بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة المدنية المعاصرة طور ذكى قوى من أطوار النشاط الإنسانى على ظهر الأرض. والتقدم الذى أحرزته فى إدراك خصائص الأشياء والإلمام بالقوانين الطبيعية جدير بالإعجاب. ثم إن تطويع ذلك كله لخدمة الإنسان وتيسير مرافقه ارتفع بمستوى الحياة الخاصة والعامة فى كثير من الأقطار، وزاد البشر ـ فى القارات الخمس ـ كما وكيفا زيادة ملحوظة. وقربت وسائل النقل الحديث، ووسائل الإعلام الكثيرة، المسافات المادية والفكرية بين الأمم، فانطوت الأبعاد التى كانت تجعل الجماعات البشرية تعيش فى جو من الاستيحاش والغربة، لا يدرى بعضها عن البعض الآخر إلا القليل.. وقد تكون اختلافات العقائد والمذاهب باقية فى هذه الدنيا. وربما ظل التعصب القديم لها يباعد بين طوائف كبيرة من الخلق، إلا أن هناك ـ بلا شك ـ طرقا جديدة عبدتها حاجة العالم إلى التفاهم، وأمكن فى سعتها أن يتلاقى الخصوم فى الرأى، وأن يعرف بعضهم الآخر عن كثب..!! هذا ارتقاء عالمى يبعث على الرضا، غير أننا نراه جزءا من كل، وخطوة من خطوات !! لو أن الحياة على ظهر هذه الأرض هى خلاصة الوجود الإنسانى، وألفه وياؤه، لقلنا: أن الناس قطعوا إلى كمالهم المنشود خطوات فسيحة، وأن إشرافهم على الغاية قريب ! أما والحياة الأرضية فى نظرنا- نحن المؤمنين بالله ولقائه- مقدمة لحياة أكبر، تعقبها يقينا!
ص _004(1/1)
ومن هذه الحياة الحاضرة يصوغ الناس آخرتهم. ومن طريقة العيش فيها تكون عند الله عاقبتهم.. أما والأمر كذلك فإن العالم تنقصه عناصر خطيرة ليستكمل رشده ويسدد خطوه ويرضى ربه..! قد تقول: المعابد فى أرجاء الأرض قائمة، يقدر كل متدين بدين ما أن يولى وجهه شطرها، وأن يتصل بربه فى ساحاتها.. ونقول: إن الله يأبى أن يكون مجمل صلته بخلقه لحظات هدوء أو سرحان أو مناجاة فى هذه البيوت التى أقيمت باسمه. ثم ينطلق الناس بعدها فى عرصات الأرض يحيون كيف يشتهون، ويتعاملون بما يتواضعون عليه من قوانين وتقاليد.. إن الله نظم للناس شئونهم الخلقية والاجتماعية والسياسية، وأراد أن يحترموا ما شرع لهم، لا داخل جدران المعابد وحدها، بل فى متقلبهم آناء الليل وأطراف النهار، فى أنحاء البر والبحر !! أعرف أن بعض الناس يفزعهم هذا الكلام، وستثبت إلى أذهانهم صور كالحة لمجتمعات دينية أساءت إلى نفسها وإلى الحياة. وأن القلق سيخامر أفئدتهم من عودة هذه الأجواء الدينية التى يشينها الجمود والتعصب!! وربما همسوا إلى أنفسهم: إن ما يقوله هذا الكاتب يهددنا بنكسة إلى الخلف!! وأسارع إلى تبيان ما عندى! اننى ألعن جمود العقل، واستغلاق النفس، وأستنكر من أعماق القلب عودة الإنسانية إلى حياة تنتقص ذرة من حرية العقل والضمير، أو تقف شبرا يسعى الإنسان إلى غزو المجهول والسيطرة على الكون.. إن غاية ما أرجو، ألا تهى علاقة الإنسان بالله، وألا يحتبس فى سجن المآرب المادية فينسى الملكوت الرحب الذى ينتظره حتما بعد السنين الطوال. أو القصار التى يقضيها هنا بين الأقرباء والأصدقاء. ص _005(1/2)
إن اليوم الآخر شطر من حقيقة الإيمان. وإن الإعداد لما بعد الحياة الدنيا حق تتيه عنه الآن أعداد هائلة من أبناء آدم..!! وإن هذا الإعداد يتطلب أن يشكل الناس أخلاقهم ومسالكهم وفق مراد الله منهم لا وفق ما يشتهون. أما الجمود والتعصب فهى رذائل تعرض للأفراد وللبيئات، وما كانت ولن تكون أجزاء من جوهر الدين. نعم، ولقد رأيت هذه الرذائل تسود بها خلائق بعض الرجال المدنيين، كما تسود بها خلائق بعض المنسوبين إلى الدين سواء بسواء ناقشت نفرا من الشيوعيين والوجوديين، كما ناقشت قوما نفوسهم غفل لا يعتنقون مذهبا من المذاهب.. فوجدت من هؤلاء فريقا يصغى بانتباه، ويفكر بتؤدة، ويستوعب ما تسوقه من مقدمات، ويتابع ما تستخلص من نتائج، وقد يقدر وجهة نظرك إن لم ينشرح بها صدره.. على حين وجدت فريقا آخر من هؤلاء عبد فكرة ثابتة، لا يطيق لها معارضة، ولا يرى لمعارضيها عقلا، ولا يقر لهم حقا.!! إن الزعم بأن التعصب وقف على الدين خطأ، إنه خطيئة يقع فيها كثير من الناس. ونحن علماء الإسلام نمقت التعصب، ونكره الجمود، أو هكذا يعلمنا ديننا. وعلى أية حال فإن الإسلام أوذى فى سيره وسمعته، وفى قضايا أوطانه وأمته،بوحى من التعصب الأعمى، لم يزل في عصر ازدهار العلم كما كان في عصر تأخره . فنحن نود لو نقهت البشرية جميعا من هذا الداء. ونبسط يد التعاون مع ليخلص الكل من لوثاته.. فلندع الركود والجمود، ولنطرح التحزب والتعصب. وترك هذا كله لا يمنعنا بداهة من شرح المثل الرفيع الرقيق الذي نريده لأنفسنا وللناس كافة، ولا من إعلان رغبتنا الصادقة أن نرى هذا المثل واقعا حيا تفىء علينا ظلاله.. ص _006(1/3)
وأظن من حقنا أيضا إبداء ألمنا للحواجز المفتعلة التى تحول دون تحقيقه.. وهى حواجز تصنعها بتعمد وإصرار القوى العالمية الكارهة للإسلام والمفتونون بهذه القوى أو المذعورون منها. نحن المسلمين نعتقد أن ما بين دفتى المصحف الشريف هو مراد الله من عباده. وأن هذا الموحى المصون يمثل قواعد الدين الواحد الذى تتابع المرسلون فى العصور الماضية على الهداية به، ومناشدة أبناء آدم أن يقتنعوا وينتفعوا بما فيه.. وهو كذلك الوحى الذى سيصحب الإنسانية حتى النهاية. لن يطرأ عليه تغيير بالزيادة أو النقص أو التبديل.. فى هذا المصحف صور تامة رائعة للحق فى العقيدة والخلق والعبادة والمعاملة تكفل للأمم معاشها هنا، ومعادها هناك!! وليس لهذا المصحف طابع إقليمى، ولا نزعة خاصة. إن العالمية شائعة فى آياته كلها شيوع الصفاء فى وجه المرآة، أو شيوع الزرقة فى قبة السماء. رب العالمين الذى خلق الأجناس والألوان، يضع لأولئك جميعا نظاما نفسيا واجتماعيا لا يتفاوتون بازائه، ولا يمتاز بعضهم على بعض. إن المكان والزمان والفروق الموهومة تمحى كل الامحاء فى جو القرآن الكريم: ( قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السماوات والأرض) وما أشعر- أنا المسلم الذى تعلمت على محمد- إلا أنى تابع وفى لكل نبى سبق. تنبع محبتى لموسى وعيسى وغيرهما من محبتى لمحمد وكتابه. وولائى العاطفى يمتد حتى يتجاوز حدود أمتى إلى أقربائى من بنى آدم قاطبة، فأنا أرحمهم، وأرق لهم، وآسى لشاردهم، وأهش لراشدهم..!! ص _007(1/4)
إن هذا المصحف الشريف أفهمنى أمرين.. أولهما: أنى سيد هذا الكون، ومن حقى أن أباشر سيادتى على كل شىء فيه، وأن أسخره، علوا وسفلا، فى مرافقتى المختلفة. أما كيف أصنع ذلك؟ فإن الدين ترك هذا للاجتهاد الحر، والنظر الحصيف..!! وغاية ما يطلب ألا أضع حصيلة تجاربى فى يد الشيطان!! إن استخدام ثمرات التقدم العلمى، فى التدمير والإساءة لا يسوغ، وهو ينافى وظيفة الإنسان فى العالم وسر استخلافه فى الأرض.. والأمر الثانى: الذى تعلمته من هذا المصحف: أن هذه الحياة الأرضية تمهيد لما بعدها من حياة باقية. وأن على البشر أن يخلطوا نشاطهم فى تحصيل معايشهم بنشاط آخر فى تأمين مستقبلهم عند الله!! ما هذا النشاط الآخر؟ إنه بداهة التزام ما شرع الله، والتأميل فى ثوابه، والوجل من عقابه!! وعند هذه النقطة تفترق بنا السبل نحن والماديون الذين يزحمون فى هذا العصر القارات الخمس !! نحن نؤمن بالله، ونوقن من العودة إليه. ونؤمن برسله، ونرى ضرورة اتباعهم. ونؤمن بوحيه، ونتحرى ضبط أعمالنا وفقه..! ونشعر بأن أمامنا حسابا دقيقا عما نفعل ونترك..! أما الماديون فهم ينكرون هذا فى أعماق سرائرهم ولعلهم يسخرون منه!.. إلا أنهم قد يزهدون فى إثارة جدل حوله مع جمهور المتدينين، ويكتفون بامتلاك زمام الحياة، وتوجيهها حسبما يعتقدون..!! ص _008(1/5)
وقد سارت الأمور فى أقطار شتى تحمل فى تيارها ذلك التناقض المنكر.. فهل يتفق هذا الوضع مع الأحوال النفسية والاجتماعية التى تسود ربوع العالم الإسلامى؟ إن المسلمين لا يزالون أوفياء لكتابهم، وهم يأبون بصرامة وغضب أن يصرفوا عنه. وفى نفوسهم رغبات جياشة فى الانقياد لتعاليمه، والاصطباغ بها ظاهرا وباطنا. والإيمان الذى يؤسسه هذا المصحف ليس نزوعا فرديا إلى التقوى وسط بيئة ذاهلة غافلة، كما أنه ليس مجموعة من الاصطلاحات الاجتماعية المعزولة عن العبادة أو المنقطعة عن وجه الله، كلا!! إن عناصر هذا الإيمان حبات فى عقد متماسك! إما أن يبقى كله! وإما أن ينفرط كله ويتعرض للضياع.. الإنسانية فى نظر الإسلام معلولة بآفات شتى. ولكى تستشفى من هذه الآفات تحتاج إلى التداوى بالدين كله، لا يغنى جزء منه عن جزء: (إن الإنسان خلق هلوعا * إذا مسه الشر جزوعا * وإذا مسه الخير منوعا) هذه طبيعة عامة فى الخلق وهم- ليبرأوا منها- لابد لهم من: 1- الصلاة. 2- الزكاة. 3- الثقة فى يوم الجزاء. 4- الخشية من الله.. إلخ. ولذلك قال تعالى بعد الآيات السابقة: (إلا المصلين * الذين هم على صلاتهم دائمون * والذين في أموالهم حق معلوم * للسائل والمحروم * والذين يصدقون بيوم الدين * والذين هم من عذاب ربهم مشفقون).. إلخ أرأيت هذه المجموعة من الوصايا وغيرها؟ ص _009(1/6)
تلك هى معالم المجتمع المسلم التى لا ينفك عنها، ولا تنفك عنه. إنه مجتمع تختلط فيه صيحات التكبير والتحميد بضوضاء المصانع وضجة الآلات. وبين الحين والحين تستمع الأسواق الصاخبة، والحياة المائجة، إلى مناد جهير الصوت، واضح النبرات، جلى العبارات. يطلب من الناس أن يستعدوا للصلاة. العمل لله، والولاء لله، والبدء باسمه فى كل حركة، وسكنة، شعار هذا المجتمع..!! والحكم- فى تعريف الفقه الإسلامى- خلافة عن النبوة فى رعاية شئون الناس الدينية والدنيوية، فكما يقيم الحاكم جسرا على نهر ليعبر عليه العابرون، يبنى المعهد الذى يصقل النفوس، ويبين الحلال والحرام، والفضيلة والرذيلة..!! كلا العملين جزء من وظيفته، وليس أحدهما أولى من الآخر باهتمامه. لأن تصحيح الأوضاع المدنية مهاد حتم لتصحيح الأوضاع والغايات الإنسانية التى تنساق إليها، وكذلك حشد الخبرات والقدرات التى تعين على ذلك كله. ومن ثم وجب أن يكون الحكم ترجمة أمينة للمجتمع الذى يقوم فيه، وأداة صالحة للتعبير عن مزاج الأمة.. وعقيدتها التى تقدسها، وشرعتها التى آثرتها.. والعالم الإسلامى المترامى الأطراف يود أن يسير على منهاج كتابه، لكنه محروم مما يود. وتوجد قوى شاذة تعاكس رغبته، وتحاول بوسائل الإكراه المادى والأدبى أن تلوى زمامه عن الوجهة التى يريد.. إنها تضغط عليه كى يرتد عن ديانته كلا أو جزءا، على قدر ما تبلغ أدوات هذا الضغط الباطنة والظاهرة..!! ولعلها تكتفى منه مؤقتا أن يترك بعض ما أوحى إليه، على أمل أن يترك الوحى كله مستقبلا.. ولكن هذا العالم الإسلامى المتعب فصر على الاستمساك بالدين كله، وراغب أن ينال حرية العمل به، والاحتكام إليه. ص _010(1/7)
وهو مبلبل الفكر لطول ما يكابد من مساومات ومؤامرات، ولطول ما ترادف عليه من محن وأزمات.. ولقد ألفت هذا الكتاب ليكون جهدا مع الجهود المبذولة للدفاع عن المصحف المهاجم وأمته المعناة فى أنحاء الأرض. إنه كتاب لا يخص قطرا إسلاميا بعينه. إنه يتناول حاضر ومستقبل أمة تزيد على 500 مليون إنسان، عاث الاستعمار السياسى والثقافى فى أرجائها فسادا..!! والروح الذى لازمنى وأنا أخط سطوره هو الذى لازم الشيخ محمد عبده عندما كان فى باريس يصدر مجلة " العروة الوثقى "، هذا الروح الذى وصفه الأستاذ أحمد أمين فقال: " إن مقالات العروة الوثقى تنظر إلى العالم الإسلامى كله على أنه وحدة "، فإن ذكرت مصر أو الهند فعلى سبيل المثال. وكانت هذه المقالات تقصد أول ما تقصد إلى مناهضة الاحتلال الأجنبى بجميع أشكاله. وتهدف إلى رفع نيره عن العالم الإسلامى كله عن طريق ثورة الشعوب، وبث روح العزة القومية على أساس العقيدة الدينية الصحيحة، كما تستهدف خلق الأمل فى النجاح مكان اليأس، وتوثيق الصلات بين الشعوب الإسلامية كلها، لتتعاون على دفع أذى الأجنبى عنها، والتخلص من المستبدين الظالمين من أهلها، وتأسيس الحياة الاجتماعية والسياسية على أصول الإسلام الأولى: من إعداد للسلاح ومقابلة القوة بالقوة، وطرح العقائد الدخيلة التى تدعو إلى الاستسلام، مثل رمى العبء كله على القضاء والقدر. ص _011(1/8)
وإفهام الشعوب أن الإسلام فى شكله الصحيح لا يتنافى مع المدنية، ولا يعوق التقدم أو الوصول إلى ما وصلت إليه الأمم الأخرى. غاية ما هنالك من فرق أن الشيخ محمد عبده- عندما كان يصدر العروة الوثقى فى باريس- كان طريد الإنجليز الذين هزموا شعبه، وأذلوا أهله، ودخلوا القاهرة موطن الجامع الأزهر، وحاملة لواء العلم الإسلامى خلال ألف عام. أما أنا ففى القاهرة التى تحررت من هذه القيود، وهى ماضية فى طريقها القديم تستأنف السعى لتجفيف المستنقعات الفكرية الحمئة التى خلفها الغزو الإستعمارى، سواء فى الشرق الأوسط أو فى أطراف القارات التى بلغها دين الله.. محمد الغزالى ص _013
المصحف للنفس والمجتمع والدولة ص _014(1/9)
المصحف للنفس والمجتمع والدولة يستطيع أى قارئ للمصحف الشريف من أى قارة على ظهر الأرض أن يستيقن من أن الإسلام ينتظم الحياة العامة والخاصة، وأنه يتناول النفس الإنسانية فى أعمق أغوارها والمجتمع البشر كما فى أوسع دوائره. وتزداد هذه الفكرة رسوخا ووضوحا عند التأمل فى سيرة الرسول الذى تلا على الناس قرآنه، وخط فى الحياة منهجه.. والذى ترك ثروة من التعاليم، وفنونا من المسالك الخلقية والسياسية تتسق مع روح المصحف ووجهته، وتشرح عمليا مراد الله من خلقه. ومن الجهل الشائن بعد مطالعة المصحف آية آية، وبعد متابعة النبوة سنة سنة، أن يزعم زاعم أن القرآن كتاب مواعظ نفسية محدودة، أو أن محمدا كان يستهدف وصل الناس بالله عن طريق الدعاء والرجاء.. وحسب !! إن أوامر الله ونواهيه تتجه إلى البيئة التى يعيش فيها الإنسان كما تتجه إلى الإنسان نفسه..! أجل تتجه إلى البيئة كى تشكلها على صورة معينة، وتفرغها فى قالب محدد كما تتجه إلى الإنسان نفسه بالمحو والإثبات فيما يفعل ويترك!! والحكمة واضحة من ذلك الاتجاه المزدوج. إن العين القوية لا تستطيع الرؤية فى الجو المظلم. لابد من وسط يعين على الإبصار حتى تستطيع استبانة ما تريد. والإسلام فى أوامره ونواهيه، وفى قصصه التى يرويها لنا عن الأمم الأولى والحضارات القديمة، بل فى وصفه لمشاهد الحياة وقوى الكون، يتجه بهذا الأسلوب الجامع الرائع إلى الفرد والمجتمع كى ينشئ أمة تعرف الله الواحد وتتعاون كلا وجزئا على عبادته وإنفاذ شريعته.. لا انفصال فى الإسلام بين الحياة الفردية، والكيان الاجتماعى العام. وإن النبى صلى الله عليه وسلم ليعد بالجنة العين التى باتت ساهرة فى ميدان القتال، كما يعد بالجزاء نفسه العين التى غضت عن محاسن امرأة لا تحل للإنسان. ص _015(1/10)
شرائع الإسلام للوصاية على الضمير، مثل شرائعه فى تنظيم البيت، مثل شرائعه فى إقامة العدل السياسى والاجتماعى عند بناء الدولة.. هذه وتلك تنبجس من ينبوع واحد، وتنساق إلى غاية واحدة.. وأى شلل يصيب بعضها فهو ممتد اليوم أو غدا إلى البعض الآخر.. ثم هو نذير بفناء الجميع بعد حين..!! ولا نحب هنا أن نشير إلى شمول الإسلام واستيعابه بذكر أحكامه القانونية فى الجنح والجنايات. أو بذكر أحكامه المدنية فى البيوع والمعاملات. أو بذكر أحكامه الدولية فى إعلان الحرب، أو إقرار الهدنة، أو عقد الصلح والأمان والذمة . ولا نحب أن نشير إلى القواعد والنصوص التى حفل بها وهو يبنى عالما تذوب فيه الفوارق الجنسية، ومآسى الغنى والفقر، وكوارث التعصب للعقيدة والمذهب.. ولا أن نوازن بين الحلول السهلة التى تناول بها هذه القضايا والمحاولات الزائفة أو الملتوية التى تناولتها بها الشيوعية والديمقراطية. إننا سنشرح الآن جانبا آخر من تعاليم الإسلام كان يعد أوضح ما فيه، فإذا هو- بعد ذهاب الدولة الإسلامية- أخفى ما فيه. وأعنى بالجانب العبادى..!! الذى قد يتوهم بعيدا كل البعد عن الدولة..!! العبادات وسلطان الدولة: إن العبادات، من صلاة، وصيام، وزكاة، وحج، وغير ذلك يظنها الظانون أعمالا فردية موكولة لأصحابها، وأن الدولة- فى الإسلام- لا تسأل عنها، ولا تهتم بها.. ونحن نسارع إلى تفنيد هذا الظن وبيان وجه الحق فيه. فإن الدولة لا تكون مسلمة يوم تكون إقامة الصلاة وإماتتها سواء فى نظرها..!! إن إقامة الصلوات الخمس مفروضة على الحاكم فى ديوانه، كما هى مفروضة على كانس الطريق. ص _016(1/11)
وكلاهما مسئول برأسه عن خشوعها واستوائها وآدابها.. هذا حق، ولكنه أيضا جزء من الحقيقة الكبيرة. والحقيقة كلها أن الدولة فى نظر الإسلام مكلفة برعاية الله وإشاعة تقواه، وتوطيد وقاره، وتقديس اسمه.. وأن من وظيفتها تهيئة الجو المعين على انتظام الصلوات الخمس من الفجر إلى العشاء، وإشعار المؤمنين كافة أن ذلك من صميم رسالتها ورسالتهم.. وكما تشغل الدولة بدفع العدو المغير، وتجند ما لديها من وسائل مادية وأدبية لذلك. وكما يجب على الجمهور فردا فردا أن يقوم فى صمت بواجبه النفسى والعسكرى لرد العدوان. كذلك يجب على المؤمنين حكومة وشعبا أن ينهضوا إلى الصلاة عند ميقاتها. ذلك هو الإسلام كما نستبين صورته فى آيات المصحف وكما نتعرف حدوده من حياة النبى نفسه..! وبديهى أن أمر الصلاة لا يضبطه رجال الشرطة، ولا تحكمه سطوة القانون. إن ما تملكه الدولة من هيمنة على شئون التربية ووسائل الإعلام، وما يقدمه الحاكم نفسه من أسوة حسنة بإلفه المساجد وإمامته للمصلين، أو انتظامه فى صفوفهم. ثم ما يملكه الحاكم يقينا من ازورار عن المتكاسلين فى الصلاة والمتهاونين بها. وما يملكه من عقوبة رادعة للجاحدين لها، والمستهزئين بها.. ذلك كله بعيد المدى فى المحافظة على الصلوات، وإعلاء شأنها الرسمى والشعبى.. ثم هو بلا ريب بعض ما يدل على إسلام الحكومة، وفقهها لرسالتها الدينية، واحترامها لله ورسوله. إن الصلاة فى نظر الإسلام، طريق الفلاح، وأساس التمكين فى هذه الحياة، ورباط الأخوة الوثيقة، وما يترتب عليها من حقوق. ص _017(1/12)
وتأمل قوله تعالى : (قد أفلح المؤمنون * الذين هم في صلاتهم خاشعون) (الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة) (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين) (فأقيموا الصلاة إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا) ونحن نعلم أن إضاعة الصلاة، أو المراءاة بها رذائل لا يعلمها إلا الله، وأن الباعث الأعظم على إقامتها وإدامتها هو الضمير المؤمن الخالص.. ومع ذلك فهناك أحيان وأحوال لا حصر لها يكون المجتمع رقيبا فعالا فيها، ويكون سلطان الحاكم قواما عليها. فى أيام الوحى كان هناك عابثون صغار. إذا انطلقت أصوات المؤذنين بتكبير الله وتوحيده والدعاء إلى الصلاة والفلاح شرعوا يتغامزون ويتضاحكون، ويتناولون الركع السجود بالسخرية واللمز: (وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوا ولعبا ذلك بأنهم قوم لا يعقلون) أتترك الدولة هؤلاء العابثين؟ لا.. وصحيح أن من المستحيل إحصاء المتخلفين عن الصلوات لأعذار مقبولة. ولكن عندما تقبل جماعات المؤمنين على المسجد، فيجىء قوم آخرون ليعقدوا جلسة جادة أو هازلة، أو ليسمروا فى ناد، أو ليستريحوا فى مقهى، أتظن أمة توقر ربها وتغالى بدينه تقبل هذا المجون؟! إن ذلك الاستخفاف- فى ظل الدولة المسلمة- معناه النيل من كرامة الدولة.. إنه معالنة بالتنكر لها.. وهو يساوى مثلا إهانة رئيس الحكومة، أو معارضة نظام الحكم، أو مهاجمة شعار الأمة. ص _018(1/13)
وتأمل قول رسول الله: " من ترك الصلاة متعمدا فقد كفر جهارا "، وقوله: " بين الكفر والإيمان ترك الصلاة " . وما رواه ابن مسعود أن النبى صلى الله عليه وسلم قال فى قوم يتخلفون عن الجمعة: " لقد هممت أن آمر رجلا فيصلى بالناس ثم أحرق على رجال يتخلفون عن الجمعة بيوتهم " . من ذلك تعلم أن الدولة المسلمة مسئولة عن تقديس هذه الشعائر، وعد قيامها ورواجها جزءا من وظيفتها. فأما أن يتهاون الحاكم نفسه بالصلاة كما يحدث فى بعض الأقطار الإسلامية، أو يعقد المؤتمرات ويجرى المفاوضات عندما يخف المسلمون لأداء صلاة الجمعة مثلا فذلك مالا يمكن وصفه أبدا إلا بالانسلاخ عن الإسلام.. وما يقال فى الصلاة نموذج لما يقال فى الصيام، فإن الحكومة- لكى تكون إسلامية- يجب أن تأمر به عند إهلال شهره. ويجب أن تطارد الإفطار العمد على أنه جريمة ضد المجتمع، وعصيان سافر لأوامر الله التى قامت هى لإنفاذها واحترامها. هكذا فعل الرسول صلى الله عليه وسلم فعندما أقبل الشهر الكريم خطب فى الناس قائلا: " يا أيها الناس قد أظلكم شهر عظيم مبارك، شهر فيه ليلة خير من ألف شهر جعل الله صيامه فريضة وقيام ليله تطوعا.. " إلخ . فهل يكتفى الحاكم المسلم بإلقاء هذه العظة ويدع الفاسقين يمدون الموائد للغداء هنا وهناك تحديا لحرمة الشهر، واستهانة بأمر الله؟ كلا.. كلا.. إن هذا العمل مراغمة للإسلام وشعائره. وعلى الدولة- إن كانت إسلامية!- أن تستأصل هذه الجراءة ولو حكمت بأقصى العقاب. ص _019(1/14)
فعن ابن عباس- مرفوعا إلى النبى صلى الله عليه وسلم - قال: " عرا الإسلام وقواعد الدين ثلاثة، عليهن أسس الإسلام، من ترك واحدة منهن فهو بها كافر حلال الدم: شهادة أن لا إله إلا الله، والصلاة المكتوبة، وصوم رمضان " . أما الدولة التى تقدم بنفسها الطعام للناس كى يفطروا، أو التى ترى الصيام مضيعة للوقت والإنتاج، فهى دولة مرتدة بيقين عن الإسلام. ونحن نعرف كيف نهضت دولة الخلافة- أيام رئيسها الأول أبى بكر- إلى مقاتلة مانعى الزكاة، وكيف سيرت الجيوش لمقاتلتهم جنبا لجنب مع المرتدين عن الإسلام، وكيف قال أبو بكر فى عزم: " والله لو منعونى عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله لقاتلتهم عليه " وكيف ظاهره على عزمه هذا سائر الصحابة رضى الله عنهم، وجمهور المسلمين.. اللون الإسلامى للدولة: إن الحكومة فى الإسلام تقوم على عقيدة ومبدأ. وليست غايتها توفير الطعام والأمان لجماعة من الناس وكفى. إن توفير الضرورات المادية والأدبية وسيلة لا هدف. ورسالة الحكومة بعد ذلك أن تهيئ للأمة الحياة على النمط الذى ترضاه، والنظام الذى تهواه ، من غير ما تعصب أو افتيات على أحد من الناس. الحكم فى نظر الإسلام أداة كبرى لتحقيق الغاية من وجود الإنسان فى هذا العالم!. لماذا خلق الله الناس؟ يقول جل شأنه: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون). ويقول تعالى: (الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا).. العمل الحسن الذى يتمثل فيه الخضوع لله، وابتغاء رضاه هو الغاية الأولى من وجودنا. ص _020(1/15)
وضروب النشاط الإنسانى الأخرى ليست إلا وسائل لتمهيد هذه الحياة الفاضلة، وإراحة البشر وهم يمارسونها. وما تملكه الحكومات من قوى مادية ومعنوية ينبغى أن يكرس فى هذا الاتجاه المبين، أى أن صبغة التعبد والإحسان لابد من أن ينطبع بها جهاز الحكم، وأن تنطبع بها أشخاص الحاكمين.. الحاكم يتقى الله فى خاصة نفسه، ويقف بين الناس خطيبا يقول لهم: اتقوا الله، ويصرف شئون الدولة ومصالح الجمهور وفق معالم التقوى ورجاء ثواب الله، ومخافة عقابه.. ليس الحكم توفير الأقوات لمجرد الشبع، ولكن لينصرف الناس إلى رسالة الحياة الكبرى، وهى الحرص على رضاء رب العالمين، والتهيؤ للقائه بصحائف بيضتها الحسنات، وزانها الإيمان. ولا شك أن هناك فريقا من الحاكمين باسم الدين، قد خان رسالة الحياة، وآذى الله ورسوله وعباده، كما أن هناك فريقا من الحاكمين باسم الغايات الدنيوية العامة استغل الحكم لمآربه الخاصة. ولكن هؤلاء وأولئك لا يجعلون البشرية تقبل حكما ينسى الله، ويسخر من حقه، ولا يعدو نشاطه حدود هذا التراب. إنه من الخطأ الكبير الظن بأن الإسلام نظام أرضى على درجة ما من الصلاحية، والجدوى.. وحسب!! إنه قبل كل شىء علاقة سماوية بين الناس- فرادى وجماعات- وبين الخالق الأعلى، علاقة تميز العباد الذين أسلموا لله وجوههم بأنهم يعلون اسمه فى كل أفق، ويلتمسون رضاه فى كل عمل، وينبعثون عن أوامره فى كل شأن..!! وقد يكون فى الأرض خليط هائل من البشر الذين يجحدون هذه الحقائق، يقصونها إقصاء عن أفكارهم وأفعالهم. وقد يكون فيها من يتبع الهوى لا الهدى، ومن يحتبس نشاطه داخل النطاق الدنيوى البحت، بل قد يكون فيها من يحتقر الإيمان، ويضطهد أهله..!! ص _021(1/16)
وقد أخبر الله جل جلاله، بأنه لا يمد أتباعه بتأييده المرتقب ضد هؤلاء إلا إذا استجمعوا فى سلوكهم خلال الخشية والأدب، وأصول التقوى والاستقامة.. فإذا فرطوا.. تركهم.. (وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين * ولنسكننكم الأرض من بعدهم ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد). طرد الظالمين وتوريث الأرض لغيرهم، ما يكون إلا لمن خشى الله، وحذر وعيده. يومئذ يحل العدل محل الظلم، والعطف مكان القسوة، واليقين موضع الإلحاد.. وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، بدل تعطيل شعائر الله، ونسيان اسمه وإهانة خلقه. شارة الدولة فى الإسلام، هذا الحرص على مغفرة الله ورضوانه، وإعلاء كلمته، وإيثار شرعته. ومرة أخرى نؤكد أنه من السخف توهم أن الإسلام يتذرع بالحكم لسوق الجماهير بالعصا إلى ربهم.. إن الجماهير- فيما رأينا- مؤمنة بدينها، حريصة على اتباعه، مرتضية لقيود الفضيلة التى وضعها.. والذى يقع أن المسلمين يصابون بلون من الحكم الغادر، يدعى الانتماء إلى الإسلام، والوفاء بحقوقه.. ثم هو يقطع ما أمر الله به أن يوصل، ويدع الفساد يستشرى فى الأرض، إن لم يفسد هو فيها.. وهذا الحكم المنافق لا يمكن قبوله.. وهو بين أمرين لا ثالث لهما: إما أن يلتزم حدود الإيمان فيبقى. وإما أن يعلن عن مروقه ليزول. ص _022(1/17)
فى العالم الآن أنواع من الحكم.. هناك الشيوعية التى ترفع راية الإلحاد وتنشئ الأولاد على أنه لا إله ولا آخرة، ولا نبوات، ولا أحكام للسماء.. !! وهناك الصليبية التى اتخذت الديمقراطية شعارا لها داخل بلادها. أما خارج بلادها فهى تعلن على الإسلام حربا شعواء . والديمقراطية تعطى حرية للإيمان والإلحاد معا، وللعفة والعهر جميعا..!! وقد نجحت هذه الحرب فى طى شريعته، وهى ماضية لتطوى عقيدته بعد ذلك. وإلى جوارنا حكومة صهيونية قامت على أنقاض العروبة والإسلام وقد شطرت العالم الإسلامى شطرين، وتعاونت مع الاستعمار الصليبى على توجيه الأمور فى الشرق وفق ما يريد.. فى هذا الجو المربد لا يمكن قبول حكم باهت مذبذب يكره المصحف ويرتعش وهو ينظر إلى مواريث الإسلام ومقدساته.. ويستبد به الشك والعجز عندما يفكر: ماذا يأخذ وماذا يترك من تعاليم الدين؟؟ أو ماذا يفعل ليرضى عواطف الجماهير المسلمة؟ وماذا يترك ليحوز رضا الشيوعيين والصليبيين؟ وأداة الحكم فى يده مسخرة لهذا الخلط من اليقين والريبة، والجد والهزل، والحق والباطل، والشرق والغرب..!! ولكى تكون الدولة مسلمة حقا، وصدى لجماهير المسلمين التى تحكم باسمها لا محيص من أن تلتزم معالم الحلال والحرام، وحدود الأمر والنهى، وأن تتحرى ما يريد الله فى كتابه لتسارع إليه، وما صنع رسوله لتتأسى به.. ص _023(1/18)
لقد سلخ المسلمون من تاريخهم ثلاثة عشر قرنا وهم مرتبطون قلبيا وفكريا بدينهم يصدرون عنه وينطلقون منه. ونحن نعترف بأن هذا الرباط تعرض لأنواع من العلم والجهل، والذكاء والغباء، والاتباع والابتداع، والتقليد والتجديد.. وتعرض كذلك لألوان من الإخلاص والرياء، والشجاعة والنكوص، والإيثار والأثرة، والشورى والاستبداد، والعدالة والجور وقد تكون العهود الرديئة طويلة الأمد. وربما شوهت الإسلام وعطلت مسيره ونكبت أمته. ومع ذلك كله فرباط الأمة بالإسلام قائم وانتسابها إليه ظاهر. وأى حاكم- فى أى عصر- مهما بلغ ظلامه يفرق من مفارقة الإسلام والانخلاع من تعاليمه. إنه يريد- ولو بالجهل كالصديق الأحمق- أن يخدمه ويقترب منه. أما فى هذا القرن الأخير، وبعدما عاث الاستعمار الصليبى فى كل شبر من أرضنا، وران على كل شأن من شئوننا، فقد تمكن من زحزحة المجتمع عن المحور الذى دار عليه ثلاثة عشر قرنا. وتمكن من إلقاء بذور ارتداد مخيف فى جوانب الحياة التشريعية والتعليمية والسياسية " فأمست تعاليم الإسلام عند الكثيرين متعذرة القبول، أو متعسرة التنفيذ. والغريب أن هذا التخلخل فى الكيان الدينى حدث وعنوان الإسلام باق!! باق على ركام من الجد والهزل يدع الحليم حيران... !! وذلك ما أعلنا الحرب عليه فى كتابنا هذا، وفى كتبنا الأخرى. إننا نريد فى صراحة، وبصوت عال، أن يرتبط المجتمع بالإسلام من قمته إلى سفحه، وأن يتحاكم إليه فيما دق وتجل من أمره.. ص _024(1/19)
ونحن نرفض رفضا قاطعا هذا الانتماء إلى الإسلام بالأسماء والمواطن، والخروج عليه بالأفعال والوجهة.. إن الرجل الذى جعل ولاءه للشيطان لا ينبغى أن ينتسب إلى السماء. وفى محنة انقسام الدين إلى أفعال يسهل أداؤها، وأفعال يجر ذيل النسيان عليها. أو فى محنة انقسام المصحف إلى أشياء لا بأس من فعلها، وأشياء لا يسوغ إنفاذها.... فى هذه المحنة، تكونت صور شائهة عوراء لهذا الدين المحرف، صور متعددة بعدد المجتمعات الزائفة. ففى روسيا إسلام، وفى إسرائيل إسلام، وفى الحبشة إسلام، وفى تركيا إسلام، وفى ظل كل حكومة إباحية منحلة إسلام. ومفروض على الإسلام القائم فى هذه المجتمعات أن يستكين إلى ما فيها من فلسفات وأوضاع، وألا يثير شغبا على ما تنهج من خطط فى الدراسة والقانون، فإن وافق عليها فبها... ويستحسن أن يوافق... !! وإلا فعليه أن يلوذ بالصمت، وهو فى صمته متهم. وتركه يحيا ليس إلا من قبيل الصدقة والمن.. وربما كانت للإسلام منزلة أحسن، ومكانة أعز، فى دول أخرى إسلامية الشارات والمراسيم. ولكن العالم الآن خال من الدولة التى تتبنى الرسالة الإسلامية- كما تتبنى روسيا الشيوعية مثلا- وتبنى عليها كيانها الداخلى، وعلائقها الخارجية، وتتحمس لمرضاة الله فتحترم وحيه آية آية. وينوب رئيسها عن رسول الله فى إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.. إن الإسلام المهشوم المشطور المبعثر هنا وهناك.. ليس هو صورة المصحف الشريف، ولا امتداد النبوة المكرمة... ص _025(1/20)
إسلام فى ظل الشيوعية؟! هل يتصور أن يعيش فى ظل السلطة الشيوعية إسلام؟ إن الذين يجيزون ذلك إما أنهم لا يفهمون الإسلام، وإما أنهم لا يفهمون الشيوعية.. !! فلنسمع إلى كلمات رؤساء الشيوعية فى الدين كله حتى يستبين الأمر. إن " كارل ماركس " و " فردريك أنجلز "- وهما الفلاسفة الأول للشيوعية، وواضعو جرثومتها فى الأرض- يقولان بالمادية المحضة، ويصرحان بأن العالم شىء واحد لم يخلقه أى إلة أو أى إنسان، وأنه كان ولا يزال وسيظل شعلة حية إلى الأبد تشتعل وتنطفىء تبعا لقوانين معينة.. !! ويقول " لينين ": " الدين أفيون الشعوب، ورجل الدين يعمل على تخدير أعصاب المظلومين والفقراء وجعلهم يستكينون للذل والبؤس!! ". ويقول أيضا: " ليس صحيحا أن الله هو الذى ينظم الأكوان، إنما الصحيح أن الله فكرة خرافية، اختلقها الإنسان ليستر عجزه، وكل شخص يدافع عن هذه الفكرة فهو جاهل ضعيف ". ويقول " ستالين " سنة 1944: " نحن ملحدون، نعتقد أن الدين يعرقل تقدمنا، ونحن لا نحب أن يسيطر الدين علينا لأننا نكره أن نعيش سكارى ". هل هذه الأفكار آراء شخصية لأصحابها؟ لا.. إنها أسس التوجيه الذى يجب أن يسود كل الأرجاء التى وقعت فى براثن الشيوعية. فمنذ سنة 1928 " وستالين " يقول: " يجب أن تقوم التربية فى المدارس على مبدأ إنكار الدين وجحد الألوهية ". وفى سنة 1933 صرح الرئيس الشيوعى بأن الثقافة النافعة هى التى تحرر عقول الناس من استبداد الدين. والتعليم النافع هو التعليم الذى يشمع الإلحاد. ص _026(1/21)
والرأى العام الصالح هو الذى لا يؤمن بأى أفكار سوى الأفكار الماركسية.. ويستحيل أن ينتسب إلى الحزب الشيوعى إلا شخص موغل قى الكفر بالله وكتبه، ليس لتعاليم السماء- من أى ملة- ظل فى نفسه، أو سلطان على قلبه..! فإذا ظهرت عليه أعراض تدين ما طرد من الحزب فورا.. ومن الخيانات أو الجرائم أن يرى موظف شيوعى فى بيت للعبادة.. ونترك ماركس، ولينين، وستالين.. ونستمع إلى خروشوف. أتحسبه خيرا من أسلافه فى المضمار؟ كلا! إن كفره بالله واليوم الآخر لا يقل ذرة عن كفرهم إن لم يزد، ففى الأخبار التى نشرتها صحيفة " التيمس أوف إنديا " الصادرة فى بومباى 9/15/ 1961 جاءت هذه العناوين: " خروشوف يؤمن بجنة الأرض فقط، أمل فى التقدم ولا خوف من الحرب "، ثم قالت الصحيفة وأيدتها فى ذلك " نيويورك تايمس " نقلا عن مراسلها فى موسكو: " لا توجد جنة سوى ما يمكن أن نوجده نحن على الأرض ". هذا على أى حال ما يؤمن به مستر " خروشوف " الرئيس السوفييتى، فقد أرسل إلى الفضاء الميجور جاجارين والميجور تيتوف لتحقيق هذا الأمر، وقد قررا ذلك...!! أبدى الرئيس السوفييتى هذه الملاحظة المضحكة خلال إحدى مراحل حديتنا يوم الثلاثاء الماضى. وقد كان ذلك جزءا من مناقشة شبه فلسفية تتأرجح بين الجد والهزل بسبب السؤال التالى الذى وجه إليه: ألا تعتقد أن الشيوعيين الملحدين الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر يجب أن يخافوا الحرب أكثر من المؤمنين الذين يعتقدون فى الحياة الآخرة بعد الموت؟ المؤمنون!!؟؟ كان مستر " خروشوف " بادى السرور من التحول المفاجئ فى الحديث عن تحليل مشكلات الأرض المعقدة، فخلع نظارته وصمت لحظة ثم قال: " سؤال لطيف جد ا، ويسرنى أن أجيب عليه: لقد عشت كثيرا ورأيت كثيرا! رأيت الحرب ورأيت الموت! ص _027(1/22)
ولكن لم أر أى شخص ـ حتى من رجال الدين الذين يعتبرون أنفسهم أقرب إلى الله، ويعرفون عن الحياة الأخرى أكثر من غيرهم ـ يتعجل ترك هذه الحياة ". وأضاف قائلا: " إن الاستعماريين والاحتكاريين والاستغلاليين الذين يقولون إنهم أيضا يؤمنون بالله ـ على الرغم أنهم أقرب إلى الشياطين ـ لا يتعجلون مع ذلك دخول الحياة الأخرى إ! وهم يعملون على إرسال جنودهم للحروب واعدين إياهم بالجنة بعد الموت بينما هم أنفسهم يتمنون طول البقاء على هذه الأرض بجوار ممتلكاتهم وصناديقهم من الذهب والدولارات. حتى المؤمنين، لم ألاحظ قط أى رغبة خاصة بينهم للموت حالا ". وانفجر سكرتير الرئيس ضاحكا بصوت مرتفع. بينما استطرد " خروشوف " قائلا فى مرح: " إن كثرة الشعب السوفيتى غير المؤمن ـ على الرغم من وجود المؤمنين والمتدينين فيما بيننا ـ يفضلون الحياة الدنيا وليست لديهم الرغبة فى الذهاب إلى الجنة. إنهم يريدون جنة على الأرض. أما عن الجنة التى فى السماء فقد سمعنا عنها كثيرا من القساوسة ". ثم قال فى سخرية: ".. ولقد قررنا البحث بأنفسنا عنها، فبعثنا فى البداية إلى الفضاء الخارجى مكتشفنا الأول " يورى جاجارين " الذى طاف حول العالم ولم يجد شيئا فى الفضاء الخارجى. بل قال: إن هناك ظلاما شديدا وليست هناك جنة عدن، أو ما يشبه تلك الجنة. ولذا قررنا إرسال مكتشف آخر فأرسلنا " جيرمان تيتوف " وأمرناه أن يطير يوما ص _028(1/23)
وأضاف مستر " خروشوف ": ".. إن هذ ا لا يعنى أن الشعب السوفيتى لا يقاتل لأنه لا يعتقد بوجود الحياة الأخرى إن شعبنا شجاع ". كما قال أيضا وبقوة: " إن هتلر قد اكتشف ذلك ولكن قد ذهب الآن هو وأعوانه ". وأنهى مستر خروشوف حديثه بهذه الملاحظة، إذ قال: " نحن الشيوعيين لا نؤمن بالحياة الأخرى ونريد أن نعيش هنا ونتقدم فى سلام". والحكم الشيوعى- بهذا القدر الخطير من الجحود الذى يريد الهيمنة على كل شىء- هو أفظع نكسة عرضت للضمير الإنسانى وللفكر الإنسانى. إنه إلحاد مسلح رهيب يسخر الصحافة والإذاعة والمسرح والسينما والكتاب والمدرسة والتقاليد والقوانين والأموال والوعد والوعيد لتنشئة أجيال تهزأ بالدين وتتمرد على الله. ولا يمكن تصور مجتمع مسلم فى هذا الجو. كما أنه لا يمكن تصور إنسان مسلم يتجاوب مع هذا النظام ويتمشى معه. إن المسلم الحق إنسان مشدود الأواصر بهذا المصحف الشريف، وبالنبوة التى طبقت أحكامه، وأبرزت أهدافه، وجعلت الحياة العامة والخاصة تستمد وجودها وضياءها من آياته وهداياته.. ربما زعم بعض الأغرار أنهم يقبلون على الشيوعية لأخذ الجانب الاقتصادى والسياسى منها. أما الجانب القاضى بنبذ الدين فهم يتغاضون عنه، ولا يلتزمون به. وهذا زعم مرفوض ابتداء وانتهاء...!! فإن استقدام الشيوعية لحل بعض المشكلات الاجتماعية سيفتح الطريق أمامها حتما لاجتثاث العقيدة بعد زلزلة الثقة بقيمة الدين فى الميدان العام. ثم إنه بالنسبة إلى الإسلام لا معنى لإهدار توجيهاته الاقتصادية والسياسية واستبدال غيرها بها. فإن الكفر بالآيات المتعلقة بالمال والحكم مساو للكفر بالآيات المتعلقة بالعبادات المحضة. ص _029(1/24)
إن العمل بآيات المواريث مساو للعمل بآيات التوحيد. والخروج على هذه خروج على تلك. ومن قال: أنا سأنفذ سورة الإخلاص، ولا أنفذ سورة الطلاق. فهو كافر بالسورتين ولا يمكن بتة قبول إيمانه!! ولا يتصور أبدا فى المنطق الإسلامى قيام دولة مسلمة على هذا الجرف المنهار.. وإحلال الشيوعية فى جانب ما من الحياة مكان تعاليم الإسلام هو ذريعة ارتداد كامل عنه كله... لقد انتشر الدين الإسلامى فى عدة قارات، ودخلت فيه أجيال من البشر ومرت عليه حقب من الزمن . وانضافت إليه بدع وخرافات ليست منه. وأهملت شرائع وشعائر تعد من صلب تعاليمه. وبُعُد البون بُعُدا سحيقا بين الأصول النظرية لهذا الدين، والواقع العملى للأمة المنتمية إليه. فما هو الإسلام الذى نؤمن به وندعو إليه من بين ألوان الإسلام التى شانها الجهل أو شابها المسخ؟ إن الإسلام الذى نعنيه والذى لا يمكن لأحد أن يعترف بغيره هو الإسلام المستمد من هذا القرآن حرفا حرفا، والذى وعت الحياة إخراجا عمليا له فى السنة المطهرة... وبقدر الاقتراب من هذا المصحف والرسول الذى بلغه يكون الدين. وبقدر الابتعاد يكون الشرود والزيغ. ص _030(1/25)
نعم فى روسيا عشرات الملايين من المسلمين مسموح لهم بإسلام من طراز خاص. لا مانع فى قرية مهجورة، أو فى عزلة عن الخلق، أن يصلى بعض النسوان العجائز، أو بعض الرجال الكهول وقتا أو وقتين ...!! وربما سمح لنفر من الناس أن يصوموا أياما من رمضان إذا لم يتعارض ذلك مع العمل فى المصانع أو المزارع الجماعية..!! ثم ماذا بعد ذلك؟ إن الساسة الماكرين قد يأذنون لوفد روسى بالحج فى إحدى السنين. ومنذ بضع سنين رأيت فريقا من الحجاج الروس، رأيتهم بعد أن قضوا المناسك فى الأرض المقدسة، ثم قفلوا إلى بلادهم مارين بالقاهرة لزيارة الأزهر الشريف. تفرست فى ملامح هؤلاء الحجيج عندما دعينا للاحتفال! بهم ثم طاف بنفسى طائف من الحزن والانكسار. كانوا جماعة من الشيوخ الطاعنين فى السن، وكانت ملامحهم جامدة لا تعبر عن شىء أبدا. وحاولنا الكلام معهم فخيل إلينا أننا نحادث قوما أصيبوا بفقدان الذاكرة!! أين التجاوب الروحى بين إخوان العقيدة؟ أين بشاشة اللقاء بعد طول الغيبة؟! أين إيناس الحديث بين أبناء التاريخ المشترك والمستقبل المأمول؟ تاريخ ومستقبل؟... هذا حديث خرافة... إنه لولا إدبار الحياة البادى فى تجاعيد هؤلاء الشيوخ الواهنين لقلنا إنهم بعض الممثلين الخبثاء يؤدون دورا كلفوا به... إن روسيا عدلت سياستها نحو أتباع الأديان، ولم تعدل نظرتها نحو الأديان نفسها. وذلك التعديل وفق ما أملت به الأحداث الرهيبة التى مرت بها فى الداخل والخارج. الأديان خرافة يجب محوها، ولكن أتباع الأديان جماهير غفيرة من الدهماء يجب المكر بها، وترويضها، والتربص بمصيرها، وهو مصير مرسوم بعناية..!! ص _031(1/26)
والإسلام المسموح به فى روسيا بقية من المخلفات القديمة، يؤذن لها بالعيش إلى أجل معدود فى ظل ذلك الإلحاد الحاكم بأمره، والذى يفرض على كل شىء قوانينه ونظمه، وينشر تعليمه وتربيته دون أى اكتراث بالله ورسله.. أما الجماهير الغفيرة من ورثة الإسلام، وحملة أسمائه فهى موشكة على التلاشى بعدما فقدت أسباب الحياة والنماء. إنها لن تفنى فى مذابح جماعية (!) فلن يحتاج الأمر إلى ذلك!! إنها سوف تفنى روحيا وثقافيا بعدما تقطعت جميع الأواصر التى تشد المجتمع المتدين، وتحفظ عليه صبغته، وتورث الأجيال المقبلة حقيقته ووجهته... وإلى أن تبلغ الأمور مداها فليس هناك مانع من بقاء مسجد هنا ومسجد هناك يصلى فيه واحد أو اثنان أو أكثر... وليس هناك مانع من تسيير وفد للحج من موظفين مخصوصين (!) ومن بعض المعمرين. ولعل الذين أرسلوهم كانوا يخرجون ألسنتهم للدين والمتدينين!! وهذا النوع من الإسلام الذى تسمح به روسيا والصين، والذى تهادنه الأحزاب الشيوعية العاملة فى البلاد العربية وغيرها، لا يمكننا أن نقبله، ولا أن نعترف به.. إنه ليس الإسلام المفهوم من المصحف الشريف والنبوة الماجدة . إسلام فى ظل الصهيونية؟! وفى دولة " بنى إسرائيل " يعيش بعض المسلمين الهمل. تقدم لهم دار الإذاعة اليهودية " ما تيسر " من القرآن الكريم.. ويسمح لهم بصلاة الجمعة أحيانا فيما لم يهدم من المساجد الكبرى. والعرب المسلمون الذين يقيمون فى إسرائيل ضيف ثقيل فى وطن بناه أصحابه ليكون لهم خاصة. ومصير هذا الغريب الثقيل هو الطرد حتما، الطرد لدينه وشخصه كليهما.. لكن ما الإسلام المأذون به هنالك؟ ص _032(1/27)
إنه لا يعدو بعض التقاليد التى التصقت بالبيئة العربية إلى جانب بعض العبادات الفردية التى تؤدى أو لا تؤدى فى بيوت أصحابها. أما تعاليم الإسلام ومراسمه وأركانه ونوافله فمفروض ابتداء أنها انقضت.. وأما روح الإسلام التى تجعل المسلم فى دولة بنى " إسرائيل " أخا للمسلم فى مصر والشام والحجاز... فلا... بداهة. الإسلام هنالك إشارة باهتة ممسوخة يحملها أوزاع من المستضعفين الذين يكلفون بخدمة الصهيونية. فإذا كانوا لا يحسنون حمل السلاح لخدمة الدولة، فهم يصلحون لأعمال الخدمة التافهة كى يتفرغ سادتهم لشئون الحرب والعدوان... ومن الحمق الزعم بأن هذا إسلام. إننا لا نقبل هذا الضرب من التدين ولا نعترف به... والعلاقة بين الإسلام واليهودية تحتاج إلى فضل إيضاح. إن الإسلام يعد موسى- نبى اليهود- أخا لمحمد، وشريكا له فى الدعوة إلى الله. والمسلمون- استجابة لدينهم- يؤمنون بموسى إيمانهم بمحمد، ويرون التوراة التى جاء بها جزءا من الإسلام. وقد كان اليهود صدر تاريخهم الشعب الذى اختاره الله لهداية الخلائق، وظلت رسالات السماء حكرا فى جنسهم دهرا طويلا. إلا أن هذا الشعب مل تكاليف الإيمان، واستثقل قيود الصلاح والعدالة. بل بلغ الفجور به مبلغ التعدى على رسل الله واستباحة دمائهم. ووضح من إصراره على عوجه، واستغراق الفساد لجمهرته أنه ليس بأهل لتلقى رسالات الله وإبلاغها، فغضب الله عليه، وصرف الوحى عنه. ص _034(1/28)
من ديوان كفت خطبه فى عصر المماليك، وتناولت أطرافا من الزهد فى الدنيا والأمل فى الجنة والخوف من النار.. ثم ينتفض أهل المسجد آيبين إلى بيوتهم فرادى مسرعين، كأن عاصفة من الريح والجليد تتهدد حياتهم!! ولا غرو فبقايا الإسلام فى تلك البلاد متروكة فى النزع الأخير لا تسعفها نجدة ولا تواتيها حياة. ليس لمسلم هنالك أن يلتحق بوظيفة، ولا يلحق أولاده إلا بمدارس التبشير ولا أن يقرأ كتابا حيا، إن كان من أهل القراءة. أما جماهير الأميين الذين قد ينمون على مر الزمان فلا مانع من بقائهم ولا حرج أن يبقى بينهم الإسلام، إسلام الفقر والجهل، إسلام الضياع والمهانة، إسلام الانقطاع والوحشة.. ! وفى ربيع الأول سنة 1385 الموافق أغسطس 1965 أقر البرلمان الحبشى مرسوما بإلغاء المحاكم الشرعية وإخضاع المسلمين فى شئون الزواج والطلاق والميراث للقانون العام. وهو قانون يرفض رفضا باتا أن يعترف بالكتاب والسنة. وتحتبس صيحات الاستنكار فى حلوق أصحابها تحت ضغط الرهبة السائدة، ثم يألف المهزومون الصمت والاستكانة. وفى ظلهما يقال: إن المسلمين باقون. وإن الإسلام موجود.. ! أجل هو موجود إلى حين.. ثم يولى ـ نتيجة هذه السياسة ـ فى خبر كان.. والغريب أنه بعد كتم أنفاس الإسلام وأتباعه على هذا النحو الشائن، ترتفع صيحات جديدة منادية بالأخوة الإفريقية وإقرار الواقع على ما هو عليه. ونحن نرحب بالأخوة الإفريقية المتحررة من الاستعمار والصهيونية، المتيحة لكل إفريقى أن يحيا وفق ما يشاء من عقيدة ونظام. أما المداهنة على أشلاء الدين المهيض الجناح فلا.. *** ص _035(1/29)
أما المسيحية بالمعنى الثانى فهى فكرة قبلها أصحابها وراجت لديهم. ونحن- وإن أنكرناها إنكارا تاما- فلسنا بمرغمى أحد على اطراح ما يعتقد ولا يجوز أن نلجأ إلى إكراه مادى أو أدبى لتحويل أتباع دين عن دينهم.. إن الخصومة المسلحة تنشب يوم تتحول المسيحية إلى صليبية عنيدة تمتشق الحسام لبسط سلطانها، وفتنة مخالفيها، ومطاردة أصحاب العقائد المعارضة.. والصليبية اليوم فى المجالين الثقافى والسياسى تفعل الأفاعيل للتنكيل بالإسلام وتدويخ أممه، ولفتهم عن دينهم الذى يؤثرون، وشريعتهم التى يعتنقون..!! بل إن هذه الصليبية- فى ميدان الاستعمار- تصطلح مع أعدائها التقليديين- من شيوعيين ويهود- كى تحارب الإسلام وتتهدد مستقبله. و لا ندرى حتى متى يستمر هذا اللدد فى العداوة!! بيد أننا مضطرون إلى التنادى باليقظة لمواجهته وإحباط مكايده... ونظرة عجلى إلى اتجاهات الغرب الصليبى وبعوثه التبشيرية، ومؤامراته الدولية، وتهديداته العسكرية توحى بما هنالك . عندما سقطت " الدولة الإسلامية " فى القرن الماضى بعد ما فتكت بها الأدواء الخلقية والاجتماعية وتفشت فيها العلل النفسية والسياسية اهتبل الغرب الفرصة السانحة واستطاع خلال مدة وجيزة أن يضع يده على أغلب الأقطار الإسلامية، وأن يوقع الشعوب المذعورة فى الحبائل التى نصبها فأضحت له فريسة سهلة.. ولجأ الاستعمار الصليبى إلى ثلاث طرق لمحاصرة الإسلام ومحاولة الإجهاز عليه: ا- منع الحكومات المحلية من الاعتماد على التشريع الإسلامى فى سن القوانين وإصدار الأحكام. وإثارة عاصفة من التجريح ضد الأخذ بالشريعة وتعاليمها. ص _036(1/30)
وتضييق الخناق على شعائر الإسلام إجمالا حتى تنكمش الناحية الدينية فى زاوية مهملة.. وللاستعمار حيل دقيقة وسلطات مرهوبة تجعل إيماءاته فى هذا الشأن أوامر منفذة بل أوامر يصدع بها العبيد وكأنها تفكيرهم الخاص ووجهة نظرهم التى اقتنعوا بها.. 2- التبشير بالنصرانية نفسها عن طريق المستشفى والمدرسة والملجأ وأساليب النشر المختلفة. وعندى أن من حق كل إنسان عرض ديانته على الآخرين، وبيان ما تضمنت من محاسن. لكن رجال النصرانية يخطئون فى اختيار الميدان الذى ينبغى أن ينشطوا فيه. ويخطئون أيضا فى سياسة الخداع التى يتبعونها نحو جماهير المسلمين. ومن حقنا أن نحاربهم كما نحارب القوى التى جاءت بهم ومكنت لهم. والغريب أن بعثات التبشير تشكل تعاونا أوروبيا أمريكيا واسع النطاق، وأن أعضاءها خليط من الدول الاستعمارية التى سيرت جيوشها لغزو الشرق الإسلامى والدول التى لم تشارك فى هذا الغزو العسكرى. فللسويد مثلا نشاط تبشيرى فى إفريقيا الشرقية. وقد أسس المبشرون السويديون 45 مركزا لنشر المسيحية فى إريتريا- البلد الإسلامى المنكوب بالاحتلال الحبشى . وللنرويج أكثر من 500 مركز للتبشير تمتد حتى مدغشقر. أما غرب إفريقيا فإن ألمانيا تولت نشر النصرانية فيه، ولها كفاح كبير فى أرجاء غينيا والكاميرون. ومن أهم الجماعات العاملة هناك مؤسسة " بازل " و " برلين " ومؤسسة "الكنائس الإنجيلية "، وقد افتتحت عشرات المراكز القوية للتبشير. وفى سيراليون والكاب وجنوب إفريقيا، قامت جمعية " نوتردام " الهولندية بإنشاء 20 أسقفية مدت نشاطها الصليبى حتى وصل إلى تنجانيقا فى وسط القارة. فإذا جاء دور أمريكا فى هذا الجهاد العظيم فاعلم أن لها أكثر من 4500 بعثة تعمل فى طول إفريقيا وعرضها. ص _037(1/31)
ونترك هذه الدول التى لم تسهم فى إذلال القارة القديمة عسكريا واكتفت بجهد المقل. ونتناول بالإيماء العاجل أفاعيل إنجلترا وفرنسا- وإيطاليا أيضا- والدولتان الأوليان لم تدخرا جهدا عسكريا ولا ثقافيا فى محاربة الإسلام، وإنشاء أجيال جديدة تجهل تعاليمه أو تتنكر لها وتخاصمها !! والجراحات الغائرة التى أصابت الإسلام من الاستعمار الإنجليزى الفرنسى ومن السياسة التقليدية المتوارثة لهاتين الدولتين لا تزال تقطر دما. وقد تركت وراءها ذيولا هائلة من الفجور والانحلال والإلحاد كما تركت مشكلات إقليمية وقضايا سياسية شديدة التعقيد. والكلمة التى تصور الحقد الصليبى على الإسلام أصدق تصوير هى ما قاله المستشرق " لورانس براون ": " لقد كنا نتوجس خوفا من شعوب مختلفة لكننا بعد طول الاختبار لم نجد ما يبرر قلقنا.. خوفونا بالخطر اليهودى، وبالخطر الشيوعى، وبالخطر الأصفر، إلا أن هذه المخاوف لم تستند إلى أساس. لقد وجدنا اليهود أصدقاءنا..!! ورأينا البلاشفة حلفاءنا- يعنى فى الحرب العالمية الثانية-. أما الخطر الأصفر فهناك دول كبرى تتكفل بالقضاء عليه..! إن الخطر الحقيقى يكمن فى نظام الإسلام وفى قدرة هذا الدين على التوسع، والإخضاع، وفى حيويته. إنه الجدار الوحيد فى وجه الاستعمار الأوروبى. هذه الكلمة الناضحة بالغل والسموم هى التصوير الحقيقى لموقف الصليبية من الإسلام... والمسلمون الآن يلمون شعثهم فى جهد مستميت كى يستعيدوا مكانتهم، ويستأنفوا رسالتهم. خصوصا بعدما تبين للأمم المنكوبة فى آسيا وإفريقيا أن الاستعمار يستخدم الدين غطاء لشهواته الحرام... ص _038(1/32)
وأنه لا يبغى شيئا أكثر من الاستحواذ على خيرات بلادهم باسم الله. يقول مستر شترباولز سفير الولايات المتحدة بالهند فى كتاب له يتناول طبيعة الاستعمار: " إن أهالى روديسيا يتناقلون المثل الآتى: عندما جاء الرجل الأبيض إلى بلادنا كان لديه الكتاب المقدس وكانت لدينا الأرض أما الآن فالأمر بالعكس، لقد أصبحت الأرض لدى الرجل الأبيض! ولدينا نحن الكتاب المقدس "! 3- ومن أخطر الوسائل للنيل من الإسلام وتذويب حقائقه حكومات موالية للاستعمار عاطفة على أمانيه ومراميه. وهذه الحكومات قد تكون مسيحية لحما ودما بينما تتكون جمهرة الأمة المحكومة من مسلمين تائهين. وقد تكون الحكومة خليطا من وزراء مسلمين وآخرين غير مسلمين، ولكن الصبغة الإسلامية باهتة أو معدومة. وقد تكون الحكومة إسلامية الأسماء، بيد أن العهد المأخوذ عليها يوم استقلت عن التبعية الأجنبية المكشوفة أن توالى الصهيونية، وأن تناصر دول الغرب الصليبى، وأن تعيش هادئة داخل هذا القفص الخبيث. ويظهر هذا جليا فى أحوال الدول الأفريقية التى تحررت حديثا، فإن الإسلام هو الدين الأول فى إفريقيا تليه الوثنية وتليهما النصرانية. وهذا الترتيب مستغرب لأول وهلة. فالشائع بيننا أن التبشير غير وجه القارة القديمة وأدخل أهلها أفواجا فى دين المسيح. وهذا خطأ، فإن الإنجليز فى جنوب السودان، والبلجيك فى الكونغو، والبرتغاليين فى أنجولا وغيرهم لم يستطيعوا- برغم الجهود الهائلة- أن يصنعوا شيئا يذكر أكثر من تعليم عدد كبير أو صغير من الشبان لغة المحتلين وديانتهم، وهذه الطليعة المسيحية المثقفة هى التى تقود البلاد. أما الجماهير فإن شارات المسيحية فيها مفتعلة وعائمة. وعندما يترك الأوروبيون والأمريكيون هذه البلاد فإن تاريخ الرجل الأبيض كفيل بمحو آثاره كلها، حتى ما يكون منها قد واتته ظروف الاستقرار. ص _0 ص(1/33)
من أجل ذلك يحرص الاستعمار وهو يترك إفريقيا أن يخلف وراءه حكومات حانقة على الإسلام، حريصة على تشتيت أهله، وتمويت شعائره. والحق أن الإسلام فى إفريقيا يواجه محنا سودا وأن شعوبه المتطلعة إلى غد حر تلقى التجاهل أو الإعنات من هذه الحكومات " الوطنية " التى تألفت غداة رحل المستعمرون البيض!! ولا نضرب الأمثال لحال الإسلام وأهله فى بقاع كثيرة فإن سرد هذه المآسى يطول. وحسب القارئ أن يعرف أن " قسيسا " فى غانا شرح الله صدره للإسلام فكانت عقبى اعتناقه للإسلام أن زج به فى السجن!! والمعروف أن نصف " غانا " على التقريب مسلمون، وأن " السنغال " تضم 90% على الأقل من المسلمين. ورؤساء الدولتين مسيحيون !! وكذلك " نيجيريا " التى يعيش بها خمسة وثلاثون مليون مسلم. ولعل المثل الذى يحتاج إلى طول تدبر وعجب هو الحبشة!! فإن هذه الدولة فى حدودها الأصلية الأولى كانت تجمع خليطا متقارب العدد من المسلمين والنصارى. ثم أعانها الغرب الصليبى إعانات هائلة عسكرية وسياسية فاستطاعت أن تبتلع "إريتريا " الدولة التى يدين تسعة أعشارها بالإسلام . ثم فتحت فمها مرة أخرى وقضمت شمالى " الصومال ". وهو مسلم كله.. وبعد أن تضاعفت رقعتها أعلنت الحكومة سياسة تنصير وحشية مبيدة. فإذا الإسلام الذى يعتنقه 65% من السكان فى الدولة الجديدة يتحول إلى عقيدة خارجة على القانون باعثة على الاشمئزاز والسخط! نعم، فى " الحبشة " إسلام غامض مستباح قد يسمح له بالعيش فى بعض المساجد المهانة، حيث يجتمع لفيف من الفقراء المنكسرين ليسمعوا خطيبا يقرأ لهم ص _040(1/34)
