في رياض الأخوة
مُفْسِدَاتُ الأُخُوَّةِ
تأليف
أبي عاصم
هشام بن عبد القادر بن محمد آل عقدة
إهداء إلى
أحبة الصبا، وصحبة الشباب
أما بعد
أتدري أين سكناه..؟!(1)
أتدري أين سكناهُ
وهل عيناك تُثبِتُهُ
أخوك يعيشُ كالتاريخ
بلا لُغَةٍ تًصَافِحُهُ
لئن ضاقت به الدُّنْيَا
وتسمو دونَمَا مَنّ
وترفع دونَهُ حِمْلاً
لئن ضاقت به الدنيا
وتُسْدِلُ حوله سِترًا
ترى أخْراكَ مُثْمِرةً
لئن ضاقت به الدني
خوكَ وأين مسعَاهُ؟
إذا فاتتك عيناهُ؟
في جنبيْكَ مَسْراهُ
وتدْمَعُ حينَ تلقاهُ
فصدرُكَ أنتَ مأواهُ
تُخفِّفَ عنه بلوَاهُ
إذا كَلَّتُ ذِرَاعَاهُ
فصَدْرُكَ أنتَ مأواهُ
إذا الشَّيْطَانُ أغْواهُ
فقد أخصبَتْ دُنْياهُ
فصدرك أنت مأواهُ
?
مقدمة
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
وبعد:
فالمحبة بين المؤمنين والتآلف والتآخي شأن عظيم وخطر جليل، فقد جعل الله عز وجل الأخوة سمة المؤمنين في الدنيا والآخرة، قال تعالى: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ } [الحجرات: 10]، وقال جل وعلا: { وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ } [الحجر:47].
والأخوة بين المؤمنين نعمة كبيرة ومنة عظيمة من الله تعالى: { وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا } [آل عمران: 103]، { هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ. وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ } [الأنفال: 62، 63].
__________
(1) من أناشيد الدعوة.(1/1)
وهذه الأخوة الحاصلة بين المؤمنين سببها الإيمان والعقيدة، فهي أخوة قائمة على (الحب في الله) الذي هو أوثق عرى الإيمان، قال - صلى الله عليه وسلم -: ((أوثق عرى الإيمان الموالاة في الله والمعاداة في الله، والحب في الله، والبغض في الله عز وجل))(1)، ومن ثم فأخُوَّة المؤمنين أرفع أخوة، وأسمى علاقة يمكن أن توجد بين البشر، فأخُوَّةُ المؤمنين تزري بأخُوَّةِ الأشقاء، ورابطة العقيدة أقوى من رابطة النسب، ولما قال نوح عليه السلام: { رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ } [هود: 45]، قال له ربه جل وعلا: { يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ } [هود: 46].
وما أجمل قول الشاعر:
فقلتُ: أخي، قالوا: أخٌ من قرابة
نسيبي في رأيي وعزمي وهمَّت
قلت لهم: إن الشُّكُول أقاربُ
وإن فرّقَتْنا في الأصولِ المناسِب(2)
?
__________
(1) رواه الطبراني في المعجم الكبير رقم (11537) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، والبغوي في شرح السنة (13/53) وله شواهد كثيرة عن ابن مسعود عند أبي داود الطيالسي رقم (378)، ص50، والطبراني في الصغير، كما في مجمع الزوائد (1/90)، وعن البراء رواه الإمام أحمد في مسنده (4/286) بلفظ: ((أوسط عرى الإيمان أن تحب في الله وتبغض في الله)).
…ورواه ابن أبي شيبة في الإيمان رقم (110) ص42، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير رقم (2539)، وحسنه شعيب الأرناؤوط في تحقيق شرح السنة (13/53).
(2) أدب الدنيا والدين ص164.(1/2)
ونظرًا لأهمية هذه الرابطة بين المؤمنين فقد رتب الله جل وعلا عليها عظيم الفضل وجزيل الأجر والثواب وقرب أهلها وأحبهم، فمن السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: ((رجلان تحابا في الله، اجتمعا عليه وتفرقا عليه))(1).
وفي الحديث القدسي: ((المتحابون في جلالي لهم منابر من نور يغبطهم النبيون والشهداء))(2)، وفي الحديث القدسي أيضًا أن الله تعالى قال: ((حقت محبتي للمتحابين فيَّ، وحقت محبتي للمتواصلين فيَّ، وحقت محبتي للمتناصحين فيَّ، وحقت محبتي للمتزاورين فيهَّ، وحقت محبتي للمتباذلين فيَّ))(3).
__________
(1) جزء من حديث: رواه البخاري في الأذان رقم (660)، والزكاة رقم (1423)، والرقاق رقم (6479) مختصرًا، وفي الحدود رقم (6806)، ورواه مسلم في الزكاة رقم (1031)، ومالك في الموطأ في الشعر (2/952، 953)، والنسائي في القضاة (8/222، 223)، والترمذي في الزهد رقم (2391)، وأحمد في مسنده (2/439)، والبغوي في شرح السنة (2/354).
(2) رواه الإمام أحمد في المسند (5/239)ـ مطولاً ـ، وروى الترمذي في الزهد رقم (2390) الجزء المذكور فقط، وصححه الألباني "صحيح الجامع الصغير" رقم (4312).
(3) رواه الإمام أحمد في المسند (5/229، 233، 237، 239، 328)، ورواه الإمام مالك في الموطأ في الشعر (2/953، 954)، والبغوي في شرح السنة (13/50)، وصحح إسناده الحافظ ابن عبد البر والحافظ المنذري في الترغيب والترهيب (4/18، 19)، وصححه أيضًا الشيخ الألباني "صحيح الجامع الصغير" رقم (4320)، والشيخ شعيب الأرناؤوط في تخريج شرح السنة (13/50).(1/3)
وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ((أن رجلاً زار أخًا له في قرية أخرى، فأرصد(1) الله تعالى على مدرجته(2) ملكًا، فلما أتى عليه قال: أين تريد؟ قال: أريد أخًا لي في هذه القرية. قال: هل لك عليه من نعمة تَرُبُّها(3) عليه؟ قال: لا، غير أني أحببته في الله تعالى. قال: فإني رسول الله إليك بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه))(4).
وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((ما تحاب رجلان في الله تعالى إلا كان أفضلهما أشدَّهما حبًا لصاحبه))(5).
__________
(1) يعني أقعده يربه. شرح النووي (16/124).
(2) المدرجة هي الطريق، سميت بذلك لأن الناس يدرجون عليها أي يمضون ويمشون. السابق.
(3) أي تقوم بإصلاحها وتنهض إليه بسبب ذلك. السابق.…
(4) رواه مسلم في البر والصلة رقم (2567)، وأحمد في المسند (2/292، 408، 462، 508)، والبغوي في شرح السنة (13/51)، وابن حبان في صحيحه رقم (571) الإحسان.
(5) رواه البخاري في الأدب المفرد رقم (544)، وأبو داود الطيالسي في مسنده رقم (2053)، والحاكم في مستدركه (4/171)، والخطيب في تاريخ بغداد (11/341)، وابن حبان رقم (567)، الإحسان، كلهم من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (10/276): "رواه الطبراني في الأوسط وأبو يعلى والبزار بنحوه ورجال أبي يعلى والبزار رجال الصحيح غير مبارك بن نضالة، وقد وثقه غير واحد على ضعف" اهـ. وصححه الألباني "صحيح الجامع الصغير" رقم (5594)، صحيح الأدب المفرد رقم 0423)، وورد من حديث أبي الدرداء مرفوعًا نحوه بلفظ: ((ما من رجلين تحابا في الله بظهر الغيب إلا كان أحبهما إلى الله أشدهما حبًا لصاحبه))، قال الهيثمي: "ورواه الطبراني في الأوسط ورجاله رجال الصحيح غير المعافى بن سليمان وهو ثقة" اهـ. وقال المنذري: "رواه الطبراني بإسناد جيد قوي"اهـ. مجمع الزوائد (10/276)، الترغيب والترهيب (4/17).(1/4)
وعن عبدة بن أبي لبابة أنه لقي مجاهدًا رحمه الله فأخذ مجاهد بيده فقال: إذا التقى المتحابان في الله فأخذ أحدهما بيد صاحبه وضحك إليه تحاتت خطاياهما كما تحات ورق الشجر. قال عبدة: فقلت له: إن هذا ليسير ـ يعني المصافحة والتبسم ـ فقال: لا تقل ذلك، فإن الله يقول: { لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ } [الأنفال: 63]، قال عبدة: فعرفت أنه أفقه مني(1).
وعن الوليد بن أبي مغيث عن مجاهد قال: إذا التقى المسلمان فتصافحا غفر لهما، قال: قلت لمجاهد: بمصافحة يغفر لهما؟ قال مجاهد: أما سمعته يقول: { لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ } [الأنفال: 63]. فقال الوليد لمجاهد: أنت أعلم مني(2).
ولمثل هذه الإخوة كان - صلى الله عليه وسلم - يعمل (وهو يربي أصحابه رضوان الله عليهم ثلاثة عشر عامًا في مكة، وسنوات في المدينة بعد ذلك... ولم يكن يقول في نفسه وهو في مكة: إلى متى نربي تلك المشاعر دون أن "نعمل"؛ لأنه كان يعلم يقينًا بما علمه ربه أن هذا من العمل الأساسي المطلوب لإنشاء القاعدة المؤمنة التي وُجِّه - صلى الله عليه وسلم - لإنشائها... وأن هذه الأخوة فوق أنها ضرورية لإقامة القاعدة المؤمنة التي هي نواة الأمة المسلمة، فهي جزء من "التحقيق السلوكي" للا إله إلا الله...
فليست لا إله إلا الله وجدانًا قلبيًا عميقًا فحسب، بل هي التزام بما أنزل الله، ومن ثم فكل ما جاء من عند الله فالالتزام به هو من مقتضيات لا إله إلا الله.
__________
(1) انظر: تفسير ابن كثير (2/309).
(2) السابق (2/309، 310).(1/5)
وقد أحب الله هذه الأخوة وامتدحها وأوجبها على المؤمنين، وأنزل فيها آيات كثيرة لعل من أبرزها ـ آيات الحجرات ـ: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ } [سورة الحجرات: 11، 12].
بالقرآن... بالمصاحبة... بالمعايشة... بالتوجيه المستمر... بالقدوة في شخصه الكريم - صلى الله عليه وسلم - ... بالحب الذي يفيض من قلبه الكبير إليهم... بالاهتمام بكل فرد منهم كأنه هو الأثير عنده... بالممارسة العملية للمشاعر الإيمانية داخل الجماعة...بهذه الوسائل مجتمعة ربّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الجماعة المتآخية التي صنعت بتآخيها الأعاجيب، وأقام ذلك البنيان المتين المترابط، الذي يشد بعضه بعضًا فيقويه...
وفي غربة الإسلام الثانية نحتاج إلى مثل ما احتاج إليه الأمر في الغربة الأولى... إن لم يكن على ذات المستوى السابق فعلى أقرب المستويات إليه... ذلك أن الضغوط الجاهلية تفتت كل ترابط ما لم يكن وثيق الرباط إلى الحد الذي يتحمل كل الضغوط، ويبقى وثيقًا رغم كل الضغوط...(1/6)
كم يستغرق هذا الأمر؟ لا أدرى! ولكني أعلم يقينًا أنه مطلوب... وأن القاعدة التي يقع عليها عبء مواجهة الجاهلية بكل كيدها ينبغي أن تحقق في سلوكها العملي هذا الخلق من أخلاقيات لا إله إلا الله لتصبح جديرة برعاية الله... ولكي تستطيع أن تمضي في الطريق متآخية متساندة مترابطة وهي تتعرض للأهوال)(1).
والداعية إلى الله تعالى أحوج الناس إلى أن يكون محبوبًا مألوفًا حتى تنفذ دعوته إلى القلوب ويدوم أخذ أصحابه عنه، ومن ثم كان من الضرورة بمكان أن يتقي ما يعكر صفو العلاقة بينه وبين من التفوا حوله حتى تبقى الأخوة بينه وبينهم عميقة قوية، مما يعين على تعاونهم معه وانتفاعهم به وقبولهم منه.
ومن جهة أخرى فحاجة كل منا وحاجة الإنسان عامة إلى الصاحب والحبيب من الحاجات الأساسية والمطالب النفسية التي لا تنكر حتى يتمكن من قطع مسيرته في هذه الحياة، فالمرء قليل بنفسه كثير بإخوانه(2)، فإن إخوان الصدق زينة في الرخاء وعصمة في البلاء(3)، فإن رؤيتهم تفرح القلب وتريح النفس وتزيل الغم.
وصدق عمر رضي الله عنه إذ يقول: لقاء الإخوان جلاء الأحزان(4).
وقال بعض السلف: روح العاقل في لقاء الإخوان(5).
وسئل سفيان رحمه الله: ما ماء العيش؟ قال: لقاء الإخوان.
__________
(1) واقعنا المعاصر 490، 491.
(2) ورد هذا المعنى عن سهل بن سعد مرفوعًا بلفظ: "المرء كثير بأخيه"، عزاه السيوطي في الجامع لابن أبي الدنيا في "الإخوان"، وذكره الشيخ الألباني في الضعيفة وعزاه للقضاعي عن أنس بن مالك مرفوعًا (2/8/1)، ولأبي بكر الشيروي في "العوالي الصحاح" (2/211) وضعفه، ضعيف الجامع الصغير رقم (5934)، سلسلة الأحاديث الضعيفة رقم (1895).
(3) أورده في روضة العقلاء من كلام عمر رضي الله عنه ص89، 90.
(4) السابق ص162.
(5) المختار من الصداقة والصديق لأبي حيان التوحيدي ص135.(1/7)
وقيل لمحمد بن المنكدر: ما بقي من لذتك؟ قال: التقاء الإخوان وإدخال السرور عليهم(1).
وقيل لبعض الحكماء: ما العيش؟ قال: إقبال الزمان، وعز السلطان، وكثرة الإخوان(2).
وقيل: حلية المرء كثرة إخوانه(3).
ورحم الله الحسن إذ يقول: إخواننا أحب إلينا من أهلينا، إخواننا يذكروننا بالآخرة، وأهلونا يذكروننا بالدنيا(4).
وأي طعم للحياة بدون الأحبة؟! وما أرق قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه لابنه الحسن: يا بني، الغريب من ليس له حبيب(5).
وقال بعض الشعراء:
وكنتُ إذا الصديقُ نَبَا بأمري
غفرتُ ذُنوبَه وكظمتُ غيظِ
أشْرَقني على حنقِ بَريقِي
مخافةَ أن أعِيشَ بلا صديق(6)
?
وقال بعض الأدباء: أفضل الذخائر أخ وفيٌّ(7).
وقال بعض البلغاء: صديق مساعد عضد وساعد(8).
وقال بعض الشعراء:
هموم رجالٍ في أمورٍ كثيرةٍ
نكونُ كروحٍ بين جسمين قُسَّمَ
همَّي من الدنيا صديقٌ مساعِدُ
فجسماهما جسمان، والروح واحد(9)
?
قال الكندي: الصديق إنسان هو أنت إلا أنه غيرك(10).
وقد قالت الحكماء: رب صديق أود من شقيق(11).
وقال ابن المعتز: القريب بعداوته بعيد، والبعيد بمودته قريب(12).
__________
(1) البداية والنهاية (7/297)، وحلية الأولياء (3/149).
(2) …أدب الدنيا والدين ص171.
(3) السابق ص171.
(4) الإحياء (2/191).
(5) أدب الدنيا والدين ص162.
(6) المختار من الصداقة والصديق ص125.
(7) أدب الدنيا والدين ص162.
(8) السابق ص162.
(9) السابق ص162، العقد الفريد (2/80).
(10) السابق ص164، قال الماوردي: ومثل هذا: القول المروي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه حين أقطع طلحة بين عبيد الله أرضًا، وكتب له بها كتابًا، وأشهد فيه ناسًا منهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأتى طلحة بكتابه إلى عمر ليختمه، فامتنع عليه، فرجع طلحة مُغضبًا إلى أبي بكر رضي الله عنه وقال: والله ما أدري أنت الخليفة أم عمر؟ فقال: بل عمر، لكنه أنا.
(11) السابق ص166.
(12) السابق ص166.(1/8)
وقال الشاعر:
يَخُونك ذو القرْبَى مِرارًا وربم
َفّى لك عندَ العهْدِ من لا تُناسِبُه(1)
?
ولذا قال خالد بن صفوان: إن أعجز الناس من قصر في طلب الإخوان، وأعجز منه من ضيع من ظفر به منهم(2).
وقال بعض الحكماء: من لم يرغب في الإخوان بُلِيَ بالعداوة والخذلان، ولعمري إن إخوان الصدق من أنفس الذخائر وأفضل العدد(3).
فبإخوان الصدق تحلو الحياة؛ بسماع حديثهم ورؤية وجوههم واللصوق بهم، وبهم تذلل الصعاب وتخف المشاق وتهون الشدائد. وصدق ابن المعتز إذ يقول: من اتخذ إخوانًا كانوا له أعوانًا(4).
وما أصدق هذا الكلام إذا تأملناه في أيامنا هذه، من الذي يعينني على الالتزام بالدين؟ من الذي يعينني على فعل الطاعة وترك المعصية؟ من الذي يعينني على الدعوة والثبات؟ من الذي أستريح بعرض مشاكلي عليه وأطمئن بوقوفه إلى جانبي؟ ومن الذي يخفف عليّ النكبات ويدخل عليّ السرور، ويؤثر فيَّ بالقدوة والكلمة؟!
قال سفيان رحمه الله: لربما لقيت الأخ من إخواني فأقيم شهرًا عاقلاً بلقائه(5).
وقال أحدهم(6):
صافِ الكرامَ إذا أردتَ إخاءَهُم
كَم إِخْوة لك لم يَلِدْكَ أبوه
اعْلمْ بأن أخَا الحفَاظِ أخُوكا
وكأنما آباؤهُم ولدُوكا
?
__________
(1) السابق ص166.
(2) عيون الأخبار لابن قتيبة (3/3) ولم ينسبه لأحد، ونسبه في أدب الدنيا والدين ص162 لخالد بن صفوان.
(3) السابق ص165.
(4) السابق ص162.
(5) روضة العقلا ص93.
(6) العباس بن عبد يعيش كما في روضة العقلاء ص87 ضمن أبيات له.(1/9)
فحذار أن يعجب المرء بنفسه ويفضل أن يعيش فردًا مستقلاً بعيدًا عن إخوانه، ((فإنما يأكل الذهب من الغنم القاصية))(1)، ((فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد))(2) كما قال - صلى الله عليه وسلم -.
ولذا فمن أساليب الشيطان لإضلالك أن يبغض إليك إخوانك، ويقول لك: هذا فعل كذا، وهذا يضايقك في كذا. ولا يزال بك حتى تصير فردًا ضعيفًا كسولاً، ثم لا تلبث أن تتسلط عليك الدنيا ويتسلط عليك الشيطان بالأفكار التافهة والانشغالات الدنيوية الحقيرة، والتفكير في الدنيا وشهواتها، ويملأ قلبك وحشة من إخوانك ومن الدعوة ومن مجالس العلم حتى تصبح لقمة سائغة له وفريسة لا حراك لها بين يديه، وهذا هو الخسران المبين.
__________
(1) جزء من حديث رواه الإمام أحمد في مسنده (5/196)، (6/446)، وأبو داود في الصلاة رقم (547)، والنسائي في الإمامة (2/106، 107)، وعزاه المنذري في الترغيب والترهيب (1/273) لابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما والحاكم كلهم من حديث أبي الدرداء وحسنه الألباني، صحيح سنن أبي داود رقم (511).
…وروى الإمام أحمد في مسنده (5/233، 243)، من حديث معاذ بن جبل قال: إن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن الشيطان ذئب الإنسان كذئب الغنم يأخذ الشاة القاصية والناحية فإياكم والشعاب وعليكم بالجماعة والعامة والمسجد)) قال الهيثمي في مجمع الزوائد (5/219): "رواه أحمد والطبراني، ورجال أحمد ثقات إلا أن العلاء بن زياد قال: إنه لم يسمع من معاذ"اهـ، وضعفه الألباني، ضعيف الجامع الصغير رقم (1477).
(2) جزء من حديث رواه الترمذي في الفتن رقم (2165)، وصححه الألباني، صحيح سنن الترمذي رقم (1758)، صحيح الجامع الصغير رقم (2546).(1/10)
وقد أقسم الله جل وعلا فقال: { وَالْعَصْرِ. إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ. إِلا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ } فأي تواصٍ يمكن أن يحدث إذا كان الإنسان لا يريد الاختلاط بغيره ويبتعد عن مواطن التناصح والتواصي؟!
وإن المؤمن الصادق لا يطيق مثل هذه الحياة، فإنما يصبر على الحياة ويحبها من أجل ما يجده من إخوانه من التوجيه النافع والكلام الطيب والصحبة الهنيئة، وصدق عمر رضي الله عنه إذ يقول: لولا ثلاث لأحببت أن أكون قد لقيت الله: لولا أن أضع جبهتي لله، أو أجلس في مجالس ينتقى فيها طيب الكلام كما ينقى جيد التمر، أو أن أسير في سبيل الله عز وجل(1).
وكم تصبح الحياة قاسية حين ينضب معين الأخوة، وكم يصيبها السوء والانحدار، فإن حياة الناس لا تسوء حتى تفقد الأخلاقيات العالية والمشاعر الصادقة والمثاليات الرفيعة، كما أن الأمة لا تنحدر مرة واحدة وإنما يأتي الانحدار دائمًا تدريجيًا، فأول السيل قطرة، والبلاء يكون يسيرًا في بدايته ثم يستفحل.
ومن المشاهَدِ أن من الأمور التي تنذر بشر ضياع الألفة بين الناس وكأنه كلما مرَّ الزمان وازدادت المدنية ازداد تقطيع الأواصر(2) وشتان بين حالنا... وحال سلفنا وما كانوا عليه من التآلف والتآخي.
__________
(1) حلية الأولياء (1/51).
(2) وقد روى البخاري في الأدب المفرد رقم (263) عن عمير بن إسحاق رحمه الله أنه قال: كنا نتحدث أن أول ما يرفع من الناس الألفة، إلا أن أول ما يرفع بين الناس الألفة، إلا أن الألباني حفظه الله قال: "ضعيف الإسناد عمير وثق وفيه القاسم بن مالك فيه لين" اهـ، ضعيف الأدب المفرد رقم (43).(1/11)
وشتان بين مجتمع تسوده الألفة والمودة والإخاء والمحبة، يشعر الفرد فيه بقربه من الآخرين وقربهم منه دون انقباض ولا تكلف، ومجتمع يعيش كل فرد فيه وحده يستثقل أن يجتمع بأحد أو يجتمع إليه أحد، ينقبض من الآخرين، وينعزل كل فرد عن الآخر، وتخلو الحياة من المشاعر الرقيقة والأشواق الرفيعة، فإذا هذه الأمة التي ينبغي أن تكون جسدًا واحدًا(1) قد صارت أجسادًا كثيرة لا حصر لها، تحيا حياة مملة جافة قاسية لا روح فيها ولا معنى.
والألفة لا ترفع من الناس، مرة واحدة، ولكن هناك مقدمات تحدث تكون سببًا لزوال الألفة، وكم من صاحب لم يراع بعض الأمور مع صاحبه فأصبح ثقيلاً عليه وزالت من بينها الألفة؛ لذا كان من المهم أن نعرف كيف نحافظ على الألفة، وننميها بيننا، وأن نعلم كل ما يفسدها لنتقيه ونحذر منه.
وينبغي أن لا نستهين بما تتركه أقوالنا وتصرفاتنا ومواقفنا من أثر على نفوس أصحابنا، فقد يكون أثر الصاحب على صاحبه دافعًا له لحب جميع أصحابه والتعلق بهم حتى ليرى أنهم سبب سعادته ولا يطيق فراقهم.
فليتني أحيَا بقربهم
فتكون دارِي بين دوره
إذا فقدتهم انقَضَى عمري
ويكون بين قبورهم قَبْرِي
?
وقد يكون أثر الصاحب على صاحبه دافعًا له لكره مصاحبة الخلق وإيثار العزلة والانفراد عنهم.
لا تجزعنَّ لوحْدَةٍ وتَفَرُّد
ذهب الإخاءُ فليس ثَمَّ أخوةٌ
فإذا كشفت ضميرهم بصدورهم
من التَّفرد في زمانك فازْدَدِ
إلا التَّملُّق باللسان وباليَدِ
أبْصرت ثَمَّ نقِيع سم الأسوَدِ
?
__________
(1) قال - صلى الله عليه وسلم -: ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)). رواه البخاري في الأدب رقم (6011)، ومسلم في البر والصلة رقم (2586)، والبغوي في شرح السنة (13/46).(1/12)
فتأمل عظم الأثر النفسي للصاحب على صاحبه، وكيف يتراوح من أن يكون الصاحب لصاحبه غذاءه الذي تقوم به حياته ولابد له منه في كل وقت، ودواءه الذي يحتاجه في الحين بعد الحين وليس في كل وقت، إلى أن يكون سُمَّه وداءه الذي يقضي عليه ويحطمه(1)، (فالصداقة قد تولد الحب وقد تولد عدمه، وقد تولد الإيثار وقد تولد الأثرة، وقد تولد الوفاء وقد تولد البغضاء)(2).
وما ذاك إلا لأن النفس تتأثر جدًا بتصرفات الأصحاب، وكم نرى من شخص نظنه مريضًا أو نزلت به كارثة عظيمة وما به إلا أثر صاحبه عليه، فقد يكون ذلك أثرًا لما وقع عليه من تصرف غير حميد، أو صدمة في صديق، أو فراق حبيب، فيؤثر ذلك على مزاجه وعلى كلامه وعلى نظراته وعلى طعامه وشرابه وعلى نومه، وعلى عمله وأدائه.
__________
(1) قال الماوردي في أدب الدنيا والدين ص170، 171: (قال المأمون: الإخوان ثلاث طبقات: طبقة كالغذاء؛ لا يستغنى عنه، وطبقة كالدواء؛ يحتاج إليه أحيانًا، وطبقة كالداء؛ لا يحتاج إليه أبدًا.اهـ. ولعمري إن الناس على ما وصفهم، ولكن ليس من كان منهم كالداء من الإخوان المعدودين، بل هم من الأعداء المخدورين، وإنما يداجون ـ من داجاه إذا ساتره ـ المودة استكشافًا لشرهم، وتحرزًا من مكاشفتهم، فدخلوا في عداد الإخوان بالمظاهرة والمساترة، وفي الأعداء عند المكاشفة والمجاهرة...
…فإذا خرج من كان كالداء من عداد الإخوان، فالإخوان هم الصنفان الآخران، من كان منهم كالغذاء أو كالدواء؛ لأن الغذاء قوام للنفس وحياتها، والدواء علاجها وصلاحها، وأفضلهما من كان كالغذاء؛ لأن الحاجة إليه أعم. وإذا تميز الإخوان وجب أن ينزل كل منهم حيث نزلت به أحواله إليه، واستقرت خصاله وخلاله عليه، فمن قويت أسبابه قويت الثقة به، وبحسب الثقة به يكون الركون إليه، والتعويل عليه).
(2) انظر: الصداقة والصديق ص86.(1/13)
إن مجرد إحساس الأخ بشيء يسير من الابتعاد أو الإعراض من صاحبه يحرق قلبه ويُضَيِّق عليه الدنيا، فكيف بما هو أعظم من ذلك؟!
إذا رأيتَ ازْورَارًا من أخي ثقَة
فإذا صددتُ بوجهي كي أكافِئَ
اقَتْ عليّ برحبِ الأرضِ أوطَاني
فالعين غضبى وقلبي غير غضبانِ
?
يعني أنك قد تمرض نفسًا رقيقة أو تدمرها تدميرًا وتحطمها تحطيمًا وأنت لا تشعر... وعدم شعورك به ضربة وصدمة أخرى فتكون قد أمته موتتين.
لكل ما سبق كان لزامًا علينا أن لا نتهاون بمفسدات الأخوة، وأن نتعرف عليها جيدًا لنصون أخوّتنا عنها لعل الله جل وعلا أن يديم ألفتنا ويجعلها عونًا لنا على قطع رحلتنا في هذه الحياة، والقيام برسالتنا، والله المستعان وعليه التكلان
أبو عاصم
دمنهور
في مساء السبت 6 صفر 1417هـ
22 يونيه 1996م
مُفْسِدَاتُ الأخوّةِ(1)
__________
(1) قد يرى البعض شيئًا من التناقض في بعض المفسدات المذكورة، وليس كذلك فإن الفضيلة وسط بين طرفين كما أن كلاً من الإفراط والتفريط مذموم، والإفراط في هذا الجانب أو ما يقابله مذموم، ولتوضيح ذلك بمثال؛ فمن مفسدات الأخوة برود العاطفة والتفريط في إظهار المحبة، ومن المفسدات أيضًا الإفراط في المحبة، وليس هذا تناقضًا وإنما المراد أن لا يصل الحذر من الإفراط في المحبة إلى برود العاطفة أو التفريط في إظهار المحبة، كما لا ينبغي أن تؤدي العاطفة الحية الجياشة وإظهار المحبة إلى الإفراط وما يؤدي إليه من عواقب سيئة تعود على الأخوة بالفساد ـ كما سيأتي في موضعه ـ وعلى هذا فقس أمثاله (كتدخلك فيما لا يعنيك من شئونه مع عدم الاكتراث بمشاكله ... وهكذا...).(1/14)
وقبل الشروع في هذه المفسدات على وجه التفصيل فلابد من الإشارة إلى أن المقصود من ذكر هذه المفسدات اتقاؤها وصون أخوتنا عنها ومعرفة كيف يحافظ الأخ على أخيه وكيف تدوم له مودته، وإن الأمور التي يحافظ بها الأخ على أخيه وتدوم له بها مودته خضم عظيم، وبحر لا ساحل له، والحديث فيه لا تبدو له نهاية...
والحديث عما تدوم به الأخوة فيه إجمال وتفصيل:
فإجمالاً: كرم العشرة سبب دوام الأخوة.
وكرم العشرة عبارة جامعة لكل ما ينمي العلاقة بينك وبين أخيك، وإن شئت فقل: هي حسن الخلق الذي أرشد إليه رسولنا - صلى الله عليه وسلم - في وصيته الجامعة: ((اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن))(1)، وقد تعددت عبارات السابقين الضابطة لكرم المعاشرة... وما يجب للصديق على الصديق.
قال أبو العتاهية: قيل لعلي بن الهيثم: ما يجب للصديق؟ قال: كتمان حديث الخلوة، والمواساة في الشدة، وإقالة العثرة.
وقيل لأعرابي: من أكرم الناس عشرة؟ قال: من إن قَرُب منح، وإن بَعُدَ مدح، وإن ظُلِمَ صفح، وإن ضويق سمح، فمن ظفر به فقد أفلح ونجح.
وقال رجل من قريش: خالطوا الناس مخالطةً إن غبتم حنُّوا إليكم، وإن متم بكوا عليكم(2).
وهي كلمة عظيمة تفتح مجالاً واسعًا رحبًا للتنافس والاجتهاد فيما يحقق كرم العشرة.
__________
(1) رواه الترمذي في البر والصلة رقم (1987)، وأحمد في مسنده (5/153، 158)، والدارمي في الرقاق رقم (2791) من حديث أبي ذر رضي الله عنه.
…ورواه الترمذي في الموضع السابق، وأحمد في مسنده (5/228، 236) من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه، وحسنه الألباني في صحيح الجامع الصغير رقم (97)، وقد تكلم الحافظ ابن رجب الحنبلي رحمه الله على هذا الحديث كلامًا نفيسًا في جامع العلوم والحكم "الحديث الثامن عشر".
(2) المختار من الصداقة والصديق لأبي حيان التوحيدي ص93.(1/15)
وأما تفصيلاً فهناك نقاط كثيرة تفوق الحصر تندرج تحت كرم العشرة، وما الحديث الآتي عن مفسدات الأخوة ـ التي ينبغي صون أخوتنا عنها ـ إلا محاولة في سبيل الوصول إلى تحقيق كرم العشرة فيما بيننا... فلنتناول هذه المفسدات على وجه التفصيل.
- - -
المفسدة الأولى
الطَمعُ في الدّنيَا أوْ فيما عند الناس
وربما يتساءل البعض: وهل من علاقة بين المحبة بين اثنين وطمع أحدهما أو كليهما في الدنيا؟
والجواب ـ بلا تردد ـ نعم، إذا وجد الطمع في الدنيا والنظر إلى ما بأيدي الناس كان أكبر طارد لمحبة الناس، كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس))(1).
وقال تعالى: { وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى } [طه:131].
فكم من أخوين كانا متحابين متصافيين يصعب على كل منهما فراق الآخر تغيرت نفوسهما بعدما تعرضا للدنيا وتنافسا في النيل منها...
وكم من أخ حبيب، مطمئن الفؤاد، راضٍ بما قسم الله له، صافي القلب لجميع إخوانه، اضطرب قلبه بعدما صار ينظر في دنياه إلى من هو أكثر منه ويمد عينيه إلى ما مُتِّعَ به غيره، وينظر في دينه إلى من هو أقل منه... فتغير قلبه ولم يعد صفاؤه لإخوانه كما كان عليه من قبل، ولم يعد اهتمامه ونظره في الدين وإلى من هو أكثر منه دينًا كما كان عليه من قبل.
__________
(1) رواه ابن ماجه في الزهد رقم (4102)، والحاكم في مستدركه (4/313)، وأبو نعيم في الحلية (3/253)، (7/136)، وحسنه الحافظ ابن حجر رحمه الله في بلوغ المرام رقم (1501)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع الصغير رقم (922) وتكلم على طرقه في سلسلة الأحاديث الصحيحة، حديث رقم (944).(1/16)
ومع ازدياد التعلق بالدنيا يندثر الإيثار وينسى قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه))(1) وتحل الأنانية البغيضة التي لا تعدو منطق: (نفسي نفسي).
(يقول سبحانه وتعالى: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ } [الحجرات: 10] والأخوة من أجمل المعاني التي يمكن أن يتحدث عنها الإنسان شفيفة لطيفة كالنور! ندية محببة إلى القلوب... ولكن ما "الإخوة" التي وردت الإشارة إليها في كتاب الله؟
يستطيع اثنان من البشر وهما يسيران في الطريق الواسع ـ في الأمن والسلامة ـ أن يتآخيا! أن يسيرا معًا وقد لف كل منهما ذراعه حول أخيه من الحب.
ولكن انظر إليهما وقد ضاق الطريق فلا يتسع إلا لواحد منهما يسير وراء الآخر، فمن أقدم؟ أقدم نفسي أم أقدم أخي وأتبعه؟
ثم انظر إلى الطريق قد ضاق أكثر... فلم يعد يتسع إلا لواحد فقط دون الآخر! إنها فرصة واحدة... إما لي وإما لأخي... فمن أقدم؟ أقول: هذه فرصتي، وليبحث هو لنفسه عن فرصة؟ أم أقول لأخي: خذ هذه الفرصة أنت، وأنا أبحث لنفسي؟! هذا هو المحك.
إن الأخوة في الأمن والسلامة لا تكلف شيئًا ولا تتعارض مع رغائب النفس... بل هي ذاتها رغبة من تلك الرغائب يسعى الإنسان لتحقيقها مقابل الراحة النفسية التي يجدها في تحققها...
أما في الشدة ـ أو في الطمع ـ فهنا تُخْتَبَرُ الأخوة الاختبار الحق، الذي يتميز فيه الإيثار والحب للآخرين من الأثرة وحب الذات، التي قد تخفى على صاحبها نفسه في السلام والأمن فيظن نفسه أخًا مُحَقِّقًا لكل مستلزَمَات الأخوة.
__________
(1) …رواه البخاري في الإيمان رقم (7)، ومسلم في الإيمان رقم (45)، والترمذي في صفة القيامة والرقائق والورع رقم (2515)، والنسائي في الإيمان (8/115)، وابن ماجه في المقدمة رقم (66)، والبغوي في شرح السنة (13/60) وعنده وعند النسائي زيادة في آخر الحديث وهي قوله: "من الخير".(1/17)
كم جلسة... كم درسًا... كم موعظة... كم توجيهًا... يحتاج إليها الإنسان الفرد وتحتاج إليها الجماعة، وتحتاج إليها القاعدة ليرسخ في حسهم جميعًا هذا المعنى فلا يعود حقيقة ذهنية يستوعبها الذهن ثم ينتهي بها المقام هناك... إنما تتحول إلى وجدان قلبي يتعمق في القلب حتى يصدر عنه سلوك عملي كذلك الذي ورد ذكره في كتاب الله: { وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [الحشر:9])(1).
- - -
المفسدة الثانية
التّفْريط في الطّاعَاتِ والوقوع في المخالفات الشّرْعيَّة
فبقدر ما ترى في أخيك من تقى وصلاح بقدر ما تصفو له وتحبه... وبقدر ما يملأ جو الصداقة أو الصحبة ويعطره من ذكر وعبادة وتذكر للآخرة واهتمام بطاعة الله والدعوة إليه، بقدر ما تقوى وتدوم هذه الصحبة ويزداد حب الصاحبين كل منهما للآخر...
أما إذا نضبت ساعات الصحبة من الذكر أو العبادة أو التناصح والتذكير بالآخرة والتحميس للدعوة، فإن الجفاف يحل في هذه العلاقة ويجد اللغو والجدل فيها مرتعًا.
__________
(1) …انظر: واقعنا المعاصر للشيخ محمد قطب ص489، 490.(1/18)
وكذا تحل قسوة القلب والملل، وينفتح باللغو أبواب للشرور واختلاف القلوب... ثم تأتي الذنوب لتكون الحاجز الذي يفصم عرى الأخوة ويفرق بين الصاحبين، ففي الحديث الصحيح: ((ما تواد اثنان في الله فيفرق بينهما إلا بذنب يحدثه أحدهما))(1).
وهذا الذنب ليس بالضرورة أن يكون متعلقًا بحق أخيك، بل الذنوب مطلقًا التي يرتكبها العبد تؤدي إلى افتقاده لأحبابه وإخوانه واحدًا إثر الآخر... فربما كان الذنب متعلقًا بمعاملة مالية, وربما تركًا لواجب, أو خللاً في خلق أو سلوك, أو عدم حفظ للسان عن خسيس الكلام وقبيحه, وعن الغيبة والخوض في أعراض الناس وخصوصياتهم، وعن الاستهزاء بهم ... إلى غير ذلك من المعاصي والذنوب.
__________
(1) …رواه بهذا اللفظ البخاري في الأدب المفرد رقم (401) من حديث أنس رضي الله عنه، وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد رقم 0310)، ورواه الإمام أحمد في مسنده (2/68) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: ((المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله))، ويقول: ((والذي نفس محمد بيده ما تواد اثنان فيفرق بينهما إلا بذنب يحدثه أحدهما...)) الحديث.
