بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمْ
مُعوقات الخلافة الإِسلامية
وسُبل إِعادتها
بحث مقدم إلى مؤتمر
"الإسلام والتحديات المعاصرة"
المنعقد بكلية أصول الدين في الجامعة الإسلامية
في الفترة: 2-3/4/2007م
إعداد:
د. سعد عبدالله عاشور
الأستاذ المشارك بكلية أصول الدين - قسم العقيدة - الجامعة الإسلامية
أبريل/ 2007
مقدمة:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } (آل عمران:102).
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً } (النساء:1).
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً - يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً } (الأحزاب: 70-71).
أما بعد:
يحسب البعض أن الحديث عن الخلافة انقضى زمنه ومحيت آثاره، فهو ذو صبغة تاريخية فحسب، ونحن نُخالف هذا الرأي إجمالاً وتفصيلاً، فنرى أن تناول هذه القضية يعد من صميم العلاج لما يعتبر قطب الرحى لمشاكلنا الحالية – أي احتلال فلسطين منذ 1948م بشكل عام، واحتلال القدس عام 1967م بشكل خاص، إذ لم يعد هناك شك في أننا أمام صراع عقائدي، وخصومنا من اليهود لا يخفون دوافعهم الدينية، فإن تصريحاتهم وبياناتهم تعضد تصرفاتهم في احتلال القدس.(1/1)
وإذا نادينا بضرورة إعادة نظام الخلافة، فلا يظن بنا التحليق في الخيال، فقد تعلمنا من سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - كيف نتفاءل ونواجه الأزمات بروح مشرقة آملين في تحقيق نصر الله عز وجل بعد الأخذ بأسبابه.
يروي الإمام أحمد عن تميم الداري - رضي الله عنه - قال: قال - صلى الله عليه وسلم -: "لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الْأَمْرُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَلَا يَتْرُكُ اللَّهُ بَيْتَ مَدَرٍ وَلَا وَبَرٍ إِلَّا أَدْخَلَهُ اللَّهُ هَذَا الدِّينَ بِعِزِّ عَزِيزٍ أَوبِذُلِّ ذَلِيلٍ عِزًّا يُعِزُّ اللَّهُ بِهِ الْإِسْلَامَ وَذُلًّا يُذِلُّ اللَّهُ بِهِ الْكُفْرَ"(1).
إننا لا نحلق مع أوهام فلاسفة اليوتوبيا كأفلاطون والفارابي وتوماس مور الذين أجهدوا أنفسهم وأقاموا في خيالاتهم صروح دول وأنظمة حكم، بينما تحققت الوحدة الإسلامية في ظل الخلافة قروناً طويلة، إن أصابها الوهن أحياناً فقد أثبتت ضرورتها وأهميتها، لا سيما بعد أن أصابنا بفعل الاستعمار اليهودي والصليبي.
فما استطاع أبناء صهيون النفاذ إلى القدس إلا على أشلاء الخلافة العثمانية، كما أثبتت ذلك الوثائق التي نشرت حديثاً، وأهمها مذكرات عبدالحميد، السلطان المظلوم(2).
ويظهر لنا أن إحياء الخلافة من جديد أصبح ضرورة ملحة لتجميع القوى المتفرقة للمسلمين توطئة لمجابهة التحديات التي تحيط بهم من كل جانب، هذه التحديات العقائدية والاقتصادية والسياسية والعسكرية.
__________
(1) رواه الإمام أحمد في المسند - مؤسسة قرطبة - مصر – 4 / 103، وروا ه الحاكم في المستدرك على الصحيحين – تحقيق: مصطفى عبد القادر عطا - دار الكتب العلمية – بيروت – ط 1 - 1411هـ - 1990م - 4 / 477.
(2) انظر: ص 541 من كتاب نظام الخلافة في الفكر الإسلامي – د. مصطفى حلمي – دار الأنصار – القاهرة.(1/2)
قال مالك بن نبي: " ويجب من الآن أن نعمل على ظهور سلطة روحية تجمع الرأي وتوحد الصف بالنسبة للمسلمين في العالم كله، وإننا يجب من الآن أن نعيد النظر في قضية الخلافة الإسلامية.. فقد باتت ضرورة عالمية وحيوية.. وليكن لها أي اسم، ولكن ليكن هدفها توحيد الصف الإسلامي والرأي الإسلامي في كل مكان على ظهر الأرض.. وإن كنت أتفائل بكلمة " مجلس الخلافة " وليشترك فيها كل العالم الإسلامي، ولكن لنبدأ في إعلان وجودها من الآن"(1).
وقد يظن المعارض لنا أنه يستطيع إفحامنا، متخذاً من ظروف العصر وتشابك مشكلاته، وظهور أنماط الحكم الجديدة في عالم اليوم، يتخذ من كل هذا ذريعة لإسكات الصوت الإسلامي المطالب بإحياء منصب الخلافة من جديد.
وأما هذه الحجة التي تبدو في مظاهرها وجيهة، لا تنقصنا الأدلة على بطلانها من أساسها، وهي:
كانت الخلافة نظاماً حياً واقعاً لم يختف من الحياة السياسية إلا منذ نحو نصف قرن فقط، وكان يضم شعوباً متعددة الأجناس والألوان والألسنة والقوميات في عصور لم تتميز بما يمتاز به عصرنا الحاضر من وسائل الاتصال التي جعلت العالم كله وكأنه رقعة واحدة متصلة الأجزاء والأركان.
الإسلام نظام عالمي، قال تعالى: { وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ } (المؤمنون:52). وقد بدأ كذلك وسيظل، فلا تؤثر فيه الانشقاقات التي تحدث، وعلى العكس فإن التدرج الحادث في بلدان العالم الآن يتجه به إلى ما يشبه النظام الإسلامي في عالميته، فقد اتجه التدرج بالنظام السياسي من الوطنية إلى القومية إلى العالمية.
__________
(1) مجلة الوعي الإسلامي – العدد 63 – ربيع أول – 1390هـ - 6 مايو سنة 1970م – ص 70 (المؤتمر الخامس لمجمع البحوث الإسلامية بالأزهر).(1/3)
وبهذا المنطق، فإن حركة إلغاء الخلافة كانت مضادة للتصور الإٍسلامي ذاته، ومضادة في الوقت نفسه لحركة تطلع الشعوب إلى الوحدة، وها نحن نرى أن أهل أوروبا قد لفظوا القومية وبدأوا في تجاوزها – إذ تسعى للوحدة في خطوات تدريجية كالسوق الأوربية المشتركة والأحلاف السياسية والعسكرية، وأيضاً فإن فكرة العالمية بارزة في كلا النظامين: الأمريكي والروسي.
فلم يراد لنا وحدنا أن ينفصل بعضنا عن بعض متفرقين منعزلين؟ لا إجابة مقنعة إلا الرغبة في استبعادنا ثم القضاء علينا فرادى(1)!!
من هنا تأتي أهمية وضرورة إعداد هذا البحث الذي أسميته "معوقات الخلافة الإسلامية وسُبل إعادتها "(2) فعودة الخلافة اليوم يقف في طريقها عقبات كثيرة، بعضها داخلي متعلق بالأمة الإسلامية، وبعضها خارجي يتعلق بأعدائها.
ومن أجل ذلك جاء هذا البحث ليكشف عن المعوقات التي تعترض المسلمين في إعادة الخلافة الإسلامية، ويحدد السبيل إلى إعادتها، فهو بحث يشخص الداء ويصف الدواء، فقد قضت سنة الله عز وجل أن يضعف القوي، ويقوى الضعيف، ويمرض الصحيح، ويشفى المريض، ويغتني الفقير، ويفتقر الغني، والله المستعان وعليه التُكلان.
خطة البحث: يشتمل هذا البحث بعد هذه المقدمة، على ثلاثة مباحث وخاتمة على النحو الآتي:
المبحث الأول: تعريف الخلافة وأهميتها.
المطلب الأول: تعريف الخلافة لغة واصطلاحاً.
المطلب الثاني: أهمية الخلافة في حياة المسلمين.
المبحث الثاني: معوقات عودة الخلافة.
__________
(1) انظر: نظام الخلافة في الفكر الإسلامي – د. مصطفى حلمي – ص: ح - ن (من المقدمة بتصرف يسير).
(2) هذا هو البحث الثاني في موضوع الخلافة، فقد سبقه بحث آخر مشترك بعنوان: " الخلافة الإسلامية وإمكانية عودتها قبل ظهور المهدي عليه السلام" وسيأتي بحث ثالث – إن شاء الله تعالى - متمم لهما بعنوان: " معالم الخلافة الإسلامية المرجوة ".(1/4)
المبحث الثالث: السبيل إلى إقامة خلافة راشدة على ضوء الكتاب والسنة.
الخاتمة: وتشتمل على أهم النتائج التي توصلت إليها.
أهداف البحث:
يهدف الباحث من هذه الدراسة تحقيق الأهداف التالية:
أولاً: …إشاعة مفهوم الخلافة بين السواد الأعظم من المسلمين. وتعريف المسلمين بأهمية هذا الواجب الذي وصفه القلقشندي: بـ "حظيرة الإسلام، ومحيط دائرته، ومربع رعاياه، ومرتع سائمته، والتي بها يحفظ الدين ويُحمى، وبها تُصان بيضة الإسلام، وتسكن الدهماء، وتقام الحدود فتمنع المحارم عن الانتهاك، وتُحفظ الفروج فَتُصان الأنساب عن الاختلاط، وتُحصن الثغور فلا تطرق، ويُذاد عن الحُرَمِ فلا تُقرع". تلك المعاني التي افتُقدت فعلاً هذه الأيام واختفت بسقوط دولة الخلافة.
ثانياً: …إثارة نوازع الوحدة بين الشعوب المسلمة مع اختلاف مشاربها وأقطارها، ومع اختلاف أحزابها وتجمعاتها.
ثالثاً: …تحريك الغافلين من أجل العمل لهذا الدين، واستعادة مجده.
رابعاً: …ربط الأجيال الجديدة بماضيها التليد، وأن الحديث عن مجد هذه الأمة لا يرتبط فقط بعصر الصحابة وما تبعه. بل لنا في العصر الحديث أيضًا ماض يفتخر به.
خامساً: …إثارة الغبار عن تاريخ نُسي أو نُسِّي، ودعوة لنشر هذا التاريخ وتدريسه للتلاميذ في المدارس، وطلبة العلم في المساجد، وهو تاريخ دولة الإسلام التي امتدت رقعتها الجغرافية إلى آسيا وأوروبا وإفريقيا، وكانت جيوشها أكثر جيوش العالم عددًا وأحسنها تدريبًا وتسليحًا وتنظيمًا، فقد عبرت جيوش الإٍسلام الفتية البحر من الأناضول إلى جنوبي شرق ووسط أوروبا، وفتحت بلاد اليونان، وبلغاريا، ورومانيا، ويوغسلافيا، والمجر، ورودس، وكريت، وقبرص، وألبانيا حتى بلغت مشارف فيينا - عاصمة النمسا - وجنوبي إيطاليا؛ فكانت حدود الدولة الإسلامية تصل إلى العمق في الأراضي الأوروبية.(1/5)
سادساً: …توعية المسلمين بطبيعة المرحلة، ومحاولة تسليحهم بالثقافة الإسلامية، والفقه السياسي المتشبع بالنظرة الشرعية للأمور، لا ترهات الديمقراطية، والحرية...
سابعاً: …الاستفادة من الماضي، واستلهام السنن الإلهية في النصر والتمكين، واستخلاص الدروس والعبر مما قد يفيد في استشراف المستقبل بالتخطيط المتزن، تحقيقًا لوعد الله: { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهمْ وَلَيُبَدِّلَنّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } (النور: 55).
وبعد، فهذا جهد متواضع قمت به آملاً أن يُسهم في تحقيق الأهداف الآنفة الذكر، فإن أصبت فبفضل من الله ومنته، وإن كان غير ذلك فحسبي أنني لم أدخر جهداً في سبيل الوصول به إلى أرفع مستوى.
والله أسال أن يعلمني ما ينفعني، وأن ينفعني بما علمني، وأن يجعلني وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأن يجعل هذا الجهد المتواضع حجة لي لا على، ويجعله في ميزان حسناتي يوم الدين، والحمد لله رب العالمين، وصلِّ اللهم على سيدنا ونبينا ومعلمنا وقائدنا محمد ٍ- صلى الله عليه وسلم - وعلى آله وصحبه وسلم.
المبحث الأول
تعريف الخلافة وأهميتها
المطلب الأول: تعريف الخلافة:
أولاً: الخلافة لغةً:
الخلافة اسم مشتق من الفعل خَلَفَ أي اتبع في الحكم. ومصطلح الاستخلاف في التعاليم الإسلامية هي سبب من الأسباب الرئيسية التي وضع الله بني البشر على الأرض من أجلها؛ كي يعبدوه ويطبقوا أحكامه التي أرسلها إلى الأنبياء والرسل على مر الزمن.(1/6)
ولو رجعنا إلى الأصل اللغوي لكلمة خليفة لوجدنا " أن الخليفة في الاستعمال اللغوي، هو من يقوم مقام الأصل الذي ذهب كما يقوم الخلف بعد السلف "(1) والخليفة: السلطان الأعظم ويؤنث كالخليف، والجمع خلائف وخلفاء، وخَلَفَه خلافة: كان خليفته وبقي بعده.(2) " واستخلف فلان من فلان: جعله مكانه..وخلف فلان فلاناً إذا كان خليفته. يقال خلفه في قومه خلافة.
وفي التنزيل العزيز قال تعالى: { وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي } (الأعراف: الآية142).
وخَلَفتَهُ أيضاً إذا جئت بعده، ويقال: خَلَفتُ فلأناً أَخلفه تخليفاً واستخلفته أنا جعلته خليفتي.. واستخلفه: جعله خليفته "(3).
ثانياً: الخلافة اصطلاحاً:
يقول الإمام الراغب الأصفهاني في مفرداته: " الخلافة: النيابة عن الغير، إما لغيبة المنوب عنه، وإما لموته، وإما لعجزه، وإما لتشريف المستخلف. وعلى هذا الوجه الأخير استخلف الله أولياءه في الأرض، قال تعالى: { هُو الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ } (فاطر: 39) وقال: { وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ } (4)(هود: 57).
وليس بالضروري للخلافة أن يكون المنوب عنه ميتاً أو غير موجود. فالإمام الراغب يقول: " خلف فلان فلاناً، قام بالأمر عنه وإما بعده "(5).
__________
(1) الخلافة والإمامة ديانة وسياسة: عبد الكريم الخطيب – دار الكتاب العربي – مصر - ط 1 – 1383 هـ - 1963 م – ص 339.
(2) مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروز أبادي: القاموس المحيط – مؤسسة الرسالة – تحقيق مكتب تحقيق التراث في مؤسسة الرسالة – ص 1044.
(3) ابن منظور: لسان العرب - مؤسسة التاريخ العربي - بيروت - لبنان - الطبعة الثانية - 1413هـ - 1993 م - 9 / 83.
(4) مفردات ألفاظ القرآن الكريم – الراغب الأصفهاني – تحقيق: صفوان عدنان داوودي – دار القلم – دمشق – ط1 – 1412هـ - 1992م – ص294.
