"مفهوم العلوم فى الإسلام"
الشيخ محمد المختار السلامي
لما تعلقت الإرادة الإلهية بخلق الإنسان فى الأرض, خفيت حكمة الخلق على ملائكته, المستغرقين فى عبادته, المتمحضين لطاعته, الذين تجردت طبيعتهم عن الشهوة الدافعة, وعن حركة التحدى المعتمد على الذكاء للتغلب على كل عصي, وعن حب المعرفة الذي يمزق فى سيره الفاتح حجب المجهول فيجليه ويكشف خفاياه. وهذه القوي قد أودعها الله في الإنسان ليحقق الغاية من الخلق فيعمرالأرض ويسير فيها على هدي من الله .
وحتي ينجح الجنس البشري فى المهمة التي أوكلها الله إليه, تعهده برسالاته المساعدة له على الجمع بين معرفته بربه, وبين شحذ قواه ومداركه ليكتشف مكنونات الخلق وقوانينه وطبائع المخلوقات.
ولذا كانت الرسالات السماوية مساعدة للإنسان على المعرفة, داعية للعلم منوهة به. فآدم عليه السلام علمه الله حقائق الكائنات, حتي استطاع أن يميز بينها وأن يطلق على كل واحد منها الاسم الذي يتميز به عن بقية الموجودات " وعلم آدم الأسماء كلها" (سورة البقرة آية 31) ونوح عليه السلام علم البشرية صناعة السفن وعرفهم بالخالق الواحد" واصنع الفلك بأعيننا ووحينا " (سورة هود 37) وإبراهيم عليه السلام كان قدوة لقومه فى معرفة الله," ياأبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا "(سورة مريم آية 43) وفى البحث عما غمض إدراكه عن البشرية من قبل ومن بعد .(1/1)
" وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيى الموتي" (سورة البقرة آية 260) وداود عليه السلام جمع إلى الأصل الذى من أجله بعثت الرسل ـ أعني صفاء العقيدة وصحتها ـ التعمق فى معرفة خصائص الحديد فاستطاع أن يتحكم في صلابته فكون منه نسيجا مقدرا في السرد يقي البأس "ولقد آتينا داود منا فضلا يا جبال أوبي معه والطير وألنا له الحديد أن اعمل سابغات وقدر في السرد واعملوا صالحا إني بما تعملون بصير " (سورة سبأ آية 10/11) وموسي عليه السلام يلقي العبد الصالح ويسأله أن يعلمه مما علمه الله
... " فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما. قال له موسي هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشدا(سورة الكهف آيه 65 /66) وهكذا فيما أخبرنا الله من مزايا رسله العقدية والعلمية.
وختم الله رسالاته إلى أهل الأرض بالرسالة المحمدية. وقد تميزت من بينها بأنها أكثر الديانات تعرضا للعلم أمرا به وتنويها بشأنه وتحريضا عليه فى جميع فروعه .
ولقد تتبعت مادة (العلم) فى التوراة والإنجيل فبلغ تكررها فيهما معا ـ 514 ـ مرة فقط. ثم تتبعتها فى القرآن وحده فبلغت ـ 756 ـ مرة. ولم أجد لافي التوراة ولا في الإنجيل التنوية بالعلم على النحو الذى برز في القرآن من ذلك ما رفع القرآن به مقام الذين أوتوا العلم إلى مكانة, جعلهم بها متميزين من بين سائر أفراد النوع البشري. فقال تعالي:" يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات والله بما تعملون خبير"(سورة المجادلة آية 11) وقال تعالي : "ولقد آتينا داود وسليمان علما وقالا الحمد لله الذى فضلنا على كثير من عباده المؤمنين " (سورة النمل آية 15) .