…ورواه أحمد أيضًا في مسنده (5/71) من حديث رجل من بني سليط قال: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في أزفلة من الناس فسمعته يقول: ((المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله، التقوى هاهنا)) وقال بيده إلى صدره، ((وما تواد رجلان في الله عز وجل فتفرق بينهما إلا بحدث يحدثه أحدهما، والمحدث شر والمحدث شر والمحدث شر)) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (10/275): "رواه أحمد وإسناده حسن" اهـ.(1/19)
فتلك الذنوب من تفريط ومخالفات تؤدي إلى ضياع المحبة والأخوة؛ إما بطريق غير مباشر كعقوبة من عقوبات المعاصي؛ حيث يحرمك الله محبة إخوانك وإقبالهم، وإما بطريق مباشر وذلك أن يدرك أخوك أن جلوسك معه يورطه في الذنوب أو السكوت على منكر أو يذكره بالدنيا وينسيه ذكر الله والدار الآخرة، ويقوده للتقصير في العبادة، ويبعده عن القيام بمهام دعوته، فحينئذٍ تقل محبته لك ويشتاق إلى غيرك...
فإن الإخوان في الله إنما فُضِّلُوا وعظمت مكانتهم لأنهم يُذَكِّرون بالآخرة, كما قال الحسن رحمه الله: إخواننا أحب إلينا من أهلينا؛ إخواننا يذكروننا بالآخرة, وأهلونا يذكروننا بالدنيا(1).
فإذا صار أخوك إنما يُذَكِّرك بالدنيا فماذا بَقِيَتْ له من مزية يُقَدِّم بها ويُفَضِّل؟!
فإذا أردت أخا الإسلام إخوانًا يحبونك ويقدرونك ويحترمونك فعليك بإصلاح ما بينك وبين الله والزم أدب الشرع وحدوده وتَوَقَّ عن المعاصي والذنوب... قال حكيم: من أراد عزًا بلا عشيرة, وغنى بلا مال, وجاهًا بين الإخوان, ومهابة عند السلطان فليخرج من ذل معصية الله إلى عز طاعته.
ومما يتعلق بالمخالفات الشرعية التي تذهب بالمحبة الإيمانية بل ربما حلت محلها العداوة: المحبة الشيطانية، وهي التي يتعلق فيها المحب بمحبوبه تعلقًا غير طبيعي يجعله في شرود مستمر وقلق أو توتر دائم, حتى في صلاته يذكره ويراه... ويكره أن يعرف محبوبه أحدًا غيره أو يجلس إليه، ويكره كل من يقيم علاقة مع محبوبة، وربما خسر بعض إخوانه بسبب ذلك فغيرته عليه تشبه غيرة الرجل على امرأته.
ومثل تلك المحبة لا تكون محبة إيمانية, بل محبة شيطانية أو شهوانية أشبه بالعشق، وتقوم على مجرد الاستلطاف أو حسن المنظر أو الهيئة أو نحو ذلك، وعاقبتها إلى شر مستطير أو انقطاع وعداء؛ لأن ما لا يكون لله ينقطع, وما كان لله دام واتصل, كما أن ليس كل من حسن منظره حسن مخبره.
لا تركنَنَّ إلى ذي منظرٍ حسَنٍ
__________
(1) …انظر ص16.(1/20)
ما كلُّ أصفر دينارٌ لصُفْرَتِ
رُبَّ رائعةٍ قد سَاء مَخْبَرُها
صُفْرُ العقاربِ أرْداها وأنكرُها(1)
?
(وقد ضرب ذو الرُّمّة مثلاً بالماء، فيمن حسن ظاهره، وخبث باطنه فقال:
ألم تر أن الماء يخبثُ طعمُ
إن كان لونُ الماءِ أبيضَ صافيًا
?
ونظر بعض الحكماء إلى رجل حسن الوجه فقال: أما البيت فحسن، وأما الساكن فرديء، فأخذ جحظة هذا المعنى فقال:
ربّ ما أبين التَّبَايُن في
نزلٌ عامِرٌ وعقلٌ خرابُ)(2)
?
أما المحبة الإيمانية فهي محبة تجلب الطمأنينة والسكينة، وتدفع إلى مزيد من الطاعة والتقرب إلى الله, وتزداد بطاعة المحبوب إلى ربه وتقل بتفريط المحبوب في حق ربه (وإنه على الرغم مما للأخوة من شأن، وما لها من حسنات، فإن الإسلام حرص على الاعتدال في كل شيء... والتطرف وضع شاذ كائنًا ما كان موضوعه ومنطوقه، وهو بالتالي سلوك غير طبيعي قد يؤدي إلى كثير من المضاعفات والانحرافات)(3).
وعلى العبد أن يكون عمله لله ويريد به وجهه، فلتراجع نفسك في ذلك، فلن ينفعك أحد من أهل الدنيا ولن يغني حسن وجوههم عنهم ولا عنك شيئًا، فكلهم إلى فناء وستصير وجوههم عن قريب إلى منظر كريه بشع إذا صارت في القبور مرتعًا للديدان { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ. وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ } [الرحمن: 26، 27]، وعن ابن عمر رضي الله عنه أنه كان إذا أراد أن يتعاهد قلبه يأتي الخربة فيقف على بابها فينادي بصوت حزين فيقول: أين أهلك؟ ثم يرجع إلى نفسه فيقول: { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ } [القصص: 88].
__________
(1) …أدب الدنيا والدين ص167.
(2) …أدب الدنيا والدين ص167، وبهامشه: جحظة: لقب أحمد بن موسى بن يحيى بن خالد بن بردك، كان شاعرًا أديبًا جاحظ العينين.
(3) …مشكلات الدعوة والداعية ص210.(1/21)
(إن قلوب الدعاة ينبغي أن تبقى معابد لا يعبد فيها غير الله .... وليحذروا الشرك فإن دبيبه خفي وأثره قوي... وليذكروا قول أحد الصالحين وقد بلغ من العمر ستين سنة, قال: "وقفت على باب قلبي أربعين عامًا حتى لا يدخله غير الله")(1).
(فالأخوة الإسلامية هي العلاقة الطبيعية الفطرية التي لا تجنح جنوح العشق، ولا تبلغ مبلغ "الوله والتيم" بل ينبغي أن لا تصل إلى حد ذوبان الأخ بأخيه؛ لأنها إن وصلت إلى هذا فقدت ضوابط الصيانة والحدود الشرعية، وقد تخالطها ـ بقصد وبغير قصد ـ أحاسيس ودوافع بشرية خفية مغلفة تتساقط أغلفتها على الزمان ويقع ما لم يكن بالحسبان، والعاقل من تدارك الأمر قبل فوات الأوان، ومن حام حول الحمى أوشك أن يقع فيه، ورحم الله امرءًا عرف حدود الشرع فالتزمها وعرف حدود نفسه فوقف عندها.
من هنا كان على المتحابين في الله أن يتقوا الله في كل خاطرة من خواطر أنفسهم، وأن يقعدوا إخوتهم وفق تصور الإسلام ومفهومه، وأن يكونوا مع أنفسهم صرحاء، وليلجموا العاطفة بلجام العقل، ولينيروا العقل بهدي الإسلام، وإياهم والترخص في الصغائر فإنها طريقهم إلى الكبائر)(2).
وقد تهيئ النفس الأمارة بالسوء لصاحبها أن أخاه ينظر إليه نظرة إعجاب وعشق تمامًا كما ينظر هو إليه بهذه النظرة، وأن تصرفاته معه تعني شيئًا من ذلك وأنه يبادله نظرات تدل على ذلك إلى آخره من أمثال تلك التهيؤات والتخيلات، وذلك كله وهم ناشئ من شدة تعلقه بصاحبه وما بقلبه من المرض وما يدور في داخل نفسه من أحاسيس أو مشاعر منحرفة، والشيطان لا يألو جهدًا في إذكاء أو تكبير هذا الوهم في نفسه ليصل الشر إلى غايته.
__________
(1) …مشكلات الدعوة والداعية ص211.
(2) …انظر: التربية الوقائية في الإسلام ص64، 65، ومشكلات الدعوة والداعية: الحدود الشرعة للعلاقات الأخوية ص210، 211.(1/22)
يقول الشيخ محمد صالح المنجد حفظه الله في معرض بيانه لأنواع العلاقات التي يحصل فيها التجاذب بين الأفراد: (النوع الرابع من العلاقات: علاقة معصية والعياذ بالله، تجمعهما المعصية فيشاهدان المحرمات مع بعضهما البعض، وينظران إليها ويستمتعان بها ويأتيانها.
وهناك علاقة خامسة: وهي علاقة قد تكون في خطورتها أخطر من النوع الذي ذكرناه قبل قليل، وهي علاقة العشق والتعلق لدرجة أنه يحبه مع الله ـ لا يحبه في الله ـ، لدرجة تصل إلى صرف أنواع من العبادة لهذا الشخص، وهذه مشكلة تنشأ بسبب دوافع كثيرة، تكون بدايتها بسيطة ولكنها تنمو وتنمو وتعظم وتكبر بين هذين الاثنين حتى أن كلاً منهما أو واحدًا من الطرفين لا يستطيع أن يغيب الآخر عن ناظريه أبدًا، فلابد أن ينظر إليه دائمًا وأن يتصل به باستمرار، وقد يكلمه الساعات الطويلة هاتفيًا يوميًا، والأدهى من ذلك أنه يفكر فيه في صلاته، وعندما يقول: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } يكون فكره مع ذلك الشخص وكأنه الهواء الذي يستنشقه، ولو غاب عنه لحظة واحدة يتألم جدًا للفراق حتى يعود إليه، وهذا النوع من التعلق الشديد له درجات قد تكون في بعضها غلوًا وفي نهايتها شركًا أكبر.
وبعض الناس يستبعد هذا ويقول: كيف يحدث؟ ولكنه يحدث، وهنا نعود إلى حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ((وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله)) ولم يقل: أن يحب المرء لله لأن الله عز وجل الحكيم الخبير العليم يعلم بأنه تنشأ بين العباد علاقات ليست شرعية, وأن هذه العلاقات قد تكون قوية جدًا, وأن الشيطان يُلَبِّسُ على بعض الناس أنها أخوة في الله, لكن الحقيقة ليست كذلك.(1/23)
وقد يزين لهما الشيطان القيام بشيء من الطاعات معًا, ولكن المسألة ما زالت في حقيقتها نوعًا من العشق المذموم شرعًا, ولكي يخرجا من دائرة الانتقاد أو كنوع من وخز الضمير ـ ترى أحدهما يقترح على الآخر: ما رأيك نقرأ سويًا كتابًا؟...نستمع شريطًا؟ ... نحفظ قرآنًا؟... نقوم الليل سويًا؟...
فيفعلان هذا فترة من الوقت أو بعضًا من الأحيان، ولكن ما زالت العلاقة في حقيقتها ليست أخوة في الله، وإنما يحاول كل منهما أن يخدع نفسه وأن يظهر أمام نفسه وأمام الآخرين أنها أخوة في الله، ولكن الحقيقة أنها ليست كذلك، بل ربما لو جلسا يقرآن كتابًا لذهب كل فكر واحد منهما في الآخر ولم يفقها شيئًا مما يقرآن.. وهكذا.
فإذًا ما الذي يجرد لنا هذه الصور على حقيقتها، ويظهرها واضحة جلية تحت مجهر الكشف عن الحقيقة؟
إنه هذه الفقرة من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إنه قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله))... فاستعمل أقوى أساليب الحصر في اللغة وذلك لأن القضية موجودة بين العباد فعلاً... حيث تنشأ علاقات محبة ليست لله... وكثيرًا ما تكون مدمرة على بعض الأفراد... وكثيرًا ما تُفشل مجموعة أو تجمعًا إسلاميًا بأكمله؛ لأنها مرض معدٍ وتحتاج إلى وقفات صارمة من جميع الأطراف.(1/24)
وقد ذكر ابن القيم رحمه الله في كتابه العظيم الجواب الكافي هذه المشكلة، فهذا الكتاب عبارة عن جواب على سؤال كما يتبين لمن يقرأ المقدمة.. وأن مصيبة وقعت في إنسان كادت أن توبقه تفسد عليه دنياه وآخرته، فهو كتاب عظيم لعلاج مشكلة العشق والتعلق، وهي المشكلة التي سأل عنها ذلك الشخص ابن القيم رحمه الله فأجابه عنها بهذا الجواب، وهنا نلاحظ منهج العلماء... فأنت ترى أنه يقول له: الجأ إلى الله وعليك بالدعاء وأوقات الإجابة... ويعلمه ما هي الأدعية المأثورة، وما هو الاسم الأعظم، وما هو الشيء الذي إذا سئل الله به أعطى، وإذا دعي به أجاب، وهكذا... ثم يتكلم له عن أضرار الذنوب والفواحش، وأن عملك هذا عندما ترى مضاره فإنك إذا كنت عاقلاً ينبغي أن تبتعد عنه، وذكر أشياء عجيبة في مضار الذنوب، وذكر قصة قوم لوط وماذا فعل الله بهم؛ لأن المسألة قد تؤدي إلى شيء من هذا... وقد نقرأ ولا نفهم عمق الكلام تمامًا، ولكن عندما يقرأ الإنسان عدة مرات يلوح له المنهج وترابط الكلام الذي ذكره، والقصص الواقعية، والذين ختم لهم بخاتمة سيئة، وأن بعضهم كانوا متعلقين... بعضهم كان متعلقًا بالمال، بعضهم كان... بامرأة... بعضهم كان متعلقًا بشخص، بعضهم كان متعلقًا بلسانه... وهكذا.
فهو منهج ينبغي أن نستفيد منه ليس في علاج مشكلة التعلق والعشق فحسب وإنما أيضًا في علاج بقية المشاكل. وكان ابن القيم رحمه الله يطرح أطروحات قوية في علاج هذه المشكلة، ويقول: فإذا كان الأمر لابد له أن يبتعد أحدهما عن الآخر حتى يضطر أن يسافر إلى بلد آخر بحيث لا يرى صاحبه ولا يقع له على خبر ولا على حس ولا أثر فإنه يفعل ذلك ابتغاء السلامة في الدين.
فتدرك من هذا أن العلماء المخلصين أصحاب الوعي بالواقع طرحهم في علاج المشاكل طرح قوي، جذري، متكامل، بخلاف كثير من الحلول القاصرة التي نراها تطرح لعلاج مشاكل قد تكون أصعب مما كان موجودًا من قبل.(1/25)
وإننا بحاجة لمزيد من الوعي ولمزيد من الاطلاع، ولمزيد من الإخلاص قبل كل شيء حتى نتخلص من مشاكلنا كلها، وحتى نصل إلى مجتمع إسلامي نظيف خالٍ من الشوائب وإلا فكيف ينصر الله قومًا قد تناوشتهم سهام الشياطين من كل جانب...)(1).
والمقصود أن هذه المحبة الشهوانية، محبة العشق، نوع من الذنوب أو المخالفات الشرعية التي تفسد الأخوة؛ حيث يفرق الله بينهما عقوبة على الذنب؛ أو لأن المحب إذا يئس من نيل مراده من المحبوب ولم يجد منه تجاوبًا فيما يهيم فيه أعرض عنه بقلب حانق ممتلئ غيظًا وحسرة؛ أو لأن المحبوب إذا شعر أن أخاه لم يجرد محبته له لله، وأن محبته له قد شابتها رغبات أو مشاعر منحرفة، فإنه يبغضه وينفر منه ويؤثر الابتعاد عنه.
فاحذر أخا الإسلام أن تشوب محبتك لأخيك شائبة، واحذر أن يحبك الناس لله، والله مبغض لك ساخط عليك، فهو تعالى وحده الذي { يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ } [غافر:19].
وقد كان محمد بن واسع رحمه الله يقول في بعض دعائه: اللهم إني أعوذ بك أن أحَبَّ لك وأنت لي مبغض أو ماقت.
قال سفيان: فكان يقال: إذا عرفت نفسك لم يضرك ما قيل لك(2).
فاستحي من الله وإياك أن تغتر بثناء الناس عليك وانخداعهم بك أو غفلتهم عما في محبتك لهم من الغش والشوائب، وستر الله لك، وبادر بالتوبة إلى الله عن الذنوب كلها قبل أن يفتضح أمرك أو يلقي الله لك البغضاء في قلوب من أحبوك.
- - -
__________
(1) …من محاضرة (التنافر والتجاذب في العلاقات الشخصية) للشيخ محمد صالح المنجد حفظه الله، مع تصرف يقتضيه تحويل الموضوع من محاضرة مسموعة إلى كلام مكتوب.
(2) …في الحلية (2/349): قيل لمحمد بن واسع: إني لأحبك في الله. قال: أحبك الذي أحببتني له، اللهم إني أعوذ بك أن أُحَبَّ فيك وأنت لي ماقت أو مبغض. ورواه نعيم بن حماد في زوائد الزهد لابن المبارك وذكر عقبة قول سفيان: فكان يقال...إلخ. زوائد الزهد رقم (56) ص14.(1/26)
المفسدة الثالثة
عَدَمُ التزام الأدبِ في الحَدِيثِ
وهذا باب واسع يدخل الشيطان منه لإيقاع التنافر والتباغض بين الإخوان، وأول هذا الأمر أن يعتقد البعض أن شدة قربه من أخيه تبيح له ترك مراعاة الأدب في الحديث ويسمى ذلك خطأ: رفع الكلفة، ولا يمكن أن يكون المراد برفع الكلفة رفع الأدب والحياء، وإنما رفع الكلفة بانبساط النفس والسهولة في التعامل مع بقاء الأدب والحياء والمحافظة على كل ما يرشد إليه الشرع من خلق أو سلوك.
ومن المظاهر التي يتمثل فيها الإخلال بأدب الحديث والتي تفسد المحبة والعلاقة بين الأصحاب:
الحدة وعلو الصوت في مخاطبتك لأخيك أو مناقشتك معه والكلام الخشن:
فإن ذلك يشعر أخاك بتغير قلبك نحوه كما يشعره بالإهانة، مع كونه مخالفًا للسمت العام الذي ينبغي أن يكون عليه المسلم وقد قص الله علينا وصايا لقمان وهو يؤدب ولده ويعظه لنستفيد منها فقال: { وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ } [لقمان: 19].(1/27)
ومما ينبغي للأخ مع أخيه في الحديث أن يلزم الكلمة الطيبة اللينة اللطيفة العفيفة ويحذر من الكلام الخشن والكلام الذي يستحيا منه أو ينفر منه أصحاب المروءة، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: ((أطيبوا الكلام))(1), وفي الحديث الصحيح(2): ((لم يكن - صلى الله عليه وسلم - فاحشًا ولا متفحشًا))، ولنا فيه - صلى الله عليه وسلم - أسوة حسنة، وقال علي رضي الله عنه: "من لانت كلمته وجبت محبته"(3).
عدم الإصغاء إليه وعدم الإقبال عليه بوجهك إذا سلم عليك أو حدثك, أو عدم تقديره واحترامه والاهتمام به:
ومن عدم الإصغاء وعدم الإقبال أن تقطع حديثه أو تتلفت وتتشاغل عنه وهو يكلمك.
قال بعض السلف : "إن الرجل ليحدثني بالحديث أعرفه قبل أن تلده أمه فيحملني حسن الأدب على الاستماع إليه حتى يفرغ"(4). قال أحدهم:
وتراه يصغي للحديثِ بسمعه
بِقلبه ولعَله أدْرَى به
?
__________
(1) …جزء من حديث رواه الطبراني (1/275/2) كما في سلسلة الأحاديث الصحيحة للشيخ الألباني حفظه الله رقم (1465) وصححه.
(2) …جزء من حديث رواه البخاري في الأدب رقم (6029)، ومسلم في الفضائل رقم (2321)، والترمذي في البر والصلة رقم (1975) كلهم من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وورد كذلك من حديث عائشة رضي الله عنها رواه الترامذي في البر والصلة رقم (2016)، وأحمد في المسند (6/174، 236، 246)، ورواه الترمذي أيضًا في الشمائل وصححه الألباني "مختصر الشمائل" رقم (298).
(3) …العقد الفريد 02/83).
(4) …قال ابن جريج عن عطاء: إن الرجل ليحدثني بالحديث فأنت له كأني لم أسمعه وقد سمعته قبل أن يولد. سير أعلام النبلاء (5/86).(1/28)
وتأمل خلقه العظيم - صلى الله عليه وسلم - وهو يسمع عتبة وهو مشرك فلا يقاطعه حتى إذا سكت قال له : ((أقد فرغت يا أبا الوليد)) (1).
ومن عدم الأدب في الحديث أن تستهلك الوقت كله لتتحدث عن نفسك أو لتقول ما تريد، وتريد من صاحبك أن يصغي إليك في الوقت الذي لا تدع له فرصة كهذه ولا تهتم بالإصغاء إلى ما يقول.
ومما ينبغي أن نتفطن له دائمًا أن لكل إنسان مهما كان مستواه الاجتماعي, ومهما كان عمره بحاجة أن يشعر باحترام الآخرين وتقديرهم له، حتى الصغير.
وحين يشعر الإنسان بتقدير الآخرين له ويطمئن إلى أنهم يحترمونه حينئذ لا يشعر بأدنى حساسية ولا يجد غضاضة حتى من العمل والخدمة لهم ليل نهار، ما دام قد اطمأن إلى وجود التقدير والاحترام وانتفاء الإهمال والاحتقار.
وبعض المغرورين لا يحسن احترام الآخرين بحجة الخوف عليهم من الغرور، ونحن ما طلبنا منه إطراءهم أو المبالغة في مدحهم لكن مجرد التقدير والاحترام الذي يجعلك أنت أولاً مهذبًا محترمًا.
ولكي تكون دمث الأخلاق مع غيرك محترمًا لهم تأمل في جوانب الحسن والإيجابية فيهم، فكلما عرفت الصفات الحسنة في الشخص ازداد حبك وتقديرك واحترامك له.
إن مجرد مناداة أخ بكلمة (يا أخ فلان) بدلاً من (يا فلان) تشعره بهذا الاحترام والتقدير والعاطفة الحية والود وإن لم يكن فيها شئ من الإطراء أو ما يوجب الغرور, فتأمل!
__________
(1) …قصة مفاوضة أبي الوليد عتبة بن ربيعة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - رواها ابن إسحاق في المغازي (1/293، 294) سيرة ابن هشام، ورواها البيهقي في دلائل النبوة (2/204، 205)، وذكره السيوطي في الدر المنثور (5/3589 وعزاها لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وأبي يعلى والحاكم وصححه، وابن مردويه وأبي نعيم والبيهقي كلاهما في الدلائل وابن عساك. اهـ. وحسن سنده الألباني في تعليقه على فقه السيرة للغزالي ص116.(1/29)
كذلك يشعر من تحدثه بالتقدير والود حين تناديه بكنيته أو بأحب الأسماء إليه كبيرًا كان أو صغيرًا, وقد كنى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعض الصبيان كما في قوله: ((يا أبا عمير ما فعل النغير))(1)، وكما قال بعض السلف: إن مما يصفي لك ود أخيك أن تبدأه السلام إذا لقيته, وتوسع له في المجلس وتناديه بأحب أسمائه إليه(2).
ومن الأشياء ذات الأثر الإيجابي على الناس أن تحفظ أسماءهم، وإن نسيتها أو جهلتها لا تتحرج أن تسألهم عنها بأسلوب التعارف المهذب لا بأسلوب التحقيق المريب، فإن سؤالك عنها يدل على اهتمامك بهم وذلك خير من أن تترك سؤالهم عنها حياءً فيكون له أثر سلبي عليهم إذ قد يفسرونه بعدم الاهتمام.
__________
(1) …رواه البخاري في الأدب رقم 06129، 6203)، ومسلم في الأدب رقم (2150)، وأبو داود في الأدب رقم (4969)، والترمذي في الصلاة رقم (333)، وابن ماجه في الأدب رقم (3720)، وأحمد في المسند (3/115، 119) وفي مواضع أخرى. والنغير: طائر صغير يشبه العصفور. راجع: الفتح (10/600).
(2) …وردت هذه الثلاث في حديث رواه الطبراني في الأوسط، كما في مجمع الزوائد (8/82)، والديلمي في فردوس الأخبار رقم (2303)، والحاكم والبيهقي، كما في فيض القدير (3/314) من حديث عثمان بن طلحة الحجبي، وضعفه السيوطي، وقال الهيثمي في المجمع: "فيه موسى بن عبد الملك بن عمير وهو ضعيف" اهـ. وضعفه الألباني في ضعيف الجامع الصغير رقم (2571)، ورواه البيهقي موقوفًا على عمر رضي الله عنه وهو الذي تذكره معظم الكتب عند ذكرها لهذا الأثر.(1/30)
ومن تقديرك لمحدثك أن لا تسفهه إذا أشار بأمر بل اطلب رأيه في بعض الأمور فربما انفتح لك باب من التفكير، أو على الأقل تكون قد أشعرته بالتقدير والاحترام إن لم يكن رأيه محلاً للقبول(1).
وسيأتي مزيد من ذلك مع بيان هديه - صلى الله عليه وسلم - في الإصغاء لأصحابه وإعطائهم الفرصة لبسط الحديث(2).
الاجتراء عليه في المُزاح(3):
فإذا كان المزاح اليسير في أدب وبالحق يضفي على العلاقة بين الأخوين مزيدًا من العذوبة والمحبة والأنس، فإن المزاح الثقيل وتجاوز حد الأدب فيه من أسرع ما يفسد العلاقة بين اثنين.
الرفقُ يمْنٌ وخير القولِ أصدَقُ
كثرةُ المزحِ مفتاحُ العداواتِ(4)
?
ومن صور ذلك أن تجترئ على أخيك في المزاح بضربة مهينة أو كلمة نابية أو تتعرض لما يكره التعرض له من حاله وخصوصياته وأهل بيته ونحو ذلك, أو أن تناديه بغير ما يحب, وتظن ذلك من رفع الكلفة, ورفع الكلفة لا يعني هجران الآداب الشرعية والتوجيهات النبوية.
فعليك بالاقتصاد في المزاح، والحذر من الإسراف ومن سيئ المزاح الذي يجافي الطيب من القول ويجلب الخصومة وتغير القلب، فإن المزاح إذا خرج عن حد الآداب والاقتصاد كما يذهب بهيبتك فإنه يجلب لصاحبك الهم والغم والغيظ والنفور.
كما أن المزاح أو مجرد الكلام إذا كان فيه تهاون في تقدير الصاحب واحترامه فإنه يجرح قلبه ويؤلم نفسه فيندم على صحبته لك.
وربما كان مزاحك الثقيل سببًا لسماعك ما تكره أو سببًا لكره الآخرين أو احتقارهم لك. وقد قال بعضهم: إياك وكثرة المزاح فإن السفيه يجترئ عليك، واللبيب يحقد عليك.
__________
(1) …ويرجع البعض نجاح بعض القادة إلى أنهم كانوا يحفظون أسماء الناس، أي إن ذلك سبب من أسباب نجاح القائد أو المربي. انظر: فن التعامل مع الناس ص52.
(2) …انظر رقم 14 من المفسدات ص121.
(3) …بكسر الميم وضمها. لسان العرب ص4191.
(4) …للقاضي التنوخي. أدب الدنيا والدين ص183.(1/31)
كذلك ينبغي للصاحب أن لا يتعجل في المزاح مع صاحبه ولو كان مزاحًا مقبولاً، ولا يكثر في الكلام قبل أن تكشف طبيعة صاحبه ويعرف أبعاده النفسية فالبعض قد يأتي المزاح معه بآثار سلبية.. والبعض يكره المزاح جملة وينفر منه... والبعض يناسبه لون ما من المزاح ولا يناسبه لون آخر... وهكذا.
المراء أو الجدل و كثرة المعارضة له:
مع ما يصحب ذلك من الاعتداد بالرأي أو كثرة النقد أو التعالم فيه أو استخدام العبارات اللاذعة التي تجرحه في فهمه أو تفكيره واستيعابه، فإن (من أشد الأسباب إثارة للحقد والحسد بين الإخوان المماراة)(1) التي تجنح بالطرفين بعيدًا عن الإخلاص في طلب الحق وأداء الواجب، أو التي تجنح بهما إلى ما غمض، ولا يتوفر فيه أدلة واضحة، أو التي تجنح بأحدهما إلى الإصرار على الحديث بعدما بدا له أن لا نتيجة إلا زيادة الشر وتغير القلوب.
ولا يبعث على المماراة في هذه الصور (إلا إظهار التميز بزيادة الفضل والعقل واحتقار المردود عليه، ومن مارى أخاه فقد نسبه إلى الجهل والحمق، أو الغفلة والسهو عن فهم الشيء على ما هو عليه، وكل ذلك استحقار وهو يوغر الصدر ويوجب العداوة وهو ضد الأخوة)(2).
وكان يقال: لا تمار حليمًا ولا سفيهًا فإن الحليم يقليك، وإن السفيه يؤذيك(3).
والمسلم لا يستطيع الانضباط في هذه القضية إلا إذا ملك لسانه وسيطر على زمامه بقوة فكبحه حيث يجب الصمت، وضبطه حين يريد المقال، أما الذين تقودهم ألسنتهم فإنما تقودهم إلى مصارعهم.
__________
(1) …مختصر منهاج القاصدين ص98.
(2) …مختصر منهاج القاصدين ص98.
(3) …بهجة المجالس (2/429).(1/32)
والإنسان نهي عن الجدل والمماراة في القرآن وأمور الدين(1)، وأولى كذلك أن يترك الجدل في أمور الدنيا وتوافه الأمور التي لا يترتب على سكوته عنها حدوث منكر.
(ذلك أن هناك أحوالاً تستبد بالنفس وتغري بالمغالبة، وتجعل المرء يناوش غيره بالحديث ويصيد الشبهات التي تَدْعم جانبه والعبارات التي تروج حجته، فيكون حب الانتصار عنده أهم من إظهار الحق، وتبرز طبائع العناد والأثرة في صورة منكرة لا يبقى معها مكان لتبين أو طمأنينة، والإسلام يُنَفِّرُ من هذه الأحوال ويعدها خطرًا على الدين والفضيلة.
وهناك أناس أوتوا بسطة في ألسنتهم تغريهم بالاشتباك مع العالم والجاهل، وتجعل الكلام لديهم شهوة غالبة، فهم لا يملونه أبدًا. وهذا الصنف إذا سلط ذلاقته على شئون الناس أساء، وإذا سلطها على حقائق الدين شوه جمالها وأضاع هيبتها.
__________
(1) …قال - صلى الله عليه وسلم -: ((المراء في القرآن كفر)) رواه أبو داود في السنة رقم (4603)، وصححه الألباني صحيح سنن أبي داود رقم (3847)، ورواه الإمام أحمد (2/258، 478، 494) بلفظ: "جدال في القرآن كفر" ورواه (2/286، 424، 475، 503، 528) بلفظ: "مراء في القرآن كفر" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وروى أبو داود الطيالسي في مسنده رقم (2286) عن عبد الله بن عمرو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا تجادلوا في القرآن فإن جدالاً فيه كفر))، وصححه الألباني في الجامع الصغير رقم (7223).(1/33)
وقد سخط الإسلام أشد السخط على هذا الفريق الثرثار المتقعر، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم))(1)، وقال: ((ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل))(2).
هذا الصنف لا يقف ببسطة لسانه عند حد، إنه يريد الكلام فحسب، يريد أن يباهي به ويستطيل، إن الألفاظ تأتي في المرتبة الأولى، والمعاني في المرتبة الثانية، أما الغرض النبيل فربما كان له موضع أخير، ورما عزّ له موضع وسط هذا الصخب...
والجدال في الدين, والجدال في السياسة, والجدال في العلوم والآداب، عندما يتصدى له هذا النفر من الأدعياء البلغاء، يفسد به الدين، وتفسد به السياسة والعلوم والآداب، ولعل السبب في الانهيار العمراني والتحزب الفقهي، والانقسام الطائفي وغير ذلك مما أصاب الأمة الإسلامية هو هذا الجدل في حقائق الدين وشئون الحياة.
والجدل أبعد شيء عن البحث النزيه والاستدلال الموفق)(3).
لكل ذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: ((أنا زعيم بيت في ربض الجنة لمن ترك المراء ولو كان محقًا))(4) فالجدل حول كل صغيرة وكبيرة يؤدي لاختلاف القلوب.
__________
(1) …رواه البخاري في المظالم رقم (2457)، والتفسير رقم (4523)، والأحكام رقم (7188)، ورواه مسلم في العلم رقم (2268)، والنسائي في القضاة (8/248)، والترمذي في التفسير رقم (2976)، وأحمد في المسند (6/205).
(2) …رواه أحمد في المسند (5/252، 256)، والترمذي في التفسير رقم (3253)، وابن ماجه في المقدمة رقم (48)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع الصغير رقم (5633).
(3) …خلق المسلم للغزالي ص86، 87.
(4) …رواه أبو داود في الأدب رقم (4800) من حديث أبي أمامة رضي الله عنه، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود رقم (4015)، و"ربض الجنة" هو ما حولها.(1/34)
ولذا فعليك أخا الإسلام إذا لاحظت أن الحديث قد اتجه للجدل أن تنسحب منه بلطف وعليك أيضًا إذا حدثت أحدًا أن لا تستفزه لمجادلتك، فلا تحرجه أمام الناس ولا تهدده بأنك ستعرّفه كيف أنه لا يعلم شيئًا، ونحو ذلك من الكلمات، بل استخرج الكوامن الطيبة التي في نفسه كأن تقول له: أنا أعرف أنك لو تبين لك الحق في المسألة فلن تتركه، أو لعل كلامك يوضح لي أمرًا أنا غافل عنه، وسأكون سعيدًا بمعرفة خطئي ورجوعي للصواب، ...إلخ، فأنت تفتح بذلك بابًا له ولك للخروج من مأزق الجدل والمكابرة(1)، وتسد باب التمادي في الخطأ رغم وضوحه.
وبعض الناس للأسف يؤثر الجدل والتمادي في الخطأ على الرجوع للحق، وذلك مما يفسد العلاقة مع الآخرين، وليس عيبًا بل شجاعة أن تعود للصواب وتشكر من وضح لك خطأك، ولا تطيل الذيل في الحديث بغية التبرير رغم وضوح الخطأ، فهذا مما ينقصك عند الناس ويرونك حينئذ في أقبح صورة ويفقدون الثقة بكل ما تقول بعد ذلك، وعليك أن تتفادى الخطأ من البداية، فقل: لا أدري، إن كنت لا تدري.
وهذا عالم كبير معروف على مستوى الأمة وهو الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله مع علمه ومكانته يقول في بعض المواقف: (سأنظر ـ سأبحث المسألة) ولا يحط ذلك من قدره، وقد يتسرع من هو دونه في الفتيا والحديث فيخطئ، فإذا اعْتُرِضَ عليه لجّ في الجدل والمكابرة(2).
واعلم أن النقاش مع صاحبك إذا تطور لكثرة الجدل والمراء فإنه كما يذهب بهيبتك فإنه يجلب لك ولصاحبك الهم والغم، ونفس المحب تتأثر بأدنى قدر من المراء فإذا كثر ندم على صحبته لك.
النقد اللاذع الجارح للمشاعر:
فمما يفسد جو الحديث ويفسد الأخوة النقد اللاذع والتعالم في النقد، كقولك لأخيك: كل ما قلته ساقط لا أصل له من الصحة، أو أنت في وادٍ آخر، ...إلخ.
__________
(1) …وانظر: فن التعامل مع الناس للدكتور عبد الله الخاطر رحمه الله ص44.
(2) …وانظر: فن التعامل مع الناس ص35، 36.(1/35)
وحسن الأدب كان ينبغي أن يحملك على أن تقول له: ولكن ما قلته يحتاج إلى وقفة وتأمل في بعض النقاط، أو في ذهني شيء آخر، أو عندي رأي آخر أود أن تسمعه وتبدي لي ملاحظتك، أو نحو ذلك.
يقول الدكتور عبد الله الخاطر رحمه الله: (الناس يحبون من يصحح الخطأ دون أن يجرح المشاعر) ويضرب مثلاً في ذلك في أحد الكتب، (أن شخصًا ألقى خطابًا "محاضرة" في عدد كبير، ولكنها كانت طويلة وفيها تفصيل ملَّ الناس, فجاء إلى زوجته فقال: ما رأيك في المحاضرة؟ قالت: هذا الموضوع يصلح مقالة رصينة في مجلة علمية متخصصة، وقد فهم منه ذلك المحاضر أن الموضوع لا يصلح للمحاضرة.
وهذا أسلوب طيب يبرز جوانب إيجابية يقدم بها لمسألة النقد، فرجل جاء يستشيرك في أن يعمل في التجارة تقول له: أنت رجل ذو قلم وفكر ولا تدع ذلك المجال، إذا رأيت أنه لا يصلح للتجارة وهو مبرز في ذلك المجال، وهكذا فلا تطرح القضية بأسلوب "أنت ما تصلح لكذا" ولكن بأسلوب "أنت تصلح لغير ذلك".
ويحدث في المجالس أن يتكلم أحد الناس بأسلوب طيب جدًا، ثم يخطئ خطأ في نهاية الحديث، فنجد البعض يتوقف عند الخطأ ويأمره بالتوقف عن الكلام. ولكن الأسلوب الصحيح أن يقدم من يريد النقد الإيجابيات فيقول: أنا أوافق المتحدث في كذا وكذا، ولكن النقطة الأخيرة لي عليها ملاحظات، فيبدأ بالإيجابيات، ثم يصحح فيكون ذلك أدعى أن يتقبل المتحدث الملاحظات دون الدخول في جدل لا طائل من ورائه.
وكذلك نطبق القاعدة: "نبدأ بالقضايا المتفق عليها" ثم بعد ذلك نناقش القضايا الأخرى)(1).
- - -
المفسدة الرابعة
بُرُودُ العَاطِفَةِ
__________
(1) …فن التعامل مع الناس ص50ـ 52.(1/36)
فإن أخوة بلا عاطفة وبلا شوق أو حنين من القلب إلى الصاحب هي أخوة قاصرة يوشك أن تختل أو يعتريها الفتور ويشعر كل من الصاحبين فيها بثقل الحقوق، فإن الشوق وحنين القلب والعاطفة الجياشة كل ذلك وقود يديم الأخوة ويعمل على تساميها ورفعتها ويخفف على النفس القيام بحقوقها بل يجعل كلاً من الصاحبين يتلذذ بالقيام بحقوق الأخوة...
ومثل هذه الأخوة التي لها مرتكزاتها في القلب أو العاطفة مع مرتكزاتها في العقل أيضًا تجعل للحياة طعمًا آخر ولذة لا يدركها إلا من ذاقها...
وبعض الناس يميل إلى إلغاء هذه الجوانب العاطفية والقلبية من معاني الأخوة بحجة أن المحبة هي القيام بالحقوق والواجبات المعروفة من طريق الشرع، ولا ينبغي أن يشغل الصاحب نفسه بتلك العواطف تجاه صاحبه ما دام قائمًا بالحقوق التي يعرفها تجاه أخيه.
فلِلكثافَةِ أقوامٌ لها خُلِقُو
للمحبَّةِ أكبادٌ وأجْفَانٌ(1)
?
ومثل هذا الفريق من الناس يحلو له أن يفسر أي محبة تفسيرًا يبعدها عن العاطفة... بما في ذلك محبة العبد لربه عز وجل أو لنبيه - صلى الله عليه وسلم - مكتفيًا بترديد قول القائل(2):
لو كان حبّك صادِقًا لأطعْتَ
ن المحبَّ لمن يُحِبُّ مُطِع
?
وهو قول صحيح ولكن المستدل به في هذا الموطن يرتب عليه أشياء غير صحيحة؛ حيث ينفي ما سوى الطاعة من معاني المحبة فيحصر المحبة في الطاعة فحسب، ولا يعظم أمر العاطفة القلبية التي هي محبة أيضًا وعرفت من طريق الشرع كذلك كالحقوق والواجبات.