(5) المصدر السابق: ص: 294.(1/7)
وعرَّف د. صلاح الدين دبوسي الخليفة فقال: "هوالرئيس الأعلى للدولة الذي يلتزم بإقامة الدين وتدبير مصالح الناس اقتداءً برسول الله - صلى الله عليه وسلم - (1).
فالخلافة هي التي يناط بها إقامة شرع الله عز وجل، وتحكيم كتابه، والقيام على شؤون المسلمين، وإصلاح أمرهم، وجهاد عدوهم.
ويطلق لفظ الخلافة ويراد به الإمامة, وعليه درج استعمال الكلمتين لمعنى واحد.
فالإمامة لغة: مصدر من أمّ والإمام كل من ائتم به قوم كانوا على الصراط المستقيم أو كانوا ضالين، والجمع أئمة، وإمام كل شيء قيّمه والمصلح له، والقرآن إمام المسلمين.
أما معناها اصطلاحاً: يقول أبو الحسن الماوردي(2): " الإمامة: موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا "(3).
__________
(1) الخليفة توليته وعزله..إسهام في النظرية الدستورية الإسلامية – د. صلاح الدين دبوس – مؤسسة الرسالة الجامعية – الإسكندرية – ص 25.
(2) الماوردي: هو الإمام العلامة أقضى القضاة أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب البصري الماوردي الشافعي. حدث عنه أبو بكر الخطيب ووثقه. وقال: مات في ربيع الأول سنة خمسين وأربع مائة. وولي القضاء ببلدان شتى. بلغ ستاُ وثمانين سنة. انظر ترجمته في سير أعلام النبلاء للحافظ الذهبي - تحقيق: شعيب الأرناؤوط ومحمد نعيم العرقسوسي - مؤسسة الرسالة - 1413هـ - ط 9 - 18 / 64
(3) الأحكام السلطانية والولايات الدينية – أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب البصري البغدادي الماوردي– مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده - ط 2 – 1386 هـ - 1966 م – ص 5.(1/8)
- أما إمام الحرمين أبو المعالي عبدالملك الجويني(1) فقد عرف الإمامة بأنها:" رياسة تامة، وزعامة عامة، تتعلق بالخاصة والعامة في مهمات الدين والدنيا مهمتها حفظ الحوزة، ورعاية الرعية، وإقامة الدعوة بالحجة والسيف وكف الحيف والخيف، والانتصاف للمظلومين من الظالمين، واستيفاء الحقوق من الممتنعين وإيفاؤها على المستحقين "(2).
وقال التهانوي في كشافه – كشاف اصطلاحات الفنون – " الإمامة عند المتكلمين: هي خلافة الرسول عليه السلام في إقامة الدين وحفظ حوزة الإسلام بحيث يجب اتباعه على كافة الأمة والذي هو خليفته يسمى إماماً "(3).
مما سبق يتبين أن الخلافة في الاصطلاح الإسلامي تعني القيادة الإسلامية أو الإمامة، ومن هنا يُعلم أن مصطلح الإمامة يرادف مصطلح الخلافة.
وممن يؤكد التماثل المعنوي بين الإمامة والخلافة العلامة ابن خلدون إذ يقول: "وإذ قد بينّا حقيقة هذا المنصب، وأنه نيابة عن صاحب الشريعة، في حفظ الدين وسياسة الدنيا به تسمى خلافة أو إمامة، والقائم به خليفة أو إمام"(4).
ويذهب أبو الحسن الماوردي إلى نفس الرأي حين يُعَّرف الإمامة بأنها خلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا(5)(.
__________
(1) الجويني: هو الإمام الكبير، شيخ الشافعية إمام الحرمين، أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجويني ثم النيسابوري الشافعي، ولد في أول سنة تسع عشرة وأربع مائة, وتوفي في سنة ثمان وسبعين وأربع مائة. انظر ترجمته في سير أعلام النبلاء الذهبي - 18 / 477.
(2) غياث الأمم في التياث الظلم – الجويني – تحقيق ودراسة وفهرسة د. عبد العظيم الديب – كلية الشريعة – جامعة قطر – ط 1 – مطابع الدوحة الحديثة – 1400هـ - ص 22.
(3) كشاف اصطلاحات الفنون - محمد أعلى بن علي التهانوي - خياط – بيروت – بدون سنة طباعة – 1/92.
(4) مقدمة ابن خلدون – ص 191.
(5) الأحكام السلطانية والولايات الدينية – الماوردي – ص 5.(1/9)
ويفسر الشيخ أبو زهرة الترادف بين اللفظين بقوله: " إن المذاهب السياسية كلها تدور حول الخلافة، وهي الإمامة الكبرى، وسمّيت خلافة لأن الذي يتولاها، ويكون الحاكم الأعظم للمسلمين، يخلف النبيَّ في إدارة شؤونهم، وتسمّى الإمامة لأن الخليفة كان يسمى إماماً، ولأن طاعته واجبة، ولأن الناس كانوا يسيرون وراءه، كما يصلون وراء من يؤمهم في الصلاة "(1).
الملاحظ من التعاريف السابقة أن العلماء لم يفرقوا في الاستعمال بين لفظ إمام ولفظ خليفة وإنما استعملوا كلا اللفظين بمعنى واحد.
وعليه سوف لا نفرق في الاستعمال بين هذين اللفظين فنستخدم الخلافة بمعنى الإمامة والإمامة بمعنى الخلافة، وإن كنا نرى أن بين اللفظين عموم وخصوص فالإمامة تشمل ميادين أكثر من ميادين الخلافة.
وخلاصة الأمر أن الخلافة الإسلامية هو مفهوم دارج بين المسلمين أيضا للدلالة على حكم المسلمين للأرض لفترة زمنية طويلة، كانت بدايتها على عهد الخلفاء الراشدين، أما نهايتها حسب ما يرى المؤرخون عام 1924 حينما قام مصطفى كمال أتاتورك بإلغائها واستبدالها بالعلمانية الغربية.
المطلب الثاني: أهمية الخلافة في حياة المسلمين:
__________
(1) تاريخ المذاهب الإسلامية – محمد أبو زهرة – دار الفكر العربي – القاهرة – ص 20.(1/10)
تظهر أهمية الخلافة في حياة المسلمين إذا علمنا أنه لا قيام للدين وأحكامه على الوجه الأكمل إلا بها، ولا أمن ولا أمان للمسلمين ولديارهم من أعدائهم إلا بها، ولا رادع للظالمين وقاطعي الطريق إلا بها، لذا فقد أُثر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " إن الله ليزع - أي ليردع - بالسلطان مالا يزع بالقرآن "(1)(. فالقرآن الكريم لا بد له من قوة وسلطان يحميه ويفرضه على الناس، ويرعاه ويتعاهد أحكامه وشرائعه.. فالقرآن وسيف السلطان يسيران جنباً إلى جنب يؤيد بعضهما البعض، وأيهما يتخلف عن الآخر فإن مسيرة الإسلام - لا محالة - سيعتريها الضعف والنكبات والانتكاسات.
قال: - صلى الله عليه وسلم -" إنما الإمام جُنَّةً يُقاتَلُ من ورائه، ويُتقى به "(2).
وعن أبي بكرة قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:" السلطان ظل الله في الأرض فمن أكرمه، أكرمه الله، ومن أهانه، أهانه الله "(3)
فالسلطان المسلم العادل ظل الله في الأرض؛ والخلافة، والسلطان، والدولة وغير ذلك من معاني الشوكة والقوة كلها تدخل كوسائل مباشرة وهامة لتطبيق أحكام الله تعالى وشرائعه في الأرض، وبه تُحفظ حرمات الدين، وتعلو راياته.
ولاشك أن الغاية الجوهرية من قيام الدولة الإسلامية هي إيجاد الجهاز السياسي الذي يحقق وحدة الأمة الإسلامية وتعاون أفرادها, ويتابع تطبيق أحكام الإسلام وتنفيذها، ومراقبة سيرها التطبيقي في شتى مجالات الحياة وهذا لا يتم إلا بنصب الخليفة أو الإمام.
__________
(1) ذكره إسماعيل بن عمر بن كثير الدمشقي - تفسير القرآن العظيم - - دار الفكر – بيروت – 1401هـ - 3 / 60.
(2) رواه البخاري في صحيحه – 3/ 1080, ومسلم في الصحيح – 3/1471.
(3) أخرجه ابن أبي عاصم في السنة - تحقيق: محمد ناصر الدين الألباني – المكتب الإسلامي – بيروت – ط 1 - 1400هـ - 2/492. قال الشيخ ناصر في التخريج 1024: حديث حسن.(1/11)
وكما أن الله تعالى جعل هذه الأمة أمة واحدة كما في قوله تعالى: { وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ } (المؤمنون:52)، والأمة الواحدة ينبغي أن يكون لها رأس واحد يجمعها على كلمة سواء في وجه الظلم والبغي والتعدي على ثرواتها وأعراضها.
المبحث الثاني
معوقات عودة الخلافة
هنالك عقبات وموانع تقف حاجزًا بيننا وبين عودة الخلافة واقتحام المستقبل، والنهوض من الكبوة التي طال أمدها، ولا سبيل إلى نهضة أمتنا واتخاذها الموقع المناسب على خارطة العالم المعاصر إلا بتجاوز هذه العقبات والمهلكات، وهى:
أولاً: التشوه العقائدي وعدم اكتمال العنصر الإيماني لدى أفراد المسلمين:
إذا أمعنا النظر في جميع بقاع العالم الإسلامي سنجد كثيراً من الخزعبلات والتصورات الفاسدة والمعتقدات التي لا تمت للدين بأية صلة تنتشر في عقول العوام وبعض البسطاء من أفراد هذه الأمة، فهناك البهائية وهناك القاديانية وهناك حركة أنصار منكري السنة النبوية ونحوها، ومن المعلوم أن الضلالات والبدع يكون انتشارها أكثر بين الأوساط الشعبية وهم السواد الأعظم دائما للأمة، ومن هنا يأتي خطرها الكبير الذي يتمثل في إسدال الستار على العقل الإسلامي وإيجاد ظلمات بعضها فوق بعض في موكب الحياة العامة وإضاعة الفكر في متاهات غريبة لدى جماهير عريضة من أبناء الأمة وهو ما يحول الأمة المسلمة إلى أمة مقعدة في عالم يجري كالريح المرسلة(1).
__________
(1) انظر: حرية الفكر وترشيد الواقع الإسلامي - د. عاصم أحمد - مطبعة نهضة مصر - 1990م – 1410هـ - القاهرة - ص 37.(1/12)
ولقد كان من المفروض أن تضمحل هذه الضلالات بفضل التقدم العلمي وكثرة الدارسين والعلماء، إلاّ أن الواقع يثبت عكس ذلك، بل زادت وانتشرت الضلالات والأمية الدينية لدى المثقفين العلمانيين وخاصة فيما يتعلق بأساسيات الدين وما هو معلوم من الدين بالضرورة(1).
ولعل الضلالات الفكرية التي مُنِيَّ بها المثقفون الجدد أخطر من ضلالات العوام الّذين يروجون المنكرات والتدجيل لأخذ أموال الناس ويتخذون القرآن للتبرك فقط، غافلين عن دوره في الهداية والإرشاد لصراط مستقيم.
إن الأمية الدينية أخطر بكثير من تلك الخزعبلات القديمة، والأمية الدينية تعني عدم معرفة الدين والعلم به وإن أحرز المرء أعلى المراتب في الدرجات العلمية(2). وكمثال على ذلك كتب أحد المستشارين في أعلى سلطة دستورية بإحدى الدول العربية المسلمة مقالاً كشف فيه عما يغشي عقله من غفلة وغباء وخبط، وتطاول على الشريعة الإسلاميّة، ذكر هذا الكاتب: إن قياس تحريم المخدرات على الخمر قياس فاسد لأن الخمر في القرآن الكريم أمرنا باجتنابها، وليست محرمة، فالمحرم على سبيل القطع من الأطعمة والأشربة ورد في الآية الكريمة: { قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } (الأنعام: 145).
والاجتناب في رأي بعض الفقهاء أشد من التحريم ولكنه في الحقيقة أمر يتصل بالمخاطب فهذا المستشار يقول: إن الخمر في القرآن أمرنا باجتنابها وليست محرمة وإنكار حرمة الخمر إنكار لأمر معلوم من الدين بالضرورة، لا يعذر مسلم بجهله.
__________
(1) انظر: معوقات تطبيق الشريعة الإسلاميّة - مناع القطان - مكتبة وهبه القاهرة – 1991م – 1411هـ - ص 8.
(2) المصدر نفسه: ص 19.(1/13)
ثانياً: فصل الدين عن الدولة:
سبب رئيسي للمآسي التي نعيشها، وذلك لأنه لا يمكن أن يُحكم البشر إلا بشريعة رب البشر، فإذا أبعدت هذه الشريعة عن الساحة؛ حُكم البشر بسنن البشر، والإنسان عاجز وقاصر، وبهذا حل فينا ما حل!
ويزداد ألم المسلم عندما تجد أن كثيراً من المنتسبين للإسلام- والإسلام منهم براء- أشد اقتناعاً بفصل الدين عن الدولة أي: بالعلمنة بمفهومها الصحيح.. يقولون: "دع ما لله للهِ وما لقيصر ليقصر" ونقول لهم: الكل لله سبحانه وتعالى: { الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِّلَّهِ } (الحج:56) نعم، فصل الدين عن الدولة مخطط رهيب؛ لأن أولئك الأعداء علموا أن القرآن هو عدوهم الأول، ولذا جندوا جنودهم لإبعاد القرآن عن حكم المسلمين- وقد نجحوا وللأسف- وكثير من المسلمين لا يدركون خطورة هذا الأمر، وهو خطر داهم وشر قائم. والمسلمون الآن في مشارق الأرض ومغاربها- إلا من عصم الله - يُحكمون بقوانين الشرق والغرب، بقوانين اليهود والنصارى والوثنيين، ولكنهم لا يخضعون لحكم الله، ومن تخلى عن حُكم الله؛ تخلى الله عنه، قال تعالى: { وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى - قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً - قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى } (طه: 124 – 126).
وقال تعالى: { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } (المائدة: 44).
وقال سبحانه: { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } (المائدة: 45).
وقال عز وجل: { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } (المائدة: 47).
ثالثاً: غياب أو تعطيل فريضة الجهاد في سبيل الله تعالى:(1/14)
إن فريضة من فرائض الإسلام لم تتعرض لما تعرض له الجهاد من طعن أعداء الإسلام فيه، والتشويش عليه، وجعل ذلك سبيلاً للوصول إلى غمز الدين كله، حتى صاروا يوهمون الجاهلين بأن الإسلام لم ينتشر إلا بالسيف، وأنه لو كان حقاً من عند الله لاعتمد على الحجة والبرهان، لا على السيف والسنان.
ولم يقف أعداء الإسلام عند ذلك فحسب، بل استطاعوا أن يوجدوا من أبناء المسلمين من يحمل راية الحرب على الجهاد, إما بإبطاله أصلاً, كما فعل الملحد الضال غلام أحمد القادياني والقاديانيون، فقد بذل هذا المارق كل جهده في محاربة فريضة الجهاد في الإسلام، فبعد أن أعلن عام (1902م) أنه نبي مرسل أعلن غلام أحمد تحريم الجهاد، وأن كل من يرفع السيف ويقاتل الكفار باسم الجهاد يكون عاصياً لله ورسوله، وقال: " لقد ظللت منذ حداثة سني، وقد ناهزت اليوم على الستين أجاهد بلساني وقلمي لأصرف قلوب المسلمين إلى الإخلاص للحكومة الإنجليزية والنصح لها، والعطف عليها، وأنفي فكرة الجهاد التي يدين بها بعض جهالهم والتي تمنعهم من الإخلاص لهذه الحكومة "(1).