والسؤال الأول الذى تتحتم إثارته هو: ما هو العلم?(1/2)
لقد وضعت قضية تعريف ما هية العلم المطلق على بساط النظر. فرأي بعضهم كالإمام الرازي أن ما هية العلم ضرورية. على معني أنه لايمكن تعريفه وذلك لأن الضروريات غاية ما ينتهي إليه البحث ويسند إليه. ولو احتاجت الضروريات إلى ما يوضحها لتسلسل الأمر إلى ما لانهاية .
ورأي إمام الحرمين وتلميذه حجة الإسلام الغزالي أن العلم له حقيقة تميزه, وأن هذه الحقيقة ليست ضرورية بل هي نظرية, ولكن التعبير عنها بالحد الجامع المانع الذي يجلي تلك الحقيقة فى ذهن السامع بما يشمل كل أنواع العلم, وينفي ما هو ليس بعلم في أي ميدان من الميادين, أمر متعسر .
وحاول فريق من الباحثين تعريف ما هيته ولكن معظم تلك التعريفات مدخولة إن ضبطت ناحية انفلتت نواحي أخري. فعرف بأنه اعتقاد الشيء على ما هو به وهو مدخول لأنه يشمل التقليد. فألحق به بعضهم عن ضرورة أو دليل. ولكن هذه الزيادة أيضا لا تغني, لأن الاعتقاد قد يكون ناشئا عن دليل ظني. وقد أوصل الزبيدي التعريفات إلى خمسة عشر. لم يخل واحد منها من نقد مفسد له.(إتحاف السادة المتقين شرح إحياء علوم الدين ج 1ص 64 /65) .(1/3)
بتتبعي لكلام ابن خلدون وجدته قد نحا منحي طريفا وذكيا. ذلك أنه أراد أن يميز مرتبة العالم عن الجاهل والعامي. فرأي أن بعض المدارك قد يستوي فيها العالم والعامي. ومع ذلك يبقي العامي. عاميا, لايرقي إذا علم بعض القضايا إلى رتبة العالم. فقال: (إن الحذق في العلم والتفنن فيه والاستيلاء عليه, إنما هو بحصول ملكة فى الإحاطة بمبادئه وقواعده والوقوف على مسائله واستنباط فروعه من أصوله. وما لم تحصل هذه الملكه لم يكن الحذق في ذلك الفن المتناول حاصلا. وهذه الملكة هي في غير الفهم والوعي. لأنانجد فهم المسألة الواحدة من الفن الواحد ووعيها, مشتركا بين من شدا في ذلك الفن, وبين من هو مبتديء فيه; وبين العامي الذي لم يحصل علما, وبين العالم النحرير. والملكة إنما هي للعالم أو الشادي في الفنون دون سواهما فدل أن هذه الملكة غير الفهم والوعي.(المقدمة ص 770/771).
إنه حسب هذا التحليل يتبين لنا: أن العلم عبارة عن الملكة الراسخة في النفس, الحاصلة من الإحاطة بمباديء العلم وقواعده وتتبع مسائله والمنتهية إلى التمكن من استنباط الفروع من الأصول, والتصرف الواعي فى الحصول الذهني. فالعلم بهذا هو تجاوز التقليد إلى الاجتهاد. وأن العلم كما يضاد الجهل هو مضاد للتقليد أيضا. يؤيد هذا أنا نجد القرآن كما يعمل على رفع جهل الجاهلين, هو يعمل على إيقاظ المقلدين, لينزعوا عن عقولهم غشاوة التقليد حتي يكونوا جديرين بشرف الإنسانية التي خصها الله بالعلم.(1/4)
ولما كانت الدعوة الإسلامية دعوة عامة إلى الناس جميعا, شاملة لكل ما يباشره الإنسان في حياته الدنيا وما يؤول إليه أمره في حياته الآخرة, فإنه من لوازم الشطر الأول (العموم) أنها اصطدمت بما رسخ فى كثير من عقول البشر مما آمنوا به وأجروا عليه حياتهم وأقاموا عليه علاقاتهم الاجتماعية مما اعتبروه من القضايا اليقينية التى أطمأنوا إليها وأنسوا بها. فاقتضي ذلك أن يوقظ فى الإنسان ما خمد من تفكيره, وما ران على عقله من جمود وتقليد, وأن يعلن أن المبدأ الأول: هو أن كل قضية من القضايا التي ترد على عقل الإنسان يجب أن تكون خاضعة للعمل العقلي, وأن ما أقر العقل ثبوته هو علم ثابت, وأن ما رفضه العقل هو وهم ساقط. وبذلك حرر الإنسان من أوهام استعبدته واستبدت به, وأعاد إليه كرامته, ومع ذلك فانه بهذا يكون قد رمي به في بحرالكون العميق الممتد الأبعاد, يؤمنه فى خوض غماره الوحي والعقل. وباعتماده العقل فى كل ما يمكن أن يدخل فى مجاله تحقق للدين الإسلامي نظريا ما قام عليه من العموم, باعتبار أن العقل هو القدر المشترك بين البشر. وأن من فقد القدرة العاقلة انحطت مرتبته. وان كان يتحتم تكريمه فإنما ذلك لأنه حسب أصله عاقل.
