوم الليلة كما كان يقوم، وكان إذا استيقظ أقام - يعني أهله - وقال: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا}.
وقوله: {لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُك}, يعني: إذا أقمت الصلاة نرزقك من حيث لا تحتسب, وقال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}- إلى قوله-: { إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِين}, ولهذا قال: {لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُك} وقال الثوري: "لا نسألك رزقاً, يعني لا نكلّفك الطلب".
وقال ابن أبي حاتم بسنده إلى هشام عن أبيه "أنه كان إذا دخل على أهل الدنيا، فرأى من دنياهم طرفا، فإذا رجع إلى أهله فدخل الدار قرأ: {وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْك} - إلى قوله-: {نَحْنُ نَرْزُقُك}, ثم يقول: "الصلاة الصلاة رحمكم الله".
وقال ابن أبي حاتم بسنده إلى ثابت قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أصابته خصاصة(3/9)
ص -23- ... نادى أهله: "يا أهلاه صلوا صلوا"و قال ثابت: "وكانت الأنبياء إذا نزل بهم أمر فزعوا إلى الصلاة".
وقد روى الترمذي وابن ماجه من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقول الله تعالى: يا ابن آدم تفرّغ لعبادتي أملأ صدرك غنى وأسدّ فقرك، وإن لم تفعل ملأت صدرك شغلاً ولم أسدّ فقرك".
وروى ابن ماجه من حديث ابن مسعود: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "من جعل الهموم هما واحداً همّ المعاد كفاه الله همّ دنياه، ومن تشعّبت به الهموم في أحوال الدنيا لم يبال الله في أيّ أوديته هلك".
وروى أيضا من حديث ثابت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من كانت الدنيا همّه فرّق الله عليه أمره وجعل فقرة بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلاّ ما كتب له, ومن كانت الآخرة نيته جمع له أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة".
وقوله: {وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى}: أي وحسن العاقبة في الدنيا والآخرة لمن اتقى، وفي الصحيح أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "رأيت الليلة كأنّا في دار عقبة بن رافع, وأنا أتينا برطب من رطب ابن طاب، فأوّلت ذلك أنّ الرفعة لنا في الدنيا والعاقبة في الآخرة ، وأنّ ديننا قد طاب".أهـ
شروح وإيضاح :
1- قوله: "كان يبيت عنده أنا ويرفأ" يظهر لي في هذه العبارة خلل إلاّ إذا أوّلناها على أن اسم كان ضمير الشأن، وجملة (يبيت) خبرها, وحتى على هذا التأويل يبقى الخلل كما هو، إذ لا يقال: "يبيت أنا"، فلعله تحريف من بعض النساخ، والصواب: "كنا نبيت عنده أنا ويرفأ"، ويرفأ اسم علم كيزيد ويشكر.(3/10)
2- قوله: " فربما لم يقم" يعني أن عمر رضي الله عنه كان له وقت من الليل يتهجّد فيه، أي يصلي النافلة بالليل، وكان خادماه زيد ابن أسلم ويرفأ يراقبان قيامه، وفي بعض الأحيان كان يتأخر عن القيام، ولعل ذلك لغلبة نوم، وكان إذا قام لصلاة النافلة بالليل يقيم أهل بيته للاشتراك معه في العبادة اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم الذي أمره الله أن يأمر أهله بالصلاة ويصبر عليها، وستأتي زيادة بيان لهذا المعنى.
3- فهم المفسرون من قوله تعالى: {لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُك} أن من لم يشغله طلب الرزق عن صلاته عناية بها ومحافظة عليها رزقه الله وأغناه بفضله، وأنّ من ظنّ أنّ المحافظة على الصلاة في أوقاتها تُنقص من رزقه أو تمنعه, ملأ الله قلبه همّاً وغمّاً, ولم يأته من الرزق إلاّ ما كتب له كما سيأتي في الحديث صريحاً.
قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَاْ أُرِيْدُ أَنْ يُطْعِمُونَ إِنَّ اْلله هُوَ اْلرَّزَّاقُ ذُو اْلقُوَّةِ اْلمَتِينِ}, أخبر(3/11)
ص -24- ... الله سبحانه أنه خلق الخلق لغرض واحد يعود عليهم بالخير والسعادة, وذلك الغرض هو عبادته وحده لا شريك له، وهو غنيٌّ عن العالمين، وهم محتاجون إليه، فمن اشتغل بالغرض الذي خلقه الله لأجله فقد أفلح وسعد ورشد واهتدى، وقد ضمن الله رزقه يأتيه من حيث لا يدري, ومن لم يثق بوعد الله، وشغله طلب الرزق عما خلق له شتت الله شمله، وأكثر همّه، ولم ينل من الرزق إلاّ ما قدّر له.
5- قوله: "هشام عن أبيه" يعني عروة بن الزبير بن العوام, "كان إذا دخل على أهل الدنيا فرأى من دنياهم طرفا" المراد بالطرف: نفائس الأموال التي يندر مثيلها, فإذا رجع إلى أهله ودخل بيته ولم ير فيه تلك النفائس التي رآها في بيوت أهل الثراء المترفين يتلو قوله تعالى: {وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ} الآية.
قال ابن كثير في تفسيره: "يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: "لا تنظر إلى ما فيه هؤلاء المترفون وأشباههم ونظراؤهم من النعيم، فإنما هو زهرة زائلة ونعمة حائلة، ليختبرهم بذلك أَيَشْكرون أم يكفرون، وقليل من عبادي الشكور، وقال مجاهد: {أَزْوَاجاً مِنْهُمْ}: "يعني الأغنياء"، فقد آتاك الله خيرا مما آتاهم, وكذلك ما ادّخره الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم في الآخرة أمر عظيم لا يحد ولا يوصف، كما قال تعالى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى}, ولهذا قال:{ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} " اهـ.(3/12)
أقول: في هذا الخطاب تزهيد للنبي صلى الله عليه وسلم ولأمته في الدنيا وزخارفها وإبعاد لهم عن الافتتان بزهرتها وزينتها، لأنّ من فتن به أهلكته وشغلته عن ذكر الله، وهذا مع العلم بأنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان رئيس الدولة وكان يعطي عطاء من لا يخاف الفقر، والأموال كلها بيده، ولكنه كان زهداً فيها، مفضّلاً التقشف في المعيشة طوعاً واختياراً لا حاجة واضطراراً، فكان ينام على الحصير حتى يؤثر في جسمه الشريف, وكان يمر الشهر والشهران لا توقد النار في بيته، وإنما يعيش هو وأهله على الماء والتمر كما في حديث عائشة في الصحيحين, فكان عروة بن الزبير إذا دخل بيته يعظ نفسه وأهله بهذه الآية وينادي فيهم: "الصلاة الصلاة"، ففي الصلاة نعيم وقرّة عين للمتقين كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "وجعلت قرة عيني في الصلاة", والمراد بقرة العين: "الفرح والسرور".
6-قوله : "إذا أصابه خصاصة" أي حاجة وضيق في المعيشة، أمر أهله بالصلاة امتثالا لأمر الله تعالى؛ لأن الصلاة تعين كل محتاج, وتفرّج كربه كما قال تعالى في سورة (البقرة: 153): {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاة}, وهذه سنة سائر كل الأنبياء إذا نزل بهم أمر يكرهونه يفزعون إلى الصلاة فيدفع الله عنهم بها كل مكروه, ويبدلهم بالعسر يسرا, وبالضيق سعة, وبالشدة رخاء, وهكذا ينبغي للمؤمنين الصادقين - شبابا كانوا أم كهولا أم شيوخا - أن يفعلوا إذا نزل بهم ما يكرهون أن يستعينوا(3/13)
ص -25- ... بالصبر والصلاةو فالصبر يهوّن عليهم المصيبة, ويفتح لهم باب الفرج, والصلاة استغاثة واستعانة بالله تعالى.
وقد رأينا محمد علي كلاي الملاكم العالمي المشهور إذا أراد أن ينازل بطلا من أبطال الملاكمة يصلّي ويدعو الله تعالى ويستمدّ منه قوة على خصمه فينصره الله ويهزم عدوه, فهذا هو الأدب المحمدي الذي ينجح في كل زمان ومكان.
7-حديث أبي هريرة القدسي، يقول الله تعالى: "يا ابن آدم تفرّغ لعبادتي أملأ صدرك غنى وأسدّ فقرك, وإن لم تفعل ملأت صدرك شغلاً ولم أسدّ فقرك", في هذا الحديث جواب للذين يسألون عن أوقات الصلاة إذا فرض فيها شغل دنيوي كالمعلّمين وتلامذة المدارس, والموظفين في الإدارات, وفي سائر الأعمال إذا دخل وقت العصر, هل يتفرّغون لعبادة الله لمدة خمس دقائق ويؤدون فريضتهم, ويدعون شغلهم جانباً, فإن فعلوا ذلك ملأ الله صدورهم وأيديهم غنى, وأزال فقرهم الحسي والمعنوي, فالمعنوي هو فقر القلب وجزعه, وشغله بالتفكير في الرزق, أو في أيّ وسيلة التي يظن أن الرزق يأتي بسببها, وإن هم لم يستجيبوا لدعوة الله, وتمادوا في شغلهم, وأعرضوا عن صلاة العصر وحدها؛ لأنها هي التي تجيء عادة في وسط الأشغال وبها يمتحن المؤمن، فإن كان صادق العزم ثابت اليقين وقف الشغل الدنيوي من بيع وشراء وعمل في مزرعة أو مصنع، أو مدرسة أو مختبر، أو غير ذلك, وتفرّغ لعبادة الله واستجاب لدعوته، فيزيده الله قوة إلى قوته, ويملأ صدره غنى وثقة به، وذلك هو الظفر والنصر المبين، وإن كان خائر العزم، ضعيف الإرادة، كبر عليه ترك شغله وخيّل له أنّ في تركه خسارة لا تعوّض، فيستمر في شغله عاصيا ربه، خائنا دينه، خائسا بعهده، فحينئذ يمتليء صدره غمّاً وشغلاً يلازمانه أبداً.(3/14)
أخرج البخاري في كتاب المواقيت من صحيحه عن أبي المليح قال: "كنّا مع بريدة في غزوة في يوم ذي غيم فقال: "بكروا بصلاة العصر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من ترك صلاة العصر حبط عمله".
وأخرج البخاري ومسلم عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الذي تفوته صلاة العصر كأنما وتر أهله وماله".
نفهم من الحديث الأول ومن غيره من الأحاديث الصحاح, ومن الآيات البينات أن من ترك صلاة العصر عمدا بلا عذر شرعي حتى خرج وقتها فقد بطل عمله الصالح كله، لأنه كفر فإن تاب ورجع إلى الإسلام، وعاهد الله عهداً صادقا أن لا يتعمد ترك الصلاة مفروضة أبداً، فإن الله يرد له ما حبط من عمله.
ومثل هذا قوله تعالى في سورة (الزمر: 52): {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}, وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة" رواه مسلم من حديث جابر, وإذا كان ترك(3/15)
ص -26- ... الصلاة عمداً كفرا فلا إشكال في حبوط العمل.
وأما الحديث الثاني: "الذي تفوته الصلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله", أي خسر ماله وأهله وبقي فرداً بلا أهل ولا مال، ومثل ذلك قوله تعالى في سورة (الزمر:15): {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ}, وكل فريضة حدّد وقتها يجب على المسلم أن يترك كل شغله يشغله عن أدائها, قال تعالى في سورة (الجمعة: 9-10): {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}, فحرّم الله على المسلمين أن يشتغلوا بالبيع وغيره من أمور الدنيا بعد آذان الجمعة, وأوجب عليهم أن يسعوا إلى المسجد لأداء صلاة الجمعة حتى إذا سلّم الإمام من صلاة الجمعة فقد أذن الله لهم أن يخرجوا من المسجد، وينتشروا في الأرض ليشتغلوا بأعمالهم التي تكفّل لهم رزقهم.(3/16)
ومثل ذلك في قوله تعالى في سورة (المعارج: 16-35): {إِنَّ اْلإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً, إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً, وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً, إِلاّ الْمُصَلِّينَ, الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ, وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ, لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ, وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ, وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ، إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ, وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ, إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ, فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ, وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ, وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ, وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ, أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ}.
أخبرنا الله سبحانه أن الإنسان - يعني جميع الناس - خُلق هلوعا، جعل من طبعه الهلع وهو الجزع وشدة الحرص, فتفسير {هَلُوعاً} هو ما بعده: {إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ}: المرض والفقر وسائر المصائب {جَزُوعاً}: يائسا خاضعا منقطع الرجاء {وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ}: وهو الغنى والصحة والقوة والنصر وسائر النعم, {مَنُوعاً}: بخيلا لا ينفع غيره بشيء.
ثم استثنى الله تعالى من الناس المجبولين على ذلك الطبع الخبيث المصلين، وأكد وصفهم بقوله تعالى: {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ} أي محافظون على أوقاتها وشروطها وأركانها وآدابها، ووصفهم بصفات بدأها بالمحافظة على الصلاة، وختمها بالمحافظة على الصلاة, وذكر بينهما صفات:(3/17)
أولاها: أنّ في أموالهم حقاً معلوماً للفقراء والمحتاجين, سواء أكانوا من الذين يظهرون فقرهم وحاجتهم ويسألون الناس, أم كانوا من المتعففين الذين يكتمون فقرهم, ولا يسألون الناس, وهم القسم المعبر عنه بالمحروم؛ لأن أكثر الناس يحرمونهم من الصدقة.
ثانيتهما: أنهم يصدّقون بيوم الدين, أي يؤمنون بيوم القيامة, وهو يوم الجزاء, ويجعلونه نصب أعينهم, فيبعثهم ذلك على مراقبة الله تعالى(3/18)
ص -27- ... , فلا يفعلون إلاّ ما يرضيه.
ثالثتها: الخوف من الله تعالى فهم يخافون عذابه ولا يأمنون مكره، فإنه لا يأمنه إلاّ القوم الخاسرون.
رابعتها: أنهم يحفظون فروجهم عمّا حرم الله ويقتصرون على ما أحل الله.
خامستها: أنهم يحافظون على عهدهم إذا عاهدوا مسلما أو ذميا, أو معاهدا أو مصالحا, لا ينقضونه أبداً.
سادستها: أنهم يقومون بشهاداتهم فيؤدّونها كما علموها, ولو كانت على الوالدين والأقربين، لا يزيدون فيها ولا ينقصون، ولا يبدّلون ولا يغيّرون، ولا يكتمونها أبدا، ومن يكتمها فإنه آثمٌ قلبُه.
فهذه صفات المؤمنين الصادقين, لا جرم أنّ كل شعب سادت فيه هذه الصفات يكون سعيداً في دنياه وأخراه, عزيزا مؤيداً منصورا، جعلنا الله من أهلها.
8- "رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام" ورؤيا الأنبياء حق أنه كان مع بعض أصحابه في دار عقبة بن رافع, فوضع لهم رطباً من النوع المسمى ابن طاب وهو نوع من رطب المدينة، ففسّر النبي صلى الله عليه وسلم هذه الرؤيا بأن العاقبة الحسنة والرفعة له ولأمته في الدنيا والآخرة، وأن دين الإسلام طاب، أي زكا وبورك فيه فعلا وانتصر، وكذلك وقع، وهذا مضمون للأمة الإسلامية إلى يوم القيامة بشرطه، وهو الإيمان، والاجتماع على إعلاء كلمة الله, والجهاد في سبيل الله, والدليل على ذلك قوله تعالى في سورة (المؤمن: 51): {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ}.
قال القاسمي في تفسيره هذه الآية: "أي لننصرهم في الدارين؛ أما في الدنيا فبإهلاك عدوهم واستئصاله عاجلا، أو بإظفارهم بعدوهم وإظهارهم عليه، وجعل الدولة لهم والعاقبة لأتباعهم, وأما في الآخرة فبالنعيم الأبدي والحبور السرمدي, والأشهاد جمع شاهد, وهم من يشهد على تبليغ الرسل وتكذيب من كذبهم ظلما, أو جمع شهيد كأشراف وشريف"اهـ.(3/19)
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يقول الله تبارك وتعالى: "من عادى لي وليا فقد بارزني بالحرب".
قال الحافظ ابن كثير في تفسيره: "وفي الحديث القدسي "إني لأثأر لأوليائي كما يثأر الليث الحرب"اهـ, ومعناه أنّ الله ينتقم لأوليائه وهم المؤمنون كما ينتقم الأسد الغضبان ممن أغضبه, والله عزيز ذو انتقام .. وقال تعالى في سورة (الصافات: 171-173): {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ, إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ, وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ}, وقبلها (167-169): {وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ, لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ, لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ, فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}
أخبرنا سبحانه وتعالى أنّ كفار العرب كانوا يقولون قبل نزول القرآن وبعثة الرسول عليه الصلاة والسلام: {لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ} أي كتاباً من الكتب التي أنزلها الله عليهم لاهتدينا به، وتطهرنا به من جهالتنا {لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} المطهّرين من كل ضلال(3/20)
ص -28- ... وشر وشرك، فلما جاءهم أفضل كتاب بواسطة أفضل رسول كفروا به وكذّبوه, قال الله تعالى: {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} هذا تهديد لهم بعذاب عظيم لم يكن لهم في الحسبان ، وهو تهديد لكل أمة بلغها هذا الكتاب فأعرضت عنه، ولم تتخذه إماما وحكما، ولم تستضيء بنوره، ولو اهتدت بهداه، لابد أن يصيبها عذاب عظيم فوق ما يخطر بالبال, ونحن نشاهد هذا العذاب اليوم بأعيننا يصيب الشعوب التي أعرضت عن كتاب الله ورفضت شريعته وسنة رسوله بعدما علمت يقينا ما أدركه أسلافها من السعادة والعز والنصر المبين بإتباع هذا الكتاب الكريم, والرسول ذي الخلق العظيم.
وبعد هذا التمهيد قال سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ} اللام واقعة في جواب قسم، أي وتالله لقد سبقت كلمتنا لعبادنا الذين أرسلنهم إلى الأمم ليقوموا بإرشادها وهدايتها وإنقاذها من أوحالها ونكباتها، وإخراجها من الظلمات إلى النور، وتلك الكلمة التي سبقت من الله تعالى هي قوله سبحانه: {إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ} على كل من عاداهم من أقوامهم وغيرهم، {وَإِنَّ جُنْدَنَا} وهم المرسلون وأتباعهم الصادقون {لَهُمُ الْغَالِبُونَ} لكل من عاداهم ووقف في طريقهم، وعد الله لا يخلف الله وعده.
وقد رأينا هذا الوعد بعيون بصائرنا عبر التاريخ الطويل يتحقق على أيدي شعوب مختلفة في الجنس واللون والأوطان، ولكنها متفقة في الاهتداء بالقرآن، وحروب المغاربة في أوربا من طارق إلى المرينيين وحروب المسلمين في فلسطين وبلاد الشام لجميع الدول النصرانية مدة مائتي عام, وقبل ذلك حروب العرب في العراق, وخراسان, وإفريقية, وبلاد السند، وكل ذلك أدلة قاطعة, وبراهين ساطعة.(3/21)
وما أصاب المسلمين من الشتات والذلة والهوان وضنك العيش في هذه الأزمنة المتأخرة حجج قائمة عليهم تسجل عليهم أنهم هم الذين أخلفوا ونقضوا عهدهم كما قال تعالى في سورة (الأنفال: 23): {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌْ}.
قال الحافظ ابن كثير في تفسيره هذه الآية: "يخبر تعالى عن تمام عدله، وقسطه في حكمه بأنه تعالى لا يغير نعمة أنعمها على أحد إلاّ بسبب ذنب ارتكبه كقوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} اهـ.
وقال تعالى في سورة (مريم: 54-55): {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً، وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً}.
قال الحافظ ابن كثير في تفسيره: "هذا ثناء من الله تعالى على إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليهما السلام، وهو والد عرب الحجاز كلهم بأنه صادق الوعد وقال ابن جريج: "لم يعد ربه عدة إلاّ أنجزها"، يعني ما التزم عبادة قط بنذر إلاّ قام بها ووفاها(3/22)
ص -29- ... حقها".
وقال ابن جرير بسنده إلى سهل بن عقيل أن إسماعيل النبي عليه السلام وعدا رجلا مكانا أن يأتيه، فجاء ونسي الرجل، فظل به إسماعيل وبات حتى جاء الرجل من الغد فقال: "ما برحت من ها هنا؟" قال: "لا", قال: "إني نسيت" قال: "لم أكن أبرح حتى تأتيني"، فلذلك كان صادق الوعد.
وروى أبو داود وغيره عن عبد الله بن أبي الحمساء قال: "بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث, فبقيت له علي بقية, فوعدته أن آتيه بها في مكانه ذلك، قال: فنسيت يومي والغد، فأتيته في اليوم الثالث وهو في مكانه ذلك فقال لي: "يا فتى لقد شققت عليّ، أنا ها هنا منذ ثلاث أنتظرك".
فصدق الوعد من الصفات الحميدة كما أنّ خلفه من الصفات الذميمة, قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ, كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ}, وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان".
ولما كانت هذه صفات المنافقين كان التلبس بضدها من صفات المؤمنين، ولهذا أثنى الله على عبده ورسوله إسماعيل بصدق الوعد، وكذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم صادق الوعد أيضا لا يعد أحدا شيئا إلاّ وفّى له به. وقد أثنى على أبي العاص بن الربيع زوج ابنته زينب فقال: "حدثني فصدقني, ووعدني فوفى لي".
ولم توفي النبي صلى الله عليه وسلم قال الخليفة أبو بكر الصديق: "من كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عدة أو دين فليأتني أنجز له، فجاء جابر بن عبد الله فقال: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قال لي: "لو قد جاء مال البحرين أعطيتك هكذا وهكذا"، يعني ملء كفيه, فلما جاء مال البحرين أمر الصديق جابراً فغرف بيديه من المال, ثم أمره بعده، فإذا هو خمسمائة درهم فأعطاه مثيلها معها.(3/23)
وقوله: {وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً} في هذا دلالة على شرف إسماعيل على أخيه إسحاق، لأنه إنما وصف بالنبوة فقط, وإسماعيل وصف بالنبوة والرسالة. وقد ثبت في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنّ الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل" وذكر تمام الحديث. فدل على صحة ما قلناه.
وقوله: {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً} هذا أيضا من الثناء الجميل، والصفة الحميدة، والخلة السديدة؛ حيث كان صابراً على طاعة ربه عز وجل، آمراً بها أهله كما قال تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} الآية, أي مروهم بالمعروف وانهوهم عن المنكر، ولا تدعوهم هملاً فتأكلهم النار يوم القيامة.(3/24)
ص -30- ... وفي الحديث عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رحم الله رجلا قام من الليل فصلى وأيقظ امرأته, فإن أبت نضح في وجهها الماء، رحم الله امرأة قامت من الليل فصلت وأيقظت زوجها, فإن أبى نضحت في وجهه الماء". أخرجه أبو داود وابن ماجه, وعن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة عن الني صلى الله عليه وسلم قال: "إذا استيقظ الرجل من الليل وأيقظ امرأته فصليا ركعتين كتبا من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات" رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه. اهـ.
توضيحات:
1- وصف الله سبحانه إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام بصفات كريمة: أولها: صدق الوعد، وثانيتها: أنه كان رسولا نبيا أنزل الله عليه وحيه، وأرسله لهداية خلقه، وثالثتها: كان يأمر أهله بالصلاة والزكاة، وأخيراً: أنه كان عند ربه مرضياً، فلماذا قدّم صفة صدق الوعد على ذكر الرسالة والنبوة, وأمر أهله بالصلاة والزكاة ؟ والجواب: لأن صدق الوعد دليل على الإخلاص، فمن لم يكن صادق الوعد لم يقبل الله منه صلاة ولا زكاة، ولنا على ذلك أدلة كثيرة من الكتاب والسنة.
وبيان ذلك أنّ العبادات كلها من صلاة وصيام وزكاة وحج وعمرة، وتعلم وتعليم, وجهاد للنفس، وجهاد للعدو ، وغير ذلك إنما هي وسائل لتهذيب النفس، وليست في أنفسها غايات، فإذا لم يحصل بها التهذيب المطلوب فهي لغو لا قيمة لها, يزاد على ذلك أنها تدل على عدم إخلاص فاعلها، وريائه ومخادعته لله ولعباده المؤمنين.(3/25)
وقد وصف الله المنافقين بقوله في سورة (النساء: 143-143):{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً, مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً}, فصلاة هؤلاء المنافقين لم تغن عنهم شيئا وهم في الدنيا مجللون بالخزي, وفي الآخرة في الدرك الأسفل من النار, وقال تعالى:{فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ, الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ، الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ, وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} أي يقصدون بعبادتهم أن يراهم الناس فيمدحوهم وقلوبهم خربة ليس فيها خير، فلذلك (يمنعون الماعون) المراد بالماعون على تفسير عبد الله بن مسعود وكثير من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هو ما يُعِيرُهُ الناس بعضهم لبعض كالفأس والقدر والدلو والميزان والمد ونحو ذلك، قال ابن كثير رحمه الله : "والذي يمنع الماعون مع بقاء عينه أجدر وأحرى أن يمنع الزكاة، والصدقة والإحسان".
وقد وضع النبي صلى الله عليه وسلم ميزاناً يمتحن به الناس، يميّز به المؤمن من المنافق، وهو قوله فيما رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة: "آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان" زاد مسلم في روايته: "وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم".(3/26)
ص -31- ... فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بعبارة صريحة لا لبس فيها ولا غموض أن من اجتمعت فيه الخصال الثلاث، وصارت له خلقا وديدنا لا يتحرج منها، هو كافر خالص الكفر من شرار الكفار، وهم المنافقون، وأن هذه الخصال لا تكاد أن تجتمع في مؤمن البتة، فإن قال: أنا مسلم، فقد أمرنا أن لا نصدقه، وإن صلى وصام فلا صلاة له ولا صيام.
وقد أعطانا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه العلامات لنستدل بها على المؤمن الصادق، ونعرف بفقدها أعداء الإسلام المتقمصين ثوبه لمآرب يبتغونها، ودسائس يروجونها، وليس معنى أن نطردهم من المساجد، ولا من المجتمعات الإسلامية، ولا نحكم عليهم بالردة، ونعاملهم معاملة غير المسلمين في الأحكام الشرعية، بل نعتبرهم مسلمين ظاهرا، ونحترز منهم، ولا نأمنهم على مصالح الإسلام.
2- قوله: "وهو ولد عرب الحجاز كلهم" من المعلوم أن العرب فريقان: العرب العاربة، وهم أبناء يعرب بن قحطان، وهم سكان جنوب الجزيرة العربية, ولهم تاريخ حافل، وآثار قديمة باقية, وقد كانت لهم دول عظيمة عريقة في القدم، كدولة حمير ودولة سبأ ودولة معين.(3/27)
وأما الشماليون فيسمون العرب المستعربة؛ لأن أباهم إسماعيل لم يكن عربيا في الأصل، وإنما تعلم العربية لأنه نشأ بين العرب في مكة وتزوج منهم، وبارك الله في ذريته كما جاء في سفر التكوين من العهد القديم في الباب السادس عشر أن ساراى امرأة أبرام لم تلد له, وكانت لها جارية مصرية اسمها هاجر فقالت ساراى لأبرام: "إن الرب قد أمسكني عن الولادة، أدخل على جاريتي لعلي أرزق منها بنين، فسمع أبرام لقول ساراى, فأخذت ساراى امرأة أبرام هاجر المصرية جاريتها من بعد عشر سنين لإقامة أبرام في أرض كنعان، وأعطتها أبرام رجلها زوجة له، فدخل على هاجر فحبلت ولما رأت أنها حبلت صغرت مولاتها في عينها, فقالت ساراي لأبرام: "ظلمي عليك، أنا دفعت جاريتي إلى حضنك فلما رأت أنها حبلت صغرت في عينها, يحكم الله بيني وبينك"، فقال أبرام لساراي: "هذه جاريتك في يديك افعلي بها ما يحسن في عينك"، فأذلتها ساراي فهربت من وجهها, فوجدها ملك الرب على عين الماء في البرية، على العين التي في طريق شور، وقال: "يا هاجر جارية ساري، من أين أتيت وإلى أين تذهبين؟" قالت: "أنا هاربة من وجه مولاتي ساري"، فقال لها ملك الرب: "ارجعي إلى مولاتك، واخضعي تحت يديها"، وقال لها ملك الرب: "تكثيرا أكثر من نسلك فلا يعد من الكثرة". وقال لها ملك الرب: "ها أنت حبلى فتلدين ابنا وتدعين اسمه إسماعيل، لأن الرب قد سمع لمذلتك، وأنه يكون إنسان وحشياً، يده على كل واحد، ويد كل واحد عليه وأمام جميع أخواته يسكن". اهـ.
وهذه بشارة جاءت في العهد القديم بأن الله يكثر أولاد إسماعيل, وقول المترجمين للتوراة: "إنه يكون إنسانا وحشياً يده على كل واحد ويد كل واحد عليه" من أفسد الترجمات(3/28)
ص -32- ... التي ارتكبها أولئك المترجمون تعصباً وتحريفاً للكتاب، ولم يتفطنوا إلى التناقض الذي بين الصفتين، فالإنسان الوحشي لا يتصل بالناس ولا يألفهم ولا يألفونه، ويحبهم ويحبونه.
ولا يستغرب التحريف من المترجمين فقد أخبر العالم اللغوي الأديب المحقق إبراهيم اليازجي أنهم دعوه إلى لندن ليعينهم على ترجمة التوراة، فكان يختلف معهم كثيراً فكلما ذكر لهم عبارة فصيحة تؤدي المعنى يرفضونها، ويقولون: "إنها تشبه عبارات القرآن", وهم يريدون أن يبتعدوا عن عبارات القرآن كل الابتعاد, وقد نظرت في الكلمة التي ترجموها وهي (بري آدم) في معجم (روبين أفنيوم كوسمن) فوجدت لها المعاني التالية أنقلها بأمانة من الإنكليزية إلى العربية: 1- الحمار الوحشي, 2- الحيوان الوحشي, 3- ساكن الصحراء, 4- خشن الطبع, 5- وحشي, 6- همجي, 7- إنسان وحشي سيء الخلق.
فأيّ هذه الألفاظ يصلح لترجمة ذلك اللفظ الوارد في مقام البشارة والمدح والثناء على مولود، علم الله أنه يكون رسولا نبياً، أباً لأمة عظيمة، ولأفضل خلق، وهو محمد صلى الله عليه وسلم، لاشك أن اللفظ الوحيد الذي تصح به الترجمة هو الثالث، وهو أنه ساكن الصحراء وهو المطابق للواقع، فإن إسماعيل كان يسكن بمكة - شرفها الله - ويعيش في الصحراء على لحم الصيد، وفي الحديث: "ارموا بني إسماعيل، فإنّ أباكم كان رامياً ", وفي صحيح البخاري أنّ إبراهيم توجّه لزيارة ابنه إسماعيل في مكة فلم يجده، فسأل زوجته عنه فأخبرته أنه ذهب للصيد، ثم ذهب لزيارته مرة ثانية وثالثة فلم يجده، إنه كان غائباً يصطاد للمعيشة لا للتنزه، وفي كل مرة كان يوصي زوجته بشيء تقوله له إذا رجع.
وقد تبيّن أنّ أولئك المترجمين أخطأوا خطأ فاحشا في ترجمة ذلك اللفظ، وأغلب الظن أن يكونوا متعمدين، فقبّح الله التعصب, فإنه ما دخل شيئا إلاّ أفسده، والمراد بعرب الحجاز: ربيعة ومضر.(3/29)
3- انتظر إسماعيل الرجل الذي وعده في المكان الذي وعده أن يجتمع به يوماً وليلة, وانتظر محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل الذي تبايع معه في الجاهلية قبل أن يكون نبياًًً في المكان الذي وعده ثلاثة أيام، فما المراد بهذا الانتظار؟ هل هو حرص على قضاء تلك الدريهمات؟ لا والله, ولكنه تلقين درس في الأخلاق، يعتبر به كل موفق، ويلتزمه كل إنسان ذو شرف ومروءة يحترم نفسه. والعادة الجارية في الشعوب الراقية التي تقدّس الأخلاق أنّ المتواعدين إذا مرت خمس دقائق إلى ربع ساعة ولم يجيء أحدهما فقد برئت ذمة المنتظر، وبقيت ذمة صاحبه معلقة، فإن كان له عذر قاهر برئت ذمته هو أيضا، وألا توجه اللوم إليه، وكان هو الخاسر الذي يجب عليه أن يعتذر لصاحبه ويخجل كل الخجل.
وكل أمة شاع فيها الوفاء بالوعد وتنافس أبناؤها في التخلق بهذا الخلق الجميل الذي هو أحد أركان(3/30)
ص -33- ... الأخلاق سعدت وقويت، وانتصرت على أعدائها، وبلغت من ذلك فوق ما أملت، كما أن كل أمة شاع فيها أخلاق الوعد ونقض العهد، وما إلى ذلك من الكذب والخيانة والغدر والظلم والخداع, فإنها لن تفلح أبدا ولن تكتب الحياة لها الحقيقة ما دامت متخلقة بتلك الأخلاق المرذولة, سواء استوطنت الصحراء أم استوطنت أغنى الأراضي وأجملها, فإنها تعيش في شقاء دائم, وظلام مدلهم.
وهذه الحقيقة لا تتغير أبداً بتغير المكان أو الزمان أو القوم, ومساويء الأخلاق سبب شقاء الشعوب الأعظم. ومن ينتسب إلى إسماعيل بالنبوة وإلى محمد صلى الله عليه وسلم بالإيمان والإتباع يجب عليه أن يعتبر هذا الدرس أكثر من غيره ليكون وارثاً لهما إرثاً حقيقياً يرفعه ويعلي درجته, فإن لم يفعل فإن انتسابه إليهما لا يزيده إلا خزياً وعاراً.
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت ... فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
4- قوله: "وقد أثنى على أبي العاص": هو أبو العاص بن الربيع العبشمي القرشي، اشتهر بكنيته كان من أعيان مكة، زوّجه النبي صلى الله عليه وسلم أكبر بناته زينب، فولدت له أمامة التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يحملها على كتفه، وصلى بالناس في المسجد وهو حاملها، فإذا ركع وضعها, وإذا سجد وضعها, وإذا وقف حملها.
ولما كانت غزوة بدر في السنة الثانية للهجرة خرج أبو العاص مع المشركين فأسر، فبعثت زينب بقلادة لتفديه بها، وكانت أمها خديجة رضي الله عنها قد وهبتها لها حين تزوجت، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم تلك القلادة رقّ لابنته، وقال للمسلمين: "إن رأيتم أن تردّوا لها قلادتها وتطلقوا أسيرها"، فأطلق سراح أبي العاص، فشرط عليه النبي صلى الله عليه وسلم أن يبعث له ابنته زينب فوفّى بوعده وبعثها.(3/31)
وفي السنة السابعة للهجرة سافر أبو العاص ومعه قافلة لأهل مكة متوجهاً إلى الشام فأسره المسلمين مرة ثانية، فلما سمعت بذلك زينب قالت: "يا رسول الله، أليس عقد المسلمين وعهدهم واحدا؟", قال: "نعم", قالت: "فاشهد أني أجرت أبا العاص, فأطلقوا سراحه, فتوجه إلى مكة ورد الأمانات إلى أهلها ثم قام فقال: "يا أهل مكة، أوفّيت ذمتي؟", قالوا: "اللهم نعم", فقال: "فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله, ثم قدم المدينة مهاجرا فدفع إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم زوجته بالنكاح الأول، وقيل: بعقد جديد, والأول أرجح. وماتت زينب في حياة النبي صلى الله عليه وسلم, أما أبو العاص فتوفي في السنة الثانية عشر للهجرة في خلافة أبي بكر الصديق.
5- وينبغي لنا أن نتأمل تأملا طويلا في وفاء الخليفة أبي بكر الصديق بوعد النبي صلى الله عليه وسلم للصحابي(3/32)
ص -34- ... الجليل جابر بن عبد الله على أحسن وجه، وزاده مثلي ذلك, فمبلغ مجموع ما أعطاه ألفاً وخمسمائة درهم.
أولئك آبائي فجئني بمثلهم ... إذا جمعتننا يا جرير المحافل
بمثل هذه الأخلاق بلغ المسلمون الأولون من المجد والسؤدد غايتهما حتى وصلوا إلى بلادنا وفتحوها, وهي أقصى المعمور وجهة الغرب حسبما كان معروفاً في ذلك الزمان, وبهذه الأخلاق نفسها يمكن أن ينهض المسلمون المتأخرون من كبوتهم, وينفضوا غبار الذل عنهم, ويستأنفوا الحياة من جديد، و إلا فلا بعث لهم من مرقدهم بإعراضهم عن أخلاق سلفهم الصالح, واستبدالها بمحاولة التشبه بالأجانب, ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور.
6- قوله: "وقد ثبت في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله قد اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل" ويشهد لذلك ما جاء في سفر التكوين من العهد القديم في الآية 18 وما بعدها من الباب السابع عشر: "وقال إبراهيم لله: "ليت إسماعيل يعيش أمامك", فقال الله: "أما إسماعيل فقد سمعت لك فيه, ها أنا أباركه وأثمره وأكثره كثيرا جدا, اثني عشر رئيسا يلد, وأجعله أمة كبيرة" اهـ.
7- حديثا أبي سعيد وأبي هريرة في إيقاظ الرجل زوجته وصلاتهما ركعتين كتبا من الذاكرين الله كثيرا والذاكرات, والذاكرون الله كثيرا أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما كما في سورة (الأحزاب:35) وهذا الأجر العظيم كفيل بسعادة الدنيا والآخرة, وقال تعالى في سورة (البقرة: 152): {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ}, فإذا كان رجال الأمة ونساؤها متخلقين بهذا الخلق فبشّرهم بالعظمة والقوة والمد والرفعة, وإذا كانوا عنه معرضين فبشّرهم بعذاب أليم.(3/33)
وتأمل دعاء النبي صلى الله عليه وسلم بالرحمة لكل رجل قام من الليل لذكر الله بالصلاة, وأيقظ زوجته لتشاركه في هذه الغنيمة, فإن امتنعت رشّ على وجهها ماء يطير النوم من عينيها وينشطها للقيام, وبمثل ذلك دعا للمرأة الصالحة التي تقوم من الليل لذكر الله ومناجاة ربها في صلاتها, فتوقظ بعلها ليشاركها في الخير, فإن أبى رشّت على وجهه ماء يوقظه من سِنته, وينشطه للقيام. فهذه صفة الأمة السعيدة القوية المنصورة المؤيدة, وخلافها صفة الأمة الخائرة الضعيفة المتخاذلة الشقية.
فنسأل الله أن يوفّقنا لإحياء ما اندثر من مجدنا, واسترداد ما فقدناه من تراثنا حتى نكون خير خلف لخير سلف. وآخر دعونا أن الحمد لله رب العالمين.(3/34)
الأدب الأندلسي
(كتاب قيم تصدى لإخراجه و تأليفه الأستذان الفاضلان أحمد بلافريج و عبد الجليل خليفة.و قد تم طبع الجزء الأول منه بمطبعة الوحدة المغربية في 188 صفحة.)
درس المؤلفان الفاضلان في هذا الجزء تاريخ الأدب العربي الإسلامي في بلاد إسبانية،من لدن الفتح إلى نهاية مملكة غرناطة،دراسة تحليل و بحث و تمحيص،و تعرضا لمسألة مهمة و هي هل اقتبس المسلمون الفاتحون مدنيتهم و ثقافتهم من بقايا ثقافة رومية في إسبانيا ؟فقتلاها بحثا و وفياها حقها.و جمعا في مباحثاتهما بين آراء الأوربيين و أدباء الإسلام.و ألما بنخبة من أهم المسائل في تاريخ الأدب الإسلامي في إسبانية و تطوره و ألوانه و أدواره جريا مع تطور الحضارة و أهواء الدول المختلفة المشارب.و لعمري إنها مباحث شريفة،و مطالب نفيسة،تهم كل أديب،و لاسيما أدباء العرب و المغاربة منهم خاصة،فإن من الضلال البعيد و الخسران المبين،أن نرى الأوربيين يغترفون من معين أدب أسلافنا و يتعاطون فيه كؤوسا تجعلهم نشاوى،يتغنون بسحر ذلك الجمال الفردوسي،و يشدون الرحال لمشاهدة آثاره من أقاصي أوروبة و أمريكة،فلا يكادون يقصون العجب من إبداعه و بهاء فنونه مع ما يعانون في ذلك من بعد الشقة و مشقة الدرس بسبب عجمتهم.و نحن الذين هم أحفاد أولئك العبقريين،و الوارثون لما خلفوه ان كنا أهلا لذلك نعرض عن تلك الكنوز و نجهلها كل الجهل.و لذلك كان عمل هاذين الأستاذين مستوجبا للحمد و التقدير و الضرب معهما بسهم باقتناء مؤلفهما النفيس و درسه حق الدرس.
ثم عقدا بابا للشعر الأندلسي،بحثا فيه بحثا تاما في المقابلة بين شعر العرب و شعر الأمم الأخرى و خواصهما،و أوردا في ذلك آراء الباحثين من الأجانب و أدباء العرب،و استوعبا المسائل الشعرية التي تهم الباحث في هذا الزمان،و هذا الباب يستغرق نصف الجزء.(4/1)
و بعد استيقاء تلك المباحث و مناقشة الآراء المتباينة و تأييد ما ترجح لديهما،أوردا طائفة مختارة من عيون شعر ذلك العصر الزاهر،الذي هو السحر الحلال حقا،و قد كان توفيقهما في اختيار تلك اللآلئ من المقطوعات التي تحاكي المقصورات في الخيام ومن القصائد الفرائد التي تجلو الظلام.
و لا يخفى أن الاختيار الذي يروع أرواع الأدباء،و يستولي على ألبابهم، و يحرك سواكنهم و يضرب على أوتار أفئدتهم هو عزيز جدا،حتى قيل إن حسن اختيار الرجل دليل على كمال عقله.و لا يكفي في حسن الاختيار العلم و الدرس حتى يصاحبهما الذوق السليم و هو هبة من الله لا حيلة في دركه للمرء.
و قد أهدى المؤلفان كتابهما النفيس إلى سمو مولانا الحسن بن المهدي الخليفة السلطاني الأفخر ناصر العلم و الأدب،و محيي سنة الخلفاء و الملوك النوابغ من دول الإسلام و العرب،زاده الله مجدا و سؤددا و توفيقا.
و لما كان المؤلفان من أصدق الإخوان الذين يسرهم تقديم المقترحات التي تزيد عملهم كمالا أردت أن أقدم لهما اقتراحان.فإن كان فيهما خطأ فمني و إن كان فيهما صواب فمن الله،و ليس قبولهما بلازم.
الأول عزو كل نقل عزوا تاما بذكر الصفحة من الكتاب سواء كان مطبوعا أم مخطوطا،صغيرا أم كبيرا كما يعمل المؤلفون الأوروبيون فإنها سنة دنيوية حسنة لابد منها في هذا الزمان للعرب،أما أسلافهم فقد كان حفظهم و اجتهادهم قد يغنياهم عنها.
و الثاني أن يضعا في الميزان ما يقع فيه بعض الأوربيين عمدا لمآرب مادية فيخرقوا أي يختلقوا لليهود أدبا يسمونه الأدب العبراني،و يحاولون أن يجعلوا اليهود شركاء للعرب و المغاربة في الكنوز التي خلفوها،و إن كانوا إنما ينسبون لهم ذلك بالتبعية.
و مذهبي أن اليهود لا أدب لهم إلا ما في التوراة و التلمود و ما أشبه ذلك حين كانت لهم لغة،و ذلك قبل آلاف السنين.(4/2)
أما بعد موت لغتهم و اضطرارهم إلى التعبير و الكتابة باللغة السريانية مدة آلاف من السنين،ثم ظهرت اللغة العربية و دالت دولة السريانية،فأخذوا يشاركون أهلها و يتطفلون على مآدبهم،فليس لهم أدب يسمى عبرانيا كما أن أدباء الهنود الذين نشئوا نشأة إنكليزية فكتبوا و ألفوا في الأدب الإنكليزي لا يقال لأدبهم إنه أدب سنسكريطي بل هو أدب إنكليزي.
و قد سلك الشعوبية في الهند و فارس مسلكا ناكبا عن الجادة معوجا كاذبا فزعموا أن العرب لم يكن لهم في الأدب العربي إلا نصيب ضئيل.و كذلك في العلوم لأن عقولهم كانت أدنى من أن تدرك منزلة عالية في ذلك.و يشاغبون بعلماء العجم و أدبائهم الناشئين في حجور العرب،الراضعين لبان العربية،و قد يجدون في بعض المستشرقين المتعصبين نصيرا،و للكلام في هذه المسألة مقام آخر.و إنما جر الحديث إلى ذكر هذا،و الحديث ذو شجون.
و ليس مقصودي أن أنكر أن بعض اليهود شاركوا العرب في إسبانية في العلوم كالفلسفة و الطب وشيء من الأدب.و حملوا علوم العرب و آدابهم إلى أقاصي أوربة،كما يقول جوزيف ماكيب في كتيب له اسمه (مدنية المغاربة في إسبانيا - ذي مورش شيفيلذيشن ان سبين) و ترجمه كاتب هذه السطور بالعربية و لم ينشر بعد.و ما نقلته هنا يوجد في ص.36 من الترجمة.(4/3)
و إنما المقصود أن علوم أولئك اليهود هي ثقافة عربية لا تمت إلى العبرية أو كونهم يهودا بصلة.لأن من لا وطن له و لا أمة مجتمعة و لا لغة فلا ثقافة له.فثقافة يهود كل أمة تعزى إلى تلك الأمة لا إلى اليهود.و في اليهود ذكاء و قابلية و لكن المانع من أن تكون لهم ثقافة يهودية هو عدم الوطن الذي يجمعهم فيعيشون فيه عيشة واحدة توحد أفكارهم و أذواقهم،و عدم وجود لغة توحد تعبيرهم عما يشعرون به.فإنهم بسبب شتاتهم اختلف شعورهم و اختلفت أفكارهم و اختلف تعبيرهم،فلم يبق ثمت مكان لأن تكون لهم ثقافة تسمى يهودية.و هذا غير خاص باليهود فكل قوم أصابهم ما أصاب اليهود يحكم عليهم بالحكم نفسه.
و سبب سوقي لهذا الاقتراح هو ما جاء في كتاب الأدب الأندلسي في ص.38 نقلا عن أصل المستشرقين أنه كان في الأندلس شيء يسمى دراسات تلمودية و آداب عبرانية.
هذا ما بدا إلى الآن و ربما أردف هذا المقال بمقال آخر تعليقا على بعض مسائل هذا الكتاب.و الله يشكر للمؤلفين ما بذلاه من الجهد و ما لقياه من العناء في خدمة العلم و الأدب و يديم توفيقهما.
الدكتور تقي الدين الهلالي
عودة إلى القائمة(4/4)
عنوان الكتاب:
الإسلام والمذاهب الإشتراكية
تأليف:
محمد تقي الدين الهلالي
الناشر:
الجامعة الإسلامية، المدينة المنورة
السنة الثالثة - العدد الثاني - 1390هـ/1970م(5/1)
ص -3- ... الإسلام والمذاهب الاشتراكية
بقلم فضيلة الدكتور محمد تقي الدين الهلالي
الإسلام هو الدين الرباني الذي ختم الله به دعوات الرسل وهدايتهم للبشر وهو دين خالد باق إلى قيام الساعة، له كتاب ضمن الله حفظه من التبديل والتغير والزيادة والنقص، وله سنة محمدية تفسر هذا الكتاب وتوضح معانيه وتبسط أحكامه، وتبين قواعده وتشرح فروعه، ولم يحصل مثل ذلك لأي كتاب من الكتب السماوية السابقة؛ لأنها كانت موقوتة بوقت محدود ينتهي العمل بها بانتهائه، أما القرآن والهداية المحمدية فهما باقيان إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين، لا ينسخهما ناسخ ولا يحدهما حد ولا يقف في طريقهما شيء، وإن بلغ أعداؤهما في الكيد والمكر كل مبلغ {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ، هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} - سورة الصف - وقال تعالى في سورة آل عمران: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} وقال تعالى فيها أيضاً: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}.(5/2)
ص -4- ... فعلى كل من بلغه الإسلام بوجه تقوم به الحجة عليه أن يدخل فيه ويتبعه ويتمسك به وهو دين صالح لكل الشعوب في كل زمان ومكان، ومعناه التسليم والانقياد لأمر الله تعالى باللسان والقلب والجوارح، والإسلام في عقيدته وأحكامه وآدابه وهي الأخلاق وسط بين طرفين لا إفراط فيه ولا تفريط فهو يثبت في عقيدته توحيد الله تعالى في ربوبيته وعبادته وأسمائه وصفاته، لا يعطي منها غير الله سبحانه مثقال ذرة ولو كان ملكاً مقرباً أو نبياً مرسلاً أو صديقا صالحاً.
فأما توحيد الله في ربوبيته فيتبين في نحو قوله تعالى في سورة المؤمنين: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ, سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ, قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ, سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ, قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ, سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ, بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}.(5/3)
هذه محاجة أمر الله رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم أن يحاج المشركين بها فقال له: قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين يعترفون بأن الله رب كل شيء وخالق كل شيء وهو المدبر لشئون الخلق كلهم ومع ذلك يعبدون معه غيره، قل لهم لمن الأرض ومن فيها من حيوان عاقل وغير عاقل ونبات بسائر أنواعه وجماد من خلق ذلكم ومن يملكه ومن يسيره فسيعترفون بأن الله وحده هو الذي يملك الأرض ومن فيها فقل لهم أفلا تذكرون، فلماذا تعبدون معه غيره بالخوف والرجاء والذبح والنذر والدعاء والطلب والالتجاء عند الشدائد والملمات مع أن أولئك الذين تعبدونهم فقراء عاجزون لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً فكيف بغيرهم؟ ثم قال تعالى: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} قل لهم يا محمد قل للمشركين من رب السموات وما فيها من الكواكب السيارة والنجوم وغير ذلك من الآيات من خلقها؟ ومن يدبر شؤونها؟ ومن رب العرش العظيم؟ الذي هو سقف المخلوقات ولا يعرف قدره إلا الله فإنهم سيعترفون ويقولون الله هو رب ذلك كله قل أفلا تتقون الله وتتركون ما أنتم عليه من عبادة غيره، ثم قال: {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ(5/4)
ص -5- ... مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} أي من يملك كل شيء وغيره لا يملك شيئاً بل هو نفسه مملوك ومن السيد العظيم الذي يجير أي يحمي من شاء فلا يستطيع أحد أن يناله بأذى ولا يجار عليه ولا يستطيع أحد أن يحمي ويؤمن من أراد الله عذابه أو إهلاكه فسيعترفون ويقولون: الله وحده هو الذي يستطع ذلك ، فقل لهم:كيف تذهب عقولكم فتشركون مع الله غيره في عبادته، قال تعالى في سورة الأعراف: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ, ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ, وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}.
قال في اللسان: "الرب في اللغة يطلق على المالك والسيد المدبر والمربي والقيم والمنعم ولا يطلق على غير مضاف إلا على الله عز وجل".ا هـ.
قال ابن كثير في تفسير هذه الآيات: "يخبر تعالى أنه خالق العالم سماواته وأرضه وما بين ذلك في ستة أيام، كما أخبر بذلك في غير ما آية من القرآن، واختلفوا في هذه الأيام هل كل يوم منها كهذه الأيام كما هو المتبادر إلى الذهن أو كل يوم كألف سنة كما نص على ذلك مجاهد والإمام أحمد بن حنبل، ويروى ذلك من رواية الضحاك عن ابن عباس. الشهادة.(5/5)
وقوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} قال فيه الإمام مالك رحمه الله: الاستواء معلوم والكيف مجهول والسؤال عنه بدعة، وهذا أحسن ما قيل في تفسيره فإن الاستواء في لغة العرب معلوم معناه وكيفية ذلك لا يعلمها إلا الله واعتقاد السلف الصالح إمراراً آيات الصفات كما جاءت من غير تشبيه ولا تعطيل، ثم قال ابن كثير وقوله تعالى: {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً} أي يذهب ظلام هذا بضياء هذا وضياء هذا بظلام هذا وكل منهما يطلب الآخر طلباً حثيثاً أي سريعاً لا يتأخر عنه بل إذا ذهب هذا جاء هذا وعكسه {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ} منهم من نصب ومنهم من رفع وكلاهما قريب المعنى أي الجميع تحت قهره وتسخيره ومشيئته ولهذا قال منبهاً:(5/6)
ص -6- ... {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} أي له الملك والتصرف {تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} كقوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً} الآية. قال صاحب اللسان: "وتبارك الله تقدس وتنزه وتعالى وتعاظم لا تكون هذه الصفة لغيره".ا هـ. والعالمون أجناس الخلق فهو ربهم ومالكهم والمتصرف فيهم وحده لا شريك له. وقوله: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} قال ابن كثير: "أرشد تبارك وتعالى عباده إلى دعائه الذي هو صلاحهم في دنياهم وأخراهم قيل معناه: تذللاً واستكانة وخيفة كقوله: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ} الآية. وفي الصحيحين عن أبى موسى الأشعري قال: رفع الناس أصواتهم بالدعاء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيها الناس أربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً إنّ الذي تدعون سميع قريب" الحديث. وعن عبد الله بن مغفل سمع ابنه يقول: "اللهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها, فقال: يا بني سل الله الجنة وعذ به من النار، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يكون قوم يعتدون في الدعاء والطهور" ا هـ.
فرفع الصوت في الدعاء والابتداع فيه من الاعتداء الذي نهى الله عنه.
وقوله: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا} ينهى تعالى عن الإفساد في الأرض وما بعد الإصلاح فإنه إذا كانت الأمور ماشية على السداد ثم وقع الفساد بعد(5/7)
ذلك كان أضر ما يكون على العباد فنهى تعالى عن ذلك وأمر بعبادته ودعائه والتضرع إليه والتذلل لديه فقال: {وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً} أي خوفاً مما عنده من وبيل العقاب وطمعاً فيما عنده من جزيل الثواب ثم قال: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} أي إن رحمته مرصدة للمحسنين الذين يتبعون أوامره ويتركون زواجره كما قال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ}" قاله ابن كثير في تفسيره. ا هـ.
وأما توحيد العبادة فمعناه توحيد التوجه والطلب فإذا تقرر أن الله رب العالمين هو خالقهم ومالكهم ورازقهم ومدبر شؤونهم كلها وهو بكل شيء عليم وهو على كل شيء قدير وجب أن(5/8)
ص -7- ... لا يتوجهوا في طلب جلب النفع ودفع الضر إلا إليه ولا يتخذوا من دونه ولياً ولا نصيراً واقتصر في الاستدلال على ذلك بآيتين في سورة فاطر وآيتين في سورة الأحقاف، ففي سورة فاطر قال تعالى بعد ذكر دلائل ربوبيته: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ, إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} فأخبر سبحانه أن كل من يدعى من دونه كيف ما كانت مرتبته لا يملك للداعي شيئاً من نفع أو ضر وأن غيره لا يسمع دعاء الداعين ولو سمع لم يقدر على إجابتهم ولا إسعافهم بشيء مما طلبوا وإن المدعوين من دونه سواء أكانوا ملائكة أم رسلاً أم صالحين أم غيرهم سيكفرون يوم القيامة بدعاء من دعاهم في الدنيا وسمى دعاءهم شركاً ومعنى يكفرون يتبرأون.(5/9)
وفي سورة الأحقاف: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ، وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} فأخبر سبحانه أنه لا أضل ولا أبعد عن الحق ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب لهم إلى يوم القيامة وهو أي المدعو غافل عن دعاء الداعي إن كان من الأنبياء والصالحين فهو مشغول بما أعد الله له من الكرامة والنعيم، وإن كان من الطالحين فهو مشغول بما أعد الله له من العذاب الأليم وإذا حشر الناس يوم القيامة وعلم المدعوون بدعاء الداعين لهم كانوا لهم أعداء وكفروا بدعائهم وسماه الله عبادة وكذلك سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبادة في الحديث الصحيح: "الدعاء هو العبادة"، وفي حديث آخر: "الدعاء من العبادة". رواهما الترمذي. وأما الأحكام فقد أحل الإسلام جميع الطيبات ولم يحرم منها شيئاً قال تعالى في سورة الأعراف: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} وحرم الخبائث كلها ولم يبح منها شيئاً ومنها الخنزير والميتة والدم والخمر وكل مفسد للعقل الذي هو أعظم نعمة أنعم الله بها على البشر وأكل الربا والغصب والسرقة والغش والنجش وهو الاحتيال في البيع والقذف وهو(5/10)
ص -8- ... اتهام المحصنات والمحصنين بالزنا، والزنا والسرقة وقطع الطريق وأكل أموال الناس بالباطل كالقمار وبيع الغرر وسائر أنواع الاحتيال.
وأما الآداب فقد جاء الإسلام بأكمل الآداب وأكرم الأخلاق، فمنها بر الوالدين وصلة الرحام بالإحسان إلىى الأقارب وإكرام الجار كيف ما كان جنسه أو لونه أو دينه وإطعام الطعام وإفشاء السلام وإكرام اليتامى والرفق بالضعفاء وإقامة العدل بين الناس، قال تعالى في سورة النحل: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ, وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} الآية. وأمر بإيفاء الكيل والوزن وأوعد على نقصهما بالويل قال تعالى: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ, الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ, وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ}. وأمر بكظم الغيظ والعفو عن الناس، ومدح الذين يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، وذم التبذير والإسراف، وحث على الصدقة وذم الكبر والعجب والحسد والبخل والرياء والغيبة والنميمة والتجسس وقبول أخبار الفساق بدون تثبت وأمر بالصبر والتواضع والتواصي بالحق والتعاون على البر التقوى ووضع النبي صلى الله عليه وسلم ميزاناً دقيقاً يميز المسلم الصادق من المنافق المدعي الكاذب، فقال فيما رواه البخاري ومسلم: "آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان". وفي رواية انفرد بها مسلم: "وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم" . وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده". رواه البخاري .(5/11)
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة". يعني من قتل شخصاً من غير المسلمين بينه وبين المسلمين عهد لا يشم رائحة الجنة، وسوى الإسلام بين جميع البشر على اختلاف ألوانهم وأجناسهم لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى والعمل الصالح، إلى غير ذلك من مكارم الأخلاق التي لا تجدها في غيره أبداً ولو ذهبنا نعدده لطال بنا القول.(5/12)
ص -9- ... المذاهب الحديثة
(الاشتراكية الشيوعية)
اعلم أيها القارئ الكريم أن للإسلام نظاماً اقتصادياً مستقلاً مخالفاً لنظام رأس المال والاشتراكيات بأنواعها والشيوعية كل ما يدعى في هذه المذاهب من خير فقد سبق إليه الإسلام قبل التفكير فيها بقرون كثيرة، وكل ما فيها من شر فقد ابتعد عنه وحذر أهله منه، فهو يخالف نظام رأس المال بفرض الزكاة في الذهب والفضة والإبل والبقر والغنم وما يخرج من الأرض من حبوب وثمرات والحق في المعدن والركاز وهو ما وجد مدفوناً في الأرض من الأزمنة السابقة وكذلك فرض كفارات، ككفارة الأيمان وكفارة الظهار وكفارة قتل النفس خطأ وكفارة الإفطار في نهار رمضان بلا عذر، وحرم الربا وبيع الغرر والبيوع الفاسدة، وبذلك ضمن التوازن النسبي في الممتلكات الثابتة والمنقولة، وحفظ الفقراء من استبداد الأغنياء واحتكارهم للثروة، ولم يحجر على أصحاب الكفاءات بل تركهم أحراراً في استخدام مواهبهم واكتساب الأموال بطرق مشروعة إذا أدوا حقهما، ومن أراد أن يجعل الناس سواء، فليس لجهله دواء، قال تعالى في سورة النحل: {وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ} وسبب التفاضل في الرزق التفاضل في المواهب التي بها يكتسب الرزق، ولن يستطيع أحد من الأفراد والجماعات لا بسيف ولا مطرقة ولا محراث ولا بأي نوع من أنواع الإرهاب أن يجعل الناس في المواهب سواء، وإذا اختلفوا في المواهب فلا بد أن يختلفوا في الرزق سنة الله التي قد خلت من قبل، ولن تجد لسنة الله تبديلاً، نزل المطر في أرض تثمر الكمأة بالعامية المغربية (الترفاس) فانطلق جماعة من الناس يبحثون عن الكمأة ثم رجعوا بعضهم حصل عشرين رطلاً، وبعضهم حصل رطلين، وبين هذين درجات كثيرة متفاوتة، فهل يجب على صاحب العشرين أن يقتسم مع صاحب الرطلين ؟ هذا جور وظلم وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون، خرج ثلاثة صيادين إلى البحر فوضعوا شباكهم أو ألقوا(5/13)
سناراتهم فرجع كل واحد بما قسم له فهل يجب أن يخلطوا ويقتسموا ؟ لا،(5/14)
ص -10- ... لا هذا ظلم وجور، خرج ثلاثة صيادين لصيد الحجل في الهضاب والغابات وآخرون لصيد الغزلان في الصحراء، فهل يجب أن يجمعوا ما حصلوا عليه ويقتسموا بالسوية ؟ لا، لا، هذا ظلم وجور، التفاوت في المواهب يستلزم التفاوت في الأرزاق لا محالة، ودواؤه فرض الزكاة والقرض بلا منفعة، وفرض الكفارات والحث على الصدقات.
(الاشتراكية الشيوعية)
الاشتراكية ثلاثة أنواع:
النوع الأول:
الاشتراكية القومية وهي التي دعا إليها موسوليني وهلتر، وحاصلها أن يعتبر الشعب كله عمالاً والحكومة هي التي تتصرف في جميع الأموال فتعين لكل عامل عمله وأجره ولا يجوز لأحد أن يرفض ما عينته له الحكومة وليس إلا حزب واحد وعلى الشعب أن ينتخب حكومته من ذلك الحزب، فهو الوصي على الشعب الذي ينظر في مصالحه في سلمه وحربه، وغاية الحزب والحكومة أن يكون شعبه فوق جميع الشعوب غنى وقوة وسعادة ولكل فرد من أفراد الشعب الحق في الحصول على عمل وأجر يكفل معيشته وله الحق أن يدخر ويملك ما قدر عليه من الممتلكات المنقولة وغيرها بشرط أن يؤدي الضرائب المفروضة، والملاك يقولون إن تلك الضرائب ثقيلة وكثيرة حتى إنه لا يبقى لهم بعد أخذها إلا قليل يعيشون به ويدعون إن حال العامل أفضل من حالهم وأن الحكومة تحصى عليهم كل شيء. هذا مبلغ علمي فيما رأيته وسمعته ولكني لم أسمع قط بوجود رشوة.
أما المناصب العالية فهي خاصة للمنتسبين إلى الحزب، وهذا النظام لم يعمر طويلاً حتى يعلم صلاحه أو فساده ولما جر على أهله حرباً طاحنة أحرقت الأخضر واليابس فإن جمهور الشعب الألماني مقت هذا النظام ورفضه ولا يريد العودة إليه، ومن المؤسف أن بعض البلدان العربية اختارته وتمسكت به وعضت عليه بالنواجذ ودانت به مع أن أهله تبرأوا منه. هذا مع ما لهم من العلم والخبرة والتعاون والنجدة وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر ولو شاء لهداكم أجمعين.(5/15)
ص -11- ... النوع الثاني:
الاشتراكية الديمقراطية، كالتي عليها حزب العمال البريطاني الحاكم وأحزاب أخرى في فرنسا وإيطاليا وألمانيا وغيرها، وهذا النوع من الاشتراكية ليس فيه استبداد ولا خنق لحريات الشعوب وإنما يبنى على الدعاية ولا يمنع الملك الفردي لكنه يوجب أن تكون المصالح العامة كالمعادن والمناجم وسكك الحديد وما أشبه ذلك ملكاً للحكومة التي تمثل الشعب، فهذه الموارد يجب أن تكون ملكاً لعموم الشعب لا يستبد باستغلالها فرد ولا جماعة؛ لأن ذلك يفضي إلى احتكار بعض الأفراد أو الجماعات مقداراً كبيراً من الأموال والممتلكات على حساب أبناء جنسهم، وبذلك تنقسم الأمة إلى أغنياء طاغين قد تفاحش غناهم وتجاوز الحدود، وفقراء مدقعين قد تفاحش فقرهم فهم في غاية الذلة والاستكانة لا رأي لهم ولا كرامة موطوئين بالأقدام عبيداً أرقاء ليس لهم إلا السمع والطاعة وذلك ظلم وحيف في نظر الاشتراكية الديمقراطية، ولا تمنع هذه الاشتراكية وجود أحزاب مخالفة لها؛ لأنها كما قلنا لا تنشر مبادئها بالقهر والجبر بل بالدعاية والإقناع وتقدس حرية الرأي والكلام والعقيدة والعمل والتنقل.(5/16)
ولما كان هذا النوع من الاشتراكية يبيح الملك إلا ما تقدم استثناؤه خاف من تفاحش الغنى وتعاظم الثروة ففرض ضرائب تصاعدية على قدر الدخل والمحاصيل حتى لا تتسع المسافة بين الأغنياء والفقراء وهذه الاشتراكية لا تتعرض للدين ولا تتدخل في عقائد الناس وأقطابها متدينون معظمون لرجال الكنائس متفقون معهم وهم حاربون نظام رأس المال ويتهمون المتبعين له بأنهم كاذبون في ما يزعمونه من الدعوة إلى الحرية والديمقراطية لأنه متى لم تقيد الثروة بالقيود التي تقدم ذكرها طغى الأغنياء على الفقراء {كَلاَّ إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى, أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} فالرجل الذي يملك معامل أو مزارع أو متاجر تحتاج إلى آلاف العمال لا بد أن يفرض إرادته على أولئك العمال فلا يستطيعوا أن ينتخبوا غيره إذا رشح نفسه ليكون نائباً في مجلس النواب أو يكون عيناً في مجلس الأعيان، وهذا يتنافى مع تحقيق الحرية وإقامة العدل والمساواة التي يزعم(5/17)
ص -12- ... أصحاب رؤوس الأموال أنهم أنصارها، أما أنصار عقيدة رأس المال فلهم حجج يدفعون بها عن أنفسهم منها الحكومة تستنكر الاحتكار على أفراد الشعب وجماعاته وتحرمه عليهم وتحله لنفسها، ومنها أن الاستيلاء على المصالح العامة يعطل حركة التنافس بين الأفراد والجماعات فيضعف النشاط ويقل الحماس ونتيجة ذلك قلة المحاصيل وفرق كبير بين من يشتغل لنفسه ويشتغل في ما يعود عليه بالنفع والخير العميم وبين عامل يعمل في مصلحة حكومية لا يهمه ربحها أو خسارتها وإنما يهمه الراتب الذي يحصله في نهاية الأسبوع أو في نهاية الشهر، هذا مع اتفاق الفريقين على حرية الرأي والعقيدة وسائر الحريات ولذلك نراهم متعايشين في شعب واحد متعاونين على ما يرون فيه الخير لأمتهم وإن اختلفت وسائلهم، وقد مضى على هذا النوع من الاشتراكية زمان طويل في بلدان مختلفة وظهر أنه صالح للبقاء عندهم.
النوع الثالث من الاشتراكية:
النوع الثالث من الاشتراكية التي يزعم أهلها أنها مقدمة للشيوعية، وتسمى (البولشفية) وهذا النوع يبنى على سلب جميع الممتلكات وجميع الحريات والمعتقدات ويجعل الإنسان آلة صماء يحركها الرؤساء فتتحرك ويقفونها فتقف، ويأمرونها أن تنطق فتنطق بما يشتهون وأن تسكت فتسكت، وأن تمدح فلانا فتقدسه في أول النهار، ثم يأمرونها أن تلعنه في آخر النهار ، فتأتمر ولا تفكر فالاشتراكي المخلص عندهم هو الذي يكون كالعقل الالكتروني وليس مقصودي بهذا الكلام أن أشتمهم، ولكني أريد بيان الحقيقة كما هي في نظري، وقد دخلت برلين الشرقية وبقيت فيها أياماً وأنا أذكر ما شاهدته وخبرته وتحققته.
فأما سلب الأموال والممتلكات فإنه لا يجوز لأحد أن يملك أرضاً ولا داراً ولا سيارة ولا متجراً ولا يملك إلا ثيابه التي على ظهره وإلا أجرة عمله بشرط أن لا يدخرها لو كان فيها متسع للادخار.(5/18)
ودونك مثلا يعينك على تصور هذه الحقيقة، رأيت في برلين الغربية سنة 1954م بتاريخ النصارى قبل بناء سور برلين عجوزاً تسكن في غريفة حقيرة(5/19)
ص -13- ... من الفندق الذي كنت فيه نازلاً فأخبرتني صاحبة الفندق أن تلك العجوز قبل الحرب كانت لها ثروة طائلة فلما انتهت الحرب بخسران ألمانيا أراضيها الشرقية استولى الشيوعيون على أملاكها كلها، ولم يبقوا لها منها شيئاً لا قليلاً ولا كثيراً، وبقي لها جزء قليل من بيت في برلين الغربية وقد أعطاها الشيوعيون غرفة في بيت من برلين الشرقية وجعلوا لها أجرة لسد الرمق وفرضوا عليها أن تشتغل في كنس الشوارع فهي تشتغل مدة طويلة إلى أن يجتمع لها من كراء ذلك الجزء الضئيل الذي تملكه من ذلك البيت في برلين الغربية مقدار من المال فتنتقل إلى برلين الغربية وتستأجر غريفة رخيصة الثمن وتنفق مما اجتمع لها حتى ينقضي ثم ترجع إلى الجحيم.
أما بعد بناء السور الذي هو عكس ما قال الله تعالى: {بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} فلا أدري ما فعل الله بتلك المسكينة وأمثالها من الأغنياء الذين قلب لهم الزمان ظهر المجن فأصبحوا بؤساء بين عشية وضحاها بسبب الاحتلال الروسي وفرض الحكم الشيوعي على ذلك الشعب المنكوب، ودونك مثلا آخر حدثنا شهود عيان أن أهل بيت من الأغنياء (ولا أقول أسرة ولا عائلة) من ألمانيا الشرقية لما دهمهم الاحتلال الروسي أمروا بإحضار طعام الضيافة للفاتحين الغزاة فأمروا خدمهم بذبح المواشي وطهي الطعام وتوجهوا إلى الغابة وعلقوا فيها حبالاً وقتلوا أنفسهم خنقاً لأنهم يعلمون أن الضيوف الثقلاء بعد أكلهم وشربهم الخمور يسلبونهم كل شيء حتى الخواتم التي في أصابعهم ويطردونهم من ديارهم ومزارعهم ويفرضون على كل من سلبوا أرضه أو داره أن يكون بعيداً من الأرض المسلوبة أو الدار المغصوبة والمعمل مسافة لا تقل عن ثلاثين كيلو مترا، ومتى وجد في مكان يقرب من ممتلكاته السابقة أقل من ثلاثين كيلو متراً يعاقب عقاباً شديداً.(5/20)
ودونك مثالا ثالثاً، من المعلوم أن الشعب الجرماني الذي يسمونه بالألماني من أرقى شعوب أوربة مدنية وحضارة لا يمتري في ذلك اثنان، ولا ينتطح فيه عنزان، وقد انقسمت هذه البلاد الجرمانية وهذا هو الاسم الذي سمتها به العرب في عام تخطيط البلدان(5/21)
ص -14- ... بعد الحرب العالمية الأخيرة قسمين: غربي وشرقي، فالقسم الغربي مع ما أصابه من النكبات في زمان الحرب الطحون رجع أحسن مما كان يشهد بذلك كل مسافر وسائح رأى تلك البلاد فالمباني التي تهدم ثمانون منها في المائة بفعل قنابل الأعداء أعيدت أحسن مما كانت عليه، وكذلك المعامل والمزارع والطرق، هذا في القسم الغرب .
أما القسم الشرقي فإنه خراب كأنه انتقل من يد دولة متمدنة إلى دولة همجية، سافرنا بالسيارة من المغرب فعبرنا المضيق من سبتة إلى الجزيرة، وعبرنا أسبانيا ففرنسة فالقسم الغربي من ألمانيا وكان الطريق من كلونيا إلى هنوفر التي هي على حدود ألمانيا الشرقية من أحسن طرق أوربا مقسوماً قسمين بينهما حاجز وكل منهما تسير فيه أربع سيارات ولا تحتاج السيارة إلى توقف لأن السيارات التي تعبر الطريق عرضاً لها ممرات إما تحت الأرض وإما فوق الجسور وقد تعجب في ذلك سائق سيارتي تبرعا وهو الأخ الحاج أحمد هارون، فقال لي: أريد أن أجرب هل اضطر إلى نقص سرعة السيارة أم لا أضطر فبقي ساعتين بمقياس واحد لم يضطر إلى أن ينقص شيئاً منه وأسماء الأماكن وعلامات الطرق المختلفة والأضواء التي تقوم مقام شرطة المرور كل ذلك في غاية الإتقان بحيث قلما يحتاج المسافر إلى أن يسأل عن شيء أو يضل طريقه هذا في القسم الغربي.
أما في القسم الشرقي فالأمر بعكس ذلك الطريق مهمل لم يصلح منذ سنين كأنه صحراء وليس فيه علامات ولا أضواء فتجد السائحين ضائعين يسأل بعضهم بعضاً ولا هادي ولا مرشد.(5/22)
والشعب الذي يسكن القسمين شعب واحد لا يختلف إلا في نظام الحكم، وهناك مثل آخر وهو برلين الغربية، وبرلين الشرقية، من المعلوم أن مدينة برلين مدينة واحدة كانت عاصمة جرمانية كلها قبل الحرب، وبعد هزيمة الجرمانيين في الحرب العالمية الأخيرة أصبحت برلين جزيرة في بحر ألمانيا الشرقية تحيط بها أراضي ألمانيا الشرقية من جانب، فاقتسمه الغالبون فأخذ الأمريكيون والبريطانيون والفرنسيون القسم الغربي منها(5/23)
ص -15- ... وحكموه مدة ثم سلموه إلى حكومة ألمانيا الاتحادية، أما القسم الشرقي فبقي تابعاً لحكومة ألمانيا الشرقية تحت نفوذ الروسيين، وكل من زار قسمي برلين الشرقي والغربي لا يكاد ينقضي عجبه، يرى القسم الغربي وسكانه ثلاثة ملايين يعيشون في أرغد عيش في غاية الرفاهية والازدهار فترى المخازن والمتاجر ملأى بأنواع التحف والبضائع والمطاعم والمشارب والحدائق والملاعب والشوارع غاصة بأجمل السيارات والمباني التي تهدمت كلها في زمان الحرب قد أعيد بناؤها حتى صارت أجمل مما كانت وترى السكان يرفلون في أفخر الثياب والزي، أما إذا أردت أن تدخل إلى برلين الشرقية فإنك تجيء إلى مدخل السور وتسلم جواز سفرك وتعطي بطاقة صغيرة وتقف مع صفوف الواقفين حتى يجيء دورك فتنزل إلى سرداب تحت الأرض وتنتظر حتى تمتحن في أربعة مكاتب بأسئلة وأجوبة والمكتب الرابع بعد ما يعرف مقدار ما عندك من النقود ويسجلها يرد لك الجواز، فتدخل في القسم الشرقي وتجده يبابا خراباً كأن خيلا أغارت عليه ونهبته، وأبدلت سعده نحساً ونضرته كآبة وسعادته شقاء، فلا مباني تعجبك ولا أسواق ولا مطاعم ولا سيارات جميلة ولالا بضائع في المخازن والناس في ثياب حقيرة والنساء لابسات ثياباً خسيسة، فكأنك خرجت من عالم إلى عالم ، فإن قلت: وما الموجب لبناء السور؟ فالجواب أن الشيوعيين أو الاشتراكيين كما يجبون أن يدعوا يزعمون أنهم وحدهم يعيشون في النعيم في الحرية والديمقراطية والعالم كله يعيش في شقاء العبودية تحت نظام رأس المال الطاغي أو الاستبداد الظالم ولكن رعاياهم لا تصدق هذا الزعم، ولذلك لم يزالوا يفرون من ذلك الفردوس المزعوم إلى برلين الغربية فتنقلهم الطائرات إلى برلين الغربية حيث يستنشقون نسيم الحرية ويشعرون بأنهم أحرار يسيرون في أرض الله الواسعة حيث يشاءون فلما عجزت حكومة ألمانيا الشرقية تحت المراقبة الروسية أن تقنعهم بما تزعم من الدعاوى أرادت أن تضرب سوراً على(5/24)
ذلك الفردوس وتنصب عليه الأسلاك الشائكة والرشاشات والحرس المسلح ليلا ونهاراً حتى لا يفر واحد من فردوس الشيوعية ونعيمها إلى(5/25)
ص -16- ... عذاب نظام رأس المال وجحيمه، ومع ذلك كله لم تنقطع الهجرة والفرار وقد هرب من ألمانيا الشرقية إلى ألمانيا الغربية بواسطة برلين الغربية منذ نهاية الحرب أكثر من أربعة ملايين وحتى بعد بناء السور لا يزال الناس يهربون ويتركون بيوتهم وأمتعتهم ويفرون بأنفسهم مؤثرين الحرية على كل شيء سواها من متاع الدنيا، وحوادث هذا الفرار لا تزال تتلى صباح مساء في الإذاعات على مسامع القراء وما أحسن المثل العامي الذي يقول: (حتى كلب ما هرب من دار العرس) معناه بالفصحى: (لا كلب يفر من الدار التي تصنع فيها وليمة العرس بل بالعكس كل كلب يحب أن يأتيها لينال من فضلات الطعام) ومن أغرب ما سمعته من إذاعة لندن في هذا الصدد أن خمسة وعشرين شخصاً اتفقوا على أن يحفروا نفقاً يبتدئون من دار أحدهم وكانت داره بقرب السور فقضوا مدة في الحفر كل ليلة يحفرون ساعات ويقومون بأعمالهم المفروضة عيهم في النهار حتى وصلوا النفق إلى مبنى في القسم الغربي ولما انتهى النفق خرجوا كلهم ذات ليلة وتركوا الدار تنعي من بناها، وهناك حوادث كثيرة طريفة وعجيبة يعرفها من يتتبع مثل هذه الأخبار.
وأما سلب الحريات فيجب على كل عضو في الحزب أن يكفر بجميع الأديان وأن يؤمن بعصمة شارل ماركس في كل ما شرعه واعتقده ولينين، وكان ستالين ثالث ثلاثة إلى أن خلعه نائبه وشريكه في كل ما ارتكبه خروتشوف بعد وفاته فبطلت قدسيته عند بعض الشيوعيين وبقيت ثابتة عند بعضهم، أما من لم يكن من المشتركين في الحزب فيجوز له أن يقول إنه مسلم أو نصراني بشرط أن لا يرد شيئاً ولا ينتقد شيئاً من نظام شارل ماركس ولا من الأنظمة التي يضعها الحزب الشيوعي ومع ذلك يكون محتقراً موضع سخرية واستهزاء.(5/26)
أما في السياسة فلا يجوز له أن يعتقد إلا سياسة الحزب وإن تناقضت يتناقض معها فكل الزعماء الذين رفضهم الحزب يجب على جميع الناس أن يقلبوا لهم ظهر المجن ويذموهم بعدما مدحوهم أعظم المدح كتروتسكي ومالينوف ومولوتوف وخروشوف. وأما ستالين فقد تقدم خبر رفعهم له(5/27)
ص -17- ... إلى درجة التقديس ثم خفضهم له إلى درجة الإجرام.
وأما حرية العمل فهي معدومة، فيجب على كل إنسان ذكراً كان أو أنثى أن يقبل العمل الذي تفرضه عليه الحكومة في المكان الذي تعينه له بالأجر الذي تعينه له والساعات التي تعينها له ولا يجوز له أن ينتقد شيئاً من ذلك، وإلا صار متهماً بالخيانة واستحق العقاب الشديد على قدر انتقاده وكذلك حرية التنقل والسفر إلى الخارج لا يجوز لأحد أن يفكر فيه وقد شاهدت في برلين الشرقية الصبيان في سن أربع عشرة سنة يوبخون والديهم ويتهمونهم بالرجعية وعدم الإخلاص للحزب والجمود على الأفكار السخيفة والآباء والأمهات يخافونهم، والواجب على كل ملك ورئيس من رؤساء المسلمين أن يحفظ شعبه من هذه المذاهب التي تجلب الشقاء والشر ويجب أن تسمىسل بحق الشعوب إذا كان غلاة الشيوعيين وكلهم غلاة يسمون الدين أفيون الشعوب فنحن نسمي نحلتهم سل الشعوب ولسنا من المؤثرين المحتكرين حتى نتهم بأننا نعارضهم محافظة على أموالنا ولكن النصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم أوجب علينا أن ننصح لجميع الشعوب وخصوصاً المسلمين أن يبتعدوا من جميع أنواع الاشتراكية اسماً وعقيدة وعملاً، ففي ما جاء به كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم غنية لهم وكفاية، ومن لم يسعه ما وسع السلف الصالح فلا وسع الله عليه:
ومن لم يسعه ما أتى عن محمد ... فلا وسع الرحمن يوماً على الغر
أما التسمية فقد قال الله تعالى: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} آخر سورة المؤمنين.(5/28)
وأما العقيدة والعمل فقد تقدم أن الإسلام سبق إلى كل خير وتجنب عن كل شر وكل ما يدعونه من المواساة وابتغاء العدالة بين أفراد الشعب ظهر أنه غير صحيح، فقد أخبرني السيد أحمد موسلر المسلم الألماني في بيته ببرلين الغربية، قال: كنا نعيب على حكومة هلتر أنها تدعي الاشتراكية لتحقيق المساواة بين أفراد الشعب ومع ذلك كان طعام الضباط يختلف عن طعام الجنود(5/29)
ص -18- ... فكان للضباط مطبخ فيه ألوان من الطعام ولعامة الجنود مطبخ آخر فيه ألوان دونها في الجودة فلما انهزم الجيش الألماني وقعت في أسر الروسيين فأخذوني إلى موسكو وبقيت هنالك سنتين فرأيت للجيش الروسي خمسة مطابخ بعضها أعلى من بعض يعني أن الطعام عندهم خمس درجات الدرجة العليا لكبار الضباط والثانية للمتوسطين والثالثة للصغار والرابعة للعرفاء والخامسة لعامة الجند، قال: فعلمت أن كلا الفريقين في دعواه الاشتراكيون القوميون والاشتراكيون الشيوعيون كلهم مخادعون، وصدق الله العظيم إذ يقول في سورة البقرة: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ, إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ, وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} .(5/30)
عنوان الكتاب:
التقدم والرجعية (1)
تأليف:
تقي الدين الهلالي
الناشر:
الجامعة الاسلامية بالمدينة المنورة
السنة الثانية - العدد الاول - رجب 1389هـ(6/1)
ص -8- ... التقدم والرجعية
بقلم الدكتور تقي الدين الهلالي
محاضرة ألقاها فضيلة الدكتور على طلبة الجامعة الإسلامية
وجمع غفير من الزوار في الموسم الثقافي الماضي
هاتان الكلمتين لم تكن تستعملهما العرب بهذا المعنى الذي يقصده بهما كتاب العصر الحاضر لأنهما مما ترجمه المترجمون باللغة العربية ناقلين له من اللغات الأوروبية فتلقاه كتاب العربية واستعملوه في كلامهم وكتبهم. والرجعية نسبة إلى الرجع وهو مصدر رجع يرجع رجعا أي عاد إلى مكانه الذي كان فيه أو إلى حال كان فيها وفعله بهذا المعنى اللازم.قال ابن منظور في لسان العرب: "ومصدره لازما الرجوع ومصدره واقعا الرجع يقال رجعته رجعا فرجع رجوعا". اهـ.والرجعية عند المعاصرين صفة الرجعي الذي يرجع في أفكاره وعقائده إلى الزمان الماضي وهو زمن الانحطاط والظلم والجهل والاستئثار والإصرار على الخرافات والأوهام التي انقشع الظلام فيها عن بصائر المتقدمين والمتمدنين السائرين حثيثا في ركب الحضارة الطالبين للحقيقة ولا يمنعهم منها مانع من العقيدة أو عادة يتعصب الرجعيون لها فهم - أعني المتقدمين - دائما في طليعة هذا الركب أغنياء أقوياء سعداء علماء سائرون إلى الأمام متعاونون مع الشعوب التقدمية ينظرون إلى آبائهم وأسلافهم نظرة ازدراء أو رحمة وشفقة ويسخرون منهم كلما ذكروا أحوالهم.(6/2)
ص -9- ... بداية عصر النهضة والتقدم عند الأوروبيين وكيف كانت الحالة قبل ذلك:
ينبغي أن نذكر هنا كيف كانت الحال قبل النهضة ليعرف فضلها, ويتبين لكل ذي عينين الفرق الشاسع بين التقدميين والرجعيين الذين يصرون على تقديس العصور المظلمة على حد تعبير خصومهم .
قال جوزيف مكيب في كتابه ( مدنية العرب في الأندلس ) وقد ترجمته وعلقت عليه وطبع في بغداد سنة 1369 هـ 1950 م وسبب ترجمتي له أني كنت في غرناطة أثناء الحرب العالمية الأخيرة لأن الفرنسين نفوني من الأراضي التي كانت تحت أيديهم وهي القسم الأكبر, والقسم الذي كان بيد الأسبانيين كان ممتدا على شاطئ البحر الأبيض لا يزيد عرضه على (50ميلا) وكنت ولا أزال مصابا بداء الربو أحتاج إلى البعد عن البحر.
وكان الطلبة المغاربة الذين يدرسون في جامعة غرناطة ملتفين حولي, مترددين على زيارتي وكان الأساتذة الإسبانيون الذين يعلمونهم لا ذمة لهم ولا أمانة وذلك شأن أكثر الأساتذة في البلاد التي تنعدم فيها الحرية ويسود فيها الاستبداد, فكانوا يفترون على التاريخ ويزعمون أن المسلمين الفاتحين للأندلس من الشرقيين والمغربيين كانوا سيئ الأخلاق جهالا عتاة وكان حكمهم جائرا قاسيا, فمحوا كل خلق كريم من الشعب الإسباني وعلموه مساوئ الأخلاق فكل خلق سيء مرذول يوجد في الشعب الإسباني هو من آثار الحكام المسلمين, وكنت قد اطلعت على كتابين ألفهما في تاريخ المسلمين في إسبانيا المؤلف الإنكليزي الشهير الذائع الصيب (جوزيف مكيب ) أحدهما كبير والآخر صغير فعمدت إلى الصغير فترجمته بالعربية ليكون سلاحا بيد الطلبة المغاربة وغيرهم من المسلمين يواجهون به كل عدو جاحد مكابر .(6/3)
وهذا المؤلف عدو للأديان كلها وقد ذكرت له ترجمة واسعة في أول الكتاب إلا أن طعنه في الإسلام أقل وأخف من طعنه في النصرانية, لأن علماء شعبه الذين يرد عليهم من الإنكليزيين وسائر الأوروبيين كلهم نصارى وقد أستثقل تفاحش قوله وشتائمه للنصارى ولكني أضطر إلى نقلها إذا كانت ممزوجة(6/4)
ص -10- ... الفصل الأول
لقد أطلقت لفظ العصور المظلمة كسائر المؤرخين في (تويليفي) هذا على أكثر عصور الممالك النصرانية انحطاطا على العموم وخصوصا القرن العاشر المسيحي تنصرت الممالك الأوروبية قبل ذلك بخمس قرون أو ستة قرون تقريبا مضت من يوم تغلب البوابي - جمع بابا - والأساقفة على إرادة الملوك وحثوهم على إبادة كل مصدر من مصادر الإلهام يخالفهم فأغلقوا المدارس والمعاهد وقضوا على العلم والأدب.
وإذا استثنينا بعض المواضع في أوروبا كالبندقية إذ كان فيها بقية تافهة إصطلاحية من علم اليونانيين تخفف من شرهم وهمجيتهم فإن أوروبا كلها كانت في تباب وخراب اقتصاديا واجتماعيا وعقليا وكان ذلك العهد أشد سواد وظلمة وانحطاطا من سائر العصور البابوية وفي ذلك الزمان أطلق الأساقفة والقسيسون والرهبان والراهبات الأعنة في الدعارة والشهوات البهيمية ولم يكونوا في ذلك الزمان
مع اعترافه بفضل المسلمين وسبب هذا الاستثقال حب الإقتداء بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم فإنه لم يكن طعانا ولا لعانا ولا فاحشا ولا متفحشا ولما طبع هذا الكتاب ووصلت نسخ منه إلى تطوان في زمن الاستعمار الإسباني صادر الحكام الإسبانيون تلك النسخ وزجوا بالكتبي الذي كان يبيعها في السجن وليس ذلك بعيدا من أخلاقهم وقد حبسوني أنا بنفسي قبل أن ينشر الكتاب وقبل أن يعلموا بوجوده وكان ذلك تهورا منهم وطغيانا لوساوس كان شيطانهم يوسوس لهم بها ولمقالات كنت بعثتها في البريد الإنكليزي بتطوان إلى الأستاذ المجاهد الشهيد الشيخ حسن البنا رحمة الله عليه فقد اطلعوا عليها بواسطة بعض الموظفين المغاربة في البريد الإنكليزي ثم أنقذني الله منهم وأنقذ ذلك الجزء من المغرب من حكمهم ونسأله سبحانه أن ينقذ الباقي وهو(سبتة, ومليلية ووادي الذهب والصحراء المغربية والساقية الحمراء) ويوفق المغاربة لغسل هذا العار إنه على كل شيء قدير .
قال جوزيف مكيب في كتابه مدنية العرب في الأندلس :(6/5)
ص -11- ... يستترون حتى بجلباب النفاق ولو أن غنيا مليونيا من أهل هذا العصر كان في ذلك الزمان لقدر أن يشتري مملكة بأسرها وكان تسعة وتسعون في المائة خدما يعاملون بأقسى ما يعامل به العبيد ولم يكن ولا واحد في المائة من الرجال ولا واحد في الألف من النساء تقدر على القراءة وكان الضعيف مضطهدا مقهورا مسحوقا تحت الأقدام مغموسا في الطين والدم بل حتى القوي كان مهددا بالأوبئة الوافدة والسيوف اللامعة على الدوام والنجوم ذوات الأذناب في السماء وجنود العفاريت الهائلة في الهواء كذلك إن أردت أن تعرف أفكار النصرانية الاجتماعية فادرس القرن العاشر فلا زخارف أقوال الواعظين ولا كذب المعتذرين ولا الإذعان السياسي من المؤرخين يقدر أن يخفي عن ذوي الألباب عظم تبعة الكنيسة ولا سيما البابوية في ذلك الزمان الذي بلغ فيه الانحطاط إلى دركة لا نظير لها وإنه لفصل من أشد فصول البشرية شقاء وحزنا من الفصول التي استشهدت فيها الإنسانية وأنه لأفضع فصول من فصول غضب الله. حقا لقد حطم "بولوس" من ناحية و"أوكستين" من ناحية أخرى مدنية الإنسان فهل هذا الذي سمياه - بعيدين عن اتباع الهوى - (مدينة الله).
يقصد المؤلف بهذا الكلام رجلين على يديهما انتشرت النصرانية المحرفة التي يعزو إليها المؤلف كل ما أصاب الناس من الشقاء وينبغي أن أذكر للمستمعين الكرام ترجمتي هذين الرجلين باختصار:(6/6)
أما "بولوس" ويسميه الأوروبيون (بول الرسول) وتعده الكنيسة من الرسل الإثني عشر من أصحاب عيسى عليه السلام وكان "بولس" يهوديا يونانيا ولد في "طرسوس" ولا يعرف بالتحقيق تاريخ ولادته وقد خمن المؤرخون أن يكون قد ولد سنة عشر للميلاد وكان عالما بعلوم اليهود واليونان وكان يعد من فقهاء اليهود وكان شديد العداوة لكل من آمن بالمسيح محرضا على قتلهم ولما كان في نحو الثلاثين من عمره ادعى أنه رأى رؤيا تدل على أن النصرانية حق فصار نصرانيا متعصبا وبعد ما قضى "بولوس" بقية عمره أي خمسا وثلاثين سنة في حل وترحال مطوفا في أقطار آسيا الصغرى وأوروبا في البر والبحر يدعو الناس إلى النصرانية ويخبرهم بأن الله أمره بذلك ويبني الكنائس ويؤسس الجماعات ويركب الأخطار(6/7)
ص -12- ... وأعداؤه من اليهود الحاقدين عليه والنصارى الحاسدين له ينصبون له الشباك ويكيدون له المكائد وقد سجن مرارا وقتل في رومية سنة 65بتاريخ النصارى وله مؤلفات كثيرة معروفة مقدسة عند النصارى .
وأما "أوكستين" ويسمى باللاتينية (أغسطونيوس) فقد ولد في "تاغستة" وهي بليدة من توميديا في إفريقيا غير بعيدة عن قرطجنة وهي في هذه الأيام من أعمال تونس في 13من تشرين الثاني سنة 354وتوفي في 18 آب سنة 430 بتاريخ النصارى وكان أبوه وثنيا وأمه نصرانية متعصبة وكان في أول أمره بعيد على التدين والصلاح ثم اشتغل بدراسة الفلسفة ولما بلغ من عمره 29 سنة انتقل إلى إيطاليا فاجتمع بالعلماء ثم دخل في النصرانية بإلحاح من أمه وألف كتاب سماه (الاعترافات) ذكر فيه سيرته قبل التدين بالنصرانية وبعده ثم رجع إلى بلده "تاغستة" ثم أخذ يعظ في الكنيسة إلى أن صار أسقفا وبقي فيها 35 سنة وألف تآليف كثيرة في الديانة النصرانية منها تفسير الزبور ومنها حواش على الأناجيل الأربعة وله كتابان آخران أحدهما كتاب (الاعترافات) وقد تقدم ذكره والثاني (مدينة الله) وإليه أشار "جوزيف مكيب" الذي ترجمت كتابه وسميته "مدنية العرب في الأندلس" ومقصوده بهذا الكتاب الرد على الوثانيين الذين يعبدون الأوثان والأصنام ودعوتهم إلى الدخول في مدينة الله بإيمانهم بدين النصارى الذي يقصر العبادة على ثلاث أقانيم فقط أولها الأب وثانيها الإبن وهو عيسى عليه السلام وثالثها روح القدس وهو قد يظهر في بعض الأحيان على شكل حمامة أو غيرها يقول كاتب هذه المحاضرة وليت شعري ما الفرق بين عبادة الأوثان والأصنام وبين عبادة الأقانيم الثلاثة؟ صدق الله العظيم {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ أَفَلا يَتُوبُونَ(6/8)
إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}سورة المائدة.
ثم قال "جوزيف مكيب" في وصف انحطاط الأوروبيين قبل فتح المسلمين الأندلس وبعده بزمن طويل:(6/9)
ص -13- ... "اعلم أن أمهات المدن الأوروبية لم توجد فيها قنوات لصرف المياه القذرة حتى بعد مضي ستمائة سنة من ذلك التاريخ أي من سنة 756-1356م فكانت المياه المنتنة النجسة تجري في طول شوارع باريس ولندن ويضاف إلى ذلك أنها لم تكن مبلطة أو تجتمع فيتكون منها برك حتى بعدما علمت النهضة في أوروبا عملها قرونا طوالا أما في مدن المور فكانت الشوارع مبلطة منورة قد سويت فيها مجاري المياه أحسن تسوية في أواسط القرن العاشر قال "سكوت": بعض القنوات التي كانت تحت الشوارع لصرف المياه القذرة في "بلنسية" تقدر أن تكتسح سيارة وأصغر قناة منهن تقدر أن تكتسح حمار وكانت الشوارع مجهزة أحسن تجهيز بالشرطة وهذا النظام الصحي السامي كانت تعضده النظافة العامة التي يراها الأمريكيون في هذه العصور شيئا واجبا ولكنها في ذلك الزمن كانت في نظر الأوروبيين أعجوبة من أعاجيب الرقي التام فكان في قرطبة وحدها تسعمائة حمام عام وكانت الحمامات الخاصة كثيرة في كل مكان أما في بقية بلاد أوروبا فلم يكن فيها ولا حمام واحد وكان أشراف أوروبا ورؤساء الإقطاع منهمكين في الرذائل إلى حد يحجم الإنسان عن وصفه ولم يكن لبس الكتان معروفا في أوروبا حتى أخذت (موضة) - أي طراز - لبس الكتان النظيف من المحمديين ولم تكن الزاربي أيضا تصنع هناك وكان الحشيش يغطي قصور الأمراء ومصطبات الخطابة في المدارس وكان الناس والكلاب ينجسون المحلات إلى حد يعجز عنه الوصف ولم يكن لأحد منهم منديل في جيبه وفي ذلك الوقت لم تكن الحدائق تخطر ببال أحد من أهل الممالك النصرانية ولكن في إسبانيا العربية كان الناس من جميع الطبقات يبذلون الجهود والأموال في تجميل حدائقهم العطرة البهية وكانت الفسقيات تترقرق مياهها صعودا في صحون الدور والقصور والأماكن العامة ولا يزال في صحن الجامع الكبير في قرطبة حوضان كبيران جميلان من مرمر يزينان ذلك الصحن حيث كان كل مصلي يتوضأ قبل أن يدخل إلى المسجد(6/10)
ووصفهما "سكوت" في هذا الزمان فقال هذان الحوضان اللذان كانا من قبل متوضأ للمسلمين الغيورين من جميع الآفاق والآن يمدان بالماء سكان قرطبة النصارى ذوي المناظر القذرة والأخلاق السبعية والجهل العظيم(6/11)
ص -14- ... بمزايا الشعب الطاهر العاقل المهذب الذي تنتمي إليه الذكريات الفاخرة من الفن والصناعة هذان الحوضان يشهدان شهادة مرضية بأن لا دوام للمدنية العليا وأن الإنسان دائما يميل بطبعه إلى التقهقر والرجوع إلى أحوال الهمجية ويشهدان بما لسلطة القسيسين من المقدرة على فعل الشر وأن سياستهم التي لن تجد لها تبديلا أسست على قاعدة احتقار مواهب عبيدهم العقلية وهذه العدد التي أعدها الخلفاء بفرط ذكائهم ظهر أثرها في زيادة خارقة للعادة في السكان على حين كانت جميع بلاد أوروبا لا يتضاعف سكانها إلا بعد مضي أربعة أو خمسة قرون ولم تنحصر عنايتهم الأبوية في حفظ الصحة والحياة فقط فمع كثرة النفوس المفرطة كانوا لا يرون أحد يصاب بمصيبة إلا نفسوا عنه الكرب وواسوه وهذا فيما لم يمكن اتقاؤه منها.(6/12)
وكان يساعدهم على اتقاء النكبات اتخاذهم نظاما حسنا في استخدام البطالين في إصلاح الطرق والأشغال العامة وكان "عبد الرحمن الثاني" قد أعلن أن كل من يريد العمل يمنحه ودوائر العدل التي خلفتها محاكم التفتيش وغرف التعذيب كما أثبته المحققون كانت منزهة عن كل ريبة أو فساد وكانت المعارف والتعليم أحسن مما كانت فيه ممالك الروم ولم يكن يضاهيها إلا ما بلغه اليونانيون من المعارف العلية في أرقى أيامهم والخلفاء أنفسهم شيدوا المشافي (جمع مستشفى ) ودور الأيتام كما كان يفعل ملوك اليونانيين ومنذ زال ملكهم زالت هذه المؤسسات في أوروبا وكان الأعيان والتجار لا يألون جهدا ما اقتفوا آثار الخلفاء في العمل بهدي القرآن في مثل هذه الخيرات وكان الخلفاء أنفسهم يعودون المرضى ويبحثون عن المكروبين لينفسوا كربهم والنساء اللائي كن نزلنا إلى دركة الخدم في بلاد أوروبا لكراهية القسيسين للزواج وإيثارهم العزوبة كن على خلاف ذلك عند المور مكرمات مالكات حريتهن والكرم إن لم نقل البذخ والسرف اللذان حلا محل التقشف والتعصب في دمشق انتقلا إلى الأندلس فكانا كافيين لحفظ مركز المرأة والعشرة الخشنة التي يعشر بها المسلمون المرأة كما هو مشهور عندنا لم توجد في الأندلس والنساء في القصر الملكي بقرطبة كن يساعدن الخلفاء في تدبير الأمور وكان طلب العلم مباحا لهن بكل حرية وكثير منهن كان(6/13)
ص -15- ... لهن ولع شديد بالعلوم الرائجة في ذلك الزمن من فلك وفلسفة وطب وغيرها وكانت النساء يتبرقعن في خارج بيوتهن ولكنهن كن مكرمات وفي منازلهن كن مشرفات ومحترمات ولا حاجة إلى أن أتكلم في ظرف المور ولطفهم وشهامتهم لأنهم هم الذين طبعوا الشعب الإسباني طبعا لا يمحى أبدا على الاحترام الشخصي واللطف الذي لا يزال من خواصه المستميلة حتى في الصناع والفلاحين وهناك مزية أخرى يمتاز بها المور وهي التسامح الديني.
في أول الأمر كان هناك بلا شك شهداء يعني مقتولين لمخالفتهم الدين ولكن لا مناسبة بين ذلك وبين المذبحة التي عملها الإسبانيون أخيرا في ذرية المور .
وأما بعد استقلال المملكة العربية في الأندلس فإذا استثنينا معاملتهم لطوائف الثوار من النصارى كأهل طليطلة الذين كانوا على الدوام ينتظرون الخلاص من ناحية الشمال فقد كان أهل الأديان جميعا يعاملون بالحسنى وكانت على اليهود والنصارى فريضة مالية قليلة تخصم وكانوا يتمتعون بحماية حقوقهم فكثر عددهم وعظم بذلك الخرج الذي يؤخذ منهم.
وقد رخصوا لنصارى طليطلة في المحافظة على كنائسهم الكبرى ورخص لهم أن يبنوا عددا كثيرا من الكنائس وكانت لهم في طليطلة ست كنائس وكانوا مستمسكين بالعلاقات الودية مع جيرانهم حتى أثار فيهم القسيسون الضغينة الدينية وأما ما يخص اليهود الذين كانوا يتمتعون بعصرهم الذهبي حينئذ وارتقوا إلى أعلى درجة في العلوم ونالوا أعلى المناصب في دولة مور فسأتكلم عليه في فصل آخر.
وهذه النبذة المجملة في ذكر مدينة المور ستزداد وضوحا وتفصيلا عند الكلام على وصف حياة قرطبة وغرناطة ولا بد أن القارئ علم مما ذكرناه آنفا تفوق المدنية التي يزعمون أنها وثنية تفوقا خارقا للعادة ولا بد رأى أثرها في أوروبا المتوحشة وهذا صحيح لا يمتري فيه أحد من المؤرخين.(6/14)
والمؤرخون لا يقابلون بين المور والنصارى لأنهم لو فعلوا ذلك لكانوا كالذي يقيس أهل "بوستون" - مدينة في إمريكا - بقبائل "إسكيمو" وذلك عجب عجيب. قال "ستنلي لين بول" في شأن النصارى الذين فتحوا شمال إسبانيا كانت غزوات النصارى لعنة عظيمة على من(6/15)
ص -16- ... يكون لهم فريسة وكانوا خشنا جاهلين أميين لا يقدر على القراءة إلا قليل منهم جدا ولم يكن لهم من الأخلاق إلا مثل ما لهم من المعارف يعني لم يكن لهم منها شيء وأما تعصبهم وقسوتهم فهو ما يمكن نتوقعه من الهمج البرابرة" ا-هـ.
ونكتفي بهذا القدر من صفة حال أهل أوروبا قبل فتح المسلمين لجنوب بلادهم وإقامة مدنية عظيمة أدهشت العالم وفتحت لأهله بابا ليخرجوا من ظلمات الهمجية والجهل إلى نور المدنية والعلم وقد اقتبس الأوروبيون من المسلمين الفاتحين المعلمين المهذبين قبسة من علومهم وآدابهم وكانت أساسا لنهضتهم ولا شك أن العلم والمدنية اللذين سبق إليهما المسلمون في الحجاز أولا حيث نزل القرآن وأشرق نور الإسلام ثم في دمشق والأندلس وبغداد ثانيا هما أعظم تقدم شهده العالم قبل نهضة الأوروبيين فالمسلمون أئمة العلم والحضارة والأخلاق لو تركوا ذلك التقدم ورجعوا إلى ما كانوا عليه قبل الإسلام لكانوا رجعيين مذمومين منتكسين خاسرين وكذلك الأوروبيون لو رجعوا من نهضتهم وتقدمهم إلى ما كانوا عليه في زمن نهضة المسلمين لكانوا رجعيين أشقياء مخذولين خاسرين ولكن الأوروبيين استمروا في نهضتهم من الوجهة المادية وقلت عنايتهم بالوجه الخلقية وقد بلغوا اليوم أوج المدنية والسعادة المادية ولا يزالون دائبين في طلب الكمال وإذا التفتوا إلى الوراء وشهدوا ما كانوا فيه من الجهل والظلمة اغتبطوا واستعاذوا بالله من ذلك العهد ولهم الحق في ذلك ولو أراد بعضهم الرجوع إلى تلك العصور المظلمة كما يسمونها هم أنفسهم لحكم عليه عقلاؤهم بالجنون وسفهوا رأيه واحتقروه وهو بذلك جدير أما المسلمون ومنهم العرب فإن معظمهم مسلمون وغير المسلمين منهم قليلون والحكم للغالب فقد أخذت علومهم ومدنيتهم في الجزر بعد ذلك المد العظيم منذ مئات السنين ولم يزالوا يرجعون إلى الوراء وينحطون من عليائهم حتى بلغوا أسفل سافلين وكانوا بالنسبة للأوروبيين كدلوين اختلفا(6/16)
صعودا وهبوطا فكلما تقدم الأوروبيون في العلم والمدنية اللذين اقتبسوها من المسلمين ازداد المسلمون توغلا وهبوطا في الجهل والتأخر اللذين اقتبسوهما من الأوروبيين ولا شك أن استمرارهم في هذه الحال لا يزيدهم إلا خبالا فماذا ينبغي لهم أن يعلموا لاستعادة علمهم ونورهم ومجدهم؟(6/17)
ص -17- ... أيعودون إلى جهاليتهم الأولى يطلبون منها الخلاص ولا خلاص فيها؟ أم يعودون إلى جاهلية الأوربيين؟.
قال قائل لا هذا ولا هذا ولكن يقتبسون من الأوروبيين مدنيتهم الحاضرة ويعتبرون أنفسهم كأنهم خلقوا خلقا جديدا ويقطعون النظر عن الماضي خيره وشره قلنا لهم هذا تقليد ومحاكاة لا ثمرة لهما أبدا ولابد لكل بناء من أساس ولو أرادوا أن يفعلوا ذلك ما استطاعوا إليه سبيلا فإن الأوروبيين حين اقتبسوا العلم والمدنية من المسلمين لم ينسلخوا من تاريخهم وعاداتهم وعقائدهم ولو فعلوا ذلك لصاروا مسلمين وإنما أخذوا من أساتذتهم المسلمين ما كانوا في حاجة إليه حسبما بدا لهم ولم يتركوا شخصيتهم ولا جنسيتهم وبذلك بلغوا من الرقي ما هم فيه إلا أنهم أغفلوا جانبا من علوم الإسلام وهو ما يتعلق بالنفس وتزكيتها والصعود بها من دركات المادة الصماء إلى أوج السعادة الروحية.(6/18)
وهذا الجانب الذي أغفلوه هو الذي سبب لهم ما هم فيه اليوم من الشقاء بالتخاصم والتنازع والتحاسد والتحارب وسعى كل فريق منهم إلى الاستئثار بأطايب الحياة وشهواتها وملذاتها وحرمان من سواهم من البشر وإذا كان آباؤنا قد سبقوا إلى العلم والنور والمدنية والأخلاق الفاضلة ورجعنا حن إلى اقتفاء آثارهم وإحياء علومهم لم نكن راجعين وإنما نحن متقدمون أحسن التقدم إلا إذا قلنا إن العلوم المدنية والحضارة قد وقفت في الحد الذي وصل إليه أسلافنا فيجب أن نقف عندما وصلوا إليه ولا نقتبس شيئا جديدا نافعا أبدا وحينئذ نكون جامدين ولا نستحق الحياة فبعض الكتاب من المسلمين المتهورين الذين لا يَزِنُونَ أفكارهم بل يهرفون بما لا يعرفون إذا سمعوا الأوروبيين يستنكرون عصورهم المظلمة ويسمونها رجعية ويستعذون بالله منها يقلدونهم في أقوالهم كالببغاءات ويحاكونهم في أفعالهم كالقردة ولا يعلمون الفرق بين ماضينا وماضيهم فإن ماضيهم كما قال علماؤهم ظلمات مدلهمة لا نور فيها أما نحن فبالعكس ماضينا علم ونور وحضارة مزدهرة وقوة وعز وسعادة فرجوعنا إليه هو عين التقدم ولا يتنافى ذلك مع اقتباس ما جد من العلوم والأعمال النافعة.
والحكمة ضالة المؤمن أما حاضرنا فهو كماضيهم ظلمات بعضها فوق بعض ولنا مثال آخر مع فرق سننبه(6/19)
ص -18- ... عليه وهو الشعب الياباني فإنه اقتبس الحضارة الأوروبية وبلغ فيها شأوى يفوق أساتذته أو فاقهم مع المحافظة على مقوماته ومعنوياته ولا يتنازل عن شيء منها فماذا نقول في هذا الشعب أهو تقدمي أم رجعي؟ لا يستطيع أحد أن يقول هو رجعي فإنه في طليعة الشعوب المتقدمة وقد أصيب بهزيمة عظيمة في الحرب العالمية الأخيرة فلم تقضي عليه ولم توقف تقدمه ولا يزال هذا الشعب يقدس ملكه ويعتقد أنه ابن الشمس ويقوم بخدمته بطقوس لا تعقل ولم يضره ذلك ولا نقص تقدمه لأنه لا يخطو خطوة في طلب التقدم إلا بعقل ووعي ولا يحب التقليد أبدا.(6/20)
لما كنت مقيما في برلين كنت أتردد على مطعم صيني أحيانا وكنت أراه مع اختلاف أطعمته عن المطاعم الجرمانية يشابهها في التأنق والزخرفة ويؤمه دائما الأغنياء من الأوروبيين الذين عاشوا مدة في الشرق وألفوا أطعمته بنسائهم وبناتهم وأولادهم وكثير منهم كانوا يأكلون الرز بالعيدان كعادة الصينيين إلا أنهم يشربون الحساء بدون صوت سواء منهم الشرقيون والغربيون كعادة الأوروبيين فإنهم يستنكرون الشرب بصوت وكان في ذلك الوقت في برلين ثلاثة مطاعم صينية وسمعت بمطعم ياباني فذهبت إليه لأوازن بينه وبين المطاعم الصينية فلم أر فيه شيئا من التأنق وكان صغيرا رأيت فيه نحو خمسة وعشرين آكلا كلهم رجال يابانيون ولا يوجد فيه إلا امرأتان اثنتان عجوز في المطبخ وأخرى توزع الطعام والذي استرعى نظري فيه وتعجبت منه هو شرب الحساء بأصوات منكرة تتجاوب أصداؤها فقلت في نفسي هؤلاء اليابانيون كلهم يقيمون في بلاد الجرمانية ويعرفون عادات الجرمانيين حق المعرفة وأنهم يستقبحون الشرب بصوت فقد رغبوا عن عاداتهم وتباروا في الشرب بأصوات عالية فما مقصودهم بذلك؟ أظن أن مقصودهم بذلك الاعتزاز بعادتهم مهما كانت لأنهم لم يسافروا إلى أوروبا بقصد تعلم آداب الأكل وأدب الشرب وأدب الرقص وأدب الغناء وما أشبه ذلك لأنهم يرون آدابهم أكمل الآداب ولا يبغون بها بديلا ولكنهم جاءوا لأغراض لا يمكن أن تحصل في بلادهم وفي ذلك عبرة للمقلدين.
هذا اليابانيون وثنيون يعبدون غير الله وهو نقص كبير في معنوياتهم(6/21)
ص -19- ... وإهمال لتزكية أنفسهم وتوجيهها لما خلقت له ولما يرفعها ويسمو بها إلى الملأ الأعلى ويبلغ بها أعلى مراتب الكمال الإنساني ولكنهم لما تجنبوا التقليد في اقتباسهم علوم الأوروبيين وأخذوا منهم العلم على بصيرة واستقلال وبعقل وروية كما فعل الأوروبيون مع المسلمين أدركوا الثمرة نفسها التي أدركها الأوروبيين وهي السعادة المادية المنغصة بسبب إهمال النفس ولو أن اليابانيين هموا بالرجوع إلى ما كانوا عليه قبل مائة عام لكانوا سفهاء رجعيين ولزيادة الإيضاح أقول كيف كان العرب وسائر الشعوب التي أسلمت وحسن إسلامها قبل الإسلام وكيف صاروا بعد الإسلام؟.
الجواب أنهم كانوا قبل الإسلام من الوجهة الخلقية في أسفل الدركات يقتلون أولادهم من الفقر أو خوف الفقر والمراد من قتلهم من الفقر أن يكونوا فقراء فيقتلون من يولد لهم لعجزهم عن إعاشته بالتغذية وسائر ما يحتاج إليه والمراد بقتلهم خوف الإملاق أن يقتلوا الولد مخافة أن تفضي بهم حياته إلى الفقر في المستقبل ولذلك جاء في القرآن الكريم في سورة الأنعام151 {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ} وفي سورة الإسراء 31 {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} وكانوا يئدون بناتهم أي يدفنونهم حيات وكانوا يعبدون التماثيل من الحجارة كما يعبدها كثير من البشر في هذا الزمان وكانوا يعتقدون أن الملائكة بنات الله وكانوا يستقسمون بالأزلام يضعون عيدانا في كيس قد كتب على بعضها أمرني ربي أن أفعل وعلى بعضها نهاني ربي أن أفعل وبعضها غفل لا كتابة عليه فيدخل الواحد منهم يده فإذا صادفت العود الذي فيه الأمر أقدم على عمله وإذا صادفت العود الذي فيه النهي أحجم عن عمله وإذا صادفت العود المهمل أعاد الإستقسام وكانوا يتيمنون ويتشاءمون بالطير يزجرون الطائر فإن طار إلى اليمين استبشروا وإن طار إلى الشمال تطيروا وخافوا.(6/22)
وكانوا يخافون من الجن ويعوذون برؤسائهم أي يطلبوا الحماية منهم وكانوا يأكلون الميتة والدم ولا يورثون امرأة ولا صبيا بل كانوا يرثون النساء أنفسهن باعتبارهن أموالا وكان بعضهم يقتل بعضا على أتفه الأمور ويضيعون أموالهم في القمار والمنافرة وهي أن يتنافر اثنان للتفاخر فيعقر هذا بعيرا من إبله وينحر ويعقر(6/23)
ص -20- ... الآخر مثله حتى تفنى إبل كل منهما وكانوا أشتاتا كل قبيلة لوحدها لا كلمة تجمعهم ولا عقيدة ولا دين ولا شريعة وكانوا أذلاء سكان القسم الشرقي تحت حكم الفرس وسكان القسم الغربي تحت حكم اليونان وسكان وسط الجزيرة كانوا فوضى ولم يحفظ التاريخ لوسط الجزيرة وغربها وشرقها حضارة تذكر أما أهل الجنوب فقد كانت لهم حضارة قضى عليها جيرانهم من الحبشة وأهل فارس فكيف صارت حالهم بعد الإسلام؟.
كل أهل العلم يعلمون أنهم صاروا أسعد الناس صاروا أئمة أهل الدنيا في الدين والدنيا وصاروا حكام العلم وقد رأيتم في هذا المقال شهادة العلماء الأوروبيين المنصفين لطائفة منهم وهذا أمر واضح لا يحتاج إلى إقامة دليل فهل الاعتزاز بهذا المجد والبناء عليه والتمسك به يعد رجعية؟ إن كان الأمر كذلك عند هؤلاء السفهاء فحيا الله الرجعية وحي عليها وأهلا وسهلا بها ألا ساء ما يحكمون.
ويقال لهؤلاء التقدميين المخدوعين أين تذهبون؟ أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير؟ اهبطوا فقرا وذلة وشتاتا وجهلا وحزنا وشقاء فإن لكم ما سألتم وستضرب عليكم الذلة والمسكنة وتبوءون بغضب من الله زيادة على ما أنتم عليه ذلكم بأنكم تقتلون المصلين في المساجد وتشردون علماء الإسلام المصلحين فريقا حبستم وفريقا تقتلون والله عزيز ذو انتقام.
وما من يد إلا يد الله فوقها-وما ظالم إلا سيبلى بأظلم
الرجعية والتقدم في نظر الإسلام:(6/24)
تقدم أن العقل الصحيح يرى التقدم في العلم والعدل وسائر الأخلاق الكريمة فكل أمة اتصفت بالعلم والأخلاق فهي متقدمة وإن كان قبل مليون سنة وكل أمة اتصفت بالجهل ومساوئ الأخلاق فهي متأخرة ساقطة مذمومة ملعونة وإن كانت ستجيء بعد خمسمائة سنة والإسلام دين العقل يوافق هذا ولا يخالفه أبدا فلا عبرة بالزمان ولا بالمكان قال الله تعالى في سورة النساء {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً}(6/25)
ص -146- ... تتمة التقدم والرجعية
قال الحافظ بن كثير: روى العوفي عن ابن عباس أنه قال: في هذه الآية تخاصم أهل الأديان فقال أهل التوراة: كتابنا خير الكتب ونبينا خير الأنبياء، وقال أهل الإنجيل مثل ذلك، وقال أهل الإسلام لا دين إلا الإسلام وكتابنا ينسخ كل كتاب ونبينا خاتم النبيين وأمرتم وأمرنا أن نؤمن بكتابكم ونعمل بكتابنا، فقضى الله بينهم وقال: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} وخير بين الأديان فقال: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِن} إلى قوله: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً}.
وقد تبين لك أن الإسلام الصحيح الذي لم تخالطه العصبية والعقائد الخرافية يبني التقدم كله - روحيا كان أم ماديا - على أساس العمل النافع والاعتقاد الصحيح وإذا سمعت القرآن يقول: {فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً}ويقول: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً}.
ومثل ذلك فيه كثير فإنه لا يريد البتة أن تكون أمة متمسكة بالإسلام شقية في هذه الدنيا محرومة من جميع حقوقها مدوسة تحت الأقدام مخذولة في جميع تصرفاتها مهزومة في جميع حروبها مكبلة مخذولة خاضعة ذليلة تتكفف غيرها من الأمم طول حياتها ثم هي في الدار الآخرة سعيدة عالية الدرجة عند الله وافرة الحظ في دار الكرامة تدخل الجنة وتسعد برضوان الله فإن ذلك وهم وخيال قال تعالى في سورة الإسراء: {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً} قال القاسمي في تفسيره:(6/26)
"ومن كان في هذه الحياة الدنيا أعمى عن الإهتداء إلى الحق فهو في الآخرة أعمى لا يرى طريق النجاة وأضل سبيله في الدنيا لأن له في هذه الحياة آلات وأدوات وأسبابا يمكنه الإهتداء بها وهو في مكان الكسب باقي الاستعداد ولم يبق هناك شيء من ذلك. قيل الأعمى حقيقة فيمن لا يدرك المبصرات لفساد حاسته ومجاز في أعمى البصيرة وهو عدم الإهتداء إلى طريق النجاة وقيل حقيقة فيهما فالأمة العمياء التي لا تبصر طريق النجاة والسعادة في الدنيا مع إمكان رؤيتها بالعقل الذي أعطيته وبإرشاد الله لها بالآيات البينات التي تدلها(6/27)
ص -147- ... وتهديها طريق السعادة وتحذرها من طريق الشقاء فهي في الآخرة التي لا تملك وسائل للتوبة والتبصر والرجوع إلى الحق أشد عمى وأضل سبيلا لأنها في دار الجزاء وكانت من قبل في دار العمل فلم تزرع شيئا نافعا يمكنها أن تحصده في آخرتها وإنما زرعت أسباب الشقاء والشر فهي في الآخرة تحصد الندامة وبعبارة أخرى قد وعدها الله السعادة في الداريين إن أطاعته وعملت ما أمرت به وتركت ما نهيت عنه واتبعت رضوانه وأوعدها بالشقاء في الدارين إن عصت أمره وفعلت ما نهاها عنه واتبعت ما أسخطه والواقع في هذا الزمن أنها عصت الله وارتكبت ما نهيت عنه وعميت عن أسباب النجاة مع وضوحها فعاقبها الله في هذه الدنيا بالحرمان والخذلان والذلة والهوان وسيعاقبها في الآخرة عقابا أشد وستكون في الآخرة أشد أعمى وأبعد عن النجاة كما قال الله تعالى في سورة الرعد: {لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ}. وقال تعالى في سورة الطلاق: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُكْراً فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً رسولا يتلوا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً}.(6/28)
المراد بالقرية هنا الأمة قال الحافظ بن كثير: "يقول تعالى متوعدا لمن خالف أمره وكذب رسله وسلك غير ما شرع مخبرا عما حل بالأمم السالفة بسبب ذلك فقال تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِه}. أي تمردت وطغت واستكبرت عن اتباع أمر الله ومتابعة رسله {فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُكْراً}. أي منكرا فظيعا {فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا}. أي غب مخالفتها وندموا حيث لا ينفع الندم {وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً}. أي أعد لهم عذابا شديدا أي في الدار الآخرة مع ما عجل لهم من العذاب في الدنيا.
ثم قال تعالى بعد ما قص من خبر هؤلاء: {فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَاب}. أي الأفاهام المستقيمة لا تكونوا مثلهم فيصيبكم ما أصابهم {يَا أُولِي الأَلْبَاب}(6/29)
ص -148- ... {الَّذِينَ آمَنُوا}. أي صدقوا بالله ورسله قد أنزل إليكم ذكرا يعني القرآن كقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}. وقوله تعالى: {رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ} قال بعضهم: {رَسُولاً} منصوب على أنه بدل اشتمال وملابسة لأن الرسول هو الذي بلغ الذكر، وقال بن جرير: الصواب أن الرسول ترجمة عن الذكر يعني تفسيرا له ولهذا قال: {رسولا يتلو عليكم آيات الله مبينات} أي في حال كونها بيِّنة واضحة جلية {لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} كقوله تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}. وقال تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}. أي من ظلمات الكفر والجهل إلى نور الإيمان والعلم.
وقد سمَّى الله تعالى الوحي الذي أنزله نورا لما يحصل به من الهدى كما سماه روحا لما يحصل به من حياة القلوب فقال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وقوله تعالى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً}. قد تقدم تفسير مثل هذا غير مرة بما أغنى عن إعادته هاهنا ولله الحمد والمنة .(6/30)
وقال تعالى في سورة النحل: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}. فأنت ترى أن الله تعالى وعد الذين يعملون الصالحات ويتمسكون بالإيمان أن يحيهم حياة طيبة في الدنيا ويجزيهم جزاء حسنا في الآخرة فإذا أحياهم حياة سيئة بالشقاء والحرمان فذلك دليل قاطع على أنهم عملوا السيئات وأن الله سيعذبهم أكثر مما عذبهم في الدنيا إذا عرف المسلمون ومنهم العرب هذه الحقيقة وجب عليهم أن يكونوا على يقين أن كل حركاتهم في هذه الأزمنة الأخيرة لا يزيدهم إلا خبالا ولا تكون عليهم إلا وبالا فيجب عليهم أن يبحثوا عن طريق جديد وجهة جديدة ولن يجدوها إلا في الرجوع إلى القرآن وقد تحديناهم نحن وأساتذتنا مئة سنة أن يجدوا سبيلا أخرى للخلاص فلم يجدها ولن يجدوها أبدا.(6/31)
ص -149- ... ومن ذلك تعلم علم اليقين أن السفهاء الذين يسمون الرجوع إلى القرآن والتمسك بالإسلام رجعية. هم شر رجعيين في العالم ولا تجد لرجعيتهم نظرا بين الرجعيات في هذه الدنيا وإذا تجرؤا وزعموا أنهم تقدميون فإن جميع أهل الأرض يلعنونهم ويسخرون منهم وذلتهم وفقرهم وجهلهم وحقارتهم شهودا عدول على كذبهم، أضف إلى ذلك طيشهم واستبدادهم وفقدان العدل والمساواة بينهم وإنهم فوضى يخبطون خبط عشواء في ليلة ظلماء، لا استقرار عندهم ولا أمن يثور بعضهم على بعض ويفني بعضهم بعضا كل ثائر يريد أن ينعم بالاستبداد والطغيان ولو مدة قصيرة ومع ذلك يمدحون الثورة ويجعلونها من القواعد المرغوب فيها لذاتها وإن لم يترتب إلا زيادة الشقاء والشتات والدموع والدماء لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون .
مقصود الأوروبيين والنصارى بالرجعية:
يرى الأوربيون النصارى أن التمسك بالأساليب التي أكل عليها الدهر وشرب وأقام الدليل على أنها خطأ رجعية مذمومة محالفة للشقاء الذي يزول حتى تزول تلك الأساليب، فمن ذلك الاستمرار على الجهر بما ينفع الناس في دينهم وأخلاقهم ومعاشهم وأرزاقهم، ومن ذلك التعصب للعقائد والأنظمة، فكل أمة تكون متفرقة فرقا عديدة لكل فرقة عقيدتها وكل فرقة تبغض من يخالفها في العقيدة من مواطنيها بغضا يحملها على عداوتهم والكيد لهم وآذاهم فهي فرقة رجعية، وإن كانت فرق الأمة كلها كذلك فالأمة كلها رجعية بعيدة عن التقدم والسير في طريق الفلاح لأنه ثبت بالبرهان القاطع عندهم أن الأمة لا تستطيع(6/32)
ص -150- ... التعاون على ما فيه خيرها وسعادتها إلا إذا نبذت التعصب وساد فيها التسامح بين الفرق.
ومن ذلك التعصب للنظام كالجمهورية والملكية مثلا فكل شعب يتعصب لنظامه ويبغض كل من خالفه ولا يكفيه ذلك حتى يعاديه ويكيد له ولا يتعاون معه ولا يتبادل معه المصالح فهو شعب رجعي مذموم عندهم ولذلك تجد الشعوب المتقدمة الملكية كبريطانيا والدانمارك والسويد والنرويج وبلجيكا ولوكسمبورج وهولندا لا تبغض الدول الجمهورية لكونها جمهورية كالولايات المتحدة الأمريكية أو فرنسة أو سويسرة وجرمانية وإيطالية بل تتواد معها وتتعاون معها وتتبادل معها المصالح وكل فريق يترك للفريق الآخر الحرية فيما اختره لنفسه، ومن(6/33)
ص -151- ... الأمثلة العجيبة في ذلك أن إيرلندة المستقلة اختارت النظام الجمهوري وخرجت على أمتها البريطانية، وكلهم يسكنون بلادا متصلة وينتسبون نسبا واحدا ولوشاءت بريطانية أن تتعصب وتكيد لإيرلندة كما يفعل الرجعيون لسحقتها في يوم واحد وأجبرتها على الانضمام لها ولكنهما تعيشان في سلام .
ومن ذلك التعصب للأساليب القديمة في الفلاحة والملاحة والصناعات، فلو وجد شعب يحرث على الدواب وعرضت عليه الجرارات العصرية فمنعه التعصب من قبولها لكان رجعيا مذموما محروما، ولو وجدت قرية تستضيء بالقناديل والزيت والفتل وعرضت عليها الكهرباء فرفضتها لكان أهلها رجعيين مذمومين .
وهكذا يقال في قرية يطحن أهلها بالأيدي فعرضت عليهم طاحونة بالكهرباء فرفضوها، وفي قوم يسافرون في البحر بسفن شراعية فعرضت عليهم البواخر التي تمخر البحار كأنها الأعلام وقس على ذلك فهذا هو الفرق بين الرجعية والتقدم عند نصارى أوروبا.(6/34)
أما دراسة الدين في الجامعات وتخصيص كل جامعة عظيمة كلية عظيمة محترمة مكرمة لتعلم اللاهوت (ثيولوجي) وإقامة الصلوات في كنيسة الكلية وإيجاد أعمال دينية محترمة لهم في شعبهم وامتلاء الكنائس يوم الأحد بالمصلين والمصليات من التلاميذ والطلبة والأساتذة وعامة الشعب وحضور أساتذة الجامعة ومشاركتهم في الصلوات والاحتفال بتخرج عدد كبير من الأطباء كل سنة في تلك الكليات، وتبرع بملاين من الدولارات والجنيه لنشر النصرانية خارج أوروبا وأمريكا وبناء المستشفيات والمدارس والكنائس والإرساليات في آسيا وإفريقيا فلا يعدون شيئا من ذلك رجعية، ومن ذلك الحكم الاستبدادي الذي لا يستند إلى انتخاب ولا برلمان ولا مجلس شيوخ فإنهم يعدونه رجعية ولذلك ترى أكثر دول أوروبا وأمريكا تبغض نظام الحكم في إسبانيا وتشمئز منه، على أنهم ليسوا سالمين من التعصب الديني وإن كانوا يذمونه وقد عاشرتهم وخبرتهم فرأيت فيهم من التعصب الديني أشد التعصب حتى فيما بينهم كالبرتستانين والكاثوليكين وفيهم من يبغض الإسلام بلا سبب تعصبا للنصرانية، ولي على ذلك أدلة لو ذكرتها لطال الكلام.
(البقية في العدد القادم)(6/35)
عنوان الكتاب:
التقدم والرجعية (2)
تأليف:
تقي الدين الهلالي
الناشر:
الجامعة الاسلامية بالمدينة المنورة
السنة الثانية - العدد الثاني - 1389هـ(7/1)
ص -11- ... التقدم والرجعية
(2)
بقلم الدكتور تقي الدين الهلالي المدرس بكلية الدعوة وأصول الدين
الرجعية في نظر الدول التي لا تدين بدين:
عبرت بالدول ولم أعبر بالشعوب، لأنّ حرية الفرد في شعوبها أمر مستهجن لا قيمة له، فلا سبيل إلى معرفة مقدار تمسك شعوبها بالدين أو عدمه، فلا نستطيع أن نحكم على حكامه فهم يزعمون أنّ الدين (أفيون) الشعوب؛ قالوا: "لأنّ الدين شيء لا تفهمه العامة فهو منحصر في رؤساء الكنائس وهؤلاء الرؤساء يستحوذون على الشعب بالترغيب والترهيب، ويتصرفون فيه وفي رؤسائه وأمرائه وسوقته حسب أهوائهم ويوجهونه إلى أي وجهة شاءوا كما تسوق الرعاة الأغنام".
ولو أنّ هؤلاء الحكام طالبوا بالتحرير من سلطان رجال الكنيسة ليختار الشعب الوجهة التي يريدها في عقيدته ونظامه وحكمه وعلمه ومعيشته وتعليمه وشؤونه الاجتماعية كما فعل الخارجون على الكنيسة البابوية لربما كان قولهم مفهوما؛ ولكنهم يدعون إلى محو سلطان الكنيسة الذي يخوف الناس بعذاب الله ويبشرهم بالسعادة الروحية بعد الموت، ليقيموا بدله سلطاننا ماديا تحت لمعان السيوف والنفي والقتل والتعذيب وكتم الأنفاس وكبت الحريات ومضايقة الناس في أرزاقهم وأعمالهم وتعليمهم ومساكنهم وأطعمتهم وإقامتهم.
والطامة الكبرى أنّهم يفرضون عليهم دينا آخر وعقيدة أخرى لا يقولون لهم أنها جاءت من الله ولا من الرسل ولا من الأنبياء، ولكن من أشخاص مثلهم من أبناء جلدتهم ومن يتجرأ على رفض شيء من تلك العقائد فالويل له ماذا ينتظره من العذاب المهين أو الموت الزؤام فهم ينقلونهم من ضيق إلى أضيق ومن دين(7/2)
ص -12- ... غير مفهوم بادعائهم إلى عقائد غير معقولة يجزمون ببطلانه ويكرهونها ولا يجدون عنها محيصا فهم كما قال الشاعر:
المستجير بعمرو عند كربته ... كالمستجير من الرمضاء بالنار
وإن كان القسيسون يبشرون أتباعهم بنعيم الفردوس فتمتلئ أرواحهم سعادة وغبطة، ولا يأخذون من أموالهم إلاّ ما تبرعوا به عن طيب نفس؛ فإنّ الحكام التقدميين يسلبونهم كل شيء، ولا يبيحون لهم أن يملكوا شيئا: لا مسكنا، ولا حيوانا، ولا شبر أرض يزرعونه، ولا تجارة، ولا صناعة يستغلونها، ولا يتعلم الطلبة من العلوم إلا ما يشتهون أعني الحكام، ولا يلقي مدرسا درسا في علم من العلوم الاجتماعية أو يكتب كلمة في كتاب أو صحيفة أو رسالة في البريد، بل لا يتكلم بكلمة أمام رفاقه بل أمام أهل بيته إلاّ إذا وزنها بميزان الذهب خوفا من أن تكون مخالفة للتعليم والقوانين والعقائد الاشتراكية فتخطفه الزبانية.
وإذا أراد الحكام تسلية عامتهم وتبشيرهم حدثوهم بمتخيلات لا يمكنهم تصديقها أبدا يقولن لهم:
نحن الآن في البداية، وكل بداية صعبة كما يقول المثل الألماني، فاصبروا على قلة الغذاء، وضيق المسكن، وخشونة الملبس، وكثرة ساعات العمل وقسوته وصعوبته، فسيأتي زمان هو المقصود بالذات إن لم ندركه نحن فستدركه الأجيال المقبلة، وحينئذ لا يشتغل العامل إلاّ خمس ساعات في اليوم والليلة، ولا توضع أقفال على مخازن الطعام والثياب، وتكون الأموال مشاعة بين أبناء الشعب كل واحد يأخذ لنفسه منها ما شاء ويشتغل إذا شاء، وينام إذا شاء، ويسافر أين شاء، ويلبس ما شاء، ويركب ما شاء.
وهذا التبشير من السادة الحاكمين وأذنابهم وأبواقهم يجب على المحكومين وهم عامة الشعب أن يتلقوه بالتصفيق والهتاف والتمجيد، وإلاّ توجه إليهم تهمة خطيرة وهي الرجعية والبرجوازية والميل إلى الرأسمالية وما أشبه ذلك، ولو كان أولئك العامة يستطيعون التعبير عما في ضمائرهم لأنشدوا قول ابن فراس:(7/3)
معللتي بالوصل والموت دونه ... إذا مت ظمآنا فلا نزل المطر
-فالتقدم عند هؤلاء الحكام ينحصر في إمامين مقدسين معصومين من الخطأ، جميع آرائهما حق، وليس لأحد أن يفسر هذه الآراء إلا الحكام الحاضرون، ولو فرضنا أنّ هؤلاء الحكام استبدلوا بحكام آخرين لم يبق لهم صلاحية للتفسير، وما فسروه من قبل لا تلزمه العصمة من الخطأ، وقد ينسخ كله دفعة واحدة، والقول ما يقوله الحكام الحاضرون، وكل شيء يخالف آراء الإمامين حسب تفسير الحكام(7/4)
ص -13- ... الحاضرين فهو رجعية تتنافى مع التقدم.
ولو فرضنا أنّ حاكما فسر شيئا من آراء الإمامين اليوم لوجب على الشعب كله بعلمائه وحكمائه وكتابه أن يتلقى تفسيره بالقبول والتقديس؛ وإلاّ كان رجعيا، وإن لم ينته يكون خائنا، فلو عزل ذلك الحاكم غدا لأصبح تفسيره عديم القيمة مرغوبا عنه، بل قد يكون منكرا وضلالا، وهذا كله شاهدناه بأعيننا وسمعناه بآذاننا، ولكننا لم نفهمه والله المستعان.
كنت في برلين الغربية أتيمم للصلاة، لأنّي كنت مريضا لا أقدر على استعمال الماء، فرآني شاب من برلين الشرقية، فقال لي: "ماذا تصنع؟" فقلت: "هو ما ترى"، فقال: "وهل هذا من الدين؟"، قلت: "نعم"؛ قال: "هذا شكلي لا معنى له ولا فائدة، أما الوضوء ففيه تنظيف للأعضاء المغسولة، وأما المسح بالتراب فليس فيه إلاّ التلويث".
فقلت: "سمعتك تذكر أن - ستالين - ألف كتابا في التربية وتثني على ذلك الكتاب مع أن ستالين رجل عسكري، قضى عمره كله في المراتب العسكرية، ولم نسمع أنّه كان يوما ما معلما ولا مدير مدرسة ولا مشتغلا بالتربية، فمن أين جاءه علم التربية حتى ألف فيه كتابا نفيسا!؟؛ فثناؤك عليه شكلي وتقليد، وإنما أثنيت على كتابه الذي ألفه في علم التربية لأنّه رئيس دولة وزعيم حزب، فشهادتك له تملق محض.
أما معنى التيمم فهو معنى الصلاة، فإنّ الله غني عن العالمين،فإذا عظموه بالصلاة والدعاء والتمسح بالتراب فإنّما ذلك لتزكية نفوسهم وتكملتها".
وبعد موت ستالين أسقطه خلفه من درجة التقديس، وظهرت له ذنوب، وأخطاء كثيرة، وهذا الخلف نفسه شرب بالكأس نفسها.
وحاصل ما تقدم أن الدول التي لا تدين بالنصرانية تقدس نحلتها وتعدها تقدما، وتعد كل ما خالفها رجعية أو برجوازية، وتذم كل مخالف، ونحن لا نستطيع أن نفهم أن سويسرا مثلا رجعية أو ناقصة التقدم.
الرجعية عند الشعوب العربية في العصور الأخيرة:
اعلم أنّ العرب في هذا الزمان أعني دولتهم منقسمون إلى قسمين:(7/5)
قسم يسمون أنفسهم تقدميين واشتراكيين فإذا قيل لهم: هذا لفظ مبهم، فأي اشتراكية تعنون؟ يقولون: نعني الاشتراكية العربية.
فيقال لهم: إن العرب كانوا بعد جاهليتهم لا يعرفون إلا الإسلام، ولا يدعون إلاّ إليه ولا يتبعون إلاّ القرآن وسنة النبي صلى الله عليه وسلم ، ولفظ الاشتراكية غير موجود في الكتاب والسنة، ولم نر لهم تعريفا جامعا لهذه النحلة، ولا حدا يحد بها.
أما الأعمال التي يقومون بها ويعلنون أنّها من مفاهيم الاشتراكية فإنهم يختلفون فيها، أما إن كانوا يعنون بالاشتراكية المستوردة من أوروبا ففي أوروبا نوعان من(7/6)
ص -14- ... الاشتراكية:
الاشتراكية التي هي مقدمة الشيوعية، كما في شرق أوروبا وفي يوغوسلافية والصين ماعدا فرموزة وألبانيا والأحزاب الشيوعية في الشعوب الأوروبية.
والاشتراكية الديمقراطية: كاشتراكية حزب العمال في بريطانيا وألمانيا وبلجيك وفرنسا وغيرها.
وهناك اشتراكية انقرضت وهي الاشتراكية الوطنية التي كان عليها هتلر وموسوليني، وأظن أن هذه الاشتراكية هي التي تلهج بها بعض الدول العربية فهي إلى اشتراكية هتلر أقرب وأشبه، مع فارق عظيم وهو أن الشعب الألماني الذي كان من وراء هتلر شعب عظيم في مقدمة شعوب الحضارة والعلم والمدنية العصرية، بخلاف شعوب تلك الدول؛ فإنها لم تبلغ في ذلك نصيبا يذكر، فهي مما يسمى على سبيل التفاؤل بالشعوب النامية، كما يسمى اللديغ سليما، ولذلك كان لاشتراكية هتلر نجاح مؤقت في جميع الميادين بخلاف هذه الدول فإننا إلى الآن لم نشاهد لها شيئا من النجاح الذي كان للحزب الناتسي، أما الحرية والديمقراطية بمعناهما الصحيح فإنّ نصيب هذه الدول منهما أقل من نصيب الحزب الناتسي.
والقسم الثاني: ممالك وإمارات وهذه الممالك والإمارات سائرة على ما كانت عليه من قبل لم تتخذ لنفسها اسما جديدا، وكلها تأخذ بأسباب الحضارة على حسب ما تسمح لها أحوالها ومقدراتها، وكلها تدعو إلى التعاون والتآخي بين العرب، ولا تنكر الوحدة إذا سارت في طريقها الطبيعي مرحلة بعد مرحلة، وإنما تنكر العدوان والتدخل في الشؤون الداخلية أن يقع من دولة في شؤون دولة أخرى، وهذا هو المعقول الممكن، على أنني لا اهتم كثيرا بهذه الوحدة إلا إذا كانت مبنية على قواعد الإسلام، وكذلك لا أهتم بالعرب إلاّ إذا كانوا مسلمين قولا وفعلا.
وآية ذلك أن يتبعوا القرآن وما صح من سنة النبي صلى الله عليه وسلم ، ويكونوا أمة واحدة كما كانوا في دولة النبي ودولة الخلفاء.(7/7)
ولا فرق بين عربي و غير عربي عندما قال تعالى في سورة الحجرات: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ, إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}، ولم يقل: وإن طائفتان من العرب اقتتلوا، ولا قال: إنّما العرب إخوة.
وليس مقصودي غمط حقوق الجماعات العربية التي تدين بالإسلام؛ فإنّ ذلك ظلم، والله لا يحب الظالمين، بل نعامل المواطنين من العرب غير المسلمين بالعدل والإحسان إلى أن يطمئنوا على حقوقهم ويثقوا بمواطنيهم المسلمين كل الثقة ويأمنوا بآرائهم؛ لأنّ الإسلام(7/8)
ص -15- ... دين الرحمة والمحبة والعدل قال تعالى في سورة الأنبياء: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} ، وبحكم الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم يجب على أمته أن يكونوا رحمة للعالمين.
ثم إنّ للعرب غير المسلمين على العرب المسلمين حق القرابة وصلة الرحم، والمخالفة في الدين لا تسقط هذا الحق ولو طبق العرب المسلمين مع العرب غير المسلمين ما جاء به الإسلام لما احتاجوا إلى أن يوجسوا في أنفسهم خيفة أو يطلبوا حماية من الدول النصرانية الأجنبية، أو أن يؤلفوا أحزابا على أسس تنقض عرى الإسلام وتقضي على الإخوة الإسلامية ليشغلوا المسلمين بها ويشتتون شملهم ويفرقوا جمعهم كما هم الواقع في بعض الأقطار العربية، وهذه الدول التي تسمي نفسها تقدمية اشتراكية تظهر عداوة شديدة للمالك والإمارات لا لشيء إلاّ لأنها لم توافقها على مذهبها الجديد.
ومن عداوتها لها أنّها تسميها رجعية تريد أنها بمجرد تسميتها نفسها تقدمية واشتراكية وجدت طريق السعادة وسلكته، وهي تريد من تلك الممالك أن تجد هذا الطريق وتسلكه معها، فإن لم تفعل استحقت القطيعة والهجران والمكايد وتربص الدوائر زيادة على الشتائم التي تصب عليها ليل نهار.
وحجة هذه الممالك في رفضها لما عرض عليها من هذا المذهب الجديد أنّها ليست كاليتامى القاصرين أو الصبيان السفهاء حتى تطمع الدول الاشتراكية أن تضع نفسها في مقام الوصاية والتربية والتأديب والإشراف والنظر في مصالحها.
ثم إنّ هذه الممالك والإمارات لم تر شيئا من التقدم والتحسن على تلك الدول ولا على شعوبها بعد انتحالها للنحلة الجديدة، لا في العقائد، ولا في الأخلاق، ولا في الاقتصاد، ولا في السياسة، ولا في القوة الحربية، ولا في الروابط الاجتماعية، بل عكس ذلك هو الواقع، وهي مع ذلك تدعو إلى روابط الأخوة والصداقة، وتبادل المصالح والمنافع، وتنشد قول طرفة:(7/9)
فمالي أراني وابن عمي مالكا ... متى أدن منه ينأى عني ويبعد
-ولما كان الاستطراد من طبعي الذي لا أنفك عنه، وأعلم أنّ أكثر المستمعين يصعب عليهم فهم هذه الأبيات التي هي من الأدب الجاهلي العالي، أردت أن أشرحها لهم ليتمكنوا من فهما ويلتذوا بإنشادها.
يقول في هذا البيت: ما بال ابن عمي مالكا كلما أردت أن أتقرب إليه وأتودد إليه يجفوني ويبعد عني؟
وآيسني من لك خير طلبته ... كأنا وضعناه إلى رمس ملحد
-يقول: قنطني ابن عمي هذا من كل خير طلبته حتى كأنّه ميت لا يرجى خيره.(7/10)
ص -16- ... على غير شيء قلته غير أنني ... نشدت ولم أغفل حمولة معبد
-يقول: ثم إنّ الجفاء هذا الذي وقع من ابن عمي لم يكن له سبب فإنني لم أسيء إليه لا بقول ولا بفعل، ولكني طلبت إبل أخي معبد وبحثت عنها حتى وجدتها ولم أهملها، ولا يعقل أن يكون هذا سببا للعداوة والجفاء.
وقربت بالقربى وجدك أنه ... متى يك أمر للنكيثة أشهد
يقول: ولم أقصر في مراعاة واجبات، وأقسم بحظك وحقك أيها المخاطب أنّه لا يصيب ابن عمي أمر يجهده ويكربه إلاّ حضرت ونصرته ودافعت عنه.
وإن أدع للجلى أكن من حماتها ... وإن يأتك الأعداء بالجهد أجهد
يقول: متى دعوتني إلى الأمر العظيم الذي ينزل بك أبادر إلى حمايتك من مكروه وإن جاءك الأعداء يبغون قتالك بجهدهم وقوتهم أبذل كل جهد في دفعهم عنك.
وإن يقذفوا بالقذع عرضك أسقهم ... بشرب حياض الموت قبل التهدد
يقول: وإن طعن الأعداء في عرضك وأرادوا أن يخدشوا شرفك وأساءوا إليك بقول الفحش أذيقهم الموت وأباغتهم به قبل التهديد والوعيد، أو الإنذار والتحذير.
بلا حدث أحدثته وكمحدث ... هجائي وقذفي بالشكاة ومطرد
يقول: إن ابن عمي مالكا يعاملني بهذه المعاملة القاسية بدون ذنب فعلته كأنني مذنب فيهجوني ويذمني ويشكوني ويصيرني طريدا بعيدا.
فلو كان مولاي امرءا هو غيره ... لفرّج كربي أو لأنظرني غد
-يقول: فلو كان ابن عمي رجلا آخر من أهل المروءة لكشف عني المكروه كما أكشفه عنه أو لأمهلني على الأقل إلى المستقبل حتى يتبين لي صدقي في مودتي ولم يقابل إحساني بالإساءة.
ولكن مولاي امرؤ هو خانقي ... على الشكر والتسآل أو أنا مفتدى
يقول: ولكن ابن عمي رجل يضيق علي مع شكري له والسعي في إرضائه وابتغاء الإحسان منه يعاملني معاملة العدو الذي يعمد إلى خنق عدوه إلاّ أن يفتدي نفسه بمال أو نحوه.
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة ... على المرء من وقع الحسام المهند(7/11)
-والظلم وإن كان يؤلم من القريب والبعيد فإنّه من القريب أشد إيلاما وأكثر مرارة من الضرب من السيوف القواضب.
فذرني وخلقي أنني لك شاكر ... ولو حل بيتي نائيا عند ضرغد
يقول: فاتركني يا ابن عمي على طبيعتي وحسن عشرتي فإني لا أقابل إساءتك بمثلها، وهذا هو الواجب عليك وسأشكرك عليه كأنه نعمة(7/12)
ص -17- ... أسديتها إليّ، ولو كنت بعيد الديار أسكن في جبل ضرغد.
ألفاظ يتبجح بها كثير من الناس في هذا الزمان كالثورة والجمهورية والديمقراطية والحرية:
وقد شرحتها في مقال: (أيها العرب لا تتخذوا التفرقة وسيلة إلى الوحدة).
وقد نشر في صحف كثيرة منها مجلة البعث، ومجلة الإيمان المغربية؛ ولذلك لا أطيل القول في شرح هذه الألفاظ.
فالثورة: هي خروج الشعب على حاكمه أو حكامه إذا أساءوا التصرف وجاروا و ظلموا، أو لم يكونوا أهلا للأمانة التي جعلت في أيديهم كما وقع في الثورة الفرنسية وفي ثورة سكان الولايات المتحدة الأمريكية على حكامهم البريطانيين؛ فإذا توفرت أسباب الثورة، وكان القائم بها هو الشعب، وكان قادتها مخلصين مصلحين لا يريدون بثورتهم رئاسة ولا مالا، وإنما يريدون رفع الجور وإزالة الفساد وتحرير الشعب، فإن الثورة يكتب لها النجاح وتؤتي أكلها.
أما إذا كان القائمون بها عصبة لهم مآرب وأغراض قد أوغر صدورهم الحسد وتراءت لهم الأماني فأوقدوا نيران الثورة وأعملوا السلاح في شعبهم وسفكوا الدماء ليتوصلوا للمراتب التي لم يزالوا يمتنونها؛ فقد يتفطن لهم القابضون على زمام الحكم ويخمدون أنفاسهم ويصيرون مسخرة للساخر ويخسرون كل شيء، وقد لا يتفطنون لهم فتنجح الثورة نجاحا مؤقتا إلى أن تسنح الفرصة لعصبة أخرى فيقبضوا عليهم ويسقونهم بالكأس التي سقوا بها غيرهم، فيقال فيهم ما قيل في أبي مسلم الخرساني:
ظننت أن الدين لا يقتضي ... فاستوف بالكيل أبا مجرم
أشرب بكأس كنت أنت تسقي بها ... أمر في الحلق من العلقم
ويستمتع أصحاب الثورة الثانية بالحكم ما شاء الله أن يستمتعوا حتى تتمكن منهم عصابة أخرى فتثب عليهم وثبة الأسد الذي كان مريضا فجاءه الثعلب بالحمار للمرة الثانية فلم يفلته وهكذا دواليك.
فبشر الشعب الذي أصيب بمثل هذه الثورات بعذاب أليم، ومن يمدح مثلها أو يتمنى حدوثها في وطنه فهو غاش لقومه ساع في هلاكهم.
الجمهورية:(7/13)
أما الذين يمدحون الجمهورية لذاتها، فليسوا أقل ضلالا من الذين يمدحون الثورة لذاتها بقطع النظر عن العواقب والنتائج، إذا كان الشعب جاهلا منحطا في أخلاقه ليس له رابطة متينة تربط بين أفراده وطوائفه، قد ساد فيه الغش وقل فيه الإخلاص وخربت الذمم؛ فإنّ لا يصلح للحياة السعيدة لا بالنظام الملكي ولا بالنظام الجمهوري لأنّ الرؤساء الذين كانوا يحكمونه في العهد الملكي هم أنفسهم الذين(7/14)
ص -18- ... يحكمونه في العهد الجمهوري؛ ولا يعقل أن يكونوا في العهد الملكي ذئابا يعيثون فسادا ثم ينقلبوا في العهد الجمهوري ملائكة أبرارا.
وأنا أظن أن الملكية إذا كانت ثابتة الأساس قد أذعن لها الشعب وانخرط في سلكها منذ زمان طويل، وكان ذلك الشعب منحطا في أخلاقه جاهلا أنّ الملكية خير له من الجمهورية، لأنّ الملك يجمع كلمته ويوحد صفوفه، ويحفظ أهله من أن يصيروا فوضى كغنم بلا راع.
أما إذا كان الشعب رشيدا، وكان رؤساؤه ذوي علم وحكمة ونزاهة وإخلاص وأخلاق سامية، فإنهم ينجحون، سواء أصاروا على النظام الملكي أم على النظام الجمهوري؛ والواقع يشهد بهذا.
فبريطانيا بنظامها الملكي تتمتع بسعادة اجتماعية ورفاهية واستقرار، تحسدها عليه كثير من الجمهوريات، ولا يفكر أحد من حكمائها وقادتها باستبدال النظام الملكي، والانتقال إلى الجمهورية، وهذا الرضا والاطمئنان لا يختص بالبريطانيين فقط، بل هناك شعوب راقية سعيدة في حياتها، ديمقراطية في سلوكها حرة في تصرفاتها قد ربطت مصيرها بهذه الدولة الملكية شعوب(كمونويلث) ككندا واستراليا ونيوزيلندا وغيرها ممن يدور في فلكها، وهناك ممالك أخرى قد ذكرتها من قبل في غاية الاستقرار والرفاهية.
ومن زعم أنّ الجمهورية مرغوبة لذاتها أو ضرورية لكل شعب فإنّ زعمه باطل لا يثبت أمام النقد إلاّ كما يثبت الثلج في السهول إذا أشرقت عليه شمس الربيع؛ إذا فالشأن كل الشأن أن يكون رؤساء الشعب علماء حكاما، مخلصين صالحين فعلى أي نظام كانوا فإنّهم يقودون سفينة شعبهم إلى شاطئ السلامة.
ونحن نرى الشعوب المختلفة في نظام الحكم متعاونة متصافية بغاية الإخلاص كبريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية، فقد مضى على تعاونهما في السلم والحرب زمن طويل، ولم تحاول إحداهما أن تقلب الأخرى إلى نظامها.(7/15)
إذا فهذه الحزازات التي توجد في نفوس الحكومات العربية والجمهورية وما يعتريها من الاشمئزاز والكراهية للنظام الملكي حتى ربما أنّها تسعى في إسقاطه وتبالغ في شتمه وتصفه بالرجعية كل ذلك خطأ فاحش لم يعالجه طبيب ولا راق، والاستمرار فيه يتنافى مع المصلحة العامة لتلك الشعوب ويفضي إلى عواقب وخيمة.
الديمقراطية:
الإسلام نظام كفيل بسعادة كل من تمسك به من جماعات وأفراد ودول، ولا يحتاج أن يستعير من غيره شيئا، وهو لا يتفق مع نظام رأس المال، ولا مع الشيوعية، ولا مع الاشتراكيات بأنواعها.
وقد سبق إلى كل خير يوجد في هذه النظم، وتجنب كل شبر فيها،(7/16)
ص -19- ... فإذا وصفت الأمة بأنها ديمقراطية فقد جهلتها وجهلت عليها؛ فالإسلام مبني على العدل والإحسان وفيهما سعادة البشر أجمعين.
أما دعاة الديمقراطية في هذا الزمان فإنهم يصفونها بأن يحكم الشعب نفسه بنفسه بواسطة الانتخاب العام، فكل جماعة من الناس تختار نائبا يمثلها أو ينوب عنها في مجلس يسمى: البرلمان؛ وهذا المجلس هو الذي يختار رئيس الوزراء ويعينه، ورئيس الوزراء يختار نوابه من أولئك النواب أو من غيرهم بموافقة المجلس، وكل فرد من أفراد الشعب له الحق أن ينتقد النواب والوزراء ورئيسهم في حدود القانون الذي يمنع التعدي والظلم، وهذا القانون يضعه علماء إختصاصيون ويقره المجلس.
قالوا: وهذا أرقى ما وصل إليه العقل البشري في الحرية والمساواة فكل من وقع عليه الظلم يستطيع أن يدفعه عنه بواسطة نائبه، وكذلك من تعسر عليه الوصول إلى حق يستعين بنائبه على الوصول إليه.
وحرية الاعتقاد والانتقاد في ضمن القانون وإبداء الرأي وسائر الحريات مكفولة فلا يعاقب أحد بحبس أو غرامة إلاّ إذا خالف القانون المتفق عليه.
وتوزع الحقوق والواجبات بالتساوي، فلا يعفى من الواجبات أحد كيف ما كان مركزه، فيكون كل فرد آمنا مطمئنا على نيل حقوقه لا يحتاج إلى تملق ولا تعلق، فلا يخاف الإنسان إلا مما قدمت يداه.
ومع هذا التحري كله فقد يقع الغش في الانتخاب، فإن مالك المزرعة ومالك المعمل إذا رشح نفسه للنيابة يشعر الفلاحون والمزارعون بأنّ من اللياقة أن ينتخبوا مالك مزرعتهم ويشعر العمال كذلك أنّه ينبغي عليهم أو يجب عليهم أن ينتخبوا مالك معملهم فيختل ميزان المساواة.(7/17)
وهناك سبب آخر لامتعاض الناس في البلدان (الديمقراطية) وهو وجود الأحزاب المختلفة كالمحافظين والعمال والأحرار؛ فالمحافظون يرون إعطاء الحرية أفراد الشعب كيف ما كانت كسكك الحديد والمعدن والمصانع الكبرى ويقولون: إن ذلك هو الأصلح لشعبهم ليتنافس أفراده وجماعاته، كالشركات مثلا في العمل لتكثير المنتوجات واستثمار البلاد واستخراج كنوزها، وبذلك يقع الازدهار والتقدم في جميع الميادين.
ويقول العمال الاشتراكيون: إن البلاد كلها بثمراتها ومعادنها وكنوزها ملك للشعب كله؛ فيجب أن تكون منابع الثروة الكبرى في يد الحكومة لئلا يستولي عليها أفراد قليلون يحتكرونها ويستحوذون على الأرزاق خصوصا مع إباحة الربا فتصير جماهير الشعب الكادحة التي بعرق جبينها استخرجت تلك الأموال والأرزاق خدما وعبيدا لفئة قليلة من ذوي رؤوس الأموال المحتكرين.
وتتهم الأحزاب بعضها بعضا بعدم النزاهة في الانتخاب، ولكن لما كانت(7/18)
ص -20- ... الأحزاب متعددة يكون من السهل على كل حزب أن يكتشف ويفضح دسائس الحزب الآخر، فيزول الحيف ويقع التوازن.
فحزب العمال يبذل جهده في تأميم المنابع الكبرى، وحزب المحافظين يبذل جهده في ترك الناس أحرارا في المضاربة والاستثمار، وكل منهما يرى أن وجهته أفضل لشعبه؛ وقد ساروا على هذا منذ زمان طويل ورضوا به واعتقدوا أنّه أفضل ما يقدم البشر عليه من العدالة.
وهناك استعمال آخر للديمقراطية وهو استعمالها لفظا مرادفا لاشتراكية الشيوعية، وهذا الاستعمال دعاية مجردة غير معقولة، لأنّ كل شعب يحكم بنظام الحزب الواحد لا يمكن أن يكون ديمقراطيا، وحتى ذلك الحزب الواحد لم ينتخبه الشعب، وإنما طائفة تسلطت عليه بالقهر و الغلبة وأسرته واستعبدته شر استعباد وصارت تتكلم باسمه، وتستخدمه بلا رحمة ولا شفقة، وقد سبته جميع الحريات: حرية الكلام، حرية الاعتقاد، وحرية العمل وحرية الإضراب عن العمل وحرية المطالبة بزيادة الأجور، أو بزيادة الطعام أوالكسوة أو التدفئة، وقد تقدمت الإشارة إلى بعض ما تقاسيه هذه الشعوب المخنوقة المستعمرة شر استعمار.
الحرية:
ومن العجب أنّ هؤلاء الجبابرة الذين يحكمون شعوبهم بالحديد والنار حكما كله دماء ودموع، وقهر وكبت، وإذلال وإهانة، ومع ذلك يتغنون بالديمقراطية والحرية وهم يعلمون أنهم أبعد الناس عن الحرية والديمقراطية، ولكن كما قيل في المثل وهو مأخوذ من الحديث الصحيح: "إذا لم تستح فاصنع ما شئت"، وعليه يقال: إذا لم تستح فقل ما شئت، ونظمه بعضهم فقال وأجاد:
إذا لم تخش عاقبة الليالي ... ولم تستح فاصنع ما تشاء
فلا والله ما في العيش خير ... ولا الدنيا إذا ذهب الحياء(7/19)
ومن أراد زيادة الاطلاع على ما كان عليه الأوروبيون إلى زمان قريب جدا من الانحطاط والهمجية، وما كان عليه المسلمون في الأندلس في زمن العلم والحضارة والرقي الحسي والمعنوي؛ فليقرأ كتاب: (مدنية العرب في الأندلس)، الذي ترجمه كاتب هذه المحاضرة بالعربية لمؤلفه الذائع الصيت (جوزيف مكيب)، ولا تزال عندي منه بعض مئات، وهذا ما بدا لي إيراده في بيان ما يسمى بالرجعية والتقدم، كتبته تبصرة لإخواننا المسلمين الذين لا يعرفون ما ينطوي تحت هاتين الكلمتين من الغش والتضليل؛ والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.(7/20)
ص -21- ... إستدراك:
لما فرغ القارئ من قراءة محاضرتي، قام صاحب الفضيلة الأستاذ المرشد العربي الموفق الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز حفظه الله فأشار بتلطفه المعهود وأدبه السامي إلى أنّه قد يفهم مما قلته في عموم المسلمين الذين يعملون السيئات وغيرها كالحكم بغير ما أنزل الله، وقد عذبهم الله في الدنيا كما أوعدهم في كتابه وسيعذبهم في الآخرة أكثر مما عذبهم في الدنيا، ولم أستثن في ذلك شعبا من الشعوب ولا دولة من الدول حتى كأنهم متساوون في الجريمة.
وكان ينبغي لي أن استثني من قام منهم بشيء من الواجب على قدر استطاعته؛ وهذا حق فإن الشعب السعودي والمملكة السعودية بقيادة ملكها الإمام المصلح جلالة الملك فيصل والأئمة السابقين من أسلافه رحمهم الله لم يزالوا يحكمون شريعة الله، ويتخذون القرآن إماما والسنة سراجا، يضيئان لهم ظلمات الحياة الدنيا بانتشار الأمن على الأنفس والأموال والأعراض في بلادهم إلى حد لا يوجد له نظير في الدنيا، حتى إني لما كنت في ألمانيا قبل الحرب وقبل تقسيمها وهي في عنفوان قوتها، وحدثت الناس هناك بالأمن الذي يتمتع به سكان المملكة السعودية تفصيلا سألوني: أين يتخرج رجال شرطة هذه المملكة رؤساؤها؟ فقلت: يتخرجون في مدرسة القرآن في المسجد؛ فأبدوا شكهم في ما أخبرتهم به، وقالوا: لا يوجد في الدنيا أحسن من الشرطة الألمانية ومع ذلك لا يوجد عندنا مثل ما ذكرت من الأمن!(7/21)
وهذا الثواب المعجل في الدنيا يدل دلالة قطعية على أنّ الله الذي لا يخلف الميعاد سيثيب إمام هذه الدولة وأسلافه ورجال دولته وأعوانه المخلصين في الدار الدنيا كما قال تعالى في سورة النحل30: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ, جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللهُ الْمُتَّقِينَ}.
وأشهد بالله أني لما دعاني سمو الأمير مساعد بن عبد الرحمن إلى الحج سنة سبع وخمسين بتاريخ النصارى، وأظنه يوافق سنة ست وسبعين للهجرة، كنت راكبا في طائرة سويسرية من بغداد إلى الظهران، وكانت المضيفة من القسم المتكلم بالألمانية من سويسرا؛ فأخذت تدور على ركاب الطائرة، لما أرادت أن تدخل في سماء المملكة العربية السعودية وتقول لهم لا يطلب أحد منكم خمرا حتى نجتاز المملكة السعودية، ولا يجوز لأحد منكم أن يمسك زجاجة خمر ولو فارغة؛ فإنّ الحكومة السعودية تعاقبنا على ذلك، وتكلمت معي باللغة الألمانية لأنها عرفت من قبل أني أتكلم بها، وشرحت لي خوف قائد الطائرة وجميع الموظفين(7/22)
ص -22- ... من رجال المملكة السعودية، وأنهم لا يتساهلون مع أي طائرة يجدون فيها شرابا مسكرا ظاهرا؛ قالت: فنحن نخبئ جميع الأشربة المسكرة حتى القوارير الفارغة إلى أن نخرج من هذه المملكة، فأخبرتها أني مسلم وأن عقيدتي والحمد لله مطابقة لهذا الحكم، وأنا أحمد الله على وجود مملكة في الدنيا تنفذ هذا الحكم.
ونحن نشاهد شريعة القرآن تنفذ على رؤوس الأشهاد، في هذه المملكة الفذة، فيقتل القاتل المتعمد، ويرجم من الزناة من يستحق الرجم، ويجلد من يستحق الجلد مع التغريب، وتقطع يد السارق، ويقام الحد على الشارب، ولا يحكم حاكم في جميع أرجائه إلاّ بشريعة القرآن، فكيف يستطيع مسلم أو منصف أن يسوي بينهما وبين من يحل ما حرم الله، ويحكم بغير ما أنزل الله.
نعم إنّ أشباه القردة من المقلدين لمن يسمونهم بالمستعمرين ويسلقونهم بألسن حداد ليل نهار في إذاعاتهم وصحفهم هؤلاء القردة يسمون شريعة الله ورسوله التي سار عليها المسلمون حين كانوا سادة العالم، يسمونها: رجعية، ويسمون المنفذين لها - أيده الله بروح منه -: رجعيين؛ وقد تقدم جوابهم أعلاه في هذه المحاضرة بما يلقمهم الأحجار، ولا يدع لهم مجالا للفرار؛ وإني لأشكر صاحب الفضيلة الأستاذ الجليل الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز على هذا التنبيه الذي تفضل به، فلا زال مصدرا لكل خير وكمال.(7/23)
عنوان الكتاب:
الثقافة التي نحتاج إليها
تأليف:
محمد تقي الدين الهلالي
الناشر:
الجامعة الإسلامية
السنة الأولى، العدد الثالث، ذو القعدة 1388هـ/شباط 1969م(8/1)
ص -27- ... الثقافة التي نحتاج إليها
الدكتور محمد تقي الدين الهلالي: المدرس في الجامعة
هذا موضوع مهم جدا وواسع يحتاج بيانه بالتفصيل إلى تأليف كتاب مستقل، ولكن نجمل الكلام فيه إجمالا حسبما يسمح به المقام فنقول: إن كل شعب يبغى أن يعيش سعيدا يحتاج إلى أمور..
أولها: القوة الروحية وهي تتوقف على الدين الصحيح الذي يملأ قلوب أبناء الشعب إيمانا وحماسة ويؤلف بينهم ويكون العروة الوثقى التي لا تنفصم، ومن أراد أن يرى بعينيه شاهدا على ذلك فلينظر إلى العرب قبل الإسلام وبعده. وأما حالهم قبل الإسلام فكل من له أدنى إلمام بالتاريخ يعرفها حق المعرفة. ومن لم يكن له إلمام بالتاريخ ففي القرآن الذي هوكتاب متواتر لا يشك في تواتره أحد لا موافق ولا مخالف، فيرى فيه أن العرب كانوا يقتلون أولادهم بسبب الفقر ويئدون بناتهم لأسباب خسيسة وكانوا لا يورثون الإناث ولا الصبيان لأنهم كانوا يحصرون امتلاك الأموال في من يحمل السلاح ويقاتل لأن العاجز عن ذلك كالنساء والصبيان لا يستطيع أن يدافع عن المال ويصد عنه غارات المغرين المتوالية إذ كان يجب على كل من يملك شيئا أن يقاتل عنه ضرورة أنه لم يكن لهم قانون ولا دولة ولا نظام ولا وازع ديني يكفّهم عن سلب الأموال والأرواح بل كانوا يرثون النساء زيادة على عدم توريثهم كما قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهاً} سورة النساء.(8/2)
قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: "قال البخاري بسنده إلى ابن عباس قال كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته إن شاء بعضهم تزوجها وإن شاءوا لم يزوجوها فهم أحق بها من أهلها فنزلت هذه الآية.. هكذا ذكره البخاري وأبوداود والنسائي وغيرهم من حديث أبي إسحاق الشيبانى. ومن هنا نعلم فضل الإسلام على العرب أولا ثم على جميع المسلمين ثم على جميع العالمين كيف رفع قدر النساء بعد أن كن متاعا يورث كسائر الأموال ولم يكن أحد يفكر لا من العرب ولا من غيرهم في تسويتهن بالرجال في حرية التصرف بأنفسهن وفي أموالهن حتى جاء الإسلام فرفع عنهن هذه العبودية وأعطاهن حقا(8/3)
ص -28- ... مساويا للرجال في الميراث فيما فرض الله لهن وفي أنهن إذا كن بالغات سن الرشد لا يتزوجن إلا برضاهن ولا يستطيع أحد أن يكرههن على التزوج بمن لا يرغبن فيه، ودونك الدليل: أخرج البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تنكح الأيم حتى تستأمر ولا تنكح البكر حتى تستأذن" قالوا: "يا رسول الله وكيف إذنها؟" قال: "أن تسكت".
وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الثيب أحق بنفسها من وليها والبكر تستأمر وإذنها سكوتها" رواه مسلم. وفي لفظ أي من رواية ابن عباس "ليس للولي مع الثيب أمر واليتيمة تستأمر.." رواه أبوداود والنسائي وصححه ابن حبان. اهـ. وإنما اكتفى الشارع الحكيم من البكر بالصمت لغلبة الحياء عليها. قال العلماء فإن وقع شك في رضاها أمرت بالتكلم ويجب أن تخبر قبل ذلك بأنه لا مكره لها وأنها إن امتنعت لا يستطيع أحد أن يزوجها كما سيأتي صريحا في الحديث. قال صاحب سبل السلام: "والإذن من البكر دائر بين القول والسكوت إنما اكتفى منها بالسكوت لأنها قد تستحي من التصريح. وقد ورد فى رواية أن عائشة قالت: يا رسول الله إن البكر تستحي قال: "رضاها صماتها". أخرجه الشيخان، ولكن قال ابن المنذر: "يستحب أن يعلم أن سكوتها رضي، قال ابن شعبان يقال ثلاثا إن رضيت فاسكتي وإن كرهت فانطقي" اهـ.
حديث آخر عن ابن عباس أن جارية بكرا أتت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت أن أباها زوجها وهي كارهة فخيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه أحمد وأبوداود وابن ماجه وأعل بالإرسال، وأجيب عنه بأنه رواه أيوب بن سويد عن الثوري عن أيوب موصولا، وكذلك رواه معمر ابن سليمان الرقى عن يزيد بن حبان عن أيوب موصولا، وإذا اختلف في وصل الحديث وإرساله فالحكم لمن وصله، قال المصنف: "الطعن في الحديث لا معنى له لأن له طرقا يقوي بعضها بعضا" اهـ.(8/4)
وقال صاحب سبل السلام عقب هذا الحديث: "وقد تقدم حديث أبي هريرة المتفق عليه وفيه "ولا تنكح البكر حتى تستأذن". وهذا الحديث أفاد ما أفاده فدل على تحريم إجبار الأب لابنته البكر على النكاح وغيره من الأولياء بالأولى وإلى عدم جواز إجبار الأب. ذهبت الحنفية والأوزاعى والثوري وأبوثور وأبوعبيد وابن المنذر وهوإحدى الروايتين لأحمد لما ذكر ولحديث مسلم: "البكر يستأذنها أبوها" وإن قال البيهقي زيادة الأب في الحديث غير محفوظة فقد رده المصنف بأنها زيادة عدل يعني فيعمل بها" اهـ..
قال كاتب هذا المقال ومراده بالمصنف الحافظ ابن حجر العسقلاني.
وذهب أحمد والشافعي وإسحاق(8/5)
ص -29- ... إلى أن للأب إجبار ابنته البكر البالغة على النكاح عملا بمفهوم "الثيب أحق بنفسها" كما تقدم فإنه دل أن البكر بخلافها وأن الولي أحق بها ويرد بأنه مفهوم لا يقاوم المنطوق وبأنه لوأخذ بعمومه لزم في حق غير الأب من الأولياء وأن لا يخص الأب بجواز الإجبار، وقال البيهقي في تقوية كلام الشافعي: "إن حديث ابن عباس هذا محمول على أنه زوجها من غير كفء"، قال المصنف: "جواب البيهقي هو المعتمد لأنها واقعة عين فلا يثبت الحكم بها تعميما"، قلت كلام هذين الإمامين محاماة عن كلام الشافعي ومذهبهم وإلا فتأويل البيهقى لا دليل عليه فلوكان كما قال لذكرته المرأة بل قالت إنه زوجها وهى كارهة فالعلة كراهتها فعليها علق التخيير لأنها المذكورة فكأنه قال صلى الله عليه وسلم: إذا كانت كارهة فأنت بالخيار.
وقول المصنف: "إنها واقعة عين" كلام غير صحيح بل حكم عام لعموم علته فأينما وجدت الكراهة ثبت الحكم وقد أخرج النسائي عن عائشة رضي الله عنها أن فتاة دخلت عليها فقالت: "إن أبي زوجني من ابن أخيه يرفع بي خسيسته وأنا كارهة" قالت: "اجلسي حتى يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم" فلما جاء وسول الله فأخبرته فأرسل إلى أبيها فدعاه فجعل الأمر إليها فقالت: "يا رسول الله قد أجزت ما صنع أبي. ولكن أردت أن أعلم النساء أن ليس للآباء من الأمر شيء". ولفظ النسائي "علم للبكر والثيب" وقد قالت هذا عنده صلى الله عليه وسلم فأقرها عليه والمراد بنفي الأمر عن الآباء نفي للتزويج للكراهة لأن السياق في ذلك اهـ.(8/6)
قال صاحب هذا المقال: إن كان الأب مجبرا فما فائدة استئذان البكر وما فائدة صمتها أوتصريحها بالأباء إذ لابد للإستئذان من نتيجة وهي إما صمت يدل على الرضا فتزوج أوتصريح بالآباء يدل على الامتناع والكراهية فلا تزوج وإلا كان الاستئذان عبثا وأوامر العقلاء تصان عن العبث فكيف بأمر سيد العلماء والحكماء صلوات الله وسلامه عليه ولاعجب من الشارح كيف لم يتنبه إلى هذا المعنى ومن سوء الحظ أنه ليس عندي في الوقت الحاضر من شروح كتب الحديث غيره..
قولها: "ليرفع بي خسيسته" قال في اللسان: "يقال رفعت من خسيسته إذا فعلت به فعلا يكون فيه رفعته".
قال الأزهري: "يقال رفع الله خسيسة فلان إذا رفع حاله بعد انحطاطها" إهـ
قال كاتب هذا المقال: ولا يخفى أن المصاهرة ترفع حال المتزوج وتلحقه بمنزلة من تزوج ابنته فإذا كان الشاب يتيما فقيرا، وإن كان البلوغ يضع لليتم حدا لكن عواقبه تستمر معه وكان عمه غنيا نابها من إشراف القوم فزوجه ابنته رفع ذلك قدره وأعلا منزلته بين الناس. وكأني بغراب من عبيد الاستعمار(8/7)
ص -30- ... ينعب يقول: كيف تدعون أن الإسلام أعطى النساء حقوقهن في الميراث كاملة غير منقوصة مع أنه لم يجعل للمرأة إلا نصف ميراث الرجل، فأقول في جوابه أن الإسلام حين جعل للمرأة نصف ميراث الرجل قد وفاها حقها ولم ينقصها شيئا لأنه أوجب على أخيها أن ينفق عليها إن كانت محتاجة ولم تكن متزوجة ولأن الإسلام أوجب على أخيها صداقا يقدمه لزوجته زيادة على نفقتها ونفقة أولاده وإخوته الصغار ووالديه إذا كانا محتاجين أما أخته فإن تزوجت أخذت صداقها تتصرف فيه كيف تشاء وتأخذ ميراثها من والديها ونفقتها على زوجها وكذلك نفقة أولادها وإن كانت غنية، فلوأن الإسلام سوّى بين الأخ وأخته مع ما أوجبه على الأخ من النفقات التي لا يجب منها شيء على الأخت لكان قد حمّله ما لا يطيق فإذا كانت الأخت نفقتها على أبيها أوأخيها أوزوجها ومع ذلك تأخذ نصف ما يأخذه أخوها على سبيل الإحتياط تحفظه لتقلبات الزمان فقد رفق بها الإسلام غاية الرفق وأكرمها غاية الإكرام.(8/8)
ولوأن هذا الغراب كان منصفا لوجّه اللوم لسادته المستعمرين الذين ليس لهم نظام سماوي في الميراث فهم يوزعونه على حسب الهوى ويضيعون أولادهم وبناتهم. ومتى بلغت الفتاة عندهم ست عشرة سنة وكانت من الطبقة الفقيرة أوالمتوسطة يقول لها الوالدان باللسان الفصيح ارحلي عنا واشتغلي لتكسبي رزقك فحسبنا أن نكتسب معيشتنا ومعيشة من يبقى من الصغار، وهنا أذكر قصة سمعتها من إذاعة لندن وهي أن فتى مصريا كان يتعلم في بريطانية وكان له صديق في سنه من البريطانيين وكان بينهما ألفة ومحبة يدرسان جميعا ويتنزهان جميعا فجاء البريطاني يوما إلى الفتى المصري يودّعه فقال الفتى المصري إلى أين فقال أنا مسافر إلى حيث أجد رزقي قال وكيف ذلك؟ قال:البارحة أعطاني والدي بضعة دنانير وقالا لي يا ولدنا اذهب في أرض الله واكتسب رزقك فقد بلغت ست عشرة سنة وانتهى واجبنا معك، فأخذ الفتى المصري يبكى بكاء شديدا وقال كيف يكون هذا؟ كيف يسمح والداك بفراقك من أجل لقمة الخبز؟ أقم معي هنا وأنا أقتسم معك ما يبعثه لي والدي فتبسّم الفتى الإنكليزي وشكر صديقه المصري على طيب نفسه وقال له: يا صديقي هذا قانون عام في بلادنا يجري علي وعلى غيري وودّعه وانصرف وتركه في بكائه.