ويقول في موضع أخر: " لقد قضيت معظم عمري في تأييد الحكومة الإنجليزية ومؤازرتها، وقد ألفت في منع الجهاد ووجوب طاعة أُلي الأمر الإنجليز من الكتب والنشرات ما لو جمع بعضها إلى بعض لملأ خمسين خزان "(2).
__________
(1) القاديانية – أبو الحسن الندوي وآخرون – رابطة العالم الإسلامي – مكة المكرمة – ص 25.
(2) أضواء وحقائق على البابية والبهائية والقاديانية – د. آمنة محمد نصير – ط1 – 1404هـ - 1984م – دار الشروق – بيروت – ص 41.(1/15)
وربما كان أمر الجهاد الباعث على نسأة القاديانية، بل إنشائها في القارة الهندية ودعمها من قبل الاستعمار الإنجليزي وكان ادعاء القادياني أنه المسيح الموعود هو المظهر الديني لإلغاء حكم الجهاد، ذلك أنه قد تقرر في الأحاديث الشريفة أن عيسى عليه السلام يرفع الجزية، وبعد نزوله تضع الحرب أوزارها ويعيش الناس في نعمة لم ينعموا مثلها، وهي دعوى يحقق بها القادياني مجداً شخصياً، ويحقق بها المستعمرون استقراراً آمناً في الهند، وبخاصة أن بريطانيا أهمها وأقلقها حركة المجاهد الكبير الإمام أحمد بن عرفان الشهيد سنة 1842م الذي ألهب روح الجهاد ضد المستعمرين(1).
ولم يقف أعداء الإسلام في محاربة دعوة الجهاد إلى هذا الحد، بل صاروا يساعدون على نشر أفكار أخرى, منها أن الجهاد في الإسلام ليس من أجل الإسلام، وإنما هو لمجرد الدفاع عن النفس فقط، وقد لقيت هذه الفكرة نجاحاً في أوساط من المسلمين المثقفين بالثقافة الأجنبية حتى رسخت في قلوب عامة المفكرين تقريباً في هذا العصر الحاضر، فصاروا دعاة لها، ونسي هؤلاء أو تناسوا أن الدفاع أمر طبيعي لا ديني، فالحيوانات بل حتى النباتات قد خلقت في الكثير منها خاصية الدفاع ضد أعدائها كما هو معروف في علم النبات، وعلم الحيوان، فأهل الكتاب من اليهود والنصارى، وهم الذين يحملون الراية ضد الجهاد في الإسلام, ويشيعون ويذيعون أن الإسلام لم ينتشر إلا بالسيف, ناسين أو متناسين أو جاهلين ما عندهم في التوراة والإنجيل، وناسين أو متناسين أو جاهلين كذلك أن جنوب شرق آسيا يعيش فيه الآن أكثر من مائة وخمسين مليون من المسلمين, منهم حوالي مائة مليون في أندونيسيا لم يذهب إليهم جندي واحد من جيش المسلمين، بل دخلوا في دين الله أفواجاً من تلقاء أنفسهم لما ظهر لهم أنه الدين القيم.
__________
(1) القاديانية الاستعمار الإنجليزي – عبدالله سلوم السامرائي – بغداد – دار واسط – ص 201.(1/16)
نفي تهمة الإرهاب عن الإسلام (1):
أخطأ الغرب في اتهامه الإسلام بالإرهاب، لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، هكذا يقول علماء المنطق العقليون، وعلماء الأصول الإسلاميون، والذين يتهمون الإسلام والمسلمين الآن بالإرهاب عليهم أن يتصوروا حقيقة الإسلام، الذي يدين به الآن مليار ونصف مليار من المسلمين يفترشون مساحات واسعة فوق سطح الكرة الأرضية، ومفتاح الإسلام الأول هو القرآن الكريم، فهل إذا رجعنا إلى القرآن لكي نتصور الإسلام كما وضع أسسه القرآن نجد هذا الإسلام إرهابياً كما يزعمون، وأن المسلمين إرهابيون تبعاً للإسلام؟!
الرجوع إلى القرآن والسنة:
ومع الرجوع إلى القرآن، ينبغي الرجوع إلى السُنة النبوية، ثم إلى الواقع التاريخي للدولة الإسلامية في عصر النبوة، والخلافة الراشدة، وهي الفترة التي تأسس فيها الإسلام منهجاً وسيرة وسلوكاً، إذن كان ينبغي على من يتهمون الإسلام والمسلمين بالإرهاب أن يؤسسوا أحكامهم بالوقوف على المصادر التي أشرنا إليها لو كانوا طلاب حق يريدون أن يكون لما يقولون احترام وتقدير عند الناس.
وقبل أن نستعرض موقف القرآن في هذا الصدد نشير إلى فرية افتراها خصوم الإسلام، ثم انطلقوا منها بلا ضوابط يكيلون للإسلام التُهم في كل اتجاه، تلك الفرية هي قولهم: إن الإسلام انتشر بالسيف وسفك الدماء وأن الفكرة التي حكمت تصرفاته تتلخص في هذا الخطاب الإسلامي الصامت لغير المسلم: أسلم أو تُقتل، والإسلام برئ من هذا كل البراءة.
فهذا هو القرآن " دستور الإسلام الأول " ينادي جماعة المؤمنين المسلمين هذا النداء الخالد: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } (البقرة:208).
__________
(1) مجلة ديوان العرب – مقال بعنوان: من الإرهابي – عبد العظيم المطعني - 9 / 5 / 2002م
www.diwanalarab.com/spip.php?article18(1/17)
إنه نداء عام: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ } وقد أُكد هذا العموم بقوله – تعالى: { كَآفَّةً } أي لا يشذ منكم أحد عن الدخول في السلم (السلام) وأن الشذوذ عن هذا المبدأ العام اتباع لخطوات الشيطان، والشيطان عدو المؤمنين.
والأمر هنا { ادْخُلُواْ } للوجوب والإلزام، وفي آية أخرى يقرر الإسلام حُرمة الدماء لجميع الأحياء دون تفرقة بينهم في العقيدة والدين والمذهب، ومما وقع الاتفاق عليه بين فقهاء الأمة أن دم كل إنسان مصون باعتباره إنساناً دون اشتراط أي وصف آخر، وأن صون دمه يتحقق بولادته حياً.
وقد أخذ الفقهاء هذا المبدأ من قوله – تعالى: { وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ } (الإسراء:33)، وقد تكرر هذا النهي مرة أخرى: { وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ } (الإنعام: 151)، ثم هول القرآن من قتل النفس ظلماً وعدواناً، وجعله مساوياً في الشناعة لقتل الناس جميعاً، فقال – عز وجل { أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً } (المائدة:32)، وليس في الإسلام نص واحد في كتاب الله أو سُنة رسوله يبيح قتل إنسان بسبب عدم دخوله في الإسلام، أو لأنه يعتنق عقيدة ودين غير عقيدة الإسلام ودين الإسلام.
والدعوة إلى الله كانت وما زالت تخلو من الإكراه والضغط وأساسها هو البلاغ الواضح، وبعد البلاغ يُترك الناس وشأنهم، وقد تقرر هذا المبدأ في قوله – تعالى { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ } (البقرة:256).
كما يحصر القرآن مهمة الرسالة في مجرد البلاغ وينفي أن يكون للرسول حق الضغط على من يدعوهم إلى الإسلام وفي ذلك ورد قوله تعالى: { فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ - لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ } (الغاشية: 21 – 22).(1/18)
وفي قوله تعالى: { فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ } (الرعد:40) تأكيد لحصر مهمة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في البلاغ دونما سواه، بل إننا نجده يقرر حرية الاعتقاد بعد البلاغ في عبارات شديدة الوضوح على المراد منها، ترى ذلك في قوله – جل وعلا: { وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ } (الكهف:29).
هذا هو في إيجاز منهج القرآن في الدعوة إلى الله، لا ترى فيه سيفاً ولا رمحاً، وإنما هو بيان قولي يمهد طريق الإيمان للراغبين، ويقيم الحُجة لله على المعرضين، ويقطع أمامهم الأعذار.
إن استقرار الأمن العام والخاص من أولويات الإسلام للمسلم، ولغير المسلم.. وإذا تعرض هذا الأمن للخلل فإن القرآن يحاصر الذين يشيعون الإرهاب والتخويف وترويع الآمنين أياً كانت عقائدهم وانتماءاتهم، ويضع بين يدي ولاة الأمر مجموعة من العقوبات الرادعة للإرجاف والمرجفين، وفي ذلك ورد قوله – جل شأنه: { إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } (المائدة:33).
إن كل عقوبة من هذه العقوبات الأربع تناسب جريمة من جرائم هؤلاء المحاربين (الإرهابيين) وأخف هذه العقوبات هي (النفي) من الأرض، وقد نص العلماء على أنها عقوبة للتخويف والترويع، وهو أخف الجرائم.
كما فسروا النفي بالإبعاد من الوطن، أي: التغريب. أما إذا قتلوا ونهبوا، فالعقوبة القتل. وإذا مثلوا وقتلوا، فالعقوبة هي القتل والتصليب، وإذا اقتصروا على التخويف ونهب الأموال، فالعقوبة هي تقطيع الأيدي والأرجل.(1/19)
وبهذه الإجراءات الحاسمة يحارب الإسلام الإرهاب والمحاربين، بلا رحمة، لأنهم يعبثون بالأمن ويعبثون في الأرض فساداً. فكيف يكون الإسلام دين إرهاب وعنف؟!.. وها هو ذا يكافح الإرهاب بقوة لا هوادة فيها.
وتشريعات الإسلام في ما يتعلق بنظام المجتمع في الحياة الدنيا ليست وقفاً على المسلمين، وإنما هي واحة مظلة لكل فرد من أفراد المجتمع.
فعرض غير المسلم حرام مثل حرمة عرض المسلم، ومال غير المسلم حرام كحرمة مال المسلم، ودم غير المسلم حرام كحرمة دم المسلم، وأمن غير المسلم مصون مثل صون أمن المسلم، فأين تجد – يا ترى – رائحة الإرهاب عالقة بالإسلام في الجانب الذي تقدم ذكره.
آيات يخطئون في فهمها:
ولكن في القرآن الكريم آيات، قد يتمسك بها من يتهمون الإسلام بالإرهاب، وأنه لا يرى لمن يخالفهم في العقيدة إلا القتل والقتال، كما قد يتمسكون بحديث واحد صحيح النسبة لرسول الإسلام - صلى الله عليه وسلم -.
وليس لهم لا في الآيات القرآنية، ولا في الحديث أي دليل على ما يقولون. بل إن القرآن الكريم، والسُنة النبوية – قولاً وعملاً – يدحضان هذه الفرية التي روجها خصوم الإسلام قديماً، ويروجها الغرب الصليبي حديثاً، وبيان ذلك ميسور لمن أراد.
فمن الآيات التي قد يتمسكون بها:
1- قول الله – تعالى: { فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } (التوبة:5).
يفهمون من هذه الآية أنها تحرض على قتل المشركين وتضيق الخناق عليهم، وأنهم – أي المشركين – لا ينجون من سيف المسلمين إلا إذا دخلوا في الإسلام، لأن الآية جعلت توبة المشركين من الكفر، وإقامتهم للصلاة شرطاً في كف القتل عنهم.(1/20)
وهذا الذي يفهمونه لا أساس له من الصحة، ولم يكن الكفر والإشراك سبباً قط في قتل المشركين ومطاردتهم. وإنما تتحدث هذه الآية عن مشركي العرب في بدء الدعوة إلى الإسلام، لأنهم وقفوا لها بالمرصاد في ذلك الوقت، واضطهدوا الذين سارعوا بالدخول في الإسلام، وأخذوا يعذبون من استطاعوا تعذيبه منهم، حتى اضطر المسلمون إلى الهجرة ثلاث مرات: مرتين إلى الحبشة، ومرة إلى المدينة، وحتى بعد هجرة الرسول وأصحابه إلى المدينة، لم يتوقف عداؤهم للإسلام وكبدهم للمسلمين، واستمرت مؤامراتهم ضد الإسلام والمسلمين ثماني سنين بعد هجرة المسلمين إلى المدينة وبذلوا كل ما في وسعهم للقضاء على الإسلام، ومن أبرز ما قاموا به تجييش الجيوش لغزو المدينة في غزوات بدر الكبرى، وأحد، والأحزاب. حتى عقد الهدنة الذي تم في صلح الحديبية لم يوفوا به ونقضوه.
إذن، فإن هذه الآية تتحدث عن قوم قد أضرموا نار العداوة، وأزكوها، وألقوا فيها بكل ما يملكون من ثقل حربي.
ومع هذا حرم الله القتال في أربعة أشهر سماها أشهر حرماً، وحذر المسلمين من القتال فيها، وهي هدنة استفاد منها المشركون، كما استفاد منها المسلمون، حيث حُقنت دماء الطرفين.
وبعد انتهاء الهدنة، أمر الله المسلمين أن يستأنفوا قتال هذا العدو اللدود، الذي ظل يطارد الدعوة طوال عهديها المكي والمدني، فهذا الأمر كان استئنافاً لجهاد العدو، الذي لم يتغير موقفه من الدعوة.
فالقتال المأمور به في هذه الآية لم يكن موجبه شرك المشركين، بل كان موجبه دفع خطر المشركين على الدعوة، ولو أنهم بقوا على شركهم دون الوقوف في طريق الدعوة واعتداءاتهم على المؤمنين بها، وإيذائهم إياهم في أنفسهم وأموالهم، لما أهدر الإسلام دماءهم، ولما أمرهم بقتالهم، فلا دليل – إذن – في هذه الآية على اتهام الإسلام بالإرهاب والعنف.(1/21)
2- وقريب من هذه الآية قوله – تعالى: { وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً } (التوبة:36).
وهي – كذلك – لا دليل فيها على اتهام الإسلام بالإرهاب، وتركيب الآية يدل على براءتها مما يريدون منها، لأنها تأمر المسلمين بأن يقاتلوا المشركين مجموعين كما يقاتلهم المشركون مجموعين، ففيها أمر بقتال في مواجهة قتال فعلاً.
وباختصار فإن معنى هذه الآية نوجزه في هذه العبارة: "قاتلوا من يقاتلكم" وليس في هذا عنف ولا إرهاب، لأن كف أي إنسان الخطر عن نفسه حق له مشروع، حتى في النظم الوضعية الحديثة، التي يندرج فيها هذا المعنى تحت مبدأ: "المعاملة بالمثل" وحتى ما يسمى بـ " القانون الطبيعي" يقر بهذا المبدأ.
3- ومن أشهر ما يؤيدون به دعواهم: أن الإسلام دين إرهاب، وأنه يرى القتل مصيراً محتوماً لكل من يخالفه في العقيدة، قول الله – تعالى: { قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } (التوبة:29).
ولو أن هؤلاء المتحاملين على الإسلام، دققوا النظر في صيغة الآية، لظهر لهم فساد المعنى الذي فهموه لها، وهو أن الإسلام دين دموي إرهابي، لا يرى لمخالفيه إلا القتل.