من ديوان ألفت خطبه فى عصر المماليك، وتناولت أطرافا من الزهد فى الدنيا والأمل فى الجنة والخوف من النار.. ثم ينتفض أهل المسجد آيبين إلى بيوتهم فرادى مسرعين، كأن عاصفة من الريح والجليد تتهدد حياتهم . ولا غرو فبقايا الإسلام فى تلك البلاد متروكة فى النزع الأخير لا تسعفها نجدة ولا تواتيها حياة. ليس لمسلم هنالك أن يلتحق بوظيفة ، ولا يلحق أولاده إلا بمدارس التبشير ولا أن يقرأ كتابا حيا، إن كان من أهل القراءة. أما جماهير الأميين الذين قد ينمون على مر الزمان فلا مانع من بقائهم ولا حرج أن يبقى بينهم الإسلام، إسلام الفقر والجهل، إسلام الضياع والمهانة، إسلام الانقطاع والوحشة..!! وفى ربيع الأول سنة 1380 هـ الموافق أغسطس 1960 م أقر البرلمان الحبشى مرسوما بإلغاء المحاكم الشرعية وإخضاع المسلمين فى شئون الزواج والطلاق والميراث للقانون العام. وهو قانون يرفض رفضا باتا أن يعترف بالكتاب والسنة. وتحتبس صيحات الاستنكار فى حلوق أصحابها تحت ضغط الرهبة السائدة، ثم يألف المهزومون الصمت والاستكانة. وفى ظلهما يقال : إن المسلمين باقون. وإن الإسلام موجود..!! أجل هو موجود إلى حين.. ثم يولى ـ نتيجة هذه السياسة ـ فى خبر كان.. والغريب أنه بعد كتم أنفاس الإسلام وأتباعه على هذا النحو الشائن، ترتفع صيحات جديدة منادية بالأخوة الأفريقية وإقرار الواقع على ما هو عليه. ونحن نرحب بالأخوة الإفريقية المتحررة من الاستعمار والصهيونية، المتيحة لكل إفريقى أن يحيا وفق ما يشاء من عقيدة ونظام. أما المداهنة على أشلاء الدين المهيض الجناح فلا.. ص _041(1/35)
طبيعة الإسلام: إن للإسلام الذى ارتضاه الله دينا لخلقه شيئا آخر غير هذا الموت الأدبى والمادى الذى يرين على الرقعة الإسلامية التعيسة. إنه شىء آخر غير هذا الركام العجيب من الحق والخرافة، والجمود والفكر، والعصمة والشهوة، وأوحال الأرض وأشواق السماء. إنه جملة الحقائق التى تنزل بها الوحى الأعلى على الإنسان الوضىء الذكى، الطهور القوى محمد بن عبد الله لتكون بصيرة هادية للناس، ورحمة شاملة للعالم: (ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين) ويستحيل فى هذا البيان الجامع أن نقبل عبثا يتناوله بالمحو والإثبات والقبول والافتيات. إن الإنجليزى المسيحى لا يشعر بحرج أن يحيا فى ظل قانون للمواريث يمنح الابن الأكبر التركة كلها.! ماذا خسر؟ إنه ليس فى دينه ما يرد هذا... لكن المسلم لا يجوز بتة أن يقبل العيش فى ظل قانون مثل هذا يخالف نصوص كتابه. إن الآيات كلها متشابهة متماسكة. ويوم يقضى بتعطيل إحدى الآيات، فإن العدوى لن تقف، وسيسرى العطل إلى الوحى كله، ويعم الظلام!! أمس قدر الاستعمار على خلق قوانين تحكم بغير ما أنزل الله. واليوم تتفانى شرائع العبادات والأخلاق بعد ما فنيت قبلها شرائع المعاملات والجنايات. وغدا تنهار دعائم العقيدة، وتنقضى آيات التوحيد، ويجحد اليوم الآخر، ويكون أمام جماهير المسلمين أحد طريقين إما الإلحاد الشيوعى، أو الثالوث الصليبى. ص _042(1/36)
ومن الآن نحن نعترض هذا المسير، ونحذر من هذا المصير، ونستصرخ أصحاب اليقين وأولى الألباب أن يوقفوا هذه الردة المجنونة. والعاصم منها شىء واحد..! العودة المطلقة إلى هذا المصحف المهجور..!! ونسأل: ثم أين الإنسان المسلم الذى هو حجر الزاوية فى البناء الإسلامى كله؟! إن الإنسان المسلم شخص لا يخلو ضميره من الله ما دام له قلب نابض بالحياة. الإنسان المسلم رجل كان أو امرأة يستيقظ مع الفجر ليقف بين يدى الله طالبا هداه راجيا جداه . قبل أن ينطلق كالسهم فى ميدان الحياة كادحا كاسبا. وهو يعود إلى الله مرة أخرى قبل أن يأوى إلى فراشه ويستعد للمنام. لابد أن يصلى العشاء خاتما بهذه الصلاة خمسة أوقات وقفته بين يدى ربه حينا بعد حين. والمفروض فى المجتمع المسلم أن هتفات المؤذن تشق حجاب الصمت، أو تعلو ضجيج السباق الراكض طلبا للمادة. كى يستجيب السامعون لها كلهم من رجال ونساء وأولاد ينتظمون فى المحاريب صفوفا صفوفا. الإنسان المسلم رجل تعلم من دينه صواب النظرة إلى الأمور فهو يحسن الحسن، ويقبح القبيح، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر. المعروف فى كل شىء، والمنكر من كل شىء. المعروف والمنكر فى العلاقة بين الذكر والأنثى، وبين الأبيض والأسود، وبين المختلفين فى الأديان، والمتشاجرين فى الحقوق. وهو بإزاء هذا كله سناد للخير وحرب على الشر. ينصر الأخيار ويخذل الأشرار، قياما بالواجب، وحماسا للمبادئ التى ينبغى أن تسود ونكرانا للآثام التى ينبغى أن تخفى.. ص _043(1/37)
والإنسان المسلم يتحرى مرضاة الله فيما يفعل ويترك. وهو يعرف أن الله لم يدع البشر دون نظام يضبط أمورهم وقضاء حق يفصل في خصوماتهم فهو- بما وقر فى قلبه من إيمان- يعظم أوامر الله ويرعى حدوده (ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب) وهو يحرص كل الحرص على تحكيم الله فى منازعات عباده. لأن ذلك أولا حق الله. ولأنه آخرا ضمان العدل : (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما) والإنسان المسلم لا يعبد هذه الحياة أو يراها الوجود كله أزله وأبده: لا. إنها فترة يجتازها الأحياء ليمتحنوا خلالها: أينسون ربهم أم يذكرونه؟ أيحقرون دينه أم يوقرونه؟ ثم هم منقلبون إلى الله يقينا ليجزى كل واحد منهم بما قدم وأخر. ومهما طال المدى فلابد من عود إليه. فإنك كالليل الذى هو مدركى وإن خلت أن المنتأى عنك واسع والإنسان المسلم يتعرف على آيات الله فى كونه العجيب، ويحتفى بالعلم الذى يشرح دقائقها وقوانينها، ويحترم منطق الحياة الذى يصف وسائل النجاح والفشل. ولكنه لا يجعل من العلم حجابا عن الله، ولا من الكدح للحياة تنمية للشهوات. والبيئة التى يعيش فيها الإنسان المسلم ينبغى أن تخصب بهذه الحقائق وأن تكون معينة على ازدهارها. فإن من أهم وظائف الحكم فى الإسلام أن يمهد لأتباعه الحياة المتجاوبة مع مشاعرهم النفسية، ومعاملاتهم الاجتماعية، فى الوقت الذى يكفل فيه للآخرين عقائدهم وعباداتهم.. ص _044(1/38)
الحكم المدني: وفى العصر الحديث قامت فى الشرق الإسلامى حكومات مدنية كثيرة توطدت سلطاتها بين المحيطين وانضوت تحت ألويتها جماهير المسلمين. وهذه الحكومات- فى أشرف صورها- أدت للشعوب خدمات من الحق أن نعترف بها، فقد جاهدت لتحرير البلاد من النير الأجنبى وقادت حركات نزيهة لإقرار الكرامة الوطنية. ومن رجال هذه الحكومات المدنية من ثابر على تحسين الأحوال الاجتماعية والاقتصادية التى كانت سيئة جدا فى أعقاب اضمحلال النظام الإسلامى.. وجهد هذا النفر المخلص فى رفع المستوى الثقافى والعمرانى لا يسوغ إهداره ولا تناسيه، خصوصا أنه أصلح بعض العوج الذى ساد أرجاء الأمة الإسلامية المترامية الأطراف فى ظل السلطان التركى الشرود.. ثم إنه من العدل أن ننوه بالدساتير الفضفاضة التى ساقت للأفراد حريات رحبة كانوا من قبل محرومين منها، وأتاحت لمختلف الطوائف انطلاقا فكريا وعاطفيا موارا بالحياة والحركة. إننا نقر بهذه الحسنات لأننا نبصر الواقع كما هو، ولا نبخس الناس أشياءهم، لكن النجاح الذى حققته هذه الحكومات فى تنظيف الأوطان من الاستعمار الأجنبى كان العامل الأكبر فيه هو الجهاد الإسلامى الذى اندفعت بحرارته جماهير الثائرين. والإنجليز والفرنسيون والطليان والهولنديون لم تتزلزل أقدامهم فى البلاد التى احتلوها، ولم يكرهوا آخر الأمر على الجلاء منها إلا تحت تأثير هذا الجهاد الموصول.. والمشروعات العمرانية والثقافية التى نجحت وأفادت كان العامل الأكبر فيها ضمائر المؤمنين الذين يؤدون واجباتهم بإخلاص ويغلب على مسالكهم طابع الجد والدقة. ولما كانت الحكومة المدنية ليست- فى جوهر تكوينها- وثيقة الصلة بالدين فإنه سرعان ما تطرق الوهن إلى عملها وهيبتها.. فتعثر خطوها فى كل ناحية. وإذا بقيت على هذه الحال فإنها ستفقد أرباحها التى حصلتها بعرق ودم الأجيال المؤمنة وحدها.. ص _045(1/39)
إن هذه الحكومات لم تهتم بالتربية الدينية فنبت الأفراد على طبائعهم دون تهذيب. وسعة العلم وطول الدراسة مع فقدان العقيدة الدافعة الوازعة لا يجديان فتيلا، خصوصا فى مجتمع تشبثت بترابه معالم الإسلام، فهى لا تفتأ تثبت نفسها، وتتقاضى حقها فى التوجيه والقيادة..!! وقد رأينا مشروعات لا ينقصها صواب الفكرة ولا صدق الوجهة. ومع ذلك فقد زاغت وذابت، لا لشىء إلا لأن الأيدى غير المتوضئة هى التى باشرتها، والقلوب الخالية من الله هى التى سيرتها. إن الحكومات المدنية- فى البلاد المسلمة- سوف تعجز عن تحقيق شىء طائل ما دامت مصرة على عزل الدين عن الحياة، وما دامت مصرة على تعريض المجتمع لعواصف التحلل والمجون والفوضى التى تهب من كل وسائل الإعلام... إن الفراغ والبرود اللذين يغمران النفوس- فى ظل النظم المدنية المتجهمة لأحكام الإسلام- يستحيل أن تنجح بهما نهضة بل يستحيل أن تبقى معهما أمة... وقد كان الأستاذ " عمر بهاء الأميرى " يعنى هذه الحقائق عندما قال فى المحاضرة التى ألقاها بقاعة الجامع الأزهر: " لعلى لا أكون مغاليا إذا قلت: إن آفة الآفات فى أوطاننا اليوم هى اشتغال أحزابنا وحكوماتنا وحركاتنا السياسية والاجتماعية وسواها بقضايا الأوطان الدائمة والطارئة اشتغالا يصرف الجهد عن إعداد المواطن الصالح الذى يستطيع وحده أن يحمل العبء، ويثبت فى الملمات، وينتج فى بناء الوطن على أسس وطيدة من الإيمان والقوة والعرفان.. فالمواطن المسلم اليوم- وأكاد أقول جازما فى العالم الإسلامى كله- ينشأ مسيبا مرسلا مع فتنة الحياة الصاخبة تميل به ذات اليمين وذات اليسار. فهو فى البلاد المستعمرة ضائع فى غمرة الكفاح الوطنى المتحرر. وهو فى البلاد الناعمة بظلال من الاستقلال واثب مع العواطف الوطنية فى وثباتها العامة. وهو هنا وهناك يحس بشىء من الغرور يخيل إليه معه أنه بهذه المشاركة أدى كل واجبه وبات يملك حق التحلل من ضوابط كثيرة كانت تقيده فى(1/40)
حرم الأسرة والمدرسة والمجتمع. ص _046
والقائمون على أمور المسلمين والعرب ترهقهم مشكلاتهم الكبرى، وتصرفهم العناية بقضايا الأوطان عن العناية بتكوين المواطنين! وهكذا يترك إعداد المواطنين إلى ظروفهم الخاصة من عائلية ومعاشية واجتماعية. ومن هنا تضيع كفاءات لم يوفر لها الصقل والشحذ والتوجيه. ومن هنا تنشأ انحرافات أخلاقية وإجرامية وفكرية و.... ومن هنا تهدر طاقات بشرية هائلة يحتاج إليها كل وطن من أوطان المسلمين والعرب لإصلاح شأنه والتغلب على مشكلاته والنهوض بشتى أعبائه. إننا إذا رسمنا لكل مواطن من جماهير المسلمين خارطة تبين لنا حقيقته الثقافية والاجتماعية والسلوكية والاقتصادية والجثمانية و.... ثم كررنا رسم هذه الخارطة عاما بعد عام نراها فى الكثرة الكاثرة لا تكاد تتبدل وتتقدم إلا بنزر يسير. ونراها فى القلة الضئيلة تتقدم فى بعض النواحى تقدما غير موجه ولا موزون ونراها فى البقية الباقية مذبذبة حيرى بين التقدم والقهقرى وكل ذلك تبعا للأوضاع العامة والخاصة المتروك حبلها على غارب الظروف والصدف، وهكذا تلبث الفراغات الهائلة فى مختلف مرافق الحياة فى شتى أوطان المسلمين تنتظر دون جدوى من يشغلها وتستعين فى كثير من المواطن بالخبرات الأجنبية الغريبة عن روحنا وفلسفتنا. إن المواطن- مسلما أو عربيا- يعيش فى أزمة حائرة فى كل شىء ترهق أعصابه وتشل قواه. فالعروبة تتلبس شكل العصبية فى كثير من الأحيان. والدعوة إلى القومية العربية قد تستهدف مجرد الدعاية، وتنقلب أسلوبا " تهريجيا" والإسلام- عقيدة المسلم و نظامه- لم يعرض عرضا واضحا واحدا. وحلول المشكلات فى ضوئه لم ترسم بجلاء! نعم قد قامت خلال السنوات الأخيرة محاولات فكرية ناضجة لعرض بعض جوانب الإسلام بشكل نير جلى، ولكنها لم تستوعب نظام الإسلام بأجمعه، ولا ص _047(1/41)
تناولت سائر المشكلات فضلا عن أنها بقيت أفكارا فى كتب لا تكاد توجد أية هيئات أو جماعات تربوية تجعلها اعتناقا حيا فى نفوس المسلمين. والذين تأثروا بهذه الجهود الخيرة عقليا، لا يكاد يوجد بينهم من ينعكس تأثره العقلى هذا على سلوكه. وإذا وجد. فوجود قاصر على الأفراد، وفى حدود سلوكهم الشخصى، لا يغنى فى الوجود الاجتماعى والسلوك العام كثيرا! المواطن فى بلاد العروبة والإسلام يعيش فى أزمة من شك، فالمذاهب الاجتماعية والسياسية والفكرية تغزوه وتترك فى عقله أقل ما تترك تشويشا ونصبا، والوجهات السياسية المختلفة وما تجنده كل وجهة من وسائل الدعاية لذاتها والهدم فى سواها تحرمه نعمة الثقة والاطمئنان. والأحداث التى تكتنف بلاده والعالم- وأحداث العالم قد أصبح بعضها مربوطا ببعض- تحيل حياته إلى مرجل من القلق، وتسلب أيامه سكينة الاستقرار، وهو إلى جانب كل ذلك يكابد فى أمور معاشه وبحار فى أساليب عيشه بين القديم الذى درج عليه والجديد الذى غزا مجتمعه، دون أن يوجد من يأخذ بيده إليه ويدربه عليه! إن الواقع المؤلم للمواطن الذى شرحنا فيما تقدم بعض ملامحه العامة والخارطة التى رسمناها لحياته التى تنصرم عاما بعد عام ليدلان بوضوح على جمود قابليات المواطنين فى ظل حياتنا القائمة رغم ما فيها من بوادر نهضة عامة مباركة. إن فلسطين تنتظر التحرير، والجزائر تترقب المدد، وأوطاننا جمعاء تحتاج إلى تعبئة القوى وتدعيم الجهود وإحكام الخطة للتخلص من الرواسب الفتاكة للاستعمار البغيض التى لا تزال تعيث بيننا فسادا. هان الإنسانية الحائرة المعذبة وراء كل ذلك ترنو إلينا آملة إنقاذها من جديد. إن الجيل الصاعد المتطلع إلى المجد يتطلب إعدادا صالحا متدرجا متينا ليستطيع سد الثغرات وحمل الأعباء التى وضعها القدر على كاهله الفتى. فلابد لنا من إنارة جوانب الإيمان الواعى فى نفسه لأن العقيدة السديدة هى حجر الزاوية فى كل عمل مثمر بناء. ص _048(1/42)
والدعوات التى تحاول خلخلة الدين القيم فى نفوس الناشئة دعوات استعمارية مدسوسة هدامة. وإن العزائم لا يثبطها شىء، والشعوب لا يضعفها داء كتضارب الجهود، وفرقة ا لقادة، وتخاذل رجال الإصلاح. إن الإسلام اليوم مظلوم فى حياتنا الخاصة والعامة، يكاد يضيع بين المتظاهرين باعتناقه، البعيدين عن حقيقته، وبين المتنكرين له عن جهل أو غرض. وأما القلة الواعية من دعاته فتخلق حولها الأباطيل، وتوضع فى سبيلها ونقول نحن: إن البلبلة النفسية والاجتماعية ستظل تهز كل شىء وتذروه بددا، وستظل تجر الكوارث فى الداخل والخارج.. حتى نصل ما بيننا وبين الإسلام فى ميدان التربية والتعليم، وفى ميدان الإدارة والتشريع، وفى ميدان الاقتصاد والسياسة، وفى شعائر الحياة العامة والخاصة كلها.. عندئذ تنتظم مشاعر الأدب الاجتماعى، والكفاح السياسى فى منهج معروف المنع والمصب، فلا يعروه تناقض ولا تضارب، ولا يشينه ضعف أو فراغ. وفى ذلك يقول الأستاذ عمر: قادة العرب هذه فرصة العمر وهذا نداء مجد الجدود وحدوا العرب بالذى وحد العرب قديما من شرعة التوحيد أنقذوا الكون من تحكم هذا البغى فيه وفتكه المنكود أنقذوه من التنافس بين الشرق والغرب فى صراع مبيد قد ضوى جسمه فكونوا دواء وشفاء لجسمه المكدود كنتم خير أمة أخرجت للناس هديا ورفعة فى الوجود ص _049
مسير الإسلام بين المجتمع والدولة
ص _050(1/43)
مسير الإسلام بين المجتمع والدولة أتت هدايات الإسلام من لدن رب العالمين متسمة بالشمول والإحاطة.. وإذا كانت أصول هذا الدين هى التى بلغها جميع الأنبياء السابقين، فإن أصول هذا الدين وفروعه هى التى قدر الله- جل جلاله- أن تصحب سير الإنسان فى الأرض آخر الدهر.. وأن تنتظم شمل البشر فى القارات الخمس.. لن يجىء بعد محمد رسول، ولن ينزل بعد قرآنه وحى. فى هذا المصحف كل ما يفتقر إليه العالم من رشد وطهر.. وخير للناس أن يثوبوا إلى هذا الكتاب متعلمين، بدل أن تدمى أعقابهم التجارب الفاشلة، والمناهج الباطلة (وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم) وهنا نجيب على تساؤل شاع على ألسنة كثيرة، يقول أصحابها معترضين: إن الإسلام الذى قرأنا لكم ولغيركم بحوثا مطولة فى شريعته وعقيدته نظام مثالى، أو بتعبير آخر نظام خيالى!! وأن تاريخ الدنيا لم يعرفه إلا سنين عددا فى دولة الخلافة الراشدة!! وإن الحياة الإسلامية بعدها ماجت بالفتن والأحداث الجسام.. فدعونا نستحدث من الأفكار والأساليب ما يكفل لنا الاستقرار وفق ما نشتهى !! الإسلام يصبغ الحياة العامة أغلب تاريخه: ونقول لهؤلاء: على رسلكم، إن المسلمين ظلوا ألف سنة وهم- بهذا الدين- أنضر أهل الأرض عيشا، وأرقاهم فكرا، وأعلاهم مستوى..!! كانت الأمم النصرانية واليهودية والوثنية دون جماعة المسلمين بيقين. بل كانوا يرون الحياة الإسلامية طليعة نيرة، وقوة باهرة. وصحيح أن المسلمين- وهم بشر خطاءون كغيرهم من البشر الخطائين- لم يحتفظوا بالأوج الذى رفعهم الله إليه، ولم يلتزموا وصايا السماء التى شرفهم الله بها... ص _051(1/44)
ولكن الأفق الذى هبطوا إليه بتفريطهم كان أسمى من آفاق الحياة فى الأمم الأخرى.! ولم يهو المسلمون من غل، ويسقطوا من عين الله إلا يوم قطعوا حبال الإسلام، واستها نوا بروابطه..!! حينئذ تسلطت عليهم الأمم التى كانت قديما تتعلم منهم وتقفو آثارهم، وتلك سنة الله فى خلقه (إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم و إن أسأتم فلها) وهذا الكلام المجمل يحتاج إلى تفصيل وبيان. الإسلام ليس شكل دولة وبرنامج حكم.. وحسب، إنه دين متعدد التعاليم، متسع الميادين. وشعبه التى تتفرع فى الحياة تفرع القنوات فى الأودية أو تفرع العروق فى الجسم كثيرة، وصفها النبى صلى الله عليه وسلم بأنها بضع وسبعون شعبة.. وهذا عد ليس للإحصاء، ولكن لبيان استيعاب هذا الدين لمنازع النشاط الإنسانى كله. العقائد جزء من الدين. والعبادات جزء من الدين. والجهاد الاجتماعى لإقرار المعروف وتغيير المنكر جزء من الدين. والتنظيم الاجتماعى لإقامة العدل وإقصاء الجور جزء من الدين. والجهاد العسكرى لحماية الإسلام وتقرير الحريات الأساسية للعقل والضمير ومقاومة البغى والإلحاد، جزء من الدين. وحراسة الأمن فى الداخل، إقامة المحاكم لإنهاء المنازعات، وحراسة حدود الله، جزء من الدين. وبناء المساجد والمدارس للتربية الروحية والفكرية، جزء من الدين. وأخيرا.. ودون استقصاء السلطة المشرفة على هذا كله جزء من الدين. وقد ظل الإسلام- كما سبق القول- محور الحياة الفردية والاجتماعية والسياسية قرابة عشرة قرون أو أكثر. ص _052(1/45)
بيد أن هناك أخطاء شابت الحياة الإسلامية فى بعض نواحيها. ولكن هذه الأخطاء لا يجوز الزعم بأنها عطلت الإسلام نفسه، أو باعدت بين حقائقه وسير التاريخ.. الانحراف فى شكل الحكم!! لقد تغير شكل الدولة أيام " معاوية بن أبى سفيان " فاختفى النظام الجمهورى الرفيع، وحل مكانه ما يشبه النظم الملكية المعروفة فى أقطار الأرض الأخرى. وجمهور المسلمين متفق على تخطئة معاوية فيما صنع. وجمهورهم يرى الخلافة بيعة حرة يختار لها أكفأ المسلمين لمنصب الرياسة. ونحن مع خاصة المسلمين وعامتهم فى هذا الرأى. على أن هذا التغير فى الشكل السياسى للدولة الإسلامية لا يعنى تغيرا ما فى الإسلام نفسه، عقا ئده، وشرائعه، وكتابه، وسنته..!! بل إن الحاكم- الذى احتل مقعد الرياسة، أراد أن يثبت جدارته به- وإن جاء بطريق مفتعل- فتبنى جميع المثل الإسلامية، واجتهد فى الداخل والخارج أن يقيم أحكام الإسلام ويحترم معالمه كلها. ومن هنا رأينا السيل الإسلامى ينساح فى المشارق والمغارب. وإن كان الخلفاء ملوكا..! ورأينا الثقافة الإسلامية تتقدم حضارة مشرقة يكون الإسلام لحمتها وسداها. ومن الخير أن نثبت كراهية هؤلاء الرؤساء وصفهم بأنهم ملوك!! لقد كانوا يعتدون أنفسهم خلفاء عن صاحب الرسالة فى إبلاغ الدعوة وسياسة الناس بالإسلام وتوجيه مصالح الدنيا إلى هذه الغاية. ومع أن أخلافهم فى الحكم كانوا يجيئون بطريق ولاية العهد، فإن هؤلاء الخلفاء كانوا يحرصون على تصحيح " الشكل الدستورى " بتوفير بيعة للخليفة الجديد تجعل وجوده نابعا من إرادة الأمة. ص _053(1/46)
واجتهد عامتهم فى أن يقوموا بواجبات الحاكم المسلم، فكان الخليفة يؤم الناس فى الصلاة الجامعة، ويخطبهم، ويحج بوفودهم، ويقود الجيوش لمقاتلة أعداء الإسلام! وكانوا يبدون الغيرة على شارات الإسلام، ويوصون بنشر العلم، ويحتفون برجالاته. والمعروف أن مالكا ألف كتابه " الموطأ " بتوصية من " أبى جعفر المنصور " كى يبصر الجمهور بالفقه الإسلامى... وكان يريد جمع الناس عليه لولا أن مالكا- لرسوخ قدمه فى الدين- رأى أن يدع الناس يختارون لأنفسهم ما يشاءون من مذاهب الفقه.. وانظر إلى " هارون الرشيد " كيف يزكى " أبا حنيفة " وهو يعلم رأيه فى دولة بنى العباس، ورفضه أن يتولى لهم القضاء. فقد سأل الرشيد " أبا يوسف " قاضى القضاة فى عهده: صف لى أخلاق أبى حنيفة، فقال: " كان والله شديد الدفاع عن حرمات الله، مجانبا لأهل الدنيا، طويل الصمت، دائم الفكر، لم يكن مهذارا ولا ثرثارا، إن سئل عن مسألة كان له فيها علم أجاب، وما علمته- يا أمير المؤمنين- إلا صائنا لنفسه ودينه، مشتغلا بنفسه عن الناس، لا يذكر أحدا إلا بخير ". فقال الرشيد: " هذه أخلاق الصالحين ". وهؤلاء الرؤساء الذين سموا أنفسهم أمراء المؤمنين، والذين أحبوا أن يشرفوها بصفة الخلافة عن الرسول صلى الله عليه وسلم كانت جمهرتهم بين قوى فى خدمة الإسلام، أو مقتصد، أو كليل الذهن واليد.. لكن يستحيل أن يعطل أحدهم حدا أو قصاصا، أو يجحد فريضة، أو يستهين بشعيرة.. الإسلام فى أيامهم دين الفرد والمجتمع والدولة.. وإذا كان علماء الدين يرون حرجا فى الاعتراف بصحة الطريقة التى وصل بها أولئك الخلفاء إلى الحكم، فإن هؤلاء العلماء لا يسعهم إلا معاونة هؤلاء فى عزمهم على خدمة الإسلام واستقتالهم فى رفعة شأنه وحياطة أمره.. يقول مالك بن أنس: " والله ما دخلت على أحد من هؤلاء السلاطين إلا أذهب الله هيبته من قلبى حتى أقول له الحق "!! ص _054(1/47)
ويقول المؤرخون: لقد سعى إليه الخلفاء فى منزله. " ورووا أن " المهدى " استأذن على مالك فحبسه ساعة ثم أذن له، فلما دخل قال له: يا أمير المؤمنين، إن العيال سمعوا بمجيئك فأحبوا أن يصلحوا منزلهم- أى يهيئوه لاستقبال الضيف ". وقال مالك لغير واحد من الخلفاء الذين عاصرهم: " إن العلم يزار ولا يزور، وإن هان العلم يؤتى ولا يأتى "!! فسير الملوك أولادهم إليه ليسمعوا منه وينتفعوا بعلمه. ورووا أن " المهدى " بعث إليه بولديه " موسى " و " هارون " ليأخذا عنه. وبعث الرشيد بولديه إليه، فدقا الباب فلم يفتح لهما فجلسا- والريح تضرب وجوههما بتراب العقيق- الوادى القريب من البيت- فلما يئسا انصرفا!!! ويقول الرشيد لمالك: " تواضعنا لعلمك فانتفعنا بك، وتواضع لنا سفيان بين عيينة فلم ننتفع به ". وكان سفيان يأتى قصور الخلفاء ويعرض عليهم الحديث..! إن أسر الخلفاء أو الملوك الذين وقعت بين يديهم دفة الحكم فى العالم الإسلامى طيلة عشرة قرون لم يفهموا الحكم إلا أداة لخدمة الإسلام. فالمعتصم العباسى فى عمورية، وصلاح الدين الأيوبى فى بيت المقدس، وقطز المملوك فى عين جالوت، وعشرات غيرهم من الذين حكموا بعدما ملكوا.. أولئك كلهم جعلوا السلطة المتاحة لهم وسيلة لحماية الإسلام وإنفاذ شرائعه.. ولو فكر أحدهم فى ترك الكتاب والسنة لقتل لساعته واختفى اسمه ورسمه. لماذا أطرد هذا الانحراف...!!؟؟ قد تقول- ومن حقك أن تقول-: لكن سنة الخلافة الراشدة فى ولاية الحكم ضاعت، ومعالم النظام الجمهورى التى تجعل اختيار الحاكم من صميم عمل الأمة زالت. ص _055(1/48)
فما عذر المسلمين الأوائل أن يصنعوا بأنفسهم وإيمانهم ذلك؟! والجواب نسوقه إليك مما نرى من وقائع عصرنا الحاضر.. لقد شاع الكلام فى كل ناحية عن حقوق الإنسان وحريات الشعوب، وأصبح الحاكم فى الشرق والغرب مطالبا بتقديم حساب عسير عن تصرفاته كلها.. واختفت وراثة الملك من بلاد كثيرة. ومع ذلك فإن النظام الملكى فى إنجلترا والسويد مثلا من أرسخ أنظمة الحكم فى العالم.. بل إننا نستطيع القول فى إطلاق وأمان: أن النظام الملكى فى إنجلترا أرعى للحرمات وأحفظ للحريات من النظام الجمهورى فى روسيا.. إن العبرة ليست فى العنوان الظاهر، ولكن فى الحقيقة القائمة.. والإنجليز فى بلادهم لا يشعرون بذرة من القلق على كرامة الفرد ولا على مكانة الوطن من بقاء النظام الملكى بين ربوعهم... وهم الآن يدينون بالولاء لامرأة تحمل على مفرقها الجميل تاج أعرق إمبراطورية فى العصر الحديث!! ما السر فى استقرار هذا الوضع؟ السر أن النظام الملكى هناك تجاوب مع جميع المثل الرفيعة التى ينشدها الإنجليز لأنفسهم وبلادهم، فلم ير القوم ضرورة للتخلص منه. ولو أن هذا النظام نقصهم أى حرية من الحريات التى يتمتع بها الأمريكيون أو الفرنسيون فى ظل نظمهم الجمهورية لرموا به فورا فى أعماق البحار المحيطة بجزيرتهم!!. والمسلمون الأقدمون استكانت كثرتهم لنظام توارث الخلافة مع أنه دخيل على الإسلام، لأن الخلفاء- الذين اجتازوا هذا المنصب- أظهروا عزما مبينا على الحكم بالإسلام فى كل دقيقة وجليلة من الشئون العامة والخاصة. وقد حملوا الراية بالفعل، وجعلوا شرفهم، ومناط اللواء لهم، بمدى بلائهم فى خدمة الإسلام، واستبسالهم فى نصرته... وقد رأينا " الحسين بن على "- وهو أحق بالخلافة من "يزيد ابن معاوية "- يعرض بعد فشل ثورته أن يوجه لمحاربة الروم مع الجيوش الإسلامية التى كانت تقاتلهم فى ظل الحكم الأموى... ص _056(1/49)
وهذا مسلك ارتضاه كثير من الأتقياء. فهم- مع انحرافهم النفسى عن شخص الحاكم- يرون السبل لمرضاة الله ميسرة لهم فى سلطانه، إما بالجهاد العسكرى وإما بالجهاد العلمى.. والحكام المسلمون- سواء كانوا أمويين أو عباسيين أم عثمانيين- كانوا على أى حال محكومين بتعاليم الإسلام التى لا ريب فيها.. ومرتكبو السيئات منهم كانوا يرتكبونها فرادى أخفياء. وهيهات هيهات أن يجرؤ أحدهم على تحليل محرم أو تحريم حلال. إن العنوان القديم قد تكون تحته حقائق ناضرة، ومسالك لا تبلى جذتها فملك "الدانمارك " مثلا يذهب إلى عمله ممتطيا صهوة جواده، أو راكبا دراجة عادية، دون مواكب ولا مهرجانات من هذا النوع الذى يحف أغلب الرؤساء، كما يذهب أولاده إلى مدارسهم فى عربة عامة تضم معهم صبية الحى الذى يقع القصر الملكى قيه. وقد شعرت بقدر غير قليل من العجب والدهش عندما طالعت فى أخبار 11/12/1963 صورة مستر " ماكميلان " يقف وسط صف من العمال والموظفين فى انتظار "الأوتوبيس" ليعود إلى منزله. وكانت وقفته ناطقة بأنه لا يزيد ولا ينقص عن الرجال والنساء الذين تقدموه أو الذين أخذوا دورهم وراءه فى نظام وأدب.. !! ومستر " ماكميلان "، كان رئيس وزراء إنجلترا، ورئيس حزب المحافظين، أعنى كان حاكم إنجلترا باسم الحزب الذى ليس له أى طابع اشتراكى!! إن شعوب أوروبا التى استبقت النظم الملكية بها، لم تفعل ذلك تفريطا فى كرامتها المادية والأدبية، وإنما فعلت ذلك لأن ملوكها- من تلقاء أنفسهم- تبنوا ما تهفوا إليه الشعوب من حريات موطدة، وحقوق مصونة، فإذا الأحوال فى هذه البلاد أرقى كثيرا من جمهوريات أخرى. ومن ثم، فمن الخطأ حسبان المسلمين الأوائل فرطوا فى الإسلام كله لأنهم تركوا شكل الحكم يأخذ طابع " توارث الخلافة " فى هذه الأسرة أو تلك. ص _057(1/50)
ولا بأس من أن أذكر نماذج للسلوك الذى سار عليه ملوك المسلمين مع رعاياهم، ليعرف الناس حقيقة العلاقة التى تجمع بين الحاكم والمحكوم. ولست أدعى أن هذه النماذج صورة أمينة لسياسة الملوك فى كل زمان ومكان، كلا، إنها صور حدثت فى عهود شتى وفى أسر كثيرة، وتوجد صور أخرى مناقضة. ولكنى تخيرت قصصا من حياة أناس ما كان يرتقب منهم هذا النبل العظيم. كان " أبو بكر المحلى " يتولى نفقات أبى المسك كافور الإخشيد، وكان له فى كل عيد أضحى عادة، هى أن يسلم إلى " أبى بكر " بغلا محملا ذهبا، وجريدة تتضمن أسماء قوم من حد القرافة إلى الجبانة وما بينهما. قال أبو بكر المذكور: " وكان يمشى معى صاحب الشرطة ونقيب يعرف المنازل، وأطوف من بعد العشاء الأخيرة إلى آخر الليل، حتى أسلم ذلك إلى من تضمنت اسمه الجريدة، فأطرق منزل كل إنسان ما بين رجل وامرأة وأقول: " الأستاذ أبو المسك كافور الإخشيدى يهنئك بالعيد ويقول لك: " اصرف هذا فى منفعتك " وأدفع إليه ما جعل له. وفى آخر وقت زاد كافور فى الجريدة اسم الشيخ أبى عبد الله ابن جابار، وجعل له فى ذلك العيد مائة دينار. فطفت فى تلك الليلة، وأنفقت المال فى أربابه، لم تبق إلا صرة ابن جابار، فجعلتها فى كمى، وسرت مع النقيب، حتى أتينا منزله بظاهر القرافة، فطرقت الباب، فنزل إلينا الشيخ وعليه أثر السهر. فسلمت عليه، فلم يرد على، وقال: " ما حاجتك؟ " قلت: " الأستاذ أبو المسك كافور يخص الشيخ بالسلام ". فقال: " والى بلدنا؟ " قلت: " نعم ". قال: حفظه الله! الله يعلم أنى أدعو له فى الخلوات، وأدبار الصلوات بما الله سامعه ومستجيبه. قلت: وقد أنفذ معى نفقة وهى هذه الصرة، ويسألك قبولها لتصرف فى مئونة هذا العيد المبارك.. فقال: نحن رعيته، ونحبه فى الله- تعالى-، وما نفسد هذه المحبة بعلة!! فراجعته القول فتبين لى الضجر فى وجهه والقلق..!! ص _058(1/51)
واستحييت من الله أن أقطعه عما هو عليه من عبادة فتركته وانصرفت.. قال: فوجدت الأمير قد تهيأ للركوب، وهو ينتظرنى، فلما رآنى قال: " إيه يا أبا بكر ". قلت: أرجو الله أن يستجيب فيك كل دعوة صالحة دعيت لك فى هذه الليلة وفى هذا اليوم الشريف. فقال: الحمد لله الذى جعلنى لإيصال الراحة إلى عباده. ثم أخبرته بامتناع ابن جابار، فقال: نعم هو جدير، لم تجر بيننا وبينه معاملة قبل هذا اليوم. ثم قال لى: " عد إليه واركب دابة من دواب النوبة واطرق بابه.. فإذا نزل إليك فإنه سيقول لك: " ألم تكن عندنا؟ " فلا ترد عليه جوابا. ثم استفتح واقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم (طه * ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى * إلا تذكرة لمن يخشى * تنزيلا ممن خلق الأرض و السماوات العلى * الرحمن على العرش استوى * له ما في السماوات و ما في الأرض و ما بينهما و ما تحت الثرى). يا ابن جابار، الأستاذ كافور يقول لك: ومن كافور العبد الأسود؟ ومن هو مولاه؟ ومن الخالق؟ ليس لأحد مع الله ملك ولا شركة!! تلاشى الناس كلهم ههنا. أتدرى من هو معطيك؟ وعلى من رددت؟ أنت ما سألت، وإنما هو أرسل لك..!! يا ابن جابار: أنت ما تفرق بين السبب والمسبب!! قال أبو بكر: فركبت وسرت فطرقت منزله فنزل إلى، فقال لى مثل لفظ كافور: ألم تكن عندنا؟ فأضربت عن الجواب وقرأت " طه ". ثم قلت ما قال لى كافور. فبكى، وقال لى: " أين ما حملت؟ " فأخرجت الصرة، فأخذها وقال: علمنا الأستاذ كيف التصوف... ص _059(1/52)
قلت له: أحسن الله جزاءك. ثم عدت إليه فأخبرته بذلك، فسر وسجد شكرا لله تعالى. وقال: الحمد لله على ذلك.. أ. هـ هذه قصة حقيقية لا منحولة لملك من ملوك المسلمين، لا أعرف لها نظيرا فى سير رؤساء الجمهوريات، من حكام الشرق أو الغرب.. وهذه قصة أخرى لخليفة عباسى لم يشتهر بزهد ولا تصوف: دخل رجل على المأمون وفى يده رقعة فيها: " مظلمة من أمير المؤمنين " فقال: " أمظلمة منى؟.. " فقال الرجل: " أفأخاطب- أمير المؤمنين- سواك "؟ قال: " وما ظلامتك؟ " فقال: " إن سعيدا وكيلك اشترى منى جواهر بثلاثين ألف دينار ولم يدفع ثمنها ". قال: " فإذا اشترى سعيد منك الجواهر تشكو الظلامة منى؟ ". قال: " نعم، إذا كانت الوكالة قد صحت له منك " قال: " لعل سعيدا قد اشترى منك الجواهر وحمل إليك المال، أو لعله اشتراها لنفسه- وعليه فلا يلزمنى لك حق، ولا أعرف لك ظلامة ". فقال: " إن فى وصية عمر بن الخطاب لقضاتكم: البينة على من ادعى، واليمين على من أنكر ". قال المأمون: " إنك قد عدمت البينة، فما يجب على لك إلا حلفة. ولئن حلفتها إننى لصادق، إذ كنت لا أعرف لك حقا يلزمنى " ء قال: " فأنا أدعوك إلى القاضى الذى نصبته لرعيتك ". فقال: " نعم.. يا غلام، على بيحيى بن أكثم "، فإذا هو قد مثل بين يديه. فقال له المأمون: " اقض بيننا ". قال: " فى حكم وقضية؟ ". قال: "نعم ". قال: " إنك لم تجعل ذلك مجلس قضاء ". ص _060(1/53)
قال: " قد فعلت ". قال: " فإنى أبدأ بالعامة أولا، ليصلح المجلس للقضاء ". قال: " افعل ". ففتح الباب، وقعد فى ناحية، وأذن للعامة. ثم دعا بالرجل المتظلم، فقال له يحيى: " ما تقول؟ " قال: " أقول أن تدعو بخصمى أمير المؤمنين المأمون ". فنادى المنادى، فإذا المأمون قد خرج ومعه غلام يحمل مصلى، حتى وقف على يحيى وهو جالس، فقال له: " اجلس ". فطرح المصلى ليجلس عليها فقال له يحيى: " يا أمير المؤمنين، لا تأخذ على خصمك شرف المجلس ". فطرح للخصم مصلى آخر، ثم نظر فى دعوى الرجل. وطالب المأمون باليمين فحلف. ووثب يحيى بعد فراغ المأمون من يمينه فقام على رجليه. فقال له المأمون: " ما أقامك؟ " فقال: " إنى كنت فى حق الله عز وجل حتى أخذته منك، وليس الآن من حقى أن أتصدر عليك ". ولست بهذا الكلام أدافع عن النظام الملكى، أو ارتضى توارث الخلافة الذى وقع فى الأمة الإسلامية أعصارا طويلة، أو أقر بسياسة عدد من الخلفاء الذين جاروا عن الطريق.. إنما أريد توكيد الجو الإسلامى الذى عاشت فيه الأمة هذه القرون المتطاولة، وأن أنفى ما يشاع من أن الإسلام عاش حقبة من الدهر لا تعدو أيام الخلفاء الراشدين، ثم سارت أمور الناس- بعد- على غير دين وسارت حكوماتهم على غير شريعة..!! نتائج مرفوضة!! على أن لنظام توارث الحكم- الذى ساد للأسف بين المسلمين وغير المسلمين، وكان طبيعة للعصور الخالية- هذا النظام أفضى إلى سيئات كثيرة، وأصاب الرسالة الإسلامية بمعاطب شتى.. إن قياد الأمم يجب أن يكون فى أرشد أبنائها، وأقدرهم على حمل الأثقال، والنهوض بالمسئوليات الجسام.. ص _061(1/54)
والأمر أعظم من أن يترك لرجل يدعى لنفسه التفوق، أو لأسرة تزعم لأعضائها النبوغ.. فكم من مصاب بجنون العظمة يطلب الصدارة، والمصلحة كل المصلحة فى تأخره.. وكم من أسرة بدأت بمؤسسين شطار، أعقبوا من ورائهم من لا يحسن شيئا.. !! إن المواهب المطبوعة والمكتسبة مبعثرة فى أرجاء الأرض بين الأكواخ والقصور، وبين الغامضين والبارزين، وبين السود والبيض، وليست حكرا على جنس، أو طبقة. والإسلام يطلب لمنصب الإمامة العظمى ، أحسن الناس دينا، وأبينهم كفاءة، وأشدهم طاقة على النهوض بأعباء هذه الوظيفة الضخمة. وإذا كان الإسلام يطلب لإمامة الصلاة مؤهلات دينية وعلمية خاصة، فكيف يدع إمامة الدين كله، والحياة المدنية معه لأناس تافهين؟؟! لكن الذى وقع- ونقولها محزونين- أن أصحاب القدرات العلمية الرائعة، واليقين الناضج، والخبرة العميقة بالحياة وسياسة الجماهير، هؤلاء نحوا عن الحكم وسلطاته، وحرم الإسلام والمسلمون من ذكائهم وشجاعتهم وتقواهم..! والدولة التى تنكب بهذا الداء لا يبشر مستقبلها بخير. وعندما يدرس تأخر المسلمين وانهيار دولتهم فى الماضى، فسيكون أسلوب تعيين الخليفة فى طليعة ما يسجله الدارسون. ولو أن المرجوح عندما يرفعه الحظ يستعين بالراجحين، ويتيح للأمة الانتفاع بهم لخف المصاب!! لكننا نحصى عددا قليلا من هؤلاء الذين ملكوا، يمموا هذه الوجهة. أما الكثرة من رجال كل أسرة فقد وضعوا نصب أعينهم حياطة ملكهم، ومجد أسرتهم. وهم- لأنهم يحكمون باسم الإسلام أمة مسلمة- يقبلون فى حواشيهم أهل العلم والأدب، وأهل الفروسية والدهاء الذين يدينون لهم بالولاء، ويوفقون بين حق الله، وطاعة الحاكم. ص _062(1/55)
وقد رأيت فى تجربتى الخاصة ألوفا من الناس لا تنقصهم المهارة فى علوم الدين، ولا البراعة فى شئون الدنيا، يشتغلون مع شتى الأحزاب والحكومات، ويفلسفون الأوضاع التى يوضعون فيها، ويؤدون الأعمال التى يكلفون بها، فيأخذون الأجور التى كتبت لهم، ويجزعون كل الجزع من الحديث فى السياسة العليا. وهذا الجيش من طلاب العيش الهادئ فى ظل الحكم القائم- أى حكم كان- لا يعيبه أن يجد راحة الضمير فيما يرى من مراسم الدين وصوره العامة. وقد بقيت الدولة الإسلامية على هذه الحال، ثم ظلت تنوء بعللها يوما بعد يوم حتى غربت شمسها آخر الأمر. * * * وقد نشأ عن فساد الطريقة التى يختار بها الحاكم الإسلامى عدة أمور. فالمعروف أن الإسلام رسالة عالمية، وأن خلفاء الرسول الراشدين كانوا يدركون أن تعميم الرسالة من صميم وظائفهم. لكن الملوك الذين أتوا من بعد لم يرسموا خطة واضحة معقولة لنشر الإسلام، ولم يهتموا بتكوين الدعاة الذين يحملون تعاليم الإسلام لمن يجهلها من شعوب الأرض الأخرى. مع أن ذلك كان يحتاج إلى إدارات، بل إلى وزارات لمعرفة اللغات الأجنبية، وأحوال الأمم القريبة والبعيدة، واستكشاف الأقطار المجهولة، وتوثيق الصلات بها.. إلخ. ولو أن الحاكم كان رجل دعوة ينوب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فى إبلاغ رسالته لاتجه بسياسة البلاد التعليمية والتوجيهية هذه الوجهة، وعنى بها أوسع العناية. أما وهو ملك تغلب عليه مشاعر الحفاظ على سلطته، فحسبه ما تيسر من صلة بالدين!! وأعقب هذا الجمود أن السياسة الإسلامية الرسمية فى عصور كثيرة كانت خلوا من الإحساس بعالمية الرسالة وعموم الدعوة. وما لنا نذهب بعيدا؟ إن الثقافة الإسلامية نفسها فى داخل الأمة الإسلامية لم تحظ بالاهتمام الواجب. ص _063(1/56)
فلو أن الحاكم فقيه واسع الاطلاع، حديد البصر، لأمر بتنقية الجو العلمى الديني من خرافات كثيرة شانته وأزرت به.. وإدارة واحدة للرقابة على المطبوعات كانت ستحكم بإعدام كتب كثيرة تشيع بين العوام، وتحذف سطورا، أو صحائف من كتب أخرى تخوض فى أمهات القضايا الدينية، ويتربى الألوف من الناس على ما بها من الخلط. لقد ضرب عمر بن الخطاب " أبا هريرة " لما رآه يعلم الناس- بغير تبصر- حديث: " من قال لا إله إلا الله دخل الجنة " ، وخشى عليهم أن يتكاسلوا ويتواكلوا. لكن جماهير المسلمين فى قرون شتى شاعت بينها تعاليم ينكرها الأئمة باتفاق، ويراها العلماء انحرافا عن الجادة. والحاكم- لأنه شخص جهول- لا يعير ذلك انتباها. ونحن بداهة لا نحارب حرية الفكر، وإنما نحارب الدجل والهدم، والجراثيم التى تقتل الفكر وتشل الإنتاج. إن الدولة التى تقوم على فكرة ما، يختار لرياستها أقدر الناس على دعم هذه الفكرة فى الداخل، ونشرها فى الخارج. ورعايا الدولة وأولو الأمر فيها مكلفون- بحكم إخلاصهم لفكرتهم- أن يتواصوا بتقديم هذا الكفء. لكن مناصب الإمارة والوزارة تربع فيها من لا ترفعهم مواهبهم إليها. وإذا كان هؤلاء المؤمرون والمستوزرون أهل صلاة وصيام، أو كانوا يرون أنفسهم قادرين على حمل الراية، لأن الحظوظ واتتهم، فذلك زعم لا يغير من الواقع ونتائجه المريرة شيئا.. إن كثرة من أفراد الأسرة الحاكمة فى الدول الكبرى الثلاث: الأموية، والعباسية، والعثمانية، والدول الصغرى الأخرى فى الهند، ومصر، والمغرب، لم يكونوا أليق الناس لمناصبهم.. ص _064(1/57)
نعم فيهم عمالقة وأولو بأس شديد.. بيد أن كثرتهم دون غيرهم من أبناء الأمة المغمورين المضيعين! وقد تحمل الإسلام وزر هذه المأساة، فانكمش بعد امتداد، وغامت آفاقه، وكان يجب أن يغمرها الضياء. وقصور هؤلاء الحاكمين تبعه ذهول غريب عن معرفة القوى المناوئة للإسلام، والتغيرات الهائلة التى نقلتها من طور إلى طور.. فإن الانتصارات الداوية التى أحرزها الإسلام على أعدائه أول الأمر، جعلت الحكومات الإسلامية تحسب الدنيا دانت لها إلى الأبد.. وكانت المناوشات التى تقع على الحدود تخدع عما وراءها.. وكان الفوز الذى يحرزه المسلمون فيها يخيل إلى الخليفة وحواشيه أن كل شىء على ما يرام !! وانفتح بعدئذ باب التنعم على مصراعيه، فأخذ المسلمون يكرعون من اللذائذ الحرام والحلال.. كما انفتح باب الثرثرة فى أحكام العقائد والعبادات، والخوض فى المغيبات والموهومات.. واعتلت شئون الدين والدنيا بداهة، وتاحت الفرصة للتتار والصليبيين فمزقوا الدولة شر ممزق، وأنزلوا بالإسلام أفدح الخسار. الأمة الإسلامية تغطى قصور الحكم!! وقبل أن نمضى فى هذا السرد إلى نهايته نريد أن نكشف عن الجانب الأهم من تاريخ الإسلام. ص _065(1/58)
ونعنى به تاريخ المجتمع، لا تاريخ الدولة نفسها. إن تاريخ المجتمع أشرف كثيرا من تاريخ الحكم.. وإن الإسلام الشعبى استطاع أن يسد الثغرات التى أحدثها الإسلام الرسمى، وأن يواصل السير حيث تعثر. والسر واضح، فإن الإسلام دين متشعب النشاط ممتد الآفاق.. وتعاليمه تستهدف الخير بوسائل عديدة. فإن أصاب العطب إحدى الوسائل نهضت الأخرى بأداء الواجب ولو تضاعف عليها العبء. والمسلمون حكومة وشعبا حملة رسالة واحدة يشعرون جميعا بتبعاتهم إزاءها.. فإذا حدث تفريط من ناحية لم تأذ الأخرى جهدا فى أداء الأمانة حتى تتحقق بقوله تعالى: (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون). * * * * فى ميدان التعليم والدعوة: وبعيدا عن سلطان الدولة وما تملك من رغبة ورهبة، وتطلعا إلى ما عند الله، وابتغاء لمرضاته تطوعت جماهير غفيرة من المسلمين لخدمة الإسلام فى ميدان التعليم والدعاية. ففى الخارج ساح التجار والمتصوفة فى أواسط إفريقيا وأرجاء الهند وجزر أندونيسيا وكانوا يعرضون الإسلام نظريا وعمليا على أمم لا تدرى عنه شيئا.. وقد دخلت الألوف المؤلفة فى الإسلام عن هذا الطريق. والواقع أن أسلوب الدعوة المجردة والعرض اللطيف هو وحده الأسلوب الذى يرتضيه الله لنشر دينه.. ص _066(1/59)
وما قاتل الرسول وأصحابه إلا حكومات الإرهاب، وسلطات الاستعمار، التى حكمت الشعوب بالحديد والنار، وأوصدت دونها نوافذ الفكر، فحرمتها قسرا من اعتناق ما تهوى من عقيدة.. ونحن مستيقنون فى عصرنا، هذا أن هناك حكومات جائرة لا تنكسر شوكتها إلا بقوة عادلة تجىء من وراء الحدود إ! وإلا فمن ينقذ الملونين فى جنوب إفريقيا وأواسطها من بطش الأوروبيين البيض؟ إننا نزكى سياسة التبليغ المسالم، بل نرفض ما عداها عندما يكون لها موضع!! ولكن عندما تقع الأمم فريسة أغوال من الحكام الطائشين فما بد من السلاح الذى يفتح وحده هذه الأغلاق. وقد سار الدعاة المسلمون فى عصور كثيرة على منهج التعريف بالإسلام، وشرح عقيدته السهلة، وعباداته التى تصل الإنسان مباشرة بالله. وكانت بساطة الدين وسماحة تكاليفه- وما زالتا- السبب الفعال فى انتشاره وانتصاره على العقائد الأخرى.. ولو ظفر هؤلاء الدعاة بأمداد منظمة من حكومات تتبنى الدعاية الخارجية، وتتعهد ثمارها ما بقى فى إفريقيا وآسيا دين غير الإسلام!! يا له من دين لو كان له رجال... !! ورسالة التعليم فى الداخل نهض بها قديما الإسلام الشعبى، أكثر مما نهض بها الإسلام الرسمى. ولا غرو فالعامة تقول: إنما يعرف الفضل من الناس ذووه. والحاكم الذى لم ترشحه كفايته العلمية لتولى القيادة، قلما يزن أقدار العلماء بدقة أو ينشر العلم بحماس، أو يمكن لأهله بإيمان.. ولما كان النبى صلى الله عليه وسلم قد قرر أن " طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة " فإن سواد المسلمين أقبل على طلب العلم لأنه عبادة، والتضلع فيه ارتقاء ومثوبة. وقد تحولت المساجد إلى معاهد للدرس، إلى جانب إقام الصلوات. ص _067(1/60)
وفى هذه المساجد ازدهرت المدارس الفقهية الكبرى فى الإسلام. ومعروف أن الأئمة الأربعة كانوا رجالا متطوعين بالتعليم، ولم يكونوا موظفين يتقاضون عليه من الدولة أجرا.. بل المأثور عن جمهرة الأئمة أنه كانت بينهم وبين الحكام وحشة! ومنهم من مات فى السجن وهو يحارب البدع والخرافات ، ويستنكر الجور والانحرافات، ولا ننوه هنا بأسماء الأعلام الذين استفاضت شهرتهم. إنما ننوه بالجنود المجهولين من أهل العلم الذين انتشروا فى المشارق والمغارب، وانبثوا فى المدائن والقرى يكتبون ويدرسون، ويبلون أبصارهم فى المطالعة، وأعصابهم فى التربية والتهذيب. هؤلاء هم الذين حفظوا الإسلام، ونقلوه من جيل إلى جيل، ومن سلف إلى خلف، وهؤلاء هم الذين انتصروا يوم انكسرت الدولة وسقطت الخلافة الإسلامية فى بغداد. نعم هم الذين انتصروا، لأنهم استبقوا بجهودهم المتلاحقة. تراث الإسلام، وظلوا دائبين على نشره، وأخذ الناس به، ودعم المجتمع المنكوب بمعانيه.. فإذا التتار- الذين قضوا على الدولة العليلة- يرون مجتمعا لا يزال متماسكا بالعقيدة السمحة، متجمعا على عباداته السهلة، مترابطا بشرائع الأدب النابعة من كتابه وسنته، متنزها عن كبائر الإثم والفواحش.. فلم يسع التتار بعد أمد من انتصارهم إلا أن يتحولوا إلى الدين الذى هزموا حكومته ولم يهزموا طبيعته..!! ودخلوا افى الإسلام بعد أن حاربوه، وأسقطوا عواصمه..!! وأصبحت سيوفهم معه لا عليه. وسر هذا التحول هو التفوق الأدبى- لا العسكرى- للمسلمين. فى الميدان الاجتماعى: وفى المجتمع سدت تعاليم الإسلام كل فراغ يمكن أن تتسرب إليه المبادئ الاقتصادية الهدامة، وفلسفتها المادية الكفور.. ص _068(1/61)
إن الشيوعية وجدت مرتعا خصيبا لها فى أوروبا، وقد تجد لها مرتعا فى أمريكا، بل إن جراثيم هذا المذهب ولدت وتكاثرت فى الفراغ النفسى والفكرى الذى صحب النصرانية فى مواطنها، والبوذية فى بلادها. ولولا محنة الاستعمار الغربى " لدار الإسلام " ما أمكن أبدا أن تتسلل الشيوعية إلى أرضنا أو تجد امرءا يقبل الانتماء إليها. وحيث يكون الإسلام الحق يستحيل أن تكون شيوعية ويستحيل أن توجد لها ضرورة. إن الإسلام جعل العمل- للقادر عليه- عبادة. وجعل العون- للعاجز عنه- فريضة. وأوجب على الدولة أن تحارب عن حق الفقير فى المعونة، كما شرع القتال عن حق كل ذى مال فى ماله. فما مكان الشيوعية والحالة هذه؟؟! إذا كان الدين مخدرا للشعوب فى بعض الأقطار، فالدين فى بلاد الإسلام منبه للشعوب وحاث لها على مقاومة الظلم، وإشاعة العدل، وتعميم الرحمة، ومنع الجوع، واستنكار البطنة والترف. ولم تنتظر جماهير المسلمين أوامر الحكام ولا تشريعاتهم فى هذا المجال. ففى أحلك العصور كان الغريب الذى يطرق القرية يجد الطعام والمبيت مبذولين له دون سؤال. وكان الناس يرون إشراك الغير فى الطعام حق تقضى به المروءة ويئوب الناكلون عنه بالمعرة..! وإذا كان هناك من مأخذ على هذا الوضع الاجتماعى فهو نشوء ما سمى بفوضى الإحسان.. إذ كان المسلمون يبذلون دون اكتراث، مما يملكون، حتى استمرأ البطالة بعض ضعاف الأخلاق ليسر العيش من الصدقات. ومثل هذه المجتمعات بعيد أن تجد الشيوعية موطىء قدم فيها. ص _069(1/62)
إن الشيوعية تستقر حيث الحرمان والذل والتقاليد التى تجعل الرضا بذلك كله حكما من السماء..! ولم يكتف المسلمون أن يحاربوا الهوان المادى والأدبى وهم أحياء، فوقفوا من ثرواتهم بعد مماتهم ما يقوم بهذه الوظيفة عنهم وهم فى القبور!! ومن هنا نشأ الوقف ونظامه الذى أبد روافد الخير، وأتاح للألوف وهم فى الغيب ما يحميهم الفاقة، وييسر لهم الدواء والغذاء والكساء والتعليم والجهاد.. يتحدث الإصطخرى فى القرن الرابع الهجرى عن أهل ما وراء النهر- وهو نهر سيحون فى آسيا "- فيقول: " وأما سماحتهم: فإن الناس فى أكثر ما وراء النهر كأنهم فى دار واحدة، ما ينزل أحد بأحد إلا كأنه رجل دخل دار نفسه، لا يجد المضيف من طارق فى نفسه كراهة، بل يستفرغ مجهوده فى إقامة أؤده من غير معرفة تقدمت ولا توقع مكافأة، بل اعتقادا للسماحة فى أموالهم...!! وبحسبك أنك لا تجد فيهم صاحب ضيعة إلا كانت همته ابتناء قصر فسيح، ومنازل للأضياف، فتراه فى عامة دهره متأنقا فى إعداد ما يصلح لمن طرقه. فإذا حل بينهم طارق تنافسوا فيه، وتنازعوه فليس أحد يتصرف بما وراء النهر فى مكان به ناس، ثم يخاف الضياع فى ليل أو نهار.. ". " ولقد شهدت منزلا بالسند، ضربت الأوتاد على باب داره، فبلغنى أن بابها لم يرد منذ مائة سنة أو أكثر، لا يمنع من نزولها طارق. وربما نزل بالليل بغتة من غير استعداد المائة والمائتان والأكثر بدوابهم وحشمهم فيجدون من علف دوابهم وطعامهم ودثارهم ما يعمهم من غير أن يتكلف صاحب المنزل أمرا لذ لك- لدوام ذلك منهم. وقد أقيم على كل عمل من يستقل به، وأعد ما يحتاج إليه على دوام الأوقات بحيث لا يحتاج معه إلى تجديد أمر عند طروقهم. ص _070(1/63)
وصاحب المنزل من البشاشة والإقبال والمساواة لأضيافه بحيث يعلم كل من شاهده سروره بذلك وسماحته.. وترى الغالب على أهل الأموال بما وراء النهر صرف نفقاتهم إلى الرباطات وعمارة الطرق والوقوف على سبيل الجهاد ووجوه الخير.. وليس من بلد، ولا منهل ، ولا مفازة مطروقة، ولا قرية آهلة، إلا بها من الرباطات ما يفضل عن نزول من طرقه. وبلغنى أن بما وراء النهر زيادة على عشرة آلاف رباط. فى كثير منها إذا نزل النازل أقيم علف دابته وطعام نفسه، إن احتاج إلى ذلك. وقل ما رأيت خانا أو طرف سكة أو محلة أو مجمع ناس فى الحائط بسمرقند يخلو من ماء جمد مسبل. ولقد أخبرنى من يرجع إلى خبره أن بسمرقند فى المدينة وحائطها فيما يشتمل عليه السور الخارج زيادة على ألفى مكان. يسفى فيها ماء الجمد مسبلا من بين سقاية مبنية وجباب منصوبة... ". آ. هـ. ولقد أوقفت الأرض على الصدقات منذ عهد عمر بن الخطاب، قيل: إنه أول من احتبس صدقة فى الإسلام، وإن كان الأصل الفقهى لذلك مقررا فى سنة رسول الإسلام، ومقاصد الشريعة.. وقد أقام " عمر " دور الضيافات، وأدر عليها الأرزاق واتخذ " دار الدقيق " فجعل فيها الدقيق والسويق والتمر والزبيب وما يُحتاج إليه- يعين به المنقطع، ووضع بين مكة والمدينة فى الطريق ما يصلح لمن ينقطع به. وقيل: إنه فعل مثل ذلك بالطريق بين الشام والحجاز. وبنى المسلمون دور الشفاء والبيمارستانات والتكايا ورصدوا فى بيت المال أو تحت إشراف القاضى ما يغاث به الملهوف، ويعان به المسافر، ويحرر به الرقيق.. فعلوا ذلك من القرن الأول الهجرى. ص _071(1/64)
ورصدت الأوقاف للبيمارستان المنصورى الذى أنشئ سنة 682 هـ لعلاج "الملك والمملوك والكبير والصغير والحر والعبد ". وكان هذا المستشفى الكبير الذى وصفه ابن بطوطة بأنه " يعجز الوصف عن محاسنه " كان مقسما إلى أربعة أقسام: للحميات، والرمد، والجراحة، والنساء. وخصص لكل مريض به فرش كامل: " من التخوت والطراريح والمخدات واللحف والملاءات ". وعين له الأطباء والصيادلة، والخدم، كما زود بمطبخ كبير. وكان المريض إذا ما برئ وخرج تلقى منحة وكسوة. ورتب البيمارستان الأدوية والأشربة والأغذية لعلاج المرضى الذين يعالجون بمنازلهم فضلا عمن يترددون على المستشفى فى العيادة الخارجية. وقدرت الحالات التى يعالجها المستشفى فى اليوم الواحد بعدة آلاف. وألحقت به مدرسة للطب يجلس فيها " رئيس الأطباء لإلقاء درس طب ينتفع به الطلبة "- كما يروى المقريزى والنويرى. كذلك رصدت الأوقاف لإقامة الحمامات العامة. وقد ورد فى وثيقة أوقاف الغورى على عمائره بالجرابشين سنة 911 هـ "أرشيف وزارة الأوقاف رقم 883 " أن الحمامات المذكورة كانت تشتمل على " بيت أول به حوضان، وبيت حرارة به أربعة أحواض، وفرن وخلوة ومغطس مفروش ذلك كله بالرخام. ومعقود ومطبق بجامات من الزجاج الملون ". ونحن نقرأ فى حجج الأوقاف من ألوان الخدمات الاجتماعية ما يكشف عن الحساسية المرهفة لمشاعر هؤلاء السلف الصالح ممن سبقونا بإحسان. ويقول ابن حوقل عن طرسوس- على حدود المسلمين يومئذ مع دولة الروم-: " ورأيت غير عاقل مميز وسيد حصيف مبرز، يشار إليه بالدراسة والفهم، واليقظة والعلم، يذكر أن بها مئة فارس. وكان ذلك عن قريب عهد من الأيام التى أدركتها وشاهدتها . ص _072(1/65)
وكان السبب فى ذلك: أنه ليس من مدينة عظيمة من " حدسجستان " و " كرمان" و " فارس " و " خوزستان " و " الجبال " و " طبرستان " و " الجزيرة "، و "أذربيجان " و " العراق " و الحجاز واليمن والشامات ومصر والمغرب إلا بها لأهلها دار ينزلها غزاة تلك البلدة، ويرابطون بها إذا وردوها وتكثر لديهم الصلات وترد عليهم الأموال والصدقات العظيمة الجسيمة. إلى ما كان السلاطين يتكلفونه، وأرباب النعم يعانونه، وينفذونه متطوعين متبرعين . ولم يكن- فى ناحية ذكرتها- رئيس ولا نفيس إلا وله عليه وقف من ضيعة ذات مزارع وغلات، أو مسقف من فنادق.. ". أ. هـ أرأيت أين تجد الشيوعية مكانا لها فى بيئة يعشق أهلها الخير أحياء وأمواتا على هذا النحو الساحر إن الحكومات إذا قصرت فى سن قوانين تحرس الطوائف العاجزة أو تنصف الطبقات الكادحة فإن تقاليد الإيمان فى هذه البيئات الطيبة تشفى وتكفى. التفرقة العنصرية: ولم تعرف بلاد الإسلام قصة " البيض والملونين " التى تعرفها أوروبا وأمريكا. والمقارنة التى نريد إبرازها أن هذه التفرقة الجائرة تعتمد فى الغرب على اقتناع شعبى مكين، بأنه لا تجوز المساواة بين أبيض وأسود..! أى أن الأمم نفسها هى التى تصنع هذا التفاوت. فإذا استحت الحكومات أمام الضمير العالمى من وجود تفريق بين أبنائها بسبب اللون، وساقت جيشها لإدخال تلميذ زنجى قى مدرسة بيضاء، انفجرت المظاهرات تستنكر هذه السياسة التى تريد بالقوة أن يتجاور تلميذ أبيض مع مواطن أسود. قد تسأل: وما موقف الدين هناك من هذا الشذوذ؟! والجواب: أن هناك كنائس مخصصة للسود، وأخرى للبيض!! وكما لا يجوز فى السيارات العامة أن يختلط هؤلاء بأولئك فليس يجوز أمام الله أن يصلى أسود بجوار أبيض..! لقد لان الدين للظلم الغالب وسار معه. وهذا هو الفشل بعينه فى إبلاغ رسالات الله. ص _073(1/66)