فهؤلاء الغربان الذين يقدسون المستعمرين ويتلقون كل ما جاء منهم بالقبول والإجلال لا يفكرون أبدا في فظاعة طرد الأبوين ابنتهما في الوقت الذي تكون فيه أحوج ما كانت إلى الحماية والرعاية في سن السادسة عشرة ويعرضانها للفجور كمن يخرج درة من صدفها ويلقيها في مزبلة بل هذه أقبح ولكن عبيد الاستعمار(8/9)
ص -31- ... مضروبون بسوط هيبته قد فقدوا العقول التي وهبهم الله ليميزوا بها الحسن من القبيح فهم يرون كلما يفعله أئمتهم وإن كان في غاية القبح حسنا وكل ما يخالفهم وإن كان في غاية الحسن قبيحا كما قال الشاعر:
وعين الرضا عن كل عيب كليلة ... كما أن عين السخط تبدي المساوئا
هذا شأن عبيد الاستعمار الغربي، وكذلك عبيد الاستعمار الشيوعي فإنهم مثلهم أوأضل سبيلا فإنهم يقدسون الزعيم ويخترعون له من المزايا والفضائل حتى تضيق العبارات عما يريدون أن يصفوه به فإذا ملّه رفقاؤه وأرادوا أن يتخلصوا منه ليستبدلوه بغيره وقلبوا له ظهر المجن وأنزلوه من العرش وملأوا الدنيا بذمه وانتقاده إنقلب مادحوه والمعجبون به، وسلقوه بألسنة حداد وقد لا يكون بين إغراقهم في مدحه ومبالغتهم في ذمه إلا عشية أوضحاها كما وقع لرؤساء اليهود حين أسلم عبد الله بن سلام رضي الله عنه فإنه قال: "يا رسول الله إن اليهود قوم بهت وإنهم إذا علموا بإسلامي بهتوني وعابوني فاسألهم عني قبل أن يعلموا بإسلامي" فسألهم النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: "سيدنا وابن سيدنا وأعلمنا وابن أعلمنا"، فخرج عبد الله بن سلام وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد خبأه في بعض بيوته فقال: "أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله" فقالوا: "أرذلنا وابن أرذلنا وأجهلنا وابن أجهلنا" والقصة مذكورة في صحيح البخاري.(8/10)
وكنت قبل بضع سنين في برلين فرآني شاب شيوعي أتيمم على تراب فلما صليت قال لي: "ما فائدة التمسح على التراب؟ الوضوء معقول لأن فيه نظافة، وأما التمسح على التراب فهوأمر شكلي مافيه فائدة" فقلت له: "أنت أخبرتني أن ستالين ألف كتابا في علم التربية وأنه كتاب مقرر في المدارس لتعليم علم التربية، ومن المعلوم أن ستالين لم يكن قط معلما ولا مدير مدرسة فضلا عن أن يكون من المختصين بعلم التربية فكيف صار تأليفه في علم التربية مقدما على غيره وهورجل عسكري قضى عمره كله في الحروب وليس له إلمام بالتربية لاعلما ولا تعليما فتأليفه في علم التربية أمر شكلي أما التيمم بالتراب فمعناه التواضع لله تعالى والخضوع له وطلب العون منه والشفاء من المرض الذي حال بين المتيمم وبين الوضوء وهذا معنى الصلاة أيضا".
هذا الزمان زمان الجهل والفتن ... فانظر إلى مافشا في الناس من نتن
يغمى على المرء في أيام محنته ... حتى يرى حسنا ما ليس بالحسن
والتتن الدخان الذي يشربه الناس.
والحاصل أن المقلدين للشرق والغرب خسروا أنفسهم وفقدوا عقولهم وصاروا كالأنعام بل هم أضل سبيلا فهم كما قال الله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ(8/11)
ص -32- ... وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} ومع كل هذا التقديس تنكروا لإلههم بعد موته وكان الذي أنكره وأظهر عيوبه وجرائمه هو نائبه وشريكه في الحكم عشرات السنين (خروتشوف) ثم حلّ محله وتربى على منصة السيادة وورثه وظن أنها تدوم له فلم يلبث أن ذاق مرارة العزل وهوحي وأصبح في خبر كان وكل ما جاء مقدس جديد اشتعلوا به ونسوا الذي قبله ولم يبالوا بالتناقض فصار مدح هؤلاء وذمهم سواء لأن الذي يمدحونه اليوم يذمونه غدا والذي يثبتونه اليوم ينفونه غدا وبالعكس وما أحسن ما حكاه الإمام أبومحمد بن حزم، قال: "كان عندنا بالأندلس فقيه من أهل الفتوى وكان لا يفتي حتى يتقدمه غيره فيكتب تحته قوله: موافق لما قاله الفقيه أعلاه. فاتفق أن الفقهاء اختلفوا في مسألة فبعضهم أفتى فيها بالجواز وبعضهم أفتى بالتحريم فلما جاءوا بالصحيفة كتب أسفلها قولي موافق لما قاله الفقهاء أعلاه فقيل له إنهم تناقضوا فقال وأنا أيضا أتناقض كما تناقضوا".(8/12)
وكانوا يعضلون النساء ويمنعوهن من الزواج لأغراض خسيسة فنهاهم الله عن ذلك في مواضع من كتابه وإنما ذكرنا بعض أخلاقهم قبل الإسلام ليعلم من لا يعلم فضل الإسلام الصحيح عليهم وعلى كل من دان به من غيرهم، وأما حالهم بعد الإسلام فهي أوضح وأظهر من شمس يوم الصحو، فما الذي غيّر حالهم من التشتت إلى الاجتماع، ومن التخاذل إلى التعاون، ومن الجهل إلى الحلم، ومن الذل إلى العز، ومن الفقر إلى الغنى، ومن الضعة إلى الرفعة إلى السيادة، ومن الضعف إلى القوة، ومن الفوضى إلى النظام, ومن تلك البقعة القاحلة الجرداء إلى الأراضي المخصبة والجنات المثمرة، والأنهار المطردة والأزهار الجملية، ومن البيوت الحقيرة إلى القصور الشامخة في آسية وأوروبة وافريقية؟ وكيف صارت الدول العظام التي كانت قبل إسلامهم هي الصالحة للبقاء لا تصلح إلا للفناء.
الجواب أن علماء التاريخ وعلماء العمران وعلماء تطور الأمم اتفقوا على أمر وهوان العرب بعد الإسلام صاروا أقوياء أغنياء سعداء متمدنين ذوي دولة ونظام، ثم اختلفوا، فالعقلاء المؤمنون بالله قالوا إن السبب المباشر في ارتفاعهم من حضيض الهمجية إلى سماء المدنية الفضلى هو الدين. وأما الذين لا يؤمنون بالله وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون فقد اعتقدوا أن القرآن ودعوة محمد صلى الله عليه وسلم نفخا فيهم روح الحياة وهذه الروح جعلتهم يتعلمون المدنية والعلوم من الأمم المغلوبة التي(8/13)
ص -33- ... اندثرت مدنيتها وقد نسي هؤلاء أو تناسوا القاعدة العظيمة وهي: "إن فاقد الشيء لا يعطيه".
لأن تلك الأمم وهي الفرس والبيزنطيون والروم لوكانت مدينتهم صالحة للبقاء والنمو والحياة ما تغلب عليهم قوم متوحشون جهال-بزعمكم-خارجون من الصحراء ليس لهم علم ولا أخلاق، ولا معرفة بالعمران ولا بالنظام وعلوم المغلوبين وأخلاقهم لوبقيت فيها حياة وصلاح ما غلبوا ولنفعت أهلها فكيف لا تنفع أهلها وهم أعلم الناس بها وتنفع اعداءهم؟ وهذا هوالحال عينه.
فهل سمعت بطبيب يصيبه مرض يعرف دواءه فيستعمل ذلك الدواء فلا ينفعه فيموت من علته ويموت كل قومه ثم يأتي أعداؤهم فيقرأون كتاب ذلك الطبيب ويأخذون منه الدواء فيستعملونه فيصحون عليه وهكذا يقال في الصيدلي يركب دواء فلا ينفع ذلك الدواء أحدا، ثم يأتي عدوه فيقرأ كتابه ويتعلم منه تركيب الأدوية فيدرك ما لم يدركه الصيدلي الذي اخترع الدواء وجربه مرارا وهكذا يقال في الفلاح والصانع نعم لوقيل أن المسلمين انتصروا على أهل الأرض بالأخلاق القرآنية ثم خدمتهم جنود السماوات والأرض كما وعدهم الله بذلك فتعلموا من الصناعات والحضارات ما زادهم قوة ونظاما لكان ذلك قريبا. أما أن الغالب يأخذ القوة من المغلوب، والحي يكتسب الحياة من الميت، والقوي يقتبس القوة من الضعيف فذلك مالا يكون أبدا.(8/14)
ومثال آخر في البلدان التي يغلب على أهلها الجهل بالكتاب والسنة ويكون للدجالين فيها سلطان عظيم فترى أحدهم يبيع قصور الجنة بأثمان بخسة ويهب الأولاد للمصابين بالعقم من الرجال والنساء ويعطي الغنى وطول العمر والنجاح في الامتحان والترقي في مناصب الدولة وقدوم الغائب بسلامة وشفاء الأمراض.. كل ذلك بدريهمات قليلة فيصدقه الأغبياء، ومرة جاء أحد الدجاجلة وقال: من يشترى قصرا في الجنة بمائة ريال فقام رجل من العقلاء وقال هذا ألف ريال أعطني به بيتا في هذه القرية وحين تسلمه لي أسلم لك ألف ريال، وأنا أعلم أنك لا تقدر على ذلك وإذا كنت عاجزا أن تملك بيتا ولوحقيرا في هذه القرية فكيف تملك قصرا في الجنة يا قليل الحياء؟. فسقط في يده وضحك عليه الناس.
ومرة جاء دجال آخر وقال لرجل أبسط ثوبك فأخذ يأخذ بيديه كلتيهما حفنة من الهواء ويضع في ثوبه ويقول هذا الرزق ثم يأخذ حفنة أخرى ثم يقول هؤلاء الأولاد الصالحون ثم يأخذ حفنة أخرى ويقول هذا العمر الطويل ثم يأخذ حفنة أخرى ويقول هذا الحج إلى النبي المصطفى (والجهال في المغرب يظنون أن الحج في حجرة النبي صلى الله عليه وسلم)(8/15)
ص -34- ... ثم يأخذ حفنة أخرى ويقول هذا العز والجاه ثم يأخذ حفنة أخرى ويقول هذه قصور الجنة وهكذا لم يترك شيئا من الخير إلا وضعه في ثوبه بالكلام المجرد ثم قال أعطني شيئا فجمع الرجل يده وغرف غرفة وأعطاه إياها فقال خذ هذا مما أعطيتني..
وهذا القرآن وهذه الدعوة المحمدية ليسا من الأشياء التي كانت فبانت كما يتوهمه الجاهلون وليسا من الفصائل الحيوانية والنباتية التي انقرضت وحلّت محلّها فصائل أخرى ولن تعود إلى الوجود أبدا كما يريد أن يوهمنا الإستعمار بل هما قوة باقية خالدة لا تزول ولاتحول، ولك أن تطلب الدليل البارز الشاهد وعلى أن أدلي به فأقول: كيف نشأت الدولة العثمانية؟ ومن أين استمدت قوتها.. من (هولاكووتيمورلنك وجنكيز خان)؟.
لا والله فإن هؤلاء كانوا غزاة متوحشين والتاريخ أصدق شاهد، وإنما استمدت قوتها ووجودها وصارت إمبراطورية عظيمة استولت على آسيا وقسم كبير من أوروبة وإفريقية من الإسلام، ودونك شاهدا غير بعيد ولا منقرض بل هوقائم حاضر وهوالمملكة السعودية.
كيف نشأت هذه المملكة في قلب الإمبراطورية العثمانية، وناهيك بماكان للإمبراطورية العثمانية، من الحول والطول وقد تصدت بجميع قواها الحرية والدعائية لتحطيم الحركة الدينية الإصلاحية التطهيرية التي أشرق نورها من قلب جزيرة العرب بجوار الحرمين الشريفين اللذين هما شريان الخلافة العثمانية.(8/16)
لأن أجل ألقاب السلطان العثماني (خادم الحرمين) وزوال هذا اللقب ينذر بزوال الخلافة ثم بزوال الإمبراطورية وهونتيجة محتومة لزوال الخلافة ولذلك جمع السلطان العثماني كل قواه وعبأ جيشه العظيم تحت قيادة محمد علي باشا وابنه إبراهيم باشا وزحفوا على الإمارة مدح النبي صلى الله عليه وسلم السعودية بعد ما شنوا عليها حملات أقلام مضللة فعبأت الدولة العثمانية أسطولا بحريا وجيوشا برية بأحدث ما في ذلك العصر من الأسلحة من المدافع والبنادق المجهزة بالحراب والسيوف واستمرت الحرب بين الدولة العثمانية بجيوشها المختلفة الألوان واللغات وانضم إليهم لصوص الجزيرة وخرابها بقيادة محمد على باشا ثم ابنه إبراهيم وابنه طوسون من سنة 1226هـ إلى سنة 1233هـ ففتحوا الحجاز ثم نجدا بلدا فبلدا، وقرية فقرية، بل حيا فحيا.
وهذا من خوارق العادات أن إمارة تقاوم دولة عالمية زهاء إحدى عشرة سنة دون أن تتلقى مددا من أي جهة من الجهات وقد شهد المؤرخ المصنف عبد الرحمن الجبرتي المصري أن جيش إبراهيم باشا لم يكونوا يصلون ولا يذكرون الله وكانوا يشربون الخمر حدثه بذلك شاهد عيان وأن جيش الأميرعبد(8/17)
ص -35- ... الله بن سعود كانوا محافظين على الصلاة، وفي أوقات الشدة كانوا يصلون صلاة الخوف وهؤلاء الغزاة العثمانيون وإن كانوا قد دوّخوا بلاد الحجاز ونجد وفتكوا بأهلها وخربوا مدينة الدرعية وأخذوا أميرها عبد الله بن سعود مع أصحابه إلى بلادهم وقتلوه شر قتلة فإن الله سبحانه وتعالى جعل العاقبة للمتقين وهوالقائل: {وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} سورة النمل.
ونقلوا رؤساء آل شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب إلى مصر الذين لم يقتلوا في المعركة وظنوا أنهم قد قضوا على الحركة الإصلاحية الدينية، والنهضة العربية التحريرية فخاب ظنهم، وكيف كانت عاقبة آل سعود؟ وآل الشيخ محمد بن عبد الوهاب؟ الجواب أن الله بارك فيهم حتى كأنهم لم يرزءوا شيئا ومن قتل منهم فاز بالشهادة وهي إحدى الحسنيين وكيف كانت عاقبة محمد علي باشا وسادته آل عثمان؟ لم يبق منهم ديار ولا نافخ نار وعد الله لا يخلف الله وعده، {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} سورة القصص.
{فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} سورة الرعد.
أما الحركة السعودية الدينية والسياسية فصارت أقوى مما كانت عليه، ولم تزل في تقدم واتساع حتى صارت أعظم مملكة في جزيرة العرب وما يليها إلى حدود الشام والعراق.(8/18)
ولاتزال بحمد الله تزداد نموا وازدهارا وقوة ولاسيما في هذا الزمان الذي منّ الله عليها فيه بملك همام حنكته التجارب وعرف كيف يسير بالمملكة في طريق الرقي وكيف يسير سفينتها بحكمة وبعد نظر وحزم إلى شاطيء السلامة في هذا الخضم المتلاطم الأمواج ألا وهوصاحب الجلالة الملك فيصل بن عبد العزيز زاده الله توفيقا وتسديدا وقوة ونصرا على أعداء الإسلام ووفق جميع ملوك المسلمين ورؤسائهم إلى اتباع رضوانه.
وهناك شاهد ثالث من نوع آخر على أن الإسلام قوة عظيمة معنوية ومادية لمن تمسك به بإخلاص. وهو أن جميع دول أوروبا بملوكها وجيوشها غزت البلاد المقدسة (فلسطين) وأوقدت فيها نار حرب بينها وبين المجاهدين دامت مائتي سنة وختمت بهزيمة تامة لدول أوروبا، ومن قابل ذلك بحال فلسطين في هذا الزمن لا يجد مندوحة من الإعتراف بأن الإسلام الصحيح قوة لا تقهر، وأن كل شعب سعد(8/19)
ص -36- ... أسلافه وارتفعوا بالإسلام لن يسعد ولن يرتفع إلا بما ارتفع به أسلافه.
ومن ظن خلاف هذا فهومخدوع يخبط خبط عشواء في ليلة حالكة ظلماء ومضمون له الخيبة والخسران.
وإنما قيدت الدين بكونه صحيحا في أول المقال احترازا من الدين المبدل الذي لا يقوم على القرآن بل كما فهمته العرب في القرن الأول وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء الأربعة، وأما الدين المبدل في العقائد والأخلاق والأحكام فلن يأتي بتلك الثمرة أبدا، بل قد يبلغ به التبديل والتغيير إلى أن يصير شرا وضرا محضا ويأتي بعكس المطلوب. وبذلك يفسر نجاح الاستعمار وإخفاق الحركات الدينية التي تصدت لمقاومته. وإنما الدين الإسلامي دواء وصفه طبيب نطاسي بارع في معرفة العلل النفسية للأمم والشعوب فمن خالف وصفة الطبيب أوالاستعمال فمن تلك المخالفة أُتي،لامن الدواء فهوصالح كما قدّمنا شواهده لك في كل زمن ومكان، إلى أن ينتهي أجل هذا الكون الذي نعيش فيه.(8/20)
ولنا من أهل هذا العصر شهود عدول نذكر بعض أسمائهم للقردة من أبناء المسلمين الذين لا يكفيهم القرآن ولا الحديث ولا شواهد التاريخ، لأنهم بزعمه أن هذا العصر تبدّلت فيه المقاييس وانقلبت فيه الأمور لأنه عصر الذرة وغزوالفضاء الخارجي فهم لا يقتنعون إلا بشهادات الأوروبيين فمنهم (الشيخ عبد الله ويليام الإنكليزي) ألف كتابا سماه: (الإسلام) باللغة الانكليزية وأثبت فيه بالبراهين القاطعة أن الإسلام هوالدين الصالح لسعادة البشر من الوجهة الروحية ومن الوجهة المادية، في كل زمان ومكان إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ومنهم اللورد هدلي هداه الله إلى الإسلام وهومن الحاصلين على لقب لورد أي من النبلاء في الدولة البريطانية وحج بيت الله سنة (1341هـ) وأعطاه الشريف حسين عربة تجرّها الخيل ذهبت به من مكة إلى عرفات ورأيته فيها محرما حاسر الرأس أصهب الشعر. وله دفاع مجيد عن دين الإسلام وإسلامه وحده كاف لزجر أعداء الإسلام والطاعنين فيه من الداخل والخارج، ومنهم (خالد شلدريك) صحفي إنكليزي نشر مقالات في فضل الإسلام، ومنهم الأستاذ محمد مارماد ديوك بكثل رئيس المحاكم في حيدر آباد دكن ومفسر القرآن الكريم بالانكليزية،بيني وبينه معرفة ومكاتبات، ومنهم الأستاذ الجليل البروفسور (كرينكو) أستاذ الأدب العربي في جامعة كمبردج وهوألماني الأصل، وكان أستاذا(8/21)
ص -37- ... للغة العربية في جامعة عليكرة بالهند أسلم منذ زمان طويل وسمى نفسه عبد الكريم الكرنكوى، وكانت له غيرة عظيمة على الإسلام والمسلمين ولم تنقطع الكتابة بيني وبينه حتى توفي رحمه الله، ومنهم العالم الفرنسي (خير الدين دنيى) الذي ألف كتاب الرحلة إلى بيت الله وكتبا أخرى باللغة الفرنسية وقد ترجم بعضها إلى العربية، فهؤلاء كلهم أوروبيون أسلموا ونصروا الإسلام. وممن نصروا الإسلام ولم يبلغلنا إسلامهم الكاتب العالمي المشهور (برناردشو) والبريطانيون يمجدونه غاية التمجيد ولا ينقصه عندهم إلا الدين فإنهم يصفونه بالإلحاد وبأنه كان يعادي دينهم النصراني، ولم يكن ملحدا، ولكن العقائد الكنسية تجد في عقله مكانا أما الإسلام فإنه مدحه وأثنى عليه ومن جملة ما قاله فيه: "إن الأوروبيين النصارى لن يزالوا في تنازع وتطاحن ولا يجدون لأمراضهم الإجتماعية دواء إلا في الإسلام". ومنهم الفيلسوف الإنكليزى (كارليل) في كتابه الذي سماه (الأبطال) وذكر منهم النبي محمدا صلى الله عليه وسلم وعظّمه غاية التعظيم وبين فضل تعاليمه. ومنهم الفيلسوف الروسي (تولستوي) فإنه وأفاض في الثناء عليه. انظر تراجم هؤلاء في دائرة المعارف.
وبعد هذا التمهيد والبحث المفيد نخرج بالنتيجة التالية وهي: إن الركن الأول من ثقافة العرب الذين نحن جزء منهم وثقافة المسلمين الذين يؤلفون الأمة التي ننتمي إليها هوتعليم الدين تعليما علميا عقديا أخلاقيا جديا من روضة الأطفال إلى آخرسنة في الجامعة.
وكل ثقافة تخل بهذا الركن الأساسي أوتقرره تقريرا لفظيا فارغا من معناه ومن العقيدة والعمل والخلق والمعلمين الأكفاء فنتيجتها صفر على اليسار.(8/22)
ومن زعم أن الدول الأوروبية السعيدة القوية التي مضت على سعادتها وقوتها وتعاونها وثباتها ونجاحها في جهادها في حربها وسلمها مئات السنين قد هجرت الدين وكان ذلك سبب نجاحها فهو لا يخلو من أن يكون جاهلا مقلدا إمعة قد استهواه الإستعمار الروحي وأفسد فطرته وتفكيره أوعالما بالحقيقة لكنه منافق مخادع يظهر خلاف ما يعتقد جبنا وخوفا من فوات رغبة شخصية أوطمعا في رغبة جديدة تصل إليها نفسه الأمارة.(8/23)
ص -38- ... على أن دينهم ليس فيه من الحياة والقوة والمطابقة للعقل والكفالة بسعادة الروح والبدن مثل مافي ديننا.
لغة القرآن
وإذا تقرر أن الركن الأساسي من أركان الثقافة التي نحتاج إليها هومعرفة الدين الصحيح والعمل به والتقيد بأحكامه والدعوة إليه فمفتاح هذه الثقافة هي لغة القرآن والسنة، فبدونها لا يمكن أن نعرف هذا الكنز العظيم الذي فرض مقدس على جميع الشعوب العربية والإسلامية وعلى قدر أدائه والتقدم فيه يكون تقدمها.(8/24)
ومن سوء الحظ أن هذه اللغة الكريمة قلّ ناصرها وكثر خاذلها ولم تزل في إدبار منذ مئات السنين ثم جاءها الإستعمار اللغوي فكان ضغثا على إبالة فاختلط الحابل بالنابل فبعد ضياع الإعراب والصرف تسرب الوهن إلى قواعدها وتغيرت مفرداتها وأسلوبها وذهب جمالها وبلاغتها وكثر الخطأ فيها حتى عسر على المصلحين عدّه فكيف بتلافيه وإصلاحه وصارت غربة علمائها كغربة علماء الإسلام، كل من قبض منهم لم يوجد له خلف فنحن اليوم نعيش على المعاجم التي ألفت في القرن الثامن الهجري وما قبله سواء أكانت معاجم لغة أومعاجم أدباء أوالنحو والصرف وغيرها من علوم الأدب، أما الكلمات التي حدثت في القرون المتأخرة وهي كثيرة والكتاب والخطباء في حاجة إليها لأن معانيها لازمة للناس في معايشهم وتفكيرهم وحديثهم فقد بقيت مهملة فاضطر الناس إلى التعبير بالكلمات الأعجمية، وأما ضعف الأسلوب فسببه إعراض المسلمين عن تراثهم واشتغالهم بلغات الأعاجم، ومن العجب أن نرى أمة تعد بمائة مليون ليس لها دائرة معارف تجمع شمل علومها وآدابها إلا تأليفين لرجلين هما محمد فريد وجدي وبطرس البستاني وهذا الثاني لم يتم ولوأن المتكلمين باللغة العربية قاموا بواجبها لبلغت دائرة معارفهم على أقل تقدير مائة مجلد لأن دائرة المعارف الإسبانية ستون مجلدا والفرق بين اللغتين في كثير من العلوم والآداب كما بين السماء والأرض فعسى الله أن يوفق المسلمين إلى إحياء تراث أسلافهم وغسل هذا العار عنهم بإحياء الثقافة الإسلامية حتى يقال ما أشبه الليلة بالبارحة، والغادية بالرائحة، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(8/25)
بسم الله الرحمن الرحيم
خطبة الكتاب
الحمد لله رب العالمين ، مالك يوم الدين ، لا إله إلا هو إياه أعبد و إياه أستعين ، و صلاته و سلامه على محمد عبده و رسوله النبي الأمين الذي أرسل رحمة للعالمين و أنزل عليه في الكتاب المبين { يا أيها النبي حسبك الله و من اتبعك من المؤمنين } (1) أما بعد :
فيقول العبد الفقير إلى ربه العلي الكبير ( محمد تقي الدين بن عبد القادر الهلالي ) : بعث إليّ الفقيه السيد محمد بن إبراهيم إمام (( أرفود )) رسالة أرسلت إليه من بعض المهوسين ، الفاتنين المفتونين ، و الذين طبع الله على قلوبهم ، و زين لهم الشيطان سوء عملهم ، فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون كالذين قال الله فيهم : { إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون . و جعلنا من بين أيديهم سداً و من خلفهم سداً فأغشيناهم فهم لا يبصرون . و سواء عليهم أنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون . إنما تنذر من اتبع الذكر و خشي الرحمن بالغيب فبشره بمغفرةٍ و أجرٍ كريم } (2).
__________
(1) الأنفال : 64 .
(2) يس : 8 – 11 .(9/1)
تضمنت تلك الرسالة الكاذبة الخاطئة من الإفك و البهتان و الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما { تكاد السموات يتفطرن منه و تنشق الأرض و تخر الجبال هدا } (1) و بعث هذا المفتون إلى مسجد أكرمهم الله بإحياء السنة من مرقدها ، و تجرأ هذا المهووس على الله تعالى ، فسمى السنن الصحيحة التي اتفق عليها الشيخان ، و تواتر العمل بها من زمان النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى يومنا هذا سماها منكرا ، و لا غرابة في ذلك فقد روى ابن وضاح و غيره عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال : (( كيف أنتم إذا ألبستم فتنة يهرم فيها الكبير ، و ينشأ فيها الصغير تجرى على الناس ، يحدثونها سنة ، إذا غيرت قيل هذا منكر )) انتهى من كتاب الاعتصام للشاطبي ( ج1 ص 54 ) ، و ستأتي أحاديث أخرى في هذا المعنى إن شاء الله عندما يعرض المبتدع لإقرار البدع و استحسانها ، و رأيت أن أقسم هذا الرد إلى فصول :
الفصل الأول
( في بيان إشراك صاحب الرسالة الإيمانية بعبادة غير الله )
قال الإمام ابن كثير في تفسير هذه الآية : { إياك نعبد و إياك نستعين } (2) (( و العبادة في اللغة من الذلة ، يقال طريق معبد ، و بعير معبد ، أي مذلل . و في الشرع : عبارة عما يجمع كمال المحبة و الخضوع و الخوف . و قدم المفعول و هو إياك ، و كرر للاهتمام و الحصر أي لا نعبد إلا إياك و لا نتوكل إلا عليك ، و هذا هو كمال الطاعة . و الدين كله يرجع إلى هذين المعنيين .
__________
(1) مريم : 90 .
(2) الفاتحة : 5 .(9/2)
و هذا كما قال بعض السلف : الفاتحة سر القرآن و سرها هذه الكلمة (( إياك نعبد و إياك نستعين )) فالأول تبرؤ من الشرك ، و الثاني تبرؤ من الحول و القوة و تفويض إلى الله عز و جل ، و هذا المعنى في غير آية من القرآن كما قال تعالى { فاعبده و توكل عليه و ما ربك بغافل عما تعملون } (1) { هو الرحمن آمنا به و عليه توكلنا } (2) { رب المشرق و المغرب لا إله إلا هو فاتخذه و كيلا } (3) و كذلك هذه الآية الكريمة { إياك نعبد و إياك نستعين } )) .
__________
(1) هود : 123 .
(2) الملك : 29 .
(3) المزمل : 9 .(9/3)
يقول محمد تقي الدين : بمثل هذا فسر آية { إياك نعبد و إياك نستعين } جمهور المفسرين من الصدر الأول ، فحقيقة العبادة غاية الذل في غاية الخضوع ، و هي تشمل القربات التي يتقرب بها العبد إلى الله تعالى . و منها الاستعانة المذكورة هنا ، و المراد بها الاستعانة بالله فيما لا يقدر عليه إلا الله تعالى ، و لا يدخل في الأسباب كإعطاء الأولاد ، و إنزال المطر ، و شفاء المريض لا بتعاطي العلاج بل بقول (( كن )) فيكون و إمداد الشخص بهداية القلب و تنويره ، و تفريج الهم و الغم عنه ، و هو ما يسمى بالمدد عند المشركين الذين يزعمون أن غير الله قادر على إصلاح قلوبهم و إمدادها بنور الإيمان و الفتوح الغيبية ، فهذا النوع من الاستعانة خاص بالله تعالى فمن استعان بغيره في مثل ذلك فهو كافر مشرك ، صارف حق الله لغير الله ، و نحن نشاهد المشركين عبدة القبور و الأضرحة و غيرها من الأمكنة التي يقدسونها ، يطلبون من آلهتهم التي يسمونها أولياء و سادة و صالحين نزول المطر و إعطاء الأولاد و تفريج الكروب و شفاء المريض و كشف الضر و النصر على العدو و قضاء الدين و إطالة عمر الأولاد و جعل المرأة التي تلد الإناث تلد الذكور و يتقربون إلى آلهتهم بأنواع من العبادات : بالدعاء الذي هو مخ العبادة كما ثبت في الحديث و سيأتي إن شاء الله ، و الاستغاثة و قد صرح بجوازها المشرك المفتون ، و بناء القباب على قبورهم ، أو الأمكنة التي جلسوا فيها ، و الأمكنة التي يزعم بعض المنتحلين الدجالين أنه رأى في المنام شخصاً مشهوراً عندهم بالصلاح يقول له : ابنوا لي قبة في هذا المقام و يتقربون و يتملقون لها بتقبيل العتبات و التوابيت ، و يمرغون خدودهم على القبور ، و يتمسحون بها ، و يهتفون بالأسماء المنسوبة إليها ، و يقربون لها القرابين ، و يذبحون الذبائح ، و يحجون إليها و يطوفون ، و ينذرون لها النذور و يسمون ذلك بالوعدة ، يزعمون أن الدعاء عندها أفضل منه في(9/4)
المساجد . فهل هؤلاء يؤمنون بقوله تعالى : { إياك نعبد و إياك نستعين } و بقوله تعالى { فاعبده و توكل عليه } كلا والله هؤلاء ما يعرفون معنى لا إله إلا الله كما قال تعالى : { و ما يؤمن أكثرهم بالله إلا و هو مشركون } .
ذكر بعض أنواع العبادة التي يصرفها المشركون لغير الله تعالى
قلت في كتابي : (( المنح السانحة في تفسير سورة الفاتحة )) ما نصه : (( { إياك نعبد و إياك نستعين } إياك ضمير مفعول به مقدم للفعل بعده ، و تقديم المفعول به يفيد الحصر ، أي لا نعبد غيرك و لا نستعين إلا بك . و العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله من الاعتقاد و الأقوال و الأفعال ، و يقال : العبادة غاية الذل في غاية الحب )) .
أقول : أرى من الواجب علي أن أذكر بعض أنواع العبادة هنا ليستعين بها السائل على تقرير توحيد الله في نفوس التلامذة و غيرهم .
فالأول : الدعاء و هو كما في الحديث الآتي (( مخ العبادة )) أي لبابها و خالصها ، فكل من دعوته لجلب خير أو دفع ضر فيما لا مجال للأسباب فيه كإعطاء العقيم الأولاد لا بطريقة العلاج بل بطريقة التصرف في الكون بالهمة و الحال ، و جعل المرأة التي تلد الإناث فقط تتحول إلى ولادة الذكور أو بالعكس ، أو كصد الأعداء و السباع الضارية بلا قتال ، و شفاء المريض كذلك ، و إحياء الميت و إماتة الحي و إنزال المطر و ما أشبه ذلك مما لا يقدر عليه إلا الله الذي يقول للشيء (( كن )) فيكون و كل من دعوته لشيء من ذلك فقد عبدته .(9/5)
و من الأدلة على ذلك في كتاب الله عز و جل – و هي كثيرة أعد منها و لا أعددها – قوله تعالى في سورة فاطر بعد ذكر الأفعال المختصة بالله في الآية إلى قوله تعالى : { ذلكم الله ربكم له الملك و الذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم و لو سمعوا ما استجابوا لكم و يوم القيامة يكفرون بشرككم و لا ينبئك مثل خبير } (1) و قال تعالى في سورة الأحقاف : { قل أرأيتم ما تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السموات . ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين . و من أضل ممن يدعوا من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة و هم عن دعائهم غافلون و إذا حشر الناس كانوا لهم أعداء و كانوا بعبادتهم كافرين } ( (2) يفهم من آيات فاطر أن الله وحده هو المتصرف في العالم و المسير له و المدبر له و لا يشاركه في ذلك أحد ، و هو وحده رب العالمين ، له الملك ، و كل من سواه عبد فقير إليه في إيجاده و إمداده ، فلا يجوز له أن يدعو بغيره ، لأنهم لا يملكون لهم ضراً و لا نفعاً لا قليلاً و لا كثيراً ، و لا يسمعون دعاء من دعاهم و لو سمعوا دعاءه ما استجابوا له ، و أن دعاءه لهم شرك بالله سيكفرون به يوم القيامة ، أي يتبرؤون منه .
و آيات الأحقاف تحتج على المشركين بأن الله هو الذي خلق السموات و الأرض فلا يدعى غيره و لا حجة لمن دعا غيره بل هو أضل الضالين ، و أن من دعاهم لا يستجيبون له أبداً و هم غافلون عن دعائه ، و إن كانوا أبراراً كالأنبياء و الصالحين فهم مشغولون في نعيم ، و إن كانوا ملائكة في عبادة الله يسبحون الليل و النهار لا يفترون ، و إن كانوا فجاراً فهم في العذاب المهين .
__________
(1) فاطر : 13 .
(2) الأحقاف : 4-6 .(9/6)
و إن الأبرار لا يرضون بدعاء من دعاهم لأنه عبادة لغير الله و سيكفرون بهم يوم القيامة حين يحشر الناس ، يزيد ذلك وضوحاً ما أخرجه الترمذي عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( الدعاء هو العبادة ، ثم قرأ : { و قال ربكم ادعوني استجب لكم } (1) )) .
الثاني : الاستغاثة قال الله تعالى في سورة الأنفال : { إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين } (2) ، أخرج أحمد و مسلم و أبو داود و الترمذي من حديث عمر بن الخطاب قال : (( لما كان يوم بدر نظر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أصحابه و هم ثلاثمائة و نيف ، و نظر إلى المشركين فإذا هم ألف و زيادة فاستقبل النبي - صلى الله عليه وسلم - القبلة و عليه رداؤه و إزاره ثم قال : اللهم أنجز لي ما وعدتني ، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام فلا تعبد في الأرض أبداً ، فما زال يستغيث ربه و يدعوه حتى سقط رداؤه عن منكبيه ، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فرده ثم التزمه من ورائه ثم قال : يا نبي الله ! كفاك مناشدتك ربك ، فإنه سينجز لك ما وعدك ، فأنزل الله عز و جل { إذ تستغيثون ربكم } )) الآية ، فنحن نرى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يستغيث ربه ، و أصحابه كانوا يستغيثون ربهم كذلك و لم يستغيثوا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - لأن الاستغاثة عبادة ، و هي خاصة بالله تعالى . فمن استغاث بغيره فقد أشرك .
و روى الطبراني بإسناده عن عبادة بن الصامت أنه كان في زمان النبي - صلى الله عليه وسلم - منافق يؤذي المؤمنين ، فقال بعضهم فقوموا بنا نستغيث برسول الله - صلى الله عليه وسلم - من هذا المنافق ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( إنه لا يستغاث بي ، و إنما يستغاث بالله )) .
قال شيخ الإسلام : (( الاستغاثة هي طلب الغوث ، و هو إزالة الشدة كالاستنصار طلب النصر ، و الاستغاثة طلب العون )) .
__________
(1) غافر : 60 .
(2) الأنفال : 9 .(9/7)
قال محمد تقي الدين : هذا كله في الاستغاثة و الاستنصار ، و الاستغاثة أي طلب الغوث و النصر و العون بطريق لا يقدر عليه إلا الله ، و طلبه خاص به كاستغاثة النبي و أصحابه بالله تعالى في غزوة بدر و استنصارهم له و استعانتهم به . أما الاستغاثة بالمخلوق في أمر يقدر عليه كاستغاثة من شبت النار في بيته برجال الإطفاء أو استغاثة من هجم عليه اللصوص أو السبع بمن ينجده أو استغاثة الإنسان بغيره أن يحمله على دابته أو سيارته أو يحمل متاعه عليها فذلك جائز ، قال تعالى في سورة القصص : { فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه } و قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( و الله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه )) ، أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة في حديث طويل .
الثالث : الاستعاذة . قال الراغب : (( العوذ الالتجاء إلى الغير و التعلق به . يقال : عاذ فلان بفلان و منه قوله تعالى : { أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين } (1) { و إني عذت بربي و ربكم أن ترجمون } (2) إلى أن قال : { معاذ الله } (3) أي نلتجئ إليه و نستنصر به حتى لا نفعل ذلك ، فإن ذلك سوء نتحاشى من تعاطيه )) . انتهى .
قال محمد تقي الدين : و بهذا تعلم أن التعوذ قريب في المعنى من الاستغاثة ، فقول الضلال عند قبور الصالحين : أنا في حماك ، أنا في رحمتك استعاذة و عبادة ، قال الشاعر :
يا من ألوذ به فيما أؤمله
لا يجبر الناس عظماً أنت كاسره
و من أعوذ به فيما أحاذره
و لا يهيضون عظماً أنت جابره
__________
(1) البقرة : 67 .
(2) الدخان : 20 .
(3) يوسف : 23 .(9/8)
الهيض : كسر العظم بعد جبوره . قال تعالى : { و أنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا } (1) . قال القاسمي : (( روى ابن جرير عن ابن عباس قال : كان رجال من الإنس يبيت أحدهم بالوادي في الجاهلية يقول : أعوذ بعزيز هذا الوادي فزادهم ذلك إثما . ففي الآية إشارة إلى ما كانوا يعتقدون في الجاهلية من أن الوديان مقر الجن . و أن رؤساءها تحمي المستعيذين من ضرر الجن ، و هكذا قال إبراهيم : كانوا إذا نزلوا الوادي قالوا نعوذ بسيد هذا الوادي من شر ما فيه ، فيقول الجن ما نملك لكم و لا لأنفسنا ضرا و لا نفعا ، و قال الربيع بن أنس كانوا يقولون : فلان من الجن رب هذا الوادي فكان أحدهم إذا دخل الوادي يعوذ برب الوادي من دون الله قال : فيزيدهم ذلك رهقا ، و هو الفقر . قال ابن زيد : كان الرجل في الجاهلية إذا نزل بواد قبل الإسلام قال : إني أعوذ بكبير هذا الوادي ، فلما جاء الإسلام عاذوا بالله و تركوهم )) انتهى . أي لأن ذلك من الشرك ، و كذا نزلت سورتا المعوذتين لتعليم الاستعاذة بالله وحده و التبرؤ من الاستعاذة بغيره ، و كذلك أذكار الاستعاذات المأثورة لأنها للإرشاد ، لذلك روى مسلم عن خولة بنت حكيم قالت : (( من نزل منزلاً فقال : أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم يضره شيء حتى يرحل من منزله ذلك )) .
الرابع : النذر لغير الله من الشرك لأنه عبادة يجب الوفاء به إذا كان لله . قال تعالى : { ما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه } (2) و قال تعالى : { يوفون بالنذر و يخافون يوما كان شره مستطيرا } (3) . و أخرج البخاري عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : (( من نذر أن يطيع الله فليطعه و من نذر أن يعصي الله فلا يعصه )) .
__________
(1) الجن : 6 .
(2) البقرة : 270 .
(3) الدهر : 7 .(9/9)
الخامس : الذبح و النذر لغير الله قال تعالى : { قل إن صلاتي و نسكي و محياي و مماتي لله رب العالمين لا شريك له و بذلك أمرت و أنا أول المسلمين } (1) . قوله سبحانه : { و نسكي } قال مجاهد : (( النسك الذبح في الحج و العمرة )) .
قال محمد تقي الدين : و كل ذبح قصد به التعظيم فهو عبادة لقوله تعالى : { فصل لربك و انحر } (2) ، جمع الله سبحانه و تعالى هاتين العبادتين و هما الصلاة و الذبح في سورة الأنعام و في سورة الكوثر و أمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - ، و في ضمنه أمر لأمته ، أن يخصوا الله تعالى بهما كما يخصونه بسائر أنواع العبادة .
و أخرج مسلم في صحيحه عن علي بن أبي طالب قال : (( حدثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأربع كلمات و لعن الله من ذبح لغير الله )) الحديث .
السادس : الخوف بالغيب ، قال تعالى : { إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله و اليوم الآخر و أقام الصلاة و آتى الزكاة و لم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين } (3) قال ابن كثير : (( كل عسى في القرآن فهي واجبة . )) ، قال في فتح المجيد في ص 344 : (( خوف السر و هو أن يخاف من غير الله من وثن أو طاغوت أن يصيبه بما يكره قال تعالى في قوم هود إنهم قالوا له { إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء قال إني أشهد الله و اشهدوا أني برئ مما تشركون من دونه فكيدوني جميعاً ثم لا تنظرون } (4) و قال تعالى : { و يخوفونك بالذين من دونه } (5) ، و هذا هو الواقع من عباد القبور و نحوها من الأوثان يخافونها و يخوفون أهل التوحيد إذا أنكروا عبادتها و أمروا بإخلاص العبادة لله و هذا ينافي التوحيد و أما الخوف الطبيعي و هو الخوف من عدو أو سبع أو زلزال فليس بعبادة و لا شركاً قال تعالى : { فأوجس في نفسه خيفة موسى } (6) )) .
__________
(1) الأنعام : 163 .
(2) الكوثر : 2 .
(3) التوبة : 18 .
(4) هود : 54 ، 55 .
(5) الزمر : 36 .
(6) طه : 67 .(9/10)
السابع : الحلف بغير الله ، أخرج الترمذي و حسنه و الحاكم و صححه عن عمر بن الخطاب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : (( من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك )) ، و قد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في النهي عن الحلف بغير الله أحاديث .
الثامن : التبرك بالقبور و الأمكنة التي تنسب إلى الأنبياء و الصالحين من أعظم أسباب الكفر و الشرك ، و هذا ما أدى إلى عبادة الأصنام و الأوثان . أخرج البخاري في تفسيره قوله تعالى : { و قالوا لا تذرن آلهتكم و لا تذرن ودا و لا سواعا و لا يغوث و يعوق و نسرا } (1) عن ابن عباس : (( صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعد ، و هي أسماء رجال صالحين من قوم نوح عليه السلام فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصاباً و سموها بأسمائهم ففعلوا فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك و نسي العلم عبدت )) .
قال ابن كثير في تفسيره : (( و قوله تعالى : { و قد أضلوا } يعني الأصنام التي اتخذوها أضلوا بها كثيرا فإنه قد استمرت عبادتها في القرون إلى زماننا هذا في العرب و العجم و سائر صنوف بني آدم ، و قد اتفق المحققون من أهل العلم على أن أصل عبادة الأصنام هو الغلو في الصالحين و تعظيم قبورهم و اتخاذ المساجد عليها .
__________
(1) نوح : 23 .(9/11)
و قال القرطبي : (( و إنما صور أوائلهم الصور ليتأسوا بها و يتذكروا أفعالهم الصالحة فيجتهدوا كاجتهادهم و يعبدوا الله عند قبورهم ، ثم خلفهم قوم جهلوا مرادهم فوسوس إليهم الشيطان أن أسلافهم كانوا يعبدون هذه الصور و يعظمونها )) . و قال ابن القيم رحمه الله : (( و ما زال الشيطان يوحي إلى عباد القبور و يلقي إليهم أن البناء و العكوف عليها من محبة أهل القبور من الأنبياء و الصالحين ، و أن الدعاء عندها مستجاب ، ثم ينقلهم من هذه المرتبة إلى الدعاء بها و الإقسام على الله بها و الله أعظم من أن يقسم عليه و يسأل بأحد من خلقه .
فإذا تقرر ذلك عندهم نقلهم منه إلى دعائها و عبادتها و سؤالها الشفاعة من دون الله و اتخاذها أوثاناً تضاء لها القناديل و تجعل عليها الستور و يطاف بها و يستلم و يقبل و يحج إليها و يذبح
عندها .
فإذا تقرر ذلك عندهم نقلهم منه إلى دعاء الناس إلى عبادتها و اتخاذها عيداً و منسكاً ، و رأوا أن ذلك أنفع لهم في دنياهم و أخراهم ، و كل هذا قد علموه بالاضطرار من دين الإسلام و أنه مضاد لما بعث الله به رسوله - صلى الله عليه وسلم - من تجريد التوحيد و أن لا يعبد إلا الله .(9/12)
فإذا تقرر ذلك عندهم نقلهم منه إلى أن من نهى عن ذلك تنقص أهل هذه الرتب العالية و حطهم عن منزلتهم و زعم أنه لا حرمة لهم و لا قدر ، فغضب المشركون و اشمأزت قلوبهم كما قال تعالى في سورة الزمر : { و إذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة . و إذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون } (1) و سرى ذلك في نفوس كثير من الجهال و الطغاة و كثير ممن ينتسب إلى العلم و الدين حتى عادوا أهل التوحيد و رموهم بالفظائع و نفروا الناس عنهم ووالوا أهل الشرك و عظموهم و زعموا أنهم أولياء الله و أنصار دينه و رسوله و يأبى الله ذلك ، قال تعالى في سورة الأنفال : { و ما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون } (2) ، عن أبي واقد الليثي قال : خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى حنين و نحن حدثاء عهد بكفر ، و للمشركين سدرة ( أي شجرة من السدر ) يعكفون عندها و ينوطون ( أي يعلقون ) بها أسلحتهم يقال لها ذات أنواط ، فمررنا بسدرة فقلنا يا رسول الله : اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : الله أكبر ! إنها السنن قلتم – و الذي نفسي بيده – كما قالت بنوا إسرائيل لموسى { اجعل لنا إلها كما لهم آلهة } (3) ، قال : إنكم قوم تجهلون لتركبن سنن من كان قبلكم )) رواه الترمذي و صححه )) .
قال محمد تقي الدين : تأمل أيها الموفق لاتباع كتاب الله و سنة رسوله ، المحقق لتوحيد الله هذا الحديث تجد فيه مسائل :
__________
(1) الزمر : 45 .
(2) الأنفال : 34 .
(3) الأعراف : 138 .(9/13)
الأولى : أن من قل علمه و لو من أهل القرون الأولى المصاحبين لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد يلتبس عليه الأمر و تخفى عليه بعض أنواع الشرك فلا يعصمه من الوقوع فيه إلا الاستنارة بأنوار السنة المحمدية و الرجوع إلى كتاب الله و بيان رسوله الكريم - صلى الله عليه وسلم - ، و كذلك فعل أبو واقد و أصحابه فإنهم حين ظنوا أن التبرك بشجرة يأذن فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا بأس به و لا ينافي التوحيد و لا يتعارض مع قول (( لا إله إلا الله )) فأخبرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - مؤكداً إخبارهم بالقسم و مكبراً ، استعظاماً لذلك الأمر : أن ما سألوه هو عين ما سأله قوم موسى ، و هو الشرك الأكبر الموجب للخلود في جهنم .
الثانية : أنه لا عبرة بالأسماء و إنما العبرة بالمسميات فإنهم لم يقولوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - : اجعل لنا إلهاً نعبده من هذه الشجرة بتعليق أسلحتنا في أغصانها و التبرك بالجلوس عندها ، بل قالوا : اجعل لنا ذات أنواط كما للمشركين ذات أنواط ، فأخبرهم ، و أكد لهم أن ذلك اتخاذ لتلك الشجرة إلهاً .
الثالثة : أن العبادة غير منحصرة في السجود و الركوع و الدعاء و الاستغاثة و الاستعاذة ، بل كل قول أو عمل عظم به غير الله تعالى رجاء النفع ، و إن كان من الأماكن التي مر بها نبي صالح ، هو عبادة لذلك المكان ، و لا ينفع عابده زعمه أنه يتبرك بمكان كان فيه نبي فضلاً عن غيره ، فتقبيل التوابيت و القبور و الطواف بها و التمسح بها و أخذ ترابها للشفاء كل ذلك عبادة و شرك بالله تعالى .(9/14)
الرابعة : فإن قيل : هل أشرك أبو واقد و أصحابه لما خطر ببالهم ذلك ؟ قلنا : لا ؛ لأن الله تعالى لا يؤاخذ على الخواطر و ما وسوست به النفس ما لم يعتقده الإنسان أو يتكلم به أو يعمله ، فإن قيل : لو أقدموا على ذلك و لم يسألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - هل كانوا يشركون ؟ فالجواب : أن ذلك مقتضى قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( قلتم و الذي نفسي بيده كما قال قوم موسى )) و لكنهم أجل – و لو كانوا حديثي عهد بكفر – من أن يقدموا على مثل ذلك أو أقل منه بلا دليل قاطع من كتاب الله و سنة رسوله ، فليعتبر بذلك الذين يسمون أنفسهم علماء و يبيحون اتخاذ المواسم و الأعياد عند القبور والقباب ، و يحضرونها بأنفسهم ، و يأكلون من القرابين التي تذبح عندها ، و هي مما أهل لغير الله به و يشاركون العوام في الابتهال و التضرع للأوثان فبعدا للقوم الظالمين فما تركوا للجهال إذن !! .
الخامسة : من أعلام نبوته قوله (( إنها السنن لتركبن سنن من كان قبلكم )) ، أي لتتبعن طريقهم في بدعهم و معاصيهم و شركهم و كفرهم ، فتعوذ بالله من العصيان بعد الطاعة ، و من الخذلان و عمى البصيرة .(9/15)
قال الحافظ أبو عبد الرحمن بن إسماعيل الشافعي المعروف بابن أبي شامة في كتاب البدع و الحوادث : (( و من هذا القسم أيضاً ما قد عم الابتلاء به من تزيين الشياطين للعامة تخليق الحيطان و العمد ، و إسراج مواضع مخصوصة في كل بلد ، يحكي لهم حاك أنه رأى في منامه بها أحداً ممن اشتهر بالصلاح و الولاية فيفعلون ذلك و يحافظون عليه مع تضييعهم لفرائض الله و سننه ، و يظنون أنهم مقربون بذلك ، ثم يتجاوزون هذا إلى أن يعظم وقع تلك الأماكن في قلوبهم فيعظمونها ، و يرجون الشفاء لمرضاهم و قضاء حوائجهم بالنذر لها ، و هي من عيون و شجر و حائط و حجر ، و في مدينة دمشق مواضع متعددة كمدينة الحمى خارج باب (( توما )) ، و العمود المخلق داخل باب الصغير ، و الشجرة الملعونة ، خارج باب النصر في نفس قارعة الطريق ، سهل الله قطعها و اجتثاثها من أصلها فما أشبهها بذات أنواط الواردة في الحديث )) انتهى .
و ذكر ابن القيم رحمه الله مثل ما ذكره أبو شامة ثم قال : (( فما أسرع أهل الشرك إلى اتخاذ الأوثان من دون الله و لو كانت ما كانت و يقولون : إن هذا الحجر و هذه الشجرة و هذه العين تقبل النذر ، أي تقبل العبادة من دون الله فإن النذر عبادة و قربة يتقرب بها الناذر إلى المنذر له ، و حديث أبي واقد أيضاً رواه أحمد و أبو يعلى و ابن أبي شامة و النسائي و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و الطبراني .(9/16)
و في مغازي ابن إسحاق من زيادة يونس بن بكير عن أبي خلدة خالد بن دينار حدثنا أبو العالية قال : لما فتحنا (( تستر )) و جدنا في بيت مال (( الهرمزان )) سريراً عليه رجل ميت ، عند رأسه مصحف فأخذنا المصحف فحملناه إلى (( عمر )) فدعا له كعباً فنسخه بالعربية فأنا أول رجل قرأه من العرب قرأته مثل ما أقرأ القرآن فقلت لأبي العالية ما كان فيه قال : سيرتكم و أموركم و لحون كلامكم و ما هو كائن بعد قلت : فماذا صنعتم بالرجل ؟ قال : حفرنا له بالنهار ثلاثة عشر قبراً متفرقة فلما كان الليل دفناه و سوينا القبور كلها لنعميه على الناس ، قلت : و ما يرجون منه قال : كانت السماء إذا حبست عنهم برزوا بسريره يستمطرون فقلت : من كنتم تظنون الرجل ؟ قال : رجل يقال له (( دانيال )) : فقلت منذ كم وجدتموه مات ؟ قال : منذ ثلاثمائة سنة . قلت : ما كان تغير منه شيء ؟ قال : لا إلا شعيرات من قفاه )) قال ابن القيم رحمه الله : (( ففي هذه القصة ما فعله المهاجرون و الأنصار رضي الله عنهم من تعمية قبره حتى لا يعثر عليه ، و لم يبرزوه للدعاء عنده و التبرك به ، و لو ظفر به المتأخرون لجالدوا عليه بالسيوف و لعبدوه من دون الله )) .(9/17)
قال محمد تقي الدين : نشرت جريدة (( العلم )) الاستقلالية المشهورة قبل بضع سنين مقالاً لمعلمة فاضلة اسمها (( خديجة النعيمي )) أنها كانت تسير مع نسوة فمررن بمكان فيه حجارة ، قد وضع بعضها على بعض كوما فقالت رفيقاتها : (( نتاع الله لله يا للاحمارة )) … فأنكرت عليهن و قالت لهن : (( أفي الحمير أولياء ؟ )) فقلن : (( نعم ! إن لها بركة مشهودة )) ، و رجت (( خديجة النعيمي )) في ذلك المقال العلماء ليؤدوا ما فرض عليهم و يعلموا الناس السنة الصحيحة ، و ينقذوهم من الشرك و الضلال ، فأجبت دعوتها و نشرت في صحيفة (( العلم )) عدة من المقالات بينت فيها الحق من الباطل و أقمت فيها الحجة على أن ذلك و أمثاله من الشرك الأكبر ، و ما رأيت أحداً استجاب لدعوتها غيري ، و ما أحسن قول الشاعر :
لقد أسمعت لو ناديت حياً
و لو ناراً نفخت بها أضاءت
و لكن لا حياة لمن تنادي
و لكن أنت تنفخ في رماد
و هذا بالنسبة إلى من يسمون أنفسهم علماء فقليل منهم من يؤدي واجبه و يصدع بالحق . أما العوام فإنهم أقرب إلى الخير فكثير منهم إذا عرفوا الحق تمسكوا به ، فسكوت هؤلاء المنافقين من العلماء أفضى بالناس إلى عبادة الحمير .
أما صاحب هذه الرسالة الوقحة فلم يقتصر على السكوت و لو اقتصر عليه لكان شيطاناً أخرس كما جاء في الخبر و لكنه فضل أن يكون شيطاناً ناطقاً فسيرى في هذا الجواب إن شاء الله شهاباً ثاقباً .
أمر عمر بن الخطاب بقطع شجرة الرضوان
قال القاسمي في تفسيره : (( قال الحافظ في (( الفتح )) روى ابن سعد بإسناد صحيح (( فقطعت )) . و قال ابن وضاح سمعت عيسى بن يونس يقول : أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه بقطع الشجرة التي بويع تحتها النبي - صلى الله عليه وسلم - فقطعها لأن الناس كانوا يذهبون فيصلون تحتها فخاف عليهم الفتنة .(9/18)
و في فتح المجيد : (( قال المعرور بن سويد : صليت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه بطريق مكة صلاة الصبح ثم رأى الناس يذهبون مذاهب فقال : أين يذهب هؤلاء فقيل يا أمير المؤمنين ! مسجد صلى فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - فهم يصلون فيه فقال إنما هلك من كان قبلكم بمثل هذا كانوا يتتبعون آثار أنبيائهم و يتخذونها كنائس و بيعا ، فمن أدركته الصلاة في المساجد فليصل و من لا فليمض و لا يتعمدها .
قال صاحب فتح البيان في تفسير سورة الفتح : (( و في الصحيح عن ابن عمر أن الشجرة أخفيت ، و الحكمة في ذلك أن لا يحصل الافتتان بها لما وقع تحتها من الخير فلو بقيت لما أمن تعظيم الجهال لها حتى ربما اعتقدوا أن لها قوة نفع أو ضر كما نشهده الآن فيم دونها ، و لذلك أشار ابن عمر بقوله كان خفاؤها رحمة من الله ، كذا في فتح الباري )) ، ثم ذكر صاحب فتح البيان الحديث المتقدم عن نافع في قطع الشجرة و قال : أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه .
أحاديث النهي عن البناء على القبور و العبادة عدها سداً للذريعة الموصلة إلى الشرك
في الصحيحين عن عائشة عن أم سلمة و أم حبيبة ذكرتا للنبي - صلى الله عليه وسلم - كنيسة رأتاها بأرض الحبشة و ما فيها من الصور فقال : (( أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح أو العبد الصالح بنوا على قبره مسجداً و صوروا فيه تلك الصور ، أولئك شرار الخلق عند الله )) .(9/19)
قال شيخ الإسلام : (( فهؤلاء جمعوا بين فتنتين ، فتنة القبور و فتنة التماثيل ، و هذه العلة التي لأجلها نهى الشارع - صلى الله عليه وسلم - عن اتخاذ المساجد على القبور ، و هي التي أوقعت كثيراً من الأمم إما في الشرك الأكبر أو في ما دونه من الشرك ، فإن النفوس قد أشركت بتماثيل الصالحين ، و تماثيل يزعمون أنها طلاسم الكواكب و نحو ذلك ، فإن الشرك بقبر الرجل الذي يعتقد صلاحه أقرب إلى النفوس من الشرك لقبة أو حجر ، و لهذا تجد أهل الشرك يتضرعون و يخضعون و يعبدون القبور بقلوبهم عبادة لا يفعلونها في بيوت الله وقت السحر ، و منهم من يسجد لها و أكثرهم يرجون من بركة الصلاة عندها و الدعاء ما لا يرجونه في المساجد فلأجل هذه المفسدة حسم النبي - صلى الله عليه وسلم - مادتها حتى نهى عن الصلاة في المقبرة مطلقاً و إن لم يقصد المصلي بركة البقعة بصلاته كما يقصد بصلاته بركة المساجد ، كما نهى عن الصلاة وقت طلوع الشمس و غروبها لأنها أوقات يقصد فيها المشركون الصلاة للشمس فنهى أمته عن الصلاة حينئذٍ و إن لم يقصدوا ما قصده المشركون سداً للذريعة ، و أما إذا قصد الرجل الصلاة عند القبور متبركاً بالصلاة في تلك البقعة فهذا عين المحادة لله و لرسوله و المخالفة لدينه و ابتداع دين لم يأذن به الله ، فإن المسلمين قد أجمعوا على ما علموه بالضرورة من دين الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن الصلاة عند القبور منهي عنها ، و أنه - صلى الله عليه وسلم - لعن من اتخذها مساجد ، فمن أعظم المحدثات و أسباب الشرك الصلاة عندها و اتخاذها مساجد و بناء المساجد عليها . و قد تواترت النصوص عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنهي عن ذلك و التغليظ فيه . و قد صرح عامة الطوائف بالنهي عن بناء المساجد عليها متابعة منهم للسنة الصحيحة الصريحة . و صرح أصحاب أحمد و غيرهم من أصحاب مالك و الشافعي بتحريم ذلك ، و طائفة أطلقت الكراهية و الذي ينبغي أن تحمل عليه(9/20)
كراهة التحريم إحساناً للظن بالعلماء و أن لا يظن أنهم يجيزون فعل ما تواتر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعن فاعله و النهي عنه )) انتهى .
في الصحيحين عن عائشة أيضاً قالت : (( لما نزل برسول الله - صلى الله عليه وسلم - طفق يطرح خميصة له على وجهه ، فإذا اغتم بها كشفها فقال و هو كذلك : لعن الله اليهود و النصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ، يحذر ما صنعوا و لولا ذلك لأبرز قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا )) .(9/21)
قال في فتح المجيد : (( قوله (( لما نزل )) هو بضم النون و كسر الزاي أي نزل به ملك الموت و الملائكة الكرام عليهم السلام . قوله (( طفق )) بكسر الفاء و فتحها و الكسر أفصح ، و به جاء القرآن و معناه : جعل . قوله (( خميصة )) بفتح المعجمة و الصاد المهملة كساء له أعلام . قوله (( فإذا اغتم بها )) أي تضايق نفسه بسببها . قوله : (( لعن الله اليهود و النصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد )) يبين أن من فعل ذلك حل عليه من اللعنة ما حل على اليهود و النصارى . قوله : (( يحذر ما صنعوا )) الظاهر أنه من كلام عائشة لأنها فهمت من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - تحذير أمته من هذا الصنيع الذي كانت تفعله اليهود و النصارى في قبور أنبيائهم فإنه من الغلو في الأنبياء و من أعظم الوسائل إلى الشرك ، و من غربة الإسلام أن هذا الذي لعن الرسول - صلى الله عليه وسلم - فاعليه تحذيراً لأمته أن يفعلوه معه - صلى الله عليه وسلم - و مع الصالحين من أمته ، قد فعله الخلق الكثير من متأخري هذه الأمة و اعتقدوه قربة من القربات و هو من أعظم السيئات و المنكرات ، و ما شعروا أن ذلك محادة لله و لرسوله - صلى الله عليه وسلم - . قال القرطبي في معنى هذا الحديث : (( و كل ذلك لقطع الذريعة المؤدية إلى عبادة من فيها كما كان السبب في عبادة الأصنام )) انتهى . إذ لا فرق بين عبادة القبر و من فيه و عبادة الصنم ، و تأمل قول الله تعالى في يوسف بن يعقوب حيث يقول : { و اتبعت ملة آبائي إبراهيم و إسحاق و يعقوب ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء } نكرة في سياق النفي تعم كل شرك .(9/22)
قوله : (( و لو لا ذلك )) أي ما كان يحذر من اتخاذ قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - مسجداً ، لأبرز قبره و جعل مع قبور الصحابة الذي كانت قبورهم في البقيع . قوله : (( غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً )) روي بفتح الخاء و ضمها ، فعلى رواية الفتح يكون هو الذي خشى ذلك - صلى الله عليه وسلم - و أمرهم أن يدفنوه في المكان الذي قبض فيه ، و على رواية الضم يحتمل أن يكون الصحابة هم الذين خافوا أن يقع ذلك من بعض الأمة فلم يبرزوا قبره خوفاً على الأمة أن يقع بعضها في هذا الخطر الذي نهى عنه الرسول و حذر من فعله .
قال القرطبي : (( و لهذا بالغ المسلمون في سد الذريعة في قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فأغلقوا حيطان تربته ، و سدوا المداخل إليها و جعلوها محدقة بقبره - صلى الله عليه وسلم - ثم خافوا أن يتخذ موضع قبره قبلة لتوجه المصلين ناحيته فتصور الصلاة بصورة العبادة فبنوا جدارين من ركني القبر الشماليين و حرفوهما حتى التقيا على زاوية مثلثة من ناحية الشمال حتى لا يتمكن أحد من استقبال قبره )) )) انتهى .
أخرج مسلم في صحيحه عن جندب بن عبد الله قال سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يموت بخمس و هو يقول : (( إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل ، فإن الله قد اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلا ، و لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلا . ألا و إن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد ، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك )) .(9/23)
قال شيخ الإسلام رحمه الله بعد إيراد هذا الحديث : (( فقد نهى عنه في آخر حياته ، ثم إنه لعن و هو في مرض الموت من فعله و الصلاة عند القبور من ذلك و إن لم يبن مسجد ، و هو معنى قولها ( أي السيدة عائشة ) (( خشي أن يتخذ مسجدا )) فإن الصحابة لم يكونوا ليبنوا حول قبره مسجدا ، و كل موضع قصدت الصلاة فيه فقد اتخذ مسجدا ، بل كل موضع يصلى فيه يسمى مسجدا كما قال - صلى الله عليه وسلم - : (( جعلت لي الأرض مسجدا و طهورا )) )) انتهى .
قال محمد تقي الدين : في هذا الحديث دليل على أن أبا بكر الصديق هو أفضل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - و هو الذي يستحق أن يكون خليفة بعده .
قال العلماء : الخلة أعلى درجة من المحبة ، و لذلك صرح النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمحبة لأبي بكر و ابنته عائشة و عمر بن الخطاب و معاذ بن جبل ، و أبى أن يتخذ أحدا من أهل الأرض خليلا . و الله سبحانه و تعالى يحب التوابين و يحب المتطهرين ، و يحب الصالحين المتواضعين للمؤمنين ، الأشداء على أعداء الإسلام كما قال في سورة المائدة : { يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم و يحبونه . أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله و لا يخافون لومة لائم } (1) و مع ذلك لم يتخذ أحداً من خلقه خليلاً إلا إبراهيم و محمداً صلوات الله و سلامه عليهما و إلى تفوق مرتبة الخلة على المحبة يشير قول الشاعر :
قد تخللت مسلك الروح مني و بذا سمي الخليل خليلا
أخرج أحمد و أبو حاتم و ابن حبان في صحيحه عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( إن من شرار الناس من تدركهم الساعة و هم أحياء و الذين يتخذون القبور مساجد )) .
__________
(1) المائدة : 54 .(9/24)
قال صاحب فتح المجيد : (( قوله (( و الذين يتخذون القبور مساجد )) ، معطوف على اسم ( إن ) في محل نصب على نية تكرار العامل ، أي و إن من شرار الناس الذين يتخذون القبور مساجد أي بالصلاة عندها و إليها ، و بناء المساجد عليها ، و تقدم في الأحاديث الصحيحة أن هذا من عمل اليهود و النصارى ، و أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لعنهم على ذلك تحذيراً لأمته أن يفعلوا ذلك مع نبيهم و صالحيهم مثل اليهود و النصارى ، فما رفع أكثرهم بذلك رأساً ، بل اعتقدوا أن هذا الأمر قربة إلى الله و هو مما يبعدهم من الله و يطردهم من رحمته و مغفرته . و العجب أن أكثر من يدعي العلم ممن هو من هذه الأمة لا ينكرون ذلك ، بل ربما استحسنوه و رغبوا في فعله ، فلقد اشتدت غربة الإسلام و عاد المعروف منكراً و المنكر معروفاً ، و السنة بدعة و البدعة سنة ، نشأ على هذا الصغير و هرم عليه الكبير )) .
قال محمد تقي الدين : و مع ذلك كله لا نيأس من وجود طائفة قائمة بنصرة الحق ثابتة عليه مبلغة له ، منصورة به لا يضرها من خالفها و لا من عاداها إلى يوم القيامة ، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - بشرنا بذلك لما أخرجه البخاري و مسلم و غيرهما عن المغيرة بن شعبة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( لا تزال طائفة من أمتي ظاهرة حتى يأتيهم أمر الله و هم ظاهرون )) .
قال يزيد بن هارون و أحمد بن حنبل : إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري من هم ؟ و قال ابن المبارك و علي بن المديني و أحمد بن سنان و البخاري و غيرهم (( إنهم أهل الحديث )) .
و قد ظن هذا المشرك أن الجو قد خلا له فصار يبعث بالرسائل إلى اتخاذ الأولياء من دون الله و ينهاهم عن اتباع سنة رسول الله ، ألا ساء ما سولت له نفسه :
خلا لك الجو فبيضي و اصفري و نقري ما شئت أن تنقري
لابد من أخذك يوماً فاحذري
و ما أحسن ما قال بعضهم :
دعاني لشب الحرب بيني و بينه
فلما أبى ألقيت فضل عنانه(9/25)
فكان صريع الخيل أول وهلة
فقلت له لا لا هلم إلى السلم
إليه فلم يرجع بحزم و لا عزم
فبعدا له مختار جهل على علم
روى مالك في الموطأ عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : (( اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد ، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم
مساجد )) .
و له شاهد عند أحمد بسنده عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة رفعه : (( اللهم لا تجعل قبري و ثناً لعن الله قوما اتخذوا قبور أنبياءهم مساجد )) و قد استجاب الله دعاء رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، و في ذلك يقول ابن القيم رحمه الله :
و دعا بأن لا يجعل القبر الذي
فأجاب رب العالمين دعاءه
حتى غدت أرجاؤه بدعائه
قد ضمه وثنا من الأوثان
و أحاطه بثلاثة الجدران
في عزة و حماية و صيان
و دل الحديث على أن قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - لو عبد كان وثنا ، لكن حماه الله بما حال بينه و بين الناس فلا يوصل إليه . و دل الحديث على أن الوثن هو ما يباشره العابد من القبور و التوابيت التي عليها . و قد عظمت الفتنة بالقبور بتعظيمها و عبادتها .
عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( لا تجعلوا قبري عيدا و صلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم )) رواه أبو داود بإسناد حسن ، رواته ثقات . و عن علي بن الحسين أنه رأى رجلا يجئ إلى فرجة كانت عند قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فيدخل فيها فيدعو فنهاه و قال : ألا أحدثكم حديثاً سمعته من أبي عن جدي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : (( لا تتخذوا قبري عيدا و لا بيوتكم قبورا و صلوا علي فإن تسليمكم يبلغني أين كنتم )) رواه الضياء في المختارة و رواه أبو يعلى و القاضي إسماعيل .(9/26)
و قال سعيد بن منصور في سننه حدثنا عبد العزيز بن محمد أخبرني سهيل بن صالح قال : رآني الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم عند القبر فناداني و هو في بيت فاطمة يتعشى فقال : هلم إلى العشاء فقلت : لا أريده فقال : ما لي رأيتك عند القبر فقلت سلمت على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : إذا دخلت المسجد فسلم ، ثم قال : إن رسول الله قال : (( لا تتخذوا قبري عيدا و لا تتخذوا بيوتكم مقابر و صلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم . لعن الله اليهود و النصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد )) ما أنتم و من بالأندلس إلا سواء . و قال سعيد أيضاً : حدثنا حبان بن علي حدثنا محمد بن عجلان عن أبي سعيد مولى المهري قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( لا تتخذوا قبري عيدا و لا بيوتكم قبورا ، و صلوا علي فإن صلاتكم تبلغني )) .
في هذا الحديث فوائد :
الأولى : أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته أن يجعلوا بعض عبادتهم كالصلاة و الدعاء و قراءة القرآن في بيوتهم ، هذا في غير الفرائض الخمس ، أما هي فالأفضل أن تكون في المساجد إجماعاً .
الثانية : تشبيه النبي - صلى الله عليه وسلم - البيت الذي لا يصلى فيه و لا يقرأ فيه القرآن بالمقبرة دليل مفهومه النهي عن الصلاة و قراءة القرآن في المقابر ، و قد مر التصريح بذلك في الأحاديث السابقة .
الثالثة : نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته عن اتخاذ قبره عيدا يحج الناس إليه كالمسجد الحرام و منى و مزدلفة و عرفات فإنها أعياد مكانية يعود الناس إليها في كل عام . و الأعياد الزمانية هي التي تعود على الناس كعيد الأضحى و عيد الفطر . و من المعلوم أن الرحال لا تشد إلى بقعة لفضل فيها إلا إلى ثلاثة مساجد ، المسجد الحرام ، و مسجد النبي و المسجد الأقصى .(9/27)
الرابعة : إخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - أن صلاة المصلين و سلام المسلمين عليه يوصلهما الله إليه ، و إن كان المصلي في أقصى مشارق الأرض و مغاربها فلا فرق بين بعيد و قريب ، و لذلك قال الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب : (( ما أنتم و من بالأندلس إلا سواء )) ، يعني أن من سلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - و هو ملتصق بحائط حجرته الشريفة أو في مسجده كمن سلم عليه في الأندلس .
الخامسة : إذا امتنع تحري الدعاء عند حجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - فامتناعه عند قبور الصالحين أولى . و قد تقدم لعن من يفعله على لسان النبي - صلى الله عليه وسلم - و كون فاعله من شرار الخلق عند الله ، و اشتداد غضب الله عليهم فليبؤ بإثم ذلك كل من دعا إلى ضلالة كمرسل الرسالة المنكرة إلى إمام مسجد أرفود ، يدعوهم فيها إلى الشرك و ترك سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا .
السادسة : قال شيخ الإسلام رحمة الله عليه عقب تخريج هذا الحديث : (( فانظر إلى هذه السنة كيف أن مخرجها أهل المدينة و أهل البيت الذين لهم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرب النسب و قرب الدار ، لأنهم إلى ذلك أحوج من غيرهم فكانوا له أضبط )) انتهى .
السابعة : عن ابن عباس قال : (( لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زائرات القبور و المتخذين عليها المساجد و السرج )) رواه أهل السنن الثلاثة ( أبو داود و الترمذي و ابن ماجة ) و رواه أحمد و الترمذي و صححه من حديث أبي هريرة ، و رواه ابن ماجة من حديث عبد الرحمن بن حسان بن ثابت عن أبيه .
و فيه مسائل :
الأولى : لعن النبي - صلى الله عليه وسلم - لزائرات القبور يقتضي تحريم زيارة القبور على النساء مطلقاً ، و في الباب أحاديث متعددة ، و قد اختلف الأئمة في ذلك ، و الحق مع القائلين بالتحريم .(9/28)
الثانية : لعن النبي - صلى الله عليه وسلم - لمن يبني مسجداً أو غيره على قبر كيفما كان ذلك القبر . و قد تقدمت الأحاديث في ذلك بما فيه الغنية .
الثالثة : لعن النبي - صلى الله عليه وسلم - لكل من يوقد سراجاً أو شمعة أو نحوهما على قبر تعظيماً له ، و كذلك من يعظمه بإهداء الأموال إليه و التصدق لوجه صاحبه إلى غير ذلك مما يفعله المشركون لآلهتهم و أوليائهم الذين اتخذوهم من دون الله و لنقتصر على هذا القدر في الرد على ما جاء في رسالة المفتون من إباحة الشرك و الترغيب فيه .
الفصل الثاني
( في تحريم الإفتاء و القضاء بالتقليد و بيان أن التمذهب بدعة و أن من عجز عن أخذ الحكم من الكتاب و السنة يجوز له أن يقلد عالما من علماء زمانه يسأله مشافهة عما جاء عن الله و رسوله في تلك المسألة و لا يلتزم شخصا بعينه و لا جماعة بأعيانها )
اعلم أيها الطالب للحق المتبرئ من الشرك و البدعة و أهلهما ! أن الله أرسل رسوله محمداً - صلى الله عليه وسلم - بالهدى و دين الحق بشيراً و نذيراً ، لينذر من كان حياً و يحق القول على الكافرين ، فبلغ الرسالة و لم يخص بها أحداً دون أحد و أدى الأمانة على أكمل وجه ، و جاهد في الله حق جهاده و عبد الله حتى أتاه اليقين ، صلوات الله و سلامه عليه و على آله و أصحابه العدول الثقات الذين هم أغزر هذه الأمة علماً ، و أقومها سبيلاً ، و أطهرها قلوباً و أتقاها لله ، اختارهم الله لصحبة نبيه و قال فيهم : { كنتم خير أمة أخرجت للناس } (1) ، و أمر كل من بعدهم باتباعهم فقال تعالى في سورة التوبة : { و السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار و الذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم و رضوا عنه و أعد لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك الفوز العظيم } (2) .
__________
(1) آل عمران : 110 .
(2) التوبة : 100 .(9/29)
و قال تعالى حاثاً عباده على اتباع رسوله في سورة آل عمران : { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله و يغفر لكم ذنوبكم و الله غفور رحيم } (1) و قال تعالى في سورة الأعراف : { و رحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون و يؤتون الزكاة و الذين هم بآياتنا يؤمنون الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة و الإنجيل } إلى أن قال : { فالذين آمنوا به و عزروه و نصروه و اتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون } (2) و قال تعالى في سورة الأعراف : { اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم و لا تتبعوا من دونه أولياء قليلاً ما تذكرون } (3) و الآيات في هذا المعنى أكثر من أن تحصى .
ثم تحمل الرسالة بعد الصحابة الكرام التابعون ، و رعوها حق رعايتها و كانوا أحق بها و أهلها ، ثم حملها تابعوهم من الأئمة المجتهدين و الحفاظ المبرزين نفوا عنها تحريف الغالين و انتحال المبطلين و تأويل الجاهلين . و لم يكن في تلك القرون المفضلة تشدد في الدين ، و لا تمذهب ، و لا تحزب ، و لا تعصب ، بل كانوا عباد الله إخوانا ، و على طاعته أعوانا ، و كان العامي في تلك العصور إذا عنت له مسألة سأل من يصادفه من العلماء ، فكان الواحد يسأل في مسألة أحد الخلفاء الراشدين ، و في الأخرى عبد الله بن عباس ، و في الثالثة عبد الله بن مسعود ، و في الرابعة عبد الله بن عمر و في الخامسة جابر بن عبد الله . و هكذا و لم يتخذ أحد منهم رجلاً بعينه يخص بالسؤال و الاتباع دون غيره كأنه نبي مرسل . حاشاهم من ذلك ، و إنما حدث ذلك بعد القرون المفضلة أي في القرون المذمومة على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
و سأذكر هنا نبذة يسيرة من البراهين التي تثلج الصدور و ترفع الحجب و الستور ، و من لم يجعل الله له نوراً فما له من نور .
__________
(1) آل عمران : 31 .
(2) الأعراف : 156 ، 157 .
(3) الأعراف : 3 .(9/30)
الأول : كل من اتخذ رجلاً غير النبي - صلى الله عليه وسلم - حجة يحلل به ، و يحرم به ، دون أن يسأله عن دليل ما أفتى به ، تحسيناً للظن به ، و اعتقاداً منه أنه لا يخطئ حكم الله أبداً ، فقد اتخذ ذلك الشخص رباً دون الله . و إليك برهانه : قال حافظ المغرب الإمام أبو عمر يوسف بن عبد البر النمري الذي شرح الموطأ ثلاثة شروح في كتابه جامع بيان العلم و فضله ما نصه : (( قد ذم الله تبارك و تعالى التقليد في غير موضع في كتابه فقال : { اتخذوا أحبارهم و رهبانهم أرباباً من دون الله } (1) )) و روى عن حذيفة و غيره قالوا : (( لم يعبدوهم من دون الله و لكن أحلوا و حرموا عليهم فاتبعوهم )) .
قال عدي بن حاتم : (( أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - و في عنقي صليب فقال يا عدي ألق هذا الإثم من عنقك و انتهيت إليه و هو يقرأ سورة براءة حتى أتى على هذه الآية : { اتخذوا أحبارهم و رهبانهم أرباباً من دون الله } (2) قال : قلت : يا رسول الله ، إنا لم نتخذهم أرباباً . قال : بلى ، أليس يحلون لكم ما حرم عليكم فتحلونه و يحرمون عليكم ما أحل الله لكم فتحرمونه فقلت : بلى فقال : تلك عبادتهم )) .
__________
(1) التوبة : 31 .
(2) المرجع السابق .(9/31)
قال محمد تقي الدين : و روى الإمام ابن عبد البر آثاراً في هذا المعنى ، و بيان ذلك أن الحكم الشرعي لا يجوز أن يكون لأحد إلا لله فهو كالصلاة و الصيام و سائر العبادات فمن جعله لغير الله فقد أشرك و قال تعالى في سورة الشورى : { أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله } (1) و قال تعالى في سورة المائدة : { و أن احكم بينهم بما أنزل الله و لا تتبع أهواءهم و احذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم و إن كثيراً من الناس لفاسقون . أفحكم الجاهلية يبغون و من أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون } (2) و قال تعالى في سورة الشورى : { و ما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله } (3) و لا حجة في قول أحد كائناً من كان إلا في كلام الله و كلام رسوله لأنه معصوم . قال تعالى في سورة النجم : { و ما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى } (4).
و اعلم أن ما فرضه الله على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - و سائر القرون المفضلة هو الذي فرضه الله على سائر المسلمين إلى يوم القيامة ، و ما ابتدع بعدهم في الدين فهو ضلال لا يقبله الله و لا يرضاه رسوله - صلى الله عليه وسلم - أبداً ، فالتفرق إلى مذاهب و طرائق و شيع أو فرق كله ضلال و سيأتي بيان ذلك إن شاء الله .
__________
(1) الشورى : 21 .
(2) المائدة : 49 ، 50 .
(3) الشورى : 10 .
(4) النجم : 3 ، 4 .(9/32)
ثم قال الإمام ابن عبد البر في باب فساد التقليد (( و قال عز و جل : { و كذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة و إنا على آثارهم مقتدون . قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم } فمنعهم الاقتداء بآبائهم من قبول الاهتداء : { فقالوا إنا بما أرسلتم به كافرون } (1) و في هؤلاء و مثلهم قال الله عز و جل : { إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون } (2) و قال : { إذ تبرأ الذين اتُبعوا من الذين اتَبعوا و رأوا العذاب و تقطعت بهم الأسباب و قال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرأوا منا كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم و ما هم بخارجين من النار } (3) و قال عز و جل عائباً لأهل الكفر و ذاماً لهم : { ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين } (4) و قال : { إنا أطعنا سادتنا و كبراءنا فأضلونا السبيل } (5) و مثل هذا في القرآن كثير من ذم تقليد الآباء و الرؤساء .
و قد احتج العلماء بهذه الآيات في إبطال التقليد و لم يمنعهم كفر أولئك من الاحتجاج بها ، لأن التشبيه لم يقع من جهة كفر أحدهما و إيمان الآخر و إنما وقع التشبيه بين التقليدين بغير حجة للمقلد كما لو قلد رجل رجلاً فكفر و قلد آخر فأذنب ، فقلد آخر في مسألة دنياه فأخطأ ، وجهها كان كل واحد ملوماً على التقليد بغير حجة لأن كل ذلك تقليد يشبه بعضه بعضاً و إن اختلفت الأنام فيه )) .
ثم قال : (( و قد ثبت الاحتجاج بما قدمنا في الباب قبل هذا ، و في ثبوت إبطال التقليد أيضاً . فإذا بطل التقليد بكل ما ذكرنا وجب التسليم للأصول التي يجب التسليم لها و هي الكتاب و السنة ، أو ما كان في معناهما بدليل جامع بين ذلك .
__________
(1) الزخرف : 23 ، 24 .
(2) الأنفال : 22 .
(3) البقرة : 166 ، 167 .
(4) الأنبياء : 52 ، 53 .
(5) الأحزاب : 67 .(9/33)
أخبرنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا أبو بكر بن عمرو بن عوف المزني عن أبيه عن جده قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : (( إني لأخاف عليكم من زلة العالم ، و من حكم جائر و من هوى متبع )) . و بهذا الإسناد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : (( تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما كتاب الله و سنة رسوله )) )) .
ثم روى بسنده إلى عمر بن الخطاب قال : (( ثلاث يهدمن الدين : زلة عالم ، و جدال منافق بالقرآن ، و أئمة مضلون )) ، ثم روى بسنده إلى معاذ بن جبل قال : (( الله حكم قسط ، هلك المرتابون ، إن وراءكم فتنا : يكثر المال و يفتح القرآن حتى يقرأه المؤمن و المنافق ، و المرأة و الصبي ، و الأسود و الأحمر ، فيوشك أحدهم أن يقول : قد قرأت القرآن فيما أظن أن يتبعوني حتى ابتدع لهم غيره ، فإياكم و ما ابتدع فإن كل بدعة ضلالة ، و إياكم و زيغة الحكيم ؟ قال : هي الكلمة تروعكم و تنكرونها و تقولون ما هذه ؟ فاحذروا زيغته و لا تصدنكم عنه ، فإنه يوشك أن يفئ و أن يراجع الحق ، و أن العلم و الإيمان مكانهما إلى يوم القيامة . فحسن ابتغاؤهما و وجودهما )) .
ثم بعد ذكر آثار عديدة عن الصحابة في هذا المعنى ، قال الإمام أبو عمر ما نصه : (( و إذا صح و ثبت أن العالم يزل و يخطئ لم يجز لأحد أن يفتي أو يدين بقول لا يعرف وجهه )) .
قال محمد تقي الدين : (( المراد بالوجه ، الدليل من كتاب الله و سنة رسوله ، فجميع المسائل التي موه بذكرها المفتون (( البوعصامي )) باطلة ، لأنه لا يعرف دليلاً و لا يهتدي سبيلاً ، و لا يحل له الإفتاء أبداً و إلا كان داخلاً في قوله تعالى في سورة الأعراف : { قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها و ما بطن و الإثم و البغي بغير الحق و أن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا و أن تقولوا على الله ما لا تعلمون } (1) .
__________
(1) الأعراف : 33 .(9/34)
ثم أنشد أبو عمر للحسين بن علي من أئمة آل البيت رضوان الله عليهم قال :
تريد تنام على ذي الشبه
فجاهد و قلد كتاب الإله
فقد قلد الناس رهبانهم
و للحق مستنبط واحد
ففيما أرى عجب غير أن
و علك إن نمت لم تنتبه
لتلقى الإله إذا مت به
و كل يجادل عن راهبه
و كل يرى الحق في مذهبه
بيان التفرق من أعجبه
ثم قال أبو عمر : (( و ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما ذكرناه في كتابنا هذا أنه قال : تذهب العلماء ثم يتخذ الناس رؤساء جهالا ، يسألون فيفتون بغير علم فيضلون و يضلون ، و هذا كله نفي للتقليد لمن فهمه و هدي لرشده .
حدثنا محمد بن إبراهيم قال حدثنا أحمد بن مطرف قال حدثنا سعيد ابن عثمان و سعيد بن حمير قال حدثنا يونس بن عبد الأعلى قال حدثنا سفيان بن عيينة قال : (( اضطجع ربيعة مقنعاً رأسه و بكى فقيل له ما يبكيك ؟ فقال : رياء ظاهر و شهوة خفية ، و الناس عند علمائهم كالصبيان في حجور أمهاتهم ما نهوهم عنه انتهوا ، و ما أمروهم ائتمروا و قالوا لا تعرف خطأ معلمك حتى تجالس غيره . و قال عبد الله بن المعتز : (( لا فرق بين بهيمة تنقاد و بين إنسان يقلد )) و هذا كله لغير العامة ، فإن العامة لا بد لها من تقليد علمائها عند النازلة تنزل بها لا تتبين موقع الحجة لعدم الفهم لأن العلم درجات لا سبيل إلى أعلاها إلا بنيل أسفلها ، و هذا الحائل بين العامة و بين طلب الحجة و الله أعلم .(9/35)
و لم تختلف العلماء أن العامة عليها تقليد علمائها ، و أنهم المرادون بقول الله تعالى : { فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون } (1) و أجمعوا أن الأعمى لابد له من تقليد غيره ممن يثق بمعرفته بالقبلة – إذا أشكلت عليه – فكذلك من لا علم و لا بصر له بمعنى ما يدين به ، لا بد له من تقليد غيره ، و كذلك لم يختلف العلماء أن العامة لا يجوز لها الفتيا ، و ذلك – و الله أعلم – لجهلها بالمعاني التي فيها يجوز التحليل و التحريم ، و القول في العلم .
و قد نظمت في التقليد و موضعه أبياتا رجوت في ذلك جزيل الأجر لما علمت أن من الناس من يسرع إلى حفظ المنظوم و يتعذر عليه المنثور و هي من قصيدة لي :
يا سائلي عن موضع التقليد خذ
و اصغ إلى قولي و دن بنصيحتي
لا فرق بين مقلد و بهيمة
تبا لقاض أو لمفت لا يرى
فإذا اقتديت فبالكتاب و سنة الـ
ثم الصحابة عند عدمك سنة
و كذلك إجماع الذين يلونهم
إجماع أمتنا و قول نبينا
و كذا المدينة حجة إن أجمعوا
و إذا الخلاف أتى فدونك فاجتهد
و على الأصول فقس فروعك لا تقس
و الشر ما فيه فديتك أسوة
من الجواب بفهم لب حاضر
و احفظ علي بوادري و نوادري
تنقاد بين جنادل و دعائر
عللا و معنى للمقال السائر
مبعوث بالدين الحنيف الطاهر
فأولاك أهل نهى و أهل بصائر
من تابعيهم كابرا عن كابر
مثل النصوص لدى الكتاب الزاهر
متتابعين أوائلا بأواخر
و مع الدليل فمل بفهم وافر
فرعا بفرع كالجهول الحائر
فانظر و لا تحفل بزلة ماهر
)) .
ثم روى بسنده إلى أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( من أفتى بفتيا عن غير تثبت فإنما إثمها على من أفتاه )) .
__________
(1) الأنبياء : 7 .(9/36)
أقول : و هذا المفتون قد أفتى في صحيفته الكاذبة الخاطئة في مسائل كثيرة بدون تثبت و لا دليل فهو يتحمل إثمها . و قد احتج جماعة من الفقهاء و أهل النظر على من أجاز التقليد بحجج نظرية عقلية ، فأحسن ما رأيت من ذلك قول المزني رحمه الله تعالى : (( يقال لمن حكم بالتقليد : هل لك حجة فيما حكمت به ؟ فإن قال : نعم . أبطل التقليد ، لأن الحجة أوجبت ذلك عنده لا التقليد و إن قال : حكمت فيه بغير حجة قيل له : فلم أرقت الدماء و أبحت الفروج و أتلفت الأموال ، و قد حرم الله ذلك إلا بحجة ؟ قال عز و جل : { إن عندكم من سلطان بهذا } (1) أي من حجة بهذا قال : فإن قال : أنا أعلم أني قد أصبت و إن لم أعرف الحجة لأني قلدت كبيراً من العلماء ، و هو لا يقول إلا بحجة خفيت علي ، قيل له : إذا جاز لك تقليد معلمك لأنه لا يقول إلا بحجة خفيت عليك وجب عليك أن تقلد معلم معلمك لأنه لا يقول إلا بحجة خفيت على معلمك ، فإن قال : نعم ، ترك تقليد معلمه إلى تقليد معلم معلمه و كذلك من هو أعلى حتى ينتهي الأمر إلى أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - و إن أبى ذلك نقض قوله ، و قيل له : كيف تجوز تقليد من هو أصغر و أقل علماً و لا تجوز تقليد من هو أكبر و أكثر علماً ؟ و هذا متناقض . فإن قال : لأن معلمي و إن كان أصغر فقد جمع علم من هو فوقه إلى علمه فهو أبصر بما أخذ و أعلم بما ترك ، قيل له : و كذلك من تعلم من معلمك فقد جمع علم معلمك و علم من فوقه إلى علمه ، فيلزمك تقليده و ترك تقليد معلمك . و من جهة أخرى أنت أولى أن تقلد نفسك من معلمك لأنك جمعت علم معلمك و علم من فوقه إلى علمك و مقتضى هذا جعل الأصغر و من يحدث صغار العلماء أولى بالتقليد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - و كذلك الصحابي عنده يلزمه تقليد التابعي و التابعي لمن هو دونه ، و كفى بقول يؤول إلى هذا قبحاً و فساداً )) .
__________
(1) يونس : 68 .(9/37)
قال أبو عمر : (( و قال أهل العلم و النظر : حد العلم : التبيين و إدراك المعلوم على ما هو عليه ، فمن بان له الشيء فقد علمه ، قالوا : و المقلد لا علم له و لم يختلفوا في ذلك . و من ها هنا قال البحتري :
عرف العالمون فضلك بالعلـ ــم و قال الجهال بالتقليد
و قال أبو عبد الله بن خويز منداد البصري المالكي : (( التقليد معناه في الشرع الرجوع إلى قول لا حجة لقائله عليه ، و ذلك ممنوع منه في الشريعة ، و الاتباع ما ثبتت عليه حجة )) و قال في وضع آخر من كتابه : (( كل من اتبعت قوله من غير أن يجب عليك قوله لدليل يوجب ذلك فأنت مقلده ، و التقليد في دين الله غير صحيح و كل من أوجب عليك الدليل اتباع قوله فأنت متبعه ، و الاتباع في الدين مسوغ و التقليد ممنوع )) )) .
تبرؤ الإمام مالك رحمه الله من المقلدين المفترين عليه
قال الإمام ابن عبد البر في كتابه المذكور : (( حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن قال حدثنا أبو عبد الله ابن محمد بن أحمد القاضي المالكي ، حدثنا موسى بن إسحق ، قال حدثنا إبراهيم بن المنذر قال أخبرنا معن بن عيسى قال سمعت مالك بن أنس يقول : (( إنما أنا بشر أصيب و أخطئ فانظروا في رأيي فكل ما وافق الكتاب و السنة فخذوه و كل ما لم يوافق الكتاب و السنة فاتركوه )) انتهى .(9/38)
و قد كتب الإمام الحافظ شمس الدين محمد بن قيم الجوزية في هذا المعنى ، و هو الرد على المقلدين الذين فرقوا دينهم و كانوا شيعا ، الكثير الطيب في كتابه (( إعلام الموقعين )) و من أهم ذلك المناظرة العظيمة التي عقدها في المجلد الثاني بثمانين وجهاً . يكفي المؤمن الصادق إذا كان من أهل العلم وجه واحد ليتوب إلى الله من تمذهبه و تعصبه ، و يتبع كتاب الله و سنة رسوله ، و لا يتسع المجال في هذه الرسالة المختصرة لذكر شئ من ذلك ، غير أني أذكر عبارة من ذلك قليلة الألفاظ كثيرة المعاني . قال رحمه الله و أجزل ثوابه : (( يا لله العجب ! ماتت مذاهب أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - و مذاهب التابعين و تابعيهم إلا أربعة أنفس و هذه بدعة قبيحة )) أ.هـ .(9/39)
و قال الإمام صالح بن محمد بن نوح الفلاني في كتابه (( إيقاظ همم أولي الأبصار للاقتداء بسيد المهاجرين و الأنصار و تحذيرهم عن الابتداع الشائع في القرى و الأمصار من تقليد المذاهب مع الحمية و العصبية بين فقهاء الأعصار )) بعد نقله ما مر من كلام ابن عبد البر و أكثر منه كلاما ، ما نقله عن (( سند بن عنان )) شارح مدونة سحنون جاء فيه : (( و أما التقليد فلا يرضاه رجل رشيد ، و لسنا نقول إنه حرام على كل فرد بل نوجب معرفة الدليل ، و أقاويل الرجال ، و نوجب على العامي تقليد العالم )) ثم قال (( سند )) بعد ذكره الخلاف في تقليد الميت ما نصه : (( و إنما نقول نفس المقلد ليست على بصيرة ، و لا يتصف من العلم بحقيقة ، إذ ليس التقليد بطريق إلى العلم بوفاق أهل الآفاق ، و إن نازعنا في ذلك برهانه فنقول : قال الله تعالى : { فاحكم بين الناس بالحق } (1) و قال : { لتحكم بين الناس بما أراك الله } (2) و قال : { و لا تقف ما ليس لك به علم } (3) و قال : { و أن تقولوا على الله ما لا تعلمون } (4) و معلوم أن العلم هو معرفة المعلوم على ما هو به ، فنقول للمقلد : إذا اختلفت الأقوال و تشعبت المذاهب من أين تعلم صحة قول من قلدته دون غيره ، أو صحة قولة له على قولة أخرى ، و لن يبدي كلاماً في قول إلا انعكس عليه في نقيضه ، خاصة إذا عرض له ذلك في قولة لإمام مذهبه الذي قلده ، و قولة تخالفها لبعض أئمة الصحابة )) .
و قال الإمام الشاطبي في الاعتصام من جملة كلام طويل في رد التقليد ما نصه ( ج3 ، ص 301 ) : (( و من معنى كلام مالك : ما كان كلامي موافقاً للكتاب و السنة فخذوا به ، و ما لم يوافق فاتركوه ، هذا معنى كلامه دون لفظه )) .
__________
(1) ص : 26 .
(2) النساء : 105 .
(3) الإسراء : 36 .
(4) الأعراف : 33 .(9/40)
قال محمد تقي الدين : يرحم الله أبا إسحق ما أعظم ورعه فإنه لما لم يذكر لفظ مالك نبه على أنه رواه بالمعنى ، و نص كلام مالك هو ما تقدم مسنداً من رواية ابن عبد البر ، و عندي من النقول عن الأئمة و نصوص الكتاب و السنة في إبطال التقليد و التمذهب ما يضيق عنه الوقت فلذلك اكتفي بهذا القدر .
الفصل الثالث
( في بيان أن كل بدعة ضلالة )
اعلم أن الإمام أبا إسحاق إبراهيم بن موسى اللخمي الشاطبي الغرناطي رحمة الله عليه ألف كتاباً سماه (( الاعتصام )) أقام فيه الحجج الدامغة و البراهين القاطعة على أن البدع – كلها – إذا كانت في الدين ضلالة ، و هي شر من أكبر الكبائر ، و بَيَّن انقسامها إلى إضافية و حقيقية و بين أن حكمها واحد ، فكل من قرأه و تمسك بعد ذلك ببدعة ، فلا يخلو : إما يكون جاهلاً بفهم معناه ، أو منافقاً يبغض ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - و يدعي الإسلام ، تستراً لأغراض دنيوية خسيسة ، و لا يتسع وقتي لنقل كثير منه و إنما أقتصر على قليل ، و لكنه كاف شاف لكل من كان له قلب أو ألقى السمع و هو شهيد .
قال الشاطبي في الرد على القرافي و شيخه ابن عبد السلام اللذين زعما أن البدع تعتريها الأحكام الخمسة ( ج1،ص 147 ) فمثلا للواجب : بتدوين القرآن و الشرائع إذا خيف عليها الضياع ، و مثلا للندوب : بصلاة التراويح ، و مثلا للمكروه : بتخصيص الأيام الفاضلة بنوع من العبادة ، و مثلا للمباح : باتخاذ المناخل للدقيق .(9/41)
قال الشاطبي في الرد عليها : (( و الجواب أن هذا التقسيم أمر مخترع لا يدل عليه دليل شرعي ، بل هو في نفسه متدافع لأن من حقيقة البدعة أن لا يدل عليها دليل شرعي لا من نصوص الشرع و لا من قواعده إذ لو كان هناك ما يدل من الشرع على وجوب أو ندب أو إباحة لما كان ثم بدعة ، و لكان العمل داخلاً في عموم الأعمال المأمور بها أو المخير فيها ، فالجمع بين تلك الأشياء المبتدعة و بين الأدلة التي تدل على وجوبها أو ندبها أو إباحتها جمع بين متنافيين .
أما المكروه منها و المحرم فمسلم من جهة كونها بدعة لا من جهة أخرى ، إذ لو دل دليل على منع أمر أو كراهته لم يثبت ذلك كونه بدعة لإمكان أن يكون معصية كالقتل و السرقة و شرب الخمر و نحوها فلا بدعة يتصور فيها التقسيم البتة ، إلا الكراهية و التحريم حسبما ذكر في بابه ، فما ذكره القرافي عن الأصحاب من الاتفاق على إنكار البدع فصحيح . و ما قسمه فيها غير صحيح ، و من العجب حكاية الاتفاق مع المصادمة بالخلاف ، و مع معرفته بما يلزمه في خرق الإجماع ، و كأنه إنما اتبع في هذا التقسيم شيخه من غير تأمل ، فإن ابن عبد السلام ظاهر منه أنه سمى المصالح المرسلة بدعاً ، لأنها لم تدخل بأعيانها تحت النصوص المعينة ، و لكنها تلائم قواعد الشرع . فمن هنالك جعل القواعد هي الدالة على استحسانها مع تسميته لها بلفظ البدع ؛ و استحسانها من حيث دخولها تحت القواعد ، و لما بني على اعتماد تلك القواعد استوت عنده مع الأعمال الداخلة تحت النصوص المعينة ، و صار من القائلين بالمصالح المرسلة و سماها بدعاً في اللفظ كما سمى عمر الجمع في قيام رمضان في المسجد بدعة ، و كما سيأتي إن شاء الله .
أما القرافي فلا عذر له في نقل تلك الأقسام على غير مراد شيخه و على غير مراد العلماء لأنه خالف الكل في ذلك التقسيم فصار مخالفاً للإجماع )) .(9/42)
ثم قال أبو إسحاق : (( و أما قسم المندوب فليس من البدع بحال و تبيين ذلك بالنظر في الأمثلة التي مثل لها بصلاة التراويح في رمضان جماعة في المسجد ، فقد قام بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد و اجتمع الناس خلفه .
فخرجه أبو داود عن أبي ذر قال : (( ضمنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رمضان فلم يقم بنا شيئاً من الشهر حتى ذهب ثلث الليل ، فلما كانت السادسة لم يقم بنا ، فلما كانت الخامسة قام بنا حتى ذهب شطر الليل ، فقلنا : يا رسول الله لو نفلتنا قيام هذه الليلة ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( إن الرجل إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف حُسب له قيام الليل )) قال : فلما كانت الرابعة لم يقم فلما كانت الثالثة جمع أهله و نساءه و الناس ، فقام بنا حتى خشينا أن يفوتنا الفلاح قلت : و ما الفلاح ! قال : السحور ، ثم لم يقم بنا بقية الشهر )) و نحوه في الترمذي و قال فيه حسن صحيح . لكنه - صلى الله عليه وسلم - لما خاف افتراضه على الأمة أمسك عن ذلك . ففي الصحيح عن عائشة : (( أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى في المسجد ذات ليلة فصلى بصلاته ناس ثم صلى القابلة فكثر الناس ثم اجتمعوا الليلة الثالثة و الرابعة فلم يخرج إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما أصبح قال : (( قد رأيت الذي صنعتم فلم يمنعني من الخروج إلا أني خشيت أن يفرض عليكم )) و ذلك في رمضان )) . و خرجه مالك في الموطأ .(9/43)
فتأملوا ! ففي هذا الحديث ما يدل على أنها سنة ، فإن قيامه أولاً بهم دليل على صحة القيام في المسجد في رمضان ، و امتناعه بعد ذلك من الخروج خشية الافتراض لا يدل على امتناعه مطلقاً ، لأن زمانه كان زمان تشريع و وحي ، فيمكن أن يوحى إليه إذا عمل به الناس الإلزام ، فلما زالت علة التشريع بموت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجع الأمر إلى أصله و قد ثبت الجواز فلا ناسخ له ، و إنما لم يقم بذلك أبو بكر لأحد أمرين ، إما لأنه رأى قيام الناس آخر الليل و ما هم به عليه كان أفضل عنده من جمعهم على إمام أول الليل ، ذكره الطرطوشي ، و إما لضيق زمانه عن النظر في هذه الفروع ، مع شغله بأهل الردة و غير ذلك مما هو أوكد من صلاة التراويح .
فلما تمهد الإسلام في زمان عمر و رأى الناس في المسجد أوزاعاً كما جاء في الخبر قال : لو جمعت الناس على قارئ واحد لكان أمثل ، فلما تم له ذلك نبه على أن قيامهم آخر الليل أفضل ، و لقد اتفق السلف على صحة ذلك و إقراره ، و الأمة لا تجمع على ضلالة ، و قد نص الأصوليون أن الإجماع لا يكون إلا عن دليل شرعي .
فإن قيل : فقد سماها عمر بدعة و حسنها بقوله : (( نعمت البدعة هذه )) و إذا ثبتت بدعة مستحسنة في الشرع ثبت مطلق الاستحسان في البدع .
فالجواب : إنما سماها بدعة باعتبار ظاهر الحال من حيث تركها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - و اتفق أنها لم تقع في زمن أبي بكر ، لا لأنها بدعة حقيقية فمن سماها بدعة بهذا الاعتبار فلا مشاحة في الأسامي ، و عند ذلك لا يجوز أن يستدل بها على جواز الابتداع بالمعنى المتكلم عنه ، لأنه نوع من تحريف الكلام عن مواضعه ، فقد قالت عائشة : (( إن كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليدع العمل و هو يحب أن يعمل به خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم )) )) .(9/44)
ثم قال أبو إسحاق في القسم الخامس و هو المباح : (( و ذكر في قسم المباح مسألة المناخل و ليست في الحقيقة من البدع ، بل هي من باب التنعم ، و لا يقال فيمن تنعم بمباح إنه قد ابتدع )) .
و في حاشية الاعتصام قال بعض العلماء : (( البدعة اللغوية تعتريها الأحكام الخمسة ، و تنقسم إلى حسنة و سيئة ، و أما البدعة الشرعية فلا تكون إلا سيئة )) .
قال محمد تقي الدين : و العجب من القرافي كيف نقل إجماع المالكية و غيرهم من أئمة السلف على أن البدعة كلها ضلالة ثم خرق إجماعهم و استحسن بعضها ، و قد رأيت الرد المفحم الذي رد به الإمام الشاطبي و أزيد ذلك وضوحاً فأقول : قال الشاطبي في الاعتصام : (( قال مالك رحمه الله : (( من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - خان الرسالة لأن الله يقول : { اليوم أكملت لكم دينكم } (1) و ما لم يكن يومئذ ديناً لا يكون اليوم دينا )) )) .
و هذا الكلام المحكم يقطع دابر المبتدعين فقد تضمن الاحتجاج بالكتاب و السنة و الإجماع ، أما الكتاب فكما قال مالك رحمه الله : لم ينتقل الرسول الكريم من هذه الدار الفانية حتى أكمل الله الدين و بلغه الرسول البلاغ المبين ، فمن استحسن شيئاً من البدع فإما يزعم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - انتقل إلى الرفيق الأعلى قبل أن يكمل الله الدين و يتم النعمة أو يزعم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خان الرسالة بكتمان بعض ما أمر بتبليغه ، مع أنه لو زعم ذلك واقعاً لا ينفعه زعمه .
أما الأول : فإذا لم يكمل الله الدين فمن ذا الذي يكمله ؟
__________
(1) المائدة : 3 .(9/45)
قال تعالى : { فماذا بعد الحق إلا الضلال } (1) و كل شيء من الدين ليس من الله فهو من الشيطان ، و لا يدين به إلا من يعبد الشيطان . قال تعالى في سورة يس : { ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين و أن اعبدوني هذا صراط مستقيم و لقد أضل منكم جبلاً كثيراً أفلم تكونوا تعقلون } (2).
أما الثاني : فمن زعم أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - كتم شيئاً أمره الله بتبليغه فهو كافر إجماعاً . و إذا كتم الرسول - صلى الله عليه وسلم - شيئاً من الدين ، حاشاه من ذلك ، فمن ذا الذي يستطيع أن يتلقى وحياً و يبلغه بعده ، و قد ختم الله الرسالة به صلوات الله و سلامه عليه ، و هكذا تدحض حجة المبتدعين ، فقطع دابر القوم الذين ظلموا و الحمد لله رب العالمين .
و قد بدا لي أن أرد على القرافي و من تبعه بطريقتي الخاصة فأقول : زعمه أن جمع القرآن بدعة واجبة باطل لأنه كان مجموعاً في زمان النبي - صلى الله عليه وسلم - في العسب و اللخاف ، أي الحجارة البيض المصفحة ، و في صدور الرجال ، و كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا نزلت عليه الآية و الآيات دعا أحد كتاب الوحي فأمره أن يكتبها في موضعها ، فلما توفي صلوات الله و سلامه عليه بقي القرآن مجموعاً في بيت عائشة ، فأخذه أبو بكر الصديق منها ، و أمر بجمعه في كتاب واحد . و لا فرق بين الجمعين و لا بين الكتابين فأين الإحداث و أين الابتداع ؟ .
__________
(1) يونس : 32 .
(2) يس : 60 ، 62 .(9/46)
أما الشاطبي فجعل هذا من المصالح المرسلة التي فهمها أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من نصوص القرآن و السنة ، و لو فرضنا أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برئاسة أبي بكر الصديق أحدثوا في الدين أمراً – و حاشاهم من ذلك – فهل يستطيع المبتدع أن يبعثهم من مراقدهم و يأمرهم أن يجمعوا على بدعته حتى يتم له الاحتجاج ؟ أم يريد أن يقيس برأيه الفاسد بدعه الخبيثة على ما فعله أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ فيقال له : بفيك الحصى و الجنادل(1) . إن القياس لا يكون إلا على أمر ثبت بنص من نصوص الكتاب و السنة ، و نصوصها كلها تغبر في وجهك ، و لا يقيس إلا مجتهد و أنت مقلد أعمى ، بل بهيمة تقاد ، كما تقدم من كلام أبي عمر بن عبد البر .
أما تمثيلهم للقسم الثاني ، و هو المحرم بأخذ المكوس فهو عجيب ، لأن البدعة هي أن يتقرب المبتدع إلى الله بزعمه بأمر محدث حقيقة أو شكلاً ، و لم يوجد أحد في الإسلام ، و إن كان أجهل الجاهلين و أظلم الظالمين ، يدعي أن الغصب و أخذ المكوس قربة إلى الله ، كيف و هو محرم بالنصوص القاطعة و هو من أكبر الكبائر بالإجماع ، فهذا يكون الإفلاس .
أما تمثيلهم للثالث بصلاة التراويح ، فقد أثبت الشاطبي أنها سنة فعلها النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم تركها خوف أن تفرض ، فلما توفي و تم التشريع جمع عمر الناس على قارئ واحد ، و تسمية ذلك بدعة هي تسمية لغوية و يقال فيه ما تقدم من نفي القياس و يزاد عليه أن القياس لا يكون في العبادات أصلاً كما حققه الإمام الشاطبي ، و برهان ذلك حديث عائشة في الصحيحين مرفوعاً : (( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد )) فدخل في ذلك البدع الحقيقية ، كالتقرب إلى الله بالرقص ، و قرع الطبول و نحو ذلك ، و البدع الإضافية كالاجتماع على الذكر بلسان واحد ، و قراءة القرآن كذلك ، و ما أشبه ذلك و هو كثير .
__________
(1) كناية عن منتهى الفجور و القصور .(9/47)
و تمثيلهم للرابع بتخصيص الأيام الفاضلة بعبادة من أوضح ما دلت عليه النصوص فهو بدعة
إضافية .
و تمثيلهم للخامس باتخاذ المناخل ، فهو عجيب أيضاً إذ لا ينوي أحد التقرب إلى الله تعالى بطحن الحب و لا بنخله و خبزه و لا أكله ، و إنما ذلك أمر أباحه الله فمن شاء أن يأكله منخولاً أو غير منخول فلا حرج في ذلك .
قال تعالى في سورة الأعراف : { قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده و الطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة } (1) و في صحيح مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قدم المدينة وجدهم يلقحون النخل فقال : (( ما هذا ؟ )) فقالوا شيء نأخذه من الذكر و نجعله في الأنثى يصلح عليه التمر فقال : (( ما أراه ينفع )) ، فتركوا التلقيح ففسد التمر و صار شيصاً فأخبروه بذلك فقال : (( إذا حدثتكم عن الله فخذوا به فإني لا أكذب على الله ، و أنتم أعلم بأمور دنياكم )) أو كما قال عليه الصلاة و السلام فأمور الدنيا ليست فيها بدعة .
(( و عن أبي ثعلبة الخشني عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (( إن الله فرض فرائض فلا تعتدوا ، و حد حدوداً فلا تقربوها ، و حرم أشياء فلا تنتهكوها ، و سكت عن أشياء رحمة بكم من غير نسيان فلا تبحثوا عنها )) . حديث حسن رواه الدارقطني )) انتهى من كتاب الأربعين للنووي .
و أخرج البزار في مسنده و الحاكم من حديث أبي الدرداء أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (( ما أحل الله في كتابه فهو حلال ، و ما حرم فهو حرام ، و ما سكت عنه فهو عفو ، فاقبلوا من الله عافيته ، فإن الله لم يكن لينسى شيئاً . ثم تلا هذه الآية : { و ما كان ربك نسيا } (2) و قال الحاكم صحيح الإسناد . و قال البزار إسناده صالح .
__________
(1) الأعراف : 32 .
(2) مريم : 64 .(9/48)
قال محمد تقي الدين : لو أن المبتدعين تأملوا هذا الحديث و أخلصوا لله لم يبتدعوا في دين الله ، و لكن طبع الله على قلوبهم و أصمهم و أعمى أبصارهم . و المقصود هنا أن كل شيء لم ينص الكتاب و السنة على تحريمه و لا على تحليله فقد عفا الله عنه و هو مباح لأن الله لا ينسى شيئاً و رسوله - صلى الله عليه وسلم - لا يكتم شيئاً .
الفصل الرابع
في مسائل فرعية جاءت في رسالة البوعصامي العامي
قال محمد تقي الدين : ليس علينا أن نجيب عن المسائل الفرعية التي ذكرها المفتون الفتان ، لأنه لا يجوز له الإفتاء و الانتقاد لأنه : عامي ، جاهل ، مقلد ، كما تقدم في الفصل الثاني . و لكننا نتبرع بالجواب عن تلك المسائل رغبة في إفادة من يقرأ هذا الكتاب .
المسألة الأولى : وضع اليد اليمنى على اليسرى في الصلاة .
قال مالك في الموطأ : (( (( وضع اليد اليمنى على اليسرى في الصلاة )) حدثني يحيى عن عبد الله بن أبي المخارق البصري أنه قال : (( من كلام النبوة إذا لم تستح فاصنع ما شئت ، و وضع اليدين إحداهما على الأخرى في الصلاة ، يضع اليمنى على اليسرى ، و تعجيل الفطر ، و تأخير السحور )) .
و حدثني عن مالك عن أبي حازم بن دينار عن سهيل بن سعد أنه قال : (( كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة . قال أبو حازم : لا أعلم إلا أنه ينهى عن ذلك )) )) . انتهى .(9/49)
قال محمد تقي الدين : ألف الإمام مالك رحمه الله كتاب الموطأ و درسه ستين سنة و تواتر عنه كل ما فيه . فكل قول ينسب إليه خلاف ما في الموطأ فإما أن يتفق الرواة عنه لذلك القول و إما أن يختلفوا عنه ، فإن اتفقوا و ذلك محال فرواية الموطأ مقدمة على اتفاقهم ، لأن رواته أكثر و أحفظ و لأنه كتبه بيده ، و هو متواتر عنه . فيرد كل ما خالفه و أما إذا اختلفوا فلا يحل لأحد أن ينسب إليه شيئاً مما اختلفوا فيه إلا إذا عرف التاريخ . فحينئذ يمكنه أن ينسب إليه آخر القولين أو الأقوال و حينئذ تتعارض تلك الرواية مع ما في الموطأ إن كانت مخالفة له فتسقط ، و يقدم عليها ما في الموطأ .
و الآن نذكر ما قال الأئمة في المسألة :
عن وائل بن حجر أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - (( رفع يديه حين دخل في الصلاة و كبر ثم التحف بثوبه ، ثم وضع اليمنى على اليسرى ، فلما أراد أن يركع أخرج يديه ثم رفعهما و كبر فركع ، فلما قال سمع الله لمن حمده رفع يديه ، فلما سجد سجد بين كفيه )) . رواه أحمد و مسلم .
و في رواية لأحمد و أبي داود : (( ثم وضع يده اليمنى على كفه اليسرى و الرسغ و الساعد )) .
و عن ابن مسعود أنه (( كان يصلي فوضع يده اليسرى على اليمنى ، فرآه النبي - صلى الله عليه وسلم - فوضع يده اليمنى على اليسرى )) . رواه أبو داود و النسائي و ابن ماجة .
قال الشوكاني في النيل : (( جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في وضع اليمنى على اليسرى عشرون حديثاً عن ثمانية عشر صحابياً و تابعياً )) .
و قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري : (( قال أبو عمر : (( لم يرد فيه خلاف عن النبي - صلى الله عليه وسلم - يعني لم يرو أحد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - سدل اليدين لا في حديث صحيح و لا ضعيف )) .(9/50)
قال صاحب كتاب (( المتوني و البتار )) : (( فإن وضع اليمين على الشمال في الصلوات كلها فرضاً و نفلاً هو مذهب مالك و قوله الذي لم يقل غيره و لا نقل أحد عنه سواه و هو المذكور في الموطأ الذي ألفه بيده و قرئ عليه طول عمره و رواه عنه الآلاف من تلامذته و أصحابه ، و استدل عليه بالحديث الصحيح الذي نقله عنه رواة الفقه و حملته من أصحابه المدنيين كمطرف بن عبد الله و عبد الملك ابن عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشوني و عبد الله بن نافع المخزومي و أصحابه المصريين كأشهب بن عبد العزيز و عبد الله بن عبد الحكم و أصحابه العراقيين كمحمد بن عمر الواقدي و غيره ، و هو مقتضى رواية على بن زياد التونسي عن أصحابه القيروانيين و هو الذي نقله ابن المنذر الإمام الحافظ الذي تصدر لنقل المذاهب بالأسانيد الصحيحة و الطرق المتعددة عن الأئمة المجتهدين ، و هو الذي لم ترد السنة المطهرة و الأحاديث النبوية إلا به عن سيد المرسلين - صلى الله عليه وسلم - و على آله الطاهرين )) أ. هـ.
قال محمد تقي الدين : قد تبين لك أن مذهب النبي - صلى الله عليه وسلم - و مذهب مالك هو وضع اليمنى على اليسرى بلا شك ، و ليس مقصودنا أن ثبوت هذه السنة و مشروعيتها لجميع المسلمين يتوقف على رواية مالك لها أو عمله بها فإن الذي أوجب الله على جميع المسلمين قبل وجود مالك و في زمان صباه و جهله و في زمان علمه و إمامته هو اتباع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - و هو الواجب على جميع المسلمين إلى يوم القيامة و لم يجعل الله حجة على أحد من الناس – رجلاً بعينه – إلا رجلاً واحداً ، هو محمد رسول الله ، فمن اتبعه نجا و إن لم يسمع بمذهب أصلاً ، و من خالفه هلك و شقي و لا ينقذه زعمه أنه يتمسك بمذهب مالك لأن مالكاً قد تبرأ منه كما تقدم في كلام ابن عبد البر .(9/51)
و مالك و غيره من أئمة أهل السنة ينقلون لنا سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنقلناها منهم إذا صحت بالقبول و نعمل بها و نترحم عليهم و لا نفضل أحداً منهم على أحد ، و الذي نسأل عنه في قبورنا و في الحشر هو محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - و إنما سقنا رواية وضع اليمنى على اليسرى عن مالك و أصحابه ليتبين جهل المفتون و جهل متبوعه (( الجكني )) المبتدع .
و العجب من (( البوعصامي )) العامي ، بل العمي ، كيف تجرأ و زعم أن الحديث الثاني من حديث الموطأ منسوخ ، فهذا افتراء لم يسبقه إليه أحد إلا (( الجكني )) و هما كاذبان خاطئان فلعنة الله على الكاذبين .
قال الحافظ ابن حجر في الفتح في شرح الحديث المشار إليه (( كان الناس يؤمرون )) : (( هذا حكمه حكم الحديث المرفوع لأنه محمول على أن الآمر لهم بذلك هو النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال البيهقي : لا خلاف في ذلك بين أهل النقل ، قال النووي في شرح مسلم : و هذا حديث صحيح مرفوع )) .
و صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ قال : (( إذا لم تستح فافعل ما شئت )) و ما أحسن قول الشاعر:
إذا لم تخش عاقبة الليالي
فلا و الله ما في العيش خير
و لم تستح فاصنع ما تشاء
و لا الدنيا إذا ذهب الحياء
و لو أن هذا العامي العمي رجع إلى حاشية ابن الحاج على (( ميارة الصغير )) لوجد فيها بعد حكاياه الفاسدة الكاسدة المتناقضة التي تكره العمل بسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - و هي المكروهة ، لوجد فيها ما نصه :
و في القبض ثلاثة أقوال أخر :(9/52)
أحدها : الاستجابة مطلقاً و هو قول مالك في رواية مطرف و ابن الماجشون عنه في (( الواضحة )) و قول المدنيين من أصحابنا و اختاره غير واحد من المحققين كاللخمي و ابن العربي و ابن عبد البر و ابن رشد و ابن عبد السلام ، و عده ابن رشد في المقدمات من فضائل الصلاة ، و تبعه عياض في قواعده و نسبه في الإكمال للجمهور ، و به قال أئمة المذاهب : الشافعي و أبو حنيفة و أحمد و سفيان الثوري و إسحاق بن راهوية و أبو ثور و داود بن علي و أبو جعفر الطبري و غيرهم .
الثاني : إباحة القبض فيهما ، و هو قول مالك في سماع العرينيين و قول أشهب في رسم شك في طوافه من سماع ابن ابن القاسم من جامع العتبية .
الثالث : منعه فيهما حكاه الباجي ، و تبعه ابن عرفة و هو من الشذوذ بمكان ، قال الشيخ أبو عبد الله محمد بن أحمد المسناوي في رسالة في القبض : (( و إذا تقرر الخلاف في أصل القبض كما ترى وجب الرجوع إلى الكتاب و السنة كما قال تعالى : { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله و الرسول } و قد وجدنا سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد حكمت بمطلوبية القبض في الصلاة بشهادة ما في الموطأ و الصحيحين و غيرهما من الأحاديث السالمة من الطعن ، فالواجب الانتهاء إليها و الوقوف عندها و القول بمقتضاها )) أ.هـ.
المسألة الثانية : قراءة البسملة في أول سورة الفاتحة و أول كل سورة في الصلاة .
أنقل الجواب من كتابي (( المنح السانحة في تفسير سورة الفاتحة )) : (( القول الصحيح الراجح الذي ينبغي لكل مسلم يحتاط لدينه و يتبع الرسول - صلى الله عليه وسلم - بريئاً من العصبية الجاهلية ، و هي الاحتجاج بعمل الآباء و الأجداد ، أن يقرأ البسملة مع الفاتحة في كل ركعة ، يجهر بها في الجهرية و يسر بها في السرية . و سأقتصر على ما يشفي و يكفي من الأدلة لأنها كثيرة جداً يضيق الوقت عن استيفائها .
البسملة آية من الفاتحة ، و من كل سورة في القرآن على الراجح(9/53)
أخرج أبو داود بإسناد صحيح عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان لا يعرف فصل السورة ، و في رواية انقضاء السورة ، حتى ينزل عليه (( بسم الله الرحمن الرحيم )) و أخرجه الحاكم في المستدرك و قال صحيح على شرط الشيخين ، و أخرج ابن خزيمة في صحيحه عن أم سلمة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرأ البسملة في أول الفاتحة في الصلاة و عدها آية و في إسناده عمر بن هروة البلخي و فيه ضعف ، و روى الدارقطني من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( إذا قرأتم الحمد لله رب العالمين ، فاقرؤوا (( بسم الله الرحمن الرحيم )) فإنها أم القرآن و أم الكتاب و السبع المساني ، و بسم الله الرحمن الرحيم إحدى آياتها ))(1) ، و قال إسناد رجاله كلهم ثقات ، و رواه البخاري في التاريخ . قال البيهقي : (( أحسن ما احتج به أصحابنا في أن البسملة من القرآن و أنها من فواتح السور سوى براءة ما رويناه من جمع الصحابة كتاب الله عز و جل في المصاحف و أنهم كتبوا فيها البسملة على رأس كل سورة سوى براءة ، فكيف يتوهم متوهم أنهم كتبوا مائة و ثلاث عشرة آية ليست من القرآن ، و قد علمنا بالروايات الصحيحة عن ابن عباس أنه كان يعد البسملة آية من الفاتحة و يقول : (( انتزع الشيطان منهم خير آية في القرآن )) ، رواه الشافعي .
الاختلاف في الجهر بها في الصلاة
__________
(1) قال راقمه : لم أجد هذا الحديث بهذا اللفظ و (( السبع المساني )) و ظاهرها أنها تصحيف و إنما هي (( السبع المثاني )) و اللفظ الذي وجدته هو عن أبي هريرة في سنن الدارقطني هو قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( إذا قرأتم الحمد لله فاقرؤوا بسم الله الرحمن الرحيم ، إنها أم القرآن و أم الكتاب و السبع المثاني ، و بسم الله الرحمن الرحيم إحداها )) و لم يقل الدارقطني : إسناد رجاله كلهم ثقات .(9/54)
كما وقع الخلاف في إثباتها وقع الخلاف في الجهر بها في الصلاة ، و قد أخرج النسائي في سننه و ابن خزيمة و ابن حبان في صحيحيهما و الحاكم في المستدرك عن أبي هريرة أنه صلى فجهر في قراءته بالبسملة و قال بعد أن فرغ : (( إني لأشبهكم صلاة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - )) ، و صححه الدارقطني و الخطيب و البيهقي و غيرهم ، و روى أبو داود و الترمذي عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يفتتح الصلاة ببسم الله الرحمن الرحيم . قال الترمذي : و ليس إسناده بذلك ، و قد أخرجه الحاكم في المستدرك عن ابن عباس بلفظ كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم ، ثم قال صحيح ، و أخرجه البخاري في صحيحه عن أنس أنه سئل عن قراءة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : (( كانت قراءته مداً ، ثم قرأ بسم الله الرحمن الرحيم ، يمد بسم الله ، و يمد الرحمن ، و يمد الرحيم )) .
و أخرج أحمد في المسند و أبو داود في السنن و ابن خزيمة في صحيحه و الحاكم في مستدركه عن أم سلمة أنها قالت : (( كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقطع قراءته بسم الله الرحمن الرحيم . الحمد لله رب العالمين . الرحمن الرحيم . مالك يوم الدين )) و قال الدارقطني : (( إسناده صحيح و بهذا قال من الصحابة أبو هريرة و ابن عباس و ابن عمر و ابن الزبير ، و من التابعين فمن بعدهم سعيد بن جبير و أبو قلابة والزهري و عكرمة و عطاء و طاووس و مجاهد و علي بن الحسين و سالم بن عبد الله و محمد بن كعب القرظي و ابن سيرين و ابن المنكدر و نافع مولى ابن عمر و زيد بن أسلم و مكحول و غيرهم )) . انتهى من فتح البيان للإمام صديق حسن القنوجي .(9/55)
قال محمد الطالب بن حمدون بن الحجاج(1) في حاشيته على شرح (( ميارة الصغير )) على منظومة ابن عاشر : (( و ذكر ابن عرفة في البسملة أربعة أقوال ، فقال : (( و في كراهة البسملة و استحبابها في الفرض و وجوبها أربع لا بأس بها ، (2) و ابن رشد عن ابن مسلمة و المازري عن ابن نافع مع عياض عن ابن مسلمة و أبي عمرو عن نافع و الورع قراءتها للخروج من الخلاف قاله القرافي و غيره ، و كان المازري يبسمل سراً فقيل له في ذلك فقال : مذهب مالك قولاً واحداً على أن من يبسمل بطلت صلاته و صلاة يتفقان على صحتها خير من صلاة يقول أحدهما ببطلانها .
أقول : و مثل هذا يقال في الفاتحة بالنسبة للمأموم ، فإن مذهب الشافعي و البخاري و جماعة من التابعين قولاً واحداً على أن من ترك و لو حرفاً منها و لو في ركعة واحدة بطلت صلاته ، و مذهب مالك قولاً واحداً على أن من قرأها خلف الإمام لم تبطل صلاته ، و صلاة يتفق الأئمة على صحتها خير من صلاة يقول بعضهم ببطلانها ، و إلى مشروعية قراءتها خلف الإمام ذهب بعض المالكية )) .
المسألة الثالثة : قراءة القرآن و إهداء ثوابه إلى الموتى بدعة .
__________
(1) قال راقمه : هنا كتبت (( الحجاج )) و في مكان قبله (( الحاج )) و الله أعلم .
(2) قال راقمه : يظهر أن في الكلام حذفاً و لعل الصواب : (( قاله … و ابن رشد )) .(9/56)
قال الحافظ عماد الدين ابن كثير في تفسير قوله تعالى في سورة النجم : { و أن ليس للإنسان إلا ما سعى . و أن سعيه سوف يرى } (1) (( ثم شرع تعالى يبين ما كان أوحاه في صحف إبراهيم و موسى فقال : { أن لا تزر وازرة وزر أخرى } (2) أي كل نفس ظلمت نفسها بكفر أو شيء من الذنوب فإنما عليها وزرها لا يحمله منها أحد كما قال : { و إن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء و لو كان ذا قربى } (3) و { أن ليس للإنسان إلى ما سعى } أي كما لا يحمل عليها وزر غيرها كذلك لا يحصل له من الأجر إلا ما كسب هو لنفسه .
و من هذه الآية استنبط الشافعي رحمه الله و من تبعه أن القراءة لا يحصل ثواب إهدائها إلى الموتى لأنه ليس من عملهم و لا كسبهم ، و لهذا لم يندب إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمته و لا حثهم عليه و لا أرشدهم إليه بنص و لا إيماء ، و لم ينقل ذلك عن أحد من الصحابة و لو كان خيراً لسبقونا إليه ، و باب القربات يقتصر فيه على النصوص و لا يتصرف فيه بأنواع الأقيسة و الآراء . فأما الدعاء و الصدقة فمجمع على وصولهما و منصوص من الشارع عليهما .
__________
(1) النجم : 39 ، 40 .
(2) النجم : 38 .
(3) فاطر : 18 .(9/57)
و أما الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث ولد صالح يدعو له ، أو صدقة جارية من بعده ، أو علم ينتفع به )) ، فهذه الثلاثة في الحقيقة هي من سعيه و كده و عمله كما جاء في الحديث : (( إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه ، و أن ولده من كسبه )) ، و الصدقة الجارية كالوقف و نحوه هي من آثار عمله ووقفه ، و قد قال تعالى : { إنا نحن نحيي الموتى و نكتب ما قدموا و آثارهم } (1) الآية . و العلم الذي نشره في الناس فاقتدى به الناس بعده هو أيضاً من سعيه و عمله و ثبت في الصحيح (( من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيء )) ، و قوله تعالى : { و أن ليس للإنسان إلا ما سعى . و أن سعيه سوف يرى } أي يوم القيامة كقوله تعالى : { و قل اعملوا فسيرى الله عملكم و رسوله و المؤمنون و ستردون إلى عالم الغيب و الشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون } (2) أي فيخبركم به و يجزيكم عليه الجزاء الأوفى أي الأوفر )) انتهى .
قال محمد تقي الدين : و من ذلك تعلم أن ما زعمه (( البوعصامي )) العامي من أن عمر رضي الله عنه أوصى بقراءة الفاتحة و خاتمة البقرة ( كذا ) و عزاه إلى (( المشارق ))(3) كذب و افتراء على عمر ، و حقه أن يعزى إلى المغارب لا إلى المشارق لبطلانه فهو غارب و ليس بشارق . فمن رواه ؟ و أين إسناده ؟ و من صححه أو حسنه ؟ ، و هل كتاب المشارق على فرض صحة نسبته إليه قرآن لا يحتاج إلى سنده ، أو أحد الصحيحين ، أو أحد الكتب الستة و ما يقاربها ؟ ، فهذا يكون الإفلاس و الالتجاء إلى بنيان الطريق .
فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة و إن كنت تدري فالمصيبة أعظم
------------------
__________
(1) يس : 12 .
(2) التوبة : 105 .
(3) قال راقمه : لعله كتاب (( مشارق الأنوار )) و هو إما لابن العربي المالكي أو لـ الباجي الأندلسي .(9/58)
يقولون أقوالاً و لا يعلمونها إذا قيل هاتوا حققوا و لم يحققوا
{ فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً ليضل الناس بغير علم . إن الله لا يهدي القوم الظالمين } (1) ثم وقفت على الأثر الذي عزاه (( البوعصامي )) إلى عمر بن الخطاب جهلاً منه أو ممن نقل عنه ، وجدته مروياً عن عبد الله بن عمر ، رواه الخلال في جامعه بإسنادين كلاهما يدور على عبد الرحمن بن العلاء بن اللجلاج عن أبيه عن عبد الله بن عمر أنه أوصى إذا دفن أن يقرأ عند رأسه بفاتحة البقرة و خاتمتها .
قال في الهدي النبوي : (( عن عبد الرحمن بن العلاء بن اللجلاج شامي عن أبيه ما روى عنه سوى مبشر بن إسماعيل الحلبي ، و في هذا الإسناد أيضاً الحسن بن أحمد بن الحكم دعي بالوراق لملازمته محمد بن إسماعيل الوراق ، لا يعرف و قد روى عن محمد بن إسماعيل هذا خبراً منكراً متنه : (( اليمين الفاجرة تعقم الرحم )) و في إسناده أيضاً محمد بن قدامة الجوهري اللؤلؤي أبو جعفر البغدادي قال ابن معين : ليس بشيء و قال أبو داود : ضعيف لم أكتب عنه شيئاً )) .
أقول : و من ذلك تعلم أن هذا الأثر لا يصح عن ابن عمر ، و لو فرضنا صحته فليس فيه حجة لأن قول الصحابي الواحد أو فعله ليس بحجة و إن لم يخالف الإجماع و السنة ، فكيف و قد خالفهما .
و الاقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في أفعاله و أقواله و تروكه فرض على كل مسلم في الأوامر و التروك . أما في الأفعال فإن لم يكن من خصائصه - صلى الله عليه وسلم - فهو سنة يثاب من فعله و لا يأثم من تركه ، أما الأوامر و التروك فلا يسع أحد مخالفتها ، و من فعل التروك فقد ابتدع في دين الله ، فهو في النار بنص حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، و العبادات لا مجال فيها للرأي و القياس ، و إنما تؤخذ من هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - و قد تقدم الكلام على ذلك في الفصل الثالث .
__________
(1) الأنعام : 245 .(9/59)
و قال الإمام الحافظ شمس الدين ابن القيم في كتاب (( الروح )) : (( و في النسائي و غيره من حديث معقل بن يسار المزني عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : (( اقرؤوا (( يس )) على موتاكم )) )) .
قال في الهدي : حديث معقل بن يسار المزني ، رواه أيضاً أبو داود و ابن ماجة و أحمد و لفظه (( يس قلب القرآن . لا يقرأها رجل يريد الله و الدار الآخرة إلا غفر له ، و اقرؤوها على موتاكم )) و رواه أيضاً ابن حبان و صححه و أعله ابن القطان بالاضطراب و بكونه موقوفاً على معقل بن يسار ، و بجهالة حال أبي عثمان و أبيه المذكورين في الإسناد و قد رأيت الذهبي يحمل الحكم عليه بما يلي :(( أبو عثمان يقال : اسمه سعد عن أبيه معقل بن يسار المزني بحديث (( اقرؤوا يس على موتاكم )) لا يعرف أبوه و لا هو ، و لا روى عنه سليمان التيمي )) و جاء في التهذيب ( ج 12 ص 165 ) (( اسمه هرم بن نسيب و قيل هرم بن نصيب(1) )) و قال الدارقطني : هذا حديث ضعيف الإسناد مجهول المتن ، و لا يصح في الباب حديث ، و لذلك كره مالك و أصحابه قراءة القرآن عند الميت و بعد موته و على قبره و هو الحق .
و الكراهة هنا كراهة تحريم لأن كل بدعة ضلالة و كل ضلالة حرام فعلها . و على تقدير ثبوته فالمراد به من حضره الموت لا من مات و قضى نحبه .
قال ابن القيم عقب إيراد الحديث المتقدم الذكر : (( و هذا يحتمل أن يراد به قراءتها على المحتضر عند موته مثل قوله (( لقنوا موتاكم لا إله إلا الله )) و يحتمل أن يراد به القراءة عند القبر .
و الأول أظهر لوجوه :
الأول : أنه نظير قوله (( لقنوا موتاكم لا إله إلا الله )) .
__________
(1) قال راقمه : في الحسام الماحق : بن هرم نصيب .(9/60)
و الثاني : انتفاع المحتضر بهذه السورة ، لما فيها من التوحيد و المعاد و البشرى بالجنة لأهل التوحيد و غبطة من مات بقوله : { يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي و جعلني من المكرمين } (1) فتستبشر الروح بذلك فتحب لقاء الله و يحب الله لقاءها ، فإن هذه السورة قلب القرآن و لها خاصية عجيبة في قراءتها عند المحتضر ، و قد ذكر أبو الفرج ابن الجوزي قال : كنا عند شيخنا أبي الوقت عبد الأول و هو في السياق ، و كان آخر عهدنا به أنه نظر إلى السماء و ضحك و قال : يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي و جعلني من المكرمين ، و قضى .
الثالث : أن هذا علم الناس و عادتهم قديماً و حديثاً يقرؤون (( يس )) عند المحتضر .
الرابع : أن الصحابة لو فهموا من قوله - صلى الله عليه وسلم - : (( اقرؤوا على موتاكم )) قراءتها ، لما أخلوا بها و كان ذلك أمراً معتاداً مشهوراً بينهم .
الخامس : أن انتفاعه باستماعها و حضور قلبه و ذهنه عند قراءتها في آخر عهده بالدنيا هو المقصود ، و أما قراءتها عند قبره فإنه لا يثاب على ذلك ، لأن الثواب إما بالقراءة أو بالاستماع و هو عمل انقطع عن الميت )) و قال في زاد المعاد : (( و لم يكن من هديه - صلى الله عليه وسلم - أن يجتمع للعزاء و يقرأ له القرآن لا عند قبره و لا غيره ، و كل هذا بدعة حادثة مكروهة )) و قال القاسمي في تفسيره : (( { أن لا تزر وازرة وزر أخرى } أي لا تؤاخذ نفس بذنب غيرها ، بل كل آثمة فإن إثمها عليها ، و قال القاشاني : لأن العقاب يترتب على أفعال مظلمة رسخت في النقص بتكرار الأباطيل و الأقاويل السيئة التي هي الذنوب ، و كذلك الثواب إنما يترتب على أضدادها من فعل الفضائل كما قال تعالى : { و أن ليس للإنسان إلا ما سعى } أي إلا سعيه و كسبه )) .
تنبيهات
__________
(1) يس : 26 ، 27 .(9/61)
الأول : قال ابن جرير : (( إنما عنى بقوله : { أن لا تزر وازرة وزر أخرى } الذي ضمن للوليد بن المغيرة أن يتحمل عنه عذاب الله يوم القيامة يقول : ألم يخبر قائل هذا القول و ضامن هذا الضمان بالذي في صحف موسى و إبراهيم : مكتوب لا تأثم آثمة إثم أخرى غيرها ، و أن ليس للإنسان إلا ما سعى . أي و أنه لا يجازى عامل إلا بعمله خيراً كان أم شراً )) انتهى .
و ظاهر السياق يشعر بنزول الآيات رداً على ما كانوا يتخرصونه و يتمنونه و يتحكمون فيه على الغيب لجاجاً و جهلاً ، و مع ذلك مفهومها الشمولي جلي .
الثاني : قال السيوطي في الإكليل : (( استدل به على عدم دخول النيابة في العبادات عن الحي و الميت ، و استدل به الشافعي على أن ثواب القراءة لا يلحق الأموات .
قال خليل في مختصره عاطفاً على المكروهات : و قراءة عند موته و بعده و على قبره . قال الزرقاني : لأن القصد بزيارته تدبر ما وقع له و ما هو فيه ، و القراءة يطلب فيها التدبر و لا يجتمع التدبران غالباً . قال بناني : و نص التوضيح في باب الحج : مذهب مالك كراهة القراءة على القبر ، و نقله ابن جمرة في شرح مختصر البخاري ، و علله بمثل ما تقدم عن الزرقاني ، ثم قال بناني : فقول الزرقاني أن الأمر صريح في الكراهة مطلقاً )) .
أقول : و تحمل الكراهة هنا على كراهة التحريم و هو مقتضى شدة مالك و تمسكه بالسنة و إنكاره للبدعة و غلظته على المبتدعين كما تقدم عنه .
المسألة الرابعة : التأمين و الجهر به
قال محمد تقي الدين : إعلم أن التأمين في الصلاة عند نهاية الفاتحة فرض على كل مصل سراً و جهراً في الجهرية لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( صلوا كما رأيتموني أصلي )) أخرجه البخاري في صحيحه من حديث مالك بن الحويرث ، و قد روى الأئمة في التأمين سبعة عشر حديثاً و ثلاثة آثار أقتصر على ذكر بعضها :(9/62)
عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : (( إذا أمَّن الإمام فأمنوا ، فإن من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه )) .
عن ابن شهاب : (( كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : آمين )) روى(1) الجماعة إلا أن الترمذي لم يذكر قول ابن شهاب .
و في رواية : (( إذا قال الإمام : غير المغضوب عليهم و لا الضالين ، فقولوا آمين ، فإن الملائكة تقول آمين و إن الإمام يقول آمين ، فمن وافق تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه )) رواه أحمد و النسائي .
عن أبي هريرة قال : (( كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا تلا { غير المغضوب عليهم و لا الضالين } قال : آمين حتى يسمع من يليه من الصف الأول )) . رواه أبو داود و ابن ماجة و قال : (( حتى يسمعها الصف الأول فيرتج بها المسجد )) .
عن وائل بن حجر قال : (( سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ { غير المغضوب عليهم و لا الضالين } ، فقال آمين يمد بها صوته )) . رواه أحمد و أبو داود و الترمذي .
__________
(1) قال راقمه : كذا في (( الحسام الماحق )) و لعل الصواب : رواه .(9/63)
قال الشوكاني في (( نيل الأوطار على منتقى الأخبار )) بعد ذكر الأحاديث الواردة في هذا الباب ما نصه : (( و قوله (( فقال : آمين يمد بها صوته )) و الحديث يدل على مشروعية التأمين للإمام و الجهر و مد الصوت به .. قال الترمذي و به قال غير واحد من أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - و التابعين و من بعدهم يرون أن الرجل يرفع صوته بالتأمين و لا يخفيه و به يقول الشافعي و أحمد و إسحق ، و استدلوا على مشروعية الجهر به بحديث عائشة مرفوعاً عند أحمد و ابن ماجة و الطبراني بلفظ : (( ما حسدتكم اليهود على شيء ما حسدتكم على السلام و التأمين )) ، و حديث ابن عباس عند ابن ماجة بلفظ قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( ما حسدتكم اليهود على شيء ما حسدتكم على قول آمين ، فأكثروا من قول آمين )) )) .
و قال محمد تقي الدين : و ذهب مالك إلى أن الإمام لا يؤمن في الجهرية ؛ إذ لم يبلغه شيء من تلك الأحاديث فله أجر واحد و لا لوم عليه ، و إنما اللوم و الإثم على من بلغه حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غاية الوضوح و الصحة و عمل به الصحابة و التابعون و أكثر الأئمة المجتهدين ، ثم ركب رأسه و تعمد معصية الرسول - صلى الله عليه وسلم - و لم يقتصر على ذلك حتى أخذ ينهى الناس عن اتباع سنة رسول الله ، و يكتب ذلك من بلد إلى بلد و لم يقتصر على إضلال من عنده من الناس ، فهكذا تكون الجرأة و الوقاحة و قلة الحياء من الله و من الناس .
يا ليت لي من جلد وجهك رقعة فأقد منها حافراً للأدهم
المسألة الخامسة : نسبة السدل إلى الإمام الشافعي .(9/64)
أقول : إن الشافعي و أتباعه كلهم يضعون أيمانهم على شمائلهم من زمانه إلى يومنا هذا . يعرف ذلك و يشهد به العلماء و العامة حتى صبيان المدارس الابتدائية ، فكيف تجرد هذا (( البوعصامي )) من كل علم و عقل و أتى بهذه الكذبة الفظيعة التي يجزيه الله عنها في الدنيا و الآخرة إن لم يتب ، و نحن نسوق كلام الشافعي ليتبين كذب هذا المفتون و افتراءه على الأئمة كما افترى على الله .
قال المزني في مختصر لكتاب (( الأم )) ما لفظه : (( قال الشافعي : و إذا أحرم إماماً أو وحده نوى صلاته في حال التكبير لا قبله و لا بعده و لا يجزئه إلا قوله ، الله أكبر أو الله الأكبر ، فإن لم يحسن بالعربية كبر بلسانه ، و كذلك الذكر و عليه أن يتعلم ، و لا يكبر إن كان إماماً حتى تستوي الصفوف خلفه و يرفع يديه إذا كبر حذو منكبيه ، و يأخذ كوعه الأيسر بكفه اليمنى و يجعلها تحت صدره )) انتهى .
المسألة السادسة : التوسل بالمخلوق .
اعلم أن التوسل هو ابتغاء الوسيلة أي السبب الموصل إلى المطلوب قال الله تعالى في سورة المائدة : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله و ابتغوا إليه الوسيلة و جاهدوا في سبيله لعلكم تفلحون } (1) و قال تعالى في سورة الإسراء : { أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب و يرجون رحمته و يخافون عذابه . إن عذاب ربك كان محذورا } (2) و المراد بالتوسل إلى الله تعالى : الأعمال الصالحة التي يتقرب بها إلى الله تعالى كما في الحديث القدسي : (( ما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه ، و لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، و بصره الذي يبصر به ، و يده التي يبطش بها ، و رجله التي يمشي بها ، و لئن سألني لأعطينه ، و لئن استعاذني لأعيذنه )) رواه البخاري من حديث أبي هريرة .
__________
(1) المائدة : 35 .
(2) الإسراء : 57 .(9/65)
فالإقسام على الله بالمخلوق حرام ، و هو جهل من فاعله لأن هذا المقسم إما أن يقسم بأجسام المخلوقين و ذلك جهل و ضلال و باطل ، إذ لا يتقرب إلى الله بأجسام عباده ، إذ لا علاقة لأجسامهم بما يريده الله من ذلك التوسل ، و هو الإيمان و الأعمال الصالحة .
و إما أن يتوسل إلى الله بأعمالهم فهو جهل أيضاً و ضلال ؛ لأن أعمالهم لهم ، لا يصل إليه منها شيء إلا ما أذن الله فيه كالدعاء ، و أعماله له ، لا يصل إليهم منها شيء إلا ما خصص كالدعاء و الصدقة بشرطهما إذا صنعا بقصد إيصال الخير إلى من مات موحداً لله و متبعاً للرسول - صلى الله عليه وسلم - و لا يجوز الدعاء و لا الصدقة على من مات مشركاً بالله .
و يتوسل إلى الله تعالى أيضاً بأسمائه الحسنى ؛ قال تعالى في سورة الأعراف : { و لله الأسماء الحسنى فادعوه بها و ذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون } (1).
و أما التوسل إلى الله تعالى بالعمل المتعلق بالنبي - صلى الله عليه وسلم - و أصحابه و سائر المؤمنين إذا كان مشروعاً فهو من خير الوسائل ، فمن توسل إلى الله تعالى بمحبة النبي - صلى الله عليه وسلم - و طاعته و اتباعه و توقيره و الدفاع عن سنته و تعظيم ما جاء به فقد أحسن و هو جدير بالقبول ، و كذلك التوسل بمحبة المؤمنين و إعانتهم و قضاء حاجاتهم و الإحسان إليهم و الدفاع عنهم و توقير كبيرهم و رحمة صغيرهم فذلك من أفضل الأعمال عند الله و في تلك الحال يكون الإنسان متوسلاً إلى الله بعمله ، و قد علمنا النبي - صلى الله عليه وسلم - أن نتوسل إليه بأعمالنا كما في حديث الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة فتوسل كل واحد منهم إلى الله فاستجاب الله دعاءهم و لم يقل لنا أقسموا على الله بنبي أو ملك أو صالح .
__________
(1) الأعراف : 180 .(9/66)
قال العلامة المحقق بشير السهسواني في كتابه (( صيانة الإنسان )) بعد ما ذكر أنواع التوسل المشروعة ص 201 ، و قد أ شرت إلى بعضها فيما سبق :(( و السابع أن يقول : اللهم أسألك بحق فلان عبدك أو بجاهه أو حرمته أو نحو ذلك ، فعن العز بن عبد السلام و من تبعه عدم الجواز إلا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ، و عند الحنابلة في أصح القولين أنه مكروه كراهة تحريم ، و نقل القدوري و غيره من الحنفية عن أبي يوسف أنه قال : قال أبو حنيفة : لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به .
و في جميع متونهم أن قول الداعي المتوسل بحق الأنبياء و الأولياء و بحق البيت و المشعر الحرام مكروه كراهة تحريم ، و هو كالحرام في العقوبة بالنار عند محمد . و عللوا ذلك كلهم بقولهم : إنه لا حق لمخلوق على الخالق ))
ثم قال في صفحة 205 : (( قال ابن بلدجي في شرح المختار : و يكره أن يدعو الله إلا به و لا يقول أسألك بملائكتك أو بأنبيائك أو نحو ذلك لأنه لا حق للمخلوق على خالقه )) .
ثم في صفحة 206 : (( الثامن : أن يسأل الله و يدعوه عند قبور الصالحين معتقداً أن الدعاء عند القبور مستجاب و نقل الحافظ أحمد بن عبد الحليم الحرّاني في المبسوط و هو من أشهر كتب المالكية الكبرى عن الإمام مالك رحمه الله كراهة التوسل بالمخلوق ، يعني بذوات الأنبياء و الصالحين و نقل ذلك في كتاب التوسل و الوسيلة له ، و أدعية الكتاب و السنة الصحيحة ليس فيها توسل إلا بأسماء الله الحسنى و صفاته و العمل الصالح ، ففيها غنية عن الأدعية المبتدعة التي تنحو منحى الشرك و
الوثنية )) .
توسل عمر بالعباس(9/67)
قال السهسواني في ص 207 : (( المراد بالاستسقاء بالعباس و التوسل به الوارد في حديث أنس هو الاستسقاء بدعاء العباس على طريقة معهودة في الشرع و هي أن يخرج بمن يستسقي به إلى المصلى فيستسقي ، و يستقبل القبلة داعياً و يحول رداءه و يصلي ركعتين أو نحوه من هيئات الاستسقاء التي وردت في الصحاح ، و الدليل عليه قول عمر : (( اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا و إنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا )) ، ففي هذا القول دلالة واضحة على أن التوسل بالعباس كان مثل توسلهم بالنبي - صلى الله عليه وسلم - و التوسل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن إلا بأن يخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - و يستقبل القبلة و يحول رداءه و يصلي ركعتين أو نحوه من الهيئات الثابتة للاستسقاء ، و لم يرد في حديث ضعيف فضلاً عن الحسن أو الصحيح أن الناس طلبوا السقيا و الدعاء و الصلاة و غيرهما بغير ما ثبت بالأحاديث و من يدعي وروده فعليه
الإثبات .
إذا ثبت هذا فاعلم أن الاستسقاء و التوسل على الهيئات التي وردت في الصحاح للاستسقاء لا يمكن إلا بالحي لا بالميت ، فالقول بإمكان الاستسقاء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - من أبطل الأباطيل )) انتهى .
عمل أهل المدينة(9/68)
اعلم أنه لا حجة إلا في كتاب الله و سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - لقوله تعالى في سورة النساء : { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله و الرسول إن كنتم تؤمنون بالله و اليوم الآخر } (1) أما الإجماع فهو داخل فيهما إذ لا بد له من دليل منهما أو من أحدهما ، و كذلك القياس عند من يقول به لا بد أن يكون مبنياً على دليل من الكتاب و السنة ، و لا حجة في إجماع أهل بلد من البلدان عند جماهير الأئمة ، و اختلف المالكية في عمل أهل المدينة فأنكره بعضهم و أثبته بعضهم مطلقاً ، و المحققون منهم فصلوا فقالوا : إن كان في المنقولات و كان في زمن الصحابة و التابعين ، و كذلك في الأمور العملية كالمد و الصاع مثلاً ، و عدم زكاة الخضر فهو مقدم على خبر الواحد ، لأن نقل جماعة مقدم على نقل واحد ، لأنه حينئذٍ من قبيل الشاذ ، أما في الاجتهادات فخبر الواحد مقدم عليه ، و إذا لم يوجد خبره فهل يحتج به قولاً ، انظر إعلام الموقعين و نصه : (( قال القاضي عبد الوهاب : و قد اختلف أصحابنا فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه ليس بحجة أصلاً ، و أن الحجة هي إجماع أهل المدينة من طريق النقل ، و لا يرجح به أيضاً أحد الاجتهادين على الآخر .
و هذا قول أبي بكر و أبي يعقوب الرازي و القاضي أبي بكر ابن منتاب و الطيالسي و القاضي أبي الفرج و الشيخ أبي بكر الأبهري ، و أنكروا أن يكون هذا مذهباً لمالك ، و لأحد أصحابه )) انتهى .
__________
(1) النساء : 59 .(9/69)
أقول : و تقديم القاضي عبد الوهاب لهذا القول يقتضي أنه الراجح عنده ، و قد أسرف الجهال في الاحتجاج بعمل أهل المدينة ، و لم يميزوا المسائل التي ورد أنها من عمل أهل المدينة و هي المسائل التي لم يرد فيها شيء ، غاية الأمر أن مالكاً قد قال فيها قولاً باجتهاده و ليس بمعصوم ، إذ المعصوم واحد هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أن المتبعين لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - و للصحابة و التابعين هم المتبعون لمالك في الحقيقة لأن مالكاً نهى عن اتباع قوله ، إذا خالف الدليل ، فمن اتبعه في تلك الحال فقد عصى الله و رسوله و عصى مالكاً نفسه و أطاع الشيطان .
و سأورد هنا مسائل خالف فيها مالك نفسه أهل المدينة و المنقول المحقق عن الصحابة و التابعين مع قيام الدليل على صحته ، و أورد بعض المسائل التي عمل بها النبي - صلى الله عليه وسلم - و أصحابه و التابعين و مالك نفسه ، ثم تركها بعض المنتسبين إلى مذهبه اعتماداً على بعض الأقوال الضعيفة السخيفة المنقولة عن مالك هم ادعوا أن مالكاً ترك العمل بذلك لمخالفته لعمل أهل المدينة .
المسألة الأولى : رفع اليدين عند الركوع و الرفع منه
رواه مالك في حديث ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - و لا شك أنه عمل به لأن مقامه أجل من أن يروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثاً صحيحاً و لا يعمل به ، و لم يقل في الموطأ أن العمل على خلافه كما قال ذلك في حديث : (( المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا )) .
قال ابن القيم في (( الإعلام )) : (( انظر إلى العمل في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - و الصحابة خلفه ، و هم يرفعون أيديهم في الصلاة في الركوع و الرفع منه ، ثم العمل في زمان الصحابة بعده حتى كان عبد الله بن عمر إذا رأى من لا يرفع يديه حصبه و هو عمل كأنه رأي عين .(9/70)
و جمهور التابعين يعمل به في المدينة و غيرها من الأمصار كما حكاه البخاري و محمد بن نصر المروزي و غيرهما عنهم ثم صار العمل بخلافه )) .
قال محمد تقي الدين : فعبد الله بن عمر هو إمام أهل المدينة في آخر زمان الصحابة و في وسط زمان التابعين ، و قد علمت أنه كان يعاقب من لا يرفع يديه يرميه بالحصباء ، فلا شك أنه كان يعتقده فرضاً إذ لا عقاب على ترك مستحب ، و لو سئل سفيه آخر الزمان لماذا لا ترفع يديك عند الركوع و الرفع منه ، لقال قلدت في ذلك مالكاً فقد نقل لي أنه كان لا يرفع ، فإن قيل له هذا كتابه الموطأ الذي ألفه بيده و درسه ستين سنة ليس فيه إلا الرفع . يقول : لا عمل على الموطأ ، فلعل مالكاً رواه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - و ترك العمل به لأنه خلاف عمل أهل المدينة ، فقال له : كذبت فعمل النبي - صلى الله عليه وسلم - و عمل أهل المدينة في أفضل عصورها الرفع .
المسألة الثانية : دعاء الاستفتاح بعد التكبير
قال ابن القيم في الإعلام : (( فانظر العمل في أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في جهره بالاستفتاح في الفرض في مصلى النبي - صلى الله عليه وسلم - و عمل الصحابة به ، ثم ترك العمل به في زمان مالك بوصل التكبير بالقراءة من غير دعاء و لا تعوذ )) .
أقول : فهذا عمل أهل المدينة ، جهر به الخليفة الثاني عمر بن الخطاب في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - و قد صح الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك ، و في الأزمنة المتأخرة نسب مالك إلى تركه ، فعصى المقلدون الله و رسوله و عمر بن الخطاب و أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - و التابعين و عمل أهل المدينة المحقق في أفضل عصورها ، و تركوا دعاء الاستفتاح و التعوذ و البسملة .
المسألة الثالثة : العمل بخيار المجلس(9/71)
قال ابن القيم : (( انظر العمل في زمان الصحابة كعبد الله بن عمر في اعتبار خيار المجلس و مفارقته لمكان التبايع ليلزم العقد ، و لا يخالفه في ذلك صحابي ، ثم العمل به في زمان التابعين و إمامهم و عالمهم سعيد بن المسيب يعمل به و يفتي به و لا ينكره عليه منكر ، ثم صار العمل في زمان ربيعة و سليمان بن بلال بخلاف ذلك .
روى مالك في الموطأ عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : (( المتبايعان كل واحد منهما بالخيار على صاحبه ما لم يتفرقا إلا بيع الخيار )) ، قال مالك : و ليس لهذا عندنا حد معروف و لا أمر معمول به فيه )) .
قال السيوطي في شرح الموطأ : (( قال ابن عبد البر أجمع العلماء على أن هذا الحديث ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - و أنه أثبت ما نقل العدول ، و أكثرهم استعملوه و جعلوه أصلاً من أصول الدين في البيوع و رده مالك و أبو حنيفة و أصحابهما ، و لا أعلم أحداً رده غير هؤلاء .
قال بعض المالكيين : دفعه مالك لإجماع أهل المدينة ، و ذلك عنده أقوى من خبر الواحد ، و قال بعضهم لا تصح هذه الدعوى لأن سعيد بن المسيب و بن شهاب روي عنهما منصوصاً العمل به ، و هما أجل فقهاء أهل المدينة ، و لم يرو عن أحد من أهل المدينة نصاً ترك العمل به إلا عن مالك و ربيعة ، و قد كان ابن أبي ذئب و هو من فقهاء أهل المدينة في عصر مالك ، ينكر على مالك اختياره ترك العمل به حتى جرى منه في مالك قول خشن حمله عليه الغضب لما يستحسن مثله منه ، فكيف يصح لأحد أن يدعي إجماع أهل المدينة عليه في هذه المسألة )) انتهى .(9/72)
قال محمد تقي الدين : خيار المجلس ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - و عن الصحابة و التابعين في المدينة فنحن نعمل به و نرد كلام مالك و شيخه ربيعة و محتسب المدينة في ذلك الزمان سليمان بن بلال ، و قد ثبت لك أن عمل أهل المدينة لا يستقر على حال بل يختلف باختلاف الأزمنة و الولاة فلا يحل لأحد أن يرد حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - و عمل الصحابة و التابعين من أهل المدينة و غيرهم لعمل ثلاثة رجال جاءوا من بعدهم و لم يأمرنا الله باتباعهم ، حتى و لو لم يخالفوا حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - و عمل أهل المدينة من الصحابة و التابعين و من تبعهم في عصر مالك كالإمام ابن أبي ذئب ، و لو شئت أن أنقل مسائل أخرى من هذا القبيل ، لضاق المقام على نقلها ، و فيما ذكرته كفاية لمن يعرف الرجال بالحق ، أما من يعرف الحق بالرجال فهو ضال مضل فلا كلام معه .
وصية النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يطلب الاستغفار من أويس القرني(9/73)
قال محمد تقي الدين : و أي حجة لهذا المفتون في هذا الخبر فإننا نبيح طلب الدعاء من الحي سواء أكان الطالب أعلى من المطلوب منه الدعاء مرتبة أو مساوياً أو أدنى منه ، فمثال الأعلى : طلب النبي - صلى الله عليه وسلم - الدعاء من عمر حين استأذنه في العمرة ، و طلب عمر الدعاء من أويس ، و عمر أعلى منه بدرجات لا تحصى . بل أمرنا الله و رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن نصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - و نسأل له الوسيلة ، و هي أعلى درجة في الجنة ، و الصلاة دعاء للنبي - صلى الله عليه وسلم - و هذه حجة على المفتون . إذ لو كان الدعاء يطلب من الملائكة أو الأنبياء في حياتهم البرزخية ، أو الصحابة أو الصالحين و الشهداء لما طلب عمر الدعاء من أويس ، و كذلك استسقاء عمر بالعباس حجة على الخصم ؛ لأن العباس كان حياً و قد صلى معهم صلاة الاستسقاء و سأل الله ، فلم يستسق عمر بجسم العباس و إنما استسقى بدعاء العباس ، و لم يستسق بالنبي - صلى الله عليه وسلم - لا هو و لا غيره من الصحابة بعد وفاته عليه الصلاة و السلام ، و هو إجماع تركي ، و الإجماع على الترك حجة كالإجماع على العمل إذا ثبت بشرطه ، فإيراده للخبرين بحثٌ عن حتفه بظلفه ، يخربون بيوتهم و أيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار .
و أما زعمه أنهم كانوا يأخذون تراب حمزة للتبرك فهذا كلام فاسد لفظاً و معنى . فمن هؤلاء الذين يأخذون التراب للتبرك ؟ و لِمَ لم يذكرهم المفتون ؟ و ما معنى تراب حمزة ؟ تراب مزرعته ؟ أو تراب
قبره ؟ .
الذي يقتضيه حال من ينصر الشرك و عبادة القبور أنه يريد به تراب قبره و لكنه لم يذكره ، و إذا كان التبرك بالأتربة جائزاً فكيف تركوا تراب قبر حمزة ؟ و في أي زمان كان ذلك ؟ .(9/74)
أما في زمان الصحابة و التابعين و الأئمة المجتهدين فحاشاهم من ذلك . كيف و قد تقدم عنهم من حماية حمى التوحيد بإخفاء مدفن (( دانيال )) و قطع شجرة بيعة الرضوان ، ما يعلي الله به درجاتهم و يبرئهم من كل مشرك منافق ، و إن كان يريد أهل الأزمنة المتأخرة فقد كانت على قبر حمزة قبة عظيمة ، و كان الناس يحجون إليها في كل سنة من الآفاق حتى من مصر ، فاتخذوها وثناً ، فأراد الله تعالى أن يطهر قبر حمزة سيد الشهداء من رجسهم فوفق المجاهدين من رجال حزبه المفلحين فهدموها و قلعوا الرخام حتى صار القبر كما كان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - و على ذلك فما كان يمكن لأحد أن يأخذ تراباً من القبر إن لم يكن هنالك تراب ، و إنما كان هناك رخام و تابوت و ستور حرير كما هو شأن أهل الأوثان في أوثانهم ، و أما بعد هدمها فلا يتجرأ مشرك من عبدة القبور أن يأخذ تراباً منه لأن من تجرأ على ذلك يعاقب أشد العقاب ، و العجب من هذا المفتون كيف لم يستح أن يذكر هذا الخبر الكاذب المفترى دون أن يعزوه إلى أحد أو يذكر مستنده و لكن من خذله الله و أراد فضيحته فلن تملك له من الله شيئا .
( بدعة قراءة القرآن جماعة بنغمة واحدة )
اعلم أن الاجتماع لقراءة القرآن في المسجد في غير أوقات الصلاة مشروع لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في غير أوقات الصلاة مشروع لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( و ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله و يتدارسونه فيما بينهم إلا نزلت عليهم السكينة و غشيتهم الرحمة و حفتهم الملائكة و ذكرهم الله فيمن عنده ، و من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه )) . رواه مسلم من حديث أبي هريرة .(9/75)
لكن الاجتماع لقراءة القرآن الموافقة لسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - و عمل السلف الصالح أن يقرأ أحد القوم و الباقون يسمعون ، و من عرض له شك في معنى الآية استوقف القارئ ، و تكلم من يحسن الكلام في تفسيرها حتى ينجلي تفسيرها ، و يتضح للحاضرين ، ثم يستأنف القارئ القراءة . هكذا كان الأمر في زمان النبي - صلى الله عليه وسلم - و بعده إلى يومنا هذا في جميع البلاد الإسلامية ما عدا بلاد المغرب في العصر الأخير ، فقد وضع لهم أحد المغاربة و يسمى (( عبد الله الهبطي )) وقفاً محدثاً ليتمكنوا به من قراءة القرآن جماعة بنغمة واحدة ، فنشأ عن ذلك بدعة القراءة جماعة بأصوات مجتمعة على نغمة واحدة و هي بدعة قبيحة تشتمل على مفاسد كثيرة :
الأولى : أنها محدثة و قد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( و إياكم و محدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة و كل بدعة ضلالة )) .
الثانية : عدم الإنصات فلا ينصت أحد منهم إلى الآخر ، بل يجهر بعضهم على بعض بالقرآن ، و قد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك بقوله : (( كلكم يناجي ربه فلا يجهر بعضكم على بعض بالقرآن ، و لا يؤذ بعضكم بعضاً )) .
الثالثة : أن اضطرار القارئ إلى التنفس و استمرار رفقائه في القراءة يجعله يقطع القرآن و يترك فقرات كثيرة فتفوته كلمات في لحظات تنفسه ، و ذلك محرم بلا ريب .
الرابعة : أنه يتنفس في المد المتصل مثل : جاء ، و شاء ، و أنبياء ، و آمنوا ، و ما أشبه ذلك فيقطع الكلمة الواحدة نصفين ، و لا شك في أن ذلك محرم و خارج عن آداب القراءة ، و قد نص أئمة القراءة على تحريم ما هو دون ذلك ، و هو الجمع بين الوقف و الوصل ، كتسكين باء (( لا ريب )) و وصلها بقوله تعالى : { فيه هدى } قال الشيخ التهامي بن الطيب في نصوصه :
الجمع بين الوصل و الوقف حرام نص عليه غير عالم همام(9/76)
الخامسة : أن في ذلك تشبهاً بأهل الكتاب في صلواتهم في كنائسهم ، فواحدة من هذه المفاسد تكفي لتحريم ذلك ، و الطامة الكبرى أنه يستحيل التدبر في مثل تلك القراءة و قد زجر الله عن ذلك بقوله في سورة محمد : { أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها } و نحن نشاهد معظم من يقرأ على تلك القراءة لا يتدبر القرآن و لا ينتفع به ، و تا الله لقد شاهدت قراء القرآن على القبر فلم يتعظوا بمشاهدته و لا برؤية القبور و لا بما يقرؤونه من القرآن ، فقبح الله قوماً هذا حالهم (( و بعداً للقوم الظالمين )) .
قال أبو إسحاق الشاطبي في (( الاعتصام )) : (( و اعلموا أنه حيث قلنا : إن العمل الزائد على المشروع يصير وصفاً له أو كالوصف فإنما يعتبر بأحد أمور ثلاثة : إما بالقصد ، و إما بالعبادة ، و إما بالزيادة أو بالنقصان .
إما بالعبادة كالجهر و الاجتماع في الذكر المشهور بين متصوفة الزمان ، فإن بينه و بين الذكر المشروع بوناً بعيداً إذ هما كالمضادين عادة ، و كالذين حكى عنهم ابن وضاح عن الأعمش عن بعض أصحابه قال : (( مر عبد الله برجل يقص في المسجد على أصحابه و هو يقول : سبحوا عشرا و هللوا عشرا ، فقال عبد الله : إنكم لأهدى من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - أو أضل ؟ بل هذا (( يعني أضل )) )) .
و في رواية عنه : أن رجلاً كان يجمع الناس فيقول : رحمه الله من قال كذا و كذا مرة (( الحمد لله )) . قال فمر بهم عبد الله بن مسعود فقال لهم : (( هديتم لما لم يهد نبيكم ، و إنكم لتمسكون بذنب ضلالة )) ، و ذكر لهم أن ناساً بالكوفة يسبحون بالحصى في المسجد فأتاهم و قد كوم كل رجل بين يديه كوماً من حصى قال : فلم يزل يحصبهم بالحصى حتى أخرجهم من المسجد و يقول : (( لقد أحدثتم بدعة و ظلماً و كأنكم فقتم أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - علما )) )) انتهى .(9/77)
تعليق : و قد روى هذا الحديث عن ابن مسعود من طرق كثيرة بعبارات مختلفة لفظاً و متفقة معنى ، بعض الروايات مطول و بعضها مختصر و فيه فوائد :
الأولى : هذا الحديث موقوف و لكنه في حكم المرفوع ، لأن ابن مسعود صرح بأن ذلك مخالف لسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - ففي بعض الروايات : (( و يحكم يا أمة محمد ما أسرع هلكتكم ، هذه ثيابه لم تبل ، و أوانيه لم تكسر ، و نساؤه شواب ، و قد أحدثتم ما أحدثتم )) ، و في رواية أخرى أن عبد الله بن مسعود لما طردهم من مسجد الكوفة و رماهم بالحصباء ، خرجوا إلى ظاهر الكوفة و بنوا مسجداً و أخذوا يعملون ذلك العمل ، فأمر عبد الله بن مسعود بهدمه فهدم .
الثانية : أن البدعة و إن كانت إضافية شر من المعاصي كما حققه أبو إسحاق الشاطبي فهي حرام ، إنما كانت شراً من المعاصي لأن المعصية يفعلها صاحبها و هو معترف بذنبه فيرجى له أن يتوب منها .
الثالثة : أن المبتدع يستحق العقاب و الطرد من المسجد إن كان الابتداع فيه .
الرابعة : أن كل مسجد بني على قبر أو بني لارتكاب البدع فيه يجب هدمه ؛ لأنه مثل مسجد الضرار الذي أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهدمه و إحراقه ، فهدمه أصحابه و جعل كناسة ترمي في الجيف ، و قد نقل غير واحد عن ابن حجر الهيثمي أنه قال : (( إن هذه المساجد المبنية على القبور هي أحق بالهدم من مسجد الضرار )) ، و ابن حجر هذا كان مبتدعاً ضالاً و لكنه في هذه المسألة قال الحق ، و الحكمة ضالة المؤمن ، يأخذها حيث وجدها .(9/78)
أما الإمام الحافظ ابن حجر العسقلاني فهو إمام محقق لم يشرح أحد صحيح البخاري مثل شرحه المسمى بـ (( فتح الباري )) و لذلك قال العلماء : (( لا هجرة بعد الفتح )) . أي لا شرح للبخاري يستحق الاعتبار بعد فتح الباري ، ثم قال أبو إسحاق عاطفاً على البدع المنكرة : (( و من أمثلة ذلك أيضاً : قراءة القرآن على صوت واحد ، فإن تلك الهيئة زائدة على مشروعية القراءة ، و كذلك الجهر الذي اعتاده أرباب الرواية )) انتهى .
قال محمد تقي الدين : و العجب من هؤلاء المشركين المبتدعين الضلال ، فإنهم يتلونون تلون الحرباء لا يستقرون على حال أبداً ، فتارة يدعون أنهم مقلدون لمالك ، و يرون من خالف مذهبه كمن خالف القرآن و السنة الثابتة المحكمة ، و يغلون في ذلك إلى أن يجعلوا البسملة و التعوذ و قراءة الفاتحة خلف الإمام في الجهرية و الجهر بالتأمين و وضع اليمنى على اليسرى و رفع اليدين عند الركوع و الرفع منه و بعد القيام من التشهد الأول ، و السلام تسليمتين ( السلام عليكم و رحمة الله و بركاته ) و ما أشبه ذلك من السنة الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - التي يراها من له أدنى إلمام بالفقه في الدين كالشمس في رابعة النهار كأنه يشاهد النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعلها لا يشك في ذلك و لا يرتاب فيه ، يجعلون ذلك من المنكرات التي يجب أن تغير ، و يكتب فيها من بلد إلى بلد مع أن مالكاً في الحقيقة قائل ببعضها تفصيلاً و بسائرها إجمالاً ، ثم يخالفون فيما ينهى عنه و يكرهه كراهة تحريم من البدع التي لا تسند إلى أي دليل كعبادة القبور و زيارتها زيارة بدعية ، و قراءة القرآن على الميت بعد موته و على قبره ، و قراءة القرآن جماعة بصوت واحد ، و قراءة الأذكار و الأوراد كذلك ، و قد صرح بذلك خليل الذي يعدون مختصره قرآناً يتلى غلواً منهم و ضلالاً .(9/79)
قال في مختصره عاطفاً على المكروهات : (( و جهر بها في مسجد كجماعة )) ، و لا يبالون بخلافه فيما اعتادوه من البدع ، فيحلونه عاماً و يحرمونه عاماً ، و ما أحسن قوله تعالى في سورة القصص يخاطب رسوله - صلى الله عليه وسلم - : { فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم . و من أضل ممن اتبع هواه بغير هدىً من الله . إن الله لا يهدي القوم الظالمين } (1).
أحكام آية النجم
زعم المفتون أن آية النجم(2) منسوخة بآية : { و الذين آمنوا و اتبعتهم ذريتهم بإيمان } و هو قول باطل حكاه بعض المفسرين عن ابن عباس و لا يصح ، و قد رأيت الشافعي رحمه الله احتج بآية النجم على عدم وصول ثواب قراءة القرآن للأموات و الإمامان ابن جرير الطبري و ابن كثير يريانها محكمة ، و السيوطي في (( الإتقان )) قد عد الآيات التي صح أنها منسوخة و لم يعد هذه منها ، و قد تقدم عنه أنه نقل احتجاج الشافعي منها ، و بذلك تعلم بطلان ما ادعاه المفتون ، ثم أنها خبر و النسخ لا يقع في الأخبار ، بل الله احتج بها على الذي تولى ، أي أعرض عن الإسلام و أعطى قليلاً و أكدى ، أي منع العطاء . قيل هو الوليد بن المغيرة و قيل غيره ، و ذلك دليل قاطع على أنها محكمة ، و العجب من هذا المبتدع كيف يعجب على أهل مسجد (( أرفود )) عملهم بسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - و يجعله منكراً بلا حجة إلا مخالفة مذهب مالك ، ثم يخالفه هو في أمور تقدم ذكرها ، و من جملة ما خالف فيه مذهب مالك القول بصحة النيابة في الحج و الصوم ، و لو ذهبنا نحصى تناقضه لضاق بنا المجال فنقتصر على هذا القدر منشدين :
إن عادت العقرب عدنا لها و كانت النعل لها حاضرة
انتفاع الإنسان بعمل غيره
__________
(1) القصص : 50 .
(2) قوله تعالى : { و أن ليس للإنسان إلا ما سعى } .(9/80)
سرد (( البوعصامي )) العامي اثني عشر وجهاً يستدل بها على انتفاع الإنسان بعمل غيره ، و لم يذكر من أدلتها إلا قليلاً كعادته في التهور و إصدار الأحكام بلا دليل ، كأنه يخاطب عوام مثله يسلمون له كل ما يزعم ، و أقول في ذلك قولاً مختصراً مفيداً : كل عمل صح النقل بأنه ينفع عامله كالدعاء و الصدقة و الحج و الصوم المنذور خلافاً للمالكية في هذين الآخرين ، فهو تخصيص عموم أية النجم المتقدم بيانها ، و ما لم يصح دليله أو لم يوجد له دليل أصلاً كزعمه أن الأبناء يدخلون الجنة بعمل آبائهم فهو كذب على الله و رسوله ، و من البراهين القاطعة في رد هذه الدعوى الوقحة ما جاء في صحيح البخاري في كتاب التفسير سورة الشعراء في قوله تعالى : { و أنذر عشيرتك الأقربين و اخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين } ، عن أبي هريرة قال : (( قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أنزل الله { و أنذر عشيرتك الأقربين } : يا معشر قريش أو كلمة نحوها ، اشتروا أنفسكم لا أغني عنكم من الله شيئا . يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئا . و يا صفية عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئا . و يا فاطمة بنت محمد سليني ما شئت من مالي ، لا أغني عنك من الله شيئا )) .