حاشا لله أن يكون هذا هو المراد من هذه الآية، لأنها تتحدث عن ظرف خاص وطائفة خاصة من أهل الكتاب، هم اليهود. ولم يكن سبب الأمر بقتالهم كونهم يهوداً، ولا كونهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ولا كونهم لا يحرمون ما حرم الله ورسوله، ولا كونهم لا يدينون دين الحق.(1/22)
هذه الأوصاف لم تكن هي الأسباب المنشئة للأمر بقتالهم، والذي يدل دلالة قاطعة على أن تلك الأوصاف لم تكن هي الموجب لقتالهم ما ورد في الآية نفسها: { حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } لأن القرآن جعل إعطاء الجزية منهياً لقتالهم، ولم يجعل دخولهم في الإسلام هو المنهي لقتالهم. بل كان الموجب لقتالهم جرائم بشعة اقترفوها ضد الإسلام والمسلمين، منها: نقض العهود التي أخذها عليهم المسلمون، وقد نصت تلك العهود على أن اليهود يكونون أمة مع المسلمين، ولكنهم نقضوها وتآمروا فيما بينهم، ومع مشركي العرب على ضرب الإسلام والمسلمين.
هذا هو السبب، فهو قتال لدفع خطر واقع فعلاً من اليهود على الدولة الإسلامية الناشئة، حيث كانوا يمثلون عصبة مجرمة داخل الدولة، التي أقرتهم على عقيدتهم، ومنحتهم الحرية الدينية التامة في أداء شعائرهم، والحرية التامة في العمل للحياة الدنيا، في الزراعة والتجارة والصناعة.
فقابلوا الإحسان بالإساءة والجميل بالقبيح، والإخلاص بالمكر والخداع.
4- ومن الآيات التي أساءوا فهمها ليشوهوا حقائق الإسلام قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً } (التوبة:123) يفهمون أن هذه الآية تحرض كل مجتمع إسلامي على قتال كل من يجاورهم، وهذا خطأ شنيع، وحقيقة المراد من هذه الآية أن المسلمين كانوا قد علموا أن الفرس والروم يريدون غزو عاصمة الدولة الإسلامية الناشئة " المدينة المنورة " وعزموا على مباداة الدولتين بالقتال، ولكنهم اختلفوا حول بمن يبدأون؟!.. أيبدأون بالروم وهم أقرب مكاناً إلى المسلمين؟! أم يبدأون بالفرس، وهم أبعد مكاناً؟! فنزلت هذه الآية ترشدهم إلى قتال الأقربين إليهم مكاناً، وهم الروم.(1/23)
فأنت ترى أن المراد من هذه الآية أمر خاص وليس عاماً، وبذلك تبرأ الآية من الفهم الفاسد الذي تمسك به من يصفون الإسلام بالإرهاب والدموية والعنف.
أما الحديث فقوله- صلى الله عليه وسلم -: "أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله"(1).
هذا الحديث أجمع أهل العلم على أنه خاص بمشركي العرب، لا يتعداهم إلى غيرهم. لأنهم يعرفون رسول الإسلام معرفة عميقة، فهو بينهم نشأ، يعرفون صدقه، وأمانته، والقرآن بلغتهم نزل، فهم أقدر الناس على فهم مراميه، لذلك لم يقبل الإسلام منهم أي بديل، مثل الجزية، عن الإسلام.
هذا هو التوجيه الحق في فهم هذه النصوص الشرعية، فليس فيها أدنى شبهة على اتهام الإسلام بالإرهاب أو التبرم بمخالفيه في العقيدة، وكيف يكون الإسلام إرهابياً وهو دين السماحة والعدل والحرية والمساواة.
مخاطر ترك الجهاد في سبيل الله:
ولاشك أنه يترتب على تترك الجهاد كثير من المخاطر والمفاسد والشرور والعواقب السيئة في الدنيا والآخرة·
ويكفي ليظهر لنا تلك العواقب السيئة المضادة أن نعرف أن أهل العلم عدوا ترك الجهاد العيني من كبائر الذنوب·
يقول ابن حجر الهيتمي في كتابه الزواجر: "الكبيرة التسعون والحادية والثانية والتسعون بعد الثلاثمائة: ترك الجهاد عند تعينه؛ بأن دخل الحربيون دار الإسلام أو أخذوا مسلمًا وأمكن تخليصه منهم، وترك الناس الجهاد من أصله، وترك أهل الإقليم تحصين ثغورهم بحيث يخاف عليها من استيلاء الكفار بسبب ترك ذلك التحصين"(2).
ويمكن إيجاز المخاطر والعواقب السيئة لترك الجهاد فيما يلي:
1- ترك الجهاد - كما مضى - كبيرة من الكبائر؛ لأن فيه تعريض النفس لسخط الله عز وجل وعقابه في الدنيا والآخرة·
__________
(1) رواه البخاري – 17 / 1 – حديث رقم 25.
(2) الزواجر عن اقتراف الكبائر - للهيتمي - 2/163.(1/24)
قال تعالى: { إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } (التوبة:39).
2- بترك الجهاد يفشو الشرك والظلم ويعلو الكفر وأهله ويستعبد الناس بعضهم بعضًا، ولا يخفى ما في ذلك من الشقاء والتعاسة والفساد الكبير على الناس قال الله تعالى: { وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ } (البقرة: من الآية251)، وقال تعالى: { وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } (الحج: من الآية40).
3- ترك الجهاد سبب للذل والهوان كما قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: " لئن تركتم الجهاد وأخذتم بأذناب البقر وتبايعتم بالعينة ليلزمنكم الله مذلة في رقابكم لا تنفك عنكم حتى تتوبوا إلى الله وترجعوا إلى ما كنتم عليه"(1).
وهذا أمر مشاهد وبارز في عصرنا اليوم؛ حيث تسلط الكفار على بلدان المسلمين، وعاش المسلمون في مؤخرة الركب؛ يأكل الكفار خيراتهم، ويتدخلون في شؤونهم، ويتسلطون عليهم بأنواع الذلة والمهانة؛ وما ذاك إلا بتعطيل أحكام الله وترك الاحتكام إلى شرعه، ومن ذلك تعطيل شعيرة الجهاد·
وإن الكفار لن يلتفتوا إلى حقوق المسلمين ويراجعوا حساباتهم ويكفوا شرهم بمجرد الإدانات والشجب والكلام الأجوف، وإنما الذي يخيفهم ويجعلهم يكفون عن المسلمين وديارهم هو الجهاد في سبيل الله تعالى الذي فيه كبت للكفر وأهله، وفيه إعزاز وكرامة للمسلمين·
__________
(1) رواه أبو داود – 2 / 296 – حديث رقم 3462, قال الشيخ الألباني: صحيح.(1/25)
وهذا أمر يشهد له التاريخ كما يشهد له الواقع؛ فما من مكان علت فيه راية الجهاد إلا وشعر المسلمون فيه بالعزة، وخاف أعداء الله الكفرة من تكبيرات المجاهدين وتضحياتهم(1).
4- وفي ترك الجهاد تفويت لمصالح عظيمة في الدنيا والآخرة؛ منها الأجر العظيم الذي أعده الله تعالى للمجاهدين والشهداء في الآخرة، ومنها الحياة العزيزة في الدنيا وإقامة شرع الله عز وجل، والشهادة والغنائم والتربية الإيمانية التي لا تحصل إلا في أجواء الجهاد ومراغمة أعداء الله تعالى·
5- إلقاء العداوة والفرقة بين المسلمين: وهذا أمر مشاهد؛ فما من وقت تركت فيه الأمة الجهاد في سبيل الله عز وجل إلا انشغلت بنفسها ووجه المسلمون حرابهم إلى صدور إخوانهم وانشغل بعضهم ببعض·
رابعاً: تفرق كلمة المسلمين وتمزق وحدتهم:
الوحدة واجبة على المسلمين في كل زمان ومكان، وعلى كل حال، لأنها سبب من أسباب القوة، والمنعة، والاستقرار، وحبل من حبال الله المتينة. ولا ريب أن حرص النبي - صلى الله عليه وسلم - على الوحدة، وكثرة النصوص التي تحض عليها، سواء ما ورد منها في القرآن الكريم، أو السنة النبوية الشريفة، فضلاً عن المخاطر التي تحدق بالمسلمين من كل حدب وصوب، فإن كل ذلك مما يوجب الوحدة بين المسلمين.
وفيما يلي بعض النصوص الموجبة للوحدة، نذكرها على سبيل المثال لا الحصر:
__________
(1) انظر إلى ما ذاقه الهندوس على أيدي المجاهدين الكشميريين، وانظر كيف تحركت قوافل اليهود للهجرة من فلسطين بعد أن عرفوا أن القتل ليس من نصيب المسلمين وحدهم، وفي أفغانستان كيف دفعت الإمبراطورية الروسية ثمناً باهظاً لعدوانها على المسلمين تفككت على إثره وتحولت إلى أمة متسولة لا تكاد تجد قوتها، ثم عادت لتدفع ثمناً غالياً لعدوانها على المسلمين في الشيشان. وفي البوسنة لما ولغ الكفار في دماء المسلمين وفرحت ملل الكفر بذلك لم يكبتوا ويكسروا إلا بعد نزول المجاهدين إلى أرض البوسنة.(1/26)
قال تعالى: { إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ } (الأنبياء:92). والله تعالى يحض على الوحدة، وينهي عن الخلاف في مثل قوله: { وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } (آل عمران:105).
ثم يبين في موضع آخر أن الذين يزيلون اللُّحمة من بين أظهرهم ليسوا جديرين بالانتساب إلي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: { إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } (الأنعام:159).
وفي الحديث النبوي الشريف: " إنه ستكون هنات وهنات(1)، فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة، وهي جميع، فاضربوه بالسيف كائناً من كان"(2).
والشواهد كثيرة في هذا الباب، وفيها البيان الواضح على وجوب الوحدة، وإقامة الدولة الإسلامية على أساس الخلافة، فضلاً عن تحذيرها من الشقاق والخلاف، الذي يفضي إلى ذهاب الريح والهزيمة.
__________
(1) هنات: الهنات جمع هنة. وتطلق على كل شيء, والمراد بها هنا الفتن والأمور الحادثة " النووي: شرح صحيح 12/241.
(2) أخرجه مسلم - 3 / 1479 – حديث رقم 1852، وفي رواية: "من أتاكم وأمركم جميع؛ على رجل واحد؛ يريد أن يشق عصاكم؛ أو يفرق جماعتكم فاقتلوه". أخرجه مسلم - 1479 حديث رقم 1852 والعصا: كناية عن السلطة والقوة. "وشق فلان عصا المسلمين " إذا فرق جماعتهم، ومعناه: يفرق جماعتكم كما تفرق العصا المشقوقة وهو عبارة عن اختلاف الكلمة وتنافر النفوس.(1/27)
ولا يخفى على كل ذي بصيرة، أن أبرز المشكلات التي يعاني منها العالم الإسلامي، تتمثل في التفكك الذي يمزق قلب الأمة، ويقطع أوصالها إرباً إرباً، مما أسهم في إشاعة جو من الإحباط في نفوس ملايين المسلمين، الذين راح أكثرهم يعلل نفسه بالسخرية للتعبير عما يجيش في نفسه من سخط إزاء هذا الواقع الأليم فيعزو فائدة هذه التجزئة إلي أنها تفضي إلي كثرة الأصوات في مجلس الأمن(1).
ولم يقتصر واقع التفكك على الدولة الإسلامية الواحدة، وإنما امتد ليشمل الأقطار والأقاليم التي انبثقت عنها. فثمة أقاليم قطعت إلي شمالية وجنوبية(2)، وأخرى إلي شرقية وغربية(3). وفي بعض الأقاليم ثمة حركات انفصالية مسلحة، وثورات تطالب بالاستقالة بما تحت يدها عن البلد الأم(4)، وتجد - عادة - من يقدم لها العون المالي والعسكري، من الأقاليم الأخرى، مما يسهم بمزيد من الشقاق والنفاق بينها.
وثمة مشكلات بين بعض الأقاليم حول ترسيم الحدود - التي استحدثها الاستعمار- وحول بعض الأجزاء المتصارع عليها(5).
__________
(1) إلا أن كثرة الأصوات لا تسمن ولا تغني من جوع كما أثبتت التجارب, ولو كانت مجملها تصب في خانة واحدة, لترفع من خلال صوت واحد, لكان لها في المحافل الدولية شأن آخر, ولأمكنها الوقوف في وجه (الفيتو) الأمريكي وغيره من أصوات الدول الأخرى.
(2) كما هو الحال في اليمن قبل الحرب الأخيرة عام 1994م؛ والتي أفضت إلي الوحدة.
(3) مدينة بيروت خلال الحرب الأهلية.
(4) البوليساريو في الجزائر؛ والأكراد في العراق وإيران وتركيا؛ وحركة الجنرال غار انج في جنوب السودان.
(5) مشكلة جزر (أبو موسى) و(طنب الكبرى والصغري) بين دولة الإمارات العربية المتحدة وإيران؛ وأخرى بين اليمن والمملكة العربية السعودية.(1/28)
هذا هو واقع العالم الإسلامي، بكل ما ينطوي عليه من مآس وآلام، تمزق قلوب ملايين المسلمين التواقين إلي الوحدة الإسلامية، على أساس الدولة الإسلامية الواحدة تحت مظلة الخلافة.
ولاشك أن التناحر بين الفئات الإسلاميّة في بعض الأقطار المسلمة قد ترك أثراً أشد فجاعة ومرارة من التي منيت الأمة به في الماضي وهي في طريقها إلى بناء المستقبل وتلمس سبل الرشاد والوحدة ومن المعلوم للجميع " أن العصبية المذهبية أوجدت حواجز كثيفة بين المسلمين في الماضي وأورثت فيما بينهم من العداوات ما شغلهم عن أعداء الإسلام - على اختلاف أنواعهم - وعن الأخطار المحدقة بالإسلام وقد كان أهمها في هذا الأمر الاستعمار والإلحاد والتشكيك بالإسلام"(1).
لقد رأى العدو أن من أفضل الوسائل التي تبعدنا عن ديننا أن يُنشئ فينا العصبيات: القومية العربية، القومية التركية، القومية الكردية، وبعد أن فرقوهم إلى قوميات جاءوا بالوطنية حتى تفرق العرب أيضاً إلى بلاد كل منهم ينتسب إلى وطنه، ثم جاءوا بالإقليمية: أهل الوطن الواحد يتفرقون، هذا من وطن كذا وهذا من بلد كذا..عصبيات وإقليميات وقوميات ووطنيات مزقوا فيها شمل أمتنا.
خامساً: التخطيط الصليبي اليهودي "كيد الأعداء الداخلي والخارجي":
__________
(1) المجتمع الإسلامي المعاصر - محمّد المبارك - دار الفكر – بيروت – 1391هـ - م1971 - ص 89.(1/29)
تجدر الإشارة إلى أن خطة العمل الموحد المشترك بين الصليبية واليهودية أصبحت لزاماً وواجباً مشتركاً على كلا الطرفين بعد الموقف الصلب الذي واجه به السلطان عبدالحميد – رحمه الله – هرتزل، إذ تعين بعدها القضاء على الخلافة الإسلامية ضروري لمصلحة الفريقين: النصارى الذين كانت دولهم الاستعمارية تتحين الفرصة للأخذ بثأر الحروب الصليبية، واليهود الذين أيقنوا فشلهم مع السلطان يستوجب التركيز على العالم الصليبي وتسخيره لمآربهم التلمودية. وبلغت الخطة ذروة التوحد بعد قرار المجمع المسكوني الذي ينص على تبرئة اليهود من دم المسيح عليه السلام والذي كان يهدف إلى محو كل أثر عدائي مسيحي لليهود وبالتالي إيجاد كتلة يهودية نصرانية واحدة لمجابهة الإسلام(1).