وأما الشطر الثاني (الشمول) فان الإسلام ينظر في كل علاقة تحصل بين الفرد وبين الآخر, إنسانا كان هذا الآخر أو حيوانا أو جمادا. وسواء أكانت هذه العلاقة فعلا أو إدراكا. ينطلق هذا الشمول من العقيدة الواضحة أن الله رب الكون وأن الإنسان مستخلف فيه. فالانسان مرتبط بالله خلقا ومعادا, ومرتبط بالكون تأثيرا وتأثرا.
إن الارتباط بين الكون والإنسان العاقل يقوم على أساس المعرفة أولا ثم الفعل ثانيا. لذلك اهتم الإسلام بالمعرفة وخط لها منهجا فريدا هو منهجه الذي تميز به.
ويتألف هذا المنهج من الحقائق التالية:(1/5)
أن حقائق الأشياء لها ثبوت ذاتي, لايستفاد تحققها من المدرك وإنما هي ثابته في نفسها, ضرورة أن معظم المدركات سابقة عليه في الوجود وهو لاحق بها.
2)أن الإنسان له من الإمكانات ما يستطيع به إدراك تلك الحقائق. فليست الحقائق خاضعة للمدرك, ولكن بالعكس يكون الإدراك صحيحا إن تطابق معها, ويكون زائفاإن اختلف معها. وأنه لاتوجد حقيقة واقعية يستحيل على الإنسان إدراكها. وذلك ما أشار اليه النسفي بقوله: حقائق الأشياء ثابتة والعلم بها متحقق خلافا للسوفسطائية.(شرح السعد على العقائد النسفية ص 16 /20) ولمح إليه ابن خلدون بقوله: وإذا كانت كل حقيقة متعلقة طبيعة يصلح أن يبحث عما يعرض لها من العوارض لذاتها; وجب أن يكون باعتبار كل مفهوم وحقيقة علم من العلوم يخصه (المقدمة ص 63) وهذا ما يحققه قوله تعالي: قل انظروا ما ذا في السماوات والأرض وما تغني الآيات والنذر عن قوم لايؤمنون (سورة يونس آية 101) فأساس العلم النظر. الذى بما في العربية من أسرار يشمل النظر العقلي المجرد والنظر الحاسي الذى يرمز به إلى بقية الحواس باعتبار أن حاسة البصر هي أقوي الحواس اتصالا بالخارج لرسم الصورة الملتقطة فى الوعي.
ثم إن المنهج الإسلامي حدد طرق المعرفة لتحقق الركن الثاني: أن العلم بحقائق الأشياء متحقق, بثلاث وسائل:
1) الخبر الصادق.
2) الحواس الخمسة.
3) العقل .
وثق الإسلام بهذه الوسائل الثلاث لحصول المعرفة ثم العلم عند المدرك.