أما الحال فى بلاد الإسلام منذ ظهر الإسلام فعلى العكس. لقد ألف الناس أن يؤمهم فى المحراب وأن يؤذن فيهم للصلاة رجل أسود. وأن يدرس لهم فى المدرسة أو يقضى بينهم فى الحكمة رجل أسود. ولم يكن هناك فارق ما بين أن يلى مناصب الإمارة أبيض أو أسود. وربما وقعت تفرقة عنصرية فى مسالك بعض المنحرفين غير أن هذا لا يزيد عن وقوع المعصية من شخص أو آخر. فأحكام الدين حاسمة فى ضرورة المساواة العامة. والأمة من أعماق قلبها تجد فى تحقيق ذلك مرضاة الله وإقامة الحق فلو أن حاكما أو محكوما قارف هذه التفرقة لقام الاستنكار الشعبى فى وجهه يرده ويصده. فما أبعد البون بين الجو الإسلامى، وجو المدنية الحاضرة. ولا تزال أنباء الملونين والمآسى النازلة بهم تقرع الآذان. ولا تزال الهيئات العالمية تتلكأ فى اللجوء إلى عمل راح لمقاومة الاضطهاد. لأن قادة هذه الهيئات العالمية يؤمنون بسيادة الرجل الأبيض وحقه فى تأخير أصحاب البشرة الملونة إلى الوراء. بل إن الولايات المتحدة وإنجلترا وفرنسا هى التى تصدر هذه الفلسفة الحمقاء للناس. حراسة الحق معيار الإيمان: محبة الحق، والفضيلة، والخير من أبرز الخلال التى غرسها الإسلام فى قلب المؤمن وسيرته. فعلاقة الإنسان المؤمن بهذه المعانى ليست المعرفة النظرية المجردة أو الاحترام الشكلى المتوارث أو الحفاوة العابرة المفروضة.. لا. إن رباطه بهذه المعانى يقوم على حب مكين، وغيرة بادية، وتقديس محيط، وعاطفة مشبوبة. وقاعدة إحقاق الحق وإبطال الباطل، وتحسين الحسن وتقبيح القبيح، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر إنما تسيل من هذا الينبوع النقى الطهور.. وهذه القاعدة هى الميزة التى اختصت الأمة الإسلامية بها. ص _074(1/67)
واستحقت الخلود والتقديم لقيامها عليها. الخير والشر صفات ذاتية للناس، لكن المسلم لا يكفيه أن يكون خيرا ليكمل وينجو، بل لابد أن ينتقل هذا الخير إلى المجتمع الذى يحيا فيه. فإذا أتم بناءه ورفع لواءه انتصب محاميا عنه وانشغل بحراسته وجعل صيانته من كرامته الخاصة والدفاع عنه دفاعا عن عرضه. وأخيرا يرى الموت فى سبيل بقائه الشهادة التى ترفعه إلى عليين. وهو يترك الشر، غير أن ذلك لا يكفى فى تمام يقينه وصدق إيمانه، إنه يستهدف محو الشر من المجتمع حوله ويجأر باستنكاره إن رأى بوادره ويشتبك معه إذا كلح وجهه. فإذا أبى الفساد إلا الإصرار على انطلاقه دخل معه فى صراع حياة أو موت وهو كاسب على الحالين. إن انتصر فى المعركة أو لقى الله مضرجا يدمه دون أن تنتهك حرماته وتداس شعائره. هذه طبيعة الإسلام وذاك سر الخلود فى رسالة أمته وأساس الفضل والرجحان الذى نطقت به الآية الكريمة: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله). ومنازل المسلمين من الدين ومكانتهم فى أنفسهم وعند الله بقدر ما يحرزون من هذه الخصائص اللامعة. والذين يتدبرون مهالك الأمم وفناء الحضارات يحكمون بأن من رحمة الله بالعالم إخراج أمة تتعلق بإحقاق الحق وإبطال الباطل على هذا النحو الراسخ. فإن الحياة لم تعتل لجهل الناس بالخير والشر قدر ما اعتلت لترك الخير يخذل ويتوارى أصحابه، وترك الشر يستعلن ويطغى زبانيته. وقضايا العالم الكبرى الآن مثل هذا العوج المقبوح. فكم من شعب ترك فريسة للضيم لا لغموض فى شكاته، أو خفوت فى استغاثته، ولكن صوت الهوى أعلى ولسانه بالأذى أحد. ص _075(1/68)
على أن تغيير المنكر وإقرار المعروف ليسا قدرة قلم على الكتابة أو فم على الخطابة، إنما هما فيض الإيمان الغيور وقدرة إنسان على اطراح وإيثار ما عند الله. روى المؤرخون أنه لما قدم عبد الله بن على الشام من قبل بنى العباس فى مفتتح دولتهم وإبان تتبعهم لأعدائهم بالقتل والاجتياح. جىء بعبد الرحمن الأوزاعى للقائد الثائر وحوله الجنود سيوفهم مسلولة. فقال له عبد الله: " ما تقول فى بنى أمية "؟ قال: " قد كانت بينك وبينهم عهود وكان ينبغى أن تفوا بها "!! قال: " ويحك.. اجعلنى وإياهم، لا عهد بيننا "!! قال عبد الرحمن الأوزاعى: " فأجهشت نفسى وكرهت القتل "!! فذكرت مقامى بين يدى الله، فلفظتها، فقلت: " دماؤهم عليك حرام "!! فغضب وانتفخت عيناه وأوداجه ، وقال: ويحك.. ولم؟ قلت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يحل دم امرىء مسلم إلا باحدى ثلاث: ثيب زان، ونفس بنفس، وتارك لدينه ". قال: أو ليس لنا الأمر ديانة؟ قلت: فكيف ذاك؟ قال: أليس كان رسول الله أوصى لعلى؟ قلت: لو أوصى إليه ما حكم الحكمين. فسكت وقد اجتمع غضبا فجعلت أتوقع رأسى يسقط بين يدى. قال: فأومأ بيده هكذا- أى: أخرجوه- فخرجت...!! فانظر كيف غلبت محبة الحق على محبة الحياة، وكيف رجح خوف الله خوف أصحاب السلطة. ص _076(1/69)
بمثل هذا الإخلاص يمتد عمر الخير فى الأرض وتنتعش المثل العليا فى العالم. وإنى عندما أتأمل فى تاريخ الأئمة الذين فرضوا فقههم على عصور طويلة لا أجد ذلك عائدا إلى رسوخهم فى العلم وحده، بل أجد أن رسوخهم فى الإيمان واستعذابهم التضحية فى ذات الله وتفانيهم فى قول الحق وإعلانه ومجابهة العامة والخاصة به هو الذى سبق بهم، وأعلى قدرهم، وأبقى على الآماد ذكرهم... فى ميدان النقد والمعارضة: كان أبو حنيفة يكره استبداد الملوك على عهده ويضيق بمسالكهم، ويبسط لسانه فى نقد سياستهم حتى قال له تلميذه زفر : " والله ما أنت بمنته حتى توضع الحبال فى أعناقنا !!! ". ولكن أبا حنيفة لا يخشى الشنق ولا أن يجر فى الحبال. إنما يخشى الله ويحب أن تصان الأمم من لوثات هؤلاء الملوك الجائرين. من أجل ذلك أزور عنهم يوم رغبوا إليه أن يتولى لهم القضاء. لقد أرادوا أن يكسبوه إلى جانبهم، وأن يكسروا حدة المعارضة لهم بمثل هذه السياسة الذكية، غير أن الرجل الكبير أبى، واعتصم بدينه وخلقه، فلم يبع دينه بعرض من الدنيا. قال المؤرخون: كان " ابن هبيرة " واليا على الكوفة فى العهد الأموى، فلما ظهرت الفتن بالعراق جمع الفقهاء ببابه، وولى كل واحد منهم صدرا من عمله. وأرسل إلى " أبى حنيفة "، وأراد أن يجعل الخاتم فى يده، فلا ينفذ كتاب إلا بإذنه، ولا يخرج شىء من بيت المال إلا من تحت يده. فامتنع أبو حنيفة ! فحلف " ابن هبيرة " إن لم يقبل أن يضربه!! ص _077(1/70)
فاجتمع الفقهاء على أبى حنيفة يقولون له: إنا ننشدك الله ألا تهلك نفسك، فإنا إخوانك، وكلنا كاره لهذا الأمر، ولم نجد بدا من قبوله. فقال أبو حنيفة: لو أرادنى أن أعد له أبواب مسجد " واسط " لم أدخل فى ذلك، فكيف وهو يريد منى أن يكتب دم رجل يضرب عنقه. وأختم أنا على ذلك الكتاب! فو الله لا أدخل فى ذلك أبدا.! فقال " ابن أبى ليلى ": دعوا صاحبكم فهو المصيب وغيره المخطئ. فحبسه صاحب الشرطة وضربه أياما متتالية. فجاء السجان الضارب إلى " ابن هبيرة " وقال له: إن الرجل ميت. فقال " ابن هبيرة ": قل له تخرجنا من يميننا- يعنى يتولى القضاء- فقال: لو سألنى أن أعد له أبواب المسجد ما فعلت. ثم عاد الضارب إلى ابن هبيرة يخبره بحال السجين!! فقال: ألا ناصح لهذا المحبوس أن يستأجلنى وأؤجله؟ فأخبر أبو حنيفة بذلك، فرأى أن يخرج من محبسه بهذا العرض، وأرسل إلى "ابن هبيرة " يقول: دعنى استشر إخوانى وأنظر فى الأمر، فخلى سبيله. فلما استعاد حريته ترك الكوفة هاربا إلى مكة.. والغريب أنه لما صارت الخلافة للعباسيين ورجع أبو حنيفة إلى الكوفة طلب منه المنصور أن يتولى القضاء له، فأبى، وأدخل السجن وضرب مائة سوط وعشرة، ومازال التضييق عليه حتى مات..!! ص _078(1/71)
. ولمالك فقيه دار الهجرة مسلك آخر، يتفق مع أبى حنيفة فى النية والوجهة، ويختلف معه فى الوسيلة. فقد رأى هذا الإمام أن يقترب من الحاكم، وأن يقيم معه بعض العلائق. ولكن حاشاه أن يكون هذا القرب استكثارا من الدنيا أو استطالة على الناس. وماذا يفعل " مالك " عندما يكتب له المنصور: " إن رأيت ريبة فى عامل المدينة، أو عامل مكة، أو أحد عمال الحجاز فى ذاتك أو ذات غيرك أو سوء سيرة فى الرعية فاكتب إلى بذلك أنزل بهم ما يستحقون. وقد أكتب إلى عمالى بها أن يسمعوا منك ويطيعوك فى كل ما تعهد إليهم، فانههم عن المنكر ومرهم بالمعروف تؤجر على ذلك ، وأنت خليق أن تطاع ويسمع منك". إن هذا الخطاب اللبق لا يزيد عن أنه ييسر لمالك الرقابة على أعمال الموظفين والولاة كى يضبطها بحدود الله ومعالم شرعه، والنكوص عن هذا لا مسيغ له. أما أبو حنيفة فكان يعترض ابتداء على أساس الدولة وأشخاص الخلفاء، ومن ثم أبى أن يتعاون معهم بأى شىء، وآثر أن يشتغل بالتدريس لعامة المسلمين وحدهم. وقد قيل لمالك: " إنك تدخل على السلاطين وهم يجورون ويظلمون ". ققال لحدثه: " رحمك الله! وأين التكلم بالحق؟ ". وقال مالك فى نصيحة عامة: "حق على كل مسلم أو رجل جعل الله فى صدره شيئا من العلم والفقه أن يدخل إلى ذى سلطان فيأمره بالخير وينهاه عن الشر ويعظه، لأن العالم إنما يدخل على السلطان لذلك. فإذا كان ذلك- ما يبغى بدخوله- فهو الفضل الذى ما بعده فضل... ". وإخلاص مالك للحق وحده جعله يتحرى وجه الله فى علاقاته بالحاكم والمحكوم جميعا، فلم يفرط هذا الإمام الضخم فى حقوق ربه، وإن أحاطت به أسباب التجلة الرسمية وانساقت إليه هدايا السلطان!! سأله الجمهور عن حكم الأيمان التى يستوثق بها هؤلاء الخلفاء لأولياء العهد بعدهم؟ فأفتى مالك بأنها لا قيمة لها. ص _079(1/72)
وذلك أن الخليفة كان يحب تمليك ابنه من بعده فيحتال على ذلك بأن يجمع الأعيان والوجهاء والقادة والفقهاء ويحلفهم بالطلاق والعتاق أن يطيعوا ابنه إذ ما هو فارق الدنيا !! فجاء مالك ورفض هذه الأيمان كلها وعدها وليدة إكراه سياسى، وأن صاحبها لا يلزمه الوفاء بها. واغتاظ الحاكم العباسى من هذه الفتوى، وأصدر أمرا بالقبض على مالك وتعذيبه حتى يرجع عنها. وأبى مالك إلا الثبات على حكم الله. وانهالت عليه السياط الكاوية وهو يتجلد. وترك بعد أن حدثت له عاهة فى جسمه، فقيل: إنه لم يستطع تحريك إحدى يديه من إثر هذا العدوان حتى مات! يقول الأستاذ أمين الخولى- وعنه أثبتنا النقول التاريخية السابقة فى أنباء مالك-: "لقد تبدو هذه المحن بادى الرأى لطخات سوداء فى صورة الحياة إذ كانت ضربا وتعذيبا وامتهانا لكرامة رجال ذوى علم وحرمة، وقد يكونون ذوى سن عالية فى أكثر الأحيان. لكن الباحث المدقق المستشف لما وراء المظاهر الفردية والسطحية يقدر فيها الجانب الاجتماعى، ويقيس بها تقدم الإنسانية وكسب الحرية الآدمية فتبدو هذه المحن لمعات وضيئة فى ظلام الحكم الفردى القاسى. إذ هى صمود لهذا الحكم يهز من جبروته، ويحد من قسوته، ويسجل بقاء الشعور بالكرامة الإنسانية والحرص على أداء الأمانة الاجتماعية التى حفلها الله أهل العلم، فهم بها أهل الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر. (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه). والإحساس بهذا الواجب على أصحاب العلم وحملة الأمانة وفضلهم حين يحتملون فى سبيل أدائه ما يحتملونه هو إحساس قديم خالج النفوس فى تلك العصور. ص _080(1/73)
ويبدو فى مثل قول " عمر بن عبد العزيز " ذى القلب الحساس: ما أغبط أحدا لم يصبه فى الأمر- بالمعروف- أذى!! وهى كلمة كان يرددها مالك، ويذكر معها بعض من أصيبوا فى هذا الأمر كسعيد بن المسيب وغيره. وسعيد أحد أعلام الأئمة، بل هو سيد التابعين وله فى قوة النفس مواقف مشرفة فقد دعى إلى بيعة عبد الله بن الزبير فأبى فضرب. ودعى إلى البيعة لسليمان والوليد بولاية العهد فلم يفعل فضرب وطيف به فى المدينة وذلك كله لما فى عنقه من بيعة لم يرد أن ينقضها لهواهم. وفى الحق أن الحديث عن الممتحنين فى تاريخ الإسلام هو الحديث عن معارك الحرية الفكرية والاجتماعية فى هذا التاريخ وسجل المقاومة الكريمة لأصحاب السلطان الباطش، والهوى الجامح... ". والمهم ليس سرد المواقف الماجدة لأصحاب القلوب الكبيرة الذين ينعم بهم القدر على أمم شتى. ومع أن سعيدا والأوزاعى وأبا حنيفة ومالكا وأمثالهم رجال صنعهم الإسلام أولا وآخرا، فسيرتهم شهادة صدق على أنه يصنع حماة الحق وأئمة الجهاد والتضحية، إلا أننا نؤثر إظهار ما يؤديه الجنود المجهولون فى ميدان الكفاح الأدبى لإعلاء قدر الإيمان والعدالة. وآثار هؤلاء هى التى استبقت الجماهير على كر العصور تحتقر الجور والفسوق والعصيان وتكن العداء أو تعلنه للمارقين عن أمر الله. لقد طوى ظلام الحكم الفردى فى الأزمنة القديمة شعوبا غفيرة، ورأينا الأكاسرة والقياصرة والفراعنة يحكمون لا معقب لحكمهم! ونضح هذا على بلاد الإسلام- للأسف- فى شكل توارث الخلافة، وهو توارث دخيل على تعاليم ديننا بلا مراء. بيد أن الأئمة المبرزين والعلماء المذكورين والمغمورين والألوف المؤلفة من الرجال الغامضين أقاموا من روح الإسلام سياجا يكفكف هذا الشر ويقلم أظافره، ويقوم إلى حد بعيد مقام مجالس الشورى التى انتظمت هيئاتها فى العصور الحديثة. ص _081(1/74)
فليس للملوك حق إلهى يسيطرون باسمه على الناس، وكم من خليفة خلع وسجن وقتل. ثم إن الإسلام ألقى كلمته فى الأصول والفروع، فإذا خطب الخليفة قبل صلاة العيد قيل: أخطأ الخليفة. وإذا أخذ مالا ليس له قيل: غصب الخليفة.. إن معالم الحلال والحرام التى شرحها الإسلام للخلق كافة حددت المنازل والقيم، فمن انتهى إليها فهو عبد صالح.. وإلا فهو خارج على دين الله ولو كان أمير المؤمنين. وإدراك هذه المعالم مشاع بين الكبار والصغار والخاصة والعامة.. ربما كانت قضايا الفقه وقواعد التشريع من اختصاص العلماء الدارسين. أما قضايا الاستقامة والعوج والعدالة والحيف والتقوى والفجور، وأما الفرائض الجامعة والشعائر الواضحة.. فتلك كلها أمور يعرفها العامة ويحكمون على الملوك والسوقة فى ضوئها حكما قريبا.. ونترك عصر الأئمة الأربعة وأصحابهم، والأيام اللامعة الأولى ونقفز اثنى عشر قرنا من تاريخ الإسلام، فماذا نجد؟ نجد علماء الدين يجتهدون فى المحاماة عن حقيقة الدين وحقوق الناس كلما حاولت أهواء الأقوياء طمرها.. ويحسون كأنهم نواب عن الجماهير فى ضمان مصالحهم، وإقرار العدالة التى ينشدونها. ففى أوائل القرن الثانى عشر للهجرة، وبعدما اشتدت وطأة الحكم الفردى نسمع أن أهل الأسواق أصابهم غبن من وراء تزييف النقود، فاجتمعوا ودخلوا الجامع الأزهر وشكوا أمرهم إلى العلماء، وألزموهم بالركوب معهم إلى الديوان- مقر الوالى التركى- فأمر الباشا بعقد اجتماع حضره الأمراء وضباط الجيش، واستقر رأيهم على خطة محددة أزالت الشكوى. وفى سنة 1148 هـ نسمع أن الخليفة العثمانى أصدر أمره بإبطال بعض المرتبات التى كانت تصرف فى وجوه البر العامة، فلما قرئ على العلماء المرسوم الصادر بذلك. ص _082(1/75)
قال الشيخ سليمان المنصورى معترضا على تصرف السلطان: " إن ذلك لا يسلم له ويخالف أمره لأن ذلك مخالفة للشرع، ولا يسلم للإمام فى فعل يخالف الشريعة ". وعدلت الحكومة عما عزمت عليه... وكان الشيخ على الصعيدى يقول لمحمد بك أبى الذهب- الوالى فى عهده-: "اتق النار وعذاب جهنم، ثم يمسك بيده ويقول: أنا خائف على هذه اليد من النار "!! وفى أيام إبراهيم بك الكبير وعلى بك الكبير عصفت برؤوس الحكام نزوة جعلتهم يستكبرون بالباطل، ويفتاتون على الناس، ويفرضون هواهم، ويدوسون القانون. قال الأستاذ محمد فريد أبو حديد: " فأدرك العلماء أن واجبهم يناديهم- وهم ممثلو الشعب والطبقة المستنيرة منه- بالمحافظة على القانون والحق، ولم يترددوا لحظة، بل هبوا لنداء الواجب وتصدر فيهم زعيم اسمه " الشيخ الدردير " رحمه الله وطيب ثراه فأرعد الأمير المدل وأبرق، وأرغى وأزبد، ونهر وتوعد، فوقف العلماء وثبتوا وأرغوا وأزبدوا كذلك، وقام الشعب من ورائهم يؤيدهم، وكانت مظاهرة كبرى، فأغلق الناس حوانيتهم لينظروا مآل النضال بين الحق والقوة، وأوشك الأمر أن يؤدي إلى فوضى شاملة، لولا أن جرع عقلاء الأمراء من ذلك الاضطراب، وأشفقوا من تلك الحال، فاجتمعوا وتشاوروا ثم أرسلوا إلى الأمير المعاند فلاموه على وقفته وأمروه بالنزول على ما أراد القانون، فأذعن وهو كاره بعد مشادة عنيفة، ولم يرض العلماء أن يدعوا الأمر يتفلت من أيديهم بغير حق مسجل يكتسبونه للناس، فطلبوا أن تكتب لهم وثيقة بالحق المكتسب، وكتب لهم صلح رسمى به شروط على الأمراء وتعهد من الحكام بالتزام ما يقضى به القانون ويحتمه العرف ". أ. هـ. ويعرض لذلك الأستاذ عباس العقاد قى كتابه عن " محمد عبده " فيحكى ما رواه " الجبرتى " فى الجزء الثانى من أن الفلاحين فى قرية من قرى مركز بلبيس شكوا فى شهر ذى الحجة سنة 1259 هجرية (1795 ميلادية) إلى الشيخ عبد الله الشرقاوى كبير علماء الأزهر ظلما لحق بهم من(1/76)
أتباع محمد بك الألفى أمير المماليك المشهور ، فأبلغ الشيخ شكواهم إلى كل من مراد بك وإبراهيم بك ليخاطبا الألفى بك فى هذه ص _083
الشكوى ويطلبا إليه أن يكف أتباعه عما يوجبها، وانقضى زمن على هذا البلاغ بغير جدوى فجمع الشيخ الشرقاوى علماء الأزهر وتشاوروا فى الأمر مليا، فانتهوا إلى إنذار الأمراء جهرة بالمقاومة. واتفقوا على إغلاق أبواب الجامع ودعوة التجار وأصحاب الأعمال إلى إغلاق الدكاكين وحوانيت التجارة وإعلان ما نسميه اليوم " بالإضراب العام ". ثم ركب الشيخ الشرقاوى والعلماء فى اليوم التالى وتبعتهم جماهير الشعب إلى منزل شيخ السادات لإشراكه وإشراك أتباعه معهم فى مقاومة الأمراء حتى يستجيبوا إلى مطالبهم. وكان لإبراهيم بك قصر بجوار بيت شيخ السادات، فرأى هذه الجموع التى لا يكف عنها المدد تلتف حوله، وهالته كثرتها فأرسل من يسأله عن سبب اجتماعها، ثم علم بالسبب فلم يجسر على الذهاب بنفسه إلى مكان الاجتماع، وأناب عنه الدفتردار أيوب بك لاستماع أقوال العلماء والسعى فى تحقيق ما طلبوه، فعلم منهم أنهم يريدون كف المظالم وصيانة الأموال والأرواح ورفع المكوس والضرائب إلا ما يرتضيه الرعية، فخاطبهم أيوب بك فى تخفيف بعض هذه المطالب والاكتفاء بتعجيل بعضها مما يستطاع إنجازه لوقته، وقال: إن رفع المكوس والضرائب دفعة واحدة متعذر، وإنه قد يرفع شيئا فشيئا وإلا " ضاقت علينا المعايش والأرزاق ". فصارحه العلماء قائلين: " إن الأمراء ينفقون الأموال فيما لا حاجة به ولا خير فيه، وما الحاجة إلى إنفاق المال فى البذخ والترف والاستكثار من الجوارى والمماليك؟ إن الأمير الحق يعطى ولا يأخذ ما فى أيدى الناس ، وإن الإنفاق على اللذات وضروب الزينة إسراف وفضول ". ولم يستمع العلماء جوابا شافيا فى ذلك المجلس، فباتوا ليلتهم فى حرم المسجد على أن يخرجوا فى الصباح إلى الميادين والساحات العامة معلنين بخلع الطاعة والاستجابة إلى أحكام(1/77)
الشريعة، فبادر إبراهيم بك إلى طلب المعذرة منهم وأحال التبعة فى رفض مطالبهم إلى إصرار المخالفين له من أمرات المماليك. وعلى رأسهم صاحبه مراد بك، وأبلغهم أنه يؤيدهم ويحارب فى صفوفهم إذا أصر المخالفون على الرفض والمراوغة. ص _084
وكاشف مراد بك فى الأمر مستحثا له على عمل شىء عاجل لتهدئة المدينة قبل انفجار الشعب كله بالعصيان. وكان الوالى الأكبر يرقب الحالة لينظر ما يصنعه أمراء المماليك لتدارك الخطر قبل استفحاله، فلما كان اليوم الثالث ولم يصنعوا شيئا قصد إلى قصر إبراهيم بك وجمع هناك كبار الجند وأصحاب الكلمة النافذة فى عساكر المماليك وأرسلوا إلى العلماء والرؤساء يدعونهم للمشاورة ويعدونهم بإبرام الأمر على ما يحبون. فحضر من رؤسائهم كل من الشيخ الشرقاوى والشيخ الأمير والشيخ السادات والسيد عمر مكرم والشيخ البكرى، وهم نواب الأمة المختارون لهذه الملمات. وانفض الاجتماع بعد طول الأخذ والرد بقبول ما طلبه العلماء وكتابة موثق بذلك على الأمراء أن يتبعوه ولا يخالفوه، ووقعوا جميعا على " الحجة الشرعية " التى تسجل هذا الموثق وخلاصتها: أن يدين الأمراء بقضاء المحاكم فى قضايا الحقوق، وأن تفرض الضرائب بموافقة الرعية على حسب الأحكام الشرعية، وأن يمتنع عدوان الحاكم بغير جريرة من المحكومين. وسميت هذه الوثيقة " بالحجة الشرعية " على عادة قضاة الشريعة فى تسمية هذه العقود. ولو أنها كتبت فى بعض البلاد الأوروبية لجاءنا خبرها مع كتب القوم فى علوم السياسة الحديثة، بعنوان من تلك العناوين الكثيرة عن حقوق الشعب أو الدستور الأكبر أو " الماجنا كارتا " وما إليها من مصطلحاتهم التاريخية. ولكن العلماء الذين دعوا أمراء العصر إلى توقيع ذلك العهد لم يحسبوا أنهم جاءوا إلى الناس بعهد جديد غير التذكير بما فى كتاب الله وسنة رسوله من حقوق نسيها أولئك الأمراء. وكتب الموثق " حجة " عليهم بشهادة الرعية، أى شهادة " الأمة " التى تأمر(1/78)
بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتحترم الإسلام. ويتابع الأستاذ فريد أبو حديد حديثه عن هذه المواقف المجيدة فيذكر حادث اعتداء موظف إدارى من قتل " الوالى " على بعض أهل الحسينية وشدته فى مطالبة قصاب ص _085
اسمه " أحمد سالم " بأموال للحكومة، وكيف أراد القبض عليه بغير حكم شرعى مخالفا فى ذلك الحق الذى كان أهل مصر قد اكتسبوه من قبل: ألا يمس أحد منهم إلا على مقتضى الشريعة. فثار أهل الحسينية لذلك الاعتداء والتجأوا إلى الشيخ العروسى " وكان الشيخ الدردير قد توفى إلى رحمة ربه " فقام الشيخ العروسى بأمر الوساطة فى شأن من شئون الشعب، وانتهى الأمر إلى مشادة طويلة خاف الأمراء غبها فنزلوا عند إرادة الثائرين وعزلوا الوالى وولوا آخر بدله، ونزل الوالى الجديد ضن الديوان إلى الأزهر، وقابل المشايخ الحاضرين واسترضاهم، ورأى أهل مصر من ذلك كله أن حقهم لن يضيع ماداموا حريصين على المحافظة عليه ". ولا نتتبع أمثال هذه الحوادث بالسرد والاستقصاء، وإنما نقرر الخلاصة التى نحب أن تتضح فى الأفئدة والعقول: إن الإيمان الحق يتقاضى أصحابه أن يصونوا المجتمع وأن يوطدوا فيه شعائر الفضيلة والعدالة والأمان. وتلك خاصة لم تحرم منها الأمة الإسلامية فى عصر من الأعصار. نظرة عامة فى الوجود الإسلامي خلال الماضى: يستبين من خلال تلك الصحائف التى جلوناها عن سير الإسلام فى الحياة والأواصر التى تشده إلى المجتمع والدولة أن تعاليم الإسلام لم تكن حبرا على ورق، أو خيالا فى أذهان المصلحين، بل كانت حقائق تسكن الليل والنهار ويتحرك بها بحر طام من الأعمال والنيات والحروب والمصالحات، وتندفع بها أمم وتتلفت لها قارات وتصطبغ بها حضارات... وأن الزعم بأنها لم تتجاوز دولة الخلافة زعم منهار لا ينبغى وزنه ولا الاكتراث لقائله. ص _086(1/79)
ويمكن أن يوصف هذا الوجود القائم بأنه يتعرض لعدة حالات: 1- أن تكون الحكومة صورة صادقة لرسالة الإسلام ومثالا عاليا لالتزام حدوده وأداء حقوقه داخل البلاد وخارجها تعاونها فى ذلك أمة راضية عنها، حريصة عليها، متجاوبة معها فى كل الشئون... 2- أن تكون الحكومة قائمة على الأسس الإسلامية، ومستمدة وجودها من الحفاظ على شرائع الإسلام ونشر دعوته وصد أعدائه. غير أن طريقة تشكيلها أو سيرة بعض أفرادها لا تتفق اتفاقا تاما مع الأساليب الإسلامية. وهنا تكون يقظة الرأى العام جابرة لهذا النقص أو مخففة من أضراره. ويكون جمهور الأمة أكثر تمثيلا لحقائق الإسلام من ولاة أمره. 3- أن تكون الحكومة إسلامية رديئة التكوين، غبية الفهم، وإلى جانبها أمة متراخية هى الأخرى فى جنب الإسلام جاهلة به. وهنا يبدأ الهرج ويشيع القلق وتأخذ الأمة والدولة معا طريق الانحدار والهبوط... وتقوم الغارات الأجنبية المدمرة مقام القوارع السماوية الزاجرة، فتتعرض البلاد الإسلامية للغزو والإذلال حتى تلم شعثها وتصلح شأنها، وتعود مرة أخرى إلى الحق الذى حادت عنه فتستأنف الحياة الإسلامية طريقها الصاعد كرة أخرى... وقد استعرضت هذه الأدوار فى سطور موجزة جامعة تضمنت عصور الازدهار وأسبابه، وعصور الانهيار وأسبابه فى رسالة " بين الأمس واليوم " التى كتبها الأستاذ حسن الينا. وقد أثبتنا هذه السطور فى كتابنا " كيف نفهم الإسلام " عند حديثنا عن التفاوت بين النشاط الثقافى والنشاط السياسى فى تاريخنا. والواقع أن الأمة الإسلامية فى ظل دولة الخلافة تمتعت بحريات سابغة. بل إن أشخاص الخلفاء الأربعة كانت دون نظائرها من حكام المشارق والمغارب فى الأولين والآخرين، كانت دونهم سطوة وجاها وقدرة على فرض "الذات " البشرية، وإشباع نزعة التسلط والاستعلاء. ما فكر أحد الخلفاء الأربعة أن يجعل من حكمه مجدا دنيويا لنفسه، ولا فكر أحدهم أن يفتات على الجماهير ماديا أو أدبيا. الحكم(1/80)
فى نظر هؤلاء كلهم كان عبادة لله كالصلاة والصيام. ص _087
وأستطيع أن أقول: إن الأمة الإسلامية- إبان دولة الخلافة- توسعت فى استغلال هذه الحرية توسعا معيبا فى بعض الأحيان.. وقد تجرأ الرعاع على قتل الخليفة الثالث!! ولكن الخليفة الثالث ما فكر قط أن يستغل سلطانه فى ضرب الجماهير المحيطة بداره، ولا استعان بقومه ولا بغيرهم فى طرد وفود الدهماء المسوقين بشتى الدوافع لإهانته. ولو أن حاكما معاصرا مرت به الظروف التى مرت بعثمان، لأمر بإطلاق الرصاص على المهاجمين، بل لفتكت المدافع بمئات القتلى قبل أن تفتك بجسد الحاكم، لكن عثمان صان دماء الذين لم يصونوا دمه!! وجاء مقتل الخليفة " الرابع " فاجعة تأوه لها المؤمنون فى الأرض والسماء، ونكبة زلزلت المثل الرفيعة لتقوى الله ورعاية الشعوب.. إن الحرية الواسعة التى أتيحت لجمهور الأمة فى ظل دولة الخلافة يسرت لبعض الأفراد أن يتبجح ويفجر.. وكان رد الفعل السيئ لهذا التهور أن جاء الملك الأموى افتياتا منكرا على سلطة الأمة وحقوقها المقررة وغير المقررة. فضاع حق الشعب فى اختيار رئيس الدولة، وانكمشت الحرية الفردية، وطالت يد الحاكم فى المال العام.. ولكن المسلمين أبوا الاستكانة إلى هذا التغيير، فقاومه بعضهم باللسان، وقاومه آخرون بالسيف، ولا شك أن يقظة الروح الدينية كفكفت من حدة هذا الانحراف. يضاف إلى هذا أن الأمويين أبدوا أنهم قاموا لرعاية الإسلام وإنفاذ أحكامه، وأن توليهم للخلافة جاء نتيجة الأحداث التى أنهت دولة الراشدين. وقد دللوا على صدق دعواهم بما فتحوه من ميادين للجهاد وسعت رقعة العالم الإسلامى شرقا وغربا، ثم إنهم لم يتعرضوا بشىء لمن سكت عنهم.. والحق أن دائرة الفتح انداحت بقوة، ولكن للأسف لم يصحبها تكريم للقادة المجاهدين: ولا تأمين- على القليل- لمستقبلهم فتوقفت ثم خمدت. ص _088(1/81)
ويذكر بالحمد لهذا العهد أن العالم الإسلامى كان كيانا واحدا تضبطه حكومة مركزية قوية.. وإن كان من المؤسف أن الأمويين تطرفوا فى احترام القومية العربية، وغضوا الطرف عن القوميات الأخرى فأساءوا بذلك إلى العرب والإسلام جميعا.. لأن الإسلام عالمى النزعة وليس فيه مكان لتعصب جنسى ولا نعرة قبلية!! ثم طاحت الدولة الأموية بعدما جسم آل البيت معايبها، وأشعلوا الثورات فى أطرافها. وقام بنو العباس بحمل أعباء الخلافة، واستبحرت الحضارة الإسلامية على عهدهم. وازدهرت الثقافة حتى أصبحت المدن العربية أنضر مدن الدنيا.. غير أن بنى العباس تورطوا فى الأخطاء التى تورط فيها سلفهم ووقعوا فيما عابوا فيه بنى أمية.. ودين الله أشرف وأزكى من أن يتبع أطماع أسرتين!! أو يرتبط بأفرادهما. والتاريخ ليس إلا جملة من أعمال البشر. وأعمال البشر يحكم عليها بشريعة الله، ولا تحكم هى شريعة الله.. ولما كان الإسلام دينا عاما لسكان القارات الخمس، فقد دخلت فيه بداهة أجناس كثيرة. ومن حق هذه الأجناس أن تنهض بلوائه إذا قصر العرب- حملته الأولون- قى خدمته. فلا عجب إذا رأينا الفرس والهنود والأكراد والأتراك يهرعون لنجدته عندما يرون الصعاب أحاطت به. ومن معرفة الفضل لذويه أن نذكر بأطيب الثناء جهد الأكراد والأتراك فى مقاومة الصليبيين والتتار بعدما انهزم العرب أمامهم.. إنهم هم الذين ألحقوا الهزائم المريرة بالغزاة الباطشين!! ولكى يتضح وجه الحقيقة نذكر أن المسلمين الأوائل ما كانوا يهتمون بجنسياتهم، أو يعولون على أوطانهم الأولى، فإن الإسلام صهرهم جميعا فى بوتقة فأصبحوا مسلمين وحسب.. ص _089(1/82)
ولذلك لم يشعر الجمهور المسلم بحرج عندما قامت على أنقاض الماضى دولة جديدة ترفع علم الإسلام وتصارع دول أوروبا كلها وتنفذ إلى أحشائها من الشرق والجنوب، تلك هى دولة الأتراك العثمانيين.. لكن القيادة التركية للإسلام لم تكن موفقة، ولا مسددة، وقد قلدت كل الأخطاء التى وقعت فيها القيادة العربية من قبل. وأضاف إلى ذلك أن الحصانات القديمة ضعفت أو تلاشت، فأصبح العالم الإسلامى جسما تغالبه العلل دون أن تلقى الجراثيم الفاتكة مقاومة تذكر، فلا عجب إذا تعرضت هذه القيادة للمصير نفسه. وكما أطاح التتار بالخلافة العباسية ببغداد، طاحت الخلافة العثمانية فى الآستانة . وإن اختلفت أساليب السقوط ومظاهر الضياع.. ولو أن خلافة إسلامية أخرى قامت ومشت فى الطريق التى سلكها العباسيون والعثمانيون لصحبتها ذات العلل القديمة، ولأوردتها الحتوف بعد قرن أو قرون!! لماذا لا تدرس الأخطاء السابقة، ويؤخذ الحذر من معاودة الانزلاق إليها؟ إن الإفادة من التجارب شأن أولى الألباب فى كل زمان ومكان. وفى عصرنا هذا أقام الفرنسيون جمهورية رابعة وضعوا فى دستورها ما يجنب بلدهم فوضى الحريات الحزبية التى جعلت فرنسا مضرب المثل فى تغير الوزارات الحاكمة.. فلماذا لا يحذو المسلمين حذو سائر الخلق، فيبتعدوا عما أزلهم الشيطان إليه مثنى وثلات ويقيموا حكما إسلاميا أقرب إلى الصواب منه إلى الخطأ؟ بل أقرب إلى الإسلام نفسه وأنأى عن دعاوى الأسر الدعية، وجنون الأفراد العالين فى الأرض؟؟ ذلك ولدينا كتاب ينطق بالحق، ويحدد المنهج والغاية، ولدينا سنة مدروسة مأنوسة تقدم " مواصفات " كاملة للحكم الراشد، فلن يعجزنا أن نصون حاضرنا ومستقبلنا بعد كل هذه الأضواء. وبديهى أن تكون الحكومة فى الإسلام صدى رغائب الأمة وعزائمها وأداتها إلى بلوغ ما تهوى، أما أن يكون الأمر بالعكس فتكون الحكومة مفروضة بالرهبة والرغبة أو بالسلاح والرشوة فليس هذا بإسلام. ص _090(1/83)
والأمة الإسلامية نفسها أمة تحب دينها وتحرص على إقامته، وتريد إرادة جازمة أن تصطبغ به ظاهرا وباطنا... وقد قاومت على مر القرون- بالقلب واللسان- انحراف الحاكمين، وقدمت بسماح وشجاعة كل التضحيات التى تفرض عليها لحماية الدين. ونحن نلحظ- دون كد- جرثومة خبيثة تفتك بالسياسة الإسلامية وتدع فراغا سيئا بين الأمة والدولة، تلك هى طريقة اختيار الحاكم الذى يلى الأمور، ويقود الأمة إلى ما تعرف وتقر من أهداف. ونحن نريد استئصال هذه الجرثومة لا تركها، والتغلب على ما تنشئ من علل وأوجاع. ويخيل إلى أن هناك نقصا فى تفكيرنا الفقهى يجب تداركه على ضوء ما وعينا من تجارب تاريخية، وعلى ضوء ما وعى العالم كله من كفاح للطغاة والمستبدين. إن من أخطاء الفكر الإسلامى الأولى أنه بذل جهدا مضنيا فى بحوث ما وراء المادة، فبدد بهذا قدرا كبيرا من طاقته دون جدوى ولغير سبب، وخالف بهذا التفكير منهج القرآن الكريم فى البحث والنظر!! فإن الله فى كتابه أمرنا بالتأمل فى المادة لا فيما وراءها. وفى الكون المشهود لا فى المغيبات المفترضة والموهومة. وهذا العوج الفكرى- الذى حاربه العلماء المحافظون- أساء إلينا فى ناحية من حياتنا الاجتماعية والثقافية... وثم عوج آخر أساء إلينا فى حياتنا السياسية وهو- فيما أرى- نقص معالم الفقه الدستورى من حياتنا الفقهية الرحبة مع وفرة مادته فى مواريثنا السماوية، ومع الحاجة الماسة إليه فى سيرنا التاريخى الطويل. وأعنى بالفقه الدستورى هذه الدراسات التشريعية التى تحدد وظيفة الحاكم وصلته بالأمة والسلطات التى يملكها، وطرائق الشورى التى فرضها الإسلام عليه، والحقوق والواجبات المتبادلة بين شتى الأجهزة الإدارية التى تشكل عموما نظام الدولة. ص _091(1/84)
إن كلمة " وأمرهم شورى بينهم " لا يكفى أن يلقيها واعظ من فوق منبر، أو يرسلها قارئ فى الهواء، فلا تأخذ مجراها فى الحياة العامة قوانين ملزمة واختصاصات واضحة. صحيح أن الأمة تدارست فى حلقات العلم حقائق كثيرة فى ذلك المجال، لكن هذه الدراسات لم تأخذ طريق الاستبصار والاستبحار الذى يقدم للمجتمع الإسلامى ضمانات وثيقة، فلا يتعرض للأزمات التى تمكن منه حاكما مسعورا، أو التى تقوده كارها إلى طريق الدمار... إن الفقه الإسلامى- فى ميدان العبادات والمعاملات- حفل بأخيلة تجعل المرء يضحك حينا، وتجعله يدهش أحيانا لخصوبة الأذهان التى تعرضت لأبعد الصور وأعقد القضايا بالتقريب والحل، ومع ذلك فإن هذه الناحية الدستورية لم تأخذ من العناية ما أخذته أبواب الغسل فى العبادات، ولا ما أخذته أبواب البيوع فى المعاملات..!! ومن يدرى؟ لعل الانحراف الأساسى فى تكوين السلطات العليا هو الذى أغرى بتلك النقائض !! وفى رأيى أن الإفادة من تجارب البشر فى هذا الميدان عظيمة الجدوى. إن البشر- فى أقطار فيحاء وعلى آماد متطاولة- لدغتهم آثام الحكم الفردى، ونهشت لحمهم، فلا عجب إذا عملوا بنداء الفطرة على تحصين أنفسهم ضدها، وعلى وضع الدساتير التى تتضمن العبر المستخلصة من صراع الظالمين معهم، وصراعهم مع الظالمين.. وليس هذا نقلا لفكر أجنبى يزاحم مواريث الدين أو يوهم بعدم كفايتها لحاجات العصور. كلا، إنما هو نقل لوسائل متجددة بطبيعتها لتحقيق الغايات التى جاء بها الدين، ولإنفاذ النصوص التى تضمنها.. إن الله نهى عن الظلم فيما أنزل من وحى.. ص _092(1/85)
فهل تظن الظلم مستحبا فى البلاد التى لم يبلغها ما أنزل الله؟ لا، إنها تستقبحه وتكره وقوعه وتحتاط من أذاه. فإذا اخترعت عدة أساليب لحماية نفسها منه فلا علينا أن نتدبر هذه الأساليب، وأن نأخذ بها لحماية أنفسنا كذلك. إن طبيعة الشر سواء هنا وهناك، ولا نريد المضى مع المتشائمين فنقول: إن النفس الإنسانية نزاعة إلى البغى حيث كانت: والظلم من شيم النفوس فإن تجد ذا عفة فلعلة لا يظلم ولكننا نقول: إن النفس الإنسانية تطغيها سعة السلطة ونفاذ الكلمة كما تطغيها كثرة المال وبسطة الثروة.. وقد عانت الأمم قديما وحديثا من إطلاق أيدى الحكام. مهما أوتوا من عبقرية. ومن هنا وبعد أن سلخت الإنسانية من عمرها دهرا طويلا وضع- مثلا- ميثاق لحقوق الإنسان جاء فيه: " إن إرادة الشعب هى مصدر سلطة الحكومة ويعبر عن هذه الإرادة بانتخابات نزيهة دورية تجرى على أساس الاقتراع السرى، وعلى قدم المساواة بيت الجميع أو حسب أى إجراء مماثل يضمن حرية التصويت ". فلماذا لا نعول نحن على هذه الوسيلة، فى جعل الأمة بنجوة من سطو بعض الأفراد أو بعض الأسر على مناصب الحكم، وتسخير الشعوب عن طريقها للأهواء والمطامع الشخصية؟! يقول الله تعالى لنبيه المعصوم : (وشاورهم في الأمر) أفلا يشعر المسلم بحسرة إذا رأى شئون المسلمين من أيام طوال تمضى دون أن يعرف عنها أولو الألباب والراسخون فى العلم شيئا؟! تمضى يبرمها حاكم فذ ، ليس حوله إلا بطانة تشبه حاشية فرعون، ما تنصحه إلا باتباع ما يهوى، وما تصحبه إلا على الملق والزلفى.. ص _093(1/86)
إن هؤلاء الخلفاء من آل عثمان أو من غيرهم أبعد الناس عن هذه الآية الكريمة والعمل بهاء ووراء هذه الخرافات المقدسة تمشى الأمم أشواطا تطول أو تقصر، بيد أنها منزلقة إلى مصرعها آخر الطريق!! وعلى المسلمين دون تململ أن يدفعوا ثمن تفريطهم!! سرح بى الفكر يوما فى موقف المسلمين من القرآن الكريم فهززت رأسى أسفا: يقال- والعهدة على أصحاب الإحصاء-: إن ثلاثمائة ألف طلاق وقعت بمصر فى السنين العشر الأخيرة. قلت: كم مطلقا متع مطلقته؟ وأجبت: لا أظن أحدأ من هذه الألوف المؤلفة نفذ قوله تعالى: (وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين) لكأن الآية ملغاة أو لم تنزل..!! وإنفاذ هذه الآيات فى مكنة الأفراد، وليس من عمل الدولة الذى لا يقوم غيرها به كآيات الحدود والقصاص التى عطلت هى الأخرى عمدا..! إن تعطيل النصوص- بالصورة البدائية- جريمة، وتنفيذ النصوص- بالصورة الصبيانية- جريمة كذلك. ومن الصور الصبيانية أن يزعم زاعم أن الحاكم يستشير إذا أرسل لبعض أخصائه أو بعض وصفائه يستفتيهم فى أمر حزبه. إن أمر المسلمين المنتشرين فى ثلاث قارات يعنى أولى النهى فى كل المدائن والقرى. ويجب أن يجتمع هؤلاء فى مجلس واحد ليدلوا بما عندهم من نصح وخبرة، وإلا فالشورى هزل. إن الفقه الدستورى عندنا بحاجة إلى أن يوسع ويقعد ويدرس فى المساجد مع أحكام الوضوء والصلاة، لأن بقاء الإسلام والمسلمين متصل به. ص _094(1/87)
لقد شرحنا آنفا كيف استطاع علماء الدين ترميم المجتمع من صدوع الحكم الفردى. لكن العلم نفسه عرضت له ظروف عكرت صفوه، ثم أخذ مجراه يغيض. ورويدا رويدا أخذ العالم الإسلامى أجمع يدخل فى ظلام شامل..!! الإسلام فى المحاق: إذا كان الترف العقلى والمادى من أسباب انهيار الخلافة العباسية، فإن القحط العقلى والمادى من أسباب انهيار الخلافة العثمانية. إن الأحوال الكئيبة التى لابست قيادة الأتراك للمسلمين فى الأزمنة الأخيرة من تاريخهم جعلت الإسلام- حكومة وأمة- يترنح ويتهاوى. أخذت خصائص الحياة الذكية القوية تتسرب من كل شىء، وتحول الدين إلى تقاليد ميتة، ومجموعة من الأعمال التى تخالطها البدع والخرافات. وتقلصت القدرة على علاج شئون الحياة فإذا المسلمون يكادون ينسحبون من ميادين الإنتاج الصناعى والتجارى والزراعى وأنواع المهن الأخرى، أو يعرفون طرقا بدائية فى هذه الأنحاء لا تقيم أودا، بله أن تنجح رسالة. ومع هذا التقهقر المعيب فقد ضريت غرائز الشر، وشاعت أسباب الفرقة، وانتشرت آفات خلقية واجتماعية لا حصر لها. واضمحلال البيئات الدينية يعود أول ما يعود إلى انطفاء العقل وخمود جذوته فالإيمان " يورث " عن تقليد لا فكر معه. والعبادات تؤدى لما يكتنفها من جانب غيبى فهى معزولة عن آيات الله فى الأنفس والآفاق. والحياة تتناول بكسل واسترخاء، لأن الدار الآخرة هى التى تستحق النشاط والجد!! فإذا مددت بصرك إلى الوسائل الناشطة الجادة التى تكسب بها الدار الآخرة وجدت جملة هائلة من الترهات والأباطيل سميت دينا، وهى ليست من الدين فى قليل ولا كثير.. ص _095(1/88)
واختفت من الأذهان تقريبا قوانين الأسباب والمسببات، فكان يدرس فى الفقه أنه لو تزوج مشرقى بمغربية ثم ولدت له مع وجود مسافة تمنع اللقاء مدة الحمل، فالولد له!! لماذا؟ وهو لم يجتمع بها لبعد المكان واستحالة اللقاء؟ قالوا: لاحتمال أن يكون من أهل الخطوة!! إن انتقال الناس من قارة إلى قارة جائز فى الأذهان من غير طيارة ولا سيارة!! ولو أنك تأملت فى العبادات المحضة لوجدت جماهير كثيفة تعتبر التعلق بالأضرحة ومناداة المقبورين بها دينا، وتجد من العلماء من يسميه " توحيدا ". ولوجدت تواثب الجهال فى إحدى الساحات مرددين بأفواههم يعض أسماء الله فى جنون راقص.. هو الذكر المشروع!! بل لوجدت المسجد الواحد من المساجد الجامعة تقام به الصلاة الواحدة عدة مرات لوقت واحد، هذه جماعة الأحناف، وتلك جماعة المالكية، وهذه جماعة الشوافع.. الخ. ولعل أرفع صور النسك أن ينقطع امرؤ عن الدنيا فى صومعة معزولة عن الحياة، يسبح الله ويقرأ كتابه. فهل هذا الناسك ابن شرعى لهذا الصحابى الذى خرج من الجزيرة مجاهدا حتى بلغ شاطئ الأطلسى فنظر إلى الأمواج المترامية ملتقية مع الأفق البعيد لا يرى وراءها شىء ثم قال: لو أعلم أن لله أرضا هنالك لذهبت إليها مجاهدا فى سبيل الله؟ إن هذا الجانب من العبادات فسد بالركام الغليظ من الخرافات التى التصقت به، والجوانب الأخرى من دين الله ومن دنيا الناس لم تكن تقل عن هذا الجانب إمعانا فى البعد عن الحق والإغراق فى الوهم والضلال عن سواء السبيل. وكما عمقت الفجوة بين الإسلام وأمته المنتسبة إليه عمقت الفجوة بين الدولة والمجتمع فليست للحكم رسالة شريفة يسعى إليها. إنه حكم إسلامى بالعنوان المتوارث من قديم. ص _096(1/89)
أما رجاله فحظوظهم ضئيلة من فقه الإسلام ورسالته الكبرى، وحظوظهم أضأل من العمل به وإشراق النفس بنوره والإخلاص لدعوته والحدب على أمته. وأكثرهم- لو وظف وفق كفايته النفسية- ما صلح كاتبا فى ديوان! ولو نال جزاء عمله لعاش بائسا أو زج به فى السجون! ولكنه- لعوج الأوضاع- صار ملكا أو خليفة يزعم أنه حلقة توضع فى السلسلة التى تبدأ بأبى بكر رضى الله عنه!! وهبوط مستوى الحكم إلى ذلكم الحضيض شىء يملأ الأفئدة أسفا.. وطبيعى أن تكون الجماعة الإسلامية بعد ذلك الانحدار الدينى والإدارى فى حال يرثى لها. إن الجسم العليل يفقد من خصائص الحياة والحركة بقدر ما يتخلله من العلل.. فإذا تكاثرت عليه الأدواء حتى بطلت حركته وصار جثة هامدة كان الخلاص منه بمواراته الثرى.. أما العقل العليل فإنه- مهما خمدت جذوة الحياة فيه- لا يكفن ولا يدفن إنه يبقى على صعيد الأرض حيا كميت أو ميتا كحى. وقد نظر أحد العلماء إلى المسلمين آخر العهد التركى ثم أرسل هذه الزفرة من قصيدة طويلة.. أفمسلمون وأمة شلاء لا ميتون ولاهم أحياء! والواقع أن المجتمع الإسلامى كاد يفقد الصلة بجذوره المعنوية الأولى. كتاب المسلمين يحلق فى الآفاق وهم يعيشون فى الجحور! كتابهم يجوب بين آيات الله فى الأرض والسماء ويجتذب الأبصار والبصائر للتأمل فيها.. وهم على ثراهم الهامد يفتحون عيونا لا تبصر، وقلوبا لا تعى! كتابهم يقوم على الحق وحده، ويلفظ ما عداه بقوة، وهم يعيشون فى دوائر مغلقة من الوهم والأباطيل! ص _097(1/90)
علوم الدين التى تدرس للعامة والخاصة تحولت إلى ألغاز مبهمة، وانشغل العقل العادى بحل هذه الألغاز لأن لألفاظها مكانة تشبه القداسة! وإليك هذه النماذج المليئة بالأعاجيب: قال خليل فى مختصره الذى يمثل مذهب الإمام مالك: " يرفع الحدث وحكم الخبث بالمطلق، وهو ما صدق عليه اسم ماء بلا قيد وإن جمع من ندى أو ذاب بعد جموده أو كان سؤر بهيمة أو حائض أو جنب أو فضلة طهارتهما أو كثيرا خلط بنجس لم يغير أو شك فى مغيره هل يضر أو تغير بمجاوره بدهن لاصق، أو برائحة قطران وعاء مسافر، أو بمتولد منه أو بقراره أو بمطروح ولو قصدا من تراب أو ملح، والأرجح السلب بالملح لا بمتغير لونا أو طعما أو ريحا بما يفارقه غالبا من طاهر أو نجس كدهن خالط أو بخار مصطكى وحكمه كمغيره. ويضر بين تغير بحبل سانية كغدير لروث ماشية أو شر لورق شجر أو تبن، والأظهر فى بئر البادية بهما الجواز، وفى جعل المخالط الموافق كالمخالف نظر، وفى التطهير بماء جعل فى الفم قولان، وكره مستعمل فى حدث وفى غيره تردد ويسير كآنية وضوء وغسل بنجس لم يغير أو ولغ فيه كلب وراكد يغتسل فيه وسؤر شارب خمر وما أدخل يده فيه، ولا يتوقى نجسا من ماء إلا إن عسر الاحتراز منه أو كان طعاما كمشمس وإن رئيت على فيه وقت استعماله عمل عليها وإذا مات برئ ذو نفس سائلة براكد ولم يتغير ندب نزح بقدرهما لا إن وقع ميتا وإن زال تغير النجس لا بكثرة مطلق فأستحسن الطهورية وعدمها أرجح وقيل خبر الواحد إن بين وجهها أو اتفقا مذهبا وإلا فقال يستحسن تركه وورود الماء على النجاسة كعكسه ". أ. هـ وقال زكريا الأنصارى فى منهجه الذى يمثل مذهب الشافعية: "إنما يطهر من مانع ماء مطلق وهو ما يسمى ماء بلا قيد فمتغير بمخالط طاهر مستغنى عنه تغيرا يمنع الاسم غير مطهر لا تراب وملح ماء وإن طرحا فيه وكره شديد حر وبرد ومتشمس بشروطه، والمستعمل فى فرض غير مطهر إن قل..".أ.هـ ص _098(1/91)
هل تفهم شيئا من هذا الكلام؟ أهذا هو الدين؟!! أما علوم اللغة العربية فهى تعاصر انحطاطا فى الأدب العربى شعره ونثره، جعل معانيه وغاياته لا تساوى من الناحية الإنسانية شيئا... والغريب أن مدرسى البلاغة فى كتبها التقليدية كانوا يعجزون عن إنشاء مقالة رفيعة الأداء مع تدريسهم لعلوم البيان والمعانى والبديع..!! وندع هذه الناحية من ميدان الثقافة الدينية إلى ناحية أخرى من الثقافة الإنسانية العامة تخلف المسلمون فيها تخلفا مزعجا فى ذلك العهد الأشأم.. إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال للمسلمين: " أنتم أعلم بشئون دنياكم " . وهذا حق، فإن الملائكة لن تنزل من السماء بوحى يعلم البشر كيف يزرعون ليأكلوا، وكيف يشيدون ليسكنوا!! إن هذا متروك لتفكيرهم الخاص. وميدان التجويد فيه مفتوح لأهل الأرض أجمعين من مؤمنين وكافرين، وغاية ما تمتاز الأمة الإسلامية به أنها مكلفة بتسخير إنتاجها المادى وفق مثلها العليا. أما الإقبال على شئون الحياة وعلوم الدنيا فهو نداء الطبيعة فى كل إنسان سليم الفطرة، وهو مجال السباق والتفوق لكل جماعة تريد خدمة رسالتها بقوة وذكاء. وقد اتفق علماء الإسلام على أن الحرف والفنون التى لا يقوم المجتمع إلا بها فريضة على الأمة. وكان المسلمون الأوائل مثل غيرهم من أهل الأرض أو أذكى وأقدر فى خلق العمران وترقية وسائل الحياة. لكن الأخلاف الذين جاءوا بعد ألف سنة من بدء الإسلام أخذوا ينكمشون قليلا قليلا فى فهم الحياة وتسيير دفتها. ص _099(1/92)
وما زالوا يتقهقرون حتى أصبح الإنسان يتلفت فى مطالع هذا القرن فيجد جماهير المسلمين لا تعرف شيئا عن فنون الهندسة وأنواع الصناعة. وبلغ تخلفها فى شئون الدنيا حد الوصول فى بعض الأرجاء- كاليمن- إلى مستوى العصر الحجرى، بينما العالم يطفر بخطوات جبارة إلى الأمام وإلى الأعلى.. إن جميع المعادن الجامدة والسائلة فى بلادهم أشرف على استخراجها الأجانب، وإن جميع الجسور والسدود أشرف على بنائها الأجانب.. ولا تزال علوم الطب والنبات والحيوان والفلك والآلات وغيرها تعتمد على مصادر أجنبية، بل يدرس بعضها باللغات الأوروبية.. بينما الأصول الأولى للنهضة العلمية فى الغرب كانت من تراثنا الثقافى وحده. إن هذا الانهزام الذى حاق بالمسلمين فى كل شئ كان يقابله فى الجانب الآخر من الحياة- الذى يسكنه خصومهم الأقدمون- انطلاق رائع وتفوق فى العلم والإنتاج وتربص ليوم تغزى فيه بلاد الإسلام غزوا شاملا وأهلها غافلون.! جاء فى رسالة " بين الأمس واليوم ": " بواكير النهضة فى أوروبا: اطمأنت الدولة الإسلامية تحت لواء العثمانيين إلى سلطانها، واستنامت إليه، وغفلت عن بر ما يدور حولها. ولكن أوروبا التى اتصلت بأضواء الإسلام- غربا بالأندلس وشرقا بالحملات الصليبية- لم تضع الفرصة ولم تغفل عن الاستفادة بهذه الدروس فأخذت تتقوى وتتجمع تحت لواء الفرنجة فى بلاد الغال. واستطاعت بعد ذلك أن تصد تيار الغزو الإسلامى الغربى. وأن تبث الدسائس بين صفوف مسلمى الأندلس، وأن تضرب بعضهم ببعض إلى أن قذفت بهم أخيرا إلى ما وراء البحر أو إلى العدوة الأفريقية فقامت مقامهم الدولة الأسبانيولية الفتية. وما زالت أوروبا تتقوى وتتجمع وتفكر وتتعلم وتجوب البلاد وتكشف الأقطار حتى كان كشف أمريكا عملا من أعمال أسبانيا، وكشف طريق الهند عملا من أعمال البرتغال. ص _100(1/93)
توالت فيها صيحات الإصلاح، ونبغ بها كثير من المصلحين وأقبلت على العلم الكونى والمعرفة المنتجة المثمرة. وانتهت بها هذه الثورات الإصلاحية، إلى تكوين القوميات وقيام دول قوية جعلت هدفها جميعا أن تمزق هذه الدولة الإسلامية التى قاسمتها أوروبا واستأثرت دونها بإفريقيا وآسيا. وتحالفت هذه الدول الفتية على ذلك آحلافا رقت بها إلى درجة القداسة فى كثير من الأحيان. هجوم جديد: وامتدت الأيدى الأوروبية بحكم الكشف والضرب فى الأرض والرحلة إلى أقصى آفاقها البعيدة إلى كثير من بلدان الإسلام النائية كالهند وبعض الولايات الإسلامية المجاورة لها. وأخذت تعمل فى جد للوصول إلى تمزيق دولة الإسلام القوية الواسعة وأخذت تضع لذلك المشروعات الكثيرة، تعبر عنها أحيانا بالمسألة الشرقية وأخرى باقتسام تركة الرجل المريض. وأخذت كل دولة تنتهز الفرصة السانحة وتنتحل الأسباب الواهية وتهاجم الدولة الوادعة اللاهية فتنقص بعض أطرفها أو تهد جانبا من كيانها واستمرت هذه المهاجمة أمدا طويلا انسلخ فيه عن الدولة العثمانية كثير من الأقطار الإسلامية، ووقعت تحت السلطان الأوروبى. مقاومة هائلة باسلة...!! ولم تفدح خسائر الهاجمين فى تلك الحملات الصليبية الجديدة.. فإن فتك أسلحتهم الحديثة حصد كل ما أبداه المدافعون من ضروب البسالة وألوان التضحية، إن وسائلهم القديمة فى القتال وضعف الآلات التى يستخدمونها لم تغن فتيلا فى رد العدوان وكسر شوكته! وهنا نرى لزاما علينا أن نبرز بأس المقاومة التى أظهرها المسلمون ضد أعدائهم. لقد بقى لهم- برغم تأخرهم المادى والأدبى- من عناصر اليقين والشجاعة ما يبهر العين. الاستشهاد فى سبيل الله شرف. ومعاونة الدخلاء خيانة وردة. ص _101(1/94)
والتعويل على قدر الله والرضا بجسامة التضحيات خلق شائع. والحرص على كرامة الإسلام وحرية أقطاره عقيدة راسخة. إن بقايا الإسلام العظيم- مع ضعف الدولة والمجتمع- لم تزل عميقة الأثر فى خلق أمة أبية ترفض الضيم وتغالى بمبادئها، وتزدرى الكفر والفسوق والعصيان. ولو أن هذه الأمة استكملت عدتها التى توفى بها لرسالتها وتملك بها أزمة الحياة الصحيحة ما أمكن أن يصيبها ما أصابها. ولنضرب بعض الأمثلة التى تكشف مدى العنف فى حروب المقاومة التى اشتبك فيها المسلمون مع عدوهم.. - عندما هجم الفرنسيون على مصر فى القرن الماضى استمات الشعب فى مقاومة الغزاة استماتة تثير العجب. ومع التفاوت الهائل بين أسلحة الفريقين فإن الأهالى حتى بعد انكسار الجيش المنظم كافحوا إلى آخر رمق، قاتلوا فى قرى ومدن الوجهين البحرى والقبلى وألحقوا بعدوهم أقصى ما يمكن إلحاقه من خسائر ولم يسكنوا إلا بعد ما فقدوا كل شىء. واسمع هذا الوصف لثورة القاهرة الثانية على الفرنسيين وما أوقعه بها القائد الفرنسى " كليبر " من نكال: " لقد صوب مدافعه نحو أحياء القاهرة جميعا ودكها دكا، ودار القتال بين الفريقين عنيفا فى كل حى وفى كل شارع، وأدى القاهريون واجبهم كخير ما يكون، ولكن النصر كتب أخيرا للفرنسيين، إذ كانوا أوفر عدة وسلاحا، وكان الثائرون يفتقرون إلى المدافع والذخيرة والمواقع الحصينة.. أحرز الفرنسيون النصر، ولكن بعد أن دافع القاهريون عن مدينتهم دفاع الأبطال وبعد أن قاوموا مقاومة عنيفة عنيدة وخاصة أهالى حى بولاق، فقد كانوا أقوى شكيمة وأشد مراسا. ولهذا بدأ كليبر بمهاجمة حيهم، وعرض عليهم العفو والصفح أكثر من مرة إن هم أذعنوا واستسلموا، ولكنهم ثبتوا فى عزة وإباء وتصميم ". أ. هـ وقد وصف أحد الفرنسيين- ممن شاهدوا القتال- الموقف فى بولاق وصفا رائعا، ذلك هو المسيو " جالان " فى كتابه " صورة مصر أثناء إقامة الجيش الفرنسى ": ص _102(1/95)
" فى اليوم الحادى والعشرين من شهر جرمنيال 14 إبريل سنة 1800 " أنذرت بولاق بالتسليم فرفض أهلها كل إنذار، وأجابوا بإباء وكبرياء أنهم يتبعون مصير القاهرة وأنهم إذا هوجموا فإنهم مدافعون عن أنفسهم حتى الموت. فأخذ الجنرال " فريان " يحاصر المدينة وبدأ يصب عليها من المدافع ضربا شديداً أملا منه فى إجبار الأهالى على التسليم. ولكنهم أجابوا بضرب النار، فأطلقت المدافع قنابلها على المتاريس، وهجم الجنود على الاستحكامات فاقتحموا أكثرها، وظل بعضها يقاوم، واستبسل الأهلون فى الدفاع، ولجأوا إلى البيوت فاتخذوها حصونا يمتنعون بها، فاضطر الجنود إلى الاستيلاء على كل بيت منها والتغلب عليه بقوة الحديد والنار. وبلغ القوم فى شدة الدفاع حدا لا مزيد بعده. وفى هذا البلاء عرض العفو على الثوار فأبوه واستعر القتال، فجعلنا المدينة ضراما وأسلمناها للنهب وصار أهلها عرضة لبطش الجنود وتنكيلهم، فجرت الدماء أنهارا فى الشوارع، واشتملت النار أحياء بولاق من أقصاها إلى أقصاها. وعادت تلك المدينة العامرة الزاهرة هدفا للخراب، وأكلتها أهوال الحرب وفظائعها، ولما بلغت المأساة مداها، طلب الأهالى التسليم فأجيبوا إلى طلبهم. ولكن بولاق ستظل زمنا طويلا تتردى فى هاوية الخراب إلى أن تستطيع النهوض من أعباء الكوارث التى حلت بها، فإن معظم بيوتها أصبحت ركاما من الخرائب والأطلال المحترقة. ولقد مضت ثمانية أيام والنار تلتهمها ولا تزال تشتعل فيها ". أ. هـ هذه صورة حى بولاق فى بطولته ومقاومته واستشهاد أهليه وما أصابه من هدم وتحريق وتخريب. ولم تختلف صور الأحياء الأخرى كثيرا عن هذه الصورة. فإن الثائرين لم يستسلموا- كما أسلفنا- إلا بعد أن جاهدوا جهاد المستميت. فلما استنفدت قواهم ونفدت ذخائرهم توسط العلماء لطلب الصلح، ووافق الفرنسيون، ولكنهم- كعادتهم- لم يكونوا كراما فقد انتقموا من المدينة وسكانها أقسى انتقام فخربوا ما لم يخرب، ونهبوا ما لم(1/96)
ينهب، وقتلوا كثيرين من الأبرياء بحجة مشاركتهم فى الثورة . ص _103
وقد دفع كليبر حياته ثمنا لهذه الوحشية، قتله طالب أزهرى انتقاما لما أصاب القاهرة على يديه من بلاء. والمعروف المؤكد، أن الجامع الأزهر كان ضياء الثورة ووقودها. وأن علماءه- باسم الإسلام- تفانوا فى الدفاع عن دينهم وبلدهم. وأن روح المقاومة كانت مصطبغة بالطابع الإسلامى الحر. وقد اغتاظ الفرنسيون من اتقاد هذا الشعور الإسلامى، فنصبوا مدافعهم على تلال المقطم يريدون هدم الجامع الأزهر وسحق الجموع التى تنطلق منه. قال الأستاذ " محمد ضياء الدين الريس ": " بهذه الطريقة وحدها استطاعوا أن يسيطروا على الحالة، وتحت حماية المدافع نفذت الجنود إلى الأحياء الوطنية التى عجزت عن اقتحامها من قبل. ودخلوا إلى الجامع الأزهر، وربطوا خيولهم بقبلته وعاثوا فيه " وكسروا القناديل وهشموا خزائ الطلبة ونهبوا ما وجدوه بها من المتاع... ". ولما هدأت الحال عمدوا إلى الانتقام من أهل القاهرة بدون تفريق، وبصورة وحشية تدل على مبلغ ما وصل إليه هؤلاء الفاتحون من الحضارة والمدنية التى زعموا أنهم جاءوا لينقلوها إلى مصر!! فقتل من أهل القاهرة- باعترافهم- ما يزيد على أربعة آلاف إ! وقبضوا على كثيرين وأعدموهم سرا بالقلعة بدون محاكمة، وبينهم عدد كبير من النساء، وبحثوا عن زعماء الثورة فاتهموا خمسة من العلماء وبعد أن حبسوهم أكثر من عشرة أيام، وأجروا معهم محاكمة صورية حكموا عليهم بالإعدام ثم نفذوا هذا الحكم فى يوم 4 نوفمبر سنة 1798. ويصف " الجبرتى " حادث استشهادهم فيقول: " وذهبوا بهم إلى بيت قائمقام بدرب الجماميز.. فلما وصلوا بهم هناك جردوهم من ثيابهم وصعدوا بهم إلى القلعة فسجنوهم إلى الصباح ثم أخرجوهم وقتلوهم بالبنادق وألقوهم من السور خلف القلعة، وتغيب حالهم عن أكثر الناس أياما ". ص _104(1/97)