وتتلخص جهود هذا الثنائي المشؤوم في النقاط التالية(2):
تقطيع أوصال الخلافة بالاحتلال العسكري لمناطق إسلامية تخضع لنفوذ دولة الخلافة العثمانية، وقد صاحب هذا الاحتلال الخلقي والفساد الاجتماعي وإثارة الشبهات والشكوك حول مفاهيم وعقائد الإسلام، وغزو العقول بالنزعات الجاهلية.
إسقاط دولة الخلافة وإسقاط الخلافة الإسلامية، وقد كان ذلك من عمل البطل العلماني الذي أُعد للقيام بهذه المهمة، ألا وهو الماسوني مصطفى كمال أتاتورك.
القضاء على الحركات الإسلامية الجهادية كحركة المهدي في السودان، وعمر المختار في ليبيا، وعبدالقادر الجزائري وعبدالكريم الخطابي في المغرب الأقصى، وإسماعيل الشهيد في الهند.
هدم الشريعة الإسلامية وإحلال القوانين الوضعية الغربية محلها، وإلغاء المحاكم الشرعية، وإقامة المحاكم المختلطة والمحاكم الأهلية التي تحكم بالقوانين البريطانية والفرنسية والسويسرية والإيطالية.
__________
(1) انظر ما كتبه في ذلك الشيخ محمد الغزالي في كتابه حصاد الغرور– ط 1 – الكويت.
(2) انظر: واقعنا المعاصر والغزو الفكري – د. صالح الرقب – ط 4 – 1422هـ - 2002م – فلسطين – غزة – ص 73 – 74.(1/30)
القضاء على التعليم الإسلامي والأوقاف الإسلامية.
إحياء النعرات والدعوات الجاهلية، وإيجاد وإحياء الطوائف غير الإسلامية ثم استخدامها في القضاء على الإسلام والمسلمين، ومن هذه الطوائف: البابية، والبهائية والقاديانية، والنصيرية، والصوفية القبورية.
اصطناع العملاء وإيجاد المأجورين من أبناء المسلمين ثم استخدامها معاول هدم للإسلام من الداخل.
سادساً: الغزو الفكري والعمل على مسخ فكر المسلمين:
استطاع المستشرقون أن يكسبوا عدداً من الأنصار في العالم الإسلامي، وأن يربوا في معاهدهم العلمية عدداً من التلاميذ، الذين استخدموا كمعاول هدم للإسلام من داخله، وقد آزر هؤلاء الأنصار وتلاميذ المستشرقين في مواقفهم ودعواتهم العدائية فعملوا على تضليل الجماهير المسلمة، وأساءوا إلى الإسلام والمسلمين إساءة كبيرة.
وأغلب التلاميذ والأنصار آثروا الخروج عن دينهم والارتماء في أحضان الحضارة الغربية، ومما يؤسف له أن كثيراً من هؤلاء التلاميذ قد أصبحوا من أصحاب الصدارة في الفكر والأدب والسياسة، وفي مقدمتهم الدكتور طه حسين الذي أكثر من إعجابه وتقديره لمناهج المستشرقين، وقام بالترويج لأفكارهم وآرائهم التشكيكية، لدرجة أنه وصف بأنه مستشرق من أصل عربي، وكتابات طه حسين تشهد بذلك، ففي كتابه " الشعر الجاهلي " أعلن إنكاره لبناء إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام للقواعد من الكعبة المشرفة، وفي كتابه " مستقبل الثقافة في مصر " زعم أن العرب قوم مستعمرون كالرومان والفرس، وأخذ يدعو المصريين إلى اقتفاء الحضارة الغربية حلوها ومرها، خيرها وشرها، لقد كان طه حسين تلميذاً مخلصاً ووفياً لأساتذته المستشرقين في جامعة السربون(1).
__________
(1) واقعنا المعاصر والغزو الفكري – د. صالح الرقب – ص 50.(1/31)
إن هذه الجرأة التي سجلها " طه حسين ", دفعت ببعض المغمورين إلي الاجتراء على أصول الدعوة الإسلامية, واجترار بعض الفريات والشبهات التي خاض غمارها المستشرقون والمبشرون من قبل. لا بل تفوقوا على أساتذتهم عندما أضافوا إلي ملف الشبهات, طائفة أخرى لم يهتد المستشرقون أنفسهم إليها, على نحو ما فعله " على عبدالرازق " من اجترائه على الخلافة حيث يقول في كتابه " الإسلام وأصول الحكم": "... فليس بنا من حاجة إلى تلك الخلافة, لأمور ديننا ولا لأمور دنيانا, ولو شئنا لقلنا أكثر من ذلك. فإنما كانت الخلافة ولم تزل نكبة على الإسلام وعلى المسلمين, وينبوع شر وفساد"(1).
وقد كان ظهور هذا الكتاب عقب إلغاء مصطفى كمال للخلافة سنة 1343هـ، وفيما كان الرأي العام في العالم الإسلامي مأخوذاً بهول الصدمة طلع هذا الرجل الأزهري بفكرة غريبة مريبة يقول المستشرق "شمتز"(2) إنها كان لها الفضل في تخفيف وطأة ما فعله أتاتورك على مشاعر المسلمين، ذلك هو علي عبدالرازق صاحب كتاب "الإسلام وأصول الحكم"!
__________
(1) الإسلام وأصول الحكم بحث في الخلافة والحكومة في الإسلام - عبد الرازق - دار مكتبة الحياة – بيروت - 1966م - ص83.
(2) الإسلام قوة الغد العالمية – باول شمتز – ترجمة: د. محمد شامة مكتبة وهبة – مصر – القاهرة - ص 166، مع مراعاة أنه لم يذكر الكتاب صراحة بل قال "فتوى من الأزهر".(1/32)
ويذهب إلى أبعد من ذلك, فيقول في الكتاب نفسه: "والحق أن الدين الإسلامي بريء من تلك الخلافة التي يتعارفها المسلمون, وبريء من كل ما هيئوا حولها من رغبة ورهبة, ومن عز وقوة, والخلافة ليست في شيء من الخطط الدينية, كلا ولا القضاء ولا غيرهما من وظائف الحكم ومراكز الدولة. وإنما تلك كلها خطط سياسية صرفة, لا شأن للدين بها, فهو لم يعرفها ولم ينكرها, ولا أمر بها ولا نهى عنها, وإنما تركها لنا, لنرجع إلى أحكام العقل, وتجارب الأمم وقواعد السياسية"(1).
هذا ولسنا بصدد استعراض ذلك الكتاب المريب، ولكن تجدر الإشارة إلى أنه كان له آثار بعيدة فقد ترجم إلى اللغات الأجنبية وأصبح مرجعاً معتمداً للدراسات الإسلامية هناك، وقام بتقريظة والثناء عليه كل المهتمين بهذه الدراسات في الغرب، وظهرت آثاره في كتاباتهم(2) وهلل له سماسرة الاستعمار من الكتاب والصحفيين باعتبار مؤلفه عالماً متحرراً متنوراً، ووضعه البعض على رأس مرحلة فكرية عصرية... الخ.
ووجدت الأحزاب السياسية فيه ضالتها المنشودة. فلم تعد تتحرج من إعلان انتمائها للاتجاهات السياسية اللادينية شرقيها وغربيها، وبراءتها من الدين والمتدينين. أما الكتب التي ألفت في الرد عليه فقد حاصرتها الدوائر الاستعمارية وأهملتها وسائل الإعلام حتى لم يكد يظهر لها صدى عند غير القلة المخلصة.
__________
(1) الإسلام وأصول الحكم بحث في الخلافة والحكومة في الإسلام - دار مكتبة الحياة - بيروت - 1966م - ص201.
(2) انظر مثلاً ما كتبه هاملتون جب عن الخلافة في كتابه: دراسات في حضارة الإسلام – ترجمة: د. إحسان عباس وآخرون – دار العلم للملايين – بيروت – لبنان – ط 3 – 1979م- ص 185- 195.(1/33)
وكان من نتيجة هذه الآراء العوجاء, أن طُرِدَ " علي عبدالرازق " من هيئة العلماء وأمسى نسياً منسياً يعيش على هامش الحياة, على الرغم من بعض المحاولات التي أجريت لإعادته إلي هيئة علماء الأزهر(1).
سابعاً: أنظمة الحكم العلمانية الدكتاتورية القائمة في العالم الإسلامي:
إن نظرة سريعة إلى واقع الأنظمة القائمة في العالم الإسلامي، كفيلة بأن تجعل الدم يجف في العروق، حيث إن أنظمة الحكم بمجملها، لا تمت إلي الإسلام بصلة، إن هي إلا أنظمة علمانية، " دكتاتورية " معادية للإسلام، رغم أن بعضها يتمسح بمسوح الإسلام.
وعلى هذه المرحلة من تاريخ المسلمين، ينطبق قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " تكونُ النُّبُوَّةُ فيكُم ما شاءَ اللَّهُ أنْ تَكونَ، ثُمَّ يَرْفَعُها اللَّهُ إذا شاء أنْ يَرْفَعَها، ثُمَّ تَكونُ خِلافَةً عَلى مِنهاج النُّبوَّةِ، فَتَكونُ ما شاءَ اللّهُ أنْ يَكونَ، ثُمَّ يَرْفَعُها اللّهُ إذا شاء أنْ يَرْفَعَها، ثُمَّ تَكونُ مُلْكاً عاضّاً، فَتَكونُ ما شاءَ اللّهُ أنْ تَكونُ، ثُمَّ يَرْفَعُها اللَّهُ إذا شاء أنْ يَرْفَعَها، ثُمَّ تَكونُ مُلْكاً جَبْرِيّاً، فَتَكونُ ما شاءَ اللّهُ أن تَكونَ، ثُمَّ يَرْفَعُها إذا شاءَ أنْ يَرْفَعَها، ثُمَّ تَكونُ خِلافَةً على مِنهاج النُّبوَّةِ. ثُمَّ سَكَتَ "(2).
__________
(1) الإعلام الإسلامي - منطلقات وأهداف - الريسوني - ص79.
(2) مسند أحمد في المسند – 4/273، ومجمع الزوائد ومنبع الفوائد للهيثمي – 5 / 188- 189، ومسند البزار - تحقيق: د. محفوظ الرحمن زين الله - مؤسسة علوم القرآن , مكتبة العلوم والحكم - بيروت , المدينة – ط 1 – 1409هـ - 7/224.(1/34)
مما لا ريب فيه أن المرحلة المعاصرة، تتمثل في الملك الجبري. يقول المرحوم "سعيد حوى" مصوراً الواقع المأساوي الذي يمتاز به العالم الإسلامي: "... في العالم الإسلامي كله... لا تجد نظام حكم يسمح للمسلمين بإقامة أحزاب سياسية إسلامية مع أن أوروبا نفسها وهي العلمانية في جوهر أنظمة حكمها لا تجد فيها بلداً تقريباً إلا وفيه حزب سياسي مسيحي. هذا مع أن المسيحية لا تتكلم إلا في جوانب قليلة مما يقرره الإسلام"(1).
أما العلاقات التي تسود بين بعضها، فإنها مبنية على التحاسد، والتباغض، والتنافر، الأمر الذي يقلل من فرص التكامل والوحدة، إذا ما ظلت الحالة على ما هي عليه.
وليس ثمة من ريب في أن واقع التجزئة الذي يعتري العالم الإسلامي، جاء نتيجة سقوط الخلافة الإسلامية، وخضوع أكثر الديار الإسلامية للانتداب الغربي.
وبعد زوال الاستعمار العسكري فيها، حرص هؤلاء على إحكام قبضتهم على مختلف الديار الإسلامية، لذلك "جعلوا مراكز القوة بيدهم أو بيد المفسدين والفاسدين من المسلمين. وفي كل حالة وضعوا أجهزة القوة خاصة، وأجهزة الدولة عامة بيد أعداء الإسلام والمسلمين وكان أن أصبحت جيوش الأقطار الإسلامية بعد الاستقلال امتداداً لما كانت عليه قبل ذلك بحكم أن البلاد لا تستغني عن جيشها واختصاصات الجيش بيد هؤلاء.
صحيح أن الاستعمار العسكري قد انتهى في بعض أقطار العالم الإسلامي، رغم عودته من جديد إلي بعضها الآخر، إلا أن صداه – في الواقع- لا يزال جاثماً في كل قطر منها.
__________
(1) من أجل خطوة إلي الأمام - سعيد حوى - ط2 - 1399هـ- 1989م - ص7.(1/35)
إن قوى الإمبريالية لا تخرج من الدول الإسلاميّة بالبساطة بل دبرت وخططت خرائط الحكم ونصبت الطغمة الحاكمة المتسلطة من ذوي اتجاه علماني للتحكم بمصير الأمة طبقاً لإرشاداتها وتوجيهاتها وهذه الأنظمة تنفذ برامج التعليم العلماني وتخرج جيلاً من الشبان المارقين من الدين وأبرز بلد إسلامي حكمته العلمانية ونفذت فيه خططها وضربت بيد من حديد كلّ من يقاومها وخاضت في ذلك بحراً من الدم هو بلد الخلافة الإسلاميّة الأخيرة الذي قهره أتاتورك على تطبيق الأنموذج الغربي في الحياة كلها، في السياسة والاقتصاد والاجتماع والتعليم والثقافة، وسلخه من تراثه وقيمه وتقاليده كما تسلخ الشاة من جلدها.
وأقام دستوراً لا دينياً يعزل الدين عن الحياة عزلاً كاملاً، قامت على أساسه قوانين مجافية للإسلام كلّ المجافاة حتّى في شؤون الأسرة والأحوال الشخصية(1).
كما قيد الاستعمار تلك الأنظمة بمعاهدات واتفاقات، تضمن بقائها في قبضته، فأكثرها مرتبط بمعاهدة أو أكثر مع دول البغي والعدوان، علماً بأن الإسلام يحرم على المسلمين تحريماً قاطعاً، إبرام مثل هذه المعاهدات المذلة كما يقول (سيد قطب)(2). رحمه الله.
ونظراً لتورط أكثر الأنظمة في العالم الإسلامي بمعاهدات مع الأعداء، ونبذ أكثرها للشريعة الإسلامية، فقد دعا المفكر الإسلامي (سعيد حوى) رحمه الله- صراحةً - إلي مصارعتها حتى تسقط، لأن "هذا أدنى مظاهر العزة وأدنى مظاهرها(3) أن تكون كلمة الله هي العليا "(4) على حد قوله.
__________
(1) الإسلام والعلمانية - يوسف القرضاوي - دار الصحوة للنشر - مصر – 1987م - 1408هـ - ص 60.
(2) لمزيد من التفصيل: انظر: دراسات إسلامية - سيد قطب - ص 219- 221.
(3) في الأصل: مظاهر؛ وأحسب أن الضمير قد سقط أثناء الطباعة.