__________
(1) …طريق الهجرتين وباب السعادتين لابن القيم رحمه الله ص328.
(2) …بهجة المجالس (1/395).(1/37)
فلا شك أن العاطفة القلبية تجاه المحبوب جزء من المحبة الشرعية، كما قال - صلى الله عليه وسلم - ـ لما أتى برجل يشرب الخمر فلعنه رجل من القوم ـ: ((لا تلعنوه فوالله ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله))(1).
وعرف التاريخ من يشرب الخمر ثم يصر على الخروج للقتال في سبيل الله؛ لأنه يحب الله ورسوله(2)
__________
(1) …رواه بهذا اللفظ البغوي في شرح السنة (10/336، 337)، ورواه البخاري في الحدود رقم (6780) بلفظ: "لا تلعنوه فوالله ما علمت أنه يحب الله ورسوله"، وراجع توجيه الحافظ ابن حجر رحمه الله لرواية البخاري المذكورة في الفتح (12/79، 80).
(2) …وكان ذلك في وقعة القادسية، حين أمر سعد بن أبي وقاص بأبي محجن الثقفي فقيد وأودع في القصر سجينًا بسبب شربه الخمر، فلما رأى أبو محجن الخيول تحوم حول حمى القصر وكان من الشجعان الأبطال قال:
كفى حزنًا أن تردَا الخيل بالقنَا
إذا قمتُ عناني الحديدُ وغلّقتْ
وقدْ كنتُ ذا مال كثير وإخوة
وأترك مشدودًا عليَّ وثاقيا
مصاريعُ دوني تُصم المناديا
وقد تَركُوني مُفردًا لا أخَا ليا
…ثم سأل أم ولد سعد أن تطلقه وتعيره فرس سعد، وحلف لها أنه يرجع آخر النهار فيضع رجله في القيد فأطلقته، وركب فرس سعد ـ وكان سعد مريضًا، وقد جلس في القصر ينظر في مصالح الجيش ـ وخرج فقاتل قتالاً شديدًا وجعل سعد ينظر إلى فرسه فيعرفها وينكرها ويشبهه بأبي محجن ولكن يشك لظنه أنه في القصر موثق، فلما كان آخر النهار رجع فوضع رجله في قيدها ونزل سعد فوجد فرسه يعرق، فقال: ما هذا! فذكروا له قصة أبي محجن فرضي عنه وأطلقه رضي الله عنهما (وقد ساق ابن كثير قصة أبي محجن بتمامها في البداية والنهاية 5/113).(1/38)
، وقد أنصف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حين تحدث عن بدعة المولد فنبه إلى أن أولئك المبتدعة قد يحصل لهم ثواب، لا على بدعتهم تلك لكن على ما في قلوبهم من الحب أو التعظيم للرسول - صلى الله عليه وسلم -(1)، يعني إذا كان ذلك هو الدافع الحقيقي لهم، ويحاسبون مع ذلك على بدعتهم إذا كانوا عالمين بما فيها من المخالفة، ولا ينتفي عنهم الخطأ.
إذن هناك عاطفة خاصة في القلب تمثل ركنًا في المحبة، عاطفة تجعل المحب يشتاق لرؤية محبوبه ومجالسته وسماع حديثه ويأنس به ويفرح بلقائه فتعلوا وجهه البشاشة والتبسم والبشر...
__________
(1) …قال شيخ الإسلام في اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم: (وأكثر هؤلاء الذين تجدونهم حرصاء على أمثال هذه البدع، ومع ما لهم فيها من حسن القصد والاجتهاد الذي يرجى لهم به المثوبة، تجدونهم فاترين في أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - عما أمروا بالنشاط فيه...).
…وقال أيضًا: (فتعظيم المولد واتخاذه موسمًا قد يفعله بعض الناس، ويكون له فيه أجر عظيم لحسن قصده، وتعظيمه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -...) ص267، 268، وكذلك قال رحمه الله فيمن عمل بما روي في فضائل الأيام والليالي بعد أن نقل اتفاق أهل المعرفة بحديثه - صلى الله عليه وسلم - أن ذلك كذب عليه، قال رحمه الله: "ولكن بلغ ذلك أقوامًا من أهل العلم والدين فظنوه صحيحًا فعملوا به وهم مأجورون على حسن قصدهم واجتهادهم لا على مخالفة السنة" مجموع الفتاوى (24/202).(1/39)
في الحديث الصحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت: جاء رجل من الأنصار إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله إنك أحب إليّ من نفسي، وأحب إليَّ من أهلي، وأحب إليَّ من ولدي، وإني لأكون في البيت فأذكرك فما أصبر حتى آتيك فأنظر إليك، وإذا ذكرت موتي وموتك عرفت أنك إذا دخلتَ الجنة رفعت مع النبيين، وإن دخلتُ الجنة خشيتُ أن لا أراك(1).
ولو كان كل ما يربط هذا الرجل بالرسول - صلى الله عليه وسلم - من معاني المحبة طاعته، فذلك ينتهي بانتهاء الدنيا إذ لا تكليف في الجنة... ولكن كان في قلب هذا الرجل عاطفة وشوق لرسوله - صلى الله عليه وسلم - وذلك لا ينقطع ولا يزول بانتهاء التكليف.
__________
(1) …قال الهيثمي في مجمع الزوائد (7/7): "رواه الطبراني في الصغير والأوسط ورجاله رجال الصحيح غير عبد الله بن عمران العابدي وهو ثقة" اهـ. ورواه أبو نعيم في الحلية (4/240)، (8/125)، وزاد ابن كثير في تفسيره (1/495) نسبته لابن مردويه وللحافظ أبي عبد الله المقدسي في كتابه صفة الجنة وذكر قوله: "لا أرى بإسناده بأسًا" اهـ. وذكره الشيخ مقبل في الصحيح المسند من أسباب النزول ص70، 71.(1/40)
وفي رواية أنه جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو محزون فقال له - صلى الله عليه وسلم -: ((يا فلان مالي أراك محزونًا؟)) فقال : يا نبي الله, شئ فكرت فيه. فقال: ((ما هو؟)) قال: نحن نغدو عليك ونروح, ننظر إلى وجهك, ونجالسك, وغدًا ترفع مع النبيين فلا نصل إليك... فلم يرد عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئًا حتى أتاه جبريل بهذه الآية: { وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً } [النساء:69] فبشره(1).
فتأمل ما يشغل قلب هذا الصحابي بعد دخوله الجنة وفوزه بنعيمها, يشغله عدم رؤيته للرسول - صلى الله عليه وسلم -... محبة قلبية عظيمة وعاطفة صادقة جياشة... تلك العاطفة التي تجعل الصحابة رضوان الله عليهم كما يشتاقون لرؤيته - صلى الله عليه وسلم - يشتاق بعضهم لرؤية بعض... تلك العاطفة التي تجعل رجلاً عظيمًا كعمر بن الخطاب رضي الله عنه يذكر بعض أصحابه في الليل فيشتاق لرؤياه ولقائه فيعد الساعات إلى الصباح فإذا أصبح انطلق ليلقاه...
روى الإمام أحمد في الزهد وابن أبي الدنيا في الإخوان أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يذكر الأخ من إخوانه بالليل، فيقول: ما أطولها من ليلة ، فإذا صلى الغداة غدا إليه فإذا لقيه التزمه أو اعتنقه(2).
نعم... تلك العاطفة التي تجعل الأخ يشتاق إلى أخيه والصاحب إلى صاحبه... حتى يود لو لم يفارقه في حياة ولا موت...
وما أجمل قول القائل:
يا ليتني أحيا بقربهمُ
فَتَكونُ داري بين دُورِهِ
إذا فقدتُّهم انقضى عمري
ويكون بين قُبُورِهمْ قَبْرِي
?
وهذا آخر يقول:
وما تبدلت مذ فارَقْتُ قربكم
__________
(1) …هذه الرواية لابن جرير في تفسيره (8/534/9924)، عن سعيد بن جبير فهي مرسلة ويشهد لها الرواية السابقة.
(2) …الزهد للإمام أحمد ص152.(1/41)
هل يُسَرُّ بسكنى دارِه أح
لا همومًا أعانِيهَا وأحزانًا
وليس أحبابه للدارِ جيرَانًا(1)
?
وثالث يقول:
كنا نزوركم والدار جَامِعة
صِرْنا نقدِرُ وقتًا في زيارتك
ي كلَّ حال فلمَّا شَطت الدار
وليس للشَّوقِ في الأحْشَاء مقدارُ
?
ويقول آخر:
ومن عَجَبٍ أني أحِنُّ إليهم
وتطلبُهُم عَيْنِي وهُمْ في سَوَادِه
أسأل عنهم مَنْ لقيتُ وهم مَعِي
ويشْتاقُهُم قَلْبِي وهُمْ بين أضْلُعِي(2)
?
ومن أجمل قول بعضهم:
فإن يَكُ عن لقَائك غابَ وجْهي
ولم يَغِبِ الثّنَاءُ عليك منَّي
وما زالتْ تَتَوقَّ إليكَ نفْس
لَمْ تَغِبْ المودَّةُ والإِخَاءُ
بظهْرِ الغيبِ يَتْبَعُه الدعَاءُ
على الحالاتِ يَحدُوهَا الوَفَاءُ
?
وتأمل قول أحدهم ـ وهو يعبر عن فرح قلبه بإخوانه وشوقه إليهم ـ:
متى شمَّ المحب لكمْ نَسِيمًا
ففي فسح القُلوبِ لكم ديارٌ
أتُسْعِدُنا بقرْبِكم الليَالي
أحبتنا... وحفظُ الودَّ دَيْن
لت عيْنَاه آيَ المرسلات
وذا معْنَى القلوبِ العَامِراتِ
وصبح الوصل يمحو القاطعات
ونحن على العهودِ السَّالفَاتِ
?
__________
(1) …المختار من رسالة الصداقة والصديق ص95.
(2) …منهاج السنة (5/377).(1/42)
ولا شك أن صدق العاطفة يورث الفرحة بلقاء الأحبة... كما أن إظهار الفرح باللقاء ينمي العاطفة، وكذلك البشاشة والتبسم وحسن الاستقبال والسلام كل ذلك يقرب القلوب ويعطف بعضها على بعض... ولذلك قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تحقرن من المعروف شيئًا ولو أن تلق أخاك بوجه طلق))، وقال أيضًا: ((تبسمك في وجه أخيك لك صدقة))(1). وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولن تؤمنوا حتى تحابوا، أو لا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم)) (2).
وصدق عمر رضي الله عنه إذ يقول: لقاء الإخوان جلاء الأحزان(3).
__________
(1) …رواه مسلم في البر والصلة رقم (2626)، وأحمد في المسند (5/173) من حديث أبي ذر رضي الله عنه، ورواه الترمذي في الأطعمة رقم (1833) وزاد في آخره: "وإن اشتريت لحمًا أو طبخت قدرًا فأكثر مرقته واغرف لجارك منه"، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير رقم (7634)، وروى الترمذي أيضًا من حديث جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كل معروف صدقة وإن من المعروف أن تلقى أخاك بوجه طلق، وأن تفرغ من دلوك في إناء أخيك"، ورواه أحمد في مسنده (3/344، 360)، والبغوي في شرح السنة (6/143) وحسنه، وحسنه كذلك الألباني في صحيح الجامع الصغير رقم (4557).
(2) …جزء من حديث رواه الترمذي في البر والصلة رقم (1956)، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير رقم (2908) والصحيحة رقم (572) وزاد نسبته لابن حبان (864)، والبخاري في الأدب المفرد (128).
(3) …رواه مسلم في الإيمان رقم (54)، والترمذي في الاستئذان في فاتحته رقم (2688)، وأبو داود في الأدب رقم (5193)، وابن ماجه في المقدمة رقم (68) وفي الأدب رقم (3692)، وأحمد في المسند (2/391، 442، 495، 512).(1/43)
وسئل سفيان: ما هناء العيش؟ قال: لقاء الإخوان(1)... وقد أصاب رحمه الله... فإن إخوان الصدق ـ كما قيل(2) ـ زينة في الرخاء وعصمة في البلاء، وإن رؤيتهم تفرح القلب وتريح النفس وتزيل الغم.
والعاطفة الصادقة هي التي تجعل المحب يؤثر أحبابه على نفسه ولو بما به قوام الحياة... ويخاف عليهم كما يخاف على نفسه أو أشد، ويشق عليه أدنى كدر أو أذى يصيبهم.
قال بعض السلف: إن الذباب ليقع على صديقي فيشق عليّ.
__________
(1) …انظر ص15.
(2) …انظر ص15.(1/44)
والمؤمن الصادق في حبه لأخيه يضحي براحته ليريح أخاه ويضحي بماله ليمنح أخاه, بل قد بلغ إيثاره لأخيه وخوفه عليه أن يعرض حياته للخطر من أجله، والأمثلة في هذا وغيره كثيرة مشهورة حفلت بها حياة الصحابة الكرام وسلفنا الصالح, فمنها: ذلك اللقاء التاريخي الحافل بين المهاجرين والأنصار وليس يربطهم قرابة نسب ولا دم وإنما ربطتهم قرابة العقيدة وأخوة الإيمان.. الأنصار في المدينة بكل مشاعر الحب، بكل مشاعر الإخاء،...كلهم يتسابق في إيواء المهاجرين ومشاطرتهم المال والمتاع، فكان الأنصاري يطلق من نسائه ليجد المهاجري امرأة يتزوجها(1)، ويترك أحب ماله هبة لأخيه حتى أن الواقدي يذكر أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لما تحول من بني عمرو بن عوف في قباء إلى المدينة تحول أصحابه من المهاجرين فتنافست فيهم الأنصار أن ينزلوا عليهم حتى اقترعوا فيهم بالسهمان، فما نزل أحد منهم على أحد إلا بقرعة سهم(2)...)(3)
__________
(1) …المختار من الصداقة والصديق لأبي حيان التوحيدي ص134، وفي العقد الفريد (2/163) قال: قال سعيد بن العاص: إني لأكره أن يمر الذباب بجليسي مخافة أن يؤذيه.
(2) …ومن أمثلة ذلك ما رواه البخاري في النكاح رقم (5072) عن أنس بن مالك قال: "قدم عبد الرحمن بن عوف فآخى النبي - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين سعد بن الربيع الأنصاري، وعند الأنصاري امرأتان فعرض عليه أن يناصفه أهله وماله فقال: بارك الله لك في أهلك ومالك، دلوني على السوق..." إلخ، قال ابن حجر رحمه الله في الفتح (9/19): "وفيه ما كانوا عليه من الإيثار حتى بالنفس والأهل" اهـ. وسيأتي تخريج الحديث ص59.
(3) …نزول المهاجرين على الأنصار بالقرعة ثابت في صحيح البخاري، فقد روى البخاري في الجنائز (1243) عن خارجة بن زيد بن ثابت أن أم العلاء ـ امرأة من الأنصار بايعت النبي - صلى الله عليه وسلم - ـ أخبرته أنه اقتُسِمَ المهاجرون قرعة فطار لنا عثمان بن مظعون فأنزلناه في أبياتنا..." الحديث، ورواه في مناقب الأنصار (3929)، ورواه في الشهادات (26879) بلفظ: "أن عثمان بن مظعون طار له سهمه في السكنى حيث أقرعت الأنصار سكنى المهاجرين، قالت أم العلاء: فسكن عندنا عثمان بن مظعون..."، وفي كتاب التعبير (7003) بلفظ: "أخبرته أنهم اقتسموا المهاجرين قرعة، قالت: فطار لنا عثمان بن مظعون وأنزلناه في أبياتنا" وفيه أيضًا (7018) بلفظ "طار لنا عثمان بن مظعون في السكنى حين اقترعت الأنصار على سكنى المهاجرين".(1/45)
.
هكذا مزج هذا الدين بن أرواح أصحابه بهذه الصورة العجيبة { لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ } [الأنفال: 63]... إنه أعظم لقاء أذن الله به لصفحات التاريخ لتسجله عبر سطور الزمان وتفخر به على مر السنين والأيام... إنه لقاء الحب وتضحية العقيدة والإيمان... { وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [الحشر:9].(1/46)
ترى أي عاطفة حية قامت بقلب كل واحد منهم تجاه أخيه، وأي شفقة جعلتهم يرتقون إلى هذا المستوى السامق من الإيثار والتضحية(1)... ترى لو بردت هذه العاطفة وخمدت المحبة التي في القلب هل كانوا يقوون على هذا المستوى من الإيثار والتضحية؟
إن المحبة القلبية هي التي تحرك الإنسان لأشياء كثيرة، وقلب المحب دليل لصاحبه إلى التفاني في خدمة محبوبه... وحين تكون هذه المحبة محبة إيمانية فإنها تقود إلى العجائب...وتأمل قوله تعالى وهو يذكر إيثار الأنصار للمهاجرين فيقدم لذلك بقوله: { وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ... } [الحشر:9].
__________
(1) …ومن القصص المشهورة التي تذكر عند الحديث على الإيثار والتضحية في سبيل الإخوان قصة الحارث بن هشام وعكرمة بن أبي جهل وعياش بن أبي ربيعة يوم اليرموك وإيثار كل واحد منهم صاحبه بالماء الذي دعا به ليشربه وموتهم دون أن يشرب أحد منهم هذا الماء، وهذه القصة مع شهرتها إلا أنها لا تثبت حديثيًا فقد رواها الطبراني كما في مجمع الزوائد (6/213)، وقال الهيثمي: "وحبيب لم يدرك اليرموك وفي إسناده من لم أعرفه" اهـ. ورواها الحاكم في مستدركه (3/242) من رواية حبيب أيضًا وهو ابن أبي ثابت، وذكرها ابن قتيبة في عيون الأخبار (1/462ـ 463)، وقال: "وهذا الحديث عندي موضوع لأن أهل السيرة يذكرون أن عكرمة قتل يوم أجنادين وعياش مات بمكة والحارث مات بالشام في طاعون عمواس" اهـ. ولهذا الكلام في سندها ومتنها لم نذكرها في سياق حديثنا عن الإيثار، وأحببت أن أنبه على ما قيل فيها والله تعالى أعلم بالصواب. وانظر ما قيل في هذه القصة في مجلة البحوث الإسلامية التي تصدر عن الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد ـ الرياض العدد (22) ص30ـ 35.(1/47)
فذكر جل وعلا محبتهم لإخوانهم وأن ذلك ظهر في إيثارهم لهم، ولم يقل جل وعلا: إن إيثارهم لإخوانهم كان ـ مثلاً ـ تلبية مجردة لأمر من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا علاقة لها بالعواطف ومحبة القلوب... كلا ... فتلك ليست الصورة المثلى للعلاقة بين الإخوان أو الأحبة، وإنما يصنع المحب ما يصنع تجاه أخيه مدفوعًا بالدافعين معًا: دافع المحبة القلبية والعاطفة الصادقة، ودافع التخلق بآداب الشرع وأحكامه... وكل ذلك مما أتى به الشرع وكان عليه الصحابة الكرام والسلف الصالح... وحين نفرط في آداب الشرع أو حين تبرد العاطفة تتعرض الأخوة للذبول والفساد.
وتأمل تلك العاطفة الكامنة وراء خوف الصاحب على صاحبه وحرصه على راحته وإيثاره له فيما رواه مصعب بن أحمد بن مصعب قال: قدم أبو محمد المروزي إلى بغداد يريد مكة، وكنت أحب أن أصحبه، فأتيته واستأذنته في الصحبة فلم يأذن لي في تلك السنة. ثم قدم سنة ثانية وثالثة فأتيته فسلمت عليه وسألته فقال: اعزم على شرط: يكون أحدنا الأمير لا يخالفه الآخر. فقلت: أنت الأمير. فقال: لا بل أنت، فقلت: أنت أسن وأولى. فقال: لا تعصني. فقلت: نعم ـ وما درى مصعب أن المروزي قبل الإدارة لخدمة أخيه لا لاستخدامه، وليعلِّم كل أمير قوم أن يكون خادمًا ومحبًا لهم وعطوفًا عليهم ورحيمًا بهم ـ قال مصعب: فخرجت معه، وكان إذا حضر الطعام يؤثرني فإذا عارضته بشيء قال: ألم أشرط عليك أن لا تخالفني! فكان هذا دأبنا حتى ندمت على صحبته لما يُلحق نفسه من الضرر.(1/48)
فأصابنا في بعض الأيام مطر شديد ونحن نسير فقال لي: يا أبا أحمد اطلب الميل(1). ثم قال لي: اقعد في أصله، فأقعدني في أصله وجعل يديه على الميل وهو قائم قد حنا عليَّ، وعليه كساء قد تجلل به يظلني من المطر حتى تمنيت أني لم أخرج معه لما يلحق نفسه من الضرر. فلم يزل هذا دأبه حتى دخل مكة رحمة الله عليه(2).
وإن العاطفة الصادقة الحية هي التي تجعل الأخ يدعو لمحبوبه بظهر الغيب... ويذكره في الأوقات الفاضلة... وقد كان الإمام أحمد رحمه الله يدعو لنفر من إخوانه في السحر بأسمائهم.. وقد رغبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك وما ترك شيئًا يكمل الأخوة والمحبة بين المسلمين إلا علمنا إياه، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((دعوة المرء المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة))(3).
__________
(1) …أي اذهب إلى أقرب ميل. والميل هو: حجر قائم يبنى للمسافر ـ ولاسيما في طريق مكة ـ للاهتداء به وإدراك المسافة، وبين كل ميل وآخر مقدار مدى البصر. (من أخلاق السلف ص112)، وفي لسان العرب: وقيل: للأعلام المبنية في طريق مكة أميال؛ لأنها بنيت على مقادير مدى البصر من الميل إلى الميل. والميل: منار يبنى للمسافر في أنشاز الأرض وأشرافها. انظر: لسان العرب ص4311.
(2) …من أخلاق السلف ص112 نقلاً عن صفة الصفة (4/148، 149).
(3) …رواه مسلم في الذكر والدعاء رقم (2732، 2733)، وابن ماجه في المناسك رقم (2895)، وأحمد في المسند (5/195).(1/49)
وقل أن يتذكر الإنسان إخوانه والمبتلين من المسلمين إذا تجرد قلبه عن العاطفة والشفقة... ومن ثم يندر أن يدعو لأحد بظهر الغيب... اللهم إلا لو كان له مصلحة عند أخيه أو له مراد ما في منازعة جرت بينهما فيدعو لأخيه أن يلين قلبه وينصلح حاله، وهذا يعني من وجهة نظره أن يقتنع أخوه بوجهة نظره ويترك منازعته، ويتجمل بهذا الدعاء في المجالس فيقول: إن فلانًا الذي تظنون أنني أعاديه، أحبه وأدعو له بظهر الغيب، فإذا قيل له: بم تدعو له بظهر الغيب؟ قال: أدعو له بالهداية والرجوع إلى الحق. ونحو ذلك.
وليس هذا بالضرورة علامة محبة، بل قد يكون أقرب إلى السب من الحب؛ يجعل الدعاء متنفسًا له ينتقص فيه أخاه ويضعه موضع الضال المقصر والمنحرف الجاهلي وغير ذلك... ولذا لا تجده مثلاً يدعو له مع ذلك بأن يسكنه الله الفردوس الأعلى أو أن يقر عينه بماله وولده وأهله ويبارك له في عمره ويرزقه السعادة التامة وعلو الشأن في الدارين إلى آخره من دعاء المحبين لإخوانهم...
وإن العاطفة الحية هي التي تجعل المحب يقوم بسائر حقوق الأخوة تجاه أخيه قبل أن يعاتبه أخوه أو يذكره بها أحد، فتراه يدافع عنه في غيبته، ويخف إلى مساعدته في أموره وإنجاز حوائجه، ويحب له ما يحب لنفسه، ويفرح بالنعمة التي تصيبه كما لو كانت قد أصابته هو، فقلبه طاهر من الغل والحقد والحسد والمكر واللؤم، فقلبه صافٍ لأحبابه وإخوانه صفاء أفئدة الطير...(1/50)
وكل هذه المعاني يدفعنا إليها رسولنا - صلى الله عليه وسلم - دفعًا ليعيننا على تطهير قلوبنا ويرغبنا أعظم ترغيب ويحذرنا أقوى تحذير... فهو القائل صلوات الله وسلامه عليه: ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه))(1)، وهو القائل - صلى الله عليه وسلم -: ((يدخل الجنة أقوام أفئدتهم مثل أفئدة الطير))(2)، وهو القائل صلوات الله وسلامه عليه: ((علام يقتل أحدكم أخاه ـ يعني بالعين أو الحسد ـ إذا رأى أحدكم من أخيه ما يعجبه فليدع له بالبركة))(3).
والعاطفة الصادقة هي التي تجعل المحب يسارع إلى تبشير المحبوب بما يسره ويحرص على أن يكون أسبق الناس إلى ذلك لما يجده من السرور والسعادة حين يجد أخاه مسرورًا... وكذلك يسارع إلى تهنئته بما يتحقق له من نعمة...
ولدينا نموذج لذلك في قصة توبة كعب بن مالك رضي الله عنه كما سيأتي(4).
والعاطفة الصادقة هي التي تجعل المحب يريد ما يريده أخوه ويحب ما يحبه، قال أحدهم:
روحه روحي وروحي روحُ
ن يشأ شئتُ وإن شئتُ يشأ(5)
?
والعاطفة الصادقة هي التي تجعل المحب يشعر بفقد أخيه إذا غاب ويتألم لفراقه؛ هذا الشعور الذي يعبر عنه قول أحد الشعراء وهو يرثي صاحبه:
فلما تفرقنا كأني ومالكً
طولِ اجتماعٍ لم نبت ليلة معًا
?
__________
(1) …سبق تخريجه ص26.
(2) …رواه مسلم في الجنة وصفة نعيمها وأهلها رقم (2840)، وأحمد في مسنده (2/331).
(3) …رواه بهذا اللفظ ابن ماجه في الطب رقم (3509)، ورواه مالك في الموطأ في العين (2/938، 939)، وأحمد في المسند (3/447) ـ بنحوه، والحديث فيه قصة وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه رقم (2828)، وصحيح الجامع رقم (4020).
(4) …انظر ص151.
(5) …فكأنما هما روح واحدة أو نفس واحدة، وهذا ينبغي أن يقيد بما لا مخالفة فيه للشرع وما لا يقتضي تركًا لفضيلة أو مصلحة شرعية، أما الامتزاج أو الذوبان المطلق فلا نقول به. والبيت في المختار من الصداقة والصديق لأبي حيان التوحيدي ص48.(1/51)
أو الذي يعبر عنه آخر حين يقول:
أنا المهاجِرُ ذو نفْسَين، واحِد
سِير بها نَفْسِي وأخرى رهن إخوان
?
أو الذي يعبر عنه ثالث فيقول:
وجدتُ مصيبات الزمانِ جميعه
ِوَى فرقة الأحباب هيَّنَة الخطْب
?
وما أرق وداع المحبين لأحبابهم في أسفارهم وفي مواطن افتراقهم...
يقول أحدهم:
ودَعِ الصبرَ محب ودعك
يقرع السنَّ على أن لم يكن
ائع من سرّه ما اسْتَودَعك
زادَ في تلكَ الخُطَى إذا شيَّعَك
?
ويقول آخر:
أبا بكر لئن صرفتك عنا
فلم نرْحَلْ بأنفُسِنا ولكن
فقدتُ بفقْدِك الودَّ المصفَّى
أشَيعُه إلى سفر كأني
وما ودعتُه إلا ونفسي
ولا أتبعْتُه باللّحْظ إلا
وكان الشهْرُ قبْل اليومِ يومً
صاريفُ الحوادثِ والدُّهُورِ
بمحضِ الشوقِ عن مُهَجِ الصدورِ
وأخلاقًا تكشِفُ عن بُدور
أشيع والديَّ إلى القبور
تودعني بتَوْديع السرُورِ
رددت اللحظ عن طرفٍ حسير
فصَارَ اليومُ بعدَكَ كالشُّهْور
?
وإن العاطفة الصادقة هي التي تجعل المحب يدرك قيمة إخوانه ويعد فقدانهم أعظم خسارة وأشد غربة.
قال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه لابنه الحسن: يا بني، الغريب من ليس له حبيب(1).
وقال ابن المعتز: من اتخذ إخوانًا كانوا له أعوانًا(2).
وقال خالد بن صفوان: إن أعجز الناس من قصّر في طلب الإخوان، وأعجز منه من ضيّع من ظفر به منهم(3).
وقال بعض الأدباء: أفضل الذخائر أخ وفيّ(4).
وقال بعض البلغاء: صديق مساعد عضد وساعد(5).
وقال بعض الشعراء:
هموم رجالٍ في أمورٍ كثيرةٍ
نكونُ كروحٍ بين جسمين قُسَّمَ
همَّي من الدنيا صديقٌ مساعِدُ
فجسماهما جسمان، والروح واحد(6)
?
وقال الكندي: الصديق إنسان هو أنت إلا أنه غيرك(7).
وقال أيوب السختياني: إذا بلغني موت أخٍ لي فكأنما سقط عضو مني(8).
__________
(1) …انظر ص16.
(2) …انظر ص17.
(3) …انظر ص17.
(4) …انظر ص16.
(5) انظر ص16.
(6) انظر ص16.
(7) …انظر ص16.
(8) …عيون الأخبار (3/4).(1/52)
وقال بعض الحكماء: من لم يرغب في الإخوان بلي بالعدواة والخذلان(1).
ولعمري إن إخوان الصدق من أنفس الذخائَر، وأفضل العدد؛ لأنهم سهمان النفوس ـ أي نصيبها ـ وأولياء النوائب(2).
وقد قالت الحكماء: رب صديق أود من شقيق(3).
وقيل لمعاوية: أيما أحب إليك؟ قال: صديق يحببني إلى الناس(4).
وقال ابن المعتز: القريب بعداوته بعيد، والبعيد بمودته قريب(5).
وقال الشاعر:
يَخُونك ذو القرْبَى مِرارًا وربم
َفّى لك عندَ العهْدِ من لا تُناسِبُه(6)
?
والعاطفة الصادقة هي التي تجعل المحب حريصًا على صاحبه وإن قصر معه صاحبه، ومن المحبين من يحرص على القرب من أحبابه وإن تباعدوا عنه ولا ينسى الدعاء لهم، وهذا قمة المحبة والإخلاص والحرص على الأحباب.
قال بعضهم:
مَا ودَّني أحدٌ إلا بذلت له
ولا جفَانِي وإن كنتُ المحبَّ ل
فو المودةِ مِني آخرَ الأبَدِ
إلا دعوْتُ له الرحمنَ بالرشَدِ(7)
?
(وقال الشاطبي:
وقد قيل كُنْ كالكلبِ يقْصِيه أهلُ
ما يأتلي في نصحِهم متبذلا
?
وذلك أن الكلب يضرب ويجفى ويُقصى ولا يزداد إلى قربًا ودنوًا من أصحابه، وفي قصة أصحاب الكهف وشأن كلبهم معهم ذكرى وعبرة)(8).
ولبعض المحبين ملحظ آخر وذلك أنهم تباعدوا أو بتعبير أدق باعدوا أنفسهم عن أحبابهم مع ما في ذلك من المشقة على نفوسهم لما رأوهم يحبون ذلك إدخالاً للسرور عليهم وحرصًا على راحتهم لا غضبًا أو بغضًا.
قال أحدهم:
رأيتك لا تختارُ إلا تباعُدِي
فبعدك يؤذيني وقربي لكم أذ
باعدتُ نفسي لاتبَاع هوَاكا
فكيف احتيالي يا من جعلتُ فِدَاكا
?
__________
(1) …انظر ص17.
(2) …انظر ص17.
(3) …انظر ص17.
(4) …أدب الدنيا والدين ص166.
(5) انظر ص17.
(6) انظر ص17.
(7) …روضة العقلاء ص207.
(8) …بتصرف يسير من الصداقة والصديق ص115، وبيت الشعر المذكور أورده ابن القيم في إغاثة اللهفان (1/89) ونسبه للشاطبي.(1/53)
وهذا يقودنا إلى مسألة التفاوت بين حب كل من الصاحبين لصاحبه، وهي مسألة مؤثرة في النفس، أعني حين تشعر أن صاحبك لا يحبك مثل ذاك الحب الشديد الذي تجده في نفسك تجاهه، ولكن يهون ذلك عليك ويخففه تلك البشرى العظيمة التي بشر بها المصطفى - صلى الله عليه وسلم - المحبين حين قال: ((ما من رجلين تحابا في الله بظهر الغيب إلا كان أحبهما إلى الله أشدهما حبًا لصاحبه))(1).
والبعض تتألم نفسه حين يجد أن صاحبه لا يبادله المحبة بنفس القدر أو المستوى، وفي الحقيقة هذه مسألة ينبغي أن يكون الإنسان فيها أكثر مرونة، وأن يتقبلها أو يضعها في حجمها الطبيعي، فالغالب في المتحابين أن حبهم لبعضهم لا يتساوى، ويقل أن تجد متحابين يتساوى قدر حب كل واحد منهما للآخر تمامًا...
ومن طريف ما روي عن رجل صادق في محبته لصاحبه، شديد الشوق إليه، ما رواه قدامة بن جعفر أن رجلاً كتب إلى آخر: إن رأيت أن تحدد لي موعدًا لزيارتك أتوقته إلى وقت فيؤنسني إلى حين فافعل. فأجابه الآخر: أخاف أن أعدك وعدًا يعرض دون الوفاء به ما لا أملك دفعه فتكون الحسرة أعظم من الفرقة. فأجابه: إنما أسر بموعدك وأكون جذلاً بانتظارك، فإن عاق عائق عن إنجاز وعدك كنت قد ربحت السرور لما أحبه، وأصبت أجري على الحسرة بما حرمته.
ولا يخلو صاحبك الذي لا تشعر منه بنفس القدر أو المستوى من المحبة الذي تتجه به إليه من أحد حالين: إما أنه لا يحب مصاحبتك أصلاً، وإما أنه يحب صحبتك ومؤاخاتك ولكن حبك له أكثر.
أما الحالة الأخيرة فيسيرة، ولتحتسب فيها الأجر والثواب، واعذر فيها صاحبك، وهي نعمة وفضل من الله عليك، وكفاك في ذلك ما سبق في الحديث الصحيح: ((ما تحاب رجلان في الله تعالى إلا كان أفضلهما أشدُهما حبًا لصاحبه))(2).
__________
(1) …سبق تخريجه ص12، هامش (3).
(2) …انظر ص12.(1/54)
وأما إن كان صاحبك لا يحب مصاحبتك أصلاً، ولا يرعاك إلا تكلفًا أو على كره، فاترك صحبته ولا تفرض عليه أخوة خاصة، ومن الخير أن تبقى العلاقة معبر في إطار محبة الإسلام العامة وكفى.
يروى عن الشافعي رحمه الله(1):
إذا المرءُ لا يرعَاك إلا تكلفًا
ففِي الناسِ أبدالٌ وفي الترك راحةٌ
فما كل من تهْواه يهواك قلبُه
إذا لم يكن صفوُ الوداد طبيعة
ولا خير في خِلّ يخُون خليله
وينكرُ عيشًا قد تّقَادم عهدُه
سلامٌ على الدنيَا إذا لم يكن به
دَعْه ولا تُكثِرْ عليه التَّأسُّفَا
وفي القلب صبر للحبيب ولو جفا
ولا كلُ منْ صافيته لكَ قد صَفَا
فلا خيرَ في ودّ يجيء تكلفَا
ويلقَاه مِن بعدِ المودةِ بالجَفَا
ويُظهرُ سرًا كان بالأمس في خَفَا
صديق صدوق صادقُ الوعدِ منصَفَا?
- - -
المفسدة الخامسة
النجوى
قال تعالى: { إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا } [المجادلة: 10].
__________
(1) …ضمن ديوانه المجموع مما نسب إليه من أشعار ص94، تحقيق الدكتور محمد عبد المنعم خفاجى.(1/55)
ووردت السنة بالنهي عن التناجي فيما رواه الشيخان وأحمد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون صاحبهما؛ فإن ذلك يحزنه))(1)، وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الثالث إلا بإذنه؛ فإن ذلك يحزنه))(2).
والحكمة من استئذانه ـ والله أعلم ـ أن يُعلم طيب قلبه ورضاه بذلك التناجي، ومن ثم فلا ينبغي أن يجبر على الإذن بسيف الحياء دون أن يُعطى فرصة لإبداء رأيه، ودون أن يُعطي المستأذِن لنفسه فرصة للاطمئنان إلى رضاه وطيب نفسه بذلك، كأن يأخذ أحد الثلاثة بيد صاحبه متنحيًا به عن الثالث، أو يشرع في مناجاته ثم يقول للثالث: (بعد إذنك)!
__________
(1) …رواه البخاري في الاستئذان رقم (6290)، ومسلم في السلام رقم (2184) واللفظ له، وأبو داود في الأدب بنحوه رقم (4851)، وأحمد في المسند (1/431)، والترمذي في الأدب رقم (2825)، وابن ماجه في الأدب رقم (3775)، والدارمي في الاستئذان رقم (2657).
(2) …رواه البخاري في الاستئذان رقم (62889، ومسلم في السلام رقم 02183)، وأبو داود في الأدب رقم (4852)، وابن ماجه في الأدب رقم (3776)، ومالك في الموطأ في الكلام (2/988، 989)، وأحمد في المسند (2/9)، والبغوي في شرح السنة (13/90) ـ واللفظ المذكور له ـ.(1/56)
وإنما ينبغي أن يكون الاستئذان قبل الشروع في التناجي وقبل أن ينصرف بصاحبه دون الثالث... حتى لا يقع المحظور ويتحقق للشيطان مراده فيحزن الثالث، أو تدور بنفسه الظنون السيئة، ومع ذلك ننصح الثالث ـ وإن ظلم بمثل هذه المناجاة ـ إذا أحس بمثل ذلك الحزن أو دارت بنفسه بعض الظنون بسبب تلك المناجاة أن يستعيذ بالله ولا يمكن الشيطان من نفسه، وليتوكل على الله فإنه لا يضره شيء بإذن الله(1).
- - -
المفسدة السادسة
الاعتداد بالرأي وضيق الصَّدْر عَن سَمَاعِ النّصْح أو الاقتراحَات
فإن هذا يشعر أخاك بحاجز كبير بينك وبينه, ويؤدي إلى انقباضه عنك في الحديث, وربما عد فيك شيئًا من الكبر... فتتولد كراهيته لك في نفسه حتى لا يطيق صحبتك بعد ذلك... فاحذر من انتقاص أعمال أخيك, ومن تجاهل آرائه واقتراحاته, وقابل ذلك بالتشجيع والأدب وسعة الصدر لا سيما إن لم يكن أخوك مُفْرطًا في ذلك.
وهاهو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يراجعه أصحابه ونساؤه في أشياء ويقترحون عليه أمورًا فيقبل منهم ويتحول إلى ما أرادوا أو يجيبهم في سعة صدر عن اعتراضاتهم أو نقدهم أو استفساراتهم...