فهؤلاء هم شهداء الوطنية الأول وهذه هى أسماؤهم: الشيخ سليمان الجوسقى، والشيخ أحمد الشرقاوى، والشيخ عبد الوهاب الشبراوى، والشيخ يوسف المصيلحى، والشيخ إسماعيل البراوى. وكانوا جميعا من شباب مدرسى الأزهر ". ونحن نقف عند عبارة " شهداء الوطنية الأول " لنصحح خطأ قد يسبق إلى الأذهان إن هذه العبارة- مع احترامنا العميق للأستاذ المؤرخ- لا تصور التفكير الإسلامى البحت السائد فى ربوع الأمة الإسلامية كلها يومئذ شرقا وغربا. إن كلمة " وطنية " بدلالتها الاصطلاحية الحديثة لم يعرفها المسلمون قط.. المسلمون الذين قاتلوا الغزاة فى القاهرة وغيرها كانوا منبعثين عن شعور دينى ثائر، والطالب الأزهرى الذى قتل " كليبر " كان سوريا لا مصريا. وإنما شارك فى الحرب هو وزملاؤه من شتى الأقطار بباعث الإيمان المجرد.. ورجالات الأزهر الذين قادوا حركة المقاومة وقتل كثير منهم فيها كانوا مجاهدين فى سبيل الله منافحين عن أمتهم ورسالتها ومواريثها وشعائرها.. شرف مجهول.. لقد تعمدنا تجلية هذه الصفحة من المقاومة الإسلامية للغزو الاستعمارى الحديث لأننا نعرف أن تغطيتها مقصودة.. وأن هناك من يريد إهالة التراب على وقائع التاريخ، وعلى المعانى الصادقة التى لابستها لا لشىء إلا لأنه يريد بناء الأمة الإسلامية على غير قواعدها والسير بها إلى غير أهدافها. ونحن نهيب بالباحثين أن يدرسوا معارك المقاومة للصليبية وللشيوعية التى اشتعلت نيرانها من المحيط إلى المحيط، فى القرنين الماضى والحاضر.. ولا ريب أنهم سوف يستبينون أغراض الهجوم وركائز الدفاع، وسوف يستيقنون أن الإسلام كان روح الدفاع، وكان هدف الهجوم، إلى جانب ما امتاز به هذا الغزو الحديث من جوع إلى ثروات البلاد المفتوحة ورغبة فى استغلال أهلها واستهلاك كرامتهم الإنسانية.. ص _105(1/98)
بيد أن المؤسف هو ما اعترى هذا الكفاح النبيل من هزائم متتابعة. وكيف ينتصر؟ كان عمر المختار الأشيب الشجاع يركض بخيله فى الصحراء المترامية مقاتلا الإيطاليين فى طرابلس ومنزلا بهم ما استطاع من خسائر.. لكن ماذا تفعل الخيل المسومة مع الدبابات والطائرات؟! يقول شوقى: بطل البداوة لم يكن يغزو على تنك ولم يك يركب الأجواء لكن أخو خيل حمى!هواتها وأدار من أعرافها الهيجاء وأسر الإيطاليون الشيخ الباسل الناصع الجبين وشنقوه.. وهم يحسبون أنهم شنقوا الإسلام فى شخصه.. ومات البطل المؤمن مخلفا وراءه كفاحا أسطوريا ترويه الرمال والواحات. ومخلفا وراءه أيضا أن الإيمان الحق ـ لكى ينتصر ـ يجب أن يستعين بالوسائل التى لا يزرى بها نقص أو قصور.. لقد كان الحقد الدينى يظاهر الجوع المادى لما هاجم الإيطاليون هذه القطعة من أرض الإسلام، كان جنودهم يرددون أناشيد حافلة بالمرارة والضغينة على الإسلام وأهله.. كان الجندى يقول : يا أماه أتمى صلاتك ولا تبكى، بل اضحكى وأملى.. ألا تعلمين أن إيطاليا تدعونى وأنا ذاهب إلى طرابلس فرحا مسرورا. لأبذل دمى كى أسحق الأمة الملعونة.. لأحارب الإسلام. سأقاتل بكل قواى لأمحو القرآن.. * * * إن معركة المصحف فى مرحلتها الأولى انتهت بسقوط الأمة الإسلامية المفرطة الواهنة فى براثن عدوها. لم تستطع أن تنتصر على العدد الحديثة والتفوق العلمى القاهر. لكن الحرب سجال (وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين * وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين). ص _107
نحو تجديد الإسلام وتحرير أمته
ص _108(1/99)
نحو تجديد الإسلام وتحرير أمته من قصيدة للأستاذ العقاد فى مصيف رأس البر حيث يلتقى نهر النيل بالبحر الأبيض: هنا النيل ساج طال الدهر سيره وطالت مرامى نبعه فسلاها!! استوقفنى هذا البيت الرقيق، الذى يصف النهر وقد وهن تياره وسكن عبابه وألقى بأمواجه المنكسرة فى أحضان البحر الكبير أو وهو يصف شعور السكينة فى أفئدة المصطافين واستراحتهم من لغوب العيش ولو إلى حين. لكن تداعى المعاني وانشغال النفس بقضايا أخرى نقلانى نقلة بعيدة الأمد!! فقد ذكرنى هذا البيت- ولست أدرى كيف ذكرنى- بحاضر الإسلام وأحوال الألوف المؤلفة الداخلة فيه المنتمية إليه وهى- مع تعلقها بهذا الدين- كأنما نسيت رسالته وجهلت مكانته، أو أن هذا الدين- من خلال المعتنقين له- كأنما سلا منابعه عبر التاريخ الطويل وانقطع عن أصوله الأولى.. ولنتجاوز عالم الشعر إلى عالم الواقع، إن الإسلام الذى طلع على العالم حياة تطارد الموت، وضياء يكتسح الظلمة، ويقينا يبدد الوهم، إن هذا الدين عراه من أهله كبن فاحش عطل وظيفته وشاب حقيقته وعرضه للتهم والظنون. وما القول فى أمة يصف الله رسالتها بقوله: (المر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد * الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض)، ويصف نبيها بقوله : (و ما أرسلناك إلا رحمة للعالمين). فإذا هى تهبط من مكانة القيادة وخصائصها وتعجز عن مركز الصدارة وتكاليفه، ولا تزال تتهاوى وتتخاذل حتى تصبح فى مؤخرة القافلة الإنسانية تتلقى الأوامر وترتقب العون. والأمة الإسلامية التى نعنيها بهذا الوصف مجموعة الشعوب التى تبلغ 500 مليون من البشر ينتشرون فى أقطار العالم، ويعرفون فى أرجاء الأرض بأنهم أتباع هذا الدين. ص _109(1/100)
وقد ألف المسلمون خلال مراحل تاريخهم أن يستقبلوا نهضات عامة أو محلية تقيم ما أعوج من أمورهم، وترفعهم إلى مستوى رسالتهم الأولى وتمنحهم قوة يردون بها الخصوم ويحمون بها التراث. ونريد قبل الحديث عن جهود أولئك المجددين أن نشرح أولا المواضع التى يمسها هذا التجديد ومعناه وحدوده. إن تحديد الإسلام ليس أكثر من تجلية حقائقه الأصلية، وتجريد التراث السماوى من الشوائب العارضة، وتمكين الأحرار والعقلاء من اعتناقه عن إعجاب ورغبة ويقتضى ذلك عدة أمور: ا- محاربة البدع والخرافات التى انضافت إليه وحسبت دينا، وهى ليست من الدين فى شىء. إن هذه الزوائد الضارة هى سر انصراف كثير من العقلاء عن الدين نفسه.. ولا يجوز إحسان الظن بها مهما بدت حسنة، ولا بأصحابها مهما بدوا أتقياء. فإن البدعة المصنوعة بين الناس لتكون دينا صادرا عن رب الناس ضرب من التزوير المريب. إنها كالحديث الموضوع أو الوحى المفترى تروى للناس أن الله قال كذا، وهو لم يقل، أو أن رسوله حدث بكذا، وهو لم يحدث. وسير آراء الناس فى الأرض على أنها توجيهات نزلت من السماء كذب مضاعف الخطر، وأظنها تدخل في نطاق الآية: (ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله). وخير ما تنكشف به هذه المحادثات المجلوبة، وهو تقرير الأصول الدينية من ينابيعها اليقينية. ص _110(1/101)
ومن نعمة الله على المسلمين أن كتابهم محفوظ، وأن سنة نبيهم نقدها صيارفة الشريعة، وخبراء النقول نقدا ميز الصحيح والضعيف، والمقطوع به والمظنون، ومنهجهم العلمى فى هذا المجال يستحق الاحترام كله.. وعندما تتضح هذه الأصول من كتاب الله وسنة رسوله تتطاير المحدثات الذميمة من تلقاء نفسها وينكشف زيفها ويسقط التعلق بها (فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال) إن القرآن الكريم عاب على الأمم الضالة أنها تختلق من عندها أمورا ثم تقدسها زاعمة أنها من عند الله وهذا لا يليق: (إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى) من أجل ذلك كان أول ما يصنع المجددون أن يرفضوا كل البدع التى استحدثتها الجماهير وعكفت عليها، وأن يقصروا نشاطهم على نشر الحق وحده وإماتة ما عداه. 2- أخذ الدين كله دون تفريط فى نص من نصوصه أو قاعدة من قواعده، فإن العدوان على الدين بالانتقاص من معالمه كالعدوان على الدين بالافتراء والتزيد كلاهما بعد عن الحق، وضلال عن الغاية. ليس فى المصحف سورة تؤثر وأخرى تهدر، أو آية نرضى حكمها وأخرى نسخطه، إن الوحى كله نظام إلهى متكامل، يتسم بالقداسة والعصمة فى جملته وتفصيله فلا مكان لاطراح جانب منه، واصطحاب جانب آخر للاهتداء على درب الحياة، والتغلب على وعورة الطريق. عندما يركب الطبيب دواء من عدة عناصر بمقادير معينة، فإن هذا الدواء يمسى عديم الجدوى إذا ذهبت منه بعض العناصر أو اضطربت فيه نسب المقادير، والآلة التى تتكون من مجموعة قطع ! ما دولابها ويتعطل إنتاجها عندما تضيع أجزاء منها، ولا يغنى وجود الباقى وإن كان مهما وعظيم القيمة. ص _111(1/102)
نعم يمكن لأى كيان أن يبقى وأن يؤدى ثماره مع نقصان أطراف منه أو أجزاء كمالية.. ونحن نعرف أن فى الدين فرائض ونوافل وأركانا وهيئات.. وأساس الوجود الصحيح لأى شىء أن يكون سوئ الجوهر والمظهر، بعيدا عن العاهات والآفات، فإذا تطرق العيب عن سهو أو عجز كان ميسور التلافى، أما التواطؤ على قبول النقص وإشاعته فهو ذريعة إلى إهمال الأصل نفسه والإتيان على قواعده. ومع فلك فإن النقص المحظور الذى نلحظه هو فى الحقائق الرئيسية، أما الهفوات العابرة والقصور السطحى فمجال العفو (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما) والأمم عندما يلتاث ضميرها ويجمح هواها قد تهجر بعض أوامر الله وتقع فى محارمه سفاهة وتعمدا، وهذا بلا ريب طريق الكفر. حكى الله ذلك عن بنى إسرائيل ناعيا عليهم تلك التفرقة التى تجعلهم ينفذون جزءا من ميثاق الله ويهملون جزءا آخر: (وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ثم أقررتم وأنتم تشهدون * ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب). والواقع آن الفضيلة لا تتجزأ، فالصدق يكون فى جميع الأمور ومع جميع الناص، وكذلك العدالة والأمانة. ولا يعد امرؤ ما فاضلا إذا كان أمينا فى بعض الأحوال، وخائنا فى البعض الآخر.. وكذلك لا يعد مؤمنا إذا قبل بعض الفروض، وجحد بعضها الأخر أو قرر إعمال جانب من الدين وإهمال الجانب الآخر.!! إن فلك فى منزلة الكفر بالدين كله. ص _112(1/103)
وقد بلى المسلمون بعد انهيار شخصيتهم الاجتماعية والسياسية فى القرن الماضى بأناس يختلونهم عن تعاليم دينهم بحذر ودهاء. فتراهم يتظاهرون باحترام النبوة. ولا بأس أن يصفوا الإسلام بأنه دين الفطرة والتقدم!! حتى إذا ووجهوا بأحكامه فى الحلال والحرام، ومطالبه فى الصلاة والصيام انكمشوا وتقهقروا. إنهم يأخذون من الدين ما يحبون ويدعون مالا يعجبهم، وهواهم الخفى مع مبادئ أخرى مستوردة من الشرق والغرب هى التى يعجبون بها ويوفون لها ويقبلون من الإسلام ما يوافقها وينبذون ما يناقضها!! وإلى هذا الأسلوب فى هدم الإسلام، وإلى فلك الفريق من الهدامين أشار شيخ الإسلام الأسبق محمد الخضر حسين رحمه الله وأحسن جزاءه حين قال: " ترى أحدهم يؤذى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأشد مما يؤذيه عدوه الكاشح ، ويضع على هذا الإيذاء نقابا يخفيه كتسميته بالنبى ومجاراته المؤمنين فى الصلاة والسلام عليه، ولا يتباطأ قلم الكاتب من هؤلاء أن يصف الدين بالسماحة والحكمة!!. إلى أن يحدث عن شىء من أصوله أو أحكامه المفصلة فتراه ساعتئذ ينكرها متغافلا عن أنها من الدين، أو متأولا لنصوص لا تقبل التأويل ! وأصحاب هذه الطريقة يعدون الذين يحاربون الإسلام جهرة من البله لا يعرفون كيف يهدمون " ! ومعتنقو المذاهب الأجنبية يريدون أن يفرضوا أهواءهم على الإسلام، وأن يوجهوا تعاليمه وفق هذه المذاهب مع بتر ما يزيد عليها من نصوص أو تجاهل وجوده. واجتهادهم فى المواءمة بين الإسلام والصالح العام كما يتخيلونه يغاير الاجتهاد المشروع الذى عرفه أئمة الإسلام فى عصوره الطويلة.. ص _113(1/104)
وفى ذلك يقول الأستاذ الكبير محمد حسين : " الاجتهاد الصحيح لا يضع أمام عينيه رأيا أو نظاما ثم يلوى رقاب النصوص الإسلامية حتى يسوقها إليه، ولكنه يستوحى النصوص الإسلامية حكمها فى هذه الآراء والنظم ". فأحدهما كما ترى يسيطر على النصوص بينما يخضع الثانى للنصوص. أحدهما يبرر بالنصوص الإسلامية عوج الحياة. والآخر يقوم بنصوص الشريعة عوج الحياة. أحدهما يوجه اهتماما خاصا إلى بعض النصوص، ويهمل بعضها الآخر أو يغص منه ويجعله فى مرتبة غير أساسية. والآخر يؤمن بالكتاب كله فيسوى بين النصوص فى الأهمية. أحدهما يحكم آراء دخيلة فى الدين فيفسره فى ضوء ما يذهب إليه مفكرو الغرب وفلاسفته. والآخر يحكم الدين فى كل فلسفة دخيلة أو مذهب طارئ فيقبل ما يسيغه، ويرفض مالا يرضاه. أحدهما قد يضيف إلى الدين ما ليس منه، وقد يخرج منه بعض أجزائه بتحليل بعض الحرام وتحريم بعض الحلال. والثانى يعرف أن الدين قد كمل وتم منذ نزل قول الله تبارك وتعالى:- (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) والواقع أن استخدام نصوص الشريعة الإسلامية فى تبرير أنماط الغرب الفكرية والاجتماعية هو شر من تقليد هذه الأنماط تقليدا أعمى. لأن الناس يمكن أن يعيشوا على أمل التخلص من الدخيل إذا قامت فيهم حركة أصيلة للأحياء. ص _114(1/105)
أما فى الحالة الأولى- وهى حالة اندماج وتفاعل- فإن إدراك الحدود بين الأصيل والدخيل تدق وتخفى حتى لتكاد تستحيل، لأن الناتج من التفاعل سيكون شيئا جديدا معقد التركيب، تختلف خصائصه وصفاته عن كل من العنصرين المكونين له، ولأن الناس يدركون فى حالة التقليد أن الذى يفعلونه شىء آخر غير الإسلام. أما فى الحالة الأولى فسوف يرسخ فى أذهانهم أن ذلك هو التفسير الحق للإسلام الذى يلائم ظروف الزمان، وسوف يرفضون كل محاولة لردهم إلى الحق لأنهم يتوهمون أنها دعوة رجعية جامدة " .ا هـ. وخير ما نتمسك به لإحباط تلك الدسائس الثقافية توكيد الحقيقة التى شرحناها آنفا.. إن الإسلام كل لا يتجزأ، ونسيج عريض من التعاليم المتشابكة لا يمكن قصه ولا تمزيقه، وأن الأخذ بهذه التعاليم كلها فى العقائد والعبادات والأخلاق والمعاملات لب الإيمان وشرط بقائه، وأنه لا يؤذن لأحد أبدا باعتناق ما يهوى واجتناب ما يكره.. وثم وحدة أخرى تساير وحدة النصوص، ونعنى بها وحدة الروح السارى والقسمات المميزة للصورة كلها.. فإن إنجلترا لا تعتبر قد اعتنقت الإسلام مثلا لو أنها أدخلت فى قانونها شريعة قطع يد السارق. إن الإسلام روح وجسد، إيمان ونظام، عقيدة باطنة تشبه الوقود الذى يحرك الآلات، ثم مجموعة الوصايا والأوامر والنواهى والحدود والشعائر التى تسير الحياة إلى وجهة معينة ووفق أسلوب خاص. هذا الكيان كله هو الإسلام، فاستعارة أجزاء منه، لا تجعل المستعير مسلما، والأمة الداخلة فيه يجب أن تستبطن الروح الدافع، وأن تستعان بعد فى كل ما حفل به هذا الإسلام من شرائع وشعائر.. تصطبغ بصبغته وتستظل برايته وتحتكم إلى شرعته، وتربط كرامتها المادية والمعنوية بمدى الوفاء له والدفاع عنه. وهذا المسلك لا يحتمل بداهة تجزئة الوحى، وإحياء بعضه بالعمل، وإماتة بعضه بالإغضاء أو الجحود. ص _115(1/106)
3- اصطفاء الدعاة: ويتطلب تجديد الإسلام نظرة أخرى إلى الرجال الذين يحملون علومه، وينصرون فى الحياة مبادئه، فإن الطريقة التى يتكونون بها، والمستويات التى لا يجوزون حدها تظلم الإسلام وتقف بنجاحه عند آفاق دانية.. إن الله اختار المبلغين عنه من أكرم البشر عرقا والفهم فكرا، وأزكاهم معدنا، وأرحبهم طاقة، واستنبتهم فى بيئات تحفهم بالإكبار وترمقهم بالتجلة. وربما عادتهم هذه البيئات بعد أن يبلغوا رسالات ربهم، وكرهت أشد الكره ما يجيئون به من وحى، بيد أن أشد خصومهم لددا لا يستطيع أن يجرح أشخاصهم، ولا أن يغمز أخلاقهم، ولا أن يلمح فى سيرتهم الماضية أو الحاضرة ما يخزيهم به.. ولقد كان أبو سفيان حامل راية الحرب ضد محمد زمانا طويلا، فلما علم أنه تزوج ابنته بعد إسلامها وممات رجلها لم يشعر قط بأثارة من غضاضة، بل أحس أنها صارت إلى الرجل الذى يشرفها كنفه وتشرفه هو مصاهرته وقال: هو الفحل لا يقدع أنفه.. وصدور الدعوة الدينية عن رجال تلك مكانتهم الشخصية وضع للأمور فى مواضعها، فإن العظائم كفؤها العظماء. وتعريف الناس بالله وسياستهم بهداه، وفك آصارهم النفسية والاجتماعية بشرعه، فلك كله ينتقى له السادة من البشر، السادة بمواهبهم وكفايتهم لا بالزعم والدعوى.. ولذلك قال ابن مسعود: لا يزال الناس بخير ما أخذوا العلم من أكابرهم فإذا أخذوه عن أصاغرهم وشرارهم هلكوا. والأكابر ليسوا أصحاب الجثث الضخمة، ولا الأسنان المتأخرة، ولا الثروات العريضة ولا الوظائف المهيبة وقد يكونون أمراء أو لا يكونون، وقد يكونون أغنياء أو لا يكونون.. فتلك أعراض لا تمس قيمهم الخاصة ولا تؤثر فيها علوا أو هبوطا.. ص _116(1/107)
ومن سلامة الأوضاع الاجتماعية فى الأمة أن يكون قادتها أولى العلم فيها على اختلاف تخصصهم وخبراتهم، فإن فلك يجعل الجماهير لهم تبعا.. يروى عن عمر بن الخطاب قوله: علمت متى يهلك الناس؟ إذا جاء الفقه من قبل الصغير استعصى عليه الكبير!! وإذا جاء الفقه من قبل الكبير تابعه الصغير فاهتديا.. والحق أنه مما يزرى بالإسلام أن يكون حملة المصحف فيه طوائف مغموصة الشأن. وقد جهد الاستعمار- بعد استمكانه من الأقطار الإسلامية- أن يهون من قيمة العلم الدينى والأوعية الحاملة له، وأن يجعل الصدارة لألوان أخرى من المعرفة وصنوف أخرى من الناس، تاركا الكلام فى الإسلام والاشتغال بتوجيهاته لأقوام فى مؤخرة الحياة تقاتلهم على ضروراتها ويقاتلونها على طلب البقاء... وحسب. ويستحيل أن يصلح الإسلام أو تستقيم أموره أو يصح عرضه أو يعم نفعه إلا إذا عاد التاريخ سيرته الأولى، وأصبح رجاله مصنوعين من المعادن التى صنع منها أسلافهم الأوائل نفاسة ومجادة، وتبوءوا فى مجتمعاتهم- بمحض كفاءتهم- أماكن التوجيه والقيادة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الناس معادن، خيارهم فى الجاهلية، خيارهم فى الإسلام إذا فقهوا " . وقال: "ستأتى على الناس سنوات خداعات يصدق فيها الكاذب ويكذب الصادق ويؤتمن فيها الخائن ويخون الأمين وينطق فيها الرويبضة.. قيل وما الرويبضة؟ قال: الرجل التافه يتكلم فى أمر العامة ". واستطاعة التافهين أن يوجهوا الجماهير مصيبة. وأشد منها وأفدح أن ينحصر التوجيه الدينى- بفعل الاستعمار- فى طوائف لا مكان لها فى الحياة ولا فى الأنفس، إذا قالت لم يسمع منها، ولم يلتفت إليها. أو يكفى أن يستمع إليها العوام التائهون، وأن يستفتوهم فى شئون تكون أو لا تكون؟! أما القضايا الكبرى للحياة فإن زمامها بأيد أخرى وأفكار أخرى. ص _117(1/108)
هناك فرق بين ذينك العنوانين رجال الإسلام، وعلماء الإسلام!! فرجال الإسلام كل عامل فى حقل من حقوله، كل قائم على ثغر من ثغره، كل مشتغل القلب واللب بخدمته ونصرته فى أى ميدان وقفه القدر فيه، وهيأته مواهبه له . وبديهى أن يكون لدى هؤلاء نصاب من المعرفة الدينية يكفيهم فى مرضاة الله واتقاء محارمه ولا يعنيهم أن يتزيدوا من فنون الثقافات الدينية الكثيرة، فذاك شأن له مجاله ورجله. أما علماء الإسلام فقوم متخصصون فى العلوم الدينية ووسائل غرسها فى المجتمعات، مستبحرون فى أصولها وأدلتها وطرق الدفاع عنها. والحاجة إلى فلك التخصص العلمى لا تنقطع فى عصر من العصور. لأن هؤلاء هم الذين يتوفرون على تنشئة الأجيال الجديدة، ويوصلون هدايات الله إلى كل ناحية تحتاج إليها. هم الذين يصنعون النفوس، ويرسمون الأهداف، ويقومون مقام الأنبياء فى التزكية والتقويم، وبيان الحلال والحرام، ويتعهدون سير القافلة حتى تبقى أواصرها بالسماء متينة فيذكرونها إذا نسيت ويقوونها إذا وهنت.. ومن هؤلاء العلماء من يعدو مرتبة التعليم النظرى إلى مرتبة الكفاح السياسى والقيادة الاجتماعية، فيصير من رجالات الإسلام الكبار. والواقع أن الأعلام من أئمة الفقه الدينى لم يبلغوا مكانتهم المرموقة بالدراسات النظرية المجردة- على جلالة ما أدوا فيها- وإنما بلغوا هذه المكانة بصدق إخلاصهم فى خدمة الإسلام عن طريق الإصلاح العام، والنصح للأمة، وإرشاد حكامها وإلزامهم حدود الله ما وسعهم الجهد. ولم يكن أحد هؤلاء يرى نفسه بتة دون أمراء المؤمنين أو أمراء الأجناد فضلا عن رجال السياسة من الوزراء وإضرابهم!! ولم تكن الأمة ترى فيهم ما يحطهم عن هذه المكانة بل قد تراهم أرفع قدرا وأجمل عقبى!! أعجبنى فى وصف جمال الدين الأفغانى قول الأستاذ ضياء الدين الريس: " كان متأثرا بالإمام الغزالى، يعد نفسه أحد تلاميذه فى نزعته الصوفية العلمية. ص _118(1/109)
وكانت قوته تصدر عن إيمانه بنفسه وثقته بمبادئه، واعتداده بشخصه إلى حد أنه يرى نفسه كفاء للشاه ناصر الدين، أو السلطان عبد الحميد حينما يحدثهما بل يرى نفسه أكبر منهما..!! أيده فى هذا كله جنان جرىء وفهم عميق للثقافة الإسلامية ويقين ثابت فى مستقبل الإسلام ". ولماذا يكون جمال الدين أقل من الشاه أو السلطان؟! بل لماذا لا يكون أرجح كفة منهما فى موازين الحقائق النفسية والكفايات الذاتية؟ إن هذا أو ذاك جاءته قيادة المسلمين إرثا قى مجتمع تفاوتت فيه الفرص وسادته فوضى التقديم والتأخير!! ولو كانت حظوظ المسلمين من الرقى الاجتماعى أرفع وأشرف لكان جمال الدين حاكما يعان، بدل أن يكون مصلحا يطارد. وعالما يقتدى به، بدل أن يكون امرءا يرده هذا ويصده ذاك.. على أن أعداء الإسلام ما زالوا يعكرون المنابع التى يسيل منها تيار التدين حتى أصبحت قراءة المصحف حرفة متسولين ووظيفة متآكلين. ثم مضوا فى كيدهم حتى جعلوا الطبقات العليا والمتوسطة تأنف من إلحاق أولادها بالتعليم الدينى- إلا من عصم الله- لأن خريجيه حرمت عليهم المناصب الكبرى بل حرمت عليهم الرواتب الكافلة للكرامة الصائنة للوجوه. وغرض الاستعمار من فلك إلحاق الهوان بالدين نفسه، لأنه سيذل بذلة أهله وكتابة الصغار عليهم. قال سفيان الثورى: كان العلم فى العرب، فى سادات الناس. وإذا خرج منهم وصار إلى السفلة تغير الدين. ص _119(1/110)
وقد كان يتغير وجهه إذا رأى النبط يكتبون العلم.. وقال مكحول: تفقه الرعاع والسفلة فساد الدين.. وهذه الكلمات تحتاج إلى بيان، فإن الإسلام لا يقر بين الناس نظام الطبقات. ويرفض رفضا حاسما أن يوصف البعض بأنهم سوقة، والبعض الآخر بأنهم سادة. وإذا كانت هناك دركات للضعة ودرجات للرفعة فهى فى الإقبال على هذا القرآن أو الصدود عنه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله تعالى يرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع به آخرين ". والآثار السابقة تستنكر وضعا لا يزال سائدا إلى اليوم. فإن توجيه الذكاء والقدرة والوسامة والتفوق إلى خدمة الفنون المدنية وتوجيه من عداهم إلى خدمة الدين، وعرض الدعوة الإسلامية شىء لا يليق. وجامعة الأزهر تأخذ الناجحين الأوائل لكلية المعاملات والإدارة وترمى بالمتأخرين إلى الشريعة والدعوة. بل إن جامعة الأزهر كلها لا يتوجه إليها إلا من يئس من الالتحاق بإحدى الجامعات الأخرى... والمجتمع الإسلامى لا ينشئ قادته فى الفقه والخلق والدعوة والتربية بهذا الأسلوب. ويوم يخص التعليم المدنى بالكفايات، ويرمى التعليم الدينى بالنفايات، فالويل للدين ومستقبله.. إن تعليم الدين يحتاج إلى عقل فيلسوف، وعاطفة أديب، ودقة مشرع، وشجاعة فارس، وبر والد، وإيناس صديق.. ومن ذا الذى يصلح للخلافة عن المرسلين فى أداء وظائفهم وتمهيد طرقهم وإيضاح غاياتهم إن لم تكن النخب المختارة، والخلاصات الممتازة؟! وأيا ما كان الأمر فإن القران- وهو كتاب العربية الأوحد ونسق بلاغتها الأسمى- لا يمكن أن يتجاوب مع معانيه وأهدافه إلا رجل أديب، شاعر الفؤاد، وإن لم يقل الشعر، طلى العبارة، وإن لم يزور القول، يتذوق الجمال الأدبى، ويقول مثل ما قال صاحب الرسالة: "إن من البيان لسحرا " . ص _120(1/111)
أما البكم الذين يظلم القرطاس بكلماتهم ويغيض الرونق من عباراتهم فما لهم وللكلام فى الإسلام؟! والقرآن وحى يفطم الأنفس عن الهوى، ويسوق الأمم إلى الحق، ويسرد قصص الأولين، ويصف مشاهد الجزاء الأخروى كى يخلق إنسانا على حظوظ وفيرة من التربية والسمو. فليس يصلح لخدمته عبيد الشهوات من أصحاب العزم الفاتر، والاشتهاء الفائر. وإنما يصطفى له أولو الشرف فى سيرتهم ومعاملاتهم. والقرآن كتاب تشريع يحارب الجريمة فى المجتمع، ويرسل الأحكام صارمة لاجتثاث جذورها، وإشاعة الرهبة فى أفئدة الميالين إليها. وهو يضبط العقود بين شتى الأطراف حتى لا يضيع حق، ولا تفلت مصلحة. ثم يمزج بين هذه التوجيهات القانونية وبين ما ينشده لبنى آدم من عودة إلى الله وتوبة نصوح إذا خطأوا. ومن ثم لا يصلح لدراسة أحكامه وتطبيقها، إلا عارفون بأسرار التشريع، واقفون على طباخ الخلق وعلل الجماعات.. أما الأجلاف السطحيون فهيهات أن يقيموا أحكام السماء أو يصلحوا بها عوج الخلائق. والقرآن دعوة عامة تجابه دعوات مضادة، وتلقى خصوما للحقيقة ما يخلو منهم جيل، وتلقى كذلك أقواما استكانوا إلى ما ورثوا من عقائد ومذاهب، ما تكشف لهم عوارها، ولا بان لهم بطلانها. والدعاة إلى الله إذا لم يجمعوا بين عمق العلم ولباقة التصرفف فهم فاشلون يقينا. إن أنصبتهم من العلم بالدين والدنيا يجب أن تكون ضخمة. ثم ليس كل إنسان يصلح بخلقه وسمته للسفارة عند الآخرين، ولا لاستلانة المعاندين. لابد من استعداد شخصى، يجعل صاحبه شجاعا فى مواطن الجراءة، رقيقا فى مواطن التلطف.. والغريب أن أقسام الدعوة فى الجامع الأزهر الشريف، ثم فى جامعة الأزهر لم تكن تضم إلا من زهد فيهم الأزهر نفسه.. ص _121(1/112)
لكى يتجدد الإسلام، وتشرق من جديد شمسه، ينبغى أن تصطفى له كفايات فارعة، تصلح لإبلاع رسالته، وخدمة عقيدته وشريعته. لقد كان تعلم الإسلام، والبروز فيه شرفا للخاصة، وتاجا أسنى من تيجان الملوك، فكيف يتحول العلم الدينى إلى حرفة فقراء؟! وكيف يزدرى النابغون فيه، وتؤخر مكانتهم مهما استحقوا من إعظام؟! إن الاستعمار كما أشرنا هو الذى صنع بالأزهر- القديم- ما صنع. لنقرأ العبارة الآتية من تقرير اللورد " لويد "- المندوب السامى البريطانى السابق فى مصر- فى كتابه " مصر الحديثة ": " إن أهمية الأزهر- بوصفه مركزا من مراكز الدعاية المعادية لبريطانيا-كبيرة متعددة الإمكانيات. وقد أدرك الوطنيون ذلك فحاولوا استغلاله لتأييد مآربهم، وترتب على ذلك نمو روح المعارضة الشديدة لسيطرة الإنجليز على التعليم ". هذا ما يصف به الأزهر أحد دعاة الاستعمار. فكان لابد للاستعمار أن ينال منه وكان لابد أن يعوقه عن تأدية رسالته ولابد أن يحاول هدمه، ولكن فى أية صورة؟ لندع اللورد " لويد " نفسه يقص علينا الأسلوب الذى يجب أن يتخذ لتعويق الأزهر أو لهدمه. يقول (فى المصدر السابق): " إن التعليم الوطنى- عندما قدم الإنجليز إلى مصر- كان فى قبضة الجامعة الأزهرية الشديدة التمسك بالدين، والتى كانت أساليبها الجافة القديمة تقف حاجزا فى طريق أى إصلاح تعليمى. وكان للطلبة الذين يتخرجون فى هذه الجامعة يحملون معهم قدرا عظيما من غرور التعصب الدينى، ولا يصيبون إلا قدرا ضئيلا جدا من مرونة التفكير والتقدير. ص _122(1/113)
فلو أمكن تطوير الأزهر عن طريق حركة تنبعث من داخله هو لكانت هذه خطوة جليلة الخطر، فليس من اليسير أن نتصور أى تقدم طالما ظل الأزهر متمسكا بأساليبه الجامدة. دولكن إذا بدا مثل هذا الأمل غير متيسر تحقيقه، فحينئذ يصبح الأمل محصورا فى إصلاح التعليم المدنى الذى ينافس الأزهر، حتى يتاح له الانتشار والنجاح. وعند ذلك سوف يجد الأزهر نفسه أمام أحد أمرين: فإما أن يتطور، وإما أن يموت ويختفى. على أن الخطة الأولى- التى تقوم على إصلاح الأزهر من داخله- لها نتيجة عظيمة الأهمية والفائدة، وان لم تكن نتيجة مباشرة (فى اللقاء مع المستعمر الغرلى). وهى أنها تؤدى بالتدريج إلى اختفاء التعصب الدينى الذى أخر تقدم مصر زمنا طويلا!! أما الخطة الثانية- وهى إصلاح التعليم المدنى- فإن تأثيرها المباشر (فى اللقاء مع الاستعمار) أقوى فى إيجاد ما نحن فى أشد الحاجة إليه من إقامة العلائق الإنجليزية المصرية على أساس من التفاهم والتعاطف المتبادل ". أ. هـ هكذا رسم الإنجليز خطتهم أيام الاحتلال السافر والمقنع ، وصابروا الزمن لتنفيذها فى أناة ودهاء.. وقد رموا الأزهر بداءين كلاهما أسوأ من الآخر. أولهما: منع مصلحيه من النهوض به، ورفع مستوى التثقيف الدينى فيه، ومناصرة الشيوخ الجامدين فى كل عراك لهم مع الطلائع النيرة التى تريد مواجهة العصر بما يستحقه من عمق فى المعرفة، وتجديد فى الأساليب. والآخر: بخس العلماء المتخرجين من الأزهر كل حق ومنحهم رواتب تدفع إلى التسول والهون! فقد منح المتخصصون الذين قضوا خمسة عشر عاما فى الدراسة الدينية راتبا قدره ثلاثة جنيهات لا غير.. ص _123(1/114)
ثم حظر على هؤلاء أن يعملوا إلا فى وظائف معينة، هى الوظائف الدينية طبعا!! وأعقب هذه الخطة الاستعمارية الماكرة أن انقسم التعليم إلى دينى ومدنى، وأن نال المدنى الغنم كله، ووقعت المغارم المادية والأدبية على التعليم الإسلامى فى مراحله الطويلة المعقدة، ونشأت التقليد التى وصفناها آنفا.. ونحن نكره انقسام التعليم العام إلى دينى ومدنى، ونرى للخروج من المأزق الذى خلقه الاستعمار أن يوحد التعليم كله على أساس أن تكون لديه برامج دقيقة شاملة تنتظم أدواره كلها من المراحل الأولى إلى صفوف الجامعات العليا. وأن تبقى كليات خاصة بالدراسات العربية والتشريعية والتربية الدينية تكون مهمتها تخريم علماء الدين إلى جانب الكليات التى تعنى بألوان الثقافة الأخرى وتخرج الأطباء والمهندسين. والعناية بتقديم أقساط كافية من الدراسات الدينية لجميع المتعلمين على سواء يضمن تكوين رجال للإسلام يعملون له فى كل ميدان وتصطبغ ضمائرهم وشمائلهم بصبغة الأمانة والإخلاص. كما أن تخصيص كليات للدراسات الدينية تستمد أبناءها من التعليم العام يعين على تكوين علماء للدين لا يشينهم قصور نفسى ولا فكرى ولا يشعرون ببخس أو تنقص. ليس فى الإسلام رجال دين بالمعنى المعروف فى النصرانية فكل مسلم كادح فى الحياة يعمل لنفسه يصونها، ولربه يرضيه، فهو رجل لدينه. ونحن نحب تنشئة البنين والبنات على هذا المعنى النبيل، تنشئة الجميع دون استثناء.. أما التخصص فى التشريع، والدعوة، واللغة العربية، وغير فلك من ضروب المهارة العلمية والخبرة الدراسية الفائقة، فهذا شأن آخر. ولا يمكن أبدا التفريط فى معاهده، ولا التساهل فى انتخاب أهله من أرقى الطوائف وأجدرها بالاحترام.. ووظيفة هؤلاء تعهد الجانب النفسى، ورعاية الأحوال والأهداف الاجتماعية للأمة. وهى وظيفة قيادية يرشح لها أبدا أولوا النباهة والذكاء، وذوو المعادن الفكرية والخلقية الصافية. ص _124(1/115)
كلما رجعت البصر إلى سير الفقهاء والدعاة الأوائل امتلأ قلبى خشوعا وإجلالا لأولئك العلماء الذين كان الملوك يلتمسون رضاهم ويرون فيه تمكينا لدولتهم وتوطيدا لهيبتهم.. فى الوقت الذى كان هؤلاء العلماء يرون الله الغاية من علمهم، ويرون هداية عباده ونشدان الأصلح لهم، العمل الأول والأخير لأمثالهم. كانت الشعوب تأوى إليهم وهى آمنة على دنياها ودينها فى كنفهم. ثم تبدلت الأرض غير الأرض فأضحى المصحف الشريف والمتصلون به شيئا على هامش الحياة، أضحى حفظه مهنة لذوى العاهات يتآكلون بها، والفقه فى علومه حرفة الطوائف الثانوية فى المجتمع.. !! ودين يأخذ هذه الطريق فى الحياة العامة لا تعلى شارته، ولا تنجح رسالته.. إن إنزال الكبار والصغار على أحكام الدين، وإلزامهم حدوده لا يتم إلا إذا كانت لعلماء الدين ورجال الدعوة مكانة اجتماعية موطدة. لا مكانة الصفوف الأولى فى مواكب الجنائز!! ولكن مكانة الصفوف الأولى فى إنشاء الحياة، وتوجيه الأحياء. 4- وتجديد الإسلام، وتيسير نفع العالمين به، يقتضى النظر الصائب المرن فى اختيار الوسائل العادية التى تحقق أغراضه وتثبت مبادئه.. وأغلب هذه الوسائل من شئون الدنيا التى وكلها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى علمنا، وترك لنا حرية التصرف فيها. وهذه الشئون تحتاج إلى ذكاء نافذ، وخبرة واسعة.. ثم إن العلم بها ليس وقفا على الأمة الإسلامية وحدها، فإن قارات الأرض مشحونة بأجناس الخلق وهم يحيون فوقها كما نحيا. وقد يتساوون معنا أو يتخلفون فى الإحاطة بهذه الشئون الدنيوية. وقد يسبقون دون عائق! فما دام العلم بشئون الدنيا مقترنا بحرية العقل وقدرته على التصرف والابتكار، فلن يتوقف الناس عن الإجادة فى هذا المضمار! وما الذى يمنعهم؟ ص _125(1/116)
وقد يبد و الأمر تافها أو غير مثير لقلق!! غير أننا إذا علمنا مدى توثق الروابط بين التفوق المدنى وغلب المبادئ لمسنا مكمن الخطر.. فالأمة التى تعيش فى دنيا من بقايا العصر الحجرى لن تغنى عنها أرفع المثل ولا أشرف المبادئ إذا دخلت فى صراع مع أمة أجادت فنون السلام والحرب! والعجزة فى فهم الحياة من المسلمين عبء على دينهم فى الحقيقة. وربما كانوا مصدر شر عليه. وإدمانهم للصلاة والصيام لا يغنى عنهم فتيلا أمام الله يوم الحساب. ولا ينقذهم فى الدنيا من هزائم تسحق إيمانهم على ظهر الأرض، وترغمه على التوارى أو التلاشى عاجلا أو آجلا..!! فإن سن الله فى كونه لا تحابى جاهلا بها، ولا مقصرا عنها!! وينبغى أن يعرف المسلمون معرفة اليقين أن التفريط فى شئون الدنيا، والقصور فى خبرات الحياة، إزراء بالدين بل إزهاق لروحه. فضلا عن السقوط الأدبى الذى يلحق هؤلاء المفرطين القاصرين بتقلبهم فى مستوى من العيش موسوم بالتأخر والعناء. إن الجهاد لإبقاء الحق مرفوع الراية جزء من عمل الأمة الإسلامية، وركن من رسالتها والدين قد يتدخل بوضوح لتصحيح النية المصاحبة، وغسل القلوب من الأثرة والشره والبغى والاستعلاء.. أما وسائل القتال، وأسلحة النضال، فهذه ليست له فيها تعاليم. لأنها من شئون الدنيا التى يتنافس أهل الأرض على اختلاف مذاهبهم فى تجويدها وتطويرها، ولا يتدخل دين ما فى عدها وإحصائها. الدين قد يأمر بالتداوى من العلل الوافدة.. ولكنه لا يتدخل فى صناعة الأدوية، ولا فى تركيب عناصرها، وتحديد مقاديرها. لأن هذه من شئون الدنيا التى يدعها للفكر والتجربة، والاختبار والاختيار.. إن الميدان مفتوح أمام النشاط الإنسانى الحر يخطئ ويصيب، ويتقدم ويتأخر فى هذه الأعمال المدنية العادية. ص _126(1/117)
وإقحام الدين فى هذه المجالات بالحظر والإباحة ضرب من الجنون. وغاية ما ترجوه الإنسانية المهذبة من هذا النشاط الطبيعى أن يسخر حصاده الأخير فى الخير لا فى الشر. وقد كان المسلمون الأوائل على بصيرة من هذا الأمر فتركوا لطبائعهم- أو طباخ الحياة فيهم وفى غيرهم- أن تبتكر وتجيد. وتوسلوا بما أفادوا فى خدمة دينهم دون تكلف.. وأفتى العلماء باتفاق أن إقامة الحرف والصناعات فريضة على المجتمع كله يأثم بتركها، وعلى الأفراد الصالحين لهذه الفنون بمواهبهم ورغائبهم، أن يجودوا فيها، ويخدموا أمتهم ورسالتهم بها.. وصحيح أن لعرب طلعوا على العلم بالإسلام، وكان الناس فقراء إلى العلم به والدخول فيه، لكن العرب ما كان عليهم من حرج أن يتعلموا من الناس أنواع الخبرة التى لم تهدهم إليها مصالح الصحراء، ومجامع البادية. وقد مهروا فيما وقفوا عليه، واستغلوه فى نشر الإسلام وحرب أعدائه. من أين لأبناء الرمال صناعة السفن وقيادة الأساطيل وحرب البحار؟ " إن العرب بالفطرة الصافية، والانبعاث العادى لخدمة الإسلام، أتقنوا هذا كله ورأوا- دون انتظار نص موجه- أن كتابهم لا يعلو فى علم يجهلون شئونه البحرية فعبدوا الله بالسيطرة على الأمواج. يقول ابن خلدون: " كان الروم مهرة فى ركوب البحر، والحرب فى أساطيله. ولم يكن العرب أول الأمر مهرة فى ركوبه، فلما استقر الملك لهم، وشمخ سلطانهم، صارت أم العجم تحت أيديهم، وتقرب كل ذى صنعة إليهم بمبلغ صناعته. فاستخدموا فى حاجتهم البحرية كثيرا من هؤلاء، وأنشأوا السفن وشحنوا الأساطيل بالرجال والسلاح، وأسسوا دارا لصناعة الآلات البحرية بتونس.. ومنها كان فتح صقلية أيام زيادة الله بن الأغلب على يد أسد بن الفرات شيخ الفتيا ". ثم يقول ابن خلدون: " إن المسلمين تغلبوا على لجة بحر الروم- يعنى البحر الأبيض المتوسط - وإن أساطيلهم سارت فيه جائية وذاهبة من صقلية إلى تونس. ص _127(1/118)
والرومان والصقالبة والفرنجة جميعا تهرب أساطيلهم- أمام البحرية العربية- ولا تحاول الدنو من أساطيل المسلمين التى ضريت عليهم كضراء الأسد على فريسته ". * * * ويقول ابن هانىء الأندلسى يصف أسطول العرب فى البحر الأبيض: أما والجوارى المنشآت التى سرت لقد ظاهرتها عُدة وعديد قباب كما تُزْجى القباب على المها ولكن من ضمت عليه أسود عليها غمام مكفهر صبيره له بارقاتٌ جمة ورعود أنافت بها أعلامها، وسمالها بناءعلى غير العراء مشيد من الراسيات الشم لولا انتقالها فمنها قنان شمخ وريود من الطير إلا أنهن جوارح فليس لها إلا النفوس مصيد من القادحات النار تضرم للصلى فليس لها يوم اللقاء خمود إذا زفرت غيظا ترامت بمارج كما شب من نار الجحيم وقود فأفواههن الحاميات صواعق وأنفاسهن الزافرات حديد لها شعل فوق الغمار كأنها دماء تلقتها ملاحف سود تعانق موج البحر حتى كأنه سليط له فيه الذبال عتيد فليس لها إلا الرياح أعنة وليس لها إلا الحبال كديد ص _128(1/119)
ولو أن عقلية المسلمين فى القارات الثلاث بقيت على تقها القديم، لضمت إلى سبقها فى البر والبحر سبقا آخر فى أجواز الفضاء ورحلات الكواكب. ولو أن قومى أنطقتنى رماحهم نطقت ولكن الرماح أجرت والأمر الذى نريد فتح الأبصار والبصائر عليه مثنى وثلاث ورباع أن العناية بهذه الوسائل العادية والشئون الدنيوية علما وتطبيقا عبادة لله، وحياطة للدين. وأن من الخيانة للثقافة الإسلامية إهمال هذه الآفاق الخطيرة.. لقد وقر فى أذهان العامة أن استدبار الحياة، دلالة إقبال على الآخرة. وأن الجهل بها ضرب من الزهد، وتخفف من الأثقال، وبعد عن اللغو. وهذا تفكير ساقط، وجهالة مبينة، وطعنة نافذة إلى صميم الإسلام، وغيم كثيف ينتشر فى مستقبله ويهدد بقاءه.. إن الإسلام لا يستعيد أمجاده الأولى إلا إذا استعادت أمته فقهها فى علوم الأرض كما تستعيد فقهها فى علوم السماء. وإلا إذا جودت شئون العمران كما تجود التفسير والحديث.. إن هذه المعارف الضرورية لبناء الأمم، وإقامة الحضارات، فرائض مؤكدة أسبق فى حياة المسلم من نوافل الأذكار، والقراءات. فإن الله لا يقبل نافلة حتى تؤدى الفريضة.. والرجل الذى يشغله ورد ما عن إتقان صناعة أو زراعة أو تجارة، أو يغريه بالتقصير فى هندسة أو طب أو كيمياء رجل جهول بالإسلام. وقد ينطبق عليه المثل: " عدو عاقل خير من صديق جاهل ". أما الذى يقصد بجهده فى هذه المجالات خير الدين والناس فهو العابد حفا، وإن صمت لسانه وطال منامه...!!! إن البراعة فى الشئون المدنية والمعارف الكونية تقترب بصاحبها من مصادر اليقين الحق، وصدق المعرفة بالحياة وبارئها الأعلى. فإن الإسلام عقد عروة وثقى بين الإيمان بلله، والتأمل فى ملكوته والإفادة منه. ص _129(1/120)
والمسلمون عندما تزداد خبرتهم بفنون الحياة المختلفة يتجاوبون مع منطق دينهم. وهم لم يهبطوا دون منزلتهم إلا عندما استسلموا للخمول والأوهام. نعم إنه من الضروريات الدينية الماسة أن يبرع المسلمون فى الدراسات الكونية ما ظهر منها وما بطن، وأن يسابقوا غيرهم إلى الإحاطة بالمادة، خصائصها وقوانينها، وألا يكون حظهم من فلك الوقوف على ما بلغته البشرية فحسب، بل يجب أن يتحسسوا أبواب المجهول، ويعالجوا إغلاقه حتى تنفتح لهم، ويستأنفوا سنة آبائهم فى خدمة المعرفة وكشف الحقائق ونفع الكافة. على أن المهم جعل هذه السيادة العلمية فى خدمة المثل السماوية الرفيعة، وتسخيرها لنفع العاملين بوحى الله. فالتقدم العقلى ليس هدفا ذاتيا وإنما هو أداة لقيام الناس بحقوق رب الناس.. ونحن نريد بناء حياتنا على قواعد رسالتنا العتيدة. وألا يخدعنا ما يلقاه الإلحاد من نصر موقوت فى بعض الميادين، كما لا يخدعنا ما يقارن التقدم الغربى أحيانا من مذاهب شاردة وآراء فاسدة. ويعجبنى قول الدكتور محمد حسين: " لا يبلغ العرب درجة الأستاذية فى هذه العلوم الجديدة- التى أذلهم عدوهم بتفوقه عليهم فيها- إلا إذا أصبحت هذه العلوم ملكا لهم. وهم لا يملكون هذه العلوم ولا يحسون أنها علوم عربية إلا إذا قرأوها بالعربية وكتبوها بالعربية. وسيظلون يحسبون أنهم غرباء عليها، ومتطفلون على أصحابها طالما ظلوا يقرأونها ويكتبونها بغير لغتهم.. ". كما أشاركه الأسى لانشغال هيئاتنا- بدل ترجمة هذه العلوم- بترجمة بعض الفلسفات والآداب والأفكار التى- إن حسن اختيارها- ما تجىء إلا فى المرحلة التالية. قال: " ولو أنصف كل القائمين على الترجمة فى هذا البلد- مثل إدارة الثقافة بوزارة التربية ومجلس الآداب وغيرهما- لجعلوا كل همهم مصروفا إلى نقل العلوم التجريبية والرياضية وحدها، لا يشتغلون بترجمة غيرها حتى نستكمل نقصنا فيها. لأن الاشتغال بنقل كتب الأدب والفلسفة والتاريخ والتربية(1/121)
والأخلاق وما شاءوا من الثقافات الإنسانية، على هذا النحو الذى تسوده الفوضى وسوء الاختيار- بل سوء القصد فى كثير من الأحيان- يضر مرتين. ص _130
يضر بإفساد أذواق شبابنا، وتدمير كيانهم، وتحويل شخصيتهم بحيث يصبحون غرباء بين قومهم، ثم يصبح قومهم بعد قليل هم الغرباء بينهم حين يكثر عددهم ويكثف جمعهم. ويضر مرة ثانية بتبديد الجهد والمال فى غير وجهه، وصرف العرب عن الطريق الصحيح إلى تحررهم ثم سيادتهم. ولو كان لى أن اقترح على اللجان الثقافية والهيئات الجامعية على اختلافها لاقترحت أن يبدءوا بترجمة كتب المراجع فى الطب والهندسة والعلوم والزراعة التى يدرسها طلاب الجامعات العربية، فهم بذلك يصيبون غرضين.. أنهم ييسرون سبل العلم للطلبة العرب ويخففون عن آباءهم بعض الأعباء بإغنائهم عن الطبعات الأوروبية الباهظة الثمن والتى لا يتيسر وجودها فى كثير من الأحيان، لأن أصحابها يستطيعون أن يمنعوا تصديرها إلينا حيت يشاءون. وهم فى الوقت نفسه يخطون بهذا العمل خطوة واسعة نحو تعريب هذه العلوم التى لا تزال تدرس فى جامعات مصر باللغة الإنجليزية ". أ. هـ وليس المهم نقل هذه المعارف من المواطن التى ازدهرت فيها أو المهاجر التى عبرت إليها: فإن النقل المجرد لا يغير شيئا من التبعية المذكورة للغير.. إن المهم هو تعرف الأسباب التى أخرت المسلمين- فى القرون الأخيرة- وازرت بدينهم وحضارتهم، تم اجتثاثها من جذورها، وتمكين هذه الأمة الكبيرة من استئناف سيرتها الأولى ، ونشاطها القديم فى خدمة الثقافة الإنسانية والعمران البشرى. نريد علاج الخلل الذى لحق بالتفكير الإسلامى فعطل مسيره. نريد علاج العلل التى أصابت جماهير المسلمين فشوهت إحساسهم بالحياة وشلت قدرتهم على تسخيرها وتطويرها.. إن ترجمة العلوم المختلفة لا تكفى فى خلق نهضة أصيلة، بل هى عامل مساعد فقط تستطيع به الأمة الذكية أن تستدرك ما فاتها ثم تعتمد على خصائصها الرفيعة فى الحركة(1/122)
والابتكار والسبق. ص _131
وإنى لأرسل الطرف إلى الأحوال العمرانية والاجتماعية والعلمية التى تحيط بالمسلمين فأشعر بالحسرة بعد الحسرة، والغم بعد الغم. إن مسافة التخلف بين عالمهم الهامد القاصر وبين العالم الجديد شاسعة. وشتان بين قوم لا يحسنون صنع عربة تجرى على الأرض، وقوم يفكرون فى غزو الكواكب.. ثم أى إسلام عند هؤلاء المسلمين؟ لقد كنت أحملق فى أنباء الاضطرابات التى ملأت الهند عقص اختفاء ما يسمى "شعرة النبى " ودماغى يدور من الدهش والجزع.. ما هذا التعلق المستغرب بشعرة النبى.. فى حين أن رسالة هذا النبى ضائعة؟! لقد كان هذا النبى العظيم يحلق شعره فما يدرى أن يسقط، وما يفكر قط فى هذا الشأن.. فيجىء ناس ينسون الحكمة البالغة من رسالته، ويزعمون أنهم وجدوا له شعرة فهم يحيطونها بالحب!! هذه سيرة تفوح منها رائحة الوثنية. الدين الذى قامت معجزته الكبرى على إحياء العقل، وسيادة الكون ينتهى أمره إلى هذا المصير؟! أكنلك نفقه قوله تعالى: (هذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا أنما هو إله واحد وليذكر أولو الألباب) إن العقل الإسلامى يجب أن يثوب إلى رشاده. وإن من المستحيل أن يخدم المسلمون دينهم ما لم ترق أحوالهم العامة إلى المستوى العادى للعالمين، ذاك إن لم تتفوق إ! قارن بين حالة المجتمعات الإسلامية، وبين أقطار الغرب. ص _132(1/123)
وتدبر قول حافظ إبراهيم فى وصف " أمريكا ": أى رجال الدنيا الجديدة، مهلا قد شأوتم بالمعجزات الرجالا وفهمتم معنى الحياة فأرصد تم عليها لكل نقص كمالا وحرصتم على العقول فحرمتم عصيرا يراه قوم حلالا وقدرتم دقيقة العمر حرصا وسواكم لا يقدر الأجيالا كم أحالوا على غد كل أمر ومحيل الأمور يبغى المحالا قد تحديتم المنية حتى هم أن يغلب البقاء الزوالا * * * * * * وطويتم فراسخ الأرضا طيا ومشيتم على الهواء اختيالا ثم سخرتم الرياح فسستم حيث شئتم جنوبها والشمالا تسرجون الهواء إن رمتم السير وفى الأرض من يشد الرحالا واتخذتم موج الأثير بريدا حين خلتم أن البروق كسالى ثم حاولتم الكلام مع النجم فحملتم الشعاع مقالا ومحا " فورد " آية المشى حتى شرع الناس ينبذون النعالا وانتزعتم من كل شبر بظهر الأرض أو بطنها المحجب مالا وأقمتم فى كل أرض صروحا تنطح السحب شامخات طوالا وغرستم للعلم روضا أنيقا فوق دنيا الورى تمد الظلالا وحللتم بأرضنا فعرفنا كيف تنمون بيننا الأطفالا ورأينا البنات كيف يثقفن بعلم يزيدهن جمالا * * * ** * * * ليت شعرى متى أرى أرض مصر! فى حمى الله تنبت الأبطالا وأرى أهلها يبارونكم علما ووثبا إلى العلا ونضالا قد نفضنا عنا الكرى وابتدرنا فرص العيش وانتقلنا انتقالا وعلمنا بأن غفلة يوم تحرم المرء سعيه أحوالا فشققنا إلى الحياة طريقا وأصبنا على الزحام مجالا قد أبى الله أن نعيش على الناس وإن ضاقت الوجوه ـ عيالا ص _133(1/124)
نعم، إن أتباع الرسول الذى بعث رحمة للعالمين لا يسوغ أن يعيشوا فى مؤخرة العالمين، أو عالة على غيرهم من الأذكياء العاملين. ومما يلتحق بهذه الوسائل المدنية المتجددة، الوسائل الإنسانية العامة التى تخدم أغراضا مشتركة بين الإسلام والمذاهب الأخرى دينية أو غير دينية.. إن العلم فضيلة أطبق أهل الأرض على تكريمها. وقد انفرد الإسلام بنصوص رائعة فى الحث على التعلم، وتيسير سبله، وشاعت هذه التوجيهات فى الكتاب والسة شيوعا يستحق الإعجاب. بيد أن تنشئة كل مولود على أقساط من العلم تجلو عقله، وتصون فطرته وتفتح مداركه، وتنمى مواهبه أخذت طريقها المستقيم قى الغرب. أعنى أوروبا وأمريكا حيث نسبة الأمية صفر!! فإذا نقلنا نظام الإلزام الصارم من هناك، وطبقناه فى بلادنا، كان فلك عملا أرشد وطريقا أخصر.. إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة " والفرض يعنى الإلزام.. وقد اضطربت وسائلنا- فى العصور الأخيرة- فى تنفيذ هذا الإلزام حتى ارتفعت نسبة الأمية فى البلاد الإسلامية إلى حد يبعث على الزراية والأسى. ولا حرج علينا قط أن نستعين بالوسائل التى جربها الآخرون، إذا كانت تسعفنا فى بلوغ غرض مقرر عندنا. والإسلام لا يهتم بالتعليم وحده، وإنما يقرن التربية بالتعليم أبدا، ويجعل رسالته قائمة على الأمرين معا (كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون) وفى النظم الكريم نجد التعليم والتزكية مقترنين فى كل الآيات التى تحدثت عن رسالة النبى صلى الله عليه وسلم. ص _134(1/125)
التعليم الحق يفتق الذهن، ويعرفه بالكون وقوانينه ،والحياة وهدفها. ويبصر الإنسان بآيات الله فى الأنفس والآفاق، ويقفه على ما يجب عليه نحو ربه والخلق كافة. والتربية تتعهد الإنسان على مكث، وبأدوات شتى، كى تحول هذا العلم إلى خلق وسلوك، ووعى وهداية.. إن نماء الشجر فى مغارسها نوع من التربية التى تتعهد النبات بالحراثة والتشذيب والمحافظة حتى يؤتى ثماره. والأجيال الوليدة تحتاج إلى إشراف دقيق، وحماية مستمرة، وتوجيه حصيف، حتى تشب لا عوج فيها.. إن حقوق الله والناس ليست أفكارا تحشى بها الأدمغة قدر ما هى سيرة تؤلف، وعادات تنبت، ومنهج يلتزم. خصوصا أركان الإسلام من صلاة وصيام وحب للخير ونزوع إلى إحسان كل شىء. والتربية على أداء العبادات ومحاسن الأخلاق، ينضم إليها تربية الناشئة على إتقان هواياتها العملية، وتنمية الخبرة بما فى الحياة من مهن وحرف وفنون وأشغال. وقد علمت أن المهارة فى شئون الدنيا أساس لا محيص عنه فى إنجاح الرسالات وتبويئها المكانة المنشودة. وأن الأفراد الفارغين البطالين لا خير فيهم، بل هم قتام فى وجه الحياة وعبء على الأديان والنهضات. ومثل نشر العلم نشر الصحة، والعدل، والأمن، وغير ذلك من الغايات الإنسانية التى قررها الإسلام، وعد الحفاظ عليها إيمانا، وهديت إليها البشرية وعدت بلوغها كمالا.. ولندع هذه الأمثلة السهلة إلى ما هو أبعث على التفكير، وأدعى فى نظرنا إلى الاقتباس. وأعنى به ما يتصل بالنواحى السياسية والاجتماعية. لقد رأينا فى سابق كيف أقام الإسلام الحكم على الشورى، وجعل الخلافة وليدة بيعة حرة. ص _135(1/126)
وكيف وجه الأمور لضمان حقوق الناس، وحراسة حقائق الدين.. ثم رأينا كيف تطرق الفساد إلى أداة الحكم، وطغت عليه شهوات الغى والاستعلاء.. لقد تعرضت أمم أخرى لنزوات الساسة المستبدين، وقاست منهم مثل ما قاسينا أو أشد.. واستطاعت أن تخلص منهم بالعزل أو الفتك. ثم وضعت دساتير تنظم العلاقات بين الشعوب والحكام تنظيما يمنع المظالم، ويوصد الأبواب فى وجوه لصوص السلطة الذين يثبون على الأمم بين الحين والحين فيملكون زمامها، ويعبثون به كيفما شاء لهم الهوى.. لماذا لا ننتفع بتجارب الآخرين فى مضمار تشابهت فيه الآلام، وتوحدت فيه المصالح؟؟ إن هذه الدساتير كسب كبير للإنسانية، وعون واسع لتحقيق ما ينشده الإسلام للشعوب من رعاية، وما يحفظ لهم من حرمات.. ولقد درست هذه الدساتير على اختلافها، فوجدتها أدنى إلى ما وعينا من مثل عليا فى ديننا.. ويمكن للمسلمين- على ضوء مشكلاتهم التاريخية الخاصة- أن يستفيدوا من هذه الأصول الدستورية، وأن يضعوا نماذجها نصب أعينهم وهم يرسمون حياتهم السياسية الجديدة.. إن الأمة مصدر السلطة. هى وحدها التى تختار حكامها، وهى التى- إذا شاءت- عزلتهم. وليس لأحد حق إلهى، ولا وصاية عليا على الناس تجعل وجوده السياسى ضربة لازب أو تجعل انقياد الجماهير له فريضة محكمة أو ضريبة لازمة.. إن كانت لشىء ما مكانة دينية فهو الرأى العام الإسلامى الذى إذا أحب كانت محبته آية على رضوان الله، وإذا كره كانت كراهيته آية على سخطه.. والغريب أن هذا الرأى الناضح بمشيئة السماء طالما كبت وأهين. فكم من رجل أحبته الجماهير وتمنت أن يملك أمرها طاح!! وكم من مسلط عليها بالجبروت تود أن تغيب عنها طلعته، فإذا هو أمامها فى المساء والصبا!.. ص _136(1/127)
إن للرأى العام الإسلامى شهادة مقبولة، وحكما ملزما.. روى الإمام ابن كثير فى تفسير قوله تعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا). بسنده عن نافع عن ابن عمر قال:.. " حدثنى أمية بن صفوان عن ابن أبى زهير الثقفى عن أبيه قال: سمعت رسول الله يقول: يوشك أن تعلموا خياركم من شراركم! قالوا: بم يا رسول الله؟ قال: بالثناء الحسن والثناء السيىء، أنتم شهداء الله فى الأرض ". وعن جابر بن عبد الله قال: شهد رسول الله جنازة فى بنى مسلمة وكنت إلى جانبه فقال بعضهم: والله يا رسول الله لنعم المرء كان، لقد كان عفيفا مسلما وكان.. وأثنوا عليه خيرا. فقال رسول الله- لمن أثنى-: أنت بما تقول!! فقال الرجل: الله أعلم بالسرائر فأما الذى بدا لنا منه فذاك. فقال النبى صلى الله عليه وسلم: وجبت!!- أى الجنة- ثم شهد جنازة فى بنى حارثة، وكنت إلى جانب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال بعضهم: يا رسول الله بئس المرء كان، إنه كان لفظا غليظا، فأثنوا عليه شرا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذا البعض: أنت بالذى تقول!! فقال الرجل: الله أعلم بالسرائر، فأما الذى بدا لنا منه فذاك. ففال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وجبت- أى النار-. قال مصعب بن ثابت: قال لنا عند فلك محمد بن كعب: صدق رسول الله ثم قرأ الآية: (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ) والأحاديث الصحاح فى ذلك كثيرة.. فأمة- هذه عند الله مكانتها- صادقة الحس، صائبة الحكم. تعرف بفطرتها الأخيار وتودهم، والأشرار وتنفر منهم، تحب لله، وتكره لله.. ص _137(1/128)