فتأملوا أيها الموحدون المتبعون لكتاب الله و سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - كيف أمر الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن ينذر أقرب الناس إليه نسباً و أن يحذرهم من عذاب الله ، و كيف امتثل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أمره الله به على أحسن الوجوه و أكملها ، فأنذرهم بذلك التفصيل و البيان حتى انتهى إلى فاطمة ابنته سيدة نساء العالمين فقال لها : (( يا فاطمة بنت محمد سليني من مالي ما شئت لا أغني عنك من الله شيئا )) .(9/81)
و أخرج أحمد و الشيخان و الترمذي عن أبي هريرة قال : (( لما نزلت هذه الآية : { و أنذر عشيرتك الأقربين } دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعم و خص فقال : (( يا معشر قريش أنقذوا أنفسكم من النار ، يا معشر بني كعب أنقذوا أنفسكم من النار ، يا معشر بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار ، يا معشر بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار ، يا فاطمة بنت محمد أنقذي نفسك من النار ، فإني و الله لا أملك لكم من الله شيئا ، إلا أن لكم رحماً سأبلها ببلاها )) انتهى .
فما معنى قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لابنته التي هي بضعة منه : (( يا فاطمة بنت محمد أنقذي نفسك من النار ، لا أغني عنك من الله شيئا )) إذا كان أبناء المؤمنين يدخلون الجنة اعتماداً على عمل آبائهم بلا إيمان و لا عمل ، أليس قائل هذا القول مفترياً على الله الكذب ، فإن كان يعلم هذا الحديث و معنى الآية فقد كفر لتكذيبه بالقرآن و الحديث ، و رده ما جاء من الله و رسوله واضحاً – كالشمس في رابعة النهار – و ما يتلى في القرآن و يقرأ في الصحيحين بتفسير سيد الأولين و الآخرين ، و إن كان يجهله فكيف نصب نفسه لدعوة الناس إلى الدين و الأمر بالمعروف بزعمه و إنكار المنكر و هو في هذه الدركة من الجهل ، و لا غرابة في ذلك فمن لم يعرف معنى ( لا إله إلا الله ) و أشرك بالله و دعا إلى عبادة غيره بلا حشمة و لا حياء كيف يرجى له أن يعرف معاني الكتاب و السنة ، كذلك يطبع الله على قلوب الذين لا يعلمون ، فاصبر إن وعد الله حق و لا يستخفنك الذين لا يوقنون .(9/82)
ثم ذكر (( البوعصامي )) العمي كتباً أحال القارئ لهذيانه على مراجعتها على سبيل الإجمال تمويها و تضليلاً ، و منها ما سماه : كتاب (( الرد على الوهابية )) و لا يعرف كتاب بهذا الاسم يختص به ، و قد لفق جماعة من المشركين المبتدعين عباد الأضرحة رسائل سموها بالرد على الوهابية و لا توجد فرقة على وجه الأرض تسمي نفسها ( وهابية ) ، و لكن المبتدعين و المشركين اخترعوا هذه التسمية ليطلقوها على كل من يوحد الله و يتبع سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - و يتجنب البدع و المحدثات ، كما كان المشركون يسمون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مذمماً ، بل المشركون الأولون أعقل من هؤلاء المتأخرين فإنهم سموا النبي - صلى الله عليه وسلم - باسم يدل على الذم في لغتهم و هم المذمومون ، و النبي - صلى الله عليه وسلم - طاهر مطهر لا يلحق به شيء من ذمهم ، و كذلك من اتبعه إلى يوم القيامة مسلمون حنفاء لا يضيرهم ما يقول فيهم أعداؤهم .
أما المشركون المتأخرون فهم جهال بالألفاظ و المعاني كالقارئ الذي قرأ (( فَخَرَّ عليهم السقف من تحتهم )) فقيل له : لا عقل عندك و لا قرآن ، فتسمية أهل الحق بالوهابية نسبة إلى الوهاب من أحسن الأسامي .(9/83)
قال تعالى حكاية عن إبراهيم أبي الحنفاء الموحدين في سورة مريم : { فلما اعتزلهم و ما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق و يعقوب . و كلا جعلنا نبيا . و وهبنا لهم من رحمتنا لسان صدق عليا } ، و الحنفاء في كل زمان و مكان يقتدون بأبيهم إبراهيم فيعتزلون أهل الشرك و ما يعبدون من دون الله ، و يدعون الله وحده راجين فضله ، فيسعدون و لا يشقون ، فيهب لهم و هو الوهاب ، من رحمته كل ما أملوه و يجعل لهم لسان صدق عليا ، و قد انطق الله المشركين بكلمة الحق على رغم أنوفهم فسموا أهل الحق نسبة إلى الكريم الوهاب ، و سيأتي إن شاء الله في القصيدة البائية ، و قد تجرأ هذا الدجال على الله و على عباده المؤمنين فنسبهم إلى الزندقة { كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا } و قد علل ذلك بأنهم ينكرون ما سماه بـ (( أولياء الله )) يعني الأوثان ، و تعالى الله أن تكون الأوثان له أولياء { إن أولياؤه إلا المتقون و لكن المشركين لا يعلمون } فما معنى هؤلاء الأولياء ؟(9/84)
أما نصوص القرآن و الحديث فهي متفقة على أن أولياء الله هم المؤمنون الموحدون المتبعون لسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، و من لم يكن منهم فهو من أعداء الله . قال تعالى في سورة البقرة : { لا إكراه في الدين . قد تبين الرشد من الغي . فمن يكفر بالطاغوت و يؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى . لا انفصام لها و الله سميع عليم . الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور . و الذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات . أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } ، فأنت ترى أيها القارئ الموفق لاتباع الحق و تجنب الباطل : أن الله قسم جميع الناس و جعلهم فريقين لا ثالث لهما : الكافرين بالطاغوت ، و المؤمنين بالله المتمسكين بالعروة الوثقى التي لا تنفصم و هم أولياء الله ، لا يتخذون غيره ولياً أبداً ، فهو الذي يخرجهم من الظلمات إلى النور ، و الفريق الثاني هم المشركون أعداء الله ، أولياء الطاغوت ، و هم شيوخ الضلال ، و رئيسهم إبليس ، يخرجونهم من النور إلى الظلمات ، أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون .
و مثل ذلك قوله في سورة الأعراف : { فريقاً هدى و فريقاً حق عليهم الضلالة إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله و يحسبون أنهم مهتدون } فالمؤمنون هداهم الله لتوحيده و اتباع ما أنزل من الله و ما أمرهم به الرسول ، و المشركون حقت عليهم الضلالة ، فأخذوا الشياطين أولياء من دون الله و ظنوا مع ذلك أنهم مهتدون .(9/85)
هذا فيمن عبد الأوثان و سماها بأسمائها ، فهؤلاء لم يعبدوا إلا الشياطين الذين أضلوا و زينوا لهم الشرك بالله و أوهموهم أن عباد الله الصالحين و الأنبياء و المرسلين و الملائكة المقربين يرضون بعباداتهم و يشفعون لهم كما قال تعالى في سور الزمر : { و الذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم فيما هم فيه يختلفون إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار } فسمى الله زعمهم اتخاذ أولئك الصالحين أولياء من دون الله و عبادتهم له و زعمهم أنهم يقربونهم إلى الله سمى ذلك كله كذبا و مبالغة في الكفر فهم كاذبون كافرون و لن يهديهم أبداً ما داموا مصرين على ذلك ، و قال تعالى في هذا المعنى في سورة الكهف : { أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء إنا اعتدنا جهنم للكافرين نزلا . قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا و هم يحسبون أنهم يحسنون صنعا . أولئك الذين كفروا بآيات ربهم و لقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا } و قال تعالى في سورة الأنعام : { قل أغير الله اتخذ ولياً فاطر السموات و الأرض و هو يطعم و لا يطعم قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم و لا تكونن من المشركين } فالمشركون لفساد عقولهم يشركون بالله الذي يطعمهم ، و يتخذون أولياء عاجزين جائعين محتاجين إلى من يطعمهم ، فالمشركون يطعمونهم و يعبدونهم { ألا ذلك هو الخسران المبين } ، و قال تعالى في سورة الشورى : { أم اتخذوا من دونه أولياء فالله هو الولي و هو يحيي الموتى و هو على كل شيء قدير } ، فالمؤمن من يتخذ الله وحده ولياً و هو حسبه و نعم الوكيل ، و المشركون يتخذون أولياء كثيراً عددهم ، و قد عرفت الآن معنى ولي الله و معنى عدو الله و معنى اتخاذ الأولياء من دون الله ، فالمؤمن الموحد المتبع للسنة ولي الله ، و إخوانه المؤمنون أولياء الله فلا يتصور أن ينكرهم فلو أنكرهم لأنكر نفسه(9/86)
و سائر فرق الهدى ، و ذلك محال .
أما النصارى فيقسمون الناس إلى ثلاثة أقسام ، فالذي يسمونه الإله يشتمل على ثلاثة أقانيم : الأب و هو الله ، و الابن و هو عيسى ، و روح القدس و هذا معنى قوله تعالى في سورة المائدة : { لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة } الآيات .
و القسم الثاني : يسمونهم القديسين ، و عددهم كثير منهم رجال و منهم نساء . كل واحد له يوم من أيام السنة يتخذونه موسماً و يتقربون إليه فيه بأنواع من العبادات ، كالذبح و النذر و الدعاء و الاستغاثة ، و قد يصورون تمثالاً يتخذونه و يسمونه باسمه و يركبون و يعتقدون أن هؤلاء يتصرفون في الكون و ينفعون و يضرون و يصعدون إلى السماء و لكن رتبتهم دون القسم الأول .
و القسم الثالث : عامة النصارى ، و هذه العقيدة هي التي اتخذها الجهال الذي يزعمون أنهم مسلمون ، فالقسم الذي يسميه النصارى قديسين يسمونه هم أولياء الله ، و يفعلون معه ما يفعله النصارى مع مقدسيهم و نحن نشهد بالله أن هذا القسم لا وجود له في الإسلام و لا في دين المسيح الحق غير المبدل ، فليس هناك إلا سيد واحد و غيره عبيد خاضعون لأمره مطيعون له ، فالسيد هو الله و الخلق كلهم عبيد ، و لكن الأنبياء فضلهم الله و خصهم بالوحي و الرسالة ، فهم سادات لسائر العبيد و لا يبلغ مرتبتهم أحد غيرهم و لكنهم لا ينفعون و لا يضرون و لا يدعون و لا يستغاث بهم و من دعاهم أو صرف لهم شيئاً من العبادة فهو كافر .
أما المؤمنين فهم أولياء الله و حزبه المفلحون ، فأولهم عند أهل السنة في الفضل : أبو بكر الصديق رضي الله عنه و آخرهم في الفضل رجل يخرج من النار بشفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - كما هو مذهب أهل السنة و الجماعة و كلهم أولياء الله ، و بذلك تعلم فساد كلام (( البوعصامي )) و أنه جار على طريقة من ذكرنا من النصارى و سائر من يعتقد تعدد الآلهة ، و قد تقدم الكلام على ذلك في الفصل الأول .(9/87)
حقوق أهل البيت ما لهم و ما عليهم
ثم قال (( البوعصامي )) العمي معترضاً : (( و ينكرون أهل البيت الذين قال الله فيهم { قل لا أسألكم عليه أجرا } … الخ و قال عليه السلام : (( أذكركم الله في أهل بيتي ثلاثاً )) رواه مسلم . قالوا : من أهل البيت ؟ قال : (( ذرية فاطمة إلى يوم القيامة )) )) .
لقد حرف هذا المشرك معنى الآية و زاد الحديث كذباً و افتراء منه و دونك تفسير الآية و معنى الحديث على التحقيق :
قال القاسمي في تفسيره : (( { قل لا أسألكم عليه أجراً } أي لا أسألكم على دعايتكم إلى ما ادعوا إليه من الحق الذي جئتكم به و النصيحة التي أنصحكم ثواباً و جزاء و عوضاً من أموالكم تعطونه إلا المودة في القربى ، أي أن تودوني في القرابة التي بيني و بينكم و تصلوا الرحم التي بيننا و لا يكن غيركم يا معشر قريش أولى بحفظي و نصرتي و مودتي منكم ، قال الشهاب : المودة مصدر مقدر بأن و الفعل ، و القربى مصدر كالقرابة و (( في )) للسببية و هي بمعنى اللام لتقارب السبب و العلة ، و الخطاب إما لقريش و إما لجميع العرب لأنهم أقرباء في الجملة . انتهى ، و الاستثناء منقطع و معناه نفي الأجر أصلاً ؛ لأن ثمرة مودتهم عائدة إليهم لكونها سبب نجاتهم فلا تصلح أن تكون أجراً له ، و قيل معنى أن تودوا قرابتي الذين هم قرابتكم و لا تؤذوهم ، و قيل (( القربى )) التقرب إلى الله سبحانه و تعالى ، أي إلا أن تتوددوا إلى الله فيما يقربكم إليه ، و المعنى الأول هو الذي عول عليه الأئمة و لم يرتض ابن عباس و غيره ، ففي البخاري عنه رضي الله عنه أنه سئل عن قوله تعالى : { إلا المودة في القربى } ، قال سعيد بن جبير : (( القربى آل محمد )) ، فقال ابن عباس : (( عجلت ، إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن بطن من قريش إلا كان له فيهم قرابة فقال إلا أن تصلوا ما بيني و بينكم من القرابة )) .(9/88)
قال ابن كثير : (( انفرد به البخاري )) أي عن مسلم و رواه الإمام أحمد و هكذا روى الشعبي و الضحاك و علي بن أبي طلحة و العوفي و يوسف بن مهران و غير واحد عن ابن عباس مثله و به قال مجاهد و عكرمة و قتادة و السدي و أبو مالك و عبد الرحمن بن زيد بن أسلم و غيرهم ، و روى الحافظ أبو القاسم الطبراني عن ابن عباس قال : (( قال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا أسألكم عليه أجراً إلا أن تودوني في نفسي لقرابتي منكم و تحفظوا القربة التي بيني و بينكم )) و روى الإمام أحمد عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لا أسألكم على ما آتيتكم به من البينات و الهدى أجراً إلا أن تودوا الله تعالى و أن تقربوا إليه بطاعته و هكذا روي عن قتادة و الحسن البصري مثله .
و أما رواية أنها نزلت بالمدينة فيمن فاخر العباس من الأنصار فإسناده ضعيف على أن السورة مكية و ليس يظهر بين الآية و تلك الرواية مناسبة ، و كذا ما رواه ابن أبي حاتم أنه لما نزلت هذه الآية قالوا : يا رسول الله من هؤلاء الذين أمر الله بمودتهم ؟ قال : (( فاطمة و ولدها رضي الله عنهم )) فإن في إسناده مبهماً لا يعرف ، من شيخ شيعي و هو (( حسين الأشقر )) فلا يقبل خبره في هذا المجال ، و ذكر نزول الآية في المدينة بعيد فإنها مكية و لم يكن إذ ذاك لفاطمة رضي الله عنها أولاد بالكلية ، فإنها لم تتزوج بعلي رضي الله عنه إلا بعد بدر من السنة الثانية من الهجرة ، و الحق تفسير هذه الآية بما فسر به حبر الأمة و ترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنه كما رواه البخاري .(9/89)
و لا ننكر الوصية لأهل البيت و الأمر بالإحسان إليهم و احترامهم و إكرامهم ، فإنهم من ذرية طاهرة من أشرف بيت وجد على وجه الأرض فخراً و حسباً و نسباً ، خاصة إذا كانوا متبعين للسنة النبوية الصحيحة الواضحة الجلية كما كان عليه سلفهم كالعباس و بنيه ، و على و أهل بيته و ذريته رضي الله عنهم أجمعين ، و قد ثبت في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في خطبته : (( إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله و عترتي و أنهما لم يتفرقا حتى يردا على الحوض )) .
هذا ملخص ما أورده ابن كثير رحمه الله تعالى و سبقه في ذلك تقي الدين ابن تيمية في منهاج السنة من أوجه عديدة :
قال في الوجه الثالث : (( إن هذه الآية في سورة (( الشورى )) و هي مكية باتفاق أهل السنة بل جميع آل (( حم )) و كذلك آل (( طسم )) ، و من المعلوم أن علياً إنما تزوج فاطمة بالمدينة بعد غزوة بدر ، و الحسن ولد في السنة الثالثة من الهجرة و الحسين في السنة الرابعة فتكون هذه الآية نزلت قبل الحسن و الحسين بسنين متعددة فكيف فسر النبي - صلى الله عليه وسلم - الآية بوجوب مودة قرابة لا تعرف و لم تخلق .
ثم قال :
الوجه الرابع : أن تفسير الآية الذي في الصحيحين عن ابن عباس يناقض ذلك ، فهذا ابن عباس ترجمان القرآن أعلم أهل البيت بعد علي يقول ليس معناه مودة ذوي القربى ، لكن معناه لا أسألكم يا معشر العرب و يا معشر قريش عليه أجراً لكن أسألكم أن تصلوا القرابة التي بيني و بينكم فهو سأل الناس الذين أرسل إليهم أولاً أن يصلوا رحمه فلا يعتدوا عليه حين يبلغ رسالة ربه .(9/90)
الوجه الخامس : أنه قال : { لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى } و لو أراد المودة لذوي القربى لقال لذوي القربى كما قال : { و اعلموا أنما غنمتم من شيء فإن لله خمسه و لرسوله و لذي القربى } و قال : { ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله و للرسول و لذي القربى } و كذلك قوله : { و آت ذا القربى حقه و المسكين و ابن السبيل } و قوله : { و آت المال على حبه ذوي القربى } ، و كذلك في غير موضع فجميع ما في القرآن من التوصية بحقوق ذوي قرابة النبي - صلى الله عليه وسلم - و ذوي قربى الإنسان ، إنما قيل فيه (( ذوي القربى )) و لم يقل (( في القربى )) فلما ذكر هنا المصدر دون الاسم دل على أنه لم يرد ذوي القربى .
الوجه السادس : أنه لو أريد المودة لهم لقال المودة لذوي القربى و لم يقل في القربى فإنه لا يقول من طلب المودة لغيره : أسألك المودة في فلان و لا في قربى فلان ، و لكن أسألك المودة لفلان و المحبة لفلان فلما قال المودة في القربى علم أنه ليس المراد لذوي القربى .
الوجه السابع : أن يقال إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يسأل على تبليغ رسالة ربه أجراً البتة . بل أجره على الله كما قال : { قل ما أسألكم عليه أجراً و ما أنا من المتكلفين . أم تسألهم أجراً فهم من مغرم مثقلون } و قوله : { قل ما سألتكم عليه من أجر فهو لكم إن أجري إلا على الله } ، و لكن الاستثناء هنا منقطع كما قال : { قل ما أسألكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا } ، و لا ريب أن محبة أهل النبي - صلى الله عليه وسلم - واجبة و لكن لم يثبت وجوبها بهذه الآية ، و لا محبتهم أجر للنبي - صلى الله عليه وسلم - بل هو مما أمرنا به الله كما أمرنا بسائر العبادات .(9/91)
الوجه الثامن : أن القربى معرفة باللام فلا بد أن يكون معروفاً عند المخاطبين الذين أمر أن يقول لهم لا أسألكم عليه أجرا ، و قد ذكر أنها لما نزلت لم يكن قد خلق الحسن والحسين ، و لا تزوج علي بفاطمة ، فالقربى التي كان المخاطبون يعرفونها يمتنع أن تكون هذه بخلاف القربى التي بينه و بينهم ، فإنها معروفة عندهم كما تقول لا أسألك إلا المودة في الرحم التي بيننا و كما تقول لا أسألك إلا العدل بيننا و بينكم و لا أسألك إلا أن تتقي الله في هذا الأمر )) انتهى .
حديث : أذكركم الله في أهل بيتي(9/92)
اعلم أيها القارئ الموفق لاتباع الحق أن هذا (( البوعصامي )) لم يرد برسالته وجه الله ، و لا أخلص قصده لله ، و لكن له غرض معين خسيس من حظوظ نفسه الأمارة بالسوء ، و الدليل على ذلك تناقضه و إيراده الأدلة مبتورة و محرفة بالزيادة و النقصان ، و ارتكاب الكذب على الله و رسوله فقد أنكر على أهل (( أرفود )) و غيرهم العمل بالسنة الصحيحة الصريحة التي هي كالشمس في رابعة النهار : في وضع اليمنى على اليسرى ، و الجهر بالتأمين ، و غير ذلك زاعماً أن ذلك منكر لمخالفته لمذهب مالك ، و لم يورد على ذلك أي حجة غير ذلك ، و لما أراد أن يثبت انتفاع الميت بالحج عنه ، و سقوط الصوم المنذور إذا صامه الحي عن الميت ، و أباح لنفسه أن يخالف مذهب مالك بلا دليل ، و حرم على غيره أن يخالفه بدليل في غاية الصحة ، و نسب السدل إلى مالك و هو باطل كما بينه المحققون من أصحابه و كل ما بناه عباد القبور المبتدعون من بيوت الضلال فإنه بناء على شفا جرف هار ينهار بهم في نار جهنم ، هذا إذا كانوا مخلصين معتقدين لما يقولون ، فكيف إذا كانوا متناقضين يقولون ما لا يفعلون و يفعلون ما لا يؤمرون كما جاء في الحديث ، و العجب من هذا المشرك المتناقض كيف أشرك بالله و جعل له أنداداً ، و لو كان يحب الله ما أشرك به ، و رد أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - و زعم أن العمل بها منكراً يجب تغييره ، ثم أخذ يتظاهر بالتشيع الكاذب لآل البيت لذرية فاطمة عليها السلام ، فهكذا يكون النفاق و الوقاحة ، و إنما وجبت محبة آل البيت تبعاً لمحبة النبي - صلى الله عليه وسلم - فمن أشرك بالله و عصى رسوله و رد حديثه و سنته كيف تصح محبته لآل البيت ؟ و دونك الحديث الذي ذكر أطرافه على وجهه الصحيح كما في صحيح مسلم .(9/93)
أخرج مسلم في كتاب فضائل الصحابة من صحيحه عن يزيد بن حبان قال : (( انطلقت أنا و حصين بن سبرة و عمرو بن مسلم إلى زيد بن أرقم رضي الله عنه ، فلما جلسنا إليه قال له حصين : لقيت يا زيد خيراً كثيرا ، رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - و سمعت حديثه و غزوت معه ، و صليت خلفه ؛ لقد لقيت يا زيد خيراً كثيرا . حدثنا يا زيد ما سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : يا ابن أخي و الله لقد كبرت سني و قدم عهدي و نسيت بعض الذي كنت أعي من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فما حدثتكم فاقبلوا و ما لا فلا تكلفونيه ، ثم قال : قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوماً فينا خطيبا بما يدعى (( خما )) بين مكة و المدينة ، فحمد الله و أثنى عليه ، و وعظ و ذكر ثم قال أما بعد : (( ألا أيها الناس إنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب ، و أنا تارك فيكم ثقلين : أولهما كتاب الله فيه الهدى و النور فخذوا بكتاب الله و استمسكوا به )) .
فحث على كتاب الله و رغب فيه ، ثم قال : (( و أهل بيتي ، أذكركم الله في أهل بيتي ، و أذكركم الله في أهل بيتي )) ، فقال حصين : و من أهل بيته ؟ أليس نساؤه من أهل بيته ؟ . قال : نساؤه من أهل بيته ، و لكن بيته من حرم الصدقة بعده و قال : من هم ؟ قال : آل علي و آل جعفر و آل عباس ، قال : كل هؤلاء حرم الصدقة ؟ ، قال : نعم )) انتهى .(9/94)
و قد زاد فيه القبوري زيادة مفتراة فقال : (( هم ذرية فاطمة إلى يوم القيامة )) ، فليبشر بأن يتبوأ مقعده من النار ، و تأمل أيها الطالب للحق قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الوصية بكتاب الله و عترته أهل بيته ، و لن يفترقا حتى يردا على الحوض ، يعني أن أهل بيته الذي أوصى بإكرامهم لن يتفرقوا مع كتاب الله ، و لن يخالفوه أبداً ، تعلم يقيناً أن المعني أولاً و بالذات هم الذين توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - و هو عنهم راض كعمه العباس و فاطمة و علي و أولادهما لصلبهما الحسن و الحسين و عبد الله و الفضل ابني عمه و آل جعفر و آل عقيل(1) ، فهؤلاء لم يفترقوا مع كتاب الله حتى ماتوا على عهد الله و رسوله و لا يعقل أن ذريتهم ما تناسلوا إلى يوم القيامة يكونون معصومين من مخالفة الكتاب و من ارتكاب الكبائر التي توجب لصاحبها دخول النار ، كيف و قد تقدم حديث أبي هريرة المتفق عليه و فيه : يا فاطمة بنت محمد أنقذي نفسك من النار ، و كذلك قال لعمه و لعمته و لسائر بني هاشم و معنى ذلك أن من خالف الكتاب منهم بكفر و كبيرة لا تغني عنه قرابته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتيلا .
__________
(1) قال راقمه : في الحسام الماحق : آل جعفر عقيل .(9/95)
و لا ينبغي لأحد أن يفهم من كلامي التهاون بآل البيت فإن محبتهم تابعة لمحبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - و إكرامهم إكرام لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشرط أن يكونوا مؤمنين متمسكين بسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فإن خالفوا ذلك فهم أحق بالذم و اللوم و العقاب من غيرهم ، فقد قال تعالى في سورة الأحزاب : { يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض } فشرط في فضلهن على غيرهن : التقوى ، وفي صحيح البخاري عن عمرو بن العاص أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : (( إن آل أبي فلان ليسوا لي بأولياء ، إنما وليي الله و صالحوا المؤمنين ، و لكن لهم رحم أبلها ببلاها ، و لا شك أن أهل البيت الذين توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - و هو عنهم راض ، هم من أصلح صالحي المؤمنين قد اشتركوا مع المؤمنين في الإيمان و الصلاح ، و زادوا عليهم بفضل القرابة ، و الفضل المتقدم خاص بأعيانهم ، و كلن ذريتهم المؤمنة الصالحة لها نصيب وافر من الفضل بقوله تعالى في سورة غافر : { ربنا و أدخلهم جنات عدن التي وعدتهم و من صلح من آبائهم و أزواجهم و ذرياتهم ، إنك أنت العزيز الحكيم } فشرط الله في التحاقهم الصلاح ، و قال تعالى في سورة الطور : { و الذين آمنوا و اتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم و ما ألتناهم من عملهم من شيء ، كل امرئ بما كسب رهين } .
قال الحافظ ابن كثير في تفسيره : (( روى ابن أبي حاتم بسنده إلى سعيد بن جبير عن ابن عباس في قول الله تعالى : { و الذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم } قال : هم ذرية المؤمن يموتون على الإيمان ، فإن كان منازل آبائهم أرفع من منازلهم الحقوا بآبائهم و لم ينقصوا من أعمالهم التي عملوها شيئا )) انتهى .(9/96)
و قال تعالى في سور البقرة : { و إذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما قال و من ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين } يعني أن الله امتحن إبراهيم بأوامر أمره بها فامتثل أمر ربه و عمل بما أمره به على سبيل الوفاء و التمام ، فشكر الله له ذلك و جعله إماماً للأنبياء من بعده يقتدون به و جعل في ذريته النبوة و الكتاب و آتاه أجره في الدنيا ، فلما رأى هذه الكرامة إبراهيم سأل الله لذريته أن يمنحهم مثل ذلك من النبوة و الإمامة في الدين ، فاستجاب الله دعاءه و أخبره أن من ارتكب الظلم الأكبر و هو الشرك بالله أو الظلم الأصغر و هو التعدي لا تناله تلك الكرامة و هي الإمامة ، كما قال تعالى في سورة الصافات : { و باركنا عليه و على إسحاق و من ذريتهما محسن و ظالم لنفسه مبين } . قال البيضاوي : (( { و باركنا عليه } و على إبراهيم في أولاده { و على إسحاق } بأن أخرجنا من صلبه أنبياء بني إسرائيل و غيرهم كأيوب و شعيب ، و أفضنا عليهما بركات الدين و الدنيا { و من ذريتهما محسن } في عمله أو إلى نفسه بالإيمان و الطاعة { و ظالم لنفسه } بالكفر و المعاصي { مبين } ظاهر ظلمه و في ذلك تنبيه على أن النسب لا أثر له في الهدى و الضلال ، و أن الظلم في أعقابهما لا يعود عليهما بنقيصة و عيب ، و قال البيضاوي في تفسير آية سورة البقرة مثل ما فسرته و نصه : (( قال : (( لا ينال عهدي الظالمين )) إجابة إلى ملتمسه ، و تنبيه على أنه قد يكون من ذريته ظلمة و أنهم لا ينالون الإمامة ، لأنها أمانة الله و عهده و الظالم لا يصلح لها و إنما ينالها البررة الأتقياء منهم ، و فيه دليل على عصمة الأنبياء من الكبائر قبل البعثة ، و أن الفاسق لا يصلح للإمامة )) انتهى .(9/97)
و قد ألفت في حقوق آل البيت ما لهم و ما عليهم جزءاً لطيفاً نشرته صحيفة (( الميثاق )) موزعاً على أجزاء ، و هي لسان حال جماعة العلماء المغاربة المتوقفة ، و نشرته مجلة (( الهدي النبوي )) التي تصدر من القاهرة ، و هي لسان حال جماعة أنصار السنة المحمدية ، و لا بأس أن أنقل منه شيئاً قليلاً ، و نص ما ذكرت فيه : (( تأمل حديث زيد بن أرقم تجد فيه مسائل :
الأولى : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يستفتح خطبته بحمد الله و الثناء عليه و كذلك خلفاؤه و من بعدهم في زمان العز و الإقبال و السيادة و الاستقلال حتى جاء زمان الذل و الاستعمار فتركت هذه السنة و استبدلت بسنة المستعمر (( سيداتي آنساتي سادتي )) { و من يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه } .
ثانيها : إخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لا بد أن ينتقل من هذه الدار الفانية و أنه تارك في أمته كتاب الله و أخبر أن هداهم و نورهم في الأخذ بكتاب الله و التمسك به تعلماً و تعليماً و اتخاذه إماماً و حكما و تحليل حلاله و تحريم حرامه .
و في الرواية الأخرى أن القرآن حبل الله المتين أي عهده و من اتبعه كان على الهدى ، و من تركه كان على ضلالة ، فمن ترك كتاب الله و استبدله بقوانين البشر فهو على ضلالة في ظلمة مدلهمة يخبط كالعشواء و لا يستقيم له أمر أبداً .(9/98)
ثالثها : الوصية لأهل بيته و التأكيد فيها و لا شك أن الله أطلعه على ما سيلقاه أهل بيته من أعدائهم بعده ، و مع توكيد تلك الوصية فقد ضيعها المضيعون ، اتخذوا أهل بيته غرضاً من بعده و نصبوا لهم العداوة و لم يراعوا فيهم إلا و لا ذمة ، فقتلوهم تقتيلا ، و طاردوهم و سيلقون جزاءهم في الآخرة بعد ما لقوه في الدنيا ، و قوله (( ثقلين )) الثقل هو متاع المسافر ليتركه وديعة حتى يعود من سفره ، و المقصود هنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ترك أمرين وديعة عند أمته ، أحدهما : يتبع و يقتدى به و يحكم و هو القول الفصل و هو كتاب الله ، و الثاني : يكرم و يراقب فيه عهده بعد وفاته كما كان يراقب فيه في حياته و هم أهل بيته .
رابعها : بيان أهل بيته من هم ؟ و قد تقدم الكلام في هذا المعنى مستوفى ، و في رواية لمسلم بعد قوله (( و عترتي أهل بيتي )) و لن يفترقا حتى يردا على الحوض ، فقول عليه السلام (( و لن يفترقا حتى يردا على الحوض )) نص صريح في الخصوصية و المزية و علم من أعلام نبوته ، فإن أهل البيت الذين توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - و هو عنهم راض ، هم عباس و أهل بيته ، و علي و أهل بيته ، و عقيل و أهل بيته ، و جعفر و أهل بيته كلهم كانوا على الهدى المستقيم ، عاشوا عليه و ماتوا عليه و لم يحدث منهم شيء ينكر ، و لا ندعي أنهم معصومون ، فإن العصمة خاصة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - خلافاً للإمامية الذين قالوا بعصمة أئمتهم .
و قد اختلف الناس في (( علي )) ، و هلكت فيه طائفتان . طائفة غلت فيه حتى جعلته إلهاً ، و هي طائفة عبد الله بن سبأ اليهودي ، و قد أنكر عليهم قولهم ، و بالغ في عقابهم فأحرقهم بالنار ليكونوا عبرة للعالمين ، و لا يزال لهم اتباع إلى هذا الزمان لا يقول أحد بإسلامهم لا من أهل السنة و لا من غير أهل السنة .(9/99)
أما الطائفة الأخرى التي هلكت في علي ، فهم الخوارج و النواصب ، و قد تقدم الكلام في تقسيم هؤلاء و الحكم عليهم ، فإن قلت ما هو دليل الخصوصية في هذه المزية ، أفلا تشمل ذريتهم إلى يوم القيامة ؟ فالجواب أن قوله عليه السلام : (( و لن يفترقا حتى يردا على الحوض )) جواب شافٍ عن هذا السؤال .
و هذه الفضيلة و إن كانت خاصة بأعيانهم و هم الذين كانوا على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا شك أن من صلح من ذرياتهم ، و لم يفارق الكتاب و السنة له نصيب منها ، و محبة هؤلاء و إكرامهم فرض على كل مسلم ، و قد تقدم مثل هذا )) انتهى .
و ختم (( البوعصامي )) هذيانه بقوله : (( أنشدك الله يا إمام (( أرفود )) أن تشرح دين الله و لا تخاف في الله لومة لائم : التأمين بعد الفاتحة لا يكون إلا سراً ، و الجهر به مخالفة لسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - و قد قال العلماء : (( الراتب إذا كان يرى المنكر و لم ينهى ( كذا ) فهو يحاسب . حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا )) انتهى .
و يا عجباً من جاهل باللغة العربية إلى حد أنه لا يعرف الفعل المجزوم ، كيف يجزم و لا يميز بين المعرب و الإعراب ، و لا المرفوع من المنصوب و لا المذكر من المؤنث فقد أخطأ في المثل المشهور الذي يعرفه صبيان النحويين و هو (( و من استراب فالعرب بالباب )) كتبها (( فالأعراب )) .(9/100)
و قال : (( إن في زيارة قبور الصالحين الثواب )) ، و يريد بالزيارة هنا الزيارة الشركية و قد صدق ، قال تعالى في سور الحج : { فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار ، يصب من فوق رؤوسهم الحميم } فهنيئاً له بهذه الثياب الجهنمية ، و قال في آية { و أن ليس للإنسان إلا ما سعى } (( فهي منسوخ )) ، و لا يقع في مثل هذا الخطأ إلا العجم المبتدءون في تعليم اللغة العربية و قال : (( و لا تخاف في الله لومة لائم )) فأثبت الألف مع التقاء الساكنين ، و لو كان يحفظ القرآن لاستحضر قوله تعالى : { لا تخف إنك أنت الأعلى } إذا كان جاهلا بعلم الصرف و قال (( و لم ينهى عنه )) بإثبات الألف مع الجازم بغير ضرورة ، فشخص هذه حاله في الجهل بالعربية و التخبط في ظلمات الشرك و البدعة و التقليد الأعمى ، كيف يتصدى لإصدار الأحكام و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر ، و قد أحاط به المنكر من كل جانب .
و قوله (( التأمين بعد الفاتحة لا يكون إلا سرا و الجهر به مخالف لسنة النبي )) غاية في الوقاحة و قد علمت أن الإسرار بالتأمين هو المخالف لسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - فمن كان من أهل الاجتهاد كمالك و المجتهدين من أصحابه رحمهم الله ، و لم يبلغه الحديث فلا إثم عليه ، و له أجر في الاجتهاد ، و من لم يكن كذلك و بلغه الحديث فرده و اتبع هواه فهو مبتدع آثم ، لا يقبل الله منه صرفاً و لا عدلاً ، كما جاء في الحديث ، و قد أخرج مسلم من حديث عائشة أم المؤمنين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : (( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد )) و الصلاة التي يسر فيها بالتأمين فما يجهر به عمل ليس عليه أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو مردود على فاعله إلا إذا بذل جهده في طلب السنة و لم يقف عليها فنرجوا الله أن يغفر له .(9/101)
قال محمد تقي الدين : هذا ما يسر الله في الرد على ذلك الداعية إلى البدعة و الشرك ، و قد بدا لي أن أذيله ببعض قصيدة قلتها في مبتدع آخر مثل (( البوعصامي )) في الشرك و البدعة ، و قد قضى نحبه و لقي ربه و أفضى إلى ما قدم منذ زمان ، و تليها قصيدة أخرى نظمتها منذ شهر في الرد على عباد القبور و الزنادقة و الملحدين الذين يدعون بدعوى الجاهلية ، و الله أسأل أن يؤيدني بروح منه و يعينني على جهادهم أجمعين و آخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
(( القصيدة الأولى ))
لكن ذا زمن به البغاث غدا
و الذئب أصبح مثل الضأن مرتدياً
و أصبح الدين للدنيا تعلمه
لو كان يجدي البكا يوماً بكيت على
لم يبق منها سوى الأسماء خالية
و كم أهبت بقومي صارخاً أبداً
دعوا دجاجلة يبغونها عوجاً
أسلافنا ارتفعوا ، أسلافنا سعدوا
قد اقتفوا سنة المختار خالصة
و منذ بدل قوم هديه سقطوا
و الله لن يسعدوا إلا بما سعدوا
أوطانهم بهم و الله قد شقيت
و من يرد حديث المصطفى سفهاً
يا رب صل على المختار سيدنا
و الآل و الصحب ثم التابعين له
فرج بها كربي و اجمع بها شعثي
و انصر بها حزبنا طول الحياة و في
مستنسراً صائلاً في زي عقبان
ليبتغي الصيد من أغرار خرفان
و قد تمول منه كل خوان
علم الحديث و تفسير و قرآن
من كل معنى ، سوى تحريف كهان
أوبوا لهدي نبي الله إخواني
فلن يقودوكم إلا لخسران
بقفوهم أحمد الهادي بإحسان
من غير شوب يزيد أو بنقصان
إلى الحضيض و نالوا كل حرمان
فلا يغرنكم وسواس شيطان
و الأرض تسعد أو تشقى بسكان
يا رب فالعنه من جن و إنسان
ما غنت الورق في دوح بألحان
و اجعل محبته روحي و ريحاني
و اصلح الحال في سري و إعلاني
يوم الجزا جد لنا طرا بغفران
(( القصيدة الثانية ))
الأبيات التسعة الأولى هي التي بقيت في حفظي من قصيدة للشيخ عمران اللنجي(1) رحمة الله عليه و تكملتها من نظمي :
إن كان تابع أحمد متوهباً
__________
(1) في الحسام الماحق : عمران النجي التميمي .(9/102)
أنفي الشريك عن الإله فليس لي
لا قبة ترجى و لا وثن و لا
أيضاً و لست معلقاً لتميمة
لرجاء نفع أو لدفع مضرة
و الابتداع و كل أمر محدث
أرجو بأني لا أقاربه و لا
كالشافعي و مالك و أبي حنيفـ
هذا الصحيح و من يقول بمثله
نسبوا إلى الوهاب خير عباده
الله أنطقهم بحق واضح
أكرم بها من فرقة سلفية
و هي التي قصد النبي بقوله
قد غاظ عباد القبور و رهطهم
عجزوا عن البرهان أن يجدوه إذ
و كذاك أسلاف لهم من قبلكم
سموا رسول الله قبل مذمماً
الله طهرهم و أعلى قدرهم
الله سماهم بنص كتابه
ما عابهم إلا المعطل و الكفو
و دعا لهم خير الورى بنضارة
هم حزب رب العالمين و جنده
فأنا المقر بأنني وهابي
رب سوى المتفرد الوهاب
قبر له سبب من الأسباب
أو حلقة أو ودعة أو ناب
الله ينفعني و يدفع ما بي
في الدين ينكره ذوو الألباب
أرضاه دينا و هو غير صواب
ـة ثم آحاد التقى الأواب
صاحوا عليه مجسم وهابي
يا حبذا نسبي إلى الوهابي
و هم أهالي فرية و كذاب
سلكت محجة سنة و كتاب
هي ما عليه أنا و كل صحاب
توحيدنا لله دون تحاب
فزعوا لسرد شتائم و سباب
نسبوا لأهل الحق من ألقاب
و من اقتفاه قيل هذا صاب
عن نبز كل معطل كذاب
حنفاء رغم الفاجر المرتاب
ر و من غوي بعبادة الأرباب
ضمنت لهم نصراً مدى الأحقاب
و الله يرزقهم بغير حساب
و ينيلهم نصراً على أعدائهم
إن عابهم نذل لئيم فاجر
ما ضارهم عيب العدو و هل يضيـ
فهو المهيمن هازم الأحزاب
فإليه يرجع كل ذاك العاب
ـر البدر في العلياء نبح الكلاب
يا سالكاً نهج النبي و صحبه
و هزيمة لعدوك الخب اللئيـ
يا معشر الإسلام أوبوا للهدى
أحيوا شريعته التي سادت بها الأ
و دعوا التحزب و التفرق و الهوى
فيمينها لا يمن فيه ترونه
إن الهدى في قفو شرعة أحمد
جربتم طرق الضلال فلم تروا
و الله لو جربتم نهج الهدى
و لهابكم أعداؤكم و توقعوا
أما إذا دمتم على تقليدهم
و توقعوا من ربكم خسراً على
هذي نصيحة مشفق متعتب
و من البلية عذل من لا يرعوي(9/103)
و زعمتم أن العروبة شرعة
لا فرق بين مصدق لمحمد
فيصير عندكم أبو جهل و من
مثل النبي محمد و صحابه
بل صار بعضكم يرجح جانب الـ
ماذا بنى لكم أبو جهل من المجد
إلا عبادته لأصنام و إلا
و جهالة و ضروب خزي يستحي
أفتعلون ذوي المفاخر و العلى
اللؤلؤ المكنون يعدل بالحصى
أبشر بمغفرة و حسن مآب
ـم و إن يكن في العد مثل تراب
و اقفوا سبيل المصطفى الأواب
سلاف فهي شفاء كل مصاب
و عقائداً جاءت من الأذناب
و يسارها يأتيكم بتباب
و خلافها ردا على الأعقاب
لصداكم إلا بريق سراب
سنة لفقتم جملة الأتراب
منكم إعادة سائر الأسلاب
فتوقعوا منهم مزيد عذاب
خسر و سوء مذلة و عقاب
هل عندكم يا قوم من إعتاب
و لدى الغوي يضيع كل عتاب
و عقيدة تبنى على الأسباب
و مكذب فالكل ذو أحساب
والاه من حضر و من أعراب
بئس الجزاء لسادة أقطاب
ـكفار من سف و من أوشاب
المخلد في مدى الأحقاب
وأدهم لبناتهم بتراب
من ذكر أدناها ذوو الألباب
بحثالة كثعالب و ذئاب
و الند و الهندي بالأخشاب
بدلتم نهج الهدى بضلالة
و قصور مجد شامخ بخراب
و لقد أتيتكم بنصح خالص
و إخالكم لا تقبلون نصيحتي
يشفيكم من جملة الأوصاب
بل تتبعون وساوس الخراب
و كان الفراغ منه بمدينة مكناس طهرها الله من الأدناس و صانها من كل بأس لعشر خلون من ربيع الأول 1385هـ خمس و ثمانين و ثلاث مائة بعد الألف .
الفهرس
الفصل الأول في بيان إشراك صاحب الرسالة الإيمانية بعبادة غير الله ... 2
ذكر بعض أنواع العبادة التي يصرفها المشركون لغير الله تعالى ... 3
أمر عمر بن الخطاب بقطع شجرة الرضوان ... 11
أحاديث النهي عن البناء على القبور و العبادة عدها سداً للذريعة الموصلة إلى الشرك ... 12
الفصل الثاني في تحريم الإفتاء و القضاء بالتقليد و بيان أن التمذهب بدعة ... الخ ... 19
تبرؤ الإمام مالك رحمه الله من المقلدين المفترين عليه ... 25
الفصل الثالث في بيان أن كل بدعة ضلالة ... 27(9/104)
الفصل الرابع في مسائل فرعية جاءت في رسالة البوعصامي العامي ... 32
المسألة الأولى : وضع اليد اليمنى على اليسرى في الصلاة . ... 32
المسألة الثانية : قراءة البسملة في أول سورة الفاتحة و أول كل سورة في الصلاة . ... 34
الاختلاف في الجهر بها في الصلاة ... 35
المسألة الثالثة : قراءة القرآن و إهداء ثوابه إلى الموتى بدعة . ... 36
تنبيهات ... 40
المسألة الرابعة : التأمين و الجهر به ... 40
المسألة الخامسة : نسبة السدل إلى الإمام الشافعي . ... 42
المسألة السادسة : التوسل بالمخلوق . ... 42
توسل عمر بالعباس ... 44
عمل أهل المدينة ... 44
وصية النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يطلب الاستغفار من أويس القرني ... 47
( بدعة قراءة القرآن جماعة بنغمة واحدة ) ... 48
أحكام آية النجم ... 51
انتفاع الإنسان بعمل غيره ... 52
حقوق أهل البيت ما لهم و ما عليهم ... 56
حديث : أذكركم الله في أهل بيتي ... 58
(( القصيدة الأولى )) ... 64
(( القصيدة الثانية )) ... 64
الأبيات التسعة الأولى هي التي بقيت في حفظي من قصيدة للشيخ عمران اللنجي رحمة الله عليه و تكملتها من نظمي : ... 64
الفهرس ... 68(9/105)
الدعوة إلى الله
في
أقطار مختلفة
تأليف
محمد تقي الدين الهلالي
قام بصف الكتاب ونشره
أبو عمر الدوسري
www.frqan.com
*نبذة عن المؤلف*
نسبه: هو محمد تقي الدين بن عبد القادر الهلالي، نسبة إلى هلال الجد الحادي عشر، بن محمد المعروف بـ: ((بابا، بن عبد القادر، بن الطيب، بن أحمد، بن عبد القادر، بن محمد، بن عبد النور، بن عبد القادر، بن هلال، بن محمد، بن هلال، ابن إدريس، بن غالب، بن محمد المكي، بن إسماعيل، بن أحمد، بن محمد، بن أبي القاسم، بن علي، بن عبد القوي، بن عبد الرحمن، بن إدريس، بن إسماعيل، ابن سليمان، بن موسى الكاظم، بن جعفر الصادق، ابن محمد الباقر، بن علي زين العابدين، بن الحسين، بن علي وفاطمة الزهراء بنت محمد صلى الله عليه وسلم )).
فهو كما ترى ينتهي نسبه رضي الله عنه إلى الحسين بن علي، ذكره غير واحد من المؤرخين، وأقر هذا النسب السلطان الحسن الأول حين قدم سجلماسة سنة 1311هـ.
نشأته: ولد أطال الله بقاءه سنة 1311 هـ بالفيضة القديمة، وتسمى ((الفرخ)) على
بضعة أميال من الريصاني، والأصل قرية أولاد عبد القادر في ((الغرفة)) من أرض سجلماسة المعروفة بتافيلالت من المملكة المغربية.(10/1)
دراسته: قرأ القرآن على جده ووالده، فحفظه وهو ابن اثنتي عشرة سنة، وكان والده ينوي أن يبعثه إلى مقرئ ذلك العصر، الشيخ أحمد بن صالح ليقرأ عليه ختمة التجويد، كما كان عازما على السفر به إلى القرويين بفاس لطلب العلم هناك، فعاجلته المنية وهو في نحو الثالثة عشرة من عمره، فقامت بذلك أمه، فقرأ على الشيخ المذكور القرآن من أوله إلى آخره بالتجويد، ثم بقي فترة بدون تعليم. ولما بلغ سن الرشد سافر إلى زاوية آيات إسحاق بقبيلة آيات أخلف، وبقي هناك سنتين، ثم عاد إلى تافيلالت، ثم سافر إلى الجزائر وأقام بقبيلة أحميان، ولم يكن يخطر له التعلم ببال إلى أن رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، وقال له: ((اقرأ العلم ))، فصار عنده عزم شديد على طلب العلم، فتوجه إلى الرجل الصالح ((الشيخ حمد سيدي بن حبيب الله الشنقيطي، فقص عليه رؤياه، فأعطاه نسخة من مختصر الشيخ خليل، وقال له: ابدأ في حفظ هذا الكتاب، وكلما اجتمعنا شرحت لك بعضه، فاستمر يحفظ، وبعد مدة ذهب إليه وأقام عنده يتعلم الفقه والنحو حتى فتح الله عليه في علم النحو، وصار الشيخ ينيبه عنه في غيابه، وإلى أن مات الشيخ الشنقيطي سنة 1338 هـ، ثم توجه إلى مدينة وجدة فبقي مدة عند العالم الأديب السيد أحمد السكيرج يعلم ابنه الأستاذ عبد الكريم وابن أخيه عبد السلام، ثم توجه إلى فاس، وحضر في القرويين دروس بعض الأساتذة وعلى رأسهم العالم المحقق المصلح السيد الفاطمي الشرادي- رحمة الله عليه-، ومن أجل من لقي علماء فاس وأكثرهم تأثيرا في أحواله واتجاهه في طلب علم الكتاب والسنة، العالم المحقق الشيخ محمد ابن العربي العلوي- رحمة الله عليه- وجرت بينهما مناظرة (1)، فحصل على إجازة من جامع القرويين عادلتها جامعة ((بون)) الألمانية بالشهادة الثانوية ((الباكلورية)).
__________
(1) انظر: كتاب الهدية الهادية، للمؤلف.(10/2)
وفي آخر سنة 1340 هـ سافر إلى القاهرة وحضر دروس القسم العالي بالأزهر، وخلال ذلك اجتمع بعدد كبير من العلماء الأجلاء، وعلى رأسهم الإمام المصلح، السلفي الطائر الصيت الأستاذ رشيد رضا صاحب ((المنار)).
وكانت له رغبة في طلب الحديث، فعزم على السفر إلى الهند لعلمه أنه لا تزال بقية من علماء الحديث في الهند، فسافر لأداء فريضة الحج ومنها إلى الهند، فمكث هناك يدرس الحديث ويدرس الأدب العربي إلى أن أخذ العلم والإجازة عن شيخه العلامة الشيخ عبد الرحمن بن عبد الرحيم ((المباركفوري)) صاحب كتاب: ((تحفة الأحوذي في شرح جامع الترمذي ))، وله في هذا الكتاب قصيدة أثبتها المؤلف في آخر المجلد الرابع.(10/3)
وأجازه كذلك الشيخ محمد بن حسين بن محسن الحديدي الأنصاري اليماني نزيل ((بهربال))، ثم رحل من الهند سنة 1343 هـ إلى العراق، وأثناء إقامته بمدينة البصرة التقى بالعالم السلفي الأديب، المحدث المحقق الشيخ محمد بن أمين الشنقيطي، فزوجه ابنته وانتفع كثيرا بمجالسته ومذاكرته، وبعد ثلاث سنوات توجه إلى المملكة العربية السعودية فأقام بها في ضيافة الملك عبد العزيز، ثم عين مراقبا للمدرسين مدة سنتين، ثم مدرسا في المسجد الحرام والمعهد السعودي لمدة سنة، وبعدها سافر مرة أخرى إلى الهند، فعين رئيسا لأساتذة الأدب العربي في كلية ندوة العلماء ((بلكنو)) مدة ثلاث سنوات تعلم خلالها اللغة الإنجليزية، ثم رجع إلى البصرة وبعد ثلاث سنوات سافر إلى ((جنيف)) ونزل عند الزعيم المجاهد أمير البيان الأمير شكيب أرسلان، وكانت عنده رغبة لإتمام الدراسة الجامعية، فكتب الأمير شكيب أرسلان -رحمه الله- إلى أحد أصدقائه بألمانيا يقول: عندي شاب مغربي أديب ما دخل ألمانيا مثله في العلم يريد أن يدرس في إحدى الجامعات، فاسع أن تجدوا له مكانا لتدريس الأدب العربي براتب يستعين به على الدراسة، فجاء الجواب بالقبول، وعين محاضرا في جامعة ((بون))، وفي ظرف سنة تعلم اللغة الألمانية، وحصل على دبلوم فيها، ثم صار طالباً في الجامعة.
وفي أثناء إقامته بألمانيا ترجم مع الأستاذ ((باول كالي)) مدير معهد العلوم الشرقية في جامعة ((بون)) كتابين عربيين: أحدهما كتاب ((البلدان)) في الجغرافية العالمية للعلامة محمد بن الفقيه البغدادي المتوفى في آخر القرن الثالث الهجري، والثاني كتاب (( طيف الخيال)) للعلامة محمد بن دنيال الكحال الموصلي نزيل مصر.(10/4)
وأثناء إقامته في ألمانيا عمن مشرفا ومراجعا لغويا بالقسم العربي من الإذاعة الألمانية، فوجدها فرصة سانحة لفضح جرائم المستعمرين لبلده المغرب من الفرنسيين والإنجليز، فألقى من على منبر تلك الإذاعة خطبا كانت على المستعمرين خطوبا، وكان بسببها أن نفته فرنسا من المغرب نفيا رسميا مع أنه كان غائبا عنه، كما عملت بريطانيا على نزع جنسيته العراقية التي كان تجنس بها سنة 1934م.
وفي سنة 1940م قدم رسالة دكتوراه، وهي ترجمة ((مقدمة كتاب الجماهير في الجواهير)) للبيروني) مع التعليق عليها، وهكذا حصل على شهادة الدكتوراه في الفلسفة سنة1941م، ثم بعد الحرب العالمية الثانية عين أستاذا بجامعة بغداد، وفي سنة 1942م سافر إلى تطوان بمساعدة الأستاذ المجاهد عبد الخالق الطريس رئيس حزب الإصلاح الوطني إذ ذاك، فبقي إلى أن كاد له الأسبان، ونزعوا منه جوازه بدعوى أنه مزور، وفي سنة 1959م عين أستاذا بجامعة محمد الخامس بالرباط، ثم بفرعها بفاس إلى سنة 1368 هـ، حيث سافر مرة أخرى إلى ألمانيا، ومنها إلى الأراضي القطبية.(10/5)
وفي سنة 1388 هـ توجه إلى الحج، وفي منى اجتمع بالعالم الورع الذي تقل نظره في هذا العصر، ألا وهو الأستاذ الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، فقال له: إن الجامعة الإسلامية في حاجة إليك، فقال: وأنا مستعد لجدمتها، فكتب الشيخ عبد العزيز وطلبه من وزارة التعليم المغربية، فالتحق أستاذا بالجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية، وبقي بها إلى سنة 1349هـ، حيث طلب منه إخوانه في المغرب أن يستقر في المغرب للدعوة إلى الله تعالى والحافظة على العقيدة السلفية، فعرض الأمر على رئيس الجامعة الإسلامية آنذاك الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز- رحمه الله- فوافق عليه، ورجع إلى المغرب، وسكن مكناس فصار يعطي الدروس بمساجدها، ينتقل بين مساجد مدن وقرى الملكة المغربية، فثقل ذلك على المبتدعة وأغصهم بريقه، فوشوا به وطلبوا منعه وتوقيفه، ولو آمنوا بقوله تعالى: { يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ } [الصف:9، 8] لكان خيرا لهم، وللدكتور محمد تقي الدين مواقف جليلة في الدعوة إلى التوحيد الخالص ونبذ الشرك.
بسم الله الرحمن الرحيم
* مقدمة*
الحمد لله الذي جعل الدعوة إليه فرضا على كل من استطاع إليه سبيلا، وأوعد باللعنة من كتم العلم واشترى به ثمنا قليلا. أشهد أنه الله الذي لا إله إلا هو وأتخذه وكيلا، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي فضله على خلقه تفضيلا.
اللهم صل وسلم عليه وعلى آله وأصحابه الذين كانوا يدعون إلى الله ويسبحونه بكرة وأصيلا.(10/6)
أما بعد فيقول العبد الفقير إلى الكبير المتعالي، محمد تقي الدين بن عبد القادر الهلالي: سألني خلق كثير من الإخوان في المشرق والمغرب، أخص بالذكر منهم الأخ الداعي إلى الله على بصيرة الدكتور وجيها زين العابدين أن أؤلف كتابا يشتمل على سيرتي وما لقيته في حياتي في الحل والترحال، وما جري علي في رحلاتي الكثيرة من حوادث وأخبار، وخاصة في الدعوة إلى الله في أقطار مختلفة في المشرق والمغرب، وما صادفته في ذلك من نجاح وضده، وما جرى بيني وبين علماء تلك الأقطار من مباحثات ومحاورات. ولما رأيت ذكر ذلك كله بالتفصيل- بل ذكر ما بقي في ذاكرتي ولم يعفه النسيان- يحتاج إلى وقت طويل، ونفقات كثيرة، في طبعه ونشره، اقتصرت على ما يتعلق بالدعوة إلى الله تعالى في أقطار مختلفة من سنة 1340 إلى 1391 للهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التحية، على أمل أن أجد وقتا وتوفيقا من الله تعالى لتأليف كتاب في أخبار الشطر الأخير الذي لا يتعلق بالدعوة كالحوادث السياسية والشدائد والمحن التي وقعت لي في أسفاري. وستجد أيها القارئ في أثناء هذا الكتاب قصائد كثيرة هجوت بها بعض المعارضين للدعوة إلى توحيد الله واتباع نبيه الكريم، وما أردت بذلك إلا الانتصار للحق ولم أسم أحدا. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لحسان بن ثابت: ((اهجهم وروح القدس معك )).
ولما أنشد عبد الله بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله:
خلوا بني الكفار عن سبيله ... اليوم نضر بكم على تنزيله
ضربا يزيل الهام عن مقيله ... ويذهل الخليل عن خليله
قال له عمر رضي الله عنه: يا بن رواحة بين يدي رسول الله وفي حرم الله تقول الشعر! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خل عنه يا عمر فلهن أسرع فيهم من نضح النبل )). أخرجه الترمذي وصححه.
وقيل: إن الذي أنشد ذلك الشعر هو كعب بن مالك، (راجع فتح الباري في شرح أحاديث عمرة القضاء).(10/7)
فأرجو أن أكون سالكا هذه السبيل في هجو أولئك القوم؛ والأعمال بالنيات، ولا أدعي العصمة وأرجو الله أن يغفر لي كل خطأ وخطل؛ فالجواد قد يكبو والسيف قد ينبو والكمال لله سبحانه.
فإن تجد عيبا فسد الخللا ... فجل من لا عيب فيه وعلا
وأرجو أن ينفع الله بهذا الكتاب كل من قرأه أو أعان على نشره بقليل أو كثير من أنصار السنة المحمدية. وأما غيرهم من أعدائها فلا نبالي بهم وهم بلا شك منهزمون وإلى الخسران في الدنيا والآخرة صائرون وحسبنا الله ونعم الوكيل، وهو نعم المولى ونعم النصير { فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } [ البقرة 137].
* الدعوة إلى الله في الإسكندرية*
أيها الداعي قدم مراد الله يقدم الله مرادك. ما من داع يدعو إلى أمر بجد وإخلاص إلا ويحصل على شيء ما، سواء أكان محقا أم مبطلا لكن المبطل عاقبته خسران عاجل أو آجل، والمحق له العاقبة الحسنى في العاجل والآجل { فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ } (الرعد: 17) كل من قرأ تاريخ الدعوات الباطلة من دعوات الخوارج والشيعة والباطنية وما تفرع منها يعلم يقينا صحة ما أشرت إليه أعلاه، ولابد أن يكون الداعي- مع إخلاصه- عنده شيء من العلم بما يدعو إليه وشيء من العلم بقواعد الدعوة.
قد فصلت القول في سبب خروجي من الطريقة التجانية ودخولي في السلفية الحنفية ملة إبراهيم وخير أبنائه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي الإسلام الطاهر، شرحت ذلك في كتاب (الهدية الهادية إلى الطائفة التجانية) وقد أمر صاحب السماحة الأستاذ الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز أمتع الله المسلمين بطول بقائه بطبع عشرة آلاف نسخة من هذا الكتاب نسأل الله أن يجزيه خيرا وينفع بهذا الكتاب نفعا عظيما.(10/8)
وبعدما خرجت من الطريقة التجانية ودخلت في الطريقة الحنيفية توجهت إلى مصر ولقيت إمام الدعوة في ذلك الزمان السيد محمد رشيد رضا- رحمة الله عليه- ولقيت أكثر الدعاة إلى السلفية في مصر كالشيخ محمد الرمالي بالقاهرة والشيخ حسن عبد الرحمن في مزرعته بين دمنهور والإسكندرية والشيخ عبد الظاهر أبى السمح والشيخ محمد أبي زيد في دمنهور والشيخ حامد الفقي بالقاهرة والشيخ محمد بن عبد الرزاق حمزة بكفر عامر والشيخ الألمعي عبد العزيز الخولي بالقاهرة.
ولما وصلت إلى الإسكندرية وإلى رملها بشاطئ بحرها لقيت أهل بيت (لا أقول أسرة ولا عائلة) من بلادنا سجلماسة بالمغرب الأقصى مستوطنين بالإسكندرية ففرحوا بي فرحا عظيما لأنهم يعرفون والدي، وكان من علماء بلادنا ويجلونه، فأكرموني لأجل ذلك، ووجدتهم تجانيين (طوخ) يعني غارقين في الطريقة سكارى بنشوتها، وكلمة (طوخ) فارسية فيما أظن، تستعمل في العراق بالمعنى المتقدم، فقلت في نفسي: يجب علي أن أنقذهم من هذه الطريقة كما أنقذني الله منها، ولكن خيل لي وأنا في أوائل الشباب أنني إذا صرحت لهم بانتقاد الطريقة سينفرون ولا يقبلون الدعوة، فأردت أن أخادعهم فأظهرت لهم أني لا أزال تجانيا.(10/9)
ولما أخذت أتلطف معهم في انتقاد بعض الأمور كالاجتماع لذكر الوظيفة جماعة بلسان واحد، فجاء رجل مصري من تجانيي الإسكندرية وقال لهم: (يا إخواننا أنا الراكل ده بعيني شفته يخش ويخرك في مسكد الوهابية بالرمل، والوهابية ما بيخلوا خد يخش في مسكدهم إلا إذا كان منهم) معناه بعيني رأيت هذا الرجل- يعني كاتب المقال- يدخل ويخرج في مسجد الوهابية برمل الإسكندرية ومن عادة الوهابيين أنهم لا يتركون أحدا يدخل مسجدهم إلا إذا كان منهم، ويعني بالمسجد مسجد أبي هاشم المهندس رحمة الله عليه، وكان قد خصص جزء ا من أرضه وبنى فيه مسجدا صغيرا للشيخ عبد الظاهر أبي السمح وجماعة السلفيين بالرمل، وسبب إقامتي في هذا المسجد مدة شهرين ما يتلو.
* امتحان الدعاة إلى الله*
اعلم أن الدعاة إلى الله يمتحنون على قدر إيمانهم وصبرهم وتجلدهم، ومنهم الشيخ عبد الظاهر أبو السمح- رحمه الله- فإنه كان يدعو إلى الله برمل الإسكندرية وقد أنكر دعوته جميع من ينتسب إلى العلم في رمل الإسكندرية وفي الإسكندرية نفسها، وكان معلما لبنات محمد باشا الديب- بالدال المهملة كما ينطق به في العامية المصرية- ويدعو إلى الله بإلقاء الدروس في المسجد المذكور وصلاة الجمعة لوجه الله فمنع من ذلك؛ فدعاني لأن أنوب عنه وعما قليل يأتيك سبب المنع، أي بعد أن أتم قصتي مع المغاربة.
فلما سمع المغاربة من ذلك الرجل المصري التجاني ذلك الكلام غضبوا عليه غضبة مغربية فقالوا له: إنكم معشر المصريين عودتمونا سماع ما نكره في كل عزيز لدينا فلا يطيب لكم عيش إلا إذا أسأتم إلينا، نحن نعرف هذا الشاب وأباه وأمه وأهل بيته وهو لم يقدم من المغرب إلا منذ وقت قصير ونحن في المغرب ليس عندنا وهابيون فمن أين تعلم الوهابية، وصاحوا عليه صياحا منكرا.
وكان الرجل داهية فلم يغضب بل قابل غضبهم بحلم وسعة صدر وقال لهم:(10/10)
(يا إخواننا يا مغاربة ما تزعلوش المسألة بسيطة عندنا الشيخ محمد بن مبارك السوسي ولا تشكون في علمه وفضله، وأنه أكبر عالم تكاني في مصر نكتب له ونسأله عن الشاب ده إذا قال هو تكاني صحيح أنا أكي وأبوس روسكم وركليكم كمان، وأطلب منكم المسامحة وإذا قال غير ذلك تعرفوا أن الحق عليكم) معناه أن الشيخ محمد بن مبارك المغربي هو شيخنا في الطريقة التجانية وهو يعرف ضيفكم هذا فهلم نتحاكم إليه فإن حكم بأن محمد تقي الدين الهلالي ضيفكم العزيز هو تجاني حقا اعتذرنا إليكم وقبلنا رءوسكم وأرجلكم.
وكان المغاربة قد هددوا المصريين بأنهم يفترقون عنهم ويتخذون زاوية خاصة لأنفسهم وأكون أنا مقدمهم، ففرحت أنا بهذا السراب الذي خيل لي أنه شراب ولكن الرجل المصري بدهائه أحبط عملي. ومن ذلك الحين علمت يقينا أنني أخفقت في مسعاي؛ لأن الشيخ السوسي المذكور يعلم يقينا أنني من المنتقدين للطريقة التجانية وسبب ذلك: أن أخص مريديه وهو محمد الدادسي كان يغسل رأسي في بيته بالقاهرة فقال لي: هنيئا لكم معشر أهل البيت فإن الجنة مضمونة لكم على أي حال كنتم فقلت ومن ضمنها لنا؟ قال: ألم تطلع على ما ذكره الشيخ الاكبر ابن عربي الحاتمي في تفسير قوله تعالى: { يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا } [الأحزاب: 33] فقلت: وماذا قال؟ فقال: قال الشيخ الاكبر: ((إن أبناء فاطمة خلقهم الله طاهرين طهارة عينية فلا تصدر منهم المعاصي ألبتة وكل ما نراه في الظاهر من صدور المعاصي منهم يجب أن نكذب أعيننا ونصدق الله تعالى.
فقلت: وهل ابن عربي معصوم من الخطأ؟ فقال لي: إن سيدنا الشيخ التجاني نقل عنه ذلك وصدقه. فقلت: وهل الشيخ التجاني معصوم من الخطأ؟ فأصابه حزن عظيم ظهر في وجهه واختصر غسل رأسي وسكت على مضض، فعلمت أنه لابد أن يوصل ذلك إلى شيخه.(10/11)
وغبت عن الإسكندرية أياما ثم رجعت (لأجس) النبض وليس لي إلا أمل ضئيل. فكظم المغاربة ما في أنفسهم، ولم يظهروا لي شيئا ودعينا إلى العشاء عند بعض التجانيين عند المغاربة لآخرين فجرى ذكر الملك حسين بن علي ملك مكة فانتقدت أنا تحالفه مع الإنكليز والفرنسيين وإدخال جيوشهم إلى قرب الحرم المكي، فانفجر أحد التجانيين غيظا، وقال: ((صدق من قال: مثل العالم الذي لا يعمل بعلمه كجلد كلب ملئ عسلا)) يعني أن الملك حسينا وهو من أهل البيت لا يصدر عنه إلا الطاعات فانتقادي له جهل وسفاهة؛ لأن فيه إنكار على شيخ الطريقة.
وسكت أصحابي ولم يدافعوا عني، فلما خرجنا جذبني أحد المغاربة من التجانيين المعتدلين، وقال لي: ألم يبلغك ما أجاب به الشيخ السوسي فقلت: لا. أفدني يرحمك الله، فقال: إنه أجاب التجانيين فقال في جوابه: إن محمدا تقي الدين الهلالي من آل البيت، وقد أوصانا سيدنا رضي الله عنه يعني التجاني بإكرام أهل البيت، فأكرموه ولا تأخذوا عنه شيئا من أمور الدين فعلمت أن القضية قد انتهت بالإخفاق كما كنت أتوقع وعقدت العزم على أن لا أداهن ولا أداجي في دين الله ما دمت حيا؛ بل أقول الحق من أول وهلة، للربح أو للخسارة، وما لقيت إلا الربح إلى حد الآن وسيأتيك الدليل فلا تعجل.
سبب منع أبي السمح من الصلاة والوعظ
في مسجد أبي هاشم برمل الإسكندرية(10/12)
تقدم أن المنتسبين إلى العلم في مدينة الإسكندرية ورملها أنكروا على الشيخ أبي السمح دعوته إلى السلفية، وسموها وهابية وكادوا له كيدا عظيما واتهموه بتهم هائلة في ذلك الزمان منها أنه يقول: إن العصا خير من النبي صلى الله عليه وسلم لأن العصا تنفع في الدنيا والنبي صلى الله عليه وسلم لا ينفع فلا يشفي مريضا من مرضه ولا يغني فقيرا من فقره ولا ينقذ عانيا من سجنه ولا يغيث من استغاث به. وهذا عند عباد القبور طعن عظيم في مقام النبوة ومنها: أنه صلى صلاة الجمعة في أحد المساجد ووجد العلمين منتصبين عن يمين المنبر وشماله فألقاهما على الأرض وقال: { مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ } [الأنبياء 52] ومنها أنه يدعو إلى مذهب خامس، ولا يؤمن بالمذاهب الأربعة ومنها أنه أحدث فتنة في رمل الإسكندرية ففرق بين الأخ وأخيه والأب وابنه والقريب وقريبه، وكتبوا بذلك إلى محافظ الإسكندرية كتابا يطلبون منه أن يمنعه من هذه الدعوة التي يعدونها من أعظم الفساد.(10/13)
وفي الوقت نفسه دبروا له مكيدة أخرى، فدعوه إلى المناظرة في أحد المساجد وأحضروا رجلا من العوام وقالوا له: أحضر معك عصا وإذا أشرنا إليك فاضربه، فلما حمي وطيس الجدل بينهم وبينه في مسألة الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم وألجؤوه أن يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم لا يملك لنفسه ولا لغيره نفعا ولا ضرا وإنما هو بشير ونذير أشاروا إلى الرجل فضربه في المسجد. وبعد قليل جاء أمر محافظ الإسكندرية بمنعه من الصلاة والوعظ وسد المسجد، فأرسل إلي يدعوني دعوة عاجلة فحضرت في الليلة التي في غدها يسد المسجد ففتحته وأخذت أصلي فيه وأعظ الإخوان السلفيين فجاءت الشرطة ليسدوا المسجد فوجدوني فقالوا: من أنت، أنت أبو السمح؟ قلت: أنا محمد تقي الدين بن عبد القادر الهلالي المغربي فتوقفوا ورجعوا إلى المحافظ وأخبروه، واختفى أبو السمح فصار لا يأتي المسجد أصلا فأمرهم المحافظ أن يتركوا المسجد ولا يسدوه.(10/14)
فاشتد غيط أعداء السلفية من المنتسبين إلى العلم وأعوانهم، فكتبوا في هذه المرة إلى الملك فؤاد، وكان ذلك سنة إحدى وأربعين وثلاثمائة وألف، وقالوا للملك مثل ما قالوا للمحافظ قبل وزادوا على ذلك أنه ثبت صدق اتهامهم لأبي السمح عند محافظ الإسكندرية؛ فأمر بطرده وسد المسجد فأتى بمغربي له حماية فرنسية فناب عنه في المسجد فلم ينفذ ما أمر به المحافظ، فبعث الملك بشكواهم إلى محافظ الإسكندرية نفسه، فلما قرأها غضب عليهم غضبا شديدا لأمرين: أحدهما أنهم لم يكتفوا به فتخطوه وكتبوا إلى الملك، والثاني أن طعنهم في عمل هذا المغربي يفتح بابا على الحكومة المصرية من النزاع مع دولة تتمتع بالإمتيازات الأجنبية، والمطلعون على تاريخ مصر يعرفون معنى هذه الكلمة، فإن مقتضى الامتيازات الأجنبية يقضي على الحكومة المصرية- وكل حكومة تنكب بمثل هذه النكبة- أن ترد كل نزاع يقع بينها وبين أي شخص من رعايا الدولة صاحبة الامتياز إلى سفارة هذه الدولة، فتحكم السفارة بدون شك على المصري بأنه هو الظالم وتطلب من الحكومة المصرية أن تنزل به أشد العقاب، وعليه أن يتحمل ويصبر على ظلمين، الظلم الأول من الشخص التابع للسفارة الأجنبية، والظلم الثاني من السفارة نفسها، ولذلك لا يحب أي مصري كيف ما كانت منزلته أن يدخل في نزاع مع أي سفارة، ومن أجل ذلك دعا المحافظ الموقعين على العريضة المرفوعة إلى الملك فأدخلوا عليه واحدا بعد واحد، وأخذ يسألهم، فقال للأول: هذا توقيعك؟ فقال: نعم قال: وقع مرة أخرى فوقع ثم أخرج إلى مكان لا يرى فيه أحدا من أصحابه وهكذا فعل بالثاني والثالث إلى آخرهم، ثم جمعهم وعبس وبسر عليهم وقال لهم: كتبتم إلى تزعمون أن الشيخ عبد الظاهر أبا السمح وهابي وأنه فعل كيت وكيت فصدقتكم وأمرت بمنعه من الصلاة والوعظ، ولم يكفكم ذلك حتى تخطيتموني وارتقيتم مرتقى صعبا فكتبتم إلى الملك تعرضون مزاعمكم عليه وقلتم في عريضتكم: إنكم تخافون أن تحدث(10/15)
فتنة في رمل الإسكندرية تسفك فيها الدماء فلله دركم من حفظة ساهرين على الأمن فهل المحافظة على الأمن من اختصاصكم ومن وكل إليكم ذلك؟ بعضكم إمام مسجد وبعضكم مأذون في المحكمة وبعضكم مدرس أو واعظ أو خطيب فكيف ارتقيتم حتى صرتم تحافظون على الأمن العام، وهذا شغلي أنا وشغل أعواني من الشرطة والحرس أفأردتم أن تساعدوني، أنتم أصحاب الفتنة ودعاتها الموقدون لنارها، ولم يبق عندي شك في أنكم مفسدون قلتم: إن المصري وهابي فهل المغربي أيضا وهابي؟ فقالوا: إي والله يا سعادة المحافظ هذا وهابي (زيه تمام) فقال: اسمعوا ما أقوله لكم أنتم تستحقون العقاب، ولكني أعفوا عنكم في هذه المرة. وكل فتنة تقع في المستقبل في الإسكندرية أو رملها من هذا القبيل فأنتم المسؤولون عنها، أغربوا عني لا نعم عوفكم (1) ولا أمن خوفكم! فانطلقوا يتعثرون في أذيال الخيبة { فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ } [القلم:30]، { وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ } [الأحزاب: 25]، ولما سمع بذلك الشيخ أبو السمح صار يحضر صلاة الجمعة ويصلي معنا مأموما وبعد انقضاء شهرين على هذه الحادثة أمن أبو السمح وتجرأ فصلى بنا الجمعة إماما فاستأذنته أنا في إتمام السياحة في البلاد المصرية ورجعت إلى القاهرة وقد نفد ما عندي من الدراهم، لأن التجانيين بعدما وصلت إلى القاهرة بعثوا إلي حوالة فقبضتها، وقلت في نفسي: إنني قصرت في عدم إعلان خروجي من الطريقة وأنا بين ظهرانيهم ولم أدع إلا أربعة أنفس سرا وقبلت مساعدتهم عند السفر، وها أنذا أقبل مساعدتهم بعد السفر فإن بقيت على هذه الحال فأي فرق بينى وبين شيخ الطريقة؟ فكتبت إليهم رسالة في أربع صفحات وجعلت منها أربعة نسخ بعثت كل نسخة منها إلى أحد رؤسائهم فحرقوا الأرم (2)
__________
(1) العوف: الحال. ويقال في الدعاء: نعم عوفك: أي حالك.
(2) الأرم:الأضراس. يقال: فلان يحرق عليك الأرم، إذا تغيظ فحك أضراسه بعضهم ببعض.(10/16)
غيظا، ولم يجبني إلا أحدهم بيني وبينه مصاهرة فقال لي في جوابه: لقد قرأت ما كتبت والقلوب بيد الله يصرفها كيف يشاء ولئن كتبت إلى بعد هذا ولو حرفا من الطعن في الطريقة التجانية لن أجيبك أبدا، وتحمل أنت وحدك إثم قطع الرحم.
ولما نفد ما عندي من الدراهم جاءني الشيخ محمد الخرشي الشنقيطي- رحمه الله سواء أكان حيا أو ميتا- فأعطاني ريالين مصريين وكان من المتخرجين في الجامع الأزهر وله راتب من أوقاف الطلبة المغاربة قدره جنيهان (مشاهرة) وعشرة أرغفة يوميا وهو من الستينيين. وكان الطلبة المغاربة في ذلك الزمان ثلاثة أقسام: ستينيين، وعشرينيين ومنتظرين، فالستينيون عددهم ستون رجلا يأخذون راتبا قدره جنيهان مشاهرة وعشرة أرغفة يوميا، والعشرينيون عددهم عشرون رجلا يأخذون راتبا قدره نصف جنيه مشاهرة وخمسة أرغفة يوميا، والمنتظرون يعدون بالمئات لا يأخذون إلا رغيفين في كل يوم. وكانت الحرب قائمة على الدوام بين الستينيين والمنتظرين، والعشرينيون على الحياد. وذات يوم هجم ثلاثة من المنتظرين على شيخ رواق المغاربة- بعد السلام من صلاة الجمعة- في الأزهر فطعنوه بالخناجر حتى مات، فهرب الناس من المسجد لا يلوون على شيء وركب بعضهم بعضا حتى مات بعض الضعفاء من الزحام (وأظن أن الأخ القارئ يعرف طبعي في الاستطراد، فأنا لا أحول عنه ولا أزول، كما قال المتنبي:
(لكل امرئ من دهره ما تعودا)
فقال لي الشيخ محمد الخرشي: لا تقعد هنا مقيما على معيشة ضنك كالوتد ألمم تسمع قول الشاعر:
ولا يقيم على خسف يراد به ... إلا الأذلان عير الحي والوتد
هذا على الخسف مربوط برمته ... وذاك يشجو فلا يرثى له أحد(10/17)
معنى البيتين لا يرضى أحد أن يقيم على ذل إلا الأذلان الحمار الأهلي والوتد الذي تضرب به الخيمة وتثبت، فالحمار الأهلي مربوط بحبل لا يستطيع الفرار مع أنه يضيق عليه في العلف ويحمل من الأحمال مالا يطيقه وعلاوة على ذلك يضرب بالعصا وينخس بالمنخاس وهو حاد كالإبرة، والوتد يضرب على رأسه ليدخل في الأرض كلما أريد نصب الخيمة ولا يستطيع أن ينجو بنفسه.
فقلت له مكره أخاك لا بطل. وماذا عسيت أن أفعل وأنا هنا غريب؟! فمالي إلا الصبر الجميل. فقال لي: كل طلبة العلم الغرباء في مصر بدون استثناء وما أكثرهم يخرجون إلى الفلاحين ويلقون دروس الوعظ في المساجد، فلا يكاد الفلاحون يرونهم حتى يغمروهم بالإكرام بالدراهم والثياب والزاد دون أن يحوجوهم إلى تذلل أو سؤال، فإن الفلاح المصري يضرب به المثل في الكرم وهذه عادتنا كلنا منذ حللنا هذه الديار فشكرته على هديته ونصيحته وعزمت على الخروج إلى الصعيد وهو الذي بقي لي لم أره، فإن الوجه البحري وهو ناحية الشمال في مصر قد رأيته من القاهرة إلى آخر الإسكندرية وبقي لي الوجه القبلي وهو ناحية الجنوب، فتوكلت على الله وسافرت بالقطار إلى مدينة ملوي فكنت أسمع بالشيخ عبد الظاهر الريرموني أنه من دعاة السلفية فسألت عنه فوجدته، ونزلت عند مغربي يسمى الشيخ إبراهيم الدادسي وهو طبيب عيون يقدح العيون على طريقة الطب الإسلامي القديم بميل من حديد بدون تخدير فيخرج البياض من العين ثم يعالج الجرح بالأدوية إلى أن تشفى العين التي كانت عمياء لا تبصر شيئا ويعود إليها نورها بإذن خالقها، وهذه الطريقة لا تزال مستعملة إلى يومنا هذا في بعض القرى النائية عن المدن في بلاد المغرب وغيرها.(10/18)
فوجدت الشيخ عبد الظاهر الريرموني وفرح بي وأظهر السرور وأكثر الترحيب واعتذر لي عن دعوته إياي إلى قريته الريرمون، فقال: أيها الأخ العزيز إن ضيافتك واجبة علي ولكن قريتي تبعد عن هذه المدينة بقدر نصف ساعة للراكب على الحمار الفاره، وأنا لا أشتغل في الغيط يعني- في المزرعة- وكل أهل القرية يخرجون إلى غيطانهم صباحا ويرجعون مساء وأنا أجيء كل يوم إلى هذه المدينة فأمكث فيها من الصباح إلى المساء، فإن دعوتك إلى القرية فإما أن تبقى وحدك أو تتكلف المجيء كل يوم معي صباحا وترجع مساء وفي ذلك من المشقة عليك ما لا يخفى، فشكرته على ذلك ورأيت عذره قائما.(10/19)
وأقمت عند الشيخ إبراهيم الدادسي بمدينة ملوي من مديرية أسيوط، من بلاد الصعيد أربعة أيام ثم عزمت على التوجه إلى قصبة المديرية وقاعدتها، وهي مدينة أسيوط، وكنت أجتمع بالشيخ عبد الظاهر الريرموني كل يوم ونتذاكر مسائل العلم. وفي صباح يوم الخميس استعددت للسفر بالقطار إلى أسيوط، فبينما أنا على ذلك إذا براكبين على حمارين قد أقبلا ونزلا وسلما على الشيخ إبراهيم الطبيب وقالا له: أين الأستاذ المغربي الذي بلغنا أنه عندك؟ فقال لهما وأشار إلي: هذا هو يريد أن يسافر إلى أسيوط الآن. فقال أحدهما وهو الشيخ عبد العليم رحمة الله عليه: أيها الأستاذ إن إخوانك السلفيين في الريرمون يقرؤونك السلام ويلتمسون أن تتفضل عليهم بالزيارة ولو ليوم واحد فإن أستاذنا الشيخ عبد الظاهر أخبرنا منذ أربعة أيام بقدومك فالتمسنا منه أن يدعوك إلى قريتنا، فقال: إنك مستعجل تريد السفر إلى أسيوط ولا تستطيع أن تزورنا فقلنا له: ولا يوما واحدا فقال: ولا يوما واحدا وكررنا عليه الطلب في اليوم الثاني والثالث حتى يئسنا منه، فأرسلنا إخوانك لندعوك إليهم لما علموا أنك عزمت على السفر إلى أسيوط وقالوا لنا: إن وجدتموه سافر فسافرا إلى أسيوط وأبلغاه دعوتنا، واعلم أيها الأستاذ المحترم أننا معشر السلفيين في قرية الريرمون لا يزيد عددنا على مائة بيت، وقد اشتدت العداوة بيننا وبين قومنا المبتدعين عباد الأضرحة وشيوخ التصوف حتى انتقلت العداوة من أمور الدين إلى أمور الدنيا، وشيخ البلد منهم والعمدة معهم ونحن محاربون لأجل عقيدتنا فنرجو أن يهدي الله بك إخواننا ويجمع شملنا على كلمة التوحيد وأتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم فلا تخيب رجاءنا، فقلت لهما: أيها الأخوان العزيزان لستما في حاجة إلى كل هذا الإلحاح فإنني نذرت لله أن أدعو إلى توحيده وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم حيثما كنت وهذا أهم غرض لي في الحياة.
* الدعوة إلى الله في الصعيد(10/20)
فركبت أحد الحمارين وتوجهت إلى الريرمون مع الشيخ عبد العليم فلما وصلت نزلت في مندرة- أي مضيف- الشيخ إسماعيل الصيفي رحمة الله عليه، واجتمع الإخوان السلفيون واحتفلوا بي كأني أحد الأمراء، ولم يكن عندي من الكتب إلا مجموعة الرسائل التي نشرها عيسى بن رميح رحمه الله وهي رسائل في التوحيد، فبدأت الدعوة بعد صلاة المغرب في المندرة المذكورة واجتمع أهل القرية كلهم تقريبا فلم تسعهم المندرة فجلسوا في الشارع. وكان في مقدمتهم شيخ البلد الشيخ يوسف رحمة الله عليه فأخذ يلقي علي أسئلة في التوسل بالأولياء وشد الرحال إلى زيارة قبور الصالحين والذبح والنذر وأوراد الطريقة والاستمداد من الشيوخ والاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم وما إلى ذلك وأنا أجيبه بحلم وأناة وصبر وهبنيه الله لم أعهده في نفسي قبل ذلك.
إذا اصطفاك لأمر هيأتك له ... يد العناية حتى تبلغ الأملا(10/21)
وحضر هذا الدرس أستاذ الجماعة الشيخ عبد الظاهر الريرموني فأخذ يبحث عن عثراتي في النحو والصرف واللغة، ويلقي علي أسئلة بقصد الزراية وإظهار نقصي فقابلت- بتوفيق من الله- كل ذلك بأدب وحلم كما يفعل التلميذ المتأدب مع أستاذه، وصرت إذا أجبته عن سؤال فلم يقبل جوابي أسلم له وأقول له: تفضل يا حضرة الأستاذ وأفدنا في هذه المسألة بما علمك الله، فصبر الجماعة لهذه المقاطعات على مضض ثم عيل صبرهم فقال الشيخ إسماعيل صاحب البيت: يا شيخ عبد الظاهر هذه المسألة اللغوية التي تقطع بها على الأستاذ المغربي كلامه لا فائدة لنا فيها دعها إلى الوقت المناسب لها، ثم انطلقت في الوعظ شوطا أو شوطين، وإذا بالشيخ عبد الظاهر يعود إلى أسئلته فأعود أنا إلى التسليم والأدب، فيزداد المستمعون غيظا ويعيدون عليه قولهم، واستمر الأمر على ذلك ثلاث ليال ولم ينته عما نهوه عنه فخشنوا له القول وانتهروه فقال لهم: هذا ضيفي أصنع به ما أشاء ويحق لي لو شئت أن أقول له: إن أيام الضيافة ثلاثة، وقد انقضت فتفضل فارحل لقلت له ذلك، فقال له أحدهم وأظنه الشيخ إسماعيل: (إيه ده يا خوي أنت ما تقدرش تقوله كده ده ما هو ضيفك ده ضيفنا إحنا دعوناه واحنا كبناه بعدما ترجيناك أنت تدعوه ويئسنا منك) معناه: ما هذا يا أخي؟! إنه ليس ضيفك وإنما هو ضيفنا نحن ولا تستطيع أن تقول له: ارحل فعند ذلك غضب الشيخ عبد الظاهر ولم يعد يحضر دروس الوعظ والدعوة.
* السر الخفي *
كأني بك أيها القارئ قد تلجلج في صدرك سؤال تريد الإجابة عنه، وهو لماذا امتنع الشيخ عبد الظاهر عن دعوتك، ولماذا يعكر درسك، وفي النهاية يريد أن يطردك؟(10/22)
الجواب: إذا ظهر السبب زال العجب. اعلم يا أخي أن الشيخ عبد الظاهر كان قد خط لنفسه خطة في الدعوة، وهي أنه كان يفرض على كل واحد من السلفيين في الريرمون أن يبايعه بيعة تشبه في بعض نواحيها بيعة المريد المتصوف لشيخ الطريقة، وكانت شروط هذه البيعة شديدة إلى حد أنه لو وقع من أحد الإخوان شيء طفيف مما يخالف ما يريده الشيخ عبد الظاهر، يغضب عليه ويقول له: انتقضت بيعتك فتب إلى الله، وبايعني من جديد فلا يسعه إلا أن يتوب ويبايع من جديد وإلا طرده الشيخ وأخرجه من حظيرة الإخوان.(10/23)
ومن أمثلة ذلك أن الشيخ عبد الظاهر كان قد بلغ من العمر خمسا وثلاثين سنة ولم يتزوج فعتب عليه بعض الجماعة وقالوا له: أنت أستاذنا وإمامنا فلا ينبغي لك أن تبقى عزباً وأنت تعلم ما فرض الله على مستطيعى الباءة فقال لهم: أنا فقير لا يرض أحد أن يزوجني ابنته، فقال أحدهم: أنا أزوجك ابنتي فسكت الشيخ، ومضى على ذلك سنتان فجاء خاطب فخطب الفتاة فوعده أبوها خيرا، فلما سمع بذلك الشيخ غضب عليه غضبا شديدا وقال له: انتقضت بيعتك فتب إلى الله واعدل عن تزويج الفتاة بذلك الخاطب فقد وعدتني بها منذ سنتين فكيف تزوجها شخصا آخر؟! فقال: أيها الأستاذ حقا عرضت عليك ابنتي فلم تجبني ببنت شفة، ومضى على ذلك سنتان فلم يبق عندي شك أنه لا أرب لك فيها فقال الشيخ: كان الواجب يقضي عليك حين جاءك الخاطب أن تأتيني، وتسألني عن رأي في التزوج بها فإما أن أتزوج وإما أن أرخص لك في تزويجها فاختلف الإخوان السلفيون في هذه القضية، فبعضهم صوب رأي الشيخ وبعضهم صوب رأي أبي الفتاة واشتد نزاعهم. وكان كثير من الإخوان يشكون في البيعة، ويظنون أنها غير مشروعة وليست من السنة في شيء، لأنهم لم يروا أحدا من الدعاة إلى السلفية فرضها عليهم قبل هذا الشيخ فهاتان مسألتان معضلتان تحتاجان إلى أبي حسن يكشف عنهما ظلام الإشكال ويبين حكم الله فيهم، ولما رآني الشيخ عبد الظاهر في مدينة ملوي، خاف أن أتصل بإخواننا فيسألوني عن القضيتين فأجيب بخلاف رأيه فلذلك فعل ما فعل ليحول بيني وبينهم، ولم يدر أنه لا حيلة تنفع في رد المقدور فوقع ما خافه ولذلك أخذ يعاكسني في دروس الوعظ وحاول أن يطردني.
* * *
* عودة إلى دروس الوعظ*(10/24)
استمررت في إلقاء الدروس كل مساء في مندرة الشيخ إسماعيل الصيفي، ونسيت أن أقول إن الشيخ عبد الظاهر الريرموني رحمه الله بلغ في المعارضة والمعاكسة إلى أن خالفني في أمر لم يزل يقرره ويدعو إليه، وهو منع شد الرحال إلى زيارة قبور الصالحين، فقال له إخوانه: يا لله العجب.. أنت نفسك لم تزل تقرر المنع فقال: تغير رأي وهل أنا معصوم! ومن طباع المصريين المحمودة- وما أكثرها - أن المرءوس إذا ظهر له الحق لا يفكر في مذهب الرئيس واعتقاده بل يتلقى الحق بالقبول وإن خالف رئيسه، ولذلك كان الناس في أثناء الوعظ يتوبون إلى الله ويعلنون توبتهم من الشرك والبدعة ففي كل ليلة يتوب اثنان أو ثلاثة.
وفي الليلة السادسة أو السابعة قام شيخ البلد فأعلن توبته وقال: أيها الشيخ المغربي: إنك لم تأتنا بشيء جديد فكل هذه المسائل التي دعوتنا إليها سبقك إليها الشيخ علي التونسي والشيخ عبد الظاهر الريرموني وفلان وفلان ولكن الفرق بين دعوتك ودعوتهم أننا إذا جادلناك تصبر على جدالنا وتجيبنا بلطف ولين حتى نقتنع وننتقل إلى مسألة أخرى ثم أخرى إلى أن يزول ما عندنا من الإشكال. وأما الدعاة الذين تصدوا للدعوة قبلك فقد كان لهم أسلوب آخر متى جادلناهم وعرضنا عليهم شبهاتنا قالوا لنا: كفرتم! فنقول لهم: وأنتم أكفر ونفترق على أقبح ما يكون، ثم التفت إلى الشيخ إسماعيل الصيفي صاحب البيت وقال له: يا شيخ إسماعيل جزاك الله خيرا على دعوة هذا الأستاذ المغربي الذي هدانا الله إلى الحق بسببه، ولك الفضل والحق أن تكون الدروس في مندرتك، وأن يكون الأستاذ المغربي ضيفك ولكني أطلب من فضلك أن تسمح لي بأن يكون الأستاذ أسبوعا عندك وأسبوعا عندي. هذا في الدروس الخاصة التي تلقى في المنادر وأنا أطلب من الأستاذ المغربي أن يلقي لنا درسا في المسجد الجامع يوميا وأن يصلي بنا الجمعة مادام مقيما عندنا فقال الشيخ إسماعيل: إني أقبل هذا الاقتراح بكل سرور.(10/25)
فانتقلت إلى مضيف شيخ البلد واستمررت على إلقاء الدروس وأضفت إليها درسا بعد العصر في المسجد الأعظم، واعتذرت إلى الشيخ يوسف عن قبول ما عرضه علي من صلاة الجمعة إماما وقلت له: إنني لا أحب الدعاء للملك فؤاد في كل خطبة ولا أريد أن أكون سببا في شر يصيبك فحسبي أن ألقي الدروس، فقال رحمه الله: أيهما صواب، الدعاء للملك في كل خطبة جمعة أم تركه على ما جاءت به سنة النبي صلى الله عليه وسلم ؟ فقلت له: أنا أرى تركه هو الصواب فقال: (إيه ده يا خوي) نحن نعبد الله أو نعبد فؤاد؟ إذا رأيت الملك فؤادا أمامك في الصف الأول فلا تبال به أنا المسؤول وصل كما أمرك الله واخطب كما أمرك الله.
وبعد توبة الشيخ يوسف تاب أهل البلد عن بكرة أبيهم إلا بيتين، أحدهما بيت شيخ الطريقة والثاني بيت العمدة المرفوت، والمرفوت عندهم هو المعزول، وخدامهما، وبعدما كان السلفيون ممنوعين من جميع المساجد لأنهم وهابيون أهل مذهب خامس تصافح أهل القرية كلهم وزال كل ما كان بينهم من العداوة في الدين والدنيا، وانتقلت العزلة التي كانت ملازمة لهم إلى شيخ الطريقة والعمدة المرفوت وخدامهما، فأخذوا يصلون منعزلين في زاوية في وسطها قبر عليه تابوت كانوا يعبدونه، وبلغت العداوة بين الفريقين إلى أن صار يتهم بعضهم بعضا بإحراق الزروع في البيادر، واتهم المبتدعون السلفيين بإحراق تابوت ذلك الضريح الذي كانوا يعبدونه. والحقيقة أن امرأة أوقدت شمعة تتقرب بها إلى صاحب الضريح وجعلتها على التابوت فلما انقضت الشمعة وصلت النار إلى التابوت فأحرقت بعضه.(10/26)
وكأني بعابد القبر يقول يا هذا لقد أسرفت في القول فهل يعبد مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله قبرا؟ فأقول في الجواب: يمكنك أن تغالط بهذا الكلام غيري أما أنا فلا تستطيع أن تغالطني لأنني أنا بنفسي كنت أعبد القبور، فهداني الله إلى توحيده وهدى بي خلفا كثيرا ولله الحمد وأريدك على ذلك ما يخرسك ويلقمك حجرا أن الجهال في هذا الزمان من أهل البلاد الإسلامية - وما أكثرهم- يعبدون القبور والأنصاب بل والأشجار ويعبدون كل شيء حتى الحمير ودونك البرهان القاطع:
أما عبادة الأضرحة فأمر متواتر مشاهد بالعيان في أكثر البلدان المنتسب أهلها إلى الإسلام كما هو في بلاد النصارى وهؤلاء يزيدون التماثيل.
وأما عبادة الأشجار فقد حدثت من عهد بعيد فقد ذكر ابن أبي شامة في كتاب البدع له: أن شجرة كانت تعبد في دمشق في زمانه. وأما في هذا الزمان فحدث عن البحر ولا حرج فقد شاهدت شجرة عظيمة وافرة الأغصان تعبد في مصر، وأخبرني الشيخ محمد بن عبد الرزاق حمزة أنه هم بقطعها وأخذ فأسا واشتغل طول الليل إلى أن كاد الفجر يطلع فلم يستطع أن يقطع إلا جزءاً يسيراً من أغصانها، فجاء عبادها في الصباح بالنذور فوجدوا بعضها مقطوعا فغضبوا غضب العابد لمعبوده، واتهموا الشيخ المذكور ورفعوا شكوى إلى العمدة فطالبهم بالبينة فقالوا: لا يوجد أحد في هذه الناحية يشنع على المتبركين بها إلا هذا الرجل، فقال العمدة: إنني لا أستطيع أن أعاقبه بهذه الحجة التي لا تتجاوز الظنون. وأخبرني الحاج (محمد أجانا)- وهو رجل قضى عمره في البدع حتى بلغ السبعين ثم هداه الله إلى التوحيد بدعوتنا- أن له شجرتين يعبدهما الفلاحون إحداهما اسمها أبو بكر والأخرى نسيت اسمها، وأن الفلاحين يضعون أدوات الحرث وغيرها مما يثقل عليهم حمله إلى جانب إحدى الشجرتين فلا يتجرأ أحد أن يسرق شيئا من ذلك مع أنهم سرقوا حصر المسجد ولو ذهبنا نعدد وقائع عبادة الأشجار لطال بنا الكلام.(10/27)
وأما عبادة الأحجار فهي كثيرة أورد بعض وقائعها: فمن ذلك حجر كبير ناشز في جبل بالصعيد في مديرية أسيوط أخبرني أصحابنا أنه كان يسمى الشيخ دغارا وأن جماعة منهم ذهبوا ذات ليلة بمعاولهم، واشتغلوا طول الليل فتركوا الشيخ دغارا أثرا بعد عين. ومنها أن صخرة في مرسى مدينة طنجة داخل البحر تسمى سيدي ميمون يعبدها أهل تلك الناحية. وسبب إطلاعي على عبادتها أني كنت راكبا في سيارة حافلة من طنجة إلى تطوان سنة ثلاث وأربعين وتسعمائة وألف بتاريخ النصارى وأتباعهم، وكان إلى جانبي رجل معه امرأة فسلم على وقال لي: أنا ممن يحضر دروسك في الجامع الكبير، وقد هداني الله إلى التوحيد بسبب ذلك ولكن زوجتي هذه لا تزال متمسكة بالشرك فأرجو من فضلك أن تعظها لعل الله يهديها بوعظك كما هداني أنا وذكر لي قضية اشتد نزاعهما فيها تتعلق بعبادة الصخرة البحرية المسماة بسيدي ميمون وحاصلها أنها لا يعيش لهما الأولاد إذا بلغ الصبي سنة يموت، فنذرت زوجته أن تذبح عن ولدها في كل سنة شاة لسيدي ميمون، وقد حانت النهاية السنة الأولى من عمر الصبي قال: فامتنعت أنا من الوفاء بهذا النذر، وقلت: إن عمر الصبي بيد الله وميمون صخرة لا تضر ولا تنفع فلم تقبل. فوعظتها من طنجة إلى تطوان مدة ساعة ولا أدري هل انتفعت بوعظي وتابت من الشرك أم بقيت على شركها. وأكتفي بهذا القدر من الشواهد على عبادة الأحجار.
ومن عبادة المياه أن بئرا بالقصر الكبير يعبدها السفهاء ويسمونها سيدي ميمونا ويزعمون أن ابن أمير الجن شمهورش كثيرا ما يحضرها خبرني بذلك غير واحد في البلد المذكور وشاهدت حوادث أخرى من عبادة المياه فلا أطيل بذكرها.(10/28)
وأما عبادة الحمير فأذكر فيها قصتين: إحداهما وقعت في طرابلس الغرب على ما حدثني به ثقة، وذلك أنه كان في تلك الديار شيخ متصوف اسمه عبد السلام الأسمر كان يرقص مع أصحابه ويضربون بالدفوف حتى يخروا صرعى على الأرض ويعتقدون أن الدف الذي كان يضرب به الشيخ عبد السلام نزل من الجنة، وكان يضرب به علي بن أبي طالب للنبي، والشيخ عبد السلام والمريدون المنقطعون للعبادة معه لم يكونوا يكتسبون معيشتهم لأنهم كانوا بزعمهم متوكلين. وكان للشيخ المذكور حمار يطوف على بيوت البلدة وحده كل صباح ومساء وعليه خرج فكلما وقف بباب بيت يضع أهله شيئا من الطعام في ذلك الخرج فيرجع إلى الشيخ والمريدين بطعام كثير غدوة وعشية، فلما مات الشيخ وتفرق المريدون وبقي الحمار بلا عمل فصار الناس يقدمون له العلف ويتبركون به إلى أن مات فدفنوه وعكفوا على قبره يعبدونه. والقصة الثانية في المغرب الأقصى: قرأت في سنة ستين وتسعمائة وألف بتاريخ النصارى في صحيفة العلم مقالا لمعلمة اسمها خديجة النعيمي من الدار البيضاء قالت خديجة: خرجنما مع نسوة جاهلات نتجول خارج المدينة فمررنا بكوم من حجارة فأخذت النسوة يقبلن تلك الحجارة ويتمسحن بها قائلات: (أنتاع الله لله يا للاحمارة) معناه نسألك متاع الله أي ما أعطاك الله من الكرامة يا سيدتنا الأتان، قالت: فأنكرت صنيعهن وقلت لهن: ويحكن تتخذن أولياء حتى من الحمير، فقلن لي: اسكتي إنك لا تعرفين قدر هذه الولية فكم قضت من حاجات ونخاف عليك أن تضربك ضربة يكون فيها حتفك فسلمي للفارغ لكي تنجي من العامر (قلت: وهذا مثل يضربه المغاربة لمن اعترض على عبادة شخص وقال: إنه لا ينفع ولا يضر يقول له عباده: (سلم للخاوي تنج من العامر) معناه هب أنه فارغ من الولاية فخير لك أن لا تعترض عليه وأن لا تنكر ولايته لأنك إن استمررت في الإنكار يخشى عليك أن تصادف وليا حقيقيا فيصبك بشر). ثم وجهت الكاتبة المذكورة دعوة إلى العلماء وقالت:(10/29)
يا علماء الدين اتقوا الله وعلموا الناس توحيد الله وشعائر دينهم، فإنكم ضيعتم الأمانة التي حملكم الله إياها حتى وصل الناس إلى عبادة الحمير دون الله. فكتبت ثلاث مقالات تلبية لدعوتها ونشرت في صحيفة العلم ولم يلب دعوتها أحد غيري من قراء صحيفة العلم وهم يعدون بالآلاف وأظن أن هذا القدر يكفيك إن كنت منصفا، ويقمعك إن كنت متعسفا.
*عودة إلى الريرمون *
أول جمعة صليتها إماما في الريرمون في المسجد الأعظم كانت يوم عيد عند أهل الريرمون، وتمكن السلفيون لأول مرة من الصلاة في المسجد الأعظم وتعانق الناس، وصاروا إخوانا متحابين. وكان للسلفيين مسجد بنوه باللبن وسقفوا نصفه بخشب النخل فصلى في ذلك اليوم الشيخ عبد الظاهر في ذلك المسجد إماما، وقال في خطبة الجمعة يا إخواننا لا يخفى عليكم (أن المركب اللي فيها ريسين تغرك) يعني أن السفينة إذا كان لها ربانان فمآلها الغرق لأن الربانين يختلفان فيؤدي اختلافهما إلى اختلاف النوتية ويفضي بهم ذلك إلى الغرق، وأن هذا المغربي قد فرق جماعتنا ووالى أعدائنا وأحدث فتنة في البلد، ولا يستمع لحديثه، فما فرغ من الصلاة ولم يصل معه إلا الشيوخ الضعفاء الذين شق عليهم المشي للجامع الأعظم- حتى غضبوا عليه وزجروه زجرا شديدا وقالوا له: ما نظن إلا أنك أصبت بالجنون وأن هذه الصلاة التي صليناها خلفك مشكوك في صحتها لأنك تكلمت باللغو الذي لا يناسب خطبة الجمعة، وهذا الرجل الذي تكلمت فيه بغير حق ما رأينا منه إلا خيرا وهو يجلك غاية الإجلال فقال لهم: هذا فراق بيني وبينكم.(10/30)
وقبل ذلك بيوم دعاني أحد الإخوان للغداء ودعا الشيخ عبد الظاهر، فقال لي: يا شيخ محمد سمعت بأن المنافق يوسف شيخ البلد جاءك وأظهر لك أنه تاب من شركه وبدعته؟ فقبلت توبته وأظنك لا تعلم أنه كبر عدو للسلفيين ولي أنا بالخصوص وأنا شيخ هذه الطائفة وإمامها، فإن كان صادقا فيما يزعم فهلا جاء إلى والتمس مني العفو وبايعني بل أنت بنفسك يجب عليك أن تبايعني وأن لا تخرج عن رأي!! فقلت له: يا شيخ عبد الظاهر والله أني لأحب أن أرضي الله ثم أرضيك ما استطعت إلى ذلك سبيلا، فهب أن رجلا في الروضة- وهي بلدة قريبة من الريرمون- يدعو إلى مثل ما ندعو إليه من التوحيد وإتباع السنة وهذا الشيخ يوسف عدو لي ولك، فجاءه هذا الداعي ودعاه فتاب إلى الله على يده من الشرك والبدعة وبقي مع ذلك مصرا على عداوتنا، ألا ينبغي لنا أن نفرح بتوبته لأنه أنقذ من شر عظيم يوجب له الخلود في نار جهنم، أما عداوتنا نحن فإنها معصية لا يخرجه من الإسلام وقد تزول فنصطلح معه ونعود إلى الوفاق فقال لي: هذا رأيك أنت، أما أنا فأقول: يجب على كل من أراد أن يتوب من الشرك والبدعة أن يرضيني ويبايعني فقلت له: إني أوثر رضي الله على رضاك فقال: هذا فراق بيني وبينك. وسمعت بأنه كان يتعاطى الأفيون وهو مخدر سام- الله أعلم بصحة هذا الخبر- وبقيت في الريرمون على تلك الحال نحو ثلاثة أشهر، ثم حان وقت الحج وكنت في أثنائها أظهر الغنى ولم أسمح لأحد أن يدفع عني أجرة البريد لرسالة أرسلها في البريد فضلا عن غير ذلك حتى صار الناس يعتقدون أنني غني، ولم يتجرأ أحد أن يقدم لي شيئا لا دراهم ولا ثيابا إلا شيئا من الخبز اليابس وشيئا من السمن في إناء من خزف انكسر حين ركبت العربة قبل أن اصل إلى مستقري في القاهرة وإلا كسوة كسانيها الشيخ يوسف رحمه الله بعد أن قدم لها مقدمات من الإلحاح الكثير.
* المناظرة *(10/31)
لما استجاب لي شيخ البلد وتبعه الناس كلهم إلا من ذكرت- أعني العمدة المرفوت وشيخ الطريقة- أصاب هذين الرجلين من الغم والحزن شيء كثير فبعثا إلى الجامع الأزهر ودعيا أحد كبار الأساتذة المعروفين بغزارة العلم وطلاقة اللسان لمناظرتي فجاء الأستاذ الأزهري ونزل في قصر العمدة المرفوت، فجاء أصحابنا وأخبروني بقدومه وقالوا لي: ناظره فستنتصر عليه يقينا فإن الأزهريين ضعفاء في علم السنة والتوحيد ونحن العوام نغلبهم، فقلت لهم: إني أرى في هذه القضية رأيا مخالفا لرأيكم، وهو أنني لا أناظره فأنا حارث وزارع وقد دعوت أهل البلد فاستجابوا لي؟ فليتقدم وليدعهم هو إلى الرجوع إلى الشرك والبدعة فإن رجع معه أحد فأبعده الله ومن تبعه فهو له ومن تبعني فهو لي، والمناظرة تعتريها المشاغبة ثم المضاربة فلا تحق حقا ولا تبطل باطلا فقالوا لي: كلامك هذا يسبب لنا الهزيمة ويصدق قول أعدائنا إنك مغربي حاج ما درست في الأزهر ولا عندك الشهادة العالمية فقلت لهم: صدقوا أنا جاهل ما درست في الأزهر ولا عندي الشهادة العالمية، ولكن هذه المسائل التي أدعو إليها لو جاء شيخ الأزهر ومعه علماء الأزهر كلهم لم يستطيعوا أن ينقضوا منها شيئا غير أنني لا أحب المناظرة ودعوا الأعداء يقولون ما شاءوا، فلم يعجبهم كلامي.
وبقي الأستاذ الأزهري في بيت العمدة خمسة عشر يوما حاول في أثنائها أن يهجم على في الدرس الذي ألقيه كل يوم بعد العصر بالمسجد الجامع فنهاه شيخ البلد وقال له: نحن نثق بهذا الرجل ولا نشك في صحة ما دعانا إليه والله إن فتحت (بقك) أي فمك بكلمة واحدة لآمرن خفيرين أي حارسين يأخذانك إلى محطة السكة الحديدية لأنك تريد أن تحدث تشويشا وفتنة، فبقي شيخ الطريقة وصاحبه العمدة حائرين وفي النهاية عمدا إلى حيلة مكنتهما مما أراد.(10/32)
وذلك أننا كنا في شهر رمضان وفي ذات يوم دعاني العمدة الحقيقي وهو رجل ملحد إلى العشاء فأجبته، وألقيت كلمة أمامه فقال لي: أنا على الحياد لست معك ولا مع خصومك يعني شيخ الطريقة والعمدة المرفوت، ولكن عقيدتكم أنتم أقرب إلى العقل من عقيدتهم لأن عبادة القبور وشيوخ الطريقة إهانة للكرامة الإنسانية.
ولما انصرفت من عنده كان طريقي يمر على باب قصر العمدة المرفوت فلما حاذيت بابه جاءني شيخ الطريقة وسلم علي وقال: إن سعادة العمدة يدعوك إلى فنجان قهوة فقلت: عندي الآن درس، فقال لي: لا يستحسن أن ترد دعوته ولا تزيد على خمس دقائق، فذهب بي حتى أدخلني إلى مقصورة وجدت فيها شيخا ذا عمامة ولحية فظهر لي أنه هو العالم الأزهري الذي دعي إلى مناظرتي، وكان ظني صادقا فلم يكد المجلس يستقر بي حتى هجم علي الأستاذ الأزهري وقال لي: يا فلان بلغني أنك تقول كذا وكذا وكذا وعدد مسائل من التوحيد وأتباع السنة فقلت له: أما كذا وكذا فقلته حقا وذكرت له دليله وأما كذا وكذا فلم أقله. ووقعت المناظرة فعلا، فحانت مني التفاتة فرأيت حديقة القصر كلها عمائم وقلانس لم يبق أحد من أهل البلد إلا حضر وتركوا لذلك صلاة التراويح فلم تزد المناظرة على نصف ساعة وكان الأستاذ الأزهري نسيت اسمه الآن من خيرة علماء الأزهر فجعل يقول في أثناء المناظرة أشهدكم أني رجعت عن كل ما قلته في هذا الأستاذ المغربي؛ فإن الناس نقلوا لي عنه مسائل مكذوبة عليه، وأشهد أنه من العلماء المحققين وإن كنت أخالفه في بعض المسائل. فعند ذلك علم العمدة المرفوت أنه أخفق في سعيه، فقال: أيها الأستاذ أرجوكم أن تقطعوا هذه المناظرة أنا ما دعوت الأستاذ المغربي إلى المناظرة، وإنما دعوته لأتعرف به ويشرب عندي فنجانا من القهوة، فانتهت المناظرة على ما يحبه أصحابنا ويكرهه خصومنا، ومن رأي أني أبعد عن المناظرة وأتجنبها فإذا اضطررت إليها استعنت بالله وخضت غمارها، قال النبي صلى الله عليه وسلم:(10/33)
((لا تتمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية فإذا لقيتموهم فاصبروا))(1).
* الدعوة إلى الله في تندا *
تندا: هي قرية تبعد عن الريرمون، مسافة لا أحصيها وفيها سلفيون واثنان من العلماء.
جاءتني دعوة من السلفيين من أهل هذه القرية فلبيتها، وتوجهت إليهم وأقمت عندهم ثمانية أيام ألقي الدروس في المساجد فرجع عن البدعة والشرك خلق كثير، وقدر عددهم بنصف سكان القرية وعندئذ قال لي بعض أصحابنا: اتق الله وامكث هنا في مديرية أسيوط على الأقل سنة كاملة، وأقسم بالله أني لو أقمت سنة ليهدين الله بي أكثر سكان المديرية وقال لي: إن هذه الفرصة التي سنحت لك من إقبال الناس على مجالس دعوتك قل ما يسنح مثلها ولا يجوز لك أن تضيعها، فقلت له يمنعني من ذلك أن الغرض الذي سافرت من أجله من المغرب هو طلب العلم ولقاء أصحاب الحديث أينما كانوا وأنا لم أؤد فريضة الحج حتى هذه الساعة، فقال لي: أما طلب العلم فهذه المجالس الحافلة بالدعوة إلى الله هي من صميم طلب العلم، وأنت شاب يمكنك أن تستأنف رحلتك بعد ذلك، وجاءني اثنان من أغنياء أصحابنا فقال لي كل منهما: امكث هنا وأنا مستعد أن أزوجك ابنتي وأكتب لك عند المأذون فدانين غلتهما تكفيك للمعيشة، فاعتذرت إليهما عن القبول وقلت لهما: إن الشيخ عبد الظاهر الريرموني عفا الله عنه يظن أنني أقصد الإقامة هنا طلبا للمعيشة لأقصيه وأحل محله، فقالا: معاذ الله أن يظن بك أحد مثل هذا الظن. وفي أثناء إقامتي بالريرمون قرأ علي أخوان معلمان في المدرسة نسيت أسماءهما ختمة من القرآن بقراءة ورش، وكانت نادرة في مصر في ذلك الزمان فلم تلبث أن انتشرت بعد ذلك وأولع بها القراء بقصد الإغراب على السامعين، واكتساب المعيشة أي التأكل بالقرآن. وفي صحيح البخاري، باب من تأكل بالقرآن أو فخر به، ذكر البخاري رحمه الله في هذا الباب حديث علي في الخوارج،
__________
(1) متفق عليه، عن أبي هريرة رضي الله عنه. انظر: صحيح الجامع (7222)(10/34)
واستدل به على أنه لا يحل الأكل بالقرآن فراجعه إن شئت.
* قدم مراد الله يقدم الله مرادك *
تقدم أني تعففت أثناء إقامتي بالريرمون وأظهرت الغنى
تعفف ولا تبتئس ... فما يقض يأتيكا
وإنما فعلت ذلك لعلمي أن الذي يأخذ من الناس لا يستطيع أن يعطيهم شيئا، وأن من كان له غرضان متضادان لا يمكن الحصول عليهما جميعا. فلذلك وحدت همي ووجهت همتي بعد فتح الله لي قلوب الناس إلى الدعوة وحدها كما قال الناصح:
اجعل الهم واحدا ... وارض بالله صاحبا
وكنت أظن قبل التوجه إلى الصعيد أن ييسر الله لي دراهم أحج بها حجة الفريضة. وبعدما أقمت في مصر سنة وشهرا نفد كل ما كان عندي وكنت أنفق على نفسي وأخي الأستاذ محمد العربي الهلالي الذي صحبته معي وكان صغيرا، لكن لما حصلت على تلك الغنيمة فوضت الأمر إلى الله وقلت:
عسى فرج يأتي به الله إنه
... له كل يوم في خليقته أمر
وبعد وصولي إلى القاهرة ببضعة أيام جاءتني حوالة من الشيخ يوسف بثلاثة عشر دينارا فكانت كافية لأن أحج بها أنا وأخي وهذا ما أردت بقولي قدم مراد الله يقدم الله مرادك.
هل بقي أهل الريرمون ثابتين على الدعوة؟(10/35)
الجواب نعم، بعدما سافرت إلى الحجاز ثم إلى الهند ثم إلى العراق رجعت إلى مصر سنة خمسة وأربعين وثلاثمائة وألف فزرت الريرمون، ووجدت الإخوان ثابتين على الحق لم يضرهم من خالفهم، وأخبرني الشيخ يوسف رحمه الله أنه لما شاع في أنحاء الصعيد أن أهل الريرمون بدلوا الدين وأحدثوا دينا جديدا بعثت وزارة الأوقاف مفتشا ليعرف حقيقة ما وقع. قال: فجاءنا وقال: يا شيخ يوسف بلغنا أنكم تركتم الترقية وقراءة سورة الكهف والأذان الثاني في يوم الجمعة وكذا وكذا قال فقلت: له أنت عالم ونحن جهال وسترى صلاتنا وعبادتنا فكلما رأيت أمرا مخالفا للسنة المحمدية فأخبرنا به نرجع عنه وكلما رأيت أمرا ناقصا من السنة فأخبرنا به، فقال لي: يا شيخ يوسف السنة على الرأس والعين ولكن لا يخفى عليك أنه قد حدثت أمور بعد زمان النبوة استحسنها الناس ودأبوا عليها ومن الصعب إزالتها وقد قال العلماء: إن البدعة تعتريها الأحكام الخمسة فقد تكون واجبة أو مستحبة أو مباحة أو مكروهة أو محرمة، قال: فقلت: أنا كما تعلم لست من العلماء ولكني سمعت غير واحد من العلماء الثقات الذين لا أشك في علمهم ولا في صدقهم يقولون أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار)) وفسروا لنا هذا الحديث كما يدل عليه ظاهره. ولم يقل أحد منهم: إن بعض البدع واجب وبعضها مستحب وبعضها مباح، فقال المفتش: ثم لا يخفى عليكم أن المساجد للأوقاف هي التي بنتها وهى التي تنفق عليها وهي تريد أن تسير على ما كانت عليه، قال الشيخ يوسف فقلت له: (إيه ده يا خوي بس كدا؟) أنا أستطيع أن أبني مسجدا في سبعة أيام وأترك المسجد الجامع فارغا لا يصلي فيه أحد إلا الإمام والمؤذن، قال: فقال المفتش:(10/36)
يا شيخ يوسف أو نعمل شيئا آخر. قال: فقلت: هات ما عندك، فقال: أنا مبعوث إليكم من قبل الأوقاف لأقدم تقريرا فيما نسب إليكم من المخالفات، فأقترح عليكم أن تأمر المؤذن والإمام يوم الجمعة بإعادة تلك الأمور التي كنتم تصنعونها من قبل لأستطيع أن اكتب تقريرا أكذب فيه ما نسب إليكم، وبعد أن أفارقكم وأعود بالتقرير إلي من أرسلني اصنعوا ما شئتم، قال: فقلت: أنا موافق فأمرت الإمام والمؤذن أن يفعلا تلك البدعة المخالفة للسنة يوم الجمعة ففعلاها وصلينا الجمعة كما أراد المفتش ثم عدنا إلى ما كنا عليه.
وهنا ينبغي أن أقتبس أبياتا من القصيدة التائية التي نظمتها بالهند وذكرت فيها توبتي من الشرك والبدعة ورحلتي في طلب العلم، وأقتصر على ما يخص الدعوة في الريرمون لأني قد أدرجت القصيدة كلها في كتاب الهدية الهادية إلى الطائفة التجانية. والأبيات التي تخص الريرمون هي:
أتيت إلى مصر لأخبر خبرها ... وأنظر هل فيها شفاء لعلتي
وكنا سمعنا قبل أن في ربوعها ... رجالا لنصر الدين أصحاب شدة
وصلت فلم ألف سوى أهل بدعة ... وشرك وإلحاد وشك وردة
سمعت بها الإلحاد يعلن جهرة ... بجامعة للشر مع كل فتنة
رأيت بها الأوثان تعبد جهرة
... قبورا عظاما ناخرات أجنت
ويدعون دون الله من لا يجيبهم ... وهم عن دعاء القوم في عظم غفلة
لهم جعلوا قسما بمال ولدة ... فلا عاش من قد ظنهم أهل ملة
حشا ثلة لله مستضعفين رأيتهم ... يسومهم الأعداء سوء الأذية
وهم صبر مستمسكون بدينهم ... ويدعون ما اسطاعوا لبيضا نقية
وما صدهم إيذائهم عن جهادهم ... لأنهم أهل النفوس الأبية
يعدون بالآلاف في الريرمون كله ـكلهـ كلهـ كلهـ ... ـم أهل إخلاص وأهل فتوة
* من مخارق شيوخ المتصوفة المبتدعين *(10/37)
حكى لي أصحابنا في الريرمون أنني بعدما سافرت من بلدهم زارهم شيخ طريقة اعتاد من قبل أن يزورهم الفينة بعد الفينة، فاستقبلوه استقبال ضيف عادى ولم يقبلوا يديه ورجليه ولم يخضعوا له لخضوع المعتاد قبل توحيدهم لله، فأنكر ذلك وقال: ماخطبكم أراكم تبدلتم؟ قالوا: ماذا تريد منا؟ نحن مستعدون لضيافتك فاقترح ما تشاء فقال لهم: ما هذه الوجوه هي الوجوه التي أعرفها ولا الاستقبال الذي عهدته فيكم، فقال له أحدهم: وماذا تريد منا أتريد أن نعبدك من دون الله؟! لقد تاب الله علينا وهدانا إلى توحيده وأتباع رسوله، فنحن لا نريد منك شيئا لا نسأل حاجتنا إلا من الله ولا نتبع في الدين إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال له الشيخ وهو غضبان تغلي مراجله: يا عكروت (العكروت كلمة شتم في العامية المصري بمعني اللئيم) أنا قتلت نفسا لأجلك وتقابلني بهذه الوقاحة؟ فقال الرجل: وكيف كان ذلك؟ فقال الشيخ: جاء رجل يسرق من مزرعة البطيخ التي زرعتها على شاطئ فرع النيل فوجهت له همتي وقتلته؟ فضحك الرجل وقال له: يا سيدنا الشيخ قد أخطأت في حسابك إن المزرعة التي تعني جاءها فيضان النيل، فأتى عليها قبل أن تثمر،فغضب الشيخ ورحل ولم يقبل ضيافتهم وعلم أن رزقه منهم قد انقطع فذهب يبحث عن غيرهم كما يبحث الذئب عن الحملان، ومن عرف معنى لا إله إلا الله محمد رسول الله وعمل بمقتضاها حفظه الله من شياطين الجن والإنس.(10/38)
وحدثوني عن هذا الشيخ نفسه أنه كان في ضيافتهم في مندرة فنظر فلم ير أحدا وأوحى إليه شيطانه أن يأتي بمخرقة ليرهبهم بها ويستدر خدمتهم وأموالهم، فنزل من فوق المقعد الخشبي، واندس تحته وقد سدل عليه ستار كما هي العادة في ذلك الزمان في المنادر فدخل أحدهم فلم يجده وهم يعلمون يقينا أنه لم يخرج، فقال: يا جماعة قد فقد سيدنا الشيخ، فدخلوا كلهم ولم يشاهدوا شيئا ثم خرجوا فلما خلا له الجو خرج من مخبئه وقعد في مكانه، وانطلقوا هم يفتشون عنه في البلد كله، فلم يجدوا له أثرا ثم رجع أحدهم فوجده في مكانه فأحاطوا به يتمسحون به ويقبلون يديه وهم في هلع عظيم وقالوا: يا سيدنا الشيخ (كرى إيه؟) يعنون ماذا جرى؟ عهدنا بك جالسا على المقعد ثم دخلنا فلم نجدك وانطلقنا نبحث عنك ثم رجعنا فوجدناك، فقال: زرت إخوانكم المجاهدين في طرابلس الغرب (في هذا الزمان تسمى ليبيا) فوجدتهم في معركة عنيفة مع أعداء الإسلام الإيطاليين فأكبوا عليه مرة أخرى يقبلون يديه ويتمسحون بثياب هذا البطل المجاهد!! وما هي من أفعال المبطلين بالشيء ا لغريب.
* الدعوة إلى الله في تطوان *
في شهر آذار "مارس" من سنة اثنتين وأربعين وتسعمائة وألف بتاريخ النصارى، اتفقت مع سماحة المفتي السيد أمين الحسيني على التوجه من برلين إلى شمال المغرب، وحملني رسالة شفوية إلى الأستاذ المجاهد رئيس حزب الإصلاح الوطني الزعيم عبد الخالق الطريس رحمة الله عليه تتعلق بإصلاح حال المسلمين في شمال المغرب. وكان في ذلك الزمان القسم الشمالي من المغرب يسمى المغرب الإسباني لأن المغرب كان مجزأ إلى ثلاثة أجزاء المغرب الفرنسي، وهم القسم الأكبر من المغرب عدد سكانه زهاء أحد عشر مليونا، والمغرب الإسباني وعدد سكانه زهاء مليون واحد، وطنجة ونواحيها وهي دولية، وكان الجرمانيون في أوج عزهم.(10/39)
فلما وصلت إلى تطوان فزع الإسبانيون المستعمرون من قدومي وساء ظنهم، لأنهم وإن كانوا مع الألمانيين في السياسة ظاهرا إلا أنهم لا يأمنون جانبهم، فظنوا أنني جئت مبعوثا من الألمانيين لأتصل بزعماء المغاربة، وأسعى في إخراج الإسبانيين ليحل الجرمانيون محلهم- وهو ظن كاذب- فمنعوني من الرجوع إلى البلاد الجرمانية، بتواطؤ مع القنصلية الإنكليزية في تطوان فاضطررت إلى البقاء في تطوان ونواحيها زهاء ست سنين، وجرت علي حوادث ذكرها هنا كلها يخرجني عن الموضوع، وإنما أذكر منها ما يتعلق بالدعوة إلى الله تعالى، وكنت في ذلك الوقت القديم عديم الجنسية لأن الإنكليز تواطؤوا مع السفارة العراقية في روما أن لا تجدد جواز سفري، فقدمت إلى تطوان بجواز ملفق بعثه إلى الأستاذ عبد الخالق الطريس، فسهل على الإسبانيين المستعمرين المستعبدين أن ينتزعوا مني ذلك الجواز، وأن يجعلوني تحت المراقبة، ثم استطعت أن أقنعهم بكذب ظنهم بعدما اقترحوا على كتابة مقال أصرح فيه بأن الجرمانيين لا حق لهم في استعمار المغرب، فكتبت مقالا قلت فيه: إن المغرب للمغاربة لا حق للفرنسيين ولا للإسبانيين ولا للجرمانيين في الاستيلاء عليه، فرضوا بذلك ولكنهم شرطوا علي أن لا أكتب مقالا ولا ألقي دروسا ولا خطبة إلا بعد اطلاعهم واستئذانهم وهددوني بأن يسلموني للفرنسيين الذين نفوني قبل من القسم الذي تحت أيديهم، ولو ظفروا بي لانتقموا مني أشد انتقام، وبقيت هنالك عاطلا عن العمل.(10/40)
فبعد مدة جاءني جماعة من محبي العلم والإصلاح والتمسوا مني أن ألقي دروس وعظ في المسجد الجامع ويسمي باللغة المغربية الجامع الكبير، فقلت لهم: إن الإسبانيين شرطوا علي أن لا ألقي درسا بدون إذنهم، ثم جاءني جماعة من طلبة المعهد الإسلامي فالتمسوا مني مثل ذلك فأجبتهم بالجواب نفسه، فقالوا لي كلهم: إنهم لم يمنعوك منعا باتا وإنما علقوا ذلك على إذنهم فاستأذنهم. وكان الحاكم المدني قد عين أحد الضباط اسمه بردا واسطة بيني وبينهم، فأخبرت بردا بطلب الجماعتين فبلغ الأمر إلى سيده فقال له: لا مانع عندنا من ذلك ولكن مدير المعارف (وهو إسباني طبعا) متعصب جدا ومعتد بنفسه فإذا رأى الدكتور الهلالي يلقي دروسا بدون استئذانه يخاف أن يكيد له كيدا، فيستحسن أن يطلعه على ذلك لينجو من شره، فشاورت الأستاذ عبد الخالق الطريس رحمة الله وكان قد عينني أستاذا في المعهد الحر وهو مؤسسة وطنية خارجة عن نفوذ المستعمرين نوعا ما، فقال لي: اكتف بإلقاء الدروس في المعهد ود عنك هؤلاء الأرذال، فصرفت النظر عن ذلك.(10/41)
ثم عادت الجماعتان إلى الالتماس وقلت: عسى أن يكون في إجابة طلبهم خيرا، فقلت لبردا: أخبر مدير المعارف بأني أريد زيارته فأخبره، فرحب بذلك واجتمعت به بحضور مدير المعارف المغربي، وكان حضوره صوريا لا حول له ولا قوة ومع ذلك حاول أن يستغل وجوده فأراد أن يشترط على شرطا يتنافى مع الغرض المطلوب، فقال لي: إن الإسبانيين يشترطون عليك أن تكون دروس وعظك خالية من السياسة وخالية من الآراء الشاذة يريد بذلك إنكار الشرك والبدع، فقلت له: أنا لا أقبل هذا الشرط وسأتكلم مع المدير الإسباني فإن أصر عليه عدلت عن إلقاء الدروس، فتكلم المدير الإسباني وقال لي: لقد فرحت بزيارتك لأني أحب العلماء وخصوصا أمثالك الذين يجمعون بين الثقافتين الأوربية والإسلامية وهم قليل بل ما رأينا منهم أحدا قبلك، ولكني أكره للعلماء أن يشتغلوا بالسياسة لأنها تفسد عليهم علمهم وفي رأيي أن على العالم أن ينقطع لخدمة العلم ويترك السياسة، فقلت له: يمكنك أنت أن تفعل ذلك أن تنقطع إلى العلم وتترك السياسة لأن لك دولة قائمة تغنيك عن ذلك، أما أنا فلا يمكنني ترك السياسة لأمرين: أولهما أن القرآن والحديث كلاهما مشحونان بالسياسة، فلا يمكن أن أفسر القرآن وأشرح السنة إلا بالخوض في السياسة، وثانيهما أن المغرب في هذا الزمان كالجسم المريض ونحن أبناؤه يجب علينا السعي في استرداد ما فقد من الصحة والمحافظة على ما لم يفقده منها، فقال: أنا أوافقك على أن المغرب مريض ولكن ينبغي لنا أن نعطيه الدواء إذا أردنا شفاءه بقدر محدود، فقلت له مغالطا: إذا نحن متفقون على السعي في علاجه وشفائه، وفهمت منه الموافقة على إلقاء الدروس.(10/42)
وبدأت بإلقاء ثلاثة دروس في المسجد الجامع كل أسبوع، فأقبل الناس علماؤهم وعامتهم على هذه الدروس إقبالا عظيما مع أن علماءهم إلا واحدا وهو الأستاذ محمد الطنجي كانوا معادين ومحاربين للتوحيد وأتباع السنة أشد المحاربة، وهددوا بأن يعينوا لجنتين إحداهما تناظرني في الأصول والأخرى تناظرني في الفروع فلم أعبأ بهم وأخذت أحطم أصنامهم في دروسي. ولما بدأت دروسي في الجامع الكبير لم يكن أحد يضع اليمنى على اليسرى في الصلاة، ووضع اليمنى على اليسرى في الصلاة وقراءة بسم الله الرحمن الرحيم في أول الفاتحة أعظم شعار للمتبعين للسنة فبدأ العوام يعملون بهذه السنة وغيرها. وكان الناس يتعجبون من العاملين بها ولكن باستمرار الدروس بضع سنين كثر المتبعون للسنة في هذا المسجد حتى صار الناس إذا رأوا رجلا سادلا يديه في الصلاة لا يرفع عند الركوع ولا عند الرفع منه ولا يجهر بالتأمين يتعجبون منه.
*الحوادث التي وقعت أثناء إقامتي في شمال المغرب*
الأولى: كان في طنجة الشيخ أحمد بن الصديق شيخ الطريقة الشاذلية المسماة هناك بالدرقاوية، سمعت أن أباه محمد بن الصديق ورد طنجة منذ زمان غير بعيد من قبيلة غمارة فقيرا لا يملك شيئا، ودعا الناس إلى الدخول في طريقته فاستجاب له بعضهم ونمت دعوته إلى أن أسس زاوية.(10/43)
والزاوية في الحقيقة كالضرة للمسجد فهي بناء قصد به إقامة الصلوات الخمس مع الأذان في كل وقت وقراءة القرآن وإلقاء دروس الوعظ، فهي إلى هذا الحد تشبه المسجد وتكاد تكون إياه، ولكن قد قصد بها بالدرجة الأولى اجتماع طائفة مخصوصة لها اسم يعينها كالدرقاوية والتجانية والقادرية والزروقية والناصرية والكتانية والكرزازية والوزانية وهلم جرا، يجتمعون فيها لما يسمونه بالذكر، وهذا الذكر يكون جماعة بلسان واحد كترانيم النصارى في كنائسهم، وبالنسبة للدرقاوية التي نحن بصدد الكلام فيها يكون معه غناء ورقص وآلات اللهو كالطبل والدف والمزمار وسائر الآلات، ويجتمع فيها رجال ونساء على ذلك وبذلك تخالف المسجد.
وبعدما استقر الشيخ محمد بن الصديق في طنجة وانتشرت طريقته بعض الانتشار نشأ أولاده وشبوا، فأخذوا يقصدون مصر لطلب العلم وكبيرهم في السن والعلم هو الشيخ أحمد المذكور آنفا أقام بمصر سنين جادا مجتهدا حتى حصل على نصيب وافر من علوم اللغة والعلوم الشرعية، وفتح له في التأليف فألف كتبا كثيرة ورجع إلى طنجة، وكان أبوه وأصحاب طريقته إلى حين رجوعه مقلدين كغيرهم لا يعملون بالحديث ولو كان مثل الشمس، فدعاهم أحمد إلى ترك التقليد والعمل بالحديث في الفروع التي لا تمس الطريقة وعقائدها بشيء من التغيير فاستجاب له والده وأتباعه كلهم، وبذلك ضرب سورا على أتباعه يحرسهم من فتنة الفقهاء المقلدين، فلا يمكن أن يسألوهم عن شيء ولا أن يأخذوا منهم شيئا من العلم أما عبادة القبور والرقص واعتقاد وحدة الوجود وتقديس زنادقة الصوفية كابن عربي الحاتمي، وتعاطي الأوراد المبتدعة والاستمداد من الشيوخ والاستغاثة بهم فقد ترك كل ذلك على حاله ولم يغير منه شيئا.(10/44)
ولما استقررت أنا في تطوان وهي شرقي طنجة على مسافة أربعين ميلا وعرفت ذلك كله ظهر لي أن دعوة الشيخ المذكور توافق دعوتي في جانب وتخالفها في جوانب، فعزمت على أن أدعو إلى توحيد الله واتباع السنة دون أن أتعرض للشيخ أحمد بطعن ولا بتزكية من الوجهة الشخصية فأنا أدعو إلى توحيد الله وأعلم الناس معنى لا إله إلا الله محمد رسول الله أي جميع مدلولات الكلمتين، وأبين لهم أن من عبد غير الله بشيء من أنواع العبادات المذكورة أعلاه بعد أن يعرف أن هذا شرك ويصر على عمله فهو مشرك، ومن اعتقد وحدة الوجود فهو كافر، ومن استمد أو استغاث بغير الله فهو كافر، ومن ترك الكتاب والسنة وقلد الرجال قلادة سوء فهو ضال، وقد يفضي به إصراره على ذلك إلى الشرك كما قال تعالى: { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [النور: 63] قال الإمام أحمد لصاحبه الفضل بن زياد رحمهما الله: أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك لعله إذا رد بعض قوله (يعني النبي صلى الله عليه وسلم) أن يقع في قلبه زيغ فيهلك، وهذا تفسير للآية في غاية التحقيق من وجهة الدلالة ومن وجهة العلم والمعرفة الذوقية لا يرتاب فيه إلا جاهل غمر.(10/45)
وانتظرت من الشيخ أحمد بن الصديق أن يسلك معي هذا المسلك نفسه، فلا يدعو إلى تلك الضلالات ويذم أهل التوحيد بل يتمسك بعقيدة السلف الصالح وذلك لازم لدعوته على سبيل العموم دون أن يسميني ولكنه سلك طريقا آخر، فغره استيطانه في طنجة وما له من أتباع، وعلم أني غريب في تلك الناحية يحاربني الاستعمار- ولا يخفى ما كان له في ذلك الزمان من سلطانه- ويحاربني جميع الناس تقريبا: فبعضهم يحاربني لأنه طرقي لأني أطعن في الطرائق كلها إلا طريقة النبي والصحابة والتابعين وهي الحنيفية، وبعضهم يحاربني لأنه مقلد جامد يقلد خليل بن اسحاق مؤلف المختصر الفقهي وشروحه لا يخجل أن يقول: نحن خليليون؟ إن دخل خليل النار دخلناها معه وإن دخل الجنة دخلناها معه!! هكذا يقول غلاة السفهاء الذين يسمون بالفقهاء.
حدثني الشيخ الورع الصالح محمد بن أبي طالب الحسني الهاشمي أن الفقهاء أجتمعوا في مدينة فاس في الضريح الإدريسي الذي يكاد يكون كعبة عندهم، وكان الشيخ الإمام المحدث الداعي إلى الله على بصيرة شيخ شيوخنا عبد الله السنوسي نزيل طنجة رحمة الله عليه يطعن في أولئك الجامدين ويضللهم، فجاءه أحدهم بعد انفضاض الاجتماع في الضريح المذكور فقال له يا سيدي لم لم تشرفنا بحضورك؟ فقال: أنت تعلم لماذا، فإنكم اجتمعتم للصلاة عند القبر وأنتم أسارى التقليد الأعمى فقال له المقلد: نحن خليليون إن دخل خليل النار دخلناها معه وإن دخل الجنة دخلناها معه؟ فقال الشيخ على البديهية:
{ أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ } (الأنبياء: 67).
فبدأ الشيخ أحمد يطعن في علمي عندما أخذت أدعو الناس إلى اتباع الكتاب والسنة يقول: هذا طفيلي جاء من أوروبا يتزيا بالزي الأوروبي، وهو زي الكفار فمن أين جاءه علم الكتاب والسنة وأين درسه أفي برلين أم في بون؟(10/46)
ثم بدا للإسبانيين المستعمرين أن يؤسسوا صحيفة عربية يومية جامعة فطلب مني الحاكم الإسباني بواسطة بردا أن أنشر فيها مقالات في الدين والعلم والأدب دون أن أتعرض للسياسة. وكان هذا امتحانا ثانيا أرادوا أن يمتحنوني به فقبلت، وكتبت مقالات على شريطتهم، منها مقال في حل حديث مشكل ذكره الإمام ابن القيم في كتابه (الطرق الحكمية) وذكر من خرجه مع أسانيدهم وقال: إنه على شرط مسلم، إلا أن بعضهم علله باضطراب متنه ثم أجاب ابن القيم عن ذلك، وأثبت صحة الحديث، وسأسوق الحديث هنا ليطلع عليه القراء بلفظ النسائي.
قال ابن القيم ص 62 ما نصه: قال النسائي ((حدثنا محمد بن يحيى بن كثير الحراني، وحدثنا عمر بن حماد بن طلحة، حدثنا أسباط بن نصر عن سماك عن علقمة بن وائل عن أبيه (( أن امرأة وقع عليها رجل في سواد الصبح -وهي تعمد إلى المسجد- بمكروه على نفسها، فاستغاثت برجل مر عليها وفر صاحبها، ثم مر عليها ذوو عدد فاستغاثت بهم فأدركوا الرجل الذي كانت استغاثت به فأخذوه وسبقهم الآخر فجاءوا به يقودونه إليها فقال: أنا الذي أغثتك وقد ذهب الآخر، فأتوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته أنه وقع عليها وأخبر القوم أنهم أدركوه يشتد فقال إنما كنت أغيثها على صاحبها فأدركني هؤلاء فأخذوني، فقالت: كذب هو الذي وقع علي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((انطلقوا به فارجموه)) فقام رجل، فقال: لا ترجموه وارجموني فأنا الذي فعلت بها الفعل واعترف فاجتمع ثلاثة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي وقع عليها والذي أغاثها والمرأة، فقال: ((أما أنت فقد غفر لك ))، وقال للذي أغاثها قولا حسنا، فقال عمر رضي الله عنه: ارجم الذي اعترف بالزنا فأبى رسول لله صلى الله عليه وسلم وقال: ((لا إنه قد تاب)).(10/47)
وكان بحثي في هذا المقال منصبا على الإشكال الواقع في الحديث وهو كيف أمر النبي صلى الله عليه وسلم برجم الرجل الأول الذي أغاثها دون أن تثبت عليه بينة الزنا وهي الاعتراف أو شهادة أربعة شهداء؟ فما كاد المقال يقع في أيدي الناس ويقرأ حتى اشتد غضب الشيخ أحمد بن الصديق، وكأنني هجمت على بيته ونهبت أثمن ما عنده وقال: ما شأن هذا الرجل والحديث؟! هذا رجل متفرنج أقام زمانا طويلا في أوروبا متطفل على الكلام في حديث النبي صلى الله عليه وسلم، فكتب مقالات هو وأعوانه في الرد علي. وكان محرر صحيفة الأخبار شخصا اسمه عرفة الغماري بينه وبين الشيخ المذكور قرابة، فكان إذا جاءه مقال منه أو من أحد أعوانه الذين كانوا يحاربونني معه يبادر بنشره ويؤخر مقالي بعض التأخير، لكنه لا يستطيع أن يترك نشره لأن سادته المستعمرين لا يسمحون له بذلك، واستمرت المعركة مدة من الزمان فيما بيني وبينهم، كانوا كعادتهم يمزجون الشتم بالعلم فأدع الشتم لا أجيبهم عنه وأجيبهم عن مسائل العلمية فقط؛ فاكتسبت بذلك وبالحجج القوية التي أدليت بها كثيرا من الأنصار من قراء صحيفة الأخبار.
وكان مدار رد الشيخ أحمد على مقالي غريبا لا يتعلق بأصل الإشكال بل سلك سبيلا أخرى، وهي قوله: إن الحديث ضعيف لا بالاضطراب في المتن كما قال بعض الحفاظ ولا بالانقطاع في بعض أسانيده كما قال غيرهم، ولكن بدعوى أن سماك بن حرب الذي عليه مدار الحديث ضعيف، وإذا كان الحديث ضعيفا لا يثبت فلا حاجة إلى البحث في الإشكال الذي وقع فيه. فأثبت في محاجتي لهم أن أكثر النقاد وثقوا سماكا وهو من رجال مسلم، ثم وجدت أن الشيخ أحمد بن الصديق نفسه يحتج بسماك هذا في أحد كتبه.(10/48)
وبينما المعركة جارية قد حمي وطيسها إذا برجل اسمه عبد القادر الجزائري كان من جماعتهم الطرقيين ثم صار من جماعتنا السلفيين يكلمني بالهاتف من طنجة ويقول: قد جاءني السيد محمد الزمزمي بن الصديق وأخبرني أن أخاه الشيخ أحمد بن الصديق يريد الاجتماع بك لإزالة ما حصل من الخلاف وإصلاح ذات البين، ولما كانت إقامتك في طنجة لا تطول فهو يرجو أن تعرفه باليوم الذي تتوجه فيه إلى طنجة ليتم اجتماعكما، وقد يخفى على من يعرف الأحوال هناك أن الشيخ الزمزمي لا يتنازل ليذهب إلى رجل ليس في مستواه، يضاف إلى ذلك أنه كان من مريديهم فخرج عن طريقتهم وإن تنزل إلى أن يكلمه ويوسطه فلا يتنزل إلى أن يأتي إلى بيته ولكنه فعل كل ذلك رغبة في إصلاح ما وقع بيننا، وهذا أمر يدل على عقل وفضل وإنصاف لأن هؤلاء الإخوة كان لهم مقام مرموق وأتباع وأعوان، أما أنا فقد كنت غريبا ليس لي أنصار ولا أعوان، وعبد القادر الجزائري تقدم ذكر حاله. فقلت له: لا حاجة إلى تعيين اليوم لأني سأقدم طنجة وأقيم فيها ثلاثة أيام وفي أثنائها يمكن الاجتماع بالسيد محمد الزمزمي. ولما قدمت اجتمعت فعلا به في بيت الجزائري وتحدثنا ساعتين فقال لي: إنك قدمت هذه البلاد بزي إفرنجي وهيئة إفرنجية، ولم نعهد من أصحاب هذا الزي إلا الكفر والإلحاد، ولم نكن نعرفك من قبل فظننا أن تدخلك في أمور الدين كتدخل كثير من أعدائه المفسدين، ثم تبين لنا بيقين علمك وفضلك وصدقك، فأراد أخي الشيخ أحمد أن ندعوك إلى الصلح والتعاون على ما اتفقنا عليه من دعوة الناس إلى أتباع حديث الرسول وترك التعصب للمذهب، وكلانا غريب في هذه البلاد في دعوتنا إلى أتباع الهدي النبوي- وكلاما طويلا في هذا المعنى- فقلت له: أنا منذ قدمت هذه البلاد وخبرت أحوالها عرفتكم، وعرفت دعوتكم وعزمت على التعاون معكم فيما اتفقنا عليه، وأما ما اختلفنا فيه، فكل منا يدعو إلى ما يعتقد، دون أن يتعرض بعضنا للطعن في بعض، فقال لي: إن(10/49)
الأخ الشيخ أحمد يدعوك إلى الغداء في بيتنا غدا بعد الظهر فقبلت.
ولما وصلت إلى الشيخ أحمد رحب بي واحتفل بي أعظم احتفال، ووجدته قد دعا للغداء كثيرا من أعيان البلد، ووضع لنا ثلاثة عشر لونا من الطعام باعتبار أنواع الحلوى ولم أر في عمري كله غداء بلغ ذلك العدد من الألوان، ولما فرغ الناس من الأكل دعاني إلى خزانة الكتب التي يشتغل فيها بتآليفه الكثيرة، وليس فيها إلا خزائن الكتب وحصير مفروش في أرضها يقعد عليه ويشتغل بالتأليف على الطريقة المغربية القديمة. وكان في إمكانه أن يؤثث مكتبا كمكاتب الوزراء ولكنه زهد في ذلك مع أنه كان يعيش معيشة الترف في قصر فخم، ولكنه أراد أن يترك خدمة العلم تسير في نهجها القديم، وبعد محادثة ودية طويلة افترقنا على أن لا يتعرض بعضنا إلى الطعن في صاحبه، ولكن كل منا يدعو إلى ما يعتقد أنه حق ويرد ما يعتقد أنه باطل.
واستمررنا على ذلك مدة إقامتي بتطوان ونواحيها، وقد استمرت من ربيع 1942 إلى صيف 1947. وفي أثناء هذه المدة ألفت كتابا سميته الصراط المستقيم في صفة صلاة النبي الكريم فقرظه الشيخ أحمد في صحيفة الأخبار، وبقي الأمر فيما بيننا كذلك إلى أن سافرت قافلا إلى العراق لم يحل ولم يتغير، ولما سمعت وأنا في تطوان أن الشيخ أحمد أفتى بزيادة (سيدنا) في الأذان وأن مؤذنه يقول: أشهد أن سيدنا محمدا رسول الله أنكرت ذلك ولم أتعرض لشخصه بسوء، ولما وصلت إلى العراق كتب إلى أحد الأخوان أنه ألف جزءا سماه إحياء المقبور في استحباب البناء على القبور، فأنكرت ذلك ولم أتعرض لشخصه بسوء، وبذلك تعلم كما يعلم كثير من أهل طنجة وأهل تطوان، ومنهم الأستاذ العالم الداعي إلى الله على بصيرة، فخر آل الصديق ورائدهم في طريق الحق وفرطهم إلى الهدي صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد الزمزمى بارك الله في حياته ونفع بعمله.(10/50)
فتبين بما ذكرناه أن ما سطره هذا الناعق كله افتراء من بنات غيره (1). وهنا أذكر الألفاظ البذيئة التي وصمني بها كذبا وزورا ثم أنقضها بالتفصيل حتى يعلم من لا يعلم أنه مفتر يكذب على الحاضرين ويعرض نفسه لزيادة سخرية الساخرين، فقد ألف هذا المسكين كتيبا سماه (التيمم في الكتاب والسنة) خبط فيه خبط عشواء وملأه بسب العلماء الأئمة المتقدمين والمتأخرين وهذا نص ما كتبه في صفحة (57): ((فقد جاء إلى طنجة رجل من هؤلاء الدعاة مدعيا محاربة البدع، فأصبح ذات يوم حليفا فأرسل إليه شقيقي الحافظ أبو الفيض من يسأله كيف يتفق حلق اللحية مع أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإعفائها وزعمه العمل بالسنة والدعوة إليها؟ فأجاب السائل بقوله: معنى الحديث اعفوا لحاكم إن شئتم، فقال شقيقي للسائل: ولم لم تقل له: أقيموا الصلاة إن شئتم. ولا تقربوا الزنى إن شئتم؟ فهذه هي السنة التي يدعو إليها هذا الضال وأمثاله، وقد انتقل ذلك الضال إلى بعض مدن الجنوب عاملا على بذر بذور الشقاق والتفرقة بين المسلمين. وإني أعتقد أنه مستأجر من جمعية التبشير الإنكليزية أو الأمريكية لإيقاع التفرقة بين المسلمين لأن التفرقة بينهم هي الوسيلة التي ينال بها الاستعمار أغراضه)).
__________
(1) يقال: جاء ببنات غير: أي بأكاذيب.(10/51)
في هذا الكلام أنواع من البهتان: الأول: قوله: فأصبح ذات يوم حليقا يواهم أنني جئت إلى طنجة بلحية ثم حلقتها، وهذا كذب محض يلعنه عليه خلق كثير لا يزالون أحياء يرزقون، والحقيقة أنني جئت إلى طنجة من برلين عاصمة ألمانيا بعدما أقمت في تلك البلاد زهاء ست سنين لتحصيل العلوم العصرية وشهادة الدكتوراه الجامعية، وقد حصلتها ولله الحمد في مدة لا تزيد على أربع سنين، وسبب توجهي إلى طنجة أن سماحة المفتي السيد أمين الحسيني بارك الله في حياته بعثني إلى الأستاذ الزعيم المجاهد عبد الخالق الطريس لغرض سياسي فيه خير للمسلمين المغاربة كما تقدم، وكنت مدة إقامتي في ألمانيا أحلق لحيتي متأولا حديث الأمر بعفو اللحى على أن الأمر للندب. وقد خيل إلى في ذلك الزمان أن الأوامر الواردة في خصال الفطرة كإحفاء الشارب وعفو اللحى ونتف الإبط وتقليم الأظفار ينبغي أن يسلك بها مسلك احد، فإما أن تحمل على الوجوب كلها وإما أن تحمل على الندب كلها، وأن حمل لا!مر الوارد في اللحية وحده على الوجوب وحمل سائرها على الندب تناقض.
وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم في صبغ الشعر ((خالفوا اليهود والنصارى فإنهم لا يصبغون))، واستأنست بأقوال بعض العلماء الذين سلكوا هذا المسلك وقد ذكرهم أخوه عبد العزيز في تأليفه الذي رد فيه على أخيهما الأستاذ الزمزمي، وهو لا شك يعرفه، ثم ظهر لي أن الداعي إلى الله لا ينبغي له أن يعتمد على التأويل ولا يكون له عليه تعويل، بل يجب عليه أن يكون قدوة حسنة في أقواله وأفعاله وسيرته فعفوتها ولله الحمد ولا آخذ منها شيئا.(10/52)
على أن حلق اللحية على ما ذهب إليه جمهور الأئمة من التحريم لا يتعدى أن يكون من الصغائر، ولا يصل إلى حد الكبائر، وقد بسط القول في ذلك شارح العقيدة الطحاوية أنظر كلامه في ص 356 فقد اختار في حد المعصية الكبيرة أنها ما يترتب عليها حد أو توعد عليه بالنار أو اللعنة أو الغضب وهذا أمثل الأقوال ا هـ. والصغيرة ضدها وهي ما لم يترتب عليها حد ولا توعد عليها بالنار أو اللعنة أو الغضب، ثم قال وترجيح هذا القول من وجوه: أحدها: أنه هو المأثور عن السلف كابن عباس وابن عيينة وابن حنبل (رضي الله عنه) وغيرهم.
ولا أقول ذلك تصويبا لحلق اللحية أو تهوينا لشأنه، فإن الواجب على كل مسلم أن تكون له في رسول الله أسوة حسنة وأن يبذل جهده في موافقة قدوته وإمامه صلوات الله وسلامه عليه في الظاهر والباطن، ولكني أعجب لهذا الإنسان الذي يأتي بالطوام الكبرى التي لا تحلق الشعر بل هي الحالقة للدين والمروءة، ثم لا يجد ما يطعن به في أحد الدعاة إلى الله على بصيرة إلا بالتشنيع عليه في معصية من الصغائر قد تاب منها وتركها وهذا من الإفلاس.
الثاني: زعمه أن شقيقه- وهو عوض أبيه وليس له ولا عشر معشار علمه وعقله- زعم أنه أرسل إلي رسولا وهو كاذب مفتر فإنه لم يرسل إلي قط إلا أخاه السيد الزمزمي في طلب الصلح كما تقدم.(10/53)
الثالث: قوله: إني قلت له: معنى الحديث اعفوها إن شئتم، أقول فيه: سبحانك هذا بهتان عظيم، لو أرسل إلي رسولا وأجبته بذلك فإن العادة تقضي عليه أن يحضر دروسي في الجامع الكبير بتطوان، وكان يحضرها فئام من الناس من الموافقين والمخالفين، فلو قلت ذلك لسمعه الحاضرون. وقد سئلت عن هذا الحكم في تلك الأيام مرارا وتكرارا فأجبت بما تقدم من التأويل، وكل من كان يحضر دروسي يعلم ذلك ولا يشك في كذب هذا المفتري وسيزداد كذبه وضوحا حتى يصير كشمس الضحى ليس دونهما غمام { وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ } [الحج: 18] وحينئذ يعلم أنه كان في ذلك كالباحث عن حتفه بظلفه، وكالجادع بكفه مارن (1) أنفه فنعوذ بالله من الخذلان.
الرابع: قوله: وقد انتقل ذلك الضال إلى بعض مدن الجنوب عاملا على بذر بذور الشقاق والتفرقة بين المسلمين، أقول: هذا مضرب المثال رمتني بدائها وانسلت، أتدري أيها المأفون الذي يهرف بما لا يعرف لماذا انتقلت إلى الجنوب؟ لأن الاستعمار الفرنسي كان قد نفاني من وطني الجنوب ومن الجزائر وتونس أيضا، ولم نر أحدا من المنفيين نفاه الفرنسيون مثل هذا النفي المشدد وبذلك تعلم ما أدركك من الشقاء حين تجرأت على ذكر الاستعمار بوقاحة ليس لها نظير.
يا ليت لي من جلد وجهك رقعة ... فأقد منها حافرا للأدهم
مثلك يتجرأ على ذم الاستعمار، وهل نشأت أنت ومن معك إلا في حجر الاستعمار، وهل جلب عليك وعلى إخوانك الشقاء إلا تقلص ظل الاستعمار؟!
__________
(1) المارن من الأنف: هو ما لان منه.(10/54)
الخامس: أن هذا المفتري لما رأى دعوتي إلى توحيد الله والتمسك بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكناس ونواحيها قد أينعت وآتت أكلها شوى الحسد قلبه فسمى ذلك شقاقا وتفرقة بين المسلمين، ولو كان له من الحياء والتفكير فيما يقول مثقال ذرة لاستحى أن يذكر التفرقة بين المسلمين، ويرمي بها بريئا حنيفا ويحتمل بهتانا وإثما مبينا، وهل كتابك هذا من أوله إلى آخره الذي شتمت فيه الأولين والآخرين- لاشتم الأشراف بل شتم أرذال السوقة- إلا شقاق، ونفاق وتفرقة بين المسلمين؟! وإلا فمسألة التيمم واضحة وقد قتلها الناس بحثا من قبل أن تميز، والحق فيها واضح، أنا أدعو الناس إلى أمرين في كل مكان دعوت فيه إلى الله في الشرق والغرب وفي أوروبا.
أولهما: تحقيق معنى لا إله لا الله بجعل جميع أنواع العبادة، من دعاء واستغاثة، واستعانة فيما يخرج عن الأسباب، ونذر، وحلف، وتوكل، واستعاذة، واستمداد وعبودية، وخوف، ورجاء، وجعل شيء من الأحكام الخمسة، وصلاة، وصيام، وصدقة، وحج، وسفر يراد به التقرب إلى الله، وما أشبه ذلك، لله وحده لا شريك له لا يجعل شيء منه ولا مثال ذرة لملك مقرب ولا لنبي مرسل ولا غير مرسل ولا لصديق ولا لصالح ولا لأحد من الجن والإنس فهذا مجمل الأمر الأول.(10/55)
الأمر الثاني: تحقيق شهادة أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم بامتثال ما أمر واجتناب ما نهى عنه وزجر، وأن لا يحول دون اتباعه حب شيء من المحبوبات الثمانية المذكورة في قوله تعالى: { قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } [التوبة:24] ويدخل في العشيرة المذهب والطريقة والحزب، ومن يعد هذين الأصلين اللذين قامت عليهما الحنيفية السمحة ملة إبراهيم وخير أبنائه بل خير خلق الله على الإطلاق محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم من يعد ذلك شقاقا وتفريقا بين المسلمين إلا شيطان رجيم أفاك أثيم؟!
السادس: قوله: وإني أعتقد أنه مستأجر من جمعية التبشير الإنكليزية أو الأمريكية لإيقاع التفرقة بين المسلمين لأن التفرقة بينهم هي الوسيلة التي ينال بها الاستعمار أغراضه. أقول:
وإذا استوت للنمل أجنحة ... حتى يطير فقد دنا عطبه(10/56)
بهذا الكلام أمكن هذا الغبي من نفسه وعرضها للهلاك ألا تعلم أيها البليد أن الناس لهم أعين يبصرون بها وآذان يسمعون بها وقلوب يفقهون بها، فأقرب الناس إليك من حيث السكنى أهل طنجة يكذبوك ولو استطاعوا لرجموك بالحجارة فاسألهم ماذا صنع السفير الفرنسي حين ردع الحلفاء الغربيون إلى طنجة حين دب الضعف إلى قوة ألمانيا الهتلرية يخبرونك ويخرجون لك الجريدة الرسمية بالعربية والفرنسية وفيها ما معناه: أن محمدا تقي الدين الهلالي من وكلاء ألمانيا وقد طلب السفير الفرنسي من السفير الإنكليزي والسفير الأمريكي- يعني سفير الولايات المتحدة الأمريكية- أن يوافقوه على القبض عليه متى دخل حدود طنجة الدولية فوافقه السفيران على ذلك، وحينئذ انهالت على المحادثات الهاتفية من طنجة تحذرني من دخولها فهلا سألت الناس يا مغرور قبل أن تسطر ذلك الخزي المبين؟.(10/57)
ولما أردت السفر قافلا إلى العراق كتبت إلى السفارة المصرية من تطوان أطلب منها سمة الدخول إلى القطر المصري، فبعث إلى قنصلها استمارة طلب مني أن أملأ مواضع البياض فيها وهي مكتوبة بالإنكليزية، ومن جملة ذلك هل عندك سمة تمكنك من الخروج من مصر إلى لبنان؟ ولم أجد ما أملأ به هذا الموضع، فكتبت إلى أمير البيان المجاهد الأكبر حقا وصدقا الأمير شكيب أرسلان وكان لا يزال منفيا في جنيف بسويسرا، فكتب إلى يقول: إن لي فضلا على رئيس الجمهورية اللبنانية (بشارة الخوري) فإني أنقذت أباه من الموت في زمان حكم الأتراك العثمانيين، ولم أقتصر على ذلك حتى طلبت له راتبا من الدولة العثمانية، فاكتب إليه كتابا وابعثه إلي وأنا أشفعه بكتاب آخر من عندي ليبعث إليك سمة الدخول إلى لبنان لتتمكن من الدخول إلى مصر، فكتبت إليه الكتاب وبعثه هو إلى رئيس الجمهورية اللبنانية، فجاءني كتاب من وزارة الخارجية اللبنانية، موجه إلى القنصل الفرنسي في تطوان يلتمس منه أن ينوب عن وزارة الخارجية اللبنانية في إعطاء الدكتور محمد تقي الدين الهلالي سمة الدخول إلى لبنان، وكان هذا القنصل قد طلب من المستعمرين الإسبانيين إنزال العقوبة بي ثلاث مرات للمقالات التي نشرتها في صحيفة الحرية في محاربة الفرنسيين، والدفاع عن الملك المجاهد الراحل محمد الخامس قدس الله روحه على رغم أنف أصحاب الطرائق المبتدعة الذين كانوا يعادونه خدمة للاستعمار وخيانة للمسلمين.(10/58)
فأخذت كتاب وزارة الخارجية وتوهجت إلى السفارة الفرنسية في تطوان، ولم يكن لهم في ذلك الوقت سفير وإنما كان لهم قنصل، فما رآني حتى عبس وبسر ولم يأذن لي في الجلوس على الكرسي بل تركني واقفا انتقاما مني لجهادي الذي أقض مضجعه- واسم هذا القنصل سوفوليس- ولما قرأ الكتاب قال لي بعنف وغضب: هؤلاء قد استقلوا ولم يبق بيننا وبينهم علاقة، فقلت له: أكتب لي هذا الجواب فقال: أنا لا أستطيع أن أكتب حتى أكتب إلى المقيم العام في الرباط فهو الذي يستطيع أن يجيب في هذه القضية وسأكتب إليه فانتظر الجواب، فقلت: كم أنتظر فقال: شهرين. فانتظرت شهرين ثم جئته، فلقيني بغير الوجه الأول ووضع لي كرسيا للجلوس عليه وقال: إن المقيم العام في الرباط قد وافق على إعطائك سمه الدخول، ولكن بشرط أن لا تمر لا على الجزائر ولا على تونس أما فرنسا فيمكنك المرور عليها، ولكن بشرط أن نتحقق أن عندك ما يكفي للنفقة على نفسك في مرسيلية لمدة شهر، لأن البواخر التي تسافر منها إلى بيروت بعد الحرب قليلة فقلت له: أعطني سمة الدخول إلى لبنان ودعني أفكر في طريق سفري فإن قررت السفر بطريق فرنسية رجعت إليك، ثم أراد أن يكفر عن ذنوبه الساببقة فقال: إن أعداء فرنسية ينفقون الأموال الكثيرة لبث الفتنة والعداوة بين الفرنسيين والمغاربة وينبغي للفرنسيين والمغاربة أن يتعاونوا على المصلحة العامة ولا يندفعوا مع الأعداء الذين لا يريدون بهذا الوطن إلا شرا، فقلت له: أما قولك إن أعداء فرنسة ينفقون الأموال إلى آخره فأنا لست ممن يشترى بالأموال وإنما أنا من المدافعين عن أوطانهم، وقد اتفق العقلاء والنبلاء على أن هذا مقصد شريف، ثم قلت له: إن السفير الفرنسي في طنجة ذهب إلى السفير الإنكليزي وسفير الولايات المتحدة وقال لهما: إن محمدا تقي الدين الهلالي وكيل لألمانيا وطلب منهما الموافقة على نفيي من طنجة وأنا لست وكيلا لألمانية وإنما أنا وكيل للمغرب وهو وطني أدافع عنه،(10/59)
فقال لي: لست مسئولا عما يقوله السفير الفرنسي في طنجة، وإنما أريد أن تعلم وتقول: إن مسيو سوفوليس القنصل الفرنسي بتطوان تلقاني باستقبال حسن، فأردت امتحانه وقلت له: إنني عازم على السفر إلى العراق وأنت تعلم أني منفي من وطني في الجنوب منذ زمان طويل فإذا أردت أن أتوجه إلى الرباط لأودع أستاذي شيخ الإسلام محمد بن العربي العلوي وغيره من الأصدقاء أتأذن لي في ذلك؟ فقال: ذلك ليس إلي ولا هو بيدي وإنما هو بيد المقيم العام في الرباط فإن أردت أن اكتب إليه كتبت إليه وتنتظر الجواب، فقلت لا تكتب إليه الآن حتى أعزم على ذلك فقال لي: اذهب إلى الكاتب يعطيك سمة الدخول إلى لبنان فذهبت إليه فطلب مني ثمانين بسيطة أي درهما إسبانيا فسلمتها له فأعطاني السمة.
هذا ما كان من أمر الفرنسيين معي ومعاملتهم لي في تطوان وطنجة. ونسيت أن أقول: إن صحيفة الحرية التي كانت لسان حزب الإصلاح الوطني عطلت بسبب مقالاتي التي أغضبت القنصل الفرنسي ثلاث مرات، كل مرة شهرا، وغرمت ألف بسيطة في كل مرة.
أما عداوة الإنكليز لمؤلف هذا الكتاب فهي كالشمس في رابعة النهار. ولولا أن مؤلف كتاب التيمم بين جدران الزاوية وفي وسطها للإطلاع على العورات أو في المقاهي والمتنزهات- على خلاف ما يدعيه من التصوف الكاذب- ولا يعرف من أخبار الدنيا الماضية والحاضرة شيئا لعرف عداوة الاستعمار ومحاربته لي التي بلغت في الوضوح عند أهل المغرب والمشرق أنها لا تخفى إلا على أعمى البصيرة، فمن أدلة عداوة الإنكليز ومحاربتهم لي أنهم سبوني مرارا وتكرارا في إذاعتهم العالمية من أول ابتداء الحرب إلى نهايتها والسامعون في مشارق الأرض ومغاربها لا يزالون أحياء يرزقون.(10/60)
وهل علمت يا مسكين أنني أول ما لقيت المجاهد الكبير السيد أمين الحسيني في برلين نوه بجهادي ومحاربتي للاستعمار بلساني وقلمي وخطبي المجلجلة في إذاعة برلين العربية التي كان يهتز لها طربا كل مجاهد مخلص في الشرق والغرب، وكان يشرق بها كل مدجل من عبيد الاستعمار خائن غدار. وبلغ صاحب السماحة الحاج أمين الحسيني- بارك الله في حياته- من تعظيمي إلى أن قال ذات يوم للزعيم رشيد عالي الكيلاني- كبير آل الشيخ عبد القادر الكيلاني ورئيس وزراء العراق سابقا الذي قاد ثورة مروعة على الاستعمار البريطاني في العراق- قال له ما نصه: أسأل الله ألا يحرمنا من وجود أمثال الدكتور محمد تقي الدين الهلالي، وقال كلاما أعظم من هذا تركته اقتصادا، واستمر على التنويه بجهادي إلى يومنا هذا. وآخر مرة نوه بجهادي كانت في قصره بظاهر بيروت في الصيف الماضي حين دعاني إلى مأدبة جمعت خلفا كثيرا من أهل الفضل والعلم والأدب.
وأورد لك هنا أيها المسكين شهادة أخرى وزنها عند المجاهدين ثقيل ألا وهي شهادة المجاهد المغربي العظيم السيد محمد بن عبد الكريم قائد ثورة الريف المشهورة التي بهرت العالم، لأنه حارب دولتين أوروبيتين هما فرنسة وإسبانية لمدة سنتين لما ذهبت لزيارته بالقاهرة في صيف سنة سبع وأربعين وتسعمائة وألف بتاريخ النصارى كان مريضا في الطبقة الرابعة ملازما للفراش، وجاء خلق كثير إلى مقصورة الاستقبال من الصحفيين ورجال الدولة المبرزين فاستقبلهم أخوه وسميه المجاهد محمد بن عبد الكريم واعتذر في الحال بأن أحضر عنده فجلست على كرسي إلى جانب سريره، فتلقاني بغية الشوق والمحبة والترحيب وقال لي: لم يكن شيء يسليني في منفاي وغربتي مثل خطبك البليغة الرائعة التي كنت تلقيها في إذاعة برلين العربية، فأثنيت على جهاده وفضله فقال لي: أنت مجاهد أكثر مني، وما كنت لأغتر بهذه الكلمة التي صدرت من هذا الرجل العظيم لشدة إعجابه بتلك الخطب.(10/61)
فكيف مع ذلك تتجرأ (1) أن تصمني بخدمة الاستعمار أو أخذ الأجرة من دعاة النصرانية الأوروبية أو الأمريكية؟! ومن يصدقك في هذا؟. ومتى رأيت أنت أو رأى أحد من البشر غيرك جماعة من دعاة النصرانية تبذل الأموال لدعوة الناس إلى توحيد الله واتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟! فقد انقلبت هذه الجماعة من دعوتها إلى النصرانية إلى الدعوة إلى الدين الحنيف ملة إبراهيم! ومن كان يعطينى أجرة على الدعوة إلى الله في صعيد مصر حين كنت أنت لم تخرج إلى الدنيا سنة 1341 هـ؟! ومن كان يعطيني أجرة إلى الدعوة إلى الله في تطوان؟ أ ومن كان يعطيني أجرة في الدعوة إلى الله في بغداد؟! أنا لم أعش بالدين قط مع أني ولله الحمد على دين الحق.
وما أنا بالباغي على الحب رشوة ... ضعيف الهوى يبغي عليه ثوابا
ولكنك أنت ومن يحلب في إنائك تعيشون وتأكلون بدين الشرك، وتصدون الناس عن سبيل الله وتبغونها عوجا، وسنرى من يصدق الناس كلامه أ أنت أم أنا، ولكن كما جاء في المثل بل هو من كلام النبوة القديمة "إذا لم تستح فاصنع ما شئت " ونظمه بعضهم فقال:
فلا والله ما في الدين خير ... ولا الدنيا إذا ذهب الحياء
إذا لم تخش عاقبة الليالي ... ولم تستح فاصنع ماتشاء
__________
(1) الخطاب موجه لمن افترى على الدكتور الهلالي. والكلام السابق كان استطرادا أثناء الحديث عن النوع السادس من أنواع البهتان التي افتريت على المؤلف.(10/62)
وقد سمعت بعدما رجعت من العراق إلى المغرب بعد الاستقلال أن أخاك العلامة المحقق الشيخ أحمد بن الصديق- الذي تدعي الاقتداء به زورا وبهتانا وأنت سالك غير سبيله- حين رجع المجاهد الأكبر في المغرب العربي محمد الخامس رحمة الله عليه إلى عرش آبائه الأكرمين توجه إليه وطلب أن يدخل عليه للسلام والتهنئة، فرفض الملك أن يأذن له، ثم توجه إلى مصر وسمعت أن الحكومة المصرية اتهمته وأخاه عبد الله بالتجسس فحكمت عليه بسجن طويل وعلى عبد الله بالسجن المؤبد كما يسمونه، وأسفت لذلك لما أعرف فيه من العلم والفضل ولما عاملني به من البر والكرم، وإني لأرجو أن يكون الله سبحانه وتعالى قد ختم له بالحسنى فتاب من الطريقة ومن كل ما كان مخالفا لعقيدة السلف الصالح. والله على كل شيء قدير.
أما أنت فلا أعرفك ولا تعرفني ولكن غلبت عليك شقوتك فتعرضت لشتمي
بدون مناسبة، أما قولك في الوهابية فسأفرد له كتابا علميا ليس فيه لغو ولا تهور ولا شتم ولا كذب وسأسميه: (الدفع بالتي هي أحسن) وقد جنيت على نفسك، وعلى أهلها براقش تجني وأقول لك غير مفتخر:
وإن لساني شهادة يشتفى بها ... وهو على من صبه الله علقم
وأنشدت أيضاً:
دعاني لشب الحرب بيني وبينه ... فقلت له:لا لا.. هلم إلى السلم
فلما أبى ألقيت فضل عنانه ... إليه فلم يرجع بحزم ولا عزم
فكان صريع الخيل أول وهلة ... فبعدا له مختار جهل على علم
وقد تعرض لي لما كنت مقيما في الشمال زمان الاستعمار رجال لا تساوي أنت قلامة ظفر أحدهم، فانقلبوا خائبين لأني بالله أستعين وإياه أستنصر وأستهدي وأدعو إلى سبيله على بصيرة، لا أريد بدعوتي إلا وجه الله ومنه أرجو القبول، فقل لي بالله: أي فائدة في الدعوة إلى رد التقليد وحده مع نصر الشرك الأكبر وعقيدة الاتحاد وتقديس إمامها ابن العربي الزنديق الذي أجمع الأئمة على كفره؟!(10/63)
ولا يتسع المقام هنا لذكر أسماء الأئمة الذين حكموا بكفره في عصور مختلفة وقد ألف الإمام إبراهيم بن عمر البقاعي الحافظ كتابين في إقامة البرهان على كفر ابن الفارض وابن عربي أحدهما سماه (تنبيه الغبي إلى تكفير ابن عربي) والثاني سماه (تحذير العباد من أهل العناد ببدعة الاتحاد)، أقام البرهان فيه على كفر ابن الفارض وأمثاله من أصحاب وحدة الوجود ونقل في هذين الكتابين نقولا وافية شافية عن اثنين وثلاثين إماما من بلدان مختلفة في عصور مختلفة تقتصر على ذكر أسماء اثني عشر إماما منهم لهم قدم صدق عند جميع المسلمين: الأول سلطان العلماء الإمام عز الدين بن عبد السلام، الثاني الإمام ابن دقيق العيد، الثالث الإمام الحافظ زين الدين العراقي، الرابع شيخ الإسلام أحمد بن تيمية، الخامس تلميذه الحافظ شمس الدين ابن القيم، السادس الإمام أبو حيان الأندلسي، السابع الإمام تقي الدين السبكي، الثامن الإمام جمال الدين ابن هشام صاحب المغني، التاسع الحافظ محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي مؤلف تذكرة الحفاظ، العاشر الإمام الحافظ تقي الدين الفاسي مؤلف تاريخ مكة، الحادي عشر إمام الصوفية في عصره أبو القاسم القشيري، الثاني عشر الإمام السهروردي مؤلف عوارف المعارف، فأي امرئ عنده ذرة من الإيمان والنصيحة لنفسه وللمسلمين يخالف هؤلاء الأئمة ويقدس الشيخ الأشد كفرا ابن عربي الحاتمي وشيعته؟! لا جرم أنه لا يفعل ذلك إلا زنديق مثلهم. ولا يجوز التوقف في الحكم عليهم، قال الإمام البقاعي في كتابه تحذير العباد المتقدم الذكر ما نصه: ((ولا يسع أحدا أن يقول: أنا واقف أو ساكت لا أثبت ولا أنفي لأن ذلك يقتضي الكفر، لأن الكافر من أنكر ما علم من الدين بالضرورة ومن شك في كفر مثل هذا كفر، ولهذا قال ابن المقري في مختصر الروضة: من شك في اليهود والنصارى وطائفة بن عربي فهو كافر)).
* الحدث الثاني في تطوان ونواحيها*(10/64)
وضعت حاشية على كتاب كشف الشبهات لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب وطبعتها ونشرتها، ولكنني استعملت في ذكر اسمه ما يسمى في مصطلح الحديث بتدليس الشيوخ، وهو جائز بل مستحسن إذا أريد به الإصلاح، وذلك أن الشيخ يكون له اسمان اشتهر بأحدهما ولم يشتهر بالآخر فيذكره الراوي عنه بالاسم الذي لم يشتهر به لمصلحة في ذلك، أما إذا فعل ذلك، ليوهم الناس علو سنده وترفعه عن الراوية عنه ليوهم الناس أنه لا يتنزل للرواية عن مثله لصغر سنه أو عدم شهرته وغير ذلك من حظوظ النفس الأمارة فهو مذموم، وقد سميت الشيخ محمد عبد الوهاب بن سليمان الدرعي فنسبته إلى جده ثم نسبته إلى الدرعية وذلك حق فهي بلدته ولكن لم يشتهر بذلك، وزاد الأمر غموضا أن في المغرب كورة تسمي (درعة) والنسبة إليها درعي، فنجحت فيما قصدته من ترويج الكتاب، فقد طبعت ألف نسخة فبيعت في وقت قصير، ولم يتفطن أحدا لذلك حتى الشيخ أحمد بن الصديق مع سعة إطلاعه وعلو همته في البحث وكثرة ما في خزائنه من الكتب بقي في حيرة لأنه بحث في تاريخ المنسوبين إلى (درعة) فلم يجد أحدا منهم يسمى بذلك ولا أثر عنه هذا الكتاب، فبعث إلي يسألني عن هذا المؤلف من هو فأخبرته بالحقيقة، ولما اطلع العلم الأجل مفتي المملكة العربية السعودية وشيخ شيوخها الشيخ محمد بن إبراهيم رحمة الله عليه على هذا العمل استحسنه كل الاستحسان. وإنما فعلت ذلك لأن المتأخرين من رجال الدولة العثمانية حرضوا شرار العلماء في جميع البلاد الإسلامية على تشويه سمعة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وكذبوا عليه، وأوهموا أتباعهم أنه جاء بدين جديد، وأنه يتنقص جانب النبي الكريم صلى الله عليه وسلم ويكفر المسلمين، إلى غير ذلك من الأكاذيب. وقد تبين لأكثر الناس بطلان تلك الدعوى وعلموا علم اليقين أن محمد بن عبد الوهاب من كبار المصلحين الذين فتح الله بدعوتهم عيونا عميا وآذانا صما، وأنه أحيا العمل بكتاب الله وسنة رسوله في جزيرة العرب(10/65)
بعدما كاد يندثر. وإلى الآن لا يزال بعض الغربان ينعقون بسبه كالغراب الذي تقدم ذكره، وذلك لا يضره: إن كانوا مسلمين فإن سبهم له يجعل حسناتهم في صحيفته وإن كانوا مشركين فإن الله يزيدهم عذابا.