(4) من أجل خطوة إلي الأمام - سعيد حوى - ط2 - 1399هـ - 1989م - ص18.(1/36)
ومما لا ريب فيه أن قسماً كبيراً من هذه الأنظمة أخذ يتعايش ويتأقلم مع العدو الصهيوني(1)، فيعقد معه المؤتمرات ويبرم معه الاتفاقات على اختلافها.
إن مثل هذا الرأي حول الأنظمة القائمة في العالم الإسلامي، يمكن للدارس أن يجد له صدى عند غالبية قادة الفكر في الديار الإسلامية. وقد يتردد البعض في التعبير عن آرائه حولها، نظراً لسياسة تكميم الأفواه، ومصادرة الحريات في أكثرها، إلا أن هذه الحقائق لا يختلف فيها اثنان، وخاصة إزاء عدائها السافر للإسلام.
ثامناً: غياب التخطيط من طرف المسلمين تجاه مخططات القوى المعادية:
من البداهة أن القوى المعادية والدول الغربية تضع مخططات بعيدة المدى من أجل تحجيم قوى الدول النامية والأمة الإسلاميّة على وجه الخصوص في مجالات عديدة سواء كانت في الاقتصاد أو في التكنولوجيا المتطورة أوفي السياسة وغيرها، فعلى رؤساء الدول الإسلاميّة أن يكونوا على وعي ويقظة وبصيرة لمخططات الأعداء، ثم عليهم أن يتخذوا موقفاً موحداً من أجل مواجهة هذه المخططات غير أن الواقع - مع الأسف - يعكس خلاف ذلك فهم يتصرفون بصورة انفرادية مما يسهل على قوى الاستعمار إخضاع الأمة الإسلاميّة وإذلالها.
وهناك مشاكل أخرى تتعلق بالحدود والنزاع حول السيادة على منطقة البترول وما إلى ذلك من المشاكل التي تنذر بانفجارات عديدة فيما بين الدول الإسلاميّة في المستقبل - وهي بلا شك من صناعة الغرب - وفي الواقع إن قائمة هذه المعوقات ستطول إلى ما لا نهاية فيما لو أردت استعراضها بالتفصيل ولكن المهم الآن هو: كيف نواجه هذه المعوقات أو نُقلل من غلوائها إلى حد أدنى؟ وهذا ما سنعرض له في المبحث القادم، والذي سنسلط فيه الضوء على الطريق الشرعي الذي يجب أن يسلكه المسلمون لاستئناف حياة إسلامية، وقيام خلافة راشدة.
المبحث الثالث
__________
(1) مجلة الشاهد - العدد27 - تشرين ثاني - نوفمبر - 1987م - ص 19.(1/37)
السبيل إلى إقامة خلافة راشدة على ضوء الكتاب والسنة
الطريق الشرعي الذي يجب أن يسلكه المسلمون لاستئناف حياة إسلامية، وقيام خلافة راشدة يتلخص في أمرين نصت عليهما الشريعة وأمرت بهما، وهما: الإعداد ثم الجهاد(1)(2).
الأمر الأول: الإعداد:
وهو رفع جاهزية الفرد أو الجماعة إلى مستوى المهام الشرعية المطلوبة، الخاصة منها والعامة، ويشمل ذلك الجانب المادي والمعنوي معاً.
أولاً: أنواع الإعداد:
1- الإعداد المعنوي:
وهو يشمل كل ما يدخل في بناء الإنسان إيمانياً، وثقافةً، وأخلاقاً.. وهنا نود أن نشير إلى أمرين مهمين يدخلان دخولاً أساسياً في معنى الإعداد المعنوي، وهما:
أ- العمل الجاد الدؤوب على تحقيق التوحيد - بكل أنواعه وفروعه المقررة عند أهل السنة والجماعة - في الأمة، وبخاصة في الطائفة التي تستشرف مهمة الدعوة والعمل من أجل نصرة هذا الدين، وإعلاء كلمته في الأرض.. ونشير إلى هذا الأمر الهام لسببين هامين هما:
السبب الأول: أن التوحيد في ديننا يعتبر غاية الغايات التي لأجلها خلق الله الخلق، وأرسل الرسل، وأنزل الكتب، وشرع الجهاد والقتال..
كما قال تعالى: { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ } (النحل:36).
__________
(1) الطريق إلى استئناف حياة إسلامية وقيام خلافة راشدة، على ضوء الكتاب والسُّنَّة - عبد المنعم مصطفى حليمة - المركز الدولي للدراسات الإسلامية - لندن - ط 1 - 1421هـ / 2000 م - ص 13 وما بعدها.
(2) عندما تنطلق قوافل الجهاد، وتُرفع راياته، ويُشرع القتال فالصواب أن يُقال: الإعداد والجهاد. أما قبل ذلك وقبل أن يتحقق الحد الأدنى والمطلوب للقيام بأعباء الجهاد وتبعاته، فالصواب أن يُقال: الإعداد ثم الجهاد؛ لما يفيده حرف العطف " ثم " من الترتيب وعدم استعجال الأشياء قبل أوانها ونضجها، ومن يتعجل الشيء قبل أوانه يُعاقب بحرمانه.(1/38)
وقال تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } (الأنبياء:25).
وقال تعالى: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } (الذاريات:56).
وقال تعالى: { وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ } (البينة:5).
فهو أي التوحيد - غاية لا تعلوها أو توازيها غاية.. ترخص في سبيلها كل الغايات والمقاصد عند وجود الاختيار أو التعارض.. لا يجوز الانشغال عنها بغاية أو شاغل.. لها الأولوية - دائماً - عند تزاحم المهام والأعمال..
فقيام دولة الإسلام، وتنصيب إمام عام على المسلمين.. وغير ذلك من المهام العظيمة كلها تدخل كوسائل ضرورية من أجل تحقيق التوحيد في الأرض.. من أجل إفراد الله تعالى وحده بالعبادة، وهذا أمر لا بد للعاملين للإسلام من أن يعلموه ويعوه جيداً، وينتبهوا له.. وإلا لا يسموا أنفسهم بالدعاة إلى الله، ولا أحزابهم بالأحزاب الإسلامية.. وأي جماعة أو حزب لم يراع التوحيد في مهامه وحركته بين الناس، أولم يعطه الأولوية من بين المهام، فهو يخرج بذلك عن منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله تعالى، ويكون وجوده وعدمه سواء..(1/39)
السبب الثاني: أن التمكين والنصر، والاستخلاف، والأمان وغير ذلك من الخير الذي ننشده ونطلبه ونسعى إليه.. كل ذلك مشروط بتحقيق التوحيد في أنفسنا، وجماعاتنا، ومجتمعاتنا كما قال تعالى: { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً } (النور:55). فكل هذا الخير والعطاء مقابل { يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً } فهل - نحن دعاة الخلافة وطلابها - حققنا ذلك في أنفسنا، وأسرنا، وجماعاتنا، وأمتنا ثم بعد ذلك سألنا الله تعالى النصر والتمكين، والاستخلاف..؟!
فتحقيق التوحيد من أقوى الأسباب إلى النصر والتمكين والاستخلاف، والعكس كذلك فإن من أكبر أسباب الهزيمة والفشل والذل انتفاء التوحيد، وعدم تحققه في أنفسنا وجماعاتنا وحياتنا.. قال تعالى: { إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ } (محمد: 7). أي إن تنصروا الله بطاعته وعبادته، وتوحيده، ينصركم على أعدائكم بتأييده.
ب- العمل الجاد من أجل تكوين وإيجاد الطليعة النخبة التي ترقى إلى مستوى هذا الدين.. ترقى إلى مستوى أخلاق هذا الدين.. ترقى إلى مستوى متطلبات ومهام هذا الدين.. ترقى إلى مستوى الأحداث والواقع الذي يعيشه المسلمون.. الطليعة التي تقدر على تحمل تبعات قيادة الأمة نحو النصر والتمكين.(1/40)
الطليعة المؤمنة التي لا تعرف الهزيمة والفرار أو الارتداد من أول ضربة تنزل بساحاتها.. الطليعة التي تواظب المسير على درب الجهاد إلى آخر فردٍ منها.. الطليعة التي لا تثنيها عن مهامها وأهدافها عمق الجراح والآلام.. الطليعة التي تثبت إذا اشتدت المحن.. تثبت إذا ارتد الناس وفُتنوا عن دينهم.. الطليعة التي إذا مات منها الأمير خلفه ألف أمير، وكانوا كلهم كفأً لذلك.
فهذه المرحلة من التكوين والبناء لهذه الطليعة أو النخبة من المؤمنين الموحدين لا بد للعصبة المؤمنة العاملة لنصرة هذا الدين من أن تتجاوزها وتستكملها أولاً قبل أن تنزل إلى المواجهة مع الجاهلية، ومع نزولها للمواجهة، وبعد نزولها.. فهذه الطليعة لن تكون طليعةً إلا بعد أن تمر في جميع أدوار ومراحل البناء والتربية في جميع الظروف والأجواء، ظروف السعة والضيق، وظروف العسر واليسر، وظروف الترهيب والترغيب، وظروف الخوف والأمن، وظروف الغنى والفقر، وظروف الشدة والرخاء..
وهذا الذي فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - في المرحلة المكية، التي كانت تعتبر خير مرحلة لتكوين وإنشاء تلك النخبة من أصحابه العظام.. هذه النخبة التي لا تعرف الردة يوم أن ارتد الناس.. ولا تعرف النفاق يوم أن نافق الناس.. ولا تعرف الفرار يوم أن كان الناس يفرون عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا حمي الوطيس واشتد القتال.. هذه النخبة المؤمنة الفريدة هي التي كانت تستشرف منها الأعناق عند الشدائد ونزول المحن، ويخنسون عند دواعي الطمع وتقسيم الغنائم..
لذلك لا غرابة عندما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الجيل الفريد من أصحابه، كما في الصحيح وغيره:" الأئمة من قريش.. ما بقي منهم اثنان "(1)، يقول ذلك - صلى الله عليه وسلم - لأنه يعلم من هم أصحابه هؤلاء، وما هي المراحل التربوية التي نشّأهم عليها، ومروا بها والتي أهلتهم لهذا المنصب الرفيع..
__________
(1) رواه البخاري – 3 / 1290 – حديث رقم 3310.(1/41)
لأجل ذلك كله وجدنا من الضرورة البالغة أن نشير إلى أهمية هذا النوع من الإعداد الذي غفل عنه كثير من الدعاة، وأعني به ضرورة تنشئة الأفراد والأمة على التوحيد الخالص الذي لا نصر، ولا عزة ولا تمكين للأمة إلا به، وبعد تحققه واستيفائه، وبخاصة في العصبة المؤمنة التي تنهض لمهمة نصرة وإعزاز هذا الدين.
2- الإعداد المادي وضرورة وجوده بجانب الإعداد الإيماني:
ما سبق ذكره من جوانب الإعداد للجهاد إنما كان منصباً على الإعداد المعنوي أو الإيماني، ولم يشر فيما مضى إلى الإعداد المادي والجسدي· وسبب ذلك أن الإعداد الإيماني للمجاهدين يحتاج إلى جهد وزمن طويلين، وهو الأساس الذي ينطلق منه المجاهد وتحقق به غايات الجهاد، وهو ما ينقصنا اليوم؛ حيث نعيش حياة الترف والترهل، والركون إلى الدنيا، وضعف الإيمان، وضعف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وضعف الصبر والتحمل· والانتصار على النفس في هذه المجاهدة والإعداد هو طريق النصر على الأعداء في ساحات القتال، والعكس صحيح·
أما الإعداد المادي والجسدي فإنه يتحقق في وقت يسير إذا قيس بالإعداد الإيماني·
ونظرًا لما تعيشه بلدان المسلمين اليوم من تسلط الأعداء وتهديداتهم مما يجعل الجهاد أمرًا مفروضًا على المسلمين للدفاع عن الدين والمال والعرض؛ وذلك في البلدان التي يحتلها العدو الكافر، أو أنه قريب الحدوث في البلدان التي يهددها العدو الكافر ويلمح بغزوها واحتلالها·
إنه نظراً لذلك فلا بد من الإشارة إلى الإعداد المادي والجسدي بأن يكون له حظ من الإعداد؛ وذلك في خط موازي للإعداد الإيماني والمعنوي؛ يسيران جنبًا إلى جنب دون أن يقطع أحدهم الآخر أو يؤخره·(1/42)
والأصل في الإعداد المادي قوله تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) (لأنفال:60).
يقول سيد قطب في الظلال: " فالاستعداد بما في الطوق فريضة تصاحب فريضة الجهاد، والنص يأمر بإعداد القوة على اختلاف صنوفها وألوانها وأسبابها ".
وقال: " فهي حدود الطاقة إلى أقصاها.. بحيث لا تقعد العصبة المسلمة عن سببٍ من أسباب القوة يدخل في طاقتها "(1).