__________
(1) …وهذا المعنى الأخير مستفاد من كلام ابن كثير رحمه الله في التفسير (4/324).(1/57)
فهاهو - صلى الله عليه وسلم - مع نبوته وفضله يقترح الصحابة أن يبنوا له عريشًا في بدر يكون فيه فيقبل ذلك منهم(1)، ويشيرون عليه بالخروج في أحد فيخرج ولم يكن ذلك ما يميل إليه(2)، وهاهي أم سلمة في الحديبية تشير عليه - صلى الله عليه وسلم - أن يبدأ هو بحلق رأسه ونحر هديه حتى يخف أصحابه لذلك اقتداءً به فيعمل بقولها(3)، وهاهي عائشة رضي الله عنها تراجعه في بعض كلامه فيبين لها دون ضجر، وذلك لما قال: ((من نوقش الحساب عُذِّب)) (4)
__________
(1) …الذي اقترح بناء العريش هو سعد بن معاذ رضي الله عنه، وقصته تلك رواها ابن إسحاق في المغازي (2/620ـ 621 ـ سيرة ابن هشام)، والبيهقي في دلائل النبوة (3/44)، وذكرها ابن كثير في البداية والنهاية (3/267)، وابن عبد البر في الدرر في اختصار المغازي والسير ص70، وانظر: السيرة النبوية الصحيحة للدكتور أكرم العمري (2/362).
(2) …قصة مشاورة النبي - صلى الله عليه وسلم - ومراجعة أصحابه له في الخروج من المدينة يوم أحد رواها البخاري تعليقًا باختصار في كتاب الاعتصام باب (28) (وأمرهم شورى بينهم) في ترجمة الباب، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "والقدر الذي ذكره هنا مختصر من قصة طويلة لم تقع موصولة في موضع آخر من الجامع الصحيح، وقد وصلها الطبراني وصححها الحاكم..."، ثم ذكرها الحافظ وقال: "وهذا مسند حسن" الفتح (13/353)، والقصة رواها ابن إسحاق مطولة (3/63، 64 ـ سيرة ابن هشام)، ورواها البيهقي في دلائل النبوة (3/204، 205)، ورواه أيضًا الإمام أحمد في المسند (3/351).
(3) …رواها البخاري في الشروط رقم 02731، 2732) ضمن قصة الحديبية الطويلة.
(4) …رواه البخاري في العلم رقم (103)، والتفسير رقم (4939)، وفي الرقاق رقم (6536، 6537)، ومسلم في الجنة وصفة نعيمها وأهلها رقم (2876)، والترمذي في صفة القيامة رقم (2426)، وفي التفسير رقم (3337)، وأبو داود في الجنائز رقم (3093)، وفيه زيادة في أوله ضعفها الألباني وتمامه مثل البخاري ومسلم، ورواه أحمد في المسند (6/47، 91، 108) وفي مواضع أخرى بروايات.(1/58)
، فقالت: أوليس الله تعالى يقول: { فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً } [الانشقاق:8]، فيقول لها - صلى الله عليه وسلم -: ((إنما ذلك العرض، من نوقش الحساب عُذِّب))، ولما قال: ((يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلاً)) قالت: ينظر بعضهم إلى بعض! قال: { لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ } [عبس:37]))(1).
ولما صالح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المشركين في الحديبية على أن من أسلم منهم رده - صلى الله عليه وسلم - إليهم، ومن ارتد لم يردوه إليه، قال عمر رضي الله عنه: يا رسول الله أو لسنا بالمسلمين؟! فلا يضيق - صلى الله عليه وسلم - بهذا السؤال التقريري ذي الإجابة البدهية المعلومة، بل يجيبه في هدوء: ((بلى)) فيقول عمر رضي الله عنه: أو ليسوا بالمشركين؟! فيسترسل معه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويجيبه: ((بلى))، فيقول عمر رضي الله عنه: فلِمَ نعط الدنية في ديننا؟ فيبين له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه أمر الله وأن الله لن يضيعه(2)...
فإذا كان هذا شأنه - صلى الله عليه وسلم - مع الناس مع مكانته ونبوته وفضله فكيف بما ينبغي للصاحب مع صاحبه من التواضع وتحمل المراجعة والاقتراحات وغير ذلك...
__________
(1) …رواه البخاري في الرقاق رقم (65279، ورواه مسلم في الجنة رقم (2859)، والترمذي في التفسير رقم (3332)، وأحمد في المسند (6/53) والآية مذكورة في رواية الترمذي فقط ولم يسم عائشة في حديثه بل فيه "فقالت امرأة..." الحديث.
(2) …ورد في قصة الحديبية رواها البخاري في الشروط رقم (2731، 2732).(1/59)
بل تأمل حلمه العظيم - صلى الله عليه وسلم - وتحمله لمثل تلك التصرفات والاستفسارات الغاضبة فيما رواه البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: لما توفي عبد الله بن أبيّ جاء ابنه عبد الله إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليصلي عليه، فقام عمر فأخذ بثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "يا رسول الله، تصلي عليه وقد نهاك ربك أن تصلي عليه؟!" فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنما خيرني الله فقال: { اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ } [التوبة: 80] وسأزيده على السبعين))، قال: إنه منافق. فلما صلى عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نزلت الآية: { وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ } [التوبة: 84](1).
__________
(1) …رواه البخاري في الجنائز رقم 01269)، والتفسير رقم (4670، 4672)، وفي اللباس رقم (5796)، ورواه مسلم في فضائل الصحابة رقم (2400)، وأحمد في المسند (2/18).(1/60)
وفي رواية لأحمد عن ابن عباس: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: لما توفي عبد الله بن أبي بن سلول دعي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للصلاة عليه فقام إليه، فلما وقف عليه يريي الصلاة تحولت حتى قمت في صدره فقلت: يا رسول الله، أعلى عدو الله عبد الله بن أبيّ القائل يوم كذا وكذا وكذا ـ يعدد أيامه ـ قال: ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبتسم حتى إذا أكثرت عليه قال: ((أخِّر عني يا عمر، إني خيرت فاخترت، قد قيل لي: { اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ } [التوبة: 80]، لو أعلم أني إن زدت على السبعين غفر له لزدت)) قال: ثم صلى عليه ومشى معه وقام على قبره حتى فرغ منه. قال عمر: فعجب لي ومن جرأتي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والله ورسوله أعلم(1)... الحديث.
ولما أتاه أعرابي فجذبه من ردائه وقال: يا محمد أعطني من مال الله فإنه ليس مال أبيك ولا مال أمك لم يزل - صلى الله عليه وسلم - يعطيه حتى رضي(2).
فهذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتحمل ممن هو دونه كل هذا فكيف بالصديق مع صديقه، والقرين من قرينه، فحالهما أدعى للتحمل والتواضع دون كبر أو اعتداد.
ومن سوء الأدب أيضًا أن يجعل أحد الأخوين أخاه دائمًا في موضع المتلقي الآخذ أو المأمور المسخر أو التابع المستسلم, فيكثر توجيه الأوامر إليه والاعتراضات, وربما استعمله لخدمته وقضاء حوائجه مع أنفته أن يصنع به صاحبه مثل ذلك. ومن سوء الخلق أن تسخر من رأي أخيك وتصرفه أو تتهكم به...
__________
(1) …المسند (1/16).
(2) …رواه البخاري في فرض الخمس رقم (3149)، وفي اللباس رقم (5809)، وفي الأدب رقم (6088)، ورواه مسلم في الزكاة رقم (1057).(1/61)
فلنتأدب إذًا بما أدبنا الله تعالى به إذ يقول: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ } [الحجرات: 11]، وبما أدبنا به رسولنا - صلى الله عليه وسلم - إذ يقول: ((بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم))(1)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر)) (2).
- - -
المفسدة السابعة
كثرةُ المخَالفة له في الأقوال والأفعال والرغبات، والكبر والفظاظة
__________
(1) …جزء من حديث رواه مسلم في البر والصلة رقم (2564)، وأبو داود في الأدب رقم (4882)، والترمذي في البر والصلة رقم (1927)، وابن ماجه في الزهد رقم (4213) ـ وليس عنده إلا الجملة المذكورة فقط ـ كلهم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، ورواه الإمام أحمد في المسند (3/491) من حديث واثلة بن الأسقع رضي الله عنه.
(2) …جزء من حديث رواه مسلم في الإيمان رقم (91)، وأبو داود في اللباس رقم (4091) بنحوه، والترمذي في البر والصلة رقم (1999)، وابن ماجه في الزهد رقم (4173)، وأحمد في المسند (1/399) كلهم من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، وروى نحوه الإمام أحمد في المسند (2/164) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.(1/62)
من زيادة الألفة أن يكون بين الصاحبين وصف مشترك أو عادات وطباع متشابهة، فالطيور على أشكالها تقع, وقد قال رسولنا - صلى الله عليه وسلم -: ((الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف))(1).
وقال مالك بن دينار: لا يتفق اثنان في عشرة إلا وفي أحدهما وصف من الآخر يناسبه.
ولذلك كم من شخص عرفته قدرًا في سفر أو طريق فصار هو الصفي والخليل وعرفته بواسطة صديق قديم فصار هذا الجديد أقرب إليك من القديم لما وجدت فيه من التقارب معك روحًا ونفسًا أو فهمًا أو فكرًا... على حد قول القائل:
كم صديق عرفته بصَدِيقٍ
ورفيقُ صحبته في طري
ان أحظى مِنَ الصديق العتيق
صار بعد الطَّرِيقِ خير رَفِيقِ(2)
?
__________
(1) …رواه مسلم في البر والصلة رقم (2638)، وأبو داود في الأدب رقم (4834)، وأحمد في المسند (2/295، 527)، البغوي في شرح السنة رقم (3471) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، ورواه البخاري ـ تعليقًا ـ في أحاديث الأنبياء رقم (3336) من حديث عائشة رضي الله عنها، وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح (6/426): "وصله المصنف في الأدب المفرد عن عبد الله بن صالح عنه" اهـ. أي عن الليث، وقد رواه البخاري كما ذكر الحافظ في الأدب المفرد رقم (900)، وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد رقم (691).
…ورواه الحاكم في مستدركه (4/420)، والسلمي في آداب الصحبة ص39، 40 من حديث سلمان الفارسي رضي الله عنه، ورواه الطبراني في الكبير كما في مجمع الزوائد (8/87) من حديث عبد الله بن مسعود وقال الهيثمي: "ورجاله رجال الصحيح" اهـ.
(2) …المختار من الصداقة والصديق لأبي حيان التوحيدي ص130.(1/63)
ومن أسباب زيادة الألفة وصيانتها عن الفساد والوحشة وحفظها من الزوال موافقة الصاحب في أحواله، والسهولة واللين معه، فان كثرة المخالفة تزيل الألفة, وقد قال - صلى الله عليه وسلم - مبينًا سمت أهل الإيمان: ((المؤمنون هينون لينون، كالجمل الأنف إذا قيد انقاد وإذا أنيخ على صخرة استناخ))(1)، وقال أيضًا: ((ألا أنبئكم بمن يحرم على النار أو بمن تحرم عليه النار؟ على قريب هين سهل))(2)، وفي رواية: ((من كان سهلاً هينًا لينًا حرمه الله على النار))(3)...
وإذا صحبتَ فاصحبْ صَاحِبًا
قوله للشيء لا إن قلت ل
ا حياء وعفافٍ وكرَم
وإذا قلت نعم قال نَعَم(4)
?
__________
(1) …أورده السيوطي في الجامع الصغير وعزاه لابن المبارك عن مكحول مرسلاً، والبيهقي عن ابن عمر رضي الله عنهما، وذكر الألباني في السلسلة الصحيحة رقم (936) وقال: رواه العقيلي في الضعفاء 214، ثم ذكر له شاهدًا وقال: فالحديث به حسن. اهـ. انظر: فيض القدير (6/258) رقم (9163)، صحيح الجامع الصغير رقم (6669)، سلسلة الأحاديث الصحيحة (2/646، 647).
…قوله: "الأنف" في رواية "الألف" باللام ومعنى الأنف أي الذي عقره الخطام، وإن كان من خشاش أو بُرة أو خِزامة في أنفه فمعناه أنه ليس يمتنع على قائده في شيء للوجع، فهو ذلول منقاد. انظر: لسان العرب (1/151).
(2) …رواه الترمذي في صفة القيامة رقم (24889، وأحمد في المسند (1/415) ولفظه "كل هين لين سهل قريب من الناس"، والبغوي في شرح السنة (13/85) بنحو رواية أحمد، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير رقم (2609)، وفي الصحيحة رقم (38) وذكر له شواهد كثيرة، وكذا صححه شعيب الأرناؤوط في تخريج شرح السنة (13/86)، وراجع في شواهد مجمع الزوائد (4/75).
(3) …صحيح الجامع الصغير رقم (6484).
(4) …العزلة للخطابي ص71.(1/64)
وهذا بلا شك فيما لا يخالف الشرع بل في الإطار الذي لا يمنع الشرع من الموافقة فيه، كما في الأمور التي ترجع إلى المزاج وما يهواه الصاحب مما لا تقييد فيه من قبل الشارع.
فمن الحياء والإيثار ومما تكسب به قلب الصديق وحبه أن توافقه في ذلك وإن لم يناسب مزاجك أو هواك درءًا للجدال، وتقريبًا للأرواح والقلوب، وحفظًا لها من التغير بسبب أمور لا تمس الدين في شيء، فإن كثرة المخالفة توحش القلب وتشعر بعدم التناسب وتزيل الانسجام.
فكن لينًا سهلاً مع أخيك طيعًا له، ذا رقة في التعامل معه، بعيدًا عن الغلظة والفظاظة عسى أن يشملك هذا الوعد العظيم بالتحريم على النار الذي بشر به المصطفى - صلى الله عليه وسلم - أولئك الهينين اللينين.
وقد كان - صلى الله عليه وسلم - قدوة في اللين والسهولة والبعد عن الكبر والفظاظة حتى إن الأمة كانت تأخذ بيده فتنطلق به لحاجتها إلى حيث شاءت من المدينة(1)، بل ما أعجب ما ذكره أنس رضي الله عنه ـ خادمه ـ إذ يقول: خدمت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشر سنين فما قال لي: أفٍ قط, ولا قال لشيء فعلته: لمَ فعلته؟ ولا لشيء لم أفعله: لِمَ لَمْ تفعلْه(2)! هذا مع الخادم فكيف مع الصاحب؟!
ولهذا جمع الله حوله القلوب, قال تعالى: { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ } [آل عمران: 159].
__________
(1) …رواه البخاري في الأدب رقم (6072).
(2) …رواه البخاري في الأدب رقم (6038)، ومسلم في الفضائل رقم (2309)، وأبو داود في الأدب رقم (4774)، والترمذي في البر والصلة رقم (2015)، وفي الشمائل رقم (296) مختصر الشمائل، والدارمي في المقدمة رقم (62).(1/65)
وتأمل ما ذكره ابن كثير رحمه الله في حكمة إرسال الله الرسل من أهل القرى لا من البوادي إذ يقول في قوله تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى } [يوسف: 109]: (وقوله: { مِنْ أَهْلِ الْقُرَى } المراد بالقرى المدن، لا أنهم من أهل البوادي الذين هم من أجفى الناس طباعًا وأخلاقًا، وهذا هو المعهود المعروف أن أهل المدن أرق طباعًا وألطف من أهل بواديهم وأهل الريف والسواد أقرب حالاً من الذين يسكنون في البوادي؛ ولهذا قال تعالى: { الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً } [التوبة: 97] الآية، وقال قتادة في قوله: { مِنْ أَهْلِ الْقُرَى } : لأنهم أعلم وأحلم من أهل العمود)(1).
وتأمل ما وصف الله به أولياءه وأحباءه وما بينهم من التراحم والتواضع وذلة بعضهم على بعض فيقول جل وعلا: { مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ } [الفتح: 29]، ويقول: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ }
[المائدة: 54]
فخذ أيها الصاحب بهذا الأدب وكن لينًا سهلاً متواضعًا ألوفًا، وإياك والكبر والفظاظة, قال - صلى الله عليه وسلم -: ((المؤمن يألف ويؤلف، ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف, وخير الناس أنفعهم للناس))(2)
__________
(1) …تفسير ابن كثير (2/478)، وأهل العمود هم أهل البادية، والعمود هو الخشبة القائمة في وسط الخباء. انظر: لسان العرب ص3097.
(2) …قال الألباني: "قال في الجامع: رواه الدارقطني في الأفراد، والضياء المقدسي في المختارة عن جابر، ثم رمز له السيوطي فيه بالصحة، ولم يتكلم عليه الشارح بشيء". السلسلة الصحيحة ح رقم (426) ص712.
…وأخرجه أحمد بنحوه في المسند (2/400) من حديث أبي هريرة بلفظ "المؤمن مُؤلف ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف"، وأخرجه من حديث سهل بن سعد الساعدي بلفظ "المؤمن مألفة ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف" المسند (5/335).(1/66)
... أما الغليظ الصعب ذو الكبر والجفاء فيخسر جميع إخوانه أو لن يكون له إخوان أو أصحاب من الأصل، ومصيره أن يعيش وحيدًا منبوذًا.
ومن صور الكبر شعور الأخ بأنه أرفع قدرًا من أخيه بسبب انتمائه لقبيلة معينة أو لدولة غنية أو لدولة متقدمة ماديًا إلى غير ذلك من صور العصبية الجاهلية التي لم يسلم منها أناس من الطيبين، وربما كان لذلك أثره في إفساد الأخوة التي ينبغي أن يكون عمودها الإيمان ولا يصح تلويثها بأي نعرات أرضية لا تساوي عند الله جناح بعوضة.
فحذار أخ الإسلام من الاغترار بنسبك أو ببلدتك أو بمالك، ودع عنك عبية الجاهلية سواء كانت خليجية أو شامية أو مصرية أو غير ذلك، وليكن شعارك:
أبي الإسلامُ لا أبَ لي سوَا
ذا افتْخَرُوا بقيْسٍ أوْ تميمٍ
?
وقد يهيأ لبعض أولئك المغرورين أنهم محبوبون إذا رأوا بعض الناس يحترمونهم، وما ذلك إلا وهم وخدعة خدعهم بها الشيطان، فإن هذا الاحترام قد يكون لخوف أو لمصلحة لا يلبث أن يزول بزوال السبب فهو احترام المكره، وشتان بين هذا الاحترام واحترام الطواعية الناشئ عن حب وتقدير.
وما أجمل تلك الكلمة التي تحركت بها شفتا أم ولد هارون الرشيد وهي ترى من شرفة القصر ازدحام الناس حول ابن المبارك رحمه الله فتقول: هذا هو الملك لا ملك هارون(1) الذي لا يجمع الناس إلا بشرطة وأعوان(2).
- - -
المفسدة الثامنة
النُّصْحُ في المَلأ
__________
(1) …ليس المقصود نقد هارون الرشيد رحمه الله أو الحط من قدره، ولكن قصدت المفهوم الذي حواه كلام امرأة هارون، وهو الفرق بين من يحترم لملكه ومن يحترم لمكانته في القلوب عن حب وطواعية.
(2) …تاريخ بغداد (10/156، 157)، سير أعلام النبلاء (8/384).(1/67)
فإذا كان من صدق المحبة ومن أدب الصحبة ومن حقوق الأخوة أن تنصح أخاك إذا وجدته على منكر أو معصية أو خطأ وأن ترشده للصواب وما ينجيه من غضب الله وعقابه، إلا أن ذلك لا يعني أن تنصحه في العلن دون ضرورة تلجئ لذلك، إذ لا يختلف اثنان في أن النصيحة في العلن يكرهها الناس، فجميع الناس يكرهون أن تُبرز عيوبهم أمام الآخرين، بل النصيحة في العلن أو ذكر خطأ صاحبك في الملأ من أسرع ما يزيل المحبة ويزرع العداوة لما يشعر به من الفضيحة والتوبيخ، وقد يولد في نفسه العناد والرغبة في الانتقام... وإلى هذا أشار الإمام الشافعي رحمه الله بقوله(1):
تعمدني بنصحك في انفرادي
فإن النصح بين الناس نوع
فإن خالفتنِي وعصيت قول
جنبني النصيحة في الجماعة
من التوبيخ لا أرضى سماعه
فلا تَجْزَعْ إذا لم تُعْطَ طَاعَة
?
ولكن إذا أخِذ الرجل جانبًا ونصح على انفراد لكان ذلك أدعى للقبول، وأدعى لفهم المسألة، ولأحبك لأنك قدمت إليه معونة وأسديت إليه خدمة بأن نصحته وصححت خطأه(2).
__________
(1) …ديوان الشافعي ص90.
(2) …ولكن إذا رأى الإمام أو علم الناس خطًا صدر من بعض الأفراد في الملأ وخشي أن يؤثر على الناس فإن من السنة أن يصحح ذلك على المنبر دون ذكر اسم المخطئ، تعليمًا للناس ووقاية لهم من الخطأ حتى لو شعر المخطئ أن هذا التصحيح أو التقويم الذي قام به الإمام كان بسبب خطئه، فإن هذا لا بأس به، فقد بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن قومًا تنزهوا عن شيء صنعه فخطب الناس وقال: ((ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه فإني والله أعلمكم بالله وأخشاكم له))، وكذلك لما طلب قوم بريرة من عائشة رضي الله عنها حين أعتقت بريرة أن تجعل لهم ولاءها، غضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخرج فخطب الناس: ((ما بال أقوام يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله))... وقال: ((الولاء لمن أعتق)). انظر: الفتح (5/384، 385).(1/68)
وبعض الناس يريد أن تكون النتائج لحظية فيحب في الناس أن يغيروا ما بهم بمجرد أن يُنْصَحوا، فإذا لم يجد الاستجابة في نفس المجلس أو اللحظة التي نصح فيها ظن أن النصيحة لم تأت بنتيجة أو ربما أثقل على المنصوح لدرجة النزاع ظنًا منه أن مفهوم النصيحة لم يصله بعد أو لم يقتنع به... وهذا الناصح مخطئ في تقديره للأمور؛ لأن الغالب على طبيعة البشر أنهم لا يتراجعون في لحظة وإنما يأخذون فترة للتفكير أو ينتظرون فرصة للانسحاب.
وإذا نصحت أخاك فلا تعيره بخطئه، فإن التعيير بالذنب ليس من النصيحة بل هو خلق رذيل وهو سلوك من لا يخشى على نفسه من سوء الخاتمة، ولذا قد يكون لهذا السلوك عاقبة سيئة على صاحبه، وقديمًا قيل: من عيّر أخاه بذنب لم يمت حتى يقع فيه(1).
- - -
المفسدة التاسعة
كَثرةُ المعَاتبَة وعَدمُ التّسَامُحِ
والنّظر إلى السَّلبيَّاتِ دون الإيجابيات
وعَدم الاعتِذَار أو عَدم التّجاوز عن الزّلات
قال الفضيل: الفتوة الصفح عن عثرات الإخوان(2).
__________
(1) …الزهد للإمام أحمد ص342، ولفظه: كنا نتحدث أنه من عير أخاه بذنب قد تاب منه لم يمت حتى يصيب ذلك الذنب، وفي البداية والنهاية (9/283): كانوا يقولون: من رمى أخاه بذنب...إلخ.
…وروي هذا مرفوعًا عند الترمذي في صفة القيامة رقم (2505) وقال أحمد: من ذنب قد تاب منه. قال الترمذي: هذا حديث غريب وليس إسناده بمتصل...إلخ، ورمز السيوطي لحسنه في الجامع الصغير رقم (8869) فيض القدير، وتعقب بأن فيه محمد بن أبي يزيد الهمداني قال أبو داود وغيره: كذاب. ومن ثم أورده ابن الجوزي في الموضوعات. انظر: فيض القدير (6/183)، وقال الألباني في ضعيف الجامع الصغير رقم (5722): "موضوع".
(2) …آداب الصحة للسلمي ص46، تهذيب مدارج السالكين ص435.(1/69)
وعن عليّ رضي الله عنه في قوله تعالى: { فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ } [الحجر: 85] قال: الرضى بغير عتاب(1).
وما أحسن قول الشاعر:
إذا كنتَ في كل الأمورِ معاتبًا
فعِشْ واحدًا أو صِلْ أخاك فإنه
إذا أنْتَ لمْ تشْرَب مرارًا على القَذى
ومن ذا الذي ترضى سجاياه كله
ليلَك لم تلقَ الذي لا تُعَاتِبُه
مقارِفُ ذنْبٍ مرةً ومُجَانِبُه
ظَمِئْتَ، وأيُّ الناس تصفو مَشَارِبه
كفى بالمرءِ نبلاً أن تُعَدَّ معايِبُه(2)
?
فالأخ قد يعاتب أخاه أحيانًا بتلطف وتودد، ولكن يكره له المعاتبة في الصغيرة والكبيرة، بل ليصفح دون معاتبة وليغض الطرف عن بعض ما يعده من الهفوات، أو يتغابى ـ إن صح التعبير ـ أو يتعامى عنها على حد قول الطائي:
ليس الغَبيُّ بسيدٍ في قوْمِ
كن سيَّد قومِه المتُغَابِي(3)
?
وذلك لأن كثرة المعاتبة والإحراج مما يفضي إلى قطع المودة؛ لأن ذلك يشعر أخاك أنك لا تتحمل أدنى شيء منه، أو أنك دائمًا تسيء به الظن، أو تنظر إليه على أنه مقصر في حقك، وتوشك إذا مضيت على هذه الطريقة أن لا تجد من تعاتبه أقصد أن لا تجد صديقًا مصاحبًا.
على حد قول القائل:
أغمِضْ للصديقِ عن المسَاوِ
خافَةَ أن أعيشَ بلا صَدِيقِ
?
وقال غيره وقد أجاد:
ومن لا يغْمِض عينَه عن صَدِيقِه
ومن يتتبع جاهدًا كل عثر
عن بعضِ ما فيه يمت وهو عَاتِبُ
يجدْها ولا يسْلمُ له الدهْر صاحبُ
?
وقال آخر:
اقْبَل أخاك ببعْضِه
واقْبلْ أخاك فإن
د يُقْبَلُ المعروف نزرًا
إن ساءَ عصْرًا سرّ عصرًا
?
فاعلم أولاً أنه لابد من القناعة في طلب مواصفات الصديق، وأنك لن تجد صديقًا ليس في وده خلل، وأنت كذلك لا تخلو من نقص، فاقبل في أخيك ما قبله فيك، وإلا دام غمك وطال همك ولن تظفر بمطلوبك...
__________
(1) …الدر المنثور للسيوطي (4/104)، فتح القدير للشوكاني (3/141).
(2) …روضة العقلاء ص182، أدب الدنيا والدين ص179.
(3) …عيون الأخبار (1/327)، أدب الدنيا والدين ص181.(1/70)
قال الفضيل بن عياض رحمه الله: من طلب أخًا بلا عيب بقي بلا أخ(1).
وقد أجاد من قال:
عاشِرْ أخاك على ما كان من خُلقٍ
فأطولُ الناسِ غمًا من يريدُ أخً
احفظْ مودَّتَه بالغيبِ ما وَصَلا
ذا خِلَّة لا يرى في وُده خَلَلا
?
(فلا يوجد صديق بلا عيوب، ولذا قال الشاعر:
لا يُزهدنَّك في أخٍ لك
ما من أخِ لَكَ لا يُعا
ن تراهُ زلَّ زَلَّه
ولو حرِصتَ الحرصَ كله
?
وقد نكره أشياء في بعض الناس ولكن عندما نفتقدهم ونخالط من هم أسوأ منهم ندرك الخير الذي كان فيهم ولم نعبأ به، يقول الشاعر:
بكيتُ من عمروٍ فلما تركتُ
جربْتُ أقوامًا بكَيْتُ على عمْروٍ
?
وقال آخر(2):
عتبتُ على سلْمٍ فلمّا فقدتُ
جرَّبْتُ أقوامًا بكيتُ على سَلْمٍ)(3)
?
فمن حسن الفهم إذًا ومن الفطنة أن توقن أنه لا يخلو صاحب من نقص، فالبشر هم البشر:
هم النَّاس والدنيا ولابدَّ من قَّذَى
ومن قلةِ الإنصافِ أنك تبتغي المهُـ
ُلِمُّ بعين أو يكدَّرُ مشْرَبَا
ـذبَ في الدنيا ولستَ المهذَّبا(4)
?
وأنشد بعضهم:
لا يؤيسنّك من صديق نبوة
فإذا نَبَا فاستبْقِه وتأنَّ
َنْبُو الفتى وهو الجَوَادُ الخضرمُ
حتى تفيء به وطبعُك أكرمُ(5)
?
وقد قالت الحكماء: أي عالم لا يهفو، وأي صارم لا ينبو، وأي جواد لا يكبو(6).
وقالوا: من حاول صديقًا يأمن زلته ويدوم اغتباطه به كان كضال الطريق الذي لا يزداد لنفسه إتعابًا إلا ازداد من غايته بعدًا(7).
__________
(1) …روضة العقلاء ص169.
(2) …عيون الأخبار (2/6)، بهجة المجالس (2/659).
(3) …انظر: فن التعامل مع الناس ص27.
(4) …أدب الدنيا والدين ص175، والبيتان لابن الرومي.
(5) …أدب الدنيا والدين ص175، والبيتان للأزدي.
(6) …أدب الدنيا والدين ص179، وبهامشه نبا السيف عن الضريبة: كلَّ ولم يقطع.
(7) …أدب الدنيا والدين ص179.(1/71)
وقال بعض البلغاء: لا يزهدنّك في رجل حمدت سيرته، وارتضيت وتيرته، وعرفت فضله، وبطنت عقله عيب تحيط به كثرة فضائله، أو ذنب صغير تستغفر له قوة وسائله، فإنك لن تجد ـ ما بقيت ـ مهذبًا لا يكون فيه عيب، ولا يقع منه ذنب، فاعتبر نفسك بعد أن لا تراها بعين الرضا، ولا تجري فيها على حكم الهوى، فإن في اعتبارك واختيارك لها ما يؤيسك مما تطلب، ويعطفك على من يذنب(1).
وما أبلغ قول الكندي: نفس الإنسان التي هي أخص النفوس به ومدبَّرة باختياره وإرادته لا تعطيه قيادها في كل ما يريد، ولا تجيبه إلى طاعته في كل ما يحب، فكيف بنفس غيره؟! وحسبك أن يكون لك من أخيك أكثره(2).
ولذا قال الماوردي رحمه الله: من حق الإخوان أن تغفر هفوتهم وتستر زلتهم؛ لأن من رام بريئًا من الهفوات، سليمًا من الزلات رام أمرًا مُعوِزًا واقترح وصفًا معجزًا(3).
وعن عبد الله بن المبارك قال: إذا غلبت محاسن الرجل على مساوئه لم تذكر المساوئ، وإذا غلبت المساوئ عن المحاسن لم تذكر المحاسن(4).
(والمقصود أن من غلب خيرُهُ شرَّه وُهب نقصُه لفضله، وأنك إن طلبت منزهًا عن كل عيب لم تجد، ومن غلبت محاسنه على مساوئه فهو الغاية).
__________
(1) …أدب الدنيا والدين ص174.
(2) …أدب الدنيا والدين ص174.
(3) …أدب الدنيا والدين ص179.
(4) …سير أعلام النبلاء (8/398).(1/72)
ويُرسِّخ هذه القاعدة العظيمة ويؤصلها قول المصطفى - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه : ((لا يفرك مؤمن مؤمنة إن كره منها خلقًا رضي منها آخر))(1), (فالحديث و إن كان وارادًا في العلاقة بين الزوجين إلا أن التوجيه الذي يحمله يمكن أن يعمم في كل قضايا التعامل, وأعني بهذا التوجيه عدم تركيز النظر إلى السلبيات ونسيان الإيجابيات, فلا يسلم أحد من العيوب، فلا توجد زوجة بلا عيوب, ولا صديق بلا عيوب، ولا رئيس ولا مرؤوس بلا عيوب.
يقول سعيد بن المسيب: ليس من شريف ولا عالم ولا ذي فضل إلا فيه عيب، ولكن من الناس من لا ينبغي أن تذكر عيوبه(2))(3).
وهذا يعلمنا أن لا ننفعل لزلة من صديق أو لعيب نكتشفه في صاحب فيعمينا ذلك عن إيجابياته الكثيرة ويفقدنا الميزان العادل والحكم المنصف، وبعض الناس قد يرفع شخصًا إلى السماء في لحظة ويخفضه إلى الحضيض في لحظة، وربما جرّب أحدنا أن ينظر لشخص ما مرة على أنه أسوأ شخصية في أصحابه، ومرة على أنه أفضل شخصية، ولم يتغير شيء من الشخص، ولكن كانت النظرة الأولى في لحظة تذكر للإيجابيات وغفلة عن السلبيات، وكانت الثانية في لحظة غيظ من السلبيات وعمىً عن الإيجابيات(4).
وإذا ضبط الإنسان انفعالاته وجاهد نفسه وحملها على تركيز النظر في إيجابيات الأصحاب وأنها أضعاف أضعاف السلبيات فإنه لن يظلم أخًا من إخوانه ولن يبغضه، وإذا ما غلبته الذكرى فتذكر هفو أخيه رد على نفسه فقال:
فإن يكنِ الفعلُ الذي ساءَ واحدً
__________
(1) …رواه مسلم في الرضاع رقم (1469)، وأحمد في المسند (2/329).
(2) …البداية والنهاية (9/106).
(3) …انظر: فن التعامل مع الناس ص26، 27 ـ بتصرف يسير ـ.
(4) …هكذا بالأصل، ولعل الصواب: "ولكن كانت النظرة الأولى في لحظة غيظ من السلبيات وعمى عن الإيجابيات، وكانت الثانية في لحظة تذكر للإيجابيات وغفلة عن السلبيات" وذلك حتى يستقيم المعنى.(1/73)
أفعَالُه اللائي سَرَرْن كثِير
?
ونحن في واقعنا قد يجد أحدنا نفسه أحيانًا شديد الحنق على أخيه، وينمي في نفسه البغض له، كل ذلك لجانب ما في شخصية أخيه، بل أحيانًا لموقف واحد حدث في ظرف من الظروف وكأن أخاه قد أصبح كله هو هذا الموقف أو ذلك الجانب... ومقتضى الأخوة والمحبة وحسن العشرة أن تستحضر محاسن أخيك دائمًا أمامك فتشفع له إذا ما أخطأ مرة معك أو اطلعت على جانب نقص فيه، على حد قول القائل:
وإذا الحبيبُ أتى بذنبٍ واحد
اءت محاسنُه بألفِ شَفِيع
?
ولا تكن كالمرأة التي إذا رأت من زوجها شيئًا تكرهه قالت: ما رأيت منك خيرًا قط، فقد سمى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك كفرًا، وبه صار النساء أكثر أهل النار، فإنه لما سئل - صلى الله عليه وسلم - عن سر كونهن أكثر أهل النار؟ قال: ((يكثرن اللعن ويكفرن))، قيل: يكفرن بالله؟ قال: ((يكفرن العشير)) أي الزوج، وفسره بما ذكرنا(1). بل مع زيادة المحبة وحسن الظن قد لا تحضرك عيوب صاحبك أصلاً ولا تراها، كما قال القائل:
فلسْت براءٍ عيب ذي الوُدَّ كله
وعينُ الرضا عن كلَّ عيب كليل
لا بعض ما فيه إذا كنت راضِيًا
كما أن عينَ السخط تُبدي المساويا(2)
?
__________
(1) …رواه البخاري في الحيض رقم (304)، وفي الزكاة رقم (1462)، وفي الصوم ـ مختصرًا ـ رقم (1951)، وفي الشهادات ـ مختصرًا ـ رقم (2658)، ومسلم في الإيمان رقم (80) من حديث أبي سعيد الخدري، وورد نحوه عند البخاري في الإيمان رقم (29)، ومسلم في الكسوف رقم (907)، والنسائي في الكسوف (3/146ـ 148)، ومالك في الموطأ في الكسوف (1/186، 187) كلهم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما وورد من حديث غيرهما كذلك.
(2) …عيون الأخبار (3/16) ونسبه لعبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر.(1/74)
وينبني على هذا الكلام أن تعلم أن من حسن المودة وحقوقها العفو والإغضاء عن التقصير، قال الحسن بن وهب: من حقوق المودة أخذ عفو الإخوان، والإغضاء عن أي تقصير كان(1).
وقال أحدهم:
أحِبُّ من الإخوانِ كلّ موات
كل غضِيضِ الطرفِ عن عَثَراتي(2)
?
وحكى الأصمعي عن بعض الأعراب أنه قال: تناس مساوئ الإخوان يدُم لك ودهم(3).
__________
(1) …أدب الدنيا والدين ص175، والمقصود من ذلك المداراة، والفرق بين المداراة والمداهنة بالغرض الباعث على الإغضاء؛ فإن أغضيت لسلامة دين ولما ترى في الإغضاء من إصلاح أخيك فأنت مدار، وإن أغضيت لحظ نفسك واجتلاب شهواتك وسلامة جاهك فأنت مداهن، فإن كانت زلته في دينه فتلطف في نصحه مهما أمكن، ولا تترك زجره ووعظه. انظر: مختصر منهاج القاصدين ص99، وقال ابن بطال رحمه الله: المداراة من أخلاق المؤمنين وهي خفض الجناح للناس ولين الكلمة وترك الإغلاظ لهم في القول وذلك من أقوى أسباب الألفة. وظن بعضهم أن المداراة هي المداهنة فغلط؛ لأن المداراة مندوب إليها والمداهنة محرمة. والفرق أن المداهنة من الدهان وهو الذي يظهر على الشيء ويستر باطنه، وفسرها العلماء بأنها مباشرة الفاسق وإظهار الرضا بما هو فيه من غير إنكار عليه، والمداراة هي الرفق بالجاهل في التعليم والفاسق في النهي عن فعله، وترك الإغلاظ عليه حيث لا يظهر ما هو فيه، والإنكار عليه بلطف القول والفعل، ولاسيما إذا احتيج إلى تألفه ونحو ذلك. الفتح (1/545).
(2) …ديوان الشافعي ص59، وقال الماوردي: أُنشدت عن الربيع للشافعي، فذكره، والمواتي: الموافق. انظر: أدب الدنيا والدين ص179.
(3) …أدب الدنيا والدين ص180.(1/75)
فلا تدفعنك هفوة بدرت من أخيك إلى قطعه وتركه، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ليس الواصل بالمكافئ ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها))(1).
وقال الشاعر:
وصِلِ الكرامَ إذا رمَوْك بجفوة
الصفحُ عَنْهم والتجاوُزْ أصْوبُ
?
وقال آخر:
من لي بإنسانٍ إذا أغضبْتُه ورضيت
ان الحلمُ ردَّ جَوَابِه
?
فتغافل عن هفوات أخيك طلبًا لدوام الألفة، وهذا من الفطنة ووفور العقل...
قال بعض الحكماء: وجدت أكثر أمور الدنيا لا تجوز إلا بالتغافل(2).
وقال أكثم بن صيفي: من شدَّد نفَّر، ومن تراخَ تألف، والشرف في التغافل(3).
وقال شبيب بن شيبة: الأريب العاقل هو الفطن المتغافل(4).
وسبق قول الطائي:
ليس الغبيُّ بسيد في قوم
كن سيَّد قومه المتغابي(5)
?
وقد تغافل أقوام عن أذى الأعداء فكيف بالأصدقاء!!
فهذا قول الشافعي رحمه الله يقول(6):
لما عفَوْتُ ولم أحقدْ على أحدٍ
إني أحيي عدوي عند رؤيته
وأظهِرُ البِشرَ للإنسان أبغِضُه
الناس داء وداء الناس قربه
رحتُ نفسي من همَّ العداواتِ
لأدفع الشر عني بالتحيّاتِ
كأنما(7) قد حشا قلبي محبَّاتِ
وفي اعتِزالهِم قَطعُ المواداتِ!(8)
?