ولما طبع هذا الكتاب غضب عباد القبور وأصحاب الطرائق وخطب كثير من أئمة المساجد خطبة الجمعة ونبهوا المستمعين إلى ما في هذا الكتاب من الضلال بزعمهم، لأن توحيد الله عندهم أعظم الضلال ولكن لم يستمع لهم أحد، أما العلماء المحققون، كالأستاذ محمد الطنجي والأستاذ المجاهد عبد السلام المرابط والأستاذ العبقري عبد الله كنون فإنهم رحبوا بطبع هذا الكتاب وأثنوا عليه وعلى مؤلفه وناشره، ولا يضر السحاب نبح الكلاب.
ماضر بدر السما في الأفق تنبحه ... سود الكلاب وقد مشى على مهل
ثم طبعت رسالة زيارة القبور مع حواش قليلة لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية وسميته أحمد عبد الحليم الحراني، ولم اذكر لفظ ابن تيمية للعلة السابقة الذكر، فراج الكتاب وانتشر ونفع الله به المسلمين، ولما بعثت من كل من الكتابين نسخة إلى الشيخ محمد بن إبراهيم رحمة الله عليه فرح بنشرهما واستحسن الطريقة التي سلكتها لبعد نظره ووفور عقله وحكمته.(10/66)
وقد جربت في بلاد المغرب في الشمال والجنوب أن نشر كتب التوحيد واتباع السنة يتوقف على نجاح الدعوة إلى الله في المساجد فإذا درس الداعي كتابا من كتب التوحيد وبين للمستمعين ما فيه من كنوز العلم والحكمة يرغب المستمعون في اقتناء ذلك الكتاب، وبقراءته تتسع معرفتهم للحق ويزدادون اطمئنانا ويقوى إيمانهم وتندفع عنهم الشبهات. فمن ذلك: أنني درست في الجامع الكبير كتاب فتح المجيد شرح كتاب التوحيد لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب وختمته في ذلك المسجد مرتين، فانتشر هذا الكتاب انتشارا عظيما حتى أني طلبت من جلالة الملك الفيصل جزاه الله عنا وعن المسلمين أحسن الجزاء، بواسطة فضيلة الشيخ عبد الملك بن إبراهيم بارك الله في حياته أن يمدني بنسخ من فتح المجيد، فأمر بإرسال ثلاثمائة وثلاث وأربعين نسخة بالبريد الجوي، فبدا لي أن لا أوزعها مجانا لأمرين: أحدهما: أنني لا آمن أن تقع بعض النسخ في أيدي أعداء التوحيد فيحرقوها، وقد رأيناهم يفعلون ذلك في المشرق والمغرب فإذا فرضنا أن شخصا أو أشخاصا بلغ بهم التعصب إلى أن يشتروا الكتاب ويحرقوه فإن ذلك لا يضرنا، لأننا نجمع دراهمه ونطبعه مرة أخرى ولا شك أنه لا يفعل ذلك منهم إلا قليل، لأن الناس مجبولون على حب المال والبخل به ولا يبذلونه إلا فيما هو أحب منه إليهم، الأمر الثاني: ما قاله المؤلف الإنكليزي الطائر الصيت (برنارد شو) أن الكتاب الذي لا يدفع ثمنه لا يقرأ.(10/67)
فبيعت تلك النسخ كلها إلا قليلا منها منحته للمستحقين ولم آخذ منهم لعلمي بفقرهم وصدقهم. بيعت في مدة قصيرة وصار الكتاب في حكم المفقود، وكنت أبيع النسخة بستة دراهم فقط، ولم يكن يروج إلا في البلدان التي تلقى فيها دروس التوحيد كمكناس وتطوان وأرفود، أما مكناس وأرفود فإنني ألقي فيهما دروسا في التوحيد وأما تطوان فقد تقدم أني دعوت إلى التوحيد فيها. وفي هذا الزمان يوجد فيها داع وهو أخي الأستاذ محمد العربي الهلالي، وصار الناس في هذه النواحي يبحثون عن هذا الكتاب ليشتروه بضعف ثمنه فلم يجدوا منه شيئا، ولما ذكرت ذلك لصاحب السماحة الأستاذ الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز أمتع الله المسلمين بطول بقائه وأخبرته أنني جمعت من بيع تلك النسخ ألفا وثمانمائة وخمسين ريالا سعوديا قال: لي وأنا أتبرع بستمائة ريال تضاف إلى ذلك ونشترك في طبعه من جديد، والكتاب الآن تحت الطبع، وذكرت ذلك أيضا للعالم الجليل بقية السلف الشيخ عمر بن حسن آل الشيخ أمتع الله المسلمين بطول بقائه فوعدني بتحصيل ألف نسخة، وهو كريم لا شك أنه يفي بوعده. وهذا الكتاب مع وجود الداعي الناجح في دعوته يساعد على نشر الدعوة مساعدة عظيمة لا ينقضي منها العجب. أما البلد الذي ليس فيد ذاع فإنه لا يروج فيه أصلا، فقد بعثت خمس نسخ إلى مدينة مشهورة في المغرب فبيع منها في سنة ثلاث نسخ فقط.
الحدث الثالث
هم جماعة من الناس بقتلي
وهذا الحدث فيه عبرة لمن اعتبر. فإني أصبت بداء الربو في تطوان واشتد علي ففرح المشركون عباد القبور وأصحاب الطرائق وقالوا إن الولي الأكبر رئيس الأولياء في تطوان واسمه السعيدي وله ضريح عليه قبة يعبده كثير من الناس، وإذا قحطوا يذهبون إليه ويسألونه المطر ويوافقهم سفهاؤهم الذين يسمونهم فقهاء.(10/68)
فبينما أنا مريض ملازم للفراش في بيت منفرد خارج تطوان وزجاج طاقته مكسور، فمن أراد أن يرميني برصاصة لا يحتاج إلا إلى حجر واحد يضعه إلى جانب الجدار فيطل علي ويرميني، بينما أنا كذلك جاءني أحد تلامذتي- وهو السيد محمد العبودي- فقال لي: إن فلان جاءني وقال لي: إنه هو وأمير قبيلة بني عروس وجماعة معهم وعدد الجميع خمسة وعشرون رجلا قد اجتمعوا في بيت أحدهم وتعاهدوا على قتلك وجمعوا الدية حتى إذا كان لك ورثة يدفعونها لهم، وقال لي:
إن صاحبكم في حكم الأموات فعما قريب نقتله ونريح الناس من شره، لأن الوقاحة بلغت به إلى أن طعن في جدنا القطب عبد السلام بن مشيش، قال لي ذلك وأنا مريض ملازم للفراش كما تقدم فقلت: { قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ * قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ } [التوبة: 51-52].
ولما أصبحت تحملت كلفة المشي إلى الزعيم عبد الخالق الطريس رحمه الله وأخبرته الخبر فقال لي: إن هذا الرجل ومن معه هم أتباع وأقارب خالد الريسوني أمير العرائش وقد أطلق المستعمرون يده يفعل ما يشاء ففوض أمرك إلى الله وتوكل عليه، فقلت: له هذا هو الرأي الذي عزمت عليه وإنما قصدت إخبارك.(10/69)
ومضت على ذلك سنتان وأنا أقاسي ألم الربو وأبيت الليالي الطوال جالساً أسعل وألهث، وكلما اشتدت نوبة الربو تخور عزيمتي وأقرر في نفسي أنني متى أقلعت عني هذه النوبة أذهب إلى القنصل الفرنسي واستسلم وأطلب العفو، لأني أعلم بواسطة الأطباء أن دوائي هو الهواء الناشف، والأراضي الشمالية التي بأيدي الإسبانيين كلها رطبة قريبة من البحر الذي كان يسمى بحر الروم، ويسمى الآن عبد الأوربيين ومن تبعهم بما معناه البحر الأبيض المتوسط وهو الذي عليه مراسي شمال المغرب والجزائر وتونس وطرابلس- التي تسمى اليوم ليبيا- والإسكندرية وبيروت ومراسي أوروبا والبلاد التركية، فأعرض مكان في هذا القسم من المغرب لا يزيد عرضه على ثلاثين ميلا وهو مستطيل من الغرب إلى الشرق، ولكني حين تزول عني نوبة الربو تعود إلى شجاعتي وتجلدي. بقيت على ذلك ثلاث سنين ونصفا إلى أن يسر الله لي الرجوع إلى العراق ولم أستسلم، وتقدمت محاورتي مع القنصل الفرنسي في تطوان، وفررت من الرطوبة إلى غرناطة من بلاد الأندلس وأقمت فيها أربعة أشهر، ولكنها هي أيضا ليست بعيدة من البحر.(10/70)
ثم رجعت إلى تطوان وقيل لي إن مدينة شفشاون على جبل عال ثم إنها بعيد من البحر نحو خمسة عشر ميلا فلو جربت الإقامة بها، فسافرت إليها يرافقني تلميذي الحاج أحمد هارون بارك الله فيه، فلما أردنا أن نأخذ غرفة في الفندق الجميل المخصص للسائحين امتنع صاحبه- وهو نصراني إسباني- أن يعطينا غرفة لما رآني أسعل وألهث وأبصق في كل حين، ورأى أن لم ذلك يتقزز منه النازلون في الفندق وكلهم من المترفين، فبقيت في مكتب الفندق جالسا على كرسي أفكر أين أنزل، فجاءني رجل أبيض أشيب تدل هيئته على أنه من أعيان البلد، فقال لي: تعرفني؟ قلت: لا. فقال لي: أنا أحمد الريسوني، وأنا من المحبين لك وأنا مستعد لإنزالك في بيتي على الرحب والسعة وسأكون سعيدا بإقامتك عندي ما شئت من الزمن، ولكن الحكومة سنت قانونا يمنعنا من إنزال الضيوف عندنا في الليلة الأولى، ويوجد هنا فندق حقير يمكن أن تمضي فيه هذه الليلة وفي الغد تنزل في بيتي فقلت له: جزاك الله خيرا، فأمضيت تلك الليلة في ذلك الفندق الذي أخبرني به ثم نزلت عنده وبقيت عنده بضعة أشهر وأكرمني غاية الإكرام.(10/71)
وحين استقررت في بيته حكى لي حكاية المؤامرة على قتلي بالتفصيل فقال لي: بلغنا أنك تطعن في كرامات الأولياء وولايتهم وتطعن بالخصوص في جدنا مولاي عبد السلام بن مشيش، فغضبنا لذلك وعزمنا على قتلك وجمعنا أن نشاور رئيسنا سيدي خالد الريسوني فذهبنا إليه ثلاثتنا وتكلم أمير بني عروس وهو يبكي وقال: يا بن العم لا خير في الحياة بعد أن نسمع القدح والطعون في شيخ الشيوخ وإمام العارفين جدنا عبد السلام بن مشيش والذي يطعن فيه وينتهك حرمته رجل غريب حقير وهو فلان- وسماني- وقد عزمنا على قتله وجمعنا ديته وما بقي لنا إلا إذنك، فأيدت أنا وفلان كلامه وإذا بالأمير خالد يتكلم ويقول: إن محمدا تقي الدين الهلالي عالم من خيرة العلماء وأنتم لا تعرفونه وأنا أعرفه، وجدنا عبد السلام عالم فاتركوا العلماء إذا تكلموا بعضهم في بعض فليس للجهال أن يتعرضوا لهم. ثم قال لنا: أيكم سمع طعنه في جدنا؟ فقلنا: هذا متواتر على ألسنة الناس، فقال الناس: يكذبون ويفسدون في الأرض ولا يصلحون. كل منكم ينصرف إلى شأنه واتركوا هذا الأمر فهذا ليس من شأنكم.(10/72)
قال: فأما أمير بني عروس فقد رضي بقوله ولم يبق في قلبه شيء وقال: يا بن عمي أنت عالم ونحن جهال إذا أخطأنا تردنا إلى الصواب قال: أما أنا وفلان- ولم أسمه لأنه حي يرزق ولم يبلغني ندمه على ذلك- فإننا لم نقتنع بما قاله لنا سيدي خالد ولكننا لا نستطيع أن نعمل شيئا بدون رضاه، قال: فتفرقنا فانطلق فلان إلى أهله وتوجهت أنا إلى تطوان لا ألوي على شيء حتى لقيت وزير الأوقاف محمد بن موسى، فقلت: أيها الوزير أما تخاف الله كيف تعطي من أوقاف المسلمين خمسمائة بسيطة لهذا الضال المضل الهلالي الذي ما ترك أحد إلا طعن فيه؟! طعن في مذهب الإمام مالك ورجاله وطعن في الأولياء كلهم وأنكر كرامتهم وبلغت به الوقاحة إلى أن طعن في جدنا القطب عبد السلام بن مشيش قال: فقال لي: لا ينبغي لنا أن نحكم بقيل، وقال: إنه يلقي ثلاثة دروس في كل أسبوع فماذا يضرك أن تحضر دروسه وتسمع كلامه قال: فقلت: أفعل إن شاء الله.
قال: وأقمت أسبوعا في تطوان حضرت دروسك فيه فما سمعت إلا خيرا وندمت على ما كان مني. وقد مضت على سنتان طالما هممت أن آتيك وأطلب منك العفو فلم أوفق إلى أن سنحت لي هذه الفرصة السعيدة، فحياك الله وأهلا وسهلا بك.
ووجدت أن هواء شفتاون خصوصا في الصيف أقل ضررا من هواء تطوان فبقيت فيها خمسة أشهر إلى أن حدثت الحادثة الآتي ذكرها إن شاء الله.
* معركة مع شيخ متصوف من أهل تطوان *(10/73)
كان هذا الشيخ- ولا أسميه- كأكثر متصوفة الوقت آلة بيد المستعمرين يمدحهم ويثني عليهم، وقد ولوه وزارة العدل في وقت من الأوقات وجعلوه رئيسا للمجلس الإسلامي الأعلى في وقت آخر، فضيفني أول ما قدمت تطوان وأملى علي الحديث المسلسل بالأولية إلى سفيان الثوري عن عمرو بن دينار عن أبى قابوس مولى عبد الله ابن عمرو عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الراحمون يرحمهم الرحمن تبارك وتعالى، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء)) أخرجه جماعة منهم البخاري في الأدب المفرد وأبو داود والترمذي وصححه. وفعل ذلك طمعا أن أرويه عنه، وأنا لا أروي شيئا عن طرقي وهذا الشيخ المفتون تجاني فنسأل الله العافية.
فلما رآني جردت السيف في الدعوة إلى التوحيد ومحاربة البدع ذمني في دروس وعظه، فهجوته بثلاث قصائد ضاعت مني الأولي وهي التي أقضت مضجعه- ومن عادتي إذا أردت أن أهجو أحذا أن أبحث عن عيوبه التي يؤلمه نشرها وسماعها فأنظمها في سلك القصيدة ولا أقتصر على الشتم المجرد، لأن ذلك لا يؤلم كثيرا ولا عبرة بقول من قال: أحسن الشعر أكذبه بل أحسن الشعر أصدقه- وعدد أبيات هذه القصيدة ستة وعشرون. وكان ساعدي الأيمن في نشر قصائد الهجو لمن يستحقه تليمذي البار الحاج أحمد هارون فكان يطبع القصائد في آلة المعهد الحر، ويخرج منها نسخا كثيرة يوزعها على الناس بإلقائها في دكاكينهم أو في جيوب ثيابهم المعلقة حين يتوضئون، وقد قامت هذه القصائد الهجائية اللاذعة لي مقام العشيرة والعصبة والمناظرين، وقرض الشعر أمر محمود إذا كان صاحبه لا يظلم الناس ولا يكذب في مدحهم وذمهم. قال ابن الوردي في لاميته:
أنظم الشعر ولازم مذهبي ... اطراح الرفد في الدنيا يجل
فهو عنوان على الفضل وما
... أحسن الشعر إذ لم يبتذل(10/74)
وقال بعض العلماء وأظنه محمدا الأمير الصنعاني رحمة الله عليه ما معناه: إن من أفضل ما يتحلى به العالم أن تكون عنده ملكة قرض الشعر ينتصر به على خصومه ويبين به الحق.
والمخازي التي ذكرتها في القصيدة المذكورة أهمها قصة وقعت له مع شخص محتال- لا أسميه لأنه لا يزال في قيد الحياة- وكان ذلك الرجل شابا يحسن الاحتيال فجاء إلى ذلك الشيخ المتصوف المفتون، وكان يعلم أنه يعتقد أن في كل زمان القطب الغوث الفرد الذي لا تتحرك ذرة في العالم إلا بإذنه، وهو المتصرف في السماوات والأرض وبه تقوم السماوات والأرض وهو محل نظر الحق من خلقه، وهو خليفته في خلقه ولو غفل عن العالم طرفة عين لاندك العالم وصار عدما محضا (أنظر كتابي الهدية الهادية إلى الطائفة التجانية) فجاء ذلك الرجل إلى الشيخ المذكور وادعى له أنه القطب فافتتن به وأخذ يخدمه بنفسه مع أن الخادم تجاوز السبعين والمخدوم في أوائل الشباب، وكانت عند الشيخ ابنة استحسنها القطب الكاذب فأمره أن يزوجه إياها فأحضر الشهود في الحين وزوجه بها وصار أهل المدينة يسخرون منه وقد دنا وقت الحج.
* * *
* السفر إلى مكة في لحظة *(10/75)
فقال الشيخ للقطب: يا سيدي سمعنا أن بعض الشيوخ يحج بطريق الخطوة بحيث يسافر إلى مكة بخطوة واحدة فما رأيكم في ذلك؟ فقال: ذلك صحيح وأنا من الذين يحجون على هذه الطريقة، فقال: يا سيدنا وهل يمكنك أن تصحب معك أحدا؟ فقال: كيف لا يمكن؟! كل شيء عند أولياء الله ممكن. قال: يا سيدي فهل لك أن تحج بنا في هذه السنة؟ فقال: يكون ذلك قال: أريد أن ترافقنا زوجتي أيضا، فقال: لا بأس. وعند ذلك ازداد الشيخ تعظيما لهذا المحتال، وبالغ في عبادته هو وأهل بيته، ولما جاء يوم عرفة اغتسل وزوجته ولبسا ثياب الإحرام، وبقيا ينتظران القطب يأخذ بأيديهما ويطير بهما إلى مكة إلى أن كادت الشمس تغرب، فعيل صبر. الشيخ وقال: يا سيدي إن الفقهاء يقولون لابد من الوقوف بعرفة قبل غروب الشمس وقد كادت الشمس تغرب. فقال: بسم الله قوما. فصعد بهما إلى السطح.
ومن عادة أهل تطوان أن يجعلوا في كل سطح جلاء. وهذا الجلاء يكون على اقدر ما تدخل الشمس والنور والهواء ويكون مربعا في كل ركن من أركانه تبنى سارية قصيرة ويوضع على السواري سقف فيدخل النور والهواء إلى أسفل من أربع جهات ولا يدخل المطر، فذهب القطب يتقدمهما حتى وقف على الجلاء وقال أنتما أعميان ألا تنظران هذه الكعبة؟! فهلم نطوف بها فطافوا بذلك الجلاء سبعة أشواط ولكن الشيخ لم ير كسوة الكعبة ولا الحجر ولا مقام إبراهيم ولا زمزم ولا أحد يطوف بتلك الكعبة ولكنه لم يستطع أن يتكلم تعظيما للقطب.
ولما سمع أهل تطوان بهذا الحج المبرور ازدادوا سخرية وصار الناس لا يتحدثون ويتفكهون إلا بهذه الحكاية، فجاء أصدقاء الشيخ وأخبروه بأنه صار مضغة في الأفواه وأن هذا الشاب قد جعله أضحوكة ونصحوا له بطرده فطرده وأجبره على تطليق ابنته.(10/76)
ولما شاعت القصيدة عند الناس بلغه خبرها، وكان في ذلك الوقت مشرفاً على التعليم الديني ورئيسا للمجلس الإسلامي الأعلى، فبلغه أن نسخة من القصيدة في مكتب مدير المعارف فأمر بإحضارها فكذبوا عليه، وقالوا: ما عندنا شيء، فبعث خادمه إلى فضيلة الأستاذ محمد الطنجي رئيس قسم الوعظ والإرشاد في وزارة الأوقاف المغربية في الوقت الحاضر، وكان في ذلك الوقت تاجرا لأن الاستعمار حرمه من جميع المناصب العلمية، فقال له: يسلم عليك الشيخ ويطلب منك نسخة من القصيدة التي هجاه بها الهلالي، وهذه ست عشرة بسيطة مع أن القصيدة في صحيفة واحدة لا تساوي ربع بسيطة، فقال له الأستاذ المذكور: سلم عليه وقل له: ما عندي منها شيء. والقصيدة الثانية فيها إقذاع ضربت عنها صفحا، أما الثالثة فقد كانت، بإذن الله الذي وعد رسله وأتباعهم بالفتح والنصر المبين، كانت مقرونة بالقضاء على هذا الشيخ.
عزل الشيخ المتصوف الذي حج على سطح بيته
من جميع الناصب العلمية والدينية
كنت قد سميت القصائد الثلاث بأسماء مطابقة لحوادث ذلك الزمان ففي ذلك الزمان كان الجرمانيون في أوج عزتهم، وكانوا قد اخترعوا القنبلة الموسومة برقم (1) ثم القنبلة الموسومة برقم (2) ثم القنبلة الموسومة برقم (3) وكانت هذه القنبلة الأخيرة ترسل من البلاد الجرمانية إلى مبنى بعينه في لندن عاصمة بريطانيا فتصله في بضع دقائق وتدمره في أسرع من طرفة عين، وقد سمعت رجلا يتحدث في إذاعة لندن من الذين نجوا من الموت بعدما أرسلت قنبلة رقم (3) على المبنى الذي كان يسكن فيه فدمرته في لحظة، قال الرجل: كنت نائما في غرفتي فما شعرت إلا وأنا في المستشفى لأن رجال الإسعاف أخرجوني من تحت الأنقاض مغمى علي وأسعفوني بالعلاج، سمعت ذلك من إذاعة لندن باللغة الإنكليزية.(10/77)
وبإلهام من الله تعالى سميت القصائد الثلاث بالأسماء المذكورة، فكانت القنبلة ذات رقم (3) كما أملت مقرونة بالكارثة التي أصابت هذا الشيخ قال تعالى: { وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ } [الطلاق: 2، 3] والحنفاء أهل لا إله إلا الله يتقون الله بتوحيده وترك الشرك به وأتباع نبيه الكريم، فيجعل الله لهم مخرجا من كل شدة ويرزقهم من حيث لا يحتسبون وينصرهم على أعدائهم. فيا أيها المسلم الموفق حقق التوحيد والاتباع تر العجب العجاب قال تعالى في سورة غافر { إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ } [غافر: 51].(10/78)
كان هذا الشيخ أكبر مفت في شمال المغرب، وتقدم أنه كان قد تولى وزارة العدل مدة من الزمان، وكان- كأكثر المفتين- من المقلدة الأغمار إذا جاء أحدهم سائل عن حكم قضائي يقول له مثلا: تعطيني الآن نقدا خمسمائة درهم أجرة البحث في كتب الفقه، فإن وجدت لك قولا يمكنك من الغلبة على خصمك تعطيني خمسة آلاف درهم، وإن لم أجد شيئا لم آخذ منك إلا ما تقدم، فإذا وجد له قولا من أقوال مجتهدي المذهب ينصر قضيته أخذ منه المقدار المشروط وأعطاه الفتوى، وإن لم يجد شيئا غنم خمسمائة درهم وصرفه. كذلك خصمه يذهب إلى مفت آخر فيعامله بالمعاملة نفسها، فإذا اجتمعت الحجج والفتاوى عند القاضي في مدة سنين طويلة وكان نزيها لا يأخذ رشوة- وذلك نادر- يرجح إحدى الفتويين ويحكم لصاحبها بغير ما أنزل الله، فيحل الفروج ويسفك الدماء في زمان الاستقلال. أما في زمان الاستعمار فإن أحكام القتل والجروح جعلت لها محاكم عرفية، وعزلت المحاكم الشرعية عنها، وكذلك ينقل الأموال من ملك زيد إلى ملك عمرو بآراء الرجال التي ما أنزل الله بها من سلطان فينطبق عليه { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } [المائدة: 44] والظالمون الفاسقون وهذا أمر معروف في بلاد المغرب لا يزال العمل جاريا به.
* * *
* فتوى الشيخ المتصوف *
أما هذا الشيخ العارف باللاهي لا بالله فقد أفتى فتويين متناقضتين غريبتين عجيبتين:
وقعت خصومة على مال بين تاجرين مغربيين أحدهما يهودي والأخر مسلم، فانطلق اليهودي إلى الشيخ المفتي فعامله بالمعاملة التي تقدم ذكرها وأخذ منه آلافا من الدراهم وأصدر له فتوى تحتم على القاضي أن يحكم له، فقال القاضي للتاجر المسلم: هات ما ينفعك من الحجج، فذهبت زوجته وكانت إسبانية إلى المفتي نفسه الشيخ المتصوف العارف وسلمت له ستة آلاف درهم فأصدر لها فتوى تحتم على القاضي أن يحكم لزوجها على خصمه اليهودي.(10/79)
وكانت المحاكمات في زمان الاستعمار كلها تترجم باللغة الإسبانية ويطلع عليها الحكام الإسبانيون قبل إصدار الحكم، فترجمت الفتويان المتناقضتان ورفعتا من حاكم إلى حاكم حتى بلغتا إلى المقيم العام وهو الحاكم الأعلى فغضب غضبا شديدا، وكتب إلى خليفة السلطان مولاي الحسن بن المهدي يقول: نحن لم نرد أن نتدخل في شريعتكم فتركناكم أحرارا تحكمون في محاكمكم بشريعتكم، وأنتم تزعمون أن هذه الشريعة وضعها لكم محمد، وهو أخذها من القرآن الذي هو كلام الله حسب اعتقادكم، فانظر إلى هاتين الفتويين المتناقضتين الصادرتين من مفت واحد يقول: إن الشريعة الإسلامية تجعل الحق لليهودي ولخصمه في قضية واحدة؛ فإما أن تكون شريعتكم في أصلها فاسدة باطلة، وإما أن تكونوا قد كذبتم على الله وعلى محمد. هذا معنى ما كتب به المقيم العام إلى خليفة السلطان في شمال المغرب.
فلما قرأ الخليفة كتاب المقيم العام أصابه من الغم والحزن ما كاد يقتله، فدعا الوزراء والمستشارين وغضب عليهم غضبا شديدا وقال: ألا ترون إلى هذا المجرم كيف فضحنا عند الأجانب وألصق بشريعتنا كذبا وزورا وطمعا هذا الخزي، فماذا يستحق من العقاب؟ فقالوا كلهم الرأي لسيدنا فقال: اتقوا الله وقولوا ما أوجب الله عليكم فأعادوا جوابهم. فقال: أنا أحكم عليه بالعزل من جميع المناصب الدينية والعلمية والدنيوية، ولو قدرت على أكثر من هذا لحكمت عليه به، فعزل من الإمامة والخطابة والوعظ والشهادة ولم يبق له شيء إلا منصبا واحدا وهو رئاسة المجلس الإسلامي الأعلى، لأن هذه لم تكن بيد الخليفة بل كانت بيد المستعمرين الإسبانيين ولكن الإسبانيين لما رأوا الخليفة قد عزله من جميع المناصب التي في يده عزلوه هم أيضا من رئاسة المجلس الإسلامي فبقي لا يجد ما ينفق.(10/80)
وقد رأيت من المستحسن أن أذكر هنا نخبة من القصيدة الموسومة ((فاو (3) )) وهذا لفظ ألماني وترجمته القنبلة الموسومة برقم (3) وفرق بين هذه القنبلة الحنيفية وبين القنبلة الهتلرية، فإن العدو الذي كان يحارب بالقنبلة الهتلرية استرجع قوته وانتصر على هتلر، أما عدو الحنيفية فكانت تلك القنبلة قاضية عليه ولم تقم له بعدها قائمة وهذه نخبة من القصيدة المشار إليها:
أتشتمني يا ابن اللئام بلا سبب ... وأنت- يمين الله- قرد بلا ذنب
فلا أنت ذو علم ولا أنت ذو حجى ... ولا أنت ذو تقوى، ولا أنت ذو حسب
ولا أنت ذو عرض مصون موقر ... ولا أنت ذو حلم ولا أنت ذو نسب
شوى الحسد الممقوت قلبك في لظى ... فأصبح يبدو اليوم من فمك اللهب
رأيت صنيع الله بي وهباته ... فنالك منها كالجنون وكالكلب
تريد بقول الهجر تطفئ نوره ... ومن رام يطفي نوره مسه العطب
وذلك فضل الله يوتيه من يشا ... فمن ذا الذي يستطيع منعا لما وهب
تحارب رب الناس في أوليائه ... ومن حارب الجبار أودت به الحرب
وقد وعد الرحمن بالنصر حزبه ... بأن لهم دوما على المعتدي الغلب
ومن يقف سنات الرسول وهديه ... وينصره يصبح ظافرا عالي الرتب
ومن يخلص التوحيد لله وحده ... يكن ممسكا في دينه أيما سبب
فلا نزغات الشرك توهن عزمه
... ولا نفثات البطل تثنيه إن وثب
ولا هجر دجال مهين يضيره ... متى كان نبح الكلب يستوقف الشهب؟!
وذلك ولي الله جل جلاله ... يدافع عنه ربه حيثما انقلب
ففي يونس فانظر كريم صفاته ... ودع عنك قول المسرفين ذوي الشغب
فإيماننا بالله ثم تقاته ... ولايتنا لله كل بها اقترب
سلام على أهل الحديث فإنهم ... هم الأولياء حقا وغيرهم كذب
هم حكموا قول الرسول وقد قفوا ... منهاجه في السر والجهر بالأدب
وكل نزاع يرجعون لقوله ... ويرضون حكم المصطفى حيثما وجب
فما اتخذوا من دونه من وليجة ... ولا مذهب زيد وعمرو له ذهب
يدينون بالتوحيد في كل مسلك ... نبي ورب ثم دين له انتسب(10/81)
فلا رب إلا الله، ثم محمد ... إمام وأهل العلم في قفوه سبب
له دعوة الحق التي يستجيبها ... ومن يدع غير الله قد خاب في الطلب
وما كان من أهل الحديث منافق ... عليم لسان للفضائل ما انتدب
ومن يتركن يوما حديثا مصححا ... فما له من علم الحديث سوى النصب
دعوا كل قول غير قول محمد ... أتستبدل الأحشاف يا قوم بالرطب؟!
ومن يعدلن قول الرسول بغيره ... فقد عدل الهندي والند بالحطب
انتهى المراد نقله منها.
*عقيدة الأشعرية المخالفة لعقيدة السلف الصالح*
بعدما استقررت في تطوان أنشأت هناك مجلة شهرية سميتها ((لسان الدين)) ونشرت فيها مقالات، بينت فيها بطلان عقيدة الأشعرية التي يدين بها أهل المغرب منذ عهد محمد بن تومرت ودولة الموحدين التي هي ثمرة دعوته إلى يومنا هذا، وكان أهل المغرب قبل ذلك على عقيدة السلف الصالح حتى أنهم لما وصل إلى المغرب كتاب إحياء علوم الدين لأبي حامد الغزالي أجمعوا كلهم على إحراقه، واتفق علماء العدوتين الأندلسية والمغربية على ذلك لما فيه من علم الكلام المذموم فمن ذلك قوله: ((ليس في الإمكان أبدع مما كان)) يعني لا يمكن أن يخلق الله سبحانه عالماً أفضل من هذا العالم. قال الغزالي: إذا لو كان ذلك ممكنا وادخره لكان ظلما ينافي العدل. هذا معنى كلامه نقلته بمعناه ليفهمه عامة القراء، فهرب من نسبة الظلم المتوهم إلى الله تعالى إلى نسبة العجز إلى قدرته تعالى الله عن ذلك.
وآخر الدول المغربية التي كانت متمسكة بعقيدة السلف الصالح هي دولة المرابطين ويسمون أيضا بالملثمين واللمتونيين نسبة إلى لمتونة وهي قبيلة من قبائل البربر. وفي ذلك قلت شعرا من بحر المواليا:
يا قوم إن اعتقادي الدهر لمتوني ... وإن زريتم على عقلي ولمتوني
ون يو آرنت ستسفايد فجيئوني (أم ... دسكوتيرن) كنسوس لبروس أود رأوني(10/82)
وهذا البيت الثاني يشتمل على أربع لغات العربية وهي فجيئوني، والإنكليزية وهي الكلمات التي قبلها، والجرمانية. وهي التي بعد فجيئوني، ثم الإسبانية ثم الجرمانية مرة أخرى ومعناه: إن كنتم لا تسلمون ذلك فجيئوني للمناظرة بكتبكم أو بدونها.
ونظم الشعر المؤلف من عدة لغات من المستملحات عند أهل الأدب، وقد نظم العالم الأديب المشهور الحسن اليوسي المغربي بيتا من هذا القبيل فقال عند وفاته:
(أتدروا تنومن) العلوم التي (ديكم) ... قد اندرست حقاً وصارت إلى (يركي)
ومعنى هذا البيت يا داري أين العلوم فيك؟ قد اندرست حقا وصارت إلى الله. وهذا البيت مؤلف من ثلاث لغات: البربرية، والعربية والفلاتية من لغات السودان لأن (يركي) هو اسم الله تعالى بهذه اللغة. يريد بذلك أن العلوم التي كانت في داره قد اندرست بوفاته.
وبينت في تلك المقالات أن الإمام أبا الحسن الأشعري رحمه الله بريء من العقيدة المنسوبة إليه، لأنه رجع عنها وألف كتاب (مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين)، وبين فيه أنه على عقيدة أصحاب الحديث والسلف الصالح من الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين وسمى منهم أحمد بن حنبل رحمة الله عليه، وألف أيضا كتاب الإبانة عن أصول الديانة، وألف الحافظ ابن عساكر، كتاب (تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى أبي الحسن الأشعري). والطائفة التي تسمى نفسها أشعرية تركت كتبه التي رجع إليها وتمسكت بالعقيدة الكلابية والمعتزلية التي كان عليها وتاب منها.(10/83)
فما انتشرت تلك المقالات وأضفت إليها كتاب (مختصر هدي الخليل في العقائد وعبادة الجليل)، وهو كتاب مختصر ألفته لإخواني السلفيين بطلب منهم يشتمل على عقيدة أهل الحق وأحكام العبادات، مأخوذة من نصوص الأحاديث الصحيحة، فظن السفهاء الذين يزعمون أنهم فقهاء أنهم وجدوا فرصة تمكنهم من القضاء على دعوتي، فذهبوا إلى الخليفة مولاي الحسن بن المهدي وقالوا له: إن الهلالي قد طعن في عقيدة أسلافك الطاهرين وضللهم. وهذا الأمير من أهل العقل الثاقب والهمة العالية لذلك توقف في قبول دعواهم ودعا الأديب العبقري والمؤلف الموفق فخر المغرب في هذا الزمان الأستاذ عبد الله كنون عضو المجمع العلمي في القاهرة، وسأله عما نقله إليه أولئك السفهاء، فقال له: يا صاحب السمو لا تسمع لقولهم فإن العقيدة التي يدعو إليها الهلالي هي عقيدة النبي صلى الله عليه وسلم والسلف والخلف ومنهم آباؤك الأكرمون، وقد بين ذلك الإمام محمد بن عبد الله العلوي عالم الملوك وملك العلماء في كتبه، فبطل كيدهم.
*التعيين في خزانة الكتب العامة*(10/84)
جاءني ذات يوم شخص مغربي فدعاني بقوله: إن الحاكم الإسباني فلانا يدعوك للحضور في مكتبه فانطلقت معه حتى وصلت إلى مكتب فخم يجلس فيه شاب إسباني فقام وصافحني، وأشار على بالجلوس وقال لي: أبشرك بأن المقيم العام قد أسند إليك منصبا شريفا وهو إدارة خزانة معهد الباحثين، وهذا المنصب عندنا في إسبانيا لا نولي فيه إلا كبار العلماء الذين يعرفون أصناف العلوم والكتب المؤلفة فيها، ويرشدون الباحثين والمؤلفين إلى الكتب التي تفيدهم في بحوثهم، وجعلنا لك راتبا قدره ثلاثمائة بسيطة فباشر عملك على بركة الله، فقلت له: كيف تسندون إلى هذا المنصب دون أن تستشيروني وتعرفوا رأيي في قبوله؟ فظهرت على وجهه أمارات الاستغراب وقال لي: لم نستشرك لأنه لم يخطر ببالنا أنك تتردد في قبوله، ولو عينا غيرك فيه من المغاربة لتلقاه بفرح عظيم واستبشر وبشر أصدقاءه وأقام مأدبة كوليمة العرس، وهذه عادتنا في إسناد المناصب، فقلت له: أنا لا أقبل هذا المنصب. فقال لي: كيف لا تقبله وقد عينك فيه المقيم العام؟! فقلت له: إن المقيم العام لا يعرفني ولا بد أن يكون قد استشار ذوي رأيه قبل أن يسنده إلي فأشاروا عليه دون أن يعرفوا رأيي فعليهم يقع اللوم، ثم أعاد الإلحاح فأعدت الرفض وانصرفت من عنده. وعند نهاية ذلك الشهر كنت في دكان السيد محمد العبودي الذي تقدم ذكره وإذا بموزع الرواتب يقبل على متقلدا حقيبته الكبيرة ويفتحها ويخرج دفترا ويطلب مني التوقيع على قبض الراتب، فقلت له: أنا لا أقبض هذا الراتب لأنني رفضت المنصب، ولم أشتغل فبأي وجه آخذ راتبا؟ فقال لي: من ذا الذي يأتيه راتب ويرده؟! فقلت له: أنا ذلك الرجل الذي لا يأخذ شيئا من المال إلا بوجه شرعي لا يخل بالمروءة فانصرف.(10/85)
وفي اليوم التالي جاءني خادم الموظف الإسباني يدعوني فانطلقت معه حتى وصلت إليه فقال لي: حتى الدراهم لا تقبلها، فقلت له: بأي وجه أقبلها أنا لم أعمل عملاً فكيف آخذ أجرا؟ فقال لي: نحن لم نطالبك بعمل، فقلت له: إذًا أنا لا آخذ أجرا على عمل لم أقم به ولم أقبله، وانصرفت.
ثم بعد شهرين دعاني الموظف مرة ثالثة وقال لي: الآن نريد أن نتفق معك على إسناد المنصب المتقدم الذكر ونرجوا أن تقبله وأن تشترط ما تريد فقلت له: إن إسناد هذا المنصب على الوجه المتقدم فيه إهانة عظيمة من وجهين: أحدهما أنكم لم تستشيروني ولم تعرفوا رأيي، والثاني أنكم جعلتم لي راتب بواب فأنتم تعطون فلاناً ألفاً ومائتي بسيطة وهو شخص توجه إلى الأزهر فأقام فيه سنتين ورجع بلا شهادة، وأنا أحصل على شهادة دكتوراه من جامعة برلين تجعلون لي ثلاثمائة بسيطة فقال لي: أنا معترف بالخطأ، وأنا ما كنت أعرف رتبتك العلمية والآن نتفق على ما تحب فقبلت ذلك المنصب براتب مناسب.
*خمسمائة بسيطة من وزارة الأوقاف*(10/86)
فإن قلت: إذا كنت عالي الهمة داعيًا إلى الله تريد وجهه فلماذا كنت تأخذ من وزارة الأوقاف خمسمائة بسيطة على الوعظ والإرشاد؟ أقول: إنني -كما قلت من قبل- شرعت في إلقاء دروس الوعظ والإرشاد في الجامع الكبير بتطوان استجابة لطلب أولئك القوم وقياما بالواجب الحتم، ولم أطلب على ذلك أجرا إلا من الله وبقيت على ذلك سنة كاملة، وذات يوم قال لي الزعيم عبد الخالق الطريس رحمة الله عليه: إنني قد سعيت في أمر يخصك دون أن أعرف رأيك فيه اجتهادا مني وأرجو أن أكون مصيبا، وذلك أني رأيت أن دراهم الأوقاف تنفق في أمور لا تجدي نفعا، فعزمت أن ألتمس لك شيئا منها تستعين به فكلمت أحمد بن البشير الكاتب العام للخليفة أن يكلم الخليفة ليأمر وزير الأوقاف أن يجعل مكافأة شهرية على دروسك في الجامع الكبير، وقلت في نفسي: إن نجحت في هذا السعي أخبرتك وإن لم أنجح تركت الأمر مكتوما عنك. وقد نجحت الآن فقد أمر الخليفة وزير الأوقاف محمد بن موسى أن يجعل لك خمسمائة بسيطة مشاهرة.
فإن قلت: فهلا ترفعت عنها ولم تقبلها فالجواب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما جاءك من هذا المال وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه فتموله أو تصدق به وما لا فلا تتبعه نفسك)).
*غضب رئيس الوزراء أحمد الغنيمة*
لما نشرت كتاب كشف الشبهات ورسالة زيارة القبور، وقررت -فيما لا يحصى من الدروس- أن شد الرحال إلى قبور الصالحين حرام شرعاً، وأن إقامة المواسم وتقريب القرابين عند قبورهم وسؤالهم قضاء الحاجات كنزول المطر وإعطاء الأولاد للعقيم من الرجال والنساء، وغير ذلك مما لا يقدر عليه إلا الله شرك يخرج فاعله من الملة خصوصاً إذا دعي إلى التوحيد وتبين له الحق وأصر على ذلك، غضب عباد القبور -كما تقدم- وكان من أشدهم غضباً رئيس الوزراء في ذلك الوقت أحمد الغنيمة.(10/87)
وكان متصرف تطوان -والمغاربة يسمونه الباشا- وكان متولي هذا المنصب في ذلك الزمان أحمد عشعاش قد أظهر لي المحبة والتعظيم بعدما عقدت الهدنة مع المستعمرين، وكان يقول لي: لا تسمني باشا حسبك أن تقول لي: أخي أحمد عشعاش، فلما رأى رئيس الوزراء قد غضب وضاق ذرعا بدعوتي إلى التوحيد قال له لا يهمنك أمره؛ فإنني سأزوده برغيفين مأدومين بزيت وسكر وأبعثه محروسًا مع شرطيين إلى الحدود يسلمانه للفرنسيين فأرضاه بذلك الكلام، وهو يعلم أنه لا يستطيع أن يفعل ذلك إلا إذا أمره سادته الإسبانيون، فلم أحفل بذلك وتوكلت على الله.
*معركة مع فقيه مقلد مشرك*
كان من جملة من عاداني وحاربني شخص من فقهاء تطوان وكان مستشارا للمستعمرين في كل أمر يتعلق بالإسلام، وكان مشهورا بالخيانة عند الناس كلهم يسمونه بياعًا، والبياع هو الذي يبيع قومه إلى المستعمرين، ويتجسس على أبناء وطنه ويبلغ سادته المستعمرين أسرار شعبه تزلفًا لهم، وكل ذنب عند المغاربة يمكن أن يغفر إلا هذا فإن مرتكبه قد أجمع الناس على مقته ولعنه وسقوطه إلى الحضيض الأسفل ولا ينفعه مع ذلك نسب ولا حسب ولا علم.(10/88)
ولما أنشأت مجلة (لسان الدين) وأعلنت فيها الحرب على المشركين والمبتدعين شرق بها هذا الرجل؛ فذهب إلى الحاكم الإسباني (بليدا) وقال له: إن الهلالي أنشأ مجلة وأخذ ينشر مقالات يفسد بها عقائد المسلمين ويطعن في عقائدنا ومقدساتنا، وأنا أطلب منك -باسم علماء الدين- أن تلزمه بعرض المقالات قبل نشرها على لجنة من العلماء، فما أذنت له في نشره نشره وما لم تأذن له في نشره يلغى، فدعاني (بليدا) وأخبرني بذلك على سبيل العرض، ولم يأمرني بشيء فذهبت إلى من هو أعلى منه من الإسبانيين، وقلت لهم: إن (بليدا) قال: كيت وكيت ونحن مختلفون في العقيدة اختلافا شديدا فلا يمكن أن يتحكم بعضنا في بعض، وضربت له مثلاً فقلت لهم: إن آل النصرانية مختلفون في العقيدة بعضهم كاثوليكيون مثلكم وبعضهم بروتستانتيون فهل يجوز عندكم أن يتدخل أحد الفريقين في عقيدة الآخر؟! فقالوا: لا، اذهب وانشر مجلتك ونحن نتكلم مع (بليدا) أن يترك هذا الأمر فإنه ليس من اختصاصه فحبط عمل هذا المبدع.(10/89)
ولما اشتد عليّ مرض الربو استأذنت الحكام الإسبانيين في السفر إلى قبيلة تغزوت ببلاد الريف، فأذنوا لي وأقمت هناك عند الشيخ محمد بن أحمد وهو من خيرة السلفيين كان يحضر دروسي في الجامع الكبير كلما ورد تطوان، وطلب الشيخ محمد بن أحمد التغزوتي من الحاكم الإسباني أن يأذن لي في إلقاء دروس لتعليم الناس كيف يصومون رمضان لأن شهر رمضان كان قريبا فأذن لي، وكنت ألقي في كل يوم درسين في بيان توحيد الله وإتباع الرسول صلى الله عليه وسلم ومحاربة الاستعمار فتاب من الطرائق والبدع كثير من الناس، وتنورت أفكار أهل ذلك البلد وأفاقوا من سكرتهم إلا القاضي وشرذمة قليلة، فإن القاضي أكرمني إكراما عظيما وفرح بي أول ما قدمت ولما سمع دروسي انقبض منها وأعرض، أما نائبه فكان على عكس ذلك فإنه لم يسلم علي أول ما قدمت ولم يتصل بي، وكان يقعد وراء سارية من سواري المسجد ويستمع حتى عرف ما أدعو إليه وتبين له الحق، فجاءني ودعاني إلى بيته وأكرمني ولم يزل محافظا على العهد إلى يومنا هذا.(10/90)
وأهل تغزوت كسائر أهل الريف يتكلمون بالبربرية وهي أخت قديمة للغة العربية، كما أن البربر إخوان قدماء للعرب لا يشك في ذلك من عنده أدنى علم باللغات السامية. ولذلك لم ينجح الاستعمار في التفرقة بين العرب والبربر وحدث يوما أني كنت جالسا في دكان عند أحد إخواننا الذين تابوا من البدع، وأخوه الأكبر كان حافظا للقرآن وحافظا لمختصر خليل، وكان تجانيا فتاب من التجانية وعمره سبعون سنة واغتبط بالعقيدة السلفية، فجاء سائل عربي وقال لصاحب الدكان أعطني: صدقة لوجه غياث البر والبحر سلطان الأولياء مولاي عبد القادر الجيلاني، فقلت له: أنا نحن عبيد الله ولسنا عبيدا لعبد القادر الجيلاني، فاذهب إلى عبيده فنحن ليس لنا غياث إلا الله في البر والبحر ولا نتخذ من دون الله أولياء، فقال لي: أنت لا تساوي تراب نعل سيدي عبد القادر الجيلاني، فقلت له: أنا لا أساويه ولكني لا أعبده فقال صاحب الدكان للسائل: اذهب من هنا وأرنا قفاك، فإن هذا الرجل عندنا أفضل من عبد القادر الجيلاني، فقلت: إنك أخطأت فقال أمهلني حتى أشرح لك مرادي ثم احكم علي فقلت: قل.
فقال: أنت مقيم بين ظهرانينا تعلمنا مما علمك الله ونسألك فتجيبنا وعبد القادر ليس كذلك فقلت له أنا: إن كان هذا مرادك فهو حق.
ولما رجعت إلى تطوان علمت أن ذلك الفقيه البياع ذكرني بسوء في درس وعظه فقال لمستمعيه وهو يحثهم على الصلاة بسدل اليدين وترك سنة وضع اليمنى على اليسرى. ماذا تقولون في سيدي محمد السلاوي أكان عالما بالحديث والفقه أم جاهلا بهما؟ فقالوا: كان من كبار العلماء فقال وماذا تقولون في سيدي أحمد الرهوني وسيدي فلان وفلان؟ فقالوا: علماء فقهاء قال: فهل كان أحد منهم يضع اليد اليمنى على اليسرى في الصلاة قالوا: لا. قال فكيف تخالفونهم لقول شخص مجهول لا نعرف من أين خرج؟! فأنشأت فيه قصيدة دالية أنقل نخبة منها هنا:
تجاهلت يابن القين فضلي وسؤددي
... ومن شقوة أقبلت بالظلم تبدى(10/91)
زعمت بأن لم تدر أصلي ومنشئي ... ولا عجب إذ أنت بالجهل مرتدي
سجلماسة الغراء يا قين موطني ... وجدي هلال بن الحسين بن أحمد
وجدي هلال صالح وابن صالح
... وجدي حسين سيد نجل سيد
وريحانة المختار جدي يشمه
... وجدك حداد بوجه مسود
ضربنا على الإسلام أسلافك الألى
... قريناهم بالمشر في المهند
فإما عققت اليوم ساداتك الألى
... حبوك بإسلام وفضل ممدد
فيا رب عبد مثلك اليوم آبق
... ويا رب قين ممعن في التمرد
غدا بعد سندان وكير وحفرة
... وفحم ومطراق على الفقه يعتدي
دع العلم إن العلم لست بأهله
... وخذ من جديد في الحديد لتهتدي
ففي الحرفة الأولى لقد كنت كاذبا
... لدى بيع مفتاح وقفل ومحصد
وفي الحرفة الآخر على الله تفتري
... وتلحد في دين النبي الممجد
ومينك في دنياك أهون مأثما
... من المين في أمر أمر به النلس تقتدي
وعيشك من صنع الحدائد طيب ... وأن تأكلن بالدين تأكل من الردي
فدونك يا بن القين نصحا مسددا
... ومثلك لا يرضى ينصح مسدد
كذبت على شيخ كريم تحلما
يييييي ... برؤيا منام في حديث منضد
على ابن مشيش قد كذبت بلا حيا ... فأخزاك رب الناس في كل مشهد
وتزعم أن الشيخ جاءك قائلا ... إلى القصر فاذهب دون أي تردد
وقل لفلان يشتري بيتك الذي ... بمرتيل إن رمت النجاح بمقصد
فكذبك الشخص الذي قد قصدته ... وبؤت بخزي الله شر مفند
تروم بزوعم نصر مذهب مالك ... ومذهبه قفو النبي المؤيد
ومعصية المختار ليست بمذهب
... له أبدا فاقصر عن اللغو والدد
وفرقت بين البعل والزوج ظالما ... بعنف وإكراه فهل أنت مهتد
وأنكحتها في عصمة البعل دون أن ... يصح طلاق فعل أرعن مفسد
أهذا الذي تدعو بمذهب مالك
... كذبت لعمر الله يا قين فاقصد
فهذا الذي من أجله نال مالكا ... نكال ولم يذعن لأمر المهدد
ففعلك ذا نقض لمذهب مالك ... وفسق بدين الهاشمي محمد
تكلمت قي قبض وسدل مضللا ... وأهملت أصل الدين إهمال ملحد(10/92)
حرمت وصولا للحقيقة عندما ... أضعت أصولا من يضعها يلدد
فكلمة توحيد بها ابدأ محققا ... فإن تدر معناها إلى الحق تهتد
فوحد إله الحق لا تدع غيره ... لنفعك أو دفع المصائب ترشد
فمن يدع غير الله يوما لحاجة ... يدنس بإشراك ويردى من الردي
وذلك توحيد العباد فادره ... فمن يجهلنه في الجحيم يخلد
سواء أصلى قابضا في صلاته ... أم اختار سدلا نقله لم يؤيد
ومن رد قول المصطفى بعد صحة ... فذلك كفار أثيم ومعتد
سيحرم في يوم القيامة شفاعة ... وإن يأت للحوض المبارك يطرد
ويسود في يوم القيامة وجهه ... ويثوى ثواء في الجحيم ويخلد
ويبرأ منه ذلك اليوم مالك ... وكل تقي للإله موحد
وذلك في أصل الشهادة واضح ... لكل صحيح الفهم لم يتبلد
فدونك يا شيخ القيون فوائد ... من العلم إن ترجع لها اليوم تسعد
فدع عنك تقليدا وشركا وبدعة ... فذلك ما يرديك في اليوم والغد
صددت الورى عن قفو سنة أحمد ... ولن يفلحوا إلا بسنة أحمد
فبؤت بسخط الله ثم رسوله ... وسخط شيوخ كابن جعفر زهد
وكان اللوا جري يقليك كالعمى ... متى جئته ياقين تصفع وتطرد
وأسخطت كل الصالحين من الورى ... من الجرم والبغي الذي لم يحدد
وإنك وايم الله أحمق من مشي ... على الأرض طرا في تهوم وأنجد
فخذها غذيت التبن مني قصيدة ... تزدك جنونا مثلها لم يقصد
فتخرج في الأسواق ناتف لحية ... ولاطم خد عاريا غير مرتد
ولم يك قصدي ذكر عيبك كله ... فذلك لا يحصيه ألف مجلد
وانتشرت هذه القصيدة عند أهل تطوان وأعجبوا بها أيما إعجاب لأنهم كانوا حاقدين على ذلك الرجل، وكانت هذه القصيدة مقرونة بسوط عذاب من الله تعالى صب على ذلك المشرك فحدثت له حوادث من الخزي أذكر هنا بعضها:
الأولى: أن شخصا من شيوخ الصوفية كان محترما عند أتباعه من أهل تطوان وهو الشيخ الفارسي جاءه ذلك البياع ومده يده لمصافحته فقبض الشيخ يده أمام جماعة من الناس وقال له: أنا لا أنجس يدي بمصافحتك، فكانت ضربة قاتلة له.(10/93)
الثانية: ماتت امرأة فخرج الناس ببجنازتها إلى باب المقابر حيث يصلى على الجنائز لأن المغاربة لا يصلون على الجنازة في المسجد، ويزعمون أن ذلك مكروه ويعللونه بنجاسة الميت، وذلك جهل ومخالفة للسنة الصحيحة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على ابن بيضاء في المسجد.
ولما وضعت الجنازة نظر الحاضرون فرأوا هذا الفقيه بزعمه هو أولى أن يؤم الناس في الصلاة على الجنازة لسنة وما اشتهر به من الفقه عند العامة، فقال له بعضهم: تقدم يا فقيه صلى الله عليه وسلم بنا، وكانت فيه حماقة فقال رافعا صوته: أنا لا أصلي بكم وأنتم تقولون أنا بياع وخائن فقدموا غيري، وكان يؤمل أنهم يتملقون له ويمدحونه ويقولون: حاشا لله أن نظن بك هذا، ولكن خاب أمله فإن الناس اختلفوا وكثر القيل والقال حتى بلغ النزاع إلى أولياء المرأة فقائل يقول: هو أولى بالصلاة، وقائل يقول: ليس الأمر كذلك لأنه بياع، فاتفق المتنازعون على أن يردوا نزاعهم إلى أولياء المرأة ففعلوا فقال أولياء المرأة لا نرضاه إماما للصلاة على الجنازة فقدموا غيره.ولو أنه حين دعي للصلاة تقدم وصلى لم يقع شيء من ذلك ولكن الأمر كما قال الشاعر:
لكل داء دواء يستطب به ... إلا الحماقة أعيت من يداويها
فهذه المخزية الثانية.
الثالثة: اتفق أن هذا الفقيه كان في مسجد صغير فحانت صلاة العصر وكان إمام المسجد قد قرأ عليه شيئا من الفقه فاستحى أن يتقدم أمامه فقال له تقدم يا أستاذ صل بنا، فقال الحاضرون كلهم: لا نقبله لأنه بياع والصلاة خلفه باطلة.
الرابعة: أنه دعا رئيس البلدية الإسباني (بليدا) إلى مأدبة أقامها في مارتيل، وهي قرية معدة للاصطياف على شاطىء البحر الأبيض المتوسط بينها وبين تطوان ستة أميال، أكثر أهل تطوان يملكون بيوتا فيها يهبطون إليها في وقت الصيف فقط فتكون عامرة وفي شواطئها مسابح للرجال! والنساء وفي سائر الفصول تكون فارغة تقريبا.
* ترف أهل تطوان*(10/94)
كلمة تطوان محرفة عن (تطاون) بكسر التاء وتشديد الطاء وكسر الواو وهي كلمة بربرية معناها العيون، ولا يزال جزء من تطوان إلى الآن يسمي بالعيون. ولم يكن لها شأن يذكر قبل هجرة أهل الأندلس إليها في أواخر القرن التاسع الهجري حين استولى النصارى على ما بقي من الأندلس وأجبروا المسلمين على التنصر أو الهجرة. ولما جاء الأندلسيون إلى تطوان- وكان عندهم من الحضارة والمدنية ما لم يكن عند المغاربة- أسسوا مدينة تطوان على النحو الأندلسي واستنبطوا المياه وجلبوها من الجبال المجاورة إلى المدينة وغرسوا فيها الجنات الجميلة وأسسوا مدينة مارتيل للاصطياف، وكان لكل أهل بيت أربعة مساكن، كما أخبرني بذلك السيد محمد المؤذن الإدريسي رحمة الله عليه وهو من أعيان تطوان، فكان لكل أهل بيت بيت في تطوان وبيت في البستان وبيت في مارتيل وبيت في ناحية أخري قد تركت، فكانوا يقضون فصل الشتاء في تطوان وفصل الربيع في البستان وفصل الصيف في مارتيل على شاطئ البحر وفصل الخريف في الناحية الأخرى التي تركت، ولا يزالون مستمرين على هذه العادة حتى الآن، إلا أنهم لا يقضون شهر رمضان والعيدين إلا في تطوان ولو كانوا ساكنين قبل ذلك في إحدي النواحي المذكورة ينتقلون إلى تطوان فيمضون فيها تلك الأيام ثم يعودون إلى مساكنهم خارج تطوان.(10/95)
قلنا: إن ذلك الفقيه أقام مأدبة في وضح النهار في بيته في مارتيل على أعين الناس، ولما جاء الضيف الإسباني تلقاه أمام بيته ولم يكتف بمصافحته بل عانقه، فما رأي ذلك أهل تطوان وهم أهل غيرة وشجاعة حتى اشتد غمهم وحنقهم على الفقيه البياع ففكروا في عقاب ينزلونه به دون أن يتعرضوا لانتقام (بليدا)، فاتفق رأيهم على أن يجمعوا مقدارا كبيرا من العذرة الطرية، ويلصقوه على باب بيته في جنح الليل ففعلوا ذلك فلما أصبح الناس اجتمع الذباب على باب بيته وجاء الناس يتفرجون، وقد كثر عددهم، وعادة أهل تطوان أنهم لا يقومون من النوم إلا في الضحى، فأخبر بعض الجيران الفقيه وأهله بما جرى فقاموا فزعين وأخذوا ينظفون بابهم والناس تنظر إليهم وبعضكم يضحك وبعضهم يتشفى ويقول: هذا جزاء البياع الذي يوالي أعداء وطنه وينصرهم على قومه.
الخامسة: (وحقها أن تكون الأولي): أن هذا الفقيه كان تلميذا للشيخ محمد ابن جعفر الكتاني الفاسي المغربي الذي قضي شطرا كبيرا من عمره في دمشق، وكان محترفا عند المغاربة وأهل الشام، ولما استولى الإسبانيون على تطوان وقسم من شمال المغرب استشار الفقيه التلميذ أستاذه الكتاني في الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام، فاستحسن الشيخ ذلك وحثه عليه، فهاجر الفقيه إلى المدينة النبوية وأقام بها مدة، فلما خلع الفرنسيون السلطان عبد الحفيظ بن الحسن الأول سافر هذا السلطان إلى مصر ثم إلى الحجاز، فذهب إليه الفقيه المبتدع وشكى له حاله وأنه يريد أن يرجع إلى المغرب ويعود في هجرته، فأعانه على ذلك ورجع إلى تطوان، ولم يقتصر على هذا الذنب حتى صار بياعا فسخط عليه الشيخ الكتاني وهجره واستمر على ذلك حتى مات، وقد أشرت إلى ذلك في القصيدة حين قلت:
فبؤت سخط الله ثم رسوله ... وسخط شيوخ كابن جعفر زهد(10/96)
السادسة: كان في تطوان فقيه مشهور بالصلاح والعفة والزهد والاستقامة يقدسه أهل تطوان وهو الشيخ محمد اللواجري، وكان معتكفا في بيته لا يشهد جماعة ولا جمعة، وعلل ذلك بأنه يري المنكرات ولا يستطيع أن يغيرها، وكنت أزوره الفينة فكان يفرح بزيارتي ويأنس لها ولم أر منه معارضة في التوحيد، والذي يظهر لي أنه كان بريئا من الشرك، وكان هذا الفقيه من تلامذته، ولما أراد الهجرة من تطوان استشاره فاستحسن ذلك فلما رجع من هجرته غضب عليه اللواجري غضبا شديدا وحذر الناس منه ولاسيما حين صار بياعا، وكان هذا الفقيه يجتهد بكل وسيلة أن يجد سبيلا لإرضاء الشيخ اللواجري، فكان يضرب في حديد بارد، لأن اللواجري أصر على السخط عليه وبغضه لله، فلما حضرت الوفاة الشيخ اللواجري اغتنم هذا الفقيه الفرصة وظن أن شيخه وهو في غمرات الموت لا يعرفه إذا سلم عليه وودعه وبذلك يخرج من سخطه ولو فيما يظهر للناس، فقصده، وحدثني أحد أعيان تطوان وأشرافها- وهو الحاج محمد الشرتي- أنه كان جالسا عند الشيخ اللواجري رحمه الله وقد حضرته الوفاة، فجاء هذا الفقيه وقبل رأسه وقال: سامحني أيها الشيخ الصالح. فما كان من الشيخ المحتضر إلا أن استوى جالسا كأن لم يكن به مرض ورفع يده ولطم الفقيه لطمة شديدة ثم اضطجع فمات في الحال وإلى ذلك أشرت في القصيدة بقولي:
وكان اللوا جري يقليك كالعمى ... متى جئته يا قيَّن تصفع وتطرد
فإن قيل: لماذا سميته قينا وهو فقيه؟ فالجواب أن القين في اللغة العربية هو الحداد وكان أبوه حدادا وكان هو يشتغل معه في صباه، ولما تعلم الفقه أعني فروع المذهب المالكي(10/97)
-وليس ذلك بفقه ولكنه اصطلاح وعرف، كتسمية اللديغ بالسليم- ترك تلك الحرفة، وكان دكان أبيه الذي كان يشتغل معه فيه بهذه الصنعة لا يزال تحت تصرفه يكريه. فإن قيل: وهب أنه كان حدادا فأي نقص في ذلك وقد كان نبي الله داود يصنع الدروع من الحديد قال تعالى في سورة الأنبياء: { وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ } . [الأنبياء: 80] فمعرفة هذه الصنعة نعمة فكيف يعير بها؟.
فالجواب: أنها في حق داود عليه السلام نعمة وفضيلة وفي حق غيره أمر مباح لا يحمد فاعله ولا يذم، فلو كان هذا الفقيه مستقيما في دينه ولم يبدأني بالظلم ما عيرته بذلك لأن هذه الصنعة لا يضيره التعيير بها لو لم يكن موصوفا بتلك الطوام، وإذ كان مشركا مبتدعا بياعا فإني لم أر حرجا في تذكرته بحرفته السابقة وحرفته اللاحقة، قال الشاعر:
ومن دعا الناس إلى ذمة ... ذموه بالحق والباطل
ولما انتشرت القصيدة وصارت حديث الناس نظم نظما ركيكا هجاني به، ولم يجد ما يعيبني به إلا زعمه أن أبي كان حقيرا يكنس الشوارع، وأن أمي كانت خادمة في البيوت، وأني مصاب بداء السل لا أزال أبصق وأسعل والمخاط يسيل من أنفي وأن الشباب الذين صحبوني اصفرت وجوههم، فلم يعبأ أحد بقصيدته لركاكتها ولأنها شتم وكذب وتناقض، فإنه قال في الجامع الكبير على رءوس الأشهاد في حقي: إنني شخص مجهول لا يعرف من أين خرجت، وهذا كذب مفهوم، فإن كان يجهلني ففي تطوان من يعرفني ويعرف أبي وأمي وأن أبي كان عالماً وجيهاً وأمي كانت شريفة عزيزة، وقد تقدم أن الهجو بالكذب لا يضر، فلما رأيت قصيدته وهي في مائة وخمسين بيتا وكلها هذيان وشتم كما تقدم هجوته بقصيدة أخرى نظمت أربعة أبيات منها في تطوان وسائرها بالأندلس، وينبغي أن أثبتها هنا كلها أو بعضها:
يا أهل تطوان إن الساعة اقتربت ... شدوا حيازيمكم يا أهل تطوان(10/98)
شيخ الحديد غدا شيخ الحديث لدى ... دار يراد بها تشقيف فتيان
وهل سمعتم بقين صار ذا أثر ... يروي الحديث بإحكام وإتقان
عن فحمة بن دخان عن أبي شور ... كير عن الشيخ مطراق بن سندان
يقول:: لا تثقوا فإن صاحبنا ... حديثه محض تدليس وبهتان
وقيل: لا صانعاً إلا ويكذب في ... قول وأكذبه حديث أقيان
ومن على ابن مشيش افترى كذباً ... لم يحترم جده سليل عدنان
وصح من جالس الحداد سوده ... أو أحرق الثوب منه لفح نيران
فيا تلاميذه كونوا على حذر ... من خبثه فهو شر الإنس والجان
فقبلوا يده واحنوا رءوسكم ... كي لا يصيبكم يوماً بعدوان
فإن تقبيل كف القين صار له ... كالقوت للطاو أو كمال لظمآن
لا تعجبوا من يد من كيرها انتقلت ... للكتب يعجبها تقبيل فتيان
فالكتب شاكية بالدمع باكية ... تقول يا ذلتي في شر أزمان
ما زلت في ضعة حتى وصلت إلى ... قين يبهدلني من بين أقراني
ما كنت أحسبني أبقى إلى زمن ... فيه يدنسني قين بأدران
تالله لو كان للتدريس محتسباً ... لظل منكمشاً في قعر دكان
يروي الحديد ويطويه وينشره ... أولى به ذاك من علم وعرفان
دقق دقق دقق دقق دقق دقق ... دقق دقق.. فانفخوا بالكير صبيان
لكن ذا زمن به البغاث غداً ... مستنراً صائلاً في زي عقبان
والذئب أصبح مسك الضأن مرتدياً ... ليبتغي الصيد من أغرار خرفان
وأصبح الدين للدنيا تعلمه ... وقد تمول منه كل خوان
لو كان يجدي البكا يوماً بكيت على ... علم الحديث وتفسير وقرآن
لم يبق منها سوى الأسماء خالية ... من كل معنى سوى تحريف كهان
وكم أهبت بقومي صارخها أبدا
ً ... أوبوا لهدي نبي الله إخواني
دعوا دجاجلة يبغونها عوجا ... فلن يقودكم إلا لخسران
أسلافنا ارتفعوا، أسلافنا سعدوا ... لقفوهم أحمد الهادي بإحسان
قد اقتفوا سنة المختار خالصة ... من غير شوب بزيد أو بنقصان
ومنذ بدل قوم هدية سقطوا ... إلى الحضيض ونالوا كل حرمان
أوطانهم بهم والله قد شقيت ... والأرض تسعد أو تشقى بسكان(10/99)
والله لن تسعدوا إلا بما سعدوا ... فلا يغرنكم وسواس شيطان
ومن يريد حديث المصطفى سفها ... يارب فالعنة كم جن وإنسان
يارب صل على المختار سيدنا ... ماغنت الورق في دوح بألحان
والآل والصحب ثم التابعين له ... واجعل محبته روحي وريحاني
فرج بها كربي واجمع بها شعثي ... وأصلح الحال في سري وإعلاني
وانصر بها حزبنا طول الحياة وفي ... يوم الجزا جد لنا طرا بغفران
السابعة:أن هذا الفقيه- المتحمس للمذهب المالكي بزعمه- كانت له ابنة زوجها بشاب كاتب في وزارة العدل التي كان يتولاها أفيلال، وكانت بينه وبين الفقيه عداوة لأن كليهما فقيه أحدهما محظوظ والآخر محروم، فكان الفقيه يسأل صهره عما يجري في الوزارة ليتوسل به إلى الطعن في الوزير، فلا يكاد يسعفه بشيء مما يريد، ولما ألح عليه قال له: أيها الفقيه لا تسألني عن شيء من أسرار الوزارة فإني أقسمت على الإخلاص في عملي، وإفشاء الأسرار يعد خيانة وعواقبه وخيمة، فغضب عليه وقال له: هذا قدري عندك يا ناكر الإحسان زوجتك ابنتي وفضلتك على غيرك ثم أنت تتألب علي مع عدوي فسترى كيف يكون عقابي لك، فأمر ابنته أن تنشز فنشزت ثم أجبره على تطلبتها فطلقها كارفا، وهو يستغيث بالناس فلم يغثه أحد، ولما تزوج شرط على أولياء الزوجة الجديدة أنه متى يسر الله له أن يرجع زوجته ابنة الفقيه فإنه سيطلق ابنتهم!! والى ذلك أشرت بقولي في القصيدة الدالية:
وفرقت بن البعل والزوج ظالما ... بعنف وإكراه فهل أنت مهتد
الأبيات إلى أن قلت:
أهذا الذي تدعو بمذهب مالك ... كذبت لعمر الله يا قين فاقصد
ومن أشهر ما وقع لمالك رحمه الله في حياته أنه كان يفتي بأن طلاق المكره غير لازم على ذلك ضرب بالسياط، فالعجب ممن يريد أن ينصر المذهب المكذوب على مالك ثم يخالف مذهبه الصحيح المتواتر { وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } [التوبة: 24].(10/100)
الثامنة: أنه كان يريد- ولو بجدع الأنف- أن يكون مدرسا في المعهد الديني الأعلى وسعى للوصول إلى ذلك سعيا وحثيثا، واستعان بسادته المستعمرين فلم يصل إلى مرامه إلا بعد اللتيا والتي، ولما صار مدرسا في المعهد صار يفرض على الطلبة كلما رأوه من بعيد أن يهرعوا إليه ويقبلوا يده، ويهددهم بأن من لم يفعل ذلك يسقطه في الامتحان وإلى ذلك أشرت بقولي في النونية:
فيا تلاميذه أنا النصيح لكم ... فإنه فاجر عديم إيمان
فقبلوا يده واحنوا رءوسكم ... كي لا يصيبكم يوماً بعدوان
راجع هذه الأبيات في النونية.
التاسعة: أنه كان له بيت في مارتيل وكان يريد بيعه فلم يجد من يشتريه منه، فسافر من تطوان إلى القصر الكبير وقصد الثري المشهور الحاج عبد السلام حسيسن، وقال له: إن سيدي عبد السلام بن مشيش رضي الله عنه جاءني في المنام فشكوت له تعسر بيع داري التي في مارتيل، فقال لي: اذهب إلى خادمنا الحاج عبد السلام حسيسن وبلغه سلامي، وأخبره أني آمره أن يشتري منك تلك الدار وسيشتريها منك. قال الحاج عبد السلام فلما جاءني وقص على الرؤيا قلت له: إن أمر سيدي عبد السلام على رأسي وعيني ولكني أنا بنفسي عندي بيت في مارتيل لا أحتاج إليه لأني أسكن في طنجة وفي القصر الكبير وأنا محتاج إلى بيعه فكيف أزيد عليه بيتًا آخر؟! فرجع خائبا وإلى ذلك أشرت بقولي في الدالية:
على ابن مشيش قد كذبت بلا حيا ... فأخزاك رب الناس في كل مشهد
العاشرة: زيارة الفقيه البياع لأستاذي شيخ الإسلام محمد بن العربي العلوي، سافر هذا الفقيه من تطوان إلى الرباط وزار شيخ الإسلام محمد بن العربي. رحمه الله، فلما أخبره أنه من تطوان أنه من تطوان سأله عني فقال له: تعرف الدكتور محمد تقي الدين الهلالي؟ فقال له: نعم أعرفه وقد هجاني بقصيدتين، ولما تقلص ظل الاستعمار الذي كان حائلاً بيني وبين رؤية أستاذي المذكور واجتمعت به أخبرني بذلك وقال لي: لما أخبرني أنك هجوته علمت أنه خبيث.(10/101)
* الأمير الملالي والاستسقاء *
يسمي المغاربة أمير كل بلد قائدا. والقائد (الملالي) حاكم القصر الكبير كان من أقوى الأمراء الذين لهم وزن ثقيل عند المستعمرين الإسبانيين وعند رعيته، ولكنه لم يكن يقارب منزلة أمير العرائش السيد خالد الريسوني رحمه الله كما تقدمت الإشارة إلى ذلك، لما سمع الأمير الملالي بقدومي تطوان ودروسي فيها أراد أن يدعوني إلى إماريته ليكرمني، وتكلم مع الزعيم عبد الخالق الطريس في ذلك، وسألت عنه فعلمت أنه تجاني متعصب فنشرت في صحيفة الحرية ثلاث مقالات تحت هذه الترجمة (كيف خرجت من الطريقة التجانية) وذكرت فيها قصة خروجي وتوبتي من هذه الطريقة، وأقصت البراهين على بطلانها فغضب غضبا شديدا ورجع عما كان عازفا عليه، ولما أصبت بداء الربو وقد تقدم أن المشركين في تطوان زعموا أن الشيخ السعيدي هو الذي أصابني بذلك المرض لأني أنكرت عليهم عبادته بالذبح والنذر والاستغاثة.
فقلت على كرسي الوعظ في الجامع الكبير: إن هؤلاء الذين يزعمون أن الشيخ السعيدي هو الذي أصابني بمرض الربو ليس لهم عقل ولا دين، أما العقل فدليل نفيه أن خلقا كثيرا من سكان تطوان رجالا ونساء مصابون بهذا الداء، وهم يعبدون الشيخ السعيدي فمن ذا الذي أصبهم بهذا المرض؟! وأما دليل نفي الدين فإن الشيخ السعيدي إما أن يكون مؤمنا بكتاب الله وبرسول الله صلى الله عليه وسلم، وحينئذ لابد أن يكون مغتبطا ومسرورا بدعوتي إلى توحيد الله وأتباع رسوله صلى الله عليه وسلم وساخطا على كل من يعبده بالذبح والنذر والاستغاثة متبرئا إلى الله من عملهم، وإما أن يكون مشركا يرضى بعبادتهم له إذا فأعبده الله إن كان ذلك، والذي نظنه به هو الخير { رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ } [الحشر: 10].(10/102)
ولما اشتد على مرض الربو قيل لي لو: توجهت إلى القصر الكبير فإن بينه وبين البحر عشرين ميلا، وهواؤه ناشف بعض الشيء يمكن أن يخفف عنك بعض ما تعانيه، فذهبت إلى القصر ونزلت في فندق وأنا في حالة يرثى لها فجاءني رجل يظهر عليه أثر النعمة والغنى ومعه شاب فسلم على ببشاشة فرحبت بزيارته فقال لي: أما تعرفني؟ قلت: لا. فقال لي: إنني حضرت مجالسك في طنجة وكنت عازفا في ذلك اليوم أن أدخل في الطريقة التجانية فسمعتك تشرح ما فيها من الضلالات، فعدلت عن الدخول فيها وحمدت الله الذي أنقذني من الوقوع في حبائلها فلك على فضل لا ينسى، وأنا أدعوك أن تنزل في بيتي فقلت له: إني اخترت هذه المقصورة لأنها محكمة النوافذ لا يهب علي فيها الهواء البارد فقال لي: عندي غرفة أحسن منها ومعها حمامها وبيت الخلاء وأنا أقوم بخدمتك على أحسن وجه، فأقمت عنده خمسة عشر يوما، ثم سافرت إلى طنجة وجئت بأهلي وأقمنا في ضيافته خمسة عشر يوما، فأردنا أن نسكن في بيت وحدنا فأسكننا في بيت له خارج المدينة وبقيت هناك أربعة أشهر.
* صلاة الاستسقاء *(10/103)
وفي تلك السنة قل المطر وعم الجدب. وعادة المغاربة في مثل هذه الحال أن يفزعوا إلى أضرحة الأولياء ويذبحوا لهم الذبائح ويستغيثوا بهم ليأتيهم المطر ويزول عنهم الجدب، فأمر القائد الملالي مناديا ينادي قائلا بأعلى صوته: لا إله إلا الله محمد رسول الله لا تسمعون إلا خيرا إن شاء الله إن الأمير يأمركم أن تتبرعوا بالدراهم لشراء الثيران والكباش وتتهيئوا في اليوم الفلاني للاستسقاء عند أضرحة الأولياء، فلما جاء اليوم المعين خرج الأمير والقاضي وجميع أهل البلد حفاة حاسري الرءوس وطافوا على أضرحة الأولياء قائلين بصوت واحد: (جئناكم قاصدين، لا تردونا خائبين، يا أولياء الله الصالحين) وتوجهوا أولا إلى قطب البلد علي أبي غالب والثور الأسود أمامهم وهو أكبر الثيران وأسمنها، فوصلوا إلى ضريحه خاشعين وذبحوا ذلك الثور وذابحه يقول: الذبيحة على الله وعليك يا سيدي علي أبا غالب ثم طافوا على أضرحة الأولياء الكبار فذبحوا على ضريح كل واحد منهم ثورا. وأما الأولياء الصغار فذبحوا على ضريح كل واحد منهم كبشا ورجعوا، فنشأ غمام في السماء فسألت الله تعالى أن لا يسقيهم ولا قطرة واحدة فاستجاب الله دعائي، وانقشع ذلك الغمام وجاء بعده غمام مرارا ثم انقشع ولم يسقوا قطرة واحدة.(10/104)
وعدد جماعتنا الموحدين، ومنهم السيد أحمد الجباري رحمة الله عليه والحاج عبد السلام حسيسن فبعضهم اختفى في يوم الاستسقاء خوفا من الأمير وبعضهم أعلن معارضته كالحاج عبد السلام حسيسن، وعددهم لا يزيد على أربعين إلا أن أحدهم معلم صبيان وعنده خمسون صبيا يعلمهم القرآن. جاء بعض أصحابنا إلي وقالوا لي: إن الأمير والقاضي ومن تبعهما ارتكبوا أمرا شنيعا مخزيا فنريد أن نغسل هذا العار بصلاة الاستسقاء في مصلى العيد خارج المدينة، ونريد أن تكون إمامنا في صلاة الاستسقاء فإن المغاربة يعتقدون أنه متى صليت صلاة الاستسقاء يموت إمامها ويموت السلطان ولم يشأ أحد من الفقهاء الموحدين أن يصلي إماما لأن أزواجهم وأولادهم إذا سمعوا أن أحدهم يريد أن يصلي صلاة الاستسقاء إماما يفزعون ويبكون خوفا عليه ويمنعونه فقلت لهم: إن المرض علي شديد ولكني أرجو من الله أن يقويني حتى أصلي بكم صلاة الاستسقاء وأنا لا أخاف الموت، فاتفق الجماعة على يوم معين فجاءوني بسيارة وتوجهنا إلى مصلى العيد ورأيت الزرع بدأ ييبس، فرقيت المنبر وخطبت خطبة غلبني فيها البكاء وصليت بهم ركعتين وفي اليوم التالي أذن الله للسماء أن تمطر فأمطرت مطرا غزيرا غدقا أحيا الله به الأرض بعد موتها واستبشر الناس وفرح أصحابنا بنصر الله على القوم المشركين.
* الاجتماع بالأمير الملالي*(10/105)
بعد ذلك المطر كان الأمير الملالي يتحدث مع جلسائه فقال أحدهم أيها الأمير، على هذا الغيث ينبغي أن نعمل مأدبة كبيرة شكرا لله تعالى، فقال: إي والله فقال أحدهم: أنا أصنع لكم مأدبة ثم قال آخر: ينبغي أن يدعي إلي هذه المأدبة الدكتور محمد تقي الدين الهلالي لأنه هو الذي صلى صلاة الاستسقاء التي على أثرها جاء المطر، فقال الأمير: لا بأس ندعوه ثم قال لأحد جلسائه- من سوء حظي أنني نسيت اسمه- وسأصفه بما لا يلتبس به مع غيره فهو رجل من أعيان القصر الكبير، وقد كان قبل الاستعمار سفيرا للجزائر في المغرب حسب ما سمعت وهو من جماعتنا الموحدين- فقال له الأمير: أنت من أصحابه فاذهب إليه وادعه فجاءني رحمة الله عليه، وقال لي: إن القائد الملالي يدعوك لحضور المأدبة التي ستقام شكرا لله على المطر. وكنت في أشد ما يكون من الضعف وكان مرض الربو علي شديدا، فسألت الله أن لا يشمت بي أعدائي، وأن يمنحني خفة وقوة لكي أستطيع أن أتحدث وأشرح حقيقة دعوتي أمام هذا الرجل وجلسائه وهم أعيان البلد.(10/106)
فاستجاب الله دعوتي، وخف المرض قليلا فركبت السيارة، وتوجهت إلى المكان المعد، فسلمت عليه وأجلسني إلى جانبه وكان فقيه القصر الكبير ابن عبد القادر الطود حاضرا، فبقيت ساكنا انتظر أن تسنح لي فرصة للكلام، فجرى ذكر اللحوم وما يستحسن أكله منها واختلاف أذواق الناس في ذلك فقال الأمير: يا عجبا لأهل سجلماسة يأكلون الجراد وهو ضرب من الخنافس ويشمئزون كل الاشمئزاز من أكل الحلزون، (ويسمى باللغة المغربية ببوش) ثم قال: ولي أصدقاء من شرفاي سلجماسة إذا زاروني وأردت أن أغضبهم على سبيل المداعبة أقول لهم: غداؤنا اليوم ببوش فيتقززون ويغضبون، فقلت: أيها الأمير كيف تعيب أكل الجراد على أهل بلادنا وقد أكله النبي صلى الله عليه وسلم وتمدح أكل الحلزون وهو دود مائع، ولم يأكله النبي صلى الله عليه وسلم فالنبي معنا وبه ننتصر عليكم، فقال الملالي: إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم معكم وجب علينا أن نكون نحن أيضا معكم.(10/107)
واستمر الحديث في ذكر ما يؤكل من الحيوان حتى ذكر أكل سباع الوحش كالذئب والكلب والنمر والأسد، فاندفع الفقيه الطود يسرد ما قاله خليل في مختصره- ومختصر خليل عند المغاربة هو كل شيء، هو القرآن والحديث والعلم متى جرى ذكر مسألة فقهية فالسعيد منهم هو الذي يورد عليها نص مختصرخليل وحين يسمع نصه فهو القول الفصل عندهم- فقال الطود: قال صاحب المختصر: ((وكره هر وذئب ونمر وأسد )) وانطلق بسرعة السهم يسرد مختصر خليل، فسحنت حيئنذ فرصة أخرى للكلام فقلت له: اتقوا الله ولا تكذبوا على مالك فإنكم أبحتم أكل لحوم السباع مع الكراهة التنزيهية ونسبتم ذلك إلى مالك، ومالك بريء من ذلك فقد روى في موطئه بسنده إلي أبي ثعلبة الخشني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع، ثم روى بسنده المتصل إلي أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:(( أكل كل ذي ناب من السباع حرام )) قال محمد بن الحسن في موطئه عقب هذا الحديث: بهذا نأخذ، يكره أكل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير، وهو قول أبي حنيفة والعامة من فقهائنا لإبراهيم النخعي انتهى، أبعد ما يصرح مالك في روايته عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:(( أكل كل ذي ناب من السباع حرام )) تنسبون إليه القول بالإباحة مع الكراهة التنزيهية، وتزعمون أنه هو مشهور مذهبه؟! وقد جلبتم بذلك سبة على مذهبكم حتى نسب إليكم خصومكم أنكم تبيحون أكل لحوم الكلاب، وهم في ذلك صادقون لأن شراح المختصر ذكروا أن الكلب من جملة السباع، ثم خرجت من الكلام في هذه المسألة إلى الكلام في وجوب إتباع النبي صلى الله عليه وسلم وترك تحكيم الرجال وآرائهم المخالفة لما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، وذكرت حديث عدي بن حاتم حين جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وفي عنقه صليب فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((ألق عنك هذا الوثن )) وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ سورة(10/108)
براءة حتى انتهى إلى قوله تعالى: { اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } [التوبة: 31]. فقال عدي: يا رسول الله إنا لم نكن نعبدهم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم:(( أليس يحلون لكم مما حرم الله ويحرمون عليكم ما أحل الله فتتبعونهم )) قال: بلى. قال النبي صلى الله عليه وسلم:(( فتلك عبادتهم )) أو كما قال. ثم خرجت من ذلك إلى الدعوة إلى توحيد الله تعالى وترك الباع في الدين، وتحدثت زهاء ساعة والأمير يسمع وكان يحب الخوض في النوادر والضحكات، ومع ذلك صبر إلى أن أنهيت كلامي وكان رجلا عاقلا من أهل المروءة، ومن الأمثال: (عدو عاقل خير من صديق جاهل) ولما انتهيت من كلامي قال لي الفقيه ابن عبد القادر الطود: أيها الأستاذ إنني أكن لك الحب والإجلال فكيف هجمت علي بمثل هذا الهجوم الشديد؟! لعلك لا تعلم أنك لما رقيت المنبر لخطبة الاستسقاء بحذائك أنكر ذلك كثير من الناس فدافعت عنك، وقلت لهم إن: فقهاءنا قالوا: لو انتقض وضوء الخطيب وهو في خطبة الجمعة ثم دعا بماء فتوضأ واستأنف خطبته جاز ذلك، فأيهما أعظم انتقاض الوضوء أو الخطبة بالنعلين؟! فقلت له: أنا ما قصدت الإساءة إليك ولكني كنت أنتظر فرصة للكلام فهيأتها لي بسردك كلام خليل في أكل لحوم السباع وجزاك الله خيرا على دفاعك عني. أما الذين انتقدوا علي خطبة وأنا منتعل فهم أجهل من حميرهم لأن الصلاة في النعل سنة النبي صلى الله عليه وسلم فكيف بالخطبة؟!
* الاستسقاء بذبح الخيل*(10/109)
وفي تلك الأيام المجدبة بلغنا استسقاء آخر عجيب وغريب وذلك أن أهل سريف وهي قرية في شمال المغرب أشار عليهم أحد الدجاجلة بما زعم أنه قرأه في كتيب من كتب الخرافات والأساطير يسمي خزينة الأسرار، وذلك أنه إذا وقع الجدب وانقطع المطر وأراد الناس الغيث يعمدون إلى مهر من الخيل فيكتبون على جبهته قوله تعالى من سورة الشورى: { وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ } [الشورى: 28] ثم يذبحون المهر ويعلقون رأسه في فرع شجرة عالية فإنهم يمطرون، فعل ذلك أهل سريف فخيبهم الله، وفي ذلك قلت القصيدة التالية:
بكى قوم على جاه ومال ... وأعول آخرون من الهزال
وبعضهم بكى في إثر خل ... بعيد الأنس آذن بارتجال
وبعضهم ينوح على شباب ... تولى ثم بدل باعتلال
ودين الله أصبح في ضياع ... ولا باك عليه ولا مبال
بدهر صار فيه العرف نكرا ... ونور الحق غطى بالضلال
وسنة خير خلق الله أضحت ... تنادي أين أنتم يا رجالي
طغى وبغى عليها ذو ابتداع ... خبيث سالك سبل الخيال
متى ما شاهد الغرباء هبوا ... لنصرتها توعد بالقتال
وغرته جموع وافرت ... حواليه توالى من يوالي
وساعده عموم الجهل حتى ... لقد شمل الأسافل والأعلي
وحزب الله يغلب كل حزب ... وينصره المهيمن ذو الجلال
فيصلت من كتاب الله بيضاً ... مهندة تضيء دجى الليالي
ومن سنن الرسول له سهام ... ومن حجج الأصول له عوالي
وأهل الرأي كلهم بغات ... يتامى في الحديث ذوو اختبال
ومن يعرض عن السنن العوالي ... يذق مر الهزيمة في النزال
ويكسى الخزي في دنياه دوماً ... وفي أخراه يقرى بالنكال
ومن سنن الرسول وتابعيه ... سؤال الغيث من مولى الموالي
من الرحمن لا يدعون شيئا ... سواه مخلصين في الابتهال
إلى أن جاء بعدهم خلوف ... دعوا أهل المقابر باهتبال
وقد ذبحوا لهم بقراً وشاء ... وقد نحروا السمان من الجمال(10/110)
ومن يذبح لغير الله يلعن، ... مقال المصطفى خير المقال
وأعجب بدعة فيما سمعنا ... وأعرق في الجهالة والخبال
أمور عن سريف قد أتتنا ... تواتر نقلها بين الرجال
فقد عمدوا إلى مهر كريم ... من الخيل المطهمة الغوالي
فحزوا رأسه بالسيف ظلماً ... ولم يذنب إلى أحد بحال
وقد كتبوا بجبهته سطوراً ... من القرآن.. يا لك من ضلال
وتلك إهانة للذكر جلت ... صفات الله عن هذي الخلال
ولو تبعوا الكتاب وعظموه ... بلا ذبح لخيل أو بغال
ومن يعرض عن القرآن يسلك ... عذاباً، قول ربك ذي التعالي
والاستسقاء بذبح الخيل بدع ... غريب لم نر له من مثال
أأهل سريف اتئدوا وتوبوا ... إلى الرحمن من هذا المحال
فرب الناس صدقاً وحدوه ... وقفوا للنبي بحر الكمال
* * *
* الاستسقاء بالحصى*
ووقع في تلك السنة استسقاء آخر لا يقل غرابة عما تقدمه، وذلك أن دجالاً من الدجاجلة أشار على أهل بلدة أن يجمعوا سبعين ألف حصاة، ويوزعون الحصى على سبعين شخصا من القراء فينال كل واحد ألف حصاة، فيدني كل حصاة من ذلك الحصى من فمه ويقرأ عليها مرة الآية التي تقدم ذكرها: { وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ } . [الشورى: 29] ثم يضعون ذلك الحصى في أكياس ويشدون كل كيس بحبل طويل ثم يدلونها في نهر إلى أن يصر كل كيس إلى قرار النهر ويربطون رأس كل حبل بشجرة، قال لهم ذلك الدجال: حين تستقر الأكياس في أسفل النهر يبتدئ الغيث ينزل ويستمر أبدًا ما دامت الأكياس في مكانها ولو بقيت سنين، حتى إذا رأى الناس أن الأرض قد أصابها من المطر ما فيه كفايتها ينزعون تلك الأكياس، لأنهم لو تركوها لاستمر المطر بدون انقطاع حتى يعم الطوفان ويهلك الناس بالغرق، ففعلوا ذلك فلم ينالوا قطرة.(10/111)
ألا ترى أيها الموحد الموفق لإتباع كتاب الله وسنة رسوله المتجنب للبدع كلها أن الله سبحانه إذا خيب سعيهم وحرمهم المطر وحبسه، حتى توجه إليه حزبه المفلحون وهم فئة قليلة لا يبلغ عددهم مائة، وعملوا بسنة نبيهم ووجهوا وجوههم إلى الله وحده فسقاهم ذلك المطر الغزير أراد أن يجعلها كرامة ظاهرة لأهل الحق نصر بها أولياءه وكبت بها أعداءه، وبين لهم أن الذين يعبدون من دون الله لا يملكون لهم رزقا، وأن الرزق بيد الله لا حيلة لمحتال في جلبه وإنما ينال بتقوى الله التي رأسها وسنامها توحيده وإتباع سنة رسوله؟!
*هجو فقيه مبتدع مر علينا ولم يسلم*
وكان هذا الفقيه -ولا أسميه إبقاء عليه- من أنصار البدعة والشرك فمر علي ومعي جماعة من الموحدين فلم يسلم، فأصلت عليه سيف الهجو جهادًا في سبيل الله ليذوق وبال أمره، وهجو المشركين من أعظم القربات، وكان هذا الفقيه السفيه قد بلغ به الجهل إلي أن كان في سفر من تطوان إلى القصر الكبير فصلى بمن كان معه المغرب ركعتين ظانًا أنها تقصر كالرباعية فهجوته بهذه القصيدة، وذكرت تلك الحادثة العجيبة.
أبا مرة ماذا التعاظم والكبر ... وأنت حقير مائق(1) أرعن غمر
أبا العلم إن العلم عنك بمعزل ... كما لا يكون الدهر في المغرب القصر
ولم نر في أرض المغارب فقيهاً قاصراً ... كقاصر فرض للنهار هو الوتر
متى رمت إن الفضل لست بأهله... ... ولا حسب يلفى لديك ولا قدر
وحظك في التدريس حظ موقر ... فباقل إن ينسب إليك هو الحبر
ولو كنت من أهل السلام عرفته ... وأديت حقاً واجباً تركه وزر
ولو ذقت للإيمان أدنى حلاوة ... لأخرج منك الغش وانشرح الصدر
وما يستقيم الظل والعود أعوج ... ولا يثمرن الشهدة الحنظل المر
جهلت لحاك الله ما في ابن عاشر ... أمن بعد هذا الخزي ينفخك الكبر
فضاؤك يا شيخ التيوس جناية ... على الدين إن الدين قد مسه الضر
إذا كان رب الجهل ميتاً فإنما ... ثيابك أكفان ومكتبك القبر
__________
(1) المائق: الأحمق.(10/112)
* انتقام المستعمرين مني*
تقدم أني سافرت إلي شفشاون للبعد من شاطئ البحر طلبًا للشفاء من مرض الربو، وبها لقيت الحسيب النسيب الكريم السيد أحمد الريسوني، وضيفني واعترف لي بأنه كان مع تلك الجماعة عازمًا على قتلي حتى نهاهم عن ذلك الأمير العبقري اليد خالد الريسوني رحمة الله عليه، بقيت في شفشاون خمسة أشهر أكثرها في بيت السيد أحمد الريسوني، ثم تزوجت بفتاة من قرائب أحد إخواننا، وكنت ألقي دروسًا منتظمة في الجامع الكبير دون أن أطلب إذنًا من المستعمرين كما اتفقت عليه معهم في أول الأمر، وكانوا قد شرطوا علي أن لا أسافر إلى المدن الصغيرة والقرى إلا بإذنهم فسافرت إلى شفشاون بإذنهم ولكني شرعت في إلقاء الدروس بغير إذن، يضاف إلى ذلك ما يأتي:
*الاتصال بالوطنين المقاومين للاستعمال*
كان من أشد الناس إقبالاً على دروسي ومرافقتي رجال حزب الإصلاح الوطني أذكر منهم الحسيبين النسيبين السيد عبد الله قريش والسيد العياشي العلمي.
*تأليف مختصر هدي الخليل*(10/113)
قال لي أولئك الإخوان: إن الله قد هدانا بدعوتك إلى توحيده وإتباع رسوله صلى الله عليه وسلم، ونحن ضعفاء في العلم لا نستطيع أن نغوص في بحور كتب السنة على دلائل المسائل ومعرفة ما يوافق السنة لنتجنب مخالفتها، ولا نأمن أن تفارقنا بالموت أو بحادث آخر، فنرجو من فضلك أن تؤلف لنا كتابا يحتوي على مسائل العقائد والعبادات مجردًا عن الأدلة مطابقا للسنة المحمدية، فأجبتهم إلى ذلك وصرنا نجتمع في بيتي كل ليلة إلى منتصف الليل أحدهم يكتب وأنا أملي والباقون يطالعون، كل واحد في يده كتاب من كتب الحديث حتى أتممنا في مدة قصيرة كتاب (مختصر هدي الخليل في العقائد وعبادة الجليل) وتبرعنا جميعا بالدراهم اللازمة لطبعه حتى تبرعت النساء المحتجبات في بيوتهن بدون أن تذكر أسماؤهن، وهكذا تكون الدعوة الكاملة الصافية الخالية من الأغراض الدنيوية فتخالط بسببها بشاشة الإيمان قلوب المستجيبين لها، وكان الحاكم الإسباني يبعث عيونه يتجسسون علينا فيرجعون إليه ويخبرونه بأننا نجتمع كل ليلة إلى ما بعد منتصف الليل، فيعد ذلك من الائتمار بالحكم الإسباني والسعي في القضاء عليه ويبلغ ذلك إلى إخوانه المستعمرين في تطوان.
*التعاون مع الإمام الشهيد حسن البنا رحمة الله عليه*(10/114)
وبينما المستعمرون الإسبانيون مغتاظون علي لأني نقضت العهد الذي بيني وبينهم لأمرين أحدهما الاتصال بالوطنيين والتعاون معهم، والثاني إلقاء الدروس بدون إذنهم، وهناك ثالث وهو نشر المقالات في صحيفة الحرية لسان حزب الإصلاح الوطني إذا بهم يكتشفون أمرا عظيما له بال هو أشد خطرا من كل ما تقدم، وذلك أن الإمام حسن البنا رحمه الله ورضي عنه كتب إلي يقول: إن صحيفتنا (الإخوان المسلمون) بلغت من الرواج والانتشار ولله الحمد إلى أن صارت في مقدمة الصحف اليومية التي تصدر في القاهرة، ولنا مكاتبون في جميع أنحاء العالم إلا في المغرب فليس لنا مكاتب يبعث لنا بأخبار إخواننا المسلمين في هذا القطر المهم، فأرجو من فضلك أن ترشدنا إلى مكاتب تختاره لنا وتخبرنا بما يطلب من المكافأة وإن سمحت لك صحتك بأن تكون أنت بنفسك ذلك المكاتب فهو أحب إلينا فأجبته:
لبيك يا لبيك يا لبيكا ... ها أنذا منطلق إليكا
أنا الذي أتشرف بأن أكون مكاتبًا لصحيفة الإخوان المسلمين ولا أريد على ذلك أجرا إلا من الله تعالى:
وما أنا بالباغي على الحب رشوة ... ضعيف الهوى يبغي عليه ثوابا
فشرعت في كتابة المقالات وكتبت إلى الصحيفة المذكورة عدة مقالات باسم مستعار وظننت أن هذا العمل سرًا مكتومًا، وكان ذلك غفلة مني ليقضى الله أمرًا كان مفعولاً. فقد كانت الامتيازات التي اشترطها البريطانيون على المستعمرين الإسبانيين والفرنسيين في المغرب تقضى على الفريقين بأمور منها: أنهم لا يتعرضون لمن له حماية إنكليزية من المغاربة، ومنها: أن يكون للبريطانيين في كل مدينة من كبريات مدن المغرب بريد لا يدخل تحت مراقبة المستعمرين.(10/115)
وغاب عني أن القنصل الإنكليزي من أشد أعدائي، وقد ائتمر مع الإسبانيين علي فمنعوني من الرجوع إلي البلاد الجرمانية، وقد احتج على مقالاتي في صحيفة الحرية عند الإسبانيين وعاقبوا الصحيفة مرات بالغرامة والوقف المؤقت كما فعل القنصل الفرنسي، وسيأتي مزيد من بيان لهذه العداوة إن شاء الله عند ذكر زيارتي للسفارة الإنكليزية قبل سفري إلى الشرق.
أضف إلي ذلك أن الموظفين في البريد البريطاني في تطوان كلهم مغاربة وهم رعايا للإسبانيين بحكم الاستعمار، وقد أكد عليهم الإسبانيون بالرهبة والرغبة ألا يروا رسالة فيها مساس بالإسبانيين إلا أطلعوهم عليها، فكانوا يطلعونهم على تلك المقالات قبل إرسالها وأنا غافل عن ذلك، فأجمع المستعمرون على أن ينزلوا بي عقابًا صارما فأوعزوا إلى جنودهم من عبيد الاستعمار- ومنهم وزير العدل في ذلك الزمان وأمير شفشاون ونائب قاضيها الحسن العمرتي- أن يدبروا لي مكيدة يوقعوني بها في شرك العقاب دون أن ينكشف أن الدافع لها هم الإسبانيون، ففكروا ودبروا وقدروا فظنوا أنهم وجدوا ضالتهم المنشودة في أمر إسلاميّ إصلاحيّ.
وذلك أنهم علموا أني حين أقمت بشفشاون وعظت قراء القرآن جماعة بلسان واحد أن يتركوا ذلك العمل لأنه مخالف للسنة، وذكرت لهم حديث أبي داود عن أبي سعيد الخدري قال: اعتكف صلى الله عليه وسلم في المسجد فسمعهم يجهرون بالقراءة، فكشف الستر وقال: ((ألا إن كلكم يناجي ربه فلا يؤذين بعضكم بعضا ولا يرفع بعضكم على بعض في القراءة)) وروى مالك في الموطأ عن فروة بن بياضة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على الناس وهم يصلون وقد علت أصواتهم بالقراءة، فقال: ((إن المصلي يناجي ربه لينظر بما يناجيه به ولا يجهر بعضكم على بعض بالقرآن)) قال ابن عبد البر: حديث البياضي وأبي سعيد ثابتان صحيحان. فاستمعوا لنصحي وتركوا القراءة على تلك الصورة ثم تبعهم أهل المساجد الأخرى.(10/116)
فوجد أمير شفشاون ونائب قاضيها باتفاق مع الوزير الوازر أنه يدخلون علي من هذا الباب، فأعد الوزير وأعوانه فتوى في صحيفة طولها نحو ذراعين -أراني إياها الوزير فيما بعد- وزعموا أن الرجح في مذهب مالك أن القراءة برفع الصوت جماعة في المسجد -وإن كان الناس في كل لحظة يدخلون ويصلون تحية المسجد- جائزة بل مستحبة، وكل من درس مذهب المالكية في هذه المسألة يعرف أنهم كاذبون، وقد نص خليل علي ذلك بقوله: ((وجهر بها في مسجد كجماعة وأقيم القارئ في المسجد يوم الخميس أو غيره)) وبسط القول في ذلك شراحه خصوصا المواق. فضربوا بذلك عرض الحائط واتبعوا بنيات الطريق.
ولما أعدوا الفتوى وأطلعوا على ذلك سادتهم المستعمرين رضوا عنهم وقالوا لهم: لله دركم من عبيد ناصحين مخلصين، فإن هذه المكيدة لم تخطر لنا على بال وبها يبقي أمرنا سرا مكتومًا، فاتفقوا مع أمير شفشاون أن يأمر القراء بالعود إلي تلك المخالفة؛ لأنهاهم أنا فيتخذ ذلك وسيلة للقبض علي وإيداعي السجن بدعوى التشويش في أمور الدين، فجاءني النذير من أصحابنا وأخبرني بأن الأمير ونائب القاضي وأعوانهما سينصبون هذا الفخ الشيطاني في الجامع الكبير يوم الجمعة، وسيأتي الأمير بالشرطة معه ليقبضوا عليّ.(10/117)
وكنت في ذلك الوقت أقاسي من شدة الربو والضعف الشيء الكثير فقال لي: وازع النفس الأمارة بالسوء: اترك صلاة هذه الجمعة وأنت مريض عذرك معك ولا تجعل لهم سبيلاً عليك فما بك قدرة على السجن والتعذيب!! فقال لي وازع الله في قلبي: أنت خضت هذه المعركة منذ زمان طويل، ولم تبال بما يصيبك في سبيل الله فكيف تجبن اليوم؟! فغلبت النفس اللوامة على النفس الأمارة، وذهبت وأنا أظن أنني لا أتم صلاة ركعتين تحية المسجد حتى يصعد الخطيب على المنبر ولا يبقى مجال لتغيير المنكر، ولكن ما كتب على المرء لابد من وقوعه، فتوجهت إلى الجامع الكبير ووجدت جماعة القراء قد عادت إلى القراءة جماعة رافعين على حلقتهم ورفعت صوتي، وقلت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كلكم يناجي ربه فلا يجهر بعضكم على بعض بالقرآن ولا يؤذ بعضكم بعضا)) فما كدت أنتهي من هذا الحديث حتى سمعت صوتا وهو صوت الأمير يقول: اشت اسكت، فقلت: اسكت أنت يا جاهل يا ظالم أما تستحي من الله أن تقابل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل هذا من سوء الأدب؟! فما شعرت إلا وخمسة من الشرطة يدفعونني إلي باب المسجد، فمروا بي على نائب القاضي الحسن العمرتي، فقام واقفا وقال بأعلى صوته: اضربوا الكلب الكافر. هذا أمر من الخليفة ففضح سرا دون أن يشعر، ولم يمهلوني أن أبحث عن حذائي فقلت لهم: أنا لا أمشي حافيا فذهب بعضهم وجاؤني بأحذية متعددة حتى وجدت من بينها حذائي فاحتذيته، فصار أحدهم يدفعني في كتفي ويقول: (زيد زيد) ومعنى ذلك باللغة المغربية امش امش، فقلت: يا هذا هون عليك فإنك لا تستطيع أن ترعبني، ولست بنادم على ما صنعت ولا خائف مما تبيتونه لي والله غالب على أمهر ولكنكم قوم تجهلون. قلت معنى ذلك باللغة المغربية، حتى أوصلوني إلى غرفة التوقيف التابعة لمكتب الأمير وأدخلوني وأغلقوا علي الباب: وكان معي مصلاي فبسطته وصليت الظهر أربع ركعات، وكانت رائحة كريهة تنبعث من أركان تلك(10/118)
الغرفة وإن كنت لم أر نجاسة فيها.
وبعد نصف ساعة أي بعدما رجع الأمير من السلاة وعلم أن أعوانه حبسوني في غرفة الموقوفين، وهو يعلم خبثها تحركت فيه عاطفة الرفق، فأمر أحد الكتاب أن بنضم إلى موظف آخر، ويترك غرفته حسب ما سمعت وأمرهم أن ينقلوني إلى غرفته، فسمعت صلصلة المفتاح في القفل ففتح الباب ودخل شرطي، وقال لي: قم واتبعني فانطلق بي إلى غرفة نظيفة فيها مقعد خشبي، فجلست عليه وأغلق علي الباب بالمفتاح، فبعد قليل فتح الباب ودخل علي أحد الموظفين وهو من أقارب الأمير وهو المسمى ابن اليماني وجاءني بطعام فأكلت منه قليلاً، وقال لي: إن الأمير نادم على عمله ولكنك أهنته أشد الإهانة على رءوس الأشهاد فصار مضطراً إلى أن يعاملك بمثل هذه المعاملة، فقلت له: { اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ * وَانتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ } . [هود: 121، 122]
ثم علمت زوجتي بما وقع فبعثت لي فراشاً وطعاماً مع أخيها فلم أستطع أن آكل شيئاً فقلت له: رده وأتني بالمصحف، لأني أحب أن أقرأ فيه لأكون أقوى على التدبر مني لو قرأت من حفظي فجاءني به.
وفي تلك الأيام كان المجاهد العظيم أمير البيان الأمير شكيب أرسلان قد توفي إلى رحمة الله، فأردت أن أنظم قصيدة في رثائه وطلبت أداة كتابة فلم يأذن بذلك الأمير، فأخذت أنظم القصيدة بدون كتابة بيتاً فبيتاً حتى أكملتها ستة وعشرين بيتا لأنشدها يوم تأبينه أو أبعثها لتنشد في ذلك اليوم إن بقيت في السجن، فقضى الله سبحانه أن أخرج من السجن وأحضر يوم التأبين وأنشدها فيه، ولم أر مناسبة لذكرها هنا لأنها لا تتعلق بالدعوة، وقد نقها المجاهد الكبير محمد علي الطاهر في كتابه: كرى الأمير شكيب أرسلان فليرجع إليه من شاء الإطلاع عليها.(10/119)
وعند منتصف ليلة السبت وهي الليلة الأولى التي قضيتها في السجن أو التوقف بما يسمونه سمعت صلصلة المفتاح في القفل، ففتح الباب وجاءني ذلك الشرطي الذي كان يدفعني أمس ويقول: امش امش فأخذ يقبل يدي ورجلي ويقول: سامحني يا سيدي ولا يؤاخذني بما فعلت فإن هذا الأمير الظالم أمرني بذلك، وإن شئت أن تخرج إلى صحن الدار لاستنشاق الهواء النقي فأنا في خدمتك وإن أردت طعاما أو شراباً أو فراشا فأمرني به، فدعوت له بخير وعفوت عنه وقلت: لا أحتاج إلى شيء.
* الاجتماع بالحاكم الإسباني *
وفي ضحى يوم السبت فتح الباب وأمرت بالخروج فلقيت شرطيا عند باب المبنى ينتظرني فقال لي: أنا رسول المراقب المدني إليك لتأتي إلي مكتبه، ولأجل أن لا يراك الناس في هذه الحال سأخرج بك خارج المدينة ونسير في طريق البساتين إلى أن نصل إلى مكتب المراقب، فقلت له: أنت مخطئ في ظنك أتظن أني أستحي أن يراني الناس ويعلموا أني مسجون على يد المستعمرين؟ إني أرى ذلك شرفا وأحب إعلانه فقال لي: على كل حال الأفضل أن لا نمر بالسوق، فقلت له: إن أمرك المراقب بذلك فلا بأس، فانطلقت معه إلى المراقب فأجلسني أولا في مكتب فقيه المراقبة فسلم علي الفقيه سلام إجلال وتكريم، وقال لي: جزاك الله خيرا لقد شرفت أهل العلم بصبرك وجهادك وشجاعتك. إن الناس كانوا يقولون: إن العلماء جبناء، فأقمت أنت البرهان على كذبهم، وأهل هذه المدينة أصبحوا يجلونك ويحبونك حتى الذين كانوا يعادونك من قبل، وفي هذا اليوم ظهر لك مقال في صحيفة الحرية فتخطف الناس أجزاءها وقرأوا مقالك بشوق.(10/120)
فجاء الشرطي ودعاني إلى مكتب الحاكم الإسباني، وكان من فضل الله علي أنني ما هبت أحدا منهم ولا ناظرت أحدا منهم إلا ظهرت عليه، فدخلت المكتب وجلست على كرسي مواجه له، فافتتح الحديث بقوله: إننا متأسفون على ما وقع بينك وبين الأمير ونائب القاضي، ولما كانت هذه المسألة دينية لم يكن لنا أن نتدخل فيها، ونحن نكرم أهل العلم ورجال الدين ونرى أنه ينبغي لهم أن يكونوا حلماء، ويصفحوا عن المسيئين إليهم، ولذلك أقترح عليك أن تجتمع مع الأمير وتتصالح معه ليتمكن من إطلاق سراحك. (وكلاما من هذا القبيل) فقلت له بواسطة الترجمان- مع أني كنت أفهم ما يقول لأني كنت في برلين قد دفعت أجرة مائة ساعة لتعلم اللغة الإسبانية فحضرت منها ستين ساعة، أضف إلي ذلك أني أقمت في غرناطة أربعة أشهر كما تقدم- قلت له: هذا الاقتراح الذي اقترحت علي يتفق عندكم مع تعظيم الدين والعلم وحرمات المساجد! أرأيت لو أن قسيسيا كان يعظ الناس في الكنيسة فقام رجل من الحاضرين وأساء الأدب مع الدين ومعه وأسكته فقال له القسيس الواعظ: أنص أحق بالسكوت يا جاهل يا ظالم، وكنت أنت حاكم تلك المدينة ثم رفع الأمر إليك فبأي حكم تحكم؟ أتحكم بحبس القسيس وإلزامه بطلب العفو من ذلك الظالم الذي أمر بحبسه وأساء الأدب مع الدين وانتهك حرمة الكنيسة أم تأمر بحبس ذلك الجاني وإطلاق سراح القسيس والاعتذار له وإرضائه؟! فقال لي حائدا عن الجواب: مقصودي أن العلماء من شأنهم أن يكونوا حلماء فقلت: أرني حقي ثم اطلب مني الحلم، أما قولك: إنها مسألة دينية، فليس بصحيح فإني أقمت هنا أكثر من خمسة أشهر والأمير ونائب القاضي يعاديانني ولم يتجرآن على الإساءة إلي حتى حرضتموهم على ذلك وهما عبدان خاضعان لكم لا يتجرآن أن يحبسا نملة إلا بأمركم، وأنا لست من الغفلة بالمكان الذي يروج علي فيه اعتذارك هذا فهو مردود عليك، فقال لي: أنا متأسف وما أردت لك إلا الخير وأنت حر في تصرفك.(10/121)
وكان مما قاله لي ونسيت ذكره في موضعه: إن الأمير كان مكرها على حبسك لأنك شتمته أمام رعيته، فلو لم يحبسك لم يبق له حرمة عندهم فلا يستطيع أن يحكم على أحد بعد ذلك. فقلت له: أهكذا تكون العدالة عندكم في إسبانيا؟! يتجرأ أمير قرية على إسكات واعظ في الكنيسة والأمر بحبسه ولا يعد ذلك ظلما ولا إهانة للدين والعلم ثم يعتذر للظالم بهذا العذر البارد، فهب أنه لم تبق له حرمة عند رعيته ولا يستطيع أن يحكم عليهم فهناك حكم آخر هو أحسن وأعدل، وهو أن يعزل ذلك الحاكم ويعاقب على عمله ويستبدل بغيره.
فانصرفت من عنده والترجمان يرافقني وهو متأسف علي فقال لي: ماذا صنعت بنفسك يا أخي؟ أنت مريض ولا قوة لك على البقاء في السجن ولا تظن أن هذا الذين أنت فيه هو السجن إنما هذا هو توقيف وتمهيد وسيحكم عليك بالسجن والمكث فيه صعب، ولا تغتر بما يظهره لك الناس من المحبة فإنه يمكن أن تبقى في السجن حتى تموت فقلت له كما قلت للإسباني قبله: أتريد مني أن أذهب إلي الأمير وأتذلل له وأكذب على نفسي وأقول: إني كنت مخطئا في جوابي لك فأسألك العفو؟ فقال: هذا الذي يحتمه الحال التي أنت فيها. فقلت: لن أفعل ذلك أبدا إن شاء الله وليكن ما عسى أن يكون. فقال لي: أرجو أن توافقني على لقاء الأمير فقط فقلت: أنا موافق عليه فقال انتظرني هنا فرجع إلى الحاكم فقال: إنه قبل أن يجتمع بالأمير فأذن لي أن أرافقه. وكان هذا الرجل ناصحا لي، ولم يكن يدرى أن الأمر ليس بيد الأمير ولا بيد حاكم شفشاون هانما جاء من الدائرة العليا في تطوان، وهو أمر بيت بليل، فلم يأذن له الحاكم بل قال له: الشرطي الذي جاء به يرده فقال الترجمان للشرطي: اذهب به إلي الأمير.(10/122)
فذهبت إلي الأمير في مكتبه وقلت: السلام عليكم فقال: وعليكم السلام اجلس، وأشار إلى كرسي فجلست وبقينا ساكتين، ثم قال: أيها الأستاذ أنت قلت في المسجد أمام الناس: إني جاهل وأنت صادق ولكن لو قلت ذلك وصفحت عنك لسقطت في أعين الناس ولم يبق لي عندهم احترام، فقلت له: ماذا تريد بهذا الكلام. لعلك تريد إظهار الندم وفتح باب الصلح؟ فقال: نعم فقلت له: لي شرط واحد إن أنت قبلته سامحتك في الدنيا والآخرة وإن لم تقبله فردني إلي السجن. وقبل ذلك قلت له: لماذا كنت قبل أن أجيء إلي بلدك كلما رأيتني في تطوان أسرعت إلي السلام علي ببشاشة وتودد ولما جئت إلى بلدك لم تسلم علي ولا مرة واحدة ولا ضيفتني؟ فقال لي: لم أستطع ذلك. معناه أنه يخاف من الإسبانيين ثم قلت له: وهذا هو الشرط أن تقف في المسجد الجامع قبيل أن يرقى الخطيب على المنبر، وتقول: أيها الناس اشهدوا علي أني كنت ظالما حين أسكت الدكتور محمد تقي الدين الهلالي يوم الجمعة الماضي، وإني أشهدكم إني تبت إلي الله هانني ألتزم نصرة سنة النبي قولا وعملا حتى ألقى الله، فقال لي: دعني أفكر في هذا الأمر فقلت: إذا أرجع إلى السجن حتى تفكر. وكان الشرطي عند الباب فذهبت معه إلى السجن.(10/123)
أما أهل شفشاون فإنهم استنكروا هذا العمل كل الاستنكار، ولم يخافوا سطوة الأمير ولا سطوة الإسبانيين واجتمع خلق كثير منهم، فتوجهوا إلي مكتب الأمير ليبدوا له استنكارهم ويطلبوا منه إخراجي، فأمر الشرطة إن يصرفوهم، فصرفوهم ومن شدة إعجابهم بموقفي وثباتي أشاعوا أن الأمير عرض علي أن يطلق سراحي فامتنعت، ولعلهم فسروا اشتراطي ذلك الشرط عليه بالامتناع. ووجدت بخط يدي ما نصه أن سكان شفشاون قد قاموا وقعدوا لهذه الحادثة وأقاموا القيامة، وبلغ بهم الأمر إلي أنهم هجروا الجامع الأعظم في الجمعة التالية فلم يصل فيه أحد إلا الغرباء الذين يأتون إلى السوق، وذهب جماعة من المواطنين إلى طنجة واحتجوا على هذه الحادثة عند السفير الإسباني، وأذاعت إذاعة لندن [الخبر]، وقاطعوا الأمير بقدر جهدهم، فقد كانت لهم عادة في أوائل ربيع الأول أن ينادي المنادي في الناس بأمر من الأمير أن يجمعوا النقود لشراء ثور يذبحونه في اليوم الثاني عشر من هذا الشهر على القبة المدعوة سيدي علي بن راشد، ويبيتون ليلة الثاني عشر مع أمير المدينة ينشدون القصائد في المدح النبوي في تلك القبة إلى أواخر الليل، وبعد هذه الحادثة دخل ربيع الأول ونادى المنادي وكان شاتا فذهب الناس إلي أبيه، وقالوا له: كيف تترك ابنك يعين هذا الظالم الذي قبض على الدكتور يوم الجمعة بالمسجد الأعظم؟! فلام الرجل ابنه فقال: إني فعلت ذلك خوفا منه فقط وأنا أقول للناس بصوت منخفض: لا تفعلوا لا تفعلوا، ولم يتبرع أحد بفلس واحد لشراء الثور، فاضطر الأمير أن يشتريه من ماله الحرام وما ذبح لغير الله فهو جدير أن يشترى بمال حرام، ولم يشاركه أحد من أعيان البلد فيما يسمى عندهم بإحياء الليلة وهو في الحقيقة إماتة لها.
وهذا في زمن الاستعمار عمل عظيم ولا يستغرب مثله من سكان الشمال، فإن لهم مواقف مشرفة في محاربة الاستعمار ولا يتجرأ عليها سكان الجنوب ولولا خوف الإطالة لذكرت أمثلة من ذلك.(10/124)
وفي عصر ذلك اليوم وهو السبت 24 صفر 1366 هـ الموافق 17 يناير 1947م جاءني السيد عبد السلام بن محمد المؤذن، والسيد محمد العبودي وهما من خاصة تلامذتي من الشبان فدخلا علي في معتقلي وقال لي السيد عبد السلام: إنا جئنا ظهرا وكنا عند الأمير وبلغته أن والدي السيد محمد المؤذن ساخط كل السخط على معاملته لك، وقال: وقلت له أنا: أين الصداقة والأخوة التي بيننا كيف تقبض على أستاذنا وتخرجه من المسجد وتحبسه بصورة مخزية لك وتبقى بيننا وبينك مودة؟! فقال لي: يا سيدي عبد السلام هذا سر لا أستطيع أن أخفيه عنك ولا أستطيع أن أبوح به لغيرك، إن المراقب الإسباني هو الذي أمرني بالقبض عليه، وقد جاءه الأمر من تطوان بذلك، وأرجو أن تكتم على هذا الأمر ولا تخبره به فإن في ذلك خطرا علي منصبي، وغدا يوم الأحد ما فيه شغل وفي يوم الإثنين يكون عندكم في تطوان، فإن قلت: لماذا يخاف الأمير من السيد عبد السلام ووالده كل هذا الخوف؟ فالجواب، أنه كان له عيال كثير وكان مفلسا على الدوام فإذا أراد المستعمرون توزيع سلفة من الحبوب على الأهالي يطلبون منه ثمنها نقدا فلا ينقذه إلا السيد محمد المؤذن، فهو يقرضه المال الذي يدفعه للمستعمرين ثم يأكل هو اعثر تلك الحبوب ويوزع شيئا قليلا على أصدقائه وهذا أمر مألوف بين حكام الشعوب المستعمرة.
* الإنتقال إلى تطوان *(10/125)
مر يوم واحد وهو يوم تعطيل عند النصارى، يمنع حكامهم رعاياهم ورعايا البلدان الواقعة تحت حكمهم من العمل من بعد ظهر يوم السبت إلي صباح يوم الإثنين، حتى المستشفيات يعطل فيها الشغل ولا يفعل إلا ما هو ضروري لإنقاذ الحياة وكذلك المدارس والمحاكم ودور التجارة والمصانع إلا أن سكك الحديد والطائرات والمطاعم لا تعطل. ومن خالف هذا القانون واشتغل يعاقب عقابا صارما وليس العجب من النصارى إذا عطلوا يوم عيدهم المكذوب على المسيح فذلك دينهم، ولكن العجب كل العجب من سكان المستعمرات التي كان يحكمها النصارى كباكستان والمغرب والجزائر ثم استقلت منذ زمان طويل ومع ذلك ما تزال محافظة على سنة النصارى في تعطيل يوم الأحد وتعطيل أيام عيد الميلاد، وكذلك لم يزل هؤلاء وغيرهم محافظين على سنة النصارى في استعمال تاريخ النصارى وهجر تاريخ الإسلام حتى أن علماء الدين أنفسهم يكتبون إلى إخوانهم المسلمين يؤرخون لهم الكتب بتاريخ النصارى وللكلام على هذا موضع آخر وإنما هي نفثة مصدور.
وإنما قلت: إن جعل يوم الأحد عيدا للنصارى مكذوب على المسيح في جملة ما كذبوا عليه كأكل لحم الخنزير، وقولهم: إن الله ثلاثة أقانيم الأب، والابن، وروح القدس، لأن المسيح كان يعطل يوم السبت كسائر بني إسرائيل والأناجيل الأربعة طافحة بذلك، فلما تنصر الملك قسطنطين كره موافقة اليهود فنقل العيد من يوم السبت إلى يوم الأحد.(10/126)
أقول: مضى يوم الأحد علي في السجن لأنه لا عمل فيه وقبل فجر يوم الاثنين سمعت صوت المفتاح في القفل ثم فتح الباب، وقال لي الحارس: خذ ما تحتاج إليه من أمتعتك لأنك ستبارح هذا المكان، فأخذت اللبدة التي أصلي عليها ولم آخذ شيئا غيرها وخرجت من مبنى مكتب الأمير فوجدت حارسا آخر على الباب ينتظرني، فسلم علي بلطف وأدب غير معهود من حراس مكتب الأمير، وقال لي: اتبعني هاهنا، فتيممت وصليت الصبح لأن فرضي في تلك الأيام كان تيمما للمرض الذي كنت مصابا به، ثم رجع إلى الحارس وأخذني إلى السيارة وركب إلى جانبي فتوجهت السيارة إلى تطوان.
ولما نزلنا رافقني الحارس إلى مكتب (كاساس) وهو المراقب الإسباني الذي كان يتصرف في جميع شؤون الحكم في تلك الأيام وكان شديدا على المغاربة، وكنت أقول فيه باللغة الإسبانية:(كاساس كيقا أدستروير سوس كاساس) وهذا سجع لأن الكلمة الأولى والأخيرة لفظهما واحد ومعناها مختلف فالأولى علم على ذلك الحاكم الإسباني والأخيرة معناها بيوت أو ديار. ومعنى الجملة كاساس هو الذي سيخرب بيوتهم أي بيوت قومه الإسبانيين، وكذلك وقع فإنه بقي يحكم بأمره وأمر رؤسائه حتى فاجأه الاستقلال وخرج من تطوان خاسئا ذليلا. { فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [الأنعام: 45].(10/127)
ولما جلست أمام كاساس قال لي: نحن متأسفون لهذا الحادث وقد اشترط عليك الحكام الذين كانوا قبلي أن لا تسكن في المدن الصغيرة لأن حكامها يتصرفون حسبما يظهر لهم. ولما كان هذا الحادث من شئون الدين الإسلامي، فنحن لا نحب أن نتدخل فيه وإنما ننفذ ما يحكم به القاضي والأمير، فقلت له: إنني لم أبلغ من الغفلة والجهل إلى الحد الذي تظنه فهذا الحادث بحذافيره منكم وإليكم، وتستركم بدين الإسلام وبالمسجد وبالقاضي والأمير لا يجديكم نفعا، وبرهان ذلك: أن هذه المسألة- وهي وعظ قراء القرآن أن لا يرفعوا أصواتهم ولا يقرؤوا جماعة- وقع منذ أكثر من خمسة أشهر واستمع القراء وقبلوا النصح وتركوا القراءة طوال هذه المدة، والأمير والقاضي يسمعان ويريان ولم يحركا ساكنا ولا نبسا ببنت شفة حتى أوعزتم إليهما بنصب هذا الشرك ولم تقتصروا عليهما بل أوعزتم إلى وزير العدل أن يحضر فتوى بذلك.
فقال لي: أنا آسف على تصورك هذا الذي هو ما تخيلته ولا نصيب له من الصحة، فقلت له؟ أنت حاكم تستطيع أن تجعل الصحيح باطلا والباطل صحيحا بالقول ولا يستطيع أحد أن يعارضك، ولكن الحقائق في نفسها ثابتة لا تتبدل قال لي: نحن لا نمنعك أن تسكن في شفشاون ولكننا لا نستطيع أن نضمن لك أن لا يتكرر مثل هذا الحادث، لأننا لا نستطيع أن نقيد أيدي الحكام المغاربة والإسبانيين عن التصرف طبق ما يرونه صالحا للبلد الذي يديرون شؤونه ثم قال لي: أنت حر طليق يمكنك أن تتصرف.
فكانت مدة إقامتي في السجن إلى أن أطلق سراحي ثلاثة أيام، ثم رجعت إلى الاستقرار في تطوان وبعثت أحد تلامذتي إلى شفشاون، وأرسلت معه رسالة إلى إخوة الزوجة أن يأتوا بها وبالأمتعة إلى تطوان.
*لماذا خذلني خليفة السلطان مولاي الحسن بن المهدي*(10/128)
كان من أسباب انتباه الإسبانيين إلي وإساءتهم لمعاملتي أن هذا الخليفة بعث إلي سيارته في الأسبوع الأول الذي قدمت فيه تطوان، وكنت في نادي الطالب المغربي مع أن المسافة بين النادي والقصر الخليفي لا تحتاج إلى سيارة ولكنه أراد إكرامي فركبت السيارة ووصلت إليه فرحب بي، وقال لي: لي أمنية لم تزل تختلج في صدري وهي إنشاء معهد للقرآن والحديث، ولكني لم أجد لهذا المعهد رجلاً كفؤا أطمئن إليه في تدبير شؤونه، حتى قدمت أنت وعلمت ما لك من الفضل والعلم والدين فأرجو أن تقيم عندنا في تجلة وإكرام ولا ترجع إلى ألمانيا لأن بلادك في حاجة إليك، فدعوت له وشكرته على حسن ظنه واعتذرت بأنني جئت لزيارة تطوان بقصد الرجوع إلي برلين، لأن لي علائق لابد من إنهائها فعاد إلى الإلحاح فقلت: أفكر في هذا الأمر، أما جواسيس الاستعمار فقد أسرعوا إلى الإسبانيين وبلغوهم هذا الاجتماع فحسبوا له حسابًا وفكروا وقدروا.
وكان ذلك سببا لأن دعاني مدير الشرطة العام إلى مكتبه، واستنطقني لمدة ثلاث ساعات كلها سين وجيم كما يقولون وعلى أثر ذلك انتزع مني جواز السفر، وقال لي: سأنقل ما فيه وأرده لك فكان ذلك آخر العهد به، ثم تلا ذلك ما تقدم ذكره من اتهام الإسبانيين لي بأنني مبعوث من الحكومة الألمانية للسعي في إخراج الإسبانيين من المغرب.
ولما رأى الخليفة الإسبانيين عاملوني بتلك المعاملة صرف النظر عما دعاني إليه. وتولى الإسبانيون أنفسهم تأسيس المعهد الإسلامي الأعلى.
وهذا الخليفة وإن كان مقيدًا بسلاسل الاستعمار فإنه كان متصفا بالشهامة والغيرة(10/129)
على الإسلام كما ستعرفه فيما بعد، إلا أن الوشاة من أعداء التوحيد والسنة بلغوه أني صرت من أتباع أمير العرائش السيد خالد الريسوني وكانت بينهما عداوة شديدة، وإن كان الخليفة في الظاهر هو نائب السلطان وهو الرئيس على جميع الأمراء إلا أن الاستعمار كان يسير على خططه المعوجة ومصالحه المنشودة وهو يعلم أن السيد خالد إدريسي النسب وكان أبوه قد ثار على الدولة العلوية والخليفة علوي، وللاستعمار مصلحة كبيرة في إثارة الحزازات والمنافسة بين الأدارسة والعلويين جريًا على قاعدة (فرق تسد) فلما بلغ الخليفة هذا الخبر قبله على علاته ولم يمحصه فلذلك خذلني عندما حبسني الإسبانيون.
ولما سمع خبر هذا الحادث الأمير خالد الريسوني رحمه الله كتب إلي بخط يده كتابًا يقول فيه: إنه قد بلغني ما جرى عليك مما صنعته أيدي المغاربة والإسبانيين فأسفت لذلك كثيرًا فهلم إلي فإني مستعد لحمايتك وإكرامك ما دمت مقيمًا في المغرب لا تصل إليك يد مغربي ولا إسباني، وإن أردت السفر إلى الشرق أوصلتك إلى أي مكان تريد، ولم يكن لي أحد أستشيره إلا عالم المغرب وأديبه العبقري في هذا العصر الأستاذ عبد الله كنون لثقتي بحصافة رأيه وإخلاصه النصيحة فاستشرته، فقال لي: لا تفعل إن لك عند أبناء قومك المغاربة من علو المكانة والقدر أكثر مما للأمير خالد الريسوني فاقنع بحماية الله، فأخذت برأيه وكتبت إلى الأمير خالد وشكرته واعتذرت عن قبول ما دعاني إليه، وعلم -بعد ذلك- الخليفة أن الوشاة خدعوه وأنني لم أكن من أتباع أمير العرائش ولا غيره، وإنما كنت ولا أزال إن شاء الله من المتبعين للنبي صلى الله عليه وسلم.
*طلب أمير شفشاون للصلح مرة أخرى*(10/130)
جاء أمير شفشاون إلى السيد محمد المؤذن رحمه الله واعتذر له بأن الإسبانيين أمروه بأن يقبض علي وأنه لم يزد على تنفيذ ما أمروه به، وأن ناسًا من المشركين والمبتدعين ومنهم الحسن العمرتي طلبوا منه أن يضربني ثلاثمائة سوط لأني أنكرت كرامات الأولياء، وطعنت في عقيدة الأشاعرة وأفسدت المذهب المالكي، فأبى أن يسمع قولهم احترامًا لعلمي وفضلي الذي يعتقده، وهو يطلب من السيد محمد المؤذن: أن يصلح بيننا فقلت للسيد محمد المؤذن: أنا لا أمتنع أبدًا من الصلح، ولكن بالشرط الذي شرطته عليه في مكتبه بشفشاون فبلغه ذلك، فلم يستطع ولكنه بقي مع ذلك مصرا على طلب العفو مني يتحين الفرص لذلك.
وفي يوم من الأيام ذهبت لزيارة الخليفة مولاي الحسن بن المهدي بارك الله في حياته، فسجبت اسمي وأمرت بالانتظار في مقصورة تسمى البنيقة، وكان هناك أناس غيري ينتظرون لقاء الخليفة فما شعرت إلا وقد هجم علي شخص وقبل رأسي، وقال لي: أيها الأستاذ أطلب منك المسامحة فإذا به أمير شفشاون اليزيد بن صالح، فلم أجبه بشيء، ولا شك أن هذا الرجل لم يكن خالياً من الخير بالمرة، وكان صادقاً في قوله: إن الإسبانيين أمروه بالقبض علي وقد طلب العفو مني ثلاث مرات إلا أن شرطي كان شاقاً عليه.(10/131)
وبعد عشر سنين من ذلك فقط جاء الاستقلال وذهب الاستعمال وذل من كان معتزاً به ووصل إلى الحضيض الأسفل بل قبل ثامني سنين فقط وفي سنة 1957 سافرت إلى المغرب ووجدت أمير شفشاون وأحد إخواننا وهو السيد العياشي العلمي فأكرمني غاية الإكرام، ووجدت الحسن العمرتي قد جلله الخزي ولزم بيته فلا يخرج منه، فألقيت درساً في المسجد الأعظم الذي قبض علي فيه افتتحته بقول الله تعالى من سورة القصص: { وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ } . [القصص: 5، 6]
ثم قلت: أين المراقب الإسباني أين اليزيد بن صالح وأعوانه أين الحسن العمرتي؟! أخني عليهم الذي أخنى على لبد { فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } . [الأنعام: 44، 45] قال تعالى في سورة النمل: { وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ * فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * وَأَنجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ } . [النمل: 50-53] وامتلأ المسجد الجامع كما يمتلئ يوم الجمعة وأنجز الله سبحانه وتعالى ما كنت أوعدت به الأمير السابق في القصيدة التي ستأتي في هذا الكتاب. قال تعالى في سورة غافر { إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ } . [غافر: 51]. اللهم اجعلنا من الذين آمنوا واتبعوا رسلك فنصرتهم على أعدائهم.(10/132)
* * *
*عاقبة أمير شفشاون اليزيد بن صالح*
نقل الإسبانيون هذا الأمير لإخلاصه في خدمتهم إلى إمارة مدينة تطوان، وهي عاصمة الشمال مكافأة له على إخلاصه لهم فلما جاء الاستقلال زار الملك المظفر محمد الخامس مدينة تطوان، فجاء اليزيد وأخذ يطوف على المستقبلين، ويقول: أين اللبن أين التمر؟ ومن عادة المغاربة أن يستقبلوا كل ضيف عزيز باللبن والتمر. فجاء جماعة من الوطنيين المجاهدين وقالوا له: أيها الخائن بالغت بك الوقاحة إلى أن تأتي إلى هنا! بأي وجه تستقبل الملك أبالوجه الذي خدمت به الاستعمار؟! وحملوه في الهواء وألقوه بعيدًا فأصابته رضوض ودخل بيته ولم يخرج منه إلى أن مات.
وينبغي أن أثبت هنا القصيدة التي أنشأتها في هجوه، لا حقدًا عليه لأن طلبه المتكرر بالعفو يلين القلب القاسي هذا مع أنه كان أميرا، وأنا رجل غريب لا ناصر لي إلا الله، ولكن لما فيها من العبر فقد أنطقني الله فيها بأمور وقعت كلها في المستقبل القريب كأني كنت أنظر إليها:
يزيد لئيم الطبع خب منافق ... على صورة الإنسان وهو مريد
من النكر يدنو حيث سارت ركابه ... وأما من المعروف فهو بعيد
وما كان يوماً زائداً في فضيلة ... ولكن يزيد في الفجور يزيد
ضعيف متى يدعو إلى فعل صالح ... ولكنه في السيئات شديد
فإن كان حقاً ما دعوه ابن صالح ... فما رأيه في الصالحات سديد
يحارب دين الحق من أجل شقوة ... ويبدئ في إجرامه ويعيد
كلام رسول الله أعدى عدوه ... متى يسمعنه فهو عنه يحيد
وإن قلت: قال الله زاد نفوره ... وأدبر -يدعو- ويله ويميد
ولا غرو فالجعلان يجلب حتفها ... شذا المسك مما نالها فتبيد
يضل بذكر الله من حان حينه ... ويهدي به للصالحات رشيد
ومن رام يطفي بالجهالة نوره ... فذلك غمر للمحال يريد
وأهل حديث المصطفى من يعادهم ... ينله عذاب واصب ووعيد
فهم أولياء الله والله مؤذن ... معاديهم بالحرب وهو شهيد
وكم جاهل أمسى بحاول حربهم ... فباء بخزي ما عليه مزيد(10/133)
فقل لتشقى بالوعيد مكذب ... أتاك وبال ليس عنه محيد
وكم صالح ولى وخلّف خلفه ... غوياً، صروح الموبقات يشيد
أتغتر بالإمهال تحسب أنه ... -لك الويل- إهمال فأنت بليد
سيأتيك يوم عن قريب حسابه ... عسير وأخذ المجرمين شديد
فأبشر بخزي ما حييت وإن تمت ... تلاق الذي لاقى أخوك يزيد
ولو كان ذا فضل لهانت مصيبة ... ولكن جهول فاجر وعنيد
ولولا الشقا ما غره ظل منصب ... ولا عدد من خادميه عديد
فلا منصب إلا سراب بقيعة ... وإن كان ملكاً قد حمته جنود
تفرعنت يا مغرور في حكم قرية ... غدوت بها للصالحين تكيد
لصيد ضعاف قد نصبت حبائلاً ... وكم صائد قد عاد وهو مصيد
ومنذ رآك الناس فيها تشاءموا ... بشر ونحس لا يزال يزيد
ولو كنت براً لم تطل لك مدة ... ولكن عهد المجرمين مديد
*بين اليزيد والملالي*(10/134)
بعد حادثة السجن اجتمع اليزيد بن صالح أمير شفشاون بالملالي أمير القصر الكبير حيث زار الأول الأخير في قصره، فقال أحد جلساء الأمير الملالي يخطاب اليزيد: جزاك الله خيراً على ما فعلت بعدونا الهلالي، إن عملك معه يعد جهاداً في سبيل الله، فإنه أنكر على سيدي أحمد التجاني وأهل طريقته ويحكم عليهم بالضلال، فسكت اليزيد وقال له الملالي: لا تظن أن هذا -وإن كان من جلسائي- يعبر عن رأيي فإني أعتقد أنك قد فعلت أمراً قبيحاً شنيعاً لا يرضى به أحد له دين أو مروءة ولا ينبغي للأمير أن يضعف أمام الإسبانيين إلى أن يصير آلة في يدهم يطيعهم في كل ما يأمرون، فلا بارك الله في الإمارة التي توصل إلى مصل ذلك، لا تظن أني أقول هذا محبة له فإني أعاديه كما يعاديه كل تجاني قرأ مقاله في صحيفة الحرية الذي ترجم له بقوله (كيف خرجت من الطريقة) وقد أقام في القصر الكبير أربعة أشهر فلم أستطع أن أتعرض له بسوء وهو في قبضتي وتحت يدي، لأن الذي يقول: قال الله قال رسوله يغلبني، كيف سمحت لك نفسك أن تقبض على رجل يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت من بيوت الله؟! إنني لم أفعل ذلك ولو أفضى بي الأمر إلى أن أتنازل عن الإمارة.
*شكر أهل شفشاون في قصيدة من بحر الطويل*
جزى الله شفشاون بخير ونعمة ... ونجاهم من كل شر ونقمة
وصانهم من كيد كل منافق ... لئيم خؤون هاتك كل حرمة
مطاعين في الهيجا ميامين في الندى ... أكارم شجعان مصابيح ظلمة
هم نصروا الدين الحنيف وعظموا ... حديث رسول الله خير البرية
وقالوا لداعي الحق لبيك إذ دعا ... وقالوا لداعي الشر أبشر بخيبة
ولم يرهبوا في الله لومة لائم ... ولا بطش خصم موعد بالأذية
إذا سمعوا قول الرسول تفتحت ... قلوبهم للحق في كل لحظة
أناس تولى الله شرح صدورهم ... وطهرها من كل رجس وبدعة
ومن شرح الرحمن للحق صدره ... فلن يظفر الشيطان منه بنزغة
ومن ينصر القرآن والسنة التي ... أتت عن رسول الله يحظى بنصرة(10/135)
ولا بد أن يلقى شدائد جمة ... كما لقي المختار في بطن مكة
وأصحابه الغر الكرام ومن قفا ... سبيلهم المثلى يعزم وقوة
وعقابهم فتح ونصر مؤزر ... ومن شك في هذا اقتفى أهل ردة
وقد مست البأساء خير صحابه ... وقالوا متى يا رب نحظى بنجدة
أجابهم الله الكريم ألا اصبروا ... تنالوا قريبا جل نصر وعزة
وذي سنتي في الأصفياء جميعهم ... ومن ذا الذ يسطيع تبديل سنتي
ويا أهل شفشاون سلام عليكم ... ستبلغكم طول الحياة تحيتي
وأذ كركم بالخير في كل مجلس ... وإن كنت في بغداد أو أرض بصرة
وإن كان فيهم من يخالف نهجهم ... فكل أناس مبتلون بسفلة
ولو كان فيالدنيا أناس جميعهم ... خيار لما كانواسوى أهل طيبة
ولا سيما والمصطفى في ديارهم ... سراج محت أنواره كل دجنة
لعمري لنهم القوم جر عليهم ... بما لا يؤاتيهم تيوس مظلة
أراذل عبادون للمال والهوى ... وما وردوا إلاموارد حمأة
وقد عجل الله العزيز عقابهم ... فصب عليهم قومهم كل لعنة
بهم تضرب الأمثال في كل مجلس ... فصاروا كبعران أصبن بحكة
وهم يدعون العلم والعلم منهم ... مناط الثريا من كسير بحفرة
وهم يسترون الجهل، والجهل فيهم ... مبين وهل تخفي ذكاء بخرقة
فيا معشر الإسلام طرا تمسكوا ... بهدي رسول الله أفضل عدة
فذاكم سلاح لا يفل غراره (1) ... به تهزم الأعداء في كل وقعة
ولن تسعدوا والله إلابقفوه ... بصدق وإخلاص وعزم وقوة
فلو قام كل الناس مثل قيامهم ... كأسلاف لنا ... لصرنا كأسلاف لنا خير أمة
ونلنا الذي نبغي من المجد والعلا ... وألبسنا الرحمن أثواب عزة
ورد لنا ذو الفضل غابر فخرنا ... وطهرنا من كل رجس ووصمة
ألا فابذلوا الأرواح والمال دونه ... وأحيوه تحيوا في هناء وغبطة
ووالوا عليه من يعظم أمره ... وإن كان منكم ذا بعاد وشقة
وعادوا معاديه جميعا وإن أتوا ... وأدلوا بقربي أوبعظم مودة
فإن شئتم ذا فالمجادلة اقرؤوا ... وفي توبة تحظوا بأعظم حجة
__________
(1) الغرار: حد السف.(10/136)
وما نحن إلا خادمون لسيد ... حباه إله الناس أفضل رتبة
وما قيمة الأرواح إن لم تكن له ... فداء وتفدي بعده خير سنة
وما قيمة الأموال إن لم ننل بها ... رضى راحم للخلق في يوم كربة
فكن عابداً لله لا تدع غيره ... بوقت رخاء أو بأوقات شدة
وسر في ركاب المصطفى بتواضع ... وصدق تفز منه بقرب وخدمة
فخادمه بالصدق لا شك مفلح ... وتاركه لا شك هاو بهوة
عليه صلاة الله ثم سلامه ... وأصحابه من بعد آل وعترة
صلاة تدوم الدهر ما قال قائل ... حديث رسول الله ذخري وحجتي
*كيف كانت عاقبة وزير العدل*
لما أحس بالاستقلال ضاقت عليه الأرض بما رحبت كما قال المتنبي:
وضاقت الأرض حتى كان هاربهم ... إذا رأى غير شيء ظنه رجلا
فدخل بيته واختبأ فيه إلى أن مات وقد قلت في هجوه قصيدة ولكني لم أنشرها إلا بعد أن تولى الاستعمار وهي هذه:
دعوك وزير العدل بل أنت وازر ... ويبرأ منك العدل إذ أنت فاجر
نعم أنت ذو عدل عن الحق والهدى ... إلى الزور والبهتان إذ أنت خاسر
وأنت للاستعمار خير مطية ... بخدمته في كل حين تجاهر
ومالك من دين متين ولا حيا ... ولا شرف يثنيك عما تباشر
ترأست في فتوى القراءة عصبة ... دعاكم إلى البهتان والزور ماكر
على الله والمختار والشيخ مالك ... مذبتم وعقبى الكاذبين فواقر
فضحكتم في الرد شر فضيحة ... فسوآتكم بانت ولم يبق ساتر
ألا يا وزير العدل أصبحت عادلاً ... بربك في الفتوى التي أنت ساطر
رددت حديث المصطفى أكرم الورى ... وخالفته عمداً كأنك كافر
فقد قال لا يجهر على غيره امرؤ ... إذا ما تلا القرآن فالكل ذاكر
رواه أبو داود في السنن التي ... عن المصطفى قدماً روتها الأكابر
ومثله في المعنى روى الحبر مالك ... بإسناده سمطاً زهته الجواهر
وخالفت ما قد قاله قبل مالك ... وأصحابه في كتبهم ذاك ظاهر
وأقبح من هذا وذلك أنه ... دعاك إلى ذاك العدو المشاجر
فبدلت دين الحق من أجل منصب ... تخاف عليه إن جدك عاثر(10/137)
ظننت للاستعمار خلداً مؤبداً ... فلا فجر يبدوا بعدما جن كافر
فما هي إلا جولة ثمن انجلى ... وأشرق وضاح من الفجر باهر
فأسقيت كأس العزل وهي مريرة ... وكم بكؤوس العزل شقت مرائر
وأصبحت من خزي ببيتك قابعاً ... كأنك في قبر وما ثم قابر
*تبديل الدراهم في البنك*
لما عزمت على السفر إلى العراق كنت قد ادخرت عشرة آلاف بسيطة أتزود بها في سفري قافلاً إلى أهلي في العراق، فعرضت لي مشكلة وهي تبديل الدراهم الإسبانية بالجنيه المصري، فقد كان سعر الجنيه الرسمي حسب النقد الأجنبي الذي بيد الحكومة أربعين بسيطة لكل جنيه أما في السوق السوداء فالجنيه الواحد يساوي مائة وعشرين بسيطة.
*في مكتب كاساس مرة ثانية*
كتبت عريضة وأخذتها إلى كاساس ضمنتها طلب تبديل عشرة آلاف بسيطة في البنك بالسعر الرسمي، ولم أطلب منه إحسانًا ولا معروفًا لأن هذا حق لكل مستوطن من المغاربة، فلما قرأ العريضة عبس وبسر وقال لي: نحن لسنا مغفلين نساعد الناس على السفر إلى الشرق ليكتبوا مقالات في صحف مصر كلها طعن وتشنيع علينا فقلت له: أنا ما ذهبت إلى الشرق بعد ولا كتبت مقالات طعنا فيكم، ولكنه كان يعرف ما يقول وكان صادقًا فإنه كان يشير إلى المقالات التي نشرتها في صحيفة الإخوان المسلمين، ثم قال لي: إن لم تفعل ذلك أنت فعله غيرك ولست بخير منه.
فانصرفت من عنده وذكرت ذلك للأخوين الصديقين المخلصين السيد محمد المؤذن رحمه الله والحاج عبد السلام حسين أطال الله حياته، فقال لي الحاج عبد السلام: لماذا لا تذهب إلى الخليفة وتلتمس منه أن يأمر الإسبانيين أن يبدلوا لك هذه البساسيط بالسعر الرسمي؟ فقال له السيد محمد المؤذن: إن الخليفة لن يصنع شيئا فدعه يبدلها في السوق السوداء ويفوض أمره إلى الله، فقال الحاج عبد السلام حسيسن: أما أنا فأنصح له أن يتوجه إلى قصر الخليفة ويلتمس منه ذلك فإن استجاب فبها ونعمت وإن لم يستجب فلا ضير عليه في زيارته.(10/138)
فتوجهت إلى قصر الخليفة واستأذنت عليه فأذن لي قبل جميع الحاضرين الذين جاؤوا لزيارته وسجلوا أسماءهم فاستأذنته في السفر، والتمست منه أن يكتب إلى الإسبانيين ويأمرهم بتبديل ما عندي من الدراهم بالسعر الرسمي، وقلت له: هذا الطلب مقيد بشرط وهو أن لا يتعرض مقامكم الرفيع لتنقص عند الإسبانيين فقال لي بانفعال: لعنة الله على الإسبانيين، أنا لا أبالي بتنقص مقامي عندهم وإنما أريد أن يكون مقامي عاليًا عند الله وعند المؤمنين، ثم ضغط على زر الجرس فجاء حارس فقال: أين أبا سيدي يعني أخاه الكبير السيد محمد فقال له: يا مولاي إنه ركب منذ ساعة سيارته وخرج، فقال: ادع لي الكاتب العام أحمد بن البشير فدعاه فقال له: اكتب إلى المقيم العام إن الدكتور محمد تقي الدين الهلالي غاب عن أهله في العراق مدة طويلة، وهو يريد الرجوع إلى أهله وعنده عشرة آلاف بسيطة فأبدلها بالجنيه المصري حسب السعر الرسمي، وكان قد قال لي أول ما سلمت عليه واستأذنته في السفر: لن آذن لك حتى تعدني أنك ترجع إلينا فإنني لا أحب أن تكون بلادي خالية من رجل مثلك فشكرته على هذه المجاملة، وانتظرت قليلاً في مكان آخر حتى جاءني الكتاب فأخذته إلى المقيم العام الإسباني، فاستأذنت ودخلت على نائبه فقال لي: ليس عندنا نقد أجنبي في هذه الساعة فإن كنت تقدر أن تنتظر نبدله لك. وقلت له: أنا لا أنتظر إما أن تبدله لي الآن أو أبدله في السوق السوداء فقال لي: ارجع إلى بعد ثلاثة أيام فرجعت إليه فكتب لي كتابا إلى كاساس الحاكم الإسباني الذي تقدم ذكره.
*في مكتب كاساس مرة ثالثة*
فلما أخذت الكتاب من نائب المقيم العام وتوجهت إلى كاساس قلت في نفسي: هل يصر على جوابه الأول ويعصي أمر رؤسائه أو يخضع لهم ويتناقض؟ فلما وصلت إليه قدمت له الكتاب فقرأه وكتب لي كتابا إلى البنك يأمره بتبديل الدراهم ولم ينبس ببنت شفة.
*في السفارة الإنكليزية*(10/139)
لما حصلت على سمة الدخول إلى لبنان بعثتها إلى السفارة المصرية في مدريد عاصمة إسبانيا، فبعث إلى إذنًا بالدخول إلى مصر والإقامة خمسة عشر يوما ويسمى هذا إذن مرور، ثم فكرت في السفر بطريق البحر لأن أجور السفر أقل فذهبت إلى السفارة الإنكليزية وطلبت لقاء السفير، فأعطيت ورقة طلب مني أن أكتب فيها اسمي والغرض الذي جئت من أجله فلم يأذن لي السفير الإنكليزي، ولكني دعيت إلى مكتب نائبه وكان يهوديا يونانيا فقال لي وكان الكلام بالإنكليزية: أنت كنت في إذاعة برلين وقد أذعت أحاديث كثيرة في محاربة بريطانيا وكنت تأخذ من الجرمانيين أجرا على ذلك، فقلت: أما قولك: إني أذعت أحاديث كثيرة في محاربة الاستعمار البريطاني على منبر إذاعة برلين العربية فهو حق ولست نادما عليه ولا معتذرا منه، لأني كنت أدافع عن وطني كما كان البريطانيون يدافعون عن وطنهم فإن بريطانيا كانت حليفة لعدوتنا فرنسا، وحليف العدو عدو فإن كان دفاع البريطانيين عن وطنهم مما يلامون عليه وجب عليكم أن تلوموا أنفسكم قبل أن تلوموني وإن كان الدفاع عن الأوطان من الواجبات المحمودة فكيف تلوموني عليه، وأما قولك أني كنت آخذ على تلك الأحاديث فهو وهم باطل، بل كنت أدفع أجوزا على تلك الأحاديث وأرتكب أخطارًا في إذاعتها.
فقال لي: كيف تدفع أجوزا عليها ومن كان يأخذ هذه الأجور؟
فقلت: كان مدير الإذاعة قد اشترط علي أن لا أذيع حديثا إلا بعد أن أترجمه باللغة الألمانية، وأعد أربع نسخ من الترجمة تقدم إلى أربعة مكاتب فإذا وافق رؤساء تلك المكاتب على إذاعة ذلك الحديث أعطيت إذنًا بإذاعته وهذه الترجمة وكتابتها على الآلة تحتاج إلى كاتبة جرمانية وهذه الكاتبة لابد لها من أجر. وأما ارتكاب الأخطار فإني كنت أركب قطار النفق أعني القطار الذي يجري تحت الأرض مسافة نصف ساعة أحيانا في الليل والثلج ينزل وأتعرض للقنابل التي كنتم تلقونها على برلين حينًا بعد حين.(10/140)
فقال لي: وما غرضك؟ فقلت: أريد أن تعطيني سمة المرور على جبل طارق لأركب منه في البحر إلى الإسكندرية فقال لي: إن حكومة جبل طارق هي التي لها الحق أن تسمح لك بالمرور فاكتب إلى الشركة التي تريد السفر في بواخرها وائتنا بالجواب، فكتبت إلى شركة إنكليزية فجاءني الجواب فذهبت به إليه وأطلعته عليه فقال لي: عين لنا موعد سفر الباخرة من جبل طارق فكتبت إلى الشركة، فجاءني الجواب بأنها لا تستطيع أن تعين لي يوما بعينه على سبيل التحديد ولكن إذا وصلت إلى جبل طارق يمكن أن تسافر في مدة لا تزيد على الأسبوع، فامتنع نائب السفير من إعطائي سمة الدخول إلى جبل طارق إلا إذا عينت له اليوم الذي أسافر فيه، وقد ظهر أنه أراد المنع ولكنه أبى أن يصرح به وأراد أن يعذبني بالمماطلة والتردد عليه، فعدلت عن السفر بطريق البحر وكان ذلك خيرا، فإني سافرت بالقطار إلى مدريد وبالطائرة من مدريد إلى القاهرة بعد أن أخرت سفري شهرين.(10/141)
ولما كنت أتحدث مع نائب السفير كان جالسًا إلى جانبه رجل مغربي لا يدل زيه وهيئته على أنه يعرف الإنكليزية فسألت عنه فقيل لي: هذا السيد أحمد الرزيني، وكنت أعرف أخاه السيد عبد القادر الرزينى وبيتهما من أشرف بيوتات تطوان، وأهل هذا البيت من أصحاب الحمايات الإنكليزية التي وقعت في زمان ضعف الدولة المغربية، فإن التجار كانوا يخافون على أنفسهم من ظلم الحكام المغاربة فيحتمون بحمايات أجنبية، فتكلم السيد أحمد الرزيني أمام الحاضرين وقال لي: جزاك الله خيرا على ذلك التوبيخ الذي وبخت به ذلك المجرم اليهودي، ما أحد شفى قلبي منه إلا أنت ثم أطنب في مدحي عند الحاضرين وقال لهم: هذا الأستاذ بقي نصف ساعة يوبخ ذلك الخبيث بلغة إنكليزية فصيحة، فأنتم تعرفونني أنا لا أخالط الفقهاء ولم أحترم فقيهًا مثل ما احترمت هذا الفقيه فهكذا يكون الفقهاء وإلا فلا، وقال لي: إذا عزمت على السفر ولم يبق على سفرك إلا ثلاثة أيام أرجو أن تلقاني، فظننت أنه يريد أن يبعث معي شيئا لابن أخيه الذي يدرس في مصر.
فلما حان وقت سفري لقيته بالمسجد الأعظم ومعي كاتبي السيد محمد بن فريحة فقلت له: أخبر السيد أحمد الرزيني أنني بعد يومين مسافر إن شاء الله فأخبره، فجلس وأدخل يديه كلتيهما تحت جلابته وسمعت خشخشة واستمر على ذلك نحو خمس دقائق ثم أخرج يده وفيها ألف بسيطة فناولني إياها، وقال لي: هذه هدية للعلم الشريف أرجو أن تقبلها، فلما أخبرت الناس بذلك لم ينقض عجبهم منه وقالوا كلهم: إن هذا الرجل ما رأيناه يتبرع بشيء لأي مقصد من مقاصد البر ولو سأله السائلون وألحوا عليه، هكذا قالوا والعهدة عليهم ولا شك أنه تأثر كثيرا بالجدل الحاد الذي وقع بيني وبين نائب السفير الإنكليزي.
*حادثة أصيلا*(10/142)
كان من عادتي أن أسافر إلى أصيلا يوم الأربعاء بعد الظهر وأمكث فيها إلى الصباح من يوم السبت للقاء إخواني الموحدين وتذكيرهم وتجديد العهد بهم، وكانت مجالسنا في بيوت الإخوان ولم ألق درسًا في أي مسجد من مساجد تلك المدينة خوفا من الدخول في مشاكل مع المستعمرين يستعصى حلها، لأني أعلم يقينا أن صدور حكام تطوان مملوءة حقدا علي وأنهم يتربصون بي الدوائر، فإذا أصابني شر من حاكم صغير كالمراقب المدني في أصيلا يتخذونه سببًا للتنكيل بي، ولما دنا وقت سفري إلى مصر توجهت يوم الأربعاء على عادتي إلى مدينة أصيلا وفي يوم الخميس قال أحد إخواننا: لماذا لا تلقي درسًا في المسجد الأعظم ليعم النفع؟ فاختلف الإخوان بين مستحسن لذلك ومتخوف منه ثم توكلت على الله ورجحت إلقاء الدرس، فلما شرعت في إلقائه امتلأ المسجد الأعظم حتى لم يبق فيه مجلس لأحد ولم ينقطع سيل القاصدين إلى المسجد الأعظم فامتلأ صحن المسجد فبلغ الجواسيس حاكم تلك المدينة الخبر.
وفي صباح يوم الجمعة عزمت على السفر قافلاً إلى تطوان في الصباح مبكرا فبينما أنا واقف انتظر السيارة إذا بشرطي يهمس إلى قائلاً: إن الحاكم الإسباني بعثني لآخذ منك جواز السفر ليطلع عليه، وكان معي أربعة من الإخوان جاءوا لتوديعي فأنفوا لذلك، وقالوا له: هذا رجل مغربي والمغاربة لا يحملون جواز السفر في وطنهم وطردوه، فحضرت السيارة وسافرت.(10/143)
وبعد ذلك علم إخواننا بواسطة شرطي مؤمن أن الحاكم الإسباني عزم أن يقبض علي حين أجيء في يوم الأربعاء التالي فانطلق إلى الإخوان وأخبرهم، فبعثوا إلي كتابًا يحذروني من المجيء إلى أصيلا ويخبروني بما عزم عليه الحاكم الإسباني ولم يصل ذلك الكتاب إلا في صباح يوم الأربعاء، وكنت أبعث الكاتب كل يوم إلى صندوق البريد فيجيئني بما يجده فيه إلا في صباح يوم الأربعاء فإنني لم أبعثه وسافرت إلى أصيلا وأنا جاهل ما يراد بي، لكن الإخوان من شدة حزمهم خافوا أن لا يصلني الكتاب وأتوجه إلى أصيلا كعادتي فبعثوا سيارة تنتظر في إحدى محطات الطريق على مسافة خمسة وعشرين ميلاً فلما وصل الأتوبوس إلى تلك المحطة رأوني فأشاروا إلي بالنزول وأخذوا أمتعتي ووضعوها في السيارة الصغيرة، وكنا في شهر رمضان فسارت بنا السيارة في طريق غير الطريق المعهود حتى وصلنا إلى بيت أحد الإخوان في مدينة أصيلا.
أما الحاكم الإسباني فقد بعث إلى محطة الأوتوبوس بأصيلا ستة من الشرطة ومعهم عريف وأمرهم أن يقبضوا علي ويأتوا بي إليه وكان الشرطي المؤمن أحد الستة، فلما جاء الأوتوبوس أحاطوا به وراقبوا المسافرين فلم يجدوني معهم فرجعوا إلى الحاكم الإسباني وأخبروه أنني لم أجئ.
أما الشرطي المؤمن فإنه جاءني في البيت الذي كنت أفطر فيه وأخبر الجماعة، فضحكوا كثيرا وحمدوا الله على سلامتي، ولما فرغنا من العشاء وصينا العشاء أحضروا السيارة فركبتها إلى محطة القطار ومنها سافرت إلى القصر الكبير فنجوت من تلك المكيدة بفضل الله ثم بحزم الإخوان وشجاعتهم.
*السفر إلى مجريط ثم إلى القاهرة*(10/144)
مجريط هو اللفظ الذي كان يطلقه المسلمون على مدينة مدريد حين كانوا يحكمون تلك البلاد مئات السنين. سافرت بالقطار إلى مدينة مجريط ونزلت عند صديقي عبد الرحمن ياسين، واشتد علي مرض الربو فنقلني إلى المستشفي وزارني فيه إخواني من المغاربة، وزارني أيضا داعية القاديانية فناظرته وأنا على فراش المرض، وبعثت جواز سفري إلى السفارة المصرية لتنظر فيه هل يحتاج إلى تجديد إذن، فقال الموظف المختص: إنه صالح للسفر إلى مصر وإقامتي خمسة عشر يوما.
ثم سافرت بالطائرة إلى القاهرة ونزلت في مطار ألماظة قبيل وقت العشاء فعرض المسافرون أجوزتهم على الكاتب المختص فختم عليها وردها إليهم، فما رأى جوازي قال لي: اجلس فجلست حتى فرغ من أجوزة المسافرين فالتفت إلي، وقال: إن مدة السمة التي أعطيتها وهي خمسة عشر يومًا قد انقضت فيجب أن ترد إلى مجريط، فقلت له: إنني بعثت جواز السفر أمس فقط إلى السفارة المصرية في مجريط، فقال قائلها: إنه صالح والمدة ينبغي أن تعتبر من يوم وصولي لا من يوم تاريخ السمة لأني بعثته من تطوان إلى مجريط، ثم بعث إلى وهذا وحده يستغرق عشرة أيام، فقال لي: لا تطل الحديث فإنما أحكم برأيي لا برأيك فقلت له: أريد أن أصلي المغرب والعشاء فأمر شرطيا أن يرافقني ويدلني على مكان الوضوء والصلاة.(10/145)
وتوضأت وصليت المغرب والعشاء ودعوت الله في سجودي أن ينقذني من هذه المحنة الجديدة، لأنني إذا رددت إلى مجريط لا أجد ما أسافر به من الدراهم ولما فرغت من صلاتي رجعت إلى الكاتب فقال لي: عندك دراهم قلت: عندي حوالة بـ 147 جنيها قال: أرنيها فأريته إياها فأخذ يفتح الهاتف على رؤسائه ليستشيرهم في أمري فلم يجد أحدا منهم لأن ذلك اليوم كان التاسع والعشرين من رمضان وقد انصرف كبار الموظفين إلى إجازة العيد، ثم فتح التليفون على موظف كبير حسب ما فهمت من محادثته معه، فقال له يا سيدي: أرجو المعذرة إذا أزعجتكم لأني لم أجد أحدا من الموظفين في مكتبه عندي راكب مغربي معه جواز سفر وفيه تأشيرة مرور منتهية، ويدعي أنه عرضها على الكاتب المختص أمس في السفارة المصرية بمدريد فقيل له: إنها كافية وأنا أعتقد أنه من الصالحين، فقال له: افتح الهاتف على العروسي فإن لم تجده فأعطه أنت فيزة مرور.
فلما سمعته يقول: إنه يعتقد أنني من الصالحين استبشرت، وأملت خيرا وحسن ظني به، وزاد حسن ظني حين رأيت شرطيا جاءه بالسحور فعلمت أنه يصوم رمضان والصائمون حتى في ذلك الزمان قليلون.
فتح الهاتف على العروسي فلم يجده فأخذ يكتب لي سمة الدخول وقال لي: أريد منك عشرة قروش فقلت: ما عندي نقود مصرية فدعا شخصا موظفا يبيع الطوابع فقال: أعطني عشرة قروش طوابع مجانا فأبى فقال له هل تريد أن نرد رجلاً من هنا إلى مدريد لأجل عشرة قروش؟ فقام هو وغاب قليلاً وجاء بالطوابع فلا أدري أدفع ثمنها من عنده أم وجدها بطريق آخر ثم ناولني الجواز فقلت: جزاك الله خيرا فركبت السيارة. فلما وصلت إلى الفندق قلت: لصاحب السيارة ما عندي نقود مصرية سألتمس من صاحب الفندق أن يقرضني ما أعطيك إياه فقال لي تنازلت عن الأجرة. فانفرجت الأزمة ببركة المحافظة على الصلاة في وقتها.
*الإقامة بالقاهرة*(10/146)
أقمت بالقاهرة اثني عشر يوما لقيت في أثنائها كثيرا من الأصدقاء منهم أخونا الداعية السلفي الشيخ حامد الفقي رحمة الله عليه، فأكرمني كعادته ولقيت المجاهد العظيم الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي وقد تقدم ذكره ذلك. ومن أجل من لقيته في تلك الأيام المجاهد العظيم سماحة الأستاذ السيد الحاج أمين الحسيني، وكان آخر عهدي به في ربيع سنة 1942 حين بعثني إلى المغرب لغرض سياسي فيه مصلحة للمسلمين على أن أرجع إلي فمنعت من الرجوع كما تقدم، وكانت المراسلة مستمرة بيني وبينه إلى أن انهزمت ألمانيا وفر إلى سويسرا ثم إلى مصر وأنجاه الله من كيد أعدائه، كما أنجاه من قبل حين فر من بغداد إلى طهران ومن طهران إلى اليابان، وكان الإنكليز ومطاياهم في العراق قد جعلوا لكل من يأتيهم به حيًا أو ميتًا عشرة آلاف دينار فنجا بأعجوبة بمساعدة السفارة اليابانية حتى وصل إلى برلين.
ومع أني كنت في تطوان أحصل على القدر الذي أعيش به من المال من الأسباب التي ذكرتها من قبل فإنه كان يبعث لي النقود الكثيرة مرة بعد مرة، فلما زرته فرح بي فرحا عظيما وأقام مأدبة دعا إليها خمسين من رجال العلم والسياسة ولما أردت أن أودعه دفع إلي غلاما وقال: اقرأه في منزلك فلما وصلت إلى الفندق وجدت فيه مائة جنيه. وكان قد عرض علي ونحن في برلين أن يجعل لي كاتبا على نفقته فشكرته وقلت له: إن عندي كاتبا وأنا في سعة من المال فقد كان مجموع الرواتب التي كنت آخذها في برلين بكدي وعملي ألفا وأربعمائة مارك (1400) وذلك يعادل ألفا وسبعمائة وخمسين ريالاً في ذلك الزمان أي قبل ثلاثين سنة.(10/147)
والحاج أمين الحسيني رجل عظيم مهما بالغ أعداؤه في القدح وخلق العيوب له فلن يستطيعوا أن ينقصوا شيئا من عظمته وحسبك دليلاً على ذلك أن هتلر كان يجله، وقد التجأ إلي ألمانيا رجل عربي عظيم ومجاهد كبير وعالم متضلع ألا وهو رشيد عالي الكيلاني وأجله الألمانيون وأكرموا مثواه ولكن منزلة الحاج أمين عندهم لم يبلغها أحد.
*الصدق منجاة والكذب مهلكة*
وقعت لي في أسفاري الكثيرة حوادث ووقعت في أزمات لولا خوف الإطالة وكراهية الخروج عن الموضوع لذكرت بعضها، وفيه العجب العجاب لكني أقتصر على هذه الحادثة وليست من أغربها.
لم يسمح لي القانون المصري أن أخرج من مصر أكثر من عشرين جنيها، فتركت ما عندي من الدراهم عند الدكتور الحبيب ثامر والسيد حسين التريكي وهما مجاهدان تونسيان وقع بيني وبينهما قصة في التعاون على محاربة الاستعمار ليس هذا محل ذكرها، على أن يبعثا لي تلك الدراهم حين تسنح لهما الفرصة، لكني عندما توجهت إلى مطار ألماظة أخذت معي خمسين جنيها فناولني المفتش صحيفة، وقال لي: أكتب لي القدر الذي عندك من النقود فكتبت خمسين جنيها، فقال لي: إن القانون لا يسمح لك إلا بعشرين فقلت له: قبل إثني عشر يوما دخلت مصر ومعي 147 جنيها ولم أنفق في هذه المدة إلا قليلا لأني كنت ضيفا عند أصدقائي، وهم كثر فهل يعقل أني أنفقت في هذه المدة القصيرة 127 جنيها ولم يبق لي إلا عشرون؟ فنظر إلى جواز السفر فوجد مدة الإقامة إثني عشر يوما كما ذكرت له فقال لي: تستطيع أن تثبت أنك دخلت مصر بالقدر المذكور من المال قلت: نعم هذه شهادة البنك في تطوان فلما قرأها سمح لي بإخراج خمسين جنيها.(10/148)
فقلت له: إنني ألتزم الصدق وذلك يوقعني في مشاكل، فقال لي: إن الصدق لا يوقع في المشاكل وإذا وقعت لصاحبه مشاكل فعقباها خير وإنما الذي أتعبنا هو الكذب- ووقع لي مثل ذلك في دمشق- فانحلت المشكلة بأن كتب المفتش نفسه على الصحيفة أن عندي عشرين جنيها. أبيت أن أكذب فكذب هو.
* الدعوة إلى الله في العراق *
وصلت إلى العراق عائدا من سفري الطويل في صيف سنة 947ام من تاريخ النصارى، ولما امتنع صالح جبر من الإذن لي بأخذ نسخة من شهادة التجنس بالجنسية العراقية، وبقيت بلا عمل اخترت أن أسكن بالموصل لأن لي إخوانا صادقين في تلك المدينة، فسكنت فيها سبعة أشهر وبدأت الدعوة إلى الله فحصل إقبال عظيم من الناس وفرح بذلك الإخوان السلفيون.
وكانت السلفية موجودة قبل ذلك في الموصل وكان إمامها الشيخ عبد الله النعمة -رحمة الله عليه- وكان يلقي دروس القرآن في بيته مدة طويلة من الزمان يختمه ثم يبدأ من جديد، ويحضره كثير من الناس إلى أن توفي -رحمه الله- أما الشيخ صديق الملاح فكانت مدرسته هي المقهى في الموصل. والمقاهي في الموصل تختلف عنها في سائر البلدان ففي كل مقهى من مقاهي المسلمين مسجد وله مؤذن وإمام لصلاة المغرب والعشاء، وإذا حضر وقت المغرب أذن المؤذن وأم الناس المسجد كلهم لا يبقى إلا يهودي أو نصراني، وأهل هذا البلد لهم فضائل ومزايا من أخصها الشجاعة والكرم، وكان فيها أعداء للسنة ولكن لم يستطيعوا أن يمسونا بسوء.(10/149)
وبعد الوثبة التي تقدم ذكرها انتقلت إلى بغداد وبدأت الدعوة فيها وكانت السلفية قد ماتت في بغداد، مع أنها بلد الإمام أحمد بن حنبل والإمام أبي حنيفة رحمهما الله وكذلك الإمام محمد بن جرير الطبري، وقد كانت من قواعد الدعوة السلفية إلى زمان السيد محمد شكري الألوسي رحمة الله عليه، أما أنا فلم أجد من السلفيين إلا الشيخ عبد الكريم الصاعقة وكان إمام مسجد صغير وقد حاربه المتعصبون من المقلدين فلم يكن يصلي في مسجده إلا بضعة أشخاص، ولكنه كانت له خزانة عظيمة من كتب السنة وكان متمسكا بالعقيدة السلفية راسخ القدم لا يتزحزح عنها.(10/150)
وكان ابتداء دعوتي في مسجد بمحلة الشيوخ بالأعظمية وهو مسجد وقف خاص كان المتولي عليه الحاج محسوب -رحمه الله- وقد جرت العادة بإلقاء الوعظ في كل مسجد كل يوم من أيام رمضان على الأخص، فلما أقبل رمضان ذهب الحاج محسوب يبحث عن عالم من العلماء ليستأجره للوعظ في مسجده مدة شهر رمضان فاتفق مع أحدهم -ولا أسميه إبقاء عليه- ثم وجد ذلك الشيخ أجرا أعلى مما اتفق عليه مع الحاج محسوب فأخبره بفسخ الإجازة، وذهب إلى عالم آخر- لا أسميه أيضا إبقاء عليه- فاتفق معه أن يعطيه عشرة دنانير، فلما أقبل رمضان ولم يبق إلا يوم واحد من شعبان جاءه ذلك العالم وأخبره بفسخ الإجازة لأنه وجد من يعطيه أكثر من ذلك فأصاب الحاج محسوبا من الحزن والغم الغيظ على جميع المعممين وهكذا يسمى علماء الدين عندهم، لأنهم يلتزمون لبس العمامة والجبة وذلك زي العلماء عندهم فكل من لبس عمامة وجبة يحسبه الناس عالما، وإن كان أجهل من حمار أهله. فما شعرت إلا والحاج محسوب يطرق الباب فرحبت به وجلسنا نتحدث فاشتكى إلي مما أصابه من المعممين وذمهم ذما شديدا، وقال لي: يا ليت الواحد منهم حين استولى عليه الطمع وأراد الزيادة جاءني فاستشارني قبل أن ينقض العقد ويتفق مع غيري، كان ينبغي أن يقول لي قد وجدت من يعطيني أجرا أكثر مما اتفقت عليه معك فإما أن أزيده وإما أن أفسخ العقد معه. قال: واليوم جاءني أحد الأصدقاء وقال لي: عليك بالدكتور محمد تقي الدين الهلالي يعظ في مسجدك ثلاث مرات في الأسبوع فإنه يعظ لله ولا يطلب أجرا قال: فجئتك وأنا مستعد أن أقدم لك ما تطلب، فقلت له: يا حاج محسوب أنا لا آخذ شيئا على الوعظ لأنه فرض فرضه الله علي لأنه من الجهاد والجهاد واجب بالنفس والمال.(10/151)
فوعظت في مسجده كل يوم وأقبل الناس شبابا وشيوخا فاغتبط الحاج محسوب واطمأنت نفسه، وبعد رمضان استمررت على دروسي في ذلك المسجد وكان بحضرها الشباب من تلامذة المدارس والشيوخ من أهل تلك المحلة، فغاظ ذلك أعداء السنة، وزعموا أنني أردت أن أهدم مذهب أبي حنيفة.
فقلت مرارا في دروسي: إنكم تكذبون على أبي حنيفة –رحمه الله- وأنا أتبعه حقا وصدقا فإن أبا حنيفة كان على عقيدة السلف الصالح من الصحابة والتابعين كان يصف الله تعالى بما وصف به نفسه في كتابه أو وصفه به رسول الله صلى الله عليه وسلم ويثبت العلو لله تعالى ويكفر من يتأول الاستواء بالاستيلاء كما في الفقه الأكبر وفي الطحاوية وشرحها، وأنتم تعتقدون عقائد المتأخرين من الأشعرية نفاة الصفات وأبو حنيفة يكفر النفاة ثم تتعصبون في إلزام الناس بفروع الحنيفة، وهذا خلاف ما كان عليه أبو حنيفة –رحمه الله- فقد صح أنه قال: لا يجوز لأحد أن يقول بقولنا حتى يعلم من أين قلناه، أي حتى يعرف دليله، وأنتم تقولون على الله بلا علم بل بالتقليد الأعمى، ولعمر الله ليس هذا مذهب أبي حنيفة.
ومما يدل على مخالفتكم لمذهبه أن صاحبه محمدا وأبا يوسف خالفاه في ثلث المهب، ولو كان أبو حنيفة يعلم أصحابه أن يكونوا مقلدين لما خالفه أقرب الناس إليه وأفضل تلامذته الذين نشروا مذهبه. وهذه القبة التي بنيتم على قبره هل أباح لكم أبو حنيفة أن تبنوها؟! وهذا المسجد الذي بنيتم إلى جانبها هل أباح لكم أبو حنيفة أن تبنوا المساجد على القبور وتصلوا فيها؟! وهذه البدع التي ترتكبونها هل رويتموها عن أبي حنيفة؟!.(10/152)
فضاق المتعصبون ذرعا بدروسي فأوعزوا إلى أربعة من تلامذتهم من المعممين الشباب أن يحضروا درسي ويجادلوني، فإذا عارضهم تلامذتي يقتتلون معهم حتى بجيء رجال الأمن إلى المسجد، ويقبضوا علي المقتتلين فيتوصلوا بذلك إلى وقف دروسي بادعاء أنها تثير الفتنة ولكن خاب سعيهم لأن تلامذتي تفطنوا لذلك فالتزموا الصمت والهدوء، فلما رآهم الشيوخ خرجوا عن حدود السؤال بأدب إلى إساءة الأدب غضبوا عليهم وأسكتوهم وأرادوا أن يضربوهم وفي مقدمتهم الحاج محسوب رحمه الله، فخافوا وذلوا وطلبوا مني العفو فبطلت هذه المكيدة.