اما الخبر الصادق ففي ميدانين: أولا) ما روي بالخبر المتواتر أي النقل الجماعي من أفراد كثيرين, مع اختلاف الناقلين فى أسباب النقل وغاياته. ثانيا خبر الرسول صلي الله عليه وسلم بما أوحي إليه من العقيدة والشريعة. وما يشمله ذلك من المغيبات التى يعجز الإدراك الحسي والإدراك العقلي عن تصوره والعلم به إذا اعتمد إمكاناته وحدها.(1/6)
واما الحواس فالثقة بها ما دامت سليمة لاتناقض مع العقل. فهي محكومة به. فرؤيتنا للقمر بسعة صحن أمامنا هي رؤية تنحل الى أمرين: وجود القمر وهذا إحساس صادق, وتقدير مساحته, وهذا إحساس يعدله العقل. فيحصل الأمن في المعلومات التى ينقلها الحس بقاضي العقل, الذي يضبط ما جاء به الحس ويعدل. وقد نبهنا القرآن إلى أن الحس محكوم بالعقل لينتفي ما يقع فيه المدرك من خداع الإدراك الحسي. قال تعالي: وتري الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب صنع الله الذى أتقن كل شيء (سورة النمل آية 88) إن تحرك الأرض ودورانها حول الشمس الذى من شأنه أن يظهر واضحا في أعاليها لايدركه البصر ويظنها ثابته مع أنها بدليل العقل تمر مر السحاب. ومن هذا الباب أيضا تأكيد القرآن في خمس سور من القرآن على الربط بين الحواس والعقل الذى عبر عنه بالفؤاد. النحل. المؤمنون. الأحقاف. الملك. قال تعالي: وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة (سورة النحل آية 78) والفؤاد يطلق في القرآن على العقل.
وبما قررناه من إبراز أن الدين الإسلامي هو دين عام وشامل فإنه يتبع ذلك طبعا أمور منها.
أولا: لما كان البشر مختلفين تبعا لما أودع فيهم من قوي العقل والإدراك, وللظروف الزمانية والمكانية التى نشأوا وتقلبوا فيها, ولما أثر في تكون كل منهم من محيطه التربوي, واحتكاكه المدني والاجتماعي, وموروثه الثقافي والعادي, كان هذا الاختلاف الذي هو من حكمة الخلاق العظيم, موجبا لاختلاف توجهاتهم وما يحصل فى نفوسهم من مدارك, وما يرجح لكل طريقه الذى اختاره. كما هي عوامل تدفعهم إلى ضروب السلوك المتباينة أمام الحدث المتحد.(1/7)
ثانيا: أن كل ما يصدر من إيجاد أو قصد للامتناع عن الفعل من الإنسان في هذه الحياة يدخل تحت حكم من أحكام الإسلام الخمسة (الوجوب, والندب, والإباحة, والكراهة, والتحريم) يستوي فى ذلك عمله العضلي أو توجهه المعرفي, وعلم الإنسان مكتسب, يقول ابن خلدون: (وعلم البشر هو حصول صورة المعلوم في ذواتهم بعد أن لاتكون حاصلة. فهو كله مكتسب) (المقدمة ص 844) والإنسان مسؤول عما كسب أو اكتسب. وأن شرفه هو في مسئوليته هذه. وهي الأمانة التي تحملها ورضي بها إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان (سورة الأحزاب آية 72).
ثالثا: إن مسؤولية الإنسان بما يترتب عليها من ثواب أو عقوبة, تتبع آثار ما في عمله من فساد أو صلاح. ويتوجه له الخطاب فرديا في المصالح التى لاتتحقق إلا إذا قام بها كل فرد من المكلفين كإقامة الصلاة فى العبادات. ويتوجه إليه الخطاب باعتباره فردا من الجماعة إذا كانت المصلحة تتحقق في الوجود بقيام البعض بها. فكل فرد في هذا النوع من الخطاب مسؤول فى البداية ليسقط التكليف إذا قام البعض بالاستجابة لما يقتضية الخطاب. وذلك كالصلاة على الميت وتعلم طائفة ما يمكن من تبيين حكم الله. وبلوغ طائفة أخري الكفاءة العلمية والخبرة لعلاج أسقامهم ونحو ذلك مما هو غير ضروري لكل فرد مما هو لازم للجماعة.