وقال القاضي التنوخي:
__________
(1) …رواه البخاري في الأدب رقم (5991)، وأبو داود في الزكاة رقم (1697)، والترمذي في البر والصلة رقم (1908)، وأحمد في المسند (2/163، 190، 193)، وفي بعض رواياته زيادة في أوله: ((إن الرحم معلقة بالعرش)).
(2) …أدب الدنيا والدين ص181.
(3) …عيون الأخبار (3/9)، أدب الدنيا والدين ص181.
(4) …أدب الدنيا والدين ص181.
(5) …عيون الأخبار (1/327).
(6) …ديوان الشافعي ص56، وقال الماوردي في أدب الدنيا والدين ص183: وأنشدت عن الربيع للشافعي، فذكره.
(7) …في ديوانه المطبوع: كما إنْ.
(8) …في منهاج اليقين: يعني الناس لاسيما الأعداء والحساد مرضى، وعلاجهم قربهم، وصلتهم بالبشر والطلاقة. انظر: أدب الدنيا والدين ص183 الهامشة.(1/76)
القَ العدو بوجهٍ لا قطوبَ به
فأحزم الناس من يلقى أعاديه
الرفق يُمْنٌ وخيرٌ القولِ أصدقُ
كادُ يقطرُ من ماء البشاشَات
في جسمِ حِقْد وثوبِ من مودَّات
وكثرةُ المزح مفتاحُ العداوات(1)
?
وقال الشاعر:
وإذا عجزتَ عن العدو فدارِهِ
فدارِه فالنارُ بالماء الذي هو ضده
امزحْ له إن المزاحَ وفاقُ(2)
تعطي النضاج وطبعُهَا الإحراقُ(3)
?
فإذا كانت هذه أقوالهم وتلك أفعالهم مع من يعاديهم، فكيف مع الأصحاب والأحبة الذين إن أخطأوا لم يعادوا ولم يقصدوا أذية؟!
فلا ينبغي بحال أن يطول الهجران أو ينقطع التواصل بين الإخوان لموقف أو هفوة مما لا تخلو منه عشرة بين الأصحاب...
تواصُلُنا على الأيامِ باقٍ
يروعُكَ صوبُه لَكِنْ تراه
َلكِنْ هجْرنا مطَرُ الربِيع
على عِلاتِه داني النزوعِ(4)
?
فينبغي أن يكون العفو دون مَنٍ سمة الأخ مع أخيه، والناس يبغضون من لا ينسى زلاتهم أو لا يزال يذكِّر بها ويمنُّ على من عفا عنه، فالإنسان يكره ذلك الذي يظل يذكره بأخطائه السالفة ويعيدها عليه مرة بعد مرة، والله تعالى يقول: { وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ } [آل عمران: 134] يمتدح الذين يعفون عن أخطاء الناس وينسونها.
__________
(1) …أدب الدنيا والدين ص183.
(2) …وهذا لا يناقض قول سابقه، فالمذموم الإكثار من المزاح، أما القليل منه فيُصلحُ الحال.
(3) …أدب الدنيا والدين ص181.
(4) …أدب الدنيا والدين ص175.(1/77)
ويتأكد العفو والتجاوز إذا أتاك الصديق معتذرًا فـ((كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون))(1).
فإياك أن تكسر قلب الصديق إذا أتاك معتذرًا نادمًا على خطئه، وعامله بمثل ما تحب أن يعاملك به لو كنت مكانه.
إذا اعتذرَ الصديقٌ إليك يومًا
فصُنْه عن عتابك واعفُ عن
ن التقصير عذر أخ مُقِر
فإن الصفحَ شيمة كلَّ حر(2)
?
قال يونس النحوي: لا تعادين أحدًا وإن ظننت أنه لا يضرك، ولا تزهدن في صداقة أحد وإن ظننت أنه لا ينفعك، فإنك لا تدري متى تخاف عدوك وترجو صديقك، ولا يعتذر أحد إليك إلا قبلت عذره وإن علمت أنه كاذب، وليقل عتب الناس على لسانك(3).
وما أحلى كلام ذلك الأعرابي حين قال: الودود من عذر أخاه، وآثره على هواه.
وقال عبد الله بن معاوية بن جعفر بن أبي طالب:
لا يزهدنّك في أخٍ
ما من أخٍ لك لا يعي
ك أن تراه زلَّ زلَّة
ولو حرصت الحرص كُلَّه(4)
?
واحذر التدني في معاملة أخيك إذا أساء معك بأن ترد إساءته بإساءة أو تشغل نفسك بالتفكير في تصرف تدخل به عليه الغم كما أغمك، فهذا أبعد ما يكون عن علاقة الأخوة...
هبْنِي أسأتُ كمَا زعمـ
أو إن أسأتَ كما أس
تَ، فأين عاطفةُ الأخُوَّة
تُ، فأين فضلك والمُرُوَّة(5)
?
__________
(1) …رواه الترمذي في صفة القيامة رقم (2499)، وابن ماجه في الزهد رقم (4251)، والدارمي في الرقاق رقم (2727)، وأحمد في المسند (3/198)، وفي روايته زيادة ((ولو أن لابن آدم واديين من مال لابتغى لهما ثالثًا ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب)) كلهم من حديث أنس رضي الله عنه، وقال الحافظ ابن حجر في بلوغ المرام رقم (1505): "وسنده قوي" اهـ. وحسنه الألباني في صحيح الجامع الصغير رقم (4515).
(2) …عيون الأخبار (3/118)، روضة العقلاء ص183.
(3) …المختار من الصداقة والصديق ص155.
(4) …المختار من الصداقة والصديق ص84.
(5) …روضة العقلاء ص185.(1/78)
وإذًا فإذا بدرت من أخيك إساءة أو خطأ في حقك فإما أن تتجاوز عن ذلك وتتغافل إن قدرت عليه مع طيب نفسك وصفائها، وإلا فعليك بمعاتبته في ود كما قال أبو الدرداء رضي الله عنه: معاتبة الأخ خير من فقده، ومن لك بأخيك كله(1).
وهذا يقودنا إلى الكلام عن فقه المعاتبة:
فأحيانًا نقرأ كلامًا منقولاً عن بعض الصالحين في استحباب ترك العتاب بين الأحبة، وأحيانًا يجعلون المعاتبة من حسن الصحبة، فما الضابط في هذه المسألة؟
وبيان ذلك أنه يحسن ترك العتاب إذا كنت لن تتخذ موقفًا تُسِرُّه ولن تحكم على أخيك حكمًا تكنه في داخل نفسك، وإلا فأنت محسن في الظاهر بترك العتاب، مسيء في الباطن بحكمك على أخيك قبل أن تعطي للمعاتبة فرصتها، فربما كان ذلك رافعًا لظلمك له.
وإذن فأنت بين أمرين: إما أن تترك العتاب ونفسك صافية ولا تتخذ موقفًا تضمره في داخل نفسك من أخيك... وهذه درجة رفيعة... وفي مثل ذلك يقول ابن السماك لما قال له صاحبه: غدًا نتعاتب، قال: بل غدًا نتغافر(2).
وقال آخر(3):
أقلل عتابك فالزمان قليل
لم أبك من زمنٍ ذممت صروفه
والمنتَمون إلى الإخاء جماعة
ولعل أيامَ الحياة قصير
الدهر يعدل مرة ويميلُ
إلا بكيتُ عليه حينَ يَزُول
إن حُصَّلُوا أفناهم التّحصِيلُ
فعلام يكثر عتبُنا ويطولُ
?
وقال آخر:
من اليوم تعارفنا
فلا كَانَ ولا صارَ
وإن كان ولابُدّ
نطوي ما جرى منَّا
ولا قلتُمْ ولا قُلْنَا
من العتْبِ فبِالحُسْنى
?
__________
(1) …عيون الأخبار لابن قتيبة (3/34)، حلية الأولياء (1/215)، أدب الدنيا والدين ص174، العقد الفريد (2/78)، بهجة المجالس (2/704)، وذكر عن موسى بن جعفر قوله: من لك بأخيك كله لا تستقص عليه فتبقى بلا أخ. السابق (2/705).
(2) …انظر: العوائق لمحمد أحمد الراشد ص129.
(3) …قال أبو حيان: عتب ابن ثوابة أبو العباس على سعيد بن حميد في شيء فكتب إليه سعيد: أقلل عتابك فالزمان قليل...إلخ، المختار من رسالة الصداقة والصديق ص68، 69.(1/79)
فجعل المرتبة الأولى ترك العتاب مطلقًا مع صفاء النفس، فإن كانت لا تصفو بذلك فالمرتبة الثانية العتاب ولكن بالحسنى، فهذه المرتبة خير من فقد الصديق أو الحكم عليه في السر دون معاتبة...
وفي ذلك يقول أبو الدرداء: معاتبة الأخ خير من فقده(1).
ومن ذلك قول بعضهم: وفي العتاب حياة بين أقوام.
وقول الآخر:
إذا ذهبَ العتاب فليس ود
يبقى الودّ ما بقي العتاب(2)
?
ولكن هذا مع الحذر من الإكثار أو المعاتبة في كل صغيرة وكبيرة.
وإذن فالمعاتبة لابد منها إذا كنت بصدد اتخاذ موقف أو حكم فصل في أخيك، فالعتاب في هذه الحالة يغسل درن ما حصل ويعيد وصل ما انقطع.
والبعض للأسف قد يهجر أخاه ويكتم السبب ويظل أخوه متألمًا ولا يدري ما السبب، فأين دور العتاب؟
لكن احذر من معاتبة صاحبك في وقت غير مناسب، خاصة إذا أصابته نازلة أو مصيبة لاسيما إن كانت بسبب خطئه...
وأقبح من ذلك لو عيرته بما أصابه بسبب خطئه، فتذكَّر أن الأيام دول، وقد تبتلى بمثل خطئه، فالأفضل في مثل هذه الظروف أن تترك العتاب مؤقتًا ولتتحول إلى التجاهل لخطئه والترفق به إلى أن يحين الوقت المناسب للعتاب، فباختيار الأوقات المناسبة للعتاب تحسن بينكما المعاملة وتتجنبان شر المجادلة.
ومما سبق يتبين أن هنالك عدة خطوات ينبغي مراعاتها في تعاملك مع صاحبك إذا أخطأ: فأول ذلك أن تكون قد تبينت الخطأ بنفسك وتيقنت منه، فإذا ما كان ذلك فليكن تصرفك الأول العفو والتجاوز عن زلته.
__________
(1) …انظر الصفحة قبل السابقة.
(2) …العقد الفريد 02/78)، بهجة المجالس (2/728).(1/80)
فإذا ما تجاوزت عن زلته مرة بعد مرة ومع ذلك لم ينته وإذا بخطاياه تزداد فهنا ـ وقبل أن تتعجل الحكم عليه وتقرر الإعراض عنه ـ اجعل أمرك معه وسطًا بين هجره ووصله، وعاتبه قبل الحكم الفصل، فكم يوضح العتاب من حقائق كانت محل شك وارتياب(1).
وإذا فشل العتاب فالتمس النفع بالصدود عنه، فإن وجدت رجوعًا منه إليك وميلاً فقابل ذلك بالعفو والمسامحة، فإن الصفح والمغفرة أولى للذي يقدر على العقاب، وهذه طبيعة الأحياء أنهم يخطئون، ولا يخلو من الذنوب إلا الأموات.
وفي هذا يقول سعيد بن حميد:
إذا كثرَتْ ذنوب مِنْ خليلٍ
وعاتِبْهُ فكمْ أبدى عتابٌ
ورجِّ النفع في الإعراض عنه
وراجعه بعفوك حين يثني
فإن العفو من ذي الحزم أولى
فإنك واجد للحي ذنبً
__________
(1) …ولنا أسوة في منهجه - صلى الله عليه وسلم - في معالجة خطأ حاطب بن أبي بلتعة لما بعث للمشركين يخبرهم بخروج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ كانت الخطوة الأولى تحققه - صلى الله عليه وسلم - من ذلك الخطأ عن طريق الوحي، ثم كانت الخطوة الثانية الاستفسار أو المعاتبة بقوله - صلى الله عليه وسلم - له: ((ما حملك على ما صنعت؟!)) فلما أجابه بأنه أراد أن تكون له يد عند المشركين يحمي بها قرابته وماله... ولم يكن ذلك عن نفاق أو خيانة... ولكنه على أية حال خطأ، لم يحكم عليه - صلى الله عليه وسلم - بهذا التصرف الواحد بل وزنه بحسناته وسيئاته معًا معبرًا عن ذلك بقوله لعمر حين غضب وأراد ضرب عنق حاطب: ((إنه شهد بدرًا، وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)) وقصة حاطب رضي الله عنه رواها البخاري في الجهاد رقم (3007، 3081) في المغازي رقم (3983، 4274)، وفي التفسير رقم (4890)، وفي استتابة المرتدين رقم (6939)، ومسلم في فضائل الصحابة رقم (2494)، وأبو داود في الجهاد رقم (2650)، والترمذي في التفسير رقم (3305)، وأحمد في المسند (1/79، 80، 105).(1/81)
قِفْه بينَ وصل واجْتِناب
جليَّة مُشكلٍ بعد ارتياب
إذا أخفقت من نفع العِتَاب
عِنانًا للرجوعِ أو الإيابِ
إذا قَدَرَت يداك على العقابِ
وتعدم ذنب من تحت الترابِ(1)
?
ومما يتعلق بفقه المعاتبة ضرورة الابتعاد عن الطقوس التي يقررها البعض في علاقاتهم، فبعض الناس مثلاً يقول لأخيه: (المفروض أنك أنت الذي تزورني)، أو يشعر أخاه دائمًا بأنه محتاج أن يعتذر إليه في كل أمر حتى لا يسيء به الظن.
وقد كان من مضى من الصالحين يبتعدون عن هذه الطقوس والتعقيدات، بل يجتهد كل منهم في رفع الحرج عن أخيه في مثل هذه المواقف.
فهذا أحد السلف يقول لأخيه وقد جاء معتذرًا لتقصيره في زيارته: إنا إذا وثقنا بمحبة أخينا لا يضرنا أن لا يأتينا(2).
وقال آخر:
فَرُبَّ شخصٍ بعيدٍ
وربَّ شخصٍ قريبِ
ما البعدُ والقربُ إل
لى الفؤاد قريبِ
إليك غيرُ حبيبِ
ما كان بين القلوبِ
?
وروي أن أبا عبيد بن سلام ذهب لأحمد بن حنبل فقال: يا أبا عبد الله، لو كنت آتيك على قدر ما تستحق لأتيتك كل يوم، فقال أحمد بن حنبل: لا تقل هذا، إن لي إخوانًا لا ألقاهم إلا كل سنة مرة أنا أوثق بمودتهم ممن ألقى كل يوم(3).
وهذا واقع مشاهد، فالود ليس بالضرورة مقصورًا على من تكثر رؤيته، فقد تتكرر رؤية الإنسان لمن لا يحبه بل يضيق به، على حد قول القائل:
ومن نكد الدنيَا على الحر أن ير
__________
(1) …المختار من الصداقة والصديق ص80.
(2) …في روضة العقلاء ص89: عن يونس بن عبيد أنه أصيب بمصيبة فقيل له: ابن عوف لم يأتك؟ فقال: إنا إذا وثقنا بمودة أخينا لم يضره أن لا يأتينا، وفي المختار من رسالة الصداقة والصديق ص64: توفي ابن ليونس بن عبيد فقيل له: إن ابن عوف لم يأتك. فقال: إنا إذا وثقنا أخٍ لا يضرنا أن لا يأتينا.
(3) …مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي ص151، 152، المنهج الأحمد (1/81) والقصة فيها فوائد أخرى فراجعها إن شئت.(1/82)
دوًا له ما مِن صداقته بدُّ(1)
?
ولو تفرغ الإنسان لزيارة الأصحاب لما وجد وقتًا لأداء واجبات أخرى كطلب العلم وطرق أبواب جديدة للدعوة والقيام على حقوق الوالدين والأسرة، والناس يتفاوتون فيما يتحملون من الأعباء، فينبغي أن يتسامح مع صاحب الأعباء الكثيرة ويعذر في ذلك ما لا يعذر غيره.
وكان بعضهم يرى الفضل دائمًا لأخيه سواء كان هو الزائر أو المزور، ولو كان أخوه أصغر منه أو أقل مرتبة.
وتأمل ما قاله الإمام الشافعي في حق الإمام أحمد رحمهما الله، وقد كان الشافعي شيخًا لأحمد، أي إن أحمد رحمه الله كان يومئذ يُعَدُّ تلميذًا للشافعي رحمه الله، وأخذ منه شيئًا من العلم، ومع ذلك يقول الشافعي ـ وقد سئل: يزورك أحمد وتزوره، فأنشد ـ:
قالوا: يزورك أحمد وتزوره
إن زارني فبفضله، أو زرتُ
لتُ: المكارم لا تفارق منزله
فلفضله، فالفضل في الحالين له
?
حقًا إنهم علماء أبرار... إذا كان هذا قول الشيخ وأدبه تجاه تلميذه، فكيف بالتلميذ مع شيخه؟!
ثم قارن بين هذا الصفاء والتواضع، وتلك السهولة، وبين من يثقل على صاحبه، ولا يستفيد من حفظ حقوق الأخ على أخيه سوى محاسبة أخيه عليها ومطالبته بها، وفي كل يوم يعاتبه أو يكلمه في واحد منها، على حد قول القائل(2):
لي صديق يرى حقوقي عليه
لو قطعت الجبال طولاً إليه
لرأى ما صنعت غير كبي
افلاتٍ، وحقَّه الدهرَ فرضا
ثم من بعد طولها سرت عرضا
واشتهى أن أزيد في الأرض أرضا
?
__________
(1) …البداية والنهاية (11/275)، والمختار من رسالة الصداقة والصديق ص101.
(2) …روضة العقلاء ص119.(1/83)
(وبعض الناس قد يقابل أحد إخوانه بلوم شديد: لماذا لا نراك؟ لماذا لا تسأل عنا؟ فإذا اعتذر أخوه تمادى في اللوم والتأنيب، وينسى أن اللوم يمكن أن يوجه إليه أيضًا من أخيه)(1) ولكن لأدب أخيه سكت على نحو أدب الأنصار لما قال لهم - صلى الله عليه وسلم -: ((ألم آتاكم ضلالاً فهداكم الله بي...)) إلخ، ((أجيبوني يا معشر الأنصار)) فلم يجبه أحد، ولكنه - صلى الله عليه وسلم - لما كان أعظم أدبًا وإنصافًا قال لهم: ((لو شئتم لقلتم: ألم تأتنا طريدًا فآويناك...)) إلخ الحديث(2).
- - -
المفسدة العاشرة
الإصْغَاء للنمّامينَ وَالحَاسِدينَ
فمن الخطأ أن تبادر لتصديق كل ما يقال في أخيك، أو تسارع إلى اتهامه بالإساءة والخطأ اعتمادًا على شائعة أو أمر نقل إليك لم تحسه منه بنفسك بل يخالف ما عهدته فيه، فاحذر من ذلك؛ لأن للأحبة حاسدين، وبعض الحاسدين عندهم غيرة شديدة، ولا يروق لهم أن يروا مثل تلك العلاقة القوية أو المحبة المتبادلة بين صاحبين، ولا يهدأ لهم بال حتى يروا انفصال المتحابين كل منهما عن الآخر، ورحم الله أبا الدرداء إذ يقول: أطع أخاك ولن له، ولا تسمع فيه قول حاسد وكاشح ـ أي عدو ـ، غدًا يأتيك أجله، فيكُفُّك فقده، كيف تبكيه بعد الموت وفي الحياة تركت وصله(3).
وقال بعض الشعراء متندمًا يخاطب أخاه ومحبه:
أطعتَ الوشاةَ الكاشحين ومن يُطِعْ
أتاني عدوٌ كنت أحسِبُ أنه
فلما تباثثْنا الحديث وصَرَّحَت
__________
(1) …وانظر في هذا المعنى: فن التعامل مع الناس ص33.
(2) …رواه البخاري في المغازي رقم (4330)، وفي التمني ـ مختصرًا ـ رقم 07245)، ومسلم في الزكاة رقم (1061)، من حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه. وأحمد في المسند (3/57، 76) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(3) …بنحوه في الحلية (1/215، 216)، عيون الأخبار (3/34)، أدب الدنيا والدين ص174، وأوله: معاتبة الأخ خير من فقده، ومن لك بأخيك كله، أطع أخاك...إلخ.(1/84)
تبيَّن لي أن المحدث كاذب
قالةَ واسنٍ يقرعِ السِّن من نَدمَ
علينا شَفِيق ناصِح كالذي زَعَم
سرائره عن بعضِ ما كان قَدْ كتم
فعندي لكَ العُتْبى(1) على رغم من زعم(2)
?
ومن الأمور الهامة أن تَتَنبَّه إلى أنك قد تكون سببًا في إثارة الوشاة والحاسدين بسبب شدة إظهارك لحب صاحبك أمامهم، وقد تظن أن ذلك يسرهم لأنهم ـ في اعتقادك ـ يحبونه كما تحبه، ثم تفاجأ أن كلامك غيَّر نفوسهم من صاحبك، بل ربما مجرد رؤيتهم لك كثيرًا وأنت تصحبه قد يكون سببًا لتغير قلوبهم، ويحدث ذلك في نفوسهم غيرة وحسدًا، ثم سعيًا لإفساد ما بينكما، فكن حكيمًا في التعبير عن مشاعرك نحو صديقك في حضور الآخرين.
ومع هذا ليطمئن كل محتابين جمع الله بينهما فأحب كل منهما أخاه لله محبة صادقة نابعة من القلب... أن مثل هذه المحبة لن يستطيع الحاقدون اختراقها أو هدمها، وليموتوا بغيظهم فلن يستطيعوا زحزحة تلك القلوب التي جمع الله بينها، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال(3): "النعمة تكفر والرحم يقطع وإن الله تعالى إذا قارب بين القلوب لم يزحزحها شيء ثم تلا: { لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ } الآية [الأنفال: 63]".
- - -
المفسدة الحادية عشرة
إذَاعَةُ السِّرِّ
__________
(1) …العتبى: رجوع المعتوب عليه إلى ما يُرضي العاتب، قال في لسان العرب: (قال الجوهري: اصل العتبى رجوع المستَعْتِب على محبة صاحبه)، وفي اللسان أيضًا: (العتبى: الرضا، وأعتبه: أعطاه العتبى ورجع إلى مَسَرَّته... وتقول: قد أعتبني فلان، أي ترك ما كنت أجد عليه من اجله، ورجع إلى ما أرضاني عنه، بعد إسخاطه إياي عليه) ص2793.
(2) …المختار من الصداقة والصديق ص62، 63.
(3) …الزهد لابن المبارك ـ بنحوه ـ رقم (363) ص123، وزاد نسبته في الدر المنثور (3/199) (لعبد الرزاق وابن أبي حاتم وأبي الشيخ والحاكم والبيهقي)اهـ.(1/85)
فمما يديم الصحبة أن لا تفشي سرًا لأخيك، فقد أخبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - ((أن الرجل إذا حدث أخاه بحديث ثم التفت فهو أمانة))(1)، وتذكر دائمًا أن أخاك إذا أحبك ووثق فيك فإنه لا يخفي عنك أحواله وتصرفاته، ولا يتحفظ وهو يحدثك، ولو كان يحدث غيرك ما قال له كل ما قال لك، فاعتبر ذلك جيدًا.
وقد وصف بعضهم الصديق الذي يضر قربه فقال: هو الذي إذا قرب توصل بصداقته إلى معرفة الأسرار، وعلم الأخبار، ثم تحفظ الزلل والتقط الخلل، وأحصى الفلتات، وعد الهفوات، وراعى عثرات الألسن، وبوادر القول والعمل عند الغضب والرضا، وفي أوقات الاسترسال التي لا يخلو الإنسان فيها من إغفال، ثم جعل ذلك سلاحًا معدًا يحمله على صديقه وقت العداوة(2).
إذا علمت ذلك فاحذر أن تفشي ما تطلع عليه من أحوال صاحبك، أو أمرًا مما يؤثر كتمانه من قول أو فعل، وليكن ما يبوح لك به أمانة لا تتعداك إلا بإذنه، أو إذا تأكدت من رضاه بذلك وإلا صدمته وآذيته وغيّرت قلبه بل ربما كانت القاضية على ما بينك وبينه من صحبة أو أخوة، فكيف إذا طلب منك أن تحفظ سره في كذا أو ما حدثك به بخصوص كذا فلم تفعل؟! لاشك أن الكارثة تكون أعظم وأن الطامة تكون أكبر...
ولذلك قال بعضهم:
إذا ما المرءُ أخطأه ثلاث
سلامةُ صدْره، والصدق منه
َبِعْه ولو بكفٍ من رماد
وكتمان السرائر في الفؤاد
?
- - -
المفسدة الثانية عشرة
إتبَاعُ الظَّنِّ
__________
(1) …رواه أبو داود في الأدب رقم (4868)، والترمذي في البر والصلة رقم (1959)، وأحمد في المسند (3/324، 352، 380، 394) كلهم من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، وحسنه الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود رقم (4075)، صحيح الجامع الصغير رقم (486).
(2) …انظر: الصداقة والصديق لأحمد الكويتي ص15.(1/86)
فكما يؤذي أخاك أن تذيع سره فإنه يتأذى أيضًا إذا ما ظننت به أنه يسر أمرًا ما سيئًا خلاف ما يظهر منه بل ورتبت على ظنك أمورًا، فهذا يؤذيه ويؤذيك أيضًا لأن الظنون السيئة تغير قلبك منه.
ولهذا كان من أسباب بقاء الألفة وزيادتها بين المسلمين سلامة الصدر وحسن الظن، ومن ثم نهانا الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - عن سوء الظن واتباع الظن، فقال جل وعلا: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ } [الحجرات: 12]، وذم الكافرين بأنهم قوم يتبعون الظن وما لهم من علم بما يقولون، فقال عز وجل: { وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ } [النجم: 28]، وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث))(1).
ومن حق أخيك عليك أن تظن به الخير دائمًا، ومن استرجع واقعه في كثير من المواقف أدرك أنه بعيد عن وصية عمر رضي الله عنه إذ يقول: ولا تظن بكلمة خرجت من أخيك إلا خيرًا وأنت تجد لها في الخير محملاً(2).
وإذًا فليست مهمتك تلمس المقصد السيئ في تصرف أخيك، وإنما مهمتك البحث عن أي محمل من الخير يصلح حمل تصرف أخيك عليه.
__________
(1) …رواه البخاري في النكاح رقم (5143)، وفي الأدب رقم (6064، 6066)، وفي الفرائض رقم (6724)، ورواه مسلم في البر والصلة رقم (2563)، والترمذي ـ مختصرًا ـ في البر والصلة رقم (1988)، ومالك في الموطأ في حسن الخلق (2/908)، وأحمد في المسند (2/245) ـ مختصرًا ـ و(2/287) مطولاً، ورواه في مواضع أخرى، ورواه البغوي في شرح السنة (13/109، 110).
(2) …رواه أبو حاتم بن حبان في روضة العقلاء ص89، 90 بسنده عن سعيد بن المسيب قال: وضع عمر بن الخطاب رضي الله عنه ثمانية عشرة كلمة كلها حكم: ... ثم ذكرها منها.(1/87)
لكن للأسف تجد بعضنا يجتهد في استجماع ما يثبت ظنونه ولا ينظر إلى ما ينفيها وهذا سبب كثير من البلاء وزوال الأخوة بيننا، ولو استحضر كل منا حسن نية أخيه في كذا وطيب مقصده في كذا وتأول له واجتهد في نفي الظنون السيئة عن خاطره لدامت الأخوة والمحبة وازدادت.
قال ابن المبارك: المؤمن يطلبُ المعاذير، والمنافق يطلب الزلات.
فلا شك أن الابتعاد عن سوء الظن بأهل الخير والتغافل عن دواعيه شيمة أهل الإيمان والدين.
واعلم أن سوء الظن يدعو إلى التجسس المنهي عنه(1)، ويدعو إلى الوقوع في قالة السوء في أخيك، وما أبعده عن المودة والإخاء من إذا غضب غضبة من أخيه أو رأى منه أمرًا محتملاً لوجوه كثيرة ظن به السوء أو قال فيه السوء.
وإنما الخلُّ الودود والصديق الصدوق من يحفظ قلبه عن ظن السوء بك، ويحفظ لسانه عن قول السوء فيك وإن أغضبته يومًا أو فترت عن مراعاته في بعض الأوقات.
قال جعفر بن محمد لابنه: يا بني من غضب من إخوانك ثلاث مرات فلم يقل فيك سوءًا فاتخذه لنفسك خلاً(2).
وهذا سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه كان بينه وبين خالد بن الوليد كلام فذكر رجل خالدًا بسوء عند سعد، فقال سعد: مه، إن ما بيننا لم يبلغ ديننا. فلم يسمع السوء، فكيف يجوز أن يقوله؟!
ولابن أبي الدنيا في سياق آخر أنه كان بين خالد بن الوليد وسعد بن أبي وقاص كلام، فلما ذكروا سعدًا بخير أخذ خالد يمدحه، فقيل له في ذلك، فقال: إن الذي بيني وبينه وقع لم يبلغ إلى ديننا. يعني أن يأثم بعضنا في بعض، فلم يسمع السوء في أخيه(3).
__________
(1) …وكأنه لذلك قال - صلى الله عليه وسلم - ـ في الحديث السابق ـ بعد أن حذر من الظن بقوله: ((إياكم والظن...))، قال: ((ولا تجسسوا لوا تحسسوا)).
(2) …أدب الدنيا والدين ص175.
(3) …انظر: الإبداع في مضار الابتداع ص310.(1/88)
(فلا يوحشك فترة تجدها من أخيك، ولا يدفعك ذلك لقول السوء فيه، ولا تسيء به الظن لكبوة تكون منه، ولتَصْرفْ ذلك وتَعْزُهُ إلى فترات النفوس واستراحات الخواطر، فإن الإنسان قد يتغير عن مراعاة نفسه التي هي أخص النفوس به، ولا يكون ذلك من عداوة لها ولا ملل منها) (1).
وقد قيل في منثور الحكم: لا يفسدنك الظن على صديق قد أصلحك اليقين له(2).
واعلم أن صاحب النفس الكريمة الفاضلة تدفعه نفسه لوضع أمر أخيه على أحسنه وتأوُّلِ أفعاله على خير الوجوه...(حكي عن ابنة عبد الله بن مطيع الأسود وهي زوجة طلحة بن عبد الله بن عوف أنها قالت لزوجها: ما رأيت أحدًا قط ألأم من أصحابك، قال: مه لا تقولي ذاك فيهم، وما رأيت من لؤمهم؟ قالت: أمرًا والله بيّنًا. قال: وما هو؟ قالت: إذا أيسرت لزموك، وإذا أعسرت جانبوك. قال: ما زدت على أن وصفتهم بمكارم الأخلاق، قالت: وما هذا من مكارم الأخلاق؟ قال: يأتوننا في حال القوة منا عليهم، ويفارقوننا في حال الضعف منا عليهم)(3).
وليس من الإنصاف أن يقول البعض: (مضى زمن حسن الظن)، ولا يعترف بشيء اسمه حسن الظن حتى مع أقرب إخوانه ومحبيه.
وربما كان مثل ذلك الموقف صدمة مني بها في صديق، فقد يحدث أحيانًا أن يظل أحد الأحبة يحسن الظن بأخيه رغم تكرر بعض التصرفات التي تحتمل في بعض وجوهها وجهًا سيئًا، ولكنه يجتهد في حملها على الخير، وينقل إليه كلام يقلل الثقة في أخيه، ولكنه يظل واثقًا به، ويقال له: إنك مخدوع في صاحبك، فيقول: من خدعنا بالله انخدعنا له، وصاحبه لا يفتأ بعد كل موقف يقول له: أحسن بي الظن، فيكون جوابه: نعم، لا شك أن ذلك واجبي، ولا تتوقع مني أن أظن بك سوءًا أبدًا.
__________
(1) …عن أدب الدنيا والدين ـ بتصرف ـ ص174، 175.
(2) …أدب الدنيا والدين ص175.
(3) …روضة العقلاء ص128.(1/89)
فيستغل صاحب التزامه بهذا الخلق الكريم، ويطول الحال على هذا النحو إلى أن تقع الصدمة ويرى المحب بنفسه ويستيقن أنه كان مخدوعًا طيلة تلك السنوات التي كان يحسن فيها الظن بأخيه ويدافع عنه ويتعامل معه بكل معاني الصفاء والبراءة والثقة، ولعنف الصدمة يتخذ مثل ذلك الموقف ـ موقف من يقرر عدم إحسان الظن بأحد بعد اليوم ـ ولا شك أن صاحبه الذي كان سببًا ـ وأمثاله ممن يُبلى بهم الأحبة المخلصون من فترة لأخرى ـ عليهم وزر إفساد الثقة بين المسلمين، وتضييع خلق إحسان الظن من مجتمعهم...
ومع هذا نقول: إن كان مثل ذلك النموذج السيئ موجودًا حقيقة إلا أنه رغم تكرره ليس الغالب، بل الغالب أن لا يخيب الظن الحسن بالأحبة الخيرين، ومن ثم فمن الظلم أن يقرر الأخ عدم إحسان الظن بأحد ولو كان خير الناس وأحبهم وأقربهم إليه، بل ليصبر الأخ على ما يبتلى به على فترات من صدمة في صاحب، أو في صديق خاب ظنه فيه وليحتسب ذلك عند الله وليبق على الأصل وهو إحسان الظن بأهل الخير.
أما إذا أبيت ذلك وجعلت القاعدة عندك إساءة الظن في الجميع فاعلم أنك مع ظلمك وما تتحمله من الأوزار ستستجلب كراهية الجميع لك، وسينزع الله محبتك من قلوب إخوانك، فإن صاحب القلب المظلم والصدر الخبيث الذي ينظر إلى الجميع بريبة أو يتعامل معهم بتحامل وسوء ظن، ثقيل على النفوس وطريقه إلى القلوب مسدود، ويبعد أن يجد من يحبه أو يتودد إليه؛ ولهذا أوصى حكيم ابنه فقال: يا بني كن سليم الصدر من حب الأذى يتودد إليك الناس ويحبوك.
إذا ساء فعلُ المرء ساءتْ ظنونةُ
وعادَى محبّيه بقول عدَات
صدق ما يعتاده من توهم
وأصبحَ في ليلٍ من الشك مظلمِ(1)
?
- - -
المفسدة الثالثة عشرة
التدخل في خصوصياته
__________
(1) …العزلة للخطابي ص48 ونسبها للمتنبي.(1/90)
والقاعدة المنجية من ذلك دلنا عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلو التزم كل منا أدب الشرع وتحرى توجيهاته - صلى الله عليه وسلم - في التعامل ما وقعنا فيما يهدم أخوتنا ومحبتنا، فهو - صلى الله عليه وسلم - القائل: ((لا تجسسوا ولا تحسسوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا))(1)، وهو - صلى الله عليه وسلم - القائل: ((من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)) (2).
قال الأوزاعي: التجسس البحث عن الشيء، والتحسس الاستماع إلى حديث القوم وهم له كارهون أو يتسمع على أبوابهم، وقيل في الفرق بينهما غير ذلك(3)...
__________
(1) …سبق تخريجه ص111 وهو تمام حديث ((إياكم والظن)).
(2) …رواه الترمذي في الزهد رقم (2317)، وابن ماجه في الفتن رقم (3976) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، ورواه الترمذي في الزهد رقم (2318)، ومالك في الموطأ في حسن الخلق (2/903)، وأحمد في المسند (1/201)، والبغوي في شرح السنة (14/321)، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير رقم (5911).
(3) …ففي الفتح: وقيل: بالجيم البحث عن بواطن الأمور وأكثر ما يقال في الشر، وبالحاء البحث عما يدرك بحاسة العين والأذن ورجح هذا القرطبي... وقيل: بالجيم تتبع الشخص لأجل غيره، وبالحاء تتبعه لنفسه، كما نقل في الفتح أيضًا عن إبراهيم الحربي أنهما بمعنى واحد، وعن ابن الأنباري أن الثاني تأكيد للأول كقولهم: بعدًا وسخطًا. قال الحافظ: ويستثنى من النهي عن التجسس ما لو تعين طريقًا إلى إنقاذ نفس من الهلاك مثلاً كأن يخبر ثقة بأن فلان خلا بشخص ليقتله ظلمًا، أو بامرأة ليزني بها. انظر: الفتح (10/497).(1/91)
والمراد أن تجسسك وبحثك فيما خفي عند أخيك مما نُهي عنه، ومما يفسد العلاقة بينك وبينه، كما أنه متضمن لمنكر آخر وهو سعيك وكدُّك فيما لا يعنيك، و ـ كما قيل ـ (على العاقل أن يكون بصيرًا بزمانه، مقبلاً على شانه، حافظًا للسانه، ومن حسب كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه)(1).
وروى أبو عبيدة عن الحسن قال: من علامة إعراض الله تعالى عن العبد أن يجعل شغله فيما لا يعنيه(2).
وقال سهل التُسْتَرِيُّ: من تكلم فيما لا يعنيه حرم الصدق(3).
وقال معروف: كلام العبد فيما لا يعنيه خذلان من الله عز وجل(4).
ودخلوا على بعض الصحابة في مرضه ووجهه يتهلل، فسألوه عن سبب تهلل وجهه فقال: ما من عمل أوثق عندي من خصلتين: كنت لا أتكلم فيما لا يعنيني، وكان قلبي سليمًا للمسلمين(5).
وقال مورق العجلي: أمرٌ أنا في طلبه منذ كذا وكذا سنة لم أقدر عليه، ولست بتارك طلبه أبدًا. قالوا: وما هو؟ قال: الكف عما لا يعنيني(6).
وقال عمرو بن قيس: مر رجل بلقمان والناس عنده، فقال له: ألست عبد بني فلان؟ قال: بلى، قال: الذي كنت ترعى عند جبل كذا وكذا؟ قال: بلى، قال: فما بلغ بك ما أرى؟ قال: صدق الحديث وطول السكوت عما لا يعنيني(7).
__________
(1) …وروي مرفوعًا: كان في صحب إبراهيم... وفي آخره ـ وعلى العاقل...إلخ. قال محقق جامع العلوم والحكم طارق بن موحد ـ، وإسناده ضعيف جدًا. جامع العلوم والحكم (1/290).
(2) …جامع العلوم والحكم بتحقيق طارق بن الموحد (1/294).
(3) …حلية الأولياء (10/196).
(4) …حلية الأولياء (8/361)، سير أعلام النبلاء (9/341).
(5) …سير أعلام النبلاء (1/243) وسمى الصحابي وهو أبو دجانة سماك بن خرشة رضي الله عنه وذكره في جامع العلوم والحكم ص138 هكذا دون تسمية الصحابي.
(6) …الزهد للإمام أحمد ص371، زوائد الزهد لابن المبارك رقم (41) ص11، حلية الأولياء (2/235).
(7) …تهذيب الأسماء واللغات (2/71)، ونحوه في الإحياء (3/122).(1/92)
وقال وهب بن منبه: كان في بني إسرائيل رجلان بلغت بهما عبادتهما أن مشيا على الماء، فبينما هما يمشيان في البحر إذ هما برجل يمشي على الهواء، فقالا له: يا عبد الله بأي شيء أدركت هذه المنزلة؟ قال: بيسير من الدنيا(1)، فطمت نفسي عن الشهوات، وكففت لساني عما لا يعنيني، ورغبت فيما دعاني إليه ربي، ولزمت الصمت، فإن أقسمت على الله أبر قسمي، وإن سألته أعطاني(2).