وكنت أسكن بقرب المسجد المنسوب إلى أبي حنيفة ويسمى عندهم جامع الإمام الأعظم -وهذا اللفظ أطلقه الأتراك في زمان حكمهم على أبي حنيفة -رحمه الله- ولا شك في إمامته ولا في عظمته، ولكن هذا اللفظ مبتدع يشبه ملك الملوك و (شاهن شاه) وقاضي القضاه. وقد جاء في الحديث الصحيح ((أخنع اسم عند الله رجل تسمي بملك الأملاك)) وكره الأئمة كل ما كان قريبا من هذا المعنى -فكنت لا أصلي في ذلك المسجد لا جماعة ولا جمعة أما الجماعة فكنت أصليها في مسجد الحاج محسوب، وأما الجمعة فكنت أركب السيارة من الأعظمية إلى بغداد وأصلي في أحد المساجد الخالية من القبور فاشتد انتقادهم لهذه الخطة، ولاسيما حين كانوا يرون تلامذتي من الشباب يقتدون بي ولا يصلون في المسجد المبني على القبر، بقيت على ذلك مدة سنتين.
* جامع الدهان *
كان جماعة من أهل الخير قد اشتركوا في بناء مسجد يبعد عن جامع أبي حنيفة بنحو ميل واحد إلى ناحية بغداد وعجزوا عن إتمامه، فجاء الحاج عبد الحميد الدهان وهو من أهل الثراء والإحسان ومن وجهاء التجار في بغداد فأكمل بناء ذلك المسجد وفتحه للصلاة.(10/153)
وأهل البيوت القريبة من مسجدي أكثرهم شيعة، وأنا خائف أن لا يجتمع لي العدد الذي تصح به صلاة الجمعة. وقد استنصحت الحاج طه الفياض صاحب صحيفة السجل، فقال: إن أردت أن يمتلئ مسجدك بالمصلين فعليك بالدكتور محمد تقي الدين الهلالي فالتمس منه أن يكون إماما وخطيبا لصلاة الجمعة، فأرجو أن تقبل مني هذا العرض. فقلت له: أنا لا ألبس زي العلماء كما ترى فقال لي: أنا أقبلك على أي حال كنت فقلت له: خيرا.
وشرعت أصلي الجمعة في جامع الدهان فما مرت ثلاث جمعات إلا وقد ضاق المسجد عن المصلين وصار الناس يقصدونه من جميع أرجاء بغداد وحتى أهل الأعظمية كان كثير منهم يمرون على مسجد أبي حنيفة ويتركونه ويؤمون جامع الدهان ومن الذين كانوا يواظبون على الصلاة فيه السفير المغربي في ذلك الوقت الحاج الفاطمي بن سليمان، وبلغ الإقبال على جامع الدهان. إلى أن من لم يتقدم قبل الزوال بساعة أو أكثر لا يجد مكانا.
* تطهير الجامع من البدع *
كان في الجامع كغيره من المساجد بدع:
الأولي: قراءة القراء، بالتناوب في مكان مرتفع مخصص للقارئين وكانوا يشوشون على المصلين بقراءتهم.
الثانية: صلاة ركعتين بعد الأذان الأول، يقوم المؤذن فينادي بأعلى صوته متغنيا فيقول: { مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا } [الأحزاب: 40]، ثم يقول: صلاة سنة الجمعة يرحمكم الله فيقوم الناس كلهم ويصلون ركعتين، ومن لم يصلهما يعد تاركا للسنة، وكان المؤذن يرفع صوته بالتسميع خلف الإمام مع وجود مكبرة الصوت وعدم الحاجة إلى التسميع، كما يفعل اليوم بالمسجد النبوي نسأل الله أن يطهره من المحدثات حتى يعاد إلي الحال التي كان عليها في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاءه الراشدين.(10/154)
الثالثة: الأذان الأول وهو محدث لم يكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا على عهد الخليفتين بعده وهم أولى بالأتباع، ولما كان زمان عثمان وكثر الناس في المدينة أمر عثمان مناديا ينبه أهل السوق بقرب صلاة الجمعة ليستعدوا لذلك ويؤموا المسجد ولم يكن ذلك أذانا حقيقيا ولا كان في المسجد فلما كان زمان عبد الملك بن مروان جعله أذانا لا زما وجعله في جوف المسجد (انظر كتاب المدخل لابن الحاج وفتح الباري)، وكيف ما كان الأمر فسنة النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه اللذين قال فيهما: ((اقتدوا باللذين من بعدي)) أولى بالأتباع.
الرابعة: كان المؤذن بعد السلام يرفع صوته بأذكار مخصوصة.(10/155)
استعنت بالله وحده أنا وتلامذتي وأخذنا نزيل تلك البدع واحدة بعد واحدة حتى قضينا عليها ولله الحمد، وكان الحاج عبد الحميد لا يتأخر عن مساعدتنا في ذلك. فبدأنا بإزالة القراءة ثم إزالة ما كان يترنم به فألفت كتابا سميته (الأنوار المتبعة في سنة الجمعة) وأقمت فيه البرهان على أن صلاة الجمعة ليست لها سنة قبلية، وإنما سنة بعدية ونقلت كلاما لأبي شامة في كتاب البدع له وكلام غيره، فلما عرف الناس ذلك بقراءة ذلك الكتاب وبخطب الجمعة المتوالية وكانت كلها من صميم السنة خطبا تعليمية إرشادية اتفقت مع تلامذتي ومع الحاج عبد الحميد الدهان على إزالة الأذان الأول وبإزالته تزول الركعتان، فأنذرت الحاضرين في المسجد في خطبة الجمعة الأخير وقلت لهم: لقد علمتم فيما مضي من خطب يوم الجمعة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن له إلا مؤذن واحد يؤذن أذانا واحدا عند جلوسه على المنبر حتى إذا فرغ المؤذن من أذانه قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبا ولم يقم أحد لصلاة ركعتين، إلا من تأخر حتى شرع الخطيب في الخطبة فهذا يصلي ركعتين خفيفتين تحية المسجد كما بينته لكم مرارا وتكرارا بالأحاديث الصحيحة، وقد عزمنا على ترك الأذان الأول، وبطبيعة الحال تترك الركعتان المترتبتان عليه فمن شرح الله صدره لقبول الحق فأهلا وسهلا به وهنيئا له ومن أبى فالمساجد كثيرة، فلما كانت الجمعة التالية دخلت المسجد وذهبت رأسا فصعدت المنبر وجلست عليه فقام أحد تلامذتي وأذن ثم قصت أنا وخطبت فجعلناهم أمام الأمر الواقع وانقطع بذلك ما بقي من المخالفات ولله الحمد.(10/156)
والحاج عبد الحميد الدهان كان موافقا لي على إزالة تلك البدع حرصا منه على عمارة المسجد وازدهاره ولم يكن يدرك أهمية التمسك بالسنة وترك المحدثات، لأنه تاجر لا يعرف الأدلة الشرعية ويجيئه المخالفون للسنة فيزينون له البدع فيبقى متحيرا ويحل المشكلة بإرضاءنا في المسجد وإرضاء خصومنا خارج المسجد بأن يقيم لهم مآدب ويعطيهم الحرية في ارتكاب بدعهم من عمل الموالد وغيرها ولذلك لم يثبت على العهد، فبعدما برحت أنا بغداد طمع فيه المبتدعون فأقنعوه برد تلك البدع بعدما طهر منها المسجد لمدة نحو عشر سنين ولله الأمر من قبل ومن بعد.
* هجوم مدير الأوقاف علينا *
لما رأى الفقهاء المتعصبون وأصحاب الطرائق المبتدعون نجاح هذا المسجد وازدهاره وقيام دولة التوحيد وأتباع السنة شرقوا بذلك ودبروا مكيدة عظيمة فذهبوا إلى مدير الأوقاف، و(الأوقاف في العراق لا يكون لها وزير لأنها كلها من وقف أهل السنة ولو كانت لها وزارة مستقلة لأمكن أن يكون الوزير شيعيا وذلك يخالف شرط الواقف فكانت مديرية الأوقاف تابعة لمجلس الوزراء) فذهب المبتدعون إلي مدير الأوقاف، ومعهم مفتي بغداد في ذلك الوقت وقالوا له: لماذا لا تستعمل حقك في تعيين الإمام والخطيب في جامع الدهان وكيف تترك الهلالي ينشر المذهب الوهابي علانية في ذلك المسجد؟! فاستصدر مدير الأوقاف أمرا ملكيا بتعيين شخص إماما وخطيبا في جامع الدهان فنال مراده.(10/157)
فلما صدر الأمر الملكي كتب صحيفة لي يقول فيها بعد السلام: إنه صدرت إرادة ملكية لفلان الفلاني أن يكون إماما وخطيبا بجامع الدهان، وقد أخبرنا الإمام أنك لا تمكنه من أداء واجبه فنرجو أن تتخلى عن الإمامة في ذلك المسجد ليتمكن الإمام من أداء واجبه وبعث الصحيفة مكشوفة بلا غلاف إلى الكلية، فسلمها إلي البواب ولم تزل تنتقل من يد إلى أخرى والناس يقرؤونها حتى وصلت إلي يدي فلما فرغت من دروسي ورجعت إلى بيتي كلمني الحاج عبد الحميد الدهان بالهاتف، وقال لي إن مدير الأوقاف دعاني إلى مكتبه فلما حضرت عنده تكلم بكلام قبيح لا أريد أن أذكره لك. فقلت له: وأنا أيضا كتب إلي يأمرني بالتخلي عن عملي في المسجد فقال لي استمر على عملك واترك الأمر لي فقلت له: وعلى هذا أنا عازم أيضا.
* وقوف الأستاذ منير القاضي إلى جانب الحق *
ذهب الحاج عبد الحميد الدهان إلى مدير مجلس الوزراء، وأخبره بما قال وفعل مدير الأوقاف فأخذ التليفون وتكلم مع مدير الأوقاف ووبخه توبيخا شديدا، فاعتذر له بأن الدكتور الهلالي يبث المذهب الوهابي وله معارضون من أهل السنة ونخشى أن تحدث فتنة في المسجد فقال له فضيلة الأستاذ منير القاضي: أأنت مدير أوقاف أو مدير الأمن العام؟! وزجره زجرا شديدا فحبط عمله وبطلت هذه المكيدة. والأستاذ منير القاضي يعرفني حق المعرفة فإننا كنا نجتمع في الاحتفالات التي تقيمها وزارة المعارف فما كان أحد يقوم لصلاة المغرب إلا أنا وهو فكان يقدمني فأصلي به إماما. وفي رمضان لم يكن أحد من الحاضرين يصوم إلا أنا وهو فكنا نفطر جميعا وفيما عدا ذلك لم تكن بيني وبينه علاقة.
* مكيدة أخرى *(10/158)
ذهب أعداؤنا إلى القصر الملكي وبلغوا خبرا كاذبا على سبيل الوشاية، قالوا: إن الهلالي منذ زمان عين إماما وخطيبا في جامع الدهان بدون إرادة ملكية وطرد الإمام الشرعي وأعانه على ذلك صاحب المسجد، وهو يبث المذهب الوهابي ولا يدعو للملك في خطبة الجمعة لأنه عدو للبيت الهاشمي؛ فجاءني أحد إخواننا وأخبرني بذلك فقلت له: إن الله الذي خيبهم في الأولى سيخيبهم في الثانية، فبعث الوصي من حضر صلاة الجمعة فوجد الخبر غير صحيح وخاب سعيهم، وكنت دائما أختم الخطبة الثانية بالألفاظ التالية على عادة المقتصدين غير المتزلفين من الخطباء في بغداد
فأقول: اللهم وفق وسدد ملك العراق فيصل الثاني وولي عهده عبد الإله وسائر ملوك المسلمين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
فإن قلت: هذه بدعة كنت ترتكبها مع زعمك أنك تحارب البدع أقول: إنني اجتهدت فرأيت أنني لو لم أفعل ذلك لم أستطع أن أكون إماما في صلاة الجمعة ولا مدرسا وواعظا في ذلك المسجد، وأن ما يحصل من الخير بنشر التوحيد واتباع السنة يربو على تلك البدعة أضعافا مضاعفة، على أن الدعاء لشخص معين في خطبة الجمعة لا بأس به ولكن المداومة عليه فيها ما فيها.
* أخذ الأجرة على صلاة الجمعة*
في الجمعة الثانية التي صليتها إماما وخطيبا في جامع الدهان دعاني الحاج عبد الحميد الدهان إلى الطعام بعد صلاة الجمعة، وقال لي: أنا مسرور جدا بما وقع من الإقبال على الصلاة في مسجدي بسبب خطبتك ونريد أن نتفق الآن على الراتب، فقلت له: إن أردت أن يطرد نجاح المسجد فلا تفكر في الراتب فأنا لا آخذ أجرا على الصلاة أبدا فألح، فثبت على الامتناع عن قبول أي شيء فقال: نجعله هدية فقلت: { إِنَّ اللَّهَ لاَ يَخْفَىَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ } [آل عمران: 5].
فبعث إلي بعد ذلك جماعة يشفعون عندي في قبول الراتب فرفضت ولم آخذ شيئا طول تلك المدة إلا أنني اقترضت منه دنانير مرتين فرددتها له.(10/159)
* ملاحقة الاستعمار الإنكليزي لمؤلف هذا الكتاب*
كان السفير الإنكليزي في تطوان قد تعاون مع الإسبانيين في منعي من الرجوع إلي برلين، وكان قد احتج على الإسبانيين بسبب المقالات التي كنت أنشرها في صحيفة الحرية لسان حزب الإصلاح الوطني وتقدم ذكر ما جري بيني وبين نائبه في تطوان، وكنت أظن أن محاربته لي لا تعدو حدود تطوان وإذا به يلاحقني إلى بغداد فقد كتب إلى السفارة الإنكليزية في بغداد وأخبرها بحالي وحذرها مني فأوعزت إلى مطاياها من العراقيين أن يحاربوني.
ومما دل على ذلك أن السفارة التونسية في بغداد أقامت احتفالا فدعتني إليه فالتقيت هناك بصديقي الدكتور عبد الكريم كنون؟ وهو رفيق لي في الدراسة في جامعة بون بألمانيا فأقبل عليه السفير الإنكليزي في بغداد، فقال له: أعرفك بالدكتور محمد تقي الدين الهلالي وأخذ يثني علي، فلم يهش ولم يبش ولم يرحب بل قال له بالإنكليزية ما معناه: أنا أعرفه جدا مع أني ما رأيته قبل ذلك اليوم.
ولما ذهبت إلى التحقيقات الجنائية- وهو اسم دائرة الشرطة السرية- وطلبت إعطائي جواز سفر منعت من ذلك بدون بيان السبب، واستمررت على ذلك ثلاث سنين في كل صيف أتردد على تلك الدائرة مرارا وتكرارا ثم أرجع بخفي حنين، حتى رق قلب الموظف المختص ورحمني، وقال لي: أيها الأستاذ إن منع إعطائك جواز السفر ليس بأيدينا بل هو في يد من فوقنا فلا تتعب نفسك بكثرة التردد، واتفق أنني اطلعت أحد الإخوان على هذه القضية فقال لي: حل هذه المشكلة يسير بالنسبة إليك ولكنك لا تعرف طريق حلها، فقلت: أفدني يرحمك الله فقال: إن مدير الشرطة العام هو ابن عم صديقك الحاج محسوب، والحاج محسوب هو كبير هذه العشيرة ومدير الشرطة العام لا يعصى له أمرا فعليك به.(10/160)
فذهبت إلى الحاج محسوب وأخبرته فقال لي: غدا صباحا نلتقي عند باب جامع الإمام الأعظم فالتقينا وركبنا سيارة، فلما وصلنا إلى باب مديرية الشرطة العامة إذا بالمدير خارج فكلمه الحاج محسوب وقال له: إليك جئنا فقال يا حاجي أمهلني ساعة فإن عندي أمرا مهما لا يمكن تأخيره وبعد ساعة أكون في المكتب، وبعد مضي الساعة دخل عليه الحاج محسوب فلبث عنده نحو نصف ساعة وخرج بكتاب معنون إلى مدير التحقيقات الجنائية ومختوم على غلافه ومكتوب عليه (سري).
فأخبرني الحاج محسوب أنه عاتبه في منعي من جواز السفر ثلاث سنين، فقال له:
إن صاحبك هذا اشتراكي. (وفي ذلك الزمان كانت بدعة الاشتراكية لا وجود لها في البلاد العربية ولا يفكر فيها أحد، وإنما تكلم بشيء لا يعرفه). قال الحاج محسوب: فقلت له: أقسم لك بكل عزيز على أن هذا كذب وافتراء فإن هذا الرجل يعظ في مسجدى منذ ثلاث سنين وما عنده إلا قال الله وقال رسوله، وإن شئت أتيتك بأربعين من سكان الأعظمية يشهدون بما ذكرت، قال: فكتب لي هذا الكتاب إلى مدير التحقيقات الجنائية يأمره أن يعطيك جواز السفر في الحال وأراد أن يبعثه مع شرطي قال: فقلت له: والله ما يأخذه أحد غيري، فقال يا حاج هذا سري قلت له: ليكن سريا أو علانيا لا يأخذه غيري، فسلمني الكتاب وقال: اذهب به إلي مدير التحقيقات.
فذهبت إليه واستأذنت عليه شرطيا كان واقفا ببابه فقال له: قل له: إن قضيته لم تنته بعد فقلت للشرطي: قل له: جئت بكتاب من مدير الشرطة العام ولا أسلمه إلا يدا بيد فأذن لي، فسلمته الكتاب فلما رآه مختوما بختم سيده ورأى عليه كلمة سري قام وقرأه قائما وأبدى لي بشاشة وترحيبا لم أره من قبل ذلك، ودعا بشرطي وقال له: رافق الدكتور إلى المكاتب المختصة ومرهم أن يهيئوا أوراقه في الحين.
فانحلت هذه المشكلة!!
* الانقلاب*(10/161)
في أوائل سنة (1958) قام عبد السلام عارف وعبد الكريم قاسم بالانقلاب المشهور والذي قتل فيه الملك فيصل الثاني والوصي عبد الإله وسائر أهل بيتهما إلا امرأة واحدة وقتل فيه نوري السعيد.
وظن أهل العراق كلهم أن هذا الانقلاب سيأتيهم بخير عميم ويقضى على النفوذ الاستعماري وحينئذ تفتح لهم أبواب البركات من السماء والأرض، إلا أنه بمضي الأيام ظهر لهم خطأ ظنهم، لأن العهد الملكي كان عهد استقرار ورخاء وكان خيره أكثر من شره بالنسبة إلى الخاصة والعامة.
والرئيس عبد السلام عارف هو من أخص إخواننا السلفيين وهو وفرقته قاموا بالانقلاب ولم يشاركهم عبد الكريم م قاسم إلا بموافقته، وقد أخطأ رحمه الله في ذلك الانقلاب، وكان أول من صلى بناره فقد حكم عليه بالقتل وسجن سنين وعذب، ثم أسعده الحظ حيث تمكن من قتل عدوه في أواخر الأمر وشريكه في أوله واستولى على الحكم، فكتب إلي بخط يده وأنا في المغرب يقول: نحن تلامذتك ونحن سائرون على الخطة التي اقتبسناها من دروسك وأبواب العراق مفتحة في وجهك فأقبل إلينا فشكرته على ذلك ولم أقبل دعوته، وما أدري كيف شعر بذلك أخونا السلفي الأستاذ محمود مهدي الإسنطبولي فكتب لي يقول: علمت أن عبد السلام عارف من تلامذتك وهذه فرصة لا تضاع فهلم نسعى في عمل شيء ينفع الإسلام والمسلمين، فاعتذرت له ولم ينشرح صدري لذلك لأني لم أتوقع نجاحا.
ولما استولى عبد الكريم قاسم وأبعد عبد السلام عارف أولا ثم سجنه ثانيا أطلق العنان للشيوعيين يقتلون من شاءوا ويسجنون من شاءوا ويسحلون من شاءوا (والسحل هو وضع حبل في عنق الرجل وجره به على وجهه إلى أن يموت)، وعاث الشيوعيون في بلاد العراق فسادا فعم الخوف والفزع ولم يبق أحد مطمئنا على نفسه.(10/162)
ووقعت حوادث فظيعة معلومة لا نطيل بذكرها ولكن على سبيل المثال أذكر حادثا أو حادثين: أخبرني أخونا السلفي الصالح الدكتور وجيه زين العابدين أنه كان نائما في فراشه وبعد منتصف الليل بساعة ونصف سمع طرقا شديدا على الباب قال: ففتحت الباب وإذا ثلاثة من الشيوعيين دخلوا علي بدون استئذان، وفتشوا البيت، ثم قبضوا علي وتركوا والدي وزوجتي وأولادي يبكون وحملوني في سيارة إلى غرفة من غرف التوقيف كما يسمونه فأدخلوني فيها وأغلقوا الباب، وفي أثناء الطريق قالوا لي: صدق من قال: إنك تبغض الزعيم عبد الكريم قاسم، فقد فتشنا بيتك كله وما وجدنا فيه صورة للزعيم قال: فقلت لهم: هل بعثكم من فوقكم لتحاكموني أو لتقبضوا علي وتقدموني إلى غيركم ليحكم علي؟ قال: فوجدت في تلك الغرفة ثمانين رجلا كل واحد منهم ملتف بكساء يقيه البرد وهم قعود ولا مجال للاضجاع، قال: فقعدت معهم فلما أصبح الصباح وجاء وقت الضحى جاءني شرطي فدعاني إلى مكتب المعاون قال: فسلمت عليه فلم يرد علي بل قال لي: أنت بعثي قال: فقلت: أنا مسلم. فقال لي: لماذا تكونون شجعانا حتى إذا وقعتم في يد العدالة تجبنون؟ قال: فقلت له: أنا لا أجبن ولا أبالي بك ولا برئيسك عبد الكريم قاسم! أتعرف من هو رئيس حزب البعث، قال: لا قلت: هو مشيل عفلق فكيف أكون مسلما ويكون رئيسي مشيل عفلق وهو نصراني؟! فلو كنت تعرف ما هو الإسلام لم تتهمني بالبعثية بعدما قلت لك: أنا مسلم، قال: وكان ذلك المعاون من خيار المعاونين فناولني مقالا مكتوبا بخط يدي وعنوانه مضار الخمر وقال لي: أنت كتبت هذا المقال؟ قال: فقلت: نعم فقال لي: اقرأه فقلت له: أنا كتبته بيدي وأعرفه فاقرأه أنت لتعرفه، قال: فقرأه فلم ينكر منه شيئا قال فقال لي: أنت مظلوم، صدر الأمر بالقبض على صاحب الصحيفة التي كتبت لها هذا المقال فوجدوا بين أوراقه هذا المقال موقعا باسمك فقبضوا عليك قال: وكتب أمامي كتابا إلى من فوقه وقال فيه: إنني أجريت(10/163)
تحقيقا دقيقا مع الدكتور فلان فوجدته بريئا وهو يحب الزعيم فأرجو الأمر بإطلاق سراحه، قال: فبقيت أربعة أيام ثم أطلق سراحي.
ولا نطيل ذكر الحوادث المؤلمة فإن ذكرها أيضا يؤلم، وفي ذات يوم بعد ما صليت الجمعة إماما في جامع الدهان جاءني أحد المصلين فأسر إلي أن ابنه سمع معلما شيوعيا في ثانوية الأعظمية يقول: يزعمون أن حكومتنا ليست ديمقراطية وما عندها حرية وهذا باطل أي حرية أعظم من أن تترك محمدا تقي الدين الهلالي يسبها في كل جمعة على المنبر ولم تتعرض له بسوء؟! فقلت له: وهل سمعتني أسب الحكومة في خطبة من الخطب؟ فقال لي: إنما أردت أن أبلغك الخبر لتكون على حذر.
وكان خطباء الجمعة في ذلك الزمان أصنافا منهم من يمدح حكومة عبد الكريم قاسم في خطبه ويطريها غاية الإطراء كما كانوا يفعلون مع الحكومة الملكية ومنهم من يقتصد في ذلك ومنهم من يقتصر على الدعاء لها، وأنا لم أكن أذكرها أصلا لا بخير ولا بشر، لكن كان بعض المتهوسين من تلامذتي يحاولون أن يلقوا كلمات بعد خطبة الجمعة في انتقاد الحكومة فكنت أمنعهم خوفا من العواقب الوخيمة على المسجد وأهله. وكان عشرات من الشيوعيين يقفون أمام المسجد وقت الخطبة ويكتبون ما تضمنته خطبة الجمعة ويبلغونه الرؤساء، وكان رجال المباحث في كل جمعة يدعون بعض المصلين ويسألونهم عن الخطبة وعن صاحبها.
وفي ذات جمعة دعوت الناس إلى أن يجمعوا تبرعات للمجاهدين في الجزائر وقلت لهم كل متبرع يعد ما يتبرع به وسيأتي في الجمعة التالية ممثل الجزائر السيد محمد الروابحية ويتسلم التبرعات، فاهتم بذلك رجال المباحث ولكنهم اقتصروا على استنطاق المصلين ولم يتعرضوا لنا بسوء.(10/164)
وتعطلت دروس الوعظ في المسجد لأن تلامذتي صاروا يخافون الشيوعيين أن يفتكوا بهم، وذهبت أنا إلى الأستاذ الحاج حمدي الأعظمي وهو أكبر عالم حنفي في ذلك الزمان ببغداد وكان إماما وخطيبا في مسجد الشيخ عبد القادر الكيلاني المبني على قبره فقلت له: ما تقول في خطبتك بالنسبة إلى رجال الحكومة؟ فقال: أدعو لهم بالتوفيق والتسديد وأن يعينهم الله على ما فيه الخير لهذا الوطن فمنذ ذلك أخذت أدعو أنا أيضا لهم بمثل ذلك في الخطبة الثانية خوفا من شرهم.
وعزمت على السعي في الخروج من العراق ولكن ذلك لم يكن أمرا هينا فكتبت إلى رئيس مستشفي العيون الأستاذ (مولر) أن يأمرني بالسفر إلى ألمانيا ليفحص عيني ففعل، وقدمت طلبا لرئاسة الصحة وأطلعتها على كتاب الطبيب الألماني، فعينت ثلاثة من الأطباء للتحقيق في القضية فناقشوني الحساب ولم يأذنوا لي إلا بعد اللتيا والتي. وكان العراقيون ممنوعين من السفر إلا لغرض فيه خدمة للحكومة أو لعلاج مرض يعجز عنه أطباء العراق ثم لا يمكن السماح بالسفر إلا لمن كانت صحيفته بيضاء بالنسبة إلى رجال الثورة، فقدمت الطلب للحصول على الإذن بالسفر ومعه موافقة رئاسة الصحة وبقيت أنتظر الجواب خمسين يوما حتى درسوا كل ما تحتويه محفظة أوراقي التي كتب ففيها كل ما ينسب إلي، وفي نهاية المطاف أعطيت جواز السفر ولم أصدق أنني تخلصت من أظفارهم إلا بعد وصولي إلى مطار بيروت.(10/165)
وكان جواز سفري محصورا في (بون) فلما وصلتها دخلت المستشفى وأنفقت فيه ثلث ما عندي لأري السفارة العراقية أنني صادق في دعواي، كان ذلك خطأ لانني لما توجهت إلى السفارة العراقية في (بون) وجدت القائم بالأعمال شابا طيبا أبوه من أعز أصدقائي، وقال لي: أنا مستعد أن أضيف إلى جوازك إذنا بالسفر إلى أي بلد تريده ولو إلى مصر وكان السفر إلى مصر في ذلك الزمان من أعظم الجرائم وفي أول الثورة كانت صورة جمال عبد الناصر أحسن حلية لكل مكان، تراها في الأمكنة الخاصة والعامة أينما سرت في بغداد ثم مزقت كل ممزق وصار كل من توجد عنده يستحق العقاب الشديد- وبعد ذلك سافرت إلى المغرب.
* الدعوة إلى الله في الدورة*
أول حجة حججتها كانت سنة 1341 على عهد الملك حسين بن علي ورافقني إلى الحج بعض إخواننا السلفيين من أهل الريرمون، وكان السفر من مكة إلى المدينة فيه مخاطرة عظيمة بالنفس والمال فكانت قبائل البدو تتحكم في الحجيج وتنهب وتسلب وتقتل.
وقد أخبرنا بعض الحجاج أن كل قبيلة تمر بها قافلة الحجاج يفرض رجالها على الحجاج أن يمكثوا في بلدهم أياما عديدة إلى أن يبيع أهل القبيلة كل ما يريدون بيعه، وقد يشترى الحجاج منهم أشياء لا حاجة لهم بها، هانما يفعلون ذلك اتقاء لشرهم وطلبا لإطلاق سراحهم، وكل من ابتعد من الحجاج عن القافلة ولو لقضاء الحاجة يكون عرضة للقتل والسلب فلا يصل إلى المدينة ولا يرجع منها إلا طويل العمر.
هذا مع أن الملك حسينا كان يأخذ من كل قبيلة شابا يكون رهنا عنده إلى انقضاء موسم الحج حتى لا تتعدى تلك القبيلة على الحجاج ولم يجد ذلك نفعا.(10/166)
ومما يدلك على أن الشرك كان مسيطرا على البدو والحضر في ذلك الزمان أن الشيخ أحمد الشمس الشنقيطي نزل المدينة النبوية، وهو أحد تلامذة الشيخ ماء العينين وكلاهما شيخ طريقة يسمونها قادرية نسبة إلى عبد القادر الجيلاني رحمه الله، وأهل هذه الطريقة عندهم غلو عظيم في شيوخهم قد اتخذوهم أربابا من دون الله يستغيثون بهم في الشدائد ويزعمون أنهم يغيثونهم، وإذا جالست أحدا منهم تراه كالمجنون ممسكا سبحة بيده يعد حباتها ويسرد لا إله إلا الله بنغمة الغناء واللحن ثم ينشد أبياتا ثم يعود إلى سرد لا إله إلا الله، وفي أثناء ذلك يصرخ صرخات عظيمة يا شيخنا، فهؤلاء ما لهم عقل ولا دين.
قال ابن الجوزي في كتابه (تلبيس إبليس): ((قال الشافعي: رحمه الله لو أن رجلا صحب الصوفية من الصبح إلى الظهر لم يبق له عقل)).
قال محمد تقي الدين: وأنا أصدقه وأزيد عليه: ولا دين. ونحن إنما نذم الصوفية المبتدعين والمشركين والملاحدة كابن عربي الحاتمي وابن الفارض، وإذا كان الصوفية في زمان الشافعي رحمه الله موصوفين بأن من صاحبهم يفقد عقله فما بالك بصوفية الأزمنة المتأخرة؟! وإذا أردت أن تعرف طريقة ماء العينين وتلامذته فعليك بكتابه المسمى ((نعمت البدايات )) فإنك ترى فيه عجب العجاب من الضلال والغلو. ومن جملة ما قاله بعض الغلاة في قصيدة له يطري فيها شيخه ماء العينين:
ومن فاته المصطفى المختار من مضر ... وفاته الشيخ ماء العينين محروم
وقد رددت عليه بقصيدة أنقلها هنا:
من فاته المصطفى المختار من مضر ... وقد قفا نهجه ما ذاك محروم
إن رد كل نزاع للإله إلى ... كتابه فله يحق تحكيم
وللرسول إلى حديثه فبذا ... أمر الإله أتانا وهو محتوم
لا للشيوخ ولا للرأي من شيع ... لديهم حبل ذكر الله مصروم
وكم حديث به عرض الجدار رموا ... إسناده مثل صحو الشمس معلوم
إذ خالف الرأي وهو الأصل عندهم ... كأن صاحب هذا الرأي معصوم(10/167)
ما للرسول لديهم غير الاسم فقط ... وصاحب الرأي متبوع ومأموم
وآية من كتاب الله محكمة ... تفسيرها عن نبي الله مفهوم
تعمدوا سلب معناها المراد بها ... وحملوها مفاهيماً بها ليموا
مضى الصحابة لم تخطر ببالهم ... والتابعون وعقد الدين منظوم
كذا الأئمة مثل الشافعي وما ... لك وأحمد لم يلمز لهم خيم
وجاء من بعدهم خلف أتوا بدعاً ... قد اقتفوا إثر يونان مشائيم
وحكموا عقلهم في الله جل وهم ... جهال أنفسهم وذاك مذموم
فوصفوه بما أوحت وساوسهم ... وعندهم وصفه بالذكر تجسيم
إن قصر الله والمختار في صفة ... وصحبه كيف يرجى بعد تفهيم
أو أنزل الله آيات مكفرة ... فالكفر يحمد والإسلام مذموم
تالله إن أولاء القوم في عمه ... بنوا على غير أس فهو مهدوم
قد أعرضوا عن كتاب الهل وانتبذوا ... بيداء سالكها لا شك مقصوم
من رام تكذيب قول الله أو سنن ... يقول ذا لازم وذاك ملزوم
والحق أوضح من أن يستدل له ... لكن طرف أخي التقليد مخروم
الله أعطاهع طرفاً يستدل به ... فسده واقتفى من هو مشئوم
وقال إنا وجدنا الأقدمين كذا ... والأقدمون لهم يحق تقديم
والحق أقدم والمختار سابقهم ... لقوله حق تبجيل وتعظيم
وليس رب الورى بسائل أحداً ... عن غيره فعليه دام تسليم
يا ويل من لم يكن له بمتبع ... شرابه يوم يظمأ الناس يحموم
وكيف يتبع ذو التقليد سنته ... وأنفه بحبال الجهل مخزوم
إذا عصيتم رسول الله ينتفشوا ... وينفضون رءوسهم وهو بوم
وينبزوك بالألقاب من سفه ... فعندهم قول خير الرسل مشئوم
كونوا حجارة أو حديداً أو خشباً ... وأنفكم أبداً بالتراب مرغوم
من كان قول رسول الله يغضبه ... فذاك في الناس مدحور ومذؤوم
وإن تستر بالتحريف يخدعنا ... فليس يخفى على الهلام مكتوم
أمر النبي وأمر من إمامهم ... ذا حاكم عندهم وذاك محكوم
لو وفقوا حكموا قول النبي على ... قول الإمام وذا في الذكر مرقوم
فأين الإيمان منهم أين آيته ... أين المحبة أين أين تعظيم(10/168)
وهم يقولون نحن الوامقون له ... وخالوفا أمره فالحب مزعوم
إن كنت وامقه فلتقف سنته ... والحب منك إذا خالفت معدوم
وكل ما كان من نقص فمصدره ... مشايخ دينهم والعرض مثلوم
هم زينوا للعوام كل فاحشة ... ومنهم نتن أكل السحت مشموم
رموا التأكل بالفتوى فصار لديهم ... بالدراهم تحليل وتحريم
لا كسب عندهم إلا العمائم كالـ ... يقطين والكم مثل الخرج مرسوم
يرخون للناس أيديهم تقبلها ... ومن أبى فهو ملحي(1) ومشتوم
إن كان حال هداة الناس يا أسفا ... كما رأيت استوى جهل وتعليم
أما ذوو الطرق من للصرف قد نسبوا ... فلا تسل عنهم فهم مشائيم
لم ترضهم شرعة المختار فانتحلوا ... شرائعاً كلها إفك وتأثيم
واستعبدوا الناس باستتباعهم سفها ... فالحر مستخدم والعبد مخدوم
قالوا عن الله أخذنا الشرائع بل ... من الشياطين شرع القوم مفهوم
هل في شريعة خير الخلق عربدة ... مثل السكارى ورقص ثم هينوم(2)
هل في شريعة خير الخلق تصدية ... مع البكا وتجنن وتهويم(3)
هل للخلائق أرباب تقسمها ... كل له جزء في الناس مقسوم
أم للخلائق رب واحد صمد ... وغيره ما له في الخلق برعوم
هل في الشريعة أقوال تكذبها ... يقول أصحابها ذا السر مكتوم
هل في الشريعة أوثان مقدسة ... وحولها دم ذبح القوم مسجوم
لا يخشعون لربنا خشوعهم ... لها لأوجههم ويل وتسخيم
لو آمنوا بإله الناس ما قصدوا ... من دونه من بكل الفقر موسوم
ما قدروا الله حق قدره أبداً ... إذ كان منهم على المقبور تحويم
إذ كان حيا بكل الفقر متصف ... فكيف وهو بترب اللحد مغموم
قد أخبر المصطفى بكل ما فعلوا ... صلاة ربي عليه ثم تسليم
والله أٍأل أن الحفظ يصحبني ... والعمر بالعمل المرضي مختوم
__________
(1) ملحي: أي مقبح ومشتوم.
(2) الهينوم: الكلام الذي لا يفهم.
(3) هو الرجل إذا هز رأسه من النعاس، فلعله يقصد بالتهويم ما يحدث في حلقات الذكر الجماعي من رفع رءوس الذاكرين وخفضها، وإمالتها يمنة ويسرة.(10/169)
كان الشيخ أحمد الشمس يخرج من المدينة ومعه قافلة كبيرة فيتوجه بهم إلى مكة ولا يمسهم أحد بسوء، وكلما مر على قبيلة جاءه أهلها وقبلوا يده وتبركوا به وقدموا الهدايا، فكان ملكاً بلا جنود بسبب غلبة الجهل والشرك والبدعة والخرافات على أهل هذه البلاد في ذلك الزمان، فإن قبائل البدو كانت ترهب سطوة شيخ صوفي يزعم أنه يقتل من يشاء ويصيب بالأمراض والكوارث من لم يخضع إلى مخرقته أكثر مما يرهبون ملك البلاد وأمراءه.
فقلت لمن كان معي من الإخوان: إننا قد أدينا فريضة الحج نرجو الله القبول، والصلاة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فضيلة مستحبة، ولو كانت فريضة ما ساغ لنا أن نخاطر بأرواحنا لأجلها فإن المحصر يحل من حجه، فأي واحد منكم يتوجه إلى المدينة ويركب هذه الأخطار فتوحيده غير صحيح، وكل واحد منكم يترك صلاة الجماعة في المسجد أحيانا بلا عذر وهي فريضة، فكيف يعقل أن يخاطر بروحه لفعل مستحب؟! إن أحيانا الله إلى أن تأمن هذه البلاد فإننا سنعود بإذن الله ونصلي في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وإلا فقد أدينا فريضتنا فاستمعوا كلهم لقولي وأطاعوني، وقد أحيانا الله سبحانه بفضله ورحمته إلى أن صلينا في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ما لا يُحصى من الصلوات وهذه ببركة تحقيق التوحيد نسأل الله حسن الختام.
*كيف كان حال السلفيين؟*
كان السلفيون في الحجاز في ذلك الزمان أضيع من الأيتام أما أهل نجد منهم فإنهم كانوا ممنوعين من الحج، وفي تلك الأيام جاء جماعة من حجاج أندونسيا وكانوا سلفيين وأعلنوا الدعوة إلى التوحيد وإتباع السنة فبلغ خبرهم بعض من كانوا يسمون بالعلماء، فرفعوا أمرهم إلى الملك حسين وأخبروه أنهم يدعون إلى مذهب الوهابية فأمر الملك باستتابتهم فاجتمع عليهم العلماء واستتابوهم فتابوا.
*مناظرة مؤلف هذا الكتاب لحبيب الله بن مايابا الشنقيطي*(10/170)
كان الشيخ حبيب الله بن مايابا الجكني من العلماء المقربين عند الملك حسين وكانت له مدرسة تشرف على المسجد الحرام، وكان المسجد الحرام في ذلك الزمان محاطا بالمدارس، وهذه المدارس كان يستغلها المقربون من العلماء والجهال إذا جاءوا إلى المسجد الحرام يجلسون فيها ويتوضئون وينامون ويصلون فيها أيضا، لأن كل واحدة منها كان لها طاقة واسعة مواجهة للكعبة فقصدت زيارة الشيخ المذكور في مدرسته، وأخذت أتحدث معه حديثا يشبه المناظرة في التوحيد والإتباع وكان عنده رجل أشيب فلما سمع كلامي ظهرت عليه أمارات الحزن وقال لي: هذا الذي تقوله تعلمته في الشرق أم في الغرب، فقلت له: بل في المغرب فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله وصل هذا البلاء إلى المغرب يعني بالبلاء توحيد الله وإتباع سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأخبرني الشيخ حبيب الله أن ذلك الشيخ كان شنقيطيا كنتيًا نسبة إلى كنتة وهي قبيلة معروفة في شنقيط.
فقال الشيخ حبيب الله: وأنت وهابي وأنتم معشر الوهابية عندي ثلاثة أصناف وهابية نجد ووهابية مصر والشام وأنت منهم ووهابية الهند، فأما وهابية نجد فإنهم كفّار!! بيننا وبينهم ما بين اليهود والنصارى والمسلمين هم اليهود والنصارى ونحن المسلمون. وأما وهابية مصر والشام فهم ضلال. وأما وهابية الهند فهم مخطئون فقلت له: اشرح لي ما ذكرته وبين لي سبب هذه التفرقة فقال لي: أما وهابية نجد فهم عندي كفار لأنهم يقولون: إن ربهم في السماء، وأما وهابية مصر والشام فهم ضلال لأنهم يدّعون الاجتهاد، وادعاء الاجتهاد ضلال ولا يبلغ إلى حد الكفر، وأنا بنفسي لا أقول بالتقليد المحض بل أقول بمنزلة بين منزلتين ثم سرد علي أبياتًا من أرجوزة له لا أحفظ منها إلا شطرا واحدًا وهو قوله: (إنما أقول بالتبصر).(10/171)
فقلت له: هذا التفصيل فيه نظر لأن جميع السلفيين في نجد وفي مصر والشام والمغرب وفي الهند يقولون ويعتقدون أن الله في السماء مستو على عرشه بدون تشبيه ولا تمثيل ولا تأويل ولا تعطيل وأدلة هذا لا تخفى عليك، وأما ما سميته بالاجتهاد فنحن نسميه الإتباع. والأصناف الثلاثة أيضا متفقون عليه إلا أن أهل نجد ينتسبون إلى المذهب الحنبلي في الفروع ونحن لا ننتسب إليه إلا في الأصول، ثم قلت له: ولماذا خففت الحكم على أهل الهند فلم تجعلهم كفارا ولا ضلالاً بل جعلتهم مخطئين؟ فقال لي: لأنهم يزورون قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فليس عندهم مما يُنتقد إلا مسألة الاجتهاد فقلت له: فعلام ضللتنا نحن بالاجتهاد وغفرته لهم، فقال: قلت لك إنهم يزورون قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقلت له: ماذا تعني بزيارة القبر أتقصد شد الرحال؟ فقال أقصد ذلك كله فقلت له: إن السلفيين في الهند لا يقولون بجواز شد الرحال إلا إلى المساجد الثلاثة فظهر تناقضه، ولم أكن أعلم سبب ذلك التناقض حينئذ غير أني عرفته فيما بعد وذلك أن الشيخ عبد الوهاب الدهلوي التاجر العالم كان بمكة، وكان تلميذا له يدرس عليه بعض فروع العلم وكان يحسن إليه فلذلك خفف الحكم على السلفيين من أهل الهند، وكان يتبع هواه والهوى يعمي ويصم فقد كان يحرم حلق اللحية ويغلظ فيه القول ويفسق مرتكبه، فلما انتقل إلى مصر هاربًا ممن يسميهم بالوهابية كما سيأتي غير رأيه فأفتى بأن حلق اللحية مكروه كراهية تنزيه فقيل له: قد أفتيت زمانًا طويلاً بالتحريم والتفسيق فما عدا مما بدا فقال: إن أكثر العلماء في مصر يحلقون لحاهم فكيف يسوغ لي أن أفسقهم؟!(10/172)
ولما استتيب الأندونسيون وكان هذا الرجل من الذين استتابوهم، اختفيت أنا ثمانية أيام في مكة عند بعض المغاربة، وكنت أبعثه كل يوم إلى المسجد الحرام ليتحسس هل هناك أحد يبحث فلم يجد لذلك أثرا فخرجت من مختبئي. وهذه حسنة أعدها له إذ لم يسع في استتابتي، وسوف يرتكب سيئة تمحو هذه الحسنة.
*مداهنته لمن يسميهم بالوهابية*
لما استولى الملك عبد العزيز على الحجاز بعد هذا التاريخ بقليل أخذ يداهن الملك عبد العزيز وأهل نجد، الذين كان بالأمس يكفرهم. وفي يوم من الأيام جاء الملك عبد العزيز رحمة الله عليه إلى المسجد الحرام فوجد الشيخ حبيب الله والسيد أحمد السنوسي يملآن الأثر المسمى بموضع قدم إبراهيم بماء زمزم ويكرعان فيه بأفواههما كالبهائم فوبخهما، وقال لهما: إذا كنتما تفعلان هذا وأنتما بزعمكما من العلماء فماذا تركتما للجهال؟!
وحدث أنه كان ذات ليلة في مجلس الملك عبد العزيز آل سعود وكان الملك يتكلم في التوحيد، فعارضه فغضب عليه الملك عبد العزيز غضبا شديدا، فظن أن حتفه قد دنا فتقدم إلى الملك وألقى نفسه بين يديه وأظهر التوبة والرجوع عما قاله وإنما فعل ذلك خوفا أن يبطش به، ولم يكن الملك عبد العزيز رحمه الله سريعًا إلى البطش بل كان إذا غضب يقتصر على الكلام ولا يتجاوزه.(10/173)
وعلى إثر ذلك أخذ زوجته إلى المدينة وتركها في بيت أخيه الشيخ محمد الخضر وهرب إلى مصر. وكانت العلاقات بين مصر والمملكة السعودية في ذلك الزمان سيئة جدا بسبب المحمل الذي كانت تبعثه الحكومة المصرية إلى مكة في كل سنة، وهو شيء كالهودج يطاف به في القاهرة ثلاثة أيام يتمسح الناس به ويتبركون به ثم يبعث مع الوفد المصري إلى مكة فيتمسح به الجهال أيضا في جدة وفي الطريق إلى مكة، فأمر الملك عبد العزيز رحمه الله بالمنع من التمسح به والإتيان به إلى مكة وأمر أن يترك في جدة وبعد الحج يرجع به الوفد إلى مصر، فرأى الوفد المصري أن ذلك إهانة له وكانت كسوة الكعبة المشرفة يؤتى بها في مصر يحملها الوفد المصري كل سنة إلى مكة فلما ساءت العلاقة بين المملكتين استغنى الملك عبد العزيز عن كسوة الكعبة التي كان يؤتى بها من مصر، وطلب الصناع من الهند وأسس دارًا بمكة لصنع الكسوة، فاغتنم الشيخ حبيب الله هذا الخلاف والتجأ إلى حكام مصر وشكى لهم ما أصابه من السعوديين والحقيقة أنه لم يصبه شيء فرحبوا به وجعلوه مدرسًا في الأزهر.
وفي سنة 1345هـ توجهت من العراق إلى الحج بصحبة الشيخ مصطفى آل إبراهيم، ومررنا بالقاهرة وكان الشيخ حبيب الله مستقرا بها، فعلمت أن شخصا قال له: هل تعرف الهلالي؟ فقال: نعم أعرفه، فقال له: أهو من أهل العلم فقال له: لا يصلح أن يكون جليسًا لأهل العلم فكيف يكون من أهل العلم؟! فكتبت كتابًا إليه فقلت له فيه: بلغني أنك قلت كيت وكيت، وقد ناظرتك في مدرستك سنة 1341هـ من الظهر إلى العصر كنت تناضل عن عقيدة أسلافك الأرذلين كالجهم بن صفوان والجعد بن درهم وكنت أناضل عن عقيدة السلف الصالح من الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين، فما وجدت فيّ بحمد الله ضعفا ولا توانى وأنشدته في ذلك الكتاب أبياتًا أذكر منها قول الشاعر:
لقد زادني حباً لنفسي أنني ... بغيض إلى كل امرئ غير طائل(10/174)
وأني شقي باللئام ولا ترى ... شقيا بهم إلا كريم الشمائل
وقول المتنبي أيضاً:
ويظهر الجهل بي وأعرفة ... الدر در برغم من جهله
وأبياتًا أخرى نسيتها وكتبت عليه عنوانه وهممت أن ألقيه في صندوق البريد ليصل إليه ويشويه، ولكن أخانا السلفي الشيخ إبراهيم الوادنوني تلطف وتحيل، وقال لي: ناولني هذا الكتاب وأنا أبلغه إليه فناولته إياه وكان مقصوده أن يمنع وصوله إليه حتى لا يسوءه؛ لأنه كانت بينه وبينه صداقة مع اختلافهما في العقيدة فإن إبراهيم سلفي العقيدة وحبيبًا قد علمت معتقده فيما مضى.
وبعد ذلك سافرت إلى الحجاز للحج وكتب السيد رشيد رضا رحمه الله إلى الملك عبد العزيز رحمة الله عليه يرغبه في إبقائي في المملكة ويقول له إن محمدا تقي الدين الهلالي من أفضل من أمّ بلادكم من أهل العلم. وبعد انقضاء الحج تهيأ الشيخ مصطفى آل إبراهيم ليرجع إلى العراق فالتمست من إخواني الشيخ عبد الظاهر أبي السمح والشيخ محمد عبد الرزاق حمزة وغيرهما أن يشفعوا لي عنده ليسمح ببقائي، وأكدت له أنني ما فارقته إلا بقصد البقاء في هذه البلاد المقدسة للتعاون مع إخواني على نشر العقيدة الصحيحة.(10/175)
وكان الشيخ عبد الظاهر أبو السمح قد كتب إلي مرارا يرغبني في التوجه إلى الحرمين والبقاء فيهما بعدما أصلح الله أحوالهما على يد الملك عبد العزيز آل سعود، وكنت في العراق أعيش أحسن معيشة فقد كان الشيخ مصطفى آل إبراهيم قد أنشأ لي مدرسة وجعل لي راتبًا طيبا وتزوجت، فجاهدت نفسي إلى أن أرغمتها على البقاء في مكة وترك ذلك كله مع أني حتى ذلك الحين لم أوعد بشيء وكان معي أخي محمد العربي الهلالي، ولما فارقني الشيخ مصطفى آل إبراهيم سلم لي مقدارًا كبيرا من الدراهم وقال لي: وزعه على العلماء وطلبة العلم السلفيين، فقلت في نفسي: أنا وأخي من طلبة العلم السلفيين أفلا يجوز لي أن آخذ لي ولأخي نصيبًا من هذا المال؟ ثم قلت لنفسي: إن المتبرع بهذا المال يعرفك ويعرف أخاك ويعلم أنكما محتاجان فلو أراد أن يجعل لكما نصيبًا منه لصرح بذلك فالاحتياط والأخذ بالعزيمة يقضى بتوزيع المال كله وألا تأخذ لنفسك ولا لأخيك منه شيئا فوزعته كله ولم آخذ شيئا.
وكنت مع الشيخ مصطفى آل إبراهيم في ضيافة الملك عبد العزيز رحمه الله، فلما سافر أقمت في الطبقة العليا من البيت الذي كان يسكنه الشيخ عبد الظاهر أبو السمح وتلك الطبقة مهجورة شديدة الحر، فجاهدت نفسي على الصبر على تلك الحال، وكان مأمور الضيافة يسكن في الطبقة الأرضية فكنت أمر عليه فأسلم فلا يرد علي السلام إلا في بعض الأحيان.(10/176)
وفي يوم جمعة أردت أن أغتسل للجمعة فذهبت إلى المستقى -ويسمونه البازان- وطلبت من سقاء أن يأتيني بصفيحتين من الماء بعدما كنست الحوض وأخرجت ترابه فلما جاء إلى البيت وعلم أنني أسكن في الطبقة الخامسة امتنع حتى زدته في الأجرة وصارت نفسي توسوس وتقول: كيف تترك راتبا طيبا وبيتا حسنا وتترك أهلك وتصبر على هذه الحال؟ فأدفع هذا الوسواس بمثل قوله تعالى: { وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا 2 وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ } [الطلاق:3،2]. فلما اغتسلت وتهيأت للذهاب إلى المسجد الحرام إذا بخادم مأمور الضيافة يطرق الباب ويقول: إن مأمور الضيافة يسلم عليك ويرجو أن تمر على مكتبه فنزلت إليه، فتلقاني بغاية البشاشة والحفاوة وقال لي: جاءني أمر هاتفي من القصر الملكي بأن أنزلك في الضيافة وأعتذر إليك في التأخير إلى ما بعد العصر، كما أرجو أن تتناول طعام الغداء بعد صلاة الجمعة معي وبعد صلاة العصر يكون كل شيء جاهز.
فجاءني بعد صلاة العصر وذهبنا إلى دار الضيافة، وهي دار السقاف في محلة جياد فوجدت مسكناً طيباً مؤثثاً أحسن الأثاث ونزلت في الضيافة وانفرجت الأزمة.(10/177)
وبقيت أربعة أشهر في الضيافة ثم قال لي الشيخ عبد الله بن حسن رحمة الله عليه ما رأيك في أن تكون إماما وخطيبا في المسجد النبوي؟ فقلت له: أقبل بشرط أن لا أنقص عن عشر تسبيحات في السجود والركوع فقال لي: هذا كثير على الناس لا يتحملونه فقلت: وأنا لا أقبل إلا بهذا الشرط، فقال لي: إذا نعطيك عملا آخر وهو مراقبة المدرسين في المسجد النبوي فقلت: قبلت، هذا مع أن الشيخ عبد الله بن حسن رحمة الله عليه حين سافرنا إلى المدينة كان يقدمني دائما إماما في الصلاة فهو رحمة الله عليه كان يستحسن ما اخترته من إتمام الركوع والسجود والاعتدال إلا أنه رأى أن عامة المصلين يشق عليهم ذلك، فالله يجزل ثوابه ويرحمه رحمة واسعة. سافرت إلى المدينة بصحبة الشيخ عبد الله بن حسن وكان معنا الشيخ محمد عبد الرزاق حمزة وقد عين إماما وخطيبا في المسجد النبوي بعد أن اعتذرت أنا عن قبول ذلك فأقمنا بالمدينة أياما.
* إزالة بستان فاطمة*(10/178)
كانت في صحن المسجد النبوي بئر ونخلة وشجيرات وكان الجهال يسمون ذلك بستان فاطمة ويتبركون بالنخلة وتمرها وبالشجيرات والبئر ويعتقدون أن بئر زمزم تجري تحت الأرض حتى تتصل بتلك البئر يوم عاشوراء من كل سنة، فيقبل الناس في يوم عاشوراء على تلك البئر ويأخذون منها ماء كثيرا للتبرك به فاستشارنا الشيخ عبد الله بن حسن رحمة الله عليه في طم البئر وإزالة البستان، فلم نتردد في الموافقة على ذلك، لأن المسجد كله وقف للصلاة ولا يجوز أن يشغل بغيرها، ولأن الجهال يفتتنون بماء البئر والنخلة والشجيرات فكتب رحمه الله إلى الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن رحمه الله يخبره بما رأيناه ويستأذنه في تنفيذه، فجاء الإذن فأمر الشيخ بطم البئر وقلع تلك الأشجار وتسوية الأرض فكانت من حسناته رحمة الله عليه، ولما قلعت النخلة والأشجار وقطعت وحملت إلى خارج المدينة انتظر المفتونون بها مجيء الليل بظلامه فأخذوها كلها ولم يبقوا شيئا، ولا بد أن يكونوا قد اقتتلوا عليها لينال كل واحد منهم قطعة صغيرة من الأشجار وأوراقها.
وهنا نذكر شجرة (ذات أنواط) التي كانت للمشركين في الجاهلية ينوطون بها أسلحتهم ويتبركون بها، قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في كتاب التوحيد: باب من تبرك بشجر أو حجر ونحوهما ومضى إلى أن قال: وعن أبي واقد الليثي قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين ونحن حدثاء عهد بكفر وللمشركين سدرة يعكفون عندها وينوطون بها أسلحتهم يقال لها: ذات أنواط، فقلنا: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الله اكبر إنها السنن قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى:(10/179)
{ اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ } لتركبن سنن من كان قبلكم)) رواه الترمذي وصححه قال شارحه الشيخ سليمان بن عبد الله رحمة الله عليه في شرح هذا الحديث ص 150 ما نصه: ((فإذا كان اتخاذ شجرة لتعليق الأسلحة والعكوف عندها اتخاذ إله مع الله مع أنهم لا يعبدونها ولا يسألونها فما الظن بما حدث من عباد القبور من دعاء الأموات والاستغاثة بهم والذبح والنذر لهم والطواف بقبورهم وتقبيلها وتقبيل أعتابها وجدرانها والتمسح بها والعكوف عندها وجعل السدنة والحجاب بها؟! وأي نسبة بين هذا وبين تعليق الأسلحة على شجرة تبركًا؟!.
قال الإمام أبو بكر الطرطوشي من أئمة المالكية: ((فانظروا رحمكم الله أينما وجدتم سدرة أو شجرة يقصدها الناس ويعظمونها، ويرجون البر والشفاء من قبلها ويضربون بها المسامير والخرق فهي ذات أنواط فاقطعوها)).
وقال الحافظ أبو محمد عبد الرحمن بن إسماعيل الشافعي المعروف بأبي شامة في كتاب البدع والحوادث: ((ومن هذا القسم أيضا ما قد عمّ الابتلاء به من تزيين الشيطان للعامة تخليق الحيطان والعمد وسرج مواضع مخصوصة في كل بلد يحكي لهم حاك أنه رأى في منامه بها أحدا ممن شهر بالصلاح والولاية فيفعلون ذلك ويحافظون عليه مع تضييعهم فرائض الله تعالى وسننه ويظنون أنهم متقربون بذلك، ثم يتجاوزون هذا إلى أن يعظم وقع تلك الأماكن في قلوبهم فيعظمونها ويرجون الشفاء لمرضاهم وقضاء حوائجهم بالنذر لهم وهي من بين عيون وشجر وحائط وحجر. وفي مدينة دمشق صانها الله من ذلك مواضع متعددة كعونية الحما خارج باب توما والعمود المخلق داخل باب الصغير والشجرة الملعونة اليابسة خارج باب النصر في نفس قارعة الطريق، سهل الله قطعها واجتثاثها من أصلها فما أشبهها بذات أنواط الوارد في الحديث)) أهـ.(10/180)
فماذا يقول أعداء التوحيد الذين يبغضون الموحدين ويسمونهم بالوهابية فهل كان أبو بكر الطرطوشي وعبد الرحمن أبو شامة أيضاً وهابيين!
وبعدما استقررت في المدينة بعث حبيب الله الشنقيطي من مصر إلى المدينة رجلين ليأتياه بزوجته أحدهما الشيخ إبراهيم المراكشي والثاني شنقيطي لا أعرف اسمه، والشيخ إبراهيم المراكشي مغربي استوطن القاهرة منذ زمن طويل، وهو رجل كريم ضيفني مراراً في بيته فلما رأيته دعوته للغداء، فلما رجع إلى القاهرة كان من أعجب المصادفات أن العلاقة بين الشيخ إبراهيم الودنوني وبين حبيب الله الشنقيطي قد ساءت ووقعت بينهما وحشة فألقى الكتاب الذي أخذه مني في البريد، فوصل الكتاب مع وصول الرجلين الذين بعثهما إلى المدينة فظن حبيب الله أن إبراهيم المراكشي هو الذي جاء بالكتاب وألقاه في البريد فأخذ يلومه، ويقول: يا شيخ إبراهيم هذا قدري عندك تأتيني بكتاب يتضمن تكفيري من ذلك الجهول! فحلف إبراهيم المراكشي أيماناً مغلظة أنه لم يأخذ مني كتاباً ولا سمع مني كلاماً في حقه فبم يصدقه وحصل الغرض المطلوب وهو جزاؤه على إساءته بإساءة مثلها.
*العشاء في قصر الملك حسين*
لما حججت الحجة الأولى سنة 1341 هـ وجدت شيخا من بلدنا بوابًا في قصر الملك حسين، ففرح بي كثيرا ودعاني للعشاء وكان جملة حديثه لي أن قال: يا بني إن هذه البلاد الشرقية فيها عجائب وغرائب، فكن على حذر من أهلها فإنها ليست كبلادنا أهلها كلهم سنيون على مذهب إمامنا مالك، ففي هذه البلاد طائفة يقال لهم الوهابية يبغضون النبي صلى الله عليه وسلم ولا يذكرون اسمه أبدا، فيقولون: لا إله إلا الله مالك يوم الدين بدل أن يقولوا محمد رسول الله فأظهرت له التعجب.(10/181)
وفي سنة 1345 هـ لما كنت في الضيافة الملكية بحثت عنه حتى وجدته وضيفته وعرف حينئذ أنني من الطائفة التي حذرني منها فسكت ولم يقل شيئا، وفي يوم من الأيام كان معي فقصدنا المسجد الحرام فوجدنا الشيخ عبد الظاهر أبا السمح رحمه الله جالسًا على الحصى، فجلست معه وجلس رفيقي فقال عند جلوسه: يا رسول الله فقال له أبو السمح: قل يا الله فقال: ما أقول إلا يا رسول الله يا رسول الله يا رسول الله فاضرب عنقي إن قدرت ثم قال لي: هذا فراق بيني وبينك، فإن صحبتك تجرني إلى لقاء هؤلاء القوم وهرب ولم أره بعد ذلك.
فانظر إلى الجهلاء الذين يسمون بالعلماء كيف يضللّون العوام الجهال { لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاءَ مَا يَزِرُونَ } (النحل:25).
*ملك الحجاز غير المتوج*
هكذا كان يسمى السيد رشيد رحمه الله عميدَ السلفيين في الحجاز الشيخ محمد نصيف بارك الله في حياته، وقد كان في تلك الأيام المظلمة سراجًا يضيء لمن ألهمه الله رشده طريق التوحيد وإتباع السنة، وكان بيته لا يخلو من الضيوف الواردين من جميع أنحاء الدنيا من أمراء البيت الهاشمي وبعد ذلك أمراء البيت السعودي إلى فقراء الحجاج من أهل الهند.. هكذا وجدته سنة 1314 هـ ولا يزال كذلك إلى يومنا هذا، ومناقبه لا يفي بها إلا مؤلف خاص وهو أشهر من أن يعرف، ومع أنه كان متهما بالوهابية كان موضع احترام وإجلال من جميع الناس من الملك حسين وأبنائه إلى الطبقة السفلى من العامة، لأنه من أشرف بيوتات الحجاز ولما آتاه الله من علوّ القدر والوجاهة والمهابة وللسخاء العظيم الذي هو من أخص صفاته وفي الحديث: ((السخي قريب من الله قريب من الناس قريب من الجنة، والبخيل بعيد من الله بعيد من الناس بعيد من الجنة))(1) وما أحسن قول الشاعر:
__________
(1) ضعيف: انظر ضعيف الجامع.(10/182)
تغط بالسخاء عن كل عيب ... فكم عيب يغطيه السخاء
وقال آخر:
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم ... فطالما استعبدت الإنسان إحسان
ومع شدة عداوة الملك حسين لمن يسميهم بالوهابين كان يحجم عن الإساءة إلى هذا الرجل الكريم إلى أواخر أيام ملكه فقبض عليه ونفاه من الحجاز إلى قبرص فسجن هناك وعزم على قتله، فانهالت عليه البرقيات من جميع أنحاء العالم تحذره من هذه الجريمة ومن جملة من حذره ابنه فيصل الأول وسائر أبناءه، وبعد سجن دام أربعين يوماً أطلق الله سراحه ليعود إلى خدمة العلم والدين وأعمال البرّ وبناء المكرمات.
وقد طفت كثيرا من أنحاء العالم من المغرب الأقصى غربًا إلى كلكتا شرقا ووصلت من جهة الشمال إلى الأراضي القطبية التي لا تغيب فيها الشمس مدة ثلاثة أشهر، فما رأيت أحدا من العلماء والوجهاء منحه الله من خدمة العلم والعلماء وكرم الضيافة والبر والإحسان مثل ما لهذا الرجل، فهو بدون منازع عميد السلفيين في الحجاز بل وفي سائر أنحاء الدنيا فكم طبع من كتب السنة والتوحيد ووزع منها الأعداد الوافرة في جميع أنحاء العالم، وكم له من أياد بيض على أهل العلم والفضل الذين يردون منهله العذب من جميع أقطار العالم في هذه المدة الطويلة، فنسأل الله أن يبارك في حياته ويزيده من فضله.
*عبد الرؤوف الصبان*(10/183)
من أفضل من لقيتهم من السلفيين الذين يوحدون الله ويتبعون رسوله صلى الله عليه وسلم السيد عبد الرؤوف الصبان رحمه الله، وكان مديرا لشركة دبغ الجلود في مكة فقد كرمني وأنزلني في بيته، وكنت مريضا فأخذني إلى الطبيب ولم يزل يرعاني ببره وإحسانه إلى أن انتقلت وأنا مريض إلى جدة، فنزلت عند عميد السلفيين أطال الله بقاءه، وكان يخدمني بنفسه ويجبرني على شرب الحليب إلى أن شفيت، ثم سعى لي في الحصول على الركوب في الباخرة مجانًا إلى بومباي في الهند، وفي تلك الأيام التي كنت عند الشيخ عبد الرؤوف الصبان عرض عليه الأمير علي بن الحسين أن يتخذه كاتبًا له فاستشارني فنهيته، فلم يقبل نصيحتي وصار كاتبًا عند الأمير المذكور، وبعد مدة قصيرة وقعت الحرب بين الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود وبين الملك علي بن الحسين بعد فرار أبيه إلى قبرص، فانهزم الملك علي بن الحسين وخرج من مكة ورافقه كاتبه الشيخ عبد الرؤوف الصبان وبقي منفيًا معه سنين طويلة في أثنائها لقيته في بغداد فوجدته نادما على عدم قبول نصيحتي له.
*السفر إلى الهند*
بعدما شفيت من مرضي عرضت علي أبي مثواي السيد محمد نصيف رغبتي في السفر إلى الهند للقاء علماء أهل الحديث، فسعى لي بواسطة القائم مقام في جدة السيد زينل في الحصول على تذكرة سفر في الباخرة مجاناً من جدة إلى بومباي وسافرت منها إلى دلهي.(10/184)
وكان الشيخ عبد الوهاب الدهلوي قد كتب لي كتاب توصية إلى عمه الحاج عبد الغفار في دلهي؛ فضيفني وأكرمني ولقيت النواب صدر الدين المدبر لشئون مدرسة (علي جان) ومسجده وكان عالماً بالعربية في ذلك الزمان في بلاد الهند في غاية القلة، فرحب بي واستحسن مقصدي وقال لي: إن تجولك في بلاد الهند للقاء العلماء والإطلاع على الكتب يحتاج إلى أمرين: أحدهما الدراهم، والثاني اللغة، وبدون هذين تتعب كثيراً ولا تحصل على طائل، فأنا أقترح عليك أن تمكث عندنا هنا سنة تتعلم فيه شيئاً من اللغة الهندية وتحصل على شيء من المال، وفي أثنائها يستفيد من علمك تلامذة مدرستنا فإن الطلبة عندنا يدرسون كتب التفسير والحديث والأدب العربي نظماً ونثراً بالترجمة الهندية بلغة أردو من البداية إلى النهاية ويتخرجون في المدرسة (ولا تقل من المدرسة) ولم يقرع آذانهم كلام باللغة العربية فيعيشون بكماً صماً يعتمدون على ترجمة الكتب لا على الكتب نفسها.
فقبلت هذا الاقتراح وأقمت في مدرسة (علي جان) فأمر النواب صدر الدين المتقدمين في العلم من الطلبة أن يحضروا دروسي فحضر عندي خمسة عشر طالباً لا يزال أحدهم بقيد الحياة معروف مكانه، وهو الشيخ عبد الودود بن عبد التواب الملتاني وقد حج في السنة الماضية عام 1390هـ ولقيته هنا بالمدينة.
*حادثة عجيبة*
قلت لأولئك الطلبة: ماذا تريدون أن أدرسكم من كتب الأدب؟ فقالوا: نريد أن تدرسنا ديوان المتنبي؛ فبدأت أدرسهم ووجدت صعوبة في إفهامهم لأنهم كما قال النواب صدر الدين: لم يقرع آذانهم كلام عربي قط، وبعد أربعة أيام وصلنا إلى بيت من قصيدة للمتنبي يمدح بها سيف الدولة وكانت النسخة التي نقرأ فيها مطبوعة في دهلي وفيها أخطاء فوجدنا فيها البيت هكذا:
أنا له الشرف الأعلى تقدمه ... فما الذي بتوقى ما أتى نال(10/185)
ففكرت في معنى الشطر الثاني من هذا البيت فلم أكد أفهمه فلما حضر الطلبة قلت لهم: هذا الشطر لم أفهمه وأظن أنه محرف، فأنكروا ذلك وقالوا: (توبة، أستغفر الله) وهاتان الكلمتان تستعملان في لغتهم عند الغضب والإنكار الشديد وقالوا لي: إن هذه النسخة التي في يدك درسنا بها مولانا عبد الرحمن النكرامي مرارًا فلم يجد فيها خطأ، فيا لله للعجب أنت عربي وأديب وتعجز عن فهم كلام المتنبي مع أن أقل الأدباء علما عندنا يدرس ديوان المتنبي بدون مطالعة، والآن ظهر لنا صدق ما قال أستاذ الأدب مولانا عبد الرحمن النكرامي فقلت لهم: وماذا قال؟ قالوا: قال لنا: اذهبوا إلى النواب صدر الدين وقولوا له إننا لا نفهم كلام هذا المدرس العربي ولا حاجة لنا بتدريسه، فقلنا له: نحن نستحي من النواب أن نقول له ذلك فقال لنا: اعلموا أن العرب في هذا الزمان كلهم جهال لم يبق عندهم من العلم شيء وإنما كان عندهم العلم في زمان النبي صلى الله عليه وسلم وفي زمان السلف الصالح، أما اليوم فلا علم عندهم أما ترونهم كل سنة يأتون من مكة والمدينة ويتكففون الناس فهل رأيتم منهم أحدا من أهل العلم؟ يضاف إلى ذلك أن هذا العربي- يعنيني- شاب مجهول في الهند لا يعرفه أحد وشهادته لا تنفعكم، وأنا لا أعطيكم شهادة إذا تركتموني ودرستم عنده فقلت لهم: إن شئتم أن تحضروا درسي فاحضروا، وإن رأيتم أن درسي لا فائدة فيه فانصرفوا إلى مولانا عبد الرحمن فانصرف أحد عشر منهم وبقي أربعة لا لأنهم يعتقدون صحة ما قلت لهم من أن شطر البيت يمكن أن يكون محرفا بل فضلوا سماع الكلام العربي ولو من مدرس قليل العلم وكان أحدهم عبد الودود المذكور.(10/186)
فذهبت إلى النواب صدر الدين رحمه الله وذكرت له ما وقع، فقال لي: أنا أعرف علمك أعرف علم الشيخ عبد الرحمن النكرامي وقد أردت لهم الخير؛ فإن أبوا فذرهم في ضلالتهم وأرجو أن تبقى في مكانك ولو لم يحضر عندك أحد منهم، وبقيت أربعة أيام أفكر في معنى ذلك الشطر فلم أفهمه وقال لي أحد الأربعة الباقيين: إن الشيخ عبد الرحمن قال للطبلة: إن هذا الشطر واضح يفهمه كل أحد حتى الحمار وقد رأيتم صدق ما قلته لكم.
وفي اليوم الخامس ذهبت إلى الشيخ عبد الرحمن النكرامي رحمه الله وأمامه حلقة كبيرة من الطلبة، فسلمت عليه فرد عليّ السلام فقلت: يا شيخ عبد الرحمن لم أفهم هذا الشطر وقد أخبرني الطلبة أنك تفهمه فأفهمني إياه، فقال لي كلام لا معنى له فقلت له: أعربه من فضلك فبالإعراب يتبين المعنى فقال: ما موصولة، والذي توكيد لها، ويتوقى فعل مضارع فاعله ضمير مستتر تقديره هو يعود على الأعداء في البيت قبله، وما مفعول به، وأتى فعل ماض وفاعله ضمير مستتر يعود على الممدوح، ونال خطأ والصواب نالوا، فقلت له: إذا كانت ما موصولة يكون تقدير الكلام الذي الذي فقال: وأي شيء في ذلك؟ فقلت له: وفاعل يتوقى إذا كان يعود على الأعداء لم يصح ذلك لأن قياس النحو يقتضي أن يكون واو فيقال: يتوقون، وليس عندنا ضمير مستتر تقديره هم إلا في نحو قولنا: الرجال قائمون، ففي قائمون ضمير مستتر تقديره هم، أما الفعل فلا يقدر فيه من ضمائر الغيبة إلا هو وهي.
قال لي: تريد أن تعتزر (يعني تعترض) على المتنبي؟ إنك لا تستطيع ذلك فقد عكف أبو عليّ الفارسي على ديوان المتنبي يبحث عن خطأ فلم يجده فقلت له: فقد عيب عليه أبيات منها قول ه:
جخفت وهم لا يجفخون بها بهم ... شيم على الحسب الأغر دلائل
فيه التعقيد، ومن ذلك ثوله:
إن كان مثلك كان أو هو كائن ... فبرئت حينئذ من الإسلام
فيه الركاكة وقبح البراءة من الإسلام لأمر مكذوب يريد به التملق ومن ذلك قوله:(10/187)
فقلقلت بالهم الذي قلقل الحشا ... قلاقل هم كلهن قلاقل
فيه من الركاكة والثقل على اللسان بتكرار حرف القاف ما لا يخفى على فأعرض عني، وقال للطالب الذي كان يقرأ عليه: (تشالو) يعني استأنف القراءة فأصابني من الغم ما الله به عليم، ولم أكن قبضت شيئا من المدرسة وما كان عندي إلا أربع وعشرون روبية أي درهمًا هنديًا، فعزمت على شراء شرح ديوان المتنبي للعكبري لأعرف أين يكمن سر عدم فهمي لذلك الشطر أهو في جهلي أم في الخطأ الواقع في الطبعة الهندية؟ فسألت أحد الطلبة عن لفظ السؤال عن المطبع المجتبائي بلغة أردو فلقنني إياه، فذهبت أسأل إلى أن وصلت فسألت صاحبه عن شرح العكبري لديوان المتنبي، فقال لي: النسخة الأخيرة اشتراها مني طالب من مدرسة كذا وكذا فذهبت إلى تلك المدرسة ووجدت الطالب الذي اشترى النسخة فوجدت البيت هكذا:
أنا له الشرف الأعلى تقدمه ... فما الذي بتوقى ما أتى نالوا؟
فظهر أنني كنت مصيبًا وأن الشطر كان محرفًا، والطامة الكبرى كانت في زيادة نقطة بلفظ (بتوقي) الذي هو جار ومجرور فصار (يتوقي) فعلاً مضارعًا وظهر أن الشيخ عبد الرحمن لم يفهم منه شيئا، فإن (ما) التي زعم أنها موصولة ليست موصولة بل هي استفهامية، و(يتوقى) الذي اخترع له فاعلاً وجعله ضميرا مستترا تقديره هو ليس فعلاً وإنما هو جار ومجرور.
فنقلت البيت على الوجه الصواب وما قاله العكبري في شرحه.(10/188)
ومعنى البيت: (تقدُّمُ سيف الدولة في الحروب وهزيمته لأعدائه أكسبه الشرف الأعلى فما الذي ناله أعداؤه بتوقيهم وإحجامهم عن فعل ما أتاه من ذلك؟! الجواب نالوا الخزي والعار) فانطلقت إلى الشيخ عبد الرحمن النكرامي وهو يدرس وكان لا يفتر عن التدريس طول النهار، فسلمت عليه فرد علي السلام وقلت له: أيها الشيخ إنك قلت للطلبة: إن هذا الشطر يفهمه كل أحد حتى الحمار وقد ظهر أنك لم تفهمه وناولته الصحيفة وقلت له: اقرأ ما قاله العكبري في شرحه فقرأه ثم ناولني الصحيفة وقال للطالب الذي كان يقرأ عليه (تشالو) فهجرته ثلاثة أيام وهجوته بقصيدة لا أريد أن أذكر منها هنا شيئا فكان خيرا مني لأنه بعد ثلاثة أيام بدأني بالسلام.
*التجول في الهند*(10/189)
بعدما مضت على وصولي إلى دهلي ستة أشهر جاء شهر رمضان وهو وقت تعطيل في مدارس أهل الحديث بالهند، وكنت قد جمعت شيئا من المال وكانت عندي نسخة من عون المعبود شرح سنن أبي داود تأليف جماعة من علماء أهل الحديث منهم شيخنا عبد الرحمن بن عبد الرحيم المباركفوري كما أخبرني هو رحمه الله بذلك، ولا تصح نسبته إلى شخص واحد وإن كان الشيخ شمس الحق العظيم آبادي هو الذي كان ينفق على أولئك الجماعة زمان تأليفه ويشاركهم في العمل، بعثه بسبع عشرة روبية فتوجهت من دهلي إلى لكناو وفيها لقيت الشيخ محمد بن محسن اليمني الأنصاري، فقرأت عليه أطرافا من الكتب الستة، وأخذت عنه الإجازة في جميع مروياته عن أبيه عن آل الأهدل. ثم توجهت إلى بنارس ولقيت فيها الأديب الشيخ عبد المجيد الحريري الحاصل على شهادة ماجستير من جامعة (علي كره) ففرح بي فرحا عظيما والتمس مني أن أبقى عنده ليستفيد من علمي وعرض علي راتبًا أكثر مما كنت آخذه في مدرسة (علي جان) وتكفل بجميع ما يلزمني من السكنى والمعيشة فوعدته خيرا. وتوجهت إلى مدينة (مو) ولقيت العالم الجليل الشيخ محمد أحمد ومنها توجهت إلى مبارك فور بقصد لقاء العالم الجليل الورع النبيل خاتمة المحققين في تلك النواحي الشيخ عبد الرحمن بن عبد الرحيم المبارك فوري فأقمت عنده مدة يسيرة قرأت عليه فيها أطرفا من الكتب الستة وثلاثيات البخاري وعارضت معه موضع من كتابه القيم (تحفة الأحوذي) في شرح جامع الترمذي والتمس مني أن أنظم قصيدة في تقريظه فنظمتها وتركتها عنده فأدرجها في آخر المجلد الرابع، وكنت قد طبعت أربع قصائد في دهلي سميتها الهاديات تقدمت إحداها وهي الميمية التي مطلعها:
من فاته المصطفى المختار من مضر إلخ.
وسأدرج هنا قصيدة أخرى منها. فنقل شيخنا المذكور في مقدمة تحفة الأحوذي إحدى القصائد الأربع وهي تخميس قصيدة حميد القرطبي التي أنشدها القسطلاني في مقدمة شرحه للبخاري ومطلعها:(10/190)
نور الحديث مبين فادن واقتبس ... واحد الركاب له نحو الرضى الندس(1)
إلا إنه لم يسمني بل قال: وقال بعض الأعلام مخمساً هذه القصيدة ولقيت منه من الإكرام ما أعجز عن وصفه بل أسأل الله أن يكافئه على ذلك في جنات عدن مع الذين أنعم الله عليهم مع أني أدعو له في كل صلاة.
ورأيت من زهده في الدنيا وتواضعه وحسن خلقه ما يفوق الوصف فقد كان يقضي أوقاته كلها في خدمة العلم تدريساً وتأليفا وإفتاء، ودعاه الدهلويون حين عزموا على تأسيس دار الحديث في مكة شرفها الله إلى أن يكون رئيسًا فيها فأبى، ودعاه غيرهم من أصحاب المدارس فأبى، وكان لا يعيش إلا مما يكتسبه من العلاج لأنه كان طبيبًا حاذقًا، وكان لا يشتغل بالطب إلا من بعد صلاة العصر إلى المغرب.
وذكر مناقبه يفضي بي إلى التطويل الذي يجعل طبع الكتاب صعبًا، ولكن لابد أن أذكر مكرمة له لا أستطيع تركها وذلك أنه حتم علي في تلك المدة أن لا آكل إلا عنده، ولما عزمت على السفر قال لي: لا تسافر في السكة الحديدية إلى مدينة أعظم كرفان ذلك يشق عليك فهنا اثنان من أصحابنا يسافران على عربة تجرها الخيل في وسط الليل، فأردت أن أودعه فقال لي: لابد أن أخرج لوداعك وأصر على ذلك فقام في نصف الليل وذهب معي إلى المكان الذي فيه العربة، فوضع في كفي قرطاسًا وضم يدي عليه وقال لي: أستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك، زودك الله التقوى ويسر لك الخير حينما توجهت، وظننت أن القرطاس ورقة مالية فوضعتها في يده وضممتها وقلت له: لست في حاجة فأخذ بيدي إلى أن بعدنا عن الرجلين وبكى بكاءً شديدًا وهو يقول: اقبل مني اقبل مني، فاقشعر جلدي وندمت على ما فعلت وقبلت تلك الورقة وتأثرت بما رأيته من بكائه حتى أني حين طلع الفجر صليت الصبح إمامًا بالرفيقين فبكيت كثيرًا في أثناء القراءة فالله يرحمه رحمة واسعة.
وهذه القصيدة التائية في صفة رحلتي من المغرب إلى الهند:
__________
(1) الندس: الفطنة والكياسة.(10/191)
خليلي عوجا بي إلى كل ندوة ... بعا قول خير الرسل يروي بقوة
ولا تقربا بي مجلس الرأي إنه ... ضلال يحط لتابعيه بهوة
على مجمع فيه كتاب إلهنا ... يفسر تفسير بعلم وحكمة
لدى ثلة قد نور الله قلبهم ... وخصهم بالهدى أفضل نعمة
فصانوا كتاب الله جل جلالته ... عن اللغو والتحريف أسوأ بدعة
وردوا افتراء الخلف من ضل سعيهم ... وقد فرقوا من شؤمهم خير شرعة
وأصلوهم حرب الفرنج بهمة ... كسيف صقيل في مضاء ولمعة
إليهم أجوب البر والبحر آويا ... لأنظر من فازوا بنور ونظرة
وأقبس ن أنوار علم سنة ... وذلك قصدي في اغترابي وهجرتي
وأبعد عن أهل البدائع والخنا ... وأدرك روحاً من عنائي وغربتي
وليس مرادي غربة البعد والنوى ... ولكنها في الدين أعظم كربة
ولما أبان الله لي نور دينه ... وأنقذني من طرق أصحاب خرقة
أولئك قوم بدلوا الدين بالردى ... وقد مرقوا من هديه شر مرقة
وأبغضني الأقوام حين نبذتهم ... وملت إلى قفو الكتاب وسنة
وقد قلبوا ظهر المجن وخشنت ... صدورهم لي واستعدوا لمحنتي
وقد زعموا هجري وشتمي قربة ... وكل جليس لي سيردى بسرعة
وقد جزموا أني أموت على الردى ... وأخلد في النيران من أجل رجعتي
أماني حمق تضحك الثاكل التي ... بواحدها سارت ركاب المنية
نبذتهم نبذ النوى وتركتهم ... وهاجرت كي أحظى بسؤلي ومنيتي
وما الي ولي أو رفيق مصاحب ... ولا ناصر إلا إله البرية
عليه اعتمادي لا على أحد سواه ... فهو قدير أن يجود ببغيتي
وما أطلب المال الذي هو زائل ... سوى بلغة لا بد منها لخلتي
سفرت إلى مصر لأخبر خبرها ... وأنظر هل فيها شفاء لعلتي
ومن قبل قد أخبرت أن في ربوعها ... لاجالاً لنصر الدين أصجاب شدة
وصلت فلم ألف سوى أهل بدعة ... وشرك وإلحاد وشك وردة
سمعت بها الإلحاد يعلن جهرة ... بجامعة للشر مع كل فتنة
رأيت بها الأوثان تعبد جهرة ... قبوراً عظاماً ناخرات أجنت
ويدعون دون الله من لا يجيبهم ... وهم عن دعاء القوم في عظم غفلة(10/192)
لهم جعلوا قسماً بمال ولدة ... فلا عاش من قد ظنهم أهل ملة
حثا ثلة مستضعفين رأيتهم ... تسومهم الأعداء سوء الأذية
وهم صبر مستمسكون بدينهم ... ويدعون ما اسطاعوا بيضا نقية
وما صدهم إيذاؤهم عن جهادهم ... لأنهم أهل النفوس الأبية
أقمت بها عاماً إلى الله داعياً ... فأرشد رب الناس قوماً بدعوتي
يعدون بالآلاف في الريرمون كلهـ ... ـم أهل إخلاص وأهل فتوة حشا
ثلة
ومن بعد ذا سافرت للحج راجياً ... قبولاً من الله الكريم لحجتي
فأتككته والحمد لله سائلاً ... من الله يهديني سواء المحجة
وكنا سمعنا أن بالهند فرقة ... على السنة الغراء بصدق وحجة
فقلت عسى منشودتي عندهم ترى ... وهزتني الأشواق أية هزة
بلغت فألفيت المخبر صادقاً ... وشاهدت سنات تجلت بعزة
قد اخترت دهلي للإقامة إنها ... بلاد علوم الدين فيها تسنت
وقد شفيت نفسي وزال سقامها ... غداة رأت عيني مساجد سنة
فلا تسمعن فيها سوى قال ربنا ... وقال رسول الله يخر البرية
لقد مثلوا خير القرون لناظر ... بقول وفعل واجتهاد ونية
إمامهم خير الأئمة كلهم ... عليه من الرحمن أزكى تحية
تمت
*السيد سليمان الندوي*
السيد سليمان من أكابر علماء الهند ورؤسائهم في ذلك الزمان وكان يدير شؤون مؤسستين عظيمتين: إحداهما دار المصنفين التي أسسها هو بنفسه واختار نخبة من ذوي الكفاءة والمقدرة على تصنيف الكتب وطبعها ومن أهمها التاريخ الذي بدأ تأليفه أستاذه الشيخ شبلي النعماني، واستمر هو في تكميله وهو من أحسن كتب التاريخ حسب ما شهر بذلك عند علماء الهند وأنا لم أقرأه لأنه بلغة أردو ومعرفتي بها ضعيفة.(10/193)
والمؤسسة الثانية كلية ندوة العلماء التي تخرج فيها هو وغيره من الأدباء والعلماء وقد أسسها قبل ذلك بزمان طويل ثلاثون رجلاً من كبار علماء الهند، ووضعوا لها مناهج الدراسة ليتخرج فيها رجال قادرون على الدعوة إلى دين الحق الإسلام، ولا تزال هذه المؤسسة سائرة في طريقها إلى الآن وعلماؤها حنفيون كأكثر علماء الهند، وكان ساعد السيد سليمان الأيمن في تدبير شؤونها الدكتور عبد العلي رحمة الله عليه والذي يتولى تدبير شؤونها في الوقت الحاضر هو تلميذي الأستاذ أبو الحسن علي الندوي أخو الدكتور عبد العلي وهو مشهور في البلاد العربية بتأليفه وخطبه التي ألقاها في أمهات البلدان العربية.
أقمت عند السيد سليمان الندوي أيامًا كنت ضيفه فيها وأكرمني غاية الإكرام، ثم توجهت إلى (بهريا) للقاء العالم الأديب الشاعر البليغ الشيخ عبد الحميد الفراهي وكانت له مدرسة كبيرة يعلم فيها علوم الإسلام واللغة العربية ففرح بي وأكرمني والتمس مني أن أكون مدرسًا في مدرسته وعرض علي راتبا طيبا مع السكنى والمعيشة، فاعتذرت له بأني وعدت الشيخ عبد المجيد الحريري في بنارس أن أقيم عنده.(10/194)
ثم سافرت إلى كلكتا وهي قاعدة بلا بنكال ولقيت بها نابغة الهند في العلم والأدب والسياسة أبا الكلام آزاد، فرحب بي وبقيت في ضيافته بإلحاح منه خمسة عشر يوماً وكان له كاتب اسمه عبد الرزاق المليح آبادي وهو الذي يحرر صحيفة عربية كان ينشرها أبو الكلام، فالتمس مني أبو الكلام أن أنشر فيها ما يتيسر من المقالات فنشرت فيها ثلاث مقالات في أخبار البربر وأحوالهم ولغتهم، وكان أبو الكلام لا يفرق بين البربر الذين هم أمة عظيمة في المغرب تمتد الأراضي التي يسكنونها من حدود مصر شرقاً إلى حدود سنغال غرباً، وتشمل على ليبيا وتونس والجزائر والمغرب وموريتانيا كما تسمى هذه البلدان في هذا الزمان، لا يفرق بين هذه الأمة وبين سكان (بربرة) في السودان فأخبرته بالفروق الكثيرة التي بين الفريقين واهتم بذلك كثيراً. فإن قيل: إن الناس في المشرق العربي يعتقدون أن هذه البلدان عربية فكيف جعلتها بربرية؟ فالجواب: إن سكان هذه البلدان الأصليين هم البربر، وقد نزح إليها العرب في أول الفتح الإسلامي، وفي القرن السادس الهجري كما في مقدمة ابن خلدون عند ذكر بني هلال وبني عامر وهؤلاء العرب النازحون عددهم قليل جداً بالنسبة إلى السكان الأصليين ولكن الإسلام وحدّ بينهم وجعلهم أمة واحدة لا فضل لأحد الفريقين على غيره إلا بتقوى الله، وبطول الزمان انتشرت اللغة العربية في هذه البلدان فصارت أكثر الحواضر تتكلم بها وعلى هذا يصح أن نسميهم عرباً مستعربة ولكن إلى هذه الساعة لا يزال نحو نصف سكان هذه البلدان يتكلمون بالبربرية، والخطب في ذلك سهل فإن البربر من الشعوب التي خرجت من جزيرة العرب قبل زمان سحيق في القد، ونحن معشر طلبة علم اللغات لا نشك في ذلك كما أن الواحد نصف الاثنين ولذكر الأدلة على ذلك مقام آخر.(10/195)
وكان عبد الرزاق المليح آبادي زنديقاً وكان يعظم جمال الدين الأفغاني ويزعم أنه كان ملحداً ولا يعظم رفيقه محمد عبده ولا صاحبه السيد رشيد رضا، لأنهما بزعمه لم يفهما فلسفته لأنها أعلى من مستواهما وقد جادلته في ذلك وكثير من الناس في هذا الزمان يرون هذا الرأي ولكن أقرب الناس إليه محمد عبده ورشيد رضا يشهدان بأنه مؤمن وكتبه التي ألفها وخصوصا رسالته في الرد على الدهرية لا تبقي شكاّ في لأنه كان من المؤمنين.
ومن أعجب ما سمعته من عبد الرزاق المليح آبادي أننا كنا نتجادل في تارك الصلاة أهو مسلم أم كافر واستعرضنا أدلة العلماء وخلافهم في ذلك، فقال لي: عندي دليل قاطع لا يعرفه العلماء الذين ذكرت على أن تارك الصلاة مؤمن فقلت: وما هو؟ قال لي: هو أنا، لأنني لا أصلي ومع ذلك لا أشك في أنني مسلم. ثم رجعت إلى بنارس وأقمت عند الشيخ عبد المجيد الحريري ضيفا مكرما وأستاذا محترقا مدة ثلاثة أشهر، ثم سافرت إلى (عظيم آباد) ولقيت الشيخ إدريس بن شمس الحق فأطلعني على خزانة كتب والده وأكرمني وزرت خزانة كتب (خدا بخش) بتلك المدينة فرأيت في الخزانتين كتبا نفيسة منها كتاب الاستذكار شرح الموطأ لابن عبد البر ومنها كتاب الأحكام الكبرى لعبد الحق الإشيلي.
ثم سافرت إلى لكناو ونزلت عند الشيخ خليل بن محمد بن حسين بن محسن الحديدي الأنصاري واليمني ففرح بي وأكرمني وأخبرته بأني أريد لقاء والده الشيخ محمد حسين في بهوبال، فكتب إلى والده بذلك فأجابه بأنه يستحسن أن أنزل في ضيافة ملكة بهوبال، وقصد بذلك إكرامي، فقال لي الشيخ خليل: ابعث برقية إلى الكولونيل عبد القيوم أمير الضيافة فبعثتها إليه، وركبت القطار في الدرجة الثالثة التي كنت دائمًا أسافر فيها لأن أجرة الركوب فيها رخيصة ولو ركبت الدرجة الثانية لما أمكنني أن أرى إلا قليلاً من البلدان وأنا شاب لا يهمني تحمل المشقة.(10/196)
فلما وصل القطار إلى محطة بهوبال كانت سيارة ملكية تنتظرني أمام عربات الدرجة الثانية فلم يجدني فيها الكولونيل عبد القيوم فبحث عني فوجدني من ركاب الدرجة الثالثة فرحب بي وركبت السيارة الملكية، ووصلت إلى دار الضيافة ووجدت أثاثها في غاية الفخامة والزينة، ثم توجهت إلى شيخنا محمد بن حسين بن محسن في بيته ففرح بي كثيرا وبدأت أذاكره في علم الحديث، وكنت ألازمه في كل وقت إلا في أوقات الطعام فإني كنت أذهب إلى دار الضيافة وأقمت على ذلك خمسة أيام وعينت الملكة يوماً لزيارتها، وقبل ذلك اليوم بيوم واحد جاءني الكولونيل عبد القيوم وقال لي: إن الملكة تسلم عليك وتعتذر عما وعدت به من اللقاء، وقد أمرتني أن أنقلك من دار الضيافة إلى بيتي وأكون في خدمتك مدة إقامتك في بهوبال.
فقلت له: أمهلني حتى أخبر بهذا شيخنا محمد بن حسين فركبت معه السيارة إلى بيته فوجدته قد عرف الخبر وقال لي: إني حين طلبت من الملكة أن تكون ضيفها لم أفعل ذلك بخلاً ولا عجزا، وإنما أردت أن أكرامك وإكرام العلم الذي أنت طالبه ولكن أعداءنا من متعصبة الحنفية ذهبوا إلى الملكة وقالوا لها: إن هذا الرجل العربي الذي في ضيافتك ليس من سكان جزيرة العرب بل هو مغربي، ومن الشروط التي شرطها عليك الإنكليز أن لا تجتمعي بأي شخص ينتمي إلى دولة أجنبية ولا يخفى عليك أن المغرب تابع للدولة الفرنسية ففي لقائه خطر عليك، وقال الشيخ للكولونيل عبد القيوم: جزاك الله خيرا على استعدادك لضيافة محمد تقي الدين الهلالي وجزى الله الملكة خيرا على قصدها الحسن وإكرامها لأهل العلم وجزى الله الوشاة شرا فهذا الرجل محمد تقي الدين طالب علم لا علاقة له بأي دولة إلا أن بلده المغرب تسلطت عليه دولة أجنبية ففرضت عليه حمايتها كما فرضت بريطانية حمايتها على بهوبال.(10/197)
وبقيت عنده خمسة عشر يومًا، ثم سافرت قافلاً إلى لكناو فزرت خزانة كتب الشيخ عبد الحي اللكناوي العالم الحنفي المشهور ذي التآليف الكثيرة في الحديث والفقه باللغة العربية، فوجدت فيها كنزين ثمينين أحدهما خمسة أسفار من مصنف ابن أبي شيبة وأول ما وقع بصري فيه عليه حديث موقوف رواه ابن أبي شيبة بسنده إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه سئل عن الخوارج: أكفار هم؟ فقال: لا، من الكفر فروا، والكنز الثاني هو كتاب التقاسيم المعروف بصحيح ابن حبان، وكلا الكتابين لم يطبع إلى الآن فيما علمت ومن لكناو سافرت إلى دهلي ثم إلى بومباي بقصد الرجوع إلى المغرب مارا بالعراق فالشام فمصر، ووصلت إلى مدينة بومباي فنزلت عند العالم الصالح الشيخ شرف الدين الكتبي رحمة الله عليه، وأقمت في بومباي شهرين دخلت في أثنائها المستشفى وأجري لي عمل جراحي غير ناجح في عيني اليسرى وكان الشيخ شرف الدين رحمه الله في تلك المدة يغمرني ببره وإحسانه.
*لقاء الشيخ مصطفى آل إبراهيم*(10/198)
بينما أنا جالس في مكتب الشيخ شرف الدين رحمه الله إذا بشاب أقبل في سيارة فخمة، وكانت السيارة في ذلك الزمان قليلة ودخل المكتب وعليه بزة فاخرة من الثياب وروائح العطر تفوح منه وهو شاب في الثانية والعشرين من عمره فقام له الحاضرون كلهم وعظموه وتنافسوا في التقرب إليه وإطلاعه على ما طبع حديثا من الكتب، أما أنا فبقيت جالسا على كرسي أطالع كتاب ولم أعبأ بمجيئه فلما جلس واطلع على ما وجد من الكتب سأل الشيخ شرف الدين وكان يعلمه الأدب العربي عن قوله تعالى: { وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ } على أي شيء نصبت { حَمَّالَةَ } مع أن الظاهر يقتضي أن تكون مرفوعة لأنها صفة لامرأته، فقال الشيخ شرف الدين: أنا لا أجيبك بحضور الأستاذ محمد تقي الدين الهلالي لأنه أعلم مني بالجواب، فحينئذ سلم علي الشيخ مصطفى وسألني عن حالي وبلدي فأخبرته أني من المغرب فقال لي: ما تقول في جواب السؤال الذي سمعت؟ فقلت له: هذا الكلمة ترفع وتنصب ورفعها ونصبها قراءتان سبعيتان، أما الرفع فواضح وأما النصب فبفعل محذوف وجوبا تقديره أذم، فطلب تفسير البيضاوي فوجد الأمر كما ذكرت له فأعجبه ذلك واستمر يسألني عن مسائل مختلفة مدة ساعة ثم قال للشيخ شرف الدين: أتريد أن تركب معي لأوصلك إلى بيتك؟ قال: نعم. وفي صباح الغد قال لي الشيخ شرف الدين: إن ذلك الشاب الذي كان هنا أمس سألني عنك فأخبرته أنك تريد السفر إلى العراق ثم إلى الشام ثم إلى مصر ولكن السفارة الإنكليزية رفضت إعطاءك سمة الدخول إلى العراق، لأن بريطانيا كانت في ذلك الوقت في نزاع مع الحكومة التركية على لواء الموصل فكانت لا تأذن لأحد في زيارة العراق إلا إذا كان معروفا عندها بولائه لها فقال له الشيخ مصطفى: قل له أنا أستطيع أن آخذه إلى العراق بدون جواز فإن شاء أن يقيم عندنا بالبصرة لنستفيد من علمه فذلك ما نبغي، وإن أراد السفر إلى الشام أو مصر سهلت له طريقه إلى أن يصل إلى مقصوده، فقلت:(10/199)
للشيخ شرف الدين أنا موافق كل الموافقة.
وبعد ذلك ببضعة أيام كنت سائرا في أحد شوارع بومباي يرافقني عبد الله ابن قاضي شقراء وهي بلدة مشهورة في نجد، فمر بنا الشيخ مصطفى آل إبراهيم في سيارته فوقف ونزل من السيارة وأقبل علي وصافحني، وسأل عن الحال ببشاشة وقال لي: هل أخبرك الشيخ شرف الدين بما اقترحت عليك؟ فقلت: نعم وأنا موافق على ذلك فعين لي يوم السفر وقال لي في صباح اليوم الفلاني أجدك في مكتب الشيخ شرف الدين ثم رجع إلى سيارته وركبها، فقال لي عبد الله: يا عجبا كيف عظمك الشيخ مصطفى آل إبراهيم كل هذا التعظيم وعندنا هنا الشيخ عبد الرحمن القصيبي وهو مثله في الغنى والجاه لو رأى وهو في سيارته عالما من علماء نجد ثم دعاه ليكلمه وهو جالس في سيارته لأقبل ذلك العالم يسعى إليه فرحا مسرورا؟ فحكيت له قصة لقائي للشيخ مصطفى وأنني حين جاء لم أقم له ولم أهتم به فلذلك عظمني، وقلت له إن من عادتي أن لا أعظم غنيا إلا إذا كنت أستفيد من غناه بخلاف ما عليه أكثر الناس الذين يعظمون الأغنياء وإن كانوا يعلمون أنهم لا ينفعون بشيء كما قال ابن دريد في المقصورة:
عبيد ذي المال إن لم يطمعوا ... من ماله في شربة تروي الصدى
وقال غيره:
إن الغني إذا تكلم بالخطأ ... قالوا أصبت وصدقوا ما قالا
وإذا الفقير أصاب قالوا كلهم ... أخطأت يا هذا وقلت ضلالا
إن الدراهم في الأماكن كلها ... تكسوا الرجال مهابة وجمالا
فهي اللسان لمن أراد فصاحة ... هي السلاح لمن أراد قتالا
وقال غيره:
يمشي الفقير وكل شيء ضده ... والناس تغلق دونه أبوابها
وتراه ممقوتاً وليس بمذنب ... يرى العداوة لا يرى أسبابها
حتى الكلاب إذا رأت ذا غنية ... أصغت إليه وحركت أذنابها
وإذا رأت يوماً فقيراً ماشياً ... نبحت عليه وكشرت أنيابها
*السفر إلى العراق في الباخرة*(10/200)
لما حان وقت السفر جاءني الشيخ مصطفى فتوجهنا إلى المرسى لنركب الباخرة إلى البصرة فقال لي: إن عندي سبعة من الخدم، وقد بعثت أحدهم مع السفن الشراعية التي لا يحتاج راكبها إلى جواز، فإذا صعدت سلم الباخرة وسألك الإنكليزي ما اسمك فقل: اسمي حسن الحنيان فقلت له: عفوا أنا لا أكذب، فضحك كثيرا وقال لي: أنت عربي تريد أن تسافر إلى بلد عربي وقد منعك الإنكليز من حقك فأي حرج عليك إذا كذبت عليهم لتتوصل إلى حقك؟ فقلت له: لم ينشرح صدري لذلك فقال لي: هل تستطيع أن تسكت إذا سألك الإنكليزي؟ فقلت: نعم، فقال: إذا سألك الإنكليزي فاسكت وأنا أجيب عنك، فلما صعدنا السلم تقدم هو وأنا خلفه فسألني الإنكليزي: إيش اسمك؟ فسكت فقال الشيخ مصطفى: اسمه حسن الحنيان فدخلت الباخرة، وفي مساء ذلك اليوم قال لي: هل قلت شعرا؟ فقلت: نعم فقال لي: هل تستطيع أن تشطر هذه القصيدة وهي لشوقي مطلعها:
خدعوها بقولهم حسناء ... والغواني يغرهن الثناء
فأعطاني القصيدة مكتوبة فانصرفت إلى منزلي وشطرتها في تلك الليلة وسأدرجها مع التشطير هنا لأني أشعر أن بعض قراء هذا الكتاب إن لم نقل كلهم، يحبون الإطلاع عليها، والشطور المزيدة بين قوسين ونصها:
خدعوها بقولهم حسناء ... (وامتدح الكواعب استهواء)
(فرنت للوصال بعد نفور) ... والغواني يغرهن الثناء
ماتراها تناست اسمي لما ... (أن تفانت في حبها العظماء)
(والتناسي شأن الخريدة إذ ما) ... كثرت في غرامها الأسماء
إن رأتني تصد عني كأن لم ... (يلف لي في فؤادها استيلاء)
(لا شفاني وصالها اليوم إن لم) ... يك بيني وبينها أشياء
نظرة فابتسامة فسلام ... (لفؤادي العليل وهو الشفاء)
(ثم رد فبث شكوى بعاد) ... فكلام فموعد فلقاء
يوم كنا ولا تسل كيف كنا ... (لا وشاة تخشى ولا رقباء)
(فخلعنا العذار ثم جعلنا) ... نتهادى من الهوى ما نشاء
وعلينا من العفاف رقيب ... (أن تدنس وصلنا فحشاء)(10/201)
(يقظ ليس يعتريه منام) ... تعبت في مراسه الأهواء
جاذبتني ثوب العصى وقالت ... (وعلى وجهها بدا استحياء)
فاتقوا الله في خداع العذارى ... (فلكم في اصطيادهن دهاء)
(لا تصيدوا الأبكار بالشعر ختلا) ... فالعذراى قلوبهن هواء
وقد سهل علي تشطير جميع أبيات القصيدة إلا بيتا واحدا وهو قوله:
نظرة فابتسامة فسلام ... فكلام فموعد فلقاء
فإن هذا البيت تضمن أمورا ستة لا يمكن الفصل بينها لأن بعضها في الواقع مترتب على بعض. ولم أكن أفهم ذلك حتى سافرت إلى أوروبا وأقمت فيها مدة فرأيت ذلك واقعا كل يوم في المنتزهات والمطاعم والمقاهي والشوارع والمركبات العامة وقطر سكك الحديد لأن العفاف عندهم معدوم، فأول ما يتقابل رجل وامرأة فيحدق بعضهما في بعض: إن كانت المرأة لا رغبة لها في الرجل تصرف بصرها وإن كانت لها فيه رغبة تبتسم له فيتجرأ هو حينئذ على أن يحييها فترد عليه، فيبدأ الكلام حتى ينتهي إلى الموعد بإعطاء كل منهما رقم تليفون صاحبه فيعقب ذلك اللقاء، ولا يكون اللقاء كما قال شوقي في قصيدته لأن المتحابين هناك لا رقيب عليهم من عفاف ولا من غيره، ومن المعلوم أن شوقي درس في فرنسا وشاهد ذلك بعينه فعبر عنه بذلك البيت. ومن المزايا التي يختص بها شعر شوقي أنه جمع بين الأفكار الأوروبية والأفكار العربية ونسق هذه الأفكار كلها ووحدها حتى امتزجت إلى حد أنه لا يستطيع التمييز بينها إلا من خالط العالم العربي والعالم الأوروبي، هذا مع المحافظة التامة على الأسلوب العربي البليغ الذي لا تشوبه شائبة من ركاكة المقتسبات الأعجمية، وإذا قارنت بين شعر أحمد شوقي وبين شعر معروف الرصافي وهو لا يقل عن شوقي في بلاغة شعره تجد الفرق بينهما واضحا فإن شعر الرصافي ليس فيه إلا أفكار عربية شرقية بخلاف شعر معاصره أحمد شوقي.
* الوصول إلى الدورة *(10/202)
لما وصلت الباخرة في النهر المسمى شط العرب وهو مؤلف دجلة والفرات إلى مكان بإزاء ممتلكات الشيخ مصطفى آل إبراهيم، وهي كثيرة ممتدة على الجانب اليمن من شط العرب أميالا كثيرة طلب من ربان الباخرة أن يوقف له الباخرة لينزل هو وأصحابه ويركب قاربا يوصله إلى قصره في الدورة فقبل الربان الإنكليزي احترافا له لأنه كان يعامل معاملة الأمراء لأنه كان من كبار المالكين، فنزلنا في قوارب وسارت بنا إلى الدورة فلما وصلت القوارب إلى فرع شط العرب الذي يوصل إلى الدورة وجدنا أهل القرية كلهم في استقبال الشيخ مصطفى.
وكان الطريق ضيفا بين البساتين والنهر فقدمني أمامه فأردت الامتناع فأشار إلي إشارة فقبلت، وسار هو خلفي وأهل القرية كلهم خلفه وتعجبت من ذلك كثيرا لأني شاهدت هذا المنظر لأول مرة فإن العادة عندنا في المغرب قلما تجري بذلك، فلما وصلنا إلى القرية قدمني أيضا في التوجه إلى المقصورة التي وضعت فيها الأطعمة فلما صلينا العصر سألته عن ذلك فقال لي: أنا لا أبقى هنا دائما فإني تارة أكون هنا وتارة أسافر إلى بومباي لأكون عند عمي قاسمي آل إبراهيم، وهو من تجار اللؤلؤ المشهورين، وإنما قدمتك ليرى ذلك أهل القرية فيعظموك في غيبتي وحضوري ويعلموا أنك أستاذي فشكرته على ذلك وعرض علي الإقامة عنده، فقبلت وجعل لي راتبا طيبا جدا مع السكنى والمعيشة على أحسن وجه.(10/203)
وأخذت ألقي دروسا في علم الأدب عليه وعلى جماعة من الطلبة وأعلم الشباب في مدرسة أنشأها، وألقي دروس وعظ في المسجد ولما توجهنا إلى المسجد للصلاة قال للإمام والمؤذن: كل ما أمركما به الأستاذ محمد تقي الدين الهلالي فامتثلاه، فمنعتهم من جميع البدع وأمرت الناس بأتباع السنة، ومنها إلصاق القدم بالقدم عند القيام للصلاة، فامتثل الناس الأمر إلا رجلا شيخا من أقاربه كان فيما مضى وكيلا لوالده الشيخ يوسف آل إبراهيم على تلك القرية يدبر أمر الحواصل من الغلات فيعطي الفلاحين حقوقهم والباقي يكون بيده يأخذ منه نفقة السركار (وهي كلمة هندية، معناها رأس العمل)، والمقصود بها هنا النفقات العامة لمن في القصر من العيال والخدم والضيوف وما فضل عن ذلك يبقى بيده. فهذا الرجل لم يقبل ما أمرتهم به من أتباع السنة وبدأ يحاربني، فمن ذلك أنني أمرتهم بأن يجعل المؤذن بين أذانه وإقامته وقتا كافيا لمجيء المصلين واستعدادهم للصلاة وكانت العادة جارية عندهم بأن المؤذن إذا نزل من أذان المغرب يقيم الصلاة في الحين، فلما رأى ذلك الشيخ المؤذن أذن لصلاة المغرب وجلس ينتظر أن آمره بالإقامة -لأني إذا حضرت كنت أتقدم إماما للصلاة بهم- غضب غضبا شديدا وقال لي: يا شيخ المغرب غريب وقته ضيق، فقلت له: ليس الأمر كما توهمت والوقت واسع.(10/204)
وفي الصحيحين عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر والعصر في أول وقت العصر ثماني ركعات جمع تأخير، هذا معنى الحديث فقيل لابن عباس: ما أراد بذلك؟ قال: أراد أن لا يحرج أمته، على أننا نحن لا نؤخر الصلاة إلا بضع دقائق، وأخرج الترمذي والحاكم عن جابر وله شواهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لبلال: ((إذا أذنت فترسل وإذا أقمت فاحدر(1) واجعل بين أذانك وإقامتك مقدار ما يفرغ الآكل من أكله)) وهذا الحديث وإن كانت طرقه ضعيفة فإنها بتعددها تنهض حجة. قال شارح بلوغ المرام: ((ويقويها المعنى الذي شرع له الأذان فإنه نداء لغير الحاضرين ليحضروا الصلاة فلابد من تقدير وقت يتسع للتأهب للصلاة))، فقال لي: لا حول ولا قوة إلا بالله (وهو يتكلم بلغة عامة أهل الكويت يبدلون القاف غينا) هذه صلاة سعودية لا فرض ولا نية إلا الخوف من الخيزرانية، فقلت له: بل هي صلاة محمدية ذات قصد ونية والمتبعون لرسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحتاجون إلى خيزرانية وغيرهم لا نبالي بهم. فقال لي: يا غريب كن أديب، فقلت له: أنا لست غريبا لأنني عربي في بلاد العرب وإن كان أسلافي قد نزحوا إلى المغرب فإن حقي لا يزال ثابتا في بلادي الأصلية، فقال لي: روح المغاربة واهدهم، فقلت له: هذه دعوى جاهلية فإن الله تعالى لم يقل ذلك بل قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ
اتَّبَعَنِي } [يوسف:108]، ولم يحدد للدعوة زمانا ولا مكانا.
__________
(1) الحدر: الإسراع. والحديث ضعيف جدا. انظر إرواء الغليل (228).(10/205)
لما أمرتهم بإلصاق القدم كما في حديث أنس ((كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمرنا بتسوية الصفوف فكان أحدنا يلزق قدمه بقدم من يليه ويحاذيه بركبته ومنكبيه ولو فعلت ذلك بأحدهم اليوم لنفر كأنه بغل شموس)) فكان الناس يمتثلون ويلصقون القدم بالقدم. وكان ذلك الشيخ إذا أراد أحد أن يلصق قدمه بقدمه رفسه بقدمه وسبه. وقال لي مرة: إن النبي صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يأمر بهذا لأن الرجل إذا ألصق قدميه، بقدم من يليه يفحش ويدش الشيطان في دبره فقلت له هذا خيال باطل فكيف ترد به سنة النبي صلى الله عليه وسلم؟! وقوله: يفحش يعني يتسع ما بين قدميه، ويدش بمعنى يدخل، وقلت له: إن الشيطان { لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ } كما قال تعالى في سورة النحل [الآيتان 99- 100]، وكنت أصلي بهم الجمعة فأزلت البدع التي كانوا يعملونها في يوم الجمعة فغضب الشيخ غضبا شديدا وقال: هذا تبديل للدين، من يوم خلقنا الله لم نزل نرى العلماء ما رأينا أحدا منهم أنكر هذه الأمور، فقلت له: إن العلماء يخطئون ويصيبون ويمنعهم الجبن في بعض الأحيان والضعف والعجز في أحيان أخرى من إنكار البدع، ولما جاءت صلاة العصر وذهبت أتقدم للصلاة إماما أخذ بطرف عباءتي وقال لي: (ما حد يبيك) معناه لا يريد أحد أن تصلي إماما فوضع الشيخ مصطفى يده برفق على يد الشيخ، وقال له: يا سيدي الوالد أرجوك أن تتركه يصلي فقال: كذا يا مصطفى تفضل المغربي على والدك أو قال على أبيك فقال الشيخ مصطفى: لا يا سيدي أنا ما فضلته ولكن الله فضله لأنه عالم ونحن جهال فقال الشيخ: (زين على شان خاطرك أخليه يصلي) معناه سأتركه يصلي إماما إرضاء لك.(10/206)
ولم يكن عند أولئك القوم شرك ظاهر أعني أهل السنة منهم -وهم قليل- وأكثر سكان القرية من الشيعة، ولكن كان فيهم جمود على التقليد والتعصب للمذهب مع جهلهم فالمتعصبون للمالكية غضبوا بسبب تركي القنوت في صلاة الصبح، والمؤذن كان شافعيا فلما رآني قررت في الدرس أن بول ما يؤكل لحمه طاهر غضب وقال في غيبتي: إذا كان بول البقرة عنده طاهر فليشربه، فقلت له في أثناء الدرس: ياملا أحمد، والملا كلمة فارسية يوصف بها أهل العلم كالفقيه عند العرب أو الشيخ، قلت له: ما حكم المخاط في مذهبك أهو طاهر أم نجس؟ فقال: طاهر. ثم قلت له: ما حكم الأوساخ طاهرة أم نجسة؟ قال: طاهرة، فقلت له: فاشرب المخاط وكل الأوساخ فقال لي: يا شيخ لا يليق بمثلك أن يخاطب أحدا بمثل هذا الكلام، فقلت له: أنت بدأت بما هو أقبح من هذا والبادئ أظلم
{ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } [الشورى: 40]، وأنا تكلمت بالعلم وأنت تكلمت بالجهل، وذكرت الأدلة على طهارة ما يؤكل لحمه.
* مناظرة بين المؤلف وبين مجتهد الشيعة في المحمرة *
لما استقررت في الدورة أردت أن أجتمع مع بعض علماء الشيعة بعدما قرأت شيئا من كتبهم، ووجدت فيها عجائب وغرائب فاتفقت مع أحد الفلاحين وهو الحاج غلام حسين، ومعنى غلام حسين أي عبد الحسين والشيعة يسمون عبد علي وكلب علي وعبد الزهراء وعبد الأمير وأمثال ذلك من الأسماء الشركية.
ومن أغرب ما وقع لي في ذلك أنني سافرت من جدة إلى بومباي -كما تقدم- ورأيت الحجاج يقتتلون على الماء، فاستأجرت شابا فارسيا يأتيني بالماء من مستقس الباخرة من جدة إلى بومباي بربريتين أي درهمين هنديين، اسم ذلك الشاب عبد علي فكنت أتجاهل اسمه وأناديه يا عبد العلي فيغضب ويقول: (عبد العلي نا) ونا بالفارسية هي حرف النفي ترادف لا بالعربية ثم يكرر عبد علي، فإذا نسبته إلى الله العلي يغضب ويريد أن ينسب إلى العبد وهو علي!(10/207)
سافر معي غلام حسين إلى المحمرة وهي على الجانب الشرقي من شط العرب، وقد انتزعتها الدولة الفارسية التي تسمى في هذا الزمان إيران من الأمير الشيخ خزعل الذي كان يحكم تلك الناحية وسكانها عرب من بني تميم وألحقتها بمملكتها فقلت لغلام حسين: اختر لي عالما من علمائكم أزوره لا يكون متعصبا فقال لي: أفضل علمائنا في هذا البلد هو الشيخ عبد المحسن الكاظمي فقصدناه في الحسينية، والحسينية مبنى للشيعة يجتمعون فيه لقراءة قصة مقتل الحسين نهت وقصة حرب علي مع عائشة وطلحة والزبير في وقعة الجمل، وكان ذلك اليوم يوم جمعة وهذا الشيخ من الاثنا عشرية الإخباريين فإن الاثنا عشرية فرقتان فرقة إخبارية وفرقة أصولية، فالإخبارية يعتمدون على ما روي من الأخبار وإن كان مخالفا للقياس والأصول، والإخباريون يصلون الجمعة والجماعة خلاف الأصوليين فإنهم لا يصلون جمعة ولا جماعة، فلما دخلت على الشيخ عبد المحسن قام لي وصافحني وأجلسني بقربه وكان الحاضرون كثيرا يقدر عددهم بثلاثمائة فقال أحدهم للروضخون -وهم ينطقون بالضاد زايا- والروضخون هو الذي يقرأ لهم قصة الحسين وقصة عائشة مع علي، قال له: عجل بقراءة القصتين نريد أن نسمع كلام العالمين لأنهم من عادتهم أن يقرؤوا القصتين في ضحى يوم الجمعة، وحثه على أن لا يطول وسيتبين لك مقصوده بذلك فصعد الروضخون المنبر وبدأ يقرأ في قصة الحسين فلما بلغ مقتله وما صنع به أعداؤه، وضعوا طيالسهم على وجوههم وأخذوا يبكون ويتباكون رافعين أصواتهم: واحسيناه وأبا عبد الله. والظاهر أن بكاءهم كان كاذبا وإنما هو تصنع لأن هذه القصة يسمعونها في كل أسبوع مرارا فقلما تؤثر فيهم ولما فرغ من قصة الحسين شرع في قصة عائشة وذكر أنها بعثت رسولها إلى البصرة إلى علي وقالت له: إنه سيعرض عليك طعامه وشرابه فإياك أن تأكل من طعامه أو تشرب من شرابه فإن فيه السم فلما سمع ذلك الحاضرون قالوا بصوت عال ونغمة تدل على، الحقد: (لا يا(10/208)
ملعونة) وأخذوا يكررونها في كل فقرة يسمعونها، فاستعجل بعض الحاضرين الروضخون وقال له: اختتم نريد أن نسمع كلام العالمين فغضب الروضخون، وقال: قد اختصرت القصتين وما ذكرت إلا ربعهما.
ولما فرغ القاص أخذت أتحدث مع الشيخ بالحديث التالي: حسب ما بقي في ذاكرتي فقد مضى على هذه القصة زهاء 48 سنة فإنها كانت سنة 1343 هـ سألت الشيخ: ما أهم كتب الحديث عندكم؟ فذكر لي أربعة كتب لا أذكر الآن منها إلا كتاب الكليني وأثنى عليه وقال: كل أحاديثه صحيحة فهو عندنا بمنزلة.. ثم سكت وأخذ يفكر، فقلت: لعلك تقصد البخاري عندنا فقال: نعم هو عندنا بمنزلة البخاري عندكم والبحث في صحة الحديث وضعفه في هذا الزمان عبث، لأن الأحاديث الصحيحة معلومة يقينا فقلت له: وكيف تعرف صحتها يقينا؟ فقال لي: تعرف بنص الأئمة المعصومين على صحتها، ثم قال: دونك حديثا متواترا عندنا وعندكم فقلت له: قل، فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أنا مدينة العلم وعلي بابها)) فقلت له: أما عندنا فليس هذا الحديث صحيحا ولا حسنا عند المحققين فضلا عن أن يكون متواترا وإنما هو حديث ضعيف، هكذا قلت له من حفظي والآن أثبت ما قاله الأئمة في هذا الحديث؟ قال السخاوي في المقاصد الحسنة صـ 97 ما نصه باختصار: ((أنا مدينة العلم وعلي بابها)). رواه الحاكم في المناقب من مستدركه والطبراني في معجمه الكبير وأبو الشيخ في السنة وغيرهم كلهم من حديث أبي معاوية الضرير عن الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس مرفوعا به بزيادة فمن أتى العلم فليأت الباب، ورواه الترمذي في (المناقب) من جامعه، وأبو نعيم في الحلية وغيرهما من حديث علي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أنا دار الحكمة وعلي بابها))، قال الدارقطني في العلل عقب ثانيهما (يعني حديث الترمذي): إنه حديث مضطرب غير ثابت. وقال الترمذي: إنه منكر. وكذا قال شيخه البخاري وقال: إنه ليس له وجه صحيح وقال ابن معين فيما حكاه الخطيب في تاريخ(10/209)
بغداد إنه كذب لا أصل له، وقال الحاكم عقب أولهما: إنه صحيح الإسناد وأورده ابن الجوزي من هذين الوجهين في الموضوعات ووافقه الذهبي وغيره على ذلك وأشار إلى هذا ابن دقيق العيد بقوله: هذا الحديث لم يثبتوه، وقيل: إنه باطل.
ثم قلت له: وعلى فرض ثبوته فإن أريد أن هذه المدينة لها أبواب كثيرة وعلي من أفضل أبوابها فهذا صحيح، وإن أريد أن هذه المدينة ليس لها إلا باب واحد وهو علي فهذا باطل يكذبه القرآن والواقع ولا يختلف فيه العقلاء، لأن النبي صلى الله عليه وسلم حين بعث كان علي صغيرا دون البلوغ فلو كان هو الباب الوحيد لهذ المدينة ما استطاع النبي صلى الله عليه وسلم أن يبلغ شيئا ولا أن يؤدي رسالة وكان يقول لكل من سأله عن مسألة: اذهب إلى علي وخذ منه الجواب وهذا لا يقوله أحد يحترم نفسه، وقد قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ } [المائدة:67]
حذف المعمول هنا يدل على العمول أي بلغه جميع الناس كما قال تعالى في سورة الأعراف [آية: 158] { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا } .(10/210)
ولما وصلت إلى هذه المسألة اشترك مع الشيخ في المناظرة نحو عشرة أشخاص فقال لي أحدهم قوله تعالى: { بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ } معناه بلغه عليا، فقلت له هذه زيادة في القرآن فلو قلت لك أنا: معناه بلغه أبا بكر لكان القولان متساويين فبأي دليل ترجح أحدهما على الآخر وكلاهما دعوى بلا دليل؟ فغضب الشيخ وقال أبو بكر: (يأكل خراه) وهذا شتم قبيح مستعمل في تلك البلاد والعراق ونجد، ومعناه يأكل العذرة التي تخرج منه كيف تقارن بينه وبين أمير المؤمنين عليه السلام وهو جاهل لا يعرف (الأب) المذكور في سورة عبس، والعرب كلها تعرف الأب وهو العشب؟!. فقلت له أيها الشيخ: إن علماء المناظرات يقولون: إن الشتم، سلاح العاجز لأن القادر على المناظرة بالدليل والبرهان لا يلجأ إلى الشتم، أبو بكر لم يكن يجهل الأب لأنه كان من شيوخ العرب وحكمائهم إنما قال ذلك تورعا وخوفا من الله تعالى وتعظيما لكتابه وعملا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((من قال القرآن برأيه فقد كفر))(1) وقد خاف أبو بكر رضي الله عنه أن يراد بالأب معنى خاص يجيء فيه تفسير عن النبي صلى الله عليه وسلم فتوقف وهذا من فضائله ومناقبه، ثم قلت له إذا أراد الله أن تبليغ النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو لعلي فلماذا لم يسمه كما سمي زيدا في سورة الحجر [آية: 9] { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ
__________
(1) الحديث لم أجده بهذا الفظ، لكنه عند الترمذي (2951) وغيره بلفظ: ((من قال في القرآن لرأيه فليتبوأ مقعده من النار)) وهو ضعيف. انظر ضعيف الترمذي (570).(10/211)
لَحَافِظُونَ } ولا شك أن الله تعالى لا يخلف الميعاد وقد حفظ هذا القرآن الكريم من بين سائر الكتب السماوية، وقد أجمع المسلمون وغير المسلمين إلا من شذ من أعداء الإسلام على هذا، فأنت تجد القرآن في جميع أنحاء العالم على اختلاف أديان أهل تلك البلدان لا يستطيع أحد أن يزيد حرفا ولا نقطة ولا أن يغير منه حركة، وحتى صفات الحروف كالتفخيم والترقيق مثلا محفوظة.
وإذا سلمنا أن القرآن قد حذفت منه قريش كثيرا فلا بد أن تكون قد زادت فيه أيضا. فقال لي: أما الزيادة فلم تقع فقلت: وكيف عرفت ذلك؟ قال: عرفناه من أقوال الأئمة المعصومين فإنهم أخبروا بأن الزيادة لم تقع وإنما وقع الحذف، فقلت: هذا مخالف لنص القرآن الذي ذكرته آنفا ومخالف للعقل والله المستعان. ثم قلت له: فهل عندكم قرآن سالم من التغيير ليس فيه زيد ولا نقص؟ فقال لي: لما رأى أمير المؤمنين علي عليه السلام قريشا تحذف أشياء من القرآن وتكتبه على غير الوجه المتفق مع تاريخ النزول دخل بيته واعتكف فيه أربعين يوما؛ فكتب القرآن من أوله إلى آخره على ترتيب نزوله من أول آية إلى آخر آية، فقلت له: وأين هذا المصحف؟ فقال: بقي عند الأئمة يتوارثونه آخرهم عن أولهم حتى وصل إلى الإمام المنتظر محمد بن الحسن العسكري عجل الله بخروجه فلما غاب في سرداب سامراء أخذه معه، فقلت له: ولماذا لم يكتب علي رضي الله عنه إلا مصحفا واحدا ثم لم ينسخ أحد منه في تلك الأزمنة المتطاولة ولا نسخة واحدة وقد كان لعلي كما تعلمون من الأنصار وآل البيت الحريصين على الخير وحفظ العلم ولاسيما كتاب الله وخصوصا قبل خلافته كثير، أما بعد خلافته فكان ينبغي أن يكون أول شيء يبدأ به هو إظهار هذا القرآن الصحيح وإحراق ما سواه من المصاحف فإن لم يفعل ذلك على سبيل التسليم الجدلي فلابد أن يفعله شيعته وأنصاره وقد جمع أبو بكر الناس على هذا المصحف ثم جمعه عثمان طبقا لمصحف أبي بكر وأحرق جميع المصاحف المشتملة على(10/212)
القراءة الشاذة، وعلي رضي الله عنه ليس دونهما في العلم والقدرة على إحقاق الحق فكيف أهمل هذا الواجب العظيم؟ فقال لي: تأدب فإن الأئمة لا يفعلون شيئا إلا بأمر الله وقد كان أمير المؤمنين عليه السلام مشغولا بأمور أخرى من حروب المرتدين وتدبير شؤون المسلمين، فقلت له: هذا الاعتذار لم يقنعني ولا أراه يقنع أحدا من خصومكم، ثم لماذا أخذ الإمام المنتظر محمد بن الحسن العسكري المصحف الوحيد السالم من التغيير معه حينما أدخل في السرداب وأنتم تعتقدون أنه معصوم وأنه يحفظ القرآن ولا يحتاج إلى مصحف فكيف يترك شيعته على مصحف ناقص غير مرتب ويأخذ النسخة الوحيدة المشتملة على القرآن الصحيح معه إلى عالم الغيب؟ فقال لي: قلت لك: تأدب فان الأئمة معصومون ولا يفعلون إلا ما أمرهم الله به، ثم قال لي أحدهم: سأورد عليك آية من القرآن تحجك وتسكتك فقلت: هات، فقال: قال الله تعالى: { وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ } [يس:12] من هو الإمام المبين؟ أليس علي بن أبي طالب عليه السلام؟! فقلت: ذلك قولك أما أنا فأقول: إن الإمام المبين هو اللوح المحفوظ المكتوب عند الله تعالى وهذا القرآن الذي بأيدينا مطابق له، فقال لي: كيف يكون الكتاب إماما وكيف يكون مبينا، فقلت له قال الله تعالى في سورة الأحقاف [الآيتان: ا ا-12] { وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ * وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَانًا عَرَبِيًّا لِّيُنذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ } فوقف حماره في العقبة ولم يستطع جوابا. فقال لي شيخهم: أليس علي نفس النبي بنص القرآن؟! فقلت: وضح لي ما تقول كيف يكون على نفس للنبي؟ فأخذ يتعتع ويكرر أنفينا وأنفسكم، ولم يعرف أحد منهم آية المباهلة لا الشيخ ولا غيره فعلمت أن لا يحفظ القرآن أحد منهم، فقلت لهم: أنا أذكر لك الآية التي(10/213)
تريدون، قال الله تعالى في سورة آل عمران: { فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ } [آل عمران: 61] فقالوا جميعا: هذه الآية التي نريد وهي حجة عليكم فإن قوله تعالى { وَأَنفُسَنَا } المراد به علي بن أبي طالب فقلت لهم: إن نفس النبي صلى الله عليه وسلم هي النبي ولا تتحمل الدلالة اللغوية غير ذلك فما هو دليلكم من جهة النقل أو اللغة على أن عليا هو نفس النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: هذا ثابت في التفاسير فقلت: أنا لا أسلم به إلا إذا ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم بسند صحيح.
هكذا قلت لهم مع أني أعلم أنه روي في خبر بسند ضعيف أن معنى أنفسنا هو النبي صلى الله عليه وسلم وعلي، ومعنى نساءنا فاطمة، ومعنى أبناءنا الحسن والحسين، ثم راجعت الآن وأنا اكتب هذا تفسير ابن كثير فوجدت الخبر قد رواه ابن مردويه والحاكم في المستدرك وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه؛ قال ابن كثير: ((هكذا قال الحاكم وقد رواه أبو داود الطيالسي عن شعبة عن المغيرة عن الشعبي مرسلا وهذا أصح)) ا هـ.
قال محمد تقي الدين: ومن المعلوم أن المرسل من قسم الضعيف ولو كان القوم أهل إنصاف لذكرت لهم هذا الخبر واعترفت به وبينت ضعفه وأنه لا حجة لهم في ذلك، لأن فضل علي وقربه من رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينكره إلا ضال وذلك لا يدل على أنه هو الإمام بعد النبي صلى الله عليه وسلم ولا يدل ألبتة على بطلان خلافة الخلفاء الثلاثة قبله، ولا يحط من قدرهم شيئا فإن الأئمة الثقات رووا أحاديث كثيرة صحيحة كالشمس تدل على صحة خلافتهم وفضلهم ولكن لكل مقام مقال.(10/214)
ثم قال الشيخ: ما تقول في أحاديث صحيح البخاري أصحيحة عندكم أم لا؟ فقلت: هي صحيحة لا نتوقف في قبول شيء منها فقال: الآن أورد لك حديثا من صحيح البخاري يثبت صحة اعتقادنا وفساد اعتقادكم فقلت: ما هو؟ فقال: روى البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((فاطمة بضعة مني يؤذيني ما آذاها)) وأبو بكر آذاها فقد آذى النبي صلى الله عليه وسلم ومن آذى النبي فهو كافر فكيف يكون الكافر خليفة؟! فقلت له: هذا الحديث صحيح، ولكن لمعرفة معناه على التحقيق يجب أن تذكره كاملاً حتى لا تكون مثل ذلك النصراني الذي احتج على المسلمين بقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ } (النساء: 43) فقال: هذا كتابكم ينهاكم عن الصلاة.(10/215)
قال: فاذكر أنت الحديث كاملاً فقلت له: إن علي بن أبي طالب أراد أن يتزوج بابنة أبي جهل على فاطمة فقام النبي صلى الله عليه وسلم خطيبا في الناس فقال: ((إن ابن أبي طالب يريد أن يتزوج بابنة أبي جهل فليطلق ابنتي فإن فاطمة بضعة مني يؤذيني ما آذاها)) هذا معنى الحديث. فلما سمع القوم هذا الحديث ثاروا ثورة عظيمة وكثر ضجيجهم فقال لي شيخهم رافعا صوته: (كفرتم كفرتم كفرتم، أنتم كفرتم كل واحد حتى محمد بن عبد الله) وسمعت من كان بقربي من الحاضرين يقولون بصوت ملؤه الحنق: (لا يا ملاعين الوالدين اشلون يكذبون على أمير المؤمنين) ومعنى ذلك: اخسأوا يا ملاعين الوالدين كيف يكذبون على أمير المؤمنين يعنون عليا. فقلت له: كيف تكفروننا ونحن نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ونؤمن بكل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم؟! وعلي رضي الله عنه لسعة علمه وفضله لم يكفر الخوارج الذين كفروه وقاتلوه فقد روى ابن أبي شيبة بسنده إلى علي أنه سئل عن الخوارج أكفار هم؟ فقال: لا. من الكفر فروا. فإن لم تقبلوا على عادتكم في رد أحاديث أهل السنة- فدونكم برهانا نظريا لا تستطيعون رده أبدا قالوا: ما هو؟ فقلت: إن عليا رضي الله عنه قاتل الخوارج ولم يغنم أموالهم ولا سبى ذريتهم كما فعل هو وسائر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتال المرتدين من بني حنيفة، وأمُّ ولده محمد سبية من بني حنيفة واسمها خولة وأنتم تعلمون ذلك.(10/216)
فقال: أنا لا أكفرك أنت، فقلت: لو كفرتني أنا وتركت البخاري ورجاله لكان ذلك أهون علي لأن كل ما نعتقده ونعلمه من أمور الدين فهو إما من القرآن أو من رواية هؤلاء الرواة، فقال لي: وأنا لا أكفر البخاري أيضا فقد كان رجلاً صالحا ولكن معاوية كان يبذل الأموال للوضاعين فيضعون الأحاديث في تنقص علي ويكذبون عليه وقد توهم البخاري؛ فأدخل في كتابه هذا الحديث فقلت له: إن رجال هذا الحديث كلهم أئمة ثقات وقد رواه البخاري ومسلم والترمذي وابن ماجه.
هذا ما قلته له. والآن أسوق هذا الحديث بألفاظه ليعرفه القارئ على وجهه.
أخرج البخاري بسنده عن المسور بن مخرمة- في باب الخمس- أن علي ابن أبي طالب خطب ابنة أبي جهل على فاطمة عليها السلام فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب الناس في ذلك على منبره -هذا وأنا يومئذ محتلم- فقال: ((إن فاطمة مني وأنا أتخوف أن تفتن في دينها)) ثم ذكر صهرا له من بني عبد شمس فأثنى عليه في مصاهرته إيّاه قال: ((حدثني فصدقني ووعدني فوفى لي وإني لست أحرم حلالاً ولا أحل حراما ولكن والله لا تجتمع بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وبنت عدو الله أبدا)).
ورواه البخاري في كتاب النكاح في باب ذبّ الرجل عن ابنته في الغيرة ((إن بني هشام بن المغيرة استأذنوا في أن يُنكحوا ابنتهم علي بن أبي طالب فلا آذن ثم لا آذن ثم لا آذن إلا أن يريد ابن أبي طالب أن يطلق ابنتي وينكح ابنتهم فإنما هي بضعة مني يريبني ما أرابها ويؤذيني ما آذاها)).(10/217)
وفي إحدى الروايات إن فاطمة عليها السلام ذهبت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت له: إن الناس يقولون: إنك لا تغضب لبناتك وأخبرته الخبر فخرج إلى المسجد وخطب الناس. ثم قلت: وأبو بكر الصديق لم يؤذ فاطمة وإنما نفذ ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: ((نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركنا صدقة)) وفاطمة غير معصومة من الخطأ. فإن كان هذا هو سبب تكفيركم لأبي بكر الصديق فهو سبب واه، وقد تبين بطلانه فلماذا كفرتم عمر مع أنه حين جاءه علي والعباس بعد وفاة فاطمة يطالبان بأرض فدك التي طالبت بها فاطمة أحضر عشرة من الصحابة فشهدوا كلهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((نحن معاشر الأنبياء لا نورث)) ثم قال لعلي والعباس: إن التزمتما أن تعملا في هذه الأرض بما كان يعمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم سلمتها لكما فالتزما ذلك فسلمها لهما. ثم اختلف علي والعباس فجاء العباس عمر يشتكي عليا فأبى عمر أن يغير ما حكم به..
ومما ذكرته لهم في تلك المناظرة -وإنما أمليها من حفظي- أن مما يدل على أن أهل بيت علي رضي الله عنه لم يكونوا يعتقدون عصمته أن عبد الله بن عباس أنكر عليه إحراق الغلاة الذين اعتقدوا ألوهية علي فأحرقهم بالنار فخطأه ابن عباس وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يعذب بالنار إلا رب النار)) فقال الشيخ: هذا من وقاحته وقلة حيائه كيف يعترض على إمامه.
ولما أخذوا يناظروني -وهم جماعة كما ذكرت- أراد رفيقي أن يظهر دفاعه عني وقال أيها القوم: إن كانت هذه مناظرة بين عالمين فدعوهما يتناظران وأنصتوا، وإن كانت حمية وعصبية فأنا أيضا أدافع عن صاحبي، ولما رجعنا إلى الدورة قال لأهل السنة: أشهد بالله أن عالمكم غلب عالمنا.
*مناظرة بين المؤلف وبين شيعي آخر*(10/218)
اجتمعت في البصرة بمجتهد الشيعة الشيخ مهدي القزويني فأخبرته بأن عبد المحسن الكاظمي يقول: إن قريشا حذفت كثيرا من القرآن فهل هذا صحيح؟ فقال: أما نحن فلا نقول بذلك ونؤمن بأن القرآن هو ما بين دفتي المصحف لم ينقص منه شيء ولم يزد فيه شيء. وأظن أن الشيخ القزويني من الفرقة الأصولية.
ثم بعد ذلك قرأت مقالاً في مجلة المنار الشهيرة التي كان يصدرها الشيخ رشيد رحمه الله، كاتبه عالم من بلاد فارس أثبت فيه بالأدلة والبراهين المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم من طرق الشيعة الاثنا عشرية كل ما بينه شيخ الإسلام أحمد بن تيمية وشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب من توحيد العبادة وتوحيد الربوبية. فمن ذلك تحريم البناء على القبور روى فيه أحاديث عن أئمة الشيعة مرفوعة وغير مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم تثبت النهي عن البناء على القبر وتجصيصه حتى ذكر عن جعفر الصادق رحمه الله أنه قال: ((كل ما وضع على القبر من غير تراب القبر فهو ثقل على الميت))، ومنها تحريم الذبح والنذر ودعاء الأموات والاستعانة بهم.
فكتبت كتابا إلى الشيخ مهدي المذكور وقلت له: نرجو أن تبين لنا هل هذه الأحاديث التي ذكرها صاحب المقال صحيحة عندكم أو غير صحيحة، فإن كانت صحيحة فما الذي يمنعكم من العمل بها؟ وكيف سكتم على القباب المشيدة المزخرفة في النجف وكربلاء والكاظم، وهي مخالفة لما رواه أئمة آل البيت الذين تدعون الناس إلى اتباعهم؟ فكتب إلي رسالة طويلة مدحني فيها ولم ينكر شيئا من تلك الأحاديث ولكنه عمد إلى تحريفها ففسر البناء على القبر بأن يبني على القبر نفسه، أما بناء قبة حوله لتقي زائريه من الحر والقر فلا بأس به. ومضى في تحريف تلك الأحاديث كلها حتى أتى عليها ثم قال لي: ونحن نتخذك حكما تحكم بيننا وبين صاحب المنار. هذا بعدما ذم صاحب المنار وكاتب المقال وغمرهما بالشتم والقدح والطعن.(10/219)
فألفت في ذلك جزءا سميته (القاضي العدل في حكم البناء على القبور) وبعثته إلى الشيخ رشيد رضا رحمة الله عليه فجزأه سبعة أجزاء ونشره في مجلة المنار، وكان ذلك في أغلب الظن سنة 1344هـ ولما استقررت في المملكة السعودية أعدت تأليف الكتاب بأسلوب أخشن وقدمته للملك عبد العزيز رحمة الله عليه هدية وأنشدته في ذلك القصيدة التالية جالسًا إلى جنبه، فلم يعب على ذلك لا هو ولا أحد من جلسائه، وذلك برهان قاطع على تواضعه واختياره سلوك أمراء السلف فلا غرابة أن رفع الله قدره ومكن له في الأرض حتى أنشأ دولة عظيمة عصرية على أنقاض الدولة السعودية التي قضى عليها آل رشيد كما شهدت بذلك إذاعة لندن وهذه القصيدة من بحر الكامل:
يا أيها الملك الذي سعدت به ... أرجاء مكة والحطيم وزمزم
وكسى الإله به بلاد العرب ثو ... ب أمانة فغدت به تتنعم
وأشاع نور العلم والإيمان في ... أرجائها والجهل فيها مظلم
وغدت بحكمته أهاليها وهم ... بعد العداوة في إخا لا يصرم
كان التقاطع بينهم من قبله ... حتى القريب فريبه لا يرحم
والبغي والعدوان شيمتهم وهم ... شتى العقائد شركهم مستحكم
ما عندهم من حرمة للشرع بل ... طاغوتهم بالجهل فيهم يحكم
قطع الطريق وقتل سالكه لهم ... خيم وخيم عندهم لا يحرم
شن الإغارة دأبهم وطعامهم ... وشرابهم منه وبئس المطعم
فغدوا تقاة صالحين وخوفهم ... لله ليس يزال دوما يعظم
بسياسة الملك الإمام المرتضى ... عبد العزيز الفارس المستئلم
هذي الكرامات العظام حقيقة ... لا ما يقول مشعوذ يتوهم
هذا هو القطب الكبير ديانة ... وشجاعة وعدالة إذ يحكم
قطب السياسة والمكارم والعلا ... حام الحقيقة في الوغى لا يحجم
يلقى العداة إذا الجيوش تلاطمت ... أمواجها مستبشراً يتبسم
يلقى الوفود ووجهه متهلل ... رائيه مغتبط به متنعم
ذا الجزء أرفعه إليك هدية ... ولأنت أفضل من إليه يقدم
ألفته رداً على شيخ الروا ... فض بالأدلة مبطلاً ما يزعم(10/220)
زعم البناء على القبور وقصدها ... من كل أفق للدعاء لا يحرم
هذا ودم شمساً لهذا الدين في ... أوج السعادة بالمكارم تنعم
فتقبله بأحسن قبول وأمر بطبعه فأخذه رئيس القضاة الشيخ عبد الله بن حسن رحمه الله وسلمه إلى الشيخ ماجد الكردي مدير المعارف فطبع منه ألف نسخة ووزعت، ولا بد أن يكون الشيخ مهدي القزويني قد اطلع على هذا الكتاب. وقد بلغني أنه ألف كتابا في الرد علي ولكني لم أره وهذا هو سبب ما ذكرته من قبل أنه يوجد في المحفظة الخاصة بي التي يسمونها بالعجمية (دوسيا) أنني عدو لأبناء الشيعة. هكذا سجلوا علي ذلك لجهلهم وضلالهم وإلا فهل كان أئمة آل البيت الذين نقل عنهم ذلك الكاتب أحاديث النهي عن البناء على القبور كحديث الصحيحين: ((لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) ونحوه هل كان أولئك الأئمة رضوان الله عليهم أعداء لأبناء الشيعة ومنهم جعفر الصادق الذي ينتسبون إليه؟! إذًا فمن هو وليهم؟!.
*شيخ متملق*
كان رجل ينسب إلى العلم -والعلم منه بعيد- يسكن في بلدة فاو الواقعة عند مصب شط العرب في خليج البصرة ويسميه الأوروبيون الخليج الفارسي وكان من المتملقين لذلك الشيخ المذكور الذي هو من أقارب الشيخ مصطفى آل إبراهيم، فشكى الشيخ الغني إلى ذلك المتأكل بالدين ما أبطلته من البدع في مسجد الدورة فقال الشيخ الفوي: هذا الرجل مناع للخير، يعنيني بذلك فهجوته بقصيدة نسيت أكثرها وأثبت هنا ما بقي في حفظي منها وقد حذفت منها بيتا لأن فيه إقذاغا كثيرا. فإن قلت إذا كان ذلك الإقذاع لا يجوز شرعا فلماذا قلته حتى احتجت إلى حذفه؟ فالجواب أنه يجوز شرعا ولكن تركه أيضا جائز وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من تعزى عليكم بعزاء الجاهلية فأعضّوه بهن أبيه ولا تكنوا)).
وهذا ما بقي من القصيدة:
أتاني فحش القول من جاهل فدم(1) ... وقدماً كلاب الجهل تنبح ذا العلم
__________
(1) الفدم: ثقيل الفهم.(10/221)
ولست بملا(1) في القرى متأكل ... بدين ولا دين لدى الأرذل الوخم
يظل عدو العلم يكذب جاهداً ... على ربه كي يأكل السحت بالرجم
فدع عنك دعوى العلم ولتبغ قاربا ... تصيد به الحيتان في لجة اليم
ودربه في كل البلاد مناديا ... صبورا صبورا واترك العيش باللؤم
فذلك أجدى من سؤال وكدية ... وإفساد دين الله بالخرص والوهم
فلا تحسبن العلم أكل ثريدة ... وجمع زكاة من غريب ومن عجم
ومثلك إن يسأل يجئ يوم حشرنا ... وما وجهه إلاعظام بلا لحم
وإن كان كالعصفور عقلك خفة ... وطيشافمثل البغل قد صرت في الجسم
علام استطبت الأكل من صدقاتهم ... ءأعرج أم أعمى أم أنت أخو سقم
نعم فيك سقم لم ير الناس مثله ... وذلك سقم العقل والدين والفهم
وفيك عمى لم تبصر العين مثله ... عمىالجهل إن الجهل للقلب قد يعمي
ودعواك في العلم العزيز مكانه ... كدعوى بني حرب زيادا على زعم
لقد هزلت حتى بدا من هزالها ... كلاها وحتى سامها كل ذي عدم
قولي: (صبورا صبورا) الصبور نوع من السمك يصاد من البحر كبير الحجم كثير العظام ولكن لحمه لذيذ يدور الباعة بزوارقهم في أنهار جنوب البصرة منادين (صبور صبور).
*الدعوة إلى الله في النخيل*
لما نزلنا بالمدينة النبوية -على من شرفها الله به أفضل الصلاة وأزكى التحية- وجدت بها من مشاهير الشيوخ (ألفا هاشم) وهو من السودان المغربي وأظنه سنغالياً وكان مقدماً للطريقة التجانية، فكتبت صحيفة ضمنتها ثلاث عشرة مسألة من ضلالات التجانيين وناولتها الشيخ عبد الله بن حسن فلما قرأها اقشعر جلده منها وقال: أعوذ بالله أعوذ بالله أيوجد في الدنيا من يعتقد مثل هذا؟! فقلت نهم وهو معك هنا في المدينة أحد كبار المدرسين في المسجد النبوي فقال لي: من هو؟ قلت (ألفا هاشم) ومعنى ألفا بلغة السودان: الفقيه، فكأنها مختصرة من كلمة الفقيه.
__________
(1) يقصد الإمام الذي يتخذ الإمامة مهنة.(10/222)
فدعا به فلما جلس ناوله الصحيفة فقال: اقرأ هذه الصحيفة فقرأها فقال له الشيخ: هل تعتقدون ما في هذه الصحيفة؟ فقال: يوجد في كتب طريقتنا كل ما ذكر في هذه الصحيفة ولكن أنا لا أعتقد هذا، فقلت له: قل هذا حق أو باطل فقال لي: إن الشيخ ليس محتاجاً إلى أن تعينه فقال الشيخ عبد الله بن حسن رحمه الله والله بل أنا محتاج إلى أن يعينني لأنه يعرف ضلالكم وأنا لا أعرفه، فاضطر (ألفا هاشم) إلى أن يقول: إن ذلك باطل، فقال له الشيخ عبد الله بن حسن رحمه الله: قد اعترفت الآن بأنك رئيس طريقة تشتمل على ضلالات فتب إلى الله منها فقال: أنا تائب إلى الله من كل ضلالة فقال له الشيخ عبد الله بن حسن: اكتب رسالة وبين فيها ضلال هذه الطريقة وأنك تبت إلى الله لنوزعها على أتباعك وغيرهم ليحذروها الناس فقال: نعم. فقال له: إذا كتبت الرسالة فسلمها إلى محمد تقي الدين الهلالي لينظر هل هي وافية بالمطلوب فإن وجدها كذلك يبعثها إلي وأن آمر بطبعها.
وقبل أن يسافر الشيخ عبد الله بن حسن رحمة الله عليه دعا أمير المدينة عبد العزيز بن إبراهيم فجاءه إلى منزله بدار الضيافة فقال له هذان الشيخان محمد الهلالي ومحمد بن عبد الرزاق نثق بعلمهما ودينهما فعليك أن تشاورهما وتأخذ بنصيحتهما فقال الأمير: ((حبّا وكرامة. يقال: إذا رأيت الأمراء عند أبواب العلماء فنعم العلماء ونعم الأمراء، فحقهما أن آتي إلى زيارتهما لأستشيرهما وأستفيد من علمهما ولكن أرجو من فضلهما أن يسامحاني في هذا الحق لكثرة أشغالي ويتفضلا بزيارتي)).(10/223)
وبعد خمسة عشر يومًا لقيت ألفا هاشم فقلت له: هل أتممت الرسالة التي أمرك الشيخ بتأليفها؟ فقال: ما أكملتها بعد فأمهلني فانتظرت خمسة عشر يوما أخرى ولقيته فسألته فقال لي: الآن ما أتممتها، فحثثته على إتمامها برفق. فذهب إلى الأمير وقال له: نحن نعتقد أنك أمير هذا البلد وأنت الحام فيه وقد آذاني محمد تقي الدين الهلالي وصار يتحكم في ويأمرني وينهاني، فدعاني الأمير وقال لي: ما سبب الخلاف بينك وبين ألفا هاشم؟ فقلت له: ليس بيني وبينه خلاف وحكيت له القصة من أولها إلى آخرها فقال: أنا آخذ الكتاب منه وأبعثه إلى الشيخ فقلت له: أنت لا تعرف ما يتضمنه الكتاب، وهل هو واف بالمطلوب أو غير واف وإنما كلفني الشيخ عبد الله بن حسن بقراءته قبل إرساله إليه لأني أعرف هذه الطريقة وأعرف ما يجب على التائب منها ما يقول لأني كنت متمسكا بها تسع سنين، وانصرفت من عنده ولم أطالب ألفا هاشم بعد ذلك بشيء ولم يؤلف شيئا.(10/224)
وهذا أول خلاف وقع بيني وبين الأمير ثم تلاه اختلاف كثير شاركني فيه رفيقي الشيخ محمد بن عبد الرزاق، فكنا إذا سمعنا بمنكر وقع وكان الجنود المكلفون بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يخبروننا بما يقع من الحوادث فإذا رأينا تقصيرا نذهب إليه وننصحه فكان يتحمل ذلك على مضض واشمئزاز ويقول في غيبتنا: هذان رجلان من المطاوعة (جمع مطوع كلمة تطلق على الفقيه والعالم في نجد) يشتغلان بالدروس في المسجد، فلماذا يتدخلان في شؤون الأمير وفي شؤون جماعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟! (والتعبير المعتاد هيئة الأمر بالمعروف، وقد تركت هذا التعبير لأنه فاسد لأن الهيئة هي الشكل كما قال تعالى: { أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ } (آل عمران:49) وزاد في طينه بلة وفي طنبوره نغمة أن المكاتبة بيننا وبين الملك عبد العزيز قدس الله روحه كانت متواصلة. ومن عادته رحمة الله عليه أنه إذا كتب لنا جوابا يأمر الكاتب فيكتبه بآلة الكتابة ثم يأخذ صحيفة فيكتب فيها بضعة أسطر بخط يده يسمي فيها المرسل إليه ويسلم عليه يدعو له وهذه مزية لا نعلم أحدًا من الملوك كان يفعلها فنسأل الله أن يثيبه في جنات النعيم. وكانت الأجوبة التي تأتنا من الملك عبد العزيز تصل إلينا بواسطة الأمير المذكور فكان كلما جاءنا كتاب من الملك يصيبه المقيم المقعد ويغضب ويقول ما شأن هذين الرجلين ومكاتبة الملك أهما من الأمراء؟ فيلتفت الأمير إلى الشيخ محمود شويل ويقول: يا محمود: ألا يمكنك أن تمون عليهما وتفتح الرسالتين؟! (ومعنى تمون تتجرأ وتنوب) فيقول الشيخ محمود أصلح الله الأمير إذا كنت أنت لا تستطيع أن تمون عليهما وأنت الأمير فكيف أستطيع أنا وأفتح رسالة الملك المرسلة إلى شخص بعينه؟! فيجيئنا الشيخ محمود شويل ويقول: إن الأمير مهتم بهاتين الرسالتين فإن لم يكن فيهما شيء تخفيانه عنه فأرجو أن تفرجا عنه بتمكينه من قراءتهما فنعطيه الرسالتين(10/225)
فيقرأ كل رسالة، يقرأ صحيفتيها المكتوبة بخط اليد والمكتوبة بالآلة وتوسوس له نفسه بأنه يمكن أن تكون هناك صحيفة ثالثة لم ندفعها إليه.
* الاختلاف مع الشيخ عبد الله بن بلهيد *
ندع الآن خلافنا مع الأمير لنستأنفه فيما بعد ونذكر قصة طريفة وقعت بيننا وبين الشيخ عبد الله بن بلهيد رحمة الله عليه فإنه قصد المدينة ليصوم فيها رمضان سنة 1347 هـ، ولما كنت أنا أقوم بمراقبة المدرسين في المسجد النبوي ويعينني على ذلك رفيقي الشيخ محمد بن عبد الرزاق كان بعض المدرسين يجتمعون عندنا في مكتبة المراقبة وكان في غرفة فوق باب المجيدي فنتذاكر في مسائل العلم، فجرى ذكر مسألة الأرض هل هي كرة أو سطح؟ فبينا لهم أنها كرة يقينا وذكرنا العلماء الذين نصوا على ذلك ومنهم شيخ الإسلام أحمد بن تيمية وتلميذه ابن القيم، فأسروها في أنفسهم فلما جاء الشيخ عبد الله بن بلهيد سألوه: هل الأرض كرة أو سطح؟ فقال: لا يقول أحد بأنها كرة إلا المعطلة الذين ينفون استواء الله على عرشه فقالوا إن مراقب التدريس محمد تقي الدين الهلالي ورفيقه محمد بن عبد الرزاق يقولان بذلك، فغضب غضبا شديدا.(10/226)
فلما جئنا لزيارته رحب بنا ثم قال: محمد ومحمد هؤلاء المدعون للعلم من أهل الأمصار يزعمون أن الأرض كرة ولابد أن تكون لهم شبهة وأنتما تعلمانها فأخبراني بها فقلنا له: سلمك الله إن أقوى ما يستدلون به على كروية الأرض اختلاف الليل والنهار فإن الشمس حتى في القطر الواحد تختلف في الشروق والغروب ويبلغ اختلافها في القطر الكبير إلى ساعة بين مشرق ذلك القطر ومغربه، ومثال ذلك: أن الشمس تشرق في الرياض قبل المدينة بنحو نصف ساعة وتغرب في الرياض قبل المدينة بمثل ذلك وقلنا له: واستدلوا على ذلك أيضا بأن المسافر في البحر أول ما يرى من سفينة مقبلة رءوس أعمدتها المعروفة بالصواري ثم كلما دنت انكشف له الجزء الأسفل من العمود حتى تنكشف له السفينة كلها، وإذا كان في البر مقبلا على بلد فيه نخل فأول ما يرى رؤوس النخيل ثم كلما تقدم انكشف له الأجزاء السفلى إلى أن ينكشف النخيل كله وكان عندنا دليل آخر هو أوضح من هذا كله، ولكن خفنا أن نذكره له وهو أن المسافر إذا سافر إلى الشرق. على خط مستقيم أو شبه مستقيم واستمر في وجهته لا يغيرها يرجع إلى البلد الذي سافر منه. فلما سمع كلامنا غضب غضبا شديدا وقال: هذا كلام المعطلة فتوبا إلى الله منه ولم يقصدوا بهذا الكلام إلا أن يقولوا: لا إله فوق العرش وتشفى فينا المدرسون وكثر لهطهم وأخذوا يضحكون علينا فقال بعضهم يعنينا ومن يقول بقولنا: هؤلاء القوم ليس لهم عقول لو كانت الأرض كرة سابحة في الفضاء فلماذا لم تنصب هذه البحر ومياه الآبار ولماذا لم تسقط الصخور والأحجار وكل ما على الأرض من حيوان وإنسان؟! وعلى قول هؤلاء يمشي الناس على وجه الأرض ورؤوسهم إلى أسفل. وكان المدرسون يبغضوننا لأنهم كانوا يمرون بآيات التوحيد وأحاديث التوحيد مرور الكرام باللغو فلا يبينون للناس توحيد الربوبية وتوحيد العبادة وتوحيد الأسماء والصفات فكنت أدعوهم إلى المراقبة وأعظهم وأحذرهم من وعيد من كتم علما ولكنهم(10/227)
كانوا مصرين على حيدتهم إلا من سأذكره فيما بعد.
فانصرفت من عند الشيخ عبد الله بن بلهيد نادما على زيارته ومع أنه التمس مني أن أتعشى معه مدة رمضان لكنى لم أزره بعد ذلك. فجلت جولة في الكتب وكانت كثرة عندي لأن خزانتي كانت قد وصلت إلى من العراق وهي حافلة بأصناف الكتب، وأصل هذه الخزنة خزانة الشيخ علي بن سليمان القصيمي الذي كان ساكنا بالدورة إلى أن توفي رحمه الله عليه فوصلت أنا الدورة بعد وفاته فوهبنيها ورثته بإشارة من كبيرهم الشيخ حسن بن علي قالوا: لأنه ليس فينا لسوء الحظ من يستطيع الانتفاع بهذه الكتب ونحن نريد أن نهبك إياها رجاء أن ينفع الله بثواب هذه الهبة والدنا ولا تزال عندي بقايا من هذه الخزانة، وبعضها تلف بالنقل من بلد إلى بلد وبعضها تلف بالبلى والقدم.(10/228)
فوجدت أن الشيخ الإسلام أبا العباس أحمد بن تيمية قدس الله روحه ذكر هذه المسألة في الرسالة العرشية ووضحها كل التوضيح فبعدما بين أن الأجرام السماوية كلها كروية الشكل ذكر الأرض وأخبر أن كل جهاتها فوق وأسفل إنما هو وسط جوفها، وقال رحمه الله: فلو وضعت حجرا في المشرق وحجرا في المغرب ولم يجدا مانعا من النزول هذا من المشرق وهذا من المغرب حتى يجتمعا في مركز الأرض، ولو جعلت بدل الحجرين إنسانين أحدهما يخترق الأرض من المشرق والآخر يخرقها من المغرب لالتقت أقدامهما في المركز، فخططت بالقلم الأحمر على هذا الكلام وبعثته إلى الشيخ عبد الله بن بلهيد فبلغني أنه ازداد غضبا وقال: يا عجبا للهلالي يريد أن يعرفني بما في كتب الشيخين: إن كلام الشيخين لا يفهمه كل الناس لأن فيه إطلاقا وتقييدا وخصوصا وعموما وإجمالا وتفصيلا، وأنا أشتغل بدراسة كتب الشيخين منذ كنت مثل هذا الورع وأشار إلى صبي صغير (وأهل نجد يسمون الغلام ورعا). ثم أخذت أبحث في كتاب مفتاح دار السعادة لابن القيم رحمه الله فوجدته نص على أن الأرض كرة نصا لا يحتمل تأويلا وعلل اختلاف الليل والنهار في البلدان المختلفة بكروية الأرض فبعثته إليه مع الشيخ محمد بن عبد الرزاق فلما أعطاه الكتاب قرأ كلام ابن القيم مرارا ثم قال له: إن كانت الأرض كرة في الجهة الأخرى التي لسنا فيها فذلك ممكن أما الجهة التي نحن فيها فنحن نشاهدها سطحا وسكن غضبه علي ولكن لم يعترف، ثم لقيت بعد ذلك الشيخ الجليل مقدم آل الشيخ وكبيرهم وعالمهم في عصره أعني الشيخ محمد بن عبد اللطيف رحمة الله عليه فقال لي: بلغني ما وقع بينك وبين ابن بلهيد وهو مخطئ وإياك أن تعتقد أن علماء أهل نجد كلهم على رأيه فإن عندي ثلاثة كتب للشيخين في كل واحد منها ما يكفي ويشفي للدلالة على أن الأرض كرة.
* * *
* الشيخ الطيب التنبكي *(10/229)
تقدم أن المدرسين كانوا يحيدون عن بيان الحق في مسائل التوحيد وكانوا يتعصبون لمذاهبهم كل التعصب، وكان الشيخ الطيب رحمة الله عليه حين جئنا إلى المدينة أنا ورفيقي الشيخ محمد بن عبد الرزاق المصري مولدا ونشأة، السعودي مستوطنا ودارا نسأل الله له الشفاء، كان الشيخ الطيب متمسكا بالطريقة القادرية وبعقيدة المتأخرين من الأشعرية ومتعصبا للمذهب المالكي وكان لا يطيل الجلوس معنا، ولكنه كان يبعث إلينا تلميذه الشيخ عبد الله بن محمود وكان في ذلك الوقت شابا لم تستدر لحيته، وكان يأتينا كل يوم بمسائل يلقيها علينا فنجيبه عنها فيحمل الجواب إلى أستاذه ومضى على ذلك مدة تقارب ستة أشهر، وعند ذلك جاءنا الشيخ الطيب وقال لنا: إنني فكرت في أجوبتكما فوجدت أن ما تدعون إليه هو الحق وأشهدكما أني تركت كل ما كنت عليه من طريقة وعقيدة أشعرية وتعصب للمذهب، ففرحنا بذلك فرحا عظيما.
وكان المدرسون من أهل المدينة يأخذون ستة دنانير ذهبا أو ما يعادلها بسعر الوقت أريلة فضية، وكنا نحن نأخذ عشرة دنانير، لكل واحد منا فكتبنا إلى ولاة الأمر رحمهم الله وقلنا لهم: إن الشيخ الطيب الأنصاري التنبكي ترك ما كان عليه ورجع إلى عقيدة السلف فنرجو أن يعطى راتبا كرواتبنا فجاء الجواب بالموافقة -وقد نسيت الآن هل كتبنا للملك عبد العزيز نفسه أو لمن دونه- وصار يأخذ عشرة دنانير ذهبا وكانت المعيشة في المدينة رخيصة تكفي أهل البيت بعيالهم وضيوفهم ثلاثة دنانير في الشهر يعيشون بها عيشة راضية وثبت الشيخ الطيب على العقيدة السلفية إلى أن جاءه الأجل فرحمه الله رحمة واسعة، وقد أخبرني بعض الإخوان أنه اختصر تفسير ابن جرير وأن اختصاره هذا موجود فنسأل الله أن يوفق أهل الفضل والإحسان وفي مقدمتهم إمامهم جلالة الملك فيصل لطبع هذا الكتاب.
* الشيخ محمود شويل *(10/230)
لما وصلنا إلى المدينة كان الشيخ محمود شويل خرافيا ومتعصبا للمذهب المالكي أشد التعصب، كنا نفطر صباحا في بيتي فأخذ يذكر فضائل الإمام مالك رحمه الله ويدعي أنه لا نظير له في الأئمة ولا أحد يكاد يبلغ منزلته في العلم والفضل فقلت له: إن البخاري أعلم منه لأن كل حديث صحيح رواه مالك يعرفه البخاري ويزيد على ذلك بآلاف الأحاديث، فغضب غضبا شديدا وترك الأكل وقال في البخاري كلاما قبيحا لا يحسن ذكره، واستمر على مجالستنا إلى أن تخلص من عقيدته وخرافاته وتعصبه للمذهب، وأخبرته بوجود شيخ سلفي من كر العلماء له تآليف وهو الشيخ حسن عبد الرحمن من أغنياء مصر له مزارع كثيرة بين دمنهور والإسكندرية لا أذكر اسم بلدته الآن، فكتب إليه الشيخ محمود شويل يلتمس منه شيئا من كتبه التي ألفها في الدعوة إلى السلفية، وقال له في كتابه إليه: الشيخ محمد بن عبد الرزاق والشيخ محمد تقي الدين الهلالي وثالثهم كلبهم محمود شويل. فبعث إليه الشيخ حسن عبد الرحمن رحمه الله عليه ما طلب من الكتب، وقال له في جواب كتابه: ما نصه يظهر أنك داخل في المقدر من جديد لأن المؤمن لا ينزل بنفسه إلى أن يصير كلبا، وبالغ الشيخ محمود شويل في التمسك بالتوحيد والسنة وكانت فيه حدة شديدة فأخذ في كل يوم يتخاصم مع الناس إذا سمعهم يشركون بالله أو يبتدعون في الدين، فكثرت به الشكايات إلى الأمير فاتخذه مستشارا علميا ليشغله عن الخصومات، ولكن ذلك لم يمنعه مما كان عليه من الشدة حتى نفي إلى أكثر من مرة.
* الخروج إلى البادية *(10/231)
كنت قد طلبت من الشيخ عبد الله بن حسن رئيس القضاة تغمده الله برحمته أن أخرج إلى القرى والبوادي للدعوة إلى الله تعالى في بعض الأحيان، فاستحسن ذلك كل الاستحسان وأمر الأمير عبد العزيز بن إبراهيم أن يهيئ لي راحلتين ورجلا يرافقني فأجاب إلى ذلك ووعد به، فلما طالبته بالوفاء اقترح علي أن أذهب إلى الجرف والعوالي ولم يكن غرضي ذلك لأن أهل هذه القرى شيعة لا يكادون يقبلون شيئا من واعظ سني، وإنما كان مرادي التوجه إلى البوادي السنية في ناحية الحناكية وغيرها من قبائل حرب وكان بعضهم متدينا وبعضهم لا يزال على الجاهلية الأخرى، فأخبرت بذلك الأمير فقال: ابدأ بالأقربين وبعد ذلك أهيئ لك السفر إلى غيرهم، واخترت الشيخ الحميدي بن رديعان أحد الأئمة غي المسجد النبوي وكان شيخا صالحا من أهل حائل لمرافقتي، فذهبنا إلى القرى المحيطة بالمدينة فلم نجد أحدا منهم ثأثر بدعوتنا إلا رجلا في الجرف وأظنه كان سنيا أما الباقون فإنهم كانوا يضيفوننا ولا يظهر عليهم أثر القبول.
وكررت الطلب على الأمير أن يهيئ لي أسباب السفر إلى الحناكية ونواحيها فكان يماطل، فاتفقت مع الأمير ماجد بن موقد أمير عوف القاطن في قرية النخيل وسافرت معه إلى النخيل بدون استئذان الأمير وبقيت هناك زهاء شهر. وأشهد بالله أنني ما مرت علي في حياتي كلها أيام صفا فيها قلبي وازداد إيماني وإقبالي على ذكر الله تعالى مثل تلك الأيام. وكانت معيشتهم في غالب الأوقات بل في كلها اللبن المخيض فقط إلا إذا جاءهم ضيف فإنهم يذبحون له ذبيحة ويبحثون عن شيء من الأرز من أردا أصنافه فيطبخونه نصف طبخ فلا أستسيغه، وكذلك اللحم يطبخونه نصف طبخ ولكني كنت آكل من الألية لأنها تنضج بأدنى طبخ، ومع ذلك كانت عندي تلك المعيشة أحسن من موائد الأمراء والمترفين وسأشير إلى ذلك في القصيدة الآتية إن شاء الله.(10/232)
ولما سمع الأمير بسفري غضب غضبا شديدا ولعنني ولعن قبيلة بني هلال كلها- توهما منه أنني أنتسب إليها وأنا إنما أنتسب إلى هلال وهو الجد الحادي عشر من ذرية الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه- وقال للشيخ محمود شويل: يا محمود قل له إذا رجع لا يمسك ورقة ولا يجلس في المسجد وقل لمحمد بن عبد الرزاق لا يجعله نائبا عنه في الصلاة أبدا، فلما رجعت زرته ومعي الأمير ماجد بن موقد وأخبرته أن رحلتي إلى النخيل كانت بإذن وحث وترغيب من رئيس القضاة الشيخ عبد الله بن حسن وهو يعلم ذلك فلم يقل شيئا.
واستمر الأمر على تلك الحال مدة سنتين فضاق الأمير بنا ذرعا ونفد صبره، فدعانا ذات يوم إلى قصره بعد صلاة الظهر وكانت العادة أن تكون الضيافة في الطبقة الأولى ولكنه صعد بنا إلى الطبقة الرابعة التي يسكن فيها عياله ووضع لنا تمرا وجحا وهو الحبحب بلغة أهل الحجاز ولبنا وقال لنا: هذا طعامنا معشر أهل نجد في النهار ثم قال: أنا ما دعوتكما للطعام ولكن دعوتكما لأخبركما بأني لا أشك في صحة عقيدتكما وأنكما تريدان الخير ولكنكما تجاوزتما الحد في الشدة، وأنتما تسمعان كلام الملك في مجالسه العامة وتفهمان منه شيئا ونحن نسمع كلامه في المجالس الخاصة وفي الرسائل الخاصة ونفهم منه شيئا آخر فعلى أي شيء نعمل على فهمنا أم على فهمكما؟! فقلنا له: إن كان الأمر كذلك ينبغي أن تعملوا على فهمكم فقال: إذا فتلطفا واتركا الشدة وكلاما طويلا من هذا القبيل ثم انصرفنا من عنده.
وكان يعني بالكلام الذي يقوله الملك في المجالس العامة ما كان يلهج به رحمة الله عليه إذا اجتمع عنده مشايخ العلم وهو قوله: أيها العلماء مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر فقد أخذت هذه الأمانة من عنقي ووضعتها في أعناقكم وأول من تبدؤون به في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أنا ثم أهل بيتي ثم عامة الناس.(10/233)
فلم نصدقه في قوله واعتقدنا أنه أراد أن يخدر أعصابنا بذلك الكلام الباطل واستمررنا على خطتنا، فتهيأ هو للانتقام وعرف ذلك أخوه العالم الصالح الشيخ محمد بن إبراهيم رحمة الله عليه فدعانا وقال لنا: اشهد الله على محبتكما وكأنه يتنصل بذلك ويتبرأ مما يبيته أخوه، وكذلك العالم الورع الشيخ عمر بن سليم رحمة الله عليه حذرنا من مكائد الأمير.
فأما الشيخ محمد بن عبد الرزاق فكاد له كيدا عظيما وكان- والحق يقال- أشد وأعنف عليه مني، وذلك أنه كتب إلى الملك عبد العزيز رحمه الله يقول: إن محمد ابن عبد الرزاق لا يطاق بقاؤه فقد كرهه سكان المدينة لغلظته وشدته وبلغ به التهور إلى أن وقف على المنبر وقال: لعنة الله عليكم يا أهل المدينة كلكم كفار، وهذا بهتان عظيم فإني كنت جالستا عند المنبر أستمع الخطبة التي زعم أنه قال ذلك فيها وكانت من خطب شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب بدون زيادة إلا ماجرت به العادة من الدعاء في آخر الخطبة الثانية فجاءت برقية من الملك تأمر الشيخ عبد الرزاق بالتوجه إلى مكة ليكون واعظا في المسجد الحرام كما كان من قبل.
أما أنا فكتب في شأني إلى الملك عبد العزيز وأخبره أني مشوش منفر قال: ولم يكفه إطلاع الإخوان الذين يزورونه في المدينة، على ما يزعم أنه من تقصير الحكومة حتى سافر إليهم في النخيل وجرأهم على انتقاد ولاة الأمر. وكان سبب غضبه علي أنه لم يكن يريد أن أتصل بقبائل حرب؛ لأنهم كانوا يشتكون غلظته وشدته وظلمه في أخذ الزكاة وغيرها من الأحكام فظن أنني ذهبت لأعرف ما ينتقد عليه وأكشفه، ويعلم الله أني كنت في واد وهو في واد وأن الوقت الذي قضيته عندهم كان كله في ذكر الله ومجالس العلم والوعظ والإرشاد، ولم أر مدة إقامتي عندهم منكرا حتى تمنيت أنني أبقى عندهم في ذلك الجو الرباني الصافي من كل الاكدار ولم أفكر قط في التدخل في شؤون الأمير.(10/234)
ولما كتب بذلك إلى الملك عبد العزيز رحمه الله انتظر أن تأتيني برقية تدعوني - إلى مكة كما وقع لرفيقي فلم يأتني شيء، فأمر وكيل المالية الشيخ عبد العزيز ا الخريجي أن لا يدفع لي راتبا، وحان وقت الحج فمر بنا الشيخ محمد بن. عبد اللطيف رحمة الله عليه فسافرت معه إلى مكة. وطلبت النقل إلى التدريس في المسجد الحرام فأجابني إلى ذلك الشيخ عبد الله بن حسن وطيب خاطري بكلام حسن أسأل الله أن يجزيه عني خيرا في دار القرار، وكان ذلك آخر العهد بالمدينة إلى أن ردني الله إليها بدعوة من صاحب السماحة العالم الصالح الورع الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز قبل ثلاث سنين زاده الله من فضله وأعلى درجته وجعله من الصديقين.