رابعا: إذا نظرنا في حكم تعلم العلوم في الإسلام بناء على ما قدمناه ومسؤولية الفرد والجماعة فإنا نجد العلوم على أربعة أضرب:
1) ضرب لازم لكل فرد. إن لم يتعلم فسدت حياته وخسر أخراه, فالمصلحة لاتتحقق إلا إذا قام كل فرد من الأفراد بواجب تعلم ذلك العلم.
2)وضرب ثان لابد منه لمصلحة الجماعة. فلو تهاونوا كلهم به ضاعت المصلحة ولو اشتغلوا به جميعهم, كان اشتغالهم به صارفا لهم عن بقية المصالح التي لابد منها لغناء الجماعة وانتظام أمرها ومناعتها.(1/8)
3) وضرب ثالث يعطي للحياة رونقا وجمالا كعلوم الرياضة البدنية والموسيقي وتجميل المدن والبسنة ونحو ذلك مما هو غير ضروري لا لكل فرد ولا للأمة. ولو استغنت عنه ما تحللت ولا لحقها الفساد.
4) علوم تفسد ولا تصلح وتضر ولاتنفع ومثل لها المتقدمون بعلم السحر والطلسمات.
القسم الأول: لانجد له مثالا إلا علي ضرب من التأويل. إذ هو ما يتحقق به مفهوم إسلام الوجه لله.
ذلك أن كل من بايع على الإسلام, مؤدي مبايعته أنه قد التزم أن يطبق في حياته ما يرضاه الله من الأقوال والأفعال والتوجهات. ويتوقف تحقيق ما التزمه على معرفة ما يرضاه الله وما يسخطه. فيكون علمه بأحكام ما يعرض له في حياته واجبا عينيا. يتقدم أولا إدراك معني الشهادتين ثم معرفة أحكام ما يعرض له, ابتداء من أحكام الصلوات والصوم والزكاة إن كان له مال, والحج عند عزمه على أدائه, وكذلك أحكام ما يعرض له في مباشرته لمقتضيات الحياة من غذاء ولباس وسكن وزواج وذرية وعمل وسائر أنواع نشاطه فى الكون. وهذا علم جزئى يتم بصفة تراكمية يتعلم كل مسألة عند حضورها أو قبل ذلك. وهو غير بالغ بذلك درجة الملكة التى تحدث عنها ابن خلدون والتى أشرنا إليها فيما سبق. وهذا هو الواجب العيني على كل مسلم. فمن ترك التعرف على حكم الله فيما يعرض له آثم .(1/9)
القسم الثاني: الواجب الكفائي: نتبين هذا القسم من التذكير بأصل هام من أهم أصول الدين الإسلامي. وهو أن الاسلام يحقق تكوين أمة مسلمة مكتفية بكفاءات أعضائها. فيما يعود لمعرفتها بدينها وكفايتها في معاشها وأمنها وعزتها. ولذا فكل ما يخل بهذا الأصل يتحمل مسؤليته المقتدرون المتهاونون من أعضاء الأمة. وهذا قد تضافرت عليه الأدلة حتي أصبح من اليقينيات الضرورية. يشمل هذا العلوم التى كانت معروفة في عهود الإسلام الأولي والعلوم التى تبلغ الإنسانية بناء أصولها مع تقدم سير الحضارة. فإذا كان ابن خلدون خصص فى مقدمته فصولا للعلوم التى كانت معروفة في عصره, فإن الإنسانية اليوم قد ولدت علوما جديدة. كما أن كثيرا من العلوم التي ذكرها قد شقت من فروعها علوم استقلت بذاتها.