فاحذر أخا الإسلام مداخل الشيطان للخوض فيما لا يعنيك؛ ولو كان ذلك بحجة تربية الشخص وتقويمه؛ حيث يوهمك أن كل صغيرة وكبيرة في خصوصيات أخيك مما يعنيك، فتقتحم عليه ما يستثقل تدخلك فيه، ويجد بسببه الحرج والضيق حتى يضجر من صحبتك.
- - -
المفسدة الرابعة عشرة
الأنانية والاستعلاء وعدم الاكتراث بمشاكله
وتجاهل ظروفه وحَاجته
فالناس يكرهون من يعاملهم باحتقار واستعلاء مهما كان هذا الإنسان، حتى لو كان داعية أو عالمًا أو معلمًا، فالناس لا يحبون هذا الذي ينظر إليهم نظرة استعلاء، أو لا يكترث بهم، ولذا كان الإنسان مأمورًا بالتواضع والشعور بالآخرين وإن كان في مقام التعليم والرئاسة.
ومن أجمل وأرق ما نقل عن السلف في ذلك ما رواه هارون بن عبد الله رحمه الله قال: جاءني أحمد بن حنبل بالليل، فدقَّ عليَّ الباب، فقلت: من هذا؟ فقال: أنا أحمد، فبادرت وخرجت إليه فمسَّاني ومسَّيته.
فقلت: حاجة أبي عبد الله ـ ما حاجتك ـ؟
قال: شغلتَ اليوم قلبي.
فقلت: بماذا يا أبا عبد الله؟
__________
(1) …هكذا قال، وهي والله أمور عظيمة شاقة على النفوس، وإنما هي يسيرة على من يسرها الله عليه.
(2) …جامع العلوم والحكم (1/293).(1/93)
قال: جزت عليك اليوم وأنت قاعد تحدث الناس في الفيء ـ الظل ـ والناس في الشمس بأيديهم الأقلام والدفاتر ـ لا تفعل مرة أخرى. إذا قعدت فاقعد مع الناس(1).
وهنا أيضًا لفتتان جديرتان بالتأمل: الأولى: أن راوي الحادثة ليس الناصح بل المنصوح الذي تأثر بالنصيحة، وهذا من سلامة القلب وإيثار الحق، والثانية: رقة الإمام أحمد ولطفه في توجيه النصيحة حيث ذهب إلى الرجل بالليل وقال له: (شغلت قلبي)، هكذا بهذه الشفقة، ولم يقل له: (أسأت إلى الناس)...
واعلم أن عدم الاكتراث بمشاكل الصاحب وظروفه وحاجته يشعره بالغربة وأن إخوانه يعيشون في عالمهم وهو في عالم آخر لا يشعر به أحد، ولا بما يعانيه، وإنه ليزداد ألمًا إذا رأى أن إخوانه أدركوا ظروفه ومع ذلك تجاهلوها ولم يجدهم إلى جانبه، ومن ثم تفتر مشاعر الحب تجاههم...
وقد يظهر له أنهم أصيبوا بالأنانية أو البلادة وأصبحوا لا يهمهم إلا أمر أنفسهم... وربما ضخَّم من تقصيرهم مع كونهم في الحقيقة ليسوا بذلك السوء، ولكن غفلتهم تفتح بابًا بل أبوابًا للشيطان ليفسد ما بين الأحبة من علاقة.
وقد توجد صور من نوعية أخرى لعدم الاكتراث بظروف أخيك وذلك مثل أن تتجاهل برنامجه وطريقة ترتيبه وحفظه لوقته وتقسيمه لأعماله وأوقات راحته فتفسد عليه ذلك، أو تفترض أنه لا برنامج له لمجرد أنك كذلك، أو تتصور أنه ليس عنده مشاغل ومتطلبات فتفرض عليه أوضاعًا تربكه وتتسبب في تراكم حاجاته وأعماله ومشاكله حتى يضيق بك ذرعًا وتصبح غصة في برنامجه حتى يندم على معرفتك وتولي محبتك من قلبه.
__________
(1) …تاريخ بغداد (14/22)، مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي ص301، وهارون بن عبد الله بن مروان الإمام الحجة الحافظ المجود أبو موسى البغدادي التاجر البزاز الملقب بالحمال، ولد سنة إحدى وسبعين ومائة، وقيل: سنة اثنتين، روى عنه الجماعة سوى البخاري. سير أعلام النبلاء (12/115، 116)، تاريخ بغداد (14/22، 23).(1/94)
وأيًا كانت صور عدم الاكتراث بظروف أخيك، فينبغي الحذر منها. وأن تكون عونًا لأخيك حسبما يقتضيه الحال سواء بقولك له: ها أنا ذا، أو بغيابك عنه وتركه فيما هو فيه إعانة له على إنجاز ما هو بصدده. لكن مع الحذر من المبالغة في ذلك، فبعض ذوي الحياء يتحرجون جدًا من طرق أبواب بيوت أصحابهم ذوي الأعباء الكثيرة، بل ويتحرجون من استيقافهم للسلام عليهم أو الكلام معهم إذا قابلوهم في الطريق حتى لو كان أصحاب الأعباء يبدون رغبة ملحة في رؤيتهم أو الوقوف معهم... بل ربما لم تكن أعباء هؤلاء بهذه الضخامة، ولكنه حسن الظن من ذوي الحياء... وفي هذه الحالة قد يبتلى صاحب العبء بعبء إضافي وهو افتقاده لرؤية من يخف عنه العبء برؤيتهم من الأحبة الذين جعلهم الله شفاء من الكرب وبلسمًا للجروح في الوقت الذي يبتلى فيه برؤية من يزيدون همه ويصيرون هم المحيطين به المستهلكين لوقته...
فالمقصود إذًا تلبية حاجات أخيك النفسية والمادية... وهذه الحاجات تتنوع جدًا... والفطن الذي خبر صديقه وأحبه لن يعجزه أن يدرك تلك الحاجات فيعين أخاه، ويفرج عنه، ويكون ذلك من القرب التي يتقرب بها إلى الله وينال بها عظيم الأجر والثواب كما في الصحيحين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة))(1).
اقضِ الحوائجَ ما استطعْتَ
فَلَخَيْرُ أيامِ الفت
كن لهمَّ أخيكَ فارجْ
يومٌ قضى فيه الحَوائجْ
?
__________
(1) …رواه البخاري في المظالم رقم (2442)، وفي الإكراه ـ مختصرًا ـ رقم (6951)، ورواه مسلم في البر والصلة رقم 02580)، وفي الذكر (2699)، وابو داود في الأدب رقم (4893)، والترمذي في الحدود رقم (1426)، وأحمد في المسند (2/91) كلهم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما والأحاديث في هذا المعنى كثيرة من رواية غير ابن عمر رضي الله عنهما.(1/95)
فعلى الصاحب أن يسد على الشيطان الأبواب التي ينفذ منها لإفساد ما بينه وبين صاحبه، وذلك بالتزام ذلك الهدي أو هذا التوجيه الذي أتانا به نبينا - صلى الله عليه وسلم -، وبالتزام حال سلفنا الصالح كذلك، وسيأتي في ثنايا الحديث طرف من أحوالهم.
ومما علّمناه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أيضًا ما رواه ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((أحب الناس إلى الله عز وجل أنفعهم، وأحب الأعمال إلى الله عز وجل سرور تدخله على مسلم أو تكشف عنه كربة أو تقضي عنه دينًا، أو تطرد عنه جوعًا، ولأن أمشي مع أخ في حاجة أحب إلي من أن أعتكف في هذا المسجد (يعني مسجد المدينة) شهرًا...)) الحديث(1).
وقد كان بعض السلف من حرصه على أخيه واهتمامه بحاجاته ومشاكله لا يقتصر على تفقد حاجة أخيه بل يتفقد عياله بعد موته أربعين سنة فيقضي حوائجهم، ولا يملك أحدنا أمام ذلك العمل إلا أن يقول: هذا أخ صادق وتلك هي الأخوة والمحبة.
والمقصود أن من حق الأخ على أخيه قضاء حاجته وعونه على أموره، (وذلك درجات:
أدناها: القيام بالحاجة عند السؤال والقدرة، لكن مع البشاشة والاستبشار.
وأوسطها: القيام بالحوائج من غير سؤال.
وأعلاها: تقديم حوائجه على حوائج النفس)(2).
وبصفة عامة ينبغي أن تتميز علاقة الصاحب بصاحبه بالاهتمام به وبظروفه وبآرائه وكلامه، وبهذا تقوى المحبة وتدوم، فالناس فطروا على حب ذلك الإنسان الذي يهتم بهم، والذي يهتم بما يفكرون فيه، وما يشغل بالهم، وحينما يتحدثون ينصت إلى حديثهم، وينظر إليهم، ويلخص ما يقولون ويناقشهم فيه.
__________
(1) …عزاه السيوطي في الجامع الصغير لابن أبي الدنيا في "قضاء الحوائج"، والطبراني في معجمه الكبير من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وحسنه الشيخ الألباني في صحيح الجامع الصغير رقم (176)، وأورده في السلسلة الصحيحة برقم (906).
(2) …مختصر منهاج القاصدين ص96.(1/96)
نعم (الناس في حاجة إلى من يعرف ما الذي يشغل بالهم وما هي اهتماماتهم، وليسوا بحاجة أن تقول لهم: يجب عليكم أن تعرفوا كذا وكذا ـ إلقاء جافًا مجردًا ـ ثم تنصرف، بل حاول التعرف على ما يدور في أنفسهم ويشغلهم واستمع إلى حديثهم بل وشجعهم على أن يحدثوك عن أنفسهم ولا يكن همك أن تحدثهم عن نفسك، وكما قيل: إذا أردت أن تكون متحدثًا لبقًا فكن مستمعًا لبقًا.
فمن طبع الإنسان أن يريد أن يتحدث عن قضاياه التي تشغل باله، ويريد من يشاركه همومه، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلمنا بمواقفه ليس فقط الاستماع للمتحدث وإنما إثارته لكي يبسط الحديث، ومن ذلك قصة الرسول - صلى الله عليه وسلم - مع عبد الرحمن بن عوف لما قابله ورأى عليه أثر صفة فقال له - صلى الله عليه وسلم -: ((مَهْيَم؟))(1) قال: تزوجت(2).
__________
(1) …قوله "مهيم" هي كلمة يمانية بمعنى ما أمرك، وما شأنك؟ ويوضح المعنى رواية الترمذي فإنه - صلى الله عليه وسلم - قال له فيها: ((ما هذا؟)).
(2) …رواه البخاري في البيوع رقم (2048)، وفي مناقب الأنصار رقم (3780) من حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، ورواه البخاري في البيوع أيضًا رقم 020499، وفي مناقب الأنصار رقم 03781) وفي تسعة مواضع أخرى من الصحيح، ورواه مسلم في النكاح رقم (1427) مختصرًا، ومالك في الموطأ في النكاح (2/545) مختصرصا، وأبو داود في النكاح رقم (2109) مختصرًا، والترمذي في النكاح رقم (1094) مختصرًا، وفي البر والصلة رقم (1933) كرواية البخاري، والنسائي في النكاح (6/119، 120)، وابن ماجه في النكاح رقم (1907) مختصرًا، والدارمي في النكاح رقم (2204) مختصرًا أيضًا، وأحمد في المسند (3/227، 271، 274) مطولاً ومختصرًا كلهم من حديث أنس رضي الله عنه.(1/97)
وكذلك قصة جابر لما سأله وقال له: ((تزوجت؟)) قال: نعم، قال: ((بكرًا أم ثيبًا؟)) قال: بل ثيبًا، قال: ((هلا بكرًا تلاعبها وتلاعبك)) متفق عليه(1).
وتأمل أسلوبه - صلى الله عليه وسلم - الرقيق في إثارة جابر رضي الله عنه للحديث ((هلا بكرًا تلاعبها وتلاعبك))، فشرح جابر سبب زواجه من الثيب التي تكون أقدر على رعاية أخواته من البكر التي لا تكون غالبًا كذلك)(2).
وإذا كان من حق الصحبة الاهتمام بالصاحب والاستماع له، فإن صاحبك تكون سعادته أعظم إذا ما وجد منك بعد هذا مسارعة إلى خدمته في أمر ما من أموره الشخصية مع استبشارك، ودون سؤال منه كما أنه يشعر بأخوتك وصدق محبتك إذا ما وجدك إلى جواره في كل شدة وضائقة معنوية أو مادية.
أخلاء الرخَاءِ همُ كثير
فلا يغررك خلة من تؤاخي
وكل أخِ يقول أنا وفِيَّ
سوي خليُّ له حَسَب ودي
لكن في البلاء قليل
فما لك عند نائبة خليل
ولكن ليس يفعلُ ما يقولُ
فذاك لما يقولُ هو الفعُولُ(3)
?
وقال الشافعي رحمه الله:
صديقٌ ليس ينفعُ يومَ بؤسٍ
وما يبقى الصديقُ بكل عصرٍ
عبرتُ الدهرَ ملتمسًا بُجهدي
تنكَّرَت البلادُ ومن عليه
ريبٌ من عدوٍ في القياسِ
ولا الإخوانُ إلا للتآسي
أخا ثقة فألهاني التمَاسِي
كأن أنامها ليسوا بناس(4)
?
__________
(1) …حديث جابر رضي الله عنه وزواجه: رواه البخاري في البيوع رقم 02097)، وفي النكاح رقم (5080) وفي مواضع أخرى، ورواه مسلم في الرضاع رقم (715)، وأبو داود في النكاح رقم (2048)، والترمذي في النكاح رقم (1100)، والنسائي (6/61)، وابن ماجه في النكاح رقم (1860)، وأحمد في المسند (3/294، 302، 308) وغيرها من المواضع والدارمي في النكاح رقم (2216).
(2) …فن التعامل مع الناس ص38، 40ـ 42 بتصرف.
(3) …ذكره في أدب الدنيا والدين ص168، 169 من شعر حسان بن ثابت رضي الله عنه.
(4) …ديوان الشافعي ص67.(1/98)
قيل لأحدهم: من صديقك؟ قال: الذي إذا صرت إليه في حاجة وجدته أشد مسارعة إلى قضائها مني إلى طلبها(1).
وقال أبو حيان: وأنشدنا أبو سعيد السيرافي قال: أنشدنا قدامة بن جعفر الكاتب لشاعر:
وفتيان صدقٍ ثابتين صحبْتهم
فإن يكُ خيرًا يحسنوا أملاً ب
زيدهم هولُ الجناب تآسيًا
وإن يكُ شرًا يشربوه تحاسيًا(2)
?
وقال آخر:
وتركي مواسَاةُ الأخلاءِ بالذي
وإني لأستحيي من الله أن أر
نالُ يدي ظلمٌ لهم وعقوقُ
بحالِ اتساعٍ والصديقُ مضيقُ(3)
?
وهذا ابن المبارك رحمه الله كان كثير الاختلاف إلى طرسوس وكان ينزل الرَّقَّة، فكان شاب يختلف إليه، ويقوم بحوائجه، ويسمع منه الحديث، فقدم عبد الله مرة فلم يره،... فلما سأل عنه قيل له: إنه محبوس على عشرة آلاف درهم، فاستدل على الغريم، ووزن له عشرة آلاف، وحلّفه ألا يخبر أحدًا ما عاش، فأخرج الرجل، وسرى ابن المبارك، فلحقه الفتى على مرحلتين من الرقة، فقال ابن المبارك: يا فتى، أين كنت؟ لم أرك. قال: يا أبا عبد الرحمن كنت محبوسًا بدين. قال: وكيف خلصت؟ قال: جاء رجل، فقضى ديني، ولم أدر. قال: فاحمد الله. ولم يعلم الرجل إلا بعد موت عبد الله.
وجاءه رجل فسأله أن يقضي دينًا عليه، فكتب عبد الله له إلى وكيل له، فلما ورد الكتاب على الوكيل قال للرجل: كم الدين الذي سألته قضاءه؟ قال: سبعمائة درهم، وإذا عبد الله قد كتب له أن يعطيه سبعة آلاف درهم، فراجعه الوكيل، وقال: إن الغلات قد فنيت، فكتب إليه عبد الله: إن كانت الغلات قد فنيت فإن العمر أيضًا قد فني، فأجز له ما سبق به قلمي(4).
__________
(1) …الصداقة والصديق ص82.
(2) …المختار من الصداقة والصديق ص113.
(3) …المختار من رسالة الصداقة والصديق ص131.
(4) …انظر: سير أعلام النبلاء (8/386، 387).(1/99)
وكان عامر بن عبد الله ـ الذي يعرف بابن عبد قيس ـ إذا فصل غازيًا يتوسم من يرافقه، فإذا رأى رُفقة تعجبه، اشترط عليهم أن يخدمهم، وأن يؤذن، وأن ينفق عليهم طاقته(1).
أما إذا شعر صديقك أنك تأنف من إعانته في أمر من أموره، أو تترفع عن مد يدك لخدمته ومساعدته في إصلاح شيء أو تنظيفه أو إنجاز بعض أعماله فإنه ينقبض منك كذلك ويترفع عنك، أما إذا شعر أنك تبتسم له إذا كانت لك حاجة عنده وتنقبض منه إذا كانت له حاجة عندك فهذه هي القاضية...
قال بعضهم:
أرى قومًا وجوههم حسانُ
فإن كانتْ حوائجُنا إليهم
ومنهم من سيمنعُ ما لديه
فإن يك فعلهم سمجًا وفعل
ذا كانَتْ حوائجُهم إلينا
تغير حسنُ أوجُهِهِم علينا
ويغْضَبُ حين نمنعُ ما لدينا
قبيحًا مثله فقد استوينا(2)
?
وقال آخر:
وكان لي مؤنسًا وكنتُ له
حتى إذا احتاجَتْ يدي يدَه
يست بنا وحشَةٌ إلى أحَدِ
كنتُ كمحتاجٍ يدِ الأسد(3)
?
(وقال بعض الشعراء:
وكلُّ أخٍ عند الهوينَى ملاطِف
لكنما الإخوانُ عند الشَّدائِدِ
?
وقال صالح بن عبد القدوس: شر الإخوان من كانت مودته مع الزمان إذا أقبل، فإذا أدبر الزمان أدبر عنك، فأخذ هذا المعنى الشاعر فقال:
شرُّ الأخلاء من كانَتْ مودَّتُ
ع الزمانِ إذا ما خافَ أو رَغبَا)(4)
?
فأين هذا من حبك لأخيك ما تحب لنفسك فضلاً عن إيثارك لأخيك على نفسك، قال - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه))(5).
فكم هو شعور سعيد سار مريح أن تشعر أن أخاك يؤثرك على نفسه أو على الأقل يحب لك ما يحب لنفسه، وكم هو شعور محبط كريه أن تشعر أن أخاك ليس عنده أدنى استعداد لمسألة الإيثار، بل لا تطمع أن يحب لك ما يحب لنفسه دون إيثار لك بشيء...
__________
(1) …سير أعلام النبلاء (4/15، 17).
(2) …المختار من رسالة الصداقة والصديق ص137.
(3) …الصداقة والصديق ص60.
(4) …أدب الدنيا والدين ص177.
(5) …سبق تخريجه ص26.(1/100)
وكمثال عملي بسيط يمكن أن تفرق به بين شعور وشعور: إذا أتيت إلى المجلس وقد ضاق بالجالسين، أو دعيت إلى طعام وقد ازدحم الأصحاب حول الطعام ووقفت في حرج شديد لا تدري ماذا تفعل، وتَلَفَّتَّ فوقعت عينك على أخيك الذي تحبه وترجوه لساعات الحرج، فنظر إليك من طرف خفي وتجاهلك وتركك في حيرتك وحرجك دون أن يخفف عنك ذلك بأي نداء أو أي فعل...لعلك قد أدركت يومًا مثل هذا الشعور... ثم قارنه بشعور آخر حين تجد أخاك تلقفك على الفور بمجرد رؤيتك وناداك وأفسح لك أو دبر لك مكانًا إلى جانبه ولم يتركك تتعرض لحرج لحظة(1)... بل قارنه بشعور ثالث إذا قام أخوك من مكانه وأصر على إجلاسك وبحث هو عن مكان آخر، فإنه في هذه الحالة سيكون أقل حرجًا منك في البحث عن مكان.
هذا مثال واحد يبين المسيرة ما بين الأنانية والإيثار، ولا شك أن الأمر أعظم إذا تعلق ذلك بأموال أو بأمر يطول من الراحة أو العناء لا قضية لحظات في مجلس أو وليمة.
ومما ينبغي التنويه به في هذا الشأن أن مجال الإيثار يشمل الأمور المعنوية كما يشمل الأمور المادية، كعمل صالح ينسب لواحد منكما، أو وجاهة في مجلس من المجالس، أو صدارة في موقف من المواقف، كما يكون الإيثار أيضًا في راحة من تحمل عبء من الأعباء، فذلك كله مجال لإيثار أخيك على نفسك أو على الأقل تحب له ما تحب لنفسك...
ولكننا أحيانًا ودون أن نشعر قد لا يَكتفي أحدنا بتقديم نفسه على صاحبه بل ربما قدم عليه حماره أو دابته!! ولعلك أيها القارئ تنزعج من الكلام، ولكن تأمل بلاغة بعض السابقين ـ وهو يُفَطِّن أخاه لمثل ذلك ـ يتضح لك الأمر:
__________
(1) …سبق قول عمر رضي الله عنه: إن مما يصفي لك ود أخيك ثلاثًا: إذا لقيته أن تبدأه بالسلام، وأن تدعوه بأحب أسمائه إليه، وأن توسع له في المجلس.(1/101)
فقد حكي أن رجلاً لقي صاحبًا له فقال له: إني أحبك. فقال: كذبت؛ لو كنت صادقًا ما كان لفرسك برقع وليس لي عباءة(1).
والحقيقة أن البون شاسع بين ما كان سلفنا الصالح ـ خاصة الصحابة رضي الله عنهم ـ يؤثرون به إخوانهم وبين ما نؤثر به إخواننا إن آثرناهم... وما طمعنا في الكثير من الإيثار... بل إننا لنجاهد أنفسنا على مساواة إخواننا بنا، فنحقق على الأقل قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)) (2).
قال أبو يعقوب: دخلنا على أبي المطيع القرباني نسأله الحديث، فقدم إلينا طعامًا فأمسكنا عنه، فقال: يا هؤلاء، كانت المواساة بين الإخوان قبلنا بالضياع والرباع والبراذين والمماليك والدور والبدور(3)، فصارت اليوم إلى هذا، وهو مروءتنا، فإن أمسكتم عن هذا أيضًا ذهب هذا القدر، وماتت سنة السلف فلا تفعلوا، فأقبلنا عليه وأكلنا(4).
__________
(1) …الصداقة والصديق ص82، وفيه: قيل لأبي العريب المصري: إذا كان الرجل يحب صاحبه ويمنعه ماله، أيكون صديقًا؟ قال: يكون صادقًا في حبه، مقصرًا في حقه.
(2) …سبق تخريجه ص26.
(3) …الضياع جمع ضيعة وهي العقار، والرباع جمع ربع وهو الدار، والبراذين جمع برذون وهو الدابة، وذلك بمثابة بالإيثار بالسيارة في أيامنا، والمماليك العبيد، والبدور جمع بدرة وهي وعاء من جلد به نحو عشرة آلاف درهم. انظر: لسان العرب ص229، 252، 1563، 2624.
(4) …الصداقة والصديق ص82، 83.(1/102)
وكان ابن المبارك رحمه الله إذا كان وقت الحج، اجتمع إليه إخوانه من أهل مرو، فيقولون: نصحبك، فيقول: هاتوا نفقاتكم، فيأخذ نفقاتهم، فيجعلها في صندوق، ويقفل عليها، ثم يكتري لهم، ويخرجهم من مرو إلى بغداد، فلا يزال ينفق عليهم، ويطعمهم أطيب الطعام، وأطيب الحلوى، ثم يخرجهم من بغداد بأحسن زيِّ وأكمل مروءة، حتى يصلوا إلى مدينة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فيقول لكل واحد: ما أمرك عيالك أن تشتري لهم من المدينة من طُرَفها؟ فيقول: كذا وكذا، ثم يخرجهم إلى مكة، فإذا قضوا حجهم، قال لكل واحد منهم: ما أمرك عيالك أن تشتري لهم من متاع مكة؟ فيقول: كذا وكذا، فيشتري لهم، ثم يخرجهم من مكة فلا يزال ينفق عليهم إلى أن يصيروا إلى مرو، فيجصص بيوتهم وأبوابهم، فإذا كانوا بعد ثلاثة أيام، عمل لهم وليمة وكساهم، فإذا أكلوا وسروا، دعا بالصندوق، ففتحه ودفع إلى كل رجل منهم صرته عليها اسمه.
وروي أنه قال للفضيل: لولاك وأصحابك ما اتجرت(1).
وللأسف فإن أقوامًا اليوم بعدما خرجوا لحياة الدرهم والدينار وخاضوا معتركها ألغوا من حياتهم، ومن عواطفهم ومشاعرهم شيئًا اسمه (المحبة إلى حَدِّ الإيثار) وأن ما مروا به من ذلك في علاقات الصبا كان طورًا من أطوار المراهقة وعواطف الشباب وهي اليوم لا تعدو أن تكون هراء أو خيالات وأوهامًا وعواطف لا معنى لها في واقع الحياة وآتونها المستعر... نعوذ بالله من تغير القلوب وفساد النفوس... ولو احترم هؤلاء هذه المشاعر ولو لم يمارسوها لكان الأمر أخف...
- - -
المفسدة الخامسة عشرة
التّحفظ والتّكلّف والإثقال على الصَّاحب
ومراقبته في قيامه بحقوق الأخوة نحْوك
قال جعفر بن محمد: أثقل إخواني عليّ من يتكلف لي وأتحفظ منه، وأخفهم على قلبي من أكون معه كما أكون وحدي(2).
__________
(1) …انظر: سير أعلام النبلاء (8/385، 386).
(2) …مختصر منهاج القاصدين ص100.(1/103)
فإذا أردت أن تكون خفيفًا على قلب صاحبك وأن يكون معك منشرحًا على سجيته فاترك الانقباض وارفع عنه الحرج، ولا تحاسبه على قيامه بحقوقك ولا تكلفه التفقد لأحوالك، وتواضع له، (ومن تمام هذا الأمر أن ترى الفضل لإخوانك عليك لا لنفسك عليهم، فتنزِل نفسك معهم منزلة الخادم)(1).
وهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه (لم يكن يكتفي ببر أصحابه فحسب بل يبر مواليه ويخدمهم في السفر وهم المكلفون بخدمته)(2) فعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال لأسلم مولى عمر: يا أبا خالد، إني أرى أمير المؤمنين يلزمك لزومًا لا يلزمه أحدًا من أصحابك، لا يخرج سفرًا إلا وأنت معه، فأخبرني عنه. قال: لم يكن أولى القوم بالظل، وكان يُرحِّل رواحلنا، ويرحل رحله وحده، ولقد فزعنا ذات ليلة وقد رحل رحالنا، وهو يرحل رحله ويرتجز:
لا يأخذ الليلُ عليك بالهَمْ
وكن شريك نافع وأسل
البَسنْ له القميص واعتَمْ
واخدُم الأقوام حتى تُخْدَم(3)
?
ولتقصد بمحبتك لأخيك التقرب إلى الله، والاستئناس بلقائه، لا نيل شيء من جاهه أو ماله، أو الانتفاع به في أمورك.
ومن التخفيف عن صاحبك والسعي في إشعاره أنه معك كما يكون وحده أن تهون عليه في مواقف الحرج، كأن يكون ضعيف الحال في بيته أو ثيابه أو طعامه فلا تظهر انزعاجك ولا تكثر من تلفتاتك ولا تشعره أن شيئًا من ذلك قد لفت نظرك.
وإذا أراد أن يتكلف شيئًا يخفي به ذلك فلا تتركه يشق على نفسه بل عوِّده ببساطتك وتواضعك أن يكون معك كما يكون وحده، وبهذا تدوم الألفة.
قال بعض الحكماء: من سقطت كلفته دامت ألفته(4).
وقال بعض السلف: شر الإخوان من تتكلف له(5).
__________
(1) …مختصر منهاج القاصدين ص100.
(2) …من أخلاق السلف ص112.
(3) …سير أعلام النبلاء (4/99).
(4) …مختصر منهاج القاصدين ص100.
(5) …المختار من رسالة الصداقة والصديق ص135.(1/104)
فمن أسباب زوال الألفة التكلف سواء كان في إكرام الصاحب وضيافته أو في غير ذلك... فعن سلمان رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن التكلف للضيف(1).
وكان الفضيل بن عياض رحمه الله يقول: إنما تقاطع الناس بالتكلف، يدعو أحدهم أخاه فيتكلف فيقطعه عن الرجوع إليه.
كذا قد يستثقل الداعي نفسه أخاه بعد فترة.
__________
(1) …روى الإمام أحمد في المسند (5/441) عن شقيق أو نحوه ـ شك الراوي ـ أن سلمان دخل عليه رجل فدعا له بما كان عنده فقال: لولا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهانا ـ أو لولا نهينا ـ أن يتكلف أحدنا لصاحبه لتكلفنا لك. قال الهيثمي في مجمع الزوائد (8/79): رواه أحمد والطبراني في الكبير والأوسط بأسانيد، وأحد أسانيد الكبير رجاله رجال الصحيح، وعن شقيق بن سلمة قال: دخلت أنا وصاحب لي إلى سلمان الفارسي فقال سلمان: لولا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن التكلف لتكلفت لكم ثم جاء بخبز وملح، فقال صاحبي: لو كان في ملحنا عنقز فبعث سلمان بمطهرته فرهنها ثم جاء بعنقز، فلما أكلنا قال صاحبي: الحمد لله الذي قنعنا بما رزقنا، فقال سلمان: لو قنعت بما رزقك لم تكن مطهرتي مرهونة. رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح غير محمد بن منصور الطوسي وهو ثقة..." اهـ.
…والحديث أورده الشيخ الألباني حفظه الله في سلسلة الأحاديث الصحيحة رقم (2392) وزاد نسبته للحاكم (4/123) وابن عدي (ق154، 155) وأورد له طرقًا أخرى فراجعها في المصدر المذكور.
…فائدة: روى البخاري في كتاب الاعتصام رقم (7293) عن أنس قال: كنا عند عمر فقال: نهينا عن التكلف.(1/105)
أما عدم الإكرام مع القدرة بحجة عدم التبذير فهو ضرب من البخل، وإنما السنة أن تكرم صاحبك بما تيسر قليلاً كان أو كثيرًا ما دام في حدود القدرة(1).
ومن يسر الصحابة في ذلك وعدم تكلفهم ما روى عبد الله بن عبيد عمير قال: دخل على جابر نفر من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فقدم إليهم خبزًا وخلاً فقال: كلوا فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((نعم الإدام الخل)) إنه هلاك بالرجل أن يدخل عليه النفر من إخوانه فيحتقر ما في بيته أن يقدمه إليهم وهلاك بالقوم أن يحتقروا ما قدم إليهم(2).
ومن التكلف: التكلف في الجدية، وإظهار الاهتمام، والانقباض عن أي نوع من الترفيه أو المزاح، أو حتى التبسم... وهذا مما يخالف سمت الصحابة ومما يوحش العلاقة ويجفف الود...
__________
(1) …ويشهد لذلك رواية لحديث سلمان السابق في النهي عن التكلف وفيها ((لا يتكلفن أحد لضيفه ما لا يقدر عليه)) أوردها الشيخ الألباني في الصحيحة رقم (2440) وكذلك في رواية الطبراني، كما في مجمع الزوائد (8/179) "نهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نتكلف للضيف ما ليس عندنا".
(2) …رواه أحمد في المسند (3/371)، والطبراني في الأوسط وأبو يعلى ـ كما في مجمع الزوائد (8/180) ـ قال الحافظ المنذري في الترغيب والترهيب (3/374): "وبعض أسانيدهم حسن، ونعم الإدام الخل في الصحيح، ولعل قوله: إنه هلاك بالرجل إلى آخره من كلام جابر مدرج غير مرفوع، والله أعلم" اهـ.(1/106)
روى الترمذي وأبو داود الطيالسي وأحمد بسند صحيح عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: جالست النبي - صلى الله عليه وسلم - أكثر من مائة مرة فكان أصحابه - صلى الله عليه وسلم - يتناشدون الشعر ويتذاكرون أشياء من أمر الجاهلية وهو ساكت - صلى الله عليه وسلم -، فربما تبسم معهم(1).
وروى البخاري في الأدب المفرد بسند صحيح: كان أصحابه - صلى الله عليه وسلم - يتبادحون بالبطيخ، فإذا كانت الحقائق كانوا هم الرجال(2).
ومن الإثقال الذي يذهب بالألفة أن تراقب أخاك وتحاسبه على قيامه تجاهك بحقوق الأخوة، أو تكلفه ما يشق عليه، فإن العلاقة إذا قامت على إحصاء ما صنعتُه لك وما صنعتَه لي لا تدوم، فضلاً عن أن ذلك لا يتأتى مع صدق المحبة وسلامة الصدر... وقد يكون القليل الذي يضعه أخوك تجاهك جهدًا عظيمًا في حقه وفعلاً كبيرًا في ميزان حسناته، ويكون الكثير الذي تصنعه نحوه جهدًا قليلاً منك وفعلاً صغيرًا في ميزان حسناتك؛ لأن ما يبذله كل واحد يقارن بظروفه وقدرته...
__________
(1) …رواه الترمذي في الأدب رقم (2850) واللفظ له، والطيالسي في مسنده رقم (771) ص105 بنحوه، وأحمد في المسند (5/105) من حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي رقم (2286)، ورواه النسائي في السند (3/80، 81) عن سماك بن حرب قال: قلت لجابر بن سمرة: كنت تجالس رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: نعم، كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى الفجر جلس في مصلاح حتى تطلع الشمس فيتحدث أصحابه يذكرون حديث الجاهلية وينشدون الشعر ويضحكون ويتبسم - صلى الله عليه وسلم -.
(2) …رواه البخاري في الأدب المفرد رقم 0266) عن بكر بن عبد الله، وصححه الشيخ الألباني في صحيح الأدب المفرد رقم (201)، وفي السلسلة الصحيحة رقم (435).(1/107)
ففرق بين ما ينتظر من القوي الصحيح وما ينتظر من الضعيف المريض، وفرق بين ما ينتظر من الغني ذي الجاه وما ينتظر من الفقير الخامل، وفرق بين ما ينتظر من خفيف المسئوليات والأعمال والمشكلات وما ينتظر ممن أثقلته المسئوليات والمشاكل والأعباء... ثم هناك ما يخفى مما في قلب هذا أو ذاك من الود وصدق المحبة مما لا يعلمه إلا الله بعيدًا عن المظاهر المرئية لنا... فاحذر أن تنشغل بقياس أو بحساب ما يقوم به أخوك نحوك، وانشغل بما ينبغي أن تقوم به نحو أخيك.
وصى بعض الأدباء أخًا له فقال: كن للود حافظًا وإن لم تجد محافظًا، وللخل واصلاً وإن لم تجد مواصلاً(1).
وسبق قول الشاعر(2):
وصلِ الكرام وإن رموكَ بجفْو
العفوُ عنهم والتجاوز أصْوَبُ
?
ولا شك أن الذي يطالب دائمًا أخاه بحقوق الأخوة نحوه ويرى حقوقه واجبة على أخيه ويرى حقوق أخيه عليه نافلات أو ليس له حقوق... لا شك أن مثل هذا ثقيل ومع ثقله فهو ظالم مطفف...
وسبق قول الشاعر(3):
لي صديقٌ يرى حقوقي عليه
لو قطعت الجبال طولاً إليه
لرأى ما صنعت غير كبي
افلاتٍ، وحقَّه الدهرَ فرضا
ثم من بعد طولها سرت عرضا
واشتهى أن أزيد في الأرض أرضا
?
وقد يغري طيب نفس الصديق وسلامة قلبه وفرحه بخدمة أخيه، قد يغري ذلك صديقه باعتياد أن يكون دائمًا هو المسعي له والمخدوم والذي تقضى له الحوائج ويتعب من أجله صديقه... فكأنما صديقه قد خلق له ليقوم تجاهه بحقوق الأخوة، وكأنما خلق هو ليكون مدللاً، أو كأنما خلق صاحبه ليكون محبًا لا محبوبًا وخلق هو ليكون محبوبًا لا محبًا.
ومثل هذا الحال يصعب دوامه مهما كان أخوك صابرًا صبر الجمال...
وما أحسن قول القائل:
إن كنتَ تجعلُ من حباك بوده
من ذا حمَلْتَ عليه كلَّك كل
هْرَ البعير فثقْ بأنكَ عاقِرُه
إلا اشمأز، فظن أنك حاقِرُه
?
__________
(1) …أدب الدنيا والدين ص180.
(2) …انظر ص96.
(3) …انظر ص106.(1/108)
فللأسف يظل البعض يثقل على صديقه حتى ينفر صديقه منه ثم يظل يذم أصدقاءه ويقول: لم أجد أخًا صادقًا.. وإنما الآفة فيه هو، وما أشد فطنة ابن عطاء وفقهه، وما أحسن ما قاله حين سمع رجلاً يقول: أنا في طلب صديق منذ ثلاثين سنة فلا أجده، فقال له ابن عطاء: لعلك في طلب صديق تأخذ منه شيئًا، ولو طلبت صديقًا تعطيه شيئًا لوجدت(1).
فاطلب صديقًا لتفيض عليه وتمنحه كل حقوق الأخوة لا لتأخذ منه.
وخذ الأسوة في الخفة على الأصحاب وعدم الإثقال عليهم منه - صلى الله عليه وسلم - ومن إثقاله - صلى الله عليه وسلم - على نفسه هربًا من الإثقال على أصحابه، فقد قال النووي تعليقًا على ما رواه مسلم أنه - صلى الله عليه وسلم - اشترى من يهودي طعامًا ورهنه درعًا من حديد: (وأما اشتراء النبي - صلى الله عليه وسلم - الطعام من اليهودي ورهنه عنده دون الصحابة... قيل: لأن الصحابة لا يأخذون رهنه - صلى الله عليه وسلم - ولا يقبضون منه الثمن، فعدل إلى معاملة اليهودي لئلا يضيق على أحد من أصحابه)(2).
ومما أرشد إليه - صلى الله عليه وسلم - حتى لا تكون ثقيلاً على صاحبك وحتى تزداد محبته لك ((زر غبًا تزدد حبًا))(3)
__________
(1) …الصداقة والصديق ص81، 82، وانظر: الصديق والصداقة لأبي حيان التوحيدي ص47.
(2) …شرح النووي مع صحيح مسلم 011/40).
(3) …رواه البزار والطبراني في الأوسط كما في مجمع الزوائد (8/175)، وأبو نعيم في الحلية (3/322)، وابن قتيبة في عيون الأخبار (3/30)، والبيهقي ـ كما في الجامع الصغير ـ كلهم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، ورواه البزار والبيهقي من حديث أبي ذر رضي الله عنه.
…ورواه الطبراني في معاجمه الثلاثة ـ كما في المجمع ـ، والحاكم في مستدركه (3/347) من حديث حبيب بن مسلمة رضي الله عنه.