ذكر ما قلته من الشعر
أيام إقامتي الأولى في المدينة..( اللامية)
أصبح قول الحق في طيبة ... مثل يتيم ماله كافل
أنصاره مستضعفون على ... قلتهم وضدهم صائل
من يأمر بالعرف أو ينه عن ... نكر يغله منهم غائل
يكيده زعيمهم مثل ما ... يكيده السوقة والسافل
وذنبه عندهم جل أن ... يشمله من عفوهم شامل
إذ كل ذنب عندهم دون ذنب ... من يغار إن بدا باطل
ويرمقونه بأبصارهم ... شزرا وفيها حقدهم جائل
وإن رأى شركا وأنكره
... بالقول فهو الظالم العائل
قد عكسوا حكم إله الورى ... في الشرك بئس الفعل والفاعل
الله يغفر الذنوب معا ... وهو لكل تائب قابل
إلا الذي قد جاء بالشرك فهو ... آيس من عفوه عاطل
لأنه أكبر ذنب ورد ... أو منكر يعمله العامل
إنكاره التوحيد حتما فمن ... أقره فدينه باطل
وينصر الشرك على علمه ... بسوء عقبى من له مائل
إن جاءه مستنصرا صالح ... شالك له لنصره آمل
يكن كمن قد استجار بعمرو ... فأتاه حتفه العاجل
يأمر بالرفق وباللين في ... حق الإله صفحه شامل
ومن يرم من حقه ذرة ... فهو عليه ضيغم صائل
لا سامع عدلا ولا راحم ... ضعفا ولا شاكته قابل
يسلب من يأمر بالعرف حقا ... قد حباه المالك العادل(10/235)
ويستبد بالأمور معا ... حتى القضا فهو بد داخل
إن وافق الحكم هواه مضى ... أولا يحل من دونه حائل
* * *
قصة ابن منصور:
ويح ابن منصور غداة أتاه ... وهو لانتصاره آمل
الرافضي خصمه طالب ... تعزيره بكيده عامل
الرافضي قال: يا سيدي ... إنك أنت الحاكم الفاضل
كنت أسير في طريق قبا ... وشرب تتن شغلي الشاغل
فجائني هذا بظلم فقال: ... ألق هذا التتن يا جاهل
قلت له: دع الفضول ورح ... مثلك ما أنا به حافل
تناول التتن وألقاه من ... يدي فبى من فعله خابل
وهذه ياسيدي قصتى ... فحكم فإن حكمك الفاصل
قال: الأمير لابن منصور هل ... وقع ما قد قال ذا القائل
قال: نعم سلمك الله ما ... ذكره فكله حاصل
وقادني لك فقلت له: ... تسعى إلى حتفك يا سافل
واليوم ظني فيك أن تعلي الحق ... وأن ينخفض الباطل
ما كان من أمر الأمير سوى ... ركوب عار ما له غاسل
إلا بتوبة نصوح، وحب الجاه ... سد دونها حائل
تناول العصا وأمعن في ... ضرب فتى عن الأذى غافل
وهو إمام مسجد طالب ... لعلم حق ربه عامل
* * *
ضيم الحق:
خدش وجه الحق في ذلك النهار ... حتى دمه سائل
ضرب الموحد لإرضاء ذي الرفض ... بلاء غمه طائل
نهاه عن ذلك نصحا له ... يومئذ شقيقه الفاضل
قال له خف الإله فذا ... أمر عظيم شره هائل
ضربك من يأمر بعرف في
... طيبة لا يرضى به عاقل
* * *
فرح الفساق وحزم أهل الحق:
يا فرحة الفساق يومئذ ... طرا بما ارتكبه العامل
وحزن أهل الحق إنهم ... من ذا المصاب كلهم ذاهل
وذا نوذج لأفعاله ... وجلها عن الهدى مائل
تلون الحرباء في قوله
... وفعله لا حبذا الفاعل
فأين رفقه بلى إنه ... للمجرمين وحدهم شامل
لكن أهل الأمر بالعرف لا ... ينالهم من رفقه نائل
رفق بذي شرك وذي بدعة ... وذو الرشاد ليس يستاهل
وحسبه من رفقه أنه ... بسوطه لرأسه صامل (1)
كأن ذا المغرور يحسب أن ... الله عن أعماله غافل
من باع بالعاجل آجله ... يفوته العاجل والآجل
__________
(1) صمله بالعصا صملا: إذا ضربه.(10/236)
لم يعتبر ما قال خير الورى ... يا حبذا المقول والقائل
من يحدث الحدث في طيبة ... عليه لعن ربه نازل
ولعنه الأملاك والناس أجمعين ... قد صححه الناقل
مهما أتى بمنكر موبق ... يقل كذا أمرني العاهل
وإن أتاه الأمر بإصلح ... فما هوبه عامل
معتذر بأنه قد يرى الشاهد ... ما يجهله الراحل
* * *
تبرئة الإمام:
حاشا إمام المسلمين فلا ... يرضى بما يفعل ذا الخاتل
قوام ليل خائف ربه ... فوق الذي يأمله الآمل
ذو ذلة على الألى آمنوا ... وعزة إذا اعتدى الجاهل
نور الهدى بوجهه لائح ... ما هو مخسوف ولا أقل
من يره بديهة يحبه ... بدر علاه مشرق كامل
سبحان من ألبسه حلة ... من فضله فهو بها رافل
من معجزات المصطفى ... أمره لأنه بهديه عامل
يا أوحد الأملاك يا أول السبعة ... يا من بره هاطل
عبد العزيز العلم الفرد من ... عز وجل به دين الهدى الكامل
ابن سعود سعد الناس منذ ... بدا لهم فغمهم زائل
تشكو إليك طيبة كامل ... إليكم من ربنا واصل
يروي عن الرياض عن زهرها ... إلى الرياض طيبة حامل
( تمت اللامية)
*التائية*
يحركني للشعر من بعد تركه ... سنون هموم أكثرت زفراتي
أرى كل يوم منكرات كثيرة ... يقطع نفسي رأيها حسرات
فناديت في كل النوادي مؤذناً ... بنصح وكم رهبتهم بعظات
أيا قومنا هبوا من النوم أنكروا ... وغاروا على هتك لذي الحرمات
ألا غاضب لله يحمي حدوده ... ألا قائم بالحق حلف ثبات(1)
ألا باذل لله نفساً كريمة ... وعرضا مصوناً أصدق البذلات
يصيح يا أهل الشرك والفسق صائلاً ... كزأرة ضرغام على حمرات
ويدعو إلى التوحيد بالصدق دعوة ... معززة محمية بظبات(2)
يسيل على أهل العقول لسانه ... كسيف صقيل صادق اللهجات
يشن على أهل البدائع غارة ... فيحصد ما أبدوا من الشبهات
ويخطب في التحيد يبدي محاسناً ... تفيض لديها العين بالعبرات
__________
(1) ثبات: مفردها: ثبة، وهي الجماعة.
(2) مفردها: ظبة، أي حد السيف.(10/237)
يجيبه أهل العقل لبيك داعياً ... يخفون وحداناً له وثبات
ومن قد أبى إلا ضلالا فؤاده ... مصراً على الإشراك والبدعات
ويزري على التوحيد إما مصرحا ... وإما بتعريض بمشتبهات
مكباً على نشر الضلالة موضعاً ... إلى الشرك يهوي الخبط في الظلمات
فذلك حد السيف أشفى لدائه ... وإلا فسوط مؤلم الضربات
وإلا فحبس في السجون مخلداً ... وإلا فنفي مؤذن بشتات
وإلا فرفع للإمام بشرعة ... يرى فيه رأياً صادق العزمات
وإلا فقد خنتم أمانة ربكم ... وخنتم لخير الخلق كل وصاة
وخنتم إمام المسلمين بغشكم ... وقد أوجب الرحمن نصح ولاة
وخنتم عباد الله سراً وجهرة ... وكنتم لما ترعون شر رعاة
فلا تحسبن الله يغفل عنكم ... تعالى عن الإهمال والغفلات
ألم تسمعوا إيعاده في كتابه ... لمن لا يزيل النكر باللعنات
بلى قد سمعتم وعده ووعيده ... ولكنكم ساهون في الغمرات
أغركم إمهاله فطغيتم ... وصارت قلوب منكم صخرات
أفيقوا أفيقوا ويحكم قد هلكتم ... وإن الذب قد توعدون لآت
وليأتينكم عما قريب ترونه ... سراباً ولا يبقى سوى الحسرات
أفيقوا أفيقوا ويحكم قد بليتم ... ولا يفتننكم زخرف الشهوات
فتوبوا إلى الرب الغفور وأصلحوا ... وأوبو لنهج الرشد قبل فوات
لعمري لقد نبهت من كان نائماً ... وأيقظت من يصغي إلى كلماتي
فيا عجباً من ناصر لضلالة ... وخاذل لدين الحق فعل غواة
ومن بائع رشداً بغي سفاهة ... ولم يك ذا جهل بما هو آت
مخادع دين الله ساع لهضمه ... بكيد عظيم محكم الشبهات
ألم يدر أن الله يعلم جهره ... ويعلم ما يخفيه في الخلوات
ألم يدر أن الله ناصر دينه ... وقاذف أهل البغي في الهلكات
ويلبس مسك(1) الكبش سيد عملس(2) ... لتأمين أغنام وخدع رعاة
فكم خدع الراعي وعاث بضأنه ... فيا ضيعة الخرفان والنعجات
ويا ضيعة الدين الذي صار لعبة ... بأيدي طغام في الشرور سعاة
وإن هم دعوا للعرف أو نفي منكر ... تولوا وحاصوا حيصة الحمرات
__________
(1) مسك: جلد.
(2) أي ذئب مخادع.(10/238)
وصدوا عن الداعي وعدوه أحمقاً ... ثقيلاً بليد الطبع غير مؤات
يخوض بأمر ليس يعنيه ساعياً ... إلى حتفه جهلاً بغير حصاة
وقالوا له ذا ليس شأنك فانته ... وإلا تلاقى عاجل النكبات
فما أنت والأمر الذي لست أهله ... هذا ذيك يا مسكين فز بنجاة
فنحن ولاة الأمر فوقك حكمنا ... ونحن اصطفينا لا عتلا الرتبات
وأنت لحمق فيك أبقيت مهملاً ... ولم تك أهلا لارتقاء الدرجات
فدم في خمول واستعد لمحنة ... معجلة من أعظم المحنات
وقالوا تعالوا دبروا في مكيدة ... لنوقع ذا المجنون في الهلكات
تعالوا فشوا(1) عند الإمام ونمقوا ... له فرية من زخرف الكذبات
وقولوا له هذا شديد منفر ... عديم سياسات عديم أناة
فكم فتنة قد شب في الناس نارها ... وكم ذا له من طائش الحركات
نخاف اتساع الخرق إن دام أمره ... فأنزل عليه أعظم النقمات
ليزدجر الحمقى من الناس مثله ... وتنظيم الأحكام منضبطات
لقد غفلوا عن قول أصدق قائل ... لدى النمل تحذيراً لنا وعظات
فأخبر أن القوم جاؤوا بمكرهم ... فقد جاءهم مكر من الله آت
ففي آل عمران والأعراف والنسا ... كذلك آي غير مشتبهات
وهل تنفع الآيات إلا أولي تقى ... وأفئدة صينت من الكدرات
وأما القلوب الغافلات عن الهدى ... فليست -وإن تحرص- بمنتفعات
وما يستوي الأعمى وذو البصر الذي ... يميز به البيضا من الحفرات
وما يستوي النور المبين والدجى ... وما يستوي الأحياء وأهل ممات
فيا أيها القوم الذين تواطئوا ... على نصر ضلال وكيد هداة
ألم تسمعوا لعن الرسول لمحدث ... بطيبة يرويه أجل رواة
وأخبر أن الله يلعنه كذا الملائك ... طراً أعظم اللعنات
ويلعنه الإنسان مع كل لاعن ... مدى الدهر في الآصال والبكرات
ويشمل هذا اللعن من كان راضياً ... بما قد أتى من سيء الفعلات
تحمل هذا اللعن من ضل سعيه ... ليستمتع المغبون بالشهوات
فيا ويله ماذا تحمل من بلا ... لحظ قليل معقب بفوات
__________
(1) أي من الوشاية.(10/239)
ولو عاش فيهما عمر نوح وضعفه ... لما وعد شيئا إذ يرى الهلكات
فعما قريب يقرع السن نادماً ... إذ ما صحا في سكرة الغفلات
إلى الله أشكو لا إلى الناس إنني ... أرى الدين في نقص وافقد حماة
ويزداد لنا إلا إلى الله ملجأ ... لما مسناً من فادح النكبات
وليس لنا إلا إلى الله مفزع ... يفاجيئ أهل الزيغ بالنقمات
فيا رب، يا الله، يا سامع الدعا ... ويا كاشف الضراء والكربات
أغثنا بنصر من لدنك مؤيد ... لدين الهدى مخز لمن هو عات
فيخسر حزب المبطلين إذا بدا ... ويفرح حزب الله ساعة ياتي
وبصر إمام المسلمين بمكر من ... غدا لابساً للحق بالشبهات
ووفقه للخيرات وانصر جنوده ... على جند إشراك وكل بغاة
ويا رب متعنا بطول حياته ... وحفظاً له من كيد كل عداة
وصل على خير الأنام ومن مشى ... على نهجه بالصدق خير صلاة
وذي نفثة المصدور في وجه من بغى ... ثمانون بيتاً مثل نبل رماة
(تمت)
*اليائية*
خرجت بحمد الله للبدو داعيا ... إلى الله حسبي ناصراً وكفانيا
على جمل صعب بطيء مسيره ... وقر شديد في الشتاء عرانياً
لأرض قفار لا أنيس بها سوى ... أبي جعدة يعوي على الحزن عاليا
وإلا قليلاً من أعيرابها وهم ... كمثل وحوض في الفلاة رواعيا
تحملت في ذاك المسير شدائداً ... أريد به وجه الذي قد برانيا
تركت وثير الفرش مع لذة الغذا ... وراحة جسم في المقام بداريا
فوالله لا مالاً أريد له ولا ... لرفعه جاه كنت إذ ذاك ساعياً
ولكن مقصودي هداية معشر ... غدوا في قفار ما رأوا قط هاديا(10/240)
تنقلت في أحيائهم سبع عشرة(1) ... أذكر في أيامها واللياليا
وما منهم إلا مطيع ومقبل ... سوى بعض أعراب فما كان صاغيا
فلله أوقات مضت في ديارهم ... لقد كان فيها الدهر صفوا مؤايتا
معمرة بالذكر والفكر في الهدى ... فلم يك فيها القلب كالان لاهيا
بقول إله الحق طابت وبعده ... بقول رسول الله يذكر قافيا
منزهة عن فحش قول ولغوه ... لقد كان فيها القلب أبيض صافيا
ويزعم ذو البهت المبين بأنني ... خرجت لإفساد وما زال فاريا
__________
(1) إشارة إلى الأيام التي خرجت فيها إلى البوادي ورافقني الأمير ماجد بن موقد رحمة الله عليه، وكان أولئك البداة على دين الجهل والشرك وإتيان الكهان وترك الصلاة، فكانت الكاهنة تشد إليها الرحال ولا تتكهن لأحد إذ إذا وقع لها جملاً أو ناقة حلوانا، وكان الأمير ماجد رحمه الله شديداً عليهم لا يبدؤهم بالسلام، وإذا نزلنا في حي يأمرهم أن يأتوا بالشاة التي تعد لضيافتنا، فيذبحها أحد رفقائنا لأنه كان يعتبرهم مشركين لا تحل ذبائحهم وحدثني ونحن بين ظهرانيهم فقال: قد علمتنا التجارب التي شاهدناها بأعيننا أن النصر مقرون بالتوحيد والهزيمة مقرونة بالشرك فقد كنا نحن أنفسنا -قبل أن يمن الله علينا بالهداية- نستعد لقتال أهل التوحيد إخوان من أطاع الله بالآلاف والخيل والسلاح، فيأتينا منهم ثلاثمائة أو أربعمائة فإذا رأينا قلتهم طمعنا في استئصالهم حتى إذا رفعوا أصواتهم وقالوا: لا إله إلا الله وهجموا علينا تفرق جمعنا وانهزمنا لا نلوي على شيء، ونسيت أيضاً أن أقول فيما مضى: إن أمير النخيل في الوقت الحاضر المجمع على صلاحه وتقواه مشعان بن أخت ماجد كان في ذلك الوقت يافعاً، وكان يقرأ علي القرآن في أوقات فراغه فكان الصلاح عليه ظاهراً في تلك السن، لأنه كان يمل من حفظ القرآن كعادة الصبيان وهو الآن حي يشهد بصحة كل ما ذكرت وأن ما ادعاه أمير المدينة في ذلك الزمان علي كان اختلاقاً.(10/241)
ويزعم أني قد ركنت لمن بغوا ... فقبح ربي أينا كان باغيا
فيا ليته يأتتي إليّ مباهلاً ... لدى باب بيت الله له داعيا
فنجعل لعنات الإله جميعها ... على أينا قد كان في الشر ساعيا
ولا بد يوما أن يهشم باطل ... ويظهر حق كان من قبل خافيا
على الملك النقاد يطمع ذو الغبا ... يروج مكذوباً من القول واهيا
ويأبى له العقل الرجيح ودينه ... قبولاً لبهتان الذي جاء واشيا
وإنصافه عم النواحي وحلمه ... وبذل الندى من أم نحوه جائيا
لعبد العزيز الملك ن آل فيصل ... ثبات به فاق الجبال الرواسيا
ولكنه خف إلى المجد والندى ... وتلقاه يوم الروع عضبا(1) يمانيا
لئن قد بلغت عني خيانة ... لمبلغك الواشي أتى المين(2) غاويا
فما الباطل المأفوك إلا ضبابة ... تزول ويبدو الحق أبلج صافيا
لتبحث إمام المسلمين بعزمة ... سعودية تجلي الأمور كما هيا
وعندي من البرهان ما يهدم الذي ... بناه العدا من زخرف القول واهيا
أصغ لي إمام الخير واسمع أدلتي ... فلا زلت للمظلوم ملجأ صاغيا
بعدل وإنصاف أقامك ربنا ... مليكاً على هذي البلاد وراعيا
أوائله بالشام تلفي وحده ... يمد إلى أرض العراقين ضافيا
فلا زلت شمساً في اعتلاء ورفعة ... تضيء على المولى وتفني الأعاديا
ولا زلت ذا شكر على النعم التي ... حباك إله الناس للخير هاديا
وصل إلهي كل حين وساعة ... على المصطفى المبعوث للخير داعيا
(تمت)
*بيان قصة ابن منصور الواردة في القصيدة اللامية*
__________
(1) العضب: السيف.
(2) أي الكذب.(10/242)
هو محمد بن منصور إمام قرية من القرى التابعة لإمارة المدينة نسيت اسمها كان صالحاً حريصاً على الخير يحب في الله ويبغض في الله ويرضي الله وهو شاب من أهل نجد، وقعت له مع الأمير قضيتان الأولى هي التي ذكرت في القصيدة، كان ماشياً إلى قبا فلقي رجلاً من شيعة المدينة يشرب الدخان، فأمره بإلقائه فأبى فأخذه من يده وألقاه على الأرض، فأمسك به الشيعي وقال أخاصمك إليه فأينا المذنب؟! فقال الشيعي: أنت المذنب الظالم، فانطلق إلى الأمير وتبعه محمد بن منصور فلما وصلا إلى الأمير ذكر الشيعي ما وقع بينه وبين ابن منصور، فقال: إن ما قاله واقع وأنا اقتصرت في تغيير المنكر على أدنى ما يجب وهو أخذ لفافة الدخان من بيده وإلقاؤها على الأرض، وهو يستحق عقابا أكثر من هذا، فضرب الأمير ابن منصور ووبخه وقال له: مالك وله كان يشرب الدخان في الفضاء خارج البلد ومن جعلك رقيبا عليه هل أنت من جماعة الأمر بالمعروف؟ فقال ابن منصور: إن الأمر بالمعروف واجب على كل مسلم عموما وخصوصا على الأمراء فغضب عليه وضربه.
*القصة الثانية وهي أفظع*(10/243)
كان ابن منصور يدق الأبواب على أهل القرية قبل الفجر يوقظهم للصلاة فنهاه أهل القرية عن ذلك فلم ينته فضربوه، وعلم أنه إذا اشتكى إلى الأمير لا يأخذ له حقا ولا يدفع عنه ضيما، فانتظر حتى جاء الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن رحمه الله من الرياض مارا بالمدينة إلى مكة فكتب شكوى وسلمها إلي راجيا أن أبلغها إلى الملك فأخذتها حتى وضعتها في يد الملك فقرأها وسلمها إلى الشيخ عبد الله بن حسن رحمه الله ليحكم فيها، فدعا الشيخ الأمير وسلمها له وقال له: كيف يقع هذا في إمارتك؟ فقال: ما جاءني ولا أخبرني وأظهر تحمسا لنصره، وقال للشيخ: كن مطمئنا فإني سأعاقب أولئك الأنذال عقابا يردعهم، فلما توجه الملك عبد العزيز ومعه الشيخ عبد الله بن حسن إلى مكة دعا الأمير الذين ضربوه وأحضر ابن منصور وأوصى حاشيته أن يطلبوا منه العفو عنهم ويلحوا عليه في ذلك، فوبخهم الأمير وسبهم وهم بضربهم فقام أصحابه وقالوا: أيها الأمير أصلحك الله مهلا؛ لعله يصفح عنهم فطلبوا منه الصفح وألحوا عليه، وأظهر أهل القرية التوبة فعرف أنه مخذول وأن الأمر بيت بليل فصفح عنهم ولم يحصل على طائل، ولم أدرج هذه القصة في القصيدة لأنها وقعت بعد نظمها وفيما ذكرته في القصائد الثلاث كفاية.
* التدريس في المسجد الحرام *(10/244)
تقدم أني نقلت أنا ورفيقي إلى التدريس في المسجد الحرام. والتدريس في المسجد الحرام امتحان عظيم للمدرس فبينما ترى مدرسا مشهورا بالعلم والفضل قد جلس للتدريس في المسجد الحرام فلم يحضر درسه إلا قليل من الناس لا يكادون يتجاوزون عشرة ترى مدرسا آخر ربما يكون دونه في الشهرة أو في العلم قد حضر درسه مئات من المستمعين، وهذه الأمور تسير طبقا لقسمة الله تعالى كما ترى أصحاب الدكاكين هذا يزدحم المشترون عليه ويتدافعون وإلى جانبه دكان يحتوي على مثل ما في ذلك من البضائع أو أحسن وصاحبه عاطل لا يأتيه أحد، وكنت ولله الحمد من القسم المحظوظ فكان يحضر درسي أمام باب إبراهيم مئات من الناس ولم أعرف لذلك سببا إلا أني كنت أتكلم بلغة يفهمها أهل الأقطار المختلفة من البلاد العربية وأولئك المدرسون الذي كانوا في أزمة من قلة المستمعين حيث كانوا يتكلمون بعاميتهم الخاصة.
* التدريس في ا لمعهد السعودي *(10/245)
كانت مدارس الفلاح التي أسسها الشيخ عبد الله حمدوه منتشرة في أنحاء مكة والتلاميذ يقبلون عليها كل الإقبال؛ لأن الشيخ عبد الله حمدوه كان مربيا ناجحا في عمله وكان يدعوني كل سنة للاشتراك في الامتحان مع أساتذة المدرسة العليا له، وكان المعهد السعودي قد أسس قبل ذلك بمدة، ولم يحصل عليه إقبال للدعاية السيئة الراسخة في أذهان العامة أنه معهد وهابي يعلم تلامذته المذهب الوهابي حسبما يزعمه أعداء التوحيد ولم يكن ذلك هو السبب وحده بل كان هنالك سبب آخر وهو عدم كفاية المدرسين، فاجتمع رجال الشورى للنظر في رفع مستوى المعهد السعودي، واتفق رأيهم برئاسة سمو الأمير فيصل نائب الملك على أن يختاروا للمعهد معلمين اكفاء فوقع اختيارهم على مؤلف هذا الكتاب ورفيقه الشيخ محمد بن عبد الرزاق وأخيهم العالم السلفي الشيخ بهجت البيطار، فانتعش بذلك المعهد وكثر طلابه وصارت له مكانة عند الناس وكان مدير المعهد أخانا ورفيقنا الشيخ إبراهيم الشورى وكان يبذل جهده في رفع مستوى المعهد.
* السفر إلى الهند *(10/246)
أقمت في الحجاز اكثر من ثلاث سنين وأنا لا أزال فى عنفوان الشباب، ورأيت حتى في ذلك الزمان أن العالم بلا شهادة كالمسافر بدون جواز سفر ليس له مكان فى المدارس العليا، وإذا لئف كتابا أو أنشأ مقالآ فأول سؤال يسأله الناس: هل عنده شهادة عالمية؟ فيجيء الجواب: لا. فيقال حينئذ: (سيبك منه) يعني دعه ولا تلتفت إليه، وتاقت نفسي إلى الحصول على شهادة عالمية وكنت متصلا بالمكاتبة مع عالمين جليلين أحدهما تقدم ذكره وهو السيد سليمان الندوي، والآخر لم يتقدم ذكره وهو الشيخ أحمد السركتي في أندونيسيا، فلما علما بغرضي دعاني كل واحد منهما أن أكون مدرسا في مدرسته وأملت أني أستطيع أن أدرس دراسة عالية في الهند أو في أندونيسيا، وأحصل على شهادة أستطيع بها أن أروج علمي وآخذ حقي وأغزو المدارس العليا بدعوتي، فرجحت بقضاء وقدر من الله تعالى التوجه إلى الهند كان ذلك في أول سنة 1349 فعينت رئيسا لأساتذة الأدب العربي في كلية ندوة العلماء، وبقيت فيها ثلاث سنين ونيفا أبذل كل جهد في تعليم أدب اللغة العربية من أول درس إلى آخر درس بدون استعمال لغة أخرى.(10/247)
وقد كتب المربي الجرماني (برلتس) في مقدمة كتبه في تعليم اللغات الحية كلاما موزونا مفيدا جدا أقتبس منة قليلا قال: (( يجب على كل معلم للغة ما أن يعلم تلك اللغة بنفسها من أول درس إلى آخر درس ويمتنع من الترجمة امتناعا كليا، فإن تعلم لغة بلغة أخرى عقيم وفيه مفاسد: أولها: أن أكثر الوقت يمضي في استعمال لغة غير مقصودة بالذات، فيشتغل اللسان والفكر بشيء غير مقصود لذاته وذلك تضييع للوقت، وثانيها: أن المتعلم بتوسط لغة أخرى يضطر إذا أراد أن يكتب أو يتكلم إلى التفكير باللغة المتوسطة ثم ينتقل منها إلى اللغة المقصودة؛ ولنضرب لذلك مثلا: طالب عربي يريد أن يتعلم اللغة الإنكليزية إذا علمناه اللغة الإنكليزية بواسطة اللغة العربية وأراد أن يتكلم بالإنكليزية أو يكتب مقالا فلابد أن يفكر أولا بالعربية ثم ينتقل منها إلى اللغة الإنكليزية فيجيء كلامه وإنشاؤه ركيكين خاليين من الفصاحة وحسن البيان. ثالثها: أن مدة تعليمه تطول لأن اللغة المقصودة بالذات لا تنال من وقته إلا القليل كما تقدم. وضرب لذلك مثلا بالأطفال الصغار كل طفل يتعلم لغة أمه بدون ترجمة مع ضعف إدراكه في مدة قصيرة فينطق بها بغاية الفصاحة ولا يشعر بأدنى تكلف. وهذا هو الأسلوب الصحيح لتعلم اللغات وهو تكرر السماع على أذني المتعلم يعقبه النطق الصحيح، والكبير أحوج إلى هذا الأسلوب وأكثر انتفاعا به لكمال إدراكه وكم رأينا من رجل غريب حل بأرض قوم وهو لا يعرف من لغتهم شيئا وفي بضع سنين صار فصيحا في لغتهم دون استعمال ترجمة.(10/248)
ومن نصائح العالم الجرماني برلتس لمن يريد أن يعلم الناس لغة أن يبدأ بالمرئيات فيأخذ الكتاب مثلا، ويشير إليه وينطق بلفظ (كتاب) فيسمعه المتعلم فينطق مثله ويكرر ذلك حتى يرسخ اسم الكتاب في ذهنه، ثم ينتقل إلى القلم والقرطاس والمسطرة وهكذا دواليك. أما في الأفعال فيقوم المعلم وينطق بلفظ أقوم، ويجلس وينطق بلفظ (أجلس) ويمشي وينطق بلفظ (أمشي)، وهكذا إلى أن يتعلم الطالب ما يكفي السؤال والجواب فينتقل معه إلى طريقة السؤال والجواب، وهي أحسن الطرق في تعليم اللغات وقد شاع هذا الأسلوب في هذا الزمان. وقد استعملت هذا الأسلوب ولقيت صعوبة في أول الأمر لأني كنت أدزس كتب النهايات وبعد شهرين زالت الصعوبة وصار الطلبة يفهمون. وكنت أعلم الإنشاء والخطابة مرتين في الأسبوع في مقصورة واسعة معدة لإلقاء الخطب وفي ثلاث سنين وبضعة أشهر تخرج في الأدب العربي جماعة من الشباب أذكر منهم: مسعود عالم الندوي وأبا الحسن علي الندوي- وقد ذكرته من قبل- ومحمد ناظم الندوي وأبا الليث شير محمد الندوي وهو رئيس الجماعة الإسلامية في الهند في الوقت الحاضر وصار هؤلاء وغيرهم كتابا ومؤلفين وخطباء ولم يعهد مثل ذلك في الهند، وقد بين ذلك تلميذي الأستاذ أبو الحسن علي الندوي في مقالات نشرها. ولم يكن راتبي يزيد على مائة روبية ولكنني كنت أحتسب عند الله من الأجر والثواب في العاجل والآجل ما يفوق القناطير المقنطرة من الذهب والفضة. واغتبط بذلك رئيس الندوة السيد سليمان الندوي ونائبه وساعده الأيمن الطبيب الماهر الدكتور عبد العلي، واقترح على السيد سليمان أن أنشئ مجلة باللغة العربية ليتدرب فيها المتقدمون في العلم من الطلبة بكتابة المقالات فأنشأت مجلة ((الضياء)) وكان لها شأن عظيم لمدة من الزمن والآن تصدر في الندوة حفيدتها مجلة ((البعث الإسلامي)) وهي أشهر عند قراء اللغة العربية من نار على علم.
* محنة *(10/249)
كل قاصد لأمر عظيم لابد له من امتحان فإذا صبر ظفر وانتصر وإذا جزع ومل خاب وانكسر، كان للندوة رجال من مشاهير العلماء والأغنياء يدبرون شؤونها تحت رئاسة السيد سليمان الندوي، واتفق أن أحد كبارهم ويسمى الشيخ الشرواني لقيني وكان يريد أن أخضع له كما يفعل معه غيري من الشباب فلم أخضع له بل سلمت عليه سلاما عاديا فاغتاظ، وقال لي: لماذا تقص لحيتك؟ مع أني كنت أترك منها قبضة اليد كما جاء عن عبد الله بن عمر فقلت له: أقصها لأنها لحيتي وليست لحيتك!! فقال: لا تأخذ منها شيئا لأن الطلبة يقتدون بك، فقلت له: أنا أستاذ الأدب العربي وهناك أستاذ الفقه وأستاذ الحديث ولهما لحيتان طويلتان فكيف يتركون الاقتداء بهما ويقتدون بي؟! فغضب وانصرف، وكان ذلك من نزوات الشباب فعمل على إخراجي من الندوة، فانتظر إلى أن انعقد مجلس رجال الندوة (ولا أقول أعضاؤها لأنه محدث مقتبس من اللغات الأجنبية) فخطب فيهم الشيخ الشرواني وقال لهم: هذا الأستاذ العربي لا يعرف لغة أردو ولا يمكن أن يتمكن من تفهيم الطلبة مسائل العلم دون أن يشرحها لهم بلغتهم التي يفهمونها، فرد عليه السيد سليمان الندوي والدكتور عبد العلي وبينا له شدة حاجة الطلبة إلى سماع علوم الأدب العربي باللغة العربية، فوقع خلاف بين شيوخ الندوة وأخذت الآراء فانتصر الشرواني.(10/250)
فجاءني السيد سليمان الندوي والدكتور عبد العلي متأسفين ومعتذرين وقالا لي: لا شك عندنا أنك تريد بعملك في هذه المدرسة وجه الله تعالى بتعليم لغة القرآن، وقد قدر الشيخ الشرواني أن يقنع اكثر الشيوخ برأيه الباطل لجهلهم بشئون التعليم فنرجو من فضلك أن تمهلنا أربعة أشهر نجعل لك فيها سبعين روبية بنقص ثلاثين من الراتب وبعد أربعة أشهر، نرجو أن نفهم شيوخ الندوة مقدار الفائدة التي يجنيها الطلبة من علمك. فقبلت اقتراحهما، وأسست مدرسة صغيرة في بيتي لتعليم التلاميذ الصغار اللغة العربية لأبين خطأ رأي الشرواني الذي يزعم أن تعليم اللغة العربية بدون ترجمة لا يمكن، فاتفقت مع الدكتور عبد العلي ورجل من أشراف البلد كنا ندعوه منشي صاحب نسيت اسمه، فاخترنا عشرة من التلاميذ من صبيان المحلة لا يزيد عمر أحد منهم على أربع عشرة سنة وأخذت أعلمهم اللغة العربية بدون ترجمة طبعا، وبعد أربعة أشهر دعونا الأساتذة ليمتحنوهم فامتحنوهم في الإنشاء والإملاء والتحدث بالعربية والقراءة فوجدوهم قد تعلموا في أربعة أشهر ما لم يتعلمه كيرهم من الطلبة الكبار في خمس عشرة سنة بالترجمة، فتعجب الحاضرون وازدادوا يقينا بصحة ما قلته لهم. ثم انعقد مجلس الندوة وكان الرئيسان المذكوران قد عملا في تلك المدة على تفهيم شيوخ الندوة وإقناعهم بأن اللغة العربية لا يمكن تعلمها تعلما ناجحا إلا باستعمالها نفسها فأخذت الآراء فانهزم الشرواني ورجعت إلى الندوة.
* مكرمة عربية *(10/251)
لما علم السري النبيل الشيخ مصطفى آل إبراهيم بهذه الحادثة بعث إلي ألفا ومائتي روبية وقال لي: إني سمعت أن أهل الندوة عزلوك بعثت إليك هذه الدراهم وأنا مستعد لتلبيتك في كل طلب، وهذا المقدار الذي أهداه إلي هذا الرجل الكريم يساوي راتبي في الندوة لمدة سنة وكم له من مكارم. وهاك مكرمة أخرى نسيت أن أذكرها في موضعها، لما أمضيت سنة في الدورة اجتمع عندي من المال ما يكفي للتزوج والمعيشة استشرت العالم السلفي المحقق المتفق في علوم كثيرة الشيخ محمد بن أمين الشنقيطي نزيل (الزبير) بلدة قرب البصرة، استشرته وطلبته أن يساعدني على اختيار زوجة ولم أكن أعلم أن عنده بنتا بلغت سن الزواج، فلما أخبرت بذلك خطبت إليه ابنته فقال لي رحمه الله: أنا لا أجد لها أحدا أفضل منك، ولكن أمرها يبدأ منها فأنا أكون واسطة بينكما، فقلت: إني مستعد لإرضائها فلتطلب من المهر ما شاءت فطلبت مهرا عاليا فأجبتها إلى طلبها.(10/252)
وكان الشيخ مصطفى آل إبراهيم إذ ذاك في الهند فلما سمع بعزمي على الزواج بعث كتابا إلي وكيله الشيخ أحمد المشاري آل إبراهيم بارك الله في حياته يقول له: اجعل نفقات زواج الهلالي من السركار، فقال لي الشيخ أحمد: إن مصطفى كتب إلي بكذا وكذا فكم تحتاج إليه من النفقة؟ فقلت: لا أحتاج إلى شيء فقال: لابد من تنفيذ ما طلب مني فأصررت على أني لا أريد شيئا فكتب لي كتابا إلى الحاج أحمد الذكير بالبصرة يقول فيه: أي مقدار طلبه منك حامل الكتاب فلان فأعطه إياه، ورافقني أحد عبيدهم وهو أبو مقبل، فقال لي: إن الشيخ أحمد كتب إلى الذكير بكذا وكذا، فكيف تمتنع من قبول هديتهم وأنت أستاذهم ونحن عبيدهم وخدامهم يزوجوننا من السركار؟! وأخذ يخاصمني طول الطريق من الدورة إلى البصرة، ويقترح علي أن أطلب من الحاج حمد على الأقل ألفي روبية، وكان سعر الروبية في ذلك الزمان ثلاث عشرة روبية بجنيه إنكليزي، فلما وصلنا إلى الحاج حمد الذكير قال لي: كم تريد فقلت: ألفا وخمسمائة، فلما علم ذلك الشيخ مصطفى بعث إلي من الهند حوالة قدرها سبعمائة روبية فصار المجموع ألفين ومائتين روبية، فأسأل الله سبحانه أن يكرمه في الدنيا والآخرة، والسبب في ذلك كله حركة إعراب وهي فتحة قوله تعالى: { حَمَّالَةَ الْحَطَبِ } لأنها كانت سبب التعارف ثم صارت بيننا رابطة توحيد الله واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم.
* رحلة إلى أفغانستان *(10/253)
وقعت في أفغانستان في ذلك الزمان حركة أمان الله خان، وأشيع أنه أراد تغيير أحكام الإسلام من جنس ما فعله مصطفى كمال في البلاد التركية، فثار عليه الملك ناذر شاه وقضى على حركته واستولى على الملك، فتاقت نفسي إلى معرفة أحوال المسلمين في تلك البلاد، فتوجهت إلى سملة وهي عاصمة بلاد الهند الصينية وحصلت على سمة دخول إلى أفغانستان من السفارة الأفغانية. ومدينة سملة مبان متفرقة في سفح أحد جبال هملايا والتجول فيها لا يمكن إلا بركوب الركشة وهي عربة فيها مقعد واحد يجرها رجلان من أمام ويدفعها رجلان من خلف لأن الطريق جبلية ضيقة ولا يوجد في ذلك الجبل عدا ذلك إلا سكة الحديد وطريق واحد يمتد في وسط المدينة يمكن أن تسير فيه السيارة.(10/254)
وكان الشيخ إسماعيل الغزنوي رحمه الله كتب لي توصية إلى إمام المسجد، وبعد مشقة وصلت إلى المسجد فلم أجد الإمام فأعطاني قيم المسجد غرفة مفروشة حين أخبرته أنني جئت إلى الإمام بوصية، وكان الوقت بعد صلاة الظهر وكنت جائعا فخرجت من المسجد فرأيت بيتا كالدكان فيه رجل يطالع كتابا له لحية طويلة سوداء، فتوسمت أن يكون مسلما فسلمت عليه فرد علي أحسن رد، وقلت له: إني جائع أريد طعافا فدلني على مطعم قريب، فطوى كتابه وقام وسد الدكان وقال: اتبعني فصعد في الجبل في طريق للمشاة ملتو يسقى في جبال نمسا بالطريق الحنشي لأنه يشبه الحنش، حتى وصلنا إلى بيت فدخل وأذن لي في الدخول ثم فتح مقصورة وأمرني بالجلوس فجلست، وغاب عني قليلاً وأنا أتعجب لأن هذا المكان ليس بمطعم قطعًا فجاءني بطعام كثير، فأكلت ثم جاء بالحلوى ثم قال لي: هذا بيتي أرجو أن يكون هذا الطعام قد وافقك وكان كلامه كله بالعربية، ثم سألني من أنت؟ فقلت له: أنا محمد تقي الدين الهلالي أستاذ اللغة العربية بندوة العلماء، فعانقني وقبل رأسي وقال لي: هذا يوم مبارك سعيد، فنادى ابنه وهو شاب في سن العشرين وقال له إن الله أكرمنا في هذا اليوم بكرامة عظيمة هذا الأستاذ محمد تقي الدين الهلالي مؤسس مجلة الضياء الذي نقرأ مقالاته، ونحن في شوق إلأى لقائه قد جاءنا وشرف بيتنا فعانقني ابنه وبالغ كلاهما في الترحيب، ومن سوء الحظ نسيت اسم هذا الرجل وكنت أذكره إلى وقت قريب ثم ذهبنا إلى المسجد، والتقينا بالإمام الذي جئت بتوصية إليه فقرأها وتنافس الرجلان في ضيافتي وإكرامي. فبقيت في ضيافتهما ثلاثة أيام قضيت في أثنائها الوطر الذي سافرت إلى سملة من أجله، وهو طلب سمة الدخول إلى أفغانستان من السفارة الأفغانية، إلا أن رجال السفارة مع إكرامهم لي اعتذروا لي بأن النظام المتبع يقتضي أن تبعث رسالة برقية إلى وزارة الخارجية في كابل، فإذا جاء الإذن منها يمكن إعطاء سمة الدخول. قال لي أحد(10/255)
رجال السفارة: أيمكنك أن تدفع ثمن البرقية؟ فقلت: نعم. فقال لي: سأحاول أن أجعلها رخيصة الثمن لأن العادة تقضي بأن نكتبها باللغة الفارسية لكن بحروف إنكليزية والقانون يقضي على مكتب البريد أن يعد كل خمسة عشر حرفا كلمة واحدة، ولذلك سأجمع لهم في كل كلمة عدة كلمات فشكرته على ذلك. فلم يبطئ الجواب وجاء بالقبول فتوجهت من سملة إلى لاهور ومنها إلى بشاور. وبقي علي أمران أحدهما طلب الإذن بالدخول إلى أفغانستان من السفارة الفرنسية، وأقرب سفارة فرنسية إلى بشاور هي بومباي والمسافة بين بشاور وبومباي خمس وثلاثون ساعة في القطار ذهابا ومثلها إيابا وفي ذلك من النفقة والتعب ما لا يخفى، وكان عندي جواز مغربي فرنسي آخر بلد مذكور فيه (فارس) وتسمى بالفرنسية (لابرس) وقواعد اللغة الأوروبية كالفرنسية والإنكليزية والجرمانية والإسبانية تقضي في المتعاطفات أن لا يذكر حرف العطف إلا في آخرها فإذا أرادوا مثلاً أن يقولوا جاء زيد وعمرو وبكر وخالد يقولون: جاء زيد عمرو بكر وخالد، ومن تفطن إلى لغة القردة من كتاب العرب ومذيعيهم يجدهم يستعملون هذه القاعدة في اللغة العربية، ففكرت للمرة الأولى والأخيرة في التصرف في جواز السفر بزيادة لفظة أفغانستان فجربت ألوانًا من الحبر حتى وجدت حبرا مشابها للحبر الذي كتبت به أسماء البلدان المأذون في دخولها في جواز سفري وكان جواز سفري قد بلغ بكثرة الإضافات خمسين صفحة يتحير فيه كل من رآه حتى أرشده أنا إلى ما يريده، فلما وجدت الحبر المناسب عمدت إلى حرف العطف الذي قبل فارس فكشطته بسكين حادة ثم كتبت مثله وبعده كلمة أفغانستان، وهذه مخاطرة عظيمة ولاسيما في مدينة بشاور لأنها آخر مدينة في حدود المستعمرة البريطانية العظمى التي كانت تسمى الهند الإنكليزية، وفيها من الشرطة السرية والعلنية ومراقبة المسافرين ما يوجد عادة في البلاد التي على الحدود فلابد أن أدخل امتحانا عظيما حين أقدم جوازي لرجال الأمن(10/256)
لأنهم يفحصونه فحصا دقيقا وإذا اطلعوا على التزوير يبالغون في عقابي. وكنت قد نزلت ضيفا مكرما عند الشيخ عبد العزيز الندوي البشاوري، وكان من كبار التجار من العلماء. فبقيت عنده أسبوعا، ومن خصائص هذه المدينة أن أهلها لهم صهاريج كبيرة يملأونها ثلجًا في وقت الشتاء وفي وقت الصيف يأخذون منه كل يوم ما يبردون به مشروباتهم، وأظن أني رأيت مثل ذلك في مدينة كركوك وأربل في شمال العراق، وكتب لي توصية لابن عمه في كابل وهو تاجر كبير اسمه إلهي بخش.
ثم دخلت الامتحان وهو تقدديم جواز سفري لرجال الأمن ليرخصوا لي في الخروج من الهند إلى أفغانستان، وكنت خائفا جدا أن يكتشفوا التزوير فأعماهم الله عنه ورخصوا لي في الخروج من الهند. وقبل أن أخرج من بشاور أخبر القارئ أن سكانها أفغانيون يتكلمون بأربع لغات لغتهم الخاصة ولغة أردو ولغة بشتو وهي الأفغانية واللغة الفارسية وهي لغة حكومة أفغانستان الرسمية والعلمية، ولغة بشاور قريبة من لغات بنجاب!(10/257)
ويختلف الأفغانيون عن أهل الهند ببياض ألوانهم وقوة أجسامهم وكثرة أكلهم بالنسبة إلى أهل الهند. ركبت سيارة البريد وتوجهت إلى كابل ولما وصلتها أخذت عربية إلى بيت إلهي بخش فوصلت إلى بيته وناولته الكتاب، فقال لي بلغة أردو: بأي لغة تتكلم؟ فقلت له: بالعربية فقال لي: بالعربية فقط؟ فقلت: نعم ثم قلت له: إن العربية لغة القرآن ولغة الرسول صلى الله عليه وسلم فيجب على كل مسلم أن يتعلمها فقال: (مشكل) وهذه الكلمة تستعمل في لغة أردو بمعناها العربي، ثم قال لي: ادخل فدخلت وصعدت معه الدرج إلى الطبقة الأولى بناء على اصطلاح الأوروبيين، فإنهم لا يعدون الطبقة الأرضية، فوجدت فيها مكتبه التجاري وغرفاً أخرى فجاءني بالشاي الأخضر، لأن أهل أفغانستان يشربون الشاي الأخضر كالمغاربة وجاء بالخبز فملأ كأسي وحلاّها بالسكر وأكلت معها شيئاً من الخبز ثم صبّ لي الكأس الثانية إلى نصفها ولم يملأها ولا وضع فيها سكرًا! فقلت له: ضع فيها السكر فقال لي: إنها الكأس الثانية فقلت له: وهل الكأس الثانية تشرب مرة؟ فقال: نعم هذه عادتنا نحن لا نحلي إلا الكأس الأولى وما زاد عليها نجعله إلى النصف مرا، فقلت: { وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا } ثم صعد بي إلى الطبقة الثانية وأدخلني غرفة مفتوحة للسطح وفيها فراش، فقال لي: اجلس هنا وأنا أرجع إلى أشغالي التجارية وسأعود إليك بعد صلاة الظهر، فأخرجت القرطاس والقلم وكتبت إلى الشيخ عبد العزيز الندوي كتابا قلت له: فيه إن ابن عمك إلهي بخش لم يكرمني ولم يتلقني ببشاشة، فبدلاً من أن يرحب بي قال لي: (مشكل) وسأنتقل من بيته إلى (مسافر خانه) أي بيمت المسافر وهو بمنزلة الفندق في أقرب فرصة، ووضعت الكتاب في غلاف وكتبت عليه العنوان باللغة الإنكليزية فلما جاء بعد صلاة الظهر رأى ذلك الكتاب موضوعا إلى جانبي فقال لي: من كتب هذا؟ فقلت: أنا. فقال: تعرف اللغة الإنكليزية فقلت: نعم فتهلل وجهه وظهرت عليه أمارات الفرح(10/258)
وأخذ يتكلم معي بالإنكليزية قال لي: لما سألتك ماذا تعرف من اللغات قلت لا أعرف إلا العربية فلماذا لم تخبرني بأنك تعرف اللغة الإنكليزية؟ فقلت لم يخطر ببالي أنك تعرفها لأن هيئتك بهذه اللحية الطويلة والثياب الأفغانية لا تدل على ذلك فقال لي: بلى أنا سافرت إلى البلاد البريطانية مرارا لجلب البضائع واستمر على تلك البشاشة مدة إقامتي في كابل وهي خمسون يوما، وبلغ به الحرص على إكرامي إلى أننا حين زرنا وزير الخارجية فضل محمد لنأخذ منه الإقامة، دعاني الوزير إلى أن أكون ضيفا على الحكومة فجزع إلهي بخش لذلك وقال له: أنا خادم الحكومة، وأنا أنوب عنها فأرجو أن تسمحوا ببقائه عندي فقال: لابأس.(10/259)
ثم زرت العلماء وهم الشيخ سيف الرحمن الأفغاني والشيخ منصور الهندي وشيخ الطريقة الشيخ المجددي. والطريقة المجددية في البلاد الأفغانية هي أعظم الطرائق انتشارا وتليها الطريقة القادرية. وأهل أفغانستان كلهم إلا المتفرنجين متمسكون بطرائق المتصوفة وشيوخ الطرائق كثير عددهم. وقد كنت جالسا في مكتب إلهي بخش فجاء رجل يتبعه ستة نفر ويعظمونه غاية التعظيم فجلس وشرب الشاي ثم أعطاه إلهي بخش شيئا من الدراهم وانصرف وتبعه عبيده، فقال لي الشيخ إلهي بخش: أتدري من هذا؟ قلت: لا. قال: هذا شيخ طريقة. ومن هم أولئك النفر الذين يتبعونه؟ فقال لي: هم كل ما عنده من المريدين وقد فرض عليهم أن يخصصوا يوما في الأسبوع لخدمته من الصبح إلى المساء يطوفون معه على التجار لجمع الصدقات فتعجبت من ذلك، فقال لي: لا تعجب فإن هذا شيخ محظوظ لأنه حصل على ستة مريدين، وهناك شيوخ ليس لهم ولا مريد واحد وهم يبحثون عمن يكون مريدا لهم فلا يجدون، فيأتي أحدهم مثلاً إلى الرجل فيقول له: أريد أن تجعل لي بعض أولادك يكون مريدا لي فيقول: كل أولادي يتبعون شيوخا آخرين فيقول: أعطني من سيولد لك!! فيقول: قد وعدت بهم شيخا آخر، فإذا ظفر برجل يعده بأنه إذا ولد له ولد يكون مريدا له ينتظره إلى أن يولد ويكبر فيتخذه مريدا.(10/260)
أما الطريقتان المجددية والقادرية فهما غنيتان عن مثل هذا العمل. ورأيت الشيخ المجددي وأنا عنده يأتيه الشخص ويذكر له أن عنده مريضا فيأخذ عُوذة من وعاء مملوء بالعوذ ويناولها إياه ويأخذ منه دريهمات. وهذا الشيخ المجددي يعظمه جميع الناس ويقبلون يده حتى الملك ناذر شاه، وقد عرض عليه أن يكون وزيرا للعدل فامتنع من ذلك لأنه يحط من قدره إذ يحتاج إلى أن يقف مع الوزراء في المحافل الرسمية، ثم قبله على أن ينيب عنه صهره في الاشتراك في المحافل ولا يباشر هو بنفسه عمل الوزارة. وقد رحب بي هؤلاء الشيوخ وفرحوا بمقدمي وأجمعوا على أنه لابد أن أنزل في ضيافة الحكومة، فكلموا وزير الخارجية فقال لهم: لقد دعوته إلى ذلك من قبل فلم يقبل أبو مثواه، فحتموا عليّ أن أنزل في دار الضيافة فنزلت فيها وهي في الفندق الفخم المسمى هوتيل دي كابل خارج المدينة، ونزّال هذا الفندق ما بين أوروبي وأمريكي وتركي أو متفرنج يتزيا بزيهم، وبين الفندق ووسط المدينة نصف ساعة لراكب العربة فشق علي أن أقيم في ذلك الفندق للأسباب التي ذكرتها، أضف إلى ذلك أن أجرة اليوم الواحد في ذلك الفندق ست عشرة روبية أفغانية، وأنا أستطيع أن أعيش بروبية واحدة في كل يوم فإن الأطعمة والفواكه كثيرة ورخيصة فلماذا أتحمل تلك المنة؟!
فبقيت ثلاثة أيام ثم قلت لأولئك العلماء: أنا جئت من الهند لزيارتكم والتحدث معكم وقد أبعدتموني عنكم وصعبتم علي لقاءكم بهذه الضيافة التي حتمتم علي فقالوا لي: نحن أردنا إكرامك فإن كان الأمر كذلك فاذهب إلى وزير الخارجية واعتذر له بمثل ما ذكرت لنا، وكان الوزير قد عين لي شهرا كاملاً في الضيافة فذهبت إليه فأعفاني من ذلك ورجعت إلى بيت إلهي بخش.
*الشيخ عمر أوزبك*(10/261)
من فوائد هذه الرحلة أني لقيت العالم الأمير المجاهد الشيخ عمر أوزبك، وهو عالم من خيرة علماء أوزبكستان من الأتراك المسلمين القاطنين بالاتحاد السوفييتي، حارب الاستعمار الروسي اثنتي عشرة سنة كما أخبرني هو بنفسه بذلك رحمة الله عليه وقص لي قصته، وهي باختصار أنه لما وصل الزحف الشيوعي إلى بلاده نادى في الناس بالجهاد فتبعه تلامذته وكثير من المؤمنين، وخرجوا إلى الجبال وأخذوا يغيرون على العدو المغير على بلاده ليسلبهم أثمن شيء عندهم وهو الدين، فما زالوا يحاربون مدة اثنتي عشرة سنة حتى قتل أكثرهم وضاقت عليهم المعيشة ففروا إلى الحدود الأفغانية فقبض عليهم الأفغانيون، وكان مع الشيخ أهله وثلاثمائة من خير أنصاره ثم عرفت الدول الأفغانية فضل هذا الشيخ وعلمه وصلاحه فأطلقت سراحه وأعطته مبنى كبيرا سكن فيه وجعل بعضه مدرسة ومسجداً، ففرحت كثيرا بلقاء هذا الشيخ لأن نور الإيمان كان يشرق على وجهه كما قال تعالى: { سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم } (ا لفتح: 29).
*الكلام بالعربية*
كنت أزور هذا الشيخ مرة بعد مرة فجاءني يوما رجل وقال لي: إن زوجة الشيخ تسلم عليك، وتقول: إنها علمت أن الشيخ قد فرح بقدومك وأجلّك فهي ترجو أن تشفع لها ولأولادها عنده أن يتكلم معهم بلغتهم ولو ساعة في كل يوم، فقلت في نفسي: هذه معضلة! ثم ذهبت إليه وشفعت عنده، فقال لي: إن الروسيين أجبرونا على تعلم لغتهم فتعلمناها، وأتقناها، ولولا أنهم علموا أن تعلم لغة القوم يقرب المتعلم منهم لما أجبرونا على تعلم لغتهم، فأنا لا أتلكم مع المسلمين الأقربين والأبعدين إلا بلغة القرآن والرسول صلى الله عليه وسلم، لإإن شاءت هي وأولادها أن أتحدث معهم فليتعلموا لغة القرآن والرسول وأنا مستعد لتعليمهم إياها. وكان هذا الشيخ الجليل يتقن ثلاث لغات التركية وهي لغته والفارسية والروسية، كتابة وقراءة وتحدثاً وتأليفاً وكان رحمه الله صادقاً فيما ذكر.
*زيارة الملك*(10/262)
في تلك الأيام جيء بجنازة محمد عزيز خان أخي الملك ناذر شاه قتل في جرمانية وكان سفيراً لأخيه في برلين، فوجهت أم الملك السابق آماني الله خان طالباً أفغانياً لقتله انتقاماً لابنها فقتله، وكان وزير الخارجية فضل محمد قد عرض عليّ مرتين زيارة الملك فدعوت للملك بخير، وقلت لا حاجة لي عند الملك وإنما جئت للقاء العلماء، فإن كان واجب اليافة يقضي علي بزيارته فأنا مستهد لها، فلما جاءت جنازة أخيه رأى العالمان الجليلان الشيخ سيف الرحمن والشيخ منصور أنه لا بد من زيارته وتعزيته فذهبت معهما وعزيناه فتلقانا بما ينبغي للعلماء من الإجلال وجلسنا في مكان غير بعيد من مجلسه. وكان المجلس يضم جميع الوزراء والأعيان وسفراء الدول كلهم فكانت الوفود من القبائل والمدن تأتي لتعزيته فلا يكاد الوفد الواحد يحصل على أكثر من خمس دقائق لكثرة الوفود وضيق الوقت المحدد، وكان كل وفد يقدم أمامه قارئ القرآن فيقرأ آية واحدة قصيرة ثم يعزونه بالفارسية فهمت تقريبا كل ما قال وفي السوق إذا سمعت كلام أصحاب الدكاكين لا أفهم ما يقولون إلا قليلاً، وسبب ذلك أن المتكلمين باللغة الفارسية في تلك البلاد مختلفون فكلما ازداد أحدهم علوا في الثقافة والأدب الفارسي يكثر من إدراج المفردات والجمل العربية في كلامه فلا يبقى إلا الضمائر وبعض الأفعال التي تختم بها الجمل، وبينما نحن كذلك جاء الشيخ عمر أوزبك، ولم يصحبه أحد مع أن تلامذته يعذون بالمئات كما تقدم وأظنه فعل ذلك تواضعا، ووقف أمام الملك فتعوذ وبسمل بصوت عال وبدأ سورة طه حتى وصل إلى قوله تعالى: { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي النُّهَى } (طه: 54)، وذلك ربع هذه السورة وكانت قراءته في غاية الترتيل ولم يجسر أحد أن يقول له: قد أطلت وأخذت أكثر من حقك من الوقت فاختم، ثم عزاه بالعربية الفصحى وانصرف.
*لماذا لم أحرص على زيارة الملك؟*(10/263)
لم أحرص عليها لأن القوم اعتادوا أن لا يجيئهم أحد من العرب إلا طامعا في رفدهم فتوكلت على الله، وقلت في نفسي: لأقيمن لهم البرهان على أن العرب ليسوا كلهم مستجدين لاسيما وقد علمت من أستاذ اللغة العربية وهو مصري -نسيت اسمه لسوء الحظ- أنه في تلك السنة زار أفغانستان رجلان ممن ينتمون إلى العلم والأدب؛ أحدهما عراقي والآخر شامي (ولا أقول سوري لأنه معرب سرياني كما أن سوريا معناه بلاد السريانيين والعرب لا تعرف بين العراق ومصر إلا الشام كما قال شاعرها:
أزمان سلمى لا يرى مثلها ... الراؤون في شام ولا في عراق
وأشعارهم في ذلك كثيرة).(10/264)
أما العراقي فحكى لى عنه أمورا قبيحة منها أنه عندما أراد التوجه إلى أفغانستان ذهب إلى سفيرها الأستاذ المجددي في جدة فسأله توصية إلى الحكومة لتضيفه وتكرمه فكتب له ما أراد، فلما وصل لم يستقبله وزير الخارجية ولا رجال الضيافة بما كان يؤمل من الحفاوة وزاد في الطين بلة وفي الطنبور غنة أنه طلب لقاء الملك فلم يروه أهلاً لذلك إلا أنهم أنزلوه في دار الضيافة ولما أراد السفر سألوه: ما هي وجهتك؟ فقال: بغداد، فقالوا: بأي طريق؟ فقال: إيران. فقدموا له من المال ما لكفى لنفقات سفره فى الدرحة الأولى وظن أن ذلك المال جائزة فاستصغرها وأطلق لسانه في الفندق بسب الحكومة والطعن فيها، فبلغ وزير الخارجية فدعاه وقال له: بلغنا أنك تسبنا على رؤوس الأشهاد فما ذنبنا؟ فقال: أنا صحفي كبير مرتبط مع صحيفة واسعة الانتشار ولم تسهلوا لي لقاء الملك ثم أعطيتموني جائزة حقيرة، فقال له الوزير: لولا أن الناس رأوك في ضيافتنا لأمرت بسجنك ثم إخراجك من البلاد على حالة لا تسرك، ولو علمنا أنك هكذا ما استقبلناك ولا أنزلناك في دار الضيافة والنقود التي أعطيناك ليست جائزة كما توهمت ولا ثمناً لدعاية تعملها لنا في الصحيفة التي تذكر أنك مراسلها فلا حاجة لنا بدعايتك، ولكن من عادتنا أن كل ضيف ننزله في دار ضيافتنا إذا أراد الرحيل قدمنا له زاداً يوصله في الدرجة الأولى إلى البلد الذي جاء منه وقد سألتك عن وجهتك وطريق سفرك وإلى أين تسافر فأخبرتني فقدمنا لك مقدار ما يكفي لسفرك في الدرجة الأولى، فقال: عدلت عن السفر بطريق إيران وأريد أن أسافر بطريق البحرو هذا لا يكفيني فقال الوزير: فهلا جئتني وأخبرتني بذلك فأزيد في مقدار الدراهم دون أن تطلق لسان السوء في فندق مشحون بالأجانب من أجناس مختلفة.(10/265)
وخبرني الأستاذ المصري بأمر هو أخبث من ذلك، فقال: قال لي ذلك العراقي: هل تريد أن تسافر إلى مصر بطريق العراق؟ قال: فقلت: نعم، قال: فقال لي إذا وصلت إلى بغداد فزرني، فإن لي أختاً جميلة أقدمها لك لترافقك، (قال مؤلف هذا الكتاب: ووجود هذا الرجل في العراق لا يضير العراقيين ولا ينقص من قدرهم فهم أهل الشجاعة والكرم والإباء وشرف النفس ولا يوجد في الدنيا شعب كلهم خيار، فهذا من شذاذ وقد سجنه العراقيون سنين ونبذوه فهام على وجهه)، أما العالم الشامي فإنه لم يفعل شيئا من مثل ذلك إلا أنه جاءهم بقصد الاستجداء وقبل ما قدموه له من المال ولم يتعفف عنه ولذلك صمصت ألا أقبل منهم شيئا.
*المرض بالحمى النافض*
كانت مدينة كابل في ذلك الزمان وهو سنة 1352هـ غير نظيفة ولا مبلطة الشوارع، وكانت المياه القذرة تجري في وسط المدينة في قنوات مكشوفة وتنبعث منها رائحة كريهة، فبعد إقامتي فيها نحو شهر أصابتني الحمى النافض التي تسمى في هذا الزمان ملاريا، وكنت في دار إلهي بخش ولا أستطيع أن أتفاهم مع خدامه وأخذني إلى طبيب متخرج في لندن فأعطاني دواء فلم ينفعني، وكان يتردد علي لطلب علم الأدب العربي الشيخ محمد عمر الأفغاني، وكان قد درس في بلاد الشام وتزوج بامرأة شامية وله منها ولد عمره اثنتا عشرة سنة، وكان قد اقترح علي أن أنتقل إلى منزله ليخدمني هو وأهله فأبى إلهي بخش، فلما مرضت وعجزت حتى عن تناول الماء للشرب استأذنت أبا مثواي في الانتقال إلى بيت محمد عمر فأذن لي، فأقمت في بيته مدة تقارب عشرين يوما وكان إلهي بخش لا ينقطع عن زيارتي، ومما قاله لي ذات يوم: نحن ما رأينا من العرب أحدا عفيف النفس يحافظ على شرفه مثلك، فقلت له: إن في العرب من أهل الفضل والشرف والعفاف الجم الغفير، ولو أنك ذهبت إلى بلادهم لرأيت إباءهم وكرمهم وعلو همتهم، ولا يأتيكم هنا منهم إلا قليل جدا من ذوي الحاجات.(10/266)
وكانت الحمى تأتيني يوما وتتركني يوما، وفي اليوم الذي تأتيني فيه تبدأ قبل الزوال بساعة فلا يأتي وقت العصر إلا وقد فقدت إدراكي وصرت أهذي هذيانا، وكان محمد عمر وأهل بيته يعتنون بي أشد العناية بحيث لو كنت في بيتي لما لقيت أكثر من ذلك فجزاهم الله خيرا وأكرمهم في الدنيا والآخرة، وكانت لغتهم هي العربية فلا أحتاج إلى كلفة فيما أريد ولم تكن تفارقني الحمى إلا بعد منتصف الليل، وكنت في ذلك الزمان أعتقد أن جمع التقديم للمسافر لا يجوز وإنما جمع التأخير فكنت أؤخر صلاة الظهر إلى أول وقت العصر فلا يكون عندى من الإدراك ما أضبط له الصلاة، فكنت أسرع في الصلاة مضطجعا بالفكر وحده فتأخذني غمرة من الإغصاء ثم أفيق ثم أشرع في الصلاة مرة أخرى ثم يأخذني الإغماء ثم أشرع فيها مرة ثالثة فلا أكاد أتمها إلا في الثالثة أو الرابعة، ولو كنت في ذلك الوقت آخذا بالرخصة كما آخذ بها الآن، لصليت الظهر والعصر جمعا في أول وقت الظهر قبل أن يختل عقلي وكانت تلك الحمى تبلغ من الشدة إلى حد أنني حين أبول أصيح من شدة حر البول، فلم يمل محمد عمر ولم يكل.
*علاج غريب*(10/267)
كنت في زمان الجهل أكتب للمحموم في قشرة لوز (فرعون) وفي أخرى (قارون) وفي أخرى (هامان) كلهم في النار، فآمر المحموم أن يتبخر بالقشرات الثلاث في كل يوم حين تجيئه الحمى فقلت في نفسي وقد ضعف عقلي وجسمي: دعني أجرب هذا العلاج، ثم قلت: ليس عندي دليل شرعي على أن هذا يجوز ولكن غلبني الضعف، وقلت لمحمد عمر: ائتني بشيء من اللوز لاكتب على قشوره فلم يجد شيئا فقلت له: اكتب على قطع من القرطاس بدل قشرة اللوز ما تقدم ذكره فكتب ذلك، ولما جاءتني الحمى وبدأ غليانها يشتد تبخرت بتلك القطع فخفت عني الحمى إلى حد أنني لم أفقد عقلي في ذلك، وصليت الظهر والعصر جالسا وقلت لمحمد عمر: ينبغي أن أرجع إلى الهند. فقال لي: أنت ضعيف جدا لا تستطيع السفر فقلت له: اطلب من مدير المدرسة رخصة ثلاثة أيام لتصحبني إلى حدود الهند فإن مت في الطريق فغسلني وصل علي وادفني، وإن وصلت إلى الحدود فارجع راشدا، فطلب الإجازة وحصل عليها.(10/268)
وفي ذلك اليوم جاءني إلهي بخش فقلت له: سلم لي على وزير الخارجية فضل محمد وقل له: إني أشكره وأشكر جلالة الملك ورئيس الوزارة على إكرامهم واستأذن في السفر، فرجع إلي في اليوم الثاني الذي لا تجيئني الحمى ووجد رجلين من المدينة النبوية عند محمد عمر فسألني عن الحال وبلغني سلام وزير الخارجية وقال لي: اكتب عليها بالإنكليزية أنك تسلمت خمسمائة روبية أمر لك بها رئيس الوزراء على ما جرت به العادة من تقدرتم الزاد لكل ضيف ينزل في ضيافة الحكومة بقدر ما يوصله إلى البلد الذيم يقصده، وقد أخبرته أنك تريد الرجوع إلى لكناو وهذا المقدار هو أجرة السفر إلى لكناو في الدرجة الأولى، فكتبت على تلك الصحيفة بالإنكليزية إني أشكر جلالة الملك ومعالي رئيس الوزراء، ومعالي وزير الخارجية، وأعتذر عن قبول هذه الهدية لأني كما أخبرت معالي الوزير في البرقية قبل دخول أفغانستان وأخبرته مرارا مشافهة أن غرضي من زيارة أفغانستان زيارة العلماء والاطلاع على أحوال المسلمين ولا حاجة لي بذلك المال، فقرأه إلهي بخش وقال: الحمد لله هذا الذي كتبت كنت أتوقعه وأخبرت الوزير به وكنت خائفا أن أكون مخطئا فإني قلت له: غالب ظني أن محمذا تقي الدين الهلالي لا يقبل هذه الدراهم وقد صدق ظني.
ففهم الرجلان المدنيان أنني رفضت قبول ذلك المال، فلما انصرف إلهي بخش أظهرا غضبهما، وقالا لي: يا شيخ إيش سويت؟ ما تخاف الله نحن جئنا من المدينة إلى هنا وقطعنا بحورا وبرا ونحن محتاجان إلى روبية واحدة وهذا مال حكومة فإن كنت مستغنيا عنه فهلا قبلته وقدمته لنا حتى يكون لك عند الله أجر عظيم، وأغلظا علي في القول حتى اتهماني بالنفاق فأنكر ذلك عليهما محمد عمر فقلت له: دعهما فإن الحاجة أنطقتهما بذلك وشرحت لهما قصة العراقي والشامي فأصرا على أن عملي كان خطأ فقلت لهما؟ هذا هو اجتهادي.
*حال المسلمين في أفغانستان في ذلك الزمان*(10/269)
كان أمان الله خان الملك السابق قد أجبر النساء على السفور ولبس الثياب التي لا تستر عورة المرأة وهي كلها عورة إلا الوجه والكفين، وأجبر الرجال حتى قاضي كابل وعمره ثمانون سنة أن يلبسوا الثياب الأوروبية الضيقة، وكان يشجع الفتيات على حضور الحفلات شبه عاريات، فلما انتصر عليه الملك ناذر شاه رجعت النساء إلى حجابهن ومنعن من الخروج إلا لحاجة مع التستر التام، ولكن كانوا غالين في التمسك بفروع المذهب الحنفي فكانوا يؤخرون العصر إلى قرب الاصفرار ولا يقبلون من مسلم أن يكون له مذهب غير حنفي، حتى إنني لما كنت مسافرا من بشاور إلى كابل وصار وقت الظهر ووقفت السيارة فنزلت وتوضأت وتوضأ بعضى المسافرين وجاؤوا ليصلوا معي فلما رأوني رفعت يدي عند الركوع قطعوا صلاتهم وصلى كل واحد وحده.
ومرة سافرت في سيارة من لاهور إلى بشاور فلما جاء وقت الصلاة توضأت وصليت معهم مأموما، فلما رأوني أرفع يدي عند الركوع وعند الرفع منه وعند القيام من التشهد الأول أخذوا يتكلمون مع الإمام غضابا باللغة الأفغانية وطال خصامهم معه حتى بعد ما ركبنا في السيارة، فلما انتهت الخصومة التفت إلي وقال بالعربية: أتعرف لماذا كان هؤلاء يخاصمونني؟ قلت: لا. قال: لأنك رفعت يديك في الصلاة ظنوا أنك من الفرق الضالة فبينت لهم أن الحق ليس منحصرا في المذهب الحنفي وحده وأن أئمة أهل السنة كل واحد منهم روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث صحت عنده فعمل بها وعمل بها أتباعه.(10/270)
وكان ذلك الإمام من جماعة مولاي إلياس وهي جماعة مشهورة في الهند عندها شيء من التصوف يطوف رجال هذه الجماعة في جميع أرجاء الهند وفي أوروبا وأمريكا وفي أفريقية، وكانوا يزورون المغرب في كل سنة يدعون الناس إلى قول لا إله إلا الله والمحافظة على الصلاة وهم موجودون هنا في المدينة أيضا، ومن عادتهم أنهم لا يقبلون من أحد من أهل البلدان التي يزورونها شيئا لا مالاً ولا طعامًا إلا إذا تحققوا أن من قدم لهم ذلك الطعام من أهل العلم والصلاح إخلاص النية لله، وكان يخرج معهم بعض أصحابنا السلفيين إلى القرى والبوادي للدعوة، والذي أخذته عليهم هو الالتزام الشديد لفروع الحنفية فلا يكادون يعملون بالأحاديث الصحيحة إذا خالفت فروع الحنفية، وهناك شيء آخر أقبح من ذلك وذلك أنهم يصلون في المساجد المبنية على القبور التي اتخذت أوثانا تعبد من دون الله ولا ينكرون على عبادها وحضرت مجالسهم في بشاور يجتمعون كل يوم جمعة بعد العصر في بيت أحدهم، وما عندهم لا رقص ولا غناء ولا ذكر مشتمل على بدعة، يقرأ كل واحد منهم ما تيسر من القرآن في المصحف ثم يترجمه إلى لغة يفهمها الحاضرون إما لغة أردو أو الفارسية أو الإنكليزية، وأنا لا أمنع أصحابنا من مرافقتهم إلا أنني أحذرهم من الصلاة في المساجد المبنية على القبور وآمرهم بإنكار الشرك والبدعة كلما رأوا شيئا من ذلك بقدر جهدهم.
ولم أر في أفغانستان منكرات ظاهرة كتبرج النساء وشرب الخمور، ونسيت أن أقول: إنني لما قطع أولئك الأفغانيون صلاتهم خلفي لمتهم على ذلك فقال لي رجل من الذين لم يصلوا: لا تعبأ بهؤلاء فإنهم لا صلاة لهم لأنهم (سود خور) يعني أكلة الربا.
*بوز دوزخ*(10/271)
ذكرت فيما مضى أني لم أر في أفغانستان منكرات ظاهرة، وذلك يدل على أنهم كانوا متمسكين بالدين على قدر مبلغهم من العلم ولكن كان هناك متفرنجون قليل عددهم عظيم كفرهم، وكانوا مستائين من انتصار الملك ناذر شاه وقضائه على دعوة أمان الله خان التي تشبه الدعوة الكمالية: ومن هؤلاء نائب وزير التعليم وكان الأفغانيون يسمونه بوز دوزخ؛ ومعناه بالفارسية تيس جهنم، أخبرني الشيخ إسماعيل الغزنوي رحمة الله عليه أنه زاره في مكتبه فرأى صورة لينين معلقة فوق رأسه فقال له: كيف تعلق هذه الصورة وأنت تعلم أن صاحبها عدو للدين؟ فأجابه بقوله: إني أعبد هذا الرجل.
*عودة إلى السفر*(10/272)
خرجت مسافرا من كابل يرافقني الصديق المخلص محمد عمر في اليوم الذى لا تأتيني فيه الحمي على أنها بعد ذلك العلاج الغريب صارت لا تأتيني إلا خفيفة جدا. ركبنا في سيارة البريد وسارت بنا ساعة واحدة، فأحسست بالجوع ولم أحس به منذ أصابتني الحمى إلا في تلك الساعة فقلت: يا محمد عمر أنا جائع، فقال: هذه علامة خير أنا ما جئت بطعام لعلمي أنك لا تأكل وما عندي إلا شيء من الخبز والمشمش، والمشمش في كابل مطعم بالخوخ كبير الحجم لذيذ الطعم، (والتطعيم هو أن يؤخذ غصن من شجرة فيحفر له في ساق شجرة أخرى غار ويدخل بعض الغصن في ذلك الغار ثم يسد فتتغير ثمرة الشجرة وتصير ممتزجة مع ثمرة الشجرة التي أخذ منها الغصن فيتألف منهما حجم جديد وطعم جديد). فأخرج لي ما عنده من الخبز والمشمش فأكلته ولم أشبع ومررت على مطعم فيه قدور كبيرة مملوءة باللحم والمرق وخبز أفغاني كبير يكاد الرغيف منه يكون كخمرة المصلي أي الحصير الذي يصلي عليه، فقلت لصاحب السيارة: قف فإني جائع جدا فقال لي: أمامك مطاعم أفضل من هذا. ثم تعطلت السيارة فلم نصل إلى أول مطعم إلا بعد مضي هزيع الليل، وكنت خائفا أن لا أجد طعاما ولكني وجدته فأكلت شيئا كثيرا من اللحم والمرق والبطيخ ولم أجد خبزا ولم يضرني شيء من ذلك ولا أصابتني الحمى بعد ذلك، فتعجبت من تأثير ذلك العلاج العجيب ولم أستطع تعليله إلى الآن وخطر ببالي أنه ربما يكون حر الجمر والدخان الذي كنت أتبخر به سببا في زوال الحمى، وقد خبرني بعض الأطباء الأوروبيين الذين هم معجبون بطب العرب أن العرب كانوا يداوون الشيء بجنسه لا بضده، كما يفعل اليونانيون فيداوون الحرارة بحرارة من نوع آخر والبرودة برودة من نوع آخر وهكذا، فإن صح ما قاله هذا الطبيب فلعل حرارة النار أذهبت حرارة الحمى بإذن الله والله أعلم.(10/273)
ولما وصلنا إلى حاكم بلاد الحدود بين أفغانستان ومستعمرة الهند الإنكليزية ويسمى هذا الحاكم سرحد دار (ومعنى سرحد بالفارسية رأس الحد، ودار تختم جزء كلمة تختم بها أسماء المحترفين فيقال للخازن خزنه دار). أكرمنا حاكم الحدود وقدم لنا نوعا من البطيخ لينا يؤكل بالملعقة تقطع البطيخة نصفين وتغرز ملعقة في وسط كل نصف ويقدم للضيف في صحن فيأكل اللباب بالملعقة ويبقى القشر كأنه إناء مستدير، وجاءت امرأة أوروبية وقدمت له جوازها فسألها بالفارسية فلم تفهم شيئا وتكلمت باللغة الفرنسية فلم يفهم أحد من الحاضرين ما قالت ثم تكلمت بالإنكليزية فلم يفهم أحد شيئا فاستأذنت الحاكم في أن أترجم له كلامها ففرح بذلك، فقلت له: أنها فرنسية وإانها مسافرة إلى كابل لزيارة زوجة السفير الفرنسي في كابل، فقدم لها نصف بطيخة وفيها ملعقة مغروزة وكنا نحن قد فرغنا من أكل البطيخ فتحيرت وقالت لي: كيف يمكن أكل البطيخ بالملعقة؟ فقلت لها: هذا النوع لين جدا يمكن أن تدخلي فيه الملعقة وتأخذي ملئها ثم تملئيها مرة أخرى حتى يبقى القشر كأنه إناء فارغ.
*استدراك*(10/274)
ذكرت شيئا وقع في كابل نسيت أن أذكره في محله. جاءني صاحب صحيفة إصلاح، وسألني أسئلة كثيرة تتعلق بحال المسلمين في المغرب فأخبرته بجميع ما يرتكبه المستعبدون الفرنسيون في المغرب من الفظائع من قتل وسجن ونفي وتعذيب واغتصاب أملاك، وكان جواز سفري قارب الانتهاء فعزمت على أن أرجع إلى الهند قبل انتهاء مدته لأنني كنت لا أشك بأن السفارة الفرنسية في كابل قد اطلعت على ذلك المقال وعلى مقال آخر نشرته في مجلة أخرى نسيت اسمها، فمنعني الشيخان سيف الرحمن ومنصور فقلت لهما: إن السفير الفرنسي لابد أن يكون قد اطلع على المقالين فإذا أقمت هنا إلى أن تنتهي مدة الجواز وذهبت إليه ينتزع مني الجواز ويطردني فقالا: توكل على الله ولا تعجل بالرحيل وربما نأخذ لك جوازا أفغانيا. وهذا من المستحيل ولكنهما شيخان من شيوخ علم الدين لا علم لهما بقوانين جواز السفر. فبقيت إلى أن انتهت مدة الجواز وتوجهت إلى السفارة الفرنسية وأنا خائف أشد الخوف فلما قدمت جوازي للكاتب أخذ يسألني عن المغرب وعن رحلتي إلى هذه البلاد وقبل ذلك قال لي: بأي لغة تتكلم؟ فقلت بالعربية والإنكليزية، فقال لي: ولا تعرف الفرنسية؟ فقلت: لا، فدعا بترجمان يسمع كلامي بالعربية، ثم يترجمه بالفارسية. ثم يترجم بالفرنسية! ثم قال لي: تكلم بالعربية فتكلمت فقال لي: أنا أفهم كل ما تقول ولا حاجة إلى الترجمة وقد أقمت بالمغرب سنين وبالجزائر سنين فما رأيت أحدا يتكلم بالعربية بفصاحة مثلك وأخذ الجواز وجدده وقال لي: إن ثمن التجديد خمس عشرة روبية وقد أعفيتك من دفعها إكراما لعلمك باللغة العربية ثم قال لي: أين تعلمت الإنكليزية؟ فقلت: في الهند، فقال لي: كم سنة قضيت في تعلمها؟ فقلت: سنتين، فقال: سنتان فقط وتقدر أن تتكلم بها!! فقلت: نعم.
*عودة إلى الهند*(10/275)
لما وصلنا إلى حدود الهند ودعني الشيخ محمد عمر راجعًا إلى كابل لأنه وجد سيارة متوجهة إليها ولما رأى مفتش الأجوزة جوازي، قال لي: أنت ليست عندك سمة الدخول إلى الهند، فأريته أن نائب القنصلية الفرنسية في البصرة كتب في جوازي ما نصه (يجوز لحامله أن يدخل الهند كم شاء من المرات ما لم تنقض سنة من تاريخه) فأخرج لي كراسًا مكتوبًا بالآلة وقال لي: اقرأ هنا فقرأت بالإنكليزية ما معناه (كل قادم من أفغانستان يجب أن تكون عنده سمة دخول إلى الهند إما منكابل وإما من جلال آباد) وجلال آباد مدينة صغيرة على نحو الثلث من طريق كابل ثم قلت له: راجع رؤساءك في بشاور بالتليفون فقال لي: إن القانون صريح فمراجعتي لهم تكون غباوة مني وإياك أن تظن أنني أريد بك شرا، هذا سرير للنوم وأنا مستعد لضيافتك إلى أن تمر بنا سيارة متوجهة إلى أفغانستان، ففوضت أمري إلى الله وذهبت حقيبتي مع سيارة البريد التي كنت مسافرا فيها إلى بشاور وقال لي: تريد شرابا أخضر أو أسود؟ فقلت: لا أريد شيئا، فلم يمض إلا وقت قليل حتى جاءت سيارة من الهند متوجهة إلى أفغانستان فأمر سائقها أن يوصلني إلى سرجد.
فلما رجعت إلى حاكم الحدود وأخبرته بما جرى تأسف وقال لي: مرحبا بك بت هذه الليلة هنا وفي الصباح تسافر إلى جلال آباد فإن فضي غرضك فيها فذاك وإلا تتوجه إلى كابل، وأخبرني أن تلك المرأة الفرنسية لما ذهبت أنا إلى حدود الهند سألتهم بالإشارة عني فأخبروها أني مغربي فطلبت لقائي فلما بحثوا وجدوا السيارة قد سارت، وكان الفرنسيون في ذلك الوقت يحكمون المغرب الكبير أي معظمه من حدود تونس إلى حدود سينيغال ويعطفون على المغاربة إذا رأوهم خارج المغرب كأنهم منهم، أما في داخل المغرب فيذيقونهم العذاب الأليم.(10/276)
فبت تلك الليلة عند الحاكم، وفي الصباح توجهت إلى جلال آباد فلقيت الكاتب المختص فلم يأذن لي بالدخول إلا بعد مضي ساعتين ولما أذن لي وأخبرته بمرادي أخذ يقرأ جوازي ويسألني عن كل شيء خفي عليه منه إلى أن أتى عليه ثم قال لي: لابد أن تسافر إلى كابل واستغرق بحثه في الجواز ساعة وكان من أخبث الكتاب وكان هنديا ثم توجهت إلى كابل وأقمت بها أربعة أيام حتى حصلت على سمة الدخول إلى الهند من السفارة الإنكليزية ورجعت إلى بشاور ونزلت عند الشيخ عبد العزيز الندوي ثم عدت إلى لكناو.
* ركوب الفيل*
ترددت قليلاً في إثبات قصة ركوب الفيل لأنها من الاستطراد الذي لا علاقة له بالدعوة ولا بطلب العلم فخيلت أن بعض القراء الذين يحبون الاطلاع على كل شيء يقول لي: أثبتها كما أثبت غيرها مما لا علاقة له بالموضوع، ونهمة القراءة كنهمة الطعام فكما أن الطاعم لا يصبر على طعام واحد فكذلك القارئ.(10/277)
كان في الهند رجل من أهل العلم يتردد علي حين كنت في لكناو وقد أخبرني أن أصله من العرب وأبوه (راخا) أي من رؤساء الإقطاع ودعاني مرارا لزيارة والده فأجبته إلى ذلك، وأخذت معي أخي محمد العربي ومحمد مظهر وكلاهما كان طالبا في المعهد السعودي بمكة ثم انضم محممد مظهر إلى تلامذة ندوة العلماء وهو مولود بمكة وأصله من الهند، فبعث لنا ابن الراجا فيلاً قد جعل على ظهره متكأ من الزرابي والوسائد وركبنا القطار من لكناو حتى وصلنا إلى المحطة التي كان الفيل ينتظرنا فيها فأناخ الفيال الفيل، ولم أكن أعلم قبل ذلك أن الفيل يناخ كما يناخ البعير وبعد ما أناخه لم ينقص من علوه إلا قليل لقصر قوائمه وضخامة بطنه، فأعاننا الفيال حتى ارتقينا إلى ظهره وجلسنا نتحدث ونطالع الكتب، فركب الفيال على قفا الفيل وبيده عصى كعصى القدوم في رأسها حديدة يضرب بها الفيل على رأسه عند الحاجة فسار بنا الفيل سيرا سريعا، وكان الفيال قاسيا على من يصادفه في الطريق من الفلاحين الذين كانوا يسافرون من مكان إلى مكان في عربات تجرها الثيران، فإذا أحس الثور بصوت الفيل ينفر ويخرج من الطريق وهو مرتفع فيقع في المزرعة ويسقط الفلاحون من عرباتهم المفتوحة وتسقط أمتعتهم فيضحك الفيال فرحمناهم ونهيناه عن ذلك. ولما حان وقت صلاة الظهر قلنا له: نريد أن نصلي فأناخ الفيل حتى نزلنا وصلينا ثم عدنا للركوب. وللفيالين لغة تعرفها الأفيال ولا يعرفها أحد غيرهم، فوصلنا إلى الراجا ووجدنا له قصرًا تحيط به أراض واسعة يملكها كلها ويملك من فيها من الفلاحين، فأقمنا عنده بضعة أيام وأكرمنا غاية الإكرام وأخبرنا أن جده جاء من عمان منذ زمان وأن أسلافه تركوا له هذه الثروة وهو يحن إلى وطنه الأصلي إلى بلاد العرب.(10/278)
وعلى ذكر الفيلة أقول إن أمثال هذا الراجا في الهند كثير وكلهم رؤساء إقطاع الواحد منهم يملك بضعة وعشرين فيلا، علفُ الفيل الواحد منها يكفي للنفقة على إطعام خلق كثير من الناس وليس لهم غرض بهذه الفيلة إلا التفاخر والتكاثر، وكنت أشاهد مواكب الفيلة في مدينة لكناو إذا كان عند أحد الرؤساء الملقبين بهذا اللقب فرح كعرس أو خطبة يؤلف رعاياه موكبا من الفيلة وعلى ظهرها قباب من الحرير المذهب يجلس فيها أقارب الراجا من رجال ونساء ويطوف الموكب المدينة كلها، وتكون القباب التي على ظهور الفيلة مساوية في الارتفاع تقريبا لمن يجلس في الطبقة الأولى من البيوت.(10/279)
أقمنا عند الراجا العربي بضعة أيام كما تقدم ثم استأذناه في السفر فهيأ لنا الفيل وكان أخي محمد العربي مولعا بركوب الإبل فسأله أن يعطيه ناقة يركبها بدل الفيل فأعطاه إياها، ولما أخذ الفيل يسير بنا في الطريق إلى محطة سكة الحديد وبيننا وبينها ثلاث ساعات بسير الفيل أخذ يسير ببطء شديد، فقلنا له: أسرع كما كنت تسرع في المجيء حتى لا يفوتنا القطار فقال لنا: إنني سأسرع بكما كما أسرع بسيدي الراجا ولكن لا أضمن لكما أن تصلا إلى المحطة قبل وصول القطار إليها وإذا وصلنا متأخرين ووجدنا القطار قد فات يلزمكم أن تبيتوا في القرية المتصلة بالمحطة ولا تجدون فيها طعاما ولا مأوى وتمضون فيها يوما وليلة إلى أن يجيء القطار من الغد، ففهمنا مقصوده وهو أنه يريد البخشيش فأخذني العناد وقلت في نفسي: سيده يدعونا ليكرمنا وهو عبد يتحكم في رقابنا ويغرمنا، فقلت له: إما أن تسرع كما فعلت في المجيء وإلا كتبت إلى سيدك لينزل بك أشد العقاب يا غدر يا لكع فأخذ يتكلم مع الفيل بلغة الفيالين ويضربه على رأسه بالحديد ويقول له: مَجَمّ مَجَمّ (بفتح الميم والجيم وتشديد الميم) أي أبطئ فلا يزيد الفيل إلا إبطاء وتثاقلاً، فتعجبنا من ذلك. وكنا قد سبقنا أخي محمد العربي بمسافة طويلة فلما تباطأ الفيل لحقنا فسمع الفيل رغاء الناقة فنفر وهرب بنا فأخذ الفيال يضربه بالحديدة ويقول: مَجَمّ مَجَمّ فلم يطعه فقلنا: الحمد لله انحلت المشكلة وأمرت أخي محمد العربي أن يبقى دائما خلفنا بناقته ويضربها لترغي فبطل كيد الفيال وضحكنا عليه كثيرا، فوصلنا المحطة قبل مجيء القطار بساعة، وكان الفيال وثنيا فلما نزلنا وأراد أن يرجع جمع كفيه وألصق يديه بصدره إشارة لتحية الوداع وهي تحية معروفة عند الوثنيين، وطلب البخشيش وهو ما يعطى من الإكرام للخدم فقلت له: مَجَمّ مَجَمّ هذا هو البخشيش الذي نعطيك الذي أعطيتنا وهو مجم مجم، فانصرف خائبا وهذه القرية التي فيها محطة سكة(10/280)
الحديد هي أحد أملاك الراجا.
*الحمى النافض*
اشتد علي مرض الحمى حتى أصابتني في تسعة أشهر سبع مرات في كل مرة أبقى محموما من أسبوع إلى أسبوعين. ومن أجل من عرفته من الأطباء النطاسيين في مدينة لكناو الدكتور محمد نعيم الأنصاري، وقد نزلت عنده ضيفا مكرما مرارا قبل أن أستوطن لكناو في إحداها أقمت عنده خمسة عشر يوما ليس لنا طعام إلا العدس لأن الحرب شبت نارها بين المسلمين والهنادك فتعطلت الأسواق، وجعل أغنياء الهنادك لكل من يأتيهم من سفلتهم برأس شخص مسلم سواء أكان ذكرا أو أنثى صغيرا أو كبيرا قويًا أو عاجزا مبصرا أو أعمى عشر روبيات.
وكان غاندي الزعيم الهندي طليقا غير مسجون وكان في إمكانه أن يخمد تلك الحرب بكلمة واحدة فلم يفعل لأنه كان من أكبر أعداء الإسلام، والجاهلون بحاله من العرب يقدسونه كما يقدسه الوثنيون في الهند ويسمونه المهاتما جهلاً منهم والمهاتما معناه المقدس عند الوثنيين، وكان عالي الثقافة شديد التعصب عظيم المكر والدهاء يتظاهر للمسلمين بالمسالمة والمحبة كالحية الرقطاء، وقد زعم في صحيفة هريجان أن الله أوحى إليه أن طهر المنبوذين وألحقهم بإخوانهم من الطبقات العليا. وقال في صحيفته: فإن سألتموني دليلاً حسيًا على أن الله أوحى إليَّ بذلك أقول لكم: ما عندي دليل ولكني لا أشك في هذا الوحي.(10/281)
وهذا العمل منه يدل على أنه لم يكن مؤمنا بدين أسلافه البراهمة لأن محو الطبقات وتوحيدها يهدم الذين البرهمي من أساسه لأنه مبني على عقيدة تناسخ الأرواح، وذلك أن الأرواح تأتي إلى الدنيا في أجسام الأطفال عند ولادتهم فإذا كبر الطفل وعمل أعمالاً مطابقة لما تريده الآلهة وكان في طبقة سافلة كالمنبوذين تنتقل روحه بعد موته وترجع إلى الدنيا في مولود من طبقة أعلى منها، فإذا عمل بما تريده الآلهة في هذه الطبقة الثانية يرجع إلى الدنيا بعد موته في جسم مولود من الطبقة الثالثة، ثم إذا عمل بما تريده الآلهة في الدور يرجع بعد موته إلى الدنيا في جسم مولود من الطبقة العليا وهي طبقة البراهما.
أما إذا عمل بخلاف ذلك وكان في طبقة عالية غير طبقة البراهمة فإنه يعود إلى الدنيا في طبقة أسفل منها، وإن استمر على فعل السيئات في نظرهم لا يزال يسفل إلى أن ترجع روحه في أجسام الحيوان ثم لا تزال تسفل حتى ترجع في أجسام الحشرات طبقا لقانون الجزاء وهو الثواب والعقاب، ولذلك قتله المتعصبون من أبناء جنسه غيرة منهم على دينهم، وكنت مجاوزا لأحد أتباعه من خاصته وكان طلبة العلم يأتون إلى بيتي فنجتمع على ذكر الله فآذاني ذلك الجار حتى اضطرني إلى الانتقال من شدة بغضه للمسلمين.
والآن بعد هذه الجولة أرجع إلى علاج الحمى كان الدكتور محمد نعيم الأنصاري إذا لم يكن مسافرا يفحصني ويكتب لي العلاج ويحدد لي يوما وليلة لزوال الحمى، وإذا كان مسافرا لا ينفعني علاج غيره، وهذا سبب عزمي على الرجوع إلى العراق وترك السكنى في الهند وكان ذلك في شعبان سنة 1352هـ ولم أبق في العراق إلا مدة يسيرة حتى سافرت إلى أوروبا كما تقدم.
* الدعوة إلى الله في مكناس*(10/282)
سافرت من العراق إلى البلاد الجرمانية كما تقدم في سنة 1959 بتاريخ النصارى ثم توجهت إلى المغرب، وجلت فيه جولة ثم نزلت عند عميد الدعوة السلفية في المغرب أستاذي ومرشدي شيخ الإسلام محمد بن العربي العلوي في بيته بمدينة فاس رحمة الله عليه وبقيت عنده إلى أن تم نقل عملي من جامعة بغداد إلى جامعة الرباط، والفضل في ذلك لله وحده ثم لنابغة المغرب العالم الأديب المتفنن ذي التآليف المفيدة والفضائل العديدة السيد عبد الله كنون أطال الله بقاءه وأدام في المعالي ارتقاءه.
ولما استقررت في مدينة فاس عزمت على استئناف العمل في الدعوة إلى اتباع الوحي عملاً بقوله تعالى في سورة الزخرف: { فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ } (الآيتان: 43، 44) ما أعظم هذه الآية! وما أشد موت قلب من لا تحركه ولا تؤثر فيه! فشاورت شيخنا المذكور في ذلك فوجدته قد استولى عليه اليأس، فقال لي: دع هؤلاء الأموات فقد طبع الله على قلوبهم فقد تعبت في دعوتهم، وتعب قبلي رائد الدعوة السلفية العالم الكبير الشيخ شعيب الدكالي وكان بحرا زاخرا في علم الكتاب والسنة وعلوم كثيرة فقلت له: يا أستاذي إني دعوت إلى الله في أقطار مختلفة فنجحت دعوتي فدعني أجرب فقال لي: توكل على الله.(10/283)
فبدأت دروس الدعوة في مسجد المدرسة العنانية في فاس فما مضى إلا أسبوع واحد حتى غص المسجد بالمستمعين، وبعد مدة حضر درسي رجل يرتدي بزة أوروبية فاخرة فلما فرغنا من الدرس وصلينا العشاء عرفني بنفسه، وأخبرني أنه وزير فأرجو أن تزورني في وزارة الأوقاف وأثنى على درسي وقال لي أين تريد أن تذهب؟ فقلت: أنا نازل في بيت أستاذي شيخ الإسلام محمد بن العربي العلوي فقال لي: أنا آخذك بالسيارة إلى هناك وذهبنا إلى هناك، فرحب به شيخنا وزاده تعريفاً بي، فقال لي: إذا أتيت الرباط فأرجوا أن تزورني في وزارة الأوقاف فزرته لما ذهبت إلى الرباط لألقي دروسي في الجامعة، وبين فاس والرباط مائتان من الأميال المعروفة بكيلو متر. وإنما سكنت في فاس مع بعده من الجامعة خوفا من مرض الربو الذي يشتد علي بقرب البحر ويخف أو يزول إذا ابتعدت منه، وقد علمتني التجارب أن كل من أصيب بهذا المرض في بلاد رطبة الهواء كشواطئ البحار فدواؤه أن يفر إلى الأراضي الجافة الهواء كالصحاري، أما من أصيب به في بلد يابس الهواء فدواؤه شواطى البحار.
فزرت الأستاذ السيد مكي بادو فرحب بي ودعاني للطعام وأكرمني غاية الإكرأم ولما خرجت من عنده جاءني أحد الموظفين وقال لي: إن السيد المكي يعلم أنك تلقي دروس الوعظ والإرشاد لوجه الله لا تريد عليها مكافأة، ولكنه يحب أن تكون واعظًا رسميا معينا من قبل وزارة الأوقاف وقد جعل لك مائتي درهم في كل شهر وهذا شيء حقير جدا بالنسبة إلى مقامك ودروسك القيمة ولكن نظام الوزارة لا يسمح بأكثر من هذا فإن رواتب الوعاظ لا تزيد على مائة درهم، فقبلت ذلك واستمررت في دروسي ثمانية أشهر.(10/284)
ثم انتقلت إلى مكناس بإشارة من أستاذي لأنها أقرب إلى الرباط فبينهما مائة وأربعون ميلاً ينقص ستين ميلاً هذا بعد ما جربت هواءها ووجدته مناسبا، وشرعت ألقي دروس الوعظ في الجامع الكبير فأقبل الناس كذلك على درسي في مكناس إقبالاً عظيما، ولكن الجامدين من الفقهاء وأصحاب الطرائق شرقوا بتلك الدروس وكذلك المتأكلون بالنسب ورأوا أنها أخذت تهدم ما بنوه من قصور الخرافات على الرمال، وتظهر للعامة جهلهم وانحرافهم عن الجادة فأجمعوا على أن يكيدوا لي كيدا يقضي علي، وكان الذي تولى كبر ذلك رجلاً له نفوذ ودالة على أمير مكناس ونواحيها وكان هذا الأمير من أبناء عمومة الملك محمد الخامس رحمة الله عليه وبينهما مصاهرة، فكان يفعل في إمارته ما يشاء ولعلو مكانته عند الملك لا يستطيع وزير ولا رئيس أن يعارضه، فكتب ذلك الشخص ومع أولئك الأعداء كتابًا إلى وزارة الأوقاف يطلبون منعي من التدريس لأمور: منها: أنني بزعمهم أنكر كرامات الأولياء وأنقض المذهب المالكي وعدوا أمورا سمعوها في درسي من إنكار الشرك والبدع، ووقع على هذا الكتاب خمسمائة شخص.
وكان وزير الأوقاف في ذلك الوقت كما هو الآن معالي الأستاذ الحاج أحمد بركاش ومدير شؤون الوعظ والإرشاد هو العالم السلفي صاحب الفضيلة السيد محمد الطنجي وهما يعلمان أن الساعي في ذلك له نفوذ عظيم عند الأمير لا يرد له طلبا ومع ذلك وفقهما الله سبحانه إلى جواب حاسم كان شجا في حلوق المبتدعين ومضمونه: إنكم طلبتم عزل محمد تقي الدين الهلالي من دروس الوعظ ونقمتم عليه مسائل نسبتموها له فنحن نأمركم أن تكتبوا أدلتكم على صحة ما ذهبتم إليه في تلك المسائل ونأمره أن يكتب أدلته على صحة ما ذهب إليه فيها ثم تؤلف لجنة برئاسة الأستاذ عبد الله كنون وتنظر في تلك المسائل وتحكم بالحق، فسقط في أيديهم ولم يكتبوا شيئا.(10/285)
وذهبت إلى شيخ الإسلام محمد بن العربي العلوي رحمه الله وأخبرته بذلك، قال لي: اذهب إلى الأمير وقل له إن أستاذي محمد بن العربي العلوي حثني على زيارتك وأخبرني أنك من أعز أصدقائه ولا تزده على ذلك شيئا، وقبل أن أقوم بزيارة الأمير اجتمعت بذلك الشخص الذي أثار تلك الفتنة فقال لي: إن المخبرين بلغوني أنك تخوض في مسائل السياسة في دروس وعظك والخوض في السياسة لا يجوز لأي واعظ، فقلت له: أنا لا أذكر في دروسي إلا ما دل عليه الكتاب والسنة وقد دأبت على إلقاء الدروس بهذه الطريقة في أقطار مختلفة منذ أربعين سنة وتصدى لمحاربتي رجال أقوى منك، فلم يستطيعوا أن يصدوني عن هذه السبيل وليس بيني وبينك إلا هذه الدريهمات، وسأذهب إلى الرباط وأتكلم مع معالي وزير الأوقاف فإن كان ما نسبت إليه صحيحا استمررت على الدعوة إلى الله إلى أن تمنعوني بالعنف والقوة التي تدعون، فدعا شخصا من الموظفين وقال: يا فلان تعال اسمع ما يقول، فقلت له: أنا لا أنكر كلامي فلا حاجة بك إلى الاستشهاد، وانصرفت من عنده.
ثم زرت الأمير وأخبرته بما أمرني به أستاذي أن أقول له فرحب بي وقال لي: إن شؤون الأوقاف ليست بيدي هي بيد وزير الشؤون الإسلامية علاّل الفاسي أما ما سواها من الأمور المدنية فكل ما تريده من الحاجات فأنا مستعد لقضائه، فقلت له: أطال الله بقاءك أنا ما جئت لحاجة تتعلق بالأوقاف ولا بغيرها وإنما جئت لامتثال ما أمرني به أستاذي من زيارتكم ثم انصرفت من عنده.
وبقيت في مكناس تسع سنين في أثنائها هجم علي أولئك المحاربون برئاسة الشخص المشار إليه مرارا وفي كل مرة يجمعون أمرهم ويجتهدون في كيدهم حتى يظنوا أنني لا أفلت فينجيني الله تعالى ويبطل كيدهم.
*المكيدة الثانية*(10/286)
بُني في المدينة الجديدة من مكناس مسجد جديد بأمر من الملك محمد الخامس رحمة الله عليه، وهذا المسجد قريب من بيتي وعين فيه إمام وخطيب من أحد إخواننا السلفيين مولاي هاشم العلوي ففرحنا بذلك وجعلنا نصلي فيه الجمعة، وكنت أصلي فيه صلاة الصبح إماما، ويحضر الصلاة بعض إخواننا ويحضر كذلك المبتدعون وكان المسجد بعيذا من بيت الإمام فلم يكن يستطيع أن يحضر لصلاة الصبح، وكنت كذلك ألقي فيه درسا أسبوعيا بين العشاءين فكنت أصلي المغرب والعشاء إماما بإذن منه ولو كان حاضرا واستمررنا على ذلك لمدة سنة، فاتفق ذلك الشخص الذي تسبب في المكيدة الأولى مع فقيه منحرف على الكيد للإمام السلفي ولجماعتنا السلفية.
ومن عادة سكان المدن المغربية أن يصلوا الصبح على حساب المنجمين ولا يكلف أحد منهم نفسه أن ينظر إلى الفجر أطلع أم لم يطلع، فكانوا يصلون الصبح قبل طلوع الفجر الذي يرى بالبصر بنحو نصف ساعة، فنهيت جماعتنا عن مشاركتهم في هذه الصلاة الباطلة فكنا نؤخر الصلاة إلى أن يتحقق طلوع الفجر، وكان المبتدعون يمتعضون لذلك ولكنهم لم يتجرؤوا على الكلام حتى وقع الاتفاق بين الرئيس والفقيه، فأوعز الفقيه إلى اثنين من الجهال المتحمسين للبدعة أن يوقعا فتنة في المسجد، فجاءا ذات يوم بل ذات ليلة ولما وصل الوقت المعين لصلاة الصبح بحساب المنجمين قالا لشخص كان ينوب عن الإمام في حال غيبته: قم صل الوقت فلماذا ننتظر الهلالي وهو نائم في بيته؟ فامتنع إخواننا من الصلاة لأول وهلة ثم خافوا أن تقع مشاجرة في المسجد فصلوا معهم، فلما وصلت أنا وجدتهم قد فرغوا من الصلاة فأمرت إخواننا أن يعيدوا صلاتهم وصليت بهم وبمن حضر من غيرهم.(10/287)
وكنت ألقي درساً بعد صلاة الصبح كل يوم فلمتهم على موافقتهم للمبتدعين وبينت بالأدلة القاطعة أن من صلى أي صلاة قبل أن يتحقق دخول وقتها بالرؤية لطلوع الفجر وغروب الشمس إن لم يحجب طلوعها حاجب فإن كان هناك حاجب من سحاب وضباب وجب الانتظار إلى أن ينتشر الضوء، وإلى أن يأتي ظلام الليل مساء، أما صلاة الظهر والعصر والعشاء في أوقات الغيم فيقدر لها بالتأخير إلى أن يتحقق دخول الوقت.
وفي الغد حضر ذانك الشخصان الساعيان في الفتنة فأرادا من نائب الإمام والحاضرين تعجيل الصلاة فمنعهما أصحابنا، فدعا ذلك الرئيس الإمام السلفي وقال له: لماذا تركت الصلاة في مسجدك الذي أنت معين فيه وأذنت لمحمد تقي الدين الهلالي أن يصلي عوضا عنك؟ فقال: لأن المسجد بعيد من بيتي وليس لي سيارة فاتخذ الرئيس ذلك سببا لعزله وهو المقصود بإثارة تلك الفتنة فعزله وولى ذلك الفقيه المنحرف.(10/288)
واتفق أن إمام المسجد الكبير توفي في تلك الأيام وكان مسالما لنا لا يُظهر شيئا من الشرك بل نحن نظن أنه كان موحدا حقا وصدقا فولي شخص مبتدع معلن للشرك، ولاه ذلك الرئيس الإمامة في المسجد الكبير، فلما شرع الإمامان إمام الجامع الكبير وإمام المسجد الجديد يؤمان الناس قام نفر لا يزيدون على خمسة من الشباب السلفيين في وجه إمام الجامع الكبير، وقالوا له: أنت مشرك لا تصح الصلاة خلفك وصلوا وحدهم جماعة ثانية وهو يؤم المصلين في وقت واحد وفعلوا مثل ذلك في المسجد الجديد، فظن الرئيس أن هذه فرصة عظيمة للقضاء على دعوتنا وحرك رؤوس الفتنة من الفقهاء والطرقيين، ومن غريب المصادفات أن عامل الإقليم كان قد ولي العمالة جديدا ولم يكن يعرف أحوال المدينة فذهب إليه خلق كثير بتحريض من ذلك الرئيس يؤمهم الفقهاء المنحرفون الطرقيون، وقالوا له: إن جماعة الهلالي أثاروا فتنة عظيمة في المساجد وصار الناس يصلون جماعتين في وقت واحد ووقع نزاع ومشاجرة في كل مسجد بسبب هؤلاء مع أنهم وهابيون خارجون عن مذاهب أهل السنة.(10/289)
فأخذ العامل التليفون وكلم معالي وزير الأوقاف الأستاذ الحاج أحمد برقاش بارك الله فيه وأدام توفيقه للخيرات، فأخبره بشكوى المبتدعين فقال له: نحن نعرف محمد تقي الدين الهلالي فدع عنك هذه المسألة فسأتولى التحقيق فيها أنا بنفسي، وكنت مسافرا في فاس فلما رجعت علمت أن معالي الوزير فتح التليفون ليكلمني فلم يجدني، فقال لمن كان ممسكا للتليفون: قل له: يتوجه إلى الرباط للاجتماع بي، فتوجهت إليه وكان عنده شيء من الشك في صحة ما نسب أولئك المبتدعون لجماعتنا، فأوعز إلى نائبه في الشؤون الدينية الأستاذ الفاضل السيد عبد الرحمن الدكالي أن يتحدث معي في تلك القضية فقال لي الأستاذ الدكالي في فاتحة الحديث: سافرت إلى الهند، فما زرت جامعة ولا محفلا علميا إلا وجدت الناس هناك يلهجون بالثناء عليك وكثير منهم أخبروني أنهم تلامذتك ففرحت بذلك كثيرا، ولما رجعت أخبرت سيدنا المنصور بالله يعني جلالة الملك الحسن الثاني وأخبرت معالي الوزير ونحن نفتخر بك. يضاف إلى ذلك أن والدي العلامة الكبير الشيخ شعيبا الدكالي هو أول من دعا إلى السلفية في المغرب، فأنا من المؤيدين لدعوتك المعجبين بها، ولكن ينبغي الاعتدال وترك التشدد الذي يثير الفتن فقلت له: ماذا تعني بهذا؟ فأخبرني بمكالمة العامل مع الوزير وإخباره بما زعمه المبتدعون فقلت له: إن ما ذكروه غير صحيح، خمسة من تلامذة المدارس من الشباب عارضوا الإمامين مرة واحدة ولما جاء اليوم الذي ألقي فيه الدرس في الجامع الأعظم تكلمت في درسي وبينت أن ما فعله أولئك النفر من الشباب خطأ عظيم واستنكرته أشد الاستنكار، وصرحت بأن تولية الأئمة هي لصاحب الجلالة لأ ينازعه فيها أحد وقد أناب صاحب الجلالة الملك المعظم صاحب المعالي الأستاذ الحاج أحمد برقاش وزير عموم الأوقاف فالواجب على الناس جميعا أن لا يتعرضوا لإمام من أئمة المساجد الرسميين ولا ينازعوه لأن ذلك عصيان لأمر صاحب الجلالة وتدخل في الشؤون(10/290)
المنوطة بمعالي وزير الأوقاف، وليست تولية الأئمة راجعة إلى شهوة المصلين ولو كان الأمر كذلك ما صحت تولية إمام قط لأن المصلين لا يكادون يتفقون على إمام واحد. وحين كنت أبين هذا كان الإمام نفسه يسمع ومئات من الناس كانوا حاضرين وهؤلاء المبتدعون إنما ظنوها فرصة مواتية فاغتنموها.
وأخبرني رفيقي أن سعادة الكولونيل عبد الرحمن الدكالي لما سمع هذا البيان تهلل وجهه فذهب إلى معالي الوزير وأنبأه بما قلت له فدعاني الوزير وعانقني وقال لي: معاذ الله أن نظن بك ما نسبوا إليك، وتحدثنا مليا في طبع كتاب التمهيد الذي أمر به صاحب الجلالة الملك المعظم الحسن الثاني أجزل الله مثوبته وخلد في الصالحين ذكره وأطال عمره ليضيف إلى هذه الحسنة حسنات أخرى.
وبعد ما رجعت إلى مكناس علمت أن معالي الوزير الأستاذ الحاج أحمد برقاش كلم العامل في التليفون وأخبره بأنه أجرى تحقيقا دقيقا في القضية فوجد ما قاله أولئك الوشاة كذبا وبهتانا، وقال له: أرجو من فضلك أن لا تتسرع مرة أخرى في مثل هذه الأمور فباء أعداء التوحيد والسنة بخيبة وخسران مبين.
* * *
* المكيدة الثالثة *(10/291)
قبيل توجهي إلى المدينة للانخراط في سلك المدرسين في الجامعة الإسلامية أراد رؤساء الشرك والبدعة أن يجعلوا خاتمة وعظي في الجامع الكبير سيئة؛ ليبنوا عليها ما تسول لهم أنفسهم من الفرى، وكنت أدرس كتاب فتح المجيد شرح كتاب التوحيد لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمة الله عليه ولم أترك تدريسه قط منذ حللت مكناس إلى أن توجهت إلى المدينة أختمه ثم أبدؤه من جديد وبينما أنا أقرر تفسير قوله تعالى في سورة الشعراء: { أُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ * وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ * وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ * مِن دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنصُرُونَكُمْ أَوْ يَنتَصِرُونَ * فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ * وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ * قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ * تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ * فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ * وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ * فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } [الشعراء: 90-102] فبينت في معنى قوله تعالى: { وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ } أن كل من دعا إلى عبادة القبور وتعظيمها ببناء القباب عليها والذبح والنذر لها، والطواف بها وسؤال قضاء الحاجات وتفريج الكربات من المقبورين فيها وأقام لها المواسم والأعياد فهو من هؤلاء المجرمين الذين ذكرهم الله تعالى؛ فقام رجل من دعاة الشرك والبدعة فرفع صوته وقال: حتى صاحب الجلالة من المجرمين فبادرت بالجواب وقلت له: أنت المجرم وصاحب الجلالة بريء مما تريد أن تلصقه به من عبادة القبور، وهو أعلم بالله وأتقى وأجل من أن يعبد القبور فقد كذبت عليه وجاوزت الحد في الوقاحة إذ تنسب هذا الإمام العظيم ملك العلماء وأعلم الملوك إلى عبادة القبور التي لا يرضى بها إلا شرار الجهال أمثالك.(10/292)
فارتفعت أصوات من الجالسين وكان عددهم نحو سبعمائة: أنت المجرم أنت المجرم وأرادوا أن يضربوه، فقام العالم المصلح السلفي الحكيم الحاج محمد بن عبود ونصح لهم أن لا يضربوه لأنهم إذا ضربوه يمكنونه من مراده في إثارة الفتنة وادعاء أن درس التوحيد يفضي إلى المشاجرة والتقاتل فيجب منعه، وأصاب هذا الناعق رعب شديد فأراد أن يخرج من المسجد فخاف أن يضرب خارجه ولم يستطع البقاء بين الجالسين لكثرة إنكارهم عليه فما وجد سبيلا إلا أن التجأ إلى الصعود إلى المنارة.
ومع هذه الهزيمة التي وقعت للمشركين طمعوا أن يتخذوها ذريعة لمنع دروس التوحيد، واتفق أن الرؤساء من الحكام كانوا غائبين عن مدينة مكناس لأنهم ذهبوا ليستقبلوا جلالة الملك الحسن الثاني عند رجوعه إلى عاصمة ملكه من زيارة الجزائر ولم يوجد إلا نائب من نواب المتصرف فالتجأوا إليه وطلبوا منه أن يمنع دروس التوحيد، فانتظر إلى قرب أذان المغرب الذي بعده يكون الدرس فبعث إلي شيخين من شيوخ الحارات راكبين على سيارة العمالة فدخلا علي وقالا لي: إن سعادة العامل -يعنون الأمير- يقول لك: اترك التدريس في الجامع الكبير إلى أن ينظر في القضية التي حصلت البارحة وقال لنا: قولوا له يجبكم بنعم أو لا، فقلت لهم: أنا لا أعارض أمر العامل وامتنعت من التدريس في المساء ففرح المشركون فرحا عظيما وظنوا أنهم أدركوا وطرهم وقضوا على الموحدين المتبعين للرسول قضاء مبرما ولكن الله العلي العظيم الذي نصرنا في المرة الأولى والثانية نصرنا في هذه أيضا نصرا مؤزرا من فضله ورحمته لا باستحقاق لأننا مقصرون في طاعته.(10/293)
بعد يوم واحد رجع العامل ورجع النائب الأول للمتصرف، ومتصرف مكناس هو الحسيب النسيب صاحب السعادة مولاي سلامة بن زيدان العلوي، وما رأينا منه إلا البر والإكرام حاشا له أن ينضم إلى من يحارب سنة جده المصطفى، وعند ذلك ذهبت يصحبني جماعة من إخواننا إلى العامل فقلت له بعد التحية: إن أحد نواب المتصرف بعث إلى شيخين من شيوخ الحارات في سيارة من سيارات العمالة يقول: إن العامل يأمرك بالامتناع عن إلقاء دروس التوحيد في الجامع الكبير، فقال لي: أنا كنت مسافرا ولم يصدر مني أي شيء مما زعم، وقد قدر هؤلاء المحاربون للسنة أن يكذبوا علي ويوهموني صدق مفترياتهم فيما مضى ولن يستطيعوا أن يروجوا علي مكرهم مرة أخرى فأنا لا أتعرض لدروسك أبدا فاستمر فيها على بركة الله، وقال النائب الأول لسعادة متصرف المدينة مثل ذلك.
وقد قام العالم السلفي السيد محمد بن عبد الله العلوي القاضي بجهود مشكورة في ذلك اليوم أيضا، فسقط في أيدي أولئك المفسدين وانهزموا شر هزيمة، فاستمررت في الدرس كل مساء إلى أن سافرت إلى المدينة وقرت بذلك أعين أهل التوحيد والاتباع، وخسر هنالك أهل الشرك والابتداع { فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [الأنعام: 45].
* المدرسة الحسنية *
لم يزل أولئك المفسدون ينقلون الوشايات إلى جلالة الملك المعظم الحسن الثاني أيده الله وأدام توفيقه وتسديده، فلم يستطيعوا أن يؤثروا فيه لحكمته وتثبته، وبلغني والعهدة على الراوي أنه حين أكثروا عليه حضر الدرس بنفسه متنكرا؛ فعلم أن دروسي إنماهي دعوة لاتباع الكتاب والسنة وتحذير من الشرك والبدعة اللذين هما سبب كل شقاء أصاب المسلمين فلم أر من هذا الملك الرشيد إلا الخير.(10/294)
وقبل بضع سنين ألهم الله جلالة الملك الحسن الثاني أن يبني مكرمة طالما غفل عنها الملوك السابقون، وهي من المزايا التي خصه الله بها والله يختص بفضله من يشاء، ألا وهي تأسيس دار الحديث الحسنية ولما نشر خبر هذه الفكرة امتلأت قلوبنا سرورا؛ لأن علم الحديث أهمل منذ عصور طويلة إلى أن اندرس ولم يبق له وجود لا من الوجهة العلمية، ولا من الوجهة العملية وصار الوعاظ وخطباء الجماعات يملؤون حديثهم بالموضوعات، ولا يميزون خبرا صحيحا من خبر ضعيف أو موضوع، ومن المعلوم أن علم الحديث هو مفتاح علوم الدين كلها لأنه لا تعرف معاني القرآن الذي هو حجة الله على خلقه إلا بأقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله، كما قال تعالى في سورة النحل: { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } [النحل: 44] وخفنا أن لا تخرج هذه الفكرة إلى حيز العمل، ولكن أبا محمد الحسن الثاني أيده الله من أهل العزم الذين إذا قالوا فعلوا وإذا فعلوا أجادوا فخرجت هذه الفكرة إلى حيز العمل، وأنشئت دار الحديث الحسنية، ولم أدع إلى التدريس فيها إلا بعد مضي شهرين من إنشائها بسبب وشاية أولئك الوشاة ثم دعاني وزير الأوقاف الأستاذ أحمد برقاش إلى مكتبه بالوزارة، وتلقاني بغاية الحفاوة وقال لي: إن سيدنا المنصور بالله أسس هذه المدرسة وإننا نرجو أن يكون لها مستقبل عظيم فينبغي أن تشارك في هذا العمل المبرور، فقلت له: منذ ظهرت فكرة إنشاء هذه الدار وقبل أن تحقق وتخرج إلى حيز الوجود كنت أول المرحبين بها المستبشرين بظهورها، ونشرت في ذلك مقالا طويلا في مجلة ((دعوة الحق)) التي تصدرها وزارتكم نظما ونثرا فقال لي: لم أطلع عليه فقال له الأستاذ الحاج عبد الرحمن الدكالي: بلى يا صاحب المعالي نشر هذا المقال في المجلة منذ زمان، فأعطاني معالي الوزير أهم الدروس التي تلقى في دار الحديث وهو تفسير القرآن(10/295)
وكتاب الموطأ في الحديث للإمام مالك رحمه الله.
فبدأت في إلقاء الدروس أحضر دروس القرآن والحديث ثم ألقيها على الطلبة وكان عددهم في أول الأمر ثلاثين طالبا، ففرح الطلبة بتلك الدروس وأقبلوا عليها إلا أربعة كانوا طرقيين تجانيين فإنهم كرهوا دروسي وأخذوا يشاغبون ويكثرون من الأسئلة التعنتية وأنا أدفعهم بالتي هي أحسن.
وكان عندي أربعة دروس في كل أسبوع فكنت أتوجه إلى الرباط لإلقاء دروسي في جامعة محمد الخامس رحمه الله وأنتهي منها قبل الزوال وكان الوقت المحدد للدرسين اللذين كنت ألقيهما في دار الحديث الحسنية أحدهما قبل صلاة العصر والثاني بعدها وكنا في رمضان، فكنت أرجع إلى مكناس بعد الفراغ من الدرس الثاني فيدركني المغرب في الطريق فأفطر على التمر والماء وكنت أتلقى تلك المشقة بصدر رحيب بل بفرح وسرور لما كنت أرجو من أجرها وثوابها وانتفاع الطلبة بها، ولكن مشاغبة أولئك المفسدين كانت تسوءني وخصوصا في رمضان الذي يجب فيه على كل مسلم أن لا ينطق إلا بالكلم الطيب، فقلت في نفسي: عل شر هذه الدروس أكثر من خيرها.
وفي ذات يوم كنت أفسر قوله تعالى: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } فبينت أن كل من دعا غير الله أو استغاث به لجلب نفع أو دفع ضر فقد وقع في الشرك الأكبر الذي لا يغفر، فضج التجانيون وقالوا: كفرت أسلافنا!! فقلت: إن كان أسلافكم يدعون إلى الشرك بالله فأبعدهم الله وأخرجت أحدهم من الدروس.
ولم يكن معالي الوزير موجودا في الرباط بل كان مسافرا وعميد الكلية كان متصوفا
خرافيا يزعم أن الأولياء إذا وصلوا إلى درجة الفناء تسقط عنهم التكاليف ويباح لهم ارتكاب الكبائر كلها، فصممت على ترك التدريس وكتبت استقالتي إلى معالي الوزير، واعترف أن ذلك كان تسرعا مني وكان ينبغي لي أن أنتظر أوبته، ولكن المقدر كائن وعذري في ذلك أني أردت أن أصون صيامي من اللغو عملا بقول من قال:(10/296)
إذا لم يكن في السمع مني تصون ... وفي بصري غض وفي منطقي صمت
فحظي إذا من صومي الجوع والظما ... وإن قلت: إني صمت يوما فما صمت
وقال آخر:
واعلم بأنك لا تكون تصومه ... حتى تكون تصومه وتصونه
فلما رجع معالي الوزير تأسف على ذلك وقبل استقالتي وكانت مدة تدريسي في دار الحديث الحسنية شهرين ونصفا.
وهذه هي القصيدة التي قلتها في الترحيب بفكرة دار الحديث الحسنية.
بدار حديث المصطفى حقت البشرى ... فأشرقت الآفاق وامتلأت بشرا
في الفكرة الحسنى بها الحسن ارتقى ... إلى ذروة الإحسان وهو بها أحرى
فلا شك أن الله ألهم عبده ... لذا العمل المحمود والنعمة الكبرى
وصية خير الخلق طرا وعهده ... إلى أمة القرآن يا سعد من برا
على حين عم الجهل في الناس كلهم ... ولا سيما بالذكر والسنة الغرا
وشاع ابتداع فاتك في ربوعهم ... فأظلمت الأرجاء وامتلأت نكرا
وساد رءوس الجهل واشتد كيدهم ... وقد أضمروا للأمة المكر والغدرا
مضوا يسلبون المال والعقل والهدى ... ويستعبدون الناس بالحيل الحقرا
فأطلعها نورا يضيء حنادسها(1) ... من الجهل ذاق الناس من طعمها المرا
وأحيا من الآمال ما كان ميتا ... فأصبح ثغر اعلم والدين مفترا
ومن يحي سنات الرسول وهديه ... يهيء له الرحمن من أمره يسرا
ويعظم له أجرا ويرفع ذكره ... ويبلغه آمالا ويشرح له الصدرا
ومن رام من أعدائه أن يكيده ... ببغي فإن الله يمنحه النصرا
ومن ينصر الرحمن ينصره عاجلا ... وينصره يوم الحشر في النشأة الأخرى
ومن يقرأ القرآن من غير سنة ... يضل ويلقى في عواقبه خسرا
فتفسير قول الله هدي رسوله ... وذلك في القرآن متضح يقرا
فيا أيها الملك الهمام الذي سرت ... بأخباره الركبان تنشرها نشرا
وما زال بالأفعال يشفع قوله ... فتبني له بين الورى المجد والفخرا
جزاك إله الناس خير جزائه ... على دار علم شدتها للهدى فجرا
__________
(1) مفردها: حندس وهو الظلمة، واليل الشديد الظلمة.(10/297)
إليك أسوق اليوم نظما ملفقا ... وكان بودي أن أنظمه درا
ولكن هجرت الشعر دهرا فأوصدت ... على قوافيه وكافأني هجرا
فقابله بلصفح الذي أنت أهله ... وأسدل عليه جميل الرضى سترا
* * *
* الرجوع إلى الدينة المنورة*
قد عرف القراء سبب خروجي من هذه المدينة المباركة فيما مضى، ولما أراد الله بفضله ورحمته أن يردني إليها ألهم صاحب السماحة العالم السلفي ناصر السنة وقامع البدعة الورع الزاهد الأواب الأستاذ الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رئيس الجامعة الإسلامية أن يدعوني إلى التدريس في الجامعة الإسلامية، وعندما لقيته بمنى سنة 1388 هـ قال لي: إن الجامعة الإسلامية في حاجة إليك فقلت له: وأنا في حاجة إليها أيضا فقال لي بأي طريق ندعوك إلى التدريسى فيها؟ فأخبرته فدعاني دعوة رسمية بطريق وزارة الخارجية السعودية، فالسفارة السعودية بالمغرب فوزارة التعليم العالي بالرباط، وأتيت إلى هذا البلد المبارك وأنا أسأل الله متوسلا إليه بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يجعل إقامتي فيه طبق ما يجب على كل ساكن فيه مراعاة حرمته والبعد عن ارتكاب أي حدث يتنافى مع قدسيته.
وهذه القصيدة المكناسية تعبر عما تقدم بالأسلوب الشعري وقد حذفت عشرة من أبياتها إبقاء على بعض الناس على أنني لم أصرح فيها باسم أحد لا في المحذوف ولا في المثبت وبالله التوفيق:
لقد طال ليلي والجوى مالئ صدري ... وبرح بي شوق إلى ربة الخدر
وأقي نهاري دائم الفكر والأسى ... وليلي تسهاد إلى مطلع الفجر
وأكتم أسراري حذار من العدا ... ومهما أبح فالحب أفقدني صبري
تذكرت أيام الوصال فكاد من ... تذكرها قلبي يطير من الصدر
فيا ويح قلبي ما يلاقي من الهوى ... ومن فرط آلام الصبابة والهجر
وعاذلة جاءت بلوم كأنه ... نعاب غراب للفؤاد غدا يبري
ولست بسال لو أطلت ملامتي ... فكفي عن الإسفاف والمنطق الهجر
وكيف سلوي بعد ما شاب مفرقي ... وأنفقت في حبي لها زهرة العمر(10/298)
ألم تعلمي أن الملام وإن غدا ... عديما من الجدوى فبالحب قد يغري
وطفت بلاد الله شرقا ومغربا ... على قدمي طورا وطورا على مهر
وأنضيت بعرانا(1) وحلقت في السما ... على جائبات الجو كالنجم إذ يسري
وطورا على فلك عظيم كأنه ... ثبير(2) يروع الحوت في لجة البحر
حليف اغتراب في ثواء ورحلة ... وإن كنت في أهل كثير ذوي وفر
(وما غربة الإنسان من شقة النوى ... ولكنها) في الدين والخلق والبر
إلى الله أشكو غربة الدين والهدى ... وطغيان أهل الكفر والفسق والغدر
ومن يقل سنات الرسول فإنه ... يعذب في الدنيا وفي فتنة القبر
ويسأله فيه نكير ومنكر ... وما من جواب عنده غير لا أدري
وذي سنة الجبار في كل من غدا ... يحارب دبن الله في السر والجهر
ألم تدر أن الله ناصر دينه ... وموقع أهل البغي في دارة الخسر
وكم قد سعى ساع لإطفاء نوره ... بكيد فرد الله كيده في النحر
وتنصر إشراكاً وفسقاً وبدعة ... وناصر هذا خاسر أبد الدهر
دعا المصطفى قدماً عليه بلعنة ... ومن يلعن المختار فهو إلى شر
وتلعنه الأملاك من فوق سبعة ... كذلك أهل الأرض في السهل والوعر
فيا ناطح الطود المتين بهامة ... مدورة جوفاً حذار من الكسر
وليس يحيق المكر إلا بأهله ... وحافر بئر الغدر يسقط في البئر
وكم حافر لحداً ليدفن غيره ... على نفسه قد جر في ذلك الحفر
وكم مشرك طاغ تردى بشركه ... وسادن قبر باء بالخزي والخسر
وكم رائش سهماً ليصطاد غيره ... أصيب بذاك السهم في ثغرة النحر
وقبره أضحى لها الجو خالياً ... من النسر والعقبان والباز والصقر
فلا تفرحي يوماً سيأتيك صائد ... ويسقيك كأس الحتف كالصاب(3)والصبر
(فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة ... وإن كنت تدري) زدت وزراً على وزر
وإنك لم يفخر عليك كفاخر ... ضعيف ولم يغلبك كالساقط القدر
__________
(1) مفردها: بعير، وأنضيت: أهزلت، والكلام كناية عن طول السفر.
(2) ثبير: جبل بمكة.
(3) الصاب: شجر مر.(10/299)
فيا عجباً كليب تسبني ... كأن أباها من لؤي ومن فهر
أتغتر بالإمهال تحسب أنه ... عدمتك إهمال وذا ديدن الغمر
وما نحن إلا خادون لسنة ... أتت عن نبي الله ذي الفتح والنصر
وخادم سنات الرسول حياته ... كخادمها من بعد ما صار في القبر
وما غاب إلا شخصه عن عيوننا ... وأنواره تبقى إلى الحشر والنشر
فيا مبغضي هدي النبي ألا أبشروا ... بخزي على خزي وقهر على قهر
سلكتم سبيلاً قد قفاها إمامكم ... أبو جهل المقصوم في ملتقى بدر
وعاقبة المتبوع ختم لتابع ... كما لزم الإحراق للقابض الجمر
فإن أنتم مذبتم بوعيده ... فكم كذبت من قبلكم أمم الكفر
فصب عليهم ربهم سوط نقمة ... فصاروا أحاديث المقيمين والسفر
(فيا رب هل إلا بك النصر يرتجى ... عليهم) إليك الأمر في العسر واليسر
قلوا سنة المختار يبغون محوها ... وكادوا لها فاجعل لهم كيدهم يفري
هم استضعفونا اليوم من أجل أننا ... قليل وقد يعلوا القليل على الكثر
ولا سيما إن كان لله قائم ... وأعداؤه للبغي من جهلها تجري
وإدراك إحدى الحسنيين محقق ... لمن يقتدي بالمصطفى من ذوي الحجر
ومن ظن أن الله مخلف وعده ... وخاذل أنصار النبي بذا العصر
فذاك غليظ الطبع أرعن جاهل ... عربض القفا بين الورى مظلم الفكر
تكفل بالنصر العلي لحزبه ... حياتهم هذي وفي موقف الحشر
ففي غافر قد جاء ذلك واضحاً ... ولكنه يخفى على الفدم والغمر
سلام على أنصار سنة أحمد ... فهم أولياء الله في كل ما دهر
إليهم أجوب البرو البحر قاصداً ... فرؤيتهم تشفي السقيم من الضر
هم حفظوا الدين الحنيف وناضلوا ... عن الحق بالبرهان والبيض والسمر
هم خلفوا المختار في نشر سنة ... بفعل وأقوال تلألأ كالدر
هم جردوا التوحيد من كل نزعة ... من الشرك والإلحاد والزيغ والنكر
فلا قبة تبنى على قبر ميت ... ولم يعبدوا قبراً بذبح ولا نذر
ولا بطواف أو بتقبيل تربة ... فذلك فعل المشركين ذوي الكفر(10/300)
ولا رحلوا يوماً لغير ثلاثة ... مساجد خصت بالفضائل والأجر
ولم يستغيثوا في الشدائد كلها ... بغير إله الناس ذي الخلق والأمر
ولم يصفوا الرحمن إلا بما أتى ... بنص كتاب الله والسنن الزهر
يقرون آيات الصفات جميعها ... كما فعل المختار مع صحبه الغر
فلو كان في التأويل خير لبادروا ... به فهم الفرسان في النظم والنثر
(أولئك آبائي فجئني بمثلهم ... إذا ما) اجتمعنا في المجالس للفخر
وقد أكمل الرحمن من قبل دينه ... فلم يبق من زيد لزيد ولا عمرو
بمائدة قد جاء بالنص ختمه ... وإتمام إنعام يجل عن الحصر
وكم زائد في الدين أصبح ناقصاً ... يبدل دين الله بالحدس والحزر
ومن ظن تقليد الأئمة منجياً ... فأفتى بتقليد فيا له من غر
كمنتحل عذراً ليغفر ذنبه ... أضاف له جرماً تجدد بالعذر
ألا إنما التقليد جهل وظلمة ... وطالبه خلو من العلم والخبر
كطالب ورد بعد ما شفه الظما ... جرى خلف آل لاح في مهمة قفر
فإن قمت بالإفتاء أو كنت قاضياً ... فإياك والتقليد فهو الذي يزري
وجود سيوفاً من براهين قد سمت ... عن الحدس والتخمين والسخف والهتر
وطرفك سرح في الكتاب فإنه ... رياض حوت ما تشتهيه من الزهر
ومن بعده فاعلق بسنة أحمد ... فأنوارها تسمو على الشمس والبدر
ولا تحكمن بالرأي إلا ضرورة ... كما حلت الميتات أكلا لمضطر
ومهما بدا أن القضاء على خطأ ... أقيم فبادر للرجوع على الفور
ومن يقض بالتقليد فهو على شفا ... كعشوا(1) غدت في كافر حالك تسري
ومن يفت بالتقليد فهو قد افترى ... وفي النحل نص جاء في غاية الزجر
لعمرك ما التقليد للجهل شافياً ... وأما نصوص الوحي فهي التي تبري
وصل وسلم يا إلهي على النبي ... صلاة تدوم الدهر طيبة النشر
فدونكها بكراً عروباً خريدة ... مهفهفة غيداً عروساً من الشعر
__________
(1) العشواء: الناقة التي بعينها سوء إذا خبطت بيدها. يقال هو يخبط خبط العشواء. والكافر المذكور في البيت هو الليل.(10/301)
يضيء ظلام الليل نور جمالها ... وليس لها إلا القراءة من مهر
قصدت بها نصراً لسنة أحمد ... وناصرها لا شك يظفر بالنصر
وعدتها تسعون من بعد خمسة ... وأختمها بالحمد لله والشكر
هذا مما حضرني من الحوادث المتعلقة بالدعوة إلى الله والاشتغال بالعلم أمليته مما بقى عالقا بذاكرتي بعد مضي عشرات السنين، وتركت كثيرا من الحوادث التي لاتمت إلى الغرض المقصود بصلة وأسأل الله حسن الخاتمة إنه جواد كريم، وصل اللهم على محمد سيد المرسلين وعلى آله وأصحابه أجمعين، وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعلينا معهم بمنك يا أكرم الأكرمين. وكان الفراغ من إملائه مساء يوم السبت بمنزلي بالمدينة النبوية لاثنتي عشرة خلون من ربيع الثاني سنة 1391هـ من هجرة النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم والحمد لله رب العالمين.
الفهرس
نبذة عن المؤلف ...
مقدمة المؤلف ...
الدعوة إلى الله في الإسكندرية ...
امتحان الدعاة إلى الله ...
سبب منع أبي السمح من الصلاة والوعظ في مسجد أبي هاشم برمل الإسكندرية ...
الدعوة إلى الله في الصعيد ...
السر الخفي ...
عودة إلى دروس الوعظ ...
عودة إلى الريرمون ...
المناظرة ...
الدعوة إلى الله في تندا ...
قدّم مراد الله يقدم الله مرادك ...
من مخارق شيوخ المتصوفة المبتدعين ...
الدعوة إلى الله في تطوان ...
الحوادث التي وقعت أثناء إقامتي في شمال المغرب ...
الحدث الثاني في تطوان ونواحيها ...
الحدث الثالث: همّ جماعة من الناس بقتلي ...
معركة مع شيخ متصوف من أهل تطوان ...
السفر إلى مكة في لحظة ...
عزل الشيخ المتصوف من جميع المناصب ...
فتوي الشيخ المتصوف ...
عقيدة الأشعرية ...
التعيين في خزانة الكتب العامة ...
خمسمائة بسيطة من وزارة الأوقاف ...
غضب رئيس الوزراء أحمد الغنيمة ...
معركة مع فقيه مقلد مشرك ...
ترف أهل تطوان ...
الأمير الملالي والاستسقاء ...
صلاة الاستسقاء ...
الاجتماع بالأمير الملالي ...(10/302)
الاستسقاء بذبح الخيل ...
الاستسقاء بالحصى ...
فجو فقيه مبتدع مر علينا ولم يسلم ...
انتقام المستعمرين مني ...
الاتصال بالوطنيين المقاومين للاستعمار ...
تأليق مختصر هدي الخليل ...
التعاون مع الإمام الشهيد حسن البنا ...
الاجتماع بالحاكم الإسباني ...
الانتقال إلى تطوان ...
لماذا خذلني خليفة السلطان؟ ...
طلب أمير شفشاون للصلح مرة أخرى ...
عاقبة أمير شفشاون اليزيد بن صالح ...
بين اليزيد والملالي ...
شكر أهل شفشاون ...
كيف كانت عاقبة وزير العدل ...
في السفارة الإنكليزية ...
حادثة أصيلا ...
السفر إلى مجريط ثم إلى القاهرة ...
اٌامة بالقاهرة ...
الصدق منجاة والكذب مهلكة ...
الدعوة إلى الله في العراق ...
جامع الدهان ...
تطهير الجامع من البدع ...
هجوم مدير الأوقاف علينا ...
وقوف الأستاذ منير القاضي إلى جانبنا ...
مكيدة أخرى ...
أخذ الأجرة على صلاة الجمعة ...
ملاحقة الاستعمار لمؤلف هذا الكتاب ...
الانقلاب ...
الدعوة إلى الله في الدورة ...
كيف كان ال السلفيين في الحجاز ...
مناظرة مع ابن مايابا الشنقيطي ...
مداهنته لمن يسميهم بالوهابية ...
إزالة بستان فاطمة ...
العشاء في قصر الملك حسين ...
ملك الحجاز غير المتوج ...
عبد الرؤوف الصبان ...
السفر إلى الهند ...
حادثة عجيبة ...
التجول في الهند ...
السيد سليمان الندوي ...
لقاء الشيخ مصطفى آل إبراهيم ...
السفر إلى العراق في الباخرة ...
الوصول إلى الدورة ...
مناظرة مع مجتهد الشيعة في المحمرة ...
مناظرة مع شيعي آخر ...
شيق متملق ...
الدعوة إلى الله في النخيل ...
الاختلاف مع الشيخ عبد الله بن بلهيد ...
الشيخ الطيب التنبكي ...
الشيخ محمود شمويل ...
الخروج إلى البادية ...
قصة ابن منصور ...
القصة الثانية وهي أفظع ...
التدريس في المسجد الحرام ...
التدريس في المعهد السعودي ...
السفر إلى الهند ...
محنة ...
مكرمة عربية ...
رحلة إلى أفغانستان ...(10/303)
الشيخ عمر أوزبك ...
الكلام بالعربية ...
زيارة الملك ...
لماذا لم أحرص على زيارة الملك ...
المرض بالحمى النافض ...
علاج غريب ...
حال المسلمين في أفغانستان ...
بوزدوزج ...
عودة إلى حدود الهند ...
ركوب الفيل ...
الدعوة إلى الله في مكناس ...
المكيدة الثانية ...
المكيدة الثالثة ...
المدرسة الحسنية ...
الرجوع إلى المدينة المنورة ...(10/304)
عنوان الكتاب:
الدين والسنن الكونية
تأليف:
محمد تقي الدين الهلالي
الناشر:
الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
السنة الرابعة - العدد الثالث - محرم 1392هـ - فبراير1972م(11/1)
ص -18- ... الدين والسنن الكونية
بقلم: الدكتور محمد تقي الدين الهلالي المدرس في كلية الدعوة وأصول الدين بالجامعة
دين الحق لا يتنافى ولا يتعارض أبدا مع السنن الكونية لأن مصدرهما واحد، وهو مشيئة الله وحكمه الذي لا معقب، فمن أراد أن يحارب السنن الكونية باسم الدين كانت عاقبته الهزيمة، ومن الأمثلة على ذلك سنة التزاوج والتناسل التي سنها الله للحيوان والنبات، فمن أراد أن يعطلها زاعما أن تعطيلها من الدين ومما يتقرب به إلى الله يعجز ويقهر، ولا يتم له ما أراد أبدا، ويجني على نفسه وعلى من اتبعه شقاء عظيما في جسمه وعقله دون أن يحصل على طائل، ولا تنحصر الجناية في من انتحل ذلك ولا في أتباعه، بل تعم شعبه.
فقد زعم النساك من قدماء أهل الهند أن ترك الدنيا والزهد فيها هو الطريق الوحيد الذي يهذب النفس ويزكيها ويرفعها إلى الملأ الأعلى، فتركوا العمل والتزموا الجوع والعري، واعتزلوا الناس واستوحشوا منهم وسكنوا القفار مع الوحش وهجروا الأمصار وأطالوا الفكرة، وكانت أفكارهم عقيمة، نتائجها سلبية، فمنها القول بتناسخ الأرواح، وحاصله أن الأرواح محدودة لا تزيد ولا تنقص، سواء في ذلك أرواح الحيوان الناطق وأرواح الحيوان الأعجم، فمتى مات موجود حي انقلبت روحه من ذلك الجسم الفاني إلى جسم ناشئ(11/2)
ص -19- ... يولد ساعة خروجها من الجسم الفاني، فكأنهما كانا على ميعاد، ولما رأوا أن العدالة الربانية التي عليها تقوم السموات والأرض والتي هي مقتضى حكمة الله وعلمه وقدرته، فكروا كيف يكون هذا الجزاء، فلم يجدوا حلا للمعضلة إلا أن يدّعو دعوى خيالية أخرى، وهي أن جزاء كل حياة من الحيوات التي يحياها الإنسان ويعبر عنها بالتجسدات تترقى فيها الروح في الدرجات العليا، أو تهبط إلى الدركات السفلى، على حسب عملها، فإن عملت في الحياة الأولى أي التجسد الأول عملا صالحا بحسن معاملتها للإنسان والحيوان، وتجنبت السيئات والآثام تنتقل بعد فناء جسمها إلى طبقة من طبقات البشر هي أجل وأعلى من الطبقة التي كانت فيها جزاء حسنا ومثوبة على عملها الصالح في الحياة المتقدمة وتفوز برضوان الآلهة، وإن اقترفت السيئات وخرجت عن شريعة الآلهة تعاقب في حياتها التالية بأن ترجع إلى الدنيا في جسم من طبقة منحطة حقيرة، وإن استمرت في ارتكاب الموبقات يستمر عقابها حتى تصل إلى دركة المنبوذين، وإن زادت في غيها تنحط حتى ترجع إلى الدنيا في جسم حيوان شريف كالفرس مثلا، فإن لم تنته عن جرائمها ترجع إلى الدنيا في جسم حيوان حقير، وهكذا دواليك حتى تصل إلى دركة الفيران، وربما انحطت إلى دركة الخنافس.(11/3)
والطبقات عند الهنادك كثيرة، أعلاها طبقة البراهمة، فهؤلاء يولدون مقدسين من بطون أمهاتهم، وكل ما عملوه فهو حق، لا تكتب عليهم سيئة واحدة طول أعمارهم، وإذا ماتوا تلتحق أرواحهم بالملأ الأعلى، وليت شعري إذا كان عدد الأرواح محدودا فمن أين يجيء المدد الذي يخلف الطبقة العليا التي لا ترجع إلى الدنيا، وأسفل الطبقات طبقة المنبوذين، ولا يجوز أن تخالط طبقة عالية طبقة أخرى أسفل منها، فلا تؤاكلها ولا تشاربها ولا تجالسها ولا يجمعهما معبد واحد، فكل طبقة لها معابدها، ولا يجوز للطبقة السفلى أن تتزوج بأفراد الطبقة العليا، ولا أن تأكل أو تشرب في آنيتها، ولا أن تمس طعامها، والمسلم عندهم يعتبر نجسا إذا مس طعاما تنجس ذلك الطعام، وأذكر أني كنت متجولا في أسواق دلهي عاصمة الهند في أول سفرة سافرتها إلى الهند، فرأيت في حانوت كوما من الزبيب الذي ليس له نوى ويسمى عندهم( كشمش)،(11/4)
ص -20- ... فأهويت بيدي لألمس ذلك الزبيب، وقبل أن تصل يدي إليه جذبت من خلفي جذبة قوية حتى سقطت على ظهري، فقمت وسألت الطالب الذي كان يرافقني من جذبني؟ فقال لي: أنا جذبتك خوفا عليك من أن تقع في مشكلة عويصة يعسر عليك حلها، انظر إلى صاحب الحانوت فهو غضبان يصيح ويشتم، ولو وقعت يدك عليه لألزمك بثمنه كله، وكنت مرة في مدينة بمبي وهي مدينة مشهورة بناحية كجرات، وكان الوقت ليلا فرأيت قلة منتصبة فلمستها بيدي فغضب صاحبها وصاح صياحا كثيرا ورأيته أخذ القلة وصب الماء الذي كان فيها مع أني لم ألمس إلا جانبها، ولا أدري هل كسرها أو انتفع بها بعد غسلها، ومما يدل على الأول أن المتصدقين بالماء البارد من الهنادك في محطات السكة الحديدية يعدون آنية صغيرة بقدر ما يشرب الشخص الواحد من الخزف ويصبون الماء فيها لكل من يحتاج إليه من غير أهل طبقتهم، ومن شرب في إناء منها إن شاء أخذه، وإن لم يرده ألقاه لأن ذلك الهندكي لا يمسه بعد ذلك، فإن انقضت تلك الأواني وجاءه شخص من غير أهل طبقته يصب له الماء في يديه، هذا كله مع الطبقات المتنجسات تنجسا خفيفا من إخوانهم الهنادك أو من المسلمين والنصارى، وأما الطبقة المنبوذة فأمرها أدهى وأمر، فلا يجوز لأهلها أن يسكنوا في مدينة ولا قرية، وإنما يتخذون أكواخا بعيدة من المدن ويسكنون فيها ويحفرون آبارا يشربون منها وإن كان بقربهم نهر عظيم تسير فيه السفن، لأنهم لا يسمح لهم بأخذ الماء منه لئلا يتنجس، وبحكم هذه العزلة والاستقذار الذي حكمت به الآلهة بزعمهم لا يجد المنبوذون عملا، مع أن عددهم ثمانون مليونا، فإن قلت وبما يعيشون؟ فالجواب أنهم يعيشون بنقل النجاسات من بيوت الخلاء في جوف الليل، ويخرجونها إلى مكان بعيد من المدينة فيحرقونها ويأخذون أجورا على ذلك يأتيهم بها شخص في كل شهر فيعطيهم إياها، ولعل القراء الكرام لا يعلمون أن أهل الهند حتى في المدن الكبيرة ليس عندهم مراحيض إلا في(11/5)
النادر، فترى الديار الكبيرة الجميلة من بيوت الأغنياء المترفين فإذا سألت عن بيت الخلاء يدلونك على مكان قد بني فيه شبه الكوانين التي توقد فيها النار، وفي كل واحد منها إناء عليه غطاء يكشفه ويتخلى فيه ثم يغطيه، ولهذا(11/6)
ص -21- ... المكان بابان، باب إلى داخل الدار وباب إلى الشارع، وهذا الباب الذي إلى الشارع له قفل ومفتاح يكون دائما عند المنبوذ ليأتي في جوف الليل ويفتح ذلك المكان ويخرج كل ما فيه ويجعله في عربة النجاسات ثم يغسل الأواني ويردها إلى مواضعها، وهذا شيء عام في جميع بلاد الهند، وسبب منع المنبوذين من دخول المدن نهارا هو نجاسة أجسامهم التي بلغت إلى حد أن ظل المنبوذ لو وقع على طعام لنجسه، وهذا الأمر ليس مفروضا على المنبوذين من قبل الطبقات العليا فقط، بل المنبوذون أنفسهم يعتقدون أنه أمر مبرم حكمت به الآلهة عليهم، للذنوب التي ارتكبوها في التجسدات السالفة ولا مرد لحكمها، وقد حاول غاندي أن يغير هذه العقيدة ويطهر المنبوذين وزعم أنه نزل عليه الوحي يأمره بذلك، وقرر القول في مقالات نشرها في الصحيفة التي كان يصدرها واسمها (هرجان) وقال فيها: فإن طلبتم مني دليلا على أن الله أوحى إلي بذلك، أجيبكم ليس عندي دليل ولكني لا أشك في ذلك أبدا، ومع أن غاندي كان من الطبقة المقدسة وهي البراهمة، وكان وطنيا مخلصا متعبدا زاهدا في الدنيا، قضى جل حياته في سجون الاستعمار لم يقبل منه الهنادك هذه الدعوى، لأنها تفسد عليهم دينهم وتأتي بنيانه من القواعد وتجعل عاليه سافله، وحاول الدكتور امبدكار وأصله من المنبوذين وقد كفر بعقيدتهم وتعلم حتى حصل على شهادة الدكتوراه، حاول أن يقنعهم ببطلان عقيدة التنجس ويفهمهم أنهم بشر كسائر البشر فلم يفلح، ولا يزال الدعاة من المسلمين والنصارى يدعونهم إلى تغيير عقيدتهم فيستجيب لهم من قدر له منهم أن يخرج من ذلك الشقاء، إلا أن دعوة المسلمين أكثر نجاحا، لأن المنبوذ إذا أسلم يمتزج مع المسلمين في الحين ويستطيع أن يخالط جميع المسلمين في مساجدهم ومدارسهم ومجالسهم لا يترفع عليه أحد منهم وإن كان ملكا أو أميرا، أما النصارى فقد يستقذر بعض الأروبيين مجالسة المنبوذين والصلاة معهم في كنيسة واحدة(11/7)
فيأمرونهم ببناء كنائس خاصة بهم.
ومما حدث من قبيل دعوة المسلمين المنبوذين إلى الإسلام أن أحد علماء المسلمين عكف على دعوة جماعة من المنبوذين وأقام عندهم زمانا طويلا(11/8)
ص -22- ... يشرح لهم فضل الإسلام وبطلان ما هم عليه حتى هداهم الله جميعا فأسلموا واحتفلوا بيوم إسلامهم فخرجوا من أكواخهم رجالا ونساء وصبيانا، وقد حمل كل واحد منهم قلة وانطلقوا إلى النهر وهم يكبرون الله أكبر الله أكبر، حتى ملئوا القلل وحملوها على أكتافهم ورجعوا إلى بيوتهم فرحين مستبشرين، يحمدون الله الذي أزال عنهم تلك اللعنة وطهرهم وهداهم إلى الإسلام.
وقد جرتهم عقيدة التناسخ إلى عقيدة أخرى تضاهيها في الفساد والشر وهي تحريم ذبح الحيوان وأكل لحمه مخافة أن يكون ذلك الحيوان قد حلت فيه أحد أجدادهم، فلا يجوز عندهم قتل أي حيوان وإن كان مؤذيا كالقردة مثلا، ولذلك ترى القردة تسير في مدن الهند أسرابا وتتسلق جدران البيوت وتنزل إلى السطوح وتخيف النساء والصبيان، وتفسد كل ما وصلت إليها أيديها من طعام وثياب وغير ذلك، وقد اتفق أني كنت في الهند ساكنا في مدينة لكناو طبعت خمسمائة غلاف بعنواني، وكانت موضوعة في غرفة فجاءت القردة وفتحت نافذة الغرفة فدخلت وأخذ كل واحد منها قبضة يده من الأغلفة وخرجوا بها وألقوها في الهواء، فتشتت في كل مكان من المحلة التي كنت أسكنها، فجمع أهل المحلة ما أمكن جمعه منها وجاءوني به، ومن أذاها للناس أنها تجتمع بالمآت عند قبة صنم لتنال من صدقات الزائرين من عباده، ولما كان القراء الكرام لا يعرفون الأصنام لأنهم لم يشاهدوها أرى من المستحسن أن أصف لهم هذا الصنم، فهو تمثال رجل واقف على قدميه عليه ثيابه وعمامته وله لحية وافرة سوداء ووجهه أبيض مشرب بحمرة يظن الرائي أنه حي، وقد جلس عنده ناسك وهو عريان أسود الجسم نحيله جدا، حتى كأنه هيكل عظمي، فيجيء الزائر ويسجد لذلك الصنم سجدة واحدة ثم يقوم ويقدم النذر أو الصدقة لذلك الناسك وينصرف فيتصدق على القردة بما تيسر له من الطعام، وهذه القردة تقطع الطريق على المارة فمتى رأت شخصا يحمل طعاما، والعادة جارية بأن الموظفين يبعث إليهم الطعام من(11/9)
بيوتهم وقت الظهر، متى رأت القردة شخصا يحمل طعاما وليس عنده ما يدافع به عن نفسه هجمت عليه وخمشته بأظفارها وانتزعت منه ذلك الطعام، ولا يستطيع المسلمون أن يمسوا القردة(11/10)
ص -23- ... بسوء خوفا من نقمة الوثنيين الذين يدافعون عن كل حيوان ويمنحونه حمايتهم ورعايتهم مخافة أن يكون أحد أجدادهم قد تقمص جسمه، ولذلك لا يستطيع أحد أن يظهر لحم الحيوان، لأن الهنادك لا يستطيعون رؤيته، ومن أجل ذلك صارت المجزرة في بلدانهم يحيط بها سور، ولكل باب من أبوابها دهليز طويل حتى لا تقع عين هندكي على لحم يقطع أو يباع.
ومما يتصل بهذا ويحسن ذكره هنا عبادتهم للبقرة وتقديسهم لها فمتى بلغهم ولو كذبا أن المسلمين أو النصارى ذبحوا بقرة أعلنوا عليهم الحرب، وأزهقت بسبب ذلك نفوس كثيرة، والبقرة تشعر بذلك فتراها لا تسير إلا في الرصيف، ولا تسير في قارعة الطريق كسائر الحيوان، ومتى مرت بصاحب دكان وقفت ونظرت إليه، فإن كان وثنيا خرج إليها وقدم الحلوى وقبّلها وتمسح بها، ومن عادة المتمسكين بالدين عندهم أنهم يخلطون خثي البقرة بتراب مقدس عندهم ويضعونه خطا على جباههم للتبرك والحفظ، أخبرني بذلك المسلمون حين سألتهم عن تلك الخطوط التي كنت أراها على جباه المشركين، وهذه العقيدة ليست قديمة جدا عند الوثنيين من أهل الهند، فقد ثبت في التاريخ أن راما وهو أعظم آلهتهم كان ملكا وكان يصيد الحيوان، وقد بلغ من تعظيمهم لرام أنهم جعلوا اسمه تحية، فمتى التقى اثنان منهم يرمرم كل واحد منهما للآخر بقوله (رام) فيحييه الآخر بمثل ذلك.(11/11)
وكان أبو العلاء المعري على هذه العقيدة، فإنه لم يأكل اللحم أربعين سنة، وزعم أن ذبح الحيوان وأكل لحمه وبيضه وشرب لبنه كل ذلك عدوان وظلم، وهذا يدل على جهله بالسنن الكونية، وذلك أن الله جلت قدرته وبلغت حكمته جعل استمداد الحياة من الحياة، فجعل غذاء الحيوان من الحيوان ومن النبات في البر والبحر ولن تجد لسنة الله تبديلا، وكل ما يأكله ويشربه الإنسان والحيوان مملوء بأنواع الحيوان من الجراثيم التي لا ترى بالبصر، فكل حيوان آكل ومأكول، والإنسان الذي هو أشرف الحيوان يأكله الدود، وهو من أحقر الحيوان، وليس في قدرة الإنسان أن يمتنع من استهلاك الحيوان، فتورع أبي(11/12)
ص -24- ... العلاء عن أكل لحم الحيوان تورع باطل وفلسفة فاسدة، فالأنبياء هم أعلم الناس وأرحمهم وأورعهم كانوا يأكلون اللحم، بل الله وهو أرحم الراحمين أباح لجميع الناس أكل اللحوم والانتفاع بلبن الحيوان وبيضه وصوفه ووبره وشعره وجلده، فمن أراد تعطيل تلك المنافع فقد سفه نفسه وأراد تغيير سنة الله ولن يجد إلى ذلك سبيلا، وقد أخبرني المسلمون في الهند أن كثيرا من الهنادك يأكلون اللحم سرا، فيكلفون أصدقاءهم من المسلمين أن يشتروا لهم اللحم ويأتوهم به خفية، وهكذا كل من أراد أن يبدل سنة الله أهلك نفسه ولم يحصل على طائل..
كناطح صخرة يوما ليوهنها ... فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل
نبذة من التصوف الهندي الوثني
جاء في كتاب مقارنة الأديان للدكتور أحمد شلبي صفحة 70 ما نصه مع تغيير الألفاظ الركيكة: (( إن أعلى ما يرغب فيه البرهمي هو الفناء في برهما (وهو إله الآلهة عندهم) والفناء فيه، والطريق الموصل إلى هذا الغرض هو الزهد والتقشف المفرط بالصوم وأرق الليل وتعذيب النفس وحرمانها من كل ما تشتهيه وتحميل المرء نفسه أنواع البلاء، ويبدو دائما كثير الهموم والخوف والتشاؤم وهو لا يتمنى الموت لأن الموت ينقله إلى دورة جديدة من دورات حياته كما تقدم في ذكر تناسخ الأرواح بل يرجو لنفسه الفناء في برهما، ومن ذلك حفلت حياة نساك الهند الوثنيون بالبؤس ومحاربة الملاذ بترك الاكتساب والاكتفاء بسؤال الناس عند الضرورة القصوى، وفي كتبهم المقدسة عندهم ما معناه أن الذي تغلب على نفسه فقد تغلب على حواسه التي تقوده إلى الشر، والنفس لا تشبع أبدا بل يزداد جشعها بعد أن تنال مشتهاها، فالذي أوتي كل ما يشتهي وأعطى نفسه هواها فقد أهلكها وأشقاها، أما الذي ترك كل ما(11/13)
ص -25- ... تشتهيه نفسه، وتخلى عن الدنيا فقد أنقذ نفسه وقادها إلى السعادة، على طالب العلم أن يهذب نفسه بأن يتجنب الحلوى واللحوم والروائح الطيبة والنساء، وكذلك يجب عليه ألا يدلك جسده بما له رائحة طيبة، ولا يكتحل ولا يلبس حذاء ولا يتظلل من الشمس، وعليه أن لا يهتم برزقه بل يحصل رزقه بسؤال الناس، وعندما تدخل في الشيخوخة عليك بالعزلة وعدم قرب النساء والأهل والإقامة في الغابة، وإذا أقمت في الغابة فليس لك أن تقص شعرك ولحيتك وشاربك ولا أن تقلم أظفارك، وليكن طعامك مما تنبته الأرض وتثمره الأشجار، ولا تقطف الثمر بيدك بل كل منه ما سقط من الشجرة، وعليك بالصوم تصوم يوما وتفطر يوما، وإياك واللحم والخمر عوّد نفسك على تقلبات الفصول فاجلس تحت الشمس المحرقة، وابق أيام المطر تحت السماء، وارتد الرداء المبلل في الشتاء، لا تفكر في الراحة البدنية، اجتنب سائر الملذات، نم على الأرض ولا تأنس بالمكان الذي أنت فيه، إذا مشيت فامش حذرا حتى لا تتخطى عظما أو شعرا، وحتى لا تطأ حشرة، وإذا شربت الماء فاحذر أن تبتلع بعوضة أو نحوها، لا تفرح باللذيذ ولا تحزن للرديء.
يقول كاتب هذا الحديث محمد تقي الدين الهلالي: عجبا للبراهمة يتورعون عن بلع البعوضة مع الماء الذي يشربون، وعن الوطء على النمل بأقدامهم حين يمشون، أما سفك دماء المسلمين رجالا ونساء وشيوخا وأطفالا فإنه عندهم من أقرب القربات التي ترضي آلهتهم، وتصعد أرواحهم إلى الملأ الأعلى.(11/14)
كنت في لكنو عام 1343 ضيفا عند الدكتور محمد نعيم الأنصاري فوقعت معركة بين المسلمين والمشركين واستمرت ثمانية أيام، وتعطلت الأسواق وعجزت الشرطة التي يدير شؤونها الإنجليز عن إخماد نار تلك الفتنة، فإنهم كانوا يركبون بأعداد كبيرة في السيارات ولا يضعون شيئا، لأن الشرطة أيضا وإن كانوا تحت القيادة الإنجليزية فأكثرهم وثنيون والقليل منهم مسلمون، وجعل أغنياء الوثنيين عشر ربيات لكل من يأتيهم برأس مسلم أو مسلمة سواء أكان شيخا أو شابا، رجلا أو امرأة أو صبيا، صحيحا أو مريضا، فبقينا تلك المدة(11/15)
ص -26- ... ليس لنا طعام إلا العدس، مع أن الدكتور الأنصاري كان يعيش معيشة المترفين، وكان غاندي موجودا، وكان له أتباع وأنصار وتلامذة في تلك المدينة فلم يهتم هو ولا غيره من البراهمة بإزهاق أرواح المسلمين، والمسلمون في مدينة لكنو لا يزيد عددهم على ربع سكانها، فقتلوا تقتيلا وكان الذين بدأوا بالعدوان وأوقدوا نار الحرب هم الوثنيين، وهذا يذكرنا بقول ابن عباس رضي الله عنهما لأهل العراق حين سألوه عن المحرم يقتل بعوضة ماذا عليه، فقال لهم: عجبا لكم يا أهل العراق سفكتم دم الحسين ومن معه من آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم ولم تتورعوا عنه ثم جئتم تسألونني عن قتل البعوض، ولا حاجة لنا إلى ذكر الماضي، فحوادث هذه الأيام فيها كفاية، فكلنا يعلم أن الدولة الوثنية الهندية التي تدين بدين البراهمة هجمت على خمسة وسبعين مليونا في باكستان الشرقية وأعملت فيهم السيف والقنابل والإحراق والتعذيب تحت سمع الدنيا وبصرها، فلم يغثهم أحد لا من المسلمين ولا من غيرهم، وهاهم يسرحون ويمرحون ويملون شروط الصلح على من بقي من المسلمين في باكستان الغربية، فقبح الله من زعم أن هذا عصر النور والحرية والمساواة وفي مثله ينبغي أن ينشد:
يا ليت لي من جلد وجهك رقعة ... فأقد منها حافرا للأدهم
اقتفاء جهلة المتصوفة آثار الهنادكة في تعذيب أنفسهم
من المعلوم أن الوثنيين في الهند لا يؤمنون بالأنبياء فعقائدهم ناشئة عن الجهل والرعونة فلا يستغرب منهم ذلك، والعجب كل العجب من قوم نشئوا في بلاد الإسلام في زمان كانت البلاد الإسلامية مشرقة بأنوار الكتاب والسنة ورايات الإسلام منصورة وأيامه في أيامهم مشهورة، ومع ذلك تركوا الكتاب والسنة وسيرة السلف الأمة واقتدوا بالبراهمة في تنسكهم السخيف، وسأورد هنا ما يتسع له المقام من حكاياتهم المضحكة المبكية.(11/16)
ص -27- ... الحكاية الأولى
ابن الكريتي ومرقعته، قال الحافظ أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي في كتابه تلبيس إبليس على الطوائف المختلفة بسنده إلى نصر عبد الله السراج ذكر عن ابن الكريتي وكان أستاذ الجنيد أنه أصابته جنابة وكان عليه مرقعة ثخينة فجاء إلى شاطئ دجلة والبرد الشديد فحزنت نفسه عن الدخول في الماء لشدة البرد فطرح نفسه في الماء مع المرقعة ولم يزل يغوص ثم خرج، وقال عقدت ألا أنزعها عن بدني حتى تجف عليّ فلم تجف عليه شهرا، ثم روى الحكاية بسند آخر إلى الجنيد قال سمعت أبا جعفر ابن الكريتي يقول: أصبت ليلة جنابة فاحتجت أن أغتسل وكانت ليلة باردة فوجدت في نفسي تأخرا وحدثتني نفسي لو تركت حتى تصبح يسخن لك الماء أو تدخل حماما وإلا اعبأ على نفسك، فقلت واعجبا أنا أعامل الله في طول عمري يجب على حق لا أجد المسارعة إليه، وأجد الوقوف والتباطؤ والتأخر، آليت لا أغتسل إلا في نهر وآليت لا أغتسل إلا في مرقعتي هذه، وآليت لا أعصرها وآليت لا أجففها في شمس أو كما قال، ثم قال ابن الجوزي: وكان وزن كُم هذه المرقعة وحده أحد عشر رطلا، قال محمد تقي الدين الهلالي الرطل اثنتا عشرة أوقية، والأوقية أربعون درهما، فإذا كان كُم المرقعة يزن أحد عشر رطلا، والكم الثاني مثله يصير الكمان فقط اثنين وعشرين رطلا، ونسبة الكمين إلى الجبة كلها نجعلها ربعا فيكون وزن الجبة ثمانية وثمانون رطلا، فإذا غمست في الماء يعلق بها من الماء مثل ذلك.
ونترك التعليق للحافظ ابن الجوزي، قال الحافظ ابن الجوزي بعد ذكر هذه الحكاية التي رواها بإسنادين اثنين ما نصه: وإنما ذكر للناس أني فعلت الحسن الجميل وحكوه عنه ليبين فضله، وذلك جهم محض لأن هذا الرجل عصى الله سبحانه وتعالى بما فعل، وإنما يعجب هذا الفعل العوام الحمقى لا العلماء، ولا يجوز لأحد أن يعاقب نفسه، فقد جمع هذا المسكين لنفسه فنونا من التعذيب .. إلقاؤها في الماء(11/17)
ص -28- ... البارد، وكونه في مرقعة لا يمكنه الحركة فيها كما يريد، ولعله قد بقي من مغابنه ما لم يصل إليه الماء لكثافة هذه المرقعة، وبقاؤها عليه مبتلة شهرا وذلك يمنعه لذة النوم، وكل هذا الفعل خطأ وإثم وربما كان ذلك سببا لمرضه.
الحكاية الثانية
وحكى أبو حامد الغزالي عن ابن الكريتي أنه قال: نزلت في محلة فعرفت فيها بالصلاح فنشب في قلبي أي شعرت بأنني من الصالحين الذين يستحقون التعظيم، فدخلت الحمام فرأيت ثيابا فاخرة فسرقتها ولبستها ثم لبست مرقعتي وخرجت فجعلت أمشي قليلا قليلا، فنزعوا مرقعتي وأخذوا الثياب وصفعوني، فصرت بعد ذلك أعرف بلص الحمّام فسكنت نفسي، قال أبو حامد: فهكذا كانوا يرضون أنفسهم حتى يخلصهم الله من النظر إلى الخلق ثم من النظر إلى النفس وأرباب الأحوال، وربما عالجوا أنفسهم بما لا يفتي به الفقيه مهما رأوا إصلاح قلوبهم، ثم يتداركون ما فرط منهم من صورة التقصير كما فعل هذا في الحمّام.(11/18)
قال الحافظ ابن الجوزي بعد ذكر هذه الحكاية: سبحان من أخرج أبا حامد من دائرة الفقه بتصنيفه كتاب الإحياء فليته لم يحك فيه مثل هذا الذي لا يحل، والعجب منه أنه يحكيه ويستحسنه ويسمي أصحابه أرباب أحوال، وأي حالة أقبح وأشد من حال من يخالف الشرع ويرى المصلحة في مخالفته، وكيف يجوز أن يطلب صلاح القلوب بفعل المعاصي وقد عدم في الشريعة ما يصلح به قلبه حتى يستعمل ما لا يحل فيها، وهذا من جنس ما تفعله الأمراء الجهلة من قطع من لا يجب قطعه وقتل من لا يجوز قتله ويسمونه سياسة، ومضمون ذلك أن الشريعة ما تفي بالسياسة، وكيف يحل للمسلم أن يعرض نفسه لأن يقال له سارق، وهل يجوز أن يقصد وهن دينه ونحو ذلك عند شهداء الله في الأرض، ولو أن رجلا وقف مع امراته في طريق يكلمها ويلمسها ليقول فيه من لا يعلم هذا فاسق لكان عاصيا بذلك، ثم في مذهب أحمد والشافعي أن من سرق من الحمّام ثيابا عليها حافظ وجب قطع يده، كلا والله إن لنا شريعة لو رام(11/19)
ص -29- ... أبو بكر الصديق أن يخرج عنها إلى العمل برأيه لم يقبل منه، فعجبي من هذا الفقيه المستلب عن الفقه بالتصوف أكثر من تعجبي من هذا المستلب الثياب.
الحكاية الثالثة
قال ابن الجوزي بسنده إلى أبي الحسن المديني أنه سمعه يقول: خرجت مرة من بغداد إلى نهر الناشرية، وكان في إحدى قرى ذلك النهر رجل يميل إلى أصحابنا، فبينا أنا أمشي على شاطئ النهر، رأيت مرقعة مطروحة ونعلا وخريقة فجمعتها وقلت هذه لفقير، ومشيت قليلا فسمعت همهمة وتخبطا في الماء فنظرت فإذا بأبي الحسن الثوري قد ألقى نفسه في الماء والطين وهو يتخبط ويعمل بنفسه كل بلاء، فلما رأيته علمت أن الثياب له، فنزلت إليه فنظر إليّ وقال: يا أبا الحسن أما ترى ما يعمل بي قد أماتني موتات وقال لي ما لك إلا الذكر الذي لسائر الناس، وأخذ يبكي ويقول: ترى ما يفعل بي، فما زلت أرفق به حتى غسلته من الطين وألبسته المرقعة وحملته إلى دار ذلك الرجل، فأقمنا عنده إلى العصر، ثم خرجنا إلى المسجد فلما كان وقت المغرب رأيت الناس يهربون ويقفلون الأبواب ويصعدون السطوح، فسألناهم فقالوا السباع بالليل تدخل القرية، وكان حوالي القرية أجمة أي غابة عظيمة، وقد قطع منها القصب وبقيت أصوله كالسكاكين، فلما الثوري هذا الحديث قام فرمى بنفسه في الأجمة على أصول القصب المقطوع، ويصيح ويقول: أين أنت يا سباع، فما شككنا أن الأسد قد افترسه، أو قد هلك في أصول القصب، فلما كان قريب الصبح جاء فطرح نفسه وقد هلكت رجلاه فأخذنا بالمنقاش ما قدرنا عليه فبقي أربعين يوما لا يمشي على رجليه، فسألته أي شيء كان ذلك الحال فقال: لما ذكروا السبع وجدت في نفسي فزعا، فقلت لأطرحنك إلى ما تفزعين منه.(11/20)
قال الحافظ ابن الجوزي بعد ذكر هذه الحكاية: قلت لا يخفى على عاقل تخبيط هذا الرجل قبل أن يقع في الماء والطين (يعني أن الشيطان تخبطه) وكيف يجوز للإنسان أن يلقي نفسه في ماء وطين، وهل هذا إلا فعل المجانين، وأين الهيبة والتعظيم من قوله(11/21)
ص -30- ... ترى ما يفعل بي (يعني أن الله فعل به ذلك فكأنه يشكو الله تعالى إلى من كان يخاطبه) وما وجه هذا الانبساط، وينبغي أن تجف الألسن في أفواهها هيبة، ثم ما الذي يريده غير الذكر وقد خرج عن الشريعة بخروجه إلى السبع ومشيه على القصب المقطوع، وهل يجوز في الشرع أن يلقي الإنسان نفسه، أترى أراد منها أن يغير ما طبعت عليه من خوف السباع، ليس هذا في طوقها ولا طلبه الشرع منها.
تعذيب أنفسهم بالجوع
ذكر الحافظ ابن الجوزي في الكتاب المذكور حكايات كثيرة في تعذيب المتصوفة أنفسهم بالجوع زادوا فيها على نساك الهند الوثنيين أضعافا كثيرة، أذكر منها شيئا يسيرا فمن ذلك ما ذكره الحافظ ابن الجوزي في الكتاب المذكور صفحة 200 حكى أبو حامد الطوسي عن سهم يعني ابن عبد الله التستري قال: كان سهل يقتات ورق النبق مدة، وأكل دقائق التبن مدة ثلاث سنين، واقتات بثلاثة دراهم في ثلاث سنين.
ومن ذلك الترهب بترك التزوج وتعاطي أسباب المعيشة للتفرغ إلى عبادة الله بزعم المنتحلين لذلك، وهذا من الجهل بسنة الله وفطرته ومحاولة تغييرها، وقد علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عبادة الله ليست منحصرة في الصيام والصلاة، بل كل قول أو عمل يراد به وجه الله هو عبادة، وقد أوجب الله على عباده واجبات كثيرة فمن ضيع بعضها كمن ضيع كلها، عن أنس بن مالك قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم فلما أخبروا كأنهم تقالها، وقالوا أين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال أحدهم أما أنا فأصلي الليل أبدا ولا أنام، وقال الآخر وأنا أصوم الدهر أبدا ولا أفطر، وقال الآخر وأنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أنتم الذين قلتم كذا وكذا، أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، ولكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء(11/22)
ص -31- ... فمن رغب عن سنتي فليس مني" رواه البخاري.
وإنما غضب النبي صلى الله عليه وسلم على أولئك الرجال لأمور:
منها أنهم جهلوا الأصل العظيم وهو أن كل قول وعمل يراد به وجه الله فهو عبادة، وذلك خطأ عظيم يجر صاحبه إلى الضلال.
ومنها أنهم ظنوا أنهم أقوى على العبادة وأقدر عليها من النبي صلى الله عليه وسلم وهذا الخطأ أعظم مما قبله.
ومنها أنهم إذا شغلوا أنفسهم بنوع واحد من العبادة ضيعوا واجبات وحقوقا أخرى فكانوا كمن قضى الدين بالدين، وما أحسن قول الشاعر:
إذا ما قضيت الدين بالدين لم يكن ... قضاء ولكن ذاك غرم على غرم
يوضح هذا المعنى حديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال أبو ذر أن أناسا قالوا: يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالأجور يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم ويتصدقون بفضول أموالهم قال: "أوليس قد جعل الله لكم ما تصدقون به إن بكل تسبيحة صدقة وكل تكبيرة صدقة وكل تحميدة صدقة وكل تهليلة صدقة وأمر بالمعروف صدقة ونهي عن المنكر صدقة وفي بضع أحدكم صدقة، قالوا يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر " رواه مسلم، وعنه أيضا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق" رواه مسلم، وعنه أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يصبح على كل سلامى من أحدكم فكل تسبيحة صدقة وكل تحميدة صدقة وكل تهليلة صدقة وكل تكبيرة صدقة وأمر بالمعروف صدقة ونهي عن المنكر صدقة" رواه مسلم.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "كل سلامى من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس، تعدل بين الاثنين صدقة وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها أو ترفع له عليها متاعه صدقة، وبكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة، وتميط الأذى عن الطريق صدقة" متفق عليه.(11/23)
ص -32- ... وفي حديث سعد بن أبي وقاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس، وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها حتى ما تجعل في امرأتك" والآثار في هذا المعنى كثيرة اقتصرنا منها على ما يتسع له المقام.
وإذا تأملنا أنواع البر الواردة في هذه الأحاديث وحدها نجدها كثيرة، أولها ذكر الله بالقلب واللسان، وثانيها الأمر بالمعروف وهو كل أمر مستحسن شرعا، وثالثها النهي عن المنكر وهو كل أمر محرم كالظلم والعدوان وتعدي حدود الله، ورابعها التزوج ومباشرة الأهل لأن فيها طلبا للولد، ومنعا للزوجين من الوقوع في الموبقات والاستغناء عن الحرام بالحلال، وخامسها حق الضيف والزائرين كما في حديث سلمان وأبي الدرداء في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "إن لربك عليك حقا، وإن لنفسك عليك حقا، وإن لأهلك عليك حقا، وإن لضيفك عليك حقا فاعط كل ذي حق حقه".
وهناك حقوق كثيرة كحق الأولاد والوالدين وسائر ذي القربى واليتامى والمساكين والأصحاب وابن السبيل إلى غير ذلك، والترهب يضيع كل هذه الحقوق، وقوله عليه الصلاة والسلام: يصبح على كل سلامى من الناس صدقة السلامى العضو من أعضاء الجسم، ففي كل صباح تكون على الإنسان واجبات اجتماعية بقدر عدد أعضاء جسمه، فإذا وجد اثنين متخاصمين فأصلح بينهما بالعدل فقد أدى واجب عضو من أعضاء جسمه، وإذا وجد إنسانا يريد أن يركب دابته أو سيارته أو سفينته أو يحمل عليها متاعه وأعانه على ذلك فقد أدى واجب عضو آخر، وإذا وجد في طريق الناس ما يؤذيهم فأزاله فقد أدى واجب عضو آخر، والأنواع التي تؤذي الناس في طريقهم كثيرة، منها الشوكة والحجر والنجاسات وقطع الطريق والسباع وكل ذوات السموم، ويدخل في هذا بناء القناطر والسدود وتعبيد الطرق أي تسويته وتبليطه(11/24)
ص -33- ... وإزالة الأوحال والثلوج وغير ذلك، ومن القربات جمع المال من طريق الحلال حتى يغني الإنسان نفسه وأهله ويترك لورثته ما يغنيهم، ومنها ملاطفة الزوجة باختيار لقمة شهية أو ثمرة ووضعها في فمها كما مضى في الحديث، والمتبتل المنقطع للصلاة والصيام المعتزل عن الناس يفوته ذلك كله، وغيره من التعلم والتعليم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله وتشييع الجنازة وغير ذلك من القربات الاجتماعية.
وهذا الموضوع واسع لا يستوعبه مجلد، فنمسك عنان القلم ونكتفي بهذا القدر.(11/25)
عنوان الكتاب:
الشمس في نصف الليل
تأليف:
تقي الدين الهلالي
الناشر:
الجامعة الاسلامية بالمدينة المنورة
السنة الثانية - العدد الثالث محرم 1390 هـ/1970م(12/1)
ص -35- ... الشمس في نصف الليل
للدكتور تقي الدين الهلالي المدرس بكلية الدعوة وأصول الدين
كنت قرأت منذ زمن طويل أخبار القبائل التي تسمى (إسكمو) وأحوال معيشتهم، ومساكنهم وأسفارهم وحالة الجو في بلادهم، وذلك معروف في كتب الجغرافية، والذي يهمنا هنا من أخبار الأراضي القطبية ما شاع أن السنة عندهم يوم واحد، نهار وليلة، ستة أشهر للنهار، وستة أشهر لليل.
ولم أؤمل قط أن أرى تلك الأراضي، لما قرأته من شدة البرد وتراكم الثلوج هناك، وأنهم يلجئون إلى لبس الجلود والاختباء في بيوت يحيط بها الثلج من كل جانب، إلى غير ذلك من الأخبار.(12/2)
ص -36- ... وفي صيف سنة 1936اجتمعت بالدكتور/ زين العابدين خير الله الحلبي وكان أستاذاً في مستشفى الأمراض الخاصة بالنساء في جامعة مار بورك بألمانيا، فأخبرني أن الأراضي القطبية واسعة، وليست محصورة في الأراضي التي يسكنها قبائل (إسكمو) وأنه هو نفسه زار الأراضي القطبية في شمال النرويج، وأن سكانها متمدنون، وأنه أقام هناك نحو اثني عشر يوماً لم ير فيها ظلمة ولا ليلاً، بل كلها كانت نهاراً.
ومن ذلك الحين عزمت على زيارة هذه الأراضي في أقرب وقت ممكن. فلما أشرفت السنة الدراسية على نهايتها ذهبت إلى السفارة النرويجية في الرباط، وسألتها عن الأراضي القطبية التي لا تغيب فيها الشمس بضعة أشهر، فأخبروني أن الأمر كذلك، وأن هناك نواحي تابعة للحكومة النرويجية تبقى الشمس فيها مشرقة مدة ثلاثة أشهر من أول مايو (أيار) إلى آخر يوليو (تموز) فتأهبت للرحلة وتوجهت من مكناس في سيارتي يسوقها الحاج أحمد هارون في اليوم الثاني من يوليو، وسرنا متوكلين على الله من مكناس إلى تطوان، ثم عبرنا البحر من سبتة إلى الجزيرة الخضراء، ثم سرنا عبر إسبانيا ففرنسا فألمانيا، فالدانمارك، فالسويد فالنرويج، وتركنا السيارة في مدينة (أوسلو) عاصمة النرويج، وركبنا القطار والسيارات مدة يومين، فوصلنا مدينة (ناروك)، وشاهدنا الشمس مشرقة مدة أربعة وعشرين ساعة.