أمة هذا حالها يستكثر عليها نظام انتخابى شريف، تترجم فيه هذه القلوب عن اتجاهها فتدنى من تشاء وتقصى من تشاء؟! إن تاريخنا- نحن المسلمين- تنقصه هذه البقية. إنه لابد من دستور مكتوب تضبط فيه الأمة الإسلامية علائقها بحكامها وتحدد الخطوط التى يقفون عندها. ولابد من انتخابات نزيهة، يختار فيها أعضاء المجالس النيابية ومن إليهم من ممثلى الأمة فى شئونها الدينية والدنيوية. ومثل الناحية السياسية، الناحية الاجتماعية، فان اقتباس ما يصلح من الوسائل لتحقيق الأغراض الإسلامية لا معنى للنكول عنه. غاية ما نتحراه أن تكون الوسائل المستجلبة متفقة الاتفاق كله مع النصوص والقواعد الإسلامية، وطيعة للتشكل فى القوالب التى تنسجم مع روحنا ومزاجنا. الاستفادة من عبر التاريخ: إن كل معنى بتجديد الإسلام فى هذه الأيام، لابد أن يديم النظر فى ماضيه الطويل وهو يمتد مع الزمان والمكان. لقد بدأت هذه الرسالة مسيرها من أربعة عشر قرنا، وجعل مدها العريض يشتمل أقطارا فيحاء، وأجناسا مختلفة..!! وتنقل بها الليل والنهار، فالأسلاف يولون، والأخلاف يعقبونهم فى الإيمان بها والدفاع عنها. وكان لها من أبناؤها من أحسن نصرتها ومن أساء. ومن علمائها من أجاد فقهها ومن قصر. ومن أمرائها من خان أمانتها ومن وفى. وكان لها من أعدائها، من قاتلها عن جهل، ومن قاتلها عن جحود. ص _138(1/129)
ومن استفاد من مبادئها، ومن طرحته النوى بعيدا عنها فلم يدر عنها شيئا. ومرت هذه الرسالة بأيام عسر ويسر، وضيق وفرج، وغيض وفيض !! انتصرت حتى لم يبق فى عداتها نفس من مقاومة. وانكسرت حتى كاد أعداؤها يخمدون أنفاسها. وكانت فى فيضها ترشح على العالمين من ذكائها ونمائها. وفى غيضها تنحدر إليها من تقاليد الآخرين ألوان ومراسم. هذا التاريخ الطويل كيف ينسى؟! وعبره الغائرة الدفينة كيف لا تستخرج، وتدرس، وينتفع بها. إن الرجل الذى لا يعى تجاربه الخاصة، ويتعلم منها كيف يجتنب المزالق، ويتقى الخصوم رجل قصير النظر ضعيف الإيمان. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين ". والأمة الإسلامية التى سلخت من عمرها المديد هذه القرون، وخرجت بثروة هائلة من الأحداث الجسام، والوقعات العظام يجب أن تضع أمام عينيها الدروس التى تلقتها خلال هذه الآماد، حتى لا تقع فى ذات الحفر التى وقعت فيها من قبل أو تلدغ من الجحر القديم نفسه. وعندى أن تعليم الإسلام، والدعاية له، والحكم به، وعلاقاته مع الأقربين والأبعدين، أمور تحتاج إلى حسن بصر وتطبيق، على ضوء ما اكتنف مسالكنا نحن المسلمين من خطأ وصواب، واكتنف مسالك خصومنا من استقامة وعوج وسماحة وحقد..!! ص _1 ص(1/130)
كيف نستفيد ؟ وهذا الموضوع يحتاج إلى سفر كبير، وإلى توفر عدة عقول على تكوينه وإبرازه... وقد أبديت فى كتابى هذا، وفى كتبى الأخرى بعض ملاحظات على أطوار الثقافة الإسلامية، وسياسة المال والحكم عندنا.. أظنها صائبة..! والأمر سهل، فلدينا أصول معصومة محفوظة فى كتاب الله وسنة رسوله. ثم هناك- بعد- عمل الناس بهذا الإسلام، وأسلوب خدمتهم لعلومه وأهدافه. وفى هذا المجال يقع التفاوت وتكون المقارنة وتستخلص العبر. وكل مشغول- بتجديد الإسلام وإنهاض أمته- لا يستجمع دروسا كثيرة فى هذا المجال يفوته التوفيق ويدركه العثار. وقد تبين من الفصل الذى عقدناه آنفا عن " الإسلام بين المجتمع والدولة " أن هناك ثغرات فى بنائنا العام تحتاج إلى سداد. ففى عصور من تاريخنا كان الحكم صورة تامة لجمهور الأمة. وكان كلاهما تعبيرا حسنا عن تعاليم الإسلام. وفى عصور أخرى، كان الحكم إسلاميا يشوبه القصور، ويسرى فى تكوينه الخطأ، ولكنه إسلامى على كل حال، يقدس الكتاب والسنة، ويبنى وجاهته فى الدنيا والأخرى على سياسة الأمة بهما.. فإذا لحقه القصور، أو شانه التقصير، أكمل له المجتمع المسلم ما نقص، ووصل ما قطع فقبل النصيحة، واحترم المعالم.. إلا أن الأمر لا يصلح بهذا الأسلوب القائم على الارتجال والتطوع. خليفة فيء به الوراثة يملك سلطات خطيرة، ربما كان راشدا، وربما كان طائشا. لماذا يفرض على المسلمين قبول هذه المقامرة وتحمل نتائجها؟؟ وفى أقاليم مبعثرة بين القارات الكبرى الثلاث، تفصل بينها مسافات شاسعة، وطبائع متباينة، كيف تنتظم مصالحها، وتحل قضاياها فى غيوم هذا الوضع؟ ص _140(1/131)
إن الحكم الفردى المطلق كارثة محققة بالأمم. وهو بالدين نكبة تهزم رسالته وتجرح فضائله!! وإذا كنا قد لاحظنا أن الحكم الإسلامى هبط أحيانا إلى مستوى دون ما ينشد الإسلام، أو كان سلوكه غير متفق مع أمانى الجمهور، فلنتخذ من الوسائل ما يحول دون تكرار المأساة، حتى يكون الحكم ترجمة دقيقة للأمة ودينها.. الإسلام لا يقر حكما تنطوى الصدور على بغضه يستمد بقاءه من الرهبة والعسف. ولا يقر حكما يضمن لأصحابه المغانم والمآرب، ويجشم الشعوب المغارم والأعباء. الحكم الصحيح فى ديننا وليد إدارة حرة وصدى الرغبة العامة فى طاعة الله ورسوله. والأمة الإسلامية فى كل عصر ومصر تريد أن تحيا وفق تعاليم دينها، وأن تحكم بقوانينه، وأن تسير تحت رايته، وأن تولى وجهها شطر غايته، وأن تصطبغ حضارتها بصبغته. وعلى الحكومة أن تكون طوع أمرها فى هذا كله، لا تختلها ولا تفتات عليها، ولا تألوا جهدا فى صحبتها، وقيادتها إلى ما تريد. وإلا فهى حكومة لا تمثل الأمة، وبالتالى تفقد أسباب البقاء. القتال بين الإسلام والمسيحية: ولندع مؤقتا السياسة الداخلية للإسلام ولننظر إلى السياسة الخارجية. إننى ضائق بالخصومة المستديمة بين الإسلام والمسيحية، وكاره للحروب الباردة والساخنة التى نشبت بين المسلمين والنصارى، وراغب فى علاقة أهدأ وأعقل تجعل ما يجد أفضل مما مضى!! ولكنى أرفض كل الرفض أن يتم شراء من المسالمة المنشودة على حساب الحق الذى استيقنت منه. ومن البلاهة انتظار ذلك من المسلمين فى أى عصر من العصور. ص _141(1/132)
إننى أومن بالله الواحد الذى لا أم له ولا ولد. إله : (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير * له مقاليد السماوات والأرض يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إنه بكل شيء عليم). ومع هذا الإيمان فليس يضيرنى، ولا أمنع أن يعيش فى جوارى، شخص يرى أن لله ولدا وأما.. إننى أومن بأن عيسى بشر طيب عظيم، من أصحاب العزم الباهر فى الدعاية لله، وقيادة الناس إلى عبادته، ومراقبته، والاستعداد ليوم الحساب. شأنه فى ذلك شأن أخويه الكبيرين موسى ومحمد.. ومع ذلك فلا أحرم حق الحياة والأمان والعدالة والبر شخصا يرى أن عيسى قتل على الصليب ليفدى خطايا الخلق أجمعين.. إننى أومن بأنى على صواب، وأن غيرى ضرير مسكين أخطأ الطريق، وأود له من أعماق القلب أن يهتدى. لكنتى أقف عند حدود هذه الرغبة النفسية، فلا أحولها إلى إكراه أو إعنات، مقتديا بصاحب هذه الرسالة الذى وقفه الله عند حدود البلاغ المجرد (قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها وما أنا عليكم بحفيظ). ويؤسفنى أن الآخرين لا يمنحونى حق المعاملة بالمثل. وأن تكون الدولة فى يد الحكام المسيحيين أداة قهر لخصوم المذهب والرأى.. وأن تكون الحروب الدينية شريعة يترك المغلوب فيها دينه أو وطنه. ومن ثم فمع ضيقى بما وقع من قتال قديم لا أشعر بحرج من تبعاته. إنما يسئل عن هذه التبعات، من قيد حرية الرأى وحبس الشعوب وراء سياج حديدى من تفكيره الخاص!! فلنتجاوز هذا الماضى ولننقل النظر محن الوراء إلى الأمام.،!! ص _142(1/133)
هناك ما يدعو إلى فتح صفحة جديدة فى تاريخ البشر.. وسأجتهد أن أكون واقعيا فى تصورى للأمور وحكمى عليها.. طبيعة الحضارة الحديثة: إن العالم الآن تسوده حضارة بشرية يانعة، خطا الجنس الإنسانى خطوات فسيحة فى ميادين المعرفة، والكشوف، والصناعة. وهو دائب السعى فى الاستزادة من تقدمه العلمى، وقدرته على الأشياء وتسخيرها طوع إرادته.. هذه الحضارة- كما وصفتها- بشرية قامت على الطاقة الإنسانية التى شقت طريقها فى الحياة بمواهبها الخاصة دون عون من رجال الأديان. من الخطأ- وأقول من الكذب- وصفها بأنها حضارة مسيحية.. لأن هذه الحضارة التى بدأت زحفها من بضعة قرون وجدت أمامها عوائق جبارة من رجال الكنيسة. واشتبكت معهم فى قتال مرير، فقدت فيه تضحيات غالية، ثم مشت فى طريقها الحر بعدما كسبت المعركة. على أن الصلة مفقودة بين طبيعة الدين المسيحى، وبداهة العقل الإنسانى.. ولذلك سلخ هذا الدين خمسة عشر قرنا من عمره، وهو معزول عن النشاط العلمى المجرد، والنظرات المطلقة إلى الكون والحياة.. ومن الخطأ كذلك وصف هذه الحضارة بأنها إسلامية، وإن كانت البذور التى أنتجتها من عمل العقل الإنسانى الذى أدمن النظر- بإرشاد القرآن- فى كتاب الكون المفتوح، والذى نال من تعاليم الإسلام حرية مفرطة فى البحث والتأمل. .. وذلك لأن المسلمين الذين أسدوا للعالم هذه الطلائع خانوا رسالتهم، ووقفوا منها موقف الجهل تارة والجحود تارة أخرى. ومازال التفريط يتمادى بهم حتى سقطوا فريسة العلل التى أهلكت غيرهم.. ص _143(1/134)
والمرء الذى يكلف بتوزيع العافية على الآخرين لا يعتبر مؤديا لرسالته إذا أصابته الأدواء، وكان مبلغ جهده فى مقاومتها أنه لم يمت ويوار التراب!!! هذه الحضارة إذن إنسانية عامة. لا تشعر بولائها لدين، وإن كانت الآن تزدهر فى أقطار تنتشر فيها المسيحية!! .. نقول: وإن كانت المسيحية تلتمس منها القرب، وتريد الإيهام- فى جرأة- أنها ربيبتها إ! وفى ظل هذه الحضارة التى انتقلت بالحياة إلى طور لا نظير له فى الماضى، تقاربت الأجناس، وتكونت الأمم المتحدة، ووضعت مواثيق حقوق الإنسان، وتأسست هيئات عالمية لها مكانتها ولها حرمتها.. وجلس فى مكان واحد المسلمون الموحدون، والشيوعيون المنكرون للألوهية والدين كله، واليهود والنصارى المثلثون، وعبدة الأصنام من البوذيين والبراهمة، جلس هؤلاء يتحدثون فى شئون الإنسانية، وما يسودها من علاقات، وما يعترضها من قضايا ومشكلات.. إن هذا التقارب المكانى شىء حسن. وهو- فى نظرنا- داع قوى لإعادة النظر فى العداوات التقليدية، ومحاولة الخلاص منها.. أساس التصالح المقترح: إننا نطلب من المسيحيين شيئا لن يعز عليهم أداؤه!! ألا يفكروا فى محو الإسلام وفتنة أممه. أن يدعوا الناس أحرارا فى اعتناق مبادئه والعيش بها. ونحن- باسم الإسلام- نعطى النصرانية هذا الحق المماثل. إننا لا نخاف الحرية أبدا، ولا نرهب من تبادل الرأى مع غيرنا. لكن عندما نرى ديننا يضطهد، ودعاته يستباحون، وأهله يعدون خارجين على القانون فمن العبث أن ينتظر منا سلام.. ص _144(1/135)
السلام هنا معناه الموت. والذى يطالبنا بذلك مغفل. أسروا فى ضمائركم أن الإسلام باطل ونبيه كاذب. أما أن تحملوا السلاح لإثبات ذلك فى واقع الحياة، ولسوق الشعوب إليه بالكره، فذلك أمر دون الموت إ! ويؤسفنا أن نكرر مرة أخرى أن الدولة فى يد الحكام المسيحيين كانت أداة مطاردة ومصادرة. وإذا كنا نحن المسلمين نرى أتباع المذهب المسيحى الحاكم يجتاح أصحاب المذهب المسيحى الأخر، فهل كنا ننتظر أن يلقى الإسلام من هؤلاء إلا مصيرا أسوأ، وعقبى أوخم..؟؟ فكيف يهادن أسلافنا سلطات هذه سياستها؟؟ ثم لماذا إذا استولى الرومان على بلد ما بالسيف يعتبر هذا البلد ملكا حلالا لهم إلى الأبد، لا يجوز لغيرهم أن يتسرب إليه حامل دعوة، وعارض أفكار فقط؟ لنضرب المثل بمصر. لقد دخلها الرومان غزاة فاتحين، وأرهقوا أهلها دينيا واقتصاديا طوال عهدهم.. فإذا جاء العرب وقاتلوا هؤلاء الغزاة المحتلين، وأجلوهم عن البلاد، ورسخوا مبادئ الحرية الدينية فى البلد الذى أذله التعصب والاضطهاد.. امتلأت الدنيا بالصراخ العالى أن الإسلام غزا المسيحية فى عقر دارها. وأنه انتشر بالسيف؟؟ ثم ينطلق القسيسون والرهبان يحضون على الأخذ بالثأر، وإيقاد الحروب الصليبية جيلا بعد جيل، كلما خبت نارها أشعلوها من جديد!! إن هذه السيرة النابية لا تلقى على الأرض السلام..!! ويجب أن نتعاون مع المسيحيين على إسدال ستار فوقها!! ص _145(1/136)
قد يقال: إن الإسلام انتشر بالفعل فى أقطار شتى كانت نصرانية من قبل!. ونقول: نعم انتشر بالاقتناع المحض من الداخلين فيه، والتسامح المطلق من الحاكمين به !! فهل نلغى الحرية العقلية والدينية حتى يستريح بعض الناس؟ وهل نوصد الأبواب فى وجوه قوم يرون أنهم هدوا للحق؟ إن التاريخ شاهد عدل على ذلك. وقد شرحنا فى كتبنا الأخرى الظروف التى لابست انتشار الإسلام، وإقبال جماهير كثيفة من الخلق على اعتناقه. ويسرنا أن نزيد الموضوع جلاء وإشراقا، بذكر بعض الوثائق الأجنبية الداعمة لهذه الحقيقة نقلناها عن كتاب " الغرب والشرق، من الحروب الصليبية إلى حرب السويس ". وهو كتاب جيد مشحون بالدلائل التاريخية الوثيقة، وعامر بالنظرات الصائبة. تأمل هذه الشواهد منه: يقول المؤرخ " لودفيج " فى كتابه " النيل.. حياة نهر ": استقبل أقباط مصر جيوش العرب والإسلام استقبال المنقذين لا استقبال الغزاة الفاتحين. وكان ترحيبهم بالغا حد الحماس، وما إن سقطت فى يد العرب مدينتا " بلور " و " هليوبوليس " وغيرهما من المدن، حتى فزع بطريق الإسكندرية وقواد بيزنطة إلى الإمبراطور البيزنطى وأنهوا إليه ما وقع لمصر. فعمد الإمبراطور إلى مفاوضة عمرو بن العاص فى أن يوليه إمارة مصر، ويزوجه من ابنته شريطة اعتناق عمرو للنصرانية وإلا فالحرب. ولكن ابن العاص استخف بتهديد الإمبراطور، ولم يحفل بعروضه ولا بإغرائه. ومضى فى زحفه مؤيدا من الشعب القبطى الذى أرهقه الحكم البيزنطى وأرهقه الأشراف المنحلون الذين كانت الكنيسة تؤيدهم فى اضطهادهم الشعب واستنزاف أمواله لصالحها. ص _146(1/137)
وسير عمرو بن العاص جيشه إلى الإسكندرية، ودخلها الجيش تحدوه فرحة القبط، وترحيبهم بمنقذيهم ومخلصيهم! وأمام هذا الجيش العربى فرت الجيوش البيزنطية وأبحرت قواتها إلى بيزنطة، ثم سلم البطريق مدينة الإسكندرية إلى العرب. ويقول لودفيج: لا إنه فيما عدا فرض الجزية على المسيحى، فإن عمرو لم يفرق فى المعاملة بين المسلمين والمسيحيين، بل سوى بينهم وبين المسلمين مساواة شملت كل حق لهم وكل واجب عليهم بما فى ذلك وظائف الدولة جميعها، وبغض النظر عن الجنس أو الدين.. ". ثم ينتهى هذا المؤرخ إلى قوله: " إن الفتح العربى قد أقام- ولأول مرة فى هذه المنطقة من العالم- نظاما يمارس فيه رجل الشعب الحكم لا عن طريق الوراثة ولكن عن طريق الجدارة والكفاءة. وهكذا أضاء شعاع الإسلام الشرق كله فى عهد كانت أوروبا تتخبط فى غمار الجهالات والتعصب بينما بلغ الشرق أوج نهضته ". ويقول " جيروم وجان تاور ": "إن فضيلة التسامح- التى كانت أزهى السمات الخلقية فى العرب، والتى ندر أن تتوفر لغيرهم فى كافة الأزمان- هذه السجية الكريمة قد أفادت العرب كثيرا، ولم يكن ليفيدهم فائدتها ذكاؤهم الفطري وذوقهم الفنى ونزعاتهم الأخرى. لم تكن هذه الخصائص التى امتاز بها العرب لتنفعهم وترفعهم إلى مكانهم المرموق، لو لم يتميزوا بفضيلة التسامح، وتنطبع فى أذهان القوم صور قوية للتسامح العربى.. لقد ترك الإسلام لمختلف الشعوب دياناتها ونظمها وتقاليدها. فكانت مؤتمرات الأساقفة تعقد بكامل حريتها على الأراضى الإسلامية.. وما من شك فى أن ذلك التسامح لم يصدر إلا عن روح عالية، شع منها هذا الأدب الرفيع، وتلك المجاملة التى لا تصنع ولا تعمد فيها، وقد نقل العرب والمسلمون إلى الغرب المبادئ الأصيلة للمروءة والشهامة والفروسية.. ص _147(1/138)
فأصبحت تلك المبادئ الإنسانية هى قانون المحارب الذى يستهدف حماية حقوق البشر.. إن تلك المبادئ الإنسانية نبتت فى الشرق ولعبت فيه دورا كبيرا. إن تلك المبادئ- التى تغنى بها الغرب فيما بعد مزهوا فخورا- لم تكن إلا خلائق العرب أخذها الغرب عنهم فى حروبه معهم.. وإن طبيعة التسامح فى الخلق العربى لم تتخل عنه حتى فى مواقفه من الحملات التبشيرية وجنودها المبشرين. وفى الوقت الذى كان فيه جمهور الغرب يفتك بكل مسلم يقع فى أيديهم بل يعتبر العطف على المسلمين جريمة تستوجب القتل. فى ذلك الوقت بالذات يروى التاريخ الكنسى أن سلطان مصر " الملك الكامل " استقبل ببشاشة وسماحة القس " سان فرنسوا دى أسيسز " ورفاقه من الرهبان الفرنسيسكان، وسمح لهم بأن يجادلوه فى الدين كيفما شاءوا. وأضفى عليهم حمايته ورعايته، وأذن لهم بالدعوة إلى دينهم علنا! ولسنا ندرى كيف يسيغ لرجال الكنيسة التوفيق بين أقوالهم هذه وبين اتهام المسلمين بالتعصب. اللهم إلا إذا كان المقصود هو التشهير بالمسلمين، وإضعاف عزائمهم بشتى الأكاذيب. ولا عجب إذن أن ينتهى الأمر برجال الكنيسة إلى الاعتراف التالى: " إن الشعب الإسلامى متمرد ولا يتيح عملا إيجابيا مباشرا للبعثات التبشيرية الكاثوليكية. وهذا لغز لا يمكن الوصول إلى حله، وإن سره لا يعلمه غير الله وحده ". ذلك ما قاله الأسقف " أوربالط مارى يونيكاوا " فى كتابه عن نشاط الكنيسة والطوائف المسيحية فى الشرق. ويقول الأسقف دى مسنيل: إن الأسباب العميقة لانتشار الإسلام وثباته المذهل ستظل أبدا بالنسبة لنا مشكلة لا تجد الحل ". ص _148(1/139)
دعوا هذا التفكير.. لنتقابل: نقول: وسوف تظل المشكلة التى حيرت آباء الكنيسة قائمة أبدا ما بقوا هم أنفسهم يحسبونها مشكلة. وخير لهم أن يدعوا الإسلام وشأنه، وأن يعترفوا بالوجود الإسلامى اعترافا لا تشوبه نزوات التدمير والقهر. هل ننتظر ذلك منهم؟ لا شىء فى ميدان السياسة العامة يوحى بذلك أو يدل على قربه مع رغبتنا نحن المسلمين فيه. إن انتزاع فلسطين من أهلها وطردهم فى العراء ليحل اليهود من أرجاء الأرض محلهم، عمل نضح به الحقد الصليبى القديم، وتواطأت على اقترافه الدول المسيحية الكبرى!! التعصب الطائش ضد الإسلام هو سر هذه المأساة. وهو تعصب أفقد أصحابه اتزان الفكر وعدالة الحكم. بل أفقدهم مبادئ الأخلاق ومعانى الرحمة. وفى كل شبر من أرض الإسلام تجد أثرا داكنا قابضا لهذا التعصب الرهيب.. والذى يستحق الإبراز والتعرية أن الصليبيين المستعمرين قد اصطلحوا مع ضمائرهم على تسوفي ما يفعلون مهما كان نابيا قاسيا. فإهانة الإسلام وانتهاب أرضه، واستذلال أمته أمور مباحة! لا، بل هى تقترف وكأنها قربى إلى الله. ومن ثم فهم يتفقون مع أى خصم للمسلمين على حرب المسلمين. اتفقوا مع اليهود، ومع الوثنيين، ومع الشيوعيين، لأن المهم لديهم أن يكسروا شوكة هذا الدين ويخمدوا أنفاسه. ص _149(1/140)
وقد تستغرب هذه العبارات، وتظنها منطوية على شئ من المبالغة، غير أنى أضع بين يديك الشواهد من كلام القوم أنفسهم . يقول الأستاذ محمد على الغتيت فى كتابة الجيد " الغرب والشرق من الحروب الصليبية إلى حرب السويس ": " لما كان هدف الكنيسة والغرب هو تتابع واستمرار الحملات الصليبية فى إصرار وعناد. وحتى يتسنى للكنيسة أن تعبئ الأجيال المتعاقبة لحروب لا رحمة فيها ولا هوادة، تسترخص فيها الأرواح، والأموال، والأولاد، فى سبيل محاربة الإسلام، وإقصاء المسلمين والعرب عن الشرق والأراضي المقدسة، فقد كان لابد للغرب ولرجال الكنيسة من حق قانوني يبتدعونه لإثارة الحروب الصليبية على الصورة التى رسموها. وأن يكون هذا الحق مستندا إلى الكتاب المقدس، وإلى تعاليم الكنيسة. وخلاصة القول أنه أصبح لزاما على الكنيسة والغرب خلق هذا الحق، أو هذه النظرية القانونية، وجعلها قاعدة من قواعد القانون العام يستند إليها الغرب- عند الاقتضاء- فى تأييد القضية المدعاة. وأن تشمل هذه النظرية العناصر التى من شأنها أن تثير وتستبقى الحماس لدى جموع الشعوب الغربية كما تكون مبررا أدبيا وقانونيا، لا للحملات الصليبية فحسب، بل لسياسة الغرب ـ مستقبلا ـ بإزاء الشرق.. ومن أجل هذا كانت عناصر النظرية الجديدة طبقا لما يقول المؤرخ " جيبون " نقلا عن المؤرخ " فلورى " فى خطابه السادس عن تاريخ الكنيسة. هى الآتى: " للمسيحيين الحق فى تملك فلسطين بصفة أبدية وثقها دم المسيح الذى أريق بها. ويتعين على المؤمن من المسيحيين أن يجلى غير المسيحى عنها بوصفه غاصبا لها. وأن الحلاف فى العقيدة الدينية كاف لتبرير ما يقوم بين مختلف الطوائف الدينية من حروب وعداء. إن المسيحى الذى يبيد أعداء دينه لا يكون بذلك قد خرج عن فضائل القداسة والطهارة!! بل إنه بعمله هذا إنما ينحر القرابين دليلا لتقواه..!! وإن المسلمين كانوا ـ ويجب أن يظلوا فى نظر رعاياهم من المسيحيين ومن الغرب-(1/141)
مغتصبين. ص _150
وعلى المسيحى شرعا وقانونا أن يسلبهم ما يمتلكونه من سلطان وأموال لأن ما وصل إلى أيديهم من ذلك كله جاء بطريق الاغتصاب غير المشروع. على الغرب أن ينتزع هذا الحق المغتصب بالحرب، ويعاونه فى ذلك المسيحى الشرقى بالثورة الداخلية على الحكام المسلمين ". هذه النظرية التى وضعتها الكنيسة واستند إليها الغرب فى موقفه من الشرق كان من شأنها أن تعتبر عدوان الغرب على الشرق لا يعدو أن يكون ممارسة لحق الدفاع الشرعى عن النفس وأن هذا الحق يتطور قوة وضعفا تبعا للخطر الذى يشكله الإسلام فى كل زمان. ولم يعد هناك مجال للغرب للتحدث عن التسامح الدينى، أو الخوف من اتهامه بالبطش والعدوان. أجل لم يعد هناك مجال للاعتماد على السماحة الدينية فى علاقة الغرب بالشرق. تلك العلاقة التى بدأ الغرب يستند فيها إلى فلسفة. جديدة نحو العرب والمسلمين مهد لها لويس التاسع ثم عززها من تلاه فى الغرب من الحكام والقادة ورجال الدين. واستنادا إلى هذه النظرية أصبحت حروب الغرب ضد الشرق حروبا دفاعية مشروعة مهما اتسمت بطابع العدوان. واعتبر الغرب أن استيلاءه على الشرق ليس إلا استردادا مشروعا لأملاكه، استردادا مجردا من صفة الغزو أو الغصب. ونقول: ومن حق العالم أن يطعن فى قيمة الضمير الدينى، ويرفض الثقة به وهو يقرأ هذا الكلام. إن إعطاء الظلم من قتل وسفك صورة العبادة وحرارتها هو أسوأ ما فى هذه الحياة. إنه فساد مركب كالجهل المركب الذى يجعلك تعرف الشىء على غير الواقع. والمخطئ العادى إنسان يرتكب الخطأ وهو يعلم أنه خطأ، فهو يوشك أن يقلع عنه. ص _151(1/142)
أما ذاك الذى ينهب مالك، وهو يعتقد أنه يتصدق. أو يسفك دمك وهو يعتقد أنه يصلى فأمره خطير خطير.. وسياسة الصليبية بإزاء الإسلام وأهله تقوم للأسف على هذه الاستباحة المشروعة وهذا التدين المعلول. وشتان بين إيمان منصف معقول، وإيمان جائر غشوم. (أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله واتبعوا أهواءهم). مع الصليبية الحديثة... ومن عدة قرون، وبعد فشل الحملات الأولى برغم التعبئة الهائلة التى اخترقت بها دار الإسلام، وبرغم بقائها مشتعلة الأوار مائتى سنة، رأى قادة الغرب أن يجددوا وسائلهم فى محاربة العالم الإسلامى، وأن يمزجوا العنف بالحيلة، والمواجهة بالالتفاف. فاقتحموا الشرق مرة أخرى فى أزياء جديدة، ساترين مخالبهم قفازات من حرير، وقرروا أن يكيدوا للإسلام فى حذر وتؤده، وأن يبلغوا مأربهم الأولى وفق خطط جديدة.. واستعان الغزاة الدهاة بما بلغته أوروبا من تقدم حضارى عظيم. واستعانوا كذلك بما أصاب المسلمين من عجز وبلاهة ومعصية. وانطلق الاستعماريون الأقوياء الأذكياء فى أحشاء الأمة- التى كان دينها وحظها فى دورة المحاق- كما وصفنا من قبل. فإذا هم يبلغون فى حملاتهم الحديثة مثل أو أكثر مما بلغوه فى حملاتهم الأولى..!! العرب كادوا يفقدون لغتهم العربية فى أقطار المغرب، تونس، والجزائر، ومراكش، وكادت اللغة الفرنسية تحل محلها فى البيت والشارع.. والمسجد إن دخله أحد!! وسيطر دعاة العامية حينا من الزمن على الجو الأدبى فى بلادنا.. وزالت اللغة العربية إلا قليلا من الأقطار الإسلامية فى الهند وسائر آسيا ومن إفريقيا تقريبا، وحلت محلها اللغة الإنجليزية أو الفرنسية.. ص _152(1/143)
الشريعة الإسلامية وضعت فى المتاحف مع اللغة الهيروغليفية البائدة، وأضحى العمل بها حلما، والنداء بها جرما. الوحدة الإسلامية مزقت شر ممزق مع القوميات الضيقة المتعددة التى جعلت المسلمين سبعين شعبا. لكل شعب منها رايته، وفكرته، ومصالحه، وتاريخه. الثقافة الدينية والتربية الدينية انكمشتا، أو اختفتا من التعليم العام. وتخرجت من المدارس والجامعات فى الأمة الإسلامية الكبرى طوائف غريبة على الإسلام جاهلة له، منكرة لتقاليده وشعائره!! أو محايدة.. أو عاطفة من بعيد!! المصحف، كتاب حسن الطبع جميل الورق، أما ما تضمنه من وحى ينشئ الأمم، ويمسك الحضارات أن تزول، فشىء لا يخطر إلا ببال نفر من المتخلفين عن قافلة العصر الحديث..!! وقبل أن نسترسل فى هذا الوصف نحب أن نعود مرة أخرى إلى كتاب " الغرب والشرق " نقرأ منه وصية " لويس التاسع " فى تطوير الحرب الصليبية، ومحاولة القضاء على الإسلام بأساليب أذكى وأدهى مما صنع الأقدمون: يقول مؤرخو الغرب وعلى رأسهم المؤرخ " جوانفيل " الذى رافق لويس التاسع: إن خلوته فى معتقله بالمنصورة أتاحت له فرصة هادئة ليفكر بعمق فى السياسة التى كان أجدر بالغرب أن يتبعها إزاء العرب والمسلمين. وقد انتهى به هذا التفكير إلى تلك الآراء والمأخذ التى أفضى بها لأعوانه المخلصين أثناء رحلته إلى عكا مقلعا إليها من دمياط.. انتهى تفكير لويس التاسع- إلى أن اتحاد نصارى الغرب يبقى دائما ما دام على رأسهم زعيم قوى يحقق لهم الانتصارات. فإذا ما أصابتهم هزيمة تفرقوا شيعا وذهب اتحادهم أدراج الرياح. وأن النعرة الدينية فى الغرب لم تعد كافية لإثارة الحروب ضد الإسلام والتغلب على المسلمين. فالحروب الصليبية أنهكت قوى الغرب البشرية والمالية، ثم إن قوى الصليبيين فى الشرق أخذت فى الاضمحلال والانهيار. ص _153(1/144)
ومات فى قلب الصليبى ذلك الحافز الروحى الذى كان يحفزه على خوض الحروب ولا مطمع له فيها غير نصرة المسيحية. مات ذلك الحافز وتبدل بحوافز مادية لا تتصل بالروح، وإنما تتصل بالغنائم والأسلاب التى أصبح الأمل فيها هو الباعث الوحيد على انخراط الصليبى فى تلك الحملات. ولم ينس لويس التاسع- فى هذا الصدد- مواقف مندوب البابا، وحرصه الدائم على الفوز للكنيسة بأكبر نصيب من غنائم الحروب الصليبية وأسلابها. ولم ينس كذلك نفور بعض الشخصيات الصليبية الصالحة من هذا المسلك لرجل الدين، وثورتهم عليه، ودمغهم إياه بالخروج على التعاليم المسيحية، ووصفهم لهذا التنازع المادى بأنه عمل يفقد المسيحيين عطف الرب لأنه تنازع من أجل الغنائم والمادة، لا من أجل الرب. واستقر رأى لويس التاسع على أن هزيمة الصليبيين فى مصر قد حطمت معنويات أمراء الفرنجة المستوطنين للساحل السورى. وتبين له أخيرا أن " فينيسيا " و " جنوا " و " بيزا " تلك التى زودته بأساطيلها لنقل حملته قد مالت أخيرا إلى التخلى عنه.. وبوحى من هذا العرض الزاخر بالعبر والأحداث والتجارب التى كانت تطوف برأس لويس التاسع فى سجنه بالمنصورة، رأى أن القضاء على الإسلام أو- على الأقل- وقف توسعه عند حد وهو هدف حيوى بالنسبة لفرنسا وأوروبا لا يمكن تحقيقه إلا بتكتل مسيحيى الشرق أولا وقبل كل شىء. ثم توحيد صفوفهم تحت زعامة الغرب. وتساءل لويس: هل فى وسمع المسيحية أن تواصل وحدها الاضطلاع بمحاربة الإسلام. وعلى ضوء تجاربه كان جوابه على تساؤله هذا: هو أنه لم يعد فى وسع الكنيسة أو فرنسا وحدها مواجهة الإسلام، وأن هذا العبء، لابد من أن تضطلع به أوروبا جميعها لتضيق الخناق على الإسلام، وتقضى عليه، فيتم لها التخلص من هذا الحائل الذى يحول دون تملكها لآسيا وإفريقيا. ص _154(1/145)
ويقول المؤرخ رينيه جروسيه: " إن الملك لويس التاسع كان بذلك فى مقدمة كبار ساسة الغرب الذين وضعوا الخطوط الرئيسية لسياسة جديدة شملت مستقبل آسيا وإفريقيا بأسرهما. وهكذا انساق لويس التاسع بقوة الأحداث، فرسم التخطيط المبدئى للسياسة التى رأى أنها تمكنه من مواجهة الإسلام والنيل من قوته، ثم زادته الأحداث استيعابا وتفهما لمشكلات الغرب فى هذا الصدد، فوضح معالم سياسته الجديدة واتجاهاتها وأسسها على النحو التالى: أولا: تحويل الحملات الصليبية العسكرية إلى حملات صليبية سلمية تستهدف ذات الغرض لا فرق بين الحملتين إلا من حيث نوع السلاح الذى يستخدم فى المعركة. وكان سلاح الحملات الجديدة هو الدس بين العرب بعضهم وبعض، وإثارة الحلافات فى الأوساط الإسلامية والعمل على بقاء نارها مستعرة بين الأمراء المسلمين. ثم الإمعان فى تأييد بعضهم ضد البعض وتأمين هذا التأييد- إذا دعت الحال- بمعاهدات ومحالفات يمكن نقضها عند الاقتضاء. واستغلال ما يكون بين العرب والمسلمين من منافسات وخلافات استغلالا يمكن الغرب من التمتع بامتيازات سياسية واقتصادية كما يهيئ له السبيل إلى تفتيت الكتلة الإسلامية، وإشاعة التفكك فى وحدة المسلمين فينهار الإسلام من تلقاء نفسه. ثانيا: تجنيد المبشرين الغربيين فى معركة سلمية لمحاربة تعاليم الإسلام، ووقف انتشاره، ثم القضاء عليه معنويا. واعتبار هؤلاء المبشرين فى تلك المعارك جنودا للغرب. ثالثا: العمل على استخدام مسيحيى الشرق فى تنفيذ سياسة الغرب. رابعا: العمل على إنشاء قاعدة للغرب فى قلب الشرق العربى يتخذها الغرب نقطة ارتكاز له ومركزا لقواته الحربية ولدعوته السياسية والدينية. ومنها يمكن حصار الإسلام، والوثوب عليه كلما أتيحت الفرصة لمهاجمته. وقد عين لويس التاسع لإنشاء هذه القاعدة الأراضى الممتدة على ساحل البحر الأبيض من غزة حتى الإسكندرية، وتشمل فلسطين والأردن والبلاد المقدسة ثم لبنان بأسرها. ص(1/146)
_155
وإلى هذه السياسة- التى اتخذها الغرب أخيرا خطة له عن لويس التاسع واعتنقها وطبقها- يرجع الفضل فى تأخير سقوط بيزنطة فى يد الأتراك لمدة ثلاثة قرون. على أن " القسطنطينية " التى استولى عليها الأتراك متأخرة عن موعدها ثلاثة قرون- كما يرى المؤلف- والتى ظلت عاصمة الخلافة العثمانية مئات السنين، هذه البلدة الكبيرة تمثل الآن نجاح الحملات الصليبية الحديثة فى نيل أغراضها. فقد رميت منها الخلافة الإسلامية فى البحر مشيعة باللعنات. وأصبحت الأمة الإسلامية دون أبوة روحية ومدنية تحنو عليها وترفع علمها،. وفى العاصمة التى سقط تاجها، ترى شعبا له بالإسلام رابطة ما، وحكومة تنكر صلتها به ! وترى إحنا سودا بين الترك من ناحية، والعرب من ناحية أخرى، إحنا استمكن الاستعمار بدسائسه ووساوسه من خلقها، وتعميق جراحها. والإسلام ومستقبله هو المصاب الأول فيها.. إن الاستعمار الصليبى- ويجب أن نعترف بالواقع- أحزر قدرا من النجاح قد يكون أنكى مما بلغه الزحف الصليبى القديم! وقد قرأت كيف قرر هذا الاستعمار الإفادة من الطوائف الدينية المقيمة فى سلام بين ظهرانى المسلمين. إنه نصب نفسه فى فجور حاميا لها، وحانيا عليها. وحاول تأليبها بألف وسيلة على الأمة الكبيرة التى تعيش معها. وخلق منها مشكلات معقدة فى بعض الأقطار، إذ جعل الدولة لها والحكم فيها. أو جعلها تطلب الشركة فيه بحق النصف أو أكثر مع أنها لا تمثل من جملة السكان إلا نسبة ضئيلة..!! ص _156(1/147)
والمعروف من التاريخ أن الكنيسة الشرقية وجدت من الأوروبيين أسوأ اضطهاد ولولا حماية الإسلام لها لبادت. ولكن الاستعمار الحديث كما قلنا جاء هذه المرة فى ثوب خداع يبطن غير ما يظهر. ويوم يبلغ غاياته المستورة من الإسلام وأهله، فسيورد الكنيسة الشرقية ذات المصير. ونحن- المدافعين عن الإسلام- نتابع أحيانا ما ينشر فى الصحف من موضوعات تبدو لا صلة لها بالتوجيه الصليبى، فلا تخدعنا العناوين البريئة عن النيات الدفينة. سواء كان الكاتبون أعداء مباشرين، أم أدوات غبية فى يد هؤلاء الأعداء المستخفين.. !! تغليب العامية على العربية فى لغة التخاطب أو لغة التأليف. استهجان أحكام الإسلام فى الزواج والطلاق والميراث. تحبيذ العرى والانحلال والتبرج. بتر الدين من التوجيه القومى، وإبعاده عن برامج التعليم. فصل العروبة عن الإسلام وتجهيل المسلمين العرب فى قضايا الأمة الإسلامية الكبرى. اصطياد أخطاء من التاريخ الإسلامى وتجسيمها لتكون مثلا له أجمع. عرض التاريخ الغربى وسط تهاويل تخفى فضائحه وتبدى محاسنه. إشاعة معلومات غلط عن أعداد المسلمين وأحوالهم فى أرجاء العالم. تحقير علماء الإسلام، وترويج الشبهات عنهم كأنها حقائق، والسكوت المطلق عن رجال الأديان الأخرى.. التهوين من العبادات الإسلامية، والزعم بأن الأخلاق وحدها تكفى.. إشاعة الشك فى الألوهية بدعوى الحرية العلمية.. والغزو التبشيرى الحديث تدرج فى حربه للإسلام كى يتمكن من إزهاق روحه على مراحل.. فاتجهت الجهود أولا إلى فصل الدولة عن الدين. ص _157(1/148)
ثم إلى فصل المجتمع عن الدين. ثم إلى فصل الاقتصاد عن الدين. ثم إلى فصل الأخلاق عن الدين. وبقيت العبادات والعقائد، فتعلمت الطبقات " المثقفة " أن تحجم عن العبادات وتتركها للعامة أمثالهم.. أما العقائد فقد يبست، وذوى عودها، وأمست إيمانا موروثا يستبطنه بعض الناس فى قلبه، ولا صلة له بالحياة العامة. وبلغ من الجرأة على معالم الإسلام أن دستورا وضع فى سوريا من خمس عشر سنة رفض أصحابه أن يجعلوا ضمن مواده " الإسلام دين الدولة " !! وقال لى بعضهم فى معرض الاعتذار عن هذه النكبة: لقد وضعنا نصا على أن يكون الفقه الإسلامى أساس التشريع !! ولم أرحب بهذا العذر لأن هذه المادة ستكون ميتة. ولأنها لو نفذت فى بعض القوانين ما دلت على شىء. فإن أوروبا استفادت فى قوانينها من الفقه الإيسلامى، ولم تدخل بذلك فى الإسلام. وصحيح أن هذه المادة كانت فى الدستور المصرى يومئذ رمزا فقط: لكن زوال الرمز بعد ضياع الجوهر إيذان بالشر كله.. وهو دلالة على التقدم الذى أحرزته الصليبية فى حملاتها المسمومة على الإسلام..!! لقد جعلت التفريط فيه، والارتداد عنه شارة تقدم وارتقاء.. ولا شك أن عناصر المقاومة استقتلت فى الحفاظ على الإسلام، والدفاع عن مواريثه العلمية والاجتماعية والسياسية، وأفلحت فى وقف هذا الغزو التبشيرى حينا، وكسر شرته حينا آخر.. غير أن جهدها فى هذا المضمار كان محدود النجاح..!! ص _158(1/149)
لماذا؟ لأن الاستعمار العسكرى كان ظهيرا جبارا للاستعمار الثقافى الصليبى. أدوات الحكم والتوجيه والتقنين والترغيب والترهيب فى يده علانية أو سرا.. إذا انسحب هو- لظروف قاهرة- خلفه أتباعه ومريدوه فى نفث غيومه ومد ظلمته. ترى أكان يدرك الاستعمار واحدا فى المائة مما أدركه لو كان الإسلام فى أحواله الطبيعية المعتادة أو دونها بقليل؟ كلا! إنه كان سيبوء يقينا بخفى حنين. أما والفساد مستشر فى كل شىء، فإن الخسائر التى نزلت به كانت فادحة.. وكل مشتغل بتجديد الإسلام لابد أن يعى هذه العبر. وأن يتعرف ما طرأ على الجبهة الإسلامية المترامية الأطراف من تغيرات خلال تاريخها الطويل.. أما الجراحات الغائرة التى أصابت الإسلام من الشيوعية فتلك مصيبة يجب أن نفرد لها كتابا ضافى الذيول..!! قلنا: إن عناصر المقاومة اشتبكت مع الغارة التبشيرية القادمة من الغرب مسلحة بكل شىء، وحمت بيضة الإسلام أن تجتاح، وأمته أن تذوب.. ولن أزال أحنى الهام للجنود الجهولين من العلماء والدعاة والساسة الذين قدروا بأسلحتهم الكليلة على الصمود أمام عداتهم الباطشين. والذين حفظ الله بهم هذا المصحف الشريف، واستدام بهم صيحات المؤذنين فى المشارق والمغارب تشق أجواز الفضاء بأن الله واحد وأن محمدا رسوله. إن هذا الجيش من الدعاة الموقنين، والفقهاء أولى الغيرة، والرجال الذين ثبتوا حيث ص _159(1/150)
هم لا يتزحزحون قيد أنملة عن العمل لله ورسوله. هذا الجيش الأعزل خيب رجاء المغيرين، وأخر النتائج التى ارتقبوها بلهفة.. وبقى علينا نحن أن نسد عليهم أفواه الطرق. ونضيق عليهم وجوه الأرض حتى نردهم من حيث جاءوا . وحتى تبوء الحملات الصليبية الأخيرة بما باءت به زميلاتها فى العصر الماضى وحتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله. المجددون: إننى أميل إلى وصف الرجال الذين أدوا ذلكم الواجب الضخم بالمجددين. فالتجديد- فى نظرى- ليس صفة رجل واحد يبرز فى عصر واحد. ففى المائة سنة الأخيرة ظهر أكثر من عشرة رجال وصف الأستاذ أحمد أمين نفرا منهم بأنهم " زعماء الإصلاح فى العصر الحديث " . كان كل منهم ينصر الإسلام كله، ويرفع لواءه، وإن قامت شهرته على ناحية معينة منه، أجاد فقهها، وأحسن البلاء فيها. هؤلاء القادة المشهورون، وغيرهم ممن انحرفت عنه أضواء الشهرة هم أهل الحق الذين خص الله بهم الإسلام، وتعهد بهم الأمة الإسلامية، فهم ينافحون عن الدين وقضاياه ما بقى الليل والنهار. ولا بأس أن نذكر الأحاديث النبوية فى هذا المعنى. " لا تزال من أمتى أمة قائمة بأمر الله لا يضرهم من كذبهم، ولا من خالفهم حتى يأتى أمر الله وهم على ذلك " . " لا تزال طائفة من أمتى ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون " . ص _160(1/151)
" لا تزال عصابة من أمتى يقاتلون على أمر الله قاهرين لعدوهم لا يضرهم من خالفهم حتى تأتيهم الساعة وهم على ذلك " " لن يبرح هذا الدين قائما يقاتل عليه عصابة من المسلمين حتى تقوم الساعة " " من يرد الله به خيرا يفقهه فى الدين، ولا تزال عصابة من المسلمين يقاتلون على الحق ظاهرين على من ناوأهم إلى يوم القيامة " هذه الأحاديث الصحيحة لا تعنى- فى نظرى- جماعة من أهل المغرب، أو من أهل مصر، أو من أهل الهند يقاتلون عدوهم على الإسلام، ويخلصون بدينهم من فتنته. لا. إنها تعنى مجموعة الأفراد الذين يظهرون فى أنحاء العالم الإسلامى فقهاء فى الدين، مجاهدين عنه، ناشرين لتعاليمه، متعرضين للأذى فى سبيله.. وتعنى أن هؤلاء الرجال الكبار برغم ما يتعرضون له من محن- قد يستشهدون فيها- سوف ينجحون فى المحافظة على أمر الله. وستبقى رايات الإسلام خفاقة بجهودهم، مهما تفاحشت العوائق والصعاب أمامهم. والواقع أن الإسلام مرت به أيام سود حتى قيل: قرب أجله. وبغتة تنشق الظلمة عن نهضة جديدة له تدور بها رحاه أعظم مما كانت. ومن ثم فنحن الدعاة إلى الإسلام نخوض معركة المصحف واثقين من أن الحق لن يبيد. وأن الهزائم العارضة دورة من دورات الحياة يعقبها النصر الذى لابد منه، يوم يتهيأ المسلمون له بالإيمان، والخلق، والتقوى، والجهاد. ولا يجوز أن نلوم القذر لأذى أصابنا، نحن سببه الأول والأخير. إن العالم الإسلامى يتقلب اليوم فى رماد الهزيمة التى جرها على نفسه بتفريطه وتوانيه. وسيظل فى ورطته تلك حتى يصدق الله إيمانه وجهاده. وعندئذ يفرح المؤمنون بنصر الله. ص _161
في سلم النهوض ص _162(1/152)
فى سلم النهوض العودة بالمسلمين إلى الإسلام علما وعملا. تلك هى وظيفة المجددين لدين الله، الناهضين بأمته كى تؤدى رسالتها الكبرى. وقد سردنا آنفا الصفات التى ينبغى تكاملها لدى هؤلاء المصلحين كى يحرزوا النجاح المنشود، ويردوا قافلة الإسلام إلى الطريق التى حادت عنه. ومن استعراض الجهاد النبيل الذى قام به بعض هؤلاء الرجال، نعرف العلل التى واجهتهم، والأدوية التى التمسوها من كتاب الله وسنة رسوله طبا للأمة المريضة، وأخذا بيدها نحو العافية. وما نريد إيضاحه فى هذه العجالة أن اشتغال كل مصلح بلون من العلاج لا يعنى أن الإسلام هو هذا اللون وحده. فمحمد بن عبد الوهاب عرف بين الناس بأنه داعية غيور على عقيدة التوحيد، يحب أن يمحو من الأذهان أن هناك وساطة ما بين الخالق والمخلوق.. وقد أعلن حربا شعواء على تعلق الرعاع بالقبور، ودعائهم المدفونين بها، يطلبون منهم مالا يجوز طلبه إلا من رب العالمين. والتوحيد بلا شك دعامة الإسلام وشارته. وقد ضلت جماهير غفيرة عن حراسته فى الفكر والعاطفة والسلوك، وتوجهت إلى من اتسموا بالصلاح من الأحياء والأموات، تعاملهم كما يعامل النصارى قديسيهم. وهذا خطأ مبين.. غير أن محمد بن عبد الوهاب الذى أنصف الإسلام فى هذه الناحية يعلم أن الإسلام عقيدة ونظام. وأنه دين يتعامل مع النفس والمجتمع والدولة. وأنه إذا قام بغسل الأوضار عن جانب منه، فليس معنى هذا أنه استوعب تعاليم الإسلام كلها إيضاحا وتبيانا.. إن هناك مصلحين آخرين أمكنهم أن ينصفوا جوانب أخرى من الدين نالها الغمط وغطاها الجهل. ص _163(1/153)
واهتمام ابن عبد الوهاب بأمر العقيدة ضرب من التخصص العلمى أملى به المزاج النفسى وأوحت به ضروريات البيئة. وإلا فإن الفساد الذى استشرى فى أوصال الدولة، وأوهن قوى الإسلام وأخر الشعوب الإسلامية تأخيرا مزريا فى ميادين المعرفة الكونية والتنظيمات الاجتماعية هذا الفساد كان بحاجة إلى إصلاح ماس ونظرات نافذة..! إن العودة بالإسلام إلى ما كان عليه أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين تستدعى- إلى جانب تنقية الإيمان من الشوائب- ضمان قيام حكام من طراز عاقل وعادل، تختارهم الأمة اختيارا حرا، وتحاسبهم إذا شاءت حسابا مرا. ولها أن تتخذ من الوسائل ما يبلغها هذه الغاية، وما يمنع تسرب السفهاء، والطغاة والملتاثين بجنون العظمة، والسكارى بخمرة النسب، ما يمنع هؤلاء جميعا من تولى وظيفة ما، بله زعامة الأمة. ونحن نحفظ الكلمة المأثورة: " تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من فجور " ونحفظ من أصول الفقه الإسلامى: " ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ". ومعنى ذلك أن أيدينا مطلقة فى وضع الدساتير التى تكفل كرامة كل فرد فى الأمة وتحجز الحاكم عن أى تصرف مائل. والعمل فى هذا الحقل جهاد إسلامى محض. واقتباس وسيلة خارجية لبلوغ هذا الهدف لا تقدح أبدا فى صبغته الإسلامية. إن الحق الإلهى الذى زعمه ملوك أوروبا لأنفسهم إبان تخلفها الرهيب قد انتقلت بدعته إلى طائفة من ملوك الإسلام.. فكيف يعد التسلم بهذه الخرافة الدخيلة دينا؟ والخروج عليها! ديمقراطية " حديثة، وليست رجعة إلى تقاليد سلفنا الصالح؟؟ ص _164(1/154)
الإصلاح السياسى صنو إصلاح العقيدة: إن الرجال الكبار الذين شقوا عصا الطاعة على استبداد السلاطين الأتراك، وألقوا فى آذان العامة كلمات التمرد على حيفهم، كانوا فى الحقيقة يمشون فى طريق الأئمة السابقين: أبى حنيفة ومالك وغيرهم.. ولذلك لم يعجبنا ما كتبه الأستاذ أحمد أمين وهو يؤرخ " لمدحت باشا " ويشرح منهجه فى الإصلاح فيقول: " وهذا مصلح آخر من جنس آخر. محمد بن عبد الوهاب مصلح دينى، وهذا مصلح اجتماعى. ذاك فى نجد، وهذا فى استانبول. ذاك لا شأن له بالسياسة ولا المدنية الحديثة، إنما همه إصلاح العقيدة. وهذا منغمس فى السياسة لا مشكلة أمامه غيرها. ذلك برنامج إصلاحه الرجوع إلى عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته لنعتقد ما يعتقدون ونعمل ما يعملون ونترك ما يتركون. وهذا يرى الإصلاح فى الرجوع إلى المدنية الحاضرة ومناهجها فى الأمم الحية، لنختار منها ما يصلح لنا، ويتفق ومواقفنا دارسين فى إمعان كيف شق الأوروبيون طريقهم إلى الحياة الاجتماعية والسياسية، وكيف تعثروا، وكيف نهضوا، فنتعلم من خطئهم وصوابهم، ونقتبس خير ما أنتجته عقولهم.. ". ثم يقول بعد أن بين ما اكتنف الدولة من عوج فى شئونها كلها، وانحلال لفها ظاهرا وباطنا فى الظلام: " وفى هذا الوسط الشائك جدا، حاول " مدحت باشا " أن يضع إصلاحه. فرأى أن الإصلاح الذى يجب أن يسود المملكة العثمانية هو الحكم الديمقراطى على نمط ما رأى فى إنجلترا وفرنسا. ومظهر هذا الحكم هو الدستور وإنشاء المجالس النيابية، وتمثيل كل عنصر من عناصر الدولة وكل قطر من أقطارها فى هذه المجالس. ص _165(1/155)
وبعبارة أخرى أن تحكم الأمة نفسها بنفسها، لا أن يحكمها السلطان بإرادته ونوازعه والمقربين إليه الذين يخدمون أغراضه ومصالحهم.. وكل عاقل يرى أن الأمم الأوروبية مرت بهذا الدور الذى تمر به الدولة العثمانية. ولم ينقذها إلا الحرية.. فهى التى تربى الأمم، وتحيى النفوس، وترد للمرء حقوقه، وتشعره بشخصيته، وتضمن له العدل. والحرية هى التى تولد الدستور الذى يبث الطمأنينة بين أفراد الأمة، ويسوى بين الأفراد على اختلاف دينها وعناصرها، فيؤلف بين قلوبها.. وهو الذى يتيح الفرص لكل كفء قاثر، ويسد الطريق أمام كل دساس ماكر " لقد كان الإسلام أسبق رسالة عالمية لتحرير الإنسان، وتوطيد حقوقه، ورفع هامته، فما يحني صلبه إلا راكعا لله الذى خلقه فسواه.. وكان الإسلام أسبق رسالة عالمية لرعاية الجماهير، ومنع التفاوت المصطنع بين طوائفهم، وإشاعة نعمة الله فى بيوتهم، وتوفير الطمأنينة الكاملة لهم ولذراريهم.. وإذا كانت المثل الرفيعة تستبعد من الحياة العملية لسوء موقف أصحابها منها، فإن الأوروبيين لهم تاريخ منتن لو نظرنا على ضوئه إلى المبادئ التى يرددونها لاستبعدناها جملة وتفصيلا.. ومبادئ الإسلام لا يشينها تقصير عصابة من الحكام فى تطبيقها، أو هبوطهم دون مستواها. فلا تزال هذه المبادئ المعصومة كافلة للخير الكثير. ولا يزال البناء عليها وحدها مضمون السلامة والبقاء. وقد ثاب الأستاذ أحمد أمين إلى الحق، وبنى على قواعد الإسلام البناء الواجب عندما قال شارحا الإصلاح الدستورى الذى دعا إليه مدحت باشا: " إن الشورى الإسلامية نظمت فى العصر الحديث بما يسميه الأوروبيون " البرلمان " ". ص _166(1/156)
والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر تشكل فى المدنية الحديثة بحرية الصحف فى النقد، وحرية الأفراد والجماعات فى التأليف وإبداء الآراء فى صراحة، يستحسنون ما يرون، ويستنكرون ما يرون، ويخطبون كما يشاءون... فلا أحد معصوم، ولا الحكومة معصومة، ولا الوالى معصوم. وإنما الذى يقومهم، ويخيفهم، ويلزمهم الجادة يقظة الرأى العام وحريته فى النقد. وهذا هو ما سمى فى القرآن: بالتواصى بالحق والتواصى بالصبر. كل هذا واضح جلى ولابد منه. ولكن إرادة السلطان عبد العزيز هى الصخرة التى تتكسر عندها كل هذه الآراء. أرض الدولة العثمانية أخصب أرض فى العالم، وهى مع ذلك أفقر أرض لهجرة كثير من أهلها بالظلم. وإثقال كاهل من بقى بالضرائب. ولا شركات، ولا مصانع، فالقطن كثير فى البلاد، ومع هذا فالأقمشة القطنية تجلب من أوروبا. حتى الطرابيش التى نضعها على رءوسنا، وعلب الكبريت التى نشعل بها نيراننا نجلبها من الخارج. وكل المواد الأساسية متوفرة عندنا، ولكن لا عدل، ولا أمن على المال، فلا شركات ولا صناعات. ولا يتأثر العدل إلا بالقوانين العادلة، والمحاكم العادلة، وهذه لا تكون إلا بالحرية أى الدستور. كل من جاهر بالإصلاح أبعد، ففؤاد باشا مات محتقرا مهينا، وغالى باشا دست له الدسائس حتى عزل من منصبه وهما ما هما فى الكفاية والاستقامة... وإنما يقرب أمثال محمود النديم الشره الجاهل الذى يقدم مال الدولة للسلطان، ثم ينتهب لنفسه ما نالته يده ". هذا الكلام عامر بالصدق. والمسلمون فى كل مكان بحاجة إلى استبطان معانيه ومراميه..!! ص _167(1/157)
تجديد الأمة فى ميدان العلم: أصيبت الأمة الإسلامية بقحط علمى مروع فى عصورها الأخيرة. تصور أن الصحراء الكبرى طغت على الأرض الخصبة فى وادى النيل، فحولت خضرتها عفرة، ونضرتها وحشة، وحياتها الزاهرة مواتا مديد الخراب..!! إن هذا الذى يمسكه الخيال المشئوم وحده، هو ما وقع فى العالم الإسلامى المترامى الأطراف بين المحيطين وفى شرقى أوروبا! فالأمة التى تأسست على القراءة والمعرفة غلبت عليها الأمية. والتى طوف بها البحث فى كل مجال- حتى أخذ عليها الإسراف فى بعض نواحيه- قيدها الجمود والتقليد.. الأمة التى سدت الكتب فى إحدى عواصمها مجرى النهر، وتكون منها جسر للعابرين، والتى استوعبت فلسفات الدنيا، وكل ما أنتج الفكر الإنسانى إلى عهدها، وصقلته، ونشرته على العالمين، هذه الأمة أسدل الليل عليها سدوفه. فإذا هى لا تعى من الوحى الذى قامت به شيئا يذكر. ولا تعى من ثمار الفكر العالمى أثارة تجدى. فلا جرم أنها هانت على نفسها وعلى الناس، وكان المصير ما نعلم! كان هم المصلحين أن ينيروا العقول التى أظلمت، وأن يفجروا أنهار المعرفة فى كل واد، وأن ينعشوا العقل الإسلامى الذى عراه الإغماء، وأن يعيدوا للعلم والبحث مكانهما الأول فى صدر الإسلام. وقد كانت هذه النهضة من بين عناصر المقاومة العنيدة للهجوم الذى تعرض له الإسلام أخيرا. وكانت من جرعات الحياة التى تغالب الفناء وتقتل دواعيه.. ونحن نلخص مظاهر هذا التجدد فى النقط الآتية: (1) فى الفقه الإسلامى: علت الصيحات بضرورة العودة إلى الكتاب والسنة، واستقاء الأحكام منهما، ودراسة المذاهب الفقهية كلها دراسة حرة، على أنها اجتهادات متساوية القيمة... ص _168(1/158)
وتلا ذلك أن سقط التقديس المتوارث لبعض المتون والشروح المذهبية وإن انفتح باب الاجتهاد لمواجهة الأحداث المتجددة. وسرى هذا التغير فى طريقة عرض العلوم الدينية التقليدية فى التفسير والحديث والعقيدة وغيرها ، وبدأت تتخلص من رواسب عرضت لها من قرون التخلف، أو من قرون الازدهار. وشرعت هذه العلوم ترتدى لباس البساطة التى ظهرت فيه أول ما بدأت مع تطور فى العرض يناسب العصر الحاضر.. إن عهد الاضمحلال الطويل نضح من غباوته على أسلوب التأليف العلمى فجعله مربد الوجه مرير المذاق.. وعشرات الكتب الدينية التى تداولها العامة، بل التى كانت تدرس فى الأزهر شملها هذا الطابع الردىء فى الوضع والإخراج فأساءت إلى الثقافة الإسلامية وخلقت عقولا معقدة الفكرة والنظرة، وما هكذا يخدم الإسلام.. !! قد تكون معلومات صحيحة وثمينة مستقرة فى قيعان هذه الكتب لكنها مطمورة وسط جو من الغموض تكاثف مع سوء الأداء وقصور اللغة..!! ولست أدرى لماذا كثرت المتون والشروح والحواشى والتقارير فى مجال التأليف العلمى ولماذا لا تساق المعارف الدينية سوقا رقيقا سمحا ، سائغا للمطالعين..؟!! إن عرض الإسلام على الناس يجب أن يكون فى أسلوب سهل ومنطق مبين. وهذا العرض الواضح هو الترجمة الأمينة لحقائق الدين والتصوير الصادق لعقائده وشرائعه، فإن طبيعة الدين بريئة من الالتواء والغموض بعيدة عن التقعر والتكلف. ص _169(1/159)
وكلما اقترب الكلام إلى السهولة والبساطة كان أدل على فطرة الله، وأعون على سلوك طريقه. وكما يحتاج الدين إلى الأسلوب السهل فى الإبانة عن منهاجه، ويحتاج القراء إلى هذا الأسلوب نفسه كى تتوطد صلتهم بمنابع اليقين ويستحبون العودة إليها بين الحين والحين. خصوصا فى عصرنا هذا، فنحن فى عصر افتن فيه أصحاب الدعوات والمذاهب فى إغراء القراء وإثارة أشواقهم. فإذا لم يتفوق علماء الدين فى هذا المضمار فسيكون فشلهم ذريعا فى خدمة الإسلام. واللائمة تقع عليهم وحدهم لا على المنصرفين والضائقين. إن هناك متونا ألفت فى شرح الفقه الإسلامى، فقه العقيدة والعبادة معا. ومن المؤسف أن هذه المتون كانت ألغازا تحتاج إلى شرح فكيف يتيسر النفع بها وكيف تعتبر شرحا للإسلام وهى تعقيد له؟ أو حجاب دونه. لذلك سرني أن أجد رجالا فى عصرنا هذا يجمعون بين حسن التصور والتصوير، يسهمون فى خدمة الثقافة الإسلامية بأنواع من التأليف السمح القريب تجمع بين الصدق العلمى والذوق الأدبى. على أن التجدد العلمى للإسلام بعد أن بدأ بطيئا شرع يتسع ويعمق مجراه ويشق طريقه. ونسأل الله ألا تقفه عقبة أو ترده نكسة. فإن كثرة المسلمين لا تزال قاصرة فى علوم الدين، ولا تزال أشد قصورا فى علوم الحياة. والواجب الأول على كل حكومة إسلامية أن تسارع إلى انتزاع هذا الجهل من جذوره وإلى تسميد التربة الإسلامية بما يساعدها على الإخصاب والازدهار. وذلك بأمداد لا تنقطع من المعرفة الشاملة والثقافة المتعددة الأنواع. ص _170(1/160)
(ب) تجدد الأدب العربى فى معانيه وديباجته.. وكان هذا الأدب قد شحب وهزل وصار مجموعة من الكلمات المسجوعة والأشعار التافهة، ليس وراءها معنى جاد، أو غاية محترمة. والأدب وعاء التقدم الإنسانى للأمة ومظهر ما يعتمل فى فؤادها من عاطفة، وفى عقلها من فكر. وقد سقط الأدب العربى سقوطا ذريعا قبل النهضة الحديثة. وكانت دراسة قواعد اللغة والبلاغة تدور فى حلقة مفرغة من المتون والشروح التى تقوم الألسنة ولا تنشئ ملكة. والتى تشرح أسرار البيان العالى فى المنظوم والمنثور- وفى القرآن الكريم أصلا- ولكنها لا تخلق أديبا يحسن البيان. والغريب أن علماء الدين كانوا أقل الناس حظوظا من هذه النعمة. نعمة الأسلوب المشرق والأداء الساحر.. ترى كيف يقدرون على خدمة الكتاب والسنة مع هذا العجز؟! وكان من حسن الفقه فى الدعوة الإسلامية أن صناعة الأدب وجدت فى الجامع الأزهر قبولا ورواجا. وأن الأساليب العامة ارتقت كثيرا، وأخذت تقترب من جمالها القديم فى القرون النيرة الأولى أيام الصحابة والتابعين..!! (جـ) أقبل المسلمون على دراسة علوم الكون والحياة، ونقلوا عن الغرب ما سبقهم به سبقا بعيدا فى هذه المجالات الخطيرة. والمسلمون- بهذا التصرف- أصابوا الحق من وجوه: أولهما: أنهم نزلوا على منطق كتابهم فى فهم الكون وقوانينه، والمادة وخواصها. ولا يوجد فى الأولين والآخرين كتاب حض على التأمل فى الملكوت مثل هذا القرآن العظيم. ص _171(1/161)
وآخرها: أنهم استأنفوا السير فى الطريق الذى مشى فيه آباؤهم من قبل وأسدوا فيه للعالم أيادى بيضاء فى شتى العلوم والفنون.. ويجب على الأمة الإسلامية أن تدمن البحث فى خصائص الأشياء وأسرار الأرض والسماء، وأن تكرس لذلك أخصب العقول وأعظم الطاقات.. فإن ذلك- مع كونه استجابة لتعاليم الوحى- من أهم الوسائل لإنجاح رسالتها ودعم معيشتها. (د) ونشط المسلمون إلى دراسة ثمار الفكر الإنسانى فى علوم النفس والاجتماع والأخلاق والاقتصاد والسياسة وغيرها. ومع أن موضوعات بعض هذه العلوم تناولت قضايا قال الدين فيها كلمته، إلا أنه كان من الخير الإطلاع على ما فيها من صواب وخطأ. فإن تجلية الحقائق الدينية تتم وتنضبط فى جو المقابلة والمقارنة.. ومن الإنصاف أن نعترف بأن التفكير الدينى- أعنى الاجتهاد البشرى فى فهم النصوص الدينية- قد يشرد أو يضعف. وأن الوقوف على الاجتهاد العقلى فى كل عصر، وكل جنس، يساعدنا مساعدة حسنة على خدمة الدين وحقائقه الثابتة. وهذه العلوم الإنسانية تخلصت من لوثات الفلسفة القديمة، واعتمدت على المنهج التجريبى، وطرق الاستقراء والإحصاء مما يجعلها تصلح وسائل لخدمة الدين. بل إنى أعد الإلمام بها ضرورة للدعاة الإسلاميين. ص _172(1/162)