…ورواه الطبراني في الكبير من حديث عبد الله بن عمرو، قال الهيثمي (8/175): "وإسناده جيد" اهـ. وقال الحافظ المنذري رحمه الله: "ولم أقف له على طريق صحيح كما قال البزار، بل له أسانيد حسان عند الطبراني وغيره، وقد ذكرت كثيرًا منها في غير هذا الكتاب والله أعلم" اهـ. الترغيب والترهيب (3/367)، وصححه العلامة الألباني حفظه الله في صحيح الجامع الصغير رقم (3568)، وانظر: فيض القدير (4/62)، وكشف الخفاء للعجلوني (1/438).(1/109)
.
ولذا قال أحدهم:
وإليَّ حينَ أغيبُ صبًا
حدثَتْ ولا استحدثت ذنبًا
زوروا على الأيَّامِ غبًا
منكم يزدادُ حُبًا(1)
?
وقال لبيد:
توقفْ عن زيارةِ كلَّ يوم
ذا أكثرتَ ملَّك من تَزُور(2)
?
وقال آخر:
تكون كالثوب استجده
أن لا يزال يراك عِنْده(3)
?
وقال آخر:
عليك بإغباب الزيارة إنها
فإني رأيت الغيث يُسْأم دائبً
ذا كثرت كانت إلى الهجرِ مسْلكًا
ويُسأل بالأيدي إذا هو أمسكا(4)
?
لكن البعض يرى في الواقع أنه لا يستوي في القرب شخص يوده دائمًا وآخر لا يراه ولا يزوره إلا نادرًا، فما الضابط في كثرة الزيارة، لاسيما إذا خاف الأخ إذا أقل من زيارته لأخيه أن تذهب المودة؟
والجواب أنه لابد من مراعاة ثلاثة أمور:
الأول: أن لا يكون الاقتصاد أو عدم الإكثار من الزيارة مصاحبًا للجهل بأحوال الصاحب والغفلة عن ظروفه، بل المراد الاقتصاد في الزيارة مع الاهتمام بأحوال صاحبك وظروفه، وبقدر الحاجة لذلك تكرر الزيارة.
__________
(1) …روضة العقلاء ص116، بهجة المجالس (1/257) مع اختلاف يسير في البيت الثاني.
…المختار من رسالة الصداقة والصديق ص105 ولفظ البيت الثالث فيه:
لكن لقوْلٍ قدْ مَضَى
من زار غبًا زاد حبًا
إني رأيتكَ لي محبًا
فعُدت لا لملالة
إلا لقول نبينا
ولقوله من زار غبا
?
(2) …أدب الدنيا والدين ص178.
(3) …عيون الأخبار (3/33)، روضة العقلاء ص117، وفيه: قلل زيارتك الحبيب... والباقي سواء.
…وانظر: المختار من رسالة الصداقة والصديق لأبي حيان التوحيدي ص78 وفيه:
أقلل زيارتك الصديق
إن الصَّديق يغُمُّه
لو تكن كثوبٍ تستجدّه
أن لا يزال يراك عِنْده
أقْلِلْ زيارتك الصَّديق
إن الصَّديق يُملّهُ
?
(4) …روضة العقلاء ص117، ونحوها مع اختلاف يسير في بهجة المجالس (1/258).(1/110)
ثانيًا: أن الإكثار في الزيارة إذا كان لحاجة أخيك لا لحظ نفسك فإنه سيزيد المحبة؛ لأن السعي في قضاء حوائج أخيك أمر محمود حث عليه الشرع ((والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه))(1).
ثالثًا: أن الإقلال من الزيارة لا ينبغي أن يصل إلى الحد الذي يشق على الأخ أو يسيء بسببه الظن بك. وهذا أمر نسبي يتفاوت من شخص لآخر، ولا تستوي في ذلك نفوس الناس ومشاعرهم، لكن المهم أن تحذر من الزيارات الزائدة عن حاجة المزور، فذلك مفتاح المشاكل والأخطاء وربما العداوات.
قال بعض الشعراء يدعو للتوسط في الزيارة بين الإكثار والهجران:
وإني لأستحيي أخي أن أبرَّ
ريبًا وأن أجْفُوه وهو بعيد(2)
?
قال الماوردي رحمه الله: وهكذا يقصد التوسط في زيارته وغشيانه غير مقلِّل ولا مكثر، فإن تقليل الزيارة داعية الهجران، وكثرتها سبب الملال.
وقال آخر:
أقلل زيارتك الصديق ولا تُطِلْ
إن الصديقَ يلجُ في غشيانِه
حتى يراه بعدَ طولِ سرورهِ
وإذا توانى عن صيانَةِ نفسِه
جرانَه فيلجَّ في هجْرَانه
لصديقِه، فيمل من غشَيانه
بمكانه متثاقلاً بمكانه
رجلٌ تُنُقصَ واستخِفَّ بشأنه(3)
?
وأخيرًا فمن الإثقال على صاحبك شعوره بأنك تفرض رأيك عليه في كل شيء وتدخلك المستمر في كل أعماله ومحاولة تقييمها.
- - -
المفسدة السادسة عشرة
التّفْريط في إظهار المَحَبَّة أوْ مَا يَدل عليهَا
وما يستجلبها أو يزيدها. وإهمال الدّفاع عنه في غيبته
فبعض الناس يفرط في إعلام من يحب بأنه يحبه أو في إظهار ما يدل على هذه المحبة من كلمة أو هدية أو ابتسامة أو غير ذلك ويعول على ما في القلب... وهذا غير صحيح، فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد علمنا إظهار المحبة والإعلام بها، وعلمنا مكافأة المحسن وإن كان قد أحسن ابتغاء وجه الله...
__________
(1) …سبق تخريجه ص124.
(2) …أدب الدنيا والدين ص178.
(3) …أدب الدنيا والدين ص178.(1/111)
ومن ثم نعلم أنه من التنطع والتعالم المذموم أن يزعم بعضهم أنه يترك مكافأة المحسن ولو بالثناء بكلمة؛ لأن معنى المكافأة على طاعة أنه لم يفعلها لوجه الله أو أننا نعوده بذلك أن يطلب عليها ثوابًا من غير الله، أو يزعم أنه يترك التعبير عن محبته لأخيه أو يترك إعلامه بأنه يحبه؛ لأن الله يعلم ما في القلب فالكلام عما في القلب من المحبة ثرثرة يحسن تركها.
فما أسخف هذا التنطع وذلك التعالم، وإنما هو التكلف والجهل، وإلا فقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا أحب الرجل أخاه فليخبره أنه يحبه))(1)، وفي لفظ: ((إذا أحب أحدكم أخاه في الله فليعلمه، فإنه أبقى في الألفة، وأثبت في المودة))(2)، وفي آخر: ((إذا أحب أحدكم صاحبه فليأته في منزله، فليخبره أنه يحبه لله))(3)
__________
(1) …رواه أبو داود في الأدب رقم (5124)، والترمذي في الزهد رقم (2392)، وأحمد في المسند (4/130)، والبخاري في الأدب المفرد رقم 0542)، والحاكم في مستدركه (4/171)، وابن حبان رقم (569 ـ الإحسان)، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود رقم (4273)، وفي صحيح الأدب المفرد رقم (421)، قال البغوي رحمه الله في شرح السنة (13/67): "ومعنى الإعلام: هو الحث على التودد والتآلف، وذلك أنه إذا أخبره استمال بذلك قلبه واجتلب به وده، وفيه أنه إذا علم أنه محب له قبل نصحه فيما دله عليه من رشده ولم يردّ قوله فيما دعاه إليه من صلاح خفي عليه باطنه" اهـ.
(2) …رواه وكيع في الزهد (2/67/2) بسند صحيح عن علي بن الحسين مرفوعًا، وله شاهد من حديث مجاهد مرسلاً أيضًا رواه ابن أبي الدنيا في كتاب الإخوان كما في الفتح الكبير (1/67)، فالحديث بمجموع الطرق حسن إن شاء الله تعالى. اهـ. باختصار من سلسلة الأحاديث الصحيحة رقم (1999)، وهو في صحيح الجامع الصغير رقم (280).
(3) …رواه الإمام أحمد في المسند (5/145) ولفظه أن أبا سالم الجيشاني أتى إلى أبي أمية في منزله فقال: إني سمعت أبا ذر يقول: إنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إذا أحب أحدكم صاحبه فليأته في منزله فليخبره انه يحبه لله)) وقد جئتك في منزلك. ورواه عبد الله بن المبارك في الزهد وعبد الله بن وهب في الجامع وصححه الألباني وشعيب الأرناؤوط. سلسلة الأحاديث الصحيحة رقم (797)، وتخريج شرح السنة (13/67).(1/112)
... وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((تهادوا تحابوا))(1).
(وأما عن شكر الناس ومكافأة المحسن فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((من لم يشكر الناس لم يشكر الله))(2)، وقال - صلى الله عليه وسلم - في غزوة الخندق: ((اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة))(3).
والدعاء بخير من نوع المدح والثناء بل هو أبلغ الثناء كما قال - صلى الله عليه وسلم -: ((من صُنِع إليه معروف فقال لصاحبه: جزاك الله خيرًا فقد أبلغ في الثناء"(4))(5).
__________
(1) …رواه البخاري في الأدب المفرد رقم (594)، والبيهقي في سننه (6/169)، وحسنه الحافظ في التلخيص كما ذكر الشيخ الألباني في الإرواء (6/44)، وحسنه، وراجع طرقه وشواهده في المصدر السابق.
(2) …رواه الترمذي في البر والصلة رقم (1955)، وأحمد في المسند (3/32، 74) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، ورواه أبو داود في الأدب رقم (4811)، والترمذي في البر والصلة رقم (1955)، والإمام أحمد في المسند (2/258، 295، 303، 388، 461) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وصححهما الألباني في صحيح الجامع رقم (6541)، وصحيح سنن أبي داود رقم (4026).
(3) …رواه البخاري في الرقاق رقم (6414)، ومسلم في الجهاد رقم (1804)، والترمذي في المناقب رقم (3856)، وأحمد في المسند (5/332) كلهم من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه.
ورواه البخاري في الجهاد رقم (2834، 2835)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في الجهاد رقم (1805)، والترمذي في المناقب رقم (3857)، وأحمد في المسند (3/172، 180) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
(4) …رواه الترمذي في البر والصلة رقم (2035)، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير رقم (6368).
(5) …فن التعامل مع الناس ص48.(1/113)
وكل ذلك: من الإعلام بالمحبة والهدية والشكر والمدح أو الثناء بالدعاء أو غيره والتشجيع ـ ينمي المحبة، (وهناك فرق بين الشكر والمدح الذي ذمه الشرع، فالشكر على المعروف والثناء على فاعله رجاء أن يتقدم أكثر في فعل الصالحات كان من فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
ولكن مدح الناس بما ليس فيهم أو الذي نعرف أنه يؤدي إلى الغرور هو الذي نهى عنه الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب))(1)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((إياكم والتمادح))(2).
__________
(1) …رواه مسلم في الزهد رقم (3002)، وأبو داود في الأدب رقم (4804).
…والترمذي في الزهد رقم (2393)، وابن ماجه في الأدب رقم (3742)، وأحمد في المسند (6/5) كلهم من حديث المقداد بن الأسود رضي الله عنه.
…ورواه أحمد (2/94) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
…قال الإمام النووي رحمه الله: "ذكر مسلم في هذا الباب الأحاديث الواردة في النهي عن المدح، وقد جاءت أحاديث كثيرة في الصحيحين بالمدح في الوجه، قال العلماء: وطريق الجمع بينها أن النهي محمول على المجازفة في المدح والزيادة في الأوصاف أو على من يخاف عليه فتنة من إعجاب ونحوه إذا سمع المدح، وأما من لا يخاف عليه لكمال تقواه ورسوخ عقله ومعرفته فلا نهي في مدحه في وجهه إذا لم يكن فيه مجازفة، بل إن كان يحصل بذلك مصلحة كنشطه للخير والازدياد منه أو الدوام عليه أو الاقتداء به كان مستحبًا والله أعلم" اهـ. شرح صحيح مسلم للنووي (18/126).
(2) …رواه ابن ماجه في الأدب رقم (3743)، ورواه أحمد في المسند (4/92، 93، 99) ـ ضمن حديث ـ، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير رقم (2674).(1/114)
ولقد ورد عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - المدح والثناء على أفعال بعض أصحابه على سبيل التشجيع كما في حديث الرجل من الأنصار الذي قال فيه: ((من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده...)) الحديث(1)، وقال لأشج عبد القيس في وجهه: ((إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة))(2)، وقال أيضًا في مدح أصحابه: ((أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم في دين الله عمر، وأصدقهم حياء عثمان، وأقرؤهم لكتاب الله أبيّ بن كعب، وأفرضهم زيد بن ثابت، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، ولكل أمة أمين، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح))(3).
فمدح - صلى الله عليه وسلم - كلاً منهم بالصفة التي تميزه) (4).
فإن قال قائل: ولكن هناك فرقًا بيننا وبين الصحابة ينبغي اعتباره.
__________
(1) …رواه مسلم في الزكاة رقم (1017)، والنسائي في الزكاة (5/75، 76)، وأحمد في المسند (4/357، 359، 360، 361)، والبغوي في شرح السنة رقم (1661).
(2) …رواه مسلم في الإيمان رقم (17)، والترمذي في البر والصلة رقم (2011) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما وليس في رواية الترمذي قصة قدوم وفد عبد القيس التي ذكرها مسلم.
…وروى مسلم في الإيمان رقم (18)، وأحمد في المسند (3/22، 23) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، ورواه أبو داود في الأدب رقم (5225) من حديث زارع وهو أحد وفد عبد القيس. ورواه الإمام أحمد (4/206، 207) من حديث بعض وفد عبد القيس ولم يسمه.
(3) …رواه الإمام أحمد (3/183، 281)، والترمذي في المناقب رقم (3790، 3791)، وابن ماجه في المقدمة رقم (154) وزاد في روايته ((وأقضاهم علي بن أبي طالب))، وأبو نعيم في الحلية (3/122)، وبنحوه الطيالسي في مسنده (9/281) رقم (2096)، والبغوي في شرح السنة (14/131، 132)، وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم (895)، وسلسلة الأحاديث الصحيحة رقم (1224)، وعزاه لمصادر أخرى انظرها فيها.
(4) …فن التعامل مع الناس ص49، 50.(1/115)
قيل: وكذلك هناك فرق بين مدح يصدر من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومدح يصدر ممن دونه.
وفي مختصر منهاج القاصدين فيما على الأخ لأخيه من الحقوق: (الحق الرابع: على اللسان بالنطق... فعليه أن يتودد إليه بلسانه، ويتفقده في أحواله، ويسأل عما عرض له، ويظهر شغل قلبه بسببه، ويبدي السرور بما يسر به . .. ومن ذلك أن يثني عليه بما يعرفه من محاسن أحواله عند من يؤثر الثناء عنده، وكذلك الثناء على أولاده وأهله وأفعاله حتى في خلقه وعقله وهيئته وخطه وتصنيفه وجميع ما يفرح به من غير إفراط ولا كذب.
وكذلك ينبغي أن تبلغه ثناء من أثنى عليه مع إظهار الفرح به، فإن إخفاء ذلك محض الحسد، ومن ذلك أن تشكره على صنيعه في حقك، وأن تذب عنه في غيبته إذا قُصِد بسوء، فحق الأخوة التشمير في الحماية والنصرة، وفي الحديث الصحيح: ((المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه))(1)، ومتى أهمل الذب عن عرضه يكون قد أسلمه، ولك في ذلك معياران:
أحدهما: أن تقدر أن الذي قيل فيه قد قيل فيك وهو حاضر، فتقول ما تحب أن يقوله.
الثاني: أن تقدر أنه حاضر وراء جدار يتسمع عليك، فما تحرك في قلبك من نصرته في حضوره ينبغي أن يتحرك في غيبته، ومن لم يكن مخلصًا في إخائه فهو منافق... ومن الوفاء أن لا يسمع بلاغات الناس على صديقه ولا يصادق عدو صديقه(2))(3).
فقوة الأخوة وتمامها مراعاة الظاهر والباطن في العلاقة، فإذا أحسن الأخ إظهار المحبة وانضم إلى ذلك قوة المحبة في الباطن والقيام بمقتضياتها في الخفاء فقد قام الأخ بالحقوق كلها.
__________
(1) …سبق تخريجه ص29.
(2) …وليس المراد أن يعادي عدو صديقه ولكن لا يجمع بين صداقة وصحبة أو أخوة خاصة مع الصديق ومع عدو الصديق، بل عليه أن يختار أحدهما للأخوة الخاصة مع بقاء إخوة الإسلام العامة والمحبة العامة للجميع ـ ما لم يوجد سبب شرعي للعداوة والكراهية.
(3) …مختصر منهاج القاصدين ص98ـ 100.(1/116)
ومن الأمور التي تدل على المحبة أو تستجلبها أن تقابل أخاك بالتبسم والبشاشة كما قال - صلى الله عليه وسلم -: ((وتبسمك في وجه أخيك صدقة)) وقد سبق الحديث(1).
ومن ذلك الفرح بلقائه، والمسارعة إلى تبشيره بما يسره، وتهنئته بما يصيبه من خير، وتعزيته والتخفيف عنه فيما يصيبه من مصيبة أو سوء...
وفي حديث توبة كعب أن طلحة بن عبيد الله قام إليه مهرولاً من بين الناس حين قدم وقد آذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الناس بتوبة الله عليه، فكان كعب لا ينساها لطلحة(2).
ففيه استحباب التهنئة وإظهار الفرح بما يسر الصاحب وأن ذلك يترك أثرًا طيبًا في نفسه، وفي حديث توبة كعب أيضًا أن رجلاً ركض إليه على فرس ليبشره بتوبة الله عليه، وآخر صرخ بصوته أعلى الجبل يبشره فكان الصوت أسبق إليه، ولما وصل إليه ذلك الرجل الذي خرج على فرسه خلع كعب قميصه وكساه إياه(3) فرحًا بالبشرى وسرورًا بفعله مما يدل على حسن تأثير التبشير بالخير في قلب الصاحب.
ومما يستجلب المحبة ويصفي الود إفشاء السلام وأن تكون أنت البادئ بالسلام، وأن توسع له في المجلس وتؤثر جلوسه إلى جوارك، وأن تناديه بأحب أسمائه إليه، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم)) وقد سبق الحديث(4).
وسبق قول عمر رضي الله عنه: إن مما يصفي لك ود أخيك ثلاثًا: إذا لقيته أن تبدأه بالسلام، وأن تدعوه بأحب أسمائه إليه، وأن توسع له في المجلس.
__________
(1) …انظر ص57.
(2) …ورد هذا في حديث كعب بن مالك رضي الله عنه في غزوة تبوك: رواه البخاري في المغازي رقم (4418)، ومسلم في التوبة رقم (2769) وغيرهما.
(3) …السابق.
(4) …سبق تخريجه ص57.(1/117)
ومما ينمي المحبة ويؤكدها أن تعزز الثقة بينك وبين أخيك؛ فاجعله يثق بمكانته عندك ومحبتك له، وأشعره أيضًا بثقتك فيه وأنك تعلم مدى محبته لك... وقد سبق في الحديث الأمر بالإعلام بالمحبة وهذا من تعزيز الثقة بينك وبينه... قال اليزيدي: رأيت الخليل بن أحمد فوجدته قاعدًا على طِنْفِسةٍ(1) فأوسع لي فكرهت التضييق عليه فقال: إنه لا يضيق سم الخياط على متحابين ولا تسع الدنيا متباغضين(2).
فهذا فيه إشعاره بمحبتك له، ومما فيه إشعاره بثقتك في محبته لك وقيامه بحق الإخاء ما روي عن محمد بن سليمان أنه قال لابن السماك: بلغني عنك شيء، فقال: لست أبالي. قال: ولِمَ؟ قال: إن كان حقًا غفرته، وإن كان باطلاً رددته(3).
وقال بعضهم: إنا إذا وثقنا بمحبة أخينا لا يضره ألا يأتينا(4). ونحوه ما سبق من قول الإمام أحمد لأبي عبيد الله بن سلام لما قال له: يا أبا عبد الله، لو كنت آتيك على قدر ما تستحق لأتيتك كل يوم. فقال أحمد: لا تقل هذا؛ إن لي إخوانًا لا ألقاهم إلا كل سنة مرة أنا أوثق بمودتهم ممن ألقى كل يوم(5).
وكتب أحدهم إلى صديقه: أما بعد فإن كان إخوان الثقة كثيرًا فأنت أولهم، وإن كانوا قليلاً فأنت أوثقهم، وإن كانوا واحدًا فأنت هو(6). فتأمل مثل هذا الكلام وسابقه ومدى ما فيه من تعبير عن المحبة وتأكيد لها...
__________
(1) …الطنفسة: البساط الذي له خمل رقيق.
(2) …عيون الأخبار لابن قتيبة (3/16)، وجرى نحو هذه القصة للزيادي مع العتابي كما في العزلة للخطابي ص59، وذكر أبو حيان في الصداقة والصديق نحوها بين الأصمعي والخليل وفيها قول الخليل: مه فإن الدنيا بأسرها لا تسع متباغضين، وإن شبرًا في شبر يسع متحابين. المختار من الصداقة والصديق ص70.
(3) …الصداقة والصديق ص66.
(4) …انظر ص104.
(5) …انظر ص105.
(6) …الصداقة والصديق ص41.(1/118)
وكتب ابن أكمل إلى ابن سورين، وكان بينهما ود متوارث: إن رأيت أن تردي ظمأ أخيك بغرتك، وتبرد غليله بطلعتك، وتؤنس وحشته بأنس قربك، وتجلو غشاء ناظره بوجهك، وتزين مجلسه بجمال حضورك، وتجعل غداءك عنده في منزلك الذي هو فيه ساكنك، وتهب له السرور بك باقي يومه، مؤثرًا له على شغلك فعلت إن شاء الله.
فأجابه: كيف أروي ظمأك إليَّ مني، وأنا أشد ظمأ إليك منك إليَّ، وعلى حيلولة ذاك فالتلاقي أبرد لغليل النفس، وأجلب لما شرد من الأنس، وها أنا قد هيّاتُ كلِّي لطاعتك، وبشرت روحي بالاستمتاع بحديثك،... والسلام(1).
ولا يجيد تعزيز الثقة إلا المتواضعون... أصحاب القلوب الصافية الذين يحقرون أنفسهم ويرون الفضل دائمًا لإخوانهم... وانظر إلى هذين الأخوين المتواضعين وكل منهما يعزز الثقة بينه وبين صاحبه، فقد روي أنه التقى أخوان في الله، فقال أحدهما لصاحبه: والله يا أخي إني لأحبك في الله، فقال له الآخر: لو علمت مني ما أعلمه من نفسي لأبغضتني في الله، فقال: والله يا أخي لو علمتُ منك ما تعلمه من نفسك لمنعني من بغضك ما أعلمه من نفسي(2).
فمثل هذه العبارات ونحوها مما فيه إظهار المحبة والتفنن في التعبير عنها بالأقوال أو الأفعال الظاهرة له أثر في تقوية العلاقة بين الصاحبين وذلك كما سبق، بالإضافة إلى قوة المحبة في الباطن وما استقر منها في القلب، والقيام بمقتضياتها في الخفاء ومنه الدفاع والذب عنه في غيبته وقد سبق، ومنه أن تدعو له بظهر الغيب.
__________
(1) …المختار من رسالة الصداقة والصديق ص112.
(2) …الصداقة والصديق ص41.(1/119)
وقد سبق ما رواه مسلم في صحيحه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((دعوة المرء المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة، عند رأسه ملك موكل، كلما دعا لأخيه بخير قال الملك الموكل به: آمين ولك بمثل))، وكان أبو الدرداء رضي الله عنه يدعو لخلق كثير من إخوانه يسميهم بأسمائهم(1)، وكان أحمد بن حنبل رحمه الله يدعو في السحر لستة نفر(2)، وقال يحيى بن معاذ: بئس الصديق من تحتاج أن تقول له: اذكرني في دعائك، وأن تعيش معه بالمداراة، أو تحتاج أن تعتذر له.
ولا ينبغي أن ينقطع هذا الدعاء بعد موته، فذلك من تمام المحبة والإخلاص فيها والوفاء للصاحب.
- - -
المفسدة السابعة عشرة
التلهِّي عنه بغيره وقلّة الوفَاء
فـ(من سوء أخلاق الصداقة أنك حين تتعرف على صديق جديد لا تعرف نفسه ونفسيته تترك الذي أمضى معك عمرًا وحيدًا، حتى يصل تركك له درجة الإهمال فتكون عاقبتكما الانفصال)(3).
والحقيقة التي ينبغي أن يعلمها ذلك الصديق الذي يترك صديقه القديم الذي لم ير منه إلا خيرًا إذا عرفت صديقًا جديدًا هي ما قاله بعضهم: من لم يقُم على مودة الصديق القديم لم يقم على مودة الصديق الجديد(4).
ومن أسباب صدمة صديقك فيك أن يكون باذلاً وسعه في قربك وبرك وإيثارك على من سواك ثم لا يجد منك وفاء ولا تقديرًا...
وصلتكم جهدي وزدتُ على جهْدِ
لم أر فيكم من يدوم على العَهْد
?
وكم يكتوي الصاحب بهذا اللؤم وذلك البرود، وكم يتألم قلبه وهو يرى صاحبه قد تعالى عليه وأهمله بعد أن قدم له كل ما يستطيع وبذل كل جهد في صلته والتقرب إليه... قال بعضهم معبرًا عن هذه الحالة المؤلمة الكئيبة:
كان لنا صاحبٌ فبانا
تاهَ علينَا وتاه منَّ
حاد عن وصْلنا وخانا
فما نراه وما يرَانَا
?
__________
(1) …مختصر منهاج القاصدين ص99.
(2) …مختصر منهاج القاصدين ص99.
(3) …الصداقة والصديق ص17.
(4) …الصداقة والصديق ص18.(1/120)
ومما يلحق بالوفاء للصاحب الدعاء له بظهر الغيب وبعد موته ـ كما سبق ـ وإكرام من يحبه وتفقد عياله بعد موته، وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يكرم صواحب خديجة رضي الله عنها بعد موتها(1)، وجعل من بر الوالدين إكرام صديقهما من بعدهما(2)، وهذا كله من الوفاء.
__________
(1) …ومن ذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يذبح الشاة فيهدي لصدائق خديجة رضي الله عنها ما يسعهن. ورد هذا عند البخاري في فضائل أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - رقم (3816، 3818) وفي مواضع أخرى, وعند مسلم في فضائل الصحابة رقم (2435)، والترمذي في المناقب رقم (3875).
(2) …روى مسلم في البر والصلة رقم (2552) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إن أبر البر صلة الولد أهل ودِّ أبيه)) ورواه أبو داود في الأدب رقم (5143)، والترمذي في البر والصلة رقم (1903)، وأحمد (2/88، 91، 97، 111)، والبخاري في الأدب المفرد رقم (41)، وفي رواية مسلم وأحمد قصة لطيفة لابن عمر مع رجل كان أبوه صديقًا لعمر رضي الله عنه فانظرها.(1/121)
وفي مختصر منهاج القاصدين: (وقد أكرم النبي - صلى الله عليه وسلم - عجوزًا، وقال: ((إنها كانت تغشانا في أيام خديجة، وإن حسن العهد من الإيمان))(1)، ومن الوفاء أن لا يتغير على أخيه في التواضع وإن ارتفع شأنه واتسعت ولايته وعظم جاهه)(2).
ومما يغم الصاحب أن تشعره أن لديك من هم أهم منه وأحب إليك من أهل أو أصدقاء وإخوان، فإن هذا مما لا فائدة فيه، وإنما يوحش قلب الصديق ويشعره بنوع من الحقارة والهوان، وربما أدرك الصديق ذلك دون أن تصرح له، ولكن في هذه الحالة يكون الأمر أخف على نفسه من أن تستهين بمشاعره وتصدمه في عواطفه لا سيما إذا كان يعدك أحب الناس إليه.
__________
(1) …رواه الحاكم في مستدركه (1/16) من حديث ابن أبي مليكة عن عائشة رضي الله عنها قالت: جاءت عجوز إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو عندي فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من أنت؟)) قالت: أنا جثامة المزينة فقال: ((بل أنت حسانة المزنية، كيف أنتم، كيف حالكم، كيف كنتم بعدنا؟)) قالت: بخير بأبي أنت وأمي يا رسول الله. فلما خرجت قلت: يا رسول الله تقبل على هذه العجوز هذا الإقبال؟ فقال: ((إنها كانت تأتينا زمن خديجة، وإن حسن العهد من الإيمان)) وصححه الحاكم على شرط الشيخين ووافقه الذهبي ورمز السيوطي لصحته في الجامع الصغير رقم (2264ـ فيض القدير) وأقره المناوي، وحسنه الشيخ الألباني حفظه الله في صحيح الجامع الصغير رقم (2056).
…وأورده في السلسلة الصحيحة رقم (216) وزاد نسبته لـ(ابن الأعرابي في معجمه (ق57/2) وعنه القضاعي في مسنده الشهاب (ق82/1)...) وصححه وراجع كلامه إن شئت.
(2) …مختصر منهاج القاصدين ص99.(1/122)
والداعية الناجح والمحب الصادق ينبغي أن يكون له في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسوة حسنة في قربه لأصحابه وتقريبهم له وإشعاره كل واحد منهم أنه الأثير عنده القريب إليه، ومن ذلك: إردافه معاذًا على الدابة(1)، ومماشاته لأبي ذر في الليل(2)، وثناؤه على أشج عبد القيس(3) وعلى كثير من أصحابه...إلخ، مع أنه متقرر في الواقع عندهم جميعًا وبكلامه - صلى الله عليه وسلم - أن أبا بكر أحب الرجال إليه وأقربهم منه(4)، لكن لم يقل لفرد بعينه: فلان أحب إليَّ منك أو أهم... إلخ؛ لأن ذلك لا يتفق وحسن خلقه - صلى الله عليه وسلم - وأدبه العظيم الجم.
- - -
المفسدة الثامنة عشرة
الحِرْصُ على إظهار الذّات أو الوجَاهة أمام بعض المدعوين
وحب التسلط أو الهَيْمَنَة على المدعو
__________
(1) …رواه البخاري في الجهاد رقم (2856)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في الإيمان رقم (30)، وأبو داود في الجهاد رقم (2559) من حديث معاذ رضي الله عنه.
(2) …روى البخاري في الرقاق رقم (6443)، ومسلم في الزكاة رقم (94)، وأحمد في المسند (5/152) عن أبي ذر رضي الله عنه قال: خرجت ليلة من الليالي فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمشي وحده وليس معه إنسان، قال: فظننت أنه يكره أن يمشي معه أحد، قال: فجعلت أمشي في ظلم القمر فالتفت فرآني فقال: ((من هذا؟)) قلت: أبو ذر جعلني الله فداءك. قال: ((يا أبا ذر، تعال)) قال: فمشيت معه ساعة... الحدث.
(3) …سبق تخريجه ص148.
(4) …عن أبي عثمان قال: حدثني عمرو بن العاص رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعثه على جيش ذات السلاسل فأتيته فقلت: أي الناس أحب إليك؟ قال: ((عائشة)) فقلت: من الرجال؟ قال: ((أبوها))، قلت: ثم من؟ قال: ((ثم عمر بن الخطاب)) فعدّ رجالاً. رواه البخاري في فضائل الصحابة رقم (3662، 4358) واللفظ له، ورواه مسلم في فضائل الصحابة أيضًا رقم (2384)، والترمذي في المناقب رقم (3885).(1/123)
واتخاذ الصَّاحب قنطرة لتحقيق ذلك
فقد يحرص بعضهم على أن يلفت نظر أقرانه إلى أنه صديق للعالم أو الداعية المشهور فلان، وأنه يلقاه ويدخل بيته ونحو ذلك، وقد يتعمد في حضوره أن يتصرف بعض التصرفات أمام أقرانه التي يظهر من خلالها أنه أقرب إليه منهم... إلى غير ذلك مما يكرهه ذلك العالم أو الداعية لما فيه من إيقاع الغيرة عند بقية الأقران أو إيقاع الوحشة بينهم وبين ذلك الداعية أو العالم... ومن ثم يلجأ ذلك العالم أو الداعية إلى الحرص في علاقته بذلك المتباهي وتحجيم هذه العلاقة معه دفعًا لبعض المفاسد فيتقلص ما بينهما من الصداقة.
وللحرص على إظهار الذات أو الوجاهة أمام بعض المدعوين صورة أخرى؛ حيث قد يدفع ذلك الحرص الشخص لبعض التصرفات المفسدة للأخوة من أجل تحقيق غرضه، كأن يعامل أخاه وصديقه أمام بعض المدعوين بما يدل على أنه فوقه في المكانة والمنزلة كأن يمزح معه مزاحًا يصغره أو يكلمه بلهجة الآمر، المكلِّف، إلى غير ذلك مما يستظرف أو يتعالى به أمام المدعو.
كذلك قد يؤدي الحرص على إظهار النفس أمام المدعو إلى طلب التعظيم من الإخوان أمامه، فيغضب إذا لم يعظمه صاحبه بصورة أو بأخرى أمام الآخرين... وهكذا.
أما إذا لم يكن الإنسان حريصًا على جاه ولا باحثًا عن ظهور فسيكون بعيدًا عن هذه المشاعر والتصرفات التي تعكر صفو الأخوة أو الصحبة.
كذا قد يؤدي حب التسلط والهيمنة على المدعو أو قل: حب امتلاك المدعو للنفس لا دعوته إلى الله ـ إلى الغيرة الشديدة إذا أحس أن أخًا له في الله تربطه كذلك علاقة بنفس المدعو أو معاملة أو تهادي أو مراسلة أو تزاور أو غير ذلك، ثم لا تلبث الغيرة أن تتحول إلى فساد في العلاقة بينه وبين أخيه، وربما حلت الكراهية محل المحبة.
ولو كان الداعي يدعو لله لا لنفسه ولا لشخصه لخفت حدة هذه المشاعر وما صارت الأمور العادية مشكلة أو كارثة.(1/124)
ومن الحرص على إظهار الذات أو الوجاهة المفسد للأخوة أن ينسب أحد الصاحبين ـ أمام الآخرين ـ الفضل أو النجاح لنفسه في قضية مشتركة بينه وبين صاحبه أو بينه وبين أصحابه، مما يغير قلوبهم منه لاسيما إذا ألقى التبعة في حالة حدوث فشل أو خطأ على الآخرين من إخوانه أو سل نفسه من بينهم فنفى أن يكون له أدنى علاقة بحدوث مثل ذلك الخطأ أو الفشل...
(فلا شك أن مثل هذا الشخص سيكون منبوذًا مبغوضًا من إخوانه ومن الناس جميعًا، فالناس يكرهون من ينسب الفضل إلى نفسه دائمًا والفشل إلى غيره... ومثل هذا الشخص لا يمكن أن يكون ذا وجاهة حقيقية أو قيادة أو في مكان إدارة أو توجيه؛ لأن القائد أو الرئيس بحق من يُسأل عند الفشل وليس الذي ينسب النجاح لنفسه، وإذا أردت أن تعرف من هو الرئيس في أي مؤسسة دعوية أو تجارية أو اقتصادية... إلخ، فاسأل: من الذي يكون مسئولاً عند الفشل؟
والعبد المخلص يسعده أن يأخذ الناس بأفكاره أو ينتفعون بعلمه ولو لم ينسب إليه شيء من ذلك، وهو يحب العمل لا الحديث عن ذاته.
ورحم الله الشافعي إذ يقول: وددت أن الخلق يتعلمون هذا العلم ولا ينسب إليّ منه شيء(1).
وقال سيد قطب رحمه الله في رسالته التي أرسلها لأخته: (التجار وحدهم هم الذين يحرصون على العلامات التجارية لبضائعهم حينما يستغلها الآخرون ويسلبونهم حقهم من الربح، أما المفكرون وأصحاب العقائد فكل سعادتهم أن يتقاسم الناس أفكارهم وعقائدهم ويؤمنوا بها إلى حد أن ينسبوها إلى أنفسهم لا إلى أصحابها الأولين. ولذلك يجب على المرء أن يحرص على أن يدع الناس يشعرون أن الفكرة فكرتهم ويتبنونها هم كي يتحمسوا لها ويعملوا بها)(2).
- - -
المفسدة التاسعة عشرة
إخلافُ المواعيد والاتفاقات دون عذرٍ ضروري
__________
(1) …حلية الأولياء (9/118)، سير أعلام النبلاء (10/29).
(2) …مستفاد من فن التعامل مع الناس ص36، 37 مع تصرف وزيادة إضافة قول الشافعي رحمه الله.(1/125)
فإن هذا يرسخ في نفس أخيك عدم اهتمامك به؛ لأن إخلاف الموعد أو الاتفاق معناه أن من أخلف قد ترك الأقل أهمية إلى الأكثر أهمية وحسبك بهذا كسرًا لنفس أخيك، وإفسادًا للمحبة والعلاقة الأخوية.
فكيف وقد أمر المسلم بالوفاء بالعهود والوعود ونهي عن إخلافها وعدَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إخلافها من آيات النفاق فقال: ((آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان))(1)...
وحقًا لو التزمنا الآداب الشرعية والسلوكيات الإسلامية في كل حياتنا لطابت وقويت علاقتنا، ودامت ألفتنا ومحبتنا.
- - -
المفسدة العشرون
كثرة تحديثك له بما يغمّه ونقْلِك إليه ما يسوؤه
فمن أسباب زوال الألفة أن تنقل لصاحبك ما يسوؤه ولا ينتفع بمعرفته، وأن تكتم عنه ما يستضر بكتمه.
قال ابن حزم رحمه الله: لا تنقل إلى صديقك ما يؤلم لنفسه ولا ينتفع بمعرفته، فهذا فعل الأراذل، ولا تكتمه ما يستضر بجهله فهذا فعل أهل الشر.
وعن يحيى بن معاذ رحمه الله قال: ليكن حظ المؤمن منك ثلاثة: إن لم تنفعه فلا تضره، وإن لم تفرحه فلا تغمه، وإن لم تمدحه فلا تذمه.
- - -
المفسدة الحادية والعشرون
الإفْرَاط في المَحَبَّةِ
__________
(1) …رواه البخاري في الإيمان رقم (33)، وفي الشهادات رقم (2682)، وفي الوصايا رقم (2749)، وفي الأدب رقم (6095)، ورواه مسلم في الإيمان رقم (59)، والترمذي في الإيمان رقم (2631)، والنسائي في الإيمان (8/117)، وأحمد في المسند (2/357)، والبغوي في شرح السنة رقم (35) (1/72) كلهم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.(1/126)
والمراد بذلك توقي الكَلفَ بالصاحب وشدة التعلق والولع به، وتحميل النفس فوق طاقتها في خدمته والتقرب إليه، وليس المراد الاقتصاد في رعاية حق الأخوة والمحبة، بل يلزم من القيام بحق الإخاء (بذل المجهود في النصح، والتناهي في رعاية ما بينهما من الحق، فليس في ذلك إفراط وإن تناهى، ولا مجاوزة حد وإن كثر وأوفى)(1).
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أحبب حبيبك هونًا ما عسى أن يكون بغيضك يومًا ما، وأبغض بغيضك هونًا ما عسى أن يكون حبيبك يومًا ما))(2).