أوقات الصلاة في الأراضي القطبية
كنت عازما قبل أن أصل إلى تلك البلاد أن أصلي خمس صلوات في مدة اثنتي عشر ساعة، ثم أترك الصلاة اثنتي عشر ساعة، فتكون خمس صلوات في أربع وعشرين ساعة.(12/3)
فلما وصلت إلى تلك البلاد تغير رأيي، وظهر لي أن تُتبَع أوقاتُ الصلاة في تلك البلاد الأراضي الجنوبية من البلاد النرويجية، فيصلي المصلي صلاة الصبح وقت طلوع الفجر في الجنوب، ويصلي الظهر حين تزول الشمس في الجنوب، وهكذا الشأن في جميع الصلوات، بناء على قاعدة: "ما قرب من الشيء يعطي حكمه"، وكذلك يفعل الصائم في رمضان إذا جاء في وقت الشمس، أو في وقت الظلام.(12/4)
ص -37- ... هل في الأراضي القطبية فصول؟
ينبغي أن يعلم أن في تلك البلاد ما يشبه الفصول الأربعة، وقد تقدم أن الشمس تستمر مشرقة من أول مايو (أيار) إلى آخر يوليو (تموز) ثم تغيب غياباً جزئياً في أول غشت (آب) في كل يوم تبقى غائبة أكثر من اليوم الذي قبله، فيكون الليل قصيراً والنهار طويلاً، ولا يزال الأمر كذلك، يزداد الليل طولاً والنهار قصراً إلى آخر أكتوبر (تشرين الثاني) فتغيب الشمس وتبقى ثلاثة أشهر غائبة.
وفي أول فبراير (شباط) تطلع الشمس، ثم لا تلبث أن تغيب، فيكون النهار قصيراً والليل طويلاً، ولا يزال النهار يطول، والليل يقصر إلى آخر إبريل (نيسان) ثم ينعدم الليل. فهذه مدد تشبه الفصول الأربعة في البلاد التي يكون فيها الليل والنهار طول السنة.
وقد عرفنا حكم أوقات الصلاة في الأشهر الثلاثة الشمسية، ومثلها الأشهر الثلاثة المظلمة. بقي حكم أوقات الصلاة في ربيع تلك البلاد وخريفها، وهما مدتان، يكون فيهما ليل جزئي ونهار جزئي، فكيف الحكم في أوقات الصلاة والصيام؟
لا يمكن أن نفكر في هذه المسألة ثم نبدي رأينا فيها إلا إذا أحطنا علماً بليلها ونهارها، كيف يطول وكيف يقصر، فالليلة الأولى بعد انتهاء مدة الشمس، وهي أول ليلة من غشت (آب) كم طولها؟
فإذا كان طولها نصف ساعة أو أقل، فهل يحكم عليها بأنها ليلة تصلى فيها المغرب والعشاء والصبح عند نهايتها، ويفطر الصائم ويتسحر فيها، ويصوم نهارها، ويصلي الظهر والعصر في وسطه، أم يستمر على اعتبار توقيت العاصمة ( أوسلو) ويعتبر الليل ليلاً، والنهار نهاراً؟ وما مقدار الساعات التي يبلغها الليل طولاً حتى يعتبر أنه ليل، وإذا مضى أكثر الأشهر الثلاثة وقصر النهار جداً يعود السؤال نفسه. وهكذا يقال في المدة الثانية التي تبتدئ من شهر فبراير (شباط) وتنتهي في آخر إبريل (نيسان).
فإن قيل: أنت أول من بدأ هذا البحث، فعليك أن تجيب عن(12/5)
ص -38- ... أسئلتك، وتبدي رأيك؟ قلت: يمنعني من ذلك أنني من أهل الحديث المتبعين للسلف الصالح المتجنبين للرأي، المعتبرينه كالميتة لا يجوز الأكل منها إلا بقدر الضرورة. فما نزل من المسائل وتحقق وقوعه، وسئلنا عنه أفتينا فيه بالرأي قائلين: إن كان صواباً فمن الله، وإن كان خطأً فمنا، والله بريء منه، كما قال عبد الله بن مسعود. أما مدة الشمس فقد وجب علينا أن نجتهد في حكم أوقات الصلاة فيها، لأن ذلك وقع ونزل، وقسنا عليه مدة الظلام، لأنهما سواء. أما المدتان الأخريان فندعهما حتى يحتاج بعض المسلمين إلى معرفة الحكم، فييسر الله له من يفتيه.
وقد كان السلف الصالح، إذا سئل أحدهم عن مسألة استحلف السائل بالله، أنها وقعت، فإن حلف له أفتى فيها برأيه، وإلا قال: دعها إذا نزلت ييسر الله لها من يفتي فيها.
وما زعمه بعض المتقدمين من أن بلاد بلغار يقصر فيها الليل والنهار جداً وهم، وقد لاحظت أن الليلة الأخيرة التي مضت قبل وصولنا إلى بلاد الشمس في نصف الليل، كما يسمونها، لم تكن مظلمة، حتى أني مع ضعف بصري، وأنا راكب في السيارة كنت أرى الأشجار، وأغصانها ولا توجد ظلمة أصلاً، إلا أن الشمس مختفية، ومن حين يتوسط الإنسان بلاد النرويج متوجهاً من الجنوب إلى الشمال تقل ظلمة الليل شيئاً فشيئاً حتى تنعدم بانعدام الليل نفسه. فسبحان الخلاق العليم.(12/6)
ولاحظت أيضاً: كما لاحظ من معي أن الشمس في نصف الليل تكون قريبة من الأرض كأنها تريد أن تغيب، لكنها لا تغيب، بل تأخذ في الارتفاع وتدور في السماء، فتشكل دائرة من نصف الليل إلى نصف الليل. قال الله تعالى في سورة الحج: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} فأخبر سبحانه وتعالى أن السير في الأرض يزيد في العقل والعلم المكتسب بالتجارب، وقل ربي زدني علماً.
وهناك في تلك الناحية قبائل بدوية(12/7)
ص -39- ... تسكن الخيام، ولها ماشية، وهي الأيائل، وهي نوع من الحيوان يشبه الظباء، إلا أنها أكبر منها، وقرونها متشعبة -كالأشجار- يحلبونها ويأكلون لحومها، وينتفعون بجلودها. ولا يستطيع شيء من سائر الحيوان كالبقر والغنم أن يعيش في تلك البلاد غير الأيائل، لشدة بردها، وكثرة ثلوجها، ولتلك القبائل لباس خاص.
وسمعت أنهم وثنيون، لا يدينون بالنصرانية التي يدين بها أهل تلك البلاد، ولا أعلم مقدار هذا الخبر من الصحة، وليس هذا الجو خاصاً بشمال النرويج، بل يعم كذلك شمالي السويد.
وقد علمت أن من أراد أن يشاهد الأراضي القطبية التي في شمال السويد يستطيع أن يسافر إليها بالقطار.
أما مدينة ناروك التي تقدم ذكرها فقد سافرنا إليها من (أوسلو)، بعض المسافة بالقطار، وبعضها بالسيارة، وكنا في كل بضع ساعات نجتاز خليجاً من خلجان البحر، بمعدّية، وهي باخرة كبيرة، تدخلها السيارات، فتبقى فيها نصف ساعة أو أكثر حتى تصل إلى البر، فتخرج السيارة منها وتستأنف سيرها.
وقد رأيت القطار نفسه يعبر البحر في معدّية بين ألمانيا الشرقية والدانمارك في مدة ساعتين. وتلك المعدّية الضخمة عظيمة الحجم، ذات ثلاث طبقات، يصعد إلى الطبقة العليا بالمصعد الكهربائي.
وهناك معدّية رأيتها تستعمل بين سبتة والجزيرة الخضراء، وهي أيضاً عظيمة، ولكنها دون تلك، وليس مقصودي أن أصف هذه الرحلة، لأن وصفها يحتاج إلى مؤَلَّف مستقل، وإنما ذكرت ما تقدم استطراداً.
من وحي الأندلس قصيدة من بحر جديد:
لما مررنا بأرض الأندلس في رحلتنا إلى شمال أوروبا تذكرت أهل الأندلس المسلمين، وما كان لهم من المجد والسؤدد، فقلت هذه القصيدة، وهي من بحر جديد اخترعته. وأجزاؤه أربعة: مستفعلاتكم مستفعلين مرتين. له عروض واحدة صحيحة، لها ضربان، أولهما مذيل، والثاني عار عن التذييل.(12/8)
ص -40- ... وكل هذه التفاعيل بفتح العين ومعناها: مستخرجاتكم مستخرج أيها المسلمين، فالزموا مستخرجاتكم ولا تهملوها.
وقد أحدث العرب المولدون أوزاناً شعرية زائدة على بحور الشعر بعد زمان العرب الأقحاح، ونظموا عليها شعراً كثيراً، ثم جاء زمان الموشحات والأزجال، فاشتغل بها العرب في الشرق والغرب، واشتملت على أدب جم. ونظم بهاء الدين زهير شعراً أخترع له وزناً خاصاً، وهو قوله:
يا من لعبت به شمول ... ما ألطف هذه الشمائل
فلا غرابة إذا اقتديت به، وألقيت دلوي في الدلاء. وهذا نص القصيدة:
لما بدا لنا جمالكم ... أضحت قلوبنا أسرى الغرام
وانبعثت بها مودة ... تنمو وتزدهي على الدوام
قد طال هجركم وصدكم ... وما رثيتم للمستهام
ولم نزل نفي بعهدكم ... وما رعيتم لنا ذمام
فهل سمعتم بقاتل ... لمن يحبه هذا حرام
هبوا أسيركم لو نظرة ... صلوا عميدكم لو بالكلام
أما ترونني متيماً ... لم تدر مقلتي أي منام
محبتي لكم عفيفة ... غدت بريئة من كل ذام
وعاذل أتى يلومني ... كلامه غدا مثل الكِلام
فقلت: يا فتى ويك اتئد ... فأنت طالب مالا يرام
عذلك زادني صبابة ... فكف أو فزد من الخصام
يا موطناً غدا مفتخرا ... بخير أمة من الأنام
بالعرب إذ علوا مراتبا ... قد بلغوا بها أقصى المرام
أندلساً دعيت في الورى ... وجنة سمت خير المقام
معجزة فلم ير الورى ... لها مماثلا لو في المنام
كيف افتخارنا بمجدهم ... ونحن لم نزل بلا نظام(12/9)
ص -41- ... والخلف ما لهم مفتخر ... لكن عليهم بالاحتشام
إلا إذا حيوا واتحدوا ... وارتجعوا إلى نهج الكرام
واتبعوهم في دينهم ... دين محمد بدر التمام
فالعرب مالهم معتصم ... إلا بحبله ولا التئام
والعز عنهم مبتعد ... إلا إذا اقتدوا بذا الإمام
فهو حياتهم في بدئهم ... وهو حياتهم على الدوام
وكلما اقتفوا خلافه ... فهو ضلالة وهو الحسام
صلى عليه من أرسله ... هدى ورحمة يجلو الظلام
ما غردت ضحى حمامة ... وأشرقت ذكا بعد غمام
والآل والصحاب كلهم ... أزكى صلاته مع السلام
وقد اطلع على هذه القصيدة الأديب الكبير العالم المحقق العبقري عبد الله كنون فأعجبته وأثنى عليها.
وفي الإياب من هذه الرحلة عرجنا على قرطبة وزرنا مسجدها، فاعتراني شعور فيه روعة وإجلال وإعجاب، وحزن، لا أقدر أن أصفه بلسان ولا أظن أن شخصاً له شعور إنساني يرى ذلك المسجد ولا يعتريه مثل ذلك الشعور، سواء أكان مسلماً أم غير مسلم.(12/10)
ص -42- ... وصف جامع قرطبة
من أمثال العرب: "أن الحديث لذو شجون"، وقد بدا لي أن أنقل هنا وصف مسجد قرطبة الجامع من كتاب مدينة المور في الأندلس الذي ترجمته بالعربية من أصله الإنجليزي لمؤلفه (جوزيف ماك كيب) ليرى القارئ العربي المسلم شيئاً من مجد أسلافه. وهذا نص ما قاله في وصف مسجد قرطبة:
"لم يبق من آثار قرطبة في القرون الوسطى إلا أثر واحد، وهو جامعها الذي لا يزال إلى اليوم، جميع أطفال قرطبة يسمونه مسجداً، ولولاه ما تجشم أحد عناء السفر لمشاهدة قرطبة، ولو كانت خمسة أميال منه، ولكن الناس من جميع أنحاء الدنيا يسافرون إليها ليشاهدوه.(12/11)
ص -43- ... وهو أعظم معبد في الدنيا بعد كنيسة (سنت بيترس)، وهو آية لا نظير لها من الهندسة والبناء، وظاهر هذا المسجد لا يستولي على اللب، ولم يكن المور الذين كانوا يفضلون الإقامة داخل البيوت أكثر من خارجها يعتنون كثيراً بالظاهر.
وأما الداخل فهناك العجائب، إذا دخلت الجامع من أي باب من أبوابه التسعة عشر يخيل إليك أنك تائه في غابة من أشجار المرمر، ففيه ثمانمائة وستون سارية من المرمر والرخام واليسر، وفيه غير ذلك ألف واثنتي عشرة سارية. وفيه تسعة عشر رواقاً، ينتهي كل منها بباب من الأبواب التسعة عشر، وله سقف خشبي منخفض نسبياً، وقد زخرف أحسن زخرفة بالأرجوان والذهب.
وفي الأعياد الكبيرة توقد مائتان وثمانون ثرياً من الفضة والنحاس، يحترق فيها الزيت والعطر، وتتلألأ فيها آلاف كثيرة من المصابيح، فتلقي أنوارها على ذلك المشهد. وأكبر ثرياً منها كان محيطها ثمانية وثلاثين قدماً (فوت) يحمل ألفاً وأربعمائة وأربعاً وخمسين مصباحاً، ولها مرآة تعكس النور، فيزيد شعاعه تسعة أضعاف. وفيها (6000) ألف طبق من الفضة مسمرة بالذهب، ومرصعة باللؤلؤ.
وكان الجامع قد شُيِّد مع مضافته في القرن الثامن والتاسع والعاشر. والمحراب الذي هو أقدس محل في مسجد المور، كان فيه حنيتان، وكان أعظم زخرفاً من سائر المساجد. وآخر المحراب يشبه صدفة من رخام، وله مدخل يتلألأ كالذهب الخالص أو الديباج بفسيفسائه الجميلة، وأحيل القارئ على كتب زخرفة البناء أو كتب الاستدلال، ليرى عجائب هذا الجامع العظيم.
وكان بناؤه من النصارى المنتمين إلى الكنيسة اليونانية، وكانت بينهم وبين المور مودة، فجلبوهم لبنائه، وهو أثر لمدينة زاهرة، لا يضاهيها اليوم شيء في الدنيا كلها وكان عبد الرحمن الأول مؤسس هذه الدولة، قد جعل مدينة قرطبة على مثال مدينة دمشق التي قضى فيها أوائل عمره، وهو الذي ابتدأ بناء الجامع وأتمه الخلفاء الذين جاءوا بعده. وبلغت نفقاته على ما(12/12)
ص -44- ... حدث به مؤرخو العرب (300.000.000) دولار، وكان هذا آخر عمل عمله في حياته، وقد شيد غير هذا هو وخلفاؤه ورجال دولتهم قصوراً فخمة، ومساجد كثيرة، كانت تزيد المدينة في كل سنة جلالة وبهاء". ا هـ
أولئك آبائي فجئني بمثلهم ... إذا جمعتنا يا جرير المجامع
لكن لا ينبغي لنا أن نقتصر على الافتخار بمجدهم، بل ينبغي لنا ويتحتم علينا أن نعمل بقول من قال:
لسنا وإن أحسابنا كرمت ... يوماً على الأحساب نتكل
نبني كما كانت أوائلنا ... تبني ونفعل مثل ما فعلوا
فنسأل الله أن يوفقنا لإحياء ذلك المجد الشامخ، إنه على ذلك قدير.(12/13)
الفكر الصوفي
" الحمد لله الذي أرسل خاتم النبيين وإمام المرسلين، محمدًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ رحمة للعالمين بشيرًا لمن آمن به، واهتدى بهديه، بالفوز المبين ونذيرًا لمن كفر به وخالف سنته بالعذاب المهين، وصل اللهم على محمد وأزواجه وذرياته كما صليت على إبراهيم وبارك على محمد وأزواجه وذرياته كما باركت على إبراهيم، صلاة تشمل آله ومن تمسك بسنته إلى يوم الدين .
فيقول أفقر العباد إلى الغني الكبير المتعال، محمد تقي الدين بن عبدالقادر الحسيني الهلالي غفر الله ذنبه وستر عيبه :
نشأت في بلاد سجلمانة، وحفظت القرآن وأنا ابن اثنتي عشرة سنة، ورأيت أهل بلادنا مولعين بطرائق المتصوفة لا تكاد تجد واحدًا منهم لا عالمًا ولا جاهلًا إلا وقد انخرط في سلك إحدى الطرق، وتعلق بشيخها تعلق الهائم الوامق، يستغيث به في الشدائد ويستنجد به في المصائب، ويلهج دائمًا بشكره والثناء عليه فإن وجد نعمة شكره عليها، وإن أصابته مصيبة اتهم نفسه بالتقصير في محبة شيخه والتمسك بطريقته، ولا يخطر بباله أن شيخه يعجز عن شيء في السماوات ولا في الأرض فهو على كل شيء قدير، وسمعت الناس يقولون : من لم يكن له شيخ فالشيطان شيخه . وينشدون قول ابن عاشور في أرجوزته التي نظمها في عقيدة الأشعرية، وفي فروع المالكية، وفي مبادئ التصوف :
يصحب شيخًا عارف المسالك ** يقيه في طريقه المهالك
يذكره الله إذا رآه ** ويوصل العبد إلى مولاه
ورأيت الطرق المنتشرة في بلادنا قسمين :
1ـ قسم ينتمي إليه العلماء وعلية القوم .
2ـ وقسم ينتمي إليه السوقة وعامة الناس .(13/1)
فمالت نفسي إلى القسم الأول، وسمعت أبي وهو من علماء بلدنا مرارًا يقول : لولا أن الطريقة التجانية تمنع صاحبها من زيارة قبور الأولياء والاستمداد منهم وطلب الحاجات إلا قبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ والصحابة، وإلا قبر الشيخ التجاني، وقبور من ينتمي إلى طريقته من الأولياء، قال أبي : لولا ذلك لأخذت ورد الطريقة التجانية، لأني لا أستطيع أن أترك زيارة جدنا عبدالقادر بن هلال، وجدنا كان مشهورًا بالصلاح وله قبر يزار وهو معدود من جملة الأولياء في ناحية الغرفة من القسم الشرقي الجنوبي في بلاد المغرب .
والطريقة التجانية، والدرقاوية، والكتانية، وإن كان أهلها في بلادنا قليلًا، تؤلف القسم الأول، فاشتاقت نفسي إلى أخذ ورد الطريقة التجانية وأنا قد ناهزت البلوغ فذهبت إلى المقدم وقلت له : يا سيدي أريد منك أن تعطيني ورد الطريقة التجانية، ففرح كثيرًا، وقال لي : تأخذ الورد على صغر سنك ؟ قلت : نعم، فقال : بخ بخ أفلحت ونجحت، فأعطاني الورد وهو :
ذكر لا إله إلا الله مائة مرة، والاستغفار مائة مرة، والصلاة على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأي صيغة مائة مرة، لكن صيغة الفاتح لما أغلق هي أفضل الصيغ، وسيأتي إن شاء الله ذكر فضلها ( الفضل المزعوم عندهم ) في هذا الكتاب بعون الله وتوفيقه، وأعطاني كذلك الوظيفة وهي أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم ثلاثين مرة، وصلاة الفاتح لما أغلق خمسين مرة، ولا إله إلا الله مائة مرة، وجوهره الكمال وهي : اللهم صل وسلم على عين الرحمة الربانية . . الخ، وسيأتي ذكر ألفاظها اثنتي عشر مرة، وهذه الصلاة لا تذكر إلا بطهارة مائية، فمن كان فرضه التيمم فعليه أن يذكر بدلها صلاة الفاتح عشرين مرة، قال : وإنما اشترطت الطهارة المائية على ذاكرها لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ والخلفاء الراشدين يحضرون مجلس كل من يذكرها ولا يزالون معه ما دام يذكرها .(13/2)
ويجب ذكر الورد مرة في الصباح ومرة في المساء بطهارة تامة كما يشترط في الصلاة، ويكون الذاكر جالسًا كجلسة التشهد على الأفضل مغمضًا عينيه مستحضرًا صورة الشيخ أحمد التجاني وهو رجل أبيض مشرب بحمرة ذو لحية بيضاء، ويتصور في قلبه أن عمودًا من النور يخرج من قلب الشيخ ويدخل في قلب المريد .
أما الوظيفة فيجب أن تذكر جماعة بصوت واحد، إن كان للمريد إخوان في بلده، فإن لم يكن له إخوان تجانيون في بلاده جاز له أن يذكرها وحده مرة في كل يوم .
وأخبرني المقدم الشيخ عبدالكريم المنصوري ببعض فضائل هذا الورد وسأذكرها فيما بعد إن شاء الله واستمررت على ذكر الورد والوظيفة بإخلاص ملتزمًا الشروط مدة تسع سنين، وهناك ذكر آخر يكون يوم الجمعة متصلًا بغروب الشمس وهو : لا إله إلا الله ألف مرة، والأفضل أن يكون معه سماع قبله أو بعده، وهو إنشاد شيء من الشعر بالغناء والترنم جماعة ثم يقولون جميعًا : الله حي، والمنشد ينشدهم وهم قيام حتى يخلص عند تواجدهم إلى لفظ آه، آه، آه، ويسمون هذه الحالة العمارة، وقد تركوها منذ زمان طويل لأن أبناء الشيخ التجاني لا يستعملون هذه العمارة، وهم يأتون من الجزائر إلى المغرب وقد أشاروا على المغاربة أن يتركوا العمارة لأنهم لا يستحسنونها، ولكن في كتب الطريقة أنها فعلت أمام الشيخ أحمد التجاني وبرضاه وإقراره .(13/3)
وكنت كلما أصابتني مصيبة أستغيث بالشيخ فلا يغيثني، فمن ذلك أني كنت في الجزائر مسافرًا من ناحية ( بركنت ) بقرب حدود المغرب إلى ( المشرية ) ، وكان لي رفيق له جمل فعلقه وأوصاني بحراسته وتركني في خيمة وقلنا فيها من خيام أهل البادية، فانحل عقال الجمل وانطلق في البرية فتبعته فأخذ يستهزئ بي، وذلك أنه يبقى وقفًا إلى أن أكاد أضع يدي على عنقه ثم يجفل مرج واحدة ويجري مسافة طويلة ثم يقف ينتظرني إلى أن أكاد أقبضه ثم يهرب مرة أخرى وذلك في نحر الظهيرة وشدة الحر، فقلت في نفسي : هذا وقت الاستغاثة بالشيخ فتضرعت إليه وبالغت في الاستغاثة أن يمكنني في قبض الجمل وإناخته فلم يستجب، فعدت على نفسي باللوم واتهمتها بعدم الإخلاص والتقصير في خدمة الطريقة ولم أتهم الشيخ البتة بعجز عن قضاء حاجتي، ومع أن شيوخ الطريقة يوصون المريد أن لا يطالع شيئًا من كتب التصوف إلا كتب الطريقة التجانية وقع في يدي مجلد من كتاب ( الإحياء ) للغزالي فطالعته فأثر في نفسي واجتهدت في العبادة والتزمت قيام الليل في شدة البرد، فبينما أن ذات ليلة أصلي قيام الليل أمام خيمتي الصغيرة التي كنت جالسًا فيها يكاد رأسي يمس سقفها إذ رأيت غمامًا أبيض سد الأفق كالجبل المرتفع من الأرض إلى السماء وأخذ ذلك الغمام يدنو مني آتيًا من جهة الشرق ـوهي قبلة المصلي في المغرب والجزائرـ حتى وقف بعيدًا مني وخرج منه شخص وتقدم حتى قرب مني ثم شرع يصلي بصلاتي مؤتمًا بي، وثيابه تشبه ثياب جارية بنت خمس عشرة سنة، ولم أستطع أن أميز وجهه بسبب الظلام .(13/4)
ولما شرع يصلي معي كنت أقرأ في سورة ألم السجدة ففزعت وخفت خوفًا شديدًا، فخرجت منها إلى سورة أخرى أظنها سورة سبأ، ولم أستطع قراءة القرآن مع شدة حفظي له بسبب الرعب الذي أصابني، فتركت السور الطوال وأخذت أقرأ بالسور القصار التي لا تحتاج قراءاتها إلى رباطة جأش واستحضار فكر . فصلى معي ست ركعات، ولم أرد أن أكلمه، لأن كتب الطريقة توصي المريد أن لا يشتغل بشيء مما يعرض له في سلوكه حتى يصل إلى الله، وتنكشف له الحجب فيشاهد العرش والفرش، ولا يبقى شيء من المغيبات خافيًا عليه، ولما طال علي زمان الاضطراب دعوت الله في سجود الركعة السادسة فقلت : يا رب إن كان في كلام هذا الشخص خير فاجعله هو يكلمني، وإن لم يكن في كلامه خير فاصرفه عني، فلما سلمت من التشهد بعد الركعة السادسة سلم هو أيضًا، ولم أسمع له صوتًا ولكني رأيته التفت عند السلام إلى جهة اليمين كما يفعل المصلي المنفرد على مذهب المالكية، فإنه يسلم مرة واحدة عن يمينه، السلام عليكم دون أن يضيف إليها رحمة الله وبركاته، وإن كان مؤتمًا بإمام يسلم ثلاث تسليمات إن كان بيساره مصل تسليمة عن يمينه وهي تسليمة التحليل وتسليمة أمامه للإمام، وتسليمة ثالثة عن شماله للمصلي الذي يجلس عن شماله وقد ثبت في الحديث الذي رواه أبو داود وصححه الحافظ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يسلم عن يمينه السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وعن يساره السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وهذا هو الذي ينبغي لكل مصل أن يعتمد عليه سواء أكان إمامًا أو مأمومًا أو منفردًا .(13/5)
وبعد السلام انصرف ومشى على مهل حتى دخل في الغمام الأبيض الذي كان قائمًا في مكانه الذي كان ينتظره، وبعد دخوله في الغمام فورًا أخذ الغمام يتقهقر إلى جهة الشرق حتى اختفى عن بصري وكان في قبيلة ( حميان ) شيخ شنقيطي صالح ما رأيت مثله في الزهد والورع ومكارم الأخلاق وسأذكره فيما بعد، فسافرت إليه وحكيت له تلك الحادثة فقال لي : يمكن أن يكون ذلك شيطانًا لو كان ملكًا ما أصابك فزع ولا رعب، فظهر لي أن رأيه صواب .
وبعد ذلك بزمن طويل أخذت أدرس علم الحديث، فرأيت كتاب ( صحيح البخاري ) ما وقع للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حين جاءه جبريل وهو في غار حراء، فظهر لي أن رأي ذلك الشيخ رحمه الله غير صحيح وبقيت المشكلة بلا حل إلى الآن وكنت حينئذ مشركًا أستغيث بغير الله وأخاف غير الله . ومن هذا تعلم أن ظهور الخوارق وما في عالم الغيب ليس دليلًا على صلاح ما ظهرت له تلك الخوارق ولا على ولايته لله البتة فإن كل مرتاض رياضة روحية تظهر له الخوارق على أي دين كان وقد سمعنا وقرأنا أن العباد الوثنيين من أهل الهند تقع لهم خوارق عظام .(13/6)
وبعد ذلك بأيام رأيت في المنام رجلًا نبهني وأشار إلى الأفق فقال لي : انظر فرأيت ثلاثة رجال فقال لي إن الأوسط منهم هو النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فذهبت إليه فلما وصلت إليه انصرف الرجلان اللذان كانا معه فأخذت يده وقلت يا رسول الله خذ بيدي إلى الله فقال لي اقرأ العلم ففكرت وعلمت أني في بلاد الجزائر وكان الفرنسيون مسؤولين عليها وكان فقهاء بلدنا يكفرون كل من سافر إلى الجزائر وإذا رجع من سفره يأمرونه بالاغتسال والدخول في الإسلام من جديد ويعقدون له عقدًا جديدًا على زوجته فقلت في نفسي هذا مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يأمرني بطلب العلم، وأنا في بلاد يحكمها النصارى، فإما أن أكون عاصيًا أو كافرًا فكيف يجوز لي أن أطلب فيها العلم . هذا كله وقع في لحظة وأنا لا أزال واقفًا أمام النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقلت في بلاد المسلمين أم في بلاد النصارى، فقال لي البلاد كلها لله، فقلت يا رسول الله ادع الله أن يختم لي بالإيمان فرفع اصبعه السبابة إلى السماء وقال لي عند الله .(13/7)
وبعدما خرجت من الطريقة التجانية على أثر المناظرة التي سأذكرها فيما بعد إن شاء الله بزمان رأيت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مرة أخرى في المنام على صورة تخالف الصورة التي رأيته عليها في المرة المذكورة، ففي الأولى كان طويلًا أبيض نحيفًا مشربًا بحمرة، لحيته بيضاء، أما في هذه المرة فكان ربعة من الرجال إلى الطول أقرب ولم يكن نحيفًا، ولحيته سوداء، وبياض وجهه وحمرته أقرب إلى ألوان العرب من المرة الأولى، وكانت رؤيتي له في فلاة من الأرض وكنت بعدما خرجت من الطريقة التجانية توسوس نفسي أحيانًا بما في كتاب جواهر المعاني مما ينسب إلى الشيخ التجاني أنه قال : ( من ترك ورده وأخذ وردنا وتمسك بطريقتنا هذه الأحمدية المحمدية الإبراهيمية الحنفية التجانية فلا خوف عليه من الله ولا من رسوله ولا من شيخه أيًا كان من الأحياء أو من الأموات أما من أخذ وردنا وتركه فإنه يحل به البلاء وأخرى ولا يموت إلا كافرًا قطعًا وبذلك أخبرني سيد الوجود ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقظة ومنامًا ) وقال لي سيد الوجود ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقراؤك فقرائي وتلاميذك تلاميذي وأنا مربيهم . وسيأتي من هذه الأخبار وأمثالها إن شاء الله كثير في ذكر فضائل الأوراد والأصحاب فكنت أدفع هذا الوسواس بأدلة الكتاب والسنة، وأرجم شيطانه بأحجارها فيخنس ثم يخسأ ويدبر فأرًا منهزمًا فلما رأيت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في هذه المرة خطر ببالي ذلك فعزمت على أن أبدأ الكلام مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأن أسأله أن يدعو الله لي أن يختم لي بالإيمان، وأظن القارئ لم ينس أني سألته في المرة الأولى فلم يدع لي ولكنه رفع إصبعه السبابة إلى السماء وقال عند الله، فقلت يا رسول الله، ادع الله أن يختم لي بالإيمان، فقال لي ادع أنت وأنا أؤمن على دعائك، فرفعت يدي وقلت اللهم اختم لي بالإيمان، فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ آمين وكان رافعًا يديه فزال عني ذلك الوسواس(13/8)
ولكني لم آمن مكر الله تعالى فإنه لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون، والرؤيا تبشر ولا تغر، وبين هذه الرؤيا التي دعا لي فيها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يختم الله لي بالإيمان بتأمينه على دعائي والرؤيا التي قدمت ذكرها ولم يدع لي فيها، عشرون سنة، وتأولت اختلاف الصورة وعدم الدعاء في الرؤيا الأولى والدعاء في الرؤيا الثانية بما كنت عليه من الشرك في العبادة وبما صرت إليه من توحيد الله تعالى واتباع سنة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ والله أعلم .
عودة إلى القائمة(13/9)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي جعل السعادة في الدنيا والآخرة خاصة لمن اتَّبَعَ صِراطه المستقيم متمسكا بكتابه وسنة نبيه الكريم، اللهم صل عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين واجعلنا منهم يا رب العالمين.
أما بعد فيقول أفقر العباد إلى رحمة الكبير المُتَعال محمد تقي الدين بن عبد القادر الهلالي:
قضيت شبابي وكهولتي وبعض شيخوختي في الشرق ولما رجعت إلى المغرب بسبب الفتنة التي صارت في العراق سنة ( 1379 هـ) اكتشفت بما لا مزيد عليه من البحث والتحقيق والمشاهدة المتكررة من صحاح البصر وأنا معه لأني كنت في ذلك الوقت أبصر الفجر بدون التباس أن التوقيت المغربي لأذان الصبح لا يتفق مع التوقيت الشرعي، وذلك أن المؤذن يؤذن قبل تَبَيُّنِ الفجر تَبَيُّنا شرعيا، فأذانه في ذلك الوقت لا يحل صلاة الصبح ولا يحرم طعاما على الصائم، وصرت أُفتي بذلك وأعمل به إلى يومنا هذا، وفي رمضان من هذه السنة (1394هـ) حدث تشويش عند إخواننا، وسببه أن بعض الإخوان من أهل الوعظ والإرشاد زار المغرب في رمضان، فزعم قوم ممن رافقوه أنه شاهد الفجر الشرعي مطابقا للتوقيت المغربي، وحدثني الثقة عنه أنه وجد بين الفجر الشرعي المشاهد بالعيان وبين التوقيت المغربي وكان في الفضاء خارج المدينة (13) دقيقة أو (15)دقيقة شك هو نفسه، فهذا الخبر متناقض من شخص واحد، فإن كان ما حدثوا به صحيحا من مطابقة تبين الفجر الشرعي التوقيت المغربي فهو خطأ عند كل من يعرف الفجر الشرعي وله بصر يبصر به، ولا يخفى أن أهل البلاد التي يكثر فيها الغيم والضباب لا يعرفون الفجر وكذلك لم يعنوا به من أهل الصحراء، ومن أراد معرفة الفجر الشرعي فلا بد له من أمرين، أحدهما أن يدرس الأحاديث النبوية التي تفرق بين الفجر الكاذب والفجر الصادق، وأقوال الصحابة و التابعين والأئمة المجتهدين، الثاني: أن يكون ممن اعتاد رؤية الفجر لكونه مؤذنا أو لكثرة أسفاره في البراري. ولبيان الأمر الأول،(14/1)
اشرع في تأليف هذا الكتاب واسميه بيان الفجر الصادق وامتيازه عن الفجر الكاذب، وذلك يظهر في شواهد:
الأول تفسير قوله تعالى في سورة البقرة: { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ } . فَسَّر هذه الآية ابن كثير رحمه الله بأحاديث:
الأول: ورد في الصحيحين من حديث القاسم عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يَمنَعنَّكَم أذان بِلال من سُحُورِكم فإنَّه يُنادِي بِلَيْل فكلُواْ واشربُواْ حتى أذان ابن أمِّ مَكتُوم فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر"(لفظ البخاري).
نفهم من هذا الحديث وغيره مما في معناه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان له في رمضان مؤذنان أحدهما بَصِير وهو بلال والآخر أعْمَى وهو ابن أمِّ مكتوم، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم المؤذن البصير الذي ينبه الناس على قرب الصباح يؤذن بليل أي قبل طلوع الفجر، وجعل المؤذن الأعمى يؤذن بعدما يطلع الفجر، فما مقصوده صلى الله عليه وسلم بذلك؟ لو فكَّرنا بعقولنا الناقصة لظهر لنا أن المؤذن البصير وهو بلال، أولى بالأذان الأخير وأحق به من المؤذن الأعمى ليتحرى طلوع الفجر ببصره وعند أول بَصِيصٍ مِن نُورِ الفجر يؤذن حتى يمتنع الناس من الأكل والشرب عند أول طلوع الفجر، ويكون المؤذن الأعمى هو الذي يؤذِّن بِلَيْل ليعلم الناس أن الصبح قريب، ولكنه عليه الصلاة و السلام عكس فجعل الأعمى هو الذي يؤذن الأذان الذي يحرم به الطعام والشراب وتحل به الصلاة، إذ أراد بذلك التوسيع على أمته ولا شك، ولا يريد التَّضْيِّيق، فمن ضيَّقَ ما وسعه الله ورسوله فقد اخطأ، وقوله تعالى: { حتى يتبيَّن لكم } . مطابق للحديث فإنه لم يقل حتى يطلع الفجر بل قال حتى يتبين لكم أيها الناس، أي لجميع الناس بحيث لا يشك فيه أحد وسيأتي ما يوضح هذا إن شاء الله.(14/2)
وفي رواية البخاري ومسلم (فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكثوم، وكان رجلا أعمى لا يؤذن حتى يقال له أصبحت، أصبحت). فأفهم هذا المعنى إن كنت من أهله.
الحديث الثاني:
ثم قال ابن كثير، وقال الإمام أحمد وذكر سنده عن قيس بن طلق عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:( لَيسَ الفجر المُستَطِيل في الأفُق ولكن المُعترض الأحمر ). ورواه الترمذي ولفظه: (كلوا واشربوا ولا يُهِيدَنَّكُم السَّاطِع المصعد فكلوا واشربوا حتى يعترض لكم الأحمر).ثم ذكر ابن كثير روايات ابن جرير إمام المفسرين، لهذا الحديث.
الرواية الأولى: عن سُمرة بن جندب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يغُرَنَّكم نِداء بِلال وهذا البياض، حتى يَنفَجِرَ الفجر أو يطلع الفجر).
الرواية الثانية: عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يغرنكم أذان بلال ولا هذا البياض العمود الصبح حتى يستطير).
الرواية الثالثة:رواه مسلم في صحيحه باللفظ الذي رواه به ابن جرير.
الرواية الرابعة لابن جرير أيضا: عن محمد بن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الفجر فجران فالذي كأنه ذنب السَّرحان لا يُحَرِّم شيئاً، وإنما المستطير الذي يأخذ الأفق، فأنه يحل الصلاة ويحرم الطعام) وهذا مرسل جيد
قال محمد تقي الدين: ذَنب السَّرحان معناه ذنب الذئب لأنه يرفعه فيصير صاعداً إلى فوق، فشبه الفجر الكاذب به.(14/3)
رواه عبد الرزاق بسنده عن ابن عباس قال: "هما فجران فأما الذي يسطع في السماء فليس يُحِلّ ولا يُحرِّم شيئاً، ولكن الفجر الذي يستنير على رؤوس الجبال هو الذي يُحَرِّم الشَّراب"، وقال عطاء: "فأما إذا سطع سطوعا في السماء، وسطوعه أن يذهب في السماء طولا فإنه لا يَحرُمُ به شراب للصائم، ولا تحل به صلاة ولا يفوت به الحج ولكن إذا انتشر على رؤوس الجبال حرم الشراب للصيام وفوات الحج"، وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس وعطاء وهكذا روي عن غير واحد من السلف رحمهم الله. معنى فوات الحج أن الحاج إذا فاته الوقوف بعرفة نهاراً يوم التاسع من ذي الحجة، وأدركه قبل طلوع الفجر الصادق الموصوف بهذه الصفات فحجه صحيح فإن وصل إلى عرفة بعد طلوع الفجر الصادق فلا حج له في تلك السنة.
أحاديث جامع الترمذي وشرحه لشيخنا عبد الرحمن المباركفوري رحمه الله:
الحديث الأول:
قال الترمذي بسنده إلى زيد بن ثابت قال: " تسحَّرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قُمْنا إلى الصلاة قال: قلت كم كان قدر ذلك، قال: قدر خمسين آية".
قال محمد تقي الدين الهلالي: أخبرنا العالم السلفي أبو علي الحبيب بن علي العلوي أنه قرأ خمسين آية في دقيقتين فيكون على هذا بين سحور النبي صلى الله عليه وسلم وبين صلاة الصبح دقيقتان فقط وهب أنها خمس دقائق فالجاهلون بالسنة يحكمون على من فرغ من أكله قبل صلاة الصبح بخمس دقائق أن صيامه غير صحيح، وستزداد المسألة وضوحا بعد هذا إن شاء الله.
ثم قال الترمذي وفي الباب عن حذيفة - قال أبو عيسى حديث زيد بن ثابت حديث حسن صحيح، وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق، استحبوا تأخير السحور.
الحديث الثاني:
قال الترمذي بسنده إلى طلق عن علي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (كلوا واشربوا ولا يهيدنكم الساطع المصعد، وكلوا واشربوا حتى يعترض لكم الأحمر).(14/4)
قال محمد تقي الدين الهلالي: علمنا من هذا الحديث أن الفجر الكاذب الذي يتقدم الفجر الصادق، أبيض خالص البياض ومرتفع من الأرض إلى السماء، وهذا لا يُحرِّمُ طعاماً على صائم ولا يُحِلُّ صلاة الصبح، والفجر الصادق معترض في الأفق مشرب بالحُمرة التي تتقدم طلوع الشمس فهذا هو الذي يحرم الطعام ويحل الصلاة. قال شيخنا في الشرح عند قوله: قدر خمسين آية، أي متوسطة لا طويلة ولا قصيرة وقراءتها تكون متوسطة، لا سريعة ولا بطيئة ونسب ذلك إلى الحافظ.
الحديث الثالث:
قال شيخنا: حديث حذيفة أخرجه الطحاوي في شرح الآثار من رواية زر بن حبيش قال: " تسحرت ثم انطلقت إلى المسجد فمررت بمنزل حذيفة فدخلت عليه فأمر بِلَقِحَة - اللَّقِِحَة: الناقة الحلوب - فحلبت وبِقِدْرٍ فسخنت، ثم قال: كُلْ، قلت إني أريد الصوم، قال: وأنا أريد الصوم، فأكلنا ثم شربنا ثم أتينا المسجد فأقيمت الصلاة، قال: هكذا فعل بِي النبي صلى الله عليه وسلم أو صنعت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت: بعد الصبح؟ قال: بعد الصبح غير أن الشمس لم تطلع"، وأخرجه النسائي وأحمد.
قال محمد تقي الدين الهلالي: نقول للقاصِرِينَ والمُقَصِّرين ماذا في صيام النبي صلى الله عليه وسلم وصيام حذيفة وزر بن حبيش، هل كان صحيحا أو باطلا؟ فإن قُلتُم كان صحيحاً تبين لكم فساد ما ظننتموه من وجوب القضاء على من أكل بعد الصَّفَّارة المغربية، مع أنها تُصَفِّر بليل قبل طلوع الفجر الكاذب والصادق. ثم قال: وذهب معمر وسليمان الأعمش وأبومجلز والحكم بن عتبة إلى جواز التسحر ما لم تطلع الشمس واحتجوا في ذلك بحديث حذيفة الذي أشار إليه الترمذي، وعن ابن جريج قلت لعطاء: أَيكْرَه أن أشرب وأنا في البيت لا أدري لَعَلِّي أصبحت ؟ قال: لا بأس بذلك، هو الشك. وقال ابن أبي شيبة حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن مسلم، قال: لم يكونوا يعدون الفجر فجركم، إنما كانوا يعدون الفجر الذي يملأ البيوت والطرق.(14/5)
وعن معمر أنه كان يؤخر السحور جدّاً حتى يقول الجاهل لا صوم له. وروى سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن المنذر من طرق عن أبي بكر أنه أمر بغلق الباب حتى لا يرى الفجر. وروى ابن المنذر بإسناد صحيح عن علي رضي الله عنه أنه صلى الصبح ثم قال: "الآن حين يتبيَّن الخيط الأبيض من الخيط الأسود". وقال ابن المنذر: ذهب بعضهم إلى أن المراد بتبين بياض النهار من سواد الليل أن ينتشر البياض في الطرق والسكك والبيوت. وروى بإسناد صحيح عن سالم بن عبيد الأشجعي وله صحبة أن أبا بكر رضي الله عنه قال له: " أخرج فانظر هل طلع الفجر، قال: فنَظَرت ثم أتَيْتُه فقلت: قد إِبْيَضَّ وسَطَع، ثم قال اخرج فانظر هل طلع الفجر فنظرت فقلت: قد اعترض فقال: الآن ابلغني شرابي. وروى من طريق وكيع عن الأعمش أنه قال: لولا الشهرة لصليت الغداة ثم تسحرت.كذا في عمدة القاري وفتح الباري. وقال الحافظ ابن حزم في المحلى:ولا يلزم في رمضان ولا في غيره إلا بِتَبَيُّنِ طلوع الفجر الثاني وأما ما لم يتبين فالأكلُ والشرابُ والجماعُ مباح كل ذلك كان على شك من طلوع الفجر أو على يقين من أنه لم يطلع، ثم ذكر آية البقرة المتقدم ذكرها، وقال بعدها ما نصه: لأنه تعالى أباح الوطء والأكل والشراب إلى أن يتبين لنا الفجر ولم يقل تعالى حتى يطلع الفجر ولا قال حتى تشكوا في الفجر فلا يحل لأحد أن يقوله ولا يوجب صوما بطلوع ما لم يتبين للمرء, ثم قال أبو محمد: فقد صح أن الأكل صباح بعد طلوع الفجر ما لم يتبين لمريد الصوم طلوعه، ثم قال بسنده إلى زر بن حبيش: قلت لحذيفة: " أي وقت تسحرتم مع النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: هو النهار إلا أن الشمس لم تطلع".(14/6)
وروى بسنده إلى أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إذا سَمِع أحدكم النِّداء والإناء على يده فلا يضعه حتى يقضي حاجته منه)، ثم قال ابن حزم بسنده إلى أبي بكر الصديق أنه قال: (إذا نظر الرجلان إلى الفجر فشك أحد هما فليأكلا حتى يتبين لهما). وروى بسنده إلى سالم بن عبيد قال: كان أبو بكر يقول لي: "قم بيني وبين الفجر حتى نتسحر" سالم بن عبيد هذا أشجعي كوفي من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذه أصح طريق يمكن أن تكون. ثم روى بسنده عن أبي قلابة أن أبا بكر الصديق كان يقول: " أَجْفُواْ الباب حتى نتسحر". ثم روى من طريق حَمَّاد بن سلمة عن أبي هريرة أنه سمع النداء والإناء على يده فقال: "أحْرَزْتها ورَبِّ الكعبة". ثم روى من طريق ابن جرير عن ابن عباس قال: "أحَلَّ الله الشراب ما شككت، يعني في الفجر" ثم روى عن عكرمة قال: قال ابن عباس: " أشُكُّ لَعَمْرُ الله اسقني، فشرب". ثم روى بسنده عن مكحول الأزدي قال: رأيت ابن عمر أخذ دَلْواً من زمزم فقال لرجلين: " أطلع الفجر؟ قال أحد هما قد طلع، فقال الآخر: لا، فشرب ابن عمر". وروى بسنده عن حبان بن الحارث أنه تسحر مع علي بن أبي طالب وهما يريدان الصيام فلما فرغ قال للمؤذن أقم الصلاة. وروى بسنده من طريق ابن أبي شيبة عن عامر بن مطر قال: " أتيت عبد الله بن مسعود في داره فأخرج لنا فضل سحوره فتسَحَّرنا معه فأقيمت الصلاة، فخرجنا فصلينا معه". وعن خبيب بن عبد الرحمن قال: سمعت عمتي وكانت قد صحبت النبي صلى الله عليه وسلم قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن ابن أم مكتوم ينادي بليل فكلواْ واشربواْ حتى ينادي بلال، وأن بلال يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم، قالت: وكان يصعد هذا وينزل هذا، قالت: فكنا نعلق به فنقول كما أنت حتى نتسحر). وعن محمد بن علي بن الحسين كل حتى يتبين لك الفجر. وعن الحسن كل ما إمتريت. وعن ابن مجلز: "الساطع(14/7)
ذلك الصبح الكاذب، ولكن إذا انفضح الصبح في الأفق". وعن إبراهيم النخعي: "المُعترض الأحمر يُحِلُّ الصلاة ويُحَرِّم الطعام. وعن ابن جريج قلت لعطاء: " أتكره أن أشرب وأنا في البيت لا أدري لعلي قد أصبحت، قال: لا بأس بذلك هو شك". ومن طريق ابن أبي شيبة حدثنا أبو معاوية عند الأعمش عن مسلم قال: " لم يكونواْ يعدون الفجر فجركم، إنما كانواْ يعدون الفجر الذي يملأ البيوت والطرق". وعن أبي وائل أنه تسحر وخرج إلى المسجد فأقيمت الصلاة. وعن معمر أنه كان يؤخر السحور جداً حتى يقول الجاهل لا صوم له، قال علي وقد ذكرنا في باب: من تسحر فإذا به نهار وهو يظن أنه ليل من لم يَرَ في ذلك قضاء. فهؤلاء أبو بكر وعمر وعلي وابن عمر وابن عباس وأبو هريرة وابن مسعود وحذيفة وعمة خبيب وزيد بن ثابت وسعد بن أبي وقاص فهم أحد عشر من الصحابة لا يعرف لهم مخالف من الصحابة رضي الله عنهم، إلاّ رواية ضعيفة من طريق مكحول عن ابن سعيد الخدري ولم يدركه، ومن طريق يحيى الجزاري عن ابن مسعود ولم يدركه، ومن التابعين محمد ابن علي وأبو مجلز وإبراهيم ومسلم وأصحاب ابن مسعود وعطاء والحسن والحكم بن عتيبة ومجاهد وعروة بن الزبير وجابر بن زيد.
سنن أبي داود وشرحه:
قال أبو داود: عن عبد الله ابن سوادة القُشيْرِي عن أبيه قال: سمعت سُمرة ابن جندب يخطب وهو يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا يَمنعَنَّ من سَحُورِكم أذان بلال ولا بياض الأفق الذي هكذا حتى يستطير) وأخرجه مسلم والنسائي. وقال الخطابي: قوله يستطير معناه يعترض في الأفق وينشر ضوءه هناك.
قال الشاعر: …وهان على سراة بني… خريق بالبويرة مستطير.(14/8)
وروى أبو داود عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا يمنعنَّ أحدكم أذان بلال من سحوره فإنه يؤذن، - قال أو ينادي- ليرجع قائمكم ويَنْتَبِه نائمكم) وليس الفجر أن يقول هكذا، وجمع يحيى يعني القطان كفينة حتى يقول هكذا، ومدَّ يحيى بأصبعيه السبابتين. وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجة.
وروى عن عدي بن حاتم لما نزلت هذه الآية: { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ } . قال: أخذت عقالاً أبيض وعقالاً أسود، فوضعتهما تحت وسادتي فنظرت فلم أتبين، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك فقال: (إن وسادك إذن لعريض طويل إنما هو الليل والنهار)، وقال عثمان وهو ابن أبي شيبة إنما هو سواد الليل وبياض النهار، وأخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي.
قال الشيخ شمس الدين ابن القيم رحمه الله: "هذا الحديث أعله ابن القطان بأنه مشكوك في إتِّصاله، قال: لأن ابن داود قال: أنبأنا عبد الأعلى بن حماد أظنه عن حماد عن محمد بن عمرو عن أبي هريرة فذكره، وقد روى النسائي عن زر قال: قلنا لحذيفة أي ساعة تسحرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" هو النهار إلا أن الشمس لم تطلع". وقد اختلف في هذه المسألة فروى إسحاق بن راهوية عن وكيع أنه سمع الأعمش يقول:(( لولا الشهرة لصليت الغداة ثم تسحرت)).
ثم ذكر إسحاق عن أبي بكر الصديق عن حذيفة نحو هذا، ثم قال: وهؤلاء لم يَرَوْ فرقاً بين الأكل وبين الصلاة المكتوبة، هذا أخر كلام إسحاق. وقد حكى عن ابن مسعود أيضا. وذهب الجمهور إلى امتناع السحور بطلوع الفجر، وهو قول الأئمة الأربعة وعامة فقهاء الأمصار، وروى معناه عن عمر وابن عباس.(14/9)
واحتج الأولون بقول النبي صلى الله عليه وسلم:( فَكُلوا واشربوا حتى يُؤذِّن ابن أمِّ مكتوم، ولم يكن يؤذن إلا بعد طلوع الفجر)، كذا في البخاري، وفي بعض الروايات "وكان رجلا أعمى لا يؤذن حتى يقال له أصبحت، أصبحت"، قالوا أن النهار أنَّمَا هو من طلوع الشمس.
واحتجوا بقوله تعالى: { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ } ، وبقول النبي صلى الله عليه وسلم: (كلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم) وبقوله: ( الفجر فجران، فأما الأول فإنه لا يحرم الطعام ولا يحل الصلاة، أما الثاني فإنه يحرم الطعام ويحل الصلاة). رواه البيهقي في سننه. قالوا: وأما حديث حذيفة فمعلول، وعلته الوقف، وأن زِرّاً هو الذي تسحر مع حذيفة. ذكره النسائي.
قال محمد تقي الدين الهلالي: في هذا نظر ؟! لأن حذيفة قال: هكذا صنعت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا مرفوع وأوسط الأقوال الذي نَفْتِي به ونَعْمَل به أخذاً من هذه الأحاديث كلها: أن الفجر الصادق الذي يُحَرِّم الطَّعام على الصائم ويُحِلُّ الصَّلاة هو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم الفجر الأحمر أي الذي يَشُوبُ بياضه حُمرة المُعْتَرِض في الأفُق، الذي يملأ البيوت والطرقات ولا يختلف فيه أحد من الناس، يشترك في معرفته جميع الناس، وأما غير ذلك كالفجر الذي يَعْنِيهِ المُوَقِّت المغربي فإنَّه باطِل لا يُحَرِّم طعاماً على الصَّائم ولا يُحِلُّ صلاة الصبح، ونحن نتأخر بعده أكثر من نصف ساعة حتى يتبين الفجر الصادق. فهذا الذي نَدِِينُ الله به والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
ونسأل الله أن يُرِيَنا الحقَّ حقّاً ويُعِيننا على أتِّباعه وأن يُرِيَنا الباطل باطلاً ويُعِينَنا على اجتنابه، والحمد لله رب العالمين.
وكان الفراغ منه ضحى يوم السبت 4 شوال سنة 1394هـ من هجرة النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله- انتهى.(14/10)
تم تصدير هذا الكتاب آليا بواسطة المكتبة الشاملة
(اضغط هنا للانتقال إلى صفحة المكتبة الشاملة على الإنترنت)
الكتاب : الهدية الهادية إلى الطائفة التجانية
- - -
الهدية الهادية
إلى
الطائفة التجانية
تأليف
الدكتور محمد تقي الدين الهلالي
رحمه الله و غفر له
يقول محمد تقي الدين الهلالي :
لما رأيت الشرك الأكبر، بله الأصغر، قد انتشر في البلاد الإسلامية والبدع عمت جميع الأقطار، وقل علماء الكتاب والسنة الناصحون للأمة، وانتشرت طرائق المتصوفة المبتدعين في الخاصة والعامة، ومنها الطريقة التجانية التي يعد متبعوها بعشرات الملايين في البلاد الإسلامية، وكنت عالما بعُجرها و ُبجرها فأطْلعت على بعض ما فيها من الضلالات صاحب الفضيلة العالم الورع الداعي إلى الله على بصيرة محي السنة ومميت البدعة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية، فتعجَّب من ذلك غاية التعجُّب، وحثني على تأليف جزء في بيان حقيقة هذه الطريقة وما فيها من الأباطيل، ليحذرها من لم يقع في شباكها، ويتنبه لما فيها الذين ما يزالون متورطين في مهاويها، عسى الله أن ينقذهم ويردهم إلى المحجة البيضاء(1) فامتثلت أمره شاكرا ً وألفت هذا الكتاب وسميته :
" الهدية الهادية إلى الطائفة التجانية "
وقد تفضل سماحته، فأمر بطبعه، فجزاه الله عن الإسلام والمسلمين أحسن الجزاء، وجعل هذا العمل ذخرا في ميزان حسناته يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم .
ولا يفوتني في هذا المقام أن أقدم أسمى آيات الشكر لكل من ساعد على نشر هذا الكتاب ولاسيما الأديب العبقري، فضيلة الأمين العام للجامعة الإسلامية الأستاذ الشيخ محمد العبودي فإنه تلقى هذا العمل باغتباط، وبذل جهوده المشكورة فجزاه الله خيراً .
__________(15/1)
(1) وهذا شأنه ـ حفظه الله ـ في رد عدوان أصحاب البدع والضلالات من أعداء السنة النبوية ، والمتسترين ، من أمثال زاهد الكوثري وتلامذته . جزاه الله عن الإسلام وأهله كل خير ، وكتب له العون والسداد
---
والله أسأل متوسلا إليه بأسمائه الحسنى كلها وبمحبتنا واتباعنا لخليله محمد خاتم النبيين، وإمام المرسلين، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، أن ينفعنا بهذا الكتاب وينفع به كثيراً من خلقه، ينير لهم الظلمات بمصابيح الكتاب والسنن المحكمات، ويهدينا جميعا إلى صراطه المستقيم ، ويجعل مأوانا في جنات النعيم، مع الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء الصالحين، وحسن أولئك رفيقا، والحمد لله رب العالمين .
الحمد لله الذي أرسل خاتم النبيين وإمام المرسلين، محمدا صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين بشيرا لمن آمن به، واهتدى بهديه، بالفوز المبين ونذيرا لمن كفر به وخالف سنته بالعذاب المهين وصلِّ اللهم على محمد وأزواجه وذريته كما صليت على إبراهيم وبارك على محمد وأزواجه وذريته كما باركت على إبراهيم، صلاة تشمل آله ومن تمسك بسنته إلى يوم الدين .
أما بعد فيقول أفقر العباد إلى الغني الكبير المتعالي، محمد تقي الدين بن عبد القادر الحسيني الهلالي غفر الله ذنبه وستر عيبه :(15/2)
نشأت في بلاد سجلماسة وحفظت القرآن وأنا ابن اثنتي عشرة سنة ورأيت أهل بلادنا مولعين بطرائق المتصوفة لا تكاد تجد واحدا منهم لا عالما ولا جاهلا إلا وقد انخرط في سلك إحدى الطرائق، وتعلق بشيخها تعلق إلهام الوامق، يستغيث به في الشدائد ويستنجد به في المصائب، ويلهج دائما بشكره والثناء عليه فإنْ وجد نعمة شكره عليها، وإن أصابته مصيبة اتهم نفسه بالتقصير في محبة شيخه والتمسك بطريقته، ولا يخطر بباله أن شيخه يعجز عن شيء في السماوات ولا في الأرض فهو على كل شيء قدير و سمعت الناس يقولون: من لم يكن له شيخ فالشيطان شيخه . وينشدون قول ابن عاشور في أرجوزته التي نظمها في عقيدة الأشعرية ، وفي فروع المالكية، وفي مبادئ التصوف :
يصحب شيخا عارف المسالك == يقيه من طريقه المهالك
يذكره الله إذا رآه == ويوصل العبد إلى مولاه
ورأيت الطرائق المنتشرة في بلادنا قسمين:
---
1- قسم ينتمي إليه العلماء وعِلْيَةُ القوم .
2- وقسم ينتمي إليه السُّوقة وعامة الناس .
فمالت نفسي إلى القسم الأول، وسمعت أبي وهو من علماء بلدنا مرارا يقول:
لولا أن الطريقة التجانية تمنع صاحبها من زيارة قبور الأولياء والإستمداد منهم وطلب الحاجات إلا قبر النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة، وإلا قبر الشيخ التجاني ، وقبور من ينتمي إلى طريقته من الأولياء، قال أبي: لولا ذلك لأخذت ورد الطريقة التجانية، لأني لا أستطيع أن أترك زيارة جدِّنا عبد القادر بن هلال، وجدُّنا كان مشهوراً بالصلاح وله قبر يزار وهو معدود من جملة الأولياء في ناحية الغرفة من القسم الشرقي الجنوبي من بلاد المغرب.(15/3)
والطريقة التجانية، والدرقاوية، والكتانية، وإن كان أهلها في بلادنا قليلا، تؤلف القسم الأول، فاشتاقت نفسي إلى أخذ وِرد الطريقة التجانية وأنا قد ناهزت البلوغ فذهبت إلى المقدم وقلت له : يا سيدي أريد منك أن تعطيني ورد الطريقة التجانية، ففرح كثيراً، وقال لي : تأخذ الورد على صغر سنك ؟ قلت: نعم، فقال: بخ بخ لك أفلحت وأنجحت فأعطاني الورد وهو :
---
ذكر لا إله إلا الله مائة مرة، والاستغفار مائة مرة، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بأي صيغة مائة مرة، لكن صيغة الفاتح لما أغلق هي أفضل الصيغ، وسيأتي إن شاء الله ذكر فضلها)(1)( في هذا الكتاب بعون الله وتوفيقه . وأعطاني كذلك الوظيفة وهي أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم ثلاثين مرة، وصلاة الفاتح لما أغلق خمسين مرة ولا إله إلا الله مائة مرة، وجوهرة الكمال: اللهم صلي وسلم على عين الرحمة الربانية ...الخ، وسيأتي ذكر ألفاظها اثنتي عشرة مرة، وهذه الصلاة لا تذكر إلا بطهارة مائية، فمن كان فَرْضُه التيمم فعليه أن يذكر بدلها صلاة الفاتح عشرين مرة، قال: وإنما اشْتُرِطَت الطهارة المائية على ذاكرها لأن النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين يحضرون مجلس كل من يذكرها ولا يزالون معه مادام يذكرها .
ويجب ذِكر الوِرد مرة في الصباح ومرة في المساء بطهارة كما يشترط في الصلاة، ويكون الذاكر جالسا كجلسة التشهد على الأفضل مغمضا عينيه مستحضرا صورة الشيخ أحمد التجاني وهو رجل أبيض مشرب بحمرة ذو لحية بيضاء، ويتصور في قلبه أن عموداً من النور يخرج من قلب الشيخ ويدخل في قلب المريد .
أما الوظيفة فيجب أن تُذكر جماعة بصوت واحد، إن كان للمُريد إخوان في بلده، فإن لم يكن له إخوان تجانيون في بلاده جاز له أن يذكرها وحده مرة في كل يوم .
__________
(1) 1 الفضل المزعوم عندهم
---(15/4)
وأخبرني المقدم الشيخ عبد الكريم المنصوري ببعض فضائل هذا الوِرد وسأذكرها فيما بعد إن شاء الله واستمررت على ذكر الوِرد والوظيفة بإخلاص ملتزما الشروط مدة تسع سنين، وهنالك ذِكر آخر يكون يوم الجمعة متصلا بغروب الشمس وهو: لا إله إلا الله ألف مرة، والأفضل أن يكون معه سماع قبله أو بعده، وهو إنشاد شيء من الشعر بالغناء والترنم جماعة ثم يقولون جميعا : الله حي، والمنشد ينشدهم وهم قيام حتى يخلص عند تواجدهم إلى لفظ آه، آه ، آه، ويسمون هذه الحالة العمارة، وقد تركوها مند زمان طويل لأن أبناء الشيخ التجاني لا يستعملون هذه العمارة، وهم يأتون من الجزائر إلى المغرب وقد أشاروا على المغاربة أن يتركوا العمارة لأنهم لا يستحسنونها، ولكن في كتب الطريقة أنها فُعلت أمام الشيخ التجاني وبرضاه وإقراره .
---(15/5)
وكنت كلما أصابتني مصيبة أستغيث بالشيخ فلا يغيثني، فمن ذلك أنِّي كنت في الجزائر مسافراً من ناحية) بركنت( بقرب حدود المغرب إلى )المشرية(، وكان لي رفيق له جمل فعقله وأوصني بحراسته وتركني في خيمة قِلنا فيها من خيام أهل البادية، فانحل عِقال الجمل وانطلق في البرية فتبعته فاخذ يستهزئ بي، وذلك أنه يبقى واقفا إلى أن أكاد أضع يدي على عنقه ثم يجفل مرة واحدة ويجري مسافة طويلة ثم يقف ينتظرني إلى أن أكاد أقبضه ثم يهرب مرة أخرى وذلك في نحر الظهيرة و شدة الحر، فقلت في نفسي : هذا وقت الاستغاثة بالشيخ فتضرعت إليه وبالغت في الاستغاثة أن يمكِّنني من قبض الجمل و إناخته فلم يستجب، فعدت على نفسي باللوم واتهمتها بعدم الإخلاص والتقصير في خدمة الطريقة ولم أتهم الشيخ البتة بعجز عن قضاء حاجتي، ومع أن شيوخ الطريقة يوصون المريد أن لا يطالع شيئا من كتب التصوف إلا كتب الطريقة التجانية وقع في يدي مجلد من كتاب " الإحياء " للغزالي فطالعته فأثار في نفسي واجتهدت في العبادة و التزمت قيام الليل في شدة البرد فبينما أنا ذات ليلة أصلي قيام الليل أمام خيمتي الصغيرة التي إذا كنت جالسا فيها يكاد رأسي يمس سقفها إذ رأيت غماما أبيض سدَّ الأفق كالجبل المرتفع من الأرض إلى السماء و أخذ ذلك الغمام يدنو مني آتيا من جهة الشرق - وهو قبلة المصلي في المغرب و الجزائر - حتى وقف بعيدا مني وخرج منه شخص وتقدم حتى قرب مني ثم شرع يصلي بصلاتي مؤتما بي، وثيابه تشبه ثياب جارية بنت خمس عشرة سنة، ولم أستطع أن أميز وجهه بسبب الظلام، ولما شرع يصلي معي كنت أقرأ في سورة آلم السجدة ففزعت وخفت خوفا شديدا فخرجت منها إلى سورة أخرى أظنها سورة سبأ، ولم أستطع قراءة القران مع شدة حفظي له بسبب الرعب الذي أصابني، فتركت السور الطوال وأخذت أقرأ بالسور القصار التي لا تحتاج قراءتها إلى رباطة جأش واستحضار فكر، فصلى معي ست ركعات، ولم أرد أن أكلِّمه، لأن كتب(15/6)
---
الطريقة توصي المريد أن لا يشتغل بشيء مما يعرض له في سلوكه حتى يصل إلى الله، وتنكشف له الحجب فيشاهد العرش و الفرش، ولا يبقى شيء من المغيبات خافيا عليه، ولما طال عليَّ زمن الاضطراب دعوت الله في سجود الركعة السادسة فقلت: يا رب إن كان في كلام هذا الشخص خير فاجعله هو يكلمني ، وان لم في كلامه خير فاصرفه عني، فلما سلَّمت من التشهد بعد الركعة السادسة سلَّم هو أيضا، ولم أسمع له صوتا ولكني رأيته التفت عند السلام إلى جهة اليمين كما يفعل المصلي المنفرد على مذهب المالكية، فإنه يسلم مرة واحدة عن يمينه، السلام عليكم دون أن يضيف إليها رحمة الله وبركاته، وإن كان مؤتما بإمام يسلم ثلاث تسليمات إن كان بيساره مصل تسليمة عن يمينه وهي تسليمة التحليل، و تسليمة أمامه للإمام، و تسليمة ثالثة عن شماله للمصلي الذي يجلس عن شماله وقد ثبت في الحديث الذي رواه أبو داود وصححه الحافظ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسلِّم عن يمينه السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وعن يساره السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وهذا هو الذي ينبغي لكل مصل أن يعتمد عليه سواء أكان إماما أو مأموما أو منفردا .
وبعد السلام انصرف ومشى على مهل حتى دخل في الغمام الأبيض الذي كان قائما في مكانه الذي كان ينتظره، وبعد دخوله في الغمام فورا أخذ الغمام يتقهقر إلى جهة الشرق حتى اختفى عن بصري وكان في قبيلتي (حميان) شيخ شنقيطي صالح ما رأيت مثله في الزهد والورع ومكارم الأخلاق وسأذكره فيما بعد، فسافرت إليه وحكيت له تلك الحادثة فقال لي : يمكن أن يكون ذلك شيطانا لو كان ملكا ما أصابك فزع ولا رعب، فظهر لي أن رأيه صواب .
---(15/7)
وبعد ذلك بزمن طويل أخذت أدرس علم الحديث، فرأيت في كتاب" صحيح البخاري " ما وقع للنبي صلى الله عليه وسلم حين جاءه جبريل وهو في غار حراء، فظهر لي أن رأي ذلك الشيخ رحمه الله غير صحيح وبقيت المشكلة بلا حل إلى الآن وكنت حينئذ مشركا أستغيث بغير الله وأخاف وأرجو غير الله ومن هذا تعلم أن ظهور الخوارق وما في عالم الغيب ليس دليلا على صلاح من ظهرت له تلك الخوارق ولا على ولايته لله البتة فإن كل مرتاض رياضة روحية تظهر له الخوارق على أي دين كان وقد سمعنا وقرأنا أن العُبَّاد الوثنيين من أهل الهند تقع لهم خوارق عظام . وبعد ذلك بأيام رأيت في المنام رجلا نبهني وأشار إلى الأفق فقال لي : أنظر فرأيت ثلاثة رجال فقال لي : إن الأوسط منهم هو النبي صلى الله عليه و سلم فذهبت إليه فلما وصلت إليه انصرف الرجلان اللذان كانا معه فأخذت يده فقلت يا رسول الله خذ بيدي إلى الله فقال لي اقرأ العلم ففكرت فعلمت أني في بلاد الجزائر وكان الفرنسيون مسؤولين عليها وكان فقهاء بلدنا يُكفِّرون كل من سافر إلى الجزائر وإذا رجع من سفره يأمرونه بالاغتسال والدخول في الإسلام من جديد ويعقدون له عقدا جديدا على زوجته فقلت في نفسي هذا رسول الله صلى الله عليه و سلم يأمرني بطلب العلم، وأنا في بلاد يحكمها النصارى فأما أن أكون عاصيا أو كافرا فكيف يجوز لي أن أطلب فيها العلم هذا كله وقع في لحظة وأنا لا أزال واقفا أمام النبي صلى الله عليه و سلم فقلت في بلاد المسلمين أوفي بلاد النصارى ؟ فقال لي: البلاد كلها لله فقلت يا رسول الله أدع الله أن يختم لي بالإيمان فرفع إصبعه السبابة إلى السماء وقال لي: عند الله وبعد ما خرجت من الطريقة التجانية على إثر المناظرة التي سأذكرها فيما بعد إن شاء الله بزمن طويل رأيت النبي صلى الله عليه و سلم مرة أخرى في المنام على صورة تخالف الصورة التي رأيته عليها في المرة المذكورة، ففي الأولى كان طولا أبيض نحيفا مشربا(15/8)
---
بحمرة لحيته بيضاء ، أما في هذه المرة فكان ربعة من الرجال إلى الطول أقرب ولم يكن نحيفا ولحيته سوداء وبياض وجهه وحمرته أقرب إلى ألوان العرب من المرة الأولى وكانت رؤية له في فلاة من الأرض وكنت بعدما خرجت من الطريقة التجانية توسوس نفسي أحيانا بما في كتاب جواهر لمعاني مما ينسب إلى الشيخ التجاني أنه قال : من ترك ورده وأخذ وِردنا وتمسك بطريقتنا هذه الأحمدية المحمدية الإبراهيمية الحنيفية التجانية فلا خوف عليه من الله ولا من رسوله ولا من شيخه أيا كان من الأحياء أومن الأموات أما من أخذ وِردنا وتركه فإنه يحل به البلاء دنيا وأخرى ولا يموت ألا كافرا ً قطعا وبذلك أخبرني سيد الوجود صلى الله عليه و سلم يقظة لا مناما وقال لي : سيد الوجود صلى الله عليه و سلم فقراؤك فقرائي وتلاميذك تلاميذي وأنا مربيهم وسيأتي من هذه الأخبار وأمثالها إن شاء الله كثير في ذكر فضائل الأوراد والأصحاب فكنت أدفع هذا الوسواس بأدلة الكتاب والسنة وأرجم شيطانه بأحجارها فيخْنَس ثم يخسأ ثم يُدبر فاراً منهزما ً فلما رأيت النبي صلى الله عليه و سلم في هذه المرة خطر ببالي ذلك فعزمت على أن أبدأ الكلام مع النبي صلى الله عليه و سلم بأن أسأله أن يدعو الله لي أن يختم لي بالإيمان وأظن القارئ لم ينسى أني سألته ذلك في المرة الأولى فلم يدعوا لي ولكنه رفع إصبعه السبابة إلى السماء وقال عند الله فقلت يا رسول الله: أدع الله أن يختم لي بالإيمان فقال لي: أدع أنت وأنا أؤمن على دعائك فرفعت يدي وقلت اللهم اختم لي بالإيمان فقال النبي صلى الله عليه و سلم: آمين وكان رافعا يديه فزال عني ذلك الوسواس ولكني لم آمن مكر الله تعالى فإنه لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون والرؤيا تبشر ولا تغُر وبين هذه الرؤيا التي دعا لي فيها رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يختم الله لي بالإيمان بتأمينه على دعائي والرؤيا التي قدَّمت ذكرها ولم يدع لي فيها عشرون سنة(15/9)
---
وتأولت اختلاف الصورة وعدم الدعاء في الرؤيا الأولى والدعاء في المرة الثانية بما كنت عليه من الشرك في العبادة وبما صرت إليه من توحيد الله تعالى وإتباع سنة نبيه صلى الله عليه و سلم والله أعلم .
سبب خروجي من الطريقة التجانية
لقد كنت في غمرة عظيمة وضلال مبين وكنت أرى خروجي من الطريقة التجانية كالخروج من الإسلام ولم يكن يخطر لي ببال أن أتزحزح عنها قيد شعرة وكان الشيخ عبد الحي الكتاني عدوا ً للطريقة التجانية لأنه كان شيخا رسميا للطريقة الكتانية و إنما قلت رسميا لأن أهل سلا أعني الكتانيين أنصار الشيخ محمد بن عبد الكبير الكتاني مؤسس الطريقة الكتانية لا يعترفون به أي بالشيخ عبد الحي و يقولون أن الاستعمار الفرنسي هو الذي فرضه على الكتانيين فرضا ً والذي حدثني بذلك العالم الأديب النبيل الشيخ عبد الله بن سعيد السلاوي فإنه كان حامل لواء نصرة الشيخ عبد الكبير الكتاني وكان يُعادي أخاه عبد الحي عداوة ويرميه بالعظائم والكبائر التي لا يسوغ ذكرها هنا والاستطراد بذكر أسباب العداوة بين الشيخين الكتانيين الأخوين يخرج بنا عن الموضوع، أقول مرَّ بنا الشيخ عبد الحي في وَجْدَة و أنا عند العالم الأديب الشاعر المتفنن في علوم كثيرة الشيخ أحمد سكيرج قاضي القضاة بناحية وجدة معلما لولده الأديب السيد عبد الكريم وابن أخيه السيد عبد السلام كنت أعلِّمهما الأدب العربي بدعوة من الشيخ أحمد سكيرج فمدحت عبد الحي بقصيدة ضاعت مني ولا أذكر شيئا منها ولكنه أعجب بها أيما إعجاب حتى قال لي: عاهدني أنك إذا قدمت " فاسًا" تنزل عندي ضيفا فعاهدته على ذلك ففي ربيع الأول من سنة أربعين من هذا القرن الهجري سافرت إلى فاس ونزلت عنده، وَوُلِد له في تلك الأيام ولد سماه عبد الأحد فالتمس مني نظم أبيات في التهنئة وتاريخ مولده فنظمتها ولا أذكر منها شيئا وفي اليوم السابع من مولده عمل مأدبة عظيمة دعا إليها خلقا كثيراً وبعد ما أكلوا(15/10)
وشربوا
---
قاموا للعمارة التي تقدم ذكرها ودعوني أن أشاركهم في باطلهم فامتنعت لأن من شروط التجاني المخلص أن لا يذكر مع أهل طريقة أخرى ذكرهم وان لا يرقص معهم وفي كتاب" البغية " للشيخ العربي بن السايح وهو شرح المنية للتجاني ابن بابا الشنقيطي حكاية في وعيد شديد لمن يشارك أصحاب الطرائق في أورادهم وأذكارهم و حاصلها أن شخصا تجانيا ذهب إلى زاوية أهل طريقة أخرى لغرض دنيوي فاستحي أن يبقى منفردا عنهم وهم يذكرون وظيفتهم فشاركهم في الذكر فلما فتح فاه ليذكر معهم أصابه شلل في فكَّيْه فبقي فاه مفغورا ولم يستطع سده حتى مات ولكن الجماعة ألوحوا علي وجروني جرا حتى أوقفوني في حلقتهم فرأيت أفواها مفغورة من وجوه بعضها فيه لحية سوداء وبعضها فيها لحية خطها الشيب وبعضها أمرد ليس له لحية من الغلمان الذين لم يلتحوا بعد، أما حلق اللحية فلم يكن موجودا في ذلك الزمن إلا عند الفرنسيين المستعمرين وقليل جدا من حواشيهم وسمعت أصواتا تنبعث من تلك الأفواه ليس لها معنى في أي لغة بعضها آ آ آ وبعضها آه آه آه وبعضها أح أح أح فاستنكرت تلك الهيئة وقلت في نفسي إن الله لا يرضى بهذه الحالة أن تكون عبادة له لبشاعتها ثم ندمت على ذلك ندامة الكسعى أو الفرزدق حين طلَّق نوار فقال :
ندمت ندامة الكسعى لما *** غدت مني مطلقة نوار
وكانت جنتي فخرجت منها *** كآدم حين أخرجه الضرار
---(15/11)
وقلت في نفسي كيف يسوغ لي أن أنكر شيئا حضر مثله خاتم الأولياء القطب سيدي أحمد التجاني فتبت من ذلك الخاطر ولكن جاءني امتحان آخر وذلك أن الشيخ عبد الحي الكتاني قال لي منتقدا أن الطريقة التجانية مبنية على شفا جرف وأنه لا ينبغي لعاقل أن يتمسك بها فقلت له والطريقة الكتَّانِية التي أنت شيخها فقال لي كل الطرائق باطلة وإنما هي صناعة للاحتيال على أكل أموال الناس بالباطل وتُسَخِّرهم وتَستعبدهم، قال أنا لم أؤسس الطريقة وإنما أسسها غيري وهذه الأموال التي آخذها منهم أنفقها في مصالح لا ينفقونها فيها ثم قلت له : ومن الذي حملك على الطعن في الطرائق وما دليلك على بطلانها، قال لي ادعاء كل من الشيخين أن النبي صلى الله عليه وسلم يحضر بذاته وظيفة أصحابه حين يذكرونها وهذه قلة حياء منهما وعدم تعظيم منهما للنبي صلى الله عليه وسلم كيف تُكلفونه أن يخرج من قبره ويقطع كل هذه المسافات من البر والبحر ليجلس أمامكم فأنتم تبسطون له ثوبا أبيض ليجلس عليه وأصحابنا يقومون على الباب ليتلقوه فقلت إذن أنت لا تعتقد صحة طريقتك فقال لا أعتقدها أبدا وقد أخبرتك أنها صناعة لأكل أموال الناس بالباطل وأزيدك على ذلك أن اعتماد طريقتكم على كتاب "جواهر المعاني" الذي تزعمون أن شيخكم أحمد التجاني أملاه على علي حرازم نصفه مسروق بالحرف وهو تأليف لمحمد عبد الله المدفون بكذا وكذا بفاس وسمى ناحية نسيتها الآن، قال وأنا قابلت الكتابين من أولهما إلى آخرهما فوجدت المجلد الأول من جوهر المعاني مسروقا كله من كلام الشيخ المذكور ففارقته وبعد أيام كنت جالسا عند الشيخ عمر بن الخياط بائع الكتب بقرب القرويين فقال لي هلْ اجتمعت بالأستاذ الشيخ محمد بن العربي العلوي، فقلت لا، فقال لي هذا الرجل من أفضل علماء فاس وعنده خزانة كتب لا يوجد مثلها في فاس وأثنى عليه بالعلم والأدب فقلت له أنا لا أجالس هذا الرجل ولا أجتمع به لأنه يبغض الشيخ أحمد التجاني ويطعن(15/12)
---
في طريقته فقال لي طالب العلم يجب أن يتسع فكره وخلقه لمجالسة جميع الناس وبذلك يتسع علمه وأدبه ولا يجب أن يقلدهم في كل ما يدَّعون، يأخذ ما صفا ويدع ما كدر وإن لم تجتمع بهذا الرجل يفوتك علم وأدب كثير فذهبت إليه لأجتمع به وكان قاضيا في محكمة فاس الجديدة فنظمت أربعة أبيات لا أحفظ منها إلا شطر البيت الرابع وهو ( وهذا مدى قصدي وما أنا مستجد ) ... أعني أن غرضي بالاجتماع بك المذاكرة العلمية فهي غاية قصدي وإن اعتبرنا ما موصولة يكون المعنى والذي استجديه أي أطلب وإن اعتبرناها نافية تميمية يكون المعنى ولست مستجديا أي طالبا مالا فلما خرج من المحكمة وأراد أن يركب بغلته التي كانت على باب المحكمة ولجامها بيد خادمه تقدمت إليه وأعطيته الصحيفة التي فيها الأبيات فلما قراها فقال لطالب كان يرافقني وهو الحاج محمد بن الشيخ الأراري أنت تعرف بيتنا، فقال نعم، قال فأت به على الساعة التاسعة صباحا فخرجت مع الرفيق المذكور من مدرسة الشَّرَّاطين وكان يسكن فيها على الساعة الثامنة والنصف لنصل إلى الشيخ على الساعة التاسعة وكان ذلك اليوم الثاني عشر من ربيع الأول وهو يوم عيد عند المغاربة وكثير من البلدان الإسلامية وفي المغرب طائفة يسمون (العيساويين) أتباع الشيخ بنعيسى المكناسي وهؤلاء لهم موسم في كل سنة يجتمعون فيه في اليوم الثاني عشر من ربيع الأول ويأتون من جميع أنحاء المغرب فيضربون طبولهم ومزاميرهم ويترنمون بأناشيدهم إلى إن يظهر للناس أنهم أصيبوا بالجنون وحينئذ يفترسون الغنم والدجاج بدون ذكاة بل يقطعونه بأظافرهم ويأكلون لحمه نيِّئا والدم يسيل منه وقد ملئوا أزقة فاس وهي ضيقة في ذلك الزمان وحتى في هذا الزمن فلم نستطع أن نصل إلى بيت الشيخ إلاَّ بعد مُضي ساعتين ونصف من شدة الزحام فلما وصلنا وأخبرنا بوابه ذهب ثم رجع إلينا و قال إنكما لم تجيئا في الموعد المضروب والشيخ مشغول عنده حكام فرنسيون فارجعا إليه بعد صلاة(15/13)
---
العصر فرجعنا وقلت لصاحبي لا نرجع إليه فقد كفانا الله شر لقائه لأنه مبغض لشيخنا وطريقته فالخير فيما اختاره الله تعالى فقال لي ليس الشيخ بملوم وقد اعتذر بعذر قائم والصواب أن نرجع إليه، فرجعنا إليه بعد العصر، ووجدت عنده من الترحيب والبشاشة والإكرام والتواضع ما لم أجده عند الشيخ الكتاني ولا عند أحد من علماء فاس وأخذنا في أحاديث أدبية وكان يقوم ويأتي بالكتب ويضعها أمامي . ووجدته كما قال السيد عمر بن الخياط ولما كادت الشمس تغرب استأذنته في الانصراف فقال لي إلى أين تذهب أنت غريب في هذا البلد وهذا المكان معد للضيوف لا نحتاج إليه فأمكث فيه وبت هنا فقبلت دعوته وبعد أن صلينا المغرب جاء أصحابه أذكر منهم الشيخ عبد السلام الصرغيني والشيخ المهدي العلوي وهو لا يزال في قيد الحياة أما الأول فقد مات فأخذ بعضهم يلعب الشطرنج وهو يراهم ولا ينكر عليهم فقلت في نفسي هذا دليل على أنه من العلماء الذين لا يعملون بعلمهم فهو جدير أن ينكر على أولياء الله ما خصهم الله به من كرامة ثم تركوا الشطرنج وأخذوا ينتقدون الطريقة الكتانية ويستهزئون بها ويسخرون من أهلها وكل منهم يحكي حكاية فقال الشيخ عندي حكاية هي أعجب وأغرب مما عندكم جاءني شاب كان متمسكا بالطريقة الكتانية تمسكا عظيما فقال لي أريد أن أتوب على يدك من الطرائق كلها وتعلمني التمسك بالكتاب والسنة فقلت وما دعاك إلى الخروج من طريقتك التي كنت مغتبطا بها فقال لي أنه أمس شرب الخمر وزني وترك صلاة العصر و المغرب والعشاء فمر بالزاوية الكتانية وسمع المريدين يرقصون ويصيحون بأصوات عالية والمنشد ينشدهم وكانت بقية سُكر لا تزال مسيطرة عليه فهَمَّ أن يدخل الزاوية ويرقص معهم ولكنه أحجم عن ذلك لأنه جُنب ولم يصلِّ شيئا من الصلوات في ذلك النهار إلا أن سُكره غلب على عقله فدخل الزاوية ووجد الشيخ محمد بن عبد الكبير في صدر الحلقة والمريدون يرقصون فاشتغل معهم في الرقص وكان(15/14)
---
أنشطهم فلما فرغوا من رقصهم دعاه الشيخ وقبله في فمه وقال رأيت النبي صلى الله عليه وسلم قبلك فاقتديت به قال ولما دعاني خِفت خوفا شديدا وظننت أنه قد انكشف له حالي وهو يريد أن يوبخني على ذنوبي فلما قال لي ذلك أيقنت أنه كاذب في كل ما يدعيه ويدعوا إليه وإلاَّ كيف يرضى عنِّي النبي صلى الله عليه وسلم ويُقبِّلني في فمي مع تلك الكبائر التي ارتكبتها في ذلك اليوم قال فهذا سبب مجيئي إليك لأتوب إلى الله من الطرائق كلها وأتَّبع طريقة الكتاب والسنة . ولما رأيتهم يعيبون الطريقة الكتانية ويستهزئون بها أصابني خوف شديد وندمت على زيارتي للشيخ فقلت في نفسي هذا الذي كنت أخافه قد وقعت فيه فكيف الخلاص ؟
وذكرت قول التجاني بن بابا الشنقيطي في منيته :
ومن يجالس مبغض الشيخ هلك *** وضل في مهامه وفي حلك
وشدد النهي لنا الرسول *** في ذلك فلتعمل بما أقول
والشيخ قال هو سم يسري يحل *** من فعله في خسر
---(15/15)
ومعنى ذلك أن الشيخ أحمد التجاني قال : قال لي سيد الوجود صلى الله عليه وسلم يقظة لا مناما قل لأصحابك لا يجالسوا المبغضين لك فإن ذلك يؤذيني فصممت على أن أخرج من ذلك المجلس فقمت فقال لي الشيخ إلى أين فقلت إلى بيت الخلاء، كذبت عليه، فلما وصلت إلى الباب منعني البواب من الخروج وقال لي هل أَذِن لك الشيخ في الخروج فقلت نعم فقال لي هذا محال لأنك غريب والقانون الفرنسي يقضي بأن التَّجول بعد الساعة العاشرة ليلا فيه خطر فإنك لا تمشي خطوات حتى يُقبض عليك وتؤخذ إلى السجن وتبقى فيه إلى ضحى الغد وحينئذ يُنظر في إطلاق سراحك وقال لي أنا لا أفتح لك الباب إلاّ إذا سمعت الإذن من الشيخ فقلت إذن أرجع ورجعت وجلست في مكاني ولم تخف حالي على الشيخ فقال لي أراك منقبضا فما سبب انقباضك فقلت سببه أنكم انتقلتم من الطعن في الطريقة الكتانية إلى الطعن في الطريقة التجانية وأنا تجاني لا يجوز لي أن اجلس في مجلس أسمع فيه الطعن في شيخي وطريقته فقال لي لا بأس عليك أنا أيضا كنت تجانيا فخرجت من الطريقة التجانية لما ظهر لي بطلانها فإن كنت تريد أن تتمسَّك بهذه الطريقة على جهل وتقليد فلك عليَّ ألا تسمع بعد الآن في مجلسي انتقادا لها أو طعنا فيها وإن كنت تريد أن تسلك مسلك أهل العلم فهلُمَّ إلى المناظرة فإن ظهرت عليَّ رجعتُ إلى الطريقة وإن ظهرتُ عليك خرجتَ منها كما فعلت أنا فأخذتني النخوة ولم أرض أن أعترف أني أتمسك بها على جهل فقلت قَبِلت المناظرة .
المناظرة
---(15/16)
قال الشيخ أريد أن أناظرك في مسالة واحدة إن ثبتت ثبتَت الطريقة كلها، قلت ما هي ؟ قال ادعاء التجاني أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يقظة لا مناما وأعطاه هذه الطريقة بما فيها من الفضائل فإن ثبتت رؤيته للنبي صلى الله عليه وسلم يقظة وأخْذه منه الطريقة فأنت على حق وأنا على باطل والرجوع إلى الحق حق وإن بَطُل ادعاؤه ذلك فأنا على حق وأنت على باطل فيجب عليك أن تترك الباطل وتتمسك بالحق ثم قال تبدأ أو أبدأ أنا فقلت ابدأ أنت فقال عندي أدلة كل واحد منها كاف في إبطال دعوى التجاني قلت هات ما عندك وعليَّ الجواب فقال :
الأول : إن أول خلاف وقع بين الصحابة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم كان بسبب الخلافة قالت الأنصار للمهاجرين منا أمير ومنكم أمير وقال المهاجرون إن العرب لا تذعن إلا لهذا الحي من قريش ووقع نزاع شديد بين الفريقين حتى شغلهم عن دفن النبي صلى الله عليه وسلم فبقي ثلاثة أيام بلا دفن صلاة الله وسلامه عليه فكيف لم يظهر لأصحابه ويفصِل النزاع بينهم ويقول الخليفة فلان فينتهي النزاع كيف يترك هذا الأمر العظيم لو كان يُكلِّم أحدا يقظة بعد موته لكلَّم أصحابه وأصلح بينهم وذلك أهم من ظهوره للشيخ التجاني بعد مضي ألف ومائتي سنة ولماذا ظهر ؟ ليقول له أنت من الآمنين ومن أحبك من الآمنين ومن أخذ وردك يدخل الجنة بلا حساب ولا عقاب هو ووالداه وأولاده وأزواجه لا الحفدة فكيف يترك النبي صلى الله عليه وسلم الظهور يقظة والكلام لأفضل الناس بعده في أهم الأمور ويظهر لرجل لا يساويهم في الفضل ولا يقاربهم لأمر غير مهم فقلت له :
---(15/17)
إن الشيخ رضي الله عنه قد أجاب عن هذا الاعتراض في حياته فقال أن النبي صلى الله عليه وسلم يلقى الخاص للخاص والعام للعام في حياته أما بعد موته فقد انقطع اللقاء العام للعام وبقي اللقاء الخاص للخاص لم ينقطع بوفاته وهذا الذي ألقاه على شيخنا من إعطاء الوِرد والفضائل هو من الخاص للخاص فقال أنا لا أُسلِّم أن في الشريعة خاصا وعاما لأن أحكام الشرع خمسة وهذا الورد وفضائله أن كان من الدين فلابد أن يدخل في الأحكام الخمسة لأنه عمل أعد الله لعامله ثوابا فهو إما واجب أو مستحب ولم ينتقل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى حتى بين لأمته جميع الواجبات والمستحبات وفي صحيح البخاري عن علي ابن أبى طالب أنه قيل له هل خصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم معشر أهل البيت بشيء فقال والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما خصنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء إلا فهما يعطاه الرجل في كتاب الله وإلا ما في هذه الصحيفة ففتحوها فإذا فيها العقل، وفكاك الأسير وألا يقتل مسلم بكافر فكيف لا يخص النبي صلى الله عليه وسلم أهل بيته وخلفاؤه بشيء ثم يخص رجلا في آخر الزمان بما يتنافى مع أحكام الكتاب والسنة فقلت إن الشيخ عالم بالكتاب والسنة وفي جوابه مقنع لمن أراد أن يقنع قال احفظ هذا .
---(15/18)
الأمر الثاني : اختلاف أبى بكر مع فاطمة الزهراء رضي الله عنهما على الميراث فلا يخفى أن فاطمة طلبت من أبي بكر الصِّديق رضي الله عنه حقها من ميراث أبيها واحتجت عليه أنه إذا مات هو يرثه أبناؤه، فلماذا يمنعها من ميراث أبيها، فأجابها أبو بكر الصدِّيق بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( نحن معشر الأنبياء لا نورث، ما تركنا صدقة )، وقد حضر ذلك جماعة من الصحابة فبقيت فاطمة الزهراء مغاضبة لأبي بكر حتى ماتت بعد ستة أشهر بعد وفاة أبيها صلى الله عليه وسلم فهذان حبيبان لرسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه قال فاطمة بضعة مني يسوءني ما ساءاها أو كما قال عليه الصلاة والسلام وصرح أن أبا بكر أحب الناس إليه، وقال: (ما أحد أمن علي في نفس ولا مال من أبي بكر الصدِّيق ) رواه البخاري . وهذه المغاضَبة التي وقعت بين أبى بكر وفاطمة، تسوء النبي صلى الله عليه وسلم، فلو كان يظهر لأحد بعد وفاته لغرض من الأغراض لظهر لأبي بكر الصديق وقال له : إني رجعت عما قلته في حياتي فأعطها حقها من الميراث، أو لظهر لفاطمة وقال لها يا ابنتي لا تغضبي على أبي بكر فإنه لم يفعل إلا ما أمرته به فقلت له ليس عندي من الجواب إلا ما سمعتَ قال احفظ هذا .
---(15/19)
الأمر الثالث : الذي وقع بين طلحة والزبير وعائشة من جهة، وعلي بن أبى طالب من جهة أخرى واشتد النزاع بينهم حتى وقعت حرب الجمل، في البصرة فقتل فيها خلق كثير من الصحابة والتابعين وعقر جمل عائشة فكيف يهون على النبي صلى الله عليه وسلم سفك هذه الدماء ووقوع هذا الشر بين المسلمين بل بين أخص الناس به، وهو يستطيع أن يحقن هذه الدماء بكلمة واحدة وقد أخبر الله سبحانه في آخر سورة التوبة برأفته ورحمته بالمؤمنين وأنه يشق عليه كل ما يصيبهم من العنت وذلك قوله تعالى : { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128) } فقلت له ليس عندي من الجواب إلا ما سمعت وظهوره وكلامه للشيخ التجاني فضل من الله، والله يؤتي فضله من يشاء قال احفظ هذا وفكِّر فيه .
الأمر الرابع : خلاف علي مع الخوارج، وقد سفكت فيه دماء كثيرة، ولو ظهر النبي صلى الله عليه وسلم لرئيس الخوارج وأمره بطاعة أمامه لحقنت تلك الدماء، فقلت الجواب هو ما سمعت، فقال لي احفظ هذا وفكر فيه، فإني أرجو أنك بعد التفكير ترجع إلى الحق ...
---(15/20)
والأمر الخامس : النزاع الذي وقع بين علي ومعاوية، وقد قُتل في الحرب التي وقعت بينهما خلق كثير، منهم عمار بن ياسر، فكيف يترك النبي صلى الله عليه وسلم الظهور لأفضل الناس بعده وفي ظهوره هذه المصالح المهمة من جمع كلمة المسلمين وإصلاح ذات بينهم وحقن دمائهم، وهو خير المصلحين العاملين بقوله تعالى : وَأَصْلِحُوا { ذَاتَ بَيْنِكُمْ } وقوله تعالى : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ } ثم يظهر للشيخ التجاني في آخر الزمان لغرض غير مهم وهو في نفسه غير معقول لأنه مضاد لنصوص الكتاب والسنة فلم يجد عندي جوابا غير ما تقدم ولكني لم أُسلِّم له فقال لي فكِّر في هذه الأدلة وسنتباحث في المجلس الآخر، فعقدنا بعد هذا المجلس سبعة مجالس كل منها كان يستمر من بعد صلاة المغرب إلى ما بعد صلاة العشاء بكثير . وحينئذ أيقنت أنني كنت على ضلال، ولكن أردت أن أزداد يقينا فقلت له من معك من العلماء هنا في المغرب على هذه العقيدة ؟ وهي أن كل مسألة في العقائد أو في الفروع يجب أن نعرضها مع قصر باعنا وقلة اطلاعنا على كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فما ظهر لنا أنه موافق لهما قبلناه وما ظهر لنا أنه مخالف رددناه فقال لي يوافقني على هذا أكبر مُقدِّم للطريقة التجانية في المغرب كله وهو الشيخ الفاطمي الشرادي، فكدت أُكذِّبه لأن المشهور في جميع أنحاء المغرب أن هذا الرجل من كبار العلماء وهو أكبر مقدم للطريقة التجانية ولم أقل أكبر شيخ لأن الشيخ التجاني لا يبيح لأحد أن يكون شيخا للطريقة سواه، لأن تلقيبه بالشيخ قد يُفهم منه أنه يجوز لغيره أن يتصرف في أوراد الطريقة وفضائلها وعقائدها وذلك ممنوع لأن الذي أعطى هذه الطريقة هو النبي صلى الله عليه وسلم يقظة لا مناما كما تقدم والمتلقي الأول لها هو الشيخ أحمد التجاني والنبي صلى الله عليه وسلم سماه شيخاً لهذه الطريقة، وكل ناشر للطريقة وملقن
---(15/21)
لأورادها يسمى مقدما فقط فالطريقة لها مصدر واحد وشيخ واحد ولا يجوز تعدد المصدر ولا تعدد الشيخ حسبما في كتب الطريقة .
فتوجهت إلى الشيخ الفاطمي رحمه الله وكان الوقت ضحى وقد أوصاني شيخنا محمد بن العربي ألا أسأله إلا في خلوة فوجدت عنده جماعة فانصرف بعضهم وجاء آخرون وبقيت عنده أنتظر أن أخلو به حتى صلينا الظهر وجاء الغداء فلم أستطيع أن أخلو به وكان ثلاثة ممن كانوا في مجلسه حاضرين فقلت له إن الشيخ محمد بن العربي العلوي يقول يجب علينا أن نعرض جميع المسائل أصولا وفروعا على كتاب الله وسنة رسول الله فما وافق في نضرنا القاصر قبلناه وما خالف رددناه ولو قال به الإمام مالك أو الشيخ أحمد التجاني فأشار إلي بيده يستمهلني وكان جلوسي عنده قد طال فانصرفت إلى مدرسة الشَّرَّاطين حيث كنت نازلا قبل لقائي بالشيخ العلوي وفي ذلك اليوم بعد صلاة العشاء جاءني بواب المدرسة وقال لي إن الشيخ الفاطمي الشرادي أرسل إليك عبده وبغْلته يطلب أن تزوره فتعجَّبتُ كثيرا لأمرين أحدهما أن الوقت ليس وقت زيارة وثانيهما أنه لم تجر العادة أن كبار العلماء الطاعنين في السن، يبعثون الدابة للركوب إلا لمن هو مثلهم في السن و العلم وأنا شاب فركبت البغلة وسار العبد أمامي حتى وصلت إليه وسلمت عليه فرد أحسن رد ورحَّب بي وقال يا ولدي أنا رجل كبير طاعن في السن ليس لي قدرة على القتال أما سيدي محمد بن العربي العلوي فهو شاب مستعد للقتال وأنت سألتني أمام الناس عن مسألة مهمة لا يسعني أن أكتم جوابها ولا أستطيع أن أصرح به أمام الناس فاعلم أن ما قال لك سيدي محمد بن العربي العلوي هو الحق الذي لا شك فيه وقد أخذت الطريقة القادرية وبقيت فيها زمانا، ثم أخذت الطريقة الوزانية وبقيت فيها زمانا، ثم أخذت الطريقة التجانية والتزمتها حتى صرت مقدما فيها فلم أجد في هذه الطرائق فائدة وتركتها ولم يبق عندي من التصوف إلا طلب الشيخ المربي على الكتاب والسنة علما(15/22)
---
وعملا ولو وجدته لصاحبته وصرت تلميذا له وأنت تريد أن تسافر إلى الشرق فإن ظفرت بالشيخ مرب متخلق بأخلاق الكتاب والسنة علما وعملا فاكتب إلي وأخبرني به حتى أشد الرحال إليه فازددت يقينا بالنتيجة التي وصلت إليها في مناظرتي مع الشيخ العلوي . ولو كان عندي من العلم مثل ما عندي الآن لقلت له إن ضالَّتك المنشودة هي أقرب إليك من كل قريب فإن هذا الشيخ الذي تطلبه وتريد أن تشد الرحال ولو بعُدت الدار وشط المزار هو أنت نفسك . بشرط أن يكون عندك العزم التام على العمل بالكتاب والسنة وطرح التقليد جانبا كيفما كان الأمر فجزاهم الله خيرا وتغمدهما برحمته، وبعد ذلك بعشرين سنة اجتمعت بالشيخ عبد العزيز بن إدريس من علماء تطوان وهو من تلاميذ الشيخ الفاطمي فذكرت له الحكاية السالفة فقال لي وأنا أيضا وقع لي ما يشبه هذا فإني بعد إتمام دراستي في جامع القرويِّين ذهبت إليه وهو أفضل شيوخي فقلت له أيها الشيخ أريد أن أرجع إلى وطني تطوان فأريد أن تزودني بدعاءك الصالح وأن تلقنني وِرد الطريقة التجانية فقال لي : يا أسفاً عليك أنت تحفظ كتاب الله وقد درست العلوم الإلهية التي تمكِّنك من فهم كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولم يكفيك ذلك كله حتى تطلب الهدى في غيره والطريقة لا شيء فعليك بكتاب الله وسنة رسول الله فكشف الله عني بفضله ظلام الشرك والبدعة وفتح لي باب التوحيد والإتباع فله الحمد والمنة نسأله أن يثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة إنه الهادي إلى الصراط المستقيم .
من أين جاء أصل هذه المناظرة التي وقعت بيني وبين الشيخ محمد بن العربي العلوي رحمه الله تعالى ؟.
---(15/23)
كنت أظن أن أصلها من الشيخ العالم المصلح شعيب الدُكَّالي لأنه ناظر بها شيخنا محمد بن العربي فأفحمه واضطره إلى الخروج من الطريقة ففعل هو معي مثل ما فعله معه الشيخ شعيب الدكالي رحمهما الله تعالى ولكني بعد ذلك بزمن وجدت هذه المناظرة في كتاب (غاية الأماني في الرد على النبهاني ) لمؤلفه العالم السلفي محمود شكري الألوسي البغدادي رحمة الله، وهذا الكتاب من أنفس كتب السلفية جادل المبتدعين من المتصوفة وشدد عليهم الخناق بعبارات بليغة كأنها عقود الجمان في أجياد الحسان فيه من المتعة والفوائد ما يقل نظيره في الكتب والمثل الإنكليزي يقول ما معناه : ينبغي أن يكون الأصدقاء والكتب قليلين لكن طيبين، وهذا المثل ينطبق على هذا الكتاب .
هذا سبب خروجي من الطريقة التجانية الذي لم يكن يخطر ببالي، وإنما اضطرني إليه البرهان اليقيني الذي لا يترك شكا ولا ريبا في أن هذه الطريقة كما هي في كتب أهلها وفي اعتقادهم لا يمكن الجمع بينها وبين اتباع كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم البتة وبيان ذلك تجده في الفصول التالية .
الفصل الأول : ما جاء في كتب الطريقة من فضل شيخها أحمد التجاني
اعلم نفعني الله وإياك بكتابه وبسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وعصمنا بها من الزيغ والزلل أن كتب الطريقة التجانية كثيرة أقتصر على ذكر بعضها :
الأول : "جواهر المعاني من فيض أبي العباس التجاني" لمؤلفه علي حرازم بن العربي برادة الفاسي أخبرني الشيخ أحمد سكيرج أنه قرأ بخط الشيخ أحمد التجاني على هامش النسخة المخطوطة التي كتبها علي حرازم العبارة التالية ( كل ما في هذا الكتاب فهو من إملائنا على محبنا سيدي علي حرازم ) وفضائل هذا الكتاب عندهم كثيرة، منها أن البيت الذي تكون فيه نسخة منه تكثر عليه الخيرات والبركات ويحفظ أهله من جميع الشرور ومما أحفظه من المنية أرجوزة في علوم الطريقة للتجاني ابن بابا الشنقيطي ما نصه :
---(15/24)
وقال فيه المصطفى كتابي *** وأنا ذا ألفت للأحباب
الضمير في فيه يعود إلى جواهر المعاني يعني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال جواهر المعاني كتابي وأنا الفته للأحباب وهم التجانيون وسيأتي في ذكر فضائلهم أن النبي صلى الله عليه وسلم يحبهم محبة خاصة وأنهم تلاميذه وفقراؤه وهم مربيهم .
الكتاب الثاني : " الجامع " للشيخ محمد بن المشري، وهو من قدماء أصحاب الشيخ أحمد التجاني ولكن التجانيين لا يعباؤن بهذا الكتاب ومن الشائع عندهم أن الشيخ التجاني لم يكن راضيا عن مؤلفه كل الرضا لأنه أظهر الولاية وادعاء المشيخة في حياة شيخه وأن الشيخ أمره ألا يُساكنه في بلد واحد، قال محمد تقي الدين ولعل هذا النهي ينطبق على المثل المصري بلغة أهل الصعيد ( السفينة اللي فيها ريِّسين تغرق ) ترجمته ( السفينة التي فيها ربانان تغرق ) .
الكتاب الثالث : " الإفادة الأحمدية " ، إذا أردت أن تعرف تراجم علي حرازم مؤلف جوهر المعاني ومحمد بن المشري مؤلف الجامع، والطيب السفياني مؤلف الإفادة الأحمدية وعمر الفوتي مؤلف كتاب الرماح الآتي ذكره وغيرهم من رؤساء الطريقة التجانية، فعليك بمطالعة كتاب كشف الحجاب عمن تلاقى مع الشيخ التجاني من الأصحاب، لمؤلفه الشيخ أحمد سكيرج فإنه جمع فيه صحابة الشيخ التجاني ومناقبهم كما جمع الحافظ ابن عبد البر في الاستيعاب والحافظ بن حجر في الإصابة تراجم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم .
الكتاب الرابع : " رماح حزب الرحيم على نحور حزب الرجيم " لمؤلفه عمر بن سعيد الفوتي السنيغالي .
---(15/25)
الكتاب الخامس : " كتاب البغية شرح المنية "، وهي الأرجوزة التي تقدم ذكرها تأليف الشيخ العربي بن السايح، وهناك كتب أخرى كثيرة لا أحب الإطالة بذكرها وسأقتصر في النقول التي أنقلها على ما في جوهر المعاني، وكتاب الرماح لأن مؤلفه أحسن ترتيبه ووضع له فهرسا وافيا يسهل الأخذ منه وهو عند جميع التجانيين ثقة فيما ينقل لا يتطرق الشك إليه وبالله التوفيق .
قال صاحب الرماح في الجزء الثاني صفحة (4) الفصل السادس والثلاثون، في ذكر فضل شيخنا رضي الله عنه وأرضاه وعنا به وبيان أنه خاتم الأولياء وسيد العارفين وإمام الصديقين وممد الأقطاب والأغواث، وأنه هو القطب المكتوم والبرزخ المحتوم الذي هو الواسطة بين الأنبياء والأولياء بحيث لا يتلقى واحد من الأولياء من كبر شأنه ومن صغر فيضا من حضرة نبي إلا بواسطته رضي الله عنه من حيث لا يشعر بذلك الوالي وحيث كان الأمر هكذا فإياك أخي الإنكار على مثل هذا السيد العظيم والإمام الأعظم الكريم قد أجمع أئمة الإسلام وجميع الأولياء والعارفين على أن الاعتقاد ربح والإنكار خسران واعلم أنا إنما قدمنا لك الفصول التي قدمناها أول الكتاب المبارك وذكرنا فيها ما على المنكرين وأطنبنا فيها بعض الإطناب إلا نصيحة لك وتحذيرا من أن تكون مع السالكين بالانتقاد إن لم تكن مع الرابحين بالاعتقاد فأقول وبالله تعالى التوفيق، وهو الهادي بمنه إلى سواء الطريق، اعلم أنه ينبغي لنا أن نورد هنا كلاما قبل الشروع في هذا الفصل الذي نريد الشروع فيه لأن بعض من لم يكن له في العلم ولا في نفحات أهل العلم من خلاق قد يورد علينا إيرادين، أولهما أنه يقول الشيخ رضي الله عنه وأرضاه مدح نفسه وزكاها وذلك مذموم : ثانيهما أنه يقول أن قول الشيخ رضي الله عنه وأرضاه وعنا به أن الفيوض التي تفيض من ذات سيد الوجود صلى الله عليه وسلم تتلقاها ذوات الأنبياء وكل ما فاض وبرز من ذوات الأنبياء تتلقاه ذاتي ومني يتفرق على جميع
---(15/26)
الخلائق من نشأة العالم إلى النفخ في الصور ويدخل فيه جميع الصحابة رضوان الله تعالى عليهم فيكون أفضل من جميع الصحابة رضي الله تعالى عنهم وذلك باطل، وكذا قوله رضي الله عنه وأرضاه وعنا به لا يشرب ولي ولا يسقى إلا من بحرنا من نشأة العالم إلى النفخ في الصور وكذا قوله رضي الله تعالى عنه وأرضاه وعنا به إذا جمع الله خلقه في الموقف ينادي مناد بأعلى صوته يسمعه كل من في الموقف يا أهل المحشر هذا أمامكم الذي كان مددكم منه، وكذا قوله رضي الله عنه وأرضاه وعنا به روحه صلى الله عليه وسلم وروحي هكذا مشيرا بإصبعيه السبابة والوسطى روحه صلى الله عليه وسلم تمد الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام وروحي تمد الأقطاب والعارفين والأولياء من الأزل إلى الأبد وكذا قوله رضي الله عنه وأرضاه وعنا به قدماي هاتان على رقبة كل ولي لله تعالى من لدن آدم إلى النفخ في الصور وكذا قوله رضي الله تعالى عنه وأرضاه وعنا به أن مقامنا عند الله في الآخرة لا يصله أحد من الأولياء ولا يقاربه من كبر شأنه ولا من صغر وأن جميع الأولياء من عصر الصحابة إلى النفخ في الصور ليس فيهم من يصل مقامنا، وكذا قوله رضي الله تعالى عنه وأرضاه وعنا به أعمار الناس كلها ذهبت مجانا إلا أعمار أصحاب الفاتح لما أغلق فقد فازوا بالربح دنيا وآخرة ولا يُشغل بها عمره إلا السعيد فيقول المعترض هذه الأقوال تقتضي تفضيله هو وأهل طريقته على جميع الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، فالجواب والله تعالى الموفق للصواب .
أن الإيراد الأول غير وارد لأن هذا كما قال الحافظ جلال الدين عبد الرحمن السيوطي في الصواعق على النواعق ليس من باب الافتخار ولا تزكية النفس بل لهم في هذا وجهان أحدهما أن هذا من باب التعريف بحاله إذا جهل مقامه انتهى بلفظه .
---(15/27)
وهاأنذا ألخص بقية جوابه عما توقع أن يورده عليه فأقول نقل عن النووي في الأذكار أنه يجوز للإنسان أن يذكر فضائل نفسه إذا كان غرضه صحيحا كأن يُعرِّف الناس بعلمه ليأخذوا عنه العلم أو بأمانته ليأتمنوه على الودائع والأموال ليقوم بحفظها أو حسن التصرف فيها لمصلحة أهلها واحتجَّ لذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( أنا النبي لا كذب ) وقوله عليه الصلاة والسلام : ( أنا سيد ولد آدم ولا فخر ) وقول يوسف عليه السلام : { اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ } ثم ذكر آثارا عن الصحابة مدحوا فيها أنفسهم لغرض صحيح، ونقل عن الزمخشري في الكشاف قوله أن العالم إذا جُهِلَت منزلته فوصف نفسه بما هو بصدده لم يكن ذلك من باب التزكية .
ثم قال في الوجه الثاني : أن يقال في جواب الإيراد الأول، أن هذا من باب التحدث بنعم الله قال تعالى : { وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11) } ثم نقل حديثا مرفوعا من المسند وشعب الإيمان للبيهقي ولفظه التحدث بنعم الله شكر وتركه كفر، ثم نقل آثارا عن الصحابة وغيرهم في التحدث بالنعم وأنه شكر لها، هذا ملخص جوابه عن الإيراد الأول، وأقول مستعينا بالله في جوابه :
---(15/28)
كل ما أوردته في التحدث بالنعم المعنوية والحسية، فهو حق لا ننازعك فيه، ولكن الطوام التي نقلتها عن شيخك لم يسبقه إليها سابق من الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين ولا دليل عليها من كتاب الله بل أدلة الكتاب والسنة تغبر في وجهها وتدحضها وتدمغها فقد أتعبت نفسك في غير طائل هذا نقوله على سبيل الإجمال ويأتي تفصيله إن شاء الله تعالى ثم أجاب عن الإيراد الثاني بما ملخصه أن ظاهر كلام شيخه هو تفضيله على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من العام المخصوص كقوله تعالى في ريح عاد : { تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ } فإنها لم تدمر الجبال ولم تدمر أحدا من البشر إلا عاد، وكذلك قوله تعالى: { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ } فإن العرش لا يهلك وكذلك الجنة وما فيها ثم استدل بحديثين أحدهما قول النبي صلى الله عليه وسلم ( ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء أصدق لهجة من أبي در ) وقال أنه علم مخصوص قطعا لأنه لا سبيل لدخوله صلى الله عليه وسلم في هذا العموم .
---(15/29)
قال محمد تقي الدين الهلالي : الجواب عن ذلك أنه لا حجة له فيه لأن كلام الله وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم حق، لا يحتاجان إلى دليل ولا إقامة حجة لأنهما حجة والحجة العامة تخصص بالحجة الخاصة، أما كلام شيخه فليس بحجة فهو محتاج إلى حجة فيقال له من أين علمت أن روحك مقارنة لروح النبي صبى الله عليه وسلم، روحه عليه الصلاة والسلام تمد الأنبياء وروحك تمد الأولياء هكذا يقال أولا ويقال ثانيا ماذا تعني بالمدد أهو حسي أم معنوي فالحسي هو بسطة الجسم والرزق وما أشبههما والمعنوي هو هداية القلوب وما يُفتح عليها به من العلوم والحكم والتوفيق على طاعة الله والحفظ من معصية الله وتزكية النفوس وترقيتها في مراتب الإحسان حتى تبلغ درجة الصدِّيقين فإن كان هذا مقصودك فإن الكتاب والسنة وأصول الدين وجميع الأدلة النقلية والعقلية تدل بأصرح العبارات أن الله وحده هو الذي يمد عباده بالرزقين سواءا أكانوا أنبياء أو شهداء أو صالحين أم من عامة المؤمنين وأن النبي صلى الله عليه وسلم وهو أفضل خلق الله على الإطلاق لا يمد أحدا بشيء من ذلك لا الأنبياء ولا غيرهم بل هو نفسه عليه الصلاة والسلام فقير إلى الله يتلقى المدد منه والذي يُمَد بفتح الميم لا يُمِد بضم الياء وكسر الميم والأدلة على هذا الأصل من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من أن تُحصى منها قوله تعالى في سورة القصص يخاطب خير خلقه محمدا صلى الله عليه وسلم : { إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56) } ـ 56، قال الحافظ بن كثير في تفسير هذه الآية يقول الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم إنك يا محمد { لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ } أي ليس إليك ذلك إنما عليك البلاغ والله يهدي من يشاء وله الحكمة البالغة والحجة الدامغة كما قال تعالى في سورة البقرة رقم 272 : { لَيْسَ عَلَيْكَ
---(15/30)
هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ } وقال تعالى في سورة يوسف 103 : { وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ } وهذه الآية أخص من هذا كله فإنه قال: { 7¨Rخ) لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56) } أي هو أعلم بمن يستحق الهداية ممن يستحق الغواية وقد ثبت في الصحيحين أنها نزلت في أبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كان يحوطه وينصره ويقوم في صفه ويحبه حبا شديدا طبيعيا لا شرعيا فلما حَضَرَته الوفاة وحان أجله دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإيمان والدخول في الإسلام، فسبق القدر فيه واختُطِف من يده فاستمر على ما كان عليه من الكفر ولله الحكمة التامة، قال الزهري : حدثني سعيد بن المسيب عن أبيه وهو المسيب ابن حزن المخزومي رضي الله عنه قال لما حضرت أبو طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى اله عليه وسلم فوجد عنده أبا جهل بن هشام و عبد الله بن أمية بن المغيرة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يا عم قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله ) فقال أبو جهل وعبد الله بن أمية يا أبا طالب أترفب عن ملة عبد المطلب ؟ فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه ويعودان له بتلك المقالة حتى كان آخر ما قال هو على ملة عبد المطلب وأبى أن يقول لا إله إلا الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنه ) فأنزل الله : { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى } وأنزل الله في أبي طالب : { 7¨Rخ) لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ } أخرجاه من حديث الزهري انتهى .
---(15/31)
فإن قلت أنا لا أقصد بنسبة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أنه هو الممد الحقيقي وأنا مؤمن بقوله تعالى : { وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ } وإنما أردت أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الواسطة في إيصال هذه النعم كما قال أحد المضلين :
ما أرسل الرحمن أو يرسل *** من رحمة تصعد أو تنزل
إلا وطه المصطفى عبده *** حبيبه نبيه المرسل
واسطة فيها واصل لها *** يعرف كل من يعقل
وقد زاد هذا المضل على ادعاء الواسطة بين الله وبين خلقه في النعم كلها أن النبي صلى الله عليه وسلم هو أصل هذه النعم على حد زعم من يزعم أن كل العالم بملائكته وجنته وناره وجنه وأنسه، مسلمهم وكافرهم وشياطينهم كل ذلك مخلوق من نور النبي صلى الله عليه وسلم ويستدلون على ذلك بحديث باطل يرفعونه ولفظه (أول ما خلق الله نور نبيك يا جابر ) وسيأتي بطلانه إن شاء الله عند الكلام على هذه الضلالة فالجواب، وما دليلك على أن الله لا يمد الناس ألا بواسطة النبي صلى الله عليه وسلم فإن قلت قد أسند الله إليه الهداية في قوله تعالى في سورة الشورى 52: { وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } . فالجواب : أن الهداية في كتاب الله تجيء ويراد بها تارة الدلالة والإرشاد فالنبي صلى الله عليه وسلم يهدي إلى صراط مستقيم ، أي يدل الناس عليه ويدعوهم إليه بأقواله وأفعاله وأخلاقه الكريمة كما قال تعالى في - سورة المؤمنين 73 - : { وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (73) } أما التصرف في القلوب بالهداية فهو خاص بذي الجلال وفي ما كان يقوله النبي صلى الله عليه وسلم بعد رفع رأسه من الركوع وفي دبر الصلاة كما جاء في الصحيحين : ( اللهم لا ما نع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ) وإذا ثبت أن المدد كله من الله وليس في قدرة المخلوق أن يمد مخلوقا برزق حسي أو معنوي بأن يخلق ذلك الرزق ويهبه له فقد تهدم ما بناه صاحب الرماح ولم تصب رماحه أحدا من أهل الحق(15/32)
---
بأذى لأنه طعن بها أشياء تخيلها لا وجود لها وطاشت سهامه فلم تصب هدفا فأين المدد الذي يتلقاه أحمد التجاني ليوزعه على الناس من لدن آدم إلى النفخ في الصور ونحن نقول أن البحار والأنهار كلها لله تعالى لا يشاركه فيها أحد فهو الذي يسقي منها من شاء على المقدار الذي يريده ويمنع من شاء وتذكرت بهذا الكلام حكاية قد يَحسُن إيرادها هنا فإن كان فيها المدح للنفس فليحملها المخالف على المحمل الحسن وإن أبى فالله عليم بذات الصدور ولا يضر إلا نفسه، توجهت سنة 1341 هـ من القاهرة إلى مديرية (أسيوط) من صعيد مصر ونزلت في مدينة (ملوي) وبقربها قرية تسمى (الريمون) وكانة فيها فئة قليلة جدا من السلفيين الموحدين لله المتبعين لرسول الله صلى الله عليه وسلم فدعوني إلى بلدهم، وشرعت أدعو إلى الله تعالى فأعانني الله سبحانه بفضله ورحمته فاستجاب أهل القرية كلهم لدعوتي ولم يشد منهم إلا شيخ الطريقة والعمدة - المرفوت - أي المعزول وخدمهما ولا يزيد عددهم على خمسة عشر و أقمت عندهم أكثر من شهرين ولتفصيل هذه القصة موضع آخر الذي أريد أن أقوله هنا أنني بعد مُضي زهاء أربع سنيين زرت هذه القرية للمرة الثانية فأخبروني أن شيخ الطريقة كان يأتيهم من بلد آخر في بعض الأحيان زاعما أنه يمدهم ويحفظهم والحقيقة أنه يبتز أموالهم ويزيدهم خضوعا إليه ويحافظ عليهم حتى لا يخرجوا من ربقته كما يحافظ الراعي على غنمه فبعد أن هداهم الله إلى توحيده واتباع رسوله الكريم وترك كل بدعة زارهم شيخ الطريقة المذكور وانتظر ما عهد منهم من التعظيم والخضوع من تقبيل اليد والخشوع أمامه والمبادرة إلى تقديم الهدايا النفائس التي تُرضي رغبته وتُشبع نهمته رآهم تلقوه كما يُتَلقَّى الضيف العادي فأنكر ذلك وقال ما أصابكم ؟ فقالوا ما أصابنا شيء نحن مستعدون لتقديم كل ما تريده من الطعام والشراب وما يلزم لضيافتك فقال أراكم تبدلتم فقال قائل منهم أي شيء تريد أكثر من الضيافة(15/33)
---
أتريد أن نعبدك من دون الله كما كنا نفعل في زمن الجهل والضلالة فقال (يا عكروط) وهو لفظ يُسبُّ به باللغة المصرية ومعناه اللئيم قال أنا قتلت نفسا للمحافظة على بطيخك الذي زرعته بشاطئ فرع النيل، لأن رجلا جاء يسرق بطيخك فوجهت أليه همتي وقتلته . فقال يا سيدنا الشيخ لقد أخطأت في حسابك لأمرين أحدهما أن البطيخ أتت عليه آفة فأهلكته قبل أن يُنتفع به والثاني أني لا أرضى بقتل نفس مسلمة أو كافرة لأجل بطيخة تسرق من مزرعتي فغضب الشيخ وسبهم وانصرف عنهم وكذلك المدد الذي يدَّعيه صاحب الرماح ليثبت به فضيلة لشيخه لا وجود لها في الحقيقة ومن اعتقد أن غير الله يمد القلوب بالهدى والأحوال السنية والمقامات السامية فقد عبد مع الله إلها آخر :
فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة *** وإن كنت تدري فالمصيبة اعظم
يقولون أقوالا لا يعلمونها *** إذا قيل هاتوا حققوا لم يحققوا
إن المدد الذي ادعاه الشيخ التجاني وتبعه صاحب الرماح سراب بقيعة وخيال باطل وما بني على باطل فهو باطل .
و أما ما ادعاه من التخصيص فإنه إنما يكون ذلك عند أهل الأصول في نصوص كتاب الله ونصوص المعصوم لاستحالة التناقض في كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم أما كلام غير المعصوم فليس له هذه المرتبة لأنه يجوز عليه التناقض والجهل والغفلة والكذب أيضا، فكل ما أتعب نفسه به صاحب الرماح ذهب أدراج الرياح على أن هذا التكلف الذي تكلفه لا يوافقه عليه غيره من التجانيين فقد قال عبد الكريم بنيس الفاسي وهو مقدم تجاني مشهور ما نصه شعرا :
يا رب أن اعتقادي *** تصديق كل ولي
لا سيما تاج رأسي *** وصلتي للعلي
كنزي ودخري التجاني *** أحمد حب النبي
شريف أصل ممد *** للكل من أولي
ولا تأول أصلا *** بل ذلك فضل الغني
لا تنكرن وسلم *** تحظى بحسن الطوي
وللمحبة بادر *** ودع كلام الغوي
بحبه يا إلهي *** وبالنبي الزكي
عفوا فإني مسيء *** وأنت تعلم غي
---(15/34)
فأنت ترى أن هذا المقدم التجاني يطلق قضية الإمداد ولا يقول بالتأويل الذي استنبطه صاحب الرماح من كلام شيخه حتى خص بعضه ببعض على أن هذا البحث غير مهم لأن المدد باطل من أصله وقد قلت في معارضة عبد الكريم بنيس قصيدة ضاعت مني وسأثبت هنا ما بقي عالقا في ذهني :
يا رب أني محب * لكل عبد تقي
يوحد الله ربا * ويقتدي بالنبي
ولا يقلد شخصا * في دينه كالغبي
فما له من ولي * غير الإله العلي
وما له من إمام * غير النبي الزكي
وليس يعبد ألا * رب العباد الغني
وكل خير فمنه * يصيب كل ولي
ومن سواه فقير * فلا يمد بشي
يا عصابة الشرك * خافوا عقاب رب قوي
في يوم هول شديد * يشيب رأس الصبي
يا صاحب الشرك أبشر * دوما بعيش الشقي
غبنت غبن الخزاعي * في بيعه مع قصي
باع المفاتيح منه * بزق خمر ردي
شرى ظلاما بنور * بدل رشدا بغي
فماله من نصير * وما له من ولي
1)دعوى أن الشيخ التجاني خاتم الأولياء :
كما أن النبي صلى الله عليه وسلم خاتم الأنباء
---(15/35)
قال صاحب الرماح : اعلم أن أفراد الأحباب من الصديقين والأغواث وجواهر الأقطاب وبرازخ الأغواث يعلمون أن مقامه ختم المقامات يفوق جميع مقامات الولاية ولا يكون فوقه إلا مقامات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وذلك الخاتم هوسيد الأولياء وهو ممدهم وإن لم يعلموا من أين هو، قال الشيخ محي الدين ابن عربي الحاتمي - رضي الله تعالى عنه فكل نبي من لدن آدم إلى آخر نبي ما أحد منهم يأخذ النبوة إلا من مشكاة خاتم النبيين وإن تأخر وجود طينته فإنه بحقيقته موجود وهو قوله : (كنت نبيا وآدم بين الماء والطين) أي لم يكمل بدنه العنصري فكيف من دونه من أنبياء أولاده وبيان ذلك أن الله سبحانه وتعالى لما خلق النور المحمدي كما أشار صلى الله عليه وسلم بقوله (أول ما خلق الله تعالى نوري) جمع في هذا الروح المحمدي جميع أرواح الأنبياء والأولياء جمعا أحديا قبل التفصيل في الوجود العيني وذلك في مرتبة العقل الأول ثم تعينت الأرواح في مرتبة اللوح المحفوظ الذي هو النفس الكلية وتميزت بظاهرها النورية فبعث الله الحقيقة المحمدية النورية عليهم تنبئهم عن الحقيقة الأحدية الجمعية الكمالية فلما وجدت الصور الطبيعية العلوية من العرش والكرسي ووجدت مظاهر تلك الأرواح ظهرت تلك البعثة المحمدية إليهم ثانيا فآمن من الأرواح ما كان مؤهلا للإيمان بتلك الأحدية الجمعية الكمالية ولما وجدت الصور الطبيعية العصرية ظهرت حكم ذلك الإيمان في كمل النفس البشرية فآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم فمعنى قوله كنت نبيا أنه كان نبيا بالفعل عالما بنبوته انظر شرحه - كذا - ثم قال الحاتمي أي وشارح كلامه وغيره من الأنبياء ما كان نبيا بالفعل ولا عالما بنبوته إلا حين يبعث بعد وجوده ببدنه العنصرية واستكمال شرائط النبوة فاندفع بذلك ما يقال من أن كل واحد بهذه المثابة من حيث أنه كان نبيا في علم الله تعالى السابق على وجوده العيني صورة وآدم بين الماء والطين وغيره من الأولياء(15/36)
---
ما كان وليا بالفعل ولا عالما بولايته إلا بعد تحصيل شرائط الولاية من الأخلاق الإلهية في الاتصاف بها من أجل كون الله تعالى تسمى بالولي الحميد وخاتم الأولياء هو الولي الوارث الأخذ عن الأصل المشاهد للمراتب العارف باستحقاق أصحابها ليعطي كل ذي حق حقه وهو حسنة من حسنات سيد المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم مقدم الجماعة، ثم نقل صاحب الرماح عن عبد الوهاب الشعراني وشيخه علي الخواص ما يؤيد ما نقله عن ابن عربي الحاتمي وقد أتعب نفسه هذا الإتعاب كله ليثبت لشيخه التجاني ما ادعاه من أنه خاتم الأولياء وممدهم .
ثم نقل صاحب الرماح عن الحاتمي أنه قال أنه رأى في المنام حائطا من ذهب وفضة كمل إلا موضع لبنتين أحدهما من ذهب والأخرى من فضة فانطبع في موضع تينك اللبنتين ففسرها بأنه خاتم الأولياء وقص رؤياه على أولياء زمنه فوافقوه على تأويله وأنه هو خاتم الأولياء فلم يشك أنه هو وقال في ذلك شعرا :
بنا ختم الله الولاية فانتهت *** إليها فلا ختم يكون لها بعدي
وما فاز بالختم الذي لمحمد *** من أمته والعلم إلا أنا وحدي
---(15/37)
ثم نقل صاحب الرماح عن الحاتمي أنه تبين له بعد ذلك أنه ليس هو خاتم الأولياء وأن هذا الختم مدخر لولي يأتي في آخر الزمن فجهد نفسه واستعمل مكشافاته المزعومة ليطلع على هذا الولي الخاتم ويعرف اسمه وبلده وزمانه فرجع بخفي حنين، لكن صاحب الرماح لم يذكر الكتاب الذي نقل منه هذا الكلام من كتب ابن عربي الحاتمي وكتبه مشهورة موجودة بأيدي الناس وكذلك لم يذكر كلامه الأول من أين نقله ؟ ولا يثبت شيء من النقول إلا بالعزو التفصيلي ولا سيما إذا كان النقل يراد به أمر مرغوب للناقل كما في هذه القضية فإنه نقل عن الحاتمي زعمه وجود خاتم الأولياء ثم نقل عنه ادعاؤه أنه هو هُو ثم نقل عنه رجوعه عن ذلك ليمهِّد السبيل لدعوى أن شيخه التجاني هو خاتم الأولياء يقينا ونقل أيضا عن الشيخ المختار الكنتي الجكاني الشنقيطي أنه قال أن القرن الثاني عشر يشبه قرن النبي صلى الله عليه وسلم في أمور منها أن قرن النبي صلى الله عليه وسلم وجد فيه خاتم الأنبياء والقرن الثاني عشر يوجد فيه خاتم الأولياء .
---(15/38)
قال محمد تقي الدين الهلالي ومن المعلوم أن الشيخ التجاني ولد في أوائل النصف الثاني من القرن الثاني عشر وتوفي على ما أظن سنة ثلاثين ومائتين وألف 1230 وظن صاحب الرماح أنه بهذه التلفيقات كلها تم له ما أراد من ثبوت وجود خاتم الأولياء وأنه هو شيخه التجاني وهو بناء فاسد على فاسد وباطل على باطل فقول ابن عربي الحاتمي ولو لم ينقل الفاسي في تاريخ مكة اتفاق العلماء على كفره لا يساوي بعرة في أصول الدين فأن أصول الدين لا يثبت منها شيء إلا بدليل من الكتاب والسنة والإجماع والقياس على اختلاف فيه وابن عربي الحاتمي سرق ما ادعاه من الرؤيا من حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي أخرجه البخاري : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إن مثلي ومثل الأنبياء قلبي كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون هلا وضعت هذه اللبنة فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين) .
---(15/39)
ثم قال صاحب الرماح ما نصه : وشيخنا التجاني ولد عام خمسين ومائة وألف ووقع له الأذن من النبي صلى الله عليه وسلم يقظة لا مناما بتربية الخلق على العموم والإطلاق سنة ألف ومائة وست وتسعين، قال أخبرني سيدي محمد الغالي أن الشيخ عاش وهو في مرتبة الختمية ثلاثين سنة وإذا تأملت هذا علمت أن الختمية لم تثبت لأحد قبل شيخنا وأن أحدا ما ادعاها وثبت على ادعاها لنفسه وأما شيخنا وسيدنا ووسيلتنا إلى ربنا سيدي أحمد بن محمد الشريف الحسني التجاني قال : قد أخبرني سيد الوجود صلى الله عليه وسلم بأني القطب المكتوم منه إلي مشافهة يقظة لا مناما فقيل له ما معنى المكتوم ؟ فقال هو الذي كتمه الله تعالى عن جميع خلقه حتى الملائكة والنبيين إلا سيد الوجود صلى الله عليه وسلم فإنه علم به وبحاله وهو الذي حاز كل ما عند الأولياء من الكمالات الإلهية واحتوى على جميعها وأكبر من هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن لله ثلاتمائة خُلق من تَخلَّق بواحد منها أدخله الله الجنة وما اجتمعت في نبي ولا ولي قبله ألا سيد الوجود صلى الله عليه وسلم وأما الأقطاب الذين بعده حتى الحجة العظمى ابن عربي الحاتمي فإنما يعلمون ظواهرها فقط ويسمون المحمديين وبه خطب الله الأقطاب المجتمعة فيهم الأخلاق الإلهية وهذه الأخلاق لا يعرفها إلا من ذاقها ولا تدرك بالوصف ولا يعرف ما فيها إلى بالدوق وقال الفيوض التي تفيض من ذات سيد الوجود صلى الله عليه وسلم تتلقاها ذات الأنبياء وكل ما فاض وبرز من ذوات الأنبياء تتلقاه ذاتي ومني يتفرق على جميع الخلائق من نشأة العالم إلى النفخ في الصور، وخصصت بعلوم ببيني وبينه منه إلي مشافهة لا يعلمها إلا الله عز وجل بلا واسطة وقال أنا سيد الأولياء كما كان النبي صلى الله عليه وسلم سيد الأنبياء .
---(15/40)
قال في جوهر المعاني : وسألته - يعني الشيخ أحمد التجاني- عن حقيقة الولاية فأجاب بما نصه : الولاية عامة وخاصة فالعامة هي من آدم عليه السلام إلى عيسى عليه السلام والخاصة هي من سيد الوجود صلى الله عليه وسلم إلى الختم (يعني نفسه) والمراد بالخاصة هي من اتصف بأوصاف الحق الثلاثمائة على الكمال ولم ينقص منها واحد وهذا خاص بسيد الوجود صلى الله عليه وسلم ومن وَرِثه من أقطاب هذه الأمة الشريفة إلى الختم هكذا قال ونسبه للحاتمي ثم قال ولا يلزم من هذه الخصوصية التي هي الاتصاف بالأخلاق على الكمال يكون كلهم أعلى من غيرهم من كل وجه بل قد يكون من لم يتصف بها أعلى من غيره في المقام وأظنه يشير إلى نفسه وبعض الأكابر من أصحابه لأنه أخبره سيد الوجود صلى الله عليه وسلم بأن مقامه أعلى من جميع المقامات، ثم ذكر قضية أنه ممد الأولياء وإنهم لا يفاض عليهم ولا يسقون ألا منه و تقدم ذلك ثم قال ما نصه ومدده الخاص به (يعني الشيخ التجاني) إنما يتلقاه منه صلى الله عليه وسلم ولا إطلاع لأحد من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام على فيضه الخاص به لأن له مشربا معهم منه صلى الله عليه وسلم قال رضي الله عنه وأرضاه وعنا به مشيراً بإصبعيه السبابة والوسطى روحي وروحه صلى الله عليه وسلم هكذا، روحه صلى الله عليه وسلم تمد الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام وروحي تمد الأقطاب والعارفين والأولياء من الأزل إلى الأبد وسبب ذلك أن بعض أصحابه تحاور مع بعض الناس في قوله رضي الله عنه وأرضاه وعنا به كل الشيوخ أخذوا عني في الغيب فحكى له ذلك فأجاب رضي الله عنه وأرضاه وعنا به بما ذكر .
---(15/41)
وقال نسبة الأقطاب معي كنسبة العامة مع الأقطاب وقال الشيخ عبد القادر الجيلاني قال قدمي هذا -كذا - على رقبة كل ولي لله يعني أهل عصره وأما أنا فقدماي هاتان جمعهما وكان متكئا فجلس وقال على رقبة كل ولي لله تعالى من لدن آدم إلى النفخ في الصور ثم نقل صاحب الرماح عن شيخه التجاني أنه قال ما معناه أن هناك سبع حضرات تمثلها سبع دوائر .
الحضرة الأولى : الحقيقة الأحمدية قال وهذه الحضرة غيب من غيوب الله تعالى لم يطلع عليها أحد ولا عرف شيئا من علومها وأسرارها وتجلياتها وأخلاقها ولو كان من الرسل الأنبياء لأنها خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم .
والثانية سماها الحضرة المحمدية وتمثلها الدائرة الثانية قال ومن هذه الحقيقة المحمدية مدارك النبيين والمرسلين وجميع الملائكة المقربين وجميع الأقطاب والصديقين وجميع الأولياء والعارفين .
والثالثة حضرة الأنبياء وتمثلها الدائرة الثالثة وأهل هذه الدائرة يتلقون علومهم وأحوالهم وتجلياتهم من هذه الحقيقة المحمدية وخاتم الأولياء أعني الشيخ التجاني له مشرب من هذه الحضرة مع الأنبياء فهو يتلقى المدد رأسا من النبي صلى الله عليه وسلم من حقيقته المحمدية بلا واسطة .
الحضرة الرابعة حضرة خاتم الأولياء وتمثلها الدائرة الرابعة وصاحب هذه الحضرة هو الشيخ أحمد التجاني فإنه يتلقى كل ما فاض من ذوات الأنبياء زيادة على ما يتلقاه بلا واسطة من الحقيقة المحمدية ولذلك سمى نفسه (برزخ البرازخ) وهنا قال الشيخ التجاني ما نصه وخصصت بعلومي بيني وبينه صلى الله عليه وسلم سيد الأنبياء . قال صاحب الرماح ما نصه ولا اطلاع لأحد من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام على فيضه الخاص به لأن له مشربا معهم منه صلى الله عليه وسلم .
---(15/42)
الحضرة الخامسة حضرة المتبعين للطريقة التجانية المتمسكين بها قال الشيخ التجاني في حق أهل هذه الطريقة ما نصه : لو اطلع أكابر الأقطاب على ما أعد الله لهذه الطريقة لبكوا وقالوا يا ربنا ما أعطيتنا شيئا وقال الشيخ التجاني لا مطمع لأحد من الأولياء في مراتب أصحابنا حتى الأقطاب الكبار ما عدا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال محمد تقي الدين ونظم هذا المعني صاحب المنية فقال :
لو علمت أكابر الأقطاب ما *** أعد خالق الورى تكرما
لهؤلاء لبكوا عليه *** واستنقصوا ما ركنوا إليه
وقال الشيخ التجاني :كل الطرائق تدخل عليه -كذا - طريقتنا فتبطلها وطابعنا يركب على كل طابع ولا يحمل طابعنا غيره وقال من ترك وِردا من أوراد المشايخ لأجل الدخول في طريقتنا هذه المحمدية التي شرفها الله على جميع الطرق آمَّنه الله تعالى في الدنيا والآخرة فلا يخاف من شيء يصيبه لا من الله ولا من رسوله ولا من شيخه أيا كان من الأحياء أو من الأموات وأما من دخل زُمرتنا وتأخر عنها ودخل غيرها تحل به المصائب دنيا وأخرى ولا يفلح أبدا ثم قال ناقلا عن شيخه التجاني كما هو في جواهر المعاني : وليس لأحد من الرجال أن يدخل كافة أصحابه الجنة بلا حساب ولا عقاب ولو عملوا من الذنوب ما عملوا وبلغوا من المعاصي ما بلغوا إلا أنا وحدي ووراء ذلك مما ذكر لي فيهم وضمنه أمر لا يحل لي ذكره ولا يُرى ولا يُعرف إلا في الدار الآخرة بشرى لكل معتقد رغم أنف المنتقد ثم قال صاحب الرماح قلت هنا صار جميع أهل طريقته أعلى مرتبة عند الله تعالى في الآخرة من أكابر الأقطاب وإن كان بعضهم في الظاهر من جملة العوام المحجوبين .
الحضرة السادسة حضرة الأولياء وتمثلها الدائرة السادسة وهي مستمدة من حضرة خاتمهم الأكبر جميع ما نالوا.
---(15/43)
والحضرة السابعة حضرة أتباع الأولياء ثم رسم سبع دوائر في الرماح ناقلا لها من جواهر المعاني وهذه الدوائر متداخلة بعضها في بعض ولها أبواب مفتوحة لتلقي المدد والمعنى واضح بدون رسم ثم نظم صاحب الرماح قصيدة من بحر الكامل في الترغيب في الدخول في الطريقة التجانية والتمسك بها وهي طويلة مطلعها :
يا رائم الخيرات روم رجالها *** يا مبتغي الأنوار ثم ظلالها
فلينظرها من شاء فيه ثم نقل صاحب الرماح عن شيخه التجاني قوله لو بحت بما علمني الله تعالى لأجمع أهل العرفان على قتلي ثم قال عنه ما نصه وأقول لكم إن مقامي عند الله تعالى في الآخرة لا يصله أحد من الأولياء، ولا يقاربه من كبر شانه أو صغر وأن جميع الأولياء من عصر الصحابة إلى النفخ في الصور ليس فيهم من يصل مقامنا ولا يقاربه لبعد مرامه عن جميع العقول وصعوبة مسلكه على أكابر الفحول ولم أقل لكم ذلك حتى سمعته منه صلى الله عليه وسلم تحقيقا ثم قال عنه أيضا أن سيد الوجود صلى الله عليه وسلم ضمن لنا أن من سبنا وداوم على ذك ولم يتب لا يموت إلا كافرا ونقل عنه أيضا قوله أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبره بقوله عليه الصلاة والسلام بعزة ربي يوم الاثنين ويوم الجمعة لم أفارقك فيهما من الفجر إلى الغروب ومعي سبعة أملاك وكل من رآك في اليومين تَكتب الملائكة اسمه في ورقة من ذهب ويكتبونه من أهل الجنة ثم قال صاحب الرماح وقد أخبرني بعض من لقيه أنه ما تنزل إلى إفادة الخلق بعد ما أخبره صلى الله عليه وسلم بذلك إلا بعد قوله للنبي صلى الله عليه وسلم إن كنت بابا لنجاة كل عاص تعلق بي فنعم وإلا فأي فضل لي فقال صلى الله عليه وسلم أنت باب لنجاة كل عاص تعلق بك وحينئذ طابت نفسه لذلك ثم ادعى صاحب الرماح وجود دائرة عند الله تعالى تسمى الدائرة الفضلية كل من كان من أهل هذه الدائرة يتفضل الله عليه بالرحمة والنعيم وينجيه من عذاب الجحيم ولا يتوقف ذلك على عمل صالح ولا يضر معه سيئة ولا(15/44)
---
معصية وزعم أن شيخه وأتباعه كلهم من أهل هذه الطريقة ثم ادعى أن خلة الله ثابتة لشيخه وأن الله تعالى اتخذ محمد صلى الله عليه وسلم حبيبا وإبراهيم خليلا وأن شيخه ورث المحبة والخلة من هذين النبيين ثم قال ومن بحر هذه الدائرة تفضل رسول الله صلى الله عليه وسلم بدائرة الإحاطة وبالكنز المطلسم الذي هو خاص به صلى الله عليه وسلم .
وبمقامه وبالخريدة الفريدة التي هي خاصة به صلى الله عليه وسلم وبإطلاقه يعني الإذن له في إعطاء جميع أوراده من الإسم الأعظم الكبير وما دونه لمن شاء ومنعها ممن شاء وكذلك من قدَّمه الشيخ ومن قدمه هذا المقدم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها . انتهى ما أردنا الإشارة إليه من الفصل السادس والثلاثين ويلي ذلك وضع ما تضمَّنه من المسائل في الميزان وقد تقدم أن أول ما نقله مؤلف الإفادة الأحمدية عن شيخه التجاني أنه سأله سائل أيُكذبُ عليك ؟ قال نعم ما جاءكم عني فاعرضوه على كتاب الله وسنة رسوله فما وافقهما فهو عني سواء أقلته أو لم أقله وما خالفهما فليس عني سواء أقلته أو لم أقله، فنحن حين نعرض هذه المسائل على الكتاب والسنة نكون عاملين بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبوصية الشيخ التجاني نفسه فنقول وبالله التوفيق وهو الهادي بمنه إلى أقوم طريق .
المسألة الأولى :
ما يعتقده خاصة التجانين وعامتهم من أن شيخهم أبا العباس أحمد بن محمد التجاني رأى النبي صلى الله عليه وسلم في أواخر المائة الثانية بعد الألف يقظة لا مناما ومنه تلقى كل أوراده وأذكاره وفضله وفضل طريقته، وقد تقدم إبطال ذلك بالأدلة النظرية بإجماع خير القرون على أن ذلك لم يقع لحد من الصحابة ولا التابعين ولا الأئمة المجتهدين مع شدة الحاجة إليه، أما النقل فليس لهم دليل ولا شبهة يتكئون عليها في هذه الدعوى .
المسالة الثانية :
---(15/45)
وهي من أهم المسائل عند التجانيين اعتقادهم أن المدد كله من النبي صلى الله عليه وسلم يفيض على ذوات الأنبياء والمرسلين نهرا جاريا إليهم وهناك نهر آخر يجر من النبي صلى الله عليه وسلم بلا واسطة إلى الشيخ التجاني وكل ما فاض من ذوات الأنبياء تتلقاه ذات الشيخ التجاني ومنه يتفرق على جميع الخلائق من لدن آدم إلى النفخ في الصور وفي رواية من الأبد إلى الأزل وهذا تهور عظيم وقد كان الله تعالى ولا شيء معه هو الأول فالأزلية خاصة به سبحانه لا يشاركه فيها أحد وقد تقدم الكلام على إبطال المدد من الصفحة 26 إلى الصفحة 30 فانظره .
المسالة الثالثة :
ما يعتقده جميع التجانيين من أن شيخهم خاتم الأولياء وسيدهم كما أن النبي صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء وسيدهم وبالله التوفيق وبه أستعين ومنه أستمد العلم والتحقيق ما مرادك بالأولياء ؟ .
قال ابن منظور في لسان العرب في أسماء الله تعالى : الولي الناصر وقيل المتولي لأمور العالم والخلائق القائم بها . ومن أسمائه عز وجل الولي هو مالك الأشياء جميعها المتصرف فيها ثم قال : الولاية على الإيمان واجبة، المؤمنون بعضهم أولياء بعض ولي بين الولاية ووال بين الولاية والوالي ولي اليتيم الذي يلي ويقوم بكفايته وولي امرأة الذي يلي عقد النكاح عليها ولا يدعها تستبد بعقد النكاح دونه ثم الولي والمولى واحد في كلام العرب . وروى ابن سلام عن يونس قال المولى له مواضع في كلام العرب منها المولى في الدين وهو الولي وذلك قوله تعالى : { ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ } أي لا ولي لهم ومنه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من كنت مولاه فعلي مولاه ) أي : من كنت وليه قال وقوله عليه السلام مزينة وجهينة وأسلم وغفار موالي الله ورسوله أي أولياء الله . اهـ
---(15/46)
وقال الحافظ ابن كثير في تفسير قوله تعالى في سورة يونس آية 62 و 63 : { أَلَا إِن أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) } يخبر تعالى أن أولياءه هم الذين آمنوا وكانوا يتقون، فكل من كان تقيا كان لله وليا، لَا { خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } أي فيما يستقبلونه من أهوال الآخرة .
وَلَا { هُمْ يَحْزَنُونَ } على ما وراءهم في الدنيا وقال عبد الله بن مسعود وابن عباس وغير واحد من السلف : أولياء الله الذين إذا رؤوا ذُكر الله، وقد ورد هذا في حديث مرفوع كما قال البزار بسنده إلى ابن عباس قال قَال رجل يا رسول الله من أولياء الله ؟قال: ( الذين إذا رؤوا ذُكر الله ) ثم قال البزار وقد روي عن سعيد مرسلا .
وقال ابن جرير بسنده إلى أبي هريرة رضي الله عنه قال قَال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن من عباد الله عبادا يغبطهم الأنبياء والشهداء ) قيل من هم يا رسول الله لعنا نحبهم قال : ( هم قوم تحابوا في الله من غير أموال ولا أنساب وجوههم نور على منابر من نور لا يخافون إذا خاف الناس ولا يحزنون إذا حزن الناس ) ثم قرأ: { أَلَّا إِن أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) } ورواه أبو داود أيضا بسنده عن عمر بن الخطاب بسند جيد إلا أنه منقطع اهـ.
وفي تفسير الجلالين ما نصه : { أَلَّا إِن أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) } في الآخرة هم { الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) } الله بامتثال أمره ونهيه اهـ .
وقال البيضاوي : أولياء الله الذين يتولونه بالطاعة ويتولاهم بالكرامة اهـ.
ونقل الجمل في حاشيته عن الشهاب ما نصه الولي ضد العدو فهو المحب ومحبة العباد لله طاعتهم له ومحبته لهم إكرامه إياهم كما في شرح الكشاف . اهـ .
---(15/47)
قال محمد تقي الدين الهلالي محبة العباد لله تعالى ومحبة الله للعباد كلتاهما حقيقة ولا داعي لتأويل محبته العباد بالطاعة ولا تأويل محبة الله لعباده بإكرامهم ، وإنما يؤول محبة الله بإكرامه نفاة الصفات لزعمهم أن الحب ميل وحرارة يجدها المحب في قلبه لما أحب قالوا وذلك محال على الله تعالى لأن فيه تشبيها لله بخلقه وأجاب المثبتون للصفات المتبعون للسلف الصالح والتابعين من الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين أن محبة الله لعباده صفة من صفاته تقتضي إكرامه لهم بفضله ورحمته لأن الله وصف بها نفسه في كتابه في مواضع كثيرة منها قوله تعالى في سورة آل عمران : { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) } والسلف الصالح ومن اتبعهم بإحسان من العلماء يثبتون لله تعالى ما أثبته لنفسه في كتابه أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم في حديثه بلا تشبيه ولا تمثيل ولا تحريف ولا تعطيل فكما أن الله عالم بعلم لا يشبه علمنا وقادر قدرة لا تشبه قدرتنا فكذلك هو سبحانه يحب عِباده بمحبةٍ لا تشبه محبتنا .
---(15/48)
وفي تفسير الخازن ما نصه ، قال أبو بكر الصم أولياء الله هم الذين تولى الله تعالى هدايتهم ، وتولوا القيام بحق العبودية لله والدعوة إليه وأصل الوالي من الولاء وهو القرب والنصرة فولي الله هو الذي يتقرب إلى الله بكل ما افترض الله عليه ويكون مشتغلا بالله مستغرق القلب في نور معرفة جلال الله تعالى فإن رأى رأَى دلائل قدرة الله وإن سمع سمعَ آيات الله وإن نطق نطقَ بالثناء على الله وإن تحرك تحركَ في طاعة الله وإن اجتهد اجتهدَ فيما يرضي الله لا يفتر عن ذكر الله ولا يرى بقلبه غير الله فهذه صفة أولياء الله وإذا كان العبد كذلك كان الله وليه وناصره ومعينه قال تعالى : { اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا } وقال المتكلمون ولي الله من كان أتيا بالاعتقاد الصحيح المبني على الدليل ويكون أتيا بالأعمال الصالحة على وفق ما وردت به الشريعة وإليه الإشارة بقوله { الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) } وهو أن الإيمان مبني على الاعتقاد والعمل ومقام التقوى هو أن يتقي العبد ما نهى الله عنه اهـ .
قال الجمل وفي الخطيب ما نصه ونقل النووي في مقدمة شرح المهذب عن الإمامين الشافعي وأبي حنيفة رضي الله عنهما أن كل منهما قال إذا لم تكن العلماء أولياء الله فليس لله ولي ، وذلك في العالم بعلمه ،. وقال القشيري من شرط الولي أن يكون محفوظا كما أن من شرط النبي أن يكون معصوما فكل من كان للشرع عليه اعتراض فهو يكون مغرور مخادع فالولي هو الذي توالت أفعاله على الموافقة اهـ .
نظرة تمحيص في هذه النقول
في هذه النقول مسائل ينبغي التنبيه عليها :
---(15/49)
الأولى : قول البيضاوي أولياء الله الذين يتولونه بالطاعة ويتولاهم بالكرامة إن كابن يريد بالكرامة أنه يكرمهم في الدنيا بتوفيقه وتأييده ولطفه وفضله وإحسانه وكثرة نعمه الحسية والمعنوية فهو صحيح وإن كان يريد بالكرامة ما اصطلح عليه المتكلمون أنه خرق العادة فهو غير صحيح لأن العادة تخرق للمحق والمبطل وللساحر والكاهن ( والدجال الأصغر والأكبر ) وللكفار، فإن قلت قوله تولوا الله بالطاعة يخرج من ذكرت أقواله لا يشترط في الوالي أن تجري على يديه خوارق العادة كما يريد المتأخرون أن يفهموه فإن اكثر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ترو عنهم خوارق مع أنهم أفضل أولياء الله وقد نقل غير واحد من المتصوفة عن الجنيد رحمه الله أنه قال إذا رأيتم الرجل يمشي على الماء أو يطير في الهواء فلا تعتبروا ذلك شيئا حتى تعرضوا أقواله وأعماله على الكتاب والسنة فإن كانت موافقة فظُنوا به خيرا، وإن كانت مخالفة فظُنوا به شرا، ونقلوا عنه أيضا أنه قال : الاستقامة أفضل من ألف كرامة فإن الله لم يجعل لأوليائه علامة إلا الأيمان والتقوى .
الثانية: قول أبى بكر الأصم : ( إن ولي الله لا يرى بقلبه غير الله ) إن كان يريد بذلك أنه لا يرى أن أحدا يستحق العبادة غير الله فلا يرى أن هناك ربا غير الله ولا معطيا ولا مانعا ولا خافظا ولا رافعا ولا محييا ولا مميتا ولا متصرفا على الحقيقة في الدنيا والآخرة إلا الله فكلامه حق، وإن كان يريد أن الولي لا يرى وجودا إلا الله كما يقول أصحاب وحدة الوجود فهو باطل وهؤلاء زنادقة أخذوا هذه العقيدة الفاسدة المناقضة للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة من فلاسفة الهند واليونانيين وذلك خلاف ما جاءت به أنبياء الله وكتب الله تعالى، ومن أقوالهم الباطلة، أعني أصحاب وحدة الوجود ( من حد فقد ألحد ) يعني من رأى هنالك ربا ومربوبا وعابدا ومعبودا وخالقا ومخلوقا فقد الحد وضل، لأن الوجود
---(15/50)
عندهم واحد، فتوحيده من تحصيل الحاصل وابن عربي الحاتمي الذي تقدم ذكره في كلام صاحب الرماح من مشاهير المعتقدين وحدة الوجود، وفي ذلك يقول في الفتوحات :
العبد رب والرب عبد * يا ليت شعري من المكلف
إن قلت عبد فذاك حق * أو قلت رب أنَّ يكلف
ويقول في الفتوحات إن الذين عبدوا العجل ما عبدوا غير الله وكذلك عبد الكريم الجيلي في كتابه ( الإنسان الكامل ) وابن الفارض في ديوانه وهذه العقيدة مقدسة في كتب التجانيين فنعوذ بالله من الضلال، ولله در الإمام محمد بن إسماعيل الصنعاني إذ يقول في داليته :
وأكفر أهل الأرض من ظن أنه ** إله تعالى الله جل عن الند (1)
وعسى أبو بكر الأصم أن يكون لم يرد هذا المعنى .
الثالثة : قول المتكلمين ولي الله من كان آتيا بالاعتقاد الصحيح المبني على الدليل .
الظاهر أن المتكلمين يريدون بالدليل : الدليل الذي يسمونه عقليا كدلائل المعتزلة والمتأخرين من الأشعرية فإنهم يزعمون أن من عرف الله تعالى بالدليل النقلي من الكتاب والسنة هو مقلد وقد اختلفوا في إيمان المقلد على ثلاثة أقوال، الأول أنه كافر لا إيمان له والثاني مؤمن عاص، والثالث أنه مؤمن غير عاص بتقليد، وهذا من أعظم ضلالهم فإن الصحابة رضوان الله عليهم والسلف الصالح من التابعين والأئمة المجتهدين لم يقتصروا على طرح علم الكلام ونبذه، بل حرموه وجعلوه من أكبر الكبائر .
__________
(1) رواية البيت في الدالية طبع المكتب الإسلامي بتحقيق الأستاذ زهير الشاويش
الصفحة ( 18 ) كما يلي :
وأكفر أهل الأرض من قال إنه إله فإن الله جل عن الند
---(15/51)
قال ابن عبد البر في كتاب "جامع بيان العلم وفضله" ما نصه : قال يونس بن عبد الأعلى سمعت الشافعي يوم ناظره حفص الفرد قال لي يا أبا موسى لأن يلقى الله عز وجل الفرد بكل ذنب ما خلا الشرك خير من أن يلقاه بشيء من الكلام لقد سمعت من حفص كلاما لا أقدر أن أحكيه وقال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله إنه لا يفلح صاحب كلام أبدا تكاد ترى أحدا نظر في الكلام إلا وفي قلبه دغل وقال مالك أرأيت إن جاء من هو أجدل منه أيدع دينه كل يوم لدين جديد اهـ .
ونُقل مثل ذلك عن أبى حنيفة وسائر أئمة السلف قال أبو عمر أجمع أهل العلم من الأمصار : أن أهل الكلام أهل بدع وزيغ وضلال ولا يعدون عند الجميع في جميع الأمصار في طبقات العلماء، وإنما العلماء أهل الأثر والتفقه فيه ويتفاضلون فيه بالإتقان والميز والفهم . ثم روى أبو عمر بسنده إلى أبى خويز منداد البصري المالكي قال في كتاب الإجارات من كتابه الخلاف قال مالك لا تجوز الإجارات في شيء من كتب الأهواء والبدع عند أصحابنا هي كتب أصحاب الكلام من المعتزلة وغيرهم وتفسخ الإجارة في ذلك قال وكذلك كتب القضاء بالنجوم وعزايم الجن وما أشبه ذلك وقال في كتاب الشهادات في تأويل قول مالك لا تجوز شهادة أهل البدع وأهل الأهواء قال أهل الأهواء عند مالك وسائر أصحابنا هم أهل كلام فكل متكلم من أهل الأهواء والبدع أشعريا كان أو غير أشعري ولا تقبل له شهادته في الإسلام أبدا ويهجر ويؤدب على بدعته فإن تمادى عليها استتيب منها . انتهى بلفظه .
---(15/52)
الرابعة: قول القشيري : "من شرط الولي أن يكون محفوظا كما من شرط النبي أن يكون معصوما "أقول لقد أخطأ القشيري خطأ فاحشا في هذا ولا فرق في المعنى بين قولنا محفوظ وقولنا معصوم فقد أراد أن يثبت العصمة لمن يسميهم أولياء فأبدل لفظا بلفظ والعبرة ليست بالألفاظ وإنما هي بالمعاني ولو قال أن المؤمن في وقت ارتكابه للمعصية ينقص إيمانه وتنقص ولايته لله، لأن ولاية العبد لله تكون على قدر إيمانه وتقواه لأصاب، فماذا يقول في الصحابة الذين ارتكبوا كبائر كماعز والغامدية والصحابي الذي كان يسمى حمارا وكان يُضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد شرب الخمر فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بإقامة الحد عليه فسبه أحد الحاضرين فنهاه النبي- صلى الله عليه وسلم - عن ذلك وشهد له بأنه يحب الله ورسوله ألم يكن هؤلاء أولياء الله حين ارتكبوا تلك المعاصي ولم يصروا عليها وقد أخبر الله تعالى في كتابه العزيز أن الجنة : { أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136) } سورة آل عمران آية 134، 135، 136، وخلاصة القول أن كل مؤمن ولي الله وكل كافر عدو لله ومن لم يكن ولي الله فهو عدو الله قال الله تعالى في أول سورة التغابن { هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ } وقال تعالى في أول سورة الممتحنة : { يَا أَيُّهَا
---(15/53)
الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ } وقال تعالى في سورة البقرة : { اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257) } .
فأنت ترى أن الله قسم الناس فجعلهم قسمين أحدهما : المؤمنون، الله وليهم، والقسم الثاني كفار وهم أعداء الله فولاية الله لا تزول عن المؤمن بوجه من الوجوه ولو ارتكب المعاصي إلا إذا كفر بالله كفرا حقيقيا يخرجه من الإسلام ولا يمكن أن يكون لأولياء الله خاتم أبدا ولو كان لهم خاتم لكان هو آخر مؤمن على وجه الأرض قبل قيام الساعة فإنها لا تقوم إلا على شرار الخلق وإلا على لكع بن لكع ولا تقوم حتى لا يقال على الأرض الله اللهُ كما جاء في الأخبار الصحيحة، هذا إذا كان يريد بقوله خاتم الأولياء الحقيقية كما هو مقتضى تشبيهه بخاتم الأنبياء فإن خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم ختمهم حقيقة فلا نبي بعده البتة ولكن التجانيين يتلطفون لينقدوا أنفسهم من المأزق فيقولون حين يشعرون بأن خصومهم يريدون أن يلزموهم بما ذكرناه فيقولون : إن شيخهم ليس خاتما للأولياء على الحقيقة كما أن النبي صلى الله عليه وسلم خاتما للأنبياء ولكنه خاتم لمقاماتهم ومراتبهم العالية وهذه مغالطة وتمويه على الناس لأن هناك فرقا وبونا شاسعا بين خاتم الأولياء وخاتم مقامات الأولياء وإذا وصلنا معهم إلى أن يسلموا بأن شيخهم ليس خاتما للأولياء حقيقة وإنما هو خاتم لمقامتهم ومنازلهم عند الله ومراتبهم ولا بد أن يسلموا بذلك نقول لهم حجرتم واسعا وجئتم بطامة عظيمة لا دليل لكم عليها شرعي ولا عقلي { أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ } ومن أين لكم أنه لا يجيء بعد شيخكم من هو أعلى منه مقاما وأسمى منزلة عند الله فإن(15/54)
---
قالوا إن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بذلك شيخهم والنبي صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهواء نقول لهم : إن إجماع الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين، أجمعوا على أن الأدلة الشرعية التي يثبت بها الحكم محدودة، وهي الكتاب والسنة والإجماع والقياس عند الضرورة على خلاف فيه ما لم يخالف النص فإن خالفه فهو لغو وادعاؤكم أن شيخكم سمع ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم خارج عن الأدلة الشرعية، وقد قال الله تعال في سورة النساء آية 115 { وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115) } وقال الله تعالى في سورة التوبة آية 100: { وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100) } قال أهل العلم واتِّباعهم بإحسان يقتضي ترك الزيادة والنقصان في دين الله فإن من زاد في الدين شيئا أو نقص منه شيئا لم يكن متبعا لهم بإحسان فهو متعرض لسخط الله وبرئ من نيل الرضوان ويقال لهم : ماذا تقولون في ادعائكم أن شيخكم خاتم الأولياء أهو من دين الإسلام أم خارج عنه ؟ فإن قلتم : هو من دين الإسلام ! قلنا لكم قال الله تعالى في سورة المائدة : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا } آية 3 قال الشاطبي في" الاعتصام" قال مالك :من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمد خان الرسالة لأني سمعت الله يقول اليوم أكملت لكم دينكم وما لم يكن يومئذ دينا فلا يكون اليوم دينا انتهى . فاعتقادكم أن شيخكم خاتم الأولياء(15/55)
لم
---
يكن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم دينا فلن يكون دينا أبدا بل هو بدعة ضلالة وطريقتكم نفسها كسائر ا لطرائق بدعة ضلالة فتوبوا إلى الله وانبذوها نبذ النوى ولا تتبعوا الهوى فيضلكم عن سبيل الله .
ونهج سبيلي واضح لمن اهتدى *** ولكنها الأهواء عمت فأعمت
لعمري لقد نبهت من كان نائما *** وأسمعت من كانت له أذنان
ونراكم تحتجون دائما على من ينكر عليكم ما تدعونه من الفضائل لشيخكم ولأنفسكم بآيات فضل الله الواسع العظيم، حتى أنشأتم دائرة سميتموها :" الدائرة الفضلية " وزعمتم أن هذه الدائرة لا يعلمها أحد إلا الله ولم يُطلع عليها أحداً إلا خليله ورسوله محمدا - صلى الله عليه وسلم - وإلا شيخكم، وفضائلكم وفضائل شيخكم جاءت من هذه الدائرة، وقد سمعتم أدلة بطلان هذه الدعوى ولكننا نحتج عليكم بما احتججتم به على خصومكم ونأخذكم بإقراركم فنقول لما حجرتم فضل الله الواسع وقلتم كما قال الأعرابي الذي بال في المسجد اللهم ارحمني ومحمدا ولا ترحم معنا أحدا، فزعمتم أن المقامات العالية والمنازل السامية قد ختمها شيخكم وسد بابها فما بقي لأحد مطمع في الوصول إلى مقامه فكيف بالزيادة عليه فآيات فضل الله التي احتججتم بها على خصومكم حجة عليكم .
وقد ذكر صاحب الرماح أصنافا أربعة من الصديقين، والأغواث وجواهر الأقطاب وبرازخ الأغواث وذَكر الله تعالى في سورة النساء أصنافا أربعة ( .. النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ) ولم يذكر صاحب الرماح ممن ذكر الله تعالى إلا الصديقين وترك سائرهم وأبدلهم بأصناف ثلاثة لا وجود ولهم إلا في خياله وخيال المفتونين الذين التبس عليهم الأمر واستهوتهم الشياطين ما معنى جوهر الأقطاب وقد ذكر صاحب اللسان للقطب معاني أنه الحديدة التي تدور عليها الرحى أي يدور عليها شقها الأعلى .
---(15/56)
والقطب أيضا كوكب بين الجدي والفرقدين يدور عليه الفلك صغير أبيض لا يبرح مكانه أبدا وقال : وقطب كل شي ملاكه وصاحب الجيش قطب رحى الحرب وقطب القوم سيدهم والقطب نصل السهم اهـ المراد منه
ولعل صاحب الرماح يريد بالأقطاب سادات الأقوام الذين بلغوا الدرجة العلياء في ولاية الله وطاعته وهذا مفهوم إلا أن الأقطاب بهذا المعنى لا جوهر لهم .
قال ابن منظور في" اللسان" الجوهر معروف، الواحدة جوهرة، والجوهر كل حجر يستخرج منه شيء ينتفع به، وجوهر كل شيء ما خلقت عليه جبلته .اهـ
وهذه المعاني لا يناسب شيء منها أن يكون مضاف إلى الأقطاب بمعنى السادة والرؤساء ولعل صاحب الرماح أراد أن يلقي الروعة والإجلال في قلوب جهلة القراء بذكر هذه الألفاظ ليسدوا ويغمدوا عيون بصائرهم وينجذبون إلى تصديق ما يدعيه لهم ودين الإسلام ليس فيه شيء اسمه القطب ولو كان موجودا لذكره الله في كتابه أو ذكره رسوله صلى الله عليه وسلم في حديثه فإنه لم يترك شيئا من الخير إلا دل الأمة عليه وما ترك شيئا من الشر إلا حذر منه أمته ومن ذلك التنطع والتكلف، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( هلك المتنطعون ) قالها ثلاثا وذِكر هذه الألفاظ من التنطع وخِداع الجهَّال وقد قلت سنة إحدى وأربعين وثلاثمائة وألف 1341 وأنا مسافر بالقطار من القاهرة إلى الإسكندرية قصيدة طويلة مقصورة أنكرت فيها وجود القطب بالمعني الذي يريده المتصوفة فقلت :
و لا قطب نعرفه غير نجم ** يرى في السماء وقطب الرحى
ونحوهما لا الذي ذكروا ** يكون مقيما بغار حراء
يمد الأنام ويجري الشوؤ ** ن في الكون تالك أدهى الفرا
فهل من كتاب وهل سنة ** أتت من صحيح الحديث بذا
ثم ظهر لي أن اثبت هذه القصيدة برمتها هنا لما فيها من بيان التوحيد وذم البدع :
تركت الطريق طريق وأقبلت أتبع المصطفى
وسنته وكتاب الإله وأصحابه انجم الاهتدا
واتباعهم أين ما وجدوا سواء نأى عصرهم أم دنا
---(15/57)
سوء ذو الشرق أم غربنا وأهل الخيام والقرى
وليس يجوز بمدهبنا اتبـ ـاع لغير فدع من هذا
ولسنا نؤول لفظ الحديـ ـث والذكر إلا بما قد أتى
فما هلك الناس ألا بما تؤوله زمرة الاعتدا
فنحن على مذهب السـ ـابقين من رضي الله عنهم علا
ومن حاد عن نهجهم قد هوى سواء درى ذاك أم ما درى
فخير الهدى هدى خير الورى وشر الأمور اتباع الهوى
فلا تتصرف ولا تتكلف ولا تلج إلا لرب العلى
ولا تدع من دونه أحدا فليس ولي سواه يرى
أغير الإله أرى لي وليا إذن قد ضللت طريق الهدى
أأتخذ الأولياء وربي بمحكم ذكره عنهم نهى
ولو مرسلين ولو صالحين ولو طائرين بأوج السما
ولا يعبد الله إلا بما أتى في شريعته وارتضى
ومن يزعم العلم غير الكتاب وغير الحديث الصحيح افترى
ولا فضل في ديننا لأرسطو ولا لابن رشد ومن قد قفا
فتوحيد ربي بمنزله غني عن المنطق المرتأى
فإن أرسطو وأتباعه عدو لدين إله الورى
وأن هم أتوا حكا أحكموها أخذنا بها في أمور الدنى
ومهما وجدنا الحديث الصحيح عبدنا به من له المنتهى
وليس له من وسيلة إلا علوم اصطلاح وعلوم اللغى
فعلم الكلام وبعض الأصول ظلام يجران كل العنا
ولا نستغيث بغير الإله ومن يستغيث بالعباد غوى
ونعتقد الإله سبحانه على عرشه ذي التعالي استوى
ولسنا نؤول ذلك بقهر ولا غيره مثل من قد مضى
وإن البخاري في كتبه قد أحسن للناس دون امترا
عليها اعتكف ثم منها اقتطف تجد كل ما رمته من منى
ومسلم لا تنس تأليفه فنعم الكتاب الوثيق العرى
وإن خضت في غير ذينك فاسلك بعلم غزير وإلا فلا
و لا تعتبر كل كتب عليها فقد مزجوها بما يرتمى
فجد وخذ زبد ما سطروا ودع ما تراه معيبا سدى
وما قد يسمونه باطنا فباللام يقراه من درى
فإن الشريعة قد أكملت وقد بينت مثل شمس الضحى
فما مات خير الورى أحمد إلى أن جلاها بغير خفا
وما أحد من أهيل النفاق نجا فاصبر إن نلت منهم أذى
ولا تبن في تربة قبة ومهما تراها فهدم البناء
فقد عبدوها وما فطنوا ووافقهم علماء الشقاء(15/58)
---
وقد ألفوا في عبادتها بدون احتشام بدون حيا
لتدع الإله بما قد روى الثقـ ــات الهدات عن المجتبى
وأن البخاري روى في الصحيح دعاء وذكرا به الاكتفا
وحاذر الشرك فهو بذا الـ ــزمان بكل النواحي فشا
ولا قطب نعلمه غير نجم يرى في السماء وقطب الرحى
ونحوهما لا الذي ذكروا يكون مقيما بغار حراء
يمد الأنام ويجري الشؤو ن في الكون تالك أدهى الفرا
فهل من كتاب وهل سنة أتت من صحيح الحديث بذا
فخذ بالنصوص ولا تبتدع وفي عدم النص قس ما جلا
وليس لنا مذهب لازم سوى مذهب المصطفى المرتضى
عليه الصلاة وأزكى السلام سلاما يدوم بغير انتها
ويشمل آلا وصحبا كراما ومن قد قفاهم بنهج الصفا
ولعل صاحب الرماح يعني بقوله جواهر الأقطاب كبار القوم وأعاظم ساداتهم إلا أن اللفظ لا يساعد على ذلك إلا بتكلف وإذا تحقق أن القطب لا وجود له وان عقيدة القطب وتصرفه في العالم عقيدة فاسدة أحدثها الجهال فقد تهدم ما بناه التجانيون من المقامات لشيخهم .
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية في رسالة القبور ثلاثة لا أصل لها ( منتظر الشيعة، وقطب الصوفية، وباب النصيرية ) وصدق رحمه الله، فكم بنوا على وجود القطب من ضلالات وجهالات يبرأ منها الإسلام، وأما الغوث فقد قال ابن منظور في (لسان العرب) إنه اسم مصدر بمعنى الإغاثة قال : وأغاثه الله غوثا وغياثا والأولى أعلى اهـ .
---(15/59)
ولعل التجانيين ومن سار على دربهم يقصدون بالغوث المغيث من باب إطلاق المصدر على أسم الفاعل فإن قصدوا ذلك فقد أمعنوا في الضلال فإنه لا مغيث إلا الله قال تعالى في سورة الأنفال آية 9 : { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) } وكان ذلك في غزوة بدر والنبي صلى الله عليه وسلم وهو أفضل خلق الله بين أظهرهم ولم يستغيثوا به بل هو نفسه عليه الصلاة والسلام كان يستغيث بالله ويقول ( اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد) وروى مسلم في صحيحه من حديث ابن عباس قال حدثني عمر بن الخطاب قال لما كان يوم بدر نظر رسل الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر فاستقبل النبي صلى الله عليه وسلم القبلة ثم مد يديه فجعل يهتف بربه ( اللهم أنجز لي ما وعدتني ) وفيه فما زال يهتف بربه حتى سقط رداؤه عن منكبيه فأخذ أبو بكر فألقاه على منكبيه ثم التزمه من ورائه وقال يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعد فأنزل الله تعالى :
---(15/60)
{ إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) } فتبين لك أيها القارئ الموفق أن الاستغاثة دعاء والدعاء مخ العبادة ومن استغاث بغير الله فقد أشرك وعبد مع الله غيره ومن زعم أنه هو أو غيره من المخلوقين قادر أن يغيث من استغاث به ويجيب المضطر ويكشف السوء ويجعل الناس خلفاء في الأرض فقد اتخذ مع الله إلها آخر بنصوص القرآن والسنة أنظر آيات النمل من قوله تعالى : { قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آَللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) } من آية 58 ـ 64 ذكر الله تعالى في هذه الآيات أمورا خاصة به لا يقدر عليها غيره، منها إجابة المضطر وكشف السوء وتولية المناصب والهداية في ظلمات البر والبحر وإرسال الرياح فمن نسب شيئا من هذه الأمور إلى مخلوق أانه هو الفاعل لها بغير طريق الأسباب فقد أشرك بالله وعبد معه غيره واعلم أنه يجب على كل مسلم أن يوحد الله في ربوبيته وفي عبادته وفي أسمائه وصفاته فهذه أنواع التوحيد الثلاثة من أخل بها أو بشيء منها فهو كافر . أما توحيد الربوبية فهو أن يوحد الله تعالى بأفعاله بأن تعتقد أنه الموجد الممد فهو الذي يخلق وهو الذي يرزق وهو الذي يحيي ويميت ويعطي ويمنع ويخفض ويرفع ويعز ويدل ويتصرف في الخلق ويحفظ على كل مخلوق وجوده وأما توحيد العبادة ويسمى أيضا توحيد الإلهية فهو أن توحد الله بأفعالك فلا تتوجه بقلبك ولسانك إلى غيره بدعائك واستغاثتك واستعادتك واستمدادك واستشفائك واستعانتك وغير ذلك من حاجاتك التي لا يقدر عليها إلا الله . وأما توحيد الأسماء والصفات فهو ألا تسمي الله إلا بما سمى به نفسه في كتابه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم في حديثه، وكل اسم سميت الله به لا تسم به أحدا من خلقه، وكل صفة وصفت الله بها لا تصف بها أحدا من خلقه .
---(15/61)
فإن قيل : قال الله تعالى في سورة القصص آية 15 : { فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ } فهذ1 رجل إسرائيلي استغاث بموسى فأغاثه موسى وذلك دليل على جواز الاستغاثة بالمخلوق .
فالجواب أن الاستغاثة بالمخلوق فيما يقدر عليه المخلوق إذا كان حاضرا جائزة أما الاستغاثة بالمخلوق فيما لا يقدر عليه إلا الخالق كهداية القلوب وشفاء المرض بلا علاج بل بالهمة والحال وإنقاذ الغريق وتسهيل الولادة على من اعتراها الطلق وتفريج الكروب ومغفرة الذنوب وإنجاح طالب العلم بدون تعليم وإدخال الجنة والنجاة من النار وغير ذلك من الأمور التي ليس للمستغاث به فيها عمل إلا أن يوجه همته ويقول كن فيكون فمن طلب من المخلوق شيئا من ذلك فهو كافر قال الله تعالى في سورة فاطر آية 13 ، 14 : { ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14) } وقال تعالى في سورة الأحقاف 5، 6 : { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ َOخgح !%tوكS غَافِلُونَ (5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ (6) } والآيات في هذا كثيرة وفي الآيتين التصريح بأن من دعا غير الله لجلب نفع أو لدفع ضر وفي الآية الثانية أن من دعا غير الله ضال كافر .