القيادة العربية والقيادة التركية للإسلام: لقد بدأ هذا التجدد فى أعقاب انهيار شامل دك صرح الأمة الكبيرة، وأطار الغبار والأنقاض من كل ناحية وأعقبه إظلام سمح للخرافات والأباطل أن تشيع وترسخ.. ولذلك رأيناه يقتحم طريقه وسط طرائق وعرة، خلفها طول الجهل والجمود.. وقد ساءلت نفسى: هل طبيعة الأجناس التى قادت الأمة الإسلامية الكبرى تنضح على طريقتها فى الحكم، وتحدد نهايتها فى مكان القيادة؟ إن العرب- وقد نزل القرآن بلغتهم- احتفوا حفاوة رائعة بكل مصادر المعرفة، واستقبلوا بترحاب بالغ رجالات الفكر من كل فج. فازدهرت الحضارة الإسلامية فى عهدهم وحلقت فى الأوج. بيد أن نزعتهم القبلية، واعتزازهم السخيف بالأنساب، أتاح للفرقة أن تنجم فى شتى الميادين، فمزق الخلاف شمل الدولة وأسقطها أمام خصومها. ولا يزال العرب للأسف صرعى خلافات خاصة، وثارات تاريخية بائدة!! وقاد الترك الأمة الإسلامية، واستطاعت عبقريتهم العسكرية أن تقلم أظفار الصليبية بضعة قرون، غير أن الخصائص الحربية لا تغنى- فى بناء الأمم- عن انطلاقات العقل واستبحار الثقافة. وحظوظ الأتراك من علوم الدين والدنيا ضئيلة. وأنى لهم الصدارة فى أمة كتابها عربى ونبوتها عربية- أعنى السيرة والسنة كلها. ونهر المعرفة الذى سار فى تاريخها قرونا طوالا عربى المادة والتيار! وهم مع هذا كله حراص على بقائهم تركا فى ألسنتهم وشارتهم!! إن هذا التناقض عمل عمله فى إماتة العقل الإسلامى العام، وانتهى بمصرع الترك والعرب جميعا وسقوطهم فى براثن الاستعمار!! وأحب أن أرد الشبهات هنا عن حقيقة علمية تتصل بحكم الأتراك. إنني أكره ما اتصفت به سياسة العثمانيين من جهالة وفوضى. ص _173(1/163)
وأنكر ما أصاب الشعوب فى ظلها من عنت وإرهاق. غير أن وصف صلة الأتراك بالعرب بأنها استعمار كهذا الاستعمار الإنجليزى أو الفرنسى.. ليس من الحق فى شراء. فالأتراك مسلمون يشوب سلوكهم الاضطراب، ويمكن القول بأنهم أساءوا إلى أنفسهم وغيرهم معا. أما الإنجليز والفرنسيون وغيرهم فهو صليبيون استهدفوا محق الإسلام، والتهام أممه. وقد سخروا تفوقهم العلمى والمادى فى بلوغ مأربهم، وإشباع حقدهم القديم على الإسلام، وإدراك ثاراتهم من بنيه.. وقد قرر المؤرخ الإنجليزى المنصف " توينبى " هذه الحقيقة فى حديث له مع صحيفة الأهرام جاء فيه: " لقد عاش العالم العربى أمة واحدة قرونا طويلة. وظل ذلك بارزا من القرن السادس عشر إلى الحرب العالمية الأولى - وهى فترة الحكم التركى لبلاد العرب - ومع أن هذه الوحدة كانت مفروضة من الخارج، فرضها العثمانيون، فإن العرب ما كانوا يعتبرون العثمانيين أجانب تماما، لأنهم كانوا مسلمين، فهم ليسوا كالإنجليز مثلا. وقد أدى الحكم العثمانى خدمة للعرب (كالخدمة التى تؤديها الولايات المتحدة اليوم لأمريكا اللاتينية). فقد كان هو الأخر بمثابة الدرع الواقى للعالم الإسلامى من العدوان الخارجى، وأخل احتلال المغرب مثلا 300 سنة. وكذلك أدى الحكم العثمانى خدمة- ولو بطريق كير مباشر- لعرب فلسطين. فهو لم يكن يسمح لعدد اليهود بالتزايد حتى نهاية حكمه. ولم تكن الصهيونية تهدد هذا الوطن حتى انتهى هذا الحكم. ص _174(1/164)
كذلك فإن الحدود الحالية - للبلاد العربية الواقعة فى آسيا على الأقل - لم ترسم إلا بعد نهاية الحكم العثمانى!. أ. هـ ويقول المؤرخ المسلم الدكتور محمد ضياء الدين الريس: " حتى نشوب الحرب العالمية الأولى- (عام 1914)- كان الشام - بكل أقسامه - والعراق والحجاز وسائر جزيرة العرب ـ كانت هذه الأقطار كلها تكون الجزء الأكبر من الدولة العثمانية فى الشرق الأوسط، وكانت قد مضت على هذه العلاقة أربعة قرون. أما مصر فكان العدوان البريطانى قد فصلها عن الدولة منذ عام 1882.. ومن الخطأ أن يظن أن علاقة الدولة بتلك الأقطار العربية كانت علاقة استعمار. فالواقع أن الدولة العثمانية كانت دولة (اتحادية) لا تقوم على أساس العصبية الجنسية وإنما تقوم على الرابطة الدينية والتاريخية. لم يكن طابعها الحقيقى " تركيا " ولكن " عثمانيا ". وفرق كبير بين الاثنين. فهى كانت متنوعة الأجناس، وكان الباب مفتوحا للعناصر كير التركية لتتولى كل الوظائف وتصل إلى أعلى مراتب الحكم. فكثير من ولاتها وقادتها وأمرائها وعلمائها كانوا بالفعل من عناصر عربية أو كردية أو مغربية أو بلقانية أو شركسية، تجمعهم كلهم وحدة الدين والثقافة. أما فكرة العصبية التركية فنشأتها حديثة، إذ أنها ترجع إلى الحكم رجال، جمعية الاتحاد والترقى " بعد خلع السلطان عبد الحميد عام 1909. وحين ظهرت هذه الفكرة أخذت الدولة فى الانهيار النهائى لأن الدين هو الأساس الأول الذى تقوم عليه. وقد أخذ هؤلاء المتعصبون ينتزعونه من مكانه، فلم تلبث بعد ذلك إلا سنوات حتى قضى عليها إلى الأبد... ". أ. هـ إن العصبية القومية التى أودت بالعرب قديما وفتكت بسلطانهم هى التى طوت بساط الأتراك وهدمت بنيانهم. إن الإسلام وحده أساس الانطلاق وضمان البقاء. فهل من مدكر ؟؟ ص _175(1/165)
التجدد الإسلامى فى ميدان السياسة: قلنا: إن توارث الخلافة نظام دخيل على الحياة الإسلامية، وقد كان الخلفاء الذين يجيئون بهذا الأسلوب المخالف لسنة الإسلام يغطون تلك المخالفة بتبنى الغايات الإسلامية العليا والعمل لها. وإذا كان لديهم قصور علمى أو إدارى فإنهم يسروا مجالات الإجادة والجهاد للقادرين على ذلك من رجالات الأمة. وحسبهم أن يبقى ما يعشقون من حكم وسلطان!! غير أن ذلك الترقيع المفتعل لجهاز الحكم الأعلى لم يلبث أن بطل أثره على مر الزمان. فتولى أمر الأمة العجزة المستبدون ممن ظنوا الدين والدنيا مواريث اختصتهم بها الأقدار لمزية فى معدنهم تتنقل فى أفراد أسراتهم المختارة (!). ونشأ عن ذلك أن مقاليد الأمة الإسلامية وقعت فى يد عصابة من الأدعياء لا ترشحها مواهبها الخاصة لشىء طائل. ومع ذلك فهى تملك البت فى الدماء، والأموال، والأعراض، والمرافق العامة، والعلاقات الدولية، وقضايا ا لإيمان وأحوال العمران.. إلخ. إن منصب أستاذ جامعة أو ضابط جيش لا يورث بل يحتله من يبلغه بكفايته العلمية والخلقية. ووظائف الإدارة على اختلافها تحتاج إلى دربة وجرأة وطبيعة مسعفة. وشىء منها لا يورث بداهة.. والخلافة علم دينى، وفن إدارى، ووعى سياسى. وهى من قبل ومن بعد شرف نفسى ومجادة خلق وعدالة سلوك. ولم يقل أحد إن بطون الأمهات تبرز الأجنة مستكملة هذه الصفات!! إنما يحرزها الناس على اختلاف أنسابهم ومنابتهم فى الحياة العامة بما يبذلون من جهد فى الترقى، وبلاء فى أداء الواجبات. فمن تراخى تأخر ومن جد وجد. ص _176(1/166)
وقد يحدث أن تبتلى وظيفة ما بمن يملؤها على غير كفاية. وهنا يفدح المصاب أو يهون، على قدر ما يرتبط بهذه الوظيفة من حقوق الله وحقوق الناس. فإذا كانت الوظيفة رياسة الدولة روحيا ومدنيا فالنكبة هائلة مدمرة !! وقد بلى المسلمون بخلفاء وولاة من شرار الخلق. لو تخلت عنهم الملابسات التى أحاطت بميلادهم وسيرتهم لأودعوا السجون بتهم القتل والغصب. كان منهم من يقتل أباه ليرث الملك (!) وكان منهم من يقتل إخوته حتى لا ينازع فيه !! وقلما يقترب منهم إلا المتملقون ممن يؤجرون خبرتهم لكل دافع ثمن. أو علماء السوء الذين يطلبون بالدين عرض الدنيا.. وكثيرا ما وقع النزاع بين هذه الأسرة المدعية الكذوب وليس وراء نزاعهم إلا التنافس على الاستئثار بالحطام. أما الدين فهو أبعد ما يكون عن ذلك الميدان. قرأت فى أحد كتب التاريخ سردا لأسباب النزاع بين المصريين والأتراك- قبل أن يغزو الأخيرون مصر- فرأيت صورة سيئة من الصور التى تكررت فى تاريخنا الوسيط. ولا دلالة فيها إلا اختفاء معنى الدين وهداه، واستعلان شهوات الغلب والجاه. وذلك فى الوقت الذى أخذ الأوروبيون فيه يجوبون البحار الكبرى، ويكتشفون مجاهل العالم. ويبسطون سلطانهم على ما سبقوا إليه من بر وبحر!! ذلك ما كان يحدث فى العالم المسيحى.. أما فى الشرق الإسلامى فيقول الكاتب المؤرخ: إنه كانت بين المصريين والأتراك مودة متبادلة أول الأمر. ص _177(1/167)
وبقيت هذه الحال مرعية إلى زمن " السلطان بايزيد الثانى " ابن محمد الفاتح، إذ نازعه أخوه الأمير " جم " فى الملك، فقاتله بايزيد، وهزم جيوشه. وفر " جم " إلى الأشرف " قايتباى " سلطان مصر ملتجئا فأجاره. وطلب " بايزيد " تسليمه إليه فلم يجبه " قايتباى " فحقد عليه. وانضم ذلك إلى النزاع القائم بينهما على إمارة أبناء ذى الغادر (التى كانت فى حماية مصر ثم تدخلت الدولة العثمانية فى شئونها وادعت حمايتها) ثم إلى ما بلغ بايزيد من أن قايتباى أخذ من رسول ملك الهند هدايا كان أرسلها إلى السلطان بايزيد فاتخذ بايزيد من كل ذلك ذريعة إلى إعلان الحرب على الدولة المصرية. فجهز جيشا عظيما توغل فى البلاد الشامية إلى قرب حلب حيث التقى به جيش للمصريين فكانت الهزيمة على العثمانيين. فأتبعه بجيش آخر كانت عاقبته كسابقه. وزحف الجيش المصرى على البلاد العثمانية فالتقى بجيش عثمانى جرار فكانت الحرب بينهما سجالا مدة انتهت بالصلح والمصافاة. إلا أنها صارت سببا لتجسيم التنافس والتزاحم بين الدولتين على الاستئثار بالعظمة وبسط النفوذ والزعامة على الممالك الإسلامية. من أجل ذلك لم يدم هذا الصلح طويلا، إذ أخذ العثمانيون من جهة يحرضون القبائل والإمارات التابعة لمصر على التخلص من سيادتها. ويضعون العراقيل فى سبيل تجارتها مع غربى آسيا وأواسطها. مما جعل ورود الصوف ومنسوجاته وأنواع الفراء الفاخرة والمماليك الجراكسة إلى البلاد المصرية نادرا جدا، بل ممتنعا فى أواخر أيام الغورى. واستطار شرر هذه الإحن والأحقاد بسماح الغورى بأن يمر بطريق الشام الوفد الذى أرسله الشاه إسماعيل إلى مملكة البندقية ليعرض عليها أن يتحدا معا على محاربة العثمانيين!! وبإجارة السلطان الغورى للأمير قاسم ابن أخى السلطان سليم الأول العثمانى، وإجارة الشاه إسماعيل للأمير مراد أخى قاسم. ص _178(1/168)
وكان السلطان سليم أراد قتلهما، فطلبهما فلم يجيباه فكان ذلك (إلى خوفه من استفحال دولة الفرس الجديدة أو تحول المودة القليلة بين مصر وفارس إلى حلف سياسى وتناصر حربى) سببا لإعلان سليم الحرب على الفرس أولا ثم على مصر ثانيا ". ونقول: هل لدين الله دخل فى هذه الحروب؟ كلا. هل للشعوب نفع من هذه الحروب؟ كلا. هرج ومرج تهلك فيهما شعائر الإسلام ومصالح الجماهير. والكاسب الأكبر شخص يزعم أنه- لأمر يجهله البشر- خليفة الله فى أرضه، وصاحب الحق أن يأمر فيطاع، ويطلب فيجاب، ويأخذ فيعطى مع الشكر!! مرت السنون والقرون. والمسلمون ينحنون لهذه الخرافات المقدسة حتى دفعوا ثمن هذه الجهالة العمياء، سقوطا ذريعا فى أيدى أعدائهم. فإذا بلادهم يطويها الاستعمار الزاحف بلدا بلدا. والظلام القادم من الغرب يلفهم فى سواده شعبا شعبا.. * * * * إن غلبة هذا الجنون على المسلمين والبوار الذى أصاب دينهم ودنياهم من صدارة الأدعياء أنطق الأستاذ أحمد الزين بهذه الشكاة الحارة: كلهم فى الهوى يزين دينه ألف مفت، ومالك فى المدينة! جهلوا لجة البحار، ومسرى ريحها، وادعوا قياد السفينة كاد يهوى بها إلى القاع فوضى من دعاوى الجهالة المأفونه نجها رب ! إننا قد جعلنا كل فن فى غيرمن يحسنونه كل من صاح بالنبوة فينا قام أوس وخزرج ينصرونه فتنوه عن نفسه فتعالى! وادعى خلق عصبة يخلقونه! ملأوا رأسه من الوهم حتى ظن إثما أن النبوة دونه وله المعجزات وجه صفيق يعجز الصخر أن يكون قرينه معجزات النبى علم، وهذا معجز بالجهالة المفتونة ليس ذنب الدعى هذا ولكن ذنب شعب بالزور يمتدحونه ص _179(1/169)
كل يوم يكرمون دعيا..! كان عدل الجزاء لو يرجمونه كلما أرسل الحمار نهيقا..! ظن أهل السماء يستمعونه ويخال السبع السماوات نشوى من فيوضات جهله والرعونه وتعالوا إلى الدواوين إن الحال فيها يذرى الدموع السخينة كل شىء فى جوها بين جهل سائدا وكفاية مغبونة كم رئيس لولا القوانين تحمى جهله، كان طرده قانونه ذو جنون، وزاد فيه جنونا أن يرى ذا الحجا يطيع جنونه * * * والواقع أن مداهنة الظلمة سبب أصيل فى استشراء أذاهم وامتداد طغواهم... وعندما يجد الملك الجبار من يزين له سياسته، وعندما يجد الحاكم المعتوه من يثنون خيرا على حماقته، فهنا الطامة التى تبيد الأمم.. وفى ذلك يقول الأستاذ محمد أبو زهرة: " إن النفاق هو الذى قطع أوصال الأمة الإسلامية قديما وحديثا. فهو الذى جعل الحكم الإسلامى ملكا عضوضا بعد أن كان أمر المسلمين شورى بينهم. إنه لولا النفاق ما جعل معاوية بن أبى سفيان الحلافة من بعده حكما وراثيا، إن كان يسمى الحكم الوراثى خلافة تتسم بالدين..!! إنه لولا أمثال ذلك الخطيب الذى وقف يقول لمعاوية: أمير المؤمنين هذا، ويشير إلى معاوية، ومن بعده هذا، ويشير إلى يزيد ابنه، ومن يمتنع فهذا، ويشير إلى سيفه. إنه لولا هذا المنافق وأشباهه ما استطاع معاوية أن يجعلها وراثية فى ذريته.. وما استطاع سن تلك السنة التى ضاع بها الحكم الشورى فى الإسلام. وإن واجب الأمة لهذا أن تحارب النفاق وتجاهد فى دفعه ومنعه حفظا لوحدتها ودفعا لهذا الداء الدوى أن يفتك بها. ص _180(1/170)
ولو رجعت إلى التاريخ الإسلامى فى ماضيه وحاضره لوجدت النفاق هو الذى أفسد أمر الأمة. فهو الذى أفسد الحكم قديما على إمام الهدى على. وهو الذى جعل الدولة الإسلامية حوزات ملوك توزعتها الأقاليم. حتى كان الملك المسلم يحارب ملكا مسلما آخر، بجنود مسلمين ليكون ملكه أربى وأكبر من ملك أخيه. فلولا الوزراء المنافقون، والحاشية المنافقة، والشعراء الكاذبون، وغيرهم وغيرهم ما طوعت نفس مسلم صاحبها فى أن يقتل أخاه المسلم باسم الوطنية أو الإقليمية أو العصبية أو غير ذلك من الأسماء التى ما أنزل الله بها من سلطان. ولولا النفاق وألاعيب المنافقين وذرابة لسنتهم ما تركت الدولة العثمانية أهل الأندلس يأكلهم التعصب المسيحى، ولا يبقى منهم إلا من يلجأون إلى الديار الإسلامية مستغيثين بالشعوب الإسلامية لا بالملوك. ولا يستجب أولئك إلا أخيرا، بعد أن اشترطوا السيادة لهم. وإنه لولا نفاق المنافقين ما فرض السلطان سليم التركى الجزية على كل بلد إسلامى دخله.. والجزية لا تفرض على مسلم. وإن النفاق فى الزمن الحاضر هو الذى اكقى بالمسلمين فى أحضان الاستعمار.. ألم تر إلى المنافق الذى يلبس العمامة، ويحرض أهل السودان على قتال الأتراك بجانب الإنجليز، ولا يجد غضاضة فى أن يقاتل المسلم المسلم "..!! الحرية الحرية !! من أجل ذلك كان المجددون الإسلاميون ينشدون بحرارة إصلاح أداة الحكم. ويرسلون صرخاتهم داوية بمحاربة الاستبداد، ورفض الأوضاع التى استمرأها، والتى أعانت على بقائه. وكانت المطالبة بدستور يحد من طغيان الحكم الفردي، ويمنح الشعوب قدرة على معالجة قضاياها، فى جو من الشورى الهادئة المتريثة، من أول ما فكر فيه أولئك المجددون. ص _181(1/171)
وشىء آخر له خطره. إن أموال الأمة للأمة، لا لجبار ينفق كيف يشاء فى ملاذه ورغباته أو على آرائه وسياسياته . فلا يجوز أن تفرض ضريبة على الناس، ولا أن ينفق درهم من هذه الضرائب المجموعة إلا فى نطاق الصالح العام. ودماء الناس وكراماتهم لها قداستها. فليس يجوز لبشر علا، أو دنا، أن يتعرض لها بالباطل. إن الاستعمار الداخلى هو الذى مهد للاستعمار الخارجى. والفوضى التى ضربت رواقها على كل شىء، هى التى أتاحت للغزاة أن يجتاحوا الحدود، ويجوسوا خلال الديار، ويقتسموا بينهم الأرض الإسلامية كلها، فما نجا من ضرهم فى أفريقيا وآسيا شىء يذكر...!!! إن الأقطار الإسلامية أحوج شىء فى الأرض إلى فيضانات متعاقبة من الحريات النبيلة تغسل تربتها مثنى وثلاث، وتنقيها من رواسب الحكم المطلق، والإهدار الكفور لحقوق الناس!! لقد كان أمير المؤمنين قديما رجلا من خيرة المؤمنين إن لم يكن خيرتهم على الإطلاق. يتولى الأمور أجيرا للمسلمين، على مال محدد، يأخذه لقاء عمله لهم.. وهو فيما يفعل ويترك تحت رقابتهم، ينقدونه بملء الحرية ولا يقطع دونهم أمرا...!!! فكيف ماتت الشورى؟ وبادت تلك الرقابة؟ وأمسى أمر الأمة فى يد رجل واحد تافه يرى أبناءها وأموالها إرثا له أو لأسرته. لقد عانى المسلمون- خصوصا الأجيال المتأخرة- ويلات شتى من هذا الفساد... ومن الخير أن يقر- دون مراء أو مواربة- بأن الدساتير التى هديت إليها شعوب الغرب أخيرا تتضمن نماذج حسنة لما يجب أن تكون عليه العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وأنها ثمرة تجارب مريرة تشبه التجارب التى مررنا بها إلى حد ما. ص _182(1/172)
فما المانع أن نستفيد من تجارب الآخرين، وأن نوفر على أنفسنا- نحن المسلمين- عناء بحث جديد. ذلك وقد اجتهد المصلحون الإسلاميون فى مكافحة الحكم الفردى ما وسعتهم الطاقة..!! وطالبوا الخلافة التركية- وهى خلافة على المجاز لا على الحقيقة- أن تقيد نفسها بدستور يكفل الحريات، ويحمى الحقوق.. لكن السلاطين أبوا، حتى حصدتهم الأزمات السود، فلم تبق لهم وسما ولا رسما. ولم ينج الإسلام نفسه من شؤمهم!! ومن الغريب أن بعض المشتغلين بالثقافة الدينية ينظر إلى قضية الدستور والحرية نظرة ثانوية. ويبنى فقهه الدينى فى الحكم ووسائله على نظرات قاصرة شاردة من مخلفات التفكير الملوكى البالى. وهؤلاء المتدينون لا يؤمنون على حاضر الإسلام ولا على مستقبله. ومصيبة المسلمين فيهم جسيمة. ص _183(1/173)
فى وجه الاستعمار: وكما جد الرجال الفاقهون فى تخليص الأمة الإسلامية من آثار الاستبداد الداخلى، قادوا حركات التحرير التى تطارد الاستعمار الأجنبى، وتجعل بقاءه منكرا، والتعاون معه جرما، والرضا به كفرا.!! وبلاؤهم الحسن فى ميادين التحرير تشرق به صحائف التاريخ. فهم موقدوا حروب المقاومة التى أقضت مضاجع الغزاة، وجعلت بقاءهم فى ديار الإسلام فادح الغرم. لقد رفعوا عقائرهم بالنذير، وكرسوا أنفسهم وأموالهم للكفاح، وتقدموا شعوبهم فى ساحات الفداء. ولو سارت الأمور وفق ما رسموا لتخلص الإسلام من الأثقال التى آذته، ولتخلص المسلمون من المأزق التى تضايقت عليهم!! لكن هل يترك أعداء الإسلام زعماء الإصلاح يبذرون الخير ويجنون الثمر؟ كيف؟ وهم بالمرصاد؟! أيتركون الراشدين الملهمين يجددون الإسلام، ويحررون أمته لتعود سيرتها الأولى؟ هيهات.. ثم إن أعداء الإسلام فى العصور الحديثة زادوا كما وكيفا. الصليبية التى تعلمت من ماضيها فى الخصام، كيف تختل لتقتل، انضمت إليها الصهيونية التى استشعرت بغتة أن لها ثارات فى المدينة وخيبر وأن لها وطنا كانت تقيم فيه فى فلسطين منذ 40 قرنا!!! وهناك بعدئذ الشيوعية التى طلعت على العالم فى القرن الأخير بإلحاد لا تنقصه الصراحة ولا السلاح. على أن الاستعمار الغربى- الذى لدغ الإسلام من قبله أول ما لدغ- كانت تتمثل فيه أحقاد الصليبية وتختبئ وراءه مطامع اليهودية. وأغلب ما نال المسلمين من أذى وشركان على يديه.. ص _184(1/174)
والهدف الأول والأخير لهذا العدوان القديم الجديد لخصه القرآن الكريم فى هذه الكلمة : (ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا).. ولم تتغير قط الغاية المنشودة وإن اختلفت على حسب العصور الخطط المرسومة.. هم يريدون الإتيان على هذا المصحف الشريف وصاحبه الذى جاء به. هم يريدون أن تخمد أنفاس المؤذنين فلا يسمع أبدا: حى على الصلاة، حى على الفلاح. هم يريدون أن يكون الإسلام قصة تروى كما تروى قصص الأمم البائدة، وأن يختفى الحديث عن توحيد الله ويوم الجزاء وتحريم الزنا والربا والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر والتردد على المساجد من انفلاق الفجر إلى غبش المساء. ولتكن أرض الإسلام بعدئذ كلأ مباحا للذئاب المنتصرة أيا كان لونها. واللغة العربية؟ يجب أن تموت هذه اللغة، وأن تحل محلها الإنجليزية والفرنسية أو لهجات الرعاع فى كل قطر للعامية فيه بغام !! وهناك عشرات الوسائل لإدراك هذه الغايات. ومنذ باشر الاستعمار حكم البلاد الإسلامية، واتصل بالشعوب المغلوبة على أمرها، وتولى شئون التربية والتعليم فيها، شرع يحيك مؤامراته سرا وعلنا. فزلزل الإيمان بأنواع الإلحاد وزلزل العربية بأنواع الرطانة. ولا أزال أذكر أياما، كان يتكلم الأزهريون فيها باللغة الفصحى. فوضع الاستعمار خطته كى يجعل من كلامهم " بالنحو " مثار السخرية ومبعث الهزء فى كل مجلس. واختفى الحديث بالفصحى طبعا ما دام احترام قواعد النحو يجر على صاحبه السخرية. ص _185(1/175)
ونجح الاستعمار فى إبعاد الفصحى عن لغة التخاطب ليستأنف إبعادها عن لغة التأليف والإذاعة. وأطلعنى أحد الأصدقاء على مجلة أسبوعية أخرجت لسانها لى لأنى أنطق الجيم جيما والقاف قافا. إن محرر الجلة " رئيؤ كدا " بلغة الرعاع، أو " رقيق جدا " بلغة العرب!! للقاف والجيم رنين يرتطم بقفاه كأنه صفعة مزعجة!! إن الغريب ليس إفلاح الاستعمار فى خلق هذا المخنث المسيخ. ولكن الغريب أن يتسلل هذا المسخ إلى وسائل الإعلام ليكون له حق توجيه الجماهير!! توجيهها إلى أين؟ إلى مواطن الخزى والندامة، ومواطن الارتداد والنكوص!!! تزوير المفاهيم: وتبدأ سلسلة طويلة من الدفاع والهجوم، بين طلائع التحرر الإسلامى من جهة، والصليبية الحديثة وما سار فى ركابها من قوى شريرة من جهة أخرى. فانظر كيف يقع المكر بالإسلام وأهله؟ إن الحرية مطلب غال، لا يختلف اثنان على الكفاح من أجله. غير أن الاستعمار يعرض حرية من نوع جديد، يعرض الحرية المطلقة ويوعز إلى بعض الأقلام أن تنادى بها.... الحرية التى وقر معناها فى أذهان الخاصة والعامة- وهم ينادون بها- أن تنكسر قيود الاستعمار الداخلى والخارجى على سواء. وأن تتوطد الكرامة السياسية والاجتماعية لكل إنسان. وأن تنظم مجالس الشورى وترسخ قواعد النقد الحر، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر. هذه هى الحرية التى عناها الجميع. ص _186(1/176)
غير أن الصليبية ـ من وراء ستار ـ أوحت إلى سماسرتها أن ينادوا بحرية أخرى. حرية الشارب أن يسكر، والفاسق أن يعبث، والمرتاب أن يرتد.. إنه لا حرج من منح الأمم حرية الخروج عن الإسلام مع خروج الاستعمار قبل ذلك أو بعده!! تلك هى الخطة الجديدة ثم ماذا يريد الناس من إخراج جيوش الاحتلال؟ أن يتحرر المسلمون من البلاء النازل بهم..!! لا. هذا تفكير مرفوض. إن أوروبا يمكن أن تتعامل مع قوميات خاصة تريد أن تستقل. فإذا حدث أن هذه القوميات الخاصة استمسكت بالإسلام فى نظامها الدستورى- ولو رمزا فقط- تنكر الاستعمار لها، وتعامل مع حركات تجعل البعث عربيا لا إسلاميا، وتجعل التحرر تركيا لا إسلاميا أو تجعل نفسها أى شىء إلا الإسلام... هذه هى الخطة الجديدة وهذا هو المحور الذى يدور حوله سماسرتها فى كل صقع ... المهم ألا يكون هناك إسلام. وأن تتخذ سياسة الغرب كل أسباب الحيطة حتى لا تقوم حركة إحياء إسلامية جديدة... يقول الأستاذ أحمد أمين مصورا ناحية جانبية من النزاع بين دعاة التحرر الإسلامى ودعاة الحرية المطلقة: " وتجادل الفريقان فى هذه المبادئ أيما جدال، وهذا ما يفسر كل ما صدر من الشيخ محمد عبده فى مقالاته فى مجلة الوقائع وغيرها. فهو يعنى فيها بأمر التربية والتعليم ويلح فى إصلاحهما وينال من ذلك بعض غرضه، وينقد العادات السيئة الشائعة ويدعو إلى التخلص منها، ويدعو إلى احترام القوانين وإطاعتها. ولكنه من ناحية أخرى يكتب مقالا عنوانه: "خطأ العقلاء" يهاجم فيه الفريق الآخر فى دعوته إلى الحرية الشخصية والحرية الاجتماعية. ص _187(1/177)
ففى الحرية الشخصية يرى أنها ضارة ما لم تدعم بالتربية وإلا سقط الناس فى الخمر، والقمار، وهتك الحرمات، وجاهروا بالإلحاد. بل نراه يفضل " الكبسة " على الحرية الشخصية من غير تربية. والكبسة عادة كانت جارية على عهده وهى أن يهجم رجال الضبط على بعض الأماكن المشبوهة ليلا ليقبضوا على من يظن فيهم الاجتماع لخمر أو فجور. فيقول: فالكبسة على ما كان فيها من خطر على الأنفس والأموال وشناعة الصورة، لو أحسن فيها القصد لكانت أولى وأفضل إلى زمن تتقدم فيه التربية فيكون لكل شخص زاجر من نفسه فترتفع الكبسة بذاتها ". أ. هـ وكذلك رأيه فى الحرية السياسية. يرى أن يبدأ بإصلاح المجالس البلدية وتعويد الأهالى السير عليها قبل مجلس نيابي منقول نظامه عن أوروبا. ثم يستمر متمسكا بهذا الرأى حين يقول: " إنما ينهض بالشرق مستبد عادل " ردا على من يرى أنه إنما ينهض بالشرق حكم نيابى شامل. وهو يرى فى هذا المقال أن المستبد العادل يستطيع أن يفعل فى خمسة عشر عاما الأعاجيب، وينقل الأمة خطوة واسعة إلى الأمام. ويرى الفريق الآخر أن الحرية الشخصية حق طبيعى للإنسان لا يصح أن يهدر لأى سبب، ومثل من يقول بالقضاء عليها لسوء استعمالها كمن يريد إبطال السكك الحديدية لأن القطار يقتل بعض الأفراد، والعفة التى تحتاج إلى حارس أقل قيمة من أن يحرسها حارس. وأما الحرية السياسية فلابد منها لمعالجة ما أصاب البلاد من الاستبداد. والمستبد العادل إذا ظفرت به أمة أعقبه فى الأمم الأغلب مستبدون ظلمة فلا يصلح هذا الاقتراح إلا أن يكون علاجا مؤقتا. ص _188(1/178)
والحكم النيابى هو الأمل الوحيد فى الإصلاح، فإن كان الناس لم يتعودوه فليتعودوه، ولا بأس من مضى قليل من الوقت حتى يكفه الناس ويسيروا عليه. وكان من ألسنة هذه الدعوة شاب سورى اسمه " أديب إسحاق " كان ذكيا كاتبا شاعرا خطيبا مثقفا ثقافة واسعة مطلعا على شئون العالم الأوروبى وتاريخه يجيد العربية والفرنسية والتركية مطلعا على آدابها، وأسلوبه فى الكتابة أقوى من أسلوب الشيخ محمد عبده وصحبه يوم كانوا يحررون مجلة الوقائع، تتلمذ أيضا للسيد جمال الدين فى مصر وتشرب من روحه، وكان متأثرا تأثرا كبيرا بالعقلية الفرنسية على حين كان الشيخ محمد عبده متأثرا بالعقلية الأزهرية والشرقية. وحتى فى سيرته الشخصية " كان مستهترا مسرفا على نفسه على حين كان الشيخ محمد عبده متدينا ورعا ". أ. هـ وأجدنى هنا مكلفا بإلقاء نور على هذا الموضوع. إننى من عشاق الحرية فى أوسع دائرة مستطاعة. وباسم الإسلام أود لكل إنسان على ظهر الأرض أن يستمتع بأكبر قسط من الحريات المتاحة وألا يكسف شعاع هذه الحريات ظل لحكم جائر أو متعصب أو مستبد. ولست أرى أبدا أن هذه القضية موضع النزاع، ولا هى سبب الخصومة بين المسلمين وغير المسلمين كما أن قضية بدء النهضة بمستبد عادل ضير مسلمة بل إن الشيخ محمد عبده نفسه تصرف بعيدا عنها. إن النقطة التى تفترق عندها الطرق، وتندلع عندها العداوات أو يستقر السلام هى: أيبقى المسلمون أحرارا فى الأخذ بدينهم أم لا؟ أيباح لهم العمل تحت رايته أم لا؟ إن العالم الصليبى يريد إكراهنا على الانحلال باسم الحرية، وعلى نبذ تعاليم الإسلام باسم التقدم، وعلى التفريط فى كل مقدس من مواريثنا باسم التقارب والتآخى..!! ص _189(1/179)
ونحن نرفض هذا كله جملة وتفصيلا، ولا تخدعنا الأسماء الكاذبة عن حقائقها القذرة.. ولقد كان الشيخ محمد عبده من قادة الحرية السياسية والاجتماعية والشخصية يوم أيد ثورة عرابى ضد القصر الملكى، ويوم جاهد لتحرير الطبقات الكادحة من ظالميها، ويوم جاهر بضرورة أن يحكم الشعب نفسه بنفسه.. فماذا فعلت الصليبية الإنجليزية فى مواجهة هذه الثورة الإنسانية العادلة؟ ظاهرت الملك الخائن ضد الشعب الثائر، وأرسلت قواتها لضرب الأحرار الذين يبتغون الكرامة والعدالة.. إن الهدف الثابت عند هؤلاء الغربيين منع كل حركة إسلامية أن تبرز وتسود. ولكن الصفاقة المنكورة والصيحة المحقورة أن يزعم أولئك الناس أنهم يقاتلون لنشر الحرية وأنهم يغارون عليها ويشجعون فى كل مكان طلائعها.. إن الحرية عند هؤلاء تعنى- بالنسبة لنا نحن المسلمين- أن نتمرد على تعاليم الإسلام ونتعدى حدوده، وألا نتجمع باسمه أو نتلاقى على طريقه. أما بالنسبة لليهود فليس ينافى الحرية أبدا أن يلم علم إسرائيل أخلاطا من أرجاء الدنيا يهجمون على الأرض المقدسة ليطردوا أهلها- العرب والمسلمين- ويحتلوا مكانهم. وأما بالنسبة للنصارى فلا يجوز أن يفرطوا فى وصايا دينهم، بل عليهم أن يستوحوه سياستهم الخاصة والعامة، وهم عندما يتقيدون بهذه القيود الدينية أحرار أحرار!! والكيل بكيلين على هذا النحو الأعمى عمل بين الخبث والضغن ولا يزداد مع الأيام إلا انكشافا ولم تخف بواكيره من قديم على مجددى الإسلام ومنهضى أمته من عثرتها. كتب الأستاذ أحمد أمين عن الشيخ جمال الدين الأفغانى: " ما تعاليم السيد فى كلمة؟ وما أغراضه فى جملة؟ يقول " لوثروب ستودارد " الأمريكى: إن خلاصة تعاليم جمال الدين تنحصر فى أن الغرب مناهض للشرق، والروح الصليبية لم تبرح كامنة فى الصدور بين أهله كما ص _190(1/180)
كانت فى قلب بطرس الناسك، ولم يزل التعصب كامنا فى سياسته، التى تحاول بكل الوسائل القضاء على أى حركة يحاولها المسلمون للإصلاح والنهضة. ومن أجل هذا يجب على العالم الإسلامى أن يتحد لدفع الهجوم عليه وليستطيع الذود عن كيانه ولا سبيل إلى ذلك إلا باكتناه أسباب تقدم الغرب والوقوف على عوامل تفوقه ومقدرته ". ويقول " جولد زيهر ": " إن جمال الدين كان- كما يرى براون- فيلسوفا كاتبا خطيبا صحفيا، وفوق ذلك كان سياسيا مسلما، يرى فيه محبوه وطنيا كبيرا ويرى فيه خصومه مهيجا خطيرا، وكان له أثر بالغ فى النزعات الثورية التى حدثت فى عشرات السنين الأخيرة على الحكومات الإسلامية المتأخرة، وكان يرمى إلى تحرير الممالك الإسلامية من السيطرة الأوروبية، وإنقاذها من الاستغلال الأجنبى، وإلى ترقية شئونها الداخلية بالإدارات الحرة المنظمة، كما يرمى إلى تكوين جامعة تنتظم الحكومات الإسلامية ومنها إيران الشيعية لتتمكن بهذا الاتحاد من منع التدخل الأوروبى فى شئونها ". ويقول السيد جمال الدين عن نفسه: " لقد جمعت ما تفرق من الفكر ولممت شعث التصور ونظرت إلى الشرق وأهله، فاستوقفتنى الأفغان وهى أول أرض مس جسمى ترابها ثم الهند وفيها تثقف عقلى، فإيران بحكم الجوار والروابط، فجزيرة العرب، من حجاز هو مهبط الوحى، إلى اليمن، ونجد، والعراق، وثم بغداد وهارونها ومأمونها، والشام ودهاء الأمويين فيها! والأندلس وحمراؤها، وهكذا كل صقع ودولة من دول الإسلام وما آل إليه أمرها، فالشرق شرق، والغرب غرب، فخصصت جهاز دماغى لتشخيص دائه وتحرى دوائه فوجدت أقتل أدوائه داء انقسام أهله وتشتت آرائهم واختلافهم عدى الاتحاد واتحادهم على الاختلاف، فعملت على توحيد كلمتهم، وتنبيههم للخطر الغربى المحدق بهم ". ويقول الشيخ محمد عبده: " أما مقصده السياسى الذى وجه إليه كل أفكاره وأخذ على نفسه السعى إليه مدة حياته- وكل ما أصابه من البلاء أصابه فى سبيله- فهو إنهاض(1/181)
كل دولة إسلامية من ضعفها، وتنبيهها للقيام على شئونها حتى تلحق الأمة الإسلامية بالأمم العزيزة والدولة بالدول القوية، فيعود للإسلام شأنه وللدين مجده ويدخل فى هذا تقليص ظل بريطانيا فى الأقطار الشرقية ". ص _191
ومؤرخو جمال الدين كلهم يجمعون على أن له غرضين واضحين: ا- بث الروح فى الشرق حتى ينهض بثقافته وعلمه وتربيته، ودعم دينه وتنقية عقيدته من الخرافات، وأخلاقه مما تراكم عليها، واستعادة عزته ومكانته. 2- مناهضته الاحتلال الأجنبى حتى تعود الأقطار الشرقية إلى استقلالها مرتبطة بروابط على نحو ما لتتقى الأخطار المحدقة بها. لقد انتهت بالفشل التام الحملات التسع التى ساقتها الصليبية ضدنا قديما، والتى عبأت فيها كل ما تملك من أنفس وأموال. إلا أن الأوروبيين استفادوا من هزيمتهم استفادة حولت انكسارهم على مر الليالى إلى انتصار. أما نحن فلم ندرس أسرار هذه الحملات؟ كيف استمكنت أول الأمر من اقتحام البلاد الإسلامية، ثم كيف تم لنا الغلب عليها أخيرا.. لقد خرجنا من انتصار بذلنا فيه أعز الضحايا لنقع فى الأخطاء القديمة التى عرضتنا لضروب البلاء. ودعك من أن الأتراك استطاعوا سحق الصليبية مرة أخرى شرقى أوروبا فإن العبرة ليست فى الهزائم والانتصارات المادية الموقوتة قدر ما هى فى يقظة الأمم وأخذها بأسباب النهوض العقلى والنفسى!! وقد شرع الأوروبيون يصعدون فى سلم الترقى بعد انكساراتهم العنيفة أمام المسلمين من عرب وكرد وترك. ثم عادوا يهجمون على الأقطار الإسلامية مرة أخرى بأسلحة شتى من بينها السيف حتى يكون وضعه فى الرقاب مقررا لنتيجة المعركة، أو دافعا للأمور فى الطريق التى يشتهون.. أما الأسلحة الأخرى الفعالة فما أكثرها وأفتكها.. هناك- فى العالم الإسلامى كله- المدارس التى تنشئ المسلمين نشأة أخرى يخرج منها جمهورهم بين جاهل بالإسلام أو جاحد له. ص _192(1/182)
هناك المطابع التى تخرج منها الألوف المؤلفة من الكتب والرسائل لتصوغ المشاعر والأفكار صياغة تجعلها أبعد ما تكون عن الإسلام، وأقرب ما تكون إلى النحل والمذاهب الأخرى. هناك المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية- إلى جانب وسائل الإعلام فى جميع البلاد الإسلامية- إنها جميعا تمشى وفق خطة مرسومة بعناية وأناة ودهاء. والاستعمار يستعين بأدوات متباينة ليبلغ هدفه الأخير. فقد تجد فى إحدى الصحف شخصا يعتنق الوجودية، وهى فلسفة لا تؤمن بالله ولا تلتزم بالشرائع والأخلاق الموروثة، وإلى جانب هذا الشخص قد تجد إمرءا شيوعيا، والشيوعية تناقض الوجودية فى نظرتها للفرد واعترافها بكيانه، ومع ذلك فإن الصليبية تستعين بالاثنين لأن كليهما كافر بالإسلام ماهر فى الإساءة إليه وتضليل أبنائه. ولا بأس أبدا أن ترى الاثنين صديقين فى هذا السبيل، ومعهما ثالث لا يدين بالإسلام، ورابع يدين بالإسلام رسميا ولكن عقله طبع فى لندن أو باريس أو موسكو.. والأنكى من ذلك أن دول الغرب المتنافرة ظاهرا فى سياستها تلتقى على صفاء ووئام عندما يتصل الأمر بإنجاح الخطط الصليبية فى بلاد الإسلام.، وهى خطط تعتمد على النشاط الحنفى الصامت أكثر مما تعتمد على ضوضاء الإعلان وضجة التظاهرات الجوفاء التى يتقنها بعضنا!! وإنى لموقن بأن الأصابع الخفية لأعداء الإسلام من الطول والمهارة والإحاطة بحيث تشمل القمم والسفوح، وبحيث يمكنها أن تعبث بجماعات إسلامية ومعاهد دينية محضة كما تتصرف فى ميادين المال والثقافة العامة.. وأستطيع أن أرجع فشل بعض الجماعات الإسلامية فى خدمة الإسلام إلى أن الصليبية دست عليها أعضاء من " الماسون " وغيرهم شردوا برسالتها وحادوا عن الصراط المستقيم.. وبلغ من نفاذ السياسة الصليبية أنها وضعت بذور فرقة هائلة بين بعض! المسلمين وبعضهم الآخر، وضربت هذا بذاك، وأحدثت دوامة من الآراء المتضاربة المتنافرة تريد أن تغرق الإسلام والمسلمين فى لججها بعد أن(1/183)
يدوخوا ويهنوا.. ص _193
هذا الاستعمار الثقافى: فلنعترف- طوعا أو كرها- بأن الهجوم الصليبى الأخير بلغ من أقطار الإسلام فى العصر الحالى ما يريد!. وأن ما أحرزه الآن يشبه ما أحرزه فى أولى حملاته القديمة عندما وضع يده على بيت المقدس وذبح فى ساحة المدينة المحروبة سبعين ألفا من المسلمين.. الكفار(!). لكن الحروب القديمة بقيت مائتى سنة بين كر وفر.. والنجاح الموقوت الذى أدركه فى ذلك العصر ليس نهاية المطاف. إنه أول الكفاح الطويل.. إن الخمسمائة مليون مسلم الذين يعمرون الأرض لا يزالون أشد الناس تمسكا بدينهم ورغبة فى الحياة به والموت عليه. وهم يجابهون الوعد والوعيد، واللين والشدة، بمزيد من الإخلاص لكتاب الله وسنة رسوله. وبين الحين والحين يرميهم الاستعمار بقواه أو بدسائسه ليفتنهم عن دينهم.. لكن الشعوب لا تفرط أبدا فى إسلامها.. وجو الحرية والشورى والدستور يبلغها ما تريد يقينا.. ومن ثم رأينا الاستعمار يملأ آفاق الشرق الإسلامي بغيوم الاستبداد، ويحاول بعدئذ بكل ما لديه من طاقة وعلم وذكاء أن ينفذ مأربه بالمكر أو بالسيف. ولنرسل نظرة عجلى إلى نماذج من هذا الكفاح على مستقبل أمة وحقائق دين، لنعرف- خلال القرن الأخير- كيف يغار علينا؟ وكيف ينال منا؟ وماذا كسبنا؟ وماذا خسرنا؟ وأين نقف اليوم؟ وأين تتجه بنا الأحداث..؟ ص _194(1/184)
المسلمون فى أخريات الحكم العثمانى: كان المسلمون فى القارات الثلاث يشعرون بولاء روحى نحو سلاطين آل عثمان الذين بدوا فى أزياء الخلافة، وكأنهم حماة الإسلام والقوام على إنفاذ تعاليمه. وقد قلنا: إن هؤلاء السلاطين ليسوا خلفاء حقا فلم تلدهم بيعة حرة، ولا هم من الناحية الشخصية أكفاء لهذا المنصب. ولم تكن الظروف التى تحيط بالأمة تسمح باستخلاف صحيح يطابق أحكام الشريعة، ويقدر على مواجهة القضايا الجسام فى الداخل والخارج.. فماذا يفعل المسلمون؟ رضوا بالأمر الواقع! ورأوا أن ترقيع النظام القائم أفضل من إحداث فتوق لا تعرف عقباها. والترقيع المطلوب يتناول نواحى شتى، فإن الحكم الإسلامى كان صوريا فى ظلال أسرة استمرأت السلطة ورعت فى الشهوة، وأحاط بها الأذناب المعينون على الفساد، وقل حولها الناصحون الذين يحنون على الجماهير ويقيمون وزنا للصالح العام، ويتقون الله فيما يحتلون من مناصب.. وقد وعدت الحكومة يوما أنها ستنزل على أوامر القرآن الكريم (!) وتوفر الأمان والعدل لكل مستظل بلوائها من مختلف الأجناس والأديان.. غير أن هذه الوعود تبخرت فى حريق الحكم الفردى المطلق، وأطبق الظلام على الأمة ومستقبلها لا سيما ودول الغرب تنمو وتقوى وتتربص الدوائر بالخلافة المترنحة السادرة. وحاول الرجل الذكى " مدحت باشا " أن يدخل الإصلاحات الدستورية على جهاز الحكم، وأن يقنع السلطان عبد الحميد بأن يشرك أولى النهى معه فى حكم البلاد وتحرى خيرها وحراسة مستقبلها. وأفهمه أن الإسلام يحترم الشورى ويبنى عليها نظمه السياسية. لكن السلطان الغز- مثل من قبله ومن بعده- كانت كلمة الشورى تؤذى مشاعره ويشعر عند سماعها كأنما لسعته عقرب..!! وجوزى الناصح الأمين بأن نفى ثم قتل. ص _195(1/185)
ولم تبق الأمور طويلا حتى قامت ثورة جائحة أكرهت الخليفة على قبول الدستور الذى طالما رفضه هو وأسلافه. ويظهر أن هذا القبول كان على مضض فلم يجد الثوار بدا من خلعه! ولا شك أن الثورة كانت ترجمة صحيحة لإحساس السخط العام على الحكم الاستبدادى الطائش. بيد أن جماهير المؤمنين التى أملت فى أزالة هذا النوع من الحكم كانت تريد إصلاحا لما فسد من شئون الأمة وإقامة لما تعطل من أحكام الدين وتنشيطا لما خمد من همم المخلصين.. وما دار فى خلد أحد أبدا إلا أن الثورة غضبة للإسلام الذى تاجر الخلفاء باسمه ولم يلتزموا هداه، وأنها ستبرز إلى الوجود المشروعات القيمة التى فكر فيها مدحت باشا وأعجزه السلاطين العميان عن إنفاذها وأنها ستجدد شباب الإسلام وترد مطامع أعدائه. هكذا استقبل المسلمون فى آسيا وإفريقيا وأوروبا الثورة التى قام بها أعضاء (جمعية الاتحاد والترقى) وفى طليعتهم " أنور ونيازى وشوكت ". وعلى هذا الأساس عاضدوها وأعانوها على إسقاط السلطان وفتح البرلمان.. يقول الأستاذ محمد ضياء الدين الريس: لا كان فرح الناس- ولا سيما الأحرار- بنجاح هذه الثورة عظيما فانبعثت الآمال وتطلع الجميع لمستقبل زاهر وعهد مشرق من الإصلاح. ولم يكن فرح العرب بأقل من فرح الترك أنفسهم بزوال فلك الحكم الفردى المستبد. وكان لكلمة الدستور أثر السحر فى قلب كل إنسان ظن أنه بمجىء الدستور سيقضى على كل فشاد ويبدأ كل صلاح. نعم، ظن الناس فى الشام والعراق والحجاز وغيرها أن دولة إسلامية فتية جديدة قد بدأ عهدها. وأن اتحادا وثيقا بين كل الأقطار التى يتكون منها الشرق الإسلامى الأوسط بما فيه تركيا- قد طلع نهاره.. وإذا أردنا أن نأخذ صورة من هذا الفرح الغامر الذى شمل كل قلب فلنصغ إلى بعض ما قال حافظ وشوقى من شعراء مصر إشادة بالعهد الجديد وتحية لرجاله " ص _196(1/186)
قال حافظ من قصيدة عنوانها "عيد الدستور العثمانى " أنشدها فى حفل جامع أقيم بحديقة الأزبكية فى مساء يوم الجمعة 23/7/1953 م: أجل، هذه أعلامه ومواكبه هنيئا لهم فليسحب الذيل ساحبه هنيئا لهم فالكون فى يوم عيدهم مشارقه وضاءة ومغاربه رعى الله شعبا جمع العدل شمله وتمت على عهد الرشاد رغائبه إلى أن قال- مشيرا إلى رجال الثورة- ثلاثة آساد بجانبها الردى وإن هى لاقاها الردى لا تجانبه روت قول بشار فثارت وأقسمت وقامت إلى عبد الحميد تحاسبه (إذا الملك الجبار صعر خده مشينا إليه بالسيوف نعاتبه) ثم قال: فمن لم يشاهد " يلدزا " بعد ربها وقد زال عنه الملك واندك جانبه وقلمت الأقدار أظفار بطشه ودل على ما تجهل الجن حاجبه ولم يغن "عبد الحميد " دهاؤه ولا عصمت " عبد الحميد " تجاربه ولم يحمه حصن ولم ترم دونه دنانيره والأمر بالأمر حازبه وأصبح فى منفاه والجيش دونه يغالب ذكرى ملكه وتغالبه مضى عهد الاستبداد واندك صرحه وولت أفاعيه وماتت عقاربه لك الله يا (تموز) إنك بلسم لجرحى الأسى والدهر تعدو نوائبه فديناك من شهر أغر محجل أوائله ميمونة وعواقبه تقابله الأعياد فى الأرض كلما تجلى هلال الشهر أو لاح حاجبه إلى آخر القصيدة. أما شوقى فقد قال: سل " يلدزا "ذات القصور هل جاءها نبأ البدور؟ لو تستطيع إجابة لبكتك بالدمع الغزير أخنى عليها ما أناخ على الخورنق والسدير أين الأوانس فى ذراها من ملائكة وحور المترعات من النعيم الراويات من السرور الآمرات على الولاة الناهيات على الصدور ص _197(1/187)
إلى أن قال: عبد الحميد حساب مثلك. فى يد الملك الغفور سدت الثلاين الطوال ولسن بالحكم القصير تنهى وتأمر ما بدا لك فى الكبير وفى الصغير لا تستشير وفى الحمى عدد الكواكب من مشير كم سبحوا لك فى الرواح وألهوك لدى البكور ثم قال يخاطب الجيش الذى قام بالحركة: يا أيها الجيش الذى لا بالدعى ولا الفخور كالليث يسرف فى الفعال وليس يسرف فى الزئير الخاطب العلياء بالأرواح غالية المهور يتلو الزمان صحيفة غرا مذهبة السطور فى مدح (أنورك) الجرىء وفى (نيازيك) الجسور يا (شوكت) الإسلام بل يا فاتح البلد العسير إلى آخر ما قال: وفى قصيدة أخرى مطلعها: بشرى البرية: قاصيها ودانيها حاط الخلافة بالدستور حاميها يا شعب عثمان: من ترك ومن عرب حياك من يبعث الموتى ويحييها صبرت للحق حين النفس جازعة والله بالصبر عند الحق موصيها نلت آمالك اللائى ظفرت بها فاهتف ( لأنورها) واحمد (نيازيها) ما بين آمالك اللائى ظفرت بها وبين (مصر) معان أنت تدريها المرتدون.. بهذه المشاعر الحارة النابعة من قلوب مؤمنة استقبل الثوار وهش لهم الأحرار وارتقبت الشعوب الملهوفة صفحة نيرة جديدة فى تاريخ الإسلام.. ولم يكن أحد يتوقع المآسي المخبوءة فى أطواء الغد المجهول. أكان الاستعمار اليقظ الماكر يدع الأمور تأخذ مجراها على هذا النحو؟. ص _198(1/188)
يف يأذن لنهضة جديدة يستعيد بها الإسلام قواه؟ وعملت القوى الخفية عملها فى الاتصال بقادة الثورة، لجر أعناقهم ناحية أخرى. ألم نقل فى كتاباتنا السابقة أن الصليبية تعتمد على نشاطها الخفى أكثر مما تعتمد على الاستعراضات المشكوفه؟ وأن منظماتها السرية- هى والصهيونية- تعمل على نسف الإسلام وبعثرة أممه شذز مذر . حسبها أن تضع يدها فى غفلة من الجماهير المسحورة على نفر من القادة وأن تدفعهم إلى ما تريد لينعكس على المسلمين ما يبتغون!! وذاك ما صنعته مع قادة " الاتحاد والترقى "!! إن الرجال الذين أيدتهم الأمة وهم يستردون لها حريتها من السلاطين الغاصبين سرعان ما تحولوا إلى حرب على الأمة ودينها وحرياتها أكثر مما فعل سلفهم السيئ. ومازالوا ماضين فى سياستهم الجديدة حتى أوردوا أمتهم- من ترك وعرب وكرد وهنود- المهالك. يقول الأستاذ الريس: " إن الكوارث الكبرى التى كانت ستصيب الدولة بعد قليل. والفشل الذريع الذى كان سيمنى به الحكام الجدد- كان ذلك كله نتيجة أخطاء متعمدة، وثمرة لسياسة ضالة، وعاقبة اتباع مبادئ قد استوردت من الخارج وأريد تطبيقها بالقوة مع عدم ملاءمتها لطبيعة الأمة وعدم اتفاقها مع تطورها التاريخى. ذلك أن أعضاء جمعية الاتحاد كانوا فى الغالب من شباب تلقى تعليمه فى بيئات الغرب. وقضوا شطرا من حياتهم فى عواصم أوروبا فنشأوا مفتونين بنظم الغرب وثقافته، وحشوا أدمغتهم بنظريات ومبادئ لا تصلح للتطبيق فى غير موطنها. كما أن من المحزن أن معرفتهم بالإسلام كانت ضئيلة، وأن فهمهم لحقيقة مبادئه أو لطبيعة أمتهم كان مضللا أو على غير أساس. ومن الثابت أن." جمعية الاتحاد " كانت خاضعة لتأثير الجمعيات " الماسونية " وكان نفوذ اليهود غالبا وظاهرا وسط محيط تلك الجمعية، فاليهود أمدوا الحركة بالمال وعاونوها بمختلف الوسائل. فكانت فلسفة تلك الحركة إذن خليطا من مبادئ غربية نظرية. وعواطف عنصرية ضيقة ونزعات سياسية مخربة. ص(1/189)
_199
ولهذا، فإن الحركة- فى الأمد الطويل- لم يقدر لها النجاح بل أصابت الأمة بصدمة شديدة من خيبة الآمال. وكانت فى النهاية كارثة أطاحت- ليس فقط بالنظام الجديد ورجاله- بل بالدولة كلها. وكادت تطيح بتركيا نفسها كأمة أو كدولة مستقلة لولا جهود قام بها فى آخر لحظة رجال جدد. كانت الآفتان اللتان أودتا بالحركة هما: اتجاهها غير الإسلامى ونزعتها العصبية القومية الضيقة. فقد عمد رجال العهد الجديد إلى إهمال لشأن الدين، وآثروا أن يتبعوا سياسة مدنية أو زمنية أو بصراحة " لا دينية " وهذه إحدى الثمرات المباشرة لاتصالهم باليهود. كما أنهم بذلوا كل الجهد لإحياء العصبية القومية، وبرزت فكرة " التركية " والاعتزاز بالأصل التركى، وعملوا على صبغ الدولة كلها بالصبغة التركية ". ماذا كسب رجال الاتحاد والترقى بخيانتهم للإسلام، وانحرافهم مع التيارات الأجنبية الضاغنة عليه الكائدة له؟ كسبوا اختفاء الدولة التركية نفسها مع مصاف الدول العالمية الكبرى. واستحالتها إلى دويلة مسكينة مغموصة الشأن. وكانتا تنكرهم للدين انسلاخا عن شارة مجدهم وابتعادا عن مصدر شرفهم وقيمهم فإن المسلمين تحملوا الكثير من الأتراك، لا لشىء إلا لأخوة الدين فقط!! ونسأل: أكان هؤلاء الاتحاديون عندما ثاروا يجرأون على إعلان ضيقهم بالإسلام وعزمهم على إقصائه؟ إن الأمة- لو شمت منهم رائحة لهذا الاتجاه- لضربتهم بالنعال فى شوارع إستانبول.. بل لقتلهم جنود الجيش أنفسهم، وفشلت الثورة، وبقى الخليفة المعلول! ولكان بقاؤه- على سوئه- أفضل عقبى من المصير الزرى الذى انتهى إليه أمر الدولة على أيدى إخوان الإسلام من أولئك الثوار الطائشين.. ص _200(1/190)
الكفاح فى مصر: ولنترك ثورة أفلح الاستعمار فى إحباطها عن طريق الدس والغش لننظر فى ثورة أخرى كانت أسبق منها وأشرف لم يجد الاستعمار بدا من إطفائها بقوة السلاح.. تلك هى الثورة العرابية.. وإنى لأفكر: ماذا كان يتم لو أن ثورة الزعيم أحمد عرابي نجحت واستقر لها الأمر؟ كانت ستقوم دولة عربية إسلامية كبرى تشمل وادى النيل كله مصر والسودان وأوغندا وإرتيريا. فإن السلطان المصرى كان يمتد حتى منابع النيل ويشمل فيما يشمل هرر ومصوع. رقعة فيحاء متكاملة اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا إذا واتتها ظروف الحياة الراشدة كونت دولة من أقوى دول البحر الأبيض، وكان لها فى العالم كله صوت مسموع، وأحمد عرابى الذى قاد الثورة رجل معروف بالإيمان والتقوى. والرجال الذين عاونوه كانوا من أهل الذكاء والاستقامة، من مدرسة جمال الدين الأفغانى وفيهم محمد عبده بلسانه وقلمه ورأيه.. والذى اتفقت عليه الكلمة هو إقامة حكم دستورى تتجلى فيه إرادة الأمة وتتعاون فيه الكفايات العظيمة وتنتفى منه مصائب الاستبداد السياسى وما جره على المسلمين من بوار ومعرة.. أى مستقبل سعيد ينتظر الإسلام إذا قامت هذه الدولة؟ دولة سيشيع فى ربوعها العدل الاجتماعى، وتتوطد فى أركانها الحريات السياسية، ألم يقل عرابى للخديوى: إننا لسنا عبيدا، ولن نورث بعد اليوم!! وشعرت الصليبية بأن الزمام يفلت منها إذا لم تسارع إلى العمل. وتحركت إنجلترا تقف إلى جانب الخديوى ضد الشعب المطالب بحقوقه الدستورية. والمضحك المبكى أن الإنجليز والفرنسيين، وأمثالهم يحملون لنا- معشر المسلمين- حريات معينة، الحرية الشخصية التى تبيح لصاحبها دون قيد أن يتصرف كيف يشاء، يزنى، يسكر، يكفر. أى حرية نبذ الإسلام واطراح تعاليمه وتعدى حدوده !! أما الحريات السياسية والاجتماعية التى قام أحمد عرابي بترسيخها فى وادينا هذا.. فإن الإنجليز لا يطيبون نفسا بحصولنا عليها، وهم يعلنون علينا الحرب كى نحرم منها. ص(1/191)
_201
ومن هنا نلمح سفيرهم إلى جانب الخديوى توفيق يشد أزره كى يرفض مطالب الشعب، ويشترك معه فى مجادلة القائد الباسل الذى ضاق ذرعا بالاستبداد والجور، وذلك فى ساحة " عابدين "..! والمرء يشعر بالعجب لمسلك هذا الإنجليزى المتطفل السمج !! ترى لو أن السفير الإنجليزى فى باريس انضم إلى جانب الملك لويس ضد رجال الثورة وحاول إقناعهم بالحسنى أو بالشدة أن يتراجعوا فى مطالبهم وأن يدعوا هذه الشعارات التى جاءوا بها أكان يترك حيا؟ كلا، كان سيقتل. ويذهب دمه هدرا، ما يجرؤ أحد على ذكره.. وكان الفرنسيون يمضون فى طريقهم محققين أهداف ثورتهم دون أن يشعروا إلا أن كلبا عوى يعترض حقهم فى الحياة فأخرس إلى الأبد. لكن السفير الإنجليزى فى مصر يعترض حق أمة مسلمة فى الحياة، وهذا- فى منطق الصليبية- عمل مشروع. ولو أن أحدا مسه بسوء لقالوا: يسوع قتل مرة أخرى، ولن ترضى السماء فداء له إلا قتل أمة بأسرها؟؟ ولم الافتراض؟ إن حمارا (بتشديد الميم) مالطيا أحدث بعض الشغب، وناله بعض الأدب كان السبب المباشر لضرب الإسكندرية بقذائف الأسطول. وكان بداية الطريق المشئوم للاحتلال الإنجليزى المبيت. وعرابى- مهما كان مخلصا قويا- أعجز عن مقاومة القوى الكثيرة التى كادت له فى الداخل، وهجمت عليه من الخارج. ولكننا لا نزال ننظر بإعزاز وتكريم للمبادئ التى ناصرها. والتى جادل فى ساحة عابدين عنها.. وفشلت الثورة العرابية. ودخل الإنجليز مصر، وما لبثوا حتى أضاعوا السودان، ووضعوا سياسة فصله عن دولة النيل الكبرى، ثم ضاعت أوغندة، وتبعتها إرتيريا، واطمأنت الصليبية إلى موت هذه الدولة الكبرى قبل أن تولد، ولعق الإسلام مرارة هذه الهزيمة فى سكون!!.. وفى آسيا كان المسلمون ينافحون عن وجودهم، ويدأبون على تثبيته، ويقاومون إنجلترا فى الهند، وهولندا فى جاوة كى يتخلصوا منهما. ص _202(1/192)
ونجحت ثورة التحرير فى أندونيسيا، ونال ثمانون مليونا من المسلمين استقلالهم. فهل تترك الصليبية هذه الجموع الكثيفة من الناس تبنى مستقبلها فى هدوء؟ لا، إن الضباب الذى خيل إلى السذج أنه انجلى عاد أشد ظلمة! نشرت جريدة منبر جنيف- وهى أكبر صحيفة تصدر بالفرنسية فى سويسرا- هذا الخبر فى 15/2/1962 بقلم " جاك موتو " قال: " إن هولندا طول مدة استعمارها لم تجرؤ على تشجيع التبشير المسيحى علانية خشية رد الفعل بين المسلمين، ولا سيما فى الجيش الأندونيسى الذى يعتبره المبشرون النصارى الآن أعظم حقل لنشر المسيحية بتأييد من الحكومة.. إذ أنها قدمت للكنائس البروستانتية ومؤسساتها تزويدا قدره 260 راعيا مسيحيا من القسس البروستانت يوظفون ليعملوا بين صفوف الجيش بكل ما يلزم لهم، وإن العمل جار الآن على قدم وساق للإسراع فى طبع الأناجيل لأندونيسيا ولا سيما لجاوة، وأن هناك كلية بروستانتية جامعية افتتحت أخيرا فى جاكرتا. وأنه يوجد فى بالانج (جاوة الشرقية) وفى جاكرتا " قلعة الإسلام " مدرستان مسيحيتان لتخريج المبشرين والقسس.. ويختتم الكاتب مقاله بقوله: فيمكن إذن أن نأمل تعزيز روح الغزو التى تبدو بين المسئولين عن الكنيسة البروستانتية فى جاوة، وهى إحدى الزوايا النادرة فى العالم حيث يوجد مسلمون يخرجون من دينهم لاعتناق العقيدة المسيحية.. ولا شك أن هذه الروح تساعد على سرعة تقدم نشر الإنجيل هناك ". ومع هذا المقال صورة لفتاتين أندونيسيتين تحملان البنادق (فى الجيش) وقد كتب تحتها " الجيش هو أكبر وأوسع حقل لنشر المسيحية "... ونحن نعرف أن اتحاد الكنائس المسيحية وضع خطة لتنصير أندونيسيا خلال خمسين سنة، ونشرنا فى كتابنا " دفاع عن العقيدة والشريعة ضد مطاعن المستشرقين " تفاصيل الخطة الصليبية المعدة.. ص _203(1/193)