وقال عمر رضي الله عنه: لا يكن حبك كَلَفًا، ولا بغضك تلفًا(3).
وقال أبو الأسود:
وأحببْ إذا أحببتَ حبًا مقاربًا
وأبغض إذا أبغضت غير مجان
إنك لا تَدْري متى أنتَ نازِعُ
فإنك لا تدري متى أنتَ راجعُ(4)
?
ولذا قال عدي بن زيد:
لا تأمنن مِنْ مُبْغِضٍ قربَ دارِ
لا مِنْ محبٍ أن يمل فيبعدا(5)
?
__________
(1) …أدب الدنيا والدين ص178.
(2) …رواه الترمذي في البر والصلة رقم (1997)، والسلمي في آداب الصحبة ص114، والخطيب في تاريخه (11/427، 428) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير رقم (178)، ورواه البخاري في الأدب المفرد رقم (1321) موقوفًا على عليّ رضي الله عنه، وحسنه لغيره موقوفًا الألباني في صحيح الأدب المفرد رقم (992) وقال: "وقد صح مرفوعًا" اهـ.
(3) …رواه البخاري في الأدب المفرد رقم (1322) وفيه: فقلتُ (القائل أسلم): كيف ذاك؟ قال: إذا أحببت كلفت كلف الصبي، وإذا أبغضت أحببت لصاحبك التلف، وصحح إسناده الألباني في صحيح الأدب المفرد رقم (993).
(4) …روضة العقلاء ص96، 97، وأدب الدنيا والدين ص178، وذكره العجلوني في كشف الخفاء (1/54) عن علي رضي الله عنه، والأمير أسامة بن منقذ في لباب الآداب ص25 ونسبها لهدبة بن الخشرم العذري.
(5) …أدب الدنيا والدين ص178.(1/127)
فينبغي للمحب أن يتوقى الإفراط في المحبة، (فإن الإفراط داعٍ إلى التقصير، ولئن تكون الحال بينهما متنامية أولى من أن تكون متناهية)(1).
ولكن احرص على أن تكون أكثر حبًا له من حبه لك لتظفر بالفضل عند الله عز وجل لقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: ((ما تواد اثنان في الله تعالى إلا كان أفضلَهما أكثرهما حبًا لصاحبه))(2).
- - -
الخاتمة
لما كانت مفسدات الأخوة كثيرة، والمحبة الصادقة تحتاج إلى تشمير، كثرت الأقوال في تعريف الصديق(3)، وتعددت عبارات البلغاء والأدباء والحكماء في صفته، وحار بعضهم، وتشاءم بعضهم حتى نفى وجوده... وهذا وإن لم يسلّم إلا أنه دال على عظم الأمر...
قال بعضهم:
علامَة الصديق
محبة بلا غَرَض
فهي بلا اشتِبَا
ند أولي التحْقِيقِ
والصدقُ فيها مفتَرَض
محبَّة في الله
?
وأجمل ما في هذه الكلمات أنها عرّفت أسمى أنواع الصداقة، وذلك أنها جعلت الصداقة هي الأخوة الإيمانية أو المحبة الإيمانية التي يصون الإسلام فيها الصداقة عن الغرض ويجعلها خالصة لله.
وقال الكندي: الصديق إنسان هو أنت إلا أنه غيرك(4).
وذكر بعض الشعراء اختلاف الناس في وصف الصديق أو تعريفه فقال:
قالوا: الصديقُ من صدَق
وقيل: مَن لا يَطْعَنَا
وقيل: لفظٌ لا يُر
ي وده وما مذق
في قوله أنت أنا
معناه في هذا الوَرى
?
ومثل هذا الأخير قول بعضهم: الصديق لفظ بلا معنى.
وقال آخر: الصديق اسم على غير جنس.
وقيل لبعضهم: دلوني على رجل أسكن إليه في الرخاء والشدة، فقالوا: تلك ضالة لا توجد.
__________
(1) …أدب الدنيا والدين ص177.
(2) …انظر ص12.
(3) …قال أبو حيان: قلت للأندلسي: مم أخذ لفظ الصديق؟ قال: أخذ من الصِّدق، وهو خلاف الكذب، ومرة قال: من الصَّدْق؛ لأنه يقال: رمح صَدْق أي صلب، وعلى الوجهين، الصديق يصدق إذا قال ويكون صَدقًا إذا عمل. المختار من رسالة الصداقة والصديق ص61.
(4) …انظر ص16.(1/128)
وقيل لأعرابي: كيف أنسك بالصديق؟ قال: وأين الصديق؟ بل أين الشبيه به؟ بل أين الشبيه بالشبيه بالصديق.
وقال بعضهم:
سمِعْنا بالصديقِ ولا نراهُ
وأحسِبُه محالاً أوردو
لى الأيام يوجَدُ في الأنام
على وجْهِ المجازِ من الكلام
?
ولهذا آثر بعضهم العزلة والانفراد... وحذر بعضهم من الأصدقاء، وذم بعضهم الاستكثار من الأصحاب.
قال أحدهم:
احذر عدوك مرة
فلربما انقلب الصديق
احذر صديقك ألف مرة
فكان أعلم بالمضرَّة(1)
?
وقال آخر:
عدوك من صديقك مستفاد
فإن الداء أكثر ما ترا
لا تستكثرن من الصحاب
يكون من الطعام أو الشراب(2)
?
والذي دفعهم إلى ذلك كما يبدو في ثنايا كلامهم تجارب مروا بها صدموا فيها بأصدقائهم... ومع تعدد هذه التجارب جزموا بأن الصديق لا يوجد.
وقديمًا قال لبيد:
ذهب الذين يعاش في أكنافه
بقيت في خلف كجلد الأجرب(3)
?
وللبستي:
لقاء أكثر من زاروك أوزار
لا تبال أغابوا عنك أو زاروا
?
وقال آخر:
ذهب الرجال المقتدى بفعالهم
وبقيت في خلف يزيّدُ بعضه
المنكرون لكل أمر منكر
بعضًا ليدفع مُعور عن معور
?
وقال علم الهدى:
ذهب الذين إذا أتيت إليهم
وبقيت في قوم لئام دأبه
سنًا أتوك بمثله أو أحسنا
كفران نعمة منعم إن أحسنا
?
وقال أحدهم: لولا مخافة الوسواس لجلست في أرض ليس فيها ناس(4).
وقيل لأحدهم: لم لا تتخذ الأصدقاء؟ قال: حتى أتفرغ من الأعداء، وأطلب صديقًا من الجن فإنه قد أعوزني في الإنس(5).
وكتب شيخ من أهل الري على باب داره: جزى الله عنا من لا نعرفه ولا يعرفنا خيرًا، وأما أصدقاؤنا الخاصة فلا جزاهم الله خيرًا فإنا لم نؤت إلا منهم(6).
وقال بعضهم: انفرد ولا تكثر من الإخوان، لا يؤذيك إلا من تعرفه، وأنشد يقول:
__________
(1) …بهجة المجالس (5/696).
(2) …العزلة للخطابي ص58، أدب الدنيا والدين ص171.
(3) …العزلة للخطابي ص91.
(4) …الصداقة والصديق ص93 ونسبه لعليّ رضي الله عنه.
(5) …الصداقة والصديق ص101.
(6) …بهجة المجالس (2/673).(1/129)
جزى الله عنا الخيرَ من ليس بينَنَا
فما سامنَا ضيْمًا ولا شفنا أذ
لا بينَه ود به نتعرف
مِنَ الناسِ إلا من نود ونألف(1)
?
وقد سبق وصف بعضهم للصديق الذي يضر قربه فقال: هو الذي إذا قرب توصل بصداقته إلى معرفة الأسرار، وعلم الأخبار، ثم تحفظ الزلل، والتقط الخلل، وأحصى الفلتات، وعد الهفوات، وراعى عثرات الألسن، وبوادر القول والعمل عند الغضب والرضا وفي أوقات الاسترسال التي لا يخلو الإنسان فيها من إغفال، ثم جعل ذلك سلاحًا معدًا يحمله على صديقه وقت العداوة(2).
فهذا أشد ما يصدم الصديق في صديقه، أن يفشي ما يعلمه من أسراره ومن خفي أحواله التي اطلع عليها بحكم الصداقة.
ولذلك جعل بعضهم إفشاء الأسرار من الخطوط الحمراء التي ينبغي أن تنتهي عندها الصداقة فورًا، وقد سبق في ذلك قول بعضهم:
إذا ما المرء أخطأه ثلاثٌ
سلامَةُ صدره، والصدق منه
َبعْه ولو بكفَّ مِن رَمَادِ
وكتمانُ السرائرِ في الفُؤاد
?
وبعضهم حيّره من صديقه وآلمه منه تصرفاته المتناقضة المتلونة، فقال:
أرى فِيكَ أخلاقًا حسانًا قبيحةً
قريبٌ بعيدٌ أبلهُ ذو فطانة
كذاك لساني شاتم لك مادح
تلونتَ حتى لستُ أدري من العمى
ولستُ بذي غشَّ ولستُ بناصح
أنتَ صديق كالذي أنا واصف
سخي بخيل مستقيم مخالف
كما أن قلبي جاهل بك عارف
أريحُ جنوبٍ أنت أم أنت عاصِف
وإني لمن جَهْلٍ بشأنك واقف
?
وبعضهم صدمه في أصدقائه الغدر وعدم الوفاء.
قال أحدهم:
ألا إن إخواني الذين اتخذتهم
ظننتُ بهم خيرًا فلما بلوتُهُ
فاعي رمالٍ ما تقصر في لَسْعي
حللتُ بواد منهم غير ذي زرع
?
وقال آخر:
أما الوفاء فشيء قد سمعتُ به
فلا أطالبُ مخْلوقًا به أبدًا
ومن توهم في الدنيا أخا ثِقَة
ما وجدتُ له رسمًا ولا أثرا
__________
(1) …الصداقة والصديق ص95، وذكره في موضع آخر ص10 بلفظ: إياك وكُرْهَ الإخوان؛ فإنه لا يؤذيك إلا من تعرف...إلخ، وفي منهاج العابدين للغزالي ـ بنحوه ـ ص47.
(2) …انظر ص109.(1/130)
ألوم على غدرٍ أخًا غَدَرَا
فإنه بشر لا يعرفُ البشرا
?
وقال ثالث:
وعشْ إما قرينُ أخٍ وفيً
مينِ الغيبِ أو عيْشَ الوحَادي
?
وكتب بعضهم: سلكت القفار, وطفت الديار، وركبت البحار، ورأيت الآثار، وسافرت البلاد، وعاشرت العباد، فلم أجد صديقًا صادقًا، ولا رفيقًا موافقًا، فمن قرأ هذا الخط، فلا يغتر بأحد قط(1).
ولا شك أن هذه النتائج التي وصل إليها هؤلاء وإن كانت غير متفق عليها إلا أنها تدل على ما وصل إليه هؤلاء من حالة نفسية بسبب أخطاء أصدقائهم، وتؤكد خطورة التهاون بحقوق الصداقة وضرورة معرفة مفسدات الأخوة واتقائها...
ولك أن تتصور مدى تلك الحالة النفسية الأليمة إذا علمت أن بعضهم تكونت في نفوسهم عقدة من شيء اسمه صاحب أو صديق، وكان أصحابهم سببًا في تحطيمهم، وبعضهم ابتعد عن الناس مؤثرًا أن يعيش بلا صاحب، وأن يعيش بلا ناس، ووجد في ذلك الأنس والراحة...
أنشد أبو القاسم الوزير:
أنِست بوحْدتي حتى لو أني
ولم تدعِ التجاربُ لي صديقًا
وما ظَفِرَتْ يَدِي بصديقِ صدق
أيتُ الإنسَ لاستوحشتُ منه
أمِيلُ إليه إلا ملْتُ عنه
أخافُ عليه إلا خفْتُ منه
?
وبقدر ما يكون حسن ظن الصديق بأصدقائه، واجتهاده في القيام بحقوقهم، وإخلاصه في محبتهم، وتضحيته من أجلهم بقدر ما تكون صدمته حين يكتشف أنهم لا يستحقون ذلك... ولا يرى حلاً إلا الانفراد...
دخل سفيان على رجل من أهل العلم والصلاح قد اعتزل الناس، فقال له سفيان: تعتزل الناس، والناس محتاجون إليك؟ قال: يا سفيان، العزلة الدَّعَة، فسد الزمان، وتغيّر الإخوان، فرأيت الانفراد أسكن للفؤاد، ثم أنشد قائلاً:
لا تجزعنَّ لوحدةٍ وتفردٍ
ذهب الإخاءُ فليس ثَمَّ أخُوةٌ
فإذا كشفتَ ضميرَها بصدوره
من التفرد في زمانِك فازددِ
إلا التملّق باللسان وباليدِ
أبصرتَ ثَمَّ نقيع سُمَّ الأسودِ
?
__________
(1) …الصداقة والصديق ص103.(1/131)
وعوتب بعضهم لما اعتزل الناس، فقال: صحبت الناس أربعين سنة، فما رأيتهم غفروا لي ذنبًا، ولا ستروا لي عيبًا، ولا أقالوا لي عثرة، ولا جبروا مني كسرة، ولا بذلوا لي نصرة، ورأيت الشغل بهم تضييعًا للحياة، وتباعدًا من الله تعالى، وتجرعًا للغيظ مع الساعات، وتسليطًا للهوى في الهنات بعد الهنات(1).
وقيل لعروة بن الزبير لما اتخذ دارًا بعيدة من الخلق، لما تركت الناس؟ فقال: إن ألسنتهم لاغية، وأسماعهم صاغية، وقلوبهم لاهية، وأديانهم واهية، والفاحشة بينهم فاشية، فخفت عليهم من الداهية، فتنحيت عنهم ناحية، وصرت منهم في عافية(2).
وبعدما مضى من تلك الأقوال التي اختار أصحابها العزلة، وما طفح به كثير منها من التعبير عن الصدمة في الأصحاب وافتقاد الإخاء الصادق... هب أنك تعرضت لبعض المواقف التي صدمت فيها من بعض أحبابك حتى شعرت أنك ليس لك حبيب... فهل من شيء تقاوم به الأثر النفسي المؤلم الذي يحل بك؟
والجواب أنه لا يعوض الأنس بالإخوان والشعور بالقرب منهم إلا شيء أعظم من ذلك، ولا أعظم من ذلك إلا الأنس بالله والاستغناء به عن الخلق أجمعين، والتلذذ بمناجاته وبكلامه، والنصب في عبادته وذكره ودعائه...
قيل لبعضهم: أعندك شيء تستأنس به؟ فقال: نعم، مصحف، وأنشد يقول:
وكُتبي حولي لا تفارقُ مضجَع
فيها شفاءٌ للذي أنا كاتمُ
?
وقال بعضهم:
من عرف الله فلم تغنه
ما يصْنَعُ العبدُ بعز الغنى
ما ضرَّ ذا الطاعةِ ما نالَه
عرفةُ الله فذاكَ الشَّقي
والعز كل العز للمتقي
في طاعة الله وماذا لَقِي(3)
?
__________
(1) …الصداقة والصديق 95.
(2) …الصداقة والصديق 95، 96، وهو بنحوه في المختار من رسالة الصداقة والصديق لأبي حيان التوحيدي ص66.
(3) …منهاج العابدين ص71، 72.(1/132)
وإلى جانب هذا العلاج فهناك الوقاية ومنها أن لا تندفع سريعًا في حبك لأحد إلى حد بعيد في وقت قصير، بل ليكن حبك لأخيك متدرجًا يزيد مع الوقت ومرور الزمن، حتى يبقى دائمًا مجال لزيادة المحبة، وليكن في الطريق فرصة لمعرفة حال الصديق على حقيقته...
ورحم الله الخليفة العادل عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين شهد عنده رجل بشهادة فقال له: لست أعرفك ولا يضرك أن لا أعرفك ائت بمن يعرفك. فقال رجل من القوم: أنا أعرفه، قال: بأي شيء تعرفه؟ قال: بالعدالة والفضل، فقال: فهو جارك الأدنى الذي تعرفه ليله ونهاره ومدخله ومخرجه؟ قال: لا. قال: فمعاملك بالدينار والدرهم اللذين بهما يستدل على الورع؟ قال: لا. قال: فرفيقك في السفر الذي يستدل به على مكارم الأخلاق؟ قال: لا. قال: لست تعرفه، ثم قال للرجل: ائت بمن يعرفك(1).
لا تحمدنَّ امرأً حتى تجرّبه
فحمدك المرء ما لم تُبْلِه خط
لا تذمّنَّهُ من غير تجريب
وذمه بعد حمدٍ شرُّ تكذيب(2)
?
(ولذلك خذ بنصيحة الشاعر الذي قال:
لا يعُجِبنّك صاحب
ماذا يضنُّ به عليـ
أو ما الذي يقوي عليـ
وإذ الزمان رمى صفا
فهناك تعرفُ ما ارتف
تى تَبَيَّن ما طِبَاعُه
ــك، وما يجود به اتساعُه
ــه، وما يضيقُ به ذِرَاعُه
تِك بالحوادثِ، ما دِفَاعهْ
عُ هوى أخيك، وما اتضَاعه
?
وقال آخر:
لا تحمدنَّ على الإخاءِ مُؤاخِيً
تى تَبيَّن قدرَ نحوِ إخائه
?
وبعض الأصحاب قد تجد منه روح الإخاء والمودة والإيثار ما دام في زمن الصبا والمراهقة أو في مقتبل الشباب في فترة الدراسة والطلب، فإذا خرج إلى مجال الحياة الأصعب بما فيه من زوجة وولد وتنافس في الكسب وطلب الرزق تغير الحال تمامًا...
__________
(1) …رواه البيهقي في سننه كتاب آداب القاضي (10/125، 126)، وصححه الألباني في الإرواء رقم (2637) (8/26).
(2) …أدب الدنيا والدين ص167، 168.(1/133)
ومن ثم فخير لك أن تمنح نفسك فرصة كافية لمعرفة نفسك ومعرفة صاحبك على وجه الحقيقة، وليكن حبك له أثناء ذلك متدرجًا، فذلك خير من أن تصل لأعلى درجات المحبة له قبل أن تعرفه جيدًا، ثم تصدم بعد ذلك حين تكتشف أنه ليس في تلك الصورة المثالية التي رسمتها له، وهذا حال أكثر الخلق، ولذا قال المصطفى - صلى الله عليه وسلم -: ((أحبب حبيبك هونًا ما عسى أن يكون بغيضك يومًا ما، وأبغض بغيضك هونًا ما عسى أن يكون حبيبك يومًا ما))(1).
وحتى لو لم تصدم به ففي التأني في المحبة مصلحة أخرى، وذلك أن المحبة إذا وصلت من فورها لأعلى درجاتها لم يكن ثم مجال لزيادتها، فيخشى أن تكون معرضة للتناقص والفتور فـ(لكل شيء إذا ما تم نقصان)(2)، وكما قال عمر رضي الله عنه: ليس بعد الكمال والتمام إلا النقصان(3)
__________
(1) …سبق تخريجه قريبًا.
(2) …مطلع قصيدة لابي البقاء الرُّندي في رثاء الأندلس، وأولها:
لكل شيء إذا ما تم نقصان
فلا يغر بطيب العيش إنسان
…والقصيدة اثنان وأربعون بيتًا في نفح الطيب (6/234 وما بعدها)، والقصيدة لم تقل في رثاء الأندلس عند سقوطها النهائي، ولكنه نظمها قبل ذلك حينما سقطت القواعد الأندلسية الكبرى كقرطبة وبلنسية وإشبيلية ومرسية. انظر: مصرع غرناطة ص115.
(3) …روي ذلك عن عمر في تفسير آية المائدة { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } [المائدة: 3] رواه ابن جرير في تفسيره (9/519) رقم 011083) عن هارون بن عنترة عن أبيه قال: لما نزلت { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } وذلك يوم الحج الأكبر بكى عمر، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ما يبكيك؟)) قال: أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا فأما إذا كمل فإنه لم يكمل شيء إلا نقص! فقال: ((صدقت)) وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/258) وزاد في نسبته ابن أبي شيبة.
…وذكره ابن كثير في تفسيره (2/13) وقال: ويشهد لهذا المعنى الحديث الثابت ((إن الإسلام بدأ غريبًا وسيعود غريبًا فطوبى للغرباء)).(1/134)
، ولأن تكون الحال أو المحبة بينكما متنامية خير من أن تكون متناهية.
ومن الوقاية أن تعلم الصفات التي حذر العلماء والحكماء من مصادقة أصحابها، فلابد أن تعلم من تحذر مودته، حتى تتقي الصدمات من جهة، ومن جهة أخرى لأن المرء ينسب إلى قرينه...
عن المرءِ لا تسأل وسلْ عن قرينِه
إذا كنتَ في قوم فاصحب خيارَهُ
كلُّ قرين بالمقارِن يقتدي
ولا تصحَبْ الأرْدى فتردى مع الرَّدي(1)
?
قال بعضهم:
واخترْ قرينَك واصطفِيه تفاخُرًا
??
?
واحذرْ مصاحبة اللئيمِ فإنه
ودع الكذوبَ فلا يكن لك صاحبًا ... إن الصديقَ إلى المقارنِ يُنسبُ
?
?يُعدي كما يُعدي الصحيحَ الأجربُ
إن الكذوبَ يشِينُ حرًا يَصحَبُ
?
وقال بعض الحكماء: اعرف أخاك بأخيه قبلك(2).
وقال أعرابي: اعتبر الناس بإخوانهم(3).
ومن وصايا لقمان لابنه: يا بني، لا ترغب في ود الجاهل فيرى أنك ترضى عمله، ولا تتهاون بغضب الحكيم فيزهد فيك.
وقال بعضهم: عدو عاقل خير من صديق جاهل.
وقال بعض الشعراء:
إذا ما كنتَ متخذًا خليلاً
فإن خُيَّرتَ بين الناسِ فالصقْ
فإن العقلَ ليس له إذا م
لا تقن بكلَّ أخي إخاء
بأهل العقل منهم والحياء
تفاضلت الفضائلُ من كِفاء(4)
?
ولا تصاحب من يذم إخوانك ويذكرهم بالسوء عندك، ولا من يبالغ في الثناء عليك ويرفعك فوق قدرك، ولا من يحب الرئاسة ويدعيها...
قال بعضهم: إذا ذكر جليسك عندك أحدًا بسوء فاعلم أنك ثانيه.
وقال آخر: من رفعك فوق قدرك فاتقهِ.
وقال ثالث: أكرم المجالسة مجالسة من لا يدعي الرئاسة وهو في محلها، وشر المجالسة مجالسة من يدعي الرئاسة وليس في محلها.
__________
(1) …أدب الدنيا والدين ص167.
(2) …أدب الدنيا والدين ص167.
(3) …المختار من رسالة الصداقة والصديق لأبي حيان التوحيدي ص135.
(4) …أدب الدنيا والدين ص168.(1/135)
ولا تصاحب من ينفر من الفقراء ويبغضهم ويحرص على الأثرياء ويحبهم فإنه يوشك أن ينقلب عليك في حال عسرك، ومثله لا يكون صادقًا ولا يكون مخلصًا في إخائه:
كم من أخِ لك ليس تُنْكره
متصَنع لك في مودَّتِه
فإذا عدا (والدهر ذو غِيَرٍ)
فارفضْ بإجمالٍ مودةَ مَنْ
وعليكَ من حالاه واحد
ا دمت في دنياك في يُسْرِ
يلقاك بالترحيب والبِشْرِ
دهرٌ عليك عَدَا مع الدهْر
يَقْلِي المُقِلَّ ويعشق المُثري
في العُسْرِ إما كنتَ واليُسْرِ(1)
?
ولا تصاحب من لا ينصف في غضبه، قال لقمان لابنه: يا بني، إذا أردت أن تؤاخي رجلاً فأغضبه قبل ذلك، فإن أنصفك عند غضبه وإلا فتجنبه.
ومن أقوال الحكماء: من لم يقوم الامتحان قبل الثقة، والثقة قبل الأنس، أثمرت مودته ندمًا(2).
ومن أقوالهم: اسبُر تخبر(3).
وقال بعض البلغاء: مصارمة قبل اختبار، أفضل من مؤاخاة على اغترار(4).
وقال بعض الأدباء: لا تثق بالصديق قبل الخبرة، ولا تقع بالعدو قبل القدرة(5).
وقالت الحكماء: اعرف الرجل من فعله لا من كلامه، واعرف محبته من عينه لا من لسانه(6).
وفي مختصر منهاج القاصدين (وفي الجملة، فينبغي أن يكون فيمن تؤثر صحبته خمس خصال: أن يكون عاقلاً ، حسن الخلق، غير فاسق، ولا مبتدع، ولا حريص على الدنيا)(7).
وقد جمع الماوردي رحمه الله الخصال المعتبرة في إخاء الإخوان بعد المجانسة التي هي أصل الاتفاق في أربع خصال:
الخصلة الأولى: عقل موفور، يهدي إلى مراشد الأمور.
الخصلة الثانية: الدين الواقف بصاحبه على الخيرات.
__________
(1) …أدب الدنيا والدين ص166، والتعبير بعدا الدهر ليس بمحمود؛ لأن عدا هنا بمعنى جار وظلم، انظر: لسان العرب ص2846، ونسبة ذلك للدهر من سب الدهر المنهي عنه. والله أعلم.
(2) …أدب الدنيا والدين ص167.
(3) …أدب الدنيا والدين ص 166.
(4) …أدب الدنيا والدين ص167.
(5) …أدب الدنيا والدين ص167.
(6) …أدب الدنيا والدين ص166.
(7) …مختصر منهاج القاصدين ص95.(1/136)
الخصلة الثالثة: أن يكون محمود الأخلاق، مرضي الفعال، مؤثرًا للخير آمرًا به، كارهًا للشر ناهيًا عنه.
الخصلة الرابعة: أن يكون من كل واحد منهما ميل إلى صاحبه ورغبة في مؤاخاته(1).
وأخيرًا فهذه الرسالة التي تضمنت ما ذكر من مفسدات الأخوة لا يستفيد بها من قرأها ليحاسب إخوانه بمقتضاها فإن نتيجة ذلك العزلة والانفراد، وإنما يستفيد بها من قرأها ليحاسب نفسه بمقتضاها وليحسن التودد إلى إخوانه والقيام بحقوق الأخوة، والله المستعان وعليه التكلان.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
- - -
المراجع
آداب الصحبة لأبي عبد الرحمن السلمي (330ـ 413هـ) حققه وعلق عليه: مجدي فتحي السيد، ط. دار الصحابة بطنطا.
الإبداع في مضار الابتداع للشيخ علي محفوظ، ط. دار الاعتصام.
الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان، ترتيب: الأمير علاء الدين علي بن بلبان الفارسي، المتوفى سنة 739هـ، قدم له وضبط نصه كمال يوسف الحوت، ط. دار الكتب العلمية ـ بيروت، ط. الأولى 1407هـ ـ 1987م.
أدب الدنيا والدين للماوردي، الحلبي، ط. الرابعة.
إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل للشيخ محمد ناصر الدين الألباني حفظه الله، ط. المكتب الإسلامي، ط. ثانية 1405هـ ـ 1985م.
إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان لابن القيم، تحقيق: محمد حامد الفقي، مكتبة عاطف.
اقتضاء الصراط المستقيم لشيخ الإسلام ابن تيمية، ط. دار الحديث.
أين نحن من أخلاق السلف، تأليف عبد العزيز بن ناصر الجليل، تقديم بهاء الدين عقيل، دار طيبة ـ دار المروءة، ط. الثانية.
البداية والنهاية لابن كثير، ط. دار الفكر.
بهجة المجالس وأنس المجالس وشحذ الذاهن والهاجس للحافظ أبي عمر يوسف ابن عبد الله بن محمد بن عبد البر، تحقيق: محمد مرسي الخولي، ط. دار الكتب العلمية ـ بيروت.
تاريخ بغداد للخطيب البغدادي (ت463هـ) ط. دار الفكر.
__________
(1) …انظر: أدب الدنيا والدين ص168، 169.(1/137)
التربية الوقائية في الإسلام لفتحي يكن، مؤسسة الرسالة، الطبعة الرابعة.
الترغيب والترهيب للحافظ زكي الدين المنذري، ضبط أحاديثه وعلق عليه: مصطفى محمد عمارة، ط. دار الريان ـ دار الحديث، القاهرة 1407هـ.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير، ط. دار الحديث ـ القاهرة، ط. أولى 1408هـ ـ 1988م.
تفسير ابن كثير، دار الريان.
التنافر والتجاذب في العلاقات الشخصية (محاضرة مسجلة للشيخ محمد صالح المنجد).
تهذيب مدارج السالكين ـ المدارج لابن القيم، وهذبه عبد المنعم صالح العلي الفري.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن لابن جرير الطبري، ط. دار المعارف بمصر، ط. ثانية، حققه وعلق حواشيه الشيخ محمود محمد شاكر، راجعه وخرج أحاديثه: الشيخ أحمد محمد شاكر رحمه الله.
جامع العلوم والحكم لابن رجب، تحقيق: طارق بن عوض، دار ابن حزم، الطبعة الأولى.
جامع العلوم والحكم للحافظ ابن رجب الحنبلي (ت795هـ)، ط. دار الحديث ـ القاهرة، ط. الخامسة 1400هـ.
حلية الأولياء وطبقات الأصفياء للحافظ أبي نعيم الأصفهاني (ت430هـ).
حياة الصحابة للعلامة محمد يوسف الكاندهلوي، ط. دار الريان، ط. أولى 1408هـ.
خلق المسلم للغزالي، دار الكتب الحديثة، ط. الثانية.
دراسات في السيرة للدكتور عماد الدين خليل، مؤسسة الرسالة ـ دار النفائس، ط. الرابعة.
الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي، وبهامشه تفسير ابن عباس، ط. دار المعرفة ـ بيروت، بدون سنة طبع.
دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة لأبي بكر أحمد بن عبد الحميد البيهقي (384ـ 458هـ) تحقيق: الدكتور عبد المعطي قلعجي. ط. دار الريان، ط. أولى 1408هـ.
روضة العقلاء ونزهة الفضلاء للإمام أبي حاتم محمد بن حبان البستي (ت354هـ)، شرح وتحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، محمد عبد الرزاق حمزة، محمد حامد الفقي، ط. دار الكتب العلمية ـ بيروت.
الزهد لابن المبارك.
سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني.(1/138)
سنن ابن ماجه بتحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، ط. دار الكتب العلمية, بدون سنة طبع.
سنن أبي داود، ط. دار الحديث ـ القاهرة، 1408هـ ـ 1988م.
سنن الترمذي، بتحقيق وشرح: أحمد محمد شاكر، وأتمها محمد فؤاد عبد الباقي وكمال يوسف الحوت، ط. دار الكتب العلمية بدون سنة طبع.
سنن الدارمي للإمام الحافظ عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي (181ـ 255هـ) بتحقيق وتخريج وفهرسة: فواز أحمد زمرلي وخالد السبع العليمي، ط. دار الريان، دار الكتاب العربي، ط. أولى 1407هـ.
السنن الكبرى للإمام البيهقي، وفي ذيلها الجوهر النقي لابن التركماني، ط. دار الفكر.
سنن النسائي بشرح السيوط وحاشية السندي، ط. دار الريان للتراث.
سير أعلام النبلاء للحافظ الذهبي، ط. مؤسسة الرسالة بإشراف وتخريج شعيب الأرناؤوط، ط. تاسعة 1413هـ.
السيرة النبوية لابن هشام، بتحقيق وضبط وشرح: مصطفى السقا وإبراهيم الإبياري وعبد الحفيظ شلبي، ط. مؤسسة علوم القرآن.
السيرة النبوية الصحيحة للدكتور أكرم العمري، مكتبة العلوم والحكم.
شرح السنة للإمام البغوي، تحقيق: شعيب الأرناؤوط وزهير الشاويش، ط.المكتب الإسلامي.
شرح النووي على صحيح مسلم، ط. دار الريان.
صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري لابن حجر، ط. دار الريان، ط. ثالثة.
صحيح الجامع الصغير وزيادته للشيخ الألباني، ط. المكتب الإسلامي، ط. ثانية 1406هـ.
صحيح سنن ابن ماجه للشيخ الألباني، الناشر مكتب التربية العربي لدول الخليج، ط. ثانية 1408هـ.
صحيح سنن أبي داود للشيخ الألباني، ، الناشر مكتب التربية العربي لدول الخليج، ط. أولى 1409هـ.
صحيح مسلم بشرح النووي، ط. دار الريان، ط. أولى 1407هـ ـ 1987م.
صحيح مسلم بشرح النووي، ط. دار القلم، ط. أولى 1407هـ ـ 1987م.
الصحيح المسند من أسباب النزول، تأليف: ابن عبد الرحمن مقبل بن هادي الوادعي، ط. مكتبة ابن تيمية، ط. الرابعة 1408هـ.(1/139)
صحيح وضعيف الأدب المفرد للإمام البخاري، بقلم محمد ناصر الدين الألباني، ط. دار الصديق للنشر والتوزيع، ط. أولى 1415هـ ـ 1994م.
الصداقة والصديق لأحمد الكويتي، مكتبة الرشيد ـ الرياض، ط. الأولى، وهو عبارة عن ثلاث رسائل:
1ـ زاد الطريق إلى قلب الصديق.
2ـ تهذيب (الشهاب الثاقب في ذم الخليل والصاحب للسيوطي).
همسة في أذن صديقي من الروح إلى الروح.
ضعيف الجامع الصغير وزيادته للشيخ الألباني، ط. المكتب الإسلامي، ط.ثانية 1399هـ.
طريق الهجرتين وباب السعادتين لابن قيم الجوزية، ط. مكتبة النهضة الإسلامية للطباعة والنشر والتوزيع.
العزلة للإمام الخطابي، ط. مكتبة الزهراء.
العقد الفريد لأبي عمر أحمد بن محمد بن عبد ربه الأندلسي، ط. دار الأندلس، بيروت ـ لبنان.
العوائق لمحمد أحمد الراشد، ط. مؤسسة الرسالة ـ بيروت.
عيون الأخبار لابن قتيبة (ت276هـ) شرح وتعليق د. يوسف علي طويل، والدكتور مفيد محمد قميحة، ط. دار الكتب العلمية.
فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر.
فردوس الأحجار للديلمي، ط. دار الريان.
فقه السيرة للغزالي بتخريج الشيخ الألباني، ط. دار الريان للتراث، ط. أولى 1407هـ.
فن التعامل مع الناس للدكتور عبد الله الخاطر، دار المروءة، الطبعة الثانية.
فيض القدير شرح الجامع الصغير للمناوي، ط. دار الحديث ـ القاهرة.
كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس للعجلوني، ط. دار الكتب العلمية، ط. ثالثة 1408هـ.
لباب الآداب، تأليف الأمير أسامة بن منقذ (488ـ 584هـ)، تحقيق: أحمد محمد شاكر، ط. دار الكتب السلفية 1407هـ.
لسان العرب لابن منظور، ط. دار المعارف.
مجلة البحوث الإسلامية، إصدار دار الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء بالسعودية، دار أولي النهى 63.
مجمع الزوائد ومنبع الفوائد للحافظ نور الدين الهيثمي (ت807هـ) ط. دار الكتب العلمية ـ بيروت.(1/140)
مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، الناشر: مكتبة ابن تيمية ـ القاهرة.
المختار من رسالة الصداقة والصديق لأبي حيان التوحيدي، الهيئة المصرية العامة للكتاب.
مختصر الشمائل المحمدية للترمذي، اختصره وحققه: محمد ناصر الدين الألباني، ط. المكتبة الإسلامية ـ عمان ـ الأردن، ط. أولى 1405هـ.
مختصر منهاج القاصدين لابن قدامة المقدسي (ت689هـ)، بتحقيق علي حسن علي عبد الحميد، ط. دار الفيحاء، دار عمار، ط. أولى 1406هـ.
مختصر منهاج القاصدين للمقدسي، (باب في حقوق الأخوة)، المكتب الإسلامي، ط. الرابعة.
المستدرك على الصحيحين للحافظ أبي عبد الله محمد بن عبد الله الحاكم النيسابوري، تحقيق: مصطفى عبد القادر عطا، ط. دار الكتب العلمية ـ بيروت.
مسند أبي داود الطيالسي للحافظ سليمان بن داود عبد الجارود، (ت204هـ)، ط. مكتبة المعارف ـ الرياض.
مسند الإمام أحمد بن حنبل مع كنز العمال (فهرس الألباني)، ط. المكتب الإسلامي، ط. الخامسة 1405هـ ـ 1985م.
مشكاة المصابيح للتبريزي، بتحقيق الألباني.
مشكلات الدعوة والداعية لفتحي يكن، مؤسسة الرسالة، الطبعة الثالثة.
مصرع غرناطة، شوقي أبو خليل، دار الفكر بدمشق, الطبعة الأولى.
مناقب الإمام أحمد بن حنبل للحافظ أبي الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد بن الجوزي، تحقيق: د. عبد الله بن عبد المحسن التركي، ط. دار هجر للطباعة والنشر والتوزيع، ط. الثانية 1409هـ ـ 1988م.
منهاج العابدين لأبي حامد الغزالي، ط. مكتبة الجندي.
المنهج الأحمد في تراجم أصحاب الإمام أحمد، للعليمي (مجير الدين عبد الرحمن ابن عبد محمد) حققه: محمد محيي الدين عبد الحميد، ط. مطبعة المدني، ط. أولى 1383هـ.
الموطأ للإمام مالك بن أنس رحمه الله، بتصحيح وترقيم وتخريج: محمد فؤاد عبد الباقي، ط. دار إحياء الكتب العربية ـ فيصل عيسى البابي الحلبي.
وإذا قلتم فاعدلوا (للجليل).
واقعنا المعاصر لمحمد قطب.
- - -
الفهرس
الموضوع ... الصفحة(1/141)
إهداء
أتدري أين سكناه
مقدمة
مفسدات الأخوة
المفسدة الأولى: الطمع في الدنيا
المفسدة الثانية: التفريط في الطاعات
المفسدة الثالثة: عدم التزام الأدب في الحديث
المفسدة الرابعة: برود العاطفة
المفسدة الخامسة: النجوى
المفسدة السادسة: الاعتداد بالرأي
المفسدة السابعة: كثرة المخالفات له في الأقوال والأفعال والرغبات
المفسدة الثامنة: النصح في الملأ
المفسدة التاسعة: كثرة المعاتبة وعدم التسامح
المفسدة العاشرة: الإصغاء للنمامين والحاسدين
المفسدة الحادية عشرة: إذاعة السر
المفسدة الثانية عشرة: اتباع الظن
المفسدة الثالثة عشرة: التدخل في خصوصياته
المفسدة الرابعة عشرة: الأنانية والاستعلاء
المفسدة الخامسة عشرة: التحفظ والتكلف والإثقال على الصاحب
المفسدة السادسة عشرة: التفريط في إظهار المحبة
المفسدة السابعة عشرة: التلهي عنه بغيره وقلة الوفاء
المفسدة الثامنة عشرة: الحرص على إظهار الذات
المفسدة التاسعة عشرة: إخلاف المواعيد والاتفاقات دون عذر ضروري
المفسدة العشرون: كثرة تحديثك له بما يغمه
المفسدة الحادية والعشرون: الإفراط في المحبة
الخاتمة
المراجع
الفهرس ... 5
7
9
23
25
29
39
51
71
73
79
85
87
107
109
111
117
121
135
145
155
159
163
165
167
169
185
193
- - -(1/142)