ومن أهم جوانب هذا الإعداد ما يلي:
1- الإعداد المالي:
وهو من أهم جوانب الإعداد المادي؛ فهو عصب الدعوة والجهاد، ولا تكاد تخلو آية من الآيات التي تحض على الجهاد إلا ويذكر الجهاد بالمال مع الجهاد بالنفس بل يقدم عليها· وإذا تأملنا آية الإعداد الآنفة الذكر وجدنا في خاتمتها ذكر النفقة، مما يدل على أهمية المال في الإعداد المادي للجهاد· والتفريط في توفير المال للجهاد في سبيل الله تفريط في الأخذ بأسباب النصر·
ولذا وجب السعي في توفير مصادر مالية ثابتة لدعم الجهاد والإعداد له؛ وذلك بإقامة المؤسسات الاقتصادية، وبث روح البذل في الأمة وبخاصة الموسورن فيها، وإقامة المؤسسات الخيرية التي تعلم وتدعو وتدعم المحتاجين من المسلمين المهاجرين والمستضعفين·
2- الإعداد الإعلامي:
__________
(1) في ظلال القرآن – سيد قطب – دار إحياء التراث العربي – بيروت – لبنان – ط 7 – 1391هـ - 1971م – 4 / 48، 50.(1/43)
حيث لا يخفى على أحد ما للإعلام اليوم من أثر كبير في التعريف بالإسلام الحق والتعريف بأهله، وكذلك ما له من الأثر في فضح الباطل والتحذير منه ومن أهله؛ بحيث تستبين للناس سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين، وقد سبق التنويه على ضرورة المعرفة بالسبيلين للناس قبل المقاتله بالسنان· كما لا يخفى ما للإعلام من دور في التعريف بالجهاد والمجاهدين، ونقل أنباء انتصارات المسلمين وهزائم الكافرين، والاستفادة من الإعلام في الحرب النفسية ضد الكفار، ورفع معنويات المجاهدين والمسلمين بعامة؛ حيث إن أسلوب الحرب النفسية عن طريق الإعلام أصبح من الوسائل المهمة في تحطيم معنويات ونفسيات الأعداء وهزيمتهم·
فإذا لم يكن للمسلمين - سواء في إعدادهم للجهاد بالدعوة والبيان أو أثناء قتالهم الكفار - وسائل إعلامية قوية ومؤثرة فإن تفريطًا كبيرًا قد حصل في الأخذ بأسباب العدة للجهاد والانتصار على الأعداء·
3- الإعداد الجسمي:
المطلوب من المسلم أن يعتني بجسمه في جميع الأحوال؛ فيعتني بصحته وكل ما من شأنه تقوية الجسد وشدته وتحمله للمشاق وشظف العيش؛ " فالمؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف"(1) والقوة هنا تشمل قوة الإيمان والنفس والجسم، وقد تعوذ الرسول - صلى الله عليه وسلم - من العجز والكسل، فإذا كان هذا في الأحوال العادية، فكيف بمن يعد نفسه للجهاد؟ بل فكيف بمن غزاه الكفار في عقر داره أو حاموا حول دياره؟! كما هو الحال اليوم في أكثر بلدان المسلمين·
إن الأمر في حقه يكون آكد وأوجب؛ لأن الأجسام الضعيفة المترهلة المترفة التي أخلدت إلى الراحة والإسراف في أنواع الطعام والشراب والأثاث سوف لن تلبي نداء الجهاد؛ وذلك لما فيه من الشدائد والجوع والجراحات، الأمر الذي لا تطيقه الأجسام المتنعمة المترهلة المترفة·
__________
(1) رواه مسلم – 4 / 2025 – حديث رقم 2664.(1/44)
ووسائل تقوية الأجسام كثيرة ينبغي أن يهتم بها المربون والمهتمون بالإعداد للجهاد؛ منها:
تجنب فضول الطعام والشراب والنوم لما في ذلك من الترفه، ولما فيه من الأدواء والأمراض للأجساد والقلوب·
تقوية الجسم بأنواع الرياضة المشروعة؛ كالمشي الطويل وصعود الجبال، والسباق، والسباحة، وركوب الخيل، والدفاع عن النفس، وغير ذلك مما فيه تقوية الجسم وتعويده على تحمل الشدائد·
تعويد النفس على صوم النفل؛ فهو في المقام الأول عبادة عظيمة محبوبة لله عز وجل، وفيها من المصالح والحكم ما ذكره الله عز وجل في كتابه من أنه يورث تقوى الله عز وجل، كما أن فيه تعويد النفس على الصبر والتغلب على شهواتها وتقوية إرادتها·
ووسائل تقوية الأجسام كثيرة، لكن هذا هو الحد الأدنى الذي ينبغي لمن يعد نفسه للجهاد أن يأخذ به في حال الأمن والسلام·
أما في حال الحرب والتهديد فلا بد من الأخذ بالفقرة التالية·
4- الإعداد العسكري والتدريب على الرماية بأنواعها:
حيث قال فيها النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ألا إن القوة الرمي– ثلاثاً "(1)، ومما يدخل في الرمي المراد من الحديث: الرمي على المسدس.. إلى البندقية.. إلى المدفع.. إلى الدبابة.. إلى الرمي على الصواريخ.. فكل فنون الرماية هذه تدخل في المراد من كلمة " الرمي " الواردة في الحديث.. والتي يجب على المسلم أن يأتي منها ما يستطيع ويقدر عليه!
ويكون التدريب على الرماية واجبًا وفرض عين في حال ما يكون الجهاد عينيًا بأن يُهاجَم المسلمون في عقر دارهم·
وأما الإعداد لجهاد الطلب فيبقى كفائيًا تبعًا لحكم الجهاد الطلبي· ومعنى هذا أن البلاد التي غزاها الكفار اليوم يكون التدريب فيها واجبًا، والإعداد له متعينًا، وكذلك الحال فيمن هو مهدد بالغزو والاحتلال حتى لا يفاجأ المسلمون بعدوهم وهم على غير استعداد·
__________
(1) رواه أبو داود – 2 / 16 حديث رقم 2514, قال الشيخ الألباني: صحيح.(1/45)
بل والواجب على المسلمين ألا يدخروا وسعاً في الإعداد العسكري من حيث العتاد والتطوير والصناعة، وأل يكتفوا بما يجلبونه من الخصم عملاً بقوله تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) (لأنفال:60).
وقد يقال: إن المسلمين في مكة حيث كف اليد والتركيز على الإعداد الإيماني والمعنوي لم يتدربوا آنذاك ولم يأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالتدريب·
والجواب أن يقال: بأن الناس في ذلك الوقت ليسوا محتاجين إلى تدريب وتعليم لأنهم أهل القتال والخبرة بهذا الفن لطبيعة العرب في ذلك الوقت؛ حيث إن السلاح والرماية جزء من حياتهم كما هو الحال اليوم في بعض البيئات والبلدان·
الأمر الثاني: الجهاد في سبيل الله:
بعد أن بينا شرعية الإعداد وحكمه، وما يدخل فيه من الإعداد المادي والمعنوي، ننتقل إلى بيان حكم الجهاد وما يدخل فيه، ولماذا الجهاد هو الطريق الشرعي وليس غيره من الطرق.. والله المستعان.
فعندما نقرر أن الجهاد في سبيل الله هو الطريق الصحيح لاستئناف حياة إسلامية وقيام خلافة راشدة وليس غيره من الطرق، فمرد ذلك كله إلى حكم الكتاب والسنة، وإلى واقع المواجهة القديمة والمستمرة بين الحق وأهله من جهة والباطل وأهله من جهة أخرى، وليس إلى ما تميل إليه أهواؤنا ونزواتنا أو ما تمليه علينا عقولنا ومصالحنا الذاتية الضيقة.
وإليك أهم الأسباب التي تلزم الأمة بتبني طريق الجهاد كطريق وحيد للخلاص وللتغيير، وكطريق وحيد لاستئناف حياة إسلامية وقيام خلافة راشدة، وهي:(1/46)
أولاً: لأن الله تعالى أمرنا بالجهاد، وشرعه لنا كطريق للتغير ومواجهة الباطل وفرضه علينا، فهو أي الجهاد - قدر هذه الأمة لا مناص لها أن تتفلت منه، أو تحيد عنه.
قال تعالى: { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } (البقرة:216).
وقال تعالى: { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه } (الأنفال:39). أي حتى لا يكون شرك، ولا يكون ظلم وفساد عظيم.. وإن لم تقاتلوهم فسوف تكون الفتنة العظيمة في الدين، والعرض، والمال وكل شيء.
وقال تعالى: { فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَاللّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنكِيلاً } (النساء:84).
من هذه الآية وغيرها استنبط أهل العلم أن الجهاد يمكن أن ينهض به شخص واحد من المسلمين.. وأن تنكُّبَ الأمة عن الجهاد في سبيل الله لا يجوز أن يثني هذا الفرد عن النهوض والمضي في طريق الجهاد.(1/47)
قال القرطبي في التفسير 5/293: " قال الزجاج: أمر الله تعالى رسوله - صلى الله عليه وسلم - بالجهاد وإن قاتل وحده، لأنه قد ضمن له النصرة. قال ابن عطية: هذا ظاهر اللفظ، إلا أنه لم يجئ في خبر قط أن القتال فُرض عليه دون الأمة مدة ما، فالمعنى والله أعلم أنه خطاب له في اللفظ، وهو مثال ما يقال لكل واحدٍ في خاصة نفسه، أي أنت يا محمد وكل واحد من أمتك القول له { فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ } ، ولهذا ينبغي لكل مؤمن أن يجاهد ولو وحده(1)، ومن ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم -:" والله لأقاتلنهم حتى تنفرد سالفتي(2) ". وقول أبي بكر وقت الردة: ولو خالفتني يميني لجاهدتها بشمالي(3).
ثانياً: لأن الباطل - بكل فرقه وتكتلاته - المسلح بجميع أسباب القوة المادية لا ولن يسمح للحق وأهله بالعيش الكريم، ولا حتى بمجرد البقاء والوجود في الحياة - إن أمكنه ذلك - فضلاً عن أن يسمح له أن يستأنف حياته الإسلامية، أويقيم دولته وخلافته الإسلامية.
__________
(1) الجهاد سواء مضى بفرد أو أكثر لا بد من مراعاة نتائجه وما يؤول إليه من مصالح ومفاسد، فإن رجحت المصالح على المفاسد مضى الجهاد ـ على بركة الله ـ ولو بفردٍ واحد، ولا يلتفت حينها إلى أراجيف المبطلين والمرجفين، وإن رجحت مفاسده على مصالحه، فحينها لا بد من الصبر والتريث والتربص، إلى حين أن تزول المفاسد والعوائق من الطريق؛ فالجهاد شُرع لغيره لا لذاته.. والمفاسد والمصالح يجب أن تقدر وفق ضوابط الشرع ومعاييره وليس غير ذلك.
(2) السالفة: صفحة العنق؛ ذُكرت كناية عن الموت.
(3) الجامع لأحكام القرآن - القرطبي – 5 / 279.(1/48)
فالباطل - منذ أن خلق الله تعالى إبليس وآدم، وإلى يوم القيامة - في قتال مستمر للحق وأهله، وهو يمعن في التنكيل والذبح، والتمثيل، لا يهدأ له بال ولا يقف له قتل وقتال إلا بالقضاء التام على الحق وأهله، أو بإخراجهم عن دينهم وملتهم، وإدخالهم في دين الباطل وملته.. وهو ليس له مع الحق خيار ثالث آخر غير هذين الخيارين.. إما القتل، وإما صدهم وردهم عن دينهم!
بهذا نطقت أدلة الكتاب والسنة، وأدلة الواقع المعايش:
أ- أدلة النصوص الشرعية:
قال تعالى: { وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ } (البقرة:217).
فالآية دلت بما لا يدع مجالاً للشك أو الريب أن الكافرين لا يزالون في قتال وحرب مع المسلمين - ما وجدوا إلى ذلك سبيلاً - لا يتوقف ولا يهدأ، غايتهم منه صد المسلمين عن دينهم، وردهم إلى الجاهلية الأولى.
هم في قتال مستمر للمسلمين سواء قابلهم المسلمون بالمثل أولم يفعلوا..!!
وقال تعالى: { كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً } (التوبة:8).
أفادت الآية الكريمة أن الكافرين إن كانت الغلبة والظهور لهم على المسلمين، فإنهم لا يُراعون فيهم حرمة القرابة، ولا حرمة ما بينهم وبين المسلمين من عهود ومواثيق تحرم الاعتداء.. وإنما ظهورهم واستعلاؤهم يجرئهم دائماً على الغدر وسفك الدماء وانتهاك الحرمات..!
وقال تعالى: { وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ } (البقرة:120).
لن تفيد النفي التام والمؤكد في الحاضر والمستقبل، أي أنهم لن يرضوا عنك - يا مسلم يا موحد - اليوم ولا غداً إلى قيام الساعة مهما حاولت إلى ذلك سبيلاً إلا بشرطٍ واحد وهو أن تتبع ملتهم، وتدخل في دينهم وعاداتهم وطقوسهم.. وإن لم تفعل لا تطمع يوماً في أن يرضوا عنك، أو يُمسكوا عن أذاك وقتالك!(1/49)
ومنه يُعلم أن رضى ملل الكفر عن المسلم لهو دليل صريح على انحرافه عن جادة الحق والصواب، وهو مدعاة له كذلك أن يُراجع نفسه ويتهمها بالتقصير ليعلم أين هو من الحق المبين، صراط الله المستقيم(1).
وفي الحديث الذي أخرجه البخاري وغيره، لما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ورقة بن نوفل خبر ما رأى من الوحي، قال له ورقة: " هذا الناموس - أي جبريل عليه السلام - الذي نزَّل الله على موسى، يا ليتني فيها جذعاً - أي شاباً قوياً - ليتني أكون حياً إذ يُخرجك قومك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أو مخرجيَّ هم؟ قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً "(2).
هذه أدلة النصوص الشرعية التي تبين موقف أهل الباطل من الحق على مدار التاريخ وفي كل مكان، موقف صريح وواضح لا مواربة فيه ولا زيغ: إما القتل والطرد والملاحقة، وإما الردة عن الدين.. فهل الواقع يثبت ذلك ويصدقه.. فلنلقي نظرة إلى دلالة الواقع المعايش.
ب- أدلة الواقع المعايش والملموس: فهولا يخرج قيد أنملة عما قررته الآيات ودلت عليه النصوص الشرعية.
__________
(1) من علامات ذلك ـ إن وجدوا منه ما يرضيهم عنه ـ وصفهم له بأنه مرن، ومتفتح، وغير متشدد ولا متزمت، ولا متعصب، وأنه معتدل، ومتحرر.. وغير ذلك من الاطلاقات والأوسمة التي أصبحنا نسمعها منهم على من يدخل في طاعتهم وموالاتهم ! ومن علامات سخطهم على المسلم ـ الذي لا يجدوا منه ما يرضيهم عنه ـ وصفهم له بأنه متشدد ومتعصب، وأصولي، وإرهابي.. وغير ذلك من الأوصاف والاطلاقات !
(2) رواه البخاري – 4 / 1894 – حديث رقم 4670.(1/50)
وهنا لا نريد أن نشير إلى موقف ملل الكفر والباطل من الحق وأهله عبر التاريخ البعيد أو القريب، لا نريد أن نشير إلى قتل بني إسرائيل للأنبياء والرسل، لا نريد أن نشير إلى الحروب الصليبية الحديثة والقديمة التي غزت بلاد المسلمين، لا نريد أن نشير ما حصل على يد التتار من إجرام وانتهاكات للحرمات.. لا نريد سرد الأحداث التاريخية القريبة منها أو البعيدة التي تبين سياسة الاستئصال التي نهجها الباطل بكل فرقه وتجمعاته نحو الحق وأهله!
لا نريد ذلك كله.. وإنما نريد أن نشير إلى موقف الباطل المتحضر في زماننا من الحق وأهله، الباطل المتمدن الذي يرفع شعار حقوق الإنسان.. الباطل الحديث الذي يعلن كذباً وزوراً - عبر مجالس الأمم وغيرها - أنه يعيش في زمان لا مكان فيه للحروب والمؤامرات والمكائد، زمان السلام المزعوم الذي يعم جميع الشعوب وبني الإنسان على اختلاف مشاربهم وأديانهم، وأجناسهم..!
الباطل الذي يتسابق على التسلح واختراع الأسلحة الفتاكة من وجه.. ويعلن السلام للشعوب المخدرة المستضعفة المستعمرة من وجه آخر!!
1- لنبدأ أولاً من فلسطين المسلمة التي اغتصبتها عصابات الصهاينة اليهود منذ أكثر من نصف قرن، يقتلون أبناءها، ويستحيون نساءها، ويسجنون شبابها.. إضافة إلى سياسة التهجير والتجويع التي اتبعوها بحق أهلها، والتي أدت إلى طرد وتهجير أكثر من مليون مسلم، يتيهون في الأرض من غير قرار ولا استقرار..!
كل ذلك يحصل على مرأى ومسمع من الباطل المتحضر المتمدن الذي يدعو إلى السلام، بل يزعم السلام..!!
على مرأى ومسمع من الباطل الذي ترعاه وتقوده أمريكا الحديثة - ربيبة اليهود - التي تتزعم الديمقراطية وحقوق الإنسان..!!(1/51)
2- الدمار والحصار الظالم على العراق الذي تقوده الصليبية الحديثة المتحضرة بقيادة أمريكا وحلفائها من المنافقين - الذين هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا - والذي أدى إلى قتل ما يزيد عن خمسمائة ألف طفل من أطفال المسلمين(1)، لا ذنب لهم سوى أنهم ينتمون إلى العراق، ويعيشون في العراق..!!
أرادوا تدمير مستقبل العراق والأمة - على مدار مئات السنين القادمة - من خلال قتلهم لهذه الآلاف المؤلفة من الأطفال التي تمثل الأمل لكل أمة أو شعب..!