ولكن يبدو أن الشيوعية تؤمل فى " بلشفة " البلاد كلها قبل هذا الأمد!! وقد قرأنا للرئيس " أحمد سوكارنو " إعجابا بالغا بالماركسية، وكلاما صريحا فى أن مبادئها أصلح من غيرها للشعب الأندونيسى!! ومن حق كل مسلم أن يسأل: أهذا هو حصاد الجهاد الإسلامى ضد هولندا؟ إن الإسلام الآن بين شقى الرحى فى هذه البلاد البائسة.. إنه لا يستفيق من طعنة فى اليمين حتى تعاجله طعنة من اليسار!! جهود الكنائس متلاقية على تكفير أكبر عدد من المسلمين فى أسرع وقت ممكن وجهود الحمر متصلة لنشر البرامج الحمراء فى كل ناحية. والإسلام هو الخاسر هنا وهناك. ورأى فريق كبير من مسلمى الهند أن يقيموا لهم دولة إسلامية مستقلة عن الهند الوثنية. والواقع أن ما حدث للإسلام والمسلمين فى الهند كانت نتيجة محتومة للسياسة الإنجليزية التى سيطرت على أحوال الهند كلها أربعة قرون. لقد بدأ الإنجليز احتلالهم الاقتصادى والعسكرى للهند، والمسلمون فيها هم الحكام المطاعون، ومازال نجم المسلمين يأفل هناك فى ظل التاج البريطانى حتى أصبحوا رعية مضطهدة وجمهورا مضيعا لا يملك من الأمر شيئا. وهل كان يتوقع غير ذلك من إنجلترا؟ وزاد الطين بلة أن الدهاء الاستعمار الإنجليزى تفتق عن حيلة بارعة لبعثرة القوى الإسلامية وتفتيت مقاومتها وشغل بعضها ببعض. فاستولت على رجل مشعوذ يزعم أنه يوحى إليه!! وأيدت أنه نبى جديد للأمة الإسلامية ومكنت لأتباعه من تولى المناصب الكبرى. ذلكم هو غلام أحمد مؤسس القاديانية، وهى نحلة استعمارية تخدم إنجلترا خاصة.. فلما مال كثير من المسلمين الهنود- الذين أحسوا خطرا على وجودهم الدينى تحت سيطرة الهندوس- إلى إقامة حكم إسلامى يحيون فى ظله آمنين على عقيدتهم وشريعتهم، سارعت إنجلترا إلى إنشاء باكستان وتقليد القاديانيين أهم مناصبها. ص _204(1/194)
وبذلك ولد الحكم الإسلامى فى باكستان ميتا فليس هنالك نظام إسلامى قائم، وإنما هنالك مسلمون حيرى يسعون إلى توطيد مستقبلهم بشق النفس ولا تنقطع عنهم المؤامرات الخفية والجلية. وعند انقسام الهند الكبرى إلى هند وباكستان تعرض المسلمون الأبرياء إلى مذابح شنعاء، بادت فيها شعوب إسلامية بأسرها، وذهب أدراج الرياح كل ما تملك من مال، وما تعتز به من عرض.. ولا تقل خسائر المسلمين فى فترة التقسيم المشئومة عن مليون قتيل، أما خسائرهم المالية ففوق الحصر. وأسدل على المأساة كلها ستار رهيب لا لشىء إلا لأن الأمة الإسلامية أمة يتيمة ليست لها أبوة روحية تأسى لآلامها، ولا فكرية تحتمى بحضنها، ولا شك أن إنجلترا سر هذه المصائب المتلاحقة!!! البعث وحقيقته: ونعود من هذه الرحلة الكئيبة إلى العرب مرة أخرى. إن الأمة العربية هى دماغ الإسلام وقلبه، وإذا كانت دسائس الصليبية فى أنحاء العالم الإسلامى تستهدف الفتنة والإضلال، فهى تعلم أن جهودها فى تلك الأطراف قد تبوء بالفشل التام إذا قيضت للعروبة نهضة جديدة تلم شملها وتنعش رسالتها، وتدعم قيادتها النفسية والفكرية للمسلمين فى المشارق والمغارب. ومن ثم نجدها تحشد قوى ثقافية واقتصادية وسياسية هائلة لإبعاد العرب عن الإسلام وتهوين مبادئه فى أعينهم. وإرخاص الإسلام لدى العرب وصرفهم عن شرائعه وآدابه ومناهجه وغاياته أمر يحتاج إلى مهارة واحتيال وخبث. وتلك كلها وسائل مرنت الصليبية الحديثة على استخدامها وطالما قرت عينا بنتائجها. ولعل آخر ما وصل إليه الذكاء الاستعمارى خلق ما يسمى بالبعث العربى!! وهذا البعث العربى يقوم على فلسفة تستحق التدبر. ص _205(1/195)
إنه يقول للاستعمار: إحذر أن تتدخل فى شأنى؟ ماذا تريد؟ تريد أن تحملنى على الكفر بالإسلام وإهمال كتابه وسنته؟ إننا نحن العرب الأشاوس نكره أن يحملنا أحد على ما يريد! سنكفر بالإسلام كله من تلقاء أنفسنا فلا تتدخل فى شئوننا!! وإذا كان القتيل يناشد قاتله السكون لأنه سينتحر وحده فماذا يبغى القاتل؟ إن هذا ما فعله حزب البعث العربى بالأمة العربية. محمد رجل من عباقرة الأرض وليس من حملة الوحى. والحضارة الإسلامية نهضة جنس ذكى أراد أن يتبوأ مكانه فى العالم وليست أثر دين سماوى يتحرك بهداية الله. ماذا ينشد الصليبية غير هذا؟ تجريد محمد من النبوة، وتجريد دينه من أسانيد الوحى فى الوقت الذى يظل فيه موسى نبيا مقدسا عند اليهود، وعيسى أكبر من نبى إنه إله فى الأرض والسماء يقدسه النصارى. ويقدسه " ميشيل عفلق " زعيم هذا البعث العربى !! ولقد تناولنا فى بحث مستفيض لنا " حقيقة القومية العربية، وأسطورة البعث العربى " وأظهرنا خبيئة هذه الغارة التبشيرية الجديدة. ولا بأس أن نثبت هنا كلاما حسنا لمسلم هندى فاقه هو السيد محمد حسنى الذى تساءل عن غاية العرب فى الشرق الأوسط أهى البعث العربى أم البعث الإسلامى؟ وهاك كلمته: " ويقولون: إن البعث العربى هو البعث الإسلامى، ولا تعارض بينهما وأن البعث العربى هو قبول أقدار وقيم وتجارب وحوادث مرت بها الأمة العربية من بينها: الإسلام، وذلك خلال رحلتها الفكرية والاجتماعية عبر القرون والأجيال. ويقولون: إن الإسلام أقوى تجربة عرفها الشعب العربى. وأعظم رصيد حضارى فى تاريخه، وأكبر عامل فى تكوينه بلا شك. ولكنه على كل حال " تجربة " تجربة اجتماعية تاريخية هامة لا تعنى إبطال غيرها من القيم والأقدار والفضائل، ولا هدم ما بناه الأوائل. بل إن الإسلام هو فى الواقع امتداد طبيعى للعوامل الاجتماعية فى الأمة العربية. إن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الإنتاج الطبيعى. والثمرة اليانعة(1/196)
للحضارة العربية، والتجربة العربية، والعمل العربي التاريخى. ص _206
ولذلك فإن محمدا صلى الله عليه وسلم هو مفخرة كل عربى ونموذج رائع لحيوية الشعب العربي واكتماله ونضجه وتطوراته ومظهر للروح العربية الثورية المتحفزة المتقدمة، المنطلقة دائما إلى الأمام . هذه هى الفكرة التى نادى بها زعماء البعث العربى. وقد يبدو أنها فكرة بريئة تقدمية لا تمس مبادئ العقيدة ولا تغير وضع الدين ولا تجرح روح الإسلام وأنها واضحة سهلة يسيغها العقل المتحرر والروح العربية الثائرة. وقد وقع فى هذه "الشبكة " عدد كبير من الشباب الذكى ورجال الفكر فى العالم العربى. أما الرأى بأنها فكرة ثورية بريئة لا تمس روح الإسلام فإنه لا يصح مطلقا، إنها فلسفة تقطع الصلة بالنبوة والوحى والغيب وتعطى الأمة أساسا آخر هو أساس التجربة العربية والواقع العربى كما يقولون. فهو- أى هذا الواقع- عندها الأمم التى خلقت عدة بنات وبنين يحملون طبائع مختلفة. ولكنهم على كل حال أولادها وأفلاذ أكبادها وعصارتها وانعكاسها. أما القول بأنها واضحة صريحة منطقية فإنها أبعد ما تكون عن الوضوح والصراحة والمنطق لأنها تجاهلت التاريخ الإسلامى المبنى على النبوة والوحى والغيب، وأنكرت الرسالة السماوية الأخيرة، ولم تميز بين فضائل الإسلام وفضائل ما قبل الإسلام، وأقامت نظرة كاملة ودستورا مسطورا بل أنشأت حزبا على "افتراض " وخيال لا صلة لهما بالواقع. وفى هذه المناسبة أكتفى بنقطتين هامتين: أولا: الزعم بأن " الواقع العربى " هو أم الحوادث، وأن التجربة العربية هى الأساس الذى تدور حوله القيم والأقدار والأهداف والمصائر والمعالم معناه القضاء على حقائق النبوة والوحى والرسالة والهدى السماوى والدستور الإلهى والتشريع الإسلامى ويجعله " تابعا " يدور فى فلك التجربة العربية ورحلتها الاجتماعية الفكرية وتقدمها الطبيعى كما يتقدم الولد فى السن ويدخل من دور إلى دور ويكتمل نموه وتنضج على(1/197)
مر الأيام عقليته. إنه يعنى أن الإسلام مرحلة من مراحل الحياة العربية ولكنها مرحلة هامة تستحق الإعجاب. ولها دور كبير فى تكوين العقلية العربية وأن هذا الإسلام- إن ينظر إليه أو ص _207
يعامل- فعلى أساس أنه جزء من أجزاء الفكر العربى وتجربة من تجارب الأمة العربية لا على أساس أنه وحى منزل من الله ودستور سماوى خالد للبشر لا يقبل التغيير والتعديل، ولا يحتاج إلى " زيادات " وملحقات كى يساير الزمن، فإن الإسلام- فيما نعتقد- دين يسابق الزمن وينظر إلى شئون العالم بنور الله العليم البصير القدير العزيز الحكيم الواسع لا بنظرة الإنسان المحدودة القاصرة. إن تفكير حزب البعث العربى معناه قطع صلة الشعب العربى عن معين النبوة الصافى الفياض، وعد الإسلام رسالة لا صلة لها بالسماء. لأن الإسلام الذى لا يكيف الحياة بل تكيفه الحياة! الإسلام الذى لا يوجه الأحداث بل توجهه الأحداث. والإسلام الذى لا يكون الشعور والعقلية ونظرة الشعب إلى الحياة والأشياء بل يكونه شعور الشعب الأصيل المتزايد ونظرته إلى الحياة والأشياء بل يكونه شعور الشعب الأصيل المتزايد ونظرته إلى الحياة والأشياء، هو الإسلام الذى لا حاجة لنا به. إنه إسلام مغشوش مدلس وليس هو الإسلام المفقود المطلوب من البشر. وليس هو الإسلام الذى جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فغير به اتجاه العالم ونفسيته وعقليته ووضع له أساسا خالدا واضحا معلوما لا حاجة لنا إلى غيره ولا نجاة لنا فى غيره. إلا أنه لا قيمة للإسلام فى كونه مجرد تجربة هامة أو كونه سهما كبيرا رائعا من السهام الكثيرة فى تشييد الحضارة العربية واكتمالها الطبيعى. إن قيمته فى أنه منزل من الله ودستور إلهى للبشر على اختلاف قومياتهم وأزمانهم. فإذا هدم هذا الأساس الوحيد، وقطعت هذه الصلة الحقيقية أو أضعفت فتحت ثغرة واسعة بل فتح الباب على مصراعيه للإلحاد والمادية، وظهرت فى العالم العربى- وهو مهبط الرسالات السماوية(1/198)
والحارس الأمين للرسالة الإلهية الأخيرة- فتنة عمياء يذهب لها لب الرجل الحازم ثم يصعب على باحث الحق التمييز بين الحق والباطل والنور والظلام. ثانيا: إنها فكرة لم تقم على دراسة " الإسلام " وتاريخه وأسرار انتشاره، بل على هوس بالعروبة وشطح فى تقديرها، فحكم التاريخ شاهد عدلى على أن العرب لم ترتفع لهم راية إلا فى ظل الإسلام وأنهم لم يحققوا كل هذه المعجزات والانتصارات إلا بقوة الإسلام وأن كرامتهم وحضارتهم توطدتا بعد ظهور الإسلام وانتشاره واستيلائه وتمكنه فى العقول والقلوب والضمائر والأرواح. ص _208(1/199)
أما الفضائل الإنسانية العامة مثل الجود والسخاء والشجاعة والمروءة والكرم ورجاحة العقل والشهامة والطموح وغيرها فهى ليست أساس وجود الأمة العربية فى التاريخ. بل إن أساس انتعاشها وظهورها على مسرح القيادة العالمية هو دعوتها الإسلامية والرسالة المحمدية التى حملتها وتفانت فى سبيلها وتقدمت بها إلى غيرها من الشعوب فهذه الفصائل- المنسوبة للعرب- تشترك فيها جميع الشعوب وهى طباخ يولد بها الإنسان. والإسلام بصفته دينا إلهيا وتشريعا سماويا، وبصفته دين الفطرة أبقى على هذه الفضائل لكنه أحسن توجيهها حين وضعها فى خدمة الرسالة السماوية. إذن ليست العروبة مسألة فضائل أو مسألة صفات أو مسألة مقومات ينهض بها العرب إنما المسألة مسألة عقيدة ورسالة ودعوة وهدف. والإسلام هو الأساس الذى قامت عليه هذه العقيدة وظهرت منه هذه الدعوة وهو الذى وضع للعرب خاصة وللعالم الإنسانى عامة أهدافا معلومة خالدة ودستورا كاملا لجميع نواحى الحياة الإنسانية على اختلاف ظروفها وأوضاعها وعلى تباين أقطارها وبلادها، وعلى تعدد مطالبها وحاجاتها ". ونقول: نعم وذلك مفترق الطرق بيننا وبين غيرنا من الناس. فالكافرون بالإسلام يرفضون العودة إليه، بل يأبون الاعتراف بانبعاث النهضة عنه وبالتالى تراهم خصوما ألداء لعقائده وشرائعه وتقاليده وغاياته. المصحف فى نظرهم كتاب أدرر وحسب. والرسول فى فهمهم سيرة تاريخية تضم لأبطال الأساطير !! والغريب أن ذلك موقفهم من الإسلام وحده.. أما الديانات الأخرى فهى تقتحم طريقها إلى المستقبل الناضر دون تعويق أو تكذيب. والحكومات التى قامت فى ضمان الدول الكبرى.. فى أرجاء إفريقيا وآسيا تعمل على تمويت الإسلام فى صمت. وعلى إحياء النحل الأخرى فى جراءة وإصرار. والأغرب من ذلك أن هؤلاء المخاصمين للإسلام وكتابه ونبيه من العرب- بعثيين أو قوميين- يريدون مخادعة الجماهير والقول بأنهم مسلمون صادقون فى إيمانهم، وولائهم وعملهم. وهيهات(1/200)
: ص _209
(ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين * يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون * في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا) أما من أعلن ارتداده من هؤلاء فقد كفانا شر نفاقه، وبقى على الأمة أن تحدد صلتها به على ضوء ما تعلم من حدود الدين. وموقف مصر من الإسلام يجب أن يكشف ويعرف.. إننا- نحن المصريين- أشد الشعوب العربية حبا للإسلام وتعلقا به ورغبة فى نصرته!! وفى أخريات العهد الملكى قامت حركة إسلامية رائعة هدفها الصريح إقامة دولة إسلامية فى مصر. وقد ظاهر هذه الحركة جمهور كثيف من المثقفين والعامة. ولم يبق ذو خلق ودين إلا انضم إليها أو عطف عليها.. إلا أن أحداثا كئيبة عصفت بهذه الحركة وأوقعت بها محنا متتابعة، وكان أخطر ما نزل بهذه الحركة مصرع قائدها الشاب الجليل الجرىء حسن البنا، نضر الله ذكراه وطيب ثراه.. وكان مقتله فى فترة ترويع ورهبة، وقد طاردت السلطة الحاكمة يومئذ كل من فكر فى تشييع الجنازة الدامية، فلم يحمل جثمان الشهيد إلا بعض النسوة يعاون (بكسر الواو وتشديد النون) أباه العالم المتجلد المفجوع.. ولما كنت عضوا مؤسسا فى جماعة الإخوان المسلمين التى قادت هذه الحركة الإسلامية الواسعة فقد نفيت مع غيرى إلى معتقل الطور، وبدأت الحكومة القائمة تجتث جذور البعث الإسلامى. ثم كشفت الأحداث أن الملك فاروقا كان بشخصه وراء جريمة الاغتيال، وأن ضرب الإسلام فى مصر تم إرضاء لمطالب أجنبية معينة، فلم يكن عجيبا أن يكره الإخوان المسلمون الملك،،أن يساعدوا على الإطاحة به، وأن يجندوا أنفسهم للمحافظة على الانقلاب العسكرى الذى نادى بإبعاده.. ص _210(1/201)
وتحول الانقلاب إلى ثورة شاملة بفعل عناصر كثيرة، كان الإخوان المسلمون بلا ريب أبرزها، بل لقد حسب البعض أن الإخوان هم صانعو التمرد فى الجيش والتأييد فى الأمة.. ولم يكن يدرى إلا الله ما يخبئه الغد من شئون وشجون...!!! الأسس الإسلامية للثورة: وقامت فى مصر ثورة 23 يوليو سنة 1952 إثر غليان شعبى طافح ضد فساد النظام الملكي ومساوئ الاحتلال الإنجليزى الذى كانت له- برغم الاستقلال- قوات كبيرة معسكرة على ضفاف قناة السويس. ومع اندلاع الثورة تفتحت آمال عريضة فى قيام مصر بواجبها العظيم نحو تحرير أرضها، والتكاتف مع المجاهدين الأحرار فى كل بلد لتطهير الشرق من أدران الاستعمار. وبديهى أن يكون الإسلام باعث هذه الانطلاقة الكبرى وأن يكون تجديد رسالته وإحياء أمته الغاية القصوى من نشاط الثائرين. ففى " فلسفة الثورة " للرئيس جمال عبد الناصر أبان أن الخطوات التى تسبق هذه الغاية معابر فحسب أى: وسائل تسلم إلى ما بعدها!! وعندما نتابع الكتابات الدالة على اتجاه السير نرى توكيدا لهذه الفكرة إذ يقول الرئيس فى مقدمة كتاب " الدعوة التحريرية الكبرى "! " لقد استطاع الرسول الكريم أن يجعل دعوته مثالا لكل الدعوات، ومنارا لمن أتى بعده من المصلحين، فقد كان خاتم الأنبياء، وآخر الموحى إليهم من المرسلين فجعل من حياته دستورا للحاكمين، ومن سيرته شاخصا يهتدى به الأحياء على مر الأجيال والأعوام... إن فى الدعوة الإسلامية دروسا وعبرا، فلم لا نتخذ منها واعظا ومرشدا؟ لم يشق بعضنا عصا الطاعة على بعض؟ ولم نفترق فى سياستنا وأهدافنا ومثلنا؟ لم لا نهتدى بهدى الإسلام عندما نضل الطريق أو تشتبه علينا الأعلام؟ أيها العرب، أيها المسلمون، أطيعوا الله وأطيعوا الرسول بأن تكونوا يدا على من عاداكم، مسالمين لمن سالمكم، ولا تتفرقوا ولا تهنوا فأنتم الأعلون... ". ويقول الرئيس- جمال عبد الناصر- سنة 1954 : ص _211(1/202)
" ونقف نحن العرب والمسلمين فى هذا الجانب من العالم نشهد الصراع الذى يدور بين هذه المذاهب المادية والمبتدعة، ونرقب المعارك الناشبة بين بعض الشعوب وحكوماتها حول تلك المذاهب، فنعجب أشد العجب. لأن مشكلة الفرد والجماعة التى حيرت كل المفكرين والفلاسفة فى أوروبا منذ قرنين أو منذ قرون قد وجدت الحل الصحيح فى بلادنا منذ ألف وثلاثمائة سنة. منذ نزل القرآن على محمد بن عبد الله يدعو إلى الأخوة الإنسانية، ويفصل مبادئ العدالة الاجتماعية على أساس من التراحم، والتكافل الأخوى، والإيثار على النفس فى سبيل النفع العام للجماعة، من غير طغيان على حرية الفرد، ولا إذلال له ولا إنكار لذاتيته. (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي). فليكتف المفكرون بما بذلوا من جهد. ولا يبحثوا منذ اليوم عن حلول أخرى لمشكلة الفرد والمجتمع.. إن عندنا الحل..- هكذا قال جمال عبد الناصر غداة الثورة- الحل الأول.. الذى نزل به الوحى على نبينا منذ ألف وثلاثمائة سنة، هو الحل الأخيرة لمشكلة الإنسانية.. " . ص _212(1/203)
إلى هذا الكلام الجميل نستمع.. !! وإلى أهدافه وحدها نسير..!! ومع هذا السير الفاقه لدينه، المستظل برايته، نتحمل ما تطلبه حراسة الإسلام من مغارم وتضحيات. والمصريون لا ينقصهم الإيمان، بل هم ينسابون فى طريقه انسياب الفيضان إلى مداه. وقد كانت مصر قبل الثورة ظاهرة الاستمساك بعروة الإسلام، بالرغم من نزعة (الفرعونية) التى نبتت فى ظل الاحتلال البريطانى، وسخرت لإحيائها قوى كبيرة. وعن طريق حب الإسلام، أحبت مصر العروبة واحتضنت جامعتها. وفى سبيل مزج الوطنية المصرية بالعروبة والإسلام- استجابة لطبيعة شعبنا- ضمن جمال عبد الناصر تصريحاته الصحافية فى أعقاب الثورة ما يزكى هذه الوجهة التى لا يعرف الشعب سواها. وفى عدد خاص من مجلة " المصور " عن العالم الإسلامى كتب الرئيس هذه الكلمات شارحا أهداف الثورة العربية فى مصر، قال: " تهدف الثورة فى سياستها العامة إلى هدفين: الأول: أن تكون وطنية الشعب المصرى وطنية مصرية، الثاني: أن تكون قوميته قومية عربية إسلامية ". ولا ريب أن على الهدف الأول يقوم تعاون الشعب داخل بلاده تعاونا وثيقا كتعاون أعضاء الجسد الواحد. فتتاكف منه قوة ذاتية متينة. وعلى الهدف الثانى يقوم تعاون الأمم الإسلامية والعربية فى الخارج تعاونا مفيدا يحقق لكل منها شخصية دولية محترمة فى المعترك الدولى، ويؤلف منها قوة مهيبة الجانب قوية الدعائم، متضامنة فى الدفاع عن عزتها وكرامتها عاملة على الدوام لتحقيق السلام العام. وليس أجل من تعاون الأمم الإسلامية والعربية التى تشترك فى أدوار التاريخ الطويل، والتقاليد الدينية والاجتماعية، والتى مرت بها تجارب عدة فى حياتها السياسية، وعانت ألوانا من الشدائد، وتعلمت من دروس الماضى، كيف كان النزاع سببا فيما أصاب المسلمين من كوارث، وكيف كانت الأطماع وضعة الأخلاق أساسا لما وصل إليه المسلمون من ضعف أتاح للأجنبى السيطرة والسيادة والاستغلال. ص _213(1/204)
ولابد للتعاون بين الأمم الإسلامية من صدق الإرادة وإخلاص النية، فإن مجد المسلمين فى الماضى حققه رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وأخلصوا فيما هدفوا إليه، فأمدهم الله بنصره، وكانت لهم فى العالم الكلمة العليا وازدهرت حضارة الإسلام بجهود هؤلاء الرجال وإخلاصهم- حتى إذا تغير المسلمون تغيرت أحوالهم- وضعف شأنهم وانهارت حضارتهم.. فعلينا نحن المسلمين أن نعتبر بماضينا، وأن نتعظ بغيرنا، وأن ننتفع فى نهضاتنا الجديدة بما سلف من تجارب ودروس، وأن نضاعف جهودنا فى هذا العصر الذى يفرض علينا واجبات خطيرة، فقد أخذت الدول تتسابق نحو القوة ونحو الرقى، وتعمل لخير شعوبها، معتمدة على العلم الحديث والتربية المتينة الصالحة، فلنأخذ طريقنا نحو مستقبل مجيد يقوم على العلم والأخلاق وعلى الإخلاص وصدق العزائم، والله مع العاملين المخلصين... ". وفى سنة 1954 قال الرئيس جمال عبد الناصر مؤكدا هذا المعنى: " نحن جزء من شمال أفريقيا، أو هو جزء منا، بل إننا وإياه جزء من الوطن العربي الكبير الذى يمتد من ساحل الأطلسى إلى جبال الموصل... نحن- ومن هناك- أخوة لأب وأم- تفرق بنا المكان وجمعتنا وحدة العاطفة ووشيجة النسب وآصرة الدين ولحمة اللغة. فى يوم من أيام التاريخ البعيد انتظمت خطواتنا فى موكب الفتح من قلب الجزيرة العربية إلى فلسطين- إلى مصر- إلى برقة- إلى القيروان وفارس- إلى مرمى الموج من شاطئ الأطلسى إلى قرطبة وأشبيلية ولشبونة إلى ليون من أرض فرنسا ثم لم يعد أحد منهم بعد إلى الجزيرة لأنهم لم يشعروا قط بالغربة فى بلد نزلوه، ولم يشعر أهل بلد نزلوه بأنهم غرباء بينهم، وصار شاطئ الأطلسى من يومئذ هو الحد الغربى للوطن العربى الكبير. وفى اليوم نفسه من ذلك التاريخ البعيد انتظمت خطى طائفة أخرى من آبائنا فى موكب آخر من مواكب الفتح من قلب الجزيرة العربية إلى دمشق إلى حمص وحلب إلى الفرات ودجلة إلى الموصل وما وراء النهر.. ثم لم يعد(1/205)
أحد منهم كذلك إلى الجزيرة ولم يشعر بغربة، وصارت جبال الموصل من يومئذ حدا آخر من حدود الوطن العربى الكبير... ورفرفت الراية العربية على وطن العرب الممتد من بحر الهند إلى بحر الروم ومن جبال أطلس إلى جبال الموصل، ولم تزل ترفرف بين هذه الحدود الأربعة منذ ثلاثة عشر قرنا ونيف إلى اليوم، وإلى الغد، وإلى يوم يبعث الله الموتى من كسرى وقيصر ولذريق وشارل ليشهدوا بما علموا. ص _214
وفى يوم آخر قريب من ذلك التاريخ انتظم خطوات موكب آخر من مواكب التعمير يضم أفواجا من بنى هلال وبنى سليم وبنى مرة وقبائل أخرى من عدنان وقحطان فتفرقوا بين حدود الوطن الأربعة يبنون الخراب ويصلون النسب، ويتلون آيات الكتاب، فلهم فى كل بلد بناء باق، ومنهم فى كل أسرة عم وخال، وفى أفواههم على كل مئذنة دعاء، وباسمهم فى كل حين صلاة وتسبيح.. ولما مخرت سفن العرب عباب البحر إلى صقلية وجنوب إيطاليا لتنسخ بالحضارة العربية وثنية الرومان ، كان على ظهر السفائن مغاربة ملثمون من طوارق البادية ، ومشارقة معممون من أهل أنطاكية ، ويمنيون مرهفو القدود من جنوب الجزيرة ، ومصريون سمر الوجوه من أهل وادى النيل ، وكلهم تحت الراية عرب لأن العربية لسانهم ، وكلهم مسلمون لأن محمدا نبيهم . ولما انحسرت موجة الإسلام عن الأندلس بعد أن أوهن أهلها تفرق الكلمة وهاجر من هاجر منهم إلى مصر وشمال إفريقيا ـ كان هؤلاء المهاجرون جميعا فى اصطلاح أهل التاريخ وأهل السياسة ـ عربا ـ لأنهم مسلمون ، وفيهم الأسبانى الأصل من بنى سردنيس ، وفيهم القوطى النسب من أبناء لذريق . ولما انتفضت أوربا الصليبية انتفاضة البغضاء على العرب – فى القرن الخامس الهجري وما بعده-زحفت جموع الصليبيين فى وقت واحد معا على غرناطة فى الأندلس وعلى انطاكية فى الشام ، وعلى دمياط فى مصر وعلى قرطاجنة فى تونس لأنها جميعا فى اعتبار الصليبية بلاد عربية ..!! بلى .. قد صدقوا .. إنها جميعا بلادنا ، نحن(1/206)
جزء منها وهى جزء منا ، فليغضب اليوم من يغضب من ساستهم وكبرائهم حين نقولها فقد قالوها قبل أن نقولها .. قالتها سيوفهم فى الحرب ، وقالتها سفائنهم فى البحر ، وطائراتهم فى الجو . وقالها سفراؤهم ووزراؤهم فى المؤتمرات والمعاهدات وخطب البرلمانات . وقالها علماؤهم وكتابهم فى بطون الكتب وفى الصحف والمجلات . وقالها ممثلوهم على مسارح الجد والفكاهة . فلماذا يغضب من يغضب حين نقول فى مصر كما يقول كل عربى فى بلده : إن شمال إفريقيا جزء منا ، ونحن جزء منه ..! وليست هذه دعوى ندعيها ، ولكنها حقيقة نذيعها ونحرص على توكيد معناها ... ص _215(1/207)
فليعرف من شاء ومن لم يشأ أن كل بلاد تنطق العربية بلادنا ولابد أن تتحرر بلادنا. وليعرف من شاء ومن لم يشأ أن المسلمين فى شتى بقاع الأرض اخوة، ولابد أن يتعاون الاخوة فى البأساء والشدة.. نعم لابد أن يتعاون الاخوة فى البأساء والشدة- كما قال الرئيس- وأولى ما يتعاونون عليها إزاحة كابوس الصليبية الجاثم على صدورهم يريد خنقهم، وتجنب أنواع الختل والغدر وشتى المذاهب التى تنصب حبائلها فى كل ناحية لعرقلة الإسلام الذى قرر المسير..!! فهل يصفو الجو للعمل الإسلامى الصحيح؟ يظهر أن هذا الصفاء المنشود كان سرابا خادعا. وأن الكلمات المعسولة أخفت وراءها السم الزعاف. الذين جادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق كان المؤتمر الوطنى للقوى الشعبية يضم مجموعة من الأعضاء تمثل الأمة المصرية تمثيلا أقرب ما يكون إلى الواقع، وما أظن تيارا من تيارات الرأى، ولا طائفة من طوائف الأمة غابت عن هذا المؤتمر. وقد تناول النقاش فيه قضايا ومشكلات جديرة بالعناية، واستفاضت الأحاديث حول الحاضر والمستقبل استفاضة تستحق التسجيل! وكان من قدر الله أن تتاح لى الفرصة كى أبسط وجهة النظر الإسلامية بأمانة وأدب، وأن أعرض آمال الجماهير فى العيش تحت لواء الإسلام عيشا يمكن للتربية الدينية أن تصوغ الأجيال الناشئة وتوجهها، كما يمكن للشريعة الإسلامية أن تصبغ الفقه والقانون والإدارة وسائر التقاليد.. وإنى لأشكر الرجال الكبار الذين اختارونى لأكون عضوا فى اللجنة التحضيرية، ثم عضوا فى هذا المؤتمر. وأمارات الشكر الصادق أن أكون أمينا فى أداء الواجب، وراعيا لحق الله جل شأنه فهو ولى النعمة أولا وآخرا... وقد أطلت التفكير فى هذا العبء الملقى على، غير أن ما خامر نفسى من اعتماد على الله وثقة فى عطفه يسر الأداء ومهد للقبول ! ص _216(1/208)
إن كثيرا من الهزائم التى أصابت الإسلام فى الأعصار الأخيرة يعود إلى قلة الدعاة الواعين، وإلى القصور المستغرب فى فهم الإسلام وعرضه.. وكلما رجعت البصر فى أنحاء الجبهة التى تدعو الإسلام بكتابتها وخطابتها عدت وفى القلب غصة.. وأمامى وأنا أخط هذه السطور عدد من مجلة دينية أحبها. فى هذا العدد مقال من نحو ثلاث صفحات يرد على جريدة أخبار اليوم. علام يرد؟ على ما نشرته تحت عنوان " حكمة اليوم "... والمنشور- عند التأمل- كلمة حسنة للرئيس الأمريكى " جونسون " الذى خلف الرئيس " كنيدى " جاء فيها: " نحن نؤمن بأن الله خلقنا جميعا، أيا كان لوننا أو رأينا.. خلقنا على صورته.. لقد خلقنا جميعا وليس بعضنا فقط.. كأبناء له ". ماذا فى هذه الكلمة النبيلة يبعث على الغضب؟ إنه يحارب التفرقة العنصرية، ويذكر ما صح فى كتب السنة عندنا أن الله خلق آدم على صورته. وإذا قال الرجل: إن البشر قاطبة أبناء الله، فهذا كما ورد فى الأثر الإسلامى: "الفقراء عيال الله " فالإضافة هنا ليست نسب دم أو عرق قرابة، إنما هى إضافة حنان ورقة. غير أن المحرر الدينى للأسف الشديد اندفع مع شعور أهوج يقول: " إن هذه الحكمة كفر صريح وشرك قبيح.. " إلى آخر ما ملأ به مقاله.. إن الإسلام يخذل ولا ينصر بهذا الأسلوب. وكم نحتاج- نحن الدعاة- إلى دراسة كلمة " الحكمة " التى وقفنا الله عندها فى قوله : (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة). وإذا كنت قد ألمحت إلى عيب فى طريقة عرض الإسلام والدفاع عنه فمن الإنصاف ووضع الأمور فى مواضعها أن أكشف جانبا من الجهل المطبق فى فهم الإسلام وعقائده عند لفيف كبير جدا من المشتغلين بالصحافة. واسمع ما نشرته الأخبار فى 15/12/1963 يقول المحرر النجيب: " إن أى تلميذ ابتدائى فى أى دولة يدين بأى دين يعرف تماما أن اليهود هم الذين صلبوا المسيح عليه السلام فاليهود هم الذين حاربوا المسيح وهم الذين صلبوه.. " ص _217(1/209)
هكذا يقول المحرر الذى يحمل اسما مسلما فى الصحيفة التى يشرف عليها ناس يحملون أسماء إسلامية..!! الله يقول فى المصحف الشريف : (وما قتلوه وما صلبوه). وهذا الكاتب الذاهل يقول كلاما آخر!! ويقينى أنه لم يتعمد الكذب.. إنه نموذج للجهل العام الذى ينتظم أكثر حملة الأقلام فى بلاط صاحبة الجلالة... إنهم يعرفون كل شىء إلا الإسلام وتاريخه وأمته. ويتهيبون كل شىء بدافع الرغبة والرهبة إلا أحكام هذا الدين وقواعده وعلمائه والمدافعين عنه..!! ونحن لا نحترم الجهل أبدا. وكلما أوغل الجاهلون فى الغرور لم نزدد إلا استهانة بهم وإزراء عليهم.. فى مؤتمر القوى الشعبية: كانت حساسيتى شديدة بالظلال الملقاة على أهل الدين، وكانت كراهيتى أشد لمخلفات الاستعمار الثقافى التى عششت فى أدمغة كثيرة. وكنت كبير الرجاء فى تجلية الضباب الذى حجب الحق وغيب معالمه، وكبير الرجاء فى دفع نهضتنا إلى الصراط المستقيم فنبنى على قواعدنا وننطلق من إيماننا ونتجه إلى مثلنا... ولم أك أجهل أن لله ورسله أعداء يمقتون وحى السماء ويهشون لأى شىء عداه (وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون) لكنى تساءلت ما قيمة هؤلاء سواء احتلت عقولهم المبادئ الحمراء أو إباحية أوروبا البيضاء..؟ إنهم يعتمدون على الختل والجهل ، فلأعتمد على الحق والصراحة. وقد انتهت جلسات المؤتمر. ص _218(1/210)
فلما أعدت النظر فيما دار بيني وبين غيرى من أخذ ورد وجدتنى أخطأت فى بعض التصرفات، وسمحت لقدمى أن تقع فى الحبائل التى نصبها بعض الخبثاء.. ووجدت أن تصويرى لأحكام الشريعة يشوبه الإيجاز الخل فى بعض نواحيه، فرأيت أن أستدرك فى هذه الصحائف بعض ما فاتنى..!! * * * * أخذت ظلال الاستعمار العسكرى تتقلص فى السنين الأخيرة. وتخلصت أقطار كبيرة فى القارتين القديمتين من جيوش الاحتلال وما تفرضه من إذلال، وما توحى به من سيطرة مباشرة. وبقيت هذه الجيوش فى أقطار أخرى تحت أسماء مستعارة خادعة، إلى جوار حكومات تستمتع بقدر لا بأس به من الاستقلال الإدارى والسياسى.. هل يعنى هذا أن جو الحرية الطلق ملأ أرجاء العالم، ومرحت فى صحوه شتى الأمم؟ لا، إن القوى الكبيرة المتحكمة وجدت نفسها أمام أحوال تكرهها على تغيير خططها. فتراجعت خطوات فى ناحية، واستعاضت عن هذا التراجع بالإقدام الجرىء فى نواح أخرى. ومن الحق أن نقول: إنها انسحبت انسحابا تاما من بعض البلاد التى طالما استغلتها.. أما الأحوال التى أكرهت الاستعمار على تغيير خططه، فهى طول المقاومة فى البلاد الإسلامية وعنفها وفداحة خسائرها، ثم اليقظات الشعبية السهلة التطويع فى البلاد الوثنية الأخرى. ولا توجد مستعمرات مسيحية بداهة.. إن الغزو الصليبى رمى بثقله كله على بلاد الإسلام المهزومة عسكريا وعلى المجاهل الوثنية التى اكتشفها وما يشبهها من البلاد. وقد رأيت كيف استمات المؤمنون الأحرار فى قتال الغزاة الجدد على تفاهة ما بأيديهم من أسلحة وشناعة ما بأيدى خصومهم من أدوات الدمار والفتك.. ومع تلاحق الهزائم على المدافعين الأبطال فقد أبوا الاستكانة. وكلما لاحت فرصة للنضال وثبت الأسود المثخنة تناضل عن عرينها. وكانت "الجزائر" المثل القريب لبطولة الدفاع إلى آخر رمق. ص _219(1/211)
وقد قدم المسلمون فى الجزائر مليون شهيد من الركع السجود ثمنا لطرد فرنسا واستعادة الحرية. " مليون " شهيد مسلم..!! لا مليون صعلوك أو عربيد أو ملحد أو أحمر أو أبيض. كان وصف الإسلام هو الذى يذكر فى بلاغات الأعداء قبل الأصدقاء وما يدفعنا إلى توكيد هذه الصفة إلا إلحاف بعض الناس فى إخفائها. وستعلم أن هذا " البعض " هو الثمرة الحرام للاستعمار الذى نجس بلادنا حينا من الدهر..!! والخلاص من جيوش الاحتلال كسب ضخم، وخطوة لها ما بعدها، وانكسار فى قوى العدو يمكن تحويله إلى هزيمة تامة. نضر الله الوجوه التى أتمت هذه المرحلة! وتقبل منها جهادها الكبير... وكان طبيعيا أن يتبع تحرير الوطن التفكير فى تحرير المواطن. أى فى محو الظروف السابقة واللاحقة التى أرهقت الجماهير وأثقلت كاهلها وجعلتها صريعة الجهل والفقر والمرض، ونكبتها بحكام فسقة أقاموا أنفسهم نوابا عن الله فى الأرض، لا فى إقامة العدل ونشر البر، بل فى طلب الخضوع من الناس، وجعل الولاء لذاتهم والهتاف باسمهم والتسبيح بحمدهم..!! إن الناس حين تركع لله تقوم بحق الخالق الذى أنشأها من عدم. أما أن يركعوا لواحد منهم ملكته ظروف مجنونة من أعناقهم فهذا هو العجب العاجب، وذاك ما أسميته بحق الوثنية السياسية وما كرست قلمى ـ مع المؤمنين الأحرار ـ لفك آصاره ومحو أوزاره. ومذ عقلت الإسلام ودعوت إليه لم أفرق بين حقيقة الإيمان وكرامة الإنسان. وكيف أفتق هذه من تلك وهما كيان واحد لا يتجزأ إلا فى أوهام المعتوهين أو المنافقين ..؟؟ ولقد ألفت فى السنوات العشر التى سبقت ثورة يوليو سنة 1952 خمسة كتب استوعبت الحقائق الإسلام فى هذا المجال ، وصورت بأمانة اتجاه الإسلام الاجتماعى من الناحيتين السياسية والاقتصادية. ص _220(1/212)
وإذا كان فى هذه الكتب- وهى بعض ما ألفت قبل الثورة- عيب فهو حماس الشباب، وغلوه فى تشخيص الداء وتركيب الدواء، وهو عيب تتطاول به أعناق اليوم، وتزعمه مجدها التالد..!! لندع ذلك الاستطراد ولنقل: إن الجهود تضافرت لتحقيق أمرين: 1- توطيد الحريات السياسية ومنع الاستبداد من إذلال المواطن واجتياح حقوقه الطبيعية. وذلك عن طريق دستور يقر العلاقات بين الأمة والحكومة على أسس واضحة ومبادئ مرعية. 2- إقامة نظام اجتماعى يحقق " اشتراكية " تزيد الإنتاج وتقيم العدالة وتنشر المساواة وتكافؤ الفرص، وتستأصل شأفة العلل القديمة، الجهل والفقر والمرض، وتفتح العيون على مستقبل أبهج.. إن الله جل شأنه امتن على أهل مكة الأقدمين بأنه: ( أطعمهم من جوع و آمنهم من خوف). الأمان من الخوف هو قمة الحريات الإنسانية فى الحقل السياسى. والشبع هو معقد الحريات الاقتصادية. والويل لأمة يغشاها الإرهاب ويطير القلق بالباب أفرادها أو تكتسحها الأزمات وتهزها المتربة..! ومن حق أهل الأرض جميعا أن يطعموا من جوع ويأمنوا من خوف وأن يوفروا لأنفسهم حكما لا يشعرون فى حضنه بقلق أو بأساء. ومن حق المسلمين- على ضوء من تجارب ماضيهم وماضى الإنسانية جمعاء- أن يؤسسوا لأنفسهم حكومة تحقق لهم تلك الآمال المشروعة، وأن يسقطوا كل حكم يبعدهم عن تلك الآمال. وذلك ما رمزنا إليه بحرية المواطن بعد حرية الوطن. بيد أن هذه المطالب الأصيلة المقدورة ينضاف إليها شىء آخر.. أن الاستعمار الذى جثم على صدر الإسلام وأمته الكبرى عشرات السنين هنا ومئات السنين هناك لم يكن يلهو طوال هذه المدة. ص _221(1/213)
إن السخائم الهائلة الكامنة فى ضميره جعلته يفعل الأفاعيل بهذا الدين والمنتمين إليه. إنه يريد محوه بالطريقة الباردة الماكرة التى انتهى إليها تفكير لويس التاسع، وسواء تم ذبح هذا الدين بسكين أو بغير سكين فالمهم إزهاق روحه آخر الأمر، وسوف يثأر الصليبيون الجدد لهزائم أسلافهم القدماء، ويبلغون ما لم يبلغوه. وامتلك الغزاة مقاليد الحكم وشرعوا يغيرون التقاليد والقوانين والأفكار والأحوال، فصلوا الإسلام عن التعليم العام، وفصلوه عن القضاء، وفصلوه عن آداب البيت والشارع والسوق. أخذوا يطروحون شُعَب الإيمان فى زوايا الإهمال شعبة بعد أخرى. لا بل أخذوا ينشئون أجيالا تتبرم بتكاليف الإسلام وتجادل فى قيمتها وتمارى فى جدواها. هذه العوائق: وبدأت الثمرات المرة تظهر فى الأرض المستباحة! فهذا شخص مسلم- بالوراثة- يتساءل: لم تكون الخمر حراما؟ لم يكون الزنا حراما؟؟ لم تجب الصلاة؟ لم يجب الصيام؟؟ والغريب أن هذا الشخص الممسوخ يقول لك، إنه مؤمن بالله.! فإذا حاولت أن تتحسس أثرا ما لهذا الإيمان لم تجد شيئا قط غير الدعوى العريضة إن ذاك ما علموه إياه. إنهم لم يقولوا له: اكفر بالله دفعة واحدة ولكنهم وضعوه على أول الطريق. بعدما انتزعوا منه احترام الإسلام والاهتداء به واستحياءه الوجهة المقبولة فى الحياة. وشخص يلقى الدنيا بهذا الإيمان المزعزع سرعان ما تتخطفه المادية الجدلية التى تقوم عليها الشيوعية، أو المادية الاجتماعية التى تقوم عليها الحضارة الغربية ومن هنا ترى الأجيال الجديدة ملتاثة بهذه النزعات، يلم أكثرها البعد عن الإسلام ثم تتوزعها الأهواء على ألف طريق. والاستعمار الصليبى هو كاسب المعركة بلا ريب بعد هذه النتائج المدمرة وعندما ينسحب من بلد ـ وقد ترك صنائعه يرفضون مزج التعليم بالدين ويرفضون العود إلى شرائع الإسلام فى جميع الأحكام. ص _222(1/214)
ويرفضون عد الإسلام جامعة تلتقى فى كنفها جماهير المسلمين فى أنحاء الأرض ويرفضون الانقياد إلى نصوصه فى الحلال والحرام ويرفضون.. ويرفضون.. الخ. أيكون الاستعمار الصليبى قد انسحب حقا؟ كلا، لقد خرج من أكثر الأقطار بجسمه وترك روحه، خرج بشبحه وترك تعاليمه. إنه لا يوصف أبدا بالخروج إلا إذا محيت محوا جميع التركات الآثمة التى خلفها وراءه فى التعليم والتشريع، فعادت للإسلام قداسته وارتبطت الأمة مرة أخرى بتعاليمه.. ومن الحقائق التى تجب تجليتها أن الأمة الإسلامية- فى كتلتها الكبرى- تحن إلى هذا العود، وأنها تذاد عنه بالحيلة حينا، والقوة حينا آخر. ومن الغريب أنها عندما تزجر بغلظة عن التفكير فى العودة إلى الإسلام يكون ذلك باسم حرية الرأى. الحرية- بهذا التعريف المستحدث- قهر الشعوب المؤمنة على عصيان إيمانها وفك قيوده !! ونحن لم نخدع يوما بهذه الهجمات المنافقة، ولم نتوان فى محاربة الاستعمار العسكرى والقانونى والاجتماعى الذى يتحرك بغل أسود ضد الإسلام وحاضره ومستقبله. ونادينا وما زلنا ننادى بضرورة إقامة الحياة العامة على تربية دينية صحيحة وعلى تشريع إسلامى كامل... إن التخلص من الغزو الأجنبى لا يتم بإجلاء الجيوش، واستبقاء ما حققته من مآرب فى بلادنا، بل يتم بطرد هذه الجيوش ومسح الطابع الغريب النابى الذى تركته فى أحوالنا وشئوننا، بوحى من كرهها العميق لديننا وتاريخنا... وستجد مجادلين خبثاء يشغبون عليك باعتراضات من هذا النحو: إذا قلت: نريد العودة إلى تقاليد العفة والعبادة، قالو لك: أتريد العودة إلى ركوب الإبل؟ إذا قلت: نريد العودة إلى أصول الإيمان والتقوى، وأن نحيا وفق توجيهات ربنا ونبينا. ص _223(1/215)
قالوا: إنك لن ترجع بالحياة القهقرى، ولن ترجع بالتاريخ إلى الوراء. وهذا هذر سمج !! فإن الذى يحرص على تمكين الفضائل الإنسانية لا يتهم بالعودة إلى عصر البغال والحمير، إلا إذا كالة المفروض أن يركب السيارات والطيارات ناس تختفى فى بدلهم طبائع الدواب والوحوش!! والواقع أن العودة إلى الوراء ليست فى إحياء تعاليم الأنبياء، فإن هذا هو الارتقاء الحق! إن العودة إلى الوراء هى فى إعادة الجاهلية الأولى، وإعادة الكفر والإلحاد إلى النفوس والمجتمعات. إن طوائف المتعلمين الذين يطعنون الإسلام بحقد ويكرهون كتاب الله وسنة نبيه، هم الأدوات الحديثة التى صنعتها الصليبية لهدم الدين وإطفاء مصابيحه، إننا نتفرس فى وجوههم فنرى فيها ملامح لويس التاسع. وإن وصفوا أنفسهم بأنهم عرب، وبقيت أسماؤهم تشير إلى أصول إسلامية.. فهم فى نظرنا بقايا قديمة للبغضاء الصليبية، بل للبغضاء الصليبية والصهيونية معا. ضد العروبة والإسلام جميعا. وما بقوا يحاربون الاستمداد من هذا المصحف الشريف والاقتداء بصاحبه العظيم فهم فى نظرنا ظلمة من ظلمات الاستعمار بقيت فى آفاقنا يجب أن تكتسح حتى يصفو الجو ويعم الضوء... ولن نسأم من تنبيه المخدوعين إلى خبيثة الحرية التى يتصايحون بها. إن الحرية عندهم ليست تسليم الأمة حقها فى أن تحكم نفسها بنفسها، وفق عقائدها ومثلها.. إنهم أعداء هذه الحرية.. وطالما مشوا فى ركاب المستبدين ودقوا بين أيديهم الطبول. الحرية هى حق الإنسان أن يحيا وفق خصائصه العليا، لا حق الحيوان أن يعبث وفق شهواته الدنيا. أما دغدغة الغرائز، وإهانة الحرمات، وإفهام كل مخلوق أنه يستطيع أن يفعل ما يشاء باسم الحرية فهذا طيش!! والموافقة على مسلكه هذا دون اعتراض، حتى إذا فكر فى النظافة والعودة إلى الإسلام قيل له: قف! لن تعود! باسم الحرية! ص _224(1/216)
فهذا شىء.. ماذا نسميه؟.. بم ننعته؟؟ إن هذا النكر وظيفة عصابة من حملة الأقلام فى بلادنا!! وقد تناول الدكتور محمد حسين فى مقالات له بمجلة الأزهر- لم تتم للأسف- هذا الفريق الهدام، وكشف ما يبيته من شرور للإسلام وأهله وشرح تزييفه لمعنى الحرية فقال- معلقا على أحد الكتب المترجمة-: " والحرية بمعنى استقلال الشخصية التى يدعو إليها هذا الهدام هى حرية تقوم على الغلو المفرط فى الفردية، ويستطيع القارئ أن يلمس بوضوح فى كل مقالات الكتاب أن وراء كل سطورها إسرافا فى تقدير الفرد والفردية للحرية الشخصية فى السلوك وفى التعبير عن الرأى تنتهى إلى أن يسمح كل إنسان لنفسه بأن يبنى عالما مستقلا به من القيم لا يستوحى فيه غير خياله وأوهامه. مثل هذا الكلام لا يصدر إلا من هدام محترف لأنه يقتل الروح الجماعية التى هى أساس فى كل تماسك اجتماعى، والتى أدى فقدانها إلى ما يعانيه الناس الآن من فوضى واضطراب، فلو سمح لكل فرد من الناس أن يبنى لنفسه عالما مستقلا من القيم لأصبحت مقاييس الخير والشر مقاييس فردية، فلا يكون هناك شر هو عند كل الناس شر، ولا يكون هناك خير هو عند كل الناس خير. وعندئذ لا يصبح هناك مجتمع، ولا يكون هناك إلا الفوضى والخراب.. ". ثم يقول: " أكثر الناس يجهلون أن شعار الثورة الفرنسية (الحرية والإخاء والمساواة) هو من وضع مجمع بوردو الماسونى، وهو شعار لم يخدم إلا القلة اليهودية إذ سمح لسماسرتها بنشر الفساد، وأعانها على هدم سلطة الكنيسة وتقويض كل القيم باسم الحرية، وحماها فى الوقت نفسه من تعصب المسيحيين على هذه القلة التى استطاعت أن تستأثر بالسلطة عن طريق المال باسم الإخاء والمساواة. ومن أعجب ما يخضع له الناس من أوهام تسمية الصحافة (صاحبة الجلالة) وإحاطتها بهالة من القداسة تسمح لأى آفاق مدسوس على قومه أو فاسق مريض القلب واللسان أن يلفق من الأضاليل ما يريد وما يراد له، وأن يدسها على عقول السذج من(1/217)
الأحداث والأغرار أو الحمقى من ضعاف العقول باسم العلم والثقافة والحرية والتمدن، ما دام قادرا على تأثيث دار للصحافة بماله أو بمال غيره. ص _225
وسيطرة التنظيمات اليهودية على الصحافة العالمية وعلى وسائل النشر مشهورة معروفة، فرواج هذا الوهم بين الناس باسم (حرية الرأى) هو أكبر ما يمكن للدعاية اليهودية... ويدعم سلطانها ". أ. هـ الصهيونية فى أحضان الصليبية: ولا تستغربن أن يكون لليهود هذا النفوذ كله، فاليهود شعب ذكى ماهر وهو يعلم أنه قليل العدد لا يصلح له النزال مع خصومه فى ساحات مكشوفة تعتمد معاركها على الكثرة والمصارحة. إنه يختبئ بعيدا ليحقق أغراضه عن طريق الدس والخديعة والاحتيال. وقد تفلح الدسيسة فى إنزال الهزيمة بجيش أكثر مما تفلح العدة والعديد... إن اليهود يمقتون المسلمين والنصارى كليهما منذ زمن بعيد. أفتراهم يعلنون حربا سافرة على هؤلاء وأولئك ليتلاشى فيها جنسهم من الضربات الأولى؟ إنهم أمكر من ذلك وأدهى!! فليعيشوا راضين مبتسمين بين جماهير المسلمين والنصارى. ووراء هذا الابتسام والرضا يقبعون عند منابع العلم والمال ليستولوا على أزمة التوجيه الثقافى والاقتصادى.. وهم الآن فى أمريكا وأوروبا ملوك المال وقادة وسائل الإعلام، وأصحاب دور النشر، ولهم سطوة شبه مطلقة فى صناعة " السينما " وتوجيه الفنون وتقليب الأزياء ورسم أدوات الزينة ومظاهر الجمال. وهم وراء كثير من الحركات الفكرية والسياسية فى الشرق والغرب، تلك الحركات التى تهز أعمدة الدين وتغرى الشهوات بالانطلاق خشية الكبت ومضاره كما يزعمون!! واليهودية العالمية الآن تمتلك زمام التوجيه السياسى فى أكبر دول العالم المسيحى بل إن نفوذ رجالها فى روسيا بعيد المدى كذلك وإن بدا غامضا. ولما كان الحقد الديني قد أعمى الصليبية عن استبانة الرشد وأغراها بالإجهاز على الإسلام - عقب كبوته الأخيرة- فقد تصالح العدوان علينا وكانت مأساة فلسطين ثمرة هذا(1/218)
الوفاق..!! ولم تغب عن أبصارنا نحن المسلمين المكافحين مظاهر ذلك فى التيارات الفكرية والاجتماعية التى تتعرض لها أمتنا حينا بعد حين. ص _226
فإن أصابع الصهيونية تعمل جنبا لجنب مع أصابع الصليبية. والهدف الأكبر والأوحد لهؤلاء وأولئك العصف بالإسلام ووأد أى نهضة له وتشريد أنصاره وطمس ذكرهم وإحداث ضجيج هائل من السخافات الحلية والعالمية ليتم هذا المصير الرهيب فى صمت ودون أن يشعر أحد به... إن إحساسنا بمتانة الكيد الذى يتعرض له الإسلام وأهلوه هو الذى يجعلنا نصر على تنظيف الأرض الإسلامية من أدران الاستعمار كلها. وعلى ضرورة تطبيق الشريعة الإسلامية فى المجتمع وإشاعة التربية الدينية فى كل مكان. وهو الذى يجعلنا نصم بتبعية الاستعمار كل من يعترض هذا الأمل المحبوب لأمتنا، المستقيم مع إيمانها. الاستعمار القانونى: تحكيم الله جل شأنه فيما يشجر بين الناس من خصومات وفيما يفرط من أخطاء فرع من الإيمان به والانقياد له. فمن اعتنق الإسلام وصدق نبيه وتبع الوحى الذى جاء به فهو ملزم بداهة أو هو منبعث من تلقاء نفسه وبهدى يقينه إلى تنفيذ أحكامه وإقامة شريعته!! ذلكم هو مقتضى الإيمان دلي ن تكلف أو افتعال قال تعالى: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا). وقد تكون للمؤمن رغبة طبيعية فى أمر ما إلا أنه بمجرد علمه أن لله توجيها فى هذا الشأن فإنه يلغى رغبته ويسلم لله ما شرع، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به " . إن شرائع الله أبدا مكان احترام المسلم وتوقيره وهو يجتهد فى إنفاذها سرا وعلنا. والجماعة الإسلامية تتعاون بينها على إقامة حكم السماء مدركة أن تحكيم الله جزء من توحيده، وأن تحكيم غيره وإهمال وحيه ضرب من الشرك أو لون من الكفر.. فإن من أسماء الله الحسنى الحكم العدل، ومن توهم أن الله يقضى(1/219)
بالظلم أو يهدر المصالح فقد ألحد. ومن ظن أن غير الله أولى بالقضاء بين خلقه فقد مرق وأشرك. ص _227
والاستعمار الأوروبى عندما اجتاح أرض الإسلام وجه أقصى ضرباته إلى الشريعة الإسلامية، وعمل- ظاهرا وباطنا- على تجريحها وإقصائها، وإحلال قوانينه الخاصة محلها قاصدا بذلك إلى أمور: ا- محو الطابع الرسمى للإسلام وتقطيع الأحزمة الدينية التى تشد أوصال المجتمع وتبقيه متماسكا باسم الله إذا وقع خطأ فردى هنا أو هناك. 2- التذرع بتعطيل أمر الله فى ناحية مهمة إلى تعطيل أوامر الله فى سائر النواحى الأخرى وبذلك يتم سلخ المسلمين عن دينهم، وحطم الدائم والمعالم التى تكون أساسهم الروحى وصورتهم العامة. 3- ترك الجراثيم الخلقية تسرح فى هذا الجسم المتداعى مادام السكر والزنا والربا والسفه يقع بلا عقاب وما دام القتل والسرقة والاعتداء وغير ذلك من الجرائم يقع فلا يواجه فى الأمم الأغلب إلا بعقوبات فقدت قوة الردح وصرامة القصاص. 4- فرض الطابع الأجنبى للأمة الفاتحة والتوسل بهذا إلى تغليب ثقافتها ولغتها وتقاليدها ومن ثم تتلاشى حقائق العروبة والإسلام، وتتوارى فى تراب الهزيمة إلى الأبد. ومن المستحيل الزعم بأن الأمم الإسلامية تحررت لمجرد أنها تخلصت من الاحتلال العسكرى. ستبقى بها العبودية ما بقى القانون الفرنسى أو الإنجليزى يحكم هؤلاء المسلمين، وما بقيت جهود بعض المفتونين متصلة لنقل القوانين الغربية فى الأحوال الشخصية كى تحل محل أحكام الإسلام فى الزواج والطلاق. إن العودة إلى الإسلام تقتضى نبذ كل مظاهر الارتداد عنه... والحرية الكاملة تقتضى تنظيف البلاد من بقايا الاستعمار القانونى، ومسح الصبغة الأجنبية التى تقذى العيون فى أكثر في مكان (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما). ص _228(1/220)
معنى الضرورة: إن بعض الناس يقول: ما نقبل هذه الأحكام المجلوبة من الخارج إلا لضرورات ملزمة، والضرورات تبيح المحظورات. ونجيب هؤلاء بأن طبيعة الضرورة التوقيت لا الدوام، فإن الذى يزدرد جرعة من الخمر لغصة يخشى أن تتلفه- كما يقول الفقهاء- لا ينشئ باسم هذه الضرورة معصرة للخمر يستقى منها ويسقى منها طلاب النشوة. ونحن نعلم أن هناك أفرادا فى تاريخنا الطويل حكموا بغير ما أنزل الله. فما نضمن أن يكن كل قاض نزيها متحريا للحق متجردا للعدل بيد أن تعميمهم بوصف واحد لا يجوز، وقد قال ابن عباس: من لم يحكم بما أنزل الله جاحدا به فهو كافر، ومن أقر به ولم يحكم به فهو فاسق ظالم.. لكن تحكيم القوانين الأجنبية بالطريقة الشائعة الآن فى البلاد الإسلامية أمر لا يؤذن بأنها ضرورات تنتهى بزوال قريب أو بعيد. والجدل الذى يدور دفاعا عنها حينا، أو اتهاما للنصوص الإسلامية حينا آخر يدل على أن الاستعمار أفلح فى خلق طائفة كافرة بالله متمردة على كتابه متبرمة بما أنزل تريد هجره عن تبجح وعمد. فإذا انضم إلى هذا أن هؤلاء الثرثارين باستبقاء القوانين الاستعمارية لا يقيمون صلاة ولا يؤتون زكاة علمت أنك أمام ارتداد حقيقى عن الإسلام وعداوة خبيثة لله ورسوله. لقد شرحنا فى كتبنا الأخرى أن الخروج على حدود الله هو- كأى معصية أخرى- ينظر فيه على ضوء الملابسات التى تحيط به. فليست كل مخالفة لأمر الله معصية تنزلق بصاحبها إلى الكفر. قد يكون العصيان وهنا عارضا للعزيمة الطيبة أو طيشا يدفع إليه هوى غالب. فإذا ما صحا المؤمن من سكرته عض بنان الندم على ما فرط فى جنب الله.. ومهما ساءت حاله فهو لن يرى ما فعل خيرا أبدا، إنه يراه شرا محسوبا عليه إن لم تدركه رحمة الله. فهل الذين يحكمون بغير ما أنزل الله من هذا الطراز؟ كلا! إنهم يعصون الله جهرة لا خفية، وعلى ملأ من الناس لا بعيدا عن الأعين، ودون إحساس ما بارتكاب منكر!! ص _229(1/221)
إنهم يواقعون هذه السيئات الغلاظ، وكأنهم جادون فى الأمر خادمون للصالح العام لا يخامرهم قلق من عصيان لله أو إماتة لدينه. إن تيار الاستعمار حملهم بعيدا عن شاطئ الإيمان فما يخطر بأذهانهم أن الحلال بين والحرام بين! وعندما يطرح هذا المصحف عن بينة ويجاء بغيره عن بينة. عندما ينبذ هدى الله عن نية وروية،،يقرر هوى الناس عن نية وروية فإن هذا التصرف لا يسمى حيرة نفس مؤمنة تاهت عن الطريق يوما وهى موشكة على الأوبة، كلا.... إن شرود نفس من صنف آخر، من هذا الصنف اليهودى الذى قال الله فيه : (أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون). أو من هذا الصنف الفرعونى الذى قال الله فيه : (فلما جاءتهم آياتنا مبصرة قالوا هذا سحر مبين * وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا). إن إهمال شرائع الله على هذا النحو واستبقاء شراء الاستعمار مكانها لا يمكن بتة أن يوصف بخير. وما حدث هذا إلا فى كبوة من تاريخ الإسلام ورقاد أو موات فى ضمائر أهليه. حول جريمة الزنا وعقوبتها: وقد تسمع امرءا يقول: إن الشروط التى وضعها الإسلام لإقامة حد الزنا مثلا يصعب تحقيقها! ونقول: وهل حارب الإسلام الزنا بالحد وحده؟ لو كان الأمر كذلك لانتظم الفساد كل البيوت !! إن الإسلام حكم أولا بتحريم الزنا، ثم ربى على ذلك أمته. أما القانون القائم فهو لا يحكم بتحريم الزنا، وإنما يعاقب على الإكراه أو الاعتداء على فتاة قاصرة أو على الخيانة الزوجية إذا رفضها الزوج.. وفارق بين الأمرين بعيد !! ثم إن من حق الإسلام أن يحتاط فى إقامة حد قد يكون فيه قتل مادى أو أدبى ولكنه يحرم الزنا برفض دواعيه، وما يؤدى إليه. ص _230(1/222)
ويعاقب- بما دون الحد- من يرتكبون أى عمل فاضح لا يستكمل الشرائط الموجبة للحد المقرر. ومعنى هذا أن الخلاف أساسى فى نظرة الشريعة إلى الجريمة، ونظرة القانون إليها. إننا إذا اتفقنا على أن السل مرض لم نختلف فى منع أسباب العدوى. وإذا اتفقنا على أن الزنا فاحشة لم نختلف فى منع ما يؤدى إليه من تقاليد التبرج والانطلاق. والواقع أن كثيرا من التقاليد والأحكام التى نشأت فى حضن هذا الاستعمار التشريعى يرفضها الإسلام كل الرفض، بل يعتبرها من الجاهلية التى جاء لغسل العالم من قذرها، ودين يسلك الزنا مع القتل مع الشرك فى خيط واحد يأبى- بسياط القانون وبأدب المربين- أن تصبغ الحيوانية مجتمعه. وإذا كان الإسلام- رحمة بالخلق- يأبى الاستماع لدعوى الزنا ما لم يكن هنالك أربعة شهداء فهو يأبى أن تتلاقى الأجساد العابثة أو تقع الحوادث المخزية، ويقبل الاتهام بالخروج على آداب الشريعة ما دام مقرونا بالأدلة البينة والشهادات العادية ويعاقب بما يراه رادعا واقيا... ولن يحتاج الأمر إلى جهد، يوم تقدس الأعراض ويحكم الشرع وينبذ هذا القانون المجلوب من بلاد تمردت على الله ورسوله... و السرقة؟! وقد تسمع امرءا آخر يقول: إن عقوبة السرقة قاسية أو يتسفل فى التعبير فيقول: إنها وحشية !! والمدهش أن هؤلاء- وفيهم شيوعيون كثير- يطالعون فى الصحف أن روسيا لا تقطع اليد فى هذه الجريمة بل تزهق الروح. وأن عددا من الرجال والنساء قتل رميا بالرصاص فى جرائم السرقة!! ولم نسمع أحد هؤلاء الهاجمين يقول: وحشية أو رجعية. ولندع ذلك إلى بيان أن الإسلام ليس مولعا بإحداث عاهات مستديمة للناس أو أن أرحم الراحمين- جل جلاله- أعنت عباده بما شرع وسد أمامهم منافذ العذر وإصلاح الخطأ.. لا.. لا.. إن الإسلام يحارب الجوع أولا، ويوفر لكل امرئ الوضع الذى يغنيه ولم يقل الفقهاء: إن الجائع تقطع يده! ص _231(1/223)
والإسلام يمهد الطريق لمن فى قلبه ركبة فى التوبة ولا ينتظر عثرة عاثر ليبطش به، ولكنه يدع تقدير ذلك للقاضى حتى لا يستغل المجرمون الشريعة. ومن حقه أن يدرأ الحد بالشبهة، وأن يتريث قبل إيقاع الحد حتى لا تقطع إلا اليد التى لو بقيت موصولة بالمعصم بقى السطو على الأموال والترويع للآمنين.. ثم إن شأن الشريعة أكبر وأسمى من أن يتعرض بحرها الطامى لهذا الفكر القمىء . إن الفقه الإسلامي أوسع فقه ظهر فى الأرض الله. وهو روح حضارة تصدرت القافلة البشرية كف عام. وآفاق النظر فيه واسعة سعة السماء المحيطة بنا... وما يجوز الحكم على هذا الفقه إبان اعتلال صحته واضمحلال قوته فى القرون الأخيرة... شريعتنا فوق الظنون... إن الفقه ليس هذه (المتون) المبتسرة ولا هؤلاء العلماء القاصرين. إن تراثنا هائل رائع، وقد بدأت الدراسات الحديثة تكشف جوانب من عظمته ودقته. وربط الأمة بهذا التشريع السماوى إحكام لأمورها، وضبط لمرافقها، ومضاعفة لإنتاجها، وتجاوب مع ضميرها، واستدرار لعطف الله عليها. وما أفقرنا إلى هذا كله... ولئن كان جهلة المسلمين غير مدركين لهذه الحقائق، إن العقلاء من علماء "الغرب " يعرفونها حق المعرفة. فى صيف سنة 1962 استقدمت حكومة الجمهورية العربية المتحدة اثنين من الخبراء فى شئون الإدارة والتنظيم لإصلاح الإدارة الحكومية واقتراح ما يريانه لدعم الجهاز الرسمى، ورفع مستواه وتنشيط دولابه، هما " لوثر جيوليك " و " جيمس بولوك " وقد كتب هذان الخبيران تقريرا عن إصلاح الإدارة الحكومية قدما له بفصل وثيق الصلة بالموضوع جاء فيه " لا يمكن بحث خطط إعادة التنظيم لجهاز أية حكومة أو لإجراءات العمل بها بعيدا عن التيارات العامة التى تسود الأمة أو بمعزل عن المعتقدات الأساسية التى تدين بها.. " ثم قالا: " إن الله شرع "الدولة " نظاما أخلاقيا واقتصاديا وسياسيا.. وللإنسان أن يشكل هذا النظام- فى هذا الإطار المعنوى- بقدر ما يتاح له من(1/224)