البرزخ
---(15/62)
تكررت تسمية صاحب الرماح لشيخه بالبرزخ وجاء لفظ البرزخ في كلامه مفردا وجمعا فماذا يعني بالبرزخ ففي كتب اللغة البرزخ هو الحاجز بين شيئين، وبهذا المعنى جاء في كتاب الله عز وجل والبرزخ هو حياة الروح بعد الموت وقبل البعث فتسمى المدة التي بينهما برزخا ولعل صاحب الرماح يقصد بالبرزخ ما ادعاه لشيخه من أنه واسطة ببين الأنبياء والأولياء ، فلا يصل إلى ولي مدد إلا بتوسطه، ويفهم من كلامه أن كل شيخ برزخ بين الشيخ التجاني وبين أتباعه المستمدين منه وقد تقدم أن المدد كله من الله وحده لجميع عباده من الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين أما إبلاغ الرسالة إلى العباد فلا بد فيه من واسطة فالأنبياء والرسل يتلقون الوحي من الله تعالى ويبلغونه أممهم ولا يملك أحد من الرسل لأمته نفعا ولا ضرا وليس عليهم إلا البلاغ المبين والتبشير والإنذار فهم حجج الله على خلقه وهم الشهداء على أممهم يوم القيامة وأما المدد بجميع أنواعه الحسية والمعنوية فليس لهم منه شيء .
المسالة الرابعة
وهي تابعة للمسالة الثانية ومتفرعة منها، قال صاحب الرماح نقلا عن شيخه التجاني إنه ينادي مناد يوم القيامة في المحشر من قبل الله تعالى مشيرا إلى الشيخ أحمد التجاني ومخاطبا لأهل المحشر كلهم هذا إمامكم الذي كان يمدكم وأنتم لا تشعرون .
---(15/63)
قال محمد تقي الدين الهلالي هذا من القول على بلا علم قال الله تعالى في سورة الأعراف آية 33 : { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33) } وقد أجمع السلف الصالح من الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين أن من أخبر عن الله أو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بخبر ليس في كتاب الله ولا روى بسند صحيح إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد قال على الله بلا علم وخبره مردود ولا سبيل لأحد أن يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا من الطريق الذي روى عنه أصحابه والتابعين لهم بإحسان وهو السماع منه عليه الصلاة والسلام في حال حياته أو السماع ممن سمع منه ومثل ذلك القراءة على الشيخ مع إقراره فهذا الخبر باطل بإجماع المسلمين هذا لو كان المدد صحيحا فكيف والمدد نفسه باطل لا وجود له إلا في خيال المدعين له وهم التجانيون .
المسألة الخامسة
ما نقله صاحب الرماح عن شيخه التجاني أنه قال إن الشيخ عبد القادر الجيلاني قال قدمي هذه على رقبة كل ولي لله وذلك خاص بأولياء زمانه أما أنا فأقول لكم : قدماي هاتان على رقبة كل ولي لله من لدن آدم إلى النفخ في الصور اهـ .
قال محمد تقي الدين هذه مقالة تقشعر منها الجلود قال الله تعالى في سورة القصص آية 73 : { تِلْكَ الدَّارُ الْآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) } قال ابن كثير في تفسيره : يخبر تعالى إن الدار الآخرة ونعيمها المقيم الذي لا يحول و لا يزول، جعلها لعباده المؤمنين المتواضعين الذين لا يريدون علوا في الأرض أي ترفعا على خلق الله وتعاظما عليهم اهـ .
---(15/64)
وقال البخاري رحمه الله في كتاب الإيمان من صحيحه قال ابن مليكة أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه قال الحافظ في الفتح هذا التعليق وصله ابن خيثمة في تاريخه لكن أبهم العدد وكذا أخرجه ابن نمر المروزي مطولا في كتاب الإيمان له والصحابة الذين أدركهم ابن أبي مليكة من أجلهم عائشة وأختها أسماء وأم سلمة والعبادلة الأربعة وأبو هريرة وعقبة بن الحارث والمسور بن مخزمة فهؤلاء ممن سمع منهم وقد أدرك جماعة أجل من هؤلاء كعلي بن أبى طالب وسعد بن أبي وقاص وفيه قال إبراهيم التيمي ما عرضت قولي على عملي إلا خشيت أن أكون مكذبا وقال البخاري ويذكر عن الحسن البصري ما خافه إلا مؤمن ولا أمنه إلا منافق قال في الفتح هذا التعليق وصله جعفر الفريابي في كتاب صفة المنافق له من طرق متعددة بألفاظ مختلفة وقد يستشكل ترك البخاري الجزم به مع صحته عنه وذلك محمول على قاعدة ذكرها لي شيخنا أبو الفضل الحسين الحافظ رحمه لله وهي أن البخاري لا يخص صيغة التمريض بضعف الإسناد بل إذا ذكر المتن بالمعنى أو اختصره أتى بها أيضا لما علم من الخلاف في ذلك فهنا كذلك وقد أوقع اختصاره له لبعضهم الاضطراب في فهمه فقال النووي ( ما خافه إلا مؤمن ولا أمنه إلا منافق ) يعني الله تعالى قال الله تعالى : { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46) } وقال : { فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99) } وكذا شرحه ابن التين وجماعة من المتأخرين، وقرره الكرماني هكذا، فقال : ما خافه أي خاف من الله فحذف الجار وأوصل الفعل إليه ثم ساق الحافظ سند الفريابي إلى المعلى ابن زياد فقال سمعت الحسن يحلف في هذا المسجد بالله الذي لا إله إلا هو ما مضى مؤمن قط ولا بقي إلا وهو من النفاق مشفق ولا مضى منافق ولا بقي إلا وهو من النفاق آمن . وكان يقول من لم يخف النفاق فهو منافق . ثم ذكر الحافظ عن أحمد بن حنبل(15/65)
---
بسنده مثله، ثم قال : وهذا موافق لأثر ابن مليكة قبله، وهو قوله : يخاف النفاق على نفسه .
وقفة لتوضيح ما تقدم
في هذا الكلام فوائد :
الأولى : أن البخاري رحمه الله علق خبر إبراهيم التيمي بصيغة الجزم ومن المعلوم عند أهل الحديث أن الأخبار المعلقة في صحيح البخاري أعني التي يحذف سندها كله أو بعضه مروية بأسانيد صحيحة أو حسنة وهذا الخبر يدل على أن السلف الصالح كانوا يتهمون أنفسهم ويخافون عليها من الكفر وحبوط العمل فهم أبعد الناس عن سلوك طريقة التجانيين الذين يجزمون بأنهم أولياء الله وأنهم يدخلون الجنة بغير حساب وأن شيخهم خاتم الأولياء وسيدهم وممدهم فما أبعد هذه الدعاوى عما كان عليه السلف الصالح من الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين وهم لعمري أولى بالاتباع من التجانيين ومن يرغب عن اتباعهم ويتمسك بطريقة التجانيين إلا من سفه نفسه .
---(15/66)
الثانية : خبر ابن مليكة عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يخافون النفاق على أنفسهم فما أبعد حالهم من حال هؤلاء التجانيين الذين ملؤوا الدنيا افتخارا واستعلاء !! وتألوا على الله وأراحوا أنفسهم من جميع التكاليف، ومن تألى على الله أكذبه، قال تعالى في سورة النساء آية 123، 124 { لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124) } هذا كتاب الله ينطق عليهم بالحق فكيف نبذوه وراء ظهورهم وتمسكوا بوساوس وتخيلات مَا { أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى (23) أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى (24) فَلِلَّهِ الْآَخِرَةُ وَالْأُولَى (25) } لا معطي ولا مانع ولا خافض ولا رافع إلا الله، وعن شداد بن أوس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من اتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني ) رواه أحمد والترمذي والحاكم وقال صحيح على شرط مسلم .
ولعمر الله أن التجانيين لم يدينوا أنفسهم بل أتبعوها أهواءها وتمنوا على الله الأماني .
---(15/67)
الفائدة الثالثة : قول البخاري ويذكر عن الحسن هذه الصيغة تسمى صيغة التمريض وكثير من العلماء يظن أن البخاري إذا علق حديثا بصيغة الجزم مثل قال وذكر فالحديث عنده صحيح أو حسن إلا أنه ليس على شرطه وإذا قال يقال أو يذكر فالحديث عنده غير صحيح بل ضعيف وقد بين الحافظ بالبرهان القاطع أن هذا الفهم لا يلزم أن يكون كل حديث وقع في صحيح البخاري بهذه الصيغة ضعيفا لأن البخاري يستعمل هذه الصيغة في الخبر إذا اختصره أو رواه بالمعنى ولو كان صحيحا ومن الأحاديث الصحيحة التي استعمل فيها البخاري صيغة التمريض مع صحتها هذا الحديث هذا معنى ما تقدم من كلام الحافظ .
الفائدة الرابعة : أن اختصار البخاري لخبر الحسن البصري أوقع بعض شراح البخاري ومسلم في وهم عظيم منهم النووي والكرماني وقبله ابن التين .
الفائدة الخامسة : أن الكرماني بعد ما نقل كلام ابن التين الذي يدل على أن الضميرين في أمنَّه وخافه يعودان على الله تعالى وأقره قال ما خافه أي خاف الله فحذف الجار وأوصل الفعل إليه .
قال محمد تقي الدين الهلالي : وهذه زلة نحوية عظيمة، لأن خاف يتعدى بنفسه فلا حاجة إلى تقدير الحذف قال تعالى : { وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175) } وقال تعالى : { يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ } وقال تعالى : { تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ } ومن ذلك تعلم أن العالم وإن عظم شأنه في العلم يقع في أخطاء فإياك والتقليد فالكمال لله تعالى .
---(15/68)
وهناك زلة أعظم منها وهي ادعائهم أن الضمير في أمنه وخافه يعود على الله والحق أنه يعود على النفاق . وليث شعري ما فائدة قول التجاني ( قدماي هاتان على رقبة كل ولي لله من لدن آدم إلى النفخ في الصور ) فإن أقل المؤمنين تواضعا وتأدبا مع الله ومع عباده المؤمنين لا تحدثه نفسه أن يضع قدمه منعولة أو حافية على قدم مؤمن آخر فكيف يضعها على رقبته أليس هذا غاية التحقير والإهانة وكيف يليق بمتصوف هذب نفسه وجاهدها حتى وصلت إلى الله بزعمه وطهرت من جميع الرعونات والرين والدرن أن يطأ رقاب الناس بقدميه وعهدنا بالمتصوفة كالشادلية مثلا أن يسموا أنفسهم تراب أقدام أهل الله فجاء التجانيون بعكس ذلك ألم يكفهم أنهم زعموا أن شيخهم خاتم الأولياء وسيد العارفين وممدهم وإمامهم حتى أرادوا أن يفرشوا له جميع أولياء الله الصالحين ليمشي على رقابهم بقدميه فلا إله إلا الله ماذا يبلغ الغرور بأصحابه . ولا نظن أبدا أن الشيخ عبد القادر الجيلاني قال ما نسبوه إليه وهو (قدمي هذه
على رقبة كل ولي لله ) فإنه كان إماما حنبليا صافي العقيدة، محدثا فقيها، من خيار عباد الله الصالحين، وهذه ترجمته في طبقات الحنابلة ليس فيها ما ذكر، ولا تشم منها رائحة لطلب الغلو والكبرياء، ولكن من قال على الله وعلى رسوله بلا علم فكيف يتورع أن يقول على الشيخ عبد القادر ما لم يقله . وإذا فرضنا أنه قال ذلك كان ماذا، فهو ليس بمعصوم وكل واحد يؤخذ من كلامه ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم .
المسألة السادسة
---(15/69)
ما نقله صاحب الجواهر وصاحب الرماح عن شيخهما أنه قال : إن مقامنا عند الله في الآخرة لا يصله أحد من الأولياء ولا يقاربه من كبر شأنه ولا من صغر وأن جميع الأولياء من عصر الصحابة إلى النفخ في الصور ليس فيهم من يصل مقامنا، يقال أن أمور الآخرة لا يجوز لأحد أن يخبر عنها إلا بدليل من كتاب الله أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أخبر بشيء منها بدون دليل فهو مردود بإجماع المسلمين ولا يساوي عند أهل العلم قلامة ظفر بل يعدونه من الكذب على الله وقد تقدم في المسائل الخمس ما يبطل هذه الدعوى بالأدلة القاطعة وأنوار الساطعة .
المسألة السابعة
في جوهر المعاني وسألته ( يعني أحمد التجاني ) عن تفضيل الصحابي الذي لم يفتح عليه وعن القطب من غير الصحابة، فأجاب بقوله اختلف الناس في تفضيل الصحابي الذي لم يفتح عليه على القطب من غير الصحابة فذهبت طائفة على تفضيل الصحابي الذي لم يفتح عليه على القطب من غير الصحابة وذهبت طائفة إلى تفضيل القطب والراجح تفضيل الصحابي على القطب بشاهد قوله صلى الله عليه وسلم : ( إن الله اصطفى أصحابي على سائر العالمين سوى النبيين والمرسلين ، وقوله صلى الله عليه وسلم : ( لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهب ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه ) وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم ( خير القرون قرني ثم الذين يلونهم الحديث ) انتهى باختصار .
قال محمد تقي الدين الهلالي هذا السؤال وجوابه من أعجب العجب والله المستعان على ما يصفون السؤال فاسد وجوابه أفسد منه فما معنى هذا الفتح الذي يحرم منه الصحابة ويناله
---(15/70)
غيرهم ؟ و الحديث الذي جاء في الجواب حجة على فساد السؤال والجواب، أخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي سعيد الخدري قال النبي صلى الله علية وسلم : ( لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه ) وقال تعالى بعد ذكر السابقين منهم واللاحقين { وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى } وأن القول بأن الصحابي كيفما كانت مرتبته من السابقين الأولين أو اللاحقين وكلا وعد الله الحسنى يجوز أن لا يفتح عليه والقطب الذي يأتي بعد زمن الصحابة وبعد القرون المفضلة يأتي في الأزمنة المذمومة على لسان النبي صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى يُفتح عليه تنقص ومسبَّة للصحابة وما هو هذا الفتح يا ترى ؟ فإن كان معرفة الله تعالى ونيل مراتب الإحسان العالية ومقامات المراقبة السامية فكيف يتفق هذا القول مع تعظيم الصحابة فكل فتح يُحرم منه الصحابيُّ ويناله شخص وُجد بعد القرون المفضلة فهو فتح شيطاني ووساوس وضلالات نعوذ بالله منها وقد تقدم الكلام في القطب وهو أنه لا وجود له كل الغول والعنقاء، كما قال الشاعر :
ولقد خبرت بني الزمان فلم أجد
فيهم جميع من أود وأصطفي
فعلمت أن المستحيل ثلاثة
الغول والعنقاء والخل الوفي
ومن ترك الكتاب والسنة وابتغى الهدى في غير كتاب الله أضله الله تعالى فلا غرابة إذا رأينا التجانيين يتناقضون فيما نقلوه عن شيخهم واعتقدوه من تفضيل الصحابة على غيرهم وعدم دخولهم في تلقي المدد الذي اخترعوه ونسبوه إلى دين الله تعالى وهو تخيلات وأوهام .
أمور يضحك السفهاء منها
ويبكي من عواقبها اللبيب
فالحمد لله الذي عافانا من هذا الهوس وأخرجنا من الظلمات إلى النور نسأله أن يديم علينا نعمة الإسلام واتباع كتابه ورسوله عليه الصلاة والسلام .
المسالة الثامنة
قال صاحب الرماح ناقلا عن شيخه التجاني أنه قال : ( وخصصت بعلوم بيني وبينه منه إلي مشافهة لا يعلمها إلا الله عز وجل بلا واسطة اهـ .(15/71)
---
أقول هذا الكلام لا يصح من وجوه :
أولها : أنه يلزم منه أن النبي صلى الله عليه وسلم كتم هذه العلوم عن الخلفاء الراشدين من كبار الصحابة في حياته وكتمها عن خيار أمته بعد ذلك وخبأها إلى أواخر القرن الثاني عشر وخص بها الشيخ التجاني والله تعالى يقول في سورة المائدة آية 67 : { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ } قال جلال الدين في تفسيره ما نصه، يا أيها الرسول بلغ : ( جميع ) ما أنزل إليك من ربك، ولا تكتم منه شيئا خوفا أن تُنال بمكروه وأن لم تفعل، أي لم تبلغ جميع ما أنزل إليك فما بلغت رسالته بالإفراد والجمع لأن كتمان بعضها ككتمان كلها اهـ .
قال الجمل في حاشيته قال ابن عطية أي وإن تركت شيئا فقد تركت الكل وصار ما بلغته غير معتد به فصار المعنى وإن لم تستوفي ما أمرت بتبليغه فحكمك في العصيان وعدم الامتثال حكم من لم يبلغ شيئا أصلا قال الكرخي قوله (جميع ما أنزل إليك ) أشار به إلى أن ما موصولة بمعنى الذي لا نكرة ما موصوفة لأنه مأمور بتبليغ الجميع كما قرره والنكرة لا تفي إذ تقديرها بلغ شيئا مما أنزل إليك ومن تم قالوا الدعوة مثل الصلاة إذا نقص منها ركن بطلت اهـ .
---(15/72)
ثانيا :أن يقال إما أن تكون هذه العلوم المكتومة فيها خير للأمة أو لا خير فيها فإن كان فيها خير فكيف يحرم النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه ومن بعدهم إلى أواخر القرن الثاني عشر من هذا الخير وهو الرؤوف الرحيم الذي ما ترك شيئا ينفع أمته إلا بينه لهم ورغبهم فيه ولا ترك شيئا يضرهم إلا حذرهم منه كما دلت على ذلك الأخبار الصحاح وأجمع عليه السلف الصالح قال تعالى في سورة النحل آية 44 : { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } وقد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أمره ربه به على أكمل وجه قال البخاري رحمه الله في تفسير آية المائدة التي تقدم ذكرها بسنده إلى عائشة رضي الله عنها ( من حدثك أن محمدا كتما شيئا مما أنزل الله عليه فقد كذب ) وهو يقول : { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ } وقد ذكر ابن كثير في تفسير سورة المائدة أحاديث في هذا المعنى لم أرى حاجة لذكرها .
ثالثها : إن يقال هذه العلوم التي اختص بها رسول الله صلى الله عليه وسلم الشيخ التجاني ما هي ؟ وهل علَّمها الشيخ تلامذته ومُريديه أم كتمها عنهم ؟ فإن علمهم إياها فأبرزوها لنا وإن لم يعلمهم إياها فما فائدتها وفي الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( اللهم إني أعوذ بك من قلب لا يخشع ودعاء لا يسمع ونفس لا تشبع وعلم لا ينفع ) .
---(15/73)
وفي صحيح البخاري عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قيل له : هل خصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم معشر أهل البيت بشيء فقال : ( والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما خصنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء إلا فهما يُعطاه رجل في كتاب الله وإلَّا ما في هذه الصحيفة فقرأت فإذا فيها العقل وفكاك الأسير وألا يُقتل مسلم بكافر ) فإن قيل قد صح عن حذيفة وأبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرهما بأمور كان يكتمانها فالجواب أن الذي أخبر به حذيفة أسماء المنافقين ولم يكن يكتمها عن جميع الناس إنما كان يكتمها عن عامة الناس بدليل قوله لعمر بن الخطاب رضي الله عنه حين سأله فقال أنشدك الله هل ذكر لك رسول الله صلى الله عليه وسلم اسمي في أسماء المنافقين فقال لا ولا أزكي بعدك أحد وإنما كتم حذيفة أسماء المنافقين لأن المفسدة التي في ذكرها تفوق المصلحة التي في كتمنها، ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح وأما أبو هريرة فقد أخبره النبي صلى الله عليه وسلم بالفتن التي تقع بعد وفاته صلى الله عليه وسلم فكان أبو هريرة يقول كما في صحيح البخاري ( حملت عن النبي صلى الله عليه وسلم وعاءين أما أحدها فبثثته لكم وأما الآخر فلو بثثته لقطع مني هذا البلعوم ) ومع ذلك باح به للخاصة فقال أعوذ بالله من حدود الستين وإمارة الصبيان وقد روى الأئمة الشيء الكثير من أخبار الفتن التي وقعت في زمن بني أمية عموما وخصوصا فثبت بذلك أن أبا هريرة لم يكن يكتمها عن الخاصة .
المسألة التاسعة
---(15/74)
قال صاحب الرماح نقلا عن من سأل شيخه : وسألته عن حقيقة الولاية فأجاب ما نصه : الولاية عامة وخاصة، فالعامة من آدم عليه السلام إلى عيسى عليه السلام والخاصة هي من سيد الوجود صلى الله عليه وسلم إلى الختم والمراد بالخاصة هي من اتصف صاحبها بأوصاف الحق الثلاثمائة على الكمال ولم ينقص منها واحداً إن لله ثلاثمائة خلق من اتصف بواحدٍ منها دخل الجنة وهذا خاص بسيد الوجود صلى الله عليه وسلم، ومن ورثه من أقطاب هذه الأمة الشريفة إلى الختم هكذا قال ونسبه إلى الحاتمي ثم قال سيدنا ولا يلزم من هذه الخصوصية التي هي الاتصاف بالأخلاق على الكمال أن يكونوا كلهم أعلى من غيرهم في كل وجه بل قد يكونوا من لم يتصف بها أعلى من غيره في المقام وأظنه يشير إلى نفسه وبعض الأكابر من أصحابه لأنه أخبره سيد الوجود صلى الله عليه وسلم بأن مقامه أعلى من جميع المقامات اهـ .
فأقول في هذا الكلام ضلالات :
الأولى : القول على الله بلا علم فإنه لم يذكر دليلا على ما قال لا من كتاب الله ولا من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا من علم الغيب الذي لا يجوز القول فيه بالرأي .
الثانية : أن مقتضى هذا الكلام أن الختم هو ابن عربي الحاتمي، وقد تقدم نقلهم عن ابن عربي الحاتمي أنه ادعى أنه خاتم الأولياء ثم تبين له أنه ليس كذلك وأن الختم سيأتي في أخر الزمان وقد اجتهد أن يعرف اسمه وبلده وفلم يستطع . والتجانيون يعتقدون أن شيخهم هو خاتم الأولياء وذلك تناقض .
الثالثة : ما هذه الأخلاق الثلاثمائة التي هي من أخلاق الله ومن تخلق بواحد منها دخل الجنة لماذا لم يبينها شيخهم لهم ليتخلقوا بها أم هي أيضا مكتومة فأي فائدة في ذكر عددها لهم ؟ .
---(15/75)
الرابعة : أن مقتضى هذا الكلام أن التجانيين وشيخهم خارجون عن الولاية العامة والخاصة إلا أنه قال راقعا للفتق لا يلزم أن يكن أهل الولاية الخاصة التي تنتهي عند ابن عربي الحاتمي أفضل من غيرهم لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر شيخهم أن مقامه أعلى من جميع المقامات وليث شعري كيف يكون لمن خرج عن ولاية الله العامة والخاصة مقام عال فضلا عن أن يكون أعلى من غيره . فهذا الكلام في غاية التناقض والاضطراب والله المستعان .
المسألة العاشرة
قوله في الرماح وهو موجود في الجواهر وفي سائر كتبهم كل الطرائق تدخل عليه - كذا - طريقتنا فتطبلها وطابعنا يركب على كل طابع ولا يحمل طابعنا غيره من ترك من أوراد المشايخ وردا لأجل الدخول في طريقتنا هذه المحمدية التي شرفها الله تعالى على جميع الطرق أمَّنه الله في الدنيا والآخرة فلا يخاف من شيء يصيبه لا من الله ولا من رسوله ولا من شيخه أيا كان من الأحياء أو من الأموات وأما من دخل زمرتنا وتأخر عنها ودخل غيرها تحل به المصائب دنيا وأخرى ولا يفلح أبدا قلت وهذا لأنه قد ثبت أول الفصل أن صاحبها ( يعني الشيخ التجاني ) هو الختم الممد الذي يستمد منه من سواه من الأولياء والعارفين والصديقين والأغواث ومن ترك المستمد ورجع إلى الممد فلا لوم عليه ولا خوف بخلاف من ترك الممد ورجع إلى المستمد .اهـ
قال محمد تقي الذين في هذا الكلام طوام عظيمة :
الأولى : أن الطرائق كلها بدعة وضلالة، ولا يجوز أخذ شيء منها لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( كل بدعة ضلالة ) ولما تقدم في قوله تعالى : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } وغير ذلك من الأدلة .
---(15/76)
الثانية : أن تلك قسمة ضيزى قسمها التجانيون بينهم وبين سائر الطرائق فجعلوا طريقتهم تدخل على جميع الطرائق فتبطلها ، ولا تدخل طريقة من الطريقة على طريقتهم فكأنها نسخت الطرائق ، وإن لم تنسخها فقد جعلتها في أسفل المنازل التي لا يرضى بها من له همة عالية وذلك على قول السموأل بن عاديا اليهودي :
وننكر أن شئنا على الناس قولهم *** ولا ينكرون القول حين نقول
وهذا حيف وجور على الطرائق .
الثالثة : أن تلك قسمة ضيزى قسمها التجانيون بينهم وبين سائر الطرائق فجعلوا تعالى لقوله . فلا يخاف من شيء يصيبه لا من الله ولا من رسوله ولا من شيخه أيا كان من الأحياء أو من الأموات والذي يجب على كل مسلم أن يعتقده أنه لا ينفع ولا يضر إلا الله وحده لا شريك له وأن النبي صلى الله عليه وسلم لا ينفع ولا يضر مع أنه أفضل خلق الله قال الله تعالى في سورة الأعراف آية 188 : { قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188) } فأنت ترى أن الله أمر نبيه أن يقول لجميع الناس أنه لا يملك لنفسه فضلا عن غيره نفعا ولا ضرا، بل المالك لذلك هو الله وحده لا شريك الله وأمره أيضا أن يقول لهم أنه لا يعلم الغيب فكيف أن يخاف أحد العقاب من المخلوق نبيا كان أو غير نبي .
الرابعة : كيف يتصور أن يعاقب الله الإنسان على ترك طريقة مبتدعة التزامُها شر
---(15/77)
من المعاصي لأن البدعة شر من المعاصي، لأن المعاصي يرتكبها صاحبها وهو يعلم أنها معصية، ولا ينوي أبدا التقرب إلى الله بها بل يرتكبها وهو خائف من الله إن كان مؤمنا إلا أن الغفلة والجهالة واتباع الهوى غلب خوفه من الله، ولذلك تراه يعترف بذنبه ويرجوا أن يتوب منه فترك الطريقة بالتوبة منها لا يدعو إلى الخوف بل يدعو إلى الأمل لأن الله تعالى يقبل التائبين من المعاصي والبدع ويغفر ذنوبهم .
أما الخوف من النبي صلى الله عليه وسلم فلا معنى له . أما أولا فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعطه تلك الطريقة ولا أخذ عليه فيها عهدا، بل أعطاه سنته وكتاب الله فنبذهما ظهريا وابتدع فأخذ الطريقة . وأما ثانيا : فلأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يقدر على ضر ولا نفع كما تقدم وأما شيخ الطريقة الذي أخذ عنه ذلك المريد الطريقة بواسطة أو بغير واسطة فكيف يستطيع أن يضر من ترك طريقته وهو فقير عاجز إذا كان حيا وإذا كان ميتا فهو أعجز ، ومن خاف شيخا غائبا أو ميتا فقد عبده من دون الله وأشرك بالله لأن خوف الله بالغيب عبادة، قال الله تعالى في سورة فاطر : { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } وكلما اشتد خوف العبد من الله علا مقامه ولذلك كان النبي صلى اله عليه وسلم أشد الناس خوفا من الله تعالى .
الخامسة أن الشيخ الذي يدعو الناس إلى طريقة مبتدعة ويضلهم بها لا ينبغي له إذا خرجوا من طريقته إن ينتقم منهم لأنهم تابوا إلى الله من البدعة ، هذا لو كان قادرا على الانتقام ، فكيف وهو عاجز ، فإن حبه للانتقام ممن ترك طريقته جريمة يضيفها إلى جريمته الأولى ، وهي اختراعه للطريقة ودعوته الناس إليها .
---(15/78)
السادسة : ادعائهم أن أخذ الطريقة التجانية ثم تركها تحل به المصائب دنيا وأخرى جرأة عظيمة على الله تعالى فمن أين علموا ذلك أمن الكتاب أم من السنة أم هو من وحي الشيطان ولو قال لهم قائل . إن من أخذ الطريقة التجانية تحل به المصائب دنيا وأخرى ولم يأتهم بدليل كما لم يأتوا بدليل لتصارع القولان وتساقطا ويفضل عند خصمهم البرهان القاطع على أن التمسك بالطريقة التجانية وتصديق ما جاء فيها بدع وضلالات بعضها يفضي إلى الكفر وكلها فيه إثم .
المسألة الحادية عشر
اعتقاد أن القرن الثاني عشر للهجرة يشبه القرن الأول الذي كان فيه النبي صلى الله عليه وسلم ، فقد قال إن القرن الذي فيه القطب المكتوم والبرزخ المحتوم والختم المحمدي المعلوم شيخنا أحمد بن محمد التجاني وذلك القرن هو القرن الثاني عشر من الهجرة المحمدية على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى السلام يشاكل قرنه صلى الله عليه وسلم من وجوه :
الأول : أن فيه خاتم الأولياء كما في قرنه خاتم الأنبياء .
الثاني : أن أتباع هذا الولي المجدد الخاتم يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالله وحده ويجاهدون الأمم الضالة كما يجاهدون النفس والهوى والشيطان الجهاد الأكبر ، قال الرسول صلى الله عليه وسلم رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر قالوا وما الجهاد الأكبر قال جهاد النفس والهوى .
الثالث : الإشارة إلى أن هذا القرن أفضل من جميع ما تقدم من القرون السالفة سوى القرون الثلاثة الوارد النص بأفضليتها ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ) الحديث . ثم فسر ذلك صلى الله عليه وسلم بقوله ( خير هذه الأمة أولها وآخرها ) ج 2 ص 20 ، قال محمد تقي الدين الهلالي في هذا الكلام نظر من وجوه :
---(15/79)
أولها لم يظهر لنا ولا نظن أنه يظهر لغيرنا أن القرن الثاني عشر الهجري يشبه القرن الذي كان فيه النبي صلى الله عليه وسلم بوجه من الوجوه ، إلا أنْ يقال أنّ بداية الدعوة المحمدية كان الإسلام فيها غريبا ، وكان أهله ضعفاء قليلا عددهم ، إلا أنهم في زيادة مستمرة وكان الإسلام يزداد قوة يوما بعد يوم حتى بلغ القمة في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم وأما القرن الثاني عشر فقد كان الإسلام فيه غريبا، وكان أهله ضعفاء وإن كان عددهم كثيرا وكانوا يزدادون ضعفا يوما بعد يوم ويمتاز القرن الثاني عشر بأن المنتسبين فيه إلى الإسلام كان أكثرهم لا يعرف من الإسلام إلا اسمه ، ولا من القرآن إلا رسمه وكان الشرك والبدع في غاية الظهور والانتشار، وكذلك الفجور والفسوق والمعاصي شائعة بدون تغيير، وأعداء الإسلام يزدادون قوة واستيلاء على بلاد المسلمين وبالخصوص في المغرب، الذي كان فيه الشيخ التجاني فقد بلغت فيه الدولة المغربية أسفل سافلي ، تكالب أعداء الإسلام من الخارج والفتن والثورات في الداخل فما أقل الشبه، بين زمان النور وزمان الظلام، وكان المغرب قد بدأ في الضعف والانحطاط من القرن الثامن الهجري حين بدأت الطرائق يكثر انتشارها، ويستولي شيوخها الجهال على عقول العامة، وقد كان المغرب قبل ذلك قاهرا لأعدائه، يغزوهم في عقر دارهم، وراياته منصورة، وأيامه في أعدائه مشهورة، فكان مستوليا على أكثر البلاد الإسبانية، فما زال يفقد أقاليمها واحدا بعد واحد . حتى بلغ في القرن الثاني عشر إلى هوة سحيقة، فأخذ يفقد ثغوره ويستولي عليها أعداؤه، أما الفتن الداخلية وكثرة القتل والنهب وسبي الذرية والنساء وإحراق القرى في أواخر القرن الثاني عشر وأوائل القرن الثالث عشر وهو الوقت الذي استقر فيه الشيخ أحمد التجاني في فاس وبنى زاويته، وانتشرت طريقته، فإنه دخل فاسا بنية الاستيطان والاستقرار، سنة ألف ومائتين وثلاث عشرة (1213 هـ) كما في جواهر
---(15/80)
المعاني الجزء الأول صفحة 37 ، والمدة التي أقامها الشيخ التجاني في فاس هي من ألف ومائتين وثلاث عشرة (1213) إلى ألف ومائتين وثلاثين (1230 هـ) إذ فيها توفي ودفن في وسط زاويته، وإذا أردت أن تعرف مقدار الشقاء الديني والدنيوي الذي كان مخيما على المغرب الأقصى وسائر المغارب، فاقرأ كتب التاريخ ومن أيسرها أسهلها كتاب "الاستقصاء في أخبار المغرب الأقصى" للناصري، ولولا كراهية الإطناب وضيق الوقت لنقلت هنا ما تقشعر منه الجلود، ولكن ما لا يدرك كله لا يترك قله، فلذلك أنقل لك من الكتاب المذكور، شيئا قليلا، على لسان ملك المغرب في ذلك الزمان، السلطان أبى الربيع سليمان بن محمد العلوي، رحمه الله، وكان من أحسن ملوك الدولة المغربية دينا وعقلا وحكمة وحسن سياسة، ولكن اتسع الخرق، قال صاحب الاستقصاء في الجزء الثامن صفحة 164 :
كان أمير المؤمنين المولى سليمان رحمه الله في هذه المدة قد سئم الحياة ومل العيش وأراد أن يترك أمر الناس لابن أخيه المولى عبد الرحمن بن هشام ويتخلى هو لعبادة ربه إلى أن يأتيه اليقين ، قال ذلك غير مرة، وتعددت فيه رسائله ومكاتيبه فمما كتب في ذلك هذه الوصية التي يقول فيها :
الحمد لله، لما رأيت ما وقع من الإلحاد في الدين واستيلاء الفسقة والجهلة على أمر المسلمين وقال عمر : إن تابعناهم تابعناهُم على ما لا نرضى وإلا وقع الخلاف، وأولئك عدول، وهؤلاء فساق، وقال عمر : فبايعنا أبا بكر فكان والله خير، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حق أبي بكر : يأبى الله ويدفع المسلمون، ورشحه بتقديمه للصلاة إذ هي عماد الدين .
---(15/81)
وقال أبو بكر للمسلمين : بايعوا عمر وأخذ له البيعة في حياته، فلزمت وصحت بعد موته وقال عمر هؤلاء الستة أفضل المسلمين وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم نِعم العبد صهيب، وقال أبو عبيدة أمين هذه الأمة، وقال ما أضلت الخضراء ولا أقلت الغبراء أصدق لهجة من أبي ذر ، وقال في أبي بكر وعمر أكثر من هذا فصار المدح للتعريف واجبا ولإظهار حال الرجل لينتفع به ، فأقول جعله الله خالصا لوجهه الكريم ما أظن في أولاد مولانا الجد عبد الله، ولا في أولاد سيدي محمد والدي رحمه الله، ولا أولاد أولاده أفضل من مولاي عبد الرحمن بن هشام ولا أصلح لهذا الأمر منه لأنه إن شاء الله حفظه الله لا يشرب الخمر ولا يزني ولا يكذب ولا يخون ولا يقدم على الدماء والأموال بلا موجب ولو ملك مُلك المشرقين لأنها عبادة صهيبية ويصوم الفرض والنفل، ويصلي الفرد والنفل .
وإنما أتيت به من (الصويرة) ليراه الناس ويعرفوه وأخرجته من (تافيلالت) لأُظهره لهم، لأن الدين النصيحة، فإن اتبعه أهل الحق صلح أمرهم كما صلح سيدي محمد جده وأبوه حي، ولا يحتاجون إليَّ أبدا، ويغبطه أهل المغرب ويتبعونه إن شاء الله اهـ بلفظه .
ومنه تعلم أن القرن الثاني عشر الهجري، كان من شر القرون .
فالعجب من صاحب الرماح كيف يشبهه بقرن النبي صلى الله عليه وسلم، وفي الحديث الصحيح (كل يوم ترذلون) وفيه (لا يأتي يوم إلا والذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم) سمعته من نبيكم صلى الله عليه وسلم . أما دعوى ختم الأولياء فقد تقدم بطلانها فالأولياء بالمعنى الذي أراد صاحب الرماح لا وجود لهم في الحقيقة، وإذا لم يوجدوا فلا خاتم لهم .
أما الأولياء المؤمنون المتقون فليس لهم خاتم .
---(15/82)
أما حديث (رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر) وحديث (خير أمتي أولها وآخرها) فلا يصح منهما شيء، وسيأتي تحقيق الكلام عليهما في الفصل الذي نعقده لتخريج الأحاديث التي ذكرها صاحب الرماح في ما ننقله عنه إن شاء الله تعالى .
استدراك
فاتني الكلام على مسألة رتبها صاحب الرماح على حديث لا يصح وذلك قوله فيما نقله عن ابن عربي الحاتمي (فكل نبي من لدن آدم إلى آخر نبي ما منهم أحد يأخذ النبوة إلا من مشكاة خاتم النبيين وإن تأخر وجود طينته فإنه بحقيقته موجود وهو قوله كنت نبيا وآدم بين الماء والطين) . ص 11 ج 2
أي لم يكمل بدنه العنصري بعد فكيف من دونه من أنبياء أولاده، وبيان ذلك أن الله تعالى لما خلق النور المحمدي كما أشار صلى الله عليه وسلم بقوله : (أول ما خلق الله تعالى نوري) جمع في هذا النور المحمدي جميع أرواح (الأنبياء والأولياء، جمعا أحديا قبل التفضيل في الوجود العيني وذلك في مرتبة العقل الأول إلى آخر ما قال مما تقدم ص 11 ج 2 .
---(15/83)
قال محمد تقي الدين الهلالي هذه الأسطورة التي اخترعها ابن العربي الحاتمي، واستغلها صاحب الرماح وأهل طريقته مبنية على حديثين لو كانا صحيحين لم تكن فيهما دلالة على ما زعم، لإن النبوة فضل من الله تعالى يؤتيها من يشاء من عباده وليست بيد مخلوق فلا تتوقف نبوة نبي على نبي آخر، والنبي صلى الله عليه وسلم هو أفضل الأنبياء وخاتمهم لا يعرف جميع الأنبياء ولا جميع الرسل، قال الله تعالى في سورة المؤمنون آية 78 : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ } والأحاديث الواردة في عدد الأنبياء والرسل حكم على المشهور منها ابن الجوزي بالوضع، وقد رويت من طرق ضعيفة ومتونها مضطربة ففي بعضها أن عدد الأنبياء مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا منهم ثلاثمائة وخمسة عشرة رسولا وفي بعض الروايات ثلاثة بدل خمسة عشر وفي بعضها بعث الله ثمانية ألف نبي، أربعة آلف إلى بني إسرائيل، وأربعة آلف إلى سائر الناس وفي بعضها أن عددهم ألف نبي، وفي بعضها ألف ألف نبي، وقد ذكر هذه الروايات وغيرها الحافظ ابن كثير في تفسير قوله تعالى من سورة النساء آية 164: { وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ } وإذا لم بثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعرف جميع الأنبياء فكيف يكون واسطة في نبوتهم ولا يعرفهم، أما زعمهم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان نبيا وآدم بين الماء والطين، فقد قال السخاوي في المقاصد الحسنة، وما اشتهر على الألسنة بلفظ (كنت نبيا وآدم بين الماء والطين) لم أقف عليه اهـ وقد جاءت أحاديث بمعناه، منها ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (كنت نبيا وآدم بين الروح والجسد) رواه الترمذي والحاكم وصححاه من حديث أبي هريرة، ومعناه أنه كان مكتوبا عند الله نبيا وهذا التفسير هو من تفسير الحديث بالحديث فقد روى(15/84)
---
ابن حبان والحاكم في صحيحيهما عن العرباض بن سارية مرفوعا (إني عند الله لمكتوب خاتم النبيين وإن آدم لمجندل في طينته) ويزيدك وضوحا قوله تعالى في آخر سورة الشورى : { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ } وفي تفسير الجلالين ما نصه، { 7د9؛xx.ur } أي مثل إيحائنا إلى غيرك من الرسل { أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ } يا محمد روحا، هو القرآن به تحيا القلوب، من أمرنا، الذي نوحيه إليك، ما كنت تدري، تعرف قبل الوحي إليك، ما الكتاب، القرآن، ولا الإيمان، أي شرائعه ومعالمه، والنفي معلق للفعل عن العمل، أو ما بعد سد مسد المفعولين، وقال الإمام بن جرير الطبري أفضل المفسرين بعد الصحابة في تفسير هذه الآية ما نصه :
---(15/85)
وقوله : { مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ } يقول جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ما كنت تدري يا محمد، أي شيء الكتاب ولا الإيمان، اللذين أعطيناكهما، ولكن جعلناه نورا، هذا القرآن وهو الكتاب نورا يعني ضياءا للناس، يستضيئون بضوئه الذي بين الله فيه، وهو بيانه الذي فيه مما لهم فيه من العمل به الرشاد، ومن النار النجاة { نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا } يقول نهدي به من نشاء هدايته إلى الطريق المستقيم من عبادنا . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل ذكر من قال ذلك، ثم روى بسنده إلى السدي، قال { مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ } يعني محمدا صلى الله عليه وسلم، { وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا } يعني القرآن، وقال جل ثناؤه : { وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ } فوحد الهاء، وقد ذكر قبل الكتاب والإيمان، لأنه قصد به الخبر عن الكتاب . وقال بعضهم عنى به الإيمان والكتاب، ولكن وحد الهاء لأن الأسماء الأفعال يجمع جميعها الفعل كما يقال؛ إقبالك وإدبارك يعجبني، فيوحد وهما اثنان انتهى بلفظه .
---(15/86)
وقال الإمام البغوي في تفسيره لهذه الآية ما نصه : { 7د9؛xx.ur } أي كما أوحينا إلى سائر رسلنا، { أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا } قال ابن عباس نبوة قال الحسن رحمة وقال السدي ومقاتل وحيا، وقال الكلبي كتابا وقال الربيع جبريل، وقال مالك بن دينار يعني القرآن : { مَا كُنْتَ تَدْرِي } قبل الوحي، { مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ } يعني شرائع الإيمان ومعالمه، قال محمد بن إسحاق بن خزيمة الإيمان في هذا الموضع الصلاة ودليله قوله تعالى : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } وأهل الأصول على أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كانوا مؤمنين قبل الوحي، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قبل الوحي على دين إبراهيم ولم يتبين له شرائع دينه { وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا } قال ابن عباس يعني الإيمان .
فقد علمت من كلام هذين الإمامين ومن نقلا عنهم من أئمة التفسير من السلف الصالح أن النبي صلى الله عليه وسلم، لم يكن نبيا إلا بعد نزول الوحي عليه، فادعاء أنه كان نبيا بالفعل قبل أن يولد ويوجد جسده الشريف من أبين الباطل، ويدل على ذلك حديث بدء الوحي، وأدلة لا تعد ولا تحصى .
---(15/87)
منها؛ قوله تعالى في سورة الضحى : { وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) } فمعناه شبيه بمعنى آية سورة الشورى، كما قال الحافظ ابن كثير، وأما الحديث ( أول ما خلق الله نوري ) فقد قال السيوطي في الحاوي ج 1 ص 325 : ليس له إسناد يعتمد عليه، قال الغماري في المغير على الجامع الصغير وهو حديث موضوع، لو ذكر بتمامه لما شك الواقف عليه في وضعه وبقيته تقع في نحو ورقتين كبيرتين مشتملتين على ألفاظ ركيكة ومعان منكرة . وبذلك يتهدم كل ما بناه الحاتمي على هذا الحديث الموضوع، وانتهبه التجانيون من الحاتمي وفرحوا به وبنوا عليه قصر ختم الأولياء وأمدادهم وتفضيل أنفسهم على الأمة كلها، ما عدا الصحابة ولم يشعروا أنهم بنوا قصرهم على جرف هار فانهار بهم . وقول الحاتمي بناء على ما استنبطه من الحديث الموضوع، جمع الله في هذا النور المحمدي جميع أرواح الأنبياء جمعا أحديا قبل التفضيل في الوجود العيني . قال محمد تقي الدين : أقول له وبالله التوفيق؛ الحديث الذي بنيت عليه هذا التقول موضوع ولو صح ما دل على ما زعمت فمن أين لك أن جميع أرواح الأنبياء والمؤمنين الذين تسميهم أولياء كانت في أول خلقها مجموعة جمعا أحديا لا تفضيل فيه ولا تعيي ، فقولك هذا رجم بالغيب وكذب على الله، وظواهر الكتاب والسنة تدل على خلافه قال تعالى في سورة آل عمران آية 59 : { إِن مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60) } ( 60 ) وقال تعالى في سورة ص آية 71 ، 72 : { إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72) } . وفي تفسير الجلالين عند هذه الآية ما نصه : { إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71)(15/88)
---
} هو آدم { فَإِذَا سَوَّيْتُهُ } أتممته { M÷‚xےtRur } أجريت { فِيهِ مِنْ رُوحِي } فصار حيا وإضافة الروح إليه تشريف لآدم والروح جسم لطيف يحيا به الإنسان بنفوذه فيه { فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72) } سجود تحية بالانحناء اهـ .
وفي حديث الشفاعة الذي أخرجه البخاري وغيره، أن الناس يذهبون إلى آدم فيقولون أنت أبو البشر خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأسجد لك ملائكته اشفع لنا عند ربنا . الحديث، وهذا خلاف ما زعم ابن عربي الحاتمي وأخذه منه التجانيون كأنه تنزيل من حكيم حميد . وقوله : ( وذلك في مرتبة العقل الأول ثم تعينت الأرواح في مرتبة في اللوح المحفوظ الذي هو النفس الكلية الخ ) اهـ .
تعبيره بالعقل الأول والنفس الكلية من عبارات الفلاسفة اليونانيين وهم أجهل الناس بالله تعالى وبرسوله وبكتبه، وقد كانوا وثنيين، فالعقل الأول لا وجود له في الحقيقة كما لا وجود لمسماه وهو الأرواح المجموعة جمعا أحديا قبل التفضيل والتفضيل العين ، أما اللوح المحفوظ فالذي يجب على كل مسلم أن يعتقده، هو ما فسره به رسول الله صلى الله عليه وسلم والمفسرون الأولون من الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان، وقد ذكر المفسرون فيه أقوالا نقتصر منها على ما ذكره الحافظ ابن كثير نقلا عن الطبراني بسنده إلى ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن الله تعالى خلق لوحا محفوظا من درة بيضاء صفحاتها من ياقوتة حمراء قلمه من نور وكتابه نور، لله فيه كل يوم ستون وثلاثمائة لحظة، يخلق ويرزق ويميت ويحيي ويعز ويدل ويفعل ما يشاء .
---(15/89)
أما تفسيره بكلام الفلاسفة الكفرة الجاهلين بدين الله فهو من الإلحاد في كلام الله والنفس الكلية لاوجود لها في الأعيان، وإنما توجد في الأذهان فهي من التخيلات التي لا حقيقة لها، وهذا الهوس وأمثاله يسمونه علوم العارفين، فما هي علوم الجاهلين إذا ؟ والذي جرأ هؤلاء على اختراع هذه الوساوس وإيهام الناس أنها من الدين خُلو الأوطان التي كانوا يبثُّون فيها ضلالهم من علماء الكتاب والسنة الذين ينفون عن دين الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين وفي مثل ذلك ينشد :
خلا لك الجو فبيضي واصفري ونقري ما شئت أن تنقري
لا بد من أخذك يوما فاحذري
وبقية كلامه يُعرف بطلانها مما سبق، أما زعمه أن خاتم الأولياء كان بالفعل عالما بولايته وآدم بين الماء والطين الخ (1)
__________
(1) وانظر تفصيل حكم الأولياء في كتاب : " الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان " وقد طبعه المكتب الإسلامي طبعة محققة .
---(15/90)
تقدم بطلان المقيس عليه، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يعرف أنه نبي إلا بعد أن أنزل الله عليه القرآن، وإذا بطل المقيس عليه فالمقيس أولى بالبطلان، يضاف إلى ذلك أن الشيخ أحمد التجاني حسبما في كتب التجانيين، وخصوصا جواهر المعاني كان ينتقل من طريقة إلى أخرى وهو في بلاد المغرب، وكذلك فعل حين سافر إلى المشرق ولم يُفتح له في أي طريقة، فلو كان يعلم أنه خاتم الأولياء من الوقت الذي كان فيه آدم بين الماء والطي ، ما أخذ تلك الطرائق كلها واستمر في كل واحدة منها برهة من الزمان حتى يئس أن يُفتح عليه فيها ثم انتقل إلى غيرها وهكذا دواليك بل كان يمكث بدون طريقة يعبد الله حتى يصل إلى مرتبته التي هو على يقين أنه يصل إليها وهي الختمية التي تدَّعونها له، ولا يعلم إلا الله هل ادعاها لنفسه كما تزعمون أم هو برئ من هذه الدعوى كما يقتضيه قوله، ما جاءكم عني فاعرضوه على كتاب الله وسنة رسوله، فما وافق فهو عني سواء قلته أم لم أقله، وما خالف فليس عني سواء قلته أم لم أقله، ومن كان معظما له محسنا للظن به لابد أن ينفي عنه تلك الأباطيل والله المستعان .
وليكن هذا الاستدراك ( المسألة الثانية عشرة )
المسالة الثالثة عشرة
---(15/91)
قال صاحب الرماح في صفحة (30) نقلا عن شيخه أنه قال : ( أعطاني الله في السبع المثاني ما لم يعطه إلا للأنبياء ) قال محمد تقي الدين، ماذا أعطاه الله في السبع المثاني فالسبع المثاني هي الفاتحة على الراجح من أقوال المفسرين، بل على ما فسره النبي صلى الله عليه وسلم نفسه، كما في البخاري ومسلم فهل هذا الذي أعطاه الله بزعمكم من العلوم النافعة أو من العلوم الضارة أو من العلوم التي لا نفع فيها ولا ضرر، فإن كان من العلوم النافعة فهو علمكم إياه أو كتمه عنكم فإن علمكم إياه فما هو ؟ وإن لم يعلمكم إياه بل كتمه عنكم فإنكم جعلتموه داخلا في من كتم العلم النافع وفي ذلك وعيد شديد، وهو لعن الله تعالى للكاتم والملائكة والناس أجمعين كما في سورة البقرة رقم 159 : { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) } وروى أحمد من حديث أبي هريرة مرفوعا ( من كتم علما ألجمه الله بلجام من نار ) أو كما قال عليه الصلاة والسلام، وإن كان من القسمين الآخرين فلا ينبغي أن يُتَبجح به لأن الجهل به خير من معرفته .
المسالة الرابعة عشرة
ونقل صاحب الرماح عن شيخه التجاني أنه قال في صفحة 30 ما نصه ( أعطاني الله تعالى الشفاعة في أهل عصري من حين ولادتي إلى حين مماتي ) ثم نقل ذلك عن مؤلف "جواهر المعاني" علي حرازم وفيه : وزيادة عشرين سنة بعد وفاته اهـ .
---(15/92)
قال محمد تقي الدين، تقدم أن الشيخ أحمد التجاني ولد سنة (1150) وتوفي سنة (1230) للهجرة وبزيادة عشرين سنة يكون الحاصل أن جميع بني آدم الموجودين في الدنيا من سنة ألف ومائة وخمسين إلى سنة ألف ومائتين وخمسين كلهم يدخلون الجنة بلا عذاب بشفاعة الشيخ التجاني ومدة هذه الشفاعة مائة سنة، ولم يشترط صاحب الرماح ولا من نقل عنه أن يكونوا مسلمين، فلا ندري هل الشرط معتبر عندهم أو غير معتبر، وأظن أنه يبعد أن يراد جميع الناس مسلمهم وكافرهم، لما يلزم عليه من تعطيل الشريعة ومن الشناعة العظيمة، وإذا فرضنا أن المراد بهم المسلمون فقط، يكون ذلك في غاية البطلان لأن هذا الفضل لم يحصل للنبي صلى الله عليه وسلم، الذي هو سيد الشفعاء على الإطلاق وبيان ذلك ما أخرجه البخاري في كتاب الوضوء من صحيحه، عن ابن عباس قال : مر النبي صلى الله عليه وسلم بحائط من حيطان المدينة، فسمع صوت إنسانين يعذبان في قبورهما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (يعدبان وما يعدبان في كبير ، ثم قال بلى، كان أحدهما لا يستتر من بوله، وكان الآخر يمشي بالنميمة) ثم دعا بجريدة فكسرها كسرتين فوضع على كل قبر منها كسرة، فقيل له يا رسول الله لم فعلت هذا قال: (لعله أن يخفف عنهما ما لم ييبسا)، ومن ذلك تعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يُشفِّعه الله تعالى في أهل عصره لا في كافرهم ولا في مسلمهم، وعمره الشريف (63) سنة، وعمر الشيخ التجاني كان نحو (80) سنة، وزعموا أن الله زاد عشرين سنة فبلغت مائة سنة، لا نعلم أن الله أعطى هذه المزية خير خلقه محمدا صلى الله عليه وسلم، وهي الشفاعة في جميع الناس على التفصيل المتقدم ولو ليوم واحد فكيف بشهر ؟ فكيف بسنة ؟ فكيف بمائة سنة ؟ إن هذه الدعوة مناقضة لقواعد الإسلام، وفيها جرأة عظيمة على الله، وبعد عن خشيته، ولم يسبق إليها أحد من خلق الله، وسيجيء إن شاء الله حديث : ( يا فاطمة بنت محمد سليني ما شئت وأنقذي نفسك من(15/93)
---
النار لا أغني عنك من الله شيئا )؛ يأتي ذلك أن شاء الله تعالى في الفصل الذي نعقده في فضل المتعلقين بالشيخ التجاني .
لا يقال أن الإنسانين الذين سمع النبي صلى الله عليه وسلم صوتهما كانا كافرين، لأن نقول قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري ما نصه ( وأما حديث الباب فالظاهر من مجموع طرقه أنهما كانا مسلمين )، ففي رواية ابن ماجة ( مر بقبرين جديدين ) فانتفى كونهما في الجاهلية وفي حديث أبي أمامة عند أحمد أنه صلى الله عليه وسلم مر بالبقيع قال : ( من دفنتم اليوم ههنا )، فهذا يدل على أنهما كانا مسلمين، لأن البقيع مقبرة المسلمين والخطاب للمسلمي ، مع جريان العادة بأن كل فريق يتولاه من هو منهم ، ويقوي كونهما مسلمين رواية أبي بكرة عند أحمد والطبراني بإسناد صحيح ( يعذبان وما يعدبان في كبير ) (1) وبلى وما يعدبان إلا في الغيبة والبول، فهذا الحصر ينفي كونهما كانا كافرين،
__________(15/94)
(1) وتمام الحديث في جـ / 5 صفحة 266 من مسند الإمام أحمد بن حنبل ، طبع المكتب الإسلامي هو : (( ..عن أبي أمامة قال : مر النبي صلى الله عليه وسلم في يوم شديد الحر نحو بقيع الغرقد ، قال : فكان الناس يمشون خلفه ، قال : فلما سمع صوت النعال وقر ذلك في نفسه ، فجلس حتى قدَّمهم أمامه لئلا يقع في نفسه من الكبر ؛ فلما مر ببقيع الغرقد إذا بقبرين قد دفنوا فيهما رجلين ؛ قال : فوقف النبي صلى الله عليه وسلم فقال : من دفنتم هنا اليوم ؟ قالوا يا نبي الله فلان وفلان . قال : إنهما ليعذبان الآن ويفتنان في قبريهما . قالوا : يا رسول الله فيم ذاك ؟ قال أما أحدهما فكان لا بتنزه من البول ؛ وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة . وأخذ جريدة رطبة ؛ فشقها ؛ثم جعلها على القبرين . قالوا : يا نبي الله ؛ ولم فعلت ؟ قال ليخففن عنهما . قالوا يا نبي الله ؛ وحتى متى يعذبهما الله ؟ قال : غيب لا يعلمه إلا الله ؛ قال ولولا تمريغ قلوبكم أو تزيدكم في الحديث لسمعتم ما أسمع )) .
---
لأن الكافر وإن عذب على ترك أحكام الإسلام فإنه يعذب على الكفر بلا خلاف اهـ .
المسألة الخامسة عشرة
قال صاحب الرماح صفحة ( 32 ج 2 ) ما نصه عن شيخ التجاني أن النبي أخبره بقوله عليه الصلاة والسلام بعزة ربي يوم الاثنين ويوم الجمعة لم أفارقك فيهما من الفجر إلى الغروب ومعي سبعة أملاك وكل من رآك في اليومين تكتب الملائكة اسمه في ورقة من ذهب ويكتبونه من أهل الجنة اهـ .(15/95)
قال محمد تقي الدين : لا يستطيع أحد أن يعتقد هذا الخبر إلا إذا تجرد من العقل والدين والمروءة، لأن الله سبحانه وتعالى يقول في سورة الزخرف آية (72) : { وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) } ورؤية الشيخ ليست من العمل في شيء؛ ولم يثبت هذا للنبي صلى الله عليه وسلم بقرآن ولا حديث صحيح أو ضعيف؛ فإن الكفار والمنافقين كانوا يرونه كل يوم ولم ينفعهم ذلك فلا أنجاهم من عذاب اله ؛ ولا جعلهم من أهل الجنة؛ بل دعاؤه لهم أخبر الله تعالى أنه لا ينفعهم قال الله تعالى في سورة التوبة آية (80) : { اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (80) } .
المسألة السادسة عشرة
روى صاحب الرماح عن شيخه التجاني أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم حين أعطاه الطريقة وأمره أن يلقنها الناس ما نصه : أنه ما تنزل إلى إفادة الخلق بعد ما خبره صلى الله عليه وسلم بذلك إلا بعد قوله للنبي صلى الله عليه وسلم ، إن كنت بابا لنجاة كل عاص مسرف على نفسه تعلق بي فنعم وإلا فأي فضل لي، فقال صلى الله عليه وسلم أنت باب لنجاة كل عاص تعلق بك وحينئذ طابت نفسه لذلك . قال محمد تقي الدين : في هذا الكلام أمور تدل على بطلانه .
---(15/96)
أولهما : أن الله سبحانه وتعالى جعل لكل عاص مسرف على نفسه بابا ليس عليه بواب ولا حرس ولا يتوقف على أحد من البشر وهو باب التوبة؛ وفي الحديث الصحيح أنه مفتوح حتى تطلع الشمس من مغربها؛ وفي ذلك يقول الله سبحانه في سورة الزمر ؛ آيات : ( 53، 54 55 ) : { * قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (55) } ففي هذه الآيات إرشاد من الله تعالى لجميع العصاة المسرفين على ما يجب عليهم أن يفعلوه لتغفر ذنوبهم .
فأول ذلك : أن يتوبوا إلى الله تعالى توبة نصوحا بشروطها وقد تقدم ذلك .
ثانيها : أن ينيبوا إلى الله تعالى ويسلموا له أنفسهم ويعملوا بطاعته ويتبعوا رضوانه وإلا جاءهم العذاب ولم يجدوا من ينصرهم أو يدفعه عنهم .
---(15/97)
ثالثها : أن يتبعوا كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ وإلا جاءهم العذاب بغتة وهم لا يشعرون؛ ولا يصح لهم الإتباع إلا بترك البدع؛ والطرائق كلها؛ ومنها الطريقة التجانية من أقبح البدع؛ وادعاء أن بعض البشر باب لنجاة كل عاص مسرف على نفسه بدعة وتكذيب للقرآن؛ والنبي صلى الله عليه وسلم وهو أفضل خلق الله ليس بابا لنجاة كل عاص مسرف على نفسه إلا إذا وحد الله تعالى واتبع الرسول . وبيان ذلك أن أبا طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب النبي صلى الله عليه وسلم حبا عظيما أكثر من محبته لأولاده؛ وقاسى الشدائد في الدفاع عنه؛ وكان النبي صلى الله عليه وسلم حريصا على نجاته؛ ولكنه لما أبى أن يقول (( لا إله إلا الله )) لم يستطيع النبي صلى الله عبيه وسلم أن ينجيه من عذاب الله وقد أخبر أنه يكون في ضحضاح من النار يصل إلى كعبيه يغلي منه دماغه؛ وفي صحيح البخاري قصة وفاة أبى طالب على الكفر واستغفار النبي صلى الله عليه وسلم له إلى نهاه الله عن ذلك بقوله عز وجل في سورة التوبة آية (113) : { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113) } ولما مات أبو طالب على الكفر حزن عليه النبي صلى الله عليه وسلم حزنا شديدا فأنزل الله تعالى عليه : { إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56) } وقد تقدم الكلام في ذلك .
---(15/98)
الأمر الثاني : أن الله تعالى قد أكمل الدين وبلغه رسوله البلاغ المبين ولم يبق شيء منه خافيا ولا مكتوما، فكيف يقول له النبي صلى الله عليه وسلم أرشد الناس، وقد قال الله ذلك في كتابه؛ وقاله ولغيره رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديثه . فمن ذلك قوله تعالى في سورة يوسف في آخرها : { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108) } وقال النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته في حجة الوداع : ( ليبلغ الشاهد الغائب ) وقد فعلوا ما أُمروا به فلم تبق حاجة إلى أمر جديد لأنه يكون من تحصيل الحاصل وهو محال .
الأمر الثالث : كيف يتصور أن يأمر النبي صلى الله عليه وسلم مسلما صادقا في إسلامه محبا للرسول صلى الله عليه وسلم معظما له بأمر فيقول له أنا لا أفعل هذا الأمر إلا بشرط . هذا لو كان ذلك الشرط صحيحا؛ فكيف وهو شرط باطل يهدم قواعد الدين . وفي ذلك من سوء الأدب ما ينزه عنه أقل المؤمنين إيمانا؛ فكيف بسيد الأولياء على زعمكم .
الأمر الرابع : أن النجاة التي اشترطها الشيخ التجاني بزعمهم على النبي صلى الله عليه وسلم هي بيد الله وحده وليست في يد النبي صلى الله عليه وسلم حتى يهبها للتجاني أو يمنعه منها ؛ وقد تبين بطلان هذه الحكاية من أساسها والحمد لله رب العالمين .
المسالة السابعة عشرة
---(15/99)
زعم صاحب الرماح ؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم تفضل على شيخه التجاني بدائرة الإحاطة؛ التي هي خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم وبمقامه، ومن بحرها تفضل عليه مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكنز المطلسم الذي هو خاص به صلى الله عليه وسلم وبمقامه . ومن بحرها تفضل عليه مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخريدة الفريدة؛ التي هي خاصة به صلى الله عليه وسلم؛ ومن بحرها تفضل عليه مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم بإطلاقه رضي الله تعالى عنه في إعطاء جميع أوراده من الإسم الأعظم الكبير وما دونه لمن شاء؛ ومنعها ممن شاء؛ ومضى إلى أن قال : ( إنه لما كان دائرة الإحاطة الذي هو الساري في جميع أسماء الله تعالى الظاهرة والباطنة والاسم الذي لا يُلقَّنه إلا القطب وهو الكنز المطلسم الذي ما أُنزل في القرآن ولا في جميع الكتب الإلهية مثله ) انتهى بلفظه صفحة 33 .
---(15/100)
أقول تقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعطي ولا يمنع؛ وإنما هو مبلِّغ عن الله تعالى؛ وقد بلغ أمته البلاغ المبين وما ترك شيئا يقربهم من الله تعالى إلا بينه لهم قبل وفاته؛ ولا ترك شيئا يبعدهم عن الله إلا حذرهم منه؛ وهذه الأسماء المذكورة هنا ليس لها مسميات؛ وإنما اخترعت وذكرت تهويلا على الجاهلي ؛ وإرهابا لهم وتخديرا لأعصابهم ليزدادوا خضوعا وطاعة ويعبدوا شيخهم بغاية الإخلاص فهي كالغول والعنقاء؛ وأسماء الله تعالى توقيفية؛ ولا يجوز أن يسمى الله إلا بما سمى به نفسه أو سماه به رسوله صلى الله عليه وسلم؛ ومن سمى الله باسم لم يرو ويصح عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو من الذين يلحدون في أسماء الله سيجزون ما كانوا يعملون؛ وقد اطلعت على كلمتين خنفشاريتين في كتاب مخطوط للشيخ المختار الكنتي؛ زعم أنها اسم الله الأعظم ثم بعد ذلك أعطاني الشيخ أحمد سكيرج هاتين الكلمتين وأخبرني أنهما اسم الله الأعظم؛ فعلمت أن تلك الكلمتين تدوران عند جميع أصحاب الطرائق؛ ويتشددون في إعطائهما ويهولون أمرهما حتى أنني حين خرجت من الطريقة التجانية زعم بعض التجانيين أن الشيخ سكيرج حين أعطاني الإسم الأعظم اشترط علي ألا أذكره في كل يوم إلا مرات معدودة فلم أف له بشرطه وذكرته أكثر مما حدد لي فسلبت . إلى هذا الحد بلغ بهم الجهل؛ وقد صدقوا؛ فإني سلبت الشرك والبدعة والضلالة؛ ورزقت التوحيد واتباع السنة والعلم المستند إلى كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولا يجوز إطلاق ذلك الإسم على الله تعالى؛ ومن أطلقه عليه فهو ضال ملحد في أسماء الله تعالى؛ فإن قلت أيها القارئ ما معنى قولك خنفشاريتين ؟ فالجواب : أن جماعة من الأدباء زارهم رجل كذاب محتال إلا أنه كان فصيح اللسان؛ وادعى لهم أنه من أهل العلم فما سألوه عن مسألة إلا أفاض في جوابها ارتجالا بما حير ألبابهم . فقال أحدهم : تعالوا نمتحنه لنعلم صدقه من كذبه؛ وكانوا ستة؛
---(15/101)
فقالوا : ليكتب كل واحد منا حرفا ثم نجمعها فتصير كلمة ونسأله عن معناها . فكتب كل واحد منهم حرفا ثم جمعوا الأحرف فتألفت منها كلمة هي ( خنفشار ) فقالوا أيها الأديب هل تعرف الخنفشار ؟ فقال نعم هو نبات يطول إلى مقدار ذراع وله أوراق مستديرة؛ وفيه لبن وهو صالح يوضع في اللبن الحليب فيحسن طعمه؛ وتطيب رائحته قال الشاعر :
لقد حلت محبتكم بقلبي كما نفع الحليب الخنفشار
وله خواص طبية ونقل عن الأطباء اليونانيين منافع كثيرة لهذا النبات؛ ثم قال : وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوضع أحدهم يده على فمه؛ وقال أيها الرجل حسبك بهتانا؛ كذبت على علماء اللغة وعلى الشعراء وعلى الأطباء والآن تريد أن تكذب على النبي صلى الله عليه وسلم؛ فصاروا يسمون كل كلمة مهملة؛ مثلوا لذلك؛ بديز؛ مقلوب زيد؛ وهذه الألفاظ التي ذكرها صاحب الرماح ليست مهملة ولكنها وضعت لمعان غير المعاني التي يريد أن يحملها إياها صاحب الرماح؛ أما ما يزعمون أنه الإسم الأعظم فهو كاخنفشار تماما؛ وكيف يمكن أن يتفضل النبي صلى الله عليه وسلم على الشيخ التجاني بما هو خاص به؛ فحينئذ لا يكون خاصا به؛ فإن خصائصه عليه الصلاة والسلام لا يجوز أن تكون لغيره أبدا لأن الله خصه بها؛ ولو أعطاها غيره لزالت الخصوصية ولكن هؤلاء القوم يزعمون أن علومهم خارجة عن دائرة العقل؛ فمن شاء أن يعرف كلامهم فليترك عقله؛ ومن أراد أن يصدقهم فلينبذ كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فنعوذ بالله من الخذلان .
---(15/102)
كلام شيخ الإسلام إمام المحققين أحمد بن تيمية في القطب والغوث قال رحمه الله في كتابه : ( رسالة زيارة القبور والاستنجاد بالمقبور ) ما نصه : يقال ثلاثة أشياء ما لها من أصل باب النصيرية ومنتظر الرافضة وغوث الجهال فإن النصيرية تدعي في الباب الذي لهم أنه الذي يقيم العالم فذاك شخصه موجود ولكن دعوى النصيرية فيه باطلة وأما محمد بن الحسن المنتظر والغوث المقيم بمكة ونحو هذا فإنه باطل ليس له وجود وكذلك ما يزعمه بعضهم من أن القطب الغوث الجامع يمد أولياء الله ويعرفهم كلهم ونحو هذا فهذا باطل فأبو بكر وعمر رضي الله عنهما لم يكونا يعرفان جميع أولياء الله ولا يمدانهم فكيف بهؤلاء الضالين المغترين الكذابين ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سيد ولد آدم إنما عرف الذين لم يكن رآهم من أمته بسيماء الوضوء وهو الغرة والتحجيل ومن هؤلاء من أولياء الله من لا يحصيه إلا الله عز وجل وأنبياء الله الذين هو إمامهم وخطيبهم لم يكن يعرف أكثرهم بل قال الله تعالى : { xك™â'ur قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ } وموسى لم يكن يعرف الخضر والخضر لم يكن يعرف موسى بل لما سلم عليه موسى قال له الخضر وأنى بأرضك السلام فقال له أنا موسى قال موسى بني إسرائيل قال نعم وقد كان بلغه اسمه وخبره ولم يكن يعرف عينه ومن قال إنه نقيب الأولياء أو أنه يعلمهم كلهم فقد قال الباطل .
---(15/103)
والصواب الذي عليه المحققون أنه ميت وأنه لم يدرك الإسلام ولو كان موجودا في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لوجب عليه أن يؤمن به ويجاهد معه كما أوجب الله ذلك عليه وعلى غيره ولكان يكون في مكة والمدينة ولكان يكون حضوره مع الصحابة للجهاد معهم وإعانتهم على الدين أولى به من حضوره عند قوم كفار ليرقع لهم سفينتهم ولم يكن مختفيا عن خير أمة أخرجت للناس وهو قد كان بين المشركين ولم يحتجب عنهم ثم ليس للمسلمين به وأمثاله حاجة لا في دينهم ولا في دنياهم فإن دينهم أخذوه عن الرسول النبي الأمي صلى الله عليه وآله وسلم الذي علمهم الكتاب والحكمة وقال لهم نبيهم : ( لو كان موسى حيا ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم )، وعيسى بن مريم عليه السلام إذا نزل من السماء إنما يحكم فيهم بكتاب ربهم وسنة نبيهم فأي حاجة لهم مع هذا إلى الخضر وغيره والنبي صلى الله عليه وآله وسلم قد أخبرهم بنزول عيسى من السماء وحضوره مع المسلمين ، وقال : (كيف تهلك أمة أنا في أولها وعيسى في آخرها) ، فإذا كان النبيان الكريمان اللذان هما مع إبراهيم وموسى ونوح أفضل الرسل ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم سيد ولد آدم ولم يحتجبوا عن هذه الأمة لا عوامهم ولا خواصهم فكيف يحتجب عنهم من ليس مثلهم وإذا كان الخضر حيا دائما فكيف لم يذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذلك قط ولا أخبر به أمته ولا خلفاءه الراشدين(1) .
__________
(1) ومما لاشك فيه أن عيسى عليه السلام سيحكم بالكتاب والسنة ؛ لا كما يزعم الضالون من أنه سيحكم بالإنجيل ؛ ولا ما بما زعمه بعض الجهال من أنه سيحكم بالمذهب الحنفي بعد أن يتعلمه من صندوق أودعه الخضر في نهر جيحون ؛ كما ذكر ذلك الحصكفي في مقدمة كتبه (( الدر المختار )) .
---(15/104)
وقول القائل إنه نقيب الأولياء فيقال له من ولاه النقابة وأفضل الأولياء أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم وليس فيهم الخضر وعامة ما يحكى في هذا الباب من الحكايات بعضها كذب وبعضها مبني على ظن رجل مثل شخص رأى رجلا ظن أنه الخضر وقال إنه الخضر كما أن الرافضة ترى شخصا تظن أنه الإمام المنتظر المعصوم أو تدعي ذلك وروي عن الإمام أحمد بن حنبل أنه قال : وقد ذكر له الخضر من أحالك على غائب فما أنصفك وما ألقى هذا على ألسنة الناس إلا الشيطان انتهى المراد منه .
قال محمد تقي الدين الهلالي : قول الإمام احمد من أحالك على غائب فما أنصفك لما ذكر له وجود الخضر في زمانه؛ ومعناه من أخبرك بوجود شخص لا تراه ولا تسمعه ولا تدركه بشيء من الحواس ولا جاء خبر عن الله ورسوله بوجوده كالملائكة والجن؛ فقد كلفك مالا تطيق وظلمك حين أراد منك أن تصدقه فيما ادعاه بلا دليل؛ وقد أحسن الإمام أحمد في إنكاره وجود الخضر في زمانه وقد بين شيخ الإسلام عدم وجوده بالأدلة القاطعة وكذلك يقال في القطب وما ادعاه التجانيون لشيخهم من كونه سيد الأولياء وخاتمهم وممدهم؛ وأن قدميه على رقابهم كل ذلك باطل وتضليل فقد تهدم كل ما بنوه من الأباطيل بحكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ثم بحكم شيخهم عليهم : { وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81) } (1)
فصل في تخريج الأحاديث التي وردت في هذا الفصل وبيان حالها .
أولها حديث ( أول ما خلق الله نوري؛ وفي رواية أول ما خلق الله نور نبيك يا جابر ) تقدم أنه موضوع؛ لا يحل أن ينسبه أحد للنبي صلى الله عليه وسلم إلا مقرونا ببيان وضعه
__________
(1) الإسراء آية 81 .
---(15/105)
ثانيها : حديث ( رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر ) قال الحافظ ابن حجر في : (تسديد القوس في تخريج مسند الفردوس ) هذا حديث مشهور على الألسنة وهو من كلام إبراهيم بن عبلة؛ فقال العجلوني في كشف الخفاء؛ قال العراقي في تخريج الإحياء رواه البيهقي بسند ضعيف عن جابر؛ ورواه الخطيب في تاريخه بلفظ : قدم النبي صلى الله عليه وسلم من غزاة فقال عليه الصلاة والسلام ( قدمتم خير مقدم وقدمتم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر؛ قالوا وما الجهاد الأكبر قال مجاهدة العبد هواه ) والمشهور على الألسنة رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر؛ دون بقيه وفيه اختصار . الجزء الأول 424 من كشف الخفاء .
ثالثها : حديث ( لولاك ما خلقت الأفلاك ) وأليه أشار البوصيري بقوله :
وكيف تدعو إلى الدنيا ضرورة من لولاه لم تخرج الدنيا من العدم
قال الصنعاني موضوع . انتهى من كشف الخفاء(1) .
رابعها : ( خير هذه الأمة أولها وأخرها ) (2) قال السيوطي أنه ضعيف أخرجه أبو نعيم في الحلية عن عروة بن الزبير مرسلا . اهـ الفيض ج 3 ص 493 .
__________
(1) قال الألباني في (( سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة )) الحديث رقم 282 : موضوع والقول بأن معناه صحيح : لا يليق .
(2) قال المناوي في (( التيسير بشرح الجامع الصغير )) ص 1 / 532 طبع المكتب الإسلامي : عن عروة بن رويم مرسلا .
---(15/106)
عود إلى حديث ( أول ما خلق الله نوري ) قال محمد تقي الدين بطلان هذا الحديث يظهر بأدنى تأمل فقد قال الله تعالى : { قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ } وتكرر مثل هذا في القرآن في مواضع لا تحصى إلا بتعب؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم بشر من بني آدم؛ وآدم من تراب لا من نور فما هو هذا النور الذي ينسبونه إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ أهو روحه الشريفة أم جسمه؛ أم شيء آخر فالجسم كما تقدم من تراب؛ والروح جسم لطيف لا يعلم حقيقته إلا الله وقد جاء في كتاب الله تعالى تسمية النبي صلى الله عليه وسلم سراجا منيرا؛ وقال الله تعالى في سورة المائدة آية 15 : { قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16) } قال بعض المفسرين إن المذكور في أول الآية هو الرسول صلى الله عليه وسلم؛ وقال بعضهم هو القرآن؛ عطف الكتاب عطف تفسير كقول الشاعر :
ألا حبذا هند وأرض بها هند وهند أتى من دونها النأي والبعد
وتسمية النبي صلى الله عليه وسلم سراجا منيرا ونورا لا تقتضي أن يكون خارجا عن النوع البشري مخلوقا من النور لأن ذلك خلاف الواقع؛ وخلاف نص القرآن؛ إنما سماه الله سراجا منيرا؛ تشبيها لما أتاه من العلم والهدى بالنور؛ وتشبيها لظلمات الكفر والجهل بالظلمة الحسية فكما أن السراج يبين للناس الطريق المستقيم الذي يسلكونه آمنين مستبصرين لا يخافون ويوصلهم إلى غايتهم المرغوبة فكذلك الرسول صلى الله عليه وسلم بتعليمه وإرشاده وتزكيته لمن اتبعه شُبِّه بالسراج وبالنور الذي يحفظ متبعه من مهاوي الهلاك ولا معنى للنور إلا هذا .
الفصل الثاني في فضل المتعلقين بالشيخ أحمد التجاني
---(15/107)
اعلم أن التجانيين رووا عن شيخهم فضائل تحصل للمتعلقين به مصادمة للكتاب والسنة وإجماع الأمة وزعموا أن الشيخ التجاني كتب تلك الفضائل بيده وسلمها إلى النبي صلى الله عليه وسلم وطلب منه أن يقرأها ويضمنها له فقرأها وضمنها له وقع ذلك يقظة لا مناما انظر صفحة 44 من الجزء الثاني من الرماح . وهذه الفضائل زعموا أن الله يعطيهم إياها بسبب تعلقهم بشيخهم وسأسرد هنا هذه الفضائل وعددها 39؛ أربع عشرة فضيلة تحصل لكل من اعتقد فيه الخير ولم يعترض على طريقه وكان محبا له ولأصحابه ولكل من أطعمه أو سقاه أو قضى له حاجة إذا استمر على محبته حتى الموت وإن لم يأخذ ورده ولم يصر من أصحاب طريقته وسائر الفضائل وهي خمس وعشرون خاصة بمن أخذ الطريقة والتزم شروطها .
الفضيلة الأولى : أن النبي صلى الله عليه وسلم ضمن له أن يموتوا على الإيمان والإسلام .
الفضيلة الثانية : أن يخفف الله عنهم سكرات الموت .
الفصيلة الثالثة : لا يرون في قبورهم إلا ما يسرهم .
الرابعة : أن يؤمنهم الله تعالى من جميع أنواع عذابه وتخويفه وجميع الشرور من الموت إلى المستقر في الجنة .
الخامسة : أن يغفر الله لهم جميع ذنوبهم ما تقدم منها وما تأخر .
السادسة : أن يؤدي الله تعالى عنهم جميع تبعاتهم ومظالمهم من خزائن فضله عز وجل لا من حسناتهم .
السابعة : ألا يحاسبهم الله تعالى ولا يناقشهم ولا يسألهم عن القليل والكثير يوم القيامة .
الثامنة : أن يظلهم الله تعالى في ظل عرشه يوم القيامة .
التاسعة : أن يجيزهم الله تعالى على الصراط أسرع من طرفة عين على كواهل الملائكة .
العاشرة : أن يسقيهم الله تعالى من حوضه صلى الله عليه وسلم يوم القيامة .
الحادية عشرة : أن يدخلهم الله تعالى إلى الجنة بلا حساب ولا عقاب في أول الزمرة الأولى
الثانية عشرة : أن يجعلهم الله تعالى مستقرين في الجنة في عليين من جنة الفردوس وجنة عدن .
---(15/108)
الثالثة عشرة : أن النبي صلى الله عليه وسلم يحب من كان محبا له .
الرابعة عشر ة : أن محبه لا يموت حتى يكون وليا قال أي (أحمد التجاني) أخبرني سيد الوجود صلى الله عليه وسلم أن كل من أحبني فهو حبيب للنبي صلى الله عليه وسلم ولا يموت حتى يكون وليا قطعا؛ وقال لي سيد الوجود صلى الله عليه وسلم أنت من الآمنين ومن أحبك من الآمني ؛ أنت حبيبي ومن أحبك حبيبي؛ وكل من أخذ وردك فهو محرر من النار؛ وقال ابشروا إن كل من كان في محبتنا إلى أن مات عليها يبعث من الآمنين على أي حالة كان ما لم يلبس حلة الأمان من مكر الله وقال : وأما من كان محبا ولم يأخذ الورد فلا يخرج من الدنيا حتى يكون من الأولياء؛ فلنجعل هذا أخر القسم الأول ونشرع فيما أختص به أهل طريقته المتمسكون بأذكاره فنقول :
الخامسة عشرة : أن أبوي آخذ ورده وأزواجه وذريته يدخلون الجنة بغير حساب ولا عقاب مع أن أحدا منهم لم يكن له تعلق به بوجه من وجوه التعلقات وإنما نالوا الفضل العظيم والخير الجسيم بسبب هذا الآخذ المتمسك بأذكاره اللهج بها قال ومن أخذ عني الورد المعلوم الذي هو لازم الطريقة أو عمن أذنته يدخل الجنة ووالداه وأزواجه وذريته المنفصلة عنه لا الحفدة بلا حساب ولا عقاب بشرط أن لا يصدر منهم سب ولا بغض ولا عداوة؛ وبدوام المحبة للشيخ بلا انقطاع إلى الممات وكذا مداومة الورد إلى الممات؛ ثم قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم : هذا الفضل هل هو خاص بمن أخذ عني الذكر مشافهة أو لكل من أخذه ولو بواسطة فقال لي كل من أذنته له وأعطى لغيره فكأنما أخذ عنك مشافهة وأنا ضامن لهم؛ وهذا الفضل شامل لمن تلا الورد سواء رآني أو لم يرني وقال من أخذ وردنا يبعث من الآمنين ويدخل الجنة بلا حساب هو ووالداه وأزواجه وذريته المنفصلة عنه لا الحفدة بشرط الاعتقاد وعدم نكس المحبة .
السادسة عشرة : أنهم تلاميذ النبي صلى الله عليه وسلم .
---(15/109)
السابعة عشرة : أن النبي صلى الله عليه وسلم سماهم أصحابا له صلى الله عليه وسلم وقال لي سيد الوجود صلى الله عليه وسلم : فقراؤك فقرائي وتلاميذك تلاميذي وأصحابك أصحابي وكل آخذ وردك فهو محرر من النار؛ قال صاحب الرماح قلت ولهذا صار أهل طريقته صحابيين بهذا المعنى حتى قال صلى الله عليه وسلم في حقهم مثل ما قال في الصحابة رضوان الله عليهم لا تؤذوني في أصحابي .
الثامنة عشرة : أن كل ما يؤذيهم فإنه يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم وذلك أن محاورة وقعت ببين رجلين من أصحابه فأمر أن يُصلحوا بينهما فوراً ثم أخبر أنه وقع لي الأمر بالصُّلح بينهما من النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره عليه الصلاة والسلام بأنه يؤذيه صلى الله عليه وسلم ما يؤذي أصحابه .
التاسعة عشرة : أن الإمام المهدي المنتظر أخ لهم في الطريقة؛ قال صاحب الرماح أخبرني محمد الغالي أن واحدا من أصحاب الشيخ قال لآخر بحضرة الشيخ أن الإمام المهدي يذبحنا إذا ظهر فقال له الشيخ لا يذبحكم لأنه أخ لكم في الطريقة وإنما يذبح علماء السوء وقال إذا جاء المنتظر يطلب من أصحابنا الفاتحة اهـ .
قال محمد تقي الدين : مقتضى قولهم واعتقادهم أن علماء السوء هم علماء الكتاب والسنة الذين يردون ضلالهم وباطلهم بحجج الوحي وهذا قلب للحقائق فنعوذ بالله من الخذلان اهـ .
الموفية عشرين : أن أهل طريقته كلهم أعلى مرتبة من أكابر الأقطاب؛ وقال لا مطمع لأحد من الأولياء في مراتب أصحابنا حتى الأقطاب الأكابر؛ ما عدا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم .
الحادية والعشرون : لا تستحق الذكر؛ وكذلك ما بعدها إلى الخامسة والعشرون بدخول الغاية .
---(15/110)
السادسة والعشرون : أن الله تعالى يعطيهم من عمل كل عامل تقبل الله تعالى عمله منه أكثر من مائة ألف ضعف مما يعطي صاحب ذلك العمل؛ قال كل من عمل عملا صالحا من أعمال البر وتقبل منه يعطينا الله تعالى ولأصحابنا على ذلك العمل أكثر من مائة ألف ضعف مما يعطي صاحب ذلك العمل سواء قل ذلك أو كثر مفروضا كان أو غير مفروض ونحن رقود ولله الحمد اهـ .
ثم ذكر صاحب الرماح آيات كثيرة تدل على سعة فضل الله ولكن ذلك لا يجديه فتيلا لأن فضل الله لا يجوز أن يثبت إلا من طريق الوحي من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ ومن زعم أنه يتلقى الأخبار بالثواب أو العقاب من غير الكتاب والسنة فخبره باطل مردود عليه لا يساوي فتيلا بإجماع أئمة المسلمين ولا يقبل مثل هذا إلا الباطنية الذين يزعمون أنهم يتلقون الوحي من غير الرسول صلى الله عليه وسلم وهم كفار بإجماع المسلمين قال الله تعالى في سورة الزخرف آية 45 : { قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ } فلا سبيل إلى معرفة ثواب أو عقاب إلا من القرآن وكلام المعصوم فالاستدلال بتلك الآيات مغالطة مخادعة وتضليل لا يروج مثله إلا في سوق الجاهلين { وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23) } .
السابعة والعشرون : أنهم لا يحضرون أهوال الموقف؛ ولا يرون صواعقه وزلازله بل يكونون مع الآمنين عند باب الجنة حتى يدخلون -كذا - مع المصطفى صلى الله عليه وسلم في الزمرة الأولى مع أصحابه ويكون مستقرهم في جواره صلى الله عليه وسلم في أعلى عليين مجاورين أصحابه صلى الله عليه وسلم .
---(15/111)
الثامنة والعشرون : أن أكثرهم يحصل له في كل يوم فضل زيارته صلى الله عليه وسلم في روضته الشريفة وزيارة جميع أولياء الله تعالى الصالحين من أول الوجود إلى وقته؛ قال أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة تسمى بجوهرة الكمال من ذكرها اثنتي عشرة مرة وقال هذه هدية مني إليك يا رسول الله فكأنما زاره في روضته الشريفة وكأنما زار أولياء الله تعالى والصالحين من أول الوجود إلى وقته .
التاسعة والعشرون : أن النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الأربعة يحضرون مع أهل هذه الطريقة كل يوم ذكرهم المسمى بالوظيفة حين يقرؤون جوهرة الكمال وكل من قرأها منهم سبع مرات فأكثر يكون النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الأربعة معه ما دام يذكرها .
الموفية ثلاثين : أن لهم علامة يتميزون بها عن غيرهم ويعرف بها أنهم تلاميذ رسول الله صلى الله عليه وسلم وفقراؤه وهي أن كل واحد منهم مكتوب بين عينيه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى قلبه مما يلي ظهره محمد بن عبد الله وعلى رأسه تاج من نور مكتوب فيه الطريقة التجانية منشأها الحقيقة المحمدية .
الحادية والثلاثون : أن لهم من الله تعالى لطفا خاصا بهم أخبرني محمد الغالي أن النبي قال للشيخ من نظر إلى وجهك غفر الله تعالى له؛ وأن الشيخ قال لأهل هذه الطريقة من الله تعالى لطفا خاصا بهم بعد لطفه العام لهم ولغيرهم ولذلك قال إن صاحبي لا تأكله النار ولو قتل سبعين روحا إذا تاب بعدها .
---(15/112)
الثانية والثلاثون : أن كل من لم يحترمهم وكان يؤذيهم طرده الله عن قربه وسلبه ما منحه؛ وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ يغار لآهل هذه الطريقة غيرة خاصة كما كان صلى الله عليه وسلم يغار لأصحابه لأن أهلها فقراؤه وتلاميذه كما أن الصحابة رضوان الله عليهم كذلك؛ ولذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم له إذا مر أصحابك بأصحابي فليزوروهم فقط وأما غيرهم من الأولياء فلا؛ وذلك كله لشدة اعتنائه بأهلها لأجل حبيبه وولده الذي قال له أنت ولدي حقا، وقال صلى الله عليه وسلم لبعض أصحابه يعني (التجاني) أنت ابن الحبيب ودخلت في طريقة الحبيب؛ وقال صلى عليه وسلم لمن أرسله إلى الشيخ يقظة لا مناما قل لحبيبي التجاني ولشدة محبته صلى الله عليه وسلم فيه أخبره أن كل من أحبه لا يموت حتى يكون وليا وضمن صلى الله عليه وسلم له أن كل من سبه ودوام على ذلك لا يموت إلا كافرا؛ وهذه المحبة منه لشيخنا هي التي سرت منه صلى الله عليه وسلم لأهل طريقته حتى قال صلى الله عليه وسلم قل لأصحابك لا يؤذوني بإذاية بعضهم بعضا .
قال الشيخ التجاني : إن لنا مرتبة عند الله تناهت إلى حد يحرم ذكره ليست هي ما أفشيته لكم؛ ولو صرحت بها لأجمع أهل الحق والعرفان على كفري فضلا عمن عداهم وليست هي التي ذكرت لكم بل هي من ورائها؛ ومن خاصية تلك المرتبة أن من لم يتحفظ على تغيير قلبي بعدم حفظ حرمة أصحابنا طرده الله تعالى عن قربه وسلبه ما منحه .
قال محمد تقي الدين : لم يستوفي صاحب الرماح الفضائل التي وعد بذكرها بل اقتصر على ذكر ثلاث وثلاثين وفي ما ذكره من الطوام والضلالات ما لا يُبقي شكا في أن هذه الطريقة على الحال الراهنة يستحيل أن تجتمع في قلب شخص واحد مع ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الدين الحنيف المبني على الكتاب والسنة وإجماع الأمة؛ وسنعقب عليها بالنقد والنقض حتى يتضح بطلانها وتنجلي ظلمتها؛ بحول الله وقوته وحسن توفيقه .
---(15/113)
اعلم أيها القاري الموفق لمعرفة الحق واتباعه مع من كان وحيث كان؛ أن ما ذكره صاحب الرماح من الفضائل بزعمه له ولإخوانه في الطريقة ولشيخهم بزعمهم مردود من وجوه بعضها إجمالي وبعضها تفصيلي؛ ولنبدأ بالإجمالي فنقول :
كل ما نسبوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم من الأخبار هو من شر أقسام الموضوع المفترى وقد خاب من افترى؛ فإن الأمة بعلمائها وأئمتها من أبي بكر الصديق رضي الله عنه إلى أن تقوم الساعة، أجمعت على أنه لا طريق لتلقي خبر من الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا بالسماع والمشاهدة في حياته الدنيوية؛ أو بواسطة الثقاة الأثبات بالسند المتصل وما ذكروه من الأخبار ليس له أصلا سند وما زعموه من السماع كذب بإجماع الأئمة؛ ومن خرق إجماعهم ولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم؛ وكان مشاقا للرسول صلى الله عليه وسلم ومتبعا غير سبيل المؤمنين ومن ذلك أن تلك الأخبار مناقضة لكتاب الله وللأخبار الصحيحة المروية بأسانيد معلومة التواتر؛ أو الصحة العالية وإذا قرأت ما تقدم من الرد تبين لك من خلاله فساد تلك الأخبار وبطلانها واضمحلالها .
أما الرد التفصيلي : فسأذكر ما تمس الحاجة إليه ولا أتعرض لما هو واضح البطلان؛ أو تقدم رد مثله؛ وكل ما ذكره واضح البطلان بالنسبة إلى الخاصة؛ أما العامة فيحتاجون إلى زيادة بيان؛ وينحصر ذلك في أمور :
---(15/114)
الأول : قوله في الفضيلة الأولى أن النبي صلى الله عليه وسلم ضمن له أن يموتوا على الإيمان والإسلام : فيه جهل بالإيمان لأن من مات على الإيمان فلا حاجة إلى ذكر الإسلام بعد الإيمان لأن الإيمان الصحيح يتضمنه ولم يضمن النبي صلى الله عليه وسلم الموت على الإيمان لأحد . إلا من أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه من أهل الجنة يلزم أن يموت على الإيمان؛ وفي حديث ابن عباس عند مسلم حين قال عكاشة بن محصن للنبي صلى الله عليه وسلم ادع الله أن يجعلني منهم - أي من السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب - فقال له أنت منهم قام رجل من أصحابه عليه الصلاة والسلام فقال مثلما قال عكاشة فقال النبي صلى الله عليه وسلم سبقك بها عكاشة ولم يتجرأ أحد بعده أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه أخبر بصفتهم وهي أنهم لا يسترقون ولا يتطيرون ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون . فأنت ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم علق دخول الجنة بلا حساب ولا عذاب على أعمال من وفق لها حصل له ذلك . فالتجانيون بزعمهم أفضل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بل المحبون للتجاني المسلمون بما جاء به حسب زعم التجانيين يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب ولو فعلوا من الذنوب ما فعلوا ولم يشترط عليهم إلا أن يداوموا على محبته الشيخ التجاني وتعظيمه؛ وهذا مضاد لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم .
---(15/115)
الأمر الثاني : نقل صاحب الرماح في الفضيلة الثانية عن شيخه أنه قال : إن اتباعه يخفف الله عنهم سكرات الموت؛ ونقل عنه في الفضيلة الثالثة والثلاثين أنهم لا يذوقون حرارة الموت وهي المعبَّر عنها بسكرات الموت؛ وهذا من أعظم الجهالات فإن النبي صلى الله عليه وسلم وهو أفضل خلق الله ذاق سكرات الموت؛ أخرج البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت مات النبي صلى الله عليه وسلم بين حاقنتي وذاقنتي فلا أكره شدة الموت لأحد أبدا بعد النبي صلى الله عليه وسلم؛ وأخرج عنها أيضا أنها كانت تقول أن من نعم الله عليَّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي في بيتي وفي يومي وبين سحري ونحري وأن الله جمع بين ريقي وريقه عند موته دخل علي عبد الرحمن وبيده السواك فقلت أخذه لك فأشار برأسه أن نعم فتناوله فاشتد عليه وقلت ألينه لك فأشار برأسه أن نعم فلينته فأمره وبين يديه ركوة أو علبة بشك عمر فيها ماء فجعل يدخل يديه في الماء فيمسح بهما وجهه ويقول (لا إله إلا الله إن للموت لسكرات) ثم نصب يده فجعل يقول في الرفيق الأعلى حتى قبض ومالت يده .
قال الحافظ في الفتح بعد ذكر الحديث : وعند أحمد والترمذي وغيرهما من طريق القاسم عن عائشة قالت : رأيته وعنده قدح فيه ماء وهو يموت فيُدخل يده في القدح ثم يمسح وجهه بالماء ثم يقول : ( اللهم أعني على سكرات الموت ) وفي رواية شقيق عن مسروق عن عائشة قالت : ما رأيت الوجع على أحد أشد منه على النبي صلى الله عليه وسلم اهـ .
فتبين مما ذكراه أن الفضيلة الثانية والثالثة والثلاثين جهل بالفضيلة وجهل بما فطر الله عليه عباده وكذب عليه لآن سيد خلق الله لم يحصل له ذلك بل حصل له ضده فالخير والفضل في ما حصل له عليه الصلاة والسلام .
---(15/116)
الأمر الثالث : في الفضيلة الثالثة؛ وهي أن التجانيين لا يرون في قبورهم إلا ما يسرهم وهو رجم بالغيب وتقوُّل على الله إذ لا سبيل لمعرفة ذلك إلا بطريق النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولن يجدوا إلى إثبات ذلك عنه عليه الصلاة والسلام سبيلا حتى يلج الجمل في سم الخياط .
ومثل ذلك يقال في الرابعة؛ فهو تأمين ممن لا يملك لنفسه أمنا و لا خوفا فكيف يملك لغيره
الأمر الرابع : في الفضيلة الحادية عشرة؛ وهي زعمهم أن الله سبحانه وتعالى يدخلهم الجنة بلا حسب ولا عقاب في أول الزمرة الأول ؛ هذا تكذيب لنصوص الكتاب والسنة وتخصيص عمومها والتخصيص نسخ لبعض الأفراد التي يشملها الحكم؛ وقد أجمع علماء الأصول أنه لا ُيخصَّص الكتاب والسنة إلا بالكتاب والسنة لأنه استثناء فلا يجوز أن يكون إلا لمن له الأمر والنهي؛ وهذا ينسحب على جميع الفضائل التي ادعاها التجانيون لأنفسهم وتقولوا بها على الله ورسوله وعلى شيخهم الذي أساءوا إليه كل الإساءة بنسبة هذه الأقوال الخارجة عن العقل والنقل المكذِّبة لكتاب الله وسنة رسوله الصحيحة المتواترة بنسبة ذلك إلى هذا الشيخ .
---(15/117)
وقال البخاري في كتاب التفسير من صحيحه؛باب وأنذر عشيرتك الأقربين واخفض جناحك؛ ألن جناحك؛ وروى بسنده إلى بن عباس لما نزلت : { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) } صعد النبي صلى الله عليه وسلم الصفا وجعل ينادي يا بني فهر يا بني عدي؛ لبطون قريش حتى اجتمعوا فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا لينظر ما هو فجاء أبو لهب وقريش؛ فقال أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقيَّ قالوا نعم؛ ما جربنا عليك إلا صدقا قال إني نذير لكم بين عذب شديد؛ قال أبو لهب : تبا لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا فنزلت : { تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) } وروى بسنده إلى أبي هريرة قال قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل الله : { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) } قال يا معشر قريش أو كلمة مثلها؛ اشتروا أنفسكم لا أغني عنكم من الله شيئا؛ يا بني عبد مناف لا أغني عنكم من الله شيئا؛ يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئا؛ ويا صفية عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئا؛ ويا فاطمة بنت محمد ساليتي من مالي ما شئت لا أغني عنك من الله شيئا .
---(15/118)
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسير سورة الشعراء ما نصه؛ يقول تعالى آمرا بعبادته وحده لا شريك له ومخبرا أن من أشرك به عذبه؛ ثم قال تعالى آمرا لرسوله صلى الله عليه وسلم أن ينذر عشيرته الأقربين الأدنين إليه وإنه لا يخلِّص أحدا منهم إلا إيمانه بربه عز وجل وأمره أن يلين جانبه لمن اتبعه من عباد الله المؤمنين؛ ومن عصاه من خلق الله كائنا من كان فليتبرأ منه؛ ولهذا قال : { فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216) } وهذه النذارة الخاصة لا تنافي العامة بل هي فرض من أجزائها ومضى إلى أن قال : وقد وردت أحاديث كثيرة في نزول هذه الآية الكريمة ثم ذكر الحديث السابق من رواية الإمام أحمد ثم قال الحديث الثان ؛ قال الإمام أحمد بسنده إلى عائشة قالت لما نزلت : { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) } قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ( يا فاطمة بنت محمد يا صفية بنت عبد المطلب؛ يا بني عبد المطلب لا أملك لكم من الله شيئا سلوني من مالي ما شئتم ) انفرد بإخراجه مسلم؛ ثم ذكر حديث أبي هريرة المتقدم ومن خرجه إلى أن قال أخرجاه في الصحيحين وهو الحديث الثالث فيما ذكر ابن كثير؛ ثم ذكر هذا الحديث نفسه بروايات مختلفة في الأسانيد والألفاظ متفقة في المعنى من حديث بن عمرو وعلي بن أبي طالب اهـ .
---(15/119)
قال محمد تقي الدين : تعالوا نتأمل هذه الآية وما جاء في تفسيرها من امتثال النبي صلى الله عليه وسلم لأمر ربه نجد فيها أن الله أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يخص بالإنذار بعد التعميم أقرب الناس إليه؛ فاطمة وصفية والعباس وبني هاشم؛ ومن بعهدهم الأقرب فالأقرب فماذا فهم النبي صبى الله عليه وسلم من أمر الله له فهم أن الله أمره بعد الإنذار العام لجميع الناس أن يخص أقرب الناس إليه بإنذار خاص؛ و لماذا أمره بذلك ؟ أمره بذلك لئلا يتَّكِل الأقربون على قرابتهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقصروا في العمل أو يرتكبوا المحذور اعتمادا على تلك القرابة فاخبرهم الصادق المصدوق تبليغا لأمر ربه أنه لا يملك لهم من الله شيئا وأن قرابتهم منه لا تنقذهم من النار؛ وإنما ينقدهم إيمانهم وعملهم الصالح فهب أن النبي صلى الله عليه وسلم يحب التجاني أشد المحبة ويعترف أنه من ذريته فإنه لا يبلغ جزء من ألفَ ألف مما بلغه أولئك من القرب والمحبة؛ ولم يضمن لأحد منهم دخول الجنة بلا حساب ولا عذاب . ولا سكت عن هذا الأمر حتى يدخل في الحسبان أو تمتد المطامع إليه؛ بل أمره الله بالتصريح بنفيه فنفاه على رؤوس الأشهاد؛ فكيف يجيء التجانيون في آخر الأزمنة وشرها وأرذلها فيحاولون إثبات ما نفاه النبي صلى الله عليه وسلم لمن لا يساوي فتيلا ولا نقيرا من فضل الله أولئك الأقارب الأكرمين؛ فأي عاقل يصدق قولهم ولو لم يكن مسلما؛ فكيف بمن آمن بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر إنكم لتقولون قولا عظيما؛ تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا؛ فأوبوا إلى رشدكم وتوبوا إلى ربكم من هذه المقالة الفظيعة؛ والحكاية الشنيعة؛ وبرئوا الشيخ التجاني منها؛ ولا تلوثوا سمعته؛ فإن أبيتم فقد تبرأ منكم كما تقدم منقولا من الإفادة الأحمدية فإنما بغيكم على أنفسكم ووبال كذبكم لا يعود إلا عليكم والهدى بيد الله .
---(15/120)
وقد أشار الحافظ رحمه الله على ما تضمنه آية الشعراء من أن من عصى هذا الإنذار فقد تبرأ منه النبي صلى الله عليه وسلم امتثالا لأمر ربه سواء أكان من الأقارب أم الأباعد؛ فإن عصوك فقل إني برء مما تعملون ؛ فإن لم يتب التجانيون من هذا البهتان يكونون داخلين دخولا أوليا فيمن تبرأ منهم النبي صلى الله عليه وسلم وحسبهم ذلك خزيا ومقتا عند الله وعند المؤمنين؛ وبهذا تتهدم جميع القصور التي بناها التجانيون على الرمال بل على شفا جرف هار { وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81) وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا } (82)؛ وقد بدا لي أن أثبت هنا قصيدة تائية قلتها بعد توبتي من الطريقة التجانية يفرح بإنشادها الموفق المهتدي ويغص بها المخذول المعتدي وهذا نصها :
خليلي عوجا بي على كل ندوة بها قول الرسل يروي بقوة
ولا تقربا مجلس الرأي إنه ضلال يحيط التابعيه بهوة
على مجمع فيه كتاب الهنا يفسر تفسيرا بعلم وحكمة
لدى ثلة قد نور الله قلبهم وخصهم بالهدى أفضل نعمة
فصانوا كتاب الله جل جلاله عن اللغو والتحريف اسوأ بدعة
وردوا افتراء الخلف من ضل سعيهم وقد فرقوا من شؤمهم خير شرعة
وأصلوهم حرب الفرنج بهمة كسيف صقيل في مضاء ولمعة
إليهم أجوب البَر والبحر آويا لا نظر من فازا بنور ونظرة
وأقبس من أنوارهم علم سنة وذلك قصدي في اغترابي وهجرتي
وأبعد عن أهل البدائع والخنا وأدرك روحا من عناء وغربتي
وليس مرادي غربة البعد والنوى ولكنها في الدين أعظم كربة
ولما أبان الله لي نور دينه وأنقذني من طرق أصحاب خرقة
أولئك قوم بدلوا الدين بالردى وقد مرقوا من هدية شر مرقة
وأبغضني الأقوام حين نبذتهم وملت إلى قفو الكتاب وسنة
وقد قلبوا ظهر المجن وخشنت صدورهم لي واستعدوا لمحنتي
وقد زعموا هجري وشتمي قربة وكل جليس لي سيرى بسرعة(15/121)
---
وقد جزموا أني أموت على الردى وأخلد في النيران من أجل رجعتي
أماني حمق تضحك الثاكل التي بواحدها سارت ركاب المنية
نبذتهم نبذ النوى وتركتهم وهاجرت كي أحظى بسؤلي ومنيتي
ومالي ولي رفيق مصاحب ولا ناصر ألا إله البرية
عليه اعتمادي لا على أحد سوا ه فهو قدير أن يجود ببغيتي
وما أطلب المال الذي هو زائل سوى بلغة لا بد منها لخلتي
سفرت إلى مصر لأخبر خبرها وانظر هل فيها شفاء لغلتي
ومن قبل قد أخبرت أن في ربوعها رجال لنصر الدين أصحاب شدة
وصلت فلم ألق سوى أهل بدعة وشرك وإلحاد وشك وردة
سمعت بها الإلحاد يدرس جهرة بجامعة للشر مع كل فتنة
رأيت بها الأوثان تعبد جهرة قبورا عظاما ناخرات أجنت
ويدعون دون الله من لا يجيبهم وهم عن دعاء القوم في عظم غفلة
لها جعلوا قسما بمال والدة فلا عاش من قد ظنهم أهل ملة
حثالة مستضعفين رأيتهم تسومهم الأعداء سوء الأذية
وهم صبر مستمسكون بدينهم ويدعون ما اسطاعوا لبيضا نقية
وما صدهم إيذاؤهم عن جهادهم لأنهم أهل النفوس الأبية
أقمت بها عاما إلى الله داعيا فأرشد رب الناس قوما بدعوتي
يعدون بالآلاف في الريمون كلـ ـهم أهل إخلاص وأهل فتوة
ومن بعد ذا سافرت للحج راجيا قبولا من الله الكريم لحجتي
فأتممته والحمد لله سائلا من الله يهديني سواء المحجة
وكنا سمعنا أن بالهند فرقة على السنة الغرا بصدق وحجة
فقلت عسى منشودتي عندهم ترى وهزتني الأشواق أية هزة
بلغت فألفيت المخبر صادقا وشاهدت سنات تجلت بعزة
قد اخترت دهلي للإقامة إنها بلاد علوم الدين فيها تسنت
وقد شفيت نفسي وزال سقامها غداة رأت عيني مساجد سنة
فلا تسمعن فيها سوى قال ربنا وقال رسول الله خير البرية
لقد مثلوا خير القرون لناظر بقول وفعل واجتهاد ونية
إمامهم خير الأئمة كلهم عليه من الرحمن أزكى تحية
---(15/122)
الأمر الخامس في الفضيلة الرابعة عشر؛ وهي زعمهم أن محب الشيخ لا يموت حتى يكون وليا تقدم أن الولي بالمعنى الذي يقصونه لا وجود له في دين الإسلام لأن المؤمنين كلهم أولياء الله؛ والكافرون كلهم أعداء الله؛ فقد اتعبوا أنفسهم في غير طائل؛ وبقية الكلام في الرابعة عشر تقدم إبطاله إلا قولهم إن آخذ الورد التجاني يحبه النبي صلى الله عليه وسلم محبة خاصة فيقال لهم كذبتم على النبي إذ ليس لكم دليل على هذا بإجماع المسلمين؛ ثم كيف يعرف النبي صلى الله عليه وسلم كل من أخذ الورد هل هو بكل شيء عليم ؟!! لا يعلم الغيب إلا الله فإن زعمتم أنه يعلم الغيب فقد كفرتم ورددتم القرآن والسنة الصحيحة .
أخرج البخاري في كتاب التفسير من صحيحه بسنده عن ابن عمر رضي الله عليه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( مفاتيح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله لا يعلم ما في غد إلا الله ولا يعلم ما تفيض الأرحام إلا الله ولا يعلم متى يأتي المطر أحد إلا الله ولا تدري نفس بأي أرض تموت ولا يعلم الساعة إلا الله ) .
---(15/123)
وهذا الحديث يفسر قوله تعالى في سورة الأنعام : { وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ } وتقدم الاحتجاج على ذلك بقوله تعالى في سورة الأنعام : { قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ } ونصوص الكتاب والسنة في هذا المعنى كثيرة؛ وقال القسطلاني قال الزجاجي من زعم أن أحدا غير الله يعلم شيئا من هذه الخمسة فقد كفر بالقرآن العظيم؛ وأما الوِرد أيُّ وِرد كان فهو بدعة؛ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار ) فأخذ الورد في النار لنص الحديث؛ فكيف يكون محررا من النار سبحانك هذا بهتان عظيم . وكل ما رتبوه على أخذ الورد من دخول آخذه الجنة بلا حساب ولا عقاب ودخول ذريته وأزواجه وغير ذلك ينطبق حديث كل بدعة ضلالة وبذلك ينهار بنيانهم؛ والحمد لله رب العالمين .
---(15/124)
ويقال زيادة على ذلك من أخذ الأوراد المشروعة عن النبي صلى الله عليه وسلم لم يضمن له دخول الجنة بلا حساب ولا عقاب فكيف بوالديه وأزواجه وأولاده بل لا يجوز لمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يشهد على أحد بأنه من أهل الجنة إلا إذا شهد له المعصوم صلى الله عليه وسلم . أخرج أحمد والبخاري عن أم العلاء وكانت بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت طار لهم في السكنى حين اقترعت الأنصار على سكنى المهاجرين عثمان بن مضعون رضي الله عنه فاشتكى عثمان عندنا فمرضناه حتى إذا توفي أدرجناه في أثوابه فدخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت رحمة الله عليك يا أبا السائب شهادتي عليك لقد أكرمك الله عز وجل وقال رسول الله صلى عليه وسلم : (وما يدريك أن الله تعالى أكرمه) فقالت لا أدري بأبي أنت وأمي وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أما هو فقد جاءه اليقين من ربه وإني لأرجو له الخير والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي ) قالت والله لا أزكي أحدا بعده أبدا؛ وأحزنني ذلك فنمت فرأيت لعثمان رضي الله عنه عينا تجري فجئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبرته بذلك فقال رسول الله صلى اله عليه وسلم ( ذاك عمله ) .
قال بن كثير انفرد بإخراجه البخاري دون مسلم وفي لفظ له : ( ما أدري ورسول الله ما يفعل به ) وهذا أشبه أن يكون هو المحفوظ بدليل قولها فأحزنني ذلك وفي هذا وأمثاله دلالة على أنه لا يقطع لمعين بالجنة إلا الذي نص الشارع على تعيينهم كالعشرة وابن سلام والعميصاء وبلال وسُراقة وعبد الله بن عمرو بن حرام والد جابر والقراء السبعين الذين قتلوا ببئر معونة وزيد بن حارثة وجعفر وابن رواحة وأمثالهم .
الأمر السادس : في السادسة عشرة وما بعدها زعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لشيخهم تلاميذك تلاميذي وفقراؤك فقرائي وأصحابك أصحابي وأنا مربيهم وبنى على ذلك صاحب الرماح قوله أن جميع التجانيين صحابة .
---(15/125)
قال محمد تقي الدين : وهذا هوس عظيم لأن التلميذ هو الذي يتلقى العلم من شيخه وكيف يكون كل تجاني من أواخر القرن الثاني عشر إلى آخر الدهر تلميذ للنبي صلى الله عليه وسلم ولم ير أحد منهم النبي صلى الله عليه وسلم ولا سمع منه حرفا واحدا؛ و لا رأى النبي صلى الله عليه وسلم أحدا منهم؛ وهل هذا إلا مثل من يقول إن جميع بني آدم تلاميذ النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره من الأنبياء بل تلاميذ آدم وهذا كذب بحت يُستحيى من قوله لو كانوا يعقلون؛ وأما قولهم : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال أن التجانيين كلهم فقراؤه؛ فهو كلام من يهرف بما لا يعرف فإنه لا يجوز أن يكون أحد فقيرا إلا لله تعالى و لا يستثنى من ذلك أحد قال الله تعالى في سورة فاطر : { * يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) } وأعجب من ذلك أن يكون التجانيون كلهم من الصحابة وبين أوائلهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم زهاء ألفٍ ومائتي سنة (1200) فما أشبه هذا الكلام بالهذيان؛ والصحابي هو من رأى النبي صلى الله عليه وسلم مسلما ومات على ذلك؛ وأما قولهم : إن من آذى أحدا من التجانيين فقد آذى النبي صلى الله عليه وسلم؛ فهو فرية بلا مرية وتقول على رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا علم؛ وقولهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال أنا مربيهم فكيف يربيهم والتربية الصوفية باطلة وبدعة وأما التربية المحمدية وهي تعليم العلم فإنها مستحيلة كما تقدم فإن أرادوا بالتربية توجيه قلوبهم إلى الله تعالى والتصرف فيها بالهداية فهو شرك بالله إذ لا يقدر على ذلك إلا الله كما تقدم؛ ولكن القوم تعودوا أن يتكلموا بكلام لا معنى له يضلون به جهلة الناس وعوامهم؛ ويهولون عليهم به ليستعبدوهم ويستتبعوهم .
---(15/126)
الأمر السابع : في الثامنة عشرة؛ قال تخاصم اثنان من التجانيين على عهد الشيخ التجاني فظهر النبي صلى الله عليه وسلم من أجل ذلك للشيخ التجاني وأمره أن يصلح بينهما؛ وقال له ما يؤذي أصحابه يؤذيه عليه الصلاة والسلام .
أقول : قال الله تعالى في سورة الأحزاب : { إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (58) } والوعيد الذي في هذه الآية ينطبق على التجانيين لأنهم آذوا الله ورسوله بالكذب عليه وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم وبالابتداع في الدين والإتيان بشرع لم يأذن به الله؛ وآذوا جميع المؤمنين بل جعلوهم من أهل النار وأنهم يموتون كفارا إذا لم يؤمنوا بباطلهم وتمسكوا بكتاب الله وسنة رسوله وإجماع السلف فإن لم يتوبوا من ذلك كما تبت أنا وكما تاب شيخنا محمد بن العربي العلوي وكما تاب الشيخ الصالح الورع الزاهد محمد أبو طالب الإدريسي الحسنى رحمة الله عليه وتاب كثير من العلماء لا يمكن حصرهم ويطول تعدادهم فإنهم موعودون بما في هذه الآية والتي بعدها، من اللعن والعذاب المهين؛ ومتصفون باحتمال البهتان والإثم المبين .
فدع عنك نهبا صيح في حجراته ** وهات حديثا ما حديث الرواحل
---(15/127)
الأمر الثامن : في التاسعة عشرة؛ وهي زعمهم أن الأمام محمد بن عبد الله المهدي المنتظر كما جاء في الأخبار ح يكون تجانيا؛ بهتان عظيم لا يوافقهم عليه أحد؛ لا من الأولين ولا من الآخرين؛ وما لهم عليه دليل إلا الرجم بالغيب وبطلانه واضح؛ لأن هذا الإمام يكون خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيحكم بالكتاب والسنة وحاشاه أن يركب البدعة وطريقتهم مبتدعة ظلمات بعضها فوق بعض لا يرتضيها أحد متمسك بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وإن كان قليل العلم بعيدا من مرتبة الإمام فكيف بإمام المسلمين؛ الذي شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالإمامة الكاملة وإقامة العدل والإحسان والقضاء على الضلالة والعدوان .
بالملح يصلح ما فسد ** كيف إذا الملح فسد
فدعوا بالله عليكم هاته الترهات فإنها لا تجلب عليكم إلا المقت من الله والسخط والاحتقار من الناس وكونوا أذنابا في الحق فهو خير لكم من أن تكونوا رؤوسا في الباطل؛ ولعمري لقد نصحت ولكن كم نصيح مشبه بظنين؛ وقد صدق ذلك التجاني الذي قال عن المهدي سيذبحهم فما أعقله لأن المهدي لا بد أن يقطع دابر المبتدعين كلهم من التجانيين وغيرهم ولا يترك ولا يوالي إلا المتبعين لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وهم :
أهل الحديث عصابة الحق فازوا بدعوة سيد الخلق
فوجوههم عز منضرة لألاؤها كتألق البرق
يا ليتني معهم فيدركني ما أدركوه بها من السبق
ـــــــــــ
أهل الحديث هم أهل النبي وإن لم يصحبوا نفسه أنفاسه صحبوا
الأمر التاسع : في السادسة والعشرين؛ وهي من أعظم الطوام وهي زعمهم أن كل من عمل عملا وتقبل منه ذلك العمل يعطي الله سبحانه كل تجتني مائة ألف ضعف من الثواب على ذلك العمل وهو راقد في فراشه .
تعلقوا بأماني وما علموا أن المنى رأس أموال المفاليس
ـــــــــ
لا تغتر بالأماني واكتسب عملا إن الأماني والأحلام تضليل
---(15/128)
هذه الدعوى من أعرق الدعوى في البطلان وبطلانها كالشمس في رابعة النهار لا يختلف فيها اثنان ولا ينتطح فيها عنزان؛ وقد أتعب صاحب الرماح نفسه فنقل عن شيخ الإسلام أحمد ابن تيميّة رحمه الله؛ وجوها كثيرة في حصول الثواب للإنسان من غير عمله يريد أن يموه بذلك ليثبت مثل هذه الدعوى؛ فيقال له : لقد أبعدت النجعة ونفخت في غير ضرم؛ واستسمنت ذا ورم(1) فإننا : لا ننكر انتفاع الإنسان بعمل غيره إذا أخبر به الصادق المصدوق وقد أجمع المسلمون على أن الدعاء والصدقة ينفعان الميت وليسا عمله أما ما ادعيتم في هذه الطامة التي هي من بنات غيركم فليس لكم عليه دليل لأن أمر الثواب من أمور الغيب لا يُعلم إلا من طريق الوحي ولا يثبت بوحي الشياطين البتة؛ والشيخ التجاني الذي كذبتم عليه لا ينزل عليه الوحي لأن الوحي انقطع بوفاة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فوجب على كل مسلم أن يقتنع بما جاءنا به ففيه الغنية والكفاية فقد دليتم أنفسكم بالغرور { وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا â'q'Z9$ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) } فالبصير هو المتبع للوحي والأعمى هو الذي يطلب الشراب من السراب؛ والنور
__________(15/129)
(1) إن هذا التستر ببعض كلام شيخ الإسلام ابن تيمية ؛ ليس إيمانا بما يقول . وإنما تزلفا للمسلمين لتروج بضاعتهم ؛ كما يفعله كثير من تلامذة الكوثري من أمثال عبد الفتاح أبو غدة حيث يخلط كلام شيخ الإسلام أبن تيمية مع كلام شيخه الكوثري الضال ليروج ذلك عند الذين لم يطَّلعوا على أباطيل الكوثري ؛ وكثير ما يُحيل على كتب الكوثري مع أن في هذه الصفحات الطعن بالصحابة ؛ والإمام أحمد وابنه عبد الله وبابن تيمية وابن القيم والشيخ محمد بن عبد الوهاب وغيرهم من علماء الإسلام .
---
في الوحي والظلمات في المبتدعات المخترعات والظل الظليل في الاكتفاء بهدى الرسول الجليل والحرور في الابتداع والخروج عن سواء السبيل والأحياء هم المتبعون لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والأموات هم المغترون بآرائهم وآراء شيوخهم .
تنبيه
السابعة والعشرون تقدم الجواب عن أمثالها؛ والثامنة والعشرون كذلك؛ أما قولهم فيما يسمى بجوهرة الكمال فسيأتي الكلام عليها في فضل الأذكار والأوراد إن شاء الله .
الأمر العاشر : في الموفية ثلاثين؛ زعم صاحب الرماح وأهل طريقته أن لهم علامة يتميزون بها . وهي أنهم مكتوب بين عيني كل واحد منهم محمد صلى الله عليه وسلم وعلى قلبه مما يلي ظهره محمد بن عبد الله وعلى رأسه تاج من نور مكتوب فيه : الطريقة التجانية منشأها الحقيقة المحمدية .(15/130)
قال محمد تقي الدين : أناشدكم الله الذي خلق السماوات والأرض والذي جعل الإنسان ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد أيكم قرأ هذه الكتابات ؟ ألا تخافون الله لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب وفقد خاب من افترى . إن هذا الخبر لا يمكن أن يصدقه مسلم إلا إذا جاء من طريق الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فإن الله يطلعه على ما شاء من غيبه كما جاء في الحديث الصحيح : أن الدجال مكتوب على جنبيه (كافر ) لقد أطلقتم العنان لخيالكم فتوبوا إلى بارئكم ولا تقفوا ما ليس لكم به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولائكم تكونون عنه مسؤولين يوم تكونون بين يدي الله واقفين وكيف ترغبون عما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تصديق هذه الأباطيل التي لا تقوم على أساس . وإنما هي من الخرص والإفك المبين .
---(15/131)
الأمر الحادي عشر : في الحادية والثلاثين ؛ زعموا أن لله لطفا خاصا بالتجانيين غير اللطف العام لجميع المسلمين ويقال في هذا مثل ما قيل في ما تقدم ؛ وزعم صاحب الرماح أن محمد الغالي أخبره أن الشيخ التجاني قال صاحبي لا تمسه النار ولو قتل سبعين روحا إذا تاب بعد ذلك مفهومه إن لم يتب تمسه النار ؛ وهذا يهدم كل ما تقدم من أن آخذ ورده فهو محرر من النار وأنه من الآمنين وأن الله يغفر له ما تقدم من ذنوبه وينجيه من جميع عذابه وتخويفه وأن الله يؤذي عنه جميع تبعاته من فضله لا من حسناته وأنه لا يرى أهوال الموقف وأنه يدخل الجنة في أو ل الزمرة الأولى هو ووالداه وأولاده وأزواجه وهذه معضلة يجب على التجانيين أن يحلُّوها ولن يستطيعوا إلى حلها سبيلا فقد أُخذوا بإقرارهم هكذا يقال أولا ويقال ثانيا : إن كان القتل الذريع تتوقف مغفرته على التوبة فما لكم فيه من فضل؛ فإنَّ كل قاتل باب التوبة أمامه مفتوح ويجب مع ذلكم أن تؤمنوا بقوله تعالى في سورة النساء آية 92 : { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93) } وحسب عقيدتكم أن هذا العموم مخصوص لا بالتوبة وحدها بل يكون القاتل تجانيا؛ وهكذا يقال في كل ما ادعيتم لأنفسكم من الفضائل؛ واسمعوا ما يقوله المفسرون في هذه الآية إن كنتم بها مؤمنين قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسيرها؛ وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد لمن تعاطى هذا الذنب العظيم الذي هو مقرون بالشرك بالله في غير ما آية في كتاب الله حيث يقول سبحانه في سورة الفرقان : { وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ } الآية . وقال تعالى : { * قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا }(15/132)
---
إلى أنْ قال : { وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ } في أواخره سورة الأنعام؛ والآيات والأحاديث في تحريم القتل كثيرة جدا؛ فمن ذلك ما ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أول ما يقضي بين الناس يوم القيامة في الدماء ) وفي الحديث الآخر الذي رواه أبو داود عن عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا يزال المؤمن معتقا صالحا ما لم يصب دما حراما فإن أصاب دما حراما بلح )
أي وقع في الهلاك؛ وفي حديث آخر ( لو اجتمع أهل السماوات والأرض على قتل رجل مسلم لأكبَّهم الله في النار ) وفي الحديث الآخر ( من أعان على قتل المسلم بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوبا بين عينيه آيس من رحمة الله ) .
قال محمد تقي الدين : وكل تجاني يَكتب ذلك الخبر أو يصدقه أو يقتني كتابا هو مدرج فيه مع تصديقه يلحقه هذا الوعيد لأنه يعين على قتل المسلمين بكلمات كثيرة شطر واحدة منها يجعله يوم القيامة مكتوبا بين عينيه آيس من رحمة الله؛ فهذه الكتابة حق أخبر بها الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم؛ أما الكتابة التي زعموها فهي مكذوبة .
---(15/133)
ثم قال ابن كثير : وقد كان ابن عباس يرى أنه لا توبة لقاتل المؤمن عمدا؛ وقال البخاري بسنده إلى ابن جبير قال اختلف أهل الكوفة فرحلت إلى ابن عباس؛ فسألته عنها فقال نزلت هذه الآية { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ } وهي آخر ما نزل وما نسخها شيء؛ ورواه مسلم و أبو داود والنسائي عن ابن عباس في قوله : { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ } قال ما نسخها شيء وقال الإمام أحمد بسنده عن ابن عباس أن رجلا أتى إليه فقال أرأيت رجلا قتل رجلا عمدا فقال جزاؤه جهنم خالدا فيها الآية لقد نزلت من آخر ما نزل ما نسخها شيء حتى قُبض رسول لله صلى لله عليه وسلم وما نزل وحي بعد رسول الله؛ قال أرأيت إن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى قال وأنى له بالتوبة وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : تكلته أمه رجل قتل رجلا متعمدا يجئ يوم القيامة آخذ قاتله بيمينه أو بيساره أو أخذا رأسه بيمينه أو بشماله تخشب أوداجه دما من قبل العرش يقول يا رب سل عبدك فيم قتلني ؟ وممن ذهب إلى أنه لا توبة له من السلف زيد بن ثابت وأبو هريرة وعبد الله بن عمر وأبو سلمة بن عبد الرحمن وعبيد بن عمير والحسن وقتادة والضحاك بن مزاجم وروى أحمد والنسائي بسنديهما إلى معاوية يقول سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : (كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل أن يموت كافرا أو الرجل يقتل مؤمنا متعمدا ) والذي عليه جمهور سلف الأمة أن القاتل له توبة فيما بينه وبين الله إن تاب وأناب اهـ .
---(15/134)
قال محمد تقي الدين : وما ادعاه التجانيون من أن الواحد منهم لا تمسه النار ولو قتل سبعين نفسا إن تاب لا خصوصية لهم في ذلك وادعاؤهم لا يساوي فتيلا وقد أساؤوا فيها كل الإساءة في ذلك القول الأثيم الذي فيه تحريض على قتل المسلمين وتهوين لأمر القتل وذلك خلاف ما جاء عن الله ورسوله ولم يسبقهم إلى ذلك سابق ولا لحقهم في ذلك لاحق وليس لهم أن يحتجوا بحديث الذي قتل مائة نفس لأن ذلك جاء تائبا فأفتاه المفتي الأول الذي أتم به المائة بأنة لا توبة له وقد اخطأ في ذلك؛ أما التجانيون فلم يجئهم أحد يريد التوبة بل أخذوا يحرضون الناس على القتل ابتداء فافهم الفرق .
الأمر الثاني عشر في الثالثة والعشرين : زعم صاحب الرماح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للشيخ التجاني إذا مر أصحابك بأصحابي فليزوروهم فقط وأما غيرهم من الأولياء فلا .
---(15/135)
قال محمد تقي الدين الهلالي : هذا الكلام ركيك لا يصدر عن عالم يعرف ما يقول فكيف يصدر عن أحد الأئمة فضلا عن الصحابة فضلا عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ ثم هو على ظاهره مستحيل؛ إذ لا يمكن أن يمر أحدُ التجانيين بأحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم البتة؛ لأن التجانيين لم يوجدوا إلا في أواخر القرن الثاني عشر وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم توفي آخرهم قبل ذلك بأكثر من ألف سنة؛ فإن قيل المراد أنهم يمرون بقبورهم فلا حاجة إليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزروها )رواه مسلم من حديث بريدة بن الحصيب السلمي وهذا أمر استحباب لجميع المسلمين فلا حاجة إلى تكراره إلا إذا أرادوا أن يرتبوا عليه ما زعموه من نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن زيارة قبور المؤمنين إلا أصحابه عليه الصلاة والسلام وحينئذ يقعون في هوة لا خلاص لهم منها فإنهم ينسخون الحديث المتقدم الذي هو عام لجميع المسلمين أن يزوروا قبور جميع المسلمين عموما وقد نشأ عن هذا تشريع جديد يخص التجانيين وهو تحريم زيارة قبور الصالحين وسائر المسلمين ما عدا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وهذا حكم خارج عنة الشريعة الإسلامية شريعة التجانيين لأنفسهم فكذبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرقوا إجماع المسلمين فنعوذ بالله من الجهل والخذلان : { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (21) } .
وليكن هذا آخر هذا الفصل والله يهدينا صراطه المستقيم .
الفصل الثالث في فضل الأذكار والأوراد التجانية
---(15/136)
اعلم حفظني الله وإياك من أمراض البدع الفتاكة وشرور المحدثات المضلة وحبب إلينا التمسك بالسنة الغراء والعض بالنواجذ عليها في السراء والضراء؛ أن للتجانيين أذكار وأورادا زعموا أن شيخهم أخذها عن النبي صلى الله عليه وسلم يقظة لا مناما؛ وهو الذي أخبره بفضائلها وقد تقدم أن الشيخ التجاني أمر بعرض كل ما ينسب إليه أو يروى عنه على كتاب الله وسنة رسوله فما وفقهما فهو عنه وإن لم يقله وما خالفها فهو بريء منه وإن قاله وهذا فيصل التفرقة بين الحق والباطل والحالي والعاطل وهو سيف مسلول على رقاب المبتدعين وبراءة وتنزيه للشيخ التجاني من أقوال المتقولين؛ فأقول وبالله التوفيق وهو الهادي بمنه على أقوم طريق .
---(15/137)
قال مؤلف جوهر المعاني في (الجزء الأول صفحة 92) بعدما ذكر ما تقدم منقولا من كتاب الرماح أن كل من أحسن إلى الشيخ التجاني بمثقال ذرة أو أخذ طريقته يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب وأن النبي صلى الله عليه وسلم ضمن للشيخ التجاني ذلك ضمانا لا يخلف حتى يكون الشيخ التجاني وأهل محبته في أعلى عليين في جوار النبي صلى الله عليه وسلم . قال ما نصه اعلم أني بعدما كتبت هذا من سماعه وإملائه علينا رضي الله عنه من حفظه ولفظه اطلعت على ما رسمه بخطه ونصه وأسأل من فضل سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يضمن لي دخول الجنة بلا حساب ولا عذاب في أول الزمرة الأولى أنا وكل أب وأم ولدوني من أبوي إلى أول أب لي في الإسلام من جهة أبي ومن جهة أمي وجميع آبائي وأمهاتي من أبوي إلى الجد الحادي عشر والجدة الحادية عشرة من جهة أبي ومن جهة أمي من كل ما تناسل منهم من وقتهم إلى أن يموت سيدنا عيسى بن مريم عليه السلام من جميع الذكور والإناث والصغار والكبار؛ وكل من أحسن إلي بإحسان حسي أو معنوي من مثقال ذرة فأكثر؛ وكل من نفعني بنفع حسي أو معنوي من مثقال ذرة فاكثر؛ من خروجي من بطن أمي إلى موتي وكل من له علي مشيخة في علم أو قرآن أو ذكر أو سر من كل من لم يعاديني من جميع هؤلاء وأما من عاداني أو أبغضني فلا وكل من أحبني ولم يعاديني؛ وكل من والاني واتخذني شيخا؛ أو أخذ عني ذكرا وكل من زارني وكل من خدمني وقضى لي حاجة أو دعا لي؛ كل هؤلاء من خروجي من بطن أمي إلى موتي وآبائهم وأمهاتهم وأولادهم وبناتهم وأزواجهم وأولاد أزواجهم وكل من أرضعني وأولادهم وبناتهم ووالديهم ووالدي أزواجهم يضمن لي سيد الوجود رسول الله صلى الله عليه وسلم ولجميع هؤلاء أن نموت أنا وكل حي منهم على الإيمان والإسلام وأن يؤمننا الله وجميعهم من جميع عذابه وعقابه وتهويله وتخويفه ورعبه وجميع الشرور من الموت إلى المستقر في الجنة؛ وأن تُغفر لي ولجميعهم جميع الذنوب ما(15/138)
---
تقدم منها وما تأخر؛ وأن تُؤدي عني وعنهم جميع تبعاتهم وتبعاتي وجميع مظالمنا ومظالمهم من خزائن فضل الله لا من حسناتنا وأن يؤمننا الله عز وجل من جميع محاسبته ومناقشته وسؤاله عن القليل والكثير يوم القيامة؛ وأن يظلني وجميعهم في ظل عرشه يوم القيامة وأن يجيزني ربي وكل واحد من المذكورين على الصراط أسرع من طرفة عين على كواهل الملائكة؛ وأن يسقيني الله وجميعهم من حوض سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم يوم القيامة؛ وأن يدخلني ربي وجميعهم في جنته بلا حساب ولا عقاب في أول الزمرة؛ وأن يجعلني ربي وجميعهم مستقرين في الجنة في عليين من جنة الفردوس ومن جنة عدن؛ أسأل سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالله أن يضمن لي ولجميع الذين ذكرتهم في هذا الكتاب جميع ما طلبته من الله لي ولهم بكماله كله ضمانا يوصلني وجميع الذين ذكرتهم في هذا الكتاب إلى كل ما طلبته من الله لي ولهم؛ فأجاب صلى الله عليه وسلم بقوله الشريف كل ما في هذا الكتاب ضمانة لا تتخلف عنك وعنكم أبدا إلى أن تكون أنت وجميع من ذكرت في جواري في أعلى عليين؛ وضمنت لك جميع ما طلبته منا ضمانة لا يخلف الوعد فيها والسلام.
قال رضي الله عنه كل هذا وقع يقظة لا مناما وأنتم وجميع الأحباب لا تحتاجون إلى رؤيتي وإنما من لم يكن حبيبي ولا أكلت طعامه وأما هؤلاء فقد ضمنهم لي بلا شرط رؤية مع زيادة أنهم في أعلى عليين اهـ .
قال محمد تقي الدين : المراد بالأحباب هنا كل من أخذ الورد وصار من أهل الطريقة التجانية؛ سواء رأى التجاني أم لم يراه؛ وأما الذي يحتاج إلى رؤيته من لم يكن تجانيا ولا أكل طعامه ولا أحسن إليه بمثقال ذرة فأكثر .
والتجانيون يطلقون على كل واحد منهم حبيب الشيخ؛ وأنشد محمد النظيفي المراكشي من نظمه :
نحن ضيوف الله لا نخاف ولا نضام بل ولا نخاف
نحن ضيوف المصطفى العدنان نحن ضيوف أحمد التجاني
يعني بذلك جميع التجانيين .
---(15/139)
وأكثر ما ذكر تقدم الرد عنه ؛ وبقي ضمان النبي صلى الله عليه وسلم لأقارب الشيخ التجاني من جهة أبيه وأمه من الجد الحادي عشر والجدة الحادية عشرة إلى موت عيسى بن مريم عليهما السلام فينبغي أن نذكر ما يبطل ذلك ويقضي عليه قضاء تاما ويغسل من درنه قلب كل مسلم أراد الله به خيراً وسبقت له السعادة؛ أما من كُتب عليه الشقاء فلا ينفعه ما نذكره من آيات الكتاب العزيز والسنة الصحيحة وما يذَّكر إلا أولوا الألباب .
أخرج ومسلم في صحيحه عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رجلا قال يا رسول الله أين أبي ؟ قال : ( في النار ) قال فلما قفى الرجل دعاه فقال : ( إن أبي وأباك في النار ) .
وقال ابن كثير في تفسير قوله تعالى في سورة التوبة : { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ } الآية.
عن الإمام أحمد بسنده إلى سليمان بن بريدة عن أبيه قال كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ونحن في سفر فنزل بنا ونحن قريب من ألف راكب فصلى ركعتين ثم أقبل علينا بوجهه وعيناه تذرفان فقام إليه عمر بن الخطاب وفداه بالأب والأم وقال يا رسول الله مالك ؟ قال ( إني استأذنت ربي عز وجل في الاستغفار لأمي فلم يأذن لي فدمعت عيناي رحمة لها من النار ) ورواه ابن جبير من طريق علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم مكة أتى على قبر فجلس عليه فجعل يخاطب ثم قام مستعبرا فقلنا يا رسول الله إنا رأينا ما صنعت قال : ( إني استأذنت ربي في زيارة قبر أمي فأذن لي واستأذنته في الاستغفار لها فلم يأذن لي ) فما رئي باك أكثر من يومئذ .
---(15/140)
وقد تقدم حديث وفاة أبي طالب وحرص النبي صلى اله عليه وسلم على نجاته فسبق القلم ومات أبو طالب كافرا، وحزن النبي صلى الله عليه وسلم عليه إذ مات كافرا فأنزل الله تعالى عليه { إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ } الآية؛ وتقدم أيضا إنذار النبي صلى الله عليه وسلم لعشيرته الأقربين بأمر الله تعالى، وقوله لفاطمة بنت محمد سليني من مالي ما شئت وأنقدي نفسك من النار لا أغني عنك من الله شيئا، فيا لله العجب يعجز النبي صلى الله عليه وسلم أن يدخل والديه وعمه الجنة ويقول لابنته ما سمعتم ثم يضمن الجنة لكل جد للتجاني من الجد الحادي عشر والجدة الحادية عشرة من الأب والأم إلى موت عيسى بن مريم سبحانك هذا بهتان عظيم . ولا شك أنهم كذبوا على الشيخ التجاني وكذبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بدليل ما تقدم من الإفادة الأحمدية ولا يروج مثل هذا البهتان ألا على أجهل الجاهلين بدين الإسلام .
فصل في صلاة الفاتح لما أُغلق
---(15/141)
قال مؤلف جواهر المعاني علي حرازم في الجزء الأول (94) وأما فضل صلاة الفاتح لما أُغلق الخ فقد سمعت شيخنا يقول كنت مشتغلا بذكر صلاة الفاتح لما أُغلق حين رجعت من الحج إلى تلمسان لما رأيت من فضلها وهو أن المرة الواحدة بستمائة ألف صلاة كما هو في وردة الجيوب وقد ذكر صاحب الوردة أن سيدي محمد البكري الصديقي نزيل مصر وكان قطبا، قال إن من ذكرها ولم يدخل فليقبض صاحبها عند الله، وبقيت أذكرها إلى أن رحلت من تلمسان إلى بني سمغون فلما رأيت الصلاة التي فيها المرة الواحدة بسبعين ألف ختمة من دلائل الخيرات تركت الفاتح لما أُغلق واشتغلت بها وهي ( اللهم صلي على سيدنا محمد وعلى آله صلاة تعدل جميع صلوات أهل محبتك وسلم على سيدنا محمد وعلى آله سلاما يعدل سلامهم) لما رأيت فيها من كثرة الفضل ثم أمرني بالرجوع صلى الله عليم وسلم إلى صلاة الفاتح لما أُغلق فلما أمرني بالرجوع إليها سألته صلى الله عليه وسلم عن فضلها فأخبرني أولا بأن المرة الواحدة منها تعدل من القرآن ست مرات ثم أخبرني ثانيا أن المرة الواحدة تعدل من كل تسبيح وقع في الكون ومن كل ذكر ومن كل دعاء كبير أو صغير ومن القرآن ستة آلاف مرة لأنه من الذكر اهـ .
قال محمد تقي الدين قال الله تعالى في سورة الزمر: { وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (55) } وقال تعالى في هذه السورة نفسها : { فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ } قال ابن كثير واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم هو القرآن و؛ وقال في فضائل القرآن قال صلى الله عليه وسلم : ( إن فضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على خلقه ) رواه البزار من حديث أبي سعيد الخدري .
---(15/142)
قال محمد تقي الدين : لما كان القرآن صفة من صفات الله كان أفضل من كلام المخلوقين كلهم لأن الكلام المخلوق لا يساوي كلام الله الذي هو غير مخلوق . وقد ذكر أئمة الحديث في فضائل القرآن شيئا كثيرا وعقدوا لذلك كتبا في مؤلفاتهم وهي مشهورة معروفة عند الخاص والعام، وأجمع المسلمون من أهل السنة ومن أهل البدعة على أن كلام الله تعالى أفضل من كلام الأنبياء فكيف بغيرهم حتى القائلون بخلق القرآن في هذا فمن جعل كلام الناس كصلاة الفاتح مثل كلام الله تعالى فقد ضل ضلالا بعيدا وخرق إجماع المسلمين واتبع غير سبيلهم فكيف بمن يجعل صلاة الفاتح أفضل من القرآن بستة آلاف مرة فيا عجبا ممن يؤمن بالله واليوم الآخر كيف يؤمن بهذه العقيد الفاسدة ؟ وعلى هذا فالنبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يقرأه ويدارسه مع جبريل فاته التجانيون في الأجر والثواب وسبقوه بأضعاف مضاعفة تفوق الحصر وجميع أصحابه صلى الله عليه وسلم الذي كانوا يعتقدون أن القرآن أفضل الأذكار كما أخبرهم ربهم سبحانه وأخبرهم نبيهم صلى الله عليه وسلم ضاعت أعمارهم بالنسبة إلى أقل التجانيين ذكرا فإن كل تجاني يذكر صلاة الفاتح إذا اقتصر على ما يجب عليه منها كل يوم مائة وخمسين مرة فعلى قولهم يكون له أجر من قرأ القرآن تسع مائة ألف مرة (900000) ولا يستطيع أحد أن يختم القرآن بقراءة صحيحة مقبولة إلا في ثلاثة أيام وأي ضلال يساوي ضلال من يثبت لنفسه من الأجر والثواب أكثر من جميع الأنبياء والمرسلين وجميع عباد الله الصالحين فيا هادي الطريقة ضللت وأضللت .
---(15/143)
قال محمد تقي الدين وصلاة الفاتح كما أشار إليها صاحب الجواهر أول من تكلم بها محمد البكري الصديقي وحكى التجانيون عنه أن زعم أنه نزلت عليه من السماء في ورقة مكتوبة بقلم القدرة قالوا فهي من كلام الله تعالى وليست من تأليف مخلوق وعلى زعمهم هذا لا بأس بتفضيلها عن القرآن إلا أنه يلزمهم أن صلاة الفاتح التي نزلت على البكري وهي أربع وعشرون كلمة أفضل من القرآن الذي أنزل على سيد المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم وهو زهاء مائة ألف كلمة ( 100000) وهل ينزل وحي بعد خاتم النبيين لم يقل بهذا إلا المتنبئون الزنادقة المحتالون وكيف يقول الله تعالى اللهم صل على سيدنا محمد الفاتح لما اغلق والخاتم لما سبق ناصر الحق بالحق والهادي إلى صراطك المستقيم وعلى آله حق قدره ومقداره العظيم لأن الله هو السيد ومحمد عبده ورسوله وهو أفضل عباد الله وفي كمال عبوديته لله تمكن سيادته وفضله على سائر الخلق فلا يليق بذي الجلال والإكرام أن يخاطب نفسه ويقول اللهم صل على سيدنا محمد فإن قالوا إن الله أنشأ هذه الصلاة لعباده لا لنفسه فلا يلزم ما ألزمتمونا به قلنا لو كان الأمر كذلك لقال الله تعالى فيما أوحينا به إلى البكري أو كتبه له بقلم القدرة، يا أيها البكري قل لعبادي يقولوا : اللهم صل على محمد الخ .
---(15/144)
كما قال تعلى لخاتم النبيين صلى الله عليه وسلم في سورة الإسراء : { وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } على أني أيها القراء الأعزاء أثبت لكم بالبرهان القاطع أن هذه الصلاة ليست من كلام الله تعالى ولا كتبها قلم القدرة ولا من كلام البكري بل قيلت قبله بنحو ألف سنة (1000) ففي كتاب الشفا للقاضي عياض رواية بسند منقطع إلى بن أبي طالب، أنه قال كان يصلي النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : اللهم داحي المدحوات وبارئ المسموكات وجبار القلوب على فطرتها، شقيها وسعيدها اجعل شرائف صلواتك ونوامي بركاتك ورأفة تحننك على محمد عبدك ورسولك الفاتح لما أغلق والخاتم لما سبق والمعلن الحق بالحق الخ .
ولما كان سند هذه الصلاة منقطعا لم تصح نسبتها إلى علي ومن الأدلة على بطلانها بطلان نسبتها إليه أنه لم يكن ليعدل عن الصلاة الإبراهيمية التي علَّمها رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بعد ما سألوه قائلين، أن الله أمرنا أن نصلي عليك فكيف نصلي عليك فقال قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم الخ .
---(15/145)
وأجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعون والأئمة المجتهدون ومن تبعهم بإحسان على تفصيل هذه الصلاة والإتيان بها في الصلوات المفروضة والنوافل وغيرها وإذا ثبت أن كلام الله تعالى أفضل من كلام الخلق كلهم فكلام سيد الخلق سيد الكلام، ومن سوء الفهم وسوء التقدير أن يبحث الإنسان عن صلاة تعدل هذه الصلاة فكيف بصلاة تكون أفضل منها وهي من لفظ من أُوتي جوامع الكَلِم واختُصِر له الكلام اختصارا وهو أفصح خلق الله، فأهم صلاة الفاتح مأخوذة من كتاب الشفا الذي ألفه القاضي عياض وهو من علماء القرن الخامس الهجري، وقد روى هذه الصلاة عمن قبله فلا بد أن تكون من كلام التابعين أو من دونهم بقليل، فاثنتا عشرة كلمة وهي اللهم صلى الله عليه وسلم على محمد الفاتح لما أغلق والخاتم لما سبق ناصر الحق بإبدال ناصر مكان المعلن وأما الهادي إلى صراطك المستقيم فهو من القرآن قال تعالى في سورة الشورى يخاطب رسوله صلى الله عليه وسلم : { وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } وهذه أربع كلمات تضاف إلى اثنتي عشرة فيصير المجموع ست عشرة كلمة، ومعنى (صل) موجود في الصلاة التي رواها عياض فيصير المجموع سبع عشرة كلمة فلا يبقى إلا ثماني كلمات وهي سيدنا وعلى آله بل على آله مأخوذة من الصلوات العامة فلا يبقى إلا سيدنا وحق قدره ومقداره العظيم وهي خمس كلمات أما لفظ سيدنا فغير مشروع في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم لأن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار أهل القرون المفضلة لم يستعملوا لفظ سيدنا في صلاتهم على النبي صلى الله عليه وسلم وهي زائدة على ما علَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته ولن يأتي آخر هذه الأمة بمثل ما كان عند سلفها فكيف بأفضل منه ؟ وعلى ذلك لا يبقى إلا أربع كلمات وهي حق، قدره، ومقداره، العظيم، وبذلك تهدم كل ما بناه التجانيون من القصور الخالية .
---(15/146)
أما زعمهم أن ذلك الفضل الذي ادعوه لصلاة الفاتح خاص بمن أخذها بالإذن من الشيخ التجاني مباشرة أو بوسائط فهو أعجب وأغرب، وليس في الشريعة الإسلامية، لأن الذكر والدعاء إما أن يكونا مشروعين بمعنى أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء بهما وهما من دينه الذي بعثه الله به فلا يحتاجون إلى إذن، لأن الإذن قد حصل من الله تعالى بقوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42) } الأحزاب 41-42 ، وقال تعالى في سورة الأعراف آية 55 : { ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) } وهذا إذن عام لكل مؤمن من الله سبحانه وتعالى بلغه رسوله صلى الله عليه وسلم البلاغ المبين، لجميع المؤمنين، وقال تعالى في سورة الأحزاب آية 56 : { إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56) } فكل من ذكر الله تعالى بذكر مشروع أو دعاه بدعاء مشروع أو صلى على النبي صلى الله عليه وسلم وتقبل الله منه ذلك أثابه عليه ولا يشترط أن يأخذه من شيخ، بل أخذه من الشيخ مبطل لثوابه لأنه بدعة والعبادات إذا قارنتها البدعة ليس لها ثواب، بل يكون أهلها متعرضين لعذاب الله، لأن البدعة شر من المعاصي كما حققه الإمام أبو إسحاق الشاطبي في الاعتصام، وقد أكمل الله دينه وبلغه أفضل الخلق فكل من نصب نفسه لإعطاء الأوراد والأذكار فقد ابتدع في دين الله وعرض نفسه لعذاب الله، وكذلك من أخذ عنه تلك الأوراد قال تعالى في سورة المائدة آية 3: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا } فالأوراد والأذكار إن كان النبي صلى الله عليه وسلم قد جاء بها فما شأن هذا الطُّفيلي الذي نصب نفسه واسطة بين الحق والخلق،(15/147)
---
وأراد أن يجود بمال غيره الذي لا يملك منه شيئا فهو محتال كذاب يريد أن يستعبد الجاهلين وينهب أموالهم ويفسد عقولهم ويضلهم عن صراط الله المستقيم الذي ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته عليه قال الله تعالى في سورة الأنعام آية 153 : { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153) } روى الإمام أحمد بسنده إلى عبد الله بن مسعود قال : خط رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا بيده ثم قال، هذا سبيل الله مستقيما، وخط عن يمينه وشماله ثم قال، هذه سُبل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه، ثم قرأ: { وَأَنْ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ } وذكر الحافظ ابن كثير في تفسيره أن هذا الحديث رواه النسائي وابن حبان والحاكم وقال على شرط الشيخين .
وقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن اكمل الله الدين وترك أمته على أحسن ما يريده لها ولم تكن هناك أوراد، ولا شيوخ طرق، ولا زويا، ولا تكايا فيجب على كل مسلم أن يكون على ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ولا يزيد على ذلك شيئا، لأن الزيادة في الكامل نقص وعيب، وبدعة ضلالة وبذلك يتبين لك بطلان ما جاء في فضل صلاة الفاتح مع اشتراط الإذن فيها كما يدعي التجانيون وقد تبين الصبح لذي عينين : { وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } .
---(15/148)
وهاهنا عبارة نسوقها، ليتعجب القراء منها ويحمدوا الله على العافية، وهي قول صاحب الجواهر في الصفحة 96 من الجزء الأول في سياق فضل صلاة الفاتح، إنها لم تكن من تأليف البكري ولكنه توجه إلى الله مدة طويلة أن يمنحه صلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فيها ثواب جميع الصلوات وسر جميع الصلوات وطال طلبه مدة ثم أجاب الله دعوته فأتاه الملَك بهده الصلاة مكتوبة في صحيفة من النور ثم قال الشيخ فلما تأملت هذه الصلاة وجدتها لا تزنها عبادة جميع الجن والإنس والملائكة قال الشيخ وقد أخبرني صلى الله عليه وسلم عن ثواب الإسم الأعظم فقلت : إنها أكثر منه فقال صلى الله عليه وسلم بل هو أعظم منها ولا تقوم له عبادة .
وفي هذا الكلام دليل على أن هذا البكري الذي زعموا أنه توجه إلى الله تعالى وابتهل إليه مدة طويلة ليمنحه صلاة فيها ثواب جميع الصلوات وسر جميع الصلوات كان أجهل من حمار أهله إن صح عنه هذا الخبر، لأن الله تعالى قد أعطى جميع المسلمين صلاة هي من أفضل الصلوات ولا تعدلها صلاة أصلا، إلا إذا كان هناك من يزعم أن محمد صلى الله عليه وسلم الذي علمنا إياها يوجد من يعدله أو يكون أفضل منه وهذا كفر .
فالذي أمرنا بالصلاة هو الله سبحان وتعالى ولو سكت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يسألوه عن صفة أداء هذا الواجب لكان لكل مصل أن يصوغ صلاة وحينئذ لا يجوز لأحد أن يدَّعي أن صلاته التي صاغها أفضل من صلاة غيره أو أكثر ثوابا، لأن ذلك لا يُعلم إلا من جهة النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن يمكن أن يقال إن عبارة هذه الصلاة أبلغ من عبارة صلاة أخرى ولكن ذلك لا يقتضي زيادة ثواب أو فضل .
---(15/149)
أما وقد سأل الصحابة الكرام رسول الله صلى الله عليه وسلم بقولهم كيف نصلي عليك؟ وعلمهم كيف يصلون عليه فالصلاة التي علمهم هي أفضل الصلوات كما أنه عليه الصلاة والسلام أفضل المعلمين هذا لو كانوا يعقلون، ولكنهم يخبطون خبط عشواء في ليلة ظلماء، الحمد الله الذي عافانا مما أصيبوا به ونسأله سبحانه وتعالى أن يفك أسرهم من هذه القيود والأغلال كما فك أسرنا ويردهم إلى توحيد الله واتباع النبي الكريم وترك التقول عليه .
قال محمد تقي الدين وقد أطال صاحب الجواهر وما أطاب فيما زعم أن شيخه حدَّثه به من فضل صلاة الفاتح لما أُغلق، فمن شاءه فلينظره.
فضل جوهرة الكمال
قال صاحب الرماح صفحة 89 وأما فضل جوهرة الكمال فقد قال الشيخ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر لها خواص منها أن المرة الواحدة، تعدل تسبيح العالم ثلاث مرات ومنها أن من قرأها سبعاً فأكثر يحضره رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الأربعة ما دام يذكرها، ومنها أن من لازمها كل يوم أزيد من سبع مرات يحبه النبي صلى الله عليه وسلم محبة خاصة ولا يموت حتى يكون من الأولياء، وقال الشيخ من داوم عليها سبعا عند النوم على طهارة كاملة وفراش طاهر يرى النبي صلى الله عليه وسلم، وقال الشيخ التجاني: أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة تسمى جوهرة الكمال من ذكرها اثنتي عشرة مرة وقال هذه هدية مني إليك يا رسول الله فكأنما زاره في قبره يعني في روضته الشريفة وكأنما زار أولياء الله والصالحين من أول الوجود إلى وقته ذلك اهـ .
---(15/150)
ونص جوهرة الكمال كما في الرماح (ص224 ج1) اللهم وسلم على عين الرحمة الربانية والياقوتة المتحققة الحائطة بمركز الفهوم والمعاني ونور الأكوان المتكونة الآدمي صاحب الحق الرباني البرق الأسطع بمزون الأرباح المالئة لكل متعرض من البحور والأواني ونورك اللامع الذي ملأت به كونك الحائط بأمكنة المكاني اللهم صل وسلم على عين الحق التي تتجلى منها عروش الحقائق عين المعارف الأقوم صراطك التام الأسقم صل وسلم على طلعة الحق بالحق الكنز العظم إفاضتك منك إليك إحاطة النور المطلسم صلى الله عليه وعلى آله صلاة تعرفنا بها إياه .
اعلم أيها القاري الذي حفظه الله من ظلمات البدع والشرك وأنار بصيرته بنور التوحيد والاتباع، أن هذه الصلاة التي زعم التجانيون أن شيخهم أخذها عن النبي صلى الله عليه وسلم وذكروا لها ما تقدم من الفضل يستحيل أن تكون من كلام العرب الفصحاء وهي بعيدة منه بعد السماء من الأرض، وكل من يعرف كلام العرب معرفة حقيقية لا يكاد يصدق أن ذلك الكلام الركيك يقوله أحد من العرب وفيها كلمتان إحداهما سب لا يجوز أن يُطلق على النبي صلى الله عليه وسلم ولا يتناسب مع ما قبله وهي كلمة ( الأسقم ) فإن الصراط لا يوصف بالسقم إذ لا يقال صراط مريض وهذا الصراط أمرض من ذلك وإنما يقال صراط مستقيم أو قويم وهذا الصراط أقوم من ذلك .
وقد رد العلماء على التجانيين وعابوا عليهم هذه الكلمة القبيحة فقال الشيخ الكمليلي الشنقيطي في أرجوزته التي انتقد بها الطريقة التجانية:
ولم يجز إطلاق لفظ موهم == نقصا على النبي مثل الأسقم
كذا مطلسم وما يدريكا == لعله كفر عنى الشريكا
---(15/151)
ولم يتفطن أولئك العلماء إلى سبب هذا الخطأ ولو تفطنوا له لانحل الإشكال بلا كلفة فسببه أن مؤلف هذه الصلاة مغربي وأهل المغرب في لغتهم العامية يقولون (سر مسقم) يريدون امش مستقيما ويقولون كذلك (سر أسقم) بعضهم ينطق بها قافا وبعضهم ينطق بها كافا، ولما كان منشئ هذه الصلاة غير عالم بالعربية وقد ذكر الأقوم من قبل في قوله عين المعارف الأقوم وقال بعدها صراطك التام، أراد أن يصف الصراط بالاستقامة مع المحافظة على السجع لمقابلة الأقوم واستثقل أن يكرر الأقوم عبر بالأسقم ظنا منه أنهما في المعنى سواء كما يفهمه عامة المغاربة، وقد علمت من مصاحبتي للشيخ أحمد سكيرج وهو من كبار المقدمين في الطريقة التجانية وكنت في ذلك الوقت تجانيا لا يخفى علي سرا، أن هذه الصلاة وجدت لأول أمرها عند شخص يسمى محمد بن العربي التازي ويسميه التجانيون الواسطة المعظم لأنه بزعمهم كان واسطة بين النبي صلى الله عيه وسلم وبين الشيخ أحمد التجاني يحمل الرسائل من الشيخ إلى النبي ومن النبي إلى الشيخ وفي ذلك الوقت وقت الوساطة لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يظهر للشيخ التجاني وإنما كان يظهر لمحمد بن العربي وزعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للواسطة محمد بن العربي لولا محبتك لحبيبي التجاني ما رأيتني وكان الواسطة يُخبر الشيخ التجاني بأنه إذا جاء الوقت الموعود يظهر النبي صلى الله عليه وسلم له بلا واسطة يُحدِّثه ويُكلِّمه وسنذكر شيئا من الرسائل التي أملاها النبي صلى الله عليه وسلم على محمد بن العربي وأمره بكتابتها ليحملها إلى الشيخ التجاني ويقرأها عليه وحينئذ لا يبقى عندك شك بجهل هذا الرجل بالعربية وأنه السبب في ركاكة هذه الصلاة التي هي من إنشائه، وقد تكلف أحمد أمين مؤلف كتاب الوسيط في تراجم أدباء شنقيط، فألف جزءا في دعوى صحة بناء أفعل التقضيل من المستقيم على أسقم بإثبات السين الزائدة وحذف عين الكلمة وهي الواو، وركِب في ذلك الصعب(15/152)
---
والذلول ونقل عن علماء اللغة نقولا ظن أنها تؤيد ادعاءه وأخبرني الشيخ محمد بن أمين الحسني الشنقيطي أن صاحب الوسيط في آخر عمره تاب إلى الله من الطريقة التجانية وصار يخجل عندما يذكر له أحد أنه كان تجانيا وألف ذلك الجزء في الدفاع عن الأسقم، وهذا يزيدك أيضا أن الكلمة عامية مغربية وأنت إذا نظرت في كلمات هذه الصلاة من أولها إلى آخرها وجدتها في غاية البُعد عن الكلام الفصيح ولم تستبعد صدور الأسقم والمطلسم من مؤلفها وإذا ظهر السبب بطل العجب، وكل ما ذكروا في فضلها فهو كذب على الله ورسوله وحسب ما تقدم كذب على الشيخ التجاني أيضا، وما معنى قولهم لا يموت حتى يكون من الأولياء ؟ فهل هو من أعداء الله الآن ؟ وإذا داوم عليها يصير من أولياء الله وقد تقدم أن كل من لم يكن ولي الله وبلغته الدعوة فهو عدو الله، ومجيء النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الأربعة وجلوسهم أمام قارئها كذب نشأ عن بلادة، فإنْ كان مقصودهم بالأجساد فلا يرتاب أحد في أنه بهتان، ولا يصدقه عاقل، لأن الجسد لابد أن يرى بالعين ويلمس باليد، وأن كان مقصودهم أن أرواحهم تجيء فهو من بنات غيرهم لأنه لا دليل عليه وكيف تترك أرواحهم الطاهرة جنة الفردوس وتخرج منها ثم تجيء لتجلس أمام قوم جاهلين يشركون بالله ويستمدون من غيره { لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) } . فسبحان الله كيف تمسخ عقول البشر، حتى تصل إلى هذه الدركة التي يتنزه عنها البقر، ومن يضل الله فما له من سبيل .
قال صاحب الرماح : ولا تُقرأ جوهرة الكمال إلا بالطهارة المائية من الحدث والخبث وطهارة الثوب والمكان، قال محمد تقي الدين:
---(15/153)
ومعنى ذلك أن من كان فرضه التيمم لا يجوز له أن ينطق بجوهرة الكمال وإن كان يجوز له أن يقرأ القرآن كله وأن يُصل الصلوات الخمس فهذا تشريع جديد واستدراك على الله ورسوله فإن شريعة الله تجعل الطهارة الترابية كالمائية، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : (الصعيد وضوء المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنيين فإن وجد الماء فليتق الله وليمسه بشرته) رواه البزَّار من حديث أبي هريرة وصححه القطان وأقره الحافظ ابن حجر في بلوغ المرام، ومفهومه أن من لم يكتفي بالصعيد في عبادته لله تعالى ولم يعتبره وضوء فليس بمسلم، فقد أراد هؤلاء أن يرفعوا قدر الصلاة ليرفعوا بذلك قدرهم بجهلهم فأخرجوا أنفسهم من الشريعة الإسلامية ثم من الإسلام نفسه .
---(15/154)
ولما كانت جوهرة الكمال جزءا من الوظيفة المفروضة على كل تجاني، وكانت لا تقرأ إلا بالطهارة المائية لا الترابية وجب على من عجز عن استعمال الماء أولم يجد ماء أن يقرأ بدلها عشرين مرة من صلاة الفاتح، وفي ذلك تناقض لا يخفى وبيانه أن صلاة الفاتح هي أفصح لفظا وأحسن معنى من جوهرة الكمال لأنها من كلام المتقدمين كما سلف، وقد زعموا أنها أفضل من القرآن ومن جميع الأذكار بأضعاف مضاعفة فما بالها تُقرأ بالطهارة الترابية وجوهرة الكمال التي هي دونها في الفضل بمراحل لا ُتقرأ إلا بالطهارة المائية، وَيقرأ التجاني عوضا عن جوهرة الكمال اثنتي عشرة مرة، عشرين مرة من صلاة الفاتح، فأنت ترى أن المرة الواحدة من قراءة جوهرة الكمال، تعدل أكثر من مرة ونصف من الفاتح وذلك من نسبة عشرين إلى اثنتي عشر ة، فإن كنت أيها القارئ تجانبا فبادر بالخروج من الطريقة واغسل يديك منها بالزلال العذب من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإن كنت معافا منها فاحمد الله على العافية وانبذ الطرق كلها واستقم على الطريقة المحمدية التي قال الله تعالى فيها في سورة الجن: { وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16) } .
قال مؤلف هذا الكتاب محمد تقي الدين: وللتجانيين أذكار خاصة بالخاصة منهم غير لازمة لعامتهم، أذكر شيئا منها، الصلاة الغيبية في الحقيقة الأحمدية، ( اللهم صل وسلم على عين ذاتك العلية بأنواع كمالاتك البهية في حضرة ذاتك الأبدية على عبدك القائم بك منك إليك بأتم الصلوات الزكية المصلي في محراب الهوية التالي السبع المثاني إلى آخره .
---(15/155)
ومن هذه الألفاظ تعلم أن التجانيين من المعتقدين وحدة الوجود وبيان ذلك أن الوجود عندهم واحد، فالرب هو العبد والعبد هو الرب كما تقدم عن ابن عربي الحاتمي فإذا اعْتَبَرْتَ الصور والأشكال كالشمس والقمر والكواكب والإنسان وأنواع الحيوان والنبات والبُحور تسمِّي ذلك خلقا وإذا اعتبرت الهيولا وهي المادة التي منها أنشأت تلك الصور وإليها تعود بعد فنائها لتنشأ منها صور أخرى فتلك الهيولا عندهم هي الله، ومثََّل لِذلك ابن عربي بالخشب فهو مادة واحدة فإذا صَنَعتَ منه أشياء كسرير وخزانة وكرسي لم تخرج تلك الأشياء عن كونها خشبا بعد الصَّنْعَة وحُدوث الأشكال والصور صارت لها أسماء أخرى ولو لم يكن في الطريقة التجانية إلا هذا الاعتقاد لكان كافياً في ضلال أهلها .
كنت في القاهرة والإسكندرية ولم أظهر خروجي من الطريقة التجانية في سنة 1341هـ وكان الشيخ محمد الدادسي الأزهري يكرمني لاعتقاده أني تجاني، فكان يغسل رأسي مرة فقال هنيئا لكم معشر أهل البيت، وكان قد سألني عن نسبي، فأخبرته أن نسبنا ينتهي إلى الحسين بن علي، فقلت له: ولم هذه التهنئة قال لأنكم تدخلون الجنة قطعا، وقد حرم الله على النار أن تمس أجساد أهل البيت، فقلت له: وما الدليل على ذلك ؟ فقال قوله تعالى: { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33) } فقلت: وهل هذا يدل على أن أهل البيت لا تمسهم النار، قال نعم بذلك فسرها الشيخ الأكبر ابن العربي الحاتمي، فقلت له أن تفسيره غير صحيح لأنه يجعل أهل البيت خارجين عن الوعيد الوارد في كتاب الله وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي وسيدنا أحمد التجاني يوافقه على ذلك التفسير، فقلت له: فقلت وهل هو معصوم من الخطأ فتلوَّن وجهه وسكت، وأمسك عن غسل رأسي قبل أن يُتِمَّه، واعتبرني من ذلك الحين غير تجاني .
---(15/156)
ومن الأحاديث التي يزعم التجانيون أن شيخهم نسبها إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن فاطمة أحصنت فرجها فحرم الله ذريتها على النار، وهذا الحديث باطل لما تقدم، لحديث الصحيحين الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم: ( يا فاطمة بنت محمد سليني من مالي ما شئت وأنقذي نفسك من النار لا أُغني عنك من الله شيئا ) وقال مثل ذلك في عمته صفية وعمه العباس، والأسانيد التي روى بها الحديث المتقدم الذكر واهية من رواية الروافض، وقد ضعفها الأئمة، ولو لم يضعفوها لما كان في استطاعتها أن تُعارض نصوص القرآن المفسرة بما في الصحيين وسيأتي تخريجه في نهاية الفصل إن شاء الله .
قراءة فاتحة الكتاب بنية الإسم الأعظم
قال في الرماح (ج 2 ص90): قال في جواهر المعاني سألته يعني التجاني عمن احتلم في السفر ولم يقدر على الاغتسال بوجه من الوجوه، هل يذكر جمع ما عنده من الأوراد فأجاب: أنه يتيمم ويذكر جميع أذكاره كالسيفي وغيره إلا فاتحة الكتاب بنية الإسم فلا يقرأها ولو طال الحال إلى الأبد إلا بالطهارة مائية كاملة .
قال محمد تقي الدين: يا أيها المحدِّثون ويا أيها الأصوليون ويا أيها الفقهاء انظروا واعجبوا هل سمعتم في الشريعة الإسلامية مثل هذا فاتحة الكتاب إذا نوى بقراءتها الإسم الأعظم لا يجوز له أن يقرأها إلا بطهارة مائية، وإذا قرأها دون أن ينوي الاسم الأعظم جازت قراءتها بطهارة ترابية، وقد تقدم الدليل على أن لا فرق بين الطهارة المائية والطهارة الترابية لمن كان فرضه التيمم، والدليل هو الكتاب والسنة والإجماع . وليس اللوم على من اخترع هذه الأكاذيب على الله ورسوله ودينه، ولكن اللوم على شرار الدواب الصم البكم العمي الذين تجوز عليهم هذه الترهات، فنحمدك اللهم على العافية.
ثم قال التجاني وسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم هل أذكر الإسم الأعظم بالتيمم للمرض إذا أصابني ولم أقدر على الوضوء، قال لا إلا أن تذكر بالقلب دون اللسان . اهـ
---(15/157)
الخاتمة نسأل الله حسنها في مسائل متفرقة
اعلم أيها القارئ الذي أنجاه الله من الوقوع في حبائل الطرق، وأنت أيها القارئ المسكين الأسير العاني المكبول بكبل الطريقة إذا وفقك الله لقراءة هذا الكتاب أنَّنِي وجدت في جوهر المعاني وغيره من كتب الطريقة ضلالات وموبقات كثيرة جدا يضيق الوقت عن وضعها في الميزان، فأردت أن أختار منها نبذة أرجو أن تكون كافية بتحذير الناس من الطريقة إن كانوا سالمين من الدخول فيها ولإنقاذ من أراد الله به خيرا ممن ابتلوا بها، وسأقتصر في هذه الخاتمة على جواهر المعاني الذي زعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال هو كتابي وأنا ألفته للأحباب يعني التجانيين، فأقول وبالله التوفيق وهو الهادي بمنه إلى أقوم طريق.
المسالة الأولى ما يسمى بقطب الأقطاب والغوث الجامع:
---(15/158)
تقدم بطلان وجود القطب وأنه من عقيدة الجهال وأريد هنا أن أذكر ما نسبه صاحب جوهر المعاني إلى شيخه التجاني في تفسير قوله تعالى : { إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72) } ليطلع القراء ويعلموا إلى أي حد بلغ الضلال ببعض الناس قال صاحب الجوهر (ج 2 ص 181) ما نصه: وسألته عن معنى قوله تعالى: { إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } الآية، فأجاب بما نصه قال الأمانة هي القيام بحقوق مرتبة الحق في كلية معانيها خلقية وإلاهية فلم تطق حمل هذه الأمانة السماوات والأرض، فأشفقن منها، وحملها الإنسان الكامل الذي يحفظ الله به نظام الوجود وبه يرحم جميع الوجود وبه صلاح جميع الوجود وهو حياة جميع الوجود، وبه قيام جميع الوجود، ولو زال عن الوجود طرفة عين واحد لصار الوجود كله عدما في أسرع من طرفة عين، وهو المعبر عنه بلسان العامة ( بقطب الأقطاب والغوث الجامع ) ومعنى قوله ظلوما جهولا يعني ظلوما بتخطيه حدود البشرية وحدود الخلقية وخروجه إلى القيام بحقوق مرتبة الحق حيث لا أين ولا كيف ولا صورة ولا حد، فإن هذا لا قدرة لأحد عليه إلا الله وحده فهذا معنى ظُلْمِه لكونه تخطى مرتبة البشرية من الخلقية وهو لا يقدر لأن الأمر الذي تخطى إليه لا غاية له ولا نهاية، لكون الإحاطة مستحيلة فيه قال سبحانه: { وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا } فهذا معنى الجهل والظلم الذي نسب إليه هو نفي الإحاطة بكنه جلاله، وذلك غاية المعرفة بالله فإن معرفته من وراء خطوط الدوائر كلها يعني دوائر الصديقية . اهـ
---(15/159)
فانظر كيف خلع هؤلاء الضالون على الشخص الخيالي المسمى بالقطب صفة الحي القيوم، الذي يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهن من أحد من بعده إنه كان حليما غفورا ولولا حلمه سبحانه لخسفت الأرض تحت من يقول هذا القول ويعتقد هذه العقيدة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى.
والآن دونك التفسير الصحيح للآية : ذكر الإمامان ابن جرير وابن كثير في تفسير هذه الآية أقوالا وأحاديث مروية بالأسانيد إلى الصحابة والتابعين، بعضها مرفوعا، وبعضها موقوف، وقد لخص الجمل في حاشيته على الجلالين الموقوف منها فأحببت أن أنقله مختصرا كراهية التطويل . ونص تفسير الجلالين : { إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ } الصلوات وغيرها مما في فعلها من الثواب وتركها من العقاب { عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ } بأن خلق فيها فهما ونطقا، { فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ } خِفن { مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ } آدم بعد عرضها عليه { إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا } لنفسه بما حمله جَهُولًا { } به { لِيُعَذِّبَ اللَّهُ } اللام متعلقة بعرضنا المترتب عليه حمل آدم { الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ } المضيعين الأمانة { وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } المؤدين الأمانة { وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا } للمؤمنين { رَحِيمًا } بهم . اهـ قال الجمل في حاشيته على هذا الكلام قوله: { إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ } قال ابن عباس: أراد بالأمانة الطاعة والفرائض التي فرضها الله تعالى، على عباده عرضها على السماوات والأرض والجبال على أنهم إن أدوها أثابهم وإن ضيعوها عذبهم، وقال ابن مسعود: الأمانة أداء الصلوات وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت وصدق الحديث وقضاء الدين والعدل في المكيال، وأشد من هذا كله الودائع، وقيل هي جميع ما أمروا(15/160)
---
به ونهوا عنه وقيل هي الصوم وغسل الجنابة، وفي رواية ابن عباس هي أمانات الناس والوفاء بالعهود، فحق على كل مؤمن ألا يغش مؤمنا ولا معاهدا لا في قليل ولا في كثير، فعرض الله هذه الأمانة على أعيان السماوات والأرض والجبال، وهذا قول جماعة من التابعين وأكثر السلف فقال لهن أتحملن هذه الأمانة بما فيها فقلن: وما فيها قال: إن أحسنتن جوزيتن، وإن عصيتن عوقبتن، قلن: لا يا رب نحن مسخرات لأمرك لا نريد ثوابا ولا عقابا، وقلن ذلك خوفا وخشية وتعظيما لدين الله تعالى لئلا يقوموا بها لا معصية ومخالفة لأمره، وكان العرض عليهن تخييرا لا إلزاما، ولو الزمهن لم يمتنعن من حملها، والجمادات كلها خاضعة لله تعالى مطيعة لأمره ساجدة له.
ثم قال: وفي القرطبي واللام متعلقة بحملها أي حملها ليعذب العاصي ويثيب المطيع، وقيل متعلقة بعرضنا أي عرضنا الأمانة على الجميع ثم قلدناها الإنسان ليظهر شرك المشرك ونفاق المنافق ليعذبهم الله وإيمان المؤمن ليثيبه الله. اهـ
---(15/161)
قال محمد تقي الدين: ولم يزل يظهر لي أن المراد بالإنسان هنا الجنس، كما قال تعالى: { وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) } وكقوله تعالى: { لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) } ، ولكني تهيَّبت أن أُحدث قولا لم ينقل عن السلف حتى وقفت على كلام القرطبي فرأيته يشير إلى ذلك كما ترى، واتصاف جنس الإنسان بكثرة الجهل والظلم أولى من قصره أحد أفراده، وإبعاد الأنبياء والصديقين واستثناؤهم من الظلم والجهل مستحسن عندي جدا، كما وقع في آية العصر وآية التين، ويا لله العجب كيف يستطيع رجل من بني آدم أن يمسك السماوات والأرض، ويدبر شؤونها بحيث لو غفل عنهما طرفة عين لصرنا عدما ولا تلاشينا ولم يبق لهن أثر، سبحانك هذا بهتان عظيم، أرأيت لو حبس هذا القطب في مكان لا يجد فيه سبيلا لقضاء الحاجة فهل يستطيع أن يخرج من ذلك الحبس الضيق إلى عالم من العوالم التي يدبر شؤونها ويقضي حاجته أم يبقى في (حيص بيص ) حتى يتغوط على ثيابه ويبول عليها وحينئذ، يسخر منه الشيطان الذي أغواه وأمره بادعاء ذلك الأمر العظيم، الذي لا يقدر عليه إلا الله، ليس اللوم على هؤلاء الدجاجلة إذا ما ادعوا مثل هذه الدعوى ليسلبوا بها عقول الناس وأديانهم وأموالهم وأعراضهم، ولكن اللوم كل اللوم على شرار الدواب الذين يصدقونهم، وأذكر هنا والأسف يحز في نفسي أن في بلادنا سجلماسة، في الوقت الحاضر، دجالا يبتز أموال الناس ويهتك أعراضهم بدعوى أنه من آل البيت ومن الأولياء الذين رفع عنهم القلم يفعلون ما يشاءون من المحرمات ويتركون كل الفرائض ومنها الصلوات وهم محبوبون عند الله، وأخبرني أمير المنطقة محمد بن المهدي العلوي رحمه الله وحاكم السدد السيد الكبير الذي كان بالريصاني ثم نقل أنهما وجدا عند هذا الدجال خمس عشرة امرأة، عقد عليهن كلهن عقد النكاح الفاسد، وجمعهن في بيت، فقبضا عليه وسجناه، حكم بسجنه حاكم السدد السيد الكبير(15/162)