فمن العلوم التي ذكر أنها كانت معروفة في عصره 1)علوم القرآن ـ 2)علوم الحديث ـ 3) علم الفقه ـ 4) علم الفرائض ـ 5) علم أصول الفقة ـ 6) علم الكلام ـ 7) علم التصوف ـ 8) علم تعبير الرؤيا ـ 9) العلوم العددية الحساب والجبر ـ 10) العلوم العددية المساحة ـ 11) علم الهيئة ـ12) علم الأزياج ـ علم المنطق ـ 13) علم الطبيعيات ـ 14) علم الطب ـ 15) الفلاحة ـ 15) علم ما وراء الطبيعة.
هذا ما ذكره ابن خلدون من العلوم التي يجب على الأمة أن يكون لها من أهل الاختصاص في كل علم منها ما يكفيها. يدل لذلك قوله تعالي: " فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين " (سورة التوبه آية 122) ـ وقوله:" وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس " "كنتم خير أمة أخرجت للناس" (آل عمران 110) " وإن هذه أمتكم أمة واحدة " (المؤمنون آية 52) فالتأكد فى القرآن على مفهوم الأمة يفيد تحتم جميع مقومات الأمة بصفة تكون معتمدة على إمكاناتها الذاتية مما يؤمن حياتها عزيزة وبقاءها.(1/10)
والملاحظ أن العلامة ابن خلدون وكذلك الغزالي من قبله لم يستوعبا ذكر العلوم التى هي فرض كفاية فى ذلك العصر. وإن كان ابن خلدون قد أشار إلى أن الصنائع لابد لها من العلم. (المقدمة 712 /714).
كما يلاحظ أن الغزالي اعتبر التعمق في دقائق الحساب والطب اعتبر ذلك فضيلة لاتصل إلى درجة الوجوب الكفائى.
وأما ابن القيم فانه لم يعتبر واحد الا من علوم الحياة ولا من علوم وسائل فهم الشريعة كالنحو والصرف والبلاغة واجبا كفائيا. وخلط في كلامه بين الواجب العيني وخاصته والواجب الكفائي وخاصته لما قال: فلا فرض إلا ما فرضه الله تعالي ورسوله فيا سبحان الله هل فرض الله على كل مسلم أن يكون طبيبا حجاما حاسبا مهندسا أو حائكا أو فلاحا أو نجارا أو خياطا? فان فرض الكفاية كفرض العين في تعلقه بعموم المكلفين وإنما يخالفه بسقوطه بفعل البعض.) (إتحاف السادة المتقين ج1 ص 145) ذلك أن معني الواجب الكفائي هو ما كان متوجها لمجموع المقتدرين على تحصيله ليقوم به من تتحقق به المصلحة. والقائمون على سياسة الدولة هم المسؤولون أولا عن توفير الظروف ليتم ذلك.(1/11)
انه بناء على ما قد كنا قدمناه يتبين لنا, أن دائرة العلوم التى تجب وجوبا كفائيا تتسع قاعدتها تبعا لتقدم الحضارة الإنسانية يدل لهذا قوله تعالي: "وما أوتيتم من العلم إلا قليلا (سورة الإسراء آية 85) فالقلة تشمل الكم من معلومات العلم الواحد كما تشمل أنواع العلوم. وكل علم يضمن للأمة القوة والمناعة ويلبي احتياجاتها هو علم واجب كفائيا. كعلوم البحار والبيئة والالكترونيك والإنترنت وعلوم الفضاء وعلوم الحياة والعلوم الحربية, في تكوين المقاتلين الأكفاء وتطوير الأسلحة برا وجوا وبحرا وغير ذلك مما أفرزته البحوث الجادة في مختلف ميادين المعرفة في العصر الحديث وما ستولد عنها من علوم في المستقبل. فيجب على الأمة الإسلامية أن يكون لها في كل فرع اختصاص علماء مهرة يحفظون عزتها وقوتها واستقلالها حتي لاتضعف الأمة فتتعرض لقوي البغي المتسلطة فتتلاشي ويذهب ريحها. والقيام على هذا الأمر من أوكد واجبات الحكم. وهو أمانة صاحب السلطة الذي أوكل إليه تنظيم نشاط الأمة.