هم لا يخشون طاغوت العراق - كما يتظاهرون - وإنما يخشون أن يخرج من أطفال العراق من يكون كصلاح، أو سعد، أو خالد.. يعيد للأمة مجدها ومكانتها بين الأمم.
3- لندع العراق وجرحها العميق.. لننظر ماذا حصل ويحصل لمسلمي وأطفال ونساء أفغانستان، حيث قتل وشُرد من أهلها بالملاين على أيدي الملحدين الروس.. لا ذنب لهم سوى أنهم يقولون ربنا الله، وينتمون لهذا الدين العظيم.
ولم تنته بعد من آثار الاحتلال الروسي الغاشم إلا وتفاجأ بالحصار العالمي - الذي يمنع عنها كل شيء حتى القمح ولقمة العيش - بقيادة الإنسان الراقي، والمتحضر الأمريكي، المدعوم بمباركة وموافقة الأمم المتحدة..!!
4- وكذلك البوسنة والهرسك وما حصل فيها من مئات المجازر الجماعية بحق المسلمين على أيدي نصارى الصرب المجرمين.. المجازر البشعة - التي لم يعرف التاريخ لها من مثيل - التي لم تستثن الأطفال والنساء من الذبح والتشويه، ودفنهم في حفر جماعية وهم أحياء..!!
يحصل ذلك على مرأى ومسمع من العالم بأكمله.. ولكن ما دام الضحية هم المسلمين، فإن الدم رخيص لا قيمة له ولا حرمة، وهولا يستدعي - من العالم المتحضر الراقي المحب للسلام ولا الأمم المتحدة! - المساعدة أو الحركة من أجل إنقاذه، أو فعل شيء يُذكر، إلا إذا كانت مصلحة الساسة ومصاصي الدماء تستدعي الحركة فالقوم حينها لا يقصرون..!!
__________
(1) هذه إحصائيات الأمم المتحدة على الإسلام والمسلمين.(1/52)
5- وكذلك مسلمي كوسوفو الذين تاهوا بالملايين في الغابات لكي يكونوا فريسة سهلة للوحوش الضارية المنتشرة في الغابات وبين الأدغال، بعد أن هربوا من الوحوش الآدمية الصربية الصليبية التي تلاحقهم في كل بيت وشارع..!!
6- وكذلك الشيشان المسلمة اليوم تترض شعبها المسلم الأبي للإبادة والتصفية الجماعية الشاملة، جميع شعبها: رجالاً ونساءً، وأطفالاً وشيوخاً، إضافة إلى التدمير الشامل لجميع البنية التي هي تحت التحتية، حيث تحولت الدولة بكاملها إلى كومة من التراب والركام الناتج عن البنيان المتهدم بفعل الآلة الحربية الصليبية.. كل ذلك حصل على أيدي الروس المجرمين الذين يحنون إلى صليبيتهم من جديد، بمباركة ودعم مادي ومعنوي من المجتمع الغربي الصليبي..!!
لا ذنب لهذا الشعب المسلم المجاهد الأبي - في كل ما حصل ويحصل لهم - سوى أنهم يريدون أن يعيشوا إسلامهم أحراراً بعيداً عن الهيمنة والرقابة الروسية الصليبية..!!
7- وكذلك ما يحصل من تصفية دموية للمسلمين في جنوب الفلبين.. وفي كشمير.. وفي داغستان وأزباكستان.. وفي الصين.. وفي غيرها كثير من الأمصار التي يتعرض فيها المسلمون إلى الاضطهاد والتصفيات، والملاحقات، والمجازر الجماعية من قبل طواغيت الحكم والكفر..!!
والشاهد من جميع ما تقدم: أن أدلة النصوص الشرعية، وكذلك أدلة الواقع المعايش كلها تدل دلالة قطعية صريحة على أن ملل الكفر بكل طوائفها ونحلها لا تزال تمارس الذبح والقتل والإجرام بحق المسلمين في أبشع صوره وأنواعه، وعبارات السلام والتعايش الآمن التي ترفعها الأمم المتحدة وغيرها من الدول والمنظمات ما هي إلا عبارة عن نثر للرماد في الأعين، وهي لا تغير شيئاً من الحقيقة والواقع الصريح الذي نعايشه ونكابده.
وإذا كان الأمر كذلك أيعقل أن يُقال للمسلمين لا يجوز لكم أن تجاهدوا لترفعوا عن أنفسكم وأطفالكم ونسائكم الذبح والقتل والإجرام..؟!(1/53)
أيعقل أن يقال لهم كفوا أيديكم، ومدوا أعناقكم للذبح والشنق، واصبروا على الذل والظلم والهوان من دون أدنى حراك أو مقاومة، إلى أن يأتيكم الخليفة المنتظر، والذي يكون خلاصكم ونجاتكم على يديه(1)..!!
ثالثاً: أن تنكب طريق الجهاد في سبيل الله يعني ويستلزم اختيار طريق العذاب والضياع، طريق الذل والهوان، تبني طريقاً مؤداه إلى دفع الضرائب الباهظة في الدين، والعرض، والأرض..
قال تعالى: { إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبتْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } (التوبة:39).
أي إلا تخرجوا للجهاد والقتال يعذبكم عذاباً أليماً، والعذاب الوارد في الآية يشمل عذاب الدنيا بالذل والهوان ودفع الضرائب الباهظة، وعذاب الآخرة وهو أشد وأنكى..
وقال - صلى الله عليه وسلم -: " ما تركَ قومٌ الجهاد إلا عمَّهم الله بالعذاب "(2). أي شملهم وظلّلهم بالعذاب، عذاب الدنيا بالذل وبما شاء الله، وعذاب الآخرة الذي يكون أشد وأنكى..
__________
(1) لا أزال أذكر تلك المرأة المسلمة البوسنية ـ وقد روعت بقتل زوجها وأطفالها، وهي واقفة أمام بيتها المهدم والمسوى بالأرض ـ وهي تقول: ظللنا نقول: الإسلام دين سلام، دين سلام، دين سلام.. حتى ذبحونا من الوريد إلى الوريد.. !! وكذلك حزب التحرير ومن يشايعهم على باطلهم ظلوا يقولون للأمة: لا جهاد إلا مع خليفة.. حتى ذبحونا من الوريد إلى الوريد، واستولى الأعداء على البلاد والعباد..!!
(2) أخرجه الطبراني – 4 / 148 – حديث رقم 3839.(1/54)
وقال - صلى الله عليه وسلم -: " إذا تبايعتم بالعينة(1)، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذُلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم "(2). أي لا يرفع عنكم هذا الذل والعذاب حتى ترجعوا إلى الجهاد في سبيل الله، سبب عزتكم وكرامتكم - فسمى دين المسلمين بالجهاد - فلم تنشغلوا عنه بالتجارة - التي يتخللها المعاملات الربوية - ولا بالرعي أو الزراعة أو غير ذلك مما يدخل في زينة ومشاغل الدنيا.
وقال - صلى الله عليه وسلم -: " يوشك الأمم أن تداعى عليكم - أي تتجمع وتتكالب - كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذٍ؟ قال: بل أنتم يومئذٍ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفنَّ في قلوبكم الوهن، فقال: يا رسول الله وما الوهن؟ قال:" حب الدنيا وكراهية الموت "(3).
أقول: أي تكالب لأمم الكفر على أمة الإسلام - أمة المليار مسلم! - أعظم وأشد من تكالبها عليها في هذا الزمان.. وسبب ذلك كله - كما قال سيد الخلق - صلى الله عليه وسلم - - الوهن الذي أصاب الناس والذي مؤداه إلى الإعراض عن الجهاد في سبيل الله.
رابعاً: أن ترك الجهاد - من غير عذر شرعي معتبر - وتنكب طريقه يُعتبر قرينة دالة على النفاق، ومرض القلوب وفسادها والعياذ بالله.
__________
(1) التبايع بالعينة: هو نوع من المعاملات الربوية، وصفته أن تبيع شيئاً إلى غيرك بثمن مؤجل، ثم تعيد شراءه منه ثانية بثمنٍ أقل يُدفع نقداً.
(2) أخرجه أبو داود – 2 /296 – حديث رقم 3462، قال الشيخ الألباني: صحيح.
(3) أخرجه أبو داود – 2 / 514 – حديث رقم 4297، قال الشيخ الألباني: صحيح.(1/55)
قال تعالى: { لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ - إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ } (التوبة: 44 – 45).
فأخبر - سبحانه وتعالى - أن تركهم للجهاد وتخلفهم عن الجهاد مع النبي - صلى الله عليه وسلم - دليل على نفاقهم ومرض قلوبهم، وعدم إيمانهم.
قال ابن تيمية: " فهذا إخبار من الله بأن المؤمن لا يستأذن الرسول في ترك الجهاد وإنما يستأذنه الذين لا يؤمنون، فكيف بالتارك من غير استئذان؟!"(1).
قلت: فكيف بمن يثبط الأمة عن الجهاد، ويؤثم المجاهدين ويجرمهم لجهادهم..؟!
كيف بمن يعطل الجهاد كلياً، ويصد عنه الأمة، لتأويلاتٍ باطلة وفاسدة، مبعثها الخور والجبن، والإرجاف..؟!
كيف بمن يستبدل الجهاد في سبيل الله بالطرق الباطلة الشركية كالديمقراطية، والانتخابات البرلمانية، وغيرها..؟!
كيف بمن يكره الجهاد والمجاهدين - صفوة هذه الأمة - ويعاديهم، ويحرض الناس على أذاهم والنيل منهم ومن جهادهم..؟!
كيف بمن يحمله الحسد والإرجاف على أن يرمي المجاهدين بالخيانة والعمالة لدول الكفر والطغيان، وأنهم عبارة عن مأجورين تحركهم دوافع العمالة للأنظمة الخائنة..؟!
لاشك أن من يأتي بشيء من هذه الخصال السيئة يكون أولى بالنفاق ممن يترك الجهاد بعد استئذان..!!
وقال - صلى الله عليه وسلم -: "من مات ولم يغز، ولم يُحدث به نفسه مات على شعبة من نفاق"(2).
هذا فيمن لم يحدث نفسه بالجهاد بصدق وإخلاص.. فكيف بمن تقدم ذكرهم، وذكر أوصافهم وخصالهم المشينة..؟!
__________
(1) مجموع الفتاوى: 28/438.
(2) رواه مسلم – 3 / 1517 – حديث رقم 1910.(1/56)
أقول: أضعف الإيمان أن يحدث المرء نفسه بالغزو والجهاد ويتمناه، ويدعو الله تعالى أن ييسره له، ويصدق نفسه في ذلك - وهذا أمر مطاق للجميع لا يُعذر أحد في تركه لأنه لا سلطان لأحد عليه يستطيع أن يمنعه من ذلك - فإنه إن صدق في حديث النفس، حملته نفسه على الجهاد في سبيل الله يوماً من الأيام ولا بد.
وبعد، هذه بعض الأسباب - وواحد منها يكفي لطالب الحق - التي تحملنا بقوة على أن نقول أن الجهاد في سبيل الله هو الطريق الشرعي الصحيح والوحيد الذي يجب على الأمة أن تتبناه وتسلكه وهي في طريقها ومسعاها إلى استئناف حياة إسلامية وقيام خلافة راشدة.
وإن بدا للأعين - لأول وهلة - أن هذا الطريق شاق وصعب على الأمة أن تخوضه أو تسير عليه، وأنه سيكلفها الكثير..
أقول: رغم وجود بعض المشاق لهذا الطريق المبارك إلا أنه أسهل الطرق وأيسرها وأقربها، وأقلها كلفة وتضحية، ولا يوجد طريق أيسر منه ولا أقرب لبلوغ الأهداف والغايات.
وأي محاولة لتحقيق الأهداف والغايات العامة لهذا الدين من غير هذا الطريق، فهي محاولة فاشلة وخاسرة، ليس من ورائها سوى مضيعة الأوقات والطاقات معاً.. فليتق الله الدعاة والعاملون لهذا الدين في أوقات وطاقات الأمة، ولا يجعلوها عرضة لتجاربهم وآرائهم الشخصية التي لا تزيد الأمة إلا تخلفاً وتأخراً عن أهدافها وغاياتها!
خاتمة البحث
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وبمعونته تدرك الغايات، فبعد هذا العرض المستفيض، أحمد الله تعالى أن أعانني على إتمام هذا البحث, آملاً أن يكون هذا العمل خطوة تسهم في الكشف عن معوقات عودة الخلافة الإسلامية، ويبين للمسلمين سبل إعادتها قريباً - إن شاء الله تعالى -، وأختم بإبراز أهم النتائج التي توصلت إليها من خلال هذه الدراسة، وقد جاءت متنوعة، ويمكن أن أجملها فيما يلي:(1/57)
إن التمكين في الأرض لأي طائفة كانت أو فئة إنما هو هبة من الله تعالى ونعمة، وضع الله له شروطًا ومقدمات لا يقوم إلا بها، فإذا استوفت أمة من الأمم الشروط والمقدمات، استحقت التمكين والغلبة والظهور، ويظل بقاؤها واستمرارها على هذا التمكين مرهونًا بهذه الأسباب ذاتها، فإذا فقدت شيئًا منها، أو أخلت بها فقدت عوامل البقاء، وانحدرت إلى هاوية الذل والهوان والضعف. وهذا مع حدث مع بني عثمان، فلما دب فيهم الضعف والهوان والبعد عن منهج الله وصار الظلم والبذخ عادة سلاطينهم نزع الله ما في أيديهم.
التخطيط والتدبير. فقد قابل المسلمون سقوط الخلافة بردات فعل عاطفية، في حين دبر الأعداء وخططوا لإسقاطها عشرات السنين حتى تمكنوا منها.
تفسير الأمور والأحداث التي تطال الأمة، تفسيرًا شرعيًا بعيدًا عن خزعبلات العلمانيين والمتشدقين، فالحروب والوقائع والأحداث التي تمر بالأمة، كلها صور من صور الصراع بين الحق والباطل، بين الإسلام والكفر، بين الهدى والضلال، وقراءة التاريخ تريك ذلك رأي العين.
أن قوة المسلمين في توحدهم وتماسكهم، ولذلك سعت الدول الأوروبية وحرصت على تفكيك وحدة المسلمين.
أن الخلافة هي الإطار السياسي الشامل الذي يجمع كلمة المسلمين ويوحدهم ويضمن لهم القوة والتماسك ويعمل على إقامة الدنيا، وحراسة الدين.
الاهتمام بالتربية، والإعداد الإيماني قبل الخوض في مقارعة الباطل، ذلك أن الاهتمام بالجانب المادي وحده قد يؤدي إلى نصر سريع لكنه يحتاج بعد ذلك إلى نوع آخر من الإعداد يستطيع الوقوف أمام المغريات، ولا يتأتى هذا إلا بتربية عميقة.
صفاء المعتقد، والتصورات وفق مذهب أهل السنة والجماعة، والأخذ على يد المبتدعة والفرق الضال، فلقد اكتفى العثمانيون بالإسلام بمفهومه العام وغضوا الطرف عن الفرق الباطنية التي كان لها أكبر الأثر في سقوط الخلافة في النهاية.(1/58)
العزة والنصر والسؤدد كلها في الإسلام، وهذا من أعظم الدروس المستفادة من سقوط الخلافة.(1/59)