اتساع المعرفة والخبرة ولكن على الدعائم الأخلاقية المعهودة للأمة. ص _232
والثقافة الإسلامية من أصلح الأسس للحكم الناجح فى العصر الحديث وليس ذلك فحسب. بل إنها تقدم للشعب المصرى المبادئ التى يمكن أن يقيم عليها " ديمقراطيته الجديدة .. ". أ. هـ ومعنى هذا الكلام أن البناء الإدارى للدولة يحتاج فى تشريعه وتنفيذه إلى التلاقى المطلق مع الدين الذى ارتضته الأمة لها، وهو الإسلام... أما التشريعات الجنائية والمدنية، فقد أسهبنا المقال فى ضرورة استمدادها من فقهنا العريق. يقول الباحث القانونى الإيطالى " بيولا كازيلى " الذى كان مستشارا لوزارة العدل أمدا طويلا: " إنه يجب على مصر أن تستمد قانونها من الشريعة الإسلامية فهى أكثر - من غيرها- توافقا مع روح البلد القانونية ". ونحن لا نعول على شهادات الأجانب ولا تزيدنا ثقة بنفاسة ما لدينا وإنما نلطم بها الوجوه التى تعنو للأجانب وحدهم وتقبل كلماتهم بخضوع شديد. وما أكثر أولئك بين القردة من متعلمى العصر الحاضر الذين يريدون أن تحكم مصر المتحررة من التبعية الأجنبية (!) بقوانين فرنسوية وإنجليزية ونمسوية... إلخ هجوم مريب..!! كانت هذه المشاعر والأفكار تموج فى فؤادى عندما تحدثت فى المؤتمر الوطنى للقوى الشعبية، وعندما قررت أن أبسط فى جلاء وجهة النظر الإسلامية... ويستطيع من أحب أن يراجع مضابط الجلسات ليقرأ التفاصيل كاملة. والذى أبغى إثباته هنا أن الكثرة العظمى لم تر فيما قلت إلا ترجمة ما تنطوى عليه سرائرها. فهى لم تؤيدنى فحسب، بل قامت بحق الوفاء لدينها عندما غذت ما قلت، فكرتها ووجهتها، وصورة نفسها وأملها... لكن العودة إلى الإسلام فى ميدان التشريع والتربية لا يمكن أن تنتهى بهذه السهولة. إن اشتباك الاستعمار- شرقيه وغربيه- بالبلاد الإسلامية ترك طابعه فى نفوس كثيرة لما كان موجودا، وترك مخلفاته فى نفوس أكثر لما رحل. ولماذا أحصر التهمة فى الاستعمار وحده؟ ص _233(1/225)
إن عجز الدعاة الإسلاميين عن شرح الإسلام الحق، وبقاء صور تاريخية وواقعية للإسلام المزيف تثير الاشمئزاز.. ربما كان سبب إزورار البعض عنا، وكرههم لما قلنا... ولقد كنت أتوقع معارضين يضيقون ذرعا بنا، وأعددت العدة لمناقشات مرة يستبين فيها الصواب وتتبدد فيها غيوم الريبة. وما كان أسعدنى بذلك لو وقع. بيد أننى فوجئت بهجوم صحافى واسعا النطاق اعتمد فى جملته على الإفك والتجريح، وكانت طريقة انبعاثه مثيرة لدهشتى. وقد قررت أن أنسى ما مسني من إساءات، بل لعلنى نسيتها يومئذ. إن البحث عن الحق جهد كريم، وعلى أمثالى من دارسى الإسلام أن يعين فيه بكل ما لديه من قوة، وأنا أستحق اللوم كله يوم أعجز عن إسداء ذلك العون لناشديه. ومن رجال الصحافة من لمحت فيهم هذه الحركة النفسية، وليت الأمر بلغ مداه فى هذه السبيل، إذن لتوصلنا إلى خير كثير... لكن من رجال الصحافة من أدار المعركة ضد الإسلام بعنجهية خلت من الأصالة والاعتدال... وكان هجومه يتسم بالغرور والمجازفة. وقد ضحكت كثيرا، ضحك المرارة، وأنا أسمع من يتهمنى بعدم الإدراك لآلام الطبقات الكادحة والبائسة ، يريد من وراء هذا الاتهام رمى علماء الإسلام عامة أنهم يتعلقون بالرسوم والمظاهر، وأنهم لا يخدمون قضايا الشعوب... ومرسل هذه التهم الكذوب شيوعى الفكر والحلق وما أكثر هذا الصنف فى دور الصحافة... وليس يستغرب على كافر بالله أن يفترى على خلقه. لكن الأمر يحتاج إلى تعقيب، فإن لوفا مؤلفة من القراء الواعين يعلمون أنى أيام النظام الملكى فى مصر ألفت خمسة كتب حفلت بكل ما يقال فى مجال العدالة الاجتماعية. وأن الذى سطرته فى هذا المجال كان أول ما ألف باللغة العربية فى هذا العصر.. ص _234(1/226)
وقد تم ذلك والذى يتولى توجيه التهم إلينا طالب يرتدى السراويل القصيرة فى المدارس الثانوية. فإذا مضت السنون وجحدت الحقوق، جاء من لم يخدم الشعوب بكلمة إبان أزمتها يتهم الذين تعرضوا للمخاطر، وجابهوا الشدائد... لكن هذه طبيعة الكنود فى بعض النفوس وبعض البيئات.. والحق أنه يغيظنى تطاول سارقى الثمار، على من سبقوا بالغرس، وتحملوا فى سبيل إنضاجه المتاعب. والشيوعيون فى بلاد كثيرة يستغلون الحرية، ويرتفعون على تضحيات أبطالها، حتى إذا أمكنتهم الظروف وثبوا، ثم وأدوا الحرية، ولعنوا رجالها الأولين... حملة على تحكيم الإسلام: ولندع هذه الخواطر فقد انتهت الأحداث التى أثارتها. ويكفى أن أثبت هنا اعتراضا واحدا على عودة التشريع الإسلامى، والتقاليد الدينية إلى بلادنا كتبه الصحافى المشهور الأستاذ محمد التابعى... ومحمد التابعى ركن من أركان الصحافة المصرية، وله ماض طويل فى خدمتها. ومع أن الرجل حامى عن القضايا الوطنية كثيرا، إلا أنه- فيما علمنا- لم يصل لله ركعة، ولم يصم له يوما.. بل لعل الإسلام لم يعرض لنفسه يوما إلا مناظر فى الطريق العام، أو ذكريات من التاريخ القديم. إنه مثل لهذا الجيل من الناس الذين يعيشون بمواهبهم الأدبية دون ارتباط بدين ما... وقد أسهم فى هجوم الصحافة على بكلمة يجب الرد عليها جاء فيها: " أكتب اليوم كلاما أعرف أنه سيغضب الكثيرين، ولكنه حق.. وأنا لا أدافع هنا عن منكر أو خبيثة.. وإنما أدافع عن حرية العقيدة التى نص عليها مشروع الميثاق. ولقد صفق أعضاء المؤتمر الوطنى للقوى الشعبية.. صفقوا طويلا للعبارات التى جاءت فى مشروع الميثاق عن حرية العقيدة واحترامها. . ص _235(1/227)
ثم عاد نفس السادة أعضاء المؤتمر وصفقوا طويلا لفضيلة الشيخ الغزالى وهو يقول كلاما يجافى حرية العقيدة على خط مستقيم. وعند ما أقول " صفق " الأعضاء.. فأنا أعنى أكثر الأعضاء، وقد قدرتها بثلاثة أرباع الحاضرين، ولكن عضوا بالمؤتمر صحح لى الرقم وقال: (بل قل تسعة أعشار الحاضرين). تسعة أعشار أعضاء المؤتمر كانوا مع فضيلة الأستاذ محمد الغزالى الذى استطاع أن يكسبهم إلى جانبه عندما استثار نخوة الرجولة فيهم بحديثه عن الفتنة التى تمشى فى الشوارع عارية السيقان والصدر والظهر... وعندما استثار فيهم النعرة الدينية بحديثه عن وجوب تحريم الخمر- مثل ما حرمت الدولة المخدرات- ووجوب الرجوع إلى أحكام ديننا الحنيف دين الإسلام فى سائر المعاملات والعقوبات، وأن من قتل لابد أن يقتل.. ولكن.. إذا كانت عقيدتنا فى دين الإسلام تحرم شرب الخمر.. فهل من حرية العقيدة التى صفق لها الأعضاء أن نحرم شرب الخمر على غير المسلمين من المواطنين؟ إن فى البلد مليونين ونصف مليون ونيفا من المواطنين الذين ينتمون إلى عقائد دينية أخرى لا تحرم عليهم تناول الخمر.. ومن هؤلاء مثلا إخواننا المسيحيون. ولقد كان السيد المسيح عليه السلام وأصحابه وحواريوه يشربون النبيذ.. وأقبية الفاتيكان مقر البابوات خلفاء السيد المسيح ملأى بقنانى النبيذ الفاخر المعتق.. وبعض الأديرة فى أوروبا قد تخصص فى صنع ألوان من المشروبات الروحية مثل البند كتين.. إلخ. هل نحرم على هؤلاء شرب الخمر..؟ وهل هذا من حرية العقيدة فى شىء ونحن نقيد حرية عقيدتهم بأحكام عقيدتنا نحن؟ ثم لماذا الخمر وحدها دون بقية ما حرمته عقيدتنا الدينية؟ لماذا لم يطلب فضيلة الأستاذ الشيخ الغزالى تحريم لحم الخنزير.. والخنازير تذبح كل يوم فى مذابح المحافظات.. وتباع لحومها علنا..؟ والميسر يلعب.. فى كازينو المقطم وكازينو المنتزه..؟ ونمشى بذلك التحريم مع أحكام الشريعة الغراء؟ ص _236(1/228)
ثم فضيلة الشيخ لا يعترف- فيما بدا لى من أقواله- بوجود " ظروف مخففة " ويصر على وجوب إعدام القاتل.. كل قاتل.. مهما كانت أسباب القتل ودوافعه .. أو هذا هو ما فهمته من كلامه. ونسأل الأستاذ الغزالى هل هو يطالب كذلك برجم الزانية، وقطع يد السارق، وخزق عين من خزق عين آخر..؟ وكل هذه الحدود من أحكام الشريعة الغراء.. والضجة العنيفة التى أثارها فضيلة الشيخ داخل المؤتمر قد خرج صخبها إلى ما وراء جدران القاعة الكبرى بجامعة القاهرة، خرج إلى جميع أنحاء البلاد، بل تردد صداه خارج البلاد. وما من شك فى أن كلاما كثيرا مما قاله الشيخ الغزالى قد طيرته وكالات الأنباء. كذلك ما من شك فى أن الهيئات والمنظمات المعادية للجمهورية العربية المتحدة- من صهيونية وغير صهيونية- سوف تجد فى أقوال صاحب الفضيلة مادة للدعاية ضدنا. شركات السياحة التى تعمل لحساب إسرائيل مثلا، وشركات السياحة التى تناهض دعايتنا لتنشيط السياحة عندنا. هذه وتلك قد تزعم وتعلن فى نشراتها أن حكومة القاهرة قد قررت (خلاص) تحريم شرب الخمر فى بلادها. وتضيع الجهود المضنية التى يبذلها القائمون على شئون السياحة عندنا. وما يعجنه الدكتور عبد القادر حاتم ومساعدوه ومرءوسوه. يبططه فضيلة الأستاذ الغزالى هو وأنصاره ومريدوه. ويقول السائح الأجنبى: " مالى وهذا البلد الذى لا أستطيع أن أشرب فيه قدحا من الويسكى أو البيرة أو كأسا من النبيذ "؟ وتبقى كلمة عتاب لفضيلة الأستاذ الشيخ.. نحن بشر.. ومن حقنا أن نغضب، وأن تثور منا الأعصاب. فقط كان ينبغى أن يذكر أن ما قد يغفر لرجل الشارع، لا يمكن أن يغفر لعالم الدين وخطيب الأزهر الشريف. ص _237(1/229)
ولقد تفوه فضيلة الشيخ بعبارات ضد الصحافة والصحفيين، كنت أوثر لو أنه استطاع أن يحكم أعصابه ويكتمها فى صدره، حتى على فرض أنه كان يعتقد فى صدق هذه الاتهامات التى قذف بها فى حق " أكثر الصحفيين "! ولكن عتابى الأكبر أو الأقسى هو للزملاء الصحفيين من أعضاء المؤتمر الوطنى العام، إذ لا أعرف أن أحدهم يشكو من العى أو الفهاهة، بل الذى أعرفه أن كل واحد فيهم يستطيع التحدث بلسان عربى قوى مبين. أعتب على الزملاء المحترمين أن أحدا منهم لم يطلب الكلمة ليعقب أو يرد على فضيلة الشيخ. صحيح أنهم كتبوا وردوا فى الصحف، ولكن شتان. شتان بين الكلمة المكتوبة التى يقرؤها على أكبر تقدير مائتا ألف، أو بالغ إن شئت وقل: نصف مليون. والكلمة المسموعة (الراديو) والكلمة المرئية (التليفزيون) التى يسمعها الملايين، ولقد انتشر الراديو وتغلغل فى أعماق الريف. والذين يستمعون إلى الراديو.. والذين استمعوا إلى المناقشات التى دارت فى المؤتمر الوطنى يعدون بالملايين. أما الذين يقرأون الصحف..؟ هذه هى كلمة عتابى على الزملاء الأصدقاء.. السباب فى الصحافة.. أو الاتهامات التى وجهت إلى الصحافة سمعها أكبر عدد.. والدفاع عن الصحافة.. قرأه أقل عدد..! ". أ. هـ لقد قرأت هذا المقال بين ما قرأت، ولم أفاجأ بموقف الأستاذ محمد التابعى من الإسلام وتعاليمه وشرائعه. وقبل أن أعلن رفضى لما قاله، عن ديننا العظيم وعلاقاته بالأديان الأخرى، أعلن قبولى لمبدأ التفاهم حول الأسلوب الذى تبحث به القضايا العامة، ووجوب ابتعاده عن الألفاظ النابية.، إن المهاترة سلاح مفلول، وعلى طرفى النزاع فى أمر ما الاعتماد التام على تبادل الأفكار، وتدارس وجهات النظر. ص _238(1/230)
أما أن يستخف أحد الجانبين بالآخر، فيؤذيه وهو يحسب نفسه آمنا من القصاص .. فذلك مالا يسوغ.. إن انتصار الحر لنفسه مشروع وفى القران الكريم : (والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون). وقد بغى على نفر من أصحاب الأقلام، واستغلوا صحفهم للنيل منى.. أعنى النيل من الدين الذى أعتنقه وأنافح عنه!! فيتم يبكون إذا عادوا من هجومهم جرحى؟! ولماذا يلوموننى إذا ارتد إلى أعناقهم سلاح شهروه ضدى؟ ومع ذلك فحرصا على السلام- لا على السلامة- أغلقت بابا أعرف أن سينفتح بشر كثير.. وعلى الأستاذ التابعى بدل استثارة أقرانه فى متابعة الهجوم، أن يتواصى معهم بإنصاف الخصوم. وبقى- بعد إبداء هذه الملاحظة اليسيرة- أن أتناول الموضوع نفسه وأن أعود إلى قضية الإسلام، واحترام شرائعه كلها فأذكر بإيجاز الحقائق الآتية: ا- الإسلام يعتبر الخمر- بالنسبة لأهل الأديان الأخرى- مالا له قيمته وحرمته فلو اعتدى عليه مسلم ألزم بدفع التعويض المناسب. وهذا من الإسلام اعتراف بحق مخالفيه أن يتصرفوا وفق مذاهبهم الدينية كما يشاءون وإن كان هو يرى الخمر حراما، ويهدر قيمتها، ويحقر شاربيها من المسلمين، ويمنع بداهة تمكينهم من تناولها. ومن ثم يظهر أن الإسلام- وهو الذى أهدى للعالم حرية الاعتقاد من أربعة عشر قرنا- لم يخدش هذه الحرية بالنسبة إلى غيره، ويستطيع السائحون ومن إليهم من طلاب السكر أن يشربوا الخمر فى ظل حكومة تحظر ذلك على رعاياها المسلمين. 2- لم يكن أعضاء المؤتمر الوطنى متناقضين مع أنفسهم حين صفقوا لحرية الاعتقاد ثم حين صفقوا لتحريم الخمر، بل التناقض وقع فى منطق السكران الذى أرغم على الصحو فأخذ يصيح: حرية الإيمان فى خطر، حرية التدين فى خطر. ولو كان صريحا مع نفسه لقال: حرية العبث فى خطر، حرية العربدة فى خطر!! ص _2 ص(1/231)
3- من حق الأحرار فى هذا البلد أن يصروا على تحرير القانون العربى من التبعية الأجنبية، وأن يعيدوا صياغته على ضوء من شرائع الله ومعالم الإيمان والخلق. وهذا الجهد العظيم الكريم فى تقويم القانون الحالى لا ينبغى أن يقابل بغمز التشريع السماوى وضرورة تطبيقه التى نادينا بها، فذلك بداهة عمل لجان قضائية متخصصة، ليس للسيد التابعى أن يعترض عليها أو يتدخل فى وجهتها الدينية والفنية. 4- نحن باسم الإسلام نحترم الحرية، ونعرف أن نكبات الأديان من بدء الخليقة إلى اليوم جاءت من السلطات المستبدة، فالحرية بالنسبة إلى الدين ضرورة حيوية ولكننا نهز الرؤوس دهشة ممن لا يفهمون الحرية إلا أنها حق الإلحاد أن يعيش، وأن يفرض نفسه بالقوة والإمكانيات الجائرة. فإذا أخذ الإيمان لنفسه مثل هذه الحقوق وهذه الإمكانيات صاح الجانب الآخر: الحرية فى خطر.. لنفرض أن أكثر من 90% يريدون حظر الخمر- والواقع أن جمهور المسلمين وكثرة ضخمة من إخواننا الأقباط يرون حظر الخمر- فهل تكون الحرية فى خطر لأن 3% مثلا يرون بقاءها؟ وهل من حق هذه القلة أن تقول عند تحريم الخمر: الشعوب فى خطر؟! هذا مالا مساغ له، إن الحرية لجانب واحد فقط ليست حرية. ما يكون الاستبداد إذن؟! أتفرض رأيك على جمهور الشعب قسرا، وإلا تصايحت: الحرية فى خطر؟؟ 5- ليست بيننا وبين الصحافة معركة، وأصدقاؤنا من الصحافيين كثيرون، ولكننا نعجب ولا ينقضى عجبنا أبدا ممن يحسنون الانحناء لكل ذى سلطان، ويتصرفون مع مواهبهم تصريف الجنود المرتزقة مع سيوفهم، أى أنها فى خدمة من يدفع الثمن وهؤلاء نفر معدودون معروفون، والحملة على هؤلاء شىء ترحب به الصحافة ولا تضيق به أبدا. ولذلك نحن نعلن ولاءنا للصحافة النزيهة واحترامنا العميق للصحافيين الشرفاء. ثم إنه لأمر يدعو إلى العجب البالغ أن يقول لك أحد الناس: دع دينك ليستريح الآخرون..!! ص _240(1/232)
إذا كان الآخرون لا يستريحون إلا إذا تركت دينى فلا أراحهم الله، ولا هدم لهم بالا.. ولقد شعرت بالامتعاض كله وأنا أقرأ ما كتبه الأستاذ محمد التابعى تحت عنوان يفيد أن إحياء أحكام الإسلام معناه اعتراض العقائد الأخرى !! لماذا؟ إن الجهالة الغليظة بالإسلام وتاريخه، والجهالة الأغلظ بالأديان الأخرى وتواريخها تكمن وراء كل حرف فى عنوان المقال الذى نشرته " أخبار اليوم " فى هذا الشأن.. إن الفيلسوف الفرنسي " أرنست رينان " كان أصدق إحساسا، وأبصر بتاريخ الحياة والأحياء حين قال: "إن الميل إلى العلوم وتذوق الفنون الجميلة أنشأ فى (أسبانيا) فى القرن العاشر الميلادى تسامحا لا تكاد القرون الحديثة تقدم إلينا مثلا واحدا منه، فقد كان المسيحيون واليهود والعرب- يعنى المسلمين- يتكلمون بلغة واحدة ويتناشدون الأشعار ويتقاسمون الدراسات الأدبية والعلمية!.. ولو أن الصحافى العربى الناقم على أحكام الإسلام كلف نفسه عشر العناء الذى يتحمله فى دراسة الحب والغناء وفنون اللهو، وتعلم شيئا عن الدين الذى ينتسب إليه ما كتب هذا الذى كتبه.. فلنتجاوز تلك التعليقات، ولننتقل إلى أفق أخر.. كتب الأستاذ عبد الحليم الجندى. القانونى الضليع ورئيس إدارة قضايا الحكومة رسالة فى توحيد الأمة العربية على أساس الشريعة الإسلامية.. جاء فيها ما يلى، نثبته هنا، لعل فيه تعليما لمن شبوا لا يدرون عن الإسلام وأمته وحضارته شيئا ومع ذلك يتحدثون فى كل شراء. قال الأستاذ: - سيطر التشريع الإسلامى على العالم الإسلامى طوال العصور الماضية. وجرى تياره يصب فى مجرى الحضارة الإنسانية، حاملا خيرات الأمة العربية وخبراتها إلى الشعوب الأخرى، كمثل ما تدفقت علومها التطبيقية وفنونها وآدابها فى جامعات أوروبا وأسواقها وشعوبها، فى أسبانيا وفرنسا وإيطاليا وإنجلترا وغيرها. والفقه العربي أعمق كنوز هذه الحضارة العربية، وأقواها، إن كان مستمدا من الكتاب العزيز والسنة(1/233)
الكريمة. ص _241
وإن كانت قواعده هى القواعد القانونية التى يجرى على مخالفتها بالجزاء الجنائى أو المدنى. وقد كان محل إجماع الأمة وتقديسها فكيف لا تتأثر به حضارة الأمم الأخرى فى الغرب بعد اتصالها بالعرب؟ كيف نجد مشابهة بين أعمال كبار الكتاب الغربيين والآثار الأدبية العربية مثل المشابهة بين الكوميديا الإلهية وهى من عمل أعظم شعراء عصر النهضة فى أوروبا " دانتى " وبين أعمال أبرا العلاء المعرى فى رسالة الغفران.. ونجد التيار العربى ينساب فى الأدب الأسبانى والعلوم الأسبانية؟ ونجد " فولتير " فى القرن الثامن عشر فى فرنسا و " جوته " فى القرنين الثامن عشر والتاسع عشر ينهلان من مناهل الأدب العربى الإسلامى؟ هذه الأمثال وكثيرا سواها من دلائل تأثر الأدب والفلسفة والعلوم التطبيقية والرياضية بتراث آبائنا العظيم، وتقدمهم الراء. ثم ننفى أن يتأثر العالم القانونى هناك بأعظم مجموعات العلم العربى- كله- وأوسعها فى التكيف وانتشار الرقعة، ونعنى به الفقه؟؟ لقد ازدهر المجتمع العربى والفكر العربى على ما سلف بيانه فى جنوب إيطاليا وشمالها، وفى أسبانيا وفى تخوم فرنسا نحو ثمانية قرون أو على الأقل من سنة 711 حتى سنة 1493 للميلاد حيث كانت التشريعات العربية مطبقة رسميا، حتى أنه لما انتصر الفرنجة لم يلغها الغزاة، بل بقيت بين عناصر المجتمع الدائمة. وكان العرب قد بلغوا بجيوشهم مدينة " تور " شمال غرب فرنسا- فى الطريق إلى باريس أو لندن- ثم انهزموا فتركوا أوروبا الغربية إلى حيث استقروا بالأندلس واحتلوا مقاطعة بروفانس فى جنوب فرنسا. وما يزال التربادور يرد فيها إلى أصول عربية من الغناء والحداء. وكانت جزر البحر الأبيض الكبير سواء الأسبانية أو الفرنسية أو الإيطالية أو اليونانية فى أيدى العرب مئات السنين، حيث كانت السيطرة لإفريقيا العربية بحضارتها وشرائعها، كما سيطرت حضارة الشرق العربى والمغرب العربى على عالم المعرفة.(1/234)
ويقول المؤرخ " فورييه " فى كتابه تاريخ الشعر البروفانسي لا هناك ما يدفع المرء إلى استنباط أن عرب الأندلس كان لهم بواسطة مثلهم أثر حقيقى فى الحضارة الخلقية ص _242
والاجتماعية فى جنوب فرنسا. وأخص بالذكر منها ذلك القسم الأكثر سيادة فى هذه الحضارة وهو الفروسية ". وكان الفقه المالكى سائدا فى الأمم الإفريقية وفى الأندلس.. فلا يسوغ فى الذهن أن يكون الفقه العربى العلم الوحيد الذى لا ينقل منه كتاب واحد.. مع الآلاف المؤلفة من الكتب التى تناقلتها الجامعات وبلاط الملوك والعلماء.. ولما تغير الحال لم يزل المجتمع بهزيمة العرب وإن كان تطور، بل بقيت أعرافه على كل حال خاضعة للنصوصى أو القواعد المطبقة فى حضارة كانت مثلا يحتذى فى أوروبا كمثل ما كانت معارفها منهلا للظامئين.. وسواء أكانت سيطرة هذه الأعراف أو القواعد القانونية راجعة إلى مصدرها العربى الرسمى أو إلى قبول مصدرها الواقعى من المجتمع العربى فإن المسلمين ظلوا فى الأندلس بعد تصالح الأمير العربى مع الأسبان فى ديسمبر سنة 1491 م على شروط أهمها (.. أن يؤمن المسلمون فى أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، وأن يحتفظوا بشريعتهم وقضائهم، وأن يتمتعوا أحرارا بشعائر دينهم وأن تبقى المساجد حرما مصونا). ولئن انقضى قرن وبعض قرن حتى سنة 1610 م ذاق فيها العرب من العذاب مالا تنساه البشرية من تنصير بالقوة إلى إحراق الذين تنصروا.. إن الحريق لم يبد العرب كافة.. فينصح كاردينال طليطلة- وكان رئيسا لمحاكم التفتيش- بقطع رؤوس من يتنصر من العرب. رجالا ونساء وشيبا وشبابا. ويشير الراهب (بيلدا)- مؤيدا من رجال إلا كليروس- بأن تضرب رؤوس الذين تنصروا قولا واحدا (!) لأنه لا يعرف إخلاصهم فى تنصرهم. ولما عارضت الحكومة فى ذبح الملايين أمرت فى سنة 1610 م بإجلاء العرب عن أسبانيا. فجلا نحو مليون، وقتل فى الطريق مئات الألوف، وارتاح (بيلدا) لقتل ثلاثة أرباع أولئك المهاجرين.. إن قافلة من(1/235)
140 ألفا قد قتل منها مائة كف! لقد أفنى الأسبان من العرب ثلاثة ملايين من سنة 1492 إلى سنة 1610.. فى حين لم يدخل العرب بلدا إلا عمروه،. ولم ينشر الإسلام لواءه ليقتل النفوس وإنما ليحييها.. هذا المجتمع الذى نقل أعظم حضارة عرفها البشر إلى أوروبا وأسبانيا أجلى بالبطش والسفك عن أوروبا لكن آثاره لم تعف بين يوم وليلة.. ص _243
وهو لم يرحل مع الأمراء الراحلين عق أوروبا من ثغر (المرية) إلى إفريقيا فى سنة 1493 بل ما برحت آثاره قائمة فى أسبانيا حتى مطالع القرن السابع عشر. ومن المسلمات أن الثورة الفرنسية التى اندلع لهيبها فى فرنسا فى ختام القرن التالى، وما أنشأت من مشروعات كامباسيريس أو القانون الفرنسى الصادر فى سنة 1804 (قانون نابليون) كان لها مصادر من القانون الكنسى الذى يسود فى الشمال Droit Canonique ومن قوانين العادات Coutumes التى كانت متبعة فى جنوب أوروبا. فكم تأثرت هذه العادات فى الجنوب بالفقه الذى صنع المجتمع فى بعض هذا الجنوب وفى أعلى بقاعه مدنية ؟ ومن المسلمات كذلك أن ثمة نقاط التقاء شتى بين قانون " نابليون " وبين مذهب " مالك " يختلفان فيها جميعا مع القانون الرومانى، ومع القانون الكنسى.. وليس لقاؤهما وليد الصدف وإنما ـ هو على الأقل ـ وليد المجتمع العربى الذى حكمه القانون العربى طوال القرون التى أشرنا إليها. ووليد القوة العصرية التى تصاحب القواعد القانونية فى التشريع العربى. فتجعلها تلائم الزمان والمكان. فى حين لم تجتمع أمة من أمم أوروبا حتى مطالع القرن التاسع عشر على قانون عصرى أو أى مجموعة قانونية تجرى على مقتضاها. فلم يوضع قانون لفرنسا إلا فى أوائل القرن التاسع عشر. ولم يوضع لألمانيا قانون إلا فى نهايته. لقد كان للفقه العربى أمران معجزان مستمدان من الشريعة: أولهما: أن الفقه العربى ينتصر وإن انهزمت اللغة العربية كمثل ما ساد الفقه العربى بالمذهب الشافعى فى أندونيسيا، وغلب(1/236)
الفقه الحنفى فى الهند وباكستان وغيرها فى بلدان لا تتكلم العربية.. وثانيهما: أن العقيدة الإسلامية تنتصر وإن انهزم المسلمون كما غلب السلاجقة المسلمين فى القرن الحادى عشر ولكنهم أسلموا.. وغلب المغول المسلمين فى القرن الثالث عشر ولكنهم أسلموا. بلى.. فالفقه الإسلامى فى المعاملات أو العبادات أغلى كنوز الحضارة الإسلامية وأبعدها أثرا فى الأمة جيلا بعد جيل لاتصاله بالقرآن والحديث فى منابعه الأولى. ص _244(1/237)
فهو الذى أمكن الحضارة الإسلامية من البقاء بالهند، والصين، وتركيا، وروسيا، وإفريقيا، وأوروبا، وآسيا. وسيطرت مبادئه فى نظام الأسرة وقواعد الملكية وعلى حرية الرأى والعقيدة والأصول العامة للشريعة " . أ هـ حول مركز المرأة فى المجتمع: جرت على لسانى كلمة تتصل بملابس الرجال والنساء كان الباعث على ختم الحديث بها ما أحسه ويحسه الكثيرون من أن مشكلة الأزياء فى مصر سيئة ومحرجة. وتتطلب حلا معقولا. لقد خلع المصريون الطربوش، ولم يجدوا لباسا قوميا للرأس، فعاش جمهورهم حاسرا وارتدى بعضهم القبعة. والجلباب السابغ هو اللباس الشائع فى القرى. والملابس الإفرنجية هى الزى العام للموظفين والطلاب. وهناك ملابس توصف بأنها عربية يرتديها أصحاب الثقافة الدينية وعدد من الوجهاء الريفيين. وتوجد طوائف تمزج فى ملابسها بين شتى الأزياء القديمة والحديثة. وملابس السيدات تستحق مزيدا من الملاحظة والإرشاد، فقد نقلت عن بيئات لا تهتم بالأخلاق. ولا تزال بدع التجديد فى أوروبا وأمريكا تقتحم الحدود، وتفرض نفسها على النساء فى هذه البلاد الطرية. هذا التفاوت فى الأزياء بعيد الآثار فى أحوالنا الاجتماعية والاقتصادية. ومن الواجب- فى نظرى- خلق لباس يرتديه الرجال عامة، ويكون التفاوت فى ثمنه وشكله ضيقا جدا، بحيث لا تكون سعة الثروة سببا فى الانتفاخ وقلتها سببا فى الانكماش، وبحيث لا تكون هناك ملابس دينية وأخرى مدنية. أما ملابس النساء فمن الواجب ابتكار أزياء تجمع بين الفضيلة والجمال، وتمنع التبرج والفساد!! ص _245(1/238)
هذا ما قلته، وما فوجئت بأنه أقام الدنيا وأقعدها. أو بتعبير دقيق ما وجده الماكرون مجالا لنقل المعركة إليه، واختلاق قضية أخرى يدور حولها الجدل بعنف وتختنق فى ضوضائها قصة التشريع الإسلامى من ألفها إلى يائها. ولا أدرى كيف وقعت فى هذه الحفرة، وكيف انسقت إلى هذا الموضوع الثانوى وسمحت لنفسى بإطالة الكلام فيه، عندما طلبت للكلام مرة ثانية.. وكان لهذا الخطأ أثران رديئان: الأول: أنى مكنت أعداء التشريع الإسلامى من بعثرة الجهود النبيلة التى احتشدت لنصرته. والآخر: أنى لم أعط صورة كاملة لمكانة المرأة فى الإسلام، واكتفيت باستنكار الانحرافات الخلقية والاجتماعية التى عرضت لنهضتها الحديثة، ففهم بعض الناس أنى أريد العودة بالنساء إلى عهد الجمود والجهالة التى عاشت فيه خلال القرون الأخيرة. مع أن هذا العهد قد يكون أشرف من الطور الذى ينقلونها إليه. ولست أعيد هنا كلاما سبق أن بسطت أطرافه فى كتبى الأخرى " من هنا نعلم " " الإسلام والطاقات المعطلة "، " حقوق الإنسان " بين تعاليم الإسلام وإعلان الأمم المتحدة "، " فقه السيرة " وغيرها. إن الذى يطلع على ما كتب فى هذه المؤلفات يدرك أنى أنصفت الإسلام من الأفهام الخاطئة والتقاليد الزائفة التى قامت على إمساك النساء فى البيوت حتى يتوفاهن الموت، والتى جمدت نشاطهن الإنساني وجعلتهن أصفارا فى الدين والدنيا. إن حرمان المرأة من التعليم، والتربية، والعبادة الشخصية والاجتماعية والسياسية لا يمكن أن يكون إرضاء لله ولرسوله. وما كان النساء المسلمات كذلك على عهد رسول الله، ولا أيام الخلافة الراشدة، والعصور الزاهرة. ص _246(1/239)
وخير لنا أن نتدارس كتاب الله وسنة نبيه، وفقه الصحابة والتابعين والأئمة المشهورين، لنأخذ ديننا من مصادره الصحيحة، بدل أن نأخذه من مؤلفين قصار الباع والنظر، يروجون أحاديث واهية أو موضوعة، ويتعصبون لأحكام من آراء البشر، لا من نصوص السماء.. إلا أنى- إذ أطلق المرأة من سجن الجهل والقصور الذى حبسها فيه الغافلون- لا أتصور أن يكون إطلاق سراحها لكى تجرفها عواصف الشهوات.. أو لكى تكون مسرح الأنظار الجريئة، والأيدى الفاسقة. أو لكى تنحل عروة الأسرة، وتتوطد أركان التسول الجنسى. إن ذلك لا يخطر ببال مسلم. إننا لا نريد أن ننقل المرأة من عهد الحريم إلى عهد الحرام.. وكما خطأنا أصحاب النظريات الدينية فى حبس المرأة، نخطئ- ولا كرامة- أصحاب النظريات المدنية التى تريد نقل حضارة الغرب إلى بلادنا، ونقل العلاقة القائمة بين الذكر والأنثى هناك إلى هذه الأمة النقية.. إن الإجماع انعقد على أن أوروبا وأمريكا فرغتا من دفن مبدأ تقديس العرض ومنحتا الرجال والنساء حرية الجسد. وانكمشت حرمة الزنا، واستبيحت مقدماته، وأصبح العرى والتبرج والاستمتاع شيئا ميسورا. بل قامت التقاليد هناك على أنه من العار أن يراقص الرجل زوجته!! ينبغى أن يراقص امرأة أخرى، وتراقص هى رجلا آخر!! وهل يطلب الشيطان فسادا أكثر من هذا؟! وبديهى أن الإسلام- وكل دين سماوى آخر- يقوم على غير هذا. إن الزواج وحده هو أساس الاتصال الجنسى الحلال.. وكل ما يمهد للحرام، أو يقرب منه فعلى المجتمع منعه. والأسرة أساس المجتمع، فكل ما يتهدى د كيانها أو يضعف سلطانها، أو يفسد جوها فلابد من منعه باسم الإسلام. وقد عرف القريب والبعيد أن الإسلام نظام متكامل. ص _247(1/240)
وأن إنفاذ بعض تعاليمه مع غيبة البعض الأخر لا يقيم مجتمعا إسلاميا، وأن إصدار فتاوى فى الحالات العارضة مع إغفال الملابسات القائمة، قد يسىء إلى الإسلام، أو إلى الأمة، أو إليهما معا. ولقد عرف عنى أنى لم أهش لتوظيف المرأة فى كل عمل، ولا لتسويتها بالرجل فى كل ميدان وقلت إن " وظيفة " ربة البيت هى أليق شىء لها. وقد تحتاج وظائف فنية كثيرة إلى النساء وحدهن، وقد تحتاج فتيات كثيرات إلى العمل قبل الزواج. ثم إن الأوضاع الاقتصادية لها أثر كبير فى الطريقة التى يفهم بها كثير من الناس شئون الحياة. ولست أحب نشر فتاوى جزئية فى غياب الوضع الإسلامى الكبير عن هذه الحياة الصاخبة. ولا التعصب لإحدى هذه الفتاوى الجزئية. بيد أنى أستمسك إلى حد التعصب والاستماتة بنصوص الدين الحاسمة وأطلب توفير الجو الطبيعى الذى يمكن لهذه النصوص أن تحيا فيه.. إن حرمة الزنا ليست فى الدين محل جدل. وغض البصر، وإخفاء الزينة المثيرة، ومنع الخلوة بالأجنبية من مقررات الإسلام.. وقوامة الرجل على البيت، ومسئولية الزوجة عنه، وكفالتهما جميعا للأجيال الوافدة كل ذلك من حقائق الدين المسلمة. وإسهام هذه الأسرة بحظها فى بناء جماعة تقيم الصلوات وتؤتى الزكوات وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، أمر لا ريب فيه. فهل هذا ما يخفا- فى الغرب- انطلاق المرأة وعملها فى كل ناحية؟ أم أن الأحوال هناك انتهت بدمار العفاف والإيمان وهدت الأسرة، وبعثرت الأفراد؟؟ إننى أثبت هنا كلاما لرجل " محايد " بالنسبة إلى الإسلام وتعاليمه، وكلام رجل "وجودى" لا يؤمن علانية بالإسلام !! لنعرف من هذين الكلامين خبيئة هذه القضية المعضلة. ص _248(1/241)
23 يقول الأستاذ محمد زكى عبد القادر: لمناسبة انعقاد مؤتمر المرأة العاملة فى القاهرة لا ينعقد اليوم مؤتمر المرأة العاملة، وسيجىء اليوم القريب الذ ى تصبح فيه كل النساء عاملات، وبذلك ينتهى التفريق فى حياتنا بين المرأة العاملة والمرأة غير العاملة، ويجب أن يقر فى الأذهان أن الزواج ليس وظيفة، ولكنه حالة اجتماعية حتمية لا تمنع ولا ينبغي أن تمنع المرأة المتزوجة من أن تكون عاملا منتجا مساويا للرجل. على أن تقريرنا لهذه الحقيقة لا ينبغي أن يكون على حساب الأسرة، ومن هنا نشأت مشكلات العمل بالنسبة للمرأة. ولابد لنا أن نضع أمام أعيننا التجارب والنتائج التى انتهت إليها البلاد التى سبقتنا فى تقرير حق العمل للمرأة، وأصبحت الكثرة من النساء المتزوجات فيها عاملات، حتى نستطيع تدارك الأخطاء وعلاجها. والذى يعتقده بعض الكتاب والمفكرين فى أوروبا وأمريكا أن سلطة البيت قد انتهت أو أنها فى طريقها إلى الزوال. وهم يعنون بسلطة البيت تأثيره على أفراد الأسرة، وإحساسهم بأنهم ينتمون إلى بيت معين له خصائصه، وإلى أسرة معينة لها خصائصها. ويقولون إن بيتا يشتغل فيه الأب والأم والأولاد والبنات، لا يصبح بالنسبة لهم إلا مكانا للالتقاء الطارئ أو المنظم ثم لا شراء آخر. لقد أردت أن ألفت النظر إلى هذه التجربة وإلى هذه النتيجة، حتى نحتمى بكل الوسائل أن تبلغ الأسرة عندنا ما بلغته فى بلاد أخرى سبقتنا فى طريق التطور. فإن من أعظم ما يميز المجتمع العربي حتى الآن أن الأسرة فيه خلية متكاملة متماسكة قوية التأثير فى حياة المجتمع كله. فإذا استطعنا أن نحقق التطور بترك المرأة تشتغل، وفى الوقت نفسه احتفظنا للأسرة بتماسكها وتأثيرها فى التربية والتنشئة، فقد أعطينا العالم قدوة يمكن أن يسير عليها. وقد نادى الكثيرون ممن أشفقوا على الأسرة الأمريكية والأوروبية من التدهور بعودة المرأة إلى البيت، ولكنها دعوة يصعب الاستجابة إليها، فالتطور(1/242)
أقوى، ونماذج في الحياة الجديدة . ص _249
نقول: ولماذا يستحيل الوقوف فى وجهها؟ إن المستحيل ما يقترحه هو من توطيد مكانة الأسرة مع توطيد مكانة المرأة فى الشارع!! ويقول أنيس منصور: " لم يبق أمام المرأة فى معركتها مع الرجل إلا القليل من جيوب المقاومة، فقط بعض الجيوب، ولكن الطريق من أوله لآخره مفتوح أمامها، لكى تتعلم مثله، وتعمل مثله. وفى كل مرة فتح الرجل للمرأة بابا، وانتظرها حتى تدخل، وجعلها تتقدم عليه من باب الذوق، فإن المرأة تدخل وتتقدم، وتصر على البقاء، فمن الذوق أن تدخل ولكن من الحق أن تبقى! وقبل أن تخرج المرأة من البيت خرجت من ملابسها، فأصبحت الملابس ضيقة.. وظهرت الذراعان والساقان والصدر والعنق والرأس. والعينان ظهرت أكثر وأكثر.. فحددت العينين بالكحل والرموش.. ثم أشاعت هى للحركة فى كل هذه الملامح، بموافقة الرجل، وبالرغم منه، بل إن المرأة أغرت الرجل أن يفعل مثلها! وكثير من الرجال ينافس المرأة فى الأناقة والوجاهة، ووضع الأحمر والأبيض والكحل، ويدخل معاهد التجميل لامع الرأس، ويخرج منها بشعر مستعار..! ". ونحن نأبى كل الإباء الخلخلة الاجتماعية التى ينقلها إلينا عبيد الغرب حين يزجون بالمرأة فى كل مكان، غير متقيدين بآداب الشريعة وحدودها من نواحى الاختلاط، والزى، وإتاحة الصلات المريبة والمسالك المعيبة. إن خروج المرأة إلى حيث شاءت فى أوروبا وأمريكا أو- بتعبير دقيق- إلى حيث شاء لها الرجل، تمخض عن نتائج دمرت الأسرة، ورجمت الحياة بألوف مؤلفة من اللقطاء، غير ما استتر أو استعلن من العلاقات الفاسدة الأخرى.. ولندع الكلام فى هذا الموضوع المحدد، لا لشىء إلا لأنه جزء من الموضوع الكبير الذى اتجهنا لبسط أطرافه، وشرح حقائقه، أعنى الإسلام كله.. ص _250(1/243)
ويوم تتجه العقول الذكية والقلوب النقية إلى الاستمداد من الإسلام فى تنظيم المجتمع، والدولة، فستكون مكانة المرأة أشرف وأسمى، وستسهم فى بناء أمة نبيلة الرسالة، عريقة التاريخ. ولعلها تستأنف أداء الواجبات الكبيرة التى نهض بها أسلافها الفضليات.. الإيمان باق، وأهله ساهرون: لقد علمت أن الاستعمار العسكرى والغزو الثقافى أفلحا فى خلق قوى تكفر بالإسلام أشد الكفر وتكره تعاليمه أشد الكره. ومع انبثاث هذه القوى فى أرجاء الإسلام الرحبة، ومع اندساسها فى صفوف الأمة الكبيرة، ومع إلحاحها فى صرف المؤمنين بالكتاب والسنة عن تعاليم الكتاب والسنة، مع ذلك كله.. فإن وفاء المسلمين لدينهم عميق وارتباطهم به وثيق.. وربما لجأت الشيوعية وأختها الصليبية إلى حمامات أخرى من الدم، أو ألوان أخرى من الضغط كى يمكن لى المسلمين عن دينهم، ولفتهم عن شريعتهم.. لكن الجماهير- إلى يوم الناس هذا- تحن حنينا بينا إلى الأخذ بدينها، والاعتصام بعروته.. وأمامى- وأنا أخط هذه السطور- التقرير الذى وضعته لجنة الميثاق أحب أن أثبته كاملا، لأنه جاء ردا على المحاولات الآثمة التى بذلها المفتونون بالشرق والغرب على سواء كى يشككوا المصريين فى جدوى الإسلام وانبعاث نهضتهم عنه. ومصر- فى نظرنا- من أشد بلاد الإسلام تعرضا للتيارات الفكرية الهابة من الخارج، وهى هدف ضخم للعداوات التقليدية التى يكنها هؤلاء وأولئك ضد الإسلام. وما أمكر وأكثر المحاولات التى تبغى فتنتها، وتود لو خمدت أنفاس الإيمان والمؤمنين به : (يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم و يأبى الله إلا أن يتم نوره و لو كره الكافرون) ص _251(1/244)
وهاك نص التقرير... " إن شعبنا يعيش فى المنطقة التى نزلت فيها رسالات السماء، ويؤمن برسالة الدين، ويملك من إيمانه بالله وثقته بنفسه ما يمكنه من فرض إرادته على الحياة ليصوغها من جديد وفق مبادئه وأمانيه. إن حياة الإنسان تحكمها القوى الروحية والقوى المادية معا، ولا سبيل للفصل بينهما، فكلتاهما ضرورية لقيام المجتمع السليم. ومن هنا ثبت فى تفكيرنا، ونحن نصوغ المباد!ا والقيم التى يقوم عليها المجتمع الاشتراكى العربى ، أن القوى الروحية والقوى المادية ضرورتان لبناء المجتمع، وأنه يجب علينا حتى يكون هذا المجتمع قوى الجسم والعقل، سليم الروح والنفس، أن يقوم التوازن بين ماديات هذا المجتمع وروحانياته المستمدة من القيم الخالدة النابعة من الدين. وقد أبرز الميثاق قيمة العقيدة الدينية كضمانة أساسية توافرت لدى النضال الشعبى، لكى يحقق للشعب المصرى الثورة الشاملة ذات الاتجاهات المتعددة فى سبيل حرية الوطن والمواطن، وكى يستطيع بناء مجتمع يقوم على الكفاية والعدل ويحقق وحدة الوطن العربى. وقد نص الميثاق على أن من الضمانات التى حققت ذلك: " إيمانا لا يتزعزع بالله وبرسله ورسالاته القدسية التى بعثها بالحق والهدى إلى الإنسانية فى كل زمان ومكان ". لقد آمن الشعب أن الله أكبر من كل شىء ومن كل قوة تحاول أن تقف فى طريق إرادته الحرية والكرامة الإنسانية. وكان الشعب فى تصديه لكل هذه القوى ونضاله فى سبيل استخلاص حقه فى الحياة والحرية متيقنا من نصر الله- تعالى- الذى قال: (وكان حقا علينا نصر المؤمنين). ص _252(1/245)
وليس ذلك على الشعب بجديد، فقد تمكنت الأمة العربية، بعد انتشار الإسلام وبقوة الإيمان، من أن تصل إلى الذروة على هدى من رسالته ومبادئه، وقد أبرز الميثاق صورة من هذا الماضى لتكون نبراسا للعمل فى الحاضر والمستقبل، وصورة للقيم الخالدة التى يقوم عليها مجتمعنا الجديد، فقال: " وفى إطار التاريخ الإسلامى، وعلى هدى من رسالة محمد صلى الله عليه وسلم قام الشعب المصرى بأعظم الأدوار دفاعا عن الحضارة والإنسانية. وقد كان التراث الحضارى العربى والإيمان الدينى الواعى زادا روحيا للشعب، يدفعه دائما إلى الحفاظ على مقومات حياته، وسلاحا يرتد إلى نحور الرجعية التى تحاول أن تتستر وراء اسم الدين، لتفرض الظلم والطغيان ولتعمل على إضعاف الأمة العربية والتفرقة بين أجزائها. وإذا كان الاستعمار والرجعية قد استغلا اسم الدين، فى بعض الأوقات لتضليل الشعب العربى وسلب حقوقه المشروعة فى الحياة الكريمة الحرة فإن هذا الشعب قد أثبت دائما قدرته على النضال الثورى، معتمدا على إيمانه الدينى الأصيل، كما ذكر الميثاق " إن الحملة الفرنسية، حينما جاءت إلى مصر، وجدت الأزهر الشريف يموج بتيارات جديدة تتعدى جدرانه إلى الحياة فى مصر كلها، كما وجدت أن الشعب المصرى يرفض الاستعمار العثمانى المقنع باسم الخلافة، والذى كان يفرض عليه دون ما مبرر حقيقى تصادما بين الإيمان الدينى الأصيل فى هذا الشعب وبين إرادة للحياة التى ترفض الاستبداد. إن الاستعمار العثمانى لم يأل جهدا فى استغلال اسم الدين للوقوف ضد مصالح الشعب وخيانته أثناء كفاحه، ومن ذلك أن الخليفة العثمانى أصدر بيانا يحكم فيه على البطل أحمد عرابى بالخيانة والخروج على الإسلام وهو يقود جموع الشعب فى قتال ضد الاستعمار البريطانى. فقد اعتبر ذلك البيان عرابيا " عاصيا للسلطان والخليفة الأعظم ومخالفا للشريعة الإسلامية الغراء ومضادا لها بالكلية ". وهكذا استغل الخليفة العثمانى اسم الدين لهزيمة(1/246)
شعب مصر بقيادة عرابى فى معركته الباسلة ضد الاستعمار البريطانى، وضد خيانة الخديوى الأجنبى العميل. إن الإيمان الدينى السليم لا يتعارض مع حرية الفكر الإنسانى ولا مع جهاد البشر نحو حياة أفضل، بل إن العكس هو الصحيح. ص _253
فالدين يدفع الإنسان إلى التفكير الحر، ويصد عن الجمود الفكرى والتعصب وقد قال الله تعالى : (الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب). وقد حض الدين على متابعة التقدم العلمى ورفع من شأن العلم، فقد قال الله- تعالى-: (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات). لذلك كان منطقيا أن إيماننا السليم بالدين يجعلنا نرفض التعصب والجمود الفكرى ويدفعنا إلى ملاحقة التطور البشرى نحو مجتمع أفضل. ومن أجل فلك قال الميثاق: " إن الإقناع الحر هو القاعدة الصلبة للإيمان، والإيمان بغير الحرية هو التعصب، والتعصب هو الحاجز الذى يصد كل فكر جديد ويترك أصحابه بمنأى عن التطور المتلاحق الذى تدفعه جهود البشر فى كل مكان. وإن أية محاولة لتعطيل تجلية جوهر الدين المتألق، وكشف العظمة الحقيقية للأديان، باعتبارها ثورات إنسانية استهدفت شرف الإنسان وتقدمه وسعادته لهى جريمة فى حق الدين وحق الإنسانية وفى حق الشعب الذى يريد أن يتبين طريق حياته فى المستقبل على هدى من رسالات الله العلى القدير ". والتاريخ حافل بأمثلة شتى لجرائم ارتكبها ضد الشعب بعض ضعاف النفوس بإصدار فتاوى وتفسيرات باسم الدين، تحرم الشعب من حقوقه وتقف فى طريق تقدمه. لقد قاوم شعبنا فى الماضى محاولات الاستغلال والرجعية الفكرية باسم الدين وقد أبرز الميثاق نضال بعض أبناء الشعب الذين قادوا حملات الإصلاح الدينى من أمثال الشيخ محمد عبده وهو أحد الرواد المناضلين ضد الطغيان والاستبداد. ولذلك فلابد أن نحذر من محاولات الاحتكار والاستغلال والرجعية الفكرية باسم الدين، وهى التى عانينا منها فى الماضى،(1/247)
وينبغى ألا نسمح لهذه المحاولات أن تقيد الفكر الدينى الصحيح، أو تقف طريق تقدمنا.. وفلك ما عناه الميثاق حين قال: " إن جوهر الرسالات الدينية لا يتصادم مع حقائق الحياة، وإنما ينتج التصادم فى بعض الظروف من محاولات الرجعية أن تستغل الدين، ضد طبيعته وروحه، لعرقلة التقدم، وفلك بافتعال تفسيرات له تتصادم مع حكمته الإلهية السامية ". ص _254
إن الإسلام يعنى عناية كبيرة بتنظيم طريق الإنسان فى الحياة الدنيا إلى جانب عنايته بتنظيم صلة الإنسان بخالقه وطريقه للحياة الآخرة. لقد سخر الله الكون كله للإنسان ، وطالبه بأن يبحث فى آيات صنعه ، وأن يفكر فيها ليستعملها وفق ما فيه خير للبشرية وسعادتها، فقد قال الله تعالى : " وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون " إن العلم ليس إلا وصفا وبحثا فيما صنع الله فى آفاق الأرض والسماء، وتقريرا لما بث فيهما من قوى وخصائص. إن الدين الحق ، والعلم الحق ، هما تصوير متكامل لجوانب الوجود. وإن جوهر الأديان يؤكد حق الإنسان فى الحرية وفى الحياة. وفى هذا يقول الميثاق : " إن القيم الروحية الخالدة النابعة من الأديان قادرة على هداية الإنسان ، وعلى إضاءة حياته بنور الإيمان، وعلى منحه طاقات لا حدود لها من أجل الخير والحق والمحبة ". وإذا كان مفهوم الحرية فى تصورها العام أن يكون لكل مواطن الحق فى صنع مستقبله، وفى تحديد مكانه فى المجتمع، وفى التعبير عن رأيه ، وفى إسهامه الإيجابى فى تقرير أمر وطنه، فإن مفهوم الحرية الاجتماعية فى تصورها السهل أن يكون لكل مواطن حق فى نصيب عادل من ثروة وطنه، على أساس من الفرص المتكافئة ، وعلى أساس من المساواة بين الناس.. هذه شريعة العدل وفى الوقت ذاته شريعة الله. وفى معنى الحرية ، شريعة العدل ، شريعة الله ، جاء على لسان عمر بن الخطاب : " متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا ". وفى معنى العزة ، شريعة(1/248)
العدل ، شريعة الله ، تقول الآية الكريمة : " ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون " وفى معنى الكرامة والتكريم للإنسان ، نجد شريعة العدل ، شريعة الله ،تقول : " و لقد كرمنا بني آدم " وتقول : " إن أكرمكم عند الله أتقاكم " ص _255
وفى رفض الذل والمسكنة، نجد شريعة العدل، شريعة الله، تقول: (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا). وتقول: (ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين). وفى معني الأخوة الإنسانية وعدم التفرقة بين الناس، نرى شريعة العدل، شريعة الله، تقول: (إنما المؤمنون إخوة). وتقول على لسان الرسول عليه الصلاة والسلام: " إن الناس سواسية كأسنان المشط " . وفى معنى الديمقراطية، نرى شريعة العدل، شريعة الله، تقول: (وأمرهم شورى بينهم). هذا قليل من كثير جاءت به شريعة العدل، شريعة الله، فى معانى الحرية والكرامة والمساواة والإخاء والديمقراطية. أما فى المقومات المادية لتحقيق هذه المعانى السامية، وضمانا لعدالة توزيع المال، وعدم حبسه فى أيد قليلة، فإن شريعة العدل، شريعة الله، تقول: (كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم). وفى تكريم العمل والدفع إليه، شرعية العدل، شريعة الله، تقول على لسان الرسول الأمين: " أطيب كسب الرجل عمل يده " . وفى تكريم العلم ومن يعملون به، شريعة العدل، شريعة الله تقول: (قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون). وفى سبيل اشتراك الناس فى ملكية المرافق العامة ، شريعة العدل، شريعة الله، تقول على لسان الرسول الكريم: " الناس شركاء فى ثلاثة: الماء، والكلأ، والنار". ص _256(1/249)
وفى سبيل توفير الزكاة، شريعة العدل، شريعة الله، تجلت صرامة الإسلام فى قوله أبى بكر الصديق: " والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعونى عقال بعير كانوا يؤدونه لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه ". وخرجت الجيوش من المدينة لقتال مانعى الزكاة، فكانت أول حرب فى التاريخ تقوم بها دولة من أجل الحفاظ على حق الفقراء. وقال عمر فى أواخر حياته. وقد رأى المال تكدس فى أيدى فئة قليلة من الناس: " لو استقبلت من أمري ما استدبرت، لأخذت فضول أموال الأغنياء فرددتها على الفقراء " . وقد تجلت شريعة العدل، شريعة الله، مرة أخرى، عندما فتح الله على أهل الأندلس بالإسلام، وكان الإقطاع فى أوروبا قد وصل بهم إلى درجة بلغة من الظلم والاستبداد واستغلال الفلاحين، هنالك تحققت ثورة اجتماعية رائعة، أنقذت الطبقات الدنيا من الناس وحررت العبيد من الظلم والعبودية، وحررتهم من سيطرة الإقطاعيين الأقوياء الذين كانوا يتخذون البشر عبيدا لهم وعبيدا للأرض، وأزالت هذه الثورة الآلام التى كانت ترزح تحتها البلاد منذ قرون، وكان تحقيق الملكية الصغيرة مصدرا للخير والسعادة وسببا لازدهار الزراعة فى أرض الأندلس. ثم فى معنى الوحدة، نجد شريعة الله تقول: (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا). ويجىء على لسان الرسول الكريم: " المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا". تلك هى شريعة العدل، شريعة الله. والميثاق يقول: " إن رسالات السماء كلها فى جوهرها كانت ثورات إنسانية استهدفت شرف الإنسان وسعادته ". إن مجتمعنا يعرف مكان القيم الروحية النابعة من الأديان، وقدرتها على توجيه الحياة فى طريقها الإنسانى الخير العادل، ولذلك فإن الميثاق يوفر للأديان حريتها وقداستها، إذ يقول: " إن حرية العقيدة الدينية يجب أن تكون لها قداستها فى حياتنا الجديدة الحرة ". ص _257(1/250)
وإن الحرص، الذى جعل دستور سنة 1956 ينص على أن دين الدولة الرسمى هو الإسلام، وأن لغتها هى اللغة العربية، هو الحرص نفسه الذى قدر للدين كل أهميته وقيمته فى الميثاق، مما يجعلنا نقرر أن الإسلام هو دين الدولة الرسمى وأن اللغة العربية هى لغتها: بل إن هذا الحرص يستوجب النص على ذلك فى الدستور، بل إننا لنسجل أن هذا الحرص نفسه يفرض علينا جعل تعليم الدين إجباريا فى جميع المدارس للمسلمين والمسيحيين. ومن هنا يجب علينا، فى مجتمعنا الجديد، أن نعنى بكشف حقيقة الدين وتجلية جوهر رسالته، لكى تكون قيمته الروحية الخالدة أساسا لقيم المجتمع الجديد، ولكى تكون الشريعة الغراء مصدرا أساسيا للتقنين، ولتتم المساواة بين المرأة والرجل فى إطار من الشريعة. وعلينا أن نهيئ كل الظروف الملائمة لنمو الثقافة الدينية وتطورها، حتى يتبلور فى المجتمع فكر دينى واع، حر طليق، يحقق الرسالة السامية للدين. وفى يقيننا أن الأزهر الشريف بما له من تاريخ حافل مجيد، وفى ظل قانونه الثورى الجديد ، قادر أبدا على النهوض بهذا الإصلاح الدينى، وعلى تطوير الثقافة الدينية تطويرا يجعلها مرتبطة بالحياة والعلم الحديث، حتى تكون العلوم الدينية مستوحاة من منابعها الأصيلة فى عصور الازدهار والقوة، وبذلك تكون أجهزة الدعوة للدين فى كل مجالات التعليم والوعظ والإعلام على وعى كامل بروح الدين الحق ووظيفته فى الحياة. إننا بذلك نتمكن من تثقيف الشعب ثقافة دينية صحيحة، ومن تثبيت القيم الخالدة النابعة من جوهر الدين، ونتمكن كذلك من مواصلة رسالتنا المجيدة فى تعريف العالم بالدين الإسلامى على حقيقته، وفى تقوية الروابط الدينية والروحية التى تربطنا بالشعوب الإسلامية. أ. هـ ص _258(1/251)
خاتمة غشيت مجامع جادة وهازلة، وشاركت فى محاورات مخلصة ومنافقة، ورفضت أن أجثم مكانى منتظرا طلاب الهدى، بل نقلت قدمى هنا وهنالك متعرضا لهم، متحدثا إليهم... وعاب على البعض أنى دخلت الاتحاد الاشتراكى، قائلا: لا أمل فى هذه المؤسسات المفتعلة لخدمة الحاكمين!! وكان رأيي أن أجهر بصوت الحق حيث اجتمع الناس، فمن يدرى؟ لعلهم يستجيبون! ولم أندم على هذا المسلك فقد استطعت به محو باطل وإثبات حق.. ولم أعدم أعوانا شرفاء فى كل مجال، بل لقد واتت فرص كاد الزمام يفلت فيها من أئمة الضلال، لأن وهج الحق أحرق كل الحجب.. ولما وجد خصوم الإسلام خطر دعاته الأقوياء لجأوا إلى التزوير حتى يحرموهم منابر يعلنون فيها رأيهم، ويقولون فيها كلمتهم. وفى آخر انتخاب للاتحاد الاشتراكى، وبرغم ضغوط لمستها لتزييف الواقع، فإن الجماهير الطيبة منحتنى ثقتها لأكون عضوا فى اللجنة المركزية... بيد أن المسئولين رأوا أن يكون الأعضاء بالاختيار لا بالانتخاب، وكان معنى ذلك الجبن الصريح عن مواجهة بعض نتائج الحرية القليلة، فكيف لو ملكت الشعوب حريتها كاملة..؟؟ إن الحملة على الإسلام ماكرة ماهرة، وروافد القوة التى تمدها من الخارج شديدة عنيدة، وقد رمقتها فى ظل النظامين الملكى والجمهورى فلم أتبين فروقا ذات بال. وقد هادنت بعض المصطلحات بغية سوقه إلى المصير الإسلامى على مر الزمان، بيد أن أعداء القرآن لم تزدهم الأيام إلا قسوة قلب وغباء فكر... إنهم يريدون الخلاص من الإسلام على أية حال لكنهم إلى اليوم فاشلون... إن الجماهير المسلمة لم تنس دينها على كثرة المنسيات، ولم يضعف حنينها إلى العيش فى ظله برغم ما صنع الغزو الثقافى بعد الغزو العسكرى.. ص _259(1/252)
لكن هل يقف خصوم الإسلام عند هذا الحد؟ وهل يستكينون عند هذه النتائج؟ إن محاولاتهم لهدم أركان الإسلام لا تنتهى، وستظل جهودهم متراكضة كى يذودوا الشعوب عنه، ويمنعوها إنفاذا حكامه وإحياء شعائره. وأدواتهم لبلوغ هذه الغاية كثيرة خفيها أكثر من جليها وماكرها أعقد من ظاهرها..!!! والهدف؟ الإجهاز على هذا المصحف! وجعله حبرا على ورق، أو صدى يذهب قى الفضاء، أو أثرا يودع فى المتاحف..!!! وعلى المسلمين فى القارات الخمس، وعلى كثرتهم العظمى بين المحيطين الهادى والأطلسى أن يلمسوا هذه الحقيقة... فإما عاشوا بدينهم.. وتحملوا مغارم الكفاح ضد هذا الخصام الملح المصر.. وإما نكصوا على أعقابهم فهلكوا. إلا أن العاقبة للتقوى، والمستقبل القريب والبعيد للإسلام، دين الله من الأزل إلى الأبد.. ووزر التفريط لن يعدو أصحابه. (وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم)
ص _033(1/253)
واصطفى العرب ليقودوا الإنسانية جمعاء بكلمات السماء. إلا أن اليهود لا يزالون على دعواهم بأنهم الأمة التى يجب أن تقود العالم، وتسود الأرض، وقد استبدت هذه الدعوى بنفر منهم، واختلطت بمشاعر مضطرمة من التعصب والحقد. ومن ثم تألفت الحركة الصهيونية العالمية مستهدفة إعادة الأرض المقدسة إلى اليهود ليتمكن الصهاينة من داخلها أن يفرضوا أنفسهم على العالم. وهم يبغضون العرب أشد البغض، ويجحدون رسالة النبى الخاتم أشد الجحد، ولا علينا من بغضهم وجحدهم!! ولكننا نتساءل: بم يستحق اليهود هذه المكانة التى يرونها لأنفسهم؟! إنهم- حيث كانوا- ناشروا الربا والزنا والحروب والدسائس.. والدين لديهم آصرة قرابة بين جنس معين يهوى الانتساب إلى السماء ثم هو- من شهواته ونزواته- يتقلب فى أوحال الأرض.. ولقد استطاع هؤلاء أن يقيموا لهم دولة، إبان عجز العرب، وذهاب ريحهم، ووهن إيمانهم. وأطلق الغالبون اسم إسرائيل- وهو نبى كريم- على دولتهم هذه! فهل اصطلحوا مع الله، وقرروا الاستقامة على أمره؟ كلا، إن الدولة التى قامت بنيت يوم بنيت على المآثم والمظالم، وظلت فى المكان الذى نكب بها قنطرة للاستعمار المجرم، وجسرا لكل اعتداء على العرب والمسلمين. وأهل المشرق والمغرب يعلمون أن بنى إسرائيل فى دولتهم الجديدة لا تربطهم بالسماء صلة قريبة أو بعيدة. وأن الوحى الأعلى يستوحش فى ربوعهم الملأى بعبيد التراب. وأن زوال هذه الدولة بعض ما يقرب الإنسانية إلى مثلها الفاضلة. إن المسلم فى ظل ذلكم الحكم الإسرائيلى الباغى يفقد دينه وكيانه، يفقد عقيدته وشريعته، وكرامته وسعادته..(1/254)