يعجبني أن استشهد في هذا المقام بكلام حجة الإسلام الغزالي لما قال: فان الدنيا مزرعة الآخرة. ولايتم الدين إلا بالدنيا. والملك والدين توأمان فالدين أصل والسلطان حارس. وما لا أصل له مهدوم, وما لاحارس له فضائع (إحياء علوم الدين ص 24).
القسم الثالث: هذا القسم من العلوم هو من النوع الجائز, إن نظرنا إليه نظرا فرديا بشرط أن لايفضي إلى ضياع مصلحة ضرورية أو يؤدي إلى ارتكاب معصية. وقد يترجح أنه مندوب إليه إذا كان مما يزيد في مكانة الأمة ومهابتها.(1/12)
القسم الرابع: من العلوم التي استطاع العقل البشري أن يرتب لها أصولها وقواعدها, علوم تضر بالإنسان أو تهدد الإنسانية عامة, أو تفسد المحيط وهذه حسب الأصل كلها محرمة. وهذا كعلوم السحر التى يتوصل بها إلى تمزيق شمل الأسر, أو تخليط العقل وإفساد انتظامه. والطلسمات وهو علم استنزال قوي الأرواح العلوية.(انظر في هذا إتحاف السادة المتقين ج1 ص 146) وفي عصرنا هذا انحراف بعض المختصين في العلوم الكيميائية إلى تطوير مواد يتوصل بها إلى التأثير على سلامة الإنسان في قواه العقلية والجسمية. وكذلك الفروع من علوم الفيزياء المدمرة التى تخرب الكون بما فيه من نبات وحيوان وإنسان وتربة. فهذه العلوم بالنظر الأصلي كلها محرمة. لكن إذا كان العدو يمتلكها, وردعه عن استخدامها يتم بامتلاك أسرارها والتعمق العلمي في أصولها العلمية والتطبيقية, فان امتلاك ذلك يكون واجبا كفائيا. والدولة هي التى تضبط الحدود التي يتم فيه إنجاز ذلك, حتى لاينتشر فساده ويقتصر فيه على ما هو ضروري لمناعة الأمة الإسلامية. وكذلك السحر إذا برز قرنه في صقع من الأصقاع فان تعلم الصالحين ما يفكون به فاعليته, يكون من الواجب الكفائي.
النظرة الخاصة للإسلام في العلوم :
إذا كان الإسلام كما رأينا يحفز العقل على التعمق في كل موضوع إلى أن يصل حسب طاقته إلى كنه الحقيقة العلمية فإنه مع ذلك يؤكد دوما على ربط الجهاد العمي ببصيرة الإيمان الواضح المشرق. ذلك أن العلم إذا انفلت من الرقابة الإلهية فإنه يتمرد على الإنسان ذاته وعلى محيطه. وعوض أن يكون العلم وسيلة لإسعاد الإنسان في دنياه وآخرته ينقلب العلم مدمرا لهما, كما تنقلب القيم وحقائق الأشياء, فإذا العلم بذلك هو الأصل والإنسان وسيلة. وهو الهرم المقلوب على رأسه, لايثبت ولايستقر, مآل ذلك خراب العالم والإنسان معا. فنجاح الحضارة ورقيها مرتبطان بالعلم المشيع بنور الإيمان من البداية إلي النهاية.(1/13)
والله أعلم وأحكم وهو حسبي ونعم الوكيل نعم المولي ونعم النصير ولا حول ولا قوة إلا بالله العظيم .(